شرح زاد المستقنع للشنقيطي - كتاب الطهارة

محمد المختار الشنقيطي

تنبيه مهم

تنبيه مهم أولاً: هذا الشرح أصله شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع، والذي تمَّ بتوفيق الله، ومعونته في مسجد التنعيم بمكة، وتمَّ تسجيله، ثم فرغت الأشرطة بعد ذلك في مذكرات لم تستوعب جميع الشرح. ثانياً: وبعد قراءة المذكرات تبين وجود الحاجة إلى تصحيحها نظراً إلى أن الشرح كان إلقاءاً، ولم يكن كتابة. ثالثاً: تمت إعادة صياغة الجمل، والعبارات بما يتناسب مع الشرح الكتابي، وعليه فإن هذا التصحيح يختلف كثيراً عن الأصل المسجَّل، وقد أضيفت فيه بعض المسائل، وحذفت مسائل أخرى كما أضيفت بعض الأدلة، والفوائد التي يقتضيها الحال. رابعاً: تعتبر هذه النسخة هي الوحيدة التي ينبغي إعتمادها، وجميع المذكرات السابقة ملغاة، فيما تمَّ تصحيحه، وإخراجه من هذه النسخة، وسيتمّ ذلك تباعاً بإذن الله عز وجل حتى يكمل الشرح. خامساً: هذه هي المراجعة الأولى، وستتلوها المراجعة الثانية بعد الإنتهاء من تصحيح جميع الشرح بإذن الله تعالى. سادساً: على الاخوة عدم توزيع المذكرات السابقة لهذه المذكرة، أو إعتماد ما فيها إذا خالف هذه النسخة، أو ما بعدها من النسخ المصححة.

سابعاً: لا يفوتني أن أشكر الإخوة الذين قاموا بجهود عظيمة في تفريغ النسخة السابقة، وتوزيعها على طلبة العلم، وكذلك الإخوة الذين ساهموا في إخراج هذه النسخة سائلاً المولى أن يُعظِم أجرهم، وأن يتقبل منا، ومنهم. وأسأل الله العظيم أن يجعله علماً نافعاً، وعملاً صالحاً خالصاً لوجهه الكريم، موجباً لرضوانه العظيم، إنه ولي ذلك، والقادر عليه، وصلى الله، وسلم، وبارك على خير خلقه، وآله، وصحبه أجمعين. الراجي عفو ربه ومغفرته له ولوالديه وللمسلمين محمد بن محمد المختار بن محمد بن حبيب الله إبن أحمد مزيد الجكني الشنقيطي

شرح مقدمة الكتاب

بسم الله الرحمن الرحيم شرح مقدمة الكتاب قال المصنف رحمه الله: [الحَمْدُ لله حَمْداً لا يَنْفدُ أَفضَلَ ما ينْبغي أَنْ يُحْمَد، وصلّى الله، وسَلّمَ على أفضلِ المُصْطَفين مُحمَّدٍ]: الشرح: بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، وصلى الله، وسلم، وبارك على خير خلق الله أجمعين وعلى آله الطيبين الطاهرين، وأصحابه أجمعين، ومن سار على نهجهم إلى يوم الدين، أما بعد: فهذه مقدمة المصنف -رحمه الله- لهذا الكتاب المبارك (أعني زاد المستقنع) إبتدأها رحمه الله بقوله: [الحمد لله]. وهذه البدآءة من عادة أهل العلم -رحمهم الله- فإذا أرادوا التصنيف، أو الخطابة، أو الكتابة، صدّروها بحمد الله -جلّ وعلا-. ودليلهم في ذلك الكتاب، والسُّنة، والإجماع. أما دليل الكتاب: فإن الله -تبارك وتعالى- إستفتح كتابه المبين بقوله: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} (¬1) فاستفتح أفضل الكتب، وأشرفها، وأجلَّها على الاطلاق، وهو القرآن بقوله سبحانه وتعالى: {الحَمْدُ للهِ}. ¬

(¬1) الفاتحة، آية: 1.

قال بعض العلماء: في هذا دليل على أنَّه يُشرع إِستفتاح كتب العلم بحمد الله -جل وعلا-. وأما دليل السُّنة: فإن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إستفتح خطبه بقوله: (الحمدُ لله) وثبت ذلك عنه -عليه الصلاة والسلام- في مواعظه المشهورة: كما في حديث عائشة رضي الله عنها في قصة بريرة رضي الله عنها حيث قالت: " فحَمِد الله، وأثنى عليه، ثم قال ". فقولها: " فحمد الله " أي: استفتح كلامه، وخطابه للناس بحمد الله. وأجمع العلماء -رحمهم الله- على مشروعية إِستفتاح الكتب، ونحوها بحمد الله -جل وعلا-. والمناسبة في ذلك: أن الله -جل وعلا- هو المستحق للثّناء، وما كان العبد ليعلَم، أو يتعلّم لولا أنّ الله علّمه، وما كان ليفهم لولا أن الله فهّمه. فاستفتح بحمد الله الذي شرّفه، وكرّمه بالعلم كما قال سبحانه وتعالى: {عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ} (¬1). وقالوا: كما أن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إستفتح الخطبَ بالحمد، فإنه يشرع استفتاح الكتب به؛ لأن الخطبة، والكتاب كلّ منهما هدفه واحد؛ وهو الدعوة إلى الله، فكما أنّ الراد من خُطبِه -عليه الصلاة والسلام- توجيه الناس، ودلالتهم على الخير، فكذلك المراد من كتابة الكتب، وتأليف المؤلفات توجيه الناس، ودلالتهم على الخير، فلهذا كلّه شُرع استفتاح كتب العلم، ¬

(¬1) العلق، آية: 5.

ورسائله، والخطب، والندوات، ونحوها مما فيه تعليم، وتوجيه بحمد الله؛ لما فيه من تعظيم الله -جلّ وعلا-، ولما فيه من الاعتراف بالجميل، والثّناء على الله العظيم الجليل. قال المصنف رحمه الله: [الحَمْدُ لله]: الحمد في اللغة: الثَّناء، وقد أطبق على ذلك الأئمة، والعلماء في تعريفه اللغوي، ولذلك يقولون: حمدَ الشَّيءَ؛ إذا أثنى عليه. والمراد بالحمد في إصطلاح العلماء: (الوصفُ بالجميلِ الاختياريّ على المنعم، بسبب كونه منعماً على الحامد، أو غيره). فقولهم: (الوصف بالجميل الاختياريّ): المراد به: أن تذكر الصِّفة الجميلة في الإنسان، فإذا قلت مثلاً: محمد كريم، أو شجاع، أو فاضل فإنك تكون قد وصفته بالجميل فأنت حامد له، ومُثْنٍ عليه، وقولهم: (على المنعم) أي الذي أعطى النعمة، وهو الله تعالى وحده، والمخلوق بإذن الله تعالى، وبفضله. فالصفات الجميلة تكون لله تعالى، فكلُّ صفاته جميلة جليلة سبحانه، وتكون للمخلوق بفضله سبحانه فإذا وصَفَ الله تعالى، وأثنى عليه بما هو أهله فقد حمده، وإذا وصَفَ المخلوقَ بما فيه من الصفات الحميدة، وأثنى عليه بها فقد حمده. وقولهم: (بسبب كونه منعماً على الحامد، أو غيره) أي: أن الحمد لا يتوقف على وجود إحسان، وإنعام من الشخص المحمود على الحامد، ومن هنا خالف الحمدُ الشكرَ لأن الشكر ينشأ بسبب الاحسان، والنعمة، وصار

الحمد أعمَّ، فأنت تحمد من إتّصف بالصفات الجميلة بغضِّ النظر عن كونه أحسن إليك، أو أحسن إلى غيرك. فأصبح الفرق بين الحمد، والشكر: أنّ الشُّكر أعمُّ بالوسيلة التي يُعبّر بها، وأخصُّ من جهة السبب الباعث عليه. والحمد أعمُّ من جهة السبب الباعث عليه، وأخصّ من جهة الوسيلة التي يُعبّر بها عنه. فالحمد إنما يكون باللسان فهو أخصّ بالوسيلة التي يعبر بها عنه، والشُّكر أعمُّ منه؛ لأن الشكر يقع باللسان، وبالجنان، وبالجوارح. أما باللسان فمنه قوله تعالى: {وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ} (¬1) لأنّ الحديث عن النِّعمِ شكرٌ للمُنعِمِ. كذلك أيضاً يقع بالجنان: ومنه قوله تعالى: {وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ} (¬2) أي: إعتقدوا أنها من الله، فمِنْ شُكْرك لنعمة الله أن تعتقد في قرارة قلبك أنّ الله أنعم بها عليك؛ وحده لا شريك له. ويكون الشكر بالجوارح، والأركان فتشكره سبحانه بالعمل في طاعته، ومرضاته، ومنه قوله تعالى: {اعْمَلُوا آلَ دَاوُودَ شُكْرًا} (¬3)، وتشكر المخلوق بالجوارح أيضاً؛ حينما تردُّ جميله بخدمته، وعمل ما يُحِبُّ. فهذه ثلاثة أنواع من الشُّكر: الشكر بالجنان، وباللِّسانِ، وبالجوارح. ¬

(¬1) الضحى، آية: 11. (¬2) النحل، آية: 53. (¬3) سبأ، آية: 13.

فتشكر بلسانك؛ فتثنى على الإنسان الذي أسدى إليك النّعمة بعد الله، وتشكر بجنانك، فتعتقد فضله، وتشكر بجوارحك، وأركانك بردّ الجميل إليه، أو فعل ما يردّ إحسانه إليه، وقد جمعها الشاعر بقوله: أفادَتْكُمُ النَّعْماءُ منّي ثَلاثةً ... يَدِي ولساني والضَّميرَ المُحَجَّبا فقوله: (يدي) أي: أشكركم بيدي، فأعمل في خدمتكم. وقوله: (ولساني) أي: أشكركم بلساني، فأتحدّث بفضلكم. وقوله: (والضَّميرَ المُحَجّبا) أي: أشكركم بقلبي، فأعتقد فضلكم. أما بالنسبة للحمد فلا يكون إلا باللسان، ولكن من جهة السبب الحمد أعمّ من الشكر، فتحمد الإنسان سواء أنعم عليك بعد الله، أو لم ينعم تقول: فلان كريم، ولم يعطك شيئاً، ولكن رأيت فيه هذه الخصلة الطّيبة فأثنيتَ عليه، وحمِدتَه، إذاً فالحمد لا يستلزم وجود فضلٍ للمحمود على الحامد؛ ولكن الشكر إنما يكون بعد جميل، ونعمةٍ من المشكور، فلا تشكر إلا من أحسن، وأسدى إليك المعروف. إذاً فالفرق بينهما أنّ بينهما العُموم، والخُصوص. قوله رحمه الله: [الحمدُ للهِ حمداً لا يَنْفدُ]: أي أحمد الله -تبارك وتعالى- حمداً لا ينتهي. قوله رحمه الله: [الحمد لله]: العلماء يقولون استفتح الله كتابه بالحمد لله؛ فاختار اسم الله، ولم يقل الحمد للكريم، أو للعظيم، مع أنه سبحانه عظيم، وكريم بلا شكٍ، ولكن تخصيص الاسم الدّال على الذّات أبلغ في الحمد، والثناء من ذكر الوصف؛ لأنك لو قلت الحمد للكريم؛ لأشعر أنك حمدته

من أجل أنه كريم، ولكن لما قلت الحمد لله، أثبت له الحمد لذاته -سبحانه وتعالى- فكان أبلغ. قوله رحمه الله: [حَمْداً لا يَنْفدُ]: أي أحمده حمداً لا ينتهي، ولا ينقطع فالله هو المستحق للحمد الذي لا ينفد؛ لأن نعمه لا تنقطع، ولا تنتهى على العبد، وهو لا يستطيع عدّها فضلاً عن شكرها، والثناء على الله -عز وجل- بما هو أهله. قال رحمه الله: [أفضلَ ما يَنْبغي أنْ يُحمد]: قوله [أَفضلَ]: على وزن أفعل، والعرب تأتي بهذه الصيغة، وهي صيغة أفعل التفضيل، لتدلّ على أن شيئين، فأكثر إشتركا في شىء، وأن أحدهما أفضل من غيره فيه، والفضل في اللغة أصله الزيادة أي: أن هذا الحمد مع كونه لا ينقطع، ولا ينتهي كذلك هو بأفضل، وأحسن ما ينبغي أن يكون عليه حمده سبحانه. قال رحمه الله: [وصلّى الله، وسلّم على أفضلِ الُمصْطَفِينَ مُحمَّدْ]: قوله رحمه الله: [وصلّى الله]: الصلاة تطلق في اللغة بمعانٍ: منها: الصلاة بمعنى الدعاء، ومنه قول الشاعر: تَقُولُ بِنْتِي وَقَدْ قَربْتُ مُرتحلاً ... يَاربِّ جَنِّب أَبِي الأَوصابَ وَالوَجَعَا عَلَيكِ مَثْلُ الذِي صَلِّيتِ فَاغْتمِضِي ... عَيْنَاً فإن لجِنْبِ المَرْءِ مُضْطَجَعَا يقول الشاعر: إن إبنتي حينما هيأتُ رحلي للسفر قالت هذا الدعاء: (يا ربِّ جنِّب أبي الأوصابَ والوجعا) أي: أنها دعت له بالسلامة، فقال ذلك الأب يجيبها: (عليك مثلُ الذي صلّيتِ)، أي: عليك مثل الذي دعوت

به فقوله: " مثل الذي صليت " أي: دعوت، وهو موضع الشاهد من البيت؛ أنه استعمل الصلاة بمعنى الدعاء، ومنه قول الحق تبارك وتعالى: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلَاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ} (¬1) أي إذا أعطوا الزكاة لك يا رسولنا فصلِّ على من أعطاها لك، ولذلك قال العلماء: يسن للإمام، أو نائبه الذي يلي أخذ الزكاة من الناس إذا أخذها منهم أن يدعو لهم بالبركة، والخير في أموالهم فقوله: {وَصَلِّ عَلَيْهِمْ} أي: اُدعُ لهم؛ فالصلاة استعملت هنا بمعنى الدعاء. ومن معاني الصلاة الرحمة، وهي من الله لعبده، ومنه قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ} (¬2). وصلاة الله على العبد رحمته، فالصلاة تطلق بمعنى الرحمة، ومنه قول الشاعر: صَلى المَليْكُ عَلَى اْمرِئٍ وَدَّعتُهُ ... وَأَتم نِعْمَتَهُ عَلِيهِ وَزَادَهَا أي: رحم الله ذلك العبد، أو ذلك الأخ الذي ودَّعتُه. ومن معاني الصلاة في لغة العرب: البركة، والزيادة، وفُسّر به قوله عليه الصلاة والسلام في صحيح البخاري، وغيره: [اللهمَّ صَلِّ على آل أبي أوفى]، قيل معناه: بارك لهم. فهذه ثلاثة معانٍ للصلاة الدعاء، والرحمة، والبركة. ¬

(¬1) التوبة، آية: 103. (¬2) الأحزاب، آية: 56.

وقوله [وصلّى الله]: المراد به الرحمة، أي: رحم الله. قوله رحمه الله: [وسلم على أفضل المصطفين محمد]: قوله رحمه الله: [وسلم] السلام: إما مأخوذ من السلامة من الآفات. وإما أن يراد به التحية، قال بعض العلماء قول الإنسان: السلام عليكم؛ أي سلّمكم الله من الآفات، والشرور، وهي التحية، والسلام من السلامة، وهو إسم من أسماء الله جل وعلا قال تعالى: {الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلَامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ}. وجمع المصنف بين الصلاة على النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، والسلام عليه؛ لأنّ ذلك أكمل. قال بعض العلماء: (أدب الصلاة على النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أن يُجْمَع فيها بين الصلاة، والسلام عليه، عليه أفضل الصلاة والسلام) اهـ. والدليل على ذلك قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} فجمع له بين الصلاة، والسلام عليه أفضل الصلاة، والتسليم. قوله رحمه الله: [وعَلى آلهِ، وأصْحابِه] قوله: [وعلى آله]: (الآل) تطلق بمعنيين: آل الرجل بمعنى قرابته؛ قالوا: لأن أصل آل أهل، وهو قول سيبويه، وأن الهاء في أهل أبدلت همزة؛ فقيل آل. وتطلق بمعنى الأنصار، والأعوان، والأتباع، وشيعة الإنسان تقول: آل فلان: بمعنى أتباعه. وهذا هو المراد بقول العلماء: (وعلى آله) أي: الذين آمنوا به، واتبعوه عليه الصلاة، والسلام، وليس المراد به خصوص قرابته، وهذا هو الصحيح ونصَّ عليه الإمام أحمد -رحمه الله-، وإختاره جمع من العلماء أن المراد بآل

النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- الذين يُصلّى، ويسلم عليهم تبعاً للنبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أتباعه في كل زمان، ومكان. قوله رحمه الله: [وأصحابه]: جمع صاحب، وهو من الصُحبة بمعنى الملازمة، والرفقة، وفي الإصطلاح: (كل من رأى النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قبل موته، وآمن به)، وخصّهم رحمه الله بالذكر لشرفهم، وحقهم في الإسلام حيث آمنوا بالنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وصدّقوه، وإتبعوه، وناصروه، رضي الله عنهم، وأرضاهم أجمعين. وقوله: [ومَنْ تَعَبّدَ]: من باب عطف الخاص على العام أي: أنه خصّ المتعبّدين أي: الذين هم أكثر عبادة، وصلاحاً أي خصَّ أهل الالتزام، والطاعة الأكثر، وهذا من باب التشريف، والتكريم. وقوله: [تعبَّد]: تفعّلٌ من العبادة، والتَّفعل زيادة في المبنى تدلّ على زيادة المعنى، والتعبّد: مأخوذ من العبادة، والعبادة مأخوذة من قولهم: طريق مُعَبّدٌ أي: مذلّل؛ لأن أصل العبودية: الذِّلة؛ فإن الإنسان إذا عبد ربه تذلّل له سبحانه. أما حقيقة العبادة في الاصطلاح فمن أجمع التعاريف لها ما اختاره بعض الأئمة رحمهم الله: [أنها اسم جامع لكلِّ ما يُحبه الله، ويرضاهُ من الأقوال، والأفعال الظاهرة، والباطنة] أي سواء: كانت متعلقة باعتقاد كالإيمان بالله، والخوف منه، والرجاء فيما عنده، فهذه كلها عبادات من أعمال القلوب الباطنة، وكذلك تطلق العبادة على الأقوال الظاهرة التي يحبها الله تعالى، مثل: التَّسبيح، والتَّهليلِ، والتَّكبيرِ، والتَّحميدِ.

وكذلك تُطلق على الأفعال الظاهرة التي يحبها الله تعالى مثل: الصلاة، والزكاة، والصوم، والحج. فالعبادة تشمل الإعتقادات، والأقوال، والأفعال؛ لكن بشرط أن تكون مما يحبه الله، ويرضاه، وشرط ما يحبه الله، ويرضاه: أن يكون مشروعاً؛ فلا يُعبد الله إلا بما شرع، ودل على كونه مشروعاً منه سبحانه دليل الكتاب، أو السنة، أو الإجماع قولاً كان، أو فعلاً، أو إعتقاداً. وقوله رحمه الله: [أما بعد]: كلمة يُؤْتى بها للفصل بين المقدمة، والمضمون، فالكلام إذا خاطب به الإنسان غيره سواء كان مكتوباً، أو مسموعاً جرت عادة العلماء أنهم يصدرونه بالثّناء على الله -جل وعلا-، والصلاة، والسلام على نبيِّه، وآله على السُّنة التي ذكرناها، هذه الكلمات التي يُصدَّر بها الكلام تُوصف بكونها مقدمة، ثم بعد هذه المقدمة يُشرع في المقصود أي الأمر الذي يُرادُ بيانه، وهو الهدف من إلقاء الكلمة، أو كتابة الكتاب، ولا بد أن تَفْصِل بينه، وبين المقدمة، ولذلك قال بعض العلماء: إن كلمة (أما بعد): هي فصل الخطاب، قيل: إن أول من تكلم بها داود عليه السلام، وحملوا عليه قوله تعالى: {وَآتَيْنَاهُ الْحِكْمَةَ وَفَصْلَ الْخِطَابِ} (¬1) قالوا بدليل قرنها بالحكمة، فيكون قوله سبحانه: {وَفَصْلَ الْخِطَابِ}: أي الفصل بين مقدمته، ومضمونه، وذلك أبلغ في نفع الناس، وتوجيههم حتى لا يختلط الكلام بعضه ببعض، وهذا قول الشعبي، وطائفة ¬

(¬1) ص، آية: 20.

من المفسرين، والذي يظهر, والعلم عند الله أن فصل الخطاب هو علم القضاء، والفصل بين الناس في الخصومات، والنزاعات. فقوله تعالى: {وَآتَيْنَاهُ الْحِكْمَةَ وَفَصْلَ الْخِطَابِ} ليس المراد بقوله: {وَفَصْلَ الْخِطَابِ} أما بعد التي معنا، وإنما المراد به كما قال طائفة من العلماء معرفة الطريقة التي يُفْصَلُ بها بين خطاب الخصوم إذا تخاصموا؛ لأن الخصوم إذا تخاصموا إختلفت أقوالهم، وتباينت حججهم فيكثر كلامهم، وخطابهم ولغطهم؛ فيحتاجون إلى فصلٍ بينهم، فقوله سبحانه: {فَصْلَ الْخِطَابِ} المراد به: علم الفصل في الخصومات، ومن ذلك قولهم (البينةُ على المُدَّعِي، واليمينُ على من أَنْكر)، ومن فصل الخطاب أيضاً: أنه يترك المدعي حتى يكمل دعواه، ثم يسأل المدعى عليه، ولذلك لما لم يفعله داود -عليه السلام-، وحكم على الخصم قبل سماع جواب خصمه عن دعواه، فقال: {لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ إِلَى نِعَاجِهِ} (¬1) عاتبه الله، ولذلك كان هذا من تعليم فصل الخطاب، فدلّ سياق الآية على أن المراد بفصل الخطاب ليس أما بعد التي معنا؛ وإنما المراد بها فصل الخطاب بين الخصوم، وهو الذي إمتن الله -عز وجل- به على داود، وعلّمه إياه، فالحاصل أن الصحيح في الآية أنها لا يراد بها كلمة: أما بعد، وهذا لا يعني عدم مشروعيتها، بل إنها مشروعة، حيث ثبتت هذه الكلمة في الأحاديث الصحيحة عن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ومنها ما في الصحيح عنه -عليه الصلاة والسلام- من قوله: [أمّا بَعدُ: فَما بالُ أقوامٍ ¬

(¬1) ص، آية: 24.

يشترطون شروطاً ليست في كتاب الله؟] فكان يقول هذه الجملة، ولذلك من السُّنة أن تُقالَ بعد المقدمة. وقد يُكرِّرها البعضُ فيقول: أما بعد، ثم يأتي بكلمة، ثم يقول: " ثم أما بعد " والذي يظهر الاقتصار على السُّنة أن يثنى على الله، ويحمده فإذا انتهى من الثناءِ، والحمدِ قال: أمّا بَعدُ، ودخل في المقصود، فتكرارها لا يحفظ له أصل؛ خاصة في خطب الجمع، ونحوها يقتصر على قوله: أمَّا بَعدُ مرةً واحدةً؛ لأنه هديه عليه الصلاة، والسلام، وسنته. قال المصنف رحمه الله: [فهذا مُخْتصرٌ]: قوله رحمه الله (هذا) إسم إشارة، وهناك حالتان: الحالة الأولى: أن يُشار إلى شيءٍ موجود، فحينئذ لا إشكال؛ لأنه الأصل فيها أنها اسم إشارة تدل على شيء موجود، فتقول: هذا البيت، فإذا كان المصنف رحمه الله قد كتب هذه المقدمة بعد فراغه من الكتاب، فحينئذ لا إشكال في إشارته بقوله (هَذا مُخْتَصرٌ)؛ لأنه موجود مكتوب. والحالة الثانية: أن يشار بها إلى شيءٍ غير موجود من باب تنزيل المعدوم منزلة الموجود، فإذا كان المصنف رحمه الله كتب هذه المقدمة عند إبتدائه لتصنيف الكتاب، فإنه يكون قد نزّلَ المعدومَ منزلةَ الموجودِ، وقد درج كثير من العلماء رحمهم الله على ذلك أعني كتابة المقدمة عند إبتداء التصنيف والتأليف؛ لا بعد الفراغ منه، وقد يصرح بعضهم بذلك فيقول: (هذا أوان الشروع فيه) ومنهم من يفهم منه ذلك حينما يقول في مقدمته (وأسأل الله أن يعين

على إتمامه)، وهذه الطريقة هي الغالبة بدليل أن الكتب، والشروح التي لم يتمُّها مؤلفوها كلها وجدت بمقدماتها. وعليه فإن إشارته لكتابه على هذا الوجه بقوله (فهذا مختصر) يكون من باب تنزيل المعدوم منزلة الموجود؛ لأن الإختصار لم يحصل بعد، ولكنه قصد حصوله، واحتاج للتنبيه عليه؛ فنزلة منزلة الموجود أي هذا الكتاب الذي سأكتبه مختصر في الفقه. قوله رحمه الله: [مختصر]: الاختصار ضد الإسهاب، وإذا خاطبت النّاس في خطبة، أو كتبت لهم كتاباً، أو أردت أن تتحدث في موضوع، فلك ثلاث حالات: الحالة الأولى: أن يكون كلامك أكثر من المعنى، فالمعنى قليل، ولكن الكلام كثير. الحالة الثانية: أن يكون كلامك أقلّ من المعنى، فالمعنى كثير، ولكن تأتي بكلمات قليلة تحتها معان كثيرة، وهذه الحالة عكس الحالة الأولى. الحالة الثالثة: أن تأتي بكلام على قدر معناه. هذه ثلاث حالات: إما أن تخاطب بكلام، ويكون معناه مساوياً، أو أكثر، أو أقل. فإن كان الكلام كثيراً، والمعنى قليلاً؛ فإنه يُوصف بكونه إطناباً، ولذلك يقولون أطنب في الأمر، وهذا مذموم؛ إلا في حالات خاصة، فلا يكون إلا في خطاب ضعاف الفهم من الجهلة، والعوام الذين يحتاجون إلى شرح،

فتكون المعاني قليلة، ولكنها تُشْرح بكلامٍ كثيرٍ، أما إذا خاطب علماء، أو طلاب علم فالمنبغي أن يكون على إحدى حالتين: الحالة الأولى: أن يخاطبهم بكلام مساوٍ لمعناه، وهو ما يسمونه بالمساواة. والحالة الثانية: أن يخاطبهم بكلام مختصر دالٍ على معانٍ كثيرة، وهو ما يسمى بالإيجاز، والإختصار وهذه الحالة هي الأفضل إن ناسبت المقام، وقد عُدَّت من دلائل الإعجاز في كتاب الله، وسنة رسوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حيث إن الله خصَّ نبيَّه عليه الصلاة، والسلام بها كما في الصحيح من قوله عليه الصلاة والسلام: [أوتِيتُ خَمْساً لم يُعْطَهنَّ أحدٌ قبلي]، وذكر منها جوامع الكلم، وأنه اختُصر له الكلام إختصاراً. فكم من آيات قليلة الكلمات، وتحتها من المعاني، والدلالات الكثير، كما في آية الوضوء التي ذكر الإمام ابن العربي رحمه الله في تفسيرها في كتابه أحكام القرآن أن من العلماء من إستنبط منها ثمانمائة مسألة، وهكذا في أحاديثه عليه الصلاة والسلام التي جعلت أصولاً، فجمعت مسائل كثيرة في كلمات قليلة يسيرة؛ كقوله عليه الصلاة والسلام في الصحيحين: [إِنّما الأعمالُ بالنّياتِ]، ونحوه. فقوله رحمه الله: (إِخْتَصرتُه) محمولٌ على الإيجاز، وأن الكلام قليل، والمعنى كثير، ومن عادة الفقهاء رحمهم الله في تصنيفهم للمتون الفقهية أن يراعوا فيها الإختصار، والإيجاز، بخلاف الشروح، والحواشي، والمطولات.

قوله رحمه الله: [في الفقه] بيان للعلم الذي ينسب إليه هذا المختصر؛ لأن المختصرات منها ما هو في علم العقيدة، ومنها ما هو في علم الفقه، ومنها ما هو في علم الأصول، أو اللغة، أو غيرها، فلما قال في الفقه بيّن العلم المصنّف فيه، وهو العلم الذي يريد إختصاره. وقوله رحمه الله: (الفقه) الفقه لغة: الفهم، ومنه قوله تعالى حكاية عن نبيه موسى عليه السلام: {وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسَانِي (27) يَفْقَهُوا قَوْلِي} أي: يفهموا ما أقوله، ثم هذا الإستعمال للفقه بمعنى الفهم لغة فيه قولان: فقيل: إنّه الفهم عموماً، وقيل: إنّه الفهم للأمور الدقيقة التي تحتاج إلى إعمال فكر، وعناء، فلا يطلق على فهم الأمور الواضحة، وعلى هذا القول، فلا يصح أن تقول: فقهت أن الواحد نصف الإثنين؛ لأنه أمر واضح لا يحتاج إلى كبير عناء. وعلى هذا يكون القول الأول: عاماً شاملاً لكل فهم، وعلى الثاني: يكون الفقه خاصاً بالفهم الذي يحتاج إلى إعمال فكر، وبذل جهد. أما الفقه في الاصطلاح: فهو (العلم بالأحكام الشرعية، العملية، المكتسبة من أدلتها التفصيلية). فقولهم: (العلم بالأحكام الشرعية)، العلم ضد الجهل، وحقيقته: إدراك الشيءِ على ما هو عليه، فإذا أدركت الشىء على حقيقته التي هو عليها؛ فقد علمته، أما لو أدركته ناقصاً عن حقيقته فإنك لم تعلمه. و (الأحكام) جمع حكم، وهو في اللغة: المنع، والقضاء، والحكم: إثبات أمر لأمر، أو نفيه عنه، وله عدة تعاريف تختلف بحسب إختلاف أنواعه.

وقولهم: " إثبات أمر لأمر " مثاله: أن تقول زيد قائم أثبتَّ القيام لزيد هذا حكم حكمت عليه بالقيام، وقولهم: " أو نفيه عنه " أي تنفيه عنه فتقول مثلاً: زيد ليس بقائم؛ هذا حكم حكمت عليه بأنه ليس بقائم. والحكم الشرعي في اصطلاح علماء الأصول: هو (خطاب الله المتعلق بأفعال المكلفين على جهة الاقتضاء، أو التخيير، أو الوضع). وقولهم (الشّرعية) قيد يخرج الأحكام غير الشرعية كاللغوية، والعادية، والنطقية، وغيرها فهو يدل على أنها مختصة بالأحكام إذا كانت من الشرع فقط. وقولهم (العملية) قيد يخرج بقيّة الأحكام الشرعية كالعقائدية؛ لأن العملية مختصة بالعبادات والمعاملات، فلا يدخل فيها ما كان متعلقاً بالعقائد؛ لأنه يبحث في كتبه المتخصصة فيه ككتب التوحيد والعقيدة. وقولهم: (المكتسبة) أي: المستفادة التي حُصِّلت، واستفيدت. وقولهم: (من الأدلة الشرعية) بيان لأصل الحكم، والأدلة الشرعية هنا عامة شاملة للأدلة النقلية، وهي: دليل الكتاب، والسنة، والإجماع، والأدلة العقلية كالقياس، والنظر الصحيح. قوله رحمه الله: [منْ مُقْنِع الإمامِ الموفّق أَبي مُحمّدٍ]: قوله: [من]: للتبعيض، أي: أنه جعل كتاب المقنع للإمام الموفق أبي محمد رحمه الله أصلاً لكتابه هذا، فاختصره منه. والمقنع: كتاب للإمام الموفق أبي محمد عبد الله بن أحمد بن محمد بن قدامة المقدسي- رحمة الله عليه- المتوفى عام 620 هـ في يوم عيد الفطر هذا الإمام

الجليل ألّف كتاباً إسمه: عمدة الفقه، وهذا الكتاب صاغ فيه الفقه بأخصر عبارة، واعتبره الدرجة الأولى لطالب الفقه، ثم ألّف بعده كتاباً إعتبره درجة ثانية فوقه، وهو المقنع، وتوسّع فيه قليلاً عن العمدة. ثم وضع كتاباً ثالثاً وهو الكافي، وذكر فيه الخلاف مختصراً للخلاف في داخل مذهب الحنابلة، وهو فوق كتاب المقنع. ثم وضع كتابه المغني ذكر فيه خلاف الروايات، واختلاف الفقهاء، فجمع بين الخلاف داخل المذهب، وخارجه، وهو كتابه لمن أراد أن يتأهل لدرجة الاجتهاد، فهذه درجات وضعها هذا الإمام الموفق -رحمة الله عليه- في دراسة الفقه، وهذه عادة المتقدمين أنهم يضعون الفقه على مراتب، ولا يمكن لطالب العلم أن يضبط علم الفقه، ويكون فقيهاً بمعنى الكلمة إلا إذا ضبطه بهذه الطريقة، وهي التدرج في دراسته. فالكتاب الذي معنا هو الدرجة الثانية، وهو كتاب المقنع، ويعتبر درجة ثانية بعد العمدة فليس من الصواب أن الشخص يبدأ بالمغني أولاً، دون أن يتأهل بدراسة ما قبله حتى يتسنى له ضبطه، وفهمه. فالإمام الحجاوي -رحمة الله عليه- إختصر المقنع؛ فألغى منه مسائل، وأضاف مسائل، فسماه زاد المستقنع، فالأصل في هذا الكتاب أنه كتاب المقنع، أُضيفت إليه مسائل، وحُذفت منه أخرى. قوله رحمه الله: [على قولٍ واحدٍ، وهُو الرَّاجِحُ في مذهبِ أحمدَ] قوله: [على قول واحد]: الفقهاء رحمة الله عليهم كانوا يكتبون الفقه على طريقتين:

الأولى: طريقة المذهب. والثانية: وطريقة الخلاف بين المذاهب. أما طريقة المذهب: فهي طريقة يُعتنى فيها ببيان المذهب على إحدى صورتين: الصورة الأولى: تكون ببيان خلاصة المذهب، دون تعرض لخلافه، وهذه طريقة المتون، وهذا هو منهج الكتاب الذي معنا. والصورة الثانية: أن يذكر الخلاف في المذهب فيقول: في المذهب ثلاث روايات، أو أربع، وهكذا فإذا ذكر الخلاف في المذهب: فإما أن يذكره عن الإمام بالروايات، والأقوال، وإما أن يذكره عن أصحاب الإمام بالأوجه. إذاً فكتب المذهب إما أن تعتني بحسم المذهب، بذكر الخلاصة؛ وإما أن تعتني ببيان الخلاف داخل المذهب، فالمصنف رحمه الله بيّن خلاصة المذهب، واختياره في كتابيه العمدة، والمقنع، وذكر الخلاف في الكافي، وذكره بإسهاب مقارناً بين المذاهب في المغني. فإذا عرفنا أن هناك خلافاً في المذهب، وخلافاً بين العلماء -رحمهم الله- خارج المذهب، فبيّن رحمه الله أنه في هذا الكتاب المختصر لا يذكر الخلاف داخل المذهب، ولا خارجه، وأنه سيذكر الخلاصة للمذهب فقط. قوله رحمه الله: [ورُبّما حَذفتُ منه مسائلَ نادرةَ الوقوع]: قوله: [ربَّ]: للتقليل، وقد تستعمل بمعنى التكثير، ولكن الأصل فيها التقليل،

والحذف: يكون بقصد الاختصار، وقد يحذف لعدم وجود الحاجة الماسة للمسائل المحذوفة، فلذلك قال رحمه الله: [ورُبّما حَذفتُ منه مسائلَ نادرةَ الوقوعِ]: النادر ضد الغالب، والنادر هو الأمر قليل الحدوث، والغالب عكسه؛ كثير الحدوث. قوله رحمه الله: [وزدتُ ما على مثله يُعْتَمد]: أي أنني سأزيد بدل هذه المسائل التي حذفتها مسائل تشتد الحاجة إليها لكثرة وقوعها، أو أهمية دراستها. وهذا الحذف، والزيادة من الإمام الحجّاوي رحمه الله، إختصاراً منه لمقنع الإمام الموفق أبي محمد رحمهما الله برحمته الواسعة. قوله رحمه الله: [إذ الهِمَمْ قَدْ قَصُرت، والأسباب المثبطة عن نيل المراد قد كَثُرتْ] قوله: [إذ الهِمَمْ]: جمع همة، وهي إحدى مراتب الأمر إذا وقع في نفس الإنسان، ولا يمكن أن يقع الاهتمام بالأمر إلا بعد أن يحدّث نفسه به، فأولاً يكون الشيء في قلب الإنسان حديثاً، ووسواساً يخطر بالإنسان، وتُحدِّثه به نفسه فإذا حَدّثتهُ نفسه إهتم به، فإذا الهمُّ يكون بعد الخاطر، والهاجس، ويكون بمعنى تهيئ النفس للعزم على الشيء، ثم بعد ذلك يكون عزمها عليه، فبيّن رحمه الله أن الهمم في زمانه قد ضعفت حتى إحتيج إلى المختصرات، تخفيفاً في الطلب، وتيسيراً للعلم، بعد أن كانت الهمّة في طلب العلم قويّة متعدية، لا تقف عند حدٍ، فأصبحت قاصرة ضعيفة تحتاج إلى ما يناسبها.

قوله رحمه الله: [والأسباب المثبطة عن نيل المراد قد كثرت]: الأسباب: جمع سبب، وهو في الأصل ما يتوصل به إلى الشيء، كالحبل، ونحوه. والتَّثْبِيطُ: هو التخذيل عن الشيء، والمراد: ما يقصده الإنسان ويطلبه. والمعنى: أن المصنف رحمه الله أراد أن يبين ضعف الحال في طلب العلم فبعد أن كانت الهمم في الطّلب عالية، والأسباب المعينة عليه متوفرة تغيّر الحال، وإختلف، فأصبح على عكس ذلك، مما إقتضى وضع ما يناسب حال الناس من مختصرات تقرّب العلم، وتسهل الوصول إليه؛ مراعاة لضعف حال الناس في طلب العلم، ثم إن الإنسان يضعف عن الخير بأمرين: الأمر الأول: من نفسه. والأمر الثاني: خارج عن نفسه. فأشار إلى الأمر الأول بقوله: (إذِ الهِمَمْ قَدْ قَصُرتْ) وأشار إلى الثاني بقوله: (والأسبابُ المثبّطةُ عن نيلِ المرادِ قدْ كَثُرتْ). قوله رحمه الله: [ومع صِغرِ حَجْمهِ حَوى ما يُغنيِ عَنِ التطويل]: قوله: [حوى ما يغني عن التطويل] والغناء المراد به الكفاية هذا يغنيني أي: يكفيني، وقد تستعمل مادته بمعنى حسن الصوت، ومنه التغني وحمل عليه قوله عليه الصلاة والسلام: (مَنْ لم يَتَغَنّ بالقرآنِ فَليسَ منّا)، وقد تستعمل بمعنى الإقامة: ومنه قوله تعالى: {كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ} (¬1) أي: لم تقم بمكانها. ¬

(¬1) يونس، آية: 24.

والتطويل المراد به هنا كما ذكرنا الإسهاب، ومراده رحمه الله أن يبيّن أن إختصاره لم يكن مُخِلاً بالكتاب، بل كان مناسباً. ويرد هنا إشكال، وهو أن: العلماء -رحمهم الله- في بعض الأحيان يذكرون عبارات فيها ثناء على كتبهم، أو بيان لفضل هذه الكتب، والمؤلفات، وهذا يتضمن التزكية، والمدح للنفس، وقد ثبت في الشرع النهي عن تزكية النفس أليس ثناؤه على كتابه من باب التزكية، والمدح؟ هذا إشكال، ويحتاج إلى جواب؟ والجواب: أن التزكية، والثناء على النفس لها حالتان: الحالة الأولى: أن تتضمن الإدلاء على الله، والعُجْبَ بالنفس، والإغترار بها، والعياذ بالله فهذا نسأل الله السلامة، والعافية هو المحرّم، ولا يجوز؛ كأن يُثني الإنسان على نفسه بكثرة علم، وعبادة مغتراً، ومتعالياً، وقد عاتب الله -جل وعلا- موسى -عليه السلام- لما ذكر علمه، وهو عالم، ولم يكن ذلك منه تفاخراً كما ثبت في الصحيح، فكيف بمن فعل ذلك تفاخراً، وبيّن الله في كتابه أنّ الذين عذبهم، وأهلكهم من شأنهم أنهم فرحوا بما عندهم من العلم، حتى حاق بهم ما كانوا به يستهزؤن. الحالة الثانية: التَّزكية على سبيل معرفة الحق، والترغيب فيه، فمثلاً يقول: تعلمت هذا العلم من العلماء، أو أفتيتك بهذه الفتوى من العلماء، أو هذا الأمر الذي ذكرته لك من الكتاب، والسُّنة، فتثني على علمك حينما ترى إستخفاف الناس به، أو تريد حملهم على العمل بالحقِّ، والسُّنة، فهذا فَعَلَهُ الصحابة رضي الله عنهم، كما قال أنس رضي الله عنه في الحديث الصحيح

[ما تعدُّوننا إلا صبياناً، لقد كنت تحت ناقة النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يمسُّني لعابها أسمعه يقول: لبيك عمرةً، وحجةً] وقال أبو العباس سهل بن سعد الساعدي -رضي الله عنه- كما في صحيح البخاري: [ما بقي أحدٌ أعلمَ بمنْبرِ النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- منّي] فهذا نوع من الثناء على نفسه بالعلم حتى يُقدَّر قدرُه. فأجاز العلماء أن يثني الإنسان على نفسه لمعرفة قدره؛ كما قال سبحانه حكاية عن نبيِّه يوسف عليه السلام: {قَالَ اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ} (¬1) فإذاً إذا كان الإنسان عنده حقٌّ وعلم فبيّن نعمة الله عليه من باب معرفة قدره فإنه لا حرج عليه، فهذا من باب الترغيب في قبول الحق، والعمل به، ونرجو ألا يكون من باب التزكية، والثّناء المذموم شرعاً. قوله رحمه الله: [ولا حول ولا قوة إلا بالله]: للعلماء فيها وجهان: الوجه الأول: منهم من يقول لا حول: أي لا تَحوُّل من حالٍ إلى حالٍ، ولا قوة على ذلك التحول ولا بلاغ إلا بالله، فأصل الحول من التغير، والتبدل، ولذلك يطلق على السَّنة؛ لأن الغالب أن الإنسان إذا مرّتْ عليه سنة كاملة تحوّل حاله، وتغيّر فيمرض، ويصح، ويغنى، ويفتقر، ويهلك ماله، ويزيد إلى غير ذلك من العوارض، فالحول مدة ليست يسيرة. وعلى هذا المعنى يكون قولهم لا حول أي: لا تحوّل من حال شر إلى حال خير إلا بالله العلي العظيم. ¬

(¬1) يوسف، آية: 55.

الوجه الثاني: لا حول في دفع ضُرٍّ، ولا قوة في بلوغ خير إلا بالله، فالله -جل وعلا- منه الحول، والطول، والقوة، ولذلك ثبت في الحديث الصحيح عن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أنه لما سمع المؤذنَ يقولُ: حيَّ على الصلاةِ، حيّ على الفلاح قال: [لا حَوْلَ، ولا قُوةَ إِلا بالله] قال بعض العلماء: مناسبته أنه بَرِأَ من الحول، والقوة في إجابة داعي الله؛ إلا بعد توفيق الله -جل وعلا- ومعونته، فقد يكون الإنسان راغباً في حضور الصلاة، وأدائها، ولكن يُحالُ بينه، وبينها بسقمٍ، أو مرضٍ، وقد يحال بينه، وبينها بتأخرٍ، أو تقاعسٍ فلا حول للإنسان، ولا قوة في بلوغ الخير إلا بالله -جل وعلا-، وهكذا في دفع الشَّر، وهذه الكلمة كنز من كنوز الجنة كما ثبت في الحديث الصحيح عنه عليه الصلاة والسلام. قوله رحمه الله: [وهو حَسْبُنا]: وهو: أي الله، الحسب: الكفاية، حسبي: كفايتي، حسبنا: جاء بصيغة الجمع التي تشمله، وتشمل السامع، والقارئ، والمؤمنين المتوكلين عليه سبحانه، وهو حسبنا أي: كافينا. قوله رحمه الله: [ونِعْمَ الوكيلُ]: ثناء على الله -جل وعلا-، والوكيل: هو القائم على الشيء، المتوكل عنه، والله خالق كل شىء، وهو على كل شيء وكيل، فهو القائم على كل نفس، وهو المتوكل بكل نفس -سبحانه وتعالى-، وبكل شىء، فهو حسبنا في بلوغ هذا الأمر الذي رسمناه، والمنهج الذي ذكرناه. قوله رحمه الله: [ونِعْمَ الوكيلُ]: أي نعم من يُتَوكّلُ عليه، أو يُوْكَل إليه الأمر.

وهذه المقدمة فيها فوائد: نجملها فيما يلي: أولاً: الثناء على الله -عز وجل-، واستفتاح الكتب بذلك، وفي حكمها الخطب، والمواعظ ونحوها. ثانياً: الفصل بين مقدماتها، ومضامينها. ثالثاً: أن تكون هذه المقدمة مشتملة على التعريف بالكتاب، وبيان منهج المؤلف فيه، وفي تقسيم مادته، وترتيبها. هذه فوائد يستفيد منها طالب العلم في البحث، وكتابة رسالة، أو موضوع، ثم خَتْمُ ذلك بالثناء على الله -جل وعلا- وسؤاله المدد، والعون. فلذلك ينبغى لطالب العلم أن يستفتح مقدمته بالثناء على الله -عز وجل-، ويختمها أيضاً بسؤال الله -عز وجل- المعونة، والتوفيق. ونسأل الله العظيم، رب العرش الكريم، أن يجزي هؤلاء الأئمة، وإخوانهم من علمائنا خير ما جزى عالماً عن علمه، اللهم أسبغ عليهم واسع الرحمات، وإجعل لهم جزيل المغفرات، وعلو الدرجات، وألحقنا بهم على أحسن ما تكون عليه الخاتمة، والممات؛ إنك عل كل شيء قدير، وبالإجابة جدير، والله تعالى أعلم.

كتاب الطهارة

كتاب الطهارة قال المصنف رحمه الله: [كتاب الطهارة]: الكلام عن هذه الجملة في موضعين: الموضع الأول: في بيان معنى قوله: كتاب الطهارة. والموضع الثاني: في بيان مناسبة تقديم كتاب الطهارة، وجعله في إبتداء هذا الكتاب. قال المصنف رحمه الله: [كتاب الطهارة]: الكتاب مصدر مأخوذ من قولهم: كَتَبَ الشيءَ يَكْتُبه كتْباً، وكِتَابةً، وأصل الكَتْبِ في لغة العرب: الضَّمُ، والجمع، ومن ذلك قولهم: تَكتّبَ بنو فلان؛ إذا إجتمعوا. قال العلماء: سمي الكتاب كتاباً لاجتماع حروفه، وإنضمام كلماته بعضها إلى بعض. قوله: [الطَّهارة]: الطهارة في لغة العرب: النّظافة، والنّقاء من الدَّنس يقال: طَهُرَ الشيء بفتح الهاء، وضمِّها، يَطْهُر بالضم، طَهَارةً؛ إذا كان نقياً من الدنس نظيفاً. وأما في اصطلاح العلماء رحمهم الله: فهناك عدة تعاريف منها ما أشار إليه المصنف رحمه الله بقوله: (ارتفاعُ الحدثِ، وما في معناهُ، وزوالُ الخَبثِ) وسيأتي بيان المراد بهذا التعريف في موضعه. وعرّفها بعضهم بقوله: [صفة حكمية توجب لموصوفها جواز استباحة الصّلاةِ به، أو فيه، أو له].

فقولهم: [صفة حكمية]: يدل على أن الطهارة من الأوصاف المعنوية، وهي الأوصاف غير المحسوسة، فإنها ليست كالطول، والقصر أوصافاً محسوسة مشاهدة في الموصوف، فأنت إذا قلت فلان متطهر فإن وصفك له بالطهارة ليس بشيء محسوس نراه عليه، بل هو متعلق بالمعاني كالعلم، والشجاعة، ونحوها من الأوصاف الحكمية المعنوية. وقولهم: [تُوجِبُ] بمعنى: تثبت. وقولهم: [لموصوفها] أي: للشخص الذي يُوصف بها. وقولهم: [جواز استباحة الصلاة] أي: الحكم بحلِّ الصلاة، وعليه فإنها تفيد الحلّ لا الوجوب، ولا غيره فمن تطهر حلّ له أن يصلي، ولم يلزمه ذلك، وثبوت هذا الوصف في حقه لا يستلزم منه فعل الصلاة، ومن هنا عبّر بالجواز المقتضي لمطلق الإباحة، والإذن بالشيء، دون لزومه على من إتصف به، ومثل الصلاة الطواف بالبيت، ونحوه مما تُشْترط له الطهارة؛ كلمس المصحف. وقولهم: [به، أو فيه، أو له] إشارة إلى ثلاثة أمور لا بد من توفرها للحكم بصحة الصلاة، وهي طهارة: البدن، والثوب، والمكان. فالمصلي لا بد له من تحصيل الطهارة في هذه الثلاثة الأمور في بدنه، وهو المُعبَّر عنه بقولهم: [له] وفي مكانه، وهو المُعبَّر عنه بقولهم: [فيه]، وفي ثوبه وهو المُعبَّر عنه بقولهم: [به] وهذا جمع التعريف بين نوعي الطهارة، وهما: طهارة الحدث، والخبث، وقد أشار إلى طهارة الحدث بقوله: [جواز استباحة الصلاة] لأن هذا الجواز لا يكون إلا بعد تحصيل الطهارة

من الحدث، وأما طهارة الخبث فقد أشار إليها بقوله: [به، أو فيه، أو له] فجمع أنواع طهارة الخبث في المواضع الثلاثة: وهي الثوب، والبدن، والمكان. وهذا التعريف لا يعارض التعريف الذي ذكره المصنف رحمه الله كما سيأتي، بل معناهما واحد، وإن كانت ألفاظهما مختلفة، كما سيتضح عند شرحه، وبيانه بإذن الله تعالى. وبعد ذكر معنى الطهارة في اللغة، والاصطلاح فإنه يرد السؤال: لماذا بدأ المصنف رحمه الله كتابه الفقهي بالطهارة؟ والجواب: أن الفقه منه ما هو متعلق بالعبادات: كالصلاة، والزكاة، والصوم، والحج؛ ومنه ما هو متعلق بمعاملة الناس بعضهم مع بعض: كالبيع، والنكاح، والجناية. فأجمع العلماء على تقديم العبادة على المعاملة فيقدمون أبواب الصلاة، والزكاة، والصوم، والحج على سائر أبواب المعاملات؛ والسبب في ذلك: أن العبادة هي الأصل، ولذلك قال النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: [ليكُنْ أولَ ما تدعُوهمْ إِليه شَهادةُ أنّ لا إله إلا اللهُ، فإنْ همْ أَطاعُوك لذلك؛ فأَعلمْهم أن الله افترضَ عليهم خمسَ صلوات في كلِّ يومٍ، وليلةٍ] فقدَّم الصلاة، وجعلها بعد الشهادتين، ولذلك درج العلماء من المحدثين، والفقهاء على استفتاح كتب الحديث، والفقه بكتاب الصلاة من هذا الوجه، وقدّم الطهارة على الصلاة؛ لأنها مقدمة عليها، وتسبقها كما أشار الله تعالى إلى ذلك بقوله سبحانه:

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ} (¬1) فأمر كل من قام إلى الصلاة أن يتطهر قبل فعل الصلاة، وبناءً على ذلك قُدّم الكلام على الطهارة على الكلام عن الصلاة، وبعبارة علمية كما يقول العلماء: الطهارة وسيلة، والصلاة مقصد، والقاعدة: أن " الكلامَ على الوسائلِ مقدّمٌ على الكلامِ على المقاصدِ ". فتقرر بهذا أن يُبدأ ببيان أحكام الطهارة، ثم يثنَّى بعد ذلك ببيان أحكام الصلاة. وبيان أحكام الطهارة يستلزم بيان ما يتطهر به، والصِّفة التي تحصل بها الطهارة. وبيان ما يُتَطهر به مُقدّمٌ على بيان الصِّفة؛ لأنها (لا تحصل) إلا بعد وجوده. وما يُتَطهر به في الشرع: إما أن يكون أصلاً، وهو الماء، وإما أن يكون بدلاً عنه، وهو التراب في طهارة الحدث، وكل طاهرٍ مُنق في الإستجمار في طهارة الخبث. ولا شك أن البداءة ستكون بالأصل، ثم يُثنّى ببيان بدله بعده، وعليه فقد إعتنى الفقهاء رحمهم الله في كتاب الطهارة بالبداءة بأحكام المياه، وهذا هو الذي درج عليه المصنف رحمه الله بعد بيانه لتعريف الطهارة فقال رحمه الله: [وهي: إِرتفاع الحدثِ، وما في معناهُ، وزوالُ الخَبثِ]. ¬

(¬1) المائدة، آية: 6.

قوله رحمه الله: [وهي إِرتفاع الحدث] الضمير عائد إلى الطهارة. وقوله: [إِرتفاع] مصدر إرتفع ليطابق المُفَسِّر للمُفَسَّر في اللزوم. وقوله رحمه الله: [الحدث] مأخوذ من قولهم: حَدَثَ الشَّيءُ إذا جدَّ، وطرأ، ومنه الحديث، وهو الجديد. وأما في اصطلاح العلماء رحمهم الله: فإن الحدث: [صفةٌ حكمية تُوجبُ منعَ موصوفِها من استباحةِ الصلاةِ، ونحوها من العبادات التي تُشْترطُ لها الطّهارةُ]، ومن أهل العلم رحمهم الله من عرَّفه بقوله: [ما أوجب وضوءاً، أو غسلاً] فشمل كلا التعريفين الحدث بنوعيه: الأصغر، والأكبر. وعلى هذا فالمراد بقول المصنف رحمه الله: (إرتفاع الحدث) زوال الوصف الحاصل بالحدث المقتضى للمنع مما تجب له الطهارة. وقوله رحمه الله: [وما في معناه] معطوف على ما قبله فيكون التقدير: (وإِرتفاع ما في معناه) والضمير في (معناه) عائد إلى إرتفاع الحدث، وقيل: إلى الحدث، والذي في معنى الحدث غسل الميت، والنوم، والغسل المستحب، وتجديد الوضوء، فهذه كلها ليست بأحداث حقيقية، وشرعت من أجلها الطهارة فهي طهارة شرعية لا ترفع حدثاً حقيقياً وإنما ترفع ما هو في حكم الحدث من جهة التعبّد، فالغسل من تغسيل الميت عند من يقول به، فإنه يرى أن من غسّل ميتاً لزمه الغسل، وتغسيل الميت لم يوجب حدثاً، وإنما هو تعبّديٌ أمر الشرع به؛ فنزل منزلة الحدث، وكذلك النوم ليس بحدث حقيقي، ولكنه مظنّة الحدث؛ فنزل منزلته، وأخذ حكمه؛ وهكذا بقية المذكورات.

وقوله رحمه الله: [وزوال الخبث] زوال الشيء ذهابه، والخبث: هو النجاسة، وزوالها يكون عن البدن، والثوب، والمكان، وبهذه الطهارة يستبيح المصلي العبادة بطهارة بدنه من الحدث، وطهارته من الخبث في ثوبه، وبدنه، ومكانه الذي يصلي فيه. قوله رحمه الله: [المياه ثلاثة] المياه جمع ماء، وجمعها رحمه الله لتعدّدها، واختلاف أنواعها. وقوله رحمه الله: [ثلاثة] وهي: الطهور، والطاهر، والنجس، وهذا هو مذهب جمهور العلماء رحمهم الله من المالكية، والشافعية، والحنابلة في المشهور. وذهب الحنفية رحمهم الله إلى أن الماء قسمان: طاهر، ونجس، وأنه لا فرق بين الطهور، والطاهر. وما ذهب إليه الجمهور هو الراجح في نظري والعلم عند الله، وذلك لما يلي: أولاً: دليل الكتاب في قوله سبحانه وتعالى: {وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُورًا}، ووجه الدلالة: أن الله وصف الماء الباقي على أصل خلقته بقوله: {طَهُورًا} أي: أنه طاهر في نفسه مُطهِّرٌ لغيره فأصبحت فيه صفة زائدة على صفة الطهارة الأصلية فيه، وهي كونه: مطهراً لغيره، وقد دلّ على ذلك قوله سبحانه: {وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ} فلما وصف ماء السماء في هذه الآية بوصف زائد على وصف الماء الأصلي فيه من كونه يُطَهِّر دلّ على صحة ما ذكره الجمهور من أن الطّهور فيه معنى زائد، وهو كونه مطهراً لغيره ففارق الطاهر، والقرآن يفسّر بَعضُه بعضاً، فيكون

معنى قوله في الآية الأولى {طَهُورًا} ما ورد في الآية الثانية من قوله سبحانه: {ليُطَهِركُمْ بِهِ}، وهذا هو معنى قول بعض الفسرين إن قوله سبحانه: {طَهُورًا} فيه زيادة في المبنى إقتضت أن يكون طاهراً مطهراً كما يقوله الإمام القرطبي رحمه الله، ويكون تعريف الجمهور للطّهور بأنه: هو الطّاهر في نفسه المطهر لغيره مستنبطاً من هذا الدليل الشرعي. ثانياً: حديث أبي هريرة رضي الله عنه أنّ رجلاً سأل النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال: يا رسولَ اللهِ إنَّا نركبُ البَحْر ومعنا اليَسيرُ من الماءِ إِنْ تَوضّأنا بهِ عَطِشْنا؛ أفنَتوضّأ بماءِ البَحْرِ؟ فقال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: [هو الطهُورُ مَاؤُه، الحِلُّ مَيْتتُه]. ووجه الدلالة من وجهين: الأول: أن الصحابة رضي الله عنهم سألوا عن ماء البحر، مع أنه ماء في ظاهره، فلم يكتفوا بذلك، فدلّ على أنهم كانوا يعرفون أنه لا يُتوضّأ بكلِّ ماءٍ، وأنه لا بد من ماء مخصوص، وهو الباقي على أصل خلقته الذي لم يتغير، والبحر ماؤه طاهر متغيّر، فظنّوا أن هذا التغيّر مؤثر في طهوريته، ولم ينكر عليهم عليه الصلاة والسلام سؤالهم على هذا الوجه الدّالِ على التفريق بين نوعي الماء الطَّهورِ، والطَّاهرِ، وإنما بيّن لهم أن ماء البحر لا زال طهوراً وأَن تغيُّرَهُ بالقرار لا يؤثر في طُهُورِيّته، وهو ما يستفاد من قوله في جوابهم: [هو الطَّهور].

الوجه الثاني: في قوله: [هو الطَّهُورُ]، ولم يقل الطّاهر إشارة إلى الفرق بينهما حيث إختار صيغة فعول الدّال على زيادة المعنى فيه على غيره ليبيّن أنه ليس كالطاهر كما قدمنا في دليل الكتاب. قوله رحمه الله: [طَهُورٌ: لا يرفعُ الحدثَ، ولا يُزيلُ النَّجِسَ الطارئَ غيَرُه]: بدأ رحمه الله بالطَّهور؛ لأنه الأصل في الماء فهو الباقي على أصل خلقته، وكلّ من الطاهر، والنَّجِس يحصل بتغير الطهور، فإن تغير الطهور بشيء طاهر صار طاهراً، وعكسه النجس، فصار الطهور أصل المياه من جهة بقائه على أصل خلقته، دون تغيّرٍ، ودل على ذلك قوله سبحانه وتعالى: {وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُورًا} ومن أمثلته: ماء السماء، والبئر، والنهر، والعين، والسّيل، والبحر. فأما ماء السماء: فإنه هو أصل الماء كما قدمنا، وقد نصّ الله تعالى على طَهُوريتِه، ثم هو إما أن يستقر في الأرض، وإما أن يجري على وجهها. فأما المستقر في الأرض فإنه باقٍ على الأصل من طهوريته كما قال سبحانه وتعالى: {وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً بِقَدَرٍ فَأَسْكَنَّاهُ فِي الْأَرْضِ وَإِنَّا عَلَى ذَهَابٍ بِهِ لَقَادِرُونَ} فإن خرج بنفسه من جوف الأرض، كماء العيون؛ فهو طهور إعتباراً لأصله، وإن أخرجه الإنسان كماء البئر فهو طهور أيضاً، ولذلك قال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في ماء بئر بضاعة: [إِن الماء طَهورٌ، لا يُنَجِّسُهُ شَيءٌ] فدلّ على ما قدمنا من البقاء على الأصل من طهورية ماء السماء إذا إستقر في الأرض، سواء خرج بنفسه كماء العيون، أو أخرجه المكلف؛ كماء البئر.

وأما ما يجري على وجه الأرض بعد نزوله من السماء، فإنه ماء السماء، وهو باقٍ على الأصل أيضاً، ويشمل ماء السيل، والنهر، وماء البرد، والثلج إذا ذابا، وقد بيّن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صلاحيتهما للغسل، وحصول الطهارة هما في قوله: [واغْسِلُه بماءٍ، وثلج، وبَرَدٍ] فألحق الثلج، والبرد بالماء الطهور في كونهما تحصل بهما الطهارة، وكل من ماء السيل، والنهر باقٍ على الأصل فيهما أنهما من ماء السماء الذي نصّ الله على طهوريته، وكونهما جاريان لا يسلبهما وصف الطهورية، وهكذا بالنسبة لتغيّرهما بلون الأرض؛ لأنه تغيّر بما يشقُّ صَونُ الماء عنه، وذلك لا يسلبه الطّهورية. وأما ماء البحر فقد نصّ عليه الصلاة والسلام في حديث أبي هريرة رضي الله عنه الصحيح أنه طهور بقوله: [هو الطهُورُ مَاؤُه]، وفيه خلاف ضعيف عن بعض الصحابة رضي الله عنهم لا يؤثر، حيث نصّت السنة على طُهوريّته، ولعلّ من خالف لم يبلغه الحديث، وقد جمع المصنف رحمه الله وصف الطهور في أمرين: الأول: منهما تعبّدي؛ أي أنه متعلق بالعبادة، وهو قوله: [لا يرفعُ الحدث، ولا يزيل النجسَ الطاريء غيرُه]. والثاني: طبعي؛ حيث وصفه بكونه باقياً على أصل الخلقة في قوله: [وهو الباقي على خلقته]. فقوله رحمه الله: [لا يرفع الحدث] تقدم أن الحدث كل ما أوجب وضوءاً، أو غسلاً، فشمل نوعين: الأكبر: كالجنابة، والحيض، والنفاس، والأصغر

كالبول، والغائط، والريح فهذه كلها أحداث، وإزالتها تكون باستعمال الماء الطّهور على الوجه المعتبر شرعاً. فلا تحصل طهارة الوضوء، ولا الغسل إلا بالماء الطهور، وهذا معنى كونه لا يرفع الحدث، وهكذا الحال في طهارة الخبث التي أشار إليها بقوله رحمه الله: [ولا يُزيلُ النَّجِسَ الطاريءَ غَيرُه] فإزالة النجاسة من البدن، والثوب، والمكان لا تحصل بغير الطهور من المياه، ولا بغيره من المائعات، لما قدّمنا من دلالة النصوص الشرعية. وقوله رحمه الله: [النَّجِسَ الطّاريء] التفريق بين النجاسة العينية، وغيرها فالنجاسة العينية لا تقبل التّطهير بحال، وذلك مثل: نجاسة الميتة، والخنزير؛ فهي نجاسة ذاتٍ، وعينٍ، فلو غُسلت الدّهر كله لم تَطْهُر، فهذا النوع يوصف بكونه نجساً، وأما غيره مما تطرأ عليه النجاسة؛ فيكون أصله طاهراً كالثوب، والفراش، ونحوه، ويوصف بكونه متنجساً لأن الأصل طهارته، والنجاسة طارئة عليه، يمكن إزالتها، فهذا هو الأصل، أنه يفرّق بين النّجس، والمُتنجِّس، وقد يُتسامح فيعبّر بالنّجس عن المُتنجِّسِ، وبهذه العبارة بيّن المصنف رحمه الله أن الذي يقبل التطهير هو المُتنجّسُ، وهو الذي طرأت عليه النّجاسة دون النّجس العيني الذي لا يمكن تطهيره بحالٍ، كما قدمنا. قوله رحمه الله: [فإن تغيّر بغيرِ مُمازِجٍ] بعد أن بيّن رحمه الله الأصل في الطهور شرع في بيان أحكام تغيّره، وإنتقاله عن ذلك الأصل، وهذا يستلزم بيان المسائل المتعلقة بما يُلقى في الماء، سواء غيّره، أو لم يغيِّره.

فبدأ رحمه الله بالأخفِّ، وهو الذي لا يسلب الطهورية، ولكنه يوجب الحكم بكراهة إستعمال الماء، وهو الذي لا يمازج الماء كالدُّهن، ونحوه فقال رحمه الله: [فإن تغيّر بغيرِ مُمازِجٍ]: أشار بهذه العبارة إلى أن التغير نوعان: إما أن يكون بممازج للماء، أو يكون بغير ممازج، وهذا يستلزم معرفة حقيقة الممازجة أولاً؛ ليمكن التفريق بين الحالتين. فأما الممازجة فحقيقتها إختلاط الشيئين ببعضهما؛ حتى لا يمكن أن يفرق بينهما، بحيث يصيرا كالشيء الواحد، ومن أمثلته في الطاهرات: أن يُلقَى الحبرُ في الماء الطهور، فإنه بمجرد طرحه فيه يمتزج بالماء حتى يصيرا كالشيء الواحد لوناً، وطعماً، ومثاله في النجاسات: البول فإنه إذا ألقى في الطَّهور إمتزج معه، وخالطه فتجد رائحة البول، وطعمه، ولونه في الماء ظاهرةً. فهذا النوع من الممازجهَ لا إشكال فيه، وهو ينقل الماء الطهور إما إلى طاهر، وإما إلى نجس؛ أي بحسب ما ألقي فيه، ومن هنا قيل: [الماءُ إِن تَغيّر أخذَ حكمَ ما غَيّره]. ومثل هذا لا يُبْحث في الطّهور لأنه موجب للحكم بتغيّره، إلا ما كان من المسائل مستثنى مثل الحالات التي توجب المشقة، والتي سينبه عليها رحمه الله بعدُ، والذي يبحث هنا هو ما حُكِمَ ببقائه على أصل الطّهورية، وهو ما لم يتغيّر، ومن هنا إختار المصنف رحمه الله صوراً من التغيّر لا يُحكمُ فيها بانتقال الماء من الطّهورية، إلا أنه محكوم بكراهية إستعمال الماء فيها، وهي وسط بين الباقي على أصل الطهورية، وبين المتغيّر حقيقة، ومثل هذه الحالة

مذهب بعض علماء الأصول أنها تأخذ حكم المكروه؛ فالحكم بكراهته من جهة توسّطه بين الطهور الباقي على الأصل، والمتغيّر الخارج عن الأصل؛ سواء كان تغيّره بطاهر، أو نجس، وهذا أصل عند طائفة من علماء الأصول؛ وبُني عليه الحكم الفقهي عند من يختار هذا القول، وله نظائر كثيرة، ومنها: مسألة مساواة الإزار للكعبين فهي وسط بين الحلال، والحرام فكرهت عند من يقول بكراهتها. قال رحمه الله: [فإنْ تغَيّر بغيرِ مُمازج؛ كَقِطع كَافُورٍ] أي: إذا وضع في الماء الطهور قطع الكافور، فغيّرته فإن هذا التغيّر حصل بغير ممازج؛ لأن قطع الكافور الجامدة لا تتحلّل في الماء كالممازج، والكافور هو الطيب المعروف، وفي حكمه ما كان مثله: كعود القماري، والقطران، والزّفت، ونحوها. قوله رحمه الله: [أو دُهْنٍ] الدُّهن بجميع أنواعه لا يتحلل في الماء كالسَّمْنِ، والزيوت فإذا وقعت في الماء صارت فوقه، ولم تمتزج به، ومن هنا أخذت حكم التغيّر بغير ممازجة؛ وضعف تأثيرها، فلم يوجب تغييرها سلب الماء وصف الطهورية، وهذا ما عبّر عنه بالتغيّر بالمجاورة. [أو مِلحٍ مائيٍ]: الملح: إما أن يكون جبلياً، أو يكون مائياً؛ لأنه يُستخلص منهما فإذا كان الملح مائياً ووضع في ماء طهور لم يسلبه الطهورية؛ لأن أصله من الماء، وحينئذ لا يضره؛ لأنه يكون كالثلج، والبرد إذا أذيبا في الماء الطّهور، وأما إذا كان الملح أصله من غير الماء، وهو الملح المستخلص

من الأراضي السبخة، ونحوها فإنه يسلب الماء الطهورية إن وضع فيه، لأنه يغير الطعم بطاهر، وهو مفهوم عبارة المصنف رحمه الله. قوله رحمه الله: [أو سُخّنَ بنجسٍ] بيّن رحمه الله أن الماء إذا سُخِّن بنجسٍ فهو طهور؛ لكنه يكره إستعماله، والسبب في ذلك: أنه لم يتغيّر بشيء ممازج، وإنما تغيّر بمجاورة، فنجاسته ليست بمؤثرة كالممازج. وهذا مبني على أنه إذا سخن بالنجس لم يسلم غالباً من صعود أجزاء لطيفة من النجاسة إليه كما يقولون، وعن الإمام أحمد رحمه الله رواية: أنه لا يكره، ومن أصحاب الإمام أحمد رحمه الله مَنْ قصر حكم الكراهة على حاله ساخناً، فإذا برد لم يُكْره، وقد ذكر الإمام المرداوي رحمه الله الخلاف في هذه المسألة، وأن للأصحاب فيه أربع عشرة طريقاً، وقال: إن أصحها فيها روايتان مطلقاً، ومحل الكراهة إذا لم يوجد غيره، وهذا ما عبّر عنه بعض العلماء رحمهم الله بقوله: (إِنْ لمْ يَحْتَجْ إِليْهِ). وفي حكم المُسخّنِ بالنّجسِ المُسَخّنُ بالمغصوب. قوله: [كُرِهَ] أي: صار مكروهاً، والمكروه في اللغة ضدّ المحبوبِ، وأما في اصطلاح علماء الأصول فهو: (الذي يُثابُ تارِكُهُ، ولا يعاقبُ فاعِلُهُ). وعليه فالتعبير بكون الماء مكروهاً في هذه الصور السابقة يدل على أنه باقٍ على الأصل أعني: كون الماء طهوراً، وأن الأفضل أن يستعمل غيره في الطهارة، فلو استعمله صحت طهارته، ومن أهل العلم رحمهم الله من جعل الكراهة في حال وجود غيره، فإذا لم يجد غيره لم يكن مكروهاً عندهم كما قدمنا.

والصحيح أن هذه الكراهة مبنيّة على ما قدمنا من أنه متردد بين ما هو باقٍ على الأصل، وبين ما هو منتقل عن الأصل، أي أنه في مقام وسطٍ: بين الطهور الباقي على أصله، وبين ما انتقل عن الأصل فهو متغيّر بشيء يسير، لم يتمحض خلوصاً كالأصل، ولم يتمحض تغيّراً كالمنتقل عن الأصل ومن هنا أعطى حُكماً يناسبه، وهو الكراهة، وهذا الأصل مشى عليه طائفة من علماء الأصول رحمهم الله كما قدمنا وهو معتبر حتى عند فقهاء الحنابلة رحمة الله على الجميع. قوله رحمه الله: [وإِنْ تغيّر بِمُكْثِهِ] شرع رحمه الله بهذه العبارة في بيان النوع الثاني من الطهور المتغيّر وهو الذي لا يكره إستعماله، مع كونه متغيّراً كما قدمنا. وذكر له صوراً منها: (أن يتغيّر بمكثه) وهو الماء الآسن، فتغيّره منه نفسه، وليس بشيء من خارج عنه، فلم يضرّ. ومن أمثلته: ما يقع في المستنقعات، والبرك إذا طال بقاء الماء فيها، واستدلوا بما ثبت في صحيح البخاري عنه عليه الصلاة والسلام: [أنه توضَّأَ مِنْ بِئرٍ كان ماؤُه نُقَاعةَ الحِنا] وليس هناك فرق بين أن يكون التغيّر بسبب طول المكث في الأرض كالمستنقعات، والبرك، أو يكون بسبب طول المكث في الآنية مثل القرب، وأواني النحاس، وفي زماننا إذا طال مكث الماء في خزانات المياه، أو المواصير فلا يؤثر، وجعله العلماء رحمهم الله تغيّراً يشق الاحتراز منه أشبه التغيّر بمنبعه.

قوله رحمه الله: [أو بما يَشُقُّ صَونُ الماء عَنْه] أي تغيّر بشيء يصعب صون الماء عنه فالتعبير بالمشقة الموجبة لصعوبة الشيء يستلزم ما هو أعلى منها من باب أولى، وأحرى، وهو التعذر، فهذه الصورة موجبة للرخصة وسقوط المؤاخذة، فلا يؤثر فيها التغيّر فالقاعدة: (أنّ الأمرَ إذا ضاقَ إِتسع) فإذا كان في الماء نابت فيه كالطُّحلب البحري الذي يوجد في المستنقعات، والبحيرات، والبرك، أو تغيّر بورق شجر يسقط فيه كما يقع في البساتين حيث تسقط أوراقها، ثم تحركها الرياح إلى أفواه الآبار، فتسقط فيها، فتغيّر طعم الماء، أو تحركها إلى البرك، والمستنقعات الموجودة داخل البساتين، أو الغابات فجميع ذلك يشقُّ صون الماء عنه، ولا يؤثر تغيّر الماء به. قوله رحمه الله: [مِنْ نَابِتٍ فيهِ، ووَرَقِ شَجَرٍ] هذا كثير في البادية يكون على البئر شجرة مثل شجرة اللوز، وهذه الشجرة تسقط أوراقها فتسقط في البئر، ثم تصبح رائحة ماء البئر كرائحة اللوز، فإذا تغيّر الماء على هذا الوجه الذي يشق صون البئر عنه لم يؤثر، وهو أيضاً كثير في المستنقعات، والبرك التي توجد داخل الغابات، والبساتين، فكثيراً ما تجدها مغطاة بأوراق الأشجار خاصة في فصل الخريف، وتجد طعم الماء متغيّراً بطعم ذلك الورق، ولكنه تغيّر يشقُّ صونُ الماء عنه؛ فلم يضر. وفي حكم هذه الحالة مياه السيول، والأمطار فإنها تجرف التراب، ويتغير لونها، وطعمها بما يشق صونها عنه. قوله رحمه الله: [أو بمجَاورةِ مَيْتَةٍ]: قوله [أو بمجاورة] المراد به الملاصقة، لأن مجاورة الميتة للماء الطهور لا تضر إذا لم تكن ملتصقة، وتضرُّ إذا

كانت ملتصقة به، ثم فصّل بعض العلماء رحمهم الله في حال إلتصاقها؛ فحكم بضَرَرِهِ إذا تغيّر اللّون، والطّعم. واختلف في الرائحة: فقال بعضهم: تؤثر. وبعضهم قال: لا تؤثر، وقد أشار بعض العلماء إلى هذه المسألة بقوله: ليسَ المجاورُ إذَاْ لمْ يلتصقْ ... يَضرُّ مطلقاً وضرَّ إن لَصقْ في اللّونِ والطعمِ بالاتفاقِ ... كالرِّيحِ في مُعْتَمدِ الشِّقاق فقوله: (ليس المجاور إذا لم يلتصق) يعني أن النجاسة لا تضرّ مطلقاً إذا لم تكن ملتصقة بالماء الطهور، سواء كانت بعيدة عن الماء، أو قريبة منه ما دام أنها لم تلاصقه لا تؤثر. وقوله (وضرَّ إنْ لصِقْ) أي: أنه إذا كان ملتصقاً بالطهور؛ فإنه يضر. وقوله (في اللَّون، والطعم) يعني: إذا تغير لون الماء الموجود في المستنقع، وطعمه فإنه يسلبه الطهورية بالإتفاق، وأما إذا تغيّر في الرائحة؛ فإنه يسلبه الطهورية على أرجح قولي العلماء في المسألة. قوله رحمه الله: [أو سُخِّنَ بِالشَّمْسِ] أي: وضع الإناء في الشمس؛ فصار ساخناً؛ فإنه لا يسلبه الطهورية، ويجوز استعماله في الطهارة، وفيه أثر ضعيف، وكرهه بعض العلماء رحمهم الله بناء على قول بعض الأطباء إنه يورث البرص، وإذا ثبت فيه ضرر لم يجز استعماله دفعاً لذلك الضرر، وأما

إذا لم يثبت فإن الأصل طهوريته، وسلامته، وقد نصّ الامام أحمد رحمه الله على جواز الطهارة به. وقوله رحمه الله: [أَوْ بِطَاهرٍ] أي: سُخِّن بطاهر كالحطب، والفحم، والغاز في زماننا، فيجوز استعماله بلا كراهة، مثلما جاز إستعمال المياه الحارة في العيون الحارة. وعليه فالسخانات في زماننا يجوز استعمال مائها بلا كراهة، إلا أن هنا مسألة ينبغي التنبيه عليها، وهي أن الماء شديد الحرارة، أو شديد البرودة قد يتساهل البعض عند إستعماله في إدارته على الأعضاء وغسلها على الوجه المعتبر، فحينئذ ينبغي عند استعماله أن لا يتساهل مستعمله في القيام بالطهارة على وجهها المعتبر. قوله رحمه الله: [وإِنْ استُعملَ في طهارة مسْتَحبّةٍ] الطهارة إما واجبة، أو مستحبة، فالواجبة هي الأصلية، وهي التي تكون لرفع الحدث الأصغر، أو الأكبر، فإذا توضأ في الحدث الأصغر، أو اغتسل من الحدث الأكبر فإن الماء المستعمل في الطهارتين ماء مستعمل في طهارة واجبة، وأما إذا كان وضوؤه وغسله غير واجبين كتجديد الوضوء، والغسل للجمعة على القول بعدم وجوبه، أو الغسل للعيدين فإنه مستعمل في طهارة غير واجبة، ويلتحق به ماء مستعمل في الغسلة الثانية، والثالثة في الوضوء لأنها ليست بواجبة، والأولى هي الواجبة؛ لأن الأمر في آية الوضوء لا يقتضى التكرار، كما هو مقرر في الأصول.

فالمصنف رحمه الله بيّن أن الماء المستعمل في الطهارة المستحبة مكروه، وهذا يستلزم الحكم بكون الماء لا زال طهوراً. والحكم بالكراهة مبني على ما قدمناه من الأصل عند العلماء رحمهم الله من تردد الأمر بين المأذون والمحظور، فأعطي حكم الكراهة ترغيباً في الترك عند وجود غيره، لا تحريماً للحلال. والأصل عندهم في هذا أنه مبني على طريق الورع كما نبّه عليه الإمام البهوتي رحمه الله، وغيره، فصار من جنس المشتبه، ودلّ حديث النعمان رضي الله عنه على الترغيب في تركه، وهذا كله ليس من تحريم الحلال في شيء، كما لا يخفى. ومفهوم قوله رحمه الله: [في طَهارةٍ مُستحبّةٍ] أنه إذا استعمل في طهارة واجبة سلبه الطهورية كما سيأتي بيانه، وهذا على المذهب. قوله رحمه الله: [وإذا بلغَ الماءُ قلّتين، وهو الكثير] القلتان: مثنى قُلّة، والقُلّة ما يُقَلُّ بمعنى يُحْمَل، ومنه توله تعالى: {حَتَّى إِذَا أَقَلَّتْ سَحَابًا ثِقَالًا}، (¬1) أي إحتملته الريح، وسميت القُلّة قلّةً لأنها تحمل باليد، وهي الجرة مثلَ الأزيار، والشِرَابْ الموجودة الآن، ولا زال إلى الآن بعض أهل البادية يحملونها ويستقون بها يضعون فيها الماء من الآبار، ويجلبونه إلى منازلهم، فسئل النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عن الماء، وما ينوبه من السباع فقال: [إذا بلغَ الماءُ قلّتينِ لم يحملِ الخَبَث] بمعنى أنه لو وقعت فيه نجاسة لم تغيّر لونه، أو طعمه، أو ¬

(¬1) الأعراف، آية: 57.

رائحته فإنه طهور هذه المسألة مسألة القلتين لأن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جعل الضابط فيها بالقلتين، وهي من مشهورات مسائل الطهارة، والحديث المتقدم هو الأصل فيها، وحاصل كلام المصنف رحمه الله أنه يقول بمفهوم هذا الحديث الدّال على إعتبار القلتين حداً بين القليل، والكثير من الماء، وهذا هو مذهب الشافعية، والحنابلة في المشهور رحمهم الله. وذهب الحنفية، والمالكية، والظاهرية إلى عدم إعتبار القلتين؛ وإن كانوا قد اختلفوا في التفصيل، فهم متفقون على أن القلتين ليستا حداً يضبط به، ثم إنفرد الحنفية رحمهم الله بضابط حركة الماء، والباقون على أن العبرة بالتغيّر، وهو الرواية الثانية عن الإمام أحمد رحمه الله. وإختارها شيخ الإسلام، وتلميذه الإمام إبن القيم رحمة الله على الجميع، وقد بيّنت الأدلة، ووجه دلالتها ومناقشة العلماء لها، والترجيح في شرح البلوغ. وبيان محل الخلاف بينهم في هذه المسألة: أن الماء إذا وقعت فيه نجاسة إما أن يتغيّر، أو لا يتغيّر؛ فإن تغيّر بالنجاسة فبالإجماع أنه متنجس سواء بلغ القُلّتين، أو كان دونها. وأما إذا لم يتغيّر فإما أن يكون الماء بلغ قُلّتين فأكثر، وإما أن يكون دونهما، فإن كان بلغ القلتين فإنهم متفقون على عدم تأثره، وأنه طهور باقٍ على أصله؛ لأنه لم يتغيّر؛ إلا أن الحنفية إستثنوا حال حركته بالضابط المعروف في مذهبهم، وأما إذا كان دون القلتين فهو محل الخلاف، فمن قال باعتبار القلتين حكم بكونه نجساً بمجرد ملاقاته للنجاسة؛ سواء كانت قليلة، أو

كثيرة، وهذا هو الذي مشى عليه المصنف رحمه الله، وهو المذهب عند الحنابلة، والشافعية رحمهم الله. والذي يترجح في نظري، والعلم عند الله: هو ما ذهب إليه القائلون بأن العبرة بالتغيّر، وذلك لقوله عليه الصلاة والسلام: [إِنَّ الماءَ طَهورٌ؛ لا يُنجِّسُه شيء] فدلّ على أن الأصل طهوريته، ولا يحكم بالإنتقال عنها إلا بدلالة صحيحة معتبرة، وهي التغيّر لأوصافه، وأما حديث القلتين ففيه منطوق، ومفهوم، فمنطوقه لا إشكال فيه، ومفهومه معارض بمنطوق حديث بضاعة المتقدم: [إِن الماءَ طَهورٌ؛ لا يُنجِّسُه شَيءٌ] لأنه دال على أن الماء محكوم ببقائه على أصل الطهورية ما دام أنه لم يتغير فيقدم هذا المنطوق؛ لأن القاعدة أنه (إذا تعارض المنطوق، والمفهوم؛ قُدّم المنطوقُ على المفهومِ). وبهذا كله يترجح أن العبرة بحصول التغيّر في الماء، فلا يلتفت عند وقوع النجاسة فيه إلى كثرة، ولا إلى قلة، ولا إلى حركة، ولا إلى غيرها وإنما يُلتفت إلى تأثير النجاسة فيه بتغييرها لأحد أوصافه على الوجه المعتبر والله أعلم. قوله رحمه الله: [فخالطته نجاسة غيرُ بولِ آدمي، أو عذرتِه المائعةِ فلم تغيره] فرّق رحمه الله بين المائع من النجاسات الذي يمازج، ويتحلل، وبين الجامد الذي لا يتحلل، وهذا أخذه الحنابلة رحمهم الله من دليل السنة، فاستنبطه الإمام أحمد رحمه الله من حديث النّهي عن البول في الماء الراكد، ووجهه: أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خصّ البولَ، دون الغائط، ونظرنا

فوجدنا الفرق بينهما أن الأول يمتزج بالماء؛ بخلاف الثاني، ثم إستثنى الحنابلة رحمهم الله العذرة المائعة، وألحقوها بالبول لوجود المعنى فيها، فهذا هو وجه التفريق، وهو مبني على سنة صحيحة. قوله رحمه الله: [ولا يَرفَعُ حَدثَ رجلٍ طهور يسير خَلَتْ بهِ إمرأة لطهارةٍ كاملةٍ عن حَدَثٍ] معناه أن الماء الطهور إذا إنفردت به المرأة بشرطه سلبه ذلك الطهورية، والدليل على هذه المسألة حديث أبي داود، وأحمد في مسنده عن الحكم بن عمرو رضي الله عنه أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: [نهى أنْ يَتوضأَ الرجلُ بفضلِ طَهورِ المرأةِ]، وقد بيّن رحمه الله أن هذا الحكم مُقيّد بحالةٍ خاصة، وهي: أن يكون يسيراً، وأن تخلو به المرأة، وأن ترفع به حدثاً كاملاً، فخرج بقوله اليسير الكثير، والفرق بينهما بالقلتين على المذهب، وخرج بوصف " الخلو " أن لا تخلو به، وبقوله: [إمرأة] الرجلَ ففضلة طُهُوره لا تأخذ الحكم بالمنع، وخرج بقوله: [لطهارة كاملة] غير الطهارة، مثل أن تخلو بالماء لغسل كفيها، وكذلك يخرج به لو خلت لبعض الطهارة، دون بعضها مثل: أن تخلو للوضوء فتغسل وجهها، ثم تنقطع خلوتها بدخول زوجها، ونحو ذلك من الصور، وخرج بوصف الحدثِ الخبث مثل: أن تغسل به نجاسة في بدن، أو ثوب، أو مكان ثم تفضل من الماء الذي إستعملته في ذلك فضلة فإنها باقية على الطهورية. وقوله رحمه الله: [ولا يَرفَعُ حَدَثَ] يدل على أنه إذا تحققت هذه الأوصاف حكم بسلب الماء الطهورية، فلا يوجب التطهر به إرتفاع الحدث.

وخالف الجمهور؛ فقالوا ببقائه على الطهورية لأنها الأصل، ولم يعتبروا النهي موجباً لفساد الماء، وسلب الطهورية عنه، وأكدوا ذلك بحديث إبن عباس رضي الله عنهما وأصله في الصحيح أن بعض أزواج النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إغتسل في جَفْنةٍ، فأراد عليه الصلاة والسلام الإغتسال منها فقالت: إنِّي كنت جنباً!! فقال عليه الصلاة والسلام: [إن الماءَ لا يُجْنِبُ] فدلّ على أنه باقٍ على أصل الطهورية وأن إستعمال المرأة له لا يوجب زوالها، وللحديث علّة بيناها في شرح البلوغ. وأما اشتراط الخلوة فهو مبني على حديث أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها في الصحيحين أنها كانت تغتسل، ورسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من إناءٍ واحد، فجُمع بينه، وبينَ حديث النهي باشتراطها، وهكذا بالنسبة للتفريق بين الرجل، والمرأة إضافة إلى كونه في المرأة أقوى ثبوتاً منه في الرجل. قوله رحمه الله: [وإِنْ تَغيّر لونه، أو طعمُه، أو ريحُه] بدأ رحمه الله بهذه الجملة في بيان النوع الثاني من أنواع المياه، وهو الماء الطاهر، والماء الطاهر: طاهر في نفسه غير مطهِّر لغيره، فكل طهور طاهرٌ؛ لا العكس، ونظراً لأن الماء ينتقل من أصله الموصوف بالطهورية إلى النوعين الآخرين وهما: الطاهر، والنجس عن طريق التغيّر بيَّن رحمه الله أن التغير يكون في أوصاف الماء الثلاثة، وهي: اللون، والطعم، والرائحة، وأنه لا يشترط أن تكون مجتمعة؛ بل لو حصل التَّغير في واحد منها فإنه يكون كافياً، وهذا ما أشار إليه بالعطف بين الأوصاف الثلاثة بـ[أو].

قوله رحمه الله: [بِطَبخ] الباء سببية، أي حصل تغيّر أحد أوصاف الماء الثلاثة، أو أكثرها، أو كلها بسبب الطبخ مثل: أن يُطبخ في الماء شيءٌ طاهر كاللّحم فيغيّر لونَ الماءِ الطهور، أو طعمَه، أو رائحَته، فيتغير لون الماء الطهور بلون المرق، أو يطبخ فيه الطماطم، فيصبح لونه أحمر، أو يظهر طعم اللحم، أو الطماطم فيه، أو رائحتهما حكم بإنتقال الماء إلى كونه ماء طاهراً في جميع ما تقدم. وقوله رحمه الله: [أو ساقطٍ فيه] أي: أن يقع فيه شيء طاهر فيغيّر لونَه، أو طعمَه، أو رائحته مثل أن يسقط فيه دقيق، أو حبر، ونحوه من الطاهر مما يمتزج في الماء، ويغيّر لونه، أو طعمه، أو رائحته. قوله رحمه الله: [أو رُفِعَ بِقليلِه حَدثٌ] أي أن استعمال الماء الطهور في رفع الحدث يوجب الحكم بسلبه الطهورية. وقوله: [بِقَليلِه] المراد به أن يكون دون القلتين، فلو كان قلتين فأكثر مثل مياه: البرك، والمستنقعات، وانغمس فيها لرفع حدث أصغر، أو أكبر فإنها لا تتأثر، إلا إذا تغير الماء. وقوله: [حدث] شامل للأصغر، والأكبر فلو أن رجلاً إغتسل في بركة صغيرة دون القلتين، وحفظ ذلك الماء المستعمل فيها، أو اغتسل في طشت، وحفظ الماء فيه، ثم أراد هو، أو غيره أن يرفع به حدثاً مرة ثانية لم يرتفع لأنه أصبح ماء طاهراً، لا طهوراً, بمعنى أن رفعَ الحدثِ به أوّلاً سَلَبه وصفَ الطّهورية وأصبح طاهراً، لا طهوراً؛ وقد اختلف العلماء رحمهم الله في هذه المسألة، وذلك على ثلاثة أقوال:

القول الأول: إن الماء طهور في جميع ما تقدم بشرط ألا يتغير بالإستعمال، وهذا هو مذهب المالكية في المشهور، وقول للشافعية، وروايةٌ عند الحنابلة إختارها شيخ الإسلام، وهو مذهب الظاهرية رحمة الله على الجميع. القول الثاني: إنه طاهر، وليس بطهور، وهو مذهب الجمهور رحمهم الله. القول الثالث: إنه نجس، وهو قول القاضي أبي يوسف من الحنفية، وبعض الحنابلة رحمة الله على الجميع. وقد استدل أصحاب القول الأول على مذهبهم بما ثبت في الحديث الصحيح عنه عليه الصلاة والسلام من قوله: [إِن الماءَ طَهور لا يُنجِّسُهُ شَيء]، فدل على أن الأصل في الماء أنه طهور، وإستعماله هنا في رفع الحدث لم يؤثر في لونه، ولا طعمه، ولا ريحه فوجب البقاء على الأصل الموجب للحكم بطهوريته، واستدلوا أيضاً بقوله عليه الصلاة والسلام: [إِن الماءَ لا يُجْنِب] فدل على أن إستعمال الماء في رفع الجنابة، أو الحدث عموماً لا يوجب سلبه الطهورية، بل هو باقٍ عليها ما لم يتغير. واستدل أصحاب القول الثاني القائلون بكونه طاهراً، لا طهوراً: بما ثبت في الصحيحين: [أنه نهى عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ عَنِ الإغْتِسالِ في الماءِ الدَّائمِ] قالوا: إنه لا معنى لذلك إلا أنه يسلبه الطهورية، فيصبح طاهراً لا طهوراً. واستدل أصحاب القول الثالث، وهم القائلون بالنجاسة بما ثبت في الصحيح: [أنه نهى عليه الصلاة والسلام عن البول في الماء الدَّائِم، والإغتسالِ فيه] ووجه الدلالة: أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جمع بينهما لاتحاد حكمهما أي أن الاغتسال يسلب الماء الطهارة كالبول فيه، كما قاسوا رفع

الحدث بالماء الطهور على إزالة الخبث بجامع حصول الطهارة في كل، فيحكم بنجاسته كغسالة النجاسة المتغيرة بها. والذي يترجح في نظري، والعلم عند الله هو القول ببقاء الماء على الطهورية لما يلي: أولاً: لصحة دلالة السنة على ذلك. ثانياً: وأما الاستدلال بحديث النهي عن الإغتسال في الماء الدائم فيجاب عنه بأن علّته هو خشية إفساد الماء على الغير لأن الإستحمام في داخل الماء يؤذي من يريد شربه، والإنتفاع به، ولذلك جاء الإذن بالإغتراف منه، وهذه العلِّة أقوى مما ذكروه. ثالثاً: وأما الإستدلال بحديث النهي عن البول فهو مبني على دلالة الإقتران، وهي ضعيفة كما هو مقرر في الأصول، إضافة إلى أن الرواية في الصحيح: [ثم يَغْتَسل فيه] تبطل ما ذكروه. وأما القياس المذكور فهو قياس مع الفارق، ثم إنه من ردِّ المختلف فيه إلى المختلف فيه، لأن غسالة النجس إذا لم تتغير فهي باقية على الأصل. ومما يدل على عدم النجاسة حديث جابر رضي الله عنه حينما صبَّ النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عليه وَضوءَه. وعليه فإنه يترجح القول بطهورية الماء المستعمل في رفع الحدث؛ إلا إذا كان متغيّراً. قوله رحمه الله: [أو غُمِسَ فيه يدُ قائمٍ من نومِ ليلٍ] قوله: [غُمِسَ فيه] أي أدخلها في ذلك الماء، وقوله: [يد] يدل على أنه لا يشترط غمس

اليدين، وأن الواحدة كافية، والمذهب على أنه يجب غسل اليدين للمستيقظ من نوم الليل كما سيأتي إن شاء الله بيانه، ودليل ذلك حديث أبي هريرة رضي الله عنه في الصحيحين أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: [إذا إستيقظَ أحدُكمْ مِنْ نومهِ فلا يُدخل يدَه في الإناءِ حتى يغسلَها ثلاثاً] فإذا غمس يده سلب الماء الطهورية، وأصبح طاهراً. والصحيح أنه يأثم بمخالفة النهي الوارد في الحديث الصحيح، وأما الماء فإنْ تغيَّر حُكمَ بسلبهِ الطهورية، وإلا بقي على الأصل، ولا يحكم بانتقاله عنه بمجرد الغمس لقوله عليه الصلاة والسلام: [إن الماء طهورٌ لا يُنجِّسه شيءٌ]. وقوله: [مِنْ نومِ ليلٍ]، مفهومه أن نوم النهار لا يأخذ الحكم، وهذا مبني على مذهب الحنابلة أن الأمر بغسل اليدين قبل إدخالهما في الإناء مخصوص بنوم الليل، دون نوم النهار، واستدلوا بقوله عليه الصلاة والسلام: [فإنَّ أحدَكم لا يدري أَيْنَ باتَتْ يدُه] قالوا: والبيتوتة لا تكون إلا بالليل، ورُدَّ بأنه خرج مخرج الغالب لأن النوم يكون في الليل غالباً كما قال تعالى: {وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَنًا}، وإذا خرج مخرج الغالب لم يعتبر مفهومه، للقاعدة الأصولية: [إنّ النصَّ إذا خَرجَ مخرَج الغالبِ لم يُعتبرْ مَفهومُه] وسيأتي بيان هذه المسألة في موضعها بإذن الله تعالى. وقوله رحمه الله: [أو كانَ آخرَ غَسْلةٍ زالتْ بها النَّجَاسةُ فَطاهرٌ] إزالة النجاسة على المذهب يجب فيها التثليث كما سيأتي بيانه بإذن الله تعالى، فإذا كانت الغسلة آخر غسلة زالت بها النجاسة فإن أثر النجاسة فيها يكون

ضعيفاً إن لم يكن مُنعدماً مع ملاحظة قوّة الواردِ خاصةً على مذهب من يفرق بين ورود النجاسة على الماء، وعكسه، وعليه فإن هذه الغسلة لا يحكم بكونها باقية على أصلها، وهو الطهورية فهي طاهرة في نفسها لكنها غير مطهرة لغيرها لزوال الخبث بها كارتفاع الحدث باليسير في المسألة المتقدمة معنا. قال رحمه الله: [والنَّجِسُ ما تَغيَّر بِنجاسةٍ] هذا هو النوع الثالث من أنواع المياه، وهو الماء المتنجس، أي الذي أصابته نجاسة، وغيّرته فسلبته الطهورية، وكما تقدم معنا في الطاهر أن العبرة في تغيّر الماء وانتقاله عن الطهورية هو تأثره في أحد أوصافه الثلاثة، أو في أكثرها، أو كلها، فإن كان هذا التغيّر بطاهر إنتقل الماء طاهراً كما قدمنا، وإن كان هذا التغير بنجس حكمنا بانتقاله إلى نوع النجس، فصار ماء متنجساً، وعبّر المصنف رحمه الله (بالنّجِسِ)، وأصل النجس: القذر في لغة العرب، فالنجاسة ضد النظافة، والنقاء من الدّنسِ، إلا أن الشرع خصّها بنوع خاصٍّ من القاذورات، وهو الذي حكم الشرع بنجاسته كبول الآدمي. وقوله: [ما تَغيّر بنجاسة] مراده أننا نحكم بزوال الطّهورية، ولحوق وصف النجاسة متى ما حصل تغيّر الماء بمادة نجسة، مثل أن تُلقى فيه، أو تسخّن فيه فيُطبخ معها، ويحصل التّغير بصفته المؤثرة، وقد حكى الإمام ابن المنذر رحمه الله الإجماع على نجاسة الماء إذا تغيّر بالنجاسة. وقوله رحمه الله: [أو لاقَاهَا، وهو يَسيِرٌ] الضمير عائد على النجاسة أي: أن الماء لاقى النجاسة، وهو يسير، أي قليل، وهو ما دون القلتين، فيحكم

بكونه صار نجساً، وهو رواية عن الإمام أحمد رحمه الله نصَّ في الإنصاف على أنها المذهب، وعليها جماهير الأصحاب، وهي مبنيّة على حديث القلّتين، وقد قدمنا أن الراجح أن العبرة بالتّغير، وهي الرواية الثانية في المذهب، واختارها شيخ الإسلام رحمه الله، ومحلّ الخلافِ: إذا لم يحصل التغيّر؛ فإن حصل فالجميع على أن الماء ينجس. قوله رحمه الله: [أو إنفصلَ عن محلِّ نجاسةٍ قبلَ زوالِها] هذا على المذهب من أن ملاقاة الطهور اليسيرُ للنجاسة موجب للحكم بنجاسته، فإذا صبّ الماء الطهور على موضع نجس عمل فيه، وحكم بكونه باقياً على الأصل ما دام أنه في محل التطهير ما لم يتغير، أو ينفصل فإن إنفصل، وفارق محل النجاسة، وهي باقية لم تزل حُكِم بتأثره بها كمسألة الملاقاة للنجاسة، وقد قدمنا بيانها، وأن الصحيح أن العبرة بالتغيّر في جميع هذه المسائل. وقوله: [قبل زوالها] الضمير عائد إلى النجاسة، ومفهوم هذه العبارة أنه إذا انفصل بعد زوالها؛ لم يحكم بكونه متنجساً، بل هو طاهر كما تقدم في قوله رحمه الله: [أو كانت آخرَ غسلةٍ زالتْ بها النجاسةُ]. قوله رحمه الله: [فإِن أضيفَ إلى الماءِ النّجس طهورٌ كثيرٌ غيرَ ترابٍ] المراد به بيان مسائل تطهير الماء المتنجس، وهذه الطريقة تعرف بطريقة المكاثرة، وهي أن يصبَّ على الماء المتنجس ماءً طهوراً فوق القلتين إذا كان الماء قد تنجس بما تقدم، ومناسبتها: أنها عكس الصور المتقدمة، فاحتيج إلى بيان حكمها.

فقوله: [طهور كثيرٌ] أي: ماء طهور قلتان، فأكثر؛ لأن الكثير ما بلغ القلتين فأكثر، ومثال ذلك: لو كان هناك ماء يسير وقع فيه بول، وهو دون القلتين حكمنا بنجاسته بمجرد وقوع النجاسة فيه على المذهب، وكما تقدم في المسائل السابقة التي ذكرها رحمه الله، فإذا أردت تطهيره أضفت إلى هذا الماء طهوراً بلغ القلتين، فأكثر، فإذا أضفته، وزال التغيّر بعد الإضافة حكمنا بكونه صار طهوراً بالمكاثرة. وعليه فإن مفهوم قوله: [كثير] أننا لو أضفنا ما دون القلتين إلى النجس لم يطهر، بل بقي على أصله وحُكِمَ بتأثر المضاف بملاقاته للنجس، لأنه يسير ورد على متنجس، فتنجس بمجرد ملاقاته. وقوله رحمه الله: [غيرَ ترابٍ] أن التراب إذا وضع في ماء يسير وقعت فيه نجاسة، ولم تغيره، ثم استقر التراب في قاع الماء لم يحكم بطهورية الماء، وقوله: [ونحوه] أي المواد المؤثرة في النجاسة كالتراب، ويتفرع عليه ما يفعل في زماننا من إضافة المواد التي تقوم بمعالجة النجاسة الموجودة في المياه فإنها لا توجب الحكم بزوال النجاسة كالحال في التراب. وقوله رحمه الله: [أو نزِحَ منه فبَقي بعدَه كثيرٌ غيرَ متغيّرٍ طَهُر] أي أن الماء إذا وقعت النجاسة فيه وكان كثيراً فغيّرته مثل ماء بئر فوق القلتين، فإذا نزحنا النجاسَة، والماءَ المتغير بها، ثم بقى بعد ذلك ماء كثير حكمنا بكونه طهوراً، لأنه كالماء الجديد، فهناك شرطان: الشرط الأول: أن يكون الباقي فوق القلتين، وهو ما أشار إليه بقوله: [فبَقِيَ بعدَه كَثيرٌ].

والشرط الثاني: أن يكون غير متغير في أوصافه وهو ما أشار إليه بقوله: [غيرَ متغيّرٍ] فإذا تخلف الشرطان، أو أحدهما لم يحكم بالطُّهورية على المذهب، وعلى ما ترجح تكون العبرة بزوال النجاسة، وبقاء الماء على أصله، سواء كان ما بقي يبلغ القلتين، أو لا يبلغهما. قوله رحمه الله: [وإِنْ شكَّ في نجاسةِ ماءٍ، أو غَيرهِ، أو طَهارتِه بنى عَلى اليقينِ]: شرع المصنف رحمه الله في بيان مسائل تعم بها البلوى، وهي مسألة الشكوك، وإلتباس حال الماء، وغيره طهارة، ونجاسة. والشك: هو إستواء الإحتمالين، دون أن يوجد مرجّح لأحدهما على الآخر، والشك في نجاسة الماء مثل: أن يشكَّ في وقوع النجاسة فيه، وهذا أكثر ما يقع على مذهب من يعتبر القلتين، وأما على الراجح أن العبرة بالتَّغير فإنه يمكنه التّمييز؛ لأن النّجِس له لون، ورائحة، وطعم يميّزه عن الطهور، وقد تكون أكثرها، أو كلها فبيّن رحمه الله أن حكم المسألة أنه يجب عليه البقاء على اليقين، وهذه المسألة مبنية على القاعدة الشرعية [اليقينُ لا يُزال بالشَّكِ] وقد دلّت عليها أدلة الكتاب، والسنة، والعمل عليها عند أهل العلم رحمهم الله فإذا كان متيقناً طهارة شيءٍ، وشكّ في نجاسته فإنه يبقى على اليقين، ويُلغِي الشَّكَ، وهكذا لو كان على يمَينٍ بنجاسة شيءٍ، وشكّ في كونه صار طاهراً بَقِيَ على النجاسة، وألغي شكَّ الطهارةِ حتى يستيقنه. وفي مسألتنا: لو شكّ في وقوع قطرة البول في الماء الطهور اليسير على المذهب، فإنه لا يحكم بنجاسته حتى يتيقن وقوعها فيه، فيحكم ببقائه على

الطهورية، وهكذا لو كان العكس بأن كان الماء، أو الثوب متنجساً، وشكَّ في زوال نجاسته، وذهابها بالمكاثرة كأن يشك في قدر الماء أنه بلغ القلّتين على المذهب، بنى على اليقين الموجب لكونه متنجساً حتى يستيقن الطهارة. قوله رحمه الله: [وإن إشتَبه طَهور بنجسٍ حَرُم استعمالُهما] أي إشتبه الماءُ الطهورُ بالماءِ النَّجس فإن الواجب عليه تركهما، ويحرم عليه إستعمالهما مجتمعين، أو منفردين، ولا تصح طهارته، ولا صلاته إذا إستعملهما، أو إستعمل أحدهما على هذا الوجه. وذلك لأنه لو استعمل أحدهما إحتمل أن يكون النّجس، فيكون متنجساً بإستعماله مستبيحاً للصلاة بدون طهارة. وإذا إستعملهما معاً فإنه إما أن يقع منه تقديم الطّهور، أو تقديم النجس، فإن قدّم الطهور، ثم تطهّر بالنجس بعده صار متطهراً بالوضوء من الأول متنجساً بالوضوء من الثاني، فلم يطهر بدنه، ولا ثوبه، وإن عكس صار متنجساً بإستعمال النجس أولاً، ثم كان الطهور بعده غيرُ مُجْدٍ لأنه لا تزول النجاسة إلا بالتثليث على المذهب، فيكون وضوؤه إذا ثلثه مزيلاً للنجاسة؛ لا رافعاً للحدث، وعلى عدم إشتراط التثليثِ يكون وضوؤه مزيلاً للنجاسة، لا رافعاً للحدث. فيحرم عليه استعمالهما، ويجب عليه العدول للتيمم إذا لم يجد طهوراً. ولا يشترط لصحة تيمّمه أن يريقهما، ولا أن يخلطهما، وهذا ما عبّر عنه بقوله: [ولا يُشْترطُ للتيممِ إراقتهما، ولا خَلطُهما] أما عدم الإراقة فلأن

من قال بها قال إن شرط صحة التيمم أن لا يجد الماء لقوله تعالى: {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً} وهذا ماء، ويجاب بأن الماء موجود حقيقة مفقود حكماً، فكان وجوده، وعدمه على حدٍ سواء، وأما إشتراط الخلط، فلأن اليقين بوجود الطهور في أحدهما، فلا بد من خلطهما لزواله، وجوابه أن جهالة عين الطهور، وعدم القدرة على تمييزه تجعله، والنّجس كالشىء الواحد؛ فكان كخلطهما معنى، وإن لم يكونا مختلطين حقيقة، فاكتفي به، ولم يلزم خلطهما بالفعل. وقوله: [ولم يتحرَّ] أي أنه لا يلزمه التّحري، والإجتهاد في هذه المسألة؛ لأنه إشتباهُ مباح بحرامٍ لا تجيزه الضرورة، فلم يجز التّحري قياساً على إشتباه أخته بأجنبية، وعن الإمام أحمد رحمه الله رواية أخرى بالتّحري بشرط أن يكون عدد الطهور زائداً بواحد، وكان النجس غير بول. والتّحري أن ينظر إلى الصِّفات الموجودة التي تُرجّح أحد الإحتمالين في الإناء، وتوجب تَرجيح كونه النجس، أو الطهور. قوله رحمه الله: [وإن إشتبه بطاهرٍ توضأ منهما وضوءاً واحداً]: الضمير عائد إلى الماء الطهور، والمراد أن يشتبه طهور بطاهر، وتعتبر هذه مسألة ثانية، ومثالها: لو كان عندك سطلان أحدهما: فيه ماء طهور، والثاني: فيه ماء طاهر، فإن الماء الطهور هو وحده الذي تصحّ به الطهارة، أما الطاهر فإنه لا يرفع حدثاً، ولا يزيل خبثاً، فهل إذا كان أحدهما طهوراً، والثاني طاهراً نحكم بنفس حكم المسألة المتقدمة؟

والجواب: لا، لأن الطاهر المشتبه بالطهور ليس كالنجس يستضرُّ البدن بصبّه عليه، والتّطهر منه، بل إن التطهر به يزيد البدن نقاءً، ونظافة، ومن هنا وجب عليه أن يتوضأ منهما، حتى يتحقق أنه توضأ بطهورٍ، وارتفع حدثه. قوله رحمه الله: [من هذا غُرفة، ومن هذا غُرفة] أي: أنه يتوضأ وضوءاً واحداً يأخذ من كل ماء غرفة حتى يتم أعضاء الوضوء، وعليه فإنه لا يتوضّأ وضوؤين، وعلّة هذا القول: أن هذا يفضي إلى تردُّدِه في النّية في رفع الحدث، وهذا هو المذهب فيما جزم به الإمام البهوتي رحمه الله، وهناك قول إنه يتوضأ وضوءين، وهو الأقوى حتى يجزم بارتفاع حدثه، والتردّدُ في النية لا يؤثر، لأن كل وضوءٍ انفرد بنيته المعتبرة، ثم إن الصور المستثناة من الأصل لموجبها لا تَرِدُ على الأصل، ولا تخالفه. وقوله رحمه الله: [وصَلّى صلاةً واحدةً] أي: أنه لا يصلى بكل وضوء صلاة بل يصلي مرة واحدة وهذا على كلا القولين سواء قلنا يتوضأ وضوءين، أو وضوءاً واحداً. وعدم وجوب تكرار الصلاة بلا خلاف في مذهب الحنابلة أي أن اللازم في حقه صلاة واحدة هذا من جهة الوجوب، واللزوم. قوله رحمه الله: [وإِنِ اشْتَبهتْ ثيابٌ طاهرةٌ بِنَجسةٍ، أو بِمحرَّمةٍ]: هذه مسألة ثانية وهي تتعلق بطهارة الثوب، فلو أن إنساناً أراد أن يصلى، ومن شرط صحة الصلاة ستر العورة، وعنده ثوبان: أحدهما نجس، والثاني طاهر، ولا يستطيع أن يعرف النجس منهما من الطاهر فما الحكم؟

في هذه الحالة قال العلماء: يصلي بعدد النجس، ويزيد صلاة، فلو كانت عنده ثلاثة أثواب واحد منها نجس يصلي في ثوبين، فيأخذ أحدهما، ويصلي، ثم يأخذ ثوباً ثانياً منها، ويصلي؛ فإنه إذا كان الأول نجساً؛ فإن الثاني طاهر يقيناً. قوله رحمه الله: [صَلّى في كلِّ ثوبٍ صلاةً بِعَددِ النّجسِ، أو المُحرّمِ، وزادَ صلاةً]: قوله: [أو المحرّم] كأن يكون ثوباً مغصوباً، ولا يستطيع أن يميزه، ففي هذه الحالة يصلي بعدد النجس، أو المحرم، ويزيد صلاة واحدة، لأنه إذا اقتصر على عدد النجس، أو ما دونه إحتمل أن يكون صلى في الثياب النجسة، وأما إذا زاد ثوباً، فإنه يستيقن حينئذ أنه صلى في ثوب طاهرٍ.

باب الآنية

باب الآنية باب الآنية، الباب هو الفتحة في الحائل بين الشيئين يُتوصّل بها من خارج إلى داخل، وعكسه قالوا: سُمِّيت مباحث العلم أبواباً؛ لأن الإنسان يتوصل من خارج، وهو الجهل بها إلى داخل، وهو العلم بما فيها، فمن قرأ شيئاً من هذه الأبواب فقد أدرك العلم الذي فيها كمن دخل البيت أدرك الخير الذي فيه وإرتفق بمنافعه. [باب الآنية]: واحدها إناء، وَجَمَعَها -رحمة الله عليه-؛ لأن الأواني منها ما أباحه الشرع كآنية الخشب، والحديد، والصُّفرُ الطّاهرة، ونحوها، ومنها ما حرّمه الله كآنية الذهب، والفضة، والمتخذة من جلود السباع، ونحوها، فنظراً لتعددها جمعها بقوله رحمه الله: (الآنية)، أما مناسبة هذا الباب للطهارة فكما هو معلوم أن الطهارة تحتاج إلى ماء يتطهر به، وصفة تتم بها أما الماء الذي يتطهر به الإنسان فإنه يحتاج إلى وعاء يحمله، فإنه قد يكون الماء كما تقدم معنا في الباب الماضي ماء طهوراً، ولكن الإناء نجس، فهل يجوز أن يتوضأ الإنسان منه؟ وقد يكون الماء طهوراً، ولكنه في إناء محرم كالإناء من الذهب، أو الفضة، فهل يجوز أن يتطهر به؟ وما حكم طهارته؟ فإذاً لا بد من الكلام على أحكام الآنية لأنها أوعية الماء الذي يُتَطّهر به؛ فقال رحمة الله عليه: [باب الآنية].

قوله رحمه الله: [كل إناءٍ طاهرٍ، ولوْ ثميناً يباحُ إتّخاذُه، واستعمالُه]: هذه الجملة كالقاعدة، فلو سألك سائل: ما هو الأصل في الأواني؟ تقول: الأصل أنها جائزة، ومباحة إذا كانت طاهرة، ولو كانت ثمينة فلو كان الإناء من الألماس، أو الجواهر، أو غيرها من المعادن الثمينة، والنفيسة فإنه يباح إتخاذه، وإستعماله، فلو أنّ إنساناً شرب في كأس من معدن ثمين كالجواهر، أو غيرها فإنه يباح له ذلك، فالأصل حِلُّ جميع ذلك " لأن الله تعالى قال في كتابه: {وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِنْه} (¬1) فدلت الآية الكريمة على أن الأصل حلُّ جميع ما سُخِّر لبني آدم حتى يدل الدَّليل على التحريم، ومن ذلك المعادن إذا اتخذت منها الأواني حلّ الإنتفاع بها ما لم ينصَّ الشرع على تحريم شيء منها كالذهب، والفضة، فإذاً الأصل في الإناء أنه يباح لك استعماله، واتخاذه، والاتخاذ يكون في البيت يجعله الإنسان لحفظ الأشياء فيه، أو يستعمله في مصالحه كأواني الأكل، والشرب، والطبخ، والنظافة، والصناعة، فالأصل فيها الحلُّ، ولو كانت ثمينة غالية القيمة، فلا حرج على المسلم في إستعمالها حتى ولو تطهر منها بالوضوء، والإغتسال، والإستنجاء. قال رحمه الله: [إلا آنية ذهب، وفضة، ومضببٍ بهما] آنية الذهب، والفضة لا يجوز للمسلم أن يستعملها، فالإستثناء بقوله (إلا آنية ذهب، وفضة) المقصود به الإستثناء من الحلِّ الذي نصَّ عليه في قوله قبل ذلك: ¬

(¬1) الجاثية، آية: 13.

(يباحُ إِتّخاذُه، واستعمالُه) فيكون المعنى: إلا آنية ذهب، وفضة؛ فلا يباح إتخاذها، واستعمالها، ويستوي في التحريم أن يكون إستعمالها في الطهارة، أو غيرها، فلا يجوز التوضؤُ منها، وهكذا الاغتسال، والاستنجاء، وسواء كانت من الآنية القديمة، أو غيرها، فيحرم التّطهر من صنابير الذهب، والفضة، وكذلك الإغتسال منها، أو الإستحمام في المسابح، والأحواض المطليّة بهما، فجميع ذلك محرّم، والأصل في تحريمه ما ثبت في الصحيح عنه عليه الصلاة والسلام من حديث حذيفة إبن اليمان رضي الله عنهما أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: [لا تَشْربُوا في آنيةِ الذّهبِ، والفضِّةِ ولا تأكُلوا في صِحَافِهما فِإنها لهم في الدُّنيا، ولكُمْ في الآخِرةِ] فنهى عليه الصلاة والسلام عن الأكل والشرب، وهما في مقام الحاجة الضرورية؛ فنبّه بذلك على تحريم إتخاذها من باب أولى، وأحرى، لأن استعمالها في الطهارة ليس بضروري، فإذا حرم استعمالها في الضروري المحتاج إليه فمن باب أولى وأحرى أن يحرم إستعمالها فيما هو دون ذلك كالوضوء، والغسل، والإستنجاء، والشرع ينبّه بالأعلى على ما هو أدنى منه، وإذا حَرُم استعمالها في الضَّروريات، والحاجيات من الأكل، والشرب، والإغتسال، والطهارة فمن باب أولى أن يحرم في التحسينيات مثل: أن يتخذها للزينة. وتحريم الأكل، والشرب في آنية الذهب، والفضة بلغ أعلى درجات التحريم، لورود الوعيد الشديد فيه كما في الحديث الصحيح عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال: [الذي يشربُ في آنيةِ الفضّةِ إِنما يُجَرجِرُ في بطنِه نارَ

جهنّمَ]، ومن هنا نصّ بعض العلماء رحمهم الله على إعتباره من كبائر الذنوب. وقوله رحمه الله: [ومضبّبٍ بهما] أي: أن التحريم لا يختصُّ بالإناء الخالص من الذهب، والفضّة، بل يشمل جميع الأواني التي فيها ذهب، أو فضة، سواء كانت خالصة من أحدهما، أو كانت مطليَّة به، وسواء كانت نسبة الذهب، والفضة هي الأكثر، أو كانت الأقل، وسواء كانت مضبَّبة، أو مموّهة، أو طُلي بها خارجها، أو داخلها، أو أطرافها؛ فجميع ذلك محرّم؛ لعموم الحديث. وسيأتي أن الضبّةَ اليسيرة مستثناة بشروطها، لورود الدليل الشرعي باستثنائها، وعليه فإنه يحرم إستعمال الأواني على إختلافها إذا كانت فيها أي نسبة من الذهب، أو الفضة فلا يجوز للمسلم مثلاً أن يشرب في كأس ذهب، أو فضة، ولا يجوز له أن يأكل بملعقة ذهب، أو فضة، ولو كان أنثى، فإن الأنثى يباح لها الذهب، والفضة من الحلى، دون الإتخاذ، والإرتفاق بهما في مأكل، أو مشرب؛ لحديث حذيفة رضي الله عنه. قوله رحمه الله: [فإنه يحرم اتخاذها واستعمالها، ولو على أنثى]: قوله: [ولو على أنثى]: أي ولو كان الذي يشرب من الإناء ويستعمله من الإناث، فإن التحريم للأكل، والشرب عامٌّ لقوله -عليه الصلاة والسلام-: [فإِنها لهمْ في الدُّنيا -أي للكفار- ولكمْ في الآخرة -أي للمسلمين-] قال بعض العلماء: لا يُؤمنُ على من أكل، وشرب فيهما، وإنتفع بالذهب، والفضة بالأكل، والشرب في صحافهما، وآنيتهما في الدنيا أن يَحْرِمَهُ

الله -جل وعلا- منهما في الآخرة كما حُرم شارب الخمر -والعياذ بالله- خَمر الآخرة بإدمانه عليها في الدنيا -نسأل الله السلامة والعافية-. وقوله رحمه الله: [ولوْ على أنثى] " لو " فيها إشارة إلى خلاف مذهبي -أي في مذهب الحنابلة- فتعبيره بهذه الصيغة قصد أن يشير به إلى أن هناك من جوّز للمرأة دون الرجل إتخاذ الأواني، واستعمالها إذا كانت من الذهب، أو الفضة، وهو قول ضعيف، والصحيح مذهب الجماهير أن التحريم عام شامل للذكور، والإناث. وقد دل على ذلك قوله عليه الصلاة والسلام: [فإنَّها لهمْ في الدُّنيا، ولكمْ في الآخرةِ] فهذه الجملة تعليلية؛ كما نصّ عليه شراح الحديث، وهي تدل على أن تحريم هذه الأواني عام شامل للجنسين، دون تفريق بينهما. قوله رحمه الله: [وتصح الطّهارةُ مِنْه] أي تصح الطهارة من الإناء إذا كان من ذهب، أو فضة، ويحكم بارتفاع الحدث، وزوال الخبث إذا تطهر منه. وهذا هو مذهب جمهور العلماء رحمهم الله أن من توضأ، أو إغتسل من إناء ذهب، أو فضة حُكِمَ بصحة وضوئه، وأن التّحريم للإناء لا يستلزم بطلان عبادة الوضوء، والغسل؛ لأن الجهة منفكّة بين المشروع، والممنوع، فإذا تطهر منها حكمنا بكونه طاهراً؛ لأنه صبَّ الماء على الأعضاء، وأجراه عليها بالصورة الشرعية المعتبرة، فحكمنا بكونه متطهّراً لقوله عليه الصلاة والسلام كما في الصحيح: [ثُمّ تُفيضينَ الماءَ على جَسدِك؛ فإذا أنتِ قَدْ طَهُرتِ] وهذا قد أفاض الماء على جسده؛ فنحكم بكونه طاهراً، وهكذا إذا توضأ حكمنا بكونه متوضئاً؛ لوجود الفعل بصورته الشرعية المعتبرة،

وكون الإناء محرماً لا تأثير له في الطهارة نفسها، ففي الصحيح من حديث أبي هُريرة رضي الله عنه أن النبيَّ صلّى الله عليه وسلم قال: [لا يَقْبل الله صلاةَ أحدِكم إِذا أحدث حتى يتوضأ] فدل على أن من توضأ بصب الماء على أعضاء الوضوء بالصورة الشرعية أنه إرتفع حدثه، وهو هنا كذلك، فالجمهور رحمهم الله على أن طهارته صحيحة للنُّصوص الدّالة على صحتها، وهو آثم باستعمال آنية الذهب، والفضة؛ لمخالفته النهي المتضمن لتحريم استعمالها، وإتخاذها، فانفكّت الجهة بينهما، حيث لم يرجع النهي إلى ذات المنهي عنه، بل لشيء خارج عن ذاته، وهو الإناء، والوعاء، أما الماء المستعمل في الطهارة فهو باقٍ على الأصل الموجب لاعتبار التّطهر به صحيحاً. وذهب بعض العلماء رحمهم الله إلى عدم صحة الطهارة، وهو قولٌ في مذهب الحنابلة ورجّحه طائفة منهم، ورأوا أن النَّهي يقتضي فساد المنهيِّ عنه، فيُحكم بفساد الطهارة من آنية الذهب، والفضة. والذي يترجح في نظري، والعلم عند الله هو مذهب الجمهور لصحة ما ذكروه من دلالة الأدلة على اعتبار الطهارة، وصحتها، وإثمه بالمخالفة للنهي، وأن الجهة منفكة حيث لم يرجع النهي إلى ذات العبادة، وهي الغسل، والوضوء. والله أعلم. قوله رحمه الله: [إلا ضبّةً يسيرةً] إلا أداة استثناء، والإستثناء: إخراج بعض ما يتناوله اللفظ، فيكون المعنى أن الضَّبة اليسيرة من الفضة للحاجة جائزة.

وتضْبِيبُ الإناء يكون على طرفه كضبَّة الباب. وإستثناء هذه المسألة من التحريم مبني على ما ورد عن أنس رضي الله عنه في إناء النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: [لما إنكسرَ إتّخذ مكانَ الشّعبِ سِلسلةً من فضّةٍ]. وقد ذكر المصنف رحمه الله: ثلاثة شروط للحكم بالرخصة وهي: الشرط الأول: أن توجد الحاجة. والشرط الثاني: أن تكون الضبّة من الفضّة. والشرط الثالث: أن تكون يسيرة. وهناك شرط رابع مختص بالإستعمال وهو: أن لا يباشر بالشرب من الضبّة، ونصّ المصنف على كراهته، والصحيح التحريم إعمالاً للأصل. فأما إشتراط وجود الحاجة فلأنها رخصة، والحاجة موجبة لها فتستثنى من التحريم، ومفهوم هذا الشرط أنه إذا إنكسر الإناء، وأمكن إصلاح كسره بمادة غير الفضة لم يرخص له باستعمال الفضة؛ لأنه غير محتاج، وهكذا إذا كان الإناء سليماً، وأراد أن يضع الفضّة على طرفه لم يجز لعدم وجود الحاجة، فبقى على الأصل الموجب للتحريم، وأما إشتراط كونها من فضة فلأن الدليل المرخّص ورد بها، فلا يجوز الذهب؛ لعدم ورود ما يستثنيه، فبقى على الأصل الموجب للتحريم، وأما إشتراط اليسير؛ فمفهومه أنه إذا كانت كثيرة لم تجز؛ إعمالاً للأصل، وقد تقدم أن الفرق بين اليسير والكثير هو أن لا يتفاحش في النفس، فما كان غير متفاحش فهو يسير، وما

تفاحش فهو كثير هذا على ما درج عليه المصنف رحمه الله، وغيره من فقهاء الحنابلة كما تقدم معنا في مسألة يسير الدم. قوله رحمه الله: [وتُكرَه مباشرتُها لغير حاجة]: وتكره مباشرتها: أي مباشرة الضبّة لغير حاجة، فإن وجدت الحاجة كما يقولون: مثل أن يكون الموضع الذي إنكسر هو موضع الشرب قالوا: فحينئذٍ لا يستطيع أن يشرب إلا من هذا الموضع الذي فيه الفضة فيجوز له أن يشرب، وهذا لا إشكال فيه أعني في حال وجود الحاجة، أما قوله [تُكْره] في حال غير وجود الحاجة فقد قدمنا أن الصحيح أنه محرّم؛ لأن الأصل هو التحريم، والرخصة لا يُتجَاوز بِها محالُّها، فمحلّ الرخصة هنا إصلاح الإناء، ومباشرة الشرب من الموضع الذي فيه الضَّبة من دون حاجة ترفّه غير داخل في الرخصة؛ فبقى على الأصل الموجب لتحريمه، لا للكراهة فقط. قوله رحمه الله: [وتباح آنية الكفار]: بعد أن بين لنا -رحمه الله تعالى- أحكام أواني المسلمين، وبيّن أن الأواني كلها جائزة إلا آنية الذهب، والفضة، وأن كل وعاء يجوز أن تنتفع به إلا إذا كان من الذهب، أو الفضة. فإنه يرد السؤال عن حكم أواني الكفار، والكفار على قسمين: القسم الأول: كفار من أهل الكتاب، وهم الذين لهم في الأصل دين سماوي، وهم اليهود والنصارى. والقسم الثاني: كفار على غير دين سماوي كالوثنيين، والمشركين، والملحدين، ونحوهم.

فَيرِدُ السؤال: لو أن إنساناً سألك يوماً من الأيام وقال لك وجدتُ إناءً ليهودي هل يجوز لي أن أتوضأ به، أو اغتسل منه، أو أكل، أو أشرب فيه؟ هذا سؤال وارد، ولذلك بينت الشريعة حكم آنية الكفار في أكثر من حديث، وقد إختلف العلماء -رحمهم الله- في هذه المسألة. وتوضيحها أن أواني الكفار لها حالتان: الحالة الأولى: أن تكون جديدة غير مستعملة كالأواني التي تأتي منهم جديدة مصنّعة من مواد طاهرة كالحديد، والنحاس، والصفر، والخشب، ونحوه فهذه طاهرة، ويجوز الانتفاع بها بلا إشكال، لأن اليقين طهارتها، وليس هناك دليل على النجاسة؛ فنبقي على الأصل الموجب لطهارتها، وإباحة إستعمالها. الحالة الثانية: أن تكون أواني الكفار مستعملة، فإن كانت مستعملة فإن رأيت استعمالهم للنجاسة فيها مثل: أن ترى الإناء، وفيه النجاسة فبالإجماع أنه نجس، ولا يجوز استعماله حتى يُغْسَل، فلو أن كأساً صُبَّ فيها خمر؛ فإنه لا يجوز استعمالها، إلا بعد غسلها، وتنظيفها، وهكذا الوعاء إذا طُبخَ فيه خنزير، أو وُضع فيه؛ فإنه نجس، ويغسل ليُطهّر. وأما إذا كانت هذه الأواني مغسّلة عندهم، ولم يجد الإنسان غيرها، وكانوا قد أكلوا فيها، أو شربوا فهذا للعلماء فيه وجهان: منهم من قال: لا تستعمل إلا أن يضطرّ إليها، لما ثبت في الصحيح من حديث أبي ثعلبة الخُشني رضي الله عنه، قال: -يا رسول الله- إني بأرض قومٍ أهلِ كتابٍ أفنأكلُ في آنيتهم؟ فقال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: [لا إِلا أنْ لا تَجدُوا غيرَها؛

فاغسِلُوها، ثم كُلوا فيها]، فدلّ هذا الحديث على أن آنية الكفار التي يستعملونها لا يؤكل فيها، وقد عارض هذا الحديث حديثٌ ثانٍ، وهو أكل النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- من آنية الكفار، ففي حديث أحمد في مسنده أن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إستضافه يهودي على خُبزٍ، وإهالةٍ سَنخةٍ فأكل النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- منها. وكذلك -أيضاً- ثبت في الصحيح عنه عليه الصلاة والسلام: أن إمرأةً يهودية دعته إلى شاةٍ، ووضعت السمَّ فيها، فأكل منها عليه الصلاة والسلام، فدل هذا على أن آنية الكفار يؤكل فيها، قالوا: أما الشرب، والوضوء ففي الصحيحين عن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أنه لما لقي المرأة المشركة التي معها المَزادةُ توضّأ هو، وأصحابه منها. قالوا: فهذا يدل على أن أواني الكفار يؤكل فيها، ويشرب منها ما لم تُعْلم نجاستها. ويمكن الجمع بين هذه الأحاديث بأن يقال: إن كانت آنيتهم على حالة يغلب على الظن طهارتها جاز إستعمالها، وإعمال الأصل، والظاهر الموجب للحكم بالسلامة، وهذا مثل حاله عليه الصلاة والسلام في وضوئه من مزادة المشركة، لأن المزادة لا يمكن بحال أن يوضع فيها ماء الشرب إلا إذا كانت طاهرة سالمة من الدنس، والنجاسة. ومثله أكله من طعام اليهودي، واليهودية لأن الآنية لا يوضع فيها الطعام للضَّيف إلا بعد غسلها وتنظيفها، بل قد تجد الإنسان يحتاط للضَّيف أكثر مما يحتاط لنفسه، فظاهر حالها أنها طاهرة، ثم إن الشاة، والخبز، والطعام الذي جُعل فيها طاهر.

وأما حديث أبي ثعلبة رضي الله عنه فالسؤال فيه جاء عن إستعمال آنيتهم التي يستعملونها، وأهل الكتاب يشربون الخمور، ويأكلون الخنزير، فاجتمع الحرام في المأكول، والمشروب، فمنعه النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن يستعمل آنيتهم، واستثنى حالة وجود الحاجة فأجاز له إستعمالها على وجه يضمن معه سلامة الإناء من المحرّم النجس، والفرق بين الحالتين ظاهر، فجاز في الأول الأكل، والشرب لغلبة السلامة، والطهارة، وحُرّما في الثاني لغلبة النجاسة. والله أعلم. وبناء على ما تقدم فهناك ثلاث حالات لأواني أهل الكتاب: الأولى: أن تكون جديدة من مواد طاهرة، أو ظاهرها السلامة كما في حديث مزادة المشركة، فلا إشكال في طهارتها، وجواز إستعمالها إعمالاً للأصل الشرعي، وأما إذا كانت مصنوعة من مواد نجسة مثل: أن تصنع من جلود الحيوانات التي هي محرمة الأكل فمثلها لا تطهر بالدباغة، فلا إشكال في تحريمها جديدة كانت، أو قديمة. الثانية: أن تكون متنجسة مثل: أن يضعوا فيها نجاسة من مأكول كالخنزير، أو مشروب كالخمر، فلا إشكال في نجاستها، فيجب غسلها، وتطهيرها، ولا يجوز إستعمالها إلا أن لا يجد غيرها لحديث أبي ثعلبة رضي الله عنه. الثالثة: أن لا نعلم بنجاسة فيها، أو طهارة، وتكون من مواد مباحة طاهرة: فلا يجوز إستعمالها؛ إلا أن لا يجد غيرها، فيغسلها، ثم يأكل فيها لعموم حديث أبي ثعلبة رضي الله عنه.

قوله رحمه الله: [وتُباحُ آنيةُ الكفارِ، ولوْ لَم تَحلّ ذبائحُهم]: أي يباح لك إِستعمال أوانيهم، ولو لم تحل ذبائحهم؛ لأن بعض العلماء يقول يباح آنية أهل الكتاب الذين تحلُّ ذبائحهم، وأما غيرهم ممن لا تحل ذبائحهم فلا تباح آنيتهم، فبيّن رحمه الله أن الإباحة لأواني الكفار عامة، سواء كانوا ممن تحلّ ذبائحهم، أو من غيرهم. قوله رحمه الله: [وثيابهم إِنْ جُهِلَ حَالُها]: ثياب الكفار لها ثلاث حالات: الحالة الأولى: أن تكون جديدة لم تُلبس كأن تأتي من بلاد الكفار جديدة لم تُستعمل؛ كالثياب المصنّعة في بلاد الكفار من مواد طاهرة، وبطريقة لا شبهة فيها؛ فحكمها الطهارة يقيناً؛ فأيُّ ثوب جديد، ولو جاء من ديار الشرك، والكفر تقول: اليقين أنه طاهر، والعبرة بطهارته حتى أرى النجاسة فيه، أو عليه، ودليل هذه الحالة حديث عائشة رضي الله عنها في الصحيح: [أنّ النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كُفِّنَ في ثلاثةِ أثوابٍ بيضٍ سَحُوليةٍ] وسحول: موضع باليمن تصنع فيه هذه الثياب، وكانت اليمن أرض أهل الكتاب حتى آخر حياة النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كما يشهد لذلك حديث معاذ رضي الله عنه لما بعثه عليه الصلاة والسلام إليها في آخر سنةٍ من حياته فقال له: [إِنك تأتي قوماً أَهلَ كتاب]، فدل هذا على جواز لبس الثياب المصنّعة في بلاد الكفر من مواد طاهرة، ومثله لبسه عليه الصلاة والسلام للبُرُد النَّجْرانِيّةِ.

الحالة الثانية: أن تُرى على ثوب الكافر النجاسة فحكمه: أنه نجس، وذلك مثل: ثوبه إذا أصابه بول، فإنه متنجس، فيلزم تطهيره إذا أراد لبسه، والصلاة فيه. الحالة الثالثة: وهي التي فيها الإشكال: إذا كان ثوباً يستعمله الكافر، ولم تُرَ نجاسة عليه، فهل هو نجس، أو طاهر؟ قال بعض العلماء: ثياب الكفار أُعمِلُ فيها اليقين، فاليقين أنها طاهرة حتى أرى النجاسة عليها، هذا مذهب من يتسامح فيها، بناء على الأصل من طهارتها. المذهب الثاني يقول: ثياب الكفار الظاهر نجاستها. والمذهب الثالث التفصيل: فإن كان ممن يتوقى النجاسات كأهل الكتاب حكم بطهارتها، وإن كان ممن لا يتوقون النجاسة كالمشركين حكم بالنجاسة، ثم يتأكّد هذا في الثياب التي تلي العورة؛ كالسروال، والإزار، ونحوهما، بخلاف ما إذا كان مما لا يلي العورة كالعمامة، والطاقية، ونحوها وهذا هو الأرجح في نظري لأنه مبني على مراعاة الأصل الموجب للحكم بالطهارة، واستثناء الغالب الذي يُقوِّي دليلُ الظّاهرِ الحُكمَ بالنجاسة فيه، وهي الثياب التي تلي موضع النجاسة. قوله رحمه الله: [ولا يَطْهُرُ جِلدُ ميْتَة بدِبَاغٍ] معناه: أن جلد الميتة لا يطهر إذا دبغ، فهو نجس في كلتا الحالتين دُبغَ، أو لم يُدبَغ، وهذه المسألة فيها قولان مشهوران:

القول الأول: أنه إذا دُبِغَ حُكِمَ بطهارته، وهو مذهب الجمهور من حيث الجملة، واستدلوا بما ثبت في الصحيح عنه عليه الصلاة والسلام أنه مرّ على شاة ميتة فقال: [هلا إنتَفَعتُمْ بِإهَابِها؟] فقالوا: يا رسول الله إنّها ميتة، فقال عليه الصلاة والسلام: [إذا دُبِغ الإهابُ فَقدْ طَهُر] فقد نصَّ عليه الصلاة والسلام على أن جلد الميتة يطهر بالدبغ، وهو ما أكّده بقوله في الحديث الحسن: [دِباغُ الأَدِيمِ ذَكاتُه] فكما أن الذكاة تعمل في طهارة لحم الحيوان المباح الأكل، كذلك الدِّباغ يعمل في طهارة الجلد في الميتة المحرمة الأكل. القول الثاني: لا يطهر جلد الميتة بالدبغ، وهو مذهب الحنابلة، واستدلوا بحديث عبد الله بن عُكَيْمٍ عن أشياخ من جُهينَة أنهم أتاهم كتابُ النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قبل أن يموت بشهرٍ، أو شهرين: [أَلا تَنْتَفعوا من الميتةِ بإهابٍ، ولا عَصَبٍ]، فقالوا: إن هذا الحديث ناسخٌ، لكونه متأخراً في آخر حياته عليه الصلاة، والسلام. والذي يترجح في نظري والعلم عند الله هو القول بطهارة جلد الميتة بالدبغ، وذلك لما يلي: أولاً: لصحة دلالة السنة الصحيحة على ذلك كما تقدم بيانه. ثانياً: وأما الاستدلال بحديث عبد الله بن عُكيمٍ فيجاب عنه من وجهين: الوجه الأول: ضعف إسناده، فقد ضعّفه غير واحد من الأئمة رحمهم الله، وعن الإمام أحمد رحمه الله أنه رجع عن هذا الحديث في آخر حياته، كما نقل الترمذي ذلك عنه، وبيّنا في شرح البلوغ الكلام على سنده.

الوجه الثاني: لو سُلّم تحسينه، فإنه لا يقوى على معارضة ما هو أصح منه؛ لأن الحديث الحسن لا يعارض الصحيح. ثم إن دعوى النسخ للتحريم محتملة، لأننا لا ندري أيهما سبق، وخلال الشهر، والشهرين قد يطرأ التشريع، خاصة وأن حديث الجمهور يفهم منه أن الصحابة رضي الله عنهم كانوا يرون تحريم الانتفاع، ثم نصّ عليه الصلاة والسلام على حلِّه، وحينئذ يكون دعوى نسخ التحريم أقوى من دعواهم لنسخ الحلِّ. وعل كلٍ فليس هناك ما يدل على النسخ صراحة، وكونه قبل الوفاة بشهر، أو شهرين لا يستلزم النسخ مع ما في الحديث من ضعف الإسناد. فالمصنف -رحمه الله- مشى على المذهب المرجوح، وهو: أنه لا يطهر جلد الميتة بالدبغ. قال رحمه الله: [ويباحُ استعمالُه بعدَ الدَّبغ في يابسٍ من حيوانٍ طاهرٍ في الحياة]: هذا على القول بنجاسته، فإننا إذا حكمنا بنجاسته على القول المرجوح؛ فإنه يجوز الإنتفاع به في اليابسات، دون المائعات عندهم؛ لأن المائعات لو وضعت في جلد الميتة ما الذي يحدث لها؟ الجواب: تتنجس، وأما على القول الراجح فإنه يجوز الإنتفاع بجلد الميتة المدبوغ في اليابس، والمائع؛ لأنه طاهر. قوله رحمه الله: [ولبنها، وكلُّ أجزاءِها نجسة]: ولبنها نجس؛ لأن الله -عز وجل- حرم الميتة، ولم يفرق بين لبنها، ولا غيره، وهناك قول ببقائه على أصل الطهارة ما لم يحدث فيه تغيير في صفاته.

وقوله: [وكلُّ أجزائها] أي التي تحلها الحياة، كاليد، والرجل، والرأس، فكلّها نجسة، ولا يجوز الإنتفاع بها لعموم التحريم. قوله رحمه الله: [غَير شَعرٍ، ونحوه]: شعر الميتة للعلماء فيه وجهان مشهوران: فجماهير العلماء على أن شعر الميتة يعتبر مما لا تحله الحياة بمعنى أنه يجوز لك أن تنتفع بشعر الميتة؛ لأنه في حياتها يُجزُّ منها، ولا يحكم بنجاسته بالإجماع كما قال تعالى: {وَمِنْ أَصْوَافِهَا وَأَوْبَارِهَا} (¬1) فدل دليل القرآن على طهارة الصوف، والوبر، وما يُستخلص من شعور بهيمة الأنعام، وأنتم تعلمون أن شعور بهيمة الأنعام تؤخذ منها بالحلاقة في حال حياتها، وقد قال -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: [ما أُبِينَ مِنْ حي؛ فهو كَميْتَتِه] فلو كانت الشعور تحلُّها الحياة لحكم بنجاسة الشعر، وعدم جواز الانتفاع به، فلما إمتنّ سبحانه بالصوف، والوبر، وأحلّه لعباده دل ذلك على أن شعر الميتة إذا جُزَّ منها؛ فإنه طاهر يجوز الانتفاع به. قوله رحمه الله: [وما أُبِينَ مِنْ حي فهو كَميْتَتِهِ]: معناه: أن ما قُطع من الحيوان في حال حياته أخذ حكم ميتته، فإذا كانت ميتته نجسة محرّمة، كان ذلك الجزء المقطوع نجساً محرّماً، والعكس بالعكس، فلو كانت ميتته محكوماً بطهارتها، وحلّها، فإنه إذا قُطع منه جزء، وهو حيٌّ كان ذلك الجزء طاهراً مباحاً، كالسمك، فلو أن إنساناً قطع ذنب سمكة، وهي حية وفرّت فهل يجوز له أن يأكل هذا الذنب؟ ¬

(¬1) النحل، آية: 80.

الجواب: نعم؛ لأن ميتة السمك نفسها يجوز أكلها لقوله عليه الصلاة والسلام: [هو الطَهُورُ ماؤُه الحلُّ مَيْتَتُهُ] فيجوز له أن ينتفع بجزء السمك؛ لكن لو أن إنساناً قطع رجل شاة، وهي حيّة فما حكم هذه الرِجْل؟ الجواب: أنها تأخذ حكم ميتتها، فهي تكون كميتة الشاة، وميتة الشاة نجسة، ومحرّمة الأكل، كذلك رجْلُها إذا قطعت في حال حياتها فإنها يحكم بنجاستها، إلا أنه في المسألة الأولى لا نحكم بجواز قطع ذيل السمكة، وجزئها لأنه تعذيبٌ، ومُثْلةٌ، وقد نهى النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن تعذيب الحيوان، وعن المُثْلَةِ كما في الصحيح عنه عليه الصلاة والسلام، فلا يجوز له فعل ذلك إختياراً لكن لو حصل إضطراراً جاز، والله تعالى أعلى وأعلم.

باب الإستنجاء

باب الإستنجاء قال رحمه الله: [باب الإستنجاء]: الإستنجاء استفعال من النّجْو، وأصله: القطعُ للشيء، يقال: نجوت الشجرة أي: قطعتها، والسين، والتاء للطلب. قال العلماء: سُمي قطع البول، والغائط بالماء، والحجارة إستنجاءً؛ لأن المكلف إذا فعله فقد حصلت له الطّهارهَ، والنقاء، وبالطهارة، والنقاء ينقطع أثر النجاسة فلذلك وصف بكونه استنجاء، أي طلباً لقطع النجاسة الخارجة. وباب الاستنجاء باب مهم؛ لأنه يتعلق بالنوع الثاني من أنواع الطهارة، وهو طهارة الخبث فإن الله -عز وجل- أمر كل من أراد أن يصلي أن يكون قد حصَّل الطهارتين: الأولى: من الحدث. والثانية: من الخبث. فأما طهارة الخبث: فيراد بها نقاء الثوب، والبدن، والمكان، وهي التي يتعلق بها باب الاستنجاء حيث بيّن العلماء رحمهم الله فيه طهارة البدن من الخارج، وحكم إزالة النجاسة عن الثوب، والمكان. وأما طهارة الحدث: فهي الغسل، أو الوضوء، والبدل عنهما، وهو التَّيَمُّمُ.

هذا الباب يسميه بعضهم: بباب الاستنجاء، ويسميه بعضهم: بباب آداب قضاء الحاجة، ويسميه بعضهم بباب الخلاء، وآداب الخلاء، ومراد العلماء -رحمهم الله- أن يذكروا فيه الآداب الشرعية المتعلقة بالإنسان إذا أراد أن يقضي حاجته سواء كانت بولاً، أو غائطاً، وهذا الباب وردت فيه النصوص الصحيحة عن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- القولية، والفعلية، وبينت هدي رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- في قضائه لحاجته، ولذلك وصفه العلماء بباب آداب قضاء الحاجة. فمن يقول: باب آداب قضاء الحاجة إستنبط ذلك من قول النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: [إذا قَعَدَ أحدُكمْ لحاجَتِه]. ومن سماه بباب الاستنجاء فقد إستنبط ذلك من حديث سلمان رضي الله عنه، وفيه: " نَهانا أنْ نَستنْجِي بروثٍ، أو عظمٍ " فقالوا: باب الاستنجاء. ومن سماه بباب آداب الخلاء فانتزعه من حديث أنس رضي الله عنه: أنّ النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان إذا دخل الخلاء قال: [اللهم إني أعوذُ بكِ من الخبثِ، والخبائِثِ]. وآداب الخلاء تنقسم إلى ثلاثة أقسام: القسم الأول: آداب قبل دخول موضع قضاء الحاجة. والقسم الثاني: آداب أثناء قضاء الحاجة. والقسم الثالث: آداب بعد الفراغ من الحاجة. وكلها وردت فيها أحاديث عن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أو أُخذت من أصول الشريعة العامة، وهي جميعها منها: ما هو قولي، ومنها: ما هو فعلي. فأما الآداب التي هي قبل قضاء الحاجة فمنها:

أنه إذا أراد أن يدخل الخلاء يقول: [اللهمّ إِني أَعوذُ بكَ من الخبْثِ، والخبائثِ] فهذا أدب يسبق قضاء الحاجة، وهو أدب قولي. وأما الفعلي: فمنه الإبعاد، والإستتار فيطلب مكاناً بعيداً عن أعين الناس ساتراً. وأما الآداب التي تكون أثناء قضاء الحاجة فمنها: أن لا يستقبل القبلة، ولا يستدبرها ببول، ولا غائط لما ثبت في الصحيحين عن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أنه قال: [إذا أتيتمُ الغائطَ؛ فلا تَسْتقبلوا القبلةَ، ولا تسْتدبروها ببولٍ، ولا غائطٍ، ولكنْ شرّقوا، أو غرّبوا] وهو أدب فعلي. والقولي: أن لا يتكلم أثناء قضاء الحاجة ولذلك ورد في الحديث قوله عليه الصلاة والسلام: [لا يَذهبُ الرجلانِ يضْربانِ الغائطَ يكلّم أحدُهما الآخَر فإنّ الله يَمقتُ ذلك]. وأما الآداب التي تكون بعد الفراغ من قضاء الحاجة فمنها قوله: [غُفْرانَك] وهو أدب قولي، والفعلي: أن يقدم رجله اليمنى، ويؤخر اليسرى عند الخروج، فأصبح هدي النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- في قضاء الحاجة مشتملاً على ثلاثة أنواع من الآداب على حسب الأحوال: النوع الأول: آداب قبل دخول الخلاء. والنوع الثاني: آداب أثناء قضاء الحاجة. والنوع الثالث: آداب بعد الانتهاء، والفراغ من الحاجة، فالعلماء -رحمهم الله- يذكرون في هذا الباب ما يسن للمسلم أن يفعله قبل دخول الخلاء،

وما يسن له فعله، وهو أثناء قضائه لحاجته، وما يسن له فعله بعد فراغه، وانتهائه منها. قال المصنف رحمه الله: [باب الاستنجاء]: أي في هذا الباب سأذكر لك جملة من الأحكام، والمسائل الشرعية المتعلقة بالاستنجاء. قال رحمه الله: [يُستحبُ عندَ دخولِ الخلاءِ قولُ: بِسمِ الله، أعوذُ بالله من الخبْثِ، والخَبائثِ]: قال المصنف رحمه الله: [يُستحبُّ عنْد دخولِ الخلاء]: أي قبل أن يدخل الإنسان الخلاء يستحب له أن يقول: [بسم الله أعوذ بالله من الخبث والخبائث] لما ثبت في الصحيحين من حديث أنس رضي الله عنه وأرضاه أنه قال: كان النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إذا دخل الخلاء قال: [اللهمّ إِني أعوذُ بكَ من الخُبْثِ والخبائثِ] هذا هو الثابت في الصحيحين، وأما لفظة: بسم الله، فقد ورد فيها حديث عن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- في السنن، وأنه إذا قالها الإنسان عند رفع ثوبه، أو نزع الثياب؛ فقد ستر عن أعين الجن، وهو حديث متكلم في سنده. وقوله رحمه الله: [يُستحبُّ لمنْ دخلَ الخلاءَ] أي: موضع قضاء الحاجة، ولا يخلو الموضع الذي يريد الإنسان أن يقضي حاجته فيه من حالتين: الحالة الأولى: أن يكون مهيأ لقضاء الحاجة مثل: دورات المياه الموجودة في زماننا. والحالة الثانية: أن يكون غير مهيىءٍ في أصله لقضاء الحاجة، مثل: البراري، والفلوات فهذه المواضع يقضي الإنسان حاجته فيها دون أن يكون فيها بناء مخصوص مُعدٌ لقضاء الحاجة.

وحينئذ يرد السؤال: متى يكون هذا الإستحباب لقول الذكر في الحالتين؟ والجواب: أنه في الحالة الأولى: يقوله قبل أن يدخل في الدورة، والمكان المعدِّ لقضاء الحاجة، فيكون عند إرادة الدخول، لأن الذكر لا يجوز في موضع قضاء الحاجة، فيقوله قبل الدخول لذلك، ومن هنا يكون قوله رحمه الله: [يستحبُّ لمنْ دخلَ الخلاءَ] المراد به أنه يستحب لمن أراد الدخول، أي قبل دخوله مباشرة. وأما في الحالة الثانية: فإنه ليس هناك موضع مُحرَّمٌ عليه الذكر فيه، فقال بعض العلماء رحمهم الله يقوله: عند رفع ثوبه، وتهيوئِه لقضاء الحاجة، وقال بعضهم: إذا جلس قبل أن يخرج منه شيء، وكلا القولين له وجهه إلا أن الأول أقوى، لأنه يكون قبل حصول الكشف للعورة. وقوله: [أعوذ بالله] أي ألتجئ، وأعتصم، وأحتمي بالله، وأصل العوذ: اللوذ، واللجوء، وقوله: [من الخبْث] بالإسكان، وهي رواية الأكثرين كما ذكر القاضي عياض رحمه الله، وفسّره بالشر، وأما بالضم: فهو جمع خبيث، فيحمل على ذكور الشياطين، ويكون قوله بعد ذلك: [والخبائثِ] المراد به على رواية الأكثرين الشياطين عموماً، ذكرانهم، وإناثهم، وأما على رواية الضمِّ فيكون معنى الخبائث: إناث الشياطين كما ذكره الإمام الخطابي رحمه الله، فعلى الوجه الأول: يكون مستعيذاً بالله من الشر عموماً، ومن الشياطين خصوصاً، وعلى الوجه الثاني: بالضمِّ يكون مستعيذاً من ذكور الشياطين، وإناثهم.

والأول: أقوى الوجهين روايةً، ومعنى، فهو أقوى رواية لأنه رواية أكثر الشيوخ كما قدمنا عن القاضي عياض رحمه الله، وهو أقوى معنى لأن فيه معنى زائداً على الوجه الثاني، لأن الوجه الثاني إختص بالشياطين، وأما الوجه الأول: فإنه لم يختص بهم بل شمل الشر كله بالإضافة إلى الشياطين كلهم ذكوراً، وإناثاً، فهو أعم. وهذا الدعاء النبوي حرز من الله تعالى للمسلم يعصمه به سبحانه من أذية الشياطين، وشرورهم في هذا الموضع الذي أخبر النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه تحضره الشياطين، كما في حديث السنن من قوله عليه الصلاة والسلام: [إن هذه الحُشوشَ محتَضَرة] أي تحضرها الشياطين، والحُشُوشُ: جمع حِشٍ، وهو البستان في لغة العرب، وعبّر به عن موضع قضاء الحاجة لأنهم كانوا في الغالب يقضون الحاجة في الحيطان، والبساتين، ولم يكن عندهم مراحيض، وأماكن مخصصة لقضاء الحاجة كما جاء في الأثر عن عائشة رضي الله عنها. فشرع للمسلم أن يقول هذا الدعاء معتصماً بربه ملتجئاً إليه سبحانه؛ فإنه نعم المولى ونعم النصير. قوله رحمه الله: [وعنْدَ الخروج منه: غُفْرانَكَ]: وعند الخروج منه أي: بعد أن يخرج؛ لأنه إذا أراد الخروج لا يُشرع له أن يتكلم حتى يجاوز موضع قضاء الحاجة، فإذا جاوز موضع قضاء الحاجة قال: [غُفْرانَكَ] وأصله: إِغفرْ غُفْرانَك، أو أسألك اللهم غفرَانَك، والغفر: أصله الستر، ومنه المِغْفَر؛ لأنه يستر رأس الإنسان من ضربات السلاح في الحرب قالوا: سميت المغفرة

مغفرة؛ لأن الله إذا غفر ذنب العبد كأن لم يكن منه ذنب، فأصبح كأنه خالياً من ذلك الذنب سُتِر عنه ذنبه، وكُفي مؤنته كما أن الإنسان إذا لبس المغفر كُفي شَرّ السلاح، وأذيته، وقوله: [غُفْرانَكَ] دعاء ثبت عن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كما في حديث عائشة رضي الله عنها عند الترمذي، وأبي داود، والنسائي أنه كان يقول عليه الصلاة والسلام عند خروجه من الخلاء: [غُفْرانك]. وللعلماء -رحمة الله عليهم- في استغفار النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بعد قضائه لحاجته، وخروجه أقوال: قال بعض العلماء: إستغفر النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-؛ لأن الإنسان لا يأمن من حصول بعض النظر إلى عورته، فلما كان الناس في غالب حالهم لا يسلمون من الوقوع في هذه الإخلالات أثناء قضاء حاجتهم سنّ لهم ذلك لتحصل به المغفرة لهم، فيكون قد عنى بذلك غالب أمته لا نفسه عليه الصلاة والسلام؛ لكونه معصوماً، وهذا القول يَقْوى على مذهب من يُحرّم نظر الإنسان لعورته إلا من حاجة. وقيل: لأن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- شُغل عن ذكر الله -جل وعلا- بقضاء الحاجة فقال: [غفرانك] لضياع هذا الوقت دون ذكر لله -جل وعلا-، وكما قالوا: حسناتُ الأبرارِ سيئاتُ المقربين، فهذا من كمال عبوديته لله، وكمال حبه، وتعلقه بذكر الله -سبحانه وتعالى- أن هذا الوقت مع حاجة الجسم إليه، وأنه في حالة عذر عن ذكر الله يستغفر من ذهابه، دون أن يذكر الله -جل وعلا- فيه، وهذا فيه تنبيه للمسلم أنه ينبغي عليه أن يكثر من ذكر الله، وأن يحرص على

إغتنام الحياة في طاعة ربه، وعبوديته له سبحانه؛ لأنه هو المقصود من خلقه كما قال تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} (¬1). وقال بعض العلماء قال النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- غفرانك لأنه لما خرج الطعام من الجوف أَمِنَ الإنسان من كثير من الأضرار، والبلايا، فلم يستطع أن يوفي شكر نعمة الله عليه بهذا الفضل فقال: [غفْرانَك] أي: غفرانك من التقصير في حمد نعمك، وشكر مننك التي أنعمت، وامتننت بها علينا. وكل هذه الأوجه صحيحة مناسبة، وتحتملها السنة. قوله رحمه الله: [الحمدُ للهِ الذي أذهبَ عنّي الأذى، وعَافَاني]: الأذى أذى القذر الخارج؛ لأنه لو بقي في الجسم لأضر بالإنسان، ولذلك لو أن إنساناً مُنِعَ من البول ساعة واحدة لما استقر له قرار، ولو حيل بينه، وبين قضاء حاجته، وقيل له: إفتدِ بالدنيا لافتدى بها حتى تخرج حاجته، وقد يبلغ ببعض المرضى كالمشلولين شفاهم الله أن يمكث الساعات لإخراج فضلته من جسده، فهي نعمة من الله عظيمة لا يعلم مقدار فضله سبحانه، ورحمته، ولطفه بالعبد فيها إلا هو -سبحانه وتعالى- فناسب أن يقول عليه الصلاة والسلام: [الحمْدُ لله] لأنه المحمود على جلب النِّعم، وحصولها، ودفع النِّقم، وزوالها جل جلاله. قوله رحمه الله: [الحمدُ لله الذي أذهبَ عنّي الأذى، وعَافَاني]: قيل المعافاة من شرور الشياطين، ونحوهم. ¬

(¬1) الذاريات، آية: 56.

وقيل: المعافاة من الضرر الموجود في الجسم بحبس ذلك الطعام، والشراب، فالله دفعه؛ فاستوجب أن يُشكر، ويُحمد على هذا الفضل، وكلاهما صحيح. قوله رحمه الله: [وتقديمُ رجْلهِ اليسرى دُخولاً، واليمنى خُروجاً]: تقدم آداب الخلاء على قسمين: القسم الأول: آداب قولية، وقد سبق بيان أدب قولي يقال قبل الدخول، وأدب قولي يقال بعد الخروج. القسم الثاني: آداب فعلية، فشرع المصنف رحمه الله في هذه الجملة في بيان الآداب الفعلية، والتي منها: أن الإنسان إذا أراد دخول الخلاء قدّم رجله اليسرى، وأخّر رجله اليمنى، وإذا أراد الخروج قدّم رجله اليمنى، وأخّر اليسرى؛ لأن الشريعة قصدت تكريم اليمين على اليسار، فجهة اليمين مفضّلة مشرفة على اليسار، وقد دلت نصوص الكتاب، والسنة على ذلك، فجعل الله أصحاب الجنة أصحاب اليمين -جعلنا الله وإياكم منهم-، وجعل السعيد من نال كتابه بيمينه، وفضّل اليمين على الشمال حينما ذكرها بصيغة الافراد في مقابل الجمع كما قال تعالى: {عَنِ الْيَمِينِ وَالشَّمَائِلِ سُجَّدًا لِلَّهِ} (¬1) فقال: {عَنِ الْيَمِينِ} فأفرد، وقال: {وَالشَّمَائِلِ ِ} فجمع، والعرب تجمع في مقابل الإفراد تعظيماً للمفرد إذا كان يقبل التثنية، والجمع ¬

(¬1) النحل، آية: 48.

كما قال الله تعالى: {خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ} (¬1) فجمع الظلمات، وأفرد النور، وهو أسلوب عربي يدلّ على تشريف المفرد على الجمع، فجهة اليمين مشرّفة على جهة الشمال، وكان صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُحِبُّ التَّيمن في تنعّله وترجّله وطُهُوره، وفي شأنه كلِّه كما في الصحيحين من حديث أم المؤمنين عائشة -رضي الله عنها-. وفي الحديث -أيضاً- في السنن: أنّ النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: [إذا لَبِسْتُمْ فَتيامنوا] أي: إذا لبس الإنسان ثوباً، أو عباءة، أو حذاء؛ فإنه يقدّم الجهة اليمنى من يد، وشِق، ورجلٍ على الجهة اليسرى. فإذا أراد الخروج من الخلاء قدّم رجله اليمنى، وأخّر اليسرى تشريفاً لليمين؛ لأن الخروج أفضل من الدخول في هذه الحالة، وفي الدخول للخلاء يقدم المفضول على الفاضل، وفي الخروج منه يُقدِّم الفاضل على المفضول، فيقدِّم رجلَه اليمنى، ويؤخِّر اليسرى. قوله رحمه الله: [عكسَ مسجدٍ، ونَعْلٍ]: عكس مسجد فمن دخل المسجد قدَّم رجله اليمنى للدخول، وأخَّر اليسرى، وإذا أراد الخروج قدم اليسرى، وأخّر اليُمنى، وقد ورد فيه حديث عند الحاكم أنه من السُّنة تقديم اليمنى على اليسرى عند دخول المسجد، وقوله [ونَعْلٍ]: المراد به عند لبس النعل، وهو ما يلبسه في رجله، فإذا أراد أن يلبس الحذاء يفعل ما يفعله عند دخول المسجد، فيُقدم رجله اليمنى، ويؤخّر اليسرى، والعكس إذا ¬

(¬1) الأنعام، آية: 1.

أراد أن يخلعه لحديث أم الؤمنين عائشة رضي الله عنها في الصحيح: [أنّ النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان يُعْجِبه التّيمنُ في طُهُورِه، وتَنعّله، وتَرجُّله، وفي شأنِه كُله]، فقولها رضي الله عنها [تَنعّله]: يدل على أن من السنة التَّيمن عند لُبس النّعل، وتقديم اليسار عند خلعه، ونزعه، وقد جاء ذلك صريحاً في حديث أبي هريرة رضي الله عنه في الصحيح أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: [إذا إنتعلَ أحدكُم فليبدأ باليمنى، وإذا خَلَعَ فليبدأ باليُسرى] واختلف العلماء رحمهم الله في مسألة: وهي لو أن إنساناً أراد أن يخرج من بيته إلى المسجد، فهل الأفضل أن يقدم رجله اليمنى لشرف المقصود، والغاية، أو يؤخر اليمنى؛ لأنه الأفضل عند الخروج عموماً؛ لأن الخروج من البيت أدنى منزلة من البقاء فيه، فيكون الشّرف فيه في التأخير بخلاف الدخول فيه فإنه يكون الشرّف فيه في التقديم، ولذلك إذا أراد أن يخرج يقدِّم اليسرى؟ وبعبارة أخرى: هل نبقى على الأصل من مراعاة الحال، أم نستثني هذه الحالات لشرف الخارج من أجله؟ كلاهما قول لبعض العلماء رحمهم الله. فمن قال نبقى على الأصل فإنه يقول بتقديم اليسرى عند الخروج سواء كان لمسجد، أو لغيره أي: لا يستثني، وهو أقوى لأن التّشريف راجع إلى الحال، ومن قال بالإستثناء قال: يقدم اليسرى في الخروج إلا إذا كان خارجاً للمسجد، وما فيه فضل فإنه يقدِّم اليمنى إلتفاتاً منه إلى الغاية، وكأنهم نظروا إلى أنه بمجرد خروجه للمسجد فهو في صلاة، وقربة، وطاعة كما ثبت في الحديث الصحيح عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: [إذا عَمِدَ أحدُكم إلى المسجدِ فهُو في صلاةٍ].

والأول أرجح في نظري والعلم عند الله لما يلى: أولاً: إنه إعمال للأصل. ثانياً: أنه مبني على مراعاة الحال نفسه عند الخروج بغَضِّ النظر عن صفة الخروج، فهو أقوى في التكريم. ثالثاً: أن لازم القول الثاني أن من خلع حذاءه للدخول للمسجد أن يقدم اليمنى عند الخلع، ويؤخِّر اليسرى، وهذا مخالف للسُّنة كما قدمنا في حديث عائشة، وأبي هريرة رضي الله عنهما في الانتعال. فلما لم تفرق السنة في خلع النعال بين كونه لقربة، أو لغيرها دلَّ على أن العبرة في مراعاة التكريم بالحال نفسه، لا بما يؤول إليه والله تعالى أعلم. وعليه فإنه يقدم يسراه للخروج من المنزل، ولو خرج لصلاة، أو تعليم، أو جهاد، أو غيرها من الطاعات. قوله رحمه الله: [واعتماده على رِجْلِه اليُسرى]: هذا من الآداب التي تُشرع عند فعل الحاجة وقضائها أن يعتمد على رجله اليسرى، وينصب رجله اليمنى، وفي ذلك حديث ضعيف عن سراقة رضي الله عنه أخرجه البيهقي، والطبراني، وفيه: [أَمَرَنا رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلّم أن نتكئَ على اليسرى، وأن نَنصُبَ اليُمْنى]. وعللَ بعض العلماء ذلك بأن الأطباء يقولون: إنه أرفق بالبدن، وأيسر لخروج الخارج، فإن صحّ ما ذكروه كان مشروعاً من جهة الرفق بالبدن، ولا يحُكى سُنَّةً، لأن الحديث فيه ضعف، فإذا فعله الإنسان من باب الرفق بالبدن فلا بأس، لأن الرفق بالبدن من مقاصد الشريعة، ولا حرج في فعله.

قوله رحمه الله: [وبُعدُه في فضاءٍ، واستِتَارُه]: أي يُشرع للإنسان إذا أراد أن يقضي حاجته، وكان في فضاء كالأرض الخلاء التي ليس فيها أحد أن يختار مكاناً بعيداً عن أعين الناس؛ لأن الفضاء منكشف، والإنسان إذا جلس في الفضاء يمكن أن تُرى عورته فشُرع له أن يُبعد، وأن يستتر فيشرع له أمران: البُعد في المذهب، وهو سنة النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كما في حديث المغيرة رضي الله عنه عند أبي داود، والنسائي، والترمذي، وفيه أنه ذكر ذهابه عليه الصلاة والسلام لقضاء حاجته، ووصفه بقوله: [أَبْعَدَ عنّي] وهو حديث حسن. وكذلك -أيضاً- يستتر فإذا كانت الأرض منبسطة بحث عن حفرة، أو شاخص، فإن وجد المطمئن من الأرض كالحفرة نزل فيها، وقضى حاجته؛ لأنه أبلغ في الاستتار ما لم يكن فيها ضرر عليه، أو يأتي إلى شاخص كأن يأتي إلى هضبة، أو تلٍّ؛ فيستقبله، ويقضي حاجته مستقبلاً له؛ لأنه أبلغ في الاستتار، وقالوا في الفضاء يُبْعد لأنه إذا بَعُدَ شخصه تعذر على العين الإطلاع على عورته، ويستتر لئلا يدهمه إنسان فجأة فيكون ذلك أبلغ في تحفظِه، وصيانة عورته، وقد عُظِّم أمر الاستتار في قضاء الحاجة، ومن تساهل في قضاء حاجته، فقضاها بجوار الطرقات على مرأى من الناس فإنه لا يخلو من الإثم، والتبعة، وقد ورد في حديث إِبن عباس رضي الله عنهما في الصحيحين في قصة الرجلين اللّذين يعذبان قال فيهما النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: [إِنهما يُعذّبان، وما يُعذبان في كبيرٍ، أمَّا أحدُهما فكانَ لا يَسْتَنْزِهُ من بَوْلِه] وفي رواية: [لا يَسْتَتِرْ مِنْ بَوْلِه] قال بعض العلماء: [لا يستتر] أي

يتساهل في كشف عورته، وعدم سترها عن أعين الناس -والعياذ بالله- فقالوا: إنها من الأمور التي تكون سبباً في عذاب القبر، وفتنته -نسأل الله السلامة والعافية-. فالمقصود أنه ينبغي للإنسان أن يستتر، وأنبه على مسألة يخطئ فيها كثير -أصلحهم الله- خاصة من الجهلة، والعوام؛ فإنهم يأتون إلى أماكن الوضوء، ويكشفون عوراتهم، ويستنجون فيها دون حياء من الناس، ولا خوف من الله -جل وعلا- فأماكن الوضوء المخصّصة للوضوء لا يصلح فيها للإنسان أن يكشف عورته، وكذلك أيضاً يتسبب في أذية الناس بنتن البول، وريحه، فهذه من الأمور الممقوتة التي لا ينبغي للمسلم أن يفعلها، ومن رُوئِي منه فعل ذلك يُنصح، ويُذكّر، ويخوّف بالله -جل وعلا-، ويقال له: إتق الله، ولا تؤذ المسلمين، فإن أماكن الوضوء ليست لقضاء الحاجة لما فيها من أذية الناس بالرائحة، والنَّتن، وقد ثبت في الصحيح عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال: [إتقوا اللّعانين، قالوا: وما اللّعانَانِ يا رسول الله؟ قال: الذي يبول في طريق الناسِ، وفي ظِلِّهمْ] فبيّن عليه الصلاة والسلام تحريم البول في هذين الموضعين لما فيهما من عظيم الضرر على المسلمين، فكذلك الحال فيمن يبول في أماكن الوضوء، حيث جمع بين كشف العورة، وأذية الناس بنتن البول، والنجاسة نسأل الله السلامة والعافية. قوله رحمه الله: [وإرتيَادُه لِبَولِهِ مَوْضِعاً رَخْواً]: قوله: [وارتياده]: مأخوذ من قولهم: إرتاد الشيء: إذا طلبه، ومنه سُمّي الرائدُ رائداً، والرائد

في لغة العرب: هو الرجل الذي يُرسله الناس إذا كانوا في سفر لكي يطلب الماء لهم، فالرّيادة الطلب، فقوله: [إرتياده] أي: طلبه. قوله: [وإرتيادُه لبوله موضعاً رخواً]: أي إذا أراد المسلم أن يبول فإنه يطلب الأرض الرخوة؛ لأن الأرض الرخوة أمكن في استيعاب البول، وأبعد من أن يتطاير طشاش البول، والنجاسة على البدن، والثوب فينجسه، فشُرع له أن يطلب المكان الرخو، وفيه حديث ضعيف عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: [إِذَا بالَ أحدُكم فَلْيَرتَدْ لِبَولِهِ] أخرجه أحمد وأبو داود، وفيه راوٍ لم يسمّ، وهو الراوي عن أبي موسى رضي الله عنه، وقد فُسِّر الإرتياد بمعنى الاختبار، والطلب كما مال إليه الإمام ابن القيم رحمه الله، ولكن معناه صحيح أن الإنسان يشرع له أن يطلب مكاناً رخواً؛ لأنه يحقق مقصود الشرع من الاستنزاه من البول وقد دل على ذلك حديث الصحيحين عن إبن عباس رضي الله عنهما في قصة الرجلين المعذبين في قبريهما، فمعنى الحديث، ومتنه صحيح، وإن كان سنده فيه ضعف، فإذا طلب المكان الرِّخو حقّق مقصودَ الشَّرع من الاستنزاه من البول؛ لأنه لا يأمن غالباً من طشاش البول، والأماكن تنقسم إلى قسمين: القسم الأول: أن تكون صلبة. القسم الثاني: أن تكون رخوة. وفي كلا القسمين إما أن تكون الأرض طاهرة، وإما أن تكون نجسة. فأصبح القسمان منقسمين إلى أربعة.

فإن كان المكان طاهراً صلباً بال جالساً، وإن كان نجساً رخواً بال قائماً، وإن كان نجساً صلباً إمتنع من البول فيه، وإن كان طاهراً صلباً خُيِّر بين الجلوس، والقيام، وقد جمع بعض الفضلاء هذه الصور الأربعة في قوله: للطاهِر ِالصلب اجْلسِ ... وامْنَعْ بِرَخوٍ نَجِسِ والنجِس الصُّلْبَ اجْتنبِ ... واْجلسْ وقُمْ إِن تَعْكِسِ هذه أربع صور: فقوله: (للطّاهِر الصُّلْبِ اجلِسِ): يعني إذا كان المكان طاهراً صلباً فإجلس. وقوله: (وامنَع برخوٍ نجس): يعني إذا كان مكاناً رخواً نجساً كما يحدث الآن إذا امتلأ موضع قضاء الحاجة لا يجلس الإنسان؛ لأنه إذا جلس ربما سقط ثوبه في النجاسة، أو تطاير طشاش البول على بدنه، أو ثوبه، خاصة عند قضائه لحاجته. وقوله: (والنَّجِسَ الصُّلبَ اجتنب): أي إذا كان مكاناً صلباً نجساً، فلا تقضي الحاجة فيه أعني البول لأنه لا يأمن التَّنجس غالباً. وقوله: (واجْلِسْ وقُمْ إِنْ تَعْكِسِ): يعني الطاهر الرَّخو إن شئت فاجلس فيه، وإن شئت فقم، فأنت مخيرٌ وقد صحّ عن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أنه بال قائماً، فالسُّنة دالة على جواز البول قائماً. ومنع بعض العلماء منه، وهو مذهب أم المؤمنين عائشة -رضي الله عنها- وكانت تقول: " من حدَّثكمْ أن رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بالَ قائماً؛ فلا تُصَدّقُوه " والظاهر أنه لم يبلغها ذلك فحدثت بما رأته من غالب حاله عليه الصلاة

والسلام وهو البول جالساً، وقد صحَّ في صحيح مسلم من حديث حذيفة رضي الله عنه: [أن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أتى سُباطةَ قومٍ فبَالَ قَائِماً] فدلّ على جواز البول قائماً قال بعض العلماء: إن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بال قائماً لعلّة؛ قيل: كان فيه مرض تحت ركبته في المَأبِضْ فلا يستطيع أن يثني رجليه فيجلس لقضاء حاجته فبال قائماً للضرورة. وقيل: بال قائماً إستشفاءً من مرض الصُّلبِ، وكانت العرب تستشفي من أمراض الظهر بالبول قائماً فقالوا: إنه بال قائماً إستشفاءً من مرض الصُّلب. وهذان الوجهان عُلِّلَ بهما لكي يقال: إن الأصل المنع، ولكن هناك وجه ثالث، وهو أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فعل ذلك لبيان الجواز، فلا حرج في فعله؛ لأنه لم يرد نهي عن البول قائماً حتى يقال إن الأصل يقتضى التحريم، والمنع؛ ولأنه لو كان بوله قائماً لعلّة المرض لنبّه على ذلك الصحابي، ولكنه لم يذكر شيئاً من ذلك، فدلّ على عدمه، وعليه فإنه يترجح القول بأنّ هذا جائز، ولا حرج فيه ولكن الهدي الأكمل، والأمثل أن يبول جالساً، وذلك لأنه هو هديه عليه الصلاة والسلام في أغلب أحوله، ولأن الجلوس أبلغ في الإستتار، والتحفظ من البول والله أعلم. وقال بعض العلماء: بال عند سُباطة القوم قائماً؛ لأن السُّباطة مكان القذر، والنّجاسة؛ فلم يجلس -صلوات الله وسلامه عليه- من أجل ذلك، وهذه العلة هي الوحيدة القوية من بين العلل التي ذكروها لوجود دلالة في الظاهر تدل عليها.

قوله رحمه الله: [وارتيادُه لِبوْلِه مَوْضِعاً رَخْواً]: الارتياد قلنا: الطلب [لبوله] خرج الغائط فإن الغائط يرتاد له موضعاً أيَّاً كان لكن في الغائط، استثنى بعض العلماء أن يكون هناك مائع نجس كالحال إذا امتلأ الموضع المخصّص لقضاء الحاجة بالنجاسة كما يحصل في زماننا في بعض دورات المياه فإنه إذا تغوط لم يأمن من طُشاش النجاسة على ظهره، وثيابه إذا خرجت الفضلة من الغائط، ووقعت في النجاسة التي إمتلأ بها ذلك الموضع فيمنع من قضاء الغائط في مثل هذه المواضع إذا كانت مملوءة، وإذا كان المكان الذي جلس فيه الإنسان صلباً، وعنده آلة يستطيع أن يحكَّ بها الأرض فالأفضل له أن يحكّها، وحملوا على ذلك حديث أنس بن مالك رضي الله عنه قال: [كنتُ أَسيرُ مع النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فأحملُ أَنا، وغلامٌ نَحْوي إداوةً من ماءٍ، وعَنَزة]، والعنزة: هي الحربة الصغيرة، وفي رأسها الزُّج، وهو الحديد قالوا: كانت تحُمل معه عليه الصلاة والسلام عند قضائه للحاجة، لأن من فوائدها إذا مرّ على صلبٍ حَكّه بها، ثم قضى حاجته، وقد صارت الأرض رخوةً، فكان ذلك أدعى لصيانة البدن، والثياب من النجاسة أثناء قضاء الحاجة. قوله رحمه الله: [ومسْحُهُ بيدهِ اليُسرى إِذا فَرَغَ مِنْ بولِه مِنْ أَصلِ ذَكرهِ إلى رَأسِهِ]: هذا يسمى عند العلماء رحمهم الله بالسَّلْت، والسَّلت: أن يضع رأس اُصبعه عند أصل الذّكر، ثم يمرّه على مجرى البول حتى يُنقّي المجرى من الباقي إذا وُجِدَ، وهذا السّلتُ لا أصل له، وليس له دليل صحيح بل إنه

يجلب الوسوسة، ويشكك الإنسان، ولذلك قالوا: ينبغى للإنسان أن يقضي حاجته، فإذا غلب على ظنه أن البول إِنقطع قام. أما أن يوسوس، ويبالغ في إزالة الخارج فإنه لا يأمن من حصول الوسوسة، والشّكِ، ويسترسل إلى ما لا تحمد معه العاقبة، وهذا صحيح، ولشيخ الإسلام -رحمة الله عليه- كلام جيد في هذه المسألة بيّن فيه أن هذا لم يثبت فيه نصّ صحيح عن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، وقرر العلماء أن الذَّكَرَ كالضرع كلما حُلبَ دَرَّ أي: أن المكلف كلما ضغط عليه، وأكثر من تعاهده آذاه، وأتعبه بخروج البول، والمنبغي على المكلف أن يتقي الله على قدر إستطاعته يجلس فيقضي حاجته، فإن غلب على ظنِّه أن البول إنتهى صبَّ الماء، أو استجمر بالحجارة، ثم قام والله لا يكلفه إلا ما في وسعه، فإن أحسّ بخروج شيء، أو أن شيئاً يتحرك في العضو فذلك من وسوسة الشيطان حتى يستيقن فيجد البلل على ثوبه، أو على فخذه، أو رأس عضوه ولا يلزمه أن يذهب، ويبحث، ويفتّش فإن الإنسان إذا غلب على ظنِّه أنه إنقطع بوله كفاه ذلك، وأجزأ عنه، وقد فعل ما أوجب الله عليه، ولا يكلف الله نفساً إلا وسعها، وإذا إستمر على العمل بغالب الظنِ، وعدم البحث، والتّفتيش عن وجود شيء فإنه سرعان ما تذهب عنه الوساوس، وتضعف تدريجياً، كما يذكر الأطباء، والمجربون، هذا السّلت لا يشرع إلا في حالة واحدة، وهي: أن يكون الإنسان مبتلى بضعف في خروج البول، وهي حالة يُبتلى بها البعض - حمانا الله وإياكم منه- فبعد خروج بوله تبقى قطرات تضعف الآلة عن دفعها، ولا يمكن خروجها إلا بالسّلت فيُمرُ رأسَ إصبعه من أصل العضو إلى رأسه

حتى يُنْقِي الموضع هذا استثناه بعض العلماء، وهي الحالة الوحيدة المستثناة، وأما عدا ذلك فلا. قوله رحمه الله: [ونتْرهُ ثلاثاً]: النتر بضرب رأس الذكر، كالسلت غير مشروع ولم يثبت به شيء، وفيه حديث ضعيف، ولا يعتبر من السُّنة، وكل من السّلت، والنتر مدعاة للوسوسة، والتباس الأمور على صاحبها، ولكن المكلف يتقي الله على قدر استطاعته، وشريعتنا شريعة رحمة، وتيسير وليست بشريعة عذاب، ولا عنت، ولا تعسير كما قال سبحانه: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} (¬1) يقوم الإنسان فإن أحسّ بخروج خارج، أو حركة في العضو، ولم يتأكد من خروجه فإنه يحكم باليقين، وهو عدم الخروج، حتى يستيقن، أو يغلب على ظنه الخروج، ولو حكم باليقين، وبقي عليه، وكان الواقع أنه خرج شيء، ولم يعلم به فإن صلاته صحيحة، وطهارته مجزئة، لأنه عمل بالأصل إمتثالاً للشرع، والتزاماً لسنة النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حيث أمر من إستيقن الطهارة ألا يحكم بضدها إلا بيقين، أو غالب ظن، كما دلّ على ذلك حديث عبد الله بن زيد رضي الله عنه في الصحيحين حينما شُكِي إلى النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الرجلُ يجدُ الشيءَ في الصلاة؟ فقال عليه الصلاة والسلام: [لا ينصرف حتى يسمع صوتاً أو يجد ريحاً]، وإذا إستمر على ذلك إنقطعت عنه الوساوس والشكوك بإذن الله تعالى. ¬

(¬1) الأنبياء، آية: 107.

قوله رحمه الله: [وتحوّله عن مَوْضِعِه ليسْتَنْجِي في غَيْرِه]: هذه حالة خاصة تحصل لبعض الناس حيث يبقى الخارج في عضوه، ويحتاج إلى الإنتقال، والحركة ليقوى العضو على إخراج الفضله، وهذا القيام مبني على أحد أمرين: الأمر الأول: ما ذكره بعض أهل العلم من أن الإنسان إذا ضعف عن إخراج الفضله فإنه لا يخلو من ثلاث حالات: الحالة الأولى: أن تخرج منه بالسَّلت. والحالة الثانية: أن تخرج بالصوت، وهو النّحْنَحةُ. الحالة الثالثة: أن تخرج بعد التّحول، والحركة كالإنتقال من موضع قضاء الحاجة. فبعض الناس إذا بقي الباقي في عضوه لا يستطيع إخراجه إلا بالسَّلت فيشرع له السَّلت؛ " لأن ما لا يتمُّ الواجبُ إلا به فهو واجبٌ " فشرع بأصل الشريعة. النوع الثاني: يكون الدافع عنده ضعيفاً فيحتاج إلى إحداث صوت، وذلك بالنحنحة، وكانوا يعرفونها من الأمور التي يُبلى به الإنسان عند قضائه لحاجته، فيتنحنح حتى تقوى آلته على الدفع قالوا: فيشرع له ذلك فيتنحنح. ومنهم من يخرج منه الخارج بعد حركته، فإذا إنتقل من موضع قضاء حاجته، ومشى الخطوة والخطوتين قويت الآلة على الدفع، فدفعت ما هو ثمَّ، قالوا: فمثل هذا بعد أن ينتهى من قضاء الحاجة يقوم إلى أقرب موضع يستنجي فيه حتى يقوى العضو على إخراج ما بقي.

الأمر الثاني: الذي من أجله ذكر العلماء القيام من الموضع إلى موضع ثانٍ ليستنجي فيه: إنه إذا قضى الحاجة على التراب كما هو الحال في القديم فإنه لا يأمن أثناء صب الماء على العضو أن يتطاير شيء من البول على البدن، أو الثوب، أو المكان، ولذلك قالوا: إنه يتحوّل عن موضع قضاء حاجته إلى موضع قريب حتى إذا صبّ الماء نزل على أرض طاهرة، فإذا تطاير شيء من ذلك الماء لم يدخله الوسواس هذا هو وجه الانتقال عندهم، وهو أقوى الوجهين لكنه قد يحكم باختصاصه بحال الإستنجاء بالماء كما يفهم من قول المصنف رحمه الله بقوله: [ليسْتَنجِي في غيره إنْ خَافَ تلوثاً] ويختص بحال خوفه من التلوث، والنجاسة. قوله رحمه الله: [ويُكْرهُ دُخولُه بشيءٍ فيه ذِكرُ اللهِ تعالى]: ويكره للمسلم أن يدخل الحمام، وموضع قضاء الحاجة بشيء فيه ذكر الله مثل: كتب التفسير، والحديث، وكتب العلم، والرسائل، وأما القرآن نفسه؛ فقد نصّوا على حرمة دخول مكان قضاء الحاجة به، واستثنوا من منع دخول مكان قضاء الحاجة بشيء فيه ذكر الله تعالى حالة الحاجة، كما نصّ عليه المصنف رحمه الله بقوله: [إِلا لحاجةٍ] ومن أمثلة ذلك: الدّراهم، والنقود إذا كان مكتوباً عليها إسم الله، وكان يخاف إن وضعها في الخارج أن تُسْرقَ، وكذلك إذا كانت معه كتب علم لم يجد مكاناً تصان فيه بحيث لو وضعها خارج موضع الحاجة تعرّضت لامتهان أكبر، أو يخاف أن تتلف، أو تُسرق فحينئذ لا بأس أن يدخلها معه، ثم إذا دخل نظر إلى موضع غير مكان قضاء حاجته يمكن وضعها فيه على وجه لا تُمْتهنُ فيه، مثل: أن

يضعها على إبريق الماء، ويُبعده عنه، ويُنحّيه عن موضع قضاء حاجته، أو على مقبض الباب إن أمِنَ سقوطها، وقد دلّت الأصول الشرعية على أنه ينبغي للمسلم أن يعظِّم شعائرَ الله، (وهي كل ما أشعر الله بتعظيمه) كما في قوله سبحانه وتعالى: {ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ} ولا شك في أن القرآن، وكتب التفسير، والحديث، ونحوها كلّها من شعائر الله لما فيها من آيات القرآن، وأحاديث رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وهما الوحي، والأصل فيه أن يكرَّم كما قال سبحانه وتعالى منبهاً عباده على هذا الأصل الشرعي: {كَلَّا إِنَّهَا تَذْكِرَةٌ * فَمَنْ شَاءَ ذَكَرَهُ * فِي صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ * مَرْفُوعَةٍ مُطَهَّرَةٍ} فقوله: {فِي صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ} خبر بمعنى الإنشاء ففيه تنبيه على ما ينبغي على المسلم من إكرام الوحي. قوله رحمه الله: [ورَفْعُ ثَوبِه قَبلَ دُنوهِ مِنَ الأَرْضِ]: مراده أنه ينبغي على المكلف إذا أراد أن يقضي حاجته أن يرفع ثوبه إذا دنى من الأرض، وهذا مبني على الأصل الشرعي الموجب لمنع كشف العورة ووجوب حفظها كما في الحديث الصحيح من قوله عليه الصلاة والسلام: [إِحْفَظْ عَورَتَكَ] وقد جاز له كشفها لقضاء الحاجة، فلا يكشفها إلا مقارباً لذلك، وذلك عند دنوه من الأرض، ولأن ذلك أبلغ في الاستتار، فإذا رفع ثوبه قبل الدّنو من الأرض كان ذلك مكروهاً له، لا محرماً. قوله رحمه الله: [وكلامُه فِيهِ]: أي ولا يتكلم فيه، والضمير في قوله: [فيه] عائد إلى الموضع الذي يقضي فيه حاجته، والنهي عن ذلك ورد فيه حديث عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال: [لا يذهبُ الرّجلانِ يَضْربانِ

الغائطَ يُكلّم أحدُهمَا صَاحِبَه، فإن الله يَمقُتُ ذَلِكَ] ولو صحّ هذا الحديث لكان موجباً للتحريم، لأن مقْتَ الفعل دالّ على مَقْتَ الفاعل، والفعل الموجب للمقت محرم شرعاً. والكلام أثناء قضاء الحاجة إعتبره المصنف رحمه الله مكروهاً لا محرماً، وهو عند بعض أهل العلم رحمهم الله من خوارم المروءة، فمن فعله سقطت مرؤته، ورُدّتْ شَهادُته، ولا شك في أن الحياء مانع من فعل ذلك، وقد قال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كما في الصحيح: [إِن مما أَدْركَ النّاسُ مِنْ كَلامِ النُّبوةِ الأُولى إِذَا لَمْ تَسْتَحِ فَاصْنَع ما شِئْتَ]، وتستثنى الحالات التي توجد فيها ضرورة، أو حاجة للكلام فمثال الضرورة: أن يخشى على إنسان الهلاك، ويكون في حال قضاء حاجته، فيصيح لإنقاذه، وإعلام الغير بحاله، ومثال الحاجة: أن يترك صبياً فيخشى ذهابه، وضياعه، فيكلمه حتى يكون ذلك سبباً في بقائه، وعدم ذهابه، ونحو ذلك مما تدعو الحاجة إليه. وقوله رحمه الله: [وكلامه فيه] فيه فائدة حيث إن الحكم بكراهية الكلام متعلق بحال وجود الإنسان في موضع قضاء الحاجة بغضِّ النّظر عن كونه يقضي حاجته، أو لا، وعليه فبمجرد دخوله للموضع يمتنع من الكلام. قوله رحمه الله: [وبَولُهُ في شَقٍ، ونحوه] أي ويكره أن يبول في شَقٍّ، والشَّقُ: واحد الشُّقوق، وهو الصَّدْع في الأرض، وقوله [ونحوه] أي نحو الشق من الفتحات مثل: الثُّقْبِ، وقد علّل بعض الشّراح ذلك بكونها مساكن للجنِّ، فإذا بال فيها آذاهم فيؤذونه، وذكروا في ذلك قصة موت سعد إبن عبادة رضي الله عنه وفي سندها كلام.

ومن أهل العلم من علّل ذلك بأن الهوامَّ، والحشرات تكون غالباً في هذه المواضع، فإذا بال فيها خرجت عليه، فما كان منها مؤذياً كالحيّات، والثّعابين يؤذيه، وربما يتسبب في موته، وعلى الأقل ربما خرج عليه أثناء البول فيقطع بوله فيُزْرِمَه فيضره ذلك في جسده كما هو معروف عند الأطباء، ولو خرجت الحشرات الصغيرة تنجست بالبول، فربما سعت إلى قدميه، وجسده، أو ثوبه فتَلوَّثَ بالنجاسة، ومن هنا نبّه المصنف رحمه الله على عدم البول في هذه المواضع، والتَّنبيه على ذلك موافق لأصول الشريعة. قوله رحمه الله: [ومسُّ فَرْجِهِ بِيَمينِه] أي: ويكره أن يمسَّ الفرج باليمين، والصحيح: أن ذلك محرم لما ثبت في الصحيحين من حديث أبي قتادة رضي الله عنه أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: [لا يُمْسِكَنَّ أحدُكمْ ذَكَرَهُ بيمينِه وهُو يَبُولُ، ولا يَتَمسحُ من الخلاءِ بِيَمينِه]، والنهي يقتضي التحريم، ومثله حديث سلمان الفارسي رضي الله عنه، وهو صحيح. عبّر المصنف رحمه الله بالفرج ليدل على شموله للقبل، والدبر سواء كان من المرأة، أو الرجل، فلا يجوز لمسه بيمينه. والتعبير باللّمس يدلُّ على أنّ محل ذلك أن يباشر الفرج بيده دون وجود حائل، ومفهومه: أنه إذا وجد الحائل فلا بأس، وهو أحد الوجهين عند أهل العلم رحمهم الله. والنهي عن مسِّ الفرج باليمين، وتحريمه محلّه إذا لم توجد حاجة، أو ضرورة، فإن وجدت فلا حرج مثل: أن يكون ذلك لتعذر اللّمس بالشمال كمن كانت يده اليسرى مشلولة، أو مقطوعة، أو بها علّة تمنع مباشرتها، والحكم

بالمنع لا يختص بالإنسان نفسه بل يشمل غيره، فلا يجوز للمرأة أن تلمس ذكر صبيّها باليمين، وهكذا الطبيب، بل يقع اللّمس عند وجود الموجب للترخيص لهم به بغير اليد اليمنى منهم، ويكون تعبير النصِّ في الأحاديث الناهية عن إمساك الإنسان لذكره في قوله: [أحدُكُمْ ذَكَرَهُ] قد خرج مخرج الغالب؛ لأن الغالب أن يمسك الإنسان ذكر نفسه، والقاعدة في الأصول: [أن النصَّ إذا خَرَج مخرَجَ الغَالبِ لم يُعْتَبرْ مَفهُومُه]. قوله رحمه الله: [واسْتِنْجَاؤه، واسْتِجْمارُه بها]: أي ويكره إستنجاؤه، واستجماره بها أي بيده اليمنى، وقد قدمنا أن الصحيح أن هذا محرم لورود النهي الدّال على ذلك. والمراد باستنجائه باليمين أن يصبَّ الماء على فرجه قُبلاً كان، أو دبراً رجلاً كان، أو إمرأة ثمّ يلمسه بها أثناء الإستنجاء لطلب حصول النقاء. والحكم فيه كما تقدم في لمس الفرج أنه لا يجوز عموماً سواء إستنجى لنفسه، أو إستنجى لغيره كغسل فرج الصبيِّ، والصَّبية، والعاجز، والمشلول، ونحوهم، فلا يجوز أن يكون ذلك باليمين. وأما الإستجمار باليمين فهو أن يأخذ الأحجار، والمناديل التي يريد أن يستجمر بها بيده اليمنى، وينظف بها المكان، صحيح أن المباشرة للفرج كانت بالحجر، والمنديل لكن الشّرع نهاه أن يفعل ذلك بيمينه؛ كما في الصحيح عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال: [ولا يَسْتَطِبْ بِيَمينهِ]، وظاهر النهي التحريم.

وقد أورد بعض العلماء رحمهم الله إشكالاً في الاستطابة، خاصّة إذا كانت من البول من الرجل، فمن المعلوم أنه لا يجوز له أن يمسك ذكره بيمينه كما قدمنا، وهنا لا يجوز له أن يمسك الحجر، أو ما يستجمر به بيمينه، وهو لا بد له أن يمسك ذكره أثناء الإستجمار، فإن أمسكه باليمين خالف النهي الوارد عن إمساكه بها، وإن أمسكه بشماله فسيمسك الحجر بيمينه ويكون مستطيباً بها؛ فخالف النهي الوارد عن الاستطابة بها، فكيف يفعل؟ وأجيب بأنه لا يمسك ذكره بيمينه لأن النهي صريح في ذلك، ويمسك الحجر باليمين، ويثبِّتها، ولا يحرِّكها، ويكون التحريك للعضو باليسار، وحينئذ لا يكون مستطيباً بيمينه، ويرتفع الإشكال، لأن الإستطابة باليمين تكون بتحريكه للحجر، والمنديل، فيمتنع من فعل التحريك، ويُبْقيها ثابتة، ويحرِّك يسراه لتحصل الإستطابة بها وحدها. قوله رحمه الله: [وإِسْتِقْبالُ النَّيرَيْنِ] أي ويكره له أن يستقبل النيّرين، والنيّران هما: الشمس، والقمر، وصفا بذلك لوجود النور فيهما كما قال تعالى: {تَبَارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّمَاءِ بُرُوجًا وَجَعَلَ فِيهَا سِرَاجًا وَقَمَرًا مُنِيرًا}، والحكم بكراهة استقبال النَّيرين ورد فيه حديث ضعيف، وقيل: لما فيهما من نور الله تعالى كما مشى عليه صاحب الروض وقيل: لأنهما من آيات الله، وقيل: لأنّ عليهما ملكين وكلها أقوال ضعيفة، والصحيح: أنه لا يكره إستقبالهما، واستدبارهما لأنّ السُّنة ثبتت بجواز ذلك كما في الصحيح عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال: [لا تَسْتقبلوا القِبلةَ، ولا تَسْتدبِروها ببولٍ، ولا غَائطٍ ولكنْ شَرِّقُوا، أو غَربوا] ومن المعلوم أن

هذا الحديث خاطب عليه الصلاة والسلام به أهل المدينة، والقبلة بالنسبة لهم جنوباً، فقوله: [شَرِّقوا، أو غَرِّبوا] إذن باستقبال المشرق، والمغرب، وهذا يستلزم لا محالة أن يستقبل النيّرين قطعاً خاصة عند الطلوع، والغروب، فدل على عدم صحة القول بتحريم إستقبال النيرين، وأن الصحيح جوازه، خاصة، وأنه لم يثبت في النهي عن ذلك، ولا فيما ذكروه من العلل دليل شرعى يعتمد عليه في ذلك. قوله رحمه الله: [ويَحرُمُ إِسْتقبالُ القِبلةِ، واسْتِدبارُها في غير بُنيانٍ]: أي: ويحرم على المكلف أن يستقبل القبلة، أو يستدبرها في غير بنيان، وهذه المسألة إختلف فيها العلماء رحمهم الله على ستة أقوال، وهي: القول الأول: يحرم الاستقبال، والاستدبار مطلقاً، وهو مذهب الحنفية، واختاره الإمام ابن حزم، وشيخ الإسلام رحمة الله على الجميع. القول الثاني: يجوز الاستقبال، والاستدبار مطلقاً؛ وهو مذهب الظاهرية، وبعض السلف رحمهم الله. القول الثالث: يجوز الاستدبار، دون الاستقبال؛ وهو رواية عن الإمام أبي حنيفة، وأحمد، وقول بعض السلف رحمهم الله. القول الرابع: يجوز الاستدبار، دون الاستقبال في البنيان، دون الصحراء؛ وهو رواية عن الإمام أبي حنيفة رحمه الله. القول الخامس: يجوز الاستقبال، والاستدبار في البنيان، دون الصحراء؛ وهو مذهب الجمهور، وهم المالكية، والشافعية، والحنابلة رحمهم الله.

القول السادس: يحرم استقبال القبلة ببول، أو غائط، وكذلك بيت المقدس؛ وهو قول الحسن البصري رحمهم الله. وهذه هي أقوال العلماء -رحمة الله عليهم- في هذه المسألة وقد بيّنتها، وذكرت أدلتها، ووجه دلالتها في شرح بلوغ المرام، والذي يترجح في نظري، والعلم عند الله هو القول بالتحريم مطلقاً لما يلى: أولاً: لصحة دلالة السنة في حديث أبي أيوب الأنصاري رضي الله عنه أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: [لا تَسْتَقبلُوا القِبْلةَ، ولا تَسْتَدبروها ببولٍ، ولا غائطٍ، ولكنْ شَرِّقوا، أو غَرِّبوا] متفق عليه، ومثله حديث سلمان الفارسي رضي الله عنه فهذا نهي عام شامل للإستقبال، والإستدبار في الصحراء، والبنيان، والأصل في النهي أنه محمول على التحريم حتى يدلّ الدليل على صرفه إلى الكراهة. ثانياً: أنه دليل حظر، وما إستدل به من خالفه فدليله للإباحة، والقاعدة: (أنه إذا تعارضَ الحاظِرُ، والمُبيحُ قَدّمنا الحاظرَ عَلى المُبِيح). ثالثاً: أنّ حديث إبن عمر رضي الله عنهما في رؤيته للنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ [يَقْضِي حَاجَتَهُ على لَبِنَتيْنِ مُسْتَقْبِلَ الشَّامِ مُسْتَدْبِرَ الكَعْبَةِ] لا يقوى على معارضة حديثنا من الوجوه التالية: الوجه الأول: أنّ حديثنا قول إشتمل على خطاب، وتشريع للأمة، وحديث ابن عمر رضي الله عنهما فعل من النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، والقاعدة: (أنه إِذا تعَارضَ القَوْلُ، والفِعْلُ، قَدّمْنا القَوْلَ على الفِعْلِ) لأن

الفعل يدخله إِحتمال الخصوصية بخلاف القول الذي خُوطِبتْ به الأمّة، فيكون دليل القول أرجح. الوجه الثاني: أنه لو كان فعل النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تشريعاً للأمة لما وقع على هذا الوجه الخفي الذي لا يمكن أن تطلع عليه الأمّة في الأصل، لأن وسيلته محرمة، وهي قصد النظر إليه عليه الصلاة والسلام على هذه الحالة، ولذلك لم تقع من إِبن عمر رضي الله عنهما قصداً، فلا شك أن هذا يَبْعُد معه القول بأنه تشريع للأمة، وهو يقوي دعوى الخصوصية له عليه الصلاة، والسلام. الوجه الثالث: أنه على القول بأن العلّة في النهي هي تعظيم القبله؛ فإن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لا ينخرم فيه هذا المعنى لمكان العصمة، بخلاف عموم الأمة، فقوّى هذا المعنى القول بحمل حديث إِبن عمر رضي الله عنهما على الخصوصية. الوجه الرابع: أنّ حديث إِبن عمر رضي الله عنهما لم يعارض حديث أبي أيوب رضي الله عنه من جميع الوجوه لأنه إِشتمل على إِستدبار الكعبة، وحديث النّهي جمع كلا الأمرين الاستقبال، والاستدبار، فلا يقوى على العارضة فيهما، بل تقع المعارضة فيه من وجه واحد، وهو الاستدبار دون الاستقبال، وحينئذ يضعف متنه عن معارضة متن حديث أب أيوب رضي الله عنه عند من يحمله على المعارضة العامة، ويقول بجواز الأمرين في البنيان، دون الصحراء، وهم الجمهور رحمهم الله.

رابعاً: أنّ أحاديث الجواز الأخرى لم تخل أسانيدها من كلام كما بيّناه في شرح البلوغ، وحديث النهي، والتحريم أصحُّ ثبوتاً، وأقوى دلالة على الحظر، والتحريم فكان مُقدّماً على غيره، والله تعالى أعلم. قوله رحمه الله: [ولبْثُهُ فَوقَ حَاجتِه] أي: ويحرم أن يلبث بمعنى: أن يقعد في مكان قضاء الحاجة أكثر مما يحتاجه، بل عليه أن يبادر بالخروج منه بمجرد إنتهائه من حاجته، وطهارته منها، والأصل في ذلك: أن السنة دلّت على أنها أماكن فيها الضرر كما يشهد لذلك قوله عليه الصلاة والسلام: [إنّ هذه الحُشوش محتَضَرة] أي تحضرها الشياطين، وفي دعائه عليه الصلاة والسلام عند دخوله بقوله: [اللهم إني أعوذُ بِكَ من الخبثِ، والخبائِثِ] ما يشير إلى هذا المعنى، وعلّل في الروض التحريم بكشف العورة، أي أنه سيبقى مكشوف العورة فوق قدر الحاجة، وهي علة واردة، ولكن يشكل عليها أنها تقتضي تخصيص التحريم بحال كشف العورة، فلو سترها، وأطال المكث لخرج من المنع، وظاهر كلام المصنف رحمه الله لا يدل عليه لأنه غير مُقيَّدٍ بهذه الحالة، بل العبرة بالمكان نفسه، ولذلك جعل التحريم مرتباً على إطالة اللبث، والمقام في المكان لغير حاجة، وظاهره أن العبرة بالمكان كما شهدت به دلالة السنة المتقدمة. قوله رحمه الله: [وبَولُه في طريقٍ، وظلٍّ نَافِع]: أي ويحرم عليه أن يبول في طريق؛ وسُمِّي الطريق طريقاً من الطَّرق؛ لأن الناس يطرقونه بنعالهم، وقيل: لأنه يُسمع فيه طرق النعال.

والطريق فيه موضعان: الموضع الأول: الطريق المعين المحدد، وهذا لا إشكال في حرمة قضاء الحاجة فيه سواء كانت بولاً، أو غائطاً، ومن فعل ذلك فإن الناس تلعنه، وقد ثبت في الصحيح عنه عليه الصلاة والسلام أنه نبّه أمته على ذلك بقوله: [إِتّقُوا اللّعانينِ، قالوا: وما اللّعانَانِ يا رَسولَ الله؟ قال: الّذي يبُولُ في طريقِ النّاسِ، وظِلهمْ] فبيّن عليه الصلاة والسلام حرمة ذلك، وأنه موجب للعن الناس، وأمر أمته أن تجتنبه لما فيه من أذية المسلمين، ولا يجوز للمسلم أن يؤذي إخوانه، أو يتسبب في أذيتهم، وقد قال عليه الصلاة والسلام كما في الصحيح: [الُمسْلِمُ مَنْ سَلِمَ الُمسْلِمُونَ مِنْ يَدِهِ، ولِسَانِهِ]. الموضع الثاني: الجوانب المُهَيّأة لقضاء الحاجة كما في طرق السفر الآن، وقد تكون محجوزة لا يستطيع الإنسان أن يذهب في مكان غير أطراف الطريق فإذا إحتاج أن يبول فلا حرج عليه أن يقضي حاجته في تلك الأطراف، لبعد تلك الجوانب، وعدم حصول الضرر على المسافرين غالباً، ولكن عليه أن يبتعد عما يغلب على الظن نزول المسافرين فيه، للجلوس، أو الصلاة. وأما الظِّلُ: فهو الساتر من الشمس، والنّاس تحتاجه غالباً وترتفق بالنزول، والجلوس فيه، فإذا قضى حاجته فيه حَرَمَهم منه، أو آذاهم أثناء جلوسِهم فتَنجّسوا، أو تأذَوا بالرَّائحةِ، فحَرُم عليه أن يقضي فيه حاجته لذلك، ويفهم من قوله [نافعٍ] أنه إذا لم يكن كذلك جاز له قضاء الحاجة فيه، واعتبر بعض الفقهاء رحمهم الله العلّة، وهي حاجة الناس للإنتفاع بالمكان،

وبنوا على ذلك تحريم البول في المكان المشمس الذي يجلس الناس فيه في الشتاء كما نبه عليه في الشرح. وأما الدليل على تحريم البول في الطريق فالأصل فيه ما تقدم ذكره في الطريق، وهو ما ثبت في الصحيح عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال: [إِتّقُوا اللّعانينِ. قالوا: يا رسولَ اللهِ وما اللّعانان؟ قال: الذي يَبولُ في طريقِ الناسِ، وظِلِّهمْ]، فدلّ على حرمة البول في هذين الموضعين، وفي حكمه التغوط، لأن المعنى فيهما واحد. قوله رحمه الله: [وتَحتَ شَجَرةٍ عَليها ثَمرةٌ]: أي ويحرم عليه أن يبول تحت شجرة مثمرة، لأن الشجرة تغتذي بالنجاسة. ومذهب بعض العلماء أن الشجر إذا اغتذت بالنجاسة لا يجوز أكل ثمرتها؛ لأن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- حرم الجلاّلة وهي التي تأكل العذرة، والنجاسة، فدلّ هذا على أن الشجر إذا اغتذى بالنجاسة لا يجوز أكل ثمره وهذا أصح قولي العلماء؛ أو تكون علة التحريم أن الشجر يستظل الناس بظلّه؛ فإذا قضى الحاجة تحته فإنه يمنعهم من المقيل، والنزول تحته، والإرتفاق به. قال رحمه الله: [ويُشْتَرطُ للاستِجمَارِ بأحجارٍ، ونَحوِها أَنْ يكونَ طاهِراً منْقِياً] في هذه العبارة بيّن المصنف الأمور التي ينبغي توفرها في الشيء الذي يستجمر به، وقد ذكر في عبارته هنا وصفين لا بد من تحققهما: الأول: أن يكون طاهراً. والثاني: أن يكون منقياً.

أما طهارة الشيء الذي يستجمر به فكأن يأخذ حجراً طاهراً، ويُنْقِي به الموضعَ، أو يأخذ ورقاً، أو قماشاً ما لم يكن فيه كتابة، أو شيءٌ محترم فيأخذ هذا الطاهر، ويُنْقِي به الموضع لأن الشّرع شرع الطهارة بالماء، والحجارة لإنقاء الموضع فإذا كان الشيء الذي يتطهر به نجساً لم يحقق مقصود الشرع لأنه يزيد الموضع نجاسة، ولا ينقيه. والدليل على اشتراط هذا الوصف: أن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لما جِيءَ له بالحجرين، والرَّوثة ليستنجي بها رمى الروثةَ، وقال: [إنها رِكْسٌ] وهي لغة اليمن أنهم يبدلون الجيم كافاً، والأصل [رِجْس] والرِّجْسُ: النَّجِسْ، فامتنع النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- من الإنقاء بالروثة بناء على أنها ركس، فدلّ على أنّ الشيء الذي يتطهر به لا بد من أن يكون طاهراً. وأما شرط الإنقاء: فالمراد به أن يحصل النّقاء للموضع عند مسحه بذلك المستجمر به من الحجارة، والمناديل، ونحوها، فأما إذا كان لا يُنْقِي مثل: الزجاج، والحجر الأملس، والرُّخام الأملس، والفحم، ونحوها فلا يجزئ، لأنه لا يحقق مقصود الشرع من تنظيف المكان، وتنقيته، فلا تحصل به الطهارة، ودليل ذلك ما ثبت في الحديث الصحيح عنه عليه الصلاة والسلام: [أنه نهى عَنِ الإسْتِنْجَاءِ بالرَّجِيع، والعَظْمِ] والنهي عن الإستنجاء بالعظم مبني على كونه زاداً لإخواننا من الجن، ولأنه أملس لا يحصل به النقاء. فتلخص مما سبق أنه لا بد من تحقق هذين الوصفين: الأول: أن يكون الشيء الذي يستجمر به طاهراً. والثاني: أن يحصل به النقاء للموضع من النجاسة.

قوله رحمه الله: [غيرَ عَظْمٍ، ورَوْثٍ]: لأن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- نهى عن الاستجمار بهما كما في أحاديث السنن، ومنها حديث سلمان الفارسي رضي الله عنه، وغيره، أما العظم فقال فيه عليه الصلاة والسلام: [إِنه زادُ إِخوانِكُمْ مِنَ الجِنِّ] ولذلك لما إِجتمع النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بالجِنِّ سألوه الزاد؟ فقال: [لَكمْ كُلُّ عَظْمٍ ذُكر اسم اللهِ عَليْه تَجدونهَ أَوفَرَ مَا يكونُ لَحْماً] ولذلك نهي عن الاستجمار به، وهي إحدى العلتين فيه. وقال بعض أهل العلم: إن العظام مع كونها زاداً لإخواننا من الجن لا تُنْقِي الموضعَ ففرّعوا على هذه العلِّة حكما، وهو عدم الاستجمار بشيء أملس لا يُنْقي الموضع، وهي العلة الثانية في تحريم الإستنجاء به. قوله رحمه الله: [وطعامٍ]: أي وغير طعام فإن الطعام لا يجوز الاستجمار به لما فيه من الامتهان، والإفساد للنعمة، وكلاهما محرم، ولذلك نصّوا على أنه لا يجوز الاستجمار بالطعام، وهذا بإجماع أهل العلم رحمهم الله. وقال بعض العلماء: إنه إذا قصد باستنجائه بالطعام إمتهان النعمة يكفر -والعياذ بالله- كما لو وطئها بقدمه قاصداً الامتهان، والكفر بالنعمة -نسأل الله السلامة والعافية-. قوله رحمه الله: [ومُحْتَرَمٍ]: المحترم: هو الشيء الذي له حرمة، ومعنى العبارة أنه لا يجوز الاستجمار بالمحترمات، ومنها كتب العلم، لأنها من شعائر الله التي أشعر الله سبحانه بتعظيمها كما في قوله تعالى: {ذَلِكَ وَمَنْ

يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ} (¬1)، قال بعض العلماء: الشعائر جمع شعيرة، وهي كل ما أشعر الله أي: أعلم العباد بحرمته، وتعظيمه فلذلك لا ينبغي أن يستجمر بشيء محترم شرعاً لأنه مخالف لمقصود الشرع. قوله رحمه الله: [ومتَّصِلٍ بِحيوانٍ]: كأن يستجمر بذيل الناقة، أو البقرة، أو يستجمر بظهرهما، كل ذلك لا ينبغي له لأنه في حكم الاستجمار بالطعام، ولما فيه من تنجيس الموضع المتصل بذلك الحيوان. ومما ينبغي على طالب العلم أن يلاحظه أن هذه المستثنيات على ضربين: الضرب الأول: ورد النصّ به كالعظم، والرَّوثِ. والضرب الثاني: منه ما عُرف من أصول الشرع المنع منه كما في المحترم، ونحوه، ومنه: ما يفوِّت مقصود الشرع، وهو الذي لا يُنْقِي، وبناءً على ذلك نفهم أن أحكام مسائل الفقه تؤخذ تارة من نصِّ الشَّرع عليها، وتارة تُفْهم من أصوله العامة، فالعلماء -رحمهم الله- يذكرون ما نصَّ الشَّرع عليه؛ لأنه هو الأصل، ثم يُتبعونَه بما دلّت الشريعة عليه بالعمومات، أو بالأصول العامّة كأن تقول: مقصد الشريعة إحترام كتب العلم، وإجلالها لقوله تعالى: {ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ} وفي الاستنجاء بها مخالفة لمقصود الشرع فيحرم، وقد قرر الإمام الشاطبي -رحمه الله- هذه القاعدة في مباحث المقاصد من كتابه الموافقات الذي ينبغي على طلاب العلم أن يقرؤوه، وأن يلمّوا به، وهو في الجزء الثاني من الموافقات، وهو من أنفس ما كتب في المقاصد، ¬

(¬1) الحج، آية: 32.

ومسائلها، ويقال: أنه أول من كتب في باب المقاصد، وأفردها ببحوثها قرّر ذلك بقوله رحمه الله: [قَصْدُ الشّارع من المكلّفِ أن يكون قصدُه موافقاً له لا مخالفاً] فإذا فهمنا أن مقصود الشريعة إحترام كتب العلم، وإجلالها، وسئلت عن شيء يتضمن إحتقارها، أو الاستخفاف بها، أو إنتقاصها تفهم أنه ليس ثَمّ شرع الله أي أن هذا الفعل المسؤول عنه مخالف لما أمر الشّرع به، فيُمنع منه بأصول الشّرع العامة لا بالنصّ عليه عيناً، وهذا الذي يسمونه الأخذ من أصول الشريعة العامة، وبناءً على ذلك لما كان مقصود الشرع إجلال ما أمر بإجلاله من كتب العلم، والمحترمات فرَّع العلماء -رحمهم الله- عليه هذه المسألة. قوله رحمه الله: [ولو بِحَجرٍ ذي شُعَبٍ]: [لو]: فيها إشارة للخلاف في الفقه المذهبي. ومنهم من يقول: إنها مطلقاً إذا جاءت في كتب الفقه، أو متونه مثل أن يقول المصنف: [يجوز ذلك ولو على ظهر السفينة] تفهم أن المسألة على ظهر السفينة فيها خلاف، وتفهم أن ما بعد (لو) على الراجح عند المصنف، وأن هناك قولاً مخالفاً لهذا القول. وقال بعض العلماء: لا تشير إلى الخلاف إلا إذا التزم المصنف بها في مقدمته كما فعل خليل صاحب المختصر في الفقه المالكي، ونبّه على إعتباره لهذا المصطلح في مقدمته. قوله رحمه الله: [ولو بِحَجَرٍ ذِي شُعَبٍ]: الحجر ذو الشعب هو: الذي يكون له ثلاث، أو أربع شُعَب على حسب كبره المهم أنه لو أخذ الحجر

الذي له ثلاث شعب، واستجمر بشعبةٍ منه، ثم قلبه إلى الشعبة الثانية، واستجمر بها ثانية، ثم قلبه إلى الشُّعبة الثالثة، واستجمر بها، فإنه يجزيه عن الثلاثة الأحجار، وهذا محلّه في الحجر الكبير، دون الصغير كما هو معلوم. قوله رحمه الله: [ويُسنُّ قَطْعُه على وِتْرٍ]: ويسن قطعه: أي قطع الخارج على الوتر لأن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أمر بذلك في حديث أبي هريرة رضي الله عنه في الصحيحين، فقال عليه الصلاة والسلام: [ومَنْ إِسْتَجْمَرَ فَليُوتِر] وللعلماء في قوله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: [ومَنْ إسْتَجْمر فليُوتِرْ] قولان: القول الأول: " مَنْ اسْتَجْمَرَ " أي: قطع الخارج من بول، أو غائط فليوتر، وسنبين معنى ذلك. القول الأول: " مَنْ اسْتَجْمَرَ " أي: من تطيّب بالبخور، ونحوه فليوتر؛ لأن البخور يوصف بذلك، ولذلك قال رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- في الحديث الصحيح في أهل الجنة -جعلنا الله وإياكم منهم-: [مَجامِرُهم الألُوّةُ] فالاستجمار يقولون: المراد به التطيب، وهذا قول إمام دار الهجرة الإمام مالك -رحمة الله عليه- وقال به بعض أئمة اللغة، ولذلك قالوا: يُسنّ في تطييب الناس بالبخور أن يُطَيبوا مرة، أو ثلاثاً، أو خمساً، أو بأيِّ عددٍ آخر وتري، فإذا تطيب الإنسان بالطِّيب يقطع على الوتر، لأن له أصلاً عاماً في تفضيل الوتر؛ فيدخل فيه الطيب لإحتمال السنة له في حديث أبي هريرة رضي الله عنه هذا. فأما على القول الأول: وهو تفسيره بقطع الخارج فبيانه أن من إستجمر بعد بوله إِن إنقطع الخارج وتطهّر الموضع بالثلاثة الأحجار، وهي الأصل فلا

إشكال، وأما إذا لم ينقطع بذلك فتجب عليه الزيادة حتى يطهر الموضع، وحينئذ إما أن يحصل ذلك بعدد وترى كالخمس، والسبع فلا إشكال. وإما أن يحصل بعدد شفعيٍ كالأربع، والسِّت، والثمان فيزيد واحدة ليحصل الإيتار، وبها تكون السنة، وهكذا الحال في قطع الغائط. قوله رحمه الله: [ويَجِبُ الإستنجاءُ لكُلِّ خارجٍ إلا الريحَ] قصد المصنف رحمه الله أن يبين بهذه العبارة حكم الطهارة من الخارج بالاستنجاء، والإستجمار، وهو وجوبها، وقد دلّ على ذلك دليل السنة الصحيحة عن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فيما ثبت عنه من الأحاديث الكثيرة المشتملة على محافظته على الإستنجاء، والاستجمار، ومن أشهرها حديث أنس بن مالك رضي الله عنه: [أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كانَ يأتي الخلاءَ قال: فأحمِلُ أنا، وغُلام معي إداوة من ماء وعنزة، فيستنجي بالماء]، وكذلك حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه عند البخاري في صحيحه أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال له لما أراد الخلاء: [إئتني بِثَلاثةِ أحْجار]، وأمر بها عليه الصلاة والسلام، ثم علّل ذلك الأمر بقوله: [فإنها تُجزِيهِ] وهذا التعليل دال على الوجوب كما قرره الإمام ابن قدامة رحمه الله، لأن التعبير بهذه الصيغة مشعر باللزوم، والوجوب. وقوله رحمه الله: [ويَجبُ الإِسْتِنْجاءُ] ليس المراد به أن الإستنجاء بالماء متعيّن بل يجوز أن يعدل إلى الإستجمار بالطاهر من الحجر، والمنديل، ولا يجب الماء عيناً، سواء وجد الماء، أو لم يجده، وسواء كان مقيماً، أو مسافراً فهو

مخيّر بينهما ولا يتعين عليه واحد منهما إلا إذا تعدى الخارج الموضع كما في الدبر فيجب الإستنجاء بالماء لتطهيره. وهل الأفضل الماء، أو الحجارة؟ والجواب: أن الماء أفضل لأنه أبلغ، وخاصة في النساء كما كانت أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها تأمر به في حَقِّهنَّ، والأحوال في الأفضلية على ثلاث مراتب: المرتبة الأولى: الجمع بين الحجارة، والماء وهي أفضلها كما نصّ عليه طائفة من أهل العلم رحمهم الله وفيها: حديث أهل قباء، وهو متكلم في سنده، وتكلمنا عليه في شرح البلوغ، وبيّنا أن ضعف إسناده لا يمنع صحة متنه، لأن مقصود الشّرع حصول الطهارة على أتمِّ الوجوه، وأكملها، فهو موافق للأصول العامة، ولا يعتبر من البدع، والمحدثات حيث لا يعرف عن أحد من أئمة العلم رحمهم الله من المتقدمين أنه بدّع ذلك مع شُهرة حديثه، وكلام العلماء عليه بل نصّ بعضهم كما قدمنا على إستحبابه، وأنه أفضل لأن الكل ورد الإستنجاء، والإستجمار، وإنما لم ينصوا على تبديع فاعله؛ لأنه ليس من جملة التعبديات بإجماع العلماء رحمهم الله لأن الإستنجاء، والإستجمار من جملة الوسائل؛ كما هو مقرر عند العلماء، والنية لا تشترط فيها بلا خلاف كما قرره أئمة الفقه، والأصول رحمهم الله. المرتبة الثانية: أن يستنجي بالماء لأنه أبلغ طهارة، ونظافة حيث لا يبقى معه شيء. المرتبة الثالثة: الإستجمار بالطّاهر المُنْقِي.

وقوله رحمه الله: [مِنْ كُلِّ خَارج] فيه عموم لأن " كل " من ألفاظ العموم فيشمل كل خارج؛ سواء كان من القبل، أو من الدبر، وسواء كان من المائعات كالبول، والمذي، والودي، والدم، أو كان من الجامدات كالغائط، فإذا خرج الخارج أوجب الإستنجاء، أو الإستجمار. قوله رحمه الله: [إِلا الرِّيحَ] إستثناء من العام المتقدم، ومعناه: فلا يجب الإستنجاء منها، وهذا بإجماع أهل العلم رحمهم الله، وحُكي خلاف شاذٌ أنه يستنجي منها. ومن أهل العلم رحمهم الله من نبّه على مسألة مهمة، وهي خروج الريح برذاذ الغائط كما يقع ذلك في أحوال خاصة كما في حال الإسهال الشديد، ويشترط للزومه وجود دلالة على رذاذ الغائط، وإلا لزم البقاء على الأصل. وعلى هذا القول فإن الإستنجاء لم يكن للريح وإنما هو من أجل خروج شيء من الغائط معه كما لا يخفى. قوله رحمه الله: [ولا يَصِحُّ قَبْلَه وضوء، ولا تَيَمّمٌ] مراده رحمه الله أنه يشترط لصحة الوضوء إذا خرج الخارج الموجب للإستنجاء أن يستنجي قبل وضوئه، فلو أنه توضأ بعد خروج الخارج، ثم إستنجى دون أن يلمس مثل: أن يصب الماء على الفرج، ويُمْسِكَه بحائلٍ، ونحوه مما لا يحصل معه نقض، أو يتوضأ، ثم يدخل البركة ليحصل غسل الفرج، ونحو ذلك، فإنه لا يصح وضوؤه بل عليه أن يعيده بعد استنجائه. وهذا هو أحد قولي العلماء رحمهم الله في المسألة، والثاني: أنه يصح الوضوء قبل الإستنجاء، واستدلوا بقوله عليه الصلاة والسلام في حديث عمر رضي

الله عنه لما سأله: أينام أحدنا، وهو جنب؟ فقال عليه الصلاة والسلام: [تَوضّأ، واغسلْ ذكرك، ثم نَمْ] قالوا: فجعل له الوضوء قبل الإستنجاء، فدل على جواز الأمرين، وما ذكره المصنف رحمه الله يترجح بما يلي: أولاً: أنه الأصل الذي دلّ عليه دليل الكتاب في آية الوضوء من سورة المائدة، وذلك من وجهين: الوجه الأول: في قوله سبحانه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ}، ووجه الدلالة: أن الله تعالى أمر بالوضوء عند إرادة القيام إلى الصلاة، وهذا يدل على أنه لا يُفصَل بينهما بفاصل الإستنجاء، وأنه هو الأصل. الوجه الثاني: في قوله سبحانه: {أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا} فجعل الطهارة بالأصل، والبدل بعد المجيء من الغائط، وهو كناية عن حصول طهارة الخبث. ثانياً: أن المحفوظ من هدي النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وسنته أنه كان يستنجي، ثم يتوضّأ، وما حفظ عنه في حديث صحيح أنه قدم الوضوء على الإستنجاء. ثالثاً: أن الدليل الذي إستدلوا به مجاب عنه: بأن الواو لمطلق الجمع فقوله: [تَوضّأ، واغْسِلْ ذَكَرَكَ] الاستدلال به على الوجه الذي ذكروه مبني على أن الواو تفيد العطف مع الترتيب، وهو مذهب ضعيف. والصحيح عند طائفة من أئمة اللغة أن الواو تفيد مطلق الجمع بغَضِّ النظر عن كون هذا قبل هذا كأن تقول جاء محمدٌ، وعمرُ فهو لا يستلزم أن يكون محمد جاء قبل عمر؛ بل المراد حصول المجيء منهما، فقول النبي صلى الله

عليه وسلم: [توضأ، واغْسِلْ ذَكَرَكَ] مراده حصول الأمرين، لا أن يوقع الوضوء قبل غسله لذكره، وقد تفيد الواو الترتيب إن دلّ الدليل على إرادته، وقصده كما في آية الوضوء؛ حيث ذكر فيها سبحانه الممسوح بين مغسولين؛ فدلّ على الترتيب، وأنه مقصود بين أعضاء الوضوء، وبناءً على ذلك يترجح القول بوجوب تقديم الإستنجاء على الوضوء، وأنه لا يصح الوضوء قبله.

باب السواك وسنن الوضوء

باب السواك وسنن الوضوء السِّواك: يطلق، ويراد به: الآلة التي يُتَسَوَّكُ بها، ويطلق، ويراد به: فعل السِّواك؛ فمن إطلاق السواك مراداً به الآلة التي يستاك بها: حديث أبي موسى الأشعري -رضي الله عنه- أنه دخلَ على النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وهو في مرضه الذي تُوفي فيه، والسِّواك على طرفِ لسانِه، وهو يقول: أُعْ أُعْ كأنَّه يَتهوَّعُ -صلوات الله، وسلامه عليه-، فقوله: [والسواك]: يعني آلة السواك. وأما إطلاق السواك مراداً به الفعل: فمنه حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في الصحيح أن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال: [لَوْلا أَنْ أَشُقَّ على أمتي لأَمرتُهمْ بِالسِّواكِ عِنْدَ كُلِّ صَلاةٍ] أي: بفعل السواك. وباب السواك: المراد به بيان الأحكام، والسُّنن الواردة عن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- في السَواك، فقد شرع الله -عز وجل- السواك بهدي نبيه -صلوات الله وسلامه عليه- القولي، والفعلي، فكان عليه الصلاة، والسلام يستاك، ويأمر أصحابه بالسِّواك حتى ثبت في الصحيح أنه قال: [أَكْثرتُ عَليكُمْ في السِّواكِ]، وباب السواك يذكره العلماء قبل باب الوضوء، وقبل صفة الوضوء؛ والسبب في ذلك قول النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: [لأَمرتهُمْ بالسِّواكِ عِنْدَ كُلِّ صَلاةٍ] وفي رواية: [مَع كُلِّ وُضُوءٍ]، وفي أخرى: [وعِنْدَ كلِّ وُضُوءٍ]، فقالوا: إن هذا محلُّه، ولذلك يذكرونه في باب الطهارة؛ ولأنّ السِّواك قسم من أقسام الطهارة في الوصف ففيه إنقاء موضع مخصوص؛ على صفة مخصوصة.

وقوله: [وسُنَنِ الوُضُوءِ]: أي في هذا الموضع سأبين لك جملة من الأحكام، والمسائل الشّرعية التي تتعلق بهدي النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- في السواك، وسننه في الوضوء. والسُّنة في اللغة: الطريقة، وأما في اصطلاح علماء الأصول: فهي: (ما يُثابُ فاعلُه، ولا يعاقبُ تاركُه)، وتشمل بمعناها العام كل ما ورد عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من هديه القولي، والفعلي، والتقريري. قوله رحمه الله: [التَّسوكُ بعُودٍ لَيِّنٍ]: التّسوك تَفَعُّل من السِّواك أي: فعل السواك بعود ليِّنٍ هذا هو أحد الوجهين عند العلماء -رحمة الله عليهم- أن السواك المحمود شرعاً يكون بالعود، لا بغيره. وذهب طائفة من العلماء إلى أن السواك يحصل بالعود، وبكل ما يُنْقِي الموضعَ كأن يستاك بخرقةٍ، أو بمنديل قالوا: لأن مقصود الشرع هو إنقاء الموضع، ولهم دليل يدل على قولهم في قوله عليه الصلاة والسلام: [السِّواك مَطْهرة لِلْفَمِ مَرْضَاة لِلْرَبِّ] وجه الدلالة من هذا الحديث: أن قوله: [السِّواكُ مطهرةٌ للفَمِ] أي: أن السواك من شأنه أن يطهِّر، فدلّ على أن كل ما يُطهِّر يصدق عليه أنه سواك شرعي، وتوسّط بعض العلماء فقالوا: إنه يثاب على قدر ما يصيب من السُّنة في النَّقاء، ولا يأخذ فضل السُّنة كاملاً إذا استاك بخرقة، أو بمنديل لكن يكون له فضل كما لو فقد العود، وأراد أن يستاك بمنديل قالوا: يثاب على قدر ما أزال من قذر، ولا يحُصِّل السُّنة كاملة وهو إختيار الإمام إبن قدامة رحمه الله.

قوله رحمه الله: [ليّنٍ منْقٍ غيرِ مضرٍ]: قوله: [ليّن]: خرج اليابس قالوا: لأن اليابس يتفتت في الفم، فتكثر أوصاله، وهي مضرّة، ولربما أدمت اللُّثة، وجَرَحتْها، فقالوا يكون ليناً، مُنْقِياً، ولهذا أصل في حديث أم المؤمنين عائشة أن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لمّا كان في مرض الوفاة كما في الصحيحين دخل عليه عبد الرحمن بن أبي بكر الصديق -رضي الله عنه وعن أبيه- وفي يده سِواكٌ فأبَّده النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بَصرَه فقالت له عائشة: أتحبُّه؟ فأشار برأسه أَنْ نَعَمْ، قالت: فأَخذْتهُ، فقضمتهُ، وطيبتهُ، ثم أعطيتهُ للنبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فهذه سنة على أن السواك لا يكون إلا مهيأً ليّناً، وأنه لا يستاك بالأعواد اليابسة مباشرة. قوله رحمه الله: [مُنْقٍ غَيرَ مُضِرٍ]: منقٍ: أي منظِّف للموضع، وقوله: [غيرَ مُضرٍ] لأن الشرع لا يأمر بالضّرر، بل إن السِّواك شُرِعَ دفعاً لضرر النَّتنِ، والقَلحِ الموجود في الأسنان، وتنظيفاً لها. قوله رحمه الله: [لا يَتَفتتُ] أي: أن السواك يكون بعودٍ لا تَتَفتّتُ أجزاؤه في الفم، لأن هذا يؤذي المستاك بخروج فتاته، وقد يُدمي اللثة كما قدمنا. وقد ذكر المصنف رحمه الله هذه الصفات في السواك وهي: أن يكون بعود ليِّن، منقٍ، غير مُضر، وهذه الصفات يتحقق بها مقصود الشرع، وبها يطيب إستخدام المسواك، ويشهد لذلك حديث أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها كما قدمنا، لأن حرصها على تطييبه لرسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مع إطلاعه وإقراره دالّ على أنه ينبغي الحرص على هذه الصفات التي يتحقق بها المقصود الشرعي من فعل السواك، وكما جاء أصل ذلك بالشرع فإن الطّبع يؤكده حيث إن الأطباء يستحبون ليّن السواك لاشتماله على المادة

المساعدة على تنظيف الفمّ، إضافة إلى ما فيها من الفوائد التي تنتفع بها اللثة، وتقوى، وتتنظف بها الأسنان. قوله رحمه الله: [لا بِأُصبعٍ، أو خِرقةٍ] مراده رحمه الله أن السّواك الشرعي لا يكون بالأصبع، والخِرقة وهذا صحيح، أن السواك الذي وردت به السنة في الأصل بالعود كما قدمنا. وليس مراد المصنف رحمه الله تحريم تنظيف الفم بالأصبع، والخرقة خاصة عند عدم وجود عود السواك، بل ذلك جائز، فلا حرج على المسلم أن يدعك أسنانه بأصبعه، أو بخرقة خاصة عند عدم وجود المسواك، لأنه محتاج لإزالة الأذى، فإذا لم يتيسر العود جاز أن يزيله بأيِّ وسيلةٍ لأن السنة إشتملت على آلة، ومعنى، فالمعنى المقصود هو إزالة القذر، فإذا لم تتيسر الآلة شُرع تحقيق المقصود شرعاً، وهو المعنى، لكنه في حال الإختيار لا يكون سُنَّةً من كل وجه كما قدمنا، فمراد المصنف رحمه الله أنّ السِّواك الشرعي لا يكون بالأصبع، والخرقة، وهذا لا يمنع الجواز، فليس مراده تحريم تنظيف الأسنان بغير السواك الشرعي، كما هو موجود في زماننا من التنظيف بالمعجون، ونحوه. قوله رحمه الله: [مسنونٌ كُلَّ وقتٍ]: دلت هذه العبارة على مسائل: المسألة الأولى: أن السواك مسنون، وإذا كان مسنوناً فمعناه أنه مشروع، وهذه المسألة محلّ إجماع بين العلماء رحمهم الله. المسألة الثانية: التعبير بكونه سنّة المقصود به بيان عدم وجوبه، وهذا هو مذهب الجمهور، ومنهم الحنفية، والمالكية، والشافعية، والحنابلة، رحمة

الله على الجميع، وخالفهم الظاهرية رحمهم الله فقالوا بوجوبه، وقيل بعض الظاهرية، وليس كلُّهم. وقد بيّنا هذه المسألة في شرح البلوغ، وعمدة الأحكام، وأن الذي يترجح في نظري، والعلم عند الله هو القول بعدم الوجوب، وذلك لما يلى: أولاً: ظاهر السنة في حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: [لَوْلا أَنْ أَشُقَّ على أمتي لأَمرتهمْ بِالسِّواك عِنْد كُلِّ صلاةٍ] فبيّن عليه الصلاة والسلام أنه لو أوجب السِّواك على أمته لأوقعهم في المشقة، وهي منتفية شرعاً، فانتفى الوجوب. ثانياً: أن دليل الوجوب، وهو قوله عليه الصلاة والسلام: [إِسْتاكُوا عَرْضاً] ضعيف حيث لم يثبت عن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فلا يقوى على إثبات الحكم بالوجوب، فبقينا على الأصل، وهو براءة الذمة من لزوم السواك. المسألة الثالثة: أن هذه السنية في كل وقت من ليل، أو نهار في أي جزء من أجزائهما، سواء كان ذلك في حال صيام، أو غيره، وهذا هو مذهب الحنفية، والمالكية، وبعض الشافعية، والحنابلة، واستدلوا على ذلك بعموم الأدلة التي أمرت بالسواك، واستحبته دون فرق بين وقت، وآخر، والأصل في العامِّ أن يبقى على عمومه حتى يرد ما يخصصه، فلو كان للسواك أوقات، دون أوقات لاستثنى عليه الصلاة والسلام وخصّص من العموم كما قال في الاستنشاق: [وبالغ في الإستنْشاقِ إلا أَنْ تكونَ صَائماً] فأحاديث السواك الصحيحة العامة لم يرد فيها شيء من الإستثناء كقوله: [عليكمْ بالسِّواك]

وقوله: [لأمرتهم بالسِّواكِ عنْدَ كُلِّ صلاةٍ]، وقوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: [السِّواكُ مَطْهرةٌ للفَمِ مَرْضَاةٌ لِلربِّ]. وذهب بعض العلماء رحمهم الله إلى إستثناء ما بعد زوال الشمس لمن كان صائماً فقالوا: لا يستاك إلى غروب الشمس، وهو ما أشار إليه المصنف رحمه الله بقوله: [لغيرِ صَائمٍ بَعْدَ الزَّوالِ]: مراده أن استحباب السواك في جميع الأوقات إلا في وقت واحد؛ فلا يستحب، وهو من بعد زوال الشمس لمن كان صائماً إلى الغروب، وقوله رحمه الله [صائم] عام يشمل الصائم فرضاً، ونفلاً، وهذا هو القول الثاني لأهل العلم -رحمة الله عليهم- في هذه المسألة، وهو مذهب الحنابلة، والشافعية، واحتجوا لذلك بأدلة: أولها: قول النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- في الصحيح: [لخُلُوفُ فَمِ الصائمِ أَطْيبُ عِنْدَ اللهِ مِنْ رِيح المِسْكِ] ووجه الدلالة: أن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- امتدح الخلوف، وأخبر أنه أطيب عند الله من ريح المسك، والسواك بعد الزوال يُذْهِبُ الخلوفَ؛ فلا يُشرع فعلُه. ثانياً: حديث خبّابِ بنِ الأَرَتِّ رضي الله عنه أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: [إذا صُمْتُمْ فَاسْتاكُوا بِالغَداة، ولا تَسْتَاكُوا بِالْعَشِيِّ]، ووجه الدلالة: أنه نهى عن السِّواك في العشِيِّ، والعشيُّ يبدأ بزوال الشمس؛ فدلّ على أنه لا يُستاك بعد الزوال. ثالثاً: القياس حيث قاسوا خلوفَ فمِ الصائمِ على دمِ الشّهيد فقالوا: الخلوف أثر عبادة الصيام؛ فلا تُشرع إزالته بالسواك بعد الزوال؛ كما لا

تُشرع إزالة أثر الشهادة بغسل دم الشهيد؛ بجامع كون كلٍ منهما أثر عبادة محمودٍ شرعاً. والذي يترجح فى نظري والعلم عند الله هو القول بمشروعية السواك على العموم، ولا إستثناء لما بعد الزوال للصائم، وذلك لما يلى: أولاً: لصحة دلالة السنة في عمومها على ذلك، والأصل في العامِّ أن يبقى على عمومه حتى يرد ما يخصصه، ولم يرد دليل صحيح على تخصيصه هنا. ثانياً: أن إِستدلالهم بحديث أبي هريرة رضي الله عنه في: [فضل خلوف الصائم] يجاب عنه بأن خلوف الصائم منشؤُه من الجوف بسبب الجوع، والعطش، وليس من الفم، فإزالة وسخ الأسنان لا يؤثر في الخلوف، ولا يزيله، وليس له به علاقة. وبه أيضاً يجاب عن استدلالهم العقلي بالقياس. ثالثاً: أن حديث خَبَّاب رضي الله عنه الذي رواه البيهقي، والدارقطني يجاب عنه: بأنه حديث ضعيف الإسناد، فلا يثبت به التخصيص. رابعاً: أنه ثبتت السنة في حديث عاصمٍ رضي الله عنه أنه قال: [رأيتُ النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ما لا أُحصي يستاكُ، وهو صائم] وهو عامّ، حيث لم يفرق بين ما قبل الزوال، وما بعده. وبهذا كله يترجح القول بجواز الإستياك في جميع الأوقات، واستحبابه فيها دون إستثناء. وبعد أن بيّن رحمه الله سُنّية السِّواك في كل وقت لغير صائم بعد الزوال شرع رحمه الله في بيان الأوقات التي هي آكد إِستحباباً، وذلك بقوله: [متأكد

عِنْدَ صَلاةٍ] أي: أن السواك يتأكد فعله عند صلاة، وصلاة نكرة شاملة للنافلة، والفريضة. والأصل في ذلك قوله عليه الصلاة والسلام في حديث أبي هريرة رضي الله عنه: [لَوْلا أَنْ أشقَّ على أُمّتي لأمرتُهم بالسِّواك عِنْد كُلِّ صلاةٍ]، وفعل السِّواك عند الصلاة أي: قبل أن يكبر تكبيرة الإحرام. وللعلماء في هذه المسألة قولان: القول الأول: قال الجمهور يشرع قبل الصلاة أن يستاك الإنسان، ولو كان في المسجد. القول الثاني: كراهية السواك عند الصلاة مباشرة وهو قول طائفة من فقهاء المالكية رحمهم الله، وحملوا الحديث في قوله: [عِنْد كُلِّ صلاةٍ] على أن المراد به عند الوضوء كما في الرواية الأخرى، وقالوا: إننا لو قلنا إن الإنسان يستاك عند الصلاة لحصلت محاذير: أولها: إنه ربّما جرح اللُّثة لأن السواك لا يأمن أن يكون ناشفاً؛ فيجرح اللثة، أو يُدْمِيها، فيسيل الدّم، والدّم نجسٌ، وهو قول الجماهير. ثانيها: أن الإنسان إذا إِستاك عند الصلاة إما أن يتفل في المسجد، وهذا ممتنع عليه لأن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال كما في الصحيح: [البُصَاقُ في المسجدِ خطيئةٌ] وإما أن يبلع الوسخ، والقذر الذي أخرجه السِّواك من أسنانه، فيكون منظفاً لظاهره، ومفسداً لباطنه بدخول هذه الفضلة إلى الباطن، والتي قد تضرُّ بالجسد، فلا يُشرع فعل السواك على هذا الوجه.

والصحيح أنه يشرع قبل الصلاة لظاهر السنة في ذلك أما ما ذكروه من إدماء اللثة، فإنه يحتاط بالسواك الرَّطب، وكذلك -أيضاً- يحتاط بإجراء السواك على العظم دون أذية اللثة، ثم إن هذا لا يقع إلا في بعض الأنواع من السواك؛ فلا يقتضي منع الكُلِّ، فصار المحظور في بعض الأحوال، لا في كلِّها وهذا يقتضي أن دليلهم أخص من الدعوى، وأما ما ذكروه من البصاق بالمسجد، فليس على كل حال لإمكان أن يبصق الإنسان في منديل، أو في ثوبه، وإذا كان المسجد غير مفروش بصق تحت قدمه اليسرى، ثم دفن بصاقه لما ثبت في الحديث الصحيح عن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أنه قال في من يبصق في السجد: [ولا يَبْصُقْ عن يمينِه فيُؤذي بها الذي عنْ يَمينِه، ولا يبْصُقْ عنْ شِمالِه؛ فيُؤذي الذي عن شمالِه، ولكنْ عنْ يسارِه تحتَ قدمِه] هذه هي السُّنة، إذا كان المسجد غير مفروش، أما إذا كان مفروشاً فإنه يبصق في منديل، ونحو ذلك. وقال بعض العلماء: إنه يستحب عند الصلاة لمكان دنو الملك من القارئ عند قرآته للقرآن، كما ورد في الخبر، ولذلك قالوا: يتأكد إستحبابه عند الصلاة لاشتمالها على القراءة. قوله رحمه الله: [وانْتِباهٍ]: أي إنتباه من النوم لأنّ أم المؤمنين عائشة -رضي الله عنها- كما ثبت في الصحيحين: [كانت تُعِدُّ للنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سِوَاكه، وطَهُوره، فيبعثه الله من اللّيل ما شَاء]، وكان من هديه -عليه الصلاة والسلام- أنه إذا قام من نومه بالليل يشُوصُ فَاهُ بالسِّواك، كما جاء في حديث حذيفة بن اليمان رضي الله عنهما في الصحيحين.

قال بعض العلماء: هذا يتضمن السواك على الوجهين عند الصلاة؛ لأنه قائم من أجل الصلاة، وعند الإنتباه من النوم، لأنه لما إِنتبه من النوم تغيرت رائحة فمه، فشُرِع له أن يُزيل تلك الرائحة بالسواك. قوله رحمه الله: [وتَغيّرِ فمٍ]: أي إذا تغيّرت رائحة الفم فإنه يتأكد السواك، وتتغير رائحة الفم إما بسبب طول السكوت، والصمت، أو بالجوع، والظمأ، أو أكل شيء تبقى رائحته بالفم. فيتأكد في حقه السواك في هذه الحالات، وقد دل على ذلك حديث حذيفة بن اليمان رضي الله عنهما في الصحيحين أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: [كاَن إذا قامَ مِنَ اللّيلِ يَشُوصُ فَاهُ بالسِّواك]، والشوص: الدّلك، فهذا الحديث إِستنبط منه أهل العلم رحمهم الله أن النوم مظنة تغير رائحة الفم، ففهم منه أن السواك متأكد في جميع الأحوال التي تتغير فيها رائحة الفم. قوله رحمه الله: [ويَسْتَاكُ عَرْضاً]: الاستياك عرضاً للعلماء فيه وجهان: منهم من قال المراد به عرض السِّن، وهو أن يأخذ من طرف فمه الأيمن إلى طرف فمه الأيسر، فيبدأ باليمين إلى اليسار، فيكون إستياكه مراعياً فيه عرض السن. وقيل: العرض عرض الفم، وذلك يكون بطول السن، فكأنه يستاك لكل سنِّ على حِدَةٍ. والصحيح أن صفة السواك يسنُّ فيها التيامن، ومراعاة المقصود الشرعي، وهو حصول النّقاء، وأما الإستياك عرضاً على الوجهين السابقين فإنه لم يثبت أصله لأنهم بنوه على حديث: [إِسْتاكوا عَرْضاً] وهو حديث

ضعيف. فلم يثبت عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في صفة السواك إلا الأصل العام وهو التّيمن الذي دلّ عليه أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها في الصحيحين أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: [كان يُعجِبُه التيمنُ في تَنعُّله وتَرجّله، وطُهُورِه، وفي شَأنه كلِّه] على أن السِّواك داخل في عموم الطُّهور، وما عدا التّيمن، وهو الإستياك عرضاً، أو طولاً فإنه موسّع فيه، وليس فيه شيء محدّد عن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. قوله رحمه الله: [مُبْتدئاً بجانبِ فَمِه الأَيْمن]: أي يبدأ سِواكه بجهة اليمين من فكيه قبل اليسرى منهما لظاهر حديث أم المؤمنين عائشة -رضي الله عنها-، ونص العلماء على أن السُّنة أن يبدأ بالشق الأيمن وينتهى بشقه الأيسر، ويكون السواك على هذه الصفة مسنوناً لما فيه من التأسي بالنبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-. قوله رحمه الله: [ويَدَّهنُ غِبّاً]: الإدهان يكون للشعر يشمل ذلك شعر الرأس، واللحية، وهذا أورده المصنف في باب السِّواك مع أنه ليس منه بناء على ما ورد من قوله عليه الصلاة والسلام: [اسْتَاكُوا عَرْضاً، وادهِنوا غِبّاً، واكْتَحِلوا وِتْراً]، ولذلك أدخل هذه الجزئية في باب السواك؛ على تأول أن الحديث وارد تأدباً مع الحديث، وهذا منهج للفقهاء أنهم يذكرون الشيء مع الشيء وإن لم يكن منه تأسياً بآية، أو حديث ذكرا فيها معاً، والسُّنة أن الإنسان يدهن شعر رأسه، ولحيته إذا أمكنه ذلك، وقد كان النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يرجّل شعره. والدليل على مشروعية ذلك: حديث أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها في الصحيحين، والذي تقدم وفيه قولها: [وتَرجّلِه] أي ترجيله لشعره فدل

على أنه عليه الصلاة والسلام كان يعتني بشعره فيدهنه ويرجله، ولذلك قالوا: يسن. قال بعض العلماء: ترْجيل الشعر أن يدهن الشعر، ثم يسرِّحُه أي: أن يجمع بين تسريح الشعر، ودهنه. وقال بعض العلماء: التَّرجيل هو مطلق التسريح بغَضِّ النظر عن كونه بدهنٍ، أو بدون دهن، ومن سماحة الشريعة أنه يُشرع للإنسان أن يضع الدهن في شعر رأسه، ولحيته، وذلك على الوسط، فلا يترك الشعر أشعث أغبر، ولا يبالغ في الإدهان، والتسريح، وإنما يكون وسطاً، أما كونه لا يتركه شعثاً فحتى لا يتشبه بأهل الرّهبنة، وأهل البدع، والأهواء من الذين هم غلاة أهل الطرق الذين يبالغون في التّزهد، والتّقشف فلا يتشبَّه بهم، وكذلك -أيضاً- لا يتشبَّه بمن يتكلّف، ويبالغ في تجميل نفسه كأهل الخَنا، والمجون فيكون وسطاً، وهذا هو القِوام الذي جعل الله -عز وجل- عليه شريعة النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بين الإفراط، والتفريط. ومن الأدلة على أنه لا يداوم على الترجيل حديث النسائي أن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- نهى الصَّحابة أن يمْتشطوا كل يوم، ولذلك ينبغي للإنسان إذا كان ولا بد أن يمتشط يوماً، ويترك يوماً، وهذا أبلغ في الرجولة، وأبلغ في الفحولة مع الاعتدال، دون غلو، وإجحاف، ولذلك يشرع تسريح الشعر، وتسريح اللحية، ولكن ينبغي أن يكون في فعله لذلك غير متشبه بأهل الخَنا، والفُجور؛ وإنما يكون على قصد القربة، والتَّأسي بالنبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- في إكرام الشعر.

والسُّنة أنه إذا إدّهن أن يبدأ بشقِّه الأيمنِ، فيضع الزيت على شِقِّ لحيته الأيمن، ثم يبدأ بتسريح شعر لحيته، ثم شِقّه الأيسر بعد أن يفرغ من شِقِّه الأيمن، وفي رأسه كذلك يبدأ بجانبه الأيمن، ثم الأيسر بعده، كما فعل عليه الصلاة والسلام في غسله من الجنابة، وحلقه لشعره في النُّسك كما في الصحيح، حيث راعى تقليم شق رأسه الأيمن قبل الأيسر. قوله رحمه الله: [ويَكْتحلُ وتْراً]: الاكتحال: أن يضع الكحل في العين، وقد جاء في الحديث الصحيح عن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أنه قال: [عَليْكم بالإثمدِ؛ فإنه يَجلُوا البصَر، ويُنبِتُ الشَّعَرَ]، والإثمد: هو الحجر الأسود، وهذا هو المحفوظ في لغة العرب، وفيه شواهد في اللغة، وكذلك نبَّه عليه غير واحد منهم الإمام إبن مفلح رحمة الله عليه في الآداب الشرعية أنه الحجر الأسود، وهو أقوى، وأنصع، وأبلغ في تنظيف العين، وقوة البصر، وقد امتدح -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- هذا النوع من الحجر لما فيه من العلِّة التي ذكرها: [أنه يَجْلُوا البَصَرَ، ويُنْبِتُ الشعَرَ] أي: يجلوا بصر الإنسان؛ فينظِّف العَيْنَ، ويجعل فيها حِدَّةً في الإبصار، وكذلك يُنْبِتُ الشعر في الرِّمْشِ، وهو يحفظ العين بإذن الله من الأتربة، وغيرها. وقوله رحمه الله: [ويَكْتَحِلُ وِتْراً]: للعلماء فيه وجهان: الوجه الأول: أن يكحل العينين معاً في المرة الأولى يبدأ باليمنى، ثم اليسرى، ثم يرجع الثانية، والثالثة كذلك. والوجه الثاني: أن يكحل كل عين على حِدَةٍ وتراً ثم إذا إِنتهى منها أكحل اليسرى.

ومحل الخلاف: إذا كان الوتر بغير الواحدة، والذي يظهر أن الأمر في هذا واسع، وهو مختلف بحسب إِختلاف أحوال الناس، وليس فيه أمر محدّد. قوله رحمه الله: [وتَجِبُ التسميةُ في الوُضُوءِ]: بعد أن فرغ رحمه الله من بيان السّواك وأحكامه، شرع في بيان واجبات الوضوء فقال رحمه الله: [وتَجِبُ] الواجب: يطلق في اللغة بمعنين: الأول: بمعنى الساقط يقال: وجب الشيء إذا سقط، ومنه قوله تعالى: {فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا} (¬1) أي سقطت، واستقرت على الأرض، ومنه ما ثبت في الحديث الصحيح: [أن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: كان يُصلّي المغربَ إذا وَجَبَتْ] بمعنى سقطت، وغاب قرصها. والثاني: بمعنى: اللازم تقول: هذا واجب عليك؛ بمعنى: أنه لازم، وحتم، ومنه قول الشاعر: أطاعتْ بنُوا عوفٍ أَميراً نَهاهُموا ... عَنِ السِّلمِ حتى كَانَ أَولَ واجبِ أي: أول لازم عليهم أن يفعلوه. وأما في الإصطلاح فالواجب: (هو ما يُثَابُ فَاعِلُه، ويُعَاقَبُ تَارِكُهُ). فإذا قال العلماء هذا واجب أي: أنه يلزم المكلف أن يقوم به، فإن فعل ذلك أُثيب، وإن تركه فإنه يعاقب. ¬

(¬1) الحج، آية: 36.

قوله رحمه الله: [وتَجِبُ التسْميةُ] أي: أن من أراد أن يتوضأ فيجب عليه أن يقول: بسم الله عند وضوئه، وتُعرف هذه المسألة بمسألة التَّسمية في الوضوء، وهي مسألة خلافية مشهورة للعلماء رحمهم الله فيها قولان: القول الأول: إن التَّسمية ليست بواجبة في الوضوء، وهذا هو مذهب جمهور العلماء رحمهم الله من الحنفية، والمالكية، والشافعية، وهو رواية عن الإمام أحمد رحمة الله على الجميع. القول الثاني: إن التسمية واجبة في الوضوء، وهذا هو المذهب عند الحنابلة، وقول بعض المحدثين رحمهم الله. وقد إستدل الجمهور رحمهم الله على مذهبهم بدليل الكتاب، والسنة. أما دليلهم من الكتاب: فقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ .... } الآية، ووجه الدلالهَ: أن الله تعالى بيّن صفةَ الوضوء الواجبة في هذه الآية الكريمة، فلو كانت التَّسميةُ واجبةٌ لنصَّ عليها، ولكنه لم ينصَّ عليها، وقد نصَّ على وجوب التَّسمية في الذبح، والصيد فقال سبحانه: {فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ} وقال سبحانه: {وَلَا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ} وقال سبحانه: {فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا صَوَافَّ} وقال سبحانه: {فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ وَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ} فلو قال قائل: إن السنة دلت على التسمية فالجواب: أن السنة دلت على أن من توضأ بما في آية الوضوء أجزأه، فدل ذلك على أن ما زاد عليها فهو سنة مستحب؛ بدليل قوله عليه الصلاة والسلام للأعرابي لما سأله

عن الوضوء: [تَوضّأ كَمَا أَمَركَ اللهُ]، والله لم يأمر بالتسمية في آية الوضوء. وأما دليلهم من السنة: فأحاديث صفة الوضوء في الصحيحين، وغيرهما عن عثمان، وعلي، وعبد الله ابن زيد رضي الله عن الجميع، وكلها لم تذكر تسميته عليه الصلاة، والسلام على أول الوضوء؛ فدلّ ذلك على عدم وجوبها. وأما القائلون بوجوب التسمية فقد استدلوا بحديث أبي هريرة رضي الله عنه عند أبي داوود، وأحمد أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: [لا وُضوءَ لمنْ لمْ يَذْكُرْ اسْمَ اللهِ عَليْه] ووجه الدلالة: أن قوله: [لا وُضُوءَ] المراد به لا وضوء صحيح، فلا يجوز له أن يتوضأ، دون أن يذكر اسم الله على وضوئه. والذي يترجح في نظري، والعلم عند الله هو القول بعدم وجوب التسمية، وذلك لما يلي: أولاً: لصحة دلالة الكتاب، والسنة على ذلك كما تقدم. ثانياً: أن حديث أبي هريرة رضي الله عنه يُجَابُ عنه سنداً: من جهة الكلام في سنده، حتى قال الإمام أحمد رحمه الله: [إنه لا يصحُّ في التسمية شَيءٌ]، وعلى القول بتحسينه، فإنه لا يُعارَض به الصحيح؛ لأنّ الحديث الحسن معمول به ما لم يخالف ما هو صحيح، كما هو مقرر في الأصول، وقد أشار إلى ذلك بعض أهل العلم رحمه الله بقوله: وهُو في الحُجّة كالصّحِيحِ ... ودُونَه إِنْ صيِرَ للترجِيحِ

ثالثاً: أنّ متن حديث أبي هريرة رضي الله عنه محتمل لمعنيين: الأول: أن يكون النفي متعلقاً بالصِّحة، كما يقوله من يحتج به، وحينئذ يكون معارضاً لغيره. الثاني: أن يكون النفي متعلقاً بالكمال، وحينئذ لا يكون معارضاً لغيره. وإذا تردَّدَ الحديث بين معنيين أحدُهما: معارض، والثاني: غيرُ معارض وجب حمله على الوجه الذي لا يُعارض، فحمله على نفى الكمال أولى من هذا الوجه، ويكون معناه لا وضوء كامل لمن لم يذكر اسم الله عليه. يبقى النظر في قوله: [وتَجِبُ التَّسميةُ]: فالتَّسميةُ: تَفْعلِة من ذكر اسم الله، فما هي التسمية؟ التسمية الكاملة: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، ولكنّها هنا بسْم الله، فيقف عند قوله: بسم الله؛ لأن قوله: [لمنْ لمْ يَذكرُ اسْمَ الله] المراد به اسم الله فقط، بدليل أن الله قال: {وَلَا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ}، وقد قال النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عند تذكيته: [بسْمِ اللهِ]، وبناءً على ذلك فإن التسمية تكون: بسم الله وحدها. واختلف العلماء هل يحلُّ غيرِ لفظ الجلالة محلّه؛ كأن يقول: بسم الرَّحمن، وبسم الرّحيمِ، وبسم المَلكِ، وبسم القدّوسِ، وبسم العَزيز؟ والصحيح: أنه ينبغي الإقتصار في الأذكار على الوارد دون تغيير، أو تبديل، ولا يجُتهد فيها، فقوله عليه الصلاة والسلام: [لا وُضُوءَ لمنْ لم يَذكرُ اسْمَ اللهِ] يقتضى ذكر اسم الله وَحْدَه، وذلك لشرف هذا الاسم، وفضله،

ولذلك قال بعض العلماء في قوله تعالى: {هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا} (¬1) قيل: {هَلْ} بمعنى لا أي: لا تعلم له سميّاً، فعلى أحد الأقوال في تفسيرها: إنه اسم {الله} لم يتسمَّ به أحدٌ، وهذا لشرفه، وكلُّ أسمائه سبحانه مشرفة، حتى قال طائفة من العلماء: إنه هو الإسم الأعظم الذي إذا سأل العبد ربه به أيَّ حاجة خالصاً من قلبه إستجابَ دعاءَه، ولذلك يقْتصر على هذا الاسم بعينه، وهو قوله: [بِسْم اللهِ] ولا يُعدل إلى قول: بِسْم الرّحيم، وبِسْم الرّحمن. قوله رحمه الله: [وتَجب التَّسميةُ في الوُضُوءِ] معناه: أن يبتدئ عبادة الوضوء بذكر اسم الله -عز وجل-، وهذه التسمية واجبةٌ في مذهب الحنابلة عند أول واجب من واجبات الوضوء مثل: غسل الكفين عند الإستيقاظ من النوم، ومستحبةٌ عند أوَّل المستحبات، مثل: أن يبتدئ غسل كفيه في غير استيقاظ، وفرضٌ عند أول فرضٍ، فعلى القول بفرضية المضمضة، والإستنشاق يسمّ قبلهما، وعلى القول بعدم فرضيتهما يكون أول فرض هو الوجه. فيتلخص مما سبق أن الأفضل، والأكمل أن يأتي بها في أول الوضوء، ويكون ذلك استحباباً إلا إذا كان مستيقظاً من نومه فيكون واجباً، ثم له ترك المستحب في المستحب حتى يبدأ في الفرائض، فتكون البداءة بها ثم واجبة ¬

(¬1) مريم، آية: 65.

ْ على حسب ما هو المفروض الأول في الوضوء؟ هل هو الوجه، أو المضمضة، والاستنشاق، أو الإستنشاق، دون المضمضة على الخلاف المشهور. وهذا كله على مذهب الحنابلة، وحسب الخلاف الموجود فيه. قوله رحمه الله: [معَ الذِّكْر]: أي: أن وجوبها عند الذكر، ومفهومه: أنها ساقطة، وغير واجبة عند النسيان، وهذه هي إحدى الروايات عن الإمام أحمد رحمه الله، وعليها فإنه لا يطالب بإعادة وضوئه إذا تركها نسياناً، وعنه: أنها واجبة فيهما؛ أي: أنه إذا لم يذكر اسم الله -جل وعلا- وجب عليه الرجوع، وإعادة الوضوء حتى ولو كان ناسياً. قوله رحمه الله: [ويَجِبُ الختانُ]: الختان: مصدر خَتَنَ، يَخْتِنُ، خِتَاناً، وهو خاتن، ومختون، والختان بالنسبة للرجال: إزالة الجلدة التي على حشفة الذكر. وأما بالنسبة للنساء فهو إزالة أعلى الجلدة التي على الفرج، وشبّهَهَا بعض العلماء -رحمهم الله- بعُرْفِ الدّيك والختان مكرمة في النساء، وسنة في الرجال، وأوّل من اختتن إبراهيم الخليل -عليه، وعلى نبينا الصلاة والسلام- إِختتن، وهو ابنُ ثمانين سَنةً، إِمتثالاً لأمر الله -عز وجل-، ولذلك عُدَّ هذا من ابتلاء الله، وإِختباره له، فإن الختان مع تقدم السّن، وكِبَرها لا شك أن فيه مشقةً عظيمةً، ولكنه إِمتثل أمر الله، ولذلك بيّن حبر الأمة، وترجمان القرآن عبد الله بن عباس في تفسير قوله تعالى: {وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ

بِكَلِمَاتٍ} (¬1) أنّ مما ابتلاه الله به: الختانَ، كما صح عنه في رواية الحاكم في مستدركه، فإنه إِبتلاه، وهو في كِبَرِ سِنِّه كما تقدم في الحديث الصحيح عنه عليه الصلاة والسلام، والختان شرعه الله للرجال، لما فيه من الطهارة، والنّقاء، بإزالة هذا الموضع الذي قد تَعْلَقُ فيه النجاسة، وإذا أزاله كان ذلك أبلغ في الطهارة، والنّقاء، والبُعد عن الدّنس والدين دين طهارة حساً، ومعنى كما قال تعالى: {وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ} (¬2)، والختان من الطهارة، {وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ} (¬3)، كما أن هذا الختان شُرِعَ تخفيفاً من الشهوة الموجودة في المرأة، فإن المرأة إذا تُركت على حالها إِشْتدّت شهوتها، ولذلك تعتدل الشهوة عند نساء المسلمين بالختان؛ بخلاف غيرهنّ من الكافرات، كما ذكر شيخ الإسلام رحمة الله عليه أنه: يوجد في النساء الكافرات من شدّة الشهوة، وطلب الفساد، والحرام ما لا يوجد في نساء المؤمنين، وذلك لمحل الختان، وجعل الله في الختان مصلحة الدين، والدنيا فلذلك تحصل به العفّة للمرأة، والطّهارة للرجل، والمرأة إذا استؤْصلت الجلدة التي هي موضع الختان بكاملها ذهبت شهوتها؛ كما يقول الأطباء من المتقدمين، والمتأخرين، وإذا تُركتْ اشْتدت غِلْمَتُها وإذا قُصّ منها، أو أخذَ بعضها إعتدلت، ولذلك ورد في حديث أم عطية رضي الله عنها كما أشار إليه الإمام ابن القيم رحمه الله في التحفة قوله عليه الصلاة والسلام: [أشمِّي، ولا تُنْهِكي]، ¬

(¬1) البقرة، آية: 124. (¬2) المائدة، آية: 6. (¬3) التوبة، آية: 108.

والإشمام: أن يكون من أعلى الشيء، والإنهاك يعني به: أخذ الجلدة كلها، وهو حديث متكلم في سنده، ولكنّ معناه صحيح عند العلماء أنه ينبغي عند ختن المرأة أن لا تستؤصل الجلدة، بل يُؤخذ من أعلاها، لأن استئصالها يؤدي إلى ذهاب الشهوة، كما تقدم. ومن الحكم العظيمة أن الدراسات الطبية أثبتت الفوائد المترتبة على هذه العادة الإسلامية المحمودة، حتى تبين من خلالها أن نسبة سرطان القضيب عند الرجال المختتنين لا تجاوز واحداً في المائة بالنسبة لغير المختتنين. والصحيح: وجوبه على الرجال، والنساء، وذكرنا في شرح البلوغ، وعمدة الأحكام، وفي كتاب أحكام الجراحة الطبية الأدلة على ذلك، والخلاف فيها، وظاهر النصوص مشروعيته في حق الرجال، والنساء معاً؛ كما يدل عليه ظاهر قوله عليه الصلاة والسلام في الصحيحين: [خمس من الفطرة] وذكر منها الختان، دون أن يفرق بين الرجال، والنساء، وفي الصحيح من حديث أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: [إِذَا إلْتقى الختانانِ] فبيّن أنّ الختان يكون في الرجال، والنساء، ولأن المرأة تحتاج إليه طلباً للعفة، والعفة مطلوبة، وواجبة، وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب فلما كان اعتدال شهوة المرأة يحصُل به مقصود الشرع كان الختان من هذا الوجه أقرب للوجوب منه للاستحباب والندب. وأما ما ورد من حديث إِبن كُليْبٍ: [أنّ الختانَ واجبٌ على الرِّجالِ، ومَكْرَمة للنِّساءِ] فهو حديث ضعيف.

ومحل وجوب الختان على المكلف إذا قارب البلوغ، والأفضل أن يُختن الصبيُّ، وتُختن الصّبية أي في حال الصغر، وينبغي على كل من الخاتن، والخاتنة مراعاة حدود الله في الختان؛ كما نبّه على ذلك الإمام إِبن قدامة رحمه الله في المغني في الجزء السادس عند كلامه على أحكام الإجارة حيث بيّن أنه يحرم على الخاتن أن يختن إلا إذا كان بصيراً بالختان عالماً به، وبكيفية فعله، وأن لا يتجاوز الموضع المعتاد في الختان، وأنه إذا ختن وهو غير عالم بالختان، أو تجاوز حدود الختان فإنّه يضمن، ويأثم شرعاً، أما ضمانه إذا لم يكن عالماً فلقوله عليه الصلاة والسلام في حديث السُّنن: [مِنْ تَطَبَّبَ، ولمْ يُعْلَمْ مِنْهُ طِبٌّ، فَهُو ضَامنٌ] وهو حديث صحيح. وأجمع العلماء على أنه يأثم، وأنه يُقتص منه، ولو كان طبيباً إذا قصد الإضرار، وقال: تَعمّدتُ، لقوله تعالى: {وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ} (¬1) فيختن كل من الرجال والنساء، وتُراعى حدود الله -عز وجل- من عدم ختن الرجال للنساء إذا وجد النساء، وكذلك العكس، وعدم النظر إلى العورة أكثر من الوقت المحتاج إليه وعدم الزيادة على الحدِّ المعتبر في الكشف، واللَّمس للعورة. قوله رحمه الله: [ما لمْ يَخف على نَفْسه]: مراده رحمه الله: أنه يُستثنى من وجوب الختان هذه الحالة، وهي أن يكون الشخص يخاف على نفسه إذا خُتن، ككبير السن، والشيخ الهرم، أو يكون في الموضع إلتهابات، أو ¬

(¬1) المائدة، آية: 45.

أمراض دائمة لا يرجى زوالها، ولو اختتن زادت عليه، واستفحل شرّها فيُرخص له في ترك الختان. قوله رحمه الله: [ويُكْره القَزَعُ]: القزع هو: حلق بعض شعر الرأس، وترك بعضه، وقد نهى عنه النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- واختلف العلماء في الذي يحلق، ويترك من الرأس: فقال بعض العلماء: أن يحلق وسط الرأس، ويترك باقيه. وقال بعضهم: أن يحلق أطرافه كأن يحلق الشق الأيمن، والأيسر، والقفا، ويُبْقي وسطه شأن أهل الفساد، وصنيع السِّفلة، والرّعاع -نسأل الله السلامة والعافية-. وقيل: أن يحلق نصف الرأس، ويترك نصفه. وقيل: أن يحلق مقدّمه، ويترك مؤخّره، أو العكس. ولا مانع من اعتبار هذه الصور كلها؛ لأنه يحتملها النّص، والأصل أنه إذا إِحتمل النّص وجوهاً متعددة، ولم يرد الشرع بتقييد وجه منها أن تبقى دلالته على العموم، وللعلماء في تعليل تحريم القزع وجوه: قال بعض العلماء: مشابهة اليهود، فقد كانوا يحلقون بعض الشعر، ويتركون بعضه. وقال بعضهم: إن فيه ظلماً للإنسان في نفسه، والله أمر الإنسان بالعدل حتى مع نفسه. وتوضيح ذلك: أنه إذا حلق شقه الأيمن، وترك الأيسر ظلم شقّه الأيمن إذا كان الزمان برداً، وظلم شقّه الأيسر إذا كان الزمان حراً، ولذلك نُهي أن

يَنْتعل بإحدى رجليه، ويترك الأخرى؛ لأنه ظلم للرِّجْل التي لم تنتعل، ونهى عن الجلوس بين الشمس، والظِّل؛ لأنه إذا كان صيفاً ظلم النصف الذي في الشمس، وإذا كان شتاءً ظلم النصف الذي في الظل، ولذلك قالوا إنه نُهي عن القزع لئلا يكون الإنسان ظالماً حتى مع نفسه. والصحيح: أن كل هذه العلل صحيحة، ومحتملة ففيه ظلم، وفيه تشبه بأهل الفساد، ولذلك ما يفعله بعض من يحلق رأسه حتى، ولو بالتقصير كأن يقصر أطراف الشعر، ويجعل الشعر كثيفاً في منتصف الرأس فإنه يشمله هذا؛ لأن فيه تشبهاً بأهل الفساد، وقد أشار إلى ذلك بعض العلماء -رحمة الله عليهم- وكنا نعهد مشايخنا -رحمة الله عليهم- من الأوّلين أنهم كانوا يشددون في تخفيف الشعر، بعضه دون بعضه، وكانوا يعدّون ذلك من القزع، واختاره الوالد رحمه الله. وقالوا: إما أن يُخفِّفَه كُله، أو يحلِقَه كله، وهذا هو الأصل الذي عليه العمل عند أهل العلم أن السُّنة في الرأس أن يحلق كلّه، أو يخفف كله لا أن يفعل ببعضه، ويترك بعضه لما فيه من مشابهة أهل الفساد، وإذا كان القزع حراماً حرم على الحلاق أن يفعله بالغير، فإن فعل أثم؛ لأنه معين على الإثم، والعدوان وحرمت الإجارة، والأجرة، يعني المال الذي يدفع في مقابل ذلك الشيء يعتبر حراماً على الأصل المقرر أن الإجارة على المحرم أجرتها محرمة. قوله رحمه الله: [ومِنْ سُننِ الوُضُوءِ]: السُّنة: أصلها الطريقة، وسنّ الشيء إذا شرعه، والمراد بها سنن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- في الوضوء أي: في عبادة الوضوء، والمراد بالسّنة: (ما يُثابُ فاعلُه، ولا يعاقبُ تَاركُه) ويشمل

ذلك السنن القولية، والفعلية، والتقريرية أي: التي قالها النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أو فعلها، أو فُعِلت وأقرَّها، فكل ذلك يوصف بكونه سنّة، ولا يُطلب من المكلف طلب إلزام. قوله رحمه الله: [ومِنْ سنَنِ الوُضُوءِ] شرع المصنف رحمه الله في هذه الجملة في بيان بعض السنن الواردة عن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في وضوئه. وفي هذا دليل على حرص الأئمة، والعلماء رحمهم الله على الدِّلالة على هدي النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وسنته كيف، وقد جعله الله قدوة للمؤمنين، وأسوة لأمته في الدين صلوات الله وسلامه عليه إلى يوم الدين. وينبغي أن ينبّه على أن ذكر العلماء رحمهم الله للسنن لا يدعو إلى تركها، والتساهل فيها، بل المنبغي عكس ذلك. وقوله رحمه الله: [السِّواك] أي: فعل السّواك، وقدمنا الأحاديث الواردة عن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في سنيته عند الصلاة، ومنها حديث أبي هريرة رضي الله عنه في الصحيح أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: [لوْلا أَنْ أشُقَّ على أمّتي لأَمرتهمْ بالسِّواكِ عِنْدَ كُلِّ صلاةٍ]. قوله رحمه الله: [وغَسْلُ الكفينِ ثَلاثاً]: لأن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ثبت عنه في الصحيحين من حديث حمران مولى عثمان، عن عثمان، وحديث علي بن أبي طالب، وعبد الله بن زيد رضي الله عن الجميع أنه استفتح وضوءه بغسل كفيه ثلاثاً، فدلّ ذلك على سنّيته قال بعض العلماء: إنما حافظ النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- على غسل الكفين ثلاثاً؛ لأن الكفين آلة الوضوء، وهي التي تنقل الماء،

فينبغي أن تكون على نقاء، وطهارة، حتى يكون ذلك أدعى لحصول المقصود من الوضوء. قوله رحمه الله: [ويجبُ مِنْ نومِ لَيْلٍ ناقضٍ لوضُوءٍ]: غسل الكفين على حالتين: الحالة الأولى: أن يكون للمستيقظ من النوم. الحالة الثانية: أن يكون لغير المستيقظ من النوم. فإن كان مستيقظاً من نومه سواء كان نوم ليل، أو نهار، فإنه يجب عليه غسلهما ثلاثاً؛ لظاهر حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- في الصحيحين أن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال: [إِذَا استَيْقَظَ أحدُكمْ مِنْ نَومِه فَلْيغسِلْ يَديهِ ثَلاثاً قَبلَ أنْ يُدخِلهما في الإِناءِ فإن أحدَكم لا يدْري أَينَ بَاتَتْ يَدُهُ] فدل هذا الحديث الصحيح على أنه يجب على من استيقظ من النوم أن يغسل يديه ثلاثاً قبل أن يدخلهما في الإناء. أما إذا كان مستيقظاً في سائر أوقات يومه، وحضرت صلاة الظهر مثلاً، وأراد أن يتوضأ فلا تخلوا كفّاه من ثلاث حالات: الحالة الأولى: أن يتيقن نجاستهما، فيجب عليه أن يغسلهما قبل أن يتوضأ. الحالة الثانية: أن يتيقن طهارتهما، فيسن له غسلهما؛ لمداومة النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على غسلهما في الوضوء. الحالة الثالثة: أن يشك في الطهارة فيستحب له غسلهما، ولا يجب؛ لأن اليقين طهارتهما، والشك نجاستهما، فيُلغي الشك، ويَبقى على اليقين.

هذا بالنسبة لغسل الكفين، وقوله رحمه الله [كفيهِ] الكفان: مثنى كفِّ، وحدُّ الكف من أطراف أصابع اليد إلى الزندين، وهما العظمان البارزان اللذان عند مفصل الكفِّ سُمِّي الكفُّ كفّاً لأنه تكفُّ به الأشياء؛ بمعنى: تُدْفَع. قوله رحمه الله: [والبَداءَةُ بمضْمَضةٍ]: أي يسن البداءة بالمضمضة، لأن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بعد أن غسل كفّيه، مضْمَضَ، واستنْشَقَ ثلاثاً، والمضمضة: مأخوذة من قولهم: مَضْمَضَت الحيّة؛ إذا تحركت في جحرها فأصل المضمضة التحريك، ولذلك قالوا: يتفرع على قولنا إن المضمضة هي التحريك مسألة، وهي: لو أن إنساناً أدخل الماء في فمه، ثم ألقاه مباشرة، دون تحريك فإنه لا يعتبر متمضمضاً، ثم اختلفوا هل المضمضة مجرد تحريك الماء، ولا يلزمه طرحه، أو لا بد له من طرحه؟ وجهان: أصحهما أنه لا بد من الطرح لأنه هدي النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فصار معنى شرعياً زائداً، ومن أمثلة هذه المسألة أن يدخل الماء، ويحركه في فمه، ثم يبتلعه. قوله رحمه الله: [ثمّ إِسْتنْشَاق]: الاستنشاق من النَّشق، والنَّشَق: جذب الشيء بالنفس إلى أعلى الخياشيم، ومنه النَّشوق لأنه يستعط عن طريق الأنف، وهو سنّة من سُنن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- التي حافظ عليها، ولم يتركها في وضوء -صلوات الله وسلامه عليه-، والسنة أن يجمع بينهما من كفٍّ واحدة، فيجعل بعض الماء الموجود في الكف للفم فيتمضمض به، ثم يستنشق الباقي

من الماء بأنفه، ثم ينثره لأن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لما توضأ قسم كفه كما في حديث عبد الله بن زيد رضي الله عنه فمضمض، واستنشق ثلاثاً من ثلاث غرفات أي: أن كل غرفة تكون مقسومة بين المضمضة، والاستنشاق، وهذه هي السُّنة. قوله رحمه الله: [والُمبالَغةُ فِيهما لِغيرِ صَائمٍ]: المبالغة: مفاعلة من البلوغ، وهو الوصول تقول: بلغت الشيء إذا وصلت إليه. فقوله: [المُبالغةُ]: أي أن الإنسان يصل إلى غاية الاستنشاق في إستنشاقه، وغاية المضمضة في مضمضته، وذلك عن طريق المبالغة في جذب الماء بالنَّفَسِ في الاستنشاق، والمبالغة في الإدارة والتحريك إلى اللهاة في المضمضة، قوله رحمه الله [لِغيْر صَائمٍ] هذا الاستثناء لحديث لقيط بن صبرة -رضي الله عنه وأرضاه- أن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال له: [وبَالغْ في الاسْتِنْشَاقِ إلا أنْ تَكونَ صَائِماً] فقد دلّ هذا الحديث على أنه لا يُسن للإنسان أن يبالغ في استنشاقه حال صيامه، وهذا من باب التنبيه بالنظير على نظيره فنبه بالاستنشاق على المضمضة، فلا يبالغ فيها أيضاً، وذكر الاستنشاق؛ لأن الغالب في الاستنشاق ألا يتحكم الإنسان فيه عند المبالغة بخلاف المضمضة، فإن الغالب أنه يتحكم فيها. وهذا الحديث -أعني قوله-: [وبَالِغْ في الاسْتِنْشاق] فيه تنبيه على أصل عند العلماء وهو: " أنه لا يُشْرعُ تَضييعُ الفَرائِضِ، أوْ إِرْتِكابُ المحرماتِ بفعلِ السننِ ". توضيح ذلك: أنه إذا بالغ في الاستنشاق، ودخل الماء حلقه فإنه ضيع الواجب، وهو الصيام، وكذلك أيضاً لا يبالغ في إصابة سنة لوقوع في

محظور كما لو كان على الحجر طيب، فإنه إذا بالغ في إصابة الحجر وهو محرم بالنسك، وأصرّ على لمسه، أو تقبيله؛ فإنه سيصيب الطيب، وذلك تحصيل لسنة على وجه يفضي إلى الوقوع في محظور مس الطيب، ولذلك قالوا: يتركه حتى يقبله الغير، ثم يقبله من بعده، أو يلمسه الغير؛ فيلمسه من بعده إذا أذهب لمس، وتقبيل الغير ذلك الطيب، ولذلك لا ينبغي تفويت الواجب، وارتكاب المحظور طلباً للسُّنة؛ لأن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- هنا نهى الصحابي أن يبالغ في الاستنشاق حتى لا يقع في محظور الفطر. قوله رحمه الله: [وتَخْلِيلُ اللّحْيةِ الكَثيفةِ]: التخليل: تفعيل من الخُلَل، وخُلَل الشيء أجزاءه، والمناسم التي فيه تقول: رأيته من خُلل الباب يعني من المناسم الموجود فيه، وهي الفتحات الصغيرة، وقالوا سُمِّي التخليل تخليلاً؛ لأن الإنسان يوصل الماء إلى الشعر من خلاله يعني يخُلل الماء بين الشعر، فيدخل في خُلَل اللحية، وكذلك شعر الرأس، والأصابع؛ لأنه يدخل خنصره بين الأصابع فقالوا: خَلّل لدخول الخنصر بينها. وقوله: [وتَخْلِيلُ اللّحيةِ] يدل على أنه مسنون، وهذا كما قلنا أنها إذا كانت كثيفة وجب غسل ظاهرها، لا باطنها لأن الله تعالى أمر بغسل الوجه، والمواجهة في اللحية الكثيفة تحصل بظاهرها؛ لا بباطنها، فكان تخليل باطنها غير واجب، والحكم بكونه سنة في اللحية مبني على حديث التخليل، وهو متكلم في إسناده، حتى قال بعض أهل العلم رحمهم الله: [لا يَصِحُّ في التّخلِيلِ شَيءٌ] ومن أهل العلم من إِعتبره وحكم بثبوته كالإمام الترمذي، والحاكم، وغيرهما رحم الله الجميع.

وقوله رحمه الله: [الكَثِيفَةِ] هي: الكثيرة الشعر، ومفهوم ذلك أنها إذا لم تكن كثيفة بأن كانت قليلة الشعر، وهي التي تُرى البشرة من تحتها وجب غسلها، وغسل ما تحتها من البشرة؛ لأن الله تعالى أمر بغسل الوجه، والمراد بالوجه ما تحصل به المواجهة، فإن كانت يسيرة حصلت المواجهة بهما بالشعر اليسير، وبالبشرة من الوجه فوجب غسلهما، واعتبر وصف الكثافة لأنه صفة لحيته عليه الصلاة والسلام. وقوله رحمه الله: [والأَصابِعِ] أي: وتخليل الأصابع، والمراد بها أصابع اليدين، والرجلين، لأن ما بين الأصبعين قد لا يصل إليه الماء فيحتاج إلى تفقد، وعناية، وهو ما يحصل عن طريق التخليل، بإدخال الخنصر بين الأصابع للتأكد من وصول الماء إلى تلك المواضع، واعتباره سنة مبني على حديث المستورد بن شداد رضي الله عنه، وقد بيّنا كلام العلماء رحمهم الله في ثبوته، وفي مسائله في شرح البلوغ. قوله رحمه الله: [والتَّيامُن]: تفاعل من اليمين، وهي الجهة التي شرّفها الشرع كما هو محفوظ من هدي النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وذلك يكون في الأعضاء المثناه، ويشمل ذلك: اليدين، والرجلين فإنه يتيامن فيهما، فيبدأ بغسل يده اليمنى قبل يده اليسرى، ورجله اليمنى قبل رجله اليسرى، ولكن لا يشرع التيامن في الأعضاء المنفردة، فلا يغسل شق وجهه الأيمن، ثم الأيسر، لأن هذا تنطّع، وتكلّف في العبادة، وقد كان هدي النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أنه غسل وجهه غسلاً واحداً، ومسح رأسه مسحة واحدة.

وقوله: [التَّيامُن]: أي أن التيامن سنة، وبناءً على ذلك لو أن إنساناً غسل يده اليسرى قبل يده اليمنى ما حكم وضوءه؟ نقول: إنه صحيح؛ لأنه فوت الأكمل، والأفضل، ولا إثم عليه، لأن التيامن ليس من فرائض الوضوء. والدليل على صحته: أن الله -عز وجل- قال في كتابه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ} (¬1) فأمر بغسل اليد مطلقاً، ومن غسل اليسرى قبل اليمنى فقد إِمتثل ما أمر الله، غير أنه فوّت الفضيلة بتقديم اليمين على اليسار. قوله رحمه الله: [وأَخْذُ ماءٍ جديدٍ للأذنين]: أي ويسن له أن يأخذ ماءً جديداً بعد مسح الرأس ليمسح أذنيه، واعتبار ذلك سنة يدل على أنه لو مسح الأذنين بعد مسحه لجميع الرأس دون أن يأخذ ماءً جديداً أنه لا حرج عليه في ذلك، ودل على سنية أخذ الماء الجديد للأذنين بعد مسح الرأس حديث عبد الله بن زيد رضي الله عنه عند الترمذي، وفيه عبد الله ابن لهيعة، ومن المعروف أن الترمذي يحسّن روايته. قوله رحمه الله: [والغسلةُ الثانِيةُ، والثّالثةُ سُنّةٌ]: أي ليستا بواجبتين. والدليل على عدم وجوبها: أن الله -عز وجل- قال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ} والغسل يتحقق بالمرة الواحدة، فمن غسل مرة واحدة، فقد إمتثل، هذا دليل الكتاب. ¬

(¬1) المائدة، آية: 6.

أما دليل السُّنة فقد جاء عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في حديث عثمان رضي الله عنه أنه توضأ مرة مرة، ومرتين مرتين، وثلاثاً ثلاثاً فدل على أنه لا تجب التّثنية، ولا التثليث، وأن الغسلة الثانية، والثالثة سنتان وليستا بواجبتين.

باب فروض الوضوء وصفته

باب فروض الوضوء وصفته قال المصنف رحمه الله: [باب فروض الوضوء، وصفته]: الفروض: جمع فرض، والفرض يطلق بمعنى: الحزِّ، والقطع، ومنه الفريضة، وهي: النصيب الذي جعله الله -عز وجل- من تركة الميت للحيّ من بعده، سميت بذلك؛ لأن مال الميت يقتطع منه لكل وارث نصيبه، فقيل لها فريضة. وأما في اصطلاح الشرع فهو: [ما يُثابُ فاعلُهُ، ويُعاقبُ تاركُهُ] فهو بمعنى الواجب، وهذا هو مذهب جهور العلماء؛ خلافاً للحنفية -رحمة الله عليهم-، فإنهم يرون أن الفرض آكد من الواجب، وأقوى من حيث الدليل ثبوتاً، ودلالة. وقوله رحمه الله: [فروض] جمع: فريضة، وجمعها رحمه الله لأن الواجبات التي ألزم الشرع المكلفين بها في الوضوء متعددة، ففرض الله غسل الوجه، واليدين إلى المرفقين، ومسح الرأس، وغسل الرجلين إلى الكعبين، فلما تعدّدَت جمعها رحمه الله بقوله: فرائض الوضوء. وقوله: [الوضوء]: مأخوذ من الوضاءة، وهي: الحسن، والبهاء، والجمال، وصف بذلك؛ لأنه يُبَيِّضُ وجه صاحبه، وأعضاءه في الآخرة كما ثبت في الحديث الصحيح أن أُمّته -عليه الصلاة والسلام- يدعون يوم القيامة غُراً محجّلين من أثر الوضوء، وهو طهارة حسِّية، ومعنوية، كما ثبت في الحديث الصحيح أنه عليه الصلاة، والسلام قال: [ما منْ مُسلمٍ يُقرّب وَضُوءَهَ فيُمضمِضَ، ويَسْتنشِق، ويغسلُ وجْهه إلا خَرجتْ خَطَايا وجْهِهِ

مع الماءِ، أو مع آخِرِ قَطْرِ الماءِ حتّى تَخْرجَ مِنْ تَحتِ أَشْفارِ عَيْنَيهِ، فإِذا غَسَل يَديْه خَرَجتْ كلُّ خَطِيئةٍ بَطَشتْها يَدَاهُ مَعَ الماءِ، أوْ معَ آخرِ قَطْرِ المَاءِ حتى تَخْرج من تحتِ أَظفارِ أَصابِعهِ]، ثم ذكر النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- تمام ذلك في أعضاء الوضوء؛ فإذاً تحصّل من هذا أن الوضوء يُفضي إلى جمال الحس، والمعنى، فوصف بكونه وضوءاً من هذا الوجه، فحقيقة الوضوء في اللغة راجعة إلى الحُسْن، والبهاء من الوضَاءَةِ. وأما في اصطلاح العلماء رحمهم الله: فهو (الغسلُ، والمسحُ لأعضاءَ مخصوصةٍ، بنيّة مخصوصةٍ)، والمراد بالأعضاء المخصوصة المغسولة الوجه، واليدان إلى المرفقين، والرجلان إلى الكعبين، وأما العضو الممسوح فهو الرأس، والرجلان إن مسح على الخفين، أو الجوربين. والمراد بالنِّيةِ المخصوصة: أن يقصد رفع الحدث، أو إستباحة المحظور كما سيأتي بيانه في مسائل النِّية وأحكامها بإذن الله تعالى. قال رحمه الله: [باب فُروض الوُضوءِ]: أي في هذا الوضع سأذكر لك جملة من الأحكام، والمسائل التي يُعرف بها ما أوجب الله على عباده في طهارة الوضوء. مناسبة هذا الباب: أن من عادة العلماء -رحمة الله عليهم- أنهم يبتدئون بآداب قضاء الحاجة، ثم يُثَنّونَ بفرائض الوضوء، لأنّ المكلف إذا فرغ من قضاء حاجته تهيأ لعبادة الصلاة، وذلك بالوضوء، ثم بعد ذلك يصلي كما قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ

وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ} (¬1) ولذلك يقولون تقديم باب آداب قضاء الحاجة الذي كنا نتكلم عنه على باب الوضوء؛ إنما هو من باب الترتيب المناسب للحال، فالغالب في حال المكلف أن يقضي حاجته أولاً، ثم يَتهيّأ لعبادة الصلاة، وقد أدخل المصنف باب السواك؛ لأن السواك يكون قبل الوضوء كما سبق بيانه عند ذكر باب السواك، ثم أتبع جميع ذلك بباب الوضوء. قوله رحمه الله: [فُروضُهُ سِتةٌ]: الضمير في قوله: [فروضه] عائد إلى الوضوء أي: الفروض التي أوجب الله على المكلف في الوضوء ستة. هذا يسميه العلماء الإجمال قبل البيان، والتفصيل، وهو أسلوب محمود، وقد تقدم معنا أنه منهج الكتاب والسنة أن تورد الشيء إجمالاً، ثم تفصّله، وفي ذلك فائدة: وهي تهيئة السامع، وكذلك المخاطب لفهم المراد، فإنه لو قال مباشرة: وفروض الوضوء غسل الوجه وغسل اليدين لما كان في ذلك مناسبة ألطف من قوله: [فُروضُهُ سِتّةٌ] لأنه لما قال إنها ستة نشأ السؤال: ما هي هذه الستة؟ فحدث التشويق للسامع، والمخاطَب أن يعرف تفصيل هذا الإجمال، وهو أسلوب القرآن قال الله تعالى: {الْحَاقَّةُ * مَا الْحَاقَّةُ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْحَاقَّةُ} (¬2) وكان بالإمكان أن يقول الحاقة: كذبت ثمود، وكذلك قوله ¬

(¬1) المائدة، آية: 6. (¬2) الحاقة، آية: 1 - 3.

تعالى: {الْقَارِعَةُ * مَا الْقَارِعَةُ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْقَارِعَةُ} (¬1) فأحدث بالإجمال الشوق إلى معرفة البيان، والتفصيل هكذا هنا، وقوله رحمه الله: [فروضُهُ ستّة] أي الفروض التي أمر الله، ورسوله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بها في الوضوء ستة. قوله رحمه الله: [غسل الوجه]: الغسل هو: صبُّ الماء على الشيء؛ تقول: غسلت الإناء إذا صببت الماء عليه؛ فأصاب أجزاء الإناء، وغسلت الوجه إذا صببت الماء عليه؛ فأصاب الماء أجزاءه، وبناء على ذلك قالوا الغسل لا يتحقق إلا بوصول الماء إلى البشرة. فلو أنّ إنساناً أخذ يداً مبلولة، ثم دلكها على وجهه، دون صب للماء، وجريان له على الوجه لم يكن غاسلاً، وإنما هو ماسح، وفرق بين الغسل، والمسح. وقوله: [الوجه]: مأخوذ من المواجهة، والوجه سيأتي إن شاء الله بيانه، وتحديده. والدليل على فرض غسل الوجه: قول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ} فقوله: {فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ} أمر، والقاعدة في الأصول: " أنّ الأمرَ يدلُّ على الوجوبِ إلا إذا صرَفه الصارف " فلما قال: {فَاغْسِلُوا} أي فرض عليكم أن تغسلوا وجوهكم. ¬

(¬1) القارعة، آية: 1 - 3.

كذلك -أيضاً- دلّت السُّنة على ذلك فإنّ النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- توضّأ، ولم يثبت عنه في حديث صحيح أنه توضأ، وترك غسل وجهه، ففي الصحيحين من حديث حمران مولى عثمان عن أمير المؤمنين عثمان -رضي الله عنه وأرضاه- أنه دعا بوَضُوءٍ، فأكْفأَ على كفيهِ، فغسلهما ثلاثاً، ثمّ تَمضْمَضَ، واسْتَنْشَقَ ثلاثاً، ثمّ غَسَل وجْهَهَ ... إلخ، ومثله في حديث عبد الله بن زيد رضي الله عنه في الصحيح، وحديث علي بن أبي طالب رضي الله عنه في السنن كلها وصفت وضوءَ النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وأنه غسل وجهه فيه، ولذلك أجمع العلماء -رحمة الله عليهم- على أن غسل الوجه فرض من فرائض الوضوء، فلو توضأ إنسان، ولم يغسل الوجه لم يصحّ وضوءه بإجماع العلماء -رحمة الله عليهم-. قوله رحمه الله: [والفَمُ، والأنفُ منه]: بعد أن بين أن الوجه يجب غسله شرع رحمه الله في بيان ما يُعتبر من الوجه، وما لا يُعتبر منه، فبيّن أن داخل الفم، والأنف يعتبر من الوجه، وهذا هو أحد أقوال العلماء الثلاثة في هذه المسألة، وبيانها فيما يلى: القول الأول: أنه ليس من الوجه، فغسله سُنّة، وليس بواجب، وهذا هو مذهب الحنفية، والمالكية، والشافعية، ورواية عن الإمام أحمد رحم الله الجميع. القول الثاني: أن داخلهما من الوجه، فيُعتبر غسله فرضاً من فرائض الوضوء، وهذا هو مذهب الظاهرية ورواية عن الإمام أحمد رحمة الله على الجميع.

القول الثالث: أن داخل الأنف من الوجه، دون داخل الفم بمعنى أن الفرض هو: الإستنشاق، دون المضمضة، وهو رواية عن الإمام أحمد، وقول بعض أهل الحديث رحمة الله على الجميع. وقد بينتُ أدلتهم، ومناقشاتهم في شرح بلوغ المرام، وأن الذي يترجح في نظري، والعلم عند الله هو القول بعدم وجوبهما في الوضوء، وأن داخلهما ليس من الوجه المأمور بغسله، وذلك لما يلي: أولاً: لصحة دلالة الكتاب، والسنة على ذلك، أما دليل الكتاب فقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ} ووجه الدلالة: أن الله تعالى أمر بغسل الوجه، والوجه في حقيقته اللغوية: ما تحصل به المواجهة، وهي إنما تكون بظاهر الوجه، لا بباطنه، وهو داخل الفم، والأنف، فاللسان العربي في حقيقة الوجه لا يشمل باطن الفم، والأنف، وإنما يختص بظاهر الوجه، وحْدَهُ، والقرآن نزل بلسان العرب، ويُفسَّر به كما هو معلوم. وقد أكّدت السُّنة هذا المعنى كما في حديث الترمذي أن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- جاءه أعرابي؛ فقال: -يا رسول الله- كيف أتوضأ؟ " أي صف لي الوضوء الذي أصلي به " فقال عليه الصلاة والسلام: [تَوضأ كَما أَمَركَ اللهُ] أي اقرأ كتاب الله، وما وجدت في آية المائدة، فافعله قالوا: فردّ النبيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- الأعرابيَ إلى ظاهر القرآن، وهذا أعرابي لا يعرف الوضوء إذ لو كان عالماً بالوضوء لما سأل، فكونه يردّه إلى ظاهر القرآن، فإن هذا واضح في دلالته

على أن المراد ظاهر الآية، وظاهر الآية يدل على الإكتفاء بغسل ظاهر الوجه. وأما ما استنبطوه من كون الفم، والأنف من خارج فهذه مسائل لا يدركها إلا الفقيه، ويعسر على أعرابي في بداية الإسلام يسأل كيف الوضوء أن يدرك هذه المسائل الفقهية. ثانياً: أن ما إِستدل به من الأمر بالمضمضة محمول على الندب، والاستحباب، والصارف له عن ظاهره دليل الكتاب، والسنة المتقدم. وعليه فإنه يترجح القول بعدم وجوب المضمضة، والإستنشاق، وأنهما من سنن الوضوء لا من فرائضه والله أعلم. ولو قال قائل: إنّ النبي -عليه الصلاة والسلام- داوم على المضمضة، والاستنشاق فجوابه: أن النبي -عليه الصلاة والسلام- داوم على السنن من باب التعليم لا من باب الإلزام، ألا تراه -عليه الصلاة والسلام- بإجماع الروايات عنه ما توضأ إلا غسل كفيه قبل أن يتوضأ، والذين قالوا بوجوب المضمضة والاستنشاق يُسلّمون بأن غسل الكفين قبل الوضوء لغير المستيقظ من النوم أنه مستحب، وليس بواجب فدل على أن المداومة تكون على ما هو واجب، وعلى ما هو غير واجب، فلا يقوى الإستدلال بها إستقلالاً على الوجوب عموماً. قوله رحمه الله: [وغَسْلُ اليَديْنِ]: الفرض الثاني: غسل اليدين، واليدان: مثنى يد -وسيأتي إن شاء الله حدُّهما عند الكلام على حدِّ الوجه-.

واليدان أمر الله بغسلهما في قوله تعالى: {فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ} فأمر بغسل اليدين، والأمر دال على الوجوب إلا أن يصرفه صارف، ولا صارف هنا، ولأن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- غسل كلتا يديه إلى المرفقين. والواجب الغسل من أطراف الأصابع إلى المرفقين، والمرفقان داخلان في الغسل، فلو غسل يديه، ولم يغسل المرفقين لم يصح وضوءه في قول الجماهير، وذهب داود بن علي الظاهري -رحمة الله على الجميع- إلى القول بأن المرفقين ليسا بداخلين في الغسل، قال إن قوله تعالى: {فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ} إِنّ: {إِلَى} غاية، وما بعد الغاية يخالف ما قبلها كقوله تعالى: {ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ} (¬1) فإن الليل لا يجب صيامه، والقاعدة في الأصول: " أن ما بعدَ الغايةِ مُخالفٌ لما قَبْلَها فِي الحُكْمِ " ولذلك قالوا: لا يجب غسل المرفقين، والمرفقان: مثنى مرفق، وهو عند مفصل الساعد، مع العضد وسُمّي بذلك من الارتفاق، لأن الإنسان إذا جلس إِرتفق عليه. والصحيح أن المرفقين داخلان في الغسل وذلك لما يلي: أولاً: لظاهر القرآن في قوله تعالى: {فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ} فقوله: {إِلَى} بمعنى مع، وهي تأتي في لغة العرب بهذا المعنى، ¬

(¬1) البقرة، آية: 187.

ومنه قوله تعالى: {قَالَ مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ} (¬1) أي: مع الله فإلى بمعنى: مع، فيكون قوله تعالى: {إِلَى الْمَرَافِقِ} أي: مع المرافق. ثانياً: أن قولهم: " إِن ما بعدَ الغايةِ مُخالف لما قَبْلَها في الحكم " محل نظر فإنّ الغايَة لها حالتان: الحالة الأولى: أنْ تكون من جنس المُغيّا. الحالة الثانية: أنْ تكون من غير جنس المُغيّا. فإن كانت الغاية من جنس المُغيّا دخلت، وإن كانت من غير جنسه لم تدخل. وتوضيح ذلك: أن المرفقين من جنس اليد؟ لأنّ اليد في الأصل من أطراف الأصابع إلى المنكب، فلما قال: {إِلَى الْمَرَافِقِ} دخلت لأنها من جنس اليدين. وأما قوله سبحانه: {أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ} الغاية فيه الليل، وهي ليست من جنس المُغيّا، وهو النهار المأمور بصومه، فلم يدخل الليل الذي هو الغاية في المُغيّا لأنها ليست من جنسه. ثالثاً: حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- في الصحيح أن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: [تَوضَّأَ فغسلَ يديْهِ حتى شَرَعَ في العَضُدِ] يعني كاد أن يغسل عضده وهذا يدل على أن المرفقين قد غسلتا من النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-. وبهذا يترجح قول الجمهور رحمهم الله بوجوب غسل المرفقين مع اليدين. ¬

(¬1) آل عمران، آية: 52.

واليد عامة تشمل اليد الصحيحة، والمشلولة، والمقطوعة، فلو أن إنساناً كانت يده شلاء وجب عليه غسلها فيصبُّ الماء عليها، ولو قُطِعَت، وبقي من الفرض شيء فإنه يجب عليه غسل ما بقي بعد القطع، ويجب غسل اليد بكامل ما فيها سواء كانت على أصل الخلقة فيها خمسة أصابع، أو زادت إلى ستة، أو سبعة، أو أكثر فإنه يجب غسل الجميع وذلك لأن الله -عز وجل- أمر بغسلها في قوله: {وَأَيْدِيكُمْ} ولا شك أن المكلف إن زادت خلقته في اليد، أو نقصت فإنها داخلة في هذا الوصف أعني كونها يداً له مأموراً بغسلها. قوله رحمه الله: [ومَسْحُ الرّأسِ]: الفرض الثالث: مسح الرأس، والمسح هو إمرار اليد على الشيء؛ تقول: مسحت برأس اليتيم؛ إذا أمررت يدك عليه، والمراد بالمسح هنا سكب الماء على يده، ثم إمرارها على رأسه مبلولة بالماء. وحدُّ الرأس المأمور بمسحه يبدأ من الناصية إلى القفا، وهذا بالنسبة للطول، ثم من عظم الصّدغ إلى عظم الصّدغ عرضاً، والدليل على كون مسح الرأس فرضاً قوله تعالى: {وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ} فإن قوله: {امْسَحُوا} أمر، والقاعدة في الأصول: " أنّ الأمرَ للوجُوبِ؛ ما لمْ يَصْرِفْه الصَّارفُ " ولا صارف هنا، ولأن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مسح برأسه، ولم يترك المسح في وضوئه البتّة، والإجماع من العلماء منعقد على أنه يجب مسح الرأس، وأنّ من توضأ، ولم يمسح برأسه لم يصحّ وضُوءه.

المسألة الثانية: ما هو القدر الواجب مسحه من الرأس؟ والجواب: أنه إِختلفت أقوال العلماء -رحمهم الله- في هذه المسألة: القول الأول: إنه يجب مسح الرأس كله وهو مذهب المالكية في المشهور، وإحدى الروايات عن الإمام أحمد -رحمة الله عليه- واختارها غير واحد من أصحابه، ومنهم الإمام ابن قدامة رحمه الله. القول الثاني: أن الواجب مسح ربع الرأس، وبه قال الإمام أبو حنيفة، وأصحابه -رحمة الله على الجميع-. القول الثالث: أن الواجب مسح ثلاث شعرات، وأن ما زاد عليها ليس بواجب، وبه قالت الشافعية -رحمة الله على الجميع-. وهناك رواية عند المالكية أن الواجب ثلث الرأس هذه محصل أقوال العلماء في مسألة مسح الرأس. فيرد السؤال: ما هي أدلة العلماء على هذه الأقوال: والجواب: أن من قال بوجوب مسح الرأس كله: إحتج بظاهر القرآن في قوله تعالى: {وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ} قالوا: إن قوله: {بِرُءُوسِكُمْ} الباء للإلصاق، والمراد: إمسحوا رؤوسكم، وليس المراد بها التبعيض، وقال بعضهم في وجه دلالة الآية: إن الباء زائدة، وهو اختيار بعض المفسرين ممن يرجح هذا القول، فيقولون: إن قوله: {امْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ} أي: إمسحوا رؤوسكم، وهذا مثل قوله تعالى في قراءة: {تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ} التقدير: تُنْبِتُ الدهن، والباء زائدة.

وهنا ننبه على مسألة، وهي أن قول العلماء: " الباء " زائدة، أو " مِنْ " زائدة ليس مراد العلماء أنه حرف زائد لا معنى له في كتاب الله، فإن بعض المتأخرين يُسيءُ الأدب مع أهل العلم المتقدمين، دون إلتفات إلى مصطلحاتهم، ومقصودهم، وهنا أنبه على أن مراد العلماء -رحمة الله عليهم- بكونها زائدة ليس إلغاء كونها من القرآن؛ وإنما المراد أن المعنى إرادة الكل لا إرادة البعض مثل قولنا هنا: {امْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ} أي: أنها لم تأت للتبعيض، فيقولون هي زائدة، وحملها على الزيادة الحقيقية بمعنى أنها ملغاة من القرءان يقتضي الكفر، فإن من أنكر حرفاً من كتاب الله ثابتاً بالتواتر يكفر -والعياذ بالله- وهذا لا يقوله جاهل من عوامّ المسلمين، فضلاً عن علماء الأمة الذين هم أهل العلم، والدراية، والرواية، فلا ينبغي للإنسان أن يكون بسيط الفهم ساذجاً ينكر على العلماء -رحمة الله عليهم-، دون تروٍ، وفهمٍ لمقصودهم فإذا قالوا قراءة شاذّة، أو حرفاً زائداً؛ فليس مرادهم الشّذوذ بمعنى الانتقاص، والتحقير، ولا الزيادة بمعنى الإلغاء؛ إنما هو معنى موجود في هذه الحروف بأصل اللغة، والقرآن جاء بهذه اللغة التي من معانيها ما ذكروه، ولذلك تأتي الباء لأكثر من عشرة معان جمعها بعض الفضلاء بقوله: تَعَد لُصُوقاً واسْتَعنْ بِتَسَبُّبٍ ... وبَدل صِحَاباً قَابَلُوكَ بِالاسْتِعْلا وزِدْ بَعْضَهُمْ ظَرْفَاً يَميناً ... تَحُزْ معَانِيَها كُلاَّ

الدليل الثاني لهم السُّنة: وهو: [أن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- توضّأ، فمسح جميع رأسه]، كما ثبت ذلك في صفة وضوئه في الأحاديث الواردة في الصحيحين وغيرهما، ولم يحفظ عنه في حديث صحيح أنه اقتصر على بعض الرأس، أو جزء من الرأس، أو على ثلاث شعرات منه، فلو كان الاقتصار على البعض جائزاً لفعله، ولو مرة واحدة -صلوات الله وسلامه عليه-. هذا بالنسبة لأدلة من قال بوجوب مسح الرأس كله. وأما دليل من قال: إنه يجب مسح ربع الرأس، وهم الحنفية -رحمة الله عليهم- فقد إحتجوا أولاً بالآية فقالوا: إن قوله {امْسَحُوا بِرُءُوسِكُم} الباء للتبعيض، وهذا معروف في لغة العرب كما قال تعالى: {وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ يَجُرُّهُ إِلَيْهِ} (¬1) فليس المراد أنه أخذ الرأس كلِّه، ولكن أخذ البعض فَنُزِّل منزلة الكل، وتقول: أخذت برأس اليتيم، وليس المراد أنك أخذت بالرأس كلِّه؛ وإنما أخذت بعضه فكأنك أخذت الكل؛ لأنه بمجرد شدِّك لجزء من الرأس ينشدُّ جميع الرأس فيقال: أخذ برأسه فقوله: {امْسَحُوا بِرُءُوسِكُم} للتبعيض. وأما الدليل الثاني فقد إحتجوا: بحديث المغيرة بن شعبة -رضي الله عنه- أن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لما توضأ في غزوة تبوك: [مسحَ بِنَاصِيَته، وعلى العِمَامَةِ] قالوا: والناصية تقدّر بربع الرأس، ولذلك يقدّرونها بأكثر أصابع الكفّ فلا يجزئ المسح بما دونها، وهذا أصل عندهم، وتوضيحه من باب الفائدة: أن عندهم ¬

(¬1) الأعراف، آية: 150.

أن أكثر الشيء منزل منزلة الكلِّ، وهذا أصل طردوه في مسائل لا تحصى كثرة في العبادة، والمعاملة، ولذلك تجدهم يصحّحون طواف من طاف أربعة أشواط بالبيت؛ لأنّ أكثر الطواف أربعة أشواط، فلو ترك الثلاثة قالوا: يصح، ويلزمه الجبران لما بقي، ولم يحكموا ببطلان جميع الطواف، وهكذا السعي، هذا أصل عندهم أن أكثر الشيء منزل منزلة الكلِّ فقالوا: إن ربع الرأس إذا مُسح بأكثر الأصابع يجزئ، ويكفى في هذا الفرض الذي أمر الله -عز وجل- بمسحه. وأما الذين قالوا: إنه يمسح ثلاث شعرات؛ فقد احتجوا بقوله تعالى: {امْسَحُوا بِرُءُوسِكُم} قالوا: الباء للتبعيض، وبناءً على ذلك يكون قوله: {امْسَحُوا بِرُءُوسِكُم} أي: بعض رؤوسكم، ولا يجب مسح كلِّ الرأس، وهذا البعض الذي يصدق عليه الجمع إنما هو الثلاث، فأكثر؛ لأنها أقلُّ الجمع، وبناءً على ذلك قالوا: أقلّ الرأس ثلاث شعرات، فإذا مسح الثلاث صدق عليه أنه مسح برأسه، وهكذا لو حلق في الحج، أو العمرة ثلاث شعرات، أو قصّر ثلاث شعرات أجزأه هذا أصل عندهم -رحمة الله عليهم-. هذه حاصل أدلة من قال بالتبعيض يبقى فقط القول الأخير الذي حكيناه رواية عن الإمام مالك أن الثلث من الرأس يجزئ هذا أصل عند المالكية -أيضاً- أن الثلث فرق عندهم بين القليل والكثير في العبادات، والمعاملات، ومنها ثلث الخفّ إذا كان مخرقاً في المسح على الخفين، وهكذا في المعاملات كما في مسألة المساقاة، والمزارعة إذا كان في الأرض المساقى عليها بياض دون ثلثها الذي سُقِىَ عليه لحق المساقاة، وجاز أن يتعامل مع العامل على

إحيائه، وزراعته قالوا: إِن إِعتبار الثلث فرقاً في المذهب بين القليل، والكثير مبني على السنة الصحيحة وذلك في حديث سعد -رضي الله عنه- في الصحيح أنّ النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال: [الثُّلثُ، والثُّلُثُ كَثير] قالوا: إنّ النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال: [الثُّلُثُ كَثيرٌ] فوصفه بكونه كثيراً فصار حكماً شرعياً في الفرق بين القليل، والكثير عندنا، فمن مسح ثلث رأسه فإنه يُجزيه هذا قول طائفة من أصحاب الإمام مالك -رحمة الله عليه- لكن المذهب على وجوب مسح الكلِّ. هذه محصّل حجج العلماء في مسألة المسح على الرأس. والذي يترجح في نظري والعلم عند الله هو القول بوجوب مسح الرأس كلّه، وذلك لما يأتي: أولاً: لظاهر القرآن فإنّ حمل الباء على التبعيض تجوّزٌ، والأصل حملها على ما ذكر من الإلصاق لأنه أقرب إلى معنى المسح، فإنّ قولك: مسحت برأسه على أنه للإلصاق أقرب من قولك: إنه للتبعيض؛ لأن التبعيض خلاف الأصل، ولذلك يأتي غالباً في المعاني المجازية. الأمر الثاني: أن السنة التي اُحتج بها على التبعيض، في دليل القول الثاني الذين قالوا بوجوب مسح ربع الرأس يجاب عنها: بأن الحديث فيه مسح بناصيته، وعلى العمامة، فَيصِحُّ الاستدلال بهذا الحديث أنْ لو اقتصر النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- على مسح الناصية، بل نقلب دلالة هذا الحديث، ونقول هو حجة لنا لا علينا؛ لأن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أتبع الناصية بالعمامة فدل على وجوب مسح جميع الرأس لكن هنا إشكال أورده الحنفية -رحمة الله عليهم - قالوا: لو قلتم إن

مسحه للعمامة المراد به مسح فرض لبطلت أصولكم؛ لأنه لا يصح في الأصل أن يجُمع بين البدل، وبين المبدل؛ فإن الرأس إما أن يمسح عليه، أو يمسح على العمامة، فإما أن تقولوا مسح على الفرض، وهو الناصية ويكون مسحه على العمامة لاغٍ؛ فيستقيم دليلنا، أو تقولوا: مسح على العمامة، والناصية ملغاة، وهذا خلاف الظاهر فكيف الجواب عن هذا الإشكال؟ والجواب: أن يقال: إن المسح على العمامة في هذا الحديث هو الأصل؛ ولكن يجوز في العمامة أن يُكشف ما جرت العادة بكشفه بدليل أن من تعمّم العمامة المعروفة فإن السوالف تخرج، والخارج المعتاد مغتفر في المسح على العمامة، ولكنه يمُسح إبقاء على الأصل، والناصية كشفها صنيع أهل الفضل، لأن أهل الفضل لا يبالغون في إِرخاء ستر الوجه إلى حواجبهم؛ لأن ذلك غالباً من صنيع أهل الكبر، والخيلاء، ولذلك قالوا: إنه يُكشف عن الناصية، ويكون كشف النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عنها في هذا الحديث؛ إنما هو من باب ما جرت به العادة بكشفه، فلا يرد ما ذكروه، ويكون مسحه على العمامة أصلاً، ومسحه على الناصية تبعاً، وبناءً على ذلك لا يرد هذا الإشكال، ويستقيم مذهب من قال بوجوب مسح جميع الرأس. أما استدلال بعض المالكية بأن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال: [الثُّلثُ، والثلُثُ كَثِيرٌ] نقول يصح الاستدلال بهذا الحديث في ما طلب التقدير في جزءه، أي أننا نسلم الإستدلال به في الأمور التي إكتفى الشرع فيها بجزئها، لكن في الأمور التي أمر الشرع بها كُلاً لا يورد فيها مثل هذا النص الدال على تسامح الشرع في البعض، لأنّ مسح الرأس ظهر أن الشرع يريده كاملاً، وما ظهر أن

الشرع يريده كاملاً لا يورد فيه ما دل على إجزاء البعض فيه كما في بقية الفروض التي قصد الشرع غسلها كاملة كاليد مثلاً، فليس لقائل أن يقول: يغسل الإنسان ثلث يده لأنّ النبي -عليه الصلاة والسلام- قال: [الثُّلُثُ، والثُّلُثُ كَثِير] لأننا نقول إن اليد أمر الشرع بغسلها كلها، وكذلك هنا في الرأس أمر بمسحه كله، فلا يستقيم الإحتجاج بهذا الحديث، وبهذا يترجح القول بمسح الرأس كله والله تعالى أعلى وأعلم. والسنة عنه عليه الصلاة والسلام في مسحه لشعره: أنه بدأ من مقدمه حتى بلغ قفاه، ثم رجع إلى مُقَدَّمِهِ هكذا ثبت عن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- في حديث عبد الله بن زيد -رضي الله عنه وأرضاه- قال: [بدأ بمقدم رأسه حتى بلغ قفاه ثم ردهما إلى الموضع الذي، بدأ منه]. وقال بعض العلماء: بل يبدأ من القفا حتى يصل بهما إلى المقدم، ثم يعود إلى القفا، واحتجوا بحديث عبد الله بن زيد رضي الله عنه المتقدم وفيه: " أَقبلَ بِهما، وأَدبر " قالوا: " أقبل بهما " أي: من القفا إلى المُقَدَّمِ، وأدبر أي: ردهما إلى القَفَا. والذي يظهر: أن قوله: [أقْبَلَ بِهما، وأَدبر] من باب تقديم المؤخر، وتأخير المُقَدَّمِ وهو معنى معروف في لغة العرب أنهم يقولون: أقْبلَ، وأَدبر، ومرادهم: أنه أدبَر، ثم أقْبل، ومنه قول إمرؤ القيس يصف جوادَه: مِكَرٍ مِفَرٍ مقْبِلٍ مُدْبرٍ مَعاً ... كجُلْمُود ِصَخْرٍ حَطهُ السيلُ مِنْ عَلِ

فإن قوله: (مكرٍ، مفرٍ) مراده به: أنه فرَّ أولاً، ثم كرَّ بعد ذلك؛ لأن الكَرَّ لا يكون إلا بعد الفرار، فالفارس يفرُّ أولاً، ثم بعد ذلك يَكِرُّ، فيكون قوله: مِكَرٍ، مِفَرٍ من باب تقديم المؤخر، وتأخير المُقَدَّمِ، وكذلك قوله: (مُقْبلٍ، مُدبرٍ معاً) فإن الأصل أنه: أدبر أولاً، ثم أقبل على العدو، فهذا معروف في اللغة فيكون قول الصحابي رضي الله عنه في صفة مسحه عليه الصلاة والسلام: [فأقْبل بهما، وأَدبر] محمولاً على هذا المعنى: أنه أدبر، ثم أقبل. وهناك وجه ثالث قال أصحابه فيه: نجمع بين الحديثين، وهو أن قوله: [أقبل بهما، وأدبر] المراد به بكلتا اليدين، فإحداهما مقبلة، والأخرى مدبرة، فيضع يديه في منتصف الرأس، ويقبل باليمنى إلى مقدّم الرأس، ويدبر باليسرى إلى مؤخره، والصحيح: ما ذكرناه أنه أقبل بهما، وأدبر المراد به: أدبر بهما، ثم أقبل للرواية المبيّنة وهي قوله رضي الله عنه: [بدأَ بِمُقدّم رَأسِه حتّى إنتَهى إِلى قَفاهُ، ثمّ رَدّهما إلى المكان الذي بدأ منه]. قوله رحمه الله: [وغَسْلُ الرِّجْلَيْنِ]: هذا الفرض الرابع الذي أمر الله بغسله، وهو الرجلان، وقد أجمع أهل العلم رحمهم الله على أن غسل الرجلين من فرائض الوضوء. وخالف بعض من لا يعتد بخلافه، وقالوا: إن الرجلين يجب مسحهما، ولا يجب غسلهما. قالوا إن قوله: {وأرجلِكم} بالجر في قراءة معطوف على قوله: {امْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ}، وبناءً على ذلك يكون التقدير: {وامْسَحُوا أرجلَكم} وهذه

القراءة يجاب عنها: بأن قوله تعالى: {وَأَرْجُلَكُمْ} الجر فيها للمجاورة، ومنه قول الشاعر: لَعِبَ الزَّمانُ بِها بَعْدي ... وغيَّرها سوافي المَورِ والقَطْرِ فإن الأصل: والقطرُ أي: غيّرها القطرُ فقوله: والقطرِ راعى فيه الجرَّ بالمجاورة لقوله: المورِ، وإلا فالأصل في التقدير أن يقول: والقطرُ، ولا يقول: والقطرِ، وأما قراءة النّصبِ فهي قوية واضحة في الدلالة على الوجوب، وأن الرجلينِ فَرضُهما الغسلُ، لا المسح، ثم يجب غسل الرجلين من أطراف الأصابع إلى الكعبين والكعبان داخلان في الغاية، والخلاف فيهما كالخلاف في المرفقين، فالمقصود أنه يجب غسل الكعبين والكعبان هما العظمان الناتئان في آخر الساق، ويجب غسلهما، فلو غسل رجليه، ولم يغسل الكعبين لم يصح وضوءه؛ لأن الله أمر بغسلهما، وقال: {وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ} أي مع الكعبين؛ لأن الغاية داخلة في المغيا فهي من جنسها فإن الكعبين ليسا من الساق، وإنما هما من القدم، والقدم في الظاهر عليهما، لأن حركته ووضعَه في رفعه قائم على الكعبين، فهما من القدم، وليسا من الساق، وبناءً على ذلك يجب غسل الرجلين، ولا يجزئ مسحهما. وببيان ما سبق نكون قد إِنتهينا من أربعة فرائض، والفرض الأخير هذا ثبت وجوبه بدليل الكتاب كما قلنا في الآية وبدليل السُّنة من مواظبته -عليه الصلاة والسلام- على غسل رجليه إذا لم يكن عليهما خفٌّ، أو جورب، والإجماع، فليس هناك أحد من أهل العلم رحمهم الله يقول: إنّ الرجلين لا

يجب غسلهما إلا الخلاف الشاذّ الذي أشرنا إليه سابقاً، يُستثنى من ذلك المسح على الخفين، والجوربين فإنه إذا غطى قدميه بالخفين نُزِّل المسحُ منزلةَ الغسلِ؛ لثبوت ذلك عن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بالأحاديث المتواترة، ولذلك ورد عن أكثر من ستين من أصحاب النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مسح على خفّيه، حتى إن أهل السنة، والجماعة إذا ذكروا عقيدة أهل السُّنة، والجماعة أدخلوا فيها سُنِّية المسح على الخفين؛ مبالغة في ردّ قول أهل البدع، والأهواء الذين لا يرون المسح على الخفين؛ لأنه ورد عن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بالأحاديث المتواترة كما قال صاحب طلعة الأنوار رحمه الله: ثمّ مِنَ المشْهُورِ ما تَواتَرا ... وهْوَ ما يرْويهِ جَمعٌ حُظِرا كَذِبُهم عُرْفاً كَمسْحِ الخفِّ ... رفعُ اليَديْنِ عَادِمٌ للخُلفِ وقَدْ روى حَديثَهُ مَنْ كَتَبا ... أكثرُ مِنْ سِتّينَ مِمّن صَحِبا أي أن المسح على الخفين ورفع اليدين في تكبيرة الإحرام ورد عن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عن أكثر من ستين من أصحابه -صلوات الله وسلامه عليه- و -رضي الله عنهم أجمعين- فيُنزَّل المسح على الخفين منزلة غسل الرجلين لإذن الشريعة به، ولذلك قال بعض المفسرين في قوله: {وَأَرْجُلَكُمْ} في قراءة الجر قال: إنها محمولة على حالة المسح على الخفين، وينزّل الجوربان منزلةَ الخفين على أصح قولي العلماء رحمهم الله كما سيأتي. قوله رحمه الله: [والتّرتِيبُ]: يقال رتّب الأشياءَ: إذا جعل كل شيء منها في موضعه، وجعلها تلو بعض، فقدّم ما حقّه التقديم، وأخّر ما حقّه التأخير

والمراد بقوله هنا: الترتيب؛ أن يُوقع الغَسلَ، والمسح على التّرتيب الذي جاءت به آية المائدة، فيبدأ بغسل وجهه، ثم غسل يديه، ثم مسح رأسه، ثم غسل رجليه، فلو قدم مسح الرأس على غسل الوجه لم يُجْزِه، ولو قدّم غسل الرجلين على مسح الرأس لم يُجْزِه، وهكذا. إذاً الترتيب أن يوقع الأعضاء المأمور بغسلها، ومسحها على وفق آية المائدة. وهذا الترتيب دلّ عليه دليل الكتاب: فإن الله -عز وجل- أمر بغسل الوجه، ثم أتبع الوجه اليدين، ثم أتبعهما بمسح الرأس، ثم أتبع الجميع بغسل الرجلين، والواو لا تقتضي الترتيب في لغة العرب إلا عند وجود القرائن الدالة على الترتيب، فهو ليس بأصل فيها فأنت إذا قلت مثلاً: جاء محمد، وعلي لا يستلزم ذلك أن يكون محمد جاء أولاً، ثم من بعده علي إذ يجوز أن تقول: جاء محمد، وعلي، وقد كان علي قد جاء أولاً، ويجوز أن تقول: جاء محمد، وعلي وقد جاءا مع بعضهما، لا يسبق أحدهما الآخر إذاً فالواو في قوله: {فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ} وقوله بعد ذلك: {وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُم} الواو في هذه الأربع لا تفيد التّرتيب نصّاً لكن فُهِم الترتيبُ من سياقها، وذلك أنه لا معنى لإدخال الممسوح بين المغسولين إلا إرادة التّرتيب الوارد فإن الله -عز وجل- أدخل المسح على الرأس، وهو ممسوح، وجعله بين مغسولين، وهما اليدان، والرجلان، فلو كان الترتيب ليس بلازم لذكر المغسولات أولاً، ثم أتبع بالممسوح، أو ذكر الممسوح أولاً، ثم أتبع بالمغسول، فلا وجه لإدخال المسح بين الغسل على هذه الصورة إلا إرادة الترتيب بين تلك الأعضاء بحسب ورودها في الآية الكريمة.

ثانياً: أن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال للأعرابي: [تَوضّأ كَمَا أَمَركَ الله -عز وجل-] أي على الصفة التي وردت في كتاب الله -عز وجل- وقد وردت فيه مرتبة. ثالثاً: أنه لم يحفظ عن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أنه توضاً فقدم عضواً على عضو على خلاف ترتيب الآية الكريمة. لكن هنا إشكال في الحديث الذي ورد من كونه -عليه الصلاة والسلام- تمضمض بعد أن غسل وجهه، فكيف نجيب عن هذا الإشكال؟ والجواب: أن الترتيب في أعضاء الوضوء يقع على الصور التالية: أولاً: الترتيب بين مفروض، ومفروض. ثانياً: الترتيب بين مسنون، ومسنون. ثالثاً: الترتيب بين مفروض، ومسنون. فأما الترتيب بين مفروض، ومفروض فكغسل اليدين بعد غسل الوجه، وهو مفروض، ولازم. وأما الترتيب بين مسنون، ومسنون فكالترتيب بين المضمضة، والإستنشاق بأن يوقع المضمضة أولاً، ثم يستنشق بعدها، وهو مسنون. وأما الترتيب بين مفروض، ومسنون؛ فكالمضمضة، والإستنشاق، مع غسل الوجه يبدأ بالمضمضة أولاً، ثم الإستنشاق وكلاهما سنة، ثم يغسل وجهه، وهو الفرض، وهذا الترتيب مسنون أيضاً، والذي ورد في الحديث من كونه غسل وجهه، ثم تمضمض؛ إنما هو بين مسنون، ومفروض، ومحل الكلام فيما بين المفروضات، وبناءً على ذلك يكون هذا الحديث لا علاقة له بالترتيب الواجب، ولا يصحّ الإستدلال به على إسقاطه، وهذا أمر يُغْفِله

بعض طلاب العلم أنه يحتج بهذا الحديث على إلغاء الترتيب، وليس في الحديث دلالة؛ إنما يستقيم الإستدلال بالحديث أن لو غسل النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يديه قبل وجهه، أو قدّم مسح رأسه على غسل اليدين؛ أما عدم الترتيب بين المسنونات، أو بينها، وبين الفرائض؛ فالأمر فيه واسع ليس كالفرائض. هذا الترتيب إنما هو في الفرائض إذا كان بين عضو، وعضو، كما قدمنا في ترتيب اليدين بعد الوجه، وأما إذا كان العضو واحداً متعدداً، كالأعضاء المثناة، فلا يجب الترتيب، ففي اليدين والرجلين يجوز لك أن تغسل اليمنى قبل اليسرى، وأن تغسل اليسرى قبل اليمنى، ولا يشترط الترتيب بين اليمنى، واليسرى؛ لأنّ الله -عز وجل- أمر بغسل اليدين مطلقاً، وهذا قد غسل يديه، وفِعْلُ النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بتقديم اليمنى على اليسرى كمالٌ؛ لقول عائشة -رضي الله عنها-: [كان رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُعْجِبُه التَّيمنُ في تَنَعُّلِهِ، وتَرجُّلِه، وطُهُورِهِ، وفي شَأنِه كُلِّه]، وبناءً على ذلك لا يجب الترتيب بين المسنونات، ولا بين الأعضاء المثناة كاليدين والرجلين. قوله رحمه الله: [والموالاة]: المراد به أن تقع هذه الفروض على الولاء بعضها يلي بعضاً، دون وجود فاصل مؤثر، وتوضيح ذلك: أن يغسل وجهه، ثم يقوم بغسل يديه قبل أن ينشف وجهه، ثم يمسح رأسه قبل أن تنشف يداه، ثم يغسل رجله قبل أن ينشف الماء الذي مُسح به رأسه، هذا هو مراد العلماء بالموالاة، ولذلك قال العلماء ضابطها: أن لا ينشف العضو المفروض قبل أن يبدأ بالفرض الذي يليه، مثال ذلك: لو أن إنساناً توضأ في بيته، ثم انقطع الماء أثناء الوضوء، وكان قد غسل وجهه، فقام من موضعه

إلى موضع آخر فيه الماء، ومشى حتى بلغه فحينئذ ننظر فإن كان الفاصل الذي بين انقطاع الماء، وغسله للعضو فاصلاً مؤثراً؛ بمعنى أنه ينشف فيه العضو في الزمان المعتدل الذي هو ليس بشديد البرد، والحر، (لأن الحر فيه نوع من الرطوبة خاصة إذا كان الإنسان في الظل فيبقى العضو طرياً إلى أمد أكثر والبرد مع الهواء، والريح يحصل به النشاف بسرعة) فلو قُدِّر مثلاً إلى خمس دقائق أن العضو في الزمان المعتدل ينشف نقول: إذا مضت خمس دقائق ما بين غسله لوجهه، وغسله ليديه بعد عثوره على الماء بطل وضوءه، وإن كان دون ذلك صحَّ، ولم يؤثر وجود هذا الفاصل. والأصل في فرضية الموالاة دليل السنة، وذلك: أن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: [لمّا رأى على قَدَمِ الرَّجُلِ قَدْرَ لُمْعَةٍ لَمْ يُصِبْها الماءُ أَمَره أَنْ يُعيدَ وضُوءَه، وصَلاَته]-صلوات الله وسلامه عليه- فدلّ هذا على أن الولاء من فرائض الوضوء لأن أمره بإعادة الوضوء يدل دلالة واضحة على بطلان الوضوء بغير موالاة. قال رحمه الله: [والنِّيةُ شَرْطٌ لِطَهارةِ الأَحْداثِ كُلِّها]: النِّية: مأخوذة من قولهم نوى الشيء، ينويه نيّة، ونيَة بالتخفيف، والتّشديد. والنِّية في لغة العرب معناها: القصد، تقول: نويت الشيء إذا قصدته، سواء كان ذلك في القول، أو الفعل وقولهم أعني العلماء رحمهم الله: (النّية شرطٌ في طهارة الأَحداثِ) مرادهم بذلك أن يقصد المكلف العبادة، ويكون قصده مشتملاً على أمرين: الأول: التقرب لله -جل وعلا-، والثاني: رفع الحدث، واستباحة ما تشترط الطهارة لفعله: كالصلاة، والطواف، ولمس المصحف.

والأصل في وجوب النية، ولزومها في العبادات قول الله -تعالى- مخاطباً نبيه: {فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ} (¬1) فقوله تعالى: {فَاعْبُدِ} أمر وقوله سبحانه: {مُخْلِصًا} أي حال كونك مُخْلِصًا له الدين، ومن المعلوم أنه لا يتحقق الإخلاص إلا بتجريد النية لله، وبناء على ذلك توقف اعتبار العبادة على نية القربة، فلو أن إنساناً أراد أن يصلي، ولم يقصد العبادة لله -جل وعلا- أو فعل أفعال الصلاة وقصد بها رياضة البدن فإنها لا تعتبر عبادة مجزئة، إذاً لا بد في العبادة من قصد القربة لله -سبحانه وتعالى-، والوضوء عبادة من العبادات، فهو داخل تحت هذا الأمر، فتجب فيه النية. وأما قصد رفع الحدث؛ فهو أعم المقاصد في النية في الطهارة، وبه يرتفع الحدث الأصغر والأكبر، فيستبيح فعل جميع ما تشترط له الطهارة، دون استثناء، وأما إذا قصد استباحة معين لزمه تعيينه في قول الجمهور لحديث عمر رضي الله عنه أنَّ النبيَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: [إنما الأعمالُ بالنيات، وإنما لكُلِّ امرئٍ ما نوى] فقد دل الحديث بمنطوقه على أن من نوى شيئاً كان له، وبمفهومه أن من لم ينو شيئاً لم يكن له، فأخذوا منه دليلاً على التفريق بين نية رفع الحدث العامة، ونية الإستباحة الخاصة، وهذا النوع الثاني في النية وهو قصد رفع الحدث، أو الإستباحة الخاصة هو الذي يقصده العلماء رحمهم الله في مسألة نية الوضوء، وأما النوع الأول: وهو الإخلاص، وقصد القربة لله عز وجل، فإنه معلوم من الشرع بداهة لأن ¬

(¬1) الزمر، آية: 2.

العلماء أجمعوا على أن العبادات لا تصح إلا بنية، وقد قرر الإمام الشاطبي -رحمه الله- مبحثاً نفيساً ينبغي على طالب العلم أن يرجع إليه في كتابه الموافقات في الجزء الأول منه حيث عقد فصلاً كاملاً لتقرير وجوب النية، ولزومها في العبادات، وبيّن وجه اعتبار الشرع لها، وإلزامه للمكلف بها، الشاهد من هذا أنه لا يصح إيقاع الوضوء، والغسل من الجنابة، وغيرها على الوجه المعتبر شرعاً إلا إذا نوى الإنسان به رفع الحدث، أو الإستباحة على التفصيل المتقدم، فلو أن إنساناً غسل، ومسح أعضاء الوضوء قاصداً التبرد، أو نظافة البدن لم يُجْزِهِ ذلك الوضوء؛ إلا إذا نوى به الوضوء الشرعي، وكذلك الحال لو أنه كانت على الرجل جنابة، أو إمرأة طهرت من حيضها ثم انغمس كل منهما في بركة، وكان عند انغماسه قاصداً التبرد في زمان صيف، فإن هذه النية لا تجزيهما، ويلزمهما الغسل مرة ثانية بنيّة رفع حدث الجنابة، والحيض وهذا هو الذي عبّر المصنف -رحمه الله- عنه بقوله: [لِطَهارةِ الأحداث] والأحداث هنا عامة أي سواء كانت صغرى، أو كبرى، ومفهوم قوله: [الأحداث] أن طهارة الخبث لا تشترط لها النية، لأنها من الوسائل، وليست من المقاصد، والإجماع على أن الوسائل لا تشترط لها النية. قوله رحمه الله: [والنّيةُ شَرْطٌ]: الشرط في اللغة: العلامة. وأما في اصطلاح العلماء: (فما يلزم من عَدمِه العدمُ، ولا يلزم من وجُوده الوجود).

مثال ذلك: الوضوء شرط لصحة الصلاة يلزم من عدم الوضوء عدم صحة الصلاة، لأننا نقول إنه شرط لصحة الصلاة، ولا يلزم من وجود الوضوء وجود الصلاة؛ فإن الإنسان قد يتوضأ، ولا يصلي هذا معنى قولهم: [ما يلزمُ من عدمِه العدمُ، ولا يلزم من وجودِه الوجود]. وقوله: [شَرْطٌ لطهارةِ الأحْداثِ كُلِّها]: فيه عموم، وذلك في قوله: [كلّها]، فشمل الأحداث الصغرى والكبرى، فكلّها تشترط النية فيها، وهذه مسألة خلافية إختلف فيها جمهور العلماء مع الإمام أبي حنيفة، وأصحابه رحمة الله على الجميع؛ فالجمهور من المالكية، والشافعية، والحنابلة، والظاهرية يرون: أن الوضوء، والغسل لا يصحّ إلا بالنية، فمن توضأ بنية التَّبرد، وكان عليه حدث أصغر؛ فإنه لا يجزيه، وهكذا لو إِغتسل تبرداً، أو نظافة، وعليه جنابة. وذهب الإمام أبو حنيفة، وأصحابه إلى: أن الوضوء، والغسل يصحّ كلٌ منهما بدون نية، فإذا توضأ، أو اغتسل بدون نية رفع الحدث، أو كان قاصداً النظافة؛ فإنه يجزيه، ويصحُّ منه. واحتج الجمهور بدليل الكتاب، والسُّنة، والعقل. أما دليل الكتاب فقوله تعالى: {فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ} وجه الدلالة: أن الوضوء عبادة، فلا يصح إلا بنية، وكذلك قوله سبحانه: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} (¬1)، والدليل على كونه عبادة أنه غَسْل ¬

(¬1) البينة، آية: 5.

للأعضاء على صفة مخصوصة، ولذلك أمر بغسل بعض الأعضاء ومسح بعضها، ولو كان عبادة معقولة المعنى لما جاء على هذا الوجه. وأما دليل السُّنة: فحديث عمر رضي الله عنه في الصحيحين أن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال: [إنما الأعْمالُ بالنِّيات، وإنما لِكُلِّ إمْرئٍ مَا نَوى] ووجه الدلالة: أن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بيّن في هذا الحديث أن صحة الأعمال موقوفة على النية، والوضوء عمل، فلا يصح إلا بنية. كذلك إستدلوا بما ثبت في الصحيح من قوله عليه الصلاة والسلام: [الطُّهُورُ شَطْرُ الإِيمانِ] فوصف الطهور، (وهو الطهارة من الحدث بنوعيها الوضوء، والغسل) بكونه شطر الإيمان، والمراد به الصلاة، لأن الله سمى الصلاة إيماناً كما في قوله سبحانه: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ} أي: صلاتكم التي توجهتم فيها إلى بيت المقدس. فإذا ثبت بدليل السنة أنّ كُلاًّ من الوضوء، والغسل شطرَ الصّلاة؛ فإن الصّلاة بالإجماع تُشترط لها النِّية فلزمت النية في شطرها، وهو الطُّهورُ أعني: الوضوء، والغسل. وأما دليلهم من العقل؛ فالقياس حيث قالوا: تجب النِّية في الوضوء، والغسل كما تجب في التيمُّم؛ بجامع كون كل منهما طهارة تُسْتَباح بها الصلاة. هذا حاصل ما استدل به الجمهور من دليل النّقل، والعقل. أما الإمام أبو حنيفة -رحمة الله عليه-، وأصحابه فدليلهم العقل حيث قالوا: إن الوضوء، والغسل كلٌّ منهما عبادة معقولة المعنى، وهو وسيلة، وليس بمقصد، والوسائل لا تشترط لها النية إجماعاً، ولذلك قالوا يصح الوضوء

بدون نية، وقولهم وسيلة أي: أنه يتوصل به إلى فعل العبادة لا أنه عبادة بذاته فيكون حينئذ مثل ما لو ركب دابة ليصل إلى المسجد لم تجب عليه النية، ولم تلزمه كذا هنا. والذي يترجح في نظري والعلم عند الله: هو القول باشتراط النية لصحة الوضوء، والغسل لِصِحَّة دلالة النقل، والعقل على ذلك، وما ذكروه غير مسلم، وقد بيّنا دلالة النقل على اعتبار الوضوء، والغسل عبادةً لا وسيلة معقولة المعنى والله أعلم. ثم هذه النية لها ضوابط: أولاً: أنه ينبغي أن تقع قبل البداءة بالعبادة، دون فاصل مؤثر، أو عند البداءة بها مصاحبة دون سبق من أول الفعل المفروض في أول الطهارة، وذلك لقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ} (¬1) أي إذا أردتم القيام إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم والأمر بغسل الوجه لا يتأتى إلا بعد نيته، وتكون مُصاحبةً لأول مفروضٍ، أو واجب فإذا قام الإنسان من النوم تكون نيته عند غسله لكفيه فتكون النية عند إرادته لغسل الكفين، وإن كان في نهاره تلزمه النية عند غسله لوجهه فلو عزبت عنه قبل ذلك صحَّ وضوءه؛ لأنها تجب عند أول مفروض، ولكن بالنسبة لما قبل المفروض الأول لا يتحقق فيه الثواب كما قرره العلماء -رحمة الله عليهم- إلا بالنّية. ¬

(¬1) المائدة، آية: 6.

ثانيًا: النّية في الوضوء إما أن ينوي النية العامة، أو الخاصة؛ فالأول: نيّته لرفع الحدث، والثاني: نيّته لاستباحة محظور على المحدث مثل: الصلاة، والطواف، ونحوهما، فإذا نوى رفع الحدث؛ فلا إشكال في جواز فعله لجميع ما تشترط لها الطهارة، دون تفصيل؛ لأن حدثه إرتفع فزال الحاظر عن الجميع. وأما إذا نوى إستباحة المحظور؛ فإنه يختلف بحسب اختلافه، فإما أن يكون أعلى؛ كالصلاة المفروضة. وإما أن يكون أدنى؛ كلمس المصحف، وعليه فإمّا أن ينوي الأعلى، ويندرج تحته الأدنى، أو ينوي الأدنى ولا يندرج تحته الأعلى، وإما أن ينوي المساوي، وفيه تفصيل. فأما إذا نوى الأعلى فمثاله: الصلاة المفروضة فإنها أعلى من غيرها، وهو النافلة، وصلاة الجنائز، والطواف، ومس المصحف، وسجود التلاوة. فإذا نواها (أي الفريضة) صح له أن يصلي جميع ما دونها، كراتبتها القبلية، والبعدية، وغيرها من النوافل، وهكذا الطواف، ولمس المصحف، وبقية ما تشترط له الطهارة. وأما إذا نوى الأدنى: فإنه لا يجوز له أن يستبيح به ما هو أعلى مثل: أن ينويه لنافلة لم يصحّ أن يصلي به فرضاً. وأما إذا نوى المساوي: فيصح في حال يكون فيها مساوياً في مطلق الوصف مثل الفريضة المقضِيّة فلو دخل وقت فريضة الظهر، وكان عند وضوئه قد

نواها، ثم تذكّر أنه لم يصلّ الفجر صحَّ له أن يصلي بذلك الوضوء الفجر، والظهر، وهكذا الحال في النوافل. واستدل من قال بهذا التفصيل بحديث عمر رضي الله عنه في الصحيحين، والذي تقدمت الإشارة إليه وإلى دلالته على المسألة. وقد أشار بعضهم إلى هذه الأحوال في النِّية بقوله: ولْيَنْوِ رَفْعَ حَدَثٍ أَوْ مُفْتَرَضْ ... أَوْ إِسْتِبَاحةً لِممْنُوعٍ عَرَضْ وذهب آخرون إلى أنه إذا توضأ للمسنون، والمستحب، والمفروض فإنه لا فرق وتجزيه هذه النيّة عن الكلّ، لأن الحدث عندهم يرتفع بالطهارة، بِغضِّ النظر عن نوعية النية، ويشهد لذلك حديث أبي هريرة رضي الله عنه في الصحيح أنّ النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: [لا يَقْبلُ الله صَلاةَ أَحدِكُم إِذَا أَحْدَثَ حَتّى يَتَوضأ] فإذا توضأ للمسنون، أو المستحب، ناسياً رفع الحدث؛ فإنه يُحكم بإرتفاع حدثه، وهذا ما مشى عليه المصنف رحمه الله وذلك بقوله: [فَإِنْ نَوى ما تُسَنُّ لَهُ الطهارةُ، أو تَجْدِيداً مَسْنُوناً؛ نَاسِياً رَفعَ حَدثِه؛ إِرْتَفَعَ، وإِنْ نَوى غُسْلاً مَسْنُوناً أَجْزَأَ عَنْ وَاجِبٍ]، والقول الأول مذهب المالكية، والشافعية، وهو الأقوى من حيث الدليل؛ الذي دلّ على إعتبار النيّة، والقول الثاني الذي مشى عليه المصنف هو مذهب الحنابلة رحمهم الله، وأما الحنفية فلا إشكال عندهم، لأن النية ليست واجبة في الوضوء، والغسل، فلا فرق عندهم.

ومذهب القائلين بالتفصيل ألزم للأصل، وأقوى من حيث الدليل، لأن حديث أبي هريرة رضي الله عنه: [لا يَقْبلُ الله صلاةَ أَحدِكُم إِذَا أَحْدَثَ حتّى يتوضّأ] إذا أخذ بظاهره قد يستدل به على إسقاط النية أيضاً، فإذاً لا وجه للأخذ بعمومه في نية الطهارة، وحديث النية وهو حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه مقدّم عليه، في اعتبار النية في الطهارة، وكذلك مقدّم عليه في تعيين النية، وهي مسألتنا، وقوله عليه الصلاة والسلام: [وإِنما لِكلّ امرئٍ مَا نوى] دالّ على أن من نوى الأدنى لم يجز له أن يستبيح الأعلى على التفصيل الذي قدمناه، والله أعلم. قوله رحمه الله: [وإن نوى غُسْلاً مسْنوناً أجزأ عن واجب]: وإن نوى غسلاً مسنوناً كغسل العيدين أجزأ عن واجب كالحدث وتقدم وجهه أن الحدث يرتفع بالمسنون، وهكذا المستحب بناء على وجود النية التي تصلح لرفع الحدث بغضِّ النّظر عن وصفها. قوله رحمه الله: [وكَذا عَكْسُه]: يعني لو نوى الأعلى لاندرج الأدنى، وهذا صحيح قولاً واحداً عند العلماء -رحمة الله عليهم-، والخلاف إذا نوى الأدنى هل يرفع الحدث فيستبيح الأعلى، أو لا؟ قلنا الصحيح: أنه لا يستبيح. وإن نوى الأعلى إِندرج تحته الأدنى، وصح له أن يصلي ما دونه كأن ينوي صلاة الظهر جاز له أن يوقع النوافل قبلها، وبعدها. قوله رحمه الله: [وإِنْ إِجْتَمعتْ أحداث تُوجِبُ وضوءاً، أو غُسْلاً؛ فَنَوى بطهارته أحدهما إرتفع سائرها]: معناه أن من أحدث أكثر من حدث أصغر

أو أكبر إندرج بعضها تحت بعض، وأجزأت عنها طهارة واحدة، سواءً نوى رفعها كلها، أو نوى رفع بعضها، فمثاله في الحدث الأصغر: إذا بال، وتغوّط، وخرج منه الريح، فتوضأ ناوياً رفع حدث البول إرتفع الحدث عن الجميع، لأنه بنيته لرفع الحدث إرتفع حدثه في الكلّ. وهكذا الحال في الطّهارة الكُبرى مثل: أن يحتلم، ثم يجامع أهله، أو العكس، فإنه إذا اغتسل ناوياً رفع حدث الجنابة إرتفع الحدث الأكبر كلّه، ولم يتبعض، وفي هذه المسألة وجد الأصل الموجب لارتفاع الحدث، فأجزأ عن الكل، واعتبرت للجميع النية الواحدة، من باب الحكم الوضعي. قوله رحمه الله: [ويَجِبُ الإِتْيانُ بها عِنْد أَوّلِ وَاجباتِ الطهارةِ]: بعد أن بيّن لنا مضمون النية في الطهارة شرع -رحمه الله- في بيان موضع النية، ومكانها. فقال رحمه الله: [ويجب الإتيان بها عند أوّل واجباتِ الطهارة]: يجب الإتيان بالنّية عند أوّلِ واجبات الطهارة، فأوّل واجبات الوضوء إن كان مستيقظاً من النوم: أن يغسل كفّيه ثلاثاً؛ فيجب عليه أن يأتي بالنية عند أول هذا الواجب. وإن قلنا بوجوب المضمضة، والإستنشاق: فإنه في حالة ما إذا كان في غير الإستيقاظ من النوم تكون نيّته عند إرادته المضمضة، والإستنشاق، وإن قلنا بعدم وجوب المضمضة، والإستنشاق، فإن أول مفروض بالإجماع هو الوجه، فتكون نيته عند غسله للوجه، فإن سبقت النية هذا الواجب، فلا يخلو سبقها: إما أن يكون بالزمن اليسير، أو الكثير، فإن كان سبقها بفاصل

يسير، فإنه لا يؤثر قياساً على الصلاة، وسائر العبادات مثل: أن ينوي رفع الحدث، ثم يحرك الإناء، أو يفتح الصنبور، ثم يشرع في طهارته، فهذا الفاصل بالزمن اليسير مغتفر. وأما إن كان الفاصل بالزمن الكثير؛ فإنه يعتبر مؤثراً، مثل: أن ينوي الطهارة، ثم يتحدّث مع غيره ساعة، ثم يتوضأ، دون تجديدٍ للنِّية فإن هذا الفاصل موجب لعدم الإعتداد بنيته الأولى؛ لأن مُضِي هذا القدر من الزمان المؤثر يوجب إلغاء النّية؛ كالحال في الصلاة، والعبادات. قوله رحمه الله: [وهو التَّسْمِيةُ]: المصنف إختار وجوبها، وبناء على القول بوجوب التسمية تكون النية عند التسمية وهناك قول في وجوب التسمية يفصّل بين نسيانها، وعدم نسيانها فإنْ نسيها، ونوى عند غسله لكفّيه صحَّ وضوءه على القول بأن النسيان يسقط المطالبة، والمؤاخذة كما سبق بيانه عند ذكر مسألة التسمية. قوله رحمه الله: [وتُسَنُّ عنْدَ أوّلِ مَسْنوناتها]: إذاً للنية حالتان: الحالة الأولى: أنها تجب عند أول واجب، ويختلف ذلك بحسب إختلاف العلماء، فإن قلت التسمية واجبة فعند التسمية، وإن قلنا إن أول الواجبات هو المضمضة، والإستنشاق تكون نيّته عند إرادة المضمضة والإستنشاق، وإن قلنا إن أول واجب هو غسل الوجه كانت نيته واجبة عند ابتداءه بغسل وجهه وهو الصحيح إلا في حال الإستيقاظ من النوم، فتكون نيته عند إرادة غسله لكفيه.

وأما الحالة الثانية فقد أشار إليها بهذه العبارة وهي: قوله رحمه الله: [وتُسنّ عِنْد أوّلِ مَسْنُوناتها إِنْ وُجِدَ قَبل واجبٍ]: أي أنّ النّية تُسنُّ عنْد أوّل مسنونات الطهارة إن وجد قبل واجب، ويتأتى هذا في غسل الكفين لغير المستيقظ من نومه؛ حيث يكون غسله لكفيه سنة، فتسن النية عند إبتدائه الغسل لهما، وهما في هذه الحالة قبل أول واجب، وهو غسل الوجه إن قلنا بعدم وجوب التسمية، وأما إذا قلنا بوجوب التسمية عند الذكر، وسقوطها عند النسيان، فنسيها عند إبتداء وضوئه في هذه الحالة يكون المسنون قبل الواجب وهو غسل الكفين، لأنه في غير حالة الإستيقاظ من النوم فتسن النية حينئذ عند أول مسنون وهو غسل الكفين لأنه وُجِدَ قبل الواجب. قوله رحمه الله: [واستصحاب ذكرها في جميعها]: الإستصحاب إستفعال من صحب الشيء إذا لازمه، وكان معه، ومنه: الصاحب، والمراد باستصحاب ذكرها أي: أن يستصحب ذكر النية فالضمير عائد إلى النية، وقوله: [في جميعها] أي: جميع الطهارة صغرى كانت، أو كبرى، وعليه فإنه يلزمه إستصحاب قصد رفع الحدث من بداية الوضوء إلى نهايته، وهكذا الحال في الغسل، وهذا هو أحد الوجهين عند العلماء رحمهم الله. وهناك وجه ثان أن العبادة التي لا يقع فاصل بينها بأجنبي يجزيء أن تكون النية في أولها، ولا يلزمه الإستصحاب، ولكن ينبغي أن لا يقع منه إلغاء لها حتى ينتهي من فعلها.

وهذا الوجه هو الأقوى، وعليه فالمهم أن يستحضر النية في أول الوضوء، ولا ينقضها بشيء حتى ينتهى منه، وهكذا الحال في غُسله. قوله رحمه الله: [وصِفَةُ الوضُوءِ]: بعد أن بين لنا -رحمه الله- فرائض الوضوء وشرط صحته من النية شرع في بيان صفة الوضوء، وللفقهاء في طريقة بيانها مسلكان: بعضهم يبدأ بصفة الوضوء الكاملة، ثم يذكر بعدها صفة الإجزاء المعبَّر عنها بفرائض الوضوء، وشرائط صحته، وممن مشى على هذا المسلك الإمام ابن قدامة -رحمة الله عليه- في كتابه العمدة حيث قدّم الصفة الكاملة، ثم أتبعها ببيان صفة الإجزاء، وهذا المسلك أنسب من وجهين: الأول: مراعاة الأدب، وذلك بالإبتداء بذكر هدي النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الكامل في عبادة الوضوء. والثاني: أن التكرار فيه محمود بخلاف المسلك الأول. قوله رحمه الله: [وصِفَةُ الوُضُوءِ]: صفة الشيء: حِلْيته، وما يتميز به، ولما كان الوضوء قد أمر الشرع فيه بغسل، ومسح أعضاء مخصوصة؛ فإن له صفتين: الأولى: صفة الكمال. والثانية: صفة الإجزاء. أما صفة الكمال: فهي الصفة التي توضّأ بها النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- في حال الإسباغ كما في الصحيحين من حديثي عثمان، وعبد الله بن زيد رضي الله عنهما، وهي أكمل ما يكون عليه إيقاع هذه العبادة؛ لأن المكلف يحصل بها أعلى

درجاتها، وأما صفة الإجزاء: فهي الصفة التي إذا فعلها أجزأه وضوءه؛ كأن يكون الماء عنده قليل، ويخشى أنه لو فعل المسنونات لا يستطيع غسل المفروضات؛ فيقتصر على صفة الإجزاء. هذا وجه تقسيم الوضوء إلى صفة إجزاء، وكمال، والسبب في هذا التقسيم أنه يستفاد منه في الحكم بصحة الوضوء، وعدم صحته في حال ترك شيءٍ منه، فإن كان المتروك فرضاً حكمنا بعدم صحته، وإن كان مسنوناً حكمنا بالصحة، وعدم تأثير تركه؛ إلا في نقصان الأجر. قوله رحمه الله: [أَنْ يَنْوِي، ثُمَّ يُسَمِّيَ، ويَغْسِلَ كفيهِ ثَلاثاً]: تقدم الكلام على النّية، وعلى التَّسْمِية، وقوله: [ويغسلَ كفّيهِ ثَلاثاً] الأصل فيه ما ثبت في الصحيحين عن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- من حديث عثمان، وعبد الله بن زيد رضي الله عنهما، وكذلك في حديث علي -رضي الله عنه- في السنن أنه -عليه الصلاة والسلام- إفتتح وضوءه بغسل كفِّيه، ولذلك يعتبر غسل الكفّين في الوضوء أول المسنونات إذا لم يكن الإنسان مستيقظاً من النوم لأنه يكون حينئذ يكون واجباً على أصحِّ قولي العلماء رحمهم الله في حكمه وقد تقدم معنا بيان حقيقة الكفين، وأحوالهما، وحكمهما في أول الوضوء. قوله رحمه الله: [ثمّ يتمضْمَضَ، ويَسْتنشِقَ]: تقدم معنا بيان حقيقة المضمضة، والإستنشاق، وخلاف العلماء رحمهم الله في حكمهما. قوله رحمه الله: [ويستنشق]: الإستنشاق: استفعال من النَّشق، وأصل النَّشق جَذْبُ الشيءِ إلى الخياشيم بالنَّفَسِ، ومنه سمي النَّشوق نشوقاً؛ لأنه يُستعط، ويُجذب بالنَّفَسِ، والإستنشاق ظاهره مبني على ما قدمنا، وأما

إخراج الماء المستنشق فيسمى إستنثاراً، وثبت في الصحيح أن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال: [إِذَا توضّأَ أَحدُكُمْ فَليسْتَنْشِقْ بمِنْخَريْهِ] وظاهره ليس فيه تعرّض للإستنثار، ولذلك قال بعض العلماء: إذا استنشق يعني جذب الماء تحقق الإستنشاق، ولا يلزمه الاستنثار يعني الطرّح. والصحيح أن تعبير الشرع بالإستنشاق متضمن لطلب الإستنثار؛ لأن الإنسان إذا استنشق لا يصبر على بقاء الماء حتى ينثره، وفائدة إِشتراط النّثر أن الإنسان إذا عصر أنفه دون أن ينثر لم يكن محققاً للاستنشاق على أكمل صوره، ولذلك لا بد من النَّثْرِ كما في الصحيح عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال: [إِذَا تَوضّأ أحدُكُمْ فَلْيَجْعلْ على أَنفِهِ ماءً]، هذا الإستنشاق، ثم قال: [ثُمَّ لِيَنْتَثِرْ] أي ليطرح لأن النَّثْرَ في اللغة: هو الطرح، فقوله: [لِيَنْتَثرْ] أي: لينثر الماءَ الذي جَذبَه بِنَفَسِه إلى خياشيمه، ولذلك لا بد من النَّثر لأن المقصود من إدخال الماء تطهير هذا الموضع، فإذا كان يعصره دون أن يكون منه نثر لم يتحقق به كمال التطهير لهذا الموضع. قال رحمه الله: [ويَغسلَ وجْهَه منْ مَنابِتِ شَعرِ الرَّأسِ إلى ما انحدَرَ مِنَ اللّحْيَينِ، والذِّقْنِ طُوُلاً]: قوله [ويَغْسلَ وجْهَهَ] الوجه: تقدم أنه من المواجهة، وبيّنا كلام العلماء في الوجه، ودليل وجوب غسله والآن نبيّنُ حدَّ الوجْهِ. أما طولاً فقالوا: إنه من منابت الشعر الذي يكون في ناصية الإنسان إلى ما انحدر من اللّحييْنِ، وهما الفكّان السُّفليان الأيمن منهما، والأيسر إلى ما انحدر منهما، والسبب في تعبير المصنف بقوله: [إلى ما إنحدر]؛ لأنه لا

يمكن إستيعاب الوجه كاملاً إلا بأخذ جزء يسير مما جاوره حتى يستوعب المحل المفروض غسله، فما انحدر من اللّحْيين هو الغاية في الغسل، والتي بها يتمكن من إستيعاب جميع الوجه، وقوله: [مِنْ مَنابتِ شَعَرِ الرَّأسِ] المراد به المكان بغضِّ النَّظر عن كون الشعر موجوداً، أو غير موجود كما في الأصلع، فالعبرة بمكان نبات الشّعر من الناصية، هذا كلّه في حدِّ الوجه طولاً، أما حدُّه عرضاً فقد بيّنه بقوله رحمه الله: [ومِنَ الأُذنِ إلى الأُذنِ عَرْضاً] من الأُذنِ إلى الأُذنِ، وهذا الحدّ يُدْخل البياض الذي بين الأذن، وشعر اللحية في العارضتين بالنسبة لمن كانت له لحية. قوله رحمه الله: [وما فِيه مِنْ شَعَرٍ خَفيفٍ]: أي في الوجه فالضمير عائد إليه، والمراد أنه يجب عليه غسل الشعر الخفيف الموجود في الوجه؛ لأنّ البشرة تُرى من تحته، وإذا كانت البشرة تُرى من تحته فإنه يجب عليه غسل الشعر، وغسل ما تحته؛ لأن المواجهة تتحقق بالشعر، وبما تحت الشعر من البشرة، فيجب غسل الجميع. قال بعض الفضلاء في هذه المسألة: خَلّلْ أَصابعَ اليدينِ وشَعَرْ ... وَجْهٍ إِذا مِنْ تَحْتِه الجِلْدُ ظَهرْ فقال رحمه الله: (إذا من تحته الجلد ظهر)، والمصنف رحمه الله قال: [إِذَا كانَ الشعرُ خَفِيفاً] بمعنى أنك ترى البشرة من تحته؛ لأنك إذا رأيت البشرة من تحت الشعر، فإنه حينئذ تكون المواجهة قد حصلت بالشّعر، وبالبشرة فهذا هو وجه المطالبة بغسل كل منهما.

وقوله رحمه الله: [والظَّاهِر الكَثيف مَعَ مَا اسْتَرْسَل مِنْه] أي: ويجب عليه غسل ظاهر الشعر الكثيف وما استرسل منه، فأصبحت اللّحية على حالتين: الأولى: أن تكون خفيفة ترى البشرة من تحتها فالحكم أنه يجب غسل الإثنين؛ لأن المواجهة حصلت بهما، والله أمر بغسل الوجه فصدق على الإثنين؛ فلزم غسلهما معاً، لتحصيل المأمور به شرعاً. والثانية: أن تكون كثيفة بمعنى أنها تحجب البشرة، فلا تُّرى مِنْ تحتها، فحينئذ يجب غسل الظاهر من اللحية فقط، لأنه هو الذي تحصل به المواجهة، وأما باطنها، وظاهر البشرة فلا مكان لهما في المواجهة لستر الشعر الكثيف لهما، فنزّل منزلَتهما، وأغنى غسل ظاهر اللحية الكثيفة عن غسل باطنها، وهذا هو فقه المسألة، وما استرسل من اللحية تابع لها؛ لأن المواجهة حصلت بالكلّ أعنى ظاهر اللحية، وما استرسل فوجب عليه غسلهما. قوله رحمه الله: [ثمّ يديه إِلى المِرْفَقين]: ثم يغسل يديه مع المرفقين، وقد تقدم بيان حدِّ اليدين، ومعنى المرفقين، ودخولهما في غسل اليدين، وهنا ننبه على خطأ شائع عند كثير من الناس من العامة، فإنهم إذا توضؤوا يغسل الواحد منهم الكفين، ثم يتمضمض، ويستنشق، ويغسل وجهه، فإذا غسل يديه بدأ من آخر الكف فيغسل ساعده، ويغفل عن الكفّين، من فعل ذلك لا يصح وضوءه، وتلزمه إعادة الوضوء، والصلاة لأن غسلهما أول الوضوء لا يجزئ عن غسلهما المفروض من وجهين: الأول: أن المسنون لا يجزئ عن الفرض، فغسلهما في غير حال الإستيقاظ الأصل إستحبابه، فلا يجزئ عن الفرض.

الثاني: ولو وقع واجباً كما في حال غسلهما عند الإستيقاظ من النوم؛ فإنه لا يجزئ؛ لأنه سابق للوجه فيفوت فرض الترتيب، حيث لا يصح غسل اليدين، ولا بعضهما قبل غسل الوجه كما بيّناه في شرط الترتيب، وعليه فلا يجزيه بكل حال. وكثير يقع في هذا، وينبغي تنبيههم. قوله رحمه الله: [ثُم يمسَحُ كل رأسه مَعَ الأذنيْنِ مرةً واحدةً]: شرع -رحمه الله- في بيانه للفرض الذي يلي غسل اليدين، وهو مسح الرأس، فقال: [ثم يمسحُ رأسَه كُلّه] وهذا على الصحيح، وقد تقدم بيان دليل وجوب مسح الرأس كله، وأنه هو الراجح من أقوال العلماء رحمهم الله، وقوله: [مَع الأذنين] أي: أن الأذنين تأخذان حكم الرأس، فيجب مسحهما؛ لقوله عليه الصلاة والسلام: [الأذنَان مِنَ الرأسِ] وقد تقدم معنا بيان ذلك، وبيان صفة مسحهما مع الرأس، وقوله رحمه الله: [مرةً واحدةً] أي: أنه لا يثلث مسح الرأس حتى، ولو أسبغ الوضوء، فإذا غسل جميع الأعضاء ثلاثاً؛ فإن الرأس لا يمسحه إلا مرة واحدة، وهذا هو مذهب جمهور العلماء رحمهم الله، وذهب الشافعية رحمهم الله إلى القول بسنية التثليث في مسح الرأس، وإستدل الجمهور على مذهبهم بدليل النقل، والعقل، أما دليلهم من النقل: فهو السنة وذلك في أحاديث منها: حديث عثمان، وعبد الله بن زيد رضي الله عنهما في صفة وضوء النبيِّ صلّى الله عليه، وسلم حيث بيَّنا أنه غسلَ جميع أعضاء الوضوء ثلاثاً، ولم يذكرا ذلك في مسح الرأس، فلم

يفعله عثمان رضي الله عنه في وصفه لوضوء النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وقال عبد الله رضي الله عنه: [فأقبلَ بهما، وأدبَر] ولم يذكر أنه ثلث المسح. وقد جاء التصريح بإقتصاره عليه الصلاة، والسلام على المرة الواحدة حتى في حال إسباغه، كما في حديث علي رضي الله عنه حيث إنه وصف وضوء النبيِّ صلّى الله عليه وسلم: [وأنه توضَّأَ فغسلَ كفّيه ثم مضمضَ ثلاثاً، واسْتَنْشَق ثلاثاً، وغسل وجهه ثلاثاً، وذراعيه ثلاثاً، ومسح برأسه مرةً ثم غسل قدميه إلى الكعبين، ثمّ قال: أحببتُ أنْ أُريَكُمْ كيفَ كان طُهُور رَسولِ الله صلّى الله عليه وسلم]. رواه الترمذي وصححه، وعن أنس رضي الله عنه مثله. وفي حديث الربيع رضي الله عنها أنها رأتْ رسولَ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يتوضّأ فقالت: [مَسَحَ برأسِه ما أَقْبل منه، وما أَدْبر، وصَدْغَيه، وأُذُنيه مرةً واحدةً] رواه الترمذي، وصحّحه. وأما دليلهم من العقل فقالوا: إِن تكرار المسح يجعل الممسوح مغسولاً، ومقصود الشرع في هذا العضو هو المسح، وليس الغسل. وإستدل الشافعية رحمهم الله بحديث علي رضي الله عنه عند الدارقطني: [أنه مَسحَ برَأسِه، وأُذنَيْهِ ثلاثاً] وسنده ضعيف. وعليه فإنه يترجح القول بأن المسح لا يكون إلا مرةً واحدةً حتى ولو كان الوضوء ثلاثاً؛ لصحّة دلالة النقل، والعقل على ذلك، ولأنّ دليل القول بالتّثليث لم يثبت.

فائدة: إستدل بعضهم بحديث: [توضأَ ثلاثاً، ثلاثاً] على أنه عام فيشمل مسح الرأس، وجوابه: أنه محمول على الأغلب، لأن أحاديث الجمهور مفصّلة بيّنت أن التثليث كان في أغلب أعضاء الوضوء لا في كلّها فتُقدم على هذا الحديث الذي وصف وصفاً غالبياً. قوله رحمه الله: [ثمّ يغسلُ رجْلَيْه مع الكَعْبينِ]: ثم يغسل رجليه، وهذا هو الفرض الأخير غسل الرجلين، أو مسحهما إذا كان لابساً للخفين، أو الجوربين، والكعبان يجب غسلهما مع القدم لقوله تعالى: {وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ} وقد تقدم بيان دليل وجوب غسل الرجلين إلى الكعبين، وهل الكعبان يجب غسلهما، أو لا؟ وذكرنا الأقوال، والأدلة، والراجح في هذه المسألة تبعاً للخلاف في المرفقين مع اليدين بما يغني عن الإعادة. قوله رحمه الله: [ويَغسِلُ الأَقْطعُ بَقيَّةَ المفروضِ]: لأنّ الله أمره بغسل الجميع، فإذا سقط عنه البعض لمكان العذر فإن سقوط البعض لا يقتضي سقوط الكل؛ فالخطاب متوجه عليه أن يغسل يده كاملة فإذا قُطع بعضُها، وبَقي ساعِده مثلاً فإن السَّاعد داخل في المأمور، فيجب عليه غسل ما بقي من الساعد بعد القطع. قوله رحمه الله: [فإِن قُطِعَ منَ المِفْصَلِ غَسلَ رَأسَ العَضُدِ مِنْه]: هذا مبني على ما ذكرناه من كون الكعبين، والمرفقين داخلين في الغسل ولا يمكن إستيعابهما إلا بالشروع في العضد كما جاء في حديث أبي هريرة رضي الله عنه في صحيح مسلم، فصار طرف العضد داخلاً من هذا الوجه، فإذا بقي بعد قطع اليد شيء منه وجب غسله، وفيه نظر، حاصله أن غسل العضد إن

كان للإستيعاب لم يلزمه غسله عند قطع ما قبله، وإن كان غسله مفروضاً أصلاً صحّ غسله، فعلى الأول يكون تابعاً، وعلى الثاني يكون أصلاً، فيسقط في الأول لسقوط أصله دون الثاني حيث إنه أصل مأمور بغسله. قوله رحمه الله: [ثمّ يرفع نظره إلى السماء ويقول ما ورد]: رفع النظر إلى السماء بعد الفراغ من الوضوء لم يصح فيه شيء عن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، والصحيح أنه يقتصر على القول من ذكر الشهادة، فيقول: أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً عبده، ورسوله، وقد صح عنه -عليه الصلاة والسلام- أن من قالها عند تمام وضوءه، فُتِحَت له أبوابُ الجنّة الثمانيةِ يدخل من أيها شاء -نسأل الله العظيم أن يجعلنا، وإياكم ذلك الرجل-. قوله رحمه الله: [وتُباحُ مَعُونته، وتَنْشِيفُ أَعْضَائِه]: الإباحة: إستواء طرفي الحكم أي: لا يؤمر به ولا ينهى عنه، وقوله: [تُباحُ مَعونتُه] أي: معونة المتوضئ، كما ثبت في الأحاديث الصّحيحة من صبِّ الصّحابة رضي الله عنهم لوضوء النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كما في حديث أنس، وحذيفة، والمغيرة بن شعبة رضي الله عنهم في الصحيح، فإنها كلّها دلّت على مشروعية خدمة الأحرار بعضهم لبعض، وخاصة إذا كان من أهل الفضل، وكبار السن، والوالدين، فإنّ هؤلاء خدمتهم عبادة، وقربة لله -جل وعلا-، وتجب عند وجود الحاجة، كالمشلول، ونحوه. وإذا كان صغير السن، وأردت أن تخدمه فلا حرج إذا قُصد بذلك وجه الله لا رياءً، ولا سمعةً لكن الأفضل لطالب العلم ألا يمكّنَ الناس من خدمته في

بداية طلبه للعلم، أو في صغر سنه لما في ذلك من الفتنة، والإنسان في مقتبل عمره لا يأمن الفتنة بخلاف كبار السن، فإن الخشوع فيهم أكثر، وقربهم من الموت يُبْعدهم من قصد إهانة الناس غالباً، مع ما لهم من حق كبر السن، ولذلك يستحب بعض العلماء أن الإنسان إذا كان صغير السن ولو كان من العلماء أنه يتورع عن خدمة الناس له حتى يكون ذلك أبلغ في إخلاصه، وفي طاعته لله -جل وعلا-، أُثر عن عبد الله بن عمر -رضي الله عنهما- أنه قال: (إن صحبت رفقة في سفر؛ فلا يعلموا بصيامك؛ إنهم إن علموا بصيامك قالوا: أنزلوا الصائم، أكرموا الصائم احملوا الصائم حتى يذهب أجرك) أي: لا يزالوا يكرمونك حتى يذهب أجرك بما يكون منهم من إكرام، ولذلك ينبغي للإنسان أن يتورع، وقد عهدنا علماء أجلاء -رحمة الله عليهم- بلغوا من العلم شأواً عظيماً كانوا يتورعون عن خدمة الناس لهم خاصةً في هذه الأزمنة التي قل أن يُوجد فيها المُخلِص وكذلك إن وجد المُخلص قد يوجد المُغالي، وكثير من البدع، والأهواء، والغلو في الصالحين نشأ بسبب الخدمة، ولذلك لا ينبغي أن يُتخذَ الدين طريقاً لإهانة عباد الله -جل وعلا- فإن الله أخرج الناس بالإسلام من العبودية لغيره إلى العبودية له -سبحانه وتعالى-، وقد تكلم الإمام ابن القيم -رحمة الله عليه- كلاما نفيسا في الفوائد، وقال: إن كثيراً من الفساق يغترون بصحبة الصالحين حتى يكونوا جريئين على المعاصي بسبب فضلهم على الصالح بخدمته، ولذلك تجده يخدمه فيغتر بصحبته، فيجرأ على حدود الله، ولا يصلح من حاله، وتصبح صحبته

للعالم صحبة شكلية للخدمة، لكن أن ينتفع بعلمه، ويستفيد من ورعه وتقواه لا تجد لذلك أثراً حتى -والعياذ بالله- يفسد عليه دينه. والمنبغي أن يحمل الإنسان نفسه على أتم الوجوه، وأقربها إخلاصاً لله -جل وعلا-، خرج عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه- من المسجد فخرج معه أصحابه يشيّعوه قال: مالكم؟ قالوا: رأيناك تسير وحدك فأردنا أن نشيّعك، قال: (إليكم عنّي إنها فتنة للتابع، والمتبوع) هذا عبد الله بن مسعود في عصر الخيرية، وفي القرون المفضلة يقول: إنها فتنة للتابع أي: أن الإنسان إذا سار مع العالم، دون أن يسأله، ودون أن يستفيد من علمه ذلك فتنة للتابع بالإغترار بالصحبة، ورؤية الناس له مع أهل الفضل، وأيضاً فتنة للمتبوع أي: أن العالم ربما دخله الغرور برؤية من حوله ممن يشيّعه، ويسير معه. ولذلك الأسلم والأكمل أن الإنسان يتورع وإذا نظر الله إليك قد حباك العلم والفضل لا تهين عباده ولا تأخذ منهم أجراً ولا جزاءً ولا شكوراً كَمُلَ أجرك عنده -جل وعلا-، ولذلك قال تعالى: {تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ} وقال تعالى: {قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ} (¬1) لكن لا يعني هذا التحريم، والمنع ولكن نقول: أن الإنسان إذا خشي الفتنة على نفسه، أو على من معه، فإنه ينبغي عليه أن يتورّع، وهذه المسألة أحبُّ أن أُنبه عليها؛ لأنه حصل فيها كثير من الدَخَل، فلقد رأينا كثيراً من طلاب العلم ¬

(¬1) ص, آية: 86.

يصحبون العلماء، ويكون في بداية صحبته للعالم كأحسن ما أنت رآءٍ أدباً، وخلقاً، واستفادة من العالم، وكثرة سؤال، ومدارسة له، ولكن ما إن يدخل إلى مقام خدمته، والقيام على شأنه، ويداخله في أموره الخاصة إلا وتغير حاله فيخرج عن حدِّ الأدب، ولربما يأتي وقت، وقد رأينا ذلك بأعيننا في بعض ضعاف النّفوس في حال صحبتهم لمشائخنا يأتي وقت يجرؤ فيه على أن يُفتي فيه بحضرة العالم، وهذا -نسأل الله السلامة والعافية- من المزالق الخطيرة إذا صحبت أهل العلم لا حرج أن تخدمهم، وأنت تريد وجه الله؛ ولكن اعلم أن صحبة العلماء للعلم، والفائدة، وليست للمظاهر، والأمور التي قد تكون فتنة على الإنسان في دينه، ودنياه، وآخرته. قال رحمه الله: [تُباحُ مَعُونتُه]: أي: يجوز أن يعاونه الغير. قوله رحمه الله: [وتَنْشيفُ أَعضائه]: التنشيف: هو التجفيف أي: يباح التنشيف، ويجوز، ولكن الأفضل أن لا ينشف أعضاء الوضوء لما ثبت في الحديث الصحيح عن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أنه قال: [مَا مِنْ مُسْلم يُقرِّبُ وضُوءَه فيُمضمِضَ، ويَسْتَنْشق، ويَغسِل وجْهَه إلا خَرجتْ كُلُّ خَطيئةٍ نَظرتْ إِليها عَيْناهُ مَعَ المَاءِ أَوْ مَعَ آخرِ قَطْرِ الماءِ] فقوله: [مَع الماءِ، أوْ مع آخِرِ قَطْرِ المَاءِ]، وكذلك قال في اليدين: [حتى تَخْرجَ مِنْ تَحتِ أَظْفارِ أَصابِعه مَعَ الماءِ، أوْ مَعَ آخِرِ قَطْرِ الماء] فقد دلّ على فضيلة عدم تنشيف الأعضاء، وترك الماء يتقاطر حتى يكون أكثر طهارة من الذنوب، والخطايا.

وكذلك ثبتت السُّنة بتأكيد هذا المعنى المستنبط في الوضوء، فإن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لما اغتسل، وجاءته أمّ المؤمنين بمنديل قالت رضي الله عنها: [فلم يُرِده، وجعل يَنْفضُ الماءَ بيديْه]. ولهذا استحَبّ طائفةٌ من العلماء أنه يُبقي الأعضاء مبلولة، حتى يكون ذلك أدعى لخروج خطاياه، مع الماء أو مع آخر قطر الماء على ظاهر الحديث.

باب المسح على الخفين

باب المسح على الخفين قال رحمه الله: [باب المسح على الخفين]: تقدم معنا في مباحث الوضوء أن المسح هو: إمرار اليد على الشيء تقول: مسحت الرأس إذا أمررت يدك عليه، والمراد به هنا: (إمرارُ اليدِ مبلولةً على الخُفّين، وما في حكمهما)، والخفان: مثنّى خُف، وهو النّعل من الجلد، أو الأدم الذي يكون للقدم، والأصل فيه أن يكون ساتراً لموضع الفرض، وذلك من أصابع الرجلين إلى الكعبين، وهما داخلان، كأنه يقول رحمه الله في هذا الموضع سأذكر لك جملة من الأحكام المتعلقة برُخْصةِ المسح على الخفين. أما مناسبة هذا الباب للباب الذي قبله فقد تكلم المصنف -رحمه الله- على صفة الوضوء الشرعية فلما فرغ من بيانها وَذِكْرِ المواضع التي أمر الله -عز وجل- بغسلها، ومسحها في الوضوء ناسب أن يذكر ما يتعلق بآخر عضو من أعضاء الوضوء، وهما الرجلان حيث رخّص الله -جل وعلا- بسنة رسوله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أن يمسح المكلف على ساتر مخصوص لهما، فناسب بعد الفراغ من باب الوضوء أن يذكر باب المسح على الخفين لأنه متعلق بآخر فرض من فرائض الوضوء وهو غسل الرجلين، والمسح على الخفين رخصة من رخص الشرع، وهذه الرُّخصة ثبتت مشروعيتها بالأحاديث الصحيحة عن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- حتى بلغت مبلغ التواتر، قال الإمام أحمد -رحمه الله-: [فيه " أي: في المسح على الخُفين " أربعون حديثاً عن أصحاب النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مرفوعة]، ومثله عن

الحافظ إبن عبد البر رحمه الله، وقال الحسن رحمه الله: [حدّثني سبعونَ من أصحاب رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إنّه مسحَ على الخُفّينِ]. ولذلك قال بعض العلماء عن أحاديث المسح على الخفين: إنها بلغت سبعين حديثاً، وقد أشار إلى ذلك صاحب الطلعة رحمه الله بقوله: ثُمّ مِنَ المشْهُورِ ما تَواتَرا ... وهْوَ ما يرْويهِ جَمعٌ حُظِرا كَذِبُهم عُرْفاً كَمسْح الخفِّ ... رفعُ اليَديْنِ عَادِمٌ للخُلْفِ وقَدْ روى حَديثَهُ مَنْ كَتبا ... أَكثُر مِنْ سِتّينَ مِمّنْ صَحِبا أي أكثر من سِتّين من أصحاب النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- رووا هاتين السنُتين عن المصطفى -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- الأولى: رفع اليدين عند تكبيرة الإحرام. والثانية: المسح على الخفين، والأحاديث التي وردت في المسح على الخفين منها: ما هو قولي، ومنها: ما هو فعلي، ولذلك لا إشكال في مشروعيته، وكان السلف الصالح -رحمة الله عليهم- عندهم خلاف في الصدر الأول وقع من بعض الصحابة رضي الله عنهم، ثم إنتهى بعد بلوغ السنة لهم. قال الإمام عبد الله بن المبارك رحمه الله: [ليس في المسح على الخُفّين عن الصحابة إختلاف لأن كل من رُوي عنه منهم إنكاره، فقد روي عنه إثباته]، ولذلك اتفقت الكلمة على مشروعية هذه الرخصة وأثر عن بعض السلف من العلماء أنه خصّها بالسفر لكنّه قال بأصلها، وهو إحدى الروايات الثلاث عن الإمام مالك -رحمة الله عليه- وسُنبين أنّ الصحيح أنها رخصة لا تختص بالسفر لحديث حذيفة رضي الله عنه في إثباتها، وفعلها في الحضر،

وهو ثابت في صحيح مسلم أن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بالَ عند سُباطةِ قومٍ قال: [فَصَببْتُ عليه الوضوء، فتوضّأ، ومسح على خُفّيه] وذلك في الحضر فالمسح على الخفين ثابت، وثبوته معتبر عند السلف، ومن بعدهم حتى كان بعض العلماء يدخل في عقيدة أهل السنة، والجماعة القول بمشروعية المسح على الخفين مبالغة في الرد على أهل البدع، والأهواء الذين لا يقولون بمشروعيته، والسبب في ذلك أن ثبوته ثبت بالتواتر، فأصبح من الأمور التي ثبتت مشروعيتها بدليل القطع، وما ثبت مشروعية بدليل القطع، وأنكره من اعتقد ثبوته بالقطع الذي لا شك فيه فقد كفر -والعياذ بالله-؛ لأنه يكذب الشريعة، وكل قطعي ثابت في الشريعة في الكتاب، أو السُّنة فإن إنكاره لمن اعتبر قطعيته، وثبوته يعتبر إنكاراً، وتكذيباً للشرع فيكفر بذلك كما هو مقرّر في العقيدة. وهذا المسح رخصة على سبيل التخيير، لا إلزام فيها. قال رحمه الله: [باب المسح على الخفين]: أي في هذا الموضع سأذكر لك جملة من الأحكام المتعلقة بالمسح على الخفين، ومنها: أولاً: مشروعيته ببيان الدليل الشرعي على ثبوته. ثانياً: هل مشروعيته على سبيل اللزوم، أو لا؟ ثالثاً: ما هي الشروط المعتبرة في الخفين الممسوح عليهما. رابعاً: ما هي صفة المسح هل هي لأعلى الخفّ، وأسفله، أو للأعلى، دون الأسفل، أو للأسفل، دون الأعلى؟

خامساً: هل المسح على الخفين مؤقت؟ وإذا كان كذلك فما هي المدة المؤقتة فيه؟ إلى غير ذلك من المسائل المتعلقة بالمسح على الخفين، ثم من عادة الفقهاء -رحمة الله عليهم- أنهم يعتنون بذكر حكم النظير مع نظيره فيدخلون المسح على العمامة إذا قالوا بمشروعيتها في باب المسح على الخفين، فيذكرون أحكام المسح، ويُتْبعونها بأحكام المسح على الجبائر، والعصائب، وقد يُتْبعونها كذلك بالمسح على الخمر بالنسبة للنساء على القول بمشروعيته، وكلّ ذلك سيبينه المصنف رحمة الله عليه في هذا الباب. قال رحمه الله: [يَجُوزُ يوماً، ولَيْلَة لُمقيمٍ]: يجوز أي: المسح على الخفين، ولما قال: يجوز فهمنا منه أنه مشروع على سبيل الإباحة، والتخيير، فلا إلزام فيه للمكلف أي: أنه لا يجب على الإنسان أن يمسح على الخفين، وإنما ذلك مباح له، وجائز، فإن ترتبت مصالح من قصد إحياء السُّنة، ودلالة الناس عليها؛ فإنه يثاب ويعتبر مندوباً في حقه، وقد يصل إلى الوجوب إذا توقف بيان هذه السنة على تطبيقها، وفعلها. قال رحمه الله: [يَجوزُ يوماً، وليلةً لمُقيم]: قوله: [لمقيم] الإقامة: ضد السفر، وتتحقق الإقامة حقيقة إذا كان الإنسان في موضعه الذي هو نازل فيه سواء كان في بادية، أو حاضرة، وتتحقق الإقامة -أيضاً- بالحكم وهي: الإقامة الحكمية كأن يكون الإنسان مسافراً، ثم نوى أن يمكث في بلد أربعة أيام، فأكثر غير يومي الدخول، والخروج.

وفي هذه الجملة دليل على مشروعية المسح على الخفين للمقيم، فيصبح القول بجوازه عاماً أي: شاملاً للسفر، والحضر. وللعلماء قولان في هذه المسألة: منهم من يقول: المسح مختص بالسفر، وهو إحدى الروايات عن الإمام مالك -رحمة الله عليه-؛ لأن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مسح في السفر، والسفر يناسبه التخفيف، وذلك أن حديث المغيرة رضي الله عنه في إثبات المسح كان في سفره -عليه الصلاة والسلام- لغزوة تبوك فقال: أصحاب هذا القول إنه يختص بالسفر. وقال الجماهير: إن المسح لا يختص بالسفر، بل يشمل السفر، والحضر؛ لأن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال كما في صحيح مسلم من حديث علي: [يَمسحُ المُسافرُ ثَلاَثة أيامٍ، والمقيمُ يَوماً، وليلةً] فدلّ على أنه مشروع للمسافر، وللمقيم، وهي دلالة من السُّنة القولية، كذلك دلت السُّنة الفعلية على مشروعية المسح في الحضر كما في حديث حذيفة بن اليمان رضي الله عنهما: إن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أتى سُبَاطَة قَومٍ فَبالَ قَائِماً، ثم قال لي: [اُدْنُ]، فدنوتُ حتى كنت عند عقبيه، قال: فلما فرغ صببت عليه وضوءه حتى قال: [ثُمّ مَسحَ علَى خُفّيهِ] وهذا في الحضر، فدلّ على مشروعية المسح في الحضر كما هو مشروع في السفر. وفي حديث صفوان بن عسال المرادي -رضي الله عنه- في السنن قال: [أَمَرَنا رسولُ اللهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَنْ لا ننزِعَ خِفَافنا ثلاثةَ أيام بِلَيالِيهنَّ للمُسَافِر، ويوماً وليلةً للمُقِيم] فأثبت مشروعية المسح حضراً، وسفراً.

وبناءً على ذلك فإنه يترجح قول الجماهير بأن المسح يشرع حضراً، وسفراً، وعلى هذا فلا تتقيد رخصته بالسفر كما ذكر من يقول إنه متقيّد بالسفر؛ لأن ورود المسح عن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- في حديث المغيرة رضي الله عنه في السفر لا يقتضي تخصيص الحكم بالسفر لوجود الحكم نفسه في الحضر بدليل السنة القولية والفعلية كما تقدم. قوله رحمه الله: [ولِمسَافرٍ ثَلاثةَ بِلَيالِيهَا]: أي: أنّ المسح على الخفين مؤقت للمسافر، كما هو مؤقت للمقيم، وتعرف هذه المسألة بمسألة توقيت المسح على الخفين، وذلك على قولين: فذهب الجمهور رحمهم الله من الحنفية، والشافعية، والحنابلة، والظاهرية إلى أن المسح على الخفين مؤقت ثلاثة أيام للمسافر، ويوماً، وليلة للمقيم، وحجتهم ما سبق من حديث علي رضي الله عنه في صحيح مسلم، وحديث صفوان بن عسّال المُرادي رضي الله عنه في السنن، وقد تقدم ذكرهما في المسألة السابقة قالوا: إنهما نصّا على أنّ المسح مؤقت بيوم، وليلة للمقيم، وثلاثة أيام للمسافر. وأما بالنسبة للقول الثاني فقال: المسح على الخفين غير مؤقت، وهذا هو مذهب المالكية -رحمة الله عليهم-، والليث، وهو مروي عن بعض الصحابة رضي الله عنهم. وقد احتج المالكية على عدم التأقيت بحديث أُبيِّ بن عمارة أنه سألَ النبيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عن المسح على الخفين فقال: يا رسول الله أمسح على الخفين يوماً؟ قال: " نَعمْ " قال: " ويَوْمينِ "؟ قال: " نَعمْ " قال: " وثَلاثةً "؟ قال

نَعمْ، وفي رواية: " وما شِئْتَ " قالوا: إن هذا الحديث أصل في عدم تأقيت المسح على الخفين، ومعناه: أنك إذا لبست الخفين فامسح ما بدا لك، وينتهى الوقت عند نزعك للخفين، وعند أصحاب هذا القول لا يتأقت، لا في السفر، ولا في الحضر، فالإنسان يمسح مدة لبسه للخفين. وأصح القولين فى نظري والله اعلم أن المسح يتأقت، وذلك لما يلي: أولاً: لصحة دلالة السُّنة على ذلك. ثانياً: أن حديث أُبيِّ بن عمارة ضعيف. ضعفه الإمام أحمد، والبخاري، والدارقطي، وغيرهم من أئمة الحديث رحمهم الله قال إبن معين رحمه الله: (إِسْنادُه مُظْلِمٌ)، ولذلك لا يعارض السُّنة الصحيحة التي أثبتت المسح مؤقتاً. قوله رحمه الله: [مِنْ حَدَثٍ بَعْدَ لُبْسٍ عَلى طَاهرٍ]: قوله [مِنْ حَدثٍ] مِنْ: للابتداء أي: يبدأ تأقيت المسح من الحدث الأول بعد اللبس على طهارة، فيبدأ التأقيت بالثلاثة الأيام إذا كان الإنسان مسافراً، واليوم، والليلة إذا كان مقيماً مِنَ الحَدثِ بعد لُبسه، فمن المعلوم أن لُبس الخفين يكون بعد طهارة كاملة تامة، فإذا كان متطهراً، ولبس خُفّيه فإنه ينتظر أول حدث بعد لُبْسه للخُفّين، فإذا أحدث بدأ التوقيت بذلك الحدثِ إلى مثله يوماً، وليلةً، أو ثلاَثة أيامٍ على حسب حاله مسافراً كان، أو مقيماً. فعلى سبيل المثال: لو لبس الخفَّ الساعة العاشرة صباحاً، وهو على طهارة، ثم أحدث الساعة الحادية عشرة فإنه يَعْتدّ بوقت حدثه، وهو الساعة الحادية عشرة فإن كان مقيماً كان له المسح منها إلى مثلها في اليوم التالي، فينتهي

توقيت المسح له في الحادية عشرة من اليوم التالي إذا كان مقيماً، وهكذا الحال في السفر ينتهي في مثل وقت الحدث بعد ثلاثة أيام. ونصّه رحمه الله على إِعتبار الحدث معناه: أنه لا عبرة بوقت اللُّبس، ولا بوقت المسْح الأول الذي يقع بعد اللبس، وإنما العبرةُ بالحدثِ لأنه بحصوله شُرِع له أن يمسح فاعتدّ بوقته بِغضِّ النّظر عن كونه مسح بعده، أو انتظر مدة. ولذلك قال العلماء رحمهم الله: أن العبرة بوجود السبب، وهو الحدث، فأحاديث التوقيت جعل الشرع فيها المدة محدودة للرخصة، وإستباحة الرخصة إنما يكون بوقوع الحدث نفسه، لا بلُبس المكلّف، ولا بمسحه. قوله رحمه الله: [عَلى طَاهرٍ مباحٍ]: يشترط في الخف أن يكون طاهراً، وأن يكون مباحاً، ومفهوم الشرط أنه لا يصح المسح على خفٍ نجس لأن الخف النجس أولاً: لا تصح الصّلاة به لما ثبت في الحديث الصحيح عن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أنه نزع نعليه لما أخبره جبريل أنهما ليستا بطاهرتين، فدلّ على أن حذاء المصلي لا بد، وأن يكون طاهراً، فلا يتأتى فيه أن يمسح على هذا النوع، وهو النجس. الأمر الثاني: أنه بالمسح باليد المبلولة على خفّ نجس العين، أو متنجس في موضع المسح، فإنه يتنجس بمرور يده على موضع النجاسة، أو على الخف نفسه إذا كان نجس العين، وبذلك لا تتحقق الطهارة المقصودة من المسح، بل يحصل ضدها، وهو النجاسة، فلم يصحّ المسح.

وقوله رحمه الله: [مباحٍ] أي: أن يكون الخف مباحاً، ويخرج بقوله: [مباحٍ] ما كان حراماً كالمغصوب فبيّن رحمه الله أنه لا يصح المسح إذا وقع على خفّين مغصوبين؛ لأن من شرط صحة المسح على الخفين أن يكونا مباحين، والمغصوب غير مباح، وهذا على مذهب الحنابلة رحمهم الله. قوله رحمه الله: [ساترٍ للمفروضِ]: ساتر هذا الشرط الثالث، وهو: أن يكون الخفّ ساتراً لمحل الفرض، وهو الرِّجْلُ لأن البدل يأخذ حكم المُبْدل، والمسح بدل عن ما أمر الله بغسله، وهو الرجلان فوجب أن يستر جميع الرّجْلين اللّتين أمر الله بغسلهما، فلا بد من أن يكون ساتراً من أطراف الأصابع إلى الكعبين، والكعبان داخلان كما قررناه في آية الوضوء، فلو كان على نصف القدم، فإنه لا يجوز أن يمسح عليه لأنه غير سائر لمحل الفرض، ولو كان دون الكعبين، بحيث ستر جميع الرجل، إلا الكعبين فإنه لا يصح أن يمسح عليه لأنه غير ساتر لمحل الفرض. قوله رحمه الله: [يَثْبُتُ بِنَفْسِهِ]: يثبت بنفسه هذا الشرط مبني على أنه إذا وردت الرخصة في الشّرع ينبغي تقييدها بالوصف الذي ثبت عن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فالخفاف التي كانت موجودة، ومعروفة في زمانه عليه الصلاة والسلام تثبت بنفسها، فيخرج ما لا يثبت؛ لأن الذي لا يثبت بنفسه عُرضة إلى أن يكشف منه محل الفرض، وبناء عليه فإنه لا يمُسح عليه، ولا يعتبر على صفة الخف الذي ورد دليل الشرع باستباحة المسح عليه، فإن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لم يكن خُفّه مَشْدوداً، ولو كان مما يشدُّ، أو كان غير ثابت

وينزل عن الكعبين لبُين ذلك، ولكان ظاهراً من الأحاديث التي جاءت بذكر مسحه -صلوات الله وسلامه عليه- على خفيه. قوله رحمه الله: [مِنْ خُفٍ، وجَوْرَبٍ صَفِيقٍ، ونحوهما]: قوله: [مِنْ خُفٍّ] من: بيانية، وقوله: [وجورب] الواو للعطف الموجب للتشريك في الحكم أي سواء مسح على خف، أو جورب، والفرق بينهما أن الخفاف تكون من الجلد، أما الجوارب فإنها تكون من القماش ولها صورتان: الصورة الأولى: أن تكون كلُّها من القماش؛ كجورب الصّوفِ، والقُطن الخالصين. والصورة الثانية: أن تكون من القماش المنعّل، وصورته: أن يكون أعلاه من الصوف، ويكون أسفله الجلد فهذا يسمونه الجوربَ المنعَّلَ فهو من القماش لكن أسفله مما يلي الأرض، أو موطئ القدم منه من الجلد، وهو موجود في زماننا، ويعتبر جورباً منعلاً، وكلا النوعين داخل معنا هنا، وفيهما مسألتان: المسألة الأولى: هل يجوز أن يمُسح على الجوارب كما يمُسح على الخفاف؟ المسألة الثانية: هل ذلك شامل لكلِّ جورب؟ أما المسألة الأولى: وهي هل يمسح على الجورب كما يمسح على الخف؛ ففيها قولان مشهوران:

القول الأول: يُمسح على الجوارب كما يُمسح على الخفّ، وبه قال الإمام أحمد، وطائفة من أهل الحديث رحمهم الله. القول الثانى: أنه لا يمسح على الجوارب، وهو مذهب الجمهور رحمهم الله. فالذين قالوا بمشروعية المسح على الجورب إحتجوا بحديث الترمذي، وأحمد: [أن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مسحَ على الجَوْربَيْنِ]. والذين لا يرون جواز المسح على الجوربين قالوا أولاً: إنه لم يثبت في الجوربين ما ثبت في الخفين، فلا وجه للإستثناء، والرُّخصة. وثانياً: أنه يُحمل قوله على الجوربين على الرواية بالمعنى، فيكون المراد بهما: الخفان من الجلد، لا الجوربان من القماش. والذي يظهر والله أعلم جواز المسح على الجوربين لصحّةِ حديثه، فقد صحّحه غير واحد من أئمة الحديث منهم الإمام أحمد، والترمذي رحمة الله عليهما، وقد جاءت هذه السُّنة عن تسعة من الصحابة رضي الله عنهم منهم: عليٌ، وعمار، وإِبن مسعود، وأنس، وإِبن عمر، والبراء، وبلال، وإبن أبي أوفى، وسهل بن سعد الساعدي رضي الله عنهم. ًثانياً: أنّ حمل الحديث على الخفين خلاف الظاهر، والمعروف أن إطلاق الجورب له معنى، وإطلاق الخف له معنى، وليس الصحابي يجهل دلالة اللفظين فإنّه عبر بلغة صحيحةٍ، ولذلك قالوا إن رواية مُنَعَّلَين تدل على الجلد، ويمكن أن يجاب عنها بأنّ المنعلين المراد بها بعض أفراد الجوارب، وهي الجوارب التي لها بطانة من الجلد.

ومن أهل العلم من أجاب: بأن المراد أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مسح على الجورب مع النعل، والنعل لا تغطي كل الظاهر فلم يحتج إلى نزعها عند المسح، لأن النعل لا يلزم مسحه لأنه من باطن كالخف فاقتصر على مسح الجورب، فقال الصحابي على الجورب المنعل يعني أنه مسح مع وجود النعل، والمقصود الجورب، وعلى هذا يصح القول بالمسح على الجوربين. أما المسألة الثانية: فإن الجورب الذي يجوز المسح عليه يشترط فيه أن يكون صفيقاً، وعلى ذلك كلمة أكثر من يرى المسح على الجوربين، أنه لا بد، وأن يكون صفيقاً، وهي عبارات العلماء، لأن الجوارب الخفيفة الشّفافة هذه لم تكن موجودة على عهد النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-؛ إنما كانوا يلبسون الجوارب الثخينة، وكانوا يمشون بها، ولذلك كانوا يلفون الخرق على أقدامهم، وهو المعبّر عنه بالتساخين في بعض الروايات، وهذا يدل على ما اعتبره العلماء من اشتراط الصّفاقة أي: كونه صفيقاً، وأيضاً النظر يقتضيه، فإن الجورب منزّل منزلة الخفِّ، والخفُّ أصله من الجلد، ولا يمكن للجورب أن ينزّل منزلَته إلا بالثّخانة، والصّفاقة، وعلى هذا فإنه يصح المسح عليه إذا كان صفيقاً ثخيناً فالذي يشف البشرة، أو يكون غير ثخين فإنه لا يمُسح عليه؛ لأنه غير معروف على عهد النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، ومن قال بجوازه يقوله بالقياس فيقول: أقيس هذا الشّفاف على الجورب الموجود على عهد النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ويجاب عنه: بأنه قياس مع الفارق، والفارق هنا مؤثر، ومن شرط صحة القياس، واعتباره أن لا يكون قياساً مع الفارق،

ثم إن المسح على الخفين رخصةٌ جاءت على صفة مخصوصة فيقتصر الحكم على الوارد، والقياس في مثل هذا ضيق. وعليه فإنه لا يصح المسح على الجوربين إلا إذا كانا صفيقين، كما نبه عليه الأئمة منهم الإمام ابن قدامة -رحمة الله عليه- في المغني، وغيره من أصحاب المتون المشهورة في المذهب الحنبلي الذي يقول بجواز المسح على الجوربين كالإمام الحجّاوي في الإقناع، وابن النجّار في المُنتهى، وغيرهم رحمهم الله كلهم نصّوا على كونه صفيقاً إخراجاً للخفيف الذي يصف البشرة، أو يكون غير ثخين. قوله رحمه الله: [ونَحْوِهِما] أي نحو الجورب الثخين بمعنى: أنه لا يختص الحكم بالجلد، ولا بالقماش فإذا وجد الساتر للقدمين من غيرهما، ولكنه على صفة الخفّ، والجورب في الثّخانة صَحّ المسح عليه، وهذا ما يدل عليه قوله: [نحوهما] المتضمن لمعنى الشَّبَهِيةِ. قوله رحمه الله: [وعلى عِمَامةٍ لرجُل]: بعد أن فرغ -رحمه الله- من بيان أحكام المسح على الخفين شرع في بيان أحكام المسح على العمامة، والعمامة مأخوذة من قولهم: عمَّ الشيء إذا شمله، وصفت العمامة بكونها عمامة؛ لأنها تشمل الرأس بالغطاء فهي تستره، والعمامة تأتي على صور فمنها: العمامة التي لها ذؤابة، ومحنّكة، ومنها: العمامة التي لها ذؤابة غير محنكة، والعمامة: التي لا ذؤابة لها، وليست بمحنكة هذه ثلاث صور للعمائم.

فأما ما كان من العمائم له ذؤابة سواء كان محنّكاً، أو غير محنّك فإنه يشرع المسح عليه لأنها على صفة عمائم المسلمين كما يشهد لذلك الحديث عنه عليه الصلاة والسلام أنه عمّم عبدَ الرحمن بنَ عوفٍ رضي الله عنه وأرسل العذبة بين كتفيه، وقال: [هَكذا فَاعتمَّ يا ابنَ عَوْفٍ] فالعمامة تكون لها عذبة سواء كانت مُحنّكة، أو غير مُحنّكة، وسواء أرسل عذبتها بين الكتفين من خلفه، أو أرسلها من جهة المقدمة على صدره من الجهة اليمنى تفضيلاً للأيمن على الأيسر، هذا بالنسبة لعمائم المسلمين. وهناك نوع ثالث من العمائم وهي العمامة المقطوعة التي لا عذبة لها، ولا ذؤابة كانت شعاراً لأهل الذِمّة لأن أهل الذِمِّة إذا كانوا مع المسلمين فإنهم يكون لهم شعار يعرفون به، ويتميزون به عن المسلمين حتى لا يلتبسوا بهم، فلا بد من وجود علامة فارقة لهم، في ملبسهم بحيث يتميزون عنهم في المجامع وغيرها، وأول من سنَّ ذلك عُمر رضي الله عنه، فكانت لهم العمائم مقطوعة، والزنّار مَشْدوداً في أوساطهم، ولها أصل في السُّنة أن الكفار إذا دخلوا بلاد المسلمين لا يشابهونهم في اللباس، فلذلك كان رضي الله عنه يلزمهم بعمائم مخصوصة، ولباس مخصوص حتى يكون علامة لهم، فهذا النوع من العمائم يختص بأهل الذمّة، فالأصل منع المسلمين من لُبسه، وشدد العلماء -رحمهم الله- فيه لأن فيه مشابهة بأهل الذمة، فمِثلُ هذه العمائم لا يمسح عليه.

قوله رحمه الله: [وعلى عمامة لرجُلٍ محنّكةٍ، أو ذاتِ ذُؤابة]: وعلى عمامة لرجل، فالمرأة لو إعتمت فإن اعتمامها، وعصب رأسها يكون على حالتين: الحالة الأولى: أن يكون بدون حاجة فتكون -والعياذ بالله- ملعونة، لأنها تتشبّه بالرجال، وقد يفعل هذا بعض المسترجلات من النساء -نسأل الله السلامة والعافية-، وفي الحديث الصحيح أنّ النبيَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: [لَعَنَ المُسْتَرجِلاتِ مِنَ النساءِ]. الحالة الثانية: أن تحتاج إلى عصب رأسها لشدِّ رأسٍ من وجع، أو ألم، أو نحو ذلك، فهذا أمر مستثنى من التحريم لوجود الحاجة فهذه العصائب التي قد تشبه العمامة في بعض أحوالها لا يُمسحُ عليها، والأصل أن العمائم تختص بالرجال، والنساء لا عمائم لهن. الأصل في مشروعية المسح على العمامة حديث المغيرة -رضي الله عنه- أنّ النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مَسَحَ على نَاصِيته، وعلى العمامة، وورد -أيضاً- أَمرُه -عليه الصلاة والسلام- بالمسح عليها، وحسّنه بعض أهل الحديث، فهذه السنة الثابتة بالفعل، والقول أصل في جواز المسح على العمامة، ويُشترط فيها كما قال: [ذاتِ ذؤابةٍ، أو مُحنّكة] أي موضوعة تحت الحنك وتعبيره بـ[أو] في قوله [أو محنكة] فيه دليل على عدم إختصاص الرخصة بالعمامة المحنكة، بل المهم أن تكون من عمائم المسلمين لها ذؤابة، سواء كانت محنَّكة، أو غير محنَّكة.

وإذا كانت العمامة محنَّكة كانت المشقة بنزعها أكبر، ولذلك لم يشرع المسح على كل ساتر للرأس فالطاقية، والعمامة المقطوعة لا يشقُّ نزعهما، فلم يرخص بالمسح عليهما، وعليه فالمنع من المسح على العمامة المقطوعة في أحد الوجهين راجع إلى عدم المشقة بالنزع كالقلنسوة. قوله رحمه الله: [وعلى خُمُرِ نِساءٍ مُدَارةٍ تَحتَ حُلوقِهنّ]: أي ويجوز المسح من المرأة على خمارها، والخمار: فعال من الخَمْر، والخَمْر أصله التّغطية، ومنه قوله -عليه الصلاة والسلام-: [خَمّروا الآنيةَ] أي: غطوها، وسُمّيت الخمرُ خمراً -والعياذ بالله-؛ لأنها تغطي العقل، فكأن الإنسان إذا شربها صار كمن لا عقل معه، ووصف الخمار بكونه خماراً؛ لأنه يستر رأس المرأة، ويغطيه، والأصل في مشروعية المسح عليه حديث بلال في صحيح مسلم عنه رضي الله عنه أنه قال: [مَسحَ رسولُ اللهِ صلّى الله عليه وسلم على الخُفينِ، والخمَارِ، أي أذن بالمسح على الخمار للنساء، وفي مسند أحمد بلفظ: [إمسحوا على الخفين والخمار]، وفيه أيضاً أثر أم سلمة رضي الله عنها، وقياساً على العمامة في كونها ساترين يشقُّ نزعهما. قوله رحمه الله: [مدارة تحت حلوقهن]: أي تكون تحت الحلق قالوا: إنه ينبغي أن يكون ذلك الخمار مداراً مثل: المِسْفَع، ونحوه يكون تحت الحلق، كالحال في المحنّك من عمائم الرجال حتى تحصل المشقة بنزعه، فيرخص بالمسح عليه، وهذا مبني على أن الرخصة فيهما مبنية على مشقّة النزع.

قوله رحمه الله: [في حدثٍ أصغَر]: بعد أن بيّن -رحمه الله- ما الذي يمسح عليه، ووقت المسح شرع في بيان محل المسح هل هو في جميع الأحداث، أو في بعضها؟ فبيّن رحمه الله إختصاص المسح على الخفين، والعمامة، والخمار بالحدث الأصغر، دون الأكبر، فلا يجوز للإنسان أن يمسح عليها في الحدث الأكبر إجماعاً، بل يجب عليه غسل القدمين، والرأس في الطهارة من الحدث الأكبر، والأصل في هذا ما ثبت في الحديث الصحيح، وهو حديث صفوان بن عسّالٍ المُراديِ -رضي الله عنه- وأرضاه قال: [أَمَرنا رسولُ الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ألا نَنْزِعَ خِفَافَنا من بولٍ، أو نومٍ، أو غائطٍ؛ لكن من جنابةٍ]، فدل على أن الخف يمسح عليه في الحدث الأصغر المعبر عنه بقوله: [من بولٍ، أو غائطٍ، أو نومٍ] دون الأكبر الذي يجب فيه نزع الخفين، وهو معنى قوله: [لكِنْ منْ جَنابةٍ] أي لكن نزعهما من جنابة، فدلّ على أن الحدث الأكبر لا رخصة فيه بالمسح على الخفين، بل يجب فيه الرجوع إلى الأصل، وهو غسل العضو. قوله رحمه الله: [وعلى جَبِيرةٍ لم تَتَجاوز قَدرَ الحَاجةِ]: شرع رحمه الله في بيان أحكام المسح على الجبيرة بعد أن بيّن -رحمه الله- المسح على الخفّين، والعمائمِ، والخُمُرِ. ويرد السؤال: أليست الجبيرة يمسح عليها كما يمسح على العمامة هذا من قماش، وهذا من قماش، وكلاهما ساتر لمحل الفرض، فلماذا أفردها؟ الجواب: أن الجبيرة تخالف ما تقدم في كونها في الحدث الأصغر، والأكبر، فإن الإنسان إذا جَبرّ كسراً ووضعها فإنه يحتاج إلى بقائها مدة معينة،

فسبب الرخصة قائم بخلاف المسح على الخفين، والعمامة، والخمر، فإنه ليس مرتباً على سبب، ولا علة، وإنما هي رخصة مطلقة على أحد الوجهين عند أهل العلم رحمهم الله. والأصل في المسح على الجبائر: حديث ذي الشّجَةِ الذي رواه الدارقطني، وغيره أنّ رجلاً من أصحابِ النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- سافَر مع أصحابهِ فأصابتهُ شِجَاج، أو كانت به جراح قال: فأجنب، فسألَ أصحابَه هلْ من رُخصة؟ قالوا: لا رخصة، وإغتسل أي: يلزمك الغسل، فاغتسل فمات، فقال النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: [قَتَلُوه قَتَلهُمُ الله هلا سَأَلوا إِذْ جَهِلُوا إنما شِفَاءُ العِيِّ السُّؤالُ]، وفي بعض الروايات: [قَدْ كَانَ يَكْفِيهِ أَنْ يَعصُبَ جُرحَه] فأخذوا منه مشروعية المسح على العصائب، والجبائر وهذا الحديث متكلم في سنده، والقول بضعفه في رواية الجبائر أقوى، ولكن أصول الشريعة، وقواعدها العامة تدل على مشروعية المسح على الجبائر، ولذلك اتفقت كلمة العلماء، وأجمعوا على أنه يجوز المسح على الجبيرة لماذا؟ لأن التكليف شرطه الإمكان قال تعالى: {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} (¬1) فإذا كان بإمكان المكلف أن يفعل كُلّف، وإن لم يكن بإمكانه لم يكلف، فهذا الذي أصابه الكسر في يده، أو ساعده، أو زنده، أو كفه ليس بإمكانه أن ينزع الجبيرة حتى يغسل، ويترتب على نزعه ضرر عظيم ولأن الشريعة لما أذنت له أن يتداوى؛ فقد أذنت بلازم التداوي من ¬

(¬1) البقرة، آية: 286.

بقاء الجبيرة، فتبقى الجبيرة على ما هي عليه، ويمسح عليها، ويحلّ هذا الساترُ محل الأصل بشروطه، وهي: أولاً: وجود الحاجة، وهو أن يتحقق من وجود الكسر الذي يحتاج إلى الجبر. ثانياً: أن يشدّ بقدر الحاجة، فلو فُرضَ أن موضع الكسر الذي يحتاج بسببه إلى الجبر محدّد بخمسة أصابع ويحتاج الطبيب إلى إصبع قبل، وبعد يعني من البداية، والنهاية، فهذا الزائد الذي هو الإصبع السابق واللاحق في حكم الأصل فيشرع تغطيته بالجبيرة، ولا حرج عليه. قوله رحمه الله: [وعلى جَبِيرةٍ لم تَتجَاوز قدرَ الحاجةِ، ولو في أَكْبر]: للقاعدة الشرعية: " أن ما أبيح للضرورة يقدر بقدرها " وهي إحدى القواعد المشهورة عند العلماء بالقواعد الخمس وهي: " الأمُورُ بمقاصِدِها " و " اليَقينُ لا يُزالُ بالشكِ " و " الضررُ يُزالُ " و " المشقّةُ تَجلِبُ التيْسِير و " العادةُ مُحكّمةٌ " هذه الخمس القواعد انبنى عليها الفقه الإسلامي بمعنى: أن كثيراً من مسائل الفقه تفرع عليها، والقاعدة الرابعة منها تقول: [المشقةُ تجلبُ التَّيسير]، وتفرعت منها قواعد، منها قولهم: [الضَّروراتُ تُبيحُ المحظُوراتِ] ثم ضبطت بقولهم: [ما أبيح للحَاجَةِ، والضَّرورةِ يُقدّرُ بِقَدْرها] أي: أن ما حكمنا بإباحته، وجوازه بناء على وجود ضرورة، أو حاجة فإن الواجب أن نتقيّد فيه بقدر الضرورة، والحاجة، وأن لا نزيد على ذلك، وهذا ما بنى عليه المصنف رحمه الله قوله في هذه المسألة: [لم تَتَجاوزْ قَدْرَ الحَاجةِ].

وقوله رحمه الله: [ولو في أكبر] أي ولو كان المسح على الجبيرة في حدث أكبر، ومن هنا خالفت الجبيرة المسح على الخفين والعمامة والخمار في كونها لا تختص بالحدث الأصغر بل إنها تكون في الحدث الأصغر، والأكبر، ومن هنا قال العلماء رحمهم الله لا يمسح في طهارة كبرى على غير الجبيرة. قوله رحمه الله: [إلى حَلِّها]: أي إلى أن يحلّ الجبيرة، ويُرجع في ذلك إلى قول أهل الخبرة، فإن قال الأطباء: تبقى شهراً فإنها تؤقت بالشهر، وإن قالوا شهرين فكذلك، فلا يُتجاوز القدر الذي حكم الأطباء بالحاجة إليه، فإذا زاد عليه، فإنه لا يصح له أن يمسح في ذلك الزائد من الزمان. قوله رحمه الله: [إِذَا لَبِسَ ذَلكَ بَعدَ كمالِ الطهارةِ]: المراد به بيان شرط جواز المسح على الخفين، والعمامة، والخمار، والجبيرة، وهو: أن يلبسها على طهارة كاملة، ودليل ذلك ما ثبت في الصحيح عنه عليه الصلاة والسلام في حديث المغيرة بن شعبة رضي الله عنه أنه قال: [فأَهْويتُ لأَنزعَ خُفّيه؛ فقال: دَعْهُما فإني أَدخَلْتُهما طَاهِرتَيْنِ]، وهذا يدل على إشتراط لبس الخفين على طهارة تامة، ولا بد من أن تكون الطهارة تامة بحصولها بغسل الرجلين، فلو غسل إحدى الرجلين، ثم أدخلها في الخف بعد غسلها وقبل غسل الثانية لم يصحّ. واستثنى بعض العلماء رحمهم الله الطهارة في شدِّ الجبيرة في الحالات التي يتعذر أن يتطهّر فيها فتشد الجبيرة قبل حصول الطهارة، فخفّف فيها لوجود الحرج الموجب للرّخصةِ.

قوله رحمه الله: [ومنْ مَسحَ في سفرٍ، ثمّ أقامَ، أو عكس، أو شكّ في ابتدائهِ فمسحُ مقيمٍ]: هذه المسألة مفرعة على الأصل حيث عرفنا أن المقيم يمسح يوماً، وليلة على الخف، والمسافر ثلاثة أيام بلياليهن فلو فرضنا: أنك كنت مسافراً فمسحت اليوم الأول، ثم رجعت إلى البلد في اليوم الثاني، فأصبحت مقيماً في اليوم الثاني فهل نقول العبرة بالابتداء، فتتم مسحك مسح مسافر، أو نقول العبرة بالانتهاء فتقطع مسحك؛ لأنك أتممت مسح المقيم؟ هذا إذا كان في سفر، ثم أقام، وكذلك إذا كان مقيماً، ثم سافر، فلو أنه لبس الخف على طهارة وهو مقيم ثم مسح عليه نصف يوم ثم سافر بعد ذلك فهل يُتمّ مسح يوم وهو مسح المقيم، أو يتمّ ثلاثة أيامٍ وهي مسح المسافر، لأنه أصبح مسافراً وهكذا لو شكّ وهو في سفرٍ هل أحدث بعد لبس الخفّ حال إقامته فيتم مسح مقيم، أو أحدث حال سفره، فيتم مسح مسافر؟ ثلاثة أحوال ذكرها المصنف رحمه الله وهي مسألة خلافية، وللعلماء فيها قولان: القول الأول: أنه يُردّ إلى الأصل، واليقين، وهو مسح اليوم، والليلة، وهو مذهب الشافعية، والحنابلة رحمهم الله. والقول الثاني: أنه يمسح بحاله الطارئ، فلو طرأ عليه السفر أتم ثلاثاً، ولو طرأت عليه الإقامة اعتبر اليوم والليلة فإن كان قد أمضاها في السفر، وزاد عليها إنتهى مسحه بمجرد إقامته، وهذا هو مذهب الحنفية. وأما المالكية فإنه لمّا كان مذهبهم عدم التأقيت في المسح فإن هذه المسألة على مذهبهم غير واردة؛ لأنه لا فرق عندهم بين مسح المقيم، والمسافر.

وأقوى القولين: هو القول بالرجوع إلى اليقين، لأن المسح على الخفين رخصة، ونشكُّ في بقائها فوجب علينا الرجوع إلى اليقين، وهو مسح اليوم، والليلة لأنه مقطوع به على كلا الوجهين، وما زاد على اليوم، والليلة فإنه مشكوك في ثبوت الرخصة فيه، فوجب الأخذ باليقين، وإلغاء ما زاد عليه، وهذا معنى قولهم في القاعدة: [الشّكُ في الرُّخَصِ يُوجِبُ الرُّجوعَ إِلى الأَصل. قوله رحمه الله: [وإنْ أَحْدثَ ثُمّ سَافَر قَبلَ مَسْحِه فَمسْحُ مُسافِرٍ]: بناه على ظاهر الحديث في قوله عليه الصلاة والسلام: [يمسح المسافر]، وإن كان الأصل يقتضي أن العبرة بالحدث، فكان يلزم إعمالاً للأصل أن يقال إن العبرة بالحدث فإن وقع حدثه في السفر أو في الحضر فالعبرة بالحدث وهذا هو الصحيح إتباعاً للأصل الذي تقرر أن الحدث سبب الرخصة الشرعية بالمسح فوجب الإعتداد به، ولا عبرة بالمسح فننظر متى كان حدثه، فإن كان في حال إقامته، ثم سافر مسَح مسْح مقيم، والعكس بالعكس، وهذا هو المذهب في الأصل، وأجيب عن الظاهر، باعتبار الشرع لسبب الرخصة، وهو أولى بالإعتبار. قال المصنف رحمه الله: [ولا يَمسَحُ قلانسَ، ولُفافةً]: شرع -رحمه الله- في بيان ما لا يمسح عليه فبين عدم جواز المسح على القلانس، وهي كالطواقي الموجودة في زماننا فلا تأخذ حكم العمامة، وهي إحدى الروايتين عن الإمام أحمد رحمه الله، وهي المذهب كما أشار إلى ذلك في الإنصاف بقوله: [إحداهما: لا يباحُ، وهو المذهبُ] لأن الأصل وجوب مسح الرأس

والعمامة ثبت الدليل باستثنائها، فبَقيَ ما عداها على الأصل من وجوب نزعه، ومسح الرأس عملاً بالآية الكريمة. وأما اللفافة: فهي ما يدار على العضو مثل: لفائف الأطباء في زماننا، وهي المسمّاة بالشاش فهذه لا يمسح عليها، وكذلك لفائف الرجلين: وهي التساخين، وذلك لأن الأصل يوجب غسل الرجلين، واليدين، والوجه، وجاءت الرخصة بالجبيرة فبقي ما عداها على الأصل، لكن يستثنى منها ما كان الضرر فيه، والمشقة كالجبيرة. قوله رحمه الله: [ولا ما يَسْقُط من القَدَمِ، أو يُرى منه بَعضُه]: ذكرنا أن من شرط المسح على الخفين أن يثبت بنفسه، فلا ينكشف من محل الفرض شيء، فإذا كان الخف لا يثبت، وينكشف من محل الفرض شيء؛ لم يصحّ المسح عليه لأنه مخالف لما ثبت في السنة بالرخصة في المسح عليه. قوله رحمه الله: [فإنْ لَبِسَ خُفاً على خفٍ قبلَ الحدثِ، فالحكمُ للفَوْقَاني]: إختلف العلماء -رحمهم الله- في مسألة المسح على خفٍ، فوق خف: فقال بعض العلماء: الرخصة تختصّ بالخفّ إذا باشر القدم. وقال بعضهم: يجوز المسحُ على خفٍ فوق خف أي لا يشترط أن يكون الخُفُّ على القدم مباشرة فدرج المصنف -رحمه الله- على هذا القول. والأول أقوى، وذلك أن الذي ورد في السُّنة عن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مسحه على خفٍ يلي محل الفرض، وعلى هذا لا يقوى القول بالمسح على خف فوق خف؛ لأنه يلي ما حُكْمه المسح.

لكن على القول بالجواز ينبني عليه أن الحكم للخف الفوقاني، أي: الأعلى منهما، وهكذا لو لبس أكثر من خف، وقيل بالجواز كان المسح للأعلى، وألحق به بعضهم العمامة على العمامة. قوله رحمه الله: [ويَمْسحُ أَكثَر العِمامة]: لأن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مسح على عمامته كما في حديث المغيرة -رضي الله عنه- ولم يحكِ المغيرة -رضي الله عنه- تكلّف النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- في تتبعه للمسح لكورِ العمامةِ، بل قال: [ومَسحَ على ناصيته، وعلى العِمَامةِ]، فدلّ هذا على أنه إذا مُسح على العمامة فإنه يمسح أكثرها، ولا يُشترط في صحة المسح الاستيعاب، لما فيه من المشقة المخالفة للمقصود من الرخصة. قوله رحمه الله: [وظَاهرِ قَدمِ الخفِّ] المراد به بيان محل المسح في الخفين، وهو ظاهر الخفين، وعليه فإنه لا يجب مسح أسفلهما، ودليل ذلك حديث علي رضي الله عنه الصحيح عند أبي داود أنه قال: [لَوْ كَانَ الدِّين بالرّأي لكَان أَسْفَل الخفّ أولى بالمسح منْ أعلاه، وقد رأيتُ رسولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يمسحُ على ظاهرِ خُفّيهِ]، وفي حديث المغيرة بن شعبة رضي الله عنه عند أبي داود، والترمذي بسند حسن قال: [رأيتُ رسولَ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يمسحُ على ظهورِ الخفّين] فدلّ هذانِ الحديثانِ على أن الواجب مسحُ ظاهر الخفّ، وأعلاه، وأنه لا يجب مسح أسفله. قوله رحمه الله: [مِنْ أَصابِعه إلى سَاقِه، دونَ أَسْفَلِه، وعَقِبِه]: قوله: [من]: للابتداء، وقوله: [أصابعه] أي أصابع القدمين، وقوله: [إلى ساقه] أي: ينتهي المسح إلى السّاق، ومراده إدخال الكعبين؛ لأن

إدخالهما كاملين لا يكون إلا بالشروع في أول الساق، وليس المراد مسح السّاق، لأن السّاق غير داخل في محل الفرض، وصورة المسح على الخفين: أن يُمرّ أصابع كفّيه مفرّقة على ظاهر الخفين، من أطراف أصابع القدمين إلى الساق، ولا يمسح العقبين، ولا أسفل الخفين لأن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لم يثبت عنه أنه مسح أسفل الخفين. قوله رحمه الله: [وعلى جَميع الجَبِيرَةِ]: هذا من الفوارق بين المسح على الخفين، والمسح على الجبيرة أن في المسح على الجبيرة يجب عليه أن يستوعبها بالمسح إذا كانت محاذية لمحل الفرض مثل: الجبيرة على الساعد بخلاف المسح على الخفين، فإنه لا يجب إستيعاب الخفين، بل يقتصر على مسح أعلاه، مع أن كلاً منهما محاذياً لمحل الفرض. قال رحمه الله: [ومتى ظهر بعض محل الفرض]: أي انكشف، سواء في المسح على الخفين، أو في المسح على الجبيرة فإنه يوجب انتقاض المسح، وذلك لعلّة ذكرها أهل العلم -رحمة الله عليهم-، وهي أنه إذا ظهر جزء من المستور الذي مُسح عليه بدل غسله، فقد توجه الخطاب في الشرع بغسله، ولا يستطيع أن يغسل؛ لأن شرط الموالاة قد فُقِدَ فإنّ مُضي المدة بين وضوئه الذي مسح فيه، وبين انكشاف العضو يقتضي بطلان شرط الموالاة، وإذا بطل شرط الموالاة تعذر أن يغسل، فيُرجع إلى الأصل من وجوب الوضوء عليه. توضيح ذلك: لو فرضنا أن إنساناً توضأ، ثم نزع من خفه ما بان به محل الفرض فحينئذ نقول: إنه في الأصل مطالب بغسل رجليه، وهو محل الفرض

ورُخّص له بالمسح على خفيه بشرط أن يبقى على الصورة التي أذن الشرع بها من استتمام المدة، والخفّ ساتر، فإذا نزع، وانكشف جزء من محل الفرض، فقد توجه خطاب الشرع بالأصل، وهو غسل الموضع؛ لأنه فقد شرط المسح فلما توجه الخطاب بالأصل وهو غسل الموضع، وقد مضت فترة لا يمكن معها أن يتحقق شرط الموالاة حُكم بإنتقاض طهارته، وبطلانها، وكلُّ ذلك مبني على سبب فوات شرط الموالاة، ولذلك لو انكشف جزء من محل الفرض في الخفين، وكان قريب العهد بمسح الرأس كأن يكون مسح برأسه، ثم مسح على خفيه، وبعد دقيقة مثلاً إنكشف جزء من محل الفرض، أو خلع خفه؛ فإنه يمكنه أن يغسل رجليه، وتصح طهارته لأن شرط الموالاة لم يفقد فالعلة في المسألة هي فقد شرط الموالاة كما نبّه على ذلك الإمام الموفق -رحمة الله عليه- في المغني.

باب نواقض الوضوء

باب نواقض الوضوء النواقض جمع ناقض، يقال: نقضتُ الشيءَ؛ إذا فكّكتُ طاقاتِه، فالنّقض ضدُّ الإِبرام، ويكون النَّقض في المحسوسات، وفي المعنويات. يكون في المحسوسات: فتقول نقضتُ البِناءَ، ومنه قوله عز وجل: {وَلَا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنْكَاثًا} (¬1) فنقض الغزل نقض حسي. ويكون النقض معنوياً، ومنه قوله تعالى: {الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ} فهذا راجع إلى المعنويات، ومنه نقض الدّليل، والحجة. وقوله: [نواقض الوضوء]: أي مفسدات الوضوء، ومبطلاته، ولما كانت هذه المفسدات، والمبطلات متعددة، قال رحمه الله: [نواقض]: فجمعها إشارة إلى تعدّدها، وإختلافها، وذكر المصنف رحمه الله هذا الباب بعد الوضوء، والمناسبة فيه واضحة؛ لأن نقض الوضوء يكون بعد وقوعه، ووجوده. ولذلك يقولون النّقض يكون لما وُجد، لا لما لم يُوجَد فالشّخص لما يقول: نقضتُ البيتَ إنّما يكون بعد وجود البيت، لا قبل وجوده فالشيء غير الموجود لا ينقض، ولذلك بيّن لنا حقيقة الوضوء أولاً، ثم بعد بيانه ورد السؤال: متى يُحكم بانتقاضِ هذه الطهارةِ؟ ¬

(¬1) النحل، آية: 92.

فقال رحمه الله: [باب نواقض الوضوء]: تعبيره -رحمة الله عليه- بقوله: [نَواقضِ الوضوءِ] أدقّ من تعبير بعض العلماء بقوله: (باب نواقضِ الطهارةِ)، وذلك لأنّ الطهارة أعمّ من الوضوء لأنها تشمل الطهارتين، والمقصود هنا الطهارة الصغرى، وهي الوضوء فلم يكن التعبير بها متناسباً مع المضمون. قوله رحمه الله: [يَنقضُ ما خَرجَ مِنْ سَبيلٍ]: مراده -رحمه الله- أنه يُفْسِدُ الوضوء الذي وصفناه، وهو الوضوء الشرعي ما خرج من سبيل [ما] بمعنى: الذي أي: [الذي خَرجَ منْ سَبيلٍ] فنقف عند قوله: [ما خرج من سبيل] ما هو الشيء الذي عبر عنه بقوله [ما] والجواب: أنه لا يخلو إما أن يكون طاهراً، أو يكون نجساً، وفي كلتا الحالتين: إما أن يكون معتاداً، أو غير معتاد، وأيضاً لا يخلو إما أن يكون سائلاً، أو جامداً، أو ريحاً. وبناءً على ذلك النواقض تجمع ما يلي: أولاً: البول، وهو ناقض بالإجماع، ويخرج من القبل. ثانياً: الغائط، وهو ناقض بالإجماع، ويخرج من الدبر، فهذان ناقضان: أحدهما: من القبل. والثاني: من الدبر. متفق على أن خروج أي واحد منهما يوجب إنتقاض الطهارة.

والدليل على ذلك: قوله تعالى: {أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ} (¬1) فإنه كنّى به عما يخرج من الإنسان إذا ذهب إلى هذا الموضع، ثم الخارج من القبل يكون بولاً، ومذياً، وودياً، ودم استحاضة وريحاً، وهي مسألة ذكرها بعض العلماء -رحمة الله عليهم- ويكون غير معتادٍ كأن يخرج الحصى، والدود فسنذكر تفصيل هذه الأمور المتعلقة بالقبل. ثم -أيضاً- الخارج من الدبر: إما أن يكون معتاداً كالغائط، والرِّيح، أو يكون غير معتادٍ على سبيل المرض كدم البواسير، والحصى، والدود. فهذه كلها من الخوارج التي تخرج من السبيل. ثم المصنف رحمه الله قال: [مِنْ سَبيلٍ]: والسبيل الطريق، والمراد بقوله: من سبيل إما القبل، أو الدبر يستوي أن يكون من ذكر، أو من أنثى. أما بالنسبة للبول فقلنا بالإجماع إنه ناقض. والدليل على كونه ناقضاً: مع ما قدمنا من الآية الكريمة حديث صفوان بن عسّالٍ -رضي الله عنه- قال: [أَمَرنا رسولُ الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ألا نَنْزعَ خِفَافنا ثلاثةَ أيام بلياليهنّ للمسافِر، ويوماً، وليلةً للمقيمِ من بولٍ، أو نومٍ، أو غائطٍ، لكن مِنْ جنابةٍ]، فقال: من بول (من) بمعنى السببية أي بسبب بول فدلّ على أن البول ناقض للوضوء وأما المذي فعلى قول الجماهير، وحكى البعض الإجماع عليه أنه ينقض الوضوء وهو الصحيح؛ لحديث علي -رضي الله عنه- في الصحيحين قال: [كُنْتُ رَجلاً مذّاءً فأستحييْتُ أن أسألَ النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ¬

(¬1) النساء، آية: 43.

لمكان إبنتِه منّي، فأمرتُ المقدادَ أنْ يَسألهُ، فقال: فيه الوضوء]، وفي رواية: [تَوضأ، واغْسِلْ ذَكَركَ]، فدل على أن المذي يعتبر ناقضاً للوضوء، والمذي: (سائل لزج يخرج عند بداية الشهوة كالملاعبة)، وإذا خرج لا يُوجب الغسل، وإنما يُوجب الوضوء، وغسل العضو هذا الناقض الثاني، وهو المذي. الناقض الثالث: وهو الودي، وهو: (ماء لزِج يخرج قطرات عَقَبَ البول)، وحكمه: أنه نجس، ويوجب الوضوء، وهو من البول في الأصل، لكنّه يتخلف في الخروج غالباً، فيخرج بعد الإنتهاء من التبول قطرات متفرقة، أو متتابعة، وفي بعض الأحيان يكون لونُه كالصّديد. والفرق بينه، وبين المذْي: أنه أخفُّ من المذي في الثخانة، واللزوجة، ثم المذي يكون عند الشهوة، وهو يكون بعد الفراغ من البول، ويعقبه بوقت قد يطول، وقد يقصر. فهذه الثلاث كلها نواقض، وتعتبر نجسة، وهي: البول، والمذي، والودي، ويشمل ذلك الرجال، والنساء، كلّ منهما إذا خرج منه ذلك؛ فإنه يحكم بكونه قد انتقض وضوؤه، ويلزم من خروجه غسل الفرج، وما أصابه ذلك الخارج؛ لأنه نجس. الناقض الرابع: الإستحاضة: وهي إِستفعال من الحيض، والمرأة المستحاضة هي: (المرأة التي ينتهي أمدُ حيضها، ويستمر معها الدم، أو يأتيها في غير وقت عادتها)، وحكم دم الإستحاضة كالبول، فهو نجس، وناقض للوضوء؛ لكن رخّصَ الشرعُ للمرأة في أحكامه، وخفّف عليها فيها نظراً

لوجود الضيق والحرج فإذا خرج هذا الدم واستمر، بحيث لم ينقطع رخص لها الشرع أن تُصلي، ولو جرى معها الدم، ويلزمها الوضوء عند دخول وقت كل صلاة في بعض الأحوال، فتصلي في وقت كل صلاة الفريضة، ونوافلها القبلية، والبعدية، والنوافل المطلقة حتى ينتهي الوقت، فإذا انتهى الوقت غسلت الموضع؛ لأن حكمه حكم الخارج النجس، وتوضأت للصلاة المستقبلة هذا بالنسبة للمستحاضة، وسيأتي بإذن الله مزيد بيان لحكم طهارتها في كتاب الحيض. وهذا الخارج خاصٌّ بالنساء. يبقى النظر في الحصى، والدود: لو أن رجلاً خرج من قبله الحصى، أو الدود، فهل يوجب ذلك انتقاض وضوءه؟ إختلف العلماء رحمهم الله خلاف في هذه المسألة، وقد ذكرنا الخلاف في هذه المسألة في شرح البلوغ، والذي يترجح في نظري في مسألته والعلم عند الله: أنه ليس بناقض بذاته، لأن الحصى، والدود ليس بحدث لكن إن خرج معهما بلل، حكم بإنتقاض الوضوء، لأن البلل وإن كان يسيراً ناقض للطهارة الصغرى، فلا فرق فيه بين القليل، والكثير فهو كخروج النجس؛ كما لو خرجت منه قطرة بول فإنها توجب إنتقاض الوضوء إجماعاً ولو كانت قليلة، هذا بالنسبة للحصى، والدود: أنه ليس بناقض لذاته؛ بل بشرط أن تخرج معه البلّة، والناقض هو البلّة النجسة. أما الخارج من الدبر: فمنه الغائط قلنا بالإجماع ناقض وذكرنا دليله من الكتاب، وقد دلت السنة أيضاً على كونه ناقضاً، كما تقدم في حديث

صفوان بن عسّال المرادي رضي الله عنه في قوله: [من بولٍ، أو غائطٍ، أو نومٍ] فدلّ على أن الغائط ناقض. ومن النواقض التي تخرج من الدبر الريح، وقد دلّ على إعتباره ناقضاً دليل السنة، وهو ما ثبت في الحديث الصحيح عن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أنه قال: [لا يَقْبلُ الله صَلاةَ أحدِكمْ إذَا أحدثَ حَتّى يَتوضّأَ] فلما سئل أبو هريرة -رضي الله عنه وأرضاه- عن قول النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- في هذا الحديث: [إِذَا أحدثَ] قال: (فساءٌ، أو ضُراطٌ) ففسره رضي الله عنه بخروج الريح. فقال العلماء: إن هذا يدلّ على أنّ الريح ناقض، وهذا بالإجماع على أنه إذا خرج الريح نقض لكن يُنتبه إلى مسألة، وهي أن المصنف رحمه الله قال: ما خرج من سبيل؛ فالريح إنما يُعتبر ناقضاً إذا خرج حقيقة لا توهماً، وظناً، وفي ذلك مسائل منها: أنه لو أحسّ بحركةٍ في دبرِه، دون أن يسمع الصوت، أو يشمَّ الرائحة، فإنه يبقى على طهارته، ولو أحسّ بتحرك الدبرِ لما جاء عنه -عليه الصلاة والسلام- أنّ الشيطان ينفخُ في مقعدةِ الرجل فيظنّ أن وضوءه إنتقض، وليس الأمر كذلك إنما يريد به أن يُلبس عليه في طهارته. المسألة الثانية: أنه لو سمع الصوت، ولم يشم الرائحة حكم بإنتقاض الوضوء، ولو شمّ الرائحة، ولم يسمع الصوت حكم بإنتقاض الوضوء حتى، ولم يشعر بحركة الدبر في الصورتين؛ لأن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جعل العبرة بأحدهما سماع الصوت، أو وجدان الرائحة. المسألة الثالثة: أن العبرة في إِنتقاض الوضوء بالريح إنما هو إذا خرج فعلاً خلافاً لمن يقول إنه لو سمع الصوت من بطنه الذي هو صوت البطن يقولون

يحكم بالانتقاض به، وهذا ضعيف؛ لأن العبرة بالخروج لا بوجود الصوت قبل المخرج، وبناءً على ذلك فلو سمع الأصوات في بطنه كأن يكون معه ما يسمى الآن في عرف الناس (الغازات) لو كان مبتلى بها، وسمع أصواتها في بطنه، فذلك لا يؤثر في الوضوء شيئاً ما لم يكن صوتاً من خارج، أو مصحوباً بدليل من شمِّ الرائحة، وأما ما عدا ذلك فليس بناقض، ثم قول العلماء -رحمة الله عليهم- لا بد من سماع الصوت، أو شمِّ الرائحة يستوي فيه أن يكون وقع قبل الصلاة، أو أثناءها، وهذا مذهب الجمهور، خلافاً للمالكية -رحمة الله عليهم- الذين يقولون: إنما تُعْمَل قاعدة " اليَقينُ لا يُزالُ بالشكِّ " في الريح إذا كان في الصلاة لورود الرواية مقيدة بالصلاة، وترجح مذهب الجمهور؛ لأنّ عبد الله بن زيد رضي الله عنه كما في الصحيحين قال: شُكي للنبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- الرجل يخيل إليه أنه يجد الشيء في الصلاة فقال: [لا يَنْصرفْ حتّى يسمعَ صوتاً، أو يجدَ رِيحاً] فهذا حكم مبني على الرجوع لليقين لقوله: [حتى يَسْمَع صَوْتاً، أو يَجد رِيحاً] فجعل الأمر راجعاً إلى أن يستيقن خروج الريح، فاستوى فيه أن يكون في الصلاة، أو خارجها، وكون السؤال ورد مقيداً بالصلاة لأن البلوى فيها بالوسوسة أكثر؛ لأن الشيطان تشتدّ وسوسته فيها، وهذا لا يقتضي تخصيص الحكم بها لقوله: [حتّى يسمعَ صَوتاً، أو يَجِدَ رِيحاً] فلما قال عليه الصلاة والسلام: [حتّى يسمعَ صَوْتاً، أو يَجِدَ رِيحاً] فهمنا أن الأمر راجع إلى تيقن الخارج، فألغينا كونه في الصلاة، أو خارجها ما دام أنّ المهم أن يتيقن.

وقد أجمع العلماء على أن الريح ناقض كما تقدم، والريح ليس بنجس، فلا يوجب غسل الثوب، والفرج وبهذا يفارق البول، والغائط، ونحوهما. الخارج الثالث من الدبر: دم البواسير. ودم البواسير يأتي على صور إن كانت جروحها على الحلقة نفسها، فهذا ليس بخارج لأنه ليس من الموضع، ويقع الخلاف فيه في مسألة، وهي إذا خرج الدم من غير القبل، والدبر هل ينقض الوضوء؟ -وسنبينها إن شاء الله- وأن الصحيح: أنها إذا كانت البواسير قروحها، أو دماميلها على الحلقة على أطرافها الخارجة أنه لا يوجب انتقاض الوضوء؛ لكن محل الإشكال إذا كانت من داخل، وينبعث دمها إلى خارج، وبناءً عليه إذا كانت على هذه الصورة فإنها تأخذ حكم دم الإستحاضة، فهي نجسة، وموجبة لإنتقاض الوضوء، فإن غلبت الإنسان حتى استرسلت معه في وقت الصلاة، فإنه يضع القطنة، ويغسل الموضع، ويتوضأ عند دخول وقت كل صلاة، حكمها حكم دم الإستحاضة، ويخفّف عنه في طهارتها كالإستحاضة. وأما إذا كانت يسيرة، ويمكن التحرز عنها فإنه يجب غسلها كالبول، والغائط سواء بسواء. إذاً دم البواسير له حالتان: الحالة الأولى: أن يشقّ بأن يسترسل، ويصبح نزفه آخذاً الوقت، أو أكثر الوقت، أو لا يتوقف بقدر ما يتمكن من الصلاة فحكمها: أنه إذا دخل

عليه الوقت غسل الموضع، ثمّ شدّهُ بقطنة إذا أمكن كالمستحاضة، ثم صلى، ولو جرى معه الدم: {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} (¬1). وأما الحالة الثانية: وهي أن يكون دم البواسير يخرج نزراً قليلاً بحيث لو أنقى موضعه إِستقام له أن يصلى دون أن يخرج شيء، فهذا يجب عليه إنقاء الموضع، واللباس الذي يليه، ثم يتوضأ، ويصلي. هذا بالنسبة لدم البواسير: يبقى النظر في الخارج من غير البول، والغائط، والريح، وهو الخارج غير المعتاد من دود، أو حصى فلو خرج من الدبر دود، أو حصى؛ فالقول فيه كالقول في القبل: أنه إذا صحبه بَلل حُكم بالانتقاض وإلا فلا. قوله: [خَرَج]: الخروج ضد الدخول، ويرد السؤال تقييده بوصف الخروج ما ضابطه؟ الخروج يتحقق بمجاوزة حلقة الدبر بالنسبة لما يخرج من الدبر، أو يكون على الإحليل رأس مجرى الإحليل في الحشفة بالنسبة للقبل. يتفرع على هذا مسائل منها: لو أن إنساناً أحسّ أنه يريد البول، وهو في آخر الصلاة كأن يكون في التشهد فأمسك العضو، وقد احتقن مجرى البول حتى سلَّم، ثم خرج بعد سلامه صحّت صلاته، ولا عبرة بكونه في المجرى المقارب للمخرج. ¬

(¬1) البقرة، آية: 286.

إذاً لا بد في الحكم بكون الوضوء منتقضاً أن يكون قد خرج من رأس العضو سواءً كان في الرجال، أو النساء. قوله رحمه الله: [مِنْ سَبيلٍ]: السبيل هو الطريق، وقال بعض العلماء: إن هناك فرقاً بين السبيل، والطريق، فالسبيل بالنسبة للمعنويات كما في قوله تعالى: {وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ} (¬1) أي: ضلالهم وبُعدُهم عن طاعة الله -عز وجل-، وقوله سبحانه: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي} (¬2) أي: سبيل الخير قالوا: السبيل يختصّ بالمعنويات الذي هو الهداية، والضلال: تقول سبيلي طاعة الله -عز وجل- وسبيلي: اتباع الكتاب، والسُّنة هذا في المعنويات، وأما الطريق ففي المحسوسات، فلا يقال طريق للمعنويات، ولا يقال سبيل للمحسوسات إلا على سبيل التّجوز هذا قول بعض المفسرين يختاره في الفرق بين تعبير القرآن بالسبيل، وتعبيره بالطريق وأورد عليه قوله تعالى: {وَلَمَّا تَوَجَّهَ تِلْقَاءَ مَدْيَنَ قَالَ عَسَى رَبِّي أَنْ يَهْدِيَنِي سَوَاءَ السَّبِيلِ} فاستعمل السبيل بمعنى الطريق، وعكسه في قوله سبحانه: {كُنَّا طَرَائِقَ قِدَدًا} وأجابوا بحملهما على المجاز. قوله رحمه الله: {مِنْ سَبِيلٍ}: للإنسان سبيلان: القبل، والدبر، وهذان السبيلان هما الأصل الذي عبّر العلماء بأن الخروج منه يوجب نقض الوضوء ¬

(¬1) الأنعام، آية: 55. (¬2) يوسف، آية: 108.

قال رحمه الله: [وخَارجٌ من بقيةِ البَدنِ إِنْ كَانَ بَوْلاً، أو غَائِطاً] أي: وينقض الوضوء الخارج من غير السبيلين إن كان بولاً، أو غائطاً، وهذا يدل على أن البول، والغائط إذا خرجا من غير المخرج المعتاد نقضا الوضوء، فإذا فتحت فتحة عوضاً عن مخرج البول المعتاد، وخرج منها البول نقض، وهكذا الغائط، ولم يفصّل رحمه الله في مكان المخرج؛ لأن العبرة عنده بالخارج، فيستوي أن تكون الفتحة فوق السرة أو تحتها لكن بشرط إنسداد الفتحة الأصلية، وقوله: [إن كان بولاً، أو غائطاً] تحقيق لنوعية الخارج، فإذا فتحت الفتحة، وخرج منها الخارج إن كان متغيراً كالبول، والغائط نقض، ومفهومه: أنه إذا خرج الشراب، أو الطعام من بقية البدن، ولم تكن فيه صفات البول، والغائط لم ينقض، فلو فُتِحت له الفتحة وخرج الشراب منها على حاله كاللبن ليس فيه صفات البول لم ينقض، وهكذا لو خرج الطعام غير متغير لم ينقض الطهارة، وهذا كله راجع إلى أن أصحاب هذا المذهب مذهب الحنابلة أنهم يرون خروج النجس من أيِّ موضع من البدن ناقضاً. دليلهم على ذلك قالوا: إنه ينزّل مَنْزِلة المستحاضةِ فإن المستحاضة خرج منها الدّم، وهو نجس من غير المجرى الذي هو مجرى البول فأوجب إنتقاض الوضوء، مع أنه من غير مجرى البول، وليس ذلك إلا لعلّة، وهي كونه نجساً ففرّعوا عليه: أن كل خارج نجس من سائر البدن ينقض، وهذا فيه نظر: فإن دم الإستحاضة إجتمع فيه المخرج، والخارج المخرج الذى هو القبل، والخارج أي: كونه نجساً، ولذلك نقول إنه إذا خرج من سائر

البدن لم ينقض؛ لأنه لم يجتمع فيه الوصفان الموجبان لانتقاض الطهارة، وهما خروجه من المخرج، وكونه خارجاً نجساً بل وُجد فيه وصف واحد وهو كونه خارجاً نجساً، ولكنه ليس من الموضع هذا بالنسبة لمسألة أن كل خارج نجس من سائر البدن يوجب إنتقاض الوضوء. من الأدلة على أنه لا ينقض الوضوء، وهو من أقواها حديث عباد بن بشر -رضي الله عنه- لما قام على الشعب يحرسه، وجاءه السّهم العائِر فنزفَ، وهو يصلي، فلولا أنه خشي على صاحبه لما قطع صلاته، فأقرَّ على ذلك من النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ولم ينكر عليه إستمراره في الصلاة، مع كون الخارج نجساً، لأنه لم يخرج من المخرج المعتبر فلم يوجد فيه الوصفان الموجبان لانتقاض الطهارة، فدلّ على أن خروج الدّم من غير السبيلين لا يوجب إِنتقاض الوضوءِ. قوله رحمه الله: [أو كَثيراً نجساً غَيْرهما]: غيرهما أي: غير البول، والغائط، وهو الدم مثلاً، والنّجس غير البول، والغائط يشمل أمثلة منها: الدم، والقيح، والقيء، كلّ ذلك يعتبر نجساً، ويعتبر من النّجس الخارج من غير السبيلين، وهو من غير البول، والغائط، وجميعها ناقضة للوضوء. فأصحاب هذا القول ينظرون إلى صفة الخارج، لا إلى المخرج، ومن هنا قال رحمه الله: [منْ بَقِيةِ البَدنِ]، فمن قاء فقد إِنتقض وضوءه على هذا الأصل لأنه نجس خارج من البدن، ومن رعف انتقض وضوءه لأن الدم نجس فيوجب إِنتقاض الوضوء، وكذلك من خرج منه القيح؛ لأن القيح متولد من الدم، وما تولد من نجس فهو نجس والفَرْعُ يأخذُ حكمَ أصْلِه.

هذه الأمور كلها إذا خرجت أوجبت انتقاض الوضوء على الأصل الذي قررناه من كون الخارج النجس يوجب انتقاض الوضوء، وقلنا إن الصحيح أن الخارج النجس لا يُعتبر ناقضاً للوضوء؛ إلا القيء ففيه تفصيل واستثناء ثبت به الدليل. لكن هنا شرط ذكره المصنف عبّر عنه بقوله: [كثيراً] فمفهوم قوله: [كثيراً] أنه لو كان قليلاً، لا ينقض الوضوء. وتفصيل ذلك: قالوا إذا خرج من الإنسان دم يسير؛ كالبثرة التي تسمى في عرف الناس اليوم بـ (الحبة) تكون على ظاهر الجسد فينزف الدم منها قليلاً، أو يعصرها فيُخرج دمها اليسير فإنه لا ينقض الوضوء، وأيضاً لو استاك فأدْمى لُثّته، فخرج دم قليل من طرف اللثة، أو جرح جرحاً صغيراً وخرج دم يسير هذا كله لا ينقض الطهارة لكونه يسيراً؛ لكن لو كان كثيراً انتقض وضوءه، إذاً يفرقون بين القليل، والكثير من النجاسات الخارجة من غير السبيلين. فيرد السؤال: ما هو الضابط الذي يفرق فيه بين القليل، والكثير عندهم؟ والجواب: أن لهم أقوالاً متعددة منها: ما اختاره غير واحد، ومنهم الإمام الموفق ابن قدامة رحمه الله ونصّ عليه في المغني، والعمدة، وكذلك اختاره الزركشي من أئمة الحنابلة، وفقهائهم -رحمة الله عليهم-: أن الكثير ما لا يتفاحش في النفس أي الشيء الذي إذا رأيته لم تره كثيراً هذا اليسير، وضدّه الكثير، وحينئذ يرد إشكال، وهو أن الناس يختلفون فلو قلنا بهذا الضابط، فكيف نقدَره بنظر الناس؟

والجواب: أن أصحاب هذا القول رجعوا إلى إعتبار أوساط الناس من عقلائهم قالوا: فيخرج الموسوس والقصّاب. أما الموسوس: فلأن أقل شيء عنده كثير -نسأل الله السلامة والعافية- يستعظم كل شيء، فهذا لا يُعتبر تفاحش مثله مؤثراً، وعليه أن يسأل من يثق به. أما النوع الثاني: فالقصّاب، وهو الجزّار؛ لأنه يستهين بالدماء فالذي يتفاحش عنده شيء كثير، فهو معتاد على الدماء، فيخرج هذان النوعان القصاب، والموسوس، قالوا: فلا نلتفت لمن يُعظِّم الأمر، ولا لمن يُحقره؛ وإنما يُنظر إلى غالب الناس في أوساطهم. ومنهم من يحدُّه بالقطرة، والقطرتين، ومنهم من اعتبر في القيء ما يملأ الفم فنقض به، دون ما لم يملؤه. أما استثناء اليسير، وعدم نقض الطهارة به، فدليلهم عليه: أنه ثبت عن بعض الصحابة رضي الله عنهم: أنهم عصروا البُثر، واغتفروا اليسير كما جاء عن عبد الله بن عباس -رضي الله عنهما-، وعبد الله بن عمر -رضي الله عنهما- فقد عصر إِبن عمر بثرةً، ثم صلّى، ولم ير بذلك بأساً قالوا: فهذا يدل على أن القليل لا ينقض الطهارة. قوله رحمه الله: [وزوالُ العَقْلِ] المراد به: ذهاب العقل، وبذهابه يزول الإدراك من الإنسان، فلا يعي الأمور، ولا يعلمها كما قال تعالى: {لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ} فبيّن سبحانه أن السكران لا يعلم ما يقول، وأن السكر موجب لزوال الإدراك بالأشياء،

وإذا كان الإنسان متطهراً، ومعه عقله إستطاع أن يعلم بخروج الخارج خاصة إذا كان من الريح، بعكس ما إذا زال فإنه قد يخرج منه الخارج ولا يعلم به، ومن هنا إعتبر الفقهاء رحمهم الله زوال العقل مظنةً للحدث بناء على اعتبار الشرع للنوم ناقضاً للوضوء كما سيأتي. وزوال العقل يرجع إلى أربعة أسباب: النوم، الجنون، والإغماء، والسكر، وبيانها فيما يلي: السبب الأول: النوم، وهو ناقض للوضوء في أصحّ أقوال العلماء رحمهم الله، وقد بينتها في شرح البلوغ وأن الذي يترجح هو القول باعتباره ناقضاً إذا زال معه الشعور؛ لما ثبت في حديث صفوان بن عسّالٍ المُرادِي رضي الله عنه قال: [أَمَرنا رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا كُنّا في سفرٍ ألا نَنْزعَ خِفَافَنا ثلاثةَ أيامٍ بِليَالِيهن من بولٍ، أو غائطٍ، أو نومٍ] فدلّ هذا الحديث الصحيح على أن النوم ناقض في الأصل حيث جعله كالبول، والغائط مساوياً لهما في نقض الطهارة لا من جهة دلالة الإقتران المجرّدة، بل بدلالتها المشاركة في الوصف، والحكم لأنه في سياق النص المبيّن للحدث، فدلّ على أن الأصل إعتباره ناقضاً، وكذلك حديث علي رضي الله عنه أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: [العينان وِكَاءُ السَّهِ فإذا نامتِ العينانِ إستطلقَ الوِكَاءُ] ودلّ دلالة واضحة على أن العبرة في النوم بالشعور الذي يدرك معه الإنسان خروج الريح، فإذا غلبه النوم على ذلك نقض على ظاهر هذه السنة، ومن هنا فرّق بين النوم الذي يزول معه الشعور، وعكسه، وصارت هذه السنة أصلاً في نقض طهارة الوضوء بزوال الادراك والشعور بالخارج، وأكّد

ذلك حديث إِبن عباس رضي الله عنهما في الصحيحين لما بات مع النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عند خالته ميمونة رضي الله عنها قال: [ثمَّ نامَ النّبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حتّى نَفَخَ] ثم ذكر إستيقاظه ووضوءه ثم صلاته بالليل، فدلّ على أن النوم ناقض لأنّ النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ توضأ بعد إستيقاظه، ولم يذكر ابن عباس رضي الله عنهما أنه دخل الخلاء، ثمّ قوله رضي الله عنه: [حتى نَفَخَ] يؤكد أنّ النوم ناقض عند زوال الشعور بالخارج كما قدمنا، وإن كان النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تنام عيناه، ولا ينام قلبه، ولكن هذا على سبيل التشريع لسائر الأمة. السبب الثاني: الجُنون، وبه يزول العقل كلّية، وهو ناقض للوضوء بالإجماع كما حكاه الإمام ابن المنذر رحمه الله، وغيره، وإذا كانت الأدلة قد دلّت على إنتقاض الوضوء بالنوم فإنّ إنتقاضه بالجنون أولى وأحرى، فتكون قد نبّهت بالأدنى على ما هو أعلى، وأولى بالحكم منه. السبب الثالث: الإغماء: وبه يزول الإدراك أيضاً، وكثيراً ما يقع في حالات الصَّرع، وهو في حكم الجنون في كثير من مسائله، ولذلك حُكي الإجماع على إعتباره ناقضاً من نواقض الوضوء، ومستند هذا الإجماع دليل السنة في حديث أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها في الصحيحين أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ [لما مَرِضَ مَرَضَ الموتِ أراد الصلاة فأغْمي عليه، فاغتسل ليصلي، ثم أغمي عليه، فأفاق، فاغتسل] فدلّ على أن الإغماء ناقض للطهارة الصغرى، والكبرى.

السبب الرابع من زوال العقل: السُّكر سواءً كان بسبب مباح، وهو أن يسكر على وجه يعذر به شرعاً مثل: أن يشرب شراباً يظنه ماءً فيسكر، فإنه معذور في سكره للجهل، أو يسكر على وجه محرم شرعاً كأن يشرب المسكر، والمخدر، على وجه لا يعذر به شرعاً والعياذ بالله عالماً به ففي كلتا الحالتين لو شرب ما يزيل عقله من المسكرات، والمخدرات -أعاذنا الله وإياكم منها- فإنه يحكم بانتقاض وضوئه على تفصيل حاصله أن السكر له ثلاث مراتب: المرتبة الأولى: يسميها العلماء الهزة، والنشاط، والطرب، وهي أول ما يكون لمن شرب الخمر -والعياذ بالله-. والمرتبة الثانية: أقصى درجات السكر، وهي أن يسقط كالمغشي عليه لا يعرف الأرض من السماء ولا يعي ما يقول، ولا ما يقال له كالمجنون. والمرتبة الثالثة: وسط بين المرتبتين. فاعلم -رحمك الله- أنه إذا كان السكران في بداية السكر، وهي الهزّة، والنشاط فإنّه مكلف إجماعاً؛ لأنه في حكم المستيقظ، فإذا فعل أيَّ فعل في بداية سكره عند هزته، ونشاطه فإنه يحكم بمؤاخذته؛ لأن الأصل فيه أنه مكلف حتي يؤثر فيه المؤثر، وهو هنا لم يبلغ الدرجة التي يؤثر فيه السكر فيها وكذلك الحال بالنسبة للطهارة فإنه باق على الأصل فيها في هذه المرتبة، ما دام أنه يشعر بالخارج.

أما المرتبة الثانية: وهي أن يبلغ منه السكر غايته كأن يسقط كالمجنون فهذا لا يؤاخذ إجماعاً، وحكمها في الطهارة أنها موجبة لانتقاض الطهارتين الصغرى، والكبرى؛ لأنه كالمجنون. وأما الحالة الثالثة: وهي المترددة بين الحالتين فهي التي فيها الخلاف بين العلماء في السكران هل هو مكلف، أو غير مكلف؟ وهي هنا توجب إنتقاض الطهارة، فإذا سكر -والعياذ بالله- المتوضيء فإنه يحكم بانتقاض وضوئه، ويلزمه أن يعيده على هذا التفصيل. قوله رحمه الله: [إلا بيسيرَ نومٍ مِنْ قَاعدٍ]: استثنى المصنف رحمه الله النائم إذا كان قاعداً، فلم يحكم بانتقاض وضوئه لحديث أنس رضي الله عنه في الصحيح قال: " كان الصّحابةُ ينتظرونَ العِشَاء حتى تَخْفِقَ رؤُوسُهم ثم يُصلون، ولا يَتوضّؤُون ". وقوله رحمه الله: [أو قائم]: لأن اليسير من القائم في حكم اليسير من القاعد، لا فرق بينهما، وهذا مبني على الفرق في النوم بين اليسير، والكثير. والذي يترجح في هذه المسألة أن العبرة بالشعور، سواء طال النوم، أو قصر لأن السنة في حديث علي رضي الله عنه المتقدم دلت على أن سبب اعتبار النوم ناقضاً هو زوال الشعور، وهو ما يدل عليه النظر أيضاً لأن النوم ليس بحدث بذاته وإنما هو مظنة الحدث فاعتبر فيه الوصف المؤثر، وهو زوال الشعور بالخارج. ثم إن هذا القول تجتمع به الأحاديث المتعارضة كما بيناه

في شرح البلوغ، وعليه فيستوي أن يكون قائماً، أو قاعداً المهم هو زوال الشعور. قوله رحمه الله: [ومس ذكر متصل]: أي أن من نواقض الوضوء مسّ الذكرِ سواءً قصد الشهوة عند مسّه، أو لم يقصدها، وسواء وجد اللّذة، أو لم يجدها، فمن مسّ الذكر وجب عليه أن يعيد وضوءه لما ثبت في حديث بسرة بنت صفوان رضي الله عنها عن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أنه قال: [من مس ذكَرَه فَلا يُصلّي حتّى يتوضّأَ] وجه الدلالة من الحديث: أن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أمر بالوضوء من مس الذكر مطلقاً. وقال بعض العلماء: من مس ذكره فلا ينتقض وضوؤه لحديث قيس بن طلق، عن أبيه طلق بن علي الحنفي -رضي الله عنه- أنه أتى النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، وهو يبني المسجد، فسأله عن مسِّ الذكرِ؟ فقال عليه الصلاة والسلام: [وهَلْ هُو إِلا بضعةٌ مِنْك]. قالوا: إن هذا الحديث دلّ على أن مسّ الذكر لا يوجب إنتقاض الوضوء. والذي يترجح في نظري، والعلم عند الله هو القول بنقض الوضوء بمسِّ الذّكر لقوة دلالة السُّنة على ذلك، وأما حديث طلقٍ رضي الله عنه فيجاب عنه من وجهين: الوجه الأول: أنه منسوخ؛ لأن طلق بن علي الحنفي رضي الله عنه قدم على النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عند بناء مسجده صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في أول قدومه للمدينة، وسأله هذه المسألة؛ كما جاء في نفس الحديث، وحديث: [من مس ذَكرَه] رواه المتأخرون إسلاماً من الصحابة؛ كبُسرةَ بنت

صفوان، وأبي هريرة رضي الله عن الجميع، وإذا تعارض حديثان: أحدهما: من رواية متأخر الإسلام، والآخر من رواية متقدمٍ في إسلامه، قدّمت رواية المتأخر في إسلامه، خاصّة، وأن حديث طلق رضي الله عنه كان عند أول قدومه عليه الصلاة والسلام للمدينة، فيكون بعد الهجرة مباشرة، وأبو هريرة رضي الله عنه أسلم عام خيبر، وهذا يقوي القول بالنسخ كما إختاره بعض الأئمة، كابن حبان، والطبراني، وابن العربي، والحازمي في كتابه الإعتبار، وغيرهم، وإذا لم يكن هذا المسلك صريحاً في إثبات النسخ إلا أنه يُقَوِّي مسلك الترجيح لحديث بسرة على حديث طلق رضي الله عنهما. ثم إن حديث بسرة رضي الله عنها ناقل عن الأصل، لأنه أوجب الوضوء؛ بخلاف حديث طلق رضي الله عنه حيث بقي على الأصل الموجب لعدم الإنتقاض، واختار جمع من علماء الأصول، والفقهاء أنه: إذا تعارض نصّان أحدهما: ناقل عن الأصل، والآخر: عكسه، فإنه يقدّم النّص النّاقل؛ لأن فيه زيادة علم، وحكم؛ فصار راجحاً على غيره. الوجه الثاني: أن يجُمع بين حديث طلق بن علي رضي الله عنه، وبين حديث بسرة رضي الله عنها فيكون سؤال طلق بن علي رضي الله عنه عن مسّ الذكر من فوق الثوب، فقال له عليه الصلاة والسلام: [وهَلْ هُو إِلا بَضْعة مِنْك] أي: إذا مسسته بحائل فكأنك لمست يداً، أو نحو ذلك من الأعضاء. وأما إذا لمسه مباشرة فإنه يحُمل عليه حديث: [مَنْ مَسّ ذكرهُ فَلْيَتَوضّأ] وقد صحّح غير واحد من أهل العلم منهم الإمام أحمد، وأبو زرعة، حديث

الأمر بالوضوء من مس الذكر، وصوّبه الإمام البخاري -رحمه الله-، فلذلك يقوى الحكم بأن مسَّ الذكر يوجب انتقاض الوضوء. إذا ثبت أن مس الذكر يوجب انتقاض الوضوء فيستوي في ذلك ما يلي: أولاً: أن يكون بشهوة، أو بدون شهوة، ودليل ذلك عموم قوله: [مَنْ مَسّ] حيث لم يفرق بين قصد الشهوة، ووجودها، وعدم ذلك. ثانياً: أن من مسّ حلقة الدبر إنتقض وضوئه؛ وذلك لعموم قوله: [من مس فَرْجَه] في حديث أم حبيبة رضي الله عنها، والفرج يشمل القبل، والدبر. ثالثاً: أنّ هذا الحكم يشمل المرأة، وذلك لقوله عليه الصلاة والسلام: [من مس فرجه]، فإن قوله: [مَنْ] من صيغ العموم عند الأصوليين تشمل الرجال، والنساء وقوله: [فرجه] يشمل عضو الرجل والمرأة قبلاً كان، أو دبراً. رابعاً: أن هذا الحكم يستوي فيه أن يمسّ فرجه، أو يمسّ فرج غيره، وكونه عليه الصلاة والسلام يخصه بقوله: [فرجه] يكون مخرجاً على كونه خرج مخرج الغالب، فلا يعتبر مفهومه. خامساً: أنه عام يشمل الصغير، والكبير، فلو مسّت المرأة فرج صبيها، أو صبيتها انتقض وضوءها، وذلك لعموم الخبر من جهة المعنى. سادساً: أنه يَخْرج من هذا مسّ المنفصل فقال بعض العلماء: لو قُطِعَ العضو، فَمس؛ لم يأخذ الحكم.

قوله رحمه الله: [بظهر كفِّه، أو بَطْنِه]: وهذا اختيار بعض العلماء، وخالفهم غيرهم فقال: إن العبرة بباطن الكف لقوله عليه الصلاة والسلام: [منْ أَفْضَى بِيده إلى ذَكرِه]؛ والإفضاء يكون بباطن الكف، لا بظاهرها، وفي قوله: [من أفضى] فيه إشعار بالقصد بخلاف ظاهر الكف الذي يقع فيه المكان من غير قصدٍ غالباً. قوله رحمه الله: [ولمْسُهُما منْ خُنثى مُشكِلٍ]: [ولمسهما]: أي لمس العضوين، وقوله: [من خُنثى مشكلِ] أي: يوجب انتقاض وضوء الخنثى مشكل إذا حصل منه مس العضوين وهكذا غيره إذا لمسهما من الخنثى المشكل لأن لمس أحدهما موجب للشك هل هو عضو زائد، أو حقيقي، فإذا لمس عضوي الذكورة، والأنوثة تحققنا من لمسه للفرج الأصلى فانتقض الوضوء. قوله رحمه الله: [ولمس ذكرٍ ذكره، أو أنثى قبله] هذا راجع إلى الشخص الممسوس والأول راجع إلى الشخص اللامس. [لشهوة فيهما]: سواءً مَسّ أو مُسّ؛ لكن هنا في الحالة الأخيرة قال: [لشهوة] فجعل الحكم مرتبطاً بالشهوة كما ذكرناه، فإن لم توجد الشهوة فإنه لا يحكم بالانتقاض بالنسبة للممسوس، وهذا بالنسبة للخنثى مبني على الشك فيه، فإن لمسه ذكر بشهوة انتقض الوضوء للمس في أصل مسألته، لأنه لمس لأنثى بشهوة، لأن الأصل في الخنثى أنه أنثى، وهكذا الحكم في لمس الأنثى لفرج الخنثى، لأنه مس لفرج الغير، واعتبرت الشهوة

تقوية للحكم بالنقض في الصورة الثانية دون الأولى، لأن الأولى الشهوة فيها موجبة للنقض سواء مس الذكر الفرج، أو غيره. قوله رحمه الله: [ومسه امرأة بشهوة]: معناه أن من نواقض الوضوء أن يمس الرجل المرأة بشهوة، وقد اختلف العلماء -رحمهم الله- في هذه المسألة: فمنهم من قال: لمس النساء كله ينقض الوضوء سواءً كانت محرماً، أو غير محرم، وسواءً وجد الشهوة، أو لم يجدها، وهذا القول إِحتج أصحابه بظاهر قوله تعالى: {أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ} (¬1) قالوا: إن الله -عز وجل- حكم بانتقاض الوضوء بلمس النساء، حيث ذكره مع النواقض. وقال طائفة من العلماء: إن لمس المرأة لا ينقض الوضوء مطلقاً؛ وذلك لما ثبت في الحديث الصحيح عن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أنه كان يصلي بالليل، وعائشة -رضي الله عنها- معترضة بين يديه قالت: [فإذَا سَجَدَ غَمَزَني]، ولما ثبت أيضاً في الحديث الصحيح أنها قالت: إفتقدت النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فجالت يَدي فوقعت على قدمه ساجداً يقول: [يا مُقَلّبَ القُلوبِ ثَبّتْ قَلْبِي عَلى دِينِكَ] قالوا: فهذا يدل على أن لمسها ولمسه لها لا يوجب إنتقاض الوضوء؛ ولأن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- حمل أمامة بنت أبىِ العاص في الصلاة قالوا: ولم ينتقض وضوءه، ولِمَا جاء عنه -عليه الصلاة والسلام- من تقبيله بعضَ نسائه قبل خروجه إلى الصلاة كما في حديث عائشة رضي الله عنها قالوا: فمجموع هذه النصوص يدلّ على أن لمسَ النّساء لا يوجب إنتقاض الوضوء. ¬

(¬1) النساء، آية: 43.

وجمع بعض العلماء بين القولين فقالوا: إن لمسَ النساء يُوجب إنتقاض الوضوء إذا وجد الشهوة، أو قصدها، ولا يوجب انتقاض الوضوء إذا لم يجد الشهوة، وحملوا قوله تعالى: {أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ} على الجماع، والسياق، والسباق دال عليه، والقاعدة (أن السِّياق، والسِّباق محكم)، وسباق الآية، وسياقها يدل على أن المراد بـ {لَامَسْتُمُ} الجماع ثم زيادة المبنى في قوله: {لَامَسْتُمُ}، والقاعدة: (أنّ زيادةَ المبْنى تَدُلُّ على زِيادَةِ المعْنَى)، والسُّنة تصرف {لَامَسْتُمُ} من ظاهرها إلى هذا المعنى الذي يقويه السياق والسباق مع قرينة اللغة كما ذكرنا. وبناءً على ذلك قالوا: وجود الشهوة، والإحساس بها مظنّة الحدث أي ينزّل منزلة الحدث. وفرَّع بعض العلماء على هذا تفريعات ولكن لا يقوى الدليل عليها كقول بعضهم: إن مجرد النظر إلى المرأة كزوجته لو نظر إليها بشهوة انتقض وضوءه بل قال بعضهم: بأن النظر إلى الأمرد بشهوة يوجب إِنتقاض الوضوء، والذي يقوى كما قدمنا أن العبرة بالحدث نفسه إلا ما استثناه النص من تنزيل المظنة منزلة الحدث كالنوم، وأما ما عداه فيبقى على الأصل لظاهر السُّنة في حديث أبي هريرة رضي الله عنه في الصحيح أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: [لا يَقْبلُ الله صَلاةَ أَحدِكُم إِذَا أَحْدَث حَتّى يَتوضّأَ] فنبقى على الأصل من طهارته، وأما مظنات الحدث الضعيفة لا يقوي اعتبارها. قوله رحمه الله: [أو تمسُّه بها]: أي بشهوة فالضمير عائد إليها، فإذا مسته المرأة بشهوة فإنه يحكم بانتقاض وضوئها كالرجل.

قوله رحمه الله: [ومسُّ حلقةِ دبرٍ]: لقوله -عليه الصلاة والسلام- في حديث أم الؤمنين أم حبيبة رضي الله عنها: [من مسّ فَرْجَه] قالوا: دل على أن الدبر منزَّلٌ منزلة القبل، ولذلك يحكم بانتقاض الوضوء بمسه، وظاهر قولهم القبل، والدبر يختصّ بالآدمي فلو مسّ فرج حيوان؛ فإنه لا ينتقض وضوءه، وقال بعض السلف: إنه لو مس فرج بهيمة فإنه يحكم بانتقاض وضوئه؛ ولكنه مذهب ضعيف، والجماهير على أن مس الفرج يختصُّ بالآدمي دون غيره. قوله رحمه الله: [لا مسّ شَعرٍ، وظُفْرٍ]: إذا قلنا إن مس المرأة يوجب انتقاض الوضوء فأعضاء المرأة تنقسم إلى قسمين عند العلماء: الأول: ما هو متصل. والثاني: ما اختلف فيه هل هو في حكم المتصل، أو المنفصل. فإذا تقرر أن اللمس يؤثر فلا إشكال في تأثيره في الأعضاء المتصلة كاليد، والصدر، والرِّجْل، ونحوها ولكن يرد السؤال: عن الأعضاء التي اختلف فيها كالشعر، والظفر؟ فقال بعض العلماء: شعر المرأة في حكم المنفصل، وليس في حكم المتصل، وهي قاعدة تكلم عليها الأئمة ومنهم الإمام ابن رجب في القواعد الفقهية تقريباً الخامسة أو السادسة هل شعر الإنسان، والحيوان في حكم المتصل، أو المنفصل؟ وكذلك العظم؟ وجهان، ثم ذكرهما رحمه الله. فإن قلنا: شعر الإنسان في حكم المتصل ينتقض الوضوء بلمسه، وإن قلت شعر الإنسان في حكم المنفصل فإنه لا ينتقض بلمسه الوضوء.

وتتفرع على هذا مسائل: منها: إن قلنا: شعر المرأة في حكم المنفصل فلو غطّت به وجهها في الإحرام وجبت عليها الفدية؛ لأنه منفصل عنها، وليس بمتصل، ويتفرع عليها إن قلنا إنه منفصل لو لمسه المتوضيء لا يحكم بانتقاضه لأنه في حكم المنفصل، أما لو قلنا إنه في حكم المتصل وسدلت شعرها على وجهها حتى غطته عن الشمس فإنه في حكم المتصل، ولا يوجب الفدية عليها، وإن قلت إنه في حكم المتصل، ولمسه الرّجل فإن اللمس يوجب إنتقاض الوضوء، فدرج المصنف رحمه الله على أن الشعر في حكم المنفصل، وهو قول الجمهور رحمهم الله وليس في حكم المتصل، والدليل على ذلك النقل والعقل. أما النقل: فإن الشعر إذا جزَّ من البهيمة، وهي حية فهو طاهر، وليس بنجس لقوله تعالى: {وَمِنْ أَصْوَافِهَا وَأَوْبَارِهَا وَأَشْعَارِهَا أَثَاثًا}، وقد أجمع العلماء رحمهم الله على أن ما أبِينَ من الحيّ فهو كميتتِهِ فلما أُبين الشعر، ولم يحكم الشرع بنجاسته بكونه كميتة البهيمة دل على أنه ليس من أجزائها المتصلة، بل هو في حكم المنفصل، بخلاف ما لو قطعنا يد البهيمة، أو رجلها فإنها بالإجماع نجسة كميتتها. فدلّ هذا الدليل النقلى على أن الشعر في حكم المنفصل من الحيوان، لا في حكم المتصل. وأما دليل العقل: فهو النظر حيث إن الشعر ليس فيه حياة روح، وألم وإنما فيه حياة النمو فقط، ولذلك لو أحرق طرف شعره لم يشعر بالألم، وهكذا إذا قصّه بخلاف بقيّة أعضاء البدن، وأجزائه.

وبهذا يتقرر أن الشعر في حكم المنفصل، لا في حكم المتصل، فإذا قلنا: إن لمس المرأة ينقض الوضوء فلمس شعرها لم ينتقض وضوؤه على الصحيح، ومن فوائد ذلك أنه لو طَلقَ شعرها لم تطلق كما سيأتي بيانه إن شاء الله تعالى. قوله رحمه الله: [وظُفُرٍ]: كذلك الظفر لأن كلاً من الشعر، والظفر الحياة فيهما حياة نمو، وليست بحياة روح؛ فلو أحرقت ظفراً فإنه لا يسري الألم إلا بعد فترة فدلّ على أنه كالشعر ليست حياته حياة روح؛ ولكنها حياة نمو كالشعر، فلمسه من المرأة لا ينقض وضوء الرجل اللامس له. قوله رحمه الله: [وأمردٍ]: معناه أن الأمرد إذا نظر إليه فإنه لا ينتقض وضوءه، وهذا أقوى من جهة الأصل لما ذكرنا أن الأصل طهارة الناظر حتى يدل الدليل على إنتقاضها، ولا دليل على ذلك، ومحل الخلاف إذا نظر إليه بشهوة أما إذا لم يكن بشهوة فلا ينقض إجماعاً، وكلهم متفقون على حرمة النظر إلى المردان بالشهوة، والخلاف في إنتقاض الوضوء، وعدمه، والجماهير على عدم الانتقاض بالنظر إليه بشهوة. قوله رحمه الله: [ولا مع حائل]: أي أن من شرط نقض الوضوء باللمس أن لا يكون هناك حائل بين بشرة المرأة، وبشرة الرجل اللامس، فإذا وجد حائل فإنه لا ينتقض الوضوء، وضبط بعضهم الحائل بما لا تنتقل معه حرارة البدن. قوله رحمه الله: [ولا ملموس بدنه, ولو وجد منه شهوة]: أي أن النقض يختص باللامس دون الملموس فالمرأة على هذا لا ينتقض وضوؤها إذا لمسها

الرجل، وقوله (ولو) إشارة إلى وجود القول المخالف، وهو الذي يقول بنقض وضوء الملموس بشرط أن تجد المرأة الملموسة الشهوة. قوله رحمه الله: [وينقض غسل ميت]: أي وينقض الوضوء غسل الميت؛ فمن غسّل ميتاً فإنه ينتقض وضوءه، وفيه حديث السنن عند البيهقي والدارقطني بسند ضعيف، ولا يصح فيه حديث كما قاله الإمام أحمد، وغيره من أئمة الجرح، والتعديل، وقد ذكرنا هذه المسألة في شرح بلوغ المرام وذكرنا الكلام في هذا الحديث، وأن الذي يترجح هو القول بعدم إنتقاض الوضوء، وأنه يبقى على الأصل من كونه طاهراً لما ثبت في الصحيح من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: [لا يَقْبلُ الله صلاةَ أَحدِكُمْ إِذَا أَحْدَثَ حتى يَتوضَّأَ]؛ وتغسيل الميت ليس بحدث، وليس في معنى الحدث لعدم ثبوت النصّ بانتقاض الوضوء به. قوله رحمه الله: [وأكلُ اللحْمِ خاصةً من الجَزُور]: كان في أول الإسلام إذا أكل الإنسان اللحم وجب عليه أن يتوضأ لقوله عليه الصلاة والسلام: [تَوضّئوا مما مَسّتِ النّار] فأمر بالوضوء من كل شيء طُبِخَ في النار، ثم نسخ ذلك، وبقى في الجزور لما ثبت في الحديث الصحيح أن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قيل له: أنتَوضّأُ من لحومِ الغَنمِ؟ قال: " إنْ شئت " قيل له: أنتوضّأُ من لحومِ الإِبلِ؟ قال: " نعم " فنصّ -عليه الصلاة والسلام- على وجوب الوضوء من لحوم الإبل، دون غيرها. وذهب طائفة من العلماء إلى أن الأمر بالوضوء من لحوم الإبل منسوخ، وهو مذهب مرجوح، واحتجوا له بحديث جابر رضي الله عنه قال: [كانَ آخرُ

الأمرينِ مِنْ رسولِ الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- تركُ الوضوءِ مما مسّتِ النارُ] وهذا الحديث الذي ذكروا أنه ناسخ فيه علّة أشار إليها ابن أبي حاتم -رحمة الله عليه- في كتابه العلل في الجزء الثاني وهي: أن هذا الحديث أصله أن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أكل كَتِفَ شاةٍ، ثم صلّى، ولم يتوضّأ، فرواه الرّاوي بالمعنى فعمّم، وإلا فهو خاصُّ بالغنم، فلا يقوى على معارضة النصِّ الصريح المتقدم، ولذلك يبقى الحكم أن من أكل لحم الجزور يجب عليه أن يعيد الوضوء. ويرد السؤال: هل إذا شرب لبن الجزور يجب عليه أن يعيد وضوءه؟ الجواب: لا، وحديث الأمر بالوضوء من لبن الجزور ضعيف. واختلف في الكبد والسنام؟ فقال بعض العلماء: إنه يتوضأ منها؛ لأن ذكر اللحم خرج مخرج الغالب، فلم يعتبر مفهومه، كقوله تعالى: {قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنْزِيرٍ} فقوله: {لَحْمَ خِنْزِيرٍ} لا مفهوم له؛ لأن الخنزير كلّه حرام لحمه، وشحمه، كذا هنا فالسائل سأل عن الغالب، مع أن النصّ إذا ورد في جواب السؤال لم يعتبر مفهومه أيضاً، وقيل: إنه لا يتوضأ منها وهو أقوى من جهة النص فإن السؤال ورد على النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أنتوضأ من لحوم الإبل؟ فنص على اللحوم، ولم يذكر الكبد، ولا بقية أجزاء الإبل كالسنام ونحوه فإنه ليس بلحم؛ وإنما هو شحم فمن أكل سنام البعير لا يدخل في هذا الحكم، وهكذا من شرب لبن الإبل فإنه لا يحكم بانتقاض وضوءه؛ لأن الأصل الطهارة حتى

يدل الدليل على انتقاضها ولا دليل، والدليل إنما ورد في اللحم فيبقى الحكم مقصوراً عليه. وهنا مسألة وهي قول بعض العلماء: يجب الوضوء من لحوم الإبل؛ لأن فيها زهومة، وقوة، فلو أكل لحم السباع وجب عليه أن يتوضأ؛ لأن فيها ما في الإبل من القوة. وقد يرد السؤال: كيف يأكل لحم السبع، وقد حرم النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أكل كلِّ ذي نابٍ من السِّباع؟ والجواب: تتأتى صورة المسألة فيما لو كان الإنسان في مخمصة فاضطر إلى أكل لحم أسد أو سبع وكان متوضئاً قبل ذلك فحينئذٍ يرد السؤال: هل انتقض وضوءه كالحال في لحم الإبل، أو لم ينتقض؟ وأصح الأقوال: أنه لا ينتقض وضوؤه لحديث أبي هريرة رضي الله عنه المتقدم. قوله رحمه الله: [وكُلُّ ما أَوْجَب غُسْلاً أَوجَبَ وضُوءَاً إِلا الموتَ]: هذا قول بعض العلماء أن إنتقاض الطهارة الكبرى يوجب انتقاض الطهارة الصغرى، ومن ذلك خروج المني يوجب انتقاض الوضوء، وهكذا لو جامع أهله إنتقض وضوءه فكلُّ ما أوجب الطهارة الكبرى يوجب الطهارة الصغرى، وبناءً على ذلك قالوا: يجب عليه الوضوء من موجبات الغسل إلا الموت فإنه لا يوجب الوضوء فإذا مات الميت لا يجب أن يُوضّأ لما ثبت في الصحيح عن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أنه قال في الرجل الذي وقصته دابته: [إِغْسِلُوه بِمَاءٍ، وسِدْرٍ، وكفّنُوه في ثَوبيهِ، فإنه يُبْعثُ يومَ القِيَامةِ مُلَبّياً] قالوا: فدل هذا

على أنه لا يجب على الميت أن يُوضّأ، وقد ثبت في الحديث الصحيح أن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال في غسل إِبنته زينب رضي الله عنها: [ابدأْنَ بِمَيامِنهَا، وبِأعْضَاءِ الوُضُوءِ مِنْها] وهذا يدل على الاستحباب لا على الحتم، والإيجاب بقرينة البداءة بالميامن إذ لو كان الوضوء واجباً لقدّمه على ذكر الميامن، ولقال: (إِبْدأنَ بِأَعْضَاءِ الوضُوءِ مِنْها، وبمَيامِنها) لأن الواجب مقدم بحكم الشرع على ما دونه. قوله رحمه الله: [ومَنْ تَيقّنَ الطّهارةَ، وشَكَّ في الحَدَثِ، أو بالعَكْسِ بَنَى عَلى اليَقِينِ]: بعد أن بيّن رحمه الله أنواع الأحداث الموجبة لإنتقاض الطهارة شرع في مسألة مهمة تعمّ بها البلوى، وهي مسألة الشكّ في الطهارة، والحدث، فقال رحمه الله: [ومنْ تَيقّنَ الطّهارةَ، وشكَّ في الحَدثِ] اليقين هو أحد مراتب العلم الأربعة وهي: اليقينُ، والظنُ، والشَّكُ، والوهْمُ، فاليقين: هو أعلى مراتب العلم، ثمّ يليه الظنُ، ثم الشَّكُ، ثم الوهْمُ، فالوهم: بداية العلم بالشيء قدّروه من 1% إلى 49% فهو الظنُّ المرجوح يقابل الظنَّ الرَّاجح، وأما الشك: فهو إستواء الإحتمالين، ومقدّر بـ 50% وحدها؛ لأنها الدرجة التي تستوي فيها النِّسْبَتان، وأما الظنُ فهو أرجح الإحتمالين، ولذلك يُعبِّرُ عنه البعضُ بغالب الظنِ، وقدّروه من 51% إلى 99%، وأما اليقين: فهو تمام العلم بالشيء، وكماله بحيث لا يكون معه أيُّ إحتمال معارض، وهو في نسبة التمام 100%. وعلى هذا فإن الإنسان إذا كان متطهراً، وشكَّ في خروج الريح منه، أو شكّ هل قضى حاجته بعد هذا الوضوء، فيكون محدثاً فإننا نقول له: إِعْمَلْ

باليقين، وهو الطّهارة، وألغ الشك وهو الحدث، واحكم بكونك طاهراً حتى تستيقن أنك أحدثت، وكذلك العكس، فلو أنه أحدث، ثمّ شَكّ هل توضأ بعد حدثه، أو لا؟ فإننا نقول له: أَعمل اليَقِينَ، وهو الحدث وأَلغِ الشَّكَ وهو الطهارة، واحكم بأنك ما زلت محدثاً حتى تستيقن أنك توضأت. ودليل هذا الحكم: حديث عبد الله بن زيد رضي الله عنه قال: شُكي إلى النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الرجلُ يُخيَّل إليه أنه يَجدُ الشّيءَ في الصّلاةِ؟ أي: شكا أصحاب النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إلى النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أن الرجل إذا قام يُصلّي خُيل إليه أَنّ الريحَ قد خرجت، فانتقض وضُوؤه فقال عليه الصلاة والسلام: [لا يَنْصرفْ حتّى يسمعَ صَوْتاً، أو يجدَ رِيحاً] فمن رحمة الله -عز وجل- بالعباد أنه قطع الوساوس، والشكوك، ولو فُتح باب الوسوسة، والشك لتعذّب الناسُ، ولحصل بهم من الضرر ما الله به عليم، فلو أن الإنسان بمجرد الوسوسة ينتقض وضوءه لما استطاع أحد أن يصلي؛ لأنه بمجرد أن يتطهر يتسلّطُ عليه الشيطان بوساوسه، ولذلك جزم الشرع باعتبار الأصل، وألغى الشك، وإنبنت على هذا قاعدة مشهورة عند أهل العلم، وهي إحدى قواعد الفقه الخمسة، وهي قولهم: " اليقينُ لا يُزَالُ بِالشّكِ " والتي من فروعها قولهم: " الأَصْلُ بَقَاءُ مَا كَانَ عَلى مَا كَانَ " فالأصل أنك متوضئ، وشككت في الحدث، فالأصل بقاء الوضوء على ما كان عليه، فتقول: أنا متوضئ حتى استيقن انتقاض الوضوء، والعكس بالعكس، فلو أن إنساناً قضى حاجته قبل صلاة المغرب مثلاً، وشكَّ هل توضأ بعد ما قضى حاجته، أو لم يتوضأ؟

فإننا نقول: اليقين أنه محدثٌ، والشّكُ أنه مُتوضّئٌ فيطالب بفعل الوضوء؛ لأن اليقين فيه أنه محدثٌ، والأصل بقاء ما كان على ما كان. وهنا مسألة: وهي أننا عرفنا أنه لو تيقن الوضوء وشك في الحدث فإنه يحكم بكونه متوضئاً ولو تيقن الحدث وشك في الوضوء فإنه يحكم بكونه محدثاً، فلو أن إنساناً قال لك: أنا متأكد أنني توضأت ومتأكد أنني أحدثت ولكن لا أدري أيهما السابق؟ فما الحكم؟ والجواب: أننا نطالبه بالتذكر قبل الحدث، والوضوء فإذا تذكر شيئاً جزم بعكسه، فنقول له: ما الذي تتذكر قبلهما؟ قال: أتذكر أنني قضيت الحاجة، فنقول: إذاً تيقنا حدثاً قبل الاثنين، وتيقنا بعد ذلك الحدث طهارة فأنت على يقين من كونك متطهراً، حتى نجزم بأن الحدث المصاحب لاحقٌ غير سابقٍ، والواقع أننا لا نعلم حاله فنبقى على اليقين الموجب للحكم بالطهارة، ونلغي ذلك الحدث المصاحب لها لأنه لم يثِبت تأثيره في تلك الطهارة لإحتمال أنه تكرر حدثه قبل طهارته المستيقنة. هذا معنى قول العلماء رحمهم الله في هذه المسألة: يؤمرُ بالتّذكر قبل الحدث، والطهارة، ويأخذ بالعكس ولو قال: أتذكر قبلهما وضوءاً، وطهارة أيضاً أي: أنا على يقين أنني قبل الظهر قضيت الحاجة، وتوضأت ولا أدري السابق، وعلى يقين أنني توضأت للضحى، وأنني أحدثت، ولكن لا أدري أقبل صلاة الضحى، أو بعد صلاة الضحى؛ تقول بنفس الحكم يؤمر بالتذكر قبل الاثنين أي قبل الشك الأول، وقبل الشك الثاني ثم يؤخذ بالمثل فلو قال: عند شروق الشمس كنت على طهارة صلاة الفجر، وصليت

ركعتي الإشراق فنقول: قد تيقنت بعد ذلك الوضوء حدثاً، وهو الحدث الأول، وتيقنت طهارة في الحدث الثاني، وشككت في تأثير الحدث عليه إذاً فأنت الآن متطهر، ومن ثم قالوا: في الأوتار يحكم بالعكس، وفي الأشفاع يحكم بالمثل يعني يؤمر بالتذكر فإن كانت الحالات شفعية يُؤخَذُ بالمثل، وإن كانت وترية يُؤخَذ بالعكس، فهذا هو معنى قوله رحمه الله: [فإن تَيقنَهما، وجهلَ السابقَ، فهو بضدِّ حاله قَبلَهما]: لأن الحالة وترية فيأخذ بضدها كما سبق بيانه. قوله رحمه الله: [ويَحرُم على المُحدثِ مسُّ المُصْحَفِ، والصلاةُ، والطّوافُ]: شرع رحمه الله في هذه الجملة في بيان موانع الحدث الأصغر فقال: [ويَحْرمُ على المحدثِ مس المُصْحفِ]، وهو القرآن فلا يجوز له مسّه، ولا حمله، ولا فتحه دليل ذلك ظاهر القرآن على أحد القولين في تفسير قوله تعالى: {لَا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ} (¬1) وإن كان الصحيح أن المراد به: اللوح المحفوظ، وأنه لا يمسّه إلا الملائكة لكي ينفي الله -جل وعلا- تسلّط الشياطين على الوحي كما قال تعالى: {وَمَا تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّيَاطِينُ * وَمَا يَنْبَغِي لَهُمْ وَمَا يَسْتَطِيعُونَ} (¬2) فالآية الصحيح أنها محمولة على اللوح المحفوظ؛ لكن فيها وجه عند أهل العلم بحملها على المصحف، وعليه فاستدلوا به على حرمة مسِّ المحدث للقرآن. ¬

(¬1) الواقعة: آية: 79. (¬2) الشعراء، آية: 210 - 211.

أما الدليل الثاني: فحديث عمرو بن حزم، وهو حديث تلقته الأمة بالقبول كما صرح بذلك الأئمة كالحافظ ابن عبد البر، وشيخ الإسلام ابن تيمية، والإمام ابن القيم، وغيرهم رحمهم الله، وهو كتاب النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لأهل اليمن وفيه: [أَنْ لا يمس القرآنَ إلا طاهر] وقوله: [إلا طَاهِر] أي متوضئ، فدل على إشتراط الطهارة لمس المصحف، وقد اعترض على هذا الإستدلال بأن قوله: [إلا طاهر] يعنى به المسلم أي: أنه مسلم، وليس بمشرك، وهذا الإعتراض مردود، لأنهم فهموا من قول النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: [إن المؤمن لا ينجس] أن الكافر هو النجس، فهو الذي يوصف بكونه غير متطهر، فيكون قوله: [إلا طاهِر] المراد به تحريم مسِّ الكافر للقرآن، وهذا غير صحيح، لأن الشرع دلّ على وصف المسلم بكونه على غير طهارة كما في قوله سبحانه: {فَإِذَا تَطَهَّرْنَ}، وقوله عليه الصلاة والسلام لأم سلمة رضي الله عنها: [ثم تُفيضينَ الماء على جَسدك فإذَا أَنتِ قَدْ طَهرت]، وهذان النصان يدلان على أن الطهارة منتفية عن الجنب المسلم، وأنه بفعلها صار متطهراً، فدل على جواز وصفه بكونه على غير طهارة، وأن نفي الطهارة وإثباتها جائز في حقِّ المسلم، وقد جاء هذا صريحاً في قوله عليه الصلاة والسلام: [إِني كُنْتُ عَلى غيرِ طَهارة] فإذا تبين أنه لا تلازم بين الوصف بالنجاسة، والوصف بغير الطهارة، وعليه فيكون الإعتراض على حديثنا بحديث أبي هريرة مردوداً بثبوت السنة بجواز وصف المسلم بكونه على غير طهارة، فيكون قوله: [إلا طاهر] المراد به المسلم المتطهر، دون من كان عليه حدث.

الدليل الثالث: ما روى مالكٌ في الموطأ: عن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه أنه كان إبنهُ يقرأ عليه القرآنَ، والمصحف بين يديه، قال ابنه: فتَحكّكتُ فقال لي أبي: (لعلّك لمَسْتَ أي: لمَستَ ذَكَركَ؟ قال: نعم. قال: قم فتوضأ) فدل على أنه كان معروفاً ومعهوداً عند الصحابة رضي الله عنهم أن مس المصحف لا يكون إلا للمتوضِّئ؛ لأنه كان يقرأ، والمصحف بين يديه، فهذا يدلّ على أن هدي الصحابة -رضوان الله عليهم-، والسلف الصالح الأمر بالوضوء لمس الصحف. قوله رحمه الله: [والصّلاةُ]: أي: ويحرم على المحدث الصلاة، لقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ} فأمر الله بالوضوء للصلاة، وفرضه على عباده فدل على عدم جواز الصلاة بدونه، ولأن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال كما في الصحيح من حديث أبي هريرة رضي الله عنه: [لا يَقْبلُ الله صَلاةَ أحَدِكُم إِذَا أَحْدَثَ حَتّى يَتوضأ]، وهذا التحريم عام لجميع الصلوات فريضة كانت، أو نافلة، لقوله عليه الصلاة والسلام في حديث علي رضي الله عنه الصحيح: [مِفْتَاحُ الصلاةِ الطُهُور] فدلّ على أن الصلاة لا تجوز بغير طهارة، وهو عام في جميع الصلوات، فريضة كانت، أو نافلة. قوله رحمه الله: [والطَّوافُ] بالبيت أي ويحرم على المحدث أن يطوف بالبيت؛ لما ثبت في الحديث الصحيح أن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال: [الطوافُ بالبيْتِ صَلاةٌ] فأعطاه حكم الصلاة، فدلّ على أنه يجب له الوضوء، وهذا هو

مذهب جمهور العلماء أن الطواف بالبيت تُشترط له الطهارة؛ لأن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- نزّله منزلة الصلاة، فيؤمر بالوضوء له؛ كما يؤمر للصلاة. وذهب الإمام أبو حنيفة إلى أنه لا تشترط الطهارة للطواف، وهو مذهب مرجوح. ومن الأدلة على اشتراط الطهارة ما ثبت في الصحيح عن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أنه قال لعائشة رضي الله عنها لما حاضت: [إِصنَعِي مَا يَصْنَعُ الحاجُّ غَير أَنْ لا تَطُوفِي بِالبيْتِ] فحرم عليها أن تطوف، وأمرها أن تغيّر نسكها من التمتع إلى القران بسبب وجود الحدث المانع من صحة الطواف، وهذا يدلُّ على أنّ الطواف بالبيت تُشْترط له الطهارة، ولأن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ما طاف بالبيت إلا متوضّئاً، كما ثبت في صفة طوافه في حديث جابرٍ، وعائشةَ رضي الله عنهما، والله تعالى أعلم.

باب الغسل

باب الغسل قوله رحمه الله: [الغسل] الغسل في اللغة: هو صبّ الماء على الشيء، وأما في اصطلاح الشرع: (فتعميم البدن بالماء بنية مخصوصة)، وبهذان الوصفان يتحقق الغسل المأمور به شرعاً، وقولهم: " بنيةٍ مخصوصةٍ " المراد بها نية التقرب إلى الله مع قصد رفع الحدث، وهذا هو مذهب الجمهور: أن الغسل تُشترط فيه نيّةُ رفع الحدث، وخالفهم الحنفية كما تقدم في الوضوء وزاد المالكية وصفاً ثالثاً: وهو الدَّلك، ومرادهم إمرار اليد على الجسد أثناء الغُسل، وظاهر الكتاب، والسنة يدلان على عدم إشتراطه، فقوله سبحانه وتعالى: {وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا} يقتضي الحكم بالطهارة بإصابة الماء لظاهر الجسد، دون إشتراط أمر زائدٍ، وهو الدّلك وأكّدت ذلك السنة كما في حديث أم سلمة رضي الله عنها في الصحيح أنّ النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال لها: [إنما يَكْفِيكِ أَنْ تَحْثي عَلى رَأسِك ثَلاثَ حَثَياتٍ، ثُمَّ تُفيضينَ الماءَ عَلى جَسَدِكِ، فإذا أَنتِ قَدْ طَهُرتِ]، فبيّن عليه الصلاة والسلام بقوله: [تُفِيضِينَ الماءَ عَلى جَسَدِك] أن العبرة بوصول الماء إلى ظاهر الجسد، ولم يشترط أمراً زائداً عليه، وهو الدَّلك، وهذا هو الراجح. ومحل الخلاف بين القولين: إذا أمكن وصول الماء إلى ظاهر الجسد من دون دلك، أما لو كان وصول الماء إلى ظاهر الجسد لا يتحقق إلا بالدّلكِ كما في حالة قِلّة الماء فإنه يجب الدّلكُ عند الجميع، لأن الجمهور يرونه في هذه الحالة مستثنى لتوقف الواجب عليه، وما لا يَتمُّ الواجبُ إِلا به فهو واجب.

قوله رحمه الله: [باب الغُسل]: الغسل عبادة شرعية شرعها الله -جل وعلا- وأوجبها على الجنب، والحائض، والنفساء، ونحوهم ممن هو مأمور بالغسل، والعلماء -رحمهم الله- من عادتهم أنهم يذكرون باب الغسل في كتاب الطهارة؛ والسبب في ذلك: أن الغسل طهارة كُبرى فبعد أن بيّن -رحمه الله- الوضوء، وهو الطهارة الصُغرى شرع في بيان أحكام الطهارة الكبرى، وهي الغسل. قد يسأل سائل فيقول: إذا كان الغسل طهارة كبرى، والوضوء طهارة صغرى، فقد كان الأنسب أن يبدأ بالكبرى قبل الصغرى؛ لأن الصغرى قد تندرج تحت الكبرى؟ ويجاب عن ذلك من وجهين: الوجه الأول: أن الفقهاء، والمحدثين -رحمة الله عليهم- يقدّمون الوضوء على الغسل مراعاة لترتيب القرآن فإن الله -عز وجل- في آية المائدة بيّن حكم الوضوء، ثم أتبعه بالغسل. الوجه الثاني: أنّ الوضوء أكثرُ من الغسل بمعنى: أنك تتوضأ في اليوم أكثر من مرّة، والغسل لا يقع إلا في أحوال قليلة بالنسبة للوضوء. وقد يجلس الأعزب سنة كاملة لا يجنب، ولا يغتسل غسلاً واجباً إلا مرة واحدة فلما كان الوضوء أكثر وقوعاً، أو كما يقول العلماء أعمّ بلوى إِبتدأ العلماء -رحمهم الله- بالوضوء، ثم ثنّوا بالغسل بعده. وبعبارة مختصرة تقول: قُدم الوضوء لعموم البلوى به، وأُخّر الغسل لقلّة وقوعه بالنسبة للوضوء.

قوله رحمه الله: [ومُوجِبهُ خُروجُ المنيّ دَفَقاً بِلَذةٍ]: وموجبه الموجب: هو المتسبّب أي: أن هذا الغسل يتسبب في لزومه على المكلف خروج المني دفقاً بلذة؛ أي: إذا خرج المني من الإنسان دفقاً، وبلذة لزمه الغسل. أما الخروج: فهو ضدُّ الدُّخول كما هو معلوم، ومراد العلماء بخروج المني: أن يجاوز رأسَ الإحْلِيلِ، وهو نهاية مجرى البول من الذكر، فإذا بلغ المني ذلك الموضع بمعنى أنه قذفه العضو؛ وجب الغسل، فهذا هو المراد بالخروج، ولما قال المصنف: خروج فهمنا من ذلك أنه إذا لم يخرج لا يجب الغسل. ففائدة تعبير الفقهاء بخروج أنك لو سُئلت عن رجل حصل منه تحرك الشهوة، ونزع المني من الصُّلب أثناء الصلاة، فأمسك العضو حتى سلّم فصلاته صحيحة، ولا يُحكم بوجوب الغسل عليه؛ إلا بعد الخروج وتحققه فإذاً الوصف بالخروج معتبر، فمفهومه أنه إذا لم يخرج لم يجب الغسل، وقد دلّ على ذلك قول النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: [إنما الماءُ مِنَ الماءِ] أي: إنما الماءُ, وهو الغسل " مِنْ " سببيه أي: بسبب الماء، وهو خروج المني، فإذا خرج المني وجب الغسل فإذا لم يحصل الخروج لم يجب الإغتسال بالماء، وكذلك قوله عليه الصلاة والسلام: [إذا فَضَخْتَ الماءَ، فَاغْتَسِلْ]. والمني: هو الماء الأبيض الثّخينُ بالنسبة للرجل، والأصفرُ الرّقيقُ بالنسبة للمرأة، ورائحته كطَلْع النَّخْلِ والعَجِينِ يخرج دفقاً عند وجود اللّذة الكُبرى

قوله رحمه الله: [خُروجُ المنيّ دَفَقاً]: والدفق وصف معتبر اشترطه الفقهاء رحمهم الله لقوله تعالى: {خُلِقَ مِنْ مَاءٍ دَافِقٍ} (¬1) فوصف الله -جل وعلا- منيَّ الإنسان بكونِه دافقاً، ولذلك قالوا: إذا خرج المني دفقاً؛ وجب الغسل. [بلذّة]: اللذّة: وصف معتبر، وهي اللذّة الكبرى، وخرج بقولهم اللذة الكبرى ما يخرج باللذّة الصغرى، وهو المذْيُ، وهو قطرات يسيرة لزجة تخرج عند بداية الشهوة، فمثل هذه القطرات لا تأخذ حكم المني، فلا يجب بها الغسل. قال رحمه الله: [خُروجُ المنيّ دَفَقاً بِلَذّة]: أي إذا خرج المني من المكلّف بهذه الصورة الجامعة للوصفين دفقاً، وبلذّة وجب الغسل. والدليل على هذا: ما ثبت في الحديث الصحيح عن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أنه قال: [إِذَا فَضَخْتَ الماءَ فاغْتَسِلْ] فدلّ على وجوب الغسل بخروج المني بالصفة التي ذكرناها، وظاهر قول المصنف: [خُروجُ المني] العموم أي: سواء خرج المني في يقظة، أو منام، وفي اليقظة: سواء كان بجماع، أو بغير جماع، وإذا خرج في المنام سواء: تذكّر الاحتلام، أو لم يتذكّره. أما الدليل على وجوب الغسل بمجرد خروجه في يقظة، أو منام: فما ثبت في الصحيح من حديث أُبيِّ بن كعب رضي الله عنه أنّ النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال: [إنما الماءُ مِنَ الماءِ] فقد بيّن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أن وجوب الغسل من الجنابة مبني ¬

(¬1) الطارق، آية: 6.

على وجود الماء، وهو المني فإذا وجدنا الماء وهو المني حكمنا بوجوب الغسل، وعلى هذا لو أن إنساناً نام، ثم استيقظ فوجد أثر المني في ثوبه؛ فهل يجب عليه الغسل لو لم يذكر الاحتلام؟ الجواب: نعم لظاهر الحديث حيث أمر النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بالغسل، دون نظرٍ إلى كونه ذاكراً، أو غير ذاكر، وبناءً على ذلك، فالعبرة بوجود الماء سواءً تذكّر أنه رأى شيئاً، أو لم يتذكر. ولو استيقظ من نومه فوجد بللاً في ثوبه، ثم لم يَدْرِ هل هو منيٌّ فيغتسل، أو مذْيٌ فلا غسل عليه فما الحكم؟ والجواب: أنه إذا وجد علامة المنيِّ حكم بكونه منياً، وإذا وجد علامة المَذْي حكم بكونه مَذْياً نجساً، وإن لم يستطع التمييز، وشكَّ رجع إلى اليقين من كونه مَذْياً، فلا يجب عليه غسل، حتى يستيقن، أو يغلب على ظنّه أنه مني. قوله رحمه الله: [لا بِدُونِهما مِنْ غَيْر نَائمٍ]: [لا بدونها]: اللام نافية أي: لا يجب الغسل من مني خرج بدون دفق، ولذة لقوله تعالى: {خُلِقَ مِنْ مَاءٍ دَافِقٍ} فوصفه سبحانه بكونه دافقاً، وأما اللّذة فهي وصفه الطبعي، فاجتمع في اعتبار الوصفين الشرع، والطبع. [مِنْ غيرِ نَائمٍ]: وهو المستيقظ، فلو أن إنساناً كان مستيقظاً، وخرج منه المني بدون دفق، ولا لذة فما الحكم؟ والجواب: أنه لا يجب عليه الغسل لظاهر الآية السابقة كما قلنا وهو اختيار المصنف رحمه الله إلا أن هذين الوصفين يعتبران في المستيقظ، دون النائم؛ لأن النائم ليس عنده شعور فسقط اعتبارهما فيه، واعتبر وجود المني بعد

إستيقاظه بغض النظر عن صفة خروجه لعموم قوله عليه الصلاة والسلام في الصحيح: [إنما الماءُ مِنَ الماءِ] وبناءً على ذلك في حكمه أُعمل عموم النص في هذا الحديث، وحُكم بوجوب الغسل عليه، ولذلك لما سئل -عليه الصلاة والسلام- عن المرأة ترى ما يرى الرجل هل عليها غسل فقال عليه الصلاة والسلام كما في الصحيح: [نَعمْ إِذَا رأَتِ الماءَ، إنما هُنَّ شَقَائِقُ الرَجَالِ]. قوله رحمه الله: [وإِنْ إِنتَقلَ، ولَمْ يَخرُجْ؛ إِغْتسَلَ لَهُ]: هذا الوجه الثاني الذي أشرنا إليه في أول الباب ومراده رحمه الله: أنه إذا شعر بانتقاله من الصُّلب، دون أن يخرج من الذَّكر؛ فإن العبرة بالإنتقال، لا بالخروج، والصحيح ما ذكرنا سابقاً أن العبرة بالخروج؛ لقوله عليه الصلاة والسلام: [إِذَا فَضَخْتَ المَاءَ فاغْتَسِلْ]. قوله رحمه الله: [فإِنْ خَرجَ بَعْدَه؛ لم يُعِدْهُ]: أي أنه في المسألة السابقة إذا اغتسل بعد شعوره بإنتقاله وقبل خروجه، ثم خرج بعد الغسل لم تجب عليه إعادة الغسل، وقدّمنا أن الصحيح أن العبرة بالخروج. قوله رحمه الله: [وتَغْييبُ حَشفةٍ أصْليّةٍ في فرج أَصْلي قُبُلاً كَانَ أو دُبُراً]: هذا هو السبب الثاني الذي يجب به الغسل، وهو تغييب حشفة أصلية، والتغييب: هو المواراة تقول غَيَّبَ الشيء في التراب إذا واراه فيه، والغائب هو المتواري عن الأنظار، وتغييب الحشفة: الحشفة هي رأس الذكر، والمراد بالتغييب: أن يحصل الإيلاج فبعض العلماء يقول: إيلاج، وبعضهم يقول: تغييب، والمعنى واحد، فلما قال تغييب الحشفة فهمنا من ذلك: أنه

لو أَلْزَقَ رأسَ العضو بالفرج، دون إدخال فإنه لا يجب الغسل، سواء كان من قبل، أو دبر فلا يترتب عليه الحكم الشرعي المترتب على الإيلاج، وهذا يكاد يكون بالإجماع؛ لأن التغييب شرط معتبر في إيجاب الغسل، وقد أشار إليه النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بقوله: [إِذَا إِلْتَقى الختَانان فقدْ وَجَبَ الغُسْلُ] فكنّى -صلوات ربي وسلامه عليه- عن الإيلاج بقوله: [إذا إلتقى] فإن هذا لا يحصل إلا بإيلاج رأس العضو فعندها يحاذي موضعُ ختانِ الرّجل موضعَ ختانِ المرأةِ كما ذكر أهل العلم رحمهم الله، وبناءً على ذلك فشرط هذا الموجب الثاني أن يحصل تغييب لرأس العضو، أو قدره من مقطوعه. قوله رحمه الله: [في فَرْجٍ أَصْلِيٍّ قُبلاً كَانَ، أو دُبُراً] الفرج هنا عام يشمل الأنثى، والذكر، والحي، والميت، والحيوان، والإنسان، فإذا حصل إيلاج في هذه الصور كلها وجب الغسل، وهذا فيه أصل، وفيه مقيس على الأصل. أما الأصل فهو إيجاب الغسل بالإيلاج، وقد دلت عليه الأحاديث الصحيحة، ومنها حديث أم المؤمنين عائشة -رضي الله عنها- في الصحيحين من قوله عليه الصلاة والسلام: [إِذَا ألزقَ الختانَ بِالخِتانِ] وقوله عليه الصلاة والسلام: [إذا مس الخِتَانُ الخِتَانَ] وقوله: [إِذا جلَسَ بين شُعَبِها الأربع، ثم جَهَدها فَقدْ وجب الغُسْل] هذه الألفاظ الصحيحة دلت على أن العبرة بإيلاج رأس العضو، وهذا منصوص جماهير السلف، والخلف من أهل العلم -رحمة الله عليهم-.

أما بالنسبة للملحق بهذا الأصل ففرج الدبر بالنسبة للآدمي، وهو محرم وطؤه سواء كان من إمرأة، أو من رجل، وكذلك فرج البهيمة قبلاً كان، أو دبراً فإن وطء هذه الفروج جميعها يعتبر آخذاً حكم ما ذكرناه بالقياس؛ لأن الشرع ينبّه بالنّظيرِ على نَظِيره، وهذا هو مذهب جماهير العلماء رحمهم الله. وخالف بعض أهل العلم، فقال: لا يجب إلا إذا حصل الإيلاج في فرج الأنثى بالجماع، وأما غيرها فلا يجب به غسل. والصحيح ما ذكرناه، لأنه ملحق بالأصل. قوله رحمه الله: [تَغْييبُ حَشَفةٍ في فرجٍ أصْلِي]: هذا التغييب ظاهره الإطلاق أي: سواء كان في يقظة، أو في منام، فإن التكليف مبني على الحكم الوضعي بمعنى أنه متى ما حصل الإيلاج حكمنا بوجوب الغسل بغضّ النّظر عن كونه حاصلاً في اليقظة، أو المنام. قوله رحمه الله: [تَغييبُ حَشفةٍ في فَرْج أصْلِيٍّ]: خرج من هذا الفرج الغير الأصلي، ومثّل له العلماء بالخنثى المشكل، فقال بعض العلماء -رحمهم الله- وهو يكاد يكون مذهب الجمهور: أنه إذا جامع الخنثى، وكان مُشكلاً، فإنه لا يُحكم بوجوب الغسل عليه لأن العبرة بالفرج الأصلي، والخنثى إذا لم يتبين أنه ذكر، أو أنثى فإننا نَعْمَل بقاعدة: " اليَقينُ لا يُزالُ بِالشّكِ " فاليقين أن المجامع طاهر، وشككنا في هذا الفرج هل هو أصلي فيكون بمثابة وطء فرج أصلى فحينئذٍ يجب الغسل، أو هو غير أصلي فلا يكون جِمَاعاً مؤثراً، فلما شككنا رجعنا إلى اليقين، هذا هو وجه إسقاط الغسل يقولون: إن المجامع الأصل فيه الطهارة، وشككنا في جماعه فرجعنا إلى الأصل من

طهارته، ولم نوجب عليه غُسلاً، ومَنْ خالفهم فإنه يقول إن الأحكام في الخُنثى المشكل مبنيّة على أنه أنثى حتى نستيقن ذكورته فنوجب الغسل من هذا الوجه طرداً للأصل. وعليه فكل واحد يعتبر اليقين في هذه المسألة من وجه فالمصنف رحمه الله، ومن يقول بقوله: يعتبرون اليقين في المجامع، وهو الرجل أنه طاهر، وأصحاب القول المخالف: يعتبرونه في المحلِّ، وهو الخنثى المشكل لأن اليقين أنه أنثى كما تقدم معنا في مسائل اللمس. قوله رحمه الله: [قُبُلاً، أو دُبراً]: هذا للتنويع سواء وقع في قبل، أو دبر يخرج من هذا الفرج غير الأصلي كما ذكرنا في الخنثى المشكل، أو يكون مصنّعاً كما يفعله بعض المصورين في زماننا والعياذ بالله، فهو فرج غير أصلي، فالإيلاج فيه لا يوجب الغسل. وخالف في هذا بعض العلماء: فقال الإيلاج موجب للغسل للمولج فيه، سواء كان الذي ولج عضواً، أو غيره، وهو أحد الوجهين عند الشافعية، ومما يتخرج على، هذه المسألة الآن المناظير الطبية تولج من الدبر إذا احتيج إلى ذلك لكشف مرض جراحي، أو غيره، فعلى الوجه الذي مشى عليه المصنف رحمه الله لا يجب الغسل، وعلى الوجه الثاني: يجب. قوله رحمه الله: [ولَوْ مِنْ بَهيمةٍ، أو مَيِّتٍ]: أي: ولو وقع الإيلاج في بهيمة، أو ميت كما تقدم. وإذا تبين لنا أن تغييب الحشفة، وإيلاجها في الفرج موجب للغسل على التفصيل الذي سبق، فإن هذا الحكم عام يستوي فيه أن يحصل به إنزال، أو

لا يحصل، بمعنى: أن الإيلاج موجب للغسل بغضّ النّظر عن حصول الإنزال، فليس بشرط في اعتباره، وهذه المسألة كان فيها خلاف من بعض الصحابة رضي الله عنهم حيث كان يقول: إذا جامع الرجل، ولم يُنزل لا يجب عليه الغسل، أي: أنه لا يرى أن مجرد الإيلاج يوجب الغسل، وذهب الجماهير من الصحابة -رضوان الله عليهم- إلى أنه يجب الغسل سواء حصل الإنزال في الجماع، أو لم يحصل، وكان في أول التشريع في الإسلام إذا جامع، ولم يُنزل لا يجب عليه الغسل، وفيه أحاديث صحيحة منها: ما ثبت في الصحيح من قوله عليه الصلاة والسلام: [إنما الماءُ مِنَ الماءِ] أي إنّما الماءُ، وهو الغسل بسبب الماء، وهو: المني فإذا جامع أهله، ولم ينزل لا ماء عليه، أي: لا يجب عليه غسل، ومنها ما ثبت في الحديث الصحيح أنّ النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- زارَ رجلاً من الأنصار، فقَرعَ عليه البابَ، فخرج الرجل مسرعاً؛ كأنه كان مع أهله، فقال عليه الصلاة والسلام: [لَعلَّنا أَعْجَلْنَاكَ إذا أَعْجَلتَ، أو أَقحطتَ فلا غُسلَ عَليْك]. [أَعْجَلْتَ]: بمعنى أن الإنسان نزع قبل أن يُنْزِل. [أو أَقْحَطْتَ]: أي لم يحصل إنزال أثناء الجماع، فلا غسل عليك أي: لا يجب عليك أن تغتسل من الجنابة فظاهر هذا النص أنّ العبرة بخروج المني، وجاء في لفظ آخر -أيضاً- ما يؤكّدُ هذا في قوله عليه الصلاة والسلام: [إِذا فَضخْتَ الماءَ؛ فاغتسلْ] فكانت هذه رخصة في أول الإسلام أنه لا يجب الغسل بمجرد الجماع، ثم جاء الأمر من الله -عز وجل- بإيجاب الغسل بالجماع في حديث أم المؤمنين عائشة -رضي الله عنها- في قوله عليه الصلاة

والسلام: [إِذا مسَّ الختانُ الختانَ فقدْ وجبَ الغُسلُ] وفي رواية: [أَنزلَ، أو لمْ يُنْزِلْ] ولذلك لما اختلف الصحابة -رضوان الله عليهم- في عهد عمر -رضي الله عنه- كان بعض الصحابة يحفظ الفتوى الأولى، والتشريع الأول، وكان بعضهم حفظ النسخ، فاختلفوا في عهد عمر -رضي الله عنه-، فبعث عمر -رضي الله عنه- إلى أم المؤمنين عائشة -رضي الله عنها، وأرضاها-، فأخبرته بحديث النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وقوله: [إِذَا إِلْتَقَى الختانانِ فَقدْ وَجَبَ الغُسْلُ أَنزلَ، أو لَمْ يُنْزِلْ]. فقال عمر -رضي الله عنه-: " من خالفَ بعد اليوم جعلتُه نَكالاً للعالمين " أي عزرته، وذلك لأن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- نسخ الحكم الذي كان في أول الإسلام بالتّخفيف فوجب الغسل سواء حصل الإنزال، أو لم يحصل، وجاء أبو سلمة بن عبد الرحمن بن عوف رحمه الله الإمام المشهور تلميذ ابن عباس إلى أم المؤمنين عائشة -رضي الله عنها- لما حصل الكلام في هذه المسألة في عهد التابعين، وذكر القول الذي يقول: بإسقاط الغسل على من جامع، ولم ينزل، فقالت له رضي الله عنها: يا أبا سلمة إنّما مَثُلك مَثُل الفَرُّوج سمع الدِّيكة تصيحُ، فصاحَ بصياحها، يعني: ما أنت إلا تَبعٌ للنّاس، ثم ذكرت له الحديث، فهذا يدل على شِدِّة أم المومنين -رضي الله عنها- في المسألة، وأن الأمر منسوخ، ومنتهٍ، ولذلك يقول بعض العلماء: حصل الإجماع بعد الصحابة رضي الله عنهم على أن مجرد الجماع يوجب الغسل سواء حصل الإنزال، أو لم يحصل.

قال رحمه الله: [وإسلامُ كَافرٍ]: هذا هو السبب الثالث من أسباب الغسل، وهو الإسلام، فإذا أسلم الكافر وجب عليه الغسل، وفيه حديث قيسِ بنِ عاصمٍ رضي الله عنه أنه: [أسلمَ فأَمرهُ النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَغتسل بماءٍ، وسِدْرٍ] رواه الخمسة إلا ابن ماجة، والقول بوجوب الغسل على الكافر إذا أسلم هو مذهب الحنابلة رحمهم الله، وقد بينا هذه المسألة، وذكرنا الخلاف فيها في شرح البلوغ، وأن الذي يترجح في نظري والعلم عند الله: هو القول بعدم وجوب الغسل، وذلك لأن الأحاديث التي استدل بها على الوجوب ضعيفة، ولأن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لم يأمر الصحابة رضي الله عنهم بذلك في حديث صحيح، وما ورد في قصة ثمامة في الصحيح أنه إغتسل في الحائط، فيجاب عنه بأنه إغتسل ثم جاء، وتشهّد، وأسلم، فوقع غسله قبل أن يسلم، وكان منه إجتهاداً لا بأمر منه عليه الصلاة والسلام فلا حجة فيه، وأما ما ورد أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أمره بالاغتسال في بعض الروايات فأجيب عنه بضعفه، ومخالفته لما في الصحيح، وغسل الكافر عند الإسلام مستحب، فيكون الأمر فيه للإستحباب، وعليه يحمل حديث قيس بن عاصم كما أشار إليه النووي، بدليل جمعه بين الماء والسدر، والسدر لا يجب إجماعاً، فكان قرينة صارفة من الوجوب إلى الندب والإستحباب والله أعلم. قوله رحمه الله: [ومَوتٌ]: أي: أنّ من موجبات الغسل الموت، وهذا هو السبب الرابع من أسباب الغسل، والوجوب هنا غير متعلق بالميت، وإنما هو متعلق بالمكلّفين الأحياء.

والدليل على ذلك: ما ثبت في الصحيح عن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أنه لما وقف بعرفةَ وأُخبِرَ بالرّجُلِ الذي وَقَصَتُه دابته، فماتَ، قال عليه الصلاة والسّلام: [إِغْسلُوه بماءٍ، وسدْرٍ، وكَفِّنُوهُ في ثَوبيْهِ، ولا تُحنِّطُوه، ولا تُغَطُّوا رأسَه؛ فإنه يُبْعثُ يومَ القِيَامةِ مُلَبِّياً]، ومحل الشاهد: في قوله عليه الصّلاة والسّلام: [إِغْسِلُوهُ] فوجّه الخطاب بالأمر للمكلفين، فدل على وجوب غَسْلِ الميّتِ عليهم. الدليل الثاني: ما ثبت في الصحيح عن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أنه لمّا تُوفِّيَتْ إِبنتُه زَينبُ -رضي الله عنها، وأرضاها- قال عليه الصلاة والسلام: [إِغْسِلْنَها بِمَاءٍ، وسِدْرٍ] فهذا يدلُّ على وجوبه أيضاً بالنسبة للأنثى؛ لأن قوله: [إِغْسِلْنَها] أمر، وهو للوجوب، وهذان الحديثان دالان على وجوب غسل الميت الأول منهما: متعلق بالذكور، والثاني: بالإناث، وبناءً على ذلك يجب غسل الميت من المسلمين ذكراً كان، أو أنثى. وهنا مسائل منها: لو أن الميت مات، وليس هناك ماء فإنه يسقط الغسل، واختار بعض العلماء أن يُيمم وهذا مبني على أن الغُسلَ للتَّعبد، وليسَ بِمُعلّل. والمسألة الثانية: هل هذا الوجوب يُستثنى منه شيءٌ؟ والجواب: أنه تستثنى منه الحالات التي تشتمل على الضرر؛ سواء كان متعلقاً بالميت مثل: أن يكون محروقاً، وتغسيله يضرُّ بجسده، أو كان الضرر لاحقاً بمن يتولى تغسيلَه كما في الأمراض الوَبائِيّة، والمُعْدِيَةِ، فإذا قرر الأطباء

أنه إذا غُسّلَ تَضرّر مُغَسِّله فإنه حينئذ يسقط الغسل، ويُعْدَلُ إلى التيمم، وإذا كان التيمّم يُضِرُّ أيضاً سقط الغسل، والتيمّم، وكُفِّن مباشرة. قوله رحمه الله: [وحَيْضٌ]: أي يوجب الغسل الحيض، وهذا هو السبب الخامس من أسباب الغسل، والأصل فيه ما ثبت في الصحيحين أن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال: [لِتَنْظُرِ الأيامَ الّتي كَانتْ تَحِيضهُنَّ قَبْلَ أَنْ يُصيبَهَا الّذِي أَصَابَها؛ فإذَا هِيَ خَلّفتْ ذَلك] يعني أيامَ العادةِ [فَلْتَغْتَسِلْ، ثُمَّ لِتُصَلِّ] فقوله عليه الصلاة والسلام: [فَلْتَغتَسِلْ] أمر، فدلّ على أنّ الحيض يوجب الغسل، وقد دل دليل الكتاب على أن الأصل في الحائض أنها تغتسل بعد إنتهاء حيضها، كما يشهد لذلك قوله سبحانه وتعالى: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ وَلَا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ} فقوله: {وَلَا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ} يدلّ على أنّ الحيض له طهارة وهي: الغسل، وتفعلها المرأة بدليل نسبته إليها بعد ذلك في قوله سبحانه: {فَإِذَا تَطَهَّرْنَ} أي: فعلن الطهارة، ودليل الكتاب يدلّ على أن الحائض تغتسل بعد حيضها، لكن دليل السنة أقوى في الدلالة على الوجوب، فصار أصلاً في الحكم به، وإِنعقد الإجماع على ذلك أعني أن الحيض يُوجِبُ الغُسْلَ. قوله رحمه الله: [ونُفَاسٌ] أي: ويوجب الغسل خروج دم النّفاس، وهذا هو السبب السادس من أسباب الغسل، وحكم النّفاس؛ كالحيض، والإجماع منعقد على ذلك، وكل منهما يكون الغسل فيه بعد حصول الطهر

فإذا رأت المرأة علامة الطهر المعتبرة، وجب عليها أن تغتسل، وسيأتي بإذن الله تعالى بيان علامة الطهر في باب الحيض. قوله رحمه الله: [لا وِلادَة عَارِية عَنْ دَمٍ]: أي أن المرأة لو وضعت جنينها دون دم لم يجب عليها الغسل، لأن الشّرع رتَّب الحكم على وجود الدم، فإذا وُجد في النّفاس حكمنا بوجوب الغسل، وإذا لم يوجد لم يجب الغسل. قوله رحمه الله: [ومَنْ لَزِمَه الغُسْلُ حَرُمَ عَليه قِراءةُ القُرْآنِ]: شرع رحمه الله في بيان موانع الحدث الأكبر بعد بيانه لأسبابه، وموجباته فبيّن أن الحدث الأكبر، وهو ما عبر عنه بقوله: [ومَنْ لَزِمَه الغُسلُ] موجب لموانع؛ أولها: ما أشار إليه بقوله رحمه الله: [حَرُمَ عليه قِراءَةُ القُرآنِ] فإنه يوجب إعتبار الحدث الأكبر مانعاً من قراءة القرآن، وهذا هو مذهب جمهور العلماء رحمهم الله، واستدلوا بدليل السنة: وهو حديث علي -رضي الله عنه- قال: [رأيتُ النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ توضّأَ، ثُم قَرأَ شَيئاً مِنَ القُرْآنِ، ثم قال: هكَذا لمنْ لَيس بِجُنبٍ، فأما الجُنُب فَلا، ولا آيةٌ] وفي حديثه عند أصحاب السنن وصححه الترمذي وغيره أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ [كَانَ لا يَمْنَعُه مِنَ القُرآنِ شَيءٌ ليسَ الجنَابة]، فلا يجوز للجنب أن يقرأ القرآن، وهذا هو مذهب الجمهور رحمهم الله، وقد إعتبروه من الأمور التي يُفرَّق فيها بين القرآن، والحديثِ القدسيِّ؛ كما أشار إلى ذلك بعض الفضلاء بقوله: ومَنْعُه تلاوةً للجُنبِ ... فِي كُلِّ حَرفٍ مِنْهُ عَشْراً أَوْجِبِ

أي أن القرآن يحرم على الجنب تلاوتُه بخلاف الحديث القدسيّ، وكذلك في كل حرف من القرآن عشر حسنات بخلاف الحديث القدسيّ. قوله رحمه الله: [ويَعْبُر المسجدَ لحاجةٍ، ولا يَلْبَثُ فِيه بغيرِ وُضُوءٍ] أي: أن من موانع الحدث الأكبر اللبث في المسجد إلا إذا توضأ، أو كان ماراً به عابراً غير جالس فيه، ولا واقف بداخله، وقد اُستدل على هذا الحكم بدليل الكتاب في قوله سبحانه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ وَلَا جُنُبًا إِلَّا عَابِرِي سَبِيلٍ} على أن التقدير: لا تقربوا مواضع الصلاة (وهي المساجد) جنباً إلا عابري سبيل، وهذا هو أحد الأوجه في الآية الكريمة، وهذا القول يشكل عليه النهي الوارد عن إتخاذ المساجد طرقات، إلا إذا كانت الآية محمولة على أول الأمر، ثم نُسخ ذلك بعد أمره عليه الصلاة والسلام بسدِّ خَوْخَاتِ المساجدِ، فتكون الإباحة على ظاهر الآية في أول الأمر، مع أن دلالة الآية على ما ذكر فيها خلاف، ومن هنا قَوِيَ منعُ الجنب من دخول المسجد، والمرور من خلاله، وقد دلّتِ السنةُ في حديث عائشة رضي الله عنها في الصحيح حينما قال لها النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: [نَاولِيني الخُمْرَةَ] قالت: إني حائض، فاعتذرت عن إدخال يدها لكونها حائضاً، فدلّ على أن المحدث حدثاً أكبر ممنوع من دخول المسجد؛ لأن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لم ينكر عليها إعتقادها لذلك، وإنما بين لها أن دخول اليد؛ ليس كدخول الجسم كله. قوله رحمه الله: [ومَنْ غسّل مَيّتاً، أَوْ أَفاقَ مِنْ جُنونٍ، أَوْ إِغْمَاءٍ بِلا حُلُمٍ سُنَّ له الغُسْلُ]: شرع المصنف رحمه الله بهذه الجملة في بيان الإغتسالات

المستحبة بعد بيانه لموجبات الغسل، وأسباب وجوبه فبيّن رحمه الله أن من غسل ميتاً أي: قام بِتَغسيله، ويكون ذلك على صورتين: الصورة الأولى: أن ينفرد بتغسيله. والصورة الثانية: أن يكون مع غيره. فأما إذا إنفرد بتغسيله فقول واحد عند من يقول بوجوب الغسل عليه، أو باستحبابه له أنه يغتسل، وأمّا اٍ ذا كان مع غيره، فإنه يأخذ حكم الأصيل؛ لأنه يصدق عليه أنه غسله بشرط: أن يكون له عمل في غسل جسد الميّت، وبناءَ على ذلك، فإنه إذا غسل منفرداً، أو مشاركاً مع غيره، فالحكم أنه يجب عليه أن يغتسل على قول من يقول بالوجوب، لكن المصنف يميل هنا إلى القول بالسُّنية، والاستحباب، وهو أصح القولين في هذه المسألة وهو مذهب الجمهور من الحنفية، والمالكية، والشافعية، ورواية عن أحمد رحمة الله على الجميع، ولأن من قال بالوجوب إستدل بحديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال: [مَنْ غسّل ميّتاً فليغتَسِلْ، ومَنْ حَملَه فَلْيَتوَضأ] رواه الخمسة إلا أن ابن ماجة لم يذكر الوضوء قال الإمام أحمد، وعلي بن المديني رحمهما الله: (لا يصحُّ في البابِ شَيء)، ومثله عن الذّهلي، والحاكم، وغيرهما والحديث ضعيف، وقد تكلم عليه الإمام الدارقطني -رحمه الله- في العِلَل، وتكلم عليه الحفاظ والصحيح عدم ثبوته، لكن على القول بثبوته، أو أنه حسن فيحمل على الاستحباب، والأفضل أي: من غسل ميتاً فإنه يغتسل استحباباً، لا على سبيل الحتم، والإيجاب.

قوله رحمه الله: [أَوْ أَفاقَ مِنْ جُنونٍ، أو إِغْماءٍ] مراده أن المجنون، والمغمى عليه يجب عليهما الغسل إذا أفاقا، دون أن يحصل منهما إنزال، وهذا هو أحد قولي العلماء في هذه المسألة، ومنهم من رأى وجوب الإغتسال مطلقاً، وهو الرّاجح لما ثبت في الصحيح من حديث أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها أنّ النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: [لما قام إلى الصلاة في مَرضِ المَوْتِ، ثم غُشِيَ عليه، ثم أَفاقَ، فاغتسل صلوات الله وسلامه عليه، ثم غُشِيَ عليه، ثمَّ أَفاق، ثم إِغتسل] فهذا أصل في وجوب الغسل من الإغماء؛ والجنون أشد منه، فيكون الشّرع قد نبّه بالأدنى، وهو الإغماء على ما هو أعلى منه، وهو الجنون، فيجب الغسل بالجنون من باب أولى وأحرى هذا من جهة الأثر، أما من جهة النظر فهو أن الجُنون، والإغماءَ مظنّة الحدث الأكبر، وهو نزول المني، دون أن يعلم به حال جنونه، وإغمائه فأوجب الطهارة الكبرى، كما أن النوم مظنّة الحدث، وأوجب الشرع به الطهارة الصغرى. فيجب الغسل بسبب الجنون، والإغماء وفي حكم المجنون، والمغمى عليه السكرانُ، والمخدَّر بالبَنْجِ، وغيره كالأفيون، والحشيش إذا غاب عنه عقله وإدراكه. فعلى القول الذي مشى عليه المصنف رحمه الله إذا أفاقا دون أن يحصل منهما إنزال، فالغسل مستحب، لا واجب، وقد أشار إلى هذا بقوله رحمه الله: [بِلا حُلُمٍ]: أي بلا احتلام، وقوله رحمه الله: [سُنَّ له الغُسْل]: أي لا يجب عليه، وهذا كما ذكرنا، وظاهر حديث عائشة رضي الله عنها يردّه

لأنه تأخر عليه الصلاة والسلام عن الصلاة، وكرّر الغسل أكثر من مرّةٍ والنّاس تَنْتظِرُه، ولا معنى لذلك إلا وجوبه، ثمّ إنه لم يحصل منه إنزال صلوات الله وسلامه عليه، فدلّ على رجحان القول بالوجوب، دون تفريقٍ بين حصول الإنزال، وعدمه. قوله رحمه الله: [والغُسْلُ الكاملُ] شرع المصنف رحمه الله بهذه الجملة في بيان صفة الغسل بعد بيانه لموجباته، وأسبابه وقد راعى في ذلك الترتيب المنطقي، لأن الأسباب، والموجبات مقدَّمةٌ على الصِّفة، ومن هنا يرد السؤال أولاً: ما هي موجبات الغسل، ومستحباته؟ ثم بعد ذلك يرد السؤال: كيف يكون الغسل وما هي صفته؟ فقال رحمه الله: [والغُسلُ الكامِلُ]: والغسل له صفتان عند العلماء كالوضوء: الصفة الأولى: الإجزاء. الصفة الثانية: الكمال. والفرق بين الإجزاء والكمال: أن الإجزاء: يتحقق به المأمور شرعاً بمعنى أنك إذا أوقعت الغسل عليه فقد أديت ما أوجب الله عليك، والإخلال به موجب للحكم بعدم صحة الغسل. وأما صفة الكمال: فإن الإخلال بها فيه تفصيل فإن حصل قدر الإجزاء حُكِمَ بصحّة الغسلِ، وإجزائِه، ويحكم بكونه فاته الأفضل، والأجرُ الكامل، وإن كان الإخلال بما هو من صفة الإجزاء فحكمه حكم الإخلال بصفة الإجزاء.

قال رحمه الله: [والغسل الكامل]: المصنف إبتدأ بصفة الكمال، وغيره إبتدأ بصفة الإجزاء فطريقة المصنف رحمه الله حينما ابتدأ بغسل الكمال تدرّج فيها من الأعلى إلى الأدنى، وطريقة غيره ممن إِبتدأ بالاجزاء، ثم أتبعه بالكمال تدرّج من الأدنى إلى الأعلى، وكلتا الطريقتين لها وجهها. أما طريقة المصنف أن يَبْتدئ بالكمال، ثم يبين لك غسل الإجزاء فهي أنسب؛ لأنه إذا فعل ذلك ترك التّكرار فإنك إذا ذكرت الغسل الواجب، ثم أتبعته بصفة الكمال، وذكرت ضِمْنها الواجبات حصل التّكرار فتلافاه المصنفُ رحمه الله بهذه الطريقة التي سار عليها. وصفة الكمال: ثبتت بها أحاديث صحيحة عن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- منها حديث أم المؤمنين عائشة -رضي الله عنها وأرضاها- وحديث ميمونة -رضي الله عنها وأرضاها- وكلا الحديثين ثابت في الصحيحين، فقد وصفت كل واحدة منهما غُسْلَ النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فمنهما من فصّلت في شيءٍ، وأَجْمَلت في شيءٍ آخر، وقد راعى العلماء -رحمهم الله تعالى- في صفة الكمال ما تضمنه حديثا عائشة، وميمونة -رضي الله عن الجميع-. قال رحمه الله: [أَنْ يَنويَ]: أي ينوي الغسل، والنيّة بالتشديد، والتخفيف لغة: القصد، والمراد بها في الإصطلاح: (العزم على فعل الشيء تقرباً إلى الله -تعالى-) كما ذكر هذا التعريف البعلي في المطلع، ومعنى ذلك أن تعزم على عبادة، أو معاملة، وقصدك وجه الله -عز وجل- عبادة: مثل أن تصلي، فتفعل القيام، والركوع، والسجود، وغيرهما من أفعال الصلاة، وتريد وجه الله -جل وعلا- والتقرب إليه بذلك الفعل.

وأما المعاملة: فمثل: أن تعطي إبنك المال، فإنها عادة، ولكنّها تنقلب عبادة إذا قصدت بها وجه الله تعالى، وبعض العلماء يقول: العزم على فعل الشيء، وبعضهم يقول: قصد فعلِ الشيء قربة لله -جل وعلا- والتعبير بالقصد أنسب من التّعبير بالعزم؛ لأنّ من العلماء من فرق بين العزم، والقصد بأنّ القصد يكون عند توجه النية، والعزم يكون متراخياً عن ذلك التوجه، ولذلك قالوا التعبير بالقصد أدقّ. والمراد بنية الغسل هنا: أن تجمع أمرين: قصد التقرب إلى الله، وقصد رفع الحدث الأكبر كما قدمنا في نية الوضوء. [أن ينوي]: يعني أن ينوي بغسله رفع الحدث، وقد تقدم معنا في الوضوء بيان الدليل على إشتراطها في الطهارة، وأن مذهب الجمهور: أنها شرط لصحة الطهارة من الحدث بنوعيه الأصغر والأكبر، والمراد بالنية في الغسل أن يقصد رفع حدثه الأكبر من الجنابة، أو الحيض، أو النفاس، أو غيره فإذا حصل ذلك أجزأه الغسل، وتَمّتْ طهارته، وأما إذا لم يقصد رفع الحدث مثل: أن يقصد النظافة، أو التبرد، والإستجمام؛ فإنه لا يرتفع حدثه، وينبغي أن تكون هذه النِّية مقاربة للغسل، فإذا طال الفاصل بينها، وبين شروعه في الغسل فإنها لا تُجْزِيه. قوله رحمه الله: [أَنْ يَنْويَ الغُسْلَ]: هذا هو الأصل أن الإنسان إذا أراد أن يغتسل يبتدئ بنية القلب، ثم بعد ذلك يكون منه الفعل المأمور به شرعاً.

قوله رحمه الله: [ثُم يُسَمّي]: ثم للعطف، مع التراخي، وقوله: [ثم يُسمي] أي: يقول: بسم الله وهذه التَّسمية إستحبها العلماء، ومن العلماء من قال: بوجوبها في الغسل -وسيأتي الكلام عليها إن شاء الله- وأن الصحيح هو القول بعدم وجوبها. [يسمّي]: يسمي إذا كان المكان مهيأً لذكر الله كأن يكون في بِركَةٍ، أو في حمام مُعَدٍ للاغتسال لا لقضاء الحاجة، أما لو كان المكان مهيأ لقضاء الحاجة، فإنه لا يذكر اسم الله -عز وجل- فيه ففي الحديث الصحيح عن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أنه قال: [إِني كُنْت عَلى حَالةٍ كَرهْتُ أنْ أَذْكُرَ اسمَ اللهِ عَليهَا] والإمتناع من التلفظ بذكر اسم الله تعالى في موضع قضاء الحاجة، فيه تعظيم لشعائر الله، وهو ما ندب إليه المولى سبحانه بقوله: {ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ} (¬1) واسم الله -عز وجل- لا شك أنه من شعائر الله التي أشعر الله بتعظيمها كما قال تعالى: {وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ} (¬2) فالإجلال لاسم الله -عز وجل- بعدم ذكره في مواطن قضاء الحاجة من تعظيم شعائر الله، فلا يذكر اسم الله نطقاً، ولكن يسمي في نفسه على قول بعض العلماء أي: أنه يُجْري في نفسه ذكر التسمية، دون أن يتلفظ باللسان. ¬

(¬1) الحج، آية: 32. (¬2) العنكبوت، آية: 45.

قوله رحمه الله: [ويَغْسلُ يَديْه ثَلاثاً، وما لوّثَه]: المراد به أن يغسل كفّيه ثلاث مرات. والمصنف هنا قال: [يغسل يديه ثلاثاً] ثم أجمل، والحقيقة غسل اليدين، أو الكفين في الغسل من الجنابة له حالتان: الحالة الأولى: أن يغسل الكفّين قبل أن يعمّم البدنَ بالماء. الحالة الثانية: أن يغسل الكفّين بعد غَسْل الفرج تَهيُأً للوضُوءِ. فأما الحالة الأولى: وهي أن يغسل كفيه عند إبتداء الغسل فقد ثبت في الصحيحين كما في حديث أم المؤمنين عائشة -رضي الله عنها- في قولها: [بدأ فغسل يديه]، وفي رواية مسلم [يَغْسِل كَفّيه] لكن ليس فيها التصريح بالتثليث، وقد جاء في حديث ميمونة رضي الله عنها في قولها: [فأفرغ على يديه فغسلهما مرّتين، أو ثلاثاً] والغسل للكفين في ابتداء الغسل من الجنابة مناسبته: أن اليدين ناقلتان للماء، والماء ينبغي أن يكون طهوراً، فينبغي أن تكون آلته محافظة على الطهورية، فإذا كانت اليد نظيفة، بقي الماء على أصل الطهورية، وإذا كانت اليدان ليستا بنظيفتين؛ فإن ذلك أدعى لخروج الماء عن وصفه بالطُّهورية خاصةً، وأن الكف تنقلُ ماءً يسيراً، ولذلك أُمِرَ بغسلهما قبل الوضوء لمن استيقظ من نومه. أما الحالة الثانية لغسل الكفين: فإنها تكون بعد غسل الفرج، والمناسبة فيها ظاهرة؛ لأنها تلوثت بالأذى وقد أشارت إليها أم المؤمنين ميمونة رضي الله عنها بقولها: [ثمّ أَفْرغَ بِيمينِه عَلى شِمَالِه فَغَسل مَذَاكيِرَه ثم دلك يَدَه بِالأَرْضِ].

قال رحمه الله: [يغسل يديه ثلاثاً، وما لوّثه]: اللّوث يطلق بمعنى التلطيخ، فالتلويث التلطيخ، يقال لوّث الماء إذا لطخه، وقد يطلق بمعنى: المرض، والعاهة في العقل ومنه قولهم: (اللّوثة) نسأل الله السلامة والعافية، وقد يطلق بمعنى: الحاجة؛ وهي حاجة الإنسان، والمقصود بالتلويث في قوله: [ما لوثه]: يعني ما أصاب يده من القذر، وهذا يدل على أن المراد بغسل الكفين ما يكون بعد إزالة الأذى عن الفرج فكان من هدي النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أنه يبتدئ فيصب الماء على كفّيه -صلوات الله وسلامه عليه-، ويغسلهما ثم يُفْرِغ بيمينه على يساره، فيغسل فرجَه -صلوات الله وسلامه عليه-، ومواضع الأذى كما تقدّم ذكره في حديث ميمونة -رضي الله عنها وأرضاها-، فيغسل الأذى الذي على الفرج، وما جاوره كالفخذين، والرُّفْغَين، ونحوهما، ولما انتهى -عليه الصلاة والسلام- كما في الصحيحين من حديث ميمونة رضي الله عنها من غسل فرجه، وإزالة الأذى دَلَكَ يديه بالأرض، ولذلك قال العلماء: يَبْتدئُ بغسل الكفّين ثمّ يُثنّي بالفرج، ثم يدلك يديه للغسلة الثانية، وهذه الغسلة الثانية آكد من الأولى، فإن الأولى قد تكون اليدان طاهرتين، ولا يحتاج فيها إلى تجديد غَسل؛ ولكن في الثانية لمكان الأذى، وتلطّخ اليدين ناسب أن يدلكهما -عليه الصلاة والسلام-. قال بعض العلماء رحمهم الله: السُّنة لمن اغتسل في أَرضٍ تُرابيِّة أن يدْلكَ يديه بالأرض التُّرابِيِّة والتّراب ينظف، ويُنْقِي كالصابون، والمطهّرات، فناسب أن يدلك -عليه الصلاة والسلام- يده بالأرض وورد في الحديث أنه

عليه الصلاة والسلام ضرب بها الحائط، ولذلك قال بعض العلماء: إذا كانت الأرض صلبة، وكان الحائط طيناً فإنه يضرب بيديه الحائط وللعلماء في ضربه -عليه الصلاة والسلام- بيده على الأرض وعلى الحائط في غسله من الجنابة وجهان: الوجه الأول: منهم من قال: عبادةٌ معلّلة تكون إذا وجدت عِلّتها، والعلّة عندهم: التنظيف، بمعنى أن الإنسان يضرب الحائط، ويدلك الأرض بقصْد التنظيف، فإذا كانت الأرض صلبة، أو كان الحائط من غير الطين، كالإسمنت، ونحوه فإنه تكون السُّنة بالغسل بالصابون، وما يحلُّ محل الطِّين لأن العِلة عندهم التنظيف، فكما أنه يحصل بالطين فعند فَقْدِه يحصل بما يناسبه، كالأُشنانَ، والصَّابون. والوجه الثاني: قال: عبادة غير معلّلهٍ، ويُقتصر فيها على الصورة الواردة، فلا تشمل غيرها، ويكون وجود التّطهير في الطين تبعاً، لا أصلاً. وعلى هذا القول: فإنه يُسنّ للإنسان، ولو كان الجدار، والأرض صلبةً أن يضرب بهما يده إتباعاً للسنة. والصحيح أنه عبادة معلّلة يضرب بيديه الجدار إذا كان من طين، ويدلك بهما الأرض إذا كانت ترابيّة وإذا زال الأذى بالصابون، والمُطهّرات المعروفة في زماننا أجزأه، وحلّ ذلك محل التراب، لأن التراب هنا ليس مقصوداً على وجه التعبّد فيجزئ عنه الصابون، والمطهرات لأنها تقوم مقامه، فيحصل بها المقصود شرعاً، وهو النظافة، والنقاء، بخلاف ما إذا كان

التراب فيه معنى التعبّد، كما في غسل الإناء من ولوغ الكلب، فإنّ غيره لا يقُوم مقامه. قوله رحمه الله: [يتوضّأ]: إتفقت الروايات في صفة غسله عليه الصلاة والسلام على أنه توضّأ فيه ولذلك لا خلاف بين العلماء رحمهم الله في أن الغسل الكامل مشتمل على الوضوء تأسياً به عليه الصلاة والسلام. وظاهر حديث أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها في قولها: [ثم يتوضأ وضوءَه للصّلاةِ] أنّ النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ توضّأ وضُوءاً كاملاً أوّلاً، ثم أفاض الماء بعد ذلك على رأسه، وجسده كما دلّ عليه قولها: [ثم يأخُذ الماءَ، ويدخل أصابِعَه في أصُولِ الشّعر حتى إذا رأى أنْ قَدْ إِسْتبرأ حَفَنَ على رأسِه ثلاثَ حَثَياتٍ ثُمّ أفاضَ على سائِر جَسَدهِ، ثم غسَلَ رِجْلَيْه] وعلى هذا تكون السنة البداءة بالوضوء قبل تعميم الجسد، وأما حديث ميمونة رضي الله عنها؛ فقد دلّ على أنّ الوضوء لم يكن كاملاً حيث نصّت على أنه توضّأ، وأخّر غسل رجليه، ثمّ عمّم بدنه، ثمَّ أتمَّ الوضوء بعد ذلك بغسل رجليه كما يدلّ عليه قولها رضي الله عنها: [ثمّ مَضْمَضَ، واسْتَنْشَقَ، ثم غسَلَ وجْهَه، ويَديهِ، ثم غسَلَ رَأسَه ثَلاثاً، ثم أفرغَ عَلى جَسَدِه، ثمّ تَنَحّى مِنْ مَقَامِه فغَسَل قَدَميْه] فدلّ على أنه لم يُتمّ وضوءَه أوّلاً وأنه أخّر غسل رجليه، وفي حديث عائشة رضي الله عنها غَسَلَ الرجلين آخرَ الغُسْل لكنه زائد على الغسل الأصلي كما يفهم من ظاهره، ومن هنا إنقسم العلماء رحمهم الله في بيان سبب ذلك على وجهين:

الوجه الأول: أنّ النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ راعى إختلاف المكان، ففي حال وجود الطين أخّر غسل رجليه إلى آخر الغسل، حتى لا يتكرر غسله لها مرة ثانية، كما حدث في حديث عائشة رضي الله عنها. الوجه الثاني: أنه فعل ذلك تعبداً، فمنْ توضأ في غسله أخّر غسلَ رجليه حتى ولو كان المكان نظيفاً ولا يَخْشَى من تَلوّثِهما بالطِّين عند تعميم البدن بالماء. والوجه الأول: هو الأقوى، والعلم عند الله، لأنه معلوم من حاله في زمانه عليه الصلاة والسلام، فإنه لا يمكن أن يُعَمّم بدنه بالماء إلا، وتطاير عليه رذاذ الطين، واحتاج إلى الغسل ثانية، وعليه فيؤخر إذا كان الموضع كذلك، وأما إذا كان نظيفاً كما في زماننا فإنه يتمُّ الوضوء، ولا يؤخر غسل رجليه، لأن الأصل يقتضي تقديم أعضاء الوضوء، كما دلّ عليه قوله عليه الصلاة والسلام: [إبدأن بميامِنها وبأعضاء الوضوء منها] فهذا يقتضي عدم تأخير أعضاء الوضوء، إلا إذا وجد الموجب، ويدل على أن الأصل تقديمها في الغسل. والمسألة الثانية: هل هذا الوضوء مقصود للغسل، أو مقصود لذاته، للعلماء وجهان: الوجه الأول: وضوؤه في الغسل إنما هو لشرف أعضاء الوضوء، أي: أنّ النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بدأ بالوضوء لفضل أعضاء الوضوء. الوجه الثاني: هو عبادة مقصودة أي: أنه طهارة مقصودة.

وأقوى الوجهين الوجه الأول: أنه قصد تقديم أعضاء الوضوء على سائر البدن لشرفها، ويدل على ذلك أمره عليه الصلاة والسلام بالبداءة بغسل أعضاء الوضوء في غسل الميت؛ كما ثبت في الصحيح حيث إنه قال لأم عطية رضي الله عنها حينما غسّلت إِبنته زينبَ رضي الله عنها: [إِبْدَأنَ بِمَيامنها وبأَعْضَاءِ الوُضُوءِ منهَا] فلمّا أمرَ بتوضئتها في الغسل دلّ على أنه راعى البداءة بالأفضل، فراعى ذلك في غسل الحي، والميت فدل على أنه لشرف أعضاء الوضوء. قوله رحمه الله: [ويحثي عَلى رَأسِه ثَلاثاً تُرَوِّيه] هذه هي السنة بعد أن يغسل وجهه، ويديه يحثي على رأسه الماء، كما ثبت في حديثي أم المؤمنين عائشة، وميمونة رضي الله عنهما قالت ميمونة رضي الله عنها: [ثم غَسَلَ وَجْهَه، ويَديْه، ثمّ غَسَلَ رَأسَه ثَلاثاً]، وقول المصنف رحمه الله: [ترَوِّيهِ] مأخوذ من رِيِّ الماء، والمراد: أن تكون كل واحدة من الثلاث قد روّت أصول شعر الإنسان، وهذه هي السنة كما في حديث أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها قالت: [ثمَّ يأخذُ الماءَ، ويُدْخِل أصابعَهُ في أصُولِ الشَّعر حتّى إِذَا رَأَى أَنْ قَدْ إِسْتَبْرأ حَفَنَ على رأسِه ثَلاثَ حَثَياتٍ]، وهذا يدل على عنايته صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بوصول الماء إلى أصول الشعر؛ لأنها محل الفرض المأمور بغسله، وأما التثليث: فهو السنة من قوله وفعله عليه الصلاة والسلام كما في حديث أم سلمة رضي الله عنها حيث قال لها عليه الصلاة والسلام: [إِنما يَكْفِيكِ أَنْ تَحْثي عَلى رَأسكِ ثَلاثَ حَثَياتٍ] وقالت عائشة رضي الله عنها كما في الصحيحين: [ثم يُخلّل بِيديْه شَعَره حَتّى إِذا

ظنّ أنه قد أَرْوى بَشَرَته أَفاضَ عَليْه الماءَ ثلاثَ مرّاتٍ] فالسّنة أن يحثي على رأسه الماء ثلاثاً، ثم جاءت هذه السنة مفصِّلة في حديث عائشة رضي الله عنها حيث بيّنت أنّ النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أخذ الماء بكفّه؛ فَبدأَ بِشقِّ رأسِه الأيمنِ، ثم شِقِّهِ الأيسرِ، ثمّ عَمّمَ الرَّأسَ كله بعد ذلك كما في قولها رضي الله عنها في الصحيحين: [كان رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذا إِغْتسَلَ مِنَ الجنابةِ دَعا بشيء نحوَ الحِلابِ فَأَخذ بِكَفّه، فبَدَأ بِشِقِّ رأسه الأيمنِ، ثمّ الأيسرِ، ثم أخذَ بِكفّيه، فَقَالَ بِهما على رَأسِه] ففصّلت رضي الله عنها ما جاء في الروايات الأخر فذكرت أنه كان يأخذ كفاً واحدة لشق رأسه الأيمن، ثمّ مثْلها للأيسر، ولذلك عطفته بقولها: ثم الأيسر أي: أخذ كفاً أخرى للأيسر، ثم يأخذ بكفّيه في الثالثة لكل الرأس. قوله رحمه الله: [ويعمُّ بَدَنه غُسْلاً ثَلاثاً، ويَدْلِكُه، ويَتَيامنُ]: قوله: [يعمُّ بدنه]: بمعنى أن يصبّ على جسده الماء صبَّةً يعمِّمُه بها، والأصل في تعميم البدن قوله تعالى: {وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا}، وكذلك حديث أم سلمة رضي الله عنها وفيه قول النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لها: [ثُمّ تُفِيضينَ الماءَ على جَسَدِكِ] فقوله: [تُفِيضِينَ] من الإفاضة، والمراد بها تعميم سائر البدن، وكذلك قول عائشة رضي الله عنها: [ثم أَفاضَ على سَائِر جَسَده]. لكن قال المصنف: [ثلاثاً]: أي ثلاث مرات أي: أنه يغسل جميع البدن بتعميمه ثلاث مرات، وهذا فيه خلاف بين العلماء؛ فمن أهل العلم من قال: السُّنة أن يعمَّ البدنَ بغسلةٍ واحده، ولا يزيد إلى الثلاث وهو الذي يترجح في نظري والعلم عند الله، وهو قول طائفة من السلف -رحمة الله

عليهم- وممن رُوي عنه هذا القول الإمامُ مالك، وكذلك عن الإمام أحمدَ رواية فأصحاب هذا القول شددوا في الغسلة الثانية، والثالثة لأنه يفعلها معتقداً الفضل، ولم يفعلها رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مع أنه ثلّث في الأعضاء، ومن ثمّ قالوا التثليث في الغسل بدعة، وشددوا فيه بقصد العبادة؛ لكن لو أنه غسل الغسلة الأولى قاصداً رفع الجنابة، ثم غسل المرة الثانية، والثالثة لمبالغة التنظيف كما هو الحال الآن يغسل بالصابون، ثم يحتاج إلى صبّةٍ ثانية، وصبّةٍ ثالثة، فلا حرج لأنها خرجت إلى قصد النظافة، لا إلى قصد العبادة، وفَرْقٌ بين قَصْدِ العبادةِ، وقصد النظافة. أما لو ثلّث غسل بدنه قاصداً العبادة فهو بدعة في قول من ذكرنا، وهذا القول هو الصحيح فإنّ النّاظر في أحاديث النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- في غُسْله كلّها نصّت على أنه أفاضَ إفاضَةً واحدةً -عليه الصلاة والسلام-، ولم يُثنِّ، ولم يُثلّثْ -وبأبي، وأمي عليه الصلاة والسلام- لو كان الفضل في التثنية، والتثليث لما تركه -عليه الصلاة والسلام-، ولفعله في غسله، ولو مرة واحدة، أو لتكرر منه كما تكرر منه التثليث في الوضوء. والمصنف رحمه الله مشى على الرواية الثانية عن الإمام أحمد، ويقول بها بعض الشافعية -رحمة الله عليهم- أنه يستحب التثليث في الغسل. قوله رحمه الله: [ويَدْلِكُه، ويتيامن]: ويدلِكه أي: يدلك البدن مبالغة في الإنقاء، والتطهير، وإيصال الماء إلى البدن.

والدلك للعلماء فيه قولان: القول الأول: أن الدّلك مستحب، وليس بواجب، وهو مذهب الجمهور رحمهم الله. القول الثاني: أنّ الدَّلكَ واجب، ومن اغتسل، ولم يدلك بدنه لم يصحّ غسلُه، وهو مذهب المالكية رحمهم الله. والذي يترجح في نظري والعلم عند الله هو القول بأن: الدّلك مستحب، وليس بواجب. أما الدليل على عدم الوجوب فما ثبت في الصحيحين من حديث أمِّ سلمة رضي الله عنها أنّ النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال لها: [إِنما يَكْفِيكِ أَنْ تَحْثي عَلى رَأسِكِ ثَلاثَ حَثَياتٍ] فقوله: [إنما يَكْفِيكِ] أي: يجزيك، وهذا الإجزاء لا يكون إلا في الواجبات قال عليه الصلاة والسلام: [إِنما يَكْفِيكِ أَنْ تَحْثي عَلى رَأسكِ ثَلاثَ حَثَياتٍ، ثُمَّ تُفِيضينَ الماءَ على جَسَدِكِ فإِذا أَنتِ قَدْ طَهُرتِ -وفي رواية- فإذا أَنتِ تَطْهُرينَ] وجه الدلالة: أنّ النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أمرها بالتَّعميم، ولم يُبيّن لها وجوبَ الدّلك، وقال: [تُفِيضِينَ] والإفاضة: الصبّ فدلّ على أن الواجب: هو وصول الماء إلى ظاهر الجسد لقوله: [تُفِيضِينَ الماءَ عَلى جَسَدِكِ]، فإذا حصلت هذه الإفاضة حكمنا بالإجزاء، دون إشتراط أمرٍ زائدٍ عليها، وهو الدَّلْكُ. لكنّ الإمام مالك -رحمة الله عليه- انتزعَ وجوبَ الدلكِ من حديث أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها: [أَنّ النّبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إِغتسلَ بِالصَّاعِ] ومعلوم أنّ النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كان رَبْعَة من الرّجال ليس بالطويل البَائِن، ولا بالقصير

فكان -عليه الصلاة والسلام- وسطاً من الرجال فلا يُعْقَلُ أنّ الصّاع يغسلُ النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ويجزيه إلا إذا كان يدلك عليه الصلاة والسلام، وبناءً على ذلك فإنه من ناحية الاستنباط صحيح. والذي يترجح في نظري والعلم عند الله: أن الدّلك ليس بواجب في الأصل لصحة دلالة الكتاب والسنة على ذلك، ويحمل دليل وجوبه على حالة: ما إذا كان الماء قليلاً، وتوقّف وصول الماء لجميع البدن على الدّلك، فإنّه واجب من جهة ما لا يتمُّ الواجبُ إِلا بِه فهُو واجب، والاستثناء بالصُّور المخصوصة لا يقتضي التّعميم في جميع الأفراد، وبناءً على ذلك يُنْظر في الماء الذي يُغتسل به إن كان يستطيع إيصاله لجميع البدن، دون أن يكون دلك فإن هذا هو القدر الذي أوجبه الله على المكلف وإن كان الماء قليلاً بحيث لا يستطيع إيصاله إلى جميع البدن إلا إذا دلك فحينئذٍ يلزمه الدلك من باب ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب، لا أنه واجب أصالة. وعلى مذهب المالكية أنه لا بد من الدّلك؛ فإنه إذا كان الموضع لا يستطيع أن يوصل إليه يده كأن يكون مثلاً وراء الظهر؛ فإنه يستخدم الواسطة كما هو معروف في زماننا باسم (اللِّيفة) يحكُّ بها ظهره، وأشار إلى هذه المسألة بعضهم بقوله: وصِلْ لما عَسُر بالمنْدِيلِ ... ونحوِهِ كَالحَبْلْ والتّوكِيلِ ومحلُّ الخلاف بين القولين: إنما هو في حالة ما إذا أمكن إيصال الماء إلى ظاهر الجسد بدون دلْكٍ، أما إذا توقف الإيصال على الدلك كما في حال

قلة الماء فالجميع متفقون على وجوبه لأن ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب. كذلك كلهم متفقون على إِستحباب الدلك لما فيه من بالغ النقاء المقصود شرعاً في تطييب البدن وتنظيفه، ويختلفون في الإلزام به. قوله رحمه الله: [ويَتَيامنُ]: ويتيامن: أي يبدأ باليمين قبل اليسار لقوله عليه الصلاة والسلام: [إبدأنَ بِميامِينهَا] في غسل إبنته زينبَ رضي الله عنها. قوله رحمه الله: [ويَغسِلُ قَدَميْه مَكَاناً آخرَ]: هذا الذي سبقت الإشارة إليه، وأنه إنْ كان الموضع نظيفاً، فلا حاجة إلى تأخير غسل الرجلين، وإن كان غير نظيف، فإنّهُ يؤّخر غسلَ رجليه إلى آخر الغسل تأسياً بالنبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وينتقل إلى مكان آخر حتى لا تتلوث الرجلان، ويمكنه تنظيفها. قوله رحمه الله: [والمجزئُ أنْ يَنويَ، ويُسَمّيَ، ويَعُمّ بدَنه بالغُسْلِ]: هذه فائدة تقديم صفة الكمال على صفة الإجزاء أنه يأمن من التكرار لكن لو قدّم صفة الإجزاء، وأتبعها بصفة الكمال لكرّر. وقوله رحمه الله: [والمجزئ أن ينوي، ويسمِّيَ]: شرع بهذه الجملة في بيان صفة الإجزاء، وصفة الإجزاء تقوم على الأركان، والواجبات، والشروط، فلا تشتمل على المستحبات، والمندوبات، وهي الصفة الثانية من صفات الغسل التي لا يصح إلا بها كما قدمنا. [أنْ ينْويَ]: يعني النّية، وقد تقدم بيانها.

[ويسمّيَ]: ويسمّي هذا على القول بوجوب التسمية، والصحيح أنها ليست بواجبة فليس هناك حديث صحيح أنّ النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أوجب التسمية في الغُسْلِ، وإنما أوجبها مَنْ أوجبها فيه قياساً على الوضوء، وهذا القياس ضعيف لما يلي: أولاً: أنه يعترض عليه بفساد الاعتبار، وهو أحد القوادح الأربعة عشر في القياس، وفساد الاعتبار: أن يكون القياس في مقابل نصِّ من الكتاب، أو السُّنة، أو في مقابل إجماع، وقد ثبت عن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- النص، وهو قوله عليه الصلاة والسلام: [إِنما يَكْفِيكِ أَنْ تَحْثِي عَلى رَأسِكِ ثَلاثَ حَثَياتٍ]، ولم يذكر التسمية، وقال الله في كتابه: {وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا} ولم يأمر بالتسمية، وقد أمر بالتسمية في المطعوم فقال سبحانه وتعالى: {فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ}. ثانياً: أن هذا القياس من باب ردِّ المُختلف فيه إلى المُخْتلف فيه، فلك أن تقول لمن يستدل بهذا القياس أنازعك في الأصل الذي تحتج به، وهو وجوب التسمية في الوضوء، فكيف تقيسُ فرعاً على أصل إختلفنا فيه يعني: أنا لا أسلّم لك أن الوضوء تجب فيه التسمية، فكيف تلزمني بالغسل قياساً على الوضوء ومن شرط صحة القياس بالنسبة للإلزام أن يكون الخصم، أو المحتج عليه بالقياس مُسَلِّماً بحكم الأصل فإذا كان غير مسلم بحكم الأصل، فإنه لا يُلْزم به، لكن يكون القياس من باب الالتزام، لا الإلزام يعني لمن يحتج به أن يحتجّ به لنفسه؛ لأنه يرى وجوب التسمية في الوضوء

فيقول: أنا أوجب التسمية في الغسل كما أوجبها في الوضوء من باب إلحاق النَّظير بنظيره. قوله رحمه الله: [ويَعمَّ بدَنه بالغُسْلِ مَرةً]: لأن الله تعالى أمر بتطهير البدن في قوله: {وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا} وهذا يحصل بتعميم البدن بالماء مرة واحدة، لأن الأمر لا يقتضي التكرار، وفي حديث أمِّ سلمة رضي الله عنها صرّح عليه الصلاة والسلام بأن العبرة بتعميم البدن، دون أن يُوجب التّكرار فقال عليه الصلاة والسلام: [إِنما يَكْفِيكِ أَنْ تَحْثِي عَلى رَأسِكِ ثَلاثَ حَثَياتٍ، ثُم تُفِيضِينَ الماءَ عَلى جَسَدِكِ فَإذَا أَنتِ قَدْ طَهُرتِ] ولم يأمرها بتكرار ذلك للبدن كلِّه فدلّ على أن التعميم لمرةٍ واحدةٍ يعتبر كافياً، فمن دخل في بركة مثلاً، وانغمس فيها غمسةً واحدةً قاصداً الطهارة من الجنابة، أو فَعلتْ ذلك المرأةُ ناويةً طهارتها من حيض، أو نفاس أجزأهما. قوله رحمه الله: [ويَتَوضّأ بِمُدِّ]: بعد أن بيّن -رحمه الله- صفة الغسل الكاملة، والمجزئة يسأل السائل: ما هو هدي رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- في الماء الذي يُغتسل به؟ فقال رحمه الله: [ويتوضأ بمُدٍّ، ويَغْتَسِلُ بِصَاعٍ]: قوله: [يَتَوضَّأ بِمُدٍّ]، المدُّ: هو ضربٌ من المكاييل التي كانت في زمان النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كان هناك المدّ، وهو أصغرها، وضابطه عند العلماء (مِلءُ اليَدينِ المتَوسِطَتَين، لا مَقْبُوضَتَيْن، ولا مَبْسُوطَتَين) يعني أوسط الرجال لو حفن حَفْنةً ملأت هذا المدَّ وهذا المدُّ مازال موجوداً إلى الآن في المدينة، ويتوارثه الناس من زمانه عليه الصلاة والسلام إلى يومنا هذا، ويُعْتبر حجة؛ لأنه من نقل الكافّة عن

الكافّة كما أشار إلى ذلك شيخ الإسلام رحمه الله، وبيّن أنه مما توافرت الدواعي لحفظه، وهو: ربع صاع بالنسبة لمدِّ المدينة، وعرف المدينة باقٍ على الأصل وقد حرّرت ذلك بنفسي بالنّقل عن كبار السن، وعندهم طريقة: أنه إذا صنع الصّانع المدَّ لا بد من أن يُحرّر، والتَّحْرير أنهم يأخذون صاعاً قديماً حُرّر على أقدم منه، وهكذا حتى يضبطوه؛ ولم تكن عندهم المعايير المنضبطة مثل التي في المصانع الآن، فالصاع رُبَّما وسَّعه الصَّانع، وربما ضيَّقه ففي بعض الأحيان عند تَحْريره للمدِّ الجديد يقول لك: هذا المد مَسْح أي: إذا امتلأ الطعام إمسحه، ولا تزد، وفي بعض الأحيان يقول لك: إملأه حتى يتساقط يعني أن تحريره، وضبطه: أن تملأه حتى يتناثر، والمدُّ يعدل ربعَ الصَّاع والصاع النبوي هو: صاع النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وهو أربعة امداد يعني من كل مدّ الذي هو ملءُ اليدين المتوسطتين لو ملأت بها أربع مرات، أو حثوت بها أربع مرات طعاماً، أو تراباً ملأت الصّاع، وهذا الصّاع كما قلنا وِحْدَة من الكيل فوق المدّ تارة يقولون للمد الصغير: هذا صاع نبوي، ولكن المشهور الصاع الكبير، ويسمونه ربع صاع. وكذلك -أيضاً- هناك وحدة ثالثة مشهورة في زماننا وهي المدّ الكبير، والمدُّ الكبر ثلاثةُ أضعاف الصّاع يعني: ثلاثة آصع تملأ المد الكبير، وهو الذي يُسَمى في زمان النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بـ[الفَرَقْ] وهو الوارد في حديث كعب بن عجرة رضي الله عنه أنّ النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال له في فدية الأذى في النُّسك: [أَطْعِمْ فرَقاً بَيْنَ سِتّةِ مسَاكينَ] فالفرق: المدُّ الكبيرُ، وعليه إذا كان يسع الثلاثة آصع فمعناه: أنه إِثنا عَشَر مداً صغيراً،

والمراد بالمدِّ الوارد في حديث أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها المتقدم المدُّ الصغيرُ، وليس المدّ الكبير المشهور في زماننا، وكذلك ورد عنه عليه الصلاة والسلام: [أنه إِغْتَسلَ بإناءٍ قَدْرَ الحِلاب] والمراد بقدر الحلاّب أي: الإناء الذي يسع حليب الناقة لو حُلِبت ملأته، وهذه ضوابط العرب في القديم؛ أحياناً يقدّرون بمثل هذا، وأحياناً يقدّرون بشيء تقريبي وورد عنه عليه الصلاة والسلام أنه اغتسل إلى خمسة أمدادٍ من المدِّ النبوي الصغير الذي ذكرناه، وكلُّ هذا على التخيير، وهدي النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ليس ملزماً؛ لأنه دلالة فعل، بمعنى لا يلزمك، ولا يجب عليك أن تلتزم بالصاع، أو بالحلاب، أو بخمسة أمداد، بل في بعض الأحيان لو اغتسل الإنسان بالصاع ربما أخلّ فلا تُطْلَبُ السُّنة بضياع الفرض؛ وإنما يغتسل بالصاع من يَضْبِطُ الماءَ، ويُحْسِن صَبّه على البدن فالمقصود إذا تيسر للإنسان أن يصيب هذه السُّنة فليصبها، وهو أفضل تأسّياً به عليه الصلاة والسلام، وإذا لم يتيسر له، فإنه لا حرج عليه في الزيادة، دون إسراف. قال رحمه الله: [فإِنْ أَسْبغَ بِأَقَلَّ] أسبغ بمعنى عمّم أو استوعب أعضاء الفرض ومراده: أن هذا القدر ليس بواجب أن يلتزمه، فلا حرج إذا إغتسل بأقل منه، مثل الصبي الذي هو في الخامسة عشر من عمره، أو الإنسان صغير الحجم قد يستطيع بأقل من الصاع أن يعمّم بدنه، فليس مراده أن يغتسل بالصَّاع للإلزام فجاء بهذه العبارة حتى يفيد أنه للندب، والاستحباب لا للحتم، والإيجاب.

وقوله رحمه الله: [أو نَوى بِغُسْلِه الحَدَثيْنِ أَجْزَأَهُ]: مراده: أن ينوي بغسله رفع الحدثِ الأصغرِ، والأكبرِ فإنه يُجزيه لظاهر السُّنة في قوله عليه الصلاة والسلام: [وإِنما لِكُلّ إِمْرِئٍ ماَ نَوى] فلا يلزمه وضوء بعد غسله، وله أن يصلي مباشرة كما فعل عليه الصلاة والسلام، في إغتسالاته. وقال بعض العلماء: إنه يجزيه مطلقاً نوى، أو لم ينو، والأقوى: أنه إذا نوى يجزيه، وهذا بالإجماع أي: أنّ من اغتسل ناوياً رفع الحدثين أنه يجزيه، ويرتفع حدثاه الأصغر، والأكبر، وإذا وقع الوضوء في الغسل أجزأه قولاً واحداً؛ لكن عند أبي ثور رحمه الله: أنه يجب عليه أن يتوضأ أثناء الغسل، وهذا القول يعتبر من مفردات أبي ثور، وهو الإمام الفقيه إبراهيم بن خالد بن يزيد الكلبي -رحمة الله عليه- كان من أصحاب الشافعي ثم اجتهد، قال عنه الإمام أحمد: (أعرفه بالسُّنة منذ ثلاثين عاماً) -رحمة الله عليه- فهذا الإمام الجليل يرى أن الوضوء في الغسل واجب، ولكنه قول مرجوح، بل قال بعض العلماء رحمهم الله إنه شاذّ، فلا يؤثر في الإجماع المنعقد أنه لا يجب الوضوء في الغسل وذلك لظاهر القرآن في قوله سبحانه: {وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا} ولم يوجب الله الوضوء، ولما ثبت في الصحيحين من حديث أم سلمة رضي الله عنها الذي ذكرناه أنّ النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال لها: [إِنما يَكْفِيكِ أَنْ تَحْثِي عَلى رَأسِكِ ثَلاثَ حَثَياتٍ] هذا الحديث من أهمّ أحاديث الغسل، ولذلك أقول -رضي الله عن أم سلمة وأرضاها-، -ونسأل الله العظيم أن يُعْظِم أجرها بهذا الحديث- وانظروا كيف يظهر فضل سؤال العلماء، فإن هذا الحديث دفع إشكالات كثيرة في الغسل من

الجنابة وأزال اللبس في كثير من الأمور التي قيل بوجوبها، وهي ليست بواجبة، وما كان هناك مخرج إلا بهذا الحديث، وهذه فائدة سؤال العلماء فقد سألت أم سلمة -رضي الله عنها- رسولَ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وقالت -يا رسول الله- إِنّي إمرأة أَشُدُّ ضَفَرَ شَعْر رَأسِي، أَفَأَنْقُضُهُ إذا اغْتَسَلْتُ مِنَ الجَنَابَةِ؟ قال: [لا، إِنما يَكْفِيكِ أَنْ تَحْثِي عَلَى رَأسِكِ ثَلاثَ حَثَياتٍ، ثُمّ تُفِيضِينَ الماءَ عَلى جَسَدِكِ فإِذَا أَنتِ قَدْ طَهُرتِ] يستفاد منه ما لا يقل عن عشرين مسألة من مسائل الغسل من الجنابة -رضي الله عنها وأرضاها-. قوله رحمه الله: [ويُسَنّ لِجُنبٍ غَسلُ فَرْجِه]: إذا وقعت الجنابة من جماع، أو استيقظ الإنسان وهو جنب يسنُّ له أن يغسل فرجه إذا أراد أن يؤخر غسل الجنابة؛ لظاهر حديث أم المؤمنين عائشة -رضي الله عنها- وحديث عمر رضي الله عنه في الصحيحين. أما حديث عائشة رضي الله عنها عند مسلم في صحيحه قالت: [كَانَ رسولُ الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إِذَا كَانَ جُنُباً، وأَرادَ أَنْ يَنَام، أَوْ يَأكُلَ غسَلَ فَرْجَه، وتوضأَ]. وأما حديث عمر رضي الله عنه في الصحيحين ففيه أنه قال: -يا رسولَ اللهِ - أينامُ أحدُنَا، وهُو جُنُبٌ؟ قال عليه الصلاة والسلام: [تَوضّأ، واغْسِلْ ذَكَرك ثمّ نَمْ] فقال: [واغْسِلْ ذَكَرَكَ] فدل على مشروعية الغسل حتى إن بعض الأطبّاء يعتبره محموداً من الناحية الطبية لأنه لا يُؤْمن أنه إذا تأخر المني في الموضع أن تتولّد منه بعض الجراثيم، وقد ينشأ منها بعض

الأمراض، ولأنه إذا يبس على العضو ربما حصل منه بعض الضرر، ولذلك كان من هديه -عليه الصلاة والسلام- أنه يغسل فرجه. وقوله رحمه الله: [ويُسَنّ] يدل على أنه ليس بواجب، وإنما هو سنة مستحبة عن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وليست واجبة، وأمّا أمره عليه الصلاة والسلام به لعُمَر رضي الله عنه لما سأله كما في الصحيحين: [أَينامُ أَحدُنا وهو جُنُبٌ؟ فقال عليه الصلاة والسلام: تَوضّأ، واغْسِلْ ذَكَرَكَ، ثُمّ نَمْ] فإنه مصروف عن ظاهره الدّال على الوجوب، إلى النّدب، والصّارف له ما ثبت في حديث عبد الله بن عباس رضي الله عنهما عند أصحاب السنن أنّ النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: [إنما أمرتُ بالوضُوء إِذَا قُمْتُ إِلى الصَّلاةِ]، وفي حديث ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَما سُئلَ أَينامُ أحدُنا، وهو جُنُب؟ قال: نعم، ويتوضَّأ إِنْ شاء] فدلّ هذان الحديثان على أن الأمر للإستحباب، لا للوجوب. وقوله: [ويُسَنّ لجُنُبٍ غَسْلُ فَرْجِهِ] يشمل الذكر، والأنثى لقولِه عليه الصلاة والسلام: [توضّأ واغسل ذكرك]، وهو بلفظه خاص بالرجال؛ لأنه ورد جواباً للسؤال فلا يُعتبر مفهومه، وبمعناه عام في الرجال، والنّساء؛ لأن العلّة واحدة فيهما. قوله رحمه الله: [والوُضُوءُ لأكلٍ، ونومٍ]: أي: ويسن الوضوء لمن عليه الغسل، إذا أراد أن يأكل أو ينام، والأصل في ذلك ما ثبت في الحديث الصحيح الذي ذكرناه حديث أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها عند أحمد،

ومسلم في صحيحه -رحمة الله عليهما- أنّ النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-[كانَ إِذَا كَان جُنُباً، وأَرادَ أنْ يَنَام، أو يأكُل توضأ وضُوءَهُ للصّلاةِ] فدلّ على أنّ السُّنة للجنب أن يتوضأ عند إرادة الأكل، والنّوم، وظاهر قوله عليه الصلاة والسلام: [توضّأ] أن يكون الوضوء تاماً على صفة الوضوء الشرعي وهذا مذهب الجمهور رحمهم الله. ومن العلماء من قال: إن المراد به غسل اليد، وحمله على الوضوء اللغوي. والصحيح مذهب الجمهور؛ لأنه إذا تعارضت الحقيقة الشّرعية، واللّغوية؛ فإننا نُقدّم الحقيقةَ الشرعيةَ على اللّغويةِ، لأنها الأصل المعهود في خطاب الشرع؛ كما هو مقرر في الأصول. قال بعض العلماء: وضوء الجنب لا ينتقض بالحدث الأصغر فلو توضأ، ثم خرج منه ريح لا ينتقض وضوؤه، وهو الوضوء الذي يلُغز به بعض الفقهاء فيقول: متوضئ لا ينتقض وضوؤه ببولٍ، ولا غائطٍ ولا ريح؟ فقد تقول المستحاضة يقول: هذه معذورة، والمرادُ غيرُ معذورٍ، فتقول: هو الجنب إذا توضأ وعليه الجنابة كما أشار إلى ذلك الإمام السيوطي رحمه الله بقوله: قُلْ لِلْفَقِيهِ ولِلْمُفِيدِ ... وَلِكُلّ ذِي بَاعٍ مَدِيدِ مَا قُلتُ فِي مُتَوضِّئ ... قَدْ جَاءَ بِالأَمْرِ السَّدِيدِ لا يَنْقُضُونَ وضُوءَهُ ... مَهْمَا تَغَوّطَ أَوْ يَزِيدِ وهذا الوضوء للجنب قيل: إنه شطر الجنابة كما ورد في حديث شدّادٍ رضي الله عنه عند إبن أبي شيبة بسند رجاله ثقات، كما قال الحافظ رحمه الله أنَّ

النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: [إِذَا أَجْنَبَ أَحدُكُمْ مِنَ اللّيل، ثمّ أَرادَ أَنْ يَنامَ فَلْيتوضّأ فإنه نِصْفُ غُسْلِ الجَنابَةِ] وهو أقوى الأقوال بالنسبة لتعليله. وأما غسل الذكر فقد قيل: إنه إذا أجنب تمددت العروق بخروج المني، فناسب أن يغسل العضو حتى تنقبض، ومن هنا ردّه بعض العلماء إلى هذه الفائدة الطبية فنحمد الله -تبارك وتعالى- على هذه النعم الظاهرة، والباطنة، وعلى هذا الخير الكثير، والرحمة المهداة، والنعمة المسداة التي أكرمنا الله -عز وجل- بها في هذه الشريعة -نسأل الله العظيم أن يحيينا، ويميتنا عليها-. قوله رحمه الله: [ومُعَاوَدَةِ وَطْءٍ]: الوطء: الجماع، ومُراده رحمه الله أَنّ الرجل إذا جامع أهله، ثم أراد أن يعود فإنه يتوضأ لقوله عليه الصلاة والسلام: [إِذَا جامَع أَحدُكُمْ أَهْله، ثُمَّ أرادَ أَنْ يَعُودَ فَلْيَتوضّأ] والأمر في الحديث مصروف عن ظاهره كما تقدم بقوله عليه الصلاة والسلام: [إنما أمِرْتُ بِالوضُوءِ عِنْدَ القِيام إلى الصّلاةِ] وقد بيّن صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ العلّة في الأمر بالوضوء للجنب إذا أراد العود؛ فقال عليه الصلاة والسلام في رواية الحاكم في المستدرك: [إِنه أَنشَطُ لِلْعَوْدِ]، وهي تقوّي أنّ الأمر للإستحباب.

باب التيمم

باب التيمم التيمُّمُ مأخوذ من قولهم: أمَّ الشيءَ؛ إذا قصده، ومنه قوله تعالى: {وَلَا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ} أي لا تقصدوا رديء التمر، والخارج من الأرض لتنفقوا منه زكاة أموالكم، ومن ذلك قول الشاعر: تَيمَّمتُها مِنْ أَذرِعاتٍ وأهلُها ... بِيَثْرِبَ أدْنى دَارَها نظَرٌ عَالِي أي: قَصَدتها. فالتيمم: القصد. أما في الإصطلاح فإنه: (القصدُ إلى الصّعيدِ الطّيبِ بضَربِ اليدين بصِفةٍ مخصوصةٍ، ونيّة مخصوصة) فالمراد بالصّعيد: كل ما صعد على وجه الأرض، وأصل الصعود: علوّ الشّيءِ، وارتفاعه، فلما كان محل التيمم بما على ظاهر الأرض وُصِفَ ذلك الظاهر بكونه صعيداً. وقولهم: [الطَيّب]: المراد به الطاهر، فلا يجوز التيمم بالأرض المتنجسة، وقولهم: [الصَّعيد] عامٌّ شاملٌ لكل ما على وجه الأرض من الحجارة، والتراب، والغبار لعموم النصِّ كما سيأتي إن شاء الله بيانه. وقولهم: [بصِفةٍ مَخْصُوصةٍ]: هي التي ورد النصّ بها في قوله سبحانه: {فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ} فتكون بمسح الوجه، والكفّين، وقد بيّنها عليه الصلاة والسلام بفعله حينما قال لعمار رضي الله عنه كما في الصحيحين: [إنما كانَ يَكْفِيكَ هكذا قال: وضَرَبَ النبيُ صلّى الله عليه وسلم بكَفّيه الأرضَ، ونَفَخَ فيها، ثُمّ مَسَح بِهما وجْهَهُ، وكَفيْهِ]،

وقولهم: [بنِيّةٍ مَخْصُوصَةٍ] وهي: استباحة الصّلاة والطّواف، ومسّ المصحف، ونحوه مما تُشترط له الطّهارة، والنّية واجبة في التيمم بلا خلاف. والتعبير بالإستباحة لأن التيمم مبيح، وليس برافع للحدث لقوله عليه الصلاة والسلام: [الصعيدُ الطّيبُ طُهورُ المسْلمِ، ولو لَمْ يَجِدَ الماءَ عَشرَ سِنينَ، فإذا وجَد الماءَ فليتّقِ الله، وليُمِسَّه بَشَرَته] فلو كان رافعاً للحدث لا وجبت عليه طهارة الغسل بعد وجود الماء. شرع الله التيمم في كتابه: بقوله -سبحانه وتعالى-: {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا} في آيتي النساء والمائدة. وشرعه سبحانه، وتعالى بهدي رسوله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، وذلك في قوله عليه الصلاة والسلام لعمار رضي الله عنه: [إِنما كَانَ يَكْفِيكَ أَنْ تَقولَ بِيديْكَ هَكَذا، ثُمّ ضَربَ بِكَفيه الأَرْضَ، ثم مَسَح بِهما وَجْهَه، وكَفّيهِ]، وكذلك -أيضاً- ثبت في الصحيحين من حديث عمران ابن حصين -رضي الله عنه- أنّ النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مرّ على رجل لم يصلِّ في القوم فقال: [يا فُلانُ مَا مَنعكَ أَنْ تُصَلّي فِي القَوْم؟] قال: أَصابتْني جَنابةٌ، ولا ماء، فقال عليه الصلاة والسلام: [عَليكَ بالصّعيدِ الطيبِ فإنه يَكْفِيكَ] وفي حديث أبي ذر رضي الله عنه الصحيح عند أحمد، والترمذي أنه عليه الصلاة والسلام قال: [الصعيدُ الطّيبُ طُهُورُ المسْلمِ ولَوْ لَمْ يَجِدَ الماءَ عَشرَ سِنينَ]، وفي الصحيحين من حديث جابر رضي الله عنه قوله عليه الصلاة والسلام: [أُعْطِيتُ خَمْساً لمْ

يُعْطَهُنَّ أحدٌ قَبْلِي]، ومنها قوله: [وجُعِلَتْ لِيَ الأَرضُ مَسْجِداً وطَهُورَاً] فدلّت هذه الأحاديث الصحيحة عن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- على أنّ التيمم مشروع. وأجمع العلماء -رحمهم الله- على مشروعية التيمم على تفصيل سيأتي بيانه -إن شاء الله تعالى-. أما بالنسبة لمناسبة هذا الباب لما قبله فهي: أنه لما فرغ من بيان الطهارة المائية بالغسل شرع في بيان الطهارة البدلية عنها وهي التيمم؛ فكان حديثه عن الطهارة بالماء التي هي أصل، ثم هنا شرع في طهارة التراب التي هي بدل عن الأصل، والكلام عن البدل يكون بعد الكلام عن المُبْدَل منه، فبعد أن بيّن -رحمه الله- حكم الطهارة بالأصل، وهو الماء شرع في بيان حكم الطهارة بالبدل، وهو التراب. قوله رحمه الله: [وهو بَدلُ طهارةِ الماءِ إذا دَخَلَ وقْتُ فَريضةٍ]: قوله: [وهو] أي: التيمُّمُ [بَدلُ طهارةِ الماءِ إذَا دَخلَ وقْتُ فريضةٍ] بدل طهارة الماء: أي أنه ليس بأصل، وإنما شُرِعَ على صورة مخصوصة، وفي أحوال مخصوصة، ولذلك يمكن للفقيه أن يقول للمكلف: تيمّم إذا وجد مُوجبات الرخصة، ويمكن أن يقول له: لا تتيمّمْ إذا لم تتوفر تلك المُوجبات، ولذلك قال: وهو بدل، والبدل يحتاج أن تعرف شروطه، والقيود التي نصّبها الشرع لقيامه مقام المُبْدل منه، ثم هذه البدلية تشمل الطهارة الصغرى، وهي: الوضوء، والكبرى، وهي: الغسل، فيقع التيمم بدلاً عن الوضوء. والغسل، وللمكلف إذا تيمم أن يستبيح الصلاة

مباشرة، ومذهب بعض العلماء رحمهم الله أن هذه الطهارة تقع بدلاً عن طهارة الخبث، فقالوا فيمن وقعت عليه نجاسة، وليس عنده ماء يغسل به تلك النجاسة: إنه يتيمَّمُ، فجعلوا التّيممَ بدلاً عن الطهارة بنوعيها: طهارة الحدث، والخبث. فإذاً بدليته عن ثلاثة: عن الوضوء، والغسل بالإجماع، وعن طهارة الخبث على أحد قولي العلماء رحمهم الله. قوله رحمه الله: [إذا دَخلَ] هذا شرط، والشروط في المتون الفقهية تعتبر مفاهيمها، ويقيّد ذلك بالتزام صاحب المتن، أو باستقراء منهجه. وقوله رحمه الله: [إذا دخلَ وقتُ فريضةٍ] مفهومه: أنه إذا لم يدخل وقت الفريضة أنه لا يتيمَّمُ للفريضة، لكن لو تيممَ لغير الفريضة؛ كأن تكون عليه جنابة، وتيمم للمسِ مصحفٍ، أو للطواف بالبيت، فلا حرج عليه، سواء كان ذلك في وقت الفريضة، أو في غيره؛ لأن النافلة، ومسّ المصحف ليس لهما ميقات كالفريضة، أما الفريضة فلا يصح التيمم لها إلا بعد دخول وقتها، فلو أن إنساناً سألك وقال: لم أجد الماء فتيممت قبل أذان الظهر، ثم دخل وقت الظهر، فصليتها؟ تقول: إن شرط صحة التيمم للفريضة أن يكون بعد دخول وقتها، فإذا تيمم قبل دخول الوقت بطل تيممه بدخول الوقت بعد ذلك لأنه يُحْتَسبُ للفريضة السابقة، ويبطل بدخول وقت الفريضة اللاحقة، فلا يصح تيمُّمُك قبل الظهر للظهر، وهكذا بقية الفرائض.

أما الدليل على اشتراط التيمم لدخول الوقت؛ فقالوا: إنه الأصل في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ} (¬1) إلى أن قال: {وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا} وجه دلالتها على اشتراط دخول الوقت: أنه كان في أول الإسلام يجب على المكلف إذا دخل وقت الفريضة أن يتوضَّأ، حتى ولو كان متوضِّئاً، وكانوا يتوضَّؤون عند دخول وقت كل صلاة، ولو كانوا متوضئين؛ كما في حديث عبد الله بن حَنْظلةٍ رضي الله عنه أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: [أَمَر بالوضُوءِ لكلّ صلاةٍ طَاهراً كانَ، أوْ غَيرَ طَاهرٍ]، ثم نُسِخَ ذلك بفعل النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- في غزوة الخندق؛ كما ثبت في الصحيحين من حديث جابر رضي الله عنهما أنّ عُمَرَ جاء إلى النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وقال: " -يا رسول الله -، والله ما كِدْتُ أصلي العصرَ حتّى كادتِ الشّمسُ تغربُ " فقال -عليه الصلاة والسلام-: " واللهِ، مَا صَليْتُها " قال: " فتوضّأ، ثمّ صلى العصر بعد ما غربت الشمس، ثم صلى المغرب، وفي حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه عند أحمد، والنسائي بسند صححه غير واحد أنه قال: [حُبِسْنَا يومَ الخندقِ عنِ الصّلاةِ حتى كَان بعدَ المغربِ بهويٍ من اللّيلِ كُفِينا، وذلك قول الله عز وجل: {وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ وَكَانَ اللَّهُ قَوِيًّا عَزِيزًا} قال: فَدَعا رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بلالاً فأقامَ الظُّهرَ، فصلاها؛ فأحسَنَ صَلاتها كما كان يصليها في وَقْتِها، ثُمّ أمرَه ¬

(¬1) المائدة، آية: 6.

فأقامَ العصرَ فصلاّها فأحسَنَ صلاَتها كما كَان يُصلِّيها في وقْتِها، ثم أمره فأقَامَ المغربَ فَصلاّها كذلك] قالوا: هذا نسخٌ لوجوب الوضوء عند دخول الوقت، ودلّ على أنه يُشْرع للمكلف أن يجمع بوضوء واحد بين صلوات، ولا حرج عليه في ذلك، فأصبح الوضوء رافعاً للحدث، وبناءً على ذلك قالوا: نُسخ الحكم في الوضوء، وبقي التّيَمُّمُ على الأصل من كونه مطلوباً عند دخول الوقت؛ لأنه ورد النصّ على العموم في الطهارة، وأنها مقيّدة بدخول الوقت، وذلك في قوله سبحانه: {إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ} ولا يقام لفعل الصلاة المفروضة إلا بعد دخول وقتها، فلما جاء الناسخ في الوضوء بَقِيَ غيرُه على الأصل، قالوا: فبقي التيمم على الأصل، ومن هنا لا يُتَيَمَّمُ إلا عند دخول وقت الفريضة. قوله رحمه الله: [أَوْ أبِيحَتْ نَافلةٌ]: عندنا صلاتان: المفروضة، والنافلة، فإن قلت: إن التيمم لا يكون إلا عند دخول وقت الصلاة، وقيّدته بالصلاة تقيده في الفريضة بوقتها، فتقول: يَتيمم لصلاة الظهر بعد زوال الشمس، ويَتيمم لصلاة المغرب بعد غروب الشمس، وهكذا. وإذا كانت الصلاة نافلة: إِعْتبرتَ فيها الأوقات المنهيّ عنها، فتقول: يَتيمَّمُ في وقتٍ تُباح فيه النافلة، فلو أنه تيمّم بعد صلاة الصبح، أو بعد صلاة الفجر، وقبل طلوع الشمس لِفِعْلِ نافلة مطلقة؛ فإنه لا يصحُّ تيمُّمُه؛ لوقوعه في غير الوقت المعتبر لإجزاء التيمم للصلاة، فيجوز له أن يتيمم لفعل النافلة المطلقة في جميع الأوقات، إلا الأوقات التي نُهي عن صلاة النافلة فيها، وأما ذوات الأسباب فعلى القول بجواز فعلها في أوقات النهي

يصحّ التيممُ لها فيها، وعلى القول بالمنع يُمنع من التيمم للنوافل جميعها في الأوقات المنهي عنها، وأما لمس المصحف، وحمله، أو قراءته للجنب؛ فيتيمم له في كل وقت؛ لأن الشرع لم يحظره في وقت من الأوقات. قوله رحمه الله: [وعَدِمَ الماء]: وعدم الماء: هذا شرط؛ دلّ عليه قوله تعالى: {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً} فنصّ سبحانه على إشتراط عدم وجود الماء، فدلّ ذلك على أَن التيمم رخصة عند فَقْدِ الماء، وعَدمِه وفي الصحيح عنه عليه الصلاة والسلام أنه رخّص لمن فقد الماء أن يتيمم كما في حديث عمران رضي الله عنه أنّ الرجل حينما قال للنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: [أصابَتْني جنابةٌ، ولا مَاء] قال عليه الصلاة والسلام: [عَليْكَ بالصّعيدِ الطَّيبِ فإنه يَكْفِيكَ] فأمره بالتيمم لما أخبره أنه لا يجد الماء، كذلك جاءت السُّنة في حديث أبي ذر رضي الله عنه أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: [إِنّ الصَّعيدَ الطيّبَ طَهُور المسلم ولو لم يَجِدَ الماءَ عَشْرَ سِنينَ، فإذَا وجدَ الماءَ فليُمِسّهُ بشَرته] صححه الإمام الترمذي، والحاكم وابن حبان، وأبو حاتم، والذهبي، والنووي، وغيرهم رحمهم الله، فنصّ عليه الصلاة والسلام على رخصة التيمم بشرط عدم وجود الماء، ولو طالت المدة فدلّ على أن فقد الماء موجب للإذن برخصة التيمم، والأحاديث في هذا المعنى كثيرة، ولذلك أجمع العلماء رحمهم الله على أن فقد الماء موجب لرخصة التيمم من حيث الجملة، أما من حيث التفصيل فمنهم من يقول: عدم الماء سواء كان في سفر، أو في حضر، فكلّ من لم يجد الماء في سفر، أو حضر أبيح له أن يتيمم.

ومنهم من قيّده بالسفر. والصحيح أن الحكم عام يشمل السفر، والحضر لعموم النصِّ. ثم إنّ عَدَمَ الماء يتحقق بأمرين: الأمر الأول: بيقينٍ يُقْطَع به بعدم وجودِ الماء، وهذا بلا إشكال أنه يُعتبر مبيحاً للتيمم، مثالَّ ذَلك: أن يكون الإنسان في مكان يعلم أنه لا يوجد فيه ماء أصلاً، ويكون على يقينٍ بذلك؛ فحكمه: أنه يجوز له التيمم لظاهر النصوص في الكتاب، والسُّنة. الأمر الثاني: أن يغلبَ على ظنّه الفقد، بمعنى: أن يكون إحتمال وجود الماء ضئيلاً، فإذا كان احتمال وجود الماء ضئيلاً؛ فإن العبرة بغالبِ ظنِّهِ لا بِنادرهِ " لأنّ الشريعة مبينة أحكامها على الغالب، لا على النادر، ومن قواعدها: " النادِرُ لا حُكْمَ له ". ومن قواعدها أيضاً: " الغَالبُ كَالْمُحقَّقِ " فلما كان غالب ظنِّك أنّ الماء غير موجود في هذا الموضع، أو في هذا المكان؛ فإنه يُعتبر كأنك قطعت بعدم وجوده، فيُنزَّل غالبُ ظنِّك منزلةَ اليقين بعدمِ الوجود. وبناءً على ذلك تستبِيح التيمم باليقين، وبغلبة الظن، وتبقى عندنا حالتان: الحاله الأولى: أن تَشكّ في وجوده، يعني: يستوي عندك هل هو موجود، أو غير موجود، مثال ذلك: من نزل في موضع، وهو مسافر، ولا يدري هل فيه ماء، أو لا ماء فيه.

ففي هذه الحالة يطالب بالبحث، والتّحري حتى يصل إلى غالب الظنِّ بأحد الإحتمالين؛ فإذا غلب على ظنه وجود الماء عَمِل به فلم يحلّ له أن يتيمم، وإن ترجّح ظنه بالفقد، أو قطع به، فحينئذٍ يترخّصُ بالتيمُّمِ. الحالة الثانية: أن تتوهم عدم وجوده، ويغلب على ظنّك وجوده، فهذه الحالة لا إشكال في أنه لا يجوز فيها التيمم، إلا إذا تغيّر هذا الظن، وصار لعكسه. وهذه الحالة هي الغالب في المدن، والقرى، فلا يجوز لصاحبها أن يتيمّم مباشرة ما دام أنّ الماء يغلب على الظّنِ وجوده. وإذا لم يجد الماء؛ فقولٌ واحد عند العلماء أنه: يتيمم؛ إلا ما قدمنا من خلاف بعضهم في الحضر وهو ضعيف، والجماهير على أنّ التيمم رخصة في الحضر، والسفر، دون فرق بينهما، ما دام أنه لم يجد الماء. قوله رحمه الله: [أو زادَ على ثمنِه كَثيراً، أو ثمنٍ يُعْجِزهُ]: المراد به أن لا يجد الماء إلا بثمن زائد عن قيمته زيادة ذات بال، وهو ما أشار إليه بوصفه لها بقوله: [كثيراً] ومفهوم ذلك أنه إذا وجد الماء زائداً على قيمته زيادة قليلة لزمه أن يشتريه، وأما إذا كانت كثيرة كان غبناً عليه. وهذه الحالة وهي زيادة ثمن الماء كثيراً، وما بعدها وهي قوله: [أو ثَمنٍ يُعْجِزُه] رُخِّصَ فيها بالتيمم عند من يعتبر الرخصة فيها بناءً على أن الماء، وإن كان موجوداً حقيقة لكنّه بالزيادة عن ثمنه، والعجز عنه صار مفقوداً حكماً، فأصبحت هذه الحالة بمثابة حالة الفَقْدِ الحقيقةِ للماء، وفي الحقيقة بالنسبة لمن لم يجد الماء إلا بثمن ليس عنده؛ فلا إشكال أنه في حكم فاقد

الماء، لأنه ليس بإمكانه أن يشتريه، لأنه بعجزه عن ثمنه صار كالعاجز عن العين نفسها، فَرُخّص له، وصار الماء غير موجود في حقِّه حُكْماً. وأما إذا كان يجد الماء زائداً على ثمنه كثيراً فقد رخص فيها بعض الفقهاء رحمهم الله بناء على ما قدمنا أن الزيادة الكثيرة ضررٌ عليه في ماله، ومن ثم قالوا: لا يلزمه أن يتحمل الضّرر في ماله على هذا الوجه كما لا يلزمه تحمل الضّرر في نفسه، فقاسوا ضرر المال هنا على ضرر النفس، فكما يُرخَّص للمكلف أن يتيمّم عند خوفه الضّرر عن نفسه بالإغتسال كذلك يُرخَّص له أن يتيمم ويترك الماء الزائد على ثمن مثله كثيراً دفعاً للضرر الذي سيلحقه في ماله، وعلى هذا القول الذي مشى عليه المصنف رحمه الله فإن هذه الزيادة تتقيد بالمكان الذي فيه الماء، فتكون زيادة كثيرة على ثمن مثله في ذلك المكان الذي هو فيه. قوله رحمه الله: [أوْ خَافَ باسْتعمالِه، أَوْ طَلبِه ضَررُ بَدنِه]: صورة ذلك أن يكون الإنسان مريضاً، وإذا اغتسل هلك، أو زاد عليه مرضه، وكذلك إذا كان في زمانٍ شديد البردِ؛ فلو اغتسل خاف على نفسه المرض أو الموت، ففي هذه الحالة يُرخّص له أن يعدل من الغسل إلى التيمم، وهكذا لو كان الوضوء يُضِرُّ به، وينتهي به إلى تلف نفسه، أو حصول ضرر بجسمه؛ جاز له أن يعدل إلى التيمم، وهذا اختيار بعض العلماء من المالكية، والشافعية، والحنابلة، ومنهم شيخ الإسلام ابن تيمية، فقد اختار رحمه الله أنه لو خاف باستعمال الماء زيادة مرضه، كالزُكام، ونحوه أنّ من حقِّه أن يعدل إلى التيمم؛ لما فيه من وجود الضرر، والله -عز وجل- كلف

العباد بما لا ضرر فيه على أنفسهم، وأجسادهم، ولذلك قالوا: إذا كان استعماله للماء يُفضي إلى تلف النفس، أو حصول ضرر بها، أو زيادة سُقْمٍ، ومرض؛ جاز له أن يعدل إلى الرُّخصة، ويتيمّم. أما الدليل على أن من خاف باستعمال الماء الضرر من مرض، وغيره أن يتيمم فقوله تعالى: {وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا} فبيّن سبحانه عذر المرض بقوله: {وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى} فدلّ على أن من كان مريضاً، وخاف باستعمال الماء أن يهلك، أو يستضر جاز له أن يتيمم، وأما خوف الإستعمال المفضي إلى الهلاك، والموت فقد جاء اعتباره موجباً للرخصة في حديث عمروِ بنِ العَاصِ رضي الله عنه أنه لمّا بَعَثه النبيُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في غزوة ذاتِ السّلاسِلِ، واحتلم في ليلة باردةٍ شديدةِ البرد قال: [فأَشْفَقْتُ إِنِ اغْتَسَلْتُ أَنْ أَهْلَكَ فَتيمّمْتُ ثُمّ صَلّيْتُ بِأَصْحَابِي فَلمّا بَلَغَ النبي صلّى الله عليهِ وسلم قال له: [يا عَمْرُو صلّيتَ بِأَصْحَابِكَ، وأَنتَ جُنُب!؟] فقلت: ذكَرتُ قولَ الله تعالى: {وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا} فتيمّمتُ، ثم صلّيتُ، قال: فَضحِكَ النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ولمْ يَقُلْ شَيئاً] فترخّص عمرو رضي الله عنه بسبب خوفه الهلاك، وهذا يُقوي ما تقدم، ويدل أيضاً على أن من خاف أن يُصاب بالضّرر بسبب الغسل، أو الوضوء، وغلب على ظنّه ذلك فإنّ له أن يترخّص بالتيمم.

وقد ذكر المصنف رحمه الله في هذه العبارة أن سبب الخوف بحصول الضرر من إحدى حالتين: الأولى: الإستعمال بمعنى أنه لو اغتسل، أو توضأ حصل له الضّرر. والثانية: الطلب بمعنى أن حصول الضّرر، أو خوف حصوله ناشئ من طلبه للماء، مثل: أن يخاف لو ذهب يبحث عن الماء يقتل كما يحصل ذلك في الأرض المُسْبِعَةِ، وهي: التي فيها السباع، أو يكون هناك عدو يتربّص به، فإذا خرج لطلب الماء قتله، أو يوجد ضرر في نفس المكان الذي يأخذ منه الماء، كالحيّة، ونحوها، فإذا خاف الضرر بسبب الإستعمال، أو الطلب فالحكم واحد. قوله رحمه الله: [أَوْ عَلَى رَفِيقِهِ]: أي: خاف على رفيقه من إستعماله، أو طلبه، مثال ذلك: أن يكون الإنسان عنده ماء، وهو محدث، وهذا الماء لو توضّأ به إحتاج إليه رفيقه لشرب؛ فحينئذٍ قالوا: لو قلنا له: توضأ بهذا الماء، أو اغْتَسِلْ به هَلك رفيقُه، فقالوا: حَلّ له التيمّم، وهذا يسمى بالفَقْد الحُكمي، فإن الماء موجود حقيقة، ولكنه في حكم المفقود؛ نظراً لما يترتب على استعماله من وجود الضّرر بالنفس المحرّمة. كذلك -أيضاً- لو خاف على رفقته، كأن يكون معه جماعة من باب أولى وأحرى. قوله رحمه الله: [أو حرمته] والحرمة مثل زوجته ونسائه ومحارمه، والمراد: أن يخاف باستعماله، أو طلبه الضّرر على هؤلاء كما قدمنا في الخوف على رفيقه، فيكون معه أهله ونساؤه محتاجين إلى الماء فإذا استعمله تضرروا

أو يكونوا معه ولا ماء عندهم فإذا طلب الماء لهم خاف عليهم الهلاك، أو الإعتداء على عرضهم، فجميع هذه الحالات موجبة للرخصة إذا تحقق فيها الضّرر، أو غلب على ظنّ المكلف حصوله. وقوله رحمه الله: [أو مَالِهِ] أي خاف إن استعمل الماء، أو طلبه أن يحصل الضّرر في ماله، مثل راعي الغنم في البادية، إن ترك غنمه، وذهب يطلب الماء غلب على ظنّه أنها تُسرق، أو يُعتدى عليها، أو يكون معه مال لا يستطيع حمله عند الطلب، ولا تركه خشية سرقته، فهذه الحالات، وأمثالها كلها مُوجبة للرخصة، ثم بيّن صور الضرر، وذلك بقوله رحمه الله: [بعَطَشٍ] أي: أنه إذا استعمل الماء في الغسل، أو الوضوء عطش هو، أو رفيقه، أو حُرمته، أو دابته فهلكوا، أو تضرّروا. وقوله رحمه الله: [أو مَرَضٍ] أي: أنه إذا استعمل الماء في جسده حصل له الضّرر بالمرض، أو زيادته كما قدمنا. وقوله رحمه الله: [أو هَلاكٍ] أي: أنه إذا استعمل الماء، أو طلبه هلك هو، أو رفيقه، أو حُرمته، أو تلف ماله. فكلها أضرار مؤثرة إذا غلب على الظنّ حصولها أوجبت الرخصة؛ لأنها إما أن يصل المكلف فيها إلى مقام الإضطرار، كما في حال الخوف على نفسه، وغيره، وإما أن يصل فيها إلى مقام الحاجة المنزلة منزلَة الضرورة، وهي تُوجب الحرجَ الذي دلّ دليل الشرع على أنه لا يُكَلّف به كما في قوله تعالى: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} وقال سبحانه: {يُرِيدُ اللَّهُ

بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ}، وذلك في حالة هلاك المال، وزيادة المرض ونحوها. قوله رحمه الله: [ونَحْوِه شُرِعَ التَّيَمُّمُ]: أي نحو هذه الصور، والأمثلة، فالفقهاء -رحمة الله عليهم- بيّنوا لك الأصل الذي هو خوف الضرر على النفس، أو الرفقة، أو المال، وبناءً على ذلك يجوز للإنسان أن يعدل إلى رخصة التيمم بوجود هذه الأعذار؛ سواءً كانت بالصّور الموجودة في زمانهم، أو بصور جديدة في زماننا يصل فيها المكلف إلى مقام الإضطرار، أو الحاجة. قوله رحمه الله: [ومَنْ وَجد َماءً يَكْفِي بعضَ طُهْرِه تَيممَ بَعْدَ اسْتِعْمَالِهِ]: هذه المسألة من المسائل التي اختلف العلماء -رحمهم الله- فيها، وصورتها: أن يكون عندك ماء لا يكفي لغسل جميع البدن في طهارة الغسل، أو لا يكفي لغسل جميع أعضاء الوضوء في طهارة الوضوء، فالماء موجود، ولكنه غير كافٍ لاستيعاب الفروض، فقال بعض العلماء: يَعْدل إلى التيمم مباشرة. وقال بعض العلماء: من كان عنده ماء يكفي لبعض الأعضاء دون بعضها؛ غسل البعض، ثم تيمم بنية ما بقي، وهذان قولان مشهوران عند أهل العلم، فالمصنف رحمه الله مشى على مذهب الجمع، فبين أن عليه أن يستعمل الماء، فيغسل به الأعضاء، ثم يتيمّم لما بقي، والذين قالوا بهذا القول إستدلوا بدليل الكتاب، والسنة.

أما الكتاب فآية الوضوء، والغسل، وآية التيمم، فأما آية الوضوء، والغسل فقالوا: إنّ الله أمر فيها المكلف باستعمال الماء، فيستعمله، ولو لبعض أعضائه؛ لأنه قادر على ذلك، وأمكن تحقيق أمر الله تعالى فوجب عليه إعمال الأصل على هذا الوجه، فإذا استهلك الماء، وبَقِيَ ما بقي من الأعضاء تحقّق فيه الشرط الشرعي المنصوص عليه في آية التيمم في قوله تعالى: {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً} وحينئذ يُرخص له بالتيمم للباقي لأن هذا الشرط لا يتحقق إلا باستهلاك الماء على الوجه الشرعي بغسل ما يستطيع غسله من أعضاء الوضوء والغسل. وأما دليلهم من السنة فحديث جابر رضي الله عنه قال: [خَرجْنَا في سفَر فأصابَ رجلاً منّا حجرٌ في رَأسِه، ثمّ احْتَلَم، فسأَلَ أصحابَه: هل تجدون لي رخصةً في التيمم؟ فقالوا: ما نجد لك رخصة، وأنت تقدر على الماء؛ فاغتسل، فمات، فلما قدمنا على رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أُخْبِر بذلك فقال: قَتلُوه قَتلَهم الله أَلا سَألُوا إذا لم يَعْلموا فإنما شِفَاءُ العِيِّ السؤالُ إِنما كانَ يَكْفيه أنْ يتَيمّمَ، ويَعْصرَ، أو يَعْصُبَ على جُرحِه، ثم يمسحُ عليهِ، ويغسلُ سائرَ جَسدِهِ] ووجه الدلالة: ظاهر حيث أمره بالجمع بين التيمم، والغسل. ومذهب القائلين بعدم الجمع أقوى حيث إن الماء الموجود لما كان غير كاف لجميع الطهارة صار في حكم المفقود، فتحقّق الشرط الموجب لرخصة التيمم، وقد عَمِلَ بهذا الأصل الجميع فنزلوا الموجود منزلة المفقود في مسائل التيمم، فكذلك هنا لأنه ماء غير كاف لجميع الأعضاء، والشَّرع لم يُجَزّئ

أعضاءَ الوضوءِ، والغسل بل أمر بغسلها جميعها، فكما أن من عجز عن الماء لمرض نقول: الماء في حقّه مفقود حكماً؛ كذلك من وجد ماءً لا يكفي لجميع الأعضاء، فإن هذا الماء مفقود بحكم الشرع، لأن الشرع لم يعتبر في طهارة الغسل بعض أعضاء البدن، دون البعض، بل أمر بغسلها جميعاً، وبهذا لا يقوى الإحتجاج بآية الوضوء، والغسل على وجوب غسل الأعضاء. وأما الإستدلال بالسُّنة فإن الحديث لم يصحَّ، وهو ضعيف، كما نصّ عليه الأئمة رحمهم الله، والعمل على عدم ثبوته. قوله رحمه الله: [ومَنْ جُرِحَ تَيمّم له، وغَسَلَ الباقِي]: الضمير في قوله: [له] عائد إلى الجرح، وقوله: [وغَسَلَ الباقِي] أي: باقي جسده، ووجه ذلك: أنه يستطيع غسل باقي جسده؛ فبقي على الأصل، والجرح لا يمكنه أن يغسله فرُخّصَ له بالتيمم من أجله. وهذه المسألة يعبر عنها العلماء بالجمع بين البَدلِ، والمُبْدل، ويقول بها فقهاء الحنابلة، والشافعية، وغيرهم في مسائل. والأصل في البدل، والمبدل أن لا يجتمعا؛ لأنهما ضِدّان والضِّدان لا يجتمعان، فأنت لا تستطيع أن تقول: هذا حلو، مرّ؛ وتقصد في آنٍ واحدٍ، ولكن إما أن تقول: هذا حلو، وإما أن تقول: هذا مر، وإذا ثبت أنه لا يجمع بين البدل، والمُبدل فإن هذه المسألة مستثناة على هذا القول المرجوح.

وقال بعض العلماء: إنه إذا أمكنه أن يبلّ يده، ويُمرّها على الجرح مبلولة؛ فإنه يجزيه ذلك، ولا يطلب منه أن يتيمم للجرح. قوله رحمه الله: [ويَجِبُ طَلَبُ الماءِ فِي رَحْلِه، وقُربِه]: أي يَلزم المكلّفَ عند دخول الوقت طلبُ الماءِ، وهذا بناءً على الأصل، لأن " ما لا يتمُّ الواجبُ إلا به فهو واجبٌ ". قوله رحمه الله: [في رَحْلِه، وقُرْبِهِ] الرّحل: المتاع، والمراد: أن يبحث عن الماء في متاعه، فإذا كان في منزله، وحضرته الصلاة بحث في المنزل، وإن كان في فلاة، أو خارج المدينة بسيارته بحث أولاً في سيارته، وأمتعته هل يوجد فيها ماء هذا هو الأصل، وقوله [قُرْبِهِ] أي: قريباً من متاعه، أو من موضع نزوله، فإذا لم يجد عنده بحث عند رفاقه، وزملائه، والمسافرين معه، وسألهم، ويشمل قوله: [قُرْبِهِ] المواضع القريبة من مكان نزوله، وإذا كان مقيماً ولم يجد الماء بحث عند الجيران القريبين منه بسؤالهم: هل عندهم ماء، فلما كان مطالباً أن يبحث في رحله، وفي جماعته، والمكان الذي هو نازل فيه فإنّ ما قرب منه كذلك داخل في حكم الأصل من وجوب الطّلب، فيلزمه أن يبحث فيه، لكن لو كان بعيداً عنه؛ فإن البعيد فيه تفصيل: فإن كان الوقت يسع بحيث يستطيع الحصول على الماء، والتطهر به قبل خروج وقت الفريضة، فحينئذ يجب عليه الطلب إذا ظن وجوده، وإلا فلا. قوله رحمه الله: [وبِدِلالةٍ]: يعني: أن يسأل الناس عن مكان وجود الماء فإذا كان في قرية سأل أهلها، ولذلك يقولون من آداب السفر أن الإنسان

إذا نزل في موضع أن يسأل عن مكان الماء حتى يتوضّأ ويغتسل، وأن يسأل عن القبلة، وأن يسأل عن موضع قضاء حاجته، قالوا هذه من الأمور التي يراعيها المسافر، وكانوا يستحبون للضيف إذا نزل أن يَدُلّه مضيفُه على هذه الأمور قبل أن يبتدئه بالسؤال عنها، فكانوا يَعدُّونه من إكرام الضيف فيقول له: القبلة كذا، وقضاء الحاجة هنا، والماء إذا أردته هنا. و" الدِلالةُ " مأخوذة من الدليل، والمراد بها هنا الأمارة، والعلامة التي يُستدل بها، فيطلبها بالسؤال والبحث، والدلالة: أن يسأل الناس أن يَدَلُّوه: أين مكان الماء، وإذا ثبت أنه يجب عليه أن يطلب الماء، ويجب عليه أن يبحث فإنه إذا سألك سائل وقال: نزلت بقرية، ثم لم يكن عندي ماء، ثم جلست أنتظر لعل الماء يأتيني حتى خرج الوقت، أو تيممت قبل خروج الوقت، وصليت؛ فما الحكم؟ تقول له: هل طلبت الماء؟ قال: لا لم أطلبه، تقول: إذاً أنت آثم، قد كان ينبغي عليك أن تطلب الماء، لأن الله -عز وجل- أوجب عليك أن تتطهر بالماء أصلاً، وتطهرك بالماء يفتقر إلى وجوده، ووجوده يفتقر إلى طلبه؛ إذاً فأنت مأمور بطلبه، وبناءً على ذلك أنت آثم بتفريطك في السؤال، فقد كان المنبغي عليك أن تسأل، ولذلك قالوا: لو أنه صلّى في قرية، وكان بإمكانه أن يسأل عن جهة القبلة، ولم يسأل، واجتهد من عند نفسه، وصلّى، ثمّ تبين أنه على غير القبلة لزمه أن يُعيدَ؛ لماذا؟ لأنه بإمكانه أن يعرف القبلة بالسؤال ولما لم يسأل فرّط فألزم بالإعادة كذلك هنا في مسألة طلب الماء، ولا يقال إنه جاهل لهذا الحكم؛ لأنه معلوم بأصل الفطرة، والشّرع أن الجاهل يسأل فإذا جهل مكان الماء، أو

جهة القبلة، ولم يسأل، وعنده من يدلُّه عليها لم يكن جهله على هذا الوجه عذراً. قوله رحمه الله: [فإِنْ نَسِيَ قُدْرَتَه عَليْهِ، وتَيممَ أَعَادَ] مراده: أن الشخص إذا كان قادراً على أن يحصل على الماء مثل: أن يكون قريباً منه، ثم نَسي، واعتقد أنه لا يستطيع أن يحصل عليه قبل خروج الوقت فإنه إذا تيمّم، ثم تذكر بعد ذلك، وتبيّن له خطَؤُه لزمته الإعادة للصلاة، وهذه المسألة نصَّ عليها الإمام أحمد رحمه الله، ودليلها: أنها طهارة تجب مع الذكر، فلم تسقط بالنسيان كما لو صلّى ناسياً حدثَه، ثم تذكّر لزمته الإعادة. فالطهارة بالماء في حقه لازمة لأن الماء قريب منه وبإمكانه أن يتحصل عليه ويتطهر كما أمره الله، فإذا نسي قدرته على ذلك، وتبين أنه مخطئ سقط هذا الظن، ولم يُعْتبر، ومن قواعد الفقه: [لا عِبْرَةَ بالظّنِ البيّنِ خَطؤُه] أي: لا عبرة بالظنّ الذي بان خطؤُه. قوله رحمه الله: [وإِنْ نوى بِتيمّمه أحْداثاً]: هذا كما تقدم معنا جوازه في طهارة الماء، فيجمع بين حدثين في طهارة واحدة كالبول، والغائط، والجنابة، والحيض، فإنه يُجزيه، وقد قال عليه الصلاة والسلام: [إِنما الأَعْمَالُ بالنّياتِ، وإنما لِكُلِّ امْرِئ مَا نوَى] فبَيّن -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أنّ من نوى شيئاً كان له، فإذا نوى أكثر من حدثٍ أجزأته نيته عما نواه. قوله رحمه الله: [أو نَجاسةً عَلى بَدَنِه تَضرُّهُ إِزَالتُها] ِ: أي: أن إزالته للنجاسة بغسلها يترتب عليه ضرر في بدنه، فإنه لا تلزمه إزالتها، ولكن يتيمم عنها، ومن أمثلتها عند العلماء: الدّم إذا تجلّط، وتخثّر على موضع

الجرح فإنك لو قلت أزلْهُ فإنه سوف يتضرّر بإزالته، كما في بعض الجراحات التي يصعب فيها إزالة هذا الدم المتجلط قبل إستواء الجرح، فعلى قول الجماهير بنجاسة الدم فإن هذا الدم لا يمكن أن يغسله، فطهارة الماء شبه متعذرة فيه، وبناءً على ذلك قالوا: يَنْتقل إلى التيمم، وتُنزّلُ طهارةُ الخبثِ منزلةَ طهارةِ الحدثِ، فيتيمم من أجل هذه النجاسة، وذهب الجمهور إلى أنه لا تلزمه إزالتها أصلاً فلا يلزمه تيمم، وهو الصحيح؛ لأنه سقط التكليف بما فيه حرج فلم يلزمه البدل، وهو التيمم، لأنّ أصله وهو الماء لم يكلف به. قوله رحمه الله: [أو عَدِمَ ما يُزِيلهَا]: الضمير عائد إلى النجاسة والمراد أن لا يجد الماء الذي يزيل النجاسة. قوله رحمه الله: [أو خَافَ بَرْداً]: أو خاف برداً، أي: خاف إذا إغتسل أن يهلك بسبب البرد، أو يحصل له ضررٌ. قوله رحمه الله: [أو حُبِسَ في مِصْرٍ]: أي حبس في موضع داخل مدينة، ومنع من إيصال الماء إليه، مثل: أن يوضع في غرفة، أو نحوها، وليس فيها ماء فتيمّم؛ فإنه يصح منه ذلك، لقوله سبحانه: {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً} وهو لم يجد الماء فتحقق فيه الشرط المعتبر، ولقوله عليه الصلاة والسلام: [الصَّعيدُ الطَّيبُ طَهُورُ المسلم، ولو لَمْ يجِدِ الماءَ عَشْرَ سِنينَ] وهذا لم يجد الماء فصار تيممه صحيحاً، فتصح صلاته ولا تلزمه الإعادة؛ خلافاً لمن قال: إن هذه الأعذار نادرة، فلا تتعلق بها الرخص. قوله رحمه الله: [أوْ عَدِمَ الماءَ، والتُّراب صَلّى، وَلمْ يُعِدْ] مراده: أن من

لم يجد ماءً، ولا تراباً؛ فإنه يُصلّي على حالته، ولا تلزمه الإعادة بعد ذلك، وتُعْرف هذه المسألة بمسألة [فَاقِدِ الطَّهُورَيْنِ] وقد إختلف العلماء رحمهم الله فيها على أربعة أقوال: القول الأول: يصلي، ولا يعيد. القول الثاني: لا يصلي، ويعيد. القول الثالث: يصلي، ويعيد. القول الرابع: لا يصلي، ولا يعيد. وقد مشى المصنف رحمه الله على القول الأول، وهو أرجحها في نظري والعلم عند الله، وقد بينت ذلك في شرح البلوغ وعمدة الأحكام، ودلّ على رجحانه ما ثبت في الحديث الصحيح في قصة نزول آية التيمم حينما ضاعَ عِقْدُ عائشة رضي الله عنها وإلتمسَه الصَّحابةُ رضي الله عنهم، وحضرتِ الصّلاةُ بعضَهم، وليس عنده ماء، فصلّى، ثمّ لما رجعوا إلى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أخبروه؛ فصوّب فعلهم، ولم يأمرهم بالإعادة، وقد صلّوا بدون وضوء، ولا تيمم؛ لأن التيمّم لم يُشرع بعدُ، فدل على أن من فقد الطهورين صلى، ولا تلزمه إعادةٌ. قال رحمه الله: [ويَجبُ التيمّم بترابٍ طَهُورٍ لَهُ غُبَارٌ] هذه العبارة قصد المصنف -رحمه الله- أن يبيّن بها الشيء الذي يَتَيمَّمُ به المكلف، وهذا مناسب لما قبله؛ لأنك إذا بيّنت الحالات التي يجوز فيها التيمّم والحالات التي لا يجوز فيها؛ سيسألك السائل إن كان من أهل التيمم بأيّ شيءٍ يكون التيمّم؟

قال رحمه الله: [ويَجِبُ التَّيَمُّمُ بِتُرابٍ لهُ غُبارٌ]: خصّ المصنف -رحمه الله- التيمم بالتُّراب على ظاهر ما ثبت عن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بقوله: [جُعِلتْ لي الأرضُ مَسْجداً، وتُربَتُها طَهُوراً] أي: جعلت التربة لأمة محمد -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- طَهوراً. قالوا: فدلّ هذا الحديث على أنّ التراب يُتيمم به، وهذا مستفاد من ظاهر آيتي النساء، والمائدة في قوله سبحانه: {فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا}. إذا ثبت أنّ التراب يُتيمم به بدلالة نصّ الكتاب، والسُّنة؛ فإنّ العمل عند أهل العلم على ذلك، وليس هناك خلاف بين أهل العلم -رحمهم الله- أنّ التراب يُجزئ في التيمم. ولكن الخلاف بينهم: هل يشترط أن يكون له غبار؟ هذه المسألة الأولى. والمسألة الثانية: هل ينحصر التيمم في التراب، أو يشمله، وغيره مما صَعَدَ على وجه الأرض؟ فأما بالنسبة للتراب الذي له غبار، فإنه لا خلاف فيه بين أهل العلم -رحمة الله عليهم- أنه لو حصل به التيمم يُجزيه، وذلك لظاهر نصّ الكتاب، والسُّنة، وأجمع عليه العلماء رحمة الله عليهم كما ذكرنا. وأما اشتراط أن يكون له غبار؛ فهي مسألة خلافية بين أهل العلم -رحمهم الله-: أصحها: أنه لا يشترط أن يكون له غبار، وذلك لظاهر الكتاب، والسنة، فأما الكتاب فقوله سبحانه وتعالى: {فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا} ووجه الدلالة: أن ظاهر قوله: {صَعِيدًا} العموم، فيشمل جميع ما صَعَدَ على وجه الأرض من التراب، ولم يخصّه سبحانه بكونه له غبار.

وأما السُّنة: فما ثبت في الصحيح من حديث عمران بن حصين رضي الله عنهما أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال للرجل الذي لم يجد الماء: [عَليْكَ بالصَّعيدِ فإِنه يَكْفِيكَ]، وهو عامُّ أيضاً كالآية الكريمة، ومن هنا اجتمعت دلالة الكتاب، والسُّنة على أنّ التيمم يَصِحُ بكل ما على وجه الأرض من تُراب له غُبار، أو لا غُبار له. وقد مشى المصنف رحمه الله على قول من يقول باشتراط أن يكون للتراب غبار، واستدل أصحاب هذا القول بقوله سبحانه: {صَعِيدًا طَيِّبًا} فقالوا: إن الوصف بالطِّيب يَقْتضي أَنْ يكون له غبار، وهذا مردود، فإن الوصف بالطّيب المراد به: طهارته من النجاسة، والمراد به: أن لا يتيمم بتراب نَجِسٍ. ثم إننا نقول: إنه لو خُص التراب بما له غبار لخالف ذلك مقتضى الرُّخصة، فإننا نعلم أن كثيراً من الأرض في بعض الأماكن رمال لا غبار لها، فلو قلنا: إن التيمم لا يحصل إلا بتراب له غبار لأجحف بالناس ففي بعض الصحاري ربما تسير يوماً كاملاً، ولا ترى أرضاً لها غبار، وكذلك المناطق الجبلية والحِرَارِ. وأما المسألة الثانية وهي حصر التيمم في التراب، فأصحّ الأقوال كما سبقت الإشارة إليه أنه يجوز التيمم بكل ما على وجه الأرض سواء كان تراباً، أو غيره؛ وذلك لظاهر قوله تعالى: {صَعِيدًا طَيِّبًا} والصّعيدُ كلُّ ما صعدَ على وجْهِ الأرض، والنبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وصف المدينة بكونها طيبة مع أنّ أَكْثرها حِرَار، وهذا الدليل إنتزعه الٍإمام ابن خزيمة -رحمه الله- كما أشار إليه في صحيحه

من ظاهر السُّنة أن الله وصف المُتَيمم به بكونه صعيداً طيباً، والنبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وصف المدينة بكونها طيبة مع أن أكثر أرضها حرار؛ فدل على أن وصف الطّيب ليس منحصراً بالتراب الذي له غبار، وأن المراد به: الطهارة وتكون في كل شيءٍ بحسبه. إذا ثبت هذا فيجوز لك أن تتيمم بالتراب، وبغير التراب مما صعد على وجه الأرض، لكن يشترط أن يكون طاهرا، فلا يُتيمم بنجس. والمصنف رحمه الله مشى على مذهب الذين قالوا: بتخصيص التيمم بالتراب؛ وقد استدلوا على مذهبهم بتخصيص التيمم بالتراب بقوله عليه الصلاة والسلام: [جُعِلتْ لِيَ الأرضُ مَسْجِدَاً، وتُرْبَتُها لَنا طَهُوراً] ووجه الدلالة: أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نصّ على أن التراب يُتيمم به، ومفهوم ذلك أن غيره لا يتيمم به. وهذا الإستدلال يجاب عنه من وجهين: الوجه الأول: أنه إستدلال بمفهوم اللقب، ومفهوم اللقب ضعيف على القول الراجح عند الأصوليين. الوجه الثاني: أنّ النصّ الوارد في إباحة التيمم في دليل الكتاب عامُّ، وهو قوله سبحانه وتعالى: {فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا} والحديث الذي استدلوا به ذكر فرداً من أفراد هذا العامِّ، وهو التراب، فلم يقتض هذا الذكر لهذا الفرد أن يكون العامُّ مخصصاً به، بل نقول إنه لا تعارض بينهما، فالآية تبقى على عمومها، وكون السنة وردت بفرد من أفراد ذلك العام يكون بمثابة التمثيل

لا من باب إلغاء غيره، والقاعدة: " أن ذِكرَ الفَرْد مِنْ أَفْراد العَامّ لا يَقْتضي تَخصيصَ الحُكمِ بهِ ". كذلك من أدلتهم على تخصيص التيمم بالتراب [أنّ النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ضَربَ بيديْه الأرضَ ومسحَ بِهما وجْهَه، وكفّيهِ]، ولا معنى للضرب إلا طلبُ الغبار، وهذا كما قلنا أن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فعل ذلك في بعض ما يجزئ التطهر به، وهو التراب، ومن طبيعته إذا تيمم به الإنسان أن يضرب بكفّيه عليه كما أن من طبيعته إذا تيمّم بالحجر أن يمسح عليه، فكلُّ فرد من أفراد العام يُراعي المتيممُ طبيعَتَه عند التيمم به، ثمّ إننا نقول: لا نسلم ما ذكرتم من أن المقصود بالضرب طلب الغبار على وجه يصير مخصصاً للرخصة، لأنه ثبت عنه عليه الصلاة والسلام: أنه نَفخَ في يَديْه بعد ضَرْبهما على الأرض، والنّفخ يزيل الغبار، فبطل ما ذكروه. قوله رحمه الله: [وفُروضُه مَسْحُ وجْهِهِ، ويَديْه إِلى كُوعَيهِ]: بعد أن بيّن رحمه الله: متى يجوز التيمم وما الذي يتيمم به شرع في بيان صفة التيمم، والمناسبة على هذا الترتيب واضحة، وقوله رحمه الله: [وفُروضُه] الضمير عائد إلى التيمم، وتقدم معنا بيان معنى الفرض لغة، واصطلاحاً، والتعبير بقوله: [وفُروضُه] دالّ على أن المراد: بيان صفة الإجزاء التي لا يصحّ التيمم بدونها. قوله رحمه الله: [مَسْحُ وجْهِهِ]: الوجه: ما تحصل به المواجهة، وقد تقدم ضابط الوجه في صفة الوضوء، وأنه من منابت الشعر عند ناصيته إلى ما انحدر من الذقن، واللّحيين طولاً، وأما عرضاً، فمن الأذن إلى الأذن.

وقوله رحمه الله: [مَسْحُ وَجْهِهِ]: المراد به: أنه بعد أن يضرب بيديه الأرض يمسح بهما وجهه؛ لظاهر التنزيل في قوله تعالى: {فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ}، وظاهر السُّنة في حديث عمّار رضي الله عنه قال: [فَمَسحَ بِهِمَا وَجْهَه] والمسح بالوجه يقع بالكفّين تأسياً بالنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ويُستثنى من ذلك أن يكون أقطع يد، أو مشلولها فحينئذ يمسح بيدهِ السّليمة الأخرى. قوله رحمه الله: [ويَديهِ إلى كُوعَيْهِ]: أي: ويمسح يديه إلى كوعيه؛ وذلك لقوله تعالى: {وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ} واليد: الأصل فيها أنها تطلق من أطراف الأصابع إلى المنكب، فكلّه يدٌ إلاّ ما خُص، فتُخصُّ بالكفين بالدليل كما في قوله تعالى: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} (¬1) فجاءت السُّنة وبينت محلّ القطع، فخصّصتْ اليدَ بالكفِّ، ولذلك قالوا إنما خصّصنا الكفين بالمسح؛ لظاهر حديث عمّارٍ رضي الله عنه قال: [فَمَسحَ بِهِمَا وَجْهَهُ، وكفّيْهِ]. فدل على أن المراد باليدين في آية التيمم: الكفّان، فتكون السُّنة مبيّنةً للقرآن، ويكون الكفّان: هما قدر الإجزاء، وما زاد على الكفين ليس بواجب، وما ورد من الأحاديث بالزيادة إن صحّ حُمِلَ على الكمال، لا على الفرض. ¬

(¬1) المائدة، آية: 38.

قوله رحمه الله: [وكَذَا التّرتِيبُ]: مراده: أن ترتيب أعضاء التيمم واجب، ولازم على سبيل الشرطية، وليس بتخييري، فلزومه في التيمّم، كلزومه في الوضوء، وعليه فيبدأ بمسح وجهه أولاً، ثم يمسح كفيه، فالواو في قوله: {فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ} تحمل على الترتيب كما في آية الوضوء: {فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ} وقالوا -أيضاً-: إن البدل يأخذ حكم مُبْدله، فلما وقعت عبادة التيمم بدلاً عن الوضوء، والترتيب شرط في الوضوء، كذلك هو شرط في التيمم. قوله رحمه الله: [والمُوالاةُ في حدثٍ أَصغَر]: والموالاة أي: تجب الموالاة، فبمجرد أن ينتهي من مسح وجهه يمسح كفّيه فلا يقع الفاصل بين مسح العضوين، فإذا وقع الفاصل أثّر كما يُؤثر في الوضوء، ودليل الموالاة في التيمّم قياسه على الوضوء لأنه بدله، والبدلُ يأخذ حكم مُبْدله. قوله رحمه الله: [في حدثٍ أصغَر]: في: للظرفيّة أي أن التيمم يكون في حدث أصغر، وهو الوضوء فلو: أن إنساناً إنتقض وضوءه ببول، أو غائط، أو ريح؛ فإنه يُجزيه أن يتيمم إذا استوفى شروط الرّخصة. فالتيمم يشمل الحدث الأصغر والأكبر فلك أن تتيمم لحدث أصغر، وأكبر؛ وذلك لأن الله -جل وعلا- جعل التيمم بدلاً عن الطهارتين فقال بعد ذكره طهارة الحدث الأصغر في قوله -سبحانه وتعالى-: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ} (¬1) قال سبحانه: {وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا} ¬

(¬1) المائدة، آية: 6.

فبين طهارة الحدث الأكبر ثم قال: {وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا} فدلّ على أن التيمم بدل عن الطهارتين الصغرى، والكبرى؛ لأن قوله: {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً} راجع إلى الطهارتين المائيتين اللتين تقدمتا. قوله رحمه الله: [وتُشْترطُ النّيةُ لِما يَتَيممُ لهُ مِنْ حَدثٍ، أوْ غَيْرِه]: تشترط النية لصحة التيمم، وهذا يكاد يكون بالاتفاق حتى إن الحنفية سبق معنا في الوضوء، والغسل لا يرون النية فيهما، ويقولون: يصحّ الوضوء، والغسل بدون نية، لكن في التيمم قالوا: لا بد فيه من النية. والدليل على اشتراط النية: أن التيمم عبادة، والأصل في العبادة النّية تمييزاً لها عن العادة، كما قال تعالى: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ}. والدليل من السُّنة: قوله عليه الصلاة والسلام كما في الصحيحين من حديث عُمَرَ رضي الله عنه: [إِنما الأَعمالُ بالنياتِ] والوضوء، والتيمم عمل فدخل في هذا العموم، والنية شرط لصحته. قوله رحمه الله: [مِنْ حدثٍ]: عامّ أي: سواء كان ذلك في حدث أياً كان أصغر، أو أكبر، فإذا وجدت هذه النية فيه صح تيممه، وأجزأه، أما لو عزبت عنه وضرب يديه بالأرض، ويتيمم دون أن يستحضرها؛ فإنه لا يجزيه ذلك. وقوله رحمه الله: [أوْ غَيْره] يشمل طهارة الخبث بإزالة النجاسة كما تقدم معنا عند من يقول بالتيمم لها إذا لم يجد ماءً يُزِيلُها به، والأصل في طهارة

الخبث أنها لا تُشترط لها النيّة، ولكن مشى المصنف رحمه الله على القول المرجوح. قوله رحمه الله: [فإِنْ نَوى أَحدَها لم يُجْزِئْه عَنِ الآخرِ]: فإن نوى أحدها أي: إذا كان عليه أكثر من حدث، أو مع الحدث خبث، فإنه لا يُجزيه تيمّم واحد فلا تداخل فلو نوى الجنابة، لم يجزه تيممه عن الوضوء، قالوا: فيلزمه أن يتيمم له. والذي يترجح في نظري أن المنبغي على المكلف إذا أراد أن يتيمم أن يقصد استباحة الصلاة المفروضة، أو النافلة، إن كانت مفروضة تقيّد بالفرض حتى يخرج وقته، وصلّى بذلك التيمم الذي قصد به الإستباحة، وإن كانت نافلة نوى إستباحة النّفل مطلقاً، ثمّ صلى به جميع النوافل، وإن كان ما نواه إستباحة غير فرض، ونافلة مثل الطواف بالبيت، أو لمس المصحف؛ فإنه يتقيد به في نيّته، ويجزيه تيمم واحد على ظاهر حديث عمّار، وعمرو بن العاص رضي الله عنهما، خاصّة على القول الذي رجحناه، وهو اعتبار التيمم مبيحاً، لا رافعاً. قوله رحمه الله: [وإِنْ نوى نَفْلاً، أو أَطْلَقَ لَمْ يصلّ بهِ فَرْضَاً]: مراده رحمه الله بهذه العبارة ما تقدم معنا في نية الوضوء أن نية الأدنى لا تُجزئ لاستباحة الأعلى، كما هو الحال في الفرض، والنفل، وعليه فإنه إذا نوى نفلاً لم يصل به فرضاً؛ لأن نيّة الأدنى، لا تُبيح الأعلى، فكما أنه إذا توضأ لنفل لا يُصلي فريضة كذلك في التيمم؛ الدليل على هذا: ما ثبت في الصحيح عنه -عليه الصلاة والسلام- من قوله: [إنما لِكُلّ امرئ مَا نوى]

فإنه يقتضي بمنطوقه: أن من نوى شيئاً كان له، وبمفهومه: أن من لم ينو شيئاً لم يكن له فما دام أنه نوى النفل، لا يستبيح الفرض. ودلّ العقل على ذلك أيضاً، وذلك في دليل القياس على الصلاة، ولذلك: لو أن إنساناً أحرم بالصلاة ناوياً النافلة، وأراد أن يقلبها إلى الفرض لم يصحّ إجماعاً، كذلك لو تيمم ناوياً النافلة لم يصحّ منه أن يستبيح الفريضة. قوله رحمه الله: [وإِنْ نَواهُ صَلّى كُل وَقْتِه فُرُوضاً، ونوافِلَ]: وإن نوى الفرض صلى كل وقته أي: وقت الفرض، فروضاً، ونوافل: يشمل ذلك الفروض إذا كان الوقت يسع فرضين، كما في الجمع بين الصلاتين جمع تأخير، ويشمل أيضاً الفرض إذا كان مقضياً ففي الجمع لو كنت مسافراً فأخّرت صلاة الظهر حتى دخل وقت العصر، ولم تجد ماءً، وأردت أن تجمع بين الظهر، والعصر صليتهما بتيمّم واحد، وهكذا لو أخّرت المغرب إلى صلاة العشاء، هذا بالنسبة للفروض المتعددة، إذا كانت في حال الجمع بين الصلاتين، وأما إذا كانت الفروض في الأداء، والقضاء فمثاله: أن يتيمم في وقت صلاة الظهر، وقد فاتته صلاة الفجر، أو أكثر من صلاة فله أن يصليها بتيمم واحد، فيجمع بين فرضين، وأكثر على هذا الوجه. قوله رحمه الله: [ويَبْطُلُ التيمُّمُ بِخروج الوَقْتِ]: بيّنا هذا فيما تقدم، وذكرنا أنه مبنيُّ على ظاهر آية المائدة: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ} فإن الله -سبحانه وتعالى- فرض على المكلفين الوضوء لكل صلاة، ثم نُسخ ذلك في الوضوء، فبقي التيمم على الأصل؛ لعدم ورود الدليل عن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أنه تيمم، وصلى أكثر من صلاة، ثم وجدنا هذا الحكم، وهو أن

التيمم يبطل بخروج الوقت قد أفتى به أصحاب النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، منهم عبد الله بن عمر، وعبد الله بن عمرو بن العاص، وعبد الله بن عباس في إحدى الروايتين عنه، رضي الله عن الجميع أفتوا بأنه إذا خرج وقت الفريضة يتيمم لما بعدها من فريضة، فلو تيمم لصلاة الظهر وخرج وقتها وأراد أن يصلي العصر؛ استأنف تيممه، ويكون التيمم الأول باطلاً بمجرد انتهاء وقت صلاة الظهر. قوله رحمه الله: [وبِمُبْطِلاتِ الوُضُوءِ]: يعني يبطل التيمم بمبطلات الوضوء كأن يخرج منه ريح، أو بول، أو غائط؛ لأن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال: [لا يَقْبلُ الله صلاةَ أَحدِكمْ إِذَا أَحْدثَ حتّى يتوضأَ] فجعل الحدث في الوضوء ناقضاً، كذلك التيمم يعتبر الحدث ناقضاً فيه؛ لأنّ البدل يأخذ حكم مُبْدله. قوله رحمه الله: [وبوُجودِ الماءِ] قوله [وبوجود] الباء سببية أي: ويبطل التيمم بسبب وجود الماء وعليه فإن التيمم ينتقض بما ينتقض به الوضوء، والغسل ويزيد عليهما بأمرين: أحدهما: خروج الوقت. والثاني: وجود الماء. أما وجود الماء فلأنّ ما شُرع معلّلاً بعلّة يزول بزوالها، فقد شَرع الله التيممَ مُعلّلاً بعلة فَقْدِ الماء كما هو ظاهر القرآن، والسنة، أو عدم القدرة عليه كما هو ظاهر السُّنة في حديث عمّارٍ، وعمرو بن العاص رضي الله عنهما، فلما أمكن المكلف أن يستعمل الماء، أو وجَدَه؛ زال الحكم بزوال علّته،

ولذلك يقولون: إنه إذا وجد الماءُ بطل تَيمّمه، ولزمه أن يغتسل، ويتوضأ؛ دلّ على هذا الحكم دليل الكتاب والسُّنة: أما دليل الكتاب؛ فقوله تعالى: {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا} فجعل التيمم معلقاً على عدم وجود الماء فدلّ على عدم جواز التيمم عند وجوده، وأنه يلزمه الرجوع إلى الماء، وهو الأصل عند وجوده. أكد هذا دليل السُّنة في حديث عمران رضي الله عنه في الصحيح عنه -عليه الصلاة والسلام- أنه صلى بالنّاس الفجرَ، فلما صلّى -عليه الصلاة والسلام- رأى رجلاً لم يُصَلِّ في الناس قال: عليَّ به، فلما أُتي به قال: [مَا مَنَعكَ أَنْ تُصلّي في القومِ] قال: -يا رسول الله- أصابتني جنابة، ولا ماء، فقال عليه الصلاة والسلام: [عليكَ بالصّعيدِ؛ فإنَّه يَكْفِيكَ] ففي رواية: فلما مضى -عليه الصلاة والسلام- وجد الماء بعث به إليه. وجه الدلالة: أنه جعل الحكم بتيممه موقوفاً على عدم وجود الماء، فدلّ على أنه إذا وجد الماء تُفقد الرخصة باستباحة الصلاة، ولذلك ألزمه بالماء عند وجوده. الدليل الثاني من السُّنة ما ثبت في الحديث الصحيح عنه -عليه الصلاة والسلام- من حديث أبي ذر رضي الله عنه أنه قال: [الصّعيدُ الطّيبُ طَهُورُ المسلمِ، ولو لمْ يجدِ الماءَ عشرَ سنينَ، فإذا وجَدَ الماءَ فليتّقِ الله، وليُمِسّه بشرَته]. ووجه دلالته في قوله: [فإذَا وجَد الماءَ فَليتّقِ الله، وليُمِسَّه بَشَرتَه] فدل على أن التيمم أولاً لا يرفع الحدث، وإنما يُبيح فعل الصلاة، وأنه إذا وجد الماء لزم على المكلف أن يُمسَّه بشرتَه، فيزول موجب الرخصة؛ وحينئذ

نحكم ببطلان تيممه، ووجوب الوضوء، والغسل عليه، فالحدث باقٍ على الأصل والتيمم غير رافع له، فإذا وجد الماء تعيّن عليه، ولزمه فبطل موجب التيمم من حصول الإستباحة، ولذلك قوله عليه الصلاة والسلام: [فإذا وجدَ الماءَ فليُمِسّه بشرَتَه] دال على أن الحدث لا زال باقياً، وأن التيمم يبطل بسبب وجود الماء. قوله رحمه الله: [والتّيمُّمُ آخرَ الوقتِ لراجِي الماءِ أوْلى]: إذا دخل وقت الفريضة على المكلف، فإن غلب على ظَنّه أنه سيجد الماءَ فحينئذٍ ينتظر وجوده، وهكذا أيضاً إن كان لا يدري: هل يمكنه أن يجده، أو لا يمكنه؟ بحيث لم يكن هناك غالب ظنِّ، وهي حالة الشكِّ؛ فحينئذٍ قالوا: إنه ينتظر من باب الاستحباب، وهو ما أشار إليه بقوله [أولى]، ولكن لو إستعجل، وتيمم، وصلى أجزأه ذلك ولا تلزمه الإعادة على ما ذكرنا فيمن وجد الماء قبل خروج الوقت، لكن هنا الأقوى إذا رجى أنه ينتظر لا على سبيل الأولوية بل إلزاماً. قوله رحمه الله: [ولَوْ في الصّلاةِ، لا بَعْدَها] أي: أن وجود الماء يوجب بطلان التيمم، ولو كان المتيمم وحده، أو علم بوجوده أثناء صلاته، فيحكم ببطلان الصلاة، ويجب عليه أن يتطهر بالماء، ودليل ذلك قوله عليه الصلاة والسلام: [الصّعيدُ الطّيبُ طَهُورُ المسلمِ، ولو لمْ يجدِ الماءَ عشرَ سنينَ فإذا وجدَ الماءَ فليُمسّهُ بَشَرته] فقوله: [فإذا وجدَ الماءَ فليُمسّه بشَرتَه] عام شامل لجميع الأحوال أي: سواء وجده أثناء الصلاة أو قبلها، فدل على أنه إذا وجد الماء بطلت طهارة التيمم ولذلك أمره بطهارة الماء في

قوله: [فليُمِسّهُ] أي: الماء، وإذا بطل التيمم بطلت الصلاة، وإذا حكمنا ببطلان التيمم إذا وجد الماء أثناء الصلاة فمن باب أولى أن نحكم ببطلان التيمم إذا وجده قبل الصلاة، وصلى بتيممه لخالفته النصوص السابقة ومنها قوله عليه الصلاة والسلام: [فإذا وجدَ الماءَ فليتّق الله، وليُمسّه بَشَرتَهُ]. وقوله رحمه الله: [لا بَعْدَها] أي: أنه لا تبطل صلاته إذا صلى متيمماً، ثم وجد الماء بعد فراغه منها لأنه قد فعلها على الوجه المعتبر شرعاً فبرئت ذمته منها بفعلها، فلم يُطالب بالإعادة، وقال بعض العلماء لكن يستحب له أن يعيدها ما دام في وقتها على سبيل الإستحباب، لا على سبيل الحتم والإيجاب، لكن تستثنى المسألة السابقة إذا غلب على ظنّه وجود الماء قبل نهاية الوقت كما قدمنا فإن الإعادة لازمة؛ للتفريط. قوله رحمه الله: [وصِفَتُه]: صفة الشيء: حليته، والأمور التي يتميز بها عن غيره، فإذا وصفت شيئاً فقد ميّزته عن غيره. وقوله رحمه الله: [وصِفَتُه]: الضمير عائد إلى التيمم، أي صفة التَّيمُّمِ الشرعية، وهي صفة الكمال لأن صفة الإجزاء تقدم بيانها في قوله: [وفُروضُه]. قوله رحمه الله: [أنْ يَنوي]: كما ذكرنا، النية شرط في صحة التيمم، والنية: تكون بقصد إستباحة الصلاة، وغيرها مما تشترط له الطهارة بحسبه. قوله رحمه الله: [ثمّ يُسمّي]: أي يقول: بسم الله، ولا تجب عليه. قوله رحمه الله: [ويَضْربُ الترابَ بيَديْهِ] لأنّ عماراً رضي الله عنه وصفَ تيمّم النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فقال: [ثم ضربَ بِهما]-أي ضرب بيديه الأرض- وهذه

هي السُّنة: أنه يضرب على الأرض، فإن كانت الأرض صلبة كالحجر، ونحوه فإنه يمسح عليه، ولا يضرب. قوله رحمه الله: [مُفرّجَتيْ الأصَابِع]: قالوا: لأن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وصف عمار رضي الله عنه تيمّمه بقوله: [ضرب] والضرب لا يكون إلا في الأرض التي لها غبار، فدلّ على أنه قاصدْ للغبار، وإذا قصد الغبار فإنه يفرج بين أصابعه حتى يتخلل ما بينها، وقد تقدم الجواب عن هذا. قوله رحمه الله: [يَمْسَحُ وجْهَهَ بِباطِنها]: أي: باطن الكفين. قوله رحمه الله: [وكفيه بِراحَتَيْهِ] أي: ويمسح كفّيه براحتيه، والراحتان: مثنى راحة، وراحة الكفِّ بطنه من مجمع الأصابع عند باطن الكفِّ إلى الزندين، فيكون المسح بباطنِ الكفّين لظاهرهما. قوله رحمه الله: [ويُخلّلُ أصَابِعَه]: تقدم معنا معنى التخليل في الوضوء، والمراد هنا: أنه يستوعب كفيه بالمسح ... والله تعالى أعلى، وأعلم.

باب إزالة النجاسة

باب إزالة النجاسة قوله رحمه الله: [باب إزالة] الإزالة: المحو، وزوال الشيء: ذهابه. والنجاسة مأخوذة من النجس، وهو الشيء المستقذر، والمراد بها النجاسة الشرعية أي: التي حكم الشرع بقذارتها، ووجوب إزالتها لعبادة صلاة، ونحوها كالطواف بالبيت. [باب إزالة النجاسة]: أولاً: ما مناسبة هذا الباب للباب الذي قبله؟ والجواب: أن المصنف رحمه الله شرع في هذا الباب في بيان النوع الثاني من أنواع الطهارة، وهو طهارة الخبث بعد بيانه للنوع الأول منهما، وهو طهارة الحدث، وطهارة الحدث السابقة بيّن فيها الوضوء، ونواقضه، والغسل، وموجباته، والبدل عنهما، وهو التّيمم، وبعد الفراغ من بيان جميع ذلك ناسب أن يعتني ببيان النوع الثاني من الطهارة، وهو طهارة الخبث، وهذا النوع يتحقق بإزالة النجاسة عن الثوب، والبدن، والمكان، وهو ما سيبينه رحمه الله. ثم إنّ الشرع قد أمر بإزالة النجاسة عن بدن المصلي، وثوبه، والمكان الذي يصلي فيه. أما أمره بإزالة النجاسة عن البدن فيدل عليه قوله عليه الصلاة والسلام كما في الصحيح: [إِغْسِلي عَنْكِ الدمَ، وصلّ] فأمرها بطهارة بدنها من نجاسة الدم، وكذلك قوله كما في الصحيح: [إِذَا إسْتَيقظَ أحدُكمْ منْ نومِه

فليغسلْ يدَيه ثَلاثاً قبلَ أنْ يُدخلَهما في الإِناءِ] وغير ذلك من النصوص الواردة. وأما طهارة الثوب فقد أشار الله تعالى إليها بقوله: {وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ} فأمر بطهارة الثوب للصلاة، وأما طهارة المكان فقد أمر بها النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كما في الصحيح في قصّة بول الأعرابي لما بال على أرض المسجد حيث قال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: [أَرِيقُوا عليه سَجْلاً مِنْ مَاءٍ] وكذلك أمر المصلي في نعليه إذا وجد فيهما الأذى أن يدلكهما. فهذه النصوص تدل على وجوب إزالة النجاسة في الثلاثة المواضع في: البدن، والثوب، والمكان، ثم إزالة النجاسة إما أن تكون بالماء، وإما أن تكون بما في حكم الماء في صور مخصوصة، فإزالة النجاسة بالماء هي الأصل؛ لأن الله -تعالى- بيّن في كتابه، وعلى لسان رسوله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أن الماء أصل المطهرات؛ فقال تعالى: {وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُورًا} (¬1) أي: طاهراً في نفسه مُطهراً لغيره، وقال عليه الصلاة والسلام في ماء البحر: [هُو الطَهُور مَاؤُه] فدلّ هذا على أن الماء هو الأصل في التطهير، وقد يكون التطهير بشيء في حكم الماء في صور مخصوصة، مثال ذلك: طهارة الخارج من السبيلين تكون بكل طاهر كالتراب، والحصى، والمنديل. قوله رحمه الله: [يُجْزِئُ في غَسْل النّجاساتِ كلّها إِذا كانتْ عَلى الأرضِ غسلةٌ واحدةٌ]: يجزئ: أي يكفي، وقوله: [في غَسْلِ النّجاساتِ] أي: ¬

(¬1) الفرقان، آية: 48.

في تطهير النجاسة إذا كانت على الأرض، مثال ذلك: لو وقع بول على أرض مسجد، وكانت من تراب، يجزئ في طهارتها أن يَصبّ المكلفُ صبّةً من ماء تكون أكثر من البول، أما إذا كانت مثله، أو أقل، فإنها لا تُجزئ، إنما تكون مجزئة إذا كانت أكثر من النجاسة، ولذلك قال -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: [أَريقُوا عليه سجلاً منْ ماءٍ] وذلك في تطهير موضع بول الأعرابي، وفي رواية: " دلواً مِنْ مَاءٍ " ووجه الدلالة من الحديث: أن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لم يقل: أريقوا عليه ماءً، ولكن قال: " سجلاً " فدل على أن المكاثرة مطلوبة، وأنه لا يكفي أن تَصُبّ أيُّ ماء، بل لا بد من أن يكون أكثر من النجاسة المصبوب عليها، وجه ذلك في قوله: " سجلاً " فإن السجل كما هو معلوم الدّلو، بل قال بعض شراح الحديث: هو الدلو الكبير، وإن كان ظاهر الحديث السجل العرفي، وهو الدلو المعتاد، فإن الدلو إذا نظرت إليه قرابة السطل، وقرابة السطل إذا صببته على بول فإنه أضعاف البول، وهذا يدل على أن النجاسة تطهر بالمكاثرة، وعليه فيكون قول المصنف: [غَسْلةٌ واحدة] ليس هو على إطلاقه بحيث يشمل أيّ صبة، بل لا بد من أن تكون أكثر من النجاسة بحيث يغلب على ظنك أنها تزيلها، وهذا ما أكده بقوله بعد ذلك: [تذهب بعين النجاسة]، وهذا الحكم من سماحة الشريعة، ويسرها، ورحمة الله -عز وجل- بالعباد، فإنك إذا نظرت إلى النجاسة إذا أصابت الأرض الترابية في مسجد، أو غرفة فإنه لا يمكن للمكلف أن يقلع التراب ويغسله مثل ما يفعل بثوبه، ولو أمر بذلك لكان فيه حرج، ومشقّة، فقال عليه

الصلاة والسلام: [أَرِيقُوا عليْه سَجْلاً منْ ماءٍ] فدلّ على سماحة الشريعة، ويسرها، فإنّ صَبَّ الماء على هذا الوجه أرفق بالناس. وقوله رحمه الله: [غسلة واحدة]؛ لقوله عليه الصلاة والسلام: [أَرِيقُوا عليْه سَجْلاً منْ ماءٍ] فلم يشترط سجلين، أو ثلاثة، فدلّ على أنّ الواجب، والمجزئ صبّةٌ واحدةٌ بشرط ما قدمنا، وهو أن تكون أكثر من النجاسة بحيث يحصل بها التطهير، وهذا الشرط أشار إليه المصنف رحمه الله بقوله: [تَذْهَبُ بِعَيْنِ النّجاسةِ]: فلا بد من كونها تذهب بالنجاسة فلا يجزئ ما كان أقل من النجاسة، أو مثلها بحيث لا يغلب على الظن زوالها به، فيلزمه أن يزيد عليها فتكون أكثر من صبة إذا لم تزل؛ لأن الشرع قصد إزالة النجاسة، فإذا بقي أثرها كان صب الماء وجوده، وعدمه على حدٍّ سواء في إزالتها، ولذلك لا بد من أن يكون الماء المصبوب أكثر من النجاسة حتى تحصل غلبة الظن بزوالها، هذا كله إذا كانت الأرض ترابية، أما إذا كان ما على الأرض من القماش، ونحوه مما يُمكن رفعُه، وغسله، وتطهيره فإنه حينئذ يُرفع، ويُغسل؛ كالثوب؛ ولذلك يرفع القدر الذي أصابته النجاسة، ويصب عليه الماء هذه طريقة، أو يعصره إذا أمكن عصره، وأما إذا لم يمكن عصره مثل ما هو موجود الآن من السجاد البساط الموكيت، ونحوه مما يشقُّ فيه العصر فإنه يكفيه صب الماء، ثم يسحبُ، ويُشْفَط، أو يُنْصَبُ، ويجفّفُ حتى يغلب على ظنك أن النجاسة قد زالت، لأن مكاثرة الصبّ تُذهب عينَ النجاسة، وأثرها، ولا يشترط أمر زائد على ذلك.

قوله رحمه الله: [وعَلى غَيْرِها سَبعٌ، إحداها بترابٍ في: نجاسَةِ كلبٍ، وخنزيرٍ]: عندنا النجاسات إما مخصوصة، وإما عامة، فالنجاسة التي تقع على أرض المسجد صورة مخصوصة قلنا يكفى فيها غسلة واحدة تذهب بعين النجاسة، ولا يشترط العصر في ذلك كما ذكرناه. ثم يليها من المخصوصات نجاسة الكلب، والخنزير: أما نجاسة الكلب؛ فورد فيها حديث أبي هريرة، وعبد الله بن مُغفلٍ رضي الله عنهما الثابتان في الصحيح أنّ النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال: [طُهُورُ إِناءِ أحدِكُمْ إِذا ولغَ فِيه الكلبُ أنْ يَغسِلَه سبعَ مَرّاتٍ] في رواية " إِحدَاهُنّ "، وفي رواية " أولاهُنّ بالتّرابِ " وفي رواية " وعَفّروهُ الثامِنَة بِالتُّرابِ " هذا الحديث دل على مسائل: المسألة الأولى: أنه إذا ولغ الكلب في الإناء، والولوغ أن يُدخل رأسه فيشرب من الإناء، أو يلحسه بلسانه، فإنه يجب غسله سبع مرات إحداهن بالتراب، وفي التراب ثلاث روايات رواية: " أولاهُنَّ " وصورتها أن تأخذ كفاً من تراب، وترميه في السطل، أو الماعون الذي ولغ الكلب فيه، ثم إذا رميت هذا الكفّ من التراب صببت الصبة الأولى من الماء، ثم الثانية، والثالثة، والرابعة، والخامسة، والسادسة، والسابعة، ويطهر الإناء بذلك، هذا إذا كانت غسلة التراب الأولى. وأما رواية: " إحداهُن " فهي مطلقة، إن شئت في الأولى كما ذكرنا، وإن شئت صببت الماء وغسلت الإناء الغسلة الأولى، ثم ترمي التراب بعد الغسلة الأولى، ثم تصب الماء للغسلة الثانية، فيكون التراب في الثانية،

وهكذا بقية الغسلات بشرط أن لا تتأخر عن الغسلة السابعة من الماء لأنها إذا تأخرت بعد السابعة إحتاج إلى غسلة ماء ثامنة، وهي زائدة على النصِّ. أما رواية: " عَفّروه الثامنة " فهي محل إشكال؛ لأنّ الظّاهر أنّ معناه أنْ يكون بعد غسله سبع مرات يصبّ التراب، ثم يحتاج إلى ماء بعد التراب، وهو قول شاذٌ قال به بعض السلف، والصحيح أن قول: " عَفّروهُ الثامنة بالترابِ " أنها ليست غسلة ثامنة في الترتيب، وإنما هي ثامنة من حيث العدد، فتشمل جميع الصور السابقة في رواية " أولاهُنَّ "، و " إِحْدَاهُنَّ "، ولا تشمل الصورة الشاذّة التي تفهم من ظاهرها، وبهذا يكون معناها أن يكون التراب في إِحدى الغسلات فيما قبل الغسلة الأخيرة، فهو غسلة ثامنة من حيث العدد، والحساب لا أنه يكون غسلة ثامنة ترتيباً، وبهذا يزول الإشكال، وتتفق الروايات، ولا تتعارض. وتلخص مما سبق: أن الحديث دلّ على وجوب غسل الإناء سبعاً، وتعفيره الثامنة بالتراب على الصّفة التي ذكرناها، متى؟ إذا حصل الولوغ، وينبني عليه: أنه لو أدخل رأسه، ولم يصب لسانه الماء، أو الإناء، فإنه لا يجب الغسل، ويبقى الإناءُ على أصله من كونه طاهراً، بمعنى أنه لا يكفى أن يدخل رأسه فقط، بل لا بد أن يلغ وهذا هو مفهوم الشرط في قوله عليه الصلاة والسلام: " إِذا وَلَغَ " فقيّد الحكم بوجود الولوغ. إذا ثبت أن الكلب يجب غسل ما ولغ فيه سبعاً، والثامنة بالتراب؛ فإنه يرد السؤال: هل الحكم مخصوص بالكلب؟ أو يُقاسُ عليه غيرُه؟

قال بعض العلماء: يُقاس على الكلب غيره، فلو أن خنزيراً أدخل رأسه، وولغ في الإناء يغسل سبعاً والثامنة بالتراب، وهذا مذهب الحنابلة كما نصّ عليه المصنف رحمه الله، وهو قول مرجوح، والصحيح أن الحكم يختص بالكلب، وأما الخنزير فإنه لا يأخذ هذا الحكم. والدليل على ذلك: أن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- نصّ على الكلب وحده، وكان الخنزير موجوداً في زمانه، فلو كان يأخذ حكم الكلب لنصّ على ذلك عليه الصلاة والسلام ولقال: (والخنزير)، فاقتصاره على الكلب يدل على أن الحكم مختص به، وأنه لا يقاس عليه غيره. قال رحمه الله: [ويُجْزِئُ عَنِ التُّرابِ أشْنانٌ، ونَحوُهُ]: لا زال المصنف -رحمه الله- يتكلم عن طهارة الإناء إذا ولغ فيه الكلب، وقد ذكرنا في المجلس الماضي أنّ النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أمر بغسل الإناء إذا ولغ فيه الكلب سبعاً، وأن يكون ضمن غسلات الماء غسلةٌ بالتراب، فقال -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: [طُهُور إِناءِ أحدِكمْ إذا وَلغ فيهِ الكلبُ أنْ يَغْسلَه سبعَ مراتٍ أُولاهُنَّ -وفي رواية- إِحداهُنَّ بالتُّرابِ] وإذا ثبت أن الكلب إذا ولغ في الإناء وجب غسله سبعاً، والثامنة بالتراب. فإنه يرد السؤال: هل التراب مُتعينٌ، فلا يُجزئ عنه غيره، أم أنه غير متعين؟ في مذهب الشافعية، والحنابلة رحمهم الله، وهم الذين يقولون بالتسبيع، والتتريب ثلاثة أوجه:

الأول: أنه متعيّن؛ إلا إذا لم يجد غيره، فيحل محله الأشْنانُ، ونحوه. والثاني: أنه غير متعيّن فيحل محله الأشنان، فالمكلف مخيّر إن شاء وضع التراب، وإن شاء وضع غيرَه. والثالث: أنه متعيّن، ولا يحل غيرُه محله، سواء وجد التراب، أو لم يجده. وأقوى هذه الأوجه الأول، فإذا لم يجد تراباً نظر إلى ما هو أقرب إليه، وهو الأُشنان، والصابون، ونحوه، ومشى المصنف رحمه الله على القول بعدم التّعيين، وينبني عليه أنّ المكلف إِنْ شاء غسله بالتّراب، وإن شاء غسله بالأشنان، فهو مخيّر، ولا يتعيّن عليه التراب. قوله رحمه الله: [وفِي نجاسَةِ غَيْرِهِمَا سَبْعٌ بِلا تُرابٍ]: قوله: [وفي نجاسَةِ غيرهما]: أي غير الكلب والخنزير تغسل النجاسة سبع مرات بلا تراب، وللعلماء رحمهم الله في هذه المسألة ثلاثة أقوال: القول الأول: لا يجزي أقل من ثلاث غسلات، وهذا القول وجه عند الحنابلة، واختاره الإمام الموفق ابن قدامة كما هو ظاهرُ العمدة. القول الثاني: جميع النجاسات من غير الكلب، والخنزير يجزيء أن تَصبَّ عليها صبةً واحدةً تُذْهِبُ عينَ النجاسة، وأثرَها، وهذا القول مذهب جمهورِ العلماء، واختاره شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمة الله على الجميع-. القول الثالث: لا بد في التطهير بسبع غسلات، فلو غسلت بأقل لا زال المحل نجساً، وهو إحدى الروايات عن الإمام أحمد رحمه الله، وهي التي مشى عليها المصنف رحمه الله هنا في اختصاره. وعند النظر في أدلة هذه الأقوال الثلاثة يتخلص ما يلي:

أن أصحاب القول الأول إستدلوا بما ثبت في الصحيحين من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أنّ النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: [إِذَا استيقظَ أحدُكمْ مِنْ نَومِه؛ فَليغسِلْ يَديْهِ ثلاثاً قبلَ أَنْ يُدْخِلَهُما في الإِنَاءِ]، قالوا: إن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أمر بغسل اليدين ثلاثاً قبل إدخالهما الإناء؛ فدلّ على أن النجاسة لا تزول إلا بثلاث غسلات تزول بها النجاسة. والحق أنك إذا غسلت ثلاثاً فإنك ترى أن النجاسة قد زالت في غالب الأحوال، والحكم في الشرع إنما يُنَاط بالغَالبِ. واستدل أصحاب القول الثاني: بأن الصبّةَ الواحدةَ التي تذهبُ بعين النجاسة مجزئة بدليل السنة في حديث أنس بن مالك رضي الله عنه في الصحيحين في قصة بول الأعرابي، ووجه الدلالة: أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: [صُبوا عليْهِ ذَنوباً منْ مَاءٍ] ووجه الدلالة: أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اعتبر الصبة الواحدة مجزئة فدل على أن غسل النجاسة مرة واحدة يعتبر كافياً إذا أذهب عينها. واستدل الذين قالوا: بالسبع بحديث أيوب بن جابر، وهو حديث ضعيف: [أنّ النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أمرَ بغسْلِ النجاسةِ سَبْعاً]. والذي يترجح في نظري، والعلم عند الله هو القول الأول، وذلك لما يلي: أولاً: لظاهر حديث أبي هريرة -رضي الله عنه-، فإنك إذا نظرت في حديث أبي هريرة رضي الله عنه مع أن النجاسة مشكوك فيها، يقول عليه الصلاة والسلام: [فَلْيغسِلْ يديْهِ ثلاثاً قبلَ أَنْ يُدخِلهُما فِي الإِناءِ].

ثانياً: أما حديث الأعرابي الذي فيه صبّة واحدة، فمحمول على الخصوص لأن الأرض لا يمكن عصر النجاسة التي عليها كما تقدم معنا في شرح الحديث، فنقول: الأصل التثليث إلا إذا كانت النجاسة على الأرض فصبّة واحدة تذهب بعينها، فنستثني هذا الخاصَّ من العامِّ. ومما يقوي دليل التثليث: أنّ النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أمر من ذهب إلى الغائط أن يأخذ ثلاثة أحجار، وهذا يقوي الأصل الذي ذكرناه من التثليث. ثم إن شاهد الحس أن الغالب في الثلاث أنها تزيل النجاسة فصار الإعتداد بها لأن الحكم للغالب. تنبيه: محلُّ الخلافِ: إذا زالت النجاسة في كل قول بحسبه، أما إذا لم تزل النجاسة بثلاث، فإنه بالإجماع يطالب بالزيادة عليها حتى تزول، فهو مطالب بإزالة النجاسة حتى ولو وصل إلى عشر غسلات عند الجميع. قوله رحمه الله: [ولا يَطْهُر متنَجّسٌ بِشمسٍ، ولا بِريحٍ، ولا دَلْكٍ] مراده رحمه الله: أن إزالة النجاسة تكون بالماء على الأصل، ولا يحصل إزالتها بالتبخر بالشمس أو بالريِح، أو بالدّلك، ومن أمثلة ذلك: لو أنك رأيت النجاسة قد أصابت طرفاً من الأرض تصلي عليه، ثم هذا الموضع أصابته الشمس أياماً، ثم إنك وقفت عليه بعد ذلك فلم ترَ أثراً للنجاسة فقد زال أثر النجاسة عنه بالشمس فهل نحكم بطهارته، إختلف العلماء رحمهم الله في هذه المسألة على قولين: القول الأول: أن النجاسة لا تطهر بالشمس، بل لا بد من الغسل، وبه قال جمهور العلماء رحمهم الله.

القول الثاني: أن النجاسة تطهر بالشمس، وبه قال الإمام أبو حنيفة، واختاره شيخ الإسلام رحمه الله. إستدل أصحاب القول الأول بما ثبت في الصحيح في قصة الأعرابي أنه لما بال في المسجد قال عليه الصلاة والسلام: [أَرِيقُوا عَلى بَوْلِهِ سَجْلاً منْ ماءٍ] قالوا: لو كانت الأرض تَطْهُر بالشمس لما أمر النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- الصحابة بأن يتكلفوا بصبّ الماء على الموضع، ولترك الموضع حتى يطهر بالشمس خاصة، وأن أكثر مسجده عليه الصلاة والسلام لم يكن مسقوفاً، والغالب أن البول يكون في غير المسقوف، لأن الغالب في الأعرابي في مثل هذه الحالة أن يقصد الموضع المكشوف من المسجد، دون المسقوف. واستدل أصحاب القول الثاني بأن الشّمس تُطهّر كالماء بدليل العقل، وقالوا: " إِنّ الحُكْمَ يدورُ مع علتهِ وجُوداً، وعَدما " فلما كان حكمنا بنجاسة الثوب مبنياً على وجود النجاسة في الثوب؛ فإنه ينبغي أن يزول هذا الحكم بزوال النجاسة، وقد زالت بالشمس، فنرجع إلى الأصل الموجب لطهارة الموضع. والذي يترجح في نظري , والعلم عند الله هو القول بعدم التّطهير بالشمس، وذلك لما يلي: أولاً: أنّ الأصل في الطهارة أن تكون بالماء، وهو الذي دلت عليه نصوص الشريعة: ففي الكتاب قوله تعالى: {وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُورًا} أي: مطهراً، وفهم منه بعض العلماء رحمهم الله: أن التطهير لا يكون بغيره؛ إلا ما استثناه الشرع، ولم يرد في الشمس إستثناء فبقيت على الأصل.

ثانياً: قوة ما ذكره أصحاب هذا القول من دليل السنة. قوله رحمه الله: [ولا رِيحٍ] أي لا يطهر الموضع المتنجس بالرّيح إذا أذهبت الريح النجاسة، مثال ذلك: لو أن إنساناً أصابت ثوبه نجاسةٌ، فنشره، فجاءت الريح وعبثت بالثوب حتى لم يبق للنجاسة أثر في الثوب؛ فحينئذٍ نقول: إن جريان الريح لا يوجب زوال الوصف المستيقن من كونه نجساً، بل لا بد من الغسل. قوله رحمه الله: [ولا دَلكٍ] مراده أن الدّلك لا يُزيل النجاسة، وهذا هو الأصل فيه: أنه لا يزيل النجاسة إلا أن الشرع استثنى بعض الأحوال، فاعتبره مزيلاً فيها، ومن هنا فإن للدّلك حالتين: الحالة الأولى: ثبت الشرع باعتبارها مُطَهِّرةً. والحالة الثانية: بقيت على الأصل من كون الموضع لا يطهر إلا بالغسل. أما الحالة التي ثبت الشرع باعتبار الدّلك فيها مطهراً فهي في نجاسة الحذاء، وثوب المرأة؛ ففي الحديث الصحيح عن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أنه أمر بالصلاة بالنعال، ومخالفة اليهود فقال: [صَلُّوا في نِعَالِكُمْ] ثم قال: [فإِنْ وجَدَ أحَدكُم فِيهما أذَىً فليدْلكهما بالأرض، ثم ليُصلِّ فِيهِما]، فدل هذا على أن النجاسة تطهر بالدّلك، لعموم الأذى. ولما سُئل -عليه الصلاة والسلام- عن ثوب المرأة يصيب النجاسة عند جرّها له؛ لأن السُّنة في المرأة إذا لبست العباءة أن تكون سابغة بحيث تزيد إلى شبر، أو ذراع، وهذا أبلغ في السّتر، وهذه سنّة أضاعها كثير من نساء المؤمنين خاصةً في هذا الزمان، فلما سُئلَ عما يُصيبهُ ذلك الثوب من النجاسة فقال:

[يُطَهّرهُ ما بَعْده] يعني: لو مرّت المرأة بعباءتها على نجاسة، ثم مرّت على موضع يابس أو على تراب يابس؛ فإن احتكاك هذا الثوب بالتراب يعتبر منظفاً له، كما لو صبّ الماء عليه، ولما كان الصحابة رضي الله عنهم يعلمون أنه سيمر على تراب، واستنكروا بقاء هذه النجاسة مع كونه يمرُّ على تراب دلّ هذا على أن الأصل في النجاسات أنها تغسل، إِذْ لو كانت بكل طاهر تزول لما استشكل الصحابة رضي الله عنهم كون المرأة تمرُّ بعباءتها، وتجرها على الأرض اليابسة. إذا ثبت هذا؛ فإن الدّلك في الأصل غير مزيل للنجاسة إلا ما ورد الشرع باعتباره فيه مزيلاً كما في مسألة الحذاء، وثوب المرأة. قوله رحمه الله: [ولا استحالة غير الخمرة]: الإستحالة: إستفعال من التحوّل، وهو الانتقال، والتبدل، والإستحالة تكون بنفس الشيء فتتحول المادة النجسة مع مرور الزمن إلى طاهرة، وقد تتحول بفعل فاعل. فأما ما كان من الإستحالة ناشئاً من نفس الشيء فالأصل أنه متنجس لا يحكم بطهارته إلا بالغسل إعمالاً للأدلة الشرعية التي أمرت بغسل النّجس، إلا أن الشرع استثنى الخمر إذا تخلّلت بنفسها كما سيأتي بإذن الله. وأما ما كان من الإستحالة ناشئاً من فعل المكلف؛ فإنْ كان بصبّ الماء الطهور، أو الطاهر على الماء المتنجس بأكثر منه حتى يغلب على الظن تغيّره به، فإن كان طهوراً صار الماء المتنجس طهوراً بالمكاثرة، وإن كان طاهراً صار طاهراً كذلك، وهذا النوع راجع إلى تطهير النجاسة بالماء، ولا إشكال فيه، وقد ثبتت السنة باعتبار أصله، كما في حديث أنس رضي الله

عنه في الصحيحين في قصّة بول الأعرابي حيث إن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إعتبر التطهير بالمكاثرة، فصب الطهور على النجس، وكان الطهور أكثر فاعتبره مطهراً، فدلّ على اعتبار المكاثرة مؤثرة في الحكم بالطهارة وزوال النجاسة. قوله رحمه الله: [غير الخمرة] غير: استثناء، الخَمْرةُ: والخَمرُ مأخوذ من قولهم: خمّر الشيء: إذا غطاه وستره، ومنه الخمار، إذا غطى الوجه، وسميت الخمر خمراً، لأنها -والعياذ بالله- تغطي عقل الإنسان، وتذهب إدراكه، وشعوره، والخمرة تكون مائعة في الأصل، ولكن العلماء إذا أطلقوا الخمر، فإن مرادهم بها الشراب المائع، الذي يكون من العنب، والتمر، والزبيب، وغيره من سائر الثمار، فهذه الخمرة محكوم بنجاستها، وقد تكلمنا على هذه المسألة، وفصلنا القول فيها في شرح بلوغ المرام، فإن الذين قالوا بنجاستها، وهم جماهير العلماء حكموا بالنجاسة لظاهر القرآن في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ} (¬1) والرِّجْس: هو القذر في أصل اللغة، والقذر في الشرع أصله النّجس، وقالوا خرجت الأزلام، والأنصاب، فأما الأنصاب فإنها نجسة، لأنها كانت حجارة يذبح عليها كما قال تعالى: {وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ}، فيكون الدم المسفوح النجس قد أصابها فهي نجسة، والميسر، والأزلام خرجا من وصف النجاسة الحسّية بدلالة الحسِّ، وأما بالنسبة للخمر ¬

(¬1) المائدة، آية:90.

فليس هناك دلالة تخرجها فبقيت على الأصل، وهي مستقذرة فتبقى على وصف الرّجس في الشرع، والشرع قد خصّ الرجس بالنّجس، فخَصّص الحقيقة اللغوية به. واستدل من قال بطهارة الخمر: بأمر النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بإراقة مزادتي الخمر فإنه أمر الصحابي أن يُريقَ الخمرَ من المزادتين، قالوا: ولم يأمره بغسلهما، وهذا استدلال ضعيف كما نبّه عليه غير واحد من أهل العلم، فإن سكوت النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عن أمره بغسل مزادة الخمر؛ إنما سكت للعلم به بداهة، فإنك إذا وضعت في هذه المزادة لبناً، وأرقت اللبن ماذا تفعل؟ معلوم بداهة أنك ستغسلها، فسكت -عليه الصلاة والسلام- عن الأمر بالغسل لكونه واقعاً لا محالة. وقال بعض العلماء في جوابه: لو قيل بظاهر سكوت النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أنه يدل على خلوها لاحتج بذلك محتج، وقال: يجوز لمن أخذ مزادة الخمر بعد تفريغها، وصبَّ فيها لبناً قبل غسلها؛ فإنه لا ينكر عليه؛ لأن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لم يأمر بغسلها، فيكون الجواب: بأنه سكت عن الأمر بغسلها للعلم به بداهة، فكما أنه في المشروبات المباحة نأمر بالغسل، ونقول سكت عنه للعلم به بداهة، كذلك هنا نقول: سكت عن الأمر بغسل نجاسة الخمر للعلم به بداهة، فهو يعلم عليه الصلاة والسلام أن صاحبها سيغسلها لا محالة، فلم يأمره بالغسل، ولم يصحّ الإستدلال بسكوته عن أمره بذلك على طهارة الخمر.

وأما صبّها في سكك المدينة فقد بيّن العلماء أن هذا لا يدل على طهارتها؛ وذلك لأنّ الصحابة رضي الله عنهم إذا صبّوها في سكك المدينة فإن الغالب فيهم أنهم يتقونها، ولو فرض أنهم مشوا عليها بالنعال، فإن المشي على الأرض اليابسة بعد ذلك يطهّر النِّعال، ولو أن امرأة جرّت ثوبها على خمرة مُرَاقةٍ، ثم مضت بعد ذلك إلى أرض يبسة؛ فإنها تطهره بذلك الجرِّ، وبناءً على ذلك لا يعتبر هذا دليلاً قوياً كما نبّه عليه الشيخ الأمين -رحمة الله عليه- وله فيه بحث نفيس في تفسير آية المائدة: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ} وبيّن أن قول الصحابي: [جَرتْ بِها سِكَكُ المدينةِ] وصف فيه مبالغة، وليس على ظاهره، فأقوى الأقوال القول بنجاستها، وهو مذهب جماهير السلف، والخلف، حتى قال شيخ الإسلام رحمه الله: (الخمر نجسة باتفاق الأئمة الأربعة) ولم يحك قولاً مخالفاً في نجاستها. وقال بعض العلماء: في إِستدلالهم على طهارة الخمر بدليل غريب حيث قال: إن الله تعالى يقول: {وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَابًا طَهُورًا} (¬1) فوصف الخمر بكونها طهوراً، وقد فاته أن الله -عز وجل- حكم بأن خمر الآخرة لا غولٌ فيها، والغَول، والكحول هو أساس نجاسة الخمر في الدنيا، فإذاً نجاسة الخمر في الدنيا مبنيّة على وجود هذه المادة التي تستحيل إذا صارت الخمر خلاً، ويُحكم بطهارته، ولما كانت خمر الآخرة طاهرة من جهة عدم وجود الغول فيها قال تعالى: {وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَابًا طَهُورًا} وقلب بعض العلماء هذا ¬

(¬1) الإنسان، آية: 21.

الإستدلال فقال: بل هو دليل على نجاستها؛ لأنه لو كانت خمر الدنيا، والآخرة متساويتين لما قال: {وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَابًا طَهُورًا} فلما كانت خمرة الدنيا نجسة وصف خمر الآخرة بعكسها، كما أنه لما كانت خمرة الدنيا تصدّع الرأسَ، وصف خمرة الآخرة بضدّها فقال سبحانه: {لَا يُصَدَّعُونَ عَنْهَا وَلَا يُنْزِفُونَ} فصار الإستدلال بهذه الآية مقلوباً، حيث دلَّ على نجاسة الخمر، لا على طهارتها. وإذا ثبت أن الخمر نجسة فإنها إذا إِستحالت، وصارت خَلاً فلا تخلو تلك الإستحالة من حالتين: الحالة الأولى: أن تتخلّل بنفسها. الحالة الثانية: أن تتخلّل بفعل المكلّف. فإن تخلّلت بنفسها؛ فإنها تطهر؛ لدليل الشرع كما في الصحيح من حديث مسلم أن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال: [نِعْمَ الإِدَامُ الخلُّ] فأثنى عليه، والثناء يدلُّ على الإباحة، فأجاز لك أن تأتدم بالخل، والخل: أصله خمر، إذا ثبت هذا، فإنها إذا تخلّلت بنفسها طَهُرَتْ على ظاهر هذا الحديث. فقد يقول قائل: إن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أثنى على الخلّ مطلقاً، سواء تخلّل بنفسه، أو تخلّل بفعل المكلف؛ فجوابه ما رواه أحمد، وأبو داود أنّ النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: [نهى عَن تَخلِيلِ الخمْرِ]، وذلك لما سئل عن تخليلها، وقال: " لا " وأمر أبا طلحة في خمر الأيتام أن يُريقَ الخمر، ويَكْسِر الدِّنَّان وهي أوعية الخمر، ومعلوم أن هذا مال أيتام، فلو كانت الخمر تتخلّل بفعل المكلف لقال له: خَلّلْهَا؛ لأنه مال يتيم يُحفظ، ولا يُراق إذا أمكن استصلاحه، وبهذا يزول

الإشكال، ويتبيّن أن الحديث الدّال على حلِّ الخل، وإباحته شرطه أن تكون الخمرة قد تخلّلت بنفسها، لا بفعل الغير. قوله رحمه الله: [أو تَنجّس دهنٌ مائعٌ؛ لم يَطْهُرْ] الدهن مثل: السمن، والزيت، والسّمنُ من أمثلته: ما يُستخلص من الشحوم من بهيمة الأنعام، والزيت مثاله: ما يُستخلص من النباتات، مثل زيت الزيتون، والسِّمْسِم، واللّوز، ونحوه، فالدهن إذا كان سمناً جامداً، ووقعت فيه نجاسة، فالحكم أنك تأخذ النجاسة وما حولها، لظاهر حديث الفأرة إذا ماتت في السمن الجامد، فإن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أمر بإلقائها، وما حولها، فدلّ هذا على أنّ الدهن إذا كان جامداً طَهُر بزوال عين النجاسة بإلقائها، وما حولها. وأما إذا كان مائعاً، ووقعت فيه النجاسة فإنّ المصنف رحمه الله نصّ على أنه متنجس لا يَطْهُر، وهذا مبني على القول بأن نجاسة الدهن نجاسة ممازجة، وقد بيّنا هذه المسألة في الشروح في دروس الجامعة وأن للعلماء رحمهم الله قولين مشهورين فيها: هل نجاسة الدهن نجاسة عين، أو نجاسة مجاورة؟ فعلى القول الأول لا يمكن تطهيره، وهو مبنيّ على حديث الفأرة في روايته الضعيفة أنه إذا كان الدهن مائعاً لا يُقْرب، وهو قولٌ عند المالكية، والشافعية، والحنابلة رحمهم الله، ونصّ عليه المصنف رحمه الله، بقوله: [دُهنٌ مائعٌ]. والقول الثاني عندهم جميعاً يقول: نجاسة الدهون نجاسة مجاورة، لا نجاسة عين، لأن النجاسة إذا وقعت في السمن انحازت، وتميزت عنه، فلو وقعت في زيت وجدتها تَنْحازُ، ولا تختلط به، قالوا: فنجاسته نجاسة مجاورة،

ونجاسة المجاروة ليست كنجاسة العين التي تحصل بها الممازجة بين النجس والطاهر كما نشاهده في البول، حينما يقع في الماء، فإنه يتحلّل فيه ويمتزجا كالشيء الواحد، ففرّق العلماء بين النجاسة بالمجاورة وهي التي يكون فيها جرم النّجس منفصلاً عن الطاهر، وبين النجاسة التي تمازج الطاهر. إذا علمنا أن عندنا قولين فما هو أقواهما؟ الذي يترجح في نظري والعلم عند الله هو القول بأن نجاسة الزيوت، والدهون نجاسة مجاورة، وليست ممازجة، فإن دليل الحس ظاهر في قوة هذا القول حيث يشاهد عدم اختلاط النجس بالزيت، وعدم ممازجته له مما يدل على ضعف تأثيره عن الممازج المخالط، فنجاسة هذه المائعات، والدهون نجاسة مجاورة، وليست بنجاسة ممازجة. قوله رحمه الله: [وإِنْ خَفِي موضعُ نجاسةٍ غَسلَ حَتّى يَجزمَ بِزَوالهِ]: مراده رحمه الله أن يجزم بإصابة النجاسة، ووقوعها على الطّاهر، ولكنه لا يستطيع أن يحدّد موضعها حتى يزيلها. مثال ذلك: لو أن إنساناً مرّ على موضع، فتطاير من ذلك الموضع النّجس ذرّاتٌ من نجاسة، وتحقّق أنها أصابت ثوبه، ولكن لا يعلم أين المكان الذي أصابته النجاسة من الثوب؟ وحكمه حينئذ: أنه يجب عليه أن يغسل من ثوبه الموضع الذي أصابته النجاسة بقدر ما يجزم معه أنه قد أصاب فيه موضعها. فلو جزم أن النجاسة أصابت أسفل ثوبه بحدود الربع، ولكن لا يدري: هل هي في الجانب الأيمن من الثوب، أو الأيسر فإننا نقول له: إغسل ربع الثوب

السُّفلي كلّه حتى يَجزم، ويَستيقنَ أنّ ثوبه طاهر، وهكذا بقية الصور والمسائل. قوله رحمه الله: [ويَطْهُر بَولُ غلامٍ لَمْ يَأكُلِ الطعامَ بِنَضْحِهِ] أي أن الشرع خفّف في نجاسة الغلام الذي لم يأكل الطعام، ويدل على ذلك ما ثبت في الصحيحين من حديث أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها أنّ أمّ قيسٍ بنتَ مِحْصَنٍ رضي الله عنها أَتت بِصبِّيها إلى النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فأجْلَسه في حِجْرِه، وكان -صلوات الله وسلامه عليه- يؤتى له بالولود فيحنّكه، ويدعو له بالخير -صلوات الله وسلامه عليه-، وهذا من مكارم خلقه -صلوات الله وسلامه عليه-، فأجلسه في حِجْره، فلما أجلسه بالَ عليه؛ قالت أم المؤمنين رضي الله عنها: " فأخَذَ مَاءً فَرشَّه " وفي رواية " فَنَضَحَه بماءٍ، ولم يَغْسِلْه " كما هي رواية السنن، هذا الحديث دلّ على أن بول الغلام يُنضح، والنضح: أن تأخذ كفّاً من ماءٍ، وتَرشُّه به، وأما الغسل: فإنك تصبّ الماء على الموضع، وتُعمّمه به، فالرّشُ، والنّضْحُ أخفّ من الغسل، فخُفف في نجاسة الغلام، وأكد هذا حديث علي -رضي الله عنه- أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: [يُغسلُ منْ بولِ الجاريةِ، ويُنضحُ منْ بولِ الغُلامِ] هذا القول هو قول الجمهور من العلماء رحمهم الله: إن بول الغلام يُرشُّ، ولا يُغسلُ، وبول الجارية يغسل، وهنا مسائل: المسألة الأولى: أن الحكم يختص بالغلام الذي لم يأكل الطعام أي مدة رضاعه، فإن فُطِمَ فإنه يجب غسله؛ قالوا: إن الحديث الوارد في المسألة نصّ على ذلك بالمنطوق في الذي لم يأكل، ومفهومه: وجوب الغسل في

الذي فُطِمَ، وأكل، وذلك في قولها في الرواية الصحيحة: [لمْ يَأكُلِ الطعامَ]، ولذلك يقولون: إنه إذا فطم يجب غسل بوله كالجارية سواءً بسواء، ثم يرد السؤال عن مسألة وهي: لماذا فُرقَ بين الغلام، وبين الجارية؟ والجواب: أولاً: ينبغي على المكلف أن يسلِّم بالشَّرع، وأن لا يتكلّف البحثَ عن العلل، وأن يتعبّد الله -عز وجل- بما ثبت به دليل الكتاب، والسُّنة؛ قال بعض السلف رحمه الله: على الله الأمر، وعلى الرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- البلاغ، وعلينا الرضا، والتسليم، فمن الإيمان بالله أن المكلف إذا جاءه الحكم قال: سمعنا وأطعنا، غفرانك ربّنا، وإليك المصير، وأثنى الله على هؤلاء الذين يُسلِّمون، ولا يتكلّفون في بحث العلل، والتّقصي فيها. لكن إذا وجدت الحاجة للبحث عن العلّة، كما يفعل العلماء رحمهم الله في النصوص التي تحتمل التَّعليلَ فلا حرج، أما الأصل فهو التّسليم، والرِّضا بحكم الله سواء علمنا العلّة، أو لم نعلمها، ثم إنهم إِختلفوا فيما يظهر لهم في العلّة: فقال بعض العلماء: خُفّف في بول الغلام، وشُدّد في بول الجارية لسبب موجود في ذات البول، فإن بول الجارية أثقل من بول الغلام، فخُفف في بول الغلام دون بولها قبل الفطام، لضعف مادته. والوجه الثاني: أنه خفف لصورة بول الغلام، وذلك أنه لا ينتشر، وبول الجارية ينتشر. وهاتان العلتان ضعيفتان.

أما علة من قال: إن بول الجارية أثقل من بول الغلام فهذا لم يسلّم به حتى إن بعض الأطباء أكدّ ردّه وعدم صحّته. وأما التعليل بالإنتشار، وعدمه، فضعيف لأنه لا فرق في النّجس بين كونه منتشراً، أو غير منتشر فالقطرة من البول منجّسة، سواء انحصرت، أو انتشرت، فالحكم واحد، ثم إن كلا البولين سينتشر بالسّريان فاستوى أن يكون في حاله الأول منتشراً، أو غير منتشر. وأقوى العلل هي قولهم: إن الشرع خفف في بول الغلام أكثر من الجارية؛ لأنهم كانوا يحملون الغلمان أكثر من الجواري في محضر الناس، فتجدهم يحملون الغلمان، لأنهم يستحيون وكانوا يتعاطون الكمال في إخفاء المرأة حتى في حال الصّغر، فكانوا يحملون الصبيان، ويحضرونهم المجالس أكثر، وقد يحضرون الصبية كما في حديث أُمامة لما حملَها النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ولكنّه نادر، والحمل أكثر ما يكون للذكور بالنسبة لمجامع الناس، فخُفّف من أجل المشقة في الصبيان أكثر من الجواري غالباً. هذا بالنسبة لقضية بول الغلام، وبول الجارية. وإذا قلنا إن الحكم يختص بالبول، فإنه لا يسري إلى غيره كالدّم مثلاً؛ لأن الحكم جاء على سبيل الإستثناء فانحصر في الوارد، ولم يلتحق به غيره. قوله رحمه الله: [ويُعْفَى في غيرِ مَائعٍ، ومطْعومٍ عنْ يَسيرِ دَمٍ نَجِسٍ منْ حَيوانٍ طَاهرٍ]: بيّن المصنف رحمه الله في هذه العبارة بعض المستثنيات في باب إزالة النجاسة، وهو يسير الدم، وأن محلّ الإستثناء ألا يكون في مائع، ومطعوم، والدّم نجس، وهو قول جاهير العلماء -رحمة الله عليهم-

لقوله عليه الصلاة والسلام: [إِغْسِلي عَنْكِ الدَّمَ]، وكذلك قوله في دم المرأة المستحاضة: [إِنما ذَلكِ عِرْق] قالوا: فكما أن دم المستحاضة خرج من عرق فسائر دم الإنسان في أصله خارج من عرق، وظاهر القرآن دال على نجاسته كما في قوله تعالى: {أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا ... } إلى قوله: { ... فَإِنَّهُ رِجْسٌ} (¬1) والدم المسفوح يكون من البهيمة عند قتلها، وتذكيتها، ويكون من الآدمي فهو الدم الذي يخرج من الجسد في حال الحياة، ولذلك أجمعوا على أن الدم الذي يخرج عند ذبح الشاة، أو نحر البعير أنه نجس هذا بالإجماع كما حكاه ابن حزم في مراتب الإجماع فقال: " أجمع العلماء على أن الدم المسفوح عند التذكية أنه نجس "، وذلك لظاهر قوله تعالى: {أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا ... } إلى قوله: { ... فَإِنَّهُ رِجْسٌ} فالجماهير لما قالوا بنجاسة الدم قالوا: إن القرآن أطلق فوصف كل دمٍ مسفوح بكونه رجساً، والدم المسفوح: هو الخارج في الحياة؛ لأن الذي عند الذكاة خرج والبهيمة حية، ولذلك إذا سكنت، وماتت بالتذكية؛ فسائر الدم الذي في أجزائها يعتبر طاهراً. والذين قالوا بطهارة الدم إحتجوا بأنه -عليه الصلاة والسلام- نحر الجزور، ثم سلخه، وصلّى، ولم يغسل أثر الدم، وهذا مردود بأن الدم الذي يكون عند السلخ طاهر، ولا يعتبر نجساً حتى يكاد يكون عليه الإجماع، ألا ترى أنه يؤخذ كتف البهيمة، ويُطبخ، ويُشوى، ويؤكل مع أن فيه الدم لكنه ¬

(¬1) الأنعام، آية: 145.

يعتبر طاهراً لأنه خارج بعد الذكاة من غير موضعها، فالإستدلال بهذا الحديث استدلال بما هو خارج عن موضع النزاع. واستدلوا بحديث عبّاد بن بشر رضي الله عنه لما أصابه السهم وهو قائم يصلي في حراسته، فنزعه فنزف قالوا لو كان نجساً لقطع صلاته، وهذا يعارض المنطوق الذي ذكرناه في قوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: [إغْسِلي عَنْكِ الدَّمَ]، وجوابه كما نبّه عليه شراح الحديث في غير ما موضع أن حديث الصحابي رضي الله عنه في النزف، والنزيف سواءً كان بسهم، أو باستحاضة متفق على أنه يُعتبر رخْصَة يعني يصلي الإنسان، ولو جرى معه الدم، كما صلّى عمرُ -رضي الله عنه- وجُرحه يَثْعُب؛ لأنه لا يستطيع إيقافه غالباً؛ وإنما يستقيم الإستدلال بهذه الأدلة أن لو كان الدم فيها من غير نزف بمعنى أنه يمكنه إيقافه، فلو كان كذلك لعارض ظاهر ما ذكرناه من النصوص، ولكنه ليس كذلك، ولذلك لا تعتبر هذه الأدلة حجة على الجمهور؛ لأن الجمهور يقولون: إن المرأة المستحاضة إذا غلبها الدم تُصلي على حالتها، وكذلك الذي معه رعاف لو غلبه الرعاف يُصلي على حالته ولو كان الدم على ثوبه، أو بدنه إذا غلبه، وكان كثيراً؛ لأن التكليف شرطه الإمكان، فليس هذا الدليل في موضع النزاع، وكذلك الإستدلال بما ورد في قصة عمر رضي الله عنه لأنها بصورة النزيف الموجب للرّخصة. ولذلك قال جمهور العلماء: إنّ الدمَ نَجِسٌ، وهو الراجح لدلالة النّصوص القويّة على رجحانه كما قدمنا، ولم يُخالف في ذلك إلا بعض أهل الظاهر، وبعض أهل الحديث رحمهم الله.

وإذا قلنا بمذهب الجماهير بنجاسة الدم، فإنه يُفرّق بين كثيره، وقليله، فقد أجمع العلماء على أن يسير الدم معفو عنه، وفيه حديث ضعيف، وهو حديث الدّرهم البَغْلِي، والصحيح أنه لا يثبت عن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إستثناء هذا القدر؛ وإنما اُستثني بدليل الكتاب، والإجماع أما دليل الكتاب فقوله سبحانه: {أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنْزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ} فلما حكم بنجاسة الدم، وصفه بكونه مسفوحاً، والمسفوح: هو الكثير، ومفهوم ذلك أن اليسير لا يأخذ حكم الكثير المسفوح فاستثني، وتأيد هذا بفعل الصحابة رضي الله عنهم كما صحّ عن عبد الله بن عمر، وعبد الله بن عباس رضي الله عنهم أنهما لم يريا في البثرة شيئاً بل كان أحدهم يعصرها فيخرج منها الدم، ويصلي، ولا يغسلها، وأما الإجماع: فلأن جميع من قال بنجاسة الدم إستثنى اليسير، وإن كانوا قد اختلفوا فيما بينهم في حدِّ اليسير كما تقدم معنا، فهم بهذا متفقون على أن اليسير معفو عنه. ونظراً لدلالة الكتاب، والإجماع إستثنى العلماء رحمهم الله يسير الدم، ولم يحكموا فيه بالأصل، لأنه محلّ العفو من الشرع. ويستوي عند العلماء رحمهم الله في هذا الإستثناء أن يكون قدر الدرهم منحصراً في موضع معين، أو متفرقاً في مواضع، فما دام أنه بمجموعه لا يبلغ قدر الدرهم، فهو يسير، وعفو. ثم إذا قلنا على القول المرجوح في مسألة القُلتين إن التّحديد بهما معتبر، فإن يسير الدم لو وقع في إناء دون القلتين حكمنا بنجاسته، ولا تدخل هذه المسألة معنا، وهذا هو ما أشار إليه المصنف رحمه الله بالتّعبير بالقيد في قوله

[في غيرِ مائع، ومطعومٍ]، وأما على مذهب المالكية، والظاهرية الذي قدمنا رجحانه فإن العبرة بالتغيّر، فإن حصل تغيّر لم يُعفَ، وإلا كان عفواً، والمائع طاهر، وطهور بحسبه. وإذا قلنا: إن يسير الدم معفو عنه؛ فإنه يرد السؤال هل يلتحقُ بغيرِ الدّم غيرُه؟ فمن العلماء من قال: أقْصُر الرّخصةَ على محلّها، فأعفو عن الدم وحدَه، لأنه هو الذي دل عليه دليل الكتاب، وهو الذي فعله الصحابة -رضوان الله عليهم- فيبقى غيره على الأصل. وقال بعض العلماء: ما دامت العلّة التخفيف، وأن اليسير لا يأخذ حكم الكثير، فنطرد ذلك في كل نجاسة، فنقول: يسير النجاسة معفو عنه سواء كان دماً، أو غيره، والمذهب الأول: أرجح، لإعماله لدليل الأصل، وقصر الرخصة على محلِّها، وعليه فإن الحكم باستثناء اليسير يختصّ بالدم وحده، ولا يلتحقُ به غيره من النّجاسات؛ كيسير المَذْي، والودْي، والبول، والغائط، فكلُّها باقيةٌ على الأصل لضعف دليل الإستثناء. قوله رحمه الله: [وعن أَثَرِ استجمارٍ بمَحَلِّهِ]: أي: يُعفى عن أثر استجمار في محلِّه، والمحلُّ المراد به: مخرج البول، والغائط، ومن المعلوم أن الإنسان إذا قضى حاجته؛ فإنه ربما غسل بالماء، وربما استجمر بالحجارة، أما لو غسل بالماء؛ فبالإجماع: أنه يجب عليه غسل الموضع، وإنقاؤه هذا إذا كان بالماء. أما إذا تطهّر بالحجارة فمن المعلوم أن إنقاء الحجارة للموضع ليس كإنقاء الماء، بل لا بد من بقاء أثر للنجاسة في الموضع فخفّف الشرع في هذا الأثر اليسير

ولكن بشرط أن يكون في موضعه فلا يتجاوزه وهذا ما عبّر عند المصنف رحمه الله بقوله: [بِمَحلّهِ]، ومن أمثلته أيضاً: الجروح يُعفَى عن الدّم النّجِسِ الموجود في فتحاتها، ولا يجب غسله لوجود الضرر، والحرج، فكلّها من اليسير المعفو عنه. قوله رحمه الله: [ولا يَنْجُسُ الآدميُّ بالموتِ]: قوله: [لا يَنْجُسُ]: أي: لا يُحكم بكونه نجساً، فلو سئلت عن آدمي مات؟ تقول: هو طاهر، هذا هو أحد قولي العلماء -رحمة الله عليهم- أن الآدمي لا ينجس بالموت. وقال بعض العلماء: الأصل في الميتة أنها نجسة، واُستثْني الآدمي المسلمَ؛ لقوله عليه الصلاة والسلام: [المؤْمنُ لا يَنْجُس] وأُبْقِيتْ ميتة المشرك على الأصل، وأكدوا هذا بقوله تعالى: {إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ}، قالوا: لما كانت الميتة في أصل حكم الشّرع نجسة كما نصّ الله -عز وجل- في غير موضع؛ فإننا نقول: إنّ كل ميتةٍ نجسةٍ، إلا ما ورد الشرع بإستثنائه، فلما قال النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: [إن المؤمنَ لا يَنجُسُ] وجدنا قوله " المؤمن " مطلقاً في حال الحياة، والموت فلا نحكم بنجاسته لا حياً، ولا ميتاً وكما استثنى الشّرع المؤمنَ من الحكم بنجاسة الميتة بقوله عليه الصلاة والسلام: [إنّ المؤمنَ لا ينجُسُ] كذلك إستثنى ميتة البحر بقوله عليه الصلاة والسلام: [هُو الطَّهُورُ ماؤُه الحِلّ مَيتتُهُ] فلم نحكم بنجاسة ميتة البحر، وبقي ما عدا ذلك على الأصل، ومنهم الكافر، والمشرك، هذا بالنسبة للمذهب الثاني.

وهناك مذهب ثالث: أن المشرك نجس حياً، وميتاً لقوله سبحانه: {إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ}، ولقول النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: [إِنّ المُؤْمِنَ لا يَنْجُسُ] ومفهومه: إن الكافر نجس حياً، وميتاً. اعترض عليهم باعتراضات وجيهة منها: إن نساء أهل الكتاب يحل لنا نكاحهنَّ، وإذا جاز لنا نكاحَهنَّ فإنه لا بد من مخالطة، فكيف نخالط النجس؟! كذلك اُعترضَ عليهم بقصة ثُمامةَ بنِ أثالٍ الحنفىّ رضي الله عنه، فإنه -رضي الله عنه- أخذتهُ خَيلُ النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وهو ماضٍ إلى العُمرة فأَمر النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بِربطهِ في المسجدِ، قالوا: ولو كان نَجِساً لما أدخله النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- المسجد، هذا بالنسبة للاعتراضات التي اُعترض بها عليهم. وأجيب عنها: بأنّ النّص بالنجاسة في قوله سبحانه: {إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ} (¬1) ورد في المشركين ولم يرد في عموم الكفار، إذ لو كان أهل الكتاب داخلين فيها لقال: إنما الكفار نجس، لكنه قال: {إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ} َ، ووجدنا أن القرآن يفرق بين المشركين، وأهل الكتاب كما في قوله تعالى: {لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ} (¬2) فلما فرق بينهم علمنا أن قوله: {إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ}، المراد به عبدة الأوثان والذين لا دين لهم سماوي. ¬

(¬1) التوبة، آية: 28. (¬2) البينة، آية: 1.

وأما حديث ثمامة بن أثال رضي الله عنه فأجيب عنه: بأنه خارج عن الأصل لمكان الحاجة؛ لأن المقصود دلالته على الإسلام، وتعريفه به فاغتُفِرَ ما يحصل من المفاسد في جنب ما يحصل من المصلحة العظمى وهي إسلامه؛ كما اغتفر النظر إلى المخطوبة، وهو محرم في الأصل في جنب ما يقصد من حصول المصلحة من الزواج، وقد مشى المصنف رحمه الله على مذهب من يقول بعدم نجاسة الكافر حياً كان، أو ميتاً. قوله رحمه الله: [وما لا نفْسَ لهُ سائلةٌ مُتَولِّدٍ مِنْ طَاهِر]: النّفْسُ: تطلق ويراد بها الدّمُ، وسمي الحيض نفاساً لمكان الدم الخارج، كما في الصحيحين من قول النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لعائشة: [مالَكِ أَنفِسْتِ؟]، وسُمِّيَ النِّفاس نِفاساً لوجود الدّم فيه، ومن هذا الإستعمال قول الفقهاء رحمهم الله في وصف بعض الحشرات ما لا نَفْس له سائلة، ويعنون به الحشرات من غير ذوات الدّماء؟ كبنات وردان، والصراصير، والبعوض، والبراغيث، ونحوها، وهكذا دود السُّوسِ في التمر، والدقيق، والحبّ كلُّه طاهرٌ، والدليل على طهارته ما ثبت في الحديث عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال: [أُحلّتْ لنا مَيْتتانِ، ودَمانِ، أمّا المَيْتَتَانِ فَالجَرادُ، والحوت، وأمّا الدّمان فالكبدُ، والطُّحالُ] ولأنه عليه الصلاة والسلام لم يكن من هديه أنه حرّم سوسَ التّمرِ، أو أمر الصحابة رضي الله عنهم بإخراجه، وإنقائه. فلهذا نصّ جماهير العلماء رحمهم الله، والأئمة على طهارة ما لا نَفْسَ له سائلة.

ثم إن ما لا نفس له سائلة يكون في بعض الأحوال متولداً من غيره، وحينئذ لا يخلو من حالتين: الأولى: أن يكون متولداً من شيءٍ طاهر؛ مثل: التَّمر، والحبِّ، والدقيق، والأجبان، ونحو ذلك، فهو طاهر وهذا هو الذي قصده المصنف رحمه الله، وأشار إليه بقوله: [مُتَولِّدٍ منْ طَاهرٍ]. الثَانية: أن يكون مُتولِّداً من نجس مثل: الدودِ المتولّدِ من عذرة الآدمي، ونحوها من النجاسات، فهو نجس لأن الفرع تابعٌ لأصله. فبيّن المصنف رحمه الله أنه يُستثنى من الحكم بطهارة ما لا نفس له سائلة ما كان متولداً من النجاسة، وهذا هو ما يدل عليه مفهوم قوله [من طاهرٍ]. قال رحمه الله: [وبَوْلُ مَا يُؤكَلُ لَحْمُهُ، ورَوْثه]: التقدير طاهر، ومراده رحمه الله أن الحيوانات التي أذن الشرع بأكل لحمها، مثل الإبل، والبقَر، والغنم، والحمام، والدجاج، ونحوها كلها طاهرة الفضلة سواء كانت بولاً، أو روثاً. وقد دلّ على طهارتها ما ثبت في الصحيح من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه قال: [قدم على النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أقوامٌ منْ عُكلٍ، أو عُريْنة، واجْتَوَوْا المَدِينَة] أي: أصابهم الجَوى، والجوى: نوع من الأمراض، لأن أهل البادية تكون مناطقهم نقيّة، ونافهة، فإذا دخلوا المدن يصيبهم هذا النوع من المرض، ويُسمّى الجوى، وسببه كما ذكر الإمام النووي، وغيره: إختلاف الموضع، والطعام عليهم؛ لأنهم ألفوا طلاقة الجوِّ، ونظافة ما يؤكل ويشرب، بخلاف المدن التي تكون وخيمة، ووبيئة عادة؛

بسبب كثرة الناس بها، وضيق أماكنها، فأمرهم النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أن يخرجوا إلى إبل الصدقة، وهذا من طبِّ النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عالج المريض بمألوفه، والأطباء يعتبرون هذا، وهو أن بعض الأمراض يكون علاجها بِرَد الإنسان إلى مكانه الذي ألِفَه، وإعتاد عليه، حتى قالوا: إنه يتأثر بأرضه، وهوائها، ومائها، وكان بعض الأطباء يُداوي بالماء الذي يكون في الموضع الذي وُلِدَ فيه الإنسان، وما فيه من مأكل، ومشرب، كما بيّنَهُ الإمام ابن القيم رحمه الله في الطبِّ النّبوي، ووجه دلالة هذا الحديث على طهارة بول ما يؤكل لحمه، وروثه: أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أذنَ لهم بشرب البول، فلو كان نجساً لما أذن لهم بذلك؛ لأنّ النجس محرّمٌ شربه والله لم يجعل شفاء الأمّةِ فيما حرمه عليها كما ثبت عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال: [إِنّ الله لمْ يجعلْ شِفاءكمْ فِيمَا حَرمَ عَليكمْ] فأَمَرُهُ عليه الصلاة والسلام بالإستشفاء ببول الإبل يدلُّ على طهارته، وأكّد ذلك طوافه عليه الصلاة والسلام على بعيره، وصلاته النّافلة عليه في السفر كما ثبت في الصحيحين، ومن المعلوم أن البعير لا يسلم غالباً من طشاش بوله، وروثه على فخذيه، وما قارب مخرج البول، والروث، ومع ذلك كان عليه الصلاة والسلام يُصلي، ويطوف وهو راكب عليه فدلّ على طهارة روثه وبوله. ولما جاءت السنة أيضاً بالإذن بالصلاة في مرابض الغنم؛ دلّ ذلك على: أن العلّة هي كون الإبل، والغنم من الحيوانات التي أذن الشرع بأكل لحمها. فصح القول بطهارة فضلة مأكول اللحم سواء كانت بولاً، أو روثاً، كما نصَّ عليه المصنف رحمه الله في هذه العبارة، وقد قوى هذا المعنى المستنبط مما

ذكرنا من الأحاديث السابقة أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لما حُرّمَتْ لُحومُ الحُمُرِ الأهليةِ حكم بنجاستها، فقال كما في الصحيح: [إِنها رِجْسٌ] فدلّ على أن تحريم الأكل يوجب الحكم بالنجاسة، وعكسه يدل على الطهارة، ولذلك وصف الله مباح الأكل بالطيب فقال سبحانه: {كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ}، ولا طيب لنجسٍ. قوله رحمه الله: [ومنيّه، ومنيّ الآدمي]: قوله: [ومنيّه]: أىِ: منيُّ ما يؤكل لحمه، فإنه يُعتبر طاهراً، لأنه فضلة، وقد تقدم بيان الدليل على ذلك، ولأنه إذا كان روثه، وبوله طاهر، فمن باب أولى المني؛ لأن فضلة البول، والروث أشدّ في حكم النجاسة من المنيّ، أصله الآدمي. وأما منيُّ الآدمي فقد تقدم وصفه، وضبطه في باب الغسل. وهو طاهر في أصحِّ قولي العلماء رحمهم الله كما بيّناه في شرح البلوغ حيث ذكرنا فيه قولي العلماء رحمهم الله بالنجاسة والطهارهَ، وهل نجاسته مخففة، أو باقية على الأصل؟ وقد دلّ على طهارته دليل السنة، كما بيّنا في حديث أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها في الصحيح، وأن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان يُصلي بثوبه، وأثر الجنابةِ فيه. وقد أنكرت رضي الله عنها على ضيفها حينما غسل الثوب من المنيّ، وجاء في حديث عبد الله بن عباس رضي الله عنهما عند البيهقي، وغيره أنّ النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: [إنّما هو بمنْزِلةِ المُخَاطِ يَكْفِيكَ أَن تَحُتّه عَنْكَ بإِذْخِرَةٍ] فأكّد القول بطهارته.

وظاهر قول المصنف رحمه الله: [الآدميّ] العموم في الرجال، والنساء. قوله رحمه الله: [ورُطوبةُ فَرْجِ المَرأة]: الرطوبة: (سائل يخرج من رحم المرأة في حال الجماع، وغيره) فيخرج تارة بشهوة، وتارة بدونها، هذا السائل نصّ المصنف رحمه الله على طهارته، وهو رواية عند الحنابلة، ووجه عند الشافعية رحمة الله على الجميع، وقد بنوا مذهبهم على أن الأصل الطهارة، ولا دليل يخالفها، فوجب البقاء على الأصل الموجب للحكم بالطهارة. وذهب طائفة من العلماء رحمهم الله إلى القول بنجاسته وهو الرواية الثانية عند الحنابلة، والوجه الثاني عند الشافعية رحمة الله على الجميع. واستدلوا على نجاسته بدليل النّقل، والعقل: أما دليلهم من النّقل فما ثبت في الحديث الصحيح عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال: [لِيَغْسِلْ مَا أَصابه مِنْها] وهذا الحديث وارد فيمن جامع زوجته، ولم يُترل حيث كان في أول الإسلام لا يلزمه غسلٌ للجنابة، ولكن يُؤمر بغسل فرجه، وما أصابه من رطوبة فرج المرأة، وهذا النصّ واضح في دلالته على نجاسة رطوبة فرج المرأة، ووجه الدلالة: أنّ النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أمر بغسل الذكر مما أصابه، والذي أصابه أثناء الجماع إذا وقع بدون إنزال للمني إنما هو رطوبة الفرج، فدلّ هذا على نجاستها، ووجوب غسل ما أصابته. وأما دليل العقل؛ فهو القياس: حيث إن رطوبة فرج المرأة تخرج عند شهوتها، فهي كالمذي في الرجل؛ فتكون نجسة. وإذا ثبت أن رطوبة فرج المرأة نجسة فإنه يرد الإشكال، والسؤال: بأنه قد

تعم البلوى بهذه الرطوبة ومن النساء من تجلس ساعاتٍ مبتلاةً بهذه الرطوبة؛ فهل نحكم بالنجاسة أيضاً، وكيف تكون طهارتها؟ نقول: إنها كالمستحاضة، فكما أن المرأة يصيبها دم الإستحاضة، ويستمر معها أحياناً شهوراً، والشريعة تحكم بكون هذا الدم نجساً، كما بين ذلك عليه الصلاة والسلام وذلك حينما أمر بغسله، ويكاد يكون بالإجماع: أن دم الإستحاضة نجس، ولم تَمْنَعْ كثرةُ دم الإستحاضة الحكمَ بنجاسته شرعاً؛ كذلك كثرةُ رطوبةِ الفرج لا تمنع الحكم بالأصل، لكن إذا كثرت على المرأة فإنّها تترخص برخص المستحاضة فيما تشبهها به، فتضع قطنة تشدُّ بها الموضع، فإن غلبها الدم فإنها تصلي على حالتها، وتتوضأ لدخول كل وقت، فالمرأة التي تغلبها الرطوبة، وتصل بها إلى درجة المشقة حكمها حكم الإستحاضة سواء بسواء على التفصيل الذي سنذكره فيها -بإذن الله تعالى- في كتاب الحيض، وهذا لا حرج فيه، ولا مشقة؛ لأن القاعدة في الشريعة: " أَنَّ الأمرَ إِذَا ضاقَ إِتَّسَعَ "، فما دام أنه يضيق على المرأة، ويحرجها؛ فإنّها تتعبد الله -عز وجل- على قدر وسعها، وطاقتها كما قال سبحانه: {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} (¬1). وقوله: [رُطُوبةُ]: فيه تخصيص، حيث دلّ على أن غير الرطوبة من فضلات بدن المرأة الأخرى تُعتبر طاهرة، ولا يُحكم بنجاستها مثل العرق والبصاق والريق واللعاب. ¬

(¬1) البقرة، آية: 286.

قوله رحمه الله: [وسؤرُ الهِرّةِ، وما دُونَها فِي الخلْقَةِ طَاهِرٌ]: قوله: [وسؤرُ الهِرّةِ]: السؤر: الفضلة من الشراب، واحد الآسَار، وصورة المسألة: أن تشرب الهرة من إناء، ثم تُبْقِي فضلةً بعد شربها فهذه الفضلة باقية على الأصل، ولا يُحكم بنجاستها لما ثبت في الحديث الصحيح عن أبي قتادةَ رضي الله عنه أنه كانَ يتوضّأ من إناء، فجاءت هرة فَأصْغَى لها الاناءَ حتّى شربتْ، ثُمّ أتم وضُوءَه من سؤرها، وكبشةُ بنتُ كعبِ بنِ مالكٍ تنظرُ إليه فقال: أتَعْجبينَ يا إِبنَة أخي؟ فقالت: نعمْ، فقال: إنّ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: [إِنها ليستْ بِنَجسٍ إنها من الطّوافينَ عليكُمْ، والطَّوافاتِ]، فدلّ هذا الحديث على طهارة الهرة حيث صرّح عليه الصلاة والسلام بعدم نجاستها، وفي هذا الحكم تيسير، ورحمة بالناس؛ لأن الهرة تخالطهم، وتكون معهم، وقد قال -عليه الصلاة والسلام- مشيراً إلى هذه العلّة: [إنها منَ الطوافينَ عَليْكُمْ، والطوافَاتِ] ومن أهل العلم من قال: هي نجسة، ولكن خُففَ في حكمها لمكان المشقة؛ وذلك بقوله عليه الصلاة والسلام: [إِنها منَ الطّوافينَ عَليكمْ، والطّوافَاتِ] قالوا: إذ لو كانت طاهرة في الأصل لقال: إنها طاهرة، لكن كونه يقول: [إنها من الطّوافينَ عليكمْ، والطّوافاتِ] كأنه يقول: إن فيها من الحرج، والمشقة ما يوجب التخفيف في نجاستها وهو مذهب أبي حنيفة رحمه الله ولكنّ قوله عليه الصلاة والسلام: [إِنّها ليستْ بِنَجَسْ] صريح في الدلالة على نفي نجاسة الهرة، فترجّح به مذهب الجمهور رحمهم الله. قوله رحمه الله: [وما دُونها في الخِلْقَةِ] الضمير عائد إلى الهرة، ودون

الشيء: أقلّ منه؛ ضدّ الأعلى، وظاهر كلام المصنف رحمه الله العموم أي: أن كل ما كان من السباع دون الهرة في الخِلْقَة فهو طاهر مثل: النِّمْسِ، والنّسْناسِ، والقُنْفذِ، وابنِ عُرْسٍ، والفَأرِ. وأما ما كان فوق الهرة في الخِلقة من السباع فنَجِسٌ، ومثاله: الأسدُ، والنّمرُ، والذِّئبُ، والفَهْدُ، والكَلْبُ، وكذلك سباع الطير مثل: النّسرِ، والصّقرِ، والبَازِ. ويدخل في ذلك ما لا يؤكل لحمه فيلتحق بالسباع كما نصَّ عليه بعض فقهاء الحنابلة رحمهم الله، ومثاله: الفيل، والحمار. وكذلك ما توالد من مأكول اللحم، وغيره كالسِّمع ولد الضَّبع من الذِّئب. فأصبح القدر المعتبر عندهم بالهرّة فما كان مثلها، أو زاد عليها من السباع، أو كان محرم الأكل فإنه نجس وسؤره كذلك، وما كان دونها فإنه طاهر، وسؤره طاهر، وهذا القول مرجوح لأنّ النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إستثنى الهِرَّة من أصل عام، فبقي ما عداها على الأصل؛ لكننا لا نحكم بنجاسة سؤره إلا إذا تغيّر كما تقدم معنا في مسألة القُلّتين، والحنابلة إحتاجوا إلى هذا لأن مذهبهم: أن ما دون القُلّتين ينجُس بمباشرة النجاسة سواء تغيّر، أو لم يتغيّر، وأما الحكم بطهارة الحيوان، ونجاسته فهذا راجع إلى حِلِّ أكله، وحرمته على تفصيل سيأتي -بإذن الله تعالى- في محله في كتاب الأطعمة. وإذا تبيّن أن الهرة طاهرة، وأن سؤرها طاهر، فإن هنا مسألة ينبغي التّنبيه عليها، وتُعتبر مستثناةً من هذا الحكم، وهي: أن تراها قد أصابت نجاسة ورأيتها على فمها، فإن سؤرها نجس إذا تغيّر بذلك النجس.

صورة ذلك: لو رأيتها إِغتذت بميتةٍ، فنهَشَتْ من لحمها، ورأيت فضلة اللحم الذي نهشته على فمها، وشَرِبَتْ من إِناءٍ بعد ذلك، وأفضلت السؤر متغيّراً لونه، أو طعمه، أو رائحته بتلك النجاسة؛ حكمنا بكون الماء متنجساً؛ لكن هذا في بعض الأحوال؛ لا في كلّها فيقتصر الحكم بنجاسة السؤر عليها، وعلى أمثالها من الصُّور مما يتغير فيها الماء بعد شرب الهِرّة منه، وهذا معنى قول الإمام خليل بن إسحاق في مختصره [وإِنْ رِيئَتْ على فَمِهِ عُمِل عَليْها] فقوله: [وإن رِيئَتْ] يعني: رُئيت النجاسة، وقوله: [على فَمِه] يعني فَمَ الهِرِّ عُمِل عليها يعني حُكِمَ بِحُكْمِها إن أثّرت في الماء فالماء نجس، وإن لم تؤثر فالماء طهور. قوله رحمه الله: [وسباعُ البهائمِ، والطّيرِ، والحمارُ الأهليُّ، والبغلُ مِنْه نجسة] أي: أن جميع هذه الحيوانات محكوم بنجاستها فيدخل في قوله: [سِباعُ البَهائمِ] الأسد، والنّمر، والفَهْد، والذِّئب، ونحوها، وقوله: [والطّيرِ] أي: سباعُ الطّير، وهي الطيور الجارحة كالصّقر، والبَاز، والنّسر، والعُقَاب، والشَّاهين، ونحوها كلُّها نجسة. وقوله: [والحمارُ الأهليُّ] أي: أنه نجس، ومفهوم قوله: [الأهْلِيُّ] أن الحكم خاص به، فلا يشمل حمار الوحش لأنه مباح الأكل طاهر، كما دلّت السّنة على ذلك في حديث أبي قتادة رضي الله عنه في الصحيح. وقوله: [والبَغْلُ] هو الحيوان المعروف، وهو متولد من طاهر مباح الأكل، وهو الخيل، ونجس محرم الأكل وهو الحمار الأهلي، ولذلك أشار إلى تولّده من الحمار الأهلي بقوله: [والبغلُ مِنْه] فالضمير عائد إلى الحمار، دون ما

تولد من الخيل. أما الدليل على تحريم هذه الأشياء، ونجاستها فهو مبني على أنّ السنة دلّت على أن محرَّم الأكل نجسٌ في الأصل، وذلك لما ثبت في الصحيح عنه عليه الصلاة والسلام أنه لما نزلَ تحريم الحمُرِ الأهليّةِ أمر بإِكْفاءِ القدور، وإراقتها وقال: [إِنها رِجْسٌ]، وفي هذا دليل على أن المطعوم إذا صار حراماً حُكِمَ بنجاسته فصار كالميتة التي لا تَعْملُ فيها الذكاة، فلا يَطْهُر حياً، ولا ميتاً، وأما الدليل على تحريم أكل هذه الحيوانات فسيأتي بيانه بإذن الله تعالى في كتاب الأطعمة، وتفصيل أحكامه، والله تعالى أعلم.

باب الحيض

باب الحيض قال الصنف رحمه الله: [باب الحيض]: الحيض باب عظيم، تتفرّع عليه مسائل مهمّة تتعلق بعبادات الناس، ومعاملاتهم، ولذلك إعتنى به المحدثون، والفقهاء -رحمة الله عليهم-، وما من كتاب يتكلم عن أحكام الشريعة في العبادات؛ إلا عقد له باباً خاصاً أورد فيه أحاديثه إن كان من كتب الحديث، أو أحكامه إن كان من كتب الفقه، وإتقانه ليس من السهولة بمكان بل هو عسير؛ إلا على من يسره الله عليه، ولذلك بين الإمام النووي -رحمه الله-: " أنه منْ عويصِ الأَبوابِ "، ولا شك أن الذي يتقنه يسدُّ ثغراً عظيماً من ثغور الإسلام. والسبب في ذلك أن المرأة تلتبس عليها صلاتها، وصيامها، وعمرتها، وحجها، وغير ذلك من عباداتها التي تشترط لها طهارتها، ويلتبس على الرجل إباحة جماعها، وجواز تطليقه لها، وانقضاء العدة، وعدم انقضائها، كل هذه المسائل تحتاج معرفة جوابها إلى الإلمام بالأحكام التي بينها العلماء رحمهم الله في باب الحيض. ولذلك ينبغي لطالب العلم أن يعتني به. وقد ألف العلماء -رحمة الله عليهم- فيه تآليف مفيدة، وجمعها الإمام الدارمي في كتاب مستقل، وتكلّم الإمام النووي -رحمه الله- على مسائله فيما لا يقل عن مائتي صفحة، وقال: (إنه لم يستوعب شتاتها)، والحيض حينما يبحث، يبحث من وجهين:

الوجه الأول: أصول باب الحيض، وهي المسائل التي تنبني عليها أحكامه في الأصل؛ كما في مسائل أقل الحيض، وأكثره، وأقل الطهر، وأكثره، وضوابط العادة، والتمييز، وعلامة الطهر، ونحوها من المسائل. والوجه الثاني: الفروع المتعلقة بهذه الأصول، ومسائلها مهمة جداً، وهي تنبني على مسائل الأصول فينبغي على طالب العلم أن يعتني بضبطها، وكيفية تخريجها، وبنائها على أصولها، قال بعض أئمة الحديث: (في الحيض ما يقرب من مائة حديث، ولهذه الأحاديث ما يقرب من مائة، وخمسين طريقاً)، ولذلك قال الإمام ابن العربي المالكي رحمه الله: (هي مسائل تأكُلُ الكَبِدَ، وتُنْهِضُ الكَتِدَ، ولا يُتْقِنُها منكم أَحدٌ). ومن أوضح الدلائل على أهمية مسائل الحيض، وصعوبة ضبطها ما قاله الإمام أحمد رحمه الله: (إنّه جلس فيه تسع سنوات حتى فهمه)، وللأسف نجد من يُثَرّب على العلماء ويقول: علماء الحيض والنفاس، ووالله الذي لا إله إلا هو لو أمست امرأته حائضاً، وهو لا يعرف أحكام الحيض، والنفاس لما أحسن جوابها، ولعرف قدر علماء الحيض، والنفاس، ولو انتصب أمام مسائل الناس، وفتاويهم وما ينزل بهم في حيض نسائهم، ونفاسهم من مسائل العبادات، والمعاملات، وما يترتب عليها من أحكام شرعية لعرف فضل علماء الحيض، والنفاس، ولذلك لا يجوز لأحد أن يستخفّ بهذا الباب، والاستخفاف بعلمائه يدل على مرض في قلب صاحبه، وهذه كلمة قد ينطق بها صاحبها، ولا يعلم مقدار خطرها عليه في دينه، وعند ربّه كما

قال تعالى: {وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّنًا وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ} (¬1)، ولذلك ما جاء الأمة البلاء إلا من الغلو، تجد العابد الصائم القائم يحتقر طلاب العلم، ويحسَّ أن الدين هو الصيام والقيام، وتجد طالب العلم يحتقر العابد، وهذا لا يجوز؛ وهو سبب الهلاك كما قال النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-[إنما أهلكَ منْ كانَ قبلكمْ الغُلُو] فلا يجوز الغلو في الدين، فالإنسان إذا فتح الله عليه في طاعة فعليه أن لا يحتقر غيره، فكل على ثغرة، والله يقول: {فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ} (¬2) فأنبه على هذا؛ لأنها مسألة خطيرة جداً أن يُستهزئَ بالعلماء، وينبغي على طلاب العلم أن يتنبهوا لهذه الآفة من آفات اللسان -نسأل الله أن يعصمنا وإياكم من الهوى، والردى-، المقصود أن هذا الباب باب عظيم، وينبغي على طالب العلم أن يتهيأ لضبطه، وإتقانه. قوله رحمه الله: [باب الحيض]: الحيض في اللغة: السيلان. يقال: حاضَ الوادي: إذا سالَ ماؤُه، وحاضت السّمرةُ: -وهي نوع من الشجر-، إذا سال منها الصُمْغُ، والمرأة حائض، وحائضة، ونُوزع في الثاني، لأن الذي لا يشترك فيه الذكر، والأنثى لا يُؤنث بالتاء، فيقال: امرأة حائضٌ، كما يقال: امرأة طالقٌ؛ لأن الرجل لا يُطلق، وكذلك لا يحيض، ولا يقال: امرأة طالقة، أو حاملة. ¬

(¬1) النور، آية: 15. (¬2) البقرة، آية: 148.

واختلفت تعاريف العلماء للحيض اصطلاحاً، منها قولهم: [دمٌ يُرخِيه رحمُ المرأةِ عادة لغيرِ مرضٍ وولادة]. (يُرْخِيهِ): أي يسيل منه، وقولهم: (رحم المرأة) الرَّحم بفتح الراء، وكسر الحاء، وبكسر الراء مع سكون الحاء، هو مكان منبت الولد، ووعاؤه. وقوله (رحم المرأة) قيد يخرج الدماء الخارجة من المواضع الأخرى من جسد المرأة. وقولهم (لغير مرض) قيد أيضاً يخرج الدماء الخارجة من فرج المرأة بسبب المرض كدم الإستحاضة. وقولهم (وولادة) أي لغير ولادة، وهو قيد أيضاً يخرج دم النفاس، فلا يسمى حيضاً؛ لأنه دم ولادة. أما بالنسبة للحيض فذكره المصنف -رحمه الله- في هذا الموضع لتعلقه بمباحث الطهارة. وأما بالنسبة لمناسبة ذكره بعد إزالة النجاسة: فدم الحيض دم نجس بالإجماع، وهو نوع من أنواع النجاسات، ومن باب الفائدة: فإنه لو أمكن لطالب العلم أن يقرأ كلام الأطباء في هذا الدم الذي يرخيه الرحم، وينظر إلى بديع صنع الله -عز وجل- وعظيم حكمته، وكمال علمه -سبحانه وتعالى-، فلو قرأت كلام الأطباء ونظرت إلى الحِكَم التي توجد في هذا الدم في كيفية خروجه، وكيف يتهيأ ذلك الرحم لإخراجه، وإفرازه، ثمّ كيف ينقبض بإذن الله -عز وجل- بعد الخروج، وكيف يتهيأ الحمل في الرحم، ثم كيف يتم إفرازه للهرمونات التي

تعين على الحمل، حتى إذا شعر المبيض أنه ليست هناك ولادة إِمتنع من إفراز هرمون الحمل، فأخذت الأوعية تتقلّص، ثم أخذت تُفرز ذلك الدمَ، ثم يرسل الله -عز وجل- له كالخميرة تفكِّك هذا التَّجلُّطَ، سبحان الله! هذا كلُّه من الدلائل على عظمة الله -جل جلاله-. الحيض له أسماء ومنها: النفاس، والإكبار، والإعصار، والطمث، والضحك، والفراك، والدِّراس، والطمس، والعراك فهذه أسماء عشرة مع إسمه الأصلي. قال المصنف رحمه الله: [لا حيض قبل تسع سنين]: أي لا حيض للمرأة إذا كان عمرها دون تسع سنين، وهذه مسألة أقل سن تحيض فيه المرأة، ويستفاد منه أننا لا نحكم بكون الدم حيضاً إلا إذا بلغت هذا السن، فإذا جرى معها الدم، وهي أصغر منه؛ فليس بحيض، وإنما هو إستحاضة، وأما إذا بلغت السن المعتبر للحيض، وهو تسع سنين، ثم جرى معها الدم حكمنا بكونه حيضاً، وبكون المرأة بالغة، لأن الحيض من علامات البلوغ الخاصة بالنساء. وإعتبار سن التسع هو أحد أقوال العلماء رحمهم الله في هذه المسألة، وقد تكلمنا عليها في شرح البلوغ، وهو الراجح في نظري، والعلم عند الله، وذلك لدلالة الشرع، والعادة، أما دليل الشرع: فما ثبت في الصحيح عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه عقَدَ على عائشة رضي الله عنها، وهي بنت ستّ سنين، ودخل عليها وهي بنت تسع سنين؛ فدلّ على أن الجارية في هذا السن تتأهل للبلوغ، والحيض، وأكد هذا دليل الأثر عن أم المؤمنين

عائشة رضي الله عنها حيث نصّت على أن التسع سنين تتهيأ فيها الجارية للبلوغ، وأما دليل العادة، فإنه ثبت بالعادة، والتجربة أن هذه السن هي أقل ما وجد كما صرح بذلك الإمام الشافعي رحمه الله حيث قال: " أعْجَلُ من رأيت في الحيضِ نساءَ تهامةَ رأيت جَدَّةً، وهي إِبنةُ إِحْدَى، وعِشْرينَ سَنةً " وهذا يدلّ على أن أقل ما وجد من سن تحيض فيه المرأة هو سن التسع، فصارت حدّاً معتبراً لأقل الحيض. إذا تقرر أن بداية الحيض بالتسع: يرد السؤال عن نهاية الحيض، والسبب الذي جعل العلماء يذكرون مسألة بداية الحيض، ونهايته: دلالة الكتاب، فإن الله -عز وجل- قال: {وَاللَّائِي لَمْ يَحِضْنَ} (¬1) فأثبت أن الحيض لا يكون لكل صبية، وأن هناك من النساء من تحيض لأنها بلغت سن الحيض، ومنهن من لا تحيض لأنها لم تبلغ ذلك السن، فعلمنا أن للحيض بداية، وأنه لا يكون من كلّ صبية، ولما قال: {وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ} علمنا أيضاً أن هناك نهاية للحيض؛ ولذلك اعتنى العلماء رحمهم الله ببيان بداية الحيض، ونهايته، وقد بينا متى تكون البداية، أما النهاية فإنها تُسمّى عندهم بسنّ اليَأْسِ، وهي: السن التي إذا وصلت إليها المرأة يئست من جريان دم الحيض معها لكونه ينقطع في مثل تلك السن غالباً، وقد إختلف العلماء رحمهم الله في آخر سن ينقطع فيه دم الحيض، فقال بعضهم: هو خمسون عاماً على ما ذكر المصنف رحمه الله. ¬

(¬1) الطلاق، آية: 4.

وقال بعض أهل العلم: ستون، وقال بعضهم وهو القول الثالث وهو الأقوى والعلم عند الله: إن هذا يختلف باختلاف البيئات، والنساء، وطبيعة الأرض التي فيها المرأة، فالبلاد الحارّة تختلف عن البلاد الباردة في طبائع النساء؛ ولذلك لا يحد فيه سن معين ويرجع في تحديده إلى غالب حال النساء في كل موضع بحسبه. إذا تقرر أن آخر الحيض، أو نهاية سن الحيض هي الخمسون بناء على ما ذكر المصنف فإنه ينبني عليه أنها لو بلغت الخمسين، ودخلت في إحدى وخمسين ورئي معها الدّمُ؛ أنه استحاضة، فلا يُعطى حكمَ دم الحيض، ينبني عليه أيضاً أن تقول لها: إعتدِّي بالأشهر، ولا تعتدِّي بالحيض؛ لأن الدم الذي معها أُلغي، فهذه فائدة معرفة آخر زمن للحيض، أنك إذا أثبت أنه يتأقّت فببلوغ المرأة لهذا الأمد المؤقت يُحكم بكونها آيسةً منه فتعتدُّ بالأشهر، ولا يمنع دمُها ما يمنعه دمُ الحيض. قوله رحمه الله: [ولا مَعَ حَمْلٍ]: لأن الله جعل عدة الحوامل وضع الحمل، فإذا ولدت خرجت من عدتها كما نصّ على ذلك في قوله سبحانه: {وَأُولَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} فلو كانت الحامل تحيض لجعل عدتها بالأقراء إعمالاً للأصل؛ ولذلك قال الإمام أحمد -رحمة الله عليه-: " إنما تَعرفُ النساءُ الحملَ بانقطاعِ الدّمِ ". أي: أن الحمل من طبيعته، ومن شأنه أنه يُعرفُ بانقطاع دم الحيض، فدلّ على أنه لا يجتمع الحيض، والحمل، وهذا هو مذهب الحنفية، وهو رواية عن الإمام أحمد هي المذهب رحمة الله على الجميع.

وقال طائفة من العلماء: إنه يجتمع الحيض، والحمل، وهو مذهب بعض أهل العلم منهم المالكية، وعندهم تفصيل في ضوابط الحيض في الحمل، وهو رواية ثانية عن الإمام أحمد رحم الله الجميع. فائدة الخلاف: أنه لو حملت المرأة، وجرى معها دم، فإن قلنا: إن الحامل تحيض، وجاء في أمد الحيض حكم بكونه دم حيض، ومُنعت من الصلاة، والصيام، وإن قلنا: إن الحامل لا تحيض؛ ففي هذه الحالة يُحكم بكونه دم فساد، وعلّة، وهي طاهرة. قال رحمه الله: [وأَقلّهُ]: أي: أقلّ الحيض [يومٌ، وليْلَةٌ] أي: أن أقل الحيض أن يستمر جريان الدم يوماً، وليلة، ويُستفاد منه أنه إذا جرى أقلّ من ذلك فليس بحيض، وإنما هو إستحاضة، وهذا هو أحد أقوال العلماء رحمهم الله في هذه المسألة، وهو مذهب الشافعية، والحنابلة رحمة الله على الجميع. وهذه المسألة للعلماء فيها ثلاثة أقوال: القول الأول: لا حدّ لأقلِّ الحيض كما هو مذهب المالكية، والظاهرية، واختيار شيخ الإسلام إِبن تيمية -رحمة الله على الجميع-. القول الثاني: أقلّه يوم، وليلة، وهو كما تقدم مذهب الشافعية، والحنابلة -رحمة الله على الجميع-. القول الثالث: أن أقلّه ثلاثة أيام، وهو مذهب الحنفية رحمهم الله.

فائدة هذا الخلاف: أنك إذا قلت: لا حدّ لأقلّ الحيض فإنك تقول: إذا رأت المرأة دم الحيض في زمان الحيض، وإمْكَانه، وجرى معها، ولو ساعةً من نهار؛ فإنها تحكم بكونها حائضاً. وإن قلت أقلّه يوم، وليلة؛ فإنك تقول: إن جرى الدم مع المرأة ننظر إن إستمر يوماً كاملاً أربعاً، وعشرين ساعة؛ فهو دم حيض، وإن إستمر أقل من ذلك فهو دم استحاضة، لا يمنع صوماً، ولا صلاةً. وإن قلت: أقلّه ثلاثة أيام فكذلك. والذي يترجح في نظري، والعلم عند الله هو القول: بعدم التّحديدِ، أي: أن الحيض لا حدّ لأقله فما دام أنه جرى مع المرأة الدم في وقت الحيض، فهو حيض حتى ولو كان دفعة واحدة. وذلك لأن اليقين أنه حيض لأنه جاء في وقته، وفي أمده، وليس في الشرع دليل قوي يدلّ على التّحديد لأن ما استدلوا به عليه إما ضعيف لضعف سنده، أو دلالته كما بيّناه في شرح البلوغ، فبقينا على الأصل. قوله رحمه الله: [وأكثرُه خمسةَ عشرَ يوماً]: إذاً الآن عرفنا من هي المرأة التي تحيض؟ وعرفنا ما هو أقل الدم الذي يمكن أن نحكم بكونه حيضاً، وأنّ الصحيح لا حدّ له. يرد سؤال بعد هذا وهو: هب أن هذه المرأة عمرها تسع سنوات، وجرى معها الدم، إن قلنا على مذهب من يقول جرى معها الدم، ولو دفعة جرى معها، واستمر، وإن قلنا على مذهب من يقول يوم وليلة جرى معها، واستمر أكثر من ثلاثة أيام، وحكمنا بأنها حائض على الأقوال كلها واستمر

حتى بلغ أياماً، فهل نقول: إنه ما دام أننا حكمنا بكونها حائضاً تبقى حائضاً طيلة جريانه معها، أم أن دم الحيض مؤقّت، وما زاد عن تأقيته نعتبره إستحاضة؟ الجواب: أن دم الحيض بالإجماع مؤّقت؛ بدليل أن الله أخبر في كتابه عن دم الحيض أنه ينقطع عند حدِّ معين، وهو طهر المرأة كما في قوله سبحانه: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ وَلَا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ} (¬1) فأخبر أن للحيض غاية، وكذلك بين عليه الصلاة والسلام أن للحيض أياماً مخصوصة، وذلك في قوله: [لتَنْظُره الأيامَ التي كَانت تَحيضُهُنَّ] فبين أن الحيض مختص بأيام، وليس بمستديم، بل له غاية ونهاية، مؤقت بها، وإذا ثبت أن له نهاية، وغاية؛ فإنه يرد السؤال: ما هي هذه الغاية التي إذا بلغها الدم، وجاوزها حكمنا بكون المرأة قد إنتهى حيضها وأصبحت مستحاضة؟ والجواب أنها: خمسة عشر يوماً؛ أي أن المرأة إذا جرى معها دم الحيض، واستمر معها لأكثر من خمسة عشر يوماً جزمنا بأن ما زاد على الخمسة عشر إستحاضة؛ لأنه لا حيض بعد خمسة عشر يوماً؛ ثم يرد السؤال هل كل الخمسة عشر يوماً حيض، أو بعضها؟ فيه تفصيل سيأتي بيانه بإذن الله تعالى. ¬

(¬1) البقرة، آية: 222.

وهذا على قول الجمهور؛ وفيه حديث: [تَمكُثُ إِحدَاكُنّ شَطرَ عُمْرِها لا تُصلّي]؛ ولكنه متكلّم في سنده، والعمل عند أهل العلم -رحمة الله عليهم- على أن ما جاوز الخمسة عشر ليس بحيض، وهو إجماع لأن الخمسة عشر لم يقل أحد بعدد أكثر منها فما زاد عليها متفق على عدم إعتباره حيضاً، والخلاف بين العلماء رحمهم الله في ما دون الخمسة عشر، وفوق الثلاثة عشر؛ فالجمهور رحمهم الله على التَّحديد بالخمسة عشر، والحنفية رحمهم الله على التَّحديد بثلاثة عشر يوماً لحديث ضعيف الإسناد، وفيه أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال في الحيض: [أقلّه ثلاثةَ أيامٍ، وأكثرُه ثلاثةَ عشرَ يوماً] وهو حديث ضعيف الإسناد عند المحدثين، فأصبح القول بخمسة عشر محل إتفاق فكان أرجح؛ لأن ما دونها إذا شُكَّ فيه بقي على الأصل، وهو كونه حيضاً. إذاً ففائدة معرفة أكثر الحيض: أنه إذا نزف معها الدم، واستمر حتى جاوز أكثر الحيض علمت أنها مستحاضة، هذا بالنسبة لمعرفة أكثر الحيض. لكن يرد السؤال: إذا علمنا أنه لا حدّ لأقل الحيض، وأن أكثره خمسة عشر يوماً؛ فما هو غالب حيض النساء؟ فقال رحمه الله: [غالبُه ستٌ، أو سَبْعٌ]: والدليل على ذلك: قوله -عليه الصلاة والسلام- في حديث حمْنةَ بنتِ جَحْشٍ رضي الله عنها: [تَحيّضي في علمِ اللهِ سِتاً، أو سَبْعاً] وقد حسّنه الإمام أحمد، والبخاري، والترمذي رحمهم الله، وقد دلّ على أن الغالب في المرأة أن يجري معها دم الحيض، وتكون عادتها ستة أيام، أو سبعة، و " أو " في قوله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: [ستّاً، أو

سبعاً] للتنويع في الغالب أي: أن من النساء من تحيض ستاً، ومنهم من تحيض سبعة أيام. قوله رحمه الله: [وأَقلّ طُهرٍ بَيْنَ حَيضتينِ ثلاثةَ عشرَ يوماً]: الطُّهر هو: النقاء من الدنس، وأصل الطهر: النظافة يقال: طَهُرَ الشيءُ إذا نظف، ومن حكمة الله -جل وعلا- أن المرأة يجري معها دم الحيض، وينقطع عند أمد معيّن هذا على الغالب، وتكون هناك علامة على إنقطاعه، وهي ما يُسَمَّى القَصّةَ البيضاءَ، وهي: ماء كالجِيرِ يخرج من الموضع، ويعرفه النساء، وعنتها أم المؤمنين رضي الله عنها بقولها كما في صحيح البخاري: [إِنتظرْنَ لا تَعجَلِنّ حَتّى تَرينَّ القصةَ البيضاءَ] هذه علامة الطهر الأولى. وهناك علامة ثانية مختلف فيها وهي: الجُفوفُ، والجُفوفُ: أن تضع المرأة القطن في الموضع فيخرج نقياً لا دم فيه، يعني يجفُّ الموضع، هذه مختلف فيها: هل هي علامة طهر، أو لا؟ فمن حكمة الله -جل وعلا- أن المرأة يجري معها الدم، ثم ينقطع بعلامة، وهي الطهر، فتبقى طاهراً أمداً، هذا الأمد يقلّ، ويكثر، ولذلك يحتاج الفقيه، وطالب العلم أن يعرف ما هو أقلُّ الطُّهر بين الحيضة، والحيضة لكي يتمكن من الحُكم بدخول المرأة في الحيضة الثانية بعد مجاوزتها أقل الطهر إذا كان الدم مستمراً معها، أو عاودها بعد إنقطاعه فبيّنه المصنف رحمه الله بقوله هنا: [وأقلُّ طهرٍ بين حيضتينِ ثلاثةَ عشرَ يوماً].

قوله رحمه الله: [ولا حدّ لأكثره] أي: أن أكثر الطهر ليس له حدُّ فقد تطهر شهوراً, وقد ينقطع عنها الحيض، فتبقى طاهراً بقيّة عمرها كما هو الحال في الآيسة، فلا حدّ لأكثر الطُّهر في الحيض. [وتقضِي الحائضُ الصومَ، لا الصّلاة]: بعد أن بيّن رحمه الله مقدمات كتاب الحيض شرع -رحمه الله- في مسألة مهمة، وهي موانع الحيض، والحيض يمنع عشرة أمور، ذكر المصنف -رحمه الله- أشهرها، وأهمها. فقال رحمه الله: [وتَقْضيِ الصّومَ، لا الصّلاة]: أي: أن المرأة إذا أصابها الحيض, وحكمنا بمنعها من الصيام، والصلاة، فإنها إذا طهرت من الحيض وجب عليها قضاء الصوم، دون الصلاة. أما الدليل على هذا الحكم؛ فحديث أم المؤمنين عائشة -رضي الله عنها- سألتهاُ عمرة بنت عبد الرّحمنِ، فقالت: " ما بال الحائض تقضي الصومَ، ولا تقضي الصلاة؟ " فقالت لها أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها: أحَرُورية أنت؟ وحروريةٌ نسبة إلى حَروراءَ، وهو موضع كان فيه الخوارج، فقالت لها أحرورية أنت؟ أي: هل أنت من الخوارج الذين يُكثرون التّشدُقَ في الدين, والتنطع فيه؟. فقالت: لا، بل سائلة، أي: أسأل، وأستشكل. فقالت -رضي الله عنها -: " كنّا نَحيضُ على عَهْدِ رسولِ الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فنُؤمرُ بقضاء الصوم, ولا نُؤمر بقضَاءِ الصلاة " فدلّ على أن الحائض لا تصوم، ولا تصلي, وأنه يلزمها قضاء الصوم، ولا يلزمها قضاء الصلاة. قوله رحمه الله: [ولا يَصِحّانِ مِنْها، بلْ يَحرمانِ]: قوله: [ولا يصحان منها]:أي أن المرأة إذا حاضت فلا يجوز لها أن تصوم، وتصلي، فإذا

صامت لم يصحّ صومها، وإذا كانت عالمة بالتحريم، وصامت؛ فهي آثمة شرعاً، لكن لو كانت لا تدري أن هذا الدم دم حيض فكانت تظنّه دمَ استحاضة، وصامت، أو صلّت ظانّة أنها طاهر، وتبيّن أن هذا الدم دم حيض؛ فإنه لا إثم عليها؛ لأنها لم تقصد المخالفة؛ ولا يحكم بصحة صومها، ولا صلاتها، فيلزمها أن تُعيد الصّوم، دون الصلاة. قوله رحمه الله: [ويحرمُ وطْؤُها في الفَرجِ]: أي: يحرم على الرجل أن يجامع امرأته الحائض في فرجها؛ والدليل على ذلك قوله -سبحانه وتعالى-: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ} ووجه الدلالة: في قوله سبحانه: {فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيض} فالمحيض: إِسم مكان كالمقيل، أي مكان الحيض. فقوله: {إعْتَزِلُوا} أمر بالإعتزال، وقيّد المعتزل بالمكان في قوله: {فِي الْمَحِيضِ} وهو: إِسم مكان للحيض كالمَقيلِ اسم مكانٍ للقيلولة، فدلّ على حُرمة الوطء في الفرج الذي هو مكان الحيض مدة الحيض، وخصّ الله التحريم بالوطء، وجعل الإعتزال منحصراً فيه، ومفهوم ذلك أنها لا تُعتزلُ في غيره، ومن هنا جاءت السنة الصحيحة عن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بمؤاكلة الحائض، ومشاربتها، ومجالستها على خلاف ما كان يفعله أهل الكتاب من اليهود، وغيرهم من عدم مؤاكلة الحائض ومجالستها حتى ينتهي حيضها، وثبتت السنة عن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بتحريم الوطء في الفرج بالنسبة للمرأة الحائض، كما في الحديث الصحيح عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال: [إصنَعُوا كل شيءٍ إلا النِّكاحَ]، فقوله: [إِلا

النِّكاحَ] التقدير: فلا تصنعوه أي لا تفعلوه لأن ما بعد إلا مخالف لما قبلها في الحكم، كما هو مقرّر في علم الأصول. وكما دلّ دليل، الكتاب، والسنة على إعتبار هذا المانع، كذلك دلَّ دليل الإجماع، فقد أجمع العلماء رحمهم الله على تحريم وطء الحائض كما نقله الإمام النووي رحمه الله، وغيره. إذاً فالحيض يمنع الوطء في الفرج، لكن هل يجوز للزوج أن يُستمتع منها بغير الفرج؟ هذه المسألة خلافية عند العلماء: الأصل عندهم أنه يجوز له أن يستمتع بالمرأة إذا كانت حائضاً بغير الجماع، لكن يأمرها فتتّزر، فتلبس إزارها من ثوب، ونحوه ويُغَطّى الموضعُ المحرّم، وبعضهم يحدّده بما بين السُّرة، والركبة؛ " لأنّ ما قاربَ الشيءَ أَخذَ حُكْمَه "، وقد قال عليه الصلاة والسلام: [كالرّاعِي يرعَى حولَ الحِمى يُوشِكُ أَنْ يقع فيه]، وأكدوا ذلك بقولها: [كانَ يأمرُ إِحدَانا فَتتّزرَ فيباشِرُها، وهي حائضٌ] والوزرة: لا تكون إلا إذا غطّت هذا الموضع، فالإزار الغالب فيه أن يكون بهذا القدر. وقال بعض العلماء رحمهم الله: المحرّم عليه الفرجان، ولا مانع أن يستمتع بغير الفرجين: ولو كان بالمباشرة، يعني أن المراد بالاتزار أن تشدّ الموضع فقط، ثم لو لامس غير موضع الجماع، وإستمتع به لا حرج عليه على ظاهر القرآن في قوله سبحانه: {فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ}. وهذا المذهب الثاني أقوى من جهة النصِّ، وهو ظاهر القرآن، والسنة.

والمذهب الأول أحوط، وأبعد عن الشّبهة في بقائه على الأصل الموجب لتحريم الوطء، وما قارب الفرج وسيلة للمحرم. وفرّق بعض العلماء -وهو قول ثالث- يفرق بين الذي يستطيع أن يضبط نفسه، والذي لا يستطيع أن يضبطها، فقالوا: يباشر بما دون الفرج قريباً من الفرج إذا كان يملك نفسه، والغالب عليه السلامة وإلا فلا، وهذا القول له أصل من السنة في قبلة الصائم كما سيأتي إن شاء الله، وهو مبني على القياس ومعارَضٌ بعموم الوارد هنا. حرم الله وطء الحائض رحمة بالعباد، حتى ذكر بعض الأطباء المعاصرين أنه في إحدى المؤتمرات الطبية، قالت طبيبة غربية متخصصة: إنها وصلت إلى أمر هام في الطب، وهو أن من يجامع المرأة، وهي حائض أنه تلتهب عنده البروستات، وهي الغُدّة المعروفة. فقال أحد الأطباء المسلمين: هذا الذي توصلت إليه اليوم عرفه المسلمون منذ أكثر من ثلاثة عشر قرناً؛ فإن الله -عز وجل- يقول: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ} فأخبر أنه أذى، فهو يشمل أذى الحسِّ، والمعنى، فكان هذا من إعجاز القرآن، فالمسلمون يعرفون أن هذا الشيء يفضي إلى الضرر، ويستوي في ذلك عوامهم، وعلمائهم. فمن رحمة الله أنه حرم الجماع في هذا الوقت، وذكر بعض الأطباء أنه كما يؤدي إلى الضّرر بالرجل فإنه كذلك يؤدي إلى أضرار في نفسية المرأة. قوله رحمه الله: [فإِنْ فَعَل فعليهِ دينارٌ، أو نِصْفُه كفارةً] قوله: [فإن فَعل]: أي المكلف، فجاوز حدود الله عز وجل وجامع امرأته، وهي حائض.

قوله رحمه الله: [فعَليْه دينارٌ، أو نِصْفُه]: الأصل في هذا حديث عبد الله بن عباس رضي الله عنهما، وقد اختلف في رفعه، ووقفه أن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال في الذي يأتي إمرأته، وهي حائض: [يتصدّقُ بدينار، أو نصفِ دينارٍ] رواه الخمسة، وقال أبو داود: هكذا الرواية الصحيحة قال: [بدينار، أو نصفِ دينار] وحسنه غير واحد من أهل العلم؛ قال الإمام أحمد: ما أحسنَ حديثَ عبد الحميدِ عن مِقْسم عن إبنِ عباسٍ، فقيل: تذهب إليه؟ فقال: نعم، وقد صحّح هذا الحديث الحاكم، وابن القطان، وابن دقيق العيد، وغيرهم، هذا الحديث أمر فيه النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أن يتصدق من جامع الحائض بدينار، أو نصفِ دينار، ثم اُختلف في هذه الصدقة، فقال بعض العلماء: دينار، أو نصف دينار على التخيير، أي أنه مخيّرٌ، إن شاء تصدّق بدينار، وإن شاء تصدّق بنصفه، وهذا القول هو إحدى الروايات عن الإمام أحمد -رحمة الله عليه-، واستشكل بعض العلماء كيف يؤمر بالأقل، والأكثر في كفّارة واحدة، وهذا ليس بإشكال؛ فإن الله -عز وجل- أمر من أفطر، وكان شيخاً كبيراً، أو لا يطيق الصوم بالفدية إطعام مسكين وهو الأقل، ثم قال: {فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ} (¬1) فبين أنّ له أن يزيد بأكثر، فدل على أنه قد ترد الكفارة بالجمع بين الأقل والأكثر، فنقول: لا مانع من أن الشرع يأمر بالدينار، ونصفه، ولا يتجه اعتراضهم بأنه جمع بين الكامل، ونصفه؛ لأنه جمع بين إِجْزاءٍ، وكمال، لا بين إجزاءين، وله نظائر منها: ¬

(¬1) البقرة، آية: 184.

أن الله أباح قصر الصلاة في السفر، وثبت في السُّنة عن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أن الرباعية تقصر إلى ركعتين، ومع هذا فإن المسافر لو أتم صلاته فإنه لا حرج عليه، والأفضل القصر على السنة. وقال بعض السلف، وهو فتوى ابن عباس -رضي الله عنهما-: إن هذا التخيير بين الدينار، ونصفه سببه: أن الجماع في الحيض يختلف، فإن كان في أول الحيض فعليه دينار، وإن كان في آخره فعليه نصفه. وقال بعضهم -وهو قول ثان لبعض السلف- أيضاً: دينار إن كان في أول الحيض، ونصفه إن كان في أوسط الحيض، أو آخره. وتقسيم الحيض إلى أوله، وأوسطه، وآخره يكون إما بالزمان، وإما بالتمييز، مثال ذلك بالزمان: مثاله أن تكون عادتها ستة أيام، فأوله: اليومان الأول والثاني، وأوسطه: الثالث والرابع، وآخره: الخامس والسادس. أما تأقيته بالصفات فكأن يجري معها دم حيض الأيام الأولَ، أحمر شديد الحمرة إلى قريب السواد، فيجري بهذه الصفة لمدة يومين مثلاً، ثم يجري معها أحمر شديد الحمرة في اليومين الأوسطين، ثم يجري معها أحمر أقلّ حمرة، أو قريباً إلى الصُّفرةِ في اليومين الأخيرين فيكون ترتيبه بأوله، وأوسطه، وآخره بصفات الدم، هذا بالنسبة للتأقيت بالزمان والصفة. فإذا وقع في زمان شدّة الدم، وحمرته في أوله فدينار، وإن كان في آخره فنصفه. والحقيقة فتوى ابن عباس تقوّي التفصيلَ: وهو إنه إن كان في أوله فدينار، وإن كان في آخره فنصف ويقَوّيها النظر، فلا يبعد أن الشرع فرَّق بين من

جامع في أول الحيض، وآخره من جهة كون المجامع في آخر الحيض تضرّر بالمنع من الجماع أكثر ممن هو في أوله، لأنه قريب العهد بوقت الحل، فناسب أن تكون العقوبة أقوى لمن جامع في أول الحيض بخلاف من جامع في آخره. ويكون تأقيت الأول، والآخر، بالزمان، وبالصفة في قوة الدم، وضعفه. أما بالنسبة لقدر الدينار فإن الدينار القديم في عهده عليه الصلاة والسلام، وعهد من بعده من الخلفاء الراشدين، وبني أمية لم يكن مضروباً من المسلمين وأول ما ضُرب الدينار في عهد عبد الملك بن مروان رحمه الله، وكان وزن القديم منه، والجديد واحداً، وهو المثقال فالدينار يعادل المثقال، وهو يعادل الغرامين وربع الغرام فإذا وجب الدينار نَظرَ إلى قيمة الغرام من الذهب بالريالات فأخرجها، فلو كان الغرام يساوي أربعين ريالاً فمعناه أن الدّينار: يساوي تسعين ريالاً، ونصفُه: يساوي خمسة وأربعين ريالاً وإن وجد ذهباً أخرج ما يعادل الغرامين، والنصف، أو نصفها وهو الغرام، والربع على التفصيل المتقدم. قوله رحمه الله: [ويَسْتَمْتِعُ مِنْها بِما دُونَه]: قوله رحمه الله: [ويستمتع] من المتعة، وهي اللّذة. قوله رحمه الله: [بما دُونَه]: أي بما دون الموضع الذي حرّم الله الجماع فيه، وظاهر كلام المصنف كما قلنا العموم أي: سواء وُجد حائل، أو لم يُوجد؛ ودليله حديث عائشة رضي الله عنها أنّ النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: [إِصْنعُوا كل شيءٍ إلا النكاحَ] فقوله: [كلَّ شيءٍ] عامّ، لأن [كل]

كما يقول الأصوليون: من ألفاظ العموم، فله أن يستمتع بكل شيء، ما لم يصل إلى الحرام، وهو الوطء في الفرجين، وعمَّمَ حيث لم يذكر الحائل، والإزار، وظاهر فعله عليه الصلاة والسلام: أن تتزر المرأة. قوله رحمه الله: [وإِذَا انقطعَ الدّمُ، ولم تغتسلْ لم يُبَح غيَرُ الصِّيامِ، والطلاقِ]: للحيض طُهران: الأول: طُهرٌ للموضع بانقطاع الدم، وبدوّ علامة الطُّهر، والثاني: طهر للمرأة باغتسالها بعد ذلك، فالأول ليس بيدها، والثاني بيدها. فإذا طَهُرتْ المرأة بانقطاع دمها، ووجود علامة الطهر، وتَطهّرت بالاغتسال بعد ذلك فإنه بالإجماع ترتفع جميع موانع الحيض، ولا إشكال، لكن الإشكال لو طهرت من حيضها، ولم تُطَهِّر نفسها بالغسل، فهل يجوز له أن يجامعها، أو لا يجوز؟ وهل يجوز لها الصيام، وغيره من الموانع؟ قال رحمه الله: [لم يُبَحْ]: أي أن موانع الحيض، ومنها: الجماع لا تُباح إلا بعد غُسلها، وقوله: [غَير الصّيامِ, والطّلاقِ] أي أنه يباح لها فعل الصّيام، والطّلاق فقط، وهذا مذهب جمهور العلماء رحمهم الله. وقال الإمام أبو حنيفة النعمان -رحمة الله عليه-: إذا إنقطع دم الحيض جاز للرجل أن يجامع امرأته، ولو لم تغتسل. فالإمام أبو حنيفة يقول: إن الغاية في التحريم في قوله سبحانه: {وَلَا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ} هي الطُّهر، فإذا طهرت المرأة بانقطاع الدم عنها إِنتهى منع الجماع؛ فإذاً الجماع مؤقت بوجود الحيض، " وما شُرِعَ لعلّةٍ يبطل بزوالها "

كما هي القاعدة في الأصول، فلما زال دم الحيض زال المانع؛ فجاز له أن يجامع. لكن الجمهور قالوا: إن في الآية غاية، وشرطاً، فالغاية في قوله: {حَتَّى يَطْهُرْنَ}، والشرط في قوله: {فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ}. قال الإمام أبو حنيفة: العبرة بالغاية؛ لأن القاعدة في الأصول: " أنَّ ما بعدَ الغايةِ يُخالف مما قَبلَها في الحُكْمِ "، لأنه لو كان الذي بعد الغاية كالذي قبلها لم تكن هناك فائدة من ذكر الغاية، وهذا صحيح إذا كانت الغاية ليس معها شرط، أما إذا اقترنت بالشرط فلا بد من تحققه معها لإفادة الحكم وعليه؛ فإنه يترجح مذهب الجمهور رحمهم الله من إعتبارهما معاً، وقد جاءت في الشريعة نظائر لمسألتنا منها: قوله سبحانه وتعالى في بيان رفع الحجر عن اليتامى: {وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ} (¬1) فقال: {حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ} فهذه غاية، وهي: البلوغ، ثم قال سبحانه: {فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُم} وهذا شرط، فلا مانع أن تثبت الغاية مع ثبوت الشرط، فنقول: إن آية الحيض فيها غاية، وشرط، والقاعدة: " أنه إِذا تخلّف الشرطُ تخلّف المشروطُ، وإذا وجدَ الشرطُ حُكم بالمَشْروطِ ". فإذًا تقول: إذا وجد الاغتسال؛ جاز له أن يجامع، وإلا فلا. ¬

(¬1) النساء، آية: 6.

الدليل الثاني على رجحان مذهب الجمهور: أن الله عز وجل قال: {حَتَّى يَطْهُرْنَ} ثم عقب بقوله: {فَإِذَا تَطَهَّرْنَ} فأسند الطهر لأنفسهن بقوله: {فَإِذَا تَطَهَّرْنَ} أي: فعلن الطُّهر، وعلى هذه القراءة يكون الطهر الثاني هو: الغسل فالغاية الطهر الأول، والشرط: الطهر الثاني لأن الله نسبه إلى النساء فدلّ على أنه من فعلهن، فصار طُهراً زائداً على الطهر الأوّل لا نفسه، وهناك قراءة بالتشديد: {حَتَّى يَطَّهَرْنَ} بالتشديد، وهي تصلح أن تكون دليلاً لمذهب الجمهور كما أشار إليه غير واحد من أهل العلم، واختاره الإمام الماوردي في جوابه في الحاوي، فالمقصود أن أصحَّ القولين هنا: أنه لا بد في إباحة جماع المرأة بعد الحيض من أن تَطْهر، وتغتسل، فإذا طَهرتْ، ولم تغتسل لا تُجامَع، وإنما يتريث حتى يتحقق الشرط الذي أمر الله -عز وجل- به. قال رحمه الله: [لم يُبَح غيرُ الصِّيام، والطلاقِ] معناه: أنه يجوز لها فعل الصيام قبل أن تغتسل، فلو طهرت قبل أذان الفجر ولم تغتسل، ونوت الصيام ثم أذنَ، واغتسلت بعده صحّ صومُها، وأما الطلاق فإنه محرم، فلا يجوز طلاق الحائض؛ ولذلك غضب -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- على عبد الله بن عمر رضي الله عنهما لما طلق امرأته، وهي حائض، وقال عليه الصلاة والسلام لأبيه عمر رضي الله عنه مبيّناً له طلاق السنة: [مُرهُ فليراجِعْها، ثمّ ليُمْسِكْها حتى تَطْهُر، ثم تَحيض، ثم تطهر، ثم إن شاءَ طلّق، وإن شاءَ أمسكَ، فتلكَ العدةُ التي أمرَ الله أن تطلق لها النساءُ]، فدلّ على تحريم طلاق المرأة الحائض، وأجمع على ذلك العلماء رحمهم الله وسمّوه طلاقاً بدعياً أي: أنه

مخالف للشرع، فكلهم متفقون على أن الحيض يمنع الطلاق، وينتهي هذا المنع بطهر المرأة، ولا يُشترط إغتسالها كالجماع، بل يجوز أن يطلقها بعد الطهر مباشرة للحديث السابق حيث بين أن المنع من الطلاق حال الحيض ينتهي عند الطهر، ولم يشترط الإغتسال بعده، وقوله رحمه الله: [لم يُبَح غير الصيام، والطلاق] معناه أن بقية الموانع لا بد فيها من الطُّهرين: الطهر الأول بانقَطاع الدم، ورؤية علامة الطهر، والطّهر الثاني: بالغسل، فلا يباح لها أن تصلي، ولا أن تدخل المسجد، ولا أن تمسّ المصحفَ، ولا أن تقرأ القرآن، ولا غيرها من بقية الموانع إلا بعد حصول هذين الأمرين. قال رحمه الله: [والمبتدأةُ تَجلسُ أقله، ثم تَغتسلُ، وتصلّي] شرع المصنف -رحمه الله- بهذه العبارة في ذكر أحوال النساء، فالمرأة الحائض لا تخلو من ثلاثة أحوال: الحالة الأولى: أن تكون مُبتدأَةً، بمعنى أنها لأول مرة يأتيها دم الحيض. والحالة الثانية: أن تكون مُعتادةً، بمعنى أن دم الحيض عاودها حتى ثبتت لها فيه عادة معينة. والحالة الثالثة: أن تكون متحيِّرةً، بمعنى أنه لا يمكنها أن تعرف عادتها لأجل النسيان، سواء نسيت قدر العادة، أو مكانها من الشهر، هذه ثلاثة أحوال للمرأة. ومن عادة أهل العلم أنهم يبدأون بالنوع الأول، وهذا فيه مراعاة لأحوال النساء. يقولون: توصف بكونها مبتدأة إذا كان الحيض قد جاءها لأول مرة، هذا أول شرط للحكم بكونها مُبْتدأَةً.

والشرط الثاني: أن يكون سنُّها سنَّ المرأة التي تحيض، وهو التسع على أصحّ الأقوال كما قدمنا، فإذا كان سنها دون التسع؛ فإنه لا يُحكم بكون الدم الذي يجري منها دم حيض. فالمرأة التي جاءها دم الحيض لأول مرة لا تستطيع أن تقول أردها إلى عادتها؛ لأنه ليس لها عادة، فإذاً لا بد من أن يكون لها حكم خاص، والسؤال: ما هو هذا الحكم الخاص بها؟ والجواب: أن هذه مسألة خلافية فمن أهل العلم من قال: المبتدأة حائض إذا جاءها الدم في زمان إمكان الحيض (أي بعد بلوغها تسع سنين) فنحكم بكونها حائضاً، وليس عندنا حد لأقل الدم، فإذا جرى معها الدم إمتنعت عما تمتنع عنه الحائض، فإن انقطع دون الخمسة عشر يوماً فهو حيض فتغتسل عند إنقطاعه فإن عاودها بنفس العدد ثلاثة أشهر متتابعة ثبتت عادتها، وهذا القول مبني على القول بعدم تحديد أقل الحيض. وقال بعض العلماء: كلُّ إِمرأة مُبتدأة أردّها إلى عادة أمهاتها، وأخواتها. وقال بعض العلماء: كل امرأة مُبتدأة أردها إلى عادة لِدَاتها، أو أتْرابها كما يُعبر العلماء، واللِّدةُ، والتِّرْب هي: التي تكون في سن المرأة. وقال بعض العلماء: المبتدأة تجلس أقل الحيض، وتحكم بكونها حائضاً ذلك القدر الذي هو أقل الحيض، ثم تغتسل، وتصوم، وتصلي حتى يعاودها الدم ثلاث مرات على وتيرة واحدة؛ فنحكم بإنتقالها إلى كونها معتادة.

إذاً عندنا أربعة أقوال: الأول: يُحكم بكونها حائضاً، ولا حدَّ عنده لأقل الدم، وتنتقل لكونها معتادة بإنقطاعه دون الخمسة عشر يوماً بعدد يتكرر ثلاثة أشهر متتابعة. والقول الثاني، والثالث يقول: أردّها إلى أترابها، وقريباتها، فهذان القولان دليلهما واضح وهو: إن الشيء إذا شابه غيره أخذ حكمه، ولذلك يقول: أنا لا أقول إن هذه المبتدأة تجلس أقل الحيض، ولكن أقول: تنظر إلى أمثالها، فإن كانت عادة أمهاتها وأمثالها في سنها ستة أيام مثلاً فهي عادتها ستة أيام حتى تثبت لها عادة جديدة. يبقى عندنا القول الرابع: وهو قول من يقول للحيض حدٌ أقلي الذي هو يوم وليلة كما يقول الشافعية، والحنابلة أو ثلاثة أيام كما يقول الحنفية فأصحاب هذا القول يقولون: كلُّ مُبتدأة لا نحكم بكونها حائضاً إلا إذا جاوزت أقل الحيض، فالشافعية، والحنابلة يقولون: كلُّ إمرأة بلغت تسع سنوات، وجاءها الدم فإنها تجلس يوماً، وليلة حتى يثبت كونه حيضاً، فإن استمر هذا الدم معها يوماً، وليلة فهي حائض، وإن نقص عن اليوم، والليلة فهي مستحاضة، والدم دم فساد، ومرض، هذا المذهب الأول في تحديد أقل الحيض، وهو الذي درج عليه المصنف -رحمة الله عليه-. والمذهب الثاني مذهب الحنفية يقولون: ثلاثة أيام، فهذه المبتدأة إن استمر معها الدم ثلاثة أيام حينئذٍ أَنْظُرُ في كونها حائضاً، وأما إن نقص عن الثلاثة الأيام فإنني أعتبرها مستحاضة، والدم الذي معها دم فساد، وعلِّة، وليس بدم حيض. هذا بالنسبة لقضية أقل الحيض.

الآن عرفنا مذاهب العلماء -رحمة الله عليهم- في مسألة المرأة المبتدأة. عندنا مسلكان: مسلك يقول: المرأة المبتدأة حائض، ولو كان الدم دفعة واحدة، وهو الذي رجحناه كما قدمنا في مسألة أقل الحيض، وقلنا: إنه مذهب المالكية، والظاهرية، واختاره شيخ الإسلام رحمة الله على الجميع. والمسلك الثاني يقول: تجلس أقل الحيض، إما يوم وليلة على قول، أو ثلاثة أيام على القول الثاني. الآن يا ترى إذا استمر معها يوماً، وليلة، أو استمر معها ثلاثة أيام على القول بالتثليث، فلا يخلو إما أن ينقطع لأقل الحيض، وإما أن ينقطع على أكثر الحيض، أو ينقطع بعد أكثر الحيض. فإذا انقطع لأقل من خمسة عشر يوماً، أو على الخمسة عشر يوماً فإنه على مذهب التحديد باليوم، والليلة يقولون: نعتبر اليوم، والليلة حيضاً، والزائد استحاضة، ثم نترك المرأة ثلاثة أشهر، فإذا انقطع في الثلاثة الأشهر بعدد واحد مثل: أن يستمر معها في الشهر الأول خمسة أيام، وينقطع، والشهر الثاني، والثالث كذلك قالوا: تثبت عادتها خمسة أيام بعد الشهر الثالث، ثم نطالبها بقضاء الأربعة الأيام من الشهر الأول، والثاني، والثالث؛ لأننا تيقنا أن الأربعة الباقية حيض، وليست باستحاضة، وعلى هذا المذهب تغتسل غسلان في الأشهر الثلاثة الأول منهما بعد اليوم، والليلة؛ والثاني بعد إنقطاع الدم أي: بعد اليوم الخامس، وهو تمام العدد الذي يحتمل أن يكون عادة.

لكن الذي يترجح كما تقدم بيانه أنه إذا انقطع دون أكثر الحيض، أنها تجلس القدر الذي جرى معها فيه الدم، فإذا إنقطع عنها لما دون خمسة عشر يوماً إغتسلت غسلاً واحداً. والمذهب الثاني الذي ذكره المصنف مذهب مرجوح. وعلى قول المصنف لو استمر معها الدم، وجاوز أكثر الحيض قال: عرفنا أنه دم فساد، وعلّة فتبقى على اليقين اليوم، والليلة أنها حائض، والزائد إِستحاضة حتى تثبت لها عادة بوتيرة معينة، أو تُميّز دمها، وسنبين كيف يكون التمييز. الآن عرفنا بالنسبة للمبتدأة أن الجميع متفقون على أنه إذا جرى معها الدم ثلاثة أيام بالإجماع أنها تعتبر حائضاً. ولكن الخلاف إذا جرى لأقل عند من يضع للحيض " حداً أقلياً، فإن جرى أقل من يوم، وليلة فالمالكية والظاهرية يعتبرونه حيضاً، وإن جرى يوماً، وليلة فالجمهور من المالكية، والشافعية، والحنابلة يعتبرونه حيضاً، والحنفية لا يعتبرونه حيضاً حتى يبلغ ثلاثة أيام. إذاً يشترط فيها أول شيء أن يكون سنها سن حيض. وثانياً: أن تجاوز أقل الحيض عند من يقول للحيض حد أقلي، ولا يشترط ذلك عند من لا يرى تحديد أقل الحيض.

قوله رحمه الله: [والمبتدأةُ تجلسُ أقلّه ثم تغتسلُ، وتصلّي] قوله: [أقلَّه]: الضمير عائد إلى الحيض، وأقله هو يوم وليلة على ما سار عليه المصنف رحمه الله ثم تغتسل، وتصلي، وقوله: [تجلس]: يعني تحكم بكونها حائضاً، كما قدمنا بيانه. قوله رحمه الله: [فإِنْ انقطَع لأكثرِهِ، فَما دونَ اغتسلتْ عنْدَ انقطاعِهِ]: هذه مسألة ثانية، نحن قررنا أن ما دون أكثر الحيض يُعتبر فيه اليوم، والليلة، لكن عندهم أيضاً أمر آخر، حيث قالوا: إذا جرى معها الدم لأول مرة، واستمر يوماً، وليلة حكمنا بكونها حائضاً، ثم تغتسل بعد اليوم، والليلة، وتصوم، وتصلي، فإن انقطع لأقل من أكثر الحيض فإنه يلزمها أن تغتسل غُسلاً ثانياً؛ لاحتمال أن يكون الكلُّ حيضاً، لأنها إلى الآن ما ثبتت لها عادة، فاحتاطوا في ذلك وقالوا: نرجع إلى اليقين أنها حائض في اليوم والليلة، فنأمرها بالاغتسال بعد اليوم والليلة؛ لأنه يقين أنه حيض، وما زاد عليه مشكوك فيه فنبقى على الأصل من كونها طاهراً فتغتسل، فإذا إِنقطع دون خمسة عشر يوماً فما الحكم؟ قالوا: تغتسل غُسْلاً ثانياً، لإحتمال أن يكون عادتها، وهكذا في الشهر الثاني، والثالث حتى تثبت عادتها. قال رحمه الله: [فإنْ تَكَررَ ثلاثاً فحيضٌ، وتَقْضِي ما وَجَبَ فيه] قوله رحمه الله: [تكرر ثَلاثاً] أي: تكرر إتيان دم الحيض ثلاثة أشهر بعدد واحدٍ لا يزيد عليه، ولا ينقص عنه، وقوله: [فحيض] أي أن عادتها في الحيض تكون ذلك العدد، وتعرف هذه المسألة عند العلماء بمسألة إثبات العادة،

وقد إختلف العلماء رحمهم الله في هذه المسألة في عدد الأشهر التي يُشترط تكرارها، وذلك على قولين: القول الأول: وهو مذهب الجمهور، وهم المالكية، والشافعية، والحنابلة رحمهم الله: أن العادة تثبت بثلاثة أشهر تكون بعدد واحد، فإذا تكرر دم الحيض ثلاثة أشهر متتابعة بعدد واحد حكمنا بكونها معتادة بعد الشهر الثالث. القول الثاني: أن العادة بشهرين، يتكرر فيهما الدم بعدد واحد لا يختلف، وهذا هو مذهب الحنفية رحمهم الله. ومذهب الجمهور رحمهم الله أحوط، ومذهب الحنفية أقوى لأن المعاودة تحصل بالمرتين، وقد مشى المصنف رحمه الله على مذهب الجمهور في إثبات العادة، وهو إِشتراط التكرار ثلاثة أشهر، فمحل الخلاف: في اشتراط الشهر الثالث، وإذا ثبتت العادة، وجب الرجوع إليها، وقد دلّ على ذلك قول النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: [لِتنْظُر الأيامَ التي كانتْ تحيضهُنَّ قبلَ أنْ يُصيبَها الذي أَصابَها] فردّها عليه الصلاة والسلام إلى العادة، فدلّ على إعتبارها في الحيض، فلو أن امرأة سألتك، وقالت: إن الدم استمر معي عشرين يوماً فمتى أحكم بكوني طاهرة؟ تقول: هل لك عادة؟ فإن قالت: نعم كانت عادتي من قبل خمسة أيام، فتقول: اُمكثي خمسة أيام، ثم إذا مضت الخمسة الأيام فاغتسلي، وصلّي، وصومي.

إذاً تردها إلى العادة، وهذه فائدة معرفة ضابط العادة، حتى يُحتكم إليها بعد إثباتها عند اختلال دم المرأة، فإذا اختل وضع المرأة إما لجراحة، أو لمرض، أو لولادة، أو غير ذلك فإننا نردها إلى العادة، وكما قلنا العادة بإجماع العلماء معتبرة. وقوله رحمه الله: [وتَقْضِي ما وجبَ فيه]: يعني في ذلك الأمد الذي ثبت أنه حيض بعد ثبوت العادة وهو الأيام الزائدة على اليوم، والليلة خلال الشهر الأول، والثاني، والثالث. فالمبتدأة على ما مشى عليه المصنف رحمه الله تجلس أقل الحيض، ثم تغتسل، ثم تصوم، وتُصلي، فلو فرضنا: أن الدم كان يجري معها خمسة أيام، واستمر ثلاثة أشهر بذلك العدد، ثبتت عادتها بالخمسة، وتبين لنا بعد الشهر الثالث أن هذه المبتدأة مكثت يوماً من الشهر الأول، وأفطرت أربعة أيام، ثم مكثت يوماً من الشهر الثاني، وأفطرت أربعة أيام، ثم في الشهر الثالث كذلك تقول: تقضي ما وجب عليها فيه، ما الذي وجب؟ وجب عليها الصوم، أما الصلاة فإن الحائض لا يجب عليها أن تصلي، فتقول: الأربعة الأيام التي كانت تصومها ظانة أنها طاهر بعد اليوم والليلة خلال الثلاثة الأشهر يلزمها قضاؤها جميعها لأنه تبين أنها أيام حيض بعد ثبوت العادة، فهذا هو معنى قوله هنا: [وتقْضي ما وجب فيه] أي: تقضي الأيام الزائدة على اليوم، والليلة، والتي تبين أنها حيض بعد ثبوت العادة. قوله رحمه الله: [وإِنْ عبَر أكثرَه فمستحاضةٌ]: قوله: [وإنْ عَبَر أَكثَره]: يعني عبر الدم أكثرَ الحيض فالضمير عائد إلى الدم الذى يجري مع المرأة،

وأكثره: هو خمسة عشر يوماً كما قدمنا، وقوله رحمه الله: [فمستحاضة]: أي: أنه يحكم بكونها مستحاضة بعد أكثر الحيض بالإجماع، وتوضيح ذلك: أن المرأة المبتدأة إما أن ينقطع الدم عنها دون خمسة عشر يوماً، أو على الخمسة عشر يوماً، أو بعد الخمسة عشر يوماً، قلنا: إذا انقطع لأقل من خمسة عشر يوماً الحكم أنها تنظر في تكراره ثلاثة أشهر على وتيرة واحدة وتحتسب يقين الحيض، وهو اليوم، والليلة قبل ثبوت العادة ثم تقضيه على ما مشى عليه المصنف، وقلنا على القول الراجح أنها تمكث كل الذي دون الخمسة عشر يوماً لا تصوم فيه، ولا تُصلي على أنها حائض حتى تثبت لها العادة، وعلى القول الذي مشى عليه تغتسل غسلين، وعلى الراجح تغتسل غسلاً واحداً. وأما إن عبر أكثر الحيض فقد قال رحمه الله: [فمستحاضة] والسؤال: هل نحكم بكونها مستحاضة بمجرد مجاوزتها للخمسة عشر يوماً، أو مستحاضة بعد اليوم والليلة؟ قال: مستحاضة بعد اليوم والليلة، فاليوم والليلة حيض، فلما استمر معها الدم أكثر من خمسة عشر يوما عرفنا أن هذا المستمر دم فساد وليس بدم حيض، إذاً نريد الآن أن نفهم كلام المصنف، ونفهم ما اخترناه على القول الراجح. فكلام المصنف ينبني على الآتي: أن المرأة المبتدأة إذا انقطع دمها في أقل من أكثر الحيض، أو مساوياً لأكثر الحيض الذي هو خمسة عشر يوماً فحينئذٍ يقولون: تعتبر نفسها حائضاً يوماً وليلة، في الشهر الأول، والثاني، والثالث ثم بعده تحكم بكونها معتادة إذا

جاءها على وتيرة واحدة، هذا بالنسبة لما مشى عليه المصنف -رحمه الله-، أما لو انقطع فوقه فالحكم أن الحيض يوم وليلة، وما زاد استحاضة. إذاً ما مشى عليه المصنف رحمه الله: أن الحيض يوم وليلة فتجلسه المبتدأة وتغتسل بانتهاء اليوم والليلة ولو جرى معها الدم، ثم إن انقطع الدم ثلاثة أشهر دون خمسة عشر يوماً فحينئذٍ تعتبر نفسها معتادة على ذلك القدر الذي جاءها على وتيرة واحدة، وتغتسل غُسلاً ثانياً عند انقطاعه خلال الثلاثة الأشهر، وإن جاوز أكثر الحيض الذي هو الخمسة عشر يوماً فحينئذٍ اليوم والليلة حيض والزائد استحاضة، ولا يلزمها غسل ثانٍ. وأما على قول من لا يقول بالتحديد، وهو القول الذي رجحناه: فإنه بمجرد أن يجري معها الدم تعتبر نفسها حائضاً، وتمتنع من الموانع؛ لأنه زمن حيض، وأمد حيض، ولا تقدير من الشرع فالأصل، واليقين أنها حائض، حتى ينقطع ذلك الدم، فإن كان دون الخمسة عشر فهو حيض كله من أول مرة، وتغتسل بعد إنقطاعه، وإن جاوز الخمسة عشر فالزائد إستحاضة، وتغتسل بعد تمام أكثره غسلاً واحداً. قوله رحمه الله: [فإن كانَ بعضُ دمِها أحمَر، وبعضُه أسودَ، ولمْ يعبرْ أكثَره، ولم يَنْقُصْ عن أقلهِ فهو حيضُها تجْلِسه في الشهر الثاني، والأحمرُ إستحاضة] هذا هو النوع الثالث من النساء: وهو المُمَيِّزةُ. والمُميّزَةُ مأخوذهَ: من التّمييزِ، وتميز الشيء: أن تكون له حِلْيةٌ، وأوصافٌ يتميّز بها عن غيره، وهذا النوع من النساء يعتبر في الحقيقة عند بعض العلماء أقوى من العادة، يعني المرأة التي تعرف طبيعة دمها أقوى عنده من رجوعها

إلى العادة، فيردها إلى التمييز قبل أن يردّها إلى العادة، وإن كان الصحيح أن العادة أقوى من التمييز لحديث عائشة رضي الله عنها في الصحيح لما سألتْ فاطمةُ بنتُ أبي حبيشٍ رضي الله عنها رسولَ الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عن حيضها فقال: [لتنظرِ الأيّامَ] وقال في الحديث الآخر: [دعي الصّلاةَ أيامَ أقرائِك] فردّها إلى عادتها، فدلّ على أن العادَة أقوى من التَّمييزِ. وخالف الإمام أبو حنيفة النعمان رحمة الله عليه فضعّف التّمييزَ، والصحيح أن التّمييز حجةٌ، ومُعتبر. والدليل على أن التمييز يعتبرُ في الحيض قوله عليه الصلاة والسلام: [إِنَّ دمَ الحيض دمٌ أسودُ يُعرفُ, فإذَا كانَ ذلِكِ فأمسِكي عنِ الصّلاةِ] فقوله: [إِنّ دمَ الحيضِ دَمٌ أسودُ يُعرفُ] فيه دليل على إعتبار التمييز في الحيض حيث ردّها رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلى لونه الذي يتميّز به , وألوان دم الحيض: أقواها الأسود، ثم الأحمر شديد الحمرة كما يقول العلماء، وهو: القاني، ويختلف هذا الأحمر على مراتب، ثم بعد الأحمر الأشقرُ، وألغاه بعضُ العلماء، ثمّ الأصفرُ، ثمّ الأكدر، ثم التُّربي، فهذه ستّة ألوانٍ، أما اللون الأسود: فهو أقواها، ثم يليه الأحمر، وهو الطّبيعي في دم النساء، ولكنهم قالوا: أحمر محتدم أي: شديد الحمرة حارقٌ تعرفه النساء بوصفه، ثمّ أخف منه المُشْرق، والذي يقول بعضهم: الأشقر، أو الأشيقر، وقيل: إن الأشقر هو الصفرة التي وردت في حديث أمِّ عطيةَ رضي الله عنها، وأثرِ عائشةَ رضي الله عنها، ثمّ يليه الأصفر ثم الأكدر، والأكْدَرُ: كالماء الكَدرِ المتعكِّر ضارباً إلى شيء من الخُضرة، ثمّ التُّربي هذا بالنسبة لألوان دم الحيض.

وكما تميّز المرأةُ دَم الحيض باللّون، كذلك تميزه بالرّائحة، وبالكثرة، والقِلة وبالألم، وبالغِلَظِ والرِّقةِ، هذه ضوابط التمييز. فاللون تميّز المرأةُ به دم الحيض بأن تعتبر أشدّ ألوانه حيضاً، وما خفّ بعده إستحاضة على حسب الألوان فمثلاً: لو أن امرأة قالت: جرى معي دم الحيض ستة أيام أحمر شديد الحمرة، ثمّ أصبح بعدها أصفر، تقول: حيضك الستة الأيام، وما بعدها إستحاضة، وهكذا الحكم لو تخلّل الدمَ القويَّ ما هو أضعفُ، فلو قالت: إنه يجري معها ثلاثة أيام أسود، ثم ثلاثاً أحمر، ثم ثلاثاً أسود، تقول: الثلاثة الأُول: حيض، والثلاثة الحمراء: استحاضة، والتي بعدها: حيض، فأنت طاهر في الثلاث الوسطى، حائض في الأولى، والأخيرة، ويحكمُ بخروجك من الحيض في اليوم التاسع، بناء على أن عادتك ستة أيام. هذه مسألة التمييز باللون الأسود. وإما التمييز باللون الأحمر، فمثل أن تقول: جرى معي الدّم أحمرَ شديدَ الحُمرة لمدة يومين، ثم يومين آخرين خفيفَ الحُمرة، ثمّ يومين شديدَ الحُمرة، ثمّ يومين خفيفَ الحُمرة، تقول: اليومان الأولان حيض، واليوم الثالث، والرابع، وهما اليومان اللذان يليانها استحاضة، ثم الخامس، والسادس اللذان إِشتَدَّت فيهما حمرة الدم هما من الحيض، فتضيفين اليومين هذين إلى اليومين الأوليين، هذه أربع، ثمّ تحكمين بطهارتك بانقضاء اليوم الرابع، وتدخلين في الإستحاضة في اليوم الخامس، والسادس، ثمّ في اليوم السابع دخلت في اليوم الخامس من حيضك، واليوم الثامن هو اليوم السادس من الحيضة

فيحكم بانتهاء حيضك في اليوم الثامن، وهكذا التمييز ببقية الألوان الأخرى، فالحكم فيها كما ذكرنا هنا في اللون الأحمر. هذا بالنسبة لمسألة اختلاف ألوان الدم التمييز لها، ولا يشترط تَخلّل اللونِ الضعيفِ بين اللونِ القويِّ كما ذكرنا في المثال بل العبرة بقوةِ اللّون بغضِّ النّظر عن مكانها. وأما بالنسبة للتّمييز بالرائحة: فإن دم الحيض له رائحة شديدة النّتن بخلافِ دمِ الإستحاضة فإنه أخفُّ منه، فإذا استطاعت أن تعرف دم حيضها برائحته، فقالت مثلاً: جاءني دم أحمر عشرين يوماً ولكن لاحظت أن لونه واحد، لاحظ في الحالة الأولى التمييز باللون لا بد أن تختلف الألوان، ولكن التمييز بالرائحة لا يختلف اللون، وإنما تختلف الرائحة، فتقول لك: جاءني عشرين يوماً دمٌ أحمر، فهل كلّه حيض؟ تقول: لا، ليس بحيض، هل لك عادة؟ قالت: ما لي عادة، تقول: إذاً هل تستطيعين أن تميزيه بالرائحة؟ قالت: نعم رائحته في الستّة الأُول نتنةٌ شديدة، وفي الأربعة عشر الباقية ليست كذلك، فحينئذ تحكم بكونها حائضاً في الستة الأول، دون ما بقي. أو قالت: يومين برائحته، ثم أربعاً بدون، ثم يومين برائحته، ثم أربعاً بدون، ثم يومين برائحته. فما الحكم؟ تقول: تلفقين، هذا يسمى مذهب التلفيق، اليومان اللذان فيهما رائحة دم الحيض حيضٌ، والأربع التي ليست فيها رائحة دم الحيض استحاضة، ثم بعدها دخلت في اليوم السابع وهو ثالث أيام الحيض، واليوم الثامن رابعه، وقس على هذا. هذا بالنسبة للتمييز بالرائحة.

الضابط الثالث للتمييز: التمييز بالألم، حيث جرت العادة عند النساء في دم الحيض أنه أشد ألماً من دم الإستحاضة، وكل إمرأة تعرف طبيعة دمها في ذلك، فإذا قالت المرأة: جاءني عشرين يوماً، لكنه الستة الأيام الأول كان مؤلماً حارقاً، تقول: كونه في هذه الأيام بهذه الصفة فهو دم حيض، والأيام الباقية دم استحاضة. هذه ثلاث علامات للتّمييز: اللّونُ، والرّائحةُ، والألمُ. الضابط الرابع للتمييز: الكثرةُ، والقِلّة، قالوا: إن دم الإستحاضة يكون نازفاً بخلاف دم الحيض، فإنه أقل، ولذلك لما استحيضت حمنة رضي الله عنها، وسألتْ رسولَ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قالت: [إنِّي أَثُجُّ ثَجَّاً] والثجُّ: السّيلانُ. وبعضهم يضع بدل الكثرة، والقِلّة علامة أخرى، وهي: الرِّقة، والغِلظة، فالغليظ: حيض، والرقيق: إستحاضة، فلو قالت مثلاً: جاءني دم الحيض عشرين يوماً لكن ألاحظ أن الستَّةَ الأُول كان الدّم فيها ثقيلاً غليظاً، والأربعة عشر يوماً الباقية كان رقيقاً، تقول: السّت: حيض، والباقي: استحاضة. هذه ضوابط التمييز: اللّونُ، والرِّيحُ، والأَلمُ، والكثْرةُ والقِلَّة، والغِلظُ والرِّقةُ.

وقد جمعها بعض العلماء بقوله: باللّونِ والرِّيح وبِالتّألُمِ ... وَكثْرةٍ وقِلّةٍ مَيْزُ الدّمِ هذا على المذهب الذي يقول: الكثرة، والقلة، وبعضهم يرى الغلظ، والرقة فيقول في الشطر الثاني: وغِلَظٍ ورِقةٍ مَيْزُ الدّمِ قوله رحمه الله: [وإنْ لم يكنْ دَمُها مُتَمِّيزاً جَلستْ غَالبَ الحَيْضِ مِنْ كُلِّ شَهْرٍ] هذا هو النوع الثالث: وهي المتحيّرة التي لا عادة لها، ولا تمييز، أو نسيت عادتها. وحكمها: إذا استمر معها الدم حتى جاوز أكثر الحيض نردُّها إلى غالب الحيض، يعنى غالب الأيام التي تجلسها النساء، والغالب: أن المرأة تحيض سِتّاً، أو سبعاً، ودليلنا على ذلك السنة: في قوله عليه الصلاة والسلام: [تَحيّضِي في علمِ اللهِ سِتاً أَوْ سَبْعاً] فردّها إلى الغالب، فقال العلماء: الستّ، والسّبع هي غالب حيض النساء، فالمرأة إذا التبس عليها، واستمر معها الدم، ولم تكن لها عادة، ولا تمييز تَردّها إلى غالب الحيض، وقد تأتيك المرأة معتادة، ولكن نسيت عادتها، ولا تستطيع أن تميّز تردُّها إلى غالب حيض النساء أيضاً على تفصيل في أحوال النسيان سيذكره المصنف رحمه الله.

قوله رحمه الله: [والمستحاضةُ المعتادةُ، ولوْ مُميّزةً تجلسُ عادَتَها]: المستحاضة: إِستفعال من الحيض، يعني: استمر معها دم الحيض، فالمرأة إذا جرى معها الدم ثلاثين يوماً كما قررنا في المجلس الماضي فإنه بالإجماع لا يقال إن الشهر كله حيض بل نقول: بعضه حيض، وباقيه إستحاضة. والدليل على ذلك: قوله -عليه الصلاة والسلام- في الصحيح لما سألته فاطمةُ بنتُ أبي حُبيشٍ رضي الله عنها فقالت له: -يا رسولَ الله- إني أُستحاضُ، فَلا أَطهُر، أَفأدعُ الصَّلاةَ؟، فقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: [إِنما ذلِكِ عِرْق، ولَيْس بالحَيْضةِ] فبيّن لها عليه الصلاة والسلام أنّ الدم كله لا يعتبر حيضاً بل بعضه حيض، وباقيه إستحاضة، وهكذا لما سألته حمنة بنت جحش رضي الله عنها فقالت: [يا رسولَ الله إنّي أُستحاضُ حيضةً كثيرةً شديدةً] لم يعتبر عليه الصلاة والسلام جميع دمها حيضاً بل قال لها عليه الصلاة والسلام: [إِنما هذه ركضةٌ من ركَضَاتِ الشّيطانِ فتحيّضِي سِتّة أيام، أو سَبعةً في علمِ اللهِ] فإذا ثبت هذا، وهو أن الدم ليس كله حيضاً بل بعضه حيض، وبعضه إستحاضة؛ فإنه يرد السؤال: إذا كانت المرأة ترجع إلى عادتها، وتمييزها، كما دلت السنة على إعتبار الأمرين فهل تقدم عادَتها، أو تمييزَها؟ فبيّن رحمه الله: أن العادة مُقدّمةٌ على التّمْييز، وذلك لحديث فاطمةَ بنتِ أبي حُبيشٍ رضي الله عنها في الصحيحين حيث رَدّها عليه الصلاة والسلام إلى عادتها في قوله: [دَعِي الصّلاةَ أيامَ أَقرائِكِ] ولم يستفصل، فلم يسألها هل لك تمييز، أو لا؟ بل ردّها إلى عادتها مباشرة، فدلّ على قوة العادة وأنها هي المعتبرة سواء وُجد تمييزٌ، أو لم يُوجدْ لأنّ

القاعدة: [أَنّ تركَ الإستفصالِ في مقامِ الإحتمالِ ينزّلُ منزلةَ العمومِ في المقالِ] فكأنه قال لها عليه الصلاة والسلام: إرجعي إلى عادتك؛ سواء كان لك تمييز، أو لم يكن. فهذا الحديث أصل في تقدم العادة على التمييز، ودلالته من هذا الوجه قويّة، ومما يُرجح هذا القول أيضاً: أن الحديث الذي دلّ على إعتبار العادة أقوى سنداً من الحديث الذي دلّ على إعتبار التّمييز بل ورد في إثبات العادة أكثر من حديث، وبعضها في الصحيحين بخلاف حديث التمييز إضافة إلى أن العادة مجمع على إعتبارها، بخلاف التمييز حيث لم يُجمع عليه، وبهذه الوجوه تكون العادة مقدّمةً على التمييز، والله أعلم. قوله رحمه الله: [وإن نسِيتْها عملَت بالتّمييزِ الصَّالح]: أي: نسيت عادتها، وقوله: [عملتْ بالتّمييزِ الصَّالح] أي أن التمييز محلّه أن لا تكون لها عادة مثل: المبتدأة، أو تكون لها عادة، ولكن نسيتها، فلا عمل بالتمييز مع العادة التي تتذكرها المرأة، وقوله: [الصَّالح] أي: الذي له أوصاف مؤثرة يصلح بها لتميز دم الحيض من دم الإستحاضة كما قدمنا في صفات التمييز المعتبرة. قوله رحمه الله: [فإِنْ لم يكُنْ لها تَمْييزٌ فَغالبُ الحيضِ]: أي: أن هذا النوع من النساء، إذا لم يكن له تمييز صالح، فإننا نردّه إلى غالب الحيض، وهو الستّ، والسبع كما تقدم بيانه، ودليله، فرتّب المصنف رحمه الله العمل بما تقدم على النحو التالي: أولاً: العادة، ثم يليها التمييز، ثم يليها الحكم بغالب الحيض.

قوله رحمه الله: [كالعالم بموضعه الناسي لعدده]: إذا كانت المرأة ناسية لعدد عادتها، ولكنها تعلم موضع العادة من الشهر فإننا نقول لها: تحيّضي بغالب حيض النساء، وهو الست، والسبع كما قدمنا ولكن يلزمها أن تعتبر الموضع الذي كانت تأتيها عادتها فيه، وتوضيح ذلك: أن المرأة المعتادة إذا ثبتت عادتها إشتملت تلك العادة على أمرين: الأول: موضع العادة، وهو زمان وقوعها من الشهر، وهو أول الشهر، أو أوسطه، أو آخره. والثاني: قدر العادة، وهو عدد الأيام التي يأتيها فيها الحيض. فإذا كانت عادتها مثلاً ستّة أيام فإما أن تكون في أول الشهر، أو تكون في وسطه، أو تكون في آخره. فإذا نسيت عادتها فلا تخلو من ثلاث حالات: الحالة الأولى: أن تنسى عدد العادة دون موضعها. الحالة الثانية: أن تنسى موضع العادة دون عددها، أي العكس. الحالة الثالثة: أن تنسى عدد العادة، وموضعها. فإذا نسيت العدد، وعلمت بالموضع فحينئذ يحدّد العدد لها بما ورد في السُّنة، وهو غالب حيض النساء ويصبح بديلاً عما نسيته من عادتها حتى تذكره، لأن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ردّ إلى هذا العدد لكونه غالب حيض النساء، ويلزمها أن تنظر إلى الموضع الذي كانت العادة تأتيها فيه؛ سواء كان في أول الشهر، أو في أوسطه، أو في آخره، فهذا هو مراد المصنف رحمه الله بقوله هنا: [كالعالم بِموضعِه النّاسِي لعدَدِه] ثم أشار إلى عكس هذه الصورة بقوله

رحمه الله: [وإنْ عَلمتْ عدَدَه، ونَسِيتْ مَوْضِعَه مِنَ الشّهر، ولو في نِصْفِه جلستْ مِنْ أَوّله كمنْ لا عَادَة لَها] فبيّن أنها ترجع إلى أول الشهر، ولكن يلزمها أن تعتبر عدد عادتها، فلو قالت: عادتي ستة أيام، ولكني نسيت هل هي في أول الشهر، أو في نصفه، أو في آخره فحينئذ نقول لها: إعتدي بأوله، كالحال فيمن لا عادة لها إذا تحيضت بغالب حيض النساء مكثت الست، أو السبع من بداية الشهر. وقوله: [ولوْ فِى نِصْفِه] إشارة إلى خلاف مذهبي، وتوضيحه: أن النّاسية لموضع العادة لها حالتان: الحالة الأولى: أن تنسى موضع العادة نسياناً تاماً فلا تدري هل هي في أول الشهر، أو في أوسطه، أو في آخره، فليس عندها أي معرفة، ويقع هذا في بعض الحوادث كما في حال إغماء المرأة، وغيبوبتها ثم إفاقتها، وقد نسيت كل شيء من عادتها. وفي هذه الحالة لا إشكال في ردِّها إلى أَوّل الشهر. الحالة الثانية: أن تكون ذاكرة لموضعها، وهو نصف الشهر الأول مثلاً، ثم تنسى هل الستة الأيام عادتها في أول النصف الأول من الشهر، أو في آخره، أو تكون ذاكرة لموضعه، وهو نصفه الثاني، ثم تنسى هل هي في أوله، أو في آخره. وفي هذه الحالة إختلف العلماء رحمهم الله في حكمها على قولين: القول الأول: نُلزمها بأوّل النِّصفِ الذي تذكره. والقول الثاني: نُلزمها بأوّل الشّهر مطلقاً.

ومحل الخلاف: إذا كان نسيانها لموضعه من النصف الثاني هل نردها إلى أول الشهر، أو إلى أول النصف الثاني؟ والذي يترجح: أننا نُلْزِمُها بأوّل النصفِ الذي تذكره، لأننا على يقين بأن النصف الأول ليس فيه حيض فنلزمها بأول النصف الثاني كما ألزمناها بأول الشهر عند نسيان الموضع. والمصنف رحمه الله مشى على القول المرجوح فردّها إلى أول الشهر في جميع الأحوال. قوله رحمه الله: [ومَنْ زادتْ عادتُها، أو تَقدّمتْ، أو تأَخّرتْ، فما تكرّر ثلاثة حيض]: مراده رحمه الله أن العادة تتغير بالزيادة، والنقصان بشرط أن تتكرر ثلاثة أشهر بعدد واحد من الزيادة، أو النقصان، فلو كانت عادتها ستة أيام، ثم زادت إلى ثمانية، واستمرت ثلاثة أشهر متتابعة بهذه الزيادة حكمنا بإنتقالها إلى الثمانية، ولزمها قضاء اليومين السابع، والثامن من الأشهر الثلاثة لأنه تبيّن أنها حيض، وهكذا في نقص العادة لكن في حال النقص ليس عليها قضاء كما هو معلوم. قوله رحمه الله: [وما نَقصَ عَنِ العادَةِ طُهْر، وما عَادَ فِيها جَلسَتْه]: مراده رحمه الله: أنه إذا كان الإختلاف في العادة بالنقص فإنها تحكم بكونها طاهراً بمجرد إنقطاع الدم عنها، ولو عاد قبل إنتهاء أقلّ الطّهر حسبته حيضاً حتى يبلغ عادتها فلو كانت عادتها، مثلاً سبعة أيام، وانقطع الدم بعد خمسة أيام فإننا نحكم بكونها طاهراً بعد إنقطاعه ناقصاً، وهو معنى قوله هنا: [طُهْر] ثم لو عاودها بعد ثلاثة أيام فجرى معها يوماً، ثم إنقطع فإننا نحكم

بكون هذا اليوم حيضاً، وهو معنى قوله: [وما عَادَ فِيها جَلستُه] فنضيفه إلى الخمسة السابقة، فلو عاودها يوماً آخر فإنها تضيفه إلى ما سبق فتكون حينئذ قد أتمت سِتّة أيام، وبقي لها يوم من عادتها، فإن عاودها قبل أقل الطهر أضفناه للستة فتمّت به عادتها، وإن لم يعاودها نظرنا في الشهر الثاني، والثالث، فإن عاودها بنفس العدد، وهو السِّتةُ حكمنا بنقصان عادتها، وانتقالها من سبعة أيام إلى سِتّةِ أيام. قوله رحمه الله: [والصُّفرةُ، والكُدْرةُ في زمنِ العادةِ حيضٌ]: قوله: [والصفرة، والكدرة]: الصفرةُ: مأخوذة من الصفار، وهو اللّون الأصفر، قال بعض العلماء -رحمة الله عليهم-: الصفرة التي تكون من المرأة: كلون القيح تخرج من الموضع، وقد إختلف العلماء رحمهم الله في حكمها، وذلك على ثلاثة أقوال: القول الأول: التّفصيل، وهو مذهب الجمهور: إن كانت الصفرة، والكدرة في زمان الحيض فهي حيض، وإن كانت بعد إنقضاء الحيض فليست بحيض. والقول الثاني: إلغاؤها مطلقاً كما هو مذهب الظاهرية، ومن وافقهم رحمهم الله. والقول الثالث: أنها حيض، ولو كانت بعد زمان الحيض، وهو قول للشافعي وأبي يوسف رحمهم الله. وترجح مذهب الجمهور رحمهم الله بدليل السّنة فيما ثبت من حديث أمِّ عَطّية رضي الله عنها قالت: [كُنا لا نعدُّ الصُّفرةَ، والكدرةَ بعد الطُّهرِ

شَيْئاً] ومفهومه: أنها في الحيض حيض، وكذلك صحّ أن أم المؤمنين عائشةَ رضي الله عنها كُنَّ النساءُ كما في صحيح البخاري يَبْعثنَ لها بالدُّرجةِ فيها الصُّفرةُ، والكُدْرةُ من دم الحيض، فتقول: [انتظِرْنَ لا تَعْجَلِنّ حَتّى تَرينّ القَصّةَ البَيْضاءَ] " الدُرْجة " مثل: الخرقة " فيها الكرسف ": الذي هو القطن. فقولها رضي الله عنها: [انتظِرْنَ لا تَعجَلِنَّ حتّى تَرينّ القَصّةَ البَيْضَاء] واضح في الدلالة على أنها إعتبرته حيضاً، وأمرت بالإنتظار حتى ترى السائلةُ علامةَ الطُّهر، وهي القصة البيضاء فدلّ على أنّ الصُّفرة والكُدرة حيض في زمان الحيض. واستدل بعض العلماء رحمهم الله بظاهر القرآن في قوله سبحانه: {وَلَا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ} وهو عام في طهرهنّ من الدم بلونه المعتاد، أو غيره كالصّفرة، والكُدرة. وأكدوا هذا بدليل النظر، وهو القياس على الدم، وأن الصُّفرة تنشأ من الدم كما في القيح، وتأخذ أحكامه كما في النجاسة. فهذا كلّه يدل على رجحان مذهب الجمهور رحمهم الله أن الصُّفرةَ، والكُدرة في وقت الحيض حيض، وما بعده ليست بحيض لأنها كدم الإستحاضة. قوله رحمه الله: [ومَنْ رَأتْ يَوماً دَماً، ويوماً نقاءً؛ فالدّمُ حَيضٌ، والنَّقاءُ طُهْرٌ]: تعرف هذه المسألة بمسألة التّلفيق، فإذا رأت المرأة يوماً دماً، ثمّ يوماً نقاءً، ثمّ يوماً دماً، ثمّ يوماً نقاءً؛ فالحكم ما ذكره المصنف رحمه الله:

يوم الدم يومُ حيض، ويومُ النّقاء يومُ طُهْرٍ، فتحسب عادتها في أيام الدّماء وحْدَها، وهذا هو مذهب جمهور العلماء رحمهم الله، ودليله ظاهر الكتاب، والسُّنة، وهو أن النّصوص فيهما دلّت على أن الحيض في زمانه مترتب على وجود الدم، فإذا وجد الدم حكمنا بكونها حائضاً، وإذا لم يوجد حكمنا بكونها طاهراً، فهذا هو الأصل. وعلى هذا المذهب فلو كانت عادتها خمسة أيام، وجاءها الدم يوماً كاملاً، ثم إنقطع يوماً كاملاً بعده واستمر بهذه الصورة، فإنه يحكم بخروجها من عادتها في تمام اليوم العاشر، فتلفّق أيام حيضها حتى تتم العدد. قال رحمه الله: [ويُستَحب غسلها لكُل صَلاة]: شرع المصنف -رحمه الله- بهذه العبارة في بيان أحكام المستحاضة، والمستحاضة: نوع من النساء تتعلق بها أحكام في صلاتها، وصيامها مفرّعة على الحكم بطهارتها. والإستحاضة: استفعال من الحيض، أي: أنّ الدم استمر معها، فالأصل أن دم الحيض يقف عند أمد معين كما قدمنا فلما استرسل دم حيضها، وزاد قيل لها إستحاضة. قال بعض العلماء في تعريفها: (إنها دمُ فسادٍ، وعِلّةٍ يُرخيه الرحمُ من أعلاهُ، لا منْ قَعْرِه) وهذا التعريف من أنسب التعاريف. والإستحاضة أصلها عرق؛ لما ثبت في الحديث الصحيح عنه عليه الصلاة والسلام أنه لما سأَلتهُ فاطمةُ رضي الله عنها عن استحاضتها قال عليه الصلاة والسلام: [إِنما ذلِكِ عِرقٌ]، وقال عليه الصلاة والسلام لحمنة بنت جحش رضي الله عنها في إستحاضتها: [إِنها رَكْضةٌ مِنْ رَكَضَاتِ

الشّيطانِ] قال بعض العلماء: ركضة حقيقية أي: أن الشيطان يركض، ويضرب هذا الموضع ضرباً حقيقياً كالرّكض الذي يكون من الفارس، أو من الرجل، وقال بعض العلماء: بل إنه ركض معنوي بمعنى: أن الشيطان يتذرّع بجريان الدم مع المرأة على هذه الصورة، فيلبّس عليها صلاتها، فيدخلها في متاهة، فلا تدري أهي حائض، فلا تصلي، ولا تصوم، أو ليست بحائض، فيجب عليها الصوم، والصلاة؟ قالوا: فوصف النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- الإستحاضة بكونها رَكْضة لمكان هذا التلبيس الذي يكون من الشيطان هذا من جهة المعنى. أما بالنسبة لحقيقة هذا العرق فإنه وردت له أسماء: الأول: ورد في السنن، وهو العاذل، والثاني: ورد في رواية أشار إليها الإمام ابن الأثير رحمه الله: وفيها إسم العاذر، فالرواية الأولى: باللام العاذل والثانية: بالراء، وذكر الإمام الحافظ العيني -رحمه الله- أن هناك اسماً له، وهو العادل، بدالٍ بَدَل الذَّال. هذه ثلاثة أسماء، وهناك إسم رابع رواه الإمام أحمد في مسنده أنه العاند، فهذه أربعة أسماء: العاذل، والعاذر، والعادل، والعاند، قالوا: عاذلاً وصفاً له فليس هو عرق في الجسد إِسمه عاذل؛ والسبب في ذلك أن بعض الفقهاء سأل بعض الأطباء عن عرق اسمه العاذل فلم يعرفوه، والواقع أن العلماء قالوا: إن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وصفه بكونه عاذلاً من العذل، واللّوم؛ لأنه يوجب عَذْلَ المرأة، ولومها. وأما تسميته بالعادل؛ فالعادل عن الشيء هو: الجائر عنه، يقال عدل عن الطريق إذا مال، وجار عنه؛ قالوا: لأنه بخروج المرأة عن عادتها بالحيض،

ودخولها في الإستحاضة عدلت عن الدم الطبيعي لها، وهو دم الجِبلّة أي: دم الحيض، فعدلت عن الأصل؛ لأن الأصل في الدم أن يجري معها على الصّحة أيام عادتها وينقطع بعد ذلك بطهرها، فجرى معها على سبيل المرض، ولم ينقطع بعد تمام عادتها. وأما العاذر فقالوا: لأن المرأة تعذر بوجوده، وأما العاند: فلمكان استمراره مكان الدم؛ فكان كالممتنع، والصّعب على الإنسان وهي صفة الشيء العنيد. هذا بالنسبة لأسماء دم الإستحاضة. وهناك فوارق بين الحيض، والإستحاضة من جهة المكان فدم الحيض يخرج من قَعْر الرّحمِ، وأما دم الإستحاضة: فيخرج من أعلى الرَّحم، هذا بالنسبة لمكان الدمين. أما بالنسبة لأوصاف الدّمينِ؛ فإنّ دم الحيض أقوى لوناً من دم الإستحاضة، فإذا كان أسود كان دم الإستحاضة أحمر، وهكذا كما تقدم معنا عند بيان التمييز باللّون. أما بالنسبة للفارق الثالث: فوجود الألم، فإن دم الحيض تكون فيه حرارة، وألم للمرأة بخلاف دم الإستحاضة، فإنه يكون أخفَّ ألماً، أو ينعدم فيه الألم. وقد تقدم معنا بيان ضوابط التمييز التي هي: اللونُ، والرِّيحُ، والألمُ، والكثْرةُ، والقلّةُ، والغِلَظُ، والرِّقةُ، هذه بالنسبة للفوارق التي بين دم الحيض، والإستحاضة، والمصنف رحمه الله بعد أن بيّن لنا أقل الحيض، وأكثَره، وأقلَّ الطّهر، وأكثَره، وشرحنا خلاف العلماء -رحمة الله عليهم- في تلك

المسائل بعد بيان ذلك فإنه يرد السؤال بعد أن عرفنا من هي المرأة الحائض، والمستحاضة، فما هي الأحكام المترتبة على إستحاضة المرأة، وما الذي يلزمها من جهة الطهارة، وكيفية أداء الصلوات، وما الذي يترتب على الحكم بكونها مستحاضة من جهة وطئها؟ وغير ذلك من الأحكام المتعلقة بالمرأة المستحاضة؛ فشرع رحمه الله في بيان هذه الأحكام بقوله: [والمُستحَاضةُ] أي: المرأة إذا حُكِمَ بكونها مستحاضة. [ونحوها]: نحو الشيء مأخوذ من قولهم نَحا الشيءَ نَحْواً: إذا قصده، ومال إليه، وطلبه. وقد يُطلق بمعنى الجهة، تقول: وجّهت وجهي نحو القبلة أي: جهة القبلة. وقد يطلق النحو بمعنى: المثيل، والشّبيه؛ كما في الصحيحين عن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- في حديث عثمانَ رضي الله عنه لما توضأ، وأسبغ الوضوء ثم رفع فعله إلى النبي -صلوات الله وسلامه عليه-، وأنه قال: [من توضّأَ نحو وضُوئِي هَذا] أي مثل وشبه وضوئي هذا فهذه إطلاقات النحو فمراد المصنف هنا بقوله [ونحوها] شبهها. أولاً: نريد أن نعرف ما هو حكم الشرع بالنّسبة للمستحاضة؟ ثم بعد ذلك نعرف من الذي يلتحق بها، ويُشْبِه حكْمُهُ حُكْمَهَا في الطهارة؟ فالمستحاضة فيها أمور: أولاً: أجمع العلماء على أن المرأة إذا حكم بانتهاء حيضها، ودخولها في الإستحاضة أنه يجب عليها أن تغتسل، وهذا الحكم دلّ عليه ظاهر التنزيل، والنّصوص الصحيحة عن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال عليه الصلاة والسلام: [لتَنْظُرِ الأيامَ التي كَانتْ تَحيضُهُنّ قبلَ أَنْ يُصيبها الّذي أَصابَها فإِذا هِي خَلّفتْ

ذَلِكَ فَلتغتسلْ ثُمّ لتُصَلِّ] فقوله عليه الصلاة والسلام: [فإِذَا هي خَلّفتْ ذَلِكَ] أي: خلفت أيام حيضها وهي أيام العادة، [فَلتَغْتَسِلْ]: وهو أمر بالغسل فدلّ على أن المستحاضة يجب عليها الغسل عند انتهاء أيام عادتها، مع جريان دم الإستحاضة معها، وهذا بالإجماع. ثانياً: يلزمها طهارة فرجها، وهو موضع الإستحاضة، أما لماذا تلزمها طهارة الموضع؛ فلأن دم الإستحاضة خارج نجس من الموضع المعتبر، فكما أن المرأة يجب عليها أن تغسل فرجها إذا خرج منه البول، فكذلك يجب عليها أن تغسل الفرج من دم الإستحاضة. وقال بعض العلماء: غسل هذا الموضع أوجبناه على المستحاضة بدليل النقل؛ وهو قوله عليه الصلاة والسلام في الصّحيح لفاطمةَ بنتِ أَبي حُبيش رضي الله عنها: [فإذا أقبلتِ الحِيضةُ فاتْركِي الصّلاةَ فإذا ذهبَ قَدْرُها فاغسِلي عَنْكَ الدم، وصَلِّي] أي: كلما أردت الصلاة؛ فاغسلي عنك هذا الدم الذي سألتِ عن حكمه، وهو دم الإستحاضة، فدلّ على نجاسته، ووجوب غسله كالبول، والغائط. ثم يرد السؤال: لو أنها غسلت الموضع، وخرج معها الدّم، فما الحكم؟ والجواب: أن المستحاضة في الأصل لها حالتان: الحالة الأولى: إذا غسلت الموضع وسدَّت مكانه بقطن، أو بقماش إنحبس الدم، وإمتنع من الخروج، وهذه الحالة هي أخفُّ أحوال المستحاضة. الحالة الثانية: أن يكون دمها ثجّاجاً قوياً لا يستمسك بالقطن، ولا بغيره.

فأما في الحالة الأولى فلا إشكال أنها تغسل الموضع، وتضع القطن لتمنع خروجه حال صلاتها، ولكي تبقى على طهارتها، وقد أشار النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على حَمْنةَ رضي الله عنها بذلك فقال لها: [أَنعتُ لَكِ الكُرسُفَ] أي: هل أصف لك القطن، ومراده آنها تضعه في الفرج؛ ليمنع خروج الدم، فدلّ على مشروعية سدّها للفرج بقطنة، ونحوها. وأما الحالة الثانية: أن يكون الدم شديداً، أو ثَجّاجَاً ففي هذه الحالة تغسل الموضع كما تقدم في النّصِ، ثم تضعُ القُطنَ، وتشدُّ الموضع، أو تشدُّ الموضع دون وجود حائل من قطن، أو قماش. وتشدُّ الموضع إما بجمع حافتي الفرج، أو وضع الحبل، أو الذي يُشدُّ على نفس الموضع على حسب ما ترى المرأة أنه يسدُّ، ويمنع خروج الدم، وهذا هو الذي عبّر عنه المصنف بقوله رحمه الله: [وتَعصُبُ الفَرْجَ]، والعَصْبُ، والعِصَابة مأخوذة من: الإحاطة، سُمّيت العِصَابَةُ عِصَابَة؛ لأنها تُحيط بالشيءِ، كما سُميّتْ عصبةُ الإنسان بذلك، وهم قرابته؛ لأنه إذا نزلت به ضائقة، أو شِدّة أحاطوا به بإذن الله -عز وجل- وكانوا معه، فالعصابة أصلها الإحاطة، وبناءً على هذا التعبير قالوا تشد طرفي الموضع. والدليل على أنه يلزمها هذا الشد ظاهر حديث حَمْنة رضي الله عنها فإنها لما قالت للنبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: إنّي أُسْتَحَاض حَيضةً شديدةً، فلا أَطْهُر؟ قال عليه الصلاة والسلام: [أنعتُ لَكِ الكُرْسُفَ؟] قالت: هو أكثر من ذلك؛ فقال عليه الصلاة والسلام: [فاتّخِذي ثَوْباً] قالت: هو أكثر من ذلك، قال: [فتلجّمي] والتّلجم مأخوذ من: اللجام، واللجام في الأصل يكون

حائلاً كما في لجام الدابة؛ لأنه يلجمها فيمنعها فهو حائل، ومانع، ولذلك قوله عليه الصلاة والسلام: [تَلجّمي] معناه اُعصبي الفرج؛ لأن عصبه لجام، ومانع يَقِي من خروج الخارج، أو يحفظ الموضع من إخراج الخارج، وبناءً على ذلك أخذ العلماء رحمهم الله من قوله عليه الصلاة والسلام: [تَلجّمِي] أن السُّنة في المرأة المستحاضة أنها تَشدُّ الموضعَ إذا غَلبها الدمُ. هذا بالنسبة لأحوال المستحاضة إذا حُكِمَ بانتهاء حيضها، ودخولها في الإستحاضة. وقول المصنف رحمه الله: [ونَحْوِها] يعنى: نحو المستحاضة، النحو: بمعنى المثل، والشبيه كما تقدم: إما أن يكون نحوها بمعنى شبيهاً للمستحاضة من كل وجه، وهذه حالة، أو يكون شبيهاً لها من بعض الوجوه دون بعضها، وهي الحالة الثانية. ونبدأ بالشّبيه الذي يشبه المستحاضة من كل الوجوه، وهو الذي معه سلس البول، فإذا نظرت إلى كون دم الإستحاضة دماً نجساً من خارج معتبر غلب بكثرة خروجه، فإن الأمر كذلك بالنسبة لمن كان معه سلس البول، فإن البول خارج يوجب انتقاض الوضوء كما توجبه الإستحاضة؛ وهو نجس، وخارج من الموضع المعتبر فهو كدم الإستحاضة سواء بسواء، إذاً من كان به سلس بول نُعْطِيه حكمَ الإستحاضة، وهكذا من به سلس المذي؛ لأن المذي نجس، وكذلك من به بواسير إذا نزفت، واستمر نزيف الدم كالإستحاضة، فإن هذه الأمثلة الثلاثة البول، والمذي، والبواسير كلّها

ناقضة للوضوء، وهي نجسة وخارجة من الموضع فهي تشبه الإستحاضة في مسائلها، فإذا استرسلت كدم الإستحاضة أخذت حكمه، وتعرف مسألتهم بمسألة دائم الحدث. الحالة الثانية: أن يكون الشبيه للمستحاضة من بعض الوجوه، ومثاله من به نواسير، والنواسير تكون على فتحة الدبر، فهي ليست من الداخل كالبواسير بل من الخارج، ومن هنا لم تُشْبِه الإستحاضة في كونها ناقضة للطهارة، وموجبة للحدث الأصغر، وكذلك الرَّعاف، ونزيف الجروح كلّها تشبه الإستحاضة من بعض الوجوه لا من كلها فهي كالإستحاضة من جهة كونها نجسة، وقد تقدم بيان الأدلة على نجاسة الدم سواء خرج من الموضع، أو خرج من غيره، فأصبحت شبيهة بالإستحاضة من جهة الحكم بنجاستها، والتخفيف فيها إن غلبت، فإذا جرى الدم في النواسير، والرعاف ولم يرقأ فُصِّل في حكمه كالإستحاضة لكنه مخالف لها في كونه لا يوجب انتقاض طهارة الحدث على أصح قولي العلماء رحمهم الله كما قدمناه في النواقض، فتلخص أن هذه الثلاثة تأخذ حكم الإستحاضة في طهارة الخبث، دون طهارة الحدث، وهذا على القول بأنها لا تنقض الوضوء، وأما على القول بأنها ناقضة تكون كالبول، تشبه من كل الوجوه. ويكون الناسور، والرعاف، ونزيف الجروح كالإستحاضة إذا استمر جريان الدم فيه، أما لو كان قطرات تنقطع فإنه لا إشكال فيه فيغسل الموضع، ثم يصلي، فإذا شابه الإستحاضة فكان نزيفه مسترسلاً، أو قطراته لا تنقطع، ولو كانت قليلة، واستمرت وقت الصلاة، فحينئذ يفصّل فيه كالإستحاضة

فإن أمكن حبسه بوضع القطن، ونحوه، أو شدّه؛ فإنه يشدّ، ويُحبس، وأما إذا كان لا ينحبس فحكمه حكم دم الإستحاضة إذا إِسترسل تتطهر المرأة لدخول وقت كل صلاة، وهكذا من به السلس، والناسور، والجروح، والقروح السيّالة ثم يصلي في وقته حتى ينتهي وقت الصلاة فيطهّر الموضع ثانية. والذى يُطْعن، أو يجرح فينزف جرحه له حالتان: الحالة الأولى: أن يمكن إيقاف النزف بأن يكون خفيفاً؛ بحيث لو وضع في الموضع قطنة سكن نزيفه؛ فحينئذ يجب إيقاف الدم بوضع حائل من قطن، أو قماش، أو نحوه، ولو بالشُّدِ. الحالة الثانية: أن يكون قوياً لا يرقأ، فإذا كان كذلك؛ صلى، ولو خرج معه ذلك الدم النجس، وتطهر لدخول وقت كل صلاة. والدليل على ذلك: أن عمر -رضي الله عنه- صلى بجراحته كما في صحيح البخاري، وكذلك -أيضاً- الصحابي رضي الله عنه لما أصابه السهم حينما كان حارساً على فَمِ الشّعبِ، ومع ذلك صلى، وجرحه ينزف دماً؛ لأن نزيف السهام نزيف قوي مستحكم، فمثله لا يرقأ؛ ولذلك تكون هاتان الحالتان مستثنيتين من الأصل الذي يوجب غسل الموضع النجس. قوله رحمه الله: [وتتوضأ لوقت كل صلاة]: ذكرنا الآن حكم الموضع وما يجب فيه من طهارة وهذا كله راجع إلى طهارة الخبث فبقي السؤال عن طهارة المستحاضة من الحدث، فبيّن رحمه الله: أنها تتوضأ لوقت كل صلاة أي عند دخول وقت كل صلاة، وهذا بعد إغتسالها عند إنتهاء عادتها،

وهذا الغسل محل إجماع عند العلماء رحمهم الله، وهو غسل الحيض، وأما ما بعد الغسل مما ذكره المصنف رحمه الله من وضوئها لكل صلاة، فهو مسألة خلافية فيها ما يقرب من أربعة أقوال للسلف -رحمة الله عليهم-: القول الأول: يجب عليها أن تتوضأ عند دخول وقت كل صلاة، وهذا هو مذهب جمهور العلماء -رحمة الله عليهم- من الحنفية في المشهور، والشافعية، والحنابلة. القول الثاني: يستحب لها الوضوء عند كل صلاة، ولا يجب، وبهذا القول قال المالكية، والظاهرية، وهو قول ربيعة بن أبي عبد الرحمن، الذي يسمى ربيعة الرأي -رحمة الله على الجميع- قالوا لا يجب عليها، ولكن يستحب لها الوضوء عند دخول وقت كل صلاة. القول الثالث: يجب عليها أن تغتسل لكل صلاة، وهو أشدّ الأقوال، ومأثور عن بعض أصحاب النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كعبد الله بن عباس -رضي الله عنهما- وإحدى الروايات عن علي -رضي الله عنه وأرضاه-، وأفتى به سعيد بن المسيب من فقهاء المدينة رحمه الله. القول الرابع: أنه يجب عليها أن تغتسل في اليوم مرة واحد دون تعيين، وهو قول علي -رضي الله عنه وأرضاه-. واستدل أصحاب القول الأول: بما ورد في صحيح البخاري في روايةٍ لحديث عائِشةَ رضي الله عنها في قصة فاطمةَ بنتِ أَبي حُبيش رضي الله عنها، وفيها قوله: [وتَوضّئِي لِكُلِّ صَلاةٍ] ومثله حديثها عند أحمد، والترمذي، وأبي داود، والنسائي، وابن ماجة.

فقوله: [تَوضّئِي]: أمر يدل على وجوب الوضوء على المستحاضة عند دخول وقت كل صلاة، وهو معنى قوله: [لِكلِّ صلاةٍ]. وهذه هي أشهر الأقوال في المستحاضة. أما الذين قالوا بغسلها لكل صلاة؛ فالروايات ضعيفة عن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بأمره للمستحاضة بالغسل، إلا ما ورد في حديث فاطمة بنت أبي حبيش رضي الله عنها أن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أمرها أن تغتسل قال كما في الصحيح: [وكانتْ تَغتَسلُ لكل صَلاةٍ] قالوا: هذا يدل على وجوب غسل المستحاضة لكل صلاة، وهو مذهب من ذكرنا من الصحابة رضي الله عنهم؛ والصحيح أنه لا يجب، وأن اغتسال فاطمة -رضي الله عنها- كان اجتهاداً منها وليس بأمر النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لها لأنه عليه الصلاة والسلام: إنما أمرها أن تغتسل عند إنتهاء عادتها فقط كما هو ظاهر القرآن، والأحاديث الصحيحة عنه عليه الصلاة والسلام. أما الذين قالوا: بأنه يجب عليها طُهرٌ في يوم واحد فهناك أحاديث ضعيفة، وآثار إستدلوا بها لا تقوى على إثبات ما ذكروه. والذي يترجح في نظري والعلم عند الله: أنه يجب عليها أن تتوضأ لكل صلاة على ظاهر ما ذكرناه من حديث فاطمةَ بنتِ أبي حُبيشٍ رضي الله عنها، عند أبي داود، والترمذي، وأحمد، والبيهقي، والحاكم، وصححه غير واحد، وسئل الإمام البخاري -رحمه الله- عنه فحسّن إسناده. هذا حاصل ما يُقال في حكم المستحاضة من جهة طُهْرها.

وقوله رحمه الله: [وتُصلّي فُروضاً، ونَوافلَ]: وتصلي الفروض في الوقت، فتصلي فرض العصر، والظهر، والمغرب، والعشاء، والفجر كُلاً بحسب وقته. فإذا توضأت لصلاة الفجر صلّت بهذا الوضوء الفرض، والنوافل، فابتدأت بركعتي الرّغيبةِ فصلّتهما، ثم ثَنّت بصلاة الفجر، ثم إذا توضأت لصلاة الظهر صَلّت الرّاتبة القبلية، والبعدية، وفرض الظّهر، والفروضَ المقْضِيّة، وسائر النوافل، والتطوع ما دام أن وقت الظهر لم ينته، وهكذا الحكم في بقية الصلوات. قوله رحمه الله: [ولا تُوطَأُ إِلا مَعَ خَوْفِ العَنَتِ]: الجمهور على أنه لا حرج في وطء المرأة المستحاضة، وهو رواية عن الإمام أحمد، ولم يرد دليلٌ في الكتاب، ولا في السّنة عن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بالمنع، أو التحريم، والله -عز وجل- حرّم وطء المرأة الحائض، ولم يحرم وطء المستحاضة. قالوا: إن الأصل في المرأة أن يَستمتع بها الزوج، وهذا على ظاهر التنزيل في قوله تعالى: {هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ} (¬1) فإذا ثبت أن الأصل حل الوطء، وجاء عارضٌ، وهو دم الحيض، ونقلنا عن الأصل فإن هذا العارض الناقل يتقيّد بزمانِه، ومدة وجُودِه، فإذا زالَ، وانقطع رجعنا إلى الأصل الموجب لحلِّ الوطء، فهذا هو مسلك الجمهور أنه يجوز الوطء، وقال بعضهم: مع الكراهة. ¬

(¬1) البقرة، آية: 187.

وذهب بعض العلماء إلى أنه: يحرم عليه أن يطأها إلا إذا خشي العنت، والعنت: هو الزنا، يعنى إذا خشي الوقوع في الزنا له أن يطأ الزوجة، ولا حرج عليه في ذلك، وهو رواية عن الإمام أحمد رحمه الله واختارها جمع من أصحابه رحم الله الجميع. واستدلوا بقوله تعالى: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى} فقالوا: إن المراد بالأذى وجود الدم في الفرج فيؤذي الزوج، وأجيب بأن تخصيص الآية لدم الحيض، دون غيره دليلٌ على أن المراد التحريم حال وجود الحيض، دون غيره بدليل قوله: {حَتَّى يَطْهُرْنَ} فجعله أذى إلى غاية الطّهر، فلو كان دم الإستحاضة مثله لما قيّده بغاية الطهر لأن دم الإستحاضة يأتي بعد الطُّهر سواء كان الطُّهر حقيقة، أو كان حُكماً فصارت الآية دليلاً على الحلِّ؛ لا على التحريم. ومما يؤكد ذلك أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سُئِل عن حكم دم الإستحاضة، فلم يأمرْ مستحاضةً أن يعتزلَها زوجُها، ولا يجوز تأخيرُ البيانِ عن وقتِ الحاجةِ، فلو كان وطؤها حراماً لا يجوز إلا عند خوف الزِّنا لبيّنه عليه الصلاة والسلام، فلما لم يأمر باجتناب المستحاضة دلّ على أنها قد حلّت لزوجها بطُهْرِها من الحيض كما يقول الجمهور رحمهم الله. قوله رحمه الله: [ويُسْتحبُّ غُسلُها لِكُلّ صَلاةٍ]: يعني إذا دخل عليها وقت كل صلاة؛ فإنها يستحب لها أن تغتسل، أي تغسل البدن، ولا يجب عليها ذلك؛ لظاهر ما ذكرناه من فعل فاطمة -رضي الله عنها وأرضاها-.

قوله رحمه الله: [وأَكْثَرُ مُدّة النّفاسِ أَربعونَ يَوْماً]: شرع المصنف رحمه الله بهذه الجملة في أحكام دم النفاس، والنفاس: مأخوذ من النَّفْسِ، وتطلق النَّفْسُ في اللغة بمعان فيقال: نَفْسُ الشيء بمعنى ذاته، ومنه قولهم: رأيت محمداً نَفْسَه أي: بذاته، وتطلق النَّفْسُ بمعنى: الرّوح على خلاف بين أهل العلم هل هما بمعنى واحد، أو مختلفان، وتطلق النَّفْسُ بمعنى: الأخ، ومنه قوله تعالى: {وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ} (¬1)، وتطلق النَّفْسُ: على الدّم، ومنه ما ثبت في الصحيح عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال لعائِشةَ رضي الله عنها لما حاضت بسرف: [مالكِ أنُفِسْتِ] أي هل أصابك دم الحيض؟ فلما كان الدَّمُ من أسمائه النّفْسُ؛ سُمّي النِّفاسُ نِفَاساً لذلك، من باب تسمية الشيء بسببه، والنفاس: هو (الدّم الذي يَخرجُ عَقيبَ الوِلادَةِ) فالمراد به دم الولادة، والفرق بينه، وبين دم الحيض أن دم الحيض دم مُعتاد، وهذا دم مخصوص بالولد يكون بعد خروجه من بطن أمه. قال رحمه الله: [أَكثرُ النّفاسِ أربعونَ يَوْماً]: هذه مسألة خلافية، وللعلماء فيها قولان مشهوران: القول الأول: الجمهور على أن أكثر النفاس أربعون يوماً، وهو قول عمر، وعثمان، وعلي، وعائشة، وأم سلمة رضي الله عنهم؛ وإستدلوا بما ثبت في الحديث الصحيح عن أم سلمة رضي الله عنها قالت: [كَانتِ النّفساءُ ¬

(¬1) النساء، آية: 29.

تَجْلِسُ عَلى عَهْدِ رسولِ اللهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَربعينَ يَوْماً] فدلّ على أنّ أكثَره أربعونَ يوماً. القول الثاني: أكثر النفاس ستون يوماً، وهو مذهب المالكية، والشافعية، وقول عبد الرحمن الأوزاعي فقيه الشام -رحمة الله على الجميع-، وما جاوز الستين فهو استحاضة، وليس بدم نفاس. وعلى مذهب الجمهور تجلس أربعين يوماً، وما زاد فهو استحاضة، وليس بدم نفاس، وهو الراجح في نظري والعلم عند الله لورود السُّنة به، وليس لأقله حدُّ معين، فلو أن امرأة ولدت ثم جرى معها الدم لحظة واحدة، فأخرجت دفعة واحدة منه ثم انقطع عنها؛ حكمنا بكونها طاهرة؛ لأنه ليس لأقل النفاس حد معتبر. هذا بالنسبة لأقل النِّفاس، وأكثره. قوله رحمه الله: [ومتى طَهُرتْ قَبْلَه تَطَهرتْ، وصَلتْ]: قوله: [ومَتى طَهُرتْ قَبْلَهُ] يعني: قبل أكثر النفاس، فالضمير عائد إلى النّفاس، وقوله: [تَطهّرتْ، وصَلّتْ] أي: أننا نحكم بطُهْرِها، ومثال ذلك: امرأة ولدت في أول الشهر، واستمر معها دمُ النّفاس عشرين يوماً، ثم طَهُرت حكمنا بطهرها، فتغتسل، وتصلّي، وتصوم.

وقوله رحمه الله: [طَهُرتْ]: يعني رأت علامات الطهر، وهي إحدى علامتين: الأولى: القَصّةُ البيضاء: وهي ماء أبيض كالجير تعرفه النساء، وهو الذي قصدته عائشة رضي الله عنها بقولها: [إِنْتَظِرْنَ لا تَعْجَلِنَّ حَتّى ترينَّ القَصّةَ البَيْضاءَ]. والثانية: الجفوف، والمراد به جفوف الفرج بحيث لو وضعت قطنة خرجت نقيّة لا دم فيها. فإذا رأت إِحدى هاتين العلامتين قبل تمام الأربعين حكمنا بطهرها، فإذا رأت الدم كما قدمنا في المثال السابق عشرين يوماً، ثم رأت علامة الطهر حكمنا بطهرها، ثم إن لم يعاودها قبل تمام الأربعين يوماً فلا إشكال، وإن عاودها قبل تمام الأربعين فهي نفساء حتى تتم أكثر النفاس. قوله رحمه الله: [ويُكْرَهُ وطْؤُها قَبلَ الأَربعين بَعْد التَّطْهِيرِ]: قال بعض العلماء: المرأة النفساء إذا طَهُرت قبل الأربعين لا تُوطأ، وهو رواية عن الإمام أحمد -رحمة الله عليه- إختارها جمع من أصحابه رحمهم الله. ومنهم من قال إنه محمول على الكراهية، والجمهور على الجواز. لكن ذكر بعض الأطباء فائدة، وهي أن الجماع قبل الأربعين يؤثر في الفرج، وأنه لا يرجع إلى طبيعته قبل الأربعين، ولذلك قال بعض الأطباء: الأفضل ألا يقع جماع، وذهب بعض العلماء رحمهم الله إلى أن العلّة هي خوف رجوع الدم، ويكون إِنقطاع الطهر عندها مؤقتاً بمعنى اليوم، واليومين، وهذا يحدث فإن المرأة تكون نفساء، ثم تطهر بعد عشرين يوم، وفي اليوم

الحادي والعشرين لا ترى شيئاً، ثم في اليوم الثاني والعشرين يعود عليها الدم، ولذلك قالوا: لا نأمن أنها ما دامت داخل الأربعين أن الدم يعود إليها بعد أن إنقطع. والقول بالجواز أرجح؛ لأنه هو الأصل، ولم يرد دليل في الشرع بالتّحريم كما قدمنا في وطء المستحاضة، وقد نقل عن حبر الأمة وترجمان القرآن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما قوله: [إِذَا صَلّتْ حَلّتْ] وهو يدلّ على أنه إذا حلّت الصلاة للمرأة حلّ وطؤها سواء كانت نفساء، أو حائضاً. قوله رحمه الله: [فإِنْ عَاودَها الدّمُ فَمشكُوكٌ فيه]: يعني إذا عاود الدّمُ المرأة النفساء بعد أن طهرت وقبل تمام الأربعين فمشكوك فيه بمعنى: أنه يحتمل أنه: نِفَاسٌ إستصحاباً للأصل، ويحتمل أنه: إستحاضة، ومشى المصنف رحمه الله على كونه مشكوكاً فيه، والأصل يقتضى إلحاقه بالنفاس؛ لأنه في أمده، ووقته وهو الراجح، لكن يُعتذر للقول المرجوح بأنها رأت علامة الطهر قبله فتنازعه الأصلان؛ فهذا هو وجه إعتباره مشكوكاً فيه. قوله رحمه الله: [تَصُومُ، وتُصلّي، وتَقضِي الوَاجِبَ]: بناءً على الأصل، واليقين أنها طاهر، والدم مشكوك فيه فنلغي الشك، ونبقي على اليقين للقاعدة المشهورة [اليَقينُ لا يُزَالُ بِالشّك] فاليقين أنها مطالبة بفريضة الصلاة، والصيام، وشكَكْنا في سقوطهما؛ فبقينا على الأصل الموجب للمطالبة بهما، فهذا هو وجه مطالبتها بالصوم، والصلاة، وقد قدمنا أن الراجح أنه نفاس إن عاد قبل تمام أكثره.

قوله رحمه الله: [وهو كالحيْضِ فِيمَا يَحِلُّ، ويَحرُمُ، ويَجِبُ]: قوله رحمه الله: [وهو] أي: النفاس، وقوله: [كالحيض فيما يحلُّ، ويَحرمُ، ويَجِبُ] أي: أن النفاس يمنع ما يمنع منه الحيض، وقد تقدم بيان موانع الحيض، فالمرأة النفساء لا تصوم، ولا تصلي، ولا تدخل المسجد، ولا تلمس المصحف كما ذكرنا في الحائض، ويستثني من ذلك ما ذكره -رحمه الله- من قوله: قوله رحمه الله: [ويَسْقُط؛ غيرَ العدةِ، والبلوغِ]: قوله: [ويَسْقُطُ]؛ أي: أن النفاس كالحيض يسقط التكليف بالصلاة، والصوم، وقد سمى النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- الحيض نفاساً؛ لكن يستثنى من مساواة النفاس بالحيض العدة، والبلوغ، فإنك لا تحكم بكون المرأة تعتد بدمِ النّفاس بخلاف دم الحيض؛ فإنها تعتد به، ولذلك قال تعالى: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ} (¬1) فردّهن إلى الدم الذي هو دم الحيض، قيل: قروء أطهار وقيل: حيضات كما سنبينه في باب الطلاق إن شاء الله تعالى، ولأن العدّة في الحامل تنتهي بوضع الحمل، لا بخروج دم النفاس، لقوله تعالى: {وَأُولَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ}. أما بالنسبهَ للبلوغ فقالوا: لا يثبت البلوغ بدم النفاس؛ لأنها بحملها يثبت البلوغ، ولذلك يرى العلماء أن الحمل دليل على البلوغ. قال النّاظم رحمه الله: ¬

(¬1) البقرة، آية: 228.

وكلُّ تَكْليفٍ بِشَرْطِ العَقْلِ ... مَعَ البُلُوغِ بِدَم أَوْ حَمْلِ أو بمنيٍ أوْ بإنباتِ الشَّعَرْ ... أو بِثمَاني عَشرةٍ حَوْلاً ظَهَرْ وإن كان الصحيح أن خمسة عشر توجب البلوغ، لظاهر حديث ابن عمر رضي الله عنهما في الصحيح، كما سيأتي بيانه في علامات البلوغ. قوله رحمه الله: [وإِنْ ولَدتْ تَوأَمَينِ؛ فَأوّلُ النِّفَاسِ، وآخِرهُ مِنْ أَوّلِهمَا]: أي أننا نعتد في توقيت دم النفاس بأوّل الولدين، فعلى سبيل المثال: لو أنّ إِمرأة ولدت ولدين: الولد الأول ولدته في اليوم العاشر من الشهر، والثاني ولدته في الثاني عشر فإننا نعتد باليوم العاشر؛ فإذا أتمّت به الأربعين طهُرت على مذهب القائلين بالأربعين. وإعتبار الولد الأول هو مذهب الجمهور؛ لأنه الأصل في الولادة، والثاني تَبع له. وقال الظاهرية ومن وافقهم العبرة بالولد الثاني، فتبدأ إحتساب مدة النفاس من الولد الثاني فبيّن رحمه الله أن العبرة بأول الولدين لا بآخرهما، وهكذا الحكم عنده فيما لو كانت الولادة لتوائم أكثر، فالعبرة بالولد الأوّل لأنه حَمْل واحدٌ آخذ حكم البطن الواحد لا فرق بين أن تضع ولداً، أو أولاداً فكلّه بطنٌ واحد كما لو ولدت واحداً. وآخِر دَعْوانا أنِ الحمد لله رب العَاَلميْنَ وصلى الله وسلم وبارك على عبده ونبيه محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

§1/1