شرح زاد المستقنع للخليل

أحمد الخليل

شرح المقدمة قال الشارح حفظه الله تعالى: -. بسم اللَّه الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين. أما بعد: - هذا الكتاب - يا إخواني - من تأليف الشيخ/ شرف الدين موسى بن أحمد بن موسى الحجاوي المقدسي الصالحي. والشيخ شرف الدين من أكبر فقهاء الحنابلة بل كان في عصره هو مفتي الحنابلة في دمشق. ولد الشيخ - رحمه الله - في قرية تسمى حجَّه سنة 895 هـ. نشأ في هذه القرية - رحمه الله وغفر له - وأخذ مبادئ العلوم وقرأ القراءات ثم أكب انكباباً كاملاً على علم الفقه. ثم بعد فترة من الزمن انتقل - رحمه الله - إلى دمشق ولازم العلامة الشويكي في الفقه إلى أن تمكن فيه تمكناً تاماً وانفرد بتحقيق مذهب الإمام أحمد رحمه الله. وهنا نكتة وهي أن العلامة الشويكي له كتاب اسمه: ((التوضيح)) جمع فيه بين المقنع والتنقيح وهذا يعني أن له عناية خاصة بكتاب المقنع وهو أصل كتابنا هذا الذي ندرسه - إن شاء الله. وهذا يدل على أن عناية الشيخ شرف الدين موسى بالمقنع واختصاره كانت من زمن طويل فهو امتداد لعناية شيخه الشويكي بالمقنع. اشتهر الشيخ - رحمه الله - أيضاً بالورع والعبادة. التحق بمدرسة شيخ الإسلام أبي عمرو ودرس فيها والتدريس في هذه المدرسة هو بحد ذاته منزلة علمية رفيعة. توفي الشيخ - رحمه الله - سنة 968 هـ بعد عمر حافل بالعلم والفتوى والتأليف. له مؤلفات كثيرة نأخذ أهم المؤلفات: أهم مؤلف - من وجهة نظري للشيخ - كتاب الإقناع جرَّد فيه مذهب الحنابلة يقول صاحب شذرات الذهب: ((لم يؤلف مثله في تحرير النقول وكثرة المسائل)). وله كتاب اسمه حاشية التنقيح في تحرير أحكام المقنع وهذا أيضاً يعطي دلالة أن الشيخ له عناية مبكرة بكتاب المقنع. له كتاب اسمه منظومة الآداب الشرعية في ألف بيت وشرحه هو بنفسه - رحمه الله. أخيراً له كتاب اسمه زاد المستقنع قي اختصار المقنع ويسمى أحياناً مختصر المقنع وهو كتابنا هذا الذي سنشرحه إن شاء الله تعالى. وجميع الكتب التي ذكرت مطبوعة طبعات جيدة محققة على نسخ خطية نفيسة. هذا فيما يتعلق بالمؤلف. ثم ننتقل إلى شرح مقدمة الكتاب. •

قال المؤلف - رحمه الله -: بسم اللَّه الرحمن الرحيم قوله: بسم الله الرحمن الرحيم ابتدأ بالبسملة لأمرين: الأول: اقتداء بكتاب الله حيث بدأ الله سبحانه وتعالى كتابه بالبسملة. والثاني: اقتداء بمراسلات النبي - صلى الله عليه وسلم - فإنه كان إذا راسل الملوك والرؤساء كتب في مقدمة الرسالة بسم الله الرحمن الرحيم. كما ثبت في صحيح البخاري أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما راسل هرقل كتب له ((بسم الله الرحمن الرحيم من محمد عبد الله ورسوله إلى عظيم الروم هرقل)). وقوله: ((بسم الله)) جار ومجرور. والجار والمجرور دائماً يحتاج إلى متعلق ولكن لا نجد في بسم الله الرحمن الرحيم شيئاً يتعلق به الجار والمجرور ولذا لابد من تقديره ويقدر هنا: بفعل متأخر مناسب. كأنه - رحمه الله - يقول: بسم الله أؤلف. والرحيم: يتعلق بأفعال الرب سبحانه وتعالى. اسم الجلالة ((الله)) و ((والرحمن)) يختصان بشيء لا يشاركهما فيه غيرهما من الأسماء وهو: أنه لا يجوز أن يطلق هذان الاسمان إلا على الرب سبحانه وتعالى. • ثم قال المؤلف - رحمه الله -: الحمد للَّه حمداً لا ينفد أيضاً بدأ المؤلف كتابه بالحمد اقتداء بالكتاب العظيم لأن أول الفاتحة وهي أول سورة في القرآن فيها {الحمد لله رب العالمين}. والحمد هو: ذكر محاسن وصفات المحمود على وجه المحبة والتعظيم والإجلال. ـ فإن كان هذا الذكر خالياً من المحبة فهو: مدح. ـ وإن كرر هذا الذكر مع المحبة انتقل من الحمد ليصبح ثناء. فعندنا الآن حمد ومدح وثناء. - ومما يتعلق بالحمد مسألة الشكر لأن حمد الله وشكره يقترنان كثيراً. - فالفرق بين الحمد والشكر: - أن الشكر يكون فقط في مقابلة النعمة فإن الإنسان لا يشكر على صفاته الذاتية بدون أن يسدي نعمة ولا الله سبحانه وتعالى - اصطلاحاً يشكر على نعمه ويحمد على صفاته الذاتية وأفعاله. وهناك فرق آخر وهو: - أن الشكر يؤدى باللسان والقلب والأركان - الجوارح. بينما الحمد لا يؤدى إلا باللسان، قيل: وبالقلب. وذهب بعض أهل العلم إلا أنه لا يوجد فرق بين الحمد والشكر. والتفريق هو الأقرب. وقوله ((لله)): اللام: للاستحقاق والاختصاص. يعني أن الذي يستحق استحقاقاً كاملاً أن يحمد ويحب ويعظم هو الرب.

كما أنه يختص بهذا الحمد. وأل في الحمد: للاستغراق. ما معنى الاستغراق؟ أي استغراق جميع أنواع المحامد. وقوله ((حمداً)): مصدر مؤكد. وقوله ((لا ينفد)): يعني لا ينقطع ولا ينتهي. وأشار أكثر من شارح إلى أن قوله: لا ينفد هو باعتبار استحقاق الرب لا باعتبار أداء العبد لأن حمد العبد ينتهي بسكوته أو انقطاعه أو اشتغاله بغير الحمد. لكن الله سبحانه وتعالى يستحق حمدا لا ينفد. • ثم قال المؤلف - رحمه الله -: أفضل ما ينبغي أن يحمد، وصلى اللَّه وسلم على أفضل المصطفين محمد الصلاة من الله على نبيه تعني الثناء عليه في الملأ الأعلى فإذا قلنا اللهم صلًّ على محمد يعني: اللهم أثن عليه في الملأ الأعلى. وهذا التفسير ذكره أبو العالية وهو من الطبقة الأولى من السلف من التابعين وأخرجه البخاري معلقاً. إذا عرفنا الآن معنى أن نطلب أن الله يصلي على نبيه أي: أننا نطلب أن يثني عليه في الملأ الأعلى. وقوله ((وسلم)): معنى أننا نطلب من الله أن يسلم النبي: أي: أننا نطلب له السلامة من الآفات والعيوب. فنطلب له السلامة من الآفات والنقائص على حدٍّ سواء. والنقص هو: النقص الأصلي الموجود في صفة الإنسان كالبخل مثلاً أو الجبن. والآفات يعني: الأمراض والمصائب. فنطلب له السلامة من الجهتين. وقوله ((المصطفين)): جمع مصطفى وهو: أفضل وخلاصة الخلق. فنبينا - صلى الله عليه وسلم - أفضل الخلق على الإطلاق. فإذا أردنا أن نبدأ من الأول فنقول: o الأنبياء والرسل هم أفضل الخلق. o ثم أولوا العزم منهم أفضل من الباقين. o ثم أفضل أولي العزم نبينا وحبيبنا محمد - صلى الله عليه وسلم -. • ثم قال المؤلف - رحمه الله -: وعلى آله وأصحابه ومن تعبد الآل: مشتقة من الرجوع آل إليه يعني رجع إليه وسمي أقارب الرجل آل لأنهم يرجعون إليه نسباً. ولكن ما المقصود بالآل في كلام المؤلف؟ هذا محل خلاف بين أهل العلم: ـ منهم من قال: آل النبي - صلى الله عليه وسلم - هم أهله وأزواجه وأقربائه المؤمنين به. ـ ومنهم من قال: بل آل الرجل هم أتباعه على دينه. ـ ومنهم من قال: أن هذا يختلف باختلاف السياق فالسياق هو الذي يحدد هل المقصود بالآل أقارب النبي - صلى الله عليه وسلم - أو أصحابه.

ولعل الأقرب والله سبحانه وتعالى أعلم أنه: إذا عطف الأصحاب على الآل صار المقصود بالآل: أقرباء النبي - رضي الله عنه -. وإذا لم يعطف على الآل الأصحاب صار المقصود بالآل الأقرباء والأصحاب يعني أتباعه على دينه من أقربائه ومن غيرهم. = بقينا في مسألة واحدة: من هم آل النبي الذين يقصد من أقربائه هل هم جميع الأقرباء أو جزء من الأقرباء؟ الذي مال إليه ابن القيم - رحمه الله - أن آل النبي - صلى الله عليه وسلم - هم: من تحرم عليهم الزكاة فقط وهم: بنو هاشم. وقوله ((وأصحابه)): أصحاب النبي هم كل من لقي النبي - صلى الله عليه وسلم - في حياته مؤمناً به ومات على ذلك. فإذا لقيه وهو كافر ثم آمن بعد موت النبي - صلى الله عليه وسلم - فليس بصحابي. وإذا آمن بلا لقيا فهذا من باب أولى. وإذا رآه وآمن به ولكنه مات كافراً فليس أيضاً من الصحابة. • ثم قال المؤلف - رحمه الله -: أما بعد: فهذا مختصر في الفقه شرع الشيخ في المقصود. وقوله ((أما بعد)): معنى هذه الكلمة مهما يكن من شيء بعد هذه المقدمة فهذا مختصر في الفقه. والكلام المختصر هو: كل كلام قلَّت حروفه وكلماته وكثرت معانيه. والنبي - صلى الله عليه وسلم - أوتي جوامع الكلم. والكلام المختصر يمدح - في الأصل - ما لم يخل بالمقصود. وقوله ((في الفقه)): حَّددَ - رحمه الله - الفن الذي أراد أن يؤلف فيه وأن تأليفه على سبيل الاختصار. • ثم قال المؤلف - رحمه الله -: من مقنع الإمام الموفق أبي محمد الإمام الموفق أبي محمد هو/ عبد الله بن أحمد بن قدامة علم مشهور من أشهر علماء الحنابلة حتى أنه إذا قيل الشيخ عند المتقدمين يقصد به ابن قدامة. له مؤلفات مشهورة معروفة انتفع بها المسلمون منها كتاب المقنع. والشيخ - رحمه الله - تعالى ألف ثلاث كتب: الأول: العمدة وهو أخصر كتب الفقه التي ألفها على قول واحد. ثم ألف بعده المقنع وطريقته - رحمه الله - أن يذكر فيه قولين أو وجهين أو احتمالين ويطلق الخلاف ليتمرن طالب العلم على معرفة الاختلاف داخل مذهب الحنابلة. ثم ألف بعد ذلك المغني وذكر فيه الخلاف العالي بين أصحاب المذاهب مع الأدلة.

((وبهذه المناسبة الكتاب الذي وزع عليكم ذكر محقق الكتاب في المقدمة اختصاراً لكل ما ذكره الشيخ بكر أبو زيد في كتابه المدخل إلى فقه الإمام أحمد بن حنبل. وللشيخ بكر أبو زيد حفظه الله له كتاب المدخل إلى فقه الإمام أحمد بن حنبل كتاب رائع جداً يتكلم في عن مذهب الحنابلة عن مصطلحاتهم عن ترجمة مختصرة للإمام أحمد عن أشهر الكتب وعن أشياء كثيرة تتعلق بالمذهب. المحقق أجاد في اختصار هذا الكتاب ذكر في المقدمة أنه اختصر هذا الكتاب أريد من كل واحد من إخوانا أن يقرأ اختصار المحقق لكتاب الشيخ بكر المذكور في المقدمة والاختصار أنصحكم بقراءته قراءة للانتفاع لكن ذكر موضوعين لابد من القراءة فيهما. الموضوع الأول: مزايا فقه الحنابلة ذكر ماذا يمتاز فقه الحنابلة وذكر مايتعلق باهتمامهم بالدليل وأقوال الصحابة. الثاني: ذكر موضوع أصول الإمام أحمد التي كان يعتمد عليها في تقرير الأحكام الفقهيه)). • ثم قال المؤلف - رحمه الله -: على قول واحد أفاد المؤلف - رحمه الله - أن تأليفه هذا مختصر وأنه يقتصر فيه على قول واحد فقط ثم بين ما هو هذا القول: • فقال - رحمه الله -: وهو الراجح في مذهب أحمد إذاً أراد المؤلف أن كل ما يذكره في هذا الكتاب فهو المذهب الاصطلاحي للإمام أحمد وهو مذهب الحنابلة. فيصح أن ننسب أي قول في هذا الكتاب فنقول هذا مذهب الحنابلة لأنه يقول: على قول واحد وهو الراجح في مذهب أحمد. وقد التزم - رحمه الله - هذا الأمر ولم يذكر في كتابه أي مسألة ليست متوافقة مع المذهب الاصطلاحي للإمام أحمد فيما عدا نحو ثلاثين مسألة سيأتي التنبيه على كل مسألة عند ذكرها. فيما عدا هذا التزم - رحمه الله - بما ذكره من أنه سيذكر الأقوال متوافقة مع مذهب الإمام أحمد. - - وهنا نقطة أحب التنبيه إليه: ذكر كثير من المعاصرين والمتأخرين أن هناك مذهب شخصي للإمام أحمد وهناك مذهب اصطلاحي. والفرق بينهما أن المذهب الاصطلاحي هو المذكور في كتب الحنابلة المعتمد عليها عند المتأخرين وهو كشاف القناع ومنتهى الإرادات. والمذهب الاصطلاحي هو المسائل والفتاوى والروايات المنقولة عن الإمام أحمد. وأشاروا إلى أن هناك فرقاُ بين المذهب الاصطلاحي والمذهب الشخصي.

وفيما أرى وبحسب اطلاعي على أقوال الحنابلة الاصطلاحية مع جمعها مع مسائل الإمام أحمد المطبوع - وقد طبع كما تعلمون منها نحو سبع كتب روايات عن الإمام أحمد. يظهر لي أن الحنابلة لا يخرجون عن روايات الإمام أحمد إلا أن الإمام أحمد له أكثر من رواية ولكن الحنابلة - أصحاب الإمام أحمد - يعتنون حين تقرير المذهب بروايات الإمام أحمد وأقواله واختياراته - رحمه الله - فليس هناك فرق بين المذهب الاصطلاحي والمذهب الشخصي إلا فيما يتعلق بالروايات. والروايات لا يمكن حصرها حيث تبلغ في بعض المسائل إلى سبع روايات لكن الحنابلة يلتزمون بالروايات المذكورة عن الإمام أحمد. • ثم قال المؤلف - رحمه الله -: وربما حذفت منه مسائل نادرة الوقوع وزدت ما على مثله يعتمد إلى هنا عرفنا عدة مزايا ذكرها المؤلف لكتابه: الأول: أنه مختصر. والثاني: أنه مختصر من المقنع. وهذه ميزة لأن المقنع كتاب مشهور حافل اعتنى به الأئمة شرحاً وتهميشاً وحواشي فهو كتاب حافل جداً فكونه اختصار للمقنع هذه بحد ذاتها ميزة. الثالث: أنه على قول واحد. الرابع: أنه التزم بأن يذكر في الكتاب الراجح عند الحنابلة. الخامس: أنه حذف المسائل النادرة. السادس: أنه زاد ما على مثله يعتمد. هذه ست مزايا لكتابنا هذا. • ثم قال المؤلف - رحمه الله -: إذ الهمم قد قصرت هذا تعليل لأمرين: الأول: أنه مختصر. والثاني: أنه اكتفى بقول واحد. لأن من الحنابلة من ألف كتاباً مختصراً ولم يكتف بقول واحد كالمقنع فالمقنع يعتبر مختصراً وهو مع ذلك يذكر قولين. • ثم قال المؤلف - رحمه الله -: والأسباب المثبطة عن نيل المراد قد كثرت قصور الهمم وكثرت الأسباب المثبطة لم توجد في عصر من الأعصار قطعاً بلا تردد أكثر مما وجدت في عصرنا هذا لكثرت الملهيات وانفتاح الدنيا واشتغال الناس بها وبالملذات وضاعت همة كثير من الناس. وهذا يوجب للإنسان أن يحفز همته وأن يستعد وأن يبادر ويسأل الله أن يوفقه لإتمام ما بدأ به من طلب العلم. وإذا كان الشيخ في وقته يقول مثل هذا الكلام فكيف به لو رأى وقتنا.

كتاب الطهارة

وإلى وقت قريب كانت همم أهل العلم رفيعة جداً فلنذكر مرحلة قريبة جداً ومثال واحد - كان من علماء هذا البلد - الشيخ أبا بطين مفتي الديار يقول أحد تلاميذه قرأت عليه شرح منتهى الإرادات مراراً مراراً - مع التحرير والبحث والمدارسة والمراجعة أثناء الدرس - تصور - مَنْ مِنْ طلاب العلم التزم أثناء طلبه للعلم بقرءاة كتاب كبير مثل شرح منتهى الإرادات مراراً. هذا في وقت الشيخ أبا بطين ففي وقت المؤلف كانت الهمم أعلى. نسأل الله سبحانه وتعالى أن يرزقنا همة وإخلاصاً وإقبالاً. • ثم قال المؤلف - رحمه الله -: وهو بعون الله مع صغر حجمه حوى ما يغني عن التطويل هذه ميزة أخرى للكتاب أنه مع أن حجمه صغير إلا أنه حوى ما يغني عن التطويل بحيث إذا ألم الإنسان بمفردات مسائل الزاد حصل له خير عظيم وتمرس في الفقه وأصبح طالباً ناضجاً يستطيع أن يفهم كلام أهل العلم وأهل الاختصاص في هذا الفن. • ثم قال المؤلف - رحمه الله -: ولا حول ولا قوة إلاّ باللَّه وهو حسبنا ونعم الوكيل معنى لا حول ولا قوة إلا بالله: أي أنه لا تحول ولا انتقال للعبد من حال إلى حال إلا بقوة الله وإعانته سبحانه وتعالى. ونلاحظ أن الشيخ - رحمه الله - شديد التضرع والإقبال على الله حتى أنه في آخر هذه المقدمة المختصرة جداً أعاد وكرر الاستعانة والتوكل على الله. فقال: وهو بعون الله ولا حول ولا قوة إلا بالله وهو حسبنا ونعم الوكيل. فهو إن شاء الله من العلماء الربانيين الذين لهم تعلق بالرب سبحانه وتعالى. ونحن نسأل الله سبحانه أن يعيننا وأن يوفقنا وأن يجعلنا هداة مهتدين. • قال المؤلف - رحمه الله -: كتاب الطهارة قوله: ((كتاب)):مصدر يقال كتبت كتاباً. ونوع هذا المصدر أنه مصدر سيَّال. وما هو المصدر السيَّال؟ هو الذي يحدث شيئاً فشيئاً فإن الأفعال تارة تحصل جملة واحدة وتارة تحصل بالتدريج فكتابة الكتاب - مثلاً -: هل تحصل جملة أو بالتدريج؟ بالتدريج. والأكل والشرب يحصلان جملة أو بالتدريج؟ بالتدريج. والخروج من الباب يحصل جملة واحدة أو بالتدريج؟ جملة واحدة. فالكتاب هذا المصدر سيَّال يعني أنه يحصل شيئاً فشيئاً. والمقصود من قوله: ((كتاب)):أي المكتوب يعني هذا مكتوب في الطهارة. • قال المؤلف - رحمه الله -: كتاب الطهارة

العلماء يبدؤون بأركان الإسلام ويبدؤون من أركان الإسلام بالصلاة لأنها أعظم أركان الإسلام ويبدؤون من الصلاة بشرط الطهارة لأنها مفتاح للصلاة. وقوله ((كتاب الطهارة)): الطهارة كما تلاحظ المؤلف لم يعرفها لغة. الطهارة في لغة العرب: هي النظافة والنزاهة من الأقذار الحسية والمعنوية. - فالأقذار الحسية معلومة. - والأقذار المعنوية كالشرك والذنوب. فهذا هو معنى الطهارة في لغة العرب. ثم ذكر الشيخ ’ تعالى تعريف الطهارة الاصطلاحي وهو المهم عندنا الآن. • فقال ’: وهي ارتفاع الحدث وما في معناه وزوال الخبث ارتفاع الحدث وزوال الخبث هذان هما: عنصرا الطهارة. إذاً الطهارة تنصرف إلى الحدث وإلى الخبث. قوله: ((ارتفاع الحدث)) الحدث هو: وصف قائم بالبدن يمنع من الصلاة ونحوها. وفهم من هذا التعريف أنه ليس أمر اً حسياً وإنما هو وصف قائم بالبدن ومن شأن هذا الوصف أن يمنع من الصلاة ونحوها. والمقصود من كلمة ((نحوها)): كل ما تشترط له الطهارة كقراءة القرآن والطواف عند من يرى اشتراط الطهارة للطواف. إذاً الطهارة هي ارتفاع الحدث وما في معناه. عرفنا الآن ما هو الحدث؟ وعرفنا أن ارتفاع هذا الحدث هو أحد عنصري الطهارة وأن العنصر الآخر هو زوال الخبث. قوله ((وزوال الخبث)) الخبث هو: النجاسة الحسية ولا يدخل معنا الآن النجاسة المعنوية. إذاً ارتفاع الحدث وزوال الخبث. لاحظ دقة الفقهاء فقد عبَّر ’: - عن الحدث بالارتفاع لأنه أمر غير محسوس يرتفع ارتفاعاً معنوياً. - وعن النجاسة بكلمة زوال لأنه زوال محسوس. والخبث هنا هو النجاسة الحسية كما تقدم. قوله: ((وما في معناه)) يعني مافي معنى الإرتفاع. ما معنى هذه العبارة؟ إذا أحدث الإنسان ثم توضأ ارتفع الحدث ارتفاعاً حقيقياً لكن إذا كان الانسان على طهارة ثم توضأ فهنا ارتفع ارتفاعاً معنوياً وليس حقيقياً لأن لا يوجد أصلاً حدث يرتفع فهو في الأصل على طهارة. إذاً ومافي معناه: الضمير إلام يعود إلى الحدث أو إلى الارتفاع؟ - إلى الارتفاع. ذكر الحنابلة عدة صور لما يعتبر في معنى الارتفاع: - منها هذا الذي ذكرته لك وهو من توضأ على طهارة. - ومنها الغسلة الثانية والثالثة في الوضوء والغسل.

- ومنها عند الحنابلة التيمم لأنهم يعتبرون التيمم مبيح وليس رافعاً. وهذا أمر سيأتي التطرق إليه عند الكلام على التيمم. ثم انتقل الشيخ - رحمه الله - تعالى إلى الحديث عن المياه لأنها وسيلة الطهارة • فقال - رحمه الله -: المياه ثلاثة يقصد الشيخ بقوله المياه ثلاثة أن المياه - كل المياه - في الشرع - لا العرف ولا في العقل - تنقسم إلى ثلاثة أقسام عند الحنابلة هي: 1. طهور. 2. وطاهر. 3. ونجس. وسيأتي تفصيل هذه المسألة حيث سيعتني بها المؤلف عناية خاصة لأن البحث في المياه من أساسيات كتاب الطهارة. وتقسيم المياه إلى ثلاثة هذا مذهب الحنابلة وأيضاً مذهب المالكية الشافعية فهو مذهب الأئمة الثلاثة. وذهب الأحناف إلى أن المياه تنقسم إلى قسمين فقط: 1. طهور. 2. ونجس. وأن قسم الطاهر ليس له وجود في الشرع. وهذا القول الثاني هو القول الذي تدل عليه الأدلة الشرعية فإنه ليس في الشرع وجود لقسم اسمه طاهر وليس طهور. وهذا القول هو اختيار كثير من المحققين منهم شيخ الاسلام بن تيمية - رحمه الله -. ويتضح هذا البحث - تقسيم المياه إلى ثلاثة - لطالب العلم إذا تكلمنا عن قسم الطاهر فسنبين أنه ليس بموجود ونذكر الأدلة. وإذا لم يكن موجوداً هذا القسم صارت المياه فقط: طهور ونجس. ونبدأ بالطهور: • قال - رحمه الله -: طهور لا يرفع الحدث ولا يزيل النجس الطارئ غيره مقصوده بكلمة طهور: يعني مطهر فهو طاهر في نفسه مطهر لغيره. وقد عرَّف الشيخ الطهور ببيان حكمه والتعريف ببيان الحكم أحياناً يكون أنفع من التعريف ببيان الحقيقة لأن الذي يهمنا الآن هو بيان حكم الماء الطهور وليس حقيقته وماهيته. فقال الشيخ الطهور هو الذي لا يرفع الحدث ولا يزيل النجس الطارئ غيره. لا يرفع الحدث شيء من المائعات إلا الماء فالنبيذ والعصير وما يسمى مثلاً بالشاهي والقهوة كل هذه الأمور مائعات لكنها لا ترفع الحدث إنما يرفع الحدث فقط ماذا؟ الماء ليس إلا. وكونه لا يرفع الحدث إلا الماء هذا أمر متفق عليه بين الأئمة الأربعة ولا يحتاج إلى وقفة. إنما ذهب الأحناف فقط إلى أن النبيذ يرفع الحدث لحديث ابن مسعود أن النبي - صلى الله عليه وسلم - توضأ بنبيذ التمر. والجواب على هذا الاستدلال أن الحديث ضعيف جداً أو موضوع.

إذاً بقينا أنه لا يرفع الحدث إلا الماء الطهور فقط. • ثم قال - رحمه الله -: ولا يزيل النجس النجس في لغة العرب القذارة. وفي الاصطلاح عرفوها بتعريف يقرب النجاسة التي يجب أن تزال ليحصل التطهر أو الطهارة فقالوا: ... كل عين يحرم تناولها لا لضرر ولا لاستقذار ولا لحرمة. ثلاثة أشياء: كل عين يحرم على الانسان أن يتناولها لا لضرر ولا لاستقذار ولا لحرمة فهي نجسة. فخرج بقوله ((لا لضرر)): السم. فالسم لايجوز للإنسان أن يتناوله لا لأنه نجس ولكن لأنه مضر. وخرج بقوله ((ولا لاستقذار)) المخاط والمني. فإن كلَّاً منهما طاهر لكن مع ذلك لا يجوز للإنسان أن يتناولهما بسبب الاستقذار لا بسبب النجاسة. وخرج بقوله ((ولا لحرمتها)) صيد المحرم. فإن صيد المحرم يعتبر ميتةً لأنه لم تتحقق في شروط التذكية. فلا يجوز للمسلم أن يتناوله والسبب أنه محرم وليس لأنه نجس. إذاً إذا أخذت هذا الضابط عرفت كل عين نجسة. فعرفنا الآن أن البول نجس لأنه لا يجوز تناوله بسبب النجاسة لا لسبب من الأسباب الثلاثة التي ذكرنا. وكذلك الغائط والدم والميتة والخنزير والخمر فيشمل كل نجس. وسيخصص المؤلف باباً لبيان الأعيان النجسة ولكنه الآن يريد أن يبين حكم الأعيان النجسة هنا. ثم لما بين الشيء المهم وهو حكم الماء الطهور انتقل إلى بيان حقيقة الماء الطهور. • فقال - رحمه الله -: وهو الباقي على خلقته وقد يكون بقاء الماء على خلقته بقاء حقيقياً وقد يكون بقاءً حكمياً. ما الفرق بين البقاء الحكمي والحقيقي؟ البقاء الحقيقي هو: الماء الذي بقي على خلقته الأصلية لم يتغير منه لا لون ولا رائحة ولا طعم لا بطاهر ولا بنجس كمياه الأمطار والآبار. أما الماء الذي بقي على خلقته بقاءً حكمياً: فكالماء المتغير - الآسن - فإن الماء إذا بقي في إناء معدني يتغير ولكنه مع ذلك يبقى طهوراً لأنه باقٍ على خلقته وهذا التغير لا يؤثر عليه. ثم لما بين الشيخ - رحمه الله - تعالى تعقيب الماء الطهور باعتبارين باعتبار حكمه وباعتبار حقيقته انتقل إلى التفاصيل التي تتعلق بالماء الطهور. • فقال - رحمه الله -: فإن تغير بغير ممازج ذكر الشيخ حكم الماء إذا تغير بغير ممازج وسيذكر بعد ذلك حكم الماء إذا تغير بممازجة.

ونبقى الآن بالماء الذي يتغير بغير ممازجة ذكر الشيخ له عدة أمثلة. • قال ’: كقطع كافور المثال الأول: إذا تغير بقطع الكافور. الكافور نوع من الطيب معروف – لكن يشترط في هذا الطيب أن يكون قطع وهذا الشرط احترازاً من ماذا؟ من المسحوق أو الناعم لا السائل. فإذا كان الكافور قطعاً وسقط في الماء فإنه تغير الماء بهذا الكافور هو تغير بممازجة أو بغير ممازجة؟ بغير ممازجة. يعني بغير اختلاط فالممازجة هي الاختلاط. • قال ’: أو دهن المقصود بالدهن جميع أنواع الدهون فجميع أنواع الدهون لا تختلط بالماء إذا وقعت فيه • قال ’: أو بملح مائي الملح المائي هو: الملح المنعقد من الماء فإن الماء إذا أطلق في السباخ انقلب إلى قطع ملح فإذا ألقي مرة أخرى في الماء ماع وانحل في هذا الماء ومع ذلك يبقى بغير ممازجة وهذا النوع من الملح – الملح المائي - إذا وقع في الماء فإن الحنابلة يعتبرون الماء مازال طهوراً ولكنه مكروه. إذاً عرفنا الآن أن الماء إذا تغير بغير ممازج فإذا وقع فيه الكافور أو وقع فيه دهن أو وقع في ملح مائي فإنه يعتبر ماء طهورا ولكنه مكروه. وعليه نحتاج إلى الجواب عن سؤالين: 1 - لماذا بقي طهوراً؟ ... 2 - ولماذا كره؟ أما لماذا بقي طهوراً؟ فالجواب: فلأنه هذا التغير بالمجاورة وليس بالمخالطة وقاعدة الحنابلة: أن أي تغير بالمجاورة بدون مخالطة يبقى معه الماء طهوراً. وأما لماذا كره مادام بقي طهوراً؟ فالجواب: لأنه اختلف فيه فذهب بعض أهل العلم إلى أنه خرج من الطهورية إلى الطاهرية فسلبت طهوريته فأصبح بدلاً من أن يكون طهوراً طاهر فقالوا: نظراً لهذا الخلاف نحكم عليه بالكراهة. - أما التعليل الأول وهو كونه يبقى طهوراً فهو تعليل صحيح وفقهي قوي. - أما التعليل الثاني وهو كونه يصبح مكروها مع كونه طهوراً فهو تعليل ضعيف. ولكن أحب أن أنبه إلى شيء: وهو أن كثيراً من الطلاب يسمع قضية أن التعليل بالخلاف عليل وأنه ضعيف وأنه لا يعلل الحكم الشرعي بوجود الخلاف بين أهل العلم وهذا الكلام كله صحيح وقوي علمياً. لكن يبقى أن يلاحظ طالب العلم أن مراعاة الخلاف والاحتياط والورع أمر مطلوب من طالب العلم ومن العامل.

ألاحظ الآن أن مسألة الاحتياط في مسائل الخلاف أصبحت ملغاة مع أن أكثر الذين ألفوا في القواعد الفقهية ذكروا من القواعد الفقهية أن مراعاة الخلاف أمر مطلوب. فإذاً نحن نقول هذا الماء ليس بمكروه لأن الكراهة حكم شرعي تحتاج إلى دليل ومجرد وجود الخلاف ليس دليلاً شرعياً. لكن مع ذلك ينبغي لطالب العلم أن يستشعر أن المسألة إذا كان فيها خلاف لاسيما إذا كان الخلاف قوياً فينبغي أن يحتاط فيها الإنسان احتياطاً واضحاً. فبعض المسائل يكون الخلاف فيها قوي جداً إلى درجة أن عدداً من أهل العلم يتوقف في الترجيح وفي الإفتاء. مثال ذلك: مسائل طلاق الثلاث والطلاق في الحيض مسائل مشكلة جداً وغاية في الإشكال حتى كان الإمام أحمد لا يمكن أن يفتي في مسائل الطلاق بالثلاث أو في حيض وإذا طالع الإنسان الخلاف عرف أن الخلاف قوي. المقصود الآن أن مراعاة الخلاف أمر طيب من طالب العلم على سبيل الورع والاحتياط. • قال - رحمه الله -: أو سخن بنجس إذا سخن الماء بنجاسة فإن الحنابلة يعتبرونه طهور ولكنه مكروه فنحتاج أيضاً إلى الجواب على السؤالين: 1. لماذا بقي طهوراً؟ 2. ولماذا هو مكروه؟ أما الجواب على أنه لماذا بقي طهوراً فلنفس السبب الأول وهو أن التغير هنا بمجاورة. وأما لماذا كره؟ قالوا: لأنه لا يؤمن أن تنتقل إليه أجزاء من الدخان المنبعث من النجاسة فلأجل هذا الأمر جعلوه مكروهاً. عرفنا من هذا التقرير للحنابلة أن الإناء إذا كان محكم الإغلاق لا يصبح بعد ذلك مكروهاً لأنا نأمن من وصول الدخان إليه - مع ذلك قسم كبير من الحنابلة يرون أنه مكروه ولو كان محكم الإغلاق. ((انتهى الدرس الأول))

بالأمس تكلمنا عن مسألة ونسينا الحقيقة مسألة. • فيقول المؤلف - رحمه الله -: لا يرفع الحدث ولا يزيل النجس الطارئ غيره قوله: ((ولا يزيل النجس الطارئ غيره)): - الحنابلة يرون أنه لا يمكن إزالة النجاسة إلا بالماء فقط وهذا أيضاً مذهب المالكية والشافعية فهو مذهب الأئمة الثلاثة. ويستدلون بحديث صحيح وهو: - حديث أسماء أنها سألت النبي - صلى الله عليه وسلم - عن دم الحيض يصيب الثوب فقال: (تحته ثم تقرصه ثم تغسله بالماء). قالوا: فنص النبي - صلى الله عليه وسلم - على أن غسل النجاسة ومنها دم الحيض يكون بالماء. عرفنا الآن مذهب الحنابلة وهذه هي المرحلة الأولى في كل المسائل أن تفهم مذهب الحنابلة فهماً صحيحاً وتفهم دليلهم لأننا نتدارس في كتاب من كتبهم. - وذهب أبو حنيفة - رحمه الله - إلى أنه يمكن إزالة النجاسة بأي مزيل. ويستدل الحنفية بأدلة قوية أيضاً. الدليل الأول لهم: جميع أحاديث الاستجمار لأن الاستجمار عبارة عن إزالة النجاسة بغير الماء أي: بالأحجار. ويستدلون أيضاً بحديث صحيح أخرجه البخاري في صحيحة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - سألته عائشة عن الدم يصيب الثوب فقالت: كنا ننزعه بالريق والظفر. ومن المعلوم أن إزالة الدم من الثوب بالريق والظفر إزالة للنجاسة بغير الماء. فصار للأحناف كم دليل؟ دليلان ولهم أدلة كثيرة هذان الدليلان أقوى الأدلة باعتبار أنها من النصوص. ولهم دليل ثالث وهو أن الحكم يزول بزوال علته، وعلة التنجيس وجود النجاسة فإذا زالت بأي مزيل زال حكمها. - وهذه قاعدة مفيدة لطالب العلم. وهذا القول اختاره عدد من المحققين واختاره بعض السلف كالفقيه المعروف ابن أبي ليلى وهو اختيار أيضاً ابن قاضي الجبل من الحنابلة واختيار أيضاً شيخ الإسلام ابن القيم.

وابن قاضي الجبل سيتكرر معنا باعتبار أن له اختيارات رائعة جداً وهو من تلاميذ شيخ الاسلام ابن تيمية - رحمه الله - - وقد انتدب بعض طلاب العلم لجمع اختيارات ابن قاضي الجبل - رحمه الله -. وهذا القول الثاني الذي هو مذهب الحنفية هو القول الصواب وما ذهب إليه المؤلف قول ضعيف. بالإضافة إلى أن فيه تشديد وتعسير على الناس. • قال - رحمه الله -: ولا يزيل النجس الطارئ غيره قوله ((الطارئ)): يفهم منه أن النجاسة تنقسم إلى قسمين: 1. نجاسة عينية. 2. ونجاسة طارئة. والنجاسة التي تقبل التطهير هي: النجاسة الطارئة. أما النجاسة العينية: فإنها لا تقبل التطهير إلا بالاستحالة وسيفرد المؤلف كلاماً خاصاً عن الاستحالة في باب إزالة النجاسة. مثال النجاسة العينية: العذرة والكلب والخنزير وما شابه هذه الأعيان التي تعتبر نجسة نجاسة عينية. مثال المعين النجس نجاسة طارئة: الثوب إذا أصيب ببول أو الأرض إذا أصيبت بدم.

إذاً التطهير ينفع في النجس نجاسة عينية أو في النجس نجاسة طارئة؟ الطارئة ولهذا نص المؤلف على ذلك بقوله: ولا يزيل النجس الطارئ غيره. نرجع إلى ما توقفنا عنده. • قال المؤلف - رحمه الله -: ((وإن تغير بمكثه)) إذا تغير الماء بمكثه يعني بسبب طول مكثه فإن يبقى طهور بلا كراهة. والدليل: الإجماع. فإن العلماء أجمعوا أن مثل هذا الماء يبقى طهوراً. • قال - رحمه الله -: ((أو بما يشق صون الماء عنه)) إذا تغير الماء بما يشق صونه عن الماء فإنه يعتبر طهورٌ بلا كراهة. التعليل: قال التعليل القاعدة المتفق عليها وهي أن المشقة تجلب التيسير. هنا يتبادر إلى الذهن سؤال: هل يبقى الماء طهور بلا كراهة ولو خالطه هذا الذي يشق صونه عن الماء؟ حتى لو خالطه. الجواب: نعم. إذا سقط فيه شيء واختلط فيه ومازجه فبما أنه يشق صونه عن الماء فإن الماء يبقى طهوراً للقاعدة السابقة. عرف من قوله: يشق صون الماء عنه حكم مسألتين لم يذكرهما المؤلف - رحمه الله - وأنا قلت لك في الدرس السابق أن الكتاب فيه مسائل تؤخذ من المنطوق وفيه مسائل تؤخذ من المفهوم. فمفهوم قوله يشق صون الماء أنه لو جاء شخص ووضع قصداً هذا الشيء في الماء يصبح ماذا؟ طهور مكروه أو طاهر؟ - إن اختلط به صار طاهراً. - وإن لم يختلط به صار طهور ولكنه مكروه. وإن وقع فيه مالا يشق صون الماء عنه أيضاً يصبح طهور: ولكنه مكروه. إذاً قوله - رحمه الله - أو بما يشق صون الماء عنه له مفهوم ومراد للمؤلف أنه إذا كان لا يشق صون الماء فإن الماء لا يبقى طهور بلا كراهة وإنما يصبح طهوراً مع ماذا؟ مع الكراهة. • قال - رحمه الله -: ((أو بمجاورة ميتة)) يعني إذا كان بجوار الماء ميتة ثم تغير الماء بسبب مجاورة الميتة وغالباً سيتغير فيه أي صفة من الصفات؟ الرائحة. فإن هذا الماء يبقى طهور وبلا كراهة مع العلم أنك أذا تناولت هذا الماء تشم فيه رائحة ماذا؟ الميتة. مع ذلك يرى الحنابلة بل يرى الأئمة الأربعة بل حكي الإجماع أن هذا الماء يبقى طهور بلا كراهة. لكن من المعلوم أن كثيراً من الناس نفسه لا تقبل مثل هذا الماء بسبب وجود الرائحة المؤذية لكن حكمه الفقهي أنه يبقى طهور وأيضاً بلا كراهة. - أما أنه طهور فواضح لأنه باقي على خلقته الأصلية.

- وأما بلا كراهة فلأنه لا يوجد دليل على الكراهة بل أجمعوا على عدم الكراهة. • ثم قال ’: أو سخن بالشمس أو بطاهر. إذا سخن الماء بالشمس أو سخن بطاهر –كالحطب - فإنه يبقى طهور بلا كراهة. الدليل على أنه يبقى طهور بلا كراهة أن الصحابة è دخلوا الحمامات وهي الأماكن العامة التي وضعت للاغتسال واغتسلوا بالماء الذي فيها للتنظيف والتبريد والتطهر – يعني غسل الجنابة ومن المعلوم أن المياه التي في الحمامات العامة تسخن قبل أن يتناولها المغتسل. وهذه الحمامات وإن كانت لا توجد في نجد إلا أنها منتشرة وبكثرة في الشام ومصر وكثير من البلدان. فهذه الحمامات الماء الذي فيها مسخن أو بارد؟ مسخن واغتسل فيها الصحابة وهي مسخنة. والإمام أحمد ’ من أصوله الأخذ بما ورد عن الصحابة ولذلك كله اعتبر أن الماء المسخن طهور بلا كراهة. بين المؤلف قسماً من المياه تعتبر طهورة ولكنها مكروهة ثم بين قسماً من المياه تعتبر طهورة ولكن بدون كراهة ثم رجع المؤلف مرة أخرى لقسم المياه الطهورة المكروهة. • فقال ’: ((وإن استعمل في طهارة مستحبة، كتجديد وضوء وغسل جمعة وغسلة ثانية وثالثة: كره)) إذا استعمل في طهارة مستحبة فإن الماء المستعمل في هذه الطهارة المستحبة يعتبر عند الحنابلة طهور لكن مكروه. يلاحظ على المؤلف ’ أنه أخل بالترتيب المنطقي لأنه ذكر نوع المياه (( .... )) المكروهة ثم انتقل إلى غير المكروه ثم رجع إلى المكروه والمفترض والمتبادر إلى الذهن أن يجعل المكروه جملة واحدة في مكان واحد والطهور غير المكروه في مكان واحد لكنه ’ قسمها هذا التقسيم. إذا استعمل الماء في طهارة مستحبة ومثل المؤلف للطهارة المستحبة تجديد وضوء وغسل جمعة وغسلة ثانية وثالثة فإن الماء يصبح طهور ولكنه مكروه وهذا مذهب الحنابلة. والقول الثاني في هذه المسألة: أن الماء المستعمل في طهارة مستحبة يبقى طهور بلا كراهة لأنه لا يوجد دليل على الكراهة. وتقدم معنا أن الكراهة حكم شرعي من الأحكام التكليفية الخمسة يحتاج إلى دليل وبلا دليل لايمكن القول بهذا الحكم. ولكن لماذا اعتبر الحنابلة الماء المستعمل في طهارة مستحبة مكروه؟

قالوا: لأنه اختلف العلماء في سلبه الطهورية والحنابلة يعللون كثيراً بالاختلاف فكل مسألة يختلف فيها العلماء يعتبرونها مكروهة وإن كانوا لم يطردوا في جميع المسائل. • قال المؤلف - رحمه الله -: ((وإن استعمل في طهارة مستحبة)) عرفنا من هذه العبارة أنه إذا استعمل في طهارة واجبة فله حكم آخر وهذا المفهوم صحيح وسيصرح المؤلف بحكم الماء المستعمل في طهارة واجبة. بعد أن بين المؤلف الكلام عن الطهور بأقسامه - كما تقدم معنا الآن وعرفنا حكم كل قسم من أقسام الماء الطهور انتقل المؤلف إلى موضوع آخر مهم وسيتكرر معنا وهو الكلام عن الماء الكثير والماء القليل. ولكن إذا سئل الإنسان لماذا ذكر المؤلف الماء القليل والماء الكثير؟ فالجواب: لأنه سيرتب أحكاماً كثيرة على الماء القليل والماء الكثير فاحتاج قبل أن يذكر أحكامهما أن يبين ما هو الماء القليل وما هو الماء الكثير. • قال - رحمه الله -: وإن بلغ قلتين وهو الكثير - وهما خمسمائة رطل عراقي تقريباً - فخالطته نجاسة غير بول آدمي أو عذرته المائعة فلم تغيره، أو خالطه البول أو العذرة ويشق نزحه كمصانع طريق مكة: فطهور. الآن نريد أن نتصور مذهب الحنابلة قبل أن ننتقل إلى قول آخر إن كان في المسألة قول آخر. الحنابلة يرون أن الماء إذا بلغ قلتين وخالطته نجاسة ولم تغيره فإنه يبقى طهوراً حتى لو خالطته النجاسة بشرطين: 1. أن يكون كثير. 2. وأن لا تغيره هذه النجاسة. إلا إذا كانت هذه النجاسة بول الآدمي أو عذرته المائعة فإن البول والعذرة إذا وقعا في الماء ولو كان كثيراً ولو لم تغيره فإن الماء يعتبر نجساً. نريد الآن أن نفهم مذهب الحنابلة فقط. بقينا في تحديد الماء الكثير والقليل. الماء الكثير هو: مابلغ قلتين. ومعلوم أن القلتين لا يعرف الآن مقدارهما ولا نحتاج أن نخوض في الرطل والمقاييس التي ذكرت إنما نريد أن مقياسين مشهورين في وقتنا هذا وهو الذي يهم المسلم وهما اللتر والكيلو فإن المياه اليوم إما أن تقاس باللتر أو تقاس بالكيلو. فالماء الكثير بالنسبة للتر 190 لتر أو 191 كيلو. وسيتبين لنا أنا لا نحتاج حتى معرفة مقدار الماء الكثير. ما هو الدليل أن هذا الماء الكثير لا ينجس ولو وقعت فيه نجاسة؟

استدلوا بقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((إذا بلغ الماء قلتين لم ينجس)) وفي رواية ((لم يحمل الخبث)). هذا الحديث اختلف فيه الحفاظ تصحيحاً وتضعيفاً. - فذهب إمامان حافظان إلى تصحيحه وهما ابن معين والدارقطني وهما من الأئمة المحدثين الكبار. - وذهب بعض العلماء إلى الحكم عليه بالوقف على ابن عمر كالحافظ المزي وشيخ الاسلام ابن تيمية. - وذهب بعض الحفاظ إلى أنه ضعيف كالزيلعي وابن القيم. إذا اختلفوا في هذا الحديث على ثلاث مذاهب. والصواب إن شاء الله أنه حديث صحيح ثابت: أولاً: لكثرة أسانيده وصحتها. وثانياً: لأن الذين صححوه هم أئمة هذا الشأن وهما الدارقطني وابن معين وصححه معهما خلق لكن هؤلاء هم أبرز الذين صححوه. أخذنا الآن الدليل على أن اعتبار القلتين كثير نحتاج إلى الدليل على استثناء بول الآدمي وعذرته المائعة. استدل الحنابلة على هذا الاستثناء بقول النبي - صلى الله عليه وسلم - ((لا يبولن أحدكم في الماء الدائم ثم يغتسل منه)). قال الحنابلة لولا أن البول في الماء الدائم يؤثر فيه بسلبه الطهورية لما نهى النبي - صلى الله عليه وسلم - عن البول فيه. ((وبهذه المناسبة أحب أن تتنبهوا دائماً إلى وجه الاستدلال فكثير من إخواننا يعرف الدليل ولكن ربما لو قيل له ما وجه الاستدلال من هذا الدليل لم ينتزعه منه)). هكذا استدل الحنابلة بهذا الحديث وهو حديث صحيح والاستدلال في الحقيقة قوي. القول الثاني: أن بول الآدمي وعذرته المائعة كسائر النجاسات ولا يكون بول الآدمي أشد من بول الكلب. واستدلوا على هذا بدليل قالوا: أن في بعض ألفاظ حديث القلتين أن النبي - صلى الله عليه وسلم - سئل عن بئر بضاعة وما يلقى فيه من فضلات الناس. قالوا: ومع كون النبي - صلى الله عليه وسلم - سئل عما يلقى في البئر من فضلات الناس أخبر أن الماء إذا بلغ قلتين لم ينجسه شيء. وهذا القول – الثاني – هو مذهب كثير من الحنابلة وهو القول الصواب ان شاء الله وهو أن بول الآدمي كسائر النجاسات.

فهم من قول المؤلف أن الماء إذا بلغ قلتين فطهور أنه إذا كان أقل من القلتين فله حكم آخر وهذا المفهوم صحيح فإن الحنابلة وغيرهم من الفقهاء يفرقون بين القليل والكثير. ولكن ما هو الحكم الآخر؟ سيصرح المؤلف بحكم الماء اليسير ولكن نريد الآن أن نفهم حكم الماء الكثير. إذاً عرفنا الآن حكم الماء الكثير وهو أنه إذا سقطت فيه النجاسة لم تنجسه ولو ذابت فيه. إذا أتينا بماء كثير ووقع فيه بول لكنه ماء كثير وتغير فهل هو نجس أو طهور أو طاهر؟ الصواب: أنه إذا وقعت فيه نجاسة وغيرته أنه نجس بلا خلاف وبإجماع الأمة على ذلك. ويجب أن ننتبه فالشيء سهل لكنه عند التطبيق يكون صعباً فاحرص أن تفهم المقصود على وجهه. إذاً نعيد فنقول الماء إذا كان كثيراً وهو ما بلغ قلتين ووقعت فيه نجاسة ولم تغيره فإنه يصبح طهوراً وقلت لكم أنه بشرطين الأول أن يكون كثيراً والثاني لم تغيره. من أعظم مميزات وفوائد حفظ المتن أو على الأقل استظهاره أن تتبين للإنسان الأحكام باستظهار كلام المؤلف. مثلاً هذا السؤال الذي سألته الآن لو أن الإنسان يستظهر قول الشيخ هنا (فلم تغيره). بين الشيخ أنه إذا وقع في الماء الكثير بول الآدمي أو عذرته المائعة فإن الماء يصبح نجساً ولو لم تغيره النجاسة. وهذا الحكم عند الحنابلة خاص بماذا؟ ببول الآدمي وعذرته المائعة. يستثنى من هذا الحكم - يستثنى من الاستثناء إذا كان الماء مما يشق نزحه لكثرته وتبحره فإنه يبقى طهور ولو وقعت العذرة المائعة أو البول. إذاً هذا استثناء من الاستثناء. وبهذا نعرف أن تقرير مذهب الحنابلة في هذه المسألة فيه صعوبة وتعقيد وصعوبة القول وتعقيده وتداخله من علامات ضعفه. إذاً للمرة الأخيرة نلخص مذهب الحنابلة أن الماء الكثير هو الذي يبلغ قلتين وأنه يبقى طهور بشرطين: 1. الشرط الأول: أن يكون كثيراً. 2. الشرط الثاني: أن لا يتغير. بهذين الشرطين يبقى طهور ولو وقعت فيه النجاسة. يستثنى من هذا الحكم الكلي إذا وقعت في الماء الكثير عذرة الآدمي المائعة أو بوله فإنه يعتبر نجس بمجرد الملاقاة إلا إذا كان هذا الماء كثير بحيث يشق نزحه.

والنزح هو إخراج الماء من البئر إلى أن يفرغ فإذا أخرجنا الماء من البئر فسيأتي ماء جديد ولكن هل تستطيع أن تنزح البحر أو بركة طولها ثلاث كيلو في ثلاث كيلو؟ الجواب: لا فهذا البحر أو هذه البركة إذا وقع فيها بول الآدمي أو عذرته المائعة هل يبقى طهور أو يكون نجساً؟ يبقى طهور لمشقة نزحه. ثم انتقل الشيخ - رحمه الله - إلى موضوع آخر: • فقال - رحمه الله -: ((ولا يرفع حدث رجل: طهور يسير خلت به امرأة لطهارة كاملة عن حدث)) ما زال البحث الآن في الماء الطهور فجميع ما سبق من البحث في الماء الطهور فإلى الآن لم ننتقل إلى القسم الثاني وهو الطاهر. من أقسام الماء الطهور ماء يجوز أن تتطهر به المرأة ولا يجوز أن يتطهر به الرجل. ولا نحتاج أن نكرر أننا أولاً نقرر مذهب الحنابلة ولا يلزم أن يكون هو القول الصواب. فالحنابلة يرون أن هناك نوع من المياه يرفع حدث المرأة ولا يرفع حدث الرجل. وهو الذي عبَّر عنه الشيخ هنا ولنتأمل عباراته - رحمه الله -: يقول: ولا يرفع حدث رجل: طهور يسير خلت به امرأة لطهارة كاملة عن حدث. الحنابلة يرون أن المرأة إذا خلت بماء يسير وتوضأت منه لطهارة كاملة فإن هذا الماء لا يرفع حدث الرجل. فقرروا عدة أمور: أولاً: أن يكون يسيراً. نحن الآن نأخذ شروط الماء الذي لا يرفع حدث الرجل ويرفع حدث المرأة. والثاني: أن تخلو به المرأة. والثالث: أن ترفع به حدثاً كاملاً لطهارة كاملة. فهذه ثلاث شروط إذا انطبقت فإن الحنابلة يعتبرون هذا الماء يرفع حدث المرأة ولا يرفع حدث الرجل. واستدلوا: بأن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى أن يتوضأ الرجل بفضل طهور المرأة. هذا الحكم عند الحنابلة من المفردات. ومعنى أنه من المفردات: يعني: أنه تفرد الحنابلة بالقول به من بين الأئمة الثلاثة. والحنابلة أخذوا القيود من الحديث: فقولهم: (خلت به امرأة) من أين أخذوه؟ من قوله - صلى الله عليه وسلم - في الحديث "" خلت به امرأة "". وقولهم (لطهارة كاملة) من أين أخذوه؟ من قوله - صلى الله عليه وسلم - "" بفضل طهور المرأة "". وجه الاستدلال: قالوا أن الطهور عند الاطلاق في الشرع ينصرف إلى رفع الحدث الكامل لا إلى التجديد.

بقينا في شرط عند الحنابلة وهو قول المؤلف (خلت) فمن أين أخذوه؟ هم لم يأخذوه من الحديث وإنما أخذوه من فتاوى الصحابة فالإمام أحمد أخذ هذا الشرط من فتاوى الصحابة. وهنا جاءت فائدة معرفتك كطالب علم أن الإمام أحمد يعتمد كثيراً على فتاوى الصحابة فانظر كم هي الأقوال التي مرَّت معنا كان قد اعتمد عليها - رحمه الله - من أقوال الصحابة فإن فالصحابة هنا اشترطوا أن تخلوا المرأة به. وهنا بحث أخير في هذه المسألة قبل أن ننتقل إلى القول الآخر: ما هو حدُّ الخلوة؟ وما المقصود بها؟ هذه الخلوة: اختلفت الرواية فيها عن الإمام أحمد وباختصار نقول: روي عن الإمام أحمد في تفسيرها روايتان. الأولى: أن المقصود بالخلوة أن تتوضأ المرأة بدون أن يشاهدها أحد. والثانية: أن تنفرد المرأة بالوضوء من هذا الإناء. والراجح الثانية وهو أن معنى الخلوة أن تنفرد المرأة بالوضوء حتى لو بحضرة الرجال فإنه يعتبر خلوة. وسبب الترجيح أن هذه الرواية ألصق بالحديث فإن الحديث يشترط فيه أن تتوضأ المرأة فقط فلم يتعرض فيه لقضية المشاهدة. عرفنا الآن مذهب الحنابلة وشروطهم ودليلهم وتعليلاتهم لكل شرط من الشروط فنأخذ الآن: القول الثاني: للأئمة الثلاثة. أنه يجوز للرجل أن يتوضأ بفضل طهور المرأة. واستدلوا على هذا الحكم: بما أخرج مسلم أن النبي - صلى الله عليه وسلم -: (توضأ بفضل ميمونة). وبحديث عائشة في الصحيح (أنها كانت تغتسل هي والنبي - صلى الله عليه وسلم - من إناء واحد) سؤال: لماذا ذكر المؤلف - رحمه الله - هذا النوع من المياه في قسم الطهور؟ مع أنه لا يرفع حدث الرجل وقد عرف الطهور بأنه: الذي يرفع الحدث. الجواب: لأنه يرفع حدث المرأة فهو بهذا يعتبر من أقسام الطهور. ثم انتقل - رحمه الله - إلى القسم الثاني من أقسام المياه. • فقال - رحمه الله -: وإن تغير لونه أو طعمه أو ريحه: بطبخ أو ساقط فيه. بدأ المؤلف بالقسم الثاني من أقسم المياه عند الحنابلة وهو: الماء الطاهر. وهذا الماء الطاهر ينقسم إلى قسمين: الأول: - أن يكون طاهراً بسبب: اختلاط الطاهرات به. والثاني: أن يكون طاهراً بسبب: رفع الحدث به. فكل ما سيذكره المؤلف - رحمه الله - يندرج تحت أحد هذين القسمين. ونبدأ بالقسم الأول: - تغير الماء بالطاهرات.

فنقول: أن الماء الطاهر الذي تغير بالطاهرات ينقسم إلى قسمين: الأول: - أن يتغير الماء بالطاهرات مع بقاء الإسم. الثاني: - أن يتغير الماء بالطاهرات مع ذهاب الاسم. ومثال القسم الأول: كماء الورد. ومثال القسم الثاني: كالمرق والصابون والشاهي. وتنبه إلى أن المقصود بالبحث في كتب الفقهاء هو الماء الذي تغير مع بقاء الإسم أما الماء الذي تغير مع ذهاب الاسم فهذا لا إشكال أنه لا يرفع الحدث. الحنابلة يقولون: إذا تغير طعمه أو لونه أو ريحه بطبخ أو ساقط فيه أصبح طاهراً بعد أن كان طهوراً. ما هو دليل الحنابلة على هذا الحكم؟ - وهو حكم كبير لأنهم بذلك يخرجون قسماً كبيراً من المياه فلا يصلح أن يتوضأ بها المسلم. قالوا: أن الله سبحانه وتعالى نقلنا في كتابه عند عدم الماء إلى التيمم فقال: {فلم تجدوا ماء فتيمموا} [النساء/43] والماء في الآية مطلق والماء المتغير بالطاهرات ليس بماء مطلق فننتقل إلى التيمم. ودليلهم دليل وجيه كما نرى. والقول الثاني: وهو رواية عن الإمام أحمد. أن الماء إذا تغير بالطاهرات فإنه يبقى طهور. بماذا استدل أصحاب هذا القول؟ استدلوا: بأن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمر النساء اللاتي يغسلن ابنته أن يضعن مع الماء سدراً. ومن المعلوم أن الماء والسدر المطحون يعتبر من الماء المتغير بالطاهرات لأنه يتغير بوضع السدر المطحون فيه فإنه يختلف ريحه وطعمه ولونه ومن المعلوم أيضاً أن غسل الميت غسل واجب ويعتبر من الطهارات الشرعية ومع ذلك كله أمرهم النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يغسلوا ابنته بماء وسدر. فدل هذا الحديث أن الماء إذا تغير بالطاهرات فإنه يبقى طهور. أي الدليلين أقوى؟ ولماذا؟ - الدليل الثاني أقوى. للقائل بأن الماء المتغير بالطاهرات يبقى طهور. ولماذا؟ لأنه أخص بالمسألة. والدليل إذا كان أخص بالمسألة فيرجح على الدليل العام. أما دليل الحنابلة فهو مفهوم من الآية فهماً ولا شك أن الدليل المنطوق الأخص يقدم على المفهوم. ننتقل الآن إلى القسم الثاني من أقسام الماء الطاهر: • فقال - رحمه الله -: أو رفع بقليله حدث. الحنابلة يرون أن الماء إذا رفع بقليله حدث - والقليل هو ما دون القلتين - فإنه يعتبر طاهراً.

- تقدم معنا أن الحنابلة يرون أن الماء إذا استخدم في طهارة مستحبة فإن حكمه أنه: طهور مكروه. وهنا بين المؤلف ’ أن الماء إذا رفع بقليله حدث - أي أنه استعمل في طهارة واجبة - فإنه يكون عندهم طاهر. أي: لا يرفع الحدث. الدليل: قالوا: أن النبي ‘ يقول: (لا يغتسلن أحدكم في الماء الدائم وهو جنب). قالوا: لولا أن هذا الاغتسال يؤثر في الماء لم ينه عنه النبي ‘. ولاحظ أن النبي ‘ قال: (وهو جنب). يعني: أن هذا الاغتسال: اغتسال واجب. فقال الحنابلة: لماذا نهى النبي ‘ عن هذا الأمر؟ إلا أنه يؤثر في الماء فيرفع عنه الطهورية ويصبح طاهر. وهذا استدلال قوي. ولابد أن نفهم هذا أن الحنابلة رحمهم الله يستدلون بأدلة قوية فليست أدلتهم بالضعيفة. القول الثاني: أن الماء إذا رفع بقليله - أو بكثيره من باب أولى - الحدث فإنه: يبقى طهور. استدلوا على هذا: بأن النبي ‘ (كان يغتسل هو وأزواجه جميعاً) كما تقدم معنا في حديث عائشة بالبخاري. فكانت تغتسل هي والنبي ‘ وكانت تقول له: دع لي. دع لي. أي: أن الاغتسال يتم بالتدرج فتغمس يدها فتأخذ من الماء وتغتسل. ولو كان الماء إذا رفع به الحدث يصبح طاهراً وليس بطهور لم يكن النبي ‘ يغتسل بفضل طهور عائشة. وهذا القول هو الصواب. ووجه الترجيح: ما تقدم أن حديث عائشة أخص بالمسألة. نحتاج أن نجيب عن الحديث الذي استدل به الحنابلة (لا يغتسلن أحدكم في الماء الدائم وهو جنب) فنقول: إن هناك عدة أجوبة عنه: - أقواها: أن النبي ‘ نهى عن ذلك لئلا يتخذ مثل هذا الفعل عادة فيؤدي ذلك إلى تغيرالماء واستقذار الناس له ففي القديم كان الناس يعتمدون اعتماداً كبيراً على المياه والبرك فإذا اغتسل بعض الناس في هذا الماء فقد أفسده على الباقين. وهذا الحمل حمل قوي في الحقيقة إذا تأمل فيه الإنسان وجد أنه تفقه قوي فنحمل الحديث على خشية استقذار الناس لا على التنجيس. (((ونسينا أن نقول لكم - وأنا أهتم بهذا وأريد أن تهتموا به - أن الحنابلة استدلوا بأن النبي ‘ (نهى أن يتوضأ الرجل بفضل طهور المرأة) وقد أجبنا عن هذا الحديث في موضعه وبينا القول الثاني - نقول أيضاً:

أن من الأجوبة على هذا الحديث: أن البخاري والبيهقي ضعفا هذا الحديث وهذا الجواب هو الأول: لأنه أصلاً لا يمكن الاستدلال بحديث ضعيف وهذا هو الصواب أن هذا الحديث ضعيف وإن كان كثير من المعاصرين يصحح الحديث لكن الإمام الحافظ البارع البيهقي يرى أن هذا الحديث ليس بمحفوظ وقد نقل الترمذي عن البخاري في كتابه العلل الكبير - وهذا كتاب مفيد يحسن أن يكون عند كل طالب علم - نقل عن البخاري تضعيفه لهذا الحديث))). القسم الثالث: من أقسام الماء الطاهر: • قال - رحمه الله -: أو غمس فيه يد قائم من نوم ليل ناقض لوضوء. - كما اعتدنا نفهم أولاً مذهب الحنابلة - فالحنابلة يرون أن الماء اليسير إذا غمس رجل قائم من نوم ليل يده فيه قبل أن يغسلهما ثلاثاً فإن الماء ينقلب من كونه طهور إلى طاهر. وقد ذكر المؤلف قيوداً في هذه المسألة: - الأول: (أن يغمس يده). أما لو غمس أي جزء آخر فإنه لا يكون مؤثراً فهذا مفهوم قوله: (يده). - الثاني: (قائم من نوم ليل). فلو كان قائماً من نوم نهار وغمس يده فإنه لا يؤثر. - الثالث: (ناقض). أن يكون النوم ناقضاً. دليل الحنابلة. ونبين كيف أخذ الحنابلة منه هذه القيود: استدلوا: بقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: (إذا استيقظ أحدكم فلا يغمس يده في الإناء حتى يغسلها ثلاثاً فإن أحدكم لا يدري أين باتت يده) أما استنباطاتهم منه: - فقولهم: (أو غمس فيه يد). من قوله: (فلا يغمس يده) وهذا نص. - وقولهم: (من نوم ليل). من قوله: (فإن أحدكم لا يدري أين باتت يده). والبيتوتة تكون بالليل كما قال الشافعي - رحمه الله -. - وقولهم: (ناقض لوضوء). من قوله: (لايدري). لأن النائم إذا كان يدري فإن وضوئه لا ينتقض فدل على أن النوم الذي يحدث هذا التغيير هو النوم الناقض للوضوء. إذاً عرفنا ما هو مذهب الحنابلة؟ وعرفنا شروطهم وتصورنا تماماً أقوالهم ثم عرفنا دليلهم. القول الثاني: أن غمس اليد في الإناء قبل غسلها ثلاثاً لا ينقل الماء من الطهورية فيصبح طاهراً بل يبقى طهوراً. وهذا مذهب أبي حنيفة ومالك والشافعي. فهذا يعني أن هذه المسألة من المفردات. وهي كذلك.

دليل الجمهور: أن هذا الحديث لا تعلم له علة وليست منصوصاً عليها بل علته تعبدية وليست للتنجيس والأصل في الماء أنه يبقى طهور. ومذهب الجمهور - الأئمة الثلاثة - هو الأقرب للصواب إن شاء الله. وإن كان في الحقيقة الاحتياط في مثل هذا الماء يتعين لقوة استدلال الحنابلة لكن من حيث البحث العملي فإن الأقرب أنه يبقى طهور. وأن انتقال الماء من الطهورية أمر يحتاج إلى دليل قوي. القسم الرابع - الأخير: من قسم الماء الطاهر. • قال - رحمه الله -: أو كان آخر غسلة زالت النجاسة بها: فطاهر. هذا هو آخر نوع من أنواع المياه الطاهرة: فإذا غسل الإنسان النجاسة وزالت النجاسة فالماء المنفصل بعد أخر غسلة إذا لم يكن متغيراً يصبح عند الحنابلة طاهراً. هذا هو الحكم. بقينا لماذا يعتبر الحنابلة الماء الذي أزلنا به النجاسة طاهراً؟ الجواب: للأصل السابق وهو أنه مستعمل في إزالة الخبث فإذا كان مستعملاً في إزالة الخبث فإنه يعتبر مستعملاً في طهارة واجبة وقاعدة المذهب أن الماء إذا استعمل في طهارة واجبة فإنه يعتبر طاهراً وليس طهوراً. • قال - رحمه الله -: أو كان آخر غسلة زالت النجاسة بها: فطاهر. هذا هو آخر نوع من أنواع المياه الطاهرة: فإذا غسل الإنسان النجاسة وزالت النجاسة فالماء المنفصل بعد أخر غسلة إذا لم يكن متغيراً يصبح عند الحنابلة طاهراً. هذا هو الحكم. بقينا لماذا يعتبر الحنابلة الماء الذي أزلنا به النجاسة طاهراً؟ الجواب: للأصل السابق وهو أنه مستعمل في إزالة الخبث فإذا كان مستعملاً في إزالة الخبث فإنه يعتبر مستعملاً في طهارة واجبة وقاعدة المذهب أن الماء إذا استعمل في طهارة واجبة فإنه يعتبر طاهراً وليس طهوراً. وأخذنا الخلاف في مسألة الماء المستعمل في طهارة واجبة وأدلة الحنابلة والقول الثاني ودليله وعرفنا مما سبق أن الصواب أن الماء الذي يستعمل في طهارة واجبة يبقى طهوراً إذا لا دليل على انتقاله أن يكون طاهراً. ولكن حكم الحنابلة بأنه يصبح طاهراً مقيد بأن ينفصل بلا تغير وسنستكمل أقسام الماء المنفصل من محل التطهير عند قول المؤلف في قسم النجس: أو انفصل عن محل نجاسة قبل زوالها.

وبهذا انتهى الطاهر وانتقل المؤلف - رحمه الله - إلى قسم النجس: • فقال - رحمه الله -: (3) والنجس: ما تغير بنجاسة. عرف المؤلف - رحمه الله - النجس بأنه الماء الذي تغير بنجاسة ويجب أن تحفظ هذه العبارة - دائماً وأبداً - الماء إذا تغير بنجاسة فهو نجس. والدليل: الإجماع وهو إجماع قوي والسبب في قوته أن ممن حكاه الإمام أحمد فقد كان - رحمه الله - يتشدد في الإجماع كما أنه حكاه الشافعي أيضاً. ومثل هؤلاء إذا حكوا الإجماع فلا شك أن حكايتهم له أقوى من حكاية ابن المنذر أو ابن قدامة أو ابن عبد البر. والماء إذا وقعت فيه النجاسة وغيرته فإنه يصبح نجساً ولو كان التغير يسيراً فقد يكون التغير يسير جداً ومع ذلك يبقى نجس. هذا هو النوع الأول من المياه النجسة وهو ما تغير بالنجاسة. • النوع الثاني يقول - رحمه الله -: أو لآقاها وهو يسير. تقدم معنا أن الحنابلة يرون أن الماء إذا بلغ قلتين فإنه لا ينجس إلا بالتغير فيقول المؤلف فيما سبق: وإن بلغ قلتين وهو الكثير فخالطته نجاسة فلم تغيره فطهور: مفهوم هذه العبارة السابقة أن الماء إذا كان أقل من قلتين فإنه إذا وقعت فيه النجاسة ينجس ولو لم يتغير وهو ما يعبر عنه الحنابلة بقولهم ينجس بمجرد الملاقاة. هذا المفهوم صرح به المؤلف هنا فقال: أو لاقاها وهو يسير. ومعنى قوله: أو لاقاها وهو يسير: إذا لاقى الماء القليل النجاسة فإنه يينجس بمجرد هذه الملاقاة وإن لم يتغير. - وهذا لابد أن تفهموه لأنه أمر مهم عند الحنابلة وينبني عليه مسائل مهمة أيضاً. إذاً الحنابلة يرون أن الماء إذا كان أقل من قلتين فإنه بمجرد وقوع النجاسة فيه ينجس ولو يتغير. يستدلون على هذا بقول النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا بلغ الماء قلتين لم يحمل الخبث وفي رواية لم ينجس يعني يستدلون بمفهوم هذا الحديث وهذا مذهب الجمهور. والقول الثاني في هذه المسألة: أن الكثير والقليل لا ينجس إلا بالتغير ويستدل هؤلاء بقول النبي - صلى الله عليه وسلم - إن الماء طهور لاينجسه شيء. والأقرب القول الثاني. ووجه الترجيح: أن حديث القول الثاني أخص من حديث القول الأول لأنه نص ودليل القول الأول مفهوم والنص دائماً مقدم على المفهوم. نحتاج أن نجيب على دليل القول الأول وهو حديث القلتين فالجواب عنه من وجهين:

الأول: أنه ضعيف عند بعض العلماء - كما تقدم معنا. والثاني: أن الحكم أخذ منه مفهوماً وأخذ من حديث أبي سعيد منصوصاً والنص مقدم على المفهوم. إذا كان الحكم منطوق به في النص فهو مقدم على المفهوم. إذاً تبين معنا الآن حكم الماء إذا تغير بالنجاسة قليلاً كان أو كثيراً وتبين معنا بالتفصيل حكم الماء القليل إذا لاقته النجاسة من قوله أو لا قاها وهو يسير. • ثم قال - رحمه الله -: أو انفصل عن محل نجاسة قبل زوالها. إذا غسل الإنسان محلاً نجساً كأن يغسل إناء أصابه بول أو دم أو يغسل قماشاًَ أصابه بول أو عذرة مائعة أو دم أو أي عين نجسة. إذا غسل الإنسان هذه الأعيان فإن ما يتبقى من الماء وهو ما عبر عنه الشيخ بقوله: انفصل فله ثلاثة أنواع - وهذا يحصر لك المسألة: الأول: أن ينفصل متغيراً بالنجاسة. يعني غسلنا هذا الإناء المصاب بنجاسة فانفصل الماء بعد غسل الإناء متغيراً بالنجاسة التي كانت في الإناء وهذا الماء المنفصل نجس بالإجماع كما تقدم معنا لأنه ماء تغير بنجاسة. الثاني: أن ينفصل عن محل النجاسة قبل زوالها ولم يتغير فهذا عند الحنابلة يعتبر نجساً لماذا؟ لأنه يسير لاقى النجاسة. وهو يقول هنا: أو لاقاها وهو يسير. القسم الثالث: وقد تقدم معنا: أن ينفصل عن محل النجاسة بعد زوالها ولم يتغير فهذا عند الحنابلة طاهر. والصواب أنه طهور. لماذا اعتبره الحنابلة طاهراً؟ لما تقدم معنا لأنه أزيلت به النجاسة. والماء إذا رفع به الحدث أو أزيلت به النجاسة عند الحنابلة يعتبر طاهراً ولا يعتبر طهوراً. إذا كم قسم للماء المنفصل عن المحل المتنجس؟ ثلاثة أقسام. ولعلنا الآن تصورنا معنا أن ينفصل الماء يعني أن يخرج من الإناء المتنجس أو من الثوب المتنجس أو من البساط أو من القماش أو ما شابه هذه الأمور. انتهى المؤلف الآن من بيان القسم الثالث وهو النجس. إذاً الماء النجس عرفنا أقسامه وما هيته عند الحنابلة والخلاف في الماء القليل إذا لا قته النجاسة ولم تغيره. بعد ذلك انتقل الشيخ - رحمه الله - إلى مسألة التطهير - لما بين الماء المتنجس بين كيف نطهر هذا الماء المتنجس. تطهير الماء المتنجس يحصل بثلاثة أمور - مختصرة وواضحة: المكاثرة والتغير والنزح.

وهذه عناوين لما يحصل به التطهير. فالمكاثرة تطهر الماء المتنجس سواء القليل أو الكثير. وسيأتينا هذا في كلام المؤلف ولكن أحب أن نذكر أولاً جملة الأحكام حتى تتصور ثم نرجع إلى كلامه. والتغير ((لعلها الزوال لأنه قال زال تغير النجس الكثير بنفسه)) يطهر القلتين فأكثر فقط. والنزح لا يطهر إلا ما كان أكثر من قلتين فهو أضيق أنواع التطهير والنزح لا يؤثر في القلتين فلا يمكن أن تطهر ماء نجساً مقداره قلتين بالنزح. ثم نأتي إلى تفصيل كلام المؤلف وهو يوضح. • يقول المؤلف ’: فإن أُضيف إلى الماء النجس طهور كثير. (طهر). هذا الذي نسميه المكاثرة. ومعنى المكاثرة: أن يضاف إلى الماء المتنجس ماء طاهراً كثيراً. علمنا من قوله طهور كثير أنه يشترط للتطهير بالمكاثرة أن يكون الماء المضاف كثير والكثير في عرف الفقهاء ما بلغ قلتين فأكثر. وقوله ((فإن أضيف إلى الماء)) الماء هنا المقصود به القليل أو الكثير؟ القليل والكثير لكن الماء المضاف لابد أن يكون كثيراً. فعندنا ماء متنجس نريد أن نطهره هذا الماء المتنجس إذا أردنا أن نطهره بإضافة ماء آخر يجب أن يكون الماء المضاف كثير فهذا معنى قوله إن أضيف طهور كثير. • قال ’: غير تراب ونحوه. يعني أنه عند الحنابلة لا يمكن أن نطهر الماء بالتراب لماذا؟ قالوا لأن التراب لا يدفع النجاسة عن نفسه فعن غيره من باب أولى. أما الماء فإنه يدفع النجاسة عن غيره وعن نفسه لأن الماء إذا كان يطهر غيره فمن باب أولى أن يطهر نفسه. إذاً إذا أردنا أن نفهم الفرق بين الماء والتراب عند الحنابلة فالفرق بينهما واضح: وهو أن الماء يطهر غيره فمن باب أولى أن يطهر نفسه لكن التراب لا يطهر غيره فمن باب أولى لا يطهر نفسه. والقول الثاني: في مسألة التراب وهو قول عند الحنابلة أنه يطهر يعني أنا إذا وجدنا ماء متنجساً وأضفنا إليه تراب فطهر وتغير وذهبت عنه علامات النجاسة فإنه يعتبر طاهراً حتى لو كان هذا التطهر حصل بالتراب. وهذا القول – الثاني – هو الصواب لما تقدم معنا أن النجاسة إذا زالت زال حكمها لأن الحكم يدور مع علته وجوداً وعدماً. انتهينا الآن من كيفية التطهير بالمكاثرة ننتقل إلى التطهير بالزوال • فقال المؤلف ’:

أو زال تغير النجس الكثير بنفسه. إذا كان عندنا ماء نجس كثير وتركناه مدة من الزمن ثم وجدناه قد تغير فزالت عنه علامات النجاسة فالآن الطهارة حصلت بالتغير الذي قد يكون سببه المكث أو لأي سبب آخر كاختلاف الأجواء أو شدة الحرارة فالمهم أنه تغير بنفسه بدون إضافة ماء إليه. فهذا الماء عند الحنابلة يكون طهوراً ولكن يشترط في الماء الذي يطهر بالمكث أو بالزوال أن يكون كثيراً ولذلك يقول الشيخ هنا: أو زال تغير النجس الكثير بنفسه. - فإن كان قليلاً فإن هذا النوع من التطهير لا يصلح فيه. - أو نزح منه فبقي بعده كثير غير متغير: طهر. ثم انتقل المؤلف إلى النوع الثالث من التطهير وهو النزح والنزح معناه إخراج الماء من البئر أو مما هو فيه فقد يكون بئراً أو بركةً أو أي شيء يجمع الماء. إذا كان عندنا ماء متجمع في بركة أو في بئر نجي فيمكن أن نطهره بأن ننزحه أي نخرج الماء من البئر إلى أن يبقى في البئر ماء طهور لأن البئر مع النزح يخرج فيه ماء جديد طهور ولكن يشترط في هذا الماء الذي نطهره بالنزح أن يكون أكثر من قلتين بحيث يبقى بعد النزح قلتين. إذاً السؤال هل يمكن أن نطهر ماء نجساً مقداره قلتين فقط بمجرد النزح؟ لا. لماذا؟ لأنه يشترط أن يبقى بعد النزح قلتان. والنزح قد يكون يطهر الإناء بسبب أنا نخرج من خلال عملية النزح العين النجسة قد ننزح فتخرج معنا العين النجسة فيزول تأثيرها على الماء فيصبح الماء طهور. وقد يكون بسبب انبعاث ماء جديد كما في الآبار. المهم أنه لأي سبب من الأسباب إذا نزحنا الماء النجس الذي فوق قلتين وطهر فإنه يصبح طهوراً لأن النزح وسيلة من وسائل التطهير. إذاً صار التطهير عند الحنابلة بثلاث وسائل: إما بالمكاثرة أو بالتغير أو بالنزح. - فالمكاثرة تطهر الماء القليل والكثير. - والتغير يطهر الماء الكثير فقط. - والنزح لايطهر إلا الماء الذي فوق القلتين أي أكثر من الكثير بحيث يبقى بعد النزح مقدار قلتين. هذا التفصيل عند الحنابلة – عرفنا كيف نطهر الماء عند الحنابلة.

والقول الثاني في مسألة التطهير أن التطهير يتم بأي وسيلة من الوسائل فمتى زال تغير الماء سواء كان قليلاً أو كثيراً بأي وسيلة من الوسائل التقليدية أو الحديثة فإن الماء يصبح طهور. وتعرفون التعليل وهو ما سبق معنا أن الحكمة يدور مع علته وجوداً وعدماً. والنبي ‘ أمر من وجد في نعليه نجاسة إذا أراد أن يدخل المسجد أن يفركهما بالتراب فجعل ‘ التراب مطهراً. وتقدم معنا أن أحاديث الاستجمار تدل على أن التطهير يحصل بأي أداة. ثم لما بين الشيخ ’ الماء الطهور والطاهر والنجس انتقل إلى مسائل تشترك فيها هذه الأنواع الثلاثة - وبهذا نعرف دقة الفقهاء وحسن تدرجهم في المسائل الفقيهة - • فقال ’: وإن شك في نجاسة ماء أو غيره، أو طهارته: بنى على اليقين. وإن اشتبه طهور بنجس: حرم استعمالهما ولم يتحرَّ، ولا يشترط للتيمم: إراقتهما ولا خلطهما. ذكر الشيخ في آخر هذا الباب مسألتين فقط. 1. المسألة الأولى: الشك. 2. والمسألة الثانية: الاشتباه. لكنه فصل في الاشتباه لكثرة مسائله واكتفى في الشك بمسألة واحدة لوضوحها وإجماع العلماء عليها. فقال: وإن شك في نجاسة ماء أو غيره، أو طهارته: بنى على اليقين. هذه قاعدة شرعية كبيرة وهي أن الإنسان: - إذا شك في نجاسة ماء أصله طهور فإنه يبقى طهور. - وإذا شك في طهارة ماء أصله نجس فإنه يبقى نجساًَ. - وإن شك في نجاسة ماء أو غيره فإنه يبقى طهور أو شك في طهارة ماء أو غيره فإنه يبقى نجس. الدليل على هذه القاعدة – قاعدة أجمع عليها الفقهاء وهي من القواعد الخمس الكبرى: - اليقين لا يزول بالشك. فهذه القاعدة متفق عليها لم ينازع فيها أحد من أهل العلم من حيث هي قاعدة. دليل هذه القاعدة أن النبي ‘ قال: ((إذا وجد أحدكم في بطنه شيئاً وهو في الصلاة فلا ينصرف حتى يجد ريحاً أو يسمع صوتاً)). وهذا الحديث نص في دعم القاعدة أن الإنسان لا ينتقل عن المتيقن إلى المشكوك فيه وإنما يبقى على المتيقن. إذا هذه المسألة واضحة: إذا شك الإنسان في شيء فإنه يبقى على الأصل واليقين. فإذا وجدنا إناء فيه ماء أعرف أنه طهور ثم شككت في كونه نجساً فحكم الماء في الشرع: طهور.

وإذا علمت أن الماء الذي في هذا الإناء نجس ثم شككت أنه طهر فا الأصل أنه نجس. وهكذا تكون أحكام المياه من حيث الشك واضحة. ثم ننتقل إلى الاشتباه: • يقول المؤلف ’: وإن اشتبه طهور بنجس: حرم استعمالهما ولم يتحرَّ. نريد الآن أن نقرر مذهب الحنابلة أولاً نفهم مذهب الحنابلة. الحنابلة يقولون: إذا اشتبه إناء فيه ماء طهور بإناء فيه ماء نجس فلم يعد الإنسان يعرف أيهما الطهور وأيهما النجس. فإن الحنابلة يقولون: يترك المائين ولا يتحرا ويتيمم ولا يشترط لتيممه للإراقة ولا الخلط. وهذا الحكم عند الحنابلة يشترط فيه أن لا يمكن تطهير أحد المائين بالآخر فإن أمكن فنطهر أحد المائين بالآخر. الدليل: ما هو دليل الحنابلة؟ لماذا قرروا هذا الحكم للمياه المشتبهه؟ الدليل: قالوا: النبي ‘ يقول: ((دع ما يريبك إلى ما لا يريبك)). هذا الحديث في إسناده ضعف لأن فيه رجلاً مجهولاً لكن الحافظ في الفتح ذكر له شواهد كثيرة في الحقيقة يتقوى بها وإلا فإن ابن رجب يقول أنه في إسناده مجهول لكن هذه الشواهد تقويه ويؤيده الأصول العامة. الدليل الثاني: قالوا: أن اجتناب الماء النجس واجب في الشرع وهذا صحيح فلا يجوز للإنسان أن يمس ماء نجساً ولا يمكن اجتناب النجس إلا بترك المائين لأنه إذا استعمل الإنسان أحد المائين فقد يكون استعمل النجس وما لايتم الواجب إلا به فهو واجب. هذا التعليل ذكره الحنابلة ولكن الاستدلال بالحديث أحسن لأن الإمام أحمد له عناية بالآثار لا بالتعليلات. الآن عرفنا مذهب الحنابلة ودليلهم وماذا يصنع الإنسان إذا اشتبهت عليه المياه. القول الثاني في مسألة الاشتباه: أن الإنسان يتحرى وهذا مذهب الإمام الشافعي. يتحرى ويعمل على غالب ظنه. الدليل: استدل الإمام الشافعي بحديث ابن مسعود أن النبي ‘ قال: ((إذا شك أحدكم في صلاته فليتحر وليبن على ما استيقن)). ما هو وجه الاستدلال من الحديث: أنه إذا أمر الإنسان بالتحري في الصلاة وهي أعظم من الطهارة فلأن يتحرى في الطهارة من باب أولى.

وإذا تأملت في استدلال الشافعي تجد أنه متين لأن الإنسان في الصلاة وهي الصلاة أعظم من الطهارة بكثير وعمود الدين يجوز للإنسان أن يتحرى فيها فمن باب أولى أن يتحرى في المياه المشتبهه. وهذا القول هو الصواب لما علمتم من قوة استدلال الشافعي. لكن إذا تحرى الإنسان ولم يتبين له شيء فماذا يصنع؟ الشيخ الفقيه المرداوي في الإنصاف يقول: على القول بالتحري إذا تحرا ولم يتبين له شيء فإنه يتيمم. وشيخنا - رحمه الله - يقول بل يعمل بما استقر عليه واطمأن قلبه وإن لم توجد قرينة ويتوضأ من أحد فإن هذا خير من التيمم. سؤال مهم جداً: كيف يشتبه الطهور بالنجس؟ ونحن نقول أن النجس هو الماء الذي يتغير - فإذا كان يتغير فكيف يشتبه؟ هل يتصور؟ يتصور مثلاً أن يعلم الإنسان أن هذا الإناء وقع فيه بول ليس له لون ولا رائحة ولا طعم وهذا يوجد ويتصور جداً عند الحنابلة الذين ينجسون بمجرد الملاقاة بالنسبة للماء القليل. المهم أنه يتصور وإن كان تصوره قليل ونادر. • قال - رحمه الله -: ولا يشترط للتيمم: إراقتهما ولا خلطهما. هذا هو الصحيح من مذهب الحنابلة وممن نصر هذا القول ابن قدامة - نحن الآن نتكلم في تفصيل داخل مذهب الحنابلة - أنه لا يشترط للتيمم الإراقة لماذا؟ لأن هذا الشخص الذي اشتبهت عليه المياه فهو غير واجد للماء شرعاً فيصدق عليه قوله تعالى ((فلم تجدوا ماء)) لأنه الآن لم يجد ماء حساً أو شرعاً؟ شرعاً: لأنه لا يستطيع شرعاً أن يتطهر بأحد المائين للاشتباه. فإذاً لو قلنا أن الإنسان يتيمم ولا يتحرا فلا يشترط لا الإراقة ولا الخلط. • ثم قال - رحمه الله -: وإن اشتبه بطاهر: توضأ منهما وضوءاً واحداً - من هذا غرفة ومن هذا غرفة - وصلى صلاة واحدة. هذا المسألة مفروضة على القول بتقسيم المياه إلى ثلاثة أقسام أما على القول الثاني وهو أن المياه إما طهور أو نجس ولا يوجد في الشرع قسم ثالث يسمى طاهر فلا تتصور أصلاً هذه المسألة. إذا اشتبه ماء طاهر بطهور فإن الحنابلة يقولون: يتوضأ من المائين من هذا غرفة ومن هذا غرفة ثم يصلي صلاة واحدة. معنى هذا أنه لا يجوز له أن يتوضأ وضواءً كاملاً من هذا الماء ووضوءاً كاملاً من الماء الآخر.

ولماذا يتوضأ غرفة من هذا وغرفة من هذا ولا يتوضأ وضوءاً كاملاً من المائين كل واحد منهما على حدة؟ أجابوا عن هذا بأنه إذا توضأ وضوءاً كاملاً من كل إناء توضأ مع التردد وعدم الجزم والوضوء عبادة يشترط لها النية ويشترط لصحة النية أن يكون الإنسان جازماً بها غير متردد. فإذا توضأ من كل إناء على حدة لابد أن يكون متردد. وجه التردد: أنه إذا توضأ من هذا الإناء فسيتردد ربما يكون هذا الإناء هو الطهور وربما يكون الطاهر. وإذا توضأ من الإناء الآخر فكذلك سيتردد ربما يكون هذا الإناء طهور وربما يكون طاهراً. بينما إذا توضأ من هذا غرفة ومن هذا غرفة وضوءاً واحداً بنية واحدة فإن هذا الوضوء وضوء مجزوم به بلا تردد فصح هذا الوضوء. وذكرت لكم (بالأمس) قاعدة أن كثرت التفاصيل المتعبة في القول دليل على ضعفه فهذه المسألة بالذات من أدلة ضعف وجود الماء الطاهر في الشرع. • ثم قال المؤلف ’: وإن اشتبهت ثياب طاهرة بنجسة أو بمحرمة: صلى في كل ثوب صلاة بعدد النجس أو المحرم، وزاد صلاة. إذا اشتبهت ثياب طاهرة بنجسة: 1. فإما أن يكون عدد الثياب النجسة معلوم. 2. وإما أن يكون مجهولاً. مثال المعلوم: رجل عنده عشرة ثياب يعلم أن النجس منها ثلاثة ثياب لكن لا يستطيع أن يحدد هذه الثلاث الثياب من بين العشرة ثياب. فماذا يصنع عند الحنابلة؟ يصلي بعدد الثياب النجسة ويزيد صلاة واحدة. ففي المثال كم سيصلي؟ أربع صلوات. هذا التفصيل إذا كان عدد الثياب النجسة معلوم أو مجهول؟ معلوم. النوع الثاني أن يكون عدد الثياب النجسة مجهولاً مثاله: رجل عنده عشرة ثياب – نفس العدد حتى يتضح الفرق - فيها ثياب نجسة نقول له كم الثياب النجسة التي تظن أنها نجسة؟ يقول: لا أدري. فماذا يصنع عند الحنابلة؟ يصلي بعدد الثياب جميعاً ولو كثرت ثم يزيد صلاة واحدة. فكم سيصلي؟ إحدى عشرة صلاة. عرفنا الفرق. في المسألة الأولى سيصلي أربع صلوات فقط وفي المسألة الثانية سيصلي عدد كبير إحدى عشرة صلاة. ما هو دليل هذا التفصيل؟ قالوا: لأنه بذلك يخرج من العهدة يقيناً فيكون مصلياً صلاةً صحيحةً يقيناً فتبرأ الذمة.

باب الآنية

القول الثاني: في هذه المسألة: أنه يتحرا ينظر في هذه الثياب ويتحرى من خلال القرائن والعلامات ويصلي صلاة واحدة بثوب واحد بعد التحري. والدليل: تقدم معنا من حديث ابن مسعود لأنه إذا كان التحري في ذات الصلاة فلأن يتحرا في شرط الصلاة من باب أولى وستر العورة شرط من شروط الصلاة. ففرق كبير بين قول يلزم الإنسان أن يصلي عشر صلوات أو أكثر وبين قول يلزم الإنسان أن يصلي صلاة واحدة. بهذا انتهى ما يتعلق بالمياه ننتقل إلى باب الآنية ... • قال المؤلف - رحمه الله -: باب الآنية الباب: ما يدخل منه إلى المقصود حسياً كان أو معنوياً. والآنية: جمع إناء وهو الوعاء. وذكر باب الآنية بعد المياه: لأن الآنية يحمل بها الماء فلما ذكر الماء وأحكامه ذكر ما يحمل به الماء وهذا الترتيب ترتيب منطقي. • قال المؤلف - رحمه الله -: كل إناء طاهر ولو ثميناً: يباح إتخاذه واستعماله قاعدة: كل إناء طاهر يباح اتخاذه واستعماله. الدليل: أن الأصل في الأعيان الطهارة والإباحة لأن الله تعالى ذكر في كتابه أنه خلق لنا ما في الأرض جميعاً فقال تعالى {هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُم مَّا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً} البقرة - 29. وهذا دليل عام. الدليل الخاص: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - (توضأ تارة من إناء نحاس وتارة من إناء جلد وتارة من خشب). فدل على أنه يجوز للإنسان أن يتوضأ من أي إناء طاهر مباح. إذاً عرفنا بهذا قاعدة المذهب في هذا وهي قاعدة صحيحة وكذلك عرفنا دليل الحنابلة وهو أيضاً دليل صحيح ثبوتاً واستدلالاً. • ثم قال المؤلف - رحمه الله -: يباح اتخاذه واستعماله يفهم من قول المؤلف - رحمه الله - هذا - يباح اتخاذه واستعماله - أن بين الاتخاذ والاستعمال فرقٌ وهذا المفهوم صحيح. فالاتخاذ هو: اقتناء الإناء لا للاستعمال. وعليه إذا لم يكن للاستعمال فلماذا يقتنى؟ الجواب: نقول ربما للزينة أو لأي غرض آخر. فالاتخاذ والاستعمال كلاهما جائز والاتخاذ والاستعمال بينهما تلازم. وعند شيخ الاسلام قاعدة مفيدة في هذا ((أن كل ما حرم استعماله حرم اتخاذه)). - وهذه قاعدة تبين للإنسان كثيراً من الأحكام فمن أمثلتها: - الملاهي: فلو أن إنساناً اتخذ آلة ملاهي في البيت بدون أي استعمال فهل يجوز له أن يتخذها زينة في بيته؟

الجواب: لا يجوز. لماذا؟ لأن القاعدة تقول: أن كل شيء يحرم استعماله فإنه يحرم اتخاذه. ولماذا أخذوا بهذه القاعدة؟ قالوا: لأن الاتخاذ ذريعة إلى الاستعمال. الآن عرفنا هذه المسائل وهي واضحة وظاهرة: أن الأواني المباحة يجوز أن تستعمل مهما كانت مادة الصنع إلا ما ستثني في قوله: إلا آنية ذهب فضة ومضبباً بهما فإنه يحرم اتخاذها. • قال المؤلف ’: ((إلاّ آنية ذهب وفضة ومضبَّباً بهما: فإنه يحرم إتخاذها واستعمالها)) آنية الذهب والفضة يحرم استعمالها في الأكل والشرب بإجماع العلماء لحديث حذيفة - رضي الله عنه -: ((لا تشربوا في آنية الذهب والفضة فإنها لهم في الدنيا ولنا في الآخرة)). وحديث أم سلمة: ((الذي يشرب في آنية الذهب والفضة كأنما يجرجر في بطنه نار جهنم)). وهذا الوعيد الخاص يدل على أن الشارع يعتبر أن استعمال هذه الأواني من الكبائر وليست أمراً سهلاً كما يتعامل معها كثير من الناس. • قال المؤلف ’: ((ومضبباً بهما)) يحرم استعمال الآنية التي ضببت بالذهب أو الفضة. والتضبيب هو: إصلاح ما انصدع – ما انكسر - من الإناء بالذهب أو الفضة. وهذا التعريف في هذا الباب وإلا فقد يكون التضبيب بمعدن آخر لكن نحن نتكلم عن التضبيب بالذهب والفضة. والدليل على أنه لا يجوز استعمال آنية الذهب والفضة ولا يجوز استعمال الأواني التي صنعت من مادة أخرى إذا كان فيها ذهب أو فضة: - أن الدارقطني أخرج هذا الحديث وذكر في لفظ له: ((أو إناء فيه شيء منهما)). هذا اللفظ حسنه الدارقطني نفسه في السنن ولذلك فهو صالح للإستدلال. ((نحن الآن نتكلم عن مسألة معينة مهمة وهي أنه كما أنه يحرم أن نستعمل أواني الذهب والفضة فإنه يحرم أن نستعمل الأواني التي فيها ذهب وفضة ولو كانت مصنوعة من نحاس أو من أي معدن آخر)). الدليل الآخر: قاعدة ذكرها شيخ الاسلام – وهي مفيدة أيضاً – قال: ((تحريم الشيء مطلقاً يقتضي تحريم كل جزء منه - أبعاض هذا الشيء)) فتحريم الذهب والفضة يقتضي تحريم أبعاض الذهب والفضة. - فإذا قيل لك ما حكم الإناء المصنوع من نحاس وضبب بالذهب والفضة؟ فالجواب: لا يجوز. - ما حكم الإناء المصنوع من خشب وطلي بالذهب؟ الجواب: لا يجوز.

- ما حكم الإناء المصنوع من بلاستيك وموه بالذهب؟ الجواب: لا يجوز. - ولماذا قلنا بعدم الجواز؟ الجواب: للحديث والتعليل. إذاًُ عرفنا الآن: = حكم الأواني المصنوعة من خالص الذهب أو الفضة. = وحكم الأواني المصنوعة من معادن أخرى وفيها ذهب أو فضة. • ثم قال ’ تعالى: ((فإنه يحرم اتخاذها واستعمالها)) يعني أن الحنابلة – رحمهم الله – يرون أن آنية الذهب والفضة يحرم فيهما الاتخاذ والاستعمال سواء كان الاستعمال في الأكل أو الشرب أو في غيرهما كاستعمالها في الإدهان أو الاغتسال أو الوضوء أو لأي غرض آخر. ومذهب الحنابلة هذا هو: مذهب جماهير أهل العلم بل حكي إجماعاً فعامة الأمة على هذا القول وكذلك جملة المحققين من أهل العلم المتقدمين على هذا القول. - ما هو الدليل؟ قالوا: الدليل حديث أم سلمة وأبي حذيفة السابقين. - قيل لهم أنهما وردا في خصوص الأكل والشرب؟ قالوا: أن هذا خرج مخرج الغالب فإن الأواني غالباً ما تستعمل في الأكل والشرب ولذلك ذكرا في الحديث. ثم قالوا: بأن عندنا دليل آخر وهو: أنه جاء في الحديث الصحيح أن النبي - صلى الله عليه وسلم - ((نهى عن آنية الذهب والفضة)) – هكذا مطلقاً بدون التقييد بذكر الأكل أو الشرب. وهذا الحديث ذكره ابن حزم وصححه. القول الثاني: أن المحرم هو الأكل والشرب فقط. استدل هؤلاء بعدة أدلة: الدليل الأول: أن الأحاديث المانعة جاءت بالأكل والشرب فقط. وهذا الاستدلال واضح فإنهم قالوا بأن النبي - صلى الله عليه وسلم - أوتي جوامع الكلم ولو كان يريد النهي عن جميع الاستعمالات لجاء بلفظ يشمل جميع الاستعمالات. والدليل الثاني: قالوا: أن أم سلمة هي راوية حديث المنع ومع ذلك كانت قد اتخذت جلجلاً من فضة وضعت فيه شعرات للنبي - صلى الله عليه وسلم -. ففيه أنها استخدمت آنية من الفضة والراوي أعلم بما روى فكأنها علمت أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أراد تخصيص النهي بالأكل والشرب.

هذا القول لا أعلم الآن أحداً قال به من المتقدمين إلا الصنعاني والشوكاني أما الأئمة كأحمد والشافعي ومالك وأبو حنيفة والثوري والأوزاعي وابن عيينة والفقهاء السبعة ومن بعدهم جملة متقدمي العلماء كلهم يرون أنه لا يجوز الاستعمال في الأكل والشرب وفي غيرهما. إنما من نصر هذا القول وأظهره الصنعاني وبعده الشوكاني. فلذلك أرى - بناء على أن جمهور السلف على القول الأول وبناء على الحديث الذي ذكره ابن حزم وهو نص في المسألة أن هذا القول بأن سائر الاستعمالات محرمة أكلاً وشرباً وغيرهما - هو الصواب إن شاء الله. وينبغي أن يكون الإنسان عنده توقف في الحقيقة إذا صار جمهور السلف أو كل السلف على قول من الأقوال والمخالف متأخر عنهم. فينبغي أن يكون عند الانسان تردد كبير جداً بمخالفة جمهور السلف هذا من جهة. ومن جهة أخرى الدليل الذي ذكره ابن حزم دليل قوي. • قال: ((ولو على أُنثى)) نفهم من هذه العبارة قاعدة مفيدة وهي: أن: باب الآنية أضيق من باب اللباس. وهذه القاعدة قررها شيخ الإسلام وهذه العبارة تدل عليها. وكيف عرفنا ذلك؟ من قوله ((ولو على أنثى)). = فالأنثى هل يجوز لها في باب اللباس أن تتحلى بالذهب والفضة؟ - الجواب: نعم يجوز. = وهل يجوز للأنثى أن تستخدم - في باب الآنية - أنية الذهب والفضة؟ - الجواب: لا. لايجوز. فعرفنا من هذا أن باب الآنية أضيق من باب اللباس. • ثم قال - رحمه الله -: ((وتصح الطهارة منها)) يعني أنه مع أن آنية الذهب والفضة يحرم على الإنسان أن يستعملهما. ومع ذلك لو توضأ الإنسان فإنه آثم ولكن طهارته صحيحة. = لماذا؟ - لأن النهي يعود لأمر خارج عن العبادة وهذا الذي ذكره الحنابلة صحيح. فلو أن إنساناً اشترى آنية من فضة وتوضأ منها فنقول أنت آثم ولكن الوضوء صحيح. • قال - رحمه الله -: ((إلاَّ ضبةً يسيرةً من فضة لحاجة)) هذا الاستثناء في قوله: ((إلا)) استثناء من التحريم. يعني: يحرم اتخاذ أواني الذهب والفضة والمضبب إلا ضبة يسيرة من فضة لحاجة. تقرير مذهب الحنابلة: أنه يجوز استعمال الآنية المضببة بشروط: الشرط الأول: أن تكون يسيرة. والشرط الثاني: أن تكون من فضة. والشرط الثالث: أن تكون لحاجة.

ويمكن أن نقول بشرط رابع هو: أن تكون ضبة. بمعنى أنه يجوز استخدام الآنية التي فيها فضة بشرط أن تكون على شكل ضبة أما لو كانت حلقة أو تمويه ... (مموه) فإنه لا يجوز وإنما التضبيب فقط. الدليل على هذه الشروط: أن البخاري أخرج عن أنس - رضي الله عنه - (أن قدح النبي - صلى الله عليه وسلم - انكسر فاتخذ مكان الشعب سلسة من فضة). وكيف نستنبط هذه الشروط التي ذكرها الحنابلة من الحديث؟ - أولاً: قوله: ((ضبة)) من قوله فاتخذ مكان الشعب. - ثانياً: قوله: ((يسيرة)) تستنبط من الحديث لأن غالب التضبيب يكون يسيراً. - ثالثاً: قوله: ((من فضة)) من نص الحديث من فضة. - رابعاً: قوله: ((لحاجة)) من الكسر لأنه لو لم ينكسر لم يحتج إلى تضبيبه ولكن سيأتينا أن هذا القيد ليس بصحيح. والمقصود بالحاجة هنا: أن يتعلق بها غرض صحيح لا أن لا يوجد غيرها. بمعنى لو أنه اتخذ التضبيب للزينة فلا يجوز لكن إذا اتخذه لغرض صحيح فيجوز ولو أمكنه أن يضبب الإناء بمعدن آخر. فالخلاصة أنه يجوز أن نستعمل الإناء إذا كان مضبباً بفضة بشرط أن تكون يسيرة ولحاجة. إذاً لو قيل لك ما هو ضابط التضبيب عند الحنابلة؟ - الضابط - المتبادر إلى الذهن - أن تكون من فضة ويسير ولحاجة فيتعلق الأمر بالكمية لأنه يقول يسيرة وبوجود الحاجة. بينما ذهب شيخ الإسلام - رحمه الله - إلى ضابط آخر فقال: ((أن الضابط هو الاستعمال وعدم الاستعمال لا الكثرة والقلة)). - فإذا كان إضافة الفضة للإناء في مكان يستعمل فإنه لا يجوز. - وإذا كان في مكان لا يستعمل فإنه يجوز. ومقصود شيخ الإسلام بقوله يستعمل يعني على انفراد. إذاً ما هو الضابط عند شيخ الإسلام الكثرة والقلة أو الاستعمال؟ الاستعمال. مثال يوضح المقصود: = لو وضعنا في إناء حلقة - عروة - هل هو يستعمل أو لا يستعمل؟ - يستعمل - فإنك تستعمله تمسك الإناء فتحمله بالحلقة - العروة. هذه الحلقة أو العروة لا تجوز ولو كانت قليلة لأنها تستعمل. ((انتهى الدرس الثالث))

• زيادة توضيح لقوله رحمه الله: إلاَّ ضبةً يسيرةً من فضة لحاجة

نريد الآن أن نقرر مذهب الحنابلة وأن يفهم في مسألة الضبة لأن مذهبهم هو أيضاً مذهب لكثير من أهل العلم بل نسب للجمهور. بعد أن قرر المؤلف أن أواني الذهب والفضة والأواني التي فيها شيء من الذهب والفضة كلها محرمة. ذكر ما يستثنى من هذا الحكم العام وهو قوله ((إلا ضبة يسيرة من فضة)). - فما هو الذي يستثنى؟ - يستثنى شيء واحد وهو التضبيب على أن يكون يسير ومن فضة ولحاجة هذا الشيء فقط هو الذي يستثنى. إذاً أربعة قيود وذَكَرْتُ ((بالأمس)) الدليل من حديث أنس - رضي الله عنه - ((أن قدح النبي - صلى الله عليه وسلم - انكسر فاتخذ مكان الشعب سلسلة من فضة)). وعرفنا الحديث وكيف أخذ الحنابلة منه هذه الأحكام التفصيلية. باقي الآن أن نفهم أن الحنابلة قرروا جواز استخدام الإناء المضبب بهذه الشروط ولكن أضافو حكماً آخر أنه تكره مباشرة الجهة التي فيها الفضة وهو معنى قوله ’ ((وتكره مباشرتها لغير حاجة)). = لماذا تكره المباشرة؟ - قالوا: لأن في المباشرة استعمالاً للفضة فقالوا: ((إلا لحاجة)). ومثلوا للحاجة: بما إذا شرب من غير جهة الفضة فأدى ذلك الى تدفق السائل وانكبابه قالوا: والحالة هذه فيجوز له بلا كراهة أن يشرب من الجهة التي فيها الفضة. الآن عرفنا مذهب الحنابلة: متى نستخدم الفضة في أي إناء؟ وما هو ضابط هذا الاستخدام؟ وما هو دليله؟ ومسألة كراهة مباشرة الجهة التي فيها الفضة. الآن انتهى فقه الحنابلة في هذه المسألة فنأتي إلى القول الثاني. القول الثاني: أن ضابط استخدام الفضة في الأواني هو الاستعمال وعدمه لا الكثرة ولا القلة. فإن الحنابلة يقولون: أن الفضة إذا كانت قليلة فيجوز وإذا كانت كثيرة فلا يجوز. شيخ الإسلام يقول أني قرأت كلام الإمام أحمد وفتاويه وتقريراته ففهمت منها أن الإمام أحمد يجعل الضابط: الاستعمال لا الكثرة ولا القلة. ويقصد بالاستعمال الاستعمال على جهة الإنفراد المثال الذي يوضح شيء يستعمل وشيء لا يستعمل ومعنى قولنا يستعمل على جهة الانفراد. قال شيخ الإسلام مثل الحلقة - وهي العروة - فأنت تستخدم العروة على جهة الانفراد فالعروة يقول شيخ الإسلام هي حرام ولو كانت قليلة لماذا؟

لأنها تستعمل والتضبيب جائز ولو كان كثيراً لأنه لا يمكن أن يستعمل على جهة الانفراد. إلا أن شيخ الإسلام أضاف قيداً دقيقاً يجب أن ينتبه إليه طالب العلم وهو: أنه يجوز أن نستخدم الإناء المضبب بالفضة ولو كثرت بشرط أن تكون أقل مما هي فيه - فلتكن كثيرة لكن بشرط أن تكون أقل مما هي فيه. أما إذا كان الإناء ثلثيه فضة تضبيباً وثلثه نحاس فهذا لا يجوز ولو لم تستعمل. انتهينا الآن من فقه مسألة ما يستثنى من أواني الذهب والفضة • ثم انتقل ’ إلى مسألة أخرى فقال ((وتباح آنية الكفار ولو لم تحل ذبائحهم وثيابهم: إن جهل حالها)) أواني الكفار يقصد بها: أواني أهل الكتاب وأواني غير أهل الكتاب. عند الحنابلة يجوز لنا أن نستعمل أواني أهل الكتاب والكفار من المشركين أو ممن ليس لهم دين واستدلوا على هذا بنصوص واضحة وقوية: الأول: قوله تعالى: {وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ حِلٌّ لَّكُمْ} (المائدة/5). ومن المعلوم أن أهل الكتاب إنما يطبخون طعامهم في أوانيهم هذا وجه الاستدلال. الثاني: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - دعاه يهودي ودعته يهوديه وأكل ومعلوم أن اليهودي واليهودية طبخا في أوانيهما. = فإن قلت: بأن جميع الأدلة المذكورة تتعلق بأهل الكتاب؟ - فالجواب: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه توضئوا من مزادة امرأة مشركة وهذا في صحيح البخاري والمشركة ليست من أهل الكتاب. فتبين جواز استخدام أواني أهل الكتاب والكفار من غيرهم. نأتي إلى الثياب: الثياب تنقسم إلى قسمين: القسم الأول من الثياب: الثياب التي لم تستعمل - الجديدة - فهذه اتفق الأئمة على أن ثياب الكفار الجديدة التي لا تستعمل يجوز للمسلمين أن يستعملوها بدليل أن ثياب النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه كانت في الغالب من صنع الكفار. القسم الثاني: الثياب التي يستخدمونها - يعني يلبسونها فهذه أيضاً على قسمين: - إما أن تكون فوقانية: أي أنها لا تمس العورة كالعمامة والثوب الخارجي فهذه أيضاً يجوز للمسلمين أن يستعملوها لأن الأصل العام في الشرع الطهارة ولا نحكم على عين من الأعيان بالنجاسة إلا بدليل.

- ما ولي عوراتهم: يعني إذا لبس لباساً يلي العورة فهذا أيضاً جائز لكن مكروه عند الإمام أحمد وأبي حنيفة والشافعي وغيرهم من أئمة الإسلام وهذا التفصيل كله فيما لا يعلم نجاسته فإذا علمنا أن الكفار يشربون في هذه الأواني الخمر أو يطبخون الخنزير أو يطبخون الميتة لأن كثيراً من ذبائح أهل الكتاب ميتة لأنها تذبح على غير الطريقة الإسلامية. فإذا علمنا ذلك فإنه لا يجوز لنا أن نستعمل هذه الأواني إلا بعد غسلها. = فإن قيل: أنه يتعارض مع تقرير الجواز أن النبي ‘ سئل عن أواني الكفار فقال: ((لا تستعملوها إلا أن لا تجدوا غيرها فاغسلوها وكلوا فيها)). = فالجواب عن هذا الحديث من وجهين: - الوجه الأول: أن هذا الحديث يقصد به أناس من المشركين عرفوا بمباشرة النجاسة - الوجه الثاني: أن هذا الحديث يحمل على الكراهة التنزيهية والحامل له على الكراهة التنزيهية النصوص الكثيرة في الشرع التي تدل على جواز استخدام أواني الكفار وبهذا كمل حكم ثياب وأواني الكفار. • وننتقل إلى المسألة الأخرى • قال ’: ولا يطهر جلد ميتة: بدباغ هذه المسألة غاية في الأهمية فمسائل الفقه تتفاوت في الأهمية والمسألة تأخذ أهميتها من كثرة الحاجة إليها. فمسألة دباغ الجلود مسألة مهمة جداً ويحتاج طالب العلم أن يكون على بصيرة ووضوح في أحكامها كما سبق نقرر أولاً مذهب الحنابلة. • يقول ’: ((ولا يطهر جلد ميتة: بدباغ ويباح استعماله بعد الدبغ: في يابس من حيوان طاهر في الحياة)) الحنابلة لا يرون أن أي جلد يطهر بالدباغة فجلود الميتات كلها نجسة ولا يمكن أن تطهر بالدباغة. وهذا القول للحنابلة من المفردات. وعندنا قاعدة في مفردات الحنابلة هي: ((أن أي مسألة من مفردات الحنابلة ففي الغالب لها نص لأن الإمام أحمد لا ينفرد إلا بشي فيه نص)). استدلوا بنص قالوا أنه روي في الحديث الصحيح - رواه ابن عكيم قال أتانا كتاب - صلى الله عليه وسلم - قبل أن يموت بشهر ((أن لا تنتفعوا من الميتة بإهاب ولا عصب)). وهذا الحديث ضعفه الحافظ البارع الناقد ابن معين بل الإمام أحمد كان يأخذ بهذا الحديث ثم تركه لا ضطرابه.

فالحنابلة يرون أن كل الجلود إذا لم تذكى ذكاة شرعية فإنها نجسة ولا يمكن أن تطهر. واستدلوا بحديث ابن عكيم السابق وهو نص. نستكمل فقه الحنابلة: لكنهم يقولون مع كون الجلود نجسة وتبقى نجسة إلا أنه يباح أن تستعمل فقط. يعني ولا يباح أن تباع لأنه لا يجوز أن نبيع ونشتري في النجسات. فيباح أن تستعمل بثلاثة شروط: أولاً: أن تدبغ. ثانياً: أن لا تستعمل إلا في يابس. ثالثاً: أن هذا خاص بجلود الحيوانات التي تكون طاهرة في الحياة. والدليل لقضية أنه لا بد أن تدبغ حديث ميمونة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((هلا انتفعتم بإهابها)) - يقصد ميتة - فقال: هلا انتفعتم: فقالوا إذاً يجوز أن ننتفع. وفي رواية: ((هلا دبغتموه وانتفعتم به)) فبعض الروايات ذكرت الدباغة وبعضها لم تذكرها ولكن لفظة الدباغة ثابتة. والدليل على أنه يجب أن يستعمل في يابس أن النجاسة لا تنتقل بين يابسين وهذه قاعدة فأي يابسين لا تنتقل بينهما النجاسة. فإذا وضعت شيء نجس في وعاء طاهر والكل يابس فإنه لا تنتقل النجاسة إلى الإناء والعكس صحيح. = إذاً إذا قيل لك لماذا يشترط الحنابلة أن يكون استعمال الإناء في يابسات لا في مائعات؟ - فتقول: لأن النجاسة لا تنتقل بين يابسين. من حيوان طاهر في الحياة. ما هو الحيوان الطاهر في الحياة؟ قالوا الحيوان الطاهر في الحياة على نوعين: النوع الأول: الآدمي. والثاني: ما كان بحجم الهرة فأقل. والثالث: ما لا نفس له سائلة. ولا نريد الوقوف هنا في تحديد ما هو الحيوان الطاهر لأن المؤلف سيعود ويذكر هذه المسألة نصاً ونناقش الحنابلة في هذا الضابط لكن المقصود الآن أن تفهم ما هو مذهب الحنابلة؟ إذاً الآن الحنابلة يرون أن جلد الميتة لا يطهر مهما كان نوعه ومهما دبغ وأنه يجوز أن يستعمل في الطاهرات بعد الدبغ هذا خلاصة مذهب الحنابلة. القول الثاني: أنه أي جلد دبغ فقد طهر مهما كان نوعه من حيوان طاهر في الحياة أو ليس بطاهر. واستدلوا بحديث ابن عباس - رضي الله عنه - ((أيما إيهاب دبغ فقد طهر)). وهذا الحديث في الصحيح وهو نص في المسألة.

وهذا الاختيار الأول لشيخ الإسلام - لأن له في المسألة اختيارين لصعوبة المسألة واختلاف الآثار فيها. القول الثالث: أنه لا يطهر إلا جلد مأكول اللحم. يعني إذا فرضنا أن شاة ماتت حتف أنفها يعني صارت ميتة فجلدها الآن نجس فعلى القول الثالث هل يطهر بالدباغة؟ الجواب: نعم يطهر. وإذا مات حمار حتف أنفه فهل يطهر جلده بالدباغة؟ الجواب: لا. لايطهر. لأنه غير مأكول اللحم دليل القول الثالث: حديث سلمة بن المحبق أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((دباغها ذكاتها)). فدل الحديث على أن الدباغة إنما تؤثر فيما تؤثر فيه الذكاة والذكاة لا تؤثر إلا في مأكول اللحم. ما معنى جملة أن الذكاة لا تؤثر إلا في مأكول اللحم؟ يعني لو أن إنساناً أخذ كلباً وذبحه على وفق القواعد الشرعية بأن قطع الحلقوم والودجين فهل يصبح جائز الأكل؟ الجواب: لا. لأن الذكاة لا تؤثر فيه أصلاً. وهذا القول هو الاختيار الثاني لشيخ الإسلام واختاره أيضاً شيخنا محمد العثيمين رحمه الله. والأقرب والله أعلم في هذه المسألة هذا القول الثالث. سبب هذا الترجيح: نقول أن القول الثاني أقوى ولكن هناك مرجح للقول الثالث وهو أن النبي - صلى الله عليه وسلم - ((نهى عن جلود السباع)). وجلود السباع لا تكاد تستخدم إلا مدبوغة ومع ذلك نهى عنها مما يدل على أن الدباغة لا تؤثر فيها. والمسألة تحتمل أكثر من هذا الشرح لكن هذه رؤوس الأقوال والأدلة وعرفت الآن أن الراجح هو القول الثالث. = هل ينبني على هذا القول شيء؟ - الجواب: ينبني عليه مئات المسائل. = فمثلاً - حتى يتدرب طالب العلم على التطبيق - الشنط المصنوعة من جلود النمور ومن جلود الأفاعي ما حكمها؟ - لا تجوز. = ذيل الثعلب - الذي يحتفظ به بعض الناس - ما حكمه؟ - لا يجوز. لكن عند الحنابلة هذه الأمور لا يجوز أن تباع ولا تشترى لكن هل يجوز أن ننتفع بها بعد الدباغة؟ - يجوز. لكن الإشكال أن الأحذية والشنط والأحزمة تباع وتشترى وهذا هو محل الإشكال. فعلى القول الثالث لا يجوز لا أن تباع ولا أن تشترى. ويجب أن تنتبه إلى أن الذي لا يجوز أن يباع ويشترى ما كان من الجلد الحقيقي أما الشكل والرسم فهذا لا بأس به.

فإن كان من جلد حقيقي لنمر وذئب أو لدب أو للأفاعي - وهذه أشهر الجلود التي تصنع منها الشنط والأحذية - فإنه لا يجوز لا أن تباع ولا أن تشرى على القول الثالث وعلى القول الثاني أي جلد دبغ فقد طهر. • ثم انتقل ’ لمسألة أخرى فقال: ولبنها وكل أجزائها: نجسة غير شعر ونحوه، وما أُبين من حي: فهو كميتته في الحقيقة أراد المؤلف ’ في آخر الباب أن يبين أحكام أجزاء الميتة لكنه بدء بالجلد لأهميته ولقوة الخلاف فيه فلما انتهى من الكلام على الجلد انتقل إلى الحديث عن باقي أجزاء الميتة فقال ’: ولبنها وكل أجزائها: نجسة يعني ولبن الميتة وكل أجزاء الميتة نجسة. إذاً الحنابلة يرون أن لبن الميتة وأجزاؤها نجسة. الدليل: قوله تعالى: {قُل لاَّ أَجِدُ فِي مَا أُوْحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلاَّ أَن يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَماً مَّسْفُوحاً أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ} (الأنعام/145). فهذه الآية نصت على أن الميتة بكل ما فيها فهو رجس. إذاً عرفنا أن الحنابلة يقررون أن الميتة بجميع أجزائها نجسة هذا بالنسبة للحنابلة. أما على القول الراجح إلا الجلد من مأكول اللحم. القول الثاني: أن لبن وأنفحة الميتة طاهرة. واستدل أصحاب هذا القول على أنها طاهرة بعمل الصحابة رضي الله عنهم. قالوا: فإن الصحابة è لما فتحوا العراق وكان بعض سكانه من المجوس أكلوا الجبن المصنوع في العراق في ذلك الوقت والجبن معلوم أنه لا ينعقد إلا بالأنفحة والأنفحة لا تؤخذ إلا من الميتة لأنهم هم لا يذبحون إنما يأخذونها منها ميتة ومع كون الجبن انعقد من أنفحة ميتة أكل منه الصحابة. وهذا اختيار شيخ الإسلام وهو أن اللبن والأنفحة من الميتة طاهرة وليست بنجسة وهذا القول هو الصواب. فما يكون للإنسان أن يأتي إلى مسألة فيها آثار صحيحة عن الصحابة وليس لها معارض فيعارضها ويختلف معها. بما أن الصحابة وهم أورع وأعلم الناس وأفقه الناس في كتاب الله يرون أن لبن وأنفحة الميتة طاهر فإنا نقول بقولهم. • قال ’: ولبنها وكل أجزائها: نجسة. إذاً ناقشنا المؤلف في اللبن والأنفحة فهل بقي شيء من أجزاء الميتة؟

نعم باقي أجزاء كثيرة كالأجزاء الداخلية الكبد والمعدة واللحم وغيرها. من الأجزاء التي يناقش فيها المؤلف: العظم والقرن. فالمؤلف يرى أنها نجسة ويستدل بعموم الآية. والقول الثاني في هذه المسألة أن العظم والقرن طاهران. وهذا اختيار شيخ الإسلام ’ ودليله الذي استدل به قوي: يقول ’:أن مناط النجاسة بوجود الدم فإذا وجد الدم وجدت النجاسة بدليل أن الشارع الحكيم جعل ما لا نفس له سائلة طاهر كما في حديث الذباب فإنه أمر أن يغمس وإذا غمس في الماء الحار فسيموت. فهذا دليل على أن ما لا نفس له سائلة طاهر قال: كذلك كل ما ليس فيه دم فهو طاهر لأنا عرفنا أن الشارع إنما رتب النجاسة على وجود الدم. والعظم والقرن ليس فيهما دم. وما ذكره شيخ الإسلام صحيح لكن يحتاج إلى مسألة وهي: هل فعلاً الطب الحديث يثبت أن العظم ليس فيه دم؟ إذا نظرت إلى العظم فهو يابس لكن هل العظم لا دم فيه من الأصل؟ هذا محل تردد من حيث وجود الدم وعدمه لأنه من المعلوم أن الذي يغذي الجسد بأجزائه الدم وهو سبب النمو فيحتاج إلى أن ننظر هل العظام فيها دم؟ أو كما رأى شيخ الإسلام أنه ليس فيها دم. على كل حال إذا كان كما قال شيخ الإسلام ليس فيها دم فالأصل فيها الطهارة. • ثم قال ’: غير شعر ونحوه الشعر طاهر عند الحنابلة وعند غيرهم - فما هو الدليل على طهارة شعر الميتة؟ انتبهو إلى الدليل حتى لا يصعب على بعضكم - يقولون: أنه يجوز أن نجز شعر الحي من الحيوان وإذا جززناه فإنه يبقى طاهراً. مع أن القاعدة تقول: أن ما أبين من حي فهو كميتته فمقتضى القاعدة أنا إذا جززنا شعر الحي فإن هذا الشعر يكون نجس لأن ميتة الحيوان نجسة. فإذا كان الشعر المأخوذ من البهيمة أثناء الحياة يبقى طاهراً مع أن القاعدة: - كما ذكرنا - أن يكون نجساً فكذلك شعر الميتة. وهذا أمر متفق عليه بين أهل العلم. وقوله: ((ونحوه)) أي كالقرن والظفر والصوف بالنسبة للحيوانات التي ليس فيها شعر. • ثم قال ’: وما أُبين من حي: فهو كميتته هذه القاعدة هي نص حديث وهذا الحديث وإن كان في إسناده مقال إلا أن معناه متفق عليه. والقاعدة: ((تقول أن الحديث المتفق على معناه فإنه يصلح للاستدلال)).

فمثلاً: إذا أخذنا يد شاة وهي حية فما حكم هذه اليد؟ الجواب: أنها نجسة. وإذا أخذنا يد إنسان وهو حي فما الحكم؟ الجواب: نقول أنه طاهر لأنه إذا مات فهو طاهر. نأخذ مثالاً أوضح. إذا أخذنا قطعة من سمكة وهي حية فما الحكم؟ الجواب: أنها طاهرة. ولماذا؟ لأن ميتة السمك طاهرة. إذاً ما أبين من حي فهو كميتته = إذا أخذت قطعة من حيوان حي فحكم هذه القطعة كحكم ميتة هذا الحيوان: • إن كان طاهراً فطاهر. • وإن كان نجساً فنجس. • إذا أخذنا جزء من الجراد فطاهر. • وإذا أخذنا جزء من الفرس فنجس. - مسألة: وقد استثنى الحنابلة من هذه القاعدة أمرين هما: = الأول: الطريدة ما المقصود بالطريدة؟ يقصد بالطريدة الأجزاء التي تقطع من الحيوان في الصيد أثناء المطاردة. مثاله: لو أن إنساناً طارد غزالاً وضرب الغزال فانقطع منه قطعة كيد واستطاع أن يجري بعد ذلك ما حكم هذه القطعة؟ الجواب: طاهرة. ما الدليل على هذا الحكم؟ قالوا: أن الصحابة - كانوا يفعلون هذا في مغازيهم فإن الجيش أثناء الغزو يحتاج إلى الصيد أكثر منه إذا كان في مدينته فإذاً هذا استدلال بآثار الصحابة وهذا كثير عند الحنابلة. ونعم الاستدلال. = المستثى الثاني: الفأرة ومسكها. يعني الفأرة وما فيها من مسك. ماهي الفأرة؟ الفأرة هي: وعاء يخرج من الغزال الذكر من نوع معين من الغزلان بعد أن يجري لمدة طويلة. فإذا جرى خرجت هذه الفأرة متدلية منه وفيها مسك وبعد فترة تسقط فإذا وجد الإنسان هذه الفأرة فالأصل أن تكون نجسة لأن ميتة الغزال نجسة لكن هذه مستثناة. ولماذا استثنيت؟ الجواب: لأن عمل المسلمين المتواصل على الاستفادة من المسك ولو كانت نجسة لم ينتفعوا منه. وعليه فالمسك وفأرته طاهران ولو سقطت أثناء الحياة. وبهذا انتهى باب الآنية وننتقل إلى باب الاستنجاء.

باب الإستنجاء

باب الإستنجاء ((تابع الدرس الرابع)) قوله: ((باب الاستنجاء)). أي: باب يقصد منه بيان أحكام الاستنجاء وآدابه. الاستنجاء: مأخوذ في اللغة: من القطع. وهو في الاصطلاح: إزالة الخارج من السبيلين بالماء أو الحجر ونحوه. والرابط بين معنى اللغوي والمعنى الشرعي: أن في كل منهما قطع فالاستنجاء قطع لآثار النجاسة. إذاً الآن عرفنا معنى الاستنجاء في لغة العرب وفي اصطلاح الفقهاء. • قال - رحمه الله -: يستحب: كثير من أهل العلم يفرق بين قولهم يستحب ويسن. والفرق بين قولهم: يستحب وقولهم: يسن: • أنه لا يقال للشيء يسن إلا إذا أخذ من نص صحيح صريح عن النبي - صلى الله عليه وسلم -. • ويقال للشيء يستحب إذا أخذ من القواعد العامة. قالوا ولا يجوز الخلط بين الأمرين. = فأيهما أعلى مرتبة الذي يسن أو الذي يستحب؟ - الذي يستحب. = لماذا؟ - لاعتماده على نص صريح. إذاًَ من أين نأخذ الاستحباب من القواعد العامة أو من مفهوم النصوص وليس من النص الصريح. = وهل يؤخذ من أقوال الصحابة؟ - الجواب: أنه يؤخذ من أفعال الصحابة مما يقال عنه أنه لا مجال للرأي فيه فيقال يسن. بعد أن عرفنا الفرق بين قولنا يستحب وقولنا يسن السؤال: = فأيهما أنسب أن يقول المؤلف يستحب أو يقول يسن؟ - أن يقول: يسن. = لماذا؟ - لأن فيه نص صحيح صريح. ولكن فيما أرى أن هذا ليس بصحيح بل الأحسن في هذا السياق أن يؤتى بلفظة يستحب. = لماذا؟ - لأن الشيخ سيذكر مجموعة من الأداب والأحكام بعضها تعتمد على نصوص وبعضها تعتمد على قواعد عامة. فالتعبير بيستحب أفضل ليشمل الجميع لأن مصطلح يستحب أوسع من مصطلح يسن. فالذي يظهر لي والله أعلم أنه لا ينتقد المؤلف بقوله: يستحب. والأمر في هذا سهل فإنها اصطلاحات لا يترتب عليها أحكام. • قال - رحمه الله -: يستحب عند دخول الخلاء قول: ((بِسْمِ اللَّهِ)) يستحب للإنسان إذا أراد أن يدخل الخلاء أن يقول بسم الله لحديث علي?: ستر عورات الإنس عن الجن إذا دخلوا الخلاء أن يقولوا بسم الله. لكن الإشكال أن هذا الحديث ضعيف. = فإذا كان ضعيفاً فما هو الدليل على قول القائل بسم الله؟ - الدليل عليه آثار عن الصحابة وهي تصلح للتمسك بها في مثل هذا الباب مع حديث علي لأن ضعفه ليس شديداً.

إذاً فصحيح يستحب وإن كان بعض أهل العلم يقول لا يستحب لأنه لا يوجد دليل لكن مع وجود هذا الحديث الضعيف وآثار الصحابة فيستطيع الإنسان أن يقول أنه يستحب. ويستحب أيضاً أن يقول: ((اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنَ الْخُبُثِ وَالْخَبَائِثِ)) هذا الحديث حديث صحيح رواه البخاري ولذلك ينبغي أن يعمل به المسلم عند إرادته دخول الخلاء. وقوله: الخبث: الخبث: بالتسكين الشر. والخبائث أهله: فاستعاذ من الشر وأهله. وروي بالضم الخُبُث وهو جمع خبيث يعني ذكران الشياطين وتكون الخبائث على هذه الرواية إناث الشياطين. والأقرب الرواية الأولى لأنها أعم. • قال المؤلف ’: وعند الخروج منه: ((غُفْرَانَكَ. ويقول عند خروجه منه غفرانك: فيستحب للإنسان أن يقول غفرانك إذا خرج من الخلاء وهذا الحديث صحيح ولذا ينبغي أن يعمل به المسلم. • قال ’: ويقول: الْحَمْدُ للَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنِي الأَذَى وَعَافَانِي)) هذا الذكر ورد من حديث ضعيف وهو مروي عن اثنين من الصحابة أنس وأبي ذر. • حديث أنس ضعيف. وممن أشار إلى ضعفه الحافظ الناقد أبو حاتم. • وحديث أبي ذر أيضاً معلول إلا أنه يصح موقوفاً على أبي ذر. ولكن مع ذلك الأظهر والله أعلم أنه لايسن أن يقال هذا الذكر. = لماذا؟ - لأنه موقوف على أبي ذر وهو مما يقال من قبل الرأي فقد يكون أبو ذر قاله تفقهاً والأذكار توقيفية فإذا لم يكن عندنا نص صحيح صريح لا يمكن أن نعتبر هذا الشيء سنة. • ثم قال ’: وتقديم رجله اليسرى دخولاً ويمنى خروجاً: عكس مسجد ونعل. قاعدة الشرع أنه يقدم اليمنى للطيبات واليسرى للخبائث. ويمكن أن تقول بعبارة أدق: يقدم اليسرى لما يكره واليمنى لما عدى ذلك فيكون أوسع. هذا الأصل الشرعي له عدة نصوص تدل عليه. • منها أن النبي ‘ أمر المسلم إذا أراد أن ينتعل أن يبدأ باليمنى وإذا خلع أن يبدأ باليسرى. • ومنها الأكل باليمنى. • ومنها النهي عن الاستجمار باليمنى. فهذا الأصل له نصوص كثير ة وهو أصل ثابت لم يختلف فيه. • ثم قال ’: واعتماده على رجله اليسرى = أولاً: ما معنى الاعتماد على رجله اليسرى؟ - الجواب: أن الحنابلة يقولون إذا جلس الإنسان يريد قضاء الحاجة فإنه يسن له أن يتكئ على رجله اليسرى. يعني يميل قليلاً على رجله اليسرى. فيرون أن هذا سنة - مستحب -. واستدلوا بحديث سراقة بن مالك أن النبي ‘ أمر أن نتكئ على اليسرى وأن ننصب اليمنى. هذا الدليل. ولهم أيضاً تعليل: وهو أن هذا يسهل خروج الأذى.

وفي الحقيقة هذا القول للحنابلة ضعيف جداً ولا أظنه يصح عن الإمام أحمد. أولاً: لأن فيه تكلف شديد. ثانياً: أن الحديث ضعيف. ثالثاً: أنا نجد أن الشارع اعتنى تماماً بآداب الاستنجاء كما سيأتينا فبين أدق التفاصيل ولم يذكر هذا الأدب مما يدل على أنه لا يستحب ولا ينبغي. ثم فيه عناء ومشقة على الإنسان. فالخلاصة أن هذا الأدب القول به ضعيف جداً. • ثم قال - رحمه الله -: وبُعْدُه في فضاء. معنى هذا الكلام أنه يستحب للمسلم إذا أراد أن يقضي حاجته في فضاء أن يبعد. الدليل على هذا: أن المغيرة بن شعبة أخبر أنه كان هو والنبي - صلى الله عليه وسلم - في سفر وأن نبينا - صلى الله عليه وسلم - لما أراد أن يقضي حاجته قال المغيرة فانطلق حتى توارى عني - يعني انطلق يمشي إلى أن أصبح المغيرة لا يراه من شدة البعد ولذلك يقولون وبعده في فضاء. هناك تعليلات كثيرة لاستحباب البعد: • منها: حصول الستر للإنسان عند إرادة قضاء الحاجة. • ومنها البعد عن الصوت. • ومنها أن لا يتأذى الناس الذين بجواره به. وعدة فوائد أخرى. فهذا سنة ثابتة من حيث الأثر ومن حيث النظر. • قال - رحمه الله -: واستتاره. الدليل على أنه يستحب للإنسان إذا أراد أن يقضي حاجته أن يستتر حديث أبي هريرة من أتى الغائط فليستتر. وهناك أحاديث أخرى أصح من حديث أبي هريرة وهو أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان إذا أراد أن يقضي حاجته اتخذ هدفاً أو شجرةً أو عشب نخل. يعني أنه يذهب إلى شيء منتصب يستتر خلفه. والمراد من الاستتار هنا الاستتار من حيث البدن أما العورة فيجب أن تستر فلا يستحب بل يجب وجوباً. فالذي يستحب للإنسان إذا أراد أن يقضي حاجته أن يكون في مكان لا يرى البدن كله حتى لو لم يبعد. وهذه سنة يغفل عنها كثير من الناس أن يقضي حاجته بحيث لا يرى بدنه. • ثم قال - رحمه الله -: وارتياده لبوله مكاناً رخواً. استدلوا على استحباب هذه المسألة بقول النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا بال أحدكم فليرتد لبوله. = ما معنى ارتياده لبوله مكاناً رخواً؟ - الجواب: هو أن يذهب إلى مكان من الأرض لين وليس بقاس حتى إذا سقط البول لا يكون له رشاش. فمن المعلوم أن البول إذا سقط على أرضية قاسية ارتد. وإذا سقط على أرضية لينة ورخوه لم يرتد.

فيقول الحنابلة أنه يستحب للمسلم أنهإذا أراد أن يقضي حاجته أن يذهب إلى أرض كما قال: رخوة. {{وسمعتم الدليل من السنة والتعليل: حتى لا يرتد الرشاش}}. هذا الحديث فيه ضعف - مسألة فليرتد لبوله فيه ضعف. = قوله ’: وارتياده لبوله مكاناً رخواً: هل هو من أمثلة المستحب أو المسنون؟ - الجواب: أنه من أمثلة المستحب لأنه تدل عليه النصوص العامة. = مثل ماذا من النصوص العامة التي تدل على هذا الاستحباب؟ - مثل الأحاديث التي فيها الأمر بالتنزه من البول فإنها تصلح شاهداً عاماً لهذا الحكم. • ثم قال ’: ومسحه بيده اليسرى إذا فرغ من بوله: من أصل ذكره إلى رأسه ثلاثاً، ونتره ثلاثاً. هذان أدبان يسميان المسح والنتر. - المسح هو أن يجعلأصبعه الوسطى تحت الذكر والإبهام فوق الذكر ويبدأ من أصل الذكر ويمسح إلى رأس الذكر. {{تصورتم الآن. هذا أمر مستحب عند الحنابلة ينبغي للإنسان أن يفعله .. هكذا ... يعني من الداخل إلى الخارج ولايمكن أن يكون العكس هذا المسح}} - والنتر هو: جذب وتحريك الذكر من الداخل. = ماهو الدليل على استحباب المسح والنتر؟ - الجواب: قالوا: التعليل: ليستيقن البرءاة والطهارة لأنه إذا فعل ذلك فقد أخرج يقينا كل ما في الذكر. إذاً عند الحنابلة يستحب. والقول الثاني: - فرق شاسع جداً بين القول الأول والثاني - أن المسح والنتر بدعة - فانتقلنا من الاستحباب إلى أنه بدعة. واعتبار المسح والنتر بدعة اختيار شيخ الإسلام وابن القيم. وهذا صحيح فإنه بدعة لعدة أسباب. السبب الأول: أنه ليس له أصل في الشرع مع أن الشارع قد اعتنى بآداب الاستنجاء. السبب الثاني: شدة مضرة هذا العمل. واستثى شيخنا - ابن عثيمين - ’ شيء قد يكون مفيداً وهو النتر أحياناً عند الحاجة بهذه القيود. أما المسح فلا شك أنه بدعة ومضر جداً لعضلة الذكر. كذلك الإكثار من النتر بلا حاجة مضر جداً أيضاً. عرفنا الآن مذهب الحنابلة في المسح والنتر وما معناهما؟ وما هو القول الثاني في حكم المسح والنتر. • ثم قال ’: وتحوله من موضعه ليستنجي في غيره: إن خاف تلوثاً.

يعني أنه يستحب للإنسان إذا انتهى من حاجته وأراد أن يستنجي أو يستجمر - يستحب له أن ينتقل من موضعه هذا متى؟ إن خاف تلوثاً. فإن لم يخف تلوثاً فإنه لا يستحب. دليل الاستحباب: الأدلة العامة السابقة. وقال بعض الفقهاء بل إذا خاف أن يتلوث فيجب أن يتحول عن موضعه. والأقرب - والله أعلم - أنه بحسب الظن فإذا غلب على ظنه أنه سيتلوث فيجب وإذا ظن ظناً يسيراً عابراً أنه سيتلوث فيستحب. فيختلف باختلاف مدى احتمال إصابته بالنجاسة. لما انتهى الشيخ ’ من بيان المستحبات انتقل إلى المكروهات ثم سينتقل بعده إلى المحرمات ولا يخفى أن في هذا ترتيباً بديعاً لطيفاً. • قال ’: ويكره: دخوله بشيء فيه ذكر اللَّه تعالى إلاَّ لحاجة. يكره للإنسان أن يدخل بشيء يعني بورقة أو بإناء أو بقلم أو بساعة أو بجوال فيه ذكر الله إلا إذا احتاج بأن خشي أن يسرق أو خشي أن يتلف إلى آخره من اختلاف الحاجات. إذاً يكره عند للإنسان عند الحنابلة أن يدخل بيت الخلاء بشيء فيه ذكر الله وترتفع الكراهة إذا وجدت الحاجة. الدليل: قالوا أن النبي ‘ أخبر عنه أنس أنه كان إذا أراد أن يدخل الخلاء نزع خاتمه. ومعلوم أن خاتم النبي ‘ مكتوب عليه محمد رسول الله وفي الرسم هي: - الله - رسول - محمد - حيث جعل لفظ الجلالة في الأعلى. فقالوا: أنه ‘ لم يخلع خاتمه إلا لما فيه من ذكر الله. لكن هذا الحديث ضعفه الأئمة مثل الإمام النسائي صاحب السنن ومثل الإمام الدارقطني فهولاء ضعفوا هذا الحديث. = وإذا كان هذا الحديث ضعيفاً فما هو الدليل على الكراهة؟ - الدليل على الكراهة هو: تعظيم اسم الله. الآن عرفنا حكم الدخول للخلاء إذا كان مع الإنسان شيء فيه ذكر لله أنه مكروه وأنه الكراهة ترتفع عند الحاجة. مسألة: ما حكم دخول الخلاء بالمصحف؟ = قالوا: أن الدخول بالمصحف محرم بل قال المرداوي صاحب الانصاف: أنه لا يتوقف في هذا عاقل. ومع وضوح حكم دخول الإنسان المسلم بالمصحف بيت الخلاء إلا أن بعض أهل العلم ممن قد يأخذ ويبالغ في الظواهر قال: أنه يكره لعدم الدليل وفي الحقيقة هذا بعيد جداً من نصوص الشرع حتى كما أوردنا عن المرداوي قوله أن هذا مما لا يتوقف فيه عاقل.

إذاً بالنسبة للمصحف حتى مع وجود الحاجة حتى مع خشية الضياع ومع أي ظرف من الظروف فلا يجوز الدخول به إلى بيت الخلاء. أما مافيه ذكر الله فكما سمعتم حكمه وهو كما قال أصحاب الإمام أحمد. • ثم قال - رحمه الله -: ورفع ثوبه قبل دنوه من الأرض. يكره للإنسان أن يرفع ثوبه قبل أن يدنو من الأرض: يعني أنه يستحب له أن لا يرفع ثوبه إلا إذا دنى من الأرض لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان لا يرفع ثوبه إلا إذا دنى من الأرض. فرفع الثوب قبل الدنو من الأرض مكروه. • أما إذا كان يشاهده الغير فإن رفع الثوب قبل الدنو من الأرض يكون محرم لأن ستر العورة واجب. وهذه الأحكام كثير منها إذا كان الإنسان في الخلاء أو ليس في بيت خلاء مغلق إنما في الصحراء. • قال - رحمه الله -: وكلامه فيه. يكره للإنسان أن يتكلم في بيت الخلاء لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - مر عليه رجل وهو يبول فسلم فلم يرد عليه النبي - صلى الله عليه وسلم - السلام. فعلمنا من هذا أنه لا ينبغي أن يتكلم الإنسان وهو في بيت الخلاء. وقال بعض أهل العلم بل لا يجوز أن يتكلم - محرم - لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يرد السلام مع أن رده يعتبر واجباً فدل على أنه ما ترك الواجب إلا لوجود المحرم. إذاً اختلف في كلام الإنسان في بيت الخلاء هل هو مكروه أو محرم؟ - وسمعتم الاستدلال - والأقرب أنه مكروه لأن ترك النبي - صلى الله عليه وسلم - لرد السلام علله بقوله: لأنني كرهت أن أذكر الله على غير طهارة. إذاً الحنابلة يرون أن كلام الإنسان في بيت الخلاء حكمه مكروه والقول الثاني أنه محرم والأقرب ما ذهب إليه الحنابلة. • ثم قال - رحمه الله -: وبوله في شَق ونحوه. يكره عند الحنابلة البول في شق لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - أن نهى يبول الإنسان في الجحر وهذا الحديث إسناده جيد. وهناك تعليل: أن البول في الجحر قد يؤدي إلى خروج ما يؤذي على الإنسان. إذاً هذه الآداب واضحة الآداب السابقة: رفع الثوب والكلام والبول في الشق. • ثم قال - رحمه الله -: ومس فرجه بيمينه

• بسم الله الرحمن الرحيم • يقول المؤلف - رحمه الله - مما يكره أيضاً: مسه فرجه بيمينه واستنجاؤه واستجماره بها. أي أنه يكره للمسلم أن يمس ذكره بيمينه وأن يستجي أو أن يستجمر بها هذان مكروهان: دليلهما: حديث واحد وهو قول النبي - صلى الله عليه وسلم - لا يمسكن أحدكم ذكره بيمينه ولا يتمسح من الخلاء بيمينه. وفي رواية صحيحة لا يمسكن أحدكم ذكره بيمينه وهو يبول. والمؤلف - رحمه الله - يقول هنا - ومس فرجه بيمينه - ولم يقيده بحال البول بينما نجد أنه في الحديث قيد النهي بحال البول. = فهل يكون النهي عام في كل الأحوال أو خاص بأثناء البول؟ - الجواب: أن النهي عام أثناء البول وفي غيره. فالإنسان منهي أن يمس ذكره بيمينه في حال البول وفي غيرها. = ما الدليل؟ - الدليل لايمسكن أحدكم ذكره بيمينه وهو يبول. = فإن قيل: الحديث خصص حال البول؟ - فالجواب أن نقول هذا صحيح أن الإسناد الثابت لحديث أبي قتادة لايمسكن أحدكم ذكره مخصص بالبول لكن إذا كان الشارع نهى عن مس الذكر أثناء البول مع الحاجة إليه ففي غيره الحاجة يكون النهي من باب أولى. يعني: إذا كان المسلم منهياً عن أن يمس ذكره حتى وهو يبول مع الحاجة أثناء البول إلى مس الذكر ففي غير هذه الحال من باب أولى. ومن الفقهاء من قال بل لا ينهى إلا حال البول لأن حال البول هي الحال المستكرهة التي لا يحب الشارع من المسلم أن يمس ذكره بيمينه أثنائها. والأقرب مذهب الحنابلة أنه يكره أن يمس الإنسان ذكره بيمينه سواء في أثناء البول أو في غيره من الأحوال وإن كان الحديث فيه التقييد بحال البول. أما الاستنجاء والاستجمار باليمين فلا شك أنه مكروه لقوله في الحديث السابق ولا يتمسح من الخلاء بيمينه. والشارع الحكيم جعل لليمين ميزة خاصة وأفردها بأحكام كثيرة جداً فينبغي للمسلم أن يهتم بهذا الأمر لأن الشارع اهتم به. فمثلاً إذا مس الإنسان ذكره بيده انتقضت طهارته - على خلاف في المسألة كما سيأتينا - ولا يجوز أن يمس ذكره على القول الصواب ولا في غير حال البول ولا يجوز أن يستنجي أو أن يستجمر بيمينه ويجب أن يبدأ بالطاهرات بيمينه ويجب أن يبدأ بالمستخبثات بغير يمينه. إذاً هناك جملة من الأحكام خص الشارع بها اليد اليمنى مما يدل على أن الإنسان يجب أن يهتم بها لأن على كل مسلم أن يهتم بما اهتم به الله ورسوله - صلى الله عليه وسلم -. • قال - رحمه الله -: واستقبال النيرين. وهذا هو المكروه الأخير وهو السابع استقبال النيرين:

فيكره عند الحنابلة أن يستقبل الانسان أثناء قضاء الحاجة النيرين والمقصود بهما الشمس والقمر. والتعليل: قالوا لأن فيهما من نور الله. والقول الثاني: أن استقبال النيرين أو استقبال أحدهما ليس بمكروه. أولاً: لأنه لا دليل على الكراهة والكراهة حكم شرعي يحتاج إلى دليل. وثانياً: لأن الإنسان منهي عن استقبال القبلة كما سيأتي. والإنسان إذا لم يستقبل القبلة فإنه سيستقبل النيرين - إذا انحرف عن القبلة فسيستقبل النيرين. بل إنه صرح في الحديث الذي سيأتي ذكره النهي عن استقبال القبلة ولكن شرقوا أو غربوا. وإذا شرق الإنسان أو غرب فسيستقبل أحد النيرين. إذاً قول المؤلف - رحمه الله - واستقبال النيرين ضعيف جداً لأنه مخالف للنص من جهة ولعدم وجود ما يدل عليه من جهة أخرى. • لما أنهى المؤلف - رحمه الله - الكلام على المكروهات انتقل إلى المحرمات فقال - رحمه الله -: ويحرم: استقبال القبلة واستدبارها في غير بنيان ولبثه فوق حاجته، وبوله في طريق وظل نافع وتحت شجرة عليها ثمرة. هذه ثلاث محرمات فقط منهي عنها على سبيل التحريم عند الحنابلة. الاستقبال واللبث والبول في الطريق. • قال - رحمه الله -: ويحرم: استقبال القبلة واستدبارها في غير بنيان. ذهب الحنابلة إلى أنه يحرم على المسلم الاستقبال والاستدبار للقبلة إلا في البنيان فيجوز الاستقبال والاستدبار فيه. ومذهب الحنابلة هذا اختاره من المحققين - بهذا التفصيل - الحافظ ابن عبد البر - رحمه الله -. واستدل الحنابلة بحديث أبي أيوب الأنصاري - أنه قال إذا أتيتم الغائط فلا تستقبلوا القبلة ولا تستدبروها ولكن شرقوا أو غربوا. فهذا نص صريح. وروي في الصحيح عن أبي هريرة بلفظ قريب من لفظ حديث أبي أيوب وفيه النهي عن استقبال القبلة في البول والغائط. هذان الحديثان - حديث أبي أيوب وحديث أبي هريرة - يدلان على النهي. يحتاج الحنابلة إلى حديث يدل على استثناء البنيان قالوا الدليل على استثناء البنيان حديث ابن عمر الصحيح قال رقيت يوماً على بيت حفصة فرأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يبول وهو مستقبل الشام مستدبر الكعبة. قالوا فهذا دليل على أنه يجوز للإنسان في البنيان خاصة أن يستقبل أو أو يستدبر القبلة. انتهى الآن مذهب الحنابلة وعرفنا دليلهم وعرفنا وجه استثناء البنيان.

القول الثاني: أن الاستدبار والاستقبال في البنيان وفي غير البنيان - في الفضاء - محرم وهذا معنى قول الفقهاء: محرمٌ مطلقاً. وانتصر لهذا القول بقوة شيخ الإسلام وتلميذه ابن القيم وانتصر له أيضاً عدد من المحققين ونسب إلى الجمهور. دليلهم: أدلتهم الأحاديث - حديث أبي أيوب وحديث أبي هريرة - قالوا كل حديث يخالف هذه الاأحاديث فهو إما ضعيف أو يدخله الاحتمال ثم قرر ابن القيم قاعدة جيدة في الحقيقة وإن كانت قد لا تسلم في هذا الموضع ولكنها قاعدة ينبغي أن يعتني بها طالب العلم. ((أن الأحاديث الصحيحة الصريحة الثابتة لا تعارض بالأحاديث المحتملة)). فيقول ابن القيم عندنا أحاديث صحيحة صريحة قوية ثابتة وهي نص في المسألة في التحريم المطلق فلا نزول عنها إلى أحاديث محتملة أو أحاديث ضعيفة. القول الثالث: أن الاستقبال والاستدبار يحرم مطلقاً إلا الاستدبار في البنيان. وهذا القول اختاره القاضي أبي يوسف - صاحب أبي حنيفة - أخذاً بحديث ابن عمر بتقييده الخاص. وفي الحقيقة هذه المسألة من المسائل المشكلة ولذلك كثرت فيها الأقوال وتشعبت واختلف فيها العلماء كما ترون اختلاف كثير. وما في شك أن الأحوط اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية وابن القيم والأقوى دليلاً اختيار القاضي أبي يوسف صاحب أبي حنيفة فقوله صحيح وكون النبي - صلى الله عليه وسلم - يبول مستدبر الكعبة دليل على الجواز في البنيان خاصة. • ثم قال - رحمه الله -: ولبثه فوق حاجته. يعني أنه يحرم على الإنسان أن يبقى فوق حاجته بعد انتهاء الحاجة لتعليلين: الأول: أنه يحرم على الإنسان أن يكشف عورته بلا حاجة بالإجماع - حكي الإجماع عليه وهنا هو كاشف لعورته بلا حاجة. الثاني: أن هذا البقاء بعد انتهاء الحاجة يضر بالإنسان. إذاً ما ذكره المؤلف من أن لبث الإنسان فوق حاجته بعد انتهائه أنه محرم فحكم صحيح. • ثم قال - رحمه الله -: وبوله في طريق وظل نافع وتحت شجرة عليها ثمرة. يحرم البول في ثلاث أماكن: الأول: الطريق. والثاني: الظل. والثالث: الشجرة التي لها ثمرة. ولو لم يكن لها ظل فمجرد وجود الثمرة يحرم قضاء الحاجة تحت الشجرة. وعلم من كلام المؤلف أنه يجوز للإنسان أن يبول تحت شجرة ليس لها ظل ولا ثمرة.

وتقدم معنا أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يتخذ هدف أو شجرة وعليه نجزم - والله أعلم - أنه - صلى الله عليه وسلم - كان يتخذ شجرة لا ظل لها ولا ثمرة كصغار الشجر التي تستر الإنسان بدون أن يكون لها ظل ولا ثمرة. الدليل: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال اتقوا اللعانين الذي يتخلى في طريق الناس وظلهم. ومعنى اللعانين: يعني الأمرين الجالبين للعن. فقوله - صلى الله عليه وسلم - اتقوا اللعانين الذي يتخلى في طريق الناس وظلهم دليل على أنه محرم ودليل على مسألة أخرى وهي أنه من كبائر الذنوب لأن الكبيرة في عرف الفقهاء كل عمل رتب عليه الشارع وعيد خاص. وهذا القول اختاره الذهبي وشيخ الإسلام وابن القيم وعدد من المحققين أن هذا هو حد الكبيرة - كل عمل ترتب عليه وعيد خاص -. واللعن من أشد أنواع الوعيد. ويقاس على الطريق والظل النافع والشجرة المثمرة - كل مكان يتأذى المسلمون بقضاء الحاجة فيه ولو لم يكن طريق ولا ظل ولا شجرة لها ثمرة كالمكان الذي اعتاد الناس أن يجلسوا فيه. فلو فرضنا أن هناك مكان اعتاد الناس أن يجلسوا فيه وليس ظلاً وليس تحت شجرة مثمرة وليس طريقاً أيضاً فقضاء الحاجة في هذا المكان يعتبر محرماً لأن العلة التي نهى الشارع من أجلها هي أن يتأذى المسلمون. انتهى - رحمه الله - من تفصيل الآداب المستحبة أو المكروهة أو المحرمة وانتقل إلى موضوع آخر وهو أحكام الاستجمار. • فقال - رحمه الله -: ويستجمر بحجر ثم يستنجي بالماء. المؤلف رحمه يريد أن يبين الطريقة الأمثل في الاستنجاء والتخلص من الأذى والحنابلة يرون أنها على ثلاث مراتب: 1. فأفضل الطرق في تنظيف النجاسة أن يبدأ الإنسان بالحجارة وينظف المحل ثم يتبع الحجارة الماء. 2. يليه في الأفضلية أن يستعمل الإنسان الماء وحده. 3. ثم يليه في الأفضلية أن يستعمل الحجارة وحدها. فهذه ثلاث مراتب للاستنجاء والاستجمار أفضلها الجمع ثم الماء ثم الحجر. استدل الحنابلة على هذا التفصيل بأمرين: الأول: الإجماع. قالوا أجمع أهل العلم أن أفضل الطرق أن يبدأ بالحجارة ثم يتبعها الماء. الثاني: استدلوا بحديث عائشة أنها قالت مرن أزواجكن أن يتبعن الحجارة الماء فإني استحييهم وقد كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يفعله. الحنابلة يقولون بعد هذا الحديث - في كتبهم - رواه أحمد واحتج به.

لكني بحثت بحث طويل عن هذا اللفظ في السنن والمسانيد والمعاجم ومسند أحمد ومعجم الصحابة للإمام أحمد وغيرها من الكتب فلم أجد هذا اللفظ وإنما اللفظ الموجود في سنن النسائي والترمذي والبيهقي وغيرها مروا أزواجكن أن يستنجوا بالماء فلا يوجد ذكر للحجارة. ففي الحقيقة لا أدري من أين أتى الحنابلو بقولهم رواه أحمد واحتج به بل ثبت أن الإمام أحمد احتج بهذا اللفظ فهذا فرع التصحيح وتصحيح الإمام أحمد من أعلى مراتب التصحيح لكن لم نجد هذا اللفظ مطلقاً في الكتب المصنفة والمسانيد مع ذكر الحنابلة له في كتبهم. لكن مع ذلك هذا التفصيل يسنده ماذا؟ يسنده الإجماع. ولكن الإنسان يتردد في قضية أخرى وهي هل كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يستخدم الحجارة والماء في وقت واحد أو كان يستخدم الحجارة مفردة والماء مفرد؟ فإنه ليس في النصوص الصحيحة ما يدل على أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يستخدم الحجارة ثم يتبعها الماء بالطريقة التي يصفها الحنابلة. لكن مع هذا البحث العلمي يبقى أن ما ذكره الحنابلة أفضل وصحيح. أولاً: للإجماع. ثانياً: لأن هذه الطريقة تحول بين الإنسان وبين مباشرة النجاسة لأن الإنسان إذا اكتفى بالماء فيباشر النجاسة بينما إذا استخدم الحجارة ثم أتبع الحجارة بالماء لن يمس النجاسة ومعلوم أن الشارع قطعاً من النصوص العامة والمتكاثرة يحب أن لا يمس الإنسان النجاسة إذاً لهذين الأمرين الإجماع وهذا التعليل نقول أن ما ذكره الحنابلة من التفصيل وهذه المراتب الثلاث تفصيل صحيح. وبالإمكان أن نقول بالنسبة لوقتنا المعاصر مع تيسر أدوات التنظيف أن بإمكان الإنسان أن يستخدم اليوم الماء بدون أن يمس النجاسة فيحصل الاكتفاء بالماء مع عدم مس النجاسة. وعدم مس النجاسة أمر يعتني به الشارع وفي مصنف ابن أبي شيبة ومصنف عبد الرزاق عدة آثار عن أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - فيها النهي عن مس النجاسة أثناء الاستنجاء إذا أمكن. إذا عرفنا الآن الطرق التي يستخدمها المسلم في الاستجمار والاستنجاء. • ثم قال - رحمه الله -: ويجزئه الإستجمار: إن لم يعْدُ الخارج موضع العادة.

يقصد العلماء رحمهم الله أنه يجزئ الإنسان أن يستخدم الحجارة حتى مع وجود الماء - يعني إذا كان الإنسان يستطيع أن يستنجي بالماء وتركه واستجمر بالحجارة أو بنحوها جاز ذلك حتى مع وجود الماء. الدليل: أجماع الصحابة - والحمد لله فما دام في المسألة إجماع الصحابة فهي مسألة دليلها قوي جداً. لكن قيد المؤلف - رحمه الله - هذا لجواز بقيد فقال: إن لم يعد الخارج موضع العادة. يعني أنه يجوز للإنسان أن يكتفي بالاستجمار بالحجارة بدون الماء بشرط أن لا يتجاوز الخارج موضع العادة. فإذا تغوط الإنسان ثم تعدى هذا الغائط موضع الحاجة المعتاد ووصل إلى الإليتين ففي هذا الحالة يقول الحنابلة لا يجوز للإنسان أن يستخدم الحجارة فقط بل يجب عليه هنا أن يستخدم الماء. الدليل: تعليل: قالوا أن الاستجمار بالحجارة ونحوها إنما شرع لمشقة التكرار - وتعدي الخارج موضع الحاجة لا يتكرر فنرجع إلى الأصل وهو الماء هذا تعليل الحنابلة. والقول الثاني: في هذه المسألة أنه يجوز للإنسان أن يستخدم الحجارة دائماً وفي كل الأحوال بلا استثناء لأن الشارع الحكيم لم يستثن حالاً دون حال وإنما النصوص عامة. وهذا القول - الثاني - اختاره شيخ الإسلام - رحمه الله -. وهو القول الراجح كما ترون لأنه اعتمد على عموم الدليل ولا يوجد مخصص. • ثم قال - رحمه الله -: ويشترط للإستجمار بأحجار ونحوها: أن يكون طاهراً منقياً، غير عظم وروث وطعام ومحترم ومتصل بحيوان ويشترط: ثلاث مسحات منقية فأكثر، ولو بحجر ذي شعب، ويسن قطعه على وتر. ذكر المؤلف - رحمه الله - هنا شروط الاستجمار - ونذكر الشروط على سبيل الإجمال: الشرط الأول: أن يكون الاستجمار بأحجار ونحوها. يعني بهذا الجنس. الشرط الثاني: أن يكون طاهراً. الشرط الثالث: أن يكون منقياً. الشرط الرابع: غير محترم. ((إجمال لما ذكره في قوله العظم والروث)). الشرط الخامس: أن لا يقل عن ثلاث مسحات. الشرط السادس: أن يقطعه على وتر - على الراجح كما سيأتينا. نرجع إلى بيان الشروط: الشرط الأول: أن يكون بأحجار وهذا الشرط ستبينه الشروط التالية. أولاً: أن يكون طاهراً: الدليل على هذا الشرط. أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما أراد أن يقضي حاجته أمر الصحابي الجليل ابن مسعود أن يأتيه بثلاثة أحجار.

فوجد حجرين ولم يجد الثالث فأتاه بروثة فأخذ النبي ‘ الحجرين وألقى الروثة وقال إنها ركس يعني رجس. فهذا الدليل نص على أن لا يجوز للإنسان أن يستجمر بنجس وإنما يجب أن يستجمر بطاهر. إذاً هذا الشرط صحيح. الثاني: أن يكون منقياً التعليل: أن المقصود من الاستجمار الانقاء فإذا لم يحصل فإن لم يحصل المقصود. الثالث: في قوله ’ تعالى ((غير عظم وروث)) يعني أنه لايجوز للإنسان أن يستجمر بهذين الشيئين العظام والروث. الدليل أيضاً حديث ابن مسعود أن النبي ‘ قال لا تستنجوا بالروث ولا بالعظام فإنها زاد إخوانكم من الجن. فهذا نهي صريح وهذا الحديث مفيد جداً لأن فيه الحكم والتعليل. فالحكم عدم الجواز والتعليل أنها زاد إخواننا من الجن. فالروث زاد لدوابهم والعظام زاد لهم. فإن استنجى بالروث والعظام فالحنابلة يرون أنه لا يجزئه فكأنه لم يستنج ولم يستجمر وهذا أيضاً مذهب الشافعية قالوا لأنه منهي عنه والنهي يقتضي الفساد. والقول الثاني: أنه يجزئ مع الإثم لأن النهي عنهما لالأنهما لايطهران بل لأنمهما زاد لأخواننا من الجن. فاستفدنا من التعليل الذي في حديث ابن مسعود حكم زائد وهو حكم ما إذى خالف الإنسان فاستجمر بالروث أو بالعظام. • ثم قال ’: وطعام ومحترم ومتصل بحيوان لا يجوز للإنسان أن يستنجي بالطعام لماذا؟ لأنه إذا كان هي عن الاستنجاء بطعام الجن فطعام الإنس من باب أولى سواء كان الطعام لهم أو لدوابهم قياساً على طعام دواب الجن ((ومحترم)) يقصدون بالمحترم ككتب أهل العلم ويقصدون بالكتب هنا كما صرحوا بالتمثيل الكتب الشرعية ككتب الفقه والحديث ويقاس عليها كتب العلوم النافعة ولا يقاس عليها كتب العلوم الضارة. = فإذا قيل لك هل يجوز للإنسان أن يستجني بكتاب فيه كيفية تعلم السحر؟ - الجواب: نعم يجوز لأنه كتاب غير محترم. = لو قيل لك هل يجوز أن يستنجي الانسان بكتاب فيه تعليم الفيزياءوالكيمياء والرياضيات؟ - الجواب: لا يجوز لأنها علوم نافعة. • قال ’: ومتصل بحيوان. المتصل بالحيون لا يجوز الاستنجاء به. = ما معنى متصل بالحيوان؟

= يعني لو جلس الإنسان يقضي حاجته بجوار شاة فهل يجوز له إذا انتهى من قضاء الحاجة أن يأخذ طرف الشاة ويستجمر به؟ - الجواب: لا يجوز. والتعليل: قالوا: إما أن يكون هذا الحيوان طاهر أو نجس فإن نجساً فإنه لا يطهر وإن كان طاهر فهو محترم والمحترم أخذنا قاعدة المحترم أنه لايجوز أن نستنجي ولا أن نستجمر به. • قال ’: ويشترط: ثلاث مسحات منقية فأكثر. يعني أنه يجب على الإنسان إذا أراد أن يستجمر أن لايقل عن ثلاثة أحجار حتى ولو حصل الإنقاء بحجرين. وهذا الحكم بالذات عامة العوام لا يعرفونه ولا يطبقونه. = ما هو الحكم؟ - الحكم: أنه لا يجوز للإنسان أن يكتفي بحجر ولا بحجرين ولو حصل الإنقاء فلا بد أن يستعمل ثلاثة أحجار. الدليل على هذا الحكم الذي لا تدركه العقول: نقول أن هذا الحكم تعبدي لأنه من الممكن للإنسان أن يتطهر بحجرين. والدليل أن سلمان - روى عن النبي أنه نهى أن يستجمر الإنسان بأقل من ثلاثة أحجار. إذاً يجوز للإنسان أن يكتفي بثلاثة أحجار لكن بشرط ذكره المؤلف وهو أن تكون منقية فلا يجوز للإنسان أن يقتصر على أقل من ثلاثة أحجار مطلقاً ويجوز له أن يقتصر على ثلاثة أحجار بشرط أن تكون منقية ولذلك يقول المؤلف ’: منقية فأكثر. = ما معنى فأكثر؟ - يعني: أنها إذا لم تنق الثلاثة فيجب أن يزيد إلى أن يحصل النقاء. • ثم قال ’: ولو بحجر ذي شعب. المقصود ثلاث شعب فأكثر. فإذا وجد الإنسان حجر كبير له ثلاث جهات وهذا معنى ثلاث شعب فيجوز له أن يكتفي به ولا يشترط أن يكون ثلاثة أحجار منفصلة ولكن المقصود ثلاث مسحات. هذا مذهب الحنابلة واختاره من علماء الحنابلة المحققين الخرقي ’. نظراً للمعنى. ومن الحنابلة من قال: يجب أن يستعمل ثلاثة أحجار منفصلة. والمذهب هو الصواب - ما ذكره المؤلف واهتاره الخرقي هو الصواب بشرط أن يكون بحجر كبير له ثلاث جهات يمكن أن يمسح بكل جهة منها. • قال ’: ويسن قطعه على وتر. يسن للإنسان أن يقطع الاستجمار بوتر فإذا مسح الإنسان خمس مسحات ثم أنقى المحل فهل يسن له أن يزيد؟ لا يسن له أن يزيد. وإذا مسح أربع مسحات فهل يسن له أن يزيد؟ نعم يسن له أن يزيد واحدة. لكن المؤلف ’ يقول أن هذا سنة.

الدليل قول النبي ‘ من استجمر فليوتر. واللام للأمر لذلك الأقرب أن قطع الاستجمار على وتر فيما يظهر لي أنه واجب لقوله فليوتر وهذا أمر صريح. هذا الحكم وعدم جواز الاقتصار على أقل من ثلاثة أحجار حكمان يجهلهما كثير من العوام بالذات هذين الحكمين. • ثم قال ’: ويجب الإستنجاءُ: لكل خارج إلاّ الريح. بين ’ أنه يجب على الإنسان أن يستنجي بالماء بعد قضاء الحاجة أو يستجمر لحديث عائشة إذا ذهب أحدكم لى الخلاء فليستطب بثلاثة أحجار واللام للوجوب. لكن الحنابلة قيدوا هذا الوجوب بقيد هو: قوله في الروض إذا أراد الصلاة. يعني أن الحنابلة يرون أنه يجب على الإنسان إذا قضى حاجته أن يستجمر أو أن يستنجي لكن إذا أراد الصلاة. أما إذا لم يرد الصلاة فهو مخير فيستطيع أن لا يتنجي ولا يستجمر ثم إذا حضر وقت الصلاة وجب عليه أن يطهر بدنه وثوبه إن كان مس ثوبه شيء من النجاسة. ولكن الأقرب إذا قضى حاجته يجب عليه مباشرة أن يستنجي أو أن يستجمر. لماذا؟ لأن النصوص التي تقدمت معنا كحديث سلمان وحديث ابن مسعود وحديث عائشة كلها لم تقيد الأمر بإرادة الصلاة. ثم الشارع الحكيم متشوف للطهارة وهذا من أهم أنواع الطهارة. ثم هذا من الفروق الكبيرة بين دين الاسلام ودين النصارى فإنهم أناس لا يعتنون بالنظافة بينما الاسلام كما سيأتينا كثيراً - ما يدل على اعتناء الاسلام بالطهارة. إذاً الصواب أنه يجب على الإنسان بعد قضاء الحاجة أن يستجمر أو يستنجي ولو لم يكن يرد الصلاة. • ثم قال ’: ولا يصح قبله: وضوء ولا تيمم. يعني أنه لا يجوز للإنسان أن يتيمم أو يتوضأ إلا بعد الاستنجاء والاستجمار أما لو قضى حاجته ثم توضأ ثم استنجى أو استجمر فإن الوضوء يكون باطل. الدليل: قالوا: أن علي بن أبي طالب - أمر من يسأل النبي ‘ لأنه كان كثير الإمذاء فسأله عن هذه المسألة مسألة حكم المذي فأفتاه النبي ‘ بقوله اغسل ذكرك وتوضأ. قالوا: فأمره النبي ‘ أولاً بالاستنجاء ثم بعد ذلك يتوضأ. والقول الثاني: أنه يجوز للإنسان أن يبدأ بالضوء ثم يستنجي أو يستجمر. قالوا لأنه ثبت في الصحيح رواية لحديث علي أن النبي ‘ قال له توضأ وانضح فرجك. فبدأ بالوضوء قبل الاستنجاء.

قالوا فهذا دليل على أنه يجوز للإنسان أن يتوضأ ثم بعد ذلك أن يستنجي أو يستجمر. وهذا القول الثاني هو الصواب لأنه لا يوجد ارتباط بين الوضوء وإزالة النجاسة. - انتبهوا لهذه القاعدة لتفهموا هذه القاعدة حتى تريحكم في كثير من الأشياء - لو أن الإنسان على ظهره نجاسة أي نجاسة وقعت على ظهره فهل يجوز له أن يتوضأ ثم يغسل هذه النجاسة؟ نعم يجوز. بالإجماع إذا لم تكن النجاسة في أحد السبيلين فبالإجماع. هذه المسألة تبين أنه لا يوجد ارتباط بين مسألة إزالة النجاسة ومسألة الوضوء. نقول ولا يوجد فرق بين أن تكون النجاسة على أحد السبيلين وبين أن تكون في موضع آخر من البدن. إذاً ما في شك أن الإنسان لو توضأ ثم استنجى أو استجمر فوضوءه صحيح لكن لا ينبغي له أبداً أنت يفعل لوجود الخلاف ولأن الإنسان ينبغي له أن يتطهر تطهراً كاملاً فيبدأ بإزالة الخبث ثم الوضوء وهو التحلي بالطهارة المعنوية.

باب السواك وسنن الوضوء

((تابع الدرس الخامس)) لما أنهى المؤلف - رحمه الله - ما يتعلق بالاستنجاء والاستجمار وآداب التخلي انتقل إلى ما يأتي بعده عادة وهو السواك وسنن الوضوء لأن الإنسان يقضي حاجته ثم يستنجي أو يستجمر ثم يتوضأ وهذا الترتيب المنطقي هو الذي سار عليه المؤلف. باب السواك وسنن الوضوء السواك: من أعظم سنن الإسلام واعتنى به الشارع عناية خاصة كثيرة حتى أنه - صلى الله عليه وسلم - إستاك وهو يموت - وهو في النزع - من شدة عنايته ومحبته للسواك. ولما رأى العلماء اهتمام الشارع واهتمام النبي - صلى الله عليه وسلم - بالسواك جعلوا له بحثاً خاصاً بل إن كثيراًَ من أهل العلم أفرده بمؤلف. - السواك هو: دلك الفم لإزالة التغير ونحوه. • والمقصود الأول من الاستياك: التننظيف. • والمقصود الثاني: إزالة الرائحة. • والمقصود الثالث: إزالة التغير باللون. • قال - رحمه الله -: التسوك: بعود لين منق غير مضر لا يتفتت، لا بإصبعه وخرقة مسنون كل وقت، لغير صائم بعد الزوال بدء المؤلف يبين أحكام السواك فبين: أولاً: أنه مسنون لأنه قال: التسوك بعود لين ...... مسنون. إذاً حكمه: أنه سنة. • لحديث أبي هريرة - - (لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم بالسواك عند كل صلاة). • ولحديث عائشة - رضي الله عنها - - الصحيح أيضاً - (السواك مطهرة للفم مرضاة للرب).

وحديث عائشة هذا مهم. ولماذا هو مهم؟ الجواب: لأن كثيراً من الأحكام التي يذكرها المؤلف تستنبط من هذا الحديث. • يقول - رحمه الله -: التسوك: بعود لين يسن أن يكون العود ليناً ولا يكون يابساً. = ما الدليل على أنه يكون ليناً؟ - قالوا: الدليل لأن العود اللين أنقى من العود اليابس. = ما الدليل على أن العود الأنقى أحب إلى الله من العود الأقل نقاوة؟ - الجواب: حديث عائشة لأنها تقول مطهرة للفم فإذاً كل ما يكون فيه تطهير أشد فهو أكثر محبة للشارع. • ثم قال - رحمه الله -: لين منق. = ما الدليل على أنه كلما كان العود منقياً فهو أفضل؟ - الجواب: أن المقصود هو الإنقاء بدليل حديث عائشة. • ثم قال - رحمه الله -: غير مضر. هذا الحكم لا يرجع إلى حديث عائشة. ويعني أنه: يكره للإنسان أن يستعمل عوداً مضراً وإن شئت أن تقول يستحب للإنسان أن يستعمل عوداً لا يضر. ومن العلماء من قال: بل يحرم. أن استعمال العود المضر يحرم. والصواب أنه بحسب المضرة: - فإن كانت المضرة شديدة فهو: محرم. - وإن كانت المضرة يسيرة فهو: مكروه. والحنابلة عندهم قاعدة: وهي: أن كل عود له رائحة طيبة فهو مضر. والظاهر أنهم أخذوا هذا الحكم من التجارب. • ثم قال - رحمه الله -: لا يتفتت. ما العلة في كونه لا يتفتت؟ - من فهم الكلام السابق فيستطيع أن يذكر التعليل -. الجواب أن العلة هي: أن التفتت يناقض الإنقاء من وجهين: - الوجه الأول: أن الأجزاء المتفتتة ستبقى في الفم. - والوجه الثاني: أن العود إذا تفتت لم ينق. إذاً تستطيع أن تقول: تعليل مختصر: أن العود الذي يتفتت لا يستحب لأنه ينافي الغرض من التسوك. • ثم قال - رحمه الله -: لا بأصبع وخرقة. الحنابلة يرون أن استخدام الإصبع أو الخرقة لا يحقق السنة. = ما معنى أنه: لا يحقق السنة؟ - الجواب: أنه يعني: لو أن الإنسان استخدم إصبعه أو خرقة لا يؤجر الأجر المترتب على السواك لأنه لا يحقق السنة. وقيل: بل يحقق السنة بحسب ما ينقي. = وعلى هذا القول أيهما أفضل الأصبع أو الخرقة؟ - الجواب: الخرقة أفضل ولماذا؟: لأنها أنقى. والقول الثالث: أنهما يحققان السنة عند عدم العود. وهذا القول اختاره المرداوي في كتابه - الحافل المفيد لطالب العلم - الإنصاف.

= فكم قول في هذه المسألة؟ - ثلاثة أقوال. وهذا يدل على عناية أهل العلم بمسائل السواك. والصواب ما اختاره المرداوي - رحمه الله -: أنهما يحققان السنة بشرط عدم وجود العود لأن الأصل في السواك العود. • ثم قال - رحمه الله -: مسنون كل وقت. يعني أنه يسن للمسلم في جميع الأوقات أن يستاك. والدليل واضح جداً من الأحاديث السابقة - حديث أبي هريرة وحديث عائشة - رضي الله عنها - فهي تدل على أن السواك سنة في كل وقت. • ثم قال - رحمه الله -: لغير صائم بعد الزوال. يعني أنه يسن أن يستاك الإنسان في جميع الأوقات: o إلا في وقت واحد وهو: بعد الزوال. o لشخص واحد وهو: الصائم. فالصائم إذا زالت الشمس - أي دخل وقت الظهر - فيكره له أن يستاك. فا نقلب الحكم من غاية ما يحبه الشارع إلى أن يكون مكروهاً - عند الحنابلة. - الدليل: - قالوا: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول (لخلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك). فقالوا: إن والاستياك في هذا الوقت يذهب هذه الرائحة المحبوبة للشارع ولذا فهو مكروه. والقول الثاني: أن الاستياك مستحب في جميع الأوقات لعموم الأدلة. والجواب عن هذا الحديث من وجهين: - الأول: أن هذه الرائحة تخرج من المعدة وليست تخرج من الفم. - الثاني: أن مثل هذا الأمر والذي اعتنى به الشارع عناية خاصة لا يجوز أن نخصصه بدليل عام بل لابد من دليل خاص. • ثم قال - رحمه الله -: متأكد: عند: صلاة وانتباه وتغير فم بين المؤلف - رحمه الله - بماذا نستاك؟ ثم بين متى نستاك؟ ثم بين متى يكره أن نستاك؟ ثم ختم بمسألة الأوقات المستحبة - بشكل خاص للشارع ليستاك المسلم فيها. فقال: متأكد عند صلاة. لقول النبي - صلى الله عليه وسلم - (لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم بالسواك عند كل صلاة). فلا شك أن هذا تخصيص من الشارع بوقت الصلاة. • ثم قال - رحمه الله -: وانتباه: يعني من نوم. فيستحب للإنسان إذا انتبه من النوم أن يستاك لحديث حذيفة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - (كان إذا استيقظ من النوم يشوص فاه بالسواك). ومعنى قوله يشوص يعني يدلك ويغسل. فإذاً يستحب للإنسان - بشكل خاص - إذا استيقظ من النوم أن يستاك. • ثم قال - رحمه الله -: وتغير فم. إذا تغيرت رائحة الفم فحينئذ يتأكد السواك. لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: (مطهرة للفم). وتطهير الفم يتأكد عند التغير.

ثم انتقل المؤلف - رحمه الله - إلى موضوع جديد وهو كيفية الاستياك فقسم لنا - رحمه الله - أحكام السواك تقسيماً مبسطاً وجيداً. • فقال - رحمه الله -: ويستاك عرضاً مبتدئاً بجانب فمه الأيمن. يستاك عرضاً: وذلك بأن يمرر السواك من ثناياه إلى أضراسه. وإذا أردت أن تفهم العرض افهم الطول فالطول هو أن يبدأ من أصول - منابت - الأسنان إلى أسفلها. إذاً العرض: من الثنايا إلى آخر الفم ذهاباً وعوداً. فيقول - رحمه الله - أن هذا مستحب بأن يستاك عرضاً لا طولاً. = ما الدليل؟ - قالوا أنه روي النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: (إذا استكتم فا ستاكوا عرضاً) وهذا الحديث مرسل. ومن المعلوم أن المرسل من أنواع الحديث الضعيف فالحديث ضعيف. والتعليل: أن هذا أنقى وأبعد عن الأذى. فالفقهاء يرون أننا نستخدم المسواك بعكس ما يقول الأطباء في استخدام الفرشاة. وفي الحقيقة ينبغي أن يرجع في كيفية الاستياك إلى الأطباء إذا كان حقيقة أن استخدام العود عرضاً أنفع وأقل ضرراً على اللثة أخذنا به وإذا كان الإستخدام الذي يرشدون إليه في الفرشاة أنفع أخذنا به. ويمكن أن يقال أنه يخنلف العود عن الفرشاة فيمكن أن يكون لكل واحد منهما طريقة تخصه. • ثم قال - رحمه الله -: مبتدأً بجانب فمه الأيمن. هذا القول يبين مدى دقة الفقهاء رحمهم الله فإذا أردت أن تستاك وقبل أن تبدأ فأين تضع المسواك؟ فيرشدون - رحمهم الله - أنك تضعه في جانب الفم الأيمن. = ما الدليل؟ - حديث عائشة كان يعجبة التيمن في شأنه كله - وهذا من شأنه. ثم نحن أخذنا قاعدة: أنه إذا أراد الإنسان أن يُنَظِّفْ فَالمُنَظَّفْ يبدأ به من اليمين ويستخدم في التنظيف الشمال. (((هنالك مسألتين سبق الكلام عليهما في باب المياه نريد أن ننبه عليهما: المسألة الأولى: إذا اشتبهت ثياب طاهرة بنجسة: الحكم: أنه إذا اشتبهت ثياب طاهرة بنجسة ولم يعلم عدد النجسة فإنه يصلي بعدد الثياب بلا زيادة. ولعلي ذكرت أنه بزيادة صلاة واحدة - أظن أني ذكرت هذا - وهذا ليس بصحيح إنما يصلي بعدد الثياب فقط. يعني أنه إذا كان عنده عشرة ثياب فيها ثياب نجسة لا يعرف عددها فبكم يصلي؟ يصلي بعدد العشرة الثياب. وإنما يصلي بعدد النجس ويزيد إذا كان عدد الثياب النجسة معلوماً.

المسألة الثانية: في أقسام المياه ذكر المؤلف قسم الطهور المكروه وذكر أنه إذا اختلط بممازج وذكر قطع الكافور والدهن والملح المائي: ففهم بعض الإخوة أن الملح المائي لا يمازج. ونقول الصواب أن الملح المائي يمازج ولكن لماذا يبقى طهور؟ لأن أصله الماء وقد ذكرت أن هذا هو العلة لكن عدداً من إخواننا اشتبه عليهم الأمر. المسألة الثالثة: أن المؤلف - رحمه الله - ذكر القسم الثالث فقال: والنجَس. بفتح الجيم. والذي في القاموس بالكسر النجِس. (((انقطع التسجيل))). ((انتهى الدرس الخامس))

• يقول - رحمه الله -: ويدهن غِبَّاً. يعني أنه يسن للإنسان أن يدهن غِبَّاً يعني: يدهن يوماً ويترك يوماً. والدليل: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى عن الترجل إلا غِبَّاً. = فإذا قيل ما هي العلاقة بين الترجل والإدهان الذي ذكره المؤلف؟ - فالجواب: أن الترجل هو تسريح الشعر مع دهنه. أما التمشيط بلا دهن فليس بترجل. وهذا الحديث أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى عن الترجل إلا غِبَّاً. حديث قابل للتحسين. فمن السنن عند الحنابلة أن يدهن غِبَّاً. فجمعوا بين وجود الإدهان وأن لا يكثر، فلا إفراط ولا تفريط يدهن ولكن لا يكثر. • قال - رحمه الله -: ويكتحل وتراً. من السنن عند الحنابلة أن يكتحل الإنسان وأن يكون هذا الاكتحال وتراً. الدليل: - قول النبي - صلى الله عليه وسلم - من اكتحل فليوتر. وهذا الحديث أيضاً قابل للتحسين بمجموع طرقه. = وهنا مسألة: هل الإيتار يكون بالنسبة لمجموع العينين؟ أم يكون بالنسبة لكل عين على حدة؟. - إذا كان لمجموع العينين: فهذا يعني أن يكتحل مثلاً: ثلاث مرات في اليمنى ومرتين في اليسرى فيكون المجموع خمساً. فهذا إيتار بالنسبة لمجموع العينين. - والإيتار بالنسبة لكل عين أن يكتحل في كل عين ثلاث مرات. الذي ذهب إليه الإمام أحمد - رحمه الله - ورجحه وعمل به القول الأول: أن الإيتار إنما هو لمجموع العينين وما مال إليه الإمام أحمد هو الصحيح لأن في الباب أحاديث وآثار تدل عليه وإن كانت الأحاديث ضعيفه ولكن من طريقة الإمام أحمد أنه إذا لم يكن في الباب إلا حديثاً ضعيفاً أخذ به. إذاً عرفنا حكم الاكتحال وتراً وكيفية هذا الإيتار.

الباب معقود لسنن الوضوء ومع ذلك يقول تجب التسمية ولا إشكال في هذا لأنه أراد أن يبين السنن جملة وينص على ما يراه هو واجباً وإن كان غيره يراه سنة. • قال - رحمه الله -: وتجب التسمية: في الوضوء مع الذكر. فالحنابلة يرون أن التسمية في الوضوء واجبة فإن تركها عمداً بطل الوضوء ويستدلون بقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: (لا صلاة لمن لا وضوء له ولا وضوء لمن لم يذكر اسم الله عليه). هذا الحديث بالنسبة للمتأخرين محل بحث طويل فكُتِبَتْ فيه بحوث طويلة ورسائل مفردة وغرض الكاتبين إثبات صحة هذا الحديث. فلا يخلوا أي طريق من طرق هذا الحديث من ضعف ولكنهم يصححونه بمجموع الطرق. فإذاً عرفنا الآن: - أن: مذهب المتأخرين من المحدثين تصحيح هذا الحديث بمجموع طرقه. - وذهب الإمام أحمد وأبو حاتم إلا أنه لا يصح في هذا الباب حديث. وما ذهب إليه الإمامان هو الصواب عندي بلا إشكال وبدون تردد لسببين: • السبب الأول: أن طرق هذا الحديث ضعيفة وفي بعضها ضعف شديد. • السبب الثاني: أن كل علم تحتاج إليه الأمة لا سيما في ركن من أركان الإسلام كالصلاة ولا سيما في أهم واجباتها وهو الضوء فلا بد أن يأتي بطرق قوية ثابتة لا يتردد فيها النقاد وهذا الأم غير متوفر في أحاديث البسملة. ثم الذين نقلوا إلينا وضوء النبي - صلى الله عليه وسلم - نحو عشرة من الصحابة أو أكثر ذكرهم ابن الأثير في جامع الأصول لم يذكر أحد منهم في الأحاديث الصحيحة البسملة مما يدل لم تكن موجودة أي أنه - صلى الله عليه وسلم - لم يبسمل. إذاً النتيجة أن هذا الحديث ضعيف وإذا كان ضعيفاً فالصواب في هذه المسألة هو القول الثاني: وهو أن البسملة سنة. بل من العلماء من قال إن البسملة غير مشروعة قالوا: لا يشترط لكل عبادة أن نبدأها ببسم الله فمثلاً: الآذان من أعظم العبادات لا يبدأ فيه ببسم الله. ولعل القول الوسط أن البسملة سنة - فيكون أقرب الأقوال - وإن كان القول بعدم مشروعية البسملة قول قوي. • قوله - رحمه الله -: ويجب الختان ما لم يخف على نفسه. الختان: • بالنسبة للذكر: هو قطع الجلدة التي تغطي الحشفة. • وبالنسبة للأنثى: هو قطعالجلدة أعلى الفرج وذكر الفقهاء أنها تشبه عرف الديك.

فالحنابلة - كما ترون - يرون وجوب الختان للذكر وللأنثى ويستدلون بقول النبي - صلى الله عليه وسلم - (ألق عنك شعر الكفر واختتن). فأمر من دخل بالإسلام أن يختتن وهذا الحديث حديث ضعيف. والقول الثاني في مسألة الأختتان: أنه سنة. وهذا مذهب الحسن البصري واشتهر بهذا القول واستدل بأن عدداً كبيراً من الناس أسلم في عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - ولم يذكر أنهم أمروا بالإختتان. والقول الثالث: أنه واجب بالنسبة للرجل سنة بالنسبة للأنثى. - وجه هذا القول: • أن الإختتان بالنسبة للذكر يتعلق بكمال الطهارة وتمامها لأنه إذا لم يقطع هذه الجلدة التي تغطي الحشفة تجمع تحتها بقايا البول فلم تحصل الطهارة على الوجه المطلوب. • ووجه الوجوب هذا بالنسبة للذكر لا يوجد بالنسبة للأنثى فإن الختان بالنسبة إليها أمر كمالي تحسيني. وهذا القول يشعر به كلام شيخ الإسلام ابن تيمية لأنه يقول في الاختيارات ويجب الختان إذا وجبت الصلاة - فربط الختان بالصلاة. إذاً صارت الأقوال ثلاثة وهذه الثلاثة الأقوال هي أيضاً روايات عن الإمام أحمد فعنه في هذه المسألة ثلاث روايات. والقول بالوجوب على الذكر دون الأنثى اختيار ابن قدامة - رحمه الله -. إذا قيل لك متى تكثر الروايات عن الإمام أحمد فالجواب أن تقول تكثر الروايات عن الإمام أحمد في كل مسألة تعارضت فيها الأدلة الصحيحة أو لم يوجد فيها أدلة فإذا لم يجد الإمام أحمد نصوصاً واضحةً تجد أنه مع ورعه يكون له في المسألة أكثر من قول يعني أكثر من رواية. فعرفنا بالتفصيل القول في مسألة الختان بالنسبة للحنابلة وغيرهم. • قوله - رحمه الله -: ويكره القزع. يكره القزع عند الحنابلة لما ثبت في الصحيحين من حديث ابن عمر أن النبي - صلى الله عليه وسلم -: (نهى عن القزع). وروى هذا الحديث عن ابن عمر نافع وذكر البخاري ومسلم في الصحيحين تفسير نافع للقزع حيث قال: أن القزع هو: حلق بعض الرأس وترك بعضه. إذاً هذا التفسير المشهور هو تفسير لنافع وهو أيضاً في الصحيحين. = فما حكم القزع؟ - مكروه عند الحنابلة. = فإن قيل: أن الأصل في النهي التحريم فما وجه أن يكون مكروهاً؟

- فالجواب: أني لم أجد قائلاً من الفقهاء المتقدمين بالتحريم - حسب اطلاعي فإذا كان أحد وجد من السلف أو ممن جاء بعدهم قال بالتحريم فنقول إن التحريم متوافق مع النص لأن الأصل في النهي التحريم. وقد يكون بعض العلماء الأجلاء المعاصرين قالوا بالتحريم ولكن حسب بحثي لم أجد قائلاً بالتحريم. ومن سنن الوضوء: السواك، وغسل الكفين ثلاثاً ويجب من نوم ليل ناقض لوضوء، والبداءَة بمضمضة ثم استنشاق، والمبالغة فيهما لغير صائم، وتخليل اللحية الكثيفة والأصابع، والتيامن، وأخذ ماء جديد للأُذنين، والغسلة الثانية والثالثة. لما انتهى المؤلف من السنن العامة: السواك وما يتعلق به والاكتحال والاختتان انتقل إلى سنن الوضوء لأن الباب معقود للسواك وسنن الوضوء. • قال - رحمه الله -: ومن سنن الوضوء: السواك بدأ به لأنه من أهم سنن الوضوء والدليل على سنيته حديث أبي هريرة السابق - (لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم بالسواك عند كل وضوء) - بدل عند كل صلاة. الحديث الذي في الصحيح فيه الصلاة وفي الرواية التي خارج الصحيح الوضوء. = وعليه أيهما أصح وأثبت؟ رواية عند الصلاة أو رواية عند الوضوء؟ - الجواب: عند الصلاة. ومع ذلك فهو سنة عند الوضوء. • ثم قال - رحمه الله -: وغسل الكفين ثلاثاً. يعني أنه يسن لمن أراد أن يتوضأ أن يغسل كفيه ثلاثاً قبل أن يبدأ بالوضوء. وما أكثر الذين يتركون هذه السنة أما من جهة العوام فغالبهم يترك هذه السنة وأيضاً الخواص - وهم طلاب العلم وأهله - قد ينسى بعضهم هذه السنة. والدليل على ثبوت هذه السنة: 1 - حديث عثمان بن عفان - رضي الله عنه -. ... 2 - وحديث عبد الله بن زيد - رضي الله عنه -. ففي كل منهما أنه - رحمه الله -: - بدأ بغسل يديه ثلاثاً قبل أن يشرع في الوضوء - فهي سنة ثابتة. • ثم قال - رحمه الله -: ويجب من نوم ليل ناقض لوضوء. هذه المسألة من مفردات الحنابلة. وهو أنه يجب على الإنسان إذا قام من النوم قبل أن يدخل يديه في الإناء أن يغسلهما ثلاثاً. والدليل تقدم معنا: وهو قو النبي - صلى الله عليه وسلم - (إذا استيقظ أحدكم من النوم فلا يغمس يديه في الإناء حتى يغسلهما ثلاثاً). - الجمهور يرون أن هذا الغسل: سنة. - والحنابلة يرون أن هذا الغسل: واجب. = فأي القولين أحظُّ بالدليل؟

- الجواب: قول الحنابلة. لأن الأصل في الأمر الوجوب. المؤلف ’ يقول: ويجب من نوم ليل ناقض لوضوء. = فهل يجب عليه أن يغسل يديه إذا أراد أن يتوضأ أو إذا أراد أن يدخلهما في الإناء؟ - الجواب: إذا أراد أن يدخلهما في الإناء - يعني: ولو لم يرد الوضوء. = إذاً إذا استيقظ الإنسان من النوم وأراد أن يتوضأ ولم يحتج أن يدخل يديه في الإناء فهل يجب عليه أن يغسل ثلاثاً؟ ... - لا. لا يجب. إذاً لا يوجد ارتباط بين غسل الكفين ثلاثاً قبل أن يدخلهما في الإناء بعد النوم وبين غسل الكفين ثلاثاً في الوضوء. الخلاصة: يجب على الإنسان إذا استيقظ من النوم وأراد أن يغمس يديه في الإناء أن يغسلهما ثلاثاً ولو لم يرد الضوء لا كما يتصور كثير من الناس أن هذا الوجوب إنما هو إذا أراد الوضوء. • ثم قال ’: والبداءَة بمضمضة ثم استنشاق. البداءة بالمضمضة والاستنشاق سنة والدليل أيضاً حديث عثمان وحديث عبد الله بن زيد حيث بدأ النبي ‘ بالمضمضمة. وفهم من كلام المؤلف ’: أنه يجوز للإنسان أن يبدأ بغسل الوجه قبل المضمضمة والاستنشاق أليس كذلك؟ بلى. لأن البدأ بالمضمضة والاستنشاق سنة. إذاً يجوز للإنسان أن يغسل وجهه ثم يتمضمض ويستنشق فتقديم المضمضة والاستنشاق سنة فقط. • ثم قال ’: والمبالغة فيهما لغير صائم. نحتاج في موضوع المبالغة إلى الكلام في عدة عناصر: أولاً: ما هي المبالغة؟ ثانياً: وما هو الدليل؟ ثالثاً: ولماذا نستثني الصائم؟ نقول أولاً: المبالغة هي: • في المضمضة هي إدارة الماء في جميع الفم. • والمبالغة في الاستنشاق هي جذب الماء إلى أقصى الأنف. • والمبالغة في ما عداهما - يعني في باقي أعضاء الوضوء - دلك ما ينبو عنه الماء. = لو سألنا سؤالاً: بعد أن عرفنا ما هي المبالغة بالنسبة للمضمضة فما هي المضمضة التي لم تؤدى على وجه المبالغة؟ - الجواب: أن لا يدار الماء في جميع الفم - بأن يدير الماء في بعض الفم فهذه مضمضة ولكن ليست على سبيل المبالغة. أما الدليل: فهو حديث لقيط بن صبرة - أن النبي ‘ قال أسبغ الوضوء وخلل الأصابع وبالغ في الاستنشاق إلا أن تكون صائما. = فإن قيل: الحديث فيه المبالغة في الاستنشاق فما هو دليل المضمضة؟

- فالجواب: الدليل الأول: أن نقول أن المضمضة داخلة في عموم قوله - صلى الله عليه وسلم - (أسبغ الوضوء). والدليل الثاني: القياس: نقيس الضمضة على الاستنشاق. وهو قياس صحيح. وأما استثناء الصائم: فهو من النص فإنه قال: (إلا أن تكون صائماً). وفي هذا الحديث أيضاً دليل على أنه ينبغي للمسلم أن يحتاط لأن الإنسان إذا بالغ في الاستنشاق فدخول الماء إلى الحلق أمر محتمل ومع ذلك نهى النبي - صلى الله عليه وسلم - عنه احتياطاً. = إذاً ما حكم المبالغة للصائم؟ - الجواب: مكروهة. وليست محرمة. والكراهة دليل الاحتياط كما تقدم. • ثم قال - رحمه الله -. وتخليل اللحية الكثيفة والأصابع. تخليل اللحية سنة. بدليل حديث عثمان أن النبي - صلى الله عليه وسلم -: (لما توضأ خلل لحيته). والكلام الذي قلناه في حديث البسملة في الوضوء ينطبق تماماً على التخليل لأنه لا يوجد حديث صحيح أبداً يدل على التخليل. وممن ضعف جميع الأحديث التي فيها التخليل الإمام أحمد ولكن مع ذلك المعاصرون يصححون أحاديث التخليل بمجموع الطرق. والبحث الذي ذكرناه في مسألة البسملة عند الوضوء ينطبق تماماً على مسألة التخليل لأن الأحاديث الصحيحة المتكاثرة ليس فيها ذكر التخليل بل حديث عثمان بل حديث عثمان في الصحيح ليس فيه التخليل لكن في رواية خارج الصحيح فيه التخليل لكن عرفنا الآن أن التخليل لم يثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - لكن مع ذلك الإمام أحمد يرى أنه سنة لأنه ثابت عن بعض الصحابة. قال: وتخليل الأصابع: يسن تخليل الأصابع أيضاً لحديث لقيط السابق. وتخليل الأصابع سنة إذا ظن الإنسان أن الماء وصل إلى ما بين الأصابع. لكن إذا ظن أن الماء لم يصل إلى ما بين الأصابع فإن التخليل حينئذ يكون واجباً لا سنة. فبعض الناس تكون أصابعه ملتصقة جداً - لأي سبب: فقد يكون لسبب طبيعة عمل الإنسان وصناعته أو بسبب طبيعة خلقته وغيره من الأسباب - فإنه إن ظن عدم وصول الماء فالتخليل في حقة في هذه الحالة واجب. لكن الأصل في التخليل أنه سنة. • ثم قال - رحمه الله -: والتيامن. التيامن أدلته كثيرة: • أحاديث الضوء كلها أن النبي - صلى الله عليه وسلم - بدأ باليمين. • وفي حديث الاغتسال - في رواية صحيحة - أنه - صلى الله عليه وسلم - بدأ بشقه الأيمن. • وتقدم معنا أن قاعدة الشرع تقديم اليمين في التكريم. • قال - رحمه الله -: وأخذ ماء جديد للأُذنين.

باب فروض الوضوء وصفته

وهذا أيضاً سنة عند الحنابلة والدليل: أنه في حديث عبد الله بن زيد - في رواية خارج الصحيح أنه - رحمه الله - (أخذ ماء جديداً لأذنيه). وهذه الرواية شاذة والشاذ من أقسام الحديث الضعيف ولذلك الرواية الثانية عن الإمام أحمد أنه لا يسن أن يأخذ الإنسان ماءً جديداً لأذنيه. واختار هذه الرواية الشيخ وجده وتلميذه واختارها صاحب الفائق - وهو ابن قاضي الجبل. فاختار هذه الرواية عدد من المحققين. ونقصد بالشيخ: شيخ الاسلام ابن تيمية: وبجده: نقصد المجد صاحب المنتقى ونقصد بتلميذه: ابن قيم الجوزية. فكل هؤلاء اختاروا أن هذا لا يسن لأن الأحاديث الصحيحة ليس فيها أخذ ماء جديد للأذنين. • ثم قال - رحمه الله -: والغسلة الثانية والثالثة. يسن للمتوضيء أن يغسل ثانية وثالثة في وضوئه. وظاهر كلام المؤلف أن الغسلة الثانية والثالثة سنة دائماً - أي يسن للإنسان في كل وضوء أن يغسل ثانية أو ثالثة. والصواب الذي رجحه ابن القيم - رحمه الله - تعالى أن السنة أن يتوضأ الإنسان أحياناً مرةً مرة وأحياناً مرتين مرتين وأحياناً ثلاثاً وأحياناً ثلاثاًَ ومرتين وواحدة. فصارت الصفات أربعة. إذاً فليست السنة المداومة على الغسلة الثانية والثالثة ولكن السنة هي هذا التفاوت كما جاءت الأحاديث بذلك. ويسن إذا أراد الإنسان أن يفاوت - بأن يغسل بعض الأعضاء مرة وبعضها أكثر - يسن له أن يجعل للوجه ثلاثاً ولليدين مرتين وللرجلين مرة لأن هذا الذي جاء عن النبي - صلى الله عليه وسلم -. ولكن لو أراد أن يجعل للوجه مرتين ولليدين ثلاثاً وللرجلين مرتين - فيوفاوت بأي طريقة فإن هذا أيضاً سنة لأن السنة هي المفاوتة بحد ذاتها. وبهذا انتهى الكلام عن سنن الوضوء وسنن الفطرة ((لعلها السواك)) ثم انتقل - رحمه الله - إلى فرائض الوضوء وصفته. باب فروض الوضوء وصفته في هذا الباب سيذكر المؤلف الفروض ولن يتطرق للتفصيلات الأخرى ككيفية الوضوء الكامل وحدود أعضاء الوضوء وأشياء أخرى إنما سيبين فقط الفروض ثم بعد ذلك ينتقل إلى التفصيلات الأخرى. • قال - رحمه الله -: باب فروض. الفرض في لغة العرب هو: التأثير في الشيء سواء كان بقطع أو بحز أو بأي شيء آخر. الأصل أن الفرض في اللغة هو التأثير في الشيء لا كما يقول البعض بأن الفرض هو القطع فهذا من معانيه في اللغة.

إنما المعنى الأصلي له هو التأثير في الشيء. هذا الفرض في لغة العرب وهو تفسير ابن فارس وهو من أكبر أئمة اللغة. أما في الشرع: فالفرض ما أثيب فاعله وعوقب تاركه. وهو أيضاً - وهذا مهم كقاعدة -: ما لا يسقط سهواً ولا جهلاً. - في هذا الباب هذا التعريف مهم حتى نفرق بين الفروض والشروط والمستحبات والسنن. • قوله - رحمه الله -: الوضوء. الوضوء في اللغة: مأخوذ من الوضاءة وهي الجمال والنظافة. وفي الشرع: استعمال الماء الطهور في غسل أعضاء مخصوصة بطريقة مخصوصة. لأن غسل هذه الأعضاء يجب أن يكون بطريقة معينة. • قال رحمه الله: فروضه ستة. حصر لنا - رحمه الله - الفروض وهذا من مميزات التأليف وهو الحصر. • قال - رحمه الله -: غسل الوجه. غسل الوجه لا إشكال في فرضيته فهو واجب بالنص والإجماع. أما النص: ففي قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فاغْسِلُواْ وُجُوهَكُمْ) المائدة/6. وأما الإجماع: فلم يخالف أحد من أهل العلم مطلقاً - ولله الحمد. • ثم قال - رحمه الله -: والفم والأنف منه. يعني أن الفم والأنف من الوجه ويقصد بهذه العبارة وجوب المضمضة والاستنشاق. الحنابلة يرون أن المضمضة والاستنشاق واجبان في الوضوء والغسل - سيأتينا في باب الغسل. ويستدلون بأحاديث صحيحة وبعضها حسن. - فالدليل على الاستنشاق حديث أبي هريرة - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (إذا توضأ أحدكم فليجعل في أنفه ماء ثم لينتثر) - وفي هذا الحديث بالإضافة إلى وجوب الاستنشاق وجوب الانتثار وهو: إخراج الماء بعد جذبه من الأنف. - والدليل على المضمضة قالوا: أنه في حديث لقيط بن صبرة - السابق - في رواية: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (إذا توضأت فمضمض).وهذا اللفظ صححه الحافظ ابن حجر في الفتح. ثم إن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يحفظ عنه في حديث صحيح مطلقاً أنه ترك المضمضة أو الاستنشاق، ومع هذه الأدلة فإن القول بالوجوب من مفردات المذهب فقد ذهب الأئمة الثلاثة - أبو حنيفة ومالك والشافعي - إلى أن المضمضة والاستنشاق سنة. وفي حكم المضمضة والاستنشاق عن الإمام أحمد سبع روايات. = لماذا تكثر الروايات عن الإمام أحمد؟ - الجواب: 1. إما لتعارض الأدلة الصحيحة. 2. أو لعدم ورود دليل.

3. وأحياناً: لاختلاف الصحابة è - مثلاً: تارة يأخذ ’ بفتوى ابن عباس وتارة يأخذ بفتوى ابن مسعود. وهذه المسائل مهمة ومن مهام الإسلام فإن الوضوء أمر اعتنى به الشارع غاية الاعتناء. الأقرب والله أعلم الوجوب: لأن الأحاديث فيها الأمر ثم لم يحفظ عنه ‘ أبداً أنه ترك المضمضة والاستنشاق. • ثم قال ’: وغسل اليدين. غسل اليدين من فرائض الوضوء وأيضاً غسل اليدين ثابت بالنص والإجماع. فلا إشكال فيه. لكن الإشكال في مسألة أخرى وهي: أن الله تعالى قال: (وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ) <المائدة - 6>. وغسل اليدين عند الفقهاء يريدون مع المرفقين والإشكال أن إلى في لغة العرب تدل على: انتهاء الغاية. ومعنى انتهاء الغاية: عدم دخول ما بعدها فيما قبلها. والله تعالى يقول وأيديكم إلى المرافق فإذا أخذنا بهذه القاعدة اللغوية فهل تدخل المرافق أو لا تدخل؟ الجواب: الإشكال أنها داخلة عند الفقهاء فكيف نجيب عن هذا الإشكال؟ أجابوا بعدة أجوبة - ونحن سنترك الأجوبة الضعيفة - كقولهم أن إلى بمعنى مع. وكقولهم: أنه يختلف باختلاف الجنس الذي بعد إلى - ولا نريد الاستطراد في هذا الجانب نشير فقط إلى أن هذه الأجوبة ضعيفة. إذاً ما هو الجواب الصحيح؟ الجواب الصحيح أن الذي دلَّ على دخول ما بعد إلى في ما قبلها في الآية السنة فقط فلولا السنة لم تدخل. ما هي السنة؟ السنة: أنه ثبت في صحيح مسلم أن الصحابي الجليل أبا هريرة توضأ فأشرع في العضد ثم قال: (رأيت رسول الله ‘ يفعله). والدليل الثاني: الإجماع. فإنه لا يحفظ عن أحد من أهل العلة أنه قال بعدم وجوب غسل المرفقين. إذاً الآن اتضحت مسألة إلى المرافق - فيجب أن تفهم هذه المسألة لأن ما قيل فيها سيتكرر معنا عند الحديث على قوله إلى الكعبين. • ثم قال ’: ومسح الرأس ومنه الأُذنان. مسح الرأس أيضاً فريضة بإجماع أهل العلم لكن الخلاف وقع في القدر المجزئ في المسح. فذهب الحنابلة والمالكية: إلى أنه يجب تعميم الرأس في المسح. بدليل أن الآية فيها ... (وَامْسَحُواْ بِرُؤُوسِكُمْ) المائدة - 6. والباء هنا: للإلصاق. ومعنى الإلصاق: استيعاب الرأس مسحاً.

قالوا: ومن قال أن الباء للتبعيض فقد وهم وليس في اللغة العربية أن الباء تجيء للتبعيض. وأيضاً من السنة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يمسح على جميع رأسه فلم يحفظ عنه في حديث واحد المسح على بعض الرأس. القول الثاني: أنه يجزئ مسح بعض الرأس وهذا مذهب الشافعية والحنفية. واختلف أصحاب القول الثاني اختلافاً طويلاً في القدر الواجب أن يمسح: • فبعضهم قال الربع. • وبعضهم قال الثلث. • وبعضهم قال شعرتين .... الخ .. ونحن أخذنا قاعدة: أن اضطراب القول دليل على ضعفه. وأضف أيضاً قاعدة: وجود تفاصيل كثيرة في القول بلا أدلة فإنه دليل على ضعفه. الصواب هو مذهب الحنابلة وهو أن نمسح جميع الرأس. • ثم قال - رحمه الله -: ومنه الأذنان. يعني أنه يجب أن نمسح الأذنين إذا مسحنا الرأس وأن مسح الأذنين فرض - لأنه يقول: منه. وهذه المسألة أيضاً من مفردات مذهب الحنابلة. استدلوا على الوجوب بقول النبي - صلى الله عليه وسلم - (الأذنان من الرأس) والمتأخرون من المحدثين يصححون هذا الحديث بطرقه والصواب أنه موقوف. واستدلوا بأن النبي - صلى الله عليه وسلم - داوم على المسح على الأذنين. والرواية الثانية: في هذه المسألة أن مسح الأذنين سنة. والإمام أحمد - رحمه الله - كأنه استقر قوله على السنية. وهذا أيضاً اختيار الخلال - رحمه الله - - وهو من أصحاب الإمام أحمد وهو عالم كبير وأيضاً اختيار شيخ الاسلام. أيضاً الإمام أحمد أكثر ما روي عنه أن مسح الأذنين سنة وهو اختيار الخلال ومن بعده شيخ الاسلام. قالوا: أن الدليل هو: عدم وجود ما يدل على الوجوب وأن الأصل براءة الذمة. والراجح في مسألة هل مسح الأذنين سنة أم واجب؟: - - في الحقيقة أنا متوقف في الترجيح في هذه المسألة لأنه لا يوجد أحاديث لكن صح عن الصحابة لكن لا شك أن الأحوط أن لايدع الإنسان مسح الأذنين. • ثم قال - رحمه الله -: وغسل الرجلين. غسل الرجلين ثابت بالنص والإجماع. لأن الله يقول: وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَينِ. فعلى قراءة النصب فلا إشكال وهي قراءة سبعية. ولكن الإشكال في قوله إلى والبحث السابق يأتي معنا هنا: أن إلى لها معنى في لغة العرب والجواب عن هذا المعنى وكيف دخل الكعبان في القدر الذي يجب أن يغسل كما تقدم معنا. • ثم قال - رحمه الله -: والترتيب. يعني أن الترتيب واجب في الوضوء.

الدليل: قالوا: أن الله سبحانه وتعالى في الآية الكريمة أدخل ممسموحاً بين مغسولات - الممسوح هو: الرأس. ومن المعلوم أن القرآن معجز وأنه في قمة البلاغة والفصاحة والبيان فلا يمكن أن يدخل - والله أعلم فهذا فيما يظهر للإنسان - ممسوحاً بين مغسولات إلا لفائدة ولا يعلم فائدة لهذا الإدخال إلا الترتيب. هكذا يقرر الحنابلة هذا الدليل وهو دليل صحيح. ثم كذلك نقول أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يخل بالترتيب أبداً. والقول الثاني: أنه مستحب لأن الواو في لغة العرب لا تقتضي الترتيب ولا يوجد دليل على الوجوب. والراجح وجوب الترتيب. إلا أنه يسقط جهلاً وسهواً. فلو أن إنساناً قدم أو أخر في الوضوء نسياناً ثم صلى وتذكر بعد ذلك فصلاته صحيحة ولا يؤمر بإعادة الوضوء والصلاة عدم وجود دليل صريح على الترتيب ثم يوجد آثار عن ابن مسعود وعن وعلي - رضي الله عنهما - يدلان على هذا الحكم. وسقوط الترتيب جهلاً اختيار شيخ الاسلام. • قال - رحمه الله -. والموالاة وهي: أن لا يؤخر غسل عضو حتى ينشف الذي قبله. يعني أن الموالاة واجبة. ونحتاج في الكلام على الموالاة إلى أمرين: 1. ما هي؟ 2. وما الدليل على وجوبها؟ - أما ما يتعلق بحقيقة الموالاة فقد ذكره المؤلف فقال - رحمه الله -: وهي أن يؤخر غسل عضو حتى ينشف الذي قبله. فهذه هي المولاة في الشرع. فإن أخره إلى أن نشف الذي قبله فقد أخل بفرض المولاة وبطل وضوئه. لكن أضاف صاحب الروض عبارة مهمة جداً وهي قوله: بزمن معتدل أو قدره من غيره. إذاً صار ضابط الموالاة: أن يؤخر غسل عضو حتى ينشف الذي قبله بزمن معتدل أو بقدره من غيره. ما معنى هذا الكلام؟ إذا توضأ الإنسان في جو طبيعي فإنا نقول يجب أن لاتؤخر غسل عضو حتى ينشف الذي قبله. وإذا توضأ الإنسان في جو حار فيه ريح فهذه الحرارة والرياح تسبب سرعة نشوق العضو فنقول إذا توضأت في ريح أو في حرارة شديدة وأثناء الوضوء نشف عضو قبل أن تغسل الذي بعده فالوضوء صحيح لأن المدة تقدر في الزمن المعتدل. كذلك العكس - إذا توضأ في جو رطب أو بارد فإنه قد يبقى الإنسان فترة طويلة بين غسل اليدين والرجلين ولا تنشف اليدين فنقول إذا مضى وقت يمكن أن تنشف فيه اليدين لو كان الجو معتدلاً فقد بطل الوضوء ما الدليل؟

الدليل حديث خالد بن معدان أن النبي ‘ رأى رجلاً يصلي وعلى قدمه لمعة بقدر الدرهم لم يصبها الماء فأمر أن يعيد الوضوء. وهذا الحديث قال عنه الإمام أحمد إسناده جيد وهو نص. وجه الاستدلال: أنه لو كانت الموالاة ليست واجبة لما أمره بإعادة الوضوء وأنما يأمره بغسل هذه البقعة التي لم يصلبها الماء. وهذا الاستدلال صحيح. إذاً الآن تبينت معنا الفروض الستة وما فيها من خلاف وتبين من خلال سياق الخلاف والأدلة والقول الراجح أن جميع الفروض التي ذكرها المؤلف أن الصواب معه فيها ما عدا الأذنين فأنا متوقف في الترجيح في مسألتها. والقول بعدم الوجوب والذي هو اختيار شيخ الاسلام واختيار غيره من المحققين قوي لكن وجود الآثار يجعل الإنسان يتوقف. انتهى المؤلف ’ من تعداد الفروض وانتقل إلى مباحث النية. • فقال ’: والنية شرط لطهارة الحدث كلها، فينوي رفع الحدث أو الطهارة لما لا يباح إلاّ بها. في الهامش <هامش نسخة الزاد بتحقيق الهبدان - دار ابن الجوزي - ص 53> أنه في نسخة بدل قوله الحدث: الأحداث. وهذه النسخة أصح وأحسن. قال: والنية شرط: النية لغة: القصد. فإذا نوى الإنسان شيئأ فقد قصده سواء كان المنوي حسياً أو معنوياً. فإذا نوى الإنسان مدينة فقد قصد أمراً حسياً. لأن ذهابه إلى المدينة حسيٌ. قال: شرط: الشرط فب لغة العرب العلامة وفي الاصلاح ما يلزم من عدمه العدم ولا يلزم وجوده وجود ولا عدم لذاته. ما معنى هذا التعريف؟ معناه: نقول: أن من شروط الوضوء النية: هو يقول أن الشرط يلزم من عدمه العدم: فلو توضألاالإنسان بلا نية صار الوضوء باطلاً فيلزم من عدم النية عدم الوضوء - وهذا معنى قوله يلزم من عدمه العدم. ولا يلزم من وجوده وجود ولا عدم لذاته: لو أن الإنسان نوى أن يتوضأ فهل يلزم أن يتوضأ؟ أو قد يتوضأ أو لا يتوضأ؟ مع أن النية موجودة الآن. إذاً لا يلزم من وجود النية وجود الوضوء إذ لا يلزم من وجود الشرط وجود ولا عدمة لذاته. والنية شرط لطهارة الأحداث كلها:

إذاً بلا نية لا تصح الطهارة بدليل قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: (أنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امريء ما نوى) فإذا عمل الإنسان أي عمل شرعي بلا نية فعمله باطل. فإذا قيل: ماهو الضابط في الأعمال التي تشترط لها النية؟ فالجواب: أن الأعمال التي تشترط لها النية هي العبادات. لكن هناك ضابط ذكره شيخ الاسلام - وهو ضابط مفيد لطالب العلم - وهو أنه يقول: كل عمل لم يعرف إلا من الشارع فلا يصح إلا بنية. قبل الاسلام هل كنا نعرف الوضوء؟ لا. الصلاة الزكاة الحج جميع العبادات ... إذاً إذا طلب من الانسان عمل لم يعلم إلا من الشارع فلا بد فيه من النية وإلا كان باطلاً. • قال - رحمه الله -: فينوي رفع الحدث أو الطهارة لما لا يباح إلاّ بها. يريد المؤلف أن يبين بهذه العبارات كيفية النية فذكر صورتين: الأولى: أن ينوي رفع الحدث. الثانية: أن ينوي الطهارة لما لا يباح إلا بها. مثل لما لا يباح إلا بالطهارة: الصلاة قراءة القرآن الطواف - على خلاف في مسائل - لكن المراد الآن التمثيل. الثالث: أو نوى ما تسن له الطهارة كقراءة القرآن. إذاً إذا نوى رفع الحدث أو نوى الطهارة لما لا يباح إلا بها أو لما تسن له الطهارة فإن طهارته صحيحة. ثم ذكر - رحمه الله - مسائل فيها خلاف وهي مسألة تجديد مسنون ناسياً حدثه أو نوى غسلاً مسنوناً عن واجب - نترك هاتين المسألتين - إذاً نأخذ الثلاث التي لا إشكال فيها وهي أن ينوي رفع الحدث أو ينوي الطهارة لما لا يباح إلا بها أو ما تسن له الطهارة كقراءة القرآن. إذاً في هذه الثلاث صفات إذا نوى هذه النوايا فإن نيته صحيحة وعمله صحيح شرعاً. في قوله: ص 53. في تنبيه من جهة صف العبارة يقول: ماتسن له الطهارة كقراءة ماذا بعدها؟ أو تجديداً مسنوناً ناسياً حدثه - في الحقيقة أو تجديداً مسنوناً متعلقة بناسياً حدثه. فكان حق الصف أن يختم عند قوله كقراءة ثم يبدأ مع أول السطر فيقول: أو تجديداً مسنوناً ناسياً حدثه. إذاً إذا توضأ الإنسان ونوى رفع الحدث أو الطهارة لما لا يباح إلا بها أو ما تسن له الطهارة كقراءة القرآن فإن طهارته صحيحة. انتهى الدرس،،،

• في قوله - رحمه الله -: ويجب الختان مالم يخف على نفسه: أي أنه إذا كبر ولم يختتن أو لم يختنه أهله ثم أراد أن يختتن لكنه خشي على نفسه إذا اختتن أن يتأذى أذاً شديداً أو أن ينزف نزفاً شديداً فإنه والحالة هذه لا يجب عليه - حتى عند الحنابلة - أن يختتن. لقول النبي - صلى الله عليه وسلم - (لا ضرر ولا ضرار). نرجع إلى النية فما زلنا في باب فروض الوضوء وصفته وبين المؤلف - رحمه الله - الفروض الستة وتكلمنا على كل فرض منها ثم انتقل إلى شرط النية وأخذ في تفصيل هذا الشرط فذكر أنه لا تصح الطهارة إلا به ثم انتقل إلى مسألة الصور التي تتأتى بها النية. فذكرنا - في الدرس السابق - ما ذكر المؤلف وهما صورتان: الأولى: أن ينوي رفع الحدث. فيصح الوضوء. الصورة الثانية: أن ينوي الطهارة لما لا يباح إلا بها - الصلاة أو قراءة القرآن أو الطواف على خلاف في بعضها. أو ينوي ما تسن له الطهارة كقراءة القرآن باعتبار أن القرآن لها سنة. إذاً إذا نوى ما تجب الطهارة له أو ما تسن له الطهارة فإن نيته ووضوئه صحيح. وهذا كله تقدم. نأتي إلى درس اليوم يقول - رحمه الله -: أو تجديداً مسنوناً ناسياً حدثه: ارتفع. يعني إذا نوى الإنسان بالوضوء تجديداً مسنوناً وقد نسي أن أحدث فإن طهارته صحيحة. صورة المسألة: رجل توضأ لصلاة الظهر وصلى الظهر ثم أحدث ثم نسي أنه أحدث فلما جاء وقت صلاة العصر توضأ ناوياً التجديد لأنه نسي حدثه فعند الحنابلة وضوئه صحيح. وإن كان قد توضأ على أساس أنه على طهارة والواقع أنه محدث. هذا مذهب الحنابلة. وهذا القول اختاره عدد من المحققين في مذهب الحنابلة كابن قدامة وكالمجد ابن تيمية. والقول الثاني: أنه لا يرتفع. وهذا القول اختاره القاضي من كبار أصحاب الإمام أحمد. لأن نيته لا توافق الواقع. والقول الثاني هو القول الصواب لأنه الآن ينوي التجديد والواقع أنه يحتاج أن ينوي الرفع وفرق بين نية التجديد وبين نية الرفع. بقينا في مسألة مهمة جداً: يقول - رحمه الله - -: تجديداً مسنوناً - فيفهم من عبارته أن هناك تجديداً مسنوناً وتجديداً لا يسن فنحتاج أنت نعرف: ما هو التجديد المسنون عند الحنابلة بل عند الفقهاء جميعاً؟ التجديد المسنون هو: أن يجدد وضوءاً قد صلى به.

مثال ذلك: إذا توضأ الإنسان ثم صلى الظهر ثم لما أراد أن يصلي العصر جدد الوضوء وإن كان على طهارة. فهذا تجديد مسنون مشروع. الصورة الثانية: إنسان توضأ قبل صلاة الظهر بساعة فلما أذن الظهر توضأ مرة أخرى تجديداً فهذا أيضاً مسنون. إذاً الضابط: أن يصلي بالوضوء الأول صلاة قبل أن يجدد. ويجب أن لا يغيب عن ذهنك أن هذا نادراً ما يؤثر على صلاة الإنسان لأننا نفترض أنه ناسياً حدثه فمتى يؤثر؟ إذا تذكر بعد الصلاة أنه توضأ وقد أحدث ناوياً التجديد فإن الأصل أنه إذا كان ناسياً حدثه سيستمر على هذا النسيان. بعد أن عرفنا حكم المسألة. إذا قال لنا قائل: أنا أحدثت ونسيت أني أحدثت وتوضأت ناوياً التجديد ثم صليت الظهر وبعد الصلاة تذكرت أني كنت محدثاً لنا توضأت ناوياً التجديد. فما نقول له؟ نقول له: أعد الوضوء والصلاة. • ثم قال ’: وإن نوى غسلاً مسنوناً: أجزأ عن واجب وكذا عكسه. يعني وإن نوى من يجب عليه الغسل نوى غسلاًَ مسنوناً: يعني رجل عليه غسل جنابة ونوى أثناء الاغتسال غسل جمعة فإن هذا الغسل المستحب يجزئه عن الغسل الواجب. ولذلك كان مما ينبغي للمؤلف ’ أن يضيف قيدين فإن تركهما لا يناسب فهو - من وجهة نظري - نقص في المتن: كان ينبغي أن يقول: وإن نوى من عليه غسل واجب غسلاً مسنوناً فكان يجب أن يضيف - ناسياً - لأن هذا في الحقيقة يؤثر جداً ولا يناسب أن يختصر. إذاً إذا قيل لك: ماذا يريد المؤلف بقوله: وإن نوى غسلاً - هل أراد غسلاً مسنوناً أو واجباً؟ أراد غسلاً مسنوناً. لكن عليه غسلاً واجباً. وهل هو حال نسيانه أو حال تذكره؟ الجواب: حال نسيانه. هذه المسألة تشبه المسألة السابقة - مثلاً - إنسان استيقظ بعد صلاة الفجر من يوم الجمعة وعليه جنابة ونسي أن عليه جنابة فاغتسل بنية غسل الجمعة وغسل الجمعة سنة عند الحنابلة فإن هذا الغسل يجزأه عن غسل الجنابة عند الحنابلة. التعليل: لماذا؟ قالوا: لأنه نوى طهارة شرعية فترفع حدثه. والقول الثاني: أنه لا يجزأه وهذا القول اختاره عالمان محققان الأول: المجد - جد شيخ الاسلام - والثاني: الحافظ ابن عبد البر.

والمجد ’ اختلف ترجيحه في هذه المسألة عن المسألة السابقة والواقع أنهما مسألتان متشابهتان. • ثم قال ’: وكذا عكسه: أي وكذا يجزئ المسلم أذا نوى غسلاً واجباً عن مسنونٍ. مثاله: عكس المثال السابق: رجل استيقظ بعد صلاة الفجر من يوم الجمعة وعليه جنابة فاغتسل للجنابة فإن هذا الغسل يكفيه عن غسل الجمعة سواء قيل أن غسل الجمعة سنة أو أنه واجب. ولكن هذا المثال مفروض فيما إذا كان غسل الجمعة مسنون لأن يقول وكذا عكسه. والراجح أنه لا يجزأه. لأن غسل الجنابة غسل معين مقصود للشارع وغسل الجمعة غسل معين مقصود للشارع فلا يتداخلان ولذلك أفتى عدد من اليلف فيمن كان عليه جنابة صبح يوم الجمعة أن يغتسل أولاً عن الجنابة ثم يغتسل ثانياً عن الجمعة وهذا هو الصواب. إذاً: ماذا يصنع؟ يغتسل عن الجنابة ثم يغتسل للجمعة. وهل يعني هذا أنه يجب أن يخرج من مكان الاغتسال ويبدأ من جديد وإنما الفارق سيكون بالنية فينوى أثناء تعميم الماء أنه غسل جنابة ثم ينوي بعد ذلك بتعميم الماء الآخر أنه جمعة. أخذنا الآن ثلاث مسائل: المذهب في جميع المسائل حكمه أنه يجزيء والقول الثاني في جميع المسائل أنه لا يجزيء والراجح هو القول الثاني. • ثم قال ’. وإن اجتمعت أحداث توجب وضوءاً أو غسلاً فنوى بطهارته أحدها: ارتفع سائرها. يعني إذا اجتمعت على الإنسان أكثر من حدث. مثاله: كأن ينام ثم بعد النوم يتبول فهنا كم اجتمع من حدث؟ - اجتمع حدثان. • يقول ’ : ارتفع سائرها. التعليل: تعليل جيد قوي من الحنابلة - وهو قولهم أن الحدث وصف واحد إذا نوى رفعه ارتفع مهما تعددت الأسباب. إذاً هذه المسألة وما ذهب المؤلف ’ فيها هو حكم صحيح. • ثم قال ’: ويجب الإتيان بها: عند أول واجبات الطهارة وهو التسمية. ما زال المؤلف ’: في مباحث النية فبعد أن بين صور النية انتقل إلى وقتها. وقوله عند أول واجبات الطهارة وهو التسمية. هذا بالنسبة لما قاله الحنابلة وعلى القول الصحيح أن أول واجبات الطهارة المضمضة والاستنشاق. وعلى القول الثالث: الذي عليه الجمهور أن أول واجبات الطهارة غسل الوجه. إذاً المقصود أن يأتي بها في أول واجبات الطهارة حسب اختلاف أهل العلم في ما هو أول واجبات الوضوء؟

= فإذا قيل لك: على القول الراجح متى يجب أنوي؟ - عند المضمضة والاستنشاق لأنا قد رجحنا أنهما واجبان. • ثم قال - رحمه الله - - مستكملاً البحث في وقت النية: وتسن عند أول مسنوناتها: إن وجد قبل واجب. ما هو أول مسنونات الوضوء؟ غسل اليدين إذاً فتسن عند غيل اليدين. ويقول: إن وجد قبل واجب لأنه قد لا يغسل يديه يشرع مباشرة في أحد الواجبات. فإن أتى بالمسنونات استحب أن يأتي بالنية. = فإذا قيل لك: رجل أراد أن يتوضأ وغسل يديه ثلاثاً قبل الوضوء ولم ينو وضوءاً ثم أكمل وضوئه فما حكم الوضوء؟ - حكمه صحيح. لأن الإتيان بالنية عند أول مسنونات الوضوء حكمه سنة وتركه لا يبطل الوضوء. ثم انتقل - رحمه الله - إلى مسألة الاستصحاب. • فقال - رحمه الله -: واستصحاب ذكرها في جميعها. ويجب استصحاب حكمها. قوله: واستصحاب ذكرها في جميعها. يعني أنه سنة. ويجب استصحاب حكمها. استصحاب النية على قسمين: 1. حقيقي. 2. وحكمي. الحقيقي: هو أن يظل متذكراً للنية طيلة الوضوء فهذا هو الاستصحاب الحقيقي وهو أكمل أنواع النية. الحكمي: هو أن لا يأتي بما يقطع النية وإن عزبت عن ذهنه. كثير من الناس إذا أراد أن يتوضأ قد يغيب عن ذهنه أثناء الوضوء نية الوضوء كأن يفكر بأمر ما أو ينسى أو يذهل أو يعزب عن ذهنه. فهل بقيت نية الوضوء أو انقطعت؟ الجواب: بقيت بقاء حكمياً. لأنه لم ينو أن يقطعها أو لم يأت بما يقطعها. فالإنسان كما قلت لكم قد يتوضأ ويفكر بعمله أو يفكر بكتابه أثناء الوضوء لكنه لم يقطع نية الوضوء وإن غابت قليلاً عن ذهنه. ثم انتقل المؤلف - رحمه الله -:إلى صفة الوضوء. • فقال - رحمه الله -: وصفة الوضوء: المقصود بصفة الوضوء كيفيته. ودائماً إذا وجدت أهل العلم يقولون صفة كذا يعني كيفيته. والمقصود أيضاً بهذه الكيفية: أي الصفة الكاملة التي تشمل الواجبات والمندوبات. والمؤلف - رحمه الله - من طريقته أن يذكر الواجبات والشروط والسنن ثم يجمل الصفة. وسيصنع ذلك في الصلاة أيضاً وسيصنع مثل ذلك في الحج أيضاً وهذا من باب التقسيم ثم الإجمال وهي طريقة مفيدة لطالب العلم من جهتين: • أنه يكرر على المعلومات فترسخ. • والفائدة الثانية: أن يستطيع طالب العلم التفريق بين الواجبات والسنن والشروط. • قال - رحمه الله -: أن ينوي، ثم يسمي.

تقدم معنا بحث النية مفصلاً موضحاً. وتقدم معنا بحث البسملة وقلنا بأن الراجح أن البسملة سنة وعند الحنابلة واجبة وقلنا أن الصواب في حديث البسملة أنه ضعيف. • ثم قال - رحمه الله -: ويغسل كفيه ثلاثاً. غسل اليدين ثلاثاً ثابت في حديث عثمان ابن عفان - وفي حديث عبد الله بن زيد - وغسل الكفين ثلاثاً قبل الوضوء من سنن الوضوء كما تقدم معنا. لكن هنا بحث ذكره الفقهاء: وهو: هل إذا قام الإنسان من النوم وأراد أن يدخل يديه في الإناء هل يجب عليه أن يغسل يديه ثلاثاً أولاً ليدخلهما في الإناء ثم يغسل يديه ثلاثاً بنية سنة الوضوء. يعني يكرر غسل اليدين مرتين أو يكتفي بغسلهما مرة واحدة. الحنابلة يرون أنه يجب أن يكرر فيصبح مجموع الغسل كم؟ الثلاث الأولى: بسبب القيام من النوم. والثلاث الثانية هي: سنة الوضوء. والقول الثاني: أنه يكتفي بواحدة. يغسل يديه ثلاثاً مرة واحدة وتتداخل النيتين والراجح القول الثاني: أنه يكتفي بثلاث لماذا؟ سبب الترجيح: أن الشارع - والله أعلم - يريد من المسلم أن لا يدخل في الإناء إلا إذا غسلهما ثلاثاً بغض النظر عن هذا الغسل هل هو خاص بالاستيقاظ؟ أو يتعلق بسنة الوضوء. نظير ذلك: الشارع الحكيم يريد من الإنسان إذا دخل المسجد أن لايجلس حتى يصلي ركعتين لكن لو دخل وقد أقيمت الصلاة وصلى الفجر ركعتين فهل يجوز أن يجلس بعد صلاة الفجر؟ نعم يجوز. لأن الشارع يريد أن لا نجلس حتى نصلي الركعتين أياً كانت الركعتين فليست شيئاً خاصاً. كذلك هنا - فيما يظهر والله أعلم أن الشارع يريد أن لا يدخل الإنسان يديه في الإناء إلا بعد أن يغسلهما ثلاثاً سواء كانت غسلاً خاصاً للاستيقاظ أو لسنة الوضوء. • ثم قال - رحمه الله -: ثم يتمضمض ويستنشق. المتبادر للذهن أن يقول المؤلف: ثلاثاً. كما أنه قال يغسل كفيه ثلاثاً كان ينتظر منه وهو يسوق الصفة الكاملة أن يقول ثلاثاً. والمضمضة والاستنشاق واجبان على الصواب. ونحتاج إلى أن نعرف كلاً من المضمضة والاستنشاق: المضمضة: هي تحريك الماء في الفم. فإذا حرك الإنسان الماء في فمه فإنه يعتبر قد تمضمض.

والاستنشاق: هو أن يسحب الماء إلى داخل الأنف. فإن وصل إلى أقصى الأنف فهو المبالغة. وإن جذبه أدنى جذب فهو المجزئ. فتبين معنا من تعريف المضمضة أنه ينبغي أن يعرف الإنسان حكم المج: أليس الإنسان إذا تمضمض يمج الماء؟ فما حكم المج؟ إذا لم يمج فماذا سيصنع؟ ... يبلعه. الواقع أن المج من كمال المضمضة لكن لا يوجد دليل على الوجوب لأن الشارع إنما أوجب المضمضة والمج لا يدخل في تعريفها ولكن لاشك - كما أسلفنا - أن المج من كمال المضمضة لأن بعد المضمضة يصبح الماء مليئاً بما تخلف في الفم. ومقصود الشارع من المضمضة تنظيف الفم. وباقي مسألة واحدة - في مسألة المضمضة والاستنشاق - وهي مسألة: الوصل والفصل: هل السنة أن يصل المضمضة والاستنشاق؟ أو السنة أن يفصل؟ ما هو الوصل؟ وما هو الفصل؟ المقصود بالوصل: أن يتمضمض ويستنشق من كف واحدة. والمقصود بالفصل: أن يتمضمض من كف ويستنشق من كف أخرى. الثابت في السنة الصحيحة الذي لا يحفظ عن النبي ‘ غيره هو: الوصل. أي: بكف واحدة. فيرفع الماء باليمنى ويستنثر باليسرى. ولكن إت تمضمض واستنشق بكفين فلا حرج. ولا يوجد ما يدل على بطلان مضمضته أو استنشاقه لكن السنة أن لا يفصل وإنما يصل. وعليه عمل كثير من الناس - على إني أرى بعض الناس يفصلون وهذا أدنى أحواله أن نقول أنه خلاف السنة وينبغي أن يصل الإنسان تأسياً بالنبي ‘. • ثم قال ’: ويغسل وجهه أيضاً ينبغي أن يقول المؤلف: ثلاثاً. وبالنسبة للوجه تولى المؤلف بيان حدود الوجه فقال: من منابت شعر الرأس إلى ما انحدر من اللحيين والذقن طولاً ومن الأُذن إلى الأُذن عرضاً. حد الرأس الذي ذكره المؤلف يشمل الجهات الأربع من الأعلى والأسفل واليمين والشمال. فمن الأعلى يقول: من منابت شعر الرأس. فالجزء الذي ينبت فيه شعر الرأس هو بداية الوجه لكن اشترط أهل العلم أن يكون من المنابت المعتادة فلا ينظر للأفرع وهو من نبت شعره على جبهته.

ولا ينظر للأصلع وهو من انحسر شعره عن جبهته. وإنما ينظر إلى المعتاد فيكون هو الحد الذي يبتدئ منه الوجه. فلو أن إنساناً غسل وجهه ولكن لم يستوعب الجزء الذي فيه منابت الشعر المعتاد وإنما نزا عنه قليلاً فإن الوضوء يعتبر باطلاً لأنه لم يستوعب الوجه غسلاً وأخذنا في أول الباب أن غسل الوجه فرض بالنص والإجماع. هذا بالنسبة لحد الوجه من الأعلى. ثم قال: إلى ما انحدر من اللحيين والذقن: اللحيان هما: العظمان أسفل الوجه. وهما: العظمان اللذان تنبت عليهما اللحية. والذقن: هو مجتمع هذين العظمين. إذاً هذا تحديد الوجه من الأعلى - اليمين والشمال - ومن الأسفل وهو الذقن. بناءً على هذا هل يجب على الإنسان أن يغسل أعلى حلقه الملاصق للوجه؟ الجواب: لا. لأن حد الوجه ينتهي بالذقن والذقن شيء والحلق شيء آخر. ثم قال: ومن الأذن إلى الأذن عرضاً: تقدم معنا أن إلى ما بعدها خارج الغاية: طيب: من الأذن إلى الأذن هل ما قبل من داخل أو خارج؟ فيه خلاف: في كتب اللغة. لكن الراجح أنه خارج كما قيل في إلى تماماً وهذا القول ممن رجحه العلامة الصنعاني وإن كان بعض المعاصرين يرى أن من داخل لكن الصواب أن من خارج. إذاً فقوله من الأذن إلى الأذن نقول أن الأذنين خارجان. وعليه فمنتهى الوجه الأذن. ويفهم من عبارة المؤلف أن ما بيت الخد والأذن داخل في الوجه. أليس كذلك؟ فهو يقول من الأذن إلى الأذن: إذاً فما بين الخد والأذن داخل - وهو الصواب. وهو البياض المحاذي لصماخ الأذن. فيجب غسله عند جماهير أهل العلم - الأئمة الثلاثة أحمد والشافعي وأبو حنيفة - وخالف مالك في هذه المسألة. فنبقى مع قول الجمهور ولا نحتاج إلى الخلاف في هذه المسألة. ثم لما بين المؤلف - ’ - الحدود انتقل إلى الكلام عن ما في الوجه: • فقال ’: وما فيه من شعر خفيف والظاهر الكثيف مع ما استرسل منه. بين حكم ثلاثة أنواع من الشعر: الأول: الشعر الخفيف. والثاني: الشعر الكثيف. والثالث: الشعر المسترسل. ولم يبين المؤلف ’: هل غسل هذه الأنواع من الشعر واجب أو مستحب أو سنة؟ والواقع أن فيها تفصيلاً.

وقبل أن نذكر حكم كل واحد منها يجب أن نعرف الفرق بين الشعر الخفيف والشعر الكثيف: فما هو الفرق بينهما؟ نقول: • أن ضابط الشعر الخفيف هو أن يرى الخد من تحته. وسيأتينا حكمه. • وضابط الشعر الكثيف هو: أن لا يرى الخد من تحته. إذاً انتهينا من معرفة الشعر الخفيف والشعر الكثيف فباقي الشعر المسترسل: ونقول: ضابط المسترسل هو: ما خرج من اللحية عن حد الوجه طولاً أو عرضاً. فهذا يسمى عند الفقهاء: شعر مسترسل. فلا يشترط أن يكون طويلاً بل مجرد ما يخرج عن هذا الحد يعتبر مسترسلاً. بعد أن تصورنا ما هو الشعر الخفيف وما هو الشعر الكثيف وما هو الشعر المسترسل؟ فنبين أحكام هذه الأنواع الثلاثة من الشعر: بالنسبة للشعر الخفيف: فيجب أن يغسل وما تحته: الدليل: قالوا أن هذا الشعر وما تحته من جلد يرى في حكم الظاهر وتحصل به المواجهة فيجب أن يغسل. وبالنسبة للشعر الكثيف: نص الإمام أحمد أنه ليس من السنة غسل داخل الشعر الكثيف - الكثير - ولكن يجب أن يغسل ظاهره لأن ظاهره تحصل به المواجهة. ما هو الدليل على أن باطنه لا يغسل؟ الدليل: أن النبي ‘ ثبت في الأحاديث الصحيحة أنه كان كث اللحية ولم ينقل أنه كان يغسل باطن اللحية. وبالنسبة للشعر المسترسل: ففي حكمه إشكال فقد اختلف فيه أهل العلم: المذهب - مذهب الحنابلة: الوجوب , ومن هنا نعلم أن قول المؤلف ’: مع ما استرسل منه يعني بذلك: الوجوب. وممن اختار وجوب غسل ما استرسل من اللحية من المحققين المجد وشيخ الاسلام وابن مفلح - وكل واحد من هؤلاء إمام من الأئمة. الدليل: قالوا: أن الشعر المسترسل من اللحية تحصل به المواجهة وما تحصل به المواجهة فهو داخل في حد الوجه فيجب أن يغسل. والقول الثاني: في هذه المسألة أن غسل الشعر المسترسل من اللحية سنة وليس بواجب وممن اختار هذا القول من المحققين الحافظ ابن رجب - وهو أيضاً من كبار أهل العلم.

وقد كان عندي تردد كثير في هذه المسألة منذ زمن والآن تبين لي بوضوح أن غسل المسترسل ليس بواجب الدليل: الذي ساعد على الترجيح: أخرج البخاري في صحيحة عن ابن عباس - وصف وضوء النبي - صلى الله عليه وسلم - وكان في قوله - أن قال ثم أخذ كفاً من ماء وغسل وجهه وتقدم معنا أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان كث اللحية حتى أنه بعض المأمومين يرى لحيته - صلى الله عليه وسلم - إذا قرأ القرآن من خلفه وإذا كانت لحيته كثه - صلى الله عليه وسلم - ولم يأخذ لها إلا كفاً واحدة للوجه فإن هذه الكف لا تستوعب غسل جميع ما استرسل هذا الدليل الأول. الدليل الثاني: أن ما استرسل من اللحية خارج محل الفرض فإن الله أمرنا أن نغسل الوجه وتقدم معنا تحديد الوجه كما جاء في كتب أهل اللغة ومن المعلوم أن الخارج عن اللحين خارج عن محل الفرض. فلهذا أرى أنه لا يجب على الإنسان أن يغسل ما استرسل من اللحية ولكن لا شك أن الإحتياط أن يغسل الإنسان ما استرسل من لحيته احتياطاً وتطبيقاً للسنة. • ثم قال: ثم يديه مع المرفقين. تقدم معنا البحث في مسألة يديه مع المرفقين وكيف دخل المرفقان في حد اليد مع أن إلى في لغة العرب لا يدخل ما بعدها فيما قبلها. • ثم قال - رحمه الله -: ثم يمسح كل رأسه مع الأُذنين مرة واحدة. بين في مسألة مسح الرأس ثلاث قضايا: الأولى: استيعاب الرأس. وهذا يؤخذ من قوله: كله. الثانية: أنه يمسح مرة واحدة. فقد نص على أنها مرة واحدة في قوله: مرة واحدة. الثالثة: أنه يمسح مع الرأس الأذنين. ففي هذه الجملة - الخمس كلمات - بين حكم ثلاثة مسائل. أولاً: السنة أن يمسح الإنسان على رأسه مرة واحدة لأنه لم يحفظ أن النبي - صلى الله عليه وسلم - مسح على رأسه أكثر من مرة وأي حديث يمر بك في أي كتاب أن النبي - صلى الله عليه وسلم - مسح أكثر من مرة فاعلم أنه شاذ أو ضعيف. شاذ: يعني أن يكون رواية لحديث صحيح. أو ضعيف: أي أن يكون برأسه حديث مستقل ولكنه ضعيف. فلا يحفظ عن النبي - صلى الله عليه وسلم - مطلقاً أنه مسح أكثر من مرة. ثانياً: أن يستوعب الرأس. تقدم معنا الخلاف في حكم استيعاب الرأس وأن الصواب هو مذهب الحنابلة وهو وجوب استيعاب جميع الرأس بالمسح لأن الباء في الآية للإلصاق والإلصاق يعني استيعاب الرأس مسحاً. - فهذا تقدم معنا -.

بقي معنا الأذنين فلم يبين المؤلف كيفية مسح الأذنين ولا كيفية مسح الرأس. أما كيفية مسح الر أس: فقد بينه الصحابي الجليل عبد الله بن زيد - في الحديث المتفق عليه فأخبر أن النبي ‘ بدأ بمقدم رأسه ثم ذهب إلى قفاه ثم عاد إلى مقدم رأسه. هذه هي السنة في كيفية المسح. وهذه الكيفية صحيحة وروي في حديث عبد الله بن زيد العكس - في رواية للحديث - أنه بدأ بمؤخر رأسه ثم أقبل إلى مقدمه ثم رجع. والأصح من الروايتين الأولى. - أن يبدأ بمقدم رأسه ثم يذهب إلى قفاه. والثانية: يجاب عنها بأحد جوابين: • إما أن نقول إنها ضعيفة. • أو نقول أن الواو فيها لا تفيد الترتيب. بينما رواية عبد الله بن زيد - في الصحيحين فيها استخدام كلمة ثم وهي نص في الترتيب. إذاً تبيت معنا أن السنة أن يبدأ بمقدم رأسه. لكن هل هذه الكيفية واجبة؟ أو سنة؟ صرح الحنابلة أنه كيفما مسح أجزأه لكن لا ينبغي الإخلال بهذه الكيفية المنصوصة عن النبي صلى الله عليه وسلم. باقي المسألة الأخيرة: وهي: كيفية مسح الأذنين: جاء في حديث ابن - في سنن النسائي أن النبي ‘ (مسح بأن وضع السبابتين في الصماخ ومسح يإبهامه على ظاهر الأذنين). هذا الحديث أصله في البخاري لكن هذه الكيفية في النسائي وسنن النسائي صرح اثنان أو ثلاثة من الحفاظ أن جميع ما فيه مما لم يعله النسائي لا في السنن المجتبى ولا في السنن الكبرى أنه صحيح وبغض النظر عن صحة هذه الرواية إلا أنها تفيد قوة الأحاديث الموجودة في سنن النسائي. إذاً عرفنا الآن - ما يتعلق بمسح الأذنين وتقدم معنا أن الخلاف في مسح الأذنين خلاف قوي وأن الإنسان في الحقيقة يتردد في الوجوب وعدمه إلا أنه من الغرائب أن بعض أهل العلم حكى الإجماع على عدم الوجوب. وهذا الإجماع ليس بصحيح لأن مذهب الحنابلة الوجوب. لكن حكاية هذا الإجماع يجعل الإنسان يميل إلى القول بعدم الوجوب. • ثم قال ’: ثم يغسل رجليه مع الكعبين - ((هذه لم تشرح)) • ثم قال ’: ويغسل الأقطع بقية المفروض.

لم يبين المؤلف ما هو مقصوده بالأقطع؟ في أي عضو من الأعضاء وهو أراد أن لا يعين حتى يعم إذاً أي عضو من أعضاء الوضوء إذا قطع غسل البقية والدليل قوله تعالى {فاتقوا الله ما استطعتم [الأنفال/60] وقول النبي ‘ (إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم) وهذا في الصحيحين. إذاً إذا انقطع العضو من الإنسان سواء كان سبب القطع عقوبة أو كان سببه قضاء مقدر فإنه يغسل الباقي. • ثم قال ’: فإن قطع من المفصل: غسل رأس العضد منه. يعني: إن شمل القطع كل اليد من المفصل فإنه يجب أن يغسل رأس العظم لأنه كان من اليد - داخل في اليد. لم يبين المؤلف حكم العضو المقطوع جملة فلو أن إنساناً قطعت يده من الكتف أو من منتصف العضد فماذا يجب عليه؟ سقط. فلم يبينه المؤلف لأنه معلوم من كلام المؤلف: لأنه قال: يغسل بقية المفروض فإذا لم يكن للمفروض بقية فلا يجب أن يغسل شيئاً. فهذه المسألة عرف حكمها من مفهوم كلام المؤلف. • ثم قال ’: بعد أن بين كل ما يتعلق بالوضوء -: ثم يرفع نظره إلى السماء. روي أن النبي ‘ قال من توضأ ثم رفع بصره إلى السماء ثم قال: (أشهد أن لا إله إلا الله) وهذا الحديث بزيادة رفع البصر حديث ضعيف. بناء على هذا فلا يسن للإنسان أن يرفع بصره إذا انتهى من الوضوء بل أكثر من أنه لا يسن لا يشرع فهو بدعة لأنه من صميم العبادة ولا يوجد له دليل يدل عليه. لكن من عادة أهل العلم رحمهم الله أنهم لا يطلقون البدعة على مسألة فيها خلاف بالنسبة للآخر وإن كانت المسألة ينطبق عليها تعريف البدعة لكن جرى عمل العلماء أنهم ما يطلقون بدعة إذا كانت المسألة محل خلاف فربما الحديث الذي تضعفه أنت يصححه غيرك إذاً نكتفي بقولنا غير مشروع. • قال ’: ويقول ما ورد. في الروض يقول: ومنه (أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله) هذا الحديث صحيح في البخاري ومسلم. لكن أخرج الترمذي زيادة: (اللهم اجعلني من التوابين واجعلني من المتطهرين). وسبق معنا قاعدة أن الأحاديث التي رواها البخاري ومسلم بألفاظ زاد عليها غيرهم زيادات لم تذكر في الصحيح فالغالب عليها الضعف بل لو قال الإنسان: كلها ضعيفة إلا شيء يسير لصدق.

ومن ذلك هذا اللفظ فإن هذا الفظ ضعيف - هذه الزيادة ضعيفة لأن الحفاظ الأثبات الذين رووا هذا الحديث في الصحيحين لم يذكروها. • قال - رحمه الله -: وتباح معونته يباح للإنسان أن يعان. ليس سنة ولا محرم لكنه مباح بدليل أن المغيرة بن شعبة - أعان النبي - صلى الله عليه وسلم - لما أراد أن يتوضأ فويؤخذ من هذا أنه لا غضاضة على الإنسان أن يقبل إعانة الآخرين له مالم يكن في منة وتنقص عليه وجرت العادة أن إعانة الصغير للكبير أو المفضول للفاضل ليس فيها منة فقبول هذه الإعانة لا بأس به ولا حرج. وهذا سيد الخلق - صلى الله عليه وسلم - وإمام المتوكلين يقبل الإعانة والإعانة شيء والسؤال شيء آخر فإن بعض الناس يخلط بين الإعانة والسؤال. إذا عرض أحد عليك إعانة فلا حرج في القبول لكن الحرج في السؤال أن تسأل الإعانة من الناس هذا هو المذموم. • ثم قال - رحمه الله -: وتنشيف أعضائه. ما هو حكم التنشيف؟ مباح. لأنه يقول: وتباح. ثم قال وتنشيف. إذاً الحنابلة يرون أن تنشيف الأعضاء مباح. ولكن مع ذلك الأئمة الأربعة كلهم بلا خلاف يرون استحباب ترك التنشيف وفي رواية عن أحمد كراهية التنشيف. فصارت الأقوال ثلاثة: • إما أن نقول: مباح. • أو أن نقول: يستحب تركه. • أو أن نقول: مكروه. والراجح مذهب الحنابلة: أنه مباح. واستدل الأئمة الأربعة على استحباب ترك التنشيف بأن النبي - صلى الله عليه وسلم - اغتسل فجاءته ميمونة بمناديل فردها - رضي الله عنها - ولم يرد أن ينشف. هذا الحديث يقوي مذهب الأئمة الأربعة. لكن يجاب عن هذا الحديث بأن هذه قضية عين وربما كان رده - صلى الله عليه وسلم - لسبب لا نعلمه. فتكون الرواية المشهورة عن الإمام أحمد وهي إباحة التنشيف هي الأقرب. أما الحكم بأنته يستحب تركه - يعني أن يتعبد الإنسان ربه بترك التنشيف هذا فيه بعد. ولو كان من مستحبات الوضوء ترك التنشيف لجاء في الأحاديث الصحيحة ولم يأت عرضاً في مثل حديث ميمونة. بهذا انتهى المؤلف - رحمه الله - من باب فروض الوضوء وصفته وانتقل إلى باب مسح الخفين ... (((انتهى الدرس وانتهى الباب)))).

باب مسح الخفين

باب مسح الخفين • قال المؤلف - رحمه الله -: باب مسح الخفين. لما ذكر - رحمه الله - الغسل أعقبه بالكلام على المسح لأن المسح يقوم مقام الغسل. والمسح هو: إمرار اليد على الشيء. في لغة العرب. وفي الإصطلاح: إصابة البلة حائل مخصوص بكيفية مخصوصة. والخف: اسم لما يلبس على الرجل من الجلد. ولما عرفنا الخف فمن المناسب أن نعرف الألفاظ التي تقرب الخف ومنها: - الجرموق: هو ما يلبس على الرجل من جلد فوق الخف ويكون قصيراً. - والموق: هو الجرموق. فالصحيح أنه لا فرق بينهما. - الجوربان: هما ما يلبس على الرجل من غير الجلد كالصوف والقماش. • قال - رحمه الله -: يجوز: يوماً وليلة. عرفنا من هذه العبارة أن حكم المسح على الخفين جائز. وجواز المسح على الخفين مذهب الجماهير من أهل العلم بلا خلاف بينهم. ويدل على المشروعية أمران: - الأمر الأول: أحاديث صحيحة: ـ كحديث علي - في صحيح مسلم: (يمسح المسافر ثلاثة أيام بلياليهن). ـ وحديث صفوان -: (أمرنا أن لا ننزع الخفاف إذا كنا سفراً ثلاثة أيام). ـ وحديث عوف بن مالك -: نحو هما. إذاً السنة الصحيحة الصريحة الواضحة تدل على مشروعية المسح على الخفين. - الأمر الثاني: إجماع الصحابة. حكم هذا الاجماع الحافظ ابن المبارك فقال - رحمه الله -: (لم يختلف أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - في المسح على الخفين) عرفنا الآن مشروعية المسح والأدلة وأنه مشروع بالنص من السنة والإجماع. • يقول - رحمه الله -: يجوز يوماً وليلة ولمسافر ثلاثة بلياليها. هذا هو وقت المسح. فوقت المسح هو: يوم وليلة للمقيم وثلاثة أيام بلياليهن للمسافر. وعرفنا الأدلة: - حديث علي -: (يمسح المسافر ثلاثة أيام بلياليهن والمقيم يوم وليلة). - وحديث صفوان السابق. - وحديث عوف بن مالك. فكلها تدل على هذا التوقيت. ومقصود الفقهاء بيوم وليلة: أي أربعة وعشرين ساعة. وليس كما يظن بعض الناس أن المقصود به خمس صلوات. فهناك فرق بين هذين التوقيتين. • ثم قال - رحمه الله -: - في مسألة مهمة من أهم مسائل الباب. من حدث بعد لبس. يريد المؤلف بهذه العبارة أن يبين متى يبدأ حساب المدة؟. = فعند الحنابلة: يبدأ احتساب المدة من الحدث. لذا يقول: من حدث بعد لبس. وهذا التوقيت هو مذهب جمهور الأئمة. استدل الجماهير: بحديث صفوان - السابق: (أمرنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن لا ننزع خفافنا إذا كنا سفراً ثلاثة أيام بلياليهن إلا من جنابة لكن بول وغائط ونوم).

فقوله: (لكن من بول وغائط ونوم) قالوا: أنه يفهم من هذه العبارة أنه بعد مضي يوم وليلة من الغائط ينتهي المسح. أو ثلاثة أيام للمسافر. والقول الثاني: وهو رواية عن الإمام أحمد وهي من المفردات: أن ابتداء المدة من أول مسحة. الدليل: قالوا أن النبي ‘ يقول في الحديث الصحيح (يمسح المسافر ثلاثة أيام) ولو اعتبرنا أن المدة تبدأ من الحدث لم يصدق عليه أنه مسح ثلاثة أيام. سيتبين الدليل بالمثال: إذا فرضنا أن إنساناً توضأ ولبس الخف في الساعة الرابعة - بعد صلاة العصر - وفي الساعة الخامسة أحدث ثم في الساعة السابعة مسح. • عند الحنابلة: متى يبدأ؟ ... ـ يبدأ: من الخامسة - من ساعة الحدث. • وعلى الرواية الثانية: متى يبدأ المدة؟ ... ـ يبدأ من: الساعة السابعة. • الفرق بين الخامسة والسابعة: ... ـ ساعتان. وهاتان الساعتان ذهبتا على الماسح عند الحنابلة لأنه لم يتمكن من المسح إلا لمدة ثلاث وعشرين ساعة فالساعتين لم يتمكن فيهما من المسح. إذاً لم يصدق عليه أن الشارع أباحه المسح لمدة يوم وليلة. وهذا القول يعتبر من مفردات مذهب الحنابلة بالنسبة للمذاهب الأربعة وممن اختاره أيضاً أبو ثور والأوزاعي وشيخ الإسلام رحمهم الله الجميع. وهذا القول هو الصحيح: وهو أن حساب المدة يكون من أول مسحة بعد الحدث لا من الحدث نفسه. ثم لما بين المؤلف مدة المسح والوقت الذي يبتدئ الحساب منه انتقل إلى شروط الممسوح فقال ’: على طاهر مباح ساتر للمفروض يثبت بنفسه من خف وجورب صفيق ونحوهما. الشرط الأول: من شروط جواز المسح: - أن يكون الخف أو الجورب طاهراً. ما هو الدليل على أنه يشترط أن يكون الممسوح طاهراً؟ الجواب: أن الدليل هو الإجماع. فقد أجمع الفقهاء على هذا الحكم. لكن بقيت مسألة في قضية طهارة الممسوح وهي: أن مراد الفقهاء بقولهم طاهر هو الطهارة العينية لا النجاسة الطارئة. بعبارة أخرى: يجوز المسح على المتنجس لا على النجس. بمعنى: أنه لو كان الخف مصنوع من جلد نجس فهل يجوز أن نمسح عليه؟ الجواب: لا. لا يجوز. إذا كان الخف مصنوع من صوف وأصابه البول فهل يجوز أن نمسح عليه؟ نعم. يجوز.

فإذا مسحنا على خف متنجس فيجب عند إرادة الصلاة أن نطهر الخف ولكن لو أردنا أن نقرأ القرآن فهل يجوز أن نمسح ونقرأ؟ نعم. يجوز. لماذا؟ لأن المسح على الخفين مسح صحيح ولو كانا متنجسين ولكن يجب أن نغسل الخفين المتنجسين إذا أردنا الصلاة. وبهذا نكون قد عرفنا مقصود الفقهاء رحمهم الله. فإذا قيل لك: ماذا يقصد المؤلف بقوله على طاهر؟ فتقول: يقصد على طاهر العين ولا يقصد نفي الطهارة أو النجاسة الطارئة. • قال - رحمه الله -:. مباح يعني أنه لا يجوز للإنسان أن يمسح على الخف المحرم. وهذا التحريم يأتي من سببين: 1. إما بسبب الكسب. 2. أو بسبب الذات. يعني محرم لذاته ومحرم لكسبه. • المحرم لكسبه: كالخف المغصوب أو المسروق أو المشري بمال حرام أو بمال ربا أو بمال الرشوة. • المحرم لذاته: أو لعينه: كالخف المصنوع من حرير أو من جلد نجس. ما الدليل؟ دليل هذه المسألة قاعدة عامة عند الجمهور "" أن الرخص لا تناط بالمعاصي""، والمسح رخصة فلا يناسب تجويزه لمن اقتنى خفاً محرماً لكسبه أو لعينه. والقول الثاني: أنه يجوز المسح على الخف المحرم لكسبه لأنه لا علاقة بين التحريم والمسح بدليل أنه لو لم يمسح فهو آثم - مسح أم لم يمسح ولأن الإثم يتعلق بالغصب. والقول الثاني: أقرب. وإن كان الاحتياط أن يعيد صلاته. لكن من حيث الدليل الأقرب صحة الصلاة. • ثم قال - رحمه الله -: - في الشرط الثالث من شروط الممسوح: ساتر للمفروض. يعني أنه يشترط لجواز المسح على الخف أن يكون ساتراً لجميع الفرض. وهو القدم إلى الكعبين. ما الدليل على هذا الحكم؟ الدليل: أن الخف إذا ظهر بعضه وستر بعضه فإن حكم المستور المسح وحكم الظاهر الغسل والمسح والغسل لا يجتمعان فتعين الغسل لأنه الأصل. فيقولون أن هذه الرجل اجتمع فيها ظاهر ومغطى فالظاهر يجب أن يغسل لأنه منكشف والمغطى يجب أن يمسح ولا يمكن أن تجتمع طهارة المسح والغسل فننتقل إلى الغسل لأنه الأصل. والقول الثاني في هذه المسألة: أن هذا الشرط غير ثابت بدليل: 1. أن خفاف أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - كانت ممزقة بسبب الفقر وكانوا مع ذلك يمسحون عليها. 2. ولأن الأدلة عامة - الأدلة التي سبقت معنا - كحديث علي وصفوان وهذا مذهب أبي حنيفة واختيار شيخ الإسلام.

وهو الصواب بل العمل بمذهب الحنابلة شاق أو متعذر لا سيما في أوقات الفقر والعوز. • ثم قال ’: - مبيناً الشرط الرابع: يثبت بنفسه. يشترط في الممسوح أن يكون ثابتاً بنفسه فإن لم يثبت إلا بالربط أو بالشد أو بلبس النعل فإنه لا يجوز والحالة هذه أن نمسح عليه. فإذا كان الجورب واسع لأي سبب من الأسباب بحيث لا يثبت بنفسه فإنه لا يجوز أن نمسح عليه ولو تم ربطه وشده. لأنه يقول: ويثبت بنفسه يعني أنه يشترط فيه أن يثبت بنفسه. ما الدليل؟ الدليل: قالوا أن الأدلة الدالة على جواز المسح - الرخصة - وردت في المعتاد وما لا يثبت بنفسه فليس معتاداً فلا يدخل في النصوص. ولا بد أن تنتبهوا لهذين الشرطين: - 1. أن يكون ساتراً لمحل الفرض. 2. وأن يثبت بنفسه. لماذا؟ الجواب: لأن عليهما تفاريع كثيرة في المذهب كما سيأتينا فلا بد من فهم هذين الشرطين والخلاف فيهما. القول الثاني: أنه لا يشترط أن يكون ثابتاً بنفسه. فلو ثبت بمثبت أياً كان بربط أو شد أو بلبس النعل فإنه يجوز أن نمسح عليهما. وهذا مروي عن الإمام أحمد وأيضاً هو اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية ’. والراجح هو عدم اشتراط هذا الشرط بل هو شرط ضعيف جداً. • ثم قال ’ في الشرط الخامس: من خف وجورب صفيق ونحوهما. (مِنْ) في قوله: (مِنْ خف) متعلقة بقوله: (على طاهر) يعني أن العبارة هكذا: على طاهر من خف وجورب صفيق ونحوهما. يعني أنه يجوز المسح على جنس هذا الأشياء - الخف والجورب والموق والجرموق أما ما عدا هذه الأشياء كالنعل فإنه لا يمسح عليهما بلا خلاف وحكى الإجماع أكثر من واحد. إذاً بالإجماع لا يجوز المسح على النعل ونحوه إنما جنس الجوارب أو الخفاف وهي مايكون منها من جلد أو من صوف هي التي جاءت السنة بجواز المسح عليها. وعرفنا من قول المؤلف أن الجورب حكمه حكم الخف. فإن قيل النصوص فيها ذكر الخف وليس فيها ذكر للجوارب فالجواب من وجهين: • الأول: أنه روي عن تسعة من أصحاب النبي ‘ أنه يجوز المسح على الجوارب ولا يعلم لهم مخالف فاعتبره عدد من الفقهاء إجماع وهو كذلك. • الثاني: أن الجوارب تقاس على الخفاف. فإذاً لا إشكال في المسح على الجورب. • ثم قال ’: وعلى عمامة. لرجل محنكة.

يعني أنه يجوز المسح على عمامة الرجل. والدليل على جواز المسح على العمامة: • أولاً: أنه ثبت في صحيح مسلم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - مسح على عمامته. • وثانياً: أن العمامة تقاس على الخف بجامع مشقة النزع في كل منهما. والقول بجواز المسح على العمامة من الأقوال التي تميز بها مذهب الحنابلة لأن الجمهور يرون عدم جواز المسح على العمامة وهو القول الثاني: ويأخذون بعموم الآية فإن الله أمرنا بأن نمسح على رؤوسنا فقال (وامسحوا برؤوسكم) قالوا: فلا يجوز أن نمسح على غير الرأس. لكن الحنابلة أخذوا بحديث صحيح مروي في صحيح مسلم فهم أحظ بالدليل. وكما قلت هذا القول من مميزات مذهب الحنابلة ومن الأدلة على ما يتميز به مذهب الحنابلة فقد أخذنا في أول درس مميزات مذهب الحنابلة فالأول منها أخذهم بالأدلة والنصوص. • لكن شرط المؤلف شروطاً فقال - رحمه الله -: لرجل - وأن تكون محنكة أو ذات ذؤابة. يشترط للمسح على العمامة: 1. أن يكون اللابس لها رجل. 2. وأن تكون محنكة أو ذات ذؤابة. ومعنى التحنيك أن تدار من تحت الحنك. • الدليل على أنه يشترط أن يكون اللابس لها رجل: أن المرأة يحرم عليها لبس العمامة لما فيه من التشبه بالرجال ولذا فإنه لا يجوز لها إذا لبست وخالفت: أن تمسح. • الدليل على اشتراط التحنيك: قالوا أن النص جاء بالمسح على العمامة والعمامة إذا أطلقت في عرف المسلمين في العهد النبوي هي العمامة المحنكة فبها تناط الرخصة دون العمائم التي لم تحنك. القول الثاني: أنه لا يشترط أن تكون محنكة لأن النصوص الصحيحة التي جاء فيها جواز المسح لم تشترط التحنيك. = مالجواب على دليل الحنابلة؟ - أجاب شيخ الاسلام عن هذا الدليل بقوله: أن السلف إنما كرهوا لبس العمامة الغير محنكة لأنه يحتاج إلى التحنيك في الجهاد ونحوه. لأن الفارس إذا ركب بدون أن يحنك عمامته فإنها تسقط هكذا قال شيخ الاسلام وهو جواب سديد. = إذاً قيل لك هل كره السلف لبس العمامة غير المحنكة؟ - فالجواب: نعم كرهوا لبس العمامة التي لم تحنك. = فإذا قيل لك لماذا؟ - فالجواب: لأنه يحتاج إليها في الجهاد ونحوه لا لمسألة المسح. • قال - رحمه الله -: أو ذات ذؤابة: الكلام في الذؤابة كالكلام في التحنيك: يعني:

إما أن تكون محنكة أو تكون ذات ذؤابة لكن من المفيد أن تعرف أن عدداً من العلماء الذين رأوا جواز المسح على المحنكة يرون عدم جواز المسح على العمامة ذات الذؤابة فلابد من التحنيك. والصواب أنه لا يشترط لا التحنيك ولا الذؤابة. • ثم قال - رحمه الله -: وعلى خمر نساء مدارة تحت حلوقهن. يجوز عند أصحاب الإمام أحمد رحمهم الله أن تمسح المرأة على الخمار بشرط ذكره وهو: - أن تكون مدارة تحت الحلق. الدليل: • أولاً: قالوا: صح عن أم سلمة - رضي الله عنها - وهي من فقيهات الصحابة أنها مسحت على الخمار. • ثانياً: القياس على الخف بجامع مشقة النزع. القول الثاني: للجماهير: أنه لا يجوز المسح على خمر النساء لأنه لا يوجد دليل صحيح يدل على الجواز وما فعلته أم سلمة - رضي الله عنها - أثر وليس بنص. القول الثالث: أنه يجوز عند الحاجة كوجود البرد أو أن تكون لفة الرأس عليها لنحو وضع حناء أو لأي صورة من صور الحاجة. وهذا القول - الثالث - يشعر به كلام شيخ الاسلام ابن تيمية - رحمه الله -. وهو الصواب فهو وسط بين المانعين والمجيزين. وإلا في الحقيقة فإن القول بالمنع أقرب لأنه لم يأت نص صحيح على الجواز والأصل المسح وفعل صحابية واحدة وإن كانت من الفقيهات لا يقوى في الحقيقة على التنازل عن فرض من فروض الوضوء وهو مسح الرأس. لكن مع وجود هذا الأثر ووجود الحاجة يكون الجواز متوجهاً. ويدل على الجواز أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لبد رأسه في الحج والظاهر أنه مسح ملبداً يعني مسح حال كونه ملبداً. فهذا أيضاً يقوي مسألة المسح على خمار المرأة. • ثم قال - رحمه الله -: في حدث أصغر. هذا الشرط السادس وهو: أنه إنما يجوز المسح في الحدث الأصغر دون الأكبر والدليل على هذا حديث صفوان وفيه - كما تقدم - قوله إلا من جنابة. ثم أيضاً هذا الحكم محل إجماع. • ثم قال - رحمه الله -: وجبيرة لم تتجاوز قدر الحاجة - ولو في أكبر - إلى حَلِّهَا: هنا تبين أن عندنا أنواعاً من الممسوح: الأول: الخف. والثاني: الجوارب. والثالث: العمامة. والرابع: الخمار. والخامس: الجبيرة. لكن هم يجعلون العمامة والخمار شيء واحد. وعلى كل نستطيع أن نقول هي خمس. الجبيرة: يجوز عند الحنابلة أن يمسح على الإنسان وخالفوا بهذا مذهب الظاهرية فإنهم يرون عدم الجواز.

الدليل: • أولاً: صح عن ابن عمر - أنه مسح على عصابة ربط بها يده. • ثانياً: روي عن عدد من التابعين أنهم مسحوا على الجبائر. فإن قيل: هل معنى الاستدلال بالآثار أنه لا يوجد في الباب نصوص؟ فالجواب: نعم بدليل قول البيهقي ’: لا يصح في هذا الباب أي حديث. فعرفنا من قول البيهقي: أن أي حديث فيه المسح على عصابة أو لفافة على الجرح فهو حديث ضعيف. ومن أشهر هذه الأحاديث حديث صاحب الشجة فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - فيما يروى - أرشده إلى المسح على الجرح الملفوف. ولكن هذا الحديث وإن صححه بعض المعاصرين فإنه حديث ضعيف كما قال – النووي –. هذه المسألة مهمة فيجب أن تفهم أنه في باب الجبائر لا يوجد حديث صحيح وإنما العمدة على أمرين: • الأول: ما صح عن ابن عمر: فلو كان يوجد آثار عن الصحابة لكانت المسألة أقوى إنما صح فقط عن ابن عمر. • والثاني: أنه روي عن عدد من التابعين. ثم لما بين مشروعية المسح على الجبيرة ذكر الشروط: فقال ’: لم تتجاوز قد الحاجة. يعني أنه يشترط لجواز المسح على الجبيرة: أن يقتصر في شدها على موضع الحاجة. الدليل: قالوا الدليل: قاعدة مشهورة متفق عليها: "" أن الضرورة والحاجة تقدر بقدرها بلا زيادة ولا نقصان "". فإذا شد الإنسان الجبيرة أكثر من الحاجة – صورة هذه المسألة: كأن تنكسر يد الإنسان من الوسط ويكفي لبرئها أن يشد عليها جبيرة بمقدار شبر فالمعالج شد الجبيرة بمقدار شبر ونصف. فكم الزيادة؟ زاد عن حاجة المريض نصف شبر. فحينئذ نقول هذا الشد لا يجوز. وماذا يصنع؟ يقول الحنابلة: • إن أمكن أن تفك الجبيرة بلا ضرر وجب أن تفك. • وإن لم يمكن فإنه يمسح ويتيمم عن الباقي. ما هو دليل هذا الحكم؟ الدليل: القاعدة ""أن الضرورة أو الحاجة تقدر بقدرها"". والقول الثاني: في هذه المسألة: ويفهم من كلام الإمام أحمد أنه يجوز أن تشد كيفما تيسر حال وقوع الحادث لأن مراعاة ذلك فيه مشقة.

وهذا القول هو الصواب. لأنه من الصعوبة بمكان إذا أراد الطبيب في وقتنا هذا أن يجبص اليد أن نقول له: أن لا يزيد التجبير عن الحاجة، فهذا فيه صعوبة بالغة ومشقة والمشقة في الشرع تجلب التيسير والمريض في حال المرض والانكسار يصعب عليه أن يراعي مثل هذه الأشياء الدقيقة. • ثم أكمل المؤلف - رحمه الله - بقوله: ولو في أكبر إلى حلها. لماذا اضطر المؤلف أن يقول (ولو في أكبر)؟ الجواب: لأنه قال فيما تقدم في حدث أصغر فاحتاج أن ينبه إلى أن الجبيرة ليست كالخف وإنما يجوز أن يمسح عليها حتى في الحدث الأكبر وهو غسل الجنابة أو غسل الحيض. • قال - رحمه الله -: إلى حلها: يعني أنها لا تتوقت كما يتوقت الخف. ما هو الدليل على أنه يمسح في الحدث الأكبر وأنه لا وقت للجبيرة؟ الدليل: • أن النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول (لا ضرر ولا ضرار). • والقاعدة المتفق عليها: ""الضرورات تبيح المحرمات"". وفهمنا من قول المؤلف: وجبيرة لم تتجاوز قدر الحاجة أنه يجب أن نمسح على جميع الجبيرة من جميع الجهات. من أين فهمناه؟ من قوله: (وجبيرة) يعني: ويمسح على جميع الجبيرة لأنه لم يخصص شيئاً من الجبيرة. وسيزيد المؤلف هذا الحكم بياناً في آخر الباب حيث قال: وعلى جميع الجبيرة. وفهمنا من هذه العبارة عدة فروق بين الجبيرة والخف: الأول: الوقت. الثاني: مسح كل الجبيرة. الثالث: في الحدث الأكبر. الرابع: عد قوله على قدر الحاجة بينما الخف لا يشترط أن يكون على قدر الحاجة. • ثم قال - رحمه الله -: إذا لبس ذلك بعد كمال الطهارة. هذا هو الشرط الأخير من شروط المسح على الخفين والعمامة والخمار والجبيرة عند الحنابلة وهو: أن يكون أدخلها بعد كمال الطهارة. الدليل على هذا الشرط ما ثبت في الصحيح من حديث المغيرة بن شعبة أنه لما هم بنزع خف النبي - صلى الله عليه وسلم - قال له - صلى الله عليه وسلم - (دعهما فإني أدخلتهما طاهرتين). فهذا دليل على اشتراط لبس الخفين على طهارة. وعموم كلام المؤلف يتناول الخف والجورب والعمامة والخمار والجبيرة. وكلام المؤلف صحيح في كل هذه الأشياء إلا في أمرين: 1. العمامة. 2. والجبيرة.

فالمؤلف: اشترط للمسح على هذه الأشياء الخمسة أن يكون اللبس تم على طهارة - وكلامه صحيح في الجميع لحديث المغيرة - إلا في مسألة العمامة وفي مسألة الجبيرة ففيهما خلاف: فمسألة العمامة: القول الثاني: فيها أنه يجوز المسح ولولم يلبس على طهارة. الدليل: يقول شيخ الإسلام ’ أنه من المعتاد عند لبس العمامة والوضوء أن الإنسان إذا مسح رأسه يعيد العمامة إلى اللبس ثم يغسل رجليه. وعليه هل لبس العمامة قبل أو بعد غسل الرجلين؟ الجواب: قبل. قبل أو بعد كمال الطهارة؟ الجواب: قبل. فيقول ’ هذا معتاد بين الصحابة وليس من المعتاد عندهم أنهم إذا مسحوا الرأس جعلوا العمامة على الأرض ثم بعد غسل الرجلين لبسوا العمامة. فيقول: الرسول - صلى الله عليه وسلم - روي عنه جواز المسح على العمامة وهم اعتادوا لبس العمامة على هذه الكيفية أثناء الوضوء إذاً لا يشترط أن تلبس العمامة على طهارة. وأحب أن أنبه إلى مسألة مهمة جداً وهي: أن مقصود الذين قالوا لا يشترط الطهارة يعني لا يشترط كمال الطهارة فلو لبس الإنسان العمامة على حدث ثم مسح عليها فإنه لا تصح الطهارة لكن لو لبس العمامة قبل تمام الطهارة كما في المثال فإنها تصح. بينما عند الحنابلة – أن الصورة التي ذكرت يجعلون المسح عليها لا يجوز لأنه لبس العمامة قبل كمال الطهارة حيث بقي عليه غسل القدمين. وهذا القول هو الصواب. بقينا في الجبيرة: القول الثاني فيها: أنه لا يشترط أن تلبس على طهارة لا كاملة ولا ناقصة حتى لو شد الجبيرة على حدث فإنه يجوز له أن يمسح. وهذا القول اختاره المرداوي ’. وكذلك شيخ الإسلام ابن تيمية. الدليل: قالوا: أنه يشق على الإنسان ويعسر عليه أن يراعي الطهارة عن حدوث الحادث فإذا انكسرت اليد – مثلاً – وأرادوا تجبيرها يصعب على المريض أن يراعي قضية الحدث. وكما تقدم القول أن القاعدة المتفق عليها: المشقة تجلب التيسير. والآثار التي رويت عن ابن عمر والتابعين ليس فيها اشتراط هذا الشرط فصار المجموع أن هذا ليس شرطاً صحيحاً والصواب عدم اشتراط لبس الجبيرة على طهارة. ثم لما أنهى المؤلف ’ الكلام على الشروط تفصيلاً انتقل إلى بعض التفاصيل في المدة. • فقال ’:

ومن مسح في سفر ثم أقام أو عكس، أو شك في ابتدائه: فمسح مقيم. ثلاث مسائل: 1. إذا مسح الإنسان في السفر ثم أقام فإنه يمسح مسح مقيم من حيث المدة. 2. وإذا مسح الإنسان مقيماً ثم سافر وهذا معنى قوله أو عكس فإنه أيضاً يمسح مسح مقيم. 3. وإذا شك هل ابتدأ المسح مسافراً أو مقيماً فإنه يمسح مسح مقيم. وجميع هذه المسائل حكمها عند الحنابلة أنه يمسح مسح مقيم. وهذه المسائل عامة الناس بحاجة إليها ولا يكاد يخلو منها مسلم لا سيما مع كثرة السفر في عصرنا هذا. نبين المسائل الثلاث: المسألة الأولى: إذا مسح في سفر ثم أقام فإنه يمسح مسح مقيم بلا خلاف. فإذا مسح في السفر لمدة يوم ثم أقام فكم بقي له؟ بقي له ليلة. وإذا مسح في السفر لمدة يوم وليلة ثم أقام فكم بقي له؟ لم يبق شيء. فيجب أن يخلع مباشرة. المسألة الثانية: إذا مسح مسح مقيم ثم سافر فعند الحنابلة كم يمسح؟ يوم وليلة. فإذا مسح في بيته لمدة يوم ثم سافر فكم باقي له؟ ليلة. لماذا مع أنه مسافر؟ يقول الحنابلة تغليباً لجانب الحظر. والقول الثاني: في هذه المسألة أنه يمسح مسح مسافر. الدليل: قالوا أن النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: يمسح المسافر ثلاثة أيام بلياليهن فعلق المسح على وصف وهو: السفر فإذا وجد الوصف وجد الحكم. فإذاً إذا مسح الإنسان يوم وسافر فعلى القول الثاني: كم بقي له؟ يومان وليلة. والراجح هو القول الثاني. بلا تردد لوضوح النص. • مسألة: إذا مسح الإنسان مقيماً ثم سافر فإنه يمسح مسح مسافر مالم تكن المدة انتهت أثناء إقامته. وهذه مسألة يحصل فيها خلط عند كثير من الناس. • فإذا إذا مسح الإنسان لمدة: ثلاث وعشرين ساعة ثم سافر فكم بقي له؟ ساعة ويومين. • إذا مسح لمدة أربع وعشرين ساعة ثم سافر فكم يبقى له؟ لا يبقى له شيء فيخلع ويغسل. • قال ’: أو شك في ابتداءه. الشك إنما يتصور بالنسبة للمسافر. فمثلاً: مسافر شك هل ابتدأ المسح مقيماً أو مسافراً؟ فإنه يتم مسح مقيم على المذهب. مسألة: إذا شك الإنسان هل مسحه مسح مقيم أو مسافر؟ فعند الحنابلة: مقيم. وعلى القول الصواب ... ....... ((انقطع التسجيل للآذان)). • قال الشيخ حفظه الله: - الآن يا إخواني نختم بهذه المسألة:

أسألكم سؤال: نريد الجواب على مقتضى مذهب الحنابلة. - رجل مسح مقيماً ثم سافر فماذا يمسح؟ يمسح مسح مقيم. - رجل مسح مسافراً فعند الحنابلة: يمسح مسافراً وهذا بالإجماع. - رجل شك هل مسح مسح مقيم أو مسح مسافر؟ = عند الحنابلة: يمسح مسح مقيم. = وعلى القول الراجح ماذا نقول؟ يمسح مسح مسافر. لماذا؟ لأنه الآن في الاسفر وعلى القول الراجح أن المسافر يمسح مسح سفر. فهذه المسألة أصلاً متصورة على مذهب الحنابلة فقط لأنهم يجعلون المسافر إذا مسح مقيماً ثم سافر فإنه يمسح مسح مقيم. - الخلاصة التي يحتاج إلى فهمها: أن المقيم إذا مسح ثم سافر يمسح مسح مسافر. والمسافر إذا سافر فبلا خلاف. • ثم قال ’: - في آخر مسائل المسح. وإن أحدث ثم سافر قبل مسحه: فمسح مسافر. إذا توضأ الإنسان ولبس الجورب ثم أحدث ثم سافر قبل أن يمسح ثم مسح مسافراً: = فعند الحنابلة أنه يمسح مسح مسافر بل بلا خلاف في هذه المسألة. لماذا؟ التعليل: لأنه ابتدأ المسح مسافراً. وفي هذه المسألة دليل على ضعف قول الحنابلة: أن مدة المسح تبدأ من الحدث لا من المسح. فإنهم ناقضوا أنفسهم في هذه المسألة. ففي هذه المسألة: جعلوا ابتداء المدة من المسح لا من الحدث. • ثم قال ’: ولا يمسح: قلانس. هذه المسائل كلها مكررة. فقوله: ولا يلبس قلانس. لأنه سبق اشتراط التحنيك. والقلانس غير محنكة. وأخذنا أن الصواب أنه لا يشترط للعمائم أن تكون محنكة. فالصواب: إذاً جواز المسح على القلانس. • قال ’: ولفافة. لأن من شروط المسح على الخف أن يثبت بنفسه. واللفافة لا تثبت بنفسها. والصواب: وهو رواية عن الإمام أحمد جواز المسح على اللفافة قياساً على الخف بل هي أولى منه بالجواز. ماهي اللفافة؟ اللفافة هي ما يلف على القدم حتى يستر محل الفرض سواء كان لبرد أو لغيره فإنهم في القديم كانوا لفقرهم قد لا يجدون جوارب ولا خفاف فيستخدمون لفائف يلفون على الرجل ليحصل الدفئ بها. فالحنابلة يرون أنه لا يجوز المسح على اللفافة. لماذا؟ لأنها لا تثبت بنفسها. وتقدم معنا أن هذا الشرط غير صحيح. ولذلك نقول الرواية الثانية عن الإمام أحمد جواز المسح على اللفافة وهو الصواب. • ثم قال ’:

ولا ما يسقط من القدم أو يرى منه بعضه. لماذا لا يجوز أن نمسح على ما يسقط من القدم؟ لأنه لا يثبت بنفسه. وقد تقدمت مناقشة هذه المسألة. لماذا لا يجوز المسح على ما يرى منه بعضه؟ لأنه غير ساتر لمحل الفرض. وتقدم مناقشة هذه المسألة. إذاً الصواب على ما تقدم أن نقول: أنه يجوز المسح على ما يسقط من القدم أو يرى منه بعضه. وبهذا نكون توقفنا على مسألة لبس خف فوق خف. وهي مسألة مهمة جداً نأخذها في الدرس القادم إن شاء الله. والله أعلم ... وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين.

(((نبدأ مباشرة بالشرح باعتبار أنه تأخر قليلاً وقت البداية وتوقفنا عند قول الماتن في باب المسح على الخفين وإن لبس خفاً على خف))). شرع المؤلف - رحمه الله - في بيان حكم لبس خفين فوق بعضهما وهي مسألة تمس الحاجة إليها في زمن البرد الشديد لا سيما في الأماكن الباردة فمن المناسب جداً أن يتقن طالب العلم أحكام لبس الفوقاني والتحتاني من الخفاف. • فقال - رحمه الله -: فإن لبس خفاً على خف قبل الحدث: فالحكم للفوقاني. قاعدة المذهب - قبل أن ندخل في الصور - أن الخف إذا مسح تعلق به الحكم سواء كان الفوقاني أو التحتاني فإذا خلع الممسوح فإنه لا يجوز أن يمسح بعد ذلك على الباقي من الخفين. ثم نأتي إلى التفصيل: إذا تطهر الإنسان بأن غسل رجليه ثم لبس التحتاني ثم لبس الفوقاني قبل أن يمسح التحتاني ثم مسح الفوقاني فحينئذ هل تعلق المسح بالتحتاني أو بالفوقاني؟ - بالفوقاني. فإذا خلع الفوقاني فعلى المذهب لا يجوز له أن يمسح على التحتاني. هذه هي الصورة الأولى. لماذا؟ - لأن المذهب يعلقون الحكم بالممسوح. القول الثاني: - في هذه المسألة -: أن له أن يتم المسح على التحتاني لأنه لبسه على طهارة غسل فيتم المسح على التحتاني. مثال يوضح هذ المسألة: إذا توضأ وغسل رجليه ولبس خف تحتاني ثم لبس خفاً فوقاني ومسح على الفوقاني فلما ذهب من اليوم والليلة يوم خلع الفوقاني. فهل يجوز على المذهب أن يمسح على التحتاني؟ ... - لا. وهل يجوز أن يمسح عليه على القول الثاني؟ ... - نعم. وكم باقي له؟ - ليلة.

إذاً يجوز على القول الصحيح أن يمسح على التحتاني بعد أن خلع الفوقاني وإن بدأ المسح على الفوقاني ولكن يتم المسح الباقي من اليوم والليلة بالنسبة للمقيم. ننتقل إلى الصورة الثانية: إذا لبس الإنسان الخف التحتاني على طهارة كاملة - ومقصودي بقولي الطهارة الكاملة: هي طهارة الغسل - ومسح على هذا الخف ثم لبس الفوقاني بعد أن مسح التحتاني فعلى المذهب هل يجوز أن يمسح على الفوقاني؟ لا. لا يجوز. والسبب أن الحكم يتعلق بالممسوح والممسوح الآن هو التحتاني. إذاً الفوقاني لا يجوز له أن يمسحه على المذهب. والقول الثاني: أنه يجوز له أن يمسح الفوقاني إذا لبسه بعد أن مسح على التحتاني. لماذا؟ لأنه لبسه على طهارة. والقول الراجح القول الأول - مذهب الحنابلة - لماذا؟ التعليل: لأنه الفوقاني وقد لبس على طهارة مسح والخف لا يمسح عليه إلا إذا لبس على طهارة غسل. إذاً إذا لبس خفاً بعد أن مسح على التحتاني وأراد أن يتوضأ ماذا يفعل يخلع الفوقاني ويمسح وهذا هو المذهب وهو الصواب. • ثم قال ’: ويمسح: أكثر العمامة، يجب على من أراد أن يتوضأ وقد لبس العمامة أن يمسح على أكثر العمامة ولا يجب عليه أن يمسح على كل العمامة. التعليل: قالوا: • قياساً على الخف. • ولأنه إنما مسح بدلاً عن الغسل فدخله التخفيف. بناء على هذا لا يجب على من لبس العمامة أن يمسح على داخل الأكوار - اللفائف -. مسألة: إذا ظهر من الرأس شيء فعند الحنابلة يسن أيضاً أن يمسح عليه فيمسح على الرأس أو على ما ظهر من الرأس والباقي من العمامة. إذاً إذا قيل لك هل يجب أن يستوعب الإنسان العمامة مسحاً كما يستوعب الرأس مسحاً؟ فالجواب: لا. وإنما يجب عليه أن يمسح أكثر العمامة. قياساً على الخف. • ثم قال ’: وظاهر قدم الخف من أصابعه إلى ساقه يريد المؤلف ’ تعالى أن يبين كيفية المسح على الخف. فبين أن كيفية المسح تكون بأن يمسح من أطراف الأصابع إلى بداية الساق وكيفما مسح أجزأ. - فإذا فرضنا أنه مسح طولاً بأن مرر يده من الأصابع إلى الساق أجزأه. - وإذا فرضنا أنه مسح عرضاً بأن عرض كفه على الخف ومسح مابين الأصابع إلى الساق أجزأ.

قال الإمام أحمد: كيفما مسح الإنسان أجزأه لأنه ليس في السنة ما يدل على كيفية المسح. • ثم قال ’ دون أسفله وعقبه: لم يصح عن النبي ‘ في حديث أنه مسح على أسفل الخف ولا على العقب وإنما يسمح كما قال المؤلف على ظاهر القدم فقط. فلا يجب على المتوضئ أن يمسح على أسفل الخف ولا على العقب بل إنه لا يشرع لأنه لم يأت في الشرع ما يدل على مشروعية المسح على أسفل الخف ومن المعلوم أن المسح عبادة توقيفية. وإذا كان النبي ‘ مسح كما في حديث المغيرة وكما في حديث علي بن أبي طالب على ظاهر القدم فقط فنحن نتأسى به ‘ ونمسح على ظاهر القدم فقط دون العقب ودون أسفل الخف. • ثم قال ’: وعلى جميع الجبيرة. بين المؤلف ’ كيفية المسح على البدائل الأربع التي ذكرها فيما سبق: الخف والعمامة والجبيرة. وبين في كلام الشيخ هنا – الماتن - الفرق بين العمامة والخف والجبيرة. فالفرق بينهما: • أن العمامة والخف يمسح أكثرهما. • والجبيرة يجب أن تمسح من جميع الجهات. التعليل: قال شيخ الإسلام ’: الجبيرة بدل الجلد والجلد يجب تعميمه بالغسل فيجب تعميم الجبيرة بالمسح. فالجبيرة ليست كالخف فقد شرعت تخفيفاً على المكلف وإنما هي بدل عن الجلد فيجب أن تعمم من جميع الجهات فإذا جبر الإنسان يده يجب أن يمسح على الجبيرة من فوق وأسفل ومن الجهتين اليمين والشمال. وهذا الحكم مما يفوت على كثير من الناس فيظن أن مسح الجبيرة كمسح الخف. فتجد بعض الناس - كما نلاحظهم في أماكن التطهر العامة - إذا جبر رجله مسح على ظاهر القدم وترك أسفل الجبيرة وهذا خطأ ويعتبر وضوئه باطل بل يجب أن يمسح على جميع الجبيرة. ثم ذكر المؤلف ’ مسألتين حكمهما وتعليلهما واحد: • فقال ’: ومتى ظهر بعض محل الفرض بعد الحدث، أو تمت مدته: استأنف الطهارة. أفادنا المؤلف أنه في صورتين تبطل طهارة المسح على الخفين: الصورة الأولى: إذا انتهت مدة المسح على الخفين ولو كان على طهارة فإنها تبطل طهارته عند المذهب بمجرد انتهاء مدة المسح. الصورة الثانية: إذا خلع الخف. وهذا معنى قوله: ومتى ظهر بعض محل الفرض بعد الحدث.

باب نواقض الوضوء

فإذا خلع الخف أو ظهر بعض محل الفرض بسبب خلع جزئي للخف أو انتهت مدة المسح فعند الحنابلة تبطل الطهارة. التعليل: قالوا أن المسح على الخفين أقيما مقام الغسل فإذا خلع الخف بطلت الطهارة في القدم وإذا بطلت الطهارة في بعض الأجزاء بطلت في جميع الأجزاء. بناء على ما قرره الحنابلة إذا مسح الإنسان قبل نهاية مدة المسح بساعة واستمر طاهراًَ وانتهت مدة المسح بانتهاء هذه الساعة واكتمال يوم وليلة فإن الطهارة تكون قد انتقضت بمجرد انتهاء وقت المسح ولو لم يحدث أي حدث آخر. كذلك لو أن الإنسان في أثناء اليوم والليلة - في وسط اليوم والليلة - مسح على الخفين وتطهر ثم بدا له أن يخلع الخفين لأي عارض فإنه بمجرد خلع الخفين تبطل طهارته. والقول الثاني في هذه المسألة: أن الطهارة في المسألتين تبقى وتستمر لأن تطهره ثبت بدليل شرعي فلا ينتقض إلا بدليل شرعي يدل على الانتقاض وليس في الكتاب ولا في السنة ما يدل على أن مجرد خلع الخف أو أن انتهاء مدة المسح ناقض للطهارة فالأصل بقائها. إذاً على القول الثاني تبقى الطهارة ولا يعتبر من نواقض الوضوء. فإن قيل: لماذا لم يذكر خلع الخف وانتهاء المدة في باب النواقض؟ فالجواب لأن ذكر هاتين المسألتين في باب المسح على الخفين أنسب من ذكرهما في باب النواقض لأن هذا الباب مخصص لجميع أحكام الخفين. وبهذا يكون انتهى باب المسح على الخفين. وكما ذكرت لكم في كل باب مسائل مهمة وأساسية ومسائل أخرى أهمية. فمسائل المسح على الخفين في وقتنا هذا قليلة الأهمية بينما مسائل لبس الخفين في وقتنا هذا شديدة الأهمية. وهكذا فالمقصود أن يركز طالب العلم على المسائل المهمة ويعتني بها. ثم قال باب نواقض الوضوء ..... تابع باب نواقض الوضوء. • قال - رحمه الله -: باب نواقض الوضوء. المقصود بالنواقض أي المفسدات. أي هذا باب مخصص لبيان ما يفسد الوضوء. والأصل في النقض أن يكون في البناء فهو حقيقة في لغة العرب في البناء. لكن استعمل مجازاً في نقض المعاني. كما نقول هنا باب نواقض الوضوء لأن هذا نقضاً معنوياً وكما يقولون في أصول الفقه نقض العلة فإن هذا نقضاً معنوياً.

والعلاقة بين المعنيين - الحسي والمعنوي - أن في كلاً منهما إبطال. لأنه لا يمكن أن نستعمل اللفظ في غير حقيقته مجازاً إلا بوجود علاقة بين المعنى المجازي والمعنى الحقيقي. وهذا الباب غاية في الأهمية ويحتاج إليه المسلم في اليوم عدداً كبيراً من المرات تنقص وتزيد فضبطه لطالب العلم لنفسه ولغيره من المسلمين من العلم المتحتم بل إن هذا الباب بدون تفاصيل يجب حتى على العوام أن يعرفوه أما بتفاصيل وخلافاته وأدلته فيجب على أهل العلم وطلابه فقط. بدأ مؤلف بسرد نواقض الوضوء فقال: ينقض (1) ما خرج من سبيل. لاحظ عبارة المؤلف حيث قال: ما خرج من سبيل: فأي شيء يخرج من السبيلين فهو ناقض للوضوء. قاعدة المذهب واضحة وسهلة. وحتى يتبين لك فائدة هذه القاعدة وقول المؤلف: ما خرج من سبيل أنه قاعدة مهمة مفيدة لو قيل لك الآن قبل أن ندخل في تفاصيل أحكام النقض ما حكم رطوبة فرج المرأة؟ البول والغائط معروف حتى العوام يعرفون أنها ناقضة للطهارة. لكن لو قيل لك أن المرأة يخرج من فرجها رطوبة - تبتلى بها النساء - فهل تنقض أو لا تنقض؟ فكيف عرفت أنها تنقض من القاعدة لأن المؤلف يقول كل ماخرج من السبيلين فهو ناقض للوضوء. وأنا الآن لا أقرر أن رطوبة فرج المرأة تنقض أو لاتنقض فسيذكرها المؤلف وسنتكلم عليها بتفصيل لأهميتها. لكن أردت أن أمثل بأحد المسائل التي تعتبر صعبة مما يمكن لطالب العلم أن يعرف حكمها من خلال قاعدة المؤلف. إذاً كل ماخرج من السبيل فهو ناقض للوضوء. الدليل: حديث صفوان السابق: وهو قوله ولكن من بول أو غائط أو نوم. والخارج من السبيلين: على قسمين: 1. إما أن يكون معتاداً. كالبول والغائط أو أن يكون غير معتاد كأن يخرج حصى أو شعر أو أي خارج من السبيلين منغير المعتاد. فالمعتاد - البول والغائط. فبإجماع الأمة أنه ناقض ولا إشكال فيه لصراحة الآيات والأحاديث فيه. 2. أما غير المعتاد فالجماهير من أهل العلم يرون أنه ناقض فإذا خرج من دبر الإنسان مثلاً - حصاة ابتلعها وخرجت مع دبره - فإنها تنتقض طهارته بخروج هذا الخارج وإن كان غير معتاد.

واستدل الجماهير: بحديث المستحاضة فإنه في حديث المستحاضة أمر النبي ‘ المستخاضة أن تتوضأ لكل صلاة مع أن هذا الخارج يعتبر غير معتاد. المعتاد الحيض أما الاستحاضة فليس من المعتاد وإنما هو أمر طارئ على المرأة. وعند المالكية أن غير المعتاد لا ينقض. والصواب مع الجماهير. • ثم قال ’: (2) وخارج من بقية البدن، إن كان بولاً أو غائطاً أو كثيراً نجساً غيرهما. الخارج من غير السبيلين: يعني من بقية البدن عى قسمين: 1. إما أن يكون بول وغائط. 2. أو أن يكون من غير البول والغائط. فإن كان بولاً أو غائطاً فإنه ينقض الطهارة ولو كان قليلاً وهذا الحكم عند الجماهير ولم يخالف - فيما أعلم - في هذا الحكم أحد من أهل العلم إلا الشافعية قالوا: إذا كان البول والغائط خرج من مخرج أعلى من المعدة فإنه لا ينقض وإن كان من مخرج أسفل من المعدة فإنه ينقض. وأما الحنابلة فلا يفرقون سواء كان خروجه من مخرج أعلى من المعدة أو أسفل منها والصواب مع الحنابلة. الدليل: أن الشارع الحكيم علق نقض الطهارة بخروج البول والغائط من أي مكان كان كما في الحديث (ولكن من بول أو غائط أو نوم) وقبله في الآية (أو جاء أحد منكم من الغائط). ننتقل إلى القسم الثاني: من الخارج من بقية البدن: وهو غير البول والغائط فهذا يشترط الحنابلة للنقض به شرطين: الأول: أن يكون كثيراً. والثاني: أن يكون نجساً. مثال للخارج من بقية البدن ن غير البول والغائط كالرعاف والحجامة والقيء هذه أبرز ثلاثة أمثلة تخرج من بقية البدن من غيرالبول والغائط., فالحنابلة يرون أن هذا الخارج ينقض بشرطين الأول أن يكون كثيراً والثاني أن يكون نجساً. وتعريف الكثير عند الحنابلة هو ما فحش في النفس أي إذا استعظمه الإنسان فهذا هو الكثير والنجس معروف. دليل الحنابلة على أن الخارج من بقية البدن من غير البول والغائط إذا كان فاحشاً نجساً نقض الطهارة: ما ثبت في الحديث أن النبي ‘ قاء فتوضأ. إذاً الآن عرفنا مذهب الحنابلة تماماً. تفاصيل الخارج من بقية البدن ودليل الحنابلة. وشروط الحنابلة. فعرفنا كل ما يتعلق بمذهب الحنابلة في الناقض الثاني وهو الخارج من بقية البدن.

نرجع إلى الخلاف في الخارج من بقية البدن من غير البول والغائط كالرعاف والحجامة والقيء. القول الثاني: في هذه المسألة أنه لا ينقض شيء من ذلك. للقاعدة التي ذكرناها في أول هذا الدرس وسنحتاج إليها مراراً وتكراراً. أن نقض الطهارة حكم شرعي يحتاج إلى دليل من الكتاب والسنة. وليس في الكتاب ولا السنة ما يدل لى أن خروج الرعاف أو الحجامة أو القيء ينقض الطهارة. إذاً لا دليل لا من كتاب ولا سنة على أن هذه الأمور تنقض الطهارة. يبقى علينا أن نجيب على حديث قاء فتوضأ. ماهو الجواب؟ الجواب أن لفظ الحديث الصحيح: قاء فأفطر. وسبب وقوفنا عند هذا المثال لأبين لكم فائدة مهمة وهي أنه كثيراً ما يترتب على تحرير لفظ الحديث الحكم الشرعي. فالذين لم يحرروا لفظ هذا الحديث أو رجحوا صحة لفظ قاء فتوضأ استنتجوا من هذا وجوب الوضوء من القيء. ولكن الصواب أن لفظ الحديث الصحيح قاء فأفطر. فإذا كان هذا هو لفظه فإنه لا دليل على النقض أصلاً بالقيء. فإذاً الراجح أنه أي خارج من باقي البدن من غير البول والغائط فإنه لا ينقض الطهارة سواء كان حجامة أو قيء أو غيرهما. • ثم انتقل المؤلف - رحمه الله - إلى الناقض الثالث فقال - رحمه الله -. (3) وزوال العقل، إلاّ يسير نوم من قاعد أو قائم. زوال العقل أيضاً هنا نقول أن عبارة المؤلف - رحمه الله - زوال العقل هنا جيدة حيث لم يعبر بالنوم وإنما قال زوال العقل فإي زوال للعقل بأي سبب فيعتبر ناقضاً للوضوء. فإذا ضبطت هذه القاعدة - هي عبارة من عبارات المؤلف - لكنها في الحقيقة قاعدة. فإذا قيل لك: رجل أغمي عليه ثم أفاق هل يجب أن يتوضأ؟ الجواب: يجب. وكيف عرفت هذا الحكم؟ من قول المؤلف: زوال العقل. نرجع إلى تفصيل الكلام: زوال العقل ينقسم إلى قسمين: 1. إما أن يكون بغير النوم. 2. أو أن يكون بالنوم. فزوال العقل بغير النوم: كالسكر. والإغماء. والجنون. فهذا ينقض بإجماع العلماء. وزوال العقل بالنوم: فهذا محل خلاف شديد بين أهل العلم وكثرت الأقوال والأدلة والردود. ونحن نلخص إن شاء الله هذا كله في ثلاثة أقوال: القول الأول: مذهب الحنابلة: - لاحظ عبارة المؤلف - يقول - رحمه الله -: ينقض مطلقاً إلا اليسير منه (بشرط أن يكون) من قاعد أو القائم.

- فإذا كان النوم كثيراً من قاعد أو قائم: فينقض. - وإذا كان النوم يسيراً من مضطجع: فينقض. فالآن تصورنا مذهل الحنابلة: أن النوم ينقض مطلقاً إلا اليسير بشرط أن يكون من قاعد أو قائم. الأدلة: أما كونه ينقض مطلقاً فاحديث صفوان السابق (ولكن من بول أو غائط أو نوم) فهذا صريح بأن النوم من نواقض الوضوء. أما استثناء اليسير من قاعد أو قائم فقالوا: لما ثبت في الحديث الصحيح عن أنس - أن أصحاب النبي ‘ كانوا يغفون في المسجد ويخفقون الخفقة والخفقتين ومن كان ينتظر الصلاة هل هو عادة مضطجع أو قاعد أو قائم؟ قاعد أو قائم. فيستدلون بدليلين مركبين لأن قولهم مركب: النوم ينقض مطلقاً إلا يسير النوم من القاعد أو القائم. إذا نظرت تجد أن أدلة الحنابلة قوية فقد أخذوا بالنصوص التي تدل على النقض وبالأحاديث التي تدل على عدم النقض. القول الثاني: للأوزاعي: أن النوم لا ينقض مطلقاً: قال لأنه ثبت أن النبي ‘ كان ينام ويصلي بلا وضوء والصحابة ينامون ويصلون بلا وضوء. ودليل الأوزاعي دليل واضح. القول الثالث: أن النوم ليس حدثاً بنفسه ولكنه مظنة الحدث فإذا بقي مع النائم شعوره وإحساسه فإن طهارته لا تنتقض. دليلهم: قالوا: جمعاً بين الأخبار. وجه الجمع: قالوا حديث صفوان دل على أن النوم ناقض مطلقاً وأحاديث نومه ‘ وإغفاء الصحابة تدل على أنه لا ينقض فنجمع بينهما ونقول نوم الصحابة والنبي ‘ لم يكن نوماً مستغرقاً وإنما بقي معه إحساس وشعور وهذا اختيار شيخ الإسلام وهو قول قوي كما نرى. مسألة: إذا قال الإنسان لا أدري هل بقي معي إحساسي أو لم يبق إنما غفوت قليلاً؟ فهل انتقضت طهارتي؟ - هذا السؤال كثيراً ما يسأل عنه لا سيما من يحصل منهم ذلك وهم في انتظار صلاة الجمعة. فالجواب: نعم انتقضت لأمرين: نقول الأصل أن طهارتك انتقضت لسببين: الأول: الأصل في النوم أنه ناقض ولكن من بول أو غائط أو نوم. الثاني: أن عدم معرفتك أنه بقي شعورك أو لا دليل على أن الشعور ذهب. إذاً تبين أن القول الثالث هو أرجح الأقوال إن شاء الله وإنه عند أدنى تردد فإن الإنسان يعتبر النوم ناقض لأن هذا هو الأصل في النوم. ثم انتقل إلى الناقض الرابع:

(4) ومس ذكر متصل أو قبل بظهر كفه أو بطنه، ولمسهما من خنثى مشكل، ولمس ذكر ذكره أو أُنثى قبله لشهوة فيهما، ومسه امرأة بشهوة أو تمسه بها، ومس حلقة دبر وأمرد، ولا مع حائل ولا ملموس بدنُه، ولو وجد منه شهوة. • فيقول ’: ومس ذكر: يعني أن مس الذكر ناقض للوضوء. هذه المسألة أيضاً من المسائل التي كثر فيها الخلاف فمذهب الحنابلة والشافعية والمالكية - الأئمة الثلاثة - وهو منسوب إلى أكثر الصحابة على أن مس الذكر ينقض الوضوء. واستدلوا: بحديث بسرة بن صفوان أن النبي ‘ قال من مس ذكره فليتوضأ وهذا الحديث صححه الأئمة ومنهم الإمام أحمد رحمه الله. إذاً لا إشكال في معرفة وجه الاستدلال بهذا الحديث. القول الثاني: أن مس الذكر لا ينقض الوضوء وهو مذهب الأحناف. واختيار شيخ الاسلام ابن تيمية. بل نصره كما أن القول الأول هو اختيار تلميذه ابن القيم ونصره. فهذه المسألة من المسائل التي اختلف فيها شيخ الاسلام وتلميذه ابن القيم. واستدلوا بحديث طلق أنه سأل النبي ‘ أيتوضأ أحدنا إذا مس ذكره في الصلاة. فقال النبي ‘ إنما هو بضعة منك. فقالوا هذا الحديث يدل على عدم النقض وهو معلل بعلة لا تنسخ وهي قوله: إنما هو بضعة منك. الراجح في هذه المسألة أن مس الذكر ينقض الوضوء بالنسبة لي بلا إشكال مطلقاً. أولاً: حديث بسرة هذا حديث صحيح بل قال البخاري هو أصح حديث في الباب. ثانياً: ثبت في الشرع التفريق بين الذكر وغيره من الأعضاء. كقول النبي ‘ لا يمسن أحدكم ذكره بيمينه ولم يأت في الأحاديث أن شيئاً من أجزاء الجسم نهي عن مسها باليمين فإذاً عرفنا من هذا الحديث أن هناك فرقاًَ بين الذكر وغيره من الأعضاء ثالثاً: حديث طلق حديث ضعيف وهذا مالم يتفطن له كثير من الذين رجحوا القول الأول. فمن ضعفه؟ ضعفه أئمة الحفاظ الذين لم يسمح التاريخ بمثلهم: فضعفه الإمام أحمد وأبو حاتم وأبوزرعة والدارقطني والبيهقي والشافعي. فهولاء ستة فمن القوم بعد هؤلاء. فإذا ضعف هؤلاء حديث لم يبق بعده فائدة. إذاً حديث طلق الذي يعارض به حديث بسرة حديث ضعيف. ثم أيضاً تبين الفرق بين الذكر وغيره من الأجزاء. فإذاً مس الذكر الصواب أنه ينقض الطهارة.

المؤلف ’ سيذكر عدة مسائل تتعلق بأصل هذه المسألة - مسألة مس الذكر. قال: متصل: يشترط الحنابلة أن يكون الذكر أصلياً متصلاً. التعليل: لأنه هو الذي له الحرمة. أما إن كان ذكراً مقطوعاً فإنه لا ينقض الطهارة. - إذا مس الإنسان ذكر الميت فهل تنتقض الطهارة أو لا تنتقض؟ تنتقض. لماذا؟ لأنه متصل. ثم قال: أو قبل. يعني أو مست المرأة قبلها. الجزء الذي ينقض هو الفرج الذي بين مسكتيها هذا هو الجزء الذي إذا لمس انتقضت الطهارة. أما ما عدا هذا فإنه لا تنتقض الطهارة به. فإذا مس الإنسان ذكره أو مست المرأة فرجها فقد انتقضت طهارة كل منهما. وعرفنا من قول المؤلف: أو قبل: أن مس المرأة لفرجها يساوي في الحكم مس الذكر لذكره. فالحكم يستوي فيه الرجل والمرأة. والقول الثاني: أن المرأة لا تستوي مع الرجل في هذا الحكم لأن الحديث فيه من مس ذكره. فخص الذكر ولأن الذكر مظنة خروج المذي. بخلاف المرأة. والصواب مع الحنابلة أن مس المرأة فرجها ينقض كمس الذكر لذكره. لأن الأصل في الأحكام تساوي الذكر والأنثى. والنص في الذكر في الحديث خرج مخرج الغالب. ثم قال: بظهر كفه أو بطنه. أفادنا المؤلف بهذه العبارة فائدتين: الأولى: أنته يشترط أن يكون المس بلا حائل. والثانية: أنه يشترط أن يكون المس بالكف سواء كان ظاهر الكف أو باطنه. فإذا مسه من وراء ثوب. فهل تنتقض أو لا؟ لا تنتقض: لأننا نقول يشترط أن يكون بلا حائل. وإذا مس الإنسان ذكره بذراعه فهل تنتقض الطهارة أو لا تنتقض؟ لا تنتقض. لأنه يشترط أن يكون بماذا؟ بالكف. وإذا مسه بظاههر كفه فعل تنتقض أو لا تنتقض؟ تنتقض. سواء كان بظاهر أو باطن الكف. الدليل على هذه التفاصيل: حديث أبي هريرة أن النبي ‘ قال من أفضى بيده إلى ذكره فقد وجب الوضوء وفي لفظ ومسه. هذا الحديث الصواب أنه موقوف لكن هو حديث لا يقال من قبل الرأي. فله حكم الرفع. والقول الثاني: أن المس بظاهر الكف لا ينقض. قالوا لأن الإفضاء لا يكون إلا بباطن الكف. ولا يسمى إفضاءً إذا كان بظاهر الكف. والجواب: أن ابن سيده وهو من أئمة اللغة أثبت في كتابه المحكم أن الإفضاء يكون بباطن وظاهر الكف لغة. فإذاً الراجح في هذه المسألة: هو مذهب الحنابلة.

فعرفنا الآن معنا قول المؤلف بظاهر كفه أو بطنه. أنه أراد أن ينص على الظاهر والباطن لمراعاة الخلاف. ثم قال: ولمسهما من خنثى مشكل. تقدم معنا أنه يشترط في مس الذكر لكي تنتقض الطهارة أن يكون الذكر أصلياً ومتصلاً. الخنثى: من المعلوم أن له آلة أنثى وآلة ذكر. فأحد الآلتين زائد. ولا يعرف أيهما الزائد فإذا مس الخنثى ذكره فهل تنتقض الطهارة أو لا تنتقض؟ الجواب: لا تنتقض لماذا؟ لأنه يحتمل أن يكون هو العضو الزائد في هذا الخنثى ونحن نشترط في الممسوس أن يكون أصلياً. وإذا مس الخنثى قبله فهل تنتقض الطهارة؟ نعم لأنه يحتمل أن يكون هو الزائد. وإذا مس الخنثى الدبر والقبل انتقضت لأن أحدهما أصلي قطعاً. فإذاً لمس القبل والدبر بالنسبة للخنثى فيه هذا التفصيل وهو أن نقول إن مس الخنثى أحدهما لم تنتقض الطهارة والتعليل لاحتمال أن يكون هذا هو العضو الزائد. وإن مس الدبر والقبل انتقضت الطهارة لأن أحدهما أصلي قطعاً. وهذا معنى قول المؤلف ولمسهما من خنثى مشكل. ثم قال: ولمس ذكر ذكره أو أُنثى قبله لشهوة فيهما. إذا مس ذَكَرٌ ذَكَرَ الخنثى أو مست أنثى قُبُلَ الخنثى لشهوة في المسألتين انتقضت الطهارة. نأخذ المسألتين كل واحدة على حدة: الأولى: إذا مس ذَكَرٌ ذَكَرَ الخنثى بشهوة انتقضت الطهارة. التعليل: يقولون: إما أن يكون هذا العضو أصليٌ فيكون قد مس الأصلي وإذا مس الذكر الأصلي انتقضت الطهارة. أو أن يكون ليس أصلياً فتنتقض لأنه مسه بشهوة ومس الإنثى بشهوة ينقض الطهارة. الأنثى كذلك: إذا مست أنثى قبل الخنثى لكن بشهوة فنقول أنها تنتقض الطهارة بكل حال لماذا؟ لأنه إما أن يكون هذا هو فرج الخنثى الأصلي .............................. ((انقطع التسجيل للآذان ثم أكمل الشرح بعده) : ومسه امرأة بشهوة أو تمسه بها. ثم قال بعد ذلك: ومس حلقة دبر. كما تلاحظ فصل المؤلف: بين مس الدبر ومس الذكر. وأهل العلم يعتبرون هاتين المسألتين مسألة واحدة فالمؤلف لم يحسن في ترتيب المسائل فكان يجب أن يجعل ذكره لمسألة مس الدبر بعد ذكر مسألة مس الذكر ثم يذكر بعد ذلك مس المرأة.

أما تعليل المحشي: بأن المؤلف - رحمه الله - لا حتاج لذكر هذا النقض لدخوله في عموم مس الفرج فهذا فيما يظهر لي ليس بصحيح لماذا؟ لأن المؤلف لم يذكر كلمة الفرج مطلقاً. فلو قرأت كلام المؤلف ستجد أنه لم يذكر كلمة الفرج حتى نقول يكتفى بها بل التنصيص على مس الدبر أمر مطلوب وجيد لكن الخطأ وقع في الترتيب فقط وليس في أصل الذكر. نأتي إلى مس الدبر. هل تنتقض به الطهارة أو لا؟ الحنابلة يرون: أن مس حلقة الدبر ناقض للطهارة. ماهو الدليل؟ الدليل: قالوا: أنه في حديث بسرة من مس ذكره وفي لفظ صحيح صححه أحمد وأبو زرعة من مس فرجه قالوا والفرج يعم القبل والدبر فمن مس الدبر فقد انتقضت طهارته. والقول الثاني: أن مس الدبر لاينقض الطهارة. قالوا: لأن الحديث من مس ذكره: هذا أولاً وثانياً أن مس الذكر مظنة خروج المذي بخلاف مس حلقة الدبر. وهذا القول اختيار المجد ابن تيمية. وابن مفلح. والصواب مع (((الحنابلة))) المؤلف: أن مس الدبر ينقض الطهارة لأن معنا حديث صحيح نص في المسألة. فتبين معنا الآن: أن مس الذكر ومس القبل ومس حلقة الدبر - هذه الثلاث - جميعها ناقضة للطهارة. وتبين معنا: أن من أقوى أدلة الجماهير مسألة من مس ذكره فليتوضأ. أضف إلى هذا الدليل دليل آخر. وهو أنه روي النقض بمس الذكر عن بضعة عشر صحابياً. وهذا الحكم مما لا يقال بالرأي مطلقاً. فسبيله التوقيف. ونحن نجزم أن هذا العدد من الصحابة لم يقولوا بنقض الطهارة إلا عن توقيف من النبي - صلى الله عليه وسلم -. انتهى الدرس

ومسه امرأة بشهوة أو تمسه بها. ومس حلقة دبر. الناقض الخامس: هو مس المرأة بشهوة. هذا يعتبر من نواقض الوضوء واعتبار مس المرأة بشهوة ناقض هو مذهب الحنابلة والمالكية وهو مذهب الفقهاء السبعة وكما ترى أن القول مركب من جزئين: 1. أن مس المرأة ينقض. 2. وأنه يشترط لذلك أن يكون هذا المس بمشهوة. الدليل: كما أن القول مركب فالدليل أيضاً مركب من نصين: النص الأول: قوله تعالى {أو لا مستم النساء} فقالوا هذا دليل على أن مس المرأة ينقض الطهارة. والدليل على أنه لابد أن يكون لشهوة. أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قبل عائشة وخرج للصلاة بغير وضوء. فهنا مس المرأة ولم يتوضأ. فجمعاً بين الأحاديث قالوا لا بد أن يكون المس بشهوة. والقول الثاني في هذه المسألة: أن مس المرأة لا ينقض الوضوء مطلقاً. لا بشهوة ولا بغيرها. واستدلوا بحديث عائشة السابق أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قبل وخرج إلى الصلاة ومن المعلوم أن تقبيل الزوج لزوجته غالباً ما يصحب برغبة. واستدلوا بدليل آخر قوي وإن كان من التعليل: وهو: أن المسلمين ما زالوا يمسون نسائهم ولم يأت في الشرع دليل صريح على وجوب الوضوء من مس المرأة. وفي رأيي أن هذا الدليل قويٌ. وهذا القول - الثاني - هو الصواب. بقينا في الجواب على استدلالهم بالآية لأن الاستدلال بها دليل شرعي هو نص في المسألة. الجواب عليه: أنه صح عن ابن عباس - أنه فسر الآية بالجماع. وإذا سقط الاستدلال بالآية بقي دليل القائلين بعدم الوجوب قوي وواضح. ثم لما قرر المؤلف - رحمه الله -:هذه المسألة انتقل إلى نظيرتها فقال: أو تمسه بها: يعني أو تمس المرأة الرجل بها: يعني بشهوة. فهو أيضاً ناقض. الدليل قالوا: لأنها ملامسة تنقض الوضوء في حق الرجل فتثبت في حق المرأة كذلك. ولما سبق أن الأصل تساوي الرجال والنساء في الأحكام مالم يرد دليل صحيح يفرق بينهما والخلاف في تمسه بها كالخلاف في مس الرجل للمرأة بها.

إذاً الخلاصة: الحنابلة يرون أن الرجل إذا مس المرأة بشهوة أو المرأة إذا مست الرجل بشهوة انتقضت الطهارة. والخلاف في هاتين المسألتين خلاف واحد استدلالاً ونيجة وترجيحاً. ثم انتقل المؤلف - رحمه الله -: إلى التنفصي في حكم هذه المسألة: - وهذه التفاصيل التي سيذكرها المؤلف - رحمه الله - مبنية على القول بنقض الطهارة بمس المرأة. • قال - رحمه الله -: لا مس شعر وسن وظفر وأمرد. إذاً استثنى أربع صور. هذه الصور حتى عند الحنابلة الذين يرون أن مس المرأة ينقض الوضوء لا تنقض. المسألة الأولى: مس الشعر والسن: يعني لو أن إنساناً مس شعر زوجته أو مس سنها أو ظفرها فإنها لا تنتقض الطهارة بهذا المس. حتى عند الحنابلة. قالوا: لأن هذه الأشياء في حكم المنفصل كما لو مس ثوبها ولذلك لو كلق الإنسان شعر زوجته أو طلق سنها فإن الطلاق لايقع. بينما لو طلق يد زوجته فإن الطلاق يقع على الخلاف في اليد لكن السن الأمر فيه أظهر.

وقيل: أن مس الشعر ينقض الوضوء إذا كان بشهوة. وهذا القول هو الراجح. نحن الآن نتكلم على فرض أن مس المرأة ينقض الوضوء. إذا افترضنا أن مس المرأة ينقض الوضوء فإن الحنابلة يقولون أن مس الشعر لا ينقض والصواب أنه ينقض لأن مس الرجل شعر زوجته بشهوة قد يكون أبلغ من مس بعض الأخرى. إذاً عرفنا أن مس الشعر والسن والظفر عند الحنابلة لا ينقض. وعرفنا تعليلهم: وهو أن هذه الأجزاء في حكم المنفصل. ثم قال: وأمرد: يعني ولا مس أمرد فإن مس الأمرد لا ينقض الطهارة. قالوا: لأنه ليس محلاً للشهوة. شرعاً. فمسه لا ينقض وأيضاً لقوله تعالى: أو لا مستم النساء. فنص على النساء. • ثم قال - رحمه الله -: ولا مع حائل يعني أن مس المرأة مع وجود الحائل لا ينقض الطهارة لأن الأصل في إطلاق كلمة المس هوأن يكون بلا حائل كما تقدم في مس الذكر. إذا فهذه خمس مسائل: مس الشعر والسن والظفر والأمرد والمس مع حائل كلها لا تنقض الطهارة حتى على مذهب الحنابلة. وعرفنا تعليل ذلك عندهم. • ثم قال - رحمه الله -: ولا ملموس بدنُه، ولو وجد منه شهوة. الكلام السابق كله في حكم الماس أما الممسوس فإنه لم يتحدث عنه المؤلف إلا هنا فقال: ولا ممسوس. فالممسوس طهارته باقية. فإذا مس الزوج زوجته: نقول للزوج توضأ وللزوجة لا يلزمك الوضوء. لماذا: قال الحنابلة لأن شهوة الماس أشد والقصد إنما تأتى منه. يعني: أن من تعمد مس زوجته فإن الشهوة عنده أشد وهو الذي قصد المس. وربما المسوس لم يخطر بباله شهوة مطلقاً. القول الثاني: الذي مال إليه ابن عقيل من الحنابلة أن الممسوس تنتقض طهارته إذا وجدت منه الشهوة. فعند ابن عقيل تفصيل: يقول: الممسوس: إن شعر بشهوة انتقضت الطهارة وإن لم يشعر بقية طهارته صحيحة. ويظهر لي أن هذا القول - الثاني - هو الصواب. انتهى المؤلف - رحمه الله - من التفصيل في الناقض الخامس وعرفنا أصل الخلاف في رأس المسألة وهو مس المرأة وعرفنا في تفاصيل هذا الحكم عند الحنابلة. • ثم قال - رحمه الله -: - في الناقض السابع: (7) وينقض: غسل ميت. غسل الميت ناقض من نواقض الوضوء عند الحنابلة فقط - يعني تفرد الحنابلة باعتباره ناقضاً. وأما الجماهير فإنهم لم يروه من النواقض.

استدل الإمام أحمد على هذا الحكم بالآثار التي رويت عن الصحابة فقد جاء عن عدد من أصحاب النبي ‘ أنهم رأو أن غسل الميت يوجب انتقاض الطهارة. ونحن أخذنا في أول درس أن من أصول الإمام أحمد الأخذ بما جاء عن الصحابة. فهذا يبين لنا أهمية معرفة أصول الإمام أحمد ولذلك تفرد من بين الأئمة باعتبار غسل الميت ناقض من نواقض الوضوء. والقول الثاني: مذهب الجماهير أن غسل الميت لا ينقض الوضوء. قالوا: لا يوجد دليل شرعي على نقض الطهارة بتغسيل الميت. ومذهب الجمهور هو الصواب إن شاء الله - أن تغسيل الميت لا يعتبر من نواقض الوضوء لعدم وجود دليل شرعي صحيح وإن كانت آثار الصحابة في الحقيقة قوية لمعنى خاص وهو أن مثل هذا الحكم - نقض الوضوء - مما لا يقال بالرأي ففي الغالب أن أصحاب النبي ‘ أخذوه توقيفاً عنه ‘ لكن مع ذلك نقول مادام لا يوجد نص مرفوع إلى النبي ‘ في مثل هذه المسألة المهمة نبقى على الأصل هو الطهارة ونقول الراجح أن من غسل ميتاً فإنه لا تنتقض طهارته. إلا إذا مس ذكر الميت بلا حائل فهنا ترجع إلى مسألة مس الذكر. - مس ذكر الآخر من المسائل التي لم يتطرق إليها المؤلف مع أنه اعتنى بالتفاصيل. فإذا مس الإنسان ذكر غيره فهل تنتقض الطهارة أو لا؟ هذا فيه خلاف: يظهر لي والله أعلم أن مس ذكر الغير لا ينقض الطهارة ومال إلى هذا القول ابن عبد البر. لأن الحديث يقول من مس ذكره فنص على ذكر نفسه. على كل هذه فقط استطراداً بمناسبة تغسيل الميت. • قال ’: (8) وأكل اللحم خاصة من الجزور. هذه المسألة أيضاً من المفردات. أن أكل لحم الجزور ينقض الطهارة. وإذا أردنا أن نحرر مذهب الحنابلة نقول: الحنابلة يقولون: أن لحم الجزور ينقض وأنه لا ينقض شيء من أجزاء الجزور إلا اللحم خاصة وهذا معنى قول الشيخ هنا وأكل اللحم خاصة يعني دون باقي أجزاء الجزور كالكبد والطحال .. ألخ. إذاً الحنابلة يرون أن اللحم فقط هو الذي ينقض من الجزور وهو من المفردات.

واستدلوا بحديث البراء وحديث جابر بن سمرة في مسلم وهي أحاديث صحيحة لم ينازع أحد في صحتها أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قيل له أنتوضأ من لحوم الإبل قال نعم قيل أنتوضأ من لحوم الغنم قال: لا. وفي الحديث الآخر إن شئت في حديث قال لا وفي حديث الآخر قال إن شئت. الحديث صريح ونص في المسألة لا يقبل التأويل ولا يقبل التضعيف. القول الثاني: للجماهير أن أكل لحم الجزور لا ينقض الوضوء لا ينقض الطهارة. واستدلوا بحديث صحيح عن جابر - قال كان آخر الأمرين عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ترك الوضوء مما مست النار قالوا هذا الحديث ناسخ للأحاديث السابقة. لقوله كان آخر الأمرين. ولذا ذهب الجماهير إلى القول بأن أكل لحكم الجزور لا ينقض الطهارة. الجواب على استدلال الجمهور.: نقول الجواب من أوجه: 1. الوجه الأول: أن القاعدة المتفق عليها عند العلماء - لم يخالف فيما أعلم فيها أحد - أن الخاص مقدم على العام. وترك الوضوء مما مست النار عام لأنه يشمل جميع اللحوم - لحم الغنم والبقر والإبل والدجاج وكل أنواع اللحوم - بينما الوضوء من لحم الإبل حديث خاص. والخاص دائماً مقدم على العام. 2. الوجه الثاني: أن حديث جابر ترك الوضوء مما مست النار لم يفرق فيه بين لحكم الغنم والإبل بينما حديث البراء فرق النبي - صلى الله عليه وسلم - فيه بين لحم الإبل والغنم فدل على أنهما حديثان منفصلان لكل حكمه. 3. الوجه الثالث: أورد عليهم شيخ الإسلام فقال: ما ترون بأكل النيء من لحم الإبل إن كان ينقض فصار حديث البراء لم ينسخ وتناقضوا وإن لم ينقض لم يدخل في حديث من ما مست النار. إذاً أجاب الحنابلة عن أدلة الجمهور بهذه الثلاثة أجوبة. والقول بأن لحم الإبل ينقض هو القول الصواب لما جاء فيه من أحاديث صحيحة صريحة لا معارض لها. تنبيه: مهم جداً: وهو أن بعض الكتاب قال أنه روي عن الخلفاء الأربعة أنهم لايرون الوضوء من لحم الإبل - وهذه لو صحت لصار المصير إلى أن لحم الجزور لا ينقض - ولكن الصواب أن ماروي عن الخلفاء الأربعة è لا يثبت عنهم. وإلا فإن الإنسان إذا رأى هذه الآثار توقف حقيقة لكن بعد البحث وجدنا أنها لا تثبت عن الخلفاء. قال: وأكل اللحم خاصة: الحنابلة يرون أن أكل الكبد والطحال من الجزور لا ينقض الطهارة.

قالوا: لأن اللحم لا يطلق على هذه الأجزاء وفي الحديث أنتوضأ من لحوم: واللحوم لا تطلق على باقي الأجزاء. والقول الثاني: أن الوضوء من باقي الأجزاء واجب. لأن كلمة لحم الجزور يطلق على جملة الجزور كما أننا نقول لحم الخنزير يطلق على جملة الخنزير. فإذاً اللحم وباقي الأجزاء تنقض الوضوء لأن اللحم يطلق في العرف على كل أجزاء الحيوان. بقينا في مسألتين: حليب الإبل: ومرق لحم الإبل: أما الحليب: فلا إشكال أنه لا ينقض لأنه لايدخل في مسمى اللحم مطلقاً. أما المرق ففيه خلاف بين أهل العلم على قولين: 1. منهم من رأى أنه ينقض لأن المرق خلاصة اللحم. 2. ومنهم من رأى أنه لا ينقض لأنه لا يسمى لحماً وإن كان خلاصة اللحم. وفي الحقيقة المسألة عندي فيها تردد. مسألة مرق اللحم. وأميل إلى أنه لا ينقض لأن الأصل السلامة وإلا في الحقيقة فيها تردد. ومحل الإشكال إذا لم يكن في المرق قطع ولو صغيرة أما إذا كان فيها قطع صغيرة فلا إشكال أنها تنقض. انتهينا من الناقض الثامن ثم انتقل إلى الناقض التاسع •:فقال - رحمه الله -: (9) وكل ما أوجب غسلاً أوجب وضوءاً إلاّ الموت. قاعدة المذهب أن كل حدث أوجب غسلاً فيوجب أيضاً الوضوء فيجب على الإنسان إذا حصل له حدث يوجب الغسل أن يغتسل وأن يتوضأ فإذا اغتسل ولم يتوضأ ترتب على هذا جواز استباحة ما يشترط له الاغتسال دون ما يشترط له الاغتسال والوضوء. فمثلاً الصلاة يشترط لها الاغتسال والوضوء فإذا اغتسل بلا وضوء فإنه لا يجوز له أن يصلي لماذا؟ لأن كل ما أوجب غسلاً أكبر أوجب الوضوء. والقول الثاني: أن نية الاغتسال تكفي عن الوضوء والدليل أن الله سبحانه وتعالى لم يأمرنا في حال الجنابة إلا بالاغتسال (وإن كنتم جنباً فاطهروا) والنبي - صلى الله عليه وسلم - قال للأعرابي أفرغ عليك هذا الماء ولم يأمره بالوضوء وهذا القول هو اختيار شيخ الاسلام - رحمه الله -. وهو القول الصواب. إذاً هذه القاعدة وهي أن كل ما أوجب غسلاً أوجب وضوءاً قاعدة مرجوحة. فعلى المذهب إذا صار على الإنسان جنابة واغتسل ولم يتوضأ فهل يجوز له أن يصلي وهل يجوز له أن يقرأ القرآن؟ ........... لأن قراءة القرآن يشترط لها ارتفاع الحدث الأكبر دون الحدث الأصغر. كم صار عدد النواقض؟ تسعة.

والصواب أنها ثمانية. لماذا؟ لأن مس الدبر ذكرنا أنه هو مسألة مس الذكر. فالنواقض في الحقيقة ثمانية. حتى الترقيم هذا من المحقق ربما أراد المصنف أن النواقض ثمانية وليست تسعة. إذاًَ لو أن المحقق لم يجعل الرقم 6 على مسألة مس حلقة الدبر لكان هو الصواب. • قال - رحمه الله -: " ومن تيقن الطهارة وشك في الحدث أو بالعكس: بنى على اليقين. هذه قاعدة مفيدة لطالب العلم أن الإنسان إذا تيقن الطهارة ثم شك في الحدث ولو كان هذا الشك وصل إلى مرحلة غلبة الظن فإنه يبقى الأصل فيه الطهارة وإذا تيقن الإنسان الحدث وشك في الطهارة ولو وصل هذا الشك إلى مرحلة غلبة الظن فإن الأصل بقاء الحدث. الدليل: حديث عبد الله بن زيد أن النبي - صلى الله عليه وسلم - شكي إليه الرجل يجد الشيء في الصلاة فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - لاينصرف حتى يسمع صوتاً أو يجد ريحاً. فهذا نص في أنه لا ينتقل عن اليقين الأول إلا بيقين أما الشك وغلبة الظن فإنها لا تنقله. وهذه قاعدة مريحة للإنسان. إذاً إذا شك الإنسان فإنه يبقى على طهارته ولو غلب على ظنه خلافاً لما يظنه بعض العوام أنه إذا غلب على ظنه فإنه ينتقل إليه. قال (إلا الموت): الحنابلة يرون أن كل ما أوجب طهارة كبرى أوجب طهارة صغرى قالوا: إلا الموت فالموت هل يوجب الاغتسال؟ نعم يجب أن نغسل الميت. فالموت يوجب الاغتسال لكن عند الحنابلة لا يوجب الوضوء لأن الرسول - صلى الله عليه وسلم - أمر بتغسيل الميت دون الوضوء ولم يأمر بالوضوء. ونحن نقول للحنابلة كذلك أمر بغسل الجنابة دون أن يأمر بالوضوء - نفس الدليل. فمذهب الحنابلة في الميت يضعف مذهبهم في باقي موجبات الغسل. • قال - رحمه الله -: فإن تيقنهما وجهل السابق: فهو بضد حاله قبلهما. إذا تيقن الإنسان الطهارة والحدث لكن لا يدري أيهما السابق منهما فحكمه عند الحنابلة أن يرجع إلى حاله قبلهما. مثال: يوضح هذه المسألة: إنسان بعد الزوال تيقن الطهارة والحدث ولكن لا يدري أيهما السابق فنقول له ماذا كانت حالتك قبل الزوال؟ فقال كنت محدثاً: فنقول إذاً أنت الآن طاهر وإن قال كنت قبل الزوال متطهراً فنقول أنت الآن محدث. هذا الجزء الأول من المسألة وهو أن نتصور المسألة. باقي التعليل: لماذا الحنابلة يذهبون إلى مثل هذا المذهب؟

التعليل: نقول إذا كان الإنسان تيقن الطهارة والحدث بعد الزوال وكان قبل الزوال محدثاً فنقول أن هذا الحدث ارتفع قطعاً بالطهارة التي بعد الزوال. وأما الحدث الذي بعد الزوال فيحتمل أنه هو الحدث الذي كان قبل الزوال واستمر ويحتمل أنه حدث مستجد فدخل الاحتمال على الحدث واليقين على الطهارة. والقول الثاني: أنه يجب عليه بكل حال أن يتطهر. وهذا القول - الثاني - هو الراجح احتياطاً. ختم المؤلف ’ الباب بأحكام المحدث من حيث الأشياء التي لا يجوز له أن يفعلها. • فقال ’: ويحرم على المحدث: مس المصحف مس المصحف محرم على المحدث عند الحنابلة بل عند الأئمة الأربعة بل عند جمهور السلف والخلف بل حكي إجماعاً. واستدلوا: بدليلين: الدليل الأول: قوله تعالى {لايمسه إلا المطهرون} وقد استدل شيخ الاسلام بهذه الآية وقرر الاستدلال كما يلي: - بعبارة مبسطة - قال نحن نقر أن هذه الآية في اللوح المحفوظ والمقصود بهم الملائكة لكن نقول أن في الآية إشارة إلى أن القرآن الذي نزل أيضاً لا يمسه إلا لمطهرون كما أن اللوح المحفوظ في السماء لا يمسه إلا المطهرون. فالاستدلال من باب الإشارة التنبيه لا من باب النص. هكذا قرر شيخ الاسلام الاستدلال بهذه الآية. وبهذا نتجاوز الخلاف في أنه هل الآية يقصد بها اللوح المحفوظ أو المصحف. الدليل الثاني: في الكتاب الذي كتبه النبي ‘ لعمرو بن حزم ((وإن لا يمس القرآن إلا طاهر)) وهذا الحديث تلقته الأمة بالقبول واستدلوا به. القول الثاني: ذهب إليه الظاهرية وهو أنه يجوز للإنسان أن يمس المصحف. قالوا: لا يوجد دليل لا من الكتاب ولا من السنة الصحيحة يدل على المنع. والصواب مع الجماهير. لأن في الأدلة التي ذكروها كفاية ومستند. • ثم قال ’: والصلاة. يعني يحرم على المحدث الصلاة. وتحريم الصلاة على المحدث وبطلانها منه محل إجماع من الفقهاء ويدل عليه الحديث الصحيح عن ابن عمر أن النبي ‘ قال لا يقبل الله صلاة بغير طهور. فمن السنة والإجماع. • ثم قال ’: والطواف

باب الغسل

ذهب الأئمة الثلاثة مالك والشافعي وأحمد إلى أنه يشترط لصحة الطواف ارتفاع الحدث الأصغر واستدلوا بحديث ابن عباس أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال إن الطواف مثل الصلاة إلا أنه الله أباح فيه الكلام. والقول الثاني للأحناف أن الطواف لا يشترط له الطهارة من الحدث. قالوا والصواب في حديث ابن عباس أنه موقوف عليه. وهذا القول اختيار شيخ الاسلام. وهو القول الأقرب للصواب. لكن من فوائد العلم أن الإنسان يعلم الآن أن اشتراط الطهارة من الحدث الأصغر في الطواف مذهب جمهور الأئمة وهذا يوجب له الاحتياط بأن لا يطوف إلا متطهراً ويوجب له أن يوصي غيره بالاحتياط. فمن فوائد العلم أن يعرف الإنسان قوة الخلاف وضعفه. خلافاً لمن نرى من بعض إخواننا أنه إذا عرف الراجح صار كأن القول الثاني لا قيمة له فهذا خطأ من حيث العلم بل يجب أن الإنسان إذا رأى قوة الخلاف أن يحتاط في العبادة. وبهذا نكون انتهينا من باب نواقض الوضوء ونبدأ مستعيناً بالله بباب الغسل. باب الغسل • قال - رحمه الله -: باب الغسل. الغسل: هو استعمال الماء في جميع البدن على وجه مخصوص. هكذا عرفه الفقهاء وقول الإنسان الغسل أسها من هذا التعريف. فما يتبادر إلى ذهن المسلم منى معنى الغسل أسهل من هذا التعريف الذي يذكره الفقهاء. • قال - رحمه الله -: وموجبه: خروج المني. يخرج من الإنسان أربع سوائل: المني والمذي والودي والرابع من المرأة وهو ماء المرأة. فيحتاج طالب العلم أن يعرف الفرق بينها. فالمني: ماء أبيض ثخين أو غليظ. فهو ماء ولونه أبيض وثخين ورائحته وهو رطب كرائحة العجين. ورائحته وهو يابس كرائحة البيض إذا جف. المذي: ماء أبيض لكنه رقيق. فيتوافق مع المني في أن كلاً منهما ماء وأبيض إلا أنه رقيق بخلاف المني فهو ثخين. ومن علاماته الخروج بعد الملاعبة أو التفكير. الودي: ماء أبيض ثخين. ومن علاماته الخروج بعد البول. فإن قلت كل من المني والودي يشتركان بنفس التعريف: ماء أبيض ثخين لكن لا يمكن أن يقع الخلط بين المني والودي لأن المني كما سيأتينا لا يخرج إلا دفقاً ولأن الودي يخرج بعد البول. ماء المرأة: الذي يقابل المني بالنسبة للرجل. قال الفقهاء ماء أصفر رقيق.

فحصل بهذا التفريق بين هذه المياه التي تخرج وكل منها يوجب ما لا يوجبه الآخر - حسب التفصيل الذي سيأتينا في هذا الباب. • قال - رحمه الله -: خروج المني دفقاً بلذة. إذاً أول موجب من موجبات الغسل خروج المني دفقاً بلذة. والدليل على أن هذا من موجبات الغسل مارواه أبو سعيد الخدري عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: الماء من الماء. الماء الأول ماء الاغتسال. والماء الثاني: يقصد به المني. وهذا الحديث في صحيح مسلم. إذاً حديث الماء من الماء. دليل على أصل المسألة وهو وجوب الاغتسال من خروج المني. ثم قال: دفقاً بلذة. إذاً يشترط الحنابلة لوجوب الاغتسال بخروج المني أن يخرج دفقاً بلذة. وهذا مذهب الحنابلة بل هو مذهب الجمهور. - الحنابلة والمالكية والأحناف. واستدلوا بحديث علي بن أبي طالب - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: إذا فضخت الماء فاغتسل. قال أهل اللغة: والفضخ هو خروج الماء على وجه الغلبة والسرعة. فالحديث نص في أنه إذا لم يخرج فضخاً فإنه لا يوجب الاغتسال فإذا خرج من الإنسان مني بسبب المرض فإنه عند الجمهور لا يوجب الاغتسال وإنما يوجب أن يغسل الإنسان الموضع ويتوضأ فقط. إذا يشترط لكي يوجب الاغتسال أن يخرج دفقاً بلذة. وذهب الشافعية: إلى أن خروج المني بحد ذاته ولو لم يكن دفقاً ولا لذة يوجب الاغتسال. واستدلوا: بحديث أبي سعيد السابق الماء من الماء. والنبي - صلى الله عليه وسلم - في هذا الحديث لم يشترط إلا خروج الماء. أجاب الجمهور عن هذا الحديث بجوابين: الأول: قالوا هو منسوخ بحديث علي. والجواب الثاني: - وهو أقوى - أن الماء في حديث أبي سعيد يقصد به الخروج الغالب وهو أن يكون دفقاً بلذة. لأن الأصل في خروج المني من الرجل أن يخرج دفقاً بلذة. أما خروجه بسبب مرض فهو أمر عارض لا يتحدث عنه النص. إذاً نحمله على الغالب نحمل حديث الماء من الماء على الغالب. وبهذا يكون ما قرره الجمهور وهو اشتراط أن يكون دفقاً بلذة يوجب الاغتسال هو الصواب الذي تدل عليه النصوص.

بسم الله الرحمن الرحيم • يقول المؤلف - رحمه الله -: لا بدونهما من غير نائم. معنى قوله لا بدونهما: أي أن المني إذا خرج بلا دفق ولا لذة فإنه لا يوجب الاغتسال وهذا تقدم معنا. لكن المؤلف أكد على هذا المعنى ليعطف عليه قوله من غير نائم. المراد أن النائم ونحو النائم كالسكران والمغمى عليه والمجنون هؤلاء لا يشترط في وجوب الغسل أن يكون خروج المني دفقاً بلذة بل مجرد خروج المني من هؤلاء يوجب الاغتسال. والأصل فيهم النائم: وقيس عليه المجنون والسكران والمغمى عليه. الدليل: قالوا أن هذا الوصف - الوصف بدفقاً بلذة - لا يشعر به أمثال هؤلاء فعلق الحكم على مجرد الخروج فإذاً النائم لا يشترط أن يكون دفقاً بلذة. ولو وجدنا سكراناً على ثيابه آثار المني فنقول يجب أن تغتسل وكذا المغمى عليه ولا يشترط أن يذكر هذا المعنى. مسألة - مهمة يذكرها أهل العلم عند الحديث في أحكام النائم: إذا استيقظ الإنسان من النوم ووجد بللاً فما الحكم؟ نريد أن نذكر هذا المعنى بصورة مبسطة فنقول: إذا استيقظ النائم ووجد بللاً فإن المسألة لا تخرج عن ثلاث صور. الأولى: أن يتحقق أنه مني: فنقول يجب عليك أن تغتسل ولو لم تذكر احتلاماً. الثانية: أن يتحقق أنه ليس منياً. فلا جب عليه أن يغتسل وإما عليه الوضوء وغسل ما أصابه هذا البلل من ثيابه وجسده. الثالثة: إذا قال لا أدري: - وهذه الصورة محل الإشكال - فنقول في هذه الصورة لا يخلو الأمر من ثلاث صور: 1. إما أن يسبق النوم تفكر أو ملاعبة فنقول هذا البلل مذي لأن المذي يخرج بعد الملاعبة أو التفكر. 2. أو أن يذكر احتلاماً فنقول هذا البلل مني ويجب عليك أن تغتسل 3. أن يتردد ولا توجد قرائن أخرى فهنا اختلف الفقهاء رحمهم الله: القول الأول: من الفقهاء من قال يجب أن يغتسل وهو مذهب الحنابلة واختيار ابن القيم لأن الأصل في الخارج من النائم أن يكون منياً. والقول الثاني: قالوا: أنه لا يجب بهذا البلل شيء لأن الأصل السلامة وعدم الوجوب. وهذا القول هو الراجح. فلو قيل لك: متى يجب على النائم إذا استيقظ ووجد بللاً أن يغتسل؟ فتقول: في صورتين: - أن يتيقن أنه مني - أن يتذكر احتلاماً وإن لم يتحقق أنه مني.

في ما عدا هاتين الصورتين على القول الراجح لا يجب على من وجد بللاً أن يغتسل وهذا في الحقيقة ضابط يريح كثيراً من الناس وهذه كما تعلمون مسألة تمس الحاجة إليها ويقع فيها كثير من الناس. • ثم قال - رحمه الله -: وإن انتقل ولم يخرج اغتسل له. هذه المسألة من مفردات الحنابلة وهي: أن الاغتسال يجب بمجرد انتقال المني. دليلهم: قالوا: إذاً انتقل من مكانه فقد صدق عليه اسم الجنابة لأن الجنابة مشتق من البعد وهذا باعد مكانه. وإذا كانت الجنابة شتقة من البعد صدق على هذا الشخص الذي انتقل منيه من مكانه أنه أصابته جنابة. والقول الثاني: أن انتقال المني بمجرده بلا خروج لا يوجب الاغتسال. لقول النبي - صلى الله عليه وسلم - الماء من الماء ولحديث أم سلمة أنها قالت للنبي - صلى الله عليه وسلم - هل على المرأة من غسل إذا هي احتلمت فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - نعم إذا هي رأت الماء. ففي الحديثين تعليق وجوب الغسل بخروج المني لا بمجرد الانتقال. وفي الحقيقة هذه من أضعف مفردات الحنابلة. والراجح قول الجمهور وهو عدم الوجوب. • ثم قال - رحمه الله -: فإن خرج بعده لم يعده. يعني إذا انتقل المني من مكانه ثم اغتسل ثم خرج بعد ذلك مني يعني بعد الاغتسال فإنه لا يجب عليه أن يعيد الاغتسال لسببين: الأول: أنه موجب واحد فلا يوجب غسلين. والثاني: أن خروج المني عادة سيكون بدون دفق ولا لذة - وتقدم معنا أن خروجه بهذه الصفة لا يوجب الاغتسال. إذاً انتهينا من تحرير مذهب الحنابلة في مسألة انتقال المني وعرفنا تفصيل القول عندهم رحمهم الله. والقول الثاني وأيهما أقرب إلى الدليل. • قال - رحمه الله -: وتغييب حشفة أصلية في فرج أصلي، قبلاً كان أو دبراً، ولو من بهيمة أو ميت. الموجب الثاني من موجبات الغسل: تغييب الحشفة فإذا غيب الإنسان الحشفة في فرج أصلي فقد وجب عليه الغسل. - وضابط التغييب أن يتحاذى محل القطع منه ومنها فإذا تحاذى المحلان فقد وجب الاغتسال ولا يمكن أن يكون محل القطع من الذكر محاذياً لمحل القطع من فرج الأنثى إلا بتغييب قدر الحشفة. والدليل على الوجوب: قول النبي - صلى الله عليه وسلم - في حديث أبي هريرة الصحيح إذا جلس بين شعبها الأربع ثم جهدها فقد وجب الغسل. وفي رواية في صحيح مسلم وإن لم ينزل.

فإذاً عرفنا من كلام المؤلف أن تغييب الحشفة بمجرده يوجب الاغتسال وإن لم ينزل المجامع وقد كان عدد من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - يرون أنه لا يجب الاغتسال إلا بالإنزال وإن أولج بلا إنزال فلا غسل ثم لما بلغهم أن هذا الحكم منسوخ رجعوا إلى الحكم الناسخ وهو ما في حديث أبي هريرة من وجوب الغسل وإن لم ينزل. وعلى هذا استقر الأمر بين العلماء أن مجرد الإيلاج يوجب الاغتسال وإن لم ينزل. قوله: حشفة أصلية في فرج أصلي: إذاً يجب أن تكون الحشفة أصلية والفرج أيضاً أصلي احترازاً من الخنثى لأن آلة الخنثى زائدة ولا حكم للزائد ولا حرمة له لأنه عضو زائد لا تتعلق به الأحكام. إذاً عرفنا أن هذا القيد قيد معتبر. • ثم قال - رحمه الله -: قبلاً كان أو دبراً. سواء أولج الرجل في القبل أو أولج في الدبر فإن الغسل واجب أما القبل فأمره واضح وأما الدبر فقال الفقهاء الدبر فرج أصلي فيصدق عليه أنه إذا أولج فيه وجب الغسل. وهنا نتنبه إلى قاعدة أشار إليها عدد كبير من الفقهاء المعاصرين والمتقدمين: أن الفقهاء أحياناً يذكرون المثال ويبينون حكم المثال بغض النظر عن الحكم التكليفي للفعل. فجماع الزوج لزوجته من الدبر محرم بل اعتبره عدد من العلماء من الكبائر ومنهم الذهبي ولكن المؤلف لا يريد بيان حكم الجماع مع الدبر وإنما يريد بيان أحكام الغسل فلا يؤخذ من هذا الموضع حكم الجماع في الدبر. • ثم قال - رحمه الله -: ولو من بهيمة أو ميتة. يعني أنه يجب الإغتسال حتى لو جامع بهيمة أو حتى لو جامع امرأة ميتة. الدليل: قالوا: الدليل أن النصوص عامة لم تفرق بين الحي والميت. فالماء من الماء عام. والقول الثاني: أن جماع الميتة لا يوجب غسلاً لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول ثم جهدها والميتة لا تجهد لأنها ميتة والصحيح مذهب الحنابلة. أن هذا يوجب الغسل لأن قوله - صلى الله عليه وسلم - ثم جهدها خرج مخرج الغالب لا للتقيد. • ثم قال - رحمه الله -: وإسلام كافر. الموجب الثالث: إسلام كافر. د ذهب الحنابلة واختاره ابن القيم إلى أن إسلام الكافر يوجب الاغتسال واستدلوا بأن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما أسلم قيس بن عاصم أمره بأن يغتسل والأمر دليل الوجوب. وذهب الجمهور إلى أن اغتسال الكافر إذا أسلم لا يجب.

واستدلوا: بأن عدداً كبيراً من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - ومن الوفود التي وفدت عليه أسلموا ولم ينقل أنه أمرهم بأن يغتسلوا. ولو أمرهم لنقل. ودليل الجمهور في الحقيقة دليل قوي. أي القولين أرجح؟ في الحقيقة المسألة الخلاف فيها قوي والاحتياط أن يغتسل لأن الأدلة فيها نوع تعارض وقوة في الاستدلال والثبوت. • ثم قال - رحمه الله -: وموت. الموت يوجب الغسل: فيجب على أولياء الميت أن يغسلوه. والدليل أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما مات الحاج الذي وقصته الناقة قال اغسلوه بماء وسدر فأمر بغسله لما مات وأيضاً في حديث أم عطية أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال للنسوة اللاتي غسلن ابنته اغسلنها ... الحديث. وهذا أمر وهو يدل على الوجوب. ولا أعلم أن في المسألة خلافاً. فصار الدليل من الإجماع والسنة. • ثم قال - رحمه الله -: وحيض. من موجبات الغسل الحيض لقوله تعالى {حتى يطهرن فإذا تطهرن} قال المفسرون معنى قوله فإذا تطهرن أي اغتسلن والأولى حتى يطهرن: أي حتى يتوقف الحيض والنبي - صلى الله عليه وسلم - قال للمستحاضة فإذا ذهبت عنك - يعني الحيضة - فاغتسلي. فصار الدليل مركب من الآية والحديث. وأيضاً هو محل إجماع. • ثم قال - رحمه الله -: ونفاس. وهو الموجب السادس. النفاس موجب من موجبات الاغتسال والدليل عليه الاجماع فلم يختلف العلماء في وجوب الاغتسال وأيضاً القياس على الحيض. • ثم ذكر مسألة من مسائل النفاس فقال - رحمه الله -: لا ولادة عاريَة عن دم. يعني أن المرأة إذا ولدت ولم يخرج مع الولد دم مطلقاً - فهي طاهرة مباشرة ولا يجب عليها اغتسال أصلاً. وهل يتصور أن تلد المرأة بلا دم؟ قال الأطباء والفقهاء: أنه يتصور وقد وقع. الأمر الثاني: مالدليل على أن المرأة إذا ولدت بلا دم لا غسل عليها. الدليل أن الشارع الحكيم: إنما أمر النفساء بالاغتسال لخروج الدم بدليل أن النبي - صلى الله عليه وسلم - سمى الحيض نفاساً فقال لعائشة في الحج أنفست. فعلمنا من هذا الحديث أن موجب الاغتسال هو خروج الدم لا مجرد الولادة وهذه المسألة قليلة الوقوع لكن لا بد من معرفة حكمها الشرعي. لما انتهى من تعداد موجبات الغسل انتقل إلى ما يترتب على هذا الحدث الأكبر. • فقال - رحمه الله -: ومن لزمه الغسل حرم عليه قراءَة القرآن، ويعبر المسجد لحاجة، ولا يلبث فيه بغير وضوء. ومن لزمه الغسل: من هو الذي يلزمه الغسل؟

الحائض والجنب والنفساء. الحائض والنفساء حكمهما واحد. والجنب حكمه مستقل. بعد أن عرفنا من الذي يلزمه الغسل فنبدأ بأحكام كل من واحد من المشمولين بهذه العبارة: أولاً: الجنب: ذهب جماهير الأئمة - منهم الائمة الاربعة وغيرهم من الفقهاء إلى أن الجنب لا يجوز له أن يقرأ القرآن واستدلوا بحديث علي أنه قال لا يحجب النبي ‘ عن القرآن شيء ليس الجنابة. وهو نص في أن النبي ‘ إذا كان جنباً أنه لايقرأ القرآن. وهذا الحديث ضعفه الإمام أحمد ومال الإمام الدارقطني إلى أنه موقوف على علي. الدليل الثاني: أنه صح عن أمير المؤمنين عمر أنه كره للجنب أن يقرأ القرآن. وفي الباب أدلة كثيرة ومنازعات لكن لا يصح في هذا الباب أي حديث مرفوع إلى النبي ‘. القول الثاني: وذهب إليه: قلة من أهل العلم منهم ابن عباس فقد صح عنه في صحيح البخاري أنه يرى جواز قراءة الجنب للقرآن. وذهب إلى هذا القول سعيد بن المسيب وداود الظاهري ونصره بقوة ابن حزم. واستدلوا بحديث عائشة أنها قالت كان النبي ‘ يذكر الله على كل أحيانه. والقرآن ذكر. واستدلوا بأنه لا يوجد دليل على المنع والخلاف في هذه المسألة قوي والاحتياط فيها متعين ومن حيث الأدلة فإن الراجح الجواز. مالجواب عن أثر عمر -؟ - فإنه يجب أن يعتاد طالب العلم أن يقف مع آثار الصحابة ويقف أكثر مع أقوال الخلفاء الأربعة. وأن لا تمر عليه الآثار عن أبي أو عمر أو عثمان أو علي هكذا. الجواب: أن قاعدة الإمام أحمد أن الصحابة إذا اختلفوا اجتهدنا نحن في النظر في الأدلة. وهنا اختلفوا فقد صح عن ابن عباس قول يختلف عما صح عن علي وعمر فننظر في الأدلة وإذا نظرنا فيها فإنه لا يوجد ما يدل على التحريم مع كثرة اتصاف المسلمين في العهد النبوي بالجنابة. وإن كان كما قلت أن الاحتياط في هذه المسألة متعين لأن الجماهير والائمة الاربعة والفقهاء السبعة إلا سعيد بن المسيب كلهم يرون التحريم. ثانياً: الحائض: أيضاً ذهب الجمهور إلى أنه لا يجوز للحائض أن تقرأ القرآن واستدلوا بحديث ابن عمر لا أحل القرآن لحائض ولا جنب والجواب عليه أنه حديث ضعيف.

والقول الثاني: الجواز - جواز قراءة الحائض للقرآن - وهو رواية عن الامام أحمد ومذهب مالك واختيار شيخ الاسلام ابن تيمية وأيضاً نصره ابن حزم. - إذا قيل لك - قبل ذكر الأدلة أيهما أقوى - أي أيهما الاحتياط فيه أهون في قراءة الجنب أو في قراءة الحائض؟ الجواب: الحائض. إذاً الخلاف في الحائض أقوى لأن كثيراً من أهل العلم يرى أن الاختلاف في قراءة الجنب ضعيف وأن الأصل أنه لا يقرأ. وقالوا - أصحاب القول الثاني: أنه لا يوجد دليل صريح صحيح يدل على منع الحائض من قراءة القرآن. والدليل الثاني: أن النبي ‘ قال لعائشة لما حاضت في الحج افعلي ما يفعل الحاج غير أن لا تطوفي فلم يستن إلا الطواف ومعلوم أن الحاج كثير العبادة وأن من أعظم العبادات في عشر ذي الحجة للحاج وغيره قراءة القرآن ومع ذلك لم يمنعها إلا من الطواف. وإذا كان الراجح في الجنب جواز قراءة القرآن فمن باب أولى في الحائض. لا حظنا أن مجموعة من أهل العلم فرقوا بين الحائض والجنب في هذه المسألة وهذا التفريق شن عليه ابن حزم حملة قوية جداً وقال أن هذا التفريق ليس له أي معنى. كيف تفرقون بين الحائض والجنب؟ فإن قلتم أن مدة الحيض أطول من مدة الجنابة: قال هذا دليل عليل وضعيف لماذا؟ لأن القراءة إذا كانت محرمة لا يؤثر فيها طول وقصر المدة. وبحث ابن حزم في هذه المسألة بحث جيد من حيث الاستدلال وإن كان لا يوافق أبدا على الالفاظ التي يستخدمها في حق الائمة لأنه ’ يستخدم أساليب وألفاظ قوية لاتنبغي مع الائمة وهذا يجب ان يحذر منه طالب العلم إذا قرأ في المحلى فإنه ليس من أخلاق أهل العلم أن يستخدموا ألفاظاً غير مهذبة مع أقوال الأئمة وإن كان الإنسان يرى أنها مرجوحة. • ثم قال ’: ويعبر المسجد لحاجة. أفادنا المؤلف حكمين: أولاً أنه يجوز للجنب أن يعبر. ثانياً: أنه يجوز بشرط الحاجة. هذا مذهب الحنابلة الدليل: استدلوا: بقوله سبحانه وتعالى: ولا جنبا إلا عابري سبيل. فالآية نصت على جواز عبور المسجد بالنسبة للجنب.

يحتاج الحنابلة الآن على دليل: اشتراط الحاجة والواقع ليس لهم دليل ولذلك القول الثاني: وهو مذهب الحنابلة جواز المرور ولو لغير حاجة والدليل عموم الآية لأن الآية لم تفرق بين وجود الحاجة وعدمها. وهذه المسألة من المسائل التي خالف فيها الماتن المذهب الاصطلاحي للحنابلة. فإذا قيل لك: ماهو مذهب الحنابلة فماذا تقول؟ جواز المرور مطلقاً. • ثم قال - رحمه الله -: ولا يلبث فيه بغير وضوء. أفاد المؤلف - رحمه الله - أيضاً حكمين: الأول: أنه لايجوز للجنب أن يلبث في المسجد. الثاني: أنه يجوز إذا توضأ. فنحتاج دليلاً: للأمرين: الدليل على أنه لا يجوز للجنب أن يلبث في المسجد. قوله تعالى: ولا جنباً إلا عابري سبيل. فغير العابر ممن يريد اللبث لا يجوز له أن يبقى في المسجد بصريح الآية. بقينا في الدليل على أنه يجوز اللبث إذا كان بوضوء: الدليل أثر عن عطاء بن يسار وهو من كبار التابعين. قال رأيت عدداً من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - يبيتون ويمكثون في المسجد وهم جنب إذا توضؤوا وضوء الصلاة. وهذا الأثر اسناده إلى عطاء جيد وممن صححه ابن مفلح في المبدع وإن كان ليس من أهل الصنعة لكن على كل حال قال إسناده صحيح. فهذا الأثر يدل على أن الصحابة كانوا إذا توضأوا بقوا في المسجد وإذا لم يتوضؤوا لم يمكثوا في المسجد. وبهذا انتهى المؤلف - رحمه الله - من بيان الأحكام المترتبة على اتصاف الإنسان بالجنابة وهي: تحريم قراءة القرآن. وتحريم اللبث في المسجد وجوازه مع الوضوء. ثم لما انتهى المؤلف من بيان الموجبات وما يتعلق بها انتقل إلى المسنونات قبل الصفة. • قال - رحمه الله -: ومن غسل ميتاً، أو أفاق من جنون أو إغماء بلا حلم: سن له الغسل. يسن الغسل في مسألتين: من غسل ميتاً ومن أفاق من جنون أو إغماء. - ومن غسل ميتاً سن له الغسل: لحديث أبي هريرة من غسل ميتاً فليغتسل ومن حمله فليتوضأ. فقوله من غسل ميتاً فليغتسل نص صريح وهو يدل على الوجوب فلماذا يقول الحنابلة أنه مندوب؟ قالوا: حملناه على الندب لدليل آخر وهو أن أسماء بنت عميس لما غسلت أبي بكر الصديق - سألت أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - وقالت هل ترون علي من غسل قالوا: لا. فهذا شبه إجماع من الصحابة. فإذا جمعت بين النصين عرفت أن حكم الاغتسال من تغسيل الميت أنه سنة.

القول الثاني: أن الاغتسال من تغسيل الميت ليس بسنة. الدليل: قالوا: حديث أبي هريرة صوب الامام أحمد أنه موقوف فهو فتوى من أبي هريرة - قول صحابي وحديث أسماء دليل على عدم الوجوب ولا الندب. وفي الحقيقة الاقوال في المسالة ثلاثة. 1. الاستحباب 2. الوجوب أخذاً بحديث أبي هريرة. 3. أنه لا يستحب ولا يجب. لم أقف على قول رابع فلو كان قيل بهذا القول الرابع لكان هو الصواب: أن الأمر في هذا واسع إن اعتسل فهو مباح وإن ترك فهو مباح. لأنه صح عن ابن عمر - أنه قال كنا نغسل الميت فمنا من يغتسل ومنا من لا يغتسل. فهذه العبارة تفيد أن الأمر مباح وأن فيه سعة. لكن حسب اطلاعي لم أقف على قول رابع يفيد أن الاغتسال من تغسيل الميت مباح لا سنة ولا واجب. • ثم قال - رحمه الله -: أو أفاق من جنون أو أغماء سن له الغسل. بالإجماع - بلا خلاف واستدلوا بأن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما كان مريضاً مرضه الذي مات فيه أغمي عليه فلما أفاق اغتسل. فعل ذلك مراراً فهذا دليل على أن من أغمي عليه يسن ويشرع له بلا وجوب أن يغتسل لكن ما هو الشيء الواجب على من أغمي عليه.؟ الوضوء. أما الاغتسال فهو مسنون بالاجماع. • ثم بدء المؤلف - رحمه الله - بصفة الغسل فقال: والغسل الكامل: شرع المؤلف بمبحث مهم جداً وهو صفة الاغتسال فقال والغسل الكامل: أفادنا المؤلف أن الغسل ينقسم إلى قسمين كامل ومجزئ. - فالكامل: ما يشتمل على الواجبات والمسنونات. - والمجزيء: ما يشتمل على الواجبات فقط. وبدء بالكامل لأنه أشرف ولأنه عمل النبي - صلى الله عليه وسلم -. والغسل الكامل: في جميع مباحثه ومسائله ينبني على حديثين. 1. حديث عائشة وهو متفق عليه. 2. وحديث ميمونة وهو أيضاً متفق عليه. فحديثيهما - رضي الله عنهما - نقلا للأئمة صفة اغتسال النبي - صلى الله عليه وسلم - الكاملة. • قال - رحمه الله -: أن ينوي: يجب وجوباً على من أراد أن يغتسل أن ينوي. لكن ماذا ينوي؟ الجواب: ينوي رفع الجنابة. أو ينوي ينوي رفع الحدث أو ينوي أنه سيغتسل ليصلي. إذاً ينوي أنها عبادة مشروعة. أياً كانت النية فإن نوى بالاغتسال التنظف لم ترتفع الجنابة. وإن نوى بالاغتسال التبرد لم ترتفع الجنابة. فمن شروط صحة الاغتسال أن ينوي. • قال - رحمه الله -: ثم يسمي.

التسمية في الغسل حكمها حكم التسمية في الوضوء والخلاف في الوضوء كالخلاف في الغسل وقد تقدم معنا أن الصواب أن التسمية في الوضوء سنة وأن القول بأنه غير مشروع أصلاً وجيه جداً وهو مذهب المالكية. • قال - رحمه الله -: ويغسل يديه ثلاثاً وما لوثه. أفادنا أيضاً حكمين ما هما: 1. غسل اليدين وأن يكون ثلاثاً. 2. فنحتاج دليلاًَ لكل منهما: أما أن من أراد أن يغتسل يسن له أن يغسل يديه قبل أن يبدأ فالدليل عليه: أولاً: الإجماع. ثانياً: ثبت في حديث عائشة وفي حديث ميمونة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - غسل يديه. بقفينا في حكم غسل اليدين ثلاثاً: الدليل على ذلك: فقط حديث ميمونة دون حديث عائشة. لأنه في حديث ميمونة قالت: ثم غسل يديه مرتين أو ثلاثاً. ففيه شك من ميمونة أما عائشة - رضي الله عنها - فإنها لم تذكر التثليث. • قال - رحمه الله -: وما لوثه. يعني أنه يندب للإنسان بعد أن يغسل يديه ثلاثاً أن يغسل ما تلوث من جسمه لقول عائشة - رضي الله عنها - ثم أفرغ بيمينه على شماله وغسل فرجه قال الفقهاء قول عائشة - رضي الله عنها - وغسل فرجه لا يعني تقييد الأمر بالفرج بل يغسل الفرج ويغسل ما تلوث من باقي البدن. لحديث عائشة هذا ويجب أن تلاحظ معي أن الترتيب مقصود للمؤلف أن هذا التدرج مقصود وهو موافق للأحاديث الصحيحة. وأنه يجب أن لا يقدم إذا أراد أن يغتسل الغسل الكامل أحد هذه الأشياء على بعض وإنما يتسلسل كما ذكره المؤلف. • ثم قال - رحمه الله -: ويتوضأ. يسن للإنسان بعد أن يغسل ما تلوث من بدنه أن يتوضأ وضوئه للصلاة لدليلين: - الأول أنه ثابت في الحديثين الوضوء. - الثاني أن ابن جرير وابن بطال حكوا الاجماع. على مشروعيته. إنما الخلاف: في هل يجب أو لا يجب؟ وهذا سيتطرق له المؤلف فيما بعد ونذكر الخلاف في هذه المسألة لكن المقصود الآن تقرير أن الوضوء مشروع ومندوب بالاجماع وهو موجود في الحديثين - حديث عائشة وميمونة. • ثم قال - رحمه الله -: ويحثي على رأسه ثلاثاً ترويه. يسن للإنسان بعد أن يتوضأ كما هو صريح عبارة المؤلف وكما هو نص في الحديثين أن يبدأ بغسل الرأس قبل الجسد لأن عائشة - رضي الله عنها - تقول أن النبي - صلى الله عليه وسلم - حثى الماء على رأسه حتى إذا ظن أنه قد أروى غسل رأسه ثلاثاً.

وستلاحظ إذا ركزت أن بين كلام المؤلف ونص الحديث فرق فكلام المؤلف: يدل على أن التروية تكون بالثلاث والحديث يدل على أن التروية تكون قبل الثلاث لكن هكذا الفقهاء قالوا أنه بعد أن يتوضأ يغسل رأسه ويرويه ثلاثاً ولعل الأمر سهل وقريب وبعض الفقهاء قالوا أن الحديث فيه تقديم وتأخير كأنها قالت غسله ثلاثاً حتى أرواه لكن من وجهة نظري أن العمب بمتن الحديث هو الأولى فإذا تقرر هذا نقول تروي الشعر وتكيف الماء عليه فإذا ظننت أنه قد تروى فتغسله ثلاثاً وتكون هذه هي السنة خلافاً لما يصنعه بعض الناس حيث يبدأ بغسل الجسد قبل أن يروي الشعر. - في حديث عائشة في البخاري في لفظ آخر أنها أشارت إلى أن النبي - صلى الله عليه وسلم - بدأ بشقه الأيمن ثم بدأ بشقه الايسر عندما أراد أن يغسل رأسه. (وقت الآذان) في صحيح البخاري عن عائشة - أنها قالت أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان إذا أراد أن يغتسل بدأ بشق رأسه الأيمن ثم بشقه الأيسر. فإذاً التثليث الذي في حديث عائشة وميمونة يبدأ بالشق الأيمن ثم الأيسر ثم الوسط ...... انقطع التسجيل انتهى الدرس،،،

بالأمس نسينا الحديث عن قول المؤلف - رحمه الله - أو أفاق من جنون أو إغماء بلا حلم. والمقصود بهذه العبارة كما هو ظاهر أن من أفاق من جنون أو إغماء فإنه يسن فقط له أن يغتسل أن يغتسل إلا إن احتلم حال الاغماء أو الجنون فإنه والحالة هذه يجب عليه أن يغتسل لأن خروج المني كما تقدم معنا من النائم يوجب الاغتسال. وتقدم معنا أن خروج المني من النائم أيضاً لا يشترط أن يكون دفقاً بلذة وتعليل الحنابلة لاستثناء النائم. ثم ذكر المؤلف الكلام عن الغسل الكامل وتحدثنا عن ترتيب الغسل الكامل إلى أن وصلنا إلى قوله ويحثي على رأسه ثلاثاً ترويه: وأخذنا المباحث وهو أنه يغسل وأنه يروي وأخذنا لفظ حديث عائشة وأنه يفيد أن الترويه تسبق التثليث وظاهر كلام الفقهاء أن التثليث تحصل به التروية وذكرت لكم أن الأخذ بظاهر الحديث أولى. ثم وقفت على كلام الحافظ ابن رجب. قال أن هذه سنة غفل عنها أكثر الفقهاء ذكره في كتابه فتح الباري - كتاب حافل عظيم مفيد لطالب العلم ولا ينبغي أن تخلو مكتبة طالب علم منه. • ثم قال ’: ويعم بدنه غسلاً ثلاثاً. - في حديث عائشة وفي حديث ميمونة ذكر لتعميم البدن. - ففي حديث عائشة قالت: ثم أفاض على بدنه. - وفي حديث ميمونة قالت: ثم أفرغ على بدنه. وهذه نصوص صحيحة صريحة في أن الإنسان بعد أن يغسل رأسه ثلاثاً على التفصيل السابق فيشرع له أن يعمم البدن بالغسل. وفي هذه المناسبة أحب أن أنبه أن حديث عائشة أهم من حديث ميمونة والسبب أن حديث عائشة أخبرت به عن عادة النبي ‘ فقالت كان إذا أراد أن يغتسل فكأن هذا هو فعل النبي ‘ الدائم. بينما في حديث ميمونة روت اغتسالاً واحداً معيناً فذكرت أنها قربت الاناء للنبي ‘ لما راد أن يغتسل فاغتسل ... الخ. فتحدثت عن اغتسال معين بينما في حديث عائشة تحدثت عن اغتسال معتاد. قال: ثلاثاً: تثليث البدن سنة عند الحنابلة. ودليلهم القياس على الوضوء فإذا كان التثليث سنة في الوضوء ففي الغسل أيضاً يكون بالتثليث. لأن كلاً منهما طهارة لرفع هذا الحدث الأكبر وهذا الحدث الأصغر. والقول الثاني: أن التثليث في غسل البدن لا يستحب ولا يشرع. واستدلوا على ذلك بأن الأحاديث الصريحة الصحيحة ليس فيها التثليث في غسل البدن وتقدم معنا أن عائشة قالت ثم أفاض وأن ميمونة قالت ثم أفرغ على بدنه ولم تذكرا تثليثاً. والصواب القول الثاني أن تثليث البدن في الغسل لا يشرع. تمشياً مع الاحاديث الصحيحة. فصار في الغسل الذي ذكره الحنابلة ثلاث مواضع يكون فيها التثليث: - الأول في اليدين. - والثاني في الرأس. - والثالث في البدن وهذا صحيح إلا في البدن فإن الصواب فيه عدم التثليث. • ثم قال ’: ويدلكه. يعني يدلك بدنه والجمهور يرون أن الدلك في الاغتسال سنة. وذهب الامام مالك إلى أن الدلك في الاغتسال واجب. والصواب مع الجمهور وهو المذهب بدليل أن النبي ‘ كان يفرغ على جسمه والافراغ إسالة الماء بلا دلك وإذا كان النبي ‘ يفرغ والافراغ في اللغة لا يقتضي الدلك صار هذا دليلاً على أنه لا يجب الدلك وإنما يسن. • ثم قال ’: ويتيامن.

التيامن في الغسل سنة لدليلين: الأول: حديث عائشة المشهور أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يعجبه التيامن في تنعله وترجله وطهوره. وهذا من الطهور. الثاني: ما تقدم معنا من أنه في رواية في صحيح البخاري لحديث عائشة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما أراد أن يغسل رأسه بدأ بشقه الايمن. والتيامن بالنسبة للغسل يكون بغسل الشق الايمن قبل الشق الايسر. • ثم قال - رحمه الله -: ويغسل قدميه مكاناً آخر. غسل القدمين في مكان آخر سنة عند الحنابلة والجمهور بدليل أن ميمونة أخبرت أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أخر غسل القدمين إلى أن انتهى من الاغتسال. فتأخير القدمين ثابت في حديث ميمونة. أما حديث عائشة - رضي الله عنها - فليس فيه تأخير القدمين في البخاري: وفيه تأخير غسلهما في صحيح مسلم والصواب أن تأخير غسل القدمين لا يثبت في حديث عائشة لأن هذه الرواية ضعفها الامام أحمد وضعفها أكثر من حافظ من الحفاظ. والتضعيف هو الصواب. فهي رواية شاذة - لكن بما أن التأخير ثابت في حديث ميمونة فقال الحنابلة هو سنة. وذهب بعض الفقهاء إلى أنه لا يسن لأنه لم يذكر في حديث عائشة. وذهب بعضهم إلى أنه يسن إذا كان المكان غير نظيف وهو مذهب المالكية. حمعاً بين النصوص قالوا: لم يؤخر النبي - صلى الله عليه وسلم - غسل قدميه في حديث عائشة لنظافة المكان وأخر في حديث ميمونة لا حتياجه إلى ذلك لطبيعة المكان - جمعاً بين الأدلة. وهذا القول - الاخير هو الصواب. فليس بسنة مطلقاً ولا يلغى مطلقاً. • ثم قال - رحمه الله -: والمجزئُ: لما أنهى الكلام على الغسل الكامل المشتمل على المسنونات والواجبات انتقل إلى الكلام عن المجزئ وهو الذي يشتمل على الواجبات ويفهم من هذا أن أي شيء ذكره في الكامل ولم يذكره في المجزئ فهو سنة. • ثم قال - رحمه الله -: أن ينوي، ويسمي. تقدم معنا الكلام عن النية والكلام عن التسمية في الغسل الكامل فلا حاجة إلى إعادة الكلام عليهما. • ثم قال - رحمه الله -: ويعم بدنه بالغسل مرة. تعميم البدن بالغسل من الواجبات في غسل الجنابة لما ثبت في حديث عمران أن النبي - صلى الله عليه وسلم - رأى رجلاً لم يصل فقال مالك لا تصلي فقال إني جنب ولا ماء ثم أمره النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يتيمم ويصلي ثم لما حضر الماء قال النبي - صلى الله عليه وسلم - خذه فأفرغه على نفسك ولم يأمره النبي - صلى الله عليه وسلم - بأي شيء أكثر من ذلك.

وقال النبي ‘ في حديث أم سلمة إنما يكفيك أن تحثي الماء ثلاث حثيات على رأسك ثم تفرغي الماء فتطهرين فقال العلماء إنما يكفيك دليل على أن ما عدا المذكور في الحديث ليس بواجب والمذكور هو تعميم البدن بالماء. أخذوه من قوله ‘ لها إنما يكفيك. وعليه يكون تعميم البدن بالماء واجب وهو من أهم الواجبات. يتعلق بهذه المسألة مسائل مهمة: المسألة الأولى: حكم المضمضة والاستنشاق: اختلف الفقهاء فيها: فالقول الأول: أن المضمضة والاستنشاق من واجبات اغتسال الجنابة. فإذا عمم بدنه بالغسل ولم يتمضمض ويستنشق فاغتساله باطل. الدليل: قالوا: إذا كانت المضمضة والاستنشاق واجبة في الوضوء ففي الغسل من باب أولى. الدليل الثاني: أن النبي ‘ في حديث ميمونة قالت ثم تمضمض واستنشق فنصت على المضمضة والاستنشاق. القول الثاني: أن المضمضة والاستنشاق في الغسل سنة وليس بواجب. الدليل: حديث عمران بن حصين السابق أنه أمر الأعرابي أن يفرغ الماء على نفسه وحديث أم سلمة السابق إنما يكفيك أن تحثي الماء ثلاث حثيات. ولم يذكر النبي ‘ في الحديثين المضمضة ولا الاستنشاق. وهذا هو الراجح أن المضمضةوالاستنشاق سنة. فلا يعتبر من واجبات الغسل. المسألة الثانية: هل يجب على المرأة أن تنقض شعرها إذا أرادت أن تغتسل؟ الجواب: فيه تفصيل: أولاً: في الجنابة: فلا إشكال أنه لا يلزمها أن تحل شعرها لحديث أم سلمة السابق أنها قالت للنبي ‘ إني امرأة اشد ظفر شعري أفأنقضه للجنابة فقال النبي ‘ لا إنما يكفيكي أن تحثي ثلاث حثيات. فهذه فتوى من النبي ‘ صريحة بعدم وجوب نقض شعر الرأس المشدود في غسل الجنابة. ثانياً: غسل الحيض: ذهب الجمهور إلى وجوب نقض الرأس واستدلوا بحديث عائشة أن النبي ‘ قال لها في الحج لما كانت حائض انقضي شعرك واغتسلي وهذا دليل عل وجوب النقض. الجواب على هذا الحديث من وجهين: الأول: أن لفظه في البخاري انقضي شعرك وامتشطي ولم يذكر الاغتسال وإنما الاغتسال ورد في سنن ابن ماجه. الثاني: - وهذا هو الجواب المهم - أن هذ الاغتسال ليس لنهاية الحيض وإنما هو اغتسال للإحرام. بدليل أن عائشة - رضي الله عنها - أفتاها النبي ‘ هذه الفتوى يوم عرفة. وقد ثبت أنها لم تطهر إلا يوم العيد.

إذاً لما سألت هذا السؤال كانت حائضاًَ. فهذا الاغتسال والنقض ليس اغتسال للحيض وإنما هو اغتسال للإحرام. إذاً فلا دليل لهذا الدليل. القول الثاني: أن نقض الشعر في الحيض سنة وليس بواجب. استدلوا على هذا بأن أسماء - رضي الله عنها - سألت النبي - صلى الله عليه وسلم - عن غسل الحيض فأرشدها النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى كيفيته ثم قال لها ثم صبي على رأسك الماء وادلكيه دلكاً شديداً ولم يذكر نقض الشعر. الدليل الثاني: أن ابن عمر وهو من فقهاء الصحابة كان نساؤه وجواريه يغتسلن للحيض والجنابة بلا نقض للشعر مع تحري ابن عمر للسنة وتحريه لمثل هذه الامور فيما يتعلق بالطهارة والاغتسال مع ذلك لم يأمر نسائه - بنقض الشعر لا للجنابة ولا للحيض. وهذا هو الراجح أنه لا يجب وإن كان كثير من الفقهاء يفرقون بين غسل الجنابة وغسل الحيض. ولكن الراجح عدم الفرق والخلاف يقتضي للمرأة أن تحتاط وأن تنقض شعرها أثناء غسل الحيض لأنه لا يتكرر في الشهر إلا مرة. • ثم قال - رحمه الله -: ويتوضأ بمد. النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يتوضأ بالمد والمد بالجرامات 510جرام وهو كمية بسيطة وإذا أردت أن تعرف المد بغير الجرامات فالمد هو ملء كفي الرجل المعتدل وهو يقارب في وقتنا هذا الكأس المعتدل. • قال - رحمه الله -: ويغتسل بصاع. الصاع أربعة أمداد فيكون 2040 جرام وهو ما يقارب لترين ونصف تقريباً. فكان النبي - صلى الله عليه وسلم - يغتسل بالصاع ويتوضأ بالمد وهو لا شك أنه قليل جداً وفي هذا إشارة نبوية إلى النهي عن الاسراف في طهارة الوضوء وفي طهارة الغسل. • ثم قال - رحمه الله -: فإن أسبغ بأقل ... أجزأ. يعني لو أن إنساناً استطاع أن يتوضأ بأقل من المد أو أن يغتسل بأقل من الصاع فإنه يجزئه. فإن قيل: كيف يجزئ والنبي - صلى الله عليه وسلم - سيد الخلق ما كان ينقص عن المد ولا ينقص عن الصاع في الضوء والغسل؟ فما هو الجواب؟ الجواب: من وجهين: الوجه الأول: أن أكثر العلماء ذكروا أن هذا التحديد تحديد تقريبي من الصحابة فقد ثبت في الحديث الصحيح عن أبي هريرة - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يتوضأ بالمد ويغتسل بالصاع. وهذا التحديد منه - تحديد تقريبي. الوجه الثاني: أن الله سبحانه وتعالى أمر بالاغتسال فقال وإن كنتم جنباً فاطهروا ومن تطهر بأقل من الصاع فإنه يصدق عليه أنه تطهر. ولذلك نقول أنه مجزئ.

تنبيه: في الغالب لا يستطيع الإنسان أن يطبق السنة بأن يتوضأ بالمد ويغتسل بالصاع إلا إذا كان يتناول الماء تناولاً أما السكب فما يكفي لطهوره. • ثم قال - رحمه الله -: أو نوى بغسله الحدثين: أجزأ. ظاهر كلام المؤلف أنه إذا نوى بغسله أحد الحدثين ارتفع ما نواه فقط فإن نوى الغسل وهو الغالب لم يرتفع الحدث الأصغر وهذا هو مذهب الحنابلة - أنه إذا نوى أحد الحدثين لم يرتفع إلا من نواه وهو في الغالب في الغسل سينوي الحدث الأكبر فيبقى الحدث الأصغر وقد تقدم معنا أن القول الثاني أن نية الاغتسال تكفي عن نية الوضوء وأن هذا اختيار شيخ الاسلام ابن تيمية - رحمه الله - وأنه هو الصواب. فإذا نوى الانسان رفع الجنابة ارتفع الحدث الاصغر وإن لم ينوه خلافاً لمذهب الحنابلة. • ثم قال - رحمه الله -: ويسن لجنب: غسل فرجه، والوضوء لأكل ونوم ومعاودة وطء قبل الدخول في المسنونات نتحدث عن أمرين اختلف فيهما: وهما الموالاة والترتيب: - أما الترتيب فلا إشكال أنه لا يجب في الغسل لماذا؟ لأن الغسل تعميم لعضو واحد وهو الجسد ولا يوجد ترتيب إلا بين متعددات. مثال للإخلال بالترتيب: لو بدأ بغسل الجزء الاسفل من جسده. فإنه يجزأه ولو لم يبدأ بغسل الجزء الاعلى وإن كان صريح السنة أن يبدأ الإنسان بالجزء الأعلى. - الموالاة: أيضاً الجمهور وهو الثابت عن الامام أحمد أن الموالاة سنة وليس بواجب استدل الامام أحمد بأن النبي - صلى الله عليه وسلم - اغتسل ولما انتهى من الغسل وجد لمعة لم يصبها الماء فعصر - صلى الله عليه وسلم - عليها شعره. هذا الحديث مرسل لكن قيل للإمام أحمد أتأخذ به قال نعم آخذ به وهذا في الغالب لثبوته عنده - رحمه الله - .. وجه الاستدلال أن غسل هذه اللمعة تم بعد الغسل بعد أن جفت الاعضاء وتقدم معنا في الوضوء أن الموالاة هي أن لا يؤخر غسل عضو حتى ينشف الذي قبله. ففي الحديث النبي - صلى الله عليه وسلم - أخر غسل هذه البقعة التي لم يصبها الماء من جسده إلى ما بعد الاغتسال الكامل وبعد أن جفت الاعضاء واكتفى بغسلها مفردة. فلو كانت الموالاة واجبة للزمه أن يعيد الغسل. هذا الدليل الأول. الدليل الثاني:

قال الامام أحمد فرق بين الوضوء والغسل فإن الوضوء ذكر الله فيه اعضاء مترتبة متوالية فلزم فيه الترتيب والموالاة بينما ذكر في الاغتسال أن يتطهر فكيفما تطهر أجزأه. وهذا الاستنباط من الإمام أحمد دقيق وهو من الشواهد التي يرد بها على من قال أن الإمام أحمد اشتغل بالتحديث أكثر من الفقه. وقد ساق هذا الاستدلال عدد من أهل العلم وأعجبوا به من المتقدمين. فهو استدلال جيد من الامام أحمد. وخلاصته أن الإمام أحمد يقول: الله سبحانه وتعالى أمرنا أن نتطهر وأن نغسل البدن فكيفما غسلنا البدن أجزأ سواء كان متوالياً أو متفرقاً. بخلاف الوضوء فإن الله أمر فيه بغسل مرتب متوالي. والراجح عدم الوجوب. ويميل إليه البخاري أما الإمام أحمد فهو مذهبه وقرره. إذاً الجمهور لا يرون الموالاة من الواجبات وهو الراجح وإليه يميل البخاري. والقول الثاني: لعدد قليل من أهل العلم أن الموالاة واجبة وهو مرجوح. • ثم قال - رحمه الله -: - بعد أن أنهى الكلام على الغسل المجزئ. ويسن لجنب. هذه المسنونات خارجة عن الاغتسال وإنما هي سنن إضافية لا علاقة لها بالاغتسال: يسن لجنب غسل فرجه: يسن للجنب قبل أن ينام أن يغسل فرجه بدليل حديث عائشة في الصحيحين أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان إذا أراد أن ينام غسل فرجه وتوضأ وضوءه للصلاة. فهذا سنة ثابتة صحيحة بلا إشكال وهذه أيضاً من السنن التي يغفل عنها كثير من الناس. • ثم قال - رحمه الله -: والوضوء: الدليل على الوضوء لمن أراد أن ينام هذا الحديث أيضاً - حديث عائشة السابق. والدليل الثاني: حديث عائشة الآخر أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان إذا أراد أن يأكل أو ينام توضأ وضوئه للصلاة. إذاً سنن ثابته وأحاديثها في الصحيحين لا إشكال فيها. • ثم قال - رحمه الله -: ومعاودة وطء. يسن للإنسان إذا أراد أن يعاود الوطء أن يغتسل وأيضاً حديثه في الصحيحين وهو أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال إذا أراد أحدكم أن يعاود الوطء فليتوضأ. وفي رواية خارج الصحيحين فإنه أنشط للعود.

إذاً كل واحد من هذه السنن الثلاث ثابتة في الصحيح لكن ظاهر كلام الحنابلة أن الجنب إذا أراد أن يأكل أو ينام أو يعاود الوطء يستحب له في الجميعأن يغسل فرجه وأن يتوضأ بينما تقدم معنا أن الحديث الذي فيه غسل الفرج - حديث عائشة في الصحيحين - إنما نص على غسل الفرج في حال واحدة وهي إذا أراد أن ينام فقط. ولذلك نقول أن غسل الفرج سنة عند النوم دون الاكل ومعاودة الوطء. لأن الحديث إنما هو فقط في مسألة النوم. وكما مر معنا أن السنن تحتاج إلى دليل لإثباتها ولا دليل على مسألة غسل الفرج لإعادة الوطء أو الأكل خلافاً للحنابلة. هذه مسألة. المسألة الثانية: صرح الحنابلة أن الجنب إذا أراد أن ينام فإنه يستحب له أن يتوضأ فإن ترك الوضوء كره له ترك الوضوء. - وأريد أن أبين شيئاً: أن الأمور المستحبة لا يقال لتركها مكروه - فإذا لم يجب الإنسان المؤذن فهل نقول أنك فعلت مكروه أو نقول أنك تركت سنة. بدون فعل مكروه. في هذه المسألة بالذات الحنابلة يقولون: الوضوء للنوم سنة لكن ان تركه فقد فعل مكروهاً. وإن تركه في الأكل والمعاودة قالوا: إن تركه في ذلك فإنه قد ترك سنة ولا يكره. إذاً الكراهة تختص بالنوم. إذاً مذهب الحنابلة في النوم أنه إذا أن ينام الجنب فيستحب له أن يتوضأ. وهذه المسألة مهمة وحاجة الناس إليها كثيرة ولذلك نذكر الخلاف في حكم النوم بلا وضوء. القول الأول: وهو مذهب الحنابلة أن النوم بلا وضوء مكروه - مايقال مباح - جائز لكن مكروه. الدليل: قالوا نحمل الأحاديث الواردة على الندب - حديث عائشة في الصحيحين أنه كان إذا أن ينام توضأ - فيحمل على الندب. وحديثها الآخر إذا أراد أن ينام أو يأكل توضأ - يحمل الندب. وهذا القول هو مذهب الجماهير. القول الثاني أن الوضوء للنوم واجب فإذا نام جنباً بلا وضوء فهو آثم. وهذا القول منسوب إلى الامام مالك في رواية أما مذهبه فهو سنة واختار هذه الرواية من المالكية ابن حبيب - وهو من كبار علماء المالكية. واستدلوا بحديث عمر ابن الخطاب أنه سأل النبي ‘ أينام أحدنا وهو جنب فقال النبي ‘ نعم إذا توضأ. وإذا أداة شرط وهي تعني أنه إذا لم يتحقق المشروط لم يجز الفعل.

وذكر ابن عبد البر أن هذا القول شاذ لقلة القائلين به - وإن كان يعد - رحمه الله - من علماء المالكية مع ذلك يرى أن هذا القول شاذاً. والمسألة فيها إشكال وهي من المسائل التي الخلاف فيها قوي والذي يظهر والله أعلم أن الوضوء للجنب إذا أراد أن ينام سنة وليس بواجب. الدليل أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال إذا أراد أحدكم أن يأكل أو ينام فليتوضأ وضوئه للصلاة فجمع بين الأكل والنوم والفقهاء أجمعوا بلا خلاف أن الوضوء للأكل سنة وإذا كان النبي - صلى الله عليه وسلم - سوى في هذا الحديث بين الأكل والنوم والأكل بالإجماع لا يجب فكذلك النوم. هذا أقوى دليل في الباب - عندي - لحمل الأحاديث على الندب وإلا في الحقيقة فإن حديث عمر أشبه ما يكون نصاً في الوجوب ومع ذلك ذهب الجماهير كما ترون إلى الندب ويقوي الندب أمر آخر وهو أن من رواة حديث عمر ابنه ابن عمر وقد كان ابن عمر - إذا أن ينام توضأ ولم يغسل رجليه - يتوضأ وضوءا غير كامل. وهذا فيه إشاره إلى أنه لا يرى وجوب الوضوء. وإذا عرف الانسان الخلاف وقوته عرف أنه يجب أن يحتاط ولا ينام إلا متوضأً لكن نحن نتحدث في الواجب الذي من تركه فقد أثم. والوضوء للجن يحتاج إلى بيان الحكمة منه وبيان الحكمة يترتب عليه حكم آخر مهم. فما هي الحكمة من اغتسال الجنب؟ اختلفوا على قولين: القول الأول: أن الحكمة من وضوء الجنب قبل النوم رفع الحدث الأصغر. والقول الثاني: أن الحكمة من وضوء الجنب تخفيف الجنابة لا رفع الحدث الأصغر. وهو اختيار شيخ الاسلام - رحمه الله -. والراجح هو القول الثاني بل ربما يقال أن القول الأول خطأ. أما المسألة التي تترتب على هذه المسألة وهي: إذا توضأ - وهذه السؤال عنها كثير - الجنب للنوم أو للأكل أو للشرب أو لمعاودة الوطء ثم أحدث فهل يشرع له أن يعيد الوضوء؟ اختلف الفقهاء رحمهم الله لأن الحكمة التخفيف وقد حصل. الحنابلة نصوا على أنه لا يشرع فضلاً عن أن يقال يندب. ومن الفقهاء من قال بل إذا توضأ ثم أحدث قبل أن ينام يشرع ويتأكد في حقه أن يتوضأ مرة أخرى لينام على أحد الطهارتين. ولكن القول الأول هو المنسجم مع الحكمة الصحيحة من الوضوء للجنب ومن أراد أن يأكل أو يشرب أو يتوضأ. وبهذا انتهينا من باب الغسل .... انتهى الدرس،،،

باب التيمم

باب التيمم لما أنهى المؤلف - رحمه الله - الكلام على الطهارة المائية انتقل إلى الكلام على طهارة البدل عن الماء وهي طهارة التراب. والتيمم في لغة العرب: القصد. وفي اصطلاح الفقهاء: مسح الوجه واليدين بالصعيد على وجه مخصوص. والتيمم ثابت بالكتاب والسنة والإجماع. • قال - رحمه الله -: وهو بدل طهارة الماء: أفادنا المؤلف - رحمه الله - أن التيمم بدل عن طهارة الماء فاستفدنا من هذا قاعدة أن البدل لا يشترط فيه أن يكون مماثلاً للمبدل منه في جميع الصفات. وهذه قاعدة قررها شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله -. وهي قاعدة صحيحة. فبين الماء والتراب فرق كبير ومع ذلك فهو بدل عنه في باب الطهارة. ويتعلق بقوله: وهو بدل طهارة الماء مسألة مهمة وتقدم مراراً أنه في كل باب مسائل تعتبر أصولاً في الباب ومسائل أخرى أقل أهمية. فمن أصول مسائل باب التيمم: هي مسألة: هل التيمم مبيح أو رافع؟ - وهذه المسألة يترتب عليها فروع كثيرة ذهب الحنابلة - وهو مذهب الجمهور إلى أن التيمم مبيح وليس رافعاًَ للحدث. واستدلوا بأحاديث كثيرة أقواها حديثان: الأول: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال لعمرو ابن العاص لما صلى بأصحابه وهو جنب بعد التيمم قال له - صلى الله عليه وسلم - أصليت بأصحابك وأنت جنب. وجه الاستدلال: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - سماه جنباً وإن كان تيمم ومع ذلك لم يأمرة بإعادة الصلاة. وهذا استدلال قوي وواضح. الدليل الثاني: قول النبي - صلى الله عليه وسلم - الصعيد الطيب طهور المسلم وإن لم يجد الماء عشر سنين فإذا وجده فليتق الله وليمسه بشرته. وجه الاستدلال: أن التيمم لو كان رافعاً للحدث لما احتجنا إلى الماء ولا أمر به النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا وجد. وهذا أيضاً استدلال صحيح. القول الثاني: مذهب الاحناف وهو اختيار شيخ الاسلام - رحمه الله - أن التيمم رافع ولكنه رفع مؤقت إلى أن يأتي الماء. وهذا القول مركب من أمرين: الأول: أن التيمم رافع. ولكن هذا الرفع يعتبر مؤقتاً إلى وجود الماء.

الدليل على أنه رافع أن الله سبحانه وتعالى يقول: فتيمموا صعيداً طيباً إلى أن قال ولكن يريد ليطهركم. والنبي - صلى الله عليه وسلم - قال الصعيد الطيب طهور المسلم وجه الاستدلال أن الله سبحانه وتعالى والنبي - صلى الله عليه وسلم - سميا التراب طهور كما سميا الماء طهوراً فدل على أنه يأخذ أحكام الماء. وأما الدليل أن هذا الرفع مؤقت فالحديث السابق في قوله فإذا وجد الماء فليتق الله وليمسه بشرته. فأمر النبي - صلى الله عليه وسلم - بأن يتوضأ أو يغتسل الإنسان بمجرد وجود الماء فكأن طهارة التيمم تنتهي عند وجود الماء. وهذا القول هو القول الصواب لوجهين: الوجه الأول: قوة الاستدلال فإن الله سمى التيمم طهوراً ولو كان مبيحاً فقط وليس رافعاً لم يسمه طهوراً. الوجه الثاني: أن في القول أن التيمم رافع وليس مبيح عنت ظاهر ومشقة عظيمة لا يأتي بمثلها الشرع كما سيأتينا في أحكام التيمم المبنية على القول أن التيمم مبيح. فالراجح أن التيمم رافع. وسبق معنى مراراً أن ترجيح أحد الأقوال لا يعني إلغاء القول الآخر لا سيما إذا كان القائلون بالقول الآخر هم الجمهور - كما في هذه المسألة. فمالك والشافعي وأحمد أئمة أهل العلم يرون أنه رافع فمراعاة هذا الخلاف شيء والترجيح في الأدلة وبين القول الذي تنصره النصوص شيء آخر حيث نرى أن بعض إخواننا يهملون جداً ويتنكبون الأقوال الأخرى كأنها ليست بشيء. فصحيح أن هذا القول هو الراجح لكن القول الآخر دليله قوي وهو مذهب الجماهير. إذاً عرفنا هذه المسألة المهمة وعرفنا الراجح وعرفنا أنها من أهم مسائل هذا الباب وعرفنا لماذا تعتبر من أهم مسائل هذا الباب وذلك لكثرة ما ينبني عليها من الفروع. • ثم قال - رحمه الله -: إذا دخل وقت فريضة أو أُبيحت نافلة. بدء - رحمه الله - بذكر شروط التيمم: والحنابلة يرون أن للتيمم شرطان: بخلاف ما يذكره بعض المتأخرين حيث أنهم يسردون شروطاً كثيرة - في الكشاف وهو من الكتب المعتمدة وهنا وفي الروض ذكر شرطين فقط. فإن قلت ماهي الشروط الأخرى؟ التي يذكرها بعض المعاصرين:

فالجواب أن الشروط الأخرى في الحقيقة هي صفات للتراب الذي يجوز أن نتيمم به وليست من شروط التيمم العامة. إنما التيمم له شرطان فقط: كما سيأتينا الآن وكما قلت لكم أن هذا هو الموجود في كتب الحنابلة وهو أسهل في ضبط المسائل: الشرط الأول: دخول وقت الفريضة. أو إباحة النافلة. يشترط للتيمم أن لا يتيمم إلا بعد دخول وقت الفريضة أو إذا أراد التيمم للنافلة أن يتيمم إذا أبيحت بأن لا يكون وقت نهي. الدليل: قالوا: لأن التيمم مبيح وليس رافع. وإذا كان مبيح وليس رافعاً فإنه لايتيمم الإنسان إلا بعد دخول الوقت فهذه أول مسألة تنبني على مسألة هل التيمم مبيح أو رافع؟ وإذا كان الراجح أن التيمم رافع فالراجح في هذه المسألة عدم الاشتراط فلو تيمم قبل دخول الوقت أو بعد دخول الوقت في أي وقت شاء يتيمم إذا كان لا يجد الماء وتيممه صحيح. الشرط الثاني: قال وعدم الماء: المؤلف عبر بهذه الجملة - عدم الماء - وغيره عبر بجملة أدق وأشمل وأضبط وهي أن نقول تعذر استعمال الماء إما لعدم وجوده أو لخوف الضرر من استعماله أو لأي سبب من الأسباب. إذاً ما هو الضابط العام لجواز التيمم؟ نقول: تعذر استعمال الماء لأي سبب من الأسباب. الدليل: الدليل على هذا الشرط وهو تعذر استعمال الماء أو عدم وجوده قوله تعالى فلم تجدوا ماء فتيمموا فاشترط للتيمم عدم وجود الماء. الثاني: قوله ‘ وإن لم يجد الماء عشر سنين فنص على أن التيمم إنما يجوز إذا لم يجد الماء. وأيضاً في حديث عائشة حين فقد العقد ونزلت آية التيمم قبل أن يتيمموا قال في الحديث فالتمسوا الماء فلم يجدوه. فهذا هو الشرط - عدم الماء أو تعذر استعمال الماء - وما سيذكره المؤلف بعد ذلك إنما هو تفصيل لهذا الشرط. • فقوله ’: وعُدِم الماء أو زاد على ثمنه كثيراً. المقصود بثمنه ثمن مثله في مكانه: أي مثمن مثل هذا الماء فإن المياه النقية قد تكون أغلى ثمناً من المياه التي هي أقل نقاء وأيضاً في مكانه: فمثلاً المياه في الطرق العامة وفي أماكن السفر قد تكون أغلى ثمناً منها في داخل البلد.

فإذاً يجب أن يكون أغلى من ثمنه في مكانه إذا كان أغلى من ثمن مثله في مكانه جاز التيمم. لكن اشترط المؤلف شرطاً وهو قوله: كثيراً: فإن كان أغلى يسيراً فإنه لا يجوز التيمم ويجب أن تشتري. بناء على هذا إذا كان لتر الماء يباع في هذه المنطقة بريال ثم وجد من أراد الصلاة أن الماء يباع بخمسين ريال. هل يعتبر هنا قد زاد على ثمنه؟ الجواب نعم. وهل زاد كثيراً؟ الجواب نعم. فإذا كان هذا الشخص يملك خمسين ريالاً فهل يجوز له أن يتيمم أو يجب أن يشتري الماء ويغتسل أو يتوضأ به؟ فالجواب: نقول يجوز له لأن الحنابلة يقولون إذا كان الماء أكثر من ثمنه في مكانه كثيراً فيجوز التيمم ولا يلزم بالشراء. وإن كان المال معه لكن لما كان أكثر من ثمنه كأنه غير موجود. والقول الثاني: في هذه المسألة أن من أراد الصلاة إذا كان ذا مال وهذه الزيادة لا تجحف بماله وإن كانت كثيرة فيجب عليه أن يشتري لأن هذا الشراء لا يضره ولأن القاعدة المتفق عليها أن ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب. وهذا القول هو الصواب فما دام أنه يملك مالاً كثيراً والزيادة لا تجحف بماله فإنه يجب عليه أن يشتري الماء. بناء على هذا: إذا كان في المثال السابق من أراد أن يصلي وهو يملك خمسون ريالاً لكن هي قوته فسيشتري بها طعاماً لأولاده فهل يجب عليه - على القول الراجح أن يشتري؟ الجواب. لا لا يجب. وإذا أراد أن يصلي من يملك خمسين ريال زائدة ويملك غيرها أموالاً كثيرة فهل يجب عليه أن يشتري؟ فالجواب: نعم. وقد لا نحتاج إلى هذه المسألة في وقتنا هذا ولكن في القديم كانت الحاجة إلى مثل هذه المسألة كثيرة لا سيما في السفر. ثم استمر المؤلف في بيان صور العجز عن الماء فقال ’: أو بثمن يعجزه. إذا كان الماء بثمن وهذا الثمن قليل ولا يعتبر كثير لكن يعجزه فالماء مثلاً بعشر ريالات ولكنه لا يملك هذا المبلغ فهل يجب عليه أن يشتري؟ الجواب: لا. لأنه لا يستطيع فيصدق عليه أنه لا غير واجد للماء. • ثم قال ’: أو خاف باستعماله أو طلبه: ضرر في بدنه. إذا خاف الانسان على نفسه من استعمال الماء بأن يقع عليه ضرر جاز له حينئذ مع وجود الماء: أن يتيمم. الدليل: الأدلة كثيرة: التي تعضد هذا القول:

أولاً: قوله تعالى: وإن كنتم مرضى أو على سفر .... إلى أن قال: فتيمموا. فقوله وإن كنتم مرضى نص على أن المرض يبيح للإنسان أن يتيمم. ثانياً: حديث عمرو بن العاص السابق فإن النبي ‘ أقره على الاغتسال وعمرو بن العاص كان في غزوة ذات السلاسل وكان البرد شديد جداً واحتلم في الليل. قال فلما أصبحت خشيت إن اغتسلت أن أهلك فتيمم فقص على النبي ‘ ما عمل فأقره ‘ وتبسم ولم يأمره بإعادة الصلاة. إذاً عمرو بن العاص تيمم لوقوع الضرر أو لخشية الضرر؟ الجواب: لخشية الضرر. ثالثاً: القواعد العامة. ما يريد الله أن يجعل عليكم في من حرج. لا ضرر ولا ضرار. وأدلة رفع الحرج وهي من القواعد الخمس الكبرى كثيرة جداً. وذكر الفقهاء أنه لا يشترط في خوف المرض أن يخاف مرضاً عظيماً أو أن يخاف أن يموت بل يكفي أن يخاف مرضاً عادياً لا يعتبر من الأمراض الكبيرة. بل ذكر بعض الحنابلة أنه لو خاف أن اغتسل أن يزكم فإنه يجوز له أن يتيمم لأن الزكام نوع من أنواع المرض. فإذاً يجوز للإنسان أن يتيمم. إذا كان مريضاً ويخشى من زيادة المرض إذا كان صحيحاً ويخشى من وجود المرض ففي هاتين الصورتين يجوز للإنسان أن يتيمم. سوار كان المرض من الأمراض الخطيرة أو من الأمراض اليسيرة. • قال ’: أو رفيقه أو حرمته أو ماله. كثير من الشراح والمحشين انتقد المؤلف في هذه العبارة وهي قوله في بدنه أو رفيقه أو حرمته. وجه الانتقاد: أن هذه العبارة تشعر أن الحكم خاص بما إذا خاف على بدنه أو رفيقه أو حرمته فقط. أما إذا خاف على أجنبي فإنه لا يجوز له أن يتيمم ويجب أن يتوضأ. فمثلاً: لو كان معه أجنبي يخشى عليه من الهلاك عطشاً فمقتضى عبارة المؤلف أنه يجب أن يتوضأ بهذا الماء ولا يتيمم لماذا؟ لأنه حصر الخشية في هؤلاء الثلاثه البدن والرفيق والحرمة. ولذلك فإن العبارة الصحيحة أن يقال أو خشي على كل محترم من آدمي أو حيوان. فكل محترم من آدمي أو حيوان إذا خشي عليه جاز له التيمم. بداية من نفسه ونهاية إلى أبعد الناس عنه. • قال ’: أوماله بعطش أو مرض أو هلاك ونحوه: شرع التيمم. قوله شرع التيمم هذا جوابُ قوله في أول الباب: إذا دخل وقت فريضة أو أبيحت نافلة.

والمؤلف ’ قال شرع: لأن التيمم قد يكون سنة إذا أراد أن يتسنن وقد يكون واجباً إذا أراد أن يصلي الواجبات. فعبر بعبارة شرع ليشمل الأمرين. • ثم قال ’: ومن وجد ماء يكفي بعض طهره: تيمم بعد استعماله. إذا وجد الإنسان ماء يكفي لغسل بعض أعضاء الوضوء فعند الحنابلة يجب عليه أن يستعمل هذا الماء في هذه الأعضاء ثم إذا نفد الماء تيمم عن الباقي. ما الدليل؟ الدليل قوله تعالى فاتقوا الله ما استطعتم وقوله ‘ إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم ولأنه بهذا يصدق عليه أنه لم يجد الماء بينما لو تيمم ومعه ماء يكفي ابعض أعضائه فقد تيمم مع وجود الماء. القول الثاني: في هذه المسألة: أنه لا يلزمه أن يستخدم هذا الماء بل يجوز له أن يتيمم مباشرة ويترك هذا الماء. الدليل: قالوا: أن استعمال هذا الماء لا يفيد التطهير فلا معنى لاستعماله وممن نصر هذا القول من المتأخرين: الشوكاني. وممن نصر القول الأول: وهو مذهب الحنابلة. ابن القيم ’. والصواب القول الأول: فيجب عليه أولاً أنت يستخدم هذا الماء فيما يكفي من أعضائه ثم يتيمم بعد ذلك. لقوة أدلة الحنابلة ولأنا وجدنا الشارع يأمر الجنب أن يتوضأ فدل على أن غسل بعض الاعضاء في الطهارة الكبرى ينفع فكذلك في الطهارة الصغرى. إذاً في هذه الصورة إذا وجد الإنسان ماء يكفي فقط غسل الوجه فإن كثيراً من الناس يترك هذا الماء ويقول لا فائدة من غسل الوجه فقط ويتيمم مباشرة. فنقول له يجب عليك أن تعيد التيمم والصلاة. لماذا؟ لأنه يجب قبل أن تتيمم أن تستعمل هذا الماء فيما يكفي من الأعضاء ولو كان عضواً واحداً. فمذهب الحنابلة في هذه المسألة قوي. • ثم قال ’: ومن جرح تيمم له وغسل الباقي. مازال المؤلف في تفاصيل الشرط الثاني: وهو عدم القدرة على استعمال الماء. فكل هذه المسائل تفصيل للشرط الثاني. إذا جرح الإنسان فإنه يغسل عند الفقهاء على الترتيب التالي: أولاً: إما أن يستطيع غسل الجرح بلا ضرر فيجب عليه أن يغسل الجرح فإن كان لا يستطيع غسل الجرح فينتقل إلى المسح على الجرح مباشرة بلا حائل فإن كان لا يستنطيع المسح على الجرح انتقل إلى طهارة التيمم.

فكم صارت المراتب؟ الأول: الغسل. والثاني: المسح. والثالث: التيمم. ولا ينتقل من مرتبة إلى أخرى إلا عند العجز عن المرتبة الأولى. ما الدليل؟ الدليل: الآية السابقة: (فاتقوا الله ما استطعتم). والدليل الثاني: حديث صاحب الشجة فإن أصحاب النبي ‘ خرجوا في غزوة وكان أحد الصحابة قد أصابة رأسه شجة - يعني جرح - فاحتلم فلما قام سأل أصحابه فقال: هل ترون لي من رخصة فقالوا: لا والله ما نجد لك رخصة وأنت واجد للماء فاغتسل فمات فلما رجعوا إلى النبي ‘ سألوه فلما عرف قال النبي ‘ قتلوه قتلهم الله. ألا سألوا إذ لم يعلموا فإن شفاء العي السؤال. إنما يكفيه أن يتيمم ثم يعصب على جرحه ثم يمسح ويغسل سائر بدنه. فهذا الحديث نص في طهارة المسح لكن هذا الحديث الصواب فيه أنه ضعيف: أولاً: لأن إسناده ضعيف. وثانياً: أنا نجل أصحاب النبي ‘ أن يفتوا هذه الفتوى وإن كان بعض المعاصرين يصحح هذا الحديث لكن الصواب أنه ضعيف. الدليل الثاني: أن المسح على الجرح أولى من المسح على الجبيرة كما قال شيخ الاسلام بن تيمية. مسألة: هل يجوز أن يمسح على العصابة التي يلف بها الجرح؟ الجواب: نعم إذا كان لا يستطيع مسح الجرح مباشرة. فمثلاً: لو ربط على جرحه لفافة ثم قال: هل يجوز أن أمسح؟ فالجواب: أن يقال: إن كنت تستطيع رفع هذه اللفافة والمسح على الجرح فيجب. وهذه أفتى بها الإمام أحمد: قال: إن كان يستطيع فيجب أن يرفع ويمسح. وإن كان لا يستطيع أن يمسح لخشية تضرر الجرح فإنه يمسح على اللفافة. وبهذا كمل تصور أحكام مسح الجروح. نقول: أولاً: يجب أن تغسل إن استطعت. وثانياً: إن لم يستطع الغسل فيمسح. وثالثاً: إن لم يستطع المسح فيتيمم. وإن كان الجرح مربوطاً يجب أن يرفع الرباط إذا كان الجرح لا يتأثر وإن كان يتأثر فإنه يمسح على اللفافة. إذا كان الجرح مكشوفاً ولا يستطيع أن يمسح عليه فهل يلزمه أن يلف الجرح ويمسح على اللفافة؟ الجواب: فيه تفصيل: • إن كان تغطية الجرح يؤدي إلى تأخر برئه فإنه لا يلزمه. • وإن كان يستطيع لف الجرح بلا ضرر فنقول يجب أن يلف الجرح ويمسح. التعليل: أن طهارة المسح مقدمة على طهارة التيمم.

إذاً إذا كان الإنسان أصابه جرح وأمره الطبيب بأن يبقيه مكشوفاً لينشف مع الهواء فهل يلزمه أن يلف الجرح؟ الجواب: إن كان اللف يضر الجرح أو يؤخر برء الجرح فلا يلزمه. وإن كان اللف وعدمه سواء فإنه يلزمه أن يلف الجرح ويمسح عليه. وكما تعلمون هذه المسائل الحاجة إليها كثيرة. وعرفنا من التفصيل السابق أن المؤلف نقض مسألة المسح ولو كان - رحمه الله - ذكره لكان أولى لأنه طهارة أساسية في مثل هذه المسألة ولذلك عوض هذا النقص صاحب الروض وذكر طهارة السمح ونص عليها. • قال - رحمه الله -: ويجب طلب الماء في رَحله وقربه وبدلالة. ما زال المؤلف في تفاصيل شرط عدم القدرة على الماء فقال: ويجب طلب الماء في رحله: القاعدة العامة: أنه يجب طلب الماء قبل أن تتيمم. الدليل قوله تعالى: فلم تجدوا ماء. ولا يسمى الإنسان غير واجد للماء إلا بعد الطلب. أما بلا طلب فلا يسمى غير واجد للماء. وهذا القول خلافاً لمن قال من الفقهاء أنه يجب أن يطلب الماء إن كان الماء موجوداً وإلا لا يطلبه. فإنه قول ضعيف جداً ومخالف لظاهر النصوص. الخلاصة: نحن لا نحتاج لهذا الخلاف لشدة ضعفه. فنقول: أن الأصل والقاعدة أنه يجب على الإنسان أن يبحث ويطلب الماء قبل أن يتيمم لدلالة هذه الآية الصريحة لكن طلب الماء فيه تفصيل وقد ذكره - رحمه الله -. • فقال - رحمه الله -: في رحله وقربه: فيجب أن يطلب الإنسان الماء في رحله - يعني في ما معه من أغراض فيفتش فيها تفتيشاً يبرئ الذمة. ثم إذا لم يجد في رحله انتقل إلى المرحلة الثانية وهي ما ذكره المؤلف بقوله: وقربه. والمؤلف - رحمه الله - لم يذكر حد القرب وحده: العرف. فإذا كان في العرف قريب وجب عليه أن يبحث وإن كان في العرف بعيد فلا يجب عليه أن يبحث ولا أن يطلب ولما سأل الإمام أحمد عن هذه المسألة قال: في ميل أو ميلين أو ثلاثة. وهذا على سبيل التقريب بمعنى: ما يقرب من هذه المسافة. والأعراف تختلف من بلد لبلد ومن زمن لزمن. فإذا كان في العرف قريب وجب عليه أن يطلبه وإذا كان في العرف بعيد فلا يجب عليه أن يطلبه وجاز له التيمم فوراً وقد ثبت في الأثر الذي علقه الإمام البخاري أن ابن عمر تيمم وهو يرى منازل المدينة.

لكن ربما كانت بعيدة وإنما يراها عن بعد لأنه في القديم لا توجد حواجز بين المسافر والمدينة فاليوم نقول إذا كان الإنسان في بر ويحتاج لتحصيل الماء والدخول إلى داخل المدينة يقطع فيه عشرة أو خمسة كيلوات فإنه لا يلزمه وله أن يتيمم لكن إذا كان بجواره مزرعة قريبة يستطيع أن يذهب إليها بكل يسر وسهولة وتعتبر في العرف قريبة وجب عليه أن يذهب إليها بالسيارة أو برجله. قال: وبدلاله: يعني يجب عليه أن يطلب الماء بدلاله فإذا قال له شخص ثقة الماء في المكان الفلاني فيجب عليه أن يطلب هذا الماء بشرط أن يكون الدال ثقة. ولا يجوز أن يقول طلبت الماء فلم أجده بل يجب أن يذهب إلى المكان الذي أرشده إليه هذا الثقة بشرط أن يكون قريباً عرفاً. • قال ’: فإن نسي قدرته عليه وتيمم: أعاد. في الحقيقة هذه المسألة مشكلة ولذلك فيها عن الإمام أحمد ثلاث روايات ومن شدة إشكال المسألة احدى الروايات عن الإمام أحمد التوقف. فإذا روي عن الإمام أحمد ثلاث روايات إحداها توقف دل ذلك على أن المسألة فيها إشكال. إذاً نقول مذهب الحنابلة أن من نسي الماء وصلى ثم ذكره فإنه يعيد وهذا نص الماتن. أولاً: لأن النسيان لا يرفع عنه أنه واجد. ثانياً: لأن الواجبات لا تسقط بالنسيان. الرواية الثانية: أنه لا يلزمه الإاعادة 1. لقوله تعالى: ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا. 2. وقوله ‘ رفع عن أمتي الخطأ والنسيان. 3. ولدليل ثالث قوي وهو أنه صلى صلاة مأموراً بها في وقتها فلا يعيد فما كان يلزمه شي حين كان لا يذكر غير أن يتيمم ويصلي فلما صلى فقد صلى صلاة مشروعة مطلوبة منه والشرع لا يلزم الإنسان أن يصلي مرتين. والرواية الثالثة: التوقف: ما هو دليل هذه الرواية؟ هناك قاعدة موجودة في جميع التوقفات: تعارض الأدلة - تكافؤ الأدلة هو الذي يجعل المجتهد يتوقف. وكما ترون لكل واحد من الروايات حظ ونصيب ولا شك أن الأحوط الإعادة بلا إشكال لكن أي الأقوال أرجح الأول لأن الواجب لا يسقط بالنسيان. الثاني: لماذا؟

في الحقيقة كما ترون فيها إشكال ومن وجهة نظري لا أقول الراجح لكن الأقرب عدم الإعادة. لأن هذا الإنسان فعل ما أمر به والشارع لا يأمر بالصلاة مرتين وليس منه تفريط وإن كان بعض الفقهاء يقول بلى منه تفريط لأنه نسي لكن في الحقيقة النسيان لا ينسب إلى صاحبه التفريط لأنه يعرض للذهن من غير إرادة صاحبه. فهذا ترك العبادة أصلاً لكن هنا فعل ما عليه. • ثم قال - رحمه الله -: وإن نوى بتيممه أحداثاً. • إن نوى بالتيمم أحداثاً أجزأه. فمثلاً لو فرضنا أن إنساناً أكل لحم الجزور وبال ونام. كم حصل منه حدث؟ ثلاثة أحداث. فإذا نوى هذه الأحداث أجزأة. • وإن نوى أحد هذه الأحداث أيضاً أجزأه. • وإن نوى أحد الحدثين لم يجزأه = مالمقصود بالحدثين؟ الأكبر والأصغر. • فإن نوى الأكبر لم يرتفع الأصغر. • وإن نوى الأصغر لم يرتفع الأكبر. إذاً فرق بين أن ينوي حدثاً واحداً من بين عدة أحداث من جنس واحد وبين أن ينوي حدثاً أصغر دون الأكبر أو الأكبر دون الأصغر. تقدم معنا في الغسل أن نية الغسل تكفي عن نية الوضوء فكذلك هنا نية التيمم عن الجنابة تكفي عن نية التيمم عن الوضوء. كما قلنا في تلك المسألة تماماً. إذاً الصواب أنه إذا نوى الحدث الأكبر ارتفع فإن نوى الحدث الأصغر لم يرتفع لأن الحدث الأصغر يدخل في الحدث الأكبر ولكن الأكبر لا يدخل في الحدث الأصغر. • قال - رحمه الله -: أو نجاسة على بدنه تضره إزالتها أو عدم ما يزيلها. إذا نوى نجاسة أجزأه أيضاً فهم من هذه العبارة أنه يشرع للإنسان أن يتيمم عن النجاسة وهذا من مفردات مذهب الحنابلة. فإذا كان - مثلاً - على بدنه نجاسة ولا يملك ماء يزيل به هذه النجاسة شرع له عند الحنابلة أن يتيمم عن هذه النجاسة. والقول الثاني: أن التيمم مشروع لرفع الحدث فقط دون رفع النجاسة بدليل أنه لم يأت في الشرع رفع للنجاسة وإنما النصوص جاءت في رفع الحدث فقط وهذا القول - الثاني: هو الصواب. أنه لا يشرع للإنسان أن يتيمم للنجاسة إذا لم يستطع أن يزيلها بالماء. • ثم قال - رحمه الله -: أو خاف برداً أو حُبس في مصر فتيمم. يعني إذا حبس في مدينة من المدن ولم يستطع داخل الحبس أن يتوضأ أو يغتسل بالماء شرع له التيمم.

أو عدم ما يزيلها: كما قلت هي نفس مسألة أو عدم ما يزيلها نفس مسألة إذا كانت النجاسة على بدنه وتضره إزالتها. لكن لم نذكر في الحقيقة مثالاً على نجاسة تضر إزالتها كالنجاسة التي على الجروح لو قشعت لتضرر الجرح فهذه تبقى أما إذا عدم ما يزيلها فالأمر واضح. أو خاف برداً: فيس الحقيقة هذه المسألة داخلة في قول المؤلف أو ضرر في بدنه. قال بعطش أو مرض فهذا تكرار. فيكتفي بما قيل في الموع الأول عند قوله أو خاف برداً. أو حبس في مصر فتيمم. في هذه العبارة دليل على أن التيمم يشرع في السفر والحضر وأنه لا يختص بالسفر خلافاً للظاهرية الذين يرون أن التيمم خاص بالسفر لقوله تعالى وإن كنتم مرضى أو على سفر فنص في الآية على السفر والجواب أن الآية خرجت مخرج الغالب إذ أن الغالب أن المسافر هو الذي يحتاج إلى التيمم دون من كان في داخل المدينة والقيد إذا خرج مخرج الغالب لا يعني التقييد إذاً هل يجوز أن يتيمم الإنسان في داخل بلد؟ الجواب: نعم. يجوز وهو مذهب الجمهور خلافاً للظاهرية الذين يقصرون التيمم على السفر. أو عدم الماء والتراب: صلى ولم يعد. إذا عدم الماء والتراب هذه تسمى - إذا عدم الطهارتين - طهارة الماء والتراب. وهذه الصورة - إذا عدم الطهارتين - لها أحكام خاصة عند الحنابلة تتلخص في أن من عدم الطهارتين لا يجوز له إلا أن يصلي الفريضة ولا يزيد فيها عن الواجب في القراءة والتسبيح والتشهد وكل الصلاة. فمثلاً: لا يقرأ أكثر من الفاتحة لأن قراءة سورة أخرى سنة ولا يزيد على تسبيحة واحدة لأن الزيادة سنة. الدليل: قالوا: إنما أجزنا له الصلاة ضرورة والضرورة تقدر بقدرها. وهي الأشياء الواجبة. القول الثاني في هذه المسألة: أنه له أن يصلي ما شاء ويزيد في داخل الصلاة على الواجب ويأتي بالسنن وبما شاء مما هو مشروع لأن هذه الطهارة بالنسبة له طهارة كاملة في حقه لأنه لم يتمكن من الطهارتين لا التراب ولا الماء. وهذا القول اختاره شيخ الاسلام وغيره من المحققين كالسعدي وغيره من أهل العلم. إذاً فالقول الصواب إن شاء الله أن له أن يصلي ما شاء ويزيد في داخل الصلاة ماشاء. نقف عند هذا ونكون قد وقفنا على صفات التراب ............

بسم الله الرحمن الرحيم الحنابلة يرون أنه إذا احتاج إلى أن يتيمم عن عضو من الأعضاء لوجود جرح أو نحوه فإنه يلزمه في هذه الصورة الترتيب والموالاة فإذا كان الجرح في اليد فيجب بعد غسل الوجه أن يتيمم ثم ينتقل إلى مسح الرأس فيرتب ويلزمه أيضاً الموالاة بحيث لا يؤخر التيمم عن العضو المجروح إلى أن ينشف العضو الذي غسل قبله. والقول الثاني في هذه المسألة أنه لا يلزمه لا الترتيب ولا الموالاة. بل يؤخر التيمم إلى نهاية الوضوء بل ذهب شيخ الاسلام إلى أن التيمم في وسط الوضوء بدعة لا أصل له. وهذا القول هو الراجح لأن في القول الأول شدة وحرج على المسلم المجروح الذي يريد أن يتيمم ولأنه لم ينقل عن السلف أنهم كانوا يتيممون في وسط الوضوء مع وجود الجراح في أجسامهم. إذاً هذه مسألة تحلق بهذا الموضع. ثم ننتقل إلى الموضع الذي توقفنا عنده. • قال - رحمه الله -: ويجب التيمم: بتراب طهور غير محترق له غُبار. بدء المؤلف - رحمه الله - تعالى بالكلام عن شروط ما يتيمم به وهو التراب فقال: ويجب التيمم: بتراب. يرى الحنابلة أنه لا يصح التيمم إلا بالتراب دون غيره من بقية أجزاء الأرض فلا يصح التيمم على الرمل ولا على الحصى مثلاً إنما يصح التيمم فقط بالتراب ويستدل الحنابلة على هذا القول بقول النبي - صلى الله عليه وسلم - جعلت لي الأرض مسجداً وجعلت تربتها لنا طهوراً. فخص التراب بالتطهير. القول الثاني أنه يجوز أن يتيمم المسلم بكل ما على سطح الأرض مما هو من جنسها. واستدلوا بأدلة كثيرة: أولاً: قوله تعالى: فتيمموا صعيداً طيباً. قال الخليل والزجاج وهما من أئمة اللغة الصعيد كل ما على وجه الأرض. لا يختص بالتراب. والدليل الثاني: قول النبي - صلى الله عليه وسلم - أيما مسلم أدركته الصلاة فليصل فإن عنده مسجده وطهوره وهذا الحديث عام في كل أجزاء الأرض. الدليل الثالث: من المعلوم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يكن يتيمم بالتراب فقط ففي أسفاره كان يمر بالرمال وفي الغالب سيتيمم منها ولم ينقل أنه يحمل معه التراب. وأما الحديث الذي استدل به الحنابلة فإنه صحيح ولكن لا دليل فيه لأن ذكر بعض أفراد العام بحكم لا يعني تخصيصه إذا ذكر بحكم يوافق حكم العام.

فالأحاديث دلت على أن الأرض كلها طهور ثم هذا الحديث الذي ذكره الحنابلة خص التراب بأنه طهور وتخصيص بعض أفراد الحكم العام بحكم يوافق الحكم العام لا يعني تخصيصه. وهذا القول - الثاني: هو الصواب. وعليه عمل المسلمين. • قال ’: طهور: الحنابلة يرون أن التراب ينقسم إلى ثلاثة أقسام: طاهر وطهور ونجس. كتقسيمهم المياه. فإذا وجدنا تراباً قد تيمم به فإنه يعتبر تراب طاهر لأنه استعمل في رفع حدث وتقدم الكلام عن هذه المسألة وبيان أن الراجح أن المياه طاهر ونجس فقط كذلك التراب طاهر ونجس فقط. وما قيل من أدلة ومناقشات في تلك المسألة هو نفسه هنا. فإذاً هذا الشرط وهو أن يكون طهوراً محل نظر لأن التراب لا يكون إلا طاهراً أو نجساً فقط ولا يصح تقسيمه إلى ثلاثة أقسام. • قال ’: له غبار: أيضاً من شروط المتيمم به أن يكون تراباً وأن يكون هذا التراب له غبار. هل اشتراط التراب يغني عن اشتراط أن يكون له غبار؟ أو كب منهما شرط مستقل. الجواب: أنه يغني. وإذا جاءنا تراب مبتل ليس له غبار. فهل يكون شرط مستقل أو يغني عنه الشرط الأول؟ يكون شرط مستقل. إذاً الشرط الآن أن يكون له غبار. الدليل: قوله تعالى: في آية المائدة فلم تجدوا ماء فتيمموا صعيداً طيباً فامسحوا بوجوهكم وأيديكم منه. قالوا من: في قوله منه للتبعيض ولا يكون له أبعاض إلا إذا كان له غبار. والقول الثاني: أنه لا يشترط أن يكون له غبار لأن النصوص عامة لم يشترط فيها وجود الغبار. يبقى الجواب عن الآية: الجواب من وجهين: الوجه الأول: أن من في الآية ليست للتبعيض وإنما هي لابتداء الغاية ولكن هذا الجواب ضعفه الزمخشري ’ وكلامه صحيح. فهذا الجواب ليس وجيهاً. الوجه الثاني: أن السنة بينت جواز التيمم بما ليس له غبار وهذ القول هو الراجح - أنه لا يشترط أن يكون له غبار. إذاً صارت شروط ما يتيمم به ثلاثة: 1. أن يكون تراباً. 2. أن يكون طهوراً. 3. أن يكون له غبار. إذا تخلف أحد الشروط الثلاثة لم يصح التيمم عند الحنابلة وقد عرفت وسمعت الخلاف في كل شرط من هذه الشروط وأن الشروط جميعاً ليست صحيحة وأن التيمم طهارة للتخفيف ولا يناسب فيها هذا التشديد في شروط التراب. • ثم قال ’: وفروضه:

انتقل المؤلف ’ إلى بيان الفروض وهي إجمالاً أربعة: 1 - مسح الوجه واليدين وهذا أعظم الفروض. 2 - الترتيب. 3 - الموالاة. 4 - تعيين النية. وسيأتي معنى تعيين النية. وقد ذكر المؤلف هذه الفروض مرتبة. • قال ’: مسح وجهه. مسح الوجه فرض باتفاق الأئمة. للآية فامسحوا بوجوهكم وأيديكم. ولحديث عمار ابن ياسر أن النبي ‘ أرشده إلى كيفية التيمم فقال إنما يكفيك أن تضرب بيديك ضربة واحدة ثم تقول هكذا فمسح الشمال على اليمين وظاهر كفيه ووجهه. هذا اللفظ أحد ألفاظ البخاري واللفظ الآخر المتفق عليه فضرب ضربة ومسح وجهه ويديه بدون تفصيل. إذاً مسح الوجه لا إشكال فيه فهو فرض باتفاق الائمة والدليل عليه من الكتاب والسنة. أما كيفية مسح الوجه فستأتينا في آخر الباب والمقصود الآن أن نعرف أنه فرض. • ثم قال ’: ويديه إلى كوعيه. الكوع هو العظم الذي يلي الإبهام ومسح اليدين أيضاً فرض بالاتفاق من حيث الجملة بدليل الآية والحديثين السابقين. وكونه كما يقول المؤلف إلى كوعيه هذا مذهب الحنابلة بدليل: 1. أن اليد عند الاطلاق تنصرف إلى الكف فقط دون الذراعين. 2. والدليل الثاني: وهو أصرح وأقوى أنه في حديث عمار لم يمسح إلا الكفين: ومسح كفيه:. القول الثاني: أن المسح إلى المرفقين واستدلوا بأنه روي في التيمم أن النبي ‘ مسح إلى المرفقين. والراجح مذهب الحنابلة. والجواب عن استدلال القول الثاني: بقاعدة: وهي: أن كل حديث فيه المسح إلى ما بعد الكف إلى المرفقين فهو ضعيف. وكل حديث فيه أكثر من ضربه فهو ضعيف. وهذه قاعدة تريح طالب العلم. فالمشروع إذاً مسح الكفين فقط. • ثم قال ’ والترتيب، والموالاة في حدث أصغر. الترتيب واجب في التيمم بدليل الآية فإن الله تعالى بدء بالوجه ثم عقب باليدين وبدليل حديث عمار - ففي لفظه المتفق عليه البدء بالوجه قبل اليدين: فمسح وجهه ويديه. فإذا ضرب الإنسان ضربة ومسح يديه ثم مسح وجهه فإن التيمم يكون ....... (غير مجزئ) وعليه أن يمسح يديه. ليتم الترتيب. وهذا يبين أن الترتيب مسألة مهمة جداً لأن كثيرا من الناس اليوم يضرب ضربه ويبدأ باليدين قبل الوجه فعند الحنابلة الترتيب في التيمم حكمه فرض.

والقول الثاني أن الترتيب سنة لأنه في بعض ألفاظ البخاري البدء باليدين قبل الوجه. واختار هذا القول شيخ الاسلام. والأقرب الأول أنه فرض. وأما الرواية فالرد عليها أن هذا اللفظ لا يثبت والحديث المشهور في البخاري ومسلم - فيما عدا هذه الرواية - البدء بالوجه كما أنه هذه الرواية التي فيها البدء بالوجه مع أنها متفق عليها توافق ظاهر القرآن. فإن صحت هذه الرواية فالقول بأنه سنة هو الراجح. لكن الأقرب أنها لا تصح. • ثم قال - رحمه الله -: والموالاة في حدث أصغر. الموالاة: أن لا يؤخر مسح اليدين بزمن يقدر فيه جفاف الوجه لو غسل بالماء. والموالاة صحيح أنها فرض ولو فصل الإنسان هذا الفاصل لا يدق عليه أنه تيمم تيمماً مكتملاً لكن خص المؤلف هذا الفرض - الترتيب والموالاة - بالحدث الأصغر فيفهم منه أن الإنسان إذا تيمم عن جنابة فإنه لا يشترط الترتيب ولا الموالاة. والصواب أنه يشترط الترتيب والموالاة حتى في التيمم عن الحدث الأكبر لأن التيمم يختلف عن الاغتسال فا لاغتسال يكون الغسل فيه لعضو واحد وهو البدن بينما التيمم للجنابة يكون في عضوين ولذلك لابد فيهما من الترتيب والموالاة. وفي هذه النقطة فقط من بين سائر مسائل الوضوء والتيمم - التيمم أضيق من الاغتسال لأن الاغتسال لا تشترط فيه الموالاة ولا الترتيب. بينما يشترط في الحدث الأكبر - أي الجنابة - إذا كان سيتيمم. الخلاصة: أن الترتيب والموالاة عند الحنابلة فرض في الحدث الأصغر وهو الصواب. وهما سنة في الحدث الأكبر عند الحنابلة والصواب أنهما فرض حتى في الحدث الأكبر. وذكرنا وجه التفريق بين الجنابة عند رفعها بالماء ورفعها بالتيمم. • ثم قال - رحمه الله -: وتشترط النية: لما يتيمم له من حدث أو غيره. فإن نوى أحدها: لم يجزئه عن الآخر. وإن نوى نفلاً أو أطلق: لم يصل به فرضاً. وإن نواه: صلى كل وقته فروضاً ونوافل. هذا هو الفرض الرابع ويسمى تعيين النية: قال: وتشترط النية: لما يتيمم له من حدث أو غيره: في التيمم لابد من تعيين النية. ومعنى تعيين النية: أن يعين ما يتيمم له وما يتيمم عنه. مثال ذلك: إذا أراد أن يتيمم ليصلي فيجب أن ينوي أنه يتيمم لصلاة الظهر عن حدث النوم إذا كان حدثه بالنوم.

فينوي ما يتيمم له وهو في المثال صلاة الظهر وما يتيمم عنه وهو في المثال النوم. فإن نوى رفع حدث النوم دون الصلاة. فهو سيصلي ولكن لم يخطر بباله أثناء التيمم أن هذا التيمم ليصلي الظهر مثلاً وإنما خطر بباله رفع الحدث وهو النوم. فإن تيممه غير صحيح لأنه فقد شرط تعيين النية. وإن نوى بتيممه صلاة الظهر ولم ينو رفع الحدث المعين فإن التيمم يصبح غير صحيح لأنه لم يعين الحدث المرفوع. ما دليل الحنابلة؟ قالوا: أن التيمم شرع ضرورة فهو ضعيف يحتاج إلى التقوية بالتعيين أي أننا إذا عينا فقد قوينا من أمر التيمم بتخصيص النية. والقول الثاني: أنه لا يشترط تعيين النية بل لو نوى الصلاة أو رفع الحدث أحدهما أو كلاهما فإن تيممه صحيح لأن التيمم رافع وليس مبيحاً. وإذا كان التيمم رافع فإنه إذا تيمم ارتفع الحدث بأي نية نواها. هذا معنى قوله: وتشترط النية: لما يتيمم له من حدث أو غيره. والنية التي يتيمم عنها لا تخرج عن ثلاثة أشياء: 1. إما أن ينوي حدثاً أصغر. 2. أو حدثاً أكبر. 3. أو عن إزالة النجاسة في البدن - كما سبق معنا أن الحنابلة يرون مشروعية التيمم عن النجاسة التي لم يتمكن من إزالتها. إذاً التيمم عن الاحداث ينحصر في ثلاثة حدث أصغر وحدث أكبر وإزالة النجاسة. أما ما يتيمم له فهو كثير فقد يتيمم لفريضة وقد يتيمم لطواف وقد يتيمم لقراءة القرآن وقد يتيمم لأداء نذر وقد يتيمم لصلاة فرض كفاية. فإذاً المنوي من العبادات كثير ومتنوع وهذه المسألة من أضيق ما يكون في فقه التيمم عند الحنابلة وكثير من الناس لا يخطر على باله عند التيمم أن ينوي بدقة عن ماذا ولماذا؟ ثم قال: فإن نوى أحدها: لم يجزئه عن الآخر. لو فرضنا أن إنساناً عليه حدث أصغر وأكبر ونوى الحدث الأكبر فقط لم يرتفع الاصغر. وإن نوى الأصغر فقط لم يرتفع الأكبر. لأنه يجب إذا أراد أن يتيمم أن يعين وينوي الحدث الذي يريد أن يرفعه. وتقدم معنا الصواب في هذه المسألة وهو أن نية الحدث الأكبر ترفع الأصغر أما نية الحدث الأصغر فإنها لا ترفع الأكبر. قال: وإن نوى نفلاً أو أطلق: لم يصل به فرضاً. وإن نواه: صلى كل وقته فروضاً ونوافل.

القاعدة التي تجمع هذه المسائل عند قوله وإن نوى نفلاً أو أطلق: لم يصل به فرضاً: أنه إذا نوى الادنى فإنه لا يستبيح به الأعلى. وإن نوى الأعلى استباح به الادنى. مثال ذلك: إذا نوى بالتيمم صلاة فريضة فهل يجوز أن يصلي صلاة الضحى بهذا التيمم؟ نعم لأنه نوى الأعلى. وإن نوى التيمم ليقرأ القرآن فهل يجوز أن يلبث في المسجد؟ ينبني على أيهما أعلى هل قراءة القرآن أعلى أم اللبث في المسجد؟ الجواب: قراءة القرآن. فإذا تيمم لقراءة القرآن جاز له اللبث. وإذا تيمم للبث في المسجد فلا يفعل أي شيء من العبادات إلا اللبث في المسجد لأن اللبث أدنى مراتب النية. ثم بدء المؤلف ’ بعد نهاية الفروض بالكلام عن مبطلات التيمم. • فقال ’: ويبطل التيمم: بخروج الوقت. يبطل التيمم بخروج الوقت فإذا تيمم الإنسان لصلاة الظهر فبمجرد خروج وقت صلاة الظهر بطلت طهارة التيمم ووجب عليه أن يتيمم مرة أخرى لصلاة العصر. دليل الحنابلة: قالوا: أن التيمم شرع ضرورة فتقيد بالوقت كالاستحاضة. واستدلوا بدليل آخر قوي إن ثبت ذكروا آثاراً عن عدد من الصحابة أن الإنسان لا يصلي فرضين بتيمم واحد. ولم يتسن لي النظر في أسانيد هذه الآثار. هل هي صحيحة أو ليست كذلك؟ إن صحت فهذا القول يكون متوجهاً جداً لكثرة الآثار وإن لم تصح فإن هذا القول ليس بمتوجه. والقول الثاني: أن خروج الوقت لا يبطل التيمم لأن مجرد خروج الوقت لا يعتبر من نواقض الطهارة ولأن طهارة التيمم طهارة كاملة إلى أن يوجد الماء. وهذا القول هو القول الراجح. فإذا تيمم الإنسان فإنه يظل على طهارة إلى أن يوجد منه إحدى نواقض الوضوء. • ثم قال ’: وبمبطلات الوضوء. مبطلات الوضوء بالإجماع تبطل التيمم لأنها إذا كانت تبطل الطهارة الأعلى وهي طهارة الماء فمن باب أولى أن تبطل طهارة التيمم. وكذلك موجبات الغسل فإنها تبطل التيمم. فإذا تيمم الجنب ليقرأ القرآن ثم أحدث حدثاً أصغر فهل يجب عليه أن يتيمم مرة أخرى ليقرأ القرآن؟ لا يلزمه إلا إذا أراد أن يمس المصحف. الآن هل يجوز للمحدث أن يقرأ القرآن؟ بالإجماع جائز - فنحن لا نتكلم عن مس المصحف - فهذا إنسان جنب والجنب هل يجوز له أن يقرأ القرآن؟

فيه خلاف ولكن المشهور عند الفقهاء أنه لا يجوز له وهذا الجنب تيمم فارتفع الحدث الأكبر ثم أحدث حدثاً أصغر فلا يلزمه أن يعيد التيمم لقراءة القرآن لأن الحدث الأكبر ارتفع ولا يشترط أن يرتفع الحدث الأصغر. إذاً فيه فائدة من قول الفقهاء: نواقض الوضوء وموجبات الغسل فلكل منهما حكم. • ثم قال ’: وبوجود الماء ولو في الصلاة لا بعدها. وجود الماء مبطل من مبطلات التيمم بالإجماع للآية فلم تجدوا ماء فتيمموا ولحديث أبي ذر فليتق الله وليمسه بشرته فإذا وجد الماء بطل التيمم تلقائياً. ووجب عليه أن: يتوضأ للحدث الأصغر. ويغتسل للحدث الأكبر. وهذا بالإجماع. قال: ولو في الصلاة: هذه المسألة محل إشكال. فإذا تيمم الإنسان ودخل في الصلاة ثم حضر الماء في أثناء الصلاة فعند الحنابلة تبطل صلاته ويجب أن ينصرف ويتوضأ ويعيد الصلاة: الدليل: قالوا الدليل الأحاديث الكثيرة الدالة على أن وجود الماء من مبطلات التيمم وإذا كان مبطلاً للتيمم قبل الصلاة فهو مبطل للتيمم أثناء الصلاة. وهذا القول استقر عليه رأي الإمام أحمد رحمه فقد كان يقول لا يلزمه ثم رجع إلى هذا القول. القول الثاني: أنه إذا حضر الماء أثناء الصلاة بالنسبة لمن تيمم فإن صلات صحيحة ويستمر فيها ولا يلزمه أن يخرج منها ويتوضأ بالماء. قالوا: لأنه تطهر طهارة شرعية مأذون فيها ودخل في الصلاة دخولاً صحيحاً فلا يجوز له بعد ذلك أن يقطع الصلاة لقوله تعالى: ولا تبطلوا أعمالكم. ممن رجح القول الأول: وهو مذهب الحنابلة: ابن القيم ’. وهو القول الصواب. أنه إذا حضر الماء أثناء الصلاة فإن الصلاة تبطل وينصرف ويتوضأ ويعيد الصلاة. أما الجواب عن الآية {ولا تبطلوا أعمالكم} فهو أن هذا المكلف لم يبطل عمله إنما بطل عمله شرعاً بوجود هذا الناقض من نواقض التيمم. وبهذا تبين أن الإنسان إذا تيمم ودخل في الصلاة وشعر بحضور الماء أو سمعهم يتحدثون عن وجود الماء أو حضوره فإنه ينفتل عن صلاته ويعيد من جديد. قال: لا بعدها: إذا تيمم الإنسان وصلى ثم بعد أن انتهى من الصلاة حضر الماء. فهو على قسمين: القسم الأول: أن يكون ذلك قبل خروج الوقت والقسم الثاني: أن يكون بعد خروج الوقت:

فإن كان بعد خروج الوقت فبإجماع العلماء لا يلزمه إعادة الصلاة. وإذا حضر الماء بعد الصلاة وقبل خروج الوقت ففيه خلاف والراجح أنه لا يلزمه أيضاً أن يعيد الصلاة لأن اثنين من الصحابة كما في حديث أبي سعيد الخدري تيمموا وصلوا ثم حضر الماء قبل خروج الوقت فأعاد أحدهما ولم يعد الآخر فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - لمن أعاد لك الأجر مرتين وقال لمن لم يعد أصبت السنة. هذا الحديث الصواب أنه مرسل فهو من رواية التابعي ولا يصح ذكر أبي سعيد فيه. لكنه يصلح للإستدلال لأن قاعدة الإمام أحمد أن المراسيل خير من أقوال الرجال. فالأخذ بالمراسيل إذا لم تكن شديدة الضعف خير من الأخذ بأقوال وآراء الرجال. فصارت النتيجة أنه إذا حضر الماء بعد الصلاة فلا يجب عليه أن يعيد على القول الراجح سواء كان قبل خروج الوقت أو بعده. • ثم قال - رحمه الله -: والتيمم آخر الوقت لراجي الماء: أولى. أي أن تأخير الصلاة إلى آخر الوقت لمن كان يرجو وجود الماء أولى من الصلاة بالتيمم أول الوقت. الدليل: أن الصلاة بالماء فرض والصلاة أول الوقت فضيلة والفرائض مقدمة على الفضائل وهذا القول اختاره شيخ الاسلام. وإذا كان التأخير مندوبا ومستحباً لمن كان يرجو فمن باب أولى أن يستحب لمن كان يعلم أنه سيجد الماء. وفي الصورتين لايجب التأخير ويجوز له أن يصلي بالتيمم خلافاً لما يظنه بعض العوام أنه إذا كان سيجد الماء قطعاً بعد ساعة أنه يجب أن ينتظر فهذا ليس بصحيح بل يجوز له أن يتيمم وإن علم أنه سيجد الماء بعد وقت قصير أو طويل. ثم انتقل المؤلف - رحمه الله - إلى الصفة فقال: وصفته: صفة الشيء كيفيته في كل العلوم. • قال: أن ينوي، ثم يسمي. النية والتسمية تقدم الكلام عليهما وتقدم معنا أن النية بالذات بالنسبة للتيمم فيها تفصيل فيجب أن يراعى التفصيل الذي ذكره الحنابلة عند من يرجح مذهبهم. وعلى القول الآخر النية في التيمم والغسل والوضوء واحدة ولا خلاف وهذا كما سبق هو الراجح. • ثم قال - رحمه الله -: ويضرب التراب بيديه.

ظاهره أنه يضرب ضربه واحدة وهذا هومذهب الحنابلة بدليل مافي حديث عمار السابق أنه قال ثم ضرب الأرض بيده ضربة واحدة لكن كلمة واحدة هذه تفرد بها مسلم. وإلا الحديث المتفق عليه ليس فيه هذه الكلمة وإنما في مسلم فقط. مع ذلك إذا كانت هذه اللفظة ثابتة في مسلم فهي صحيحة ويستدل بها. ثم لو فرضنا أن لفظ الحديث ثم ضرب الأرض بيده ضربه بدون كلمة واحدة فيفهم منه أنها واحدة. والقول الثاني: أنه يضرب ضربتين واحدة للوجه والأخرى لليدين. والراجح مذهب الجمهور. والجواب على القول الثاني أن كل حديث فيه ضربتين كحديث جابر وحديث ابن عمر فهي أحاديث ضعيفة. وإن كان القول بوجوب الضربتين نسب إلى الجمهور لكن في الحقيقة هو قول ضعيف والراجح بوضوح الذي يتوافق مع ظواهر النصوص من الكتاب ومن السنة أن الضربة تكون واحدة فقط للوجه واليدين. • ثم قال ’: مفرجتي الأصابع. هذه كيفية الضربة وهي أن يقصد الإنسان إلى تفريج أصابعه قبل أن يضرب الضربة الأولى. التعليل: ليصل التراب إلى ما بين أصابعه والصواب أن تفريج الأصابع لا يسن ولا يشرع لأنه لم يذكر في النصوص الصحيحة. واعلم أنه لم يثبت في كيفية التيمم إلا حديثان حديث عمار السابق وحديث تيمم النبي ‘ لما أراد أن يرد السلام. وفيه فضرب بيده ومسح وجهه ويديه. قال ابن حجر ولا يصح في الباب أي في كيفية التيمم إلا هذان الحديثان. • ثم قال ’ يمسح وجهه بباطنهما. هذه صفة مسح الوجه بعد الضربة الأولى. الحنابلة يرون أنه إذا ضرب الإنسان الأرض فإنه يمسح وجهه بباطن الأصابع فقط دون باطن راحة اليد. لماذا؟ قالوا: لأنه لو مسح بجميع اليد على جميع الوجه صار التراب مستعملاً كله ومن شروط ما يتيمم به عند الحنابلة أن يكون طهوراً وإذا استعمل كله في الطهارة لم يبق طهورٌ يستعمل للكفين. فهذا معنى عبارة المؤلف أنه يمسح بباطن الأصابع: لكي لا يصبح جميع التراب العالق باليد مستعملاً فلا يبقى شيء لليدين. وتقدم معنا أن تقسيم التراب إلى طاهر وطهور ونجس مرجوح وأن الصواب أن التراب وإن استعمل في رفع حدث فإنه يبقى طهوراً. • ثم قال ’ - تكملة لهذا المعنى: وكفيه براحتيه.

يعني أنه إذا مسح الوجه بباطن الأصابع بقي باطن الكف لراحتيه فيمسح بهما اليدين. وما قيل في مناقشة مسح الوجه بباطن الأصابع يقال في مسح اليدين بباطن الكف. إذاً ما هي الصفة الصحيحة؟ الصفة الصحيحة: أن يضرب الإنسان بيديه الأرض ولا يقصد لا تفريج الأصابع ولا ضمها وإنما يتركهما كما هما ثم إذا ضرب مسح وجهه مسحاً عادياً لا يراعي فيه أن يمسح بباطن الأصابع أو بباطن الكف ثم كما في حديث عمار يمسح الشمال باليمين ثم يمسح بباطنهما ظاهر كفيه فيكون المسح شمل الكفين باطناً وظاهراً والوجه بضربة واحدة. وهذه هي الكيفية المسنونة للتيمم بكل بساطة. وما ذكره الحنابلة من التفاصيل في كيفية مسح الوجه وكيفية تعني الأصابع وباطن راحة اليد فهو أمر مرجوح. • ثم قال - رحمه الله -: ويخلل أصابعه. يعني أنه يشرع عن الحنابلة إذا أراد الإنسان أن يتيمم ومسح وجهه وكفيه أن يخلل أصابعه والتعليل عندهم: ليصل التراب إلى ما بين الأصابع. والقول الثاني أن تخليل الأصابع في التيمم لا يسن ولا يشرع. والتعليل: لعدم وروده في الأحاديث الصحيحة. والراجح هو القول الثاني. وبهذا نكون انتهينا من باب التيمم ووقفنا على باب إزالة النجاسة. انتهى الدرس،،،

باب إزالة النجاسة

باب إزالة النجاسة • قال - رحمه الله -: باب إزالة النجاسة. لما أنهى المؤلف الكلام عن التطهر بالماء وبدله وهو التيمم انتقل إلى الطهارة القسيمة لطهارة الحدث وهي الطهارة من النجاسة. فقال: باب إزالة النجاسة: المقصود بالنجاسة في هذا الباب النجاسة الحكمية والمقصود بالنجاسة الحكمية: هي النجاسة الطارئة على عين طاهرة. فخرج بذلك النجاسة العينية فإنها لا يمكن أن تطهر مثاله: البول والغائط والكلب والخنزير والحمار على المذهب فكل هذه أعيان نجسة نجاسة عينية لا يمكن أن تطهر بحال من الأحوال إلا بطريقة واحدة فقط وهي الاستحالة وسيأتي ذكر الخلاف فيها. فعرفنا ماذا يريد الفقهاء بالنجاسة في هذا الباب خاصة. • قال - رحمه الله -: يجزئ في غسل النجاسات كلها: إذا كانت على الأرض غسلة واحدة تذهب بعين النجاسة. وعلى غيرها سبع إحداها بتراب في نجاسة كلب وخنزير.

الحنابلة يقسمون النجاسات إلى قسمين: القسم الأول: أن يكون على الأرض. والقسم الثاني أن يكون على غير الأرض. بدء المؤلف بما كان على الأرض: • فقال: إذا كانت على الأرض غسلة واحدة تذهب بعين النجاسة: إذا كانت النجاسة على الأرض فإنه يكفي فيها عند الحنابلة غسلة واحدة ولكن يشترط في هذه الغسلة أن تذهب بعين النجاسة وعلامة ذهاب عين النجاسة أن لا يبقى منها لون ولا رائحة. والدليل على هذا الحكم: الحديث الصحيح أن أعرابياً دخل المسجد فبال في ناحية المسجد فأمر النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يراق على بوله ذنوباً من ماء ففي الحديث غسل هذه النجاسة وهي بول الأعرابي مرة واحدة بإراقة الماء على بوله. وهذا الحكم يختص بالنجاسة التي ليس لها أجزاء. فإن كانت النجاسة لها أجزاء فإنه لا يكتفي بغسلها مرة واحدة بل يجب إزالة أجزاء النجاسة ثم يغسل أثرها مرة واحدة. إذاً النجاسة على الأرض: إما أن تكون مائعة أو أن يكون لها جرم. فإن كانت مائعة اكتفي بغسلها مرة واحدة تذهب بعينها بدليل حديث الأعرابي. وإن كانت النجاسة ذات أجزاء فإنه يجب أن تزال هذه الأجزاء ثم يغسل أثر هذه النجاسة مرة واحدة. ثم انتقل المؤلف إلى الكلام على النجاسة إذا لم تكن على الأرض فقال: وعلى غيرها سبع إحداها بتراب في نجاسة كلب وخنزير. وعلى غيرها: يعني على غير الأرض إذا كانت النجاسة على غير الأرض فتنقسم عند الحنابلة إلى قسمين: القسم الأول: أن تكون نجاسة كلب أو خنزير. القسم الثاني: أن تكون نجاسة غيرهما. نبدء بالقسم الأول: ونقول: إذا كانت النجاسة على غير الأرض كما لو كانت في الأواني وكانت من الكلب أو الخنزير فإنه يجب أن تغسل سبع غسلات إحداها بالتراب. الدليل على هذا: حديث أبي هريرة - في الصحيحين أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال إذا ولغ الكلب في إناء أحدكم فليغسله سبعاً أولاهن بالتراب. هذه رواية مسلم وفي رواية غيره إحداهن. فهذا الحديث دليل على التسبيع. وبقي أن ننظر: هل التراب يكون في الغسلة الأولى أو الأخيرة أو في أي واحدة منها بلا تعيين أو في الثامنة؟ كم صارت الأقوال؟ أربعة. الراجح منها أنها في الأولى. والاحتمالات التي ذكرناها هي أقوال للفقهاء. سبب الترجيح: أن رواية أولاهن هي أصح الروايات التي حددت موضع غسلة التتريب.

ثانياً: أن التراب إذا كان في الغسلة الأولى جاء بعده الماء فطهر الإناء بخلاف إذا كانت في الغسلة الأخيرة فإنه يحتاج إلى غسلة زائدة. إذاً هذا القول هو الراجح ويليه في القوة أن يكون التتريب غسلة ثامنة منفصلة عن السبع لما ثبت في حديث عبد الله بن مغفل - أن النبي ‘ قال وعفروه الثامنة بالتراب. فإثبت ثمان غسلات وحديث بن مغفل هذا فيه زيادة علم يجب المصير إليه فهو قوي والسنة صريحة فيه. • ثم قال: وخنزير: أي أن الخنزير يماثل الكلب في التسبيع والتتريب وهذا مذهب الحنابلة قيل للإمام أحمد أرأيت الخنزير فقال الإمام أحمد هو شر من الكلب فعبارة الإمام أحمد حملت الدليل على قياس الخنزير على الكلب وهو أن الخنزير شر من الكلب. والقول الثاني: لجماهير العلماء أن الخنزير يغسل كغيره من الحيوانات ولا يترب ولا يسبع لأن النص جاء في الكلب والخنزير موجود في عهد التشريع ومذكور في القرآن ومع ذلك نص النبي ‘ على الكلب ثم في وجه آخر أن غسل سؤر الكلب سبع مرات أمر تعبدي وكل حكم تعبدي لا يمكن أن يقاس عليه. وهذا القول هو الراجح. بقينا في مسألة: نذكر فيها القول الراجح فقط. هل الكلب والخنزير نجس أو طاهر أو فيه تفصيل؟ القول الصواب - إن شاء الله - أن الكلب والخنزير نجسة إلا الشعر منها فإنه طاهر وهو اختيار شيخ الاسلام وفيه توسعة على المسلمين. بناء على هذا: إذا ابتل الكلب ثم مس شعره ثوب الإنسان فعند الجمهور يجب أن يغسله لأن شعر الكلب نجس. وعلى القول الصواب لا يجب عليه أن يغسل ما أصاب الثوب من شعر الكلب أو الخنزير لأنه طاهر. • ثم قال ’: ويجزئ عن التراب: أُشنان ونحوه. المقصود بنحوه كالصابون أو أي مادة تستخدم للتنظيف فمذهب الحنابلة أنه يجزئ عن الإشنان أي مادة فيها تنظيف واختار هذا القول أيضاً ابن تيمية وتلميذه ابن القيم. والقول الثاني: أن غير التراب لا يقوم مقامه فيشترط أن يغسل بالتراب وهذا القول هو الراجح. ومذهب الحنابلة الذي اختاره الشيخ وتلميذه ضعيف.

والسبب أن في التراب خاصية لا توجد في غيره ولذا نص عليه الشارع وهي أنه يقتل ما يوجد في سؤر الكلب مما يؤذي الإنسان بخلاف غيره من أدوات التنظيف فإنها لا تفعل هذا الفعل. وأثبت هذه الحقيقة الطب الحديث بل واعتبر هذا من معجزات النبي ‘. وكما سبق الإشنان موجود في العهد النبوي ومع ذلك لم يذكره النبي ‘. ثم انتقل إلى النوع الثاني من النجاسات التي توجد على غير الأرض: • فقال: وفي نجاسة غيرهما سبع بلا تراب. في نجاسة غير الكلب والخنزير يشترط للتطهير أن يغسل الإنسان سبع مرات ولو طهر المحل في الغسلة الأولى أو الثانية أو الثالثة فإنه يشترط أن يكمل الغسل إلى أن يصل إلى سبع غسلات. استدل الحنابلة: بأثر ابن عمر أنه قال أمرنا بغسل الانجاس سبعاً وإذا قال الصحابي أمرنا فإنه ينصرف إلى المشرع وهو النبي صلى الله عليه وسلم. والقول الثاني: أن النجاسات غير الكلب والخنزير أو على القول الراجح على غير الكلب فإنها تغسل بلا عدد معين بل إلى ذهاب النجاسة فإن ذهبت في الغسلة الأولى اكتفي بها. أو في الثانية اكتفي بها وهكذا. الدليل على هذا القول: أن النبي ‘ لما سأل عن دم الحيض يصيب الثوب قال حتيه ثم اقرصيه ثم انضحيه بالماء. ولم يذكر النبي ‘ عدداً. وكذلك في حديث الأعرابي الذي بال في طائفة المسجد أمر النبي ‘ بصب ذنوب من ماء ولم يذكر عدداً. وهذا القول هو الصواب الذي تدل عليه النصوص الشرعية. وحديث ابن عمر السابق ضعيف. انتهينا الآن من الأنواع التي تتنجس وأنها تنقسم إلى ما يكون على الأرض وما يكون على غيرها. وأن ما يكون على غير الأرض ينقسم إلى قسمين: إما أن يكون نجاسة كلب وخنزير أو يكون نجاسة غيرهما. فصارت الأقسام أربعة. • ثم انتقل المؤلف ’ إلى كيفية التطهير فقال: ولا يطهر متنجس: بشمس ولا ريح ولا دلك. يرى الحنابلة أنه لا يمكن تطهير النجاسات إلا بالماء فقط ولا تطهر بالشمس ولا بالدلك ولا بغيرهما. الدليل: استدلوا بحديث الأعرابي وحديث أسماء السابقين. حيث ذكر النبي ‘ الماء للتطهير. والقول الثاني: أن النجاسة إذا ذهبت بأي مزيل كان فقد ذهب حكمها وطهر المحل لأن الحكم يدور مع علته وجوداً وعدماً.

واستدلوا بدليل من السنة وهو صحيح ثابت وهو حديث ابن عمر أن الكلاب كانت تدبر وتقبل في المسجد في عهد النبي ‘ ولم يكونوا يغسلون شيئاً من ذلك فعلم أن هذه الكلاب التي تقبل وتدبر وتبول في المسجد ولا يغسل أثر هذا البول أن المطهر له هو الشمس والريح. وفي الباب أدلة كثيرة لهذه المسألة. وهذا القول - الثاني - هو الصواب الذي تدل عليه النصوص الصحيحة. • قال ’: ولا استحالة غير الخمرة. الحنابلة يرون أن الاستحالة لاتطهر لأنهم في الأصل يرون أن النجاسة لا يمكن أن تطهر إلا بالماء لكن بخصوص مسألة الاستحالة لهم دليل آخر وهو أن النبي ‘ نهى عن لحوم الجلالة وألبانها. والجلالة هي الحيوان التي غالب أكله من النجاسات. وسيأتينا - بإذن الله في كتاب الأطعمة تفصيل كثير حول أحكام الجلالة لكن يعنينا هنا أن نعرف ماهي فقط؟ وجه الاستدلال: قالوا: أن الجلالة إذا أكلت النجاسة استحالت في بدنها إلى الدم واللحم ومع كون النجاسة استحالت فقد نهى اللنبي ‘ عن أكلها. وهذا دليل قوي. والقول الثاني: أن الاستحالة تطهر النجاسات واختاره ابن تيمية وتلميذه رحمهما الله. وانصروا لهذا القول بأدلة كثيرة من أهم هذه الأدلة أن النجاسة في الاستحالة ذهب لونها وريحها وطعمها فلم يبق للنجاسة أثر. الدليل الثاني: أن أحكام الأعيان - وهذه قاعدة جيدة ومفيدة لطالب العلم - تتبع حقيقة الأعيان وصفاتها. أي أننا نحكم على العين بحسب حقيقتها وصفاتها. والعين النجسة إذا استحالت فقد تغيرت جميع الصفات والحقائق لها. فمثلاً: في المثال الشمهور الذي يذكره الفقهاء إذا وقع الكلب في مملحة وبقي فيها وقتاً طويلاً انقلب إلى ملح وحقيقة وصفات الملح تختلف عن حقيقة وصفات الكلب. مثال آخر: وهو وإن كان أسهل فهو لا يرد على الحنابلة لأنهم يبرون أنها تطهر - الخمر. فالخمر قبل أن تستحيل لها صفات وحقائق معروفة. إذا تخللت الخمر أصبحت خلاً وبين الخمر والخل فرق كبير من حيث الحقيقة والصفة. فقالوا هذا الخمر لم يعد خمراً وإنما أصبح خلاً كما أن ذاك الكلب الذي وقع في المملحة لم يعد كلباً وإنما أصبح ملحاً وهكذا. إذاً هذا المثال يبين القاعدة التي ذكرها شيخ الاسلام ابن تيمية ’.

وهذا القول الثاني هو الصواب: أن الاستحالة تفيد التطهير. • قال ’: غير الخمرة. فإن خللت أو تنجس دهن مائع: لم يطهرا. قوله غير الخمرة: هذا استثاء من الاستحالة: يعني: أن الأعيان النجسة لا تطهر بالاستحالة ما عدا الخمر فإنه يطهر بالاستحالة. ففرقوا بين جميع النجاسات وبين الخمر فجميع النجاسات لا تطهر بالاستحالة والخمر فقط يطهر بالاستحالة. دليل الحنابلة: قالوا: الخمر أصله طاهر ولذا إذا استحال فقد رجع إلى أصله. فالخمر أصله طاهر لأنه من الفواكه: من العنب أو من التمر أو من غيرهما. لكن يشترط عند الحنابلة أن يكون تخلل الخمر بنفسه - من الله بدون فعل أحد - تتخلل بلى تخليل من الآدمي فإن سعى الإنسان في تخليلها بنقلها أو تعريضها إلى حرارة أو بأي طريقة من الطرق فإنها تبقى نجسة لما ثبت في صحيح مسلم أن النبي ‘ سأل عن الخمر تتخذ خلاً قال: لا. ولأن النبي ‘ لما جاءه الرجل ومعه إناء فيه خمر لم يأمره بتخليله وإنما تركه يريقه ولو كان التخليل ينفع في الخمر لما أضاع المال ولأمره بتخليل هذا الخمر. إذاً الخلاصة بالنسبة للخمر عند الحنابلة - خاصة من بين سائر النجاسات - أنه إذا تخلل فإنه يطهر بشرط أن يتخلل بنفسه فإن خلل بفعل الآدمي فإنه يبقى نجس وإن تخلل وعرفنا أدلة الحنابلة من السنة وهي أدلة صحيحة. تبين من هذا التقرير أن الحنابلة يرون أن الخمر نجس وهذه المسألة محل خلاف طويل بين أهل العلم: فالجماهير وحكي إجماعاً أن الخمر نجس واستدلوا بأدلة كثيرة منها: قوله تعالى {قل لا أجد فيما أوحي إلي محرما على طاعم يطعمه إلا أن يكون ميتة أو دما مسفوحا أو لحم خنزير فإنه رجس} [الأنعام/145] قال ابن القيم قوله فإنه يعود على الجميع ولا يختص بالخنزير فأطلق الله على الخمر أنه رجس. الدليل الثاني: أن الصحابة لما نزل تحريم الخمر أراقوها فدل هذا على أنه لا يمكن الانتفاع منها بشيء لأنها نجسة. الدليل الثالث: قوله تعالى فسقاهم ربهم شراباً طهوراً وهذا استدل به الشافعي مفهوم هذه الآية أن خمر الدنيا لا يعتبر طهوراً وإنما هو نجس. القول الثاني: أن الخمر طاهرة وهذا ينسب لبعض السلف واختاره الصنعاني وكثير من المعاصرين.

واستدلوا: أولاً بأن الأصل في الأعيان الطهارة ولا دليل على نجاسة الخمر. وثانياً: أنه لما نزل تحريم الخمر أراق أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - الخمور في طرق المدينة ولو كان الخمر نجساً لم ينجسوا به طرقات المسلمين لا سيما وأن طرق المدينة لم تكن على الأقل كلها واسعة. بل فيها الواسع والضيق. وأجاب أصحاب هذا القول على أدلة الجماهير: عن الاستدلال بقوله تعالى فسقاهم ربهم شرابا طهوراً أن الله سبحانه وتعالى حكم على أشربة الجنة اللبن والماء والخمر بأنها طهورة فهل يعني هذا أن لبن وماء الدنيا نجسة الجواب: لا. فكذلك الخمر. وهذا القول بالنسبة لنجاسة الخمر في الحقيقة قول قوي ووجيه وتمس الحاجة إليه في وقتنا هذا بالذات بسبب كثرة دخول الخمر في مركبات الأدوية ونحن لا نرجح طهارة الخمر بسبب أنهم يستخدمونه في الأدوية. لكن من أسباب الترجيح أن في القول بطهارة الخمر توسعة من هذا الجانب. الخلاصة أنه والله أعلم القول بالطهارة هو الأقرب لأنه لا يوجد دليل صريح على النجاسة. وإن كان يضع الإنسان في ذهنه أن القول بالنجاسة مذهب الجماهير الأئمة الأربعة وجملة أئمة المسلمين إلا ثلاثة أو أربعة من السلف. أما المتأخرون من بعد الصنعاني - فهو - رحمه الله - الذي نشر هذا القول وانتصر له - فهم كثر لكن الكلام عن أئمة المسلمين المتقدمين. • ثم قال - رحمه الله -: أو تنجس دهن مائع لم يطهرا. الدهن عند الحنابلة ينقسم إلى قسمين: إما أن يكون مائع أو جامد فإن كان مائعاً ووقعت فيه نجاسة وجب أن يلقى برمته - أن يراق جميع الدهن. لحديث ابن عباس فإن كان مائعاً فلا تقربوه. ولأنه لا يمكن أن يغسل بالماء مع كون الدهن مائعاً. وإن كان جامداً فإنه تلقى النجاسة وما حولها والباقي حلال طاهر. انتهى مذهب الحنابلة. القول الثاني: أن الدهن الجامد والمائع حكمهما واحد وهو أن يراق ما حول النجاسة مع النجاسة والباقي طاهر. وينتفع به بدليل حديث ابن عباس أن النبي - صلى الله عليه وسلم - سئل عن فأرة وقعت في سمن فأمرهم النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يخرجوها وما حولها وأن ينتفعوا بالباقي. وهذا الحديث صحيح وفيه لم يفرق بين المائع والجامد وإنما حكم على الجميع بحكم واحد.

فدل الحديث على أن جميع المائعات حكمها حكم الماء وهو أنه لا تنجس إلا بالتغير كما تقررمعنا في أول باب المياه. فجميع المائعات الدهن والسمن وأي مائع كان فحكمه حكم الماء في أنه لا ينجس إلا بالتغير. مسألة: إذا وقعت فأرة في سمن فأزلنا الفأرة وما حولها فهل يطهر المحل أو لم يطهر؟ ................................ ((يطهر)) فإن وجدنا بعد الإزالة للفأرة وما حولها أن السمن تغير بالنجاسة مع إزالة الفأرة وما حولها فيعتبر نجساً. إذاً طالب العلم لا يتخذ القضايا العلمية مسلمة وإنما يفهم تنوع الأحكام. فنحن نقول إذا وقعت الفأرة في السمن فإنها تزال وما حولها والباقي طاهر ولكن يجب عليك أن تربط بين هذا وبين الأحكام الأخرى وهي أن المائعات إذا تغيرت بالنجاسة فتعتبر نجسة. فبالربط بين الحكمين تعرف حكم الصورة أو المسألة التي ذكرت لك الآن. مالجواب عن حديث ابن عباس الذي استدل به الحنابلة؟ الجواب: أنه حديث منكر. وأشار البخاري إلى ضعفه. • ثم قال - رحمه الله -: وإن خفي موضع نجاسة: غُسل حتى يجزم بزواله. غسل: أي الموضع. النجاسة إما أن تكون في الثوب أو في البدن أو في البقعة. فإذا وقعت النجاسة في أحد هذه الثلاثة أشياء فإما أن يعلم مكانها أو يجهل. فإن علم فالأمر ظاهر أنه يغسل. وإن جهل فإنه يغسل حتى يجزم بزوال النجاسة. ويستثنى من هذا الحكم إذا وقعت النجاسة في بقعة كبيرة كما إذا وقعت في فضاء واسع فإنها إذا كانت وقعت في فضاء واسع فإنه لا يشترط أن يغسل ولا أن يتحرى للمشقة. والقول الثاني في هذه المسألة أن النجاسة إذا وقعت في البدن أو الثوب أو البقعة المحدودة وأمكن التحري - وهذا شرط مهم - فإنه يتحرى لأنه إذا جاء الشرع بالتحري في عدد الركعات فمن باب أولى أن يتحرى في تحديد البقعة النجسة. والأحوط في الحقيقة مذهب الحنابلة أنه إذا اشتبهت النجاسة في البقعة أو البدن أو الثوب المحدود فإنه يغسل حتى يجزم بزوال النجاسة لأن النجاسة وجدت قطعاً فإذا كانت النجاسة موجودة يقيناً فإنه يسعى إلى إزالتها باليقين أيضاً وذلك بأن يغسل إلى أن يجزم بزوال النجاسة. وهذا القول كما قلت أحوط وأقرب إلى القواعد الشرعية. انتهى الدرس،،،

• قال - رحمه الله -: ويطهر بول غلام لم يأكل الطعام: بنضحه. بدء المؤلف ببيان بعض النجاسات التي يدخلها التخفيف فبدء ببول الغلام: فإذا بال الغلام على ثوب أو بدن أو بقعة الإنسان فإنه يكفي في تطهيره أن ينضح. والنضح هو: إراقة الماء على ...... (انقطع التسجيل) ....... وعرف من قول المؤلف بول غلام لم يأكل الطعام: أن الغلام الذي بدء بأكل الطعام لا ينطبق عليه الحكم. وأن غائط الغلام الذي لم يأكل الطعام لا ينطبق عليه الحكم. وأن بول الجارية وإن كانت لم تأكل الطعام لا ينطبق عليه الحكم وإنما يختص ببول الغلام الذي لم يأكل الطعام فهذا البول ينضح نضحاً ولا يجب فيه الغسل. دليل ذلك حديث أم قيس أنها أتت النبي - صلى الله عليه وسلم - بغلام لها فأخذه - صلى الله عليه وسلم - ووضعه في حجره فبال عليه فدعا - صلى الله عليه وسلم - بماء ونضحه على ثوبه ولم يغسل) هكذا في الحديث نص على عدم الغسل. وهذا من فقه الصحابي راوي الحديث وهذا الحديث في الصحيحين. فهذا نص في أن بول الغلام نجاسته نجاسة مخففة يكفي فيها النضح كنجاسة المذي - على ما سيأتينا إن شاء الله. بقينا في العلة التي من أجلها خصص بول الغلام بهذا الحكم: في الحقيقة لم أقف على أي علة مقنعة ولذلك فالأقرب أن الأمر تعبدي. • ثم قال - رحمه الله -: ويعفى في غير مائع ومطعوم: عن يسير دم نجس من حيوان طاهر، وعن أثر استجمار. جملة مذهب الحنابلة في هذه المسألة أنهم يرون أنه لا يعفى عن يسير شيء من النجاسات إلا في أمرين: - يسير الدم من حيوان طاهر حال الحياة. - وأثر الاستجمار. في غير المائعات فقط هذا الذي يعفى عن يسيره وأما ما عداه من باقي النجاسات كالبول والغائط والقيء - لأنه نجس عند الحنابلة فلا يعفى عن يسيرها عند الحنابلة. القول الثاني: أنه يعفى عن يسير جميع النجاسات بلا استثناء والدليل على هذا أن الشارع عفا عن يسير أثر الاستجمار. ويسير أثر الاستجمار يقصد به: ما يبقى من النجاسة اليسيرة بعد الاستجمار. فهذه النجاسة قد عفا عنها الشارع فيقاس عليها جميع النجاسات. وهذا القول - الثاني - هو اختيار شيخ الاسلام وهو الذي تدل عليه النصوص إن شاء الله. نرجع نأخذ مذهب الحنابلة عبارة عبارة.

يقول ’ ويعفى في غير مائع ومطعوم عن يسير دم من حيوان طاهر. هذا الأمر الأول: لماذا استثنى الحنابلة الدم والاستجمار فقط؟ الجواب: استثنوا ذلك للإجماع فقالوا إن هذا محل إجماع. وبالنسبة للإستجمار بالإضافة إلى الإجماع النصوص الدالة على جواز الاستجمار تدل على العفو عن يسيرة لأنه لا بد أن يبقى بعد الاستجمار يسير من الخارج من السبيل لأن الحجارة ونحوها لا يمكن أن تزيل جميع الخارج. وقول المؤلف: يسير دم نجس من حيوان طاهر: يفيد أن الدماء ليست على حد واحد عند الحنابلة. وهو كذلك فهي تنقسم إلى ثلاثة أقسام: القسم الأول: دم نجس يعفى عن يسيره. مثاله: الآدمي والحيوانات الطاهرة. القسم الثاني: دم نجس لا يعفى عن يسيره. وهو: الدم الخارج من السبيلين. القسم الثالث: دم طاهر. كدم السمك ودم الشهيد وما يبقى في عروق الذبيحة التي ذبحت على مقتضى الشرع وكذلك دم الحيوانات التي ليس لها نفس سائلة. وسيأتينا ذكر عدد من الأمثلة في ثنايا كلام المؤلف. وقد ذكر هذا التقسيم أكثر من عالم من فقهاءالحنابلة وهو تقسيم جيد يسهل ويجمع أطراف المسألة. وعلم من قول المؤلف: يسير دم نجس. أنه يرى أن الدم نجس وهذا القول حكي فيه الاجماع من عدد من العلماء وحكى الإجماع عالم هو من أشد الناس في الإجماعات وهو الإمام أحمد فقال: الدم لا يختلفون فيه. وتقدم معنا أن حكاية الإجماع تختلف قوتها من عالم لعالم وإذا كان حكى الإجماع مثل الإمام أحمد فهذا إجماع قوي لأنه يتشدد في الإجماع لا يكاد يثبت إجماع إلا عن الصحابة. فإذا أثبت الإجماع فهو إجماع قوي. الأدلة: أولاً: العمومات: كقوله تعالى {قل لا أجد فيما أوحي إلي محرما على طاعم يطعمه إلا أن يكون ميتة أو دما مسفوحا أو لحم خنزير فإنه رجس} [الأنعام/145] وهذا نص. ثانياً: أن أسماء لما سألت عن دم الحيض يصيب الثوب أمر النبي ‘ بغسله غسلاً كاملاً فقال حتيه ثم اقرصيه ثم انضحيه بالماء. ولا يوجد دليل على أن هناك فرق بين دم الحيض وغيره من الدماء. القول الثاني في هذه المسألة المهمة: أن الدم طاهر استدلوا بأدلة:

الدليل الأول: قصة الصحابي الذي صلى ثم رمي بسهم وآخر وثالث وظل يصلي فدل ذلك على أن الدم طاهر وإلا كيف صلى والدم يخرج منه؟ الجواب على هذا الدليل: أن هذا أثر لا يثبت. الدليل الثاني: وهو من أقوى أدلتهم أن الحسن البصري صح عنه أنه يقول مازال المسلمون يصلون بجراحاتهم. والجواب على أثر الحسن: أنه يقصد رحمه الله - أن الدم لا ينقض الوضوء ولا يقصد أنه طاهر بدليل أنه صح عنه ’ - أن الدم نجس. الدليل الثالث - الأخير: أن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب - صلى وجرحه يثعب دماً. والجواب عليه: أن هذا للضرورة. ولذلك الإمام أحمد ’ وهو ممن يرى نجاسة الدم بل يحكي الإجماع على هذا الحكم لما ضرب في الحبس ’ وخرجت منه الدماء بكثرة صلى في السجن والدماء تملأ جسده وثوبه فقال له صاحبه يا أبا عبد الله أتصلي والدم فيك هكذا فقال الإمام ’: صلى عمر وجرحه يثعب دماً. فاستدل بقصة عمر وإن كان ’ ممن يرى نجاسة الدم لأن هذا موضع ضرورة وموضع الضرورة لا يقاس عليه حال الاختيار. لذلك فالأقرب عندي بوضوح أن الدم نجس لاسيما وأنه حكي فيه الإجماع وعلى هذا النحو ولا يكاد يعرف مخالف. ثم انتقل المؤلف ’ إلى الأعيان التي لا تعتبر نجسة. • فقال ’: ولا ينجس الآدمي بالموت. يعني أن الآدمي طاهر حال الحياة والممات والدليل على هذا الحكم: أولاً: قول النبي ‘ إن المؤمن لا ينجس. وثانياً: أن النبي ‘ أمر بتغسيل الميت. ما هو وجه الاستدلال هنا؟ الجواب: أن الميت لو كان نجس العين فلا ينفع فيه التغسيل لأنا أخذنا أن النجس نجاسة عينية لا يمكن أن يطهر إلا بالإستحالة على الخلاف فيها. والقول الثاني: أن الكافر طاهر حال الحياة نجس بعد الموت. وهذا القول قوي جداً لأن النصوص التي ذكرنا كلها يختص بالمؤمن. أما طهارة الكافر في حال الحياة فلا إشكال فيها. لكن الخلاف في طهارته بعد الموت. ولذلك فالأحوط أن لايمس الإنسان جسد الكافر بعد الموت أو يغسل يده إذا أصيبت بشيء رطب من جسد الكافر بعد الموت مراعاة لهذا الخلاف القوي. أما الحنابلة فهم يرون أن الآدمي مسلماً أو كافراً صغيراً أو كبيراً ذكراً أو أنثى جسده طاهر. • ثم قال ’: وما لا نفس له سائلة متولد من طاهر.

قاعدة المذهب أن كل حشرة لانفس لها سائلة ومتولدة من طاهر فتعتبر طاهرة في الحياة وفي الممات. إذاً كم شرط؟ ذكروا شرطين. الأول: أن لا يكون لها نفس سائلة. والثاني: أن تكونة متولدة من طاهر. ومعنى أن لا يكون لها نفس: النفس هنا يعني الدم. وقوله سائلة: أي لا تجري. وإلا فمن المعلوم أن أحشرة فيها دم لكن الشرط أن لا يكون هذا الدم سائلاً. وأن تكون متولدة من طاهر. بناء على هذا فالبعوض والعقرب والخنفساء وما شابه هذه الحشرات كلها طاهرة في الحياة وفي الممات ولو وقعت في ماء بعد الموت فيبقى طهورٌ حتى عند الحنابلة. وأما إن كانت حشرة لها نفس سائلة فهي نجسة بعد الموت وقبل الموت هناك تفصيل لكن بعد الموت تعتبر نجسة. ومثل الإمام أحمد على هذا بالوزغ. فقد اعتبر أن الوزغ له نفس سائله فإذا مات وسقط في الماء فإنه ينجس به. الدليل على أصل هذه المسألة أن النبي ‘ قال إذا وقع الذباب في إناء أحدكم فليغمسه كله ثم ليلقه. وإذا غمس الإنسان الذباب في الإناء الذي يحمل سائلاً حاراً فسيموت ومع ذلك أمر النبي ‘ بالانتفاع بالسائل فهذا دليل على أن ما لا نفس له سائلة لا ينجس بالموت. قوله متولد من طاهر: أي أنه إذا تولد من نجس فإنه ينجس ولو لم يكن له نفس سائلة ومثلوا لهذا بصراصير الكنف. فإنها متولدة على حد قولهم من نجاسة. وإذا كانت متولدة من نجاسة فإنها تصبح نجسة إذا ماتت. وعلى القول الثاني: تصبح طاهرة لأنا أخذنا أن الاستحالة تطهر بها الأعيان النجسة وهذه الحشرات استحالت من النجاسات إلى هذه الحشرة المعروفة. فالأقرب أنها طاهرة. تنبيه: نبه بعض الفقهاء إلى شيء مهم وهو أنه يشترط في هذه الحشرات التي نقول أنها لا تُنَجِّسْ ما تقع فيها من المياه أن لا تكون هي متلوثة بنجاسات فإن غالب هذه الحشرات قد تتلوث بعض أجزائها بالنجاسة فإذا لم تكن متلوثة بالنجاسة فإن الماء الذي وقعت فيه يبقى طهور. • ثم قال ’: وبول ما يؤكل لحمه وروثه ومنيه ..... طاهر. بول ما يؤكل لحمه وروثه ومنيه عند الحنابلة طاهر. والدليل على ذلك. الأول: حديث العرنيين حيث أمرهم النبي ‘ أن يلحقوا بإبل الصدقة وأن يشربوا من ألبانها وأبوالها.

فدل هذا على أن بول ما يؤكل لحمه وروثه طاهر. والدليل الثاني: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - سئل أنصلي في مرابض الغنم فقال نعم. ولو كانت أبوالها وأرواثها نجسة لم يأذن - صلى الله عليه وسلم - بالصلاة في مرابضها. وأما المني: فقياساً على البول فهو أطهر منه من باب أولى. بدليل - هذا دليل الأولوية - أن بول الانسان نجس ومنيه طاهر. • ثم قال - رحمه الله -: ومني الآدمي. مني الآدمي طاهر عند الحنابلة والدليل ما ثبت عن عائشة - رضي الله عنها - أنها كانت تفرك ثوب النبي - صلى الله عليه وسلم - من المني ثم يخرج فيصلي في ثوبه. وجه الاستدلال: أن الفرك عادة لا يزيل جميع الأجزاء فدل على أن المني طاهر. والقول الثاني: أن المني نجس لما ثبت أيضاً في الحديث أن عائشة - رضي الله عنها - كانت تغسل ثوب النبي - صلى الله عليه وسلم - فيخرج إلى الصلاة وهي ترى بقع الماء بعد الغسل. وجه الاستدلال: أن الغسل يكون للنجاسات. والجواب عليه: أن غسلها - رضي الله عنها - كان تكميلاً للنظافة جمعاً بين الغسل والفرك وقد بين الحديث الآخر أن الفرك لليابس والغسل للرطب. وغسلها - رضي الله عنها - أيضاً هو من باب إماطة الأذى كما يغسل المخاط وإن كان طاهراً. والراجح أن المني طاهر. • ثم قال - رحمه الله -: ورطوبة فرج المرأة. رطوبة فرج المرأة نحتاج إلى معرفة عدد من الأشياء عنه: الأول: تعريفه. الثاني: مكانه. الثالث: حكمه. تعريفه: هو ماء أبيض بين المذي والعرق ولو سألنا هل رقيق أو ثخين؟ فالجواب: رقيق. لأنه سبق معنا أن المذي ماء أبيض رقيق وهذا الماء قلنا أنه بين المذي والعرق وكل منهما رقيق فهو أيضاً رقيق. فإذا أردت أن تزيد في إيضاح التعرف فتقول ماء أبيض رقيق بين المذي والعرق والفقهاء لم يذكروا كلمة رقيق لأنه معلوم فما دام أنه بين العرق والمذي فهو رقيق. مكانه (مكان خروجه): يخرج هذا السائل من مخرج الولد وهو فتحة في أدنى فرج المرأة كما أن البول يخرج من فتحه في أعلى فرج المرأة. فنحن نتحدث عن السائل الذي يخرج من مخرج الولد الذي يتصل بالرحم ولسنا نتحدث عن أي سائل يخرج من مخرج البول. حكمه: مذهب الحنابلة فهو طاهر عندهم. واستدلوا بدليلين: الأول: أن الأصل في الأعيان الطهارة. والثاني: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يأمر المجامع بغسل الذكر.

وجه الاستدلال: أن في الجماع غالباً سيلتصق شيء من هذا السائل بذكر الرجل ولو كان نجساً لأمر - صلى الله عليه وسلم - بغسل الذكر بعد الجماع. - كأن هناك انقطاع واستدلوا بأن القاعدة عند العلماء والأصل العام أن كل خارج من السبيلين فهو نجس. الجواب: يجاب عن هذا الاستدلال بأن مقصود الفقهاء بالسبيلين ما يخرج من مخرج البول والغائط. والراجح أن هذه الرطوبة طاهرة. بل القول بنجاستها يدخل على المرأة حرج ومشقة. لا سيما إن صح ما ذكره بعض الأطباء أنه لا يوجد امرأة من بنات حواء إلا ويخرج منها هذا السائل. أي أنه لا يختص ببعض النساء دون بعض. فهذا مما يؤكد طهارة هذا السائل. • ثم قال - رحمه الله -: وسؤر الهرة، وما دونها في الخلقة: طاهر وسباع البهائم والطير والحمار الأهلي والبغل منه: نجسة. السؤر: يقصد به هنا بقية الطعام والشراب. فسؤر الهرة وما دونها في الخلقة طاهر. الدليل: حديث أبي قتادة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال عن الهرة إنها ليست بنجس إنها من الطوافين عليكم والطوافات. قال الحنابلة ويقاس على الهرة كل ما كان أصغر منها حجماً. وسيأتينا الخلاف في هذه المسألة في المسألة التي تليها لأن المؤلف - رحمه الله - يقول هنا: وسباع البهائم والطير والحمار الأهلي والبغل منه نجسة. قاعدة المذهب أن كل ما لايؤكل لحمه مما هو أكبر من الهرة فهو نجس سؤره وأجزائه. فإذا ضبطت هذه القاعدة: فإذا سألت عن أي حيوان فستعرف هل هو طاهر أو نجس. فالبقر مثلاً: طاهر. لأنه يؤكل لحمه. الحمار: نجس. لأنه لا يؤكل لحمه. الدليل: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - سأل عن بئر بضاعة وما ينوبه من السباع فقال - صلى الله عليه وسلم - إذا بلغ الماء قلتين لم يحمل الخبث. فمفهوم هذا الحديث أن الماء إذا كان أقل من القلتين ونابته السباع فإنه ينجس. فالاستدلال بالمفهوم. وأيضاً استدلوا بحديث أبي قتادة السابق. فجعلوا مناط الحكمة على الحجم. فما كان أكبر من الهرة فهو نجس إذا لم يكن مأكول اللحم. وما كان أصغر فهو طاهر. القول الثاني: أن مناط الطهارة هو التطواف أو الطواف. فالحيوان الذي يكثر طوافه بين الناس ومساسه بهم فإنه طاهر. وما لا فلا. والكلام الآن فيما لا يؤكل لحمه أما مأكول اللحم فطاهر.

الدليل على هذا المناط أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نص على ذلك فقال إنها من الطوافين عليكم والطوافات. الدليل الثاني: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه الكرام ما زالوا يركبون الحمار والبغل وقد يصيب ملابسهم شيء من سؤرها وقد تصيب ملا بسهم رطوبة شعر الحمار مع كثرة الملابسة والاستخدام ولم ينقل عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه أمر بغسل شيء من ذلك. فدل على أن الحمار شعره وريقه طاهر بسبب كثرة الطواف ومساسه للناس. وهذا القول - الثاني - هو الصواب. بقينا في إشكال كبير وهو: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - يوم خيبر لما ذبح الناس الحمار وطبخوا لحمه قال النبي - صلى الله عليه وسلم - أريقوا اللحم فإنه رجس. فسمى لحم الحمار رجساً فدل على أن الحمار نجس. الجواب: على هذا الحديث: أن لحم الحمار نجس وهذا صحيح وفيه نص ولكن الحديث لم يتعرض لشعره ولا عرقه ولا ريقه. فلا يصح الاستدلال على نجاسة غير اللحم لوجود أدلة أخرى تدل على ((((نجاسة)))) الأجزاء المذكورة وهي الشعر والريق والعرق. بهذا انتهى الكلام على الأعيان النجسة والتفاصيل التي فيها وننتقل إلى باب الحيض.

باب الحيض

باب الحيض تابع الدرس ختم المؤلف - رحمه الله - كتاب الطهارة بباب الحيض والسبب في تأخير هذا الباب إلى آخر كتاب الطهارة أنه يتعلق بالنساء فقط ولا يشمل جميع بني آدم. وباب الحيض نص عدد من المحققين على أنه أشكل أبواب الطهارة بل هو من أشكل أبواب الفقه ولذا كان عدد من أهل العلم لا يفتون في مسائل الحيض. وإذا كانت مسائل الحيض مشكلة وتعتبر من أدق مسائل الفقه فهي في عصرنا هذا أدق وتضاعف فيها الإشكال. فقد وجدت إشكالات في مسائل الحيض في عصرنا هذا لم توجد في أي عصر من الأعصار بسبب كثرة الأدوية الموجهة إلى الحيض بالنسبة للنساء. فصارت هذه الأدوية والعقاقير تسبب إرباكاً وتذبذب للنساء وتُوجِدُ مسائلَ غامضة كل الغموض. ولهذا يحتاج طالب العلم أنه يضبط الأصول على الأقل حتى يستطيع أن ينطلق منها للفروع المشكلة. • قال - رحمه الله -: باب الحيض الحيض في لغة العرب: هو السيلان. ومنه حاض الوادي يعني: سال. وقيل: بل هو من الجمع يعني: من الاجتماع ومنه حوض الماء: سمي حوضاً لاجتماع الماء فيه. فهو مشتق من أحد هذين المعنيين. أما الحنابلة فيذكرون فقط معنى السيلان.

والحيض في الشرع: هو دم طبيعة يخرج من عرق في أقصى الرحم. فيتبين من التعريف أمران: الأول: أنه يجب أن يكون دم طبيعي لا بسبب المرض. والثاني: أنه يجب أن يخرج من أقصى قعر الرحم فإن خرج من أدناه فليس بحيض. وسيأتينا ماذا يكون؟ • قال - رحمه الله -: لا حيض: قبل تسع سنين. الحنابلة يرون أنه لا يمكن أن تحيض المرأة قبل أن تصل سن تسع سنين. وكل دم رأته قبل ذلك فليس بحيض. استدلوا على هذا بأثر عائشة - رضي الله عنها - أنها قالت: (إذا بلغت الجارية تسع سنين فهي امرأة). أي أنها قبل ذلك لا تكون امرأة يعني من حيث الحيض. والقول الثاني: أن الحيض متى جاء للمرأة في أي سن بصفاته المعروفة فهو حيض. استدلوا على هذا بقوله تعالى: {ويسألونك عن المحيض قل هو أذى} [البقرة/222] فسماه الله تعالى أذى فعلقه على الوصف متى وجد هذا الوصف - الأذى بصفاته فإنه يأخذ أحكامه من المنع من الصلاة والصيام والوطء ... إلخ مما سيأتينا. وهذه الاستدلال سنحتاج إليه مراراً وتكراراً فيحتاج طالب العلم إلى فهمه جيداً. وهذا القول الثاني: هو القول الصواب. إذاً إذا جاء الحيض حتى لو كان قبل التسع سنوات فإنه يعتبر حيضاً وتمسك المرأة عن الصلاة والصيام ........ انتهى الدرس،،،

بسم الله الرحمن الرحيم قال المؤلف - رحمه الله - تعالى: باب الحيض لا حيض قبل تسع سنين ولا بعد خمسين. قوله: باب الحيض لا حيض قبل تسع سنين: تقدم الكلام عليه. • ثم قال - رحمه الله -: ولا بعد خمسين. أي أن المرأة إذا بغلت خمسين سنة فإن الدم الذي يخرج منها لا يعتبر دم حيض وإنما يعتبر دم فساد أو استحاضة. هذا هو مذهب الحنابلة. واستدلوا على هذا: بما روي عن عائشة - رضي الله عنها - أنها قالت (إذا بلغت المرأة خمسين سنة فقد خرجت عن حد الحيض.) والقول الثاني أنه لا حد للسن الذي تحيض فيه المرأة. أي لا حد لأكثره وأن المرأة إذا رأت الدم - الحيض المعروف - بصفاته المعروفة فهو حيض. والدليل على هذا القول ما تقدم معنا من أن الله سبحانه وتعالى سمى الحيض أذى فمتى وجد هذا الأذى وجدت أحكامه من غير نظر إلى سن كما أنه ليس في النصوص الصحيحة المرفوعة الثابتة ما يحدد بداية ولا نهاية سن الحيض.

وتقدم معنا أن هذا الاستدلال سيتكرر معنا في باب الحيض مراراً ولذا ينبغي على طالب العلم أن يفهمه. • ثم قال ’: ولا مع حمل. ذهب الحنابلة وهو اختيار ابن حزم أن الحامل لا تحيض وأن ما تراه من دم لا يعتبر حيضاً وإنما يعتبر دم استحاضة أو دم فساد. واستدل الحنابلة وابن حزم على هذا القول بأن النبي - صلى الله عليه وسلم - (نهى أن توطأ حامل حتى تضع ولا حائل حتى تحيض). وجه الاستدلال أن النبي - صلى الله عليه وسلم - جعل الحيض علامة على براءة الرحم. أي إذا وجد الحيض فالرحم بريء. فلا يمكن أن يوجد الحيض إلا والرحم خال ليس مشغولاً بالحمل. الدليل الثاني: أن الطب الحديث أثبت أن الدم الذي يخرج من الحامل لا يمكن أن يكون دم حيض. والقول الثاني: أن الدم الذي تراه المرأة حيض. وهو اختيار شيخ الاسلام وتلميذه رحمهما الله لأن الأصل في الدم الذي يخرج من المرأة أنه حيض. فإذا وجد هذا الحيض وجدت أحكامه. والراجح القول الأول وما ذهب إليه شيخ الاسلام ’ في هذه المسألة ليس بالقوي. ومن أكبر ما يعتمد عليه الإنسان في ترجيح القول الأول هو ما توصل إليه الطب الحديث حيث أثبت بوضوح أن الدم الخارج من الحامل لا يمكن أن يكون حيضاً وليست له دم الحيض المعتاد. • ثم قال ’: وأقله يوم وليلة. أقل الحيض عند الحنابلة: يوم وليلة. فإذا رأت المرأة دماً لأقل من يوم وليلة فلا يعتبر حيضاً وإنما كما تقدم يعتبر دم فساد أو استحاضة. استدل الحنابلة على هذا القول بالأثر المشهور المروي عن علي بن أبي طالب - أن امرأة جاءت إليه وزعمت أن عدتها من الطلاق انتهت في شهر واحد وهذا يعني أنها حاضت في شهر واحد ثلاث مرات فقال علي - لشريح اقض فيها فقال شريح إن أتت بشاهد ثقة من أهلها قبل وإلا فهي كاذبة. وجه الاستدلال: أن هذه المرأة لا يمكن أن تكون صادقة إلا إذا كانت حاضت يوم وليلة ثم طهرت ثلاثة عشر يوماً ثم حاضت يوماً وليلة ثم طهرت ثلاثة عشر يوماً ثم حاضت يوماً وليلة فمجموع هذه الأيام تسعة وعشرين يوماً فصار أقل الحيض الذي يمكن أن تحيضه المرأة حسب هذا الأثر يوم وليلة إذا لا يمكن للمرأة أن تخرج من العدة بأن تحيض ثلاث مرات في شهر واحد إلا بهذه الكيفية.

القول الثاني: أنه لاحد لأقله. وهو اختيار شيخ الاسلام - رحمه الله - فلو خرج الدم لأقل من يوم وليلة. كأن يخرج يوم فهو حيض. والدليل: ماسبق معنا أن الحكم يدور مع علته وجوداً وعدما فإذا وجد الأذى وجدت أحكامه. ثم ليس في الأدلة المرفوعة الصحيحة تحديد لأقل الحيض من حيث الزمن لا بيوم وليلة ولا أكثر ولا أقل. وهذا القول الثاني: هو الصواب. والجواب عن أثر علي بن أبي طالب - أن الأثر لم يحدد الأقل بمعنى أنه لم يعين أن ما أقل من يوم وليلة أنه لا يعتبر حيضاً. • ثم قال - رحمه الله -: وأكثره خمسة عشر يوماً. أكثر الحيض عند الحنابلة خمسة عشر يوماً. فإذا زاد لم يعتبر الزائد حيضاً وإنما يعتبر استحاضة. فإذا أتمت المرأة خمسة عشر يوماً وبدأت باليوم السادس عشر فإن الدم الذي في اليوم السادس عشر دم استحاضة. تعليل الحنابلة: قالوا: أن ما زاد عن الخمسة عشر يوماً فهو أكثر الشهر. والقاعدة تقول: الأكثر له حكم الكل. فكأنها حاضت في كل الشهر. وهذه هي المستحاضة. وهذه المسألة مهمة ولذلك سنذكر فيها ثلاثة أقوال: القول الثاني أن أكثره سبعة عشر يوماً. وهذا اختيار ابن حزم ورواية عن الإمام أحمد دليله. قال أنه لا يوجد أحد من العلماء قال بأكثر من ذلك. القول الثالث: أنه لاحد لأكثره فإذا حاضت خمسة عشر ستة عشر عشرين فما دام أن هذا الدم له صفات الحيض فيأخذ أحكام الحيض. وهذا القول مروي عن بعض المالكية. وهو اختيار شيخ الاسلام ابن تيمية. وهذا القول - الثالث - من حيث الأدلة هو الأقوى. والقول الأول من حيث العمل أضبط إذا يكاد الإنسان أن يضطر أحياناً إلى ما ذهب إليه الحنابلة وهو أن أكثره خمسة عشر فإنه لا ينضبط الأمر تماماً إلا بهذا القول. إذاً من حيث الأدلة والأصول فإن القول الثالث هو الأقرب. ولكن من حيث العمل والإنضباط فإن ما ذهب إليه الحنابلة هو الأقرب. فإذا حاضت امرأة كل شهر سبعة عشر يوماً فما الحكم؟ نقول: الحكم: - عند شيخ الاسلام أن الجميع حيض. - عند الحنابلة: أنها تغتسل في اليوم الخامس عشر واليومان الزائدان هما استحاضة. - وعند ابن حزم فإن الجميع حيض.

فإذاً يستطيع الإنسان أن يطبق الواقع من حيث الدم الخارج من المرأة على الأقوال التي قيلت له في حكم المسألة. • قال - رحمه الله -: وغالبه ست أو سبع. أي أن غالب الحيض ستة أيام أو سبعة أيام. الدليل على ذلك: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال للمستحاضة تحيضي في علم الله ستة أيام أوسبعة أيام كما تحيض النساء وتطهر. فهذا نص ولا إشكال فيه - في أن غالبه ستة أيام أو سبعة أيام لا إشكال فيه لا من حيث النصوص ولا من حيث الواقع. • ثم قال - رحمه الله -: وأقل طهر بين حيضتين: ثلاثة عشر يوماً ولا حد لأكثره. أقل طهر بين حيضتين: ثلاثة عشر. فمعنى هذا أن المرأة إذا حاضت ثم طهرت ثم اغتسلت ثم جاءها الدم بعد عشرة أيام فإن هذا الدم لا يعتبر حيضاً. لماذا؟ لأن أقل مدة بين حيضتين ثلاثة عشر يوماً. وهذه مسألة كبيرة. وعليه لو اغتسلت امرأة فنقول لها أنه لا يمكن أن يأتيها الحيض على أقل تقدير - إلا بعد ثلاثة عشر يوماً وكل دم يأتيها قبل ثلاثة عشر يوماً فإنه يعتبر دم فساد أو استحاضة. الدليل: الدليل أثر علي - السابق مع شريح فإنها طهرت لمدة ثلاثة عشر يوماً. والقول الثاني: أنه لا حد لأقل الطهر بين حيضتين مهما تطاول عليها أو قصر فإن ما يأتيها من دم فهو حيض فإن جاءها بعد الاغتسال بيوم أو بيومين أو ثلاثة أو أربعة أو أكثر فإنه يعتبر حيضاً. والدليل: ما تقدم أن الله ربط الحيض وأحكامه بوجوده فإذا وجد وجدت الأحكام. ولذلك فإن هذه الآية تعتبر من أعظم الشواهد على إعجاز القرآن لما تحمله من أحكام كثيرة. فإنه يستدل بها على عشرات المسائل. وهذا القول الأخير هو القول الأقرب للصواب. • قال - رحمه الله -: ولا حد لأكثره: يعني لاحد لأكثر الطهر بين حيضتين فإذا حاضت واغتسلت ولم يأتها الحيض إلا بعد ستة أشهر فهو حيض صحيح. الدليل: الدليل: إجماع العلماء. فإنه لم يخالف أحد في أنه لا حد لأكثره ثم الواقع يشهد لهذا فإن من النساء من لا تحيض في السنة إلا مرة. ومن النساء من لا تحيض في السنة إلا مرتين فإنه سيكون بين كل حيضة وحيضة ستة أشهر. • ثم قال - رحمه الله -: وتقضي الحائض: الصوم لا الصلاة، ولا يصحان منها بل يحرمان. تقضي الحائض الصوم إذا صادف الصوم الواجب أيام حيضها ولا تقضي الصلاة التي مرت عليها في أيام الحيض.

الدليل على هذا من وجهين: الوجه الأول: حديث عائشة أنها قالت: - رضي الله عنها - أمرنا بقضاء الصوم دون الصلاة. وهذا حديث صحيح. الوجه الثاني: الإجماع. لم يخالف أحد من العلماء في أن الحائض لا تقضي إلا الصوم دون الصلاة. ثم الحكمة من ذلك: أن الصلاة تتكرر وتتعدد في اليوم الواحد فالأمر بقضائها فيه مشقة على المؤمنات بخلاف الصوم فإنه شهر واحد في السنة. • قال - رحمه الله -: ولا يصحان منها بل يحرمان: الصوم والصلاة لا يصحان من الحائض وأيضاً يحرم عليها أن تأتي بهما، فإن صلت أو صامت عامدة عالمة فهي آثمة. وتكون قد ارتكبت محرماً. لقول النبي - صلى الله عليه وسلم - للمستحاضة فإذا أقبلت الحيضة فدعي الصلاة. فأمر أمراً بأن تترك الصلاة إذا أقبلت حيضتها. ولما تواتر واشتهر ونقل عن نساء النبي - صلى الله عليه وسلم - والصحابة - نساء العهد التشريعي - أنهن كن لا يصمن ولا يصلين في أيام الحيض. فهذا حكم محكم لا إشكال في ثبوته. • ثم قال - رحمه الله -: ويحرم وطؤها: في الفرج، فإن فعل: فعليه دينار أو نصفه كفارة، ويستمتع منها بما دونه. - يحرم وطؤها في الفرج: يحرم على المسلم أن يطأ الحائض في فرجها لقوله تعالى {ويسألونك عن المحيض قل هو أذى فاعتزلوا النساء في المحيض ولا تقربوهن حتى يطهرن فإذا تطهرن فأتوهن من حيث أمركم الله إن الله يحب التوابين ويحب المتطهرين} [البقرة/222] فأمر باعتزال النساء في المحيض. ثم إن هذا الحكم محل إجماع أيضاً. والمحيض اسم للمكان الذي يخرج منه الحيض وهو: الفرج. فيكون معنى قوله (فاعتزلوا النساء في المحيض) أي فاعتزلوا الفروج. قال: فإن فعل فعليه دينار أو نصفه كفاره. يحرم على الإنسان أن يطأ الحائض في فرجها فإن فعل فيترتب على هذا الفعل أمران: الأول: الإثم. فعليه التوبة من ذلك. الثاني: الكفارة. وهي دينار أو نصف دينار. والدليل على الكفارة: حديث ابن عباس - رضي الله عنه - فيمن أتى الحائض أن عليه دينار أو نصف دينار. وقد بينت روايات الحديث أن الدينار يكون وقت مجامعتها في فورة الدم وشدته. أما نصف الدينار فيكون وقت مجامعتها في خفة الدم أو توقفه توقفاً مؤقتاً. وهذا الحديث فيه اختلاف كثير ومتشعب جداً والأقرب للصواب أنه موقوف على ابن عباس ولا يثبت مرفوعاً إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -.

لذلك: القول الثاني في هذه المسألة وهو مذهب الجمهور أنه لا يجب عليه لا دينار ولا نصف دينار لضعف الحديث ولعدم وجود دليل يدل على وجوب هذه الكفارة. والأحوط بلا إشكال المذهب أن يُكَفِّرَ الإنسان لماذا؟ أولاً: لأن هذا ثابت عن ابن عباس - رضي الله عنه -. ومثل هذا الحكم غالباً لا يقال من جهة الرأي فله حكم الرفع. فلهذا السبب فإن الأحوط أن يُكَفِّر. وقيمة هذه الكفارة في وقتنا المعاصر قيمة أربع جرامات وربع من الذهب فينظر في قيمتها ثم يخرجها صدقة وكفارة عن ذنبه ومع التوبلة كما تقدم. فعرفنا الآن حكم الوطء وما يترتب عليه. قال: ويستمتع منها بما دونه. يعني ويستمتع الزوج من زوجته الحائض بما دون الفرج. والدليل على هذا: حديث أنس في مسلم أن النبي ‘ قال اصنعوا كل شيء إلا النكاح. ولأن النبي ‘ كان يأمر بعض أزواجه في الحيض أن تتزر ثم يباشرها. وذكر بعض الفقهاء أن مباشرة الحائض أحياناً تكون من حسن العشرة. لماذا؟ لأن الحائض في الغالب تكون قلقة نفسياً بسبب هذا التغير الجسدي الذي تمر به ولبعدها عن ذكر الله وعن الصلاة فمن المناسب مباشرة الزوج لها ليحصل لها الطمأنينة والسكينة. وما ذكره الفقهاء في هذا الباب فإنه كلام صحيح ولا نقول أنه سنة لأنه قد تقدم معنا أن الإنسان لا يقول لأي عمل من الأعمال أنه سنة إلا إذا كان فيه نص صحيح مرفوع إلى النبي ‘ ولكن نقول هو من مكملات حسن المعاشرة - وسيأتي الكلام على هذا في باب عشرة النساء. • ثم قال ’: وإذا انقطع الدم ولم تغتسل: لم يبح غير الصيام والطلاق. إذا انقطع الدم عن الحائض ولم تغتسل فإنه يبقى كل شيء كان محرماً في وقت الحيض على تحريمه مالم تغتسل إلا في مسألتين: 1 - الصيام. 2 - والطلاق. وذكر ابن القيم ’ قاعدة تضبط لطالب العلم فقه هذه المسألة فقال: الحائض إذا طهرت ولم تغتسل فحكمها حكم الجنب - تماماً في ما يحل ويحرم -. إلا في مسألة واحدة هي: الوطء. فيجوز للجنب أن يعاود الوطء بلا اغتسال بينما لا يجوز للحائض أن توطأ إلا بعد الاغتسال. الخلاصة: أن حكم الحائض إذا طهرت ولم تغتسل حكم الجنب تماماً في كل شيء إلا في مسألة واحدة وهي مسألة الوطء فيجوز للجنب ويحرم على الحائض.

نرجع إلى كلام المؤلف: • يقول ’: وإذا انقطع الدم ولم تغتسل: لم يبح غير الصيام والطلاق. أما الصيام: فيباح بالنسبة للحائض إذا طهرت ولم تغتسل قياساً على الجنب فقد ثبت أن النبي ‘ كان يصبح جنباً من غير احتلام ويصوم ثم يغتسل بعد الفجر فكذلك الحائض. وأما الطلاق: فلحديث ابن عمر الثابت أن النبي ‘ قال لعمر - مره - ابن عمر - أن يطلقها طاهراً. ومن توقف عنها الحيض فإنها تعتبر طاهرة. إذاً إذا طهرت المرأة ولم تغتسل فإن الطلاق يقع عليها وهو صحيح بلا تحريم. • ثم قال ’: والمبتدأة تجلس أقله ثم تغتسل وتصلي، فإن انقطع لأكثره فما دون: اغتسلت عند انقطاعه، فإن تكرر ثلاثاً: فحيض وتقضي ما وجب فيه. هذه المسائل التي ذكرها المؤلف تعتبر من أشكل مسائل باب الحيض. سيذكر المؤلف ’ ثلاثة أصول هي أصول المسائل: المسالة الأولى: سيذكر حكم المبتدأة. والمسألة الثانية: سيذكر حكم المستحاضة المبتدأة. والمسألة الثالثة: سيذكر حكم المستحاضة المعتادة. وسيذكر تفاصيلاً لكل مسألة من هذه المسائل. ونبدأ في الكلام على المبتدأة: • يقول ’: والمبتدأة تجلس أقله ثم تغتسل وتصلي: المبتدأة هي التي رأت الدم أول مرة وإن كانت كبيرة فإذا فرضنا أن امرأة لم يأتها الدم إلا وسنها ثلاثون - مثلاً - فهل تعتبر مبتدأة؟ الجواب: نعم. إذاً نقول سواء كانت صغيرة أو كبيرة فإنها تعتبر مبتدأة مادام أن الدم يأتيها أول مرة. لكن يشترط في الصغيرة شرط وهو أن تكون بلغت تسع سنين عند الحنابلة. لأنه قال ’: لا حيض قبل تسع سنين. والحنابلة عندهم تفصيل في مسألة المبتدأة فيقولون: إن المبتدأة إذا جاءها الدم فتجلس يوماً وليلة ثم بعد اليوم والليلة تغتسل وتصوم وتصلي ثم إذا توقف الدم لأكثره فما دون - أي لأكثر الحيض فما دون - فتغتسل مرة أخرى وتفعل هذا ثلاث مرات في ثلاثة أشهر. ثم بعد الثلاثة أشهر تقضي ما كانت صلته في ما بين اليوم والليلة وانقطاع الدم لأكثره فما دون. ولننتبه لكلام المؤلف: • يقول ’: المبتدأة تجلس أقله ثم تغتسل وتصلي:

أي أن المبتدأة إذا جاءها الدم لأول مرة فنقول اجلسي: أي دعي الصلاة والصيام وما يحرم على الحائض - اجلسي يوم وليله. ثم بعد نهاية اليوم والليلة نقول لها: اغتسلي وصومي وصلي وإن استمر الدم. لماذا يأمرونها أن تغتسل لأقله؟ يقولون: لأن مازاد لأقله مشكوك فيه فقد يكون حيضاً وقد يكون استحاضة. وأن وجوب العبادة يقيني واليقيني مقدم على المشكوك فيه أو نقول اليقين لا يزول بالشك. • ثم قال - رحمه الله -: فإن انقطع لأكثره فما دون: اغتسلت عند انقطاعه. اغتسلت إذا انقطع: أي تغتسل مرة ثانية. فمثلاً: إذا ابتدأ الدم مع هذه المرأة ثم مضى يوم وليلة ماذا نقول لها؟ اغتسلي وصلي. ثم بعد مضي سبعة أيام انقطع الدم فماذا نقول لها؟ اغتسلي مرة أخرى. • ثم يقول - رحمه الله -: فإن تكرر ثلاثاً: يعني هذا الشهر جلست يوم وليلة واغتسلت ثم أكملت سبعة أيام واغتسلت ثم الشهر الثاني جلست يوم وليلة واغتسلت ثم أكملت سبعة أيام واغتسلت والشهر الثالث كذلك فتبين حينئذ أن هذه السبعة أيام حيض فنقول لها إذا كنت صمت في الأشهر الثلاثة السابقة في هذه السبعة أيام: اقضي هذا الصوم لأنه تبين أن ما سبق حيض. وأيضاً تقضي كل ما لا يجوز من الحائض كالطواف مثلاً فلو كانت قد طافت في هذه المدة فإنها تقضي الطواف مرة أخرى. أما الصلاة فإنها لا تقضي الصلاة وإن كانت صلت لأنه تبين أنها كانت تصلي وهي حائض والصلاة لاتجب على الحائض أصلاً ولا يجب عليها أن تقضيها. وهذا القول - هذا التفصيل - ثابت عن الإمام أحمد. وهذا القول من أغرب مامر علي في ثبوته عن الإمام - رحمه الله - لأنه قول غاية في البعد وغاية في الضعف. إذاً عند الحنابلة لا يثبت الحيض إلا إذا تكرر ثلاثة مرات ولا تترك الصوم والصلاة لمدة سبعة أيام إلا في الشهر الرابع. ودليل الحنابلة: قالوا: الدليل قول النبي - صلى الله عليه وسلم - للمستحاضة دعي الصلاة أيام أقرائك. فسماها أقراء وهي جمع والجمع لا يصدق إلا على الثلاث مرات. الدليل الثاني: وهو تعليل - أن الحيض يسمى عادة والعادة لا ثبت بمرة وإنما تحتاج إلى أن تكرر ثلاث مرات لتصبح عادة. القول الثاني: أنها تجلس من أول مرة كل الوقت مالم يتجاوز أكثره. الدليل:

الأول: أن الله سبحانه وتعالى سمى الحيض أذى فإذا وجد وجدت أحكامه. الثاني: - وهو دليل قوي - أنه يوجد في عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - عدد كبير من النساء يعتبرن مبتدآت ولم ينقل أنهن كن يغتسلن بعد يوم وليلة وهذا دليل قوي جداً. وهذا القول - الثاني - هو قول الجمهور وهو القول الأقرب للصواب إن شاء الله. وإلى هنا انتهى الكلام عن المبتدأة. وبدأ الكلام عن المبتدأة المستحاضة. • قال - رحمه الله -: وإن عبر أكثره: فمستحاضة. الاستحاضة: هو سيلان الدم في غير وقته من عرق في أدنى الرحم. أما الحيض فقد تقدم معنا أنه يكون من عرق في أقصى الرحم. واختلف الفقهاء اختلاف كثير في تحديد ماهية الاستحاضة. وهي عند الحنابلة: ما تجاوز أكثر الحيض فإذا تجاوز الدم أكثر الحيض فهو استحاضة. والقول الثاني: أن الاستحاضة هي كل دم لا يصلح أن يكون دم حيض ولا نفاس ولا فساد. وهذا على القول بأن دم الفساد يختلف عن دم الاستحاضة. والأقرب أن دم الفساد هو دم الاستحاضة. • يقول - رحمه الله -: وإن عبر أكثره فمستحاضة: المستحاضة الكلام عن المستحاضة المبتدأة والمستحاضة المبتدأة لن يكون لها إلا تمييز ولن يكون لها عادة لأنه لم يسبق لها أن حاضت حتى يكون لها عادة مستقرة. • فيقول المؤلف - رحمه الله -: فإن كان بعض دمها أحمر وبعضه أسود، ولم يعبر أكثره ولم ينقص عن أقله: فهو حيضها تجلسه في الشهر الثاني. ذكر الفقهاء علامات يفرق بها الإنسان بين دم الحيض ودم الاستحاضة. ونحن نحتاج هذه العلامات لأن المرأة المستحاضة يفترض فيها أن الدم يجري معها دائماً ولذلك لا نستطيع أن نفرق بين الدم الذي هو استحاضة وبين الدم الذي هو حيض إلا بهذه العلامات والعلامات أربع هي باختصار: 1 - اللون. 2 - الرائحة. 3 - والثخونة. 4 - والتجمد. 1 - فلون الحيض: أسود. ولون الاستحاضة: أحمر. 2 - رائحة الحيض: منتنة وسيئة. ورائحة الاستحاضة: كرائحة الدم العادي. 3 - دم الحيض: ثخين - غليظ جداً. ودم الاستحاضة: يسيل سيلان الدم العادي. 4 - دم الحيض: لا يتجمد. ودم الاستحاضة: يتجمد كدم الجروح. • قال - رحمه الله -: فإن كان بعض دمها أحمر وبعضه أسود، ولم يعبر أكثره ولم ينقص عن أقله: فهو حيضها تجلسه في الشهر الثاني. إذا اكتملت هذه الشروط:

الشرط الأول: أن يكون مميزاً. وذكر المؤلف هنا علامة واحدة وهي اللون ونحن ذكرنا أربع علامات فإذا كان مميزاً أي يمكن تمييزه بأحد العلامات الأربع وأيضاً لم يقل عن أقله ولم يكثر عن أكثره ولذلك يقول لم ينقص عن أقله ولم يعبر أكثره فإذا تحقق الشرطان فهذا الدم يعتبر حيضاً تجلسه في الشهر الثاني. ويفهم من كلام المؤلف أنها تجلسه بلا تكرار أي أنه لا يحتاج الأمر إلى أن يتكرر معها الدم المتميز ثلاث مرات في ثلاثة أشهر وهذا هو مذهب الحنابلة أنها تجلسه بلا تكرار. والقاعدة عندهم أنه مع التمييز لا نحتاج إلى التكرار. لدليلين: الدليل الأول: أن التمييز يعين دم الحيض من الاستحاضة. فلا نحتاج إلى التكرار لأنا قد علمنا أي الدمين يعتبر حيضاً وأيهما يعتبر استحاضة. الدليل الثاني: قول النبي ‘ للمستحاضة (فإذا أقبلت حيضتك فدعي الصلاة ثم إذا أدبرت فاغتسلي وصلي) وفي رواية فإن دم الحيض دم أسود يعرف. إذاً المبتدأة المستحاضة المميزة هل تحتاج إلى تكرار؟ الجواب: لا. لا تحتاج إلى التكرار وإنما تجلس من أول مرة. وقد أخذنا الأدلة. انتهى المؤلف الآن عن المبتدأة المستحاضة المميزة. سيبدأ الكلام عن المستحاضة المبتدأة غير المميزة. لو رجعنا إلى قوله: والأحمر استحاضة أي أن الأسود حيض وتجلسه من ثاني شهر والأحمر استحاضة فيأخذ أحكام الاستحاضة التي ستأتي عند قول المؤلف: والمستحاضة ونحوها تغسل فرجها ... إلخ. في آخر الباب. • فقال ’: وإن لم يكن دمها متميزاً: جلست غالب الحيض من كل شهر. إذا كانت المستحاضة ليس لها تمييز بأن كان الدم الذي يأتيها كله على صفة واحدة فإنها تجلس غالب الحيض. وتقدم معنا أن غالب الحيض ستة أيام أو سبعة أيام. من كل شهر. ولكن متى تبدأ الجلوس - في أي يوم فنحن علمنا أنه ستة أيام أو سبعة أيام ولكن من أي يوم؟ قالوا: تجلس من أول يوم بدأ معها الدم إن كانت تعرفه فإن جهلت أول يوم فإنها تجلس من أول الشهر الهلالي.

ويفهم من كلام المؤلف أنها تجلس بلا تكرار لأنه لم يذكر قضية التكرار وماذكره المؤلف هنا ليس هو المذهب فعبارة المؤلف هنا قاصرة إذ كان يجب عليه أن يذكر التكرار لماذا؟ لأن مذهب الحنابلة أن المستحاضة المبتدأة غير المميزة تجلس ثلاثة أشهر في كل شهر يوم وليلة فقط ثم بعد ثلاثة أشهر إذا تكررت الاستحاضة فتجلس في الشهر الرابع ستة أيام أو سبعة أيام. إذاً هل تكرر أولا تكرر؟ الجواب: تكرر. بينما يفهم من كلام المؤلف أنها تجلس من أول الأمر. وماذكره المؤلف هنا خلاف المذهب ففي عبارته قصور ولذلك لا حظ عبارة المؤلف حيث يقول: وإن لم يكن دمها متميزاً جلست غالب الحيض من كل شهر. يعني بلا تكرار. والصواب أنها تجلس بعد التكرار. إذا قيل لك: المستحاضة المبتدأة غير المميزة كيف تكرر؟ فتقول: تجلس في الشهر الأول يوماً وليلة ثم في الشهر الثاني يوم وليلة ثم في الشهر الثالث يوم وليلة ثم في الرابع فتجلس ستة أيام أو سبعة أيام إما من أول يوم بدأ معها الدم أو إذا جهلت ذلك من أول الشهر الهلالي. فتبين معنا الآن حكم المستحاضة المبتدأة غير المميزة عند الحنابلة. والقول الثاني: أنها تجلس من أول الأمر ستة أيام أو سبعة أيام ولا تحتاج إلى تكرار. واختار هذا القول عدد من المحققين وهو الصحيح إن شاء الله. إذاً ما هي المسائل التي أخذناها الآن: المسألة الأولى: حكم المبتدأة عموماً. الثانية: حكم المبتدأة المستحاضة المميزة. الثالثة: حكم المستحاضة المبتدأة غير المميزة. ثم الآن سيذكر المؤلف حكم المستحاضة المعتادة على تفصي المميزة وغير المميزة. • لذلك يقول ’: والمستحاضة المعتادة ولو مميزة: تجلس عادتها وإن نسيتها عملت بالتمييز الصالح، فإن لم يكن لها تمييز: فغالب الحيض. يقول ’: والمستحاضة المعتادة ولو مميزة: تجلس عادتها: انتهى الكلام عن المبتدأة وبدأ الكلام عن المستحاضة المعتادة. والمعتادة هي المرأة التي لها حيض وطهر صحيحان فهذه المعتادة إذا استحيضت فماذا تصنع؟ يقول ’: المعتادة ولو مميزة تجلس عادتها. الأحوال التي تتعرض لها المستحاضة ثلاثة: 1. إما أن تكون معتادة. 2. أو مميزة. 3. أوتجلس غالب عادة النساء.

فعند الحنابلة: إذا كانت معتادة ومميزة يقدمون العادة على التمييز: المثال الموضح: إذا كانت امرأة عادتها أن تحيض ستة أيام من أول كل شهر ثم استحيضت فصارت ترى الدم الاسود من بداية اليوم الخامس عشر لمدة ستة أيام فاجتمع في حق هذه المرأة العادة والتمييز. فهل حيض هذه المرأة يكون من أول الشهر أو من منتصف الشهر؟ عند الحنابلة: يكون من أول الشهر لأنهم يقدمون العادة على التمييز. وهذا أيضاً مذهب الأحناف واختيار شيخ الاسلام ابن تيمية. الدليل: أن النبي ‘ قال للمستحاضة اجلسي قدر ما كانت تحبسك حيضتك وفي الحديث الآخر اجلسي أيام أقراءك. وجه الاستدلال من الحديثين: أن النبي ‘ رد هذه المستحاضة إلى عادتها ولم يسأل هل هي مميزة أو ليست مميزة. والقول الثاني: أن التمييز مقدم على العادة. لأن التمييز أمر يختص بذات الدم بخلاف العادة فهو يختص بوقته. ولقول النبي ‘ فإنه دم أسود يعرف. والراجح مذهب الحنابلة وحديث فإنه دم أسود يعرف هذا لفظ شاذ. إذاً إذا اجتمع في حق المستحاضة المعتادة تمييز وعادة فنقدم على الصحيح العادة. وهو مذهب الحنابلة. • قال ’: وإن نسيتها عملت بالتمييز الصالح. وإن نسيت العادة رجعنا إلى التمييز لكن يشترط في هذا التمييز أن يكون صالحاً. والتمييز الصالح هو: أن لا ينقص الدم عن أقله ولا يزيد عن أكثره. مثال يوضح: إذا كانت المرأة المستحاضة يأتيها دم أسود منتن ثخين لا يتجمد لكنه لا يستمر معها إلا يوماً واحداً فهل يعتبر حيضاً عند الحنابة؟ لا. لأنه غير صالح. باعتبار أنه نقص عن أقله. وإذا كان هذا الدم بهذه الصفات يأتيها أكثر من خمسة عشر يوماً فلا يعتبر أيضاً حيضاً. إذاً إذا قيل لك ما هو التمييز الصالح؟ فتقول: هو الذي لا ينقص عن أقله ولا يزيد عن أكثره. وأما الدليل على الرجوع إلى التمييز إذا لم يكن لها عادة أو كان لها ولكن نسيتها فهو: الأدلة السابقة. (فإذا أقبلت الحيضة) وإقبالها يعرف بصفاتها. وحديث (فإنه دم أسود يعرف) وإن كان ضعيفاً لكنه دليل استدل به الحنابلة. وهذا لا إشكال فيه: أنه إذا لم يكن لها عادة فترجع إلى التمييز. انتهى المؤلف الآن من الكلام عن المستحاضة المعتادة المميزة أول المعتادة.

انتقل إلى القسم الآخر وهي المستحاضة المعتادة التي ليس لها عادة ولا تمييز أي نسيت العادة وليس لها تمييز. • فقال ’: فإن لم يكن لها تمييز: فغالب الحيض. كالعالمة بموضعه الناسية لعدده. بدأ المؤلف الكلام عن المستحاضة التي تسمى المتحيرة وهي المستحاضة التي نسيت عادتها وليس لها تمييز. فتسمى متحيرة لأنه لا عادة لها ولا تمييز. وتنقسم إلى ثلاثة أقسام: القسم الأول: الناسية لموضعه وعدده. يعني إذا كانت المرأة المعتادة تحيض لمدة ستة أيام من أول الشهر ثم استحيضت ونسيت الموضع والعدد فهذا القسم الأول. حكمها: أنها تجلس غالب الحيض من أول الشهر. والموضع يقصد به: الأيام التي كانت تحيضها في الشهر في أوله أو وسطه أو آخره. القسم الثاني: الناسية للعدد الذاكرة للموضع. مثاله: امرأة تقول أن الحيض كان يأتيها في أول الشهر لكنها نسيت كم يوماً كان يأتيها. فهذه المرأة نسيت الأيام وذكرت الموضع فتجلس من موضعها غالب الحيض ستة أيام أو سبعة أيام. القسم الثالث: قسمة عقلية: الذاكرة للعدد الناسية للموضع. فهذه المرأة تقول كان الحيض يأتيها لمدة ستة أيام لكن لا أذكر هل كان يأتي في أول الشهر أو في وسط الشهر أو في آخر الشهر فنقول: تجلس العدد من أول الشهر. إذاً إذا أردت أن تفهم المتحيرة مع الأقسام فعندنا الموضع والعدد. فنخرج من الموضع والعدد ثلاثة أقسام: 1. إما أن تنسى الموضع والعدد. 2. أو تنسى العدد وتذكر الموضع. 3. أو تنسى الموضع وتذكر العدد. ثلاثة أقسام وقد عرفنا حكم كل قسم منها. الدليل على هذا كله قول النبي ‘ تحيضي في علم الله ستة أيام أو سبعة أيام كما تحيض النساء وتطهر. المؤلف ’ ذكر الأقسام: فقوله: فإن لم يكن لها تمييز: فغالب الحيض: فهذه التي قد نسيت العدد والوقت. القسم الأول. وقوله: كالعالمة بموضعه الناسية لعدده: هذه التي نسيت العدد وذكرت الموضع. القسم الثاني. وقوله: وإن علمت عدده ونسيت موضعه. هذا القسم الثالث. فهذه الأقسام ذكرها الماتن ’ ونحن لخصناها تسهيلاً. هنا مسألة: يقول المؤلف ’: وإن علمت عدده ونسيت موضعه من الشهر ولو في نصفه: جلستها من أوله

هذه امرأة تقول أنها تذكر أن الحيض كان يأتيها في منتصف الشهر لكن لا تذكر هل كان يأتي في اليوم الخامس عشر؟ أو في اليوم العشرين؟ أو في اليوم الخامس والعشرين؟ فهي تذكر أنها في منتصف الشهر لكن لاتدري في أي يوم منه. فعند الحنابلة ترجع إلى أول الشهر فنقول اجلسي من أول الشهر الهلالي ولذلك المؤلف يقول هنا: ولو في نصفه جلستها من أوله. والقول الثاني: أنها تجلس من أول منتصف الشهر فتبدأ من اليوم الخامس عشر. لأن هذا أقرب لعادتها. • يقول - رحمه الله -: كمن لا عادة لها ولا تمييز. كمن: يعني: كالمبتدأة. التي لا تمييز لها فذكرنا في المبتدأة التي لا تمييز لها أنها تجلس غالبه من أول الشهر على ما تقدم من تفصيل في مسألة المبتدأة المستحاضة. انتهى الآن الكلام على هذه المسائل. المبتدأة ثم المستحاضة المبتدأة المميزة ثم المستحاضة المبتدأة غير المميزة ثم المستحاضة المعتادة المميزة ثم أخيراً المستحاضة المعتادة المتحيرة. فهذه الأقسام هي التي أراد المؤلف أن يوضحها وتقدم الكلام عليها. انتقل المؤلف إلى مسألة أخرى. • قال - رحمه الله -: ومن زادت عادتها أو تقدمت أو تأخرت: فما تكرر ثلاثاً فحيض. • من زادت عادتها: مثاله: امرأة كانت تحيض أربعة أيام ثم في هذا الشهر زادت فصارت تحيض ستة أيام. • أو تقدمت: مثاله: من كانت تحيض في آخر الشهر ثم في هذا الشهر حاضت في أوله. • أو تأخرت: مثاله: من كانت تحيض في أول الشهر ثم صارت تحيض في آخره. فالمسائل ثلاث: زيادة وتقدم وتأخر. الحكم: الحكم عند الحنابلة: أن الحيض لا يثبت حكمه إلا إذا تكرر ذلك ثلاث مرات ثم تجلس في الرابعة مثاله: امرأة كانت تحيض أربعة أيام ثم في هذا الشهر حاضت ستة أيام: نقول لها: إذا انتهت الأربعة أيام اغتسلي وصلي وصومي. ثم إذا انتهت ستة أيام. اغتسلي مرة أخرى وافعلي هذا ثلاث مرات ثم في الشهر الرابع ثبتت العادة واقضي ما كنت صمتيه فيما بين اليوم الرابع والسادس. وهذا كالتفصيل الذي ذكرناه تماماً في مسألة المبتدأة. • قال - رحمه الله -: وما نقص عن العادة طهر.

إذا كانت تحيض أربعة أيام ثم في هذا الشهر طهرت في اليوم الثالث فتغتسل وتصلي بلا إشكال لقول ابن عباس -: (ثم مارأت الطهر فإنه تغتسل) وهذا لا إشكال فيه. • ثم قال ’: وما عاد فيها جلسته. وما عاد فيها جلسته يعني: في العادة. جلسته يعني: تركت فيه الصلاة. مثاله: إذا كانت امرأة عادة يستمر معها احيض لمدة ستة أيام ثم في هذا الشهر لما جاء اليوم الثالث طهرت فماذا نقول لها؟ اغتسلي وصلي. ثم في اليوم الرابع رجع الدم. فهل رجع الدم في العادة أو بعد العادة؟ في العادة. فنقول: اجلسي: أي لا تصلي ولا تصومي. وتأخذ أحكام الحائض. هذا معنى قوله: وما عاد فيها يعني: إذا عاد الدم في الحيض فإنها تجلس. • ثم قال ’: - - وهذه مسألة مهمة - -. والصفرة والكدرة في زمن العادة: حيض. الحنابلة والأحناف وهو مذهب الإمام البخاري أن الصفرة والكدرة في زمن العادة حيض. فإذا جاءت المرأة صفرة أو كدرة في زمن العادة في الأيام التي هي عادة تحيضها فيعتبر حيضاً. الدليل: الدليل الأول على هذه المسألة: حديث أم عطية. (كنا لا نعد الصفرة والكدرة بعد الطهر شيئاً). مفهومه أن الصفرة والكدرة قبل الطهر يعتبر حيضاًَ. الدليل الثاني: أن عائشة ثبت عنها في صحيح البخاري أن النساء كن يرسلن لها بالقطن فيه شيء من صفرة أو كدرة فتقول لا تعجل حتى ترين القصة البيضاء. معنى الحديث: أن النساء في زمن عائشة إذا أصابهن صفرة وكدرة في آخر الحيض يرسلن إلى عائشة بالقطن الذي فيه الصفرة والكدرة ليسألنها هل طهرن فيغتسلن ويصلين أو لا؟ فتفتيهن عائشة بأن ينتظرن إلى نزول القصة البيضاء. وهذا دليل على أن زمن الصفر والكدرة يعتبر حيضاً. والقول الثاني: أن الصفرة والكدرة لا يعتبر شيئاً مطلقاً. والقول الثالث: أن الصفرة والكدرة يعتبر حيضاً مطلقاً ولو في خارج أيام العادة. ولا نريد أن نطيل في النقاش والخلاف في أدلة القول الثاني والثالث. لأن الراجح إن شاء الله مذهب الحنابلة واختيار البخاري كما تقدم. وهو أنه في زمن العادة يعتبر حيضاً. وفيما عداه لا يعتبر شيئاً. • ثم قال ’: ومن رأت يوماً دماً ويوماً نقاءً: فالدم حيض والنقاء طهر ما لم يعبر أكثره.

إذا رأت المرأة يوماً دماً ويوماً نقاءً فالدم حيض والنقاء طهر. لماذا؟ لأن الله سبحانه وتعالى علق أحكام الحيض على وجوده فينتفي إذا انتفى ويثبت إذا وجد. فإذا جاء الدم فهي حائض وإذا ارتفع فهي طاهر. ولأن ابن عباس - يقول: وأما ما رأت الطهر ساعة فلتغتسل. والقول الثاني: أن النقاء إذا كان أقل من يوم فلا ينظر إليه لأمرين: الأول: أن في الإلزام بالاغتسال للتوقف لمجرد يوم مشقة. الثاني: أن من عادة الدم أنه يجري تارة ويتوقف تارة فهذا أمر معتاد. والأقرب والله أعلم القول الثاني وإليه ميل ابن قدامة ’. أن التوقف لأقل من يوم فلا ينظر إليه. تنبيه مهم جداً ذكره الفقهاء: المقصود بالنقاء هنا: أن تحتشي المرأة قطناً في فرجها ويخرج بلا تلويث وليس النقاء هو عدم جريان الدم إذ أن جريان الدم قد يتوقف لكن لو احتشت بالقطن لخرج مليئاً. فالفقهاء يريدون المعنى الأول وهو أن تحتشي فيخرج بلا دم. • قال ’: والمستحاضة ونحوها: تغسل فرجها وتعصبه، وتتوضأ لوقت كل صلاة. يريد المؤلف أن يبين أحكام المستحاضة. المستحاضة يقصد بها كما تقدم: المرأة التي يستمر معها الدم أكثر الشهر. ومقصوده بقوله ونحوها: من به سلس بول مثلاً أو به جرح مستمر خروج الدم منه. وبصفة عامة من حدثه دائم. فكل شخص يكون حدثه دائم فحكمه حكم المستحاضة. ماذا تصنع المستحاضة؟ • يقول المؤلف ’: تغسل فرجها: غسل الفرج واجب عند الحنابلة لقول النبي ‘ في حديث المستحاضة فإذا أدبرت الحيضة فاغسلي عنك الدم وصلي. فقوله فاغسلي عنك الدم صريح بأن المستحاضة إذا أرادت أن تصلي فتغسل الدم الذي في فرجها. • قال ’: وتعصبه والعصب هو: ربط الفرج بقطنه ونحوها لأن لا يخرج ما يلوث البدن أو الثوب أو البقعة. الدليل عليه: أيضاً أن النبي ‘ قال للمستحاضة فتلجمي. تنبيه: لا يلزم المستحاضة أن تفعل هذا الأمر وهو غسل الفرج وتعصيبه في كل مرة وإنما يكتفى بفعله مرة واحدة. وهذا هو اختيار الحافظ ابن رجب أنها تفعله مرة واحدة ولا يجب عليها أن تكرر كل ما أرادت أن تصلي. ثم قال ’: وتتوضأ لوقت كل صلاة.

يجب على المستحاضة عند الحنابلة بل والجمهور أن تتوضأ إذا دخل وقت الصلاة. هذا إذا كان خرج شيء من الحدث الدائم فإنه إذا خرج شيء فيجب عليها إذا دخل وقت الفريضة الثانية أن تتوضأ. الدليل: قول النبي - صلى الله عليه وسلم - للمستحاضة (ثم توضأي لكل صلاة) قال الفقهاء المراد بقوله لكل صلاة أي لوقت كل صلاة. هذا الدليل الأول. الدليل الثاني: أن هذا مروي عن الصحابة. القول الثاني: أن من حدثه دائم لا يلزمه أن يتوضأ من هذا الحدث الدائم. فوجوده كعدمه وهذا مذهب المالكية واختيار شيخ الاسلام - رحمه الله -. قالوا: لأنه لا دليل على وجوب الوضوء. وحديث توضأي لكل صلاة ضعيف. ثم استدلوا بأمر آخر وهو أنه لا فائدة من الوضوء لحدث يستمر خروجه. وهذه مسألة مهمة جداً وحاجة الناس إليها كثيرة وهي هل يلزم من حدثه دائم كمن به سلس بول أو سلس ريح أو المستحاضة بالنسبة للنساء هل يلزمهم أن يتوضأوا عند دخول وقت كل صلاة؟ فكما رأينا الخلاف فيه. والراجح القول الثاني لأنه أقرب للنصوص وفيه توسعة للناس إلا إذا ثبت ما ذكره بعض الفقهاء أن وجوب الوضوء محل إجماع من الصحابة فإذا ثبت هذا فلا شك أن مذهب الحنابلة هو الراجح. لكن إذا لم يثبت هذا فقول المالكية الذي اختاره شيخ الاسلام وهو عدم الوجوب. هو الراجح. إذاً يلزم المستحاضة إذا أرادت أن تصلي ثلاثة أشياء: 1 - أن تغسل الفرج. 2 - وتعصبه. 3 - وأن تتوضأ لوقت كل صلاة. - تعريف الصفرة والكدرة: الصفرة: ماء أصفر يشبه ماء الجروح. والكدرة: سائل فيه أمشاج (يعني: خيوط من الدم) من الدم بني اللون في الجملة. وفي تعريفهما خلاف كثير وهذا التعريف هو أقربها. انتهى الدرس،،،

• قال - رحمه الله -: وتصلي فروضاً ونوافل. مقصود الحنابلة أنها إذا فعلت الطريقة السالفة من غسل الفرج وعصبه والوضوء فتستطيع أن تصلي بهذا الوضوء فروضاً ونوافل عديدة مالم تحدث حدثاً غير الحدث الدائم. خلافاً للشافعية الذين يرون أنها يجب أن تتوضأ لكل فريضة وتمسك الشافعي بقول النبي - صلى الله عليه وسلم - وتوضأي لكل صلاة فهذا نص في أن الوضوء يكون لكل صلاة. وتقدم معنا أن هذا اللفظ شاذ وأن الصواب عدم ثبوته في حديث المستحاضة. • ثم قال - رحمه الله -: ولا توطأ إلاّ مع خوف العنت. يرى الحنابلة أنه لا يجوز أن توطأ المستحاضة إلا في صورة واحدة إذا خشيت من العنت أو خشي هو من العنت. والعنت يعني المشقة الحاصلة بسبب ترك الوطء فإذا حصلت مشقة بسبب ترك الوطء لها أو له جاز حينئذ أن تجامع المستحاضة. واستدلوا على هذا: بأن الله سبحانه وتعالى منع من وطء الحائض لوجود الأذى وهو الدم قالوا فكذلك دم المستحاضة يعتبر أذى. والقول الثاني للجماهير وهو جواز وطء المستحاضة. واستدلوا على هذا: بأنه ليس في السنة الصحيحة ما يدل على التحريم. ثانياً: أنه قد استحيضت عدد من النساء - ثلاث أو أكثر - في العهد النبوي ولم يأمرهن - صلى الله عليه وسلم - بترك الجماع. ثالثاً: جاء في أحاديث مجموع أسانيدها يرقى إلى درجة الحسن أن أزواج بعض المستحاضات كانوا يطأون المستحاضة. وهذا القول - جواز وطء المستحاضة - هو القول الصواب إن شاء الله. وليس مع المانعين دليل صحيح. • ثم قال - رحمه الله -: ويستحب غسلها لكل صلاة. عند الحنابلة يستحب للمستحاضة أن تغتسل إذا أرادت ن تصلي ولا يجب عليها ذلك.

دليل الاستحباب ما ثبت في الصحيحين عن أم حبيبة - رضي الله عنها - أنها لما استحيضت سألت النبي - صلى الله عليه وسلم - فأمرها أن تغتسل فكانت تغتسل لكل صلاة. والقول الثاني: وجوب الاغتسال لكل صلاة استدلالاً بحديث أم حبيبة - وهو في الصحيحين -. والجواب عليه: أن الأئمة كالليث ابن سعد والشافعي وغيرهما من الأئمة حملوا اغتسال أم حبيبة على أنه شيء كانت تفعله من عند نفسها تورعاً واحتياطاً وأن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يأمرها إلا بالاغتسال عند انتهاء الحيض فقط وأما الاغتسال لكل صلاة فشيء كانت تفعله هي بدون أمر النبي - صلى الله عليه وسلم -. وهذا هو الصواب. أي أن الاغتسال مستحب وأن الحديث لايدل على الوجوب. فقول عائشة في الحديث - الراوية عن أم حبيبة في الصحيحين - فكانت تغتسل لكل صلاة دليل على أن هذا الاغتسال إنما هو من قبلها هي - رضي الله عنها - ولم يأمرها النبي - صلى الله عليه وسلم - بذلك. انتهى المؤلف من الكلام عن المستحاضة وانتهى بذلك من الكلام على نوعين من أنواع الدماء وهما الحيض والاستحاضة وشرع في النوع الثالث وهو النفاس. • فقال - رحمه الله -: وأكثر مدة النفاس: أربعون يوماً. النفاس: مشتق في لغة العرب من التنفيس وهو تفريج الكربة.

أو مشتق من التنفس وهو الخروج من الجوف سواء كان خروج النفس أو غيره. فهو مشتق من أحد هذين الأمرين. والاشتقاق اللغوي مهم جداً في تصور الحكم الشرعي ومهم كما سيأتينا بالذات في هذه المسألة أحياناً في الترجيح فإنه يساعد أحياناً على الترجيح. وأما في الشرع: فالنفاس هو: الدم الذي يرخيه الرحم بسبب الولادة. • قال ’: وأكثر مدة النفاس: أربعون يوماً. هذا هو المذهب وهو قول الجماهير وحكي إجماعاً أن أكثر مدة النفاس أربعون يوما. وللجماهير أدلة: - وهذه المسألة غاية في الأهمية وتكثر حاجة النساء إليها - الدليل الأول: ما روي عن أم سلمة (أن النفساء في عهد النبي ‘ كانت تجلس أربعين يوماً). وهذا الحديث له طرق كثيرة لا تخلو من ضعف لكنه بمجموع الطرق يصل إلى التحسين لا سيما وأن البخاري ’ أثنى على هذا الحديث. وعليه هو حديث صالح للاستدلال. الدليل الثاني: ماصح عن ابن عباس - رضي الله عنه - أن النفساء تجلس نحواً من أربعين. الدليل الثالث: أن هذا مروي عن عدد من أصحاب النبي ‘ ورضي عنهم. القول الثاني: أنه لاحد لأكثر النفاس فما دام الدم باقياً بصفاته المعروفة فهو نفاس وإن طالت المدة حتى قال شيخ الاسلام خمسين أو ستين أو سبعين يوماً. وهو الذي اختاره شيخ الاسلام ’. والقول الثالث: أن أكثر مدة النفاس ستين يوماً وهو مذهب لبعض الفقهاء المتقدمين والمتأخرين. ودليلهم أن هذا أكثر ما قيل. وأرجح هذه الأقوال وأوقواها وأحراها بالدليل وأقربها لفقه الصحابة القول الأول. وأضعف هذه الأقوال عند عدد من الفقهاء القول بستين. بناء على هذا القول الراجح إذا بلغت المرأة أربعين يوماً في النفاس فإنها تغتسل ولو كان الدم يجري على صفته وهيئته تماماً فتغتسل وتصلي وتصوم وتعمل عمل الطاهرات وإن كان الدم باقياً على صفته المعروفة باعتبار أن أصحاب النبي ‘ كانوا يرون أن الأربعين هي نهاية النفاس. • ثم قال ’: ومتى طهرت قبله: تطهّرت وصلّت. لما بين المؤلف أكثر النفاس بين أقله.

فهذه العبارة تعني: أنه لاحد لأقله وهذا باتفاق الأئمة الأربعة. فمتى طهرت دون الأربعين اغتسلت وصلت لأنه كما تقدم معنا أن الحكم يدور مع علته وجوداً وعدماً. فإذا توقف الدم توقفت أحكامه. • ثم قال ’: ويكره: وطؤها قبل الأربعين بعد التطهير. إذا توقف الدم قبل نهاية الأربعين واغتسلت وصلت فيكره في هذه الحالة عند الحنابلة ولا يحرم أن يطأ الرجل زوجته إلى تمام الأربعين. واستدلوا على هذا: بالأثر المروي عن عثمان بن أبي العاص أنه كان يقول لزوجته لا تقربيني ما دامت الأربعين. وهذا الأثر فيه راو مجهور. والقول الثاني: الجواز بلا كراهة. وهذا القول هو الصواب لأنه مادام أنا قد حكمنا عليها أنها طاهرة وتصلي فمن باب أولى جماع الزوج. والقول الثالث: توسط شيخ الاسلام ’ فقال: لا ينبغي أن توطأ. فلم يقل أنه يكره أو أنه يجوز بلا كراهة ولكن توسط فقال لا ينبغي. وقوله ’ وجيه فما دام أن في الباب أثر وإن كان في إسناده ضعف فإنه يصلح أن نقول أنه لا ينبغي ولا نطلق الكراهة لأن الكراهة حكم شرعي يحتاج إلى دليل ثابت ولا دليل في هذا الباب. • ثم قال ’: فإن عاودها الدم: فمشكوك فيه، تصوم وتصلي وتقضي الصوم الواجب. إذا عاودها الدم فيها: الضمير يعود على الأربعين. فإذا رجع الدم في مدة الأربعين فحكمه أنه مشكوك فيه. ومعنى أنه مشكوك فيه: أي أن هذا الدم يتردد الإنسان هل هو دم نفاس أو دم فساد؟. وبناء على أن هذا الدم مشكوك فيه قال: تصوم وتصلي وتقضي الصوم الواجب. فذكر حكمين: الأول: أنها تصوم وتصلي. والثاني: أنها تقضي الصوم. دليل أنها تصوم وتصلي أن العبادة واجبة بيقين وهذا الدم مشكوك فيه واليقين لا يزول بالشك. ولماذا تقضي؟ قالوا: تقضي احتايطاً لاحتمال أن يكون هذا الدم نفاس فيكون الصوم باطل. وفي الحقيقة قول الحنابلة هنا مركب فيأمرونها أن تصوم وتصلي وفي نفس الوقت يأمرونها بعد انتهاء الأربعين وتوقف الدم أن الصيام. والقول الثاني: أن الدم إذا رجع فإنه يعتبر نفاس فلا تصوم ولا تصلي. اختار هذا القول المجد وابن قدامة. لأنه دم صادف وقت النفاس فيكون نفاساًَ.

وهذا القول هو الصواب ومذهب الحنابلة ضعيف أو ضعيف جداً باعتبار أنهم يلزمونها بالعبادة ويلزمونها بالقضاء.؟ • ثم قال ’: وهو كالحيض فيما: يحل ويحرم ويجب، ويسقط. أما أن النفاس كالحيض في الأحكام فيما يحل ويحرم ويجب .. الخ. فهذا محل إجماع إلا ما استثنى المؤلف التي سيأتي ذكرها. لكن الأصل والقاعدة أن النفاس له نفس أحكام الحيض تماماً. والدليل: الإجماع. • يقول فيما يحل: كالاستمتاع فيما دون الفرج. فكما أنه يحل في الحيض فإنه يحل في النفاس. • قال ويحرم: كالوطء في الفرج وكالصيام والصلاة. • قال ويجب: كالغسل وكفارة الوطء أثناء النفاس وما قيل في تفاصيل كفارة الوطء في الحيض هو نفسه يقال في كفارة الوطء أثناء النفاس. • قال ويسقط: كوجوب الصلاة. الخلاصة: أن الحيض كالنفاس. والدليل الإجماع. • ثم ذكر ’ ما يستثنى فقال: غير العدة والبلوغ. المسألة الأولى: العدة: العدة تنتهي بالحيض ولا تنتهي بالنفاس. فمثلاً: معلوم أن عدة المطلقة ثلاث حيض فتخرج المرأة من العدة بالحيض. أما النفاس فلا تنتهي به العدة لماذا؟ لأن الطلاق: - إن كان أثناء الحمل فالعدة تنتهي بوضع الحمل. - وإن كان الطلاق بعد الولادة فإن العدة ستكون بالحيض فلا دخل للنفاس في العدة مطلقاً. وهذا أمر متفق عليه. فإذا طلق الإنسان امرأته أثناء النفاس فتعتد بثلاث حيض وهذا الدم الموجود أثناء الطلاق في النفاس ليس له أي علاقة بمسألة عدة الطلاق. وسيأتينا حكم الطلاق أثناء النفاس. المسألة الثانية: البلوغ. البلوغ لا يحصل بالنفاس. لماذا؟ لأنه حصل بالإنزال السابق. ما معنى هذا؟ معناه أن المرأة لا يمكن أن تحمل إلا إذا أنزلت ماءً وهو مني المرأة فسيكون البلوغ بهذا الإنزال لا بالنفاس. إذاً إذا قيل لك: هل يحصل البلوغ للمرأة بالنفاس؟ فتقول: لا. لا يحصل. لأن البلوغ حصل بالإنزال السابق الذي حصل منه حمل حصل منه النفاس. انتهت الآن المسائل المستثناة. يضاف أنه يستثنى مسألة الإيلاء - فهناك فرق بين الحيض والنفاس في مسألة الإيلاء. أو بعبارة أدق: مدة الإيلاء. فإن الحيض يحسب من مدة الإيلاء دون النفاس.

والإيلاء هو أن يحلف الرجل على ترك وطء زوجته أربعة أشهر فأكثر. أو على الراجح: أكثر من أربعة أشهر. فإذا آلى الرجل من زوجته - يعني حلف أنه لا يطأها فنقول: ننظرك مدة أربعة أشهر إذا انتهت فإما أن تطأ أو تطلق إذا طلبت الزوجة. فهذا الأربعة أشهرفيحسب منها مدة الحيض ولا يحسب منها مدة النفاس. فإذا ولدت زوجة الرجل في تاريخ 1/ 1 وحلف أن لا يطأها بعد الولادة فنحتاج لمدة أربعة أشهر شهر 1 و 2 و 3 و 4 فإذا انتهت الأربعة أشهر فماذا يبقى عليه؟ يبقى عليه أربعون يوماً لأن مدة النفاس لا تحسب. المسألة الرابعة: الطلاق. فالطلاق عند الحنابلة لا يوجد فرق فيه بين الحيض والنفاس فكما يحرم في الحيض فإنه يحرم في النفاس. وهذا مذهب الحنابلة وهو اختيار ابن القيم - رحمه الله -. والقول الثاني: أن هناك فرقاً بين الحيض والنفاس فيحرم الطلاق في الحيض ويجوز في النفاس. لماذا قالوا بالجواز؟ قالوا: لأن الشارع حرم الطلاق في الحيض لأن العدة تطول على المرأة فمن المعلوم أن الحيضة التي وقع فيها الطلاق لا تحسب من العدة. فتطول العدة على المرأة. بينما في النفاس إذا طلق الرجل زوجته في أثناء النفاس أو بعده فالأمر واحد لأن العدة تحسب بالحيض الذي يأتي بعد النفاس. إذاً لم تطل العدة عليها. والأقرب المذهب لأن هذا مذهب أكثر أهل العلم فكثير من أهل العلم لم يذكروا فرقاً بين الحيض والنفاس في أي مسألة وإنما التفريق هو مذهب الأحناف فقط فهم الذين يفرقون في مسألة الطلاق بين الحيض والنفاس. إذاً إذا قيل لك هل يوجد فرق بين الحيض والنفاس في مسألة الطلاق فماذا تقول؟ الجواب: عند الحنابلة: وهو الراجح أنه لا يوجد فرق. والقول الثاني: أنه يوجد فرق وهذا مرجوح. • ثم قال - رحمه الله -: وإن ولدت توأمين، فأول النفاس وآخره: من أولهما الاعتبار في النفاس لمن ولدت توأمين من الأول منهما. فبناء على هذا إذا ولدت المرأة توأمها الأول ثم بعد ثلاثة أيام ولدت التوأم الثاني فإنها ستطهر بعد أربعين يوماً من الولادة الأولى. وهذا عند الحنابلة. فالحنابلة يلغون الدم الخارج مع الولادة الثانية يقولون: لأن الثاني تبع للأول والتابع لا يفرد بحكم لأن القاعدة تقول التابع تابع.

أي أن التابع في الصفة أو في الوجود فإنه تابع في الحكم. والقول الثاني: أن أول النفاس من أولهما وآخر النفاس من ثانيهما وتدخل مدة الأول في الثاني. ففي المثال إذا ولدت الأول ثم بعده بثلاثة أيام ولدت الثاني فستخرج من النفاس بعد ثلاثة وأربعين يوماً باعتبار الأول. فزادت النفاس بالنسبة للأول ثلاثة أيام لماذا؟ التعليل: أنا نعتبر أن آخر النفاس بالثاني أن هذا الثاني ولادة صحيحة ودم لا يمكن إلغاؤه وهذا هو الصواب أن مدة النفاس تعتبر أولها من الأول وآخرها من الثاني. وهذه المسألة قد تكون الحاجة إليها قليلة لأنه في الغالب أن الولادة تكون في وقت واحد لا سيما في عصرنا هذا مع التقدم الطبي فيندر أن يكون هناك فارق كبير بين الأول والثاني وإن وجد فهو ساعات. في القديم فنعم فقد يكون بين الأول والثاني يوم أو نحو يوم. إذاً الخلاصة أنه باعتبار الأول نبدأ وباعتبار الثاني ننتهي في مدة النفاس على القول الراجح. نختم هذا الباب بمسألة مهمة جداً وهي: ما حكم الدم الذي يأتي المرأة قبل الولادة بيوم أو يومين مع وجود علامات الولادة من الدم الطلق. اختلف الفقهاء في هذه المسألة: فذهب الحنابلة إلى أنه إذا كان هذا الدم وجد قبل الولادة بيوم أو يومين أو ثلاثة كحد أقصى مع علامات الولادة فإنه يعتبر نفاساًَ. الدليل: قالوا: الدليل أن هذا الدم بسبب الولادة فهو ملحق بأحكام النفاس. ثم إذا أمسكت المرأة قبل الولادة عن الصلاة لوجود هذا الدم ثم بقي أربعة أيام وهم يقولون الحد الأقصى كم يوم؟ ثلاثة أيام؟ فماذا تصنع؟ قال الحنابلة نأمرها بقضاء اليوم الزائد. وهل اليوم الزائد هو الرابع أو الأول؟ هو الأول. لأن المقصود بالثلاثة أيام التي قبل الولاة. فإذاً أيضاً يأمرونها بالصلاة وربما تحتاج إلى قضاء هذه الصلاة. القول الثاني: للأئمة الثلاثة. مالك والشافعي وأبي حنيفة. أن النفاس لا يبدأ إلا بعد الولادة. ولو مع وجود الدم وعلاماته. الدليل: لهم أدلة قوية: الأول: أن المرأة قبل الولادة تعتبر حاملاً والحامل الدم الخارج منها كما قررنا سابقاً يعتبر دم فساد وهذا صحيح فمادام أنها لم تلد فتسمى حامل.

الثاني: أن اشتقاق النفاس إنما هو من تفريج الكربة أو من خروج شيء من الجوف وكلاهما لم يحصل قبل الولادة. بل إنها في هذه الأيام تعتبر في أشد الكرب والتفريج يكون بعد الولادة. كذلك على المعنى الثاني في الاشتقاق وهو خروج شيء من الجوف فإنه لم يخرج شيء من الجوف إلى الآن - أي لم يخرج الولد. فعلى الاشتقاقين لم يحصل النفاس. ودليل ثالث قوي أيضاً: أن الأطباء يقولون أن دم النفاس لا يخرج بعد الولادة هذا أقوى الأدلة الثلاثة. والراجح مذهب الجمهور وهو أضبط للمرأة بكثير وكم وقع النساء في إشكال هل تمسك أو لا تمسك؟ هل هذه علامات الولادة؟ باقي يوم أو يومين أو أكثر أو أقل .. الخ. ثم من علامات ضعف مذهب الحنابلة أنهم حددوه بثلاثة أيام وعندنا قاعدة مهمة ومفيدة لطالب العلم أن أي تحديد بالأيام أو بالوقت يحتاج إلى دليل قوي. وليس مع الحنابلة دليل قوي على هذا التحديد. وبهذا القدر انتهى الكلام على باب الحيض وبه انتهى الكلام على ... انقطع التسجيل ... ((نهاية شرح كتاب الطهارة)) والحمدلله الذي بنعمته تتم الصالحات وله الحمد في الأولى والآخرة وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين أخوكم أبو أسامة محمد بن مقبل الحربي

كتاب الصلاة

كتاب الصلاة قال شيخنا حفظه الله: - بسم الله الرحمن الرحيم (كتاب الصلاة) بدأ المؤلف رحمه الله بعد الطهارة بالصلاة، لأن الطهارة إنما ذكرت لأنها مفتاح للصلاة وتقديم لها. والصلاة آكد أركان الإسلام بعد الشهادتين، وفرضت في ليلة الإسراء. وفرضها بهذه الطريقة دون الوحي المعتاد تعظيماً لشأنها. ومما يدل على تعظيمها إنها فرضت في وقت مبكر من الإسلام، فقد فرضت بعد نحو خمس سنوات من البعثة وهذا وقت متقدم جداً. والصلاة بهذه الهيئة والشروط والكيفية يختص بها المسلمون، والا فتوجد الصلاة في الملل الأخرى ولكن بهذه الكيفية تختص بالمسلمين وهذا فضل آتاه الله المسلمين. والصلاة في لغة العرب " الدعاء،. وقال بعضهم وهو تقييد جيد: الدعاء بخير وهذا تقييد قوي. وهي مشتقة من قولهم: صَليتُ العود أي: لينته. لأن الصلاة سبب في خشوع العبد وخضوعه بين يدي الرب وفي هذا معنى اللين. وهي في الاصطلاح الفقهي: أقوال وأعمال مخصوصة مفتتحة بالتكبير مختتمة بالتسليم. • قال رحمه الله: (تجب على كل مسلم) أما أدلة وجوب الصلاة فأكثر من ان تحصر كقوله تعالى: {وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين حنفاء ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة وذلك دين القيمة}. وقوله تعالى في عدد كبير من الآيات {وأقيموا الصلاة ... }. وقول النبي صلى الله علية وسلم " بني الإسلام على خمس: شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، وإقامة الصلاة " وسيأتينا عدد كبير من النصوص المتعلقة بالصلاة أثناء دراسة هذا الكتاب، الذي هو أهم كتب الزاد على الإطلاق. • قال رحمه الله: (تجب على كل مسلم) مفهوم هذه العبارة أنها لا تجب على الكافر. ويجب أن يتنبه طالب العلم لأمر مهم وهو أن معنى كون الصلاة لا تجب على الكافر (أي انه لا يأمر بها، ولا يأمر بقضائها اذا اسلم) وليس معنى عدم الوجوب انه لا يحاسب على تركها، لكن معنى عدم الوجوب: أنه لا يؤمر بها ولا بقضائها إذا أسلم.

والدليل على انها لاتجب على الكافر حديث معاذ المشهور أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له " انك ستأتي قوم اهل كتاب فليكن او ما تدعوهم إليه شهادة ان لا إله إلا الله وإن محمد رسول الله، فإن هم أجابوك لذا، فأخبرهم أن الله فرض عليهم خمس صلوات في اليوم والليلة ". فرتب وجوب الصلاة على الدخول في الإسلام. إذاً معنى قوله: (تجب على كل مسلم): أنها لا تجب على الكافر وعرفنا معنى عدم وجوبها عليه ودليله. • ثم قال رحمه الله: (مكلف) المكلف: هو البالغ العاقل. فغير البالغ والعاقل لا تجب عليه الصلاة، وأما هل هو يؤمر أو لا يؤمر؟ فسيأتينا في المتن. الدليل على أنه لا تجب الصلاة على غير المكلف قول النبي صلى الله علية وسلم " رفع القلم عن ثلاث: المجنون حتى يفيق، والصبي حتى يبلغ، والنائم حتى يستيقظ " فهذا الدليل ظاهر ونص في انه لاتجب الصلاة على الصبي اذ لم يبلغ وهذا الحديث إسناده حسن. • ثم قال رحمه الله: (إلا حائضاً ونفساء) فالصلاة لا تجب على الحائض ولا النفساء. - وتقدم معنا أدلة هذا القول في باب الحيض. - وتقدم معنا انها: لا تجب ولا تصح ولا تجوز. بخلاف بعض الأحكام الاخرى، قد يكون لايجب لكنه يجوز ان ياتي به المسلم بينما الحائض والنفساء كما سمعت أحكامهما. • ثم قال رحمه الله: (ويقضي من زال عقله) في الحقيقة هذا تفصيل لقوله (مكلف). لما ذكر ان التكليف شرط للوجوب، ذكر تفصيل هذا القول فقال: (ويقضي من زال عقله بنوم): إذا نام الإنسان وفاتته الصلاة فإنه يجب عليه أن يقضي والدليل بالنص والإجماع. - أما النص: فقوله صلى الله علية وسلم " من نام عن صلاة او نسيها فليصليها اذا ذكرها " فهذا نص أن النائم يجب عليه أن يقضي الصلاة. - وأما الإجماع: فقد اجمع الفقهاء كلهم على وجوب القضاء على من نام وترك الصلاة. • ثم قال رحمه الله: (بنوم او اغماء) إذا أغمي على الإنسان فإنه اذا استيقظ فيجب عليه = عند الحنابلة ان يصلي ما فاته ولو كانت مدة الإغماء طويلة. واستدلوا على هذا بأمرين: - الأول: القياس على النوم. - والثاني: أن عمار بن ياسر رضي الله عنه أغمي علية ثلاثاً فلما أفاق قضى.

= والقول الثاني: أن من اغمي عليه لا يجب عليه ان يقضي الصلاة. واستدلوا على هذا بدليلين: - الدليل الأول: ماصح عن ابن عمر بإسناد - كالشمس - أنه رضي الله عنه غمي عليه فلما افاق لم يقض. - الدليل الثاني: قياساً على المجنون. يعني يقيسون المغمى عليه على المجنون. = والصواب ومذهب الجمهور هو عدم الوجوب. التعليل: - اولاً ان اثر عمار بن ياسر ضعيف. وممن ضعفه من الأئمة الذين يقتدى بتصحيحهم وتضعيفهم الإمام الشافعي والبيهقي فكلاهما ضعف ما روي عن عمار بن ياسر. - ثانياً: أن قياس المغمى عليه على النائم قياس مع الفارق، لأن النائم اذا اوقض استيقظ. واما المغمى عليه ليس كذلك. إذاً الراجح مذهب الجمهور وهو: عدم وجوب القضاء على المغمى عليه. فإذا استيقظ يستأنف الصلاة بلا قضاء. • ثم قال رحمه الله: (أو سكرٍ) من ترك الصلاة بسبب السكر فإنه يجب عليه اذا استيقظ أن يقضي هذه الصلاة. - الدليل: - الإجماع فإنه لم يخالف في هذا أحد من الفقهاء أن السكران يجب أن يقضي ولأنه ليس أهلاً للتخفيف. • ثم قال رحمه الله: (ونحوه) نحو السكر: مثاله المشهور: شرب الدواء المباح. = فعند الحنابلة: اذا شرب الإنسان دواءً مباحاً أدى إلى فقده عقله بإغماء او بغيره فإنه يجب ان يقضي. قال الحنابلة: الا إن طال الأمر. - فإن طال الأمر فحكمه: حكم المجنون. يعني: إذا أدى شرب الدواء المباح إلى إغماء أو إلى فقد العقل لمدة طويلة فإنه لا يجب أن يقضي لأن حكمه حكم المجنون. = والقول الثاني: ان الإغماء بسبب الدواء المباح: - ان كان باختياره وجب ان يقضي. - وان كان بغير اختياره لم يقض. فجعل المناط يعود على الاختيار. = والقول الثالث: وهو: مذهب مالك والشافعي: - وهذه المسألة تحتاج لشيء من التفصيل لكثرة الدواء المباح فإن البنج يدخب في هذه المسألة وما أكثر ما يستخدم في الوقت الحاضر -. فالقول الثالث: أن مناط المسألة يرجع إلى أن كون الدواء مباح أو محرم. فالشافعي ومالك يربطون الأمر بكونه مباحاً أون محرماً. - فإن كان مبحاً لم يقض. - وان كان محرماً قضى. والقول الأقرب للصواب الثالث: أن العبرة بكونه مباح او محرم. الآن عرفنا ثلاثة أقوال في مسألة شرب الدواء.

= نحتاج إلى أمثلة: كيف يكون البنج بغير اختياره؟ الجواب: مثل ان يحصل عليه حادث فيعملون له عملية بعد التبنيج وهو لايشعر. = فهل هذا باختياره أو بغير اختياره؟ - بغير اختياره. فهذا مثال للقول الثاني. = كيف يكون البنج للعملية محرم أو مباح؟ فالعمليات دائماً مباحة. مثاله: أن يبنج ليعمل عملية محرمة. هذا هو المثال. أما العمليات المحرمة فكثيرة: مثل: كالتجميل الذي لا حاجة له. - ومثاله المشهور: كالإجهاض المحرم. فإذا كان البنج لإجهاض محرم فإنها تقضي الصلاة. فالمهم أن أي عملية محرمة فإن الصلاة تقضى. (وطول التأثير من البنج او الإغماء ترجع إلى العرف) انتهى الدرس،،،

قال شيخنا حفظه الله بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين • قال - رحمه الله - ولا تصح من مجنون الصلاة لا تصح من المجنون وكذلك لا تصح من الطفل الذي لا يميز لأن المجنون غير المميزليس لهم نية صحيحة والنية شرط لصحة الصلاة لقول النبي - صلى الله عليه وسلم - انما الأعمال بالنيات فإذاً الشرط الذي اختل في المجنون وغير المميز شرط النية وهو شرط لاتصح الصلاة إلا به • ثم قال - رحمه الله - ولا كافر يعني أنها لا تصح أيضاً من الكافر فالكافر لا تصح منه الصلاة لأن النية وإن كانت تقع منه إلا أنها غير صحيحة هذا شيء والشيء الآخر أن الإسلام شرط لصحة الصلاة لقوله - صلى الله عليه وسلم - فليكن أول تدعوهم إليه شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمد رسول الله في حديث معاذ فإن هم أجابوك فأخبرهم أن الله افترض عليهم الصلاة فإذاً لا تصح الصلاة من الكافر لسببين لعدم صحة النية منه ولأن الإسلام شرط لصحة الصلاة • ثم قال - رحمه الله - فإن صلى فمسلم حكماً إذا صلى الكافر وإن لم ينطق بالشهادتين فمبجرد الصلاة نحكم بإسلامه ما معنى قوله فمسلم حكما؟ يعني أننا نحكم عليه بالإسلام وما يترتب عليه من آثار فمثلا نحكم له بالإرث فلو مات قريبه أو لو مات فإن المسلم يرث منه

ويغسل ويكفن ويقبر في مقابر المسلمين إذاً تتنزل عليه جميع آثار الإسلام وهذا معنى أنه يحكم عليه بأنه مسلم استدل الحنابلة على هذا الحكم بـ قول النبي - صلى الله عليه وسلم - في حديث أنس رضي الله عنه من صلى صلاتنا واستقبل قبلتنا وأكل ذبيحتنا فذاك المسلم القول الثاني لمالك والشافعي أنه لا يحكم بإسلامه بمجرد الصلاة بل لابد من الشهادتين قبل ذلك قالوا لأن الصلاة فرع الإسلام ولا نثبت الأصل بالفرع الدليل الثاني في هذه المسألة المهمة وسأذكر لكم لماذا هي مهمة؟ حديث معاذ السابق ليكن أول ماتدعوهم إليه فرتب الصلاة على الشهادتين وجعل وجوب الصلاة بعد الشهادتين والدليل الثالث أن في حديث أنس رضي الله عنه من صلى صلاتنا واستقبل قبلتنا له لفظ صحيح آخر وهو أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله فإذا قالوها وصلوا صلاتنا واستقبلوا قبلتنا وأكلو ذبيحتنا فذاك المسلم ففي الرواية الثانية الصحيحة تقييد للإتيان بالشهادتين قبل الصلاة كم صارت الأدلة على قول مالك والشافعي؟ ثلاثة حديث معاذ وأن الأصل لا يثبت بالفرع وأن لحديث أنس من صلى صلاتنا لفظ آخر صحيح فيه فإذا صلوا صلاتنا الخ وهذا القول الثاني هو الصواب أنا لا نحكم بإسلامه بمجرد الصلاة وجه أهمية هذه المسألة يكثر الآن في بعض الذين يدعون إلى الإسلام ويرغبون فيه يقع أن يدخلوا ويصلوا مع المسلمين وإن لم يسلموا يدخل ويرى صفوف المسلمين وهيبة الصلاة فيدخل معهم في الصلاة ويركع ويسجد أحياناً وإذا سأل تجد أنه لم ينو الدخول في الإسلام فمثل هذا عند الحنابلة نحكم بإسلامه فلو مات بعد هذه الصلاة يرث ويورث ويغسل ويكفن يكفن الخ عند مالك والشافعي ما دام لم يدخل في الإسلام بذكر الشهادتين لا نعتبره من المسلمين إذاً الحنابلة يرون أن من صلى فهو مسلم حكماً ومالك والشافعي يرون أن مجرد الصلاة لا لايدخل به الإنسان الإسلام بل لا بد من النطق بالشهادتين • ثم قال - رحمه الله - ويؤمر بها صغير لسبع ويضرب عليها لعشر

يرى الحنابلة أنه يجب على ولي الأمر إذا بلغ طفله سبع سنين فيجب عليه عدة أمور الأمر الأول أن يعلمه كيفية الوضوء والصلاة والأمر الثاني أن يأمره بالصلاة والأمر الثالث إذا بلغ عشر أن يضربه على تركها ويستدلوا على ذلك بقول النبي - صلى الله عليه وسلم - مروا أبنائكم بالصلاة لسبع واضربوهم عليها لعشر وفرقوا بينهم في المضاجع قالوا وأمر لولي الأمر لطفله بالصلاة بدون تعليم لا فائدة منه ولذا قالوا يجب مع أمره بالصلاة أن يعلمه الوضوء وكيفية الصلاة فإذاً من الخطأ الذي يفعله بعض العوام أن يجلبوا أبنائهم إلى المساجد بلا تعليم ولا وضوء فهذا خطأ وهو مخالف لما قرره الفقهاء بل عليه أن يأمره في البيت بالوضوء ويعلمه كيفيته إذا كان الطفل لا يعرف ذلك ثم أيضاً يعلمه كيفية الصلاة ولا يكتفي بمجرد الإتيان بالطفل إلى المسجد • ثم قال - رحمه الله - فإن بلغ في أثنائها أو بعدها في وقتها أعاد هاتان مسألتان الأولى إذا بلغ الطفل في أثناء الصلاة أو بلغ بعد الصلاة لكن في الوقت فإنه يجب عليه أن يعيد الصلاة عند الحنابلة دليلهم قالوا أن الصلاة التي صلاها تعتبر في حقه نافلة والنافلة لا تغني عن الفريضة فيجب أن ياتي بالفريضة مرة أخرى والقول الثاني أنه لا يجب أن يعيد الصلاة وإن بلغ في أثنائها أو بعدها في الوقت بل يكتفي بما صلى والدليل الأول قوله - صلى الله عليه وسلم - لا صلاة مرتين في يوم والثاني أنه يغلب على الظن أن عدداً من الأطفال في عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - بلغوا بعد أن أدوا الفريضة في وقتها ولم ينقل أنه - صلى الله عليه وسلم - أمرهم بإعادة الصلاة الثالث أن هذا الطفل صلى صلاة صحيحة حسب ما أمر به فلا يلزمه أخرى ومن الظاهر أن القول الثاني أقوى وأقرب إلى النصوص مما ذهب إليه الحنابلة رحمهم الله • ثم قال - رحمه الله - ويحرم تأخيرها عن وقتها يحرم على المسلم أن يؤخر الصلاة عن وقتها لقوله تعإلى إن الصلاة كانت على المؤمنين كتاباً موقوتا يعني مؤقتة بوقت محدود

ولقول النبي - صلى الله عليه وسلم - ليس في النوم تفريط إنما التفريط أن يدع الصلاة حتى يأتي وقت الصلاة الأخرى وتأخير الصلاة عن وقتها محرم بل هو من الكبائر ثم استثنى المؤلف - رحمه الله - مسألتين • فقال - رحمه الله - إلا لناوي الجمع ولمشتغل بشرطها الذي يحصله قريباً المسألة الأولى التي استنيت ناوي الجمع فيجوز لمن نوى الجمع أن يؤخر الصلاة الأولى عن وقتها ويصليها مع الثانية والدليل على ذلك الأول أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يؤخر الأولى ويصليها مع الثانية كما فعل ليلة مزدلفة وفي غيرها والدليل الثاني أنه مع نية الجمع يصبح وقت الثانية والأولى وقتاً واحداً للصلاتين فهو في الحقيقة لم يخرج الصلاة عن وقتها لأن وقت الثانيه أصبح وقتاً للثانية والأولى ولذلك أشار الشيخ البهوتي كشاف القناع أن قول الحنابلة من نوى الجمع جاز له التأخير كلام غير دقيق لأنه في الحقيقة لا يعتبر أخر فهو لم يؤخر لأنه صلاها في وقتها لكن أراد التنبيه حتى لا يظن أن من أخر بنية الجمع يعتبر مرتكباً لمحرم الصورة الثانية ولمشتغل بشرطها الذي يحصله قريباً يجوز عن الحنابلة للمسلم أن يؤخر الصلاة عن وقتها إذا كان يشتغل بشرطها الذي يحصله قريباً مثال ذلك إذا كان يشتغل بالاغتسال رجل أصابته جنابة قبيل خروج الوقت وقال لو اشتغلت بالاغتسال لخرج الوقت يقول الحنابلة اشتغل بالاغتسال يعني اغتسل وإن خرج الوقت لأنك الآن تشتغل بتحصيل شرطها لأن الطهارة من شروط الصلاة مثال آخر رجل تمزق ثوبه الذي يستره في الصلاة واشتغل بخياطة هذا الثوب وقال لو اشتغلت بخياطته فسؤأخر الصلاة عن وقتها فيقول له الحنابلة اشتغل به وحصل هذا الشرط وإن أخرجت الصلاة عن وقتها لأنك تشتغل بشرطها لكن يشترط أن يكون تحصيل هذا الشرط في زمن قريب فإن كان يحتاج إلى زمن طويل فإنه لا يجوز حتى عند الحنابلة أن يشتغل به والفرق بين الوقت الطويل والقصير هو العرف

هذا هون مذهب الحنابلة وقد علق شيخ الإسلام بن تيمية على هذا القول بتعليق مفيد لطالب العلم في معرفة بعض أقوال الحنابلة فيقول شيخ الاسلام - رحمه الله - هذا القول ليس مذهباً لأحمد ولا لأصحابه وإنما قاله أحد المتأخرين من أصحاب الأمام أحمد إذاً القول الثاني الذي يشير إاليه شيخ الإسلام والذي ينسبه إلى الإمام أحمد أنه لا يؤخر الصلاة عن وقتها ولو اشتغل بشرطها وإنما يتيمم ويصلي حسب حاله في الوقت لأن شرط الوقت هو أهم الشروط على الاطلاق القول الثاني أن الإنسان لا يؤخر الصلاة عن وقتها ولو فاته بعض شروط الصلاة وإنما يصلي الصلاة في وقتها على حسب حاله وإن فاته بعض شروط الصلاة الدليل على هذا القوول أن الله سبحانه وتعالى شرع التيمم إذا لم يجد الإنسان الماء ولو كان يشرع للإنسان أن يؤخر الصلاة إلى يجد الشرط لقلنا له أخر الصلاة إلى أن تجد الماء ولكن نجد أن الشارع أباح وشرع التيمم ليصلي الإنسان في الوقت على حسب حاله لذلك فإن أدلة التيمم كلها تدل على أن شرط الوقت هو أهم شروط الصلاة ولا يقدم على شرط الوقت أي شرط آخر ونحن نتحدث عن المستيقظ سيأتينا بالنسبة للنائم تفصيل آخر في باب الوقوت في مسائل وقت الصلاة إذاً إذا قيل لك ما هو أهم شروط الصلاة؟ الوقت وكون الوقت هو أهم الشروط فيعني هذا أنا نقدمه على جميع الشروط فإذا تخلف بعضها نقدم الوقت ونصلي على حسب الحال وعليه لو قال لك رجل أنه على جنابه ويحتاج للإغتسال عشر دقائق وباقي على خروج الوقت خمس دقائق فماذا تقول له؟ نقول له تيمم وصل لو قال لك لا أملك إلا ثوباً يستر بعض العورة التي يجب أن تستر في الصلاة ولتحصيله يحتاج إلى عشر دقائق وياقي على الوقت خمس دقائق؟ فنقول صل على حسب حالك وإن كانت بعض العورة التي يجب أن تستر في الصلاة مكشوفة الخلاصة أنا نقدم شرط الوقت على جميع الشروط • ثم قال - رحمه الله - ومن جحد وجوبها كفر من جحد وجوب الصلاة كفر وإن صلاها وهذا الحكم مجمع عليه بين العلماء ليس فيه خلاف بينهم الدليل

أن من جحد وجوبها فهو مكذب لله ومكذب لرسوله ومكذب لجملة علماء الأمة ومن كذب الله ورسوله والمؤمنين فهو كافر إذاً هذه مسألة الجحود وأمرها ظاهر والظن إن شاء الله أنها جحد وجوبها لا تقع من مسلم يؤمن بالله واليوم الآخر لأن القرآن مليء بالأمر بها وكذلك السنة وهي تفعل بمساجد المسلمين من عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى وقتنا هذا • ثم قال - رحمه الله - وكذا تاركها تهاوناً ودعاه إمام أو نائبه الحنابلة يرون أن من ترك الصلاة تهاوناً أو كسلاً فإنه يكفر بشروط ذكرها المؤلف - رحمه الله - وسنرجع إليها لكن نبقى في المسألة الأم وهي أن من ترك الصلاة تهاوناً أو كسلاً فإنه يكفر ومعنى أنه يكفر أي يخرج عن الملة ويترتب على كفره جميع آثار الخروج عن الملة من أنه لا يغسل ولا يكفن وتحرم عليه زوجته ولا يدفن في مقابر المسلمين ويقتل وكل مايترتب على أحكام الردة فإنه يترتب على تارك الصلاة وهذه المسألة فيها خلاف قوي جداً وعميق من حيث الأدلة فالقول الأول هو مذهب الحنابلة وهو الذي سمعتم الكفر وهو مروي عن الصحابة واختاره إسحاق بن راهويه - رحمه الله - من علماء الحديث وأيضاً شيخ الإسلام بن تيمية وتلميذه ابن القيم وعدد من العلماء المحققين واستدلوا بعدة أدلة الدليل الأول قوله تعالى وأقيموا الصلاة ولاتكونوا من المشركين فيفهم من الآية أن من لم يقم الصلاة فهو من المشركين الدليل الثاني قول النبي - صلى الله عليه وسلم - العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة فمن تركها فقد كفر الدليل الثالث قول النبي - صلى الله عليه وسلم - بين العبد وبين الكفر أو الشرك ترك الصلاة هذه ثلاثة أدلة الدليل الرابع إجماع الصحابة ودائماً طالب العلم يعتني إذا ذكر الإجماع بمن حكاه فحكى هذا الإجماع إسحاق بن راهويه وهو كما تعلمون قرين للامام أحمد وكان بينهما مكاتبات وأخوة وهو إمام أهل ناحيته إمام أهل خراسان فهو في الإمامة كالإمام أحمد

وحكى الإجماع أيضاً من التابعين عبد الله بن شقيق العقيلي فقال كان أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - لا يرون شيئاً من الأعمال تركه كفر إلا الصلاة وهذا الأثر اختلف فيه صحة وضعفاً والأقرب أنه أثر ثابت صحيح إلى ابن شقيق إذاً حكى الإجماع اثنان الأول تابعي والثاني من كبار أهل العلم وهو بن راهويه هذه أدله الذين يرون أن تارك الصلاة كافر وقبل أن ننتقل لقول الثاني يجب أن تلاحظ أن أدلة أصحاب هذا القول نص في المسألة تعنى بذات المسألة وليست نصوصاً عامة وإنما نصوص تتكلم عن تارك الصلاة وهذا أمر مهم جداً عند إرادة الترجيح في هذه المسالة وفي غيرها أن النص الخاص الذي تناول القضية بعينها مقدم على النص العام القول الثاني للأئمة الثلاث أوبو حنيفة ومالك والشافعي أن تارك الصلاة لا يكفر وأن المقصود بالكفر بالنصوص كفر دون كفر واختار هذا القول ابن حزم الظاهري - رحمه الله - واستدلوا بأدلة منها الدليل الأول قول النبي - صلى الله عليه وسلم - خمس صلوات فرضهن الله على العباد فمن أتى بهن فهو في ذمة الله يدخله الجنة ومن تركهن فليس في ذمة الله إن شاء عذبه وإن شاء غفر له قالوا ولا يقال للكافر إن شاء عذبه وإن شاء غفر له وهذا في الحقيقة من أقوى أدلتهم لأنه نص في الصلاة خمس صلوات ولأنه نص على أن من ترك الصلاة فهو إلى رحمة الله إن شاء عذبه وإن شاء غفر له والكافر لا يقال فيه إن شاء عذبه وإن شاء غفر له بل هو معذب الجواب على هذا الدليل أن الروايات الصحيحة لهذا الحديث تبين أن المراد بالترك عدم الإتيان بهن على الكمال فالرواية الصحيحة تقول فمن جاء بهن ونقصهن فهو إلى الله إن شاء عذبه وإن شاء غفر له فالرواية الصحيحة تبين أن المراد النقص والاتيان بهن على غير الكمال وليس المراد الترك بالكلية ولا يمكن الجواب في الحقيقة على هذا الحديث جواباً سديداً إلا من خلال هذه الروايات الصحيحة والروايات التي بينت الحديث أصح من الروايات التي فيها الترك مطلقاً

الدليل الثاني لهم حديث حذيفة رضي الله عنه الذي أخبر فيه أن الإسلام ينسى ويترك وتترك الصلاة والزكاة ولايعرف إلا لا إله الا الله قال الرواي لحذيفة وما تنفعهم لا إله إلا الله وهم لا يصلون ولا يزكون فقال حذيفة وهذا هو الشاهد تنجيهم من النار يعني لا إله إلا الله تنجيهم من النار فالحديث صرح أن قوماً سيأتون لا يعرفون من الإسلام إلا لا إله الا الله ولا يصلون ولا يزكون ومع ذلك تنجيهم لا إله إلا الله من النار الجواب على هذا الحديث القوي أيضاً أن هؤلاء الناس لا تجب عليهم الصلاة أصلاً لجهلهم والقاعدة الشرعية المتقررة تقول لا وجوب مع الجهل فهذا الحديث صرح فيه الراوي أنهم جهال لا يعرفون شيئاً من الإسلام لكل قول أدلة كثيرة للقول الأول وللقول الثاني لكن هذه الأدلة التي ذكرت لك هي أقوى الأدلة ما بعد هذه الأدلة أمره سهل جداً فبالإمكان الإجابة عليه لكن هذه الأدلة للقول الأول وللقول الثاني هي أقوى الأدلة وهي النصوص التي يرج الإنسان بناء على النظر فيها والأقرب والله أعلم القول بالكفر وهذه مسالة عظيمة ليس سهلة كما يتصور بعض إخوانا أن من ترك الصلاة كفر وهي مسألة عظيمة جداً ووجه صعوبة هذه المسألة من جهتين الأول أن جمهور الأئمة لا يكفرون كما ترى الأئمة الثلاثة الثاني شدة تعارض الأدلة الثالث ما يترتب على هذا القول من آثار كبيرة جداً وعظيمة التفريق من الرجل وزوجته وعدم الأرث وعدم التغسيل وعدم الصلاة وعدم الدفن في مقابر المسلمين فكل واحدة من هذه الأمور عظيمة وكبيرة جداً أما القتل أنه يقتل فهذا أمر آخر لأن الذين يرون أنه لا يكفر أيضاً يحكم عليه بالقتل فالقتل ليس من آثار هذه المسألة إذاً الآن عرفنا الخلاف في هذه المسألة وعرفنا أن شدة الخلاف توجب للإنسان التأني وعدم الاستعجال وعرفنا أن الأقرب والله أعلم القول الاول وباقي أن نعرف أن من أعظم أسباب الترجيح مانقل عن الصحابة فهو في الحقيقه الذي يجعل الإنسان يرجح القول الأول وقد ذكر الإمام أحمد دليلاً آخر ليس في القوة كالأدلة السابقة لكنه يضاف إليها

أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال أول ماتفقدون الأمانة وآخر ما تفقدون الصلاة قال الإامام أحمد - رحمه الله - وإذا فقد الإنسان آخر الشيء لم يبق منه شيء وهذا أيضاً نص قوي وجيد لكن النصوص الثلاثة التي ذكرت لك هي التي يعتمد عليها إن شاء في ترجيح هذا القول نرجع إلى شروط كفر تارك الصلاة تهاوناً عند الحنابلة وذكروا شرطين الشرط الأول أن يدعوه الإمام أو نائبه وأن يصر على ترك الصلاة فقالوا لا بد قبل أن نحكم عليه بالكفر أن يدعوه الإمام التعليل لأنه قد يكون ترك الصلاة لعذر صحيح أو لما يظهن هو عذر فيدعوه الإمام ويبين له الحق فإذا أصر حكمنا بكفره وقتلناه إذاً الشرط الأول من شروط كفر تارك الصلاة أن يدعوه الإمام ويبين له فإذا أصر حكمنا عليه بالكفر وعرت الآن الدليل على هذا الشرط عنتد الحنابلة القول الثاني أنه لا يشترط أن يدعوه الإمام بل نحكم بمجرد تركه للصلاة بالكفر الدليل قالوا الدليل أن النصوص الدالة على كفر تارك الصلاة لم تقيد بدعوة الإمام فهو من المكفرات كباقي المكفرات التي لا يتشرط فيها دعوة الإمام وهذا القول الثاني هو الصواب أنه لا يشترط أن يدعوه الإمام الشرط الثاني ضاق وقت الثانية عنها يشترط أن يضيق وقت الثانية عن الصلاة حتى نحكم بكفره قالوا لأن وقت الصلاة المجموعة وقت الثانية بالنسبة للأولى وقت واحد عند الجمع وهذا يورث شبهة تدفع التكفير والقول الثاني وهو منصوص عن الأمام اأحمد أنه يقتل بمجرد أن يتضايق وقت الأولى ويصر على الترك فإذا شارف على انتهاء وقت الأولى وهو مصر على الترك يقتل ولا ننتظر وقت الصلاة الثانية القول الثالث أنه لا يعتبر تاركاً للصلاة لا بترك الصلاة الأولى ولا الثانية ولا بترك خمس أو ست صلوات وإنما يعتبر تاركاً للصلاة إذا ترك الصلاة جملهة فإن هذا هو الذي يسمى تارك للصلاة وهذا القول هو الأقرب لأن من ترك صلاة أو صلاتين لا يسمى في الحقيقة تارك للصلاة وإنما تارك لصلاة معينة لكن لا يعتبر تاركاً للصلاة • ثم قال - رحمه الله - ولا يقتل حتى يستتاب ثلاثاً فيهما

باب الأذان والإقامة

عرفنا من الخلاف السابق قبل أن نتجاوزه أن من العلماء من يرى أن من ترك صلاة واحدة متعمداً بلا عذر تكاسلاً فإنه يخرج عن الملة ويجب أن يقتل فلمجرد انتهاء وقت الأولى فإنه يكقر ويقتل وهذا يعني شدة خطورة ترك فريضة واحدة فإنه يعتبر عند الإمام أحمد في رواية وهو من هو - رحمه الله - أنه كافر ويقتل وهذا أمر عظيم جداً ولذا على طالب العلم أن يحذر الناس أشد التحذير من ترك فريضة واحدة تهاوناً وكسلاً ولو فريضة واحدة لأنه يعرض نفسه لأمر عظيم وهو الكفر • قال - رحمه الله - ولا يقتل حتى يستتاب ثلاثاً فيهما قوله - رحمه الله - فيهما يرجع الضمير إلى ترك الجحود وترك التهاون والكسل في الأمرين لا يقتل حتى يستتاب الدليل قالوا قياساً على المرتد فالمرتد لا يمكن أن يقتل حتى يستتاب قالوا كذلك من ترك الصلاة لا يقتل حتى يستتاب ما هي العلة التي قاسوا بها؟ الجواب أن العلة الجامعة بينهما قالوا لأن في كل منهما تركاً لواجب القول الثاني أنه يقتل مباشرة بلا استتابة فيؤخذ ويقتل نسأل الله العافية والسلامة والقول الثالث أن هذا راجع إلى رأي الإمام فإن رأى أن يستتيبه ويستعتبه فعل وإن رأى أن يقتله مباشرة فعل فيرجع إلى رأي الإمام والإمام يرجع إلى المصلحة وهذا القول الثالث هو الصواب أنه يرجع في ذلك إلى رأي الإمام حسب المصلحة فقد يرى الأمام أن ترك الصلاة نحن الآن نتحدث عن القتل ولسنا نتحدث عن الكفر فإن القتل لا إشكال فيه فقد يرى الإمام ردعاً للناس وتأديباً لهم أن يقتل مباشرة حتى ينزجر الناس وقد يرى الإمام أن هذا الشخص المعين قريب للتوبة وحصل منه التساهل لغلبة الهوى فيستتيبه قبل أن يقتله فيرجع إلى رأي الإمام وهذا هو الصحيح إن شاء الله وبهذا انتهى الباب الأول من كتاب الصلاة وبدأ بباب الأذان والإقامة باب الأذان والإقامة • قال - رحمه الله - باب الأذان والإقامة لما ذكر المؤلف - رحمه الله - وجوب الصلاة بدأ بوسيلة الدعوة إليها والأذان في لغة العرب هو الإعلام وفي الإصطلاح الإعلام بدخول وقت الصلاة أو قربه للفجر بألفاظ مخصوصة

معنى التعريف الإعلام بدخول الوقت أو بقرب دخول الوقت خاصة بالنسبة للفجر أما الإقامة فهي مصدر من أقام وأصلها إقامة القاعد وفي الإصطلاح الأعلام بالدخول في الصلاة بألفاظ مخصوصة وتقدم معنا مراراً وتكراراً أن هذه التعريفات درج عليها الفقهاء وأن ذكر لفظ الصلاة والأذان والإقامة يغني عند المسلمين عن التعريف بل قد يكون التعريف أحياناً يزيد اللفظ غموضاً فكل مسلم إذا قيل له أذان، إقامة عرف المقصود بلا تعريف لكن درج الفقهاء على التعريف فذكرناه وذكر كثير من الفقهاء في هذا الموضع مسألة المفاضلة بين والأذان والإمامة ولا نريد الدخول في تفاصيل هذه المسألة لكن الراجح أن الأذان أفضل من الإمامة وسبب الترجيح كثرة النصوص في فضائل الأذان دون الامامة أي أن النصوص التي وردت في فضل الأذان أكثر من النصوص التي وردت في فضل الإمامة وهذه قاعدة في الشرع إذا أردت أن تفاضل في الشرع بين عملين أو شخصين أو أي معنى شرعي فالمفاضلة تكون بعدد النصوص التي ذكرت فضل هذا العمل أو الشخص فإن قيل لك لماذا يعتبر أبو بكر أفضل من بقية الصحابة لماذا؟ لكثرة نصوص فضائل أبي بكر الصديق لماذا تعتبر خديجة أفضل من عائشة عند من يفضلها؟ لنفس السبب لكثرة النصوص فإذاً هذه هي القاعدة في التفضيل • قال - رحمه الله - هما فرضا كفاية الأذان والإقامة عند الحنابلة فرضا كفاية على المسلمين والمقصود بفرض الكفاية هو الفعل الذي ينظر الشارع فيه إلى حصوله دون من قام به فلا عبرة بالقائم به وإنما مقصود الشارع تحصيل وإيجاد هذا العمل استدلوا على ذلك بعدة أدلة نأخذ منها اثنين الدليل الأول أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال لمالك ابن الحويرث لما أراد أن يسافر ليؤذن لكم أحدكم وليؤمكم أكبركم فقوله ليؤذن اللام فيه للأمر والمقصود أنه فرض كفاية لأنه لا يطلب الأذان من كل شخص الدليل الثاني أن الأذان والإقامة من شعائر الإسلام الظاهرة القول الثاني للمالكية والشافعية أنهما سنة الدليل

قالوا أنهما ذكر للدعوة للصلاة فيقاس على قولهم في الكسوف الصلاة جامعة لأن كلاً من اللفظين المقصود منه الدعوة للصلاة فإذا قيل لك ماذا تلاحظ على أدلة الفريقين؟ فيجب أن تقول ألاحظ أن أدلة الحنابلة نصوص شرعية صريحة صحيحة بينما نصوص المالكية والشافعية في هذه المسألة تعليلات ضعيفة لذلك فالراجح مذهب الحنابلة أنهما فرض كفاية إذا قام بهما من يكفي سقطا عن الباقين فلما قرر المؤلف أنهما فرضا كفاية بدأ في تفصيل هذا الفرض على من يكون؟ • فقال - رحمه الله - على الرجال كلمة الرجال تخرج فئتين الفئة الأولى من يصلي منفرداً والفئة الثانية النساء فأما المنفرد فإن الأذان والإقامة في حقه سنة وليس واجباً ودليل السنية للمنفرد قول النبي - صلى الله عليه وسلم - في حديث أبي سعيد إذا كنت في غنمك أو في باديتك فأذنت فارفع صوتك بالآذان فإنه لا يسمع الآذان جن ولا إنس ولا شيء إلا شهد يوم القيامة فهذا دليل أنه سنة حتى للمنفرد ذو القعدة وأما النساء فقد اتفق أهل العلم بلا خلاف أن الأذان ليس واجباً على النساء أذان العشاء بعد أذان العشاء قال الشارح حفظه الله قلنا أن الفقهاء اتفقوا على عدم الوجوب لكن اختلفوا في المشروعية على أقوال كثيرة فالقول الأول وهو مذهب الحنابلة أنهما يكرهان للنساء فمكروه أن تؤذن المرأة أو تقيم والقول الثاني أنهما يستحبان والقول الثالث أن المستحب الإقامة فقط دون الأذان والقول الرابع أنهما يباحان ولا يستحبان ولا يكرهان بشرط عدم رفع الصوت إذاً يباحان بشرط عدم رفع الصوت بلا كراهة ولا استحباب وتقدم معنا قاعدة أنه إذا كثرت الأقوال وتشعبت ففي الغالب سبب ذلك أن المسألة ليس فيها نصوص وهذه المسألة كذلك لكن الأقرب والله أعلم الأخير لأن فيه آثار عن الصحابة وإن كان في أسانيدها ضعف لكن لا يوجد في الباب مايدفعها فالتمسك بها خير من التمسك بالآراء إذاً صارت الأقوال أربعة الأقرب منها الأخير ويليه في القوة الذي قبله القول الثالث

والذي يظهر أن عمل النساء اليوم على القول الثالث وهو الإقامة دون الأذان لكن نقول إذا اجتمعت النساء فيباح لهن الأذان والإقامة بشرط عدم رفع الصوت • قال - رحمه الله - المقيمين للصلوات المكتوبة وقوله المقيمين يخرج المسافرين والقول الثاني أنه يجب يعني فرض كفاية حتى على المسافر والدليل أن حديث مالك رضي الله عنه الذي أمر به النبي - صلى الله عليه وسلم - بالأذان كانوا على أهبة السفر أي أنه أمرهم حين أرادوا أن يسافروا فدل ذلك على أن الأذان والاقامة فرض كفاية للمقيم وللمسافر خلافاً لمذهب الحنابلة • ثم قال - رحمه الله - للصلوات المكتوبة أي أن هذا الفرض فرض الكفاية يختص بالفرائض المكتوبة دون النوافل فلا يشرع فيها أذان ولا إقامة قال في الشرح الروض المكتوبة المؤداة وهذا مذهب الحنابلة أنهما فرض كفاية للصلوات المكتوبة المؤداة أما المقضية فهما مستحبان ولا يعتبران فرض كفاية إذاً يختص الوجوب عند الحنابلة بالمكتوبات المؤداة أما المقضية فالأذان والإقامة عندهم مستحبان نحتاج دليلاً للاستحباب ولعدم الوجوب دليل الاستحباب أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما نام في سفره واستيقظ بعد خروج الوقت أمر بلال بالأذان والإقامة ودليل عدم الوجوب أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما فاتته العصر في غزوة الخندق صلى بإقامة بلا أذان فهذا دليل على عدم الوجوب والأول دليل على السنية والله أعلم وصلى الله وسلم على نبينا محمد انتهى الدرس،،،

قال شيخنا حفظه الله: بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين. • قال - رحمه الله -: يقاتل اهل بلد تركوهما. إذا ترك أهل بلد الأذان والاقامة فإنه يجب على ولي الأمر أن يقاتل أهل هذا البلد. والدليل على وجوب المقاتلة من وجهين: - الأول: أن الأذان والإقامة من الشعائر الظاهرة التي لا يجب أن تترك.

- والثاني: أن هذا القتال محل إجماع من الفقهاء. فقد أجمعوا رحمهم الله على وجوب مقاتلة الذين يتركون الأذان والإقامة. ومقاتلة الذين يتركون الأذان والإقامة من أدلة وجوب الأذان والإقامة من الأدلة الدالة على صحة قول من ذهب أنهما فرض كفاية. • ثم قال - رحمه الله -: وتحرم أجرتهما. يحرم على الإنسان أن يؤذن بعقد إجارة فإن فعل فهو آثم وفي صحة أذانه خلاف. والدليل على تحريم استئجار من يؤذن: - الدليل الأول: قول النبي صلى الله علية وسلم (واتخذ مؤذناً لا يأكل على آذنه أجراً). - والدليل الثاني: أن الأذان قربة وكل قربة لا يصلح فيها العوض. لأن أخذ العوض عن القرب من استعمال الدين لنيل غرض من الدنيا. = وذهب بعض الفقهاء إلى جواز الإستئجار للأذان وأن العقد صحيح لا يحرم. وهو قول ضعيف مصادم للنصوص. • ثم قال - رحمه الله -: لا رزق من بيت المال لعدم متطوع. لما بين حكم الاستئجار - رحمه الله - أراد ان يبين حكم أخذ الرزق من بيت المال على الأذان. فبين أنه يجوز وأنه لا يستوي الإستئجار وأخذ الرزق من بيت المال. واشترط لهذا الحكم شرط وهو: أن لا يوجد متطوع للأذان. فإن وجد متطوع للأذان فإنه لا يجوز للإمام أن يستأجر أو أن يعطي شخصاً آخر رزق ليؤذن. التعليل: - لعدم الحاجة إليه وعدم الحاجة إلى الإنفاق عليه. بقينا في الدليل على جواز أخذ الرزق من بيت المال: الدليل: - الإجماع فإن العلماء أجمعوا على جواز أخذ المؤذن والإمام والقاضي ونحوهم رزقاً من بيت المال ليتفرغوا لمصالح المسلمين. فالدليل: هو الإجماع ولله الحمد. بدأ المؤلف - رحمه الله - بذكر الصفات المستحبة في المؤذن - الصفات التي ينبغي أن يتصف بها المؤذن: • فقال - رحمه الله -: ويكون المؤذن صيتاً. وفي الشرح: حسن الصوت. وهذا صحيح. أي: أن السنة أن يكون صيت وفي نفس الوقت حسن الصوت فكلاهما يستحب. أما الدليل على استحباب أن يكون صيتاً:

- فالحديث الصحيح الثابت أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما أذن مؤذنه حين رجوعه من حنين وسمع أبو محذورة أذان مؤذن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صار يؤذن كما يؤذن مؤذن النبي - صلى الله عليه وسلم - استهزاءا وتهكماً فلما سمع النبي - صلى الله عليه وسلم - صوته وصوت من معه من الرجال قال: أيكم صاحب الصوت - يعني الأعلى - فقال: أصحابه هذا وأشاروا إلى أبي محذورة فطلبه النبي - صلى الله عليه وسلم - وصرف أصحابه وألقى عليه الأذان. ففي الحديث أنه إنما - صلى الله عليه وسلم - ألقى عليه الأذان وأمره به لكونه صيتاً أي: رفيع الصوت فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - ميز صوته لارتفاعه - رضي الله عنه -. وأما الدليل على أنه يستحب أن يكون حسن الصوت: - فالحديث الصحيح الذي سيتكرر معنا وهو حديث عبد الله بن زيد - رضي الله عنه - أنه لما رأى في المنام صفة الأذان وذكره للنبي - صلى الله عليه وسلم - قال له - صلى الله عليه وسلم - إذهب فألقه على بلال فإنه أندى صوتاً منك. وهذا هو وجه الشاهد. فهذان دليلان: - الأول: يدل على أن يكون صيتاً. - والثاني يدل على أنه يكون حسن الصوت. وبالنسبة لوقتنا هذا فإنه ينبغي الاعتناء بحسن الصوت أكثر من الاعتناء لكونه صيتا لكون مكبر الصوت صار يغني عن ارتفاع صوت المؤذن وإذا خفت الحاجة لارتفاع صوت المؤذن صارت الحاجة إلى حسن الصوت أولى بالعناية والطلب بالنسبة لوقتنا هذا أما في القديم لما كان صوت المؤذن هو الذي يحدد مدى وصوله للناس فكان ارتفاع الصوت مثل أو أهم من حسن الصوت لأن المقصود من الأذان الإعلام. ولعله لهذ السبب اكتفى الماتن - رحمه الله - بأن يكون صيتاً ولم يتطرق لحسن الصوت. • ثم قال - رحمه الله -: أميناً. يستحب أن يكون المؤذن أميناً. ومعنى أن يكون أميناً: أن يكون عدلاً ثقة. والدليل على استحباب هذه الصفة من وجهين: - الأول: أنه مؤتمن على صلوات الناس وسحورهم وإفطارهم. - الثاني: أنه مؤتمن على عورات الناس إذا صعد المنارة فإنه يؤتمن على عورات الناس فنحتاج إلى مؤذن أمين حتى لا يتعدى على عورات الساء والناس بالنظر إليهم من مكان مرتفع.

وهذا كما هو واضح كان في القديم قبل وجود مكبرات الصوت حين كان المؤذن يحتاج إلى أن يصعد إلى مكان مرتفع ليؤذن. أما اليوم فمعلوم أن المؤذن يؤذن في المسجد ولا يحتاج إلى الصعود إلى مكان مرتفع. • ثم قال - رحمه الله -: عالماً بالوقت. يستحب أن ىيكون المؤذن هو بنفسه عالماً بالوقت يستطيع أن يحدد دخول الوقت بالعلامات الشرعية. والتعليل: - ليتمكن من تحري أول الوقت فيؤذن بدقة. ولكن هذه الصفة ليست شرطاً في صحة الأذان ولا في تعيين المؤذن. - لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - اتخذ مؤذناً أعمى فقد اتخذ ابن أم مكتوم ليؤذن وهو أعمى ومعلوم أن الأعمى لا يمكن أن يكون عالماً بأوقات الصلوات. فدل ذلك على كون المؤذن بنفسه يعلم دخول الوقت بالعلامات الشرعية ليس شرطاً في صحة الأذان ولا في تعيين المؤذن لكنه يستحب • ثم قال - رحمه الله -: فإن تشاح فيه اثنان قدم افضلهما فيه. انتهى من بيان الصفات فصارت الصفات: صيتاً. حسن الصوت. أميناً. عالماً بالوقت. هذه أهم صفات المؤذن التي ينبغي أن يتحلى بها. فلما بين الصفات بين الترجيح بين المؤذنين: • فقال - رحمه الله -: فإن تشاح فيه اثنان قدم أفضلهما فيه. يعمي: قُدِّم أفضل الإثنين في هذه الصفات المذكوره. - فمن كان أفضل مكن غيره وهذه الصفات متحققة فيه أكثر من غير فهو المقدم. وظاهر هذه العبارة أنه يقدم الأفضل في هذه الصفات بغض النظر عن أي أمر آخر سواء في ذلك رغبة جماعة المسجد أو غيره من المرجحات التي قد يرجح بها ننظر أولاً إلى تحقق هذه الصفات. وهذا الظاهر بدليل: - أن المؤلف ذكر بعد ذلك الأفضل في الدين ثم من يختاره الجيران ... الخ فمعنى هذا: أن أفضل المؤَذِّنَيْنِ في هذه الصفات يقدم مطلقاً. • ثم قال - رحمه الله -: ثم أفضلهما في دينه وعقله. الدليل على هذا: - قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: (ليؤذن لكم خياركم). - ويستدل أيضاً بأنه يستحب للمؤذن أن يكون أميناً وكل ما كان أكثر ديناً كان أكثر أمانة. فإذا تساووا ننظر في أيهما أكثر تديناً وعقلاً. ويعرف تدين الرجل: بالظاهر فليس لنا إلا الظاهر والله يتولى السرائر.

فإذا كان الإنسان مجتنباً للمحرمات محافظاً على الواجبات قائماً بما عليه من أمور دينه كان أكثر ديناً. وأما الإخلاص وتعلق القلب بالله هذا مما لا ينظر إليه ولا يمكن أن يعرفه الإنسان. وأما الأفضل في العقل فلأنه يحتاج إلى عقل المؤذن في مهمة الأذان في أشياء كثيرة لا سيما في مراعاة المأمومين. وهذا ظاهر جداً في وقتنا هذا فكلما كان الإنسان أكثر عقلاً وتؤده صارت المشاكل في المسجد أقل وكلما كان سريعاً مستعجلاً لا يتأنى في الأمور كلما كانت المشاكل في المساجد أكثر. ثم المرحلة الثالثة: • قال - رحمه الله -: ومن يختاره الجيران. المقصود بمن يختاره الجيران: أو يختاره أكثر الجيران. - لأنه من العادة يصعب أن يجتمع جميع جيران المسجد على شخص واحد لكن إذا وقع اختيار جميع الجيران أو أكثرهم على شخص قدم على غيره. والمقصود إذا استووا في جميع ماسبق. التعليل: تعليل الترجيح باختيار الجماعة: - أن الأذان إنما هو لندائهم هم فلما كان موجهاً لهم صار اختيارهم له أثر. • ثم قال - رحمه الله -: - في المرحلة الرابعة -: ثم قرعة. الدليل على أن القرعة هي المرجح الرابع والأخير: - قول الرسول - صلى الله عليه وسلم -: (لو يعلم الناس مافي النداء والصف الأول ثم لا يجدوا إلا أن يستهموا عليه لاستهموا عليه). وهو حديث متفق عليه. ففي الحديث دليل على الترجيح بالقرعة عند استواء جميع الصفات والمرجحات السابقة. ثم بدأ المؤلف - رحمه الله - بأحكام الأذان: بعد أن أنهى المؤلف - رحمه الله - الكلام عن المؤذن وصفاته وما يشترط فيه انتقل إلى نفس الأذان وألفاظه وأحكامه وهذا ترتيب يعين طالب العلم على إدراك مقصوده من الأحكام. • فقال - رحمه الله -: وهو خمسة عشر جملة. أي أن الأذان يتكون من خمس عشرة جملة. = هذا هو مذهب الحنابلة وهو أيضاً مذهب الأحناف: أن الأذان خمس عشرة جملة. وهو الأذان المعروف عند الناس اليوم. فإنك إذا عددت الأذان اليوم فستجد أنه يتكون من خمس عشرة جملة. والدليل على هذا العدد في الأذان:

- حديث عبد الله ابن زيد السابق فإنه أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أنه رأى في المنام كيفية دعوة الناس للصلاة وأنه بأن ينادى بهذه الجمل التي تتكون من خمس عشرة جملة وهو حديث صحيح متفق عليه. = والقول الثاني في هذه المسألة: للمالكية وهو: أن جمل الأذان سبع عشرة جملة بزيادة جملتين. واستدلوا: - أيضاً بالحديث الصحيح حديث أبي محذورة وفيه زيادة الترجيع. والترجيع هو: أن يذكر المؤذن الشهادتين بصوت منخفض ثم يرجع فيذكرهما بصوت مرتفع. وإذا ذكر المؤذن الشهادتين بصوت منخفض صارت الزيادة على أذان عبد الله بن زيد أربع جمل فكان ينبغي أن تكون عدد الجمل تسعة عشر لكن المالكية اعتبروها سبع عشرة جملة: - لأن في حديث أبي محذورة في صحيح مسلم أنه جعل التكبير في أول الأذن مرتين وليس أربعاً فإذا حذفت تكبيرتين من أوله وأضفت أربعاً بالترجيع صار المجموع سبع عشرة جملة. = وذهب الشافعية إلى أنه تسع عشرة جملة أخذاً بحديث أبي محذورة لأن رواية حديث أبي محذورة التي في السنن فيها التكبير في أوله أربع مع زيادة الترجيع صار المجموع تسع عشرة جملة. الآن عرفنا عدد الجمل في المذاهب الاربعة. فعند الحنابلة والأحناف: خمس عشرة. وعند المالكية: سبع عشر. وعند الشافعية: تسع عشر. وعرفت من أين أتو بهذه الاعداد. وعرفت شيئاً آخر مهم وهو أن مدار الأحكام على حديثين: - حديث عبد الله ابن زيد. - وحديث وابي محذورة. والراجح من هذه الأقوال الثلاث أن ينوع الإنسان أحياناً يقول هذا وأحياناً يقول هذا لثبوت الجميع عن النبي - صلى الله عليه وسلم -. وهذه طريقة الإمام أحمد وطريقة شيخ الاسلام بن تيمية. وهو أنه إذا جاءت العبادة بصفات متعددة صحيحة ثابتة في السنة أنه ينبغي على الإنسان أن يذكر هذه تارة وهذه تارة. واشترط بعض الفقهاء في تنويع العبادات أن يكون المنوع حكيماً لئلا يثير الناس عند ذكر شيء لا يعرفونه فمن المعلوم لم أذن الإنسان الآن ونقص من الأذان لا ستنكر الناس كونه يكبر مرتين في أول الأذان. وهذا الشرط في الحقيقة له حظ من النظر وهو شرط مقبول: أن يتوخى الإنسان المصلحة والحكمة إذا أراد نشر سنة من السنن. • ثم قال - رحمه الله -: يرتلها.

لما انهى الجمل بدا بالكيفية. معنى الترتيل هو ان يتمهل بحيث يقف على كل جملة. والدليل على هذا: - قول النبي صلى الله عليه وسلم (إذا اذنت فترسل، واذا اقمت فاحدر) وهذا الحديث إسناده ضعيف. الدليل الآخر: - ان الأذان شرع لإعلام الغائبين فناسب فيه التمهل بخلاف الاقامه فإنها لإعلام الحاضرين فناسب فيها الحدر والاسراع. وهذا الحكم وهو التمهل في الاذان صحيح وان كان الحديث ضعيف لكن تشهد لمعناه النصوص العامة والحكمة من الأذان. • ثم قال - رحمه الله -: قوله (على علو) يسن للإنسان اذا اراد ان يؤذن ان يؤذن من فوق مكان عال. الدليل: - أن بلال رضي الله عنه كان يؤذن على بيت امرأة من الأنصار لارتفاعه وهذا حديث حسنه ابن دقيق العيد. - الدليل الثاني: أن بلال وابن ام مكتوم رضي الله عنهما كانوا يؤذنون للنبي صلى الله عليه وسلم ... وفي الحديث أنه ليس بينهما الا أن ينزل هذا ويرقى هذا. وجه الاستدلال: يرقى وينزل. إذاً قضية الارتفاع في الاذان ثابتة فالنصوص الصحيحة تدل عليها. ولذلك في وقتنا هذا لما لم يكن هناك حاجة للارتفاع صار الناس يؤذنون من مكبرات الصوت. لكن ينبغي لمن أراد أن يؤذن بمكان خارج المساجد ينبغي ان يتحرى هذه السنة على الأقل من احياء السنن فيصعد مكاناً رفيعاً ويؤذن ولا يؤذن في مكان يستوي فيه هو ومن معه في هذا المكان. إذاً يرتفع عن باقي الموجودين في المكان الذي هو فيه تحقيقاً للسنة. • ثم قال - رحمه الله -: متطهراً. يسن لمن اراد ان يؤذن ان يكون متطهراً. - لحديث ابي هريرة رضي الله عنه " (لايؤذن الا متوضئ) وهذا الحديث حكم الامام الترمذي بأنه موقوف. - الدليل الثاني: أن النبي صلى الله عليه وسلم لما سلم عليه الرجل وهو يبول لم يجب ولم يرد السلام الا بعد أن تيمم) وعلل ذلك بقوله صلى الله عليه وسلم كرهت ان اذكر الله إلا على طهارة. فهذا التعليل يدل على أن من اراد ان يذكر الله يستحب له ان يكون على طهارة والأذان من اعظم الأذكار فثبتت هذه السنة في هذه الأحاديث إن شاء الله. • ثم قال - رحمه الله -: مستقبل القبلة. يسن لمن اراد ان يؤذن ان يستقبل القبلة. والدليل على ذلك:

- إجماع أهل العلم لم يخالف في هذه المسألة احد من الفقهاء وحكى الاجماع ابن المنذر وابن قدامه رحمهما الله. ولااعلم - الآن ولا أذكر - حديثاً صحيحاً يدل على الاستقبال لكن هذا الإجماع يقوي هذه السنة • ثم قال - رحمه الله -: جاعلاً أصبعيه في أذنيه. يسن لمن اراد ان يؤذن: = عند الحنابلة ان يجعل اصبعيه في أذنيه. الدليل على هذه السنة: - حديث ابي جحيفة وهذا الحديث حديث طويل فيه أن أبا جحيفه رأى بلال يؤذن فوصف لنا كيفية الأذان وهو ايضاً من الاحاديث المهمة في باب الاذان يضم إلى حديث عبد الله ابن زيد وحديث ابي محذوره لكن هذا الحديث له لفظ في الصحيحين وله ألفاظ في سنن أبي داود والنسائي وابن ماجه. ألفاظه خارج الصحيحين فيها زيادات ليست موجودة في الصحيحين ففي النفس من هذه الزيادات في ثبوتها - شيء فأحياناً يكون لهذه الزيادة شواهد تقوي هذه الزيادة فتقبل وأحياناً لا يكون لها شواهد فتبقى ضعيفة. هذا بشكل عام في الكلام على حديث أبي جحيفة. - نأتي إلى مسألتنا -. حديث أبي جحيفة الذي في الصحيحين ليس فيه ان بلالاً وضع اصبعيه في اذنيه لكن في السنن قال ثم وضع اصبعيه في اذنيه. وذكر الفقهاء ومنهم الحنابلة علة اخرى لوضع الاصبعين في الاذنين وهي ان هذا مما يؤدي إلى رفع الصوت في الاذان. • ثم قال - رحمه الله -: غير مستدير. لا يسن لمن اراد ان يؤذن من على المنارة او في أي مكان ان يستدير بجسمه. بمعنى: ينهبغي أن يقف ولا يحرك قدميه أثناء الأذان. - أيضاً: لحديث ابي جحيفه. لكن جاء في رواية خارج الصحيحين ذكرها ابو داود ان بلالاً اذن ولم يستدر. هكذا قال. فإذا اراد الإنسان ان يلتفت يميناً وشمالاً فإنه ينبغي يلتفت برأسه لا بجسده وتبقى القدمان في مكانهما ثابتتان فهذا مراد الفقهاء بعدم الاستداره فيجب أن تبقى القدم ثابتة وإذا أراد أن يستدير كما سيأتينا الآن فيستدير برأسه فقط. • ثم قال - رحمه الله -: ملتفتاً في الحيعلة يميناً وشمالاً. الحيعلة هي: حي على الصلاة حي على الفلاح. يسن للمؤذن اذا وصل إلى حي على الصلاة حي على الفلاح ان يستدير يميناً وشمالاً. الدليل:

- حديث ابي جحيفه بلفظه الذي في الصحيحين وفيه انه قال رضي الله عنه فجعلت اتتبع فاه هاهنا وهاهنا يميناً وشمالاً يقول: حي على الصلاة حي على الفلاح. فهذه سنة ثابته في الصحيحين وذكر الراوي بالتفصيل كيفية هذه السنة فهذه السنه أهم من السنن المتقدمة من حيث الثبوت. == أما في زماننا فهل يلتفت يميناً أوشمالاً أو لا يلتفت؟ فيه تردد. وجه التردد: ان الالتفات سنة ولو التفت لأجر على الأقل تعبداً لكونه يلتفت فهذا يؤيد ان يلتفت. ومعنىً آخر يؤيده ان لا يلتفت وهو ان الحكمة من الالتفات بلا شك هو توصيل المؤذن صوته لكل الجهات وهذا بالنسبة لمكبرات الصوت متحقق ولو لم يلتفت بل ان التفاته اليوم قد يؤدي إلى ضعف الصوت لانه إذا التفت سيذهب الصوت عن مكبر الصوت. فالانسان يتردد بين الأمرين. ولكني أقول: - اذا كان يستطيع أن يلتفت تعبداً بلا اضرار بالصوت فانه يلتفت لانه لن يُعدم اجراً. - اما اذا كان إذا التفت فسيؤدي التفاته إلى ضعف الصوت وبعده عن مكبره فإنه لا يلتفت. وهذا قول يكون وسطاً بين القولين. فإذا كان اللاقط قوي سيلتقط صوته وان التفت فإنه يلتفت والا فلا. • ثم قال - رحمه الله -: قائلاً بعدهما في أذان الصبح الصلاة خير من النوم مرتين. يستحب لمن اراد ان يؤذن في صلاة الصبح خاصة ان يقول هذه العبارة وهي: (الصلاة خير من النوم) بعد الحيعلة. وهذا الفعل يسمى التثويب. وهذه سنة ثابتة: - فجاءت في حديث انس رضي الله عنه. - وجاءت في حديث ابي محذورة رضي الله عنه. فلا إشكال في ثبوتها. لكن الاشكال الذي وقع عند الفقهاء هو في مكان هذا التثويب هل هو في الأذان الاول او في الأذان الثاني؟ لان الفجر له اذان أول وأذان ثاني. هذا محل خلاف. = فمن الفقهاء من قال يثوب في الاذان الأول يعني في الأذان الذي يكون قبل طلوع الفجر الصادق. واستدلوا على هذا: - بأن حديث ابي محذوره فيه انه فعل ذلك في اذان الفجر الأول هكذا قال: ثم فعل ذلك في أذان الفجر الأول. - ونحوه في حديث انس قال ثم فعل ذلك في اذان الفجر الاول. ففي الحديثين أن التثويب كان في اذان الفجر الاول. نص على هذا الحكم. = القول الثاني: أنه في الأذان الثاني بعد طلوع الفجر الصادق.

قالوا: - قوله في حديث ابي محذوره وانس في الاذان الأول يقصد به الأذان الاول باعتبارأن الأقامة هي الاذان الثاني فإن الشرع جاء فيه تسمية الأقامة اذاناً ثان. كقوله - صلى الله عليه وسلم - (بين كل أذانين صلاة).فسمى الإقامة أذاناً. - والدليل الثاني: ان المراد من التثويب اقامة الناس وحثهم على الصلاة بينما الحكمة من الاذان الاول ان يقوم النائم ليتهجد وان ينام القائم ليرتاح ولذلك جاء في مشروعية الأذان الاول: (ليقوم نائمكم وينام قائمكم).وهذا التعليل صحيح في احاديث صحيحة. واذا كانت الحكمة من الأذان الأول ان يرقد من قام طول الليل ليرتاح كيف نقول له الصلاة خير من النوم. وهذا القول الثاني في الحقيقة اوجه واقوى من حيث التعليل - قوي جداً -. فإذاً التثويب يكون كعمل الناس اليوم في النداء الثاني للفجر الذي يكون بعد طلوع الفجر الصادق. ثم انتقل المؤلف - رحمه الله - إلى الإقامة: • فقال - رحمه الله -: وهي احدى عشر. يعني ان عدد جمل الأقامة احدى عشرة جملة. = وهذا مذهب الحنابلة. واستدلوا على ذلك: - أن بلال امر ان يشفع الأذان ويوتر الاقامة الا قد قامت. هذا الحديث في الصحيحين الا قوله: (إلا قد قامت) هذا لم يذكره البخاري وذكره مسلم لكن المعنى يبقى واحد. - وايضاً في حديث عبد الله بن زيد رضي الله عنه لماذا ذكر الاقامة ذكر انها فرادى الا قد قامت ثم افرد الإقامة الا قد قامت. = القول الثاني: انها عشر جمل فقط. والسبب في أنها عشر جمل عند هؤلاء: - عدم تثنية الأقامة. إذاً الحنابلة إحدى عشر فإذا لم تثن الإقامة صارت عشر وهو القول الثاني. = والقول الثالث: للاحناف أنها سبعة عشر جملة. واستدلوا: - بلفظ لحديث ابي محذوره فيه: (ان الأقامة كالأذان سبع عشرة جمله).لكن هذا اللفظ ضعفه العلماء وممن نص على تضعيفه الامام البيهقي. وأنا لا أدري - لم أسمع: هل الأحناف الآن يقيمون الصلاة بهذا العدد من الجمل أو لا؟ في البلدان التي تأخذ بمذهب الأحناف فلم أسمع أن أحداً من المسلمين اليوم يقيم في هذا العدد من الجمل في أنه يجعل الإقامة كالآذان.

ربما يكون موجوداً لكن أقول: لا أدري هل يعمل بذه المذهب الآن أو أن الأمر استقر عند المسلمين على إحدى عشرة جملة فلا أدري عن واقع المسلمين الآن. • ثم قال - رحمه الله -: يحدرها. تقدم معنا ان المؤذن يترسل في الأذان ويحدر في الإقامة. ووأن التعليل في حدر الإقامة - تعليل هذا الحكم: - انها اعلام للموجودين فلا حاجة للتأني فيها. لان الفقهاء يعتبرون الإقامة اعلام بالدخول في الصلاة للناس الموجودين بخلاف عمل المسلمين اليوم - نسأل الله العافية والسلامة - حيث يعتبرون الإقامة هي التي يأتون اليها للمسجد فكأن الإقامة هي التي للإعلام بدخول وقت الصلاة بينما الفقهاء: إنما اعتبروا الإقامة فقط لإعلام الحاضرين. وهذا التعليل للحنابلة وغيرهم من الفقهاء يؤيد أن تكون الإقامة بدون مكبر. • ثم قال - رحمه الله -: ويقيم من اذن استحباباً. أي أنه يجوز ان يقيم غير من اذن فيؤذن شخص ويقيم اخر لكنه خلاف السنة فالسنة والمستحب ان يقيم من اذن. الدليل على هذا: - أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من اذن فهو يقيم) وهذا الحديث ضعيف. - والدليل الثاني: - على استحباب أن يتولى الإقامة من تولى الأذان: الاجماع فقد أجمع الفقهاء على أنه يستحب أن يتولى الإقامة من تولى الأذان. اذاً تبين أنه إذا أقام شخص آخر فإن الصلاة صحيحة والاقامة صحيحة وقد أُدِّيَ فرض الكفاية بأذان شخص وإقامة شخص آخر. • ثم قال - رحمه الله -: في مكانه ان سهل. يستحب ان يقيم من المكان الذي اذن فيه ولا يقيم من داخل المسجد. الفقهاء يتكلمون كما قلت عن مؤذن يؤذن من مكان مرتفع. الدليل: - أن بلال - رضي الله عنه - كان يقول للنبي صلى الله عليه وسلم لا تسبقني بآمين. هذا الحديث مرسل وأنتم أخذتم أن المرسل من اقسام الحديث الضعيف. لكن الحديث المرسل إذا كان مرسله من كبار التابعين صار قوياً ولا أقول حجة لكن صار قويا يصلح للاستدلال. هذا المرسل مرسله من كبار التابعين وهو مرسل يصلح للإعتضاد والإحتجاج إن شاء الله.

وجه الاستدلال بهذا الأثر: ان بلال - رضي الله عنه - لو كان يقيم من داخل المسجد لم يحتج ان يقول للنبي صلى الله عليه وسلم لا تسبقي بآمين ولكن الظاهر انه يذهب يقيم من المكان الذي اذن منه ويخشى ان يكبر النبي - صلى الله عليه وسلم - ويقرأ الفاتحة ويصل إلى آمين قبل ان يأتي المؤذن - أي بلال - رضي الله عنه - وهذه السنة معدومة في وقتنا هذا لأنه سيقيم من حيث أذن ولكن في داخل المسجد. == هل يؤخذ من هذا أنه ينبغي أيضاً إعلان الإقامة؟ هذا صحيح ودليل على أنه ينبغي إعلان الإقامة إذا صح هذا الأثر فهو دليل على إعلان الإقامة كما ينبغي إعلان الأذان. وهذا الأثر إذا أردنا أن نرجح بينه وبين تعليل الفقهاء المتقدم الذي يقتضي عدم الإقامة بالمكبر فلا شك أن الآثار مقدمة على آراء الرجال. • ثم قال - رحمه الله -: ولا يصح الا مرتباً متوالياً من عدل. الدليل على أنه يجبل أن يكون مرتباً متوالياً من وجهين: - الأول: انه لم يرد في الشرع الا هكذا. - الثاني: أنه لا يحصل المقصود من الآذان ولا من الإقامة الا اذا كان مرتباً متوالياً. ومعنى متوالياً: أن لا يفصل بين الجمل بفاصل من الزمن. ومعنى مرتباً: ان لايقدم جملة على جملة في الأذان. فلو قال المؤذن الله اكبر ثم بعد ربع ساعه الله اكبر فان الاذان باطل لأنه اخل: بركنية الموالاة. ولو قال المؤذن في بداية اشهد ان لا الله الا الله ثم قال بعد ذلك الله اكبر فالأذان باطل لانه اخل: بالترتيب. • ثم قال - رحمه الله -: من عدل. كلمة من عدل: يستنبط ويؤخذ من هذه الكلمة ثلاثة أحكام. وهي: - الأول: أنه يجب ان يكون المؤذن ذكر - رجل. - الثاني: أن يكون واحد: هو يتولى جميع الأذان. - الثالث: أن يكون عدل. فإن اذنت انثى لم يصح. وان تقاسم الأذان اثنان لم يصح. وان اذن فاسق لم يصح. - اما اشتراط ان يكون ذكر فكما تقدم معنا ان الأذان لا يشرع للمرأة برفع الصوت فإذا أذنت ورفعت صوتها صارت أتت بمنكر وعمل الذنب والمنكرات يتنافى مع العبادة. - واما انه من رجل واحد فلأنه لم يرد في الشرع الا من واحد فقط. - واما انه لايحل اذان الفاسق فلقول النبي صلى الله عليه وسلم: (المؤذن مؤتمن والامام ضامن).

ولما سبق معنا من تعليلات اشتراط ان يكون اميناً وان يكون عدلاً. = وعدم صحة اذان الفاسق هو اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله -. = القول الثاني: انه أذان الفاسق يصح. الصواب القول الأول ان أذان الفاسق لا يصح: - لما في الباب من نصوص تدل على اشتراط ان يكون اميناً ثقة. == والخنثى أيضاً لا يجوز لأنا لم نتحقق من وجود الشرط والشرط ان يكون ذكر والخنثى نحن نتردد هل هو ذكر او انثى؟ واذا لم نتحقق وجود الشرط لم تصح العبادة. والعدل: أن لا يكون فاسق والفاسق عند الفقهاء هو: من أتى كبيرة أو داوم على صغيرة. انتهى الدرس،،،

قال شيخنا حفظه الله بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين • قال - رحمه الله - ولو ملحناً او ملحوناً يعني ويجوز الأذان ولو كان المؤذن يُلَحِّنُ الأذان أو يَلْحَنُ فيه والتلحين وهو القسم الأول هو تطريب الأذان وهو أن يؤذن بما يشبه الطرب والأذان بهذه الصفة عند الحنابلة يصح لكن فات المؤلف أو لم يذكر المؤلف أنه مكروه وقال الحنابلة يصح لان المقصود يحصل به ولو ملحناً والمقصود هو الاعلام كما تقدم معنا والوجه الثاني أن تأذين المؤذن ملحناً لا يجزيء ويجب الإعادة يعني لو أذن المؤذن تأذيناً ملحنا فإن هذا الآذان لا يجزيء ويجب الإعادة والأقرب والله سبحانه وتعالى أعلم المذهب أنه يصح مع الكراهة لما ذكروه من أنه يحصل به الغرض لكن اذا سمعت هذا الخلاف في حكم الأذان المُلَحَّنُ علمت خطورة ما يقوم به بعض المؤذنين من تطريب وتلحين الاذان بشكل زائد لان الآذان بهذه الصفة كما سمعت محل خلاف بين أهل العلم فمنهم من يبطله ومن الغبن ان يعرض الانسان عمله الصالح للبطلان • ثم قال - رحمه الله - أو مَلْحُونَاً اللحن هو الخطأ في اللغة العربية وقد يكون خطأ في النحو بضبط آخر الكلمة وقد يكون خطأ في لغة الكلمة وضبطها من حيث هي: واللحن ينقسم إلى قسمين

القسم الأول محيل للمعنى يعني مغير للمعنى والقسم الثاني غير محيل للمعنى فالمحيل للمعنى كقول المؤذن آلله أكبر؟ بمد الهمزة في لفظ الجلالة لأن المعنى ينتقل إلى الاستفهام وبهذا اختلف وانقلب المعنى تماما وأيضاً من أمثلة اللحن المحيل للمعنى أن يقول الله أكبار بمد الحرف بعد الباء لانه ينقلب المعنى إلى أن يكون اسماً للطبل هذا اللحن المحيل للمعنى وأمثلته وهو مفسد للأذان أما اللحن الغير محيل للمعنى فكقول المؤذن الله أكبر بكسر آخر الكلمة أي بكسر الراء لأن هذا لحن ولكن المعنى باقي كما هو وهذا النوع لا يبطل الأذان • ثم قال - رحمه الله - ويجزئ من مميز يجزئ الأذان من مميز لان صلاته صحيحة فأذانه كذلك ولأن احد ابناء الصحابة وكان مميزاً ولم يبلغ اذن بحضرة انس ابن مالك ولم ينكر على اهله لكن يشترط في صحة اذان المؤذن المميز ان لا يكون هو المؤذن الوحيد في البلد إذ الأذان الواجب لا يكتفي فيه بأذان المميز فإذا كان في البلد اكثر من مؤذن فحينئذ يجوز أن يكون أحدهم طفلاً ولو لم يبلغ إذا كان مميزاً واختار هذا القول وهو اشتراط ان يوجد في البلد بالغ يؤدي الأذان الفريضة الواجب شيخ الإسلام ابن تيمية وقال رحمه الله لا ينبغي ان يوضع صبي يؤذن مميزاً منفرداً وبالنسبة للوقتنا هذا لا يكاد يوجد في البلد مسجد واحد بل تتعدد المساجد حتى في القرى فعلى هذا لا اشكال ان يؤذن مميز في احد المساجد لكن لو افترضنا ان في قرية صغيرة لا يوجد الا مسجد واحد فإنه لا يجوز ان يكون يؤذن في هذا المسجد المنفرد طفل مميز • ثم قال - رحمه الله - ويبطلهما فصل كثير ويسير محرم في الحقيقه هذه الجملة تعتبر كالتفصيل لقول المؤلف رحمه الله متوالياً مرتباً أي ان هذا مما يحقق التوالي في الأذان أن لا يكون هناك فصلٌ وقد قسم المؤلف الفصل إلى قسمين القسم الأول فصل كثير والقسم الثاني يسير محرم الفصل الكثير يقصد به المؤلف ان يفصل المؤذن بين جمل الاذان بفصل كثير بأحد أمرين إما كلام مباح أو سكوت فحينئذ يبطل الأذان للإخلال بالموالاة

وتقدم معنا انها من شروط صحة الأذان فإن فصل بفصل قصير بكلام مباح او سكوت فالأذان صحيح لأن الموالاة لم تبطل حينئذ لقصر الفاصل وبهذا انتهينا من القسم الأول القسم الثاني اليسير المحرم اليسير المحرم لا يكون الا بالكلام أي ان يفصل بيسير كلام محرم فهذا يُبْطِلُ ولو كان يسيراً التعليل لأن الكلام المحرم ينافي العبادة إذاً صور بطلان الاذان من جهة الموالاة ثلاث بفاصل طويل بسكوت بفاصل طويل بكلام مباح بفاصل قصير بكلام محرم هذه الثلاثة أنواع يبطل بها الأذان • ثم قال - رحمه الله - ولايجزئ قبل الوقت ولايجزئ أي الأذان قبل دخول الوقت فلا يجوز ويحرم أن يؤذن المؤذن الدليل على هذا النص والإجماع أما النص فقول النبي - صلى الله عليه وسلم - اذا حضرت الصلاة فليؤذن لكم أحدكم فقيد جواز الأذان بحضور الصلاة وأما الإجماع فلم يخالف احد من الفقهاء في انه يحرم ان يؤذن قبل دخول الوقت وهذه مسألة لا إشكال فيها • ثم قال - رحمه الله - استثناء لما سبق الا لفجر بعد نصف الليل لا يجوز في شيء من الفروض الخمسة الأذان قبل دخول الوقت الا في الفجر خاصة هذا على مذهب الحنابلة وهو مذهب الجمهور مالك والشافعي مع الحنابلة ولو لم يوجد مؤذن آخر إذاً الحنابلة بل الجمهور ذهبوا إلى جواز أن يؤذن المؤذن لصلاة الفجر خاصة قبل دخول الوقت ولو لم يوجد مؤذن آخر هذا من تتميمة القول لأن القول لا يتضح تماماً إلا بهذا القيد الدليل قالوا قول النبي صلى الله عليه وسلم ان بلالا يؤذن بليل فكلوا واشربوا حتى يؤذن ابن أم مكتوم فقوله ان بلالا يؤذن بليل أي قبل الفجر لانه بعد طلوع الفجر لايسمى الوقت ليلاً الدليل الثاني انه في حديث الصدائي انه اذن قبل طلوع الفجر ولم يذكر معه مؤذن آخر انتهينا الآن من تقرير مذهب الحنابلة وعرفنا ما هون مذهب الحنابلة؟ وما هو دليلهم على جواز أن يؤذن المؤذن قبل الفجر؟ وعلى عدم اشتراط وجود مؤذن آخر القول الثاني انه لا يجوز ولا في صلاة الفجر ان يؤذن المؤذن قبل طلوع الفجر أي قبل الوقت واستدلوا

بالعمومات التي تدل على انه لا يجوز الأذان قبل الوقت والقول الثالث انه يجوز ان يؤذن المؤذن قبل طلوع الفجر بشرط وجود مؤذن آخر يؤذن بعد طلوع الفجر وهذا رواية عن الإمام احمد واختارها ابن قاضي الجبل الدليل قالوا هكذا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتخذ مؤذناً قبل الفجر وآخر بعد الفجر فبلال قبل الفجر وابن ام مكتوم بعد الفجر الدليل الثاني انه بوجود المؤذن الثاني يزول اللبس لاحتمال ظن بعض الناس بدخول الوقت وهذا القول الثالث هو القول الذي تجتمع به الادلة وهو القول الصواب • ثم قال - رحمه الله - بعد نصف الليل يجوز ان يؤذن المؤذن للأذان الأول قبل صلاة الفجر من بعد منتصف الليل هكذا يرى الحنابلة والقول الثاني لا يجوز ان يؤذن للأذان الأول الا قرب الفجر واختار هذا القول الثاني الحافظان ابن رجب والبيهقي ودليلهم أنه في حديث بلال انه لم يكن بينهما إلا ان ينزل هذا ويرقى هذا والتعليل أن هذا الأذان المبكر لا يحصل به المقصود أي من الأذان الأول وهذا القول الثاني ظاهر القوة وهو أرجح القولين • ثم قال - رحمه الله - ويسن جلوسه بعد اذان المغرب يسيراً يسن عند الحنابلة ان لا يبادر بعد اذان المغرب بالاقامة بل ينتظر قدر مايتمكن الناس فعل الوضوء والاتيان بالسنة الدليل قالوا النبي صلى الله عليه وسلم يقول صلوا قبل المغرب صلوا قبل المغرب صلوا قبل المغرب في الثالثه قال لمن شاء ولو اقام المؤذن بعد الأذان مباشره لم يتمكن الناس من تطبيق هذه السنة فدل ذلك على انه ينبغي للمؤذن ان يتأخر ريثما ياتي الناس بهذه السنة وانما ذكر المؤلف هذه العبارة ليبين مذهب الحنابلة بخلاف مذهب الشافعية الذين يرون وجوب المبادرة والاقامة بعد الاذان ومذهب الحنابلة هو الصواب وسيأتينا في مباحث الاوقات ضعف مذهب الشافعية في هذه المسألة لان المؤلف سينص على انتهاء وقت المغرب إذاً الذي ينبغي أن نعرفه في هذا الموضع أن عدم المبادرة بالإقامة بعد أذان المغرب هو مذهب الحنابلة وهو الصواب وأخذتم دليلهم من السنة الصريحة الصحيحة

لكن مع ذلك يقول المؤلف مع أنه يسن ان يجلس بعد اذان المغرب الا ان هذا الجلوس ينبغي أن يكون يسيراً لذلك يقول يسيراً الدليل على أنه ينبغي أن يكون يسيراً الاحاديث الصحيحة الصريحة الدالة على مبادرة النبي صلى الله عليه وسلم بصلاة المغرب وستاتينا أيضاً في الاوقات فهذه الأدلة دليل على سنية المبادرة اذاً من يجعل بين اذان المغرب والاقامة وقتا طويلا فقد خالف السنة مخالفة ظاهرة وواضحة فالسنة مليئة بإرشاد المسلمين إلى المبادرة في الاقامة لكن الفرق بين الشافعيه والحنابلة في مقدار المبادرة الاقامة فالشافعية يبالغون في المبادرة والحنابلة يتوسطون اخذا بالنصوص جميعا إذاً مذهب الحنابلة مركب من الانتظار وأن يكون هذا الانتظار يسيراً وسمعت الأدلة • ثم قال - رحمه الله - ومن جمع او قضى فوائت أذن للاولى ثم أقام لكل فريضة اذا جمع الإنسان صلاتين جمعا جائزاً فإنه لايشرع له ان يكرر الاذان بل يؤذن اذاناً واحداً ويقيم إقامتين الدليل ان النبي صلى الله عليه وسلم جمع في عرفه ومزدلفة وهكذا صنع أي أذان أذاناً واحداًَ وأقام إقامتين وهذا أمر واضح ولا أظن فيه خلاف • ثم قال - رحمه الله - أو قضى فوائت اذا فاتت الإنسان صلوات لاي سبب من الاسباب نسيانا او انشغالاً بما لا يمكنه معه الصلاة فإنه اذا أراد ان يقضي هذه الفوائت يؤذن اذان واحد ويقيم لكل فريضه الدليل قالوا النبي صلى الله عليه وسلم فاتته اربع صلوات يوم الخندق الظهر والعصر والمغرب والعشاء وصلى هذه الاربع في وقت واحد في اذان واحد واقامات فدل ذلك على ان الفوائت يؤذن لها اذاناً واحداً ويقام لكل صلاة وهذا الحديث حديث ابن مسعود ان النبي صلى الله عليه وسلم فاتته الصلوات يوم الخندق إسناده صحيح • ثم قال - رحمه الله - ويسن لسامعه متابعته سراً يسن لمن يسمع المؤذن ان يتابعه سراً الدليل على هذا من وجهين الأول الإجماع

والثاني قول النبي صلى الله عليه وسلم اذا سمعتم المؤذن فقولوا مثلما يقول فإن كان السامع مشغولا بالصلاة أو مشغولاً بالتخلي بقضاء الحاجة فإنه يؤخر اجابة المؤذن إلى بعد انتهائه مما هو مشغول فيه هذا عند الحنابلة أنه يؤخر الإجابة إلى انتهائم مما هو مشغول فيه والقول الثاني ان المصلي يجيب المؤذن ولو كان في صلاة لانه ذكر مشروع لا يتنافا مع الصلاة وهذا القول اختاره من المحققين شيخ الإسلام بن تيمية وهذا في نظري أن هذا القول ضعيف جدا لقول النبي صلى الله عليه وسلم ان في الصلاة لشغلاً فالإنسان اذا كان يصلي فهو مشغول بالصلاة في واجباتها ومسنوناتها واذكارها والخشوع فيها والإقبال على الله أثنائها فليس من المناسب أن يجيب المؤذن ومادام الامر فيه سعة بحيث يستطيع ان يجيب المؤذن بعد انتهاء الصلاة فناخذ بهذه السعة ونبقى مشغولين داخل الصلاة بالصلاة الخلاصة أن الراجح في هذه المسألة مذهب الحنابلة ومن باب أولى اذا كان في الخلاء والسنة في متابعة المؤذن ألأن تكون سراً بان لا يجهر فيها وسماع الانسان صوت نفسه لا يخرج عن ان يكون سراً لا كما يفهم بعض إخواننا ان السر الذكر السري يشترط فيه ان لاينطق بصوت مسموع بل إذا سمع نفسه بدون جهر فهو سنة يستثنى من هذا من أن اجابة المؤذن سراً هي السنة اذا رفع الانسان صوته بقصد التعليم فلا بأس في ذلك ونقول هو جائز أومستحب وليس سنة لأنه لم يرد عن النبي صلى الله عليه وسلم لكن تدل عليه النصوص العامة • ثم قال - رحمه الله - وحقولته في الحيعلة يسن لسامع الاذان اذا سمع المؤذن يقول حي على الصلاة حي على الفلاح أن يقول لا حول ولا قوة الا بالله والمناسبة في ذلك أن يستشعر الانسان انه لا حول له ولا قوة في اجابة المؤذن الا بإعانة الله له هذا من حيث التعليل ومن حيث الدليل ثبت في صحيح مسلم عن عمر ابن الخطاب رضي الله عنه انه لما ذكر اجابة المؤذن ذكر انه لما قال حي على الصلاة حي على الفلاح قال لا حول ولا قوة الا بالله وبهذا انتهت اجابة جميع الجمل ماعدا التثويب وهو قول المؤذن الصلاة خير من النوم

فعند الحنابلة ولم يذكرها المؤلف يقول صدقت وبررت فإذا سمع المؤذن يقول الصلاة خير من النوم قال له صدقت وبررت والقول الثاني انه يقول كما يقول المؤذن يعتي يقول الصلاة خير من النوم لعموم قول النبي صلى الله عليه وسلم اذا سمعتم المؤذن فقولوا مثل ما يقول ولا يخرج من شيء هذا العموم شيء من الفاظ الاذان الا الحيعلتين وهذا القول الثاني هو القول الصحيح لأنه ليس في النصوص مايدل على سنية قول القائل صدقت وبررت مع العلم ان الاذان يقال يومياً ومشتهر بين الصحابة وجمهور الصحابة ممن يقومون الليل ويسمعون اذان الفجر فكونه لم ينقل لنا انهم يجيبون المؤذن فبهذا ولم يأت حديث صحيح ففي كل هذا دليل على عدم مشروعية الذكر • ثم قال - رحمه الله - وقوله بعد فراغه اللهم رب هذه الدعوة التامة والصلاة القائمة آت محمداً الوسيلة والفضيلة وابعثه مقاماً محموداً الذي وعدته ثبت في الصحيحين عن جابر رضي الله عنه ان النبي صلى الله عليه وسلم قال من سمع المؤذن فليقل اللهم رب هذه الدعوة إلى آخر الدعاء الذي ذكره المؤلف - رحمه الله - فهذه السنة ثابتة في الصحيحين وعلمنا من اقتصار المؤلف على هذا اللفظ وعدم إتيانه بقول انك لا تخلف الميعاد أن مذهب الحنابله يقتصر على هذا اللفظ الذي في الصحيحين دون زيادة انك لا تخلف الميعاد وهذا هو الصواب لان هذه الزيادة التي وقعت خارج الصحيحين زيادة شاذه والمحفوظ هو ما ذكره البخاري ومسلم بدون هذه الزيادة فإذا أراد الإنسان أن يجيب المؤذن فيجيب بدون هذه الزيادة الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم بعد انتهاء الأذانت سنة ثابته ومن فاتته الإجابة لعذر فانه يقضي سواء كان لا نشغاله بما ذكرت بالصلاة أو الخلاء أو بغيره

باب شروط الصلاة

ومن الفقهاء من قال أنها سنة فات محلها ولا يمكن أن تستدرك لكن الأقرب من قال أنها تقضى بشرط أنه تركها لعذر لأنا وجدنا أن الشارع الحكيم حكم في كثير من العبادات إذا فاتت الإنسان بعذر فإنه يقضي وهي عبادات أعظم من إجابة المؤذن كالسنن الرواتب لما تركها النبي - صلى الله عليه وسلم - بعذر قضاها فإن هذه أعظم من الأذان فيجيب المؤذن قضاء إلا أنه قد يكون الفرق بينهما أن إجابة المؤذن سنة حال السماع ففات محلها لكن هذا في الحقيقة ليس بفارق لأن السنتن الرواتب أيضاً لها وقت مشروع محدد وهو إما أن تكون قبل الصلاة أو بعد الصلاة داخل الوقت كما سيأتينا في كلام المؤلف - رحمه الله - ففي كل منهما ذهاب الوقت فلا فرق فيما أرى كذلك قول رضيت بالله ربا وبالإسلام دينا وبمحمد صلى الله عليه وسلم نبيا سنة صحيحة ثابته ولكن اختلفوا متى تقال؟ هل هي بعد الشهادتين أو في آخر الأذان؟ والاقرب أنها بعد الشهادتين لكن هذا الامر فيه سعة فالنصوص لم تحدد بدقة لكن ظواهرها أنه بعد الشهادتين وقول وأنا أشهد هذا سنة لكنها من السنن التي تقال أحياناً وليست كباقي السنن التي تقال دائماً فأحياناً يقول الإنسان بعد قول المؤذن أشهد أن لا إله إلا الله وأنا أشهد أن لا إله إلا الله فهذا من السنة التي فيها تنويع انتهى بهذ الكلام على باب الأذان والإقامة ننتقل بعده إلى باب شروط الصلاة وهو باب مهم مع باب صفة الصلاة باب شروط الصلاة • قال - رحمه الله - باب شروط الصلاة الشرط في اللغة هو العلامة ومنه قوله الله تعالى فقد جاء اشراطها يعني الساعة يعني فقد جاءت علاماتها وهذا دليل على القرب وفي الاصطلاحا هو مايلزم من انتفائه انتفاء الحكم ولا يلزم من وجوده وجود الحكم وله عدة تعريفات تدور على هذا المعنى لكني اخترت هذا اللفظ لأنه في الحقيقة من الألفاظ التي تقرب من الفقه في معناه السهل وتبتعد عن اصول الفقه في بعض ألفاظه الصعبة مثاله الطهارة من شروط الصلاة يلزم من انتفاء الطهارة انتفاء صحة الصلاة ولا يلزم من وجود الطهارة وجود الصلاة

الإحصان من شروط الرجم فيلزم من انتفاء الإحصان انتفاء الرجم فلو زنى وهو ليس محصناً فإنه لا يرجب ولا يلزم بطبيعة الحال من ثبوت الإحصان ثبوت الرجم إذاً عرفنا الآن الشرط في الاصطلاح ماهي شروط الصلاة؟ هي الأمور التي تجب قبل الصلاة وتستمر فيها وهذه تعريف أرجو أن يكون سهلاً يجعل الإنسان يستوعب المعنى العام للشروط واذا تأملت التعريف استطعت ان تعرف متن خلاله الفرق بين الشرط والركن فالفرق بينهما من وجهين الأول أن الشرط يجب قبل الصلاة بينما الركن يجب في أثناء الصلاة الثاني أن الشرط يستمر في الصلاة بينما في الركن يتنقل المصلي بين الاركان فلا يثبت على ركن واحد ولا يمكن أن يكون المصلي مستمراً على ركن واحد ولو فعل لبطلت صلاته إذاً داخل الصلاة تستمر الشروط وتتنقل الاركان فمثلاً من شروط الصلاة الطهارة هل يجوز ان يتخلف هذا الشرط في أي جزء من اجزاء الصلاة؟ الجواب لا من أركان الصلاة القيام ومعلوم أن المصلي سينتقل من القيام إلى الركوع وهكذا • ثم قال - رحمه الله - شروطها قبلها منها الوقت الوقت شرط من شروط صحة الصلاة بالإجماع لقوله تعالى إن الصلاة كانت على المؤمنين كتابا موقوتا والمؤلف بدأ بالوقت لأنه أهم الشروط وبدء به لمعنى آخر وهو أن شرط الوقت ينفرد بكونه من شروط الصحة والوجوب بخلاف باقي شروط الصلاة فهي شروط صحة فقط دون الوجوب لهذين المعنين بدء المؤلف بالوقت عرفنا إذاً لماذا بدأ بالوقت؟ وما هو دليل كون الوقت من شروط الصلاة؟ وهذا الشرط سيستغرق من المؤلف - رحمه الله - كلاماً طويلاً جداً وتفصيلات • ثم قال - رحمه الله - والطهارة من الحدث والنجس الطهارة من الحدث شرط من شروط صحة الصلاة اذا تخلف هذا الشرط بطلت الصلاة لقول النبي - صلى الله عليه وسلم - لا يقبل الله صلاة احدكم اذا احدث حتى يتوضأ وكما قلت لكم هذا الشرط مجمع عليه بين اهل العلم فإن صلى بلا طهارة حدث بطلت الصلاة الشرط الثاني الطهارة من النجاسات والطهارة من النجاسات تتعلق بثلاثة مواضع الأول البدن والثاني البقعة

والثالث الثوب ولا نريد ان ندخل في تفاصيل هذا الشرط لان المؤلف جعل الشرط السابع اجتناب النجاسات وسيذكر تفصيلا طويلا يتعلق بهذا الشرط • ثم قال - رحمه الله - فوقت الظهر بدأ المؤلف رحمه الله بوقت الظهر من بين الفروض الخمسة وبدأ غيره من العلماء بالفجر قالوا الذين بدأوا بالفجر أنا اذا بدأنا بالفجر صارت الصلاة الوسطى هي العصر ولا تكون هي الوسطى إلا باعتبار ان الأولى الفجر فإذا ثبت أن الوسطى هي العصر ثبت أن الاولى هي الفجر وهذا القول وهو ان الصلاة الاولى هي الفجر هو الصواب وهو اختيار شيخ الإسلام - رحمه الله - هذا الاختلاف لا ينبني عليه حكم فقهي تكليفي عملي لكن ينبني عليه ان يعرف الإنسان ماهي الأولى؟ وما هي الوسطى؟ • قال - رحمه الله - فوقت الظهر من الزوال وقت الظهر يبدأ من الزوال والزوال هو ميل الشمس عن وسط السماء بعد انتهاء الظل قِصَرَاً معنى هذا الكلام الشمس اذا أشرقت ارتفع لكل شاخص ظل طويل من جهة المغرب ثم لا يزال هذا الظل في نقص مادامت الشمس ترتفع إلى ان تصل الشمس إلى كبد السماء يعني إلى وسط السماء فإذا وصلت إلى وسط السماء توقف النقصان واذا توقف النقصان إذا زاد الظل أدنى زيادة فهذا الذي يسمى الزوال إذاً الزوال هو الظل الذي يكون بعد انتهاء القصر ووصول الشمس إلى كبد السماء فإذا وجد هذا الظل فنعرف أنه زالت الشمس ودخل وقت الظهر الدليل الدليل حديث جبريل عليه السلام فإن جبريل عليه السلام نزل إلى النبي صلى الله عليه وسلم ليبين له أوقات الصلوات فصلى له في يومين بحيث يصلي في اليوم الاول في اول الوقت ويصلي في اليوم الثاني في آخر الوقت ثم قال له أن الوقت بين هذين وجبريل نزل ليبين الاوقات في مكة أو في المدينة؟ في مكة وهذا يهمنا عند الترجيح لانا عرفنا أن حديث جبريل حديث متقدم ففي حديث جبريل ان النبي صلى الله عليه وسلم صلى الظهر حين زالت الشمس في الباب الاوقات في باب الأوقات أحاديث عدة منها أحاديث مهمة جداً ومنها أحاديث اقل أهمية فمن الأحاديث المهمة اربعة احاديث حديث جبريل هذا

وحديث أبي موسى الأشعري وحديث بريدة وحديث عبد الله بن عمرو بن العاص هذه الأحاديث مهمة جداً في معرفة أحكام الأوقات فحديث جبريل عرفت ماهو حديث أبي موسى وبريدة فيه أن رجلاً سأل النبي - صلى الله عليه وسلم - عن أوقات الصلوات فأمره النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يصلي معهم فصلى النبي - صلى الله عليه وسلم - في اليوم الأول في أوائل الأوقات وصلى في اليوم الثاني في أواخر الأوقات وأخبر السائل أن الوقت بين هذين الوقتين أما الحديث الأخير وهو الرابع حديث عبد الله بن عمرو بن العاص فهو ان النبي صلى الله عليه وسلم بين الأوقات نطقاً بينما في حديث جبريل وحديث أبي موسى وبريدة بيان الأوقات فعلاً أو عملاً ولهذا اعتبر الفقهاء حديث عبد الله بن عمرو بن العاص أهم من الأحاديث الأخرى هذه فكرة موجزة عن أحاديث الأوقات إذاً الدليل على وقت الظهر يبدأ من الزوال هو حديث جبريل وحديث أبي موسى وحديث بريدة هذه الثلاثة أحاديث كلها دلت على ذلك اضف إلى هذا اجماع أهل العلم انه اذا زالت الشمس دخل وقت الظهر فبداية وقت صلاة الظهر لم يختلف في أهل العلم • ثم قال - رحمه الله - فوقت الظهر من الزوال إلى مساواة الشيء فيئه بعد فيء الزوال ينتهي وقت الظهر بمساواة الشيء لظله والفيء هو الظل لكن لا يجوز ان نسمي الظل فيئاً الا اذا كان بعد الزوال ففي الحقيقة الفيء اسم خاص للظل وهو الظل الذي يكون بعد الزوال فلو سمى شخص ظلاً فيئاً قبل الزوال فتسميته خطأ في لغة العرب إذاً متى ينتهي ينتهي وقت الظهر؟ إذا ساوا الشيء ظله بعد فيء الزوال بعد خصم فيء الزوال ما معنى هذا؟ تقدم معنا كيف يكون الزوال وأنه يتم بظهور أدنى ظل بعد انتهاء قصر الظل فبعد وجود هذا الظل أي بعد وجود الزوال نحسم منه فصاعداً طول الشاخص فمثلاً إذا وضعنا في الأرض عود طوله سم وحسبنا فيء الزوال فوجدناه سم متى يخرج وقت الظهر؟ فالفيء الآن سم والعود أصلاً سم فالظل يجب ان يكون ستة سم حتى يخرج وقت صلاة الظهر ولاحظ معي عبارة المؤلف ودقق فيها يقول - رحمه الله -

من الزوال وهذا واضح إلى مساواة الشيء فيئه بعد فيء الزوال فنترك فيء الزوال ونحسب من بعده الظل يشترط فيه ان يكون مساويا لظل الشاخص حتى يخرج وقت الظهر هذا الحكم هو مذهب الجمهور جماهير أهل العلم المالكية والشافعية والحنابلة يرون أن وقت صلاة الظهر يخرج إذا كان ظل الشيء يساويه بعد فيء الزوال واستدلوا على هذا الحكم بحديث جبريل عليه السلام فإنه ذكر فيه ان وقت الظهر خرج لما كان ظل الشيء مساويا له بعد فيء الزوال وكذلك في حديث عبد الله بن عمرو بن العاص نص على ان وقت صلاة الظهر ينتهي اذا كان ظل كل شيء مساوياً له بعد فيء الزوال وقبل أن ننتقل لمذهب الأحناف متى يدخل وقت صلاة الظهر؟ إذا زالت الشمس متى ينتهي؟ إذا كان ظل كل شيء مساوياً له بعد فيء الزوال نأتي الآن إلى مذهب الاحناف الأحناف يقولون لا يخرج وقت الظهر الا اذا كان ظل الشيء مساوياً لمثليه ففي المثال المتقدم ذكرت ان وقت الظهر يخرج عند الجمهور إذا كان مقدار الظل ست سم متر فكم سيكون عند الاحناف؟ سم متر بحيث تضيف إلى الـ سم المساوي لظل الشاخص وظل الشاخص طوله سم الدليل دليل الأحناف على هذه المخالفة للجماهير قالوا ثبت في صحيح البخاري ان النبي صلى الله عليه وسلم قال انما مثلكم ومثل الامم قبلكم كمثل رجل استأجر أجيراً فقال من يعمل لي من غدوة إلى منتصف النهار بقيراط فعمل اليهود الأذان

الفصل الأول قال شيخنا حفظه الله: بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين. بالأمس ذكرت لكم أن: = مذهب الجمهور أن وقت الظهر ينتهي بمصير ظل كل شيء مثله. وهذا معنى قول المؤلف - رحمه الله -: (إلى مساواة الشيء فيئه بعد فيء الزوال) يعني: إلى مساواة الشيء ظله بعد ظل الزوال. وذكرنا أن الدليل: - حديث عبد الله بن عمرو بن العاص. - وحديث جبريل عليه السلام. = والقول الثاني: لأحناف وهو أن وقت الظهر يمتد إلى مصير ظل الشيء مثليه. وذكرنا دليلهم وهو:

- ما أخرجه البخاري - رحمه الله - في صحيحه: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (إنما مثلكم ومثل أهل الكتابين قبلكم كمثل رجل استأجر أجيراً فقال من يعمل لي من غدوة إلى منتصف النهار بقيراط فقال: فعملت اليهود ثم قال من يعمل لي من منتصف النهار إلى صلاة العصر بقيراط فعملت النصارى ثم قال من يعمل لي من صلاة العصر إلى مغيب الشمس فهم أنتم قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فغضبت اليهود والنصارى وقالوا مالنا اكثر عملاً واقل اجراً فقال الله عز وجل هل نقصتكم شيئاً قالوا: لا. فقال الله عز وجل فذلك فضلي أوتيه من اشاء). هذا هو الحديث. وجه الاستدلال لأبي حنيفة من الحديث: أن الحديث دل على ان الوقت من الظهر إلى العصر اطول منه من العصر إلى المغرب. لأنهم قالوا مالنا اكثر عملاً واقل اجراً فدل على ان عمل النصارى من الظهر إلى العصر اطول من عمل المسلمين من العصر إلى مغيب الشمس. هكذا استدل أبو حنيفة - رحمه الله -. الجواب على ما استدل به ابو حنيفه رحمه الله ظاهر وتقدم معنا نظيره وهو: ان القاعدة الفقهية المفيدة لطالب تقول: " أن الدليل الخاص بالمسألة مقدم على الدليل العام القياسي " وادلة الجمهور خاصة بالاوقات بينما هذا الدليل المقصود منه ضرب المثال فقط وليس المقصود بيان الاوقات. ولا شك ان هذا جواب فقهي قوي وان مذهب الاحناف في هذه المسألة ضعيف. والخطورة في هذا القول انه يخرج صلاة الظهر عن وقتها لانه اذا صار ظل كل شيء مثله خرج الوقت عند الجمهور بينما يستمر عند الاحناف إلى ان يصير ظل كل شيئ مثليه. فمن صلى على مذهب الاحناف بعد نهاية الوقت عند الجمهور يعتبر عند جماهير العلماء صلى الظهر خارج وقتها ولذلك هذه المسألة حريه بأن يعرف الإنسان فيها الراجح. • ثم قال - رحمه الله -: وتعجيلها أفضل. تعجيل الظهر أفضل الا ما يستثنى مما سينص عليه المؤلف. وتعجيل الظهر مسنون: - بالنص. - والإجماع. اما النص: - فحديث جابر رضي الله عنه ان النبي صلى الله عليه وسلم كان يصلي الظهر اذا دحظت الشمس يعني: إذا زالت. وأما الاجماع: - فقد اجمع اهل العلم: أنه يستحب تعجيل صلاة الظهر.

وذكر الفقهاء ان التعجيل يحصل بالاستعداد والتهيء للصلاة فإذا كان الانسان يستعد للتطهر والحضور للمسجد وما شابه هذا من مقدمات الصلاة فقد حَصَّلَ سُنِّيَّةَ تعجيل الفريضة. أي: ولو أقام المسجد الذي يصلي فيه متأخراً بعض الشيء ما دام هو قد بكر في الاستعداد فقد حصل على فضيلة الصلاة أول الوقت. إذاً عرفنا الآن: استحباب التعجيل فيها محل إجماع. ومما ينبغي أن يتنبه إليه طالب العلم ان التعجيل هذا لا يقصد منه تفويت السنن الرواتب على الناس فتعجيل كل شيء بحسبه فالتعجيل هنا بحيث لا يفوت على الناس أداء السنن القبلية. • ثم قال - رحمه الله -: إلا في شدة حر ولو صلى وحده. إذا اشتد الحر فإنه يستحب: = عند الحنابلة وعند الجمهور أن يؤخر الإنسان الصلاة إلى ان يبرد الجو. - لقول النبي - صلى الله عليه وسلم - في الحديث الصحيح " اذا اشتد الحر فأبردو فان شدة الحر من فيح جهنم ". وهذا نص في استحباب التأجيل إذا اشتد الحر. وهو كما قلت لكم مذهب الجمهور. = والقول الثاني: أنه يستحب أن نعجل بصلاة الظهر في الحر وفي غيره. واستدلوا على ذلك بدليلين: - الأول: العمومات. - والثاني: أن الصحابة قالوا شكونا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم حر الرمضاء في جباهنا وفي أكفنا فلم يشكنا. ومعنى لم يشكنا: أي لم يُزِلْ شكوانا. فهذا دليل على ان - صلى الله عليه وسلم - كان يصلي في شدة الحر ولا يؤخر إلى الإبراد. والجواب على هذا الدليل أيضاً من وجهين: - الوجه الأول: أن هذا الحديث منسوخ لما ثبت في الحديث الصحيح أن آخر الأمرين من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الإبراد وقول الصحاب: (آخر الأمرين) دليل على النسخ. - الوجه الثاني: أن الصحابة رضي الله عنهم طلبوا تأخيراً زائداً عن الوقت ولذا لم يستجب لهم - صلى الله عليه وسلم -. والراجح مذهب الجمهور: أن الإبراد سنة لأن الأحاديث الصريحة الصحيحة لا تُعَارَضُ بمثل هذه الاعتراضات. • ثم قال - رحمه الله -: ولو صلى وحده. يعني: أنه يسن للإنسان أن يبرد بالصلاة ولو صلى وحده في بيته أو صلى وحده في مسجد لم يوجد فيه جماعة. والدليل على سنية الإبراد حتى للمنفرد:

- عموم النصوص: فإن النص الذي فيه الأمر بالإبراد لم يخصص الجماعة بهذا الحكم فبقي الحكم على عمومه. فالراجح أنه يبرد - كما قال الحنابلة - ولو صلى وحده لأن النص عام. • ثم قال - رحمه الله -: أو مع غيم لمن يصلي جماعة. يعني: ويستحب التأخير اذا كان الجو غيم وأراد الإنسان ان يصلي بالجماعة. فالتأخير في هذه المسألة مشروط بشرطين: - الأول: أن يكون الجو غيم. والثاني: أن يريد أن يصلي مع الجماعة. فإذاً إذا كان الجو غيم هل يشرع للمرأة أن تؤخر الصلاة؟ الجواب: لا. لأنها لا تصلي جماعة. إذاً إذا كان الجو غيم وإذا أراد أن يصلي مع الجماعة. التعليل: - قالوا أنه يغلب على الظن في مثل هذا الجو أن تمطر السماء وإذا أمطرت وقعت المشقة على المصلين فتسهيلاً عليهم يؤخرون الصلاة ليصلوا الظهر والعصر في وقت واحد يؤخرون وقت الظهر إلى قريب وقت العصر فيصلوا الظهر ثم ينتظروا إلى دخول وقت العصر ثم يصلوا العصر تسهيلاً على الناس. = والقول الثاني: أنه لا يستحب التأخير في حال الغيم ولو ظُنَّ نزول المطر. وهذا القول هو مذهب الشافعي. - للعمومات: لأن النصوص عامة ولم تستثن إلا شدة الحر في التأخير فقط. وهذا القول هو الصواب أن التأخير يكون فقط في شدة الحر. لما أنهى المؤلف - رحمه الله - الكلام على وقت الظهر انتقل إلى العصر: • فقال - رحمه الله -: ويليه وقت العصر. معنى: (ويليه وقت العصر): أنه لا يوجد فاصل بين الوقتين فبمجرد خروج وقت الظهر يدخل وقت العصر. فإذا قيل لك متى يبدأ وقت العصر؟ الجواب: اذا صار ظل كل شيء مثله بعد فيء الزوال. ولذلك لم يذكر هذا لأنه يقول: (ويليه) فعرفنا أنه يبدأ بعد انتهاء وقت الظهر. • قال - رحمه الله -: إلى مصير الفيء مثليه بعد فيء الزوال. الدليل على هذا: - أن جبريل عليه السلام صلى بالنبي - صلى الله عليه وسلم - في اليوم الثاني صلاة العصر لما صار ظل كل شيء مثليه. فدل هذا على أن وقت صلاة العصر ينتهي إذا كان ظل كل شيء مثليه لكن بعد فئ الزوال. وبالأمس ضربت لكم مثلاً واضحاً في الشاخص ومتى يدخل وقت العصر وينتهي وقت الظهر ومتى ينتهي وقت العصر.

= والقول الثاني: أن وقت العصر ينتهي باصفرار الشمس لا بمصير كل شيء مثليه. - لحديث عبد الله بن عمرو بن العاص أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: " ووقت العصر ما لم تصفر الشمس " والراجح القول الثاني. وأما سبب الترجيح: فتقدم معنا ذكره وهو: أن هذا قول - ولذلك في درس الأمس ذكرت لكم فكرة عامة عن أحاديث الأوقات - وقلت مما يميز حديث عبد الله بن عمرو بن العاص أنه نص لفظي وليس حكاية عمل للنبي - صلى الله عليه وسلم -. فهذا هو الراجح. لكن ذكر الشيخ الموفق - رحمه الله - فائدة مهمة وهي: أن الفرق بين القولين لا يكاد يذكر لأن مصير ظل كل شيء مثليه قريب من اصفرار الشمس. بينهما فرق لكنه يسير. ولو استطاع طالب نبيه أن يضبط لنا الفرق لكان هذا جيد. وطريقة ذلك: أن يضع الشاخص فإذا وصل ظل الشاخص مثليه بعد فيء الزوال صار هذا هو خروج الوقت بالنسبة للحنابلة ثم ينظر متى تصفر الشمس فالفرق بين الوقتين هو الفرق بين القولين. فإذا كان طالب يستطيع أن يفعل هذا في يوم مشمس فهذا طيب ودليل على أنه مستوعب لهذه القضية. • ثم قال - رحمه الله -: والضرورة إلى غروبها. يتميز وقت العصر بأن له وقت للضرورة ووقت للاختيار. ـ فوقت الاختيار ينتهي: - إما بمصير كل شيء مثليه. - أو إلى اصفرار الشمس. على حسب الخلاف السابق ـ ووقت الضرورة: - ينتهي بغروب الشمس. والفرق بين وقت الاختيار ووقت الضرورة: أنه لا يجوز للإنسان أن يؤخر الصلاة إلى وقت الضرورة فإن أخَّر بلا عذر فهو آثم لكن مع ذلك تعتبر صلاته أداء لا قضاء. إذاص عرفنا ما يترتب على القول بوجود وقت للضرورة وهو: أنه لا يجوز أن نؤخر الصلاة إلى هذا الوقت الذي يعتبر ضرورة ومع ذلك إذا صلى فيه الإهنسان بلا عذر فهو آثم لكن صلاته تعتبر أداء لا قضاء مع الإثم. الآن تبين أن: = مذهب الحنابلة أن وقت الضرورة يمتد إلى غروب الشمس. وهذا يتركب من أمرين: - الأول: إثبات أن ما بعد اصفرار الشمس الى غروب الشمس وقت للعصر. - والثاني: إثبات أن هذا الوقت وقت ضرورة. أما دليل أنه وقت: - فقول النبي - صلى الله عليه وسلم - في الحديث الصحيح (من أدرك من ركعة من صلاة العصر قبل أن تغرب الشمس فقد أدرك العصر)

فهذا دليل أن الوقت يمتد إلى غروب الشمس. وأما الدليل على أنه وقت ضرورة ولا يجوز التأخير إليه إلا بعذر: - فقوله - صلى الله عليه وسلم - " تلك صلاة المنافقين يجلس أحدهم يرقب الشمس حتى إذا كانت بين قرني شيطان قام فنقرها أربعاً لا يذكر الله فيها إلا قليلاً ". فهذا الحديث في سياق الذم وتشبيه من أخر الصلاة إلى هذا الوقت بالمنافقين وهذا كله يدل على أن تأخير الصلاة إلى ما بعد مصير ظل كل شيء مثليه محرم إلا لعذر. وتبين الآن لنا كل ما يتعلق بصلاة العصر: - من حيث وقت الاختيار: متى يبدأ؟ ومتى ينتهي؟ - ومن حيث وقت الضرورة: متى يبدأ؟ ومتى ينتهي؟ - وما هي ثمرة إثبات وقتاً للضرورة؟ وأدلة إثبات وقت الضرورة للعصر. • ثم قال - رحمه الله -: ويسن تعجيلها. يعني ان تعجيل صلاة العصر: سنة. والدليل على هذا: - حديث أبي برزة الأسلمي - رضي الله عنه - أنه قال " كنا نصلي مع - صلى الله عليه وسلم - صلاة العصر ثم ننطلق إلى رحالنا في أقصى المدينة والشمس حية ". فهذا دليل على انه - صلى الله عليه وسلم - كان يبادر بصلاة العصر. وقبل أن ننتهي من صلاة العصر نبين أن ك = صلاة العصر على القول الصحيح هي الصلاة الوسطى. - لقول النبي - صلى الله عليه وسلم - في الحديث الصحيح الثابت " شغلونا عن الصلاة الوسطى: صلاة العصر " هذا نص لا يقبل التأويل. فصلاة العصر هي الصلاة الوسطى بهذا النص. ولذلك: نحن لا نحتاج إلى ذكر الخلاف بهذه المسألة لوضوح النص فيها. • ثم قال - رحمه الله -: ويليه وقت المغرب. أي: أن وقت المغرب يبدأ بغروب الشمس. وهذا ثابت في: - حديث جبريل. - وأيضا هو مما أجمع عليه الفقهاء. ولذلك لا إشكال فيه. • ثم قال - رحمه الله -: إلى مغيب الحمرة. الحمرة: تفسير للشفق. وتفسير الشفق بالحمرة: محل إجماع. أي أن الشفق هو: هذه الحمرة - هذا محل إجماع. لكن محل الخلاف هو: أن صلاة المغرب يمتد وقتها إلى هذا الشفق فهذا هو الذي محل خلاف. = فالحنابلة - كما ترون - يقول المؤلف - رحمه الله -: أنه إلى مغيب الحمرة.

وهذا القول هو مذهب الأحناف وهو أيضا اختيار الشيخ المحقق ابن المنذر وأيضاً اختيار الشيخ الحافظ ابن القيم: أن وقت المغرب يمتد إلى غياب الشفق والشفق هو الحمرة. - لحديث عبد الله بن عمرو بن العاص قال: " ووقت المغرب ما لم يغب الشفق ". = والقول الثاني: أن المغرب ليس لها إلا وقت واحد فقط وهو مذهب مالك والشافعي. ـ ووقتها عند الشافعي: بعد الأذان أن يتطهر ويستر العورة ويقيم فقط. فبعد هذا الوقت يجب أن يصلي وإلا يخرج وقت المغرب. فوقت المغرب عند المالكية والشافعية ضيق جداً. الدليل على هذا التحديد العسر: قالوا الدليل الدليل على ذلك: - أن جبريل عليه السلام صلى المغرب بالنبي - صلى الله عليه وسلم - في اليوم الأول وفي اليوم الثاني لوقت واحد ولو كان للمغرب وقتان لصلى جبريل كما في الفروض الباقية في اليوم الأول في أوله وفي اليوم الثاني في آخره. هذا دليل قوي بل هو نص. الجواب عليه: - أن حديث جبريل وقع في مكة وحديث عبد الله بن عمرو وحديث أبي موسى وحديث بريدة وحديث أنس وحديث أبي برزو الأسلمي وسائر أحاديث الأوقات وقعت في المدينة. والمتأخر حاكم على المتقدم وزيادة العلم من الثقة مقبولة - في الأصل وإلا هذه القاعدة فيها نظر لكن في الأصل أن زيادة الثقة مقبولة ما لم تعارض بأقوى منها. المهم أنه في حديث عبد الله بن عمرو زيادة على ما في حديث جبريل. إذاً الراجح مذهب الأحناف والحنابلة: أن وقت المغرب يستمر إلى وقت الشفق الأحمر. وفي هذا الخلاف مايعلل استعجال بعض إخوانا الشافعية وبعض إخوانا المالكية في الإقامة لصلاة المغرب. • ثم قال - رحمه الله -: ويسن تعجيلها. ويسن تعجيل المغرب أيضاً. - لانه ثبت في الحديث الصحيح أن النبي - صلى الله عليه وسلم - صلى المغرب حين غابت الشمس. - وثبت أنه - صلى الله عليه وسلم - نهى عن تأخير المغرب الى غياب النجوم. - وفي هذا الباب - أي باب تعجيل المغرب - أحاديث كثيرة. فهذه سنة ظاهرة واضحة ثابتة لا ينبغي الإخلال بها - وهو التعجيل في صلاة المغرب - والتأخير في الحقيقة مخالفة ظاهره للنصوص. • ثم قال - رحمه الله -: - استثناء من المغرب. إلا ليلة جمع لمن قصدها محرماً

تقرر معنا الآن أن تعجيل المغرب سنة ويستثنى من ذلك ليلة جمع. ففي ليلة مزدلفة - والجمع يقصد بها مزدلفة - يسن تأخير المغرب ليصليها مع العشاء. الدليل على هذا: - أن أسامة بن زيد - رضي الله عنه - قال للنبي - صلى الله عليه وسلم - في حين انتقاله من عرفة الى مزدلفة في وسط الطريق قال له: الصلاة يا رسول الله. فقال: - صلى الله عليه وسلم -: (الصلاة أمامك). فإذاً يسن للحاج الذي قصد مزدلفة محرماً أن يؤخر صلاة المغرب ليصليها مع العشاء. وتقدم معنا انتقاد عبارة المؤلف. وجه الانتقاد: أن هذا لا يسمى تأخيراً لأنه لم يؤخر الصلاة لأن الوقتين صارا وقتاً واحد. إذاً: الآن للتأخير شرطان: - الأول: أن يكون هذا ليلة جمع. - والثاني: أن يكون محرماً. • ثم قال - رحمه الله -: ويليه وقت العشاء. يعني ان وقت العشاء يدخل بمغيب الشفق. لأنه يقول يليه. والمغرب ينتهي بمغيب الشفق فيدخل بعد ذلك وقت العشاء بمغيبه. وكون وقت العشاء يبدأ من مغيب الشفق - أيضاً - ثابت بالنص والإجماع. ـ أما النص: - فحديث بريدة في قصة الرجل الذي علمه النبي - صلى الله عليه وسلم - الاوقات فإنه صلى به العشاء في اليوم الأول حين غاب الشفق الأحمر. فدل هذا على أن وقت العشاء يبدأ من مغيب الشفق الأحمر وهو كما قلت لك محل إجماع - ثابت بالنص والإجماع. • ثم قال - رحمه الله -: إلى الفجر الثاني. أي أن وقت صلاة العشاء يمتد الى طلوع الفجر. فوقت الضرورة يصل الى وفت طلوع الفجر. الدليل على ذلك: - قول النبي - صلى الله عليه وسلم - " ليس في النوم تفريط إنما التفريط فيمن يدع الصلاة الى ان ياتي وقت الصلاة الأخرى ". فدل الحديث على انه اذا انتهى وقت الصلاة الأولى دخل وقت الصلاة التي تليها فبعد كل وقت صلاة وقت صلاة أخرى بلا فاصل ونستثني الفجر بالاجماع - هكذا قالوا - فإنه معلوم انه ينتهي وقت الفجر ولا يدخل وقت الظهر. = القول الثاني: ان الوقت ينتهي اما إلى النصف او الى الثلث. - وسيأتي بيان أيهما أرجح. لكن الآن نحن في صدد مناقشة القائلين: بأنه يمتد إلى الفجر. الدليل على أنه ينتهي بالثلث أو بالنصف:

- الأحاديث الصحيحة - التي ذكرت لك - حديث جبريل وحديث عبدا لله بن عمرو وغيرها حدت صلاة العشاء بثلث الليل او بنصف الليل. وهذا القول هو الراجح لان احاديثه صريحة صحيحة خاصة بالمسألة بخلاىف حديث ليس في النوم تفريط فهو حديث عام. • ثم قال - رحمه الله -: وهو البياض المعترض. يريد المؤلف - رحمه الله - أن يبين ان الفجر فجران: أول وثان. وبعبارة أخرى صادق وكاذب. ويريد ان يبين علامة كلاً منهما. فيقول: ـ أن الفجر الثاني الصادق علامته: - انه معترض. وله علامة أخرى وهي: انه لا يعقبه ظلمه. هاتان هما علامتا الفجر الصداق وعكسهما علامتا الفجر الكاذب: ـ فالفجر الكاذب: - مستطيل. - وأيضاً تعقبه ظلمه. فإذا ضبط الإنسان علامتا الفجر الصادق عرف علامتا الفجر الكاذب. • ثم قال - رحمه الله -: وتأخيرها إلى ثلث الليل أفضل. في قول المؤلف - رحمه الله - وتأخيرها إلى ثلث الليل أفضل إشارة إلى ان بعض العلماء يرون ان وقت العشاء ينتهي الى ثلث الليل. = وهو مذهب المالكية. واستدلوا: - بحديث جبريل حيث صلى بالنبي - صلى الله عليه وسلم - في اليوم الثاني في ثلث الليل. = والقول الثاني: ان وقت العشاء يمتد إلى منتصف الليل. واستدل أصحاب هذا القول: - بحديث عبد الله بن عمرو بن العاص فإن فيه قول النبي - صلى الله عليه وسلم - " ووقت العشاء ما لم ينتصف الليل ". والراجح القول الثاني: وهو أن وقت العشاء يمتد إلى منتصف الليل وأظن أن وجه الترجيح ظاهر وهو رجحان حديث عبد الله بن عمرو من جهة. ومن جهة أخرى ان فيه زيادة علم ومن عنده زيادة علم تقبل منه ما دام ثقة لم يعارض. • ثم قال - رحمه الله -: وتأخيرها إلى ثلث الليل أفضل ان سهل. التأخير: = عند الحنابلة بل عند جمهور الصحابة رضي الله عنهم - تأخير العشاء - أفضل بهذا الشرط إن سهل. - لحديث ابي برزة - رضي الله عنه - قال"كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يحب ان يؤخر صلاة العشاء التي تدعونها العتمة ويكره النوم قبلها والحديث بعدها " = القول الثاني: أن الأفضل مراعاة حال المسلمين. فما نقول الأفضل التأخير إن سهل بل نقول الأفضل من الأصل مراعاة حال المأمومين.

= والقول الثالث: - يجمع بين القولين - فيقول: التأخير سنة إلا إن شق على المأمومين. - لقوله " والعشاء أحيانا وأحيانا إن رآهم إجتمعوا صلى وان رآهم أبطأوا أخر ". فهذا دليل على أنوه - صلى الله عليه وسلم - كان يراعي حال المسلمين. وهذا القول الثالث تجتمع به النصوص وهو القول الصحيح إن شاء الله أن السنة التأخير إلا إذا شق على المأمومين. فإذا كانت الجماعة مستقلة ولا يوجد معهم من يشق عليه التأخير أو كانوا في خارج البلد أو مسافرين فإن السنة لهم التأخير. • ثم قال - رحمه الله -: ويليه وقت الفجر: إلى طلوع الشمس. يقول المؤلف - رحمه الله -: (ويليه) تقدم معنا ان الحنابلة يرون ان وقت العشاء يمتد إلى طلوع الفجر. إذاً: يليه. يعني من طلوف الفجر وليس من المنتصف وهو ثلث الليل وإنما من طلوع الفجر لأنه تقدم معنا أن الحنابلة يرون أن صلاة العشاء يمتد وقت الضرورة فيها إلى طلوع الفجر الثاني. وكون طلوع الفجر الثاني هو أول وقت الفجر محل إجماع فلم يختلف فيه الفقهاء: أنه إذا طلع الفجر الثاني الصادق بدأ وقت صلاة الفجر. وهذا معنى قول المؤلف - رحمه الله - هنا: (ويليه وقت الفجر إلى طلوع الشمس). وينتهي الوقت - حسب ما أفاد المؤلف - بطلوع الشمس. وهذا أيضاً محل إجماع. - لقول النبي - صلى الله عليه وسلم - في حديث عبد الله بن عمرو بن العاص " ووقت الفجر ما لم تطلع الشمس " إذا بالنسبة للفجر ولله الحمد دخول الوقت وخروجه محل إجماع لا إشكال فيه لأن النصوص فيه واضحة. - حديث جبريل وحديث عبد الله بن عمرو بن العاص بينا الدخول والخروج. • ثم قال - رحمه الله -: وتعجيلها أفضل. = ذهب الجمهور - أحمد ومالك والشافعي - وحكي عن الخلفاء الأربعة - رضي الله عنهم - ان تعجيل الفجر هو السنة. واستدلوا على هذا بأدلة صحيحة: - منها حديث عائشة رضي الله عنها قالت " كان النساء يصلين مع النبي - صلى الله عليه وسلم - ثم ينقلبن إلى بيوتهن لا يعرفهن احد من الغلس ". والغلس ظلمة آخر الليل. فهذا دليل أنه - صلى الله عليه وسلم - يصلي ويخرج من الصلاة وظلمة الليل ما زالت باقية.

- الدليل الثاني: أن الصحابة قالوا كنا نتسحر مع النبي صلى الله عليه وسلم ثم نقوم إلى لصلاة قيل لهم: فكم كان بينهما قال: قدر خمسين آية. واذا أذن المؤذن وقرأ القاريء معتدلة خمسين آية ثم أقام فسيقيم في أول الوقت في الغلس. هذان دليلان صريحان صحيحان في استحباب التعجيل. = القول الثاني: للأحناف ان السنة الأسفار لا التعجيل. استدلوا على ذلك: - بقول النبي صلى الله عليه وسلم " أسفروا بالفجر فإنه أعظم للأجر ". هذا الحديث صححه شيخ الاسلام ابن تيمية - رحمه الله -. والراجح مذهب الجمهور: - أولاً: لأنه مروي عن الخلفاء الأربعة. وكفى بهم علماً وهدياً واتباعاً. - ثانياً: أن المقصود بقول النبي صلى الله عليه وسلم أسفروا بالفجر: التأكد من دخول وقت صلاة الفجر لا التأخير إلى الإسفار. ويمكن أن يحمل على محمل آخرذكره ابن القي - رحمه الله - وهو: أن المراد الدخول في صلاة الفجر تعجيلاً والخروج منها بعد الإسفار وذلك بطول القراءة. لكن هذا المحمل من ابن القيم يشكل عليه حديث عائشة لأنها أخبرت أنهن يخرجن بغلس والخروج معلوم أنه بعد الصلاة ولم تذكر هي مسألة الدخول في الصلاة حتى نقول هذا جمع جيد. فنقول مادام النبي - صلى الله عليه وسلم - يصلي ويطيل القراءة ومع ذلك يخرج بغلس فهذا كله دليل على التعجيل. فثبت بذلك رجحان قول الجماهير الذين معهم الخلفاء الأربعة وهو: أن السنة في الفجر التعجيل. وتبين من هذا أن التعجيل سنة في جميع الصلوات إلا في صلاتين: الظهر في شدة الحر وعند الحنابلة في الغيم. والمغرب عند الحنابلة إذا أتى جمع لمن هو محرماً. فيما عدا هاتين الصورتين أو الثلاث عند الحنابلة فالتعجيل في جميع الصلوات أفضل. وأيضاً (استدراك من الشارح) فيما عدا العشاء فقد نص المؤلف - رحمه الله - على أن السنة فيها التأخير وهذا صحيح وذكرنا الخلاف وأن الراجح في مسألة تأخير صلاة العشاء أن أرجح الأقوال أنه سنة إلا إن شق على المأمومين. والقول بأن السنة مراعاة المأمومين أصلاً هو قول قوي تؤيده النصوص لكن ما دام أن حديث أبي برزة نص في استحباب التأخير فنجمع بين النصوص بهذا الجمع. • ثم قال - رحمه الله -:

وتدرك الصلاة بتكبيرة الإحرام في وقتها. المقصود بإدراك الصلاة - هنا - عند الفقهاء: أي أداءً. تدرك يعني: أداءً. بتكبيرة الإحرام: فإذا كَبَّرَ الإنسان تكبيرة الإحرام قبل خروج الوقت بدقيقه فيعنبر مدركاً للصلاة وصلاته أداء لا قضاء. الدليل: - قالوا: أنه أدرك جزاًء من الصلاة: فأدرك الصلاة. = والقول الثاني: أن إدراك الصلاة لا يكون إلا بإدراك ركعة. - لقول النبي - صلى الله عليه وسلم - " من أدرك ركعة من الصلاة فقد أدرك الصلاة " وفي اللفظ الآخر " من أدرك ركعة من الفجر قبل طلوع الشمس فقد أدرك الفجر ومن أدرك من العصر قبل غروب الشمس فقد أدرك العصر ". وهذا القول هو القول الصواب لأن النص صريح فيه والحنابلة ليس معهم إلا التعليل. ولكن هنا تنبيه مهم: وهو: أن مقصود الفقهاء بإدراك ركعة: إدارك ركعة كاملة بسجدتيها. وممن نص على هذا المعنى الخطابي والحافظ ابن حجر كلاهما نص على أن المقصود بإدراك الركعة: إدراك ركعة كاملة بسجدتيها. فإذا ركع ثم رفع من الركوع ثم غابت الشمس فهو لم يدرك صلاة العصر بينما إذا ركع ورفع وهبط وسجد سجدتين وبانتهاء السجدتان غربت الشمس فيعتبر أدرك صلاة العصر. • ثم قال - رحمه الله -: ولا يصلي قبل غلبة ظنه بدخول وقتها إما باجتهادٍ، أو خبر متيقن. - هذه مسألة مكتملة -. إذا أراد الإنسان أن يصلي فله حالان: - الحال الأولى ... (((الأذان))). انتهى الدرس ...

قال شيخنا حفظه الله بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين لما أنهى المؤلف - رحمه الله - الكلام عن فروع أحكام الأوقات انتقل إلى مسائل تتعلق بجميع الأوقات وهذا كما تقدم من حسن ترتيب المؤلف - رحمه الله - • فقال - رحمه الله - ولا يصلي قبل غلبة ظنه بدخول وقتها إما باجتهاد أو خبر متيقن تقرر معنا الآن وفي الدروس السابقة أن دخول الوقت شرط من شروط صحة ووجوب الصلاة فإن صلى قبل دخول الوقت فإن الفريضة لا تصح وسيأتينا ماذا تصبح

لكن الآن إذا صلى الإنسان قبل دخول الوقت فإن الفريضة بالنسبة له لا تصح والإنسان اذا أراد ان يعلم هل دخل الوقت؟ أو لم يدخل؟ فهو على أقسام القسم الأول أن يتمكن من اليقين فهنا يجب أن يصلي بعد دخول الوقت يقيناً ولا يكفي غلبة الظن فإن صلى مع غلبة الظن مع تمكنه من اليقين فالصلاة لا تصح وإن صلى في الوقت وسيأتينا مسألة وإن صلى هل إذا وقعت مصادفة في الوقت؟ القسم الثاني إذا لم يتمكن من اليقين فيجوز عند الإمام احمد ان يصلي بغلبة الظن وان لم يتيقن مادام لم يتمكن من اليقين والقول الثاني أنه لا يجوز الصلاة بغلبة الظن بل لابد من اليقين أن الوقت دخل والصواب مع الحنابلة لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - أفطر يوماً في جو غائم ثم تبين له أن الشمس لم تغرب وجه الاستدلال أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أفطر بغلبة الظن ـ ثم إن صلى بالشك بدون غلبة ظن فصلاته لا تصح لأنه يشترط في الصلاة في اقل الأحوال غلبة الظن إن لم يتمكن من اليقين ـ مسألة مهمة هل يجب على من يستطيع أن يعلم دخول الوقت يقيناً أن يبحث عن دخول الوقت مع وجود المؤذن؟ أو يجوز الاكتفاء بأذان المؤذن مع قدرته على معرفة الدخول يقيناً؟ الجواب أنه يجوز له أن يكتفي بأذان المؤذن وإن كان يستطيع أن يعلم هو بنفسه دخول الوقت يقيناً وهذا القول اختيار شيخ الإسلام - رحمه الله - وعليه عمل المسلمين من عصور فإنك تجد الرجل يحسن علامات دخول الوقت ومع ذلك يكتفي بأذان المؤذن والقول بإلزامه بأن يجتهد مع وجود المؤذن قول ضعيف جداً وعلى خلاف عمل المسلمين • نأتي إلى كلام المؤلف - رحمه الله - يقول - رحمه الله - ولا يصلي قبل غلبة ظنه بدخول وقتها إما باجتهاد أو خبر متيقن يفهم من كلام المؤلف ان غلبة الظن تحصل بأمرين الأول الاجتهاد والثاني خبر متيقن يعني خبر الثقة المتيقن أو خبر متيقن وهذا صحيح بالنسبة للاجتهاد ولكنه مرجوح بالنسبة لخبر الثقة المتيقن مرجوح من جهتين أولاً المؤلف في مسألة خبر المتيقن خالف المذهب

فالمذهب يعتبرن خبر الثقة المتيقن من اليقين وليس من غلبة الظن كما نص على ذلك الفقهاء الحنابلة كابن النجار والبهوتي وغيرهم من الذين يرجع إليهم في تحرير أقوال المذهب في الكشاف والمنتهى وشروحهما فإذاً المؤلف هنا خالف المذهب باعتبار خبر الثقة المتيقن من باب غلبة الظن لا من باب اليقين والصواب أنه من باب اليقين ملاحظة لم تُذْكَرِ جهة الترجيح الثانية • ثم قال - رحمه الله - فإن أحرم باجتهاد فبان قبله فنقل وإلا فرض يعني إذا صلى المصلي باجتهاد فإما أن يظهر له أن اجتهاده خطأ فهنا تنقلب الصلاة من فريضة إلى نفل وتبقى الفريضة في ذمته لأن الصلاة لا تجب ولا تصح إلا بدخول الوقت وهو قد صلى قبله فتبقى في ذمته أو أنه إذا اجتهد وصلى لم يظهر له ما يخالف اجتهاده فالأصل صحة هذه الصلاة لأن القاعدة المستقرة أن الأصل براءة الذمة بعد أداء العبادة ولا يمكن أن يخرج أي مصلي صلى باجتهاد عن هذا التقسيم لأنه إما أن يتبين له أن اجتهاده خطأ أو أن اجتهاده صحيح وعرفنا حكم كل صورة من صورتين وهذا معنى قوله وإلا ففرض يعني وإلا يتبين له خطأه فصلاته صحيحة تبرأ بها الذمة انتهى الكلام عن الصلاة باجتهاد من حيث دخول الوقت وتبين أنه يجوز للإنسان أن يصلي باجتهاد بشرط أن لا يتمكن من اليقين ولا يجوز له بحال أن يصلي مع الشك بل يجب أن يسعى إلى درجة غلبة الظن ولا يعذر أبداً في الصلاة مع الشك فإن صلى مع الشك فإن صلاته لا تعتبر صحيحة وأما إن صلى مع اليقين فصلاته صحيحه بإجماع وأخذنا الآن خلاف الفقهاء المهم في مسألة الصلاة مع غلبة الظن بلا يقين وأن مذهب الحنابلة هو الصواب ثم انتقل المؤلف - رحمه الله - إلى مسألة مهمة جداً لا سيما فيما يتعلق بالنساء لكثرة الحاجة إليها وتكرر وقوع النساء فيها بسبب الحيض • فقال - رحمه الله - وإن أدرك مكلف من وقتها قدر التحريمة، ثم زال تكليفه أو حاضت، ثم كلف وطهرت قضوها ومن صار أهلاً لوجوبها قبل خروج وقتها لزمته تأملوا معنا الآن نحتاج إلى ترتيب الكلام على عبارات المؤلف - رحمه الله -

فإنه - رحمه الله - يقول وإن أدرك مكلف من وقتها قدر التحريمة ثم زال تكليفه ثم كلف قضى هذا ترتيب كلامه - رحمه الله - فبين مسألتين المسألة الأولى الضابط في إدراك الوقت لأنه يقول وإن أدرك مكلف من وقتها قدر التحريمة المسألة الثانية وجوب القضاء لأنه يقول قضوها نبدأ بالمسألة الأولى القائلون بوجوب القضاء اختلفوا في القدر الذي يجب معه القضاء فالحنابلة كما ترون الآن علقوه بإدراك تكبيره فإذا أدرك من الوقت قدر تكبيره فقط ثم زال تكليفه بجنون أو غيره ثم عاد إليه التكليف فإنه يقضي الصلاة ودليلهم ما تقدم معنا أنه أدرك جزءاً من الوقت بإدرام جزء من الصلاة بناء على هذا إذا زالت الشمس ثم بعد مضي ثلاث دقائق حاضت المرأة فإنه يجب عليها أن تقضي صلاة الظهر إذا طهرت لأنها أدركت من الوقت قدر تكبيره القول الثاني لابد أن يدرك ركعة فإذا أدرك ركعة ثم زال تكليفه فإنه يجب أن يقضي الصلاة إذا زال المانع ودليلهم من أدرك ركعة من الصلاة فقد أدرك الصلاة القول الثالث أنه لايدرك وقت الصلاة إلا بادراك وقتٍ يتسع للوضوء وأداء الصلاة والراجح القول الثاني لأن في المسألة نص لا يسعنا المسلم الخروج عنه فقد أخبر النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه بإدراك ركعة يدرك الصلاة فنحن نقف كع هذا النص النبوي ونمتثل هذا الخلاف قلت لكم أنه خلاف عند القائلين بوجوب القضاء فالذين قالوا يجب أن تقضي اختلفوا هذا الخلاف ونرجع إلى كلام المؤلف • يقول - رحمه الله - ثم زال تكليفه أو حاضت ثم كلف وطهرت قضوها هذه هي المسألة الثانية وهي وجوب القضاء اختلف الفقهاء هل يجب على من أدرك الصلاة ثم زال تكليفه هل يجب عليه أن يقضي؟ أو لا يجب؟ الحنابلة يرون أنه يجب أن يقضي الدليل قالوا أن هذه الصلاة بدخول الوقت وجبت في ذمته فتبقى ذمته مشغولة بهذا الواجب إلى أن يؤديه والقول الثاني أنه لا يجب على من أدرك الوقت وزال عنه التكليف لا يجب عليه أن يقضي إلا اذا أَخَّرَ الى تَضَايُقِ الوقت بحيث لا يبقى من الوقت إلا ما يتسع لأداء الفريضة

وهذا القول قول المالكية والأحناف واختاره شيخ الإسلام دليلهم قالوا أن من دخل عليه الوقت وأَخَّرَ الصلاة ثم زال تكليفه فقد أَخَّرَ تأخيراً مأذوناً له فيه شرعاً فلا يجب عليه بناء على هذا التأخير المأذون فيه قضاء الصلاة ـ فإن قيل النائم أَخَّرَ الصلاة تأخيراً مأذوناً له فيه ومع ذلك ألزمه الشارع بقضاء الصلاة فالجواب أن النائم نعم أَخَّرَ تأخيراً مأذوناً فيه شرعاً لكن صلاة النائم لا تمسى قضاءً وإنما أداءً لأن وقت الصلاة بالنسبة للنائم حين يستيقظ وبالنسبة للناسي حين يذكر فهو وقتها الحقيقي فهي أداء وليست قضاء ومن هنا اختلف حكم كل منهما من الذي أَخَّرَ فزال تكليفه ومن النائم والناسي بناء على هذا فما يحصل الآن عند كثير من النساء أن يدخل الوقت ثم بعد مضي مدة من دخول الوقت تحيض المرأة فإنه لا يجب عليها بمقتضى هذا القول الثاني إذا طهرت واغتسلت أن تقضي هذه الصلاة والراجح من حيث الدليل القول الثاني والأحوط المتأكد مع القول الأول مذهب الإمام أحمد لأن دليلهم أيضاً قوي وهو مسألة بقاء الصلاة في ذمته والمسألة الخلاف فيها قوي والاحتياط فيها متعين بالنسبة للمرأة ولا يضير المرأة مثلاً أن تقضي صلاةً واحدة وهي الصلاة التي حاضت في أثنائها قبل أن تؤديها لما ذكر المؤلف - رحمه الله - من كان مكلفاً ثم زال تكليفه ذكر عكس هذه المسألة • فقال - رحمه الله - ومن صار أهلاً لوجوبها قبل خروج وقتها لزمته وما يجمع إليها قبلها هذه المسألة عكس المسألة السابقة دخل الوقت على هذا الشخص وهو لم يكلف لوجود مانع من حيض أو جنون أو غيره ثم كلف بزوال المانع بأن طهرت وذهب الجنون أو بلغ الصبي ـ فإذا زال المانع بعد دخول الوقت فيجب على من زال مانع التكليف له يجب عليه أن يصلي فرض الوقت بالإجماع فهذا ليس فيه خلاف لأنه مخاطب بالنصوص التي تأمر بهذه الصلاة لكن الإشكال الكبير في قول المؤلف - رحمه الله - وما يجمع إليها قبلها فإذا طهرت المرأة بعد دخول وقت صلاة العصر فإنه يجب عليها عند الحنابلة أن تصلي العصر والظهر فهذا مذهب الحنابلة ولهم أدلة

الدليل الأول أن هذا مروي عن عدد من الصحابة منهم أبو هريرة وابن عباس وعبد الرحمن من عوف وغيرهم رضي الله عنهم والأسانيد إلى هؤلاء الصحابة فيها ضعف ولكن ضعفها يسير لأن سبب الضعف أحد أمرين إما وجود رجل ضعيف وليس متروكاً ولا مختلط ولا صاحب منكرات إنما ضعيف يعني ضعيف الضبط أو وجود رجل مجهول هذا الدليل الأول الدليل الثاني ما ذكره الإمام أحمد أن هذا هو قول عامة التابعين إلا الحسن البصري - رحمه الله - فكأنه إجماع بين طبقة التابعين إلا الحسن البصري - رحمه الله - ونسبة هذا القول إلى عامكة التابعين جاءت من رجل متثبت حافظ وهو الإمام أحمد الدليل الأخير في هذه المسألة وهي أيضاً مهمة أن وقت الصلاة للصلاتين المجموعة وقت لهما حال العذر يعني أن وقت الصلاتين المجموعتين وقت لهما حال العذر وهي الآن في حال العذر فصار الوقتين للصلاتين وقت واحد بالنسبة لهذه المرأه ما معنى هذا الدليل؟ هذا دليل الحنابلة وهو جيد الجواب وقت صلاة الظهر والعصر مثلاً يصبح وقتاً واحداً حال العذر فبالإجماع بالنسبة للمسافر وبالنسبة للمريض إذا كان وقت صلاة الظهر والعصر يعتبر وقتاً واحداً حال العذر فهذه المرأة التي طهرت في أثناء صلاة العصر هي الآن في حال العذر وإنما جاز لها ترك صلاة الظهر لأنها حال عذر فاستمر حكم العذر لها فصار الوقتين بالنسبة لها وقت واحد إذاً صار للحنابلة ثلاثة أدلة القول الثاني أنه لا يلزمها إلا الصلاة التي زال العذر فيها بدون ما يجمع إليها دليلهم ظاهر قالوا أن الأصل براءة الذمة والصلاة الأولى خرجت وهي غير مكلفة الراجح في الحقيقة هذه المسألة كان عندي فيها نوع تردد لأنها قد تعارضت الأدلة فيها ثم تبين لي أن أن مذهب الحنابلة هو الصواب ومذهب الحنابلة هو اختيار شيخ الإسلام بل قال شيخ الإسلام لم ينقل عن صحابي خلافه أي خلاف هذا القول فلما ذكر شيخ الاسلام ولمجموع أدلتهم ولدليل مهم جداً وهو فتاوى التابعين

ولأن ضعف الآثار عن الصحابة يسير ينجبر بفتاوى تلاميذهم الذين هم في الغالب أنهم قد أخذوا العلم عنهم فكون التابعين كلهم يفتون لهذه الفتوى فهذا يوحي أنهم تلقوه عن الصحابة وهذا يشد من أزر الآثار التي فيها شيء من الضعف لذلك كله بمجموع هذه القرائن والأدلة والاعتبارات يظهر لي أن المرأة إذا طهرت يجب عليها أن تصلي الصلاة وما يجمع إليها فإذا طهرت في العشاء صلت صلاة العشاء والمغرب وإذا طهرت آخر العصر صلت صلاة الظهر وصلاة العصر مجموعتين وأنها لاتبرأ الذمة إلا بذلك بالصلاتين معاً • ثم قال - رحمه الله - ويجب فوراً قضاء الفوائت مرتبة، ويسقط الترتيب بنسيانه، وبخشية خروج وقت اختيار الحاضرة ما زال المؤلف - رحمه الله - في المسائل المتعلقة بالوقت والتي لا تختص بوقت من الأوقات الخمسة بل تعم جميع الأوقات فقال - رحمه الله - ويجب فوراً قضاء الفوائت القضاء هو فعل العبادة بعد وقتها المحدد شرعاً الفوائت بناء على هذا التعريف هي: الفرائض التي تصلى بعد خروج الوقت ولا تسمى فائته الا بذلك أي بأن يصليها بعد خروج الوقت • يقول - رحمه الله - ويجب فوراً قضاء الفوائت بعد أن عرفنا ما هي الفوائت ومتى تسمى صلاتها قضاء نأتي إلى أنه يجب القضاء فوراً الدليل على هذا قول النبي صلى الله عليه وسلم من نام عن صلاة أو نسيها فليصلها إذا ذكرها واللام في قوله لم لام الأمر والأصل في الأمر أنه للوجوب والأصل في أمر الوجوب أن يكون على الفور وهذا ستأخذونه في أصول الفقه مسألتان أن الأمر للوجوب وأن الوجوب للفور وأن هذا مذهب الجمهور وهو الصواب إذاً الدليل هذا الحديث فليصلها إذا ذكرها يستثنى من الفورية مسألة واحدة وهي أنه يجوز أن يؤخر تأخيراً يسيراً لمصلحه بهذه الضوابط الدليل على هذا الاستثناء أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما كان في السفر ونام هو وأصحابه عن صلاة الفجر أمرهم بعد الاستيقاظ أن ينتقلوا إلى مكان آخر وقال هو مكان حضرنا فيه الشيطان فانتقلوا عنه إلى مكان آخر

فهذا التأخير الذي هو بسبب الانتقال تأخير يسير اقتضته المصلحة والمصلحة في الحديث وجود المكان الذي حضرهم فيه الشيطان فالتأخير لهذه المصلحة أو لغيرها من المصالح المعتبرة جائز بشرط أن يكون يسيراً • ثم قال - رحمه الله - مرتباً الترتيب هو أن يأتي بالفروض الخمسة مرتبة حسب تسلسلها ووجوب الترتيب مذهب الحنابلة والمالكية والأحناف يعني مذهب الجمهور إلا أن المالكية والأحناف يقولون يجب الترتيب إذا كانت خمس صلوات فأقل والحنابلة يرون وجوب الترتيب مطلقاً لكن وجوب الترتيب من حيث الجملة هو مذهب الجمهور الأدلة الدليل الأول قالوا ثبت في صحيح البخاري ومسلم عن جابر رضي الله عنه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - يوم الخندق فاتته صلاة العصر وصلاها بعد غروب الشمس قبل صلاة المغرب فقدمها على الحاضرة فدل هذا على وجوب الترتيب الدليل الثاني قوله - صلى الله عليه وسلم - صلوا كما رأيتموني أصلي وقد قضى الصلوات الأربع يوم الخندق التي فاتته مرتبتاً القول الثاني في هذه المسألة للشافعية ونصلاه النووي ومال إليه ابن رجب ورجحه الشوكاني كل هؤلاء يرون أن الترتيب سنة وليس بواجب الدليل قالوا لا دليل على وجوب الترتيب ومن صلى الصلاة كما أمر فقد أتى بالواجب القول الثالث مال إليه الشيخ الفقيه ابن مفلح في كتابه المحرر المفيد لطالب العلم الفروع أن الترتيب واجب ولكنه ليس شرطاً للصحة فالأفوال ثلاثة فالمذهب يرون أنه واجب وهو شرط لصحة الصلاة والقول الثاني أنه سنة والأخير كما سمعتم أنه واجب ولكنه ليس شرطاً فأي الأقوال أرجح؟ الجواب في الحقيقة هذه المسألة أيضاً فيها إشكال فإن الخلاف فيها قوي لكن الأظهر اختيار ابن مفلح لماذا؟ لأن اختياره تجتمع فيه الأدلة يليه في القوة مذهب الشافعية لأن مجرد الفعل لا يدل على الوجوب والله أعلم أي هذه الأقوال أقرب إلى الحق • ثم قال - رحمه الله - ويسقط الترتيب بنسيانه تقدم معنا مراراً أن طريقة الماتن - رحمه الله - عندما يقرر حكماً من الأحكام يذكر بعده الأحكام المستثناة من هذا الحكم العام

فيستثنى من وجوب الترتيب النسيان لقوله تعالى ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا ولقوله الرسول - صلى الله عليه وسلم - رفع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه فإذا صلى الإنسان فوائت وأخل بالترتيب فيها نسياناً فالصلاة صحيحة وعلم من قول المؤلف أنه يسقط بالنسيان أنه لا يسقط بالجهل وهذا هو مذهب الحنابلة أنه يسقط بالنسيان دون الجهل وهذا يفهم من كونه نص على النسيان دون الجهل فالجهل لا يسقط عندهم به الترتيب التعليل أن الجاهل مقصر في التعلم فلا يعذر بترك الترتيب والقول الثاني أن الجهل كالنسيان يعذر بهما المكلف لأن الله ورسوله - صلى الله عليه وسلم - يسويان بين الجهل والنسيان فالآية والحديث المذكوران فيهما الجهل والنسيان جميعاً لأن الخطأ من الجهل وهذا القول الثاني اختاره شيخ الإسلام ولاشك في قوته • ثم قال - رحمه الله - وبخشية خروج وقت اختيار الحاضرة إذا تذكر الإنسان فائته في آخر وقت الحاضرة وخشي أنه إن صلى الفائتة خرج وقت الحاضرة وجب عليه أن يخل بالترتيب وأن يبدأ بالحاضرة لماذا؟ لدليلين الأول أن تأخير الصلاة عن وقتها لا يجوز الثاني أنه لو صلى الفائتة ثم خرج الوقت صارت الحاضرة أيضاً فائته وكأن الشارع الحكيم والله أعلم يريد أن يعلم المسلم بمثل هذه الأحكام كيفية ترتيب الأولويات لأن كثيراً من الناس عنده خلط في ترتيب الأولويات هنا قدم الشارع الحاضرة لأولويتها على الفائتة وإن كانت الفائتة أسبق زمناً ووجوداً • ثم قال - رحمه الله - ستر العورة أي ومن الشروط ستر العورة هكذا يعبر الفقهاء بقولهم ستر العورة وقد انتقد شيخ الإسلام ابن تيمية انتقاداً شديدا هذا التعبير من الفقهاء وقال هذا التعبير ليس من ألفاظ الكتاب ولا من السنة كما أنه تعبير ليس مناسب ولا دقيق ولا صحيح السبب قال - رحمه الله - أن الستر الواجب في الصلاة يختلف عن الستر الواجب في باب النظر العورة طرداً وعكساً ما معنى هذا؟ قال من أعضاء الجسد ما يجب ستره في الصلاة ولا يجب ستلاه خارج الصلاة

ومثل لهذا بالمنكب فالمنكب يجب أن يستر الصلاة ولا يجب أن يستر خارج الصلاة الأذان قال وأيضاً من الأعضاء ما يجب ستره خارج الصلاة ولا يجب أن يستر داخل الصلاة ومثل على هذا بوجه المرأة فإن المرأة تكشف وجهها في الصلاة ويجب أن تستر وجهها عن الرجال الأجانب خارج الصلاة فإذاٍ ليس هناك تناسب ولا اضطراد بين أحكام ستر العورة بباب النظر في الصلاة وبينها في باب النظر ثم قال والله سبحانه وتعالى أمر في الصلاة بقدر زائد عن ستر العورة فقال {خذوا زينتكم عند كل مسجد} فإذاً في الحقيقة هذا اللفظ ستر العورة منتقد كما قال شيخ الاسلام - رحمه الله - انتقاداً قوياً من أكثر من جهة فهو غير دقيق ولا يفي المقصود في باب الصلاة لأن الواجب أكثر من مسألة ستر العورة • قال - رحمه الله - ومنها ستر العورة العورة في لغة العرب النقصان وفي الاصطلاح تغطية ما يقبح إظهاره إذاً الآن عرفنا ما معنى كلمة ستر العورة وما هي العورة وعرفنا أن هذا اللفظ الذي يذكره الفقهاء لفظ لا يعتبر دقيق ولا مستوفي لمقصود الصلاة انتهى الدرس

قال شيخنا حفظه الله: بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين. • قال - رحمه الله -: ومنها ستر العورة. أخذنا بالأمس عدة مباحث حول هذا اللفظ: - تعريفه. - وما انتقد فيه الفقهاء بإطلاقهم هذا اللفظ على هذا الشرط. نأتي الآن إلى: • قوله - رحمه الله -: فيجب. يجب على الإنسان أن يستر عروته إذا أراد أن يصلي. والدليل على هذا الشرط من وجوه: - الأول: قوله تعالى " يا بني آدم خذوا زينتكم عند كل مسجد " وأخذ الزينة يشمل ستر العورة وزيادة. - والثاني: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - ثبت عنه في صحيح البخاري " النهي عن الطواف عرياناً " والصلاة أولى من الطواف. - والثالث: قوله - صلى الله عليه وسلم - " لا يقبل الله صلاة حائض إلا بخمار " وهذا فيه خلاف كثير: = فمن أهل العلم من يصححه مرفوعاً. = ومنهم من يعله بالإرسال. والصواب أنه مرسل.

- الدليل الأخير: الإجماع. فقد حكي الإجماع على وجوب ستر العورة وأن من صلى كاشفاً العورة مع القدرة والاستطاعة فصلاته باطلة. هذه أربعة أدلة تثبت وجوب ستر العورة. • ثم قال - رحمه الله -: فيجب بما لا يصف بشرتها. يجب أن يستر الإنسان جسده بساتر لا يصف البشرة. ومعنى يصف البشرة: أن يظهر اللون من بياض أو سواد من تحت هذا الساتر. التعليل: - أن الستر بما يصف البشرة لايعتبر ستراً حقيقياً. ـ وعلى مقتضى كلام الفقهاء إذا لبس الإنسان ثوباً يستطيع الإنسان أن يعرف لون البشرة منه فالصلاة غير صحيحة. لكن بعض الناس يخلط: فيظن أنه يستطيع أن يعرف لون البشرة من تحت الثوب بسبب أنه يشاهد لون بشرة اليد والوجه من الرجل ولو سترتا ربما لا يستطيع أن يتبين هل لون البشرة أسود أو أبيض أو غير ذلك. لكن إن كان يستطيع أن يتبين اللون من خلف الثوب فالستر لم يحصل وهذا الشرط تخلف. ـ مسألة / هل يجب أن يكون الساتر غير مبين للحجم؟ الجواب: لا يلزم من الساتر أن يكون غير مبين للحجم. - لأن هذا مما يتعذر فإن الإنسان في حال السجود والركوع يتبين الحجم منه. وهذا نص عليه الحنابلة: أنه لا يلزم من الساتر أن لا يبين الحجم. إذاً عرفنا الآن صفة الساتر. وهو الذي يريد المؤلف أن يبينه. ثم بدأ المؤلف - رحمه الله - بالعورات مفصلة: • فقال - رحمه الله -: وعورة رجل من السرة إلى الركبة. عورة الرجل من السره الى الركبة. وليسا منها على: = المذهب: يعني: أن السرة والركبة ليسا من العورة. الدليل على هذا التحديد: - حديث جرهد الأسلمي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له: " غطي فخذك فإن الفخذ عورة ". هذا الحديث إسناده ضعيف لكن له شواهد كثيرة تقويه - في الحقيقة - وصححه البيهقي. وإن كان البخاري ضعفه. - الدليل الثاني: حديث عمر بن شعيب عن أبيه عن جده أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " مابين السرة والركبة عورة ". والدليل على أن الركبة ليست من العورة: - ما صح عن عثمان رضي الله عنه أنه دخل على - صلى الله عليه وسلم - وهو كاشف عن ركبته. والدليل على التحديد أيضاً: - الحديث السابق " مابين السرة والركبة عورة ". فما بينهما هو العورة وهما ليسا من العورة.

= القول الثاني: للظاهرية. ان العورة الفرجان فقط. والدليل: - حديث أنس الصحيح - في صحيح البخاري ومسلم - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - " حسر عن فخذه يوم خيبر " وفي لفظ انحسر - في اللفظ الأول أن الذي حسره هو النبي - صلى الله عليه وسلم - وفي اللفظ الثاني أنه انحسر من غير أن أي يحسره هو - صلى الله عليه وسلم -. - الدليل الثاني: حديث عائشة أن - صلى الله عليه وسلم - " جلس مع أبي بكر وعمر - رضي الله عنهما - وهو كاشف عن فخذيه ". وفي رواية: وهو كاشف عن فخذيه أو ساقيه. كأنها شكت. هي أو أحد الرواة. الراجح - والله أعلم - ما نصره النووي وهو المذهب أن الفخذ عورة: - أولاً: لأن أحاديث الباب وإن كان فيها ضعف لكنها تتقوى بشواهدها. - ثانياً: أن حديث أنس - رضي الله عنه - وحديث عائشة الذي استدل بهما أصحاب القول الثاني يدخلهما الاحتمال. فالاحتمال يدخل على حديث أنس من حيث قوله انحسر أو حسره وإذا كان انحسر من حاله فلا دليل فيه لأن الإنسان حال الحرب وركوب الفرس قد ينحسر عن الثوب من غير إرادته فلا دليل فيه. وأما الاحتمل في حديث عائشة ففي لفظ: عن فخذيه أو ساقيه. ومع الا حتمال لا يصح الاستدلال. وقد لخص البخاري - رحمه الله - هذه المسألة تلخيصاً حسناً جداً فقال - رحمه الله -: حديث جرهد أحوط وحديث أنس أسند خروجاً من خلافهم - هكذا قال. وهذه في الحقيقة عبارة تلم شعث المسألة. - بناء على هذا: لا يجوز للإنسان أن يكشف فخذه فهو عورة لا يجوز له هو أن يكشفه ولا يجوز للآخرين أن ينظروا إليه منه فهو يعتبر عورة. ولا شك أن العورة تنقسم إلى: - مخففة. - ومغلظه. فهذا مما لا يشك فيه عادة. فسواء كان مغلظة: وأسفل الفخذ وما قرب من الركبة مخففة لكن التفاوت بين العورة لا يعني أن لا نعتبر كل الفخذ عورة وإن تفاوت الإثم في كشف بعضه. وبهذا تبين معنا حد عورة الرجل. • ثم قال - رحمه الله -: وأمةٍ. الأمة: = عند الحنابلة عورتها كعورة الرجل من السرة إلى الركبة. استدلوا على هذا: - بقول النبي - صلى الله عليه وسلم - " إذا زوج أحدكم أمته فلا ينظر إلى مابين السرة والركبة منها ".

= القول الثاني: إنها كالحرة. وهذا اختاره ابن حزم - رحمه الله - وشيخ الاسلام - رحمه الله - في باب النظر. = والقول الثالث: أن عورة الأمة بالنسبة للرجال الأجانب كعورة المحارم بالنسبة إلى محارمهن ينظر اليها إلى ما يظهر غالباً: كالوجه واليدين ونحوهما وأسفل الساقين. يعني يجوز أن ننظر من الأمة ما يجوز للرجل أن ينظر إلى محارمه. كم صار في المسألة من قول؟ ثلاثة أقوال. أضعفها المذهب. وفيه تردد بين القولين في الحقيقة لكن اختيار ابن حزم وجيه جداً وهو أنه في باب النظر الأمة كالحرة تماماً لا يجوز لها أن تظهر إلى الشارع إلا سترت ما تستر الحرة. وسيأتيا الخلاف في الحرة. • ثم قال - رحمه الله -: وأم ولدٍ ومعتقٍ بعضها. - أم الولد هي: الأمة التي ولدت لسيدها. فإذا ولدت لسيدها فتعتبر أم ولد. وحكمها: أنها أمة ما دام السيد حياً فإذا مات صارت حرة. - والمعتق بعضها: هي الأمة المملوكة لأكثر من شخص إذا أعتق بعضهم نصيبه. فإذا كانت مملوكة لشخصين وأعتق أحدهما نصيبه صارت الأمة مبعضه نصفها حر ونصفها رقيق. هذه هي المبعضة. دليل الحنابلة: - أنهما - أي أم الولد والمبعضة - تعتبران أمة فإلى الآن لهما حكم الرق. = والقول الثاني: أنهما كالحرة. وإذا كنا نقول في الأمة الخالصة أن الأقرب أنها كالحرة فكيف بأم الولد والمبعضة فلا شك أن الراجح هو: القول الثاني وأنها كالحرة. • قال - رحمه الله -: من السرة إلى الركبة. هذا بيان لعورة الرجل والأمة وأم الولد والمعتق بعضها. • ثم قال - رحمه الله -: وكل الحرة عورة إلا وجهها. تقدم معنا أن ستر العورة يبحث في بابين: - في باب النظر. - وفي باب الصلاة. نحن الآن سنتحدث عن عورة المرأة في الصلاة. وأما عورة المرأة في النظر مسألة طويلة وليس هذا مكان الكلام عنها وإن كان الراجح بلا إشكال ولا تردد وهو اختيار شيخ الاسلام - رحمه الله - وغيره من المحققين وجوب ستر الوجه لعدة أدلة من الكتاب والسنة وهي نصوص صريحة واضحة في وجوب تغطية المرأة لوجهها عند الرجال الأجانب مع وجود الشواهد من الواقع الدالة على صحة مذهب القائلين بوجوب ستر الوجه.

لكن نحن لا نريد الدخول في التفصيل في هذه المسألة وإنما نتكلم الآن عن الصلاة. فنقول: عورة المرأة في الصلاة: - بالنسبة للوجه أجمع الفقهاء على أن الوجه ليس عورة في الصلاة فيجوز أن يُكشف وهذا لا إشكال فيه. - إذا الإشكال في اليدين والقدمين. فلو أردنا نفصل في المرأة فنقول: - القسم الأول من المرأة: الوجه. - والقسم الثاني: اليدين والقدمين. - والقسم الثالث: باقي الجسد. فالوجه وباقي الجسد بالإجماع يجب أن يسترا في الصلاة. إذا ً الإشكال في اليدين والقدمين. ففيهما خلاف: = فعلى مذهب الحنابلة: يجب أن يسترا في الصلاة. واستدلوا بدليلين: - الدليل الأول: قول النبي - صلى الله عليه وسلم - " المرأة عورة ". واختلف في هذا الحديث تصحيحاً وتضعيفاً. والصواب أنه منقطع لا يثبت مرفوعاً إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -. - الدليل الثاني: حديث أم سلمة أنها سألت النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: أتصلي أحدنا بدرع وخمار بلا إزار فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - " نعم إذا كان سابغاً يغطي ظهور قدميها ". فنص على تغطية القدمين واختلف اختلاف كثير في هذا الحديث: فمنهم من يصححه مرفوعاً ومنهم من يعله بالوقف أي أنه فتوى من أم سلمة والصواب: أنه موقوف وأعله بهذا عدد من الأئمة. عرفنا الآن مذهب الحنابلة في اليدين والقدمين وعرفنا أدلتهم. = القول الثاني: أن اليدين والقدمين ليسا عورة في الصلاة. الدليل: - قالوا: لا يجب بالإجماع على المرأة الجلباب داخل البيت. وإذا لم يجب عليها أن تلبس الجلباب فستصلي بثوبها وبهذا تنكشف غالباً اليدين والقدمين. ولا يعلم في عهد الصحابة إلزام النساء داخل البيوت بلبس الجلباب. والأقرب - والله أعلم - القول الثاني: أنه لا يجب على المرأة حال الصلاة أن تغطي يديها ورجليها.

وهذا في باب المدارسة العلمية وإلا فلا شك أنه ما ينبغي للمرأة أنها إذا أرادت أن تصلي وهي تستطيع أن تستر يديها وقدميها إلا أن تصلي وهما مستوران احتياطاً لهذه العبادة العظيمة وهي الصلاة لكن من حيث البحث العلمي والأدلة فالراجح أنه لا يجب على المرأة أن تستر اليدين والقدمين أثناء الصلاة فإذا سجدت أن ركعت وانكشف من القدمين شيء أو من اليدين فالصلاة صحيحة. بل إن صلت بقميصها وخمارها فقط في البيت بأن غطت الشعر وسائر الجسد ولم يخرج منها إلا الوجه واليدين والقدمين فالصلاة صحيحة إن شاء الله بلا توقف ولله الحمد. لكن إذا أردات أن تحتاط فيجب أن تغطي القدمين واليدين. إذاً انتهينا من قوله: (وكل الحرة عورة إلا وجهها). - وإذا صلت بحضرة الرجال فترجع إلى أصل المسألة وهو وجوب ستر الوجه عند الأجانب. • ثم قال - رحمه الله -: ويستحب صلاته في ثوبين. استفدنا من هذه العبارة حكمين: - الأول: أنه يستحب أن يصلي في ثوبين. - الثاني: أنه لا يجب على الإنسان أن يصلي في ثوبين ويجوز أن يصلي في ثوب واحد. أما دليل استحباب الصلاة في ثوبين - رداء وإزار أو قميص وإزار - أي ثوبين -: الدليل: - أولاً: الإجماع. - ثانياً: ان النبي - صلى الله عليه وسلم - هكذا كان يصلي فقد كان يصلي بثوبين - صلى الله عليه وسلم -. وأما الدليل على عدم الوجوب: - ما صح عنه - صلى الله عليه وسلم -: أنه أصلي أحدنا في الثوب الواحد فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: نعم أولكلكم ثوبان ". - وأيضاً صح عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه صلى أحياناً بثوب واحد. فإذاً يسن ولا يجب أن يصلي في ثوبين. • ثم قال - رحمه الله -: ويجزئ ستر عورته في النفل ومع أحد عاتقيه في الفرض. استفدنا من هذه العبارة عدة أمور: - أولاً: = أن المذهب يفرقون بين النفل والفرض. فيجب في الفرض مع ستر العورة التي بينها المؤلف - رحمه الله - أن يستر أيضاً أحد العاتقين. ويجزئ في النفل خاصة أن يصلي ساتراً لعورته وأن لم يستر أحد العاتقين. إذاً الفرق بين النفل والفريضة - بين النافلة والفريضة عند الحنابلة هو في ستر العاتق فيجب في الفرضيضة ولا يجب في النفل. الدليل على هذا التفريق:

- قالوا: أن الشارع الحكيم رخص وسهل في النافلة ما لم يسهل في الفريضة ومن ذلك أنه أجاز في النافلة في السفر الصلاة إلى غير القبلة وأجاز في النافلة أن يصلي الإنسان قاعداً من غير عذر ولا يجوز في الفريضة. فتبين أن الشارع رخص وسهل في النافلة ما لم يرخص ويسهل في الفريضة. = القول الثاني - في هذه المسألة -: أن الفريضة والنافلة حكمهما واحد فما ثبت في النافلة ثبت في الفريضة إلا ما دل الدليل على التفريق بينهما. وهذا القول هو الصواب أنه لا فرق بين النافلة والفريضة إلا بدليل خاص يفرق بينهما. نحن قلنا أنه يستفاد من عبارة المؤلف - رحمه الله - مسألتين فتقدمت الأولى والثانية هي وجوب ستر أحد العاتقين. - فالمسألة الثانية: وجوب ستر أحد العاتقين في الفريضة. الدليل: - قالوا صح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال " لا يصلي الرجل في الثوب الواحد ليس على عاتقة منه شيء وفي لفظ ليس على عاتقيه منه شيء ". فدل الحديث على أنه منهي عن الصلاة مع كشف العاتقين (فقط) (فما نقول أو أحدهما) وإذا ستر أحد العتقين جاز. الدليل هو هذا الحديث الذي سمعتم لأنه في اللفظ المشهور على: (على عاتقه). وفي اللفظ الآخر: (على عاتقيه). فأخذوا بلفظ: (على عاتقه). = وهذا من مفردات الحنابلة. فالإمام أحمد - رحمه الله - أخذ بهذا الحديث. = والقول الثاني: للجمهور من السلف والخلف: أنه لا يجب ستر أحد العاتقين. وإنما يسن. - لحديث جابر الصحيح أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال له: " إذا أراد أن يصلي في ثوب واحد إن كان واسعاً فالتحف به وإن كان ضيقاً فاتزر به ". وجه الاستدلال: أنه إذا كان ضيقاً واتزر به لم يبق منه شيء على عاتقه. والقول الثاني - مذهب الجماهير - هو الصواب لصحة حديث جابر - رضي الله عنه -. والجمع بين الأحاديث أن ستر العاتق سنه لكنه سنة متأكدة جداً لنهيه - صلى الله عليه وسلم - عن أن يصلي الرجل وقد كشف عاتقه. تبين الآن معنا أنه: = عند الحنابلة يجب أن يستر الإنسان إذا أراد أن يصلي جزأين: - الأول: العورة. - والثاني: أحد العاتقين. = والجمهور: يجب على الإنسان أن يصلي أن يستر شيئاً واحداً وهو: - العورة.

ماهي العورة؟ هذا محل خلاف - كما سمعتم. • ثم قال - رحمه الله -: وصلاتها في درع وخمار وملحفة ويجزئ ستر عورتها. يعني يستحب للمرأة أن تصلي في هذه الأثواب الثلاثة. الدليل: - أنه صح عن عمر - رضي الله عنه - أنه أفتى بهذا - أنه يستحب للمرأة أن تصلي في ثلاثة أثواب. - وكذلك روي عن أم سلمه وعائشة وهما من فقيهات الصحابيات. إذاً يسن للمرأة أن تصلي في هذه الأثواب الثلاثة. • قال - رحمه الله -: في درع. - فالدرع: هو: القميص - هو الذي نسميه القميص. لكن يقول الإمام أحمد: القميص لا يسمى درعاً إلا إذا كان سابغاً. إذاً الدرع إذا أردنا أن نعرفه تعريفاً دقيقاً نقول: هو القميص السابغ. فالقميص القصير لا يسمى درعاً. • ثم قال - رحمه الله -: وخمار. - الخمار: هو ما تضعه المرأة على رأسها وتديره من عند حنكها مغطية به شعرها. - والخمار واضح ما هو. • ثم قال - رحمه الله -: وملحفة. - الملحفة: هو الثوب الذي يلبس فوق القميص. يعني: فوق الدرع بحيث يلف على الجسد فوق الدرع وهو يشبه إلى حد كبير ما نسميه العباءة. ونلاحظ أن عمر ابن الخطاب - رضي الله عنه - لم يذكر الإزار. فإذا صلت المرأة بخمار وملحفة ودرع دون إزار فقد أتت بما يستحب ولها الأجر كامل إن شاء الله. • ثم قال - رحمه الله -: ويجزئ ستر عورتها. يعني أنه يجوز أن تصلي بثوب واحد إذا كان هذا الثوب يستر جميع العورة. = وهي على المذهب: كل البدن إلا الوجه. لذلك نقول إذا أرادت المرأة أن تصلي بثوب واحد كما يقول المؤلف - رحمه الله -: (ويجزئ بثوب واحد). فيجب أن يكون هذا الثوب سابغاً ليغطي اليدين والقدمين. فإن صلت بثوب واحد وإن كان يجوز عند الفقهاء لكن إن صلت بثوب واحد لا يغطي كل الجسد فالصلاة غير صحيحة فيجب أن تراعي إذا أرادت أن تصلي بثوب واحد أن يكون هذا الثوب سابغاً يغطي كل الجسد بما في ذلك اليدين والقدمين. وهذا مقصود المؤلف - رحمه الله - هنا بقوله: (ويجزئ ستر عورتها). الدليل: - الحديث السابق - حديث أم سلمة أنها قالت للنبي - صلى الله عليه وسلم - أتصلي إحدانا بدرع وخمار بلا إزار قال: نعم. إذا كان سابغاً يغطي ظهور قدميها.

وإذا صلت بدرع وخمار فتعتبر صلت بثوب واحد بالنسبة للبدن. يعني: بدون ملحفة تلحف به سائر الجسد. - بناء على هذا التقرير: إذا صلت المرأة - كما قلت لكم - بقميصها المنزلي مع تغطية الشعر فصلاتها صحيحة إذا كان يغطي كل الجسد فيما عدا القدمين واليدين. • ثم قال - رحمه الله - مفصلاً لما ينكشف وما لا ينكشف: ومن انكشف بعض عورته وفحش: أعاد. انكشاف العورة - أثناء الصلاة ينقسم إلى أقسام: - القسم الأول: أن يكون انكشافاً يسيراً في زمن طويل بلا قصد. فهنا تصح الصلاة. - لحديث عمرو ابن سلمة قال " كنت أؤم قومي وعلي بردة مشقوقة فإذا سجدت انكشفت " وفي رواية: فقال وقالت امرأة من النساء غطوا عنا سوءة قارئكم. وهذه القصة حدثت في عهد التشريع ولم تنكر. فدلت على صحة صلاة من انكشفت عورته بلا قصد انكشافاً يسيراً في زمن طويل. - القسم الثاني: أن تنكشف انكشافاً كثيراً لكن في زمن قصير - عكس الأولى - وأيضاً من غير قصد: فهذا صلاته صحيحة. - للحديث السابق. - القسم الثالث: أن تنكشف العورة بقصد سواء كان يسيراً بزمن طويل أو بأي كثيراً بزمن قصير أو بأي تفصيل فأي انكشاف للعورة بقصد فيبطل الصلاة. التعليل: - لأن هذا مما يمكن التحرز عنه. - ولأن هذا المصلي متلاعب. فصلاته باطلة. وهذا إن شاء الله لا يقع من مسلم. - القسم الأخير: أن تنكشف العورة انكشافاً كثيراً في زمن طويل. فهذه أيضاً تبطل الصلاة ولو كان بغير قصد. لماذا؟ - لأن الرخصة جاءت في الانكشاف اليسير وما عداها يبقى على الأصل وهو أن انكشاف العورة يبطل الصلاة بتخلف هذا الشرط. إذاً: إذا تأملت في هذه الأقسام الأربعة فستجد أنه لا يخرج شيء من انكشاف العورة عن هذه الأقسام الأربعة. ففي الصورة المشهورة: لو هبت الريح ورفعت ثوب الإنسان إلى أن خرج أحد الفخذين أو خرج الفخذان فحكم صلاته: جائزة. - لان هذا من غير قصد. - ثم هو بزمن يسير. وكذلك: لو كان زمن طويل لكن الانكشاف يسير. إذاً: ومن انكشف بعض عورته وفحش: أعاد. عرفنا التفصيل في الانكشاف. • قوله - رحمه الله -: وفحش. ماهو ضابط الانكشاف الفاحش وغيره؟ الجواب: أنه يرجع فيه إلى أمرين: - الأول: العرف.

- والثاني: موضع الانكشاف. فانكشاف السوءة ليس كانكشاف ماقرب من الفخذ. فالأول فاحش ولو قل. والثاني يسير. إذاً نعتبر الفحش وعدمه: بأمرين: العرف وموضع الانكشاف. • ثم قال - رحمه الله -: أو صلى في ثوب محرم عليه. إذا صلى الإنسان في الثوب المحرم بطلت الصلاة: = عند الحنابلة. مثاله: 1 - أن يصلي في ثوب من حرير. 2 - أو يصلي في ثوب مغصوب. 3 - أو يصلي في ثوب وقد أسبل فيه. فهؤلاء صلاتهم عند الحنابلة باطلة. والقول ببطلان الصلاة بهذه الصور من مفردات المذهب لكن اختاره شيخ الإسلام. الدليل: (((الأذان))). انتهى الدرس

قال شيخنا حفظه الله بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين • قال - رحمه الله - أو صلى في ثوب محرم عليه يعني أعاد ذهب الحنابلة رحمهم الله إلى أنه إذا صلى المصلي بثوب محرم فإن الصلاة لا تصح ويجب عليه أن يعيد وهذا القول من مفردات مذهب الإمام أحمد - رحمه الله - ومن أمثلة الثوب المحرم الثوب المنسوج بذهب أوالمغصوب أو ثوب الحرير أو المسبل هذه أبرز الأمثلة على الثياب المحرمة استدل الحنابلة على هذا الحكم بقول النبي - صلى الله عليه وسلم - من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد وصلاته بهذا الثوب ليس عليها أمرالله ولا رسوله واستدلوا بأن قيام المصلي وقعوده قربة وكونه في هذا الثوب معصية ولا تجتمع في فعل واحد قربة ومعصية واستدلوا أيضا بأحاديث منها قوله - صلى الله عليه وسلم - لا يقبل الله صلاة مسبل نسأل الله العافية والسلامة هذا الحديث الأقرب أنه ضعيف ولكن ضعفه ليس شديداً واستدلوا بقول النبي - صلى الله عليه وسلم - من اشترى ثوباً بعشرة دراهم فيها درهم واحد محرم لم تصح الصلاة في الثوب وهذا الحديث ضعيف هو أشد ضعفاً من الحديث السابق واختار هذا القول من المحققين شيخ الاسلام بن تيمية - رحمه الله -

والقول الثاني وإليه ذهب الجمهور أن الصلاة الثوب المحرم محرمة وصاحبها آثم ولكن الصلاة صحيحة لأن النهي لا يعود إلى ذات الصلاة وإنما يعود إلى أمر خارج عن الصلاة فإن لبس الثوب المحرم لا يجوز في الصلاة وفي خارج الصلاة إذاً عرفنا الآن حكم الصلاة في ثوب محرم وهي مسألة مهمة ويتلبس بها كثير من الناس والخلاف السابق المذكور في الصلاة في الثوب المحرم يتنزل على من صلى ذاكراً عامداً فإن صلى ناسياً أو جاهلاً فإن صلاته صحيحة بالإجماع • ثم قال - رحمه الله - أو نجس أعاد لا يجوز أن يصلي الإنسان بثوب نجس مع قدرته على غيره لأنه بذلك أخل بشرط من شروط الصلاة وهو اجتناب النجاسة ولا يتصور أن مسلماً يفعل هذا بأن يصلي بثوب نجس مع وجود ثوب طاهر ولكن هناك مسالة هي التي تحتاج إلى إيضاح وهي: حكم الصلاة في الثوب النجس إذا لم يجد غيره؟ ذهب الحنابلة والمالكية إلى أنه يصلي بهذا الثوب لأن شرط ستر العورة أهم من شرط اجتناب النجاسة ولأن هذا غاية قدرته إلا أن الحنابلة قالوا يصلي ويعيد والقول الثاني أنه لا يعيد الخلاف الآن داخل مذهب الحنابلة واختاره جمع من المحققين الحنابلة منهم المجد - رحمه الله - جد شيخ الإسلام ابن تيمية القول الثاني وهو مذهب الشافعية أنه يصلي عريانا لأنه غير قادر على شرط ستر العورة شرعاً لا حساً لأن الثوب المتنجس شرعاً لا يستتر به لا حساً لأن الثوب موجود حساً لكنه متنجس القول الثالث أنه مخير لأنه لا بد أن يترك واجباً في الصورتين وهو مذهب الأحناف والراجح مذهب المالكية بل لا إشكال في رجحانه فيصلي في الثوب النجس الذي لا يجد غيره ولا يصلي عرياناً ولا يعيد عرفناً الآن بما سبق حكم الصلاة في الثوب المحرم وحكم الصلاة في الثوب النجس إذا وجد غيره وإذا لم يجد غيره • ثم قال - رحمه الله - لا من حبس في محل نجس هذا استثناء من الصلاة في الثوب النجس أو في البقعة النجسة فإذا حبس الإنسان في بقعة نجسة فإنه يجوز له أن يصلي لقوله تعالى {فاتقوا الله ما استطعتم} التغابن

ولقول النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم هذا إذا لم يكن في المحل المحبوس فيه مكان طاهر يصلي فيه فإن كان وجب أن يصلي في هذا المكان الطاهر • ثم قال - رحمه الله - ومن وجد كفاية عورته سترها أي وترك غيرها والمقصود بالمتروك هنا المنكبين فيستر العورة ويترك المنكبين وتقدم معنا ما هي عورة الرجل عند الحنابلة؟ وهي ما بين السرة والركبة بنص المؤلف - رحمه الله - فإذا لم يجد الإنسان إلا سترة تكفي ما بين السرة والركبة ولا تكفي المنكبين فإنه يستر ما بين السرة والركبة ويترك المنكبين التعليل لأن ستر هذا الجزء آكد ولأنه يجب أن يستر في الصلاة وخارج الصلاة بخلاف المنكبين فانه يجب أن يستر داخل الصلاة فقط • ثم قال - رحمه الله - وإلا فالفرجين يعني وإلا يجد سترة تكفي لستر العورة فيستر الفرجين يبدأ بهما ويترك ما عداهما مما بين السرة والركبة الدليل لأنهما أفحش ولأنه لا خلاف في وجوب الستر لهما كما تقدم معنا لم يختلف الفقهاء بجوب ستر العورتين الفرجين • ثم قال - رحمه الله - فإن لم يكفهما فالدبر يعني إذا وجد ثوباً لا يكفي لستر الفرجين فيستر الدبر مقدماً له على القبل والتعليل قالوا أن المصلي إذا سجد انفرج عن الدبر فظهرت العورة فوجب أن يقدم الدبر بالستر والقول الثاني أنه يجب أن يقدم القبل لأمرين الأول أنه يستقبل القبلة بالقبل لا بالدبر والثاني أن الدبر مستور بالأليتين ومال إلى هذا القول الشيخ المحقق المرداوي - رحمه الله - القول الثالث أنه مخير فإن شاء ستر القبل أو الدبر والأقرب في هذه الصورة نسأل الله العافية والسلامة وأنه لا تحصل لمسلم القول الثاني وهذا في القديم كان يحصل كثيراً بسبب كثرة قطاع الطرق كانوا يأخذون من المساقر كل شيء حتى لباسه فتقع هذه المسالة بالنسبة للمسافرين الذين يهجمون عليهم قطاع الطريق بكثرة في القديم أما في وقتنا هذا مع الأمن والرخاء فالحمدلله تكاد لا توجد هذه المسألة في بلادنا • ثم قال - رحمه الله - وإن أعير سترة لزمه قبولها

مقصود المؤلف إذا أعير من غير طلبه فإنه يجب والحالة هذه أن يقبل وجوباً السترة أي يجب على المصلي الذي لا يجد ما يستر به عورته إذا أعير من غير طلب منه أن يقبل هذه الإعارة ويستر عورته وفهم من كلام المؤلف أنه لا يلزمه ستر العورة في صورتين الأولى إذا أهدي أو أعطي هبة فإنه لا يلزمه أن يقبل ولو بقي مكشوف العورة لما في الهبة من المنة التي تثقل بخلاف العارية من غير طلب فإنه ليس فيها منه عادة يعني في عرف الناس الثانية لا يلزمه أن يطلب عارية ولو ظن قبول المطلوب إذاً متى يلزمه؟ في صورة واحدة هي إذا أعير من غير طلب منه فقط والقول الثاني أنه يجب عليه وجوباً أن يسعى في تحصيل السترة سواء بطلب العارية أو بأن يعطى هدية أو هبة ويحرم عليه أن يرد هذه الهبة أو الهدية ويجب عليه أن يطلب العارية التعليل أن العار والضرر في بقائه مكشوف العورة أشد من العار في الهبة والعطية وطلب العارية هذا القول الثاني هو الراجح بلا إشكال ومن ترك طلب العارية فهو آثم ومن رد الهبة فهو آثم في هذه الصورة على القول الثاني ثم قال - رحمه الله - استكمالاً لأحكام العراة في الصلاة ويصلي العاري قاعدا بالإيماء استحباباً فيهما يصلي قاعداً أي مع الانضمام وعدم التربع ليحصل بهذا الجلوس ستر العورة • ثم قال - رحمه الله - ويصلي استحبابا فيهما الضمير يعود على الركوع والسجود قاعداً فيهما أي في الركوع والسجود والدليل على أنه يستحب له أن يصلي قاعداً الأثر المروي عن عبدا لله بن عمر رضي الله عنهما أن العراة يصلون قعوداً ثانياً أن ستر العورة آكد من القيام بدليل سقوط القيام في النافلة وعدم سقوط الستر فيها فهذا دليل على أن ستر العورة آكد من القيام انتهينا الآن من مذهب الحنابلة القول الثاني للمالكية والشافعية أنه يجب أن يصلي قائماً ولو صلى عرياناً الدليل قالوا النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول صل قائماً فإن لم تستطع فقاعداً وهذا المصلي يستطيع أن يصلي قائماً وإن كان عرياناً

والجواب أنه ليس صحيحا أن العريان يستطيع أن يصلي قائماً لأنه يلحقه مشقة وحرج وعار بصلاته قائماً وهو عريان فقولهم يستطيع غير صحيح القول الثالث أنه يجب وجوبا أن يصلي قاعداً الحنابلة ماذا يقولون؟ يستحب وأخذنا أدلتهم الثالث يجب وجوباً أن يصلي قاعداً لأن صلاته قائماً تؤدي إلى انكشاف العورة ملخص الأقوال القول الأول يستحب أن يصلي قاعداً القول الثاني يجب أن يصلي قائماً القول الثالث يجب أن يصلي قاعداً أي هذه الأقوال أرجح؟ وعلى كل حال كما ترون هي: المسالة فيها تردد شيخ الإسلام في شرح العمدة رجح الأول أنه يستحب والذي يظهر والله أعلم رجحان القول الثالث السبب أن من صلى قائماً مع انكشاف عورته فإنه غالباً لن يخشع ولن يطمئن في هذه الصلاة لانشغاله بانكشاف عورته وما دام الرخصة جاءت من الشارع فنأخذ بها • ثم قال - رحمه الله - ويكون إمامهم في وسطهم ما زال المؤلف - رحمه الله - في سياق صلاة العراة يقول - رحمه الله - يكون إمامهم وسطهم يؤخذ من هذه العبارة وجوب صلاة الجماعة على العراة وهو مذهب الحنابلة لأنه إذا أوجب الشارع صلاة الجماعة في حال الحرب في صلاة الخوف فمن باب أولى هنا ولأنه لا عذر لهم في ترك الجماعة والقول الثاني أنهم يصلون فرادى إلا في الظلمة فيصلون جماعة والأقرب مذهب الحنابلة لأنه مادام سيصلون جلوساً فلا حرج في صلاتهم جماعة ويكون إمامهم وسطهم على سبيل الوجوب فإن صلى أمامهم بطلت صلاته لان صلاته أمامهم تؤدي إلى انكشاف عورته القول الثاني يجوز أن يصلي أمامهم والأقرب المذهب • ثم قال - رحمه الله - ويصلي كل نوع وحده أي يصلي الرجال وحدهم والنساء وحدهن ولا يصلون جماعة كالمعهود في المساجد التعليل أن النساء إذا صلين خلف الرجال أدى إلى رؤية عوراتهن وإن صلين مع الرجال يعني في صف واحد خالفن في السنة في موقف المرأة لأن صفوف النساء يجب أن يكن خلف صفوف الرجال هذا التعليل الأول لمسألة أنه يصلي كل نوع على حده

التعليل الثاني دراءً للفتنة الحاصلة بذلك بين الرجال والنساء إذاً إذا اجتمع العراة رجالاً ونساءًكيف يصلون؟ الجواب يصلي الرجال أولاً على حده ثم يصلي النساء على حدة إما في وقتين أو في وقت واحد الأمر سيان يجوز أن يصلين في نفس الوقت الذي يصلي فيه الرجال أو بعدهم الأمر واحد ما لم يترتب على تأخير صلاة النساء جماعة مفسدة أخرى حينئذ يجب أن يصلوا جماعة الرجال وجماعة النساء في وقت واحد • ثم قال - رحمه الله - فإن شق صلى الرجال واستدبرهم النساء ثم عكسوا فإن شق يعني أن يصلوا هؤلاء وحدهم وهؤلاء وحدهم بسبب ضيق المكان بحيث لا يتسع أن يصلي مجموعة الرجال على حدة ومجموعة النساء على حدة في وقت واحد فيصلون كما ذكر المؤلف - رحمه الله - يصلون أولاً الرجال في حال استدبار النساء لهم ثم إذا انتهى الرجال من الصلاة استدبروا النساء وصلين وحدهن هذا في حيال ضيق المكان إذاً عرفنا الآن كيف يصلي العراة وكيف يصلي العراة إذا كان فيهم نساء وكيف يصلي العراة إذا كان فيهم نساء والمكان ضيق وبهذا اكتمل حكم مجموعة صلاة العراة وأيضاً حكم المصلي عارياً لوحده نسأل الله سبحانه وتعالى أن لا يوقع هذا على مسلم • ثم قال - رحمه الله - فإن وجد سترة قريبة في أثناء الصلاة ستر وبنى إذا وجد المصلي عرياناً سترة قريبة منه إما بأن يتذكر سترة كان نسيها أو بأن يحضر له شخص سترة جديدة فالمهم في أي صورة من الصور إذا وجد سترة قريبة عرفاً وجب عليه أن يستر نفسه ويبني على صلاته ومعنى يبني أنه لا يجب عليه أن يستأنف بل يتناول السترة ويستر نفسه ويتم صلاته التعليل أن هذا عمل يسير للحاجة لا يضر في استمرار الصلاة القول الثاني أنه يجب عليه أن يستأنف بحيث ينصرف عن الصلاة ويستر نفسه ويبدأ الصلاة من جديد التعليل أنه استطاع أن يحصل شرط الصلاة وهو ستر العورة فوجب عليه أن يستأنف به الصلاة كما إذا حضر الماء والمتيمم في الصلاة إذاً الأحناف يقولون إذا حضرت السترة فإنه يجب عليه أن ينصرف من الصلاة فيستر نفسه ويبدأ الصلاة من جديد

لأنه شرط استطاع أن يحصله فوجب أن يصلي به مستأنفاً قياساً على المتيمم إذا حضر الماء في أثناء الصلاة والأقرب والله اعلم القول الأول وهو مذهب الحنابلة • ثم قال - رحمه الله - وإلا ابتداء أي وإن كانت السترة بعيدة عرفاً وتحصيلها يستلزم حركة كثيرة فإنه يجب عليه أن ينصرف من الصلاة ويستر عورته ويستأنف الصلاة من جديد يبدأها من جديد إذاً فرق المؤلف - رحمه الله - بين كون السترة قريبة وبين كون الستر بعيدة وهذا التفريق صحيح فما ذكره المؤلف - رحمه الله - في الصورتين يتوافق إن شاء مع الأصول الشرعية ظو ثم انتقل المؤلف - رحمه الله - إلى مبحث آخر وهو ما يكره وما يحرم في الصلاة • فقال - رحمه الله - ويكره في الصلاة السدل عرفنا الآن أن السدل مكروه وأن الكراهة تختص بالصلاة بقي أن نعرف ما هو السدل؟ وما هو الدليل على الكراهة؟ السدل هو أن يطر ح الرداء على كتفيه من غير أن يرد طرفيه على منكبيه وقيل أن السدل هو نفس الإسبال واختاره من الحنابلة ابن عقيل لكن ضعفه شيخ الاسلام - رحمه الله - وقيل أن يلقي بالثوب على رأسه ويجعل طرفي الرداء يميناً وشمالاً منسدلان من غير أن يردهما على عاتقيه أو على منكبيه كم صار من قول في تفسير السدل؟ ثلاثة الدليل حديث أبي هريرة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى عن السدل في الصلاة وهذا الحديث ضعفه الإمام أحمد بل قال ابن المنذر - رحمه الله - لا نعلم في النهي عن السدل حديثاً ثابتاً والقول الثاني أن السدل لا يكره لأنه لا يوجد دليل صحيح على الكراهة واختار هذا القول ابن المنذر - رحمه الله - وهذا القول هو الصواب لكن مع ذلك ينبغي للإنسان أن يتجنب السدل لأنه صح عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه النهي عنه فينبغي للإنسان أن يتجنب السدل احتياطاً لكن كما قلت من حيث الأدلة لا يوجد دليل من السنة على كراهية السدل • ثم قال - رحمه الله - واشتمال الصماء أي ويكره في الصلاة اشتمال الصماء حكم اشتمال الصماء

عند الحنابلة مكروه ولكن بشرط أن لا يكون عليه إلا ثوب واحد فإن كان عليه ثوبان جاز ت هذه اللبسة بلا كراهة إذاً ما هو شرط الكراهة عند الحنابلة أن يكون لا بساً ثوباً واحداً عرفنا الآن حكم اشتمال الصماء عند الحنابلة تعريف اشتمال الصماء هو أن يضع وسط الرداء تحت منكبه الأيمن وطرفيه على منكبه الأيسر كالاضطباع في الإحرام تماماً وإنما جاز في الإحرام لأن المحرم يكون عليه ثوبان وهذا التفسير تفسير عامة العلماء وجمهور السلف بل روي مرفوعاً إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - والقول الثاني في التفسير أن اشتمال الصماء هو أن يشتمل بثوبه على جسده بحيث يلف جسده كله ولا يجعل ليديه مخرجاً وهذا تفسير أهل اللغة إذاً عندنا تفسيران لاشتمال الصماء الأول لجمهور الفقهاء والثاني لأهل اللغة والراجح التفسير الأول وممن رجح هذا التفسير ونصره ابن قدامة - رحمه الله - فإنه قال الفقهاء أعلم بالتأويل من أهل اللغة وصدق فهم أعلم بمعاني الحديث من أهل اللغة الذين يفسرون تفسيراً لغوياً صرفاً والدليل ثبت في صحيح البخاري أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى عن اشتمال الصماء الحكمة من النهي: خشية انكشاف العورة والحكمة من النهي على تفسير أهل اللغة هي أن من اشتمل الصماء لا يستطيع أن يدفع عن نفسه الضرر في ما لو طرأ عليه طارئ بسبب أنه لا يستطيع أن يخرج يديه عرفنا الآن معنى اشتمال الصماء والدليل على المنع منها وترجيح أي المعنيين فيها - مسألة هل يختص النهي عن اشتمال الصماء في الصلاة أو هو ممنوع منه في الصلاة وخارج الصلاة؟ الجواب قال ابن رجب - رحمه الله - ليس في الحديث تخصيص النهي حال الصلاة فالصواب أنه ينهى عن هذه اللبسة داخل الصلاة وخارج الصلاة خلافاً لتقييد المؤلف لأنه يقول يكره في الصلاة • ثم قال - رحمه الله - وتغطية وجهه واللثام على فمه وأنفه يكره للإنسان أن يصلي وهو مغطي لفمه أو لوجهه الدليل أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى أن يغطي المصلي فاه وإسناد هذا الحديث ضعيف

الدليل الثاني أن لا يتشبه بالمجوس والتشبه بغير المسلمين محرم الدليل الثالث أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمر المصلي أن يسجد على سبعة أعظم ومنها الأنف فإذا غطاه فلن يسجد عليه - يستثنى من هذا الحكم إذا غطى الإنسان أنفه أو فمه لسبب صحيح كما إذا تثاءب أو وجد ريح شديدة تضره أو لأي سبب صحيح فإذا وجد هذا السبب ارتفعت الكراهة • ثم قال - رحمه الله - وكف كمه ولفه يكره للمصلي أن يكف الثوب أو أن يلفه وهذا يتناول الكم والطرف الأسفل من الثوب الدليل على النهي: قول النبي - صلى الله عليه وسلم - لا أكف شعراً ولا ثوباً وهذا في الصحيحين إذاً يكره للإنسان أن يكف ثوبه سواء فيما يتعلق بطرف الثوب الأسفل أو الكم - مسألة: فإن كف ثوبه أو شعره فإنه فعل مكروهاً والصلاة صحيحة بالإجماع وهذا النهي بالنسبة للثياب يختص بالثياب التي من شأنها ألا تُكَفْ أما الثياب التي اعتاد الناس على أن تكف أحيانا وتبقى مسدولة أحياناً فلا تدخل في النهي كالشماغ في المعاصرين فإنه أحياناً يبقى مسدول وأحياناً يكف وهذا مما جرت به العادة فيجوز للإنسان أن يكف أو أن يسدل ولا يدخل في النهي: بينما الثياب فمن المعلوم أن الناس جرت عادتهم على إبقائها بلا كف ولا طي بالنسبة للكم أو بالنسبة لأسفل الثياب • ثم قال - رحمه الله - وشد وسطه كزنار أي يكره للمصلي أن يشد وسطه بما يشبه الزنار وهو ما يشد به أهل الذمة أوساطهم والزنار رابط مخصوص يربط به الوسط عند أهل الكتاب وله صفة مخصوصة فمن شد وسطه بهذا الرابط الذي يشبه الزنار فهو مكروه عند الحنابلة الدليل قول النبي - صلى الله عليه وسلم - من تشبه بقوم فهو منهم وهذا الحديث إسناده جيد والقول الثاني أن شد الوسط بما يشبه الزنار محرم لأن التشبه محرم وقد ذكر شيخ الاسلام - رحمه الله - أن أقل درجات هذا الحديث أن يدل على التحريم فهذه أقل درجاته وإذا كان النهي سببه التشبه فلا يختص بالصلاة بل يحرم في الصلاة وخارج الصلاة

إذاً النهي لا يختص بالصلاة لأن سببه التشبه والتشبه لا يجوز لا في الصلاة ولا في خارج الصلاة وفهم من كلام المؤلف - رحمه الله - أن الإنسان لو شد وسطه بما لا يشبه الزنار فلا بأس وهذا هو الصحيح وقد كان لأسماء رضي الله عنها نطاقان تشد بهما وسطها وثبت عن عدد من الصحابة شد الوسط بما لا يشبه الزنار • ثم قال - رحمه الله - بدأً بالمحرم وتحرم الخيلاء في ثوبه وغيره الخيلاء في الثوب وفي غير الثوب كالعمامة ونحوها محرمة الدليل قوله - صلى الله عليه وسلم - في الحديث المتفق عليه من جر ثوبه خيلاء لم ينظر الله إليه ... وجر الثوب خيلاء محرم وهو من الكبائر مسألة فإن جَرَّ ثوبه لغير خيلاء فاختلف الفقهاء منهم من قال يجوز جر الثوب لغير الخيلاء لأن الحديث جاء فيمن جره خيلاء والقول الثاني أنه يحرم الإسبال مطلقاً للخيلاء ولغير الخيلاء واستدلوا بدليلين الأول قوله - صلى الله عليه وسلم - ما أسفل من الكعبين من الإزار ففي النار وهذا حكم آخر وعقوبة أخرى لمجرد الإسبال الدليل الثاني أن عمرو بن زرارة رضي الله عنه رآه النبي - صلى الله عليه وسلم - مسبلاً فنهاه وغضب فقال رضي الله عنه إن في ساقي حموشه فنهاه النبي - صلى الله عليه وسلم - وزجره وقال إن الله لا يحب المسبل والحديث حسن ففي هذا الحديث أن عمرو رضي الله عنه أسبل لا للخيلاء وإنما لتغطية عيب ساقيه ومع ذلك نهاه النبي - صلى الله عليه وسلم - فدل على أن النهي لا يختص بالخيلاء وإنما الخيلاء تسبب زيادة الإثم وعظيم العقوبة الراجح القول الثاني أن الإسبال محرم مطلقاً ومن الفقهاء من قال كل مسبل فقد اختال أراد أو لم يرد فهؤلاء يناقشون في أصل المسألة ويقولون لا يثبت أن يوجد رجل يسبل قصداً من غير خيلاء وممن نصر هذا القول ابن العربي المالكي - رحمه الله - وعلى كل سواء قلنا أن كل مسبل فهو مختال أو قلنا أنه يتصور أن يوجد مسبل لا يختال فالراجح أن الإسبال محرم مطلقاً ولا يجوز وهو من الكبائر مع الخيلاء وبدون الخيلاء الأذان انتهى الدرس

قال شيخنا حفظه الله: بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين. • قال المؤلف - رحمه الله -: والتصوير واستعماله. أي: ويحرم التصوير. والتصوير محرم وهو من الكبائر والاحاديث والنصوص في تحريم التصوير كثيرة جداً منها: - قوله - صلى الله عليه وسلم - (إن المصورين يعذبون يوم القيامة يقال لهم أحيوا ما خقلتم). - ومنها قوله: - صلى الله عليه وسلم -: (لا تدخل الملائكة بيتاً فيه كلب أو صورة). وستأتي معنا أحاديث أخرى. ويفهم من عموم قول المؤلف - رحمه الله -: (والتصوير). أنه يحرم سواء كان له ظل أو لم يكن له ظل. وهذا هو الصحيح الذي تدل عليه النصوص: - كحديث علي - رحمه الله - الثابت الصحيح أنه قال: بعثني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على أن لا أدع صورة إلا طمستها. ومعلوم أن الطمس يكون للصور المسطحة لا للصور المجسمة. فتبين من هذا كله: أن التصوير: =عند الحنابلة: محرم. سواء له كان له ظل أو لم يكن له ظل. والمقصود بالتصوير المحرم هو: تصوير ذوات الأرواح. أما تصوير ما ليس له روح مما يوجد في الطبيعة كالأشجار أو مما صنعه الإنسان كالمصنوعات الحديثة ونحوه فهو جائز بلا إشكال. - مسألة / يذهب حكم التصوير أي: يزول التحريم إذا زال من الصورة الرأس. فإن زال من الصورة غير الرأس بقي التحريم ولو كان الذي زال تزول معه الحياة. إذاً الشيء الوحيد الذي إذا زال زال حكم الصورة هو: الرأس. لدليلين: - الأول: حديث جبريل أنه قال للنبي - صلى الله عليه وسلم - (مر برأس التمثال يقطع فيصيركهيئة الشجرة). - والثاني: حديث ابن عباس - رضي الله عنهما - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (إنما الصورة الرأس). وهذا الحديث اختلفوا فيه: رفعاً ووقفاً: - والأقرب والله أعلم: أنه موقوف ومع ذلك هو قوي لأن القول بأنه ليس مما يقال من قبل الرأي وجيه. إذاً: الجزء الوحيد الذي يذهب حكم الصورة معه هو الرأس. • ثم قال المؤلف - رحمه الله -: واستعماله. أي: يحرم استعمال الصور.

وليس مقصود المؤلف - رحمه الله -: يحرم استعمال التصوير. لأهذا تكرار لا فائدة منه. لأنه إذا قال: (يحرم التصوير) فلا فائدة في أن يقول: (يحرم استعماله) لأن استعمال التصوير هو التصوير. وإنما الذي يستعمل هو المُصَوَّر. فلا يجوز أن يستعمل لا في اللباس ولا في ستر الجدر ولا في أي نوع من أنواع الاستعمال. الدليل على ذلك: - ما ثبت في صحيح البخاري عن عائشة - رضي الله عنها - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - دخل عليها وقد سترت سهوة لها بقرام - والقرام هو: الستر الرقيق - فيه تصاوير فهتكه وغضب وتغير وجهه - صلى الله عليه وسلم - وقال: (إن أصحاب هذه الصور يعذبون يوم القيامة). فدل هذا الحديث على أن استعمال الصور لا يجوز. واستعمال الصور في اللباس: أشد تحريما منه في ستر الجدر بسبب: أن الانسان يصلي عادة في ما يلبس. - مسألة / هل يزول تحريم الصور استعمال الصور بكونها ممتهنة؟ الجواب: في هذا خلاف بين أهل العلم: = فذهب الجمهور من السلف والخلف من الصحابة والتابعين والائمة الأربعة - ورجحه عدد من المحققين كالحافظ بن عبد البر: أن الامتهان يرفع التحريم أي: أنه يجوز استعمال الصورة الممتهنة الموضوعة في الأرض. واستدل الجماهير على هذا الحكنم: - بأن عائشة - رضي الله عنها - لما غضب النبي - صلى الله عليه وسلم - من الستر أخذته فقطعته وسائد واتكأ عليها النبي - صلى الله عليه وسلم -. فدل هذا على: أن ما يتكأ عليه مما يمتهن ويداس يجوز ولو كان فيه تصاوير. = والقول الثاني: أنه لا يجوز استعمال الصور ولو كانت ممتهنة: - لعموم النصوص. - ولما ثبت في صحيح البخاري - أيضاً - أن عائشة - رضي الله عنها - اتخذت نمارق - يعني: وسائدة فيها تصاوير - فغضب النبي - صلى الله عليه وسلم -. والنصوص في هذه المسألة فيها شيء من التعارض. - - ومن حيث الإحتياط: لا شك أن الابتعاد عن الصور مهما كانت هو الأحوط والأبعد عن الشبهة. - - ومن حيث الاستدلال والبحث العلمي: ففي الحقيقة أنا مقلد - في هذه المسألة - لجماهير الصحابة والأئمة الأربعة فأرى أن ما قالواه هو الصواب - تقليداً. والسبب: أنه لم يتبين لي ترجيح بسبب تعارض الأدلة.

فحديث عائشة في البخاري وحديثها الآخر في البخاري. والحديثان: - أحدهما: يدل على جواز استخدام الوسائد أو ما يتكأ عليه. - وحديثها الآخر: يدل على التحريم. وذكر ابن حجر في فتح الباري أوجه كثيرة في الجمع لم أر أن شيئاًمنها صحيح. ففي الحقيقة يوجد تعارض. ولذلك كما قلت لكم - أنا مقلد فيها للصحابة والأئمة الأربعة. • ثم قال - رحمه الله -: ويحرم استعمال منسوج أو مموه بذهب قبل استحالته. يحرم على المسلم أن يستعمل المنسوج والمموه بذهب. - فالمنسوج هو ما فيه خيوط من ذهب إما في أطرافه أو في الأكمام. - والمموه هو: المطلي بالذهب. وإذا كان المنسوج والمموه محرم الإستعمال فالخالص من باب أولى ولذلك لم يذكره المؤلف - رحمه الله - استغناء بذكر المنسوج والمموه. فتحصل لنا الآن: أن استعمال الذهب للرجال محرم. ولو كان على سبيل النسج ولو كان مموهاً. الدليل: في الباب أحاديث كثيرة تدل على تحريم الذهب للرجال لكن غالب هذه الأحاديث ضعيف ولا يثبت وسنذكر حديثين هما أقوى أحاديث الباب: - الحديث الأول: حديث علي ابن أبي طالب أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أخذ الذهب بيمينه والحرير بشماله وقال: (إن هذين محرمان على ذكور أمتي). هذا الحديث - أيضاً - فيه ضعف لكن حسنه الحافظ ابن المديني - رحمه الله - وله شواهد يتقوى بها. - الدليل الثاني: أن صحابياً اتخذ خاتماً من ذهب فلما رآه النبي - صلى الله عليه وسلم - غضب وأخذه وألقاه وقال: (يعمد أحدكم إلى جمرة من النار فيضعها في يده). فهذان حديثان يدلان على تحريم الذهب ولو كان يسيراً. وتحريم الذهب ولو كان يسيراً: = مذهب الجمهور. وهو الاحوط بلا شك. • ثم قال - رحمه الله -: قبل استحالته. الضمير يعود فقط على المموه. والاستحالة هي: تغير اللون بحيث لا يتحصل منه شيء إذا عرض على النار. وتعليل هذا الحكم: وهو جواز المموه استعمالاً إذا استحال. - القاعدة التي تقدمت معنا مراراً وهي: ((أن الحكم يدور مع علته وجوداً وعدماً)). فلما استحال الذهب الذي مُوِّهَ به الثوب أو الاناء زال الحكم مع زوال الذهب لأنه علة التحريم. • ثم قال - رحمه الله -: وثياب حرير. ثياب الحرير: محرمة. والدليل على تحريمها:

- ما ثبت في صحيح البخاري ومسلم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى عن ثياب الحرير وقال: (من لبسها في الدنيا لم يلبسها في الآخرة). ولذلك فحديث تحريم الحرير ثابت في الصحيحين لا إشكال فيه بخلاف تحريم الذهب فكما سمعتم أحاديث فيها ضعف. ثم بدأ المؤلف - رحمه الله -: التفصيل في مسألة ثياب الحرير وسيذكر تفصيلاًَ كثيراً لأن الحاجة كانت كثيرة إلى ثياب الحرير بخلاف وقتنا هذا فإنه في وقتنا هذا المنسوجات صارت تضاهي رقة وجودة الحرير بينما في السابق لا يجد الإنسان ثوباً جيداً ليناً إلا في الغالب أن يكون من الحرير. ولذلك تجد أن الفقهاء فصلوا تفصيلاً دقيقاً في حكم لبس ثياب الحرير. ويقصد - رحمه الله - هنا في قوله: (وثياب حرير): أي الحرير الخالص. • ثم قال - رحمه الله -: وما هو أكثره ظهوراً على الذكور. يحرم الثوب الذي خيط من حرير ومن غيره إذا كان الحرير هو الأكثر ظهوراً ولو كان الأقل وزناً. الدليل: - ما ثبت في الصحيح أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أهدى علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - حلة سيراء فلبسها فغضب النبي - صلى الله عليه وسلم - وأمره أن يعطيها نسائه. والحلة السيراء هي: نوع من البُرُد مخطط بالحرير. فدل الحديث على أن الحرير إذا وجد في الثوب وكان له الظهور الأكثر فيعتبر الثوب كله محرم لهذا الحديث. فإن الخطوط التي في الحلة السيراء - هذه البرد - فيها خطوط. سبب التحريم: كونها ظاهرة. وعلى هذا حمل كثير من الفقهاء هذا الحديث وهو الحمل الصحيح: أن التحريم بسبب: أن الخطوط كان لها الظهور - كانت هي: الظاهرة للعيان والمشاهدة. إذاً عرفنا: - أن الحرير الخالص محرم. - وأن الثوب إذا كان فيه حرير وفيه غير الحرير والظهور للحرير أنه أيضاً محرم. تأتينا الصورة الثالثة: المتبادرة إلى الذهن: • قال - رحمه الله -: لا إذا استويا. إذا لبس الإنسان حلة استوى فيها الحرير وغيره: = فعند الحنابلة تجوز. لقوله: (لا إذا استويا) يعني: فلا يحرم. واستدلوا على ذلك بأمرين: - الأول: الأصل في اللباس الحل.

- والثاني: حديث ابن عباس - رضي الله عنه - أنه قال: إنما حرم النبي - صلى الله عليه وسلم - من الحرير المصمت ولم ينه عن العلم ولا عن سدى الثوب. فهذا الحديث نصٌ في جواز لبس الثوب إذا كان مخيطاً من حرير وغيره ولم يكن الظهور للحرير. = والقول الثاني: أنهما إذا استويا: يحرم الثوب. وهذا القول اختاره من محققي الحنابلة ابن عقيل وشيخ الإسلام ابن تيمية وأيضاً نصره الشوكاني - من المتأخرين. واستدلوا - أيضاً - بدليلين: - الأول: العمومات فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى عن الحرير نهياً عاماً. - الثاني: حديث مهم في باب أحكام الحرير وهو: حديث عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - الذي أخرجه مسلم في صحيحه أنه - رضي الله عنه - قال: (نهى النبي - صلى الله عليه وسلم - عن الحرير إلا موضع أصبعين أو ثلاثة أو أربعة). وهذا الحديث بين مسلم والدارقطني خلاف في تصحيحه وإعلاله - لا نريد أن ندخل في هذا الخلاف لكن الأقرب والله أعلم أن الصواب مع مسلم. فهذا الحديث ثابت. ثم لو فرضنا أن الحديث موقوف على عمر فلا شك أنه - فيما أرى - مما لا يقال: من قبل الرأي لاسيما وفيه هذا التحديد الدقيق بأربع أصابع. فإذاً الحديث من حيث الثبوت لا إشكال في الاستدلال به. إذاً تلخص معنا: أن القول الثاني: إذا استويا يحرم وأن اختيار ابن عقيل وشيخ الإسلام بن تيمية وأن لهم دليلين أخذناهما. وهذا القول هو الصواب. وسيتم المؤلف - رحمه الله - الكلام على ما يستثنى من ما يحرم من الحرير. • فيقول - رحمه الله -: أو لضرورة. يجوز أن يلبس الإنسان الحرير للضروة. - لأن أهل العلم: اتفقوا على أن: (الضرورات تبيح المحرمات). وهي قاعدة متفق عليها - في الجملة متفق عليها. - وقياساً على الحكة التي ستأتينا الآن والمرض فلكل منهمل دليل. إذاً ما هو الدليل على جواز لبس الحرير للضرورة؟ أمران: - الأول: القاعدة: (الضرورات تبيح المحرمات). - والثاني: القياس على الحكة والمرض. • ثم قال - رحمه الله -: أو حكة.

- ثبت في الحديث الصحيح أن النبي - صلى الله عليه وسلم - اشتكى إليه عبد الرحمن بن عوف والزبير - رضي الله عنهما - حكة يجدانها فرخص لهما النبي - صلى الله عليه وسلم - بالحرير. فهذا دليل - نص على الحكة وأنها من أسباب جواز لبس الحرير. والفقهاء يرون: أنه يجوز أن نلبس الحرير للحكة ولو وجد بديل. - فيرخصون في هذا الأمر: - لعموم الحديث لأنه - صلى الله عليه وسلم - لم يستفصل منهما. • ثم قال - رحمه الله -: أو مرض. يعني: أنه يجوزأن يلبس الإنسان الحرير لمرض. ولكن يشترط في المرض أن يكون من الأمراض التي ينفع معها الحرير فإن لم يكن مجدياً فحرك لبس الحرير. الدليل: - أنه ثبت في حديث آخر أن عبدالرحمن بن عوف والزبير - رضي الله عنهما - أيضاً أصيبا بالقمل فاشتكوا إلى - صلى الله عليه وسلم - فرخص لهما في لبس الحرير. إذاً: يقول - رحمه الله -: لضرورة أو حكة أو مرض. أخذنا الآن الأدلة على استثناء تحريم لبس الحرير وجوازه في حال الضرورة والحكة والمرض. • ثم قال - رحمه الله -: أو حرب. = يجوز عند الحنابلة: أن يلبس الإنسان الحرير في الحرب. وهذا القول هو رواية عن الإمام أحمد واختارها شيخ الاسلام لكن في كتابة شرح العمدة. ((ومما ينبغي أن يعمله طالب العلم أن شرح العمدة شرح متقدم لشيخ الإسلام - رحمه الله - قبل أن يستكمل وينضج علمياً بالشكل الذي هو عليه أخيراً في سائر حياته العلمية - رحمه الله -)). ففي الحقيقة وإن كان لاختياراته - رحمه الله - في العمدة وزن وقدر لكن ليست كاختياراته بعد أن تمكن من العلوم الشرعية - رحمه الله -. على كل حال اختار شيخ الإسلام في شرح العمدة جواز لبس الحرير في الحرب. ومقصود الحنابلة: ولو بلا حاجة. هكذا بدون أي حاجة. الدليل: استدلوا بأمرين: - الأمر الأول: أن عروة بن الزبير - رضي الله عنه - كان يتخذ ثوباً من خز يلبسه في الحرب. - والأمر الثاني: أن الحرير إنما حرم لما فيه من الخيلاء والتكبر والخيلاء في الحرب تجوز: بدليل قول النبي - صلى الله عليه وسلم - لأبي دجانة لما رآه يمشي بين الصفوف: (إنها لمشية يبغضها الله ورسوله إلا في هذا الموضع) وهذا الحديث ضعيف.

فدل الحديث على: جواز الخيلاء في الحرب: لما فيه من إضعاف نفسيات الاعداء. = القول الثاني: وهو الرواية الثانية عن الإمام أحمد أن لبس الحرير لا يجوز ولا في الحرب. ودليل هؤلاء: واضح وهو: - العمومات. - وأنه لم يأت دليل صحيح يستثني حال الحرب. والأقرب - والله أعلم - القول الثاني: لأنا لا نستطيع أن نستثني بلا دليل صحيح. - مسألة / لبس الحرير في الحرب لحاجة يجوز بلا نزاع بين الفقهاء. إذاً الخلاف السابق إذا كان اللبس بلا حاجة. • ثم قال - رحمه الله -: أو حشو. مراد المؤلف في هذه العبارة: أنه يجوز استعمال الثوب المحشي بحرير أو السجاد المحشي بحرير بحيث لا يكون الحرير ظاهراً: - لا من الأعلى ولا من الأسفل بالنسبة للسجاد. - ولا في البطانة ولا الظاهر بالنسبة للثوب. الدليل: استدلوا بعدة أدلة: - الدليل الأول: أن هذا لا يعتبر لبساً ولا استعمالاً للحرير: لأنه في الحقيقة هو يَلْبَس ويَسْتَعْمِل الجزء الخارجي: فلإن الحرير في الداخل لا يُسْتَعْمَل ولا يوطأ. يعني: لا يستعمل في الفراش ولا يستعمل في اللباس. - الثاني: أنه ليس في هذا خيلاء لكون الحرير مخفياً. - الثالث: - وهو أقوى الأدلة -: أنه ثبت عن أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - أنهم لبسوا الخز. والخز هو: الثوب الذي يكون سُدَاهُ من حرير ولُحْمَتُهُ من غير الحرير. والسُّدَى هو: الداخل. واللُّحْمَة: الذي يخاط فوق والسُّدَى. فإذا: أيهما الذي يغطي الآخر اللُّحْمَة أو السُّدَى؟ اللُّحْمَة تغطي السُّدَى. فأيهما المخفي: الحرير أو القماش الآخر؟ الحرير. قالوا: لما كان الصحابة - رضي الله عنهم - يستعملون الخز لكونه مخفياً دل ذلك على جواز الحشو. حشو الحرير. هذه ثلاثة أدلة وهذا الحكم صحيح: أنه يجوز استعمال الحرير المحشي. = والقول الاخر: أنه لا يجوز الجلوس ولا لبس ما سُدِّيَ بالحرير. - لأنه استعمال في الجملة. لكن مع أثر الصحابة - في الحقيقة وهي آثار متعددة صحيحة ثابتة في مسألة لبس الخز وهذا يدل على جواز ما سُدِّيَ بالحرير سواء كان مما يجلس عليه أو مما يلبس. • ثم قال - رحمه الله -: أو كان علماً أربع أصابع فما دون.

أي: يجوز أن يلبس الإنسان الثوب الذي فيه علم من الحرير بقدر أربع أصابع فما دون. والدليل: ظاهر وهو: - حديث عمر السابق أن النبي - صلى الله عليه وسلم - رخص في موضع أصبعين أو ثلاثة أو أربعة. المقصود بالأصابع هنا: من حيث العرض لا من حيث الطول. فيجب أن لا يتجاوز هذا الموضع عرضه: أربع أصابع. سواء كان في موضع واحد أو في مواضع. والدليل هو ما سمعتم. - والدليل الثاني: - مع حديث عمر - رضي الله عنه - أن الآثار والنصوص دلت على جواز الحرير إذا لم يكن له الظهور. ومن المعلوم أن الحرير إذا كان يشكل أربع أصابع فقط فإن الظهور لغيره في الثوب. • ثم قال - رحمه الله -: أو رقاعاً. يعني: ويجوز أن يرقع الإنسان ثوبه بالحرير إذا تمزق. بشرط أن لا يكون: أكثر من أربع أصابع. والدليل على جواز الرقاع: - هو: حديث عمر - رضي الله عنه -. فيقاس على جواز الأربع أصابع. بل هو نص في الرقاع: - لأن الشارع أجاز أن يوجد في الثوب أربع أصابع من الحرير سواء كان على سبيل الخياطة أو على سبيل الرقاع. • ثم قال - رحمه الله -: أو لبنة جيب وسُجُفِ فراء. - لبنة الجيب: أولاً: - الجيب هو: مخرج الرأس من الثوب. ثانياً: - اللبنة هي: الزيق المحيط بالعنق. وهو معروف الآن يلبس في جميع الثياب والذي نسميه بالعامية: ......... ((لم يتضح من التسجيل)). يشترط في لبنة الجيب أيضاً: أن لا تتجاوز أربع أصابع. ودليل الجواز - أيضاً -: - قياساً على حديث عمر - رضي الله عنه -. - أو نقول - أيضاً -: أن حديث عمر نص على جوازها. - وسُجُفِ فراء: - الفراء هي: اللباس المعروف الذي يتخذ لدفع البرد. - والسجف من الفراء هي: أطرافه الأمامية أو حواشيه. فيجوز أن نضع فيها الحرير: أيضا إذا كان بمقدار أربع أصابع. والدليل: - ما تقدم معنا وهو أمر واضح. ... (حديث عمر). انتهى البحث في الحرير وانتقل المؤلف إلى أنواع أخرى من اللباس: • فقال: - رحمه الله -: ويكره المعصفر والمزعفر للرجال. نبدأ: - بالمعصفر. المعصفر هو: الثوب المصبوغ بالعصفر. وهو: لون أحمر - معروف -. فحكمه: = عند الحنابلة مكروه. فيكره للإنسانأن يلبس ثوباً صبغ بالعصفر. الدليل: قالوا الدليل على هذا:

- حديث عبدالله بن عمرو - رضي الله عنهما - قال: رأى النبي - صلى الله عليه وسلم - عَلَيَّ ثوبين معصفرين فقال: (إنها من لبس الكفار) وفي رواية قال - عبد الله -: أغسلهما؟ فقال - صلى الله عليه وسلم -: (بل أحرقهما). فدل هذا على أنه ينهى عن لبس المعصفر. = والقول الثاني: أنه محرم. واستدلوا: - بحديث عبدالله بن عمرو - رضي الله عنه - السابق. وقالوا: أن مدلول الحديث يفهم منه التحريم لا الكراهة. = والقول الثالث: أنه يجوز بلا كراهة. - ففي هذه المسألة تباينت أقوال الفقهاء -. قالوا: يجوز بلا كراهة. وهذا مذهب جمهور السلف والخلف من الصحابة والتابعين واختاره - أيضاً - ابن قدامة. واستدلوا: - بما ثبت في الصحيح عن ابن عمر - رضي الله عنه - قال رأيت النبي - صلى الله عليه وسلم - يصبغ بالعصفر. - هذا الحديث في البخاري وفي رواية في سنن أبي داود - يصبغ ثيابه كلها. صارت الأقوال: ثلاثة. ومتباينة جداً والخلاف في هذه المسألة بين الفقهاء شديد. والأقرب - والله أعلم - المذهب الكراهة. وهو وسط. سبب الترجيح: - أن في هذا القول جمعاً بين النصوص والجمع. والجمع مهما أمكن يجب المصير إليه. والقائلون بالتحريم هم في الحقيقة في الغالب من المعاصرين أو ممن قبلهم بقليل وهو: الشيخ الشوكاني. أما الجماهير - جماهير الأئمة الأربعة وغيرهم: يسرون أنه جائز بلا كراهة. إذاً: فيه ثلاثة أقوال. والأقرب الكراهة. - والمزعفر: أيضاً: يكره للإنسان = عند الحنابلة أن يلبس ثوباً مزعفراً. والدليل: - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى عن الثوب المزعفر. - والمزعفر هو: الثوب المصبوغ بالزعفران. - النبتة المعروفة -. والزعفران لونه قريب من المعصفر. لكن مما يحسن التنبيه إليه: أن بعضهم ساق الخلاف في المعصفر والمزعفر مساقاً واحداً وهذا ليس بصحيح فمن حيث الأقوال هناك فرق كبير بين أقوال الفقهاء في المعصفر وبين أقوالهم في المزعفر. = القول الثاني: أنه يحرم. - للنهي. = القول الثالث: الجواز بلا كراهة. - كالأقوال في المعصفر -. الأدلة: أدلة الذين قالوا أنه جائز بلا كراهة - وممن اختار هذا القول من المحققين الشيخ المجد جد شيخ الاسلام. هي: - الدليل الأول:

- قالوا: ثبت في حديث ابن عمر أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى المحرم أن يلبس المزعفر. فدل مفهوم الحديث أن غير المحرم لا يحرم عليه أن يلبس المزعفر. - الدليل الثاني: أن عبدالرحمن بن عوف - رضي الله عنه - دخل على النبي - صلى الله عليه وسلم - وقد مس زعفراناً فسأله النبي - صلى الله عليه وسلم - فأخبره أنه حديث عهد بعرس. ولم ينهه النبي - صلى الله عليه وسلم - عن الزعفران. إذاً: الذين يرون الجواز بلا كراهة استدلوا بدليلين وهما حديثان صحيحان. والأقرب: - كذلك -: الكراهة. ولنفس الحكم وهو: جمعاً بين النصوص. بهذا انتهى الكلام عن المعصفر والمزعفر والبحث فيهما خاص بالرجال. ثم انتقل المؤلف - رحمه الله - إلى الشرط الرابع من شروط الصلاة: • فقال - رحمه الله -: ومنها: اجتناب النجاسات. أي: أنه من شروط صحة الصلاة أن يجتنب المصلي النجاسة: - في بدنه. - وفي ثوبه. - وفي بقعته. فإن لم يفعل عمداً مع العلم والاستطاعة: بطلت صلاته. الدليل: - الدليل على البدن: - قول النبي - صلى الله عليه وسلم - (استنزهوا من البول فإن عامة عذاب القبر منه). هذا للبدن. - وأما الثياب فدليله: - قوله سبحانه وتعالى: {وثيابك فطهر} [المدثر/4] على احد التفسيرين. (((الأذان))). انتهى الدرس

قال شيخنا حفظه الله بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين حيث طلب عدد من إخواننا الكلام عن مسألة التصوير الفوتوغرافي فسأذكر حولها خلافاً مختصراً فأقول أولاً التصوير الفوتوغرافي تعريفه هو حبس ونقل الصورة الواقعية بعد تسليط الضوء عليها ومن هنا سمي التصوير الشمسي اختلف فيه الفقهاء على قولين في الجملة مشهورين القول الأول أن التصوير الفوتوغرافي محرم وأنه داخل تحت نصوص الوعيد ولا يخفى عليكم أن الخلاف والأدلة والمسألة برمتها مسألة حادثة لم يتطرق إليها الفقهاء المتقدمون لأن التصوير حادث معاصر إذاً القول الأول التحريم وأنه داخل تحت نصوص الوعيد

وذهب إلى هذا القول سماحة الشيخ المفتي محمد ابن إبراهيم - رحمه الله - مفتي الديار وأيضاً سماحة الشيخ المفتي عبد العزيز بن باز أيضاً مفتي الديار وهو قول عامة علمائنا المعاصرين واستدلوا بأدلة كثيرة من أقواها الدليل الأول أن الصورة الفوتوغرافية صورة شرعاً ولغةً وعرفاً وبهذا تتناولها نصوص والوعيد في داخلة تحت النصوص - أما أنها صورة لغة فلأن الصورة في اللغة هي: الشكل ولا شك أن الصورة الفوتوغرافية تتخذ شكلاً معيناً هذا في اللغة - وأما أنها صورة شرعاً فلأنها إذا دخلت تحت تعريف الصورة اللغوية دخلت في مسمى الصور المذكور في النصوص والشارع نهى عن مسمى الصورة بلا تفريق - وأما أنها صورة عرفاً فهذا معلوم عند الناس أنهم يسمون الصور الفوتوغرافية صورة الدليل الثاني أن الشارع الحكيم حرم التصوير لعدة علل من أهمها ـ خشية تعظيم المُصَوَّر ووقوع الفتنة فيه وهذا المعنى متحقق في الصورة الفوتوغرافية الدليل الثالث أن غاية التصوير الفوتوغرافي أن يكون من المشتبهات والنبي - صلى الله عليه وسلم - يقول ومن اتقى الشبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه يعني ومن لم يفعل فلا أي لم يكن مُسْتَبْرِأً لدينه وعرضه الدليل الرابع أن المضاهاة في الصورة الفوتوغرافية أعظم منه في الصورة المرسومة باليد لشدة التطابق وستأتي مناقشة هذه الأدلة ضمن أدلة الفريق الثاني بالنسبة للقول الأول أن التصوير محرم وأن هذا مذهب من سمينا من أهل العلم لكن هم قيدوه بأن لا تكون حاجة أو ضرورة وهذا معلوم فإن كانت حاجة أو ضرورة كالأوراق الرسمية أو الشهادات أو الجوازات فإنني لا أعلم من منع من ذلك كأنه محل إجماع تجويز الصورة لهذه الأغراض للحاجة الواضحة لها فأحببنا أن نقيد القول الأول بهذا القول الثاني: أن التصوير الفوتوغرافي لا يدخل في نصوص الوعيد ولا يسمى صورة شرعاً فهو جائز إلا إذا أدى إلى محظور ومنكر كما إذى أدى إلى شدة الافتتان وخشية التعظيم أو أدى إلى نشر الفساد الأخلاقي أو أدى إلى أي مفسدة معلومة يقدرها أهل العلم

وذهب إلى هذا القول شيخنا العلامة محمد بن صالح العثيمين - رحمه الله - وأيضاً ذهب إليه مفتي الديار المصرية الشيخ محمد نجيب مطيعي - رحمه الله - وذهب إليه عدد كبير من أهل العلم من المعاصرين واستدلوا بأدلة منها استدلوا بأدلة كثيرة ونذكر أقوى هذه الأدلة الدليل الأول أن الصورة الفوتوغرافية لا تدخل في مسمى الصورة الشرعية والسبب أن التصوير في اللغة هو التشكيل والتخطيط وإظهار براعة الراسم وهذا لا يوجد في الصورة الفوتوغرافية لأن غاية الصورة الفوتوغرافية نقل الصورة المخلوقة لله فلذلك فليس فيها أي معنى من معاني المضاهاة وهي تخلو تماماً من التخطيط والتكشيل المباشر وأما عمل المصور من تجهيز الكاميرة والفيلم تحديد المصور ... إلخ فليس هذا من التشكيل ولا من التخطيط في شيء الدليل الثاني قالوا أن الصورة في المرآة وعلى سطح الماء جائزة بالإجماع فكذلك الصورة الفوتوغرافية للتساوي والتطابق بينهما الدليل الثالث والأخير عدم وجود أي معنى من معاني المضاهاة لأن الصورة الفوتوغرافية هي نفس الخلق الأول هذه أبرز الأدلة ولهم أدلة كثيرة لكن في الحقيقة لا تعتبر بقوة هذه الأدلة باقي الترجيح قبل الترجيح في الحقيقة المسألة المهمة وهي: هل تدخل الصورة في مسمى التصوير لغة؟ وهل فيها مضاهاة؟ في هذه المسألة الذي يظهر لي أنه لا يوجد مضاهاة ولا يوجد تصوير وأن ما ذكره شيخنا - رحمه الله - في هذا الباب في هذه الجزئية صحيح لكن باقي مسألة الترجيح بالنظر إلى عموم الأدلة الذي يظهر قوة القول الأول وأن أدلتهم أرجح من أدلة القول الثاني سبب الترجيح الذي يجعلني أرجح القول الأول هو مسألة أن من علل تحريم الصور خشية تعظيم المُصَوذَّر والمبالغة في ذلك الأمر وهذا موجود فإذا ثبت أن هذه من علل التصوير وقد ثبت ذكره الفقهاء وهو صحيح فإن هذه العلة موجودة في التصوير يبقى البحث الآن هل التصوير ممنوع لمجموع العلل أو هو ممنوع ولو وجدت إحدى العلل؟ العلل هي: المضاهاة والتعظيم وعدة علل اخرى ذكروها لكن هاتان العلتان هما أبرز العلل

هل يجب لنمنع من الصورة وجود جميع العلل أو يكتفى بوجود علة واحدة؟ الأقرب والله أعلم كما قلت أنه بوجود علة واحدة يحصل المنع من الصور لأن الشارع الحكيم نهى لكي لا يقع هذا المحذور ولذلك أقول أن الراجح أن الصورة الغوتغرافية لا تجوز وأنه بناء على هذا البحث داخلة تحت نصوص الوعيد وأنها إذا وجدت في منزل فإن الملائكة لا تدخل هذا المنزل وأن المصور بالكاميرا يعذب يوم القيامة ويقال له أحيي ما خلقت وأنه بالجملة داخل تحت نصوص الوعيد على مقتضى الأدلة ولا يخفاكم أن المسألة مشكلة وأن أدلتها متعارضة وقوية ومتقابلة لكن كما سمعتم بقينا في تصوير الفيديو التصوير بالفيديو البحث فيه قريب من البحث في التصوير الفوتوغرافي لكن الذي يظهر والله أعلم من حيث الأدلة أن التصوير بالفيديو جائز ولا يستوي هو والتصوير الفوتوغرافي لعدة أمور أولاً قياس الصورة الفوتغرافية على الصورة في المرآة قياس غير صحيح لأن الصورة الفوتغرافية تبقى والصورة في المرآة تذهب لكن قياس الصورة الموجودة في شريط الفيديو على المرآة قياس صحيح فيما أرى لأن علة جواز الصورة المرآة عند الفقهاء جميعاً هي ذهاب هذه الصورة ومن المعلوم أن صورة الفيديو لا يمكن أن تبقى لا بد أن تذهب فلا يمكن أن تبقى بمفردها تعرض ثم تذهب فإن قيل هي وإن ذهبت عن الشاشة إلا أنها موجودة في شريط الفيديو وإن كانت صغير؟ فالجواب أن الصورة الموجودة على شريط الفيديو غير معتبرة شرعاً لأنها صغيرة وغير مرئية أصلا والصورة التي بهذه المثابة عند جميع العلماء لا حكم لها لأنها غير موجودة أصلاً حتى نحكم عليها بالجواز أو بالتحريم ثالثاً شدة مطابقة الصورة في الفيديو للواقع أكبر بكثير منها في الصورة الفوتغرافية فهي في الحقيقة تمثل الواقع تماماً وهذه العلل أو هذه الأشياء التي يفرق فيها بين الصورة في الفوتغرافية والصورة في الفيديو مقطع الفيديو كفيلة بالتفريق بينهما في الحكم ودرج على هذا أي على التفريق بينهما وتخفيف الكلام في الفيديو عنه في الفوتغرافية عدد كبير من الفقهاء المعاصرين فإذاً الخلاصة

أن الصورة الفوتغرافية تحرم وأن الصورة في الفيديو الأمر فيها أسهل وقد لا تصل إلى التحريم بناء على ما ذكرت من علل ومسوغات ومع هذا كله واجب طالب العلم بعد ذلك كله أن يحذر الناس من هذه الفتنة فإن الصور الآن انتشرت فلا تكاد تخلو منها بضاعة ولا متاع من أمتعة الناس فلا شك أن واجب طالب العلم التحذير وحث الناس على الإبتعاد عن الصور وعدم استعمالها إلا للحاجة وأن الصورة الفوتغرافية للتذكار أو لإثبات أشياء معينة غير ضرورية أو ليست من الحاجيات أنها محرمة ولا شك أن قيام طالب العلم بدوره في هذا الباب واجب متحتم عليه لأن الصورة لها متعلق بالفقه ولها متعلق بالعقيدة ثم نرجع إلى مسائل الكتاب • قال - رحمه الله - مبيناً شروط الصلاة ومنها اجتناب النجاسات تقدم معنا أن اجتناب النجاسات شرط لصحة الصلاة عند الأئمة الأربعة وأن الصلاة بدونه عمداً مع العلم مبطل للصلاة وتقدم معنا أيضا ان اجتناب النجاسة يتعلق بثلاثة أمور الأول البدن والثاني البقعة والثالث الثوب فأهم هذه الثلاثة البدن ودليله قوله - صلى الله عليه وسلم - استنزهوا من البول فإن عامة عذاب القبر منه ودليل البقعة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمر بأن يصب على بول الأعرابي ذنوباً من ماء ودليل الثياب قول سبحانه وتعالى {وثيابك فطهر} المدثر على أحد التفسيرين ويمكن أن يستدل على وجوب تطهير الثياب بأن النبي - صلى الله عليه وسلم - ثبت عنه أنه كان يصلي فخلع نعليه أثناء الصلاة فخلع الصحابة نعالهم ثم لما سلم قال مالكم خلعتم نعالكم قالوا رأيناك فعلت ففعلنا فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - لقد أتاني جبريل وأخبرني أن بهما أذى والنعال من جملة الملبوس فإذاً ثبت بهذا أن تجنب النجاسة واجب في هذه الثلاثة أمور • ثم قال - رحمه الله - مفرعاً على هذا الشرط فمن حمل نجاسة لا يعفى عنها أو لاقاها بثوبه أو بدنه لم تصح صلاته

من حمل نجاسة فإن صلاته باطلة إذا كان عالماً عامداً ولو لم تكن هذه النجاسة مماسه لجسده أو لثوبه فمجرد حمل النجاسة يؤدي إلى الإخلال بهذا الشرط الدليل أن حامل النجاسة لا يسمى مجتنباً لها وإذا لم يجتنب النجاسة فقد أخل بهذا الشرط بناء على هذا ـ لا يجوز حمل قارورة فيها نجاسة فلو حمل قارورة فيها نجاسة لغير حاجة أو مرض فأن صلاته باطلة ـ وأيضا لا يجوز حمل الطفل إذا كان فيه نجاسة فما يسمى الآن بالحفاظة إذا كان فيها نجاسة خارجة من الطفل فإنه لا يجوز للإنسان أثناء الصلاة أن يحمل الطفل وهو بهذه المثابة لأنه في الحقيقة حامل للنجاسة وذهب الإمام الشافعي إلى أنمن حمل النجاسة لا تبطل صلاته وهو مذهب ضعيف والصواب مع مذهب الحنابلة • ثم قال - رحمه الله - لا يعفى عنها فإن حمل نجاسة يعفى عنها فإن صلاته صحيحة تقدم معنا في آخر كتاب الطهارة ذكر الأشياء التي يعفى عن نجاستها وذكر الحنابلة شيئين فقط الأول المتبقي من الاستجمار والثاني ويسير الدم من حيوان طاهر وقد تقدم معنا أن القول الصواب أن كل النجاسات يعفى عن يسيرها إذاً القاعدة أن من حمل نجاسة يعفى عن يسيرها حسب الإختلاف في هذا الأمر فإنه يعفى عن ذلك وتصبح صلاته صحيحة • ثم قال - رحمه الله - أو لاقاها بثوبه أو بدنه إذا لاقى النجاسة بثوبه أو ببدنه فإن صلاته لا تصح والدليل على هذا النصوص السابقة جميعاً الدالة على صحة هذا الشرط وعدم صحة صلاة من لاقى النجاسة ببدنه أو بثوبه اتفق عليه الأئمة الأربعة رحمهم الله لأنه لم يجتنب النجاسة واجتنابها شرط لصحة الصلاة • ثم قال - رحمه الله - وإن طين أرضاً نجسةً أو فرشها طاهراً كره وصحت إذا أراد الإنسان أن يصلي فيأرض فوجدها نجسة فيها نجاسة فإن طين هذه الأرض يعني وضع عليها طيناً طاهراً أو فرشها بفراش طاهر يغطي هذه النجاسة فإن الصلاة على هذه الأرض عند الحنابلة صحيحة لكن تكره ويشترط في هذا المفروش أن يكون صفيقاً يحول بين المصلي والنجاسة دليل صحة الصلاة

أن هذا المصلي لم تصب النجاسة لا بدنه ولا أرض الصلاة ولا ثوبه فتحقق فيه الشرط دليل الكراهة أنه اعتمد على النجاسة أي أنه يعتمد عليها عند القيام والقعود وغيره من أعمال الصلاة والصواب أن الصلاة صحيحة بلا كراهة لما تقدم معنا أن الكراهة حكم شرعي يحتاج إلى دليل وليس في هذه المسألة دليل على الكراهة إذاً الخلاصة أن الصلاة تصح بلا كراهة ما دام الإنسان قد غطى النجاسة • ثم قال - رحمه الله - وإن كانت بطرف مصلى متصل صحت إن لم ينجر بمشيه إذا صلى الإنسان على شيء على بساط أو على أرض وفي طرف هذا البساط أو هذه الأرض نجاسة فان صلاته صحيحة ولو تحركت النجاسة بتحرك المصلي فلو فرضنا أنه إذا ركع أو سجد تحركت النجاسة بسبب تحرك الأرض أو ما هو عليه يصلي فإنه مع ذلك تبقى الصلاة صحيحة إلا إذا كانت هذه النجاسة تنجر بمشيه فلو فرضنا أن بينه وبين ما عليه النجاسة ارتباطاً بحبل أو بغيره بحيث لو فرضان أنه مشى لانجرت معه النجاسة فحينئذ تكون الصلاة غير صحيحة التعليل لهذا الحكم الأخير قالوا أنه في هذه الصورة مستتبع للنجاسة فأشبه الحامل لها مستتبع أي النجاسة تتبعه فلو فرضنا أنه مشى لتبعته هذه النجاسة فهم من كلام المؤلف أنه إذا ارتبط بمكان للنجاسة لا يمكن أن تتبعه إذا مشى فإن الصلاة تكون صحيحة والقول الثاني وهو وجه للشافعية وليس مذهباً لهم أن الصلاة صحيحة مطلقاً بغير شرط التعليل أن هذا المصلي تحقق فيه الشرط في بدنه وثوبه وبقعته فلا دليل على إبطال صلاته ولو انجر هذا الشيء بمشيته فإن هذا لا يؤثر في الحكم وهذا هو الصحيح إن شاء الله لأنه لا دليل على اشتراط هذا الشرط ولا على إبطال صلاة هذا المصلي • ثم قال - رحمه الله - ومن رأى عليه نجاسة بعد صلاته وجهل كونها فيه لم يعد أي إذا اكتشف الإنسان بعد الانتهاء من الصلاة أن عليه نجاسة سواء في بدنه أو في ثوبه أو في بقعته ولكن جهل هل هذه النجاسة كانت موجودة في أثناء الصلاة أو لم توجد إلا بعد الصلاة؟ فإنه إذا كان هذا حاله فصلاته صحيحة لأنه لا يمكن أن نبطل الصلاة الثابتة بشك عارض لم يثبت

وهذا صحيح ولا إشكال فيه • ثم قال - رحمه الله - وإن من علم أنها كانت فيها لكن نسيها أو جهلها أعاد إذا انتهى من الصلاة ثم وجد في ثوبه نجاسة وعلم أن هذه النجاسة كانت موجودة أثناء الصلاة فيجب عليه عند الحنابلة أن يعيد الصلاة الدليل قالوا أن شرط اجتناب النجاسة شرط صحة يقاس على شرط طهارة الحدث وهو لا يسقط بالجهل والنسيان أو بعبارة أخصر أن طهارة النجاسة كطهارة الحدث لا تسقط بالجهل والنسيان والقول الثاني أن صلاته صحيحة ولا يعيد اختار هذا القول الشيخ الموفق بن قدامة والشيخ المجد بن تيمية واستدلوا بحديث اأبي سعيد الخدري السابق أن النبي - صلى الله عليه وسلم - خلع نعليه في الصلاة لأن جبريل أخبره أن فيهما أذى ولم يستأنف وهذا هو وجه الاستدلال إذاً لما لم يستأنف النبي - صلى الله عليه وسلم - الصلاة علمنا أن وجود النجاسة أثناء الصلاة مع الجهل بها لا يؤدي إلى إبطال الصلاة والراجح القول الثاني - المسألة الثانية إذا علم الانسان بالنجاسة ثم نسيها اخلتفوا في هذه المسألة منهم من قال يفرق بين الجهل والنسيان ففي النسيان عليه أن يعيد لأن في النسيان تفريطاً وليس في الجهل تفريط والقول الثاني أنه لا يجب عليه أن يعيد الصلاة لأن الله سبحانه وتعالى سَوَّى في العذر بين الجهل والنسيان فقال {ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا} البقرة فجعل العذر بالجهل كالعذر بالنسيان وهذا القول في مسألة النسيان هو الصواب لكنك علمت من سياق الخلاف أنه ينبغي على الإنسان أن يحتاط في مسألة النسيان أكثر منه في مسألة الجهل وإن كان الاحتياط في المسألتين واجب لكن القائلين بإبطال صلاة الناسي أكثر من القائلين بإبطال صلاة الجاهل أي من العلماء من لا يبطل صلاة الجاهل ولكنه يبطل صلاة الناسي فإذا تذكر الإنسان نجاسة على ثوبه فينبغي أن يبادر ينبغي ولا يجب أن يبادر بغسلها قبل الصلاة وإنما الوجوب يكون عند إرادة الصلاة • ثم قال - رحمه الله - ومن جُبِرَ عظمه بنجس لم يجب قلعه مع الضرر معنى هذه المسألة

إذا جَبَرَ المكسور عظمه بعظم نجس كأن يجبره بعظم حيوان نجس فإنه لا يجب عليه ان يقلع هذا العظم النجس إذا ترتب على القلع ضرر ويصلي بهذا العظم وصلاته صحيحة التعليل قالوا أن وجوب المحافظة على النفس وأطرافها مقدم على شروط الصلاة - فإذا كان قلعه لا يسبب ضرراً وجب عليه أن يقلعه وأن يبعده عن جسده فإن صلى بلا ذلك فصلاته باطلة لأنه صلى مع النجاسة مع استطاعته اجتناب النجاسة بلا ضرر إذاً الآن تصورنا المسألة كاملة فيما إذا جَبَّرَ عظمه بعظم نجس وصور هذه المسألة عند الحنابلة وتعليل هذا التفصيل عند الحنابلة وهذا الكلام هو الراجح وهو الصحيح فإن ما ذكروه في هذه المسألة هو الصحيح وما استدلوا به صحيح • ثم قال - رحمه الله - وما سقط منه من عضو أو سن فطاهر ما سقط من الإنسان من عضو أو سن فهذا الساقط يعتبر طاهر والتعليل ما تقدم معنا أيضاً في آخر كتاب الطهارة قبل باب الحيض أن من القواعد الصحيحة أن ما أبين من حي فهو كميتته وميتتة بني آدم تقدم معنا أنها طاهرة لا سيما المسلم فما أبين منه حال الحياة فهو أيضاً طاهر فإذا حمله أو تَرَطَّبَ ثوبه به فإن الثوب والحمل لا يسبب النجاسة أنهى المؤلف الكلام عن شرط اجتناب النجاسة ثم ذكر عدة مسائل مندرجة تحت هذا الحكم تحت مسألة اجتناب النجاسات لأنهم يعللون فيها بقضية اجتناب النجاسة وسيأتينا الكلام حول هذه المسائل المهمة وهي تتعلق بالمواضع التي نهى الشارع عن الصلاة فيها • قال - رحمه الله - ولا تصح الصلاة في مقبرة وحش وحمام وأعطان إبل ومغصوب وأسطحتها نحن سنذكر تسهيلاً لكم الخلاف عموماً في المقبر والحش والحمام وأعطان الإبل في هذه الأربع فقط ثم نرجع إلى تفصيل الكلام عليها من حيث الإستدلال فنقول ذهب الحنابلة إلى أن الصلاة في هذه الأماكن الأربعة أي المقبر والحس والحمام وأعطان الإبل لا تصح إذاً نحن نتكلم عن الأربعة فقط ومسألة المغصوب والأسطح ستأتينا وهي من مفردات الحنابلة واستدلوا على المنع من الصلاة فيها وإبطال صلاة المصلي بأدلة سنذكرها عند الكلام عند كل واحدة من هذه الأربع

القول الثاني وهو رواية عن الإمام أحمد أن المصلي إن علم النهي بطلت صلاته وإن لم يعلم صحت صلاته التعليل لخفاء أحكام هذه المسائل على عامة الناس واختار هذه الرواية شيخ مشائخنا العلامة عبد الرحمن السعدي - رحمه الله - القول الثالث وهو مذهب الأئمة الثلاثة مالك وأبي حنيفة والشافعي أن الصلاة في هذه الأماكن صحيحة واستدلوا على ذلك بقول النبي - صلى الله عليه وسلم - جعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً قالوا فهذا الحديث عام يتناول هذه الأماكن والصواب القول الأول وهو الرواية المشهورة عن الإمام أحمد بن حنبل - رحمه الله - في الحقيقة الإمام أحمد في هذه المسالة تميز بالأخذ بالنصوص وستأتينا نصوص لكل مكان من هذه الأماكن وهبي نصوص واضحة ولذلك تمسك بها الإمام أحمد وأخذ بالأحاديث - رحمه الله - فقوله - رحمه الله - في هذه المسألة هو الصواب وأن الصلاة في هذه الأماكن الأربع لا تجوز • يقول المؤلف - رحمه الله - ولا تصح الصلاة في مقبرة المقبرة لا تصح الصلاة فيها وأخذت الخلاف فيما سبق الدليل استدلوا بقول - صلى الله عليه وسلم - الأرض كلها مسجدٌ إلا المقبرة والحمام هذا الحديث اختلف فيه تصحيحاً وتضعيفاً فذهب الأئمة منهم الإمام الترمذي ومنهم الإمام الدارمي والدارقطني والبيهقي هؤلاء أربعة وغيرهم من الأئمة إلى أن هذا الحديث مرسل لا يثبت موصولاً وذهب بعض العلماء إلى أن هذا الحديث صحيح مرفوع إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - ومن صححه شيخ الإسلام بن تيمية وتصحيح شيخ الإسلام ضعيف والصواب مع الأئمة بأنه مرسل الدليل الثاني قوله - صلى الله عليه وسلم - لا تتخذوا القبور مساجد الدليل الثالث قوله - صلى الله عليه وسلم - لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد وهذه النصوص واضحة قوية تمسك بها الإمام أحمد والحديث الأول مع أنه مختلف فيه إلا أنه وإن كان مرسلاتً إلا أن الشواهد العامة تؤيده وتقدم معنا أن المرسل خير من أقوال الرجال

- مسألة هل يقصد بالنهي عن الصلاة في المقابر في الحديث الأرض التي فيها جمع من المقابر لا يقل عن ثلاثة أو المقصود الأرض التي قبر فيها وإن لم يكن فيها إلا قبرواحد؟ الجواب فيه خلاف فالحنابلة يشترطون في المقبرة لكي ينهى عن الصلاة فيها أن يكون فيها ثلاث قبور فأكثر والقول الثاني أنه ينهى عن الصلاة في الأرض التي قُبِرَ فيها وإن لم يكن فيها إلا قبر واحد وهذا القول الثاني اختاره شيخ الإسلام بن تيمية وقال والمقبرة في الحديث يقصد بها الأرض التي يُقْبَر فيها وليست العدد من القبور وهذا القول الثاني هو الصواب أنه لو لم يكن في الأرض إلا قبر واحد فإنه لا يجوز أن نصلي في هذه الأرض ولو لم يكن معه قبر آخر فمجرد وجود قبر واحد يمنع من الصلاة في هذه الأرض • ثم قال - رحمه الله - وحش وحمام الحمام هو مكان الإغتسال والحش هو مكان قضاء الحاجة فالحش أشد من الحمام الدليل على النهي عن الصلاة في الحش والحمام أولاً الحديث السابق الارض كلها مسجد إلا المقبرة والحمام وأخذتم أنه وإن كان حديثاً مرسلاً إلا أنه تعضده النصوص الأخرى والمرسل بحد ذاته اختلفوا في الاستدلال به ثانياً أن النبي - صلى الله عليه وسلم - امتنع عن رد السلام لأنه لم يكن على طهارة فكيف بالصلاة التي هي أعظم من رد السلام وكيف بالحش الذي هو أعظم من حال انتقاض الطهارة ثالثاً الأصول العامة الدالة على تعظيم الله وتعظيم قدره وتعظيم الصلاة وهذا يتنافى تماماً مع الصلاة في الحش أو الحمام وبهذا ثبت النهي عن هذه الأمور الثلاثة المقبرة والحش والحمام وباقي أعطان الإبل نؤخر الكلام عليه إلى الدرس القادم والله أعلم وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين انتهى الدرس

قال شيخنا حفظه الله: بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين. أما بعد: فتكلمنا بالأمس عن الأماكن الخمسة وباقي علينا بقية الأماكن وهو مكان واحد وهو ما يسمى: بأعطان الإبل:. نحتاج في مسالة أعطان الإبل إلى عدة مسائل: - المسألة الأولى: الدليل على تحريم الصلاة في هذا المكان والدليل عليه هو: - حديث جابر - رضي الله عنه - قال: (قلنا يا رسول الله أنصلي في مرابض الغنم؟ قال: (نعم). قلنا أنصلي في معاطن الإبل؟ قال: (لا) وهذا حديث صحيح. ففي هذا الحديث: النص على النهي عن: الصلاة في معاطن الإبل. - المسألة الثانية: الحكمة من نهي الشارع عن الصلاة في هذا المكان: اختلفوا في الحكمة على أقوال كثيرة: أقوى هذه الأقوال - وهو الذي نقتصر عليه لقوته وضعف البقية: ما اختاره الشافعي ورجحه شيخ الإسلام بن تيمية: أن علة النهي: - كون معاطن الإبل محلاً للشياطين. والدليل على هذا: - ما جاء في الحديث أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (لا تصلوا في معاطن الإبل فإنها خلقت من الشياطين). وما عدا هذه العلة مما ذكره الفقهاء فهو ضعيف. - المسألة الثالثة: ما هي معاطن الإبل؟ اختلف فيها الفقهاء على قولين: = القول الأول: أن معاطن الإبل هي: ما ترجع إليها وتبيت فيها. واستدل أصحاب هذا القول: - بأن النبي - صلى الله عليه وسلم - بأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قابل في الحديث بين مرابض الغنم ومعاطن الإبل. ومرابض الغنم هي: التي تبيت فيه وترجع إليها فدل على أن معاطن الإبل كذلك. = والقول الثاني: واختاره الشافعي - أنها الأماكن التي ترجع إليها بعد شرب الماء. فإنه جرت العادة أن الإبل إذا شربت الشربة الأولى رجعت فبركت في مكان قريب من حوض الماء فترة معينة ثم ترجع لشرب مرة أخرى تفعل ذلك في كل يوم. فهذا المكان الذي تبرك فيه بعد شرب الماء المرة الأولى لترجع إلى الشرب في المرة الثانية هو المعاطن عند الشافعي وليس المكان الذي تبيت وترجع إليه في الليل. = والقول الثالث: أن معاطن الإبل تشمل الموضعين. وهذا هو الصحيح فكل منهما يعتبر مأوى للشياطين. وبهذا انتهى الكلام عن معاطن الإبل. • قال - رحمه الله -: ومغصوب. = من مفردات الحنابلة: عدم صحة الصلاة في المكان المغصوب. وعللوا ذلك: - بأن قيامه واتكائه وجلوسه في هذا المكان معصية ولا يتقرب إلى الله بمعصية.

= والقول الثاني: أن الصلاة بالأماكن المغصوبة محرمة والمصلي آثم لكن الصلاة صحيحة. - لأن النهي عن الصلاة فيها لا يتعلق بذات الصلاة وإنما يتعلق بالبقعة. أي: بأمر خارج عن الصلاة. ولذلك فإنه لا يجوز للغاصب أن يصلي ولا أن ينام ولا أن يأكل ولا أن يشرب في البقعة المغصوبة فهو أمر لا يتعلق بالصلاة. وهذا القول الثاني هو الذي تدل عليه الأدلة. • ثم قال - رحمه الله -: وأسطحتها. أسطحة هذه الأماكن المذكورة تستوي معها في الحكم: أنه لا يجوز أن نصلي فيها. = واستدل الحنابلة على ذلك: - بأن القاعدة الشرعية تقول أن الهواء تابع للقرار. هواء الشيء تابع له. فما فوق هذه الأماكن تابع لها وهي لا يجوز أن يصلى فيها فكذلك ما فوقها. = والقول الثاني: جواز الصلاة فوق هذه الأماكن. - لأن النص لا يتناول هذه الأماكن. - ولعموم قوله - صلى الله عليه وسلم - (جعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً). = والقول الثالث: صحة الصلاة في أسطحة هذه المواضع ما عدا المقبرة. - لأن العلة التي نهي عن الصلاة في المقبرة من أجلها موجودة في الصلاة على سطح المقبرة. وهي: خشية التعظيم ووقوع الشرك. وهذا القول الثالث هو الصواب.: أن الصلاة في أسطح هذه الأماكن جميعاً جائز ما عدا المقبرة. • ثم قال - رحمه الله -: وتصح إليها. أي: أن الصلاة تصح إلى هذه الأماكن. - لعموم قول النبي - صلى الله عليه وسلم - (جعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً).ومن صلى في أرض أمامه أحد هذه الأماكن فقد صلى في أرض طاهرة. = والقول الثاني: أنها تصح الصلاة إلى هذه الأماكن ما عدا المقبرة والحمام والحش. - لقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: (لا تصلوا إلى المقابر ولا تجلسوا عليها). وأما الحش فليس - في الحقيقة - في المسألة دليل ولكن فيها عدد كبير من الآثار المروية عن أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم -. وتقدم معنا مراراً أن طالب العلم يجب أن يعظم الآثار المروية ويقف عندها ويستدل بها لا سيما إذا لم يكن نص في الباب. = القول الثالث: تجوز الصلاة إلى هذه الأماكن جميعاً ما عدا المقبرة فقط دون الحش والحمام. - لعدم الدليل عليها. والقول الراجح: الثالث.

والثاني هو: الأحوط الذي يتعين فيه الحذر والإحتياط فيمن يصلي إلى الحش أو إلى الحمام. لكن أن نبطل صلاة من صلى إلى الحمام - في الحقيقة - لا يجرؤ الإنسان إبطال الصلاة تماماً وليس في الباب نصوص واضحة لكن الإحتياط فيها متعين لوجود الآثار الكثيرة عن أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم -. • ثم قال - رحمه الله -: ولا تصح الفريضة في الكعبة. المؤلف - رحمه الله - استمر في الكلام عن المواضع التي يصلى فيها والتي لا يصلى فيها. فتعرض إلى الكعبة: = يقول - رحمه الله -: لا تصح الصلاة الفريضة خاصة في الكعبة. التعليل: - قالوا: لأن المصلي في الشيء لا يعتبر مصلياً إليه والواجب أن نصلي إلى الكعبة. - ثانياً: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - صلى النافلة في الكعبة ثم خرج وقال: (هذه القبلة) وهذا في البخاري. فالحديث دل على أن جميع البناية - بناية الكعبة برمتها تعتبر قبلة ومن صلى في الداخل فقد صلى إلى جزء منها. - ثالثاً وأخيراً: لم يثبت أن - صلى الله عليه وسلم - صلى الفريضة داخل الكعبة. = القول الثاني: أن صلاة الفريضة في الكعبة صحيحة. بدليل: - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - صلى فيها النافلة والصلاة النافلة تستوي مع الفريضة في كل شيء إلا بدليل مخصص صحيح ولا يوجد. والراجح من هذهين القولين: القول الأول. سبب الترجيح: أن ابن عباس - رضي الله عنه - راوي حديث (هذه القبلة) فهم من الحديث هذا الفهم ولذلك أفتى بأنه لا يجعل المصلي - يعني: للفريضة - شيئاً من الكعبة خلف ظهره ومن صلى في داخل الكعبة فقد جعل جزء من الكعبة خلف ظهره. فهذا الفهم من هذا الفقيه الكبير ابن عباس يرجح القول بإنه لا تصلى الفريضة داخل الكعبة وأيضاً مال إليه شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله -. • ثم قال - رحمه الله -: ولا فوقها. يعني: لا يجوز أن نصلي الفريضة على سطح الكعبة. والدليل على هذه المسألة: - الإجماع. فقد حكى الإمام أحمد - رحمه الله - أنه أجمع الفقهاء على عدم صحة صلاة من صلى على سطح الكعبة - الفريضة. وتقدم معنا مراراً أن الإمام أحمد - رحمه الله - من المتثبتين في حكاية الإجماع. • ثم قال - رحمه الله -: وتصح النافلة باستقبال شاخص منها.

أي: أنه يجوز أن يصلي الإنسان داخل الكعبة إذا: - كانت الصلاة نافلة. وبشرط آخر: - أن يستقبل شاخصاً من الكعبة. فإان صلى داخل الكعبة ولم يستقبل شاخصاً منها فإن الصلاة: لا تصح. التعليل: - قالوا: أن الواجب في الصلاة استقبال القبلة وهي الكعبة وهذا لم يستقبل شيئاً منها. = [القول] الثاني: أن الواجب استقبال شاخص من الكعبة حتى ولو هدمت فكيف بها وهي قائمة. بدليل: - أن عبد الله بن الزبير لما هدم الكعبة ليعيد بنائها أمره عبد الله بن عباس - رضي الله عنهما - أن ينصب أخشاباً ويجعل عليها الستور ليستقبلها الناس. فدل هذا على أن الصحابة كانوا يرون أنه لا بد للمصلي من استقبال شاخص من الكعبة أو بدلها إذا لم توجد. وهذا القول هو الصواب. لكن من يذكر لنا صورة لمن يصلي داخل الكعبة ولا يستقبل منها شاخصاً؟ - الصورة هي: من يصلي إلى باب الكعبة وهو مفتوح. لكن متى تقع هذه الصورة: والمهم أنها إذا وقعت فإنه لا تصح الصلاة. طبعاً: مسائل الصلاة داخل الكعبة مسائل قليلة الوقوع لكن فقهها من التقرب إلى الله باعتباره من العلم. • ثم قال - رحمه الله -: ومنها: استقبال القبلة. أي: ومن شروط الصلاة: استقبال القبلة. فإن صلى إلى غير القبلة مع العلم والقدرة فقد بطلت صلاته. الدليل على هذا الشرط: - ما أخرجه البخاري في صحيحه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: للمسيء صلاته (ثم استقبل القبلة فكبر) هذا لفظ البخاري. فهذا نص على وجوب استقبال القبلة. - الدليل الثاني: الإجماع فقد أجمع الفقهاء على وجوب استقبال القبلة في الصلاة وأن من تركه عامداً قادراً بطلت الصلاة. • ثم قال - رحمه الله -: ومنها: استقبال القبلة فلا تصح بدونه. أي: أن الاستقبال شرط للصحة. والأدلة الدالة على أنه شرط للصحة هي: - الأدلة السابقة. - ويضاف إليها لتأكيد أنها شرط للصحة قوله تعالى: {ومن حيث خرجت فول وجهك شطر المسجد الحرام وحيث ما كنتم فولوا وجوهكم شطره} [البقرة/144]. والمقصود بالمسجد الحرام بالآية: الحرم. ثم قال - رحمه الله -: مستثنياً من هذ الحكم العام وهو وجوب الاستقبال: مسألتين: • فقال - رحمه الله -: إلا لعاجز ومتنفل.

العاجز عن استقبال القبلة يسقط عنه هذا الشرط. ومن أمثلة العاجز: - المريض الذي لا يستطيع أن يتحول إلى القبلة ولا يوجد من يحوله. - أو المربوط الذي لا يستطيع انفكاكاً. - أو في شدة الحرب. فإنه إذا صلى الإنسان صلاة الخوف في شدة الحرب لم يلزمه إذا لم يستطع استقبال القبلة. الدليل: لهذه المسألة أدلة خاصة وعامة: - فالأدلة العامة: - قوله تعالى {فاتقوا الله ما استطعتم} [التغابن/16]. - وقوله - صلى الله عليه وسلم - (إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم) - وأما الدليل الخاص: - فما أخرجه البخاري عن ابن عمر - رضي الله عنه - أنه قال: - في الصلاة في شدة الخوف -: (فصلوا إلى القبلة وإلى غير القبلة). قال نافع: - راوي الحديث عن ابن عمر - ولا أُرَاه قاله إلا عن النبي - صلى الله عليه وسلم -. إذاً تقرر بهذا أإن شرط الاستقبال يسقط عند العجز وأن العجز له صور متعددة. • ثم قال - رحمه الله -: ومتنفل راكب سائر في سفر. هذا هو النوع الثاني الذي يسقط فيه الاستقبال وهو: المتنفل المسافر. ويسقط عنه الاستقبال بثلاثة شروط - ذكرها المؤلف - رحمه الله -: - الشرط الأول: أن تكون الصلاة نافلة. - الشرط الثاني: أن يكون راكباً سائراً. الشرط الثالث: أن يكون مسافراً لا مقيماً. إذا وجدت هذه الشروط الثلاثة جاز له بإجماع الفقهاء أن يصلي إلى غير القبلة. إذاً: إذا تحققت هذه الشروط: - النافلة. - وأن يكون راكباً. - وأن يكون في سفر. يعني: وأن يكون هذا الركوب في سفر: جاز له بالإجماع. الدليل: - ما أخرجه البخاري عن ابن عمر أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يسبح على راحلته قِبَلَ أي وجهة توجه ويصلي الوتر إلا أنه لا يصلي المكتوبة. فدل الحديث على صحة تنفل المسافر إلى غير القبلة. مسالة / هل يجوز للراكب السائر المتنفل داخل المدينة وفي الأمصار أن يصلي إلى غير القبلة؟ في هذا خلاف بين الفقهاء: على قوبين: = الأول: أنه ليس له ذلك. لدليلين: - الأول: أنه لم يرو عن النبي - صلى الله عليه وسلم - مع حرصه على الخير أنه كان يتنفل أثناء ركوبه داخل المدينة.

- الثاني: أن المعنى الذي لأجله أباح الشارع للمسافرأن يتنفل إلى غير القبلة لا يوجد في الراكب داخل الأمصار. وهذا المعنى هو: أن الراكب المسافر يكثر ركوبه ويطول فلو مُنِعَ من النافلة لأدى هذا إلى تركه النافلة وقتاً طويلاً. وهذا المعنى لا يوجد في الراكب داخل الأمصار. = والقول الثاني: جواز التنفل إلى غير القبلة حتى ولو كان داخل المدينة من غير سفر. وأيضاً استدلوا بدليلين: - الأول: قياساً على الراكب في السفر. - الثاني: أن هذا كان يفعله الصحابي الجليل أنس - رضي الله عنه -. والراجح بلا إشكال إن شاء الله أنه لا يشرع أن يتنفل إلى غير القبلة وأن الصلاة لا تصح إن صلى داخل المدينة إلا غير القبلة ولو راكباً. والجواب على فعل أنس - رضي الله عنه - مع وجوب تعظيم الآثار أن نقول: هناك قاعدة مهمة لطالب العلم أن الإنسان يتقبل الآثار المروية عن الصحابة ويستدل بها ويقف عندها لا سيما إذا رويت من أكثر من وجه: ما لم يوجد ما هو أرجح منها. فإن وجد ما هو أرجح منها قدم. من أمثلة ما يكون أرجح منها: - هذه المسالة: - لأن هذه المسألة تتعلق بكون النبي - صلى الله عليه وسلم - وجد السبب ولم يفعل هذا الفعل. - ولأن الحاجة إليه كثيرة في الرسول - صلى الله عليه وسلم - وفي باقي الصحابة. وإذا لم ينقل عن أحد منهم مطلقاً أنه فعل هذا الفعل إلا أنس دل على أنه شيء رآه يخالف ما عليه الباقين. فهنا لا نستدل بأثر هذا حاله: يعني من مخالفته ظواهر حال الصحابة مع الرسول - صلى الله عليه وسلم - كذلك مخالفته الأصول فإنه من الأصول المتقررة وجوب استقبال القبلة. فهذا الأصل الكبير الذي دلت عليه نصوص عديدة لا نتنازل عنه إلا بشيء مثله في القوة. ثم أكمل المؤلف - رحمه الله - الحديث عن هذه المسائل: • فقال - رحمه الله -: ويلزمه افتتاح الصلاة إليها. إذا أراد الإنسان أن يتنفل في السفر فيجب عليه: = عند الحنابلة إذا أراد أن يكبر أن يستقبل القبلة ثم يكبر ثم ينصرف عن القبلة ويتم صلاته. ولكن هذا مشروط عند الحنابلة - أيضاً - بالإمكانية: أن يمكنه أن يفعل ذلك. فإن لم يمكنه أن يستقبل القبلة عند افتتاح الصلاة لم يلزمه قولاً واحداً عند الحنابلة.

دليل هذا الشرط: - حديث أنس أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان إذا أراد أن يتنفل في السفر: يستقبل القبلة عند التكبير ثم انصرف. وهذا الحديث إسناده ضعيف. وممن أشار إلى ضعفه من الحفاظ - المتأخرين - الحافظ ابن كثير - رحمه الله -. = والقول الثاني: أنه لا يلزم المسافر أن يستقبل القبلة عند افتتاح الصلاة. واختار هذا القول عدد من المحققين منهم: الخلال ومنهم ابن قدامه ومنهم ابن القيم وغيرهم من المحققين. واستدلوا على هذا الحكم - وهو: عدم وجوب استقبال القبلة عند افتتاح الصلاة للمسافر المتنفل: - أن الأحاديث الصحيحة المتكاثرة ليس فيها هذا الشرط: فإنهروى صلاة النبي - صلى الله عليه وسلم - للنافلة في السفر عدد من الصحابة لم يذكر أحد منهم هذا الشرط. فدل هذا على أن ما ذكر في حديث أنس وهم. وهم من أحد الرواة لا من أنس - رضي الله عنه -. وهذا القول الثاني هو: الصواب. كما لا يخفى إن شاء الله. • ثم قال - رحمه الله -: وماش ويلزمه الافتتاح والركوع والسجود إليها. - وماش: يعني ويشرع: أو ويجوز للماشي أيضاً أن يتنفل في السفر إلى غير القبلة فيما عدا الافتتاح والركوع والسجود. وجواز تنفل الماشي هي: = إحدى الروايتين عن الإمام أحمد. وهي المذهب. والدليل عليها: - قياساً على الراكب فإن الماشي والراكب كلاهما محتاج إلى التنفل. - الدليل الثاني: قوله تعالى {فأينما تولوا فثم وجه الله إن الله واسع عليم} [البقرة/115]. وقد روي عن ابن عمر أن هذه الآية في استقبال القبلة. وهي عامة للراكب والماشي. = الرواية الثانية عن الإمام أحمد: أن الماشي في السفر لا يجوز له أن يتنفل إلى غير القبلة. فإن فعل بطلت صلاته. والدليل: - قالوا: أن المتنفل الماشي يتحرك بنفسه لا بمركوبه وهذا يؤدي إلى كثرة العمل التي تؤدي إلى بطلان الصلاة. - الدليل الثاني: أن هذا لم يصح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في السفر أنه كان يتنفل ماشياً. الراجح في هذه المسألة: مذهب الحنابلة: الجواز. أنه يجوز له أن يتنفل ماشياً إلى غير القبلة. - لأن المعنى الذي شرع من أجله هذا الحكم للراكب موجود في الماشي. هذا شيء.

- الشيء الثاني: أن مسألة كثرة الحركة معفو عنها كما أننا نتجاوز عن كون المصلي الراكب يصلي على غير مستقر وهو مبطل عند جمع من الفقهاء ومع ذلك لم نبطل صلاته لورود النص فكذلك الماشي. - وأما أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يتنفل ماشياً فلأنه - صلى الله عليه وسلم - كان غالباً ما يسافر راكباً ففي الغالب كان راكباً - صلى الله عليه وسلم -. إذاً الخلاصة أن الراجح: جواز التنفل للماشي. وهذه المسألة في الحقيقة الحاجة إليها موجودة إلى الآن ففي كثر من الدول إلى الآن يسافرون على أقدامهم لا سيما في الدول التي يكون ما بين المدن ليس طويلاً ومأهولاً بالمزارع والسكان والمحطات ... إلخ. فتشاهد الناس يسافرون بين المدن القريبة على أرجلهم فقد يحتاجون - من كان منهم يريد أن يتنفل فله ذلك وصلاته إن شاء الله صحيحة. وهو مذهب الحنابلة وهو الصواب كما سمعتم الآن في هذه المسألة. لكن يلزمه كما يقول المؤلف رحمه الله أن يفتتح ويركع ويسجد إلى القبلة وهذا معنى قوله: (ويلزمه الإفتتاح والركوع والسجود إليها). سنقسم هذه المسألة إلى قسمين: - القسم الأول: الافتتاح إلى القبلة بالنسبة للماشي. هذه ليس بين الحنابلة خلاف فيها: لم أر خلافاً بين الحنابلة في لزوم افتتاح الماشي الصلاة إلى القبلة. التعليل: - أن هذا وإن شق على الراكب فإنه لا يشق على الماشي. فمن اليسير عليه أن يتوقف ويتجه إلى القبلة ويكبر ثم يمضي. ولذلك الصواب في هذه المسألة: أنه يلزمه أن يتوجه إلى القبلة. - (المسألة الثانية) - القسم الثاني: الركوع والسجود إلى القبلة. = مذهب الحنابلة: وجوب الركوع والسجود إلى القبلة بالنسبة المتنفل الماشي. - لأنه يستطيع ذلك لكونه يمشي على الأرض وليس كالراكب. = والقول الثاني: أنه لا يلزمه الركوع والسجود إلى القبلة. - لأن الركوع والسجود يتكرر وفي توقفه - يعني المصلي الماشي - له - للركوع والسجود - قطع له عن السفر. - وفي ذلك مشقة ظاهرة. وهذا القول هو الصواب: أنه لا يلزمه أن يركع ويسجد إلى القبلة خلافاً لمذهب الحنابلة.

إذاً بالنسبة للماشي يحتاج أن يستقبل القبلة إذا أراد أن يكبر ثم بعد ذلك يمضي إلى وجهته ولا يحتاج في الركوع والسجود أن يتوجه إلى القبلة. أما الحنابلة - فكما سمعتم - فيلزمه عندهم: الافتتاح والركوع والسجود. • ثم قال - رحمه الله -: وفرض من قرب من القبلة إصابة عينها. عندنا: - مباحث تتعلق بمن قرب من القبلة. - ومباحث تتعلق بمن بعد من القبلة. وإذا عرفت من قرب فستعرف من بَعُد. لأن من بعد هو الذي لم يقرب. فمن هو المقصود بمن قرب؟ يقصد به من عاين الكعبة. ويقصد به من عاش في مكة زمناً طويلاً. ويقصد به من كان في مكة ووجد ثقة يخبره عن يقين عن اتجاه القبلة. كم هؤلاء؟ ثلاثة: 1 - المعاين للقبلة. 2 - ومن عاش في مكة زمناً طويلاً. 3 - والغريب إذا قدم مكة ولكنه وجد ثقة يخبره عن يقين. فهؤلاء يعتبرون قريبين من القبلة. - ما هو فرضهم؟ • يقول المؤلف - رحمه الله -: فرضهم إصابة عينها. هؤلاء يجب عليهم أن يصيبوا عين الكعبة لا جهة الكعبة. = ووجوب إصابة عين الكعبة للمعاين محل إجماع بلا خلاف. - لأن هذا هو الواجب وهو قادر عليه. فإن صلى منحرفاً عن عين الكعبة ولو قليلاً فإن صلاته باطلة. • ثم قال - رحمه الله -: ومن بعد: جهتها. من بعد عن القبلة فرضه جهة الكعبة لا عين الكعبة. ولا نحتاج أن نبين من هو الذي يبعد لأنه المقابل لمن يقرب. من بعد ففرضه إصابة الجهة: = هذا هو مذهب الحنابلة. واستدلوا على هذا بأدلة: - منها قوله تعالى - في الآية السابقة - {ومن حيث خرجت فول وجهك شطر المسجد الحرام وحيث ما كنتم فولوا وجوهكم شطره} [البقرة/144]. وجه الاستدلال: أن المسجد الحرام في الآية هو كل الحرم. فالبعيد مأمور بالاتجاه إلى الحرم لا إلى عين الكعبة. يعني إلى حدود الأميال لا إلى عين الكعبة. هذا الدليل الأول. - الدليل الثاني: ما روي عن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - أنه قال قال: رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (ما بين المشرق والمغرب قبلة). قال الإمام أحمد: ضعيف. ولكنه صح عن عمر. والظاهر والله أعلم أنه ليس مما يقال من قبل الرأي. - الدليل الثالث: أن هذا محل إجماع بين الصحابة. = والقول الثاني: وجوب إصابة عين الكعبة حتى لمن بعد.

- لعموم قوله - صلى الله عليه وسلم - (ثم استقبل القبلة). وهذا القول - الثاني - وهو إيجاب استقبال عين الكعبة لمن بعد ضعيف جداً بل يمكن أن نقول يتعذر العمل به. ولذلك فالصواب مع الجماهبر الذي قالوا: من بعد ففرضه الجهة لا العين: جهة الكعبة لا عين الكعبة. انتهى الدرس

قال شيخنا حفظه الله بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين • قال - رحمه الله - فإن أخبره ثقة بيقين بدأ المؤلف - رحمه الله - بالكلام على الطرق التي يتعرف بها المسلم على القبلة وسيذكر نحو أربعة طرق • قال - رحمه الله - فإن أخبره ثقة بيقين هذا هو الطريق الأول وهو أن يخبره ثقة بيقين والثقة هو البالغ العدل ويقولون هو من اتصف بالعدالة ظاهراً وباطناً ومعنى قوله أخبره ثقة بيقين أي أخبره عن يقين ومن أمثلة اليقين المشاهدة إن أخبره ثقة بيقين يعني إذا أخبره ثقة بطريق متيقن عن جهة القبلة وجب عليه أن ينصرف إلى الجهة التي أشار إليها المخبر وفهم من كلام المؤلف - رحمه الله - أنه إذا أخبره ثقة باجتهاد لا بيقين فإنه لا يصير إلى قوله بل يجب عليه أن يجتهد هو إذا كان من أهل الاجتهاد وهذا باتفاق الأئمة الأربعة أنه لا يجوز أن يقبل خبر الثقة عن اجتهاد بل يجب أن يجتهد هو بنفسه إذا كان من أهل الاجتهاد وهذا الحكم أخذ من قول المؤلف - رحمه الله - بيقين أي لا باجتهاد والقول الثاني أن المجتهد يجوز له أن يأخذ خبر الثقة المجتهد إذا ضاق الوقت وهذا القول اختاره شيخ الاسلام بن تيمية - رحمه الله - والقول الثالث أنه يجوز له أن يأخذ خبر الثقة الذي اجتهد مطلقاً ولا يلزمه هو أن يجتهد والذي يظهر والله أعلم أن عمل الناس على الثالث فتجد مجموعة من الناس كلهم أو أكثرهم يعرف كيفية الاستدلال على القبلة ثم يجتهد واحد منهم ويصلي البقية باجتهاد هذا المجتهد فعلى هذا عمل الناس وفي إلزام الكل بالاجتهاد مشقة

فما دام هذا المجتهد عارف بأدلة القبلة وهو ثقة فإنه يجوز قبول قوله ولو كان القابل لقوله يستطيع أن يجتهد هو بنفسه وهذه المسألة كثيرة الوقوع وأرجو أن تكون مفهومة • ثم قال - رحمه الله - أو وجد محاريب إسلامية عمل بها نحتاج إلى عدة مباحث المبحث الأول أنه يشترط في هذه المحاريب أن تكون إسلامية فإن كانت محاريب لليهود أو للنصارى أو لغيرهم من أهل الملل فإنه لا يجوز للمسلم أن يستدل بها المبحث الثاني التعليل الذي يدل على هذا الحكم والتعليل هو أن هذه المحاريب عمل بها المسلمون وتتابعوا على ذلك عصراً من بعد عصر بما يشبه الإجماع على صحتها فوجب المصير إلى ما تدل عليه المبحث الثالث هل المحاريب مشروعة أو تعتبر بدعة لا يجوز أن تبنى في المساجد؟ في هذا خلاف بين أهل العلم وهو خلاف قوي ومن الفائدة أن تعلم أن أول من بنى المحاريب هو أمير المؤمنين عمر بن عبدا لعزيز رضي الله عنه ورحمه ثم من عهده حين كان والياً قبل أن يكون خليفةً بنى المحاريب ثم من ذلك الوقت إلى يومنا هذا والمحاريب تبنى في المساجد واختلف الفقهاء على قولين منهم من يرى أن المحاريب بدعة لأنها لم تفعل في عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - ولأن عدداً من السلف ذموا وجود المحاريب في المساجد والقول الثاني أن هذه المحاريب مشروعة ولا تعتبر بدعة لدليلين الدليل الأول أنها داخلة في عموم المصالح المرسلة والمصالح المرسلة هي: المصالح التي لم ينص الشارع على مشروعيتها ولكن دلت على ذلك النصوص والقواعد العامة ومن أبرز أمثلة المصالح المرسلة التي اتفق عليه الصحابة جمع المصحف فإن جمع القرآن لم يحدث في عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - وإنما جمعه أبو بكر رضي الله عنه لما رأوا المصلحة في جمعه إذاً بعد أن أخذنا فكرة موجزة عن المصالح المرسلة فقد استدل الذين قالوا بمشروعية المحاريب بمبدأ المصالح المرسلة ذو القعدة الدليل الثاني إجماع الأمة بعد عصر الصحابة على وضع المحاريب في المساجد • ثم قال - رحمه الله - ويستدل عليها في السفر بالقطب والشمس والقمر ومنازلهما - القطب

هو أحد النجوم التي يستدل بها على جهة القبلة وهو أهم هذه العلامات والسبب في أهميته ثباته الدائم في مكانه فإن له مكاناً ثابتاً لا يتغير عنه وهذا مما يسهل على من يطلب القبلة أن يستدل به عليها - والشمس والقمر ومنازلهما أي ويستدل الإنسان بالشمس والقمر ومنازل كل منهما وهي: ثمانية وعشرون منزلاً ينزلها القمر في الشهر والشمس في السنة واليوم أصبح الاستدلال على القبلة أمر يسير مع وجود الآلات الحديثة وسهولة استخدام هذه الآلات مع تيسر الاتصالات ولذلك من الخطأ البين التساهل في معرفة القبلة مع هذا التيسير في الاستدلال عليها إما من طريق الآلات أو السؤال ثم بدأ المؤلف - رحمه الله - الكلام عن الاختلاف في القبلة بين المجتهدين • فقال - رحمه الله - وإن اجتهد مجتهدان فاختلفا جهة لم يتبع أحدهما الآخر في هذه المسألة تفصيل وليست على الإطلاق الذي ذكره المؤلف فإذا اختلفا المجتهدان في تحديد القبلة فإن ذلك على قسمين القسم الأول أن يكون اختلافهما في جهة واحدة كأن يميل أحدهما يميناً والآخر شمالاً ولكن في جهة واحدة ففي هذا القسم يصح أن يقتدي احدهما بالآخر عند الحنابلة وعند غيرهم التعليل أنهما استقبلا جهة واحدة والواجب في الاستقبال استقبال الجهة وهو حاصل منهما القسم الثاني أن يكون اختلافهما في جهتين لا في جهة واحد بأن يستقبل أحدهما الشمال والآخر الغرب مثلاً ففي هذه الصورة لا يجوز أن يقتدي أحدهما بالآخر وهو مذهب الحنابلة الدليل أن كل منهما يعتقد خطأ الآخر فلا يجوز أن يقتدي بمن يعتقد خطأه والقول الثاني أنه يجوز أن يقتدي أحدهما بالآخر ولو اختلفا جهة وممن ذهب إلى هذا القول الفقيه المشهور أبو ثور - رحمه الله - التعليل أن الاختلاف في المسائل الفقهية لا يمنع الاقتداء في الصلاة ولذلك يجوز أن يصلي من يرى نقض الطهارة بلحم الإبل خلف من يرى أن لا نقض بلحم الإبل وأمثلة هذا الحكم كثيرة

بناء على هذا القول يصلون جماعة ولو اتجه بعضهم إلى غير جهة الإمام وبأس ولا محذور في ذلك كما أن الذين يصلون بجوار الكعبة يصلون إلى جهات مختلفة ولم يضر هذا بالإئتمام فكذلك في مسألتنا والأقرب والله أعلم القول الثاني • ثم قال - رحمه الله - ويتبع المقلد أوثقهما عنده المقلد هو من لا يحسن الاجتهاد لتحديد القبلة يبتع أوثقهما عنده لم يبين المؤلف - رحمه الله - مناط الثقة أوثقهما في ماذا؟ ومراده - رحمه الله - أوثقهما علماً وأكثرهما تحرياً لدينه وهذا ضابط جيد في مسألة القبلة وفي مسالة أهم منها وهي: مسألة الاستفتاء فإن المقلد أي العامي يجب عليه في الاستفتاء أن يقلد ويستفتي الأوثق علماً الأكثر تحرياً لدينه وقد يظن البعض أنهما شيء واحد وهذا خطأ فقد يكون الإنسان كثير العلم لكن قليل الدين وقد يكون كثير الدين وقليل العلم فيجب أن يسأل من هو أكثر علماً وأكثر تحرياً لدينه فإن استويا عنده تحرياً لدينه وعلماً بأدلة القبلة اختار من شاء منهما فيقلد من شاء من المجتهدين في تحديد القبلة • ثم قال - رحمه الله - ومن صلى بغير اجتهاد ولا تقليد قضى إن وجد من يقلده ويجتهد العارف أذاً من صلى بغير اجتهاد ولا تقليد قضى إن وجد من يقلده من صلى بغير اجتهاد أي ممن هو أهل للاجتهاد ولا تقليد أي ممن ليس أهلاً للاجتهاد قضى أي أعاد الصلاة التعليل أن استقبال القبلة شرط لصحة الصلاة ولم يأت به فبطلت صلاته ومفهوم كلام المؤلف أن من صلى بغير اجتهاد ولا تقليد فإن صلاته باطلة ولو أصاب وهذا أحد القولين في المسألة أي في مسألة إذا أصاب فالقول الأول أنه يعيد ولو أصاب التعليل قالوا أنه لم يفعل ماأمر به على الوجه الشرعي فلم تنفعه أصابته كما أن من أفتى بغير علم آثم ولو أصاب ومن قضى بين خصمين آثم ولو قضى بالعدل فكذلك من صلى إلى القبلة بغير اجتهاد ولا تقليد فصلاته باطلة ولو أصاب والقول الثاني أنه إن أصاب فصلاته صحيحة لأن شرط الاستقبال تحقق فيه أي القولين أرجح؟

- ما ترون في رجل صلى بغير طهارة فلما انتهى من الصلاة وجد أنه على طهارة؟ فهل صلى في حقيقة الأمر مستكملاً الشروط؟ الجواب لا وهل صلاته صحيحة؟ الجواب لا هذه الصورة من صلى وهو يرى أنه على غير طهارة صلاته باطلة بل قد يكفر لأنه مستهتر فلو كان صلى على طهارة في حقيقة الأمر لم تقبل صلاته فهذا كذلك إذا صلى بغير اجتهاد ولا تقليد فإن صلاته ليست صحيحة وهذا الذي يظهر والله أعلم • ثم قال - رحمه الله - ويجتهد العارف بأدلة القبلة لكل صلاة أي إذا اجتهد لصلاة الظهر ورأى أن القبلة في اتجاه معين ثم حضرت صلاة العصر فإنه يجب أن يجتهد وينظر في الأدلة مرة أخرى إلى أن يتبين له الاتجاه الصحيح للقبلة وإن كان في نفس المكان وهذا باتفاق الأئمة الأربعة أنه يجب أن يجتهد مرة أخرى القول الثاني وهو وجه فقط عند الشافعية أنه لا يجب أن يجتهد التعليل لأن الأصل بقاء الظن الأول إلا إذا وُجِدَ سبب يقتضي إعادة الاجتهاد فيجب حينئذ أن يجتهد أن يعيد الاجتهاد والراجح والله أعلم القول الثاني بقينا في شيء واحد وهو ما هو دليل الأئمة الأربعة؟ دليلهم أنها حادثة جديدة فتحتاج إلى اجتهاد جديد والأقرب كما قلت لكم القول الثاني أنه لا يحتاج أن يجتهد مرة أخرى • ثم قال - رحمه الله - ويصلي بالثاني يصلي بالثاني دون الأول لأنه بالاجتهاد الثاني ترجح عنده الظن الثاني والعمل بالظن الراجح واجب وترك المرجوح أيضاً واجب ولا إشكال في هذا إذا اجتهد مرة أخرى فإنه يأخذ بالإجتهاد الثاني ولا يجوز له أن يأخذ بالاجتهاد الأول وهذا يقع عند كثير من الناس فمثلاً إذا خرجوا خارج المدينة اجتهدوا أن القبلة بالاتجاه المعين ثم إذا حضرت الصلاة الثانية قال أحدهم أنا أرى جازماً أن القبلة في اتجاه آخر لكن سأصلي معكم فنقول إنه لا يجوز له أن يصلي معهم إذا كان من أهل الاجتهاد فإنه لا يجوز أن يصلي معهم لماذا؟ لأن العمل بالاجتهاد الثاني واجب

لكن كثير من الناس يتساهل في هذا لأنه يرى أن الأول اجتهاد والثاني اجتهاد فإن صلينا إلى الأول أو إلى الثاني فلا بأس وهذا خلاف القواعد الشرعية بل يجب أن يعمل بالاجتهاد الثاني • ثم قال - رحمه الله - ولا يقضي ما صلى بالأول يعني بالاجتهاد الأول وهذا صحيح للقاعدة المتفق عليه أن الاجتهاد لا ينقض بمثله فهذه قاعدة مفيدة لطالب العلم وتدخل في أبواب كثيرة من أبواب الفقه انتهى المؤلف - رحمه الله - بهذا من الكلام عن الشرط الخامس وهو مسألة استقبال استقبال القبلة وما فيها من تفاصيل وانتقل إلى الشرط السادس وهو النية • فقال - رحمه الله - ومنها النية النية هي: الشرط السادس من شروط الصلاة ويتعلق بها مباحث كثيرة المبحث الأول تعريف النية أولاً النية في لغة العرب هي: القصد أي معنى نويت كذا قصدته ثانياً تعريف النية في الإصطلاح هي: قصد العمل على وجه القربة هذا المبحث الأول المبحث الثاني أدلة اشتراط النية لها أدلة نأخذ دليلاً من الكتاب وآخر من السنة فدليلها من الكتاب قوله تعالى {وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين} البينة يعني أن العبادة تقبل حال كونها مع الإخلاص ودليلها من السنة قوله - صلى الله عليه وسلم - إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى وأدلة النية أكثر من أن تحصر نصاً واستنباطاً في الكتاب والسنة المبحث الثالث المراد بالنية ذكر الشيخ العلامة عبد الرحمن السعدي - رحمه الله - بحثاً جيداً في المراد بالنية فقال يراد بالنية أمران الأول نية المعمول له والثاني نية نفس العمل فالمقصود - بنية المعمول له يعني الإخلاص والمعمول له في العبادات هو الرب جلا وعلا وهذه النية لا يتكلم عنها الفقهاء وإنما يتكلم عنها الذين يتكلمون عن أعمال القلوب وهو من المباحث العقدية وأعمال القلوب فيها مؤلفات كثيرة مفيدة ونافعة لطالب العلم من أحسنها وأخصرها التحفة العراقية لشيخ الإسلام ابن تيمية وهو مطبوع - الثاني نية نفس العمل والمقصود بها تمييز العبادة عن العادة

تمييز العبادة عن العبادة يعني تمييز العبادات عن العادات وتمييز العبادات بعضها عن بعض من أمثلة تمييز العادة عن العبادة أن الإنسان قد يغتسل بنية التبرد أو بنية التنظف وقد يغتسل بنية غسل الجمعة أو الجنابة فالصورة واحدة والفرق بين العملين هو في النية من أمثلة الثاني وهو تمييز العبادات بعضها عن بعض مثل إذا أراد الإنسان أن يصلي الظهر والعصر جمعاً فإن كلاً من الظهر والعصر أربع ركعات متشابهات في كل شيء إلا في النية فالذي يميز هذه عن هذه هو فقط النية إذاً عرفنا الآن أن فائدة النية عند الفقهاء تمييز العبادات عن العادات وتمييز العبادات بعضها عن بعض • ثم قال - رحمه الله - فيجب أن ينوي عين صلاة معينة يقصد المؤلف - رحمه الله - أنه يجب أن ينوي المصلي عين الصلاة فيجب أن ينوي من يصلي الظهر أنه يصلي الظهر ويحدد هذه النية ويجب أن ينوي من يصلي العصر أنه يصلي العصر فإن لم ينوي هذه النية المعينة المحددة بطلت الصلاة وتخلف شرط النية الدليل استدلوا بدليلين الأول عموم الحديث وهو قوله - صلى الله عليه وسلم - إنما الأعمال بالنيات والثاني أنه بهذا يحصل التمييز بين العبادات والرواية الثاني عن الإمام أحمد أنه لا يشترط تعيين الصلاة لأن في إلزام المكلف بتعيين عين الصلاة قبل الشروع فيها مشقة وحرج إذ قد ينسى الإنسان إذا أراد الشروع في الصلاة أن يعين أنها صلاة الظهر وهذا القول ضعفه المجد جد شيخ الإسلام بن تيمية القول الثالث في هذه المسألة المهمة أن الواجب أن ينوي أنه يصلي فرض الوقت أو إذا فاتته صلاة الظهر والعصر ونسي أيهما التي فاتته فإنه يصلي بنية أنه يصلي عن تلك التي فاتته من غير تحديد وهذا القول أومأ إليه الإمام أحمد ورجحه القاضي من أصحابه فاحفظ هذا المثال فإنه من أمثلة إذا سمعت أن من شدة عناية أصحاب الإمام أحمد به وبأقواله أنهم كتبوا كل شيء من فتاويه وأقواله وإيماءاته فهذا من أمثلة الإيماء أومأ الإمام أحمد ولم يذكره وإنما فقط أومأ ومع ذلك حفظ وكتب وهذا دليل على فضله وتمكنه في العلم

هذا القول هو القول الراجح الدليل أنه بهذا القول تجتمع الأدلة فيحصل التمييز وتنتفي المشقة بناء على هذا إذا أراد الإنسان أن يصلي الظهر ونوى أنه سيصلي الفريضة في هذا الوقت ولم يأت في ذهنه أنها الظهر فعلى القول الثالث والثاني الصلاة صحيحة وعلى المذهب الصلاة باطلة والأقرب والله أعلم القول الثالث كما قلت لكم • ثم قال - رحمه الله - ولا يشترط في الفرض والأداء إلى آخره يعني لا يشترط أن ينويه فرضاً وإنما يكتفي بنية الظهر التعليل قالوا أن نية التعيين تغني عن نية الفرض فإذا أراد أن يصلي فإنه لا يشترط أن ينوي أنه يصلي فرضاً بل يكتفي بأنها الظهر بل يكتفي بالتعيين إذاً إذا قيل لك لماذا لا يشترط من يصلي الظهر أن ينويها فرضاً؟ فتقول لأن نية التعيين تكفي ومعلوم أنه على القول الثالث السابق أنه إذا لم ينو أنها الظهر يجب أن ينوي أنها الفرض أنها فرض الوقت فإذاً المصلي لا يخلو أبداً إما أن ينوي عين الصلاة وأنها الظهر مثلاً أو ينوي أنها فرض الوقت فإن لم ينو لا أنها الظهر ولا أنها فرض الوقت فهي باطلة عند جميع العلماء إلا على هذه الرواية التي لا تشترط نية التعيين وفي الغالب أن هذا لا يحصل لأن الإنسان إذا توضأ وقصد المسجد ففي الغالب ينوي فرض الوقت • ثم قال - رحمه الله - ولا يشترط في الفرض والأداء والقضاء يعني أن المصلي إذا أراد أن يصلي صلاة أداء أو قضاء فإنه لا يشترط أن ينوي أن هذه الصلاة أداء ولا أنها قضاء إذا كانت أداء أو قضاء بعبارة أخرى لا يشترط أن ينوي الأداء أداء والقضاء قضاء لماذا؟ ... التعليل قالوا لأنه إذا تبين الأمر بخلاف ذلك صحت الصلاة بالإجماع فلو صلى الإنسان يظن أن الوقت خرج فنوى أنها قضاء ثم تبين بعد الصلاة أن الوقت باقٍ فالصلاة الأولى صحيحة مع أنه نواها قضاء وهي في الواقع أداء فهذه صحيحة بالإجماع والعكس صحيح لو صلى الإنسان يظن أن الوقت باقٍ بنية الأداء ثم تبين أنه خرج فإنها تصح بالإجماع الأذان تكملة بعد صلاة العشاء قال شيخنا حفظه الله

بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله • قال - رحمه الله - والأداء والقضاء تقدم معنا قبل الصلاة أن ذكرت أن من صلى القضاء أو الأداء فإنه لا يشترط أن ينوي الأداء أداء والقضاء قضاء وتعليل ذلك أنه لو صلى الصلاة بنية الأداء فتبين أنها قضاء أو صلى الصلاة بنية القضاء فتبين أنها أداء صحت بالإجماع وذكرت صورة ذلك فصورة الأولى أن يصليها ناوياً أنها أداء ظاناً بقاء الوقت ثم يتبين أن الوقت خرج فهي في الحقيقة قضاء ومع ذلك تصح الصلاة والعكس أن يصلي ظاناً خروج الوقت بنية القضاء ثم يتبين بقاء الوقت وأنه لم يخرج فالصلاة أيضاً في هذه الصورة صحيحة فلهذا الإجماع قال الفقهاء أنه تصح الصلاة • ثم قال - رحمه الله - والنفل والإعادة من صلى صلاة النافلة فإنه لا يشترط أن ينوي أنها نفل سواء كانت الصلاة نافلة معينة كالوتر والاستسقاء والتراويح أو كانت نافلة مطلقة كصلاة الليل في الصورتين لا يشترط أن ينوي أنها نفل ويدخل في عبارة المؤلف الصبي الذي لم يبلغ إذا صلى الظهر فهي في حقه نافلة ومع ذلك لا يشترط أن ينويها نافلة لماذا؟ ... قالوا لأن نية الوتر مثلاً تكفي عن نية النفل كذلك لأن نية صلاة الليل المطلقة تكفي عن تحديد نية صلاة الليل كذلك الصبي الذي لم يبلغ إذا صلى الظهر فنيته للظهر تكفي عن نية النفل الخلاصة أن نية النفل لا تشترط لمن يصلي نفلاً سواءً كان النفل معيناً أو كان مطلقاً لما تقدم معنا الآن • ثم قال - رحمه الله - والنفل والإعادة لا يشترط فيمن صلى الصلاة الفريضة إعادة أن ينوي أنها إعادة قياساً على عدم وجوب نية الفريضة بل هذا أولى فإذا صلى الظهر ثم تبين له بطلان الصلاة وأراد أن يعيدها فإنه لا يشترط أن ينوي أن هذه الصلاة إعادة وإنما يكتفى على المذهب بالتعيين أو يكتفى على القول الراجح بنية الفريضة فريضة الوقت • ثم قال - رحمه الله - وينوي مع التحريمة يعني أنه يستحب أن ينوي الفريضة ويعينها مع التكبيرة فيأتي بالتكبيرة مع النية في وقت واحد التعليل

لكي تقارن النية الفريضة التعليل الثاني لتكون الصلاة جاءت بجميع أجزاءها بنية حقيقية لا حكمية ولكن هل هذا على سبيل الوجوب أو على سبيل الاستحباب؟ في هذا خلاف بين الفقهاء فالقول الأول أن هذا على سبيل الاستحباب لا على سبيل الوجوب وهو مذهب الحنابلة التعليل أن من نوى قبل التكبيرة بزمن يسير فقد صلى الصلاة مع النية فتحقق الشرط وهو شرط النية والقول الثاني في هذه المسألة هو القول الذي تبناه الإمام الشافعي أنه يجب أن تقارن النية التكبيرة واستدل بالحديث إنما الأعمال بالنيات والصواب القول الأول بل إن أصحاب الإمام الشافعي أنفسهم يحكون قول الشافعي ويرجحون خلافه لماذا؟ لأن في هذا القول مشقة وعنت شديدين • ثم قال - رحمه الله - وله تقديمه عليها بزمن يسير في الوقت يجوز تقديم النية على التكبيرة بشرطين الأول أن يكون التقديم بزمن يسير الثاني وأن يكون التقديم بعد دخول وقت الفريضة - نبدأ بالشرط الأول يشترط لجواز تقديم النية وإجزائها أن يكون التقديم بزمن يسير التعليل لأن هذا هو الذي يُحْتَاجُ إليه ثانياً لأن التطويل يقطع الارتباط بين النية والعمل والقول الثاني أنه يجوز أن يقدم النية على التحريمة ولو بوقت طويل ما دام مستديماً للنية ولم يقطعها لأن الاستصحاب الحكمي كالاستصحاب الحقيقي وأظن أنا أخذنا في أول كتاب الطهارة الفرق بين الاستصحاب الحكمي والاستصحاب الحقيقي وهذا القول الثاني هو الصواب - الشرط الثاني أن يكون هذا التقدم بعد دخول الوقت ولتوضيح هذا الشرط نذكر التفصيل التالي ـ أولاً إن نوى النية قبل دخول الوقت ثم عزبت عن ذهنه وقطعها أيضاً قبل دخول الوقت فالنية لا تجزئه بلا خلاف لأن النية والإبطال حصلا قبل دخول الوقت ـ ثانياً أن ينوي قبل الوقت ويستصحبها إلى ما بعد الوقت وهذه الصورة هي التي يريدها المؤلف - رحمه الله - فهي على المذهب لا تجزئ لأنه نوى قبل دخول الوقت والقول الثاني أنه إذا نوى قبل الوقت واستصحبها إلى ما بعددخول الوقت فإنه يجزئ

لأن وهذا هو التعليل المهم استصحاب النية التي حصلت قبل الوقت كابتدائها فيه وهذا القول هو الصواب إن شاء الله فتبين معنا أنه يجوز أن يقدم النية على التحريمة بوقت طويل قبل الوقت وبعد الوقت بشرط أن لا يفسخ ويقطع هذه النية وسيذكر المؤلف - رحمه الله - مسألة قطع النية • يقول - رحمه الله - فإن قطعها في أثناء الصلاة بطلت إذا قطعها في أثناء الصلاة بطلت بلا خلاف وكذا إذا قطعها قبل الصلاة ثم صلى بلا نية جديدة فإنها تبطل بلا خلاف التعليل أن النية من شروط الصلاة ولم يأت بها وهذا أمر متبادر إلى الذهن إذاً إذا فسخ وقطع النية بطلت بلا إشكال ولا خلاف • ثم قال - رحمه الله - أو تردد بطلت إذا تردد الإنسان في النية أثناء الصلاة فإن الصلاة تبطل وهذا مذهب الحنابلة لأن هذا التردد يذهب اليقين ولأنه لم يبق جازماً مع هذا التردد والقول الثاني أن التردد لا يبطل الصلاة لأن اليقين مقدم على الشك فهو متيقن للنية متردد في ما عداها وهذا القول اختاره من الحنابلة الشيخ ابن حامد - رحمه الله - وهو من علماء الحنابلة الذين لهم اختيارات ليست كثيرة لكنها جيدة وهذا القول هو الصواب وهوعدم الإبطال بدليل يعني سبب الترجيح أن ابن مسعود رضي الله عنه قال صليت مع النبي - صلى الله عليه وسلم - فقرأ وأطال حتى هممت بأمر شر قيل وبما هممت؟ قال هممت أن اجلس وأدعه ففي هذا الحديث تردد ابن مسعود لأنه يقول هممت فهو متردد في الاستمرار في الصلاة أو قطعها وترك النبي - صلى الله عليه وسلم - ومع ذلك لم تبطل صلاته فدل هذا الأثر على صحة قول من قال أن التردد لا يبطل الصلاة ولا يقدح في النية • ثم قال - رحمه الله - وإن قلب منفرد فرضه نفلاً في وقته المتسع جاز تأمل معي في هذه المسألة يقول إن قلب منفرد فرضه نفلاً في وقته المتسع جاز أي أنه يجوز عند الحنابلة أن يقلب المصلي فرضه الذي دخل به إلى نفل جاز بشرط أن يكون الوقت متسعاً ط وفي هذه المسألة تفصيل فهي تنقسم إلى قسمين القسم لأول أن يقلب فرضه نفلاً لسبب صحيح

القسم الثاني أن يقلب فرضه نفلاً لغير سبب - نبدأ بالقسم الثاني إذا قلب فرضه إلى نفل بغير سبب صحيح فعند الحنابلة تصح مع الكراهة قال تصح لأن نية النفل مندرجة في الفرض بدليل لو أحرم وهو يظن دخول الوقت ثم تبين له أن الوقت لم يدخل انقلبت صلاته إلى نفل فهذا يدل على أن النفل مندرج في الفرض وقالوا يكره لأنه أبطل عمله والقول الثاني أنه لا يجوز ولا يصح أن يقلب فرضه نفلاً بلا عذر ولا سبب صحيح لأن في هذا إبطال لفريضته بلا سبب - القسم الثاني وهو الذي ذكرته لك أولاً أن يقلب فرضه نفلاً لسبب صحيح فالصواب أنه يجوز بلا كراهة مثال للسبب الصحيح أن يحرم بالفريضة ثم تحضر جماعة ويريد أن يدخل معهم ليصلي الفريضة جماعة فيجوز له أن يقلب هذه الفريضة إلى نفل ويتمها ثم يدخل مع الجماعة التي حضرت فهذا سبب شرعي صحيح وقلت أنه يجوز ويصح بلا كراهة لأن جنس قلب النية جاء في السنة فالنبي - صلى الله عليه وسلم - لما صلى الليل منفرداً دخل معه ابن عباس رضي الله عنه وهو في هذه الحالة قلب النية من الانفراد إلى الإمامة وسيأتينا شواهد كثيرة في المسائل التالية بهذا كمل الكلام حول مسألة قلب المفترض نيته إلى نافلة قلب الفريضة إلى نافلة بهذا التفصيل كمل والذي يظهر لي في المسألة الأولى إذا كان القلب بلا حاجة مطلقاً أنه لا يجوز ولا أظن أن أحداً يفعل هذا الفعل إذ ما هو السبب أن الإنسان يدخل في الفريضة ثم يقلبها نافلة بلا سبب فإن فعل لو تصور وجود هذه الصورة فالذي أراه أنه لا يجوز ولا يصح كما هي الرواية الثانية عن الإمام أحمد - رحمه الله - • ثم قال - رحمه الله - وإن انتقل بنيته من فرض إلى فرض بطلى إذا انتقل بنيته من فرض إلى فرض بطل الفرض الأول والفرض الثاني وهذا يحتاج إلى إيضاح أولا يقول وإن انتقل بنيته ولهذ الكلمة مفهوم لأنه لو انتقل بغير النية بأن كبر ونوى نية جديدة للفريضة الثانية بطلت الأولى وصحت الثانية لأنه هنا لم ينتقل بنيته وإنما انتقل بنيته وتكبيره وشروعه في فرض آخر إذاً عندنا صورتان

الصورة الأولى أن ينتقل بمجرد النية فقط ينوي كمن كان يصلي العصر وتذكر أنه لم يصل الظهر فقلب نيته فوراً إلى نية الظهر فهو هنا هل كبر للظهر من جديد أو انتقل بمجرد النية؟ بمجرد النية إذا انتقل بمجرد النية بطلت الأولى ولم تصح الثانية لماذا؟ بطلت الأولى لأنه قطع نيتها ولم تصح الثانية لأنه لم يدخل فيها دخولاً شرعياً إذاً عرفنا الآن أنه إذا انتقل بغير النية بأن يشرع شروعاً جديداً بتكبيرة الإحرام ونية جديدة في الفريضة الثانية فإنه في هذه الصورة تبطل الأولى وتصح الثانية وأما إن انتقل وهو المقصود بكلام المؤلف - رحمه الله - بنيته فقط بطلت الأولى ولم تصح الثانية وعرفت التعليل - مسألة هل الذي بطل الفريضة بالنسبة للأولى أو الصلاة؟ الجواب إن نوى إبطال الفريضة صحت الصلاة نافلة لأنه إنما نوى إبطال الفريضة لا الصلاة من أصلها وإن نوى إبطال الصلاة من أصلها لم تصح الأولى لا فريضة ولا نافلة بعبارة أخرى أسهل إذا انتقل الإنسان بنيته من فريضة إلى فريضة بطلت الفريضتان ولكن هل تصبح الأولى نافلة؟ الجواب إن نوى بالإبطال إبطال الفرض فقط بالنسبة للأولى دون الصلاة صحت الأولى نافلة وبطلت فريضة وإن نوى إبطال الصلاة من أصلها بطلت الأولى والثانية فنفرق بين نية الفريضة ونية أصل الصلاة لأن نية الفريضة أمر زائد على مجرد الصلاة مداخلة من أحد الطلاب ليست واضحة من الشريط قال الشيخ بعدها هذا ينبني على الخلاف السابق قال الحنابلة وهذا ينبني على الخلاف السابق فيمن قلب فرضه نفلاً إن صحت تلك صحت هذه أحسنت تنبه ممتاز إذاً نقول إذا انتقل الإنسان نت فرضه إلى فرضه فهل تصبح الأولى نافلة أو تبطل؟ الجواب تصبح نافلة إن نوى إبطال الفريضة فقط وتبطل برمتها إن نوى إبطال الصلاة والقول بكونها تصبح نافلة مبني على المسألة السابقة وعي قلب المصلي نيته من الفرض إلى النفل وهاتان الصورتان اللتان ذكرتهما الأولى أن ينوي إبطال الفريضة فقط والثانية أن ينوي إبطال الصلاة برمتها فهذه هي الصورة الثانية

أن ينوي إبطال الصلاة كلها لا إبطال فريضة الظهر فقط في المثال المذكور يعني إذاً الصورة الثانية تسهيلاً من يصلي العصر ثم يذكر أنه لم يصل الظهر فإن نوى إبطال فريضة العصر صحت نافلة على القول بصحة النافلة وإن نوى إبطال الصلاة برمتها لم تصح لا نافلة ولا فريضة • ثم قال - رحمه الله - وتجب نية الإمامة والائتمام المؤلف - رحمه الله - يقول تجب نية الإمامة والائتمام يعني يجب على الإمام أن ينوي أنه إمام يقتدى به ويجب على المأموم أن ينوي أنه مأموم يقتدي بالإمام فان لم ين هذه النية الإمام والمأموم بطلب الصلاة في الإمام والمأموم إذاً عندنا مسألة الإمامة ومسألة المأموم - نبدأ بالمأموم المأموم بلا نزاع بين الفقهاء الأربعة أنه لا يكون مأموم إلا بنيته فإن لم ينو لم يكن مأموماً إذاً لا إشكال في مسألة الإئتمام أنه لا تصح إلا بالنية - نأتي لنية الإمامة فالمذهب يرون أنه يتشرط لصحة الإمامة وصحة صلاة الجماعة أن ينوي الإمام الإمامة الدليل قالوا الدليل على ذلك قوله - صلى الله عليه وسلم - إنما الأعمال بالنيات وذكروا تعليلاً حسناً آخر فقالوا أنه يترتب على صلاة الجماعة أحكام كثيرة منها سقوط السهو عن المأموم ومنها وجوب المتابعة وأحكام أخرى كثيرة ولا يتميز الإمام عن المأموم إلا بنية بناء على هذا لو صلى اثنان كل منهما يظن أنه الإمام بطلت صلاة الجميع ولو صلى اثنان يظن كل منهما أنه مأموم بطلت صلاة الاثنين لماذا؟ لأن شرط الإمامة والإئتمام لم يتوفر فبطلت الصلاة والقول الثاني أنه لا يتشرط للإمام أن ينوي الإمامة بل لو اقتدى شخص بشخص لم ينو أن يكون إماماً صحت الصلاة جماعة واستدل هؤلاء بحديث عائشة الثابت في صحيح البخاري أن النبي - صلى الله عليه وسلم - صلى في حجرته وكان جدار الحجرة قصيراً فصلى بصلاته أناس من الصحابة فظاهر هذا الخبر أنهم اقتدوا بالنبي - صلى الله عليه وسلم - ولم ينو أن يكون إماماً

ولا يستدل بحديث ابن مسعود ولا حديث ابن عباس رضي الله عنهما لأن بعد دخولهما نوى النبي - صلى الله عليه وسلم - الإمامة فصار يؤمهما لكن في هذا الحديث لم يعلم بهم أصلاً فهو ألصق وهذا القول كما ترون فيه حديث صحيح يجب المصير إليه فالراجح أنه لا يشترط للإمامة وصحت صلاة الجماعة أن ينوي الإمام الإمامة فما يحصل كثيراً وهو أن يقوم شخص يقضي الصلاة فيقف بجواره شخص لم يدرك الصلاة وؤيصلي بصلاته مع أن الإمام لم يشعر بذلك كله ففي هذه الصورة عند الحنابلة لا تصح لأن نية الإمامة والإئتمام واجبة وعلى القول الثاني صلاة الإمام صحيحة وصلاة المأموم صحيحة ولو لم ينو الإمام الإمامة لكن هناك بحث آخر الإمام له أجر الجماعة في مثل هذه الصورة وأن لم ينو؟ أو له أجر الانفراد لأنه لم ينو؟ هذا فيه خلاف والأقرب أنه ليس له نية الجماعة لأن الأعمال بالنيات ومعنى قوله - صلى الله عليه وسلم - إنما الأعمال يعني صحتها بالنيات يعني إنما تصح الأعمال وتبطل بالنية • ثم قال - رحمه الله - وإن نوى المنفرد الائتمام لم يصح يعني إذا نوى المنفرد في أثناء الصلاة الائتمام لم يصح لأن النية لم توجد من أول الصلاة والنية شرط والقول الثاني أن المنفرد إذا نوى الإئتمام تصح الصلاة ولو في أثناء الصلاة الدليل على هذا ما تقدم معنا أن في السنة شواهد كثيرة لقلب النية وأن الصلاة تصح مع ذلك منها حديث ابن مسعود رضي الله عنه السابق حيث دخل مع النبي - صلى الله عليه وسلم - في أثناء الصلاة ومنها حديث ابن عباس رضي الله عنه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قام يصلي الليل فقام معه ابن عباس في أثناء الصلاة وصف عن يساره فأخذه وجعله عن يمينه ومنها أن أبا بكر الصديق رضي الله عنه صلى بالناس إماماً فلما حضر النبي - صلى الله عليه وسلم - رجع وصار الإمام النبي - صلى الله عليه وسلم - فهنا انقلبت نية أبي بكر الصديق رضي الله عنه من الإمامة إلى الائتمام وفي حديث ابن عباس انقلبت نية النبي - صلى الله عليه وسلم - من الإنفراد إلى الإمامة

فهذه الشواهد تدل على أن جنس قلب النية ما دام لغرض شرعي صحيح أنه جائز ولا حرج فيه فالقول الثاني هو ما قلت لك في مسألة المنفرد إذا نوى الإئتمام أنه يصح • ثم قال - رحمه الله - قوله كنية إمامته فرضاً أي كما أنه لا يجوز أن يقلب المنفرد نيته من الانفراد إلى الإمامة في الفريضة فقط يعني أن الحنابلة يرون أن المنع من قلب نية المنفرد إلى نية الإمامة ممنوع في الفريضة فقط دون النافلة لأن الإمام أحمد يقول في النافلة جاء حديث ابن عباس فهو نص في قلب النية من الانفراد إلى الإمامة لكن قاتل الإمام أحمد هذا جاء في النافلة وليس كذلك يقول الفريضة لأنه لم يأت والقول الثاني أنه يجوز لأن ما ثبت في النافلة ثبت في الفريضة إلا بدليل خاص ولا دليل يستثني هذه الصورة • ثم قال - رحمه الله - وإن انفرد مؤتم بلا عذر بطلت مقصود المؤلف - رحمه الله - بقوله إذا انفرد المؤتم يعني خرج عن الجماعة وصلى منفرداً فالحكم يقول - رحمه الله - بطلت بشرط أن يكون ذلك بلا عذر التعليل أنه ترك متابعة الإمام بلا عذر كما لو تركها في أثناء الصلاة فإن المأموم لو ترمك متابعة الإمام في صلاة الجماعة بلا عذر بطلت صلاته فكذلك إذا انفرد والقول الثاني أنه إذا ترك متابعة الإمام بلا عذر تصح الصلاة قياساً على ما إذا نوى المنفرد الإمامة أو نوى المنفرد الائتمام والصواب القول الأول وهو المذهب ومن ترك الجماعة بلا عذر ولا سبب شرعي فصلاته باطلة - القسم الثاني أن ينفرد عن الجماعة ويترك المتابعة بعذر فهنا صلاته صحيحة لما ثبت في البخاري ومسلم أن معاذاً رضي الله عنه صلى بقومه فقرأ بالبقرة فانصرف رجل وصلى وحده فلما أخبر معاذ رضي الله عنه قال إنك منافق فقال الرجل لآتين النبي - صلى الله عليه وسلم - فلما أخبر النبي - صلى الله عليه وسلم - بما حصل قال - صلى الله عليه وسلم - أفتان أنت يا معاذ ففي الحديث إقرار للرجل على انفراده ولم يأمره بإعادة الصلاة الخلاصة أن انفراد المؤتم عن الجماعة ينقسم إلى قسمين إما أن يكون بعذر أو يكون بغير عذر

فإن كان بعذر جاز وصح وإن كان بغير عذر حرم وبطل • ثم قال - رحمه الله - وتبطل صلاة مأموم ببطلان صلاة إمامه بلا استخلاف مقصود المؤلف - رحمه الله - أنه إذا بطلت صلاة الإمام بطلت صلاة المأموم وأنه لا يجوز ولا يصح للإمام أن يستخلف وهذا معنى قوله بلا استخلاف والاستخلاف هو أن ينيب الإمام رجلاً من الجماعة ليكمل الصلاة بالباقين فعند الحنابلة إذا بطلت صلاة الإمام بطلت صلاة المأموم ولا يصح ولا يجوز أن يستخلف التعليل قالوا لارتباط صلاة الإمام بالمأموم فإذا بطلت صلاة الإمام بطلت صلاة المأموم والقول الثاني أن بطلان صلاة الإمام لا يؤدي إلى بطلان صلاة المأموم وعليه أن يستخلف الدليل الدليل على ذلك أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه لما طعن استخلف عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه فأتم بالمسلمين الصلاة وقد وقع هذا بحضرة الصحابة ولم ينكره منهم أحد فهو كالإجماع وهذا القول الثاني ظاهر القوة فتبين من ذلك أن بطلان صلاة الإمام لا يؤدي إلى بطلان صلاة المأموم إلا إذا بطلت في ما يحمله الإمام عن المأموم ففي هذه الصورة تبطل صلاة الإمام والمأموم القاعدة أن بطلان صلاة الإمام لا يؤدي إلى بطلان صلاة المأموم إلا فيما يحمله الإمام عن المأموم مثاله على القول بأنه لا يجب على المأموم قراءة الفاتحة في الجهرية أو في السرية على هذا القول من الذي يحمل عن المأموم قراءة الفاتحة؟ الإمام فلو فرضنا أن الإمام في السرية نسي أن يقرأ الفاتحة وذهب والمأموم لم يقرأ الفاتحة بناء على أن الإمام يحمل عنه قراءة الفاتحة ففي هذه الصورة بطلت صلاة الإمام وبطلت أيضاً صلاة المأموم هذا على القول بأن الإمام يحمل عن المأموم قراءة الفاتحة وستأتينا هذه المسألة في صفة الصلاة ثم في المسألة الأخير • قال - رحمه الله - وإن أحرم إمام الحي بمن أحرم بهم نائبه وعاد النائب مؤتماً صح معنى هذه المسألة أنه إذا تأخر الإمام عن الصلاة وتقدم النائب وأحرم بالصلاة ثم حضر بعد ذلك الإمام فإنه يجوز أن يؤم الجماعة ويصبح النائب مأموماً بعد أن كان إماماً

وهذا معنى قوله - رحمه الله - وإن أحرم إمام الحي بمن أحرم بهم نائبه وعاد النائب مؤتماً صح الدليل على هذا الحكم حديث أبي بكر الصديق رضي الله عنه فإنه نص في هذه المسألة بالذات حيث أصبح الإمام مأموماً وهو أبو بكر وأصبح النبي - صلى الله عليه وسلم - إماماً فهذه المسألة دليها هذا النص وبهذا نكون قد توقفنا على باب صفة الصلاة والله أعلم وصلى الله على نبينا محمد انتهى الدرس

[باب صفة الصلاة]

قال شيخنا حفظه الله: بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين. [باب صفة الصلاة] هذا الباب من كتاب الزاد هو أهم باب على الإطلاق لأنه يتعلق بالصلاة والصلاة هي أهم مباحث كتاب الزاد واهم مباحث الفقهاء وإنما اعتبرنا هذا الباب هو أهم الأبواب لمزيد عناية الشارع بالصلاة والتأكيد عليها وفزع النبي - صلى الله عليه وسلم - إليها وكونها فرضت في السماء وأهمية الصلاة لا تخفى على مسلم. فإن قيل: الأبواب السابقة أيضاً في الصلاة فهي في شروط الصلاة؟ فالجواب: أن هذا صحيح لكن الباب الذي يتحدث عن ماهية الصلاة والأعمال داخلها أهم من الأبواب التي تتحدث عن الشروط التي تسبق الصلاة. فمن هذه الجهة صار باب صفة الصلاة أهم من الأبواب السابقة له وإن كانت تتعلق بالصلاة أيضاً. ومما يؤسف له أن عامة المسلمين اليوم لا يؤدون الصلاة كما كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يؤديها. ونظرة سريعة إلى المصلين في المساجد تنبئك عن حال الناس اليوم في معرفة صلاة النبي - صلى الله عليه وسلم - والإخلال بها من قبل عامة الناس. ويزيد الأمر سوءاً أن يقع هذا الإخلال من طلبة العلم الذين يفترض فيهم وبهم أن يفقهوا صفة الصلاة تماماً وأن يدرسوها ويقرؤوا الأحاديث التي تعتني ببيان كيفية صلاة النبي - صلى الله عليه وسلم -. وكذلك لو نظر الإنسان إلى صلاة طلبة العلم لوجد أنها صلاة فيها كثير من الأخطاء والتجاوز السرعة الإخلال بالسنن.

وقد نظرت أنا إلى كثير من إخواننا في مناسبات مختلفة وهم يصلون فراعني وأحزنني جداً كيفية الصلاة التي يصلون عليها لا سيما بالذات ما يتعلق بالطمأنينة. فإنك تجد بعض الناس يصلي ولا تدري هل هو يصلي أو لا يصلي من كثرت الحركة. وأنا ذكرت مثالاً - لكثير من الإخوان - لأنه يحزنني جداً وهو أن الفقهاء ذكروا أن من ضوابط الطمأنينة والخشوع أن من يصلي إذا رأيته وحسبت أنه لا يصلي فقد أخل بشرط الطمأنينة وهو ركن من أركان الصلاة وكنت إذا مرَّ عليَّ هذا الكلام أو هذا الضابط عند الفقهاء أستغرب أن يوجد إلى هذه الدرجة أن لا يميز الإنسان هل هو يصلي؟ أو لا يصلي؟ من كثرت حركته حتى نظرت مرَّةً من المرَّات في أحد المساجد إلى شخص يصلي وقد والله ظننت أنه لا يصلي إلى أن ركع فعلمت أنه يصلي وقبل كنت لا أشك أنه لم يبدأ بالصلاة من كثرت حركته وعدم إقباله على الله إلى آخره ... وهذه الهيئة لا شك أنها تخالف سيرة النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه وتعلمون كلكم يعلم القصص الكثيرة عن صلاة الصحابة لا سيما صلاة أبي بكر الصدِّيق رضي الله عنه وأرضاه وكثير من السلف الذين كانوا يصلون صلاة تشبه صلاة النبي - صلى الله عليه وسلم - ومن أكثر هذه القصص لفتاً للانتباه ما روي أن رجلاً دخل البصرة لزيارة الحسن البصري رضي الله عنه ورحمه وكان لا يعرف وجهه فقال لرجل في الشارع كيف لي بالحسن؟ أين أجد الحسن؟ فقال أدخل هذا الجامع يقصد جامع البصرة وابحث عن أحسنهم صلاة وأكثرهم طمأنينة فسيكون هو الحسن البصري. فسيستدل عليه لا بشكله وإنما بهيئته في الصلاة. نسأل الله سبحانه وتعالى أن يعيننا على الخشوع والطمأنينة كما نسأله أن يعيننا فقه هذا الباب وأن يوفقنا فيه لإصابة الحق مما اختلف فيه أهل العلم. • قال رحمه الله تعالى ((باب صفة الصلاة)) الصفة هي: الهيئة صفة الشيء أي هيئة الشيء ومقصود الفقهاء بصفة الصلاة أي الكيفية التي تصلَّى بها الصلاة على جهة التفصيل لا الإجمال. والعمدة في معرفة صفة الصلاة قول النبي - صلى الله عليه وسلم - ((صلوا كما رأيتموني أصلي)) فأمر أمراً عامَّاً بالاقتداء به اقتداء خاصاً.

وباب صفة الصلاة ذكره المؤلف بعد باب شروط الصلاة لأن هذا هو الترتيب المنطقي والطبعي وهو أن يذكر الشرط قبل ذكر المشروط وهذا الترتيب شرعي وعقلي ومنطقي. • قال رحمه الله: يسن القيام عند: ((قَدْ)) من إقامتها المؤلف رحمه الله سيذكر في هذا الباب السنن والواجبات والأركان والمكروهات وكل ما يتعلق بالصلاة على جهة التفصيل ثم يعقد باباً خاصَّاً للأركان والواجبات والمكروهات إلى آخره تفصيلاً. لكنه في هذا الباب سيذكر كل ما يفعله المصلي سواء كان واجباً أو مسنوناً أو ركناً أو غير ذلك. • يقول رحمه الله: ((يسن القيام عند: قَدْ من إقامتها)) أي عند قول المقيم: قد قامت الصلاة. والمؤلف يريد بهذه العبارة بيان الوقت الذي يستحب فيه أن يقوم المصلي. وفي هذه المسألة تفصيل فهي تنقسم إلى قسمين: القسم الأول: أن يقيم المؤذن الصلاة والإمام لا يرى في المسجد – ليس موجوداً في المسجد. ففي هذا القسم لا يقوم المصلي إلا إذا رأى الإمام لما في الصحيحين من حديث أبي قتادة رضي الله عنه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((إذا أقيمت الصلاة فلا تقوموا حتى تروني)). القسم الثاني: أن يكون الإمام موجوداً يرى وفي هذا القسم اختلف الفقهاء على أقوال: القول الأول: وهو المذهب أن المصلي يقوم إذا قال المقيم قد قامت. والقول الثاني: أن المصلي يقوم إذا بدأ المقيم بالإقامة وهذا مذهب الأحناف. والقول الثالث: أن المصلي ليس لقيامه حدَّاً محدوداً شرعياً وإنما يختلف ذلك بالمصلي فإن كان ضعيفاً شرع له أن يقوم مبكراً ليتمكن من تحصيل تكبيرة الإحرام وإن كان قويَّاً فلا بأس بتأخره لأنه يستطيع أن يقوم ويدرك تكبيرة الإحرام. والخلاصة أنه ليس لهذا القيام حدٌّ معروفٌ شرعاً. وهذا مذهب الإمام مالك. وهذا القول الثالث هو أعدل الأقوال. وأنتم الآن عرفتم أن هذا الخلاف والتفصيل متى؟ إذا كان الإمام يرى إذا كان الإمام لا يرى فالأمر محسوم بالحديث الذي أخرجه الشيخان. • قال رحمه الله: وتسوية الصف أي ويسن أن يسوي الإمام الصف الصفوف وتسوية الصفوف سنة بإجماع الفقهاء. ولكن اختلفوا هل هي واجبة؟ أو ليست بواجبة؟ فالجمهور على أنها سنَّة وهو القول الأول وهو المذهب.

والقول الثاني: أن تسوية الصفوف واجبة. وهو مذهب الإمام البخاري رحمه الله وغفر له – واختاره شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله. واستدل هؤلاء بالنصوص الآمرة كقوله - صلى الله عليه وسلم - ((سووا صفوفكم)) وكقوله - صلى الله عليه وسلم -: ((لتسوون صفوفكم أو ليخالفن الله بين وجوهكم)). وهذه النصوص صريحة بالأمر والإيجاب. وهذا القول هو المتوافق مع ظواهر النصوص. وعلى القول بالوجوب هل تبطل صلاة من ترك التسوية؟ أو لا تبطل. أيضاً اختلف فيه الفقهاء ونكتفي فيه بالقول الراجح وهو أن الصلاة لا تبطل بترك التسوية. وهي مسألة مهمة جدا لكثرة من يترك تسوية الصفوف من الأئمة. إذا القول الراجح: أنها واجبة ولكن تركها لا يبطل الصلاة. الدليل الأول أن أنس بن مالك رضي الله عنه دخل المدينة بعد غياب طويل ووجد الناس لا يعتنون بتسوية الصفوف فأنكر عليهم ولم يحكم ببطلان الصلاة. الدليل الثاني: أن تسوية الصفوف واجبة للصلاة وليست واجبة في الصلاة. فتركها لا يؤدي إلى بطلان الصلاة. ومع كون هذا القول هو الراجح وهو عدم البطلان إلا أن طالب العلم يعرف من خلال هذا الخلاف خطورة ترك تسوية الصفوف. المقدار الواجب: بماذا يحصل تسوية الصفوف؟ تحصل بتطبيق ضابطين ذكرهما الفقهاء – وهي المسألة الثالثة من مسائل تسوية الصفوف. الضابط الأول: اعتدال الصف على سمت واحد. الضابط الثاني: تراص الصف بحيث لا يبقى فيه فرجة. هذا ضابطان إذا تحققا تحققت التسوية وإذا اختل أي منهما اختلت التسوية. • قال رحمه الله: ويقول: ((اللَّه أَكْبَرُ)). أيضاً تتعلق بهذا اللفظ عدة مباحث. المبحث الأول: أن الصلاة لا تنعقد إلا بهذا اللفظ وهو قول المصلي: الله أكبر. وعلى هذا جماهير العلماء من السلف والخلف أن الصلاة لا تنعقد إلا بهذا اللفظ بدليل أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يفتتح الصلاة إلا به ولم يحفظ عنه قط افتتاح الصلاة بغير هذا اللفظ فدلَّ ذلك على تعين هذا اللفظ. فإذا قال: الله الأكبر أو الله الأعز أو الله الجليل فإن صلاته لم تنعقد. المسألة الثانية: الدليل على ركنية التكبير: له أدله نأخذ دليلاً من القرآن ودليلاً من السنة. فدليله من القرآن قوله تعالى ((وربك فكبر)).

وقد أجمع المفسرون على أن هذه الآية في الصلاة. الدليل الثاني وهو من السنة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال للمسيء لصلاته استقبل القبلة ثم كبِّر. مسألة ثالثة: معنى الله أكبر. اختلفوا في معناها على قولين: القول الأول: أن الله أكبر تفسر بتقدير محذوف وهو الله أكبر أي من كل شيء. وإلى هذا ذهب العلامة سيبويه. القول الثاني: أن معنى الله أكبر أي من أن يذكر بغير التحميد والتمجيد والتعظيم. والصواب أن التكبير يشمل المعنيين. المبحث الثالث: أن التكبير لا ينعقد في الفريضة إلا من قائم فإن قال التكبير أو قال بعضه قبل أن يستتم قائماً انقلبت الفريضة إلى نافلة إن اتسع الوقت وإن لم يتسع لزمه قطع الأولى واستئناف الفريضة. • قال رحمه الله: رافعاً يديه أي أنه يسن لمن أراد أن يكبر تكبيرة الإحرام أن يرفع يديه وهذه السنة وهي رفع اليدين لتكبيرة الإحرام ثابتة بإجماع الفقهاء ورواها عدد كبير من الصحابة منهم العشرة المبشرون بالجنة رحمهم الله ورضي الله عنهم وأرضاهم. بل قال الشافعي: لم يرو سنة عدد من الصحابة كما رويت هذه السنة. فهي سنة متواترة عن النبي - صلى الله عليه وسلم -. بقينا في مسألة وهي: متى يرفع اليدين بالنسبة للتكبير؟ فمذهب الحنابلة– كما ترون –ويفهم من عبارة المؤلف أن التكبير يقترن برفع اليدين. فيرفع ويكبر في وقت واحد واستدلوا على ذلك بحديث ابن عمر أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كبَّرَ ورفع يديه. ففهموا من هذا المقارنة. والقول الثاني: أن الرفع يكون قبل التكبير فيرفع يديه ثم يكبر. واستدل أصحاب هذا القول برواية لحديث ابن عمر وفيه: رفع يديه ثم كبَّر. والقول الثالث: أن التكبير يسبق الرفع لما جاء في حديث مالك بن الحويرث في مسلم أنه كبر ثم رفع. إذاً إذا أردنا أن نلخص الأقوال: كبر ورفع في وقت واحد. رفع ثم كبر وهو في حديث ابن عمر. كبر ثم رفع وهو في حديث مالك بن الحويرث. أغرب هذه الصفات الصفة التي جاءت في حديث مالك بن الحويرث ولذلك لا تكاد تجد أحداً من الفقهاء يقول بهذه الصفة. لكن هذه الصفة ثابتة في حديث مسلم وإذا كانت ثابتة في حديث مسلم فإن الإنسان في سعة من أمره أن يأخذ بها إن شاء الله.

وعمل عامة الناس إما على حديث ابن عمر الذي يوافق مذهب الحنابلة أو على رواية ابن عمر الأخرى وهي التي توافق القول الثاني. أما أن يقول الإنسان الله أكبر ثم بعد قليل يرفع قليل من الناس من يعمل هذه الصفة ففي الحقيقة فيها غرابة لكن مادام أنها ثابتة في حديث مالك بن الحويرث فالإنسان كما قلت في سعة أن يعتمدها. والقول الرابع: أن السنة التنويع واختار هذا القول من العلماء المحققين الشيخ ابن مفلح في الفروع وقوله هو الأقرب: أن الإنسان يفعل هذا تارة وهذا تارة. • قال رحمه الله: مضمومتي الأصابع يعني أنه يسن لمن أراد أن يرفع يديه عند تكبيرة الإحرام أن يضم أصابعه هكذا. الدليل قالوا الدليل على ذلك حديث أبي هريرة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يكبر رافعاً يديه مدَّاً. وجه الاستدلال في هذا الحديث أن المصلي إذا مدَّ يديه فإن هذا يؤدي في الغالب إلى ضم الأصابع. والقول الثاني في هذه المسألة وهو مذهب الشافعية أن السنة نشر الأصابع لا الضم. واستدلوا على ذلك بأن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان إذا كبَّر نشر أصابعه وهذا الحديث ضعيف. ولو قيل أن مسألة ضم أو تفريق الأصابع الأمر فيها فيه سعة وليس في هذا تحديد لكان قولاً حسناً جداً لأنه ليس في السنة ما يثبت الضم أو التفريق لكن هذا القول الثالث لم أجد من قال به ولو قيل به لكان قولاً متجهاً جداً فإن كان قيل بهذا القول فهو الراجح وإن كان العلماء اختلفوا على قولين فقط الضم والتفريق فالضم هو الصواب. • ثم قال رحمه الله: ممدودة حذو منكبيه إذاً مع الضم السنة المد ودليل المد هو الحديث السابق كما هو ظاهر وهو حديث أبي هريرة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يرفع يديه ممدودة. ففي هذا دليل على أن الأصابع أثناء التكبير تضم وتمد. واستدلوا على بأن هذه الصفة الضم والمد أقرب للخشوع من النشر والطوي وهذا صحيح ولذلك تجد غالب من يكبر بدون مد وبدون ضم ينسب إلى نوع من الاستهانة بالتكبير لأن صفته وهيئته لا تدل على الخشوع والعناية بالصلاة فهذا المعنى يؤيد مذهب الحنابلة. • ثم قال رحمه الله: ((ممدودة حذو منكبيه))

يعني أن السنة أن يكون الرفع بحيث تكون اليد حذو المنكب وهذه الهيئة جاءت في حديثين صحيحين. الحديث الأول: حديث أبي حميد الساعدي. والحديث الثاني حديث ابن عمر. ففي كل من الحديثين أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يرفع إلى أن يحاذي بيديه منكبيه - صلى الله عليه وسلم -. والقول الثاني أن الرفع إلى محاذاة الأذنين. لما في حديث وائل بن حجر أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يرفع يديه إلى أذنيه - صلى الله عليه وسلم -. والقول الثالث: أن المصلي مخير فأحياناً يرفع إلى المنكبين وأحياناً إلى الأذنين. فائدة: كان الإمام أحمد رحمه الله يقول بالتخيير بين الرفع إلى الأذنين أو إلى المنكبين ولكنه يميل ويحب الرفع إلى المنكبين وعلل ذلك بقوله أن أحاديث الرفع إلى المنكبين أكثر وأصح وأشهر مع صحة حديث الرفع إلى الأذنين. إذاً هو يرى التخيير ولكنه يحب ويقدم الرفع إلى المنكبين ولذلك نقول المستحب للإنسان أن ينوع تارة إلى الأذنين وتارة إلى المنكبين ولكن يكون الأغلب عليه إلى المنكبين لكثرة أحاديثه وشهرتها وصحتها. كالسجود أي كما يفعل في السجود فإنه في السجود يضع يديه حذو منكبيه – سيأتينا التفصيل في هيئة السجود لأن المؤلف سينص عليها. • ثم قال رحمه الله: ويسمع الإمام من خلفه أي أنه يسن أن يسمع الإمام المأمومين التكبير فهذا عند الحنابلة بل عند الجمهور بل الجماهير كما سيأتينا سنة. لقول النبي - صلى الله عليه وسلم - فإذا كبر فكبروا. والقول الثاني أن الجهر بالتكبير واجب والتعليل أن اقتداء المأموم بالإمام لا يتم إلا بذلك. وهذا القول اختاره شيخنا رحمه الله وغفر له الشيخ محمد العثيمين. ولكن يشكل على هذا القول مسألة واحدة وهي أن الفقهاء يحكون الإجماع على الاستحباب وممن حكى الإجماع الشيخ النووي في كتابه المجموع. فإذا لم يثبت الإجماع وصار في المسألة خلافاً فإن الراجح ما قاله شيخنا من أن هذا واجب وليس سنة فقط.

لأنه في الحقيقة لا يحصل الاقتداء والإئتمام على الوجه المطلوب إلا بالجهر بالتكبير وأسماع المصلين واستدل شيخنا على الوجوب بدليل آخر وهو أن أبا بكر الصديق رضي الله عنه كان يبلغ المأمومين تكبيرات النبي - صلى الله عليه وسلم - ولو لم يكن تبليغ المأمومين واجباً لما فعله أبو بكر الصديق رضي الله عنه. في الحقيقة الأدلة التي ذكرها قوية جداً وواضحة لكن فقط يشكل عليها هذه المسألة وهي حكاية الإجماع. • ثم قال رحمه الله: كقراءَته في أولتي غير الظهرين. أي كما يسن أن يسمع من خلفه بالتكبير كذلك يسن أن يسمعهم القراءة في صلاة العشاء والمغرب والفجر. والجهر بهذه الصلوات بالقراءة سنة لدليلين. الأول: الإجماع فقد أجمع الفقهاء أن الجهر فيها سنة. الثاني: فعله - صلى الله عليه وسلم - فقد كان يجهر بالقراءة في هذه الصلوات. انتهى الدرس

قال شيخنا حفظه الله بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين • قال رحمه الله وغيره نفسه يعني ويسمع غير الإمام نفسه - وهو المنفرد والمأموم فالمنفرد والمأموم يجب عليهما أن يسمعا أنفسهما والدليل على هذا الحكم أنه لا يسمى الكلام كلاماً إلا إذا كان مع الصوت والصوت حده ما يتأتى سماعه بلا عذر بناء على هذا إذا لم يسمع المنفرد والمأموم نفسه أثناء القراءة فإنه لم يقرأ فإذا كان منفرداً وقرأ الفاتحة بلا صوت بطلت الصلاة والقول الثاني أنه لا يشترط أن يسمع نفسه بل يكتفى بالنطق بالحرف لأن الصوت أمر زائد على النطق ولا دليل على إيجابه وهذا هو اختيار شيخ الإسلام بن تيمية رحمه الله وهذا هو الصواب فائدة مهمة هذا البحث يتعلق بكل ما يشترط له النطق كالطلاق والأذكار وغيرها مما يشترط له النطق فالخلاف فيه كالخلاف في هذه المسألة فإذاً هي مسألة مهمة

ومذهب الحنابلة مع كونه مرجوحاً من حيث الدليل فهو مع ذلك يسبب التشويش على الناس فإن المأموم إذا صار يقرأ بصوت يسمع نفسه شوَّش على من بجانبه كما هو مشاهد من بعض الناس الذين يرفعون أصواتهم إذا أرادوا أن يقرؤوا • ثم قال رحمه الله ثم يقبض كوع يسراه ذهب الجماهير من السلف والخلف إلى أن السنة للمصلي أن يقبض فإن أرسل يديه فقد خالف السنة واستدلوا على هذا الحكم بنصوص كثيرة أصحها ما أخرجه البخاري عن سهل بن سعد الساعدي رضي الله عنه قال كان الناسي يؤمرون أن يضع الرجل يده اليمنى على ذراعه اليسرى في الصلاة واستدلوا بما أخرجه الإمام مسلم في صحيحه عن وائل بن حجر رضي الله عنه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يضع يده اليمنى على اليسرى في الصلاة وهذه أحاديث صحيحة ثابتة في البخاري ومسلم والقول الثاني أن السنة الارسال لا القبض وإلى هذا ذهب الإمام مالك بن أنس والإمام الليث بن سعد رحمهما الله واستدلوا على هذا القول بأن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يأمر المسيء صلاته بالقبض والجواب على دليلهم من وجهين الوجه الأول أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يذكر في هذا الحديث إلا الواجبات فقط ونأخذ السنن الكثيرة من الأحاديث الأخرى والوجه الثاني قاعدة تقدمت معنى كثيراً وهي من القواعد التي تساعد في الترجيح ومعرفة الحق من الأقوال أن الخاص مقدَّم على العام فأحاديث الجمهور خاصة بالقبض وحديث المسيء عام في صفة الصلاة والراجح كما لا يخفى الذي ينبغي المصير إليه أن السنة القبض لا الإرسال وقد يخلط بعض إخواننا بين هذه المسألة وبين مسألة القبض بعد الرفع من الركوع وهذه مسألة أخرى إذا وصل المؤلف إلى الكلام عليها تكلمنا عنها الآن عرفنا أن القبض هو السنة وأن الإرسال خلاف السنة المسألة الثانية كيفية هذه السنة؟ عن الإمام أحمد في هذه المسألة روايتان صحيحتان عنه الرواية الأولى أن السنة أن يقبض باليمنى على اليسرى على الرسغ والرسغ هو العظم الذي يفصل الكف عن الذراع

وهذه الرواية هي المذهب وقول المؤلف يقبض على كوعه لا يختلف مع ما ذكرته من القبض على الرسغ وإنما عبَّرت بالرسغ لأنه هو المروي عن الإمام أحمد ولأنه أدق ولكن هذا لا يختلف عما ذكره المؤلف لأن الكوع هو العظم الذي يلي الإبهام فهو والرسغ واحد فمن قبض على الرسغ فقد قبض على الكوع دليل هذه الرواية حديث وائل بن حجر في مسلم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - وضع يده اليمنى على اليسرى وفي رواية أخرجها الدارقطني في سننه قبض بيمينه على شماله الرواية الثانية أن السنة أن يضع يده اليمنى على الكف والرسغ والذراع لا على الكف ولا على الذراع وإنما هكذا ودليل هذه الرواية أيضاً لفظ في حديث وائل بن حجر أنه قال ووضع يده اليمنى على ظهر كفه والرسغ والساعد ودليل هذه الرواية ايضاً اللفظ الذي في مسلم وهو أنه وضع يده اليمنى على اليسرى وليس عن الإمام أحمد فيما أعلم رواية سوى هاتين الروايتين وذهب بعض الفقهاء إلى أن للقبض صفة ثالثة وهي أن يضع يده اليمنى على الذراع واستدل على هذا باللفظ الذي أخرجه مسلم عن سهل الساعدي رضي الله عنه أنه قال ووضع يده اليمنى على ذراعه اليسرى ولكن في النفس من ثبوت هذه الصفة شيء بل الأقرب عدم ثبوتها أولاً لأنه لم يذكر أحد من متقدمي العلماء هذه الصفة – فيما أعلم – ثانياً لما أراد الحافظ بن حجر أن يشرح حديث سهل في البخاري ووصل إلى هذه اللفظة وهي وضع يده اليمنى على ذراعه اليسرى قال وأبهم الراوي موضع القبض وفصلته الأحاديث الأخرى فهو لا يرى أن هذه الصفة مقصوده أو هذا الفظ مراد للراوي فلذلك يعتبر أن الصحابي الجليل سهل في هذه الرواية أبهم وإن تمسك أحد بظاهر النص وعمل به واعتبر هذه الصفة صفة ثالثة فلا حرج عليه إن شاء الله • ثم قال رحمه الله تحت سرته لما بين المؤلف أن السنة القبض وبين كيف يقبض بيده اليمنى على يده اليسرى أراد أن يبين الموضع الذي يضع عليه يديه فقال تحت سرته وهذا مذهب الحنابلة المذهب الاصطلاحي والأحناف أن الإنسان يقبض تحت السرة والقول الثاني أن القبض يكون فوق السرة وتحت الصدر وهو مذهب الشافعية

القول الثالث أنه يضع حيث شاء وأن المصلي مخير وهذا رواية عن الإمام احمد واختارها الحافظ الكبير الترمذي واختارها أيضاً الشيخ الفقيه المجد ابن تيمية واستدلوا بأنه ليس في السنة الصحيحة ما يدل على موضع وضع اليدين وهذا القول الاخير هو القول الصحيح وفهم من حكاية الخلاف انه لا يوجد من يقول بسنية وضع اليدين على الصدر وهذا صحيح بل الامام ابو داود صاحب السنن سئل الامام أحمد عن وضع اليدين على الصدر فكرهه فوضه اليدين على الصدر عند الإمام أحمد حكمه مكروه لأنه لم يرد ولما فيه من التشدد الغير وارد في الشرع فإذاً لا يشرع أن يضع الإنسان يديه على صدره ولا قائل بذلك بل قيل بالكراهة فإن قيل أليس في هذا الباب حديث صحيح يدل على موضع وضع اليدين من الصدر أو مما تحت الصدر؟ الجواب لا ليس في الباب أي حديث صحيح أي حديث يمرُّ بك يحدد موضع وضع اليدين فهو حديث ضعيف فإن قلت في حديث وائل بن حجر أنه قال وضع يده اليمنى على اليسرى على صدره فالجواب هذا صحيح وهو مروي في السنن وهو أقوى ما يستدل به على وضعها على الصدر ولكن مع ذلك هذه اللفظة شاذة منكرة لا تثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وحديث وائل رواه الإمام مسلم بدون هذه الزيادة الخلاصة أنه لا يثبت في هذه المسألة حديث صحيح فيضع الإنسان يده حيث شاء ولكن من المعلوم أن وضع اليدين تحت الصدر وفي المنطقة التي بين الصدر والبطن أنه والله أعلم أقرب للخشوع • ثم قال رحمه الله وينظر مسجده كما تلاحظ عناية المؤلف العناية الشديدة بتفصيل كل مرحلة من مراحل الصلاة اهتماماً وتعظيماً لأمرها ينظر إلى مسجده أي أن السنة أن ينظر المصلي إلى مكان السجود فإن رفع بصره في قيامه عن مكان السجود فقد خالف السنة وإن رفع بصره إلى السماء فقد ارتكب محرَّماً الدليل على سنية النظر إلى موضع السجود مارواه سعيد بن منصور بإسناده عن ابن سير ين أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يقلب بصره في السماء فلما نزل قوله تعالى والذين هم في صلاتهم خاشعون طأطأ رأسه - صلى الله عليه وسلم -

وهذا الاسناد صحيح ثابت إلى ابن سيرين ومعلوم ان ابن سيرين من التابعين فهو حديث منقطع لكنه ثابت إلى ابن سيرين أي أنا نجزم أن ابن سيرين نسب هذا الحديث إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - وتقدم معنى أن الحديث المرسل الثابت من طريقة الإمام أحمد أن يأخذ به وأنه أولى من أقوال الرجال لا سيما وأنه يجزم هذا التابعي الجليل بنسبته إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - وهذا المذهب هو اختيار الجمهور والقول الثاني وهو مذهب المالكية أن الإنسان ينظر إلى الأمام وهو مذهب ضعيف جدا إذ لا يعتمد على أثر ثم إن فيه تشتيتاً وإشغالاً للمصلي وإبعاداً له عن الخشوع الطمأنينة ولوضح ضعف هذا القول نجد أن محققي المالكية ضعفه واختار مذهب الجمهور وهو الحافظ ابن عبد البر مع كونه مالكياً إلا أنه يرى أن هذا القول ضعيف وأن الصواب مع الجمهور في أن السنة النظر إلى موضع السجود واستثنى العلماء من هذا الحكم العام بعض الصور العارضة فمثلاً في صلاة الخوف إذا كان العدو تجاه القبلة فالمشروع أن ينظر إلى العدو لا إلى موضع سجوده أيضاً إذا كان الإنسان يخشى على ماله وولده وهم في تجاه القبلة يخشى عليهم من الهلاك أو الضرر فإنه ينظر إليهم ولا ينظر إلى موضع سجوده وذكروا عدة مسائل مستثناة ولكن الأصل الثابت الواضح أن السنة في حق المصلي أن ينظر إلى مصلاه مسألة هل ينظر المصلي إلى مصلاه وإن كان في الجلوس بين السجدتين أو للتشهد الجواب أن هذا موضع خلاف بين الفقهاء فمنهم من يرى أن المصلي ينظر إلى إصبعه في الجلوس لحديث رواه أبو داوه في سننه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يصنع هكذا والقول الثاني أن الانسان ينظر في جميع أجزاء الصلاة إلى موضع السجود والأقرب النظر إلى اليد إن صح الحديث الذي في سنن أبي داود • ثم قال رحمه الله ثم يقول سُبْحَانَكَ اللَّهمَّ وَبِحَمْدِكَ وَتَبَارَكَ اسْمُكَ وَتَعَالَى جَدُّكَ وَلاَ إِلَهَ غَيْرُكَ السنة بعد أن يقبض الإنسان يديه ويلقي ببصره إلى موضع سجوده أن يبدأ بالاستفتاح

وقد روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنواع عديدة من الاستفتاحات اختار الإمام أحمد منها هذا الاستفتاح المروي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه مع تجويزه رحمه الله قول غير هذا النوع من أنواع الاستفتاحات فيتعلق بهذا عدة مباحث أولاً هذا الحديث المروي عن عمر في الاستفتاح روي مرفوعاً إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - وموقوفاً على عمر بن الخطاب رضي الله عنه والصواب الذي رجحه الإمام مسلم أن هذا الحديث موقوف على عمر رضي الله عنه ولكني لا أشك أنه مرفوع حكماً لأنه لا يعقل أن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب يحدث ذكراً في الصلاة ويعلمه الناس ولم يأثره عن النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا هو من جهة الاسناد موقوف على عمر لكن له حكم الرفع المسألة الثانية لماذا رجح الامام أحمد هذا النوع من الاستفتاحات على غيره؟ مع أن البخاري ومسلم أخرجا في صحيحيهما حديث أبي هريرة المشهور أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يستفتح صلاته بقوله اللهم باعد بيني وبين خطاياي كما باعدت بين المشرق والمغرب الحديث لماذا اختار الإمام أحمد هذا الحديث على ذاك مع تجويزه قول الامرين اختاره لسببين السبب الاول مافيه من تمجيد وتعظيم لله السسبب الثاني أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه كان يجهر بهذا الاستفتاح يعلمه الناس مما يدل على أهميته واعتناء الصحابة به مسألة هل المشروع في دعاء الاستفتاح الجهر أو الاسرار؟ الجواب المشروع فيه إجماعاً الاسرار السؤال لماذا إذا جهر به عمر بن الخطاب الجواب ليعلمه للناس وباعتبار أنا نتكلم عن الجهر والاسرار فينأخذ قاعدة في هذه المسألة وهي أن كل ما يشرع أن يجهر به وكل مايشرع أن يسر به فهو على سبيل السنية فمثلاً المشروع في قراءة الركعة الأولى والثانية من صلاة المغرب الجهر أو الاسرار؟ الجهر فهذا الجهر هو مشروع على سبيل السنية والاستحباب لا الوجوب وما حكم الاسرار بقراءة الركعة الثالثة من المغرب؟ سنة فالاسرار به يسن على سبيل الاستحباب لا الوجوب لدليلين الأول إجماع الفقهاء على ذلك

الثاني أنه هكذا روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه جهر فيما جهر به وأسر فيما أسر به فإن قرأ سراً في الركعة الأولى من المغرب فقد خالف السنة ولا حرج عليه وإن جهر في الركعة الثالثة فقد خالف السنة ولا حرج عليه ومن المعلوم أن هذا وإن قرر علماً وفقها ودليلاً إلى أنه لا ينبغي أن يعمل به بين الناس اولاً لأنه مخالفة صريحة للسنة ثانياً لما يسببه من تشوش وإشكال بالنسبة لعوام الذين لا يعرفون الأحكام الفقهية • ثم قال رحمه الله ثم يستعيذ الاستعاذة سنة عند جماهير الفقهاء عند أحمد والشافعي وأبي حنيفة واستدلوا على سنية الاستعاذة بقوله تعالى فإذا قرأت القرآن فاستعذ بالله والآية عامة في القراءة داخل الصلاة وخارجها واستدلوا على ذلك بعدة أحاديث لا يخلو شيء منها منن ضعف ولكن هذه الأحاديث باعتبار أن ضعفها يسير مع ما تدل عليه الآية يكفي لإثبات سنية الاستعاذة والقول الثاني للأمام مالك أن المصلي لا يستعيذ وإنما يشرع بالقراءة واستدل على ذلك بحديث أنس أنه قال كانوا يفتتحون الصلاة بالحمد لله رب العاملين والجواب عن الاستدلال بالحديث أن مقصوده يفتتحون القراءة – قراءة القرآن – بالحمد لله رب العالمين وهذا صحيح ولا يمنع ذلك أن يسر بالاستعاذة والراجح من القولين القول باستحباب الاستعاذة والعمدة في الحقيقة على الآية ثم لما ذكر الاستعاذة انتقل إلى البسملة فقال ثم يبسمل سراً وليست من الفاتحة ذكر عدة مسائل في البسملة نأخذ هذه المسائل على ترتيب المؤلف ثم يبسمل أي أن المشروع للمصلي بعد أن يستعيذ وقبل أن يبدأ بالفاتحة أن يبسمل فيقول بسم الله الرحمن الرحيم وإلى هذا أيضاً ذهب الجمهور واستدلوا على ذلك بحديث أبي هريرة أنه رضي الله عنه صلى وقرأ بسم الله الرحمن الرحيم ثم قال إني أشبهكم صلاة برسول الله - صلى الله عليه وسلم - ففي هذا الحديث إثبات البسملة وأنه إنما قالها اقتداء بالنبي - صلى الله عليه وسلم -

والقول الثاني للمالكية وهو أن المصلي لا يذكر بسم الله الرحمن الرحيم قبل القراءة واستدل الإمام مالك رحمه الله على ذلك بحديث أنس قال صليت خلف النبي - صلى الله عليه وسلم - وأبي بكر وعمر وعثمان وكانوا يفتتحون القراءة بالحمدلله رب العالمين لا يذكرون بسم الله الرحمن الرحيم في أول قراءة ولا في آخرها وهذا نص صريح في نفي قراءة بسم الله الرحمن الرحيم الجواب أن مقصوده رضي الله عنه أنهم كانوا لا يجهرون ببسم الله ويدل على أن هذا مراده الرواية الأخرى عنه وفيها كانوا لا يجهرون ببسم الله الرحمن الرحيم وبهذه الرواية يزول الاشكال وإلا بلى هذه الرواية فإن الحديث مشكل فهو ينفي البسملة صراحة لكن لما جاءات هذه لاالرواية زال معها الاشكال واستطعناأن نجمع بين أقوال الصاحبي الجليل أبي هريرة رضي الله عنه والصواب أن المصلي يقرأ بسم الله الرحمن الرحيم المسألة الثانية هل يسر بها أويجهر؟ فالحنابلة والجمهور كما ترون يذهبون إلى أن المصلي لا يجهر ببسم الله الرحمن الرحيم واستدلوا بدليلين الأول حديث أنس السابق حيث تقدم معنا أن المنفي فيه هو الجهر والدليل الثاني وهو قوي جداً ومن أسباب الترجيح في المسألة أنه لا يعقل أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يقرأ في كل يوم بسم الله الرحمن الرحيم جهراً في ثلاث صلوات ولا ينقل هذا نقلاً متواتراً ولا يعرفه الخلفاء الراشدون قال ابن القيم هذا من أمحل المحال – وصدق رحمه الله فلا يمكن أي يقع هذا مطلقاً وذهب الشافعية كمل هو المشهور وكما ترون بعض إخواننا الشافعية إلى الجهر ببسم الله الرحمن الرحيم واستدلوا على هذا بأحاديث كثرة ثبت فيها الجهر ببسم الله الرحمن الرحيم عن النبي - صلى الله عليه وسلم - والجواب عن هذه الأحاديث التي ذكروها إجمالاً من وجهين الجواب الأول أن الإمام الحافظ الناقد الدارقطني قال لايصح في الجهر ببسم الله الرحمن الرحيم حديث قط الجواب الثاني عن أحاديثهم ماذكره ابن القيم فقال أحاديبثهم صريحة غير صحيحة أو صحيحة غير صريحة إما أن تكون صريحة في المقصود لكنها ضعيفة غير صحيحة

أو تكون ثابتة من جهة الإسناد لكنها غير صريحة يعني لايفهم منها الجهر والراجح من القولين الاسرار وإنما ينتفع طالب العلم إذا سمع هذا الخلاف أنه إذا سمع من يجهر عرف أن هذا قول معتبر وأن من ذهب إليه إمام أهل الحديث وهو الشافعي فلا إنكار وإنما الإنسان مقصوده معرفة الحق • ثم قال رحمه الله وهو المبحث الثالث وليست من الفاتحة بسم الله الرحمن الرحيم الصواب فيها أنها آية من كتاب الله ليست من الفاتحة ولا من غيرها من السور وإنما أتي بها للفصل بين السور وتذكر قبل كل سورة إلا التوبة هذا خلاصة الراجح في بسم الله الرحمن الرحيم إذاً هي آية في كتاب الله لكنها ليست من الفاتحة ولا من غيرها من السور أتي بها للفصل بين السور عدا سورة التوبة الدليل على هذه الأجزاء الثلاثة أولاًَ الدليل على أنها آية في كتاب الله استدل الفقهاء على ذلك بأن بسم الله الرحمن الرحيم مكتوبة في المصاحف وقد جرد الصحابة في المصاحف القرآن أي لم يذكروا فيه إلا القرآن فإذا وجدنا أن الصحابة كتبوا في المصحف بسم الله الرحمن الرحيم وهم لم يكتبوا فيه إلا القرآن علمنا أنها من القرآن آية يعني أن جبريل نزل بها من عند الله وأن الله تكلم بها كما تكلم بغيرها من السور والآيات وتأخذ جميع أحكام المصحف في اليمين والمس وفي كل شيء والقراءة ثانياً الدليل على أنها ليست من الفاتحة ما أخرجه الجماعة إلا البخاري عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال قال الله تعالى قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين ولعبدي ما سأل فإاذا قال الحمدلله رب العالمين قال حمدني عبدي وإذا قال الرحمن الرحيم قال أثنى علي عبدي وإذا قال مالك يوم الدين قال مجدني عبدي الحديث ولم يذكر في أوله بسم الله الرحمن الرحيم ولو كانت من الفاتحة لذكرها فهذا الدليل على أنها ليست من الفاتحة وهو مذهب الجمهور واختاره ابن تيمية وغيره من المحققين

وهذه المسألة وهي - هل بسم الله الرحمن الرحيم من الفاتحة أو لا - ينبني عليها أحياناً صحة الصلاة وبطلانها لأن الإنسان قد يبدأ في قراءة الفاتحة بقوله الحمد لله رب العالمين فإذا كانت البسملة منها فإن صلاته باطله باعتبار أنه لم يقرأ الفاتحة كاملة فإذاً هي مسألة مهمة ويحتاج طالب العلم أن يعرف الحق فيها فالأقرب - والله أعلم - أنها ليست من الفاتحة بناء على هذا كيف نقسم الآيات؟ فإنك إذا فتحت المصحف ستجد أن بسم الله الرحمن الرحيم تأخذ رقم واحد ونحن نعتبر أن الفاتحة سبع آيات بالإجماع فإذا أخرجنا بسم الله الرحمن الرحيم كيف سيكون تقسيم الفاتحة؟ التقسيم سهل وهو أن نقول أن الحمد لله رب العالمين آية ثم تستمر كما التقسيم في المصحف إلى قوله صراط الذين أنعمت عليهم بعد عليهم انتهت الآية السادسة وبدأت الآية السابعة وتبدأ من قوله غير المغضوب عليهم ولا الضالين هذا ليتصور الإنسان عدد الآيات وإلا لا إشكال أنه إذا قرأ من الحمدلله إلى آخرها فقد قرأ الفاتحة كاملة وصلاته صحيحة وإن لم يقرأ بسم الله الرحمن الرحيم ثم بدأ رحمه الله تعالى بمسألة الفاتحة كما ستلاحظ سيذكر عدة مباحث كما تلاحظ في المتن كلها يتعلق بالفاتحة • ثم قال رحمه الله ثم يقرأ الفاتحة الفاتحة كما أشرت يتعلق بها أحكام كثيرة سيذكرها المؤلف رحمه الله الحكم الأول الفاتحة ركن من أركان الصلاة بالنسبة للإمام والمنفرد أما بالنسبة للمأموم فسيأتي بحث هذه المسألة مطولاً عند موضعها إن شاء الله وهذا مذهب الجماهير من الصحابة والتابعين ومن بعدهم أنها ركن لا تصح الصلاة إلا بها واستدلوا رحمهم الله على هذا الحكم بقول النبي - صلى الله عليه وسلم - في حديث معاذ الثابت الصحيح لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب انتهى الدرس

قال شيخنا حفظه الله: بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين. • قال رحمه الله: ثم يقرأ الفاتحة التعليق على هذه المسألة من الدرس الثالث: بدأنا بالأمس بالمسألة الأولى وهي حكم قراءة الفاتحة: فنعيد هذه المسألة: نقول الجمهور يرون من الأئمة من الصحابة ومن بعدهم أن الفاتحة ركن من أركان الصلاة فإن تركها عمداً أو سهواًَ بطلت الصلاة. واستدلوا على ذلك بقول النبي - صلى الله عليه وسلم - "" لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب "" وهو حديث صحيح ومعناه صريح. واستدلوا أيضاً بحديث أبي هريرة في مسلم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال كل صلاة لا يقرأ فيها بفاتحة الكتاب فهي خداج "" قال ثلاثاً. وهذه الأدلة صريحة في المقصود وهي صحيحة ثابتة من حيث الإسناد. القول الثاني: للأحناف أن قراءة الفاتحة سنة فإن تركها وقرأ غيرها من كتاب الله صحت صلاته. واستدلوا على ذلك بدليلين: الأول: قوله تعالى ((فاقرأوا ما تيسر منه)) وجعلووا الآية عامة في الصلاة وخارج الصلاة. والدليل الثاني: استدلوا بقول النبي - صلى الله عليه وسلم - للأعرابي ثم اقرأ ماتيسر معك أي في الصلاة. وهذا الخلاف خاص بالمنفرد والإمام وأن حكم قراءة الفاتحة للمأموم سيأتي في موضعه وهي مسألة مهمة سنتحدث عنها إذا جاء موضعها من الكتاب. والراجح من القولين السابقين مذهب الجماهير لصحة وقوة وصراحة ما ستدلوا به فهي أحاديث صريحة في المقصود وصحيحة من حيث الثبوت. كما أن في هذه الأحاديث زيادة علم وهو تخصيص الفاتحة بالقراءة وزيادة العلم يجب المصير إليها. ويشترط في قراءة الفاتحة أن تكون متوالية مرتبة والمؤلف رحمه الله سيذكر هذين الشرطين وسيبدأ بشرط التوالي: • فيقول رحمه الله: فإن قطعها بذكر أو سكوت غير مشروعين وطال لزمه أن يعيد قراءة الفاتحة من الأول فيستأنف القراءة ووجوب الإعادة في موضعين: إما أن يسكت سكوتاً طويلاً أو يذكر ذكراً طويلاً ويشترط في السكوت وفي الذكر أن لا يكونا مشروعين. التعليل: لأن في هذا السكوت والذكر الذي قطع به قراءة الفاتحة إخلال بنظم الفاتحة فإذا قرأها على هذا الوجه لم يقرأها كما كان - صلى الله عليه وسلم - يقرأها.

وفهم من كلام المؤلف أنه إن قطع القراءة بسكوت قصير أو بذكر قصير فإن القراءة صحيحة ولا يحتاج إلى الإعادة والاستئناف لان هذا السكوت القصير والذكر القصير لا يخل بنظم السورة. وفهم من كلام المؤلف أيضاً إن قطع الفاتحة بذكر وسكوت طويلين لكنهما مشروعين فإن قراءة الفاتحة أيضاً صحيحة لأنه ذكر وسكوت مشروعين. من أمثلة الذكر المشروع قول المصلي آمين ومن أمثلة الذكر المشروع تسبيح المصلي لتنبيه الإمام. ومن أمثلة السكوت المشروع أن يسكت استماعا لقراءة الامام. فهذه أمثلة للذكر والسكوت المشروعين. إذاً تبين أن معنا ثلاث صور وجوب الاعادة في صورة واحدة وهي: إذ قطعها بذكر وسكوت طويل وأيضا غير مشروع وهذا هو شرط التوالي لانه في الحقيقة اذا قطعها في ذكر وسكوت طويلين قطع الموالاة. • ثم قال رحمه الله: أو ترك منها تشديدة في الفاتحة إحدى عشرة تشديدة إن ترك منها واحدة لم تصح قراءة الفاتحة. التعليل: أن التشديدة بمنزلة الحرف فإذا ترك تشديدة فكأنه ترك حرفاً. • ثم قال رحمه الله: أو حرفاً أي أو ترك حرفاً فإذا ترك حرفاً واحداً من الفاتحة وجب عليه أن يعيد. السبب: أنه إذا ترك حرفاً من الفاتحة فهو في الحقيقة لم يقرأ الفاتحة وإنما قرأ بعض الفاتحة والواجب قراءة الفاتحة بأكملها. إذا هذا هو تعليل وجوب الإعادة على من ترك حرفاً من الفاتحة. • ثم قال رحمه الله: أو ترتيباً: إذا ترك ترتيب الفاتحة فإنه يجب عليه أن يعيد والإخلال بالترتيب يحصل في صورتين: الأول: تقديم كلمة على كلمة. والثاني: قراءة الفاتحة منكسة. فإن فعل وجبل عليه أن يعيد قراءة الفاتحة لأن من شروط صحة القراءة أن نقرأ كما نزل من الله إلى محمد - صلى الله عليه وسلم -. • ثم قال رحمه الله: لزم غير مأموم إعادتها إذا أخل الإنسان بالموالاة فإنه يجب عليه أن يعيد السورة من أولها لأن شرط الموالاة اختل ولا يمكن الاتيان به على وجهه إلا بإعادة قراءة الفاتحة من أولها. وإن أخل بالفاتحة بترك تشديدة أو حرفاً أو ترتيباً ففي وجوب الإعادة عليه تفصيل: إن كان ترك ذلك عمدً فيجب عليه أن يعيد القراءة من أول الفاتحة. وإن ترك ذلك بلا تعمد وجب عليه أن يعيد قراءة الكلمة.

فإذا قرأ كلمة من الفاتحة بلا تشديدة كأن يقرأ الرحمن بلا تشديدة أو الرحيم بلا تشديدة بلا قصد وجب عليه أن يعيد قراءة الكلمة فقط ولا يجب عليه أن يستأنف قراءة الفاتحة من أولها. وإن ترك ذلك متعمداً وجب عليه أن يبدأ قراءة الفاتحة من أولها. هذا إذا لم تبطل صلاته بتعمده ترك حرف من الفاتحة لأنه متلاعب ولكن قد يتصور هذا بسبب التساهل لا بسبب التلاعب كأن يتساهل في النطق ويستعجل عامداً ويترك حرفاً حينئذ نقول له أعد السورة ولا تعد الكلمة. أما إذا اجتهد ونطق بالكلمة ناقصة حرفاً بلا تعمد فنقول أعد الكلمة فقط. الخلاصة إذا ترك هذه الثلاثة أشياء التشديدة أو الحرف أو الترتيب متعمدا وجب أن يعيد قراءة الفاتحة من أولها. وإذاتركها بلا تعمد وجب أن يعيد الكلمة فقط. • ثم قال رحمه الله: ويجهر الكل يقصد بالكل: المأموم والإمام والمنفرد فكلهم يجهرون بآمين والدليل على ذلك ما أخرجه البخاري وغيره عن أبي هريرة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال إذا أمن الإمام فأمنوا فإنه من وافق تأمينه تأمين الإمام غفر له وفي رواية غفر له ما تقدم من ذنبه. وفي السنن أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان إذا أمن ارتج المسجد تأميناً. ولكن الذي يظهر أن في إسناد هذا الحديث ضعف. مسألة: متى يؤمن المأموم؟ اختلف الفقهاء في هذه المسألة على قولين: القول الأول: أن المأموم يؤمن مع الإمام فإذا قال الإمام ولا الضالين قال الإمام والمأموم: آمين. والقول الثاني: أن المأموم يؤمن إذا انتهى الإمام من قوله آمين. وعلى هذا إذا قال الإمام ولا الضالين يسكت المأموم وينتظر إلى أن يقول الإمام آمين ثم يقول هو بعد ذلك آمين. واستدل هؤلاء بظاهر حديث أبي هريرة لأنه يقول إذا أمن الإمام فأمنوا. والصواب القول الأول لأن حديث أبي هريرة رضي الله عنه جاء مفسراً في صحيح البخاري حيث قال: فإذا قال الإمام ولا الضالين فقولوا آمين.

وهذه الرواية وهي - فإذا قال الإمام ولا الضالين فقولوا آمين - موجودة في صحيح البخاري لكن المجد في المنتقى نسبها إلى سنن النسائي ومسند الإمام أحمد فوهم بذلك وهي موجودة في صحيح البخاري وهي مرجح قوي للقول الأول وهو دليل على أن عمل الناس اليوم هو الموافق للسنة أنهم يقولون آمين هم والإمام في وقت واحد. ثم إن في القول الثاني: وهو انتظار قول الإمام آمين إرباك للمصلين كما يشاهد ممن يفعل هذه السنة فإنا لا ندري متى سيقول آمين ولاندري هل سيجهر الإمام بآمين أو لن يجهر إلى آخره فيحصل إرباك بسبب هذا القول. فالراجح والله أعلم دليلاً ونظراً مع القول الأول. • قال رحمه الله: ويجهر الكل ((بِآمِيْنَ)) في الجهرية عندكم في نسخة في الجهريات هذه النسخة أصح لوجهين: أولاً أنها أوضح في المقصود. ثانياً هي أرجح من حيث النسخة الخطية لأن النسخة الخطية التي أخذت منها لفظة الجهريات هي النسخة المنقولة عن نسخة الشيخ عبد الله بن با بطين التي صححها هو بنفسه ومعلوم أن الشيخ رحمه الله أولاً بارع في الفقه ثانياً له عناية جداً بهذا المتن وهذه الأمور ترجح النسخة التي أشرف عليها. فاجتمعت في هذه الكلمة المرجحات من حيث النسخ الخطية ومن حيث المعنى والأمر سهل لكن على كل حال في الجهريات أحسن. • ثم قال رحمه الله: ثم يقرأ بعدها سورة: يسن بعد قراءة الفاتحة أن يقرأ الإنسان سورة في الركعتين الأولتين فقط والدليل على قراءة هذه السورة السنة المستفيضة المشهورة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - "أنه كان يفعل ذلك أي يقرأ سورة بعد الفاتحة في الركعة الأولى والثانية فقط دون الثالثة. مسألة والسنة أن يقرأ الإنسان سورة كاملة ولا يقرأ بعض سورة والدليل أن هذا هو الغالب على النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه يقرأ سورة كاملة ولا يقرأ بعض سورة وهذا سنة ويجوز أن يقرأ الإنسان بعض السورة بدليل أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قرأ الأعراف في صلاة المغرب ومن المعلوم أن قرأ بعضها في الركعة الأولى وبعضها في الركعة الثانية فقرأ في ركعة بعض سورة. • ثم قال رحمه الله: تكون في الصبح من طوال المفصل وفي المغرب من قصاره وفي الباقي من أوساطه.

طوال المفصل من القرآن يبدأ من ق إلى عم. وأوساط المفصل: من عم إلى والضحى. وقصار المفصل من والضحى إلى الناس. فالسنة أن يقرأ في المغرب بقصار المفصل وفي الفجر بطواله وفي الباقي وهي العشاء والظهر والعصر اوساط المفصل. والدليل على هذا حديث أبي هريرة أنه قال رضي الله عنه ماصليت خلف رجل أشبه صلاة برسول الله - رضي الله عنه - من فلان قال وكان يقرأ في الفجر بطوال المفصل وفي المغرب بقصار المفصل وفي العشاء بأوساط المفصل. قال الحافظ بن حجر إسناده صحيح. ويدل على ذلك أيضاً أن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - كتب إلى أبي موسى كتابا وقال فيه واقرأ في الظهر من أوساط المفصل. فهذان دليلان على هذا التفصيل الذي ذكره المؤلف. • ثم قال رحمه الله: ولا تصح بقراءَة خارجة عن مصحف عثمان 0 مصحف عثمان هو المصحف الذي جمعه أمير المؤمنين عثمان بن عفان - رضي الله عنه - وله رسم معين معروف وهو الرسم الموجود بين أيدينا اليوم وتناقلته الأمة بالتواتر العظيم سلفاً عن خلف إلى أن وصل إلينا محفوظاً بحفظ الله كاملاً برسمه الذي رسمه الصحابة. فإذا رويت قراءة خارجة عن رسم المصحف العثماني فإنه لا يجوز أن نقرأ بها في الصلاة ولو صح إسنادها. التعليل: لأن هذه القراءة ليست متواترة ولا يصح أن نقرأ في الصلاة بغير المتواتر. والقول الثاني: أن القراءة إذا صح إسنادها إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - جازت القراءة بها في الصلاة والاستدلال بها على الأحكام. وهذا القول اختاره ابن الجوزي واختاره أيضاًَ شيخ الإسلام بن تيمية رحمهم الله. الدليل: قال شيخ الإسلام: اتفق أئمة السلف على أن مافي مصحف عثمان هو أحد الحروف السبعة التي نزلت على النبي - صلى الله عليه وسلم - وأن المصحف لم يستوعب جميع الحروف وقد كان أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - يقرأون في عصره وبعد عصره بالقراءات السبع بالأحرف السبع وكانت صلاتهم صحيحة بلا شك فدل ذلك على أن القراءة بهذه القراءات تصح معها الصلاة. وهذا القول الثاني: هو القول الراجح بل يظهر لي أنه لا ينبغي القول بخلافه لأننا نجزم أن صلاة الصحابة بالقراءات الخارجة عن مصحف عثمان كانت صحيحة.

مسألة: فإن رويت قراءة بإسناد صحيح متوافقة مع الرسم العثماني صحت الصلاة بها ولو كانت خارج القراءات العشر المعروفة. بهذين الشرطين صحة الإسناد وأن توافق الرسم العثماني حينئذ تصح حتى عند الحنابلة. انتهى المؤلف من الكلام على القراءة وانتقل إلى الركوع. • قال رحمه الله: ثم يركع يعني بعد فراغه من القراءة يركع. وفات المؤلف رحمه الله سنة وهي السكتة اليسيرة التي تكون بين القراءة والركوع فإن الإمام أحمد كره أن يصل المصلي القراءة بالتكبير وذلك لما ثبت في السنة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يسكت قليلاً قبل أن يركع. وليس في السنة تحديد لمقدار هذه السكتة. وذهب ابن القيم إلى أنها بقدر ما يرجع النفس للقارئ. ومن هنا نعلم أن ما يفعله بعض الأئمة من أنهم يصلون القراءة بالتكبير مباشرة أنه خلاف السنة بل كرهه الإمام أحمد. ثم بعد هذه السكتة كما قال المؤلف: يركع: والركوع ركن من أركان الصلاة فإن تركه جاهلاً أو ناسياً بطلت صلاته إلا أن يذكر وهو في الصلاة فإنه يأتي به على تفصيل سيأتينا في باب سجود السهو. الدليل على ركنيته أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال للمسيء ثم اركع حتى تطمأن راكعاً والله سبحانه وتعالى يقول: ((اركعوا واسجدوا)). • ثم قال رحمه الله: مكبراً يعني أن السنة أن يكبر للانتقال والدليل على تكبير المصلي إذا أراد أن ينتقل من القيامإلى الركوع حديث أبي هريرة الصحيح أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان إذا قام إلى الصلاة كبر وإذا أراد أن يركع كبر فنص - رضي الله عنه - على أن المصلي إذا أراد أن ينتقل يكبر تكبيرة الانتقال. مسألة: واختلف الفقهاء في موضع هذه التكبيرة. فذهب الحنابلة إلى أنه يجب أن يبدأ التكبير مع بداية الانتقال وينتهي من التكبير مع انتهاء الانتقال. فإن خرج شيء من التكبير عن ذلك لم يصح. التعليل: قالوا: أن خروجه عن ذلك تكبير في غير محله والتكبير في غير محله لا يصح.

الوجه الثاني: أن الأمر في هذه المسألة واسع فيجوز أن يبدأ بالتكبير قبل أن يبدأ بالانحناء ويجوز أن يتم بعض التكبير بعد انتهاء الركوع وهذا القول وجه عند الحنابلة واختاره منهم ابن تميم من الحنابلة وعللوا ذلك بأن مراعاة هذا الأمر شاق جداً وعسر على الناس ولا يكاد يلتزم به مصلي. وهذا القول الثاني هو القول الصواب لأنه كما قالوا يكاد يتعذر على المصلي أن يراعي هذا دائماً وأبداً فمن الصعب أن يلتزم الإنسان أن يبدأ بالتكبير إذا بدأ بالانتقال وينتهي من التكبير إذا انتهى من الانتقال الالتزام بهذا لاشك أنه متعذر أو أشبه ما يكون بالمتعذر. • ثم قال رحمه الله: رافعاً يديه: يعني أن السنة لمن أراد أن يركع أن يرفع يديه إذا كبر. ذهب الجمهور إلى أنه يسن للمصلي إذا راد أن يكبر للركوع أن يرفع يديه واستدلوا على ذلك بأحاديث صريحة صحيحة كثيرة منها حديث ابن عمر - رضي الله عنه - أنه قال أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يرفع يديه إذا استفتح الصلاة وإذا ركع وإذا رفع من الركوع. ومنها حديث الساعدي - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يرفع في هذه المواضع. والرفع عند الركوع سنة ثابتة. والقول الثاني أنه لا يشرع للإنسان إذا أراد أن يركع لأنه لم يذكر في حديث المسيء. وتقدم معنا مراراً أن النبي - صلى الله عليه وسلم - إنما ذكر في حديث المسيء الواجبات فقط. • قال رحمه الله مبيناً ماذا يفعل المصلي بعد الركوع: ويضعهما على ركبتيه مفرجتي الأصابع السنة للمصلي .... انتهى الدرس

قال شيخنا حفظه الله بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين • قال - رحمه الله - ويقول سُبْحَانَ رَبِّي الْعَظِيمِ يجب عند الحنابلة أن يدعو المصلي إذا ركع بهذا الدعاء سبحان ربي العظيم وهو واجب من واجبات الصلاة كما سيأتينا عند تعداد واجبات الصلاة والدليل على هذا الحك حديث حذيفة رضي الله عنه الذي أخرجه مسلم قال وكان إذا ركع أي النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول سبحان ربي العظيم والدليل الآخر حديث عقبة أنه لما نزل قوله تعالى {فسبح باسم ربك العظيم} قال النبي - صلى الله عليه وسلم - اجعلوها في ركوعكم وفي إسناد هذا الحديث ضعف مسألة والواجب في قول سبحان ربي العظيم مرة وأدنى الكمال ثلاث وأقصى الكمال عشر وقيل لا حد لأكثره وقيل أن الأمر في عدد التسبيح واسع ويختلف باختلاف الأحوال والأشخاص وليس في السنة ما يحدد الكمال وأدنى الكمال وهذا القول الأخير هو الصواب مسألة هل يتعين على المصلي أن يسبح بهذا اللفظ؟ فإن سبح بغيره فإنه لا يجزئ فيه خلاف على قولين القول الأول أن هذا اللفظ يتعين لقوله - صلى الله عليه وسلم - اجعلوها في ركوعكم ويصدق هذا عمله - صلى الله عليه وسلم - حيث كان يقول في الركوع سبحان ربي العظيم والقول الثاني أن هذا اللفظ لا يتعين فإن سبح الله بأي صيغة كأن يقول سبحانك أجزأ وهذا مذهب المالكية واستدلوا بأنه ثبت في الصحيحين وفي غيرهما أذكار متعددة للركوع كما في حديث عائشة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يقول في ركوعه سبحانك اللهم وبحمدك اللهم اغفر لي فدل ذلك على أنه لا يتعين قول المصلي سبحان ربي العظيم والقول الثاني هو الراجح والأحوط أن لا يترك المصلي في ركوعه سبحان ربي العظيم اقتداء بالنبي - صلى الله عليه وسلم - وخروجاً من الخلاف مسألة هل يشرع أن يزيد المصلي في ركوعه وسجوده على قوله سبحان ربي العظيم؟ في هذا أيضاً خلاف فذهب الحنابلة إلى أنه في صلاة الفريضة لا يزيد على هذا اللفظ ويجوز أن يزيد في النافلة وذهب الشافعي إلى أنه يجوز أن يزيد على سبحان ربي العظيم في الفريضة والنافلة لأن الأحاديث التي فيها زيادات على هذا الذكر لم تخصص النافلة بهذا الحكم من أمثلته قول المصلي سبوح قدوس رب الملائكة والروح فقد ثبت أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يقوله وما ثبت في النفل ثبت مثله في الفريضة وهذا كما قلت لكم مذهب الشافعي

ومذهب الشافعي في هذه المسألة أصح من مذهب الحنابلة مسألة هل يشرع أن يقول المصلي سبحان الله العظيم وبحمده؟ فيزيد كلمة وبحمده أيضاً اختلفوا فيه على قولين القول الأول أنه لا يزيد هذه اللفظة قال الإمام أحمد - رحمه الله - أما أنا فلا أقول وبحمده والقول الثاني أن هذه الزيادة مشروعة لما جاء في الحديث أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يقول سبحان الله العظيم وبحمده في ركوعه والراجح القول الأول وزيادة وبحمده ضعيفه وممن أشار إلى ضعفها الحافظ أبي داود وقد نقول أن إعراض الإمام أحمد عن العمل بها أيضاً يدل على تضعيفها وعلى كل حال هي زيادة ضعيفة هذه بعض المسائل التي تتعلق بالتسبيح في الركوع وينبغي أن تعلم أن مثل هذه المسائل ستتكرر معنا في تسبيح السجود فمن المفيد لطالب العلم أن يتقنها • ثم قال - رحمه الله - ثم يرفع رأْسه ويديه المشروع للمصلي إذا رفع من الركوع أن يرفع يديه مع التكبير والدليل على سنية الرفع في هذا الموضع حديث ابن عمر السابق ولكن اختلف الفقهاء متى يرفع يديه؟ على قولين هما روايتان عن الإمام أحمد القول الأول أنه يرفع يديه مع التكبير لحديث أبي حميد الساعدي وفيه ثم قال سمع الله لمن حمده ورفع يديه ولحديث ابن عمر ثم رفع رأسه ورفع يديه كذلك والرواية الثانية عن الإمام أحمد وهو القول الثاني أنه لا يرفع يديه حتى يستتم قائماً فيقول سمع الله لمن حمده فإذا استتم قائماً رفع يديه واستدلوا برواية في حديث ابن عمر وفيها ثم رفع يديه بعدما رفع رأسه ولما ذكر الإمام أحمد هذه الرواية في المسند ذكر أن راوي الحديث وهو سفيان كان يتردد في هذه اللفظة كأنه لم يضبطها قال الإمام أحمد كان أحياناً يقول فرفع يديه وأحياناً يقول ثم بعد ذلك رفع يديه ثم ثبت على ثم بعد ذلك رفع يديه فإشارة الإمام أحمد في المسند إلى تردد الإمام سفيان وهو يقصد ابن عيينة لأن الإمام أحمد لا يروي عن الثوري يضعف هذا القول لا سيما وأن اللفظ الذي في الصحيحين ليس فيه كلمة بعد ذلك

الخلاصة أن الراجح القول الأول وهو أن الرفع يكون مع سمع الله لمن حمده ولا ينتظر إلى أن يستتم وإنما يرفع مع الرفع وهذا هو المذهب الرواية الأولى القول الأول هي المذهب وهذا يفهم من عبارة المؤلف - رحمه الله - • ثم قال - رحمه الله - قائلاً إمام ومنفرد أي دون المأموم فلا يقول هذا الذكر وسيأتي الكلام في الذكر المشروع للمأموم في هذا الموضع ونبقى الآن مع ذكر الخاص بالإمام والمنفرد • يقول - رحمه الله - قائلاً إمام ومنفرد سَمِعَ اللَّه لِمَنْ حَمِدَهُ المشروع للإمام إذا رفع رأسه وكذا المنفرد فقط عند الحنابلة أن يقول سمع الله لمن حمده ربنا ولك الحمد حمداً كثيراً ملء السموات وملء الأرض وملء ماشئت من شيء بعد وهذا الذكر بطرفيه سمع الله لمن حمده وملء السموات وملء الأرض جاء في صحيح البخاري ومسلم من حديث ابن أبي أوفى رضي الله عنه كذلك جاء من حديث أبي هريرة رضي الله عنه وكذلك جاء من حديث ابن عباس رضي الله عنه وكذلك جاء بعضه من حديث أنس رضي الله عنه فالذين رووا تسميعه - صلى الله عليه وسلم - وذكره عدد من الصحابة نحو أربعة أو خمسة وهم كما ذكرت لكم ابن عباس وأبي هريرة وابن أبي أوفى وبعضه أنس كلهم أثبت أنه يقول سمع الله لمن حمده • ثم قال - رحمه الله - وبعد قيامهما أي الإمام والمنفرد رَبَّنَا وَلَكَ الْحَمْدُ مِلْءَ السَّمَاءِ وَمِلْءَ الأَرْضِ وَمِلْءَ مَا شِئْتَ مِنْ شَيْءٍ بَعْدُ هذا الذكر وهو المكمل لذكر الإمام بعد قوله سمع الله لمن حمده جاء كما قلت لكم في عدة أحاديث ملخص هذه الأحاديث أنه على أربع صيغ أن يقول ربنا لك الحمد هذه الأولى الصيغة الثانية أن يقول ربنا ولك الحمد بزيادة الواو الثالثة أن يقول اللهم ربنا لك الحمد والرابعة والأخيرة أن يقول اللهم ربنا ولك الحمد هذه الصيغ في الأحاديث التي ذكرت لك ابن عباس وأيضاً أضف إليهم علي وابن أبي أوفى وأبي هريرة وعلى المذهب الأفضل والمستحب أن يقول ربنا ولك الحمد أي يختار التي بزيادة الواو

لسببين الأول لأن هذه الرواية أصح فهي في الصحيحين والثاني ولأن فيها زيادة وهي الواو والزيادة أولى بالقبول وأما بالنسبة ل اللهم ربنا لك الحمد والتي معها اللهم ربنا ولك الحمد فالأفضل عند الحنابلة التي بدون الواو وأيضاً لنفس السبب لأنها أصح وأشهر وأكثر رواة مع العلم أنهم يجوزون أن يقول الإنسان الصيغ الأربع ولكن يقولون بالنسبة ل ربنا ولك الحمد الأفضل بالواو وبالنسبة ل اللهم الأفضل بدون الواو ويرجعون في هذا إلى صحة الأسانيد وكثرة الطرق وعدد الرواة مسألة قال ابن القيم لم يثبت في السنة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال اللهم ربنا ولك الحمد فلم يأت في السنة اللهم مع الواو ووهم - رحمه الله - فإنه ثبت في صحيح البخاري حديث أنس أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يقول اللهم ربنا ولك الحمد فالصيغ الأربع ثابتة في السنة والأولى للمصلي أن ينوع بين الأربع ويكثر من اللهم ربنا لك الحمد أو يكثر من ربنا ولك الحمد • ثم قال - رحمه الله - ومأموم في رفعه رَبَّنَا وَلَكَ الْحَمْدُ فقط أي أن المشروع للمأموم أن يقول ربنا ولك الحمد فلا يشرع له أن يقول سمع الله لمن حمده ولا يشرع له أن يقول أيضاً ربنا ولك الحمد ولا اللهم ربنا ولك الحمد الدليل قالوا الدليل على هذا حديث أنس في البخاري أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال إذا قال الإمام سمع الله لمن حمده فقولوا ربنا ولك الحمد فبين الحديث أن المأموم لا يقول سمع الله لمن حمده ولا يقول أيضاً ملء السماء وملء الأرض ونحن نريد تسهيلاً أن نفصل الخلاف فنتكلم أولاً في حكم قول المأموم ملء السماء ومل الأرض ثم نذكر الخلاف في حكم قول المأموم سمع الله لمن حمده إذاً الحنابلة يرون أن المأموم لا يقول ملء السماء وملء الأرض ولا يقول سمع الله لمن حمده نأخذ الخلاف في المسألة الأولى أخذتم مذهب الحنابلة ودليلهم وهو حديث أنس رضي الله عنه القول الثاني أن المأموم يقول ملء السماء وملء الأرض وهو اختيار المجد بن تيمية وأبو الخطاب

لحديث مالك بن الحويرث صلوا كما رأيتموني أصلي وهذا الحديث عام يشمل قول المأموم ملء السماء وملء الأرض وهذا القول هو الصحيح ثانياً مسألة سمع الله لمن حمده فالقول الأول وهو المذهب أنه لا يشرع للمأموم أن يقولها لحديث أنس السابق القول الثاني للمالكية والشافعية وإسحاق ورواية لأحمد أنه يقول سمع الله لمن حمده الدليل قالوا النبي - صلى الله عليه وسلم - لما أراد أن يودع مالك بن الحويرث قال له ائت قومك صل بهم وصلوا كما رأيتموني أصلي وهو - صلى الله عليه وسلم - كان يقول سمع الله لمن حمده وقوله صلوا كما رأيتموني أصلي عام يشمل المأموم والإمام والمنفرد الجواب على حديث أنس من وجهين الوجه الأول أن النبي - صلى الله عليه وسلم - إنما قال فإذا قال الإمام سمع الله لمن حمده فقولوا ربنا ولك الحمد ولم ينص على قول سمع الله لمن حمده لأن المأمومين كانوا يسمعون النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول سمع الله لمن حمده فكانوا يقتدون به بلا قول وبهذا أجاب النووي - رحمه الله - أي أنه لم يؤمر المأموم بقول سمع الله لمن حمده لأنه يسمعه من النبي - صلى الله عليه وسلم - جهراً فسيقتدي به شرح آخر لوجود إشكال إذا قيل للشافعية كيف تقولون يقول المأموم سمع الله لمن حمده والنبي - صلى الله عليه وسلم - يقول إذا قال الإمام سمع الله لمن حمده فقولوا أيها المأمومين ربنا ولك الحمد فجعل ذكر الإمام سمع الله لمن حمده وذكر المأمومين ربنا ولك الحمد الجواب أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يأمرهم بقول سمع الله لمن حمده لأنهم يسمعونه يجهر بها ويعرفونها فلم يحتاجوا إلى الأمر بها الجواب الثاني أن حديث أنس لو أفاد منع المأموم من سمع الله لمن حمده لأفاد منع الإمام من قوله ربنا ولك الحمد والتزم بهذا أبو حنيفة فأبو حنيفة يقول الإمام لا يقول ربنا ولك الحمد

مرة أخرى أن حديث أنس لو أفاد منع المأموم من قول سمع الله لمن حمده لأفاد منع الإمام من قوله ربنا ولك الحمد لأنه جعل الإمام يقول سمع الله لمن حمده والمأموم يقول ربنا ولك الحمد وهذا لا يلتزم به الحنابلة بل يجعلون الإمام يقول ربنا ولك الحمد فهو إيراد عليهم والذي يظهر لي في هذه المسألة أن المأموم يقول سمع الله لمن حمده وهذا هو الراجح انتهينا من هذه المسألة المسألة الثانية الحنابلة يرون أن المأموم لا يقول ملء السموات وملء الأرض وملء ماشئت من شيء بعد وإنما يقول فقط ربنا ولك الحمد كما في حديث أنس بلا زيادة ملء السماء وملء الأرض إلخ استدلوا بحديث أنس رضي الله عنه والقول الثاني أنه يشرع لمأموم أن يقول ملء السماء وملء الأرض وملء ماشئت من شيء بعد لأن حديث أنس ليس فيه المنع من الزيادة على هذا الذكر والأصل أن ماثبت في حق الإمام ثبت في حق المأموم إلا بدليل والراجح أيضاً أن المأموم يقول ملء السماء وملء الأرض وملء ماشئت من شيء بعد لعموم قوله - صلى الله عليه وسلم - صلو كما رأيتموني أصلي تنبيه الخلاف في حكم قول المأموم سمع الله لمن حمده أقوى من الخلاف في حكم قول المأموم ملء السماء وملء الأرض ويجب أن يعرف طالب العلم قوة الخلاف وضعفه فيعرف أن هذه المسألة الخلاف فيها قوي فيحتاط ويجتهد في معرفة الحق ويعرف أن الخلاف في هذه المسألة ضعيف فيكون اجتهاده في غيرها أكثر لأن بعض الناس لا يهمه إلا الراجح ولا يهتم بمسألة قوة الخلاف وضعف الخلاف إذاً قول المؤلف - رحمه الله - هنا ومأموم في رفعه ربنا ولك الحمد فقط كلمة فقط تخرج قول المأموم سمع الله لمن حمده وأيضاً قول المأموم ملء السماء وملء الأرض والآن عرفنا أن الراجح فيهما والله سبحانه وتعالى أعلم أن المأموم يقولهما • قال - رحمه الله - ثم يخر مكبراً لم يبين المؤلف - رحمه الله - إذا رفع المصلي من الركوع هل يقبض أو يرسل وهي مسألة اختلف فيها الفقهاء على قولين

القول الأول وهو مذهب الإمام أحمد وليس له في هذه المسألة إلا رواية واحدة جزم بها وليس له روايات أخرى أن المصلي بالخيار إن شاء قبض وإن شاء أرسل دليل الإمام أحمد أنه ليس في السنة نص صريح يدل على سنية القبض أو الإرسال ويجب أن تقف عند العبارة وهي قوله وهذا ليس لفظ الإمام أحمد لكن هذا معنى كلامه ليس في السنة لفظ صريح فيوجد نصوص ولكنها ليست صريحة في المقصود إذاً ليس في السنة شيء صريح ولذا قال الأمر فيه سعة إن شاء قبض وإن شاء أرسل والقول الثاني وهو قول عند الحنابلة وليس رواية عند الإمام أحمد أن السنة القبض فإن أرسل يديه فقد خالف السنة واستدلوا بعموم حديث أبي حميد الساعدي السابق كان الناس يؤمرون أن يضع الرجل يده اليمنى على ذراعه اليسرى في الصلاة وجه الاستدلال قوله في الحديث في الصلاة عام يشمل ما قبل الركوع وما بعد الركوع فأخذوا بعموم اللفظ والذين قالوا لا يقبض قالوا العام يحمل على المخصص فالسنة نصت بصراحة على القبض في القرءاة في قيام الصلاة ولم تذكر القبض صراحة بعد الرفع من الركوع وهو قول ثالث لكن لا نريد أن نذكر هذا المهم الآن المسألة على قولين بالخيار إما القبض والإرسال وأن السنة القبض هذا القول الثالث وهو أن السنة الإرسال في ساعتي هذه لا أذكر من المتقدمين لا أقول ما قال به أحد لكن الآن ما أذكر هل قال به أحد من الأئمة المتقدمين أو أن أصحاب الأقوال في القرون الأربعة اختلفوا فقط على قولين الخيار أنه مخير أو أنه يقبض فربما يوجد قول ثالث لا أذكره أو لم أقف عليه كما يغلب على ظني لكن لا أنفي الآن فلم أراجع هل من الفقهاء من قال بأن السنة الإرسال وإن كان يعرف في المعاصرين من يتبنى هذا القول لكن أريد قبل أن أقرر أنه قولاً ثالثاً أن أتأكد من وجوده في القرون الأربعة لأن هذه مسألة في الصلاة وفي الحقيقة الآن لا أذكر هل قيل به من الأئمة المتقدمين أو لا؟ الخلاصة أنهم اختلفوا على قولين التخيير والقبض والأقرب القبض أولاً لأن هذا أقرب للخشوع

ثانياً أن إدخاله في العموم مقبول ولا يعتبر بعيد في الاستدلال • قال - رحمه الله - ثم يخر مكبراً السنة أن يخر الإنسان مكبراً بلا رفع لليدين أي أن السنة أن لا يرفع يديه إذا أراد أن يسجد والدليل على هذا ما جاء في حديث ابن عمر أنه رضي الله عنه قال وكان لا يرفع في السجود والقول الثاني أن السنة أن يرفع أيضاً إذا أراد أن يسجد واستدلوا بحديث أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يرفع في كل خفض ورفع وهذا من الخفض والجواب على هذا الاستدلال أن لفظ كان يرفع وهم والصواب وكان يكبر في كل خفض ورفع أما لفظ وكان يرفع فهو وهم لا يثبت وكل زيادة فيها الرفع للسجود فهي شاذة والأحاديث الصحيحة الصريحة في الصحيحين وغيرهما ليس فيها الرفع للسجود بل فيهما نفي الرفع كما سمعت عن ابين عمر رضي الله عنه فلا شك أن رفع اليدين فيما يظهر والله أعلم ليس من السنة • ثم قال - رحمه الله - ساجداً على سبعة أعضاء يجب على المصلي بل هو من أركان الصلاة أن يسجد على سبعة أعضاء لحديث ابن عباس رضي الله عنه قال أمرنا بالسجود على سبعة أعضاء اليدين والركبتين والقدمين والجبهة هذه سبعة فإن أخل بالسجود على أحد هذه الأعضاء السبعة بطل سجوده لأنه أخل بركن من أركان الصلاة القول الثاني أن الواجب السجود على الجبهة وباقي الأعضاء تبع للجبهة فإن سجد على الجبهة صحت الصلاة ولو لم يسجد على باقي الأعضاء السبعة إذاً العمدة عند هؤلاء ماهو؟ الجبهة استدلوا بدليلين الأول أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يقول في دعاء السجود سجد وجهي للذي خلقه وشق سمعه وبصره الحديث فقال سجد وجهي: فأضاف السجود إلى الوجه الثاني قالوا أن من سجد على وجهه فهو المسمى ساجداً فصدق عليه الإتيان بالركن والراجح القول الأول وهو مذهب الجمهور لصراحة وصحة ووضوح دليل ابن عباس وإن الإنسان ليعجب ممن يخالف حديث ابن عباس مع وضوحه وصراحته أمرنا بالسجود على سبعة أعضاء مسألة هل يجب السجود على الأنف؟ اختلفوا على قولين

الأول أنه يجب أن يسجد على الجبة والأنف معها فإن لم يسجد عليه لم يتم سجوده واستدلوا بحديث ابن عباس السابق وفيه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال والجبهة وأشار إلى أنفه والقول الثاني أن الواجب السجود على الجبهة مع باقي الأعضاء ولا يجب أن يمكن ولا أن يسجد على أنفه دليلهم قالوا لو أوجبنا السجود على الأنف لكان الواجب السجود على ثمانية أعضاء لا سبعة والحديث نص على أن أعضاء السجود سبعة الجواب على هذا الاستدلال أن الأنف والجبهة بحكم العضو الواحد ولذلك سمى النبي - صلى الله عليه وسلم - الجبهة وأشار إلى الأنف ليبين أنهما كالعضو الواحد وبهذا لا يكون ثامناً وإنما هو السابع لأنه مع الجبهة كالعضو الواحد والراجح القول الأول أيضاًلأن حديث ابن عباس نص فيه على وجوب السجود على الجبهة مع الأنف • قال - رحمه الله - ساجداً على سبعة أعضاء رجليه ثم ركبتيه ثم يديه ثم جبهته مع أنفه أفاد المؤلف رحمه الله أن الواجب عند الهوي إلى الأرض إذا خر ساجداً لله أن يقدم ركبتيه وهذا مذهب الجمهور وأكثر الصحابة واختاره ابن المنذر وشيخ الا سلام ابن تيمية وعدد من المحققين استدلوا بدليلين الأول حديث وائل بن حجر أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان إذا سجد قدم ركبتيه على يديه ... وهذا الحديث فيه ضعف الثاني صح إن شاء الله عن عمر رضي الله عنه أنه كان يقدم ركبتيه على يديه القول الثاني في هذه المسألة أن السنة تقديم اليدين على الركبتين استدلوا بدليلين الأول صح في البخاري معلقاً أن ابن عمر رضي الله عنه كان يقدم يديه الثاني أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال إذا سجد أحدكم فلا يبرك كما يبرك البعير وليضع يديه قبل ركبتيه وهذا الحديث خاض الناس في تأويله وفي الأجوبة عنه وفي بيان معناه مع العلم أن الراجح أنه حديث ضعيف وهذه من فوائد إتقان طالب العلم لعلم الحديث ودراسة العلل ومعرفة ما يثبن عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وما لا يثبت حتى لا يشتغل فيما لا يثبت فهذا الحديث لا يثبت

وممن ضعفه الإمام البخاري والترمذي والدارقطني وابن المنذر وعدد من الأئمة لولم يكن معهم إلا البخاري لكفى كيف ومعه الترمذي كيف ومعه الدارقطني إذاً هذا الحديث لا يثبت والراجح القول الأول وهو المذهب وهو أن المشروع تقديم الركبتين على اليدين سبب الترجيح سبب الترجيح في الحقيقة الدرجة الأولى أنه مروي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه وهو رضي الله عنه له سنة متبعة فضلاً عن أنه يغلب على الظن أنه أخذه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ومن المرجحات أن حديث وائل بن حجر أقل ضعفاً من حديث أبي هريرة إذاً الراجح هو ما سمعتم أنه يقدم ركبتيه • قال - رحمه الله - ثم جبهته مع أنفه دليل على أن الحنابلة يرون أن السجود على الأنف يجب كما يجب السجود على الجبهة الأذان بعد صلاة العشاء قال شيخنا حفظه الله بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين • قال - رحمه الله - ولو مع حائل ليس من أعضاء سجوده أفاد المؤلف - رحمه الله - بهذه العبارة أنه يجوز أن يسجد الإنسان بأعضائه السبعة على الأرض ولو وجد حائل بينهن وبين الأرض ولإيضاح هذا الحكم نقول تنقسم الأعضاء إلى أقسام - القسم الأول الركبتان والقدمان فهذه أجمع الفقهاء على عدم وجوب كشفهما وأنه لا يجب أن يباشرا الأرض لدليلين الأول أن النبي - صلى الله عليه وسلم - صح عنه أنه صح بالنعال وإذا صلى بالنعال فلم تباشر القدم الأرض الثاني أن الركبتين يجب أن يسترا لأنهما من العورة التي يجب أن تستر في الصلاة - القسم الثاني اليدان على المذهب لا يجب أن يباشر المصلي الأرض بيديه واستدلوا على هذا بما أخرجه البخاري عن الحسن البصري أنه قال كان القوم يصلون بالعمائم والقلانس ويده في كمه هكذا قال - رحمه الله - قال الحافظ ابن حجر مراده بالقوم الصحابة وقوله ويده في كمه أراد أن ينص على كل صحابي أن كل واحد منهم كان يفعل ذلك وكل هذا من كلام ابن حجر - رحمه الله -

ولكن يشترط في اليدين أن لا يكون الساتر لهما أحد أعضاء السجود فلو وضع يداً فوق يد لم يصح السجود - القسم الثالث الجبهة تنقسم إلى أنواع النوع الأول أنه يكون الحائل بينها وبين الأرض أحد أعضاء السجود كأن يسجد على يده فهنا لا يصح السجود لئلا تتداخل أعضاء السجود النوع الثاني أن يكون الحائل من غير أعضاء السجود وليس متصلاً بالمصلي فهذا يصح بلا إشكال لأنه ثبت في صحيح البخاري أن النبي - صلى الله عليه وسلم - سجد على الحصير وأيضاً ثبت في صحيح البخاري أن النبي - صلى الله عليه وسلم - سجد على خمرة والحصير والخمرة كلاهما مصنوع من سعف النخيل لكن الفرق بينهما أن الحصير أكبر من الخمرة النوع الثالث أن يسجد مع حائل من غير أعضاء السجود ولكنه متصل بالمصلي كأن يسجد على طرف ثوبه فهذا ينقسم إلى قسمين الأول - أن يكون مع الحاجة فهو جائز بلا كراهة لما ثبت أن الصحابة كانوا يضعون حائلاً من شدة الحر فكان أحدهم يسجد على كمه من شدة الحر والثاني - أن يكون بلا حاجة فهو جائز مع الكراهة لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يسجد بلا حائل فإن قيل ما هو الجواب على الحديث الذي مر معنا وهو قولهم شكونا إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - شدة الحر فلم يشكنا؟ ولو كان السجود على حائل يجوز لسجدوا على حائل فالجواب أن معنا لم يشكنا أي لم يزل شكوانا بتأخير الصلاة تأخيراً زائداً ولا علاقة له بمسألة السجود على حائل مسألة هل يشترط في الحائل بين المصلي والأرض في الحائل المنفصل أن يكون من جنس الأرض كما مثلنا بالحصير؟ أو يجوز ولو لم يكن من جنس الأرض كالفرش؟ الجواب يجوز أن يسجد الإنسان على حائل سواء كان من جنس الأرض أو مما صنع بيد الإنسان بدليل ماثبت في البخاري عن عائشة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يسجد أحياناً على طرف الفراش فهذا دليل على أن الحائل سواء كان من جنس الأرض أو مما صنعه الآدمي فإنه يجوز للمصلي أن يسجد عليه وبهذا التقسيم كملت عند الإنسان الصورة فإذا قيل لك ما حكم السجود على طرق الشماغ فماذا تقول؟

فإذا قيل لك ما حكم ما يفعله بعض الصبيان إذا أراد أن يسجد وضع يديه مجتمعتين ثم سجد عليهما لا سيما إذا كان في التراب؟ فإذا قيل لك ما حكم السجود على الحصير؟ مسائل ناقش فيها شيخنا الطلاب تقريراً لما سبق لم تتبين إجاباتها من التسجيل • ثم قال - رحمه الله - ويجافي عضديه عن جنبيه أي أن السنة لمن سجد أن يجافي أثناء السجود بين يديه وجنبيه وسبق معنا أن معنى المجافاه هي: المباعدة والدليل على هذا حديث عبد الله بن بحينه رضي الله عنه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان إذا سجد باعد بين يديه حتى نرى بياض إبطيه وهذا في البخاري وبياض الإبطين إنما يرى مع شدة المجافاة لأنه لو كان يجافي مجافاة يسيرة لم ير الصحابة بياض إبطي النبي - صلى الله عليه وسلم - فإذاً السنة أن يباعد الإنسان بين جنبيه ويديه ولا يجعل يده ملتصقه كما يفعل كثير من الناس بأن ينضم إذا سجد سيأتينا أن هذا ليس من سنن الرجال وإنما هو من سنن النساء وعلى قول فإنه سيأتينا الكلام حول هذا الموضوع • ثم قال - رحمه الله - وبطنه عن فخذيه أيضاً السنة أن يباعد بين فخذيه وبطنه لما ثبت في حديث أبي حميد الساعدي أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يباعد بين فخذيه غير حامل بطنه على شيء من فخذيه فالحديث أفاد أنه يباعد بين فخذيه ولا يحمل بطنه على شيء من الفخذين بل يباعد بين الفخذين والبطن إذاً هذا الحديث سيتكرر معنا لأنه دليل على عدة سنن وهو أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يباعد بين فخذيه غير حامل بطنه على شيء من فخذيه فيباعد بين الفخذين الاثنين وأيضاً يباعد بين البطن والفخذ وهذا أيضاً يدل على ما دل عليه الحديث الأول أن المصلي لا يشرع له أن يكون كهيئة المنضم عند إرادة السجود وإنما يجافي أعضائه ويبعدها لأن الهيئة الأولى تنافي الخشوع وتنافي استحضار أن الإنسان بين يدي الرب بل هي تفيد نوعاً من الكسل والتثاقل في أداء مثل هذا الركن العظيم وهو السجود • ثم قال - رحمه الله - وبطنه عن فخذيه

تقدم معنا الآن في حديث أبي حميد الساعدي أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان لا يجعل بطنه ملتصقاً بشيء من فخذيه فإذاً السنة المباعدة بين الفخذين وبينهما وبين البطن كما ذكرت مسألة لم يبين المؤلف - رحمه الله - السنة في هيئة القدمين والسنة في هيئة القدمين أن يجعل الأصابع أثناء السجود متجهة إلى القبلة واختلفوا هل يلصق القدمين أثناء السجود أو يباعد بين القدمين؟ القول الأول أنه يباعد بين القدمين وهو المذهب لحديث أبي حميد السابق قالوا لن تفريق الفخذين يؤدي إلى التفريق بين القدمين والقول الثاني أن السنة أثناء السجود أن يلصق القدمين واستدلوا على هذا بحديث عائشة أنها بحثت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو يصلي بالليل فوقعت يدها على قدميه وهو ساجد وجه الاستدلال أنه لو لم يكن ملصق لقدميه لم تقع اليد على القدمين مجتمعتين وفي الحقيقة الخلاف في هذه المسألة قوي لأن حديث أبي حميد فيه دلالة على إبعاد القدمين لأنه إذا أبعد الفخذين فسيبعد القدمين وحديث عائشة أيضاً فيه دلالة لأنه يصعب على الإنسان أن يضع يداً واحدة على قدمين في وقت واحد وهما بعيدان عن بعضيهما لا سيما وأن النبي - صلى الله عليه وسلم - يوصف بأنه كبير الأعضاء فهو - صلى الله عليه وسلم - كبير اليدين والقدمين والمنكبين بالإضافة إلى أن عائشة لا توصف إلا بأنها صغيرة وهذه الأمور مجتمعة تقوي القول الثاني وإن كانت المسألة فيها إشكال والخلاف فيها قوي ولكن الأظهر والله أعلم هو أن يلصق كما أن الإلصاق يعين على الطمأنينة والخشوع ويعين على طول السجود فهذه الأشياء مجتمعة تجعل الإنسان يرجح القول الثاني الذي يأخذ بحديث عائشة وإن كان مذهب الحنابلة هو القول الأول • ثم قال - رحمه الله - ويقول سُبْحَانَ رَبِّي الأَعْلَى إذا سجد المصلي فالمشروع له أن يقول سبحان ربي الأعلى لما ثبت في الصحيح أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان إذا سجد قال سبحان ربي الأعلى ولما جاء في حديث عقبة أنه لما نزل فسبح باسم ربك الأعلى قال النبي - صلى الله عليه وسلم - اجعلوها في سجودكم

فهذه الأحاديث تدل على مشروعية التسبيح في السجود ومسألة هل التسبيح وباقي الأذكار واجبة أو سنة ستأتينا في واجبات الصلاة • قال - رحمه الله - ثم يرفع رأسه مكبراً السنة أنه إذا رفع من السجدة الأولى ليجلس الجلسة بين السجدتين أن يكبر لما صح أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يكبر في كل خفض ورفع وتقدم معنا أن هذا هو اللفظ الصحيح لهذا الحديث وأن لفظ كان يرفع وهم من أحد الرواة فإذاً هذا الحديث أنه يكبر فيث كل خفض ورفع ودليل على أنه يكبر إذا رفع من السجدة الأولى • ثم قال - رحمه الله - ويجلس مفترشاً يسراه ناصباً يمناه أولاً قوله ويجلس الدليل عليه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال للمسيء صلاته ثم اجلس حتى تطمأن جالساً وهو نص في ركنية هذه الجلسة بين السجدتين ثانياً قوله أنه يفترش اليسرى وينصب اليمنى ثبت هذا في حديث عائشة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان إذا جلس افترش اليسرى ونصب اليمنى وهو في الصحيح وفي حديث أبي حميد أيضاً أنه - صلى الله عليه وسلم - كان يفعل ذلك فحديث عائشة وحديث أبي حميد يدلان على الحكم نفسه وحديث عائشة وحديث أبي حميد السياق فيهما في التشهد وليس في الجلوس بين السجدتين لكن الفقهاء يقيسون الجلسة التي بين السجدتين على الجلسة التي في التشهد ويقولون أن صفة الجلوس في الجلسة بين السجدتين كصفة الجلوس في التشهد الأخير ويستدلون بأحاديث الجلوس للتشهد كما في حديث عائشة وأبي حميد وغيرهما على هذا الجلوس كذلك السنة أن الإنسان يبسط يده اليسرى ويضع يده اليمنى على فخذه كما يصنع في التشهد الأخير والتشهد الأول أيضاً قياساً على التشهد الأخير وأضافوا تعليلاً آخر لمشروعية هذا الجلوس ووضع اليدين وهو قولهم وأن هذا عمل المسلمين سلفاً عن خلف أي أن كل المسلمين إذا جلسوا بين السجدتين توارثوا هذا العمل أنهم يضعون أيديهم على أفخاذهم ويفترشون اليسرى وينصبون اليمنى ففي الحقيقة لا يوجد دليل صريح لكن قياساً على التشهد الأخير وهو قياس صحيح ولا أظن في المسألة خلاف

مسألة هي التي فيها خلاف هل يشرع لمن جلس بين السجدتين أن يشير بالسبابة؟ في هذه المسألة خلاف القول الأول وهو الظاهر من كلام الحنابلة أنه لا يشرع واستدلوا على ذلك بأن الأحاديث الصحيحة ليس فيها رفع السبابة في الجلوس بين السجدتين ولو كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يفعل ذلك لنقل لنا لشدة عناية الصحابة بصفة الصلاة والقول الثاني أنه يسن أن يشير بالسبابة واستدلوا بدليلين الدليل الأول أن الجلوس بين السجدتين داخل في عموم الأحاديث التي فيها الإشارة الدليل الثاني أنه في حديث وائل بن حجر قال ثم أشار بسبابته ثم سجد فهو دليل على أن الإشارة كانت بين السجدتين والراجح والله أعلم في هذه المسألة أنه لا يشرع للإنسان أن يشير بسبابته بل يبسط كفه اليمنى على فخذه اليمنى واليسرى معلوم أنها مبسوطة أولاً الجواب على الاستدلال بالعمومات أن هذه العمومات تبينها وتفصلها الأحاديث الأخرى التي فيها أن رفع السبابة إنما هو في التشهدين والمجمل يفهم من المفصل ثانياً أن قوله ثم سجد لفظة شاذة لا تثبت في الحديث ولو ثبتت لكانت فيصلاً في المسألة لكنها لا تثبت لذلك الأقرب والله أعلم أن الإنسان بين السجدتين لا يشير هذا الذي يظهر لي من السنة وإن كانت المسألة كما ترون لكل فريق من الفقهاء مستند قوي في الحقيقة لكن مثل الصلاة مع عنية الصحابة بها واهتمامهم بصفتها إذا لم ينقل لنا فالأقرب أنه لم يقع • ثم قال - رحمه الله - ويقول رَبِّ اغْفِرْ لِي السنة أن الإنسان بين السجدتين يقول رب اغفر لي، رب اغفر لي، رب اغفر لي ثلاثاً أو يزيد وقد ثبت في الحديث الصحيح أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يقول بين السجدتين رب اغفر لي وهو حديث ثابت صححه الإمام أحمد وغيره وروي عن ابن عباس أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يقول ذكراً آخر وهو رب اغفرلي وارحمني وعافني وارزقني لكن هذا الحديث أشار بعض الحفاظ إلى ضعفه كابن عدي في الكامل أشار إلى أنه من منكرات أحد الرواة

وأشار الإمام أحمد إلى أنه يستحب أن يقول الإنسان رب اغفر لي وأنه مقدم على حديث ابن عباس رب اغفرلي وارحمني وعافني وارزقني إشارة إلى ضعف حديث ابن عباس فنحن نقول من الخطأ البين أن يقتصر الإنسان على مافي حديث ابن عباس ويترك حديث رب اغفر لي، رب اغفر لي لأنه أصح كما قال الإمام أحمد بل كان الإمام أحمد يقول رب اغفر لي رب اغفر لي وإن أراد الإنسان أن يجمع بين رب اغفر لي وحديث ابن عباس رب اغفرلي وارحمني وعافني وارزقني فإن هذا لا بأس به لكن الخطأ أن يقتصر الإنسان على ما في حديث ابن عباس لأن الحديث الآخر أصح وأثبت منه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ثم نختم بـ • قوله - رحمه الله - ويسجد الثانية كالأولى أي أن الثانية من حيث الهيئة ومن حيث الأذكار تكون كالأولى تماماً لعموم قول النبي - صلى الله عليه وسلم - للمسيء ثم افعل هذا في صلاتك كلها فهذا دليل على أن السجدة الثانية كالسجدة الأولى في كل شيء تماماً من غير فرق ولذلك قال المؤلف - رحمه الله - كالأولى نكتفي بهذا ونبقى على مسألة الرفع وما يتبعه من أحكام انتهى الدرس

قال شيخنا حفظه الله: بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين. بالأمس وفي موضعه من الدرس لم نتكلم عن أين يضع الساجد يديه أثناء السجود؟ اختلف الفقهاء في هذه المسألة على قولين: =القول الأول: أنه يضع يديه بحذاء منكبيه. واستدلوا: - بحديث أبي حميد أن النبي - صلى الله عليه وسلم - (هكذا كان يصنع إذا سجد). = والقول الثاني: أنه يضع يديه حذو إذنيه. - وهذا في حديث وائل. = والقول الثالث: أن المصلي مخير إن شاء فعل هذا وإن شاء فعل هذا ويكون من السنة التي جاءت على أنواع متعددة. وهذا الثالث هو الصواب جمعاً بين الأدلة وإعمالاً للنصوص. وهذه الجملة تناسب أن تقال عند قوله (عضديه عن جنبيه) فكان ينبغي أن تقال في هذا الموضع. ونرجع إلى موضع الدرس.

انتهى المؤلف - رحمه الله - من الكلام عن السجدة الأولى كاملة والركعة الاولى بسجدتيها ثم انتقل إلى الكلام عن الركعة الثانية بداية من الرفع. • فقال - رحمه الله -: ثم يرفع مكبراً. تقدم معنا مراراً أن السنة على تكبيرات الانتقال أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يكبر في كل خفض ورفع. وليس في الصلاة من الأعمال إلا ماهو إما خفض أو رفع. إما ركوع أو سجود أو رفع منهما. • ثم قال - رحمه الله -: ناهضاً على صدور قدميه معتمداً على ركبتيه إن سهل. إذا أراد المصلي أن يقوم من السجود: = فإنه عند الحنابلة: كما ترون ينهض على صدور قدميه معتمداً أثناء ذلك على ركبتيه إن سهل. وهذا هوخلاصة مذهب الحنابلة: أن السنة أن يقوم على صدور قدميه ويعتمد على ركبتيه إن سهل. فإن شق اعتمد على يديه. إذاً السنة للقوي المستطيع أن لا يعتمد على يديه وهذا مراد المؤلف - رحمه الله - وإنما يعتمد على صدور قدميه وعلى ركبتيه إلا في حالة واحدة إذا شق عليه أن يقوم بهذه الصفة كالمريض وكبير السن والعاجز عموماً فإنه حينئذ لا بأس أن يعتمد على يديه. الآن تصورنا مذهب الحنابلة. الأدلة: استدلوا على هذا التفصيل: - بحديث أبي هريرة - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يقوم على صدور قدميه. وهذا الحديث إسناده ضعيف. - ولكن صح عن ابن مسعود - رضي الله عنه - وهو من فقهاء الصحابة انه كان يصنع ذلك. - واستدلوا أيضاً بأن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان إذا أراد أن يقوم اعتمد على فخذيه ونهض على ركبتيه. وهذا الحديث إيضاً في إسناده ضعف. = القول الثاني: أن الإنسان يعتمد على يديه ثم يقوم. أي يقوم معتمداً على يديه. واستدلوا على هذه الصفة: - بحديث مالك بن الحويرث أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان إذا قام إلى الثانية جلس ثم قام معتمداً على الأرض. فهؤلاء معهم حديث صريح وهو حديث مالك بن الحويرث. = القول الثالث: أن المصلي إذا أراد أن يقوم إن جلس للاستراحة قام معتمداً على يديه. وإن لم يجلس جلسة الاستراحة وقام مباشرة فإنه يقوم معتمداً على صدور قدميه وعلى ركبتيه.

هذا القول نصره الحافظ الفقيه الشيخ ابن رجب وقال - رحمه الله -: إنه يفهم من كلام الإمام أحمد. هذا التفصيل يفهم من كلام الإمام أحمد. وإذا نظر الإنسان في هذا التفصيل وجد أن النصوص تجتمع بهذا التفصيل. وأنه يؤلف بينها وهذا القول الثالث هو الصواب. وهذا يدعونا إلى الحديث عن مسألة أخرى لصيقه بهذا البحث وهو: حكم جلسة الاستراحة؟ وجلسة الاستراحة اختلف الفقهاء أيضاً فيها على ثلاثة أقوال: =القول الأول:: أنها لا تستحب. وإلى هذا ذهب الجماهير وهو منقول عن أغلب الصحابة وجمهور الأئمة. واستدلوا بدليلين: - الدليل الأول: أن أكابر أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - الذين يأخذون عنه ويقتدون به لم يكونوا يجلسون جلسة الاستراحة. - الدليل الثاني: أن النصوص الصريحة الصحيحة المتكاثرة التي وصفت صلاة النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يذكر فيها أنه كان يجلس جلسة الاستراحة إلا في حديث واحد فقط وهو حديث مالك بن الحويرث. = القول الثاني: أنه يشرع ويسن للمصلي أن يجلس جلسة خفيفة إذا قام إلى الثانية وإذا قام إلى الرابعة. واستدلوا: - بحديث مالك بن الحويرث السابق أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يجلس جلسة ثم يقوم معتمداً على الأرض. وقال أصحاب هذا القول: إذا ثبت الحديث وجب أن نأخذ به وهو حديث في البخاري. فائدة / قال الإمام أحمد: ليس لهذا الحديث ثان. أي أن أي حديث يروى في جلسة الاستراحة عدا حديث مالك بن الحويرث فاعلم أنه حديث غير محفوظ وأنه ضعيف هذا مراد الإمام أحمد. وهذا الذي يسمونه الاستقراء وهو أهل للاستقراء - رحمه الله -. = القول الثالث: وهو قول للحنابلة واختاره الموفق واختاره ابن القيم وغيره من المحققين: أن جلسة الاستراحة تشرع لكبير السن أو للمريض ونحوهما ولا تشرع في جميع الأحوال. واستدلوا على ذلك: - بأن النبي - صلى الله عليه وسلم - إنما جلس هذه الجلسة في آخر عمره لما جاءه الوفد الذي فيهم مالك بن الحويرث بعد ما ثقل - صلى الله عليه وسلم - وكبرت سنه صار يجلس هذه الجلسة.

وفهم أكابر الصحابة من هذه الجلسة أنه إنما جلسها - صلى الله عليه وسلم - لهذا السبب ولذلك لم يقتدوا به فيها مع حرصهم على الصلاة وما فيها من سنن. وإذا قال الإنسان بهذا القول يعتبر لم يضيع أي شيء من الأدلة وإنما أخذ بأدلة القول الأول وأخذ بأدلة القول الثاني ولكن جمع بينها ووفق. وهذا القول هو الراجح وهو الذي يرتاح إليه الإنسان ويرى أنه أن شاء الله متوافق مع السنة. بناء على هذا: نرجع للمسألة السابقة: عرف الإنسان بالنسبة للتفصيل في القول الثالث: أنه إن جلس اتكأ على يده وإن لم يجلس اتكأ على ... عرف متى يجلس ومتى لا يجلس في هذا التفصيل. • ثم قال - رحمه الله -: ويصلي الثانية كذلك. تقدم معنا أن الثانية تصلى كالأولى. - لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال للمسيء ثم افعل هذا في صلاتك كلها. فهذا دليل على أن الإنسان يصلي الركعة الثانية كما يصلي الركعة الأولى عدا ما سيستثنيه المؤلف - رحمه الله - وإلا ما لم يستثنى فالأصل أن تتساوى فيه الركعة الأولى مع الركعة الثانية. لحديث المسيء. • يقول - رحمه الله -: ما عدا التحريمة. التحريمة: شرعت لافتتاح الصلاة ولذلك فهي لا تكون إلا في الركعة الأولى ولا يشرع في الركعة الثانية. بل لو كبر تكبيرة ينوي بها التحريمة في الركعة الثانية فكأنه أبطل صلاته لأنه لا يدخل في صلاة ثانية إلا وقد أبطل الأولى. وعلى كل حال المؤلف - رحمه الله - ذكر هذا القيد احترازاً وإلا من المعلوم أن أحداً لن يكبر في الثانية بنية التحريمة. • ثم قال - رحمه الله -: والاستفتاح. لا يشرع للمصلي أن يقول دعاء الاستفتاح في الركعة الثانية ولو كان نسيه في الركعة الأولى أو تركه عمداً. التعليل: - أن هذه السنة محلها في الركعة الأولى وإذا فات محلها فاتت فلا يشرع أن يذكر هذا الاستفتاح في الركعة الثانية. • ثم قال - رحمه الله -: والتعوذ. = ذهب الحنابلة واختاره ابن القيم أن المصلي إذا قام إلى الثانية فإنه لا يشرع له أن يستعيذ. واستدلوا على هذا الحكم: - بحديث أبي هريرة الصحيح أن النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا نهض إلى الثانية استفتح بالحمد لله رب العالمين ولم يسكت. هكذا قال أبو هريرة - رضي الله عنه -.

فدل ذلك على أن الاستعاذة خاصة بالركعة الأولى. واستدلوا على هذا الحكم بدليل آخر معنوي وهو: - أن الصلاة كلها دعاء وذكر والفصل بين القراءتين بالدعاء والذكر لا يعتبر فصل حقيقي ولذلك يكتفي المصلي بالاستعاذة التي وقعت في الركعة الأولى لأنه في الحقيقة لم يفصل القراءة كأنه لم يفصل لأنه لم يفصل إلا بذكر ودعاء ولا يعتبر هذا من الفصل. = والقول الثاني: أنه يشرع أن يستعيذ في كل ركعة. وهو مذهب الظاهرية واختاره من المحققين شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله -. واستدل على ذلك: - بالآية. وقال: الآية عامة في كل بداية قراءة. فالله أمرنا أن نستعيذ في كل مرة نريد أن نقرأ. والراجح القول الثاني: - لأن دليلهم نص في المسالة. ودليل أصحاب القول الأول مفهوم. إذاً أبو هريرة - رضي الله عنه - لم ينص على أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يذكر الاستعاذة وإنما فهم من كلامه أنه لم يستعذ. فالأقرب والله أعلم أن المصلي يستعيذ في كل ركعة. إذاً قول المؤلف - رحمه الله -: والتعوذ. الأقرب أنه لا يستثنى. • ثم قال - رحمه الله -: وتجديد النية. أي: أنه لا يشرع للإنسان أن يجدد نيته في الركعة الثانية اكتفاء باستصحاب النية. وقال بعض الفقهاء أن ذكر النية مع المستثنيات خطأ من أصله لأن النية ليست من صلب الصلاة وإنما من شروط الصلاة التي تتقدم على الصلاة فلا حاجة لاستثنائها من الركعة الثانية أصلاً. وهذا القول قريب جداً أنه لا ينبغي أن لا تذكر أصلاً لأنها من الشروط وليست من أركان الصلاة. • ثم قال - رحمه الله -: ثم يجلس مفترشاً. هذا الجلوس هو الجلوس للتشهد الأول. تقدم معنا أدلة صفة الافتراش. وأن الذين رووا هذه الصفة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - اثنان من الصحابة: أبو حميد وعائشة. هم الذين ذكروا أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يفترش اليسرى ويجلس عليها وينصب اليمنى. فإذاً أدلة الافتراش في التشهد سبقت. • ثم قال - رحمه الله -: ويداه على فخذيه. يريد المؤلف أن يبين كيف يضع الإنسان يديه في التشهد الأول. = فالحنابلة يرون: أن الإنسان يضع يديه على فخذيه. واستدلوا على هذا:

- بحديث عبد الله بن الزبير أن - صلى الله عليه وسلم - كان إذا جلس وضع يده اليمنى على فخذه الأيمن ويده اليسرى على فخذه الأيسر وألقم يده اليسرى ركبته. هذا اللفظ ثابت في مسلم. فقوله: (وضع يده اليمنى على فخذه الأيمن ويده اليسرى على فخذه الأيسر) دليل على أن المصلي إذا جلس للتشهد الأول هكذا يصنع. يضع يده اليمنى باسطها على فخذيه. الصفة الثانية: أن يضع المصلي يديه على ركبتيه. واستدلوا على هذه الصفة: - بحديث ابن عمر أن النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا جلس وضع يديه على ركبتيه. وهذا حديث صحيح. هناك صفة ثالثة جاءت في الآثار والأحاديث لكني لم أقف على قائل بها وهي أن يضع الإنسان يده على الفخذ والركبة. والصفة هذه جاءت مصرحاً بها في حديث وائل بن حجر أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان إذا جلس للتشهد وضع يده على فخذه وركبته. هكذا. ولعل الذين قالوا يضع يده على ركبته يقصدون هذا المعنى: يعني: مع فخذه. لأن الإنسان قد لا يتمكن من وضع كل اليد على الركبة إلا بالتلقيم والتلقيم سيأتينا أنه سنة في اليسار فقط هكذا في الأحاديث. أما في اليمين فكيف سيصنع فلا يستطيع. فلعل مقصودهم أن يضع الإنسان يده على فخذه وركبته. الخلاصة أن السنة أن يضع أحياناً يده على فخذه وأحياناً يضع يده على ركبته. ومن الطبيعي أنه إذا وضعها على ركبته سيكون بعضها على فخذه. ويقصد الإنسان في الصلاة أن ينوع لتحصل له السنة في التنويع ويثاب ولا يضع يده كيفما تيسر وإنما يقصد أحياناً إن يضعها على الفخذ وأحياناً يضعها على الركبة. مسألة / هل يسن أن يلقم يده اليسرى لركبته اليسرى؟ = الحنابلة يرون: أنه لا يسن. = والقول الثاني: وهو قول للحنابلة واختاره ابن مفلح وقبله ابن قدامة - رحمهما الله - أنه يسن أن يضع الإنسان يده على ركبته اليسرى كالمقلم لها أحياناً. والقول الثاني هو الصواب أن هذا يسن أحياناً للحديث الصريح وهو حديث بن الزبير وهو في مسلم فالأخذ به متعين لصحته وصراحته. والذي يظهر لي - مع أن الحديث عام - أن هذه السنة الأنسب أن تفعل أثناء التورك ومن جرب هذه السنة سيجد أن الأنسب أن تكون أثناء التورك.

وإن كان الإنسان يستطيع أن يفعلها من غير تورك لكن قد يكون في هذا شيء من الصعوبة لكن أثناء التورك سهل جداً ولعلها كانت تفعل هكذا وإلا فإن الحديث عام أنه كان يلقم يده اليسرى ركبته اليسرى ولم يعين هل هو في التشهد الأول أو في الأخير وإنما هو عام. بعدما انتهى المؤلف - رحمه الله - من بيان أين يضع يده من رجله بالنسبة للفخذ والركبة انتقل إلى كيفية وضع اليد من حيث هي • فقال - رحمه الله -: يقبض خنصر اليمنى وبنصرها ويحلق إبهامه مع الوسطى ويشير بسباحته. هذه إحدى صفات وضع اليد وهو أن يقبض الخنصر وهو الاصبع الصغير والبنصر وهو الذي يليه ويحلق بالوسطى - كحلقة الحديدة - مع الإبهام ويشير بالسبابة. وهذه الصفة جاءت في حديث وائل بن حجر وهي صحيحة. الصفة الثانية: وجاءت في حديث ابن عمر - رضي الله عنه - في صحيح مسلم أنه يقبض الخنصر والبنصر والوسطى ويجعل الإبهام عند أصل السبابة ويشير بالسبابة. هذا في حديث ابن عمر في صحيح مسلم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قبض على يده ثلاثة وخمسين وهذا العدد .. وبين الشارح حفظه الله ذلك عملياً ... الصفة الثالثة والأخيرة: أن يقبض الخنصر والبنصر والوسطى والإبهام يعني يقبض جميع الأصابع إلا السبابة ويشير بها كما سيأتينا وهذه الصفة أيضاً في صحيح مسلم عن ابن عمر صراخة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قبض أصابعه كلها وأشار بالسبابة. صارت الصفات ثلاثة. واختلف الفقهاء هل هذه الصفات صفات متنوعة يشرع أن يأتي بكل واحد منها مرة؟ أو أنها صفات لفعل واحد؟ = فالقول الأول: أنها صفات متنوعة ولذلك جاء عن الإمام حمد ثلاث راويات في هذه الصفات فيشرع للإنسان أن ينوع أحياناً بالصفة الأولى وأحياناً بالثانية وأحياناً الثالثة. = والقول الثاني: أن هذه الصفات عبارة عن صفة واحدة ولكن كل من الرواة عبر حسب ما شاهد وليس هناك اختلاف وإنما صفة القبض واحدة. وذهب إلى هذا القول الحافظ ابن القيم. وقال: أن هذه الصفات لا تختلف وإنما كل يعبر بما رأى والصفة واحدة.

والراجح القول الأول واختيار ابن القيم في هذه المسألة فيه ضعف: - لأن النصوص صريحة في التفريق وصريحة في الوصف ولا يمكن أن نجعل صفة التحليق الواضحة في الحديث الأول كصفة ضم الأصابع الواضحة في حديث ابن عمر الأخير فلا يمكن التوفيق بينها إلا بشيء من التكلف. فما ذهب إليه - رحمه الله - ضعيف والصواب أن هذه الصفات مختلفة جاءت بها أحاديث مختلفة وأن السنة أن ينوع المصلي بين هذه الصفات. ثم لما أنهى المؤلف - رحمه الله - بيان صفة اليد اليمنى بين كيف يكون وضع اليسرى. • فقال - رحمه الله -: ويبسط اليسرى. أن المصلي إذا جلس للتشهد الأول يبسط اليسرى من غير ضم مطلقاً. ودليل هذه الصفة: - حديث ابن عمر أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يجلس باسطاً يده اليسرى على فخذه. فهذا دليل كيفية وضع اليد اليسرى. وتقدم معنا أن لها سنة أخرى وهي: الإلقام. وإنما لم يكرها المؤلف - رحمه الله - لأن الحنابلة يرون أن هذا لا يسن. مسألة / هل يحرك المصلي أصبع يده اليمنى؟ قبل ذلك يخلط بعض إخواننا بين الإشارة والتحريك يظن أن الخلاف في الإشارة كالخلاف في التحريك. والواقع أن الإشارة هي أن يشير بإصبعه هكذا من غير تحريك. والتحريك (هكذا) ويعتبر أشار وحرك. فالآن الإشارة لا شك في سنيتها كما سمعتم في أحاديث ثلاثة. إنما الخلاف في التحريك. فاختلفوا على قولين: = القول الأول: أنه يحرك. - لما في حديث وائل بن حجر في آخره ((وانه أشار بالسبابة ثم قال يحركها يدعو بها)). وهذا لفظ صريح في التحريك. = والقول الثاني: أن السنة الإشارة بلا تحريك. - لأنه ليس في الأحاديث الصحيحة تحريك ولفظ يحركها شاذ وممن أشار إلى شذوذه الحافظ ابن خزيمة - رحمه الله -. وأي إنسان عنده ملكة الحديث ويعرف نفس الأئمة المتقدمين يطالع الأسانيد التي رويت بحديث وائل بن حجر وينظر في أيها جاءت هذه الزيادة لا يشك إذا طالع أنها زيادة خطأ وأن راويها أخطأ فيها وشذ. هذا لمن كان يحسن كيف يتعامل مع الأسانيد على طريقة الأئمة المتقدمين. فلو رأيت الأسانيد لم تشك أنها زيادة شاذة.

وعلى كل حال نقول: أن هذه الزيادة شاذة وإذا كانت هذه الزيادة شاذة فليس في الأحاديث الصحيحة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يحرك ولذلك سن أن يقول الإنسان (هكذا). ومن الأدلة على ضعف التحريك اضطراب القائلين به في موضعه فإنهم لا يدرون متى يحرك هل يحرك من أول التشهد إلى آخره؟ أو يحرك إذا أراد أن يتشهد الشهادتين؟ أو يحرك في أشهد أن لا إله إلا الله دون أشهد أن محمداً رسول الله؟ أو يحرك إذا دعا؟ أو يحرك في الجميع؟ أقوال متضاربة ليس لها دليل مما يدل على إن هذه السنة لم تثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم -. • ثم قال - رحمه الله -: ويقول التحيات لله والصلوات والطيبات .... إلخ. هذا المقدار هو التشهد الأول. وهذا التشهد مروي عن ابن مسعود - رضي الله عنه - في الصحيحين وهو أصح أحاديث التشهد ولذلك اختاره الإمام أحمد - رحمه الله -. وروي في التشهد أحاديث أخرى فروي فيه: - حديث عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - واختاره من الأئمة الإمام مالك بن أنس: (التحيات لله الزاكيات لله الصلوات الطيبات لله). وباقيه كحديث ابن مسعود - رضي الله عنه -. - وروي أيضاً في التشهد: حديث ابن عباس - رضي الله عنه - واختاره من الأئمة الإمام الشافعي ولفظه: (التحيات المباركات الصلوات الطيبات لله). ثم باقيه كحديث ابن مسعود. صارت أنواع التشهدات المذكورة الآن: ثلاثة. حديث ابن مسعود واختاره الإمام أحمد. وحديث عمر واختاره الإمام مالك. وحديث ابن عباس واختاره الإمام الشافعي. والصواب أن الإنسان ينوع بين هذه التشهدات ليأتي بالسنة على أوجهها المختلفة. ونحن نرى أن ما اختاره الإمام أحمد هو الأقرب يعني أن الإنسان يقدم تشهد ابن مسعود وإن كان يذكر أحياناً تشهد ابن عباس وتشهد عمر بن الخطاب رضي الله عنهما لأن أصح التشهدات وأصح حديث روي في الباب كما قال الترمذي هو حديث ابن مسعود - رضي الله عنه -. • قال - رحمه الله -: ويقول التحيات لله والصلوات والطيبات السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.

ظاهر كلام المؤلف - رحمه الله - أنه لا يشرع للمصلي ............ (((الأذان))). انتهى الدرس

قال شيخنا حفظه الله بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين ذكرنا بالأمس أن المؤلف - رحمه الله - ذكر التشهد الأول واختار الحنابلة تشهد ابن مسعود رضي الله عنه وذكرت اختيار مالك والشافعي ومازال البحث في التشهد الأول • فقول المؤلف - رحمه الله - هنا ويقول يعني في التشهد الأول ولذلك ختمه بقوله هذا التشهد الأول ظاهر عبارة المؤلف - رحمه الله - أن المصلي إذا قرأ التشهد الأول فإنه لا يصلي على النبي - صلى الله عليه وسلم - وهذا مذهب الحنابلة واختاره ابن القيم واستدلوا على هذا بدليلين الدليل الأول أن الأحاديث الصحيحة الصريحة لم تذكر أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يصلي على النبي في التشهد الأول والدليل الثاني أن المشروع في التشهد الأول أن يخفف وهذا التخفيف يناسبه ألا يذكر الصلاة على النبي - صلى الله عليه وسلم - والدليل على مشروعية تخفيف التشهد الأول أن النبي - صلى الله عليه وسلم - ثبت عنه في الحديث الصحيح أنه إذا قعد في التشهد الأول كأنه جالس على الرضف وهو الحجارة المحماة أي يبادر بقراءة التشهد وينهض وهذا الحديث صحيح القول الثاني أن المشروع أن يصلي على النبي - صلى الله عليه وسلم - حتى في التشهد الأول لما ثبت عن ابن مسعود رضي الله عنه وغيره أنهم قالوا للنبي - صلى الله عليه وسلم - علمنا كيف نسلم عليك فكيف نصلي عليك إذا نحن صلينا عليك في صلاتنا؟ وجه الاستدلال أنهم ذكروا السلام والسلام يكون في التشهد الأول والراجح القول الأول وهو أنه لا يشرع الصلاة على النبي - صلى الله عليه وسلم - وهذا اللفظ العام الذي استدلوا به يحمل على النصوص التي وضحت أن الصلاة الإبراهيمية تكون في التشهد الثاني • يقول المؤلف - رحمه الله - ثم يقول يقصد أي في التشهد الأخير مع ما سبق في التشهد الأول

وتلاحظ أن المؤلف - رحمه الله - لم يختم جملة الصلاة على النبي - صلى الله عليه وسلم - بقوله هذا التشهد الثاني اكتفاء بقوله في الاول هذا التشهد الاول إذاَ ثم يقول يعني في التشهد الثاني مع ماسبق • ثم قال - رحمه الله - اللَّهمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ كَمَا صَلَّيْتَ عَلَى آلِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّكَ حَمِيدٌ مَجِيدٌ الخ ظاهر كلام المؤلف أن الصفة الأفضل هي أن يقول صلي على آل إبراهيم ولا يقول صلي على إبراهيم وآل إبراهيم هذا هو المذهب والقول الثاني أن المصلي مخير إن شاء قال على إبراهيم وآل إبراهيم وإن شاء اكتفى بعلى آل إبراهيم والقول الثالث أن الأفضل التنويع لأن قوله كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم ثابت كما أن قوله كما صليت على آل إبراهيم ثابت يعني ذكر إبراهيم ثابت وعدم ذكره ثابت وذكر شيخ الاسلام أنه لا يوجد في الأحاديث الصحيحة اللهم صل على إبراهيم وعلى آل إبراهيم والصواب أن هذا الحديث ثابت قي صحيح البخاري بهذا اللفظ كما صليت على ابراهيم وعلى ال ابراهيم أي بزيادة ذكر ابراهيم إذاً الحنابلة يرون أن الصيغة الفاضلة المقدمة هي الصيغة التي ذكرها المؤلف بدون كما صليت على إبراهيم والصواب أن المصلي يسن له أن ينوع أحياناً يذكر هذا وأحياناً يذكر هذا لأن الجميع ثابت في السنة الصحيحة • ثم قال - رحمه الله - ويستعيذ من عذاب جهنم ومن عذاب القبر وفتنة المحيا والممات وفتنة المسيح الدجال الدليل على استحباب هذا الدعاء والاستعاذة حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال إذا انتهى أحدكم من تشهده فليستعذ من أربع وذكرها والاستعاذة من هذه الأربع عند الحنابلة سنة والقول الثاني ان الاستعذاة من هذه الأربع واجبة إن تركها عمداً بطلت صلاته وإلى هذا ذهب طاووس وبعض الظاهرية والأقرب والله أعلم أنها واجبة ولا تبطل الصلاة بتركها يعني الجمع بين القولين

والقول بأنها سنة أيضاً قول قوي باعتبار أن النبي - صلى الله عليه وسلم - علم ابن مسعود التشهد وكذلك ابن عباس وكذلك عمر بن الخطاب ولم يذكر لهم وجوب الاستعاذة فالقول بأنه سنة قول قوي جداً ووجيه وهو كما ترون هو المذهب لكن لما كان عندنا حديث صريح صحيح يصرح بالأمر فليقل أو فليستعذ فهذا يؤدي بالإنسان إلى أن يميل إلى الوجوب لكن الإبطال صعب ويحتاج إلى أصول قوية لكن نقول هو واجب ولا تبطل الصلاة بتركه • وقوله - رحمه الله - فتنة المسيح الدجال في بعض الألفاظ التي في مسلم ومن شر فتنة أي أن مسلماً رواها أحياناً كما قال المؤلف - رحمه الله - وفتنة المسيح الدجال وأحياناً قال ومن شر فتنة لفظان ثابتان في صحيح مسلم بناء على هذا الأفضل أن ينوع كذلك الإنسان أحياناً يقول فتنة المسيح الدجال وأحياناً يقول من شر فتنة المسيح الدجال • ثم قال - رحمه الله - ويدعو بما ورد أي أن السنة بعد أن ينهي المصلي التشهد والاستعاذة من أربع يسن له أن يدعو وينبغي له أن يدعو لما ثبت في حديث ابن مسعود أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما ذكر له التشهد قال ثم ليتخير من الدعاء أحبه إليه أو ثم ليتخير من الدعاء ما يريد فالسنة أن يتخير من الدعاء ما يريد ويحرص على ما ورد في السنة من الأدعية الوارة في السنة مسألة ذهب الحنابلة إلى أنه في هذا الدعاء لا يجوز له أن يدعوا بشهوات الدنيا فإن دعا بشهوات الدنيا بطلت صلاته والواجب أن يقتصر على ما يخص الآخرة واستدلوا على هذا الحكم بقول النبي - صلى الله عليه وسلم - في حديث أبي هريرة إن صلاتنا هذه لا يصلح أن يكون فيها شيء من كلام الناس إنما هو التسبيح والتحميد وذكر الله وقراءة القرآن والدعاء بشهوات الدنيا من كلام الناس القول الثاني وهو قول عند الحنابلة أنه يجوز أن يدعو بما شاء مما يتعلق بالآخرة أو بالدنيا واستدلوا على هذا بعموم حديث ابن مسعود السابق حيث لم يخصص دعاء من دعاء

والراجح القول الثاني لعموم النص على أن عدداً من السلف كره جداً أن يدعو الإنسان في آخر صلاته بما يتعلق بالدنيا ورأوا أن يخصه بأمور الآخرة فمن الأدب في الصلاة أن يفعل ذلك في الفريضة والنافلة • ثم قال - رحمه الله - ثم يسلم عن يمينه السلام عليكم ورحمة الله التسليم ثابت في حديث ابن مسعود رضي الله عنه قال ثم سلم عن يمينه وعن شماله حتى رؤي بياض خده السلام عليكم ورحمة الله فالسنة في السلام أن يسلم عن يمينه وأن يسلم عن شماله وأن يلتفت بحيث يُرَى بياض خده والسنة في السلام أن لا يُمَد ولا يُطَوَّل وتسكن الهاء فيه والدليل على ذلك ما روي أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال حذف السلام سنة وفسر الإمام أحمد والإمام الكبير ابن المبارك فسرا حذف السلام بهذا الشيء وهذا الحديث الصواب أنه موقوف لكنه يصلح للاستدلال جداً في هذا الموضع لأنه يبعد أن يأتي الصحابي بهذه السنة الخاصة والكيفية المعينة من قبل نفسه بل الظاهر أنه سمع النبي - صلى الله عليه وسلم - هكذا يسلم إذاً مَدَّ السلام الذي يصنعه بعض إخواننا الآن من خلال هذا البحث يعتبر خلاف السنة مسألة فإن قال المصلي السلام عليكم ولم يقل ورحمة الله فالمذهب أن هذا السلام لا يجزئ والدليل أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال صلوا كما رأيتموني أصلي وكان يسلم هكذا - صلى الله عليه وسلم - القول الثاني أنه لو قال السلام عليكم فقط ولم يقل ورحمة الله صح سلامه وأجزأ لقول النبي - صلى الله عليه وسلم - وتحليلها التسليم والتسليم يصدق بقول المصلي السلام عليكم والصواب مع الحنابلة لأن التسليم ركن يجب الرجوع في كيفيته كاملة إلى السنة المفصلة والأركان اهتم بها الشارع فلا نكتفي فيها ببعضها مسألة هل يشرع أن يقول المصلي السلام عليكم ورحمة الله وبركاته أو لا؟ فيه خلاف فمن الفقهاء من يرى أنه لا يزاد في السلام على الصيغة التي جاءت في حديث ابن مسعود لأنها الثابتة الصحيحة التي عملها النبي - صلى الله عليه وسلم - مراراً والقول الثاني أنه يشرع أن يزيد أحياناً وبركاته

لما روي أن النبي - صلى الله عليه وسلم - صلى ثم سلم وقال السلام عليكم ورحمة الله وبركاته وهذا الحديث إسناده حسن وهو مقبول ولا أعلم له علة ثم زيادة وبركاته جاءت عن بعض الصحابة فالأقرب والله أعلم باعتبار هذا الحديث والآثار أنه لا باس أن يزيد المصلي أحياناً وبركاته في الشمال واليمين وبعضهم قال في الشمال فقط لأن الحديث هكذا فيه لكن آثار الصحابة عامة • ثم قال - رحمه الله - وعن يساره كذلك أي أن البحوث والمسائل التي ذكرت في تسليمة اليمين تنطبق على تسليمة اليسار • قال - رحمه الله - وإن كان في ثلاثية أو رباعية نهض النهوض من التشهد الأول حكمه حكم النهوض من الركعة الأولى والثالثة فالخلاف الذي ذكرناه في كيفية النهوض من الركعة الأولى والثالثة ينطبق على النهوض من التشهد الأول تماماً وقد صرح الفقهاء بذلك أيضاً أنهما يتساويان فمن رأى مشروعية الاعتماد على الأرض هناك فيراه هنا والعكس صحيح • ثم قال - رحمه الله - نهض مكبراً بعد التشهد الأول إذا انتهى من التشهد الأول فإنه ينهض مكبراً لما تقدم معنا مراراً أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يكبر في كل خفض ورفع وظاهر كلام المؤلف أنه ينهض مكبراً بلا رفع لليدين وهذا هو المذهب بل هذا مذهب الأئمة الأربعة حكي عن الأئمة الأربعة أنهم يرون أن لا يرفع يديه إذا نهض من التشهد الأول والقول الثاني وهو رواية عن الإمام أحمد أنه إذا نهض من التشهد الأول يرفع يديه واستدلوا على ذلك بحديث ابن عمر الثابت في الصحيح أنه ذكر أن النبي - صلى الله عليه وسلم - يرفع في أربعة مواضع التكبير والركوع والرفع من الركوع قال وإذا قام من الركعتين والصواب مع القول الثاني لصحة ما استدل به من حديث ابن عمر والمُثْبِتُ مقدم على النافي لا سيما والإسناد صحيح بل ثابت في الصحيح ولم أر للفقهاء رحمهم الله كلاماً في متى يرفع يديه؟ ولكن السنة أن يرفع يديه مع التكبير كما قلنا في الرفع من الركوع وأن لا يؤخر رفع اليدين إلى أن يستتم قائماً لأنه إذا استتم قائماً سيشتغل بالواجبات وسنن وأركان الركعة الثالثة •

ثم قال - رحمه الله - وصلى ما بقي كالثانية يصلي باقي صلاته أي الركعة الثالثة كما صلى الثانية والأولى تماماً لقوله - صلى الله عليه وسلم - في حديث المسيء ثم افعل هذا في صلاتك كلها • قال - رحمه الله - بالحمد فقط أي أن المشروع للمصلي إذا نهض إلى الثلاثة أن يقتصر في الثالثة والرابعة على قراءة الحمد فقط دون سورة أخرى والدليل على هذا حديث أبي قتادة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - صلى بهم الظهر فقرأ في الركعتين الأولتين الفاتحة وسورة وقرأ في الأخيرتين بالفاتحة فقط وهذا الحديث في البخاري والقول الثاني أن المصلي يشرع له أن يقرأ سورةً مع الفاتحة حتى في الركعتين الأخيرتين لما ثبت أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يقرأ في الأخيرتين على النصف من قراءته للأولتين والأقرب والله أعلم أن المصلي يشرع له أن يقرأ في الأخيرتين بسورة مع الفاتحة في أحيان قليلة ويكون الغالب عليه أن قراءة الفاتحة فقط وبهذا تجتمع نصوص السنة • ثم قال - رحمه الله - ثم يجلس في تشهده الأخير متوركاً يريد المؤلف - رحمه الله - أن يبين أن هناك فرقاً في الجلوس بين التشهد الأول والتشهد الثاني وأنه يسن في التشهد الثاني أن يتورك واستدلوا على هذا الحكم بحديث أبي حميد الساعدي الثابت في البخاري أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان إذا جلس في التشهد الأخير أخرج رجله اليسرى ونصب اليمنى وأفضى بمقعدته إلى الأرض وهذا هو التورك مسألة هل يشرع التورك في التشهد الذي يعقبه السلام أو يشرع في التشهد الثاني في كل صلاة فيها تشهدان؟ فيه خلاف والصواب أنه لا يشرع التورك إلا في الصلاة التي لها تشهدان فقط أما الصلاة التي فيها تشهد واحد فإنه لا يتورك مسألة ولجلوس التشهد الأخير صفة أخرى جاءت في حديث عبد الله بن الزبير رضي الله عنه وهي صفة ثابتة وسنة صحيحة فقد أخبر رضي الله عنه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان إذا جلس في التشهد الثاني أخرج قدمه اليسرى من بين فخذه وساقه وفرش اليمنى هذه هي السنة

وقد لا يستطيع الإنسان أن يطبق أصلاً هذه السنة إلا مع فرش اليمنى وهو ثابت في الحديث الصحيح فيكون لهيئة الجلوس في التشهد الأخير صفتان الصفة الأولى التورك والصفة الثانية هذه الصفة التي ذكرت لك وهي فرش اليمنى وإخراج اليسرى من بين الفخذ والساق • ثم قال - رحمه الله - والمرأة مثله لكن تضم نفسها قوله - رحمه الله - والمرأة مثله أي أن المرأة كالرجل في جميع ما سبق من أذكار وقراءة قرآن وصفات للصلاة وهيئات وكل ما تقدم تستوي فيه المرأة مع الرجل تماماً في السنن السابقة والواجبات والأركان إلا ما سيستثنيه المؤلف - رحمه الله - وقد بين - رحمه الله - ما يستثنى • فقال - رحمه الله - لكن تضم نفسها أي أن السنة بالنسبة للمرأة أن تنضام وتضم بعضها إلى بعض في كل ما يتجافى فيه الرجل فكل موضع نقول للرجل السنة أن يجافي فالسنة للمرأة ألا تجافي وإنما تضم بعضها إلى بعض واستدلوا على هذا بأمرين الأمر الأول أن هذا مروي عن أم سلمة وحفصة رضي الله عنهما وغيرهما والأمر الثاني أن هذه الصفة أستر للمرأة ولما ذكر الحافظ ابن رجب هذا القول وهو مسألة أن السنة للمرأة أن لا تجافي وإنما تضم بعضها إلى بعض قال - رحمه الله - وهذا قول أهل العلم ولم يذكر خلافاً وإذا بحث الإنسان في كتب المذاهب يجد أنهم يذكرون هذا القول ولا يذكرون قولاً آخر في مسألة التضام وأنه لا يسن لها المجافاة ولم أجد الآن بعد البحث من قال بأن المرأة تكون كالرجل في المجافاة بل كما تسمعون مروي عن الصحابيات الفقيهات منهن كأم سلمة وهي فقيهه وحفصة أيضاً نسبت للفقه أنهن ينضممن ولا يجافين فلم أجد من قال بسنية المجافاة بالنسبة للمرأة المسائل الأخرى فيها خلاف بالنسبة للمرأة لكن هذه المسألة كما قلت لكم ظاهر كلام ابن رجب أنه لا يوجد خلاف بدليل أنه نسب هذا القول لكل أهل العلم وقال هذا قول أهل العلم ومع ذلك لم يذكر خلافاً • ثم قال - رحمه الله - وتسدل رجليها في جانب يمينها يعني ولا تفترش أي ولا تجلس كصفة الرجل في الافتراش

وصفة إخراج الرجلين من جهة اليمين بالنسبة للمرأة مروي عن عائشة رضي الله عنها واستدلوا أيضاً بأن هذه الصفة أستر للمرأة وأبعد عن الانكشاف والقول الثاني في هذه المسألة وهي هيئة الجلوس أن المرأة كالرجل وهذا قول أم الدرداء ذكره البخاري قولها ثم قال وكانت فقيهة فكأنه هو - رحمه الله - يميل إلى هذا القول يشعر تبويبه بأنه أيضاً هو يميل إلى أنه في الجلوس المرأة كالرجل وأما الإمام أحمد - رحمه الله - فقال أما أنا فلا أذهب لما فعلت أم الدرداء والراجح والله أعلم أن المرأة كالرجل ما دام أنه مروي عن فقيهة وثابت عنها وعلقه البخاري بصيغة الجزم فالقول به متوجه والأصل في الحقيقة أن المرأة كالرجل في المسألة السابقة وهي: مسألة أن السنة للمرأة أن تضم بعضها إلى بعض وأن لا تتجافى ذكرت لكم أن من الأدلة أنه مروي عن بعض الصحابيات وفي الباب حديث مرسل صحيح إلى مرسله ومرسله هو التابعي الجليل يزيد بن أبي حبيب أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمر المرأة أن تضم اللحم إلى اللحم وفي الباب آثار عن الصحابة فصارت الأدلة على أن السنة بالنسبة للمرأة أن لا تجافي وأن تضم بعضها إلى بعض أولاً مروي عن الصحابيات ثانياً في الباب حديث مرسل صحيح إلى مرسله ثالثاً مروي عن بعض الصحابة رابعاً هو قول عامة أهل العلم الجماهير إن لم يكن إجماعاً ولا شك أن هذه الأدلة قوية في هذا الباب متضافرة يقوي بعضها بعضاً ويؤيد أن السنة للمرأة أن تضم بعضها إلى بعض وأن لا تجافي عضديها مسألة هل هذا الحكم خاص بالمرأة إذا صلت بحضرة الرجال أو الحكم عام للمرأة ولو صلت في بيتها؟ بعد التتبع لم أجد الآثار والأقوال المروية عن من ذكرت تفرق بين كون المرأة تصلي بحضرة رجال أو تصلي في بيتها فالنصوص جاءت هكذا مطلقة ومن المعلوم أن الغالب على الصحابيات الصلاة في المنزل إأتماراً بأمر النبي - صلى الله عليه وسلم - حيث حث المرأة على الصلاة في بيتها فهو والله اعلم سنة مطلقاً • ثم قال - رحمه الله - فصل

ولعلنا نقف على هذا الفصل باعتبار أن تركنا عدداً من الأسئلة وباقي الآن خمس دقائق على الآذان فنريد أن نجيب عليها انتهى الدرس

فصل [فيما يكره في الصلاة ويباح ويستحب] قال شيخنا حفظه الله: بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين. • قال رحمه الله: فصل: عقد المؤلف هذا الفصل ليبين ثلاثة أشياء ما يكره ما يباح وما يستحب، وبدأ بما يكره ثم سيأتينا ما يباح عند قوله ((وله ... )) فما بعدها ثم ما يستحب. • قال رحمه الله: ويكره في الصلاة التفاته الالتفات في الصلاة عند الحنابلة مكروه فإن فعل صحت الصلاة مع الكراهة والدليل على ذلك أن النبي - صلى الله عليه وسلم - سأل عن التفات الرجل في الصلاة فقال: ((هو اختلاس يختلسه الشيطان من صلاة العبد)) وذهب بعض الفقهاء إلى أن الالتفات في الصلاة لغير حاجة محرم. مسألة: وهذه الكراهة ترتفع ويكون الالتفات مباحاً إذا كان لحاجة لدليلين: الأول: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما صلى الصبح ودخل في الصلاة ((جعل يلتفت إلى الشعب)) وكان أرسل في الليل فارساً ليحرس فجعل يلتفت ينظر إلى مجيء هذا الفارس. هذا الحديث صحيح وهو دليل على أن الالتفات إذا كان لحاجة فإنه يكره.

الثاني: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - ((خرج ليصلح بين فئتين متنازعتين فتأخر بلال لأبي بكر - رضي الله عنه -: أتصلي قال: نعم)) فلما دخل في الصلاة وأم الناس وهو في أثناء ذلك حضر النبي - صلى الله عليه وسلم - فجعل الناس يصفقون لينبهوا أبا بكر وكان - رضي الله عنه - لا يلتفت في الصلاة مطلقاً حتى لما كان الالتفات مباحا في أول التشريع كان لا يلتفت مطلقا فلما اكثروا التصفيق التفت - رضي الله عنه - فرأى النبي - صلى الله عليه وسلم - فأشار له النبي أن ابقى في مكانك فرفع أبو بكر يديه إلى السماء وقال الحمد لله ثم رجع فتقدم النبي - صلى الله عليه وسلم - ثم لما انتهى من الصلاة قال مالك لم تبق كما أمرتك قال ما كان لابن أبي قحافة أن يتقدم رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. وجه الاستدلال: أن أبا بكر الصديق - رضي الله عنه - التفت لما أكثروا التصفيق ففي هذا دليل على أن الكراهة تزول إذا كان الالفات لحاجة. • ثم قال رحمه الله: ورفع بصره إلى السماء رفع البصر إلى السماء مكروه عند الحنابلة فإن فعل ورفع بصره لم تبطل الصلاة والدليل على أن رفع البصر مكروه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال ((ما بال أقوام يرفعون رؤوسهم إلى السماء)) فاستدلوا بهذا الحديث على أنه يكره للإنسان أن يرفع بصره إلى السماء في الصلاة. القول الثاني أن رفع البصر إلى السماء محرم وتبطل به الصلاة ومذهب الظاهرية. والقول الثالث: أن رفع البصر إلى السماء محرم ولكن لا تبطل الصلاة به وهذا اختيار الشوكاني وكلام شيخ الإسلام ابن تيمية يدل على أنه أيضاً يميل إلى هذا القول وإن كان لم يصرح بعدم البطلان صرح بالتحريم ولم يذكر بطلان الصلاة. وهذا القول هو الصواب أنه محرم ولكن لا تبطل به الصلاة. وكثير نت المصلين إذا رفع من الركوع رفع رأسه مع رفعه من الركوع أثناء الحمد وهذا خطأ وهو محرم وقد تبطل به الصلاة كما سمعتم في اخلاف: • ثم قال رحمه الله: وإقعاؤه الاقعاء سيأتي تفسيره وهو مكروه باتفاق الأئمة لكن الاختلاف في تفسيره. والدليل على أنه مكروه حديث عائشة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - ((نهى عن عقبة الشيطان)) وهو في مسلم.

قال الحافظ بن حجر وليس في النهي عن الإقعاء حديث صحيح إلا هذا. بقينا في تفسير الإقعاء: والإقعاء له صور: الصورة الأولى: أن يفضي يمقعدته إلى الأرض وينصب فخذيه كهيئة جلوس الكلب. أي قدميه وقد عبر أبو عبيد – وهو من أئمة اللغة – بقوله: " ينصب فخذيه " وهذا صحيح فإن الذي يرفع الفخذين. وأما التفسير الذي في الروض قدمين فهو خلاف الدقيق والصواب كما قال أبو عبيد. الصورة الثانية: أن يفرش بظاهر قدميه على الأرض ويجلس بمقعدته على عقبيه. وهذا التفسير اختاره الإمام أحمد. الصورة الثالثة: أن ينصب قدميه ويجلس بمعقدته بين عقبيه يعني بين الرجلين. وهذه يفعلها بعض الناس. كما قلنا في الفتراش أنه ينصب اليمنى فهنا ينصب اليمنى وينصب أيضاً اليسرى ويجلس بينهما. فهذه ثلاث صور (للإقعاء) والصواب أن هذه الصور جميعاً مقصوده بالحديث وداخلة في النهي فكل صورة من هذه الصور منهي عنها. مسألة: سنقسم الإقعاء إلى قسمين: قسم منهي عنه: وهو يشمل الصور الثلاث السابقة. قسم مسنون ولا ينهى عنه: وهو المروي عن ابن عباس – وصح أيضاً عن ابن عمر – فإنه - رضي الله عنه - (أي ابن عباس) جلس على صفة الإقعاء المسنون – وسيأتي بيانها – فلما سأل عن هذا الجلوس قال: ((سنة نبيكم)). وهذه الصفة هي: أن ينصب قدنه اليمنى واليسرى ثم يجلس على عقبيه. (فهنا) المصلي إذا نصب اليمنى واليسرى: إن جلس بينهما فهو الإقعاء المكروه. وإن جلس على عقبيه فهو الإقعاء المسنون. وذهب بعض الفقهاء كالخطابي إلى أن ما روي عن ابن عباس منسوخ بالأحاديث الصحيحة الدالة على الافتراش. الصواب خلاف ما ذهب إليه الخطابي وأن هذه سنة محفوظة (ليست منسوخة لصراحة حديث ابن عباس وابن عمر المروي عنهما في إثبات سنية الإقعاء على الصفة الثالثة) وأن هذا من باب التنويع. وذهب بعض الفقهاء إلى أن الاقعاء كأنه يناسب أحياناً كبير السن كأن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما كبر وثقل صار يجلس أحياناً هذه الجلسة وإلا أنه في الغالب أن سنة النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يفترش.

والتفسير الذي ذكرته بينه البيهقي في السنن (قال الشارح حفظه الله -: وكتاب حافل مفيد ينبغي لطالب العلم أن يعتني به لمسألتين أولاً: أنه أحياناً يشير إلى التعليلات واختلاف الأسانيد. الثانية: ما جمعه من السنن والآثار الكثير التي لا توجد في غيره من الكتب). • ثم قال رحمه الله: وافتراشه ذراعيه ساجدا افتراش الذراعين هو: أن يلصق المصلي ذراعيه بالأرض. وهو منهي عنه لأمرين. الأول أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((اعتدلوا في سجودكم ولا ينبسط أحدكم انبساط الكلب)) الثانية: أن هذه الهيئة توحي بالكسل والتثاقل عن الصلاة وهو مما ينافي الأدب مع الرب سبحانه وتعالى. (وهذا الفعل) مكروه ودليله واضح. • ثم قال رحمه الله: وعبثه العبث تعريفه: هو عمل مالا فائدة فيه. وهو مكروه باتفاق الأئمة إلا أن أبا حنيفة يرى أنه محرم. والدليل على أنه مكروه حديث معيقيب أن النبي - صلى الله عليه وسلم - سأل عن المسح في الصلاة فقال - صلى الله عليه وسلم - ((إن كنت لابد فاعلاً فواحدة)) وإذا كان النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى المصلي أن يمسح مع حاجته أحياناً عند السجود إلى المسح فلأن يكره للمصلي أن يعبث من باب أولى. مسألة: حكم المسح: المسح إن كان مرة جاز بالإجماع لهذا الحديث الصحيح. وإن أكثر من مرة فالجمهور على أنه مكروه والظاهرية يرون أنه محرم. ومن أكثر ما يقع من المصلين اليوم – بلا شك – العبث فغالب ما يخل بصلاة المسلمين اليوم العبث تجد الإنسان كثير العبث جدا بحاجة وبلا حاجة بساعته وبثيابه وبما يلبس على رأسه وبما يحمل في جيبه – وإلى آخره) فتجد أن العبث كثير جداً. وأما مسألة هل تبطل الصلاة به أو لا؟ فسيأتينا – الآن – ضابط العمل الذي تبطل به الصلاة والذي لا تبطل به الصلاة. • ثم قال رحمه الله: وتخصره يكره للمصلي التخصر وتعريفه: هو أن يضع المصلي يده على خاصرته أثناء الصلاة. ودليل الكراهة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - ((نهى عن التخصر في الصلاة)) والدليل الثاني: أنها صفة تهاون وأحيانا تكون صفة تكبر وكلا الصفتين مذمومتان في الصلاة، والتكبر مذموم في الصلاة وخارجها.

والقول الثاني: أن التخصر محرم لأن النهي صريح ولا صارف له والأصل في النهي التحريم. والصواب: التحريم لأنه بالإضافة إلى النهي فإنه يشعر بنوع من التكبر. ((سأل الشيخ عن شيء في هذه المسألة فقال: لكنه لا يثبت – لم يتبين أثناء سماعي للتسجيل)). • ثم قال رحمه الله: وتروحه التروح: هو تحريك الهواء بالمروحة ونحوها طلباً لإزالة الغم ونحوه. والتروح مكروه في الصلاة أولا: لأنه من العبث وتقدم معنا أن العبث مكروه. ثانياً: لأنه يشغل عن الخشوع. واستثنى بعض الفقهاء إذا كان التروح لحاجة عرضت للمصلي كشدة الحر أو قلة الهواء أو نحو ذلك. أما المراوحة – المراوحة بين القدمين – فهذه عند الإمام أحمد: سنة. والمراوحة بين القدمين: هي أن يتكئ أحياناً في الصلاة على اليمنى وإذا تعب اتكأ على اليسرى – فيراوح بين القدمين. الدليل على سنية هذا الفعل أن ابن مسعود - رضي الله عنه - رأى رجلاً يصلي لا يراوح بين قدميه فقال ((أخطأ السنة لو رواح لكان أحب إلَّي)). وهذب بعض الفقهاء إلى أن المراوحة مباحة ليست سنة. والصواب مع الحنابلة لأن حديث ابن مسعود واضح وهو يقول أخطأ السنة – مع فقهه وجلالة قدره - رضي الله عنه - وأرضاه. وخص بعض الفقهاء المراوحة بطول القيام وهذا مناسب – يعني أن المراوحة إنما تستحب وتطلب مع طول القيام أما إذا كانت الصلاة قصيرة فإنه يستحب له أن يبقى معتدلاً متكأ على القدمين. وذكر بعض الفقهاء أنه يراوح بين قدميه ولكن لا يقدم قدماً على أخرى وإنما يراوح مع تساوي القدمين، ولعل مقصود هؤلاء الفقهاء عدم التقديم الزائد أما التقديم اليسير فلا بد منه – لأنه المراوحة لا يمكن أن يستفاد منها إلا بتقديم الرجل التي لا يتكأ عليها. فكما قلت لعل مقصودهم أن لا يمدها كثيراً وإنما يمدها شيئاً يسيراً بمقدار ما يحصل الراحة للقدم الأخرى. والصحابة والفقهاء والأئمة يبحثون في هذه المسائل لأنهم كانوا يطيلون الصلاة – إطالة شديدة جداً – فيحتاجون إلى – بحث – هذه المسائل التي نحن في وقتنا هذا لا نحتاج إليها بسبب قصر صلاة الناس فما يحتاج إلى المراوحة بسببها. • ثم قال رحمه الله: وفرقعة أصابعه وتشبيكها

فرقعة الأصابع وتشبيكها جاء في النهي عنه عدة أحاديث – نحو أربعة أحاديث في كل منها النهي عن تشبيك الأصابع لكن لا يخلو طريق من طرق هذه الأحاديث من ضعف ولذلك قال ابن بطال في شرح البخاري: جاءت من طرق لا تخلو من ضعف. فالحنابلة بناء على هذه الأحاديث المتكاثرة يرون أن فرقعة الأصابع والتشبيك مكروهان اعتماداً على مجموع هذه الأحاديث. والقول الثاني: أن الفرقعة والتشبيك جائزان لعدم ورود حديث صريح في النهي عنهما بل جاءت الأحاديث الصحيحة بالتشبيك فالنبي - صلى الله عليه وسلم - يحدث في المسجد ويقول: ((المؤمن للمؤمن كالبنيان)) وشبك بين أصابعه. ولما سهى النبي - صلى الله عليه وسلم - في الصلاة الرباعية وقام من الصلاة يظن أنها صلى كامل الصلاة جلس ((واتكأ وشبك بين أصابعه)) فهذه الأحاديث الصحيحة فيها التشبيك. فقالوا: لم يأتي حديث صريح صحيح في النهي عنها وفي المقابل جاء أحاديث صحيحة تدل على جوازها فقالوا: تجوز بلا كراهة. وتوسط آخرون فقالوا: أنه يكره التشبيك والفرقعة قبل الصلاة – وهو ينتظرها – أو في الصلاة وتجوز بعد الصلاة. والأقرب والله سبحانه وتعالى أعلم أنها مكروهة والدليل: أولاً أنها تدخل في مفهوم العبث وتقدم معنا أن العبث يوجد له من الأدلة ما يدل على كراهته. ثانياً: أن هذه الأحاديث ضعيفه ولكن بمجموعها مع أحاديث الكراهة للعبث يقوي بعضها بعضاً للنهي عن الفرقعة والتشبيك. كما أن في الفرقعة عبث زائد على التشبيك وفيه محذور آخر وهو التشويش على المصلين بخلاف التشبيك فهو عائد إلى نفس المصلي فقط. إذاً عرفنا الآن البحث في الفرقعة والتشبيك وأنهما مكروهان قبل الصلاة أو فيها وأما بعدها فتجوز بلا كراهة. • ثم قال رحمه الله: وأن يكون حاقنا يعني أن يصلي الإنسان وهو حاقن. والحاقن هو: حابس البول. فإذا كان الإنسان يحبس البول عن الخروج فإنه يكره له والحالة هذه أن يصلي ويقاس على الحاقن كل ما يزعج ويشوش على المصلي – الكوع وشدة البرد والغضب وغيرها – أثناء الصلاة.

فإن صلى وهو على هذه الحالة صحت صلاته عند الجماهير واستدلوا بدليل فقالوا تصح صلاة الحاقن قياساً على من يصلي وهو منشغل بأحداث الدنيا انشغالاً تاماً فإن هذا الذي يصلي من غير خشوع ومنشغل بأعراض الدنيا يشبه الحاقن لأن كلاً منهما منصرف عن الصلاة. والقول الثاني: للظاهرية وهو إن صلى الحاقن وإن كان في أول مراحل الحاجة إلى التبول فإن صلاته باطلة. واستدلوا بعموم قول النبي - صلى الله عليه وسلم - ((لا صلاة بحضر طعام ولا وهو يدافعه الاخبثان)). والقول الثالث: أن الصلاة صحيحة إلا إن كانت المدافعة شديدة مزعجة جداً للمصلي تمنعه من تصور صلاته وتشغله عن الصلاة فحينئذ تكون باطلة. وهذا القول – الثالث – هو الصواب ولا يخفى أنه في هذا القول جمع بين القولين – الثاني والأول. • ثم قال رحمه الله: أو بحضرة طعام يشتهيه يكره للمصلي أن يصلي وهو بحضرة طعام لكن يشترط أن يكون هذا الطعام مما يشتهيه المصلي. فإذا حضر الطعام وهو يشتهيه فإن الصلاة مكروهة وله أن يؤخر ولو فاتت صلاة الجماعة. ونفس الحكم – (يحكم به) – في مسألة مدافعة الأخبثان. فمدافعة الأخبثين وحضور الطعام يقدمان على الصلاة ولو أدى ذلك إلى فوات صلاة الجماعة. الدليل على ذلك أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال ((إذا حضرت العشاء والعشاء فابدءوا بالعشاء)) ولأن ابن عمر - رضي الله عنه - إذا وضع الطعام أكمل طعامه ولو صلى الناس. فإن صلى بحضرة طعام يشتهيه فالخلاف المذكور في مسألة مدافعة الأخبثين ينطبق تماماً على هذه المسألة – ثلاثة أقوال كالأقوال السابقة. مسألة: المؤلف يقول: بحضرة طعام يشتهيه، والحديث يقول: إذا حضر الطعام ولم يقيد هذا الأمر بكونه يشتهيه إذا ما الدليل على هذا التقييد الخارج عن الحديث؟ الدليل: أن العلة من تأخير الصلاة إذا حضر الطعام أن هذا الطعام يشوش على المصلي صلاته ويمنعه من الخشوع والطعام إنما يمنع من الخشوع إذا كان المصلي يشتهيه أما إذا كان المصلي لا يشتهيه فإنه لا يقدم ولا يؤخر حضور الطعام شيئاً بالنسبة للمصلي. وهذا المعنى الذي ذكره بعض الفقهاء قوي جداً وهو دليل يكفي للتخصيص.

فقوله: (أو بحضرة طعام يشتهيه) صحيح فلا بد أن يكون الطعام حاضراً ولابد أن يكون المصلي يشتهيه حينئذ له أن يترك صلاة الجماعة مقدماً للطعام الذي يشتهيه. (إذا تقصد إحضار الطعام فإنه يحرم عليه أن يأكل إذا كان الأكل يفوت عليه صلاة الجماعة لأن من استعجل شيئاً قبل أوانه عوقب بحرمانه وشيخ الإسلام عنده قاعدة مفيدة لطالب العلم أي حيلة يقصد منها تحليل المحرم أو إباحة الواجب فهي باطلة ولا تؤثر شيئاً. فإذا كان يحتال لإسقاط صلاة الجماعة بإحضار الطعام أثناء الأذان فإنه يحرم عليه أن يأكل الطعام وعليه أن يصلي لكن هذه المسألة قليلة الوقوع أو لا تكاد توجد لأن من أراد أن يترك صلاة الجماعة لن يبلغ به الدين أن يحتال بإحضار الطعام حتى يصدق " لا صلاة بحضرة طعام " إذا وصل به الدين إلى هذه المرحلة سيصلي صلاة الجماعة. وعلى كل حال لكن لو فرضنا أن أحداً فعل هذا الفعل فإنه يعاقب بأن يُلْزَمَ بالصلاة). (هل يشترط حضور الطعام؟ قال الشيخ: نحن كنا لا نريد الدخول في هذه المسالة -. (نعم) يشترط حضور الطعام كما قال المؤلف فلابد أن يكون الطعام حاضراً وإلا لم يجز له تأخير صلاة الجماعة لأن إذا لم يحضر الطعام فإنه لا فائدة من تركه الصلاة – أي فائدة حتى لو كان ينتظر. إلا إذا كان ذهابه إلى الصلاة في هذه الحالة يؤدي إلى انشغاله بالطعام المعد بالبيت بحيث لا يشتحضر صلاة ولا خشوعاً حينئذ له أن يبقى وليس سبب بقائه في هذه الصورة حضور الطعام ولكن سبب بقائه انشغاله وهذا سبب سيأتينا في الأعذار المجيزة لترك صلاة الجماعة وهي انشغال الذهن بالمال أو بالولد أو بمريض أو بنحوه فيدخل هذا ضمناً لكن بالنسبة للطعام فلابد أن يكون حاضراً). • ثم قال رحمه الله: وتكرار الفاتحة أي أنه يكره للإنسان أن يكرر الفاتحة ودليل الكراهة أنه لم ينقل عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه كان يكرر الفاتحة فهذه صفة جديدة لا أصل لها في الشرع. وكذلك لم ينقل عن أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم -. والدليل الثالث أن بعض الفقهاء يرى بطلان الصلاة بتكرار الفاتحة فمراعاة لهذا الخلاف نقول تكرار الفاتحة مكروه. • ثم قال رحمه الله: لا جمع سور في فرض كنفل

بدأ الشيخ الآن بالمباحات – وإن كانت البداية الحقيقية من قوله: وله – ولكن هذا العمل أيضاً جائز فهو مباحة. يجوز للإنسان أن يقرأ أكثر من سورة في الركعة الواحدة سواء كانت الصلاة فريضة أو نافلة. أما الدليل على جواز قراءة أكثر من سورة في الركعة الواحدة في الفريضة فهي ما ثبت أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أرسل رجلاً على سرية فكان يقرأ لأصحابه ويختم القراءة ب ((قل هو الله أحد)). فهو قد قرأ في الركعة الواحدة أكثر من سورة. ولما أخير النبي - صلى الله عليه وسلم - لم ينكر عليه صنيعه هذا فدل على جوازه. وأما الدليل على جواز أن يقرأ أكثر من سورة في الركعة الواحدة في النفل هو ما ثبت أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قرأ في قيام الليل في ركعة واحدة البقرة وآل عمران والنساء. كذلك لا يكره أن يقرأ سورة واحدة في أكثر من ركعة – عكس هذه الصورة – لما ثبت في الحديث الصحيح أن النبي - صلى الله عليه وسلم - صلى بأصحابه يوماً الفجر فقرأ في الركعة الأولى والثانية (إذا زلزلت الأرض) وهذا الحديث ليس في طرقه ولا في ألفاظه ما يدل على أن هذه الصلاة كانت في سفر – كما يقع في أذهان عدد من إخواننا من طلاب العلم وأظن أن بعض الشراح ذكروه أيضاً – لكن بتتبع طرق هذا الحديث وألفاظه لم أجد أي إشارة إلى أن هذه الصلاة كانت في السفر لكن بعض الفقهاء يقول: لعل هذه الصلاة كانت في السفر وأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قرأ في الركعتين (إذا زلزلت) تسهيلاً على أصحابه باعتبار أنهم في السفر. لكن الحديث – كما قلنا – ليس فيه تخصيص أو ما يدل على أن هذه الصلاة كانت في السفر. ثم بدأ المؤلف بالمباحات. • فقال رحمه الله: وله رد المار بين يديه قوله: وله: هذه العبارة تفيد الإباحة بينما مذهب الحنابلة الاصطلاحي أن رد المار سنة لقول النبي - صلى الله عليه وسلم - في الحديث الصحيح – عن أبي سعيد – ((إذا اتخذ أحدكم ما يستره في صلاته فإذا أحد أن يمر بينه سترته فليرده فإن أبي فليقاتله فإنه شيطان)). فهذا الحديث صريح في سنية رد المار. وهذب بعض الفقهاء إلى أن رد المار واجب للأمر به في هذا الحديث.

مسألة: ذكر النووي والشوكاني وغيرهما استنباطاً من حديث أبي سعيد أن رد المار والمقاتلة إنما تجوز لمن اتخذ سترة واحتاط لصلاته. أما من لم يتخذ سترة ولم يحتط لصلاته فإنه لا يجوز له أن يقاتل ولا أن يرد رداً شديداً. واستنبطوا هذا الحكم من قول النبي - صلى الله عليه وسلم - في صدر الحديث ((إذا صلى أحدكم إلى ما يستره)). فإذا: في الحديث - شرطية فكأنه أجاز المقاتلة إذا احتاط الإنسان لصلاته واتخذ سترة تمنع مرور الناس بينه وبين مصلاه. وفي الحقيقة كلام النووي والشوكاني وجيه جداً وهو متوافق مع لفظ الحديث كما أن من لم يصلي إلى سترة ينسب إلى التفريط فلا يناسب أن يفرط ثم يقول يقاتل الناس على المرور بينه وبين مكان سجوده. مسألة: هل رد المار يستوي فيه من يكون في مكة ومن لا يكون؟ في هذه المسألة المهم عن الإمام أحمد روايتان: الرواية الأولى: أن مكة تستثنى من هذا الحكم ولا يرد المار بين يدي المصلي فيها واختار هذه الرواية الموفق وشيخ الإسلام ابن تيمية. واستدلوا بدليلين: الأول: ما روي أن النبي - صلى الله عليه وسلم - طاف ثم صلى والناس بين يديه ليس له سترة. لكن هذا الحديث فال عنه الحافظ ابن حجر: حديث معلول. الدليل الثاني أن في رد المار بين يدي المصلي في مكة مشقة وحرج شديدين لكثرة المارين والطائفين وكثرة الناس بوجه عام في مكة. الرواية الثانية عن الإمام أحمد: أنه يسن أن يرد المار في مكة وفي غيرها وأن مكة تستوي مع باقي البلدان في هذا الحكم. واستدلوا أيضاً بدليلين: الدليل الأول: المعلومات قالوا: النبي - صلى الله عليه وسلم - في حديث ابن عمر لم يستثني مكة ولا غير مكة. الدليل الثاني: أنه صح عن ابن عمر وأنس أنهما اتخذا سترة عند الكعبة.

قال شيخنا حفظه الله بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين • قال رحمه الله في بيان المباحات وله رد المار بين يديه تقدم معنى عدة مسائل تتعلق بهذه العبارة وباقي أيضاً مسائل أخرى تتعلق أيضاً بهذه العبارة منها مسألة وهي اتفق الأئمة الأربعة كلهم على أنه لا يرد المار إذا كان مروره لحاجة أي أن رد المار يسن إذا لم تكن هناك حاجة فإن كانت هناك حاجة فلا يرد المار ومن أمثلة الحاجة أن يصلي في طريق ضيق يحتاج الناس إلى المرور من أمام المصلي فهذه الحاجة اتفق الأئمة الأربعة أنها ترفع الكراهة مسألة ثانية تلحق بلالمسائل السابقة وهي: أن المؤلف بين حكم رد المار ولم يبين حكم المرور فالمرور بين يدي المصلي محرم والدليل على هذه قوله - صلى الله عليه وسلم - لو يعلم المار بين يدي المصلي ماذا عليه لكان أن يقف أربعين خيراً له من أن يمر بين يديه وفي لفظ لو يعلم المار ما عليه من الإثم وهذا اللفظ ضعيف لا يثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال من الإثم فرد المار سنة ولكن المرور محرم ففرق بين المرور ورد المار مسألة لم يبين المؤلف الحكم إذا لم يتخذ المصلي سترة أي هل يمر الإنسان من أمامه أو لا؟ وحكمها أنه يجوز أن يمر إذا كان بعيداً من المصلي ويحرم إذا كان قريباًَ من المصلي لكن اختلفوا في تحديد القريب والبعيد على عدة أقوال نأخذ أقوى هذا الأقوال وهو أن حد ذلك ثلاثة أذرع والتحديد بهذا المقدار اختاره المجد وابن حزم لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما دخل الكعبة جعل بينته وبين الجدار ثلاثة أذرع ويقصد بهذا أن يتم اعتبار هذه المسافة من قدم المصلي لا كما يظن بعض إخواننا من مكان السجود القول الثاني لأن حد القريب هو موضع السجود والبعيد ما عدا ذلك والأقرب القول الأول لأنه يستأنس فيه بالحديث الذي ذكرته عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه ابتعد عن الجدار بمقدار ثلاثة أذرع

وإذا تأمل الإنسان سيجد أن الفرق بين القولين يسير لأن موضع السجود يقرب أن يكون ثلاثة أذرع من قدم المصلي فالفرق بين القولين يسير لكن نحن نقول نلتزم بثلاثة أذرع لوروده في الحديث هذه جملة من المسائل تتعلق بقوله له رد المار بين يديه • ثم قال - رحمه الله - وعد الآي يعني يجوز للمصلي وهو يقرأ أن يعد الآي ولا حرج عليه في هذا العمل فهو جائز بلا كراهة والدليل على جواز عد الآي أثناء الصلاة أنه روي عن التابعين بلا خلاف فلم ينقل عنهم رضي الله عنهم خلاف في جواز عد الآي ولذلك اعتبره ابن قدامة كالإجماع بينهم ومعنى عد الآي أي أن يحسب الإنسان الآيات في قلبه في ضميره ولا يجوز أن يعد الآي لفظاً فإن فعل عالماً بطلت الصلاة لأن هذا كلام أجنبي يبطل الصلاة إذا معنى عد الآي هو أن يكون هذا العد في قلب الإنسان وضميره لا بصريح نطقه ولفظه وذهب بعض الفقهاء كالإمام أبي حنيفة إلى أن عد الآي مكروه لأنه يشغل في الصلاة والصواب القول الأول لكونه مروياً عن التابعين رضي الله عنهم وأرضاهم • ثم قال - رحمه الله - والفتح على إمامه الفتح على الإمام هو الرد على الإمام إذا أخطأ وتلقينه إذا توقف فالفتح على الإمام عند الحنابلة مباح والأقرب أن في الفتح على الإمام تفصيل وأنه ينقسم إلى نوعين النوع الأول أن يكون الفتح على الإمام في الفاتحة فهذا واجب فإن تركه المأمومون جميعاً أثموا لأن الفاتحة ركن من أركان الصلاة فيجب أن تقرأ على الوجه الصحيح النوع الثاني الفتح على الإمام في غير الفاتحة فهذا جائز بالإجماع وليس من الواجبات إذا يختلف الأمر بالنسبة للمقروء بين الفاتحة وغيرها من السور • ثم قال - رحمه الله - ولبس الثوب والعمامة لبس الثوب والعمامة جائز بلا كراهة والقاعدة التي تجمع الأفعال التي تجوز بلا كراهة هي أن كل فعل يسير لحاجة فهو جائز بلا كراهة هذه قاعدة تريح الإنسان في أنواع الأعمال والدليل على جواز مثل هذه الأفعال أن النبي - صلى الله عليه وسلم - تناول رداءه في الصلاة ولبسه - صلى الله عليه وسلم - وأيضاً النبي - صلى الله عليه وسلم - حمل أمامه في الصلاة فكان يضعها إذا سجد ويأخذها إذا قام وأيضاً النبي - صلى الله عليه وسلم - صلى يوماً بالناس على المنبر ليعلمهم كيفية الصلاة وكان يصعد وينزل مراراً

وأيضاُ وهو الرابع أن النبي - صلى الله عليه وسلم - فتح الباب لعائشة لما جاءت إلى المنزل وهو يصلي وهذا الحديث فيه ضعف لكن له شواهد كثيرة وتعضده النصوص السابقة فهذه أربعة أدلة تدل على أن العمل إذا كان يسيراً لحاجة جاز بلا كراهة فإن كان يسيراً لغير حاجة جاز مع الكراهة أما الكثير فسيذكر المؤلف تفصيله قريباً • ثم قال - رحمه الله - وقتل حية وعقرب وقمل قتل الحية والعقرب في الصلاة جائز لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمر بقتل الأسودين في الصلاة الحية والعقرب ولأن هذا العمل يحتاج إليه الإنسان فإذا عرض للإنسان حية أو عقرب في أثناء الصلاة فإنه يقتل الحية أو العقرب ولو كان في ذلك عمل كثير والدليل هو ما سبق للدليل وللحاجة إلى مثل هذا العمل ويقاس على الحية والعقرب كل ما يؤذي الإنسان ويشكل خطراً عليه فإنه كذلك يقتل ثم قال والقمل القمل أيضاً يجوز للإنسان أن يقتله أثناء الصلاة لأنه مروي عن بعض الصحابة ولأنه مؤذي والقول الثاني أنه يكره قتل القمل في الصلاة وهذا الثاني في الحقيقة أقرب إذ الاشتغال بمثل هذا الأمر أثناء الصلاة قد ينافي الخشوع ويستثنى من هذا حالة واحدة إذا كان هذا القمل مؤذي جداً وأشغله عن الصلاة فحينئذ يقتله في الصلاة أما إذا كان لا يؤثر على صلاته فالأولى له أن يؤخر مثل هذا العمل إلى ما بعد الصلاة وإنما قلنا الأولى ولم نقل يحرم لأنه مروي عن الصحابة أنهم فعلوا هذا في الصلاة أي قتل القمل ثم قال مبيناً أحكام الفعل الكثير فإن أطال الفعل عرفا من غير ضرورة وبلا تفريق بطلت أفاد المؤلف أن هناك فرقاً بين الفعل الكثير والفعل القليل والتفريق بين الفعل القليل والكثير محل إجماع لكن اختلفوا في القدر الذي يعتبر به العمل كثيراً أو قليلاً إذاً اختلفوا في تحديد الكثير لكنهم لم يختلفوا في التفريق بين القليل والكثير واختلفوا على أقوال القول الأول أنه يرجع في تحديد الفرق بين القليل والكثير إلى العرف وهذا مذهب الحنابلة والشافعية القول الثاني أن ضابط الكثير هو أنه إذا رؤي الرجل ظن أنه ليس في صلاة وهذا الضابط للمالكية والأحناف

والقول الثالث أن اليسير ما يشبه أعمال النبي - صلى الله عليه وسلم - التي قام بها في الأحاديث السابقة وما عداه فهو كثير وهذا هو الراجح أنه يقاس القليل والكثير بأعماله - صلى الله عليه وسلم - وأيضاً إذا تأملت الأقوال السابقة ستجد أنها متقاربة فالإنسان إذا صلى وظن من رآه أنه لا يصلي قريبة من العرف العام عند الناس أن هذا عمل عملاً كثيراً يخل بالصلاة وهو أيضاً قريب من الضابط الأخير فإن هذا لا يشبه أبداً عمل النبي صلى الله عليه وسلم فإذاً إذا فصل بهذا الكثير فإن الصلاة تبطل لانتقاء الموالاة بين أعمال الصلاة وللمنافاة بين هذه الأعمال وبين الطمأنينة والطمأنينة ركن من أركان الصلاة وذكر الشيخ هنا قيود لهذا الشيء فقال فإن أطال الفعل عرفا تقدم معنا أن عرفاً هي أحد الأقوال في ضابط الكثير من غير ضرورة أما إن كان طول الفعل وكثرته للضرورة جاز ولو كثرت جداً فإذا هجم على الإنسان سبع في الصلاة جاز له أن يهرب عنه ولا يقطع صلاته لأن هذا العمل الكثير ألجأت إليه الضرورة ولا فرق بين أن تكون الضرورة خاصة به هو كما في المثال الذي ذكرت أو أن تكون الضرورة متعلقة بغيره كأن يذهب إلى إنقاذ غريق أو إنقاذ حريق أو ليتفادى سقوط طفل أو ما شابه هذه الأعمال التي تتعلق بالغير ولكنها أيضاً توصف بأنها ضرورة ويدل على هذا كله قوله تعالى فإن خفتم فرجالاً أو ركباناً ومن المعلوم أن الإنسان إذا ركب الفرس أو مشى راجلاً هارباً من العدو أنه سيعمل أعمالاً كثيرة ومع ذلك أجاز الله سبحانه وتعالى له أن يصلي وهو في هذه الحالة مع كثرت الأعمال للضرورة • ثم قال - رحمه الله - وبلا تفريق وهذا شرط مهم أي أنه يشترط في العمل الكثير الذي يبطل الصلاة أن يكون متوالياً فإن وقع متفرقاً فإنه لا يبطل الصلاة حتى لو فرضنا أنه لو جمعت هذه الأعمال لصارت مجتمعة فعلاً كثيرة فإن الصلاة لا تبطل والدليل على هذا ما تقدم معنا من أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يحمل أمامه وهذا فعل لو جمع وضم بعضه لبعض لصار فعلاً كثيراً حيث يضعها في كل ركعة ويجملها في كل ركعة

كذلك لما صلى للناس معلماً لهم - صلى الله عليه وسلم - على المنبر كان يصعد المنبر ثم ينزل للسجود ثم يصعد أخرى ليريهم صلاته - صلى الله عليه وسلم - ومع ذلك كانت صلاته صحيحة إذاً يشترط في الفعل الكثير الذي يبطل الصلاة أن يكون لغير ضرورة أو أن يكون متوالياً • ثم قال - رحمه الله - بطلت ولو سهوا تبطل الصلاة ولو وقع الفعل منه سهواً أولاً لأن هذا الفعل الذي وقع منه سهواً يخل بالموالاة وإن كان ناسياً إلا أ، الإخلال وقع وحصل الثاني أن الطمأنينة ركن والأركان لا تسقط بالسهو والقول الثاني أن الإنسان إذا عمل عملاًَ كثيراً سهواً صحت صلاته ولم تبطل لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - في قصة ذي اليدين لما نسي وسلم قبل تمام الصلاة قام ثم جلس ثم شبك يديه وفي رواية ثم دخل المنزل وخرج ومن المعلوم أن هذه الأعمال كثير ومع ذلك بنى - صلى الله عليه وسلم - على صلاته ولم يستأنف فدل هذا الحديث على أن الأعمال الكثيرة إذا كانت سهواً فإنها لا تبطل الصلاة وكذلك يدل عليه عموم قوله تعالى ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا وهذا القول الثاني هو الصواب أن الأعمال الكثيرة إذا كانت سهواً من غير عمد لا تبطل ثم قال رحمه الله تعالى ويباح قراءة أواخر السور وأوساطها هذا التقرير كان من الأنسب أن يضمه المؤلف إلى الكلام على القراءة عند قوله تكرار الفاتحة لا جمع سور في فرض كنفل فإنها أنسب أن تكون في هذا الموضع ليجتمع الكلام عن أحكام القراءة أو يضمها إلى مسألة قراءة السورة كاملة لما أخذ السنة في القراءة وذكرنا أن سنة النبي - صلى الله عليه وسلم - الغالبة عليه أنه يقرأ سورة كاملة فلو ذكر هذا هناك لكان أنسب المهم أنه يجوز للإنسان أن يقرأ من أواخر السور أو من أواسط السور لما صح في صحيح مسلم من حديث ابن عباس أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يقرأ في ركعتي الفجر قولوا آمنا بالله وما أنزل إلينا وما أنزل إلى إبراهيم إسماعيل البقرة وفي الركعة الثانية قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء آل عمران

فالنبي - صلى الله عليه وسلم - قرأ في هذه الصلاة بعض السورة من أوسط السورة فدل هذا على جواز القراءة فتحصل معنا أنه يجوز للإنسان أن يقرأ من أول أو من وسط أو من آخر السور ولكن السنة أن يقرأ سورة كاملة • ثم قال - رحمه الله - وإذا نابه شئ سبح رجل وصفقت امرأة ببطن كفها على ظهر الأخرى قوله وإذا نابه شئ قوله شيء عام يتناول ما إذا نابه شيء يتعلق بمصلحة الصلاة أو نابه شيء لا يتعلق بمصلحة الصلاة كما إذا استأذنه آدمي أو إذا أراد أن ينبه طفلاً فإنه يسبح إذاً التسبيح لا يتعلق بأعمال الصلاة وإنما يجوز حتى فيما هو خارج أعمال الصلاة سبح رجل وصفقت امرأة الدليل على هذا أن النبي صلى الله عليه وسلم قال إذا نابكم شيء في الصلاة فليسبح الرجال ولتصفق النساء وفي لفظ في البخاري إنما التصفيق للنساء باستخدام آلة الحصر إنما فقوله إذا نابكم شيء في الصلاة دليل على العموم وهو يدل على صحة ما يفهم من كلام المؤلف أنه إذا ناب الإنسان في صلاته شيء سواء كان هذا الشيء يتعلق بمصلحة الصلاة أو خارج مصلحة الصلاة فالحديث عام والسنة أن يسبح الرجل وتصفق المرأة فإن سبحت المرأة كره لها لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - جعل لها التصفيق مسألة هل يجوز التصفيق للرجال في الصلاة؟ الجواب أنه لا يجوز أن النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول إذا نابكم شيء في الصلاة فليسبح الرجال فجعل حظ الرجال التسبيح ونصيب النساء التصفيق وهل يجوز التصفيق خارج الصلاة؟ محل خلاف بين الفقهاء منهم من قال أن النهي عن التصفيق خاص بالصلاة للبعد عن التشبه بعبادات المشركين ومنهم من قال أن النهي عن التصفيق عام في الصلاة وفي خارج الصلاة وكما قلت لكم هي مسألة خلاف ولكن الأقرب والله أعلم أن الرجل منهي عن التصفيق داخل الصلاة وخارج الصلاة لأمرين الأمر الأول أن الشارع الحكيم إذا نهى عن التصفيق في الصلاة مع الحاجة إليه ففي خارج الصلاة من باب أولى الثاني هذا اللفظ الذي ذكرت لكم وهو في صحيح البخاري وهو قوله إنما التصفيق للنساء فحصر جواز التصفيق في النساء

فالأقرب والله أعلم أن الإنسان يبتعد عن التصفيق داخل الصلاة وخارج الصلاة وإن كانت مسألة خلاف لكن هذا الذي يظهر وفي هذه المسألة بحوث كثيرة وآثار عن الصحابة تدل على أن النهي عام • ثم قال - رحمه الله - ببطن كفها على ظهر الأخرى بين المؤلف الصفة التي تصفق المرأة عليها فقال ببطن كفها على ظهر الأخرى والقول الثاني أنها تصفق ببطن اليمنى على بطن اليسرى والصواب أن الأمر في هذا واسع تصفق كيفما تيسر لها لأن الحديث الذي في البخاري لم يعين صفة التصفيق فهي تصفق حسبما يتيسر لها • ثم قال - رحمه الله - يبصق في الصلاة عن يساره وفي المسجد في ثوبه فرق المؤلف في البصاق بين أن يكون الإنسان في المسجد وخارج المسجد ونحن نلخص لكم هذه المسألة فنقول البصاق ينقسم إلى قسمين إما أن يكون داخل المسجد أو أن يكون خارج المسجد فإن كان في المسجد فإنه يبصق في ثوبه ثم يمسح بعضه ببعض أو يبصق بما تيسر الآن من المناديل ونحوها والمقصود من قول الفقهاء يبصق بثوبه يعني لا يجوز له أن يبصق في الأرض الدليل أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال البصاق في المسجد خطيئة وكفارتها دفنها ولقوله - صلى الله عليه وسلم - إذا أراد أحدكم أن يتنخع فليتنخع على يساره تحت قدمه فإن لم يمكن فليفعل هكذا ثم أخذ النبي - صلى الله عليه وسلم - ثوبه وبصق فيه ومسح بعضه ببعض إذاً الآن وضح معنا كيف يبصق الإنسان في المسجد القسم الثاني أن يبدر إليه البصاق خارج المسجد فحينئذ يبصق عن يساره أو تحت قدمه اليسار لقول النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا تنخم أحدكم فلا يتنخمن قبل وجهه ولا عن يمينه وليتنخم عن يساره أو تحت قدمه اليسرى في الحديث السابق يقول عن يساره تحت وهنا يقول أو تحت إذاً في الحديث النهي الصريح عن التنخم قبل الوجه وعن اليمين إذاً إذا كان في المسجد فإنه يتنخم في ثوبه ويمسح بعضه على بعض ليذهب صورة النخامة أو يتنخم في المناديل ونحوها التي تيسرت في وقتنا هذا وإذا كان خارج المسجد فإنه يتنخم إما عن يساره أو تحت قدمه اليسرى والبحث الآن إذا بدر البصاق للإنسان وهو يصلي

مسألة قال الإمام أحمد من فقه الرجل أن لا يبصق عن يمينه ولو خارج الصلاة وكذلك ذهب النووي والشوكاني إلى أن هذا التفصيل في الصلاة وخارج الصلاة أي أنه لا ينبغي للإنسان أن يبصق عن يمينه ولا من قبل وجهه لأن حديث أبي هريرة السابق عام لم يقيد أو لم يحدد أن يكون هذا في صلاة أو يكون في خارج الصلاة فمن فقه الرجل ومعرفته بالأدلة أن لا يبصق في أي مكان من قبل وجهه أو عن يمينه وإنما يبصق عن يساره إذاً تم بهذا آداب البصاق فيما يتعلق في المسجد وخارج المسجد وفي الصلاة وخارج الصلاة • ثم قال - رحمه الله - مبينا أحكام السترة وتسن صلاته إلى سترة يعني أنه يسن أن يتخذ الإنسان سترة يصلي إليها والقول بأن اتخاذ السترة سنة وأن الصلاة لا تبطل ولا يأثم من تركه مذهب الأئمة الأربعة وجماهير الفقهاء واستدلوا على السنية بقول النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا صلى أحدكم فليتخذ سترة وليدن إليها والدليل على أنه لا يجب ما صح عن ابن عباس أنه قال أقبلت على حمار أتان والنبي - صلى الله عليه وسلم - يصلي بأصحابه في منى إلى غير جدار والقول الثاني أن اتخاذ السترة واجب وقالوا أن الأحاديث الكثيرة تأمر بالسترة ولا يوجد في النصوص مخصص وأما حديث ابن عباس فإنه نفى الجدار ولم ينف غيره من أنواع السترة والراجح أن السترة متأكدة جداً لكن لا تصل إلى الوجوب قال الإمام الشافعي رحمه الله وغفر له إلى غير جدار في الحديث أي إلى غير سترة فالأقرب أن اتخاذها متأكد جداً لكنه لا يصل إلى الوجوب والإثم هذا ما يتعلق بحكم اتخاذ السترة • ثم قال - رحمه الله - قائمة معنى قائمة أي منصوبة يعني أنه إذا اتخذ الإنسان سترة ينبغي أن تكون منصوبة قائمة ولا تكون موضوعة على الأرض • ثم قال - رحمه الله - كآخرة الرحل يريد المؤلف أن يبين مقدار السترة فذكر أنها تكون كآخر الرحل لما أخرجه مسلم عن عائشة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - سئل في عزوة تبوك عن السترة فقال - صلى الله عليه وسلم - كآخرة الرحل ولفظ مسلم كمؤخرة الرحل وهذا يقرب من الذراع

فحد طول السترة ة ذراع أو نحواً من الذراع وإنما لم يجزم الإنسان بأنه ذراع بالضبط لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - جعله كمؤخرة الرحل ومؤخرة الرحل تختلف من مؤخرة إلى أخرى فبعضها طويل وبعضها قصير لكن الوسط بينها هو ذراع ونلاحظ أن المؤلف رحمه الله بين مقدار السترة طولاً ولم يبين مقدار السترة عرضاً وقال الفقهاء أنه لا حد لمقدار السترة فيجوز أن يكون كالسهم ويجوز أن يكون جداراً لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - اتخذ الحربة سترة وصلى إلى البعير وإلى الجدار فإذاً الحد من جهةالعرض ليس له حد معين في الشرع وإنما المحدود شرعاً من جهة الطول ومع ذلك قال الإمام أحمد كلما كانت السترة أعرض فهو أحب إليَّ هذا معنى كلامه وليس لفظه واستدل الإمام أحمد بقول النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا صلى أحدكم فليستتر ولو بسهم وجه الاستدلال في قوله ولو بسهم فهذا أدنى أنواع السترة وكل ما هو أعرض من السهم فهو أفضل من السهم وهذا صحيح وهذا الحديث إسناده حسن فإذا تمكن الإنسان من السترة العريضة فهي أولى من السترة السخيفة • ثم قال - رحمه الله - فان لم يجد شاخصا فإلى خط أي أنه يشرع للإنسان إذا لم يجد شاخصاً قائماً أن يتخذ خطاً وهذا مذهب الحنابلة ومذهب الأوزاعي ومذهب أبي ثور لقول النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا لم يجد أحدكم عصى فليتخذ خطاً وهذا الحديث ضعفه عدد من الأئمة منهم الإمام الشافعي ومنهم الإمام ابن عيينة ومنهم الإمام الدارقطني ومنهم الحافظ ابن الصلاح فهؤلاء رأوا أن حديث الخط مضطرب وضعيف إذاً عرفنا مذهب الحنابلة وما هو دليلهم ودرجة هذا الدليل القول الثاني لجماهير العلماء يرون أن اتخاذ الخط لا يشرع ولا يجزئ واستدلوا على هذا أيضاً بدليل قوي فقالوا النبي - صلى الله عليه وسلم - سئل عن السترة فذكر أنها كمؤخرة الرحل فجاء التحديد من النبي - صلى الله عليه وسلم - لكيفية السترة فما كان أقل من مؤخرة الرحل فإنه لا يجزئ لأن هذا تحديد من النبي - صلى الله عليه وسلم - والأقرب والله أعلم مذهب الحنابلة

لكن ينتبه إلى أن الذين أجازوا اتخاذ الخط كلهم يشترط أن لا يجد شاخصاً فإن وجد شاخصاً فإنه لا يجزئه الخط نحن نقول إذا لم يجد الإنسان شاخصاً فإنه يتخذ خطاً وهو أحسن من أن لا يصلي إلى شيء لاسيما وأن الحافظ ابن رجب يقول لعل الإمام أحمد اعتمد في القول بمشروعية الخط على آثار عن الصحابة وإلا فإنه صرح بضعف حديث الخط السنة للمصلي انتهى الدرس

قال شيخنا حفظه الله: بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين. • قال رحمه الله: - وتبطل بمرور كلب أسود بهيم فقط. ذهب الحنابلة إلى أن المصلي إذا لم يتخذ سترة ومر بينه وبين سجوده كلب أسود بطلت الصلاة وهذا من مفردات الحنابلة واستدلوا على هذا بقول النبي صلى الله عليه وسلم إذا صلى أحدكم فإنه يستره مثل آخرة الرحل فإذا لم يضع مثل آخرة الرحل فإنه يقطع صلاته المرأة والحمار والكلب الأسود. قال الراوي لأبي ذر وهو راوي الحديث: ما بال الكلب الأسود من الكلب الأحمر من الكلب الأصفر فقال أبو ذر: سألت النبي صلى الله عليه وسلم فقال: الكلب الأسود شيطان. وهذا الحديث نص صريح في القطع لا يحتمل التأويل. وذهب الأئمة الثلاثة: مالك والشافعي وأبو حنيفة رحمهم الله وغفر لهم إلى أن الكلب الأسود لا يقطع الصلاة. واستدلوا بقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((لا يقطع الصلاة شيء وادرؤوا ما استطعتم)). وهذا الحديث ضعيف وممن ضعفه شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله. والراجح كما لا يخفى مذهب الحنابلة لصراحة الدليل وقوته. مسألة: جاء في بعض الآثار الصحيحة أن يقطع الصلاة الكلب ولم يقيده بكونه أسوداً وجاء في هذا الحديث - حديث أبي ذر - الذي معنا - تقييد الكلب بكونه أسوداً. والصواب أن المطلق يحمل على المقيد في مثل هذه الأحاديث فنقول الكلب الأسود هو الذي يقطع الصلاة فقط وغيره لا يقطع الصلاة. مسألة: علل النبي - صلى الله عليه وسلم - أن الصلاة تقطع بالكلب الأسود بأنه شيطان فإذا مر من أمام المصلي شيطان من الجن فهل تنقطع الصلاة؟

الجواب: أن مثل هذا لا تتعلق به الأحكام لأن الإنسان لا يعلم بمرور شيطان الجن فإن علم بطريقة أو أخرى أنه مر وأن المار شيطان من شياطين الجن فاختار شيخ الإسلام أن الصلاة تنقطع. ولكن هذا قد لا يتأتى العلم به لكن إنما ذكرت لك حكم المسألة. • وقول الشيخ رحمه الله: فقط. أي أن الحمار والمرأة لا يقطعان الصلاة وهذا المذهب بل هو مذهب الأئمة الأربعة واستدلوا بثلاثة أدلة: الدليل الأول: قوله - صلى الله عليه وسلم - لا يقطع الصلاة شيء فادرؤوا ما استطعتم. والدليل الثاني: قول عائشة رضي الله عنها ((أني كنت أضطجع أمام النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو يصلي)). والدليل الثالث: أن ابن عباس رضي الله عنه لما جاء على حمار أتان في منى تركه يمر بين الصفوف. والقول الثاني: وهو رواية للإمام أحمد وأظنها الرواية الثانية - واختيار شيخ الإسلام وابن القيم وعدد من المحققين أن الحمار والمرأة إذا مرا أمام المصلي تنقطع صلاته للحديث السابق الصريح أن المرأة والحمار والكلب الأسود يقطعون الصلاة. وهذا القول - الثاني - هو الصواب. وأما الجواب عن أحاديث القول الأول فكما يلي: أولاً: حديث لا يقطع الصلاة شيء تقدم أنه ضعيف. ثانياً: كون عائشة تعترض أمام النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو يصلي الليل لا دليل فيه لأن الذي يقطع هو المرور لا الاعتراض. ومن كانت معترضة أمام المصلي فإنها لم تمر من أمامه. الخلاصة أن الذي يقطع هو المرور لا الاعتراض أو الجلوس. وأما حديث ابن عباس في تركه الحمار يمر بين الصفوف فالجواب عنه: أن المأموم سترته سترة إمامه فإذا مر من أمامه شيء فإن صلاته لا تنقطع لأنه تبع للإمام في السترة ولا يستقل بذلك. فتبين الآن أن القول الأول وه أن الصلاة تنقطع بالمرأة والحمار هو الصحيح وهو الذي دل عليه الحديث الصحيح الذي لا مدفع له. ((مسألتين - ذكرهما الشيخ حفظه الله في جواب على سؤالين بعد انتهاء الدرس وهي: ما الحكمة من كون المرأة تقطع الصلاة ولماذا قرنت مع الكلب والحمار؟

الجواب: أن قرن المرأة بالكلب والحمار لا يدل على أي نوع من أنواع الغض من منزلة المرأة أو أنها قرنت مع هذين الشيئين مما يدل على أنها نازلة القدر؟ هذا قط ليس من مقصود الشارع ولا أحد يقول به مطلقاً. لكن الحكمة من أن المرأة تقطع أحد أمرين: أولاً: أن نقول الحكمة تعبدية. وأنه لا يعلم لهذا معنى معقولاً. الثاني: أن تكون الحكمة أن المرأة عادة إذا مرت أمام الرجل أشغلته عن الصلاة وذهبت بلبها يعني بلب الصلاة من الخشوع والإقبال على الله سبحانه وتعالى فناسب أن يحكم بقطعها للصلاة. مسألة: هل المرأة تقطع الصلاة مطلقاً أو المرأة الحائض فقط؟ جاء في حديث ابن عباس ((يقطع الصلاة المرأة الحائض)). وأخذ بهذا بعض الفقهاء فقالوا: المرأة إذا كانت حائض تقطع الصلاة وإذا لم تكن حائضاً لم تقطع الصلاة. والقول الثاني: أن المرأة سواء كانت حائضاً أو غير حائض تقطع الصلاة وأخذوا بعموم حديث أبي ذر. الراجح – الحقيقة الراجح ينبني على صحة هذه اللفظة وهي محل إشكال كبير من حديث دراسة الأسانيد لأن يحيى بن سعيد القطان والإمام الحافظ أبو داود أشاروا إلى تضعيف زيادة ((المرأة الحائض)) ويحيى بن سعيد القطان فشبه جزم بأنه وهم وأما أبو داود فتشعر من سياقه في السنن أنه يرى عدم صحة هذا اللفظ. لكن في المقابل أبو حاتم الرازي الحافظ سئل عن هذا الحديث في كتابه العلل فقال: هو عندي صحيح. وإذا تأمل الإنسان في أسانيد الحديث يحصل له من التردد ما حصل عند الأئمة لأن الذي زادها الإمام الحافظ شعبة وهو رحمه الله إذا زاد مقبولة زيادته لكونه متثبت وحافظ لكن في المقابل الذين لم يزيدوا هذه اللفظة أيضاً عدد من الأئمة. فلم يتبين لي ثبوت هذه اللفظة من عدم ثبوتها وإذا كان مثل هؤلاء الأئمة صار بينهم اختلاف فهذا يعني أن المسألة فيها نوع من الإشكال لكن فقه هذه المسألة إن صحت هذه اللفظة فإنا نحمل المطلق على المقيد كما حملنا الكلب والكلب الأسود حملنا المطلق على المقيد هنا أيضاً نقول إن صحت هذه اللفظة فإنه لا يقطع الصلاة إلا المرأة الحائض فقط.)) • ثم قال رحمه الله تعالى: وله التعوذ عند آية وعيد والسؤال عند آية رحمة ولو في فرض.

أي أنه يشرع للمصلي في صلاة الفريضة والنافلة إذا مرت به آية رحمه يسأل الله وإذا مرت به آية عذاب يستعيذ بالله وإذا مرت به آية تعظيم يسبح الله لما ثبت في الحديث الصحيح أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يسبح ويستعيذ ويسأل في صلاته إذا قام من الليل. والقول الثاني: أن هذا الأمر مشروع في النافلة دون الفريضة. واستدل أصحاب هذا القول بأن النبي - صلى الله عليه وسلم - صلى عدداً كبيراً من الفرائض وقرأ فيها من آيات الوعد والوعيد والتسبيح شيئاً كثيراً ولم ينقل أحد من أصحابه عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه كان يسأل أو يستعيذ أو يسبح في الفريضة. وهذا الدليل مخصص لعموم القاعدة التي تقول أنه ما ثبت في الفريضة ثبت في النافلة إلا بدليل. فنحن نقول هنا وجد الدليل وهو أنه لم ينقل عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه فعل ذلك في الفريضة. وهذا القول الثاني هو الأقرب للنصوص أنه لا يشرع مثل هذا الأمر إلا في صلاة النفل لا سيما في صلاة الليل. وأما الحنابلة فهم يرون أن الأمر مشروع في الفريضة والنافلة. فصل [في حصر أفعال الصلاة وأقوالها] • ثم قال رحمه الله تعالى: فصل أركانها المؤلف يريد بهذا الفصل أن يبين أركان وواجبات وسنن الصلاة فإن قيل ما الفائدة من ذكرها وقد ذكرت في صفة الصلاة؟ فالجواب: أنه رحمه الله أراد أن يذكرها على سبيل الحصر والتعداد حتى يسهل على طالب العلم التفريق بين أنواع أعمال وأقوال الصلاة. والأفعال والأقوال في الصلاة تنقسم إلى ثلاثة أقسام: القسم الأول: ما لا يسقط سهواً ولا جهلاً ولا عمداً. وهو الذي يسمى الركن ويسميه بعض الفقهاء الفرض. القسم الثاني: ما لا يسقط عمداً ويسقط جهلاً أو نسياناً ويجبر بسجود السهو ويسمى الواجبات اصطلاحاً وإلا الأركان أيضاً من الواجبات لكن اصطلحوا على تسمية هذه الأعمال بالواجبات للتفريق بينها وبين الأركان فهي تسمية اصطلاحية. القسم الثالث: ما يسقط عمداً وسهواً وجهلاً ولا يوجب سجود السهو وهي السنن والأصل أنه لا يسجد له في السنن وفي الباب الذي يلي هذا الباب - باب سجود السهو - سيأتينا تفصيل فيه هل هو مشروع أو جائز أو مكروه. • ثم قال: القيام

القيام ركن في الصلاة بالنص والإجماع. أما النص فقوله تعالى: ((فقوموا لله قانتين)) فنص على القيام وأمر به. وأيضاً قوله صلى الله عليه وسلم: صل قائماً فإن لم تستطع فقاعداً .... الحديث. وأيضاً أجمع الفقهاء على أن القيام ركن من أركان الصلاة لا يسقط بحال. مسألة: والقيام ركن من أركان الصلاة في الفريضة وأما في النافلة فهو جائز أن يأتي به أو أن يتركه لما صح في مسلم عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصلي ليلاً طويلاً قاعداً. فالقيام في النافلة إن شاء أتى به وإن شاء تركه ولو بلا عذر. مسألة: والقيام في الفريضة ركن يسقط عند العجز لقوله تعالى ((فاتقوا الله ما استطعتم)). وقوله - صلى الله عليه وسلم - ((إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم)). وفي المسألة نص خاص وهو قوله - صلى الله عليه وسلم - ((صل قائماً فإن لم تستطع فقاعداً فإن لم تستطع فعلى جنب)) فنص النبي - صلى الله عليه وسلم - على أن القيام يسقط عند العجز. مسألة: متى يسمى المصلي غير مستطيع؟ في هذا أقوال للفقهاء أقربها - إن شاء الله - أنه إذا كان القيام يذهب خشوع المصلي بسبب المرض أو نحوه بحيث لا يستطيع أن يخشع كما ينبغي جاز له حينئذ أن يصلي جالساً. أي لا كما يفهم بعض الناس أنه لا يجوز أن يصلي قاعداً إلا إذا إن صلى قائماً سقط هذا الفهم غير وارد لا يجب على الإنسان أن يبقى قائماً إلى حد السقوط وإنما قوله فإن لم تستطع يحمل على الركن الهام في الصلاة وهو الخشوع. مسألة: القدر المجزئ من القيام هو أن لا يصل إلى القدر المجزئ من الركوع فإذا انحنى انحناء يسيراً جاز ولا حرج على المصلي في ذلك. التعليل: عللوا هذا بأن من انحنى انحناء يسيراً لم يخرج عن مسمى القيام فقد أتى بالركن. وبهذه المسألة انتهت المسائل المتعلقة بقوله: القيام. • قال رحمه الله: والتحريمة تكبيرة الإحرام ركن من أركان الصلاة عند الفقهاء لقوله - صلى الله عليه وسلم - تحريمها التكبير. ولقوله - صلى الله عليه وسلم - للمسيء استقبل القبلة ثم كبر.

فدل هذا على أن تكبيرة الإحرام ركن من أركان الصلاة لا تسقط لا سهواً ولا جهلاً وأما عمداً فمعلوم أنه إذا لم يكبر لم يدخل في الصلاة أصلاً. • ثم قال - رحمه الله -: • والفاتحة الفاتحة تقدم معنا ذكر الخلاف فيها وأن الأقرب للصواب أنها ركن من أركان الصلاة وأن الدليل الدال على هذا حديث عبادة وهو قوله - صلى الله عليه وسلم - لا صلاة لمن لم يقرا بفاتحة الكتاب. وحديث أبي هريرة كل صلاة لم يقرأ فيها بفاتحة الكتاب فهي خداج قالها ثلاثاً. لكن المسألة التي نريد أن ننبه عليها هنا هي هل الفاتحة ركن في كل ركعة أو أنها ركن يقرأ مرة واحدة في الصلاة؟ في هذا خلاف بين الفقهاء: فذهب الجمهور أنها ركن في كل ركعة واستدلوا على هذا بأدلة قوية. الدليل الأول: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب. وقال للمسيء صلاته ثم اصنع هذا في صلاتك كلها. ومعلوم أن الإنسان يقرأ في الركعة الأولى الفاتحة فيجب أن يصنع ذلك في صلاته كلها. الثاني: روي عن بعض الصحابة النص على أن الفاتحة واجبة في كل ركعة. الثالث: قوله - صلى الله عليه وسلم - لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب في كل ركعة لكن هذا الزيادة - قوله في كل ركعة - ضعيفة. فتحصل معنا الآن العمومات: ثم اصنع ذلك في صلاتك كلها والآثار وهذا الحديث الضعيف وأخيراً قوله - صلى الله عليه وسلم - صلوا كما رأيتموني أصلي وقد داوم بغير انقطاع على قراءة الفاتحة في ركعة هذا الدليل الخامس الدليل السادس حديث قتادة الذي مر معنا أنه قال: كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يقرأ في الأوليين بفاتحة الكتاب وسورة ويقرأ في الأخريين بفاتحة الكتاب. فنص على أنه يقرأ بفاتحة الكتاب في جميع الصلاة - صلى الله عليه وسلم -. وإذا رأى الإنسان أن هذه الأدلة مجتمعة علم أن هذا القول فيه قوة وأن الإنسان لا يجزأه مرة واحدة في الصلاة بل يجب أن يقرأ في كل ركعة فإذا تركها في ركعة من الركعات بطلت تلك الركعة إن كان سهواً أو جهلاً. والقول الثاني: عن الحسن البصري رضي الله عنه أن الفاتحة تقرأ في ركعة واحدة.

والقول الثالث: لبعض الفقهاء أنها تقرأ في الركعتين الأوليين فقط يعني أنها واجبة في الركعتين الأوليين فقط. والراجح هو قول الجماهير الذي ذكرنا لهم فيه عدة أدلة. • ثم قال - رحمه الله -: • والركوع الركوع ركن من أركان الصلاة. لقوله تعالى ((يا أيها الذين آمنوا اركعوا واسجدوا)) ولقوله - صلى الله عليه وسلم - للمسيء صلاته ((ثم اركع حتى تطمأن راكعاً)). وتقدم معنا القدر المجزئ من الركوع وهو أن ينحني بحيث أن تصل يديه إلى ركبتيه فإن لم يصل إلى هذا الحد فإن الركوع باطل فيعتبر أنه لم يأت بالقدر الواجب من الركوع. والركوع ركن باتفاق الفقهاء. • ثم قال - رحمه الله -: والاعتدال عنه الاعتدال من الركوع ركن من أركان الصلاة لقول النبي - صلى الله عليه وسلم - للمسيء صلاته ((ثم ارفع حتى تعتدل قائماً)). ونحب هنا أن نأخذ قاعدة في مسألة الأركان وهي كيف نستدل بحديث المسيء (الأعرابي) على أركان الصلاة؟ ووجه الاستدلال به عليها أن كل ما في هذا الحديث من الواجبات التي لا تسقط إذا لو كانت تسقط لسقطت عن الأعرابي لجهله. فتحتاج أن تفهم هذه القاعدة في كل ركن نتكلم عنه من أركان الصلاة. إذاً إذا قيل لك ما هو الدليل؟ حديث المسيء. ما وجه الاستدلال؟ أنه لو كان هذا الفعل يسقط لسقط عن الأعرابي لكونه جاهلاً. إذاً الاعتدال من الركوع يعتبر ركن من الأركان. ولم يذكر المؤلف: الرفع من الركوع وإنما ذكر: الاعتدال لأن المؤلف يرى أنه لا حاجة لذكر الرفع لأن الرفع داخل في الاعتدال لأنه لا يمكن أن يعتدل إلا بعد أن يرفع وهذا مذهب الحنابلة. والقول الثاني: أن الرفع ركن والاعتدال ركن فكل منهما ركن مستقل وهذا القول مال إليه الشيخ ابن مفلح في الفروع وهو الصواب أن الرفع ركن وأن الاعتدال بعد الرفع ركن آخر لأن كل منهما جاءت به الأحاديث الصحيحة. لو قال قائل: ما هي ثمرة الخلاف؟ لأنه لن يعتدل إلا بعد أن يرفع. ثمرة الخلاف: قالوا لو رفع الراكع لا لأجل الرفع ولكن فزعاً من شيء ينوبه في الصلاة فهو حيئنذ رفع لا بنية الرفع من الركوع ولكن بنية الابتعاد عما أفزعه. فهذا الشخص هل أتى با الرفع؟ لا.

وهل أتى باعتدال؟ نعم لأنه إذا قام قد ينوي أنه اعتدل فيأتي بالركن. فإذاً هذا الشخص الذي رفع فزعاً لم يأت بالرفع وهو ركن من أركان الصلاة. فنقول ارجع إلى الركوع وارفع بنية الركنية أنك ترفع عن الركوع. فصار هناك ثمرة كبيرة لمسألة هل الرفع ركن وهل الاعتدال ركن آخر أو هما ركن واحد. فتبين معنا أن الصواب أن كل منهما ركن مستقل. • ثم قال - رحمه الله -: والسجود على الأعضاء السبعة. السجود على الأعضاء السبعة ركن من أركان الصلاة. وهو ركن بإجماع المسلمين لقوله ((يا أيها الذين آمنوا اركعوا واسجدوا)). ولقوله - صلى الله عليه وسلم -: ((ثم اسجد حتى تطمأن ساجداً)). ولقول ابن عباس رضي الله عنه "" أمرنا بالسجود على سبعة أعظم"". فالنصوص كثيرة في إثبات وجوب وركنية السجود. والاعتدال عنه. الاعتدال عن السجود ركن من أركان الصلاة لقول النبي - صلى الله عليه وسلم - ((ثم ارفع حتى تطمأن جالساً)). والخلاف الذي ذكرناه في الاعتدال من الركوع والرفع منه يأتي معنا هنا في الاعتدال بين السجدتين والرفع منه. والصواب هو أن الرفع من السجود ركن والاعتدال بين السجدتين ركن آخر. • ثم قال - رحمه الله -: والجلوس يبن السجدتين والجلوس بين السجدتين ركن من أركان الصلاة لقوله في حديث المسيء ((ثم ارفع حتى تطمأن جالساً)). ولحديث عائشة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان إذا رفع لا يسجد - يعني مرة أخرى - حتى يطمأن قاعداً. فالجلوس بين السجدتين أيضاً ركن يقابل الاعتدال من الركوع. • ثم قال رحمه الله: والطمأنينة في الكل. الطمأنينة في لغة العرب: السكون. والطمأنينة في الشرع في الصلاة هي أن يسكن بقدر الذكر الواجب. وقيل: هي أن يسكن أقل سكون. والراجح هو القول الأول وممن اختاره من الفقهاء المجد – جد شيخ الإسلام ابن تيمية. والفرق بينهما ظاهر فلو أن إنساناً سجد وسكن في السجود أقل سكون بدون ذكر ثم رفع فالواجب عليه في مثل هذه الصورة عند أصحاب القول الثاني ماذا؟ سجود سهو فقط لأنه ما ترك ركن وإنما ترك الواجب وهو الذكر. والواجب عليه عند أصحاب القول الأول أن يعيد السجود لأنه أخل بركن من أركانه وهو الطمأنينة. فصار الفرق بين القولين كبير جداً.

والطمأنينة ركن عند الجماهير من أهل العلم واستدلوا على هذا بأدلة نذكر منها اثنين: الأول: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أعاد على المسيء قوله (ثم اطمأن أو حتى تطمأن). وتقدم معنا أن المذكورات في حديث المسيء كلها واجبات أي أركان. والدليل الثاني: حديث حذيفة أنه رأى رجلاً يصلي ولا يطمأن في صلاته فقال رضي الله عنه له إنك لم تصلي ولو مت لمت على غير الفطرة التي فطر الله عليها محمد - صلى الله عليه وسلم -.وهذا الحديث في البخاري. فحذيفة يرى أنه لم يصلي لأنه لم يطمأن في صلاته. وخالف في الطمأنينة الأحناف وقالوا ليست بركن لأن من صلى من غير طمأنينة مع الإتيان بباقي الواجبات والأركان فقد أتى بجميع واجبات الصلاة. وقد شنَّع كثير من أهل العلم على هذا القول وردوه وبينوا خطأه وأنه إذهاب لروح الصلاة. وقد أطال جداً شيخ الإسلام ابن تيمية في تقرير وجوب الطمأنينة في كتابه القواعد النورانية بكلام لا تجد في غير هذا الكتاب. ذكر من أوجه الاستدلال والنصوص والشواهد والآثار ما إذا وقف عليه أي منصف عرف أنه الحق إن شاء الله. انتهى الدرس

قال شيخنا حفظه الله بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين • قال رحمه الله والتشهد الأخير التشهد الأخير ركن عند الحنابلة واستدلوا على ركنيته بحديث ابن مسعود قال كنا نقول قبل أن يفرض التشهد السلام على الله السلام على جبريل السلام على ميكائيل فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - قولوا التحيات لله واستدلوا أيضاً عليه بأنه ثبت أن النبي - صلى الله عليه وسلم - داوم عليه ولم يخل به وقال صلوا كما رأيتموني أصلي وذهب الشافعية إلى أنه واجب وذهب المالكية إلى أنه سنة والصواب - إن شاء الله - مع الحنابلة لصراحة الأدلة التي استدلوا بها • ثم قال رحمه الله وجلسته

الجلسة للتشهد الأخير أيضاً ركن عند الحنابلة واستدلوا على هذا بأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال إذا قعد أحدكم في الصلاة فليقل التحيات لله فنص على القعود - صلى الله عليه وسلم -؟ واستدلوا أيضاً بأن التشهد الأخير ركن والجلوس هو محله فهو تابع له وذهب المالكية إلى أن اركن هو الجزء الأخير من الجلوس من التشهد الأخير وهو الذي يوافق السلام فقط وما قبله سنة والصواب أيضاً – إن شاء الله تعالى – ما قاله الحنابلة أن التشهد والجلوس له كلاهما ركن من أركان الصلاة • ثم قال رحمه الله الصلاة على النبي محمد صلى الله عليه وسلم فيه يعني في التشهد الأخير ذهب الحنابلة كما ترون إلى أن الصلاة على النبي - صلى الله عليه وسلم - ركن من أركان الصلاة فلا تسقط سهواً ولا جهلاً وبطبيعة الحال ولا عمداً واستدلوا على ذلك بقوله تعالى يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليما وجه الاستدلال أن الله سبحانه وتعالى إذا كان أمر بالصلاة فإن أحرى المواضع بالوجوب أن تكون داخل المروضة واستدلوا أيضاً بالحديث الذي تقدم معنا من حديث ابن مسعود وغيره من الصحابة أنهم قالوا للني - صلى الله عليه وسلم - قد علمنا كيف نسلم عليك فكيف نصلي عليك إذا نحن صلينا في صلاتنا وفي لفظ أمرنا بالصلاة عليك فكيف نصلي عليك؟ وذهب الشافعية إلى أن الصلاة على النبي - صلى الله عليه وسلم - واجبة وليست ركناً من أركان الصلاة وحملوا أحاديث الحنابلة على الوجوب لا على الركنية وذهب المالكية إلى انها سنة واستدلوا على ذلك بأن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يعلمها المسيء صلاته والجواب على دليل المالكية أن النبي - صلى الله عليه وسلم - إنما علم المسيء ما أساء فيه فقط ولذلك ليس في الحديث أنه علمه التسليم والتسليم ركن ويجب أن يُعْلَمَ هذا الجواب لأن المالكية والأحناف يستدلون بحديث المسيء في أشياء كثيرة مما سيأتي معنا في آخر هذا الباب الخلاف في مسألة حكم الصلاة على النبي - صلى الله عليه وسلم - في التشهد قوي والأدلة فيها شيء من التقابل أي من حيث القوة

والأقرب والله أعلم مذهب الشافعية فهو وسط بين القولين ولعل الأحاديث تدل على الوجوب لا على الركنية مسألة في القدر المجزيء من الصلاة على النبي - صلى الله عليه وسلم - على القول بأنها ركن فالقدر المجزيء منها أن يقول اللهم صل على محمد ولا يلزم أن يأتي بالصلاة الإبراهيمية كاملة وأيضاً على القول بالوجوب كذلك والقول الثاني أنه يجب أن يأتي بالصلاة الإبراهيمية بنصها كاملة لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما علمهم كيف يصلون علمهم الصلاة الإبراهيمية وقد سألوا عن الصلاة عليه - صلى الله عليه وسلم - داخل الصلاة والراجح هو القول الأول أن المجزئ هو اللهم صل على محمد لأن هذا الذي يتوافق مع ظاهر القرآن لأنه قال صلوا عليه وسلموا تسليماً فأمر بمطلق الصلاة • ثم قال رحمه الله والترتيب أي ترتيب أفعال الصلاة ركن عند الأئمة الأربعة بل حكاه بعض العلماء إجماعاً أنه لم يختلف في أن الترتيب ركن من أركان الصلاة واستدلوا على هذا بأن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما علم المسيء الصلاة كان يقول له ثم افعل كذا ثم افعل كذا وثم تقدم معنا أنها نص في الترتيب واستدلوا أيضاً بدليل آخر وهو أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يصلي مرتباً وقال صلوا كما رأيتموني أصلي ولم يخل بالترتيب أبداً - صلى الله عليه وسلم - إذاً لا إشكال من جهة الترتيب أنه ركن • ثم قال رحمه الله والتسليم لم يبين المؤلف رحمه الله هل التسليم يقصد به التسليمتين؟ أو يقصد به تسليمة واحدة؟ وعبر بهذا التعبير العام فنقول المذهب أن التسليمتين ركن لقول النبي - صلى الله عليه وسلم - وتحليلها التسليم وأل في قوله التسليم للعهد الذهبي ويقصد به تسليمه - صلى الله عليه وسلم - وتقدم معنا أنه ثبت في حديث ابن مسعود وثبت في حديث جابر أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يسلم عن يمينه وكان يسلم عن يساره وأنه كان يقول السلام عليكم ورحمة الله ولذلك يقول الإمام أحمد ثبت عندنا أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يسلم تسليمتين لوضوح النصوص وكثرتها والقول الثاني أن التسليمة الأولى ركن والثانية سنة

واستدلوا على هذا بأنه روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه سلم تسليمة واحدة والصواب أنه لا يثبت في الأحاديث الصحيحة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - سلم تسليمة واحدة إن ذهب بعض المعاصرين من علمائنا الأفاضل إلى تصحيحة لكن أنه لا يثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه سلم تسليمة واحدة هذا الدليل الأول وعرفتم أنه ضعيف الدليل الثاني صح عن أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - أنهم كانوا يسلمون مرة واحدة وهذا صحيح عنهم وجاء عن عدد من الصحابة الدليل الثالث أنه حكي الإجماع على أن التسليمة الواحدة تجزيء وممن حكاه ابن المنذر رحمه الله والأقرب والله أعلم القول الثاني وقد نصره ابن قدامة نصراً عظيماً وأكال في تقريره بل إنه مال إلى أنه لا يثبت عن الإمام أحمد إيجاب تسليمتين ولذلك ابن مفلح في الفروع حين كان سيرد الأركان قال والتسليمة الأولى هكذا قال فالأقرب والله أعلم أن التسليمة الأولى تجزيء وأن الثانية ليست بركن وأنما سنة أولاً لأنه روي عن الصحابة وهذا يجعل الإنسان يتوقف عنده ثانياً أنه حكي الإجماع أن التسليمة الأولى تجزيء إذا انفردت مسألة الخلاف السابق في الفروض أما النوافل وصلاة الجنازة فقد حكي الإجماع على إجزاء تسليمة واحدة فيها فلو أن الإنسان صلى أي نافلة مطلقة أو مقيدة معينة أو غير معينة وسلم تسليمة واحدة فإن هذه التسليمة تجزيء عنه وصلاته صحيحة • ثم قال رحمه الله وواجباتها التكبير غير التحريمة يقصد بالتكبير هنا تكبيرات الانتقال من ركن إلى ركن فهذه التكبيرات عند الحنابلة واجبة واستدلوا على هذا بأن النبي - صلى الله عليه وسلم - كبر وأمر بالتكبير وداوم عليه وقال صلوا كما رأيتموني أصلي فمن أحاديث الأمر قوله - صلى الله عليه وسلم - فإذا كبر فكبروا فأمر بالتكبير - صلى الله عليه وسلم - والقول الثاني أن التكبيرات سنة فإذا تركها ولو عمداً فلا شيء عليه واستدلوا على هذا أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يأمر بها المسيء صلاته حين كان يعلمه

وعرفنا كيف نجيب على هذا الاستدلال لأصحاب هذا القول وهو أن نقول إنما علمه النبي - صلى الله عليه وسلم - ما أساء فيه وقد ترك من الأركان أشياء كالتسليم والقول بأن التكبيرات سنة هو مذهب الجمهور والأقرب والله أعلم أنها واجبة • ثم قال رحمه الله والتسمع والتحميد وتسبيحتا الركوع والسجود وسؤال المغفرة مرة مرة وهذه الخلاف فيها تماماً كالخلاف في تكبيرات الانتقال، فالحنابلة يرون أنها واجبة لما تقدم من الأدلة وهو أن النبي - صلى الله عليه وسلم - فعلها وأمر بها وداوم عليها وقال صلوا كما رأيتموني أصلي والجمهور يرون أنها سنة لحديث المسيء فالكلام في الحقيقة في أذكار الصلاة واحد التكبير والتسميع والتحميد والتسبيح وسؤال المغفرة هذه خمسة أذكار الخلاف فيها واحد بين لوجاهة استدل به الحنابلة والتسميع فيه خلاف خاص بالنسبة للمأموم وهو خلاف خارج عن هنا فالخلاف هنا في الإمام والمنفرد • ثم قال رحمه الله ويسن ثلاثا يعني يسن أن يستغفر ثلاث مرات والدليل أن حذيفة قال النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يقول رب اغفر لي رب اغفر لي إشارة إلى أنه يكرر والمعهود عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يكرر الذكر ثلاث مرات فقالوا بناء على هذا التقرير أن السنة أن يقول رب اغفر لي ثلاث مرات وهل يجب أن يستغفر بهذا الذكر بأن يقول رب اغفر لي أو يجوز أن يقول اللهم اغفر لي أو يقول غفرانك أو يستغفر بأي صيغة كانت؟ تقدم معنا الخلاف في هل تتعين صيغة سبحان رب العظيم أو لا تتعين هذه الصيغة؟ الخلاف هو نفسه هنا ورجحنا هناك وذكرت لكم أنه يميل إليه شيخ الإسلام ابن تيمية – أن هذه الصيغة لا تتعين فكذلك هنا نقول هذه الصيغة لا تتعين فإذا سبح أو استغفر بأي صيغة جاز وأتى بالواجب • ثم قال رحمه الله والتشهد الأول وهو واجب عند الحنابلة وكذلك عند إسحاق والليث بن سعد من أئمة فقهاء الحديث واستدلوا على الوجوب بقوله - صلى الله عليه وسلم - قولوا التحيات لله

واستدلوا على أنها واجبة وليست بركن بأن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما ترك التشهد الأول جبره بسجود السهو ولو كان ركناً لم يجبره بالسجود وإنما لزم أن يأتي به فصار الدليل على التشهد واجب مركب من هذين الدليلين أنه أمر به ولما تركه سجد له سجود السهو - صلى الله عليه وسلم - القول الثاني أنه سنة وهو للجمهور ويستدلون على ذلك أيضاً بحديث المسيء وتقدم معنا مناقشة الاستدلال بحديث المسيء على ترك الواجبات أو بعض الأركان والصواب أيضاً إن شاء الله مع فقهاء الحديث أحمد وإسحاق والليث أن التشهد الأول واجب • ثم قال رحمه الله وجلسته الخلاف في جلسة التشهد الأول كالخلاف في التشهد الأول • ثم قال رحمه الله وما الشرائط والأركان والواجبات المذكورة سنة السنة لها تعريفات بثلاث اعتبارات باعتبار اللغة وباعتبار الشرع وباعتبار الاصطلاح فالسنة لغة الطريقة فسنة النبي - صلى الله عليه وسلم - يعني طريقته والسنة شرعاً هي ما تلقي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - من غير القرآن سواء كان على سبيل الإيجاب أو الندب فيقال مثلاً الأصل الكتاب والسنة ويقصد بمثل هذه العبارة بكلمة والسنة أي ما نقل عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو خارج عن القرآن والسنة في الاصطلاح – وهو التعريف الثالث هي ما يثاب فاعله ولا يعاقب تاركه أي إن فعله المسلم فقد أحسن وإن تركه فلا يؤنب • ثم قال رحمه الله وما عدا الشرائط والأركان والواجبات المذكورة سنة فكل ما مار معنا في صفة الصلاة مفصلة مما يخرج عما اعتبره المؤلف من الشرائط أو الأركان أو الواجبات فهو سنة تبين من كلام المؤلف أن الخشوع سنة لأنه لم يذكر مع الشرائط ولا الأركان ولا الواجبات والخشوع في لغة العرب هو الخضوع والتذلل فقيل إن الخشوع متعلق بالجوارح والخضوع متعلق بالقلب والخشوع في الحقيقة اصطلاحاً معروف إذا قيل لك ما هو الخشوع في الصلام فتعرف ما هو الخشوع في الصلاة لكن مع ذلك عرفوه ليقربوا معناه فقالوا هو حالة من سكون النفس تنطبع على الجوارح وهذا التعريف أصعب من المفهوم المتبادر للذهن لكن هكذا عرفوه

وفهمنا من التعريف أن من زعم أنه خاشع وهو يعبث في الصلاة فإن زعمه ينافيه عبثه الظاهر منه من عمل الأركان المهم أن الخشوع في الغالب ينطبع وينعكس على الجوارح بحيث لا يتحرك الإنسان في الصلاة إلا لحاجة فالخشوع عند جميع أهل العلم سنة يعني مقدار أنه مستحب ومسنون هذا متفق على عند جميع الأئمة لقوله تعالى قد أفلح المؤمنون الذين هم في صلاتهم خاشعون ولما نقل متواتراً عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وكبار أصحابه من العناية الفائقة بالخشوع ولذلك قالت عائشة رضي الله عنها أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يصلي أربعاً فلا تسأل عن حسنهن وطولهن إذاً كون الخشوع مستحب وسنة هذا متفق عليه وقال بعض الفقهاء بل هو واجب فإن تركه بطلت صلاته والقول الأول عليه الأئمة الأربعة واختاره شيخ الإسلام وهو الأقرب فمن صلى صلاة غلبت عليه الوساوس من أولها إلى آخرها صحت وأجزأت عن الفريضة وإن كان نقص ثوابه نقصاناً عظيماً ولا شك أنه خسر خسراناً كبيراً من حيث الأجر والثواب والصلاح ينتظره الإنسان من الصلاة • ثم قال رحمه الله فمن ترك شرطا لغير عذر بطلت إذا ترك الإنسان أحد الشروط من غير عذر من الأعذار بطلت الصلاة أما إن تركه لعذر فالصلاة صحيحة فإذا ترك الاستقبال لعذر كأن يكون مريضاً لا يستطيع أن يتوجه إلى القبلة أو ترك الطهارة بالماء وتيمم لكونه مريضاً فهنا ترك أحد الشرائط لكن لعذر فصلاته صحيحة ويفهم من كلام المؤلف أن هذا عام في جميع الشروط أن من تركها بغير عذر بطلت والصواب أن هذا يحتاج إلى تقسيم فنقوا الشروط تنقسم إلى قسمين القسم الأول الشروط التي هي من باب المأمورات والمطلوبات كالوضوء فهذه لا تسقط بالجهل ولا بالنسيان القسم الثاني الشروط التي هي من باب المنهيات والمحذورات كإزالة النجاسة فهذه تسقط جهلاً ونسياناً وهذا التقسيم للشروط هو الصواب وهو اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله وهو أظهر الروايتين عن أحمد فإذا ترك المصلي شيئاً من الشروط التي هي من المحذورات جهلاً ونسياناً كأن يصلي وعلى ثوبه نجاسة وهو ناس لهذا النجاسة فصلاته صحيحة

أما إن صلى وقد ترك شيئاً من الشروط التي هي من باب المأمورات كأن يصلي وعليه جنابة ناسياً الاغتسال فصلاته غير صحيحة وعليه أن يعيد الصلاة • ثم قال رحمه الله غير النية فإنها لا تسقط بحال النية لا تسقط بحال لا لعذر ولا لغير عذر لأنه لا يُعْجَزُ عنها يعني لا أحد يعجز عن النية حتى لو كان مريضاً أو مسافراً أو لأي عذر من الأعذار فإنه يستطيع أن يأتي بالنية فهي لهذا السبب لا تسقط بحال من الأحوال لا بعذر ولا بغير عذر • ثم قال رحمه الله أو تعمد المصلي ترك ركن أو واجب بطلت صلاته بطلت الصلاة لأنه متلاعب بل يستحق - إذا كان هذا منه على سبيل الاستهزاء أو التلاعب - التعزير كما صرح الفقهاء بأن يؤدب على تركه الأركان والواجبات عمداً بل صرح الفقهاء أن من صلى على غير طهارة عالماً فإنه يعزر من قبل القاضي لأنه متلاعب ومعلوم أن هذا العمل ليس له حد معين في الشرع فيرجع فيه إلى التعزير • ثم قال رحمه الله بخلاف الباقي الباقي هي السنن ومراده بقوله بخلاف الباقي أنه لو ترك السنن عمداً فإنه تبقى صلاته صحيحة لأن الإتيان بالسنة ليس بواجب • ثم قال رحمه الله وما عدا ذلك سنن أقوال وأفعال السنن تنقسم إلى قسمين سنن أقوال وسنن أفعال قال بعض الفقهاء وهناك قسم ثالث وهي سنن الهيئات - هيئة المصلي والتحقيق أن الهيئات ليس شيئاً مستقلاً برأسه بل سنن الهيئات مندرج في سنن الأفعال لأن الهيئة هي صورة الفعل فقول الفقهاء سنن الأفعال يغني عن إيجاد قسم ثالث وهو سنن الهيئات • ثم قال رحمه الله ولا يشرع السجود لتركه وإن سجد فلا بأس السجود لترك السنة عند الحنابلة لا يشرع أي ليس بواجب ولا مستحب بل جائز فيجوز أن يسجد إذا ترك سنة لكن لا يستحب ولا يجب وعن الإمام أحمد في سجود السهو لترك السنن ثلاث روايات الأولى أنه جائز ولا يشرع لا استحباباً ولا وجوباً واستدل على هذا بأن سجود السهو زيادة في الصلاة فلا تشرع إلا بتوقيف واستدلوا على أنها تجوز بأنها داخلة تحت العمومات كقول النبي - صلى الله عليه وسلم - في حديث حذيفة لكل سهو سجدتان فقوله كل من ألفاظ العموم عند العلماء

واستدلوا بعموم قول النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا سهوت فاسجد سجدتين وحديث لكل سهو سجدتان ضعيف وأما الحديث الثاني إذا سهوت فاسجد سجدتين فيبينه أول الحديث إذ فيه من زاد أو نقص فبين أن السجود يتعلق بالزيادة أو بالنقص الرواية الثانية عن الإمام أحمد أن السجود لا يشرع أصلاً واستدلوا بما استدل به الفريق الأول أن هذا عمل زائد في الصلاة ويحتاج إلى توقيف لمعرفة شرعيته وليس عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ولا عن أصحابه مشروعية السجود لترك السنن والرواية الثالثة عن الإمام أحمد أنه مشروع في الأقوال دون الأفعال والأقرب والله أعلم المذهب أنه جائز ما السبب؟ السبب في هذا أنه لم ينقل عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ولا عن أحد من أصحابه في أثر صحيح مطلقاً أنه سجد للسهو لترك السنن ومن المعلوم أن أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - يبعد جداً أنهم لم يتركوا سنة من السنن سهواً ومع ذلك لم ينقل عنهم أبداً أنهم صلوا أو سجدوا لترك السنن فهذا في الحقيقة دليل قوي للذين يقولون بأنه لا يشرع ولكنه جائز فقط بل هو في الحقيقة دليل قوي للرواية الثانية أنه لا يشرع مطلقاً لمن نقول ما دام فيه نصوص عامة وإن كان في إسنادها ضعف ما نستطيع أن يقول يحرم أن تسجد لسجود السهو وإن كان قولاً قوياً في الحقيقة لكن نبقى مع المذهب لما تعضده من نصوص عامة مسألة ذكر الشيخ عبد الرحمن السعدي رحمه الله قيداً مهماً فقال إنما يجوز أن يسجد المسلم للسهو إذا ترك سنة لم تخطر على باله فإنه لا يحل له أن يسجد للسهو بتركها وهذا تنبيه مهم جداً وقيد يبين المسألة ويدل على فقه الشيخ رحمه الله فإذا كان الإنسان ليس من عادته أن يرفع إذا أراد أن يركع أو يسجد أو إذا قام من التشهد الأول أو ليس من عادته أن يزيد في التسبيح الواجب إلى السنة أو ليس من عادته يقيم ظهره الإقامة المسنونة ثم أراد أن يسجد للسهو لتركه هذه السنن فنقول سجودك للسهو غير مشروع

إنما يشرع لمن كان معتاداً على الإتيان بالسنة ثم تركها نسياناً أو كان عازماً أثناء الدخول في الصلاة على الإتيان بهذه السنة ثم تركها سهواً حينئذٍ نقول السجود الآن لا يستحب ولا يجب ولكنه جائز فقط انتهى الدرس،،،

[باب سجود السهو]

[باب سجود السهو] قال شيخنا حفظه الله: بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين. أما بعد: ففي بداية الفصل الثاني من الدورة المكثفة أرحب بجميع إخواني وأسأل الله لي ولهم الإخلاص والقبول وأن يرزقنا العلم الذي ننتفع به في الدنيا والآخرة. وفي نهاية الفصل السابق يكون انتهى الربع الأول من الدورة وبدءنا بالربع الثاني وبنهايته ينتهي نصف الدورة. وتوقفنا كما تعلمون عند باب سجود السهو. ولكن قد تقدم معنا في باب صفة الصلاة الكلام على الفاتحة وكنت قد قلت للإخوان سنتحدث إن شاء الله عن حكم قراءة الفاتحة للمأموم إذا جاء موضعها. وجاء الموضع ولكن نسينا أن نتحدث عن هذه المسألة ولذلك سنذكر الآن قبل الشروع في باب سجود السهو حكم قراءة الفاتحة للمأموم وما سنذكره الآن من شرح هذه المسألة يلحق بموضعه عند قول الماتن ((ثم يقرأ الفاتحة فإن قطعها بذكر أو سكوت ... الخ)). فأقول مستعيناً بالله: اختلف أهل العلم في حكم قراءة الفاتحة للمأموم على قولين: القول الأول: أنه يجب على المأموم أن يقرأ الفاتحة. وإلى هذا القول ذهب الشافعي في الجديد والأوزاعي وأبو ثور واختاره من المحققين المتأخرين الشوكاني رحمه الله. واستدلوا بعدة أدلة: = (الدليل الأول) منها: استدلوا بقوله سبحانه وتعالى:} فاقرؤوا ما تيسر منه {. وقرروا دليلهم: - بأن قوله: ما تيسر. يقصد به: الفاتحة. - وأن الآية عامة تشمل الإمام والمأموم والمنفرد. والجواب على هذا الدليل من وجهين: الوجه الأول: أنه لا يوجد في الأدلة الشرعية ما يدل على أن المراد بهذه الآية الفاتحة. والوجه الثاني: أنه على فرض أن المقصود بها الفاتحة فهي مخصوصة بالأدلة التي تخرج الصلاة الجهرية. = والدليل الثاني: حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال (من صلى صلاة لم يقرأ فيها بفاتحة الكتاب فهي خداج) قالها ثلاثاً.

قال أبو السائب لأبي هريرة فإني أكون خلف الإمام. فقال أبو هريرة رضي الله عنه اقرأ بها في نفسك يا فارسي فإني سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين) .. الحديث. والجواب على هذا الدليل: - أن المرفوع منه لا دليل فيه. - وأما الموقوف فهو فتوى لأبي هريرة رضي الله عنه خالفه فيها عدد من الصحابة رضي الله عنهم. = الدليل الثالث: استدلوا: بحديث عبادة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى يوماً صلاة الفجر فلما انتهى قال: (مالكم تقرأون خلف إمامكم) ثم قال صلى الله عليه وسلم: (فلا تفعلوا إلا بأم القرآن فإنه لا صلاة لمن لم يقرأ بها). هذا الحديث هو أقوى دليل لأصحاب هذا القول وهو في الحقيقة مشكل جداً لأنه نص في المسألة. والجواب عليه: أن هذا الحديث ضعيف وممن ضعفه من الأئمة أحمد وعلي بن المديني رحمهما الله. وفي إسناده ابن إسحاق وفي إسناده اضطراب واختلاف كثير جداً مما يدل على عدم ضبط الرواة لهذا الحديث. وظاهر صنيع الإمام البخاري في جزء القراءة تصحيح هذا الحديث - ليس نصاً. لكن مع ذلك نقول: أن الأقرب ما ذهب إليه الإمام أحمد وابن المديني. = الدليل الرابع - والأخير -: حديث عبادة بن الصامت رضي الله عنه الذي أخرجه الشيخان أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب). قالوا: هذا حديث عام يتناول المأموم والإمام والمنفرد. والجواب عليه: أن هذا الحديث تخصصه الأدلة الأخرى التي ذكرها أصحاب القول الثاني. القول الثاني: أنه يجب على المأموم أن يقرأ الفاتحة في السرية ولا يجب عليه أن يقرأ في الجهرية. وهذا مذهب مالك والشافعي في القديم وأحمد ومحمد بن الحسن - من أصحاب الإمام أبي حنيفة -. قال شيخ الاسلام رحمه الله: بل هو مذهب أكثر السلف. واستدلوا بأدلة: =الدليل الأول: قوله تعالى:} وإذا قرأ القرآن فاستمعوا له وأنصتوا {قال الإمام أحمد: هي في الصلاة إجماعاً. وجه الاستدلال: أن الله سبحانه وتعالى أمر المصلي أن يستمع إلى قراءة الإمام فهو سينشغل بالاستماع ولن يستطيع أن يقرأ.

=الدليل الثاني: ما أخرجه مسلم في صحيحه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إنما جعل الإمام ليؤتم به فإذا كبر فكبروا وإذا قرأ فأنصتوا). وفي قوله: وإذا قرأ فأنصتوا خلاف طويل ومتشعب: - فمن الحفاظ من يرى أن هذه اللفظة وإن كانت في مسلم أنها غير محفوظة. - ومنهم من يصححها وعلى رأسهم الإمام مسلم. =الدليل الثالث: قوله صلى الله عليه وسلم: (من كان له إمام فقراءة الإمام له قراءة). فإن قيل: أن الإمام البخاري أعل هذا الحديث بالإرسال. فالجواب: أن حكم البخاري على الحديث بالإرسال حكم صحيح فهو حديث مرسل ضعيف لكن الاحتجاج به صحيح. وجه ذلك: أن هذا المرسل عضد بأشياء: الأول منها: أنه يتوافق مع ظاهر القرآن. والثاني: أن مرسله من كبار التابعين. الثالث: أنه أفتى به جمهور السلف. والحديث المرسل إذا عضد بهذه الأشياء صار حجة باتفاق الأئمة الأربعة وهذا الحديث من هذا الباب. =الدليل الرابع: أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى صلاة جهرية فما انتهى قال: (هل قرأ أحد منكم معي) قالوا: نعم يارسول الله. قال: (فإني أقول مالي أنازع القرآن) فانتهى الناس عن القراءة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما جهر به. وهذا الحديث نص في المسألة لأنه يقول انتهى الناس عن القراءة معه صلى الله عليه وسلم فيما جهر به. فإن قيل: إن الإمام البخاري أعل هذا الحديث بأن قوله في آخر الناس: (فانتهى الناس) من كلام الزهري وليس من كلام النبي صلى الله عليه وسلم. فالجواب: أن ما أعل به البخاري هذا الحديث صحيح فهذه اللفظة موقوفة على الزهري لكن مع ذلك هو حجة. السبب: أن هذا الكلام على فرض أنه صدر عن الزهري فإن الزهري أحفظ السلف وأعلمهم بالسنة فإذا كان يجزم أن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم انتهوا عن القراءة فيما جهر به النبي صلى الله عليه وسلم فهو يجزم بعلم علمه وذلك باعتبار أنه أعلم الناس بالسنة. =الدليل الخامس: أن قراءة الفاتحة لو كانت واجبة على المأموم - في الجهرية - للزم من ذلك أحد أمرين: - إما أن يقرأ المأموم مع الإمام في وقت واحد. - أو يجب على الإمام أن يسكت ليقرأ المأموم.

وهذا كله غير صحيح فقد أجمع أهل العلم على أن الإمام لا يجب عليه أن يسكت ليقرأ المأموم. وأيضاً استفاضة السنة بالنهي عن أن يقرأ المأموم أثناء قراءة الإمام. = الدليل السادس - الأخير -: أن الله سبحانه وتعالى إنما شرع أن يجهر الإمام بالقراءة ليستمع إليه المأموم فلو أمرنا المأموم بأن يقرأ لكان الشارع أمر الإمام أن يجهر لمن لا يستمع إليه. وهذا - كما قال شيخ الاسلام - سفه تنزه عنه الشريعة. الراجح: والأقرب فيما يظهر لي في هذه المسألة والله أعلم بالصواب القول الثاني بل أنا مطمأن جداً لقوة القول الثاني. وفي ختام الكلام على هذه المسألة يجب أن يعلم أخواني جميعاً أنها مسألة مهمة جداً وأنها مسألة يترتب عليها صحة أو بطلان صلاة المأموم. ولأهمية المسألة أفردت بكتب من المعاصرين ومن السلف حتى إن الإمام البخاري أفرد هذه المسألة بكتاب وكذلك الإمام البيهقي وأما المتأخرون فأفردوها بكتب كثيرة. ولأهميتها وشدة الحاجة إليها ذكرت فيها نوع تفصيل ولأن كثيراً من المأمومين يبتلى بهذه المسألة حيث أن عامة المسلمين هم مأمومون وليسوا أئمة. فالراجح فيها: أن المأموم لا يجب عليه في الجهرية أن يقرأ. ونحن نلاحظ أن المأمومين الذين يقرأون خلف الإمام إذا قرأ الإمام سورة قصيرة صار يقرأ هو والإمام في وقت واحد ولا يستمع لما يقرأ الإمام مطلقاً ويشوش على من بجانبه لأنه لا يستطيع أن يقرأ سراً بسبب جهر الإمام فيرفع صوته حتى يستطيع أن يقرأ فيحصل تشويش. وهذه هي المنازعة التي ذكرها النبي صلى الله عليه وسلم. ثم بعد ذلك ننتقل إلى باب سجود السهو. • قال رحمه الله: باب سجود السهو. السهو في لغة العرب: هو الذهول وغفلة القلب. أي: الذهول عن شيء معلوم مسبقاً ولا يسمى المجهول من الأصل منسياً وإنما النسيان يتعلق بشيء معلوم سابق. وأما - السهو - في الاصطلاح: فهو النسيان في الصلاة خاصة. والسهو في الصلاة ينقسم إلى قسمين: القسم الأول: سهو مذموم. وهو: السهو عن الصلاة لقوله تعالى: {فويل للمصلين الذين هم عن صلاتهم ساهون} فقال: عن صلاتهم. القسم الثاني: سهو غير مذموم. وهو: السهو في الصلاة فهذا لا يذم. وهذا القسم وقع من النبي صلى الله عليه وسلم.

والسهو الذي يقع في الصلاة لا يذم من المسلمين وأما من النبي صلى الله عليه وسلم فهو من القسم المحمود لأنه إذا سهى صلى الله عليه وسلم صار ذلك سبباً في بيان الشريعة وأحكام الصلاة. • قال رحمه الله تعالى. يشرع: لزيادة ونقص وشك لا في عمد. قوله: ((يشرع)). سجود السهو مشروع بإجماع أمة محمد صلى الله عليه وسلم فلم يخالف أحد من العلماء في أن سجود السهو مشروع. وتقدم معنا أن قول الفقهاء مشروع يحتمل أن يكون الشيء مشروعاً على سبيل الوجوب أو الاستحباب ولا يتعين أحد الحكمين. وفي باب سجود السهو خمسة أحاديث. يقول الإمام أحمد: نحفظ فيه خمسة أشياء. يعني خمسة أحاديث. وعلى هذه الخمسة مدار أحكام باب سجود السهو. الحديث الأول والثاني لابن مسعود والثالث لأبي هريرة والرابع لأبي سعيد الخدري والخامس لابن بحينة رضي الله عنهم أجمعين. وفي الباب أحاديث أخرى لكن كما قال الإمام أحمد أن العمدة في هذا الباب على هذه الأحاديث. وإذا عرفنا أن سجود السهو مشروع في الجملة فبقي أن نعرف حكمه بالتفصيل: اختلف فيه الفقهاء على أقوال: القول الأول: أن سجود السهو واجب. سواء كان قبل السلام أو بعده. وهو مذهب الحنابلة. القول الثاني: أن سجود السهو واجب إذا كان موقعه قبل السلام. والدليل أنه إذا كان قبل السلام صار من الصلاة فهو واجب. والقول الثالث: أن سجود السهو سنة دائماً. وهو ما ذهب إليه الأمام الشافعي. والأقرب للصواب والله أعلم القول الأول - أنه واجب - لما ثبت في صحيح مسلم عن ابن مسعود رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا نسي أحدكم فليسجد سجدتين). والأصل في الأمر أنه للوجوب. وسجود السهو من خصائص أمة محمد صلى الله عليه وسلم. قوله رحمه الله: يشرع: لزيادة ونقص وشك لا في عمد. أي: أن سجود السهو يشرع إذا زاد الإنسان في صلاته أو نقص منها أو شك فيها بشرط أن يقع ذلك على وجه السهو. وهذا معنى قوله: لافي عمد. أما إذا وقعت هذه الزيادة أو النقص أو الشك على سبيل العمد فإنه لا يشرع له أن يسجد للسهو ولا يقبل منه أن يسجد للسهو.

إذاً قوله: يشرع: لزيادة ونقص وشك لا في عمد عرفنا منه أن سجود السهو إنما يشرع في ثلاث مواضع في الزيادة والنقص والشك بشرط أن يقع ذلك على سبيل السهو. الدليل على تقييده بالسهو: الدليل الأول: قوله صلى الله عليه وسلم في الحديث السابق: (إذا نسي أحدكم فليسجد سجدتين) فعلق وجوب السجود بالنسيان. الدليل الثاني: أن المتعمد متلاعب ولا ينفعه سجوده للسهو في شيء. وعرفنا من هذه العبارة - يشرع: لزيادة ونقص وشك لا في عمد - متى يشرع سجود السهو على وجه الإجمال. • قال رحمه الله: في الفرض والنافلة. يعني: أن سجود السهو مشروع في الفرض والنافلة. والدليل على ذلك: أن نصوص السهو عامة لم تخصص الفريضة ولا النافلة وإنما عمت جميع أنواع الصلوات. لما قرر المؤلف رحمه الله أن سجود السهو يشرع في هذه الأحوال بدأ بتفصيل هذه الأحوال - أي التفصيل في الزيادة والنقص والشك - وذلك في قوله: فمتى زاد فعلاً من جنس الصلاة. وسيبدأ بالزيادة. والزيادة تنقسم إلى قسمين: - وهذا التقسيم تقسيم كلي ليتصور الإنسان الأحكام وستأتي في ثنايا كلام المؤلف مفصلة. القسم الأول: زيادة في الأفعال. القسم الثاني: زيادة في الأقوال. وأيضاً الزيادة في الأفعال تنقسم إلى قسمين: القسم الأول: الزيادة التي هي من جنس الصلاة. القسم الثاني: الزيادة من غير جنس الصلاة. مثال الزيادة في الأفعال التي من جنس الصلاة: أن يزيد ركعة. أو سجدة. مثال الزيادة في الأفعال التي ليست من جنس الصلاة: أن يأكل أو يشرب أو يعبث بثيابه أو يحمل صبياًَ أو يفتح باباً. بدأ المؤلف رحمه الله بالقسم الأول: الزيادة التي من جنس الصلاة. • فقال رحمه الله تعالى: فمتى زاد فعلاً من جنس الصلاة، قياماً أو قعوداً أو ركوعاً أو سجوداً عمداً: بطلت، وسهواً: يسجد له. إذا زاد المصلي في صلاته أفعالاً هي من جنس الصلاة عمداً بطلت الصلاة عند الحنابلة. بل بطلت بإجماع الفقهاء. لدليلين: الأول: قوله صلى الله عليه وسلم: (من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد).

الثاني: أن هذا المصلي متلاعب. ومن تلاعب بأحكام الله بطل عمله. بل إن الاستهزاء بآيات الله لا يبطل العمل الخاص وإنما يبطل أصل الإسلام وهذا يدلنا على خطورة التلاعب بآيات وأحكام الله. قوله رحمه الله: وسهواً. يسجد له. أي إذا زاد فعلاً من جنس الصلاة سهواً فإنه يسجد له. الدليل على ذلك ما أخرجه البخاري ومسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى الظهر خمساً فسجد سجدتين بعدما سلم. ففي هذا الحديث الصحيح والمتفق عليه أنه صلى الله عليه وسلم لما زاد عملاً من جنس الصلاة سجد له ولم يبطل صلاته أو يستأنفها. • ثم قال رحمه الله: - والحديث ما زال في الزيادة المتعلقة بالأفعال. وإن زاد ركعة فلم يعلم حتى فرغ منها: سجد. مثال زيادة الركعة: كأن يصلي خامسة في رباعية أو رابعة في ثلاثية أو ثالثة في ثنائية ولا يوجد مثال آخر لزيادة ركعة. فهذه الأمثلة لا مزيد عليها. - فإذا زاد الإنسان ركعة ولم يعلم أنه زاد هذه الركعة ولم ينبه المأمومون حتى انتهى من هذه الركعة فإنه يسجد بعد السلام سجدتين لأنه زاد في الصلاة عملاً فوجب عليه سجود السهو. • ثم قال رحمه الله: وإن علم فيها: جلس في الحال. المقصود بقوله: فيها. أي في الركعة. جلس في الحال: لكن يجب أن نعلم أن لهذا الجلوس حكمان: الأول: يجلس بلا تكبير. ونص الإمام أحمد على هذا فقال رحمه الله: يجلس بلا تكبير. الثاني: أن هذا الجلوس على سبيل الوجوب. ودليله: أنه لو لم يجلس لزاد في الصلاة عمداً ومن زاد في الصلاة عمداًُ فقد تقدم معنا أن صلاته باطله. والعمل الذي يؤدي إلى بطلان الصلاة محرم. فإذاً عرفنا الآنة أنه إذا زاد ركعة ثم علم في أثناء هذه الزيادة فحكمه أنه يجلس بلا تكبير وهذا الجلوس على سبيل الوجوب. أما أنه على سبيل الوجوب فعرفنا دليله. أما أنه يجلس بلا تكبير فلأن هذا رجوع للصواب ولو كبر لزاد تكبيرة في الصلاة. وهذا يخالف ما عليه عامة المصلين اليوم فإنه إذا نبه وهو قائم جلس مع التكبير وهذا خطأ. لكن إذا فعله جهلاً فلا شيء عليه. • قال رحمه الله: فتشهد إن لم يكن تشهد. إذا علم بزيادة الركعة وجلس في الحال فهو على قسمين:

1 - إما أن يكون تشهد فيما سبق. فإن كان تشهد فإنه لا يعيد التشهد. لماذا؟ لأن هذا التشهد وقع في مكانه الصحيح فاعتد به فلا حاجة لإعادته. فمثلاً: لو جلس الإمام في الرابعة في صلاة العصر وقرأ التشهد ثم نسي وقام ثم نبه فماذا يصنع في هذه الحالة؟ الجواب: أن يجلس بلا تكبير وهذا واجب ولا يعيد التشهد لأن التشهد الذي ذكره صحيح وقد وقع موقعه. 2 - وإن لم يكن تشهد. فإنه يتشهد. والغالب في الزيادات أن لا يكون المصلي تشهد لأنه ينسى ويظن أنه في الثالثة فيقوم بلا تشهد. وعلى كل حال إن كان تشهد فإنه لا يعيد وإن كان لم يتشهد فإنه يتشهد. وعليه أمر آخر وهو أن يصلي على النبي صلى الله عليه وسلم إن لم يكن صلى لأنه تقدم معنا أن الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم واجبة. • ثم قال رحمه الله تعالى: وسجد وسلم. أفاد المؤلف أن السجود للزيادة يكون قبل السلام. وهذا مذهب الحنابلة. بل الحنابلة يرون أن جميع سجود السهو بكل أنواعه يكون قبل السلام إلا في صورة واحدة وهي: إذا سلم قبل إتمام الصلاة. وأما في جميع الصور فإن السجود يكون قبل السلام. وتنبه إلى أن الحديث الآن عن الزيادة فيجب أن تستحضر هذا حتى ننتهي من الكلام على مسائل الزيادة. القول الثاني: أن السجود في هذه الصورة يكون بعد السلام. وهذا القول اختاره من المحققين شيخ الاسلام بن تيمية. ودليله ما ثبت في الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم (لما زاد خامسة في الظهر سجد بعدما سلم). ففي هذه الصورة صار سجوده صلى الله عليه وسلم بعد السلام لما كان السهو على سبيل الزيادة. فما ذكره المؤلف مرجوح ومخالف للحديث الصحيح. • ثم قال رحمه الله: وإن سبح به ثقتان فأصر ولم يجزم بصواب نفسه: بطلت صلاته. قوله: وإن سبح به: تقدم معنا أن الشارع الحكيم شرع طرقاً لتنبيه الإمام: فبالنسبة للرجال: التسبيح. وبالنسبة للنساء: التصفيق. فقوله: وإن سبح به. يعني لتنبيهه. والمؤلف هنا ذكر التسبيح وغيره كما في الفروع لابن مفلح قال: وإن نبهه. والتعبير بالتنبيه أحسن من التعبير بالتسبيح. لماذا؟ ليشمل الجميع. قال: ثقتان. الثقة هو العدل الضابط. وفهمنا من قول المؤلف رحمه الله: وإن سبح به ثقتان. عدة مسائل:

المسألة الأولى: أنه إذا سبح به فاسقان فلا يلزمه الرجوع. المسألة الثانية: أنه إذا سبح به ثقة واحد فلا يلزمه الرجوع أيضاً. والدليل على هذه المسائل: أن النبي صلى الله عليه وسلم لما سهى وذطره ذو اليدين لم يرجع إلى كلامه حتى نبهه أبو بكر وعمر فرجع إلى كلام ثقتين. فدل هذا على أنه لا يجب على الإمام أن يرجع إذا كان المسبح واحداً أو فاسقاً. لكن مع ذلك يجوز للإمام أن يرجع إلى قول الثقة الواحد - نحن نقول يجوز ولانقول يجب عليه - إذا غلب على ظنه أنه صادق. واختار هذا القول - وهو جواز الرجوع إلى تنبيه الرجل الواحد - ابن الجوزي رحمه الله. فإذا كان الإنسان يصلي خلفه رجل يعلم أنه يضبط صلاته ولا يسهى كثيراً ونبهه وغلب على ظنه صدق هذا المنبه فجاز له الرجوع ولا حرج عليه. • يقول رحمه الله: أصر ولم يجزم بصواب نفسه: بطلت صلاته. إذا سبح به ثقتان ولم يجزم بصواب نفسه ولم يرجع فإن صلاته باطله لأمرين: الأول: أنه ترك واجباً من واجبات الصلاة عمداً وهذا الواجب هو وجوب الرجوع إلى تسبيح الثقتين لأن النبي صلى الله عليه وسلم رجع إلى تسبيح الثقتين وإن كان في باديء الأمر يظن أنه لم يسه. الثاني: أنه زاد في الصلاة عمداً. ويجب أن تستحضر وأنت تسمع حكم هذه المسألة أن هذا الإمام لم يبرجع إلى تنبيه الثقتين مع أنه لم يجزم بصواب نفسه. فإذا كنت لم تجزم بصواب نفسك فلماذا لم ترجع إلى تنبيه الثقتين. وهذه المسألة: مسألة التنبيه والرجوع لها أربع صور: الصورة الأولى: أن يجزم بصواب الثقتين أو يغلب على ظنه ذلك .. الصورة الثانية: أن يغلب على ظنه خطأ الثقتين. الصورة الثالثة: أن يستوي الأمران. الصورة الرابعة: أن يجزم بصواب نفسه , ففي الصور الثلاث الأولى فيجب عليه أن يرجع إلى قولب الثقتين وجوباً. لأن النبي صلى الله عليه وسلم رجع إلى قول أبي بكر وعمر رضي الله عنهما. وفي الصورة الرابعة. فإنه لا يجب على الرجوع إلى قول الثقتين بل لا يجوز أن يرجع إلى قول الثقتين وهو يجزم بصواب نفسه. الدليل: الأول: أن اليقين مقدم على الظن وهة الآن متيقن لصحة نفسه ويظن صحة قول الثقتين. الثاني: أنه لو رجع لرجع إلى ما يجزم أنه خطأ. .

إذاً هذه الصور الأربع تشمل جميع أنواع تبيهات المأمومين للإمام. ولما انتهى رحمه الله من الكلام عن الإمام رجع إلى المأمومين: • قال رحمه الله: وصلاة من تبعه عالماً. أي أن المأمومين إذا علموا أن الإمام زاد في صلاته فإنهم إن تابعوه في هذه الزيادة مع علمهم بأنها زيادة فتبطل صلاتهم أيضاً. لأنهم زادوا في صلاتهم عمداً وتقدم معنا أن الزيادة في الصلاة عمداً تبطل الصلاة. فالواجب على المأمومين أن لا يتابعوه. وإذا لم يتابعوه فليس لهم إلا أحد أمرين: - إما الانفصال الكامل. فينفصل المأموم ويتم تشهده ويسلم. - أن لا يتابعوه بالقيام ولكن أيضاً لا يسلموا ويتركوا الصلاة وإنما ينتظروه إلى أن يرجع ثم يسلموا معه. واختلف الفقهاء: هل انتظارهم للإمام واجب أو مستحب؟ على قولين في مذهب الإمام أحمد: فبعضهم قال: واجب. وبعضهم قال: مستحب. والصواب في هذا الخلاف أنه يستحب فقط استحباباً أن ينتظروا الإمام ليسلموا معه ولو أكملوا التشهد وسلموا لجاز لهم ذلك لكن المستحب أن ينتظروا الإمام ليحصل الإجتماع والألفة. والقول بالاستحباب هو اختيار شيخ الاسلام بن تيمية رحمه الله. وبهذا عرفنا حكم المأمومين إذا عرفوا أن الإمام زاد وتركوه أو تابعوه إذا كان ذلك على سبيل العلم. ثم انتقل المؤلف إلى ما إذا كان على سبيل الجهل. • فقال رحمه الله: لا جاهلاً وناسياً ولا من فارقه. إذا تابعوه نسياناً أو جهلاً فإن صلاتهم صحيحة ولا أظن في هذا خلاف لم أقف على أحد حكى إجماعا لكن لا أظن أن في هذا خلاف لماذا؟ لأن الصحابة تابعوا النبي صلى الله عليه وسلم أكثر من مرة حين زاد وحين نقص ولم تبطل صلاتهم. لماذا؟ لأنهم في حكم الجاهل. قوله: ولا من فارقه. لو قيل لك الآن: ما حكم المفارقة؟ فالجواب: أن الفقهاء يقصدون بالمفارقة عدم متابعة الإمام على الزيادة ولا يقصد بالمفارقة هنا أن يسلم قبله أو ينتظره. إن كان المأموم عالماًَ بالزيادة فالمفارقة: واجبة. وإن كان المأموم جاهلاً أو ناسياً فالمفارقة: لا تجب.

إذاً في ثلاثة أحوال لا تبطل صلاة المأموم إذا كان جاهلاً أو ناسياً أو إذا فارقه. سواء فارقه وسلم أو فارقه وانتظر إلى أن يسلم مع إمامه في الصورتين صلاته صحيحه. الخلاصة: أن المأموم إذا علم بزيادة الإمام فإن تابعه بطلت صلاته. وأما إن علم بزيادة الإمام ولكن جهل الحكم أو نسي أو فارقه فصلاته صحيحة. ثم انتقل المؤلف إلى شيء آخر. وانتهى الكلام عن الزيادة الموجبة للسجود. • قال رحمه الله: وعمل مستكثر عادة. من غير جنس الصلاة: يبطلها عمده وسهوه بدأ المؤلف بالقسم الثاني من أقسام زيادة الأفعال وهو: الأهمال التي تكون من غير جنس الصلاة. قوله: وعمل مستكثر: في باب ما يكره عمله في الصلاة - باب مكروهات الصلاة ذكر المؤلف كثيراً من الأحكام التي أعادها هنا فمن ذلك: العمل: فقد تقدم معنا أن العمل إما أن يكون كثيراً أو يكون قليلاً. وأن التفريق بين العمل الكثير والعمل القليل محل إجماع وأن الخلاف في تعريف الكثير أو في حد الكثير. ففيه أقوال: القول الذي ذهب إليه الحنابلة - ومشى عليه المؤلف ورجحته في باب مكروهات الصلاة أن الضابط في هذا: العرف وأن هناك ضابطاً يسهل معرفة الكثير والقليل وهو: فعل النبي صلى الله عليه وسلم فكونه صلى الله عليه وسلم كان يحمل أمامه ويضعها. وكونه يصلي على المنبر. ويفتح الباب ويخلع النعال. فهذه الأعمال جنسها يعتبر قليل. وما هو أكثر من هذه الأعمال فيعتبر كثيراً. وقوله: يبطلها عمده: إذا عمل المصلي عملاً كثيراً من غير جنس الصلاة عمداً بطلت صلاته. الدليل: أولاً: قوله صلى الله عليه وسلم (من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد). ثانياً: أن من يعمل عملاً كثيراً عمداً من غير جنس الصلاة فهو متلاعب في الصلاة ومن تلاعب في صلاته فتبطل إذا كان عمداً. عرفنا من هذا أن العمل إذا كان قليلاً ولو عمداً فإنه لا يبطل الصلاة. وأما إذا كان العمل كثيراً وسهواً فهو يبطل الصلاة: ولذلك يقول المؤلف رحمه الله: وسهوه. فحتى لو عمل عملاً كثيراً على سبيل السهو فإن صلاته تبطل عند الحنابلة. وهذا خطير لكثرة وقوعه بين الناس.

دليل الحنابلة: قالوا: أن هذا العمل الكثير ولو كان سهواً فإنه يمنع الموالاة بين الأركان. فهو بهذا شبيه بالعمد فيقاس عليه. انتهى الدرس،،،

قال شيخنا حفظه الله: بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين. بقي لنا مسألتان من درس الأمس: المسألة الأولى: حكم المسبوق إذا أدرك الإمام في الزائدة: اختلف الفقهاء في حكمه على أقوال: = القول الأول: أنه لا يعتد بهذه الركعة: - لأنه لو علم الحال لوجب عليه أن لا يتابع. ولأنها ركعة زائدة ليس عليها أمر الله ولا رسوله. = والقول الثاني: أنه يعتد بهذه الركعة - الزائدة -. وهو قول عند الحنابلة. واستدلوا على ذلك: بأنه لو لم يعتد بهذه الركعة لصلى خمساً عمداً. = والقول الثالث: وهو رواية عن الإمام أحمد. التوقف في هذه المسألة. رواها عنه أبو الحارث. وتقدم معنا أن توقف الإمام أحمد علامة على وجود إشكال في المسألة ولتعارض الأدلة. والأقرب - والأحوط في نفس الوقت - أن لا يعتد بهذه الركعة. لأنها ركعة زائدة ليست على وفق الشرع. المسألة الثانية: تتعلق بقول الماتن: (وعمل مستكثر عادة من غير جنس الصلاة يبطلها عمده وسهوه). فقد تقدم معنا أن العمل الكثير يبطل الصلاة إذا كان عمداً بالإجماع. ثم ذكرنا أيضاً أنه يبطل الصلاة عند الحنابلة وإن كان سهواً وهذا هو معنى قول الماتن: (وسهوه). وذكرت أن دليلهم هو: أن هذا العمل يقطع الموالاة بين الأركان. = والقول الثاني: في هذه المسألة حيث لم نذكره بالأمس - أن الصلاة لا تبطل بالسهو ولو كثر العمل. اختار هذه القول من المحققين المجد بن تيمية. واستدلوا: 1 - بقوله تعالى: {ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا}. 2 - وبأن النبي صلى الله عليه وسلم في حديث أبي هريرة رضي الله عنه لما نسي قام ثم جلس وشبك أصابعه ودخل منزله وهذه أعمال كثيره ومع ذلك لم يستأنف النبي صلى الله عليه وسلم الصلاة. فدل هذا على أن العمل الكثير إذا وقع سهواً ولو اتصل فإنه .... وهذا القول الذي اختاره المجد هو الصواب.

• ثم قال رحمه الله: ولا يشرع ليسيره سجود. يعني لا يشرع ليسير العمل الذي من غير جنس الصلاة سجود سهو ولو وقع سهواً. لدليلين: الأول: أنه لم يرد في الشرع سجود سهو للأفعال الزائدة من غير جنس الصلاة. الثاني: أن الأعمال التي ليست من جنس الصلاة لاتكاد تخلوا منها الصلاة ويصعب أو يتعذر التحرز منها ولو وجب فيها سجود سهو لأوشك الإنسان أن يسجد للسهو في كل صلاة. • ثم قال رحمه الله: ولا تبطل بيسير أكل وشرب سهواً. أفاد المؤلف أن الإنسان لو أكل أو شرب سهواً وكان هذا الأكل والشرب يسير فإن الصلاة صحيحة مادام هذا الأكل والشرب سهواً. والدليل على هذا: العمومات التي ترفع الحرج عن الناسي. مسألة: هل يشرع أن يسجد للسهو إذا أكل أوشرب ناسياً؟ الجواب: فيه خلاف: = القول الأول: المذهب: أنه لا يشرع. لأنه هذا الأكل أو الشرب من جنس الأعمال التي من غير جنس الصلاة وتقدم معنا أنه لا يشرع لها سجود سهواً إذا كانت قد وقعت سهواً. = القول الثاني: ذكره ابن قدامة في كتابه الكافي أنه: يسجد للسهو. والأقرب أن سجود سهو فيه. وقوله: ولا تبطل بيسير أكل وشرب سهواً: دل على أن: 1 - الأكل والشرب عمداً يبطل الصلاة. 2 - ودل على مسألة أخرى وهي أهم - أن الأكل والشرب الكثير إذا كان نسياناً أو عمداً فإنه يبطل الصلاة. وهذا مذهب الحنابلة. = والقول الثاني: أن الأكل والشرب ولو كان كثيراً فمادام أنه وقع سهواً ونسياناً فإنه لا يبطل الصلاة. أخذاً بعمومات رفع الحرج. • ثم قال رحمه الله: ولا نفل بيسير شرب عمداً. = عند الحنابلة: أن المصلي إذا شرب شيئاً يسيراً من الماء في النفل عمداً فإن صلاته صحيحة. بهذه الضوابط: الأول: أن يكون في النفل. والثاني: أن يكون شرب. والثالث: أن يكون يسيراً. استدلوا على هذا بأمرين: الأول: أنه روي عن عبد الله بن الزبير وسعيد بن جبير أنهما كانا يشربان شرباً يسيراً في النفل. الثاني: أن الشارع متشوف ويحب تطويل النفل. وإذا أطال الإنسان الفنل احتاج مع ذلك إلى ما يسد رمقه من العطش بشربة يسيرة. والنفل يتساهل فيه بدليل: جواز الصلاة قاعداً وعلى الراحلة في النافلة. = والقول الثاني: أنه لا يجوز أن يشرب الإنسان في النفل ولو يسيراً مادام عمداً.

- لأن الأصل أن الأكل والشرب عمداً في الصلاة يبطلها. - وليس في النصوص الشرعية الثابتة ما يدل على الاستثناء. - وأما الآثار التي وردت عن ابن الزبير وسعيد بن جبير مع جلالة قدرهما وعلى صحتها فإنها لا تكفي. وهذا هو الصواب: أنه لا يجوز أن يشرب ولو يسيراً في النفل. ونأخذ من قول المؤلف: ولا نفل بيسير شرب عمداً: عدة مسائل: المسألة الأولى: أنه لا يجوز يسير الأكل. لأنه خص الشرب. وفي مسألة: يسير الأكل خلاف: وإذا كان الراجح في الشرب عدم الجواز مع أنه أهون من الأكل فمن باب أولى عدم جواز الأكل. المسألة الثانية: أنه لا يجوز يسير الأكل والشرب في الفريضة. المسألة الثالثة: أن الأكل والشرب عمداً ولو كان يسيراً فإنه يبطل الصلاة الفريضة. بهذا القدر انتهى المؤلف من الكلام على زيادة الأعمال وانتقل إلى زيادة الأقوال. وإن أتى بقول مشروع في غير موضعه كقراءَة في سجود وقعود، وتشهد في قيام، وقراءَة سورة في الأخيرتين: لم تبطل. • قال رحمه الله: وإن أتى بقول مشروع. هذا هو القسم الثاني من الزيادات وهي زيادة الأقوال. وتنقسم إلى قسمين: القسم الأول: زيادة أقوال تبطل الصلاة بعمدها. ككلام الآدميين. أو السلام. القسم الثاني: زيادة أقوال لا تبطل الصلاة بعمدها. وهي المقصودة في قوله: وإن أتى بقول مشروع في غير موضعه. واستفدنا من قوله: بقول مشروع: - أنه إذا أتى بقول غير مشروع فله حكم آخر. - وأن التفصيل الآتي يتعلق بالقول المشروع وسيأتي الكلام عنه. لكن نبين هنا حكم القول الغير مشروع: إذا أتى المصلي بذكر غير مشروع. يعني: لم يأت منصوصاً في السنة. فإن صلاته صحيحة ولا يجب عليه سجود سهو. لما أخرجه البخاري أن النبي صلى الله عليه وسلم سمع رجلاً يقول: الحمد لله حمداً كثيرً طيباً مباركاً. فأقره ولم يأمره بسجود السهو. وهذا الحديث في البخاري وزاد أبو داود كما يحب ربنا ويرضى. وهذه الزيادة لا تؤثر في الحكم. المقصود: أن هذا المصلي الذي سمعه النبي صلى الله عليه وسلم يأتي بذكر غير مشروع يعني ليس وارداً في السنة لم يأمره النبي صلى الله عليه وسلم أن يسجد للسهو ولم يبطل صلاته بذلك.

• قال رحمه الله: وإن أتى بقول مشروع. في غير موضعه كقراءَة في سجود وقعود، وتشهد في قيام، وقراءَة سورة في الأخيرتين: لم تبطل. هذا هو الحكم. الحكم الأول: أنه إذا أتى بقول مشروع في غير موضعه كما مثل المؤلف: كأن يقرأ في السجود أو يتشهد في القيام فإنه صلاته صحيحة. وهذا هو مذهب الحنابلة. واستدلوا على هذا: بأنه قول مشروع في الجملة فلم يبطل الصلاة. = والقول الثاني: وهو قول عند الحنابلة. أنه إذا أتى بقول مشروع في غير موضعه فإن الصلاة تبطل مطلقاً. ويجب أن تتنبه إلى أمر مهم جداً وهو أننا نتكلم عمن أتى بقول مشروع في غير موضعه عمداً أما سهواً فلا إشكال في عدم بطلان الصلاة. = والقول الثالث: أن الصلاة تبطل في صورة واحدة: هي إذا كان هذا القول المشروع قراءة في سجود أو في ركوع لأنه منهي عنه بذاته فقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم أن يقرأ القرآن الرجل راكعاً أو ساجداً. واختاره ابن الجوزي وابن حامد من فقهاء الحنابلة. ينبني على هذه المسألة - هل تبطل صلاته أو لا تبطل - مسألة أخرى سيذكرها المؤلف وهي: هل يسجد للسهو أو لا يسجد؟ نترك هذه المسألة إلى أن يذكرها المؤلف. ونبقى الآن في الراجح: فما هو الراجح؟ عامة الحنابلة على أن صلاته لا تبطل. لكن فيما يظهر لي أن الإنسان إذا قرأ التشهد قائماً متعمداً أن صلاته تبطل. لأن هذا لايخلو من شيء من التلاعب وإن كان عامة أهل العلم على عدم البطلان. بخلاف من قرأ القرآن ساجداً فقد يقرأ الإنسان القرآن ساجداً ليتأمل في آية أو لأي غرض من الأغراض. أي: أنه يتصور من غير المتلاعب. الخلاصة: أن الراجح: أنه إذا فعله مع العلم عمداً فتبطل صلاته. • قال رحمه الله: ولم يجب له سجود بل يشرع. لو أن المؤلف قال لم يجب لسهوه سجود لكان أفضل لأن هذا هو المقصود فالمقصود: لم يجب لسهوه سجود بل يشرع. ذكر المؤلف فيمن ذكر قولاً مشروعاً في غير موضعه حكمين: الأول: أنه لا يجب أن يسجد للسهو. لماذا؟ لأن قاعدة الحنابلة: أن كل عمل عمده لا يبطل الصلاة فلا يجب في سهوه سجود. الثاني: أنه مشروع. لا يجب ولكنه مع ذلك مشروع. والدليل على مشروعيته عموم حديث ابن عباس السابق: (من نسي في صلاته فليسجد سجدتين).

والراجح: أنه يجب فيه سجود السهو. لماذا؟ لأنا رجحنا في المسألة السابقة أن عمد هذه المسألة يبطل الصلاة. فإذا رجحت أن من أتى بذكر مشروع في غير موضعه عمداً تبطل صلاته انبنا على هذا وجوب سجود السهو. وإذا رجحت أن هذا العمل لا يبطل الصلاة انبنا على هذا أن سجود السهو مشروع وليس بواجب. • قال رحمه الله: وإن سلم قبل إتمامها عمداً: بطلت. وهذا بإجماع الفقهاء. لأمرين: أولاً: لأنه تكلم في الصلاة بكلام أجنبي عمداً. وهو السلام. ثانياً: أنه بسلامه من الصلاة قبل إتمامها ترك ركناً أو واجباً عمداً وتقدم معنا أن ترك الأركان والواجبات عمداً يبطل الاصلاة. ولا إشكال أن من سلم قبل إتمام صلاته عمداً عالماً أن صلاته باطلة لهذين الدليلين ولإجماع الفقهاء. • قال رحمه الله: وإن كان سهواً ثم ذكر قريباً: أتمها وسجد. إذا سلم قبل إتمام الصلاة وذكر قريباً - وسيأتينا الكلام عن مسألة قريباً - فإنه يجب عليه أن يتم صلاته ويسجد للسهو بعد السلام. بالإجماع. والدليل على هذا الحكم: ما أخرجه الشيخان عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى صلاة الظهر أو العصر - والصواب أن الشك في هذا الحديث من أبي هريرة لا من ابن سيرين الراوي عن أبي هريرة - فسلم من اثنتين ثم قام فاتكأ على خشبة في المسجد وشبك أصابعه صلى الله عليه وسلم. وفي القوم رجل يقال له ذو اليدين وفي القوم أبو بكر وعمر فهاباه رضي الله عنهما وقام ذو اليدين فقال: يارسول الله أنسيت أم قصرت الصلاة؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لم أنس ولم تقصر. ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم أكما يقول ذو اليدين قالوا: نعم يارسول الله. فقام النبي صلى الله عليه وسلم وأتم صلاته وسجد بعد السلام. هذا الحديث صحيح وله ألفاظ كثيرة جداً في الصحيحين وخارجهما. وهو نص في أن من سلم قبل إتمام الصلاة نسياناً ثم ذكر فإن الواجب عليه أن يتم صلاته ثم يسجد بعد السلام. مسألة: ويجب عليه إذا أراد أن يتم الصلاة عند الحنابلة أن يجلس أولاً ثم يقوم. لأن هذا القيام من واجبات أو من أركان الصلاة. ولايبدأ بالإتمام قائماً. - لأن القيام من التشهد ركن من أركان الصلاة -.

والقول الثاني في هذه المسألة: أن له أن يبدأ بالاتمام قائماً ولا يجب عليه أن يجلس ليقوم لدليلين: الأول: - وهو أقوى الدليلين - أنه لم ينقل في حديث أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم جلس ثم قام. الثاني: أن القيام من التشهد الأول مقصود لغيره لا لنفسه فإن المقصود القيام والنهوض إنما هو وسيلة إلى القيام. بدليل: أن الإنسان يصلي أحياناً جالساً. ونصر هذا القول - شيخ مشائخنا رحمه الله - الشيخ عبد الرحمن السعدي فقد انتصر له وبين أنه لا يجب على من نسي ركعتين أن يجلس ليقوم وإنما يتم ما فاته قائماً. والأقرب والله أعلم مذهب الحنابلة. وهو الأحوط أيضاً. لأنه هذا وإن لم يذكر في الحديث فمن المعلوم أن القيام من التشهد الأول ركن من أركان الصلاة وإن كان وسيلة للقيام ولكنه أيضاً مقصود شرعاً ولو تركه عمداً لبطلت صلاته. ومع ذلك لو أن رجلاً قال أنه نسي ركعتين ثم أتم الأخيرتين قائماً بدون أن يجلس ففي إبطال صلاته صعوبة لقوة أدلة القول الثاني. فمن فعل هذا فلا نأمره بالإعادة لكن نقول أن الأرجح أن يجلس فهو أحوط لصلاته. • ثم قال رحمه الله: فإن طال الفصل أو تكلم لغير مصلحتها: بطلت ككلامه في صلبها. إذا طال الفصل فإنه لا يتمكن من أمرين: 1 - لا البناء. 2 - ولا السجود. أي لا يمكن أن يبني مافاته على ما أداه ولا يسجد للسهو. فإذا فرضنا أنه صلى ركعتين ثم قام ناسياً ثم تذكر بعد ساعتين أو بعد ثلاث أو بعد أربع. فنقول له: طال الفصل فلا يمكن أن ترتبط الأركان بعضها مع بعض فيجب أن تستأنف الصلاة. والضابط في الطول والقصر: العرف الذي يضبط بحال النبي صلى الله عليه وسلم حين قام وجلس وشبك. = والقول الثاني في هذه المسألة: أنه يبني على صلاته ويسجد ولو طال الفصل. لأنه ليس في الشرع تحديد لهذا الوقت. وهو إنما ترك الموالاة نسياناً. وتقدم معنا أن الموالاة القاعدة فيها: أنها تسقط بالنسيان. ونصر هذا القول شيخ الاسلام ابن تيمية رحمه الله. وهذا القول في الحقيقة قول قوي وليس على التحديد دليل واضح.

بناء عليه إذا صلى الإنسان العشاء ثلاث ركعات ثم خرج ومضى ساعة أو ساعتين أو ثلاث رجع إلى بيته وجلس فإنه يبني على صلاته مالم يحدث لأن الحدث يبطل الصلاة سواء كان سهواً أو عمداً. والإمام أحمد ذهب إلى قول ثالث فضبطه بالمكان لا بالزمان فقال: يبني مالم يخرج من المسجد. والصواب ما ذهب إليه شيخه الاسلام وليس هناك دليل على التحديد الزماني ولا المكاني. • قال رحمه الله: أو تكلم لغير مصلحتها: بطلت. إذا تكلم لغير مصلحة الصلاة كأن يقول أعطوني سترة أو أعطوني أداة أو قلماً أو ورقة فإنه تكلم لغير مصلحتها فتبطل الصلاة. والكلام الآن في الرجل الذي ترك ركعتين ثم تذكر فإذا تكلم قبل أن يتذكر فإن صلاته تبطل لأنه تكلم لغير مصلحتها. واستدل الحنابلة على هذا بقول النبي صلى الله عليه وسلم إن هذه الصلاة لا يصلح فيها شيء من كلام الناس. = والقول الثاني: أنه إذا تكلم لغير مصلحة الصلاة فإن صلاته لا تبطل لأنه معذور بالنسيان والجهل فإنه لا يعتبر نفسه في الصلاة الآن. • ثم قال رحمه الله: ككلامه في صلبها. الكلام في صلب الصلاة عمداً يبطل الصلاة بالإجماع. والعامد هو من يعلم أنه في صلاة وأن الكلام محرم. والكلام في صلب الصلاة يبطلها عند الحنابلة عمداً وسهواً. عمداً: قلنا أنه بالإجماع. وسهواً: عند الحنابلة. واستدلوا بعموم الحديث السابق: أن هذه لا يصلح فيها شيء من كلام الناس. = والقول الثاني: في مسألة الكلام في صلب الصلاة سهواً: أن الصلاة لا تبطل إذا تكلم نسياناً أو جهلاً. - لما ثبت في الحديث الصحيح في قصة الرجل الذي شمت العاطس وهو يصلي جهلاً ولم تبطل صلاته. - ولأنه في قصة ذي اليدين تكلم الناس في المسجد وخرج السُّرْعَانُ أو السَّرَعَان - مضبوطة بكلا الأمرين. وهو من يخرج سريعاً من الناس وأصحاب الأعمال - خرجوا من المسجد وتكلموا ومع ذلك لم تبطل صلاة هؤلاء الناس. - ولعموم قوله تعالى: {ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا} [البقرة/286]. • ثم قال رحمه الله: ولمصلحتها إن كان يسيراً: لم تبطل. أي إذا تكلم الإنسان لمصلحة الصلاة فإن الصلاة لا تبطل بشرط أن يكون هذا يسيراً.

الدليل: - على أن الصلاة لاتبطل إذا تكلم لمصلحتها - ما تقدم معنا أن الرسول صلى الله عليه وسلم تكلم وكذلك أبو بكر وعمر وذو اليدين كلهم تكلموا ومع ذلك لم تبطل الصلاة لأنه لمصلحة الصلاة ولأنه يسير. واشتراط أن يكون الكلام يسيراً دليله عند الحنابلة أن العمومات دلت على إبطال الصلاة بالكلام واستثناء اليسير حصل بحديث أبي هريرة فيبقى ما عداه - وهو الكثير - على مقتضى العموم. = والقول الثاني: أن الكلام لمصلحة الصلاة لا يبطلها سواء كان قليلاً أو كثيراً. والدليل على هذا قاعدة مفيدة لطالب العلم: وهي أنه ما عذر فيه بالنسيان استوى قليله وكثيره كالصائم يأكل ناسياً. هل هناك فرق بين أن يأكل أكلاً كثيراً أو قليلاً؟ الجواب: لا. لا يوجد فرق. لماذا؟ لأنه معذور بالنسيان فاستوى القليل والكثير في حقه. كذلك هنا نقول ما دام أنه معذور بالنسيان فيستوي في حقه الكلام الكثير والقليل. وهذا القول - الثاني - هو الصواب. • ثم قال رحمه الله: وقهقهة ككلام. القهقهة نوع من الضحك معروف لا يحتاج إلى تعريف. والقهقهة عند الحنابلة حكمها حكم الكلام. والكلام يبطل الصلاة إذا بان منه حرفان لأنه في لغة العرب: يكون الكلام بحرفين كما تقول: أب. أو أم. فالتفصيل السابق في الكلام كله ينطبق على القهقهة. إذا تكلم لمصلحتها أو لغير مصلحتها وإذا تكلم في صلبها فكل هذا التفصيل ينطبق على القهقهة. = والقول الثاني: في هذه المسألة. أن القهقهة تبطل الصلاة مطلقاً بان حرفان أو لم يبن. وهذا القول للجماهير بل حكي إجماعاً - حكاه ابن المنذر وشيخ الاسلام. الدليل: أن الإبطال بالقهقهة ليس لكونها كلاماً أو ليست بكلام وإنما لما فيها من منافاة لحال الصلاة والخضوع بين الرب ولما فيها من الاستهزاء والسخرية فهي تبطل الصلاة لذلك لا لكونها من الكلام. وهذا بلا شك هو الصواب بل مذهب الحنابلة غريب في هذه المسألة. كيف أنهم يلحقون القهقهة بالكلام. فإن القهقهة أشد وأبعد عن روح الصلاة بكثير من الكلام. وفيها ما لا يخفى من الاستهزاء. فإبطال الصلاة فيها أمر واضح وجلي. عرفنا الخلاف في هذه المسألة - قوله: قهقهة ككلام - والصواب أن القهقهة دائماً تبطل الصلاة.

• قال رحمه الله: وإن نفخ أو انتحب من غير خشية اللَّه تعالى، أو تنحنح من غير حاجة فبان حرفان: بطلت. نفصل هذه المسائل: المسألة الأولى: عند الحنابلة إذا نفخ أو انتحب أو تنحنح فبان حرفان: بطلت. الدليل: قالوا: أنه روي عن ابن عباس وعن أبي هريرة أنهما قالا: من نفخ في الصلاة فقد بطلت صلاته. وهذا لا يثبت عنهما رضي الله عنهما. قال ابن المنذر رحمه الله: لا يحفظ عنهما. فعرفنا مذهب الحمنابلة وأن دليلهم ضعيف. = القول الثاني: أن النفخ والانتحاب والتنحنح لا يبطل الصلاة لأن هذه الأشياء ليست من كلام العرب ولا تدخل في مسماه: أي في مسمى كلام العرب. فهي كالتنفس تماماً إلا أن معها صوت. وإبطال الصلاة بمجرد الصوت لا أصل له في الشرع. رجح هذا القول - الثاني - ابن تيمية وهو الصواب. أن هذه الأشياء لا تبطل الصلاة ويقوي ما ذهب إليه شيخ الاسلام حديث المغيرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم لما صلى الكسوف أخذ ينفخ فلما قضى صلاته سألوه فقال: قرب مني النار حتى نفخت حرها عن وجهي. ومع ذلك لم تبطل الصلاة. إذاً عرفنا الآن حكم النفخ والانتحاب والتنحنح في المذهب ودليلهم والقول الثاني والراجح. نأتي إلى المستثنيات يقول: أو انتحب من غير خشية الله. يستثنى من الإبطال بالانتحاب أن يكون هذا الانتحاب من خشية الله. والانتحاب هو: رفع الصوت بالبكاء. فإذا انتحب من خشية الله فإن الصلاة لا تبطل حتى عند الحنابلة ولو بان حرفان. والدليل: أن الانتحاب من خشية الله من جملة ذكر الله وتعظيمه. وقد أثنى الله سبحانه وتعالى على إبراهيم بأنه أواه والأواه هو: من يتأوه من خشية الله. فهو صفة مدح لا تبطل الصلاة بها. فهذا الاستثناء الأول. الاستثناء الثاني: أو تنحنح من غير حاجة. دل هذا على أنه تنحنح للحاجة فإن صلاته صحيحة ولو بان حرفان. الدليل: أنه يتعذر دفع التنحنح الذي للحاجة ويشق على المصلي فناسب التخفيف وعدم الابطال. والله أعلم وصلى الله وسلم على نبينا محمد. انتهى الدرس،،،

= من الأسئلة: - مسألة التبسم: إذا تبسم الإنسان فقد ذهب الجماهير والجم الغفير وحكي إجماعاً أن الصلاة لا تبطل. بل قال ابن المنذر: أجمع الفقهاء إلا ابن سيرين. وهذا القول الأول. القول الثاني: أن الصلاة تبطل وهو مذهب ابن سيرين. واستدل بقوله تعالى: {فتبسم ضاحكا من قولها} [النمل/19] وقال رحمه الله: لا أعلم التبسم إلا ضحكاً. والضحك يبطل الصلاة. والصواب مع الجماهير. ولا شك أن هذا مكروه ومنافي للخشوع لكن الكلام عن إبطال الصلاة. - مقصود المؤلف في قوله: في صلبها: يعني إذا كان الانسان يصلي الآن وتكلم ومقصوده بالمسائل التي قبل هذه العبارة وبعدها: إذا نسي الإنسان فصلى ركعتين من أربع ثم تذكر فكلامه ما بين كما حصل مع النبي صلى الله عليه وسلم هو الذي فيه الأحكام التي ذكر: إذا تكلم في مصلحتها أو في غير مصلحتها. انتهى الدرس،،،

فصل [في الكلام على السجود للنقص أو الشك] قال شيخنا حفظه الله: بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين. أما بعد: • قال المؤلف - رحمه الله -: فصل عقد المؤلف هذا الفصل للكلام عن النقص وعلم بهذا أن الكلام عن الزيادة قد انتهى وسيبين في هذا الفصل أجكام نقص المصلي من صلاته ثم بعد الكلام عن النقص سيتكلم عن الشك وبالكلام عليه ينتهي باب سجود السهو. • قال - رحمه الله -: ومن ترك ركناً فذكره بعد شروعه في قراءَة ركعة أُخرى: بطلت التي تركه منها. إذا ترك الإنسان ركناً فتركه ينقسم إلى قسمين: القسم الأول: أن يكون المتروك تكبيرة الإحرام. فإن الصلاة لا تنعقد سواء كان تركها سهواً أو عمداً. القسم الثاني: أن يكوت المتروك غير تكبيرة الإحرام. وهذا القسم هو الذي ذكره المؤلف بقوله: فذكره بعد شروعه في قراءَة ركعة أُخرى: بطلت التي تركه منها، وقبله يعود وجوباً فيأتي به وبما بعده. وهذا يعني: لو ترك الإنسان ركناً من الركعة ثم قام ولنفرض أنه ترك السجود: - فإن ذكره قبل أن يشرع في القراءة: وجب عليه أن ينحط ويأتي بهذا الركن وبما بعده. وقد نص على هذا الإمام أحمد.

- وإن ذكره بعد أن شرع في القراءة: قامت الثانية مقام التي ترك ركنها. فإذا فرضنا أنه نسي السجود من الركعة الأولى ثم قام وشرع في القراءة فصارت الركعة الثانية بالنسبة لهذا المصلي هي الركعة الأولى وبطلت وألغيت الأولى التي ترك ركنها. هذا مذهب الحنابلة. دليلهم: قالوا: أنه لما شرع بعبادة مشروعة وهي القراءة حرم عليه الرجوع. وفهم من هذا التفصيل: أن الركعات التي تسبق الركعة المتروك ركنها تبقى صحيحة ولا علاقة لها بهذا الخلل. الركعات التي السابقة للركعة التي حصل فيها الخلل تبقى صحيحة وليس لها علاقة بهذا الخلل. مثال ذلك: إذا نسي السجود من الركعة الثالثة وقام للرابعة وبدأ بالقراءة فتكون الرابعة هي الثالثة وأما الأولى والثانية فتبقى صحيحة على وضعها. القول الثاني: أن المصلي إذا ترك ركناً من ركعة ثم ذكره: - وجب عليه أن يعود إلى هذا الركن مباشرة ولو شرع في القراءة. - فإن وصل إلى الركن الذي تركه من الركعة التالية قامت الثانية مقام الأولى. الدليل: قالوا: أن هذا المصلي لما ذكر الركن المتروك وجب عليه أن يرجع فيأتي به وبما بعده لينتظم ترتيب الصلاة. وهذا القول - الثاني - اختيار شيخ الاسلام ابن تيمية - رحمه الله - واختيار غيره من المحققين وهو القول الصواب. وأما التفصيل الذي ذكره المؤلف ففيه ضعف إذ أن الشروع في القراءة لا يمنع الرجوع إلى الركن المتروك بل الرجوع إلى الركن المتروك واجب. • ثم قال - رحمه الله -: وإن علم بعد السلام: فكترك ركعة كاملة. يعني: إذا علم بعد السلام أنه ترك ركناً من ركعة فحكمه حكم ترك ركعة كاملة. أي: كأنه ترك ركعة كاملة. وتقدم معنا الكلام على حكم ترك ركعة كاملة عند قول المؤلف: (وإن سلم قبل إتمامها عمداً بطلت وإن كان سهواً ... الخ فعرفنا ماذا يصنع الإنسان إذا ترك ركعة كاملة وهنا يقول: من ترك ركناً ولم يذكره إلا بعد السلام فحكمه حكم من ترك ركعة كاملة. واستثنى الفقهاء من هذا الحكم مسألتين: المسألة الأولى: إذا كان الركن المتروك التشهد الأخير أو السلام. فحكمه: أن يأتي بالتشهد أو السلام فقط.

المسألة الثانية: إذا كان المتروك ركناً في الركعة الأخيرة. مثل: أن يترك السجود الأول من الركعة الرابعة في صلاة الظهر: أذا كان المتروك ركناً من الركعة الأخيرة كأن يترك السجود الأول من الركعة الرابعة في صلاة الظهر مثلاً. فحكمه عند الحنابلة: أن يأتي بركعة كاملة. والصواب أن يأتي بالمتروك وبما بعده فقط. فهذه المسألة تعتبر مستثناة على القول الراجح أما على قول الحنابلة فلا تعتبر مستثناة. إذا ً عرفنا الحكم العام وعرفنا ما يستثنى منه وعرفنا أن المسألة الثانية تعتبر مستثناة على القول الصحيح ولا تعتبر مستثناة على قول الحنابلة. • ثم قال - رحمه الله -: وإن نسي التشهد الأول ونهض: لزمه الرجوع ما لم ينتصب قائماً، فإن استتم قائماً: كره رجوعه، وإن لم ينتصب قائماً: لزمه الرجوع. إذا نسي التشهد الأول فله ثلاثة أحوال سيذكرها المؤلف تباعاً ولكل حال حكم. الحال الأولى: قال: وإن نسي التشهد الأول ونهض: لزمه الرجوع ما لم ينتصب قائماً: هذه هي الحال الأولى: إذا نسي التشهد الأول وهَمَّ بالقيام وقام ولكن قبل أن يستتم قائماً ذكر أنه نسي التشهد الأول. حكمها: أنه يجب وجوباً أن يرجع ما دام أنه لم يستتم قائماً. الدليل: قوله - رحمه الله -: (إذا نسي أحكم وقام من الركعتين فإن استتم قائماً فليمض وإن ذكر قبل فليرجع وليسجد سجدتين). هذا الحديث صححه المتأخرون بمجموع طرقه والحقيقة هو له شواهد قوية جداً وأيضاً طرقه متعددة وقابل للتصحيح أو التحسين وهو نص في المسألة. وهذه الحال الأولى: تشمل من حين أن يرتفع الإنسان من الأرض أدنى ارتفاع إلى أن يصبح أقرب ما يكون إلى القيام. ولم أقف على خلاف في هذه المسألة لوضوح الحديث. الحال الثانية: قال: فإن استتم قائماً: كره رجوعه. قوله: إن استتم قائماً: أي ولم يشرع بالقراءة. فلو أن المؤلف - رحمه الله - أضاف هذه العبارة لكان أوضح. حكمها: أنه يكره له أن يرجع. فإن رجع جاز وصحت صلاته. الدليل: الدليل مركَّب: - أما أنه يكره له أن يرجع: فلأنه قام ولم يشرع بركن مقصود وهو: القراءة. فهذا دليل الكراهة. - وأما الجواز فدليله عموم الحديث.

والقول الثاني: أن المصلي إذا ترك التشهد الأول واستتم قائماً فيحرم عليه الرجوع ولو لم يشرع بالقراءة. والدليل: عموم الحديث ولا مخصص. الحال الثالثة: وإن لم ينتصب: لزمه الرجوع. قوله: وإن لم ينتصب: لزمه الرجوع كأنه وهم من المؤلف: وجهه: أن هذا مكرر تماماً لقوله: وإن نهض لزمه الرجوع مالم ينتصب قائماً. فكأنه قد تبادر إلى ذهن المؤلف إعادة ما سبق أن ذكره. • قال - رحمه الله -: وإن شَرَع في القراءة: حرم الرجوع. وإن شَرَع في القراءة: حرم الرجوع لأنه شرع بركن مقصود وهو القراءة. وتحريم الرجوع لا أعلم فيه خلافاً. فإن رجع متعمداً عالماً: بطلت صلاته. لأنه ترك الواجب عمداً. وإن رجع سهواً ونسياناً: صحت صلاته. فإن ذكر الحكم وهو جالس: وجب عليه أن ينهض ويترك التشهد الأول. فإن استمر بعد تذكره وعلمه: بطلت صلاته. ودليل هذا الحكم كما هو وضح وظاهر: الحديث السابق إذ نص فيه - رحمه الله - على أنه متى قام فإنه لا يرجع. • قال - رحمه الله -: وعليه السجود للكل. قوله: للكل: يقصد به كل الأحوال السابقة. فقد مر معنا ثلاثة أحوال. أما في الحال الثانية والثالثة فلا إشكال في مشروعية سجود السهو بل قال المرداوي في الإنصاف: لا أعلم في هذا خلافاً. إنما الخلاف في الحال الأولى. وسبب الخلاف: أنه في هذه الصورة لم يترك التشهد الأول ولذلك صار بين الفقهاء خلاف فيها: فالقول الأول: وهو مذهب الحنابلة: أنه يسجد في هذه الحالة سجود السهو. واستدلوا: بحديث أنس - أن النبي - رحمه الله - تحرك ليقوم فسبَّحُوا به فجلس فتشهد وسجد للسهو سجدتين - رحمه الله -. قوله: تحرك ليقوم: أي ولم يقم - ولم ينتصب قائماً. وهذا الحديث نص في المسألة ولكن الإشكال أن الدارقطني أخرج هذا الحديث موقوفاً على أنس - فلم يرفعه إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -. ومع ذلك فإن في بعض طرق هذا الحديث أن أنس بعد أن أفتى هذه الفتوى قال: وهذه هي السنة.

وبكل حال فحديث أنس - إن صح رفعه فهو حاسم. وإن كان موقوفاًَ ففيه أن هذه هي السنة. وإن لم تصح لفظة: (هذه هي السنة) فغاية ما هنالك أنها فتوى لأنس - فهي خير من رأي الرجال في مسألة ليس فيها نصوص فلأن نأخذ بفتواه - خير من أن نأخذ برأي مجرد. القول الثاني: ينسب إلى الجمهور أنه في الحالة الأولى لايشرع أن يسجد للسهو لأنه لم يترك النشهد الأول. والقول الثالث: أنه إن قام قياماً كثيراً فإنه يسجد وإلا فلا وهذه رواية عن الإمام أحمد - رحمه الله -. والصواب: مذهب الحنابلة. أنه إذا تحرك ليقوم ولو ذكر قريباً فإنه يسجد. مسألة: إذا جلس المصلي للتشهد الأول ثم خطر بباله أن يقوم - ناسياً - وقبل أن يتحرك أدنى تحركاً - ذكر - فاستمر جالساً وقرأ التشهد. الصواب في هذه الصورة: أن لاسجود سهو فيها. لأنه لم يصدر منه أي عمل لا قليل ولا كثير وإنما خطر بباله أن يقوم فقط ثم ذكر سريعاً وجلس فالأقرب في مثل هذه الصورة أنه لا يلزمه سجود سهو. بهذا انتهى الكلام عن النقص. وبدأ المؤلف - رحمه الله - بالكلام على الشك. • فيقول - رحمه الله -: ومن شك في عدد الركعات: أخذ بالأقل. من شك في عدد الركعات فالواجب عليه عند الحنابلة دائماً أن يأخذ بالأقل. صورة هذه المسألة: إذا شك في الثالثة من العشاء هل هي الثالثة أو الثانية؟ فتكون في حقه الثانية. لأنه يأخذ بالأقل. وإذا شك: هل هي الثانية أو الأولى؟ صارت بالنسبة له الأولى. الدليل على هذا عند الحنابلة: نص صحيح أخرجه مسلم عن أبي سعيد الخدري - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (إذا شك أحدكم في صلاته فلم يدر صلى ثلاثاً أو أربعاً فليطرح الشك وليبن على ما استيقن وليسجد سجدتين قبل أن يسلم فإن كان صلى خمساً شفعن له صلاته وإن كان صلى تمام الأربع كانتا ترغيماً للشيطان). قوله: شفعن له صلاته: أي إن كان صلى خمساً فصارت السجدتين تشفعان له الصلاة. وهذا القول الأول هو مذهب الحنابلة وهو مذهب الجمهور. القول الثاني: أن المصلي إذا شك في صلاته يتحرى ويعمل بما ترجح عنده.

واستدلوا بحديث صحيح أيضاً بل متفق عليه: وهو حديث ابن مسعود - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (إذا شك أحدكم في صلاته فليتحر الصواب وليبن عليه وليسجد سجدتين بعد السلام) في حديث ابن مسعود بعد السلام وف حديث أبي سعيد الخدري قبل السلام. والراجح والله أعلم القول الثاني وهو أنه لا يأخذ بالأقل دائماً وإنما يتحرى الصواب. نحتاج إلى جواب عن حديث أبي سعيد الخدري لأنه نص. أجابوا عنه بجواب سديد وهو أن حديث أبي سعيد الخدري يحمل على مصل لم يترجح له شيء حين شك. ومن المعلوم أن الإنسان إذا شك ولم يترجح عنده شيء فإنه يأخذ بالأقل. وإذا حملنا حديث أبي سعيد الخدري على هذا المحمل اتحدت الأدلة وتوافقت ولم تختلف. • ثم قال - رحمه الله -: وإن شك في ترك ركن: فكتركه. يعني إذا شك الإنسان هل ترك الركن أو لم يتركه؟ فحكمه حكم من ترك الركن. ومن ترك الركن: هل بين المؤلف حكمه؟ : نعم. وهو عند قوله: ومن ترك ركناً. فقد تقدم بيان حكم من ترك ركناً. • ثم قال - رحمه الله -: ولا يسجد: لشكه في ترك واجب أو زيادة. إذا صلى المصلي ثم أثناء الصلاة شك في ترك واجب سبق فإنه والحالة هذه لا يسجد له عند الحنابلة. التعليل: قالا: أنه شك في سبب الوجوب والأصل براءة الذمة. ما هو سبب الوجوب؟ هو: ترك الواجب. وهو شك في سبب الوجوب. فإذا شك في سبب الوجوب فالأصل براءة الذمة. القول الثاني: أنه يسجد للسهو لأنه إذا شك في واجب فالأصل عدمه. وهذا القول - الثاني - هو الصواب ولكن نأخذ بالقول الراجح في هذه المسألة وهو أنه يتحرى فإذا غلب ظنه أن الواجب هو المشكوك في تركه فيعمل بغلبة الظن ويعتبر نفسه قد أتى به. إذاً إذا شك الإنسان في ترك واجب فالحنابلة يرون أنه لا يجب عليه سجود سهو لأنه شك في سبب والأصل البراءة. والقول الثاني: أنه إذا شك في ترك واجب فعليه أن يسجد للسهو لأن الأصل أن المشكوك فيه لم يؤتى به. وأن هذا هو الراجح ولكن ينزل على القول الراجح السابق. وهو التحري. قوله: أو زيادة: يعني إذا شك في زيادة فلنفرض أنه يصلي الظهر وفي الركعة الثانية وهو ساجد السجدة الثانية شك هل هي الثانية أو الثالثة؟ يعني أنها زائدة.

فإذا شك بالزيادة بعد أدائها فإنه لا يسجد عند الحنابلة. ويستثنى من هذا إذا شك في الزيادة أثناء أدائها. أي إذا شك في زيادة السجدة وهو ساجد فحينئذ يجب عليه أن يسجد للسهو. التعليل: قالوا: لأنه أدى جزأ من العبادة وهو متردد فيها. وهذا التردد والتشكك في أداء العبادة يوجب سجود السهو جبراً لهذا النقص. والنقص جاء من تردده لأنه يجب على المصلي أن يأتي بأبعاض العبادة جازماً بها. ثم انتقل المؤلف - رحمه الله - إلى أحكام المأموم. • فقال - رحمه الله -: ولا سجود على مأموم: إلاّ تبعاً لإمامه. المسألة الأولى: أنه لا سجود على مأموم. فإذا سهى المأموم في صلاته دون الإمام فإنه لا يجب عليه أن يسجد للسهو. وقد أجمع على هذا الفقهاء إلا مكحول - رحمه الله - فإنه رأى أن عليه أن يسجد وتابع مكحول على القول بالوجوب من المتأخرين ابن حزم - أقصد بالمتأخرين: بالنسبة للسلف. استدل مكحول وابن حزم بالعمومات قالوا: العمومات التي تأمر بسجود السهو لم تفرق بين الإمام والمأموم فإذا سلم الإمام أتى المأموم بسجود السهو. وقول الجماهير الذي اعتبر إجماعاً هو الصواب. والدليل: أنه يصعب أو يتعذر أن لا يكون أحد من الصحابة سهى خلف النبي - رحمه الله - ومع لك لم ينقل قط أن أحداً سجد للسهو خلفه - رحمه الله -. وهذه منأخطاء ابن حزم أنه يأخذ بظاهر النص مجرداً عن النصوص العامة التي تبين كيفية العمل بظواهر النصوص ولو كان سجود السهو واجباً على المأموم لنقل وعرف ولنقل عن بعض الصحابة أنهم يسجدون فلما عدم كل ذلك عرفنا أنه لا سجود على المأموم وأن إجماع الفقهاء جميعاً عدا مكحول هو الصواب إن شاء الله. هذه هي المسألة الأولى وهي قوله: ولا سجود على مأموم. المسألة الثانية: قوله: إلا تبعاً لإمامه. معنى هذه العبارة: أنه يجب على المأموم أن يسجد إذا سجد أمامه للسهو سواء سهى معه أولا. وهذا أيضاً محل إجماع وممن حكاه إسحاق وشيخ الاسلام بن تيمية. والدليل على هذا قوله - رحمه الله -: (إنما جعل الإمام ليؤتم به .. إلى أن قال: فإذا سجد فاسجدوا) فقوله - رحمه الله - فاسجدوا: يشمل السجود الذي هو من أركان الصلاة والسجود الذي هو لأجل السهو.

مسألة: لم يتكلم المؤلف عن المسبوق. هل يجب عليه أن يسجد أو لا يجب؟ نقول: المسبوق فيه تفصيل: بالنسبو للمسبوق نفسه إذا سهى في صلاته فهو ينقسم إلى قسمين: القسم الأول: أن يكون السهو مع الإمام - يعني فيما أدرك فيه الإمام - فلو دخل المسبوق مع إمام يصلي الظهر وقد فاته ركعتين فدخل معه في الركعتين الأخيرتين وسهى في هاتين الركعتين. القسم الثاني: أن يكون سهو المأموم بعد انفصاله عن الإمام أي فيما يقضي. ففي المثال السابق لو أن هذا المأموم لما سلم الإمام فسيبقى عليه ركعتين فلو سهى فيهما فهذا هو القسم الثاني. والحكم في الصورتين: وجوب سجود السهو. لأنه المأموم لما انفصل عن إمامه فلم يبق مانع يمنعه من سجود السهو لأن المانع هو مخالفة الإمام وقد زال. في الصورة الأولى خلاف لكنه يعتبر خلاف ضعيف من وجهة نظري - فيما إذا كان السهو فيما أدرك مع الإمام فبعض الفقهاء يرى أنه لا يسجد لكن أعرضنا عن هذا الخلاف وذكرنا الصواب فقط لقوته ووضوحه. المسألة الثانية في مسألة المسبوق: متى يسجد المسبوق للسهو؟ فيه تفصيل: إن كان الإمام سجد للسهو قبل السلام فالواجب على المأموم ن يتابعه في السجود سواء كان الإمام سها فيما أدركه المأموم أو سهى فيما لم يدركه المأموم. الصورة الثانية: إذا كان الإمام سيجد للسهو بعد السلام فعند الحنابلة يجب على هذ المأموم المسبوق أن يتابع الإمام إذا سجد للسهو ولو بعد السلام ولا يقوم ليقضي ما فاته. والقول الثاني: أنه إذا سلم الإمام قام المأموم ليقضي مافاته ثم إذا سلم سجد للسهو. والدليل على رجحان هذا القول: أنه لو سجد مع الإمام قبل السلام لكان سجد سجدتي السهو في غير موضعهما لأن الإمام سجد بعد السلام. وإن تابعه في السلام ليسجد معه بطلت صلاته لأنه سلم قبل أن تنتهي صلاته. ولذلك فالراجح هو: أن يقوم حتى لو سجد الإمام وسجد الناس ويأتي بما فاته ثم بعد ذلك يسجد للسهو. • ثم قال - رحمه الله -: وسجود السهو لما يبطلها عمده واجب. تقدم معنا أن الحنابلة يرون وجوب سجود السهو. وأن الشافعية يرون أن سجود السهو سنة. وأن القول الثالث: التفريق بين السجود الذي قبل السلام والسجود الذي بعد السلام.

إذاً هذه المسألة تقدمت في أول الباب. • ثم قال - رحمه الله -: وتبطل بترك سجود أفضليته قبل السلام فقط. ذكر المؤلف في هذه العبارة مسألتين: المسألة الأولى: أن من ترك سجود السهو عمداً بطلت صلاته إذا كان السجود قبل السلام. وهو آثم وصلاته صحيحه إذا كان السجود بعد السلام. الدليل: قالوا: أن السجود قبل السلام جزء من أجزاء الصلاة والسجود بعد السلام واجب للصلاة وليس واجباً في الصلاة فهو كالآذان فإنه الآذان واجب من واجبات الصلاة لكن لو تركه المصلي وصلى فصلاته صحيحه. إذاً الحنابلة يفرقون بين أن يكون السجود قبل السلام فإن تركه عمداً بطلت صلاته. وبين أن يكون بعد السلام فإن تركه عمداً فهو آثم وصلاته صحيحة. المسألة الثانية: موضع سجود السهو: يعني هل يكون سجود السهو قبل السلام أو بعد السلام؟ هذه المسألة محل خلاف وهي من المسائل التي تشعبت فيها الأقوال وذكر فيها الحافظ العراقي في شرحه الحافل على الترمذي ذكر فيها ثمانية أقوال - وهذا الشرح شرح مفيد جداً وهو إن شاء الله في صدد أن يطبع قريباً - في هذا الكتاب ذكر في هذه المسألة ثمانية أقوال وذكر لكل قول عدداً من الأدلة والمناقشات حتى يمكن أن تفرد المسألة بمصنف صغير لطول وتشعب الأقوال. ونحن سنأخذ رؤوس الأقوال: القول الأول: أن السجود دائماً بعد السلام. وهذا مذهب الأحناف. القول الثاني: أن السجود دائماً قبل السلام. وهو مذهب الشافعية. القول الثالث: - أن السجود يكون قبل السلام إذا كان عن نقص. - ويكون بعد السلام إذا كان عن زيادة. وفيه تفصيل في الشك: - فإذا شك وترجح له أحد الإحتمالين فإن السجود يكون بعد السلام. - وإن لم يترجح صار السجود قبل السلام. إذاً السجود إذا لم يترجح أو لنقص يكون قبل السلام وفي باقي الصور يكون بعد السلام.

هذا القول الأخير نصره شيخ الاسلام - رحمه الله -. وهو قول تتفق به الأدلة. لأن الأدلة فيها السجود قبل السلام وفيها السجود بعد السلام وفيها صور كثيره وفيها ترك التشهد وفيها الزيادةوفيها النقص فالحمع بين هذه النصوص كما مر معنا في حديث أبي سعيد الخدري وفي حديث ابن مسعود أحدهما قبل وأحدهما بعد. المهم. أن هذا القول الثالث تجتمع به الأدلة. المسألة الثالثة: هل السجود الذي موضعه قبل السلام والسجود الذي موضعه بعد السلام فهل هو على سبيل الوجوب أو على سبيل الاستحباب والندب؟ فمذهب الحنابلة: أنه على سبيل الاستحباب والندب وهذا القول الأول. وهذا القول ليس مذهباً للحنابلة فقط بل هو مذهب للجماهير بل حكي إجماعاً وممن حكى الإجماع الماوردي - رحمه الله - وأيضاً حكاه القاضي عياض وغيرهما فقد حكاه عدد من الفقهاء نقلوا الإجماع على أن موضع السجود على سبيل الندب والاستحباب لا على سبيل الوجوب. استدل هؤلاء بأن النبي - رحمه الله - تارة سجد قبل السلام وتارة سجد بعد السلام فدل ذلك على أنه مستحب وممن رجح هذا القول ابن عبد البر. على أننا نقول أنه شبه إجماع فقد حكي من ثلاثة ومع أن الماوردي والقاضي عياض أشد تثبتاً في نقل الإجماع. والمسألة ليست محل إجماع قطعاً لكن حكاية الإجماع تعطي دلالة على أن هذا مذهب غالب أهل العلم. القول الثاني: وهو مذهب لبعض الحنابلة. وقال شيخ الاسلام: أنه يفهم من كلام الإمام أحمد. يعني أنه - رحمه الله - لم يجد نصاً صريحاً عن الإمام أحمد لكن يفهم من كلام الإمام أحمد الوجوب. أما الرواية المعروفة فهي الندب. ونصر هذا القول شيخ الاسلام ورأى أنه هو القول الصواب واستدلوا بعموم قول النبي - رحمه الله -: (صلوا كما رأيتموني أصلي) والنبي - رحمه الله - تارة سجد قبل السلام وتارة بعد السلام فيجب أن نصلي كصلاته - رحمه الله -. والحقيقة الترجيح في هذه المسألة محل إشكال بسبب أن جمهور السلف والخلف من الأئمة من تابعي التابعين والأئمة الأربعة وعامة العلماء كلهم يرون أن هذا على سبيل الندب وبالمقابل ما رجحه شيخ الاسلام قوي من حيث الدليل ويؤيده عموم الحديث الذي أخرجه البخاري (صلوا كما رأيتموني أصلي).

فالأحوط - بدون شك - أن يجعل ما قبل قبل. وما بعد بعد. لكن الوجوب قد يتوقف فيه الإنسان مع تتابع السلف على القول بالندب حتى أن الذين يحكون الخلاف كابن عبد البر لم يذكر القول الثاني أصلاً. وعلى كل حال في هذه المسألة: الإنسان يقلد الحماهير ونقول أنه مندوب وإن كان الأحوط أن يجعل ما قبل قبل وما بعد بعد. • ثم قال - رحمه الله -: وإن نسيه وسلم: سجد إن قرب زمنه. إذا نسي السجود وسلم فإنه يجب عليه وجوباً أن يسجد إذا كان الزمان قريباً ولا يسجد إذا كان الزمان بعيداً وصلاته صحيحة إذا تركه نسياناً ولذلك هو يقول وإن نسيه. وأما مسألة: إن قرب. فالقرب والبعد والخلاف في هذه المسألة تقدم معنا في أول الباب وأخذنا الأقوال الثلاثة في هذه المسألة. فالأقوال الثلاثة في هذه المسألة تأتي معنا في هذه الصورة تماماً وما رجحناه هناك فنرجحه هنا وهو أن الإنسان إذا ترك سجود السهو وذكره ولو طال الزمان فإنه يسجد. وعند الإمام أحمد إن خرج من المسجد فلا يسجد وعند الجمهور يقيد هذا بالعرف. على ما سبق في عند قوله: وأن طال الفصل أو تكلم. • ثم قال رحمه الله: ومن سها مراراً: كفاه سجدتان يعني إذا تكرر السهو من المصلي ولو كان محل سجود السهو يختلف فإنه يكفيه أن يسجد سجدتين فقط. فإن كان السهو بعضه يوجب السهو قبل. وبعضه يوجب السهو بعد فإنه يسجد قبل على سبيل الوجوب لأنه إذا سلم فقد ترك واجباً. فعرفنا من هذه العبارة مسألتين: الأولى: أنه إذا تكرر ولو اختلف محله فإنه يسجد سجدتان فقط. الثانية: أنه إذا كان بعضه يوجب السجود قبل وبعضه يوجب السجود بعد فإنه يسجد قبل. والتعليل: أنه لو سجد بعد لكان ترك واجباً عمداً يعني: لكان سلم قبل أن يأتي بالواجب ففي هذه الحال تبطل صلاته لأنه ترك واجباً قبل السلام عمداً. أما إن سلم عمداً كما يفعل كثير من الناس أو نسياناً فإنه يسجد بعد السلام ولا شيء عليه. وبهذا انتهى الكلام عن باب سجود السهو ونشرع غداً إن شاء الله بباب صلاة التطوع. انتهى الدرس،،،

[باب صلاة التطوع]

[باب صلاة التطوع] قال شيخنا حفظه الله: بسم الله الرحمن الرحيم. الحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين. أما بعد: • قال - رحمه الله -: باب صلاة التطوع. لما أنهى المؤلف الكلام على الفرائض - على صلاة الفريضة انتقل للحديث عن صلاة التطوع. والعلة في هذا الترتيب: أن الحكمة من صلاة التطوع أن تكمل بها الفرائض نص على أن هذه هي الحكمة من التطوع شيخ الاسلام وغيره من المحققين استدلالاً بقول النبي - صلى الله عليه وسلم - (إن أول ما يحاسب عليه العبد الصلاة فإن كانت ناقصة قال الرب سبحانه وتعالى: انظروا هل لعبدي من نافلة؟) فعرفنا الآن لماذا يذكر الفقهاء باب صلاة التطوع بعد صفة الصلاة وعرفنا الحكمة من ذلك. والتطوع: لغة: التبرع بالشيء. واصطلاحاً: اسم لما شرع زائداً عن الفرائض. • ثم قال - رحمه الله -: آكدها: كسوف. اختلف الفقهاء في ترتيب أفضل النوافل: وقبل الحديث عن مسألة أي النوافل أفضل؟ اعتاد الفقهاء أن يتحدثوا في هذا الباب عن أفضل الطاعات عموماً لا ما يتعلق بصلاة التطوع فقط ولا نريد الدخول المفصل في هذه المسألة لكن نشير إلى أهم الأقوال فيها: = فالحنابلة يرون أن الجهاد في سبيل الله هو أفضل التطوعات وقد نص على هذا الإمام أحمد - رحمه الله - جاء ذلك عنه في رواية صحيحة. = وذهب الشافعي إلى أن أفضل التطوعات الصلاة. = وذهب مالك وأبو حنيفة إلى أن أفضل التطوعات طلب العلم. وهو رواية عن أحمد. لذا نستطيع أن نقول أن القول بأن طلب العلم هو أفضل التطوعات - أنه مذهب الجمهور. ولكل قول من هذه الأقوال أدلة كثيرة ومناقشات كثيرة جداً - وكما قلت لن ندخل في تفاصيلها لأن الكلام فيها خارج عن باب صلاة التطوع لكن نذكر الراجح في هذه المسألة: وهو: أن أفضلية العمل تختلف باختلاف شيئين: = باختلاف الأشخاص. = وباختلاف الأزمان. فربما صار الفاضل بالنسبة لشخص مفضول بالنسبة لشخص آخر بحسب حال هذا الشخص ومقدرته على العلم تارة وعلى الجهاد تارة وعلى نوافل العبادات: كالصلاة والصيام تارة. وأيضاً يختلف بحسب الأزمان فإذا عمَّ الجهل وكثر بين الناس واحتاج الناس إلى العلم فإن العلم في هذه الحالة أفضل.

وإذا ضعف المسلمون وهجم عليهم الأعداء وقَتَّلُوا فيهم وشرَّدُوا فإن الجهاد في مثل هذه الحالة أفضل. = فالخلاصة: أن التفضيل يختلف باختلاف الأشخاص والأزمان وهذا اختيار شيخ الإسلام بن تيمية - رحمه الله -. = ومن الفقهاء من قال: بل أفضل الأعمال دائماً وأبداً مهما اختلفت الأزمان والأشخاص: ذكر الله. ومال إليه الحافظ بن حجر في الفتح. هذه رؤوس الأقوال في هذه المسألة المتشعبة التي تخرج عن موضوع الدرس. نأتي إلى صلاة التطوع: اختلف العلماء في أفضل النوافل: وسنأخذ الضوابط التي تضبط هذه الخلافات. = فالقول الأول: وهو مذهب الحنابلة: أن مناط الأفضلية ما كان فيه اجتماع فالصلاة التي شرعت مع الاجتماع أفضل من الصلاة التي تؤدى بدون اجتماع. بناء على هذا الضابط: التفضيل والترتيب يكون كما ذكره المؤلف - رحمه الله -: الكسوف ثم الاستسقاء ثم التراويح ثم الوتر. = القول الثاني: أن المناط هو الوجوب: فما اختلف في وجوبه فهو أفضل مما اتفق على أنه مندوب. بناء على هذا المناط: فإن الترتيب يكون: الكسوف ثم الوتر ثم الاستسقاء ثم التراويح. والسبب في اعتبار المناطين عند الفقهاء القائلين بالقول الأول. والقائلين بالقول الثاني. هو: التشبه بالفرائض. فهم يتفقون على أنه كلما كانت النافلة تشبه الفريضة أكثر فتكون أفضل لكن يختلفون في مناط التشبيه. فبعضهم يقول: الإجتماع. وبعضهم يقول: الوجوب. بهذا نكون أخذنا قولين في مسألة أي النوافل أفضل. = القول الثالث: أن سنة الفجر أفضل مطلقاً بدون نظر للمناط: - لمحافظة النبي - صلى الله عليه وسلم - عليها في السفر والحضر. - ولأنه ذكر - رحمه الله - أن ركعتي الفجر خير من الدنيا وما فيها. = القول الرابع: أن صلاة الوتر هي أفضل النوافل. - كم صارت الأقوال؟ - أربعة. والراجح - والله أعلم - أن أفضل النوافل هي صلاة الليل. لقول النبي - صلى الله عليه وسلم - - في الحديث الذي أخرجه مسلم - (أفضل الصلاة بعد المكتوبة صلاة الليل). فهذا نص صريح في التفضيل. والقول بأن الأفضلية مناطها الوجوب هو اختيار شيخ الاسلام - رحمه الله -.

وإذا أردنا أن نجمع بين ما اختاره شيخ الاسلام وما ذكرت أنه هو الراجح: فنقول: أن الترتيب كالتالي: صلاة الليل - ثم الكسوف - ثم الوتر - ثم الاستسقاء - ثم التراويح. هذا القول يجمع بين القولين. • قال - رحمه الله -: آكدها: كسوف. أخذنا ما يتعلق به. • ثم قال - رحمه الله -: ثم استسقاء. ذكر المؤلف أن الكسوف آكد من الاستسقاء. والتعليل عند الحنابلة: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يخل بصلاة الكسوف عند وجود سببها. بخلاف الاستسقاء فقد يوجد سببه ولا يصليه. فإنه - رحمه الله - يصلي تارة ويدع تارة فمن هذه الجهة صارت صلاة الكسوف آكد من صلاة الاستسقاء. • قال - رحمه الله -: ثم تراويح. صلاة التراويح: تأتي في المرتبة الثالثة: لأنه يشرع لها أن تصلى جماعة. • ثم قال - رحمه الله -: ثم وتر. الوتر في المرتبة الرابعة: عند الحنابلة لأنه لا يشرع لها أن تصلى جماعة إلا إذا كانت مع صلاة التراويح فقط. صلاة الكسوف والاستسقاء والتراويح سيخصص المؤلف في الكلام عليها من حيث الحكم والصفة وكل ما يتعلق بهذه الصلاة وسيأتي الحديث عن ذلك عند ذكر المؤلف له. بينما الوتر فنلاحظ أن المؤلف - رحمه الله - شرع في تفصيل أحكامه هنا لأنه لن يأت الكلام هليه فيما بعد. فنقول الوتر: اسم للركعة المنفصلة عما قبلها وللثلاث وللخمس وللسبع وللتسع إذا صليت متصلة وإذا فصلت صارت الوتر الركعة الأخيرة. هذا التعريف مذهب لبعض الفقهاء واختاره ابن القيم - رحمه الله -. = القول الثاني: أن الوتر هو اسم لمجموع صلاة الليل. وهذا القول اختاره إسحاق بن راهويه - رحمه الله - - وهو كما تعلمون من أئمة فقهاء الحديث ومعاصر للإمام أحمد - رحمه الله -. واستدل: 1 - بقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: (إذا خشي أحدكم الصبح فليصل ركعة توتر له ماصلى) فأخبر - رحمه الله - أن الركعة الأخيرة أصبحت مع ما قبلها وتر. 2 - وبقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: (أوتروا يا أهل القرآن). وقال: إن المقصود بالحديث صلاة الليل وليس المقصود الركعة الأخيرة فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - في هذا الحديث يحث على صلاة الليل لا على ركعة واحدة. ففي هذا الحديث تسمية صلاة الليل وتراً.

وهذا القول في الحقيقة جيد وقوي: أن الوتر اسم لمجموع صلاة الليل. • ثم قال - رحمه الله -: - مبيناً وقت صلاة الوتر -. ويفعل بين العشاء والفجر. الوتر له وقت محدود كالفرائض يبدأ من بعد صلاة العشاء وينتهي بطلوع الفجر وهذا مذهب الحنابلة بل مذهب الجمهور. واستدلوا: - بحديث عائشة - رضي الله عنها - أنها قالت: (كان رسول الله - رحمه الله - يصلي ما بين أن يفرغ من العشاء إلى طلوع الفجر إحدى عشرة ركعة). - واستدلوا بقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: (أوتروت قبل أن تصبحوا). فإن صلى الوتر قبل أن يصلي العشاء ولو نسياناً أعاد. وإن جمع صلاة العشاء إلى صلاة المغرب جمع تقديم جاز له أن يوتر قبل دخول وقت العشاء على الصحيح. أن الحديث علق جواز صلاة الوتر بصلاة العشاء والجامع قد صلى صلاة العشاء. = والقول الثاني: وهو مذهب المالكية أن الوتر له وقت جواز ووقت ضرورة: - فوقت الجواز ينتهي: بطلوع الفجر. - ووقت الضرورة ينتهي: بأداء صلاة الفجر. أي أن الوقت ما بين طلوع الفجر إلى أداء صلاة الفجر يعتبر وقت ضرورة والصلاة فيه أداء وليست قضاء. واستدلوا: - بأنه روي عن عدد كبير من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - أنهم صلوا وأفتوا من يصلي بعد طلوع الفجر مالم يصل صلاة الفجر. وهذا القول رواية عن الإمام أحمد وأفتى به. = والقول الثالث: أن ما بين طلوع الفجر إلى أداء صلاة الفجر وقت للقضاء. ثم إذا صلى الفجر فلا يمكن أن يقضى الوتر. واستدلوا بأمرين: - الأول: الآثار المروية عن الصحابة - التي استدل بها أصحاب القول الثاني. - الثاني: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان إذا فاته الوتر صلاه من النهار اثنى عشرة ركعة. قال شيخ الاسلام: وكونه يصلي اثنتي عشرة ركعة دليل على أنه لا يصليها قضاء ولو كانت قضاء لصلاها على صفتها. الراجح هو: القول الثالث. وممن اختاره من المحققين ابن قدامة - رحمه الله -. بناء على هذا نقول: أن صلاة الوتر يستمر وقتها إلى طلوع الفجر فإذا طلع الفجر فالوقت ما بين طلوع الفجر إلى أداء صلاة الفجر يعتبر وقت قضاء فإذا صلى الفجر فلا يمكن أن يقضي صلاة الوتر.

هذا القول في الحقيقة تجتمع به الأدلة مع أني أقول أن القول الثاني قول قوي وأنها أداء لكنها ضرورة ويشعر الإنسان إذا قرأ الآثار أن هذا القول قوي وفي الباب أحاديث كثيرة نحو سبعة أحاديث لكن في أسانيدها ضعف وإلا فهي أيضاً تقوي القول الثاني. لكن نقول: القول الثالث وسط بين القولين فيكون هو الراجح إن شاء الله. بقينا في مسألة: وهي: حكم صلاة الوتر: = ذهب الجماهير والجم الغفير من أهل العلم واختاره ابن حزم وابن عبد البر وغيرهما من المحققين إلى أن صلاة الوتر سنة مؤكدة وليست من الواجبات. أما أنها سنة: أي أنها مشروعة. محل إجماع والأحاديث فيه كثيرة. وأما أنها ليست واجبة فلدليلين: - الأول: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - ثبت عنه أنه كان يوتر على راحلته والفرائض لا تؤدى على الراحلة. - الثاني: أن الأعرابي الذي سأل النبي - صلى الله عليه وسلم - عما يجب عليه أخبره بوجوب الخمس صوات في اليوم والليلة فقال هل عليَّ شيء غيرها؟ فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: لا. إلا أن تطوع. فهذا نص على أن الصلوات اليومية ليس فيها شيء واجب إلا الخمس. = والقول الثاني: للأحناف أن الوتر واجب - لقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: (إذا خاف أحدكم الصبح فليوتر بواحدة) واللام للأمر. = والقول الثالث: أن صلاة الوتر واجبة في حق من يتهجد من الليل فقط. فإذا قام الإنسان يصلي صلاة الليل فإنه يجب عليه وجوباً على هذا القول أن يوتر فإن لم يوتر فهو آثم. وهذا اختيار شيخ الاسلام. ودليله: أن في هذا القول جمع بين الأدلة. فإن قوله - رحمه الله -: (إذا خاف أحدكم الصبح) موجه لمن قام الليل. فنستعمل الحديث فيمن قام ويبقى من نام فلا تجب عليه الوتر. ومع ترجيح القول الثالث إلا يبقى أن صلاة الوتر متأكدة جداً وأن الإمام أحمد يقول: من تركها فهو رجل سوء لا تقبل شهادته. تبين الآن تعريف الوتر وحكم الوتر ووقت الوتر. ثم انتقل - رحمه الله - إلى العدد. • فقال - رحمه الله -: وأقله ركعة. يعني أقل الوتر ركعة ويجوز أن يوتر بركعة بلا كراهة. = وهذا مذهب الإمام أحمد. - لقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: (صلاة الوتر ركعة آخر الليل).

- ولأنه ثبت عن عشرة من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - منهم أبو بكر وعمر وعثمان أنهم صلوا الوتر ركعة واحدة. فبناءً على هذه الأدلة نقول: أن الوتر بركعة واحدة جائز بلا كراهة. = والقول الثاني: أن الوتر بركعة مكروه إذا لم يكن بعذر. وهو رواية عن أحمد. = والقول الثالث: أنه محرم. لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - (نهى أن يوتر الرجل بركعة واحدة). والصواب القول الأول وهذا الحديث ضعيف وممن ضعفه ابن حزم والحافظ العراقي والحافظ ابن القطان رحمهم الله فهؤلاء ثلاثة من الأئمة ضعفوا هذا الحديث ولا شك أنه حديث منكر مخالف للأحاديث الصحيحة ومخالف لعمل أئمة الصحابة. إذاً قوله: وأقله ركعة دل على جواز الإيتار بركعة وأنه لا يكره. وأخذنا الخلاف فيه. • قال - رحمه الله -: وأكثره إحدى عشرة، مثنى مثنى، ويوتر بواحدة. هذه ثلاثة أمور: - أكثره إحدى عشرة. - ويصلى مثنى مثنى. - ويوتر بواحدة. أي أن السنة أن لا يزيد الإنسان على إحدى عشرة ركعة وأن يسلم بين كل ركعتين وإن يوتر بواحدة منفصلة. فهذه هي السنة وهي متركبة من هذه الثلاثة أمور. الدليل على هذه الأحكام جميعاً: - حديث عائشة - رضي الله عنها -: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - (كان يصلي من الليل إحدى عشرة ركعة يسلم بين كل ركعتين ويوتر بواحدة) هذا لفظ مسلم. وتلاحظ أن هذا اللفظ يتوافق تماماً مع مذهب الحنابلة. - مسألة: ثبت عن ابن عباس وعن عائشة بأحاديث صحيحة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أوتر بثلاثة عشرة ركعة. والفقهاء اختلفوا في التوفيق بين حديث عائشة. وبين حديث ابن عباس وحديثها - رضي الله عنها - الثاني على عدة أقوال: وهذه الأقوال الغرض منها التوفيق بين الحديثين. = القول الأول: وهو مذهب لبعض الفقهاء ونصره ابن القيم. أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يصلي إحدى عشرة ركعة وأن الركعتين هما ركعتي الفجر. واستدل بما ثبت عن ابن عباس - أنه جعل ركعتي الفجر من جملة الثلاثة عشرة ركعة.

= القول الثاني: وهو أيضاً لبعض الفقهاء ومال إليه الحافظ ابن حجر أن الركعتين هما الركعتان الخفيفتان اللتان كان يصليهما النبي - صلى الله عليه وسلم - أول صلاة الليل. فإنه جاء في الأحاديث الصحيحة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يفتتح صلاة الليل بركعتين خفيفتين. فالحافظ ابن حجر يقول: هاتان الركعتان هما زائدتان على إحدى عشرة ركعة. واستدل على هذا بما ثبت في الحديث الصحيح عن عائشة - رضي الله عنها - أن النبي - رحمه الله - كان يصلي ثلاثة عشرة ركعة ثم يصلي ركعتي الفجر فدل هذا الحديث على أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يصلي ثلاثة عشرة ركعة كاملة سوى ركعتي الفجر. = القول الثالث: للتوفيق بينها: أن هذا: - يحمل على الجواز وأن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يصلي تارة إحدى عشرة ركعة وتارة ثلاثة عشرة ركعة. - ويحمل أيضاً على النشاط فإذا كان الإنسان يصلي نشيطاً زاد وإذا لم يكن نشيطاً فلا يزيد. وهذا ما مال إليه الحافظ بن نصر في كتابه قيام الليل. والأقرب والله أعلم. أن الأعم الأغلب من حال النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه يصلي إحدى عشرة ركعة وعلى هذا تدل النصوص عن عائشة التي كانت في بيته - رحمه الله - وتعرف صلاته وأن كان يصلي أحياناً ثلاثة عشرة ركعة. فالأقرب القول الثالث. أن هذا فقط لبيان الجواز. ولكن يضاف لكلمة بيان الجواز: أن الأغلب من حاله - رحمه الله - أنه يصلي إحدى عشرة ركعة. وبهذا عرفنا مسألة أن أكثره أحدى عشرة وأنه مثنى مثنى وأنه يوتر بواحدة. ثم انتقل المؤلف إلى صفة ثانية من صفات قيام الليل الواردة عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: • فقال - رحمه الله -: وإن أوتر بخمس أو سبع: لم يجلس إلاّ في آخرها. = نأخذ أولاً: الإيتار بخمس: - صفته: أن يصلي الخمس سرداً ولا يجلس في شيء منها إلا في الأخيرة ثن يتشهد ويسلم. وهذه الصفة للإيتار بخمس من مفردات مذهب الحنابلة فإنه لم يوافقهم عليها أحد. واستدلوا: - بحديث أم سلمة - رضي الله عنها - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يوتر بخمس وسبع لا يجلس إلا في آخرهن. - وبحديث عائشة - رضي الله عنها - وهو نحو حديث أن سلمة إلا أنها نصت على أنه لا يجلس في شيء من الركعات.

وهذه الصفة وإن كانت من المفردات فهي صفة صحيحة ثابتة في النصوص ولا يضير الحنابلة أنهم تفردوا بها. ثم هذه الصفة - وهي الإيتار بخمس - ثابتة عن عدد من الصحابة. فدلت عليها الآثار المرفوعة والموقوفة - ولله الحمد. فإذاً هي من مناقب الإمام أحمد. = ثانياً: الإيتار بسبع: عند الحنابلة له صفتان: - الصفة الأولى: وهي المذهب أن يوتر كما في الخمس: بأن يصلي السبع سرداً لا يجلس إلا في آخر ركعة ثم يتشهد ويسلم. ودليلها: حديث أم سلمة السابق وهو حديث صحيح. - الصفة الثانية: وهي قول للحنابلة: بل إن ابن القيم لم يذكر إلا هذه الصفة - الثانية - فلم يذكر الصفة التي هي المذهب: وهي: أن يصلي ستاً ثم يجلس السادسة ويتشهد ولا يسلم ثم يقوم ويصلي السابعة ثم يجلس ويتشهد ويسلم. فالفرق بين الصفة الثانية والصفة الأولى هو: الجلوس في الركعة السادسة. الدليل: أنه ثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه أوتر بسبع جلس فيها في السادسة ولم يسلم ثم جلس في السابعة تشهد وسلم. فعرفنا الآن التفصيل في كيفية صلاة الخمس وفي كيفية صلاة السبع. • ثم قال - رحمه الله -: وبتسع: يجلس عقب الثامنة ويتشهد ولا يسلم، ثم يصلي التاسعة ويتشهد ويسلم. الإيتار بتسع على هذه الصفة من مفردات الحنابلة أيضاً. وصفة الإيتار بتسع: كصفة الإيتار بسبع تماماً: فيصلي ثمان ركعات يجلس في الثامنة ويتشهد ولا يسلم ثم يجلس في التاسعو ويتشهد ويسلم. الدليل: على هذه الصفة أنه ثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه أوتر بتسع جلس في الثامنة منهن ولم يسلم ونهض ثم جلس في التاسعة وتشهد وسلم. والنبي - صلى الله عليه وسلم - كان يوتر بتسع والسبع على هذه الصفة التي فيها الجلوس في السادسة لما كبر وأخذه اللحم - رحمه الله - فقد صرحت عائشة - رضي الله عنها - أنه كان يوتر بسبع مع الجلوس في السادسة لما كبر وأخذه اللحم ولما صار يتعب - رحمه الله - فصار يوتر بهذه الصفة. الصفة الثانية للإيتار بتسع: أن يسلم من كل ركعتين ثم يوتر بواحدة. ثمان ركعات يسلم من كل ركعتين ثم يوتر بواحدة. هذه الصفة ذكرها الحنابلة.

الدليل: ليس لهذه الصفة دليل خاص بالنسبة للتسع لكن لها دليل عام وهو: قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: (صلاة الليل مثنى مثنى فإذا خشي أحدكم من الصبح فليوتر بواحدة). قإذا أخذنا بهذا الحديث وأراد الإنسان أن يصلي بتسع على هذه الصفة فهو أمر جائز لكن ينبغي أن يعلم الإنسان أن صلاة التسع بهذه الصفة لم تأت بالسنة فليس لها دليل خاص إنما كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يصلي الإحدى عشرة بهذه الصفة. فعرفنا الآن الخمس والسبع والتسع وبهذا نتهى الكلام عن صفات صلاة الليل. • ثم قال - رحمه الله -: وأدنى الكمال: ثلاث ركعات بسلامين. هاتان مسألتان: المسألة الأولى: أن أدنى الكمال. أن يصلي الإنسان ثلاث ركعات. والدليل على هذا قوله - رحمه الله - في حديث أبي أيوب -: (من أحب أن يوتر بخمس فليفعل ومن أحب أن يوتر بثلاث فليفعل ومن أحب أن يوتر بواحدة فليفعل). فتبين من هذا الحديث أن أقل الكمال ثلاث ولا نقول واحدة لأن الواحدة هي المجزئة سواء قلنا الوتر سنة أون واجب لكن نقول أقل الكمال ثلاث. هذا الحديث الإشكال فيه أن الحافظ النسائي والحافظ أبو حاتم والحافظ الدارقطني وغيرهم حكموا عليه بالوقف وأنه لا يصح رفعه إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -. وحكمهم رحمهم الله على الحديث أنه موقوف حكم صحيح. فإن هذا الحديث موقوف على أبي أيوب - لكن مع ذلك هو يصلح للإستشهاد وغاية ما هنالك أنه فتوى وإذا كان ليس في الباب ما يدل على أدنى الكمال إلا فتوى عن الصحابي الجليل أبي أيوب - فكفى بها ونأخذ بها ولا تتعارض من أصل ولا مع نص آخر ولا مع فتوى أخرى لغيرة من الصحابة. المسألة الثانية: قوله: بسلامين. = يعني: أن أدنى الكمال أن يوتر الإنسان بثلاث يفصل بينهما بسلامين فيصلي ركعتين ويسلم ثم يصلي ركعة ويسلم أي أن السنة في الثلاث الفصل لا الوصل. والدليل على هذا حديث عائشة - رضي الله عنها -: أنه يسلم بين كل ركعتين ثم يوتر بواحدة. = والقول الثاني: أن الأفضل الوصل بأن لا يجلس إلا في الثالثة وهذا مذهب الأحناف.

والدليل عندهم: حديث عائشة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يصلي من الليل فيصلي أربعاً لا تسألة عن حسنهن وطولهن ثم أربعاً لا تسأل عن حسنهن وطولهن ثم يوتر بثلاث. فقال أبو حنيفة: ظاهر هذا النص أن الثلاث بتسليمة واحدة. الراجح: مذهب الحنابلة أن الأفضل الفصل مع جواز الوصل. قال الإمام أحمد - رحمه الله -: هو - يعني الفصل أكثر وأقوى في حديث رسول الله - رحمه الله -. يعني أن الأحاديث التي فيها الفصل أكثر وأصح وأشهر من الأحاديث التي فيها الوصل. مسألة: فإذا أراد الإنسان أن يوتر بثلاث متصلة فإنه ينهى عن أن يجلس في الثانية ويتشهد ثم يقوم إلى الثالثة لأنه النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى أن نشبه الوتر بصلاة المغرب. فإذاً الأفضل: الفصل بأن يسلم من الثانية فإن أراد أن يصلي أحياناً بالوصل فإنه لا يجلس في الثانية. انتهى الدرس،،،

قال شيخنا حفظه الله: بسم الله الرحمن الرحيم. الحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين. أما بعد: • قال رحمه الله: يقرأ في الأُولى: ((بِسَبِّحِ))، وفي الثانية: ((بِقُلْ يَا أَيُّهَا))، وفي الثالثة: ((بِالإِخْلاَصْ)). أي أن السنة لمن أراد أن يصلي الثلاث ركعات الأخيرة أن يقرأ هذه السور في هذه الثلاث ركعات. والدليل على أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقرأ هذه السور الثلاث: حديث أبي بن كعب رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم: (كان يقرأ هذه السور في الركعات الثلاث الأخيرة). وهذه سنة ثابتة ولا إشكال فيها. ثم بدأ المؤلف بذكر أحكام القنوت: • فقال رحمه الله: ويقنت فيها بعد الركوع. القنوت فيه أحكام كثيرة ومسائل عديدة: - المسألة الأولى: تعريفه: القنوت هو: الدعاء في الصلاة في مكان مخصوص من القيام. - المسألة الثانية: قوله رحمه الله: (ويقنت) ظاهره أن القنوت يكون في كل السنة وفي كل ليلة. = وهذا هو مذهب الحنابلة فإنهم يرون أن المشروع للإنسان أن يقنت كل السنة في كل ليلة. واستدلوا:

- بحيث أبي بن كعب رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم: (كان يقنت قبل الركوع). وظاهر هذا الحديث أنه كان في كل السنة. - وبحديث دعاء القنوت الذي ورد عن الحسن بن علي رضي الله عنه الذي كان يعلمه النبي صلى الله عليه وسلم للحسن. وأيضاً: ظاهره أنه كان في كل السنة. وهذان الحديثان ضعيفان. = القول الثاني: أن المشروع في القنوت أن يكون في النصف الأخير من رمضان فقط. استدلوا على هذا القول بعدة أدلة - نأخذ بعضها: - الدليل الأول: ـ أنه صح عن ابن عمر رضي الله عنهما أنه لم يكن يقنت إلا في النصف الأخير من رمضان. - الدليل الثاني: ـ قال الحسن البصري رحمه الله: كانوا لا يقنتون إلا في النصف الأخير من رمضان. ومراده بكانوا: أي الصحابة رضي الله عنهم. - الدليل الثالث: ـ أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه لما أمر أبي بن كعب أن يصلي بالناس أن يقنت في النصف الأخير من رمضان. الدليل الأول والثاني ثابتان. أما الدليل الثالث فضعيف. = القول الثالث: أنه لا يشرع أن يقنت الإنسان أبداً. استدلوا على هذا القول: - بأنه لم يصح عن النبي صلى الله عليه وسلم في حديث واحد أنه قنت. قال الإمام أحمد رحمه الله: " لم يثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم قنت لا قبل الركوع ولا بعد الركوع ". القول الراجح: أن هذا الأمر واسع: فمن أراد أن يقنت أحياناً ويدع أحياناً أو أراد أن يقنت في كل رمضان أو أراد أن يقنت في كل السنة أو أراد أن يدع القنوت وأن القنوت وعدمه كالقول في عدد الركعات - كما سيأتينا - أن الأمر فيه واسع. فهذا هو القول الراجح. ويليه في القوة: القول بأنه لا يشرع القنوت أبداً إلا في النصف الأخير من رمضان. فهو في اتلحقيقة قول قوي جداً والآثار عن الصحابة رضي الله عنهم فيه ثابتة وهي ذات دلالة قوية.

واختار هذا القول من المحققين الأعلام الحفاظ: الأثرم رحمه الله: وهو: من كبار تلاميذ الإمام أحمد فهو حافظ وعالم كبير وكان رحمه الله يحب الإمام أحمد حبَّاً عظيماً وكان يعظم الإمام ولذلك ذكر في ترجمته أنه جلس في مجلس الحافظ أبو عبيد القاسم بن سلام فتذاكروا مسألة فقال الأثرم: القول فيها كذا وكذا فقال رجل من الجالسين: قول من هذا؟ فالتفت إليه الأثرم وقال: هذا قول من ليس في المشرق ولا في المغرب أكبر منه هذا قول الإمام أحمد. فالتفتوا إلى أبي عبيد القاسم بن سلام فقال أبو عبيد: صدق. يعني أنه بهذا الشأن. نقول: الأثرم رحمه الله اختار أنه لا يشرع القنوت إلا في النصف الأخير من رمضان. مع القول أن الأمر في القنوت واسع إلا أني أجزم أنه: - لا ينبغي أبداً المداومة على القنوت في السنة. - وأنه لا ينبغي المداومة على القنوت في رمضان. فإن هذا خلاف السنة فقد تقدم معنا الآن أنه لم يأت حديث صحيح مطلقاً في أن النبي صلى الله عليه وسلم قنت. لكن صح عن ابن عباس وعمر وابن مسعود أنهم رضي الله عنهم قنتوا. ولذلك نقول: أن القنوت في الجملة مشروع. لكن من الخطأ أن يداوم عليه سواء في أثناء السنة أو في رمضان فإنه خلاف السنة. فعرفنا الآن تعريف القنوت ومشروعيته. - المسألة الثالثة: = ذهب الحنابلة إلى أن القنوت يكون بعد الركوع. واستدلوا على هذا: - بحديث أنس وبحديث أبي هريرة رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم: (كان يقنت بعد الركوع) في قنوت النوازل وإلا فقد تقدم معنا أنه لم يثبت شيء في قنوت الوتر. وهذين الحديثين في الصحيح. = القول الثاني: أن المشروع أن يقنت الإنسان قبل الركوع. واستدلوا على هذا: - بحديث أبي بن كعب رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم: (كان يقنت قبل الركوع). وتقدم معنا أن هذا الحديث ضعيف. والراجح: أن الأولى أن يقنت الإنسان بعد الركوع وإن قنت قبله فجائز لأنه صح عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قنت قبل الركوع. وهذا القول - الثالث - تجتمع به الأدلة والآثار. • قال رحمه الله: فيقول:. قوله: (فيقول). أيضاً تتعلق به عدة مسائل:

- المسألة الأولى: أنه يقول ذلك جهراً بالإجماع إن كان: إماماً. ويؤمن المأموم بلا دعاء. ـ وأما المنفرد: = فعند الحنابلة: أن المشروع في حقه أن يجهر بدعاء القنوت. = والقول الثاني: أن المشروع في حق المنفرد أن لا يجهر بالدعاء. وهذا القول - الثاني - هو الصواب. فتحصل من هذا أن الإمام يجهر والمأموم يؤمن بلا دعاء وأن المنفرد يدعو بلا جهر. - المسألة الثانية: أن المشروع في الدعاء أن يرفع يديه وهذا داخل في قوله: (اللهم اهدني فيمن هديت). ورفع اليدين سنة ثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم في دعاء النوازل لأنه لم يثبن أنه صلى الله عليه وسلم دعا دعاء القنوت. وأما دعاء القنوت فقد ثبت عن ابن عباس وابن مسعود أنهما رضي الله عنهما كانا يرفعان الأيدي في قنوت الوتر. إذاً رفع اليدين: - ثابت عن النبي صلى الله عليه وسلم في قنوت النوازل. - ثابت عن الصحابة في قنوت الوتر. فهو سنة ثابتة ولله الحمد. • قال رحمه الله: ((اللَّهمَّ اهْدِنِي فِيمَنْ هَدَيْتَ ... هذا الدعاء هو الدعاء الذي كان يعلمه النبي صلى الله عليه وسلم للحسن بن علي ولو كان ثابتاً لكان في موضوع قنوت الوتر سنة قولية دون السنة الفعلية لكن تقدم معنا أن حديث الحسن بن علي رضي الله عنه وتعليم النبي صلى الله عليه وسلم له الوتر أنه ضعيف. فلم يثبت في السنة العملية ولا القولية أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقنت في صلاة الوتر. وظاهر قوله: (فيقول: اللهم اهدني) أن المشروع في حق المصلي إذا أراد أن يقنتن في الوتر أن يبدأ بهذه العبارة فيقول اللهم اهدني فيمن هديت. = وهذا هو مذهب الحنابلة: أن المروع أن يبدأ بقول: اللهم اهدني فيمن هديت. = والقول الثاني: أن المشروع أن يبدأ بقوله: (اللهم إنا نستعينك نستغفرك ونستهديك). واستدلوا على ذلك بأن البيهقي أخرج أثراً صحيحاً عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه كان يبدأ دعاء قنوت الوتر بهذا. وهذا الأثر صحيح. وقد ذكره البيهقي في سننه وصححه رحمه الله. والقول الثاني: أقرب باعتبار أنه ثبت عن عمر رضي الله عنه أنه كان يدعو بهذا الدعاء. • قال رحمه الله: فيقول: (اللهم اهدني فيمن هديت).

الهداية: هي الإرشاد والدلالة. وتنقسم إلى قسمين: 1 - هداية خاصة بالله. وهي: هداية التوفيق. 2 - هداية عامة. تكون من الله وتكون من الرسل وتكون من عامة الخلق. وهي: هداية الإرشاد. قال: (وَعَافِنِي فِيمَنْ عَافَيْتَ). طلب العافية من الله يشمل: - العافية في الدين. - والعافية في الدنيا. - والعافية في الآخرة. ويشمل أيضاً: - العافية من أمراض القلوب. وهي المقصود الأساس في هذا الحديث. - والعافية من أمراض البدن. وهي أيضاً مقصودة في هذا الحديث. فجميع هذه الأنواع داخلة في قوله صلى الله عليه وسلم: (وعافني فيمن عافيت). ثم قال: (وَتَوَلَّنِي فِيمَنْ تَوَلَّيْتَ). الولاية يقصد بها أحد أمرين: - إما أن يقصد بها الولي وهو: القرب. فالرجل الذي يليك فهو قريب منك. - أو يقصد بها التولي فتكون بمعنى: النصرة والإعانة والرعاية. والولاية الشرعية تنقسم إلى قسمين: - ولاية عامة. تشمل جميع الخلق. - ولاية خاصة. تشمل المؤمنين فقط. كما قال تعالى {الله ولي الذين آمنوا}. ويمكن أن نقول بقسم ثالث وهي: - ولاية خاصة الخاصة. وهي التي تشمل أولياء الله الخاصين القريبين منه بأعمالهم والبعيدين عن الذنوب. قال: (وَبَارِكْ لِي فِيمَا أَعْطَيْتَ). البركة: - في التعريف المشهور - هي: النماء والزيادة. وعرفت بتعريف آخر جميل - فيما أرى -: وهو قولهم: البركة هي: حلول الخير الإلاهي في الشيء. فإذا بارك الله في الشيء عَمَّ نفعه وزاد ونما. ويلاحظ من قوله (وبارك لي فيما أعطيت) أن الحديث عام لم يقيد العطاء بشيء: فيشمل ما أعطى الله من الإيمان ومن المال ومن الولد ومن العلم ومن العمل الصالح ومن كل خير يعطيه الله سبحانه وتعالى للعبد. قال: (وَقِنِي شَرَّ مَا قَضَيْتَ). يقصد بشر ما قضى الله: أي باعتبار المخلوق. أي شر مقضيك. فالشر في قضاء الله يكون باعتبار الخلق. أما قضاء الله الذي هو فعل الله فهو كله خير. كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (والشر ليس إليك). فما يصيب الإنسان من مرض وفقر وآلام فهي شر بالنسبة للإنسان ولكنها خير في حكمة الله وشرعه وأفعاله لأنها شرعت لحكم أرادها الله سبحانه ىوتعالى. قال: (إِنَّكَ تَقْضِي وَلاَ يُقْضَى عَلَيْكَ).

يعني: أن القضاء والتدبير إلى الله سبحانه وتعالى وحده كما قال تعالى: {والله يقضي بالحق والذين يدعون من دونه لا يقضون بشيء إن الله هو السميع البصير}. ثم قال: (إِنَّهُ لاَ يَذِلُّ مَنْ وَالَيْتَ). المقصود بقوله: (لا يذل): أي لا يغلب ولا يقهر وإنما يبقى عزيزاً منتصراً من والاه الله. والمقصود بقوله: (من واليت): أي: الولاية الخاصة وليست الولاية العامة. قال: (وَلاَ يَعِزُّ مَنْ عَادَيْتَ). يعني: أنه يذل ويقهر ويغلب من عادى الله سبحانه وتعالى. قال: (تَبَارَكْتَ رَبَّنَا وَتَعَالَيْتَ). البركة: تقدم الكلام عليها. وتعاليت: العلو بالنسبة لله ينقسم إلى قسمين: - علو ذات. وهو عال فوق عرشه فوق سماواته سبحانه وتعالى. - علو صفات. أي أن له الكمال المطلق في صفاته سبحانه وتعالى. هذا فيما يتعلق بشرح الحديث الي علمه النبي صلى الله عليه وسلم للحسن بن علي وهو دعاء قنوت الوتر. وهذه التعليقات اليسيرة تناسب متناً من متون الفقه وقد تكلم عليها الفقهاء والشراح كلاماً كثيراً وممن تكلم عليها ابن القيم رحمه الله بكلام سديد وواسع وجيد يحسن بطالب العلم الرجوع إليه. ولكن كما تقدم معنا مراراً أن لكل مقام مقال وأنه في كتب الفقه تتناول القضية بما يتناسب مع متن من متون الفقه حتى لا نخرج من الفقه إلى شرح الأحاديث. ثم انتقل المؤلف إلى الدعاء الآخر. • فقال رحمه الله: (اللَّهمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِرِضَاكَ مِنْ سَخَطِكَ وَبِعَفْوِكَ مِنْ عُقُوبَتِكَ وَبِكَ مِنْكَ لاَ نُحْصِي ثَنَاءً عَلَيْكَ أَنْتَ كَمَا أَثْنَيْتَ عَلَى نَفْسِكَ، اللَّهمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ). هذا الدعاء جاء عن علي بن أبي طالب عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يدعو بهذا الدعاء. وهذا الحديث صححه المتأخرون. وظاهر تصرف الإمام الدارقطني والإمام أبو حاتم أيضاً تصحيح هذا الحديث فقد ذكروه في العلل ولم يُعِلُّوهُ بشيء. قال: (اللهم إني أعوذ برضاك من سخطك). الرضا والسخط صفتان من صفات الله سبحانه وتعالى ثابتتان في النصوص الصحيحة ويجب الإيمان بهما. وهذا الدعاء من التوسل بأسماء الله وصفاته وهو باب من أعظم أبواب الدعاء.

قال: (وَبِعَفْوِكَ مِنْ عُقُوبَتِكَ).العفو هو: محو الذنب وعدم المؤاخذة عليه. والعقوبة هي: المؤاخذة على الذنب. قال: (وَبِكَ مِنْكَ).هذا من الاستعاذة بالله منه فهو نوع من اللجوء إلى الله والإعلان بالعجز. قوله: (لاَ نُحْصِي ثَنَاءً عَلَيْكَ َأنْتَ كَمَا أَثْنَيْتَ عَلَى نَفْسِكَ). في هذه العبارة رداً للعلم إلى الله سبحانه وتعالى وأن من الثناء على الله مالا يعلمه الخلق وأن الثناء على الله محبوب إليه سبحانه وتعالى. قال: (اللَّهمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ). أي أنه يشرع في دعاء قنوت الوتر أن يختم الإنسان دعاءه بالصلاة والسلام على النبي صلى الله عليه وسلم. والدليل على ذلك: 1 - أنه جاء في بعض ألفاظ حديث الحسن بن علي رضي الله عنه الصلاة والسلام على النبي صلى الله عليه وسلم لكن ذكر الصلاة والسلام على النبي صلى الله عليه وسلم في حديث الحسن رضي الله عنه لو سلمنا حسنه فهي ضعيفة فلفظ الصلاة أضعف من أصل الحديث فلا يثبت أبداً ذكر الصلاة والسلام على النبي صلى الله عليه وسلم في الأحاديث الصحيحة في دعاء القنوت سواء في ذلك الأحاديث الضعيفة أو الأحاديث التي حسنها بعض المتأخرين فإنها على الصواب ضعيفة كحديث الحسن رضي الله عنه. 2 - العمومات. قالوا: أنه جاءت العمومات بالدلالة على أن الصلاة والسلام على النبي صلى الله عليه وسلم يختم بها الدعاء ودعاء القنوت لا يخرج عن أن يكون دعاء وإن كان في الصلاة. والراجح: أن الأمر في هذا واسع. لأنه جاء في بعض الآثار الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم فلو دعا الإنسان ثم ختم بالصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم فهذا فعل مشروع ولا بأس به على أن العز بن عبد السلام يرى أن الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم في دعاء القنوت فعل غير مشروع لكن الأقرب أنه لو فعله الإنسان فلا بأس وإن تركه فلا بأس.

ثم قال: (وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ). آل محمد: لم يرد ذكر الآل في الأحاديث مطلقاً لا الصحيحة ولا الضعيفة ولا في أي رواية مطلقاً لكن استدلوا على ذلك بالعمومات أيضاً أنه إذا ذكر النبي صلى الله عليه وسلم وصلي عليه فإنه يذكر معه غالباً الآل. والصلاة على الآل ذكرها المؤلف وهي مذهب الحنابلة ومروعة عندهم. = والقول الثاني: أن ذكر الآل لا يشرع لأنه لم يرد لا في حديث صحيح ولا ضعيف. • ثم قال رحمه الله: ويمسح وجهه بيديه. = ذهب الحنابلة إلى أن المصلي إذا انتهى من دعاء الوتر فإنه يشرع له أن يمسح وجهه بيديه. ويرون أن مسح الوجه بعد الدعاء مشروع في الصلاة وخارجها. واستدلوا على هذا بعدة آثار عن النبي صلى الله عليه وسلم وعن أصحابه رضي الله عنهم ورد فيها مسح الوجه بعد الدعاء. = والقول الثاني: أن مسح الوجه مشروع خارج الصلاة ولا يشرع داخلها. لأن الآثار التي فيها مسح الوجه ليس فيها تقييد ذلك بالصلاة. = والقول الثالث: أن مسح الوجه لا يشرع لا في الصلاة ولا خارجها. وهو رواية عن الإمام أحمد واختارها شيخ الاسلام. وهذا القول الثالث هو القول الصحيح. لأن الأحاديث كلها ضعيفة. وعليه مسح الوجه لا يشرع لافي الصلاة ولا خارجها. تنبيه: أولاً: أشار البيهقي إلى أن القول بمسح الوجه داخل الصلاة أضعف من القول بمسح الوجه خارج الصلاة. فهذا ينبغي أن يعلم. ثانياً: أحاديث مسح الوجه ذكرت أنها ضعيفة وبناء عليه لا يشرع أن يمسح الوجه لا داخل الصلاة ولا خارجها لكن يجب أن تعلم أن هذه الأحاديث صححت من قبل طائفة من أهل العلم على رأسهم الحافظ بن حجر رحمه الله فإنه يرى أن مجموع الأحاديث حسن. بناء على ذلك التشديد في هذه المسألة فيما أرى ليس بوارد. فباعتبار أن أحاديث مسح الوجه قابلة للتحسين وممن حسنها إمام من الأئمة المتأخرين هو الحافظ رحمه الله وبعض الناس قد يمسح وجهه بعد الدعاء آخذاً بقول الفقهاء فلا يشدد في هذا لقوة الخلاف وإنما يرشد من يمسح إلى أن السنة أن لا يمسح. • ثم قال رحمه الله: ويكره: قنوته في غير الوتر. ينقسم القنوت إلى ثلاثة أقسام: - ولا رابع لها. - القسم الأول: قنوت الوتر. - القسم الثاني: قنوت النوازل.

- القسم الثالث: قنوت الفجر. فمقصود المؤلف بقوله: ويكره: قنوته في غير الوتر: هو قنوت الفجر. أي أنه يريد أن يبين أنه لا يشرع أن يقنت الإنسان في الفجر. = وهذا هو مذهب الحنابلة وهو أيضاً مذهب الأحناف. واستدلوا على هذا: 1 - بالحديث الصحيح عن أنس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قنت شهراً ثم ترك القنوت. 2 - وأنه لو كان النبي صلى الله عليه وسلم والخلفاء الراشدون من بعده يقنتون في صلاة الفجر دائماً وفي كل يوم لكان هذا مما يخفى وينقل نقلاً متواتراً. = والقول الثاني: وهو المشهور عند الشافعية وهو قول للمالكية أنه يشرع أن يقنت الإنسان في صلاة الفجر في كل يوم. واستدلوا على ذلك بحديث أنس رضي الله عنه أنه قال: لم يزل النبي صلى الله عليه وسلم يقنت في الفجر حتى قبض. وهذا الحديث نص في المسألة. إذ لا يمكن أن المقصود في هذا الحديث قنوت النوازل لأنه من المعلوم أنه لم تنزل بالنبي صلى الله عليه وسلم نوازل طيلة حياته. والراجح أن قنوت الفجر ليس بمشروع. وهذا اختيار شيخ الاسلام ابن تيمية. وأما حديث أنس رضي الله عنه فحديث ضعيف وممن ضعفه من الأئمة ابن التركماني رحمه الله - الذي وضع حاشية نفيسة على سنن البيهقي - وأيضاً ابن الجوزي. فهو حديث ضعيف. وكل حديث فيه أن النبي صلى الله عليه وسلم قنت وهو صحيح فإن المقصود به قنوت النوازل كما سيأتينا. أما المداومة على قنوت الفجر الذي ليس بسبب النازلة فليس بمشروع. وكما رأينا هي مسألة خلافية والشافعية والمالكية يرون أن هذا مشروع ويفعلونه في صلاتهم فينبغي أن يعلم طالب العلم أن المسائل التي فيها خلاف أن الأمر فيها واسعه مع وجوب بيان الحق لكن إذا كان ثَمَّ إمام من الأئمة يرى أن هذا هو الحق وأن مذهب الشافعية هو الصواب وقنت فلا تثريب عليه ولا يمنع هذا أن تبين له السنة ولذلك قال شيخ الاسلام يجب على المأموم أن يتابع الإمام في كل ما هو من مسائل الخلاف التي تقبل. ومثله: قنوت الفجر. • ثم قال رحمه الله: إلاّ أن ينزل بالمسلمين نازلة. بدأ المؤلف في الكلام على قنوت النوازل. وقنوت النوازل فيه عدة مسائل:

- المسألة الأولى: تعريف النازلة: النوازل هي: الشدائد التي تنزل بالمسلمين. - المسألة الثانية: = ذهب الجماهير والخلفاء الأربعة ورجحه شيخ الاسلام وابن القيم أن قنوت النوازل مشروع إذا نزلت بالمسلين نازلة. واستدلوا على هذا: بأحاديث كثيرة ثابتة في صحيح البخاري وفي صحيح مسلم منها: - أن النبي صلى الله عليه وسلم قنت شهراً يدعو على أحياء من العرب قتلوا جماعة من قراء الصحابة. فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم أرسل جماعة من القراء في مهمة ثم مروا بهذا الحي من أحياء العرب فاستعدوا لقتالهم فقالوا: إنما بعثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في حاجة فقاموا إليهم وقتلوهم. رضي الله عنهم وأرضاهم. وكان من شأنهم في الدعاء في هذه السفرة التي قتلوا فيها أنهم كانوا يحتطبون في النهار ويبيعون ويأكلون ويقومون الليل فكانوا سادة في العلم والعمل وحفظ القرآن ولذلك شَقَّ على النبي صلى الله عليه وسلم قتلهم فصار يدعو على من قتلهم لمدة شهر كامل. = القول الثاني: أن دعاء النوازل لا يشرع. واعتبروا ما جاء في الأحاديث من قنوت الفجر. والصواب أن قنوت النوازل مشروع والنبي صلى الله عليه وسلم قنت كما جاء في الأحاديث الصحيحة وصح أيضاً عن أبي بكر رضي الله عنه قنت في قتال مسيلمة الكذاب وصح أيضاً أن عمر رضي الله عنه قنت قنوتاً مشهوراً بين العلماء والفقهاء في قتال النصارى. وثبت كذلك أن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قنت في ليلة صفين وفي قتال الخوارج. وثبت أن عثمان رضي الله عنه أيضاً قنت في بعض النوازل. فلا شك مطلقاً في أن قنوت النوازل مشروع ومستحب بلا إشكال. - المسألة الثالثة: أن قنوت النوازل غير واجب بإجماع الفقهاء. • ثم قال رحمه الله: غير الطاعون. أي أنه:= لا يشرع عند الحنابلة أن يقنت إذا كانت النازلة هي الطاعون. والطاعون: مرض معروف فتاك يصيب بطن الإنسان وهو معد عداء شديداً وإذا وقع انتشر بين الناس وسبب موتاً كثيراً. استدل الحنابلة على أنه لايشرع دعاء النوازل إذا وقع الطاعون بين المسلمين بأمرين:

- الأول: أنه لما وقع طاعون عمواس في الشام ومات بسببه خيار وسادات الصحابة لم يقنت عمر رضي الله عنه ولا أحد من الصحابة رضي الله عنهم. - الثاني: أنه ثبت في صحيح البخاري أن من مات بالطاعةن فهو شهيد. فكيف نسأل الله أن يرفع ما هو سبب في الشهادة. = القول الثاني: أن القنوت إذا نزل الطاعون بين المسلمين مشروع. استدلوا على هذا: بأن الطاعون من جملة النوازل التي تنزل بالمسلمين فيشرع له الدعاء والقنوت والابتهال إلى الله بأن يرفعه كما يشرع في باقي النوازل والشدائد التي تنزل بالمسلمين. وفي الحقيقة المسألة فيها قوة وإشكال. لكن الذي يظهر لي بوضوح بعد التأمل أنه لا يشرع والعمدة في هذا فقط هو أن عمر رضي الله عنه مع أنه حزن جداً على الصحابة الذين في الشام وعلى رأسهم أبو عبيدة بن الجراح بل إنه بذل مساعي وحاولات كثيرة في إخراج هذا الصحابي الجليل من الشام مع ذلك كله لم يقنت رضي الله عنه أبداً مع أن هذا الطاعون أضر بجيش المسلمين الذين في الشام. وإذا كان عمر بن الخطاب رضي الله عنه ومعه سادات الصحابة رضي الله عنهم وكبارهم لم يقنتوا مع وجود الطاعون فمن وجهة نظري بلا إشكال أنه لايشرع أن يقنت الإنسان إذا نزل الطاعون. ننتقل من هذه المسألة إلى مسألة أخرى مهمة: هل يشرع قنوت النوازل إذا أصيب الناس بمصائب كونية بتقدير الله؟ كالزلازل والبراكين والفيضانات. أو لا يشرع؟ أيضاً فيه خلاف: لكن على ضوء الكلام عن مسألة الطاعون فالأقرب أنه لا يشرع. إذا ماهو الذي يشرع؟ الجواب: أن الذي يشرع ما كام بيد الإنسان مثل: الحروب. فإنها تقع بسبب الإنسان أما ما كان من الله فإنه لايشرع له قنوت النوازل ولذلك جميع الآثار عن الصحابة فيها القنوت في حال واحدة وهي الحرب والقتال فالنبي صلى الله عليه وسلم لما قتل أصحابه وأبو بكر وعمر وعلي كلهم قنتوا في نوازل الحرب فقط. • قال رحمه الله: فيقنت الإمام في الفرائض. هاتان مسألتان: - المسألة الأولى: = عند الحنابلة: أنه لا يشرع أن يقنت إلا الإمام الأعظم فقط دون غيره إلا إن أذن للناس وأمرهم به. - ونحن نتكلم عن قنوت النوازل.

واستدلوا على هذا: بأن النبي صلى الله عليه وسلم لما نزلت بالمسلمين نازلة وهي قتل القراء قنت هو صلى الله عليه وسلم وقد كان هو صلى الله عليه وسلم الإمام الأعظم. = القول الثاني: وهو رواية عن الإمام أحمد رحمه الله أنه يقنت الإمام الأعظم وإمام الجماعة فقط أي دون المنفرد. = القول الثالث: وهو الرواية الثالثة عن الإمام أحمد رحمه الله واختارها شيخ الاسلام أنه يقنت كل مصلي - لعموم قوله صلى الله عليه وسلم: (صلوا كما رأيتموني أصلي). - ولأن النصوص في قنوت النوازل عامة لم تذكر هذا الشرط أنه لا يقنت إلا إمام المسلمين. والراجح القول الثالث. وهو أنه يقنت كل مصلي على أني أقول: ينبغي أن لايقنت الإنسان إلا في جماعة لأننا لم نجد في النصوص والآثار قنوتاً للمنفردين إنما وجدنا فقط القنوت الجماعي فنقول: يحسن أن لا يقنت إلا إمام الجماعة. لكن لو قنت منفرد في بيته ففي منع ذلك نظر ظاهر لعدم وجود دليل على المنع. - المسألة الثانية: في كل الفرائض: أي أن المشروع أن يقنت الإنسان في جميع الفرائض. والدليل أنه ثبت في صحيح البخاري عن أنس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قنت في الفجر وفي الظهر وفي المغرب وفي العشاء. ماذا بقي؟ القنوت في العصر لكنه ثبت بإسناد صحيح في مسند الإمام أحمد فلم يبق شيء من الفروض الخمسة. - المسألة الثالثة: لا يشرع القنوت في صلاة الجمعة. وقد جاءت آثار عن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم تذم القنوت في الجمعة. التعليل: قالوا: اكتفاءً بالخطبة. فإذا أراد أن يدعو فيدعو في أثناء الخطبة. - المسألة الرابعة: أن النبي صلى الله عليه وسلم قنت في كل الفرائض ولكن كان الأغلب والأعم والأكثر على حاله صلى الله عليه وسلم أنه يقنت في صلاة الفجر. ذكر ذلك شيخ الاسلام وابن القيم. فالآثار فيها أن الغالب على حاله صلى الله عليه وسلم أن يقنت في صلاة الفجر مع جواز القنوت في باقي الفرائض.

وأقول - ينبغي إذا نزلت بالمسلمين نازلة وأراد الإنسان أن يقنت أن يقنت أحياناً في الصلوات السرية حتى يعلم الناس أن القنوت في الظهر والعصر أمر مشروع لاحرج فيه لأن كثيراً من الناس يظن أنه لايشرع القنوت إلا في المغرب والفجر فقط أو في الفجر فقط. نعم. الغالب على حاله صلى الله عليه وسلم الفجر لكن نقول السنة ثبتت في جميع الفروض فينبغي على الإنسان إحياء للسنة أن يقنت أحياناً في الظهر والعصر. انتهى الدرس،،،

قال شيخنا حفظه الله: بسم الله الرحمن الرحيم. الحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين. أما بعد: • قال رحمه الله: والتراويح أي تشرع وتستحب صلاة التراويح. وصلاة التراويح هي: قيام رمضان. والتراويح وقيام رمضان وصلاة الليل والتهجد أسماء لشيء واحد. لكن إن: وقعت في أول الليل سميت تراويح. وإن وقعت في آخر الليل سميت تهجد. وصلاة التراويح مشروعة مستحبة لأحاديث كثيرة نذكر منها: 1 - قوله صلى الله عليه وسلم: (من قام رمضان إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه). 2 - أن النبي صلى الله عليه وسلم خرج على أصحابه ليالي معدودة في رمضان وصلى بهم التراويح. 3 - أن عمر رضي الله عنه جمع الناس على أبي بن كعب في صلاة التراويح. فبعد هذه النصوص لا شك ولا إشكال في مشروعية صلاة التراويح. وبدء المؤلف في بيان أحكام صلاة التراويح. • فقال رحمه الله: عشرون ركعة. وبدأ بذكر عدد صلاة التراويح. = فالمستحب عند الحنابلة والشافعية ..... أن صلاة التراويح تكون عشرين ركعة. استدلوا على هذا بدليلين: - الأول: حديث ابن عباس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى بالناس عشرين ركعة. - الثاني: أن عمر رضي الله عنه أمر أبي بن كعب أن يصلي بالناس عشرين ركعة. فهذا القول هو مذهب الجمهور - الأئمة الثلاثة: أحمد والشافعي وأبو حنيفة. وهذان الحديثان - اللذان استدل بهما الجمهور - ضعيفان. بل إن الأول ضعيف جداً. أما حديث أبي بن كعب فهو ضعيف. = القول الثاني: أن المشروع في صلاة التراويح أن تكون ستة وثلاثون ركعة. وهذا مذهب المالكية.,

استدل الإمام مالك: - بأن هذا هو عمل أهل المدينة القديم. = والقول الثالث: وهو رواية عن الإمام أحمد اختارها شيخ الاسلام وغيره من المحققين: أن كل ذلك حسن فإن صلى عشرين أو ستة وثلاثين أو إحدى عشر أو ثلاثة عشر فكل ذلك حسن. لأن هذا كله جاء عن السلف. - فإذا كثرت الصلاة وتعددت الركعات قصر في القراءة. - وإذا أطال في القراءة قلل الركعات. والأقرب أن الأمر واسع والأحسن أن يصلي إحدى عشرة ركعة لأنه هو المعروف والصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم. وأما القول بأنه لا يجوز للإنسان أن يزيد على إحدى عشرة ركعة فيكاد يكون قولاً شاذاً. قال شيخ الاسلام: ومن ظن أن في السنة تحديد لصلاة التراويح بحيث لا يجوز أن يزيد على هذا العدد ولا ينقص عنه فقد أخطأ أ. هـ. وإن الإنسان ليعجب من القول بأنه لا يجوز للإنسان أن يزيد على إحدى عشرة ركعة وقد كان خيار القرن الثالث والثاني يصلون ستة وثلاثون ركعة. لأن الإمام مالك يقول: هو عمل أهل المدينة القديم أي: كأن هذا العمل من قبل أن يأتي هو نفسه رحمه الله فكيف نقول عن عمل يعمله كبار التابعين والأئمة أنه عمل محرم وأنه لا يجوز أو أنه لا يشرع وقد خالف صاحبه السنة. النبي صلى الله عليه وسلم صلى إحدى عشرة ركعة وأقل وأكثر إذا أثبتنا الثلاثة عشرة ركعة ولم يأت عنه حرف واحد يدل على تحريم الزيادة على هذا العدد. فالخلاصة: أن هذه الرواية التي رجحها شيخ الاسلام هي الرواية الأقرب مع العلم أن الأحسن أن يصلي الإنسان إحدى عشرة ركعة موافقة للسنة الصحيحة التي جاءت عن النبي صلى الله عليه وسلم. • ثم قال رحمه الله: تفعل في جماعة مع الوتر: بعد العشاء في رمضان. ذكر المؤلف رحمه الله عدة مسائل في التراويح: - المسألة الأولى: أن السنة في التراويح أن تفعل جماعة في المساجد. = وهذا مذهب الجماهير والجم الغفير من أهل العلم. استدلوا على هذا الحكم: 1 - بأن النبي صلى الله عليه وسلم صلاها ليالي في المسجد بأصحابه. 2 - وأن عمر جمع الناس عليها. 3 - ما قاله المرداوي في الإنصاف: وعلى هذا عمل الناس في كل عصر ومصر. ونحن لا نستدل بعمل الناس ولكن نستأنس بهذه العبارة.

= والقول الثاني: أن من قوي على صلاة التراويح في بيته فهو أفضل وإن كان في رمضان. وهذا مذهب الإمام مالك. واستدل على ذلك: - بأن النبي صلى الله عليه وسلم صلى ليالي بأصحابه ثم امتنع عن الخروج صلى الله عليه وسلم. والراجح - بلا إشكال - القول الأول - مذهب الجماهير. والجواب على استدلال مالك: أن النبي صلى الله عليه وسلم ثبت عنه في الصحيح التعليل لعدم خروجه وهو أنه خشي أن تفرض على الناس. وهذا القول - قول الجمهور - هو مذهب الحنابلة وهو مذهب الإمام أحمد فقد صح عنه رحمه الله أنه كان يصلي مع الناس ويوتر مع الإمام ولا يقوم حتى يقوم الإمام. ومن أدلة قوة هذا القول: قوله صلى الله عليه وسلم: (من صلى مع الإمام العشاء حتى ينصرف كتب له قيام ليله). وهذا الحديث هو الذي جعل الإمام أحمد رحمه الله يبقى في مكانه حتى يقوم الإمام لأنه فهم من الحديث أن الإنصراف يكون بقيام الإمام. - المسألة الثانية: - في رمضان - يعني أن صلاة التراويح تشرع في رمضان فقط ولا تشرع خارج رمضان لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يصلها إلا في رمضان وكذلك عمر رضي الله عنه. - المسألة الثالثة: أن المشروع للإنسان أن يوتر مع الإمام. وهذا هو مذهب الحنابلة إلا في صورة واحدة فيمن أراد أن يتهجد وسينص عليها المؤلف رحمه الله. ثم قال رحمه الله: ويوتر المتهجد بعده، فإن تبع إمامه: شفعه بركعة. معنى هذه العبارة: أن المشروع للمأموم إذا صلى مع الإمام وفي نيته أن يتهجد من الليل أن المشروع في حقه أن لا يوتر مع الإمام بل يوتر إذا قام. فإن أراد أن يوتر مع الإمام فإنه بعد الوتر يأتي بركعة تشفع وتره ليجعل الوتر بعد تهجده. = إذاً عند الحنابلة: أن المشروع للمأموم إذا صلى مع الإمام التراويح وفي نيته أن يتهجد أن لا يوتر مع الإمام فإن أراد أن يوتر فإنه إذا أوتر مع الإمام شفع وتره بركعة. واستدلوا على ذلك: بقول النبي صلى الله عليه وسلم: (اجعلوا آخر صلاتكم بالليل وتراً). = والقول الثاني: أن المشروع للمأموم أن يوتر مع الإمام وأن لايشفع وتره ولو أراد أن يتهجد. أولاً: لأن هذا فيه مخالفة للإمام.

ثانياً: أن في هذا مخالفة لظواهر الآثار. فإنه لم ينقل أن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم كانوا إذا أوتروا مع إمامهم شفعوا الوتر وقطعاً فإنه سيكون منهم من سيتهجد. ثالثاً: أن هذا مخالف لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (من قام مع الإمام حتى ينصرف كتب له قيام ليله). رابعاً: أنه صح عن أبي بكر رضي الله عنه أنه كان يوتر قبل أن ينام ثم يقوم فيصلي بالليل ولا يعيد الوتر. خامساً: أنه صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان إذا أوتر صلى ركعتين. فهذه خمسة أدلة تدل على ضعف ما ذهب إليه الحنابلة في هذه المسألة. وأن الصواب أن الإنسان يوتر مع الإمام ولو أراد أن يتهجد. بناء على هذا نقول: ما يفعله بعض الناس من أنه إذا سلم الإمام من الوتر قام ليأتي بركعة فإنه غير مشروع ومخالف لظواهر الآثار ومخالف لظواهر النصوص. لكن مع ذلك عرفنا الآن أن هذا هو مذهب الحنابلة وهذا خاص فيمن أراد أن يتهجد. • ثم قال رحمه الله: ويكره: التنفل بينهما. أي يكره للإنسان أن يتنفل بين تسليمات التراويح وقد كره هذا الإمام أحمد رحمه الله ونص على كراهته. ويدل على كراهة هذا الفعل ثلاثة أدلة: - الأول: أنه ثبت عن ثلاثة من الصحابة أنهم كرهوا هذا العمل. - الثاني: أن في التنفل بين التراويح مخالفة لظاهر الآثار عن الصحابة. فإنه لم ينقل أنهم كانوا يقومون للتنفل بين التسليمتين مع أنه ثبت في الحديث الصحيح أنهم يجلسون للإستراحة. - الثالث: أن في هذا مخالفة للإمام. فإذاً نقول كون الإنسان يتنفل بين التسليمات في التراويح فإنه مكروه. فإن فعل صحت صلاته مع الكراهة. • ثم قال رحمه الله: لا التعقيب بعدها في جماعة. أي أنه لا يكره التعقيب بعد صلاة التراويح في جماعة. والتعقيب هو: - أن يرجع المصلون إلى المسجد مرة أخرى ليصلوا. - أو أن يذهب شخص أو جماعة ليصلوا في مسجد آخر مع إمام آخر بعد انتهاء صلاتهم مع إمامهم. فالتعقيب له هاتان الصورتان. حكمه عند الحنابلة: أنه لا يكره. والصواب أن نقول: أن التعقيب ينقسم إلى قسمين: - القسم الأول: إما أن يكون رجوعهم بعد نوم. فهذا لا يكره. وهو رواية واحدة عن الإمام أحمد رحمه الله. فلم ينقل عنه خلاف.

- القسم الثاني: أن يرجعوا قبل النوم: = فهذا لا يكره على المشهور عند الحنابلة. وهو الذي ذكره المؤلف رحمه الله هنا. واستدلوا على ذلك: - اولاً: بأثر أنس رضي الله عنه: (لايرجعون إلا إلى خير يرجونه). - ثانياً: قياساً على التهجد في آخر الليل. = والرواية الأخرى: أن التعقيب مكروه. ولا يشرع. لأنه لم ينقل عن أحد من الصحابة أنه فعل ذلك. بل إذا صلوا التراويح أمسكوا عن الصلاة إلى أن يصلوا التهجد بعد النوم. وهذا القول هو: الصواب. وهو المتوافق مع الآثار عن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم. بناءً على هذا ما يفعله بعض الإخوة إذا صلوا مع إمام يصلي بسرعة وينتهي وكانوا لا يعلمون أنه من الذين ينتهون بسرعة ذهبوا بعهد ذلك إلى مسجد آخر يطيل فيكملون معه الصلاة فصنيعهم هذا يعتبر مكروهاً ومخالف للآثار عن الصحابة. بل إما أن تصلي من الأول مع إمام ترى أنت أن صلاته حسنة وإذا صليت مع إمام ينتهي بسرعة فتكتفي بهذا وإذا أردت المزيد فيكون ذلك بعد النوم. • ثم قال رحمه الله: ثم السنن الراتبة. يعني: يلي الوتر في الفضيلة السنن الراتبة. ولذلك ذكرها رحمه الله. والسنن الراتبة سنة بإجماع الفقهاء ويدل على مشروعية السنن الرواتب أحاديث كثيرة جداً على رأسها ثلاثة أحاديث: 1 - حديث عائشة رضي الله عنها. 2 - وحديث ابن عمر رضي الله عنه. 3 - وحديث أم حبيبة رضي الله عنها. وستأتينا. وقال شيخ الاسلام رحمه الله: من داوم على ترك السنن الراتبة فهو دليل على قلة دينه وينبغي أن لاتقبل شهادته. • ثم قال رحمه الله: ركعتان قبل الظهر. المشروع عند الحنابلة أن يصلي الإنسان ركعتين قبل الظهر وهما من السنن الراتبة التي ينبغي للإنسان أن يداوم عليها. والدليل على مشروعيتهما: - حديث ابن عمر: وهو قوله: حفظت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم عشر ركعات: ركعتين قبل الظهر ثم ذكر باقي السنن الراتبة. وكونه يشرع أن يصلي الإنسان ركعتين قبل الظهر فهذا القدر متفق عليه بين الفقهاء لكن يعارض حديث ابن عمر حديثان: الحديث الأول: حديث عائشة. والحديث الثاني: حديث أم حبيبة. ففيهما أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصلي قبل الظهر أربعاً.

وحديث ابن عمر وعائشة وأم سلمة كلها صحيحة وثابتة ولا إشكال في ثبوتها. لما حصل تعارض في الظاهر بين حديث ابن عمر وحديث عائشة وأم حبيبة انقسم الفقهاء حيال هذا التعارض إلى قسمين: - قسم: رأى الجمع والتوفيق بين الأحاديث. - وقسم: رأى الترجيح بين هذه الأحاديث. - نبدأ بالقسم الأول: وهم الذين رأوا الجمع والتوفيق. 1 - جمعوا بين هذه الأحاديث بقولهم: أن النبي صلى الله عليه وسلم: كان يصلي تارة ركعتين وتارة أربع والغالب عليه أن يصلي أربعاً. وذهب إلى هذا الجمع الإمام الطبري وابن حجر. 2 - قالوا: نجمع بين الأحاديث بأن نقول: إن صلى في المسجد فيصلي ركعتين وإن صلى في بيته فيصلي أربعاً من جنس ما سيأتينا في صلاة الجمعة. وهذه الطريقة في الجمع مال إليها ابن القيم. - ننتقل إلى القسم الثاني: وهم الفقهاء الذين ذهبوا إلى الترجيح. = فالحنابلة: يرون أن الأرجح والمستحب والأفضل أن يصلي الإنسان ركعتين لأنه هو الثابت في حديث ابن عمر. = والقول الثاني: وإليه ذهب الجمهور ترجيح أن يصلي الإنسان قبل الظهر أربعاً لكثرة الأحاديث وصحتها في الصلاة أربع ركعات. - - هذا أولاً في الترجيح. - - ثانياً في الترجيح: أن السنة أن يصلي الإنسان ركعتين وأما الأربع التي في حديث عائشة وأم حبيبة فليست من السنن الراتبة إنما هي صلاة صلاها النبي صلى الله عليه وسلم بمناسبة انتصاف النهار. فعلى هذا القول فكم سيصلي الإنسان قبل الظهر؟ - ست ركعات. وهذا القول هو ما استظهره ابن القيم - فله في المسألة أكثر من قول. نأتي إلى التعليق على الأقوال والترجيح. - أما بالنسبة لقول ابن القيم الأخير فهو فيما أرى قول فيه تكلف عظيم وبعيد كل البعد عن السنة. السبب: - أن عائشة وأم حبيبة تصرحان بأن الأربع متعلقة بصلاة الظهر فيقولان: يصلي قبل الظهر أربعاً. هذا شيء. - الشيء الثاني: أن عائشة وأم حبيبة جعلتا هذه الأربع مع باقي السنن الرواتب: سنة الفجر والظهر والمغرب والعشاء. فكيف نخرج الأربع من السنن الرواتب ونزعم أنها صلاة بمناسبة انتصاف النهار. ففي الحقيقة قوله بعيد ولكن كأنه تفقه قاله ابن القيم.

أما باقي الأقوال: فهي في الحقيقة متقاربة في القوة. والأقرب ما ذهب إليه الطبري أن: السنة للإنسان أن يصلي أربعاً وفي أحيانٍ قليلة يصلي ركعتين. فمن وجهة نظري أن هذا المذهب هو أحسن المذاهب في التوفيق بين النصوص المتعلقة بسنة الظهر القبلية. وبهذا انتهى البحث حول هذه المسألة. • ثم قال رحمه الله: وركعتان بعدها. كون الإنسان يصلي ركعتان بعد الظهر فهذا: = مذهب الجماهير والأحاديث الصحيحة لم تختلف فيه. = وذهب بعض الفقهاء إلى أن السنة أن يصلي أيضاً أربعاً بعد الظهر. استدلوا برواية في حديث أم حبيبة وفيه: (وصلى أربعاً بعد الظهر). أجاب العلماء عن هذه الرواية بأجوبة عديدة نكتفي منها بجواب واحد لأنه لا حاجة لغيره من الأجوبة وهو: أن هذا اللفظ إسناده ضعيف. وهو لفظ منكر. وممن حكم عليه بالضعف الإمام الذهبي وكذلك ابن القطان وعدد من الحفاظ. وإذا كانت هذه الرواية ضعيفة فقد ثبت عندنا الآن أن السنة البعدية لصلاة الظهر ركعتين فقط. • قال رحمه الله: وركعتان بعد المغرب. صلاة ركعتين بعد المغرب لا أعلم فيه خلاف وهو ثابت في جميع الأحاديث الصحيحة بلا روايات ولا خلاف ففي حديث ابن عمر وعائشة وأم حبيبة أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصلي بعد المغرب ركعتين. فلا إشكال في السنة البعدية لصلاة المغرب. • ثم قال رحمه الله: وركعتان بعد العشاء. = صلاة الركعتين بعد العشاء سنة عند الجماهير والجم الغفير من أئمة المسلمين. واستدلوا على هذا بالأحاديث الثلاثة التي ذكرناها ففيها: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصلي ركعتين بعد صلاة العشاء. = والقول الثاني: أن المشروع أن يصلي الإنسان بعد صلاة العشا أربعاً. واستدلوا على هذا: بحديث ابن عباس - وهو في البخاري - أن النبي صلى الله عليه وسلم كان أذا صلى العشاء ودخل منزله صلى أربعاً. فبناء عليه رأى بعض الفقهاء أن المستحب أن يصلي الإنسان سنة العشاء البعدية أربع ركعات. والصواب القول الأول: أن سنة العشاء البعدية ركعتان فقط. والجواب عن حديث ابن عباس أن هذا من صلاة الليل لا من السنن الراتبة. • ثم قال رحمه الله: وركعتان قبل الفجر وهما آكدها.

الركعتان اللتان قبل الفجر محل إجماع من الفقهاء أنهما سنة بل ذهب الحسن البصري إلى أنهما واجبتان لما رأى من عناية الشارع بهما. وقوله: وهما آكدها: أي أن ركعتي الفجر آكد السنن الرواتب وهذا أيضاً محل اتفاق إلا أن نفراً يسيراً من الفقهاء رأى أن ركعتي المغرب آكد من الفجر. لكن جماهير أهل العلم على أن آكد السنن الرواتب هي الفجر. - مسألة: أيهما آكد ركعتي الفجر أو الوتر؟ فيه خلاف: الراجح أنهما في الفضل سواء. وهذا ما يشعر به كلام شيخ الاسلام ابن تيمية. - اعتاد الفقهاء أن يذكروا مع ركعتي الفجر مسألة وذكرها في الروض وهي: - مسألة حكم الاضطجاع بعد ركعتي الفجر. هذه المسألة تشعبت فيها الأقوال فقد ذكر فيها نحو تسعة أقوال. = ذهب الجماهير الأئمة الأربعة واختاره ابن دقيق العيد والصنعاني وعدد كبير من المحققين أن الاضطجاع بعد ركعتي الفجر سنة. واستدلوا: - بحديث: عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا ركع ركعتي الفجر اضطجع على شقه الأيمن. = والقول الثاني: ذهب إليه ابن حزم أن الإنسان إذا صلى ركعتي الفجر ولم يضطجع بطلت صلاة الفجر. = القول الثالث: أن الإضطجاع سنة بعد ركعتي الفجر لمن قام من الليل من الليل فقط. ذهب إلى هذا القول شيخ الاسلام وابن القيم. والصواب مع الجماهير أن الاضطجاع سنة مطلقاً. وبناءً على هذا يستحب للإنسان أن يصلي ركعتي الفجر في البيت فإذا صلاهما يضطجع على يمينه ولو لم يتهجد. أما إذا تهجد ففي الحقيقة يتأكد جداً أن يضطجع. وذكر الإمام أحمد حكمة لمسألة الاضطجاع بعد ركعتي الفجر لمن تهجد وهو البعد عن الرياء. وجهه: أنه إذا اضطجع هذه الاضطجاعة البسيطة أذهبت ما يبدو عليه من السهر والقيام وصار كأنه قام الآن من النوم. وعلى كل حال فإن القول الأول هو أرجح وأقوى الأقوال والقول الأخير يليه في القوة وقول بن حزم شاذ ولا يعول عليه. فائدة: لا يصح حديث فيه الأمر بالاضطجاع إنما الأحاديث الصحيحة فيها حكاية فعل النبي صلى الله عليه وسلم. • ثم قال رحمه الله: ومن فاته شيء منها: سن له قضاؤه.

= ذهب الحنابلة واختاره المجد بن تيمية واختاره شيخ الاسلام وغيرهما من المحققين إلى أن من فاته شيء من السنن الرواتب سن له أن يقضيه وشرع له ذلك. واستدلوا بثلاثة أدلة: - الأول: أن النبي صلى الله عليه وسلم لما نام عن صلاة الفجر وقضاها قضى معها ركعتي الفجر - وهذا حديث صحيح. - الثاني: أن النبي صلى الله عليه وسلم لما شغل عن ركعتي الظهر قضاهما بعد صلاة العصر - وهو حديث صحيح. - الثالث: وهو عموم قوله صلى الله عليه وسلم (من نام عن صلاة أو نسيها فليصلها إذا ذكرها) إذاً المشروع في حق الإنسان إذا فاتته السنن الرواتب أن يقضيها. = الرواية الثانية عن الإمام أحمد أنه لا يشرع قضاء السنن الرواتب إذا فاتت. والراجح القول الأول. تنبيه: ذكر ابن حزم رحمه الله أنه يشرع قضاء السنن الرواتب بشرط أن لا تترك بلا سبب فإن تركت بلا سبب فإنه لا يشرع للإنسان أن يقضيها. إذاً مشروعية القضاء مقيدٌ بأن يكون الترك لسبب أو لعذر فإن تركت لغير سبب فإنه لا تقضى وماذكره ابن حزم رحمه الله صحيح ووجيه. • ثم قال رحمه الله: وصلاة الليل: أفضل من صلاة النهار. انتهى المؤلف من الكلام عن النوافل المقيدة وبدأ بالنوافل المطلقة. ونقف عند هذا .... انتهى الدرس،،،

قال شيخنا حفظه الله: بسم الله الرحمن الرحيم. الحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين. أما بعد: • قال المؤلف - رحمه الله -: وصلاة الليل: أفضل من صلاة النهار. بدأ المؤلف - رحمه الله - الكلام عن النفل المطلق بعد أن أنهى الكلام عن النفل المقيد. فيقول - رحمه الله -: وصلاة الليل أفضل من صلاة النهار: يعني أن صلاة الليل وصلاة النهار المطلقة مشروعة وصلاة الليل أفضل من صلاة النهار أي: وصلاة الليل في النفل المطلق أفضل من صلاة النهار في النفل المطلق. والدليل على ذلك: الدليل الأول: - قوله - رحمه الله -: (أفضل الصلاة بعد المكتوبة صلاة الليل أو قيام الليل). فدل هذا على أن صلاة الليل أفضل.

الدليل الثاني: - تعليل وهو: أن التنفل المطلق في الليل أقرب إلى الخشوع والإخلاص والبعد عن الرياء. وعلق المرداوي - رحمه الله - على هذه المسألة - أن صلاة الليل أفضل من صلاة النهار - فقال: بلا نزاع أعلمه أ. هـ. فهو أمر مجمع عليه عند الحنابلة. • ثم قال - رحمه الله -: وأفضلها: ثلث الليل بعد نصفه. أي أن: أفضل صلاة الليل أن يصلي الثلث الذي يأتي بعد المنتصف وهو الثلث الأوسط. واستدل الحنابلة على هذا: بقوله - رحمه الله - (أفضل الصلاة صلاة داود كان ينام نصف الليل ويقوم ثلثه وينام سدسه). وإذا أردنا تبسيط هذا الحديث فبإمكانك أن تقسم الليل إلى ستة أسداس. فالنبي - صلى الله عليه وسلم - ينام الثلاثة أسداس الأولى وهي التي تشكل النصف الأول ثم يقوم السدس الرابع والخامس وهو الذي يشكل الثلث الثاني ثم ينام السدس الأخير وهو مقصود النبي - صلى الله عليه وسلم - وينام سدسه. إذاً لا يقوم من أسداس الليل إلا في سدسين - رحمه الله - وهما الرابع والخامس. ـ فإن قيل: ألا تكون الصلاة في ثلث الليل الأخير الذي يوافق النزول الإلهي وإجابة الدعاء خير من الصلاة في الثلث الأوسط؟ فالجواب من وجهين: - الوجه الأول: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - صرح وهو المبلغ عن الله أن أفضل الصلاة صلاة داود فهو حكم على أن افضل الصلاة صلاة داود. ذو القعدة الوجه الثاني: أن قيام الثلث الأوسط يوافق الثلث الأخير في سدس. والثلث الأخير هو الخامس والسادس والنبي - صلى الله عليه وسلم - يقوم الرابع والخامس. فيوافق الثلث الأخير في سدس واحد وهو السدس الخامس. فالقيام الذي أثنى عليه - رحمه الله - - وهو قيام داود - رحمه الله - - يوافق نصف الثلث الأخير فحصل المقصود بقيام الثلث الأخير وبالنوم في آخر الليل ليرتاح الإنسان ويستعد لصلاة الفجر ولتحصل فائدة أخرى وهي ما أشرت إليه في الدرس السابق أن من نام بعد القيام قام في الصباح ولا تظهر عليه آثار السهر والصلاة فيبعد بذلك عن الرياء. • قال - رحمه الله -: وصلاة ليل ونهار: مثنى مثنى. صلاة الليل والنهار مثنى مثنى نأخذ هذه العبارة بأجزائها: - الجزء الأول: صلاة الليل.

= فالحنابلة يرون أن صلاة الليل الأفضل والمستحب فيها أن تكون مثنى مثنى. أي أن يسلم من كل ركعتين لقول النبي - صلى الله عليه وسلم - (صلاة الليل مثنى مثنى).فإن زاد على ركعتين جاز مع الكراهة جاز: قياساً على الوتر فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يوتر أحياناً بخمس كما تقدم معنا. مع الكراهة: لمخالفة حديث ابن عمر - رضي الله عنه -. = والقول الثاني: أن صلاة الليل مثنى مثنى لا تجوز ولا تصح لمفهوم حديث ابن عمر - حيث حصر الصلاة في كونها مثنى مثنى. فقال: (صلاة الليل مثنى مثنى). والراجح الجواز وهو مذهب الحنابلة. - الجزء الثاني: صلاة النهار مثنى مثنى. = مذهب الحنابلة أن صلاة النهار مثنى مثنى هي الأفضل والمستحبة فإن صلى في النهار أربعاً أي: فإن زاد على اثنتين جاز بلا كراهة. في مسألة الليل قال الحنابلة: جاز مع الكراهة وفي مسألة النهار جاز بلا كراهة. استدلوا على ذلك بأمرين: - الأمر الأول: أن ابن عمر - كان يصلي في النهار أربعاً. - والأمر الثاني: بقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: (أربع قبل الظهر تفتح لها أبواب السماء). وهذا الحديث رواه أبو داود في سننه وضعفه - رحمه الله -. والدليل على أنه يستحب في النهار أن تكون مثنى مثنى قوله - صلى الله عليه وسلم - في حديث ابن عمر: (صلاة الليل وفي رواية والنهار مثنى مثنى). زيادة والنهار في حديث ابن عمر اختلف فيها العلماء والخلاف فيها قوي لأن الخلاف وقع بين الأئمة الكبار الحفاظ. = فذهب البخاري والبيهقي إلى صحة هذه الزيادة. = وذهب جمهور الأئمة كأحمد وابن معين والنسائي وأبو حاتم والدارقطني وغيرهم إلى أن هذه الزيادة ضعيفة. والصواب مع جمهور الأئمة أنها ضعيفة. لكن الخلاف في صحة وضعف هذه اللفظة خلاف قوي من جهتين: - الأولى: أن الخلاف فيه ليس بين المتقدمين والمتأخرين بل بين المتقدمين. - الثاني: أن المخالف هنا هو البخاري وهو أمير المؤمنين في الحديث وهو يمكن أن يقال عنه أعلم الناس بالعلل بعد علي بن المديني فمخالفة البخاري قضية تستحق التوقف. لكن مع ذلك بعد التأمل الأظهر أنها ضعيفة. فعرفنا الآن حكم الزيادة على ركعتين في الليل وحكم الزيادة على ركعتين في النهار.

• ثم قال - رحمه الله -: وإن تطوع في النهار بأربع كالظهر: فلا بأس. = يعني: أنه يجوز أن يتطوع في النهار بأكثر من ركعتين ويصليها كالظهر أربعاً. وتقدم معنا أن الحنابلة يرون أن هذا جائز بلا كراهة لكن يريد المؤلف أن يضيف هنا أنه إذا أراد الإنسان أن يصلي الظهر أربعاً فإنه يستحب عند الحنابلة أن تكون بتشهدين وهذا معنى قوله كالظهر. دليلهم: لا يوجد أي سنة. لكن قالوا أن هذا أكثر في العمل فهو أفضل وأحب إلى الله. = والقول الثاني: أنه إذا صلى أربعاً في النهار فإنه يستحب أن لا يجلس في الثانية وأن يجلس فقط في الأخيرة لئلا تشبه صلاة الظهر. واستدلوا على هذا: بأنه علم من تصرف الشارع أنه لا يحب أن تشبه النوافل بالفرائض بدليل أنه نهى عن تشبيه صلاة الوتر ثلاثاً بصلاة المغرب وكرهها عدد من السلف. وبهذا علمنا أن الشارع يحب أن لا نشبه النوافل من حيث الهيئة بالفرائض. وهذا القول الثاني هو الصواب. فإذا أراد الإنسان أن يتطوع تطوعاً مطلقاًَ في النهار بأكثر من ركعتين فإنها تكون بتشهد واحد بلا جلوس في الثانية خلافاً للمذهب. • ثم قال - رحمه الله -: وأجر صلاة قاعد: على نصف أجر صلاة قائم. يريد المؤلف أن يبين حكمين: - الحكم الأول: جواز صلاة المرء قاعداً في النافلة ولو بلا عذر. - الحكم الثاني: أنه إذا صلى قاعداً فله نصف أجر القائم. واستدلوا على هذا: بقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: (من صلى قائماً فهو أفضل ومن صلى قاعداً فله نصف أجر القائم). فإذاً عرفنا الآن أنه يجوز للإنسان أن يصلي قاعداً في النافلة ولو بلا عذر وأنه إذا صلى في النافلة قاعداً بلا عذر فله نصف الأجر. ـ مسألة: ويكون له الأجر كاملاً بشرطين: - الشرط الأول: أن يصلي قاعداً بسبب العذر. - الشرط الثاني: أن يكون معتاداً للصلاة قائماً. أي أن تكون من عادته أن يصلي قائماً. فإذا تحقق الشرطان وصلى جالساً ثبت له الأجر كاملاً.

وهذه الشروط فيها خلاف ولا نريد الدخول في الخلاف لكن اشتراط هذين الشرطين هو اختيار شيخ الاسلام وعليه تدل النصوص واستدل على ذلك بقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: (إذا سافر المرء أو مرض كتب له مثل أجره صحيحاً مقيماً).فاشترط الحديث لكتابة الأجر كاملاً أن يكون بسبب أو بعذر. ومثل له في الحديث بالمرض والسفر. ـ مسألة: اختلف الفقهاء في التطوع على هيئة الاضطجاع على قولين: = القول الأول: أنه لا يجوز للإنسان أن يتطوع مضطجعاً. وهذا القول للحنابلة واختاره شيخ الاسلام ابن تيمية. واستدلوا على ذلك بأمرين: - الأمر الأول: أنه لم يرد عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قط أنه تطوع مضجعاً وورد عنه أنه تطوع قاعداً. - الأمر الثاني: أن في هذا إخلالاً بالركوع والسجود ولم يرد في السنة ما يدل على جواز الإخلال بهما ولو في النوافل. ومن المعلوم أنا نتكلم عن حكم مضطجعاً بغير عذر وإلا في العذر فيجوز ذلك حتى في الفرائض. = والقول الثاني: جواز التنفل مضطجعاً ولو بدون عذر. وهو قول لبعض الفقهاء. استدلوا على هذا برواية في حديث عمران ابن حصين جاء في آخره أنه قال: (وصلاة النائم على نصف أجر القاعد). وهذا في البخاري. والصواب: القول الثاني وهو الجواز ومادام في هذه المسألة رخصة من النبي - صلى الله عليه وسلم - فلا مجال للاعتراض وما اختاره شيخ الاسلام في هذه المسألة يعتبر ضعيفاً لمخالفته للنص الصريح الذي في صحيح البخاري. • ثم قال - رحمه الله -: وتسن صلاة الضحى. صلاة الضحى من النوافل التي حث عليها الشارع. وفيها نصوص. ولكن مع ذلك اختلف الفقهاء فيها. = فالحنابلة كما ترون بل الجماهير واختيار عدد من المحققين كابن دقيق العيد والصنعاني وغيرهما أن صلاة الضحى مسنونة مطلقاً. واستدلوا: أي الجمهور على هذا الحكم بأدلة كثيرة منها: - أولاً: حديث أبي هريرة - أنه قال: أوصاني خليلي بثلاث أن أوتر قبل أن أنام وصيام ثلاثة أيام وركعتي الضحى وهذا الحديث في مسلم.

- ثانياً: حديث أبي ذر أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (يصبح على كل سلامى من أحدكم صدقة فتسبيحة صدقة وتحميدة صدقة وتكبيرة صدقة وأمر بمعروف صدقة ونهي عن منكر صدقة ... إلى أن قال: ويجزئ من ذلك ركعتين يركعهما من الضحى). ففي الحديثين الدلالة على المشروعية المطلقة في صلاة الضحى. = القول الثاني: أن صلاة الضحى لا تشرع ولا تسن. استدلوا على ذلك: بحديث عائشة أنها قالت: (لم أر النبي - صلى الله عليه وسلم - يصلي سبحة الضحى وإني لأسبحها). وهذا الحديث صحيح. = والقول الثالث: أن صلاة الضحى مشروعة إذا كانت لسبب فقط. وإلى هذا القول مال ابن القيم واستدل على ذلك: بأنه لم يؤثر عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه صلى الضحى إلا لسبب: - فصلى الضحى مرة في مكة والسبب: فتح مكة. - وصلى الضحى مرة في بيت أحد الصحابة والسبب - عند ابن القيم -: أن هذا الصحابي طلب من النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يصلي في مكان ليتخذه مصلى في بيته. فقال ابن القيم - رحمه الله -: تبين من مجموع النصوص أن صلاة الضحى إنما تشرع إذا كانت لسبب فقط. والراجح: مذهب الجمهور ولا إشكال في رجحانه إن شاء الله لوضوح الأدلة فإن الأدلة صريحة وواضحة جداً في استحباب صلاة الضحى. • قال - رحمه الله -: وأقلها ركعتان. أقل شيء في صلاة الضحى أن يصلي الإنسان ركعتين. الدليل على ذلك: - الدليل الأول: حديث أبي هريرة - أنه قال: (أوصاني خليلي ثم قال: وركعتي الضحى). فدل ذلك على أن أقل ما يتنفل به الإنسان ركعتان. - الدليل الثاني: أنه لا يشرع أصلاً أن يتنفل الإنسان بركعة وأن من صلى نفلاً مطلقاً ركعة فباطلة صلاته. == وهل يشرع أن يتنفل الإنسان بتنفل مقيد ركعة؟ الجواب: نعم. الوتر. وفي هذه المسألة: وهي التنفل بنفل مطلق ركعة واحدة خلاف بين الفقهاء والراجح أنه لا يشرع أن يتنفل الإنسان بنفل مطلق ركعة واحدة لأنه لم يأت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ولا عن كبار الصحابة ولا عن فقهائهم الذين تلوهم كابن عباس وابن عمر ولا عن التابعين أنهم تنفلوا بركعة واحدة. • ثم قال - رحمه الله -: وأكثرها ثمان.

= أكثر ما يمكن أن يتنفل به الإنسان في صلاة الضحى هو ثمان ركعات لأن هذا أكثر ما جاء في السنة. ففي حديث أم هانيء أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما فتح مكة دخل بيتها وصلى ثماني ركعات. = والقول الثاني: أنه لا حد لأكثر صلاة الضحى. لحديث عائشة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يصلي الضحى أربعاً ويزيد ماشاء وهذا حديث صحيح. وهذا القول الثاني اختيار الطبري وهو الصواب لأنه: لا يوجد دليل يدل على تحديد لأكثر صلاة الضحى. • ثم قال - رحمه الله -: ووقتها: من خروج وقت النهي إلى قبيل الزوال. يبدأ وقت صلاة الضحى من خروج وقت النهي وهو يكون: بخروج الشمس وارتفاعها قدر رمح. وينتهي قبيل الزوال أي عندما يقوم قائم الظهيرة. فيما بين الوقتين: وقت لصلاة الضحى. والدليل على ذلك: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - سئل عن الصلاة فقال - رحمه الله - صل الصبح ثم أقصر عن الصلاة حتى تطلع الشمس وترتفع فإنها تطلع حين تطلع بين قرني شيطان وحينئذ يسجد لها الكفار ثم صل فإنه الصلاة محظورة مشهودة ثم إذا قام قائم الظهيرة فأقصر فإنها حينئذ تسجر جهنم) فالحديث وقت الصلاة بالنسبة للصباح فيما بين هذين الوقتين المنهي عن الصلاة فيهما. وبهذا يكون المؤلف قد بين لنا حكم صلاة الضحى وأقل ركعاتها وأكثرها ووقتها. لم يذكر المؤلف الوقت الفاضل لصلاة الضحى. وذكر الفقهاء أن وقتها الفاضل إذا اشتد الحر لقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: (صلاة الأوابين حين ترمض الفصال). ويقصد بالفصال: ولد الناقة الذي انفصل عن أمه حديثاً. أي لم يعد يتعلق بها. فإذا آذت الشمس هذا الحيوان - وهو ولد الناقة - دخل وقت الفضيلة. ثم انتهى المؤلف من بيان أحكام صلاة الضحى وانتقل إلى سجود التلاوة. • فقال - رحمه الله -: وسجود التلاوة: صلاة. سجود التلاوة: من إضافة الشيء إلى سببه أي السجود الذي سببه التلاوة. ويقصد بالتلاوة: تلاوة جزء معين من القرآن - سيأتينا في بيان ما هو في كلام المؤلف - رحمه الله -. = سجود التلاوة عند الحنابلة: صلاة. ومعنى قول المؤلف: (صلاة). أي: أنه يشترط له ما يشترط للصلاة. فلا بد من الطهارة وستر الورة واستقبال القبلة وكل شروط الصلاة.

إذاً فائدة قوله: (صلاة). أي يشترط له ما يشترط للصلاة. وهذه المسألة محل خلاف: = فالحنابلة يرون أن سجود التلاوة صلاة. وهو مذهب الجماهير بل حكي إجماعاً: أنها صلاة. واستدلوا على هذا بأدلة: - أقواها: الأول: قوله - صلى الله عليه وسلم -: (لا يقبل الله صلاة أحدكم إذا أحدث حتى يتوضأ). والسجود جزء من أجزاء الصلاة فقيس عليها. - الثاني: أثر عن ابن عمر - أنه قال: (لايسجد إلا طاهراً). = والقول الثاني: وأشهر من ذهب إليه من السلف وجاء بإسناد صحيح عنه الشعبي وأبو عبد الرحمن السلمي فلا يوجد من السلف غيرهما وأما من المتأخرين فاختاره الصنعاني وشيخ الاسلام ابن تيمية وعدد من المحققين. واستدلوا على ذلك: بأدلة منها: - الأول: أنه لم يأت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - نص صحيح يشترط شروط الصلاة في سجود التلاوة. - والثاني: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قرأ سورة النجم فسجد وسجد معه المسلمون والمشركون والجن والإنس. قال شيخ الاسلام: والمشرك ليس من أهل الطهارة أصلاً. - الثالث: قوله - صلى الله عليه وسلم -: (لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب). وسجود التلاوة لا يشترط فيه أن يقرأ الإنسان بفاتحة الكتاب فدل ذلك على أنه ليس من الصلاة. هذه الأدلة كلها ذكرها شيخ الإسلام ابن تيمية. الراجح: من حيث الأدلة: لا شك أن كلام شيخ الاسلام وما ذهب إليه الشعبي - رحمه الله - وجيه جداً وقوي ويتوافق مع النصوص. أما من حيث الاحتياط لا شك أن الاحتياط في أن لايسجد الإنسان سجود تلاوة إلا وقد استوفى شروط الصلاة. ولذلك يقول الحافظ بن حجر - رحمه الله -: لا أعلم أن أحداً من السلف ذهب إلى هذا المذهب إلا الشعبي ثم قال وقد صح عنه بإسناد صحيح فكون الأئمة الأربعة وعامة العلماء وحكي إجماعاً يرون وجوب تحقيق شروط الصلاة لمن أراد أن يسجد سجود التلاوة فإن هذا يجعل الإنسان يحتاط لكن من حيث الأدلة ما ذكره شيخ الاسلام هو الراجح. • قال - رحمه الله -: ويسن: للقارئ والمستمع دون السامع. يريد المؤلف أن يبين حكم سجود التلاوة فذكر أنه مسنون لشخصين: 1 - القاريء. 2 - والمستمع. - أما القاريء فهو معلوم: هو من يتلو بلفظه القرآن.

- وأما المستمع فهو: من يقصد الاستماع إلى قاريء القرآن في الصلاة وخارج الصلاة. = إذاً عرفنا الآن أن حكم سجود التلاوة عند الحنابلة أنه سنة. استدلوا على هذا يأدلة قوية جداً: - الدليل الأول: ما روي عن زيد بن ثابت - أنه قرأ على النبي - صلى الله عليه وسلم - سورة النجم ولم يسجد وفي رواية قال ولم يسجد منا أحد. فالنبي - صلى الله عليه وسلم - لم يسجد في هذه السجدة صراحة كما قال زيد بن ثابت - رضي الله عنه -. - الدليل الثاني: أن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب - قرأ على المنبر سورة النحل فسجد وسجد معه الناس ثم قرأها في الجمعة التالية ولم يسجد ثم قال - من قرأ سجدة وسجد فقد أصاب وأحسن ومن لم يسجد فلا إثم عليه. وعمر - قال هذا الكلام على المنبر بحضرة سادة الناس وكبرائهم وأصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - ولم ينكر أو يعترض عليه أحد منهم. =القول الثاني: أن السجود واجب. وإلى هذا ذهب شيخ الاسلام بن تيمية وهو قول لبعض الفقهاء. واستدل على هذا بدليلين: - الدليل الأول: أن الله تعالى ذم الذين لا يسجدون في القرآن: {وإذا قريء عليهم القرآن لا يسجدون}.قال شيخ الاسلام: والذم من الشارع لا يكون إلا على ترك واجب: - الدليل الثاني: أن الله سبحانه وتعالى أمر أمراً صريحاً بالسجود في قوله: {واسجدوا لله واعبدوا}. والأمر: الأصل فيه أنه للوجوب. وما ذهب إليه شيخ الاسلام من وجوب سجود التلاة ضعيف أو ضعيف جداً لأن أثر عمر بن الخطاب - ظاهر جداً بأن الصحابة كلهم يرون أن سجود التلاوة مسنون وليس بواجب. وأما الاستدلال بآية الذم فالجواب عليها: أن المذموم في الآية هو: من ترك السجود تكبراً وعناداً فهذا الذي يذم. وأما الجواب عن الآية الأخرى والتي فيها الأمر بالسجود فهو: أن الأوامر تصرف إلى الندب إذا وجدت نصوص أخرى وقد وجدت نصوص أخرى. وهي التي استدل بها أصحاب القول الأول. وبهذا عرفنا إن شاء الله أن الراجح مذهب الجماهير وهو أن سجود التلاوة سنة وليس بواجب. • ثم قال - رحمه الله -: دون السامع. يعني أن سجود التلاوة سنة ومشروع للمستمع ولا يشرع للسامع. = هذا مذهب الحنابلة بل مذهب الجمهور. واستدلوا على هذا:

بأن عثمان بن عفان - قريء عنده القرآن ومر بسجدة ولم يسجد فلما قيل له في ذلك قال: إنما السجود على استمع. وروي نحوه تماماً عن سلمان الفارسي - رضي الله عنه -. وروي نحوه عن ابن مسعود - رضي الله عنه -. والآثار في هذا الباب متواترة وكثيرة وواضحة أن السجود إنما يشرع للمستمع دون السامع. = والقول الثاني: أنه يشرع أيضاً للسامع أن يسجد. واستدلوا على هذا: بأنه جاءت نصوص عامة في أن من استمع السجدة سجد ولا يوجد مخصص للسامع. والراجح مذهب الحنابلة لأنه يوجد مخصص وهي الآثار ونحن أخذنا قاعدة - مراراً وتكراراً - أنه يجب أن نفهم النصوص على ضوء فهم السلف الصالح وأن لا نتفقه في النصوص مجردة. • ثم قال - رحمه الله -: وإن لم يسجد القارئ: لم يسجد. يعني أن مشروعية السجود بالنسبة للمستمع معلقة بسجود القاريء. فإن سجد القاريء سجد المستمع وإن لم يسجد لم يسجد. = هذا مذهب الحنابلة. واستدلوا على ذلك: بأن بعض الصحابة قرأ بحضرة النبي - صلى الله عليه وسلم - ومَرَّ بسجدة ولم يسجد ثم نظر إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - كنت إمامنا ولو سجدت لسجدنا. فهذا صريح أن سجود المستمع معلق بسجود القاريء. هذا الحديث مرسل لكن يصلح للاحتجاج لماذا؟ 1 - لأن مرسله زيد بن أسلم: وهو مولى عمر بن الخطاب - فهو من كبار التابعين ومن ثقات الناس. 2 - الإسناد إلى زيد بن أسلم - أي إلى مرسل الأثر - إسناد صحيح. فهذا المرسل وإن كان لم يثبت مرفوعاً لكنه صحيح. فإذا كان زيد بن أسلم يجزم بوقوع هذه الحادثة ويخبر أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يسجد وقال هذه العبارة وهو من كبار التابعين والإسناد إليه صحيح فإنه يصلح للإحتجاج وهو خير من الرأي المجرد. = والقول الثاني: أن الإنسان يسجد ولو لم يسجد القاريء. أخذاً بعموم النصوص. والصواب مذهب الحنابلة. لأنه هذا الأثر المرسل يصلح للاستدلال. • ثم قال - رحمه الله -: وهو أربع عشرة سجدة في ((الْحَجِّ)) منها اثنتان. يريد المؤلف أن يبين مواضع السجود في القرآن ومواضع السجود في القرآن تنقسم إلى قسمين: القسم الأول: مواضع مختلف فيها بين الفقهاء. القسم الثاني: مواضع متفق عليها بين الفقهاء.

أما القسم الأول: وهي المواضع المختلف فيها بين الفقهاء وهي: ست سجدات: - سجدتا الحج. - وسجدة النجم. - والعلق. - والانشقاق. - وسجدة ص. هذه الست فيها خلاف. - أولاً: سجدتا الحج: اختلف فيها الفقهاء: = فالجمهور ذهبوا إلى أن سجدتي الحج من عزائم السجود التي يسجد لها. واستدلوا على ذلك بأن: عمر بن الخطاب - سجد في سجدتي الحج روي عنه ذلك بإسناد صحيح. وهذا أمر توقيفي لا يأتي به عمر - من رأيه. وهذا هو الصواب - مذهب الجمهور هو الصواب. وهو الراجح ولا نحتاج إلى ذكر الخلاف لكن من المفيد أن تعلم أن الخلاف في السجدة الثانية أقوى وأشد من الخلاف في السجدة الأولى من سجدتي الحج. لكن الصواب أن السجدة الأولى والثانية يشرع فيهما السجود. - ثانياً: سجدات المفصل الثلاث - النجم والانشقاق والعلق -.فهذه السجدات أيضاً فيها خلاف: = فالمذهب: أنه يشرع فيها السجود. واستدلوا على هذا: بأنه صح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في حديث ابن مسعود - وجاء عن أبي هريرة - فيه حديثان وكلها أحاديث صحيحة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - سجد في هذه الثلاث سور. = القول الثاني: أن سجدات المفصل الثلاث ليست من عزائم السجود. استدلوا على هذا بالحديث الذي تقدم معنا وهو حديث زيد بن ثابت أنه قرأ بحضرة النبي - صلى الله عليه وسلم - سورة النجم قال ولم أسجد ولم يسجد أحد منا. قالوا فدل هذا على أنها ليست مكاناً للسجود. والجواب: أن هذا الحديث المقصود منه بيان الجواز وأن السجود سنة وليس بواجب بدليل أن النبي - صلى الله عليه وسلم - سجد في النجم لما سجد هو والمسلمون والمشركون والجن والإنس. فدل هذا على أن حديث زيد يقصد منه بيان أن السجود سنة وليس بواجب. - ثالثاً: سجدة ص. = سجدة ص عند الحنابلة ليست من عزائم السجود. واستدلوا على هذا: بما في صحيح البخاري عن ابن عباس - أنه قال: (ص ليست من عزائم السجود وقد سجد فيها رسول الله - صلى الله عليه وسلم -). = القول الثاني: أن سجدة ص من العزائم. واستدلوا: بأمرين: - الأمر الأول: هذا الحديث. وهو في صحيح البخاري وابن عباس - يصرح أن النبي - صلى الله عليه وسلم - سجد في ص.

وأما قوله هو - أنها ليست من عزائم السجود فالقاعدة تقول: أن المرفوع مقدم على الموقوف وأن فتوى الصحابي لا ينظر إليها مع الحديث الصحيح. - ويؤيد هذا الحديث ويؤكده أن عدداً من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - سجد في ص. والراجح: السجود في ص وإذا كان الراجح هو السجود في ص فالصواب إذاً أن سجدات القرآن خمس عشرة سجدة خلافاً لقول المؤلف هنا: وهو أربع عشرة سجدة. بل الصواب أنها خمس عشرة سجد بإضافة سجدةص. نحن تكلمنا عن كم موضع من القرآن؟ - ستة مواضع. وباقي في القرآن تسع مواضع. فهذه متفق عليها بين الفقهاء وأنها مكان للسجود ولا خلاف فيها ولله الحمد. وبهذا نتوقف على قوله: ويكبر: إذا سجد ... انتهى الدرس،،،

قال شيخنا حفظه الله: بسم الله الرحمن الرحيم. الحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين. • قال رحمه الله: ويكبر: إذا سجد وإذا رفع. بدأ المؤلف رحمه الله من هذا الموضع الكلام عن كيفية سجود التلاوة بعد أن انتهى من الكلام عن حكمه ومواضعه انتقل إلى الكلام عن كيفيته. والكلام في كيفية سجود التلاوة يتفرع إلى فرعين: - الفرع الأول: أن سجود التلاوة صفته كصفة السجود في الصلاة. فيجب أن يسجد على الأعضاء السبعة ويسن أن يجافي وكل ما يقال في سجود الصلاة يقال في سجود التلاوة من حيث الكيفية والهيئة تماماً ومن حيث الدعاء وكل ما سبق ذكره في سجود الصلاة يأتي معنا هنا في سجود التلاوة. قال: ويكبر إذا سجد وإذا رفع: أي أن المشروع لمن أراد أن يسجد للتلاوة أن يكبر إذا سجد ويكبر إذا رفع. = وهذا مذهب الحنابلة - رحمهم الله -. واستدلوا على هذا: بأن ابن عمر رضي الله عنه كان يقرأ مع أصحابه فإذا وصل موضع السجود سجد وسجد معه أصحابه وسجد مكبراً. = والقول الثاني: أن التكبير يشرع في الخفض دون الرفع. لأنه في أثر بن عمر رضي الله عنه ذكر التكبير عند الخفض ولم يذكره عند الرفع. = والقول الثالث: أنه لا يشرع لمن أراد أن يسجد للتلاوة خارج الصلاة أن يكبر.

وهذا قول لبعض الفقهاء واختاره شيخ الاسلام ابن تيمية رحمه الله. واستدل بأدلة كثيرة نأخذ واحداً منها: - وهو: ما ثبت في الصحيحين عن ابن عمر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم (كان إذا مرت به آية سجود سجد وسجدنا معه). ولم يذكر في هذا الحديث الصحيح أنه كان يكبر. إذا لم يأت عن النبي صلى الله عليه وسلم ولا عن أصحابه رضي الله عنهم أنهم كانوا يكبرون فيما عدا ابن عمر رضي الله عنه أنهم كانوا يكبرون إذا أرادوا السجود. فصار هذا لا دليل عليه من الشرع فلا يشرع أن يفعله من أراد أن يسجد للتلاوة. وهذا القول هو الصواب. أنه لا يشرع التكبير لا في الخفض ولا في الرفع. - لو أردنا أن نلتمس لهم دليلاً آخر ماذا نقول؟ أنه سجود التلاوة صلاة. فإذا كان صلاة ففي الصلاة إذا أراد الإنسان أن يسجد أو يرفع كبر. فهم لم يذكروه هذا الدليل لأنه معلوم إذ أن المؤلف قدم بأن سجود التلاوة صلاة. • ثم قال رحمه الله: ويجلس ويسلم ولا يتشهد. هذه ثلاثة مسائل: - المسألة الأولى: أن من أراد أن يسجد للتلاوة فالمشروع له أن يجلس. تعليل الحنابلة: قالوا: لأنه يشرع له أن يسلم ومن أراد أن يسلم فلا بد أن يجلس فجعلوا الجلوس مرتباً على السلام. وسيأتينا بحث السلام لأنه قال: ويجلس ويسلم. - المسألة الثانية: التسليم. إذا عرفنا حكم التسليم فإنا سنعرف حكم الجلوس. = التسليم عند الحنابلة واجب. فإنه يجب على من سجد للتلاوة أن يسلم إذا انتهى. واستدلوا على ذلك: بأن ابن مسعود رضي الله عنه (كان إذا سجد للتلاوة سلم). صحح هذا الأثر من المتأخرين النووي رحمه الله. = والقول الثاني: أن التسليم لا يشرع. والدليل: هو ما سبق: - أن الأحاديث الصحيحة التي فيها سجود النبي صلى الله عليه وسلم ليس فيها أنه يسلم. - وكذلك الآثار عن الصحابة رضي الله عنهم فليس فيها أنهم يسلمون. وهذا اختيار شيخ الاسلام ابن تيمية رحمه الله وقال: هو المعروف عن السلف. وهذا هو الراجح: أنه لا يشرع له أن يسلم. وإذا كان الراجح أن من سجد للتلاوة أنه لا يسلم فالراجح تبعاً لهذا أنه لا يجلس. - المسألة الثالثة: قال: ولا يتشهد. أي أنه:

= لا يشرع لمن سجد سجود التلاوة حتى عند الحنابلة أن يتشهد. واستدلوا على هذا: بأن سجود التلاوة لا ركوع فيه فيقاس على صلاة الجنازة في أن كلاً منهما أنه لايشرع التشهد. هذا الدليل استدل به الحنابلة. = وأما على القول الصواب فنستطيع أن نقول: كما تقدم أن الأحاديث الصحيحة ليس فيها أنه صلى الله عليه وسلم تشهد. وهذا الدليل أقوى من القياس على صلاة الجنازة. فتبين معنا أن قول المؤلف رحمه الله: ويجلس ويسلم ولا يتشهد: الصواب فيه أن لا يجلس ولا يسلم ولا يتشهد. فالصواب في المسألتين: - الأولى. - والثانية. على خلاف ما ذهب إليه المؤلف. • ثم قال رحمه الله: - منتقلاً إلى سجود التلاوة إذا كان في صلاة الجماعة. ويكره: للإمام: قراءَة سجدة في صلاة سر. = يعني: أنه يكره للإمام إذا كان في صلاة سرية أن يقرأ في السورة الثانية سورة فيها سجود. التعليل: قالوا: لأن هذا يربك المأمومين ويدخل عليهم الخطأ إذ قد يظنون أنه سجد ناسياً الركوع. فبناء على هذا قالوا: أنه يكره. = والقول الثاني: أنه لا يكره لأن النصوص عامة لم تفرق بين الإمام والمنفرد ومن لا يصلي فكل النصوص فيها أن من مر بآية سجود فإنه يسجد. في الحقيقة الدليل الذي ذكره الحنابلة دليل صحيح لكن لا يكفي للكراهة لكن هناك دليل آخر ممكن أن يستدل به لم يذكره الحنابلة وهو أني لا أعلم أن النبي صلى الله عليه وسلم ولا أن أصحابه رضي الله عنهم سجدوا في صلاة سرية. فربما يقال أن هذا الدليل يقوي أنه لا ينبغي لكن سبق معنا في كتاب الطهارة مراراً وتكراراً أن قول القائل أنه هذا الشيء مكروه هو عبارة عن حكم شرعي يحتاج إلى دليل. وهل في هذا الباب دليل؟ لا. لا يوجد دليل. ولذلك لا يستطيع الإنسان أن يجزم بالكراهة لكن يستطيع أن يقول: أنه لا ينبغي لما يدخل على الناس من تشويش ولما ذكرت من أنه لم ينقل عن أحد من السلف الصالح ولا عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه سجد في صلاة سرية. • ثم قال الحنابلة: بناء على هذا: وسجوده فيها. يعني: أنه يكره أن يقرأ آية فيها سجود ثم إذا قرأ يكره له أن يسجد. التعليل: هو نفس التعليل: أن هذا يدخل التشويش والارباك على المأمومين.

فالكلام في هاتين المسألتين واحد. لكني أقول: إذا قرأ آية فيها سجود فينبغي أن يسجد بلا كراهة. نعم. نقول: أنه لا ينبغي أن يقرأ لكن إذا قرأ فعلى حسب الخلاف: أنه إما أن يكون واجباً أو سنة. فنقول إذا قرأ فإما أن يجب أو أنه يسن أن يسجد. عكس المذهب تماماً. لماذا؟ لأنه قبل أن يقرأ ربما نقول: لا ينبغي أو ربما نقول يكره كما هو المذهب. لكن إذا قرأ فحينئذ جاءت معنا الأدلة التي تأمر بالسجود وإذا جاء دليل فيه أمر فإنه لا يمكن الخروج عنه إلا بامتثال الأمر ولا يكفي مسألة: أن هذا يشوش على الناس وما شابه هذه التعليلات فإنها لا تكفي في مقابلة النصوص الصحيحة الصريحة. • ثم قال رحمه الله: - مبيناً حكم المأموم. ويلزم المأموم: متابعته في غيرها. يعني أنه: يجب على المأموم أن يتابع الإمام إذا سجد سجود تلاوة في غير السرية وهي الجهرية. دليل الوجوب: قوله صلى الله عليه وسلم: (إنما جعل الإمام ليؤتم به فإذا سجد فاسجدوا) وهذا الحديث عام يشمل السجود الذي هو ركن من أركان الصلاة والسجود الذي هو بسبب التلاوة. ففي هذه الصورة يجب وجوباً على المأموم أن يسجد. عرفنا حكم متابعة المأموم للإمام في الجهرية لكن المؤلف لم يذكر حكم متابعة المأموم في السرية - وكان ينبغي أن يذكر هذا لأنه حكم مستقل تماماً. = فالحنابلة يرون: أنه مخير أي أن المأموم مخير في متابعة الإمام إذا قرأ آية سجود في السرية. دليلهم: قالوا: المأموم في السرية ليس بتال ولا مستمع. وتقدم معنا أن سجود التلاوة يشرع لأحد شخصين: إما أن يكون قارئاً. أو مستمعاً. وهذا المأموم في السرية ليس بقاريء ولا مستمع ولذلك قالوا: هو مخير. إذاً ماذا يصنع؟ - يقف وينتظر الإمام إلى أن ينتهي من السجود ثم يتابع بعد قيام الإمام مع الإمام. عرفنا الآن مذهب الحنابلة وعرفنا دليلهم. = القول الثاني: أنه يجب على المأموم ولو في السرية أن يتابع الإمام. والدليل: قوله صلى الله عليه وسلم: (إنما جعل الإمام ليؤتم به) هل قال النبي صلى الله عليه وسلم في الجهرية؟ أو قال الإمام مطلقاً؟ إنما جعل الإمام ليؤتم به مطلقاً.

وفي الحقيقة أن مذهب الحنابلة في هذه المسألة من وجهة نظري غاية في الضعف وبعيد عن مقاصد الشرع من صلاة الجماعة لأنه فيه مخالفة شديدة للإمام إذا سيسجد الإمام سجدة كاملة ويبقى المأموم في السرية واقفاً وأي شيء أعظم من هذه المخالفة فهي مخالفة كبيرة جداً. إذاً فيما أرى أن مذهب الحنابلة في هذه المسألة ضعيف جداً. والراجح الذي تعضده الأدلة ومقاصد التشريع الخاصة بصلاة الجماعة: أنه يجب أن يتابع في السرية وفي الجهرية. • ثم قال رحمه الله: ويستحب سجود الشكر. انتهى المؤلف من الكلام عن سجود التلاوة وانتقل إلى سجود الشكر وسجود الشكر يقرن دائماً بسجود التلاوة. في الكلام عن سجود الشكر نحتاج إلى الكلام عن مسألتين: - المسألة الأولى: أن سجود الشكر عند الحنابلة صلاة. والخلاف الذي قيل في سجود التلاوة يأتي معنا هنا تماماً بالأدلة والأقوال والترجيح. فلسنا بحاجة إلى أن نعيد الكلام عن مسألة: هل سجود الشكر صلاة أو ليس بصلاة لأنه تقدم نظيره في سجود التلاوة. - المسألة الثانية: حكم سجود الشكر. = ذهب الأئمة الأربعة والجماهير إلى أن سجود الشكر مشروع مندوب إليه في موضعه الذي سيذكره المؤلف. واستدلوا بعدة أدلة: - الدليل الأول: أن النبي صلى الله عليه وسلم لما جاءه كتاب علي رضي الله عنه أن أهل اليمن أسلموا سجد صلى الله عليه وسلم شكراً. - الدليل الثاني: أن كعب رضي الله عنه في قصة الثلاثة الذين خلفوا لما جاءه البشير سجد بحضرة النبي صلى الله عليه وسلم والصحابة رضي الله عنهم. - الدليل الثالث: أن علي بن أبي طالب رضي الله عنه لما وجد في الخوارج ذا الثدية سجد شكراً لله. وهذه الآثار صحيحة. وفي الباب أحاديث وآثار لا تخلوا من ضعف لكن بمجموعها لا يشك الإنسان بأن لسجود الشكر أصل في الشرع. = القول الثاني: أن سجود الشكر لا أصل له ولا يستحب وليس بمشروع. دليلهم: قالوا: بأن النعم ما زالت تتجدد على النبي صلى الله عليه وسلم وعلى الصحابة والسلف ولم يأت حديث صحيح فيه سجود الشكر. والجواب عليه: أن الأحاديث والآثار مجتمعة التي ذكرها الجماهير تصلح للاحتجاج.

فالراجح إن شاء الله أن سجود الشكر مشروع مندوب استدلالاً بهذه الآثار والأحاديث. • قال رحمه الله: عند تجدد النِعم واندفاع النِقم. هذا موضع سجود الشكر عند تجدد نعمة أو اندفاع نقمة. وسواء كانت النعمة خاصة بالشخص أو نعمة عامة له ولغيره أو نعمة عامة للمسلمين. وكذلك نفس الشيء بالنسبة لا ندفاع النقم سواء كان بسبب اندفاع نقمة خاصة به كزوال مرض شدشد أو قدوم غائب على خطر أو نحو ذلك. أو كان اندفاع نقمة تتعلق بجميع المسلمين كانهزام العدو أو رجوع العدو قبل بدء الحرب أو ارتفاع وباء عن المسلمين. وعلمنا من قوله: تجدد: أنه لا يشرع سجود الشكر للنعمة المستمرة لأنه لم يأت لافي نص ضعيف ولا صحيح ولا في أثر ضعيف ولا صحيح أنه سجد لنعمة مستمرة. فإذا فرضنا مثلاً أن شخصاً يهمه الحصول على وظيفة فحصل على هذه الوظيفة فيشرع له أن يسجد لكن في اليوم الثاني والثالث وفي الشهر الثاني والثالث من بدء العمل بالوظيفة ولو سُرَّ بها ورأى أنها منحة عظيمة مع مزاولة وممارسة العمل فإنه لا يشرع له أن يسجد. ونفس الشيء يقال في الزواج والنجاح في الامتحانات فيشرع عند حصولها أو مرة ولا يشرع بعد استمراره. • ثم قال رحمه الله: وتبطل به: صلاة غير جاهل وناس. = إذا حصلت النعمة للإنسان وهو في الصلاة فإنه لا يشرع له أن يسجد بل لا يجوز أن يسجد فإن سجد بطلت صلاته إن كان عالماً جاهلاً. التعليل: أن في هذا السجود زيادة متعمدة في الصلاة. فقد تقدم معنا أن أي زيادة في الصلاة على وجه العمد يبطلها. وهنا زاد سجوداً في الصلاة متعمداً فبطلت صلاته. ويستثنى من هذا إذا كان جاهلاً أوناسياًَ لعموم النصوص التي تدل على عذر الجاهل والناسي. = والقول الثاني: أنه إذا تجددت نعمة وعلم بها وهو في الصلاة فإنه يسجد. واستدلوا: بأن النصوص الدالة على مشروعية سجود الشكر عامة لم تفرق بين كون الإنسان في الصلاة أو خارجها. وأيضاً إذا علم بالنعمة وأخرها إلى ما بعد الصلاة فقد زال موضعها. ويتصور أن يعلم الإنسان بنعمة أثناء الصلاة بأن يبشر مثلاً بمولود وهو في الصلاة أو أن يأتيه خبر مفرح ينتظره وهو في الصلاة فإذاً هو أمر متصور.

الراجح: فيما يظهر لي: أنه لا يشرع فإن سجد بطلت صلاته. التعليل: - أن سجود الشكر أمر خارج عن الصلاة تماماًً فإنه فعل زائد لا تعلق له بالصلاة بوجه من الوجوه وإنما هو سجود مشروع خاص للشكر. - ثم أيضاً لم ينقل عن أحد من الصحابة رضي الله عنهم أنه سجد شكراً لله أثناء الصلاة. وثالثاً: بإمكانه إذا انتهى من الصلاة أن يسجد ويعتبر هذا فاصل يسير بسبب الانشغال بالصلاة فلا يمنع من سجود الشكر إن شاء الله. ثم انتقل المؤلف إلى موضوع جديد وهو أوقات النهي التي نهى الشارع عن الصلاة فيها. • ثم قال رحمه الله: وأوقات النهي خمسة. يقصد بأوقات النهي: الاوقات التي نهى الشارع عن التطوع فيها. وتنقسم التطوعات في أوقات النهي إلى قسمين: - القسم الأول: التطوع الذي ليس له سبب. فالتطوع الذي ليس له سبب إن شرع فيه بالنافلة بطلت لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد). وإن شرع في النفل المطلق قبل دخول وقت النهي ثم دخل عليه وقت النهي وهو في هذا النفل المطلق بطلت أيضاً عند الحنابلة. ومعنى بطلت هنا: أي حرم أن يستمر فيها. واستدلوا: بنفس الدليل. = والقول الثاني: أنه يتم هذه النافلة خفيفة إذا دخل عليه وقت النهي وهو فيها. وإلى هذا القول ذهب المرداوي رحمه الله وقال: وهو الصواب. وما ذكر المرداوي صحيح لأنه شرع في الصلاة في حال يؤذن له أن يصلي فيها فإذا دخل عليه وقت النهي أتمها خفيفة لأن الشارع قد أذن له أصلاً بالدخول فيها والله سبحانه وتعالى يقول: {ولا تبطلوا أعمالكم}. - والقسم الثاني: صلاة التطوعات التي لها سبب وسيأتي الكلام عنها. • قال رحمه الله: (1) من طلوع الفجر الثاني هذا هو الوقت الأول المنهي عن الصلاة فيه وهو من طلوع الفجر الثاني إلى طلوع الشمس. نأخذ في كل وقت: البداية والنهاية. - بداية هذا الوقت: من طلوع الفجر. = وهذا هو مذهب الحنابلة ومذهب الجمهور. واستدلوا على هذا: - بأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا صلاة بعد الفجر إلا ركعتي الفجر).

- وبأن سعيد بن المسيب رحمه الله - وهو أحد الفقهاء السبعة ومن كبار علماء المسلمين - روى مرسلاً عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه لا صلاة بعد الفجر إلا ركعتي الفجر. وقد أخذنا أن مراسيل هذا التابعي الجليل سعيد بن المسيب تعتبر من أصح أو أصح المراسيل. - ثالثاً: في الباب آثار عن الصحابة رضي الله عنهم. فاجتمع حديث مرفوع فيه ضعف وحديث مرسل من أقوى المراسيل وآثار الصحابة. = والقول الثاني: أن النهي لا يبدأ إلا بعد صلاة الفجر لا بعد طلوع الفجر. واستدل هؤلاء بحديث أبي سعيد الخدري المشهور أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا صلاة بعد صلاة الفجر حتى تطلع الشمس). فعلق النهي في هذا الحديث بالصلاة فقال: لا صلاة بعد صلاة الفجر. وإلى هذا القول ذهب شيخ الاسلام رحمه الله وغيره من المحققين وهو قول عند الحنابلة بل هو رواية عن الإمام أحمد. والراجح - والله أعلم - المذهب. يستثنى من النهي ركعتي الفجر وشيء آخر تقدم معنا وهو الوتر لمن لم يوتر. فإذاً القول الراجح أنه إذا طلع الفجر كرهت الصلاة ويستثنى من هذا ركعتي الفجر وصلاة الوتر لمن لم يوتر. ويكون القول الثاني: وهو تعليق النهي بالصلاة قول مرجوح. وجه الترجيح: أن القاعدة تقول: أنه ينبغي الأخذ بمن معه زيادة علم. وفي هذه الآثار والمراسيل والفتاوى زيادة علم على ما في حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه. • - ثم قال رحمه الله: إلى طلوع الشمس. كون وقت النهي يستمر إلى طلوع الشمس محل اتفاق بالاجماع وبلا مخالف لحديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لاصلاة بعد الفجر حتى تطلع الشمس). إذاً تعليق الأمر بطلوع الشمس هذا محل إتفاق بين الفقهاء. • ثم قال رحمه الله - مبيناً الوقت الثاني من الأوقات الخمسة: (2) ومن طلوعها حتى ترتفع قيد رمح. الوقت الثاني: يبدأ من طلوع الشمس حتى ترتفع قيد رمح. ومعنى قيد: أي قدر. أي ترتفع قيد رمح. وقد اجتهد بعض الفقهاء في تقدير الرمح فقال: قدره تقريباً ستة أذرع. والتقدير يكون برأي العين أو بما تراه العين. يعني: أن ينظر الإنسان إلى الأفق فإذا كان بين الشمس والأرض قدر ستة أذرع وهو ما يوازي الرمح فحينئذ خرج وقت النهي.

وهي ما بين العشر والخمسة عشر دقيقة. فمن طلوعها حتى ترتفع قيد رمح هذا وقت نهي. = وهذا مذهب الجماهير. الدليل: حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه (لاصلاة بعد صلاة الفجر حتى ترتفع الشمس). فعلقه بارتفاع الشمس. وفي حديث عمرو بن عبسة: قال (صل الصبح ثم أقصر عن الصلاة حتى تطلع الشمس وترتفع) وفي رواية (حتى ترتفع قدر رمح). فهذه الرواية لحديث عمرو بن عبسة صرحت بهذا الضابط وهو أن يكون الارتفاع بقدر الرمح. =والقول الثاني: أن وقت النهي ينتهي بمجرد طلوع الشمس لحديث أبي هريرة رضي الله عنه (حتى تطلع الشمس) والراجح مذهب الجماهير. • ثم قال رحمه الله: (3) وعند قيامها حتى تزول. وهذا هو الوقت الثالث. ويبدأ من قيام الشمس حتى تزول. الدليل عليه: حديث عقبة بن عامر رضي الله عنه أنه قال: (ثلاث ساعات نهانا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نصلي فيهن وأن نقبر فيهن موتانا حين تطلع الشمس حتى ترتفع وحين يقوم قائم الظهيرة حتى تزول وحين تضيف الشمس حتى تغرب). فهذه الثلاث ساعات ستأتي معنا. والساعة التي الحديث عنها الآن عند قيام الشمس حتى تزول. معنى قيام الشمس: هو توقف نقصان الظل إلى أن يظهر من جديد. وتقدم معنا في الأوقات أن الشمس إذا طلعت صار للشاخص ظل وأن هذا الشاخص لا يزال في نقصان ما دامت الشمس ترتفع فإذا صارت في كبد السماء توقف النقصان فترة ثم بعد الزوال يبدأ بالزيادة. فما بين التوقف والزيادة هو وقت النهي. ولذلك يقول رحمه الله: وعند قيامها حتى تزول وهو كما تقدم معنا في درس الأمس نحو عشر دقائق. = عرفنا الآن مذهب الحنابلة وهو أن وقت النهي الثالث عند قيام الشمس حتى تزول وأن دليله حديث عقبة بن عامر رضي الله عنه. = القول الثاني: أنه يستثنى من هذا الوقت يوم الجمعة. فلا ينهى عن الصلاة عند قيام الشمس حتى زوالها. وهو قول لبعض الفقهاء واختاره من المحققين شيخ الاسلام رحمه الله. الدليل: قال: أن النبي صلى الله عليه وسلم حث على الصلاة يوم الجمعة إلى حضور الإمام والإمام يحضر بعد الزوال. وهذا يؤدي إلى استمرار الصلاة في وقت النهي.

الدليل الثاني: - وهو أقوى - أنه ثبت عن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أنهم صلوا صلاة الجمعة قبل الزوال فسيأتي وقت النهي وهم يصلون صلاة الجمعة فإذا جازت صلاة الجمعة فغيرها من باب أولى. ويتبين من هذا أنه ليس بوقت للنهي في يوم الجمعة. وهذا هو الصواب فللإنسان في يوم الجمعة أن يتنفل ولو دخل عليه وقت النهي إلى أن يحضر الإمام لظواهر النصوص والآثار عن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم. • ثم قال رحمه الله: (4) ومن صلاة العصر إلى غروبها. من صلاة العصر إلى غروب الشمس وقت نهي لقول النبي صلى الله عليه وسلم في حديث أبي سعيد: (لا صلاة بعد صلاة العصر حتى تغرب الشمس). وعلمنا من هذا الحديث أن النهي معلق بالصلاة لا كما في الفجر معلق بدخول وقت الصلاة. فينهى الإنسان عن الصلاة بعد صلاة العصر. - مسألة: ينهى الإنسان عن الصلاة بعد صلاة العصر ولو صلاها جمع تقديم مع الظهر. لأن الشارع الحكيم علق النهي بأداء صلاة العصر. - ويستثنى من هذا مسألة واحدة وهي سنة الظهر البعدية فيصليها ولو بعد العصر. - مسالة: إذا صلى العصر فإنه ينهى عن الصلاة ولو كان غيره لم يصل بعد. (ومن صلاة العصر إلى غروبها. وهو الوقت الرابع ثم بدأ بالوقت الخامس: • فقال رحمه الله: (5) وإذا شَرَعَت فيه حتى تتم. الوقت الخامس يبدأ: من شروع الشمس بالغياب إلى أن تستتم غائبة. = وهذا هو المذهب وهو إحدى الروايتين عن الإمام أحمد رحمه الله. والدليل على هذا: حديث ابن عمر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا غاب حاجب الشمس فأمسكوا عن الصلاة حتى تغيب الشمس). إذاً متى يبدأ الوقت الخامس؟ إذا شرعت الشمس في الغياب إلى أن تغيب. = الرواية الثانية: أن الوقت الخامس يبدأ من: اصفرار الشمس. وهو رواية عن الإمام أحمد واستدلوا: بحديث عقبة بن عامر رضي الله عنه - السابق - وفيه: وإذا تضيفت الشمس حتى تغيب. ومعنى تضيفت: أي مالت للغروب. وهذا يحصل إذا اصفرت الشمس. وإذا أردنا أن نعمل قاعدة من معه زيادة علم يؤخذ بما معه من الزيادة فأي الروايتين تكون الراجحة؟ - الرواية الثانية. لماذا؟ - لأن وقتها أوسع. وأيهما يأتي أولاً اصفرار الشمس أو بداية الغياب؟ - اصفرار الشمس.

فالأقرب والله أعلم الرواية الثانية - على أن الأمر واسع لأنه من صلاة العصر إلى غروب الشمس وقت نهي لكن مع ذلك يجب أن تعرف الراجح لأنه سيأتينا الآن أن الأوقات الخمسة منها ما تحريم الصلاة فيه شديد ومنها ما تحريم الصلاة فيه أخف. فالأوقات الطويلة: وهي من بعد صلاة العصر ومن بعد صلاة الفجر التحريم فيها أخف. والأوقات القصيرة: وهي الأوقات الثلاث التحريم فيها أشد. فليس الأمر كما يظن بعض الإخوة أن تفصيل الأوقات تحصيل حاصل بل هذا يرجع إلى وجود التحريم الأشد في القصير والأخف في الطويل. • ثم قال رحمه الله: ويجوز: قضاء الفرائض فيها. بدأ المؤلف الآن في الكلام عن المستثنيات أي فيما يستثنى من الصلوات التي يجوز أن تفعل في الأوقات الخمسة. = فيجوز عند الجماهير للإنسان أن يقضي الفرائض في الأوقات الخمسة. لعموم قول النبي صلى الله عليه وسلم: (من نام عن صلاة أو نسيها فليصلها إذا ذكرها) فهذا الحديث عام يشمل إذا ذكرها في وقت النهي أو في خارج وقت النهي. والحقيقة من وجهة نظري الخلاف في هذه المسألة ضعيف. ولذلك نكتفي بقول الجماهير وهو أن قضاء الفرائض في الأوقات المنهي عنها جائز. • ثم قال رحمه الله: وفي الأوقات الثلاثة: وفعل ركعتي الطواف. الأولى من حيث النسخ حذف الواو فإنه يقول هنا أن في نسخة واحدة وهي نسخة (ب) يوجد: الواو. والأحسن والأفقه فيما أرى حذف الواو فتكون العبارة: وفي الأوقات الثلاثة فعل ركعتي طواف. يعني: أنه يجوز في الأوقات الثلاثة أن يصلي الإنسان ركعتي الطواف. والمقصود بالأوقات الثلاثة: أي الأوقات القصيرة المذكورة في حديث عقبة بن عامر رضي الله عنه. ومقصود المؤلف أنها تجوز في الأوقات الثلاثة وفي غيرها لأنه إذا جازت في الأوقات الثلاثة مع أنها أشد تحريماً فلأن تجوز في الوقتين الطويلين من باب أولى. قال: وفي الأوقات الثلاثة: وفعل ركعتي الطواف: يعني: أنه يجوز للإنسان أن يصلي ركعتي الطواف في أوقات النهي جميعاً. والدليل على ذلك: - قول النبي صلى الله عليه وسلم: (لا تمنعوا أحداً طاف بهذا البيت وصلى في أي ساعة من ليل أونهار) هذا الدليل الأول.

- الثاني: أنه ثبت عن عدد من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم الصلاة في أوقات النهي. • ثم قال رحمه الله: وإعادة جماعة. يعني أنه لا ينهى الإنسان عن أن يصلي مع الجماعة الثانية إذا كان صلى قبل أن يحضر إلى هذا المسجد. وبعبارة أخرى: إذا صلى الإنسان ثم إذا حضر إلى مسجد بعد أن صلى فإنه يشرع له أن يصلي مرة أخرى مع الجماعة ولو في وقت نهي. لما رواه يزيد بن الأسود أن النبي صلى الله عليه وسلم: (صلى صلاة الصبح ثم رأى رجلين لم يصليا فقال ما منعكما أن تصليا مع الناس قالا: يا رسول الله صلينا في رحالنا فقال النبي صلى الله عليه وسلم: لا تفعلا إذا صليتما في رحالكما ثم أتيتما مسجد جماعة فصليا تكن لكما نافلة). فهذا الحديث فيه دليل على أنه يشرع للإنسان أن يصلي مع الجماعة إذا أتى المسجد وإن كان قد صلى قبل ذلك. وعللوا بتعليل آخر وهو: أنه ينبغي أن يصلي معهم لأن لا يجلب التهمة إلى نفسه لأن من رآه يظن أنه لم يصلي. وهذا مقيد بما إذا حضر المسجد ودخله فإن لم يدخل للمسجد فإنه لا يعيد الجماعة لهذا وقت النهي لا زال باقياً في حقه لكن إذا دخل المسجد فإنه يريد الجماعة. ثم ذكر المؤلف رحمه الله المسألة الأخيرة. • فقال رحمه الله: ويحرم: تطوع بغيرها في شيء من الأوقات الخمسة، حتى ما له سبب. يعني: أن أية تطوع ... (الآذان) ... قال شيخنا حفظه الله: نذكر مسألة صلاة ذوات الأسباب على وجه الاختصار نختم بها الباب (ثم نجيب على الأسئلة). = ذهب الجماهير إلى أن صلاة ذوات الأسباب منهي عنها في أوقات النهي. وتعريف الصلوات ذوات الأسباب هي الصلوات التي تفوت وتذهب المصلحة المترتبة عليها إذا أخرت. هذا تعريفها الصحيح ولا نريد أن تدخل في الخلاف في تعريفها. وهذا التعريف هو اختيار شيخ الاسلام وهو الذي تدل عليه النصوص. واستدل الجمهور: - كما هو واضح - بعموم الأدلة الناهية عن الصلاة في أوقات النهي - الأحاديث التي تقدمت معنا: حديث أبي هريرة وحديث أبي سعيد وحديث عقبة. فهذه الأحاديث عامة. = والقول الثاني: أنه تجوز الصلوات ذوات الأسباب في أوقات النهي. واستدلوا بأدلة كثيرة نكتفي منها باثنين:

الدليل الأول: أن عموم الأحاديث الآمرة بالصلوات ذوات الأسباب عموم محفوظ كما أمر النبي صلى الله عليه وسلم بتحية المسجد مثلاً. وأما عموم الأحاديث التي تنهى عن الصلاة في أوقات النهي فهي مخصوصة بالإجماع إذ يوجد صور أجمعوا على تخصيصها. والقاعدة تقول: أن العموم المحفوظ مقدم على العموم المخصص. بل سيأتيكم في أصول الفقه أن العموم المخصص في الاستدلال به خلاف. لكن نحن لا نريد أن ندخل في هذه المسألة لكن نذكر القاعدة. الدليل الثاني: أن الصلوات ذوات الاسباب بعضها مخصص بالنص كركعتي الطواف وبعضها مخصص بالنص والإجماع كصلاة العصر قبل غروب الشمس. وإذا تأملنا في الصلوات المخصوصة بالنص أو بالإجماع وبحثنا عن سبب التخصيص لم نجد سبباً يعلق به الحكم إلا أنها ذات سبب فعلقنا الحكم بالسبب. (- إذاً لما تتبعنا النصوص التي فيها استثناء الصلوات المخصوصة بالنص أو بالإجماع ثم نظرنا في العلة والمناط الذي يمكن أن نربط به الحكم لم نجد بعد البحث مناطاًَ يربط به الحكم إلا أنها ذوات سبب فعلقنا الحكم به. هذان دليلان من أقوى أدلة شيخ الاسلام والمسألة مسألة مشكلة والخلاف فيها قوي والجماهير من السلف ومن بعدهم على المنع ولكن مع ذلك أقول الراجح والله أعلم ما ذهب إليه شيخ الاسلام بوجود نصوص تستثني الصلوات ذوات الأسباب - عدداً منها فقيس عليها ما عداها. فالراجح إن شاء الله أن الإنسان إذا توضأ لا بقصد الصلاة فإنه يصلي ركعتي الوضوء وإذا دخل المسجد لا بقصد الصلاة فإنه يصلي تحية المسجد. أما التحايل على الشرع بأن يقصد الإنسان أن يتوضأ ليصلي أو أن يدخل إلى المسجد ليصلي فإنا أرى أن هذا غير مشروع وإن بعض أهل العلم يرى أن هذا مشروع ومقبول لكني أرى أن هذا لا يشرع لأن الشارع الحكيم يحب أن لا نصلي في هذا الوقت لكن إذا عرض سبب عارض جازت الصلاة حينئذ. انتهى الدرس،،،

باب صلاة الجماعة

باب صلاة الجماعة قال شيخنا حفظه الله: بسم الله الرحمن الرحيم. الحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين. • قال رحمه الله: باب صلاة الجماعة عقد المؤلف هذا الباب للكلام عن أحكام صلاة الجماعة وللشارع الحكيم سبحانه وتعالى عناية فائقة جداً بصلاة الجماعة. وأجمع العلماء من عصر سادات الناس وهم الصحابة إلى يومنا هذا على مشروعية صلاة الجماعة وأنها محبوبة إلى الشارع. كما أجمعوا على أن صلاة الجماعة إذا تركها أهل بلد بكاملهم قوتلوا. وممن حكى الإجماع على المسألتين: ابن هبيرة رحمه الله. وصلاة الجماعة شرعت لفوائد عظيمة لا تخفى على الإنسان: - فمنها: التآلف والأخوة والإنسجام. - ومنها: إعانة الإنسان على الصلاة لأنه إذا التزم بصلاة الجماعة صار يؤدي الصلاة بوقتها وبشروطها. - ومنها: نصح المتخلف فإذا تخلف الإنسان عرفنا أنه لم يصل فنصحناه ولا يمكن أن نعرف هذا إلا إذا كان الناس يصلون جماعة. والله سبحانه وتعالى شرع على عدة أنواع: - فهي مشروعة تارة في اليوم والليلة: كالصلوات الخمس. - وتارة في السنة: كصلاة العيد. - وتارة إذا وجد السبب: كصلاة الكسوف. فشرعها على أنواع كثيرة وهذا يدل على زيادة العناية والاهتمام من الشارع. وقد شرع المؤلف رحمه الله ببيان الحكم كما هي عادة الفقهاء. • فقال رحمه الله: تلزم الرجال: للصلوات الخمس لا شرط. يريد المؤلف أن يبين أن صلاة الجماعة واجبة على الأعيان. = وهذا مذهب الحنابلة وأكثر الحنفية والأوزاعي وأبي ثور وابن خزيمة وغيرهم من أئمة فقهاء الحديث. (وسنذكر في هذه المسألة الأقوال ثم الأدلة) = والقول الثاني: أنها شرط لصحة الصلاة وإلى هذا ذهب داود وابن حزم وشيخ الاسلام بن تيمية وابن عقيل وابن أبي موسى وغيرهم من الفقهاء. = القول الثالث: أنها فرض كفاية. وإلى هذا ذهب الشافعية. = والقول الرابع: أنها سنة وإلى هذا ذهب المالكية. تنبيه: (ذكر شيخ الاسلام أن المالكية لا يريدون بقولهم سنة أنها سنة مطلقاً بحيث لا يؤاخذ الإنسان على تركها بل يرون أنها سنة متأكدة يصلون بها إلى ما يقارب الوجوب) هكذا قال رحمه الله وعلى كل حال أنتم الآن عرفتم رؤوس الأقوال وهي أربعة. نرجع إلى الأدلة. == استدل الحنابلة وفقهاء الحديث بأدلة كثيرة: - الدليل الأول: قوله سبحانه وتعالى: {وإذا كنت فيهم وأقمت لهم الصلاة فلتقم طائفة منهم معك}.

وجه الاستدلال: أن الله سبحانه وتعالى أمر بصلاة الجماعة في حال الخوف والحرب فدل على أنها واجبة فمن باب أولى أنها تجب في حال الأمن. - والدليل الثاني: الحديث الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لقد هممت أن آمر بالصلاة فيقام لها ثم آمر رجلاً فيصلي بالناس ثم آمر رجالاً فيحتطبوا فأخالف إلى أناس لا يشهدون الصلاة فأحرق عليهم بيوتهم). وهذا الحديث يسمى عند الفقهاء بحديث التحريق. - الدليل الثالث: أن رجلاً أعمى استأذن النبي صلى الله عليه وسلم في أن لا يأتي إلى صلاة الجماعة لعذره فأذن له فلما ولى قال له النبي صلى الله عليه وسلم أتسمع النداء قال نعم. قال: فأجب. وهذا في صحيح مسلم. - الدليل الرابع: الأثر الصحيح الثابت عن ابن مسعود رضي الله عنه أنه قال: (لقدر رأيتنا وما يتخلف عنها إلا منافق بين النفاق) نسأل الله العافية والسلامة. فجعل التخلف عن صلاة الجماعة من علامات النفاق وهذا دليل على الوجوب وأن التارك آثم. == واستدل القائلون: بأنها شرط لصحة الصلاة بـ: - قول النبي صلى الله عليه وسلم: (من سمع النداء فلم يجب فلا صلاة له إلا من عذر). - وبقول النبي صلى الله عليه وسلم: (لاصلاة لجار المسجد إلا في المسجد). والصواب أن هذه الأحاديث موقوفة: - الأول: موقوف على ابن عباس. - والثاني: ............................. . وإذا كانت هذه الآثار موقوفة فلا دليل فيها على بطلان صلاة من صلى في بيته كما ذهب إليه الظاهرية وشيخ الاسلام. ويجاب عن الحديث فيما لو صح بأنه محمول على من لا عذر له. == بقينا في دليل الشافعية: - الذين يرون أنها فرض كفاية: استدلوا بـ: - حديث ابن عمر رضي الله عنه - المشهور - أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (صلاة الجماعة تفضل صلاة الفذ أو الفرد بسبع وعشرين درجة). ( ...... ) الصحيحين. قالوا: والتفضيل يدل على الجواز يعني على جواز صلاة الرجل في بيته. والجواب: أن الحديث غاية ما يدل عليه أنه يدل على صحة صلاة المنفرد ولا يدل على شيء أكثر من ذلك. والقاعدة تقول: ((أن المفاضلة لا تعني جواز الأمرين المفاضل بينهما)). == واستدل المالكية: بـ: - بالحديث نفسه - حديث ابن عمر السابق -.

- وبالحديث الذي تقدم معنا أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى الفجر ثم أوتي برجلين فقال ما منعكما أن تصليا قالا صلينا في رحالنا. وجه الاستدلال: أن النبي صلى الله عليه وسلم لم ينكر عليهما أنهما صليا في رحالهما. والجواب: الأول: أن هذا الحديث لا يدل على عدم وجوب صلاة الجماعة لأن الرجلين صليا في رحالهما جماعة. وأما مسألة المسجد فسينص عليها المؤلف وسنتحدث عنها. يعني: كون الجماعة تكون في المسجد فهذه مسألة أخرى. فالحديث لا يدل على أنهما لم يصليا بل صليا جماعة. والثاني: أن هذه قضية عين تحتمل أن لهما عذراً. والقاعدة المهمة التي يجب أن يفهمها طالب العلم ويطبقها في النصوص: ((أن الأحاديث المحكمة التي تنص على الأحكام نصاً لا تدرك للأحاديث المحتملة)). فالأحاديث التي تدل على وجوب الصلاة جماعة صحيحة وصريحة وقوية. وهذا النص نص محتمل وفي بعض الروايات أن القصة وقعت في منى أي في الحج فيحتمل أن هذين الرجلين جاهلان وإذا تطرق الاحتمال للدليل بطل الاستدلال به. == الراجح: - الراجح بلا إشكال ولله الحمد: وجوب صلاة الجماعة في المساجد حيث ينادى بهن. ونقول كما قال الحافظ الفقيه الكبير - ابن رجب رحمه الله: جميع الأجوبة التي أجيب بها على حديث التحريق أجوبة ضعيفة لا تقوى على مصادمة النص. - هذا معنى كلامه رحمه الله. وقد ذكر الحافظ بن رجب رحمه الله كلاماً نفيساً جداً عن هذه المسألة والاستدلال بحديث التحريق وتقرير أن صلاة الجماعة واجبة. وينبغي على طالب العلم أن يفهم هذه المسألة ويدرك الأدلة والاستدلال والجواب على أدلة الأقوال الأخرى لينشر هذا الحق وهو وجوب صلاة الجماعة. فإنا نلحظ على كثير من الناس التهاون فيها فتجد المسجد الذي بجواره عشرات بل أحياناً أكثر من الناس لا يصلي فيه إلا صف واحد. ثم نجد أن بعض الناس قد يذهب إلى ترجيح السنية أو فرض كفاية. وهي أقوال بعيدة عن نصوص الشرع وأصوله. وهذه الأمور مجتمعة تحتم على طالب العلم أن يدرك هذه المسألة أدراكاً جيداً ويفهم الأدلة ومن قال بالوجوب ومن قال بالسنية. • ثم قال المؤلف رحمه الله تعالى: تلزم الرجال: للصلوات الخمس لا شرط.

يعني أنها واجبة على الأعيان إلا أنها ليست بشرط لصحة الصلاة وتقدم معنا الكلام عن هذه المسألة وأن أحد الأقوال أنها شرط وقد قدمت القول بأن الجماعة شرط لصحة الصلاة حتى تجتمع الأقوال والأدلة في موضع واحد. إذاً قول المؤلف رحمه الله: لا شرط أي: أنها ليست بشرط لصحة الصلاة خلافاًَ لمن ذهب إلى ذلك وتقدم معنا من هم؟ وما أدلتهم؟ وما الجواب عليها؟ • ثم قال رحمه الله: وله فعلها في بيته. أي أن صلاة الجماعة هي في حد ذاتها واجبة فإن شاء فعلها في بيته وإن شاء فعلها في المسجد. = وهذا هو المذهب وهو إحدى الروايتين عن الإمام أحمد رحمه الله. واستدلوا: - بالحديث السابق: أن الرجلين قالا صلينا في رحالنا ولم ينكر عليهما النبي صلى الله عليه وسلم. وتقدم معنا الجواب على هذا: وهو أنه حديث يحتمل أشياء كثيرة. = الرواية الثانية عن الإمام أحمد رحمه الله وجوب أداء الجماعة في المسجد. واستدل الذين نصروا هذه الرواية بأدلة منها: - الدليل الأول: أثر ابن مسعود رضي الله عنه - المشهور - (أن الله شرع لكم سنن الهدى وإنهن من سنن الهدى - أي الصلوات الخمس - فصلوهن حيث ينادى بهن). فقوله: (حيث ينادى بهن): دليل على وجوب الصلاة حيث المناداة والأذان إنما ينطلق من المسجد. - والدليل الثاني: قوله رضي الله عنه - الذي تقدم معنا -: (لقد رأيتنا وما يتخلف عنها - أي في المسجد - إلا منافق). - الدليل الثالث: حديث التحريق هذه الحديث العظيم المفيد. ووجه الاستدلال به: أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يسأل الذين تخلفوا هل كانوا يصلون جماعة في بيوتهم أو لا؟ وإنما هم بالتحريق مباشرة صلى الله عليه وسلم. - الدليل الرابع: أنه لو قيل بأن صلاة الجماعة في المساجد سنة وأنها ( ..... ) تكون في البيوت لأدى هذا إلى تعطيل بيوت الله وهجرها. إذ أنا نرى الناس مع معرفتهم بالوجوب يتركون الصلاة فكيف لو قيل بالسنية فستترك تماماً وتهجر بيوت الله. == الراجح:

الراجح هو القول الثاني. وكما تلاحظون قوة أدلة القول الثاني بل إن الشيخ الفقيه المجد كأنه ينكر الرواية الأولى يقول: لا يثبت عن الإمام أحمد رواية أنه قال بأنها سنة. هذا قول المجد وقال به غيره من الحنابلة ولكن مثل الشيخ المجد له ثقله رحمه الله. ويقول ابن رجب رحمه الله: وأنكر هذه الرواية بعض الحنابلة. وفي الحقيقة: استنكار الشيخ المجد في محله لأن الإمام أحمد يبعد أن يذهب إلى هذا المذهب مع وضوح الأدلة في وجوب أن تكون الجماعة في المساجد. فتضعيف المجد لهذه الرواية قوي ووجيه. وعلى كل: سواء ثبتت هذه الرواية أو لم تثبت فالراجح هو القول الثاني. • ثم قال رحمه الله: وتستحب صلاة أهل الثغر: في مسجد واحد. لما قرر المؤلف رحمه الله وجوب صلاة الجماعة وقرر أن فعلها في المساجد سنة وإن كان لا يجب فلما قررهذه الأمور انتقل للحديث عن التفضيل بين المساجد كأنه يقول: إذا ثبت وجوب الجماعة وسنية أن تكون في المساجد فالأفضل في ترتيب المساجد ما سيذكره المؤلف رحمه الله. يقول: وتستحب صلاة أهل الثغر: في مسجد واحد. تنقسم الصلاة في المساجد إلى قسمين: - القسم الأول: أن تكون في الثغور. - والقسم الثاني: أن تكون في الأمصار البلدان وليست في الثغور. القسم الأول: إذا كانت في الثغور: فحكمها: أنه يستحب أن يصلوا في مسجد واحد. ويقصد بالثغر: أطراف البلدان التي يرابط بها المجاهدون للدفاع عن المسلمين إذا كانت في ناحية يتخوف منها هجوم العدو. فهولاء السنة في حقهم أن يصلوا في مسجد واحد. التعليل: قالوا: أن صلاة المجاهدين المرابطين على الثغور في مسجد واحد أدعا لا تحاد الكلمة وهيبة العدو. القسم الثاني: الصلاة في الأمصار والبلدان وليست في الثغور وهذه التي بدأ المؤلف ببيانها: بقوله: والأفضل لغيرهم: في المسجد الذي لا تقام فيه الجماعة إلا بحضوره، ثم ما كان أكثر جماعة، ثم المسجد العتيق، وأبعد أولى من أقرب. إذاً الترتيب عند الحنابلة: - المسجد الذي لا تقام الحماعة إلا فيه. - ثم ما كان أكثر جماعة. - ثم المسجد العتيق. - ثم الأبعد. فهذه الأربعة مساجد ترتيبها عند الحنابلة في الأفضلية.

فإذا سألك سائل أيهما أفضل لي: أن أصلي في مسجد عتيق أو في مسجد بعيد؟ الجواب: في مسجد عتيق. أيهما أفضل أن أصلي في مسجد بعيد أو في مسجد كثير جماعة؟ الجواب: في المسجد كثير الجماعة. إذاً إذا عرفت الترتيب تستطيع أن تجيب في ترتيب المساجد. - الأول: المسجد الذي لا تقام فيه الجماعة إلا بحضوره: هذا هو المسجد الأول في الأفضلية. وهذا صحيح أن هذا أفضل المساجد بالنسبة للإنسان. الدليل: - الدليل على أن هذا أفضل المساجد بالنسبة للمسلم: أن تركه الصلاة فيه يؤدي إلى تعطيل المسجد وحرمان المصلين من الصلاة فيه. ولا شك تعليل قوي جداً وواضح فبناء عليه نقول أن هذا هو أفضل المساجد. - الثاني: ثم ما كان أكثر جماعة: ما كان أكثر جماعة أولى مما هو أقل أو عتيق أو بعيد. الدليل: - قول النبي صلى الله عليه وسلم: (صلاة الرجل مع الرجل أفضل ومع الرجلين أفضل وكل ما كان أكثر فهو حب إلى الله). فهذا نص صريح صحيح في تقديم كثرة الجماعة على غيرها. - الثالث: قال: ثم المسجد العتيق: = الحنابلة - المذهب الاصطلاحي يجعل المسجد العتيق أفضل من الأكثر جماعة. فالمؤلف في هذا الموضع خالف المذهب الاصطلاحي. لكن الصواب مع المؤلف في تقديم الأكثر جماعة على المسجد العتيق. لماذا يفضل؟ من حيث الأصل المسجد العتيق يفضل لقدم العبادة والطاعة فيه. وهذا التعليل كما ترون لا يقوم على نص معين وإنما هو تعليل يعتمد على النصوص العامة. وتقدم معنا مراراً أنه إذا كان في المسألة نص فهو يقدم على التعليلات العامة المأخوذة من قواعد الشرع. - الرابع: قال: وأبعد أولى من أقرب. يعني أن المسجد البعيد أفضل من المسجد القريب. والدليل: - الدليل أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (دياركم تكتب آثاركم). - وقال صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: (أن من خرج إلى الصلاة لا يخطو خطوة إلا كتبت له بها حسنة ومحيت عنه بها سيئة). وكلما كان المسجد أبعد كانت الخطوات أكثر. فهو أحب إلى الله. = القول الثاني: أن الأبعد مقدم على العتيق أو الأقدم. وأظن أن التعليل واضح. فما هو التعليل؟ أن في تفضيل الأبعد نص بينما العتيق في تفضيله تعليل.

فعلى هذا القول: - المسجد الذي لا تقام الجماعة إلا بحضوره - الأكثر جماعة - الأبعد - العتيق. = القول الثالث: وهو رواية عن الإمام أحمد أن الأقرب - عكس كلام المؤلف - مقدم على الأكثر جماعة. الأقرب: هل ذكره المؤلف؟ الجواب: لم يذكره أفضل لأنه ذكر أن أبعد أولى من أقرب. إذاً القول الثالث: أن الأقرب لبيتك مقدم على الأكثر جماعة. فكيف سيكون الترتيب؟ - ما لاتقوم الجماعة إلا به. - ثم الأقرب. - ثم الأكثر جماعة. - ثم البعيد. - ثم العتيق. إذاً هذه خمسة على القول الراجح. الدليل: - على تقديم المسجد القريب: ذكروا دليلاً وتعليلاً: - أما الدليل فقول النبي صلى الله عليه وسلم: (ليصلي أحدكم في المسجد الذي يليه ولا يتتبع المساجد). - والتعليل: أن خروج الرجل من حيه ومسجده القريب إلى مسجد آخر قد يوقع بينه وبين جماعة المسجد نوه بغضاء وتشاحن لأنهم يرون أنه يزهد بهم. في الحقيقة القول بأن الأقرب يقدم على الأكثر جماعة هو رواية عن الإمام أحمد رحمه الله وفيه وجاهة لأن عليه عمل السلف إذ كانوا يصلون في مساجد الأحياء ولأنه قد يؤدي اتخاذ هذه الطريقة أحياناً إلى ترك الصلاة لأنه يزعم أنه يصلي في مسجد بعيد وهو لا يصلي فيه. بالإضافة إلى القضية التي ذكروها وهي: إيغار صدور جماعة المسجد القريب. إذاً الراجح: هو هذا الأخير. من لا تقام الجماعة إلا به. ثم المسجد القريب. ثم الأكثر جماعة. ثم الأبعد. ثم العتيق. خمسة. ويقدم على المساجد جميعاً فيما عدا الذي لا تقام فيه الجماعة إلا بحضوره يقدم عليها جميعاً المسجد الذي يشعر الإنسان بخشوع وحضور قلب في الصلاة فيه. إما لقيام الإمام بالسنة أو الطمأنينة الواجبة ولأي سبب من الأسباب. فما دام الإنسان يشعر أنه إذا صلى في هذا المسجد فهو أخشع وأقرب إلى الله وأكثر طمأنينة فهو الأولى. إذاً الترتيب الخماسي السابق عند تساوي قضية الخشوع أما إذا كان يخشع في مسجد غير هذه الخمسة فهو مقدم ولو كان خارج الحي ولو كان أقل جماعة. إذاً إذا أردنا أن نرتب فماذا نقول: - بدون اعتبار قضية الخشوع: - من لا تقام إلا به. - الأقرب. - الأكثر جماعة. - الأبعد. - العتيق.

خمسة. وهذه الأمور يجب أن نراعيها فالإنسان يتعبد الله سبحانه وتعالى فإذا رأى أن هذا هو القول الصواب فيتبعد الله بأن يصلي في المسجد الأفضل. وهذا يتصور كثيراً لا سيما إذا لم يكن بجوار الإنسان مسجد فيصلي في المساجد المتاحة حسب هذه الأفضلية. • ثم قال رحمه الله: ويحرم أن يؤم في مسجد: قبل إمامه الراتب. الإمام الراتب هو: الإمام الذي وضع ليصلي جميع الصلوات. - إما أن يضعه جماعة المسجد. كما في القديم. - أو أن يكون معيناً رسمياً من قبل الجهات المختصة كما في عصرنا الحاضر. فهذا هو الإمام الراتب. يحرم أن يؤم الإنسان في المسجد قبل مجيء الإمام الراتب. التعليل: قالوا: أن الإمام الراتب في مسجده كالرجل في بيته والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (لا يؤمن الرجل الرجل في بيته). إذاً حكم الافتيات على إمام المسجد والصلاة حكمه: محرم. فإن صلى فاختلف الفقهاء: - منهم من قال: صلاته باطلة لأنه أقدم على المحرم عالماً. - ومنهم من قال: صلاته صحيحة لأن التحريم يعود لأمر خارج عن الصلاة. والرواية الثانية - هذه - أصح فهو آثم ولكن الصلاة صحيحة. • ثم قال رحمه الله: إلاّ بإذنه. فإذا أذن الإمام الراتب لشخص أن يصلي مكانه صحت صلاة النائب ولا إثم عليه. والدليل: أن النبي صلى الله عليه وسلم في مرض موته أذن لأبي بكر بالصلاة فصلى أبو بكر بعد إذن النبي صلى الله عليه وسلم فصار هذا دليلاً على جواز ن يصلي الإنسان مكان الإمام الراتب بإذنه. • ثم قال رحمه الله: أو عذره. أي إذا تغيب الإمام بسبب عذر كأن يكون مريضاً أو بعيداً أو مسافراً ففي هذه الحالة يجوز أن يصلي البديل أو النائب في مكان هذا الإمام ولو لم يأخذ الإذن. بدليل: أن النبي صلى الله عليه وسلم خرج يوماً ليصلح بين بني عمرو بن عوف لشحناء كانت بينهم فتأخر فقال بلال رضي الله عنه لأبي بكر أتصلي بالناس؟ قال: نعم إن أردت فقام بلال وصلى أبو بكر. ففي هذا الحديث أن أبا أبكر الصديق رضي الله عنه صلى بدل الإمام وهو النبي صلى الله عليه وسلم بلا إذنه والسبب أنه غاب بعذر والعذر في هذا الحديث هو أنه خرج بعيداً فانشغل. • ثم قال رحمه الله: ومن صلى ثم أُقيم فرض: سن أن يعيدها إلاّ المغرب.

= هذه المسألة تحتاج إلى تفصيل عند الحنابلة فنريد أن نفهم مذهب الحنابلة: إذا صلى الإنسان الفريضة ثم أقيمت الجماعة في المسجد فهذا ينقسم إلى قسمين: - نحن نتحدث عن تفصيل مذهب الحنابلة في هذه المسألة. - القسم الأول: أن يشرع المؤذن في الإقامة وهذا الرجل - الذي سبق وصلى - داخل المسجد. ففي هذه الصورة يجب أن يعيد الصلاة ولو كان في وقت نهي وهذه الصورة هي الصورة التي تقدمت معنا عندما قال المؤلف رحمه الله: وإعادة جماعة. - القسم الثاني: أن يشرع المؤذن في الإقامة وهذا الرجل خارج المسجد فحينئذ يشرع له أن يعيد بشرطين: - الشرط الأول: أن لا يأتي بقصد الإعادة. - الشرط الثاني: أن لا يكون في وقت نهي. استدلوا على القسم الأول: بقول النبي صلى الله عليه وسلم: (إذا أقيمت وأنت في المسجد فصل معهم) واستدلوا على القسم الثاني: بالحديث الذي سبق معنا: (إذا أتيتما مسجد جماعة فصليا معهم تكن لكما نافلة). كم قسم لهذه المسألة؟ قسمان. أيهما الذي سبق معنا؟ القسم الأول. هل يصلح أن نقول أن الذي سبق معنا هو الثاني؟ لا. لأن الجنابلة يشترطون أن لا يكون في وقت نهي مع العلم أنه في الباب السابق لما انتهى من أوقات النهي قال: له إعادة الجماعة. إذاً هو يقصد القسم الأول ولا يقصد القسم الثاني. = القول الثاني: أن من حضر مسجد الجماعة فإنه يعيد مطلقاً بلا تفصيل لأن النصوص التي فيها الأمر بإعادة الصلاة عند حضور مسجد الجماعة عامة لم تفصل - لكنني أحببت أن تفهموا مذهب الحنابلة. • ثم قال رحمه الله: إلاّ المغرب. أي أنه إذا صلى المغرب ثم حضر مسجد جماعة فإنه لا يصلي معهم المغرب. التعليل: قالوا: أن المعادة - يعني مع الجماعة - نفل ولا يشرع للإنسان أن يتنفل بوتر. = والقول الثاني: أن صلاة المغرب كغيرها من الصلوات إذا حضر الإنسان مسجد جماعة وقد صلى الفريضة فإنه يصلي معهم لأنه لا دليل على التخصيص وألفاظ النبي صلى الله عليه وسلم عامة. • ثم قال رحمه الله: ولا تكره إعادة جماعة: في غير مسجدي مكة والمدينة. نحتاج إلى تفصيل في هذه المسألة: - المسألة الأولى: ما معنى إعادة الجماعة؟

إعادة الجماعة هي الصلاة جماعة في المسجد بعد انتهاء الإمام الراتب. هذه فقط هي مسألة إعادة الجماعة. ولننتبه فإن الفقهاء يطلقون أشياء تعتبر مصطلحات. إذاً إعادة الجماعة في البراري وفي أشياء أخرى ستأتي معنا عند تحرير محل النزاع لا تدخل معنا إنما المقصود الآن إعادة الجماعة بعد صلاة الإمام الراتب. - المسألة الثانية: تحرير محل النزاع: تحرير محل النزاع فيه ثلاث نقاط: - النقطة الأولى: اتفق الفقهاء كلهم على أنه يحرم إقامة جماعتين في مسجد واحد في وقت واحد. فهذا محرم بالإجماع. - النقطة الثانية: اتفق الفقهاء على أنه لا تحرم إعادة الجماعة في المسجد الذي ليس له إمام راتب أو في مساجد الطرقات ونحوها - الآن - مساجد المطارات والمواقف العامة. - النقطة الثالثة: اختلفوا في إعادة الجماعة في مسجد له إمام راتب بعد انتهاء الصلاة. = مسألة: ما معنى تحرير محل النزاع؟ الجواب: معناه: إخراج المسائل المتفق عليها وتحديد المسألة محل البحث. ـ اختلف الفقهاء في النوع الثالث على قولين: = القول الأول: جواز إعادة الجماعة. وإلى هذا ذهب الحنابلة كما ترون: (ولاتكره إعاددة الجماعة). = وفي رواية استحباب إعادتها. لكن الأدلة واحدة. واستدلوا على هذا الحكم بعدة أدلة. انتهى الدرس،،،

قال شيخنا حفظه الله: بسم الله الرحمن الرحيم. الحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين. بالأمس تحدثنا عن هذه المسألة وذكرنا تحرير محل النزاع والأقوال فيما يبدو. = فالقول الأول: - وهو مذهب الحنابلة نه لا تكره إعادة الجماعة. - وفي رواية أنها تستحب. واستدلوا بأدلة: منها: الدليل الأول: - أن رجلاً دخل مسجد النبي صلى الله عليه وسلم وقد فاتته الجماعة فلما رآه النبي صلى الله عليه وسلم يهم بأن يصلي منفرداً قال ألا رجلاً يتصدق على هذا. هذا الحديث لا بأس به واحتج به الإمام أحمد رحمه الله. الدليل الثاني: - أن أنس رضي الله عنه دخل المسجد وقد فاتته الجماعة فأذن وأقام وصلى جماعة. الدليل الثالث: - العمومات الدالة على فضل الجماعة فإنها لم تفرق بين أن يأتي بعد صلاة الإمام الراتب أو قبله. = القول الثاني: أنه يمنع من الصلاة مرة أخرى في المسجد. وأكثر الفقهاء عبر بالكراهة. واستدلوا بأدلة كثيرة نأخذ منها اثنين: تعتبر أقوى الأدلة. الدليل الأول: - أن الحسن البصري رحمه الله قال كان أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم إذا فاتتهم الصلاة صلوا في المسجد فرادى. فهذا نص في المسألة.

الدليل الثاني: - أن إقامة أكثر من جماعة قد توجب النزاع والشقاق إذ قد يظن الإمام أن الجماعة الثانية تقصدت عدم الصلاة خلفه. ومن المفيد أن تعلم قبل الترجيح أن الصحابة أنفسهم اختلفوا في هذه المسألة فقد روي عنهم أقوال فيها اختلاف. فمنهم من يرى المشروعية ومنهم من لا يراه كما سمعتم في الأدلة. والراجح المذهب الأول: مذهب الحنابلة والجمهور لأنهم استدلوا بالأحاديث المرفوعة ومعهم من الآثار نظير ما مع أصحاب القول الثاني. فالصواب أننا نقواه أنه يسن أن تعاد وليس فقط أنه يجوز لأنه إذا كان مشروعاً فالصلاة جماعة مندوب إليها. وبهذا يتبين أنه لايجب أن يصلوا جماعة مرة أخرى وعلى حد اطلاعي إلى الآن لم أر من قال: بوجوب إعادة الجماعة إنما الخلاف في إما في الجواز أو الاستحباب أو الكراهة. لكن نقول مع ذلك هو مستحب ومندوب إليه ولا ينبغي أبداً لمن فاتته الصلاة إذا كانوا أكثر من رجل أن يصلوا فرادى بل يجتمعوا تحقيقاً للسنة. • ثم قال رحمه الله: في غير مسجدي مكة والمدينة. = استثنى الحنابلة الحرم المكي والحرم المدني فقالوا: لا يشرع إعادة الحماعة. تعليلهم: أن تجويز إعادة الجماعة يؤدي إلى التهاون في حضور الجماعة الأولى في المسجدين. = والقول الثاني: أن المسجد الحرام والنبوي كغيرهما من المساجد تشرع إعادة الجماعة فيهما. استدلوا: بقول النبي صلى الله عليه وسلم: ألا رجل يتصدق على هذا وهذه القصة وقعت في المسجد النبوي وهو محل النزاع. • ثم قال رحمه الله: وإذا أُقيمت الصلاة: فلا صلاة إلاّ المكتوبة. هذه الجملة هي نص حديث أبي هريرة رضي الله عنه.

= قوله: وإذا أقيمت: ظاهر العبارة أنه إذا شرع في الإقامة فلا صلاة أي: فلا يجوز أن يشرع في صلاة النافلة. = والقول الثاني: أن معنى إذا أقيمت يعني إذا انتهى من الإقامة. والصواب المعنى الأول: لأن لحديث أبي هريرة رضي الله عنه رواية في صحيح ابن حبان وفيها: إذا أخذ المؤذن بالإقامة) فهذه الرواية تحدد أن المشروع بمجرد أن يبدأ المؤذن بالإقامة أن لا يشرع في النافلة. (إذا أقيمت الصلاة فلا صلاة) ظاهر هذه العبارة أنه يحرم أن يشرع الإنسان في نافلة إذا أقيمت الفريضة. = وهذا هو مذهب الحنابلة. وإذا شرع فإنها لا تنعقد = وهذا أيضاً مذهب الحنابلة ونصره ابن حزم رحم الله الجميع. واستدلالهم واضح لأنه يقول: (فلا صلاة) والأصل في النفي نفي العبادة. يعني: لا صلاة شرعية. = والقول الثاني: أنه يحرم أن يشرع ولكن إن شرع انعقدت مع الإثم. والصواب مع مذهب الحنابلة لأن دليلهم واضح وهو حديث أبي هريرة رضي الله عنه. إذاً هذا معنى قول المؤلف: فلا صلاة إلا المكتوبة. ولما بين رحمه الله حكم الشروع في النافلة بعد الإقامة انتقل إلى المسألة الثانية. • فقال رحمه الله: فإن كان في نافلة أتمها. أي يريد أن يبين الحكم إذا شرع في النافلة قبل الإقامة ثم أقام وهو في النافلة. = فالحنابلة يرون أنه يتم هذه النافلة خفيفة. استدلوا: بدليلين: - الأول: قوله تعالى {ولا تبطلوا أعمالكم}. - الثاني: أن الفقهاء قرروا قاعدة وأخذوا بها في مواضع كثيرة وهي: (أن الاستدامة أقوى من الابتداء). والآن هو يستديم أو يبتديء؟ يستديم. وهذه المسألةمهمة تتكرر بتكرر الفروض الخمسة إذ غالباً ما يكون الإنسان في نافلة ويقيم المؤذن فهذا يكثر جداً. وفي المسألة أقوال ونحن سنذكر قولين فقط. المذهب والقول الثاني. = القول الثاني: رواية عن الإمام أحمد وهو مذهب الشافعي وهو قول الفقيه الجليل سعيد بن جبير: أنه يجب أن يقطع الإنسان النافلة إذا أقيمت الصلاة وهو فيها إذا كان استمراره يؤدي إلى الإخلال بالتحريمة أو بالتهيؤ للصلاة إلا إذا لم يبق من هذه النافلة إلا ما لا يخل بذلك كأن يبقى التسليم أو نهاية التشهد.

فهؤلاء استدلوا بالحديث: (إذا أقيمت الصلاة فلا صلاة) سواء كان شرع في هذه الصلاة قبل أو بعد الإقامة فإن الحديث لم يفصل هذا التفصيل وإنما قال فلا صلاة. وهذا القول هو الصواب إن شاء الله وما عداه من الأقوال ضعيفة وهي تفصيل لا دليل عليه. وثبت بالتجربة أن الإنسان إذا أتم النافلة ولو خفيفة ولو كان صلى منها ركعة فإنه يخل بذلك بالفريضة فيدخل فيها مستعجلاً يريد أن يدرك ويفوته دعاء الاستفتاح ولا يأت بالفريضة على الوجه المطلوب. ولذلك نقول إن هذا القول هو الراجح فينبغي على الإنسان إذا أقيمت الصلاة أن يقطع النافلة فوراً ولا ينتظر شيئاً إلا إذا كان في نهاية النافلة كما قلت فيتم النافلة ويدخل مع الإمام. ومن جرب الشيء وجد أن هذا القول الذي ذهب إليه الإمام أحمد وسعيد بن جبير والشافعي أنه قول وجيه جداً. • ثم قال رحمه الله: إلاّ أن يخشى فوات الجماعة فيقطعها. معنى قوله: (إلا أن يخشى فوات الجماعة). أي: إلا أن يخشى فوات ما تدرك به الجماعة. وسيأتينا الخلاف في ما تدرك به الجماعة. = والقول الثاني: أنه يقطعها إذا خشي فوات الركعة الأولى. هذا الخلاف يتصور عند الحنابلة وإلا على القول الراجح فإنه يقطع لكن إذا قلنا أنه يتمها خفيفة فيشترط لهذا الإتمام عند الحنابلة أن لا يخشى فوات الجماعة وعلى القول الثاني أن لايخشى الركعة الأولى وهذا هو الصواب. فهذا التفصيل والترجيح كله داخل مذهب الحنابلة وإلا عرفنا الصواب في هذه المسألة. • ثم قال رحمه الله: ومن كبر قبل سلام إمامه: لحق الجماعة. يريد المؤلف أن يبين في هذه المسألة = يذهب الحنابلة إلى أن الإنسان يدرك فضل الجماعة إذا كبر ودخل في الصلاة قبل أن يسلم الإمام ولو لم يدرك من صلاة الإمام إلا التشهد الأخير. واستدلوا على ذلك: - بأنه أدرك جزءاً من الصلاة أشبه ما لو أدرك ركعة. = القول الثاني: أن فضل الجماعة لا يدرك إلا بإدراك ركعة مع الإمام. - لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (من أدرك ركعة من الصلاة مع الإمام فقد أدرك الصلاة).

- ولأن الشارع الحكيم رتب على إدارك الركعة إدارك الصلاة ولم يرتب على إدارك جزء من الصلاة أي أحكام فقال: (من أدرك ركعة من العصر قبل غروب الشمس فقد أدرك العصر) وكذلك في الفجر. فعلمنا أن الشارع يرتب الإدراكات على إدارك ركعة لا على سوى الركعة من جزاء الصلاة فنعمل بما رتبه الشارع وما أراده ونجعله مناط ونهمل مالم يجعله الشارع علة وسبباً للإدراك. وهذا القول الثاني: هو الصواب. ويترتب على هذا أن الإنسان إذا دخل المسجد ووجد الإمام في الركعة الأخيرة وفاته الركوع الأخير فإنه على القول الراجح لم يدرك صلاة الجماعة فإن ظن قدوم أحد معه أو علم بقدوم أحد معه فالسنة أن ينتظر ولا يدخل مع الإمام ويصلي مع من حضر جماعة لأنه إذا صلى مع الثاني يكون قد أدرك الجماعة وإذا دخل مع الإمام لم يدرك الجماعة. وإذا علم أنه لن يأتي أحد سواه فإنه يدخل مع الإمام. وممن ذهب إلى هذا التفصيل شيخ الاسلام رحمه الله في مسألة إدراك الإمام. والتفصيل الذي ذكره يترتب على الترجيح الذي ذكرناه وكلامه وتفصيله قوي وهو صحيح. • ثم قال رحمه الله: وإن لحقه راكعاً: دخل معه في الركعة. أي وأدرك الركعة. ولو كان المؤلف رحمه الله أضاف هذه العبارة لتقرير الحكم تقريراً واضحاً لكان أنسب. إذاً وإن لحقه راكعاً: دخل معه في الركعة وأدرك الركعة أي: ويعتبر أدرك الركعة. نحن نتحدث الآن لا عن إدراك الجماعة وإنما عن إدراك الركعة يعني: متى يعتبر الإنسان مدركاً للركعة؟ = إذاً الحنابلة يرون أنه إذا لحقه راكعاً فقد أدرك الركعة ويعتد بهذه الركعة. والضابط في إدراك الركعة مع الإمام: أن يصل المأموم إلى المجزئ من الركوع قبل أن يرفع الإمام عن المجزئ من الركوع. أي بعبارة أوضح: يجب أن يضع يديه على ركبتيه قبل أن يرفع الإمام يديه عن ركبتيه. فإن أخل بذلك بأن وضع يديه بعد أن رفع الإمام يديه عن ركبتيه فإنه لا يعتبر أدرك الركوع. إذاً من حين أن يبدأ الإمام بالرفع يفوت المأموم إدارك الركوع. وهذا هو مذهب الجماهير. واستدلوا: بأدلة: - منها: (من أدرك ركعة من الصلاة فقد أدرك الصلاة).

- ومنها: أن الصحابي الجليل أبا بكرة رضي الله عنه دخل المسجد والنبي صلى الله عليه وسلم راكع فلما رآه راكعاً خشي أن تفوته الركعة فركع ...... فلما انتهى النبي صلى الله عليه وسلم قال له زادك الله حرصاً ولا تعد أو ولا تُعِد والصواب ولا تَعُد). يعني لا تعد لهذا العمل. والنبي صلى الله عليه وسلم لم يأمره في هذا الحديث بإعادة هذه الركعة ولأنه إذا أدرك الركوع فقد أدرك غالب الركعة لأن الركوع هو غالب الركعة. وفي هذا الاستدلال - الأخير - نظر في الحقيقة لماذا؟ لأن الركعة تتكون من قيام وركوع وسجدتين وجلسة بين السجدتين فكيف يكون بإدراك الركوع يكون مدركاً لأكثر الركعة لأنه أدرك الركوع وما بعد الركوع إذاً لم يفته إلا القيام والقراءة. إذاً هذا الاستدلال قوي وليس بضعيف. = القول الثاني: أن الإنسان لا يدرك الركعة إلا إذا أدرك القراءة والقيام لأنهما من أركان الصلاة فلا تصح الركعة إلا بهما. وإلى هذا ذهب عدد من الفقهاء منهم: الإمام البخاري رحمه الله ومنهم من المتأخرين العلامة المعلمي رحمه الله. وعدد من أهل العلم. واستدلوا بما ذكرت: أنهم لم يدركوا الفاتحة ولا القيام وهما من أركان الصلاة. والصواب مع الجماهير لأن أدلتهم واضحة وصريحة بأن من أدرك الركوع يعتبر أدرك الركعة. والجواب عن دليل البخاري رحمه الله: أن أحاديث وجوب القيام ووجوب قراءة الفاتحة مخصوصة بأحاديث الجمهور. عرفنا الآن الخلاف والراجح وأن ما ذكره المؤلف هنا صحيح. • ثم قال رحمه الله: وأجزأته التحريمة. يعني أن من أدرك الإمام راكعاً ودخل معه واكتفى بتكبيرة التحريم دون تكبيرة الركوع فإن تكبيرة التحريمة تجزئه عن تكبيرة الركوع. = وإلى هذا ذهب الحنابلة كما ترون بل هذا مذهب الأئمة الأربعة والجماهير من أهل العلم. واستدلوا على هذا الحكم: - بأن هذا القول مروي عن زيد بن ثابت وعن ابن عمر ولا يعلم لهما مخالف من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم. ـ مسألة: فإن نوى بالتكبيرة تكبيرة التحريمة والركوع في آن واحد. نواهما جميعاً. = فإن الحنابلة يرون أن صلاته لم تنعقد. لأنه شرك بين الواجب وغيره.

= والقول الثاني: أنه إذا نوى بالتكبيرة تكبيرة التحريم والركوع في آن واحد فإن صلاته صحيحة لأن تكبيرة الركوع لا تنافي تكبيرة الإحرام. فلا موجب لبطلان الصلاة لأنه أتى بتكبيرة الإحرام وزيادة. وهذا القول - الثاني - هو الصحيح. ـ مسألة: وهي الصورة الثالثة: في القسمة العقلية: - إذا نوى تكبيرة الركوع فقط فلا إشكال في أن صلاته لم تنعقد لأن تكبيرة الإحرام ركن ولم يأت به ولم يدخل في صلاته أصلاً. إذاً إما أن ينوي التحريمة فقط أو ينوي التحريمة مع الركوع أو ينوي الركوع وعرفنا حكم كل صورة من هذه الصور. • ثم قال رحمه الله: ولا قراءَة: على مأموم. يريد المؤلف أن يبين أنه لا يجب على المأموم ى في الصلاة السرية ولا في الصلاة الجهرية أن يقرأ. وإنما يكتفي في الجهرية والسرية بقراءة الإمام وتقدم معنا الخلاف في هذه المسألة مطولاً: حكم قراءة المأموم في الجهرية وفي السرية والأدلة فيها والراجح. ويستحسن أن ينقل الخلاف الذي ذكرناه هناك إلى هنا عند هذه العبارة. ولا أريد أن أعيد ما قلته في تلك المسألة لكن أنبه إلى تنبيه: ـ الأول: وهو أن من الفقهاء من رأى أن قراءة المأموم تبطل الصلاة وهو مروي عن الأحناف بل مروي عن الإمام أحمد رحمه الله وهذا يجعل الإحتياط في المسألة متعذر. فإذا أراد الإنسان أن يحتاط ويقرأ فمن الفقهاء من قال ببطلان صلاته. وإن أراد أن يحتاط ولا يقرأ فمن الفهاء من رأي أيضاً بطلان صلاته. إذاً السبيل بالنسبة لطالب العلم ولأهل العلم أن يبحثوا في الراجح وبالنسبة للعامي أن يسأل من يثق بدينه وعلمه ويعمل بقوله. فالاحتياط متعذر لهذا الأمر. ـ التنبيه الثاني: أن أقوال الفقهاء في هذه المسألة فيها اضطراب وتعارض كما قال شيخ الاسلام بن تيمية أي أن الخلاف في هذه المسألة شديد وتشعب ومتشابك. إذاً عرفنا أن قوله: ولا قراءة على مأموم أن مذهب الحنابلة أنه لا يجب على المأموم أن يقرأ لا في السرية ولا في الجهرية وعرفنا الخلاف والرجح في هذه المسألة. • ثم قال رحمه الله: ويستحب: في إسرار إمامه.

أي أنه يستحب للمأموم أن يقرأ في الصلاة السرية، فيستحب ولا يجب. لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (من كان له إمام فقرائته له قراءة). فقوله: (من كان له إمام) عام يشمل الجهرية والسرية. وأيضاً تقدم معنا الخلاف: وأن الراجح وجوب القراءة في السرية وعدم القراءة في الجهرية. • قال رحمه الله: وسكوته. يعني: يستحب للمأموم أن يقرأ في الصلاة إذا أسر الإمام أو سكت في الجهرية. وهذا ينقلنا إلى مسألة سكوت الإمام: = فالحنابلة يرون أنه يستحب للإمام أن يسكت في ثلاث مواضع. 1 - إذا كبر قبل أن يقرأ الفاتحة. 2 - وبعد قراءة الفاتحة بقدرها (يعني بقدر الفاتحة). 3 - وقبل الركوع بعد الانتهاء من القراءة. - دليل المذهب: أنهم أخذوا بحديث سمرة وبالنسبة للسكتة الثالثة قالوا: ليتسنى للمأموم أن يقرأ الفاتحة. فذكروا تعليل وحديث. أما التعليل فضعيف والحديث صحيح. (نحن نتكلم عن متى تشرع سكتات الإمام؟ بعد أن بينا أنه يشرع عند الحنابلة في سكتات الإمام أن يقرأ الإنسان بالفاتحة. = القول الثاني: أنه يشرع السكوت في موضعين فقط: 1 - إذا كبر قبل أن يقرأ الفاتحة. 2 - إذا أراد أن يركع بعد الانتهاء من القراءة. والدليل على هذا: حديث سمرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يسكت سكتتين: الأولى: إذا كبر. والثانية: قبل أن يركع. = القول الثالث: أنه لا يشرع للإمام أن يسكت مطلقاً. وهو مذهب مالك. ولعله رحمه الله: إما لم تبلغه الأحاديث أو بلغته ولمنها لم تبلغه بإسناد صحيح وإلا فالآثار واضحة أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يسكت لا سيما السكوت الذي يعقب تكبيرة الإحرام فإنه قد جاء في عدد من الأحاديث. إذاً الراجح هو القول الثاني: ولا يشرع للإمام وليس من السنة أن يسكت بعد قراءة الفاتحة لأن هذا لم يأت في السنة ولو جاء وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم وكان يفعله في صلواته لنقل إلينا نقلاً تثبت به الحجة. ثم قال رحمه الله: وإذا لم يسمعه لبعد لا لطرش. = يعني: يشرع ويستحب للمأموم أن يقرأ إذا لم يسمع الإمام بسبب البعد. فإنه يستحب فقط فلو سكت فلا حرج عليه.

= والقول الثاني: أن من لم يسمع الإمام لبعد أو لصمم أو لأي سبب من الأسباب فإنه يجب عليه وجوباً ولو في الجهرية أن يقرأ. لأن الذي يعفى من الفاتحة هو القارئ أو المستمع وهذا ليس بقارئ ولا مستمع. وهذا القول الثاني - هو الصواب. • ثم قال رحمه الله: ويستفتح ويستعيذ: فيما يجهر به إمامه. = يعني: أن المستحب للمأموم في الصلاة الجهرية أن يستفتح ويستعيذ. الأدلة: - أولاً: قياساً على السرية لأن المأموم في السرية يستحب له أن يستفتح ويستعيذ. ولذلك لم يذكره المؤلف وإنما ذكر الجهرية لأن السرية معلوم أنه يستفتح ويستعيذ. ثانياً: أن الغرض والحكمة التي شرع من أجلها الاستفتاح والاستعاذة لا تتحقق بمجرد الاستماع لقراءة الإمام فوجب أن يأتي بهما. - نحن نتكلم عن الجهرية -. = القول الثاني: أنه يستحب له أن يستفتح ولا يستعيذ. الدليل: - قالوا: أن الاستفتاح تابع لتكبيرة الإحرام بينما الاستعاذة تابعة للقراءة وهو سيكبر تكبيرة الإحرام ولن يقرأ فيأتي بالاستفتاح دون الاستعاذة. وهذا القول - الثاني - هو الصحيح وهو الذي تدل عليه النصوص إذ لا يأمر الإنسان بالاستعاذة وهو لا يريد القراءة إنما يستعيذ من أراد أن يقرأ. • ثم قال رحمه الله: ومن ركع أو سجد قبل إمامه: فعليه أن يرفع ليأتي به بعده. بدأ المؤلف رحمه الله - هنا - الكلام عن مخالفة الإمام. وبدأ بالنوع الأول من المخالفة وهو المسابقة ولعله بدأ به لأنه الأكثر وقوعاً. فمن ركع أو سجد قبل إمامه فإنه: - إن كان متعمداً فهو آثم وعمله محرم. ولكن هل تبطل الصلاة بهذا أو لا تبطل؟ توقف الدرس للآذان وبه ينتهي درس اليوم انتهى الدرس،،،

قال شيخنا حفظه الله: بسم الله الرحمن الرحيم. الحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين. بدء المؤلف رحمه الله بالكلام عن المخالفات التي تقع بين الإمام والمأموم. وبدأ بالنوع الأول من المخالفة وهو: السبق. - أي: أن يسبق المأموم الإمام - ولعله بدأ بالسبق لأن غالب المخالفة من المأموم تكون بالسبق. • فيقول رحمه الله: ومن ركع أو سجد قبل إمامه: فعليه أن يرفع ليأتي به بعده. نبدأ بتقرير المذهب في هذه المسألة: = الحنابلة يرون - وهذا هو معنى هذه العبارة - أن المأموم إذا سبق الإمام إلى الركوع أو إلى السجود فإن عمله هذا محرم وهو به آثم لقول النبي - صلى الله عليه وسلم - (أما يخشى الذي يسبق الإمام أن يحول الله رأسه رأس حمار - أو يجعل صورته صورة حمار). فإذا فعل هذا الفعل - وهو: سبق الإمام إلى الركن - فإن صلاته صحيحة مع التحريم بشرط أن يرجع ويأتي به بعده. وهذا معنى قوله: (فعليه أن يرفع ليأتي به بعده). التعليل: أما دليل التحريم فعرفناه. وأما تعليل صحة الصلاة مع كونه تعمد مخالفة الإمام فقالوا: أن هذه المخالفة مخالفة يسيرة وقد وافق الإمام في الركن فبقيت صلاته صحيحة. = القول الثاني: وهو رواية عن الإمام أحمد رحمه الله وهو أيضاً مذهب الظاهرية أنه إذا فعل ذلك - أي إذا سبق الإمام - فعمله محرم والصلاة باطلة. الدليل: استدلوا بذات الدليل فقالوا النبي - صلى الله عليه وسلم - قال أما يخشى الذي يسبق الإمام أن يحول الله صورته .... الحديث. فهذا نص في التحريم. ثم إن هذا النهي يعود إلى فعل في ذات الصلاة وإذا عاد النهي إلى فعل في الصلاة أدى إلى بطلانها. وهذا القول: قوي وممن رجحه ونصره الشيخ العلامة السعدي رحمه الله. وهو الأقرب. وإن كان يترتب على هذا أمر فيه عسر وهو: كثرة الذين يسبقون الإمام. فلو نظرت الناس لوجدت عدداً كبيراً منهم يسبق الإمام - كأن يسجد قبل الإمام فإذا قال الإمام: الله أكبر وكان الإمام ثقيلاً - مثلاً - فإن بعض المأمومين يسبقون الإمام إليه. فهذا الذي سبق الإمام صلاته على القول الراجح تكون باطلة. أما عند الحنابلة فتكون صحيحة بشرط أن يرجع ليأتي به. فالمسألة ليست يسيرة لكن باعتبار أن النص صريح بالتحريم والنهي ثم هو نهي يعود إلى ذات الصلاة وقلنا أن الأقرب ما رجحه الشيخ عبد الرحمن السعدي رحمه الله وهو بطلان الصلاة. وهذا يوجب على طالب العلم تحذير الناس تحذيراً شديداً من مخالفة الإمام بالسبق. هذا حكم سبق الإمام ونأتي إلى مسألة أخرى من مسائل مخالفة المأموم للإمام.

وهي التأخر - عكس السبق: فإذا تأخر المأموم عن الإمام عمداً فصلاته صحيحة. وحكمه أنه بعمله هذا خالف السنة. هكذا عبر الفقهاء ولم يقولوا: أنه عمله مكروه. ولو قيل بالكراهة لكان متوجهاً. الدليل: قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: (إنما جعل الإمام ليؤتم به فإذا كير فكبروا وإذا ركع ... الحديث. والفاء هذا الحديث تدل على التعقيب المباشر أي أن المأموم يأتي بالفعل بعد الإمام مباشرة بلا تأخير. ولذلك لم يستعمل النبي - صلى الله عليه وسلم - ثم وإنما استعمل الفاء. وهذا الحكم عام يشمل الأقوال والأعمال. إذاً أخذنا السبق وعكسه التأخر فبقي الموافقة. نقول: أن الموافقة تنقسم إلى قسمين: القسم الأول: أن تكون الموافقة بالأقوال: فإذا كانت موافقة بين المأموم والإمام بالأقوال فإنه ينقسم أيضاً إلى ثلاثة أقسام: الأول: أن تكون الموافقة بتكبيرة الإحرام. فحينئذ فإن صلاة المأموم لا تنعقد وهي باطلة. الثاني: أن تكون الموافقة بالسلام. بأن يسلم مع الإمام فحكمه: أن نقول أنه قد خالف السنة فقط مع صحة الصلاة. لأن يجب أن يأتي بالسلام بعد الإمام. الثالث: الموافق في غير التكبيرة والسلام. وحكمها: أنها جائزة بلا كراهة ولا إشكال فيها. كأن يوافقه بالتسبيح أو بالقراءة في السرية فعمله صحيح بلا كراهة. القسم الثاني: الموافقة بالأعمال. وحكمها أنها: خلاف السنة لأن الواجب على المأموم أن يأتي بالعمل بعد الإمام مباشرة لا مع الإمام. وبهذا عرفنا حكم المسابقة والموافقة والتأخر. • قال رحمه الله: ومن ركع أو سجد قبل إمامه: فعليه أن يرفع ليأتي به بعده. فعرفنا الآن تحرير مذهب الحنابلة والخلاف في هذه المسألة: وهي: مسألة من سبق الإمام بركن كالركوع أو السجود. • ثم قال رحمه الله: فإن لم يفعل عمداً: بطلت. إذا سبق المأموم الإمام إلى الركن ثم لم يرفع ليأتي به بعده عمداً فصلاته باطلة. التعليل: لأنه ترك الواجب عمداً ومَرَّ معنا مراراً أن من ترك الواجب عمداً فصلاته باطلة. أما إذا لم يفعل نسياناً أو جهلاً: فإن الصلاة صحيحة ويعتد بتلك الركعة التي سبق فيها الإمام ولا يلزم أن يأتي بركعة بدل تلك الركعة. وهذا مهم أن يفقهم الإنسان. • ثم قال رحمه الله:

وإن ركع ورفع قبل ركوع إمامه عالماً عمداً: بطلت. المسألة السابقة: بين فيها المؤلف حكمن السبق إلى الركن. وفي هذه المسألة: يريد أن يبين حكم السبق بالركن. والفرق بينهما: أنه في المسألة الأولى يتوافق الإمام والمأموم في الركن إلا أن المأموم سبق الإمام. وفي هذه المسألة: يأتي المأموم بجميع الركن قبل أن يأتي به الإمام. فهذا معنى قوله: وإن ركع ورفع قبل ركوع إمامه. إذا ركع ورفع قبل ركوع إمامه يقول رحمه الله: إذا عالماً عمداً بطلت صلاته. فإذا فعل هذا الفعل عمداً بطلت صلاته حتى عند الحنابلة. لأنه سبق الإمام بأكثر الركعة. واستدلوا: بقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: (أما يخشى الذي يسبق الإمام أن يجعل الله صورته صورة حمار). فاستدلوا بهذا الحديث على بطلان الصلاة في الصورة الثانية ولم يستدلوا به على بطلان الصلاة في الصورة الأولى. وهذا من أوجه ضعف مذهب الحنابلة في المسألة الأولى. الخلاصة: إذا سبق المأموم الإمام بالركوع كاملاً فإن الصلاة باطلة إذا كان عمل هذا العمل عمداً وذكر الحنابلة دليلين لبطلان الصلاة بهذا العمل. • ثم قال رحمه الله: وإن كان جاهلاً أو ناسياً: بطلت الركعة فقط. إذا كان قد فعل هذا الفعل جهلاً ونسياناً فإن الصلاة صحيحة لكن الذي يبطل هو الركعة التي سبق بها الإمام. ويترتب على هذا أنه يجب على المأموم إذا سلم الإمام أن يقوم ويأتي بهذه الركعة لأنا حكمنا على ركعته بأنها باطلة. إذاً: نقول: إذا سبق المأموم الإمام بركعة كاملة بأن ركع ورفع قبل أن يركع الإمام فصلاته باطلة إذا كان عمداً وإن كان جهلاً فركعته باطلة وصلاته صحيح ويلزم على هذا أن يأتي بركعة إذا سلم الإمام كأنه مسبوق. • ثم قال رحمه الله: وإن ركع ورفع قبل ركوعه ثم سجد قبل رفعه: بطلت. أي إذا سبق المأموم الإمام بركنين - المسألة الأولى سبقه بركن واحد - فالحكم كما لو سبقه بركن واحد لأنه أولى بالبطلان لأنه سبق بركنين وفي المسألة الأولى سبق بركن واحد. إذاً كأن المؤلف رحمه الله أراد أن يؤكد هذا الحكم وأنه إن سبقه بركن أو ركنين فإنه يأخذ الحكم نفسه. • ثم قال رحمه الله: إلاّ الجاهل والناسي.

هنا صرح المؤلف رحمه الله بحكم الركعة إذا كان السابق فعل ذلك جهلاً ونسياناً ولم يصرح بالحكم في المسألة الأولى والحكم يشمل الجميع: أنه تصح الصلاة وتبطل الركعة وعليه قضاء تلك الركعة. انتهى المؤلف من الكلام عن المخالفة التي تقع بين المأموم والإمام في السبق أو في الموافقة أو بالتأخر. ثم انتقل في ختام هذا الفصل إلى الكلام عن أمور يسن للإمام أن يفعلها. • فقال رحمه الله: ويصلي تلك الركعة قضاءً ويسن للإمام: التخفيف مع الإتمام. السنة الأولى للإمام أن يخفف في صلاته. والدليل على أن هذا يسن حديثان: الأول: قوله - صلى الله عليه وسلم -: (إذا صلى أحدكم بالناس فليخفف). وهذا أمر صريح بالتخفيف. الثاني: قول أنس - رضي الله عنه - لم أر أحداً أخف صلاة من النبي - صلى الله عليه وسلم - في تمام. أي: أنه يخفف مع إتمام الصلاة. وهناك أدلة كثيرة تدل على أن الإمام يسن له أن يخفف إذا صلى بالناس. وكون الإمام من السنة له أن يخفف إذا صلى بالناس هذا المقدار لا أظن أن فيه خلافاً لصراحة النصوص لكن الخلاف في: ما هو التخفيف المندوب إليه شرعاً؟ نأخذ قولين فقط في هذه المسألة: = القول الأول: وهو مذهب الحنابلة. أن التخفيف المأمور به الإمام أن يأتي بأدنى الكمال في التسبيح وسائر أجزاء الصلاة. وأدنى الكمال - سبق معنا -: أن يسبح ثلاث تسبيحات وفي الركوع والسجود أن يأتي بالاطمئنان الذي يتمكن معه بالإتيان بالذكر الواجب. = القول الثاني: أنه يرجع في التخفيف إلى ما جاء في سنة النبي - صلى الله عليه وسلم - ولا يرجع فيه إلى أهواء الناس وشهوات المأمومين. فما أمر به - صلى الله عليه وسلم - من التخفيف فإنه هو الذي قد فعله - صلى الله عليه وسلم -. والدليل على هذا القول: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لا يمكن أن يأمر بالتخفيف ثم لا يأتي به والذين كانوا يصلون مع النبي - صلى الله عليه وسلم - أيضاً فيهم الكبير والضعيف والمرأة والطفل. فإنه يجب في ضبط التخفيف إلى سنة النبي - صلى الله عليه وسلم -. وظاهر السنة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يسبح عشراً في الركوع والسجود.

وأما سنته في القراءة فقد تقدم الكلام عليها: ماذا كان يقرأ في المغرب والعشاء والفجر والظهرين - صلى الله عليه وسلم -. فأي القولين أرجح؟ المسألة فيها نوع إشكال -. لكن الأقرب والله أعلم: أنه يرجع في ذلك إلى السنة لا إلى ما ذكره الحنابلة فإن التخفيف المراد بالأحاديث هو الذي فعله النبي - صلى الله عليه وسلم -. وجه الترجيح: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (صلوا كما رأيتموني أصلي) وهذا الحديث عام يشمل المأموم والإمام وقد ذكر العلماء أن النبي - صلى الله عليه وسلم - إنما تولى الإمامة ليبين للناس الأحكام. ومن جملة الأحكام مقدار التخفيف والتطويل والتقصير في الصلاة. ففي ضوء هذا كله يظهر لي والله أعلم أن السنة في التخفيف يرجع فيها إلى ما كان يعمله النبي - صلى الله عليه وسلم - لا إلى أهواء الناس. بناء على هذا يسن للإنسان أن يقرأ في فجر الجمعة ما ورد في السنة ولو غضب الناس. ويسن أن يقرأ أحياناً بالطوال في المغرب ولو غضب الناس. لأنه بذلك يطبق السنة ولأنه لو تركت السنن لغضب الناس وتثاقلهم عن الطاعات لاندثرت السنة. فلكل هذا ولغيره من الأدلة الظاهر أن القول الثاني هو الراجح وممن نصره وبين قوته الحافظ بن القيم رحمه الله تعالى. • ثم قال رحمه الله: وتطويل الركعة الأُولى أكثر من الثانية. أي أنه يسن للإمام أن يطول الركعة الأولى أكثر من الثانية: لما ثبت في صحيح البخاري عن أبي قتادة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يطول الأولى. وهذا نص صريح. ليتمكن الناس من إدراك الركعة الأولى. فإن لم يفعل فقد خالف السنة فقد خالف السنة لأن المعهود عنه - صلى الله عليه وسلم - تطويل الأولى بالنسبة للثانية. • ثم قال رحمه الله: يستحب: انتظار داخل إن لم يشق على مأموم. السنة الثالثة للإمام أن ينتظر الداخل بأن لا يسبقه بالرفع من الركوع فإذا دخل الداخل والإمام راكع وعلم بدخوله من صوته فإنه يستحب له استحباباً أن ينتظر إلى أن يدرك المأموم الركعة. وذكروا لهذا دليلين:

الأول: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - في صلاة الخوف كان ينتظر الجماعة الثانية ليدركوا الصلاة ويعتبر هذا الحديث كالأصل لهذه المسألة لأنه ليس نصاً صريحاً مباشراً لها. الثاني: أن في هذا إرفاقاً بالمأموم وتمكيناً له لإدارك الركعة بلا ضرر. وقاعدة الشرع أنه إذا أمكن تحصيل المصلحة بلا ضرر تعينت. وهذا القول صحيح تدل عليه السنة وينبغي للإمام أن لا يستعجل بالرفع لا كما يصنع بعض الناس إذا سمع صوتاً ودخول الناس بادر بالرفع كأنه يعاقب على ذلك بل السنة أن ينتظر والنصوص العامة تدل على أن هذا مندوب إليه. • ثم قال رحمه الله: إن لم يشق على مأموم. هذا شرط السنية فإن كان هذا الانتظار يشق على المأمومين فإنه لا يسن له أن ينتظر فإن فعل فقد خالف الأولى. التعليل: الأول: لأن حرمة من معه في الصلاة أكبر من حرمة من يريد أن يدخل الآن في الصلاة النصوص العامة الدالة على النهي عن الإشقاق على المأمومين كحديث معاذ - رضي الله عنه - المشهور (أفتان أنت يا معاذ). فإن هذا الحديث كالأصل أنه لا ينبغي أن يشق الإمام على المأمومين ... الصلاة. إذاً إذا شعر الإمام أن انتظاره شق على المأمومين فإنه يرفع. • ثم قال رحمه الله: وإذا استأذنت المرأة إلى المسجد: كره منعها. هذا المستحب الرابع. إذا استأذنت المرأة وليها سواء كان الزوج أو الأب أو أحد الأولياء إذا لم كان هناك أب ولا زوج فإنه يستحب له أن لا يمنعها فإن منعها فقد فعل مكروهاً لقول النبي - صلى الله عليه وسلم - (لا تمنعوا إماء الله مساجد الله وبيوتهن خير لهن وليخرجن تفلات). ومعنى تفلات: أي من غير طيب ولعل المقصود أي من غير زينة كأنه أشار إلى ترك الزينة بالأمر بترك الطيب لأن هذا الحديث يدل على أنه يكره للولي أن يمنع المرأة موليته عن الذهاب إلى المسجد. = والقول الثاني: أنه يحرم أن يمنعها. واختاره ابن قدامة رحمه الله فقد مال إلى أن النهي للتحريم. والذي يظهر لي والله أعلم أن النهي للكراهة وليس للتحريم وأنه يجوز للولي أن يمنع موليته وإن منعها فقد أتى بمكروه.

وجه الترجيح: أن قواعد الشرع العامة تدل على أن بيت المرأة خير لها من المسجد ومما يدل على هذا القواعد العامة نفس الحديث الذي معنا فإنه يقول: (لا تمنعوا إمام الله مساجد الله ثم قال في نفس الحديث: وبيوتهن خير لهن). وهذا يدل على أن الأمر للكراهة وليس للتحريم. والمقصود: بأن المنع للكراهة في حال أمنت الفتنة وانتفت المفاسد أما مع وجودها فإنه يجب على الولي أن يمنع المرأة من الخروج ولو إلى المسجد. • ثم قال رحمه الله: وبيتها خير لها. يعني أن المستحب والأولى والأحب إلى الله بالنسبة للمرأة أن تصلي في بيتها ولو كانت بجوار الحرمين. لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - يخاطب بهذا الحديث جميع النساء ومن أوائل من يدخل في خطابه - صلى الله عليه وسلم - نساء المدينة اللاتي سمعن هذا الحديث أول مرة. فهو يشمل لعمومه ولأنه خاطب به نساء المدينة فإذا يشمل الحرمين لا كما يظن بعض النساء أن هذا الأصل العام يستثنى منه إذا كانت المرأة بجوار أحد الحرمين لمضاعفة الأجر في الصلاة في الحرمين بل البيت خير لها ولو كانت بجوار الحرمين. وانتهى بهذا من الفصل الذي عقده رحمه في الأحكام في صدر باب صلاة الجماعة ثم ننتقل إلى الفصل الآخر. فصل [في أحكام الإمامة] • قال رحمه الله: فصل. أراد المؤلف رحمه الله أن يبين بهذا الفصل أحكام الإمامة بعد أن بين الأحكام العامة لصلاة الجماعة بدأ بالأحكام التفصيلية للإمامة. وبدأ بترتيب منطقي فبدأ بالحكم الأول وهو من هو الأولى بالإمامة؟ وهذا من أنسب ما يكون بداية. • قال رحمه الله: الأولى بالإمامة. يريد المؤلف أن يبين من هو الأولى بالإمامة؟ وينبغي أن تعلم أن العلماء أجمعوا أن هذه الأولوية والاستحباب إنما هو على سبيل الندب والاستحباب لا على سبيل الاشتراط والوجوب. فلو فرضنا أنه صلى من لا يعتبر الأولى مع وجود الأولى فالصلاة صحيحة وعمله جائز. • قال رحمه الله: الأقرأ العالم فقه صلاته. سيذكر المؤلف خمس مراتب للأولى بالإمامة. فالأولى: الأقرأ: نحتاج في مسألة الأقرأ إلى بيان مسألتين: المسألة ألأولى: من هو الأقرأ؟ المسألة الثانية: ما هو الدليل؟

أما من هو الأقرأ: = عند الحنابلة هو الأجود قراءة لا الأكثر حفظاً ويقصد بالأجود من يحسن أداء القراءة من حيث التجويد ومخارج الحروف وما شابه ذلك. واستدلوا على ذلك: أن قوله الأقرأ اسم تفضيل والمفاضلة تقع بجودة القراءة. = القول الثاني: أن المراد بالأقرأ: الأكثر حفظاً. واستدلوا على هذا بدليلين: الأول: حديث عمرو بن سلمة - رضي الله عنه - يؤمكم أكثركم قرآناً. فعبر بكلمة أكثر الدالة على كثرة الحفظ لا على جودة القراءة. الثاني: أن المهاجرين لما أتوا إلى المدينة صلى بهم سالم مولى أبي حذيفة - صلى الله عليه وسلم - وصلى خلفه عمر بن الخطاب وأبو سلمة وغيرهما من كبار الصحابة لأنه كان أكثرهم حفظاً - رضي الله عنه -. والأقرب والله أعلم: القول الثاني: أولاً: لأن فيه أدلة صريحة. وثانياً: أن الأغلب الأعم أن من كان أكثر حفظاً كان أجود قراءة. هذا في بيان من هو الأقرأ؟ وأما الدلايل على تقديم الأقرأ قوله - صلى الله عليه وسلم - (يؤم القوم أقرأهم لكتاب الله فإن كانوا في القراءة سواء فأعلمهم بالسنة فإن كانوا في السنة سواء فأقدمهم هجرة فإن كانوا في الهجرة سواء فأقمهم سناً وفي لفظ سلماً). فهذا نص صريح في تقديم الأقرأ. عرفنا الآن من هو الأقرأ؟ وما دليل الحنابلة على تقديمه. = القول الثاني: أن الأفقه مقدم على الأقرأ. واستدلوا بعدة أدلة: الأول: أن الصحابة كان أقرأهم أفقههم لأنهم كانوا إذا تعلموا عشر آيات تعلموا ما فيها من العلم والعمل. الثاني: أنه قد ينوبه في الصلاة ما لا يحسن العمل فيه إلا الفقيه. الثالث: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قدم أبا بكر الصديق للإمامه مع وجود من هو أقرأ منه في الصحابة كأُبّيٍّ - رضي الله عنه - لقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: (أقرأكم أبي). الراجح والله أعلم: مذهب الحنابلة أن الأقرأ مقدم على الأفقه. أولاً: لقاعدة مشهورة تقدمت معنا مراراً: أن النص الخاص مقدم على النص العام. الإجابة على أدلتهم:

أما الإجابة على الدليل الأول والثاني: فهو أن النبي - صلى الله عليه وسلم - في حديث أبي مسعودالبدري - رضي الله عنه - نص على التفريق بين القراءة والعلم لأن المقصود (فإن كانوا في القرءاة سواء فأعلمهم بالسنة).المقصود بالسنة يعني الفقه في الدين فغاير النبي - صلى الله عليه وسلم - بين القراءة والفقه وقدم مع ذلك القراءة. وأما تقديم أبي بكر - رضي الله عنه - فقد أجاب عنه الإمام أحمد. قيل له: يا أبا عبد الله هل بين حديث أبي مسعود - رضي الله عنه - وحديث تقديم أبي بكر - رضي الله عنه - تعارض فقال أبو عبد الله: لا إنما قدمه لشأن الخلافة. يعني: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أراد أن يشير إلى الخلافة فكأنه يشير بالإمامة الصغرى إلى الإمامة الكبرى لأن الذي يخلف النبي - صلى الله عليه وسلم - في ذلك الوقت بأمره ففيه إشارة إلى الخلافة الكبرى. وصدق الإمام رحمه الله فيما أرى وأن جوابه قوي وسديد. بناء على هذا إذا اجتمع فقيه يقرأ قراءة حسنة لا لحن فيها وهو حافظ وقاريء يجيد القراءة ومخارج الحروف فهو أجود قراءة فعند الحنابلة وهو الصحيح نقدم الأقرأ ويتأخر الفقيه. وعلى القول الثاني نقدم الفقيه. • ثم قال رحمه الله: العلم فقه صلاته. أي أنه يشترط لتقديم الأقرأ أن يكون عالماً بالقدر الواجب من أحكام الصلاة. بناء على هذا إذا جاءنا بعض القراء الذين لم يدرسوا من الفقه شيئاً لا أحكام الصلاة ولا أحكام السهو ولا أي قدر من ذلك - ولا شأن لنا بباقي الأحكام كالزكاة والصيام وغيرها - فالكلام عن أحكام الصلاة - فإنه لا يقدم ولا عند الحنابلة. وهل يتصور هذا أن يكون قارئاً مجوداً حافظاً لم يلم بالقدر الواجب أو المجزيء من أحكام الصلاة؟ نعم يتصور وقد وجد من لا يفقه في دينه شيء مع حفظه للقرآن وقراءةٍ مجودة. • ثم قال رحمه الله: ثم الأفقه. الأفقه هو العالم بأحكام الصلاة علماً محرراً ويشترط في تقديم الأفقه نظير ما يشترط في تقديم الأقرأ وهو أن يكون عالماً بجزءٍ لا ينقص عنه الإنسان في الصلاة يعني حافظاً ومتقناً للقراءة بالقدر الواجب الذي لا ينقص عنه من يريد أن يصلي. وهل يتصور أن يأتي فقيه عالم لا يحسن القراءة؟

لا. لا يوجد فلا يمكن أن تجد طالب علم اجتهد في الفقه والتفسير ومعرفة الأحكام لا يحسن أن يقرأ. ولا أعرف مثالاً له. وهذه المسألة يوجد أو لا يوجد ليس لها علاقة بالأحكام ونذكرها من باب الاستطراد. • ثم قال رحمه الله: ثم الأسن. يأتي الأسن بالمرتبة الثالثة. لقول النبي - صلى الله عليه وسلم - لمالك بن الحويرث (ليؤذن لكم أحدكم وليؤمكم أكبركم). = والقول الثاني: أن المرتبة الثالثة للمهاجر في سبيل الله وهو مقدم على الأسن لأن الحديث نص صريح في أن المهاجر يأتي في المرتبة الثالثة ونحن نقدم من قدمه الله ورسوله ونؤخر من أخره الله ورسوله. وهذا القول هو الصواب. والمقصود بالمهاجر هنا: من يهاجر من بلاد الشرك إلى بلاد الإسلام وهو باق إلى يوم القيامة. وأما قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: (لا هجرة بعد) الفتح فالمقصود به أن مكة بعد الفتح أصبحت دار إسلام فالذي يخرج منها إلى المدينة ما يعتبر مهاجراً لأنه لم ينتقل من دار الشرك إلى دار الإسلام. • ثم قال رحمه الله: ثم الأشرف. يقدم في المرتبة الرابعة عند الحنابلة الأشرف. من المقصود بالأشرف؟ المقصود به: الأعلى نسباً وقدراً. ويقصد به هنا الأقرب فالأقرب من النبي - صلى الله عليه وسلم -. فالعربي مقدم على العجمي والقرشي مقدم على غيره من قبائل العرب ومن كان من بني هاشم مقدم على غيره من القرشيين. إذاً الشرف هنا مرتبط بالنسب النبوي فإذا جاءنا رجلان أحدهما أشرف من الآخر عند الناس وبعدهما من النبي - صلى الله عليه وسلم - واحد فهل نقدم أحدهما على الآخر؟ لا لأنه الآن ليس أشرف للضابط الشرعي. دليل الحنابلة على تقديم الأشرف: استندلوا بقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: (قدموا قريشاً ولا تقدموها). أي اجعلواً قريشاً في المقدمة ولا تتقدموا عليها وهذا يشمل الإمامة الصغرى والكبرى. والحديث فيه كلام والصواب أنه مرسل لكن في الحقيقة مع كونه مرسلاً إلا أن له شواهد كثيرة تقويه وتوصله إلى مرتبة الحسن. = القول الثاني في هذه المسألة: أن النسب لا يقدم به في باب الإمامة أصلاً وليس له أي علاقة في أولوية الإمامة وإنما يقدم بالتقى والورع.

لقول الله تعالى: {إن أكرمكم عند الله أتقاكم} فجعل مناط الكرم والتفضل والتقدم التقوى لا النسب. وليس في السنة حرف واحد يدل على تقديم من كان أقرب نسباً إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - في المناصب الدينية - إن صح التعبير - الإمامة والأذان وما شابه ذلك. وهذا القول اختاره شيخ الاسلام وهو قول وجيه وقوي جداً وليس لتقديم النسب أي معنا في الحقيقة ولو كان من سلالة الحسن أو الحسين. مع أنا نقول - وهذا مفروغ منه لا يحتاج إلى تنبيه - أنا نحب أهل البيت ونقدمهم ونعرف حقهم ونؤدي إليهم ما يجب علينا لكن هذا شيء والتقديم بالإمامة شيء آخر فنحن نطيع الله ورسوله حيث رتبا الإمامة في حديث أبي مسعود - رضي الله عنه - بترتيب لا نخرج عنه إلى غيره. إذاً الأتقى يقدم على الأشرف بل أكثر من ذلك الشرف ليس له علاقو بتقديم ولا تأخير الإمامة. والإجابة على الحديث: يمكن أن نجيب أن الحديث ضعيف عند بعض أهل العلم وممن أشار إلى ضعفه البيهقي لكن في الحقيقة شواهده كثيرة وإسناد الحديث المرسل صحيح إلى مرسله وفيه قوة. والثاني: أن هذا في الإمامة الكبرى لا في الإمامة الصغرى لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - جعل ترتيباً خاصاً في الإمامة الصغرى وهو: يؤم القوم أقرؤهم لكتاب الله ... الخ. • ثم قال رحمه الله: ثم الأتقى. أي إذا استووا في جميع ما تقدم فإننا نقدم الأتقى. والدليل ما سبق {إن أكرمكم عند الله أتقاكم}. تقدم معنا أن الراجح تقديم الأورع على الأشرف. • ثم قال رحمه الله: ثم من قرع. أي إذا استووا في جميع الصفات السابقة فإن الإمام أو أهل الحي يقرعون بين المتساويين. الدليل على ذلك: قول النبي - صلى الله عليه وسلم - لو يعلم الناس ما في النداء والصف الأول ثم لم يجدوا إلا أن يستهموا عليه لا ستهموا. وسعد رضي الله عنه في القادسية تنازع الناس الأذان فأقرع بينهم. ولقاعدة مشهورة أنه إذا تساوى الإثنان في الاستحقاق فالترجيح بينهما يكون بالقرعة. = والقول الثاني: أنه في حال التساوي يرجح من يرغب به جماعة المسجد فإذا رغبوا بأحدهما مع التساوي في جميع الصفات قدما لرغبة الجماعة به.

الدليل: قالوا: أن في تقديم من رغب به جماعة المسجد تأليفاً للقلوب واجتماعاً للكلمة. وهذا القول فيه قوة وفيه فقه لكن يحول بيننا وبين ترجيحه مسألة أن سعداً - رضي الله عنه - لم يستشر الصحابة في أي الصحابة يؤذن وربما كان بعضهم أندى صوتاً فلم ينظر إلى هذه الأمور إنما أقرع بينهم. ثم إذا قدمنا رغبة الجماعة ربما يؤدي هذا إلى شحناء وتباغض بين الجماعة والمؤخر. انتهى الدرس،،،

قال شيخنا حفظه الله: بسم الله الرحمن الرحيم. الحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين. تقدم معنا بالأمس الكلام عن من هو الأولى بالإمامة وأخذنا الخلاف في ذلك ونريد أن نذكر الآن الراجح من حيث الترتيب فقط. فأولى الناس حقاً بالإمامة الأقرأ ثم الأفقه ثم الأقدم هجرة ويساويه القدم إسلاماً ثم الأتقى ثم الأسن وليس معهم الأشرف. وفي الحقيقة التقديم بالأتقى أمر نسبي قد لا يتحقق في كثير من الأحوال ففي المرتبة الأخيرة غالباً سيكون الأسن لأن الحكم لفلان أنه أتقى من فلان أمر فيه عسر وقد لا يتضح في كثير من الصور. وعموماً هذا هو الراجح من حيث الأدلة أما من حيث التطبيق فالأقرأ - الأفقه - الأقدم هجرة - الأسن. فهذا هو الذي يكون العمل به متيسراً وسهلاً. لما انتهى المؤلف من بيان القاعدة العامة في ترتيب الأئمة انتقل إلى أشياء خاصة: • فقال رحمه الله: وساكن البيت وإمام المسجد: أحق. ساكن البيت وإمام المسجد أحق بالإمامة ولو حضر من هو أولى منهما في الصفات السابقة. لما أخرجه مسلمك في صحيحه: (لا يؤمن الرجل الرجل في سلطانه). فأما صاحب البيت فمعلوم أنه سلطان بيته وأيضاً تقدم معنا أن الإمام الراتب في المسجد كالسلطان في بيته أي: له الحق والأولوية أن يصلي. إذاً عرفنا أنهما يقدمان ولو حضر من هو أولى منهما. • ثم قال رحمه الله: إلاّ من ذي سلطان. أي: إلا إذا حضر السلطان في البيت أو في المسجد فإنه يقدم على صاحب البيت وعلى الإمام الراتب. والمقصود بالسلطان هنا: السلطان الأعظم.

واستدلوا على تقديم السلطان الأعظم - أي خليفة المسلمين أو من له السلطة العليا في الدولة - بنفس الحديث السابق: (لا يؤمن الرجل الرجل في سلطانه). قالوا: أن سلطان ولي الأمر أكبر من سلطان صاحب البيت حتى في بيته وحتى من إمام المسجد في مسجده. فلما كان سلطانه أكبر صار وصف الحديث ينطبق عليه أكثر فقدم للصلاة. إذاً إذا حضر السلطان فهو أحق بالإمامة من صاحب البيت أو إمام المسجد ولو كان راتباً. • ثم قال رحمه الله: وحر وحاضر ومقيم وبصير ومختوم ومن له ثياب: أولى من ضدهم. قوله: (وحر). أي أن الحر مقدم على العبد. فإذا اجتمعا قدم الحر على العبد. واستدلوا على تقديم الحر على العبد بأنه: أشرف وأعلى مكانة. = والقول الثاني: أن العبد إذا كان أفقه فإنه يقدم. واستدلوا بأدلة قوية جداً: الأول: عام. والثاني: حاص. أما الأول: فعموم قوله - صلى الله عليه وسلم -: (يؤم القوم أقرأهم لكتاب الله). فنحن نقدم من قدم الله ورسوله ونؤخر من أخر الله ورسوله. الثاني: أن سالم مولى أبي حذيفة - رضي الله عنه - صلى بعمر بن الخطاب - رضي الله عنه - لأنه أقرأ منه. ولا شك أن الراجح هو أن العبد الأفقه أو الأقرأ ولو كان مملوكاً فإنه مقدم على الحر في الصلاة والإمامة إذا كان أفقه. ولاشك في رجحان هذا القول وأظن أن هذا كلام لبعض الحنابلة ولا أظنه يثبت عن الإمام أحمد بن حنبل. قوله: (وحاضر). يقصد بالحاضر هنا: الحضري وهو: من سكن المدن والأمصار فإنه مقدم على أهل البوادي: أي: على البادية. فإذا حضر رجل من الحضر ورجل من البادية فنقدم الحاضر على البادي. واستدلوا على هذا بأن: البادية يغلب عليهم الجهل بالأحكام وعدم معرفة القرآن. = والقول الثاني: أنه يقدم الأفقه سواء كان من الحاضرة أو من البادية. فإذا كان الرجل الذي من البادية أقرأ أو أفقه فإنه يقدم على من ليس كذلك ولو كان من الحضر. واستدلوا: بعموم قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: (يؤم القوم أقرأهم لكتاب الله). سواء كان هؤلاء القوم من البادية أو من الحاضرة.

ولا يخفى أن القول الثاني هو القول الراجح وتعليق الأحكام بوصف الحضر والبدو لا أصل له في الشرع إنما نعلق الأحكام على الضوابط التي جاءت عن الشارع. ومنها في هذا الباب: مسألة أن يكون الأقرأ. قوله: (ومقيم). أي أن المقيم مقدم في الإمامة على المسافر. فإذا حضرا قدم المقيم وتأخر المسافر. واستدلوا على ذلك: بأنه يلزم من تقديم المسافر أحد أمرين: الأول: أن يقصر فيفوت بذلك على المقيم الصلاة كاملة جماعة لأنه سيقوم يقضي ركعتين بلا جماعة منفرداً. الثاني: أن يتم المسافر فيعتبر فعل مكروهاً. لذلك قالوا: نقدم المقيم على المسافر. = والقول الثاني: أنه يقدم من قدم الله ورسوله سواء كان مسافراً أو مقيماً لعموم قوله - صلى الله عليه وسلم -: (يؤم القوم أقرأهم لكتاب الله). وفي المسألة: دليل خاص وهو أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما نزل مكة صلى بالناس وقصر الصلاة وقال لأهل مكة: (إنا قوم سفر فأتموا صلاتكم). فهو - صلى الله عليه وسلم - صلى بهم إماماً وهو مسافر وهم مقيمون والأصل العام أن النبي - صلى الله عليه وسلم - يقتدى به في كل أفعال الصلاة لقوله - صلى الله عليه وسلم -: (صلوا كما رأيتموني أصلي). والراجح القول الثاني. قوله: (وبصير). يعني أنه يقدم البصير على الأعمى. فهو أولى منه بالإمامة. التعليل: قالوا: أن البصير أقدر على استكمال شرائط الصلاة من الأعمى سو اء كان من حيث استقبال القبلة أو الطهارة من النجاسة أو الوضوء وغير ذلك من شروط الصلاة. = والقول الثاني: أن الأعمى أولى لأنه أقرب للخشوع. = والقول الثالث: أنه يقدم من قدم الله ورسوله فمن كان أقرأ قدم سواء كال أعمى أو مبصر وقد صح أن ابن عباس - رضي الله عنه - لما فقد بصره صلى بالناس إماماً وهو أعمى. وفي رواية أنه امتنع أن يؤم الناس لما صار أعمى. لكن الأقرب للصحة أنه صلى - رضي الله عنه - ولم يمتنع من الصلاة. والراجح هو القول الثالث. وأجيب عن قضية الخشوع أنه يكره عند العلماء إغماض العينين ولو كان هذا مندوباً إليه وفضيلة لكان إغماض العينين مندوباً إليه. وعلى كل حال فإن فيه شيء من الصواب فلا شك أن الكفيف لا يشتغل بما أمامه من الملهيات.

أما الراجح فهو أن من قدم الله ورسوله فهو المقدم. قوله: (ومختون). المختون مقدم على الأقلف فهو أولى منه بالإمامة. والختن هو: قطع القلفة وهي: الجلدة التي تغطي الحشفة. فإذا قطعت هذه الجلدة صار الإنسان مختوناً وإذا لم تقطع فإنه أقلف. والتعليل: أنه أكمل منه طهارة وأكمل منه اتباعاً للسنة ولا يؤم المفضول الفاضل. الراجح: أن في المسألة تفصيل على النحو التالي: ـ نقول إذا كان الأقلف يستطيع أن يغسل النجاسة المتبقية تحت هذه الجلدة ولم يفعل فإن صلاته باطلة فضلاً عن إمامته لأنه صلى مستصحباً للنجاسة عمداً. وقد تقدم معنا أن الطهارة من النجاسة من شروط صحة الصلاة. ـ أن لا يستطيع أن يزيل هذه النجاسة فهو معذور أو يستطيع وأزالها فعلاً فحينئذٍ تساوى هو والمختون فنقدم من قدم الله ورسوله فالأقرأ منهما يصلي. وهذا القول كما قلت هو الراجح وهو المتوافق مع الأدلة الشرعية. قوله: (ومن له ثياب). أي ومن له ثياب مقدم على من ليس له ثياب. لكن الحنابلة يقصدون بمن له ثياب وبمن ليس له ثياب شيئاً خاصاً. فيقصدون بمن له ثياب: أي من يملك ثوبين وما يغطي به رأسه أولى ممن ليس له ثياب والمقصود به: من ستر العورتين مع أحد العاتقين لأن هذا هو القدر الواجب عند الحنابلة كما تقدم. وفيما أرى أن هذا التقديم صحيح فإن من أخذ زينته فهو مقدم في الصلاة عند التساوي على من لم يأخذ زينته لعموم قوله تعالى: {خذوا زينتكم عند كل مسجد}. فأمر الله بأخذ الزينة عند كل مسجد. لكن يستثنى من هذا إن كان من لا يجد الثياب أنه لا يجدها بسبب الفقر فحينئذٍ يصبح معذوراً وسقط اعتبار هذا الوصف فنقدم من قدم الله ورسوله. قال: (أولى من ضدهم). هذه العبارة هي حكم لجميع الأجناس السابقة في قوله: (وحر وحاضر ومقيم وبصير ومختوم ومن له ثياب). فهذه ستة الحكم فيهم أنهم مقدمون على ضدهم وقد ذكرنا الخلاف في كل مسألة منها. وبهذا انتهى المؤلف رحمه الله من الكلام على مسألة من الأحق بالتقديم أو الأحق بالتأخير في الإمامة. وانتقل إلى مسألة أخرى وهي الأشخاص الذين لا تصح الصلاة خلفهم. • فقال رحمه الله: ولا تصح خلف: فاسق.

قبل أن نأخذ حكم الصلاة خلف الفاسق وتعريف الفاسق من المناسب أن نذكر تحرير محل البحث. والفرق بين تحرير محل النزاع وتحرير محل البحث: تحرير محل النزاع هو: إخراج المسائل المجمع عليها وبحث المسألة المتنازع عليها. تحرير محل البحث هو: تحديد المسألة التي ستبحث سواء كانت المسائل الأخرى محل إجماع أو خلاف فلا يعنينا لكن نحن نريد أن نحدد المسألة التي نريد أن نبحثها. ودائماً يستخدمون تحرير محل البحث حينما تكون المسائل التي تخرج أيضاً فيها خلاف لكن الباحث لا يريدأن يبحث هذه المسائل وإنما يتركز بحثه على مسألة معينة. فنذكر الآن تحرير محل البحث: أولاً: تجوز الصلاة خلف الفاسق في الجمع والأعياد بلا إشكال. ثانياً: تجوز الصلاة خلف الفاسق الذي لا يعلم فسقه. ثالثاً: تكره الصلاة خلف الفاسق بالإجماع. إذاً الكراهة ليست محل بحث إنما محل البحث التحريم. نرجع إلى المسألة: • يقول رحمه الله: ولا تصح خلف: فاسق. الفسق في اللغة: هو الخروج. وفي الاصطلاح: التلبس بكبيرة أو المداومة على صغيرة. والفسق ينقسم إلى قسمين: فسق اعتقادي: كالمعتزلة والأشاعرة والجهمية عند من يحكم بإسلامهم والشيعة عند من يحكم بإسلام بعضهم وبعبارة أوضح نقول: هي البدع غير المكفرة. فسق عملي: وهو ما تقدم: فعل كبيرة أو الإصرار على صغيرة. اختلف الفقهاء رحمهم الله في حكم الصلاة خلف الفاسق: = ذهب الحنابلة – وهو المذهب – أن الصلاة خلف الفاسق لا تصح. واستدلوا بأدلة نأخذ منها دليلين فقط: الأول: حديث جابر - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (لا يؤمن فاجر مؤمناً).وهذا الحديث ضعيف جداً ومنكر ومنن حكم بنكارته الحافظ الكبير أبو حاتم والدارقطني وغيرهما. الثاني: تعليل: أنه لا يؤمن في الفاسق أن يترك بعض شرائط الصلاة لفسقه وضعف دينه. = القول الثاني: أنه تصح الصلاة خلف الفاسق. واستدلوا أيضاً بنص وأثر: أما النص: فهو أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أخبر عن أئمة الجور وأنهم يضيعون الصلاة وهذا دليل على فسقهم ومع ذلك قال - صلى الله عليه وسلم -: (صل الصلاة لوقتها فإن وافقتهم فصل معهم تكن لك نافلة).

وجه الاستدلال: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - صحح الصلاة خلفهم نافلة ولو كانت الصلاة باطلة فإنها لا تصح لا نفلاً ولا فرضاً. أما الأثر: أن ابن عمر - رضي الله عنه - صلى خلف الخوارج وهم فساق فسقاً اعتقادياً. وصلى خلف الحجاج وهو فاسق فسقاً عملياً. وصلى الحسن والحسين وغيرهما من الصحابة خلف مروان بن الحكم وهم يعتبرونه من الفساق لأخطائه العظيمة. وإذا كان مع أصحاب القول الثاني نص عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وآثار صحيحة بل حكي إجماع الصحابة على صحة الصلاة خلف الفاسق فلا شك في رجحان هذا القول. وطالب العلم يرجح هذا القول مستصحباً الإجماع على كراهة الصلاة خلف الفاسق. • ثم قال رحمه الله: ككافر. الصلاة خلف الكافر لا تصح. إن كان يعلم كفره فبالإجماع. وإن كان لا يعلم كفره فكذلك لا تصح عند الحنابلة. وذهب بعض الفقهاء كالفقيه أبي ثور إلى صحة الصلاة خلف الكافر إذا جهل المأموم كفره. وعلل ذلك بأن هذا المأموم معذور. والأحوط مذهب الحنابلة أن الإنسان إذا صلى خلف شخص ثم تبين له بعد الصلاة أنه كافر فإنه يعيد. وتتصور هذه المسألة: في أن يكون الكفر من باب كفر الردة فيكون ظاهره الإسلام لكنه ارتد في قول أو عمل ولم يعلم المأموم أن أتى بمكفر فحينئذ قد لا يعلم بكفره. • ثم قال رحمه الله: ولا امرأة. أي ولا تصح الصلاة خلف المرأة. = وهذا هو مذهب الأئمة الأربعة والفقهاء السبعة وجماهير العلماء من الخلف والسلف. واستدل الجماهير بأدلة: الدليل الأول: بقول النبي - صلى الله عليه وسلم - (لا تأمن امرأة رجلاً) وهذا الحديث تكملة لحديث: (لا يؤمن فاجر مؤمناً) وقد تقدم معنا أن درجته أنته ضعيف جداً أومنكر. الدليل الثاني: ما جاء في صحيح البخاري أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (لا يفلح قوم ولو أمرهم امرأة) ومن أعظم وأشرف وأهم الولايات ولاية إمامة الناس فإنه يقال الإمامة الصغرى والإمامة الكبرى فتقارن بالإمامة الكبرى لشرفها وأهميتها في الإسلام فكيف نوليها امرأة. الدليل الثالث: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (خير صفوف النساء آخرها وشرها أولها) فكيف مع ذلك تكون هي الإمام.

= والقول الثاني: صحة صلاة النافلة وفي التراويح بالذات لأن أم ورقة رضي الله عنها لما طلبت من النبي - صلى الله عليه وسلم - أن تخرج معهم في الغزو أمرها أن تمكث وأن تصلي بأهل بيتها وأن تتخذ مؤذناً شيخاً كبيراً. قالوا: فدل هذا الحديث على أن إمامة المرأة في التراويح صحيحة. وصحة إمامة المرأة في التروايح رواية عن الإمام أحمد. = القول الثالث: الصحة مطلقاً وهو منسوب للطبري والمزني ولأبي ثور. لكن في الحقيقة بالنسبة لهؤلاء العلماء إشكال فبعض الكتب نسبت إليهم هذا القول وبعضها نسبت إليهم القول بأن إمامة المرأة تجوز في التراويح مطلقاً. فهناك اختلاف في التحقق من نسبة القول بجواز الصلاة مطلقاً إلى هؤلاء الأئمة الثلاثة. وفي الحقيقة لم يتسن لي البحث للتحقق من نسبة هذا القول فإنهم في الكتب ينسبون هذا القول تارة الجواز مطلقاً وتارة في التراويح. فالإشكال الأول في هذا القول الأخير هو التحقق من نسبة هذا القول. واستدل أصحاب هذا القول – الأخير – بحديث أم ورقة رضي الله عنها حيث قالوا أنه عام ولم يخصص بالتراويح. والجواب عن حديث أم ورقة رضي الله عنها: أن في إسناده مجهولين. ومع وجود الجهالة المتن فيه نكارة فيما يظهر والله أعلم لأن بعضهم يحسنه. وجه النكارة أنه لا يوجد في النصوص ولا في الآثار أبداً الإشارة إلى إمامة المرأة للرجال. مع وجود الفقيهات من الصحابيات والتابعيات. ووجود طلبة العلم من أرحامهن أي ممن يتمكن من الدخول بلا ستر مع ذلك لم ينقل أن منهن من أمتهم أو أن امرأة أمت الرجال. فالراجح والله أعلم مذهب علماء المسلمين سلفاً وخلفاً إلا من ذكرت. أنه لا يشرع. مما يدل على قوة هذا القول قرب وقوع الفتنة بصلاة المرأة بالرجال فإن الفتنة تكاد تكون متحققة لا سيما مع ما في الصلاة من القراءة والتغني بالقرآن ومع مافيها من الركوع والسجود. فلا شك أن مذهب الجماهير إن شاء الله هو الراجح الذي تدل عليه النصوص الخاصة والأصول العامة على أن الحنابلة وغيرهم قالوا لو فرض صحة صلاة المرأة فإنه يجب أن تكون خلف الصف. فإذا جوزنا أن تكون إمامة فيجب أن تقف خلف الرجال هذا إذا جوزنا ذلك. • ثم قال رحمه الله: وخنثى للرجال.

أي: أنها لا تصح خلف المرأة بالنسبة للرجال أما بالنسبة فلا بأس أن يصلين خلفها وسيأتي معنا ذكر هذه المسألة. ولا تصح صلاة الرجال خلف الخنثى: التعليل: أنه قد يكون امرأة والخنثى هو الذي أشكل أمره فلا يعرف هل هو رجل أو امرأة؟ وهو موجود في الزمن الماضي والحاضر والمعاصر فإنه يوجد من يولد ويشكل أمره هل هو رجل أو امرأة إما لعدم وجود مخرج للمرأة والرجل أصلاً أو لوجود مخرج للمرأة والرجل في ذات الوقت في هذا الخنثى. الخلاصة: أنه لا يجوز للرجال أن يصلوا خلف الخنثى. • ثم قال رحمه الله: ولا صبي لبالغ. أي ولا تصح صلاة البالغ خلف الصبي. = فالحنابلة يرون أنه لا تصح صلاة البالغ خلف الصبي. وكان ينبغي على المؤلف رحمه الله أن يقول: في الفريضة لأن هذا هو مذهب الحنابلة: أن نفي الصحة خاص بالفريضة وهذا أمر لا يترك أساسي فإنه ليس مما يقال أنه من التكميل والشرح. فكان ينبغي أن يقول ولا صبي لبالغ في الفريضة. ففي الفريضة لا يكون الصبي إماماً للبالغ لأن البالغ أكمل منه وصلاة البالغ فريضة وصلاة الصبي نافلة. فهو أكمل من حيث هو فإنه مكلف. وأكمل من حيث صفة الصلاة: فصلاته فريضة وصلاة الصبي نافلة. هذا الدليل الأول. والدليل الثاني: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (رفع القلم عن ثلاثة ... وذكر منهم الصبي حتى يبلغ) فهو مرفوع عنه القلم. = والقول الثاني: أن إمامة الصبي صحيحة. واستدلوا بدليلين: عام وخاص. العام: قالوا: عموم قوله - صلى الله عليه وسلم -: (يؤم القوم أقرأهم) سواء كان بالغاً أو لم لم يبلغ لأن الحديث لم يفصل. الخاص: أن والد عمرو بن سلمة قدم على النبي - صلى الله عليه وسلم - وسأله عن أحكام الدين ليبلغها لقومه فكان مما بلغه النبي - صلى الله عليه وسلم - أن قال له: (ليؤمكم أكثركم قرآناً) فما رجع إلى قومه قال عمرو بن سلمة بحثوا فلم يجدوا إلا أنا فقد كنت أكثرهم قرآناً وهو ابن ست أو سبع سنين. فصار هو الإمام لقومه. ففي هذا الحديث إمامة الصبي للبالغين. وهذا القول الثاني أصح وأقرب.

لكن إذا قال قائل: أنتم تقولون: إن الإمام أحمد إذا وجد نصاً لا يتركه إلى غيره فكيف وقد ثبت عن الإمام أحمد بروايات أنه لا يرى صحة إمامة الصبي. فكيف وقد ترك هذا النص؟ فما هو الجواب؟ الجواب: أن الإمام أحمد سأل – الأثرم أو غيره – سأله فقال له: ما تقول في حديث عمرو بن سلمة فرده الإمام أحمد وقال: أي شيء يكون؟ أو أي شيء هو؟ ولم يرده من حيث الصحة لكن الحنابلة فسروا هذا القول من الإمام أحمد بأنه يرى أن هذا العمل لم يبلغ النبي - صلى الله عليه وسلم - ولذلك لم يأخذ بالحديث. وحاشاه رحمه الله أن يكون في المسألة نص صريح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ثم يتركه. لكنه رحمه الله ترك هذا النص لهذا المعنى كأنه رأى أن هذا الحديث لم يبلغ النبي - صلى الله عليه وسلم - لأن والد عمرو رجع إلى قومه في البادية وهم يسكنون بعيداً عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وصار هو الإمام فربما حصل هذا منهم من غير علم النبي - صلى الله عليه وسلم -. ونحن نريد أن نبين وجهة نظر الإمام أحمد رحمه الله فقط وأما الراجح فهو القول الثاني لأن الأصل إن شاء الله كما سيأتيكم في أصول الفقه أن إقرار الله حجة فإن كان النبي - صلى الله عليه وسلم - علم فليس في المسألة إشكال وإن كان لم يعلم فإن الله تعالى يعلم وهي واقعة وقعت في زمن التشريع ولو كانت هذه الواقعة مخالفة للشرع لبينها الله لرسوله - صلى الله عليه وسلم -. إذاً الراجح إن شاء الله صحة صلاة الصبي لبالغ. وقوله: ولا صبي لبالغ: يفهم منه صحة الصبي لمثله وهذا صحيح لتساويهما. ويفهم من مذهب الحنابلة – لا أقول من عبارة المؤلف – أن إمامة الصبي البالغ لا تجوز في الفريضة يفهم منه جواز إمامة الصبي في النافلة وهو مذهب الجماهير وهو الصواب إن شاء الله. فإمامة الصبي في النافلة جائزة حتى عند الحنابلة وهو مذهب الجمهور حتى لو رجحنا عدم صحة إمامته في الفريضة ففي النافلة صلاته إن شاء الله صحيحة عند الجماهير بلا إشكال. • ثم قال رحمه الله: ولا أخرس. = أي أنه لا تصح إمامة الأخرس وهو من لا يستطيع النطق لا بالناطق ولا بمثله - أي أخرس آخر – عند الحنابلة. الدليل: استدلوا على هذا الحكم:

بأن القراءة ركن مقصود معتبر في الشرع وهو لم يأت به ولا ببدله. = والقول الثاني: صحة إمامة الأخرس بمثله فقط. لأن المنع من ذلك يؤدي إلى أن يصلوا فرادى وتضيع الجماعة. = والقول الثالث: صحة إمامة الأخرس مطلقاً. لأنه وإن كان أخرساً إلا أنه معذور فليس بيده النطق وإلا لفعل. وإذا كان معذوراً سقط اعتبار هذه الصفة وإذا لم تعتبر رجعنا إلى الأصل وهو من كان أقرأ يعني أكثر حفظاً فإنه يصلي بالناس. والترجيح في هذه المسألة فيه إشكال من حيث العموم والأدلة العامة تدل على أنه وإن كان أخرساً إلا أنه معذور. وإذا نظر الإنسان إلى النصوص الخاصة وجد أن الشارع له نظر عميق جداً في القراءة بل إنه قدم القارئ على الفقيه. وقدم القارئ على كل الناس. فقال: (يؤم القوم أقرؤهم). وهذا لا يصدر منه قراءة مطلقاً. فالحقيقة فيه تعارض فما يظهر لي أي الأقوال أرجح إذا تصورنا وقوع مثل هذا الأمر. • ثم قال رحمه الله: ولا عاجز عن ركوع أو سجود أو قعود أو قيام. قبل شرح هذه العبارة أريد أن أنبه إلى تصحيح من حيث تفقير الكتاب (نسخة الهبدان - طبع دار ابن الجوزي) فإن الصواب في كتابة العبارة أن يقول: ولا عاجز عن ركوع أو سجود أو قعود ثم يضع نقطة ويبدأ مع أول السطر: أو قيام. إلاّ إمام الحي المرجو زوال علته. لماذا؟ لأن الحكم وهو قوله: (إلا إمام الحي المرجو زوال علته) يتعلق فقط بالقيام فليس له علاقة بالعاجز عن الركوع أو السجود أو القعود. وصنيع المحقق وفقه الله وجزاه الله خيراً يفهم منه خلاف ذلك. إذا تكون الجملة: ولا عاجز عن ركوع أو سجود أو قعود ثم نقطة ومع أول السطر أو قيام. إلاّ إمام الحي المرجو زوال علته. نرجع إلى معنى العبارة: يقول: ولا عاجز عن ركوع أو سجود أو قعود: يعني ولا تصح الصلاة خلف عاجز عن ركوع أو سجود أو قعود. والمقصود بقوله: (عاجز عن ركوع أو سجود أو ركوع) أي لا تصح الصلاة خلف العاجز عن الأركان أو الواجبات أو الشروط ففي الحقيقة هم يريدون هذا المعنى ولا يريدون التخصيص بمسألة العاجز عن الركوع أو السجود أو القعود. إذاً لا تصح الصلاة خلف العاجز عن الأركان أو الشروط أو الواجبات.

الدليل عند الحنابلة: أن العاجز عن هذه الأشياء أخل بركن مقصود من أركان الصلاة سواء كان الركوع أو السجود أو القعود ولا يكون المفضول إماماً للفاضل. فمن كان قادراً قدم بالإمامة. = القول الثاني: مذهب الشافعية واختاره شيخ الاسلام بن تيمية رحمه الله أنه تصح الصلاة خلف العاجز عن الأركان أو الشروط. لأن هذا العاجز معذور وإذا كان معذوراً لم يؤاخذ بما ترك وصلاته كاملة شرعاً. وإذا ثبت ذلك - أي أنه معذور - فإنا نقدم من قدم الله ورسوله. فنقول الأقرأ يتقدم فيصلي سواء كان هو العاجز أو القادر. • ثم قال رحمه الله: أو قيام. إلاّ إمام الحي المرجو زوال علته. أي لا تجوز الصلاة خلف العاجز عن القيام إلا بشرطين: أن يكون إمام الحي. أن يرجى زوال علته. واستدلوا على هذا الحكم بأدلة: الدليل الأول: أن القيام أسهل من باقي الأركان بدليل سقوطه فقي النافلة. الدليل الثاني: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - صلى بأصحابه جالساً لما صرع عن فرسه - صلى الله عليه وسلم - فاشتكى. وهذا الحديث في الصحيحين. والنبي - صلى الله عليه وسلم - هو الإمام الراتب وأيضاً يرجى زوال علته لن العلة كانت بسبب السقوط عن الفرس وهذا عادة يزوال. = القول الثاني: أنه تجوز الصلاة خلف العاجز عن القيام ولو لم يكن هو إمام الحي ولو لم يرجى زوال علته. أولاً: لأن النصوص التي فيها أن النبي - صلى الله عليه وسلم - صلى بأصحابه ليس فيها تقييد بهذه القيود. ثانياً: أنه ثبت في الصحيح أن النبي - صلى الله عليه وسلم - صلى بأصحابه في مرض موته حين صلى جالساً وصلى خلفه أبو بكر رضي الله عنه والناس قيام. فدل هذا على أنه لا يشترط أن يرجى زوال علته ... (الآذان .. ) والراجح في هذه المسألة أنه يجوز الصلاة خلف العاجز عن القيام بلا شروط زائدة والدليل هو عموم الأحاديث التي فيها أن النبي - صلى الله عليه وسلم - صلى بالناس قاعداً بلا شروط زائدة بالنصوص. ولعموم (يؤم القوم أقرؤهم لكتاب الله). والباقي إن شاء الله يأتي غداً. انتهى الدرس،،،

قال شيخنا حفظه الله: بسم الله الرحمن الرحيم. الحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين. تقدم معنا بالأمس الكلام عن حكم الصلاة خلف العاجز عن الأركان أو الشروط عند الحنابلة ثم حكم الصلاة خلف العاجز عن القيام فقط عند الحنابلة وذكرنا أدلة الحنابلة والشرطين اللذين ذكرهما المؤلف. • ثم توقفنا عند قول المؤلف رحمه الله: ويصلون وراءَه جلوساً ندباً. يريد المؤلف رحمه الله أن يبين حكم المأمومين في الصلاة التي جلس فيها الإمام من أول الصلاة. إذاً المقصود بقوله: ويصلون وراءَه جلوساً ندباً. في مسألة إذا صلى جالساً من أول افتتاح الصلاة. فإذا كان الإمام مريضاً وجلس من أول الصلاة فإنه يندب للمأمومين أن يصلوا جلوساً ولا يجب عليهم أن يصلوا جالسين وجوباً. = استدل الحنابلة على أنه يندب فقط ولا يجب بحديث عائشة رصي الله عنها أن النبي - صلى الله عليه وسلم - في المرض الذي مات فيه خرج ليصلي بالناس فصلى بهم جالساً وأبو بكر - رضي الله عنه - والناس خلفه يصلون قياماً. فدل هذا الحديث على أن الصلاة خلف الإمام الجالس جلوساً مستحب ويجوز لهم أن يصلوا قياماً. = والقول الثاني: أنه يجب إذا شرع الإمام في الصلاة جالساً أن يصلي المأمومون وهم جلوس وجوباً أي على سبيل الوجوب لا على سبيل الندب. واستدلوا على هذا بدليلين: الأول: حديث أنس - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (إنما جعل الإمام ليؤتم به ... أن قال .. : فإذا صلى جالساً فصلوا جلوساً أجمعون). فقوله: (فصلوا جلوساً) ثم التأكيد بكلمة أجمعين فهذا دليل على أن هذا الأمر خرج مخرج الوجوب. الثاني: ما في حديث عائشة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - صلى شاكياً وصلى بعض القوم خلفه قياماً فأشار إليهم أن اجلسوا. ولم يأمرهم بالجلوس في أثناء الصلاة إلا لأنه واجب. وهذا القول - الثاني - هو الصحيح. ونحتاج إلى الجواب عن حديث عائشة رضي الله عنها لأن الصحابة صلوا خلف النبي - صلى الله عليه وسلم - وهم قيام وهو جالس - صلى الله عليه وسلم - فنقول الجواب: ـ هو بالجمع بين الحديثين كما جمع الإمام أحمد فنقول:

- يحمل حديث عائشة رضي الله عنها على من ابتدأ الصلاة قائماً ثم اعتل وجلس. - ويحمل حديث أنس - رضي الله عنه - وحديث عائشة الآخر على ما إذا ابتدأ الإمام الصلاة جالساً. وهذا الجمع مقدم على النسخ الذي ذهب إليه أصحاب القول الأول - أي نسخ الوجوب - وستأخذون في أصول الفقه في مبحث مهم جداً لطالب العلم وهو تعارض الأدلة: أن مرحلة الجمع تسبق مرحلة النسخ. إذاً قوله: (ندباً) الصواب أنه وجوباً. • ثم قال رحمه الله: فإن ابتدأ بهم قائماً ثم اعتل فجلس: أتموا خلفه قياماً وجوباً. إذا بدأ الإمام الصلاة قائماً ثم جلس في أثناء الصلاة فإن المأمومين يصلون خلفه قياماً وكما قال المؤلف رحمه الله: (وجوباً). ولا أظن أن في هذه المسألة خلاف. والدليل: حديث عائشة رضي الله عنها فإنهم رضي الله عنهم صلوا خلف النبي - صلى الله عليه وسلم - قياماً. وقد تقرر أن مخالفة الإمام الفعلية محرمة لقوله: (إنما جعل الإمام ليؤتم به). ولقوله - في بعض الألفاظ - (فلا تختلفوا عليه). فهذا دليل على أن مخالفة الإمام محرمة ومع ذلك خالفوا الإمام مما يدل على أن القيام واجب أي أنهم تركوا المحرم للإتيان بما هو أجوب منه وهو القيام. على كل حال لا إشكال أنه إذا ابتدأ بهم قائماً ثم جلس أنهم يصلون قياماً. عرفنا الآن أن قوله: (ويصلون وراءه جلوساً ندباً) لا يمكن أن يعم الصورتين فيما إذا ابتدأ الصلاة قائماً ثم جلس وفيما إذا ابتدأ الصلاة جالساً وإنما تحمل العبارة الأولى على ما إذا ابتدأ الصلاة جالساً. • ثم قال رحمه الله: وتصح خلف: من به سلس البول بمثله., المقصود بمن به سلس البول: من يستمر خروج البول ولا يستمسك بالإرادة. ومقصود الحنابلة بقولهم من به سلس البول: كل من حدثه دائم. أي: أن هذا الحكم لا يختص بمن به سلس البول بل يعم كل من حدثه دائم. حكم من حدثه دائم: أنه يجوز أن يصلي بمثله ولا يجوز أن يصلي بغيره - أي بغير من به سلس البول. - أما لماذا يجوز أن يصلي بمثله؟ فسبق معنا التعليل وهو: لتساويهما في الحال. - وأما لماذا لا يصلي بغيره؟ لأن هذا الشخص يخرج منه الحدث المبطل للطهارة وعفي عنه للعذر فلا يصلي بمن استكمل الشروط.

= والقول الثاني: أن من به سلس البول إذا غلبه هذا الأمر فإنه يصلي بمثله وبغيره إذا كان هو الأقرأ ولا ينظر لهذا الوصف أصلاً لأنه خارج عن إرادة الإنسان. وهذا القول هو الصواب وهذا القول عليه العمل فإن كثيراً من الأئمة يصلون بالناس ومعهم سلس فمن الناس من يسأل عن هذه المسألة ويذكر في سؤاله أنه إمام مسجد وعليه فإنه عمله صحيح ومذهب الحنابلة في هذه المسألة ضعيف. ومما يدل على قوة هذا القول - الثاني - عموم قوله - صلى الله عليه وسلم -: (يؤم القوم أقرؤهم لكتاب الله). • ثم قال رحمه الله: ولا تصح خلف: محدث ولا متنجس يعلم ذلك. أي ولا تصح الصلاة خلف إمام محدث ومتنجس يعلم أنه أحدث أو أنه تنجس. ويجب أن تلاحظ أن مذهب الحنابلة ولو جهله المأموم فهذه مهمة ونقول: لو أن المؤلف أضافها لكان أولى. التعليل: قالوا: أن من صلى محدثاً أو متلبساً بالنجاسة عالماً فهو متلاعب آثم وصلاته باطلة فمن اقتدى به فقد اقتدى بمن بطلت صلاته فلا تصح صلاة المقتدي. وفي الحقيقة هذا مركب من أن الإمام متلاعب أكثر من أنه صلى صلاة غير صحيحة أيضاً. والشيء الثاني أن المأموم اقتدى بمن لاتصح صلاته لتلاعبه. = والقول الثاني: أنه إذا كان المأموم يجهل حال الإمام ولا يعلم بذلك فإن صلاة الإمام تبطل وصلاة المأموم صحيحة. وهذا القول وجيه جداً. والمسألة يتصور أن تقع فإنه قد يقدم من عليه جنابة فيستحيي أن يذكر أنه على غير طهارة للجنابة ويصلي بأصحابه لا سيما عند بعض السفهاء فهو يعلم أن صلاته باطلة والمأمومون لا يعلمون ذلك فعلى المذهب يجب أن يعيد هو وهم وعلى القول الثاني يجب أن يعيد هو أما هم فصلاتهم صحيحة. • ثم قال رحمه الله: فإن جهل هو والمأموم حتى انقضت: صحت لمأموم وحده. إذا صلى الإمام وهو محدث أو متلبس بالنجاسة وهو يجهل ذلك والمأموم يجهل ذلك فالحكم عند الحنابلة أن صلاة المأموم صحيحة والإمام يعيد. ومتى يعيد - لأنه يجهل ذلك؟ نقول: إذا تذكر ذلك وعلم. = دليل الحنابلة: فالوا: أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه وابن عمر وغيرهما من الصحابة صلوا بالناس وهم على جنابة جهلاً ونسياناً - يعني جهلاً بواقع الحال ونسياناً.

فأما عمر - رضي الله عنه - فإنه لما خرج لبعض شغله وحمل متاعاً رأى في ثوبه أثر الاحتلام فأعاد الصلاة ولم يأمر الناس بالإعادة. فهذا دليل قوي على أنه إذا صلى الإمام والمأموم وكلاهما يجهل أن الإمام صلى على غير طهارة فإن صلاة المأموم صحيحة وأما صلاة الإمام فإنه يعيدها. = والقول الصواب: أن في المسألة تفصيل: فإن صلى الإمام جاهلاً للحدث فإنه يعيد هو دون المأمومين. وإن صلى الإمام جاهلاً للنجاسة فإنه لا يعيد لا هو ولا المأمومون فصلاة الجميع صحيحة لأن صلاة الإمام الذي يجهل تلبسه بالنجاسة صلاةٌ صحيحة. لما ثبت في الصحيح أن النبي - صلى الله عليه وسلم - صلى يوماً بأصحابه وعليه النعل ثم خلعها لأن فيها أذىً أو قذر. وجه الاستدلال: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يستأنف الصلاة وإنما أتم بأصحابه بعد خلع الحذاء فدل ذلك على أن من صلى متلبساً بالنجاسة جاهلاً فإن صلاته صحيحة. وهذا التفصيل كما قلت هو الأقرب الذي تجتمع به الأدلة إن شاء الله. • ثم قال رحمه الله: ولا إمامه الأُمي: وهو من لا يحسن الفاتحة. الأمي في اللغة: هو من لا يحسن الكتابة والقراءة. والأمي في الاصطلاح الخاص بهذا الباب هو: من لا يحسن قراءة الفاتحة. بناء على هذا مهما حمل الإنسان من شهادات عليا في أي تخصص من التخصصات إذا كان لا يحسن قراءة الفاتحة فإنه يعتبر أمياً في هذا الباب – في باب الإمامة. إذاً إذا قيل لك ما تعريف الأمي في باب الإمامة الخاصة فتقول: من لا يحسن قراءة الفاتحة. ثم أراد المؤلف أن يبين بعض صور عدم الإحسان في قراءة الفاتحة: • فقال رحمه الله: أو يدغم فيها ما لا يدغم. قوله: (أو) كأن إدغام ما لا يدغم وتبديل الحروف واللحن الذي يحيل المعنى كأنه يختلف عن أن لا يحسن قراءة الفاتحة. وفي الحقيقة هذه الأشياء هي: أمثلة أن لا يحسن قراءة الفاتحة. ولذلك لو أنه قال رحمه الله: (كأن يدغم) لكان أولى. نعم. عدم الإحسان في قراءة الفاتحة لا ينحصر على الثلاث أمثلة التي ذكرها المؤلف لكن هي أمثلة فإنه لا يخرج الإحسان عن أن يكون من جنس هذه الأشياء وأشياء أخرى.

قوله: (أن يدغم فيها ما لا يدغم). أي أن يدغم حرفاً فيما لا يماثله ولا يقاربه. وبعبارة أخرى (أسهل): أن يدغم في موضع لا يصح الإدغام فيه. فهذا لا يحسن القراءة ولا يصح أن يكون إماماً. التعليل: أنه بهذا الإدغام أسقط حرفاً من الفاتحة وهو الحرف المدغم في غيره سقط في موضع لا يجوز أن يسقط. • قال رحمه الله: أو يبدل حرفاً. أي أن يبدل حرفاً أثناء النطق بحرف آخر ومثاله المشهور: الألثغ وهو من يبدل الراء غيناً فهذا أشهر مثال ويكثر وقوعه. فهذا الألثغ عند الحنابلة لا يجوز أن يكون إماماً مع وجود غيره. لأنه: أيضاً لم يأت بالفاتحة فقد نطق حرفاً آخر. واستثنى الحنابلة –بل الجمهور – الضاد فلو أبدلها بالظاء فإن صلاته صحيحة ويجوز أن يكون إماماً. واستدلوا على هذا بدليلين: الأول: أنهما في السمع واحد. فإذا سمع الإنسان الضاد والظاء فإنه لا يفرق بينهما في السمع. الثاني: أن مخرج الحرفين متقارب جداً مما يشق معه التحرز من الخلط. وهذا صحيح وهو اختيار شيخ الاسلام رحمه الله. • ثم قال رحمه الله: أو يلحن فيها لحناً يحيل المعنى إلاّ بمثله. إذا لحن في الفاتحة لحناً يحيل المعنى فإنه لا يجوز أن يكون إماماً إلا بشخص آخر يلحن كلحنه. من أمثلة اللحن الذي يحيل المعنى: أن يقول: ((أنْعَمْتُ)) بدل ((أنْعَمْتَ)). لأنه صار المنعم المتكلم أو القارئ. وهذا لحن ينقل المعنى إلى أمر آخر بعيد. أو أن يفتح همزة ((اهدنا)) وهذا يقفع عند بعض الأعراب لأن المعنى انتقل من طلب الهداية والتوفيق والصلاح إلى طلب الهدية. فهذا اختلاف كبير في المعنى بسبب اللحن. إذاً إذا لحن الإنسان فإنه لا يصح أن يكون إماماً وسيأتينا حكم صلاته. = القول الثاني في هذه المسألة: أنه يجوز أن يكون إماماً في النوافل فقط. = القول الثالث: الجواز مطلقاً. دليل الحنابلة أن الزهري رحمه الله يقول: (مضت السنة بذلك) أي بعدم صحة إمامة اللحَّان. وتقدم معنا مراراً أن الإمام الحافظ الكبير الزهري إذا قال مثل هذه العبارة فإن لها ثقلاً عند أهل العلم. لماذا؟

لأنه رحمه الله واسع الاطلاع جداً وغالباً ما يقصد بمثل هذه العبارات ما كان عليه إما العهد النبوي أو على أضعف الإيمان عهد الصحابة. وذلك لسعة اطلاعه ووقوفه على أقوال كبار الصحابة فمثله رحمه الله إذا قال: (مضت السنة بذلك) يكون له شأن كبير في الحقيقة. الدليل الثاني: أن القراءة ركن مقصود معتبر عند الشارع فلم يجز الاقتداء بمن يقصر فيه. بناء على هذا: إذا كان بعض الناس يقرأ ويلحن في الفاتحة فإنه يجب وجوباً أن يتخلف عن الإمامة ولا تصح الصلاة خلفه. فإذا كنا نعلم أن الإمام الفلاني يصلي بالمسجد الفلاني ويلحن في الفاتحة لحناً يحيل المعنى ويغيره كالأمثلة التي ذكرت وغيرها فإنه لا يجوز أن نصلي خلفه لأنه لا يصح الاقتداء به. ولا يخفى أن هذا فيه مشقة لا سيما في البوادي إذا يكثر فيهم من يكون إماماً وهو يلحن في الفاتحة وقد أخذنا أن القول الثاني أنه يجوز أن يكون إماماً وتصح الصلاة خلفه. أي الأقوال أرجح؟ الذي يظهر لي وأعتمد في هذا على كلمة الزهري أن نقول أنه لا يصح الإئتمام به فإذا صلى الإنسان خلف من يلحن ناسياً أو جاهلاً فيعيد أي عند الحنابلة. أو نقول: إذا صلى جاهلاً أو ناسياً – المأموم - فإنه يعذر. لكن إن صلى عالماً متساهلاً أعاد. وهناك خطورة أخرى بالنسبة لمن يصلي ويلحن: أن يعتاد الناس على سماع الفاتحة وفيها لحن فيحفظوا الفاتحة ملحونة. ففي الحقيقة تقديم من كان بهذه المثابة فيما يبدو لي أنه لا يجوز أي: أن الإئتمام به لا يصح. • ثم قال رحمه الله وإن قدر على إصلاحه: لم تصح صلاته. أي: إن قدر على إصلاح هذا اللحن لم تصح صلاته أصلاً لا منفرداً ولا إماماً. إذاًَ كأن العبارة الأولى يقصد بها المؤلف: من لا يستطيع إصلاح الشأن. أما من يستطيع ولم يفعل فصلاته من حيث هي باطلة. الدليل: - تقدم معنا تعليل هذا مراراً وهو: أن من ترك واجباً عمداً في الصلاة بطلت صلاته. فهذا ترك أمراً واجباً بل ترك أمراً يتعلق بركن كبير من أركان الصلاة وهو قراءة الفاتحة. لما انتهى المؤلف من الذين لا يجوز أن نصلي خلفهم ولا تصح إمامتهم انتقل إلى القسم الثاني وهم الذين يصح أن يكونوا أئمة ولكن مع الكراهة. • فقال رحمه الله:

وتكره إمامة: اللّحّان. اللحان المقصود به هنا: كثير اللحن. واللحن هو: نطق أواخر الكلمات على غير صوابها من جهة الإعراب. ومراد الفقهاء – وهذا مهم: في كل باب ينبغي أن يعتني الإنسان بمراد المؤلف من كلامه – فمراد المؤلف من قوله: (اللحان): أي: الذي يلحن في الفاتحة لحناً لا يحيل المعنى أو في غيرها يحيل أو لا يحيل المعنى. وبعبارة أوضح: المقصود به هنا الذي يلحن لحناً يحيل المعنى في غير الفاتحة أو فيها لحناً لا يحيل المعنى. لأن اللحن الذي في المعنى يحيل المعنى في الفاتحة تقدم معنا وانتهى المؤلف من بيان حكمه فإذاً هنا يقصد رحمه الله اللحن اللذي يكون في الفاتحة ولا يحيل المعنى أو في غيرها سواءً كان يحيل أو لا يحيل المعنى. صلاة اللحان مكروهة عند الفقهاء والتعليل عندهم: أن هذا نقص يؤثر على إمامته بالكراهة. أما أن الصلاة تصح قالوا: لأنه أتى بفرض القراءة وإن لحن. وهذا التعليل يرجح أي القولين في المسألة السابقة؟ ( ..... ) (ماوضح لي الجواب .. ) ذو القعدة فإن لحن لحناً لا يحيل المعنى لكنه فعله متعمداً فإن صلاته باطلة. • ثم قال رحمه الله: والفأْفاء، والتمتام، ومن لا يفصح ببعض الحروف. هؤلاء ثلاثة وحكمهم واحد. فالفأفاء: هو الذي يكرر الفاء. والتأتاء هو الذي يكرر التاء. ومن لا يفصح هو: الذي لا يظهر الحروف عند النطق بشكل واضح. وإنما ذكر المؤلف رحمه الله الفأفاء والتمتام لأنهما الأكثر وقوعاً وإلا لو فرضنا أن شخصاً يكرر حرفاً غير الفاء أو التاء لأخذ نفس الحكم. علة الكراهة في هؤلاء: أنهم زادوا في الصلاة زيادة لا تشرع. فالفأفاء زاد: فاء. والتأتاء زاد: تاء. أما بالنسبة للذي لا يفصح ببعض الحروف فعلة الكراهة النقص الحاصل بعدم الإفصاح فإن هذا نقص في المعنى وإن لم يكن نقصاً في الحروف. فهؤلاء حكم إمامتهم: مكروهة. وأما لماذا تصح الصلاة: فلما تقدم لأنهم أتوا بفرض القراءة كاملاًَ فإنهم قرأوا قراءة كاملة لكن الفأفاء زاد ومن لا يفصح نقص في المعنى بدون نقص في الحروف. وهؤلاء الثلاثة غيرهم أولى منهم وصلاتهم صحيحة وإمامتهم صحيحة. • ثم قال رحمه الله: وأن يؤم أجنبية فأكثر لا رجل معهن.

يكره أن يؤم الرجل أجنبية فأكثر إذا كان لا رجل معهن والصواب أن في هذه المسألة تفصيلاً فهي تنقسم إلى قسمين: القسم الأول: أن يؤم الرجل امرأة واحدة فهذا محرم وليس مكروهاً فقط. والتعليل: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى أن يخلو الرجل بالمرأة. والأصل في النهي هو التحريم. القسم الثاني: أن لا يخلو بامرأة واحدة وإنما بامرأتين فأكثر فحكمه الكراهة لأمرين: الأول: خشية الفتنة. والأمر الثاني: تلبسه غالباً بالوساوس. لأنه ليس معه أحد إلا النساء فربما اشتغل بالتفكير بهن أو بغيرهن. = والقول الثاني: أنه لا يكره. فلو فرضنا أن إماماً دخل وصلى وليس وراءه إلا خمس نسوة – مثلاً – فالصلاة صحيحة بلا كراهة إلا إذا خشيت الفتنة. • قال رحمه الله: أو قوماً أكثرهم يكرهه بحق. يكره أن يكون الإنسان إماماً لجماعة بشرطين: أن يكون الأكثر يكرهه فإن كرهه الأقل لم يؤثر. أن يكرهوه بحق. بناء على هذا إذا كرهه الأقل فصحت إمامته بلا كراهة. وإذا كرهه الأكثر صحت إمامته مع الكراهة. وإذا تساوى الفريقان ففيه وجهان: والأقرب الكراهة. هذا ما يتعلق بالشرط الأول. أما الشرط الثاني وهو: أن يكرهوه بحق. أما إن كرهوه لأنه يأتي بالسنة أو كرهوه لدينه وتمسكه بالحق. فإن كراهتهم لا ينظر إليها ولا عبرة بها. إذاً إذا كرهوه بحق فإنه يتركهم أما إذا كرهوه بغير حق كأن يكرهوه بسبب تطبيقه للسنة فإنه لا ينظر لهذه الكراهة. فإن كرهوه لأمر دنيوي: فهي كراهة بحق. إنما الكراهة التي ليست بحق هي التي بسبب تدينه والتزامه بالسنة ما عدا ذلك فهي كراهة بحق. فإذا كرهوه وانطبقت الشروط فإن إمامته والحال هذه تصح مع الكراهة. ودليل الكراهة قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: (ثلاثة لا تجاوز صلاتهم رؤوسهم: العبد الآبق حتى يرجع ومن باتت وزوجها غضبان عليها ومن أم قوماً وهم له كار هون). وهذا الحديث كثير من أهل العلم يضعفه وهو ضعيف لكن في الحقيقة ضعفه ليس شديداً فهو مقبول ويسير جداً وأنا لا أقول أنه حسن لكن لا شك أن هناك فرق بين الحديث الذي ضعفه ضعفاً شديداً والحديث الذي ضعفه ضعفاً يسيراً.

والدليل الثاني: التعليل: أن المقصود من الجماعة الائتلاف والاجتماع وصلاته بهم وهم يكرهونه يناقض هذا المعنى. • ثم قال رحمه الله: وتصح إمامة: ولد الزنا والجندي إذا سلم دينهما. ولد الزنا هو الولد المولود لغير أبوين شرعيين. فإمامة ولد الزنا صحيحة. وعليه: لماذا ذكرها المؤلف رحمه الله؟ لأن بعض الفقهاء كرهها. ودليل عدم الكراهة: قول عائشة رضي الله عنها ليس عليه من وزر أبويه شيء. وعموم قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: (يؤم القوم أقرؤهم) ولم يخص هل هو ولد زنا أو ولد شرعي. قال: (والجندي). الجندي أيضاً تصح إمامته بلا كراهة لعموم: (يؤم القوم أقرؤهم لكتاب الله). وإنما ذكر الجندي بالذات لأنه عند الفقهاء وأهل التواريخ يغلب على الجندي وقوع الظلم والاعتداء فيصير بذلك فاسقاً فتكره الصلاة خلفه. فهذا السبب الذي جعلهم يذكرون الجندي. لكن في الحقيقة تعليق هذا الوصف بكلمة الجندي غير دقيق مطلقاً بل قد أقول أنه فيه ظلم لجنس الجنود. لماذا؟ لأنه ليس من المناسب أن تعلق وصف باسم ينضوي تحته أنواع كثيرة. فمن الجنود من هو على خير واستقامة وتدين وعدم ظلم والقيام بحقوق الله وحقوق الخلق. ومنهم من هو ظالم لنفسه. كما أن الأطباء فيهم من هو كذلك والمهندسون فيهم من هو كذلك. فإذاً يجب أن نعلق الوصف بالوصف الشرعي فنقول الفاسق والمعتدي تكره الصلاة خلفه. وعلى كل حال الحنابلة لا يرون أن الصلاة خلف الجندي مكروهة لكن نقول من رأى أنها مكروهة وهو الذي احتاط عنه المؤلف فتعليقه بهذا الوصف فيه بعد. المهم أن الصلاة خلف الجندي لا تكره. • ثم قال رحمه الله: ومن يؤدي الصلاة بمن يقضيها. تصح صلاة من يؤدي الصلاة خلف من يقضيها وهنا نأتي إلى مسألة تحديد مراد الفقهاء. فمراد المؤلف هنا: إذا اتحدت الصلاة بأن تكون الصلاتين كلاهما ظهراً أو عصراً المؤداة والمقضية. فإذا جاء رجل وأراد أن يصلي ظهر أمس لأنه تركها نسياناً فسيؤديها قضاء ثم جاء آخر ويريد أن يصلي صلاة ظهر اليوم فاقتدائه بمن يصلي صلاة الظهر أمس قضاء صحيح بلا كراهة. وهذا معنى قوله وتصح إمامة من يؤدي الصلاة بمن يقضيها.

هذا هو المذهب بل إن الخلال وهو من كبار الحنابلة - ممن ينبغي أن يطالع طالب العلم ترجمته - يقول الخلال: هذا الحكم هو عن أبي عبد الله رواية واحدة وقد غلط من روى عنه خلاف ذلك. يعني أنه ينكر الرواية الثانية ....... (((الآذان))) انتهى الدرس،،،

قال شيخنا حفظه الله: بسم الله الرحمن الرحيم. الحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين. • يقول المؤلف رحمه الله: (تصح إمامة) من يؤدي الصلاة بمن يقضيها وعكسه. هاتان مسألتان لهما الحكم نفسه. فيجوز أن يكون من يؤدي الصلاة إماماً لمن يقضي الصلاة ويجوز أن يكون من يقضي الصلاة إماماً لمن يؤدي الصلاة. وهذا - أي صحة الإمامة في هذه المسائل - هو مذهب الحنابلة. وذكرت لكم بالأمس أن الشيخ الخلال يقول: أن الإمام أحمد لم يرو عنه في هذه المسألة إلا رواية واحدة ومن روى عنه خلاف هذه الرواية فقط غلط على الإمام أحمد. = إذن هذا القول الأول بتفصيله. الدليل: الأول: استدلوا على ذلك بأنه تصح صلاة من صلى بنية الأداء فبان قضاء. مثاله: رجل كَبَّر لصلاة العصر يظن أن وقت صلاة العصر باقٍ ثم بان بعد انتهاء الصلاة أن وقت العصر قد خرج. فالآن هو صلى بنية الأداء والواقع أن صلاته قضاء ومع ذلك صحت. فقالوا: إذا صحت في مثل هذه الصورة فمن باب أولى أن يصح أن يقتدي المؤدي بمن يقضي أو بالعكس. الثاني: أنه - كما سأتينا - لا أثر لاختلاف النية بين الإمام والمأموم. = والقول الثاني: أنه لا تصح صلاة من يؤدي بمن يقضي أوبالعكس. والصواب مع الأول - مذهب الحنابلة لقوة ووجاهة ما اسدتلوا به ولما سيأتينا حول مسألة اختلاف نية الإمام مع المأموم وأنه لا أثر له شرعاً. • ثم قال رحمه الله: لا مفترض بمتنفل. = ذهب الجمهور بمن فيهم الحنابلة أن صلاة المفترض خلف المتنفل لا تصح. واستدلوا على ذلك: بقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: (إنما جعل الإمام ليؤتم به فلا تختلفوا عليه). قالوا: أن هذا من الاختلاف فإن كل واحد منهما يصلي جنساً آخر فهذا مفترض وهذا متنفل.

= والقول الثاني: وهو مذهب الشافعية واختاره عدد من المحققين منهم ابن قدامة وابن المنذر وشيخ الاسلام وابن القيم وغيرهم من المحققين. أن صلاة المفترض خلف المتنفل صحيحة. واستدلوا على هذا بما ثبت في الصحيح أن معاذاً - رضي الله عنه - يصلي مع النبي - صلى الله عليه وسلم - العشاء وهي فريضته ثم يرجع إلى قومه فيصلي بهم العشاء وهي له نافلة ولهم فريضة ومع ذلك صحت صلاتهم. فهذا الحديث نص على صحة صلاة المفترض خلف المتنفل. والراجح هو: القول الثاني لأن معهم نصاً واضحاً. والجواب على دليل الجماهير أن الاختلاف المنهي عنه في الحديث هو الاختلاف في الأعمال بدليل أنه قال - صلى الله عليه وسلم -: (فلا تختلفوا عليه فإذا سجد فاسجدوا وإذا ركع فاركعوا). وهذا دليل على أن الاختلاف المنهي عنه هو الاختلاف الذي يكون في الأعمال. مسألة: أما صلاة المتنفل خلف المفترض – عكس مسألتنا هذه – فهي جائزة بالإجماع بلا إشكال. فقد أجمع الفقهاء على جوازها وأنها صحيحة. واستدلوا بقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: (هل من رجل يتصدق على هذا؟). وذلك في الرجل الذي فاتته صلاة الجماعة وأراد أن يصلي منفرداً فأمر النبي - صلى الله عليه وسلم - بعضهم أن يقوم ويصلي معه فالذي فاتته الصلاة فإنه سيصلي الفريضة ومن قام يصلي معه فسيصلي نافلة ومع ذلك صحت وبحضرة النبي - صلى الله عليه وسلم - وقلت لكم أن هذا الحديث مقبول. • ثم قال رحمه الله: ولا من يصلي الظهر بمن يصلي العصر أو غيرها. إذا اختلفت الصلاة ولو كان كل منهما يؤدي الفريضة فإنه لا يصح أن يأتم أحدهما بالآخر. ولهذا قلت لكم أن قول المؤلف: ومن يؤدي الصلاة بمن يقضيها. خاص بما إذا كانت الصلاة واحدة وذكرت لكم المثال بالأمس: رجل فاتته صلاة الظهر للأمس وأراد أن يصليها اليوم فإنه يصليها خلف من يصلي الظهر اليوم. نرجع إلى مسألتنا: إذا اختلفت الصلاة كمن يصلي الظهر بمن يصلي العصر فعند الحنابلة أنه لا يجوز الاقتداء.

والخلاف في هذه المسألة: كالخلاف تماماً في المسألة السابقة ولا نحتاج إلى إعادة الكلام عليها من حيث الأدلة والترجيح والقائلين: فالجمهور يرون أنه لا يجوز والشافعي وهو اختيار شيخ الإسلام يرى أنه يجوز. تنبيه: يستثنى من الصحة - صحة اقتداء أحدهما بالآخر - إذا اختلفت الأعمال فلا يجوز أن يصلي الكسوف خلف من يصلي الظهر لأن صلاة الظهر تختلف عن صلاة الكسوف بالأعمال. فذكر الفقهاء أنهإذا اختلفت الأعمال فلا يصح الاقتداء. وبهذا انتهى هذا الفصل وانتقل المؤلف إلى فصل آخر يتعلق أيضاً بصلاة الجماعة. فصل [في موقف الإمام والمأمومين] • قال رحمه الله: فصل يريد المؤلف رحمه الله بهذا الفصل أن يبين أين يقف المأموم؟ وما هي السنة في ذلك؟ وإذا خالف السنة فما حكم صلاته؟ • فقال رحمه الله: يقف المأمومون خلف الإمام. إذا كان المأمومون جماعة فإنهم يقفون خلف الإمام. والدليل على ذلك: ما استفاضت به السنة ونقله الخلف عن السلف أن أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - كانوا يقفون خلفه ولا إشكال في هذا الحكم إذا كان المأمومون جماعة. القسم الثاني: إذا كانوا اثنين فقط: = فذهب الجماهير والجم الغفير من أهل العلم إلى أنهم يقفون خلف الإمام أيضاً ولو كانوا فقط اثنين. واستدلوا على هذا: بما ثبت في الحديث الصحيح أن جابر - رضي الله عنه - قدم إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو يصلي فصف عن يساره فأخذه النبي - صلى الله عليه وسلم - وجعله عن يمينه فجاء جبَّار - رضي الله عنه - وصف عن يسار النبي - صلى الله عليه وسلم - فأخذهما النبي - رضي الله عنه - وأرجعهما إلى الخلف. فدل هذا الحديث على أن الجماعة إذا كانوا اثنين فيقفون خلف الإمام وهو نص في المسألة. = القول الثاني: وإليه ذهب ابن مسعود - رضي الله عنه - وتبعه تلاميذه: علقمة والأسود رضي الله عنهم وهو أن الجماعة إذا كانوا اثنين فإنهم يقفون عن جانبي الإمام عن يمينه ويساره.

والدليل على ذلك: أن ابن مسعود - رضي الله عنه - وعلقمة والأسود أقبلوا إلى المسجد فرأوا الناس يخرجون وقد انتهت الجماعة فرجعوا إلى منزل ابن مسعود - رضي الله عنه - وصلى بهم وجعل أحدهما عن يمينه والآخر عن يساره فلما انتهى قال: (هكذا رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم -). قال أصحاب هذا القول أن ابن مسعود - رضي الله عنه - وهو من كبار فقهاء الصحابة ينسب هذا الحكم إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -. والراجح قول الجماهير بلا إشكال لأن النص الذي معهم وهو حديث جابر وجَبَّار واضح جداً وهو نص بأن الجماعة إذا كانوا اثنين فيصلون خلف الإمام. أما الجواب عن أثر ابن مسعود - رضي الله عنه - فمن ثلاثة أوجه: الوجه الأول: أن نقول أن هذا الحديث منسوح ولم يعلم الصحابي الجليل ابن مسعود - رضي الله عنه - بأن السنة استقرت على أن الجماعة إذا كانوا اثنين يقفون خلف الإمام. وإلى هذا الجواب ذهب البيهقي. الوجه الثاني: أن هذا الحديث لا يصح رفعه. فإن قوله: (هكذا رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم -) لا يثبت وأن هذا إنما هو من فقه ابن مسعود - رضي الله عنه -. فهذا الوجه في حقيقته جواب بتضعيف الحديث المرفوع وإلى هذا ذهب ابن عبد البر رحمه الله. الوجه الثالث: أنه - رضي الله عنه - إنما فعل ذ1لك لضيق المكان أي أنه لا يتسع لصفين. والأجوبة كلها قوية وتصلح جواباً عن أثر ابن مسعود - رضي الله عنه - ويبقى أن الراجح هو أن الجماعة إذا كانوا اثنين فيقفون خلف الإمام. • ثم قال رحمه الله: ويصح معه عن يمينه أو عن جانبيه. لما قرَّرَ المؤلف رحمه الله أن السنةأن يقف الاثنان خلف الإمام أراد أن يبين أنه يجوز أن يقفوا عن يمين الإمام أو عن يمينه وشماله. واستدلوا على الجواز: بحديث ابن مسعود - رضي الله عنه -. وبأن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يبطل تحريمة جابر وجبار لما وقفا عن يمينه وشماله. ويصح أن يكونوا عن يمينه وعن شماله سواء كانوا اثنين أو جماعة. لكن قال الجماهير: يصح مع الكراهة لمخالفة ظاهر السنة. • ثم قال رحمه الله: لا قدّامه. أي: لا تصح قدام الإمام. والصلاة قدام الإمام تنقسم إلى قسمين:

القسم الأول: أن يكون ذلك حول الكعبة في غير جهة الإمام بأن يكون المتقدم في غير جهة الإمام. فإذا افترضنا أن الإمام يقف عند مقام إبراهيم والمأموم يقف في الجهة المقابلة له وبين الإمام والكعبة ذراعين وبين المأموم والكعبة من الجهة المقابلة ذراع واحد فهنا: هل تقدم المأموم على الإمام؟ الجواب: نعم. وحكمه: أنه يجوز وحكي الإجماع على ذلك لأنهما ليسا في جهة واحدة. ((ولكن ذكروا مع ذلك أن الصف الأول هو الصف الذي يكون امتداد الصف الذي خلف الإمام والصف الثاني هو صف هؤلاء الذين تقدموا على الإمام من الجهة المقابلة. هكذا ذكروه وحسب المطلاعة – وليست بالطويلة - فإني لم أجد خلافاً. فقد ذكره الفقهاء ولم يذكرو خلافاً. فإن كان في هذه المسألة خلافاً فالصواب أن الصف الأول في كل جهة يعتبر هو الصف الأول. فالصف الأول في جهة الإمام هو الذي يكون خلفه. والصف الأول في الجهة المقابلة هو الصف الأول. لأن هذا الصف الأول الذي في غير جهة الإمام تقدم واتخذ المكان الأول فكيف نجعله هو الصف الثاني ومن خلفه ممن يوازي الصف الأول الذي خلف الإمام هو الصف الأول. فمن وجهة نظري أن هذا فيه بعد لا سيما وأن الشارع الحكيم حث الناس على التقدم إلى الصلوات والجلوس في الصف الأول فهذا الشخص تقدم وصلى في الصف الأول لمن الصف الأول صار متقدماً على الإمام وقد عذره الشارع بالإجماع بأنه متقدم على الإمام فما الذي يمنع أن يكون هو الصف الأول. المهم: أنه إذا كان في هذه المسألة خلاف فأرى أن الصف الأول في كل جهة هو الصف الأول ولو كان متقدماً على الإمام. القسم الثاني: أن يكون تقدم المأموم على الإمام في غير المسجد الحرام. فإذا تقدم فصلاته باطله لأنه خالف السنة المشهورة في موقف الإمام. ولقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: (إنما جعل الإمام ليؤتم به). والإئتمام الكامل يكون بحيث يراه المأموم. = القول الثاني: أن صلاة من تقدم على الإمام صحيحة مطلقاًَ لأن التقدم على الإمام لا يمنع الاقتداء.

= والقول الثالث: أنه تصح صلاة المتقدم على الإمام إذا كان لعذر فقط لأن الواجبات تسقط مع العجز وهذا واجب لصلاة الجماعة. فهو أضعف حتى من الواجب للصلاة مطلقاً إنما هو فقط واجب لصلاة الجماعة أي أن لا يتقدم مأموم على الإمام. واختار هذا القول شيخ الإسلام بن تيمية رحمه الله. ومن الظاهر أن القول الثالث فيه قوة ووجاهة. وبناء على هذا ما يحصل اليوم في صلاة الجمعة مثلاً في غير الحرمين - ففي بعض الأماكن يكثر هذا ويقع – فيزدحم الناس وقد يصلي بعضهم في قبلة المسجد فؤلاء صلوا أمام الإمام. فإذا كانوا صلوا أمام الإمام لعذر للإزدحام وعدم وجود أماكن في الخلف ولا في الجانبين فإن صلاتهم صحيحة. وإذا كان لغير عذر فإنه يجب عليهم أن يعيدوها ظهراً إذا كان هذا التقدم في صلاة الجمعة لأن الغالب في الإزدحام يكون فيها لا في الفرائض. • ثم قال رحمه الله: ولا عن يساره فقط المؤلف رحمه الله لم يبين حكم وقوف المأموم عن يمين الإمام إلا إذا أردنا أن نقول هي داخلة في عموم قوله: (ويصح معه عن يمينه أو عن جانبيه). فهذا ممكن وإن كان الغالب أنه يريد رحمه الله بهذه العبارة إذا كانوا اثنين فأكثر. على كل حال يصح بلا خلاف أن يكون المأموم وهو السنة الواحد عن يمين الإمام لما جاء في الصحيح أن ابن عباس - رضي الله عنه - صف عن يسار النبي - صلى الله عليه وسلم - فأخذه وأداره من خلف ظهره وجعله عن يمينه. ولذلك قال المرداوي رحمه الله في هذه المسألة: يصح بلا نزاع لأن السنة فيها واضحة. وتقدم معنا أن المرداوي رحمه الله إذا قال في الإنصاف بلا نزاع أنه لا يريد بذلك الإجماع من الأئمة الأربعة وإنما يريد الإجماع داخل المذهب. ولكن مع ذلك إذا قال المردواي رحمه الله: بلا نزاع فإن له دلالة في أن المسألة ليس فيها كبير خلاف لأن الغالب إذا كان في المسائل الأخرى خلاف فستكون أوجه أو روايات داخل المذهب. • قال رحمه الله: ولا عن يساره فقط: يعني أن: = الحنابلة يرون أن المأموم إذا صف عن يسار الإمام فإن صلاة المأموم باطلة بشرطين: الشرط الأول: أن يخلو يمينه: أي أن يكون المأموم عن يساره ويمينه فارغ. الشرط الثاني: أن يصلي ركعة كاملة.

دليل الحنابلة: استدلوا على هذا بأن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما صف ابن عباس عن يساره أخذه من وراء ظهره وجعله عن يمينه. قالوا: فدل الحديث على أن اليسار ليس موضعاً للإقتداء مع خلو اليمين. = القول الثاني: أن من صلى عن يسار الإمام وحده فهو مكروه لكن الصلاة صحيحة. واستدلوا على هذا بأقيسة منها: = الأول: قالوا: قياساً على صلاة المأموم عن يسار الإمام إذا كان عن يمينه آخر. = الثاني: قالوا: قياساً على صحة صلاة المأموم الذي يقف عن يمين الإمام. وأجابوا عن حديث ابن عباس - رضي الله عنه - بأن النبي - صلى الله عليه وسلم - إنما فعل ذلك لبيان السنة والأفضلية وليس لبيان بطلان الصلاة. بدليل: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أخذ جابراً وجباراً رضي الله عنهما وجعلهما خلفه ومع ذلك نحن نقول لو يصلي شخص عن يمينه وشخص عن يساره لصحت الصلاة مع أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أرجعهما إلى الخلف فكذلك نقول: أن ابن عباس - رضي الله عنه - نقله النبي - صلى الله عليه وسلم - من اليسار إلى اليمين مع صحة صلاة من يصلي عن اليسار. والأقرب هو القول بعدم البطلان استئناساً بحديث جابر فإن دلالته واضحة ولأن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يبطل تحريمة جابر لما صف عن يساره ولا تحريمة ابن عباس لما صف عن يساره. • ثم قال رحمه الله: ولا الفذ خلفه أو خلف الصف. أيضاً هاتان مسألتان لهما حكم واحد. إذا صلى المنفرد خلف الإمام وحده. أو صلى خلف الصف وحده منفرداً. = فعند الحنابلة وهو القول الأول أن صلاته باطلة. واستدلوا بعدة أدلة: الدليل الأول: قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: (لا صلاة لمنفرد خلف الصف). وسأل الإمام أحمد عن هذا الحديث فقال: (هو حديث حسن) فكفانا مؤونته. الدليل الثاني: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - رأى رجلاً يصلي خلف الصف منفرداً فأمره أن يعيد الصلاة. وهذا الحديث صححه ابن المنذر وهو قابل للاحتجاج. وبطلان صلاة المنفرد خلف الصف من المفردات. = القول الثاني: للجماهير: أن صلاة المنفرد خلف الصف مكروهة ولا تبطل.

واستدلوا على هذا: بأن أبا بكرة - رضي الله عنه - دخل والنبي - صلى الله عليه وسلم - راكع فركع عند الباب ودب على قدميه إلى أن دخل في الصف. وجه الاستدلال أنه - رضي الله عنه - صلى منفردا ً خلف الصف ولما انتهى النبي - صلى الله عليه وسلم - قال له: (زادك الله حرصاً ولا تعد). وذكرنا أن الروايات فيها اختلاف هل قال: (لا تُعِدْ أو لا تَعُدْ). وأن الأقرب رواية ودراية أنه قال: (لا تَعُدْ). حتى من حيث الرواية فإن أكثر الرواة قالوا: (لا تَعُدْ). فنهاه ولم يأمره بإعادة الصلاة مع أنه صلى منفرداً خلف الصف. الجواب على هذا الدليل: أن هذا الصحابي وإن كان دخل في الصلاة منفرداً إلا أنه حقق المصاففة قبل أن يرفع النبي - صلى الله عليه وسلم -.فلم يتحقق فيه وصف الانفراد. وبهذا أجاب شيخ الاسلام ابن تيمية رحمه الله. = والقول الثالث: وهو منسوب للعالم الكبير الحسن البصري رحمه الله واختاره ابن القيم وشيخ الاسلام أن صلاة المنفرد خلف الصف لا تصح إلا إذا لم يجد مكاناً. فقولهم مركب من شقين: - الأول: أنه تبطل صلاة المنفرد خلف الصف. وأدلتهم هي أدلة الحنابلة. - الثاني: أنها تصح إذا لم يجد مكاناً. واستدلوا بالقاعدة المشهورة التي يقررها شيخ الاسلام مراراً وتكراراً: ((أن الواجب يسقط بالعذر لقوله تعالى: {فاتقوا الله ما استطعتم} ولقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: (إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم). وهذا القول - الأخير - قوي ووجيه جداً ومع ذلك يتحتم على الإنسان أن يحرص حرصاً شديداً أن لا يصلي منفرداً خلف الصف ولو كان في الحقيقة لا يوجد مكان احتياطاً. وسبب الاحتياط: أن الأحاديث التي ذكرها الإمام أحمد ليس فيها تفصيل ولم يسأل النبي - صلى الله عليه وسلم - ذلك الرجل هل كنت تجد مكاناً؟ أو لم تجد مكاناً؟ وإنما حكم على صلاته بالبطلان.

ويشكل مع ذلك أيضاً يؤيد الاحتياط أنه من المعلوم أن مسجد النبي - صلى الله عليه وسلم - كان صغيراً كما ترون الآن المحدد بالفرش التي تتخذ لوناً مميزاً وفي الغالب أن الصفوف تكتمل ولذلك كان عمر يوكل بكل صف شخص ممات يدل على أن الصفوف كانت تكتمل ويتراص أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - ففي الغالب أن هذا الصحابي لن يصلي منفرداً مع وجود فراغ في الصف والناس يعلمون شدة النبي - صلى الله عليه وسلم - في تسوية الصفوف. ففي الحقيقة مجموع هذه الأمور تجعل الإنسان يحتاط لمسألة الصلاة خلف منفرداً ولو لم يجد مكاناً لكن لو صلى إنسان خلف الصف منفرداً لأنه لم يجد مكاناً فلا نقول له أعد الصلاة بل صلاته إن شاء الله صحيحة. • قال رحمه الله: إلاّ أن يكون امرأة. فإن كانت امرأة فإنها يجوز أن تنفرد خلف الصف بل السنة في حقها أن تصلي منفردة خلف الصف. والدليل على ذلك: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - صلى بأنس وأمه قال: فقمت عن يمينه وقامت أمي خلفنا. وأيضاً أن النبي - صلى الله عليه وسلم - دخل بيت أم سليم هو وأنس ويتيم معهما فقام النبي - صلى الله عليه وسلم - يصلي بهم فقام أنس واليتيم خلف النبي - صلى الله عليه وسلم - وقامت أم سليم خلفهم في الصف الثاني. فهذان دليلان صريحان على أن المرأة إذا صلت مع الرجال منفردة فإنها تصلي خلف الصف ولا تعتبر منفردة ولا يؤثر هذا على صلاتها بل السنة أن تفعل ذلك. • ثم قال رحمه الله: وإمامة النساء تقف في صفهن. لو أن المؤلف رحمه الله قال كما في الشرح: ندباً. لكانت إضافة متميزة وهذا مهم لأنه في صميم الحكم. إذاً وقوف المرأة في وسط صف النساء إذا كانت تأمهن هو على سبيل الندب لا على سبيل الوجوب. دليل ذلك: أن عائشة وأم سلمه رضي الله عنهما إذا صليتا بالنساء فكن يقفن بوسط الصف. والدليل الثاني: أن هذا أستر للمرأة. فإن وقفت أمامهن صحت الصلاة وخالفت المشروع. وصحت الصلاة لعموم قوله - صلى الله عليه وسلم -: (إنما جعل الإمام ليؤتم به) ولا شك أن ائتمام المأمومين بالإمام إذا تقدم أكمل وأوضح. إذاً بهذا عرفنا أين تقف إمامة النساء؟ وما حكم هذا الوقوف؟ وما الحكم إذا خالفته؟ • ثم قال رحمه الله:

ويليه الرجال ثم الصبيان ثم النساء. لما بين المؤلف رحمه الله الحالات الخاصة كأن لا يوجد إلا مأموم واحد أو أن لا توجد إلا امرأة واحدة أو أن لا يوجد إلا اثنان أراد الآن أن يبين الحكم العالم وهو إذا وجد مجموعة من الناس منهم رجال وصبيان ونساء. فقال: الترتيب أنه: يلي الإمام الرجال أولاً. ثم الصبيان ثانياً. ثم النساء ثالثاً. وهذا الحكم يحتاج إلى تفصيل: أما بالنسبة للنساء فنؤخر الكلام عليه لوضوحه. نأتي إلى مسألة الصبيان والرجال: وينقسم حكمهم إلى قسمين: القسم الأول: أن يحضر الرجال والصبيان في وقت واحد. فإذا حضروا في وقت واحد فإن الرجال هم الذين يلون الإمام ثم يليهم الصبيان لعموم قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: (ليليني منكم أولوا الأحلام والنهى). ولأن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يحب أن يصلي وراءه المهاجرون والأنصار ليأخذوا عنه. وهذا أمره واضح وهو بالإجماع فلا إشكال فيه وهو المذهب والإجماع. القسم الثاني: أن يحضر الصبيان أولاً ثم يحضر بعد ذلك الرجال. والمقصود بالرجال: هو كل ذكر بالغ. والصبيان: كل ذكر لم يبلغ. فإذا حضر الصبيان أولاً ثم حضر بعد ذلك الرجال: = فعند الحنابلة أيضاً يؤخر الصبيان ويتقدم الرجال. أي: يعمد الرجال إلى تأخير وإرجاع الصبيان ويتقدم الرجال. واستدلوا على هذا: بدليلين: الأول: عموم حديث: (ليليني منكم أولوا الأحلام والنهى). الثاني: أن أبي بن كعب - صلى الله عليه وسلم - تأخر وجاء إلى الصف ووجد صبياً فجذبه وجلس مكانه فلما انتهت الصلاة قال: أي بني لم أرد نقصك وإنما عهد إلينا النبي - صلى الله عليه وسلم - أن نكون خلفه. فهذا الحديث نص أن هذا الصحابي الجليل أخر الصبي ووقف في مكانه. وهذا الأثر إسناده صحيح. = والقول الثاني: ((الآذان)) ...... انتهى الدرس،،،

قال شيخنا حفظه الله: بسم الله الرحمن الرحيم. الحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين. هذه المسألة وهي: ترتيب الأجناس الثلاثة الرجال والنساء والصبيان إذا اجتمعوا تقدم أني ذكرت (فيها) القول الأول وبينت تقسيم الحنابلة وغير الحنابلة لهم. وهو على وجه الإجمال والإيجاز وتقدم: أنه: إما أن يحضروا جميعاً - أي الرجال والنساء والصبيان -. أو يحضروا متفاوتين. فإن حضروا جميعاً في وقت واحد فالترتيب كما قال المؤلف: يكون الرجال في المقدمة ويليهم الصبيان ثم يليهم النساء. واستدلوا على هذا: - بقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: (ليليني منكم أولوا الأحلام والنهى). - ولأنه لو عرض للإمام عارض فإن وجود الرجال العارفين بالأحكام خلفه أدعى لتكميل النقص. والقسم الثاني: إذا حضر الصبيان قبل الرجال: = فعند الحنابلة أيضاً يقدم الرجال ويؤخر الصبيان - أي: يرجعون من مكانهم في الصف الأول إلى الصف الثاني - وهذا هو مذهب الحنابلة. وتقدم معنا أنهم استدلوا بدليلين: الدليل السابق: وهو عموم (ليليني منكم) وهذا يشمل ما إذا حضر الرجال أولاً أو حضر الصبيان أولاً. واستدلوا أيضاً بأن أبي بن كعب - رضي الله عنه - حضر متأخراً ونظر في وجوه الصف الأول فرأى صبياً فأخره وقال: عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - إلينا أن يليه الكبار أو أولي الأحلام. فاستدل هؤلاء بهذين الدليلين. وهذا كله تقدم. ثم نقول: = والقول الثاني: في هذه المسألة - في القسم الثاني -: أنه إذا حضر الصبي قبل الرجل فإنه يبقى في مكانه وهو أحق به من الرجل. وإلى هذا مال الشيخ الفقيه ابن مفلح رحمه الله وغيره من المحققين. واستدلوا: بأدلة: الأول: أن الصحابي الجليل عمرو بن سلمة - رضي الله عنه - جعله قومه إماماً ولأن يكون في الصف الأول أولى من أن يكون إماماً. الثاني: استدلوا بقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: (لا يقيم الرجل الرجل من مكانه ليجلس). والثالث: أن في إبعاد الصبي تنفيراً له عن الصلاة. وهذا القول هو الصواب بشرط أن لا يغلب على الصف الأول الصبيان - بأن لا يكونوا أغلبية. فإن كان في الصف الأول صبي أو اثنان أو أكثر فإنه لا يجوز لأحد أن يقوم بتأخيرهم عن مكانهم في الصف الأول إلى الصف الثاني.

تنبيه: قول الفقهاء: الرجال ثم الصبيان ثم النساء. لا يعني هذا أن نجعل جميع الصبيان في الصف الذي يلي الرجال لأنه سيترتب على هذا بلا شك أن يعبث الصبيان وأن يفسدوا الصلاة على المصلين لكن لعل مقصود الفقهاء أن الصف الأول يكون فيه الرجال ثم يتخلل الصبيان الصفوف بعد ذلك وإلا بلا شك لو جعلنا جميع الصبيان في الصف الأخير بعد الرجال لصار في المسجد من اللغط والتشويش شيءٌ لا يعلمه إلا الله كيف وهم الآن يشوشون على الناس وهم متفرقون فكيف إذا اجتمعوا وخلا لهم لجو. إذاً يجب أن لا نأخذ كلام الفقهاء أخذاً جامداً وإنما يُعْلَم أنهم رحمهم الله يدورون مع المصالح وليس من المصلحة أن يبقى الصبيان مجتمعين في الصف الأخير. • قال رحمه الله: ويليه الرجال ثم الصبيان ثم النساء. تكلمنا عن الرجال والصبيان. أما النساء فلا إشكال ولا نزاع أنهن يكن بعد الرجال والصبيان. لقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: (خير صفوف النساء آخرها). ولما تقدم معنا من حديث أنس - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - صف إماماً وجعل خلفه أنس واليتيم وفي الصف الثالث أم سليم. فجعلها النبي - صلى الله عليه وسلم - بعد الصبيان. وهذا المقدار لا شك فيه ولا نزاع فيه بين الفقهاء ولله الحمد. • ثم قال رحمه الله: كجنائزهم. يعني أن هذا الترتيب يكون في صفوف الصلاة في الفرائض وأيضاً في الجنائز في موضعين: في صلاة الجنازة: فيكون المقدم مما يلي الإمام الرجال ثم يليه الصبيان ثم يليه النساء. وأيضاً هذا الترتيب يكون في القبور ففي القبور يكون التقديم مما يلي القبلة عكس الإمام فيكون أو ميت يلي القبلة رجل ثم يليه الصبي ثم تليه المرأة وسيأتينا تفصيل ذلك وهل يجوز أن يقبر في القبر أكثر من ميت أو لا؟ لكن في الحال التي يجوز فيها أن يقبر في القبر أكثر من ميت فيرتبون كترتيبهم في صلاة الجماعة وكترتيبهم في صلاة الجنازة. ثم بدأ المؤلف بمجموعة مسائل يعتبر من صلى فيها فذَّاً: • فقال رحمه الله: ومن لم يقف معه - إلاّ كافر ... ففذ. أي إذا لم يقف مع الرجل إلا رجل آخر كافر فهو فَذٌّ.

ومعلوم أن الحنابلة يرون أن صلاة الفذ باطلة والسبب في ذلك أن وجود الكافر كعدمه إذ أن مصافة الكافر لا تصح بالإجماع. وهذا الحكم وهو: أنه إذا صف مع رجل كافر فهو يعتبر فذاً أجمع عليه أهل العلم إذا كان مع العلم. يعني إذا كان من صف مع الكافر يعلم أنه صف مع كافر فهذا محل إجماع ولا يفعل مثل ذلك إلا متلاعب. القسم الثاني: أن لا يعلم المأموم أن مصافه كافر لأي سبب من الأسباب. = فالجماهير أيضاً يرون أن صلاته كصلاة الفذ. أي أنها لا تصح. = والقول الثاني: أن صلاته صحيحة لأنه معذور بعدم العلك بكون من صافه كافر. وهذا القول الثاني: أقرب لأن من صاف الكافر وهو لا يعلم معذور والله سبحانه وتعالى وضع الإثم والجناح عن المعذور. وهو من جنس الخطأ المعفو عنه شرعاً. وقل ما يقع مثل هذا إلا في أحوال المرتد ففي حالات المرتد قد يقع أن يصاف الإنسان مرتداً وهو لا يعلم أنه من المرتدين فحينئذ حكمه عند الجمهور أنه كالفذ والقول الثاني أن صلاته صحيحة. • قال رحمه الله: أو امرأة. أي إذا لم يقف مع الرجل إلا امرأة واحدة فحكمه حكم صلاة المنفرد. والتعليل: أن المرأة ليست من أهل المصافة. لأنها لا تصح إمامتها فلا تصح مصافتها. = والقول الثاني: أن صلاته صحيحة ولا يعتبر منفرداً لأنه صلى مع من يصلي الفريضة صحيحة فالمرأة تصلي الفريضة صحيحة. ونحن نتكلم الآن عن مسألة: هل تصح الصلاة؟ وهل يعتبر منفرداً أو لا؟ فلسنا نتكلم عن حكم أن تصف المرأة بجوار الرجل فهذه مسألة أخرى. لكن الكلام الآن عن إذا صفت المرأة وقلنا أن مصافة المرأة مع الرجل مكروهة أو محرمة فيبقى النظر هل الصلاة صحيحة؟ أو لا؟. = فعند الحنابلة يعتبر منفرداً وصلاته باطلة. لأن مصافة المرأة لا تصح لا لأنها وقفت بجانبه امرأة. = والقول الثاني: أن صلاته صحيحة لأنه وقف بجانب من صحت صلاته. وفي الحقيقة أنا أميل إلى مذهب الحنابلة لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - في حديثين جعل المرأة خلف الصف فكأنه لا يصح للمرأة وقوف بجانب الرجل أي أنها لا تنفي عنه الانفراد.

بناءً على هذا ما نراه أحياناً في المسجد الحرام من أن بعض الناس يتأخر عن الصفوف ويصلي بجوار زوجته فهذا عند الحنابلة صلاته لا تصح لأنه بغض النظر هل المرأة من محارمه أو لا؟ وهل يجوز أن تقف بجانبه أو لا؟ فإن مصافة المرأة غير معتبرة عند الحنابلة فيعتبر كأنه صلى منفرداً ومن صلى منفرداً فصلاته باطلة. وعرفنا القول الثاني. المسألة الأخرى: إذا وقفت المرأة بجوار عدد من الرجال فالآن زالت مسألة الانفراد فنبقى في: هل تصح صلاتها وصلاتهم أولا؟ = عند الحنابلة تصح صلاتها وصلاتهم بهذه الصورة الثانية وهي ما إذا وقفت امرأة بجانب عدد من الرجال فهنا زال الانفراد وعليه رأى الحنابلة أن صلاتهم صحيحة. واستدلوا على هذا بأن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يصلي وبجواره عائشة رضي الله عنها في غرفته وكانت تقف بجواره وهي ليست في عباده فلأن نصحح صلاة الرجل إذا وقفت بجواره امرأة للعبادة من باب أولى. هكذا استدلوا وما ذكروه يعتبر صحيحاً فإذا صلت المرأة بجوار عدد من الرجال فصلاتها وصلاتهم صحيحة أن الانفراد زال وكون المرأة تقف بجوار الرجل فهذا لا يؤدي إلى بطلان الصلاة. • ثم قال رحمه الله: ومن لم يقف معه إلا .. من علم حدثه أحدهما .. ففذ. إذا وقف رجلان أحدهما محدث فعبارة المؤلف دلت على أنه يندرج تحت هذه المسألة عدة صور: الصورة الأولى: أن يعلم كل منهما حدث أحدهما: فحينئذ تبطل صلاة الإثنين: - أما المحدث فلأنه محدث. - وأما الآخر فلأنه صلى منفرداً عالماً. الصورة الثانية: أن يجهل كل منهما حدث المحدث: فالحكم أن صلاة المحدث باطلة - بلا إشكال - وصلاة من معه: = عند الحنابلة أيضاً باطلة لأنه: صلى بجوار من لم تصح صلاته. = والقول الثاني: أنه في هذه الصورة صلاته صحيحة. والسبب أنه معذور إذ لا يعلم أن من بجواره محدث. الصورة الثالثة: أن يعلم المحدث بحدثه دون من بجواره فحكمها: نفس حكم الصورة السابقة تماماً. = فعند الحنابلة يرون أن صلاته ليست بصحيحة. = والقول الثاني: أن صلاته صحيحة للعذر إذ الإنسان يعذر بكونه لا يعلم أن من بجواره محدث. الصورة الرابعة: إذا علم غير المحدث دون المحدث ففي هذه الصورة تبطل صلاة الإثنين:

- أما المحدث فلأنه محدث. - وأما من علم فلأنه صلى منفرداً عمداً. ويتصور ذلك: أن يعلم أن من بجواره أحدث ثم ينسى المحدث ويبقى الآخر متذكراً فحينئذ صار أحدهما يعلم والمحدث لا يعلم. وهناك صورة أخرى: أن يأتي المحدث بناقض للوضوء يجهل أنه من نواقض الوضوء ويعلم الآخر أنه من نواقض الوضوء: يعني: المتفق عليها فحينئذ تصح هذه الصورة الرابعة وعلمنا أن حكمها بطلان صلاة الاثنين. • ثم قال رحمه الله: أو صبي - في فرض: ففذ. يعني أن من صلى بجوار صبي في فرض فإنه يعتبر منفرداً وصلاته باطلة لقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: (لا صلاة لمنفرد خلف الصف). = وهذه المسألة من مفردات مذهب الحنابلة. ودليلهم: قالوا: أن الصبي لا تصح إمامته في الفريضة فلا تصح مصافته. فكأن القاعدة عندهم أن من لا تصح إمامته لا تصح مصافته. والرد على هذا الدليل: من وجهين: الوجه الأول: ما تقدم معنا أن الصواب أن الصبي تصح إمامته. الوجه الثاني: أن هذه القاعدة منقوضة بصور كثيرة حتى عند الحنابلة: منها: الأخرس فإن إمامته لا تصح لكن هل تصح مصافته؟ نعم بالإجماع حتى عند الحنابلة فهذه الصورة تخرق عليهم هذه القاعدة ففي الحقيقة مذهب الحنابلة في هذه المسألة ضعيف. = القول الثاني: أنه تصح مصافة الصبي في الفريضة والنافلة. والدليل ما تقدم معنا من حديث أنس - رضي الله عنه - أنه صاف النبي - صلى الله عليه وسلم - في الحديث الآخر لما صلى هو بجوار النبي - صلى الله عليه وسلم - وصلت أمه خلفهما. ففي هذا الحديث أن أنساً - رضي الله عنه - صف مع النبي - صلى الله عليه وسلم - واعتد النبي - صلى الله عليه وسلم - بمصافته. فإن قيل: أن هذا في النفل. فالجواب: أن القاعدة الصحيحة تقول: أن ما صح في النفل صح في الفرض إلا بدليل خاص يستثني الفريضة أو يستثني النافلة وإلا فالأصل تساوي الفريضة والنافلة في جميع الأحكام. وبهذا نعلم أن مصافة الصبي على الصواب صحيحة ولا يعتبر من صاف الصبي منفرداً. نأتي إلى مسألة أخرى وهي: إذا أردنا أن نقرر مذهب الحنابلة ونقول: أن مصافة الصبي لا تصح: ماذا يصنع من لم يجد إلا صبياً؟ قالوا: عليه:

أن يصف هو والصبي عن يمين الإمام فإن صف هو والصبي خلف الإمام بطلت صلاته. أو يصف هو والصبي أحدهما عن يمين الإمام والآخر عن يساره. وبهذا تخلصوا من قضية أن يصلي منفرداً وكذلك تخلصوا من قضية أن يصلي - مثلاً - الصبي بغير جماعة فالآن هم صلوا جماعة وانتفت الفردية وأنه صلى منفرداً خلف الصف. • ثم قال رحمه الله: ومن وجد فرجة: دخلها. لما قرر المؤلف رحمه الله أن صلاة المنفرد خلف الصف باطلة أراد أن يبين ماذا يصنع من جاء فوجد الصف قد امتلأ. لأنه إن صلى خلف الصف منفرداً بطلت صلاته فاحتاج إلى تصرف شرعي يقضي على هذه المشكلة. فرتب المؤلف رحمه الله الحل على ثلاثة أقسام: القسم الأول: أن يجد فرجة في أثناء الصف (واعلم أن هذا الترتيب مقصود بمعنى أنه لا يوجد انتقال إلى مرتبة قبل التأكد من عدم وجود المرتبة التي قبلها فمن وجد فرجه فإنه لا يذهب ليصلي عن يمين الإمام ومن وجد مكاناً عن يمين الإمام فإنه لا يجوز له أن يجذب أحداً من الصف). إذاً قال: ومن وجد فرجة دخلها: الفرجة هي المكان الفارغ في الصف والمكان الفارغ في الصف يعتبر خللاً فإذا جاء الإنسان ووجد فرجة فإنه يدخل في هذا الصف لأمرين: الأمر الأول: أن لا يصلي منفرداً. والأمر الثاني أن يسد هذا الخلل. والدليل على هذا أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمر بتسوية الصفوف وسد الخلل وقال - صلى الله عليه وسلم -: (ألا تصفون كما تصف الملائكة قالوا يارسول الله كيف تصف الملائكة؟ قال: يعبون الصف الأول فالأول). فلأجل هذا الحديث ولغيره من الأحاديث الكثيرة التي بلغت حد الشهرة والتي فيها الأمر بتسوية الصفوف وسد الخلل قلنا لمن جاء والصف فيه خلل أنه يدخ ويسد هذا الخلل. وهذه المرحلة لا إشكال فيها أنه: إذا جاء ووجد فتحة أو فرجة أو خللاً في الصف فإنه يدخل في هذا الصف. • ثم قال رحمه الله: وإلاّ عن يمين الإمام. يعني: وإلا يجد فرجة فإنه يصف عن يمين الإمام. فإذا لم يجد مكاناً في الصف فإنه يتخطى الرقاب إلى أن يصل إلى الإمام ويقف عن يمين الإمام.

الدليل: قالوا: الدليل على هذا العمل أن يمين الإمام موقف إذا لم يكن إلا مأموم واحد فيكون موقفاً إذا لم يجد المأموم الواحد مكاناً في الصفوف. ولأنه إن لم يفعل هذا صلى منفرداً وأدى هذا إلى بطلان صلاته. = والقول الثاني: أنه لا يتقدم ليصلي عن يمين الإمام. وسيأتينا ماذا يصنع؟ لكن نحب الآن أن نقرر فقط أنه ليس من الحلول أن يتقدم ويصلي بجوار الإمام. والسبب من عدة أوجه: أولاً: أن هذا لا يعلم أنه حدث في العهد النبوي إلا مرة واحدة لها حكم خاص وهو حينما أوتي بالنبي - صلى الله عليه وسلم - في صلاة الظهر أو صلاة العصر وكان يؤم الناس أبو بكر - رضي الله عنه - فتخطي الرقاب ووضعوه بجوار أبي بكر - رضي الله عنه - وهنا لا يقاس عليها لأنهم لما وضعوه بجوار أبي بكر الصديق - رضي الله عنه - صار هو الإمام - صلى الله عليه وسلم -. إذا هذه الحال الفريدة في العصر النبوي لا يقاس عليها لأن من تخطى الصفوف صار هو الإمام - صلى الله عليه وسلم -. فيما عدا هذا لا يحفظ أن حداً تقدم وصلى بجوار النبي - صلى الله عليه وسلم - أو بجوار أبي بكر أو عمر أو عثمان رضي الله عنهم مع العلم أن المسجد النبوي صغير ويمتلئ. الثاني: أن الشارع الحكيم نهى في النصوص الصريحة عن تخطي الرقاب ولم يستثن ما إذا كانت الصفوف ممتلئة ولا يجد من دخل المسجد مكاناً فيها بل النصوص جاءت عامة في النهي عن تخطي الرقاب لما فيه من الأذى والتشويش وذهاب الخشوع بالنسبة للمأمومين. الثالث: أن بقاء الإمام منفرداً بالإمام يقوي ويهيئ مسألة المتابعة والنبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: (إنما جعل الإمام ليؤتم به). إذاً هذا العمل فيه نظر ولا يندب لمن دخل المسجد أن يفعل هذا الفعل وهو تخطي الناس ليقف عن يمين الإمام ولو لم يجد مكاناً في الصفوف. • ثم قال رحمه الله: فإن لم يمكنه: فله أن ينبه من يقوم معه. إذا لم يمكن أن يتخطى ويقف بجوار الإمام ولم يجد فرجة فالحل عند الحنابلة أن ينبه بعض المأمومين ويكون تنبيههم له بأحد طريقتين: إما بالإشارة بأن يؤشر له بأن يرجع معه. أو بالكلام بأن يقول تأخر يا فلان.

وعلم من كلام المؤلف أنه لا يستحب أن يجذبه جذباً وإنما ينبهه فإن رجع وإلا تركه. وأما الجذب فهو محرم عند الحنابلة. وقيل هو مكروه. وقيل هو مباح. وهذا العمل أيضاً فيه نظر كالعمل السابق. ووجه هذا النظر - وجه تضعيف هذا العمل: أن يجذب أو أن ينبه من يرجع معه: أن في هذا اعتداء على موقف المأموم. والأمر الثاني: القاعدة المشهورة المتقررة: أنه لا يستحب للإنسان أن يتبرع بالقرب فإذا كانت المسألة منافسة على قرب وطاعة لله فإنه لا يندب للإنسان أن يتنازل أو يتبرع لغيره. فهذه القاعدة الشرعية تتناقض مع أن نقرر أنه يندب للإنسان أو عليه أن ينبه من يرجع إلى الخلف. إذاً إذا كان تخطي الرقاب إلى الإمام لا يشرع وأيضاً تنبيه بعض المأمومين ليرجع لا يشرع فالحل هو ما تقدم معنا وهو أن يصلي منفرداً وتصح صلاته حينئذ للعذر وتقدم معنا تقرير هذا القول وأن صلاة المنفرد خلف الصف إذا كان لعذر والعذر هو أن لا يوجد مكاناً مطلقاً في الصف أن صلاته والحالة هذه صحيحة لوجود العذر ولأن النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: (إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم). • ثم قال رحمه الله: فإن صلى فذاً ركعة: لم تصح. ذكر الشارح أن في هذا تكرار لأنه تقدم معنا أن من صلى فذَّاً ركعة فإن صلاته لا تصح عند قول المؤلف رحمه الله: ولا الفذ خلف الصف. وفيما أرى أن هذا ليس بتكرار وإنما ذكره المؤلف رحمه الله ليبين الحد الذي تبطل فيه الصلاة ويؤخذ من قوله: ركعة. أي: أن من صلى منفرداً خلف الصف فإن صلاته تبطل بشرط: أن لا يجد فرجة ولا يأتي أحد ليصف معه قبل ن تفوته الركعة. إذاً إذا ركع الإمام ورفع قبل أن يجد فرجة في الصف وقبل أن يأتي أحد آخر ليصف معه فحينئذ بطلت الصلاة. فإن جاء أحد قبل ذلك فصلاته صحيحة معنى قول المؤلف: فإن صلى فذاً ركعة. أي إن أدرك الركعة مع غيره صحت صلاته وإن أدرك الركعة منفرداً بطلت صلاته فلعل المؤلف رحمه الله أراد أن يبين هذا القيد وهذا الشرط لبطلان الصلاة. إذاًَ ليست المسألة كما يفهم بعض الناس أنه بمجرد التكبير وبقائه وقتاً معيناً منفرداً خلف الصف أنه بهذا المقدار تبطل الصلاة وإنما لا تبطل الصلاة حتى تفوته الركعة.

• ثم قال رحمه الله: وإن ركع فذاً ثم دخل في الصف أو وقف معه آخر قبل سجود الإمام: صحت. يعني: وإلا فلا. إذاً: إذا ركع قبل أن يدخل في الصف ثم دخل في الصف أو وقف معه آخر قبل أن يسجد الإمام صحت صلاته وإلا فصلاته باطلة لكن يجب أن نقيد كلام المؤلف حتى عند الحنابلة بقيد وهو: أن يفعل هذا الفعل لعذر. يعني لو أن المؤلف قال: وإن ركع فذاً لعذر ثم دخل ... الخ لصحت العبارة. إذاً يجب أن نقيد هذه العبارة بأن هذا يصح إذا كان بسبب عذر عرض لهذا الذي ركع قبل أن يدخل في الصف. والعذر كأن لا يجد مكاناً أو يخشى فوات الركعة. فإن فعل هذا الفعل لغير عذر فإنه إن دخل في الصف أو وقف معه آخر قبل أن يرفع الإمام رأسه من الركوع صحت وإلا فلا. إذاً خلاصة المذهب: إذا أردنا أن نبين المذهب فيمن ركع قبل أن يدخل في الصف نقول: إن ركع قبل أن يدخل في الصف: ـ فإن كان لعذر فإنه ينتظر إلى أن يسجد الإمام فإن دخل معه آخر أو وجد مكاناً في الصف قبل أن يسجد الإمام صحت صلاته وإلا بطلت. ـ وإن كان فعل هذا الفعل لغير عذر فإن أدرك الإمام مع آخر ووجد فرجة في الصف قبل أن يرفع رأسه من الركوع صحت وإلا فلا. يعني أن الحنابلة يقولون أنه إذا كان فعل هذا الفعل لعذر يعطونه مساحة أكبر ينتظرون إلى أن يسجد الإمام وإن كان فعل هذا لغير عذر فلا يعطونه وقتاً طويلاً وإنما يقولون: إن رفع الإمام قبل أن يدخل معه أحد أو أن يدخل في الصف فصلاته باطلة. = والقول الثاني: أنه إذا فعل هذا الفعل أي: - إن ركع قبل أن يصل للصف لعذر والعذر هنا - في القول الثاني - هو: اكتمال الصف فقط. فإن صلاته صحيحة ولو لم يدخل في الصف ولو لم يأت أحد معه ولو استمر إلى آخر الصلاة لأنه بعذر. - وإن فعل هذا الفعل لغير عذر فإن رفع الإمام رأسه من الركوع قبل أن يدخل المأموم في الصف أو أن يأتي معه آخر بطلت صلاته. وإن أدركه قبل أن يرفع الإمام رأسه من الركوع بأن دخل معه أحد أو دخل هو في الصف فصحت صلاته.

((الدرس الثاني: بعد العشاء)) فصل [في أحكام الاقتداء] قال شيخنا حفظه الله: بسم الله الرحمن الرحيم تقدم معنا الكلام عهن آخر مسألة في الفصل الذي عقده المؤلف للوقوف ونبدأ بالفصل الذي يليه وهو تعلق صلاة المأموم بصلاة الإمام من جهة المكان. • قال رحمه الله: (فصل) المؤلف رحمه الله عقد هذا الفصل كما قلت للكلام عن تأثير المكان الذي يجتمع فيه الإمام والمأموم والبعد والقرب بين الإمام والمأموم تأثير ذلك على صلاة الجماعة أي على صحة الاقتداء أو عدم صحة الاقتداء. واقتداء المأموم بالإمام ينقسم إلى قسمين: إما أن يكون في المسجد. أو خارج المسجد. بدأ المؤلف بالقسم الأول: • فقال رحمه الله: يصح اقتداء المأموم بالإمام: في المسجد وإن لم يره. ولا من وراءَه إذا سمع التكبير. إذا اجتمع المأموم والإمام في مسجد واحد صح الإقتداء ولو لم يره ولو كان بينهما حائل ولو لم تتصل الصفوف. وقوله رحمه الله: (في المسجد) يشمل أن يكون المأموم في ساحة المسجد أو في سطح المسجد أو في بدرون المسجد أو في أي مكان داخل حدود المسجد. فما دام موجود في المسجد فإنه يصح الاقتداء ولو كان بعيداً ولم تتصل الصفوف ولمخ يره. وإنما اشترط المؤلف شرطاً واحداً وهو أن يسمع الصوت والأحسن أن نقول: يشترط إمكان الاقتداء. أن يمكنه أن يقتدي به لأن هذا العبارة أشمل وأوضح. إذاً يشترط للمأموم الذي يقتدي بالإمام داخل المسجد شرط واحد وهو إمكانية الاقتداء فقط. بناء على هذا - لو صلى الإمام مع خمسة صفوف في صدر المسجد في المحراب وصلى خمسة رجال في آخر المسجد منفردين فصلاتهم صحيحة. - ولو صلى رجلان في ساحة المسجد أو في سطح المسجد وبقيت الجماعة كلهم بجوار الإمام صحت صلاة الرجلين. الدليل: أن المسجد وضع شرعاً للجماعة فمن كان فيه صح اقتدائه. ونحن كما قلت مراراً نتكلم عن مسائل معينة فنحن نتكلم الآن عن صحة الاقتداء وصحة الجماعة ولسنا نتكلم عن حكم أن يتأخر خمسة منفردين في آخر المسجد فإنه هذا مكروه بالاتفاق وهو خلاف السنة التي جاءت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - المتوترة - وهي اجتماع المأمومين في صفوف متتالية متراصة مع قربهم للإمام. فمن يصلي خلف المسجد منفرداً فلا شك أنه خالف السنة ووقع في المكروه. لكن نحن نتكلم عن مسألة صحت الصلاة.

وهذا الحكم بالإجماع أي أن صلاته صحيحة بالإجماع لكونه في داخل المسجد. ثم لما انتهى المؤلف من تقرير حكم الاقتداء داخل المسجد انتقل إلى حكم الاقتداء خارج المسجد: • فقال رحمه الله: وكذا خارجه إن رأى الإمام أو المأمومين. إذا كان المأموم خارج المسجد أو كان الإمام والمأموم كلاهما خارج المسجد هاتان مسألتان لهما نفس الحكم فإنه يصح اقتداء المأموم بالإمام ما دام يراه ويمكن له أن يقتدي به. إذاً عند الحنابلة أن شرط صحة الاقتداء لمن كان خارج المسجد بمن كان داخل المسجد هو فقط شرط واحد أن يراه مع إمكانية الإقتداء فقط. ولم يشترطوا في الرؤية أن يراه في جميع الصلاة بل لو رآه في بعض الصلاة دون بعض كأن يراه قائماً ولا يراه راكعاً أو يراه راكعاً وقائماً ولا يراه ساجداً صحت الصلاة أيضاً. فالشرط عند الحنابلة الرؤية فقط مع إمكانية الاقتداء وهذا الشرط موجود حتى لمن كان داخل المسجد فهو شرط لا يتعلق بمسألة من اقتدى وهو خارج المسجد. الدليل: استدلوا بأن النبي - صلى الله عليه وسلم - صلى في حجرته وكان الجدار قصيراً فرآه أناس فقاموا يصلون بصلاته. وظاهر الحال أنهم يرونه - صلى الله عليه وسلم - قائماً ولا يرونه راكعاً ولا ساجداً. ففي هذا الحديث صح الاقتداء مع كون الإمام في مكان والمأموم بمكان آخر. = والقول الثاني: وهو اختيار ابن قدامة رحمه الله أنه يشترط اتصال الصفوف فإن اتصلت الصفوف صح الاقتداء وإلا فلا. واستدلوا على هذا: - بأن تجويز صلاة المأموم خارج المسجد مع عدم اتصال الصفوف قد يؤدي إلى تعطيل المساجد إذ يصلي كل إنسان في حانوته أو في مكانه وهو يرى الإمام ولا يذهب إلى المسجد. ثانياً: أن خارج المسجد لم يعد لصلاة الجماعة التي ترتبط صلاة بعضهم ببعض وإنما الذي أعد لذلك المسجد فقط ولا نقول لم أن خارج المسجد لم يعد للصلاة لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: (جعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً) فكل الأراضي مكان للصلاة لكن نقول ليس مكاناً لصلاة الجماعة التي ترتبط صلاة بعضهم ببعض مع الإمام.

والجواب عن - (حديث عائشة) - أن الصواب أن هذه الحجرة كانت داخل المسجد وليس مراد عائشة رضي الله عنها بهذا الحديث غرفة عائشة أو بيت عائشة رضي الله عنها وهذا ما تدل عليه روايات صحيح البخاري الأخرى. وهذا ما رجحه أيضاً الحافظ بن رجب. ومن الفقهاء من قال بل هي حجرة عائشة - والذي أراد أنه قول ضعيف وبعيد من حيث المعنى والروايات. أما من حيث الروايات فروايات البخاري تبين أنه مكان في المسجد سبق أن اتخذه النبي - صلى الله عليه وسلم - وحجره. وأما من حيث المعنى فإنه يبعد أن ينظر الناس إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - من خلال حجرة عائشة يصلي فإن هذا يؤدي إلى أن الحجرة مكشوفة بحيث يرى الناس صلاة النبي - صلى الله عليه وسلم - ويرون ما يفعل في البيت وهذا لا يتأتى. وهذا القول الثاني هو الصواب - الذي رجحه ابن قدامة رحمه الله - وأنه يشترط لصحة المأموم خارج المسجد اتصال الصفوف. == مسألة: هل يقتضي مذهب الحنابلة صحت صلاة من يرى الإمام في التلفاز أو من يرى الإمام من مكان بعيد في مسكنه؟ أو لا يقتضي؟. الجواب: من الفقهاء من رأى أن قول الحنابلة بصحة صلاة المأموم مع الإمام بمجرد الرؤية يقتضي صحت الصلاة خلف التلفاز في الصلاة المباشرة ومن كان بعيداً عن المسجد ويراه وهو في بيته. = والذي أراه أن هذا القول لا يقتضي ذلك. السبب: أنهم نصوا أن من الشروط بالإضافة إلى الرؤية أن لا يكون بين المأموم والمسجد نهر جارٍ تجري فيه السفن ولا طريق يستطرق. وبين من يرى الإمام في التلفاز والمسجد الذي تقام فيه الصلاة أنهر وأودية وطرق وكل ما تشاء من الفواصل والحجوزات. (أليس كذلك؟!. وكذلك من يصلي قريب من أيضا المسجد في بيته فإن الغالب عليه أن يكون بينه وبين المسجد أقل ما يقال طريق مسلوك. فالذي أراه أن هذا القول لا يقتضي صحت الصلاة خلف هذه الأشياء مع البعد إنما يرى الحنابلة أو يريدون إذا كان الإنسان في مكانه في حانوته والمسجد أمامه وليس بينهما طريق وهو يرى الإمام سواء من خلال الباب أو النافذة أو من أي منفذ فإنه والحالة هذه يصح أن يقتدي بالإمام ولو لم تتصل الصفوف ويصلي في مكانه والإمام في مكانه.

وبهذا يمكن أنه نرفع ما يترتب على هذا القول من مؤاخذات كبيرة أو ضعف شديد بالنسبة لمذهب الحنابلة. على أنا نقول أن الراجح والأظهر ظهوراً قوياً أنه لا بد من اتصال الصفوف إذا أراد الإنسان أن يصلي خارج المسجد. (فائدة: قال شيخ الاسلام: إن صلى مع اتصال الصفوف صحت صلاته باتفاق الأئمة). وهذا مفيد بحيث لا يعرض الإنسان صلاته للبطلان. • ثم قال رحمه الله: وتصح خلف إمام عالٍ عنهم. ويكره: إذا كان العلو ذراعاً فأكثر. أفادنا المؤلف أن الصلاة خلف الإمام العالي صحيحة وهي تكره بشرط واحد وهو أن يكون علوه ذراه فأكثر فإن كان علوه أقل من ذراع صحت بلا كراهة. نحتاج أدلة لكل هذا التفصيل: أما دليل الصحة والكراهة فواحد وهو أن عماراً - رضي الله عنه - صلى بقومه على دكَّه فأخذ بيده حذيفة - رضي الله عنه - وأنزله ثم بعد الصلاة قال: (ألم تعلم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى أن يؤم الرجل القوم وهو أعلى منهم). وهذا الحديث دليل على أمرين: الأول: الكراهة. والثاني: الصحة. ووجه دليله على الصحة أنه لم يستأنف وإنما استمر في صلاته - رضي الله عنه -. وهذا الحديث الذي يظهر لي أنه ضعيف ومن المعاصرين من يحسنه لكن الأقرب أنه ضعيف لا تقوم به حجة. الدليل الثاني: أن ابن مسعود - رضي الله عنه - قال: كانوا يكرهون ذلك أي أن يصلي الإمام وهو مرتفع عن المأمومين. فهذان أثران عن أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - ولا يعلم لهم مخالف أن ارتفاع الإمام مكروه مع صحت الصلاة. وأما الدليل على أنه إن صلى لأقل من ذراع انتفت الكراهة فهو أن النبي - صلى الله عليه وسلم - صح عنه أنه صلى على المنبر ليعلم الناس الصلاة. ومعلوم أنه لا يمكن أن نتصف صلاة النبي - صلى الله عليه وسلم - بالكراهة. فدل هذا الحديث أنه إن كان ارتفاعه أقل من ذراع صحت بلا كراهة. وأما الدليل على أنه - صلى الله عليه وسلم - في تلك الصلاة صلى في الدرجة الأولى وهذا هو الذي يدل على أنه أقل من ذراع الدليل على ذلك هو أنه إنما صلى ليعلم الناس وهو سيحتاج إلى الركوع والسجود على الأرض ومن المعلوم أن الأنسب لذلك أن يقف على الدرجة الأولى ليتمكن من ذلك بسهولة.

إذاً الحديث ليس فيه نص أنه صلى على الدرجة الأولى لكن يغلب على الظن أنه صلى الدرجة الأولى. = والقول الثاني: أن من صلى مرتفعاً بقصد تعليم الناس صحت صلاته بلا كراهة بغير قيد من جهة الارتفاع. وهذا مذهب الشافعية واستدلوا بالحديث السابق وهو أن النبي - صلى الله عليه وسلم - صلى مرتفعاً. =والقول الثالث: وهو رواية أنها تصح مطلقاً بلا كراهة. والراجح: مذهب الشافعية. أنه إن كان للتعليم صحت بلا كراهة وإلا صحت مع الكراهة لأن أثر ابن مسعود صحيح وكذلك أثر عمار وحذيفة يظهر من حيث الأسانيد أنه ضعيف لكنه يتقوى بأثر ابن مسعود أو على أقل التقدير يمكن الاستئناس به وإلا فهو ضعيف لا يثبت عن الصحابيين رضي الله عنهما. إذاً بهذا عرفنا حكم ارتفاع الإمام وعرفنا أن الفقهاء ينظرون لمدى الارتفاع إذا كان الارتفاع كثيراً صار مكروهاً وإلا صار جائزاً. • ثم قال رحمه الله: كإمامته في الطاق. إمامة الإمام في الطاق مكروهة. والمقصود بالطاق: المحراب. ودليل الكراهة: أن ابن مسعود - رضي الله عنه - وروي عن غيره من الصحابة كرهوا ذلك. الدليل الثاني: أن صلاة الإمام في المحراب تمنع من كمال الاقتداء لأن المأمومين لن يروه ومعلوم أن الرؤية تكمل الاقتداء. ويشترط لتحقق الكراهة عند الحنابلة أن لا تكون صلاته لحاجة فإن كان صلى في المحراب لحاجة كضيق المكان صحت بلا كراهة. ويشترط أيضاً أن لا يروه فإن صلى في المحراب مع رؤية المأمومين له أيضاً تصح بلا كراهة. إذاً يشترط للكراهة شرطان. هذا حكم الصلاة في المحراب. وأنا أرى أن كلامهم وجيه وأن دخول الإمام في المحراب من غير حاجة يؤدي إلى عدم اقتداء المأمومين بالشكل المطلوب. نأتي إلى مسألة أخرى: وهي حكم اتخاذ المحراب. وكثير من الإخوان يخلط بين المسألتين فيخلط بين اتخاذ المحراب والصلاة. لأن عبارات العلماء في اتخاذ المحراب قد تكون شديدة أحياناً لكن عباراتهم في الصلاة بالمحراب أهون لأنه وجد محراباً فصلى فيه. وحكم اتخاذ المحراب اختلفوا فيه وتشعبت الأقوال - ونحن لا نريد الدخول في هذه المسألة لأنه ليست من هذا الباب ولذلك لا حظ أن المؤلف تكلم عن حكم الصلاة فقط ولم يتحدث عن اتخاذ المحراب.

= القول الأول: أن اتخاذ المحراب بدعة محدثة وهو محرم لأنه لم يكن على عهد النبي - صلى الله عليه وسلم -. = القول الثاني: أن اتخاذ المحراب مستحب. ولا حظ أن هذا رواية عن الإمام أحمد. واستدل بأن في اتخاذ المحراب تتحقق مصالح عديدة منها: معرفة القبلة. = والقول الثالث: أن اتخاذ المحراب مباح ولا يعبد به وإنما هو وسيلة لتسهيل الإمامة ومعرفة القبلة. في الحقيقة من جهة الترجيح المسألة فيها إشكال. ووجه الإشكال: أنه من حيث التأصيل قد يقول الإنسان أن النبي - صلى الله عليه وسلم - وأبو بكر وعمر وعثمان وعلي رضي الله عنهم لم يتخذوا المحاريب وهم أعلم الناس بما ينفع الناس والمحراب المسجد والمسجد بيت العبادة في الإسلام فإحداث شيء في مثل هذا البيت هو من أحداث مالم يأذن به الله وهذا يقوى وتدل عليه الأصول العامة. من جهة أخرى ما زال المسلمون يضعون المحاريب وممن كره المحاريب ابن مسعود - رضي الله عنه - ونفهم من كراهيته - رضي الله عنه - لها أنها موجودة عهده وإن كنت لم أنظر في إسناد أثر ابن مسعود لكن على فرض صحته فإنه يدل على أن المحاريب وجدت من عهد الصحابة وأنها لم تنكر بينهم على وجه الجملة وإنما أنكرها ابن مسعود وابن مسعود - رضي الله عنه - له نظرة عميقة في البدع ولذلك نكر من البدع أكثر مما أنكره غيره - رضي الله عنه - ولكن لم ينقل عن ابن عمر وابن عباس وعائشة وأبي هريرة وغيرهم من فقهاء الصحابة ما نقل عن ابن مسعود - رضي الله عنه -. ثم أيضاً تتابعت الأمة الإسلامية من القرن الثاني إلى يومنا هذا على وضع المحاريب فتأثيم الناس والحكم على عملهم بأنه بدعة طوال هذه القرون قد ما يقوى عليه الإنسان. ولذلك ربما نقول أن مذهب الحنابلة وهو أنه مباح قد يكون فيه توسط ونظر بين من يشدد في المحاريب ومن يترخص فيها ويجعلها مستحبة. لا سيما وأن رجلاً مثل الإمام أحمد روي عنه استحبابها فهذا يجعل الإنسان يتوقف في الحكم ببدعيتها والنهي عنها وتحريم بنائها. هذا ما ظهر في مسألة اتخاذ المحاريب. • ثم قال رحمه الله: وتطوعه موضع المكتوبة. الآن الحديث عن الإمام من قوله وتصح خلف إمام عال صار الكلام عن الإمام.

فتطوع الإمام في الموضع الذي صلى فيه المكتوبة مكروه لأمرين: الأمر الأول: أنه يؤدي إلى الالتباس والتشابه بين الفريضة والنافلة. والثاني: أنه قد يظن بعض المأمومين أنه قام لأنه نسي ركعة. الثالث: أنه روي عن المغيرة وعن غيره عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه نهى أن يصلي الإمام حيث أم الناس. = والقول الثاني: أن صلاة الإمام في مكانه الذي صلى به بالناس تطوعه جائز بلا كراهة. وأجابوا عن الأدلة: أنها جميعاًً ضعيفة وممن أشار إلى ضعف جمع الأحاديث الإمام أحمد لأنه قال: لم يثبت فيه إلا عن علي - يعني هذا معنى كلامه ليست هذه عبارته. فإذا كان الإمام أحمد يقول أنه ليس في الباب إلا أثر عن علي - رضي الله عنه - دل على أنه يرى أن حديث المغيرة - رضي الله عنه - وغيره حديث ضعيف. وحكم بعض الحفاظ على أفراد هذه الأحاديث بالضعف إما للانقطاع أو للجهالة. الخلاصة: أن أحاديث نهي الإمام أن يتطوع في مكانه الذي صلى فيه بالناس ضعيفة كلها فإذاً الصلاة صحيحة بلا كراهة. ولا يستهين الإنسان بهذا البحث لأن أهل العلم يعتنون بقضية الكراهة فإن بعض الناس لا يرى وزناً لأن الأمر مكروه أو الفعل مكروه أو غير مكروه لكن الأئمة يعتنون بهذا لأنهم لا يقدمون على المكروه لا سيما إذا تعلق بركن الدين وهو الصلاة. • قوله رحمه الله: إلاّ من حاجة. هذ الاستثناء يرجع إلى مسألتين: المسألة الأولى: تطوع الإمام في مكان المكتوبة. المسألة الثانية: صلاته في الطاق أو في المحراب. فلاستثناء يرجع إلى المسألتين جميعاً وهو أن الكراهة تزول إذا كان هناك حاجة والحاجة في الغالب وأثر ما يمثل الفقهاء به هو ضيق المكان. فإذا صلى الإمام بالناس ثم أراد أن يتطوع ولم يجد مكاناً لضيق المكان فإنه والحالة هذه يصلي في مكانه بلا كراهة لوجود الحاجة. • ثم قال رحمه الله: وإطالة قعوده بعد الصلاة مستقبل القبلة. يعني: ويكره للإمام أن يطيل الجلوس بعد السلام مستقبل القبلة.

وجهه: أن هذا خلاف السنة. فإنه ثبتت الأحاديث صحيحة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان إذا سلم من الصلاة لم يزد على الاستغفار ثلاثاً وقوله تباركت ياذا الجلال والإكرام. ثم ينصرف تارة عن اليمين وتارة عن الشمال. إذاً بقائه أكثر من هذا المقدار ومن الذكر الوارد وهو الاستغفار وقوله: اللهم أنت السلام ... الخ. مكروه لأنه مخالف للسنة الصريحة. وهو مكروه لسبب آخر وهو أن في هذا مشقة على المأمومين لأنه جاء في الحديث نهي المأموم أن يقوم قبل أن ينصرف الإمام. ومعنى انصراف الإمام: أن يلتفت إلى المأمومين. إذاً هو مكروه لأمرين: - مخالفة السنة. - والإشفاق على المأمومين. • ثم قال رحمه الله: فإن كان ثمّ نساء: لبث قليلاً لينصرفن. إذا كان معه نساء فالسنة في حقه أن يلبث قليلاً قبل أن يقوم والغرض من ذلك أن ينصرف النساء. والدليل: ما صح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه كان إذا صلى مكث قليلاً - أي قبل أن يقوم. وقال الزهري رحمه الله: ولا نعلم ذلك إلا لأجل النساء. وسبق أن علقنا على كلمات الزهري التي يعلق بها على السنة وأن لها ثقلاً عند أهل العلم وسبب ذلك. • ثم قال رحمه الله: ويكره: وقوفهم بين السواري إذا قطعن. الصلاة بين السواري تحتاج إلى إيضاح بعض المقدمات قبل أن ندخل في نفس المسألة: الأمر الأول - في هذه المسألة: أنه لا يكره بالإجماع أن يصلي بين السواري عند وجود الحاجة. الأمر الثاني: أنه لا يكره للإمام ولا للمنفرد أن يصلي بين السواري لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما دخل الكعبة صلى بين ساريتين فلا تتعلق الكراهة أصلاً بالإمام والمنفرد. نأتي إلى المأموم: = الحنابلة يرون أن المأموم يكره له أن يصلي بين السواري. واستدلوا على هذا: بأن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى عن الصلاة بين السواري. والدليل الثاني: أن الصلاة بين السواري تؤدي إلى انقطاع الصفوف.

وقبل أن نذكر القول الثاني يضاف إلى ما يشبه تحرير النزاع نقول: الأمر الثالث: أنه لا يوجد قائل بالتحريم بين أهل العلم فكلهم على الكراهة خلافاً لما يشعر به بعض الباحثين كأنه يميل إلى التحريم فإن العلماء لم يذكروا التحريم فيما وقفت عليه مطلقاً وإنما كلهم على أنه يكره. = القول الثاني: أن الصلاة بين السواري جائزة بلا كراهة مطلقاً. وممن رجح هذا القول ابن المنذر رحمه الله. واستدل على هذا بأمرين: الأول: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - صلى بين ساريتين والأصل أنه لافرق بين المنفرد والإمام والمأموم. الثاني: أنه لا يثبت في هذا الباب خبر صحيح عن النبي - صلى الله عليه وسلم -. وممن أشار إلى هذا ابن المنذر نفسه فإنه أشار إلى عدم ثبوت شيء في هذا الباب. وإذا لم يأت عن النبي المعصوم - صلى الله عليه وسلم - حديث فيه النهي عن الصلاة بين السواري فبأي شيء نحكم على صلاة من صلى بين السواري بلا حاجة بأنه فعل مكروهاً. وهذا القول الثاني قوي جداً في الحقيقة ووجيه ولكن يشكل عليه أنه روي عن بعض الصحابة أنه كره الصلاة بين السواري لكن مع ذلك لا يظهر لي أنه يكره الصلاة بين السواري. فمثل هذا الأمر الذي يحتاج إليه الناس كثيراً لا سيما في السابق فإنه في السابق الأبنية تحتاج إلى عدد من الأعمدة والبناء الذي لايعتمد على وجود عدد كبير من الأعمدة إنما حصل أخيراً مع التقدم أما في السابق فكانت الأعمدة كثيرة ولذلك إذا دخلت مسجداً مبنياً من الطين فستجد أن عدد الأعمدة كثير جداً. فالحكم على صلاة الناس بالكراهة إذا صلوا بين الأعمدة بلا حاجة يحتاج إلى دليل. فالأقرب والله أعلم أنه لا يكره وإن احتاط الإنسان لنفسه بأن لا يصلي إلا لحاجة صار هذا جيد بسبب أنه احتاط لصلاته أن لا يصلي مع الكراهة التي توجد عند الحنابلة وغيرهم ويعتمدون فيها على أحاديث صححت من قبل بعض المعاصرين وفيه آثار فمجموع هذه الأمور تؤدي إلى الاحتياط. أما من حيث البحث العلمي فالأقرب عدم الكراهة. والله أعلى وصلى الله وسلم على نبينا محمد ... انتهى الدرس،،،

فصل [في الأعذار المسقطة للجمعة والجماعة] قال شيخنا حفظه الله: بسم الله الرحمن الرحيم. الحمد لله والصلاة والسلام على رسوله الله. لما أنهى المؤلف الكلام عن ما يتعلق بصلاة الجماعة من حيث حكمها بحد ذاتها وما يتعلق بالمأمومين والإمام والأماكن التي ترتبط بها صلاة المأمومين بالإمام انتقل بعد ذلك انتقالاً منطقياً إلى ما يعذر فيه الإنسان لترك صلاة الجماعة أو الجمعة وذكر عدداً كبيراً من الأعذار إذا فهمها الإنسان استطاع بإذن الله أن يعرف حكم غيرها لأنه إذا فهم هذه الأعذار استطاع أن يعرف قاعدة الشارع في وزن الأمور التي أباح الشارع الحكيم فيها للمسلم في أن لا يحضر الجماعة. والتي لا يعذر فيها المسلم. وبدأ بالعذر المتفق عليه الذي لا يختلف فيه المسلمون: • فقال رحمه الله: ويعذر بترك جمعة وجماعة: مريض. المريض يعذر بترك الجمعة والجماعة لعدة أدلة: - الدليل الأول: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - - كما تقدم معنا - لما سقط عن فرسه صلى في بيته وترك الجمعة والجماعة. وهذا دليل على أن الإنسان إذا مرض جاز له ترك الجمعة والجماعة. - الدليل الثاني: الإجماع. فقد أجمع العلماء على أن من كان مريضاً فإنه يجوز له أن يترك الجمعة والجماعة. وقول المؤلف رحمه الله: (المرض) يشمل: - أن يكون مريضاً بحيث لا يستطيع أن يحضر الصلاة. - ويشمل أن يخشى زيادة المرض. - ويشمل أن يخشى بطء البرء. - ويشمل على الصحيح - إن شاء الله - خشية حدوث المرض يعني: لو كان الإنسان سليماً أو معافى ولكنه يخشى إن خرج أن يصاب بمرض فإنه حينئذ أيضاً يجوز له أن يترك صلاة الجماعة. ومن المعلوم أن مقصود الفقهاء بخشية حدوث المرض أو خشية زيادة المرض أو تأخر الشفاء أن تكون خشيةً حقيقيةً متوقعةً متصورة. أما إن كانت مظنونة لا أصل لها فإنه لا يجوز له أن يترك صلاة الجماعة. والعذر بالمرض لا إشكال فيه. • ثم قال رحمه الله: ومدافع أحد الأخبثين.

إذا كان الإنسان يدافع الأخبثين ودار الأمر بين أن يدرك الجماعة أو يدفع الأخبثين بأن يقضي الحاجة فإنه يجوز إذا كانت هذه حالته أن يترك صلاة الجماعة ويقضي حاجته ثم يصلي بعد ذلك ولو منفرداً أو أو مع الجماعة الثانية التي أقيمت بعد الإمام الراتب. والدليل على هذا: - ما أخرجه مسلم في صحيحه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (لا صلاة بحضرة طعام ولا وهو يدافع الأخبثين). وهذا الدليل نص في مسألة أنه يجوز للإنسان أن يترك صلاة الجماعة إذا حصل عنده مدافعة للأخبثين وهما: البول والغائط. ومن هنا نعلم أن ما يفعله كثير من الناس إذا حضر للمسجد متأخراً ودار الأمر بين أن يدرك الركعة الأخيرة وبين أن يذهب إلى دورات المياه لقضاء حاجته فإنك تجد بعض الناس يذهب للصلاة وإن كان يدافع أحد الأخبثين وهذا الذهاب خطأ شرعاً وهو مخالف للنصوص. وأما هل تصح صلاته أو لا تصح صلاته؟ فهذا تقدم معنا في مباحث شروط الصلاة وذكرنا التفصيل فيمن صلى وهو يدافع الأخبثين والأقوال في حكم صلاته وأنها ثلاثة طرفان ووسط .. إلخ هذا تقدم معنا. إنما الكلام الآن أنه يعذر بترك الجماعة. وأيضاً مدافعة أحد الأخبثين أمرها واضح وظاهر. • ثم قال - رحمه الله -: ومن بحضرة طعام محتاج إليه. اشترط المؤلف - رحمه الله - لجواز ترك الجماعة شرطين: ــ الأول: أن يحضر الطعام. ــ والثاني: أن يكون محتاجاً إليه. والدليل على أنه إذا تحققت هذه الشروط جاز للإنسان أن يتخلف عن صلاة الجماعة: - حديث عائشة المتقدم. - وأيضاً قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: (إذا حضر العشاء فابدأوا به قبل صلاة المغرب ولا يعجل أحدكم عن عشائه). فهذا نص في تقديم تناول العشاء على صلاة المغرب وغير صلاة المغرب كصلاة المغرب. وأيضاً دليل على أنه لا بد من حضور الطعام لأنه يقول: إذا حضر العشاء. أما إذا كان يعد ولا ينتفع الإنسان من انتظاره فإنه يجب عليه أن يصلي الجماعة. وفي هذه المسألة بعض المسائل الأخرى - يعني: وفي مسألة العذر بحضور الطعام مسائل أخرى نذكر أهم هذه المسائل:

ــ المسألة الأولى: نص الإمام أحمد على أنه إذا حضر الطعام فإنه يأكل منه حتى يشبع ولا يجب عليه أن يأكل فقط ما يسد به رمقه بل يأكل حتى يشبع. واستدل الحنابلة على هذا بدليلين: - الأول: ما تقدم معنا: وهو قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: (ولا يعجل عن عشائه). - والثاني: أن الإنسان إذا أكل ما يسد الرمق وبقيت نفسه متعلقه بالطعام ثم خرج إلى الصلاة فإن هذا من أكبر أسباب قلة الخشوع وذهاب الحضور أثناء أداء الصلاة. والشارع الحكيم إنما أجاز التخلف عن صلاة الجماعة عند حضور الطعام لمقاصد من أهمها: تكميل الخشوع. فلذلك نقول: يأكل حتى ينتهي من الطعام. ــ المسألة الثانية: هذا العذر يكون عذراً شرعاً إذا حصل اتفاقاً أما إن حصل على سبيل الترتيب والدوام فإنه لا يصبح من الأعذار ويأثم من جلس لتناول الطعام وترك صلاة الجماعة إذا كان يرتب لهذا الأمر يومياً أو اعتاد عليه. وإنما يكون عذراً شرعياً إذا حصل اتفاقاً. ــ المسألة الثالثة والأخيرة: إذا حضر الطعام وليس للإنسان به حاجة فإنه يجب أن يقوم للصلاة ولو كان يأكل ما دام أنه لا يشعر في نفسه حاجة وانجذاب إلى هذا الطعام. والدليل على ذلك: - ما صح أن النبي - صلى الله عليه وسلم - جلس يأكل من كتف شاة ثم دعي إلى الصلاة فوضع الطعان وقام إلى الصلاة. فحمل العلماء - رحمهم الله - هذا الحديث على أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يكن به حاجة إلى الطعام. جمعاً بين النصوص لأنه هو - صلى الله عليه وسلم - قال إذا حضر العشاء فابدأوا به قبل الصلاة ثم نراه هنا يقدم الصلاة على الطعام فإذا أردنا أن نجمع بين النصين نقول: لم بالنبي - صلى الله عليه وسلم - حاجة إلى الطعام في هذا الحديث. إذاً هذه بعض المسائل التي تتعلق بمسألة حضور الطعام قبل الصلاة.

بناء على هذه الضوابط والمسائل ما يفعله بعض الناس برمضان من وضع جميع الطعام قبل الصلاة فكل ما لديهم من طعام يضعه قبل الصلاة فحكم هذا إن كان يستطيع يتناول هذا الطعام ويدرك الصلاة فهو جائز وإن كان يترتب على هذا فوات صلاة المغرب يومياً فإنه آثم بترك صلاة المغرب ولو حضر الطعام ولو كان يشتهيه لأنه صار يرتب يومياً لمدة ثلاثين يوماً أنه سيترك صلاة المغرب بل نقول تأكل ما يكفي للنشاط وسد الرمق ثم تصلي مع الجماعة وإنما يكون تناول الطعام عذر إذا وقع اتفاقاً كما ذكرت. • ثم قال - رحمه الله - في العذر الرابع: وخائف: من ضياع ماله أو فواته أو ضرر فيه. إذا خاف الإنسان من ضياع المال أو فواته أو أن يتضرر هذا المال أي ماله جاز له حينئذ أن يترك صلاة الجماعة. والدليل على ذلك: - ما رواه ابن عباس - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: من سمع النداء فلم يجبه فلا صلاة له إلا من عذر قيل ما العذر يا رسول الله قال: الخوف أو المرض. وهذا الحديث تقدم معنا أن الصواب فيه أنه موقوف على ابن عباس. وإذا كان موقزفاً على ابن عباس فهو كذلك عذر لأنه فتوى عن صحابي ليس لها معارض تتوافق مع أصول الشرع. وهناك دليل آخر على أن للإنسان أن يترك صلاة الجماعة إذا خشي على ماله: - وهو أن الشارع الحكيم أجاز للإنسان أن يترك صلاة الجماعة كما سيأتينا غذا خشي من الطين أو المطر والتضرر بفقد المال أكبر من التضرر بالطين والمرض وهذا بإجماع الناس. فكون الإنسان يتضرر بنوع مطر كما سيأتينا حده أو بتلوث بالطين هذا أسهل من أن يفقد ماله أو أن يفقد شيئاً له قيمة واعتبار من ماله. وإذا كان الشارع عذر بما هو أخف فلا شك أنه سيعذر بما هو أعلى. إذاً: إذا خشي الإنسان على ماله فإن له أن يترك صلاة الجماعة. وذكر العلماء أمثلة لهذا الخوف: - منها: الخباز إذا وضع الخبز في الفرن وخشي أن يحترق لو ذهب. - والطباخ: إذا أقام القدر على النار وخشي أن يحترق إذا ذهب. - والحطاب إذا خشي أن يسرق الحطب. وما شابه هذه الأمثلة. ويمكن أن يقاس عليها بالنسبة لواقعنا المعاصر أشياء حديثة من ذلك مثلاً:

- لو كانوا يشتغلون بالبناء والصبة (ما يسمونه الصبة) وترتب على الذهاب للمسجد فساد للصبة أو تحجر الصبة أو فساد ترتيبها على الأرض. فإنه لا شك أن هذا من ضياع المال الذي أجاز الفقهاء لصاحبه ترك صلاة الجماعة. ولذلك ينبغي على المنكر أن ينكر على من ترك الصلاة جماعة أن يعرف هل هو معذور أولا؟ نعم. الغالب على الناس اليوم التهاون في صلاة الجماعة وتركها لسبب غير وجيه أو لا لسبب أصلاً لكن مع ذلك يجب على الإنسان قبل أن ينكر أن يعرف هل هذا الذي ينكر عليه تجب عليه أصلاً صلاة الجماعة أو هو ممن عذر الله سبحانه وتعالى بأحد الأعذار التي سنذكر أو بنظيرها. إذاً: الخلاصة أن الخائف على ماله عموما يعذر. • ثم قال - رحمه الله -: أو موت قريبه. يعني: إذا خشي الإنسان أنه إن ذهب لصلاة الجماعة مات قريبه. فإنه يجوز له والحالة هذه أن يبقى عند هذا المريض ولا يذهب لصلاة الجماعة. واستدلوا على هذا الحكم بدليلين: - الأول: أن الصحابي الجليل ابن عمر - رضي الله عنه - استصرخ سعيد بن زيد وهو خارج المدينة فجائه وترك الجمعة. استصرخ يعني: طلب النجدة من سعيد بن زيد فجائه وترك الجمعة وكان عند ابن عمر رجل مريض أو امرأة مريضة. - الثاني: أن هذا محل إجماع. فقد أجمع العلماء على أن من خشي موت قريبه فإنه يجوز له أن يترك صلاة الجماعة. وهذا أمر بدهي أنه إذا ترتب على ذهاب الإنسان موت المريض القريب له فإنه يجوز له أن يترك الصلاة ويصلي في البيت. قال الفقهاء: وكذلك لو خشي موت رفيقه لا قريبه. يعني: حتى لو لم يكن القريب وإنما الصديق والرفيق الذي يجلس بجواره فالحكم كذلك. قال الفقهاء: كذلك التمريض ولو لم يخش من الموت وإنما خشي من الضرر إن ذهب وترك المريض وكان هو الذي يمرض هذا المريض فإنه يجوز له أن يترك صلاة الجماعة وأن يجلس عند هذا المريض. وبالنسبة للتمريض يجوز للإنسان أن يترك صلاة الجماعة ليمرض قريبه بشرط أن لا يجد وسيلة لتفادي هذا الأمر. فإذا أمكن - مثلاً - أن يجلس عند هذا المريض أحد أهل الدار أو أحد من خارج الدار ليذهب هذا الإنسان ليصلي الجماعة ويرجع فإنه يجب عليه أن يؤمن من يقوم مقامه أثناء أداء صلاة الجماعة.

أما إذا لم يوجد إلا هذا الشخص وهذا يكثر قديماً أن لا يوجد من يمرض الإنسان إلا قريبه أو ابنه أو أخوه فإنه يجوز له أن يجلس عند هذا المريض. ومن غير المقبول ما يفعله بعض الناس يجلس يمرض المريض ويخرج للدوام ثم يرجع وباقي الصلوات يكون يمرض فالذي مكنك من الخروج لأداء الدوام الرسمي الصباحي يمكنك أيضاً من وجود من يقوم مقامك في الصلوات الخمس ما عدا الظهر يعني لو قلنا الأربع ما عدا الظهر لأنه سيكون في الدوام فأيضاً يمكنه أن يوجد من يقوم مقامه ليذهب يصلي هو مع الجماعة. لكن على كل حال الضابط أنه إذا لم يستطع أن يوجد أحداً يقوم مقامه ليذهب هو للصلاة ممن لا تجب عليهم الصلوات فإنه يجوز له أن يجلس عند هذا المريض وهو معذور ولا إثم عليه وصلاته إن شاء الله في البيت صحيحة. • ثم قال - رحمه الله -: أو على نفسه من ضرر. يعني خشي على إن خرج أن يتضرر. كأن يتربص به أحد ليؤذيه. أو أن يوجد في الطرقات حيوانات مفترسة كما قد يوجد في بعض الذئاب أو الأسود قديماً في بعض القرى النائية. المهم: هذه أمثلة إذا ترتب على خروج الإنسان ضرر فإنه يجوز أن يجلس في بيته ويصلي ولا يخرج لصلاة الجماعة. ومن أشهر أمثلة الضرر: أن يكون في البلد حرب. فإذا كان في البلد حرب لا سيما إذا كانت داخلية أي في داخل المدينة فإنه لا شك أن خروج الإنسان لا سيما في الليل يترتب عليه ضرر فقد يقتل أو يجرح أو يؤسر ... إلخ. فإذا كان الوضع كذلك فإنه يجوز له أن يبقى في البيت ويصلي ولا حرج عليه. والدليل على هذا: - جميع ما تقدم. كقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: (لا ضرر ولا ضرار) يشمل العذر في صلاة الجماعة وكون الشارع الحكيم يعذر بالمطر والبرد فهذا الضرر من باب أولى. فقياس أولوي بالنسبة إذا خشي على نفسه الضرر. وكما قلت فيما سبق أقول الآن: مقصود الفقهاء بالضرر الضرر الذي يقدره المكلف ويستحق البقاء في البيت أما الضرر اليسير فإنه لا يوجب الجلوس في البيت.

فمثلاً: لو كان إذا خرج إلى الصلاة قد يؤذيه بعض الصبيان فإن الصبيا أحياناً يؤذون المارة إلى المساجد. هذا ضرر لكنه ضرر لا يستوجب ترك صلاة الجماعة إنما الضرر الذي يستوجب ترك صلاة الجماعة هو المؤذي الملحق بالأذى الظاهر في البدن أو في المال فهذا هو الذي يعذر الإنسان إذا ترك صلاة الجماعة من أجله. • ثم قال - رحمه الله -: أو سلطان. يعني: إذا خشي إذا خرج لصلاة الجماعة أن يؤذيه السلطان إما بحبس أو بضرب أو بأخذ للمال وهذه أشهر ثلاث أمثلة. إما بالضرب أو بالحبس أو بأخذ المال فإنه يجوز له أن يبقى في بيته تفادياً لهذا الضرر. لكن اشترط الفقهاء في هذا العذر شرط وهو: أن يكون إيذاء السلطان بظلم فإن كان بحق حرم عليه أن يترك صلاة الجماعة. فمثلاً: لو كان هذا الإنسان يسرق أموال الناس وإن خرج مسكه السلطان فإنه يجب عليه وجوباً أن يخرج وأن يصلي ولو ترتب على ذلك أن يقع في أيدي السلطات لأن مسكه حينئذ بحق وهو الذي اعتدى على أموال أو أعراض الناس. المهم أنه يشترط لهذا العذر أن يكون إيذاء السلطان بظلم فإن كان بظلم جاز له أن يبقى في بيته. • ثم قال - رحمه الله -: أو ملازمة غريم ولا شيء معه. يعني: إذا خشي أنه إذا خرج لصلاة الجماعة لزمه الغريم يعني الدائن. لزمه وصار يتنقل معه حيث تنقل ويطالبه بالدين. إذا خشي من هذا الأمر فإنه يجوز له أن يصلي في البيت. لكن بشرط: أن لا يكون مع هذا المدين شيء يؤدي به الدين. وبعبارة أخرى: أن يكون معسراً أو مفلساً. فإذا كان معسراً أو مفلساً ولا شيء معه جاز له أن يبقى في البيت ويترك صلاة الجماعة. - لأنه إذا خرج ولزمه هذا الدائن صار في هذه الملازمة ضرراً ظاهراً وإحراجاً بين الناس وقد تؤدي هذه الملازمة إلى الحبس لأنه قد يلزمه بالذهاب إلى القاضي أو إلى الشرطة ويترتب على ذلك الحبس. إذاً: إذا لم يكن مع المدين شيء بأن كان مفلساً معسراً جاز له أن يصلي في البيت. الدليل على هذا: - أن ملازمة الفقير المعسر حرام لا تجوز حتى من قبل الدائن. لقوله تعالى: {وإن كان ذو عسرة فنظرة إلى ميسرة} [البقرة/280] فأوجب الله سبحانه وتعالى أن يُنْظَر وأن يمهل.

إذاً ملازمة الفقير أصلاً محرمة. كذلك حبس الفقير محرم. فإذا كان خروجه سيترتب عليه وقوع المحرم جاز له دفعاً للضرر أن يبقى في بيته ويصلي الفرائض فيه. إذاً: الدليل أن ملازمة وحبس الفقير محرم. وإذا ترتب على خروجه هذا المحرم جاز له أن يصلي في بيته. • ثم قال - رحمه الله -: أو من فوات رفقته. أي: أنه لو خشي إذا صلى الجماعة أن تفوته الرفقة. يعني: أن يسافروا ويتركوه. هذا معنى فوات الرفقة. فهو خاص بالسفر. فإنه حينئذ يجوز له أن يصلي في غير الجماعة. واشترطوا لهذا شرطاً: وهو أن يكون السفر مباحاً فإن كان محرماً حرم عليه أن يترك صلاة الجماعة. والدليل على هذا: - أن في ذهاب الرفقة وتركه ضرراً ظاهراً لا سيما في القديم فإنه في القديم يكون السفر جماعياً ولا يكون السفر أفراداً وإنما يكون جماعياً لرد الضرر الحاصل في الطريق إما من اعتداء اللصوص أو السباع أو من العطش أو من الجوع فإذا كانوا جماعة أمكن أن يتعاونوا في دفع هذا الضرر فإذا تخلف عنهم وقع عليه الضرر وهو احتمال كبير أي وقوع الضرر عليه. وفي عصرنا اليوم كذلك ك يعني لو كان هناك رفقة يستعدون للسفر في سيارة واحدة وترتب على بقائه وصلاته مع الجماعة أن يذهبوا ويتركوه فإن في هذا ضرر لا شك لأنه قد لا يستطيع السفر بمفردة أو قد يتضرر ثم مع ذلك إذا صلى مع الجماعة وهو يعلم أن له رفقة ينتظرونه وربما ذهبوا وتركوه صلى وهو مشوش الذهن بعيد كل البعد عن الخشوع وحضور القلب. فهذا إن شاء الله من الأعذار. ونحن نتكلم الآن عن أن هذا الشخص الذي أراد أن يصلي مع الجماعة وله رفقة ينتظرونه وسيذهبون إن صلى فهو معذور ولا نتكلم عن الرفقة - لسنا نتكلم عن الرفقة لأن هؤلاء المجموعة عملهم محرم لأنه يجب عليهم أن يصلوا صلاة الجماعة إذا سمعوا النداء ولو كانوا على وشك السفر. فكل إنسان سمع النداء يجب أن يؤدي هذه الصلاة التي نودي لها في جماعة سواء كان في هذا المسجد أو في غيره. المهم ما دام سمع النداء فيجب أن يصلي مع جماعة المسلمين في أي مسجد.

لكن: وإن كان عمل هؤلاء المجموعة محرم وهو أنهم سيذهبون ويتركون صلاة الجماعة ويصلون فرادى أو في مسجد خارج البلد بلا جماعة لكن باتلنسبة لهذا الشخص الذي سيذهبون ويتركونه هو معذور بهذا العمل وله أن يسافر معهم. • ثم قال - رحمه الله -: أو غلبة نعاس. يعني: إذا غلب الإنسان النعاس وسيطر على ذهنه النوم فإنه يجوز له أن يترك صلاة الجماعة. وذكر الفقهاء - رحمهم الله - شرط لهذا وهو: أن يخشى فوات الصلاة والجماعة. يعني: يخشى لو انتظر ليصلي مع الجماعة أن ينام بسبب النعاس ثم يؤدي هذا إلى ترك الصلاة والجماعة. أي: إخراج الصلاة عن وقتها وبطبيعة الحال فوات صلاة الجماعة. إذا خشي من هذا جاز له ترك صلاة الجماعة. ظاهر عبارة الحنابلة: أنه في هذه الصورة يعذر. أما إذا صار معه نعاس شديد لا يخشى معه فوات الجماعة ولكن يشق عليه أن يصلي مع الجماعة - يشق عليه مشقة ظاهرة أن ينتظر ويصلي مع الجماعة أنه في هذه الصورة يجب أن يصلي مع الجماعة. هذا ظاهر عبارة الحنابلة لأنهم خصوه بمن خشي فوات الصلاة والجماعة فقط. هذا الشخض الذي إن انتظر ربما فاتته الصلاة والجماعة لأنه سينام مع غلبة النعاس هذا فقط الذي يعذر بترك صلاة الجماعة. هذا ظاهر عبارتهم. والصواب: أن عذر غلبة النعاس يشمل الصورتين: - أن يخشى فوات الصلاة والجماعة. وهو مراد الحنابلة. - وأن يشق عليه مشقة ظاهرة زائدة أن ينتظر صلاة الجماعة. لأنه إن انتظر ولو ضمن إدراك الجماعة فإنه سيصلي مع غلبة النعاس والتعب والبعد كل البعد عن الخشوع واستحضار مقاصد الصلاة ومعاني الأذكار أثناء أداء الصلاة وهذا كله بعيد عن إرادة الشارع أي أن الشارع الحكيم من مقاصده أن يؤدي المكلف الصلاة كاملة بحضور وخشوع واستحضار لمعاني الأذكار التي تكون في السجود والركوع والقيام. فإن شاء الله هذا العذر يشمل الصورتين. ونقول كذلك: على أن يحصل هذا اتفاقاً. أما أن يرتب الإنسان وقته على أن يكون صلاة العصر دائما متعباً يغلب عليه النعاس لا يدري ما يقول إن صلى هذا لا يجوز يجب أن يرتب أموره بحيث يستطيع أن يؤدي الصلاة على الوجه الأكمل. • ثم قال - رحمه الله -: أو أذى بمطر ووحل. يعني: أو حصل له أذى بمطر أو وحل.

إذا تأذى الإنسان بالمطر أو بالوحل جاز له أن يترك صلاة الجماعة. - لحديث ابن عمر في الصحيح أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يقول في الليلة الباردة أو المطيرة: صلوا في رحالكم. أو: كلمة أو هذا لفظ البخاري. وأما في الليلة الباردة والمطيرة هذا لفظ خارج البخاري. المهم أنه في صحيح البخاري: في الليلة الباردة أو المطيرة. واستدلوا أيضاً: - بحديث ابن عباس - رضي الله عنه - أنه أمر المؤذن أن يقول صلوا في رحالكم في ليلة موحلة ممطرة فلما سئل قال خشيت أن تخرجوا فتتأذوا من الطين والوحل. وهذا حديث صحيح أيضاًَ ثابت. واستدلوا أيضاً: - بأن النبي - صلى الله عليه وسلم - في عام الفتح أمطرت على أصحابه - صلى الله عليه وسلم - مطراً لم يبل أسفل نعالهم فقال لهم صلوا في رحالكم وهذا أيضاً إسناده حسن إن شاء الله. فدلت هذه الأحاديث على أن نزول المطر أو وجود الطين في الأرض سبب من أسباب العذر في الخروج لصلاة الجماعة. وضبط الفقهاء الوحل أو الطين: بما يتأذى به الإنسان في بدنه أو ثوبه. أما إن كان طين يسير لا يضر وبإمكان الإنسان أن يتفاداه فإن هذا لايعتبر من الأعذار التي توجب ترك الجماعة. وضبطوا المطر كما سيأتينا أيضاً: بما يبل الثياب. فإذا نزل مطر يبل الثياب فإنه يجوز ترك صلاة الجماعة. بناء على هذا: إذا نزل مطر يبل الثياب لكن لا يؤذي أذية ظاهره فأحيناً ينزل مطر يبل الثياب لكن لا يؤذي أذية ظاهرة. فعند الفقهاء يجوز والحالة هذه أن يترك صلاة الجماعة. ومن العلماء من قال: بل يجب مع كونه يبل الثياب أن يؤذي بحيث إذا خرج الإنسان تضرر وتأذى. ويظهر لي: والله أعلم: أن مذهب الحنابلة: أنه يشترط أن يبل الثياب فقط صحيح لأنه يظهر من النصوص أن الشارع الحكيم يعذر بجنس المطر ولا أقصد بأي مطر لكن أقصد أنه يعذر بجنس المطر الذي يبل الثياب. بدليل هذا الحديث الذي تقدم معنا في قصة الفتح وهو أنهم مطروا مطراً لا يبل أسفل النعال وأنتم تعلمون أن الطرق في القديم كانت كلها من تراب وأن المطر إذا نزل مباشرة تصبح الأرض قريبة من الطين إذا كان المطر يسيراً. يعني: لا بد أن تتأثر الأرض ولو بالمطر اليسير.

وإذا تأثرت الأرض ولو بالمطر اليسير فلا بد أن تتأثر النعال. وهذا المطر الذي نزل عليهم - رضي الله عنهم - هم يقولون أنه لم يبل أسفل النعال فيظهر والله أعلم مع جمع القرائن وما كانت عليه أراضيهم أنه كان مطراً قليلاً. فمن مجموع هذه الأمور يظهر والله أعلم أن الشارع يعذر بالمطر ما دام أنه يبل الثياب ويحصل به أذى ولو لم يكن أذىً كبيراً. أما إذا نزل مطر لا يبل الثياب ولا يؤذي وإنما يشجع على الخروج من البيت فإنه إن ترك صلاة الجماعة في هذه الصورة فقد ارتكب محرماً. صلاته صحيحة لكنه آثم بتركه الصلاة بما لا يسوغ شرعاً ترك الصلاة. • ثم قال - رحمه الله -: وبريح باردة شديدة في ليلة مظلمة. العذر الأخير: الريح. لكن يشترط في الريح هذه الشروط الثلاثة: - أن تكون باردة. - وأن تكون شديدة. - وأن تكون في ليلة مظلمة. إذاً لابد من ثلاثة شروط. باردة وشديدة وفي ليلة مظلمة. فإن كانت الريح ساخنة دافئة: فإنها ليست عذراً في ترك صلاة الجماعة. وإن كانت ريحاً باردة لكنها تهب بهدوء وليست شديدة: فكذلك ليست بعذر. وإن كانت ريحاً باردة شديدة في النهار فليست بعذر. إذاً: لابد من تحقق هذه الشروط الثلاثة. نبدأ بالشرط الأول: أن تكون الريح باردة. هذا لا شك أنه شرط صحيح. أما الريح الساخنة فإنها لا تؤذي فبإمكان الإنسان أن يخرج ولا يتأذى بها. إذاً عذا الشرط الأول: بادرة. وهو صحيح ولذلك يقول ابن عمر - رضي الله عنه -: في الليلة الباردة أو المطيرة. الشرط الثاني: أن تكون هذه الرياح شديدة. وقوله: (شديدة) على خلاف مذهب الحنابلة يعني أن المؤلف - رحمه الله - خالف المذهب في هذه المسألة وهي اشتراط أن تكون شديدة. = فالمذهب: لا يشترطون أن تكون شديدة بل يكفي أن تكون باردة. والمذهب الذي هو خلاف ما ذكره المؤلف - رحمه الله - هو الصواب إذا لا لا يشترط في الريح أن تكون شديدة لأنه لم يشترط في الحديث أن تكون شديدة أو أن تكون قوية. هذا شيء.

الشيء الآخر: أن الريح الباردة ولو هبت بهدوء فإنها مؤذية ولو لم تكن شديدة. نعم الشديدة أكثر أذىً ويتضرر بها الإنسان تضرراً شديداً لكن كذلك الريح الباردة ولو هبت بهدوؤ فإنها تسبب ضرراً واضحاً وتأذياً للإنسان. فإذا: لا يشترط أن تكون شديدة وإنما فقط أن تكون باردة. نأتي إلى الشرط الثالث وهو: في ليلة مظلمة. يشترط أن تكون ليلة ويشترط في هذه الليلة أن تكون مظلمة. استدلوا على هذا الشرط: - بقول ابن عمر - رضي الله عنه -: في الليلة الباردة. فنص على أن الريح تكون عذراً في الليل فقط. واستدلوا على ذلك أيضاً: - بأن الريح إذا كانت في النهار فإنها لا تؤذي كما إذا كانت في الليل. = والقول الثاني: أنه لا يشترط أن تكون في الليل بل يجوز أن يترك صلاة الجماعة ولو كانت في النهار. - لأن الريح الباردة ولو هبت في النهار فإنها مؤذية وتضر بدن الإنسان والشارع الحكيم يقول: (لاضرر ولا ضرار). وقد عذر بالطين وعذر بالمطر اليسير فما بالك بالريح الباردة ولو كانت في النهار. فالأقرب إن شاء الله أن الليل لا يشترط وأنه لو هبت في النهار فإنه عذر لترك صلاة الجماعة. مسألة / لم يذكر المؤلف - رحمه الله - البرد. يعني: لو أنه أصبح الجو بارداً من غير ريح فما الحكم؟ الأقرب والله أعلم أنه إذا كان الجو بارداً فإنه يجوز للإنسان أن يتخلف عن صلاة الجماعة بشرط أن تكون هذه البرودة خارجة عن البرودة المعتادة وإلا فإنه من المعلوم أن الشتاء كله يكون الجو فيه بارد. فهل يقول قائل بأنه من حين أن يدخل الشتاء إلى أن يخرج يجوز للإنسان أن يترك صلاة الجماعة؟ هذا لا يقول به قائل. لكن نحن نقول إذا كان البرد خارج عن العادة. وهذا يقع وربما تذكر أنه في شتاءنا هذا يمر اليوم أو اليومان يكون البرد فيهما خارج عن العادة ومؤذي وهو أشد إيذاء من الطين بلا إشكال. ثم ابن عمر - رضي الله عنه - يقول: كان النبي - صلى الله عليه وسلم - في الليلة الباردة. هل ذكر الريح؟ لا لم يذكر الريح. إنما قال: في الليلة الباردة. إذاً وجود البرد بحد ذاته الذي يعتبر غير معتاد هو في الحقيقة عذر.

باب صلاة أهل الأعذار

لكن العلماء - رحمهم الله - لم يذكروا البرد. لماذا؟ لأنه في الغالب الأعم أنه لا يوجد برد شديد إلا مع ريح فيندر تماماً أن تجد الجو بارد جداً ومؤذي وخارج عن العادة بدون ريح لأن الريح التي تهب مثلاً عندنا في نجد من جهة الشمال هي التي أصلاً تسبب البرودة. ولذلك لم يذكروها ففي الحقيقة الخلاف قد يكون لا طائل تحته لكن أحياناً يوجد برد بلا ريح فإذا وجد هذا البرد الشديد بلا لاريح جاز للإنسان أن يتخلف عن صلاة الجماعة. وبهذا العذر أنهى المؤلف - رحمه الله - الكلام عن الأعذار التي إذا وقعت جاز للمكلف أن يترك صلاة الجماعة. باب صلاة أهل الأعذار • ثم قال - رحمه الله -: باب صلاة أهل الأعذار. يعني: باب يبين فيه كيف يصلي المعذور. والمعذور هو: المريض. • يقول - رحمه الله -: تلزم المريض: الصلاة قائماً. إذا أطاق المريض أن يصلي قائماً وجب عليه أن يصلي قائماً بالإجماع. بلا خلاف. - أولاً: لأن القيام ركن وهو يستطيع أن يؤديه. - ثانياً: لحديث عمران بن حصين وهو في صحيح البخاري أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (صل قائماً فإن لم تستطع فقاعداً فإن لم تستطع فعلى جنب). فبدأ - صلى الله عليه وسلم - بالصلاة قائماً مع أن عمران - رضي الله عنه - سأله عن صلاة المريض. في الحديث عمران - رضي الله عنه - قال: أخبرني يارسوال الله عن الصلاة هو لم يقل في الحديث أخبرني عن صلاة المريض وإنما قال أخبرني عن الصلاة لكن الشراح فيما أعلم كلهم قالوا معنى أخبرني عن الصلاة يعني عن صلاة المريض. لأمرين: - الأول: أن عمران كان مريضاً. كان فيه بواسير حين سأل - رضي الله عنه -. - الثاني: أن الجواب: لا يمكن أن يكون جواباً عن الصلاة عموماً وإنما هو جواب يتعلق بالمريض لأنه هو الذي لا يستطيع أن يصلي قائماً. ولهذا حمل الفقهاء - رحمهم الله - قوله: أخبرني عن الصلاة يعني عن صلاة المريض. • ثم قال - رحمه الله -: فإن لم يستطع فقاعداً. إذا لم يستطع فيصلي قاعداً بالإجماع. - لأنه لم يستطع أن يصلي. والنبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: (فإن لم تستطع فقاعداً). والصواب: قاعداً. تنقسم إلى قسمين:

ــ القسم الأول: أن لا يطيق أن يصلي قاعداً. فلو قام لسقط. فهذا يصلي قاعداً بإجماع الفقهاء - رحمهم الله - بلا خلاف. - لقوله - صلى الله عليه وسلم -: (فإن لم تستطع فصلي قاعداً). ــ القسم الثاني: أن يطيق ولكن مع مشقة ظاهرة. فهذا يصلي قاعداً أيضاً. لدليلين: - ولا يمكن أن نستدل هنا بحديث عمران لأن حديث عمران يقول: فإن لم تستطع وضابط الاستطاعة هو محل الخلاف الآن. (إذاً: مرة أخرى: القسم الثاني: أذا كان يستطيع لكن مع مشقة ظاهرة. فإنه يصلي أيضاً قاعداً). والدليل على ذلك: - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما سقط عن الفرس وجحش جنبه أو شقه الأيمن: يعني انقشع عنه جلده: صلى جالساً. والظاهر من حال النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه كان يستطيع أن يصلي قائماً ولكن مع مشقة ومع ذلك صلى الفروض والنوافل جالساً - صلى الله عليه وسلم -. هذا دليل. - الدليل الثاني: أنه إن صلى قائماً مع المشقة ذهب عنه الخشوع. - الدليل الثالث: جميع النصوص التي ترفع الحرج في الشرع. لكن مع ذلك نحتاج إلى ضابط: = فمن الذين ضبطوها إمام الحرمين من الشافعية فضبط عدم القدرة بأنه إن قام ذهب عنه الخشوع. لأنه ينشغل بهذا المرض. فإذا حصل هذا الضابط جاز له الجلوس. = والقول الثاني: أنه لا يصلي قاعداً إلا إذا لم يتمكن من القيام لدنياه. وهذه رواية عن الإمام أحمد. معنى هذا: أنه من غير المقبول ما يفعله بعض الناس: يصنع كل شيء يذهب للدوام ويقوم ويجلس وإذا جاءت الصلاة قال: ما أسطتيع أن أصلي قائماً. كيف تستطيع تقوم لدنياك؟ وتذهب وتأتي وتفعل كل هذه الأعمال ثم إذا جائت الصلاة بالذات صرت لا تستطيع. إذاً هذا معنى قول الإمام أحمد: إذا كان لا يستطيع أن يقوم لدنياه جاز له أن يصلي جالساً.

ومع وجاهة هذا القول إلا أن القول الأول: أضبط وأنا نقول له أنت مُدَيَّن وهذا أمر يرجع بينك وبين الرب سبحانه وتعالى فإن كنت إذا صليت قائماً ذهب عنك الخشوع وانشغلت بهذا المرض ولم تعد تستحضر الصلاة على الوجه الذي ينبغي جاز لك حينئذ أن تجلس ولا يشترط أن يكون الإنسان إن قام سقط فهذا غير مراد على هذا القول وإنما يجوز له أن يصلي جالساً في هذه الحالة أيضاً وهي ذهاب الخشوع. إذاً القول الأول هو الصواب إن شاء الله. • ثم قال - رحمه الله -: فإن عجز فعلى جنبه. يعني إن عجز عن الصلاة قاعداً فإنه يصلي على جنبه. - لحديث عمران (فعلى جنب). ويكون وجهه حينئذ إلى القبلة. وليس رأسه إلى القبلة: إذا صلى على جنب فيكون وجهه إلى القبلة كما يصنع بالميت في القبر لا كما يفهم بعض الناس أنه يضع رأسه إلى القبلة وإنما يضع وجهه. = فمن الفقهاء من قال: يصلي على جنبه الأيمن. = ومنهم من قال: يصلي على أي الجنبين شاء. (((الأذان))). بعد الأذان قال الشارح - حفظه الله -: فقط نكمل هذه المسألة: إذاً إما أن يصلي عن يمينه على قول أو هو مخير بين الجوانب على قول. والصواب أن المريض يصلي حسب ما يتيسر له. فإن تساوت الأمور من حيث المرض فالأفضل أن يصلي على يمينه. - لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - يحب التيامن في شأنه. ولا شك أن هذا من أعظم الشؤون وهو الصلاة. أو على أي جنب يصلي. والله أعلم. انتهى الدرس،،،

قال شيخنا حفظه الله: بسم الله الرحمن الرحيم. الحمد لله والصلاة والسلام على رسوله الله. غير موجود ...

فصل [أحكام قصر الصلاة] قال شيخنا حفظه الله: بسم الله الرحمن الرحيم. الحمد لله وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين أما بعد. ذكرت في الدرس السابق أن مسألة تحديد المسافة التي إذا قطعها المسافر جاز له أن يقصر وأن يترخص بأحكام السفر أنها مسألة فيها إشكال وتداخلت أقوال الفقهاء فيها وذكرت: = القول الأول وهو مذهب الجمهور. والقول الثاني: وهو مذهب الظاهرية وليس معهم ابن حزم ورجحت أنه ثلاثة (فراسخ) احتياطاً وأن الثلاثة فراسخ تساوي بالكيلو المعاصر ستة عشر كيلو. = القول الثالث: وهو مذهب الأحناف الذي اشتهروا به وهو أن المسافة مسيرة ثلاثة أيام. وهي تساوي بالكيلو = مائة وثلاثة وثلاثون تقريباً = 133ك. وهذا التحديد هو أطول تحديد عند الفقهاء. واستدلوا على هذا: - بقول النبي صلى الله عليه وسلم: (لا يحل لمرأة تؤمن بالله واليوم الآخر تسافر مسيرة ثلاثة أيام إلا مع ذي محرم). وجه الاستدلال: أن النبي صلى الله عليه وسلم حكم على المرأة التي تقطع مسيرة ثلاثة أيام أنها مسافرة لقوله: (تسافر). والجواب على هذا الاستدلال: أن هذا الحديث في الصحيحين وفي رواية في الصحيح: (تسافر مسيرة يومين) وفي رواية في الصحيح أيضاً: (تسافر مسيرة يوم) وفي رواية خارج الصحيحين وهي في السنن: (تسافر مسيرة أو سير بريد). فلما خرت ألفاظ الحديث مختلفة دَلَّ ذلك على أن النبي صلى الله عليه وسلم لا يقصد التحديد أي: لا يقصد أن ما دون الثلاثة أيام أنه لا يسمى سفراً. = القول الرابع: أن المرجع في ذلك إلى العرف لأن الله سبحانه وتعالى أطلق السفر في كتابه والنبي صلى الله عليه وسلم أطلق السفر في سنته ولم يأت عنهما تحديد للمسافة وتحديد ما أطلقه الشارع لا يجوز. ثم المسافات وتحديدها ومقدارها ليس معروفاً للناس وإنما يعرفه أهل الاختصاص فقط لا سيما في القديم. وهذا القول اختيار شيخ الاسلام وابن القيم ونسب عند بعض المعاصرين خطأ لابن حزم - فالصواب أن هذا ليس قولاً لابن حزم.

عرفنا هذا القول وفي ضمنه دليله وهو أن التحديد ليس موجوداً في الكتاب والسنة والقاعدة التي اتفق عليها الفقهاء أن كل لفظ جاء في الشرع ليس له حد لافي اللغة ولا في الشرع فإنه يرجع في تحديده إلى العرف. فالسفر جاء مطلقاً في الشرع ولم يحدد فنرجع في تحديده إلى العرف. = القول الخامس: أنه ميل فقط وهذا هو مذهب ابن حزم والميل يساوي كيلوين فقط. واستدل ابن حزم بأن الشارع الحكيم ربط أحكام السفر على السفر وأقل ما جاء في الشرع أنه ميل فإنه صح عن ابن عمر رضي الله عنه وهو من أهل اللغة - يقول ابن حزم - الذين يرجع إلى أقوالهم أنه سمى الخروج ميل سفراً فهذا أقل ما جاءنا فنتمسك به. = القول السادس: أن المسافة بريد وهذا اختيار شيخ الاسلام لو قلنا بالتحديد بالمسافة فيقول أننا لو أردنا التحديد بالمسافة لحددنا ببريد. وهو يساوي تقريباً اثنين وعشرين كيلو. الدليل: قال: الشارع سمى قطع مسافة بريد قطعاً في حديثين: - الحديث الأول: وهو الأصح. ما ثبت في الصحيحين وفي غيرهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قصر في عرفة وقصره صلى الله عليه وسلم في عرفة قصر سفر هو ومن معه من أهل مكة والفاكهي يقول - في أخبار مكة - بين مكة وعرفة بريد. - الحديث الثاني: الذي سمى فيه الشارع قطع مسافة بريد سفراً ما تقدم معنا الآن: (لا يحل لمرأة تؤمن بالله واليوم الآخر تسافر مسافة بريد) فسمى مسافة البريد سفراً. ولا شك بعد أن سمعتم هذه الأقوال منسوبة لكبار أهل العلم أنكم عرفتم أن في المسألة إشكال ويظهر الإشكال جلياً من التفاوت الكبير بين مائة وثلاثة وثلاثين كيلو إلى اثنين كيلو مروراً بثمانين واثنين وسبعين وثمان وثمانين واثنين وعشرين ... إلى آخره ... الراجح: الحقيقة كما قلت أن المسألة مشكلة. - أما اختيار شيخ الاسلام وابن القيم فهو قول لا يكاد ينضبط ويشكل جداً في التطبيق لا سيما مع سهولة المواصلات في عصرنا هذا مما يختلط معه تماماً ما يسمى سفراً وما يسمى خروجاً بلا سفر. - ثانياً: أقوى الأقوال فيما يظهر لي من جهة الأدلة القول الأخير وهو البريد لأن الإنسان يطمأن إلى أن الشارع بنفسه سمى قطع هذه المسافة سفراً. وقلت لكم هذا اختيار شيخ الاسلام إذا قلنا بالتحديد بالمسافة. لكن كونه يقال إذا خرج الإنسان وقطع مسافة اثنين وعشرين كيلو يصبح مسافراً أيضاً أقل ما نقول أنه قد يتردد الإنسان بالجزم به مع أنه لا شك أن أهل مكة لما خرجوا إلى عرفة قصروا لأنهم قطعوا مسافة بريد. فمن الجهة العلمية هو قوي جداً وهو أقوى مما رجحه ابن حزم بقوله: ميل فإن اختيار الميل ضعيف جداً وسيأتينا الآن.

واعتقد أن الذي يسع الإنسان ولو على سبيل التقليد ولا بأس بالتقليد إذا تاربت الأدلة - هو مذهب الجمهور فنقول من قطع ثمانين أو ثمان وثمانين كيلو أنه يتعبر مسافراً وتنضبط القضية ولا يشكل على الناس أي قضية بعد أن حددت لهم الأمر بالمسافة. ومن المفيد أن تستحضر أثناء دراسة مسألة تحديد السفر بالمسافات أن الصحابة كلهم حددوا بالمسافة وإن اختلفوا في مقدارها. فأنس رضي الله عنه تقدم معنا أنه حددها بثلاثة فراسخ وابن عمر رضي الله عنه مشهور عنه التحديد بأكثر من حد وابن عباس رضي الله عنه فكلهم حددوا بالمسافة ولم يرو عن أحد منهم التحديد بغير المسافة. وشيخ الاسلام يقول: أن تحديد الصحابة بالمسافة مع اختلافهم واختلاف الرجل الواحد منهم دليل على أنهم كانوا يفتون كل شخص بحسب حاله أي أنهم يرجعون إلى العرف. ونحن نقول: أن هذا التخريج لفتاوى الصحابة قد يكون مقبولاً لكن مع ذلك نحن نعلم قطعاً أنهم اتفقوا على التحديد بالمسافة ربما رجوعاً إلى العرف وربما لأمر آخر لكن في الخلاصة والنتيجة نهم حددوا بالمسافة وعليه نحن نقلد الصحابة رضي الله عنهم ونحدد بالمسافة. ويبقى أي المسافات نختار فكما قلت لكم الاحتياط والأضمن مذهب الجمهور - الشافعية والمالكية والحنابلة - والأقوى دليلاً أن يكون الإنسان إذا قطع اثنين وعشرين كيلو أنه يعتبر مسافراً. هذا ثانياً. - وثالثاً: شيخ الاسلام رحمه الله لا يريد أبداً بقوله العرف قصر المسافة. يعني: أنه لا يريد أن من قطع - مثلاً - تسعين كيلو قد لا يكون مسافراً أو من قطع سبعين كيلو قد لا يكون مسافراً بل يريد رحمه الله أقل من ذلك لا كما فهمه بعض الناس أن قول شيخ الاسلام يقلل المسافة التي حددها الجمهور الدليل على لذلك أن شيخ الاسلام رحمه الله نفسه في الفتاوى يقول: عبارة معناها: والمرجع في السفر إلى ما تعارف عليه الناس أنه سفراً كخروج أهل مكة إلى عرفة. وأخذنا أن بين مكة وعرفة مسافة بريد فهو رحمه الله يريد أن يقصر المسافة التي حددها الجمهور هو يقول: أنتم تقولون أن الإنسان لا يسمى مسافراً حتى يقطع مسيرة أربعة برد وهو يقول بل يكفي أن يقطع بريداً واحداً ليكون مسافراً.

فمن الخطأ التضييق على الناس بناء على قول شيخ الاسلام لأنه لا يريد هو التضييق هو يريد أن العلماء - الآخرون - ضيقوا وحددوا مسافة طويلة لا يعتبر الإنسان مسافراً إلى إذا قطع هذه المسافة. هذا ثالثاً: كل هذا في الترجيح حتى يتصور الإنسان معالم المسألة. - رابعاً: قول ابن حزم ضعيف والسبب في ضعفه أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يخرج إلى قباء كل سبت كما في الصحيح وقباء على مسافة ميل من المدينة. أضف إلى هذا أن من كان حول المدينة ممن يبعد عنها ميل كأهل قباء وغيرهم كانوا أيضاً يدخلون إلى المدينة ولم يكن النبي صلى الله عليه وسلم يقصر إذا ذهب إلى قباء ولا الذين خارج المدينة على بعد ميل يقصرون إذا دخلوا المدينة. فتبين أن هذا الحد ليس بصحيح. المسألة الأخيرة: هل من خرج إلى النزهة يعتبر مسافراً؟ الجواب: عن الإمام أحمد روايتان: - الأولى: أنه يعتبر مسافراً. لأنه خرج عن بلدته وقطع مسافة فلا يخرج عن مسمى السفر. - الثانية: أن من خرج في نزهة فإنه لا يسمى مسافراً لأنه لم يخرج لما فيه غرض ومصلحة مفيدة. والأقرب: الرواية الأولى إذ لا دليل على اشتراط أن يكون الخارج خرج لغرض صحيح ثم أرأيت لو خرج يتنزه لمسافة ألف كيلو فهل يعتبر مسافراً؟ الجواب: مسافر بالإجماع فلا أحد يعتبر أن من قطع ألف كيلو أنه ليس بمسافر مع أنه خرج يتنزه وطول وقصر المسافة لا يؤثر في الأحكام. بعد هذه الجولة في هذه المسألة المهمة التي تمس حاجة الناس جداً إليها وإلى معرفة ضوابطها نخلص إلى أن قول الجمهور يعتبر من أحوط وأحسن الأقوال وأسهلها تطبيقاً وأن الإنسان إذا قطع هذه المسافة وخرج فإنه يعتبر مسافراً وأن القول بأنه إذا قطع اثنين وعشرين كيلو خارجاً عن البلد أنه يعتبر مسافراً قول قوي جداً ويسنده نصان صحيحان في تسمية من قطع هذه المسافة مسافراً في الشرع ويترخص ويأخذ أحكام السفر ولكن أرجع وأقول بأن قول الجمهور أحوط وأولى ومن المسائل المهعمة ما ذكرت لكم أن قول شيخ الاسلام بالتحديد بالعرف لا يقصد منه التضييق في مسألة السفر وإنما يقصد منه التوسيع وأن من خرج أصبح مسافراً وإن لم يقطع هذه المسافة التي حددها الجمهور.

أما مذهب الحنفية فهو من أضعف الأقوال لأنه اعتمد على نص لا يقصد منه أبداً تحديد من يعتبر مسافراً ومن لا يعتبر مسافراً في الشرع. ثم إنه فيه مشقة إذ لا يعتبر الإنسان مسافراً إلا إذا قطع مسيرة ثلاثة أيام وهذه مسافة طويلة يشق على الناس تحقيقها إذا اشترطنا عليهم أنهم لا يكونوا مسافرين إلا بقطع مسافة مائة وثلاث وثلاثين كيلو فهذا فيه مشقو وبعد وليس له أصل واضح والحديث الذي ذكروه روي يومين وروي يوم وروي أقل: بريد. - إذاً عرفنا الآن أن من سافر تسعين كيلو فبإجماع الأمة ما عدا الأحناف فإنه يعتبر مسافراً فكل فقهاء المسلمين من الصحابة ومن تبعهم والفقهاء السبعة ومن بعدهم عندهم من قطع تسعين كيلو يعتبر مسافراً وحتى شيخ الاسلام وإن كان يضبطه بالعرف فلا شك أنه عنده يعتبر مسافراً بل من قطع بريداً عنده يعتبر مسافراً. وأما اختياره هو نفسه رحمه الله في مسألة العرف فهذا بالتجربة والعمل لا يمكن ضبطه فتختلف أعراف الناس وتختلف عادات الناس ويسميه البعض مسافر والبعض لا يسميه مسافراً مما يدخل معه الفقيه بإشكال له أول وليس له آخر وقد أشار شيخنا رحمه الله - ابن عثيمين - وإن كان يرجح القول بالعرف أن هذا القول لا ينضبط وأنه مشكل جداً وذكره في أكثر من مناسبة وذكر أن قول الجمهور منضبط وإن كان لا يفتي به لكنه رحمه الله أقر بهذا أن مذهب شيخ الإسلام لا ينضبط وأن مذهب الجمهور سهل التطبيق ومنضبط عند الفتوى. • ثم قال رحمه الله: من سافر سفراً مباحاً أربعة برد: سن له قصر الرباعية ركعتين. القصر مشروع بالكتاب والسنة والإجماع في الجملة. لكن اختلفوا في حكمه: = فذهب الجماهير الأئمة الثلاثة مالك وأحمد والشافعي إلى أن القصر سنة وليس بواجب. واستدلوا على هذا بأدلة: - منها قوله تعالى: {وإذا ضربتم في الأرض فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة} ورفح الجناح يدل على أن العمل ليس بواجب.

- واستدلوا بحديث يعلى بن أمية أنه سأل عمر بن الخطاب عن هذه الآية ({وإذا ضربتم في الأرض فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة إن خفتم أن يفتنكم}) فقال فقد أمنا فكيف نقصر فقال عمر رضي الله عنه عجبت مما عجبت منه فسألت النبي صلى الله عليه وسلم فقال: (صدقة تصدق الله بها عليكم). فقوله صدقة يدل على أنه سنة وليس بواجب. - واستدلوا بأن عثمان رضي الله عنه صح عنه وعائشة وابن عمر وابن مسعود وغيرهم من الصحابة أتموا. - واستدلوا بأن الصحابة كلهم أتم خلف عثمان في منى. - واستدلوا بما أفتى به الصحابة أن المسافر إذا صلى خلف المقيم أتم ولو كانت صلاة السفر ركعتين فقط لكانت كصلاة الفجر لا يجوز أن يزيد فيها الإنسان. وفي بعض هذه الأدلة مناقشات لكن مجموعها لا سيما الآثار والأدلة الأخيرة التي ذكرت تعتبر قوية جداً. = والقول الثاني: للأحناف والظاهرية أن القصر واجب فإن أتم أعاد. واستدلوا: بحديث عائشة الصحيح أنها قالت: (فرضت الصلاة ركعتين ركعتين فأقرت في السفر وزيدت في الحضر). فقولها رضي الله عنها: فرضت. دليل على أن الركعتين فرض. وأجابوا عن هذا الأثر بأجوبة كثيرة: - منها أنه صح عن عائشة أنها أتمت. - ومنها أن هذا قول لعائشة لا يرفع إلى النبي صلى الله عليه وسلم. - ومنها أن هذا الحديث حديث شاذ مخالف لظاهر القرآن. ووجه مخالفته لظاهر القرآن أن القرأن دل على أن الأربع هي الأصل {لاجناح عليكم أن تقصروا} وحديث عائشة دل على أن الركعتين هي الأصل فهذا مخالف لظاهر القرآن. والدليل الثاني: للقائلين بالوجوب حديث ابن عباس رضي الله عنه أنه قال: (فرض رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة السفر ركعتين والحضر أربع وفي الخوف ركعة). والجواب عن هذا الحديث: أن العلماء أجمعوا على أنه لا يجب أن يصلي الإنسان في الخوف ركعة واحدة فكذلك في السفر. وفي الحقيقة الأجوبة على أثر عائشة وأثر ابن عباس كلها ضعيفة وكلها ممكن أن تناقش مناقشة قوية جداً ولا تثبت الأجوبة عند المناقشة

الراجح: مع ذلك الراجح قول الجمهور للآثار لأن نعلم قطعاً أن الصحابة صلوا أحياناً أربعاً ونعلم أن جمهور الصحابة صلوا خلف عثمان رضي الله عنه أربعاً ولو كانت فريضة صلاة السفر ركعتين لأنكروا على عثمان لأنه كما يكون كما لو زاد في الظهر ركعة فصارت خمساً فهذا التصرف من الصحابة دليل على أنه لا يجب. وهناك دليل في الحقيقة قوي للجمهور ومن الممكن أن نستدل به وهو أن النبي صلى الله عليه وسلم هو نفسه أتم في صلاة الخوف فإنه صلى بالطائفة الأولى ركعتين ثم صلى بالركعة الثانية ركعتين فصارت له أربع ولهم ركعتين فهذا يستدل به أنه يجوز أن يتم (((والنبي صلى الله عليه وسلم لم يحفظ عنه أبداً أنه أتم في السفر إلا في صورة واحدة وقد تكون محل أخذ وعطاء وهي هذه الصورة - صلاة الخوف))). وعلى كل حال: القول بالوجوب ليس بقوي. = القول الثالث: وهو رواية عن الإمام أحمد أن الإتمام مكروه وهو راجع لقول الجمهور أنه يسن القصر والإتمام من فعله فهو مكروه وهذا اختيار شيخ الاسلام وبه تجتمع الأدلة. إذاً الراجح إن شاء الله أن لا يجب على الإنسان أن يقصر لكنه إن أتم من غير أن يكون خلف مقيم فقد فعل مكروهاً ولا ينبغي أبداً لطالب العلم ولا للمسلم أبداً أن يتم إذا لم يكن خلف مقيم لأن هذا فيهخ مخالفة صريحة جداً للسنة وابن مسعود لما أتم عثمان قال إما لله وإنا إليه راجعون وهي كلمة تقال عند المصائب فاعتبر هذا الفعل من المصائب لأنه مخالفة صريحة لما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم وما كان عليه أبو بكر وعمر. فالراجح الثالث وهو داخل في الثاني أنه مكروه. • ثم قال رحمه الله. إذا فارق عامر قريته أو خيام قومه. يريد المؤلف رحمه الله أن يبين متى يبدأ الإنسان بأحكام السفر إذا كان يريد أن يقطع مسافة القصر. وهي عند الحنايلة أربعة برد. يقول: إذا فارق عامر قريته: فإذا خرج الإنسان عن حدود المدينة العامرة بالسكن جاز له أن يترخص برخص السفر. - فإن كانت أطراف المدينة خرابات ليس فيها ساكن جاز له أن يبدأ بأحكام السفر من حين يفارق عامر القرية وإن لم يفارق هذه البيوت الخربة.

- وإن كان في أطراف البلد مزارع لا تسكن - وهذا قيد ضروري - وإنما يخرج إليها الناس ويرجعون جاز له أن يترخص بأحكام السفر إذا فارق عامر القرية وإن لم يفارق هذه المزارع الملحقة بالبلد. فإذاً الضابط هو: عامر القرية. الدليل: - الأول: أن السفر في اللغة لا يطلق إلا على من ظعن وخرج عن بيته وقريته لأنه بذلك يسفر أي يصبح ظاهراً لا تحده البنيان. ذو القعدة الثاني: أنه لا يحفظ عن النبي صلى الله عليه وسلم مع كثرة أسفاره أنه قصر بالمدينة قبل أن يخرج. ذو القعدة = والقول الثاني: أن من عزم على السفر وأراد أن يقطع مسافة القصر جاز له أن يترخص من بيته. فيفطر ويقصر ويجمع ويخرج. واستدلوا على هذا: - بأنه روي عن اثنين من الصحابة أنهم فعلوا ذلك. - ولأنه من حين نوى السفر فإنه يصدق عليه اسم المسافر. والصواب القول الأول: وهو مذهب الجماهير من الصحابة ومن بعدهم. أنه لا ترخص إلا إذا فارق عامر قريته. • قال رحمه الله: أو خيام قومه. إذا فارق خيام القوم أي تجاوز الخيام إذا كان من سكان البادية جاز له بمجرد المفارقة أن يبدأ بأحكام السفر. = مسألة: فإن كان سفره عن طريق البحر فينقسم إلى قسمين: - القسم الأول: أن يركب السفينة ويسافر لا ماحاذياً للشاطيء (فالإنسان الذي يخرج من جده ويريد اليمن فإنه يكون محاذياً للشاطيء بينما إذا أراد أن يذهب إلى مصر فإنه يجعل جده في ظهره ولا يحاذي الشاطيء). فإن كان يسافر محاذياً للشاطيء فإنه لا يترخص حتى يفارق عامر القرية فينظر عن شماله إذا كان الشاطيء عن شماله فإذا فارق عامر القرية بدأ بأحكام السفر. وإن سافر لا محاذياً للشاطيء فإن كان ينتقل من الشاطيء إلى سفينة السفر - التي سيسافر عليها - بمركب صغير فبمجرد مغادرة هذا المركب فإنه يعتبر مسافراً. وإذا كان يركب السفينة التي يريد أن يسافر عليها ابتداءً فإنه بمجرد أن ينفصل عن الشاطيء فإنه يعتبر مسافراً. ولا يشترط أن يقطع مسافة يصبح بعدها لا يرى المدينة فهذا ليس له علاقة بالسفر وإنما بمجرد ما ينطلق من الشاطيء إذا كان ركب سفينة سيسافر عليها هي فإنه يعتبر مسافراً.

= أما الجو فليس له علاقة إما أن يكون المطار في البلد كالمطار القديم للرياض أو أن يكون المطار خارج البلد كالمطار الحديث للرياض. فإن كان في مطار داهل البلد فإنه لا يترخص حتى تقلع الطائرة. وإن كان في مطار بعيد فمن حين أن يخرج من مدينته إلى المطار فإنه يعتبر مسافراً ويترخص برخص السفر. • ثم قال رحمه الله: وإن أحرم حضراً ثم سافر، أو سفراً ثم أقام ... أتم. - إذا أحرم الإنسان حضراً ثم سافر ومثاله: أن يركب في السفينة وهي على الشاطيء ويكبر ثم لما كبر انطلقت السفينة فهو أحرم مقيماً ثم سافر. - وإن أحرم مسافراً ثم أقام فالعكس تماماً. فقبيل وصول السفينة كبر فهو مسافر ثم وصلت إلى المدينة فهو الآن في الحضر. في الصورتين عند الحنابلة يتم. الدليل: أنه اجتمع في حقه مبيح وحاضر أو اجتمع في حقه سبب القصر والإتمام فغلبنا الإحتياط وهو الإتمام أو غلبنا الحاضر وهو الإتمام. ولو قيل: - إذا أحرم مسافراً ثم أقام يتم. - وإذا أحرم مقيماً ثم سافر فيقصر. لكان قولاً قوياً ولكني لم أقف عليه لأن هذا في الحقيقة هو المتوافق مع قواعد الشرع ...... الآذان .... - - بعد الآذان قال حفظه الله: فقط نريد إتمام هذه المسألة: أقول: لو قيل بهذا القول لكان قولاً متوجهاً. والتعليل: أن الشارع دائماً يحكم على الإنسان بحسب حاله. فالحال التي يتلبس بها فإنه يأخذ أحكامها. وقد أخذنا نظير هذا عند الفقهاء في من مسح مسافراً ثم أقام ومن مسح مقيماً ثم سافر. فنلاحظ في القول الراجح دائماً أن الإنسان يعطى بحسب حكمه. فمثلاً - لو أفطر الإنسان بعد غروب الشمس ثم أقعلت الطائرة ورأى الشمس فالآن حاله أنه يفطر فيبقى مستمراً على الإفطار لأن حاله الشرعي أنه مفطر بينما لو تقلع الطائرة قبل أن تغرب الشمس بقليل ويستمر في رؤية الشمس فإنه يستمر صائماً إلى أن تغيب عليه الشمس. فالمنظر للإنسان هو بحسب حاله. كذلك نقول هنا: هو الآن أحرم بالصلاة مقيماً ولكنه صار مسافراً فتصدق عليه أحكام السفر ولو أحرم مقيماً وكذلك العكس.

فلو قيل بهذا القول - وبحثت عن قائل من الفقهاء - ولم أجد وإن كنت أتوقع أنه يوجد مع التوسع في البحث لكن نقول إن قيل بهذا القول فهو قول قوي جداً ومتوجه. فإذا كبر الإنسان وهذا يحصل أحياناً ثم فوجيء بأن السفينة تحركت فنقول أقصر الصلاة لأنك الآن أصبحت مسافراً. انتهى الدرس،،،

تابع: فصل أحكام قصر الصلاة قال شيخنا حفظه الله: بسم الله الرحمن الرحيم. الحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين. • يقول المؤلف رحمه الله: أو ذكر صلاة حضر في سفر. أي فإنه يتم إذا نسي الإنسان صلاة الحضر ولم يتذكرها إلا وهو في السفر فإنه عند الحنابلة يتم بل عند الجمهور يتم بل حكي إجماعاً أنه يتم، لأن الصلاة التي وجبت في ذمته واستقرت صلاة حضر فيجب أن يؤديها كما وجبت في ذمته فيصليها ولو كان في سفر أربعاً. والمسألة قلت لكم أنه حكي فيها الإجماع لكن فيها خلاف. = فالقول الثاني: لابن حزم أنه يصليها قصراً باعتبار أنه الآن مسافر. والصواب مع الجماهير وهو أنه يصليها صلاة حضر لأنها هي التي وجبت في ذمتها. • ثم قال رحمه الله: أو عكسها يعني من ذكر صلاة سفر في حضر فإنه أيضاً عند الجمهور يجب عليه أن يتم. واستدلوا على ذلك: بأن القصر من رخص السفر وقد زال هذا السبب فهو الآن في حضر. = القول الثاني: أنه يقصر ولو ذكرها في حضر لدليلين: الأول: قوله - صلى الله عليه وسلم -: (من نام عن صلاة أو نسيها فليصلها إذا ذكرها). أي: فليصل ذات الصلاة والصلاة المنسية الآن صلاة سفر. الثاني: أن الصلاة التي وجبت في ذمته وجبت مقصورة فلا يجب عليه أكثر من ذلك. وهذا القول - الثاني - هو الصواب. فإذا تذكر الإنسان وهو في الحضر أنه نسي صلاة سفر فإنه يصليها ركعتين. وهذه المسألة تدل على قوة ووجاهة القول السابق فيمن أحرم سفراً ثم دخل المدينة أو العكس من أحرم حضراً ثم سافر. فهنا القول الثاني جعله باعتبار واقع وحقيقة الإنسان وأن الصلاة وجبت عليه أثناء السفر فلم يوجبوا عليه أكثر من ذلك وقلت أنه الراجح وهو يتوافق مع ما استظهرته في المسألة السابقة.

• ثم قال رحمه الله: أو ائتم بمقيم. أي يجب على المسافر إذا ائتم بمقيم أن يتم وهذا مذهب الأئمة الثلاثة الحنابلة والأحناف والشافعية. واستدلوا على هذا بأدلة: الدليل الأول: بأن رجلاً من التابعين سأل ابن عباس رضي الله عنهما: مالنا إذا صلينا خلف المقيم نتم ونحن على سفر؟ فقال: تلك سنة أبي القاسم. الدليل الثاني: قوله - صلى الله عليه وسلم -: (إنما جعل الإمام ليؤتم به). الدليل الثالث: فتاوى الصحابة منهم: ابن عمر وابن عباس فقد أفتوا المسافر الذي يأتم بمقيم أن يتم. = القول الثاني: في هذه المسألة: وهو مذهب المالكية ورواية عن الإمام أحمد واختاره شيخ الاسلام بن تيمية: أن المسافر إذا ائتم بمقيم فإنه يصلي أربعاً إذا أدرك ركعة فأكثر وإلا فإنه يقصر. واستدلوا على ذلك: بقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: (من أدرك ركعة من الصلاة فقد أدرك الصلاة) والمسافر الذي لم يدرك ركعة مع المقيم لم يدرك الصلاة والواجب في حقه أو المسنون على الخلاف السابق أن يصلي ركعتين باعتباره مسافراً. وهذا القول - الثاني - هو القول الراجح. فإذا لم تدرك مع المقيم ولا ركعة أو إذا لم تدرك إلا أقل من ركعة فإنك تصلي ركعتين لأن هذه هي السنة في حق المسافر وهذا المسافر الذب ائتم بالمقيم لم يدرك الصلاة معه. وفي المسألة أقوال أخرى لكن ذكرت أقوى قولين منها. • ثم قال رحمه الله: أو بمن يشك فيه. أي إذا ائتم المسافر بإمام يشك هل هو مسافر فإن الواجب عليه أن يتم بناء على أن من صلى خلف مقيم فيجب عليه أن يتم فإذا شك فإنه يتم احتياطاً وخروجاً من بطلان صلاته. فإذا قال المسافر المؤتم: إن قَصَر قَصَرتُ وإن أَتَمَّ أَتْمَمَتُ صحت صلاته حتى عند الحنابلة. إذاً في الحقيقة إذا أدرك المأموم الصلاة مع الإمام من أولها فلا إشكال لأنه يقول: إن قصر قصرت وإن أتم أتممت. لكن الإشكال إذا صلى مع الإمام في أثناء الصلاة فحينئذ إما أن يتبين أنه مسافر أو مقيم. فإن تبين أنه مسافر فسيقصر فإذا أدرك معه ركعة فسيأتي بركعة في الظهر مثلاً. وإن دخل مع الإمام في أثناء الصلاة وهو مسافر فأيضاً لا إشكال لأنه أذا أدرك ركعة فسيأتي بثلاث في الظهر مثلاً.

لكن الإشكال في الحقيقة إذا دخل وهو لا يدري هل الإمام مقيم أو مسافر ولم يدرك الصلاة من الأول حتى يعلقها لأنه إذا سلم الإمام فإنه لا يدري هل الإمام صلى ركعتين أو صلى أربعاً فحينئذٍ نقول إن وجدت قرائن تدل على أن الإمام مسافر أو مقيم عمل بهذه القرائن ولا حرج عليه وغالباً ما تكون القرائن في مساجد الطرقات أو مساجد المطارات أو مساجد القطارات. يعني المساجد التي في أماكن السفر. وإذا لم توجد قرينة مطلقاً فالمذهب أنه يتم وهذا هو الصواب أنه يتم لأنه إذا صلى خلف مقيم وقصر بطلت صلاته. فخروجاً من هذا الخلاف وتصحيحاً لصلاته نقول إذا شككت ولم يترجح عندك مرجح أو لم يوجد قرينة ترجح أنه مقيم أو مسافر فإنك تتم. • ثم قال رحمه الله: أو أحرم بصلاة يلزمه إتمامها ففسدت وأعادها. إذا أحرم المسافر بصلاة يلزمه إتمامها ثم فسدت لأي سبب من الأسباب التي تفسد الصلاة فإنه إذا أراد أن يعيد هذه الصلاة فإنه يجبل عليه أن يتم. مثالها: كأن يقتدي مسافر بمقيم ففي هذه الصورة يجب عليه أن يتم فلو فسدت الصلاة - صلاة المأموم أثناء صلاة الجماعة فإنه إذا أراد أن يعيد هذه الصلاة فيجب عليه أن يصلي أربعاً وهو مذهب الجمهور. = والقول الثاني: - في هذه المسألة - أنه إذا فسدت عليه في حال يجب عليه أن يتمها ثم أرادأن يصليها مرة أخرى فإنه يصليها قصراً. التعليل؟ التعليل: أنه إنما وجب عليه أن يتم لأنه يصلي وراء مقيم وقد زال هذا السبب فيزول حكمه فنقول الآن صل صلاة مسافر. وهذا مذهب الأحناف وهو الأوجه والأقوى. • ثم قال رحمه الله: أو لم ينوِ القصر عند إحرامها. أفادنا المؤلف أنه يجب على المسافر إذا أراد أن يقصر أن ينوي أنه يريد القصر قبل أن يحرم بالصلاة. فإن لم ينو قبل دخوله في الصلاة فإنه لا يجوز له أن يقصر. الدليل على ذلك: أن المصلي إذا أراد أن يصلي ولم ينو شيئاً فإن الأصل الإتمام فتنصرف النية إلى الإتمام. أي: فكأنه نوى الإتمام. = والقول الثاني: أنه لا يشترط لمن أراد أن يقصر الصلاة أن ينو قبل أن يحرم فلو ذهل أو نسي ولم ينو إلا بعد أن كبر جاز له أن يصلي قصراً. لدليلين: الأول: أن الأصل في صلاة المسافر القصر عكس ما قاله الحنابلة.

الثاني أن النبي - صلى الله عليه وسلم -: كان إذا خرج بأصحابه وأراد أن يقصر قصر بلا تنبيه إلى نية القصر ولو كانت النية واجبة وشرط لصحة القصر لبين لهم النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه سيقصر لينووا القصر. ثالثاً: لا دليل على اشتراط هذا الشرط. والأصل في العبادات التوقيف حتى يأتي دليل. • ثم قال رحمه الله: أو شك في نيته. يعني أن المسافر إذا أراد أن يصلي وشك هل نوى القصر أو لم ينو فالواجب عليه عند الحنابلة أن يتم. والتعليل؟ التعليل: أن الشك في النية يعني بطلانها لأن الأصل عدم النية. وكما هو ظاهر فإن هذا الحكم مبني على الحكم السابق وهو اشتراط النية للقصر وتقدم معنا أن الصواب أنه لا يشترط أن ينوي القصر فإذا شك فإنه يقصر لأنه إذا لم ينو أصلاً يقصر فضلاً عن مسألة إذا شك هل نوى أو لم ينو. • ثم قال رحمه الله: أو نوى إقامة أكثر من أربعة أيام. يشترط عند الحنابلة أن لا ينوي المسافر إذا أقام في البلد الذي سافر إليه الإقامة أكثر من أربعة أيام. فإن نوى الإقامة أكثر من أربعة أيام وجب عليه أن يتم فمن شروط القصر أن لا ينوي أكثر من أربعة أيام. وهذا معنى المؤلف رحمه الله هنا: أو نوى إقامة أكثر من أربعة أيام إلى أن قال: لزمه أن يتم. أما إن نوى إقامة أربعة أيام فيجوز له أن يقصر لكن إن نوى أكثر من أربعة أيام وجب عليه أن يتم. وهذا مذهب الجماهير أحمد ومالك والشافعي. إلا أن الفرق بين أحمد ومالك والشافعي: أن أحمد يحتسب عليه يوم الدخول والخروج. والشافعي ومالك لا يحتسبون على المسافر يوم الدخول والخروج. ففي الحقيقة بناء على هذا كأن مذهب المالكية والشافعية ستة أيام ومذهب الحنابلة أربعة لكن هو ينسب للجمهور على أن ينبه أن يومي الدخول والخروج يحتسبان عند أحمد ولا يحتسبان عند مالك والشافعي.

وما قلته لكم في مسألة المسافة التي يشترط أن يقطعها المسافر لتثبت له أحكام السفر أقوله هنا: وهي أنها مسألة كثر فيها الاختلاف والاضطراب وتشعبت فيها الأقوال جداً وبلغت الأقوال عدداً كبيراً واختلفت الأدلة واختلفت الآثار عن أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - بل عن الفقهاء من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - فهي في الإشكال تشبه تلك المسألة. إذاًَ هذا هو مذهب الجمهور وهو أنه تحد المدة التي إذا جلسها صار مقيماً بأكثر من أربعة أيام فإن جلي أربعة فأقل فهو مسافر فإن جلس أكثر من أربعة فهو مقيم لا يترخص برخص السفر. استدلوا على ذلك بأدلة منها: الدليل الأول: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يأذن للمهاجر أن يبقى في مكة أكثر من ثلاثة أيام فقالوا: جعل بقائه في مكة ثلاثة أيام لا يخرجه عن السفر وأكثر من ذلك يجعله من المقيمين: والجواب عليه: من وجهين: - الوجه الأول: أن هذا الحديث لا يتعلق مطلقاً بأحكام السفر وإنما يتحدث عن أحكام الهجرة فمن هاجر من بلد ثم رجع إليه فلا يجوز له أن يبقى فيه أكثر من ثلاثة أيام أو نقول أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - لا يجوز لهم أن يبقوا في مكة بعد أن هاجروا منها أكثر من ثلاثة أيام. - الوجه الثاني: أن الحديث فيه ثلاثة أيام والجمهور يقولون أربعة أيام. الدليل الثاني: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - في حجة الوداع دخل في صبيحة اليوم الرابع وجلس في الأبطح اليوم الرابع والخامس والسادس والسابع وفي اليوم الثامن صلى الفجر وبعد الصلاة خرج إلى منى فقال: النبي - صلى الله عليه وسلم - أقام هذا المدة وهو يعلم أنه سيجلس أربعة أيام قطعاً لأنه جاء في اليوم الرابع ويعلم أن لن يذهب إلى منى إلا في اليوم الثامن فمع كون النبي - صلى الله عليه وسلم - يعلم أنه سيبقى أربعة أيام ظل يقصر الصلاة فدل ذلك على أن هذه المدة يقصر فيها المسافر الصلاة وما عداها يرجع إلى الأصل وهو الإتمام. والجواب عليه من وجوه كثيرة والاستدلال به ضعيف لكن نأخذ بعض هذه الوجوه:

- الوجه الأول: أن نقول لهم ما قاله شيخ الاسلام من أين لكم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لو قدم صبيحة الثالث لن يقصر في اليوم الثامن فليس في النص ما يدل على هذا مطلقاً بل وقع الأمر اتفاقاً. - الوجه الثاني: وهو أقوى من الوجه الأول: أن عدداً كبيراً من الحجاج جاءوا إلى مكة قبل اليوم الرابع في اليوم الثاني والثالث والأول .. إلى آخره ومع ذلك لم ينقل أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال لهم من قدم قبل اليوم الرابع فليتم الصلاة لأنه سيجلس أكثر من أربعة أيام. - الوجه الثالث والأخير: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - في فتح مكة جلس تسعة عشر يوماً يقصر الصلاة ومن المعلوم أن دخول الفاتح والأمير إلى مصر من الأمصار يحتاج لكي يبقى في هذه المدينة يرتب الأمور ويقرر الشئون الإدارية في هذا البلد المفتوح ويرسل الجيوش إلى النواحي القريبة والمدن والقرى أن مثل هذا يحتاج أكثر من أربعة أيام فنحن نعلم قطعاً أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما دخل فاتحاً يعلم أنه سيجلس أكثر من أربعة أيام لأن مثل هذا الأعمال التي كان ينوي أن يقوم بها لا يمكن أن تقضى في أربعة أيام. فإذاً الاستدلال بهذا الحديث في الحقيقة فيه ضعف ولا يدل أبداً على مقصود الجمهور. = القول الثاني: أن المسافر إذا جلس خمسة عشر يوماً فإنه يترخص وأما إن جلس أكثر فلا يترخص وهو مذهب الأحناف. واستدلوا: بالأثر المشهور عن ابن عباس أنه قال: إذا دخلت بلداً وفي نفسك أن تقيم فيه خمسة عشر يوماً فاقصر وإن كنت تقيم أكثر فأتم. فحدد ابن عباس في هذا الأثر المدة التي تنقل المسافر من أحكام السفر إلى الإقامة بخمسة عشر يوماً. والجواب عليه: - أنه روي عن عباس خلاف ذلك. - وأنه يخالف ما جاء عن النبي - صلى الله عليه وسلم - حيث جلس تسعة عشر يوماً في مكة = القول الثالث: مذهب الظاهرية أنه إن جلس عشرين يوماً قصر وإلا يتم. دليله: قالوا: أكثر ما جاء في السنة مكثه - صلى الله عليه وسلم - في تبوك عشرين يوماً ولم يأت في السنة أكثر من عشرين يوماً فنتمسك بأكثر ما جاء عن النبي - صلى الله عليه وسلم -.

= القول الرابع - والأخير -: أنه لا حد لأقل مدة يمكثها المسافر بل ما دام في السفر فإنه يأخذ أحكام المسافر وإن طالت المدة وإن جلس شهوراً وإن جلس سنين. لأن الله سبحانه وتعالى جعل الناس على قسمين مستوطن ومسافر فما دام الإنسان مسافراً لم يرجع إلى وطنه وبيته فله أن يترخص برخص السفر وإن طالت المدة. واستدلوا على ذلك: - بأن الشارع الحكيم ربط أحكام السفر بالسفر وأطلق ولم يحدد مدة إذا تجاوزها الإنسان انقطعت عنه أحكام السفر وإذا لم يحدد الشارع حداً للمدة صار تحديدها تحكماً لا يجوز. وهذا القول اختاره شيخ الاسلام ونصره وكذلك ابن القيم ونصره أيضاً وهو القول الراجح. = بقينا في مسألة أثارها بعض الباحثين: وكثر أيضاً الكلام فيها وهي: هل يعتبر من جاء للعمل الطويل أو للدراسة الطويلة هل يعتبر من المسافرين أو لا يعتبر؟ = فمن الفقهاء من قال: مادام جاء للدراسة أو للعمل وسيرجع إذا انتهى من عمله فهو مسافر يترخص برخص السفر وإن طال مقامه. وإلى هذا ذهب شيخنا - ابن عثيمين - رحمه الله ونصره برسالة موجودة وذكر أدلة كثيرة من الآثار والنقل والعقل والقياس ... إلى آخره. = والقول الثاني - في هذه المسألة - أن من جاء لعمل أو لدراسة وأخذ منزلاً وبيتاً وزوجة واستقر وأقام فإنه لا يعتبر مسافراً في هذه الحالة لأنه انقطعت عنه أحكام السفر وأصبح مقيماً وإلى هذا ذهب عدد من الباحثين. والراجح والله أعلم ما اختاره شيخنا. وسبب الترجيح: أن هناك مجموعة من الآثار لا أرى أن الجواب عليها سديد أو لم أقف على جواب عنها يكون واضحاً - آثار عن الصحابة توافق قول شيخنا ولم أر أن الذين بحثوا هذه المسألة أجابوا عنها بما يكفي على أقل تقدير نذكر منها بعض الآثار: -

الأثر الأول: ما صح عن أنس - رضي الله عنه - بإسناد صحيح أو حسن - أنه مكث والياً على الخراج أي للجباية لمدة سنتين وقصر الصلاة وقال أردت السنة. فهذا الأثر فيه أن أنس ذهب وولي على الأموال لاستخرج الخراج في هذه المنطقة التي ولي عليها وبقي فيها لمدة سنتين وهو يقصر ومن المعلوم أن أنس - رضي الله عنه - في مدة إقامته في تلك البلدة اتخذ مكاناً للجلوس وأعد ما يحتاج إليه لمكثه هذا الفترة الطويلة. نعم. لا أذكر أن في الأثر أنه مثلاً نقل معه أهله أو لم ينقلهم ولكن هذا لا يؤثر في الحكم فما دام بقي لمدة سنتين يقصر الصلاة وهو يعلم أنه سيبقى هذه المدة الطويلة والياً على هذه المنطقة في عمل محدد فأرى أنه تصبح حاله حال المسافرين المعاصرين للعمل أو للدراسة أو للعلاج إذا كان العلاج طويلاً. الأثر الثاني: أن أبا المنهال وهو من تلاميذ ابن عباس سأل ابن عباس أنه يأتي إلى المدينة ويبقى حولاً لا يريد السفر فقال له ابن عباس صل ركعتين. فهذا التابعي بقي في المدينة لمدة سنة ومن خلال السؤال تعلم أنه يعلم أنه سيبقى سنة لأنه يسأل عن ابن عباس عن هذا الأمر وهو أنه سبيقى في المدينة لمدة سنة بل إنه اعتاد على هذا فهو يسأل عن أمر اعتاده وهو أنه يقدم إلى المدينة ويجلس فيها سنة ومع ذلك أمره أن يصلي سنة. الأثر الأخير: مسروق وهو من كبار تلاميذ ابن مسعود ولي أيضاً في منطقة السلسلة وهي منطقة في مدينة واسط وواسط تقع بين الكوفة والبصرة - هذه المنطقة السلسة هي في مدينة واسط هكذا فهمت من الذين تكلموا عن البلدان - بقي في هذه المنطقة لمدة سنتين يقصر الصلاة وأيضاً لما سأل قال أردت السنة وولي أيضاً فيها لأخذ جباية الأموال من المعشرات والزكاة ومن يمر بهذه المنطقة من أصحاب السفن والجمال فالمهم أنه كلف بعمل في هذه المنطقة.

ففي الباب آثار وذكرت ثلاثة منها وقد ذكر عبد الرزاق قي مصنفه وابن أبي شيبة عدداً من الآثار وذكر ابن جرير الطبري في تهذيب الآثار في مسند عمر ومسند علي عدداً من الآثار ربما لو تفرغ لها الإنسان وجمع الآثار المشابهة لهذه الآثار لجاءت عدداً لا بأس به من الآثار التي عن الصحابة التي بقوا فيها مدداً طويلة يقصرون الصلاة لأنهم عازمون على الرجوع إلى بلد الإقامة. إذاً الخلاصة أن هذه الآثار تجعل الإنسان يرجح القول القائل بأنه وإن بقي مدة طويلة للدراسة أو للعمل فما دام عازماً على الرجوع ويعتبر نفسه مسافراًَ أنه يترخص برخص السفر وإذا أراد الإنسان أن يحتاط في هذه المسألة والخلاف فيها قوي جداً ووجهة نظر القائلين بأنه إذا أخذ مكاناً وزوجة وتأهل يتم وأن أحكام السفر انقطعت عنه فليس بالمسافر قولهم قوي ووجيه ولكن من حيث الدليل يظهر لي أن الأقرب للآثار المروية عن أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه يترخص برخص السفر. • ثم قال رحمه الله: أو ملاحاً معه أهله لا ينوي الإقامة ببلد: لزمه أن يتم. إذا كان الإنسان ملاحاً في سفينة فإنه يتم بشرطين: أن تكون السفينة هي بيته. وأن يكون معه أهله. فإذا كانت السفينة هي بيته ومعه أهله فهذا في الحقيقة لا يعتبر مسافراً بل مقيم لأنه لا يوجد بيت يرجع إليه فهو ليس بظاعن وإنما مقيم. فإذا انطبق الشرطان وجب عليه أن يتم ولا يجوز له أن يترخص ولا في أثناء تنقله من المدن من مدينة إلى مدينة فإنه يبقى مسافراً. = والقول الثاني: وهو للشافعية أن الملاح الذي اتخذ السفينة بيتاً ومعه فيها أهله يقصر الصلاة لأنه وإن اتخذها بيتاً ومعه أهله فهو مسافر يقطع المسافات ذهاباً وإياباً ولا يستقر ببلد معين ولا يمكن أن نعتبر السفينة هي موطن نهائي لهذا الملاح. والصواب مع الجمهور لأن هذا الملاح لا يعتبر مسافراً فهو في بيته وبين أهله ولا ينتظر رجوعاً فليس له مكان يرجع إليه وإنما هذا هو مكانه. لكن السؤال: هذا الملاح إذا قررنا أن سفينته بيته إذا نزل إلى المدينة التي خرج منها هل يقصر؟

الجواب: في الحقيقة المسألة مشكلة ولم أر الفقهاء ذكروها لكن ذكرتها من باب المدارسة فقط ويظهر لي أنه إذا اعتبرنا أن سفينته هي البيت الذي يسكن فيه ومنعناه من الترخص فإنه إذا رجع لمدة يوم أو يومين لأخذ أغراض ولو كان لمدينته التي كانت هي مدينته فإنه يترخص لأنه من الظلم له أن نعتبره في السفينة مقيم ونعتبره أيضاً في المدينة التي نزل إليها مقيماً أيضاًَ بل نجعله في هذه المدينة مسافراً وفي السفينة مقيم فهذا يتوافق مع ما قرره الفقهاء من أن السفينة هي مكان الإقامة الدائمة بالنسبة له فإذاً إذا نزل فيعتبر مسافر ولو كانت مدينته الأصلية. • ثم قال رحمه الله: وإن كان له طريقان فسلك أبعدهما .... قصر. إذا كان للمسافر طريقان فينقسم إلى قسمين: القسم الأول: أن يكون كل من الطريقين مسافة قصر فحينئذ يقصر إذا سلك أياً من الطريقين بالإجماع. القسم الثاني: إذا كان أحد الطريقين مسافة قصر والآخر دون ذلك فهذا ينقسم إلى قسمين: إما أن يسلك الأطول لغرض صحيح كأن يكون الأطول أكثر أماناًَ أو أجود طريقاًَ أو أكثر خدمات أو لأي غرض صحيح فحينئذ لا إشكال أيضاً أنه يقصر. الصورة الثانية: أنه سلك الأطول وليس له غرض إلا ليقصر فاختلف الفقهاء في هذه المسألة على قولين: = القول الأول: أنه يقصر لأنه مسافر سفراً مباحاً طويلاً فانطبق عليه التعريف. = القول الثاني: أنه لا يقصر لأنه سلك الأطول لا لغرض صحيح وإنما لمجرد القصر. والأقرب والله أعلم أنه يقصر وإن لم يسلك هذا الطريق إلا ليقصر.

وكثير من إخواننا طلاب العلم يخلط بين هذه المسألة وبين مسألة من سافر ليقصر فإنها مسألة أخرى ليس لها علاقة في بحثنا وستأتينا فمن سافر ليقصر أو من سافر ليفطر فهذه مسألة أخرى سيأتينا أن الصواب أنه لا يقصر ولا يفطر لكن هذا الرجل سيسافر يعني لا لأجل قصر ولا للفطر يعني على كل حال سيسافر لكنه اختار الطريق الأطول ليترخص فقط وإلا هو سيسافر. ففي مثل هذه الصورة لا أرى مانعاً من القصر والله سبحانه وتعالى أجاز له أن يقصر وإذا أراد أن يسلك طريقاًَ ليترخص برخصة جعلها الله سبحانه وتعالى للطريق الطويل فأي مانع من هذا ولا أرى أنها تتعارض مع قاعدة الحيل لأنه يصدق عليه أنه سلك طريقاً يجوز معه القصر. • ثم قال رحمه الله: أو ذكر صلاة سفر في آخر: قصر. إذا نسي الإنسان صلاة الظهر في أثناء سفره إلى الرياض مثلاً ثم رجع إلى مدينته ثم سافر إلى مكة وفي مكة تذكر أنه نسي صلاة الظهر حين كان مسافراً في الرياض فإنه يقصر ولا إشكال. الدليل: أنها حين الوجوب وحين الأداء كانت في السفر فلا إشكال أنه يقصر حتى عند الحنابلة وذلك لوضوح الأمر لأنه صلاها ووجبت عليه في السفر. • ثم قال رحمه الله: وإن حبس ولم ينو إقامة .... قصر أبداً. إذا حبس ولم ينو الإقامة في هذا المكان الذي حبس فيه فإنه يقصر أبداً. أمثلة الحبس: الأول: كأن تتعطل السيارة وليس له وسيلة للانتقال إلا هي فهو الآن محبوس على سيارته في هذه المدينة ينتظر إتمام إصلاح هذه السيارة ويخرج. المثال الثاني: أن يحبس ظلماًَ يمسك في هذا البلد ويدخل في السجن ظلماً فهو الآن ليس له قصد في الإقامة ولكنه محبوس فيها فهذا المسافر يقصر أبداً. والدليل على ذلك: أن ابن عمر رضي الله عنه لما ذهب غازياً مجاهداً في أذربيجان حبسهم الثلج لم يستطيعوا الدخول ولا الخروج وبقي الثلج لمدة ستة أشهر فلما ذهب وماع خرج - رضي الله عنه -. في هذه الستة أشهر كان يقصر الصلاة. فإذاً لا إشكال في هذه الصورة أنه إذا حبس الإنسان بغير إرادته فإنه يقصر ولو بقي مدة طويلة. • ثم قال رحمه الله: أو أقام لقضاء حاجة بلا نية إقامة: قصر أبداً. إذا بقي الإنسان في البلد لقضاء حاجة ثم الخروج بعد ذلك فهو ينقسم إلى قسمين:

القسم الأول: أن لا يعلم أنهال تنتهي بعد أربعة أيام يقول: لا أدري أتستغرق أربعة أيام أو أقل ففي هذه الصورة يقصر بالإجماع وإن بقي مدة طويلة. القسم الثاني أن يعلم أن حاجته لا تنقضي إلا بأكثر من أربعة أيام فحينئذ نرجع للخلاف السابق وهو: = عند الحنابلة إذا كان سيبقى أكثر من أربعة أيام يتم على الخلاف السابق في مسألة تحديد المدة التي إذا تجاوزها الإنسان انتقل من أحكام السفر إلى أحكام الإقامة فإذا نقول إذا علم أنها لن تنقضي إلا بأكثر من أربعة أيام ففيها الخلاف السابق. والراجح يبقى وإن طالت المدة فإذا قدم الإنسان إلى بلد من البلدان لقضاء حاجة أي نوع من أنواع الحاجات سواء تتعلق بالنظام الإداري أو بزواجه أو بتجارته أو تتعلق بأهله فإنه يقصر وإن بقي أشهراً أو أكثر من ذلك. فصل [الجمع بين الصلاتين] • ثم قال رحمه الله: (فصل) يجوز الجمع. يريد المؤلف أن يتكلم في هذا الفصل عن أحكام الجمع سواء كان للسفر أو للمطر أو للمرض وهي الأعذار الثلاثة التي ذكرت لكم أنها الأعذار التي تبيح الجمع. • يقول رحمه الله: يجوز قوله: يجوز. يعني فلا يكره ولا يستحب لكن مع ذلك نص الحنابلة على أنه خلاف الأولى إلا جمعي عرفة ومزدلفة فهو سنة ومستحب. وإذا أردنا أن نلخص مذهب الحنابلة فإنهم يقولون الجمع ينقسم إلى قسمين: القسم الأول: جمعي عرفة ومزدلفة فهذا مستحب. القسيم الثاني: باقي أنواع الجمع فهذا يجوز بلا كراهة ولا استحباب وهو خلاف الأولى. وعللوا كونه خلاف الأولى: بأنه محل خلاف - خروجاً من الخلاف. = القول الثاني: في هذه المسألة وهو رواية عن أحمد أن الأفضل الجمع عند وجود شرطه. = والقول الثالث: وهو اختيار شيخ الاسلام أن الجمع يرجع إلى الحاجة فإن وجدت فالأفضل الجمع وإن لم توجد فالأفضل أن لا يجمع سواء كان مسافراً أو مقيماً. إذاً هذا معنى قول المؤلف رحمه الله: يجوز الجمع بين الظهرين وبين العشائين: في وقت إحداهما في سفر قصر. إذاً المؤلف رحمه الله يتكلم عن عذر السفر وسيتكلم عن عذر المطر ثم عن عذر المرض. • يقول رحمه الله: في سفر قصر.

الجمع في السفر حكمه عند الحنابلة أنه يجوز وهذه المسألة أيضاً فيها خلاف متشعب لكنه أقل من الخلاف في المسألتين السابقتين التي أشرت إلى شدة الخلاف فيهما. فنقول: =ذهب الجماهير من السلف والخلف إلى جواز الجمع تقديماً وتأخيراً سائراً ونازلاً إذا وجد الشرط وهو مسافة القصر. واستدلوا على هذا بعدة أدلة: الدليل الأول منها: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - جمع في عرفة جمع تقديم وفي مزدلفة جمع تأخير وقد كان في عرفة ومزدلفة نازلاً فهذا الحديث دل على الجمع بالنسبة للنازل والجمع تقديم وتأخير. الدليل الثاني: صح عن أنس - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان إذا سافر بعد زوال الشمس أخر الظهر إلى العصر وصلاهما جميعاً وهذا جمع تأخير وإذا سافر بعد زوال الشمس فإنه يصلي الظهر ثم يركب ولم يذكر العصر. الدليل الثالث: - الأخير - حديث أبي جحيفة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما كان نازلاً قريباً من مكة خرج في الهاجرة فصلى الظهر والعصر جمعاً وقصراً. وهذا الحديث صحيح. نقول ظاهر هذا الحديث أنه جمع تقديم حتى الفقهاء لم يرو أنه نص. إذاً هذا أدلة الجمهور وهي كما نرى أدلة قوية وسديدة. = القول الثاني: للمالكية: أنه لا يجوز الجمع في السفر إلا لمن كان على ظهر سير فقط أما النازل فإنه لا يجوز له أن يجمع. واستدلوا على ذلك: بما صح عن ابن عمر أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يجمع الظهر والعصر إذا كان على ظهر سير. يعني إذا كان سائراً. والجواب عليه: أن ابن عمر لم ينف الجمع للنازل وإذا لم يذكره ابن عمر فقد ذكره غيره من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - الذين بينوا أنه كان يجمع نازلاً. = القول الثالث: وهو رواية عن الإمام أحمد وتبناه ابن حزم أنه يجوز جمع التأخير دون التقديم. واستدل على ذلك بأدلة منها: أنه لم يصح حديث في جمع التقديم. وأما حديث معاذ أن النبي - صلى الله عليه وسلم - جمع في تبوك جمع تقديم فهو حديث معلول ضعفه الأئمة.

والدليل الثاني: قال: أن أنس - رضي الله عنه - نص على أن النبي - صلى الله عليه وسلم - يجمع جمع التأخير دون جمع التقديم لأنه قال: إذا زالت الشمس قبل أن يسافر صلى الظهر فقط ولم يصل العصر بينما نص أنس على أنه - صلى الله عليه وسلم - إذا سافر بعد الزوال فإنه يجمع الظهر إلى العصر جمع تأخير. = القول الرابع - الأخير: أنه لا يجوز الجمع مطلقاً إلا في عرفة ومزدلفة وهو مذهب الأحناف الذي اشتهروا به. والدليل: أن أحاديث ونصوص المواقيت محكمة ومعلومة من الدين بالضرورة فلا تترك لظواهر النصوص. فإذا قيل لهم: كيف تجيبون عن الأدلة الكثيرة للجمهور التي فيها الجمع صراحة؟ قالوا: الجمع في هذه الأحاديث يحمل على الجمع الصوري والجمع الصور هو أن نؤخر الصلاة الأولى ونقدم الصلاة الثانية ونصلي كل منهما في وقته المحدد شرعاً. وهذا المذهب للأحناف ظاهر الضعف جداً وكما قال كثير من المحققين المتقدمين أن مذهب الأحناف يزيد من الصعوبة على المسافر ويضاعف المشقة ووجه ذلك: أن على المسافر أن يتحرى آخر وقت الظهر ويتحرى أو وقت العصر فصار في هذا من المشقةأضعاف مما لو قيل له صل كل صلاة في وقتها بدون تحري لدقة متى يخرج هذا الوقت ومتى يدخل الوقت الثاني لأنه سيصلي الظهر قريب جداً من خروج وقته لأجل أن أصلي العصر بمجرد دخول وقت العصر فهو مذهب غريب وضعيف وفيه الحقيقة مصادمة ظاهرة للنصوص المتكاثرة التي فيها الجمع جمعاً واضحاً عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وعن أصحابه فمصادمة مثل هذه النصوص من الأحناف أمر غير صحيح ودليل على ضعف قولهم في هذه المسألة. والراجح مذهب الجمهور مع قوة مذهب ابن حزم. لذلك لا ينبغي للإنسان أن يجمع جمع تقديم بلا حاجة بل يجعله جمع تأخير فإن جمع التأخير مجمع على جوازه إلا عند الأحناف بينما جمع التقديم فهو رواية عن الإمام أحمد أنه لا يجوز دع عنك مذهب الظاهرية. المهم نقول: الراجح إن شاء الله والأقرب للأدلة بوضوح مذهب الجماهير وهو جواز الجمع تقديم وتأخير نازلاً سائراً إلا أنه ينبغي مراعاة جمع التقديم أن لا يفعل إلا عند الحاجة لقوة ما استدل به ابن حزم. • ثم قال رحمه الله: ولمريض يلحقه بتركه مشقة.

أي ويجوز للمريض أن يجمع إذا كان في تركه للجمع مشقة أو إذا لحقه بترك الجمع مشقة. = وإلى جواز جمع المريض المحتاج للجمع ذهب الجماهير. واستدلوا: بحديث ابن عباس أن النبي - صلى الله عليه وسلم - جمع من غير خوف ولا مطر وفي رواية من غير خوف ولا سفر والروايتان في صحيح مسلم. قالوا فلم يبق إلا المرض لأنه نفي الخوف والمرض والسفر فلم يبق إلا المرض. وهناك وجه آخر للاستدلال: وهو أن ابن عباس لما سأل: لم صنع النبي - صلى الله عليه وسلم - ذلك؟ قال: أراد أن لا يحرج أمته. والمريض الذي يحتاج إلى الجمع إذا لم يجمع وقع في الحرج. الدليل الثاني: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - روي عنه أنه أجاز للمستحاضة أن تجمع إذا هي اغتسلت وتقدم معنا أن الاستحاضة نوع من أنواع المرض. الدليل الثالث: العمومات الدالة على رفع الحرج والمشقة عن الأمة. = القول الثاني: للشافعية: أنه لا يجوز جمع المريض أبداً. فلا يجوزون جمع المريض. استدلوا: - بأن نصوص المواقيت محفوظة متواترة محكمة فلا نتركها لظواهر النصوص الأخرى ....... ((الآذان)) انتهى الدرس،،،

قال شيخنا حفظه الله: بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين. في الدرس السابق تكلمت عن مسألة حكم جمع المريض وذكرت الخلاف وأظن أني لم أذكر الراجح. والراجح من القولين جواز الجمع للمرض لما تقدم من أدلة وهو مذهب الحنابلة والمالكية وهو الذي تدل عليه النصوص من جهة وقواعد الشرع من جهة أخرى. ثم بدأ المؤلف بعذر آخر وهو المطر: • فقال رحمه الله: وبين العشائين: لمطر. أي ويجوز للإنسان أن يجمع بين صلاة المغرب والعشاء بعذر المطر. = وإلى هذا ذهب الجماهير من السلف والخلف والفقهاء السبعة وأغلب أئمة المسلمين إلى أنه يجوز أن يجمع بعذر المطر بشرطه الآتي. واستدلوا بعدة أدلة: - الدليل الأول: أن ابن عباس رضي الله عنه قال: (جمع رسول الله صلى الله عليه وسلم في المدينة من غير خوف ولا مطر) فنص على أن المطر من أسباب الجمع وهذا الحديث في صحيح مسلم.

- الدليل الثاني: أن الصحابة رضي الله عنهم جمعوا للمطر بل حكي إجماع الصحابة على جواز الجمع للمطر. - الدليل الثالث: أن في نزول المطر تأذي الناس ووقوع المشقة وفي الجمع رفع لهذه المشقة والمشقة عند أهل العلم تجلب التيسير. = والقول الثاني: أنه لا يجوز الجمع لأجل المطر لأنه ليس في النصوص المرفوعة ما يدل على ذلك ولأن نصوص التوقيت محكمة فلا يجوز الخروج عنها لظواهر نصوص أخرى. والصواب الذي يتعين القول بجواز الجمع للمطر بشرطه لانتشاره بين أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم. ثم أراد المؤلف أن يبين شرط هذا الجمع: • فقال رحمه الله: وبين العشائين لمطر يبل الثياب. يشترط في المطر الذي يجوز أن نجمع الصلاة لأجله شرطان: - الأول: المشقة أن تحصل المشقة بوجود هذا المطر. - الثاني: أن يبل الثياب. التعليل: أن المطر الذي تحصل معه المشقة هو ما يبل الثياب. واختلفوا في ضبط ما تحصل به المشقة على قولين: = القول الأول: أن المطر الذي يجوز معه الجمع هو المطر الذي يحتاج معه أواسط الناس إلى تغطية الرأس فنأخذ المتوسط من الناس الذي يغطي رأسه عند قدر من المطر فبه تحصل المشقة ويجوز الجمع ولا ننظر لمن إحساسه ضعيف ممن لا يتأثر بالمطر ولو كثر ولا ننظر إيضاً لمن كان شديد الحساسية بحيث يبادر إلى تغطية رأسه بأدنى مطر. = والقول الثاني - في ضابط ذلك -: هو ما يبل الثياب بحيث إذا عصرت قطرت ماءً. والواقع أنه ليس بين هذه الأقوال تعارض فهي كلها تقرب المعنى وتبين المقصود وهو أن تحصل مشقة بنزول هذا المطر وتضبط بمثل هذه الضوابط إما تغطية الرأس أو عصر الثياب بحيث يخرج منها ماء بسبب المطر. فإذا حصلت هذه الأشياء أو بعضها جاز أن نجمع الصلاة وتقدم معنا أن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضي الله عنهم جمعوا لمطر أصابهم في الفتح لم يبل أسافل نعالهم وهذا يدل على أن المشقة إذا حصلت بأي قدر بالنسبة للناس فإنها تجوز الجمع. عرفنا من قول المؤلف: لمطر يبل الثياب. أن المطر الخفيف لا يجوز معه الجمع وأن الطل - الذي يسمى الطل أو الندى لا يجوز معه الجمع لأنه لا يشق.

فإن قيل: أحياناً ينزل كالندى من غير مطر وتبتل الثياب منه كما يحصل في الرطوبة فهل هذا موجب للجمع؟ - الجواب: أن هذا لا يوجب الجمع إلا إذا كان هذا الندى والطل يسبب وجود الطين في الأرض فحينئذ يجوز الجمع لمعنىً آخر لكن من حيث هو. لو فرضنا أنه في بلد مرصوف بحيث لا يوجد طين فإنه لا يجوز والحالة هذه الجمع لأن هذا القدر من المطر لا يشق على الناس إنما الذي يشق هو نزول المطر المتتابع الذي يبل الثياب أما الطل والمطر الخفيف فإنه لا يجوز الجمع وعرفت الآن كيف تفرق بين المطر الخفيف والمطر الذي يجوز معه الجمع. وقوله: (بين العشائين): = هذا مذهب الجمهور أنه لا يجوز الجمع في المطر إلا في صلاة العشائين أي المغرب والعشاء. واستدلوا على هذا بأمرين: - الأمر الأول: أن الآثار المروية عن الصحابة والتابعين فيها الجمع بين العشائين. - والأمر الثاني: أن المشقة إنما تكون في الجمع بين العشائين دون الظهرين. = والقول الثاني: جواز الجمع بين العشائين والظهرين. دليل ذلك: - أن الجمع إنما جاز لدفع المشقة فإذا وجدت المشقة في الليل أو في النهار ثبت الحكم. - الدليل الثاني: عموم حديث ابن عباس رضي الله عنه: (من غير خوف ولا مطر) فلم يقيد ذلك بكونه في الليل أو في النهار. نعم. لا شك أن المطر في الليل أكثر مشقة منه في النهار لكن هذا القدر لا يوجب منع الجمع في النهار ما دام المطر يسبب مشقة. • ثم قال رحمه الله: ولوَحْل. أي ويجوز الجمع بمجرد الوحل. فبمجرد ما يوجد وحل ولو بدون مطر فيجوز الجمع. الدليل: - قاالوا الدليل على ذلك: أن المشقة الحاصلة بالطين والوحل والتي تلحق النعال والثياب وربما البدن تشبه أو ربما أكثر من المشقة الحاصلة بالمطر الذي يبل الثياب والشارع الحكيم لا يفرق بين أمرين متساويين. = والقول الثاني: أنه لا يجوز الجمع إلا بالمطر خاصة دون الوحَل. - لأن الرخصة جاءت بالمطر خاصة. - ولأن نصوص الأوقات محكمة متواترة.

والصواب مع القول الأول وهو مذهب الحنابلة فإذا وجد الطين والوَحَل جاز الجمع بل ربما أحياناً - كما قال الحنابلة - تكون المشقة الحاصلة بالطين والوحل أكثر من المشقة الحاصلة بمجرد هطول المطر وهذا يلاحظه كل أنسان إذا خرج وكانت الأرض مليئة بالماء فإنه يتأذى بهذا الماء ربما أكثر من المطر فما بالك مع هذا الماء طين ووحل فلا شك أن المشقة ظاهرة جداً مع نزول أو وجود هذا الوحل وربما تعرض الإنسان للسقوط أو الاتساخ بسبب هذا المطر وربما كان رجلاً شريفاً فتأذى غاية الأذى لا من اتساخ ثيابه بقدر ما وقع به من إحراج ولذلك يروى أن الشيخ عبد الرحمن السعدي رحمه الله دعي إلى وليمة وكان معه بعض الوجهاء وكانت السماء ممطرة فلما خرجوا من هذه الوليمة خرج قبل الشيخ عبد الرحمن رجل من الوجهاء والشرفاء وكان يتقدمه في المطر والطين ثم حصل أن هذا الشخص زلق وسقط في الطين فتأذى هذا الرجل فمن حكمة وحسن خلق الشيخ عبد الرحمن أنه بمجرد ما رآه سقط سلك طريقاً آخرؤ مباشرة حتى لا يمر من عند هذا الرجل فيشعر بالإحراج لمشاهدة الشبخ له أثناء السقوط فهذا من حسن خلق الشيخ وهو يبين أيضاً أن الوحل فيه مشقة. • ثم قال رحمه الله: وريح شديدة باردة. الريح الشديدة الباردة يجوز معها الجمع والخلاف في الريح الشديدة الباردة كالخلاف تماماً أدلة وتعليلاً في الوحل فما قيل هناك يقال هنا في الأقوال والترجيح والتعليل. وتبين من هذا أن الراجح أنه يجوز الجمع في الريح الشديدة الباردة لأنه يتأذى بها الإنسان مثل أو أكثر من المطر. • ثم قال رحمه الله: ولو صلى في بيته أو في مسجدٍ طريقه تحت ساباط. يجوز للإنسان أن يجمع في المطر ولو صلى في بيته. ويجوز له أن يجمع ولو كان بين بيته والمسجد سقفاً يقيه من المطر. إذاً يجوز الجمع في هاتين الصورتين مع انتفاء المشقة. والدليل: - قالوا: الدليل على هذا قاعدة مشهورة: ((وهي أن الرخصة التي سببها المشقة تَعُم)) وذكروا أمثله لهذه القاعدة نذكر منها مثالين: - المثال الأول: أن الترخص في السفر بالقصر والإفطار سببه المشقة ومع ذلك يجوز بالإجماع أن يقصر ويفطر ولو لم يشعر بمشقة.

- المثال الثاني: أن الشارع الحكيم إنما أجاز عقد السلم - الذي سيأتينا في كتاب البيوع - لدفع حاجة الناس ومع ذلك يجوز بالإجماع أن يتعاطى الإنسان عقد السلم ولو بلى حاجة فدل ذلك على أن الشارع الحكيم إذا قرر حكماً بناءًَ على المشقة فإنه يعم ولو في غير صور المشقة. = والقول الثاني: أنه إذا كان سيصلي في بيته أو بينه وبين المسجد سقفاً يقيه أذى المطر فإنه لا يجوز له أن يجمع. والتعليل: لأن الجمع إنما جاز للمشقة وهي منتفية هنا. والحكم يدور مع علته وجوداً وعدماً. = والقول الثالث - في هذه المسألة - هو: أنه يجوز لكل من كان المطر سبباً في فوات صلاة الجماعة عليه أن يجمع ولو لم يتأذى بالمطر. فمثلاً: الرجل الذي بين بيته والمسحد سقفاً يقيه من أذى المطر إن لم يصل مع الجماعة ويجمع معهم فاتته صلاة الجماعة أليس كذلك؟! فإذا كانت صلاة الجماعة ستفوته فإنه يجوز له أن يجمع ولو لم يتأذى بالمطر لتحصيل فائدة الصلاة مع المسلمين في المسجد. وهذا القول الأخير هو الراجح. لأنه في الحقيقة به تجتمع الأدلة. وبناءً عليه: - نقول: من صلى في بيته لعذر لا يجوز له أن يجمع ولو كان المطر أشد ما يكون خلافاً لمذهب الحنابلة. - وأيضاً نقول: المرأة لا يجوز لها أن تجمع في بيتها ولو كان المطر أشد ما يكون. وكل من لن يصلي مع الجماعة لا يجوز له أن يجمع إنما يجمع من كان سيخرج لصلاة الجماعة ويتأذى أو كان عدم الجمع يسبب فوات الجماعة عليه. وهذا واضح وفي الحقيقة هذا قول متوسط وهو قول للحنابلة وهو قول - إن شاء الله - وجيه وتجتمع به الأدلة. • ثم قال رحمه الله: والأفضل: فعل الأرفق به من تقديم وتأخير. المؤلف رحمه الله - الآن - يريد أن يذكر أحكام عامة تشمل الجمع سواء كان يتعلق بجمع السفر أو بجمع المرض أو بجمع المطر. فهو يقول: أن الأفضل بالنسبة لجمع التقديم والتأخير أن يفعل الأرفق به. ونحن نريد أن نفصل: * فنبدأ بالجمع في السفر فنقول: في الجمع للسفر الأفضل أن يفعل الأرفق به سواء كان جمع تقديم أو تأخير. والدليل على هذا كما يلي:

- الأول: حديث معاذ رضي الله عنه في تبوك وهو أن النبي صلى الله عليه وسلم كان تارة يجمع جمع تقديم وتارة يجمع جمع تأخير حسب الأرفق له والموافق لحاله في السفر وتقدم معنا أن هذا الحديث معلول. - الثاني: أن الجمع إنما شرع أصلاً لدفع المشقة ويتم دفع المشقة على الوجه المطلوب بأن يجمع حسب الأرفق به تقديماً وتأخيراً. - الثالث: حديث أنس رضي الله عنه الذي تقدم معنا فإنه يدل بعمومه على أن الإنسان يفعل الأرفق لأنه كان إذا سافر قبل زوال الشمس جَمَعَ جَمْعَ تأخير. لماذا يجمع جمع تأخير؟ لأنه سافر قبل دخول وقت الظهر. - أيضاً هناك دليل أخير وهو: أن النبي صلى الله عليه وسلم جمع في عرفة جمع تقديم وفي مزدلفة جمع تأخير. وإنما فعل ذلك صلى الله عليه وسلم لأن جمعه جمع تقديم في عرفه أرفق به ليتسنى له الدعاء والابتهال والانقطاع إلى الله. وجَمَعَ جَمْعَ تأخير لأنه أرفق به حيث سيتأخر مع الزحام إلى أن يصل إلى مزدلفة. وهذا القول بالنسبة للسفر هو الصحيح: أن الأفضل أن يجمع على حسب ما يوافق الأرفق له. ويمكن أن تفهموا أن: = القول الثاني: أن جمع التقديم برمته لا يجوز فقد تقدم معنا حكم الجمع تقديماً وتأخيراً وأن أحد الأقوال عدم جواز جمع التقديم وهو رواية عن الإمام أحمد واختيار ابن حزم فعندهم لا يقولون الأفضل حسب الأرفق لأن جمع التقديم أصلاً لا يجوز وإنما يقولون يتعين أن تجمع جمع تأخير. هذا بالنسبة لتفصيل الكلام في السفر. * وأما الكلام في المرض فكالكلام في السفر تماماً. * بقينا في جمع المطر. جمع المطر: الصواب أن السنة المستفيضة المعروفة عن السلف أنهم كانوا يجمعون جمع تقديم لأن جمع المطر إنما يكون أرفق إذا كان جمع تقديم حتى يصلي الإنسان ويبقى في بيته. إذاً بالنسبة للمطر السنة المستفيضة أن يجمع جمع تقديم لكن لو فرضنا أن جمع التنأخير بالنسبة لجماعة معينة أرفق في صورة من الصور فلا مانع وإن كان كون السلف كلهم يجمعون في المطر جمع تقديم يدل على أنه لا ينبغي أبداً أن يؤخر جماعة المسجد الصلاة إلى الصلاة الثانية لأنه خلاف اتلمشهور عن السلف ولسبب آخر وهون: أنهم ربما يؤخرون الصلاة وينقطع العذر بأن يتوقف المطر.

فالخلاصة نقول: - أنه لا ينبغي في جمع المطر إلا أن يكون جمع تقديم. - ويجوز إذا تبين بوضوح أنه يحصل مشقة بجمع التقديم أن يكون الجمع جمع تأخير لكن الأولى والأفضل والموافق لما روي عن السلف أن يكون جمع تقديم. • ثم قال رحمه الله: فإن جمع في وقت الأُولى اشترط (1) نية الجمع .... الى آخره. المؤلف رحمه الله سيختم هذا الفصل ببيان شروط جمع التقديم وبيان شروط جمع التأخير. • قال رحمه الله: فإن جمع في وقت الأُولى اشترط نية الجمع عند إحرامها. أي: يشترط لجمع التقديم: - أن ينوي أنه سيجمع - ويشترط في هذه النية أن تكون عند الإحرام بالأولى منهما. إذاً: يشترط أن ينوي ويشترط أن تكون النية متى؟ عند الإحرام بهما. واستدلوا على هذا: - بقول النبي صلى الله عليه وسلم: (إنما الأعمال بالنيات). فإذا أراد أن يجمع فيشترط أن ينوي أنه سيجمع. فإن كبر للأولى وهو لم ينو أن يجمع الثانية إليها لم يجز له أن يجمع لتخلف الشرط وهو: النية. وأن تكون النية عند الإحرام بالأولى. = والقول الثاني: أنه يجوز أن يجمع ولو ينو عند إحرامه بالأولى. - لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يجمع يأصحابه في السفر ولم ينقل عنه أنه أمرهم أن ينووا قبل الإحرام بالأولى. - ولأن الإلزام بهذا الشرط يوقع المشقة على من أراد أن يجمع والجمع إنما شرع لرفع المشقة. وهذا القول - الثاني - اختيار شيخ الاسلام رحمه الله وهو الصواب - إن شاء الله -. • ثم قال رحمه الله: - مبيناً الشرط الثاني: ولا يفرق بينهما. هذا هو الشرط الثاني من شروط جمع التقديم وهو: الموالاة. فإن لم يوالي بين المجموعتين بأن أخر الثانية لم يصح الجمع. = وهذا مذهب الجماهير. واستدلوا على هذا بدليلين: - الدليل الأول: أنه لم يرو عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه جمع قط إلا موالياً بين الأولى والثانية. - الدليل الثاني: أن معنى الجمع هو الضم وإلحاق الثانية بالأولى مع عدم التفريق ومع التفريق يتخلف هذا المعنى. = والقول الثاني: أنه لا يشترط الموالاة في جمع التقديم بل لو صلى الأولى ثم بعد ساعة أو ساعتين أو ثلاث صلى الثانية جاز.

وهذا مذهب لبعض الفقهاء واختاره شيخ الاسلام ابن تيمية رحمه الله واستدل على ذلك بدليلين: - الأول: أنه لم يأت عن النبي صلى الله عليه وسلم أبداً اشتراط الموالاة في جمع التقديم. - الثاني: أن في اشتراط هذا الشرط مشقة لأنه يجب على من أراد أن يجمع أن يراعي أن تكون الثانية بعد الأولى مباشرة. وسيأتينا الحد في التفريق في كلام المؤلف. وما اختاره شيخ الاسلام في هذه المسألة فيما يظهر لي ضعيف: - أما قوله لم يأت نص بل جميع النصوص التي فيها جمع النبي صلى الله عليه وسلم يصلح أن تكون دليل لأن النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (صلوا كما رأيتموني أصلي) ولما أراد أن يجمع لم يفرق ولا في صلاة واحدة ومداومة النبي صلى الله عليه وسلم على الموالاة دليل على أنها شرط كما قلنا في الوضوء في المضمضة والاستنشاق وكما قلنا لما قررنا أنه لا يجب على الإنسان أن يتوضأ في كل صلاة إذا كان على طهارة وأن الدليل أن النبي صلى الله عليه وسلم في فتح مكة صلى الصلوات بوضوء واحد ولما سأله عمر رضي الله عنه قال: عمداً صنعت لتعلموا أنه ليس بواجب. - هذا معنى الحديث - فهذه النصوص تدل على أن مواظبة النبي صلى الله عليه وسلم على شيء معين دليل على اشتراطه لذلك أن مذهب شيخ الاسلام ضعيف ولا أقول أن مذهب الجمهور أحوط بل أقول أنه أرجح دليلاً بالإضافة إلى أنه أحوط ويمكن أن نقول: = قول ثالث: وهو أن الموالاة شرط يسقط عند الحاجة والعذر - كما نقول في كثير من الشروط منها الموالاة في الوضوء أنها شرط لصحة الوضوء وتسقط عند الحاجة كذلك نقول هنا أن الموالاة في جمع التقديم شرط لا يصح الجمع إلا به إلا عند الحاجة من صور الحاجة: أن يصلي الإنسان الظهر ولا ينوي الجمع ولا يصلي بعدها العصر وهو مسافر - مثلاً - ثم بعد مضي ساعة أو مضي ساعتين تطرأ عليه حاجة بأن يحتاج أن يجمع ولا ينتظر إلى دخول وقت العصر فهو الآن لم يجمع ثم طرأ له عذر يلجأه إلى الجمع فنقول لك الآن أن تجمع. إذاً: ما هي الصورة التي لا يجوز فيها الجمع؟

- الصورة أن يصلي الظهر ثم يجلسفي بيته وهو مسافر ثم بعد ساعة يعن له لا لسبب أن يصلي العصر فنقول صلاة العصر الآن باطلة لأنه يشترط لصحة الجمع الموالاة. هذا القول هو الراجح في الحقيقة ويتوافق مع مذهب الجمهور لكن مع الأخذ بهذا القيد وهو أنه يجوز فقط عند الحاجة والعذر. • ثم قال رحمه الله - مبيناً القدر الذي تحصل به الموالاة: إلاّ بمقدار إقامة ووضوء خفيف. يعهني يجوز أن يفصل بين الصلاتين بهذا المقدار: بقدر إقامة ووضوء بشرط أن تكون الإقامة والوضوء خفيفين. الدليل على ذلك: - قالوا: الدليل على هذا أنه أمر يسير والأمر اليسير لا يقطع الموالاة. بناء عليه قال الحنابلة: أن كل فاصل يسير أيضاً لا يضر: - فلو صلى الأولى ثم تكلم بكلام يسير ثم صلى الثانية صحت الصلاة - ولو صلى الأولى ثم ذهب يمشي مشياً يسيراً لأي غرض ثم صلى الثانية صحت الصلاة. إذاً يكون قول المؤلف: (بقدر إقامة ووضوء خفيف) من باب التمثيل ويكون الضابط: أن يفصل بينهما بفاصل يسير. ومقدار اليسير: بقدر الوضوء والإقامة الخفيف. = والقول الثاني: أن الضابط العرف. وإلى هذا مال ابن قدامة رحمه الله وقال: أن الصواب في التفريق بين الصلاتين العرف فمع اعتبر طويلاً فهو طويل وما اعتبر قصيراً فهو قصير. وهذا الضابط هو الصواب. وهو قريب من الضابط الأول. فإنه في العرف لو ذهب ليقيم إقامة خفيفة أو ذهب ليتوضأ وضوءً خفيفاً اعتبر في العرف شيئاً يسيراً. • ثم قال رحمه الله: ويبطل براتبة بينهما. أي لو صلى الظهر لعذر المطر - مثلاً - ثم صلى راتبة الظهر ثم صلى العصر نقول صلاة العصر الآن باطلة لأنك فصلت بينهما براتبة. وظاهر كلام المؤلف أن الراتبة تقطع الموالاة ولو كانت قصيرة لأنه يقول: ويبطل براتبة. أي راتبة كانت. سواء كانت طويلة أو قصيرة. = وهذا هو المذهب: أنها تبطل ولو براتبة قصيرة. = والقول الثاني: أنه إن صلى الراتبة بينهما صحت الموالاة. واستدلوا بدليلين: - الأول: أن صلاة الراتبة إذا كانت قصيرة لا تعتبر تفريقاً. - الثاني: أن الراتبة ملحقة بالصلاة وهي تبع لها فلا تؤدي إلى قطع الموالاة.

وهذا القول الثاني: هو القول الصواب. أن القطع براتبة قصيرة لا يؤدي إلى قطع الموالاة. * - فإن صلى بين الصلاتين نفلاً مطلقاً أو فريضة أخرى منسية وأطال. فإنه تنقطع الموالاة بلا إشكال عند القائلين باشتراط الموالاة وهم الجماهير. يقول رحمه الله: - مبيناً الشرط الثالث والأخير لجمع التقديم: وأن يكون العذر موجوداً عند افتتاحهما وسلام الأُولى. يشترط لصحة الجمع أن يكون العذر سواء كان السفر أو المرض أو المطر موجوداً في ثلاث مواضع: يقول: 1 - 2 - عند افتتاحهما. 3 - وسلام الأولى. يعني: 1 - عند تكبيرة الإحرام من الأولى. 2 - وعند السلام من الأولى. 3 - وعند تكبيرة الإحرام من الثانية. فإن تخلف العذر في أي من هذا المواضع الثلاثة لم يجز الجمع. الدليل: - قالوا: - أما عند افتتاح الأولى فلأنه وقت النية. - وأما افتتاح الثانية فلأنه هو وقت الجمع فيجب أن يوجد فيه العذر - ونحن نتكلم عن جمع التقديم لأن المؤلف سيخصص كلاماً آخر عن جمع التأخير. (ملاحظة: (((قال الشيخ حفظه: في جواب سائل عن دليل اشتراط أن يكون العذر موجودا عند السلام من الأولى: قال ((لم يذكروا له دليلاً والراجح أنه لا يشترط فلم يذكروا له تعليلاً واضحاً))). ذكره حفظه الله عند الكلام عن شروط جمع التأخير وقدمته هنا لمناسبته)) = والقول الثاني: أنه لا يشترط وجود العذر إلا عند افتتاح الثانية فقط. والدليل: - أن الجمع إنما جاز لهذا العذر سواء كان السفر أو المطر أو المرض. فإذا وجد العذر جاز الجمع ولو لم ينو عند التكبيرة الأولى لما تقدم معنا أن النية عند افتتاح الأولى ليس بشرط. بناء عليه: - إذا صلو المغرب والسماء صحو ثم قبيل السلام من المغرب أو بعده بقليل هطل مطر بغزارة من ما يتفق عليه الفقهاء أنه من الأمطار التي تسبب الجمع فما حكم الجمع في هذه الصورة. = عند الحنابلة: لا يجوز. لأن العذر لم يكن موجوداً عند افتتاح الأولى. = وعلى القول الراجح: يجوز. وعلى هذا فقس: - فلو أن إنساناً صلى المغرب ثم لما سلم مرض فجأة سقط واعتل لأي سبب من الأسباب: = فعند الحنابلة. يجب أن يصلي العشاء في وقتها. = وعلى القول الراجح: يجوز له أن يجمع.

إذاً عرفنا الآن: ثمرة الخلاف وأن ثمرة كبيرة في الحقيقة., ثم بدأ المؤلف رحمه الله بالكلام عن شروط جمع التأخير: • فقال رحمه الله: وإن جمع في وقت الثانية اشترط نية الجمع في وقت الأُولى إن لم يضق عن فعلها. إذا أراد الإنسان أن يجمع جمع تأخير فحينئذ يشترط له شرطان فقط: - بخلاف جمع التقديم فإنه يشترط له ثلاثة شروط -. - الشرط الأول: لجمع التأخير: نية الجمع في وقت الأولى بشرط أن توجد هذه النية قبل أن يضيق عن فعلها. إذاً شرط جمع التأخير أن ينوي الجمع عند افتتاح الأولى ويشترط أن تكون هذه النية فيما بين دخول الوقت إلى أن يبقى مقدار ما يصلي الفريضة. مثلاً: - إذا أراد أن يجمع العصر مع الظهر جمع تأخير يشترط لجواز جمع التأخير: - - أن ينوي في وقت الأولى أنه سيجمع جمع تأخير. - وأن ينوي قبل أن يضيق وقت الأولى. مثاله: - رجل سيجمع العصر مع الظهر ولم ينو فلما بقي ليخرج وقت الظهر خمس دقائق وهي لا تكفي للصلاة نوى فنقول النية باطلة. - رجل آخر نوى أن يجمع جمع تأخير فلما بقي على خروج وقت صلاة الظهر ربع ساعة نوى. فنقول الآن: (((يصح))). - رجل نوى بمجرد دخول وقت صلاة الظهر أنه سيجمع فنقول: جمعك جمع صحيح. فعرفنا الآن ما معنى هذا الشرط. التعليل: - قالوا: أنه لا يجوز له أصلاً أن يؤخر الصلاة الأولى عن وقتها إلا بنية الجمع فإن أخرها فهو آثم. وأما اشتراط أن ينوي قبل أن يضيق وقت الأولى عنها فلأنه إذا ضاق وقت الأولى عنها صار التأخير حينئذ محرم وسبق معنا ((أن الرخص لا تناط بالمعاصي)). ولماذا هو محرم؟ لأننا قررنا أنه لا يجوز للإنسان أن يؤخر وقت الأولى عن وقتها الفاضل إلى وقت الضرورة إلا مع نية الجمع. فإذا أخر إلى ضيق الوقت بدون نية الجمع فقط ارتكب محرماً. = والقول الثاني: أن له أن يؤخر إلى أن يبقى من الوقت ما يدرك به الصلاة. وهو على القول الراجح أن يدرك ركعة. والصواب مع مذهب الحنابلة - وهو القول الأول - لأنه لا يجوز للإنسان أن يؤخر الصلاة إلى أن لا يبقى منها إلا مقدار ركعة فلا يجوز له أن يفعل هذا فإن فعل فهو آثم. • ثم قال رحمه الله: واستمرار العذر إلى دخول وقت الثانية.

يجب أن يستمر العذر إلى دخول وقت الثانية لأن هذا العذر هو سبب الجواز. - فإذا دخل وقت صلاة الظهر ومرض الإنسان ونوى أنه سيجمع فلما انتصف وقت صلاة الظهر شفي هل يجوز له أن يجمع؟ بعبارة أخرى: هل يجوز له أن يؤخر صلاة الظهر إلى صلاة العصر؟ لا يجوز. لماذا؟ لأن العذر قد زال. فائدة ذكروها: أنه لا يشترط بالإجماع أن يبقى العذر بعد دخول وقت الثانية. فمثلاً: إنسان جمع لعذر المرض - جمع الظهر إلى العصر - فلما دخل وقت صلاة العصر شفي فهل نقول يحرم أن تجمع؟ أو أنت آثم بالجمع؟ الجواب: لا. بالإجماع يجوز له أنه يجمع وجمعه شرعي. لا نقول أنه الآن ليس له إلا هذا. يعني: لا نقول أنه هو لا يستطيع أن يصلي الآن إلا جمع لأن وقت صلاة الظهر خرج فهذا ليس بصحيح بل نقوب جمعك شرعي. إذاً ما هي الثمرة؟ الثمرة هي: أن صلاته تعتبر أداء وليست قضاء. لأن استمرار العذر إنما يشترط إلى دخول وقت الثانية ثم إذا دخل وقت الثانية إن زال أو بقي لا يؤثر على جواز الجمع. وبهذا انتهى الكلام عن الجمع وتبين أن للجمع ثلاثة أعذار: 1 - السفر. وهو أغلب وأكثر الأسباب وقوعاً. 2 - ثم المطر. 3 - ثم المرض. والمطر أكثر وقوعاً من المرض باعتبار أن المطر يعم جميع الناس والمرض يخص بعض الناس دون بعض. فترتيب المؤلف ترتيب منطقي. وقبل أن ننتهي: تبين معنا من خلال كلام المؤلف أن الموالاة لا تشترط في جمع التأخير. لأننا لا حظنا أن المؤلف اشترط في جمع التقديم ولم يشترط في جمع التأخير. بناء عليه: لو جمع الإنسان جمع تأخير ثم صلى الظهر فهل يجب عليه أن يصلي العصر مباشرة؟ الجواب: لا. لا يجب. = وهذا هو مذهب الحنابلة: وهو أن الموالاة لا تشترط في جمنع التأخير. والسبب: أن الثانية مهما أخرها إنما تقع أداء لأنها وزاقعة في وقتها. وهذا صحيح: أن الموالاة لا تشترط في جمع التأخير. فصل [صلاة الخوف] ثم بدأ المؤلف بالعذر الأخير من صلاة أهل الأعذار وهو الخوف. • فقال رحمه الله: (فصل) وصلاة الخوف: صلاة الخوف: يعني الصلاة التي سببها الخوف. والمقصود بالخوف هنا: - إما أن يكون خوفاً من العدو وهو الغالب والأكثر وقوعاً. - أو يكون خوفاً من غير العدو.

فلا يشترط أن يكون الخوف من عدو. فلو خافغ من لصوص أو قطاع طرق أو من سباع أو من أي مؤذي وأمكن أن يتفادى الأذى بصلاة الخوف جاز له أن يصلي صلاة الخوف. فإذاً صلاة الخوف لا تختص بالحرب وإنما تشمل جميع أنواع الخوف. ولكنها يكثر وقوعها في وقت الحروب. • وقوله رحمه الله: وصلاة الخوف صحت عن النبي صلى الله عليه وسلم. أجمعت الأمة على أن صلاةو الخوف مشروعة بالكتاب والسنة وأن مشروعيتها محفوظة في زمن النبي صلى الله عليه وسلم وبعد وفاته صلى الله عليه وسلم وصلاها هو وأصحابه والسلف الصالح وما زال المسلمون يصلون صلاة الخوف فهو إجماع محفوظ محكم لا إشكال فيه ولله الحمد. • يقول رحمه الله: صحت عن النبي صلى الله عليه وسلم بصفات كلها جائزة. أفادنا المؤلف رحمه الله أن لصلاة الخوف صور وصفات متعددة. قال الإمام أحمد صحت عن النبي صلى الله عليه وسلم من خمسة أوجه أوستة وفي رواية عنه هو رحمه الله: من ستة أوجه أوسبعة. يعني أنها ثيتت في السنة بستة أوجه عن النبي صلى الله عليه وسلم. وهذا التنوع في صلاة الخوف راجع إلى أحوال الحرب. فتارة تصلح هذه الصفة وتارة تصلح الصفة الأخرى بحسب مكان العدو وبحسب القبلة وبحسب ملابسات المعركة. وذكر العلماء رحمهم الله صفات كثيرة لصلاة الخوف. ونحن سنذكر بعض الصفات وسنختار الصفات التي اختارها الإمام أحمد رحمهخ الله والتي اتفق عليها البخاري ومسلم والتس يكثر وقوعها بين الناس. - فالصفة الأولى: من صفات صلاة الخوف - ما جاء في حديث سهل رضي الله عنه وهو في البخاري ومسلم. وهي الصفة التي اختارها الإمام أحمد مع تجويز جميع الصفات المروية عن النبي صلى الله عليه وسلم وقد ذكر شيخ الاسلام رحمه الله أن من طريقة الإمام أحمد رحمه الله وغيره من أئمة المحدثين من السلف أنهم يأخذون بجميع الصفات المروية عن النبي صلى الله عليه وسلم في العبادات ولا يختارون صفة واحدة من بين تلك الصفات بمعنى: المنع من باقي الصفات ولكنهم يختارون واحدة من تلك الصفات على سبيل التفضيل والتقديم لا على سبيل التعيين. فالصفة الأولى: أن يكون العدو ليس في جهة القبلة ....... (((الآذان))) انتهى الدرس،،،

قال شيخنا حفظه الله: بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين. تقدم معنا مسألة صلاة الخوف وتعريفها ومشروعيتها وأنها بقيت بعد النبي صلى الله عليه وسلم وبقي علينا إتمام الكلام عن صفات صلاة الخوف. وقبل الدخول قبل الدخول في صفات صلاة الخوف أقول يحسن أن نبين مسألة وهي: - = أن السبب في جواز صلاة الخوف هو: الخوف لا السفر. بناء على هذا يجوز أن يؤديها الإنسان في الحضو وهذا باتفاق الأئمة الأربعة رحمهم الله لكنهم اتفقوا أنهم إذا صلااها في الحضر فإنه يصليها أربعاً. ثم تقدم معنا أنها رويت على صفات وأن الإمام أحمد قال ست أو سبع صفات وأن جميع الصفات ثابتة بإسناد صحيح يجوز أن يصلي الإنسان على وفقها وأن الإمام أحمد اختار الصفة التي جاءت في حديث سهل وهي الموافقة لظاهر القرآن. فنقول: - الصفة الأولى: من صفات صلاة الخوف هي: هذه الصفة وهي التي جاءت في حديث سهل واختارها الإمام أحمد وهي تختص بما إذا كان العدو في غير جهة القبلة. فإذا أراد الإمام أو القائد أن يصلي فإنه يقسم الجيش إلى فرقتين: - فرقة تقوم بإزاء العدو يعني تجاه العدو وفرقة تصلي مع الإمام. فيصلي الإمام في الفرقة التي معه ركعة بالتكبير والركوع والسجود ثم إذا قام الإمام إلى الثانية بقي واقفاً وأتمت الفرقة التي معه لنفسها الصلاة وسلمت وذهبت إلى مكان الفرقة التي تجاه العدو ووقفت هي تجاه العدو وحضرت الفرؤقة الثانية وصلت مع الإمام الركعة الثانية ثم إذا جلس الإمام - إذا صلى الركعة الثانية بركوعها وسجودها وجلس قامت هذه الفرقة وأتت بركعة والإمام جالس ثم إذا انتهت من الركعة الثانية سلموا مع الإمام. - الصورة الثانية: إذا كان العدو في جهة القبلة: (الصفة السابقة ثابتة في الصحيحين والصفة هذه التي سأذكرها أيضاً ثابتة في الصحيحين).

وطريقة هذه الصفة: أن يقسم الإمام أيضاً الجيش إلى قسمين ويجعل كل قسم في صف فيمنع في هذه الصفة أن يكون الجيش كله في صف واحد ولو كان الجيش قليلاً بل لا تتم الصفة إلا إذا جعل الجيش نصفين كل نصف في صف. فيكبر الإمام ويكبر الصف الأول والثاني ويقرأ ويركع الإمام بالصف الأول والثاني ثم يقوم فإذا قام من الركوع ثبت أصحاب الصف الثاني وسجد أصحاب الصف الأول مع الإمام ثم إذا انتهوا من الركعة الأولى كاملة وقاموا أتى الصف الثاني بالسجدة يعني أتوا ببقية الركعة فيسجدون سجدتين ويقومون فإذا قاموا تبادل الصف الأول مع الصف الثاني ثم صلوا بنفس الطريقة التي صلوا بها الركعة الأولى. وهذه الطريقة كما تلاحظون إنما تنفع إذا كان العدو في اتجاه القبلة. - الصفة الثالثة: أن يصلي الإمام بالفرقة الأولى ركعتين ثم تذهب وتأتي الثانية ويصلي بهم ركعتين فتمون للإمام أربع وللمأمومين لكل فرقة ركعتين. - الصفة الرابعة: أن يصلي الإمام بكل فرقة صلاة كاملة. يصلي بهؤلاء ركعتين كاملتين ويسلم وينصرفون ثم تأتي الفرقة الثانية ويصلي بهم الإمام ركعتين كاملتين ومعلوم أن الفريضة بالنسبة للإمام هي الأولى والثانية بالنسبة للإمام نافلة. هذه أبرز أربع صفات صلاها النبي صلى الله عليه وسلم وثبت عنه بإسناد صحيح أنه صلاها. ثَمَّت صفات فيها خلاف نأخذ منها واحدة وهي: - أن يصلي الإمام بالفرقة الأولى ركعة واحدة ثم يذهبوا ولا يقضوا ثم يصلي الإمام بالفرقة الثانية ركعة واحدة ويسلم ولا يقضوا فصار أن كل فرقة صلت ركعةواحدة والإمام صلى ركعتين. هذه الصفة جاءت في حديث ابن عباس واختلف الفقهاء: = فصحح ابن القيم هذا الحديث وأخذ به. =وذهب الجماهير إلى أنه لا يجوز أن يصلي الإنسان ولا في الخوف ركعة واحدة. وحمل الجمهور حديث ابن عباس على أنهم أتموا وهذا الحمل لا يتوافق مع ما في الروايات من التصريح بأنهم لم يقضوا. ففي الروايات التصريح أنهم صلوا ركعة ولم يقضوا.

ويؤيد هذه الصفة ما تقدم معنا من حديث ابن عباس أنه قال فرض رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة الحضر أربعاً وصلا السفر ركعتين وصلاة الخوف ركعة) فهذا يؤيد أن ابن عباس فهم أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى بهم ركعة واحدة له ركعتين ولهم واحدة. والأقرب أنه إذا صح حديث ابن عباس أن هذه صفة ثابتة وأنه يجوز للإنسان أن يصلي أحياناً بهم على هذه الصفة ويكتفوا بركعة واحدة. انتهت الآن الصفات. وليس في النصوص ولا في الآثار فيما أعلم كيفية صلاة الخوف إذا كانت الصلاة صلاة المغرب لكن الفقهاء بينوا كيفية الصلاة إذا كانت صلاة المغرب فقالوا: - يصلي الإمام بالفرقة الأولى ركعة واحدة ثم يتمون لأنفسهم ويذهبون ويصلي بالفرقة الثانية ركعتين. قالوا: إنما فضلنا الفرقة الثانية على الفرقة الأولى لأن الأولى أدركت تكبيرة التحريم مع الإمام وابتداء الصلاة ففضلناها. ومن الفقهاء من قال: بل الصواب على العكس تصلي الأولى ركعتين ثم تذهب وتأتي الثانية وتصلي ركعة. والصواب أن الأمر في صلاة المغرب واسع إن شاء الإمام أن يصلي بالفرقة الأولى ركعة أو ركعتين ولكن يبين لهم أنه سيصلي بهم ركعة أو ركعتين ثم يصلي بالفرقة الثانية ما بقي من الصلاة. فيما عدا المغرب الأمر واضح في النصوص وإنما جاءت النصوص بركعتين لأن غالب صلاة الخوف بالنسبة للنبي صلى الله عليه وسلم كانت في سفر ولم يصل في الحضر صلاة خوف وإنما صلااها في السفر. وبهذا تمت الصفات وعرفنا أنها خمس إذا صححنا حديث ابن عباس. • ثم قال رحمه الله: ويستحب أن يحمل معه في صلاتها: من السلاح ما يدفع به عن نفسه، ولا يثقله كسيف ونحوه. يستحب للمقاتل الذي يصلي صلاة الخوف أن يحمل السلاح لكن يشترط في هذا السلاح أن يكون سلاحاً خفيفاً يؤدي الغرض للدفاع فقط. فإن حمل سلاحاً ثقيلاً كرهت الصلاة وصحت. وعلة الكراهة أن السلاح الثقيل يمنع من كمال الصلاة. إذاً عرفنا الآن حكم حمل السلاح الخفيف وحكم حمنل السلاح الثقيل. = القول الثاني: أن حمل السلاح الخفيف واجب. - لأن الله سبحانه وتعالى أمر بحمل السلاح والأصل في الأمر الوجوب.

باب صلاة الجمعة

وأجا الجمهور عنه هذا الدليل: أن اله سبحانه وتعالى إنما أمرهم بأخذ السلاح تخفيفاً عليهم ودفعاً للحرج فيما لو هجم عليهم العدو. والقول بالوجوب وجيه لأن الله سبحانه وتعالى وإ؟ ن كان أمر بالحمل تخفيفاً لكن أيضاً دفع الضرر عن المسلمين متوجه ولازم ولو أنهم تهاونوا بهذا الأمر لأدى ذلك إلى ذهاب الأنفس. - مسألة: فإن كان المقاتل مريضاً أو له عذر آخر كالمطر لم يجب له حمل السلام باتفاق أهل العلم. باب صلاة الجمعة • قال رحمه الله: باب صلاة الجمعة. يعني باب تبين فيه ألأحكام التي تتعلق بصلاة الجمعة. والجمعة: لغة مشتقة من: الجمع الذي هو الاجتماع الذي هو ضد التفرق. وفي الاصطلاح: لقب لفريضة تؤدى في الاسبوع مرة واحدة ركعتين بشروط مخصوصة يوم الجمعة. هكذا عرفوها وهي ولله الحمد واضحة لكل مسلم فضلاً عن طالب العلم. وصلاة الجمعة مشروعة بالكتاب والسنة وإجماع أمة محمد صلى الله عليه وسلم لم يخالف في هذا عالم أنها مشروعة مندوب إليها. ويوم الجمعة هو أفضل أيام الأسبوع كما أن يوم عرفة أو يوم النحر على الخلاف هو أفضل أيام السنة. واختلف العلماء في سبب تسمية يوم الجمعة بهذا الاسم على أقوال كثيرة أصح هذه الأقوال: - أنه جمع فيه خلق آدم. سبب الترجيح: أنه روي في هذا المعنى حديث إسناده حسن. وكانت تسمى في الجاهلية العروبة. ومما ينبغي أن يفهمه طالب العلن أن صلاة الجمعة صلاة مستقلة ليست هي صلاة الظهر فلها أحكام مستقلة وصفات وشروط خاصة. • قال رحمه الله: تلزم: كل ذكر. صلاة الجمعة فرض عين وإلى هذا ذهب الجمهور بل حكي إجماعاً. ونسب القول بأن صلاة الجمعة فرض كفاية إلى الشذوذ والخروج عن الجماعة. والصواب بلا شك أن صلاة الجمعة فرض عين على كل مسلم وأن الخلاف فيها لا يشبه الخلاف في صلاة الجماعة كما يتوهمه البعض بل صلاة الجمعة فرض عين هلى كل مسلم بإجماع الفقهاء إلا من شذ. قال: تلزم كل ذكر: يعني ولا تلزم المرأة. وكون صلاة الجمعة لا تلزم المرأة محل إجماع وإن شئت أن نقول اشتراط الذكورية لوجوب الجمعة محل إجماع لأن المرأة ليست من أهل الجماعة.

والمرأة لا يجب عليها صلاة الجمعة ولا تنعقد بها مستقلة فلو اجتمع خمسون من النساء وأرادوا أن يصلوا الجمعة منفردات فصلاة الجمعة بالنسبة لهم باطلة ويجب أن يصلوا ظهراً. فاشتراط الذكورية شرط وجوب وشرط انعقاد بالنسبة للمنفردات. • ثم قال رحمه الله: حر. المؤلف رحمه الله في سياق بيان شروط الوجوب. - فالشرط الأول للوجوب الذكورية. - والشرط الثاني: الحرية. = ذهب الجمهور إلى أن العبد لا تجب عليه الجمعة. واستدلوا بدليلين: - الدليل الأول: أن العبد محبوس على سيده ومنافعه لسيده فالوقت ملك لسيده. - والدليل الثاني: وهو حديث طارق: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (الجمعة حق واجب على كل مسلم إلا على أربعة: العبد المملوك والمرأة والصبي والمريض) وهذا الحديث ضعفه بعض العلماء. سبب التضعيف أن الحافظ أبي داود ذكر أن طارق رضي الله عنه رأى النبي صلى الله عليه وسلم ولم يسمع منه. فقالوا الحديث ضعيف. =القول الثاني: أن الحديث صحيح لأن غاية ما هنالك أن يكون مرسل صحابي ومراسيل الصحابة حجة وقد حكي الإجماع على ذلك. والصواب والله أعلم أن هذا الحديث ثابت وممن صحح هذا الحديث الحافظ البيهقي وكفى به إماماً رحمه الله. ومن ذهب إلى تضعيفه من المعاصرين أو من المتقدمين فقوله ليس بصواب فإن هذا الحديث ثابت ولو كان طارق لم يسمع من النبي صلى الله عليه وسلم ولكنه يجزم بنسبة هذا الكلام إلى النبي صلى الله عليه وسلم ومراسيل الصحابة حجة بلا شك. = القول الثاني: أن الصلاىة تجب على العبد لأن الله سبحانه وتعالى أمر بها بلفظ عام يشمل العبد وغير العبد وقالوا أن حديث طارق ضعيف. وإلى هذا ذهبت الظاهرية واختاره الشيخ ابن سعدي. والصواب مع الجمهور وهو أن صلاة الجمعة لا تجب على العبد وعدم وجوبها على العبد مذهب الأئمة الأربعة فضلاً عن الجمهور وهو الصواب إن شاء الله لصحة الحديث. • ثم قال رحمه الله: مكلف مسلم. يشترط لوجوب صلاة الجمعة أن يكون الإنسان مسلم بالغ عاقل وهي شروط التكليف. والدليل على اشتراط هذا الشرط من ثلاثة أوجه: - الأول: الإجماع. فقد أجمعوا على أنه شرط لصحة صلاة الجمعة.

- الثاني: قول النبي صلى الله عليه وسلم: (رفع القلم عن ثلاثة .. ) - الثالث: قول النبي صلى الله عليه وسلم لمعاذ: (فليكن أول ما تدعوهم إليه شهادة أن لا إله إلا الله .. ) ثم أمره بفروع الإسلام. = وذهب بعض الفقهاء إلى أن ذكر هذه الشروط في صلاة الجمعة ليس بصحيح. يعني: ينبغي أن لا تذكر. والتعليل: - أن القاعدة تقول: ((أن شرط الشيء هو ما يختص به)) أو بعبارةو أخرى: ((لا يعتبر الشيء شرطاً في شيء إلا إذا اختص به)) وهذه الشروط شرط لكل العبادات فأي عبادة لا تصح إلا بهذه الشروط فإذاً هي لا تختص بصلاة الجمعة. وهذه القاعدة صحيحة تماماً ولهذا نقول من لم يذكر هذه الشروط مع شروط الجمعة من الفقهاء أصاب لا لأنها ليست شروطاً ولكن لأنها لا تختص بالجمعة. • ثم قال رحمه الله: مستوطن ببناء اسمه واحد ولو تفرق. يشترط لوجوب الجمعة أن يكون الإنسان مستوطناً وألأن يكون هذا الاستيطان ببناء ولو تفرق لكن لا بد أن يكون ببناء. فإن استوطنوا بخيام أو ببيوت الشعر لم تجب عليهم. مسألة تحديد نوع البناء والمكان الذي يشترط لصحة الجمعة سيأتينا في شروط الصحة والانعقاد فلا نطيل فيه. لكن نبقى في شرط الاستيطان يقسم الحنابلة الناس إلى ثلاثة أقسام: الأول: - مستوطن: وهو من نوى الإقامة الأبدية في هذا المكان بحيث لا ينزح عنه صيفاً ولا شتاءً. الثاني: - مقيم: وهو من مكث في مدينة ناوياً أكثر من أربعة أيام. الثالث: - المسافر: وهو من مكث في مدينة أقل من أربعة أيام. نأتي إلى الأحكام: - المستوطن: تجب عليه بالإجماع بشروطها. - والمقيم: تجب عليه بغيره لا بنفسه. - والمسافر لا تجب عليه لا بغيره ولا بنفسه. إذاً لكل قسم من هذه الأقسام الثلاثة حكم خاص. فالمستوطن تجب عليه والمقيم تجب عليه بغيره لا بنفسه والمسافر لا تجب عليه لا بغيره ولا بنفسه. يناءً على هذا: - من قدم إلى مدينة الرياض ناوياً أن يقيم فيها يوم وهو يوم الجمعة وأذن لصلاة الجمعة فعند الحنابلة لا تجب عليه لأنه مسافر. - فإن كان الإقامة أكثر من أربعة أيام فنقول: - إن أقيمت الجمعة من مستوطنين فيجب عليك أن تصلي معهم وهذا معنى قولهم تجب عليه بغيره لا بنفسه.

- وإن لم تقم صلاة الجمعة لم يجب عليك أن تقيمها أنت ولا من معك من المسافرين ولو كانوا يبلغون أربعين. والمستوطن أمره واضح. = والقول الثاني: أن الناس ينقسمون إلى قسمين فقط: - مستوطن. - ومسافر. وأن المسافر: تجب عليه تبعاً لغيره مطلقاً. فإذا أقيمت وجب عليه أن يحضر وأن يصلي فإن لم يفعل فهو آثم. إذاً القول الثاني: يخالف الحنابلة في مسألتين: - المسألة الأولى: تقسيم الناس. - والمسألة الثانية: أن جميع الناس تجب عليهم إذا أقيمت. سواء كان مسافراً أو غير مسافر فمن كان موجوداً في المدينة وأقيمت صلاة الجمعة فيجب عليهم أن يحضروها فإن لم يفعلوا أثموا. إذاً عرفنا الآن معنى قول المؤلف رحمه الله: مستوطن ببناء اسمه واحد ولو تفرق. والراجح القول الثاني. لعموم الأدلة. • ثم قال رحمه الله: ليس بينه وبين موضعها أكثر من فرسخ. يشترط لوجوب صلاة الجمعة أن لا يكون بين المسلم وبين المسجد أكثر من فرسخ. فإن كان بينه وبين المسجد أكثر من فرسخ لم تجب عليه. وهذا الشرط خاص بمن كان خارج المدينة. أما من كان داخل المدينة فيجب عليه أن يجيب بالإجماع سواء كان بينه وبين الجامع فرسخ أو أكثر أو أربعة أو خمسة فيجب عليه مطلقاً أن يجيب ولو لم يسمع النداء بالنسبة لصلاة الجمعة وهذا بالإجماع. إذاً الكلام الآن بالنسبة لهذا الشرط يتعلق بمن كان خارج المدينة. دليل هذا الشرط: - قالوا: أن الفرسخ ثبت بالعادة والتجربة أنه يسمع منه النداء في الأحوال الطبيعية ولا يمكن أن نعلق وجوب الصلاة بسماع النداء الحقيقي لأن سماع النداء الحقيقي يختلف باختلاف الأحوال: - فيختلف بوجود الأصوات وعدمها. - ويختلف بوجود الريح وعدمها. - ويختلف بمقدار رفع المؤذن صوته وعدمه. فصارت الأشياء التي تتحكم بسماع الآذان غالباً تكون هذه الثلاثة أشياء. فقالوا: ربط الوجوب بسماع الآذان لا ينضبط بسبب الاختلاف الحاصل بسبب هذه القرائن التي تحتف بالآذان فنربطه بما يسمع غالباً. قالوا: وهو فرسخ. وتقدم معنا: أن ثلاثة فراسخ تساوي ستة عشر كيلو. إذاً الفرسخ خمسة كيلو ونصف. فإذا كان الإنسان عن القرية أو عن المسجد بعده خمسة كيلو ونصف فيب عليه فإن كان ستة لم يجب عليه.

والتقييد بالفرسخ مذهب الأئمة الثلاثة: أحمد والشافعي ومالك. لكن بعض الناس يقول أن مذهب مالك أنه يقيد بثلاثة أميال ونحن أخذنا أن الفرسخ يساوي ثلاثة أميال فصارت الأقوال واحدة فمن العبث أن نقول القول الأول فرسخ ولقول الثاني ثلاثة أميال فإنها نفس الشيء. = المهم أن مذهب الأئمة الثلاثة فرسخ. = القول الثاني: أن من كان خارج المدينة لا تجب عليه الجمعة مطلقاً وهو مذهب الأحناف. وهو قول ضعيف لأمرين: - الأول: عموم الآية: {يا أيها الذين آمنوا إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة فاسعوا إلى ذكر الله.} وهذا السعي واجب على كل من سمع ولو كان خارج المدينة. - الثاني: أن أهل العوالي وقد كانوا خارج المدينة كانوا يُجَمِّعُون مع النبي صلى الله عليه وسلم. فإذاً مذهب الأحناف المقابل لمذهب الجمهور ضعيف. وتحديد الجمهور بفرسخ في الحقيقة ينضبط وجيد ولا تظن أن هذا يتعارض مع تحديده بسماع النداء ولكنه في الحقيقة ضابط يضبط للإنسان متى يسمع النداء ومتى لا يسمع ولذلك إذا سألت الآن وقيل لك: - نحن في استراحة لا ندري هل تجب علينا الجماعة أو لا تجب؟ فتقول: إذا كنتم تسمعون النداء فتجب وإذا كنتم لا تسمعون النداء فلا تجب. ويجب أن يكون النداء بلا مكبر للصوت. - فيقول: لا ندري لو كان بلا مكبر هل نسمع أو لا نسمع؟ فتقول الضابط تقريباً هو خمسة كيلوات ونصف. لأنه مع هذه المسافةو يمكن سماع الآذان. وهذا في الحقيقة ضابط ومريح للناس كلهم ويضبط لهم متى تجب عليهم صلاة الجمعة ومتى لا تجب. نرجع إلى كلام المؤلف: • يقول رحمه الله: ولا تجب على مسافر: سفر قصر. المسافر لا تجب عليه صلاة الجماعة. والدليل على ذلك: - ان النبي صلى الله عليه وسلم سافر مراراً وتكراراً - سافر للعمرة ثلاث مرات سوى العمرة التي مع الحج وخرج غازياً صلى الله عليه وسلم نحواً من عشرين غزاة فمجموع هذه السفريات تقريباً ثلاثة وعشرين سفرة مع حجة الوداع تكون أربعة وعشرين سفرة وربما لو تتبع الإنسان السيرة وجد عدد أكبر من ذلك ومع ذلك لم ينقل عنه أحد قط من أصحابه أنه صلى الله عليه وسلم صلى في السفر أبداً ولا في حجة الوداع.

فهذا دليل على أن صلاة الجمعة لا تجب على المسافر ولا تشرع له إذا كان مسافراً سائراً وإنما تجب عليه وتشرع له إذا أقامها غيره. • ثم قال رحمه الله: ولا عبد ولا امرأة. تقدم معنا الخلاف في العبد وفي المرأة. وأن المرأة محل إجماع. وأن العبد محل خلاف. وأن الصواب إن شاء الله أنها لا تجب على العبد. • ثم قال رحمه الله: ومن حضرها منهم: أجزأته. يعني إذا حضر الجمعة المسافر أو العبد أو المرأة فإنها تجزأهم إجماعاً. والتعليل: - أن الجمعة إنما سقطت عنهم تسهيلاً عليهم وإعذاراً لهم فإذا حضروها أجزأت عنهم بلا خلاف. • ثم قال رحمه الله: ولم تنعقد به. معنى لم تنعقد بهم أي لم يحسبوا في تكميل العدد المشترط ولا يجوز أن يقيموها منفردين. والدليل: - قالوا: أن هؤلاء ليسوا من أهل الوجوب فلا يعتبروا في العدد ولا يقيموها بدون غيرهم. بناء على هذا: الطلاب الذين يدرسون في الغرب واجتمعوا في مكان معين وحكمنا على وضعهم أنهم مسافرون فإنه لا يجوز لهم أن يقيموا الجمعة فإن أقاموها لم تنعقد بهم. لأنهم ليسوا من أهل الوجوب. هذا إذا اعتبرناهم مسافرين. الخلاصة: أن المرأة والعبد والمسافر لا تنعقد بهم ومعنى لا تنعقد بهم أي: أنهم لا يحسبوا ضمن العدد المشترط ولا يمكن أن يقيموها منفردين. - أما بالنسبة للمرأة فهو محل إجماع - هذا الذي نقرره. محل إجماع عند الحنابلة وغيرهم. - إنما الخلاف في العبد والمسافر. = والقول الثاني في العبد والمسافر: أنها تنعقد بهم. الدليل: - أنهم مكلفون تصح منهم الصلاة فتنعقد بهم. وهذا القول هو القول الصحيح في إكمال العدد بالنسبة للمسافر دون إقامتها منفردين فلا يشرع. أما العبد: ففي إكمال العدد منفردين لأنه في رواية عن الإمام أحمد: تنعقد به ويجوز أن يؤم ولو قلنا بعدم الوجوب. وهي الأرجح. • ثم قال رحمه الله: ولم يصح أن يؤم فيها. يعني: ولا يصح أن يكون العبد إماماً ولا المسافر وبطبيعة الحال ولا المرأة. - أما إمامة المرأة فتقدم معنا الكلام فيها وأن الجماهير بل إن ابن حزم حكى الإجماع على أن إمامة المرأة لا تصح. - أما إمامة العبد والمسافر فالخلاف فيها كالخلاف في مسألة الانعقاد تماماً. من حيث الأدلة والترجيح.

والصواب. ما تقدم أنه يصح أن يكون إماماً. لأن من صحة صلاته صحت إمامته. • ثم قال رحمه الله: ومن سقطت عنه لعذر: وجبت عليه وانعقدت به. يعني: إذا سقطت صلاة الجمعة عن شخص لعذر من الأعذار كالمرض ثم حضر المسجد فإنه إذا حضر المسجد وجبت عليه وأيضاً انعقدت به. مثاله: لو حضر إلى المسجد تسعةوثلاثون رجلاً والمريض الذي يكمل الأربعين في البيت ثم تحامل على نفسه ودخل المسجد الجامع حينئذ نقول يجب عليك أن تصلي ويجب على الناس أن يصلوا لأن العدد انعقد بمجيئك. التعليل: - قالوا إنما رفع عنه الوجوب للمشقة الحاصلة بخروجه إلى المسجد فإذا خرج وأصبح في المسجد فلا مشقة لأنه الآن في المسجد فتجب عليه وهذا صحيح بلا إشكال. يستثنى من هذا الحكم صورة واحدة وهي: ما إذا تحامل على نفسه ودخل المسجد ووجبت عليه وصلوا جماعة ثم طرأ عليه من العذر ما لا يستطيع معه أن يبقى فحينئذ يرتفع الوجوب مرة أخرى ويجوز له أن يخرج إلى بيته ولو أدى ذلك إلى إبطال الجمعة بتخلف شرط العدد. وشرط العدد سيأتينا الكلام عنه وعن ما هيته وأدلته. • ثم قال رحمه الله: ومن صلى الظهر ممن عليه حضور الجمعة قبل صلاة الإمام: لم تصح. يعني إذا وجبت على الإنسان صلاة الجمعة ثم خالف ولم يصل الجمعة فهو آثم هذا أولاً. وثانياً: إن صلى الظهر قبل أن يصلي الإمام الجمعة بطلت صلاة الظهر بالنسبة له. ثم إذا بطلت نقول له: انظر إن كان يمكن أن تدرك الجمعة وجب عليك السعي إليها وإن قدرت أنه لا يمكن أن تدرك الجمعة لبعد مثلاً فيجب عليك أن تنتظر إلى أن يصلي الإمام الجمعة ثم تصلي بعد ذلك الظهر. إذاً ما يريد المؤلف جواز التخلف فإنه إذا تخلف فهو آثم لكن يريد المؤلف أن يبين حكم صلاة الظهر بالنبة لمن صلاها قبل الإمام وهي تجب عليه. الدليل: - أنه ترك ما أمر به وفعل ما لا يؤمر به: والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (كل فعل ليس عليه أمرنا فهو رد) أي مردود باطل. وهذا الحكم صحيح وما استدل به الحنابلة صحيح.

بناءً على هذا نقول: لمن تخلف عن صلاة الجمعة وصلى الظهر قبل أن يصلي الناس نقول: - أنت آثم بترك الجمعة. - وصلاة الظهر التي صليتها باطلة ويجب عليك أن تعيد صلاة الظهر مرة أخرى لأن تلك الصلاة باطلة. وهذا ما لا يتفطن له كثير من الناس الذين يتركون صلاة الجمعة - نسأل الله العافية والسلامة - ويصلونها ظهراً في بيوتهم. • ثم قال رحمه الله: وتصح: ممن لا تجب عليه. يعني: إذا صلى من لا تجب عليه صلاة الجمعة إما لكونه عبداً أو لكونه امرأة أو لكونه مريض أو لأي عذر من الأعذار إذا صلى فصلاته صحيحة ولو كانت قبل صلاة الجمعة. التعليل: - أن هذا الرجل صلى ما فرض الله عليه فصلاته صحيحة لأن هذا الرجل إنما فرض الله عليه الظهر بينما ذاك الرجل - المتخلف - أن ما فرض الله عليه الجمعة لا الظهر. • ثم قال رحمه الله: والأفضل حتى يصلي الإمام. يعني: والأفضل لمن لم تجب عليه صلاة الجمعة لعذر أن يؤخر صلاة الظهر حتى يصلي الإمام وعلل الحنابلة ذلك بأنه ربما يزول العذر فتجب عليه صلاة الجمعة. إذاً: نقول أن هذا الاستحباب ينبغي أن يقيد بمن يظن زوال العذر مثل ماذا؟ مثل: المريض. وأما من لا يمكن أن يزول عنه هذا الوصف فلا تتعلق به هذه الأفضلية مثل من؟ مثل: المرأة فإنه لا يتصور فيها هذا الحكم. مثال آخر: كالمريض الذي لا يتصور أن يشفى بساعة أو بساعتين فهذا أيضاً نقول: يمكن أن يصلي ولا يشترط أن ينتظر لأنه إذا صلى في أول الوقت فسيحصل فضيلة الصلاة أول الوقت فلا نأمره بالانتظار إلا إذا ظننا أنه يمكن أن يشفى. • قال رحمه الله: ولا يجوز لمن تلزمه: السفر في يومها بعد الزوال. يعني لا يجوز للإنسان الذي تلزمه صلاة الجمعة أن يسافر بعد الزوال. = وهذا مذهب الجمهور. واستدلوا على ذلك: - بأن هذا السفر يؤدي إلى تضييع الواجب. = والقول الثاني: أنه لا يجوز السفر في حالين: - بعد الزوال. - وإذا سمع النداء ولو كان قبل الزوال. وهذا القول اختاره الطوفي. = وهناك قول ثالث: ذكره شيخنا رحمه الله في الممتع ولا أدري من قال به: وهو أنه يقول: أنه لا يجوز السفر إذا سمع الإنسان النداء فنعلق الحكم بسماع النداء لا بالزوال. أي القولين أحوط: (أضيق).

ما اختاره الطوفي أو القول الأخير؟ ما اختاره الطوفي لأنه يقول: حتى لو لم تزل إذا سمعت النداء. أما إذا زالت فلا إشكال. بينما شيخنا يعلقه بالنداء: فإذا زالت الشمس ولم يؤذن وليس في هذه المدينة إلا مسجد واحد فهل يجوز أن يسافر؟ يجوز. والصواب في الحقيقة: ما اختاره الطوفي. السبب؟ السبب: أن الزوال هو بحد ذاته هو سبب الوجوب فإذا زالت الشمس وجبت الصلاة ولو لم تسمع النداء. ولذلك لو كان الإنسان مسافراً وزالت الشمس ولم يسمع نداءً مطلقاً فهل يجب عليه أن يصلي الظهر؟ نعم. يجب تتعلق بذمته. كذلك نقول إذا زالت الشمس يوم الجمعة فقد وجبت صلاة الجمعة عليه سواء سمع النداء أو لم يسمعه. وفهم من كلام المؤلف رحمه الله أن السفر قبل الزوال جائز. وهو صحيح. فإنه جائز لكن مع ذلك قال الإمام أحمد رحمه الله: قل من سافر قبل الزوال يوم الجمعة إلا ويرى ما يكره. يقول هكذا رحمه الله. لكن من حيث الأدلة فالسفر قبل الزوال جائز. = والقول الثاني: أن السفر يوم الجمعة جائز قبل وبعد الزوال. وهو مذهب الأحناف. واستدلوا: - بقول عمر بن الخطاب رضي الله عنه الجمعة لا تمنع السفر. والجواب عليه: أولاً ينظر في ثبوته فإن كان ثابتاً. فإنه يحمل على ما كان قبل الزوال. والصواب هو ما اختاره الطوفي - كما قلت لكم - لأن السفر في هذه الحالة يؤدي إلى تضييع الواجب. والله سبحانه وتعالى نهى عن البيع والشراء إذا سمع النداء فكيف بالسفر فإن السفر من باب أولى أنه يضيع صلاة الجمعة تضييعاً كاملاً بخلاف البيع والشراء فقد يضيع تضييعاً جزئياً بالتأخير. وبهذا انتهى الفصل الأول من باب صلاة الجمعة. ونتوقف عند هذا الفاصل ..... . انتهى الدرس،،،

فصل [شروط صحة صلاة الجمعة] قال شيخنا حفظه الله: بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين. لما أنهى المؤلف الكلام عن شروط الوجوب بدأ بالحديث عن شروط الصحة. وشروطك الصحة عند الحنابلة أربعة ويأتينا الكلام مفصلاً عن كل شرط من هذه الشروط. وبدأ المؤلف ببيان شرط ليس من الشروط: • فقال رحمه الله: يشترط لصحتها: شروطٌ ليس منها إذن الإمام. يعني أنه لا يشترط لصحة الجمعة أن يأذن الإمام بالصلاة. بل يجب أن يصلوا ولو لم يأذن لأنها فريضة ومن شعائر الإسلام الظاهرة فتصلى بكل حال. والدليل على أن إذن الإمام ليس بشرط: - الدليل الأول: أن علي بن أبي طالب رضي الله عنه لما حبس عثمان رضي الله عنه في بيته صلى بالناس الجمعة وأقره عثمان وأقره جميع الصحابة فهو كالإجماع بينهم مع العلم أنه لم يأذن له بسبب الحبس. - الدليل الثاني: أن الفتنة بقيت سنين في الشام بين أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه وأمير المؤمنين معاوية رضي الله عنه وكانوا يصلون الجمعة في أثناء الفتنة بلا إذن إمام. فهذا الأمر واضح وأدلته قوية ومن أقوى الأدلة الأثر الثابت عن علي وعثمان رضي الله عنهما أيام حصر عثمان في البيت. ثم بدأ رحمه الله بالشرط الأول: • فقال رحمه الله: أحدها: الوقت. الشرط الأول من شروط صحة صلاة الجمعة: الوقت. وكون الوقت شرط من شروط صحة صلاة الجمعة أمر متفق عليه وبالإجماع ولكن الخلاف في التفاصيل. أما أن الوقت شرط فهو أمر مجمع عليه: - لأن الله سبحانه وتعالى بين أن الصلاة مقدرة بأوقات محدودة بها لا يجوز أن تصلى إلا فيها. - وأيضاً: للأحاديث التي ستأتينا أثناء الكلام عن الخلاف في وقت الجمعة فإن هذه الأحاديث جميعاً تدل على اشتراط الوقت من حيث هو أما تحديده فسيأتينا أنه محل خلاف ,

• قال رحمه الله: وأوله أول وقت صلاة العيد. أول الوقت عند الحنابلة يبدأ من نفس الوقت الذي يبدأ منه صلاة العيد وهو بعد ارتفاع الشمس قدر رمح. وهذا القول تفرد به الحنابلة من بين الأئمة الأربعة. فهو من المفردات. ويقسم الحنابلة الوقت إلى: - وقت جواز. - ووقت وجوب. فوقت الجواز يبدأ من ارتفاع الشمس قدر رمح. ووقت الوجوب من الزوال. الذي تفرد به الحنابلة هو أن وقت الجواز يبدأ من ارتفاع الشمس قدر رمح. استدل الحنابلة على هذا بأدلة كثيرة: - الدليل الأول: أن الصحابة قالوا: (ما كنا نقيل ولا نتغدى إلا بعد الجمعة). ولا يسمى الغداء ولا القيلولة إلا إذا كانت قبل الزوال. - الدليل الثاني: قول الصحابة: (كنا نصلي مع النبي صلى الله عليه وسلم ثم نذهب إلى رواحلنا حين تزول الشمس. يعني أن الصلاة كانت قبل الزوال. - الدليل الثالث: ما رواه سهل رضي الله عنه أنه قال: (صليت مع أبي بكر قبل منتصف النهار وصليت مع قريباً من منتصف النهار وصليت مع عثمان حين زالت الشمس). فكون أبو بكر الصديق وعمر بن الخطاب رضي الله عنهما يصلون قبل الزوال ويوافقهم جميع الصحابة فهذا دليل على أن هذا الوقت وقت جواز. وهذا الأثر اختلفوا في تصحيحه وتضعيفه:

= فذهب إلى ضعفه البخاري وابن المنذر. = وذهب إلى صحته الإمام أحمد حيث احتج به ومال إلى تصحيحه أيضاً الحافظ الكبير المحقق ابن رجب رحمه الله. والصواب - إن شاء الله - مع الإمام أحمد وابن رجب فهذا الأثر أثر صحيح يحتج به. وقال الإمام ابن رجب رحمه الله: والإمام أحمد أعلم برجال هذا الحديث من البخاري. = والقول الثاني: أنه لا يجوز أن تصلى الجمعة إلا بعد الزوال. - لحديث: (أنهم كانوا يصلون مع النبي صلى الله عليه وسلم بعد الزوال).وقد جاء هذا الفظ عن صحابيين في الصحيح. = والقول الثالث - والأخير -: أنه تجوز صلاة الجمعة في الساعة السادسة فقط ولا تجوز في أول النهار. والساعة السادسة هي الساعة التي تسبق الزوال تماماً. واستدلوا على هذا: - بأن الآثار والأدلة التي ذكرها الحنابلة كلها تفيد أن الصلاة كانت قريباً من الزوال. فإذا تأملت كل واحد من هذه الأحاديث فستجد أنه تفيد أن صلاته صلى الله عليه وسلم كانت قبل الزوال وقريباً منه. - واستدلوا بدليل آخر وهو حديث أبي هريرة رضي الله عنه: (من اغتسل يوم الجمعة ثم خرج في الساعة الأولى فكأنما قرب بدنة) ثم قال: الساعة الثانية والساعة الثالثة والرابعة والخامسة ثم بعد الخامسة قال: (فإذا دخل الإمام .. ) فدل هذا الحديث على أمرين: - الأمر الأول: أن الإمام يمكن أن يدخل قبل الزوال. - والأمر الثاني: أن الساعة السادسة قبل الزوال. وإلى هذا القول ذهب من المحققين ابن قدامة رحمه الله. وهذا القول هو الصواب. أنه يجوز أن يصلي الإنسان قبل الزوال ولكن في الساعة السادسة فقط.

فإذا أردنا أن نعرف الساعة السادسة نقسم ما بين طلوع الفجر إلى الزوال ست ساعات ففي الساعة السادسة تكون هي التي يجوز فيها أن يصلي. والقول بجواز الصلاة في الساعة السادسة أيضاً من المفردات كما أن القول الأول من المفردات وهو رواية عن الإمام أحمد وهو من المفردات. والذي أراه أن الصلاة تجوز في الساعة السادسة تجوز بلا حرج ولا تردد لصحة الآثار وكثرتها الدالة على جواز إقامة الجمعة قبل الزوال قريباً من الزوال. إذاً عرفنا الآن أول وقت صلاة الجمعة. • ثم قال رحمه الله: وآخره آخر وقت صلاة الظهر. يعني ينتهي وقت الجمعة بانتهاء وقت صلاة الظهر وهذا أمر مجمع عليه: أن وقت صلاة الجمعة ينتهي بانتهاء وقت صلاة الظهر وهذا هو الشيء المتفق عليه بين أهل العلم. أما متى ينتهي وقت صلاة الظهر فهو محل خلاف وتقدم معنا. • ثم قال رحمه الله: فإن خرج وقتها قبل التحريمة: صلوا ظهراً. يعني: إذا خرج وقت صلاة الجمعة قبل أن يكبر الإمام للتحريمة فقد فاتت الجمعة ويجب عليهم أن يصلوها ظهراً. والدليل: من وجهين: - الأول: الإجماع. - الثاني: لفوات الشرط. وهو الوقت فإذا فات شرط الوقت وهو شرط صحة لم يمكن تصحيح صلاة الجمعة فوجب أن يصلوها ظهراً. وهذا الأمر لا إشكال فيه ولذلك هو محل إجماع. • ثم قال رحمه الله: وإلاّ فجمعة. أي: وإن أدركوا منها قدر التحريمة صحت جمعة فيصلون ركعتين. = وهذا مذهب الحنابلة. فإذا كبر قبل خروج الوقت بثلاث دقائق - على سبيل المثال - صحت جمعة. = والقول الثاني: وهو رواية عن الإمام أحمد أنهم لا يدركون الصلاة جمعة إلا بإدراك ركعة. - لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (من أدرك ركعة من الصلاة فقد أدرك الصلاة) وهذا في الصحيح. وفي رواية خارج الصحيح ضعيفة: (من أدرك ركعة من الجمعة فقد أدرك الجمعة). لكن الحديث الأول يكفي. وإلى هذا القول أيضاً ذهب ابن قدامة رحمه الله. وهو الأقرب إن شاء الله. فإذا لم يدركوا من الوقت قدر ركعة صلوها ظهراً. • ثم قال رحمه الله: - مبيناً الشرط الثاني: الثاني: حضور أربعين من أهل وجوبها. يشترط لصحة الجمعة: الجماعة - أي العدد -.

ويشترط لهؤلاء: أن يكونوا من أهل الوجوب. لذلك يقول رحمه الله: من أهل وجوبها. وقد بين رحمه الله أهل الوجوب عند قوله: (تلزم كل ذكر حر ... ) إلى آخره. وكونه يشترط لصلاة الجمعة العدد أو الجماعة أمر متفق عليه بين الفقهاء إلا من شذ ولم يعتبر بقوله. لكنهم اختلفوا في العدد المشروط - فهم اتفقوا على اشتراط العدد واختلفوا فيه - على أقوال كثيرة أوصلها الحافظ بن حجر إلى خمسة عشر قولاً نأخذ منها فقط رؤوس الأقوال القوية: = فالحنابلة: يرون أنه يشترط حضور أربعين من أهل الوجوب. فإن قَلَّ العدد عن هذا بواحد لم تصح جمعة. واستدلوا على هذا: - بأن أول جمعة صليت بالمدينة صلى فيها أربعون من أهل الوجوب. والجواب على هذا الدليل: أن هذه الواقعة واقعة عين لا عموم لها فربما لو كانوا أكثر أو أقل لصحت الصلاة. والقاعدة الأصولية تقول: ((وقائع الأعيان لا عموم لها)). - واستدلوا بأحاديث فيها النص على اشتراط حضور أربعين. وكل حديث فيه النص على اشتراط حضور أربعين فهو ضعيف وبذلك ننتهي من مناقشة كل حديث. = القول الثاني: وهو مذهب المالكية. قالوا: أنه لابد من حضور اثنار عشر رجلاً. فإن قَلُّوا عن هذا العدد لم تصح. واستدلوا على هذا: - بأن النبي صلى الله عليه وسلم خطب بأصحابه يوماً وقد كانوا ينتظرون عيراً تقدم من الشام فلما قدمت انفضوا إليها ولم يبلق معه إلا اثنا عشر رجلاً ومع ذلك صلى بهم الجمعة صلى الله عليه وسلم. فدل على أن هذا العدد هو أقل عدد. والذين بقوا من الصحابة وهم الاثني عشر هم العشرة المبشرون بالجنة وبلال وابن مسعود رضي الله عنهم أجمعين وأما الباقون فقد خرجوا. والجواب عن هذا الحديث: أن هذه واقعة عين أيضاً لا عموم لها أبداً وصادف مصادفة وجود هذا العدد ولو بقي رجل لم يخرج لصاروا ثلاثة عشر ولو خرج أحد الاثنا عشر لكانوا إحدى عشر. فهي واقعة عين لاعموم لها قطعاً. = القول الثالث: أن العدد المشترط ثلاثة: وهو رواية عن أحمد اختارها شيخ الاسلام. - لأن أقل الجمع ثلاثة. - ولقول النبي صلى الله عليه وسلم: (مامن ثلاثة لا تقام فيهم صلاة الجماعة إلا استحوذ عليهم الشيطان). والجواب على هذا الحديث: من وجهين:

- الأول: أن مفهوم العدد ضعيف وسيأتيكم في أصول الفقه أن مفهوم العدد من أضعف المفاهيم. - الثاني: أن هذا العدد خرج مخرج الغالب وإلا فإنه قد أجمعت الأمة على أن صلاة الجماعة تحصل باثنين لكن الحديث خرج مخرج الغالب. = القول الرابع - الأخير: وهو قول للفقيه أبي ثور والنخعي وداود الظاهري واختاره الشوكاني وعدد من أهل العلم أنه يكفي في الجمعة ما يكفي في الجماعة. أي يكفي أن يوجد اثنين. واستدلوا على ذلك: - أنه لا يوجد دليل يدل على الزيادة عن هذا المقدار وكل عدد قيل فهو تحكم بلا دليل. فإذا وجد إمام يخطب ورجل واحد يستمع صحت الجمعة. والراجح والله أعلم هو هذا القول - الرابع - وإليه أيضاً مال ابن حزم. وهذه المسائل افتراضية ويصعب جداً أن تقع لا سيما بالنسبة للقول الثالث والرابع - ثلاثة أو اثنين فمتى يحصل أن لا يوجد إلا ذلك لكن هذا هو الراجح فيما لو حصل هذا الأمر فإن الجمعة يجب أن تقام بوجود اثنين من أهل الوجوب ولو امتنع أهل القرية كلهم إلا شخصان وجب عليهم أن يقيموا صلاة الجمعة أحدهما يخطب والآخر يستمع. • ثم قال رحمه الله: الثالث: أن يكونوا بقرية مستوطنين. = يشترط الحنابلة بل الجمهور لصحة إقامة الجمعة. - أن يكون أهل الوجوب مستوطنون بقرية مبنية. سواء كان البناء من طين أو من جريد النخيل أو من أي مادة. - ويشترط أن يجمعهم اسم واحد أي أن تسمى هذه القرية باسم واحد. - ويكون أهل القرية نازلون في القرية صيفاً وشتاءً لا يظعنون عنها أبداً ولا يتنقلون. فإذا وجدت هذه الشروط صحت الجمعة. والدليل على هذا الشرط: - أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يأمر الأعراب الذين حول المدينة بصلاة الجمعة فدل هذا على أن الاستيطان ببناء شرط. = القول الثاني: أنه لا يصح إقامة الجمعة في القرى بل لا تكون إلا في الأمصار والمدن لا في القرى. وهذا مذهب الأحناف. واستدلوا على هذا: - بأثر عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه قال: (لا جمعة إلا في الأمصار الجامعة). بناء على هذا القول: يحتاج الأحناف أن يبينوا لنا ما هو الضابط في الفرق بين المدينة أو المصر وبين القرى؟

اختلفوا في ذلك إلى نحو ستة أقوال في تحديد ذلك. ونحن سنأخذ المشهور عندهم فقط. - فالمشهور الذي هو المذهب عند الأحناف أن: - أن المصر: كل موضع له قاض ومفت ووال يقيم الحدود. فإذا وجدت هذه الأشياء اعتبرنا هذا المكان مصر أو مدينة وإلا فهي قرية. - الضابط الثاني: وهو المشهور عن أبي يوسف من الأحناف - أن المصر هو الموضع الذي اجتمع أهله في المسجد الجامع لم يسعهم. = القول الثالث: - والأخير: أن الجمعة تقام في كل جماعة أقاموا في مكان واحد ولو بلا بناء ولو كانوا في الخيام بشرط أن لا يتنقلوا لطلب الكلأ والماء. وهذا القول اختاره شيخ الاسلام رحمه الله. والأقرب والله أعلم مذهب الجمهور مع قوة ما اختاره شيخ الاسلام إلا أني أظن أنه يندر أن يوجد أناس يسكنون سكناً دائماً في خيام بل متى اتخذ الإنسان الخيمة صار التنقل من صفته ولو أراد أن يتخذ مكاناً للإقامة الدائمة لم يكتف بالخيمة بل يتخذ بناء. وشيخ الاسلام رحمه الله نوعية البناء سواء كانت من طين أو من حجر أو من نخل فهذل ليس له أي علاقة بالحكم إنما المهم أن يكون مقيماً وفي الحقيقة كما قلت لكم الخلاف بين الجمهور وشيخ الاسلام قد يكون ضيق جداً لأنه يندر أن يوجد مجموعة من الأعراب يسكنون سكناً دائماً في الخيام في موضع واحد. والأعراب الآن إذا أرادوا أن يسكنوا في مكان واحد دائماً لابد أن يضعوا شيئاً أكثر من الخيام فيبنوا بناء ولو كان بسيطاً. إذاً الأقرب قول الجماهير مع أن الخلاف ضيق بينهم وبين شيخ الاسلام. وقبل أن ننتقل عن هذه المسألة نسيت أن أذكر لكم تحرير محل النزاع فنقول: - اتفق الفقهاء كلهم على أن أهل الخيام الذين يتنقلون لا تجب عليه الجمعة بالإجماع. - واتفق الفقهاء على أن أهل الصحارى البعيدة عن المدن الذين لم يتخذوها موطناً وبناءً لا تجب عليهم الصلاة بالإجماع. واختلفوا فيما عدا هذا مما ذكرته في الأقوال. إذاً عرفنا الآن أن الاستيطان في قرية شرط صحيح وأن المتنقلون لا يجوز لهم أن يقيموا الجمعة. وبناء على هذا: - كما قلت أهل الخيام لا تجب عليهم الجمعة ولا تصح منهم. - وأهل السفن لا تجب عليهم الجمعة ولا تصح منهم - خلافاً لما قلته أمس -.

إذاً نقول أهل الخيام وأهل السفن لا تجب عليهم الجمعة ولا تصح. - وبالنسبة لأهل السفن الذين يسافرون فأمرهم واضح لأنا أخذنا أن المسافر لا تنجب عليه. - وبالنسبة لأهل السفن الذين يمكثون - كما قال أخونا في السؤال - وهو يوجد فعلاً وكثير - سواء يمكثون لصيد السمك أو للبحث هن شيء معين للتنقيب أو لأي غرض فلا تجب عليهم صلاة الجمعة ولا تصح منهم لأنهم لم يستوطنوا في بناء ولأنهم سيرحلون ولو طال بهم الوقت. أما أهل السفن الذين - كما يفعله بعض الناس اليوم - أنهم إذا ركبوا في السفينة وهم مسافرون أقاموا الجمعة فهذا لا شك أنه ليس بمشروع وأنهم يجب عليهم كلهم أن يعيدوها ظهراً لأن المسافر السائر لا إشكال أن الجمعة لا تجب ولا تصح منه ومن أقامها فقد خالف هدي النبي صلى الله عليه وسلم وهدي الأئمة الخلفاء الراشدين وهدي عامة الصحابة والسلف لأنهم كانوا لا يقيمون صلاة الجمعة في السفر. وكذلك نقول لو وجد الطلاب والعمال الذين يغتربون لا يوجد معهم شخصان مقيمان مستوطنان ممن تجب عليهم الجمعة فإنه إذا لم يوجد هذان الشخصان فإنه لا يجوز لهم أن يقيموا الجمعة فإن أقاموها فإنهم يعيدونها ظهرا. إذاً لابد من مراعاة شرط السفر وشرط الإقامة والاستيطان. وشرطا الإقامة والاستطيان متفق عليهما ولكن الاختلاف في متى تحصل هذه الإقامة هل لابد من مصر أو يكفي قرية؟ أو يكفي الخيام إذا كان أهلها لا يتنقلون بها؟. إذاً عرفنا الآن حدود من تجب عليه صلاة الجمعة ومن لا تجب. • ثم قال رحمه الله: وتصح: فيما قارب البنيان من الصحراء. معنى هذه العبارة: أنه يجوز للإمام أن يقيم صلاة الجمعة في الصحراء القريبة من البنيان ولا يجب أن يقيمها داخل المدينة في الجوامع بل يجوز أن يقيم الجمعة خارج البنيان. - واستدلوا على هذا بأن النبي صلى الله عليه وسلم أقام العيد خارج البنيان والجمعة عيد الأسبوع فدل هذا على جواز إقامة الجمعة خارج البنيان قريباً منه. = والقول الثاني: أنه لا يجوز أن تقام الجمعة إلا في الجوامع داخل الأمصار. فإن أقاموها خارج المدينة لم تصح. والقول الأول هو الصواب.

وعرفنا من عبارة المؤلف أنهم لو أقاموا الجمعة خارج البنيان بعيداً لم تصح. وهذا صحيح. لأن الذي جاء في السنة إقامة العيد قريباً من البنيان فإن أقاموها بعيداً عن البنيان لم تصح. إذاً عرفنا الآن جواز إقامة الجمعة قريباً من البنيان. وعلى القول بالجواز فإذا أقام الإمام الجمعة خارج البنيان وكان في البلد كبار أو زمنا أو من لا يستطيع أن يخرج لأي سبب فإنه يجب عليه وجوباً أن ينيب عنه من يصلي الجمعة بهؤلاء الذين لم يستطيعوا الخروج. ثم رجع المؤلف إلى الكلام عن شرط العدد: • فقال رحمه الله: فإن نقصوا قبل إتمامها: استأنفوا ظهراً. ولو أنه جعل هذه العبارة بعد الشرط الثاني مباشرة لكان أنسب ولكنه هكذا صنع. • قال رحمه الله: فإن نقصوا قبل إتمامها: استأنفوا ظهراً. معنى هذه العبارة: أنه يشترط وجود العدد في جميع الصلاة فإن تخلف العدد في جزء من أجزاء الصلاة بطلت واستأنفوها ظهراً عند الحنابلة. واستدلوا على هذا: - بأن شرط الشيء يجب أن يوجد فيه جميعاً - كما نقول بالطهارة بالنسبة للصلاة وستر العورة ... إلخ من شروط الصلاة. فإن نقص العدد استأنفوها ظهراً: يعني ولا يجوز أن يتموها ظهراً. فإذا خرج بعض الناس وبخروجه نقص العدد والإمام يصلي وعلم بخروجهم فالواجب عليه أن يترك هذه الصلاة وأن يستأنف الصلاة ظهراً. فإن أتم الجمعة ظهراً لم تصح. انتهى الآن تقرير مذهب الحنابلة. = القول الثاني: أنه يجوز أن يتموها جمعة مطلقاً وإن نقص العدد في أثنائها. = القول الثالث: أنه إذا نقص العدد أتموها ظهراً ولا يحتاج أن يستأنفوها. ولا نريد أن نذكر الأدلة بالنسبة للقول الثاني والثالث لأنهما مرجوحين. = القول الرابع: أنه إن نقص العدد قبل أن يأتوا بركعة استأنفوها ظهراًَ وإن نقص العدد بعد أن أتوا بركعة صلوها جمعة. - لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (من أدرك ركعة من الصلاة فقد أدرك الصلاة) فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم أنه أدرك الصلاة فهو حينئذ أدرك الجمعة. وهذا القول هو الصواب. أنه يفرق بين أن ينقص العدد قبل ركعة أو بعد ركعة. وتقدم معنا في كتاب الصلاة أن مقصود الفقهاء إذا قالوا أدرك ركعة أو لم يدرك ركعة أي ركعة كاملة بسجدتيها.

• ثم قال رحمه الله: ومن أدرك مع الإمام منها ركعة: أتمها جمعة. إذا لم يدرك المأموم مع الإمام في صلاة الجمعة إلا ركعة فإنه يتمها جمعة. واستدل الحنابلة على هذا بدليلين: - الأول: من أدرك من الصلاة ركعة فقد أدرك الصلاة. - الثاني: أنه أفتى بهذا عدد من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم لا يعلم لهم مخالف. = والقول الثاني: أن من أدرك من الصلاة ركعة فإنه يصليها ظهراً. - لأنه يشترط لصحة الجمعة حضور الخطبة فمن لم يحضر الخطبة فإنه يصلي أربعاً. لأن الخطبة - كما سيأتينا - شرط في صحة الجمعة. فإذا لم يدرك شرط الصحة لم تصح له. بناءً على هذا القول: جميع الناس الذين يأتون بعد خطبة الإمام نقول لهم: لا تصح منكم الصلاة جمعة ويجب أن تصلوها أربعاً ظهراً. والراجح. القول الأول لأن معهم نص صريح وهو من أدرك من الصلاة ركعة فقد أدرك الصلاة وهذا النص لا يستطيع الإنسان أن يتجاوزه مهما كانت قوة تعليل القول الثاني. • ثم قال رحمه الله: وإن أدرك أقل من ذلك: أتمها ظهراً. يعني: وإن أدرك أقل من الركعة فإنه يتم الصلاة ظهراً. ولإتمامه الصلاة ظهراً شروط ستأتينا في آخر عبارة المؤلف لكن المقصود الآن أنه إذا لم يدرك ركعة بل أدرك أقل من ركعة فإنه يصليها ظهراً. واستدلوا: - بمفهوم النصوص السابقة. إذا يدل مفهوم تلك النصوص على أن من لم يدرك ركعة وإنما أدرك أقل لم يدرك الصلاة. = والقول الثاني: لأبي حنيفة أن المأموم يدرك الجمعة بإدراك أي جزء من صلاة الجمعة ولو لم يدرك إلا التشهد الأخير. واستدل على هذا: - بأن كل من لزمه البناء على صلاة إمامه بإدراك ركعة لزمه بإدراك أي جزء منها كالمسافر يدرك المقيم. الآن - عند الحنابلة: إذا أدرك المسافر خلف المقيم التشهد الأخير فكم يلزمه أربعاً. فالأحناف يقولون كذلك هنا إذا أردتم أن تلزموه بأنه باعتبار أنه أدرك جزءاً من الصلاة يصلي جميع الصلاة فهنا نقول باعتبار أنه أدرك جزءاً من الصلاة يكون أدرك الصلاة. والجواب عليه: وهو أن القاعدة منقوضة من أصلها وهو أن المسافر إذا لم يدرك ركعة مع المقيم لم يجب عليه أن يصلي أربعاً وجاز له أن يصلي ركعتين.

إذاً إلزام أبي حنيقة للحنابلة صحيح لكن على القول الصحيح لا يلزم هذا الإلزام ونخرج عنه بما ذكرت من أن المسافر يصلي ركعتين إذا لم يدرك ركعة مع الإمام المقيم. • ثم قال رحمه الله: إذا كان نوى الظهر. يعني: يشترط للمأموم المسبوق في الجمعة الذي لم يدرك ركعة وأمرناه أن يصليها ظهراً يشترط أن ينوي قبل التحريمة أنها ظهر فإن لم ينو بطلت وأعادها ظهراً. التعليل: - قالوا: لوجهين: - الوجه الأول: أن النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (إنما الأعمال بالنيات) وهذا دخل وقد نوى أن يصلي الجمعة والجمعة شيء والظهر شيء آخر. - الوجه الثاني: قالوا: نحن نبني هذا على الأصل السابق وهو أن صلاة الجمعة صلاة مستقلة وليست هي صلاة الظهر. - ثالثاً: القاعدة المقررة وهي أنه لا يستطيع الإنسان أن ينتقل بنيته من معين إلى معين لا سيما في الفرائض وهنا انتقل من معين إلى معين. فالمعين الأول هو: الجمعة. والمعين الثاني هو: الظهر. وهذه الأدلة قوية جداً ووجيهة غاية ما تكون الوجاهة. = والقول الثاني: وهو رواية عن الإمام أحمد: أنه يجوز أن ينويها جمعة ثم يقلبها إلى الظهر إذا تبين له أنه لم يدرك مع الإمام ما يجزئ في الجمعة. واستدلوا بأدلة: - منها: عكس القاعدة السابقة وهي: أن الجمعة هي الظهر ولكنها مقصورة. وتقدم معنا أن الجمعة مستقلة وليست هي الظهر مقصورة. - واستدلوا بدليل آخر: وهو المشقة والعنت والحرج الذي يلحق الناس من اشتراط أن ينوي الظهر فإنك لا تكاد شخصاً من العوام إذا دخل مع الإمام في صلاة الجمعة ينوي أنها ظهراً وإنما يدخل معه فإن تبين له أنه لم يدرك ولا ركعة صلاها أربعاً - إن كان أيضاً أنه يفهم هذا الأمر. إذاً: في إلزام الناس بأنه يجب أن تنويها ظهراً إذا لم تدرك ركعة فأكثر فيه مشقة ظاهرة. ومع ذلك أنا أقول أن الراجح مذهب الحنابلة لقوة الأدلة ووضوح الدلالة منها.

ومسألة المشقة والعنت لا تكفي في الحقيقة لترجيح القول الثاني. ونقول للمتأخر أنت أسأت بهذا التأخر وأنت لست أهلاً لرفع الحرج لأن الشخص الذي تأخر وترك الخطبة الأولى والثانية والركعة الأولى والثانية ليس أهلاً أن يراعى فنقول له: إذا دخلت ناوياً الجمعة ثم تبين لك أنك لم تدرك ولا ركعة يجب عليك أن تعيدها ظهراً ولو كان صلى أربعاً لأنه دخل بنية الجمعة. والله أعلم وصلى الله على محمد ... انتهى الدرس،،،

قال شيخنا حفظه الله: بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين. • قال المؤلف رحمه الله: ويشترط: تقدم خطبتين. فتقدم معنا ذكر ثلاثة شروط من شروط صحة صلاة الجمعة واليوم نبدأ بالشرط الرابع وهو: اشتراط تقدم خطبتين. = فيشترط الحنابلة لصحة الجمعة أن يتقدمها خطبة وهذا هو مذهب الجمهور. فإن لم يكن بين يدي صلاة الجمعة خطبة لم تصح الجمعة. استدل الجمهور بدليلين: - الأول: قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة فاسعوا إلى ذكر الله) فأوجب السعي لذكر الله والذكر في الآية يقصد به خطبة الجمعة. - الثاني: النقل المتواتر المستفيض الذي لم يختلف فيه المسلمون أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يخطب قبل صلاة الجمعة خطبتين. = والقول الثاني: أن الجمعة تصح بلا خطبة. وهو مذهب فئة قليلة من أهل العلم. واستدلوا على ذلك: - بالقياس على عيد الأضحى. حيث لا يشترط لصحته خطبة. والجمعة تشارك عيد الأضحى في أن كلاً منهما عيد. والأشبه بالصواب والله أعلم اقول الجمهور ورجحانه بين وهو أن من أقام الجمعة بلا خطبة بطلت صلاته فإن بقي وقت أعاد خطبة وصلاة وإن لم يبق وقت صلاها ظهراً. إذا تقرر أن الخطبة شرط لصحة صلاة الجمعة ننتقل إلى مسألة لا بد منها: وهي هل يشترط في هذه الخطبة أن تكون خطبتين؟ أو يكتفى بخطبة واحدة؟ = ذهب الحنابلة إلى أنه يشترط أن تكون خطبة الجمعة خطبتين. استدلوا على هذا:

- بحديث ابن عمر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم: كان يخطب خطبتين يجلس بينهما. وهذا في الصحيحين. - واستدلوا بدليل آخر فقهي لطيف: أن الخطبتين أقيما مقام الركعتين. فالإخلال بإحدى الخطبتين إخلال بإحدى الركعتين. وكون الخطبتين أقيما مقام الركعتين هذا منقول عن عجدد من الصحابة. = والقول الثاني: أنه يجزئ خطبة واحدة فقط لأن الله أمر بالسعي إلى ذكر الله والذكر في الآية مطلق يصدق على الخطبة الواحدة. والراجح القول الأول. سبب الترجيح: (وسيتكرر سبب الترجيح هذا معنا ولذلك أريد أن تفهموه). سبب الترجيح: أن الله سبحانه وتعالى أمر بإقامة الخطبة بقوله: (فاسعوا إلى ذكر الله) أمراً مجملاً عاماً. فجاءت السنة لبيان كيفية إقامة الخطبة. وبيان الواجب واجب. وصار بيانها في السنة واجب أيضاً. بناء على هذا إذا خطب الخطيب خطبة واحدة ونزل وصلى. فنقول له: ارجع فاخطب خطبتين وصلي ركعتين للجمعة فإن لم يبق وقت فصلها ظهراً. إلا أنا نقول: أن الخطبة واجبة وشرط لصحة الجمعة. ومن شروط صحة الخطبة أن تكون خطبتين. وقد سمعت أنه يوجد بعض الناس يخطب خطبة واحدة وهذا لعارض إما لضجره أو لتأخر الناس أو لأي سبب من الأسباب فيخطب خطبة واحدة وينزل. فمثل هذا نقول له: يجب أن تعيد صلاة الجمعة. هذا على مذهب القائلين بالوجوب. وهو الصواب إن شاء الله. ثم أراد المؤلف رحمه الله أن يبين شروط صحة الخطبة لما كانت هي بذاتها من شروط صحة الجمعة: • فقال رحمه الله: ومن شرط صحتهما: حمد اللَّه. = يشترط عند الحنابلة والشافعية لصحة الخطبة أن تشتمل على الحمد فإن لم تشتمل على الحمد بطلت. واستدلوا على ذلك: بما في صحيح مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا خطب حمد الله وأثنى عليه ثم قال: من يهد الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له. والدليل الثاني: أن سنة النبي صلى الله عليه وسلم المستفيضة دلت على أنه صلى الله عليه وسلم كان يفتتح الخطب بالحمد لله. = والقول الثاني: للأحناف. أنه يجزئ في الخطبة أن يذكر الله تكبيراً أو تحميداً أو تهليلاً بشرط أن يكون الذكر بنية الخطبة.

بناء على هذا: عند الأحناف - لو صعد الإنسان المنبر وقال: سبحان الله والحمد لله والله أكبر ولا إله إلا الله بنية أنه يخطب جمعة ونزل لصحة الخطبة. فينبني على قولهم هذا الأثر. فإن صعد المنبر وقال: سبحان الله والحمدلله والله أكبر ونزل ولم ينو أنه يخطب فإن الخطبة لا تصح. استدلوا على ذلك بعموم الآية. وذكر الله يحصل بهذا المقدار. = القول الثالث: مذهب المالكية. أنه يشترط في الخطبة أن يطلق عليها خطبة في لغة العرب ولو بلا تحميد. بناء على ذلك: لو صعد المنبر وخطب عن موضوع من الموضوعات أي موضوع خطبة تسمى في لغة العرب خطبة ولم يحمد فيها الله مطلقاً بأن قال: بسم الله الرحمن الرحيم اعلموا أن كذا وكذا .. عن موضوع معين ذا صبغة موضوعية مستقلة صحت الجمعة. فإن صعد المنبر وقال: الحمد لله رب العالمين وتكلم بكلام مفيد لا يعتبر في لغة العرب خطبة فإن الخطبة حينئذ تبطل. والراجح مذهب الحنابلة. لما تقدم. ففي الحقيقة أيجاب الحمد في الخطبة من وجهة نظري أنه صحيح والأدلة تدل عليه ومذهب الحنابلة والشافعية في هذا قوي وإن رأى بعض المحققين أن في اشتراطه لصحة الجمعة ضعفاً لكن من وجهة نظري أنه شرط صحيح. وسيأتينا في آخر شروط الجمعة القول الراجح في الشروط الصحيحة للجمعة إن شاء الله. • ثم قال رحمه الله: والصلاة على رسوله صلى الله عليه وسلم. يشترط لصحة الخطبة أن يصلي على النبي صلى الله عليه وسلم فإن خطب خطبة كاملة مستوفاة لم يصل فيها على النبي صلى الله عليه وسلم بطلت. واستدلوا على ذلك: - بقاعدة وهي: (أنه كلما وجب ذكر الله وجب ذكر رسوله صلى الله عليه وسلم). كما في الآذان والشهادتين. = والقول الثاني: أن الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم ليست بواجبة فإن تركها ولو عمداً صحت الخطبة. واستدلوا بدليلين: الأول: أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يذكر الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم في الخطبة.

والثاني: أن القاعدة التي ذكروها ليست بصحيحة فإنه ثبت في الشرع في مواضع كثيرة وجوب ذكر الله بلا ذكر رسوله صلى الله عليه وسلم: منها: - التسمية على الذبيحة - والتسمية في الأكل - والتسمية عند الجمار - ومواضع أخرى كثيرة ثبت فيها ذكر الله بلا ذكر رسوله صلى الله عليه وسلم. وهذا القول هو الراجح. أن الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم ليست شرطاً لصحة الجمعة. • ثم قال رحمه الله: وقراءَة آية. أي يشترط في صحة خطبة الجمعة أن يقرأ فيها آية فإن لم يقرأ فيها آية بطلت الخطبة. ويشترط في الآية: أن تكون مفيدة. وأن لا يقتصر على جزء منها لا يفيد معنىً تاماً. واستدلوا على هذا: - بما في مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا خطب الجمعة يقرأ آيات ويذكر الناس. = القول الثاني: أن قراءة الآية لا تجب وإنما يستحب لأنه لا دليل على الوجوب. وأما الحديث وهو يقرأ آيات ويذكر فلا يراد منه الوجوب بدليل: أنه قال في الحديث يقرأ آيات وليست آية. وأجمع الفقهاء كلهم أنه لا يجب أن يقرأ آيات وإنما يجب أن يقرأ عند القائلين بالوجوب آية وليست آيات. إذاً الاستدلال بهذا الحديث ليس صحيحاً لأنه لو دل الوجوب لدل على وجوب قراءة آيات لا آية. نعم. هو مستحب ومسنون لكن لا دليل على الوجوب والشرطية. والراجح عدم الوجوب. • ثم قال رحمه الله: والوصية بتقوى اللَّه عزوجل. يقصد المؤلف رحمه الله أن تشتمل الخطبة على موعظة. والدليل على هذا: - ما تقدم معنا: وهو قوله: (يقرأ آيات ويذكر الناس) فدل على أن من شأنه صلى الله عليه وسلم أنه كان يعظ الناس ويذكرهم في الخطبة. الدليل الثاني: أن المقصود من الخطبة هو الوعظ وتذكير الناس بتقوى الله فإذا لم تشتمل على المقصود منها بطلت. وهذا صحيح. • ثم قال رحمه الله: وحضور العدد المشترط. يشترط لصحة الجمعة أن يحضر العدد المشترط على الخلاف في العدد المشترط. والدليل: - أن المقصود من الخطبة تذكير الناس وحثهم على تقوى الله وطاعته فإذا لم يوجدوا لم يحصل الغرض من الخطبة. - الدليل الثاني: أن الخطبة من الأمور الإضافية التي لا تحصل إلا مضافة إلى شيء آخر وهو - هنا - وجود الناس.

ويجب أن تلاحظ أنا لا نتحدث هنا عن كمية العدد وإنما نتحدث عن وجود العدد وتقدم معنا أن وجود العدد شرط بالإجماع وإنما الخلاف في مقدار العدد. انتهت شروط الصحة. القول الراجح في الشروط بعد ما أخذنا الخلاف في كل واحد منها على حدة هو أنه يشترط لصحة الجمعة ثلاثة أشياء: - الأول: الحمد. بأن يحمد الله. - والثاني: اشتمالها على الموعظة. - الثالث: أن تسمى خطبة عرفاً. وهذا - الشرط - لم يذكره المؤلف رحمه الله وهو شرط صحيح. فالشروط على القول الصواب ثلاثة. - فإذا صعد الإنسان المنبر وقال: الحمد لله رب العالمين اعلموا أنه من يطع الله يدخله الجنة ومن يعصه يدخله النار. ونزل. فأي الشروط تخلف؟ وأيها انطبق؟ الحمد وجد. والموعظة كذلك. أما الخطبة فلم توجد فنقول الآن هذه الخطبة باطلة أنها لا تسمى خطبة عرفاً. إذاً هذا المثال في الحقيقة هو الذي يوضح مدى انطباق الشروط وتخلف الشروط لا سيما الشرط الأخير. فإذا صعد المنبر وحمد الله ووعظ الناس وذكرهم وخطب خطبةً تسمى في العرف خطبة ونزل فخطبته صحيحة ولو لم يصل على النبي صلى الله عليه وسلم ولو لم يقرأ آية. إذاً هذا هو القول الصواب. ومع ذلك أقول: أنه لا ينبغي مطلقاً لخطيب الجمعة أن يترك قراءة آية. لأنه في الحقيقة هذا الشرط وإن كان الراجح أنه ليس من شروط الصحة لكن السنة واضحة جداً بأنه صلى الله عليه وسلم كان في خطبة الجمعة يقرأ آيات أحياناً تكون آيات في أثناء الخطب وأحياناً تكون الخطبة كلها تفسير لآيات من كتاب الله فمن الخطأ الإخلال بمثل هذا وهو خلاف الأولى لوجهين: - الوجه الأول: استفاضة السنة بقراءة آيات. - والوجه الثاني: أن خطبته حينئذ محل خلاف فمن الفقهاء من يصححها ومنهم من يبطلها فلا ينبغي للإنسان في مثل هذه العبادة العظيمة أن يعرضها للبطلان وإنما يستوفي الشروط التي ذكرها الفقهاء رحمهم الله. هذا إذا أردنا أن نبين ما ينبغي ويجدر بالإنسان. أما إذا أردنا أن نتكلم من منطلق علمي وفق الأدلة وحسب الراجح فلا يشترط إلا ثلاثة شروط. ذكر المؤلف رحمه الله هذه الشروط وترك بعض الشروط فنأخذ شرطين: - الأول: يشترط لصحة خطبة الجمعة دخول الوقت على الخلاف السابق.

- الثاني: يشترط الموالاة بين الخطبتين. وهذا من المعلوم أنه شرط صحة عند القائلين باشتراط خطبتين وليس بشرط صحة عند القائلين بأنه يجزئ خطبة واحدة. بناء على هذا: نقول للإيضاح والبيان: إذا خطب الخطيب - كما يفعله أيضاً بعض الناس اليوم - قبل الزوال فإن هذه الخطبة عند الجمهور الذين يقولون أن وقت صلاة الجمعة أنه لا يدخل إلا بعد الزوال تكون باطلة وإذا بطلت الخطبة بطلت صلاة الجمعة. إذاً كذلك نقول: إذا أمكن وتيسر أن لا يبدأ الإنسان الخطبة إلا بعد الزوال فهو أولى وأجدر على أني أقول لكم أن مسألة دخول وقت صلاة الجمعة في الساعة السادسة عندي ليس فيه أي إشكال والسنة واضحة تماماً فيه بحيث ما يتردد الإنسان أو يدخله الحرج في ذلك وهذه ليست من المسائل التي يتردد فيها الإنسان وإن كانت هذه المسألة من مفردات الحنابلة لكن الأدلة التي استدل بها الإمام أحمد واضحة وجلية ووجه الاستدلال بها قوي جداً فلا إشكال فيها إن شاء الله. لكن مع ذلك لو أن الإنسان حرص على أن يؤخر بدأ الخطبة إلى ما بعد الزوال فلا شك أنه أولى لأن الخطبة الآن تكون صحيحة عند الجماهير. لما أنهى المؤلف رحمه الله الكلام عن الشروط التي تشترط لصحة خطبة الجمعة بدأ في الكلام عن الأشياء التي لا تشترط: • فقال رحمه الله: ولا يشترط لهما الطهارة. لا يشترط لصحة الخطبة أن يكون الخطيب على طهارة. ومقصود الحنابلة بالطهارة هنا: الطهارة الصغرى والكبرى. بناء عليه يصح أن يخطب الجنب وخطبته صحيحة وصلاته أيضاً صحيحة إذا اغتسل. استدلوا على أنه لا تشترط الطهارة: - لأن الخطبة عبارة عن ذكر بين يدي الصلاة فلا يشترط لها طهارة كالآذان فالآذن ذكر بين يدي الصلاة ومع ذلك لا يشترط له الطهارة فلو أذن الجنب صح الآذان كذلك خطبة الجمعة ما هي إلا ذكر بين يدي الصلاة. إذا قرر الحنابلة أن الطهارة الصغرى والكبرى لا تشترط لخطبة الجمعة يدخل عليهم إشكالان. - الإشكال الأول: كيف يدخل الجنب. - والإشكال الثاني: كيف يقرأ القرآن؟

فأجابوا عن هذا الإشكال بأن المكث في المسجد وقراءة القرآن صحيحة مع الإثم. فيقولون هو آثم ويحرم عليه أن يصنع ذلك لكن الخطبة صحيحة لأنه لا ارتباط بين الخطبة وبين أن يكون على طهارة. قال الحنابلة: كمن يصلي وقد سرق درهماً وكان واضعاً له في جيبه صحت فصلاته صحيحة لأنه لا ارتباط بين هذا الدرهم المسروق وبين الصلاة كذلك هنا قالوا لا ارتباط بين أن يقرأ آيات أو يمكث في المسجد وهو جنب وبين الخطبة. فالخطبة أمر آخر. = والقول الثاني: أنه تشترط الطهارة الصغرى والكبرى قياسياً على تكبيرة الإحرام لأنه يشترط لصحتها الطهارة الصغرى والكبرى. هكذا قال الأحناف. = والقول الثالث: أنه يشترط لصحة خطبة الجمعة الطهارة الكبرى دون الصغرى. قال ابن قدامة رحمه الله: وهذا أشبه بأصول الإمام أحمد. ويستثنى على هذا القول من توضأ لأن من توضأ جاز مكوثه في المسجد جاز مكوثه في المسجد. والراجح مذهب الحنابلة لأنه لا تعلق بين الخطبة وبين أن يكون على طهارة ومكثه في المسجد وقراءة الآية هو آثم إذا صنع ذلك لكن الخطبة والصلاة بعد ذلك صحيحة. على أنه تقدم معنا أن الجنب على القول الراجح أنه يجوز له أن يقرأ القرآن فسقط هذا الإشكال وبقي فقط مسألة المكث في المسجد فلو توضأ لسقد هذا الإشكال أيضاً. • ثم قال رحمه الله: ولا أن يتولاهما من يتولى الصلاة. لا يشترط في خطبة الجمعة أن لا يخطب إلا من سيصلي بل لو خطب شخص وصلى آخر صحت الصلاة والخطبة. الدليل على ذلك: - أن الخطبة والصلاة منفصلين. كما لو صلى صلاتين. = والقول الثاني: أنه يشترط لصحة الخطبة أن لا يتولاها إلا من يتولى الصلاة. - لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يتولى الخطبة والصلاة. - والخلفاء كذلك. والراجح مذهب الحنابلة. لأنه لا يظهر وجه واضح لا شتراط ذلك. إذا الانفصال بينهما تام. فإذا خطب رجل ثم صلى آخر لكون الأول يحسن الخطبة والثاني يحسن الصلاة لكان هذا جائز. وغاية ما نقول أنه خلاف السنة - ولا ينبغي أن يفعل إذا لم يحتج الإنسان إلى ذلك - لأن ظاهر السنة أن رجلاً واحداً يتولى الخطبة والصلاة.

ثم انتقل رحمه الله إلى الموضوع الثالث من مواضيع هذا الدرس وهو سنن الخطبة: • فقال رحمه الله: ومن سننها: أن يخطب على منبر يسن للخطيب ولا يجب أن يخطب من على منبر. والدليل على هذه السنة من ثلاثة أوجه: - الأول: أن النبي صلى الله عليه وسلم اتخذ منبراً من ثلاث درج. فكان يخطب على الدرجة الثالثة ثم لما توفي صلى الله عليه وسلم وقف على الثانية أبوبكر رضي الله عنه ثم لما توفي وقف عمر رضي الله عنه على الثالثة ثم لما توفي وقف عثمان رضي الله عنه موقف أبي بكر ثم لما توفي وقف علي رضي الله عنه موقف النبي صلى الله عليه وسلم. - الوجه الثاني: الإجماع فإن العلماء أجمعوا على أن اتخاذ المنبر سنة. - الوجه الثالث: أن صعود الإمام على المنبر أبلغ في تحقيق المقصود من الخطبة. فلا شك ولا مرية في أن اتخاذ المنبر سنة. وينبغي في المنبر أن يكون نحواً من منبره صلى الله عليه وسلم يعني ثلاث درجات أو أكثر بقليل ولا ينبغي أن يكون أعلى من ذلك تأسياً بالنبي صلى الله عليه وسلم. وكون منبر النبي صلى الله عليه وسلم من ثلاث درج: - إما أن يكون بأمره صلى الله عليه وسلم لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان في أول الأمر يقف على الأرض بجوار جذع ويخطب ثم قالت له امرأة ألا أصنع لك منبراً فأذن النبي صلى الله عليه وسلم بذلك وصنع المنبر المنبر من ثلاث درج. فإما أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم هو الذي وجه بأن يكون ثلاث درج هذا احتمال فإن الحديث لم يبين بأن يكون من ثلاث درج. - أو نقول أنها هي التي وضعت ثلاث درج ولكن النبي صلى الله عليه وسلم أقر ذلك وخطب عليه. فهو يعتبر من سنة النبي صلى الله عليه وسلم إما القولية أو الإقرارية. إذاً لا إشكال في سنية اتخاذ المنبر. • ثم قال رحمه الله: أو موضع عال. يعني: إذا لم يتيسر المنبر الثابت المصنوع لهذا الأمر فإنه يتوخى أن يقف على موضع عال لكي يتمكن من إسماع الناس وليحصل المقصود من الخطبة. • ثم قال رحمه الله: ويسلم على المأمومين إذا أقبل عليهم. يشرع للإمام إذا صعد المنبر وأقبل على الناس أن يسلم عليهم وهذا الحكم بلا نزاع عند الحنابلة فليس فيه لا أوجه ولا روايات وإنما كلهم رأوا أن هذا سنة. والدليل على أن هذا سنة:

- أحاديث كثيرة: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا صعد المنبر سلم على الناس. وهذه الأحاديث كلها ضعيفة لا يثبت منها حديث. = القول الثاني: أن السلام على الناس إذا قابلهم ليس بمشروع. - لأنه لم ينقل في حديث صحيح. - واكتفاء بسلام الإمام حين الدخول. لأن الإمام أولاً يدخل المسجد ويسلم على الناس ثم يصعد على المنبر فقالوا: السلام الأول يكفي. ولا يظهر لي في المسألة شيء فهنالك إشكال فيها. (والنصوص العامة قد يرجح بها لكن الإشكال أنه لم ينقل مع أن ابن عمر نقل لنا كيف كان يصنع النبي صلى الله عليه وسلم بدقة .... فهذا الوصف الدقيق مع عدم ذكر السلام محل إشكال. والأمر يسير ... ولكن ما يظهر لي في المسألة شيء ... وإذا افترضنا أن الإمام أول ما يلاقي الناس من على المنبر مباشرة فلا إشكال في السلام ... فهذه تضاف .. فإذا كانت مقابلة الناس مباشرة من على المنبر فلا إشكال في السلام .. لكن الإشكال إذا دخل وسلم ورد الناس عليه ثم ... • ثم قال رحمه الله: ثم يجلس إلى فراغ الأذان. هذه سنة: أن الإمام إذا صعد المنبر يجلس قبل أن يبدأ بالخطبة. فهذه سنة وليست بواجبة. والدليل على ذلك: - أولاً: مارواه السائب في صحيح البخاري أنه قال: كان الأذان على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا جلس الخطيب على المنبر. ففي هذا دليل على أنه كان يجلس بين يدي الأذان. - ثانياً: أن هذا الأمر تناقلته الأمة سلفاً عن خلف وهو أن الإمام يدخل ويجلس. ولا نقول أنه محل إجماع ولكن نقول أن العمل هذا تناقلته الأمة سلفاً عن خلف. • ثم قال رحمه الله: ويجلس بين الخطبتين. يستحب للخطيب أن يجلس بين الخطبتين. أي: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يخطب ثم جلس ثم يقوم فيخطب. هذا دليل الاستحباب. دليل عدم الوجوب: أن عدداً من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم منهم أمير المؤمنين علي رضي الله عنه ومنهم المغيرة بن شعبة ومنهم أبي بن كعب كانوا يسردون الخطبة بلا جلوس .... فإذا أراد الخطيب أن يسرد الخطبة بلا جلوس فينبغي أن يسكت سكتة لطيفة بين الخطبتين. = القول الثاني: وهو للشافعية: أن الجلوس واجب.

- لفعله صلى الله عليه وسلم وفعله صلى الله عليه وسلم خرج بياناً للواجب. والراجح والله أعلم. مذهب الحنابلة للآثار المروية في الباب وأن كون الخطيب من الصحابة يفعل هذا الفعل ويقره عليه الناس بلا إنكار فهذا بحد ذاته دليل قوي على أن الجلوس سنة. • ثم قال رحمه الله: ويخطب قائماً. يعني: يسن أن يخطب قائماً. فإن خطب جالساً صحت الخطبة. أما دليل السنية: - فحديث ابن عمر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يخطب قائماً. وأما دليل عدم الوجوب: - أن عثمان رضي الله عنه ومعاوية رضي الله عنه وعمر بن العزيز رحمه الله خطبوا وهم جلوس. = القول الثاني: وجوب الخطبة قائماً. فإن لم يخطب على هذه الصفة التي وردت عن النبي صلى الله عليه وسلم بطلت الخطبة ولم يحفظ عنه صلى الله عليه وسلم أبداً أنه خطب جالساً مع الصحة والقدرة. والراجح. أيضاً الأول. لعموم الآثار. لأنها فعلت على ملأٍ من الناس وحضور في خطبة الجمعة ... • ثم قال رحمه الله: ويعتمد على سيف أو قوس أو عصا. يسن للإنسان أن يعتمد على أحد ثلاثة أشياء: 1 - عصا. 2 - أو قوس. 3 - أو سيف. فهذا سنة: إن فعل أثيب وإن ترك صحت الخطبة. الدليل على هذا: - حديث الحكم بن حزم رضي الله عنه وهو من الصحابة المقلين أنه رأى النبي صلى الله عليه وسلم يخطب وهو متكئ على عصا أو قوس. هذا الحديث ضعفه ابن عساكر فقال: غريب وإسناده ليس بالقوي ... حسب ما ظهر لي. بالإضافة إلى هذا له شواهد فيها ضعف ولكن يمكن أن تقوية. = القول الثاني: فيه تفصيل: - لا يشرع مطلقاً ... أو القوس يشرع إذا احتاج إليه الإنسان بأن يخطب على الأرض ولا يشرع إذا لم يحتج إليه الإنسان بأن يخطب على المنبر. لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يتخذ القوس والعصا في أول الأمر ثم لما اتخذ المنبر لم ينقل عنه أنه اتخذ عصا ولا قوس. كان يتخذ العصا في خطبة الجمعة والقوس في الخطبة حال الحرب. وهذا القول الأخير كله هو الذي يفهم من كلام ابن القيم رحمه الله. وأخذنا الأدلة على مسألة القوس والعصا أما الأدلة على مشروعية السيف فهو أنه لم يأت في النصوص أبداً أنه صلى الله عليه وسلم اتكأ على السيف.

وفي حديث ابن الحكم السابق اتكأ على القوس أو العصا ولم يذكر السيف. وهذا القول الأخير هو الراجح إذا صح ما قاله ابن القيم رحمه الله وهو أن النبي صلى الله عليه وسلم لما اتخذ المنبر لم ينقل عنه أنه اتخذ عصا أو قوس. وأظن أن ابن القيم يقصد بهذه العبارة أنه لم ينقل أنه اتخذ وإلا لا يوجد حديث - حسب ما اطلعت عليه - فيه أن النبي صلى الله عليه وسلم اتخذ العصا أول الأمر فلما اتخذ المنبر لم يتخذ عصا. هذا التفصيل الذي يذكره ابن القيم لا يوجد في الأحاديث حسب ما أعلم لكن لعله فهم ذلك من أمرين: - الأول: أن الحكم جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم في أول الأمر وهذا في مسند الإمام أحمد أنه جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم في أول الأمر أيام الفقر قبل الفتوحات. - الثاني: أنه لم ينقل في الأحاديث الأخرى أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يتخذ عصا بعد أن اتخذ المنبر. لكن لو قال قائل: أن الأصل أن النبي صلى الله عليه وسلم - إذا صححنا حديث الحكم - كات يتخذ العصا حين كان يخطب بجوار الجذع فما المانع أنه استصحب هذا الأمر ولم نحتج إلى نقله مرة أخرى في المنبر؟ فلو قال قائل بهذا لكان له وجه. فأقول أن الراجح هو كلام ابن القيم إذا ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يتخذ عصا حين اتخذ المنبر. إذا ثبت هذا المقدار صح كلام ابن القيم. أما إذا لم يثبت فالأصل أنه سنة لكن إذا ثبت - كما يقول هو - أنه لم يحفظ عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه اتخذ عصا لما اتخذ المنبر فكلامه رحمه الله صحيح. • ثم قال رحمه الله: ويقصد تلقاء وجهه. أي أنه يستحب للإمام إذا صعد المنبر وبدأ الخطبة أن يقصد تلقاء وجهه ولا يلتفت يميناً ولا شمالاً لأنه هكذا كان يخطب النبي صلى الله عليه وسلم ..... (الآذان). انتهى الدرس،،،

قال شيخنا حفظه الله: بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين. • قال المؤلف رحمه الله: ويقصد تلقاء وجهه. يعني أنه يسن للخطيب إذا بدأ الخطبة أن يستقبل الناس بوجهه وأن لا يلتفت يميناً ولا شمالاً. والدليل على هذا من وجهين: - الوجه الأول: أن هذا ظاهر السنة: فإنه لم ينقل أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يلتفت يميناً وشمالاً. - والوجه الثاني: أن هذا أبلغ في الإيصال وفي استواء الناس في استماع الخطبة لا سيما في القديم فإنه إذا كان يخطب بلا مكبر إذا التفت يميناً لم يسمعه أهل الشمال وكذلك العكس. = مسألة: يسن للناس أن يستقبلوا الإمام بوجوههم ولو انفتلوا عن القبلة. والدليل على هذا: - أن النبي صلى الله عليه وسلم اتخذ منبراً في جانب المسجد الأيمن وكان أصحابه رضي الله عنهم يتوجهون إليه حال الخطبة. وهذا كالاجماع. والتعليل - بعد أن ذكرنا الدليل: أن توجه المستمع للخطبة للإمام أدعى إلى حسن الإنصات واستيعاب ما يقوله الخطيب. • ثم قال رحمه الله: ويقصر الخطبة. أي: ويسن للخطيب أن يخطب خطبة قصيرة. - لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (إن طول صلاة الرجل وقصر خطبته مئنة من فقهه). ومعنى مئنة: أي علامة على فقهه ودليل على معرفته. واليوم كثير من الخطباء يعكس الأمر تماماً: يطيل الخطبة ويقصر الصلاة وهذا مخالفة للسمنة من وجهين: - في الخطبة. - وفي الصلاة. وكون الإمام يقصر الخطبة يستدعي ذلك أن يتقن الإنسان الإعداد للخطبة لأنه إذا كان سيخطب خطبة قصيرة فيجب أن يستوفي ما فيها من معاني وما تشتمل عليه من أحكام في وقتى قصير وهذا يستدعي الدقة أثناء إعداد الخطبة. والتعليل: أن قصر الخطبة أدعى لا ستيعابها من المأموم وهذا ملاحظ ومشاهد فإذا خطب الإنسان خطبة قصيرة استوعبها الناس وعرفوا ما فيها وإذا خطب خطبة طويلة صار بعضها ينسي بعضاً ويخرج الناس قليلي الفائدة. • ثم قال رحمه الله: ويدعو للمسلمين. يسن للإمام أن يدعو للمسلمين. واستدلوا على هذا بوجهين: - الوجه الأول: أن ساعة الخطبة ساعة إجابة عند عدد من أهل العلم. - الوجه الثاني: أنه إذا كان يندب الإنسان أن يدعو للمسلمين خارج الخطبة ففيها من باب أولى.

وعرف من التعليلين أنه لا يوجد في المسألة نص أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يدعو للمسلمين إلا أحاديث ضعيفة في هذا الباب. لكن مع ذلك لم أر خلافاً في استحباب الدعاء فلا أقول أن هذه المسألة محل إجماع لكني أقول لم أر بعد البحث أحداً من أهل العلم عارض في مسألة استحباب الدعاء للمسلمين في خطبة الجمعة. = مسألة: وهل يدعو للإمام؟ اختلفوا في الدعاء للإمام على قولين: = القول الأول: أنه لا يدعي للإمام. - لأن الدعاء للإمام بدعة محدثة ليس لها أصل. = والقول الثاني: أنه يشرع أن يدعى للإمام. واستدلوا على هذا بدليلين: - الأول: أن في صلاح الإمام صلاح الرعية وهذا مصلحة عظيمة ينبغي أن يسعى الإنسان في تحصيلها من خلال الدعاء. - الثاني: أن أبا موسى الأشعري رضي الله عنه كان يدعو لأمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه. وإلى هذا ذهب الإمام أحمد رحمه الله. والصواب: أن الدعاء للإمام مشروع لكن يكون أحياناً فلا يديم هذا الأمر لعدم وروده ولكنه يدعو أحياناً للإمام لما في الدعاء للإمام من ىمصلحة ظاهرة إذ في صلاحه صلاح الناس. وبهذا انتهى الكلام عن الشروط وما يتعلق بأحكام وآداب وسنن خطبة الجمعة وبدأ بفصل آخر. (كنا سننبه إلى مسألتين نسينا أن ننبه عليهما: من أسئلة الإخوان بالأمس ظهر لي أنها تحتاج إلى تنبيه وأيضاح. المسألة الأولى: وهي: تتعلق بقول المؤلف رحمه الله: فإن نقصوا قبل إتمامها استأنفوا ظهراً: ذكرت في هذه المسألة ثلاثة أقوال أو أربعة أقوال وذكرت أن اختيار ابن قدامة أنهم إن نقصوا بعد ركعة أتموها جمعة وقلت أنها: وإلا صلوها ظهراً. فيسأل الإخوة: هل قولك: وإلا صلوها ظهراً يعني: استأنفوا أو أتموا؟ والصواب أنهم يستأنفوا فأنا لم أقل هل هم يستأنفون أو يتمون؟ فتلحقون في هذا الموضع أنهم يستأنفونها ظهراً وبهذا يكون ما رجحنا في هذه المسألو متناسق مع ما رجحناه في مسألة: وإن أدرك أقل من ذلك أتمها ظهراً إن كان نوى الظهر.

المسألة الثانية: في مسألة قول المؤلف رحمه الله: ولم تنعقد به. ذكرنا أن الحنابلة يرون أن المسافر والمرأة والعبد لا تنعقد بهم الصلاة وذكرت أن معنى لم تنعقد بهم الصلاة: أنهم لا يحتسبون في العدد ولا يقيمونها منفردين. ثم تكلمت عن المسافر والمرأة والعبد. بالنسبة للمرأة فلا إشكال: لأنني ذكرت أن المرأة محل إجماع. نأتي إلى مسألة المسافر: قلت أنا: أن الراجح تنعقد بالمسافر وفعلاً هذا هو الراجح فيما يتعلق بإكمال العدد دون مسألة إقامة الجمعة منفردين. بقينا في العبد: والعبد: الصواب: أنها تنعقد به سواء إقامتها منفردين أو إكمال العدد وهذا رواية عن الإمام أحمد أنه حتى على القول بعدم وجوب صلاة الجمعة على العبد فالراجح مع ذلك أن العبد تنعقد بع بمعنى يكمل به العدد وتنعقد به بمعنى يقيمونها منفردين فلو اعتزل مجموعة من العبيد في قرية لا يوجد معهم حر إما للعمل بالزراعة مثلاً أو لأي غرض كان فإنه يشرع لهم مع ذلك أن يقيموا الجمعة. فهذا تنبيه على هذين الموضعين ويلحق في موضعه من الشرح.). فصل [في صفة صلاة الجمعة، وحكم تعددها، وما يسن في يومها] • ثم قال رحمه الله: فصل يريد المؤلف رحمه الله أن يبين في هذا الفصل ما يتعلق بصفة صلاة الجمعة وعدد الركعات والسنن الخاصة بيوم وصلاة الجمعة والمسألة المهمة وهي: حكم تعدد صلاة الجمعة. بدأ بأهم هذه الأمور وهي: صفة صلاة الجمعة: • فقال رحمه الله: والجمعة ركعتان. اتفق العلماء بلا نزاع من عهد النبي صلى الله عليه وسلم إلى يومنا هذا أن صلاة الجمعة ركعتان. وهذا الإجماع يعضده النصوص المتكاثرة أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصلي الجمعة ركعتين ونقل هذا نقلاً متوتراً فلا إشكال في أن الجمعة ركعتان. • ثم قال رحمه الله: يسن أن يقرأ جهراً. أفاد المؤلف رحمه الله: أن القراءة في صلاة الجمعة تكون جهرية. فيجهر الإمام بالقراءة ولو كانت صلاة نهارية. وذلك: - أولاً: لأن هذه الصلاة عيد. وثانياً: لأنها صلاة يجتمع لها الناس. وإذا اجتمع الناس لصلاة شرع الجهر فيها. هذا فضلاً عن أن السنة المتواترة أن الإمام يجهر بالقراءة في صلاة الجمعة.

ثم بين الموؤلف السنة في السور التي تقرأ في صلاة الجمعة: • فقال رحمه الله: في الأُولى: ((بِالْجُمْعَةِ))، وفي الثانية: ((بِالْمُنَافِقِيْنَ)). ثبت في صحيح مسلم عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقرأ بالجمعة وبالمنافين. وهذه سنة ثابتة. والقراءة في صلاة الجمعة جاءت على ثلاثة أوجه: - الوجه الأول: أن يقرأ بالحمعة وبالمنافقين. الوجه الثاني: أن يقرأ بالجمعة والغاشية. وهذا أيضاً ثابت في صحيح مسلم من حديث النعمان رضي الله عنه وقل من يأتي بهذه السنة كأنها من السنن المتروكة. - الوجه الثالث: وهي السنة المشهور الأخرى: أن يقرأ بسبح والغاشية وهذا أيضاً ثابت في صحيح مسلم. فصارت القراءة على ثلاثة أوجه. يناوب الإنسان بينها تارة يقرأ الجمعة والمنافقية وتارة الجمعة والغاشية وتارة سبح والغاشية. لأن هذا ثابت في السنة الصحيحة وذكره مسلم في صحيحه. • ثم قال رحمه الله: وتحرم إقامتها: في أكثر من موضع من البلد. تحرم إقامة الجمعة في أكثر من موضع من البلد. =وهذا مذهب الجمهور. بل حكي إجماعاً إلا عن عطاء فقط فلم يخالف إلا هو وروي أن الإمام أحمد أيضاً يرى جواز تعدد الجمعة مطلقاً. لكن القاضي من أصحاب الإمام أحمد حمل هذه الرواية على الجواز عند الحاجة ورأى أنه لا يصح عن الإمام أحمد القول بالجواز مطلقاً. وما ذكره القاضي صحيح إذ أستبعد أن يكون الإمام أحمد يرى جواز تعدد الجمعة بلا حاجة مطلقاً. إذاً: ذهب الجماهير بل حكي إجماعاً أنه لا يجوز أن تتعدد الجمعة بلا حاجة وإنما نقل الخلاف عن اثنين: عطاء. والإمام أحمد وذكرت أنه لا يثبت هذا عن الإمام أحمد إذ هو موؤل ومحمول على الحاجة. والدليل على هذا الحكم: - أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقيم الجمعة في مسجده فقط ولم تتعدد في عهده ولا في عهد الخلفاء إقامة الجمعة. ولو كانت الجمعة يجوز أن تتعدد لأقيمت في عهده لألا تتعطل المساجد. أريد أن أنبه هنا: إلى أن ابن حزم وتابعه الشوكاني يرون الجواز فمن من الممكن أن يضافا إلى عطاء والإمام أحمد في الرواية عنه. لكن نحن نقول أن هذا إجماع محفوظ قبل ابن حزم فضلاً عن الشوكاني.

فالإشكال الآن في الحقيقة هو في ابن حزم وعطاء والإمام أحمد وعرفنا أن ابن حزم متأخر وعرفنا ما يتعلق بالإمام أحمد فصار المخالف حقيقة هو عطاء. • ثم قال رحمه الله: إلاَّ لحاجة. يعني: أنه يجوز أن تتعدد الجمعة عند وجود الحاجة وذكر الفقهاء ثلاثة أمثلة للحاجة: - الأول: وهو أشهر وأغلب الأعذار: الضيق. - الثاني: خشيت وقوع الفتنة من الإجتماع. - الثالث: البعد. فإذا كان المسجد ضيقاً جاز أن نقم الجمعة في جامع آخر. وإذا صار في اجتماع فئتين من الناس في هذا الميسجد وقوع فتنة كأن يكون بينهم خلافات أو شقاقات أو أحقاد قديمة وإذا اجتمعوا في هذا المسجد صار ذلك سبباً لنشوب الفتنة جاز لمجرد ذلك أن نقيم الجمعة في مكان آخر. والتعليل لجواز إقامة الجمعة: أن الشارع الحكيم إنما شرع الجمعة لما فيها من التأليف والاجتماع واقتراب القلوب فإذا حصل ضد ذلك من الجمعة صار هذا سبباً في حواز إقامة الجمعة في جامع آخر. أما الضيق والبعد فلرفع الحرج. ولاشك أنهم رحمهم الله أرادوا التمثيل لا الحصر فلو وجد سبب آخر يقتضي جواز إقامة الجمعة في أكثر من جامع لجاز إقامة الجمعة في أكثر من جامع. إذاً يقول المؤلف رحمه الله: وتحرم إقامتها: في أكثر من موضع من البلد إلا لحاجة. وقوله: إلا لحاجة يقتضي أنه إذا ضاق المسجد فإنه يجوز أن نقيم الجمعة الثانية ويحرم أن نقيم الجمعة الثالثة. وإذا لم يتسع المسجد الأول والثاني جاز أن نقيم الجمعة الثالثة دون الجمعة الرابعة وهكذا .. لأنه يقول لحاجة والحاجة تقدر بقدرها. الدليل على ذلك: - استدل الفقهاء على جواز تعدد الجمعة عند الحاجة بدليلين: - الأول: النصوص العامة الدالة على رفع الحرج. - الثاني: أن علي بن أبي طالب رضي الله عنه لما كان بالكوفة أقام صلاة العيد خارج البلد وأقام من يصلي للضعفة والنساء داخل البلد. ونحن نعلم أن صلاة العيد والجمعة كلاهما من صلاة الأعياد وتتشابه في كثير من الأحكام لذلك قاس الفقهاء ما ثبت عن علي رضي الله عنه في صلاة العيد في الجمعة. إذاً: وتحرم إقامتها: في أكثر من موضع من البلد إلا لحاجة. - ذكرنا الدليل الأول:

- والدليل الثاني: أن الحاجة دعت إلى تعدد الجمع في الأمصار ووقع هذا واشتهر وتواتر ولم ينكر فكان كالإجماع من حين أقيمت الجمعة مرة أخرى انتشر هذا في البلدان الإسلامية وصار عليه عمل الناس واشتهر ولم ينكر فهو كالإجماع بين الناس لذلك لاتجد أحداً ينكر إقامة الجمعة الأخرى مع وجود الحاجة. = والقول الثاني: وإن كان قول فيه ضعف - أنه لا يجوز تعدد الجمعة مطلقاً ولو مع الحاجة وإنما يحاول الناس التوسع لبعضهم البعض. واستدلوا على ذلك: - بأن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضي الله عنهم مع طول صلاتهم الجمعة لم يصلوها إلا في مسجد واحد. والجواب على هذا الدليل من وجهين: - أولاً: أن الحاجة لم تكن موجودة في عهد النبي صلى الله عليه وسلم. ثانياً: أن في الصلاة مع النبي صلى الله عليه وسلم ميزة لا توجد بعد عهده وهو أنه المبلغ صلى الله عليه وسلم المباشر عن الرب سبحانه وتعالى فتلقي الأحكام منه مباشرة مزية لا توجد في ما بعهده من الأئمة والخطباء. والراجح مذهب الجمهور وهو جواز الإقامة عند وجود الحاجة. ثم لما قرر المؤلف تحريم تعدد الجمعة ذكر ما يترتب على هذا الحكم: • فقال رحمه الله: فإن فعلوا فالصحيحة: ما باشرها الإمام أو أذن فيها. أي: إذا أقيمت الجمعة في أكثر من جامع بلا حاجة فالجمعة الصحيحة هي التي باشرها الإمام أي: الجمعة الصحيحة في المسجد الذي صلى فيه الإمام سواء صارت هذه الصلاة - التي مع الإمام - متقدمة أو متأخرة فهي الصحيحة والأخرى باطلة. واستدلوا على هذا بدليلين: - الأول: أن في تصحيح الأخرى افتيات على الإمام. - الثاني: أنه لو قيل بتصحيح الأخرى لأمكن لكل أربعين رجلاً أن يفسدوا صلاة الإمام مع من معه من المسلمين بأن يقيموا هم الجمعة أولاً فتبطل صلاة الإمام ومن معه. وهذا مذهب الجماهير وهو أن الصلاة الصحيحة هي التي مع الإمام وهو الصواب. • ثم قال رحمه الله: فإن استويا في إذن أو عدمه: فالثانية باطلة. يعني: إذا أقيمت صلاة الجمعة في أكثر من جامع بلا حاجة واستويا الجمعتان في إذن الإمام يعني أنه أذن لكل منهما فالصلاة الصحيحة هي الأولى والصلاة الباطلة هي الثانية.

وتعرف الأولى: بتقدم تكبيرة الإحرام فأي الإمامين كبر أولاً فالثانية باطلة. وقيل تعرف الأولى: بالشروع في الخطبة فأيهما شرع أولاً فالثانية باطلة. = القول الثاني: أن الصلاة الصحيحة هي الصلاة في الجامع الكبير في وسط البلد والجوامع في أطراف البلد صلاتهم باطلة سواء تقدمت أو تأخرت صلاة الجامع الكبير. وهذا قول في مذهب الحنابلة. وهذا القول هو الأقرب. فإذا أقيمت صلاة الجمعة في الجامع الكبير ودعت الحاجة إلى إقامة جمعة أخرى فأقيمت جمعة ثالثة فالكلام في الجمعة الثالثة كالكلام في الجمعة الثانية. فإذا افترضنا أن صلاة الجامع الكبير دائماً صحيحة فأي الجمعتين أصح: = عند الحنابلة يرجع في ذلك إلى الوقت. إلى الأولى. والأولى باعتبار تكبيرة الإحرام أو باعتبار الشروع. وهذا هو الصواب بالنسبة للجمعة الثانية والثالثة. لأنه بالنسبة للجمعة الثانية والثالثة لا يوجد عندنا جامع كبير أو جامع هو الأصل بحيث أن جوامع أطراف البلد نقول هي التي تبطل والجامع الكبير تصح. فنرجع في الصورة الثانية إلى مذهب الحنابلة ونقول من أقام الجمعة أولاً صحت ومن أقام الجمعة ثانياً لم تصح. وذكر شيخنا رحمه الله في الممتع قولاً آخر وهو: أن الصلاة الصحيحة هي الأولى: أي هي صلاة الجمعة الذي وجد أولاً والصلاة الباطلة هي صلاة الجامع الذي وجد ثانياً بغض النظر عن أيهما يكبر أولاً فإذا بني مسجد في سنة 1427 وبني مسجد في سنة 1428 وإمام المسجد الذي بني في سنة 1428 كبر أولاً. فأي الجمعتين صحيحة؟ وأيهما الباطلة؟ صلاة الجامع الذي بني أولاً أصح ولو كبر ثانياً. وهذا القول قول قوي جداً إلا أني لم أقف على قائل بهذا القول من أهل العلم أو نص على هذا القول فإن كان أحد من أهل العلم نص عليه فهو قول وجيه وقوي وإن لم يكن أحد نص عليه فالتفصيل السابق هو الصواب. • قال رحمه الله: وإن وقعتا معاً أو جهلت الأُولى: بطلتا. بلا نزاع عند الحنابلة. - لأنهم أقاموا جمعة متعددة بلا حاجة في وقت واحد فبطلت الجمعتان. فإذا بطلت نقول: - إن أمكن أن تعاد جمعة بأن يجتمعوا في مسجد واحد ويقيموها جمعة وجب أن يفعلوا وإلا صلوها ظهراً.

المسألة الثانية: أو جهلت الأولى: لحنابلة يبطلون الثانية. لكن إذا جهلنا أيهما الأولى وأيهما الثانية فعند الحنابلة تبطل الأولى والثانية. التعليل: قالوا: لأنا نعلم أن إحدى الجمعتين باطلة ولا يمكن أن نبطل إحدى الجمعتين تحكماً بلا دليل فبطلتا لأنه لا مزية لأحدهما على الأخرى. وفي هذه االصورة يجب أن يصلوها ظهراً فقط ولو أمكن أن يصلوها جمعة. التعليل: أن إحدى الصلاتين صحيحة وبها سقطت الجمعة فلا يمكن أن تصلى مرة أخرى لأنه لا يجوز أن تتعدد الجمعة فوجب أن يصلوها ظهراً. فتكون بالنسبة للجماعة التي هي في واقع الأمر الأولى ستكون سنة وتكون بالنسبة للجماعة التي صلوها ثانياً ظهراً حقيقة. طبعاً هذه مسائل يحسن بطالب العلم أن يلم بها وإن كان الوقوع لها بعدما كثرت المساجد وانتشر الإسلام نادر أو متعذر. فإذا وقعت صار عند طالب العلم معرفة بها. إذا أقيمت جمعتان بلا لاحاجة ف ثم لما أنهى الكلام عن ما يتعلق بذات صلاة الجمعة انتقل إلى الكلام عن السنن المتعلقة بالجمعة. • فقال رحمه الله: وأقل السنة بعد الجمعة: ركعتان وأكثرها ست. جاءت السنة متنوعة في مسألة صلاة السنة البعدية للجمعة. - فثبت في صحيح مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصلي بعد الجمعة ركعتين في بيته. - وثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من كان سيصلي بعد الجمعة فليصل أربعاً). وهذا أيضاً صحيح وفي مسلم. - السنة الثالثة: في سنن أبي داود أن ابن عمر رضي الله عنه صلى بعد الجمعة أربعاً ثم صلى ركعتين. ثم ذكر أنه رأى النبي صلى الله عليه وسلم يفعل ذلك. والظاهر أن شاء الله أن أسناده صحيح وليس له علة. فاختلف الفقهاء في التوفيق بين هذه النصوص على عدة أقوال: = القول الأول: أن المسلم مخير إن شاء يصلي أحياناً أربعاً أو ركعتين أو ست وهذا مذهب الإمام أحمد. = والقول الثاني: - من الفقهاء من جمع بشكل آخر فقال: يصلي ست ركعات فنجمع بين حديث الأربع والركتعتين بأن يصلي ست ركعات. = القول الثالث: أنه إن صلى في المسجد صلى أربعاً وإن صلى في البيت صلى ركعتين وإلى هذا ذهب شيخ الاسلام رحمه الله.

والصواب أن نقول: أنه إن صلى في المسجد صلى أحياناً أربعاً وأحياناً ستاً وإن صلى في البيت صلى ركعتين. وإذا أراد أن يصلي ستاً فإنه يصلي ركعتين ثم أربع. لما في حديث ابن عمر أنه صلى ركعتين ثم أربعاً هكذا لفظه. وقيل: بل يصلي أربعاً ثم ركعتين لأنه إذا صلى ركعتين ثم أربع صارت تشبه الظهر لأنه سيصلي ركعتي الجمعة ثم ركعتين أشبهت ماذا الظهر. والصواب في القول الأول لأن حديث ابن عمر وهو عمدة القائلين بسنية الست فيه أنه صلى ركعتين ثم أربع. والصلاة ست جاء عن عدد من الصحابة منهم علي بن أبي طالب رضي الله عنه وهو من الخلفاء الراشدين الذين لهم سنة متبعة. إذاً قوله ركعتان وأكثرها ست. عرفنا دليل أنه يصلي ركعتين ودليل أنه يصلي ست ثم عرفنا كيف نوفق بين الأحاديث التي جاءت في هذ الباب. ولم يتعرض المؤلف للسنة القبلية والصواب أنه ليس للجمعة سنة قبلية محددة ولكن يندب الإنسان أنه إذا جاء إلى المسجد أن يصلي لما في الأحاديث الصحيحة التي فيها الندب أن يصلي الإنسان إلى طلوع الإمام وسيأتينا الآن بعض هذه الأحاديث. • ثم قال رحمه الله: ويسن: أن يغتسل. يسن أن يغتسل لصلاة الجمعة. ونريد أن نذكر قبل الخلاف في هذه المسألة تحرير محل النزاع: أولاً: اتفق الفقهاء كلهم أن غسل الجمعة سنة فهذا القدر لم يختلفوا فيه. ثانياً: اتفق الفقهاء كلهم على أن من ترك غسل الجمعة فصلاته صحيحة فهذا القدر لا خلاف فيه. ثم اختلفوا في حكم غسل الجمعة: = فمذهب الحنابلة والجماهير بل حكي إجماعاً - حكاه ابن عبد البر وسيأتينا التعليق على مسألة الإجماع - أنه سنة متأكدة جداً فإن تركها لم يأثم. واستدلوا على أنه سنة: - بما استدل به أصحاب القول الثاني وسيأتينا. واستدلوا على أنها ليست بواجبة: - بحديث سمرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من توضأ يوم الجمعة فبها ونعمت ومن اغتسل فالغسل أفضل). هذا الحديث فيه كلام كثير وفي سماع الحسن عن سمرة خلاف طويل والأقرب أنه سمع حديث العقيقة فقط وبضعة أحاديث غير محددة ولم يسمع جميع الأحاديث. والصواب - إن شاء الله - أن هذا الحديث صحيح. وممن صححه الحافظ الكبير أبو حاتم في العلل نص على أنه صحيح.

= القول الثاني: وهو رواية عن الإمام أحمد أن غسل الجمعة واجب. واستدلوا على هذا بأدلة منها: - الدليل الأول: قول النبي صلى الله عليه وسلم: (غسل الجمعة واجب على كل محتلم وأن يستاك وأن يتطيب). والجواب عليه: أن قوله في الحديث: (واجب) يعني: أنه متأكد وليس المقصود الوجوب الذي يأثم تاركه بدليل أنه قرنه بالاستياك وبالتطيب وقد أجمع العلماء كلهم على أن الاستياك والتطيب ليس بواجب. قال الحافظ بن رجب رحمه الله: الواجب على نوعين: 1 - واجب حتم. 2 - وواجب سنة وفضيلة. وذكر عن الأئمة ما يدل على أن الواجب ينقسم إلى هذين القسمين. ويدل أيضاً على أن الوجوب في هذا الحديث ليس على سبيل التأثيم حديث سمرة السابق. - واستدلوا: بالحديث الآخر وهو قول النبي صلى الله عليه وسلم: (من أتى الجمعة فليغتسل). واللام لام الأمر. والجواب: أن حديث سمرة يصرف الأمر عن الوجوب إلى الندب المتحتم. - واستدلوا بأن رجلاً دخل وأمير المؤمنين عمر رضي الله عنه يخطب - وفي رواية أنه عثمان رضي الله عنه - فأنكر عليه أمير المؤمنين عمر تأخره إلى بداية الخطبة فقال: (لم أزد على الوضوء) فقال عمر رضي الله عنه ألم تعلم أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بالغسل. هذا الحديث استدلوا به على الوجوب وهو من وجهة نظري أن (دلالته على الندب أقرب من دلالته على الوجوب). وجه ذلك: أولاً: أنا نربأ بعثمان بن عفان رضي الله عنه أن يترك واجباً فنستبعد على مثله رضي الله عنه أن يترك واجباً. - ثانياً: لو كان عثمان رضي الله عنه ترك واجباً لكان درجة إنكار عمر رضي الله عنه أكبر لتركه الواجب لا سيما من رجل مثل عثمان وهو من أكابر الصحابة. - ثالثاً: ليس بمستغرب أن ينكر عمر على عثمان ترك سنة فإنه ليس بمستغرب بين الصحابة لحرصهم على الخير فمجرد الإنكار لا يدل على الوجوب. الراجح: الراجح بلا إشكال وبلا تردد إن شاء الله أنه: سنة. سبب الترجيح: أن المسألة كأنها محل إجماع لذلك يقول الحافظ ابن رجب وكذلك الحافظ بن عبد البر أن العلماء الذين نقل عنهم الوجوب لا يريدون الوجوب الذي من تركه أثم بل يريدون الوجوب الذي هو على سبيل التأكيد والاستحباب والأفضلية.

فتكون المسألة بناء على هذا محل إجماع. وإلى هذا يميل ابن رجب أنها محل إجماع وأن من نقل عنه من أهل العلم الوجوب فليس مقصوده الوجوب الذي إذا تركه الإنسان أثم. فإذا ثبت هذا التحقيق الذي أبدع به الحافظ ابن رجب والحافظ بن عبد البر صار عدم الوجوب أمر واضح جداً وقوي وسديد. = مسألة: هل الغسل واجب ليوم الجمعة أو لصلاة الجمعة؟ فيه خلاف ونختصر على الراجح: الراجح: أنه للصلاة لا لليوم. بناء على هذا لا يجب على الصبي مثلاً ولا على المرأة ولا على كل من لا تجب عليهم صلاة الجمعة أن يغتسلوا. بدليل: 1 - قول النبي صلى الله عليه وسلم: (من جاء الجمعة فليغتسل). 2 - وقوله صلى الله عليه وسلم في الحديث الآخر: (من اغتسل غسل الجنابة ثم أتى الجمعة .. ). ففي الحديثين تعليق الاغتسال بالذهاب لصلاة الجمعة فدل على أنه يتعلق بالصلاة لا باليوم ... انتهى الدرس،،،

قال شيخنا حفظه الله: بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين. بعد أن انتهينا من الكلام على سنة الاغتسال للجمعة بدأ المؤلف رحمه الله بعد ذلك ببيان السنن الأخرى: • فقال رحمه الله: ويتنظف ويتطيب. يعني أنه يسن لمن أراد أن يذهب إلى صلاة الجمعة ويتأكد في حقه أن يتنظف وأن يتطيب. والأدلة على هذه السنية متكاثرة جداً. - منها ما تقدم معنا: من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (غسل الجمعة واجب على كل محتلم وأن يستاك وأن يتطيب) وهذا نص في السنية. - ومنها: ما تقدم معنا أيضاً أن أهل العلم أجمعوا على سنية التطيب والتنظف. - ومنها: ما أخرجه البخاري من حديث سلمان رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ما من رجل يغتسل يوم الجمعة ويتطيب ويتطهر ما استطاع من الطهور ويدهن ثم يأتي إلى الجمعة ولا يفرق بين اثنين وينصت إلى الإمام إلا غفر له ما بين الجمعتين). ففي هذا الحديث التأكيد الشديد حيث: ذكر الاغتسال ثم قال: ويتطهر ما أمكنه من الطهور ثم قال يدهن ويتطيب. وكل هذا تأكيد لمسألة التنظف والتطيب.

وهذا القدر مما أجمع عليه. وهو من شعائر الجمعة: أي التنظف. والتطيب وأن يأتي الإنسان إليها مستكملاً أكثر ما يستطيع من الجمال والطهارة والنظافة. • ثم قال رحمه الله: ويلبس أحسن ثيابه. أي: ويندب ويستحب للإنسان أن يلبس يوم الجمعة أحسن ما يجد من ثيابه. والدليل على هذا من وجهين: - الأول: أن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال للنبي صلى الله عليه وسلم لو اشتريت حلة للأعياد وأقره النبي صلى الله عليه وسلم. والجمعة من جملة الأعياد. - الثاني: أن النبي صلى الله عليه وسلم يروى عنه أنه قال لو أن أحدكم اتخذ ثوبين لجمعته سوى ثوبي مهنته. وهذا الحديث وإن كان معناه صحيح إلا أنه معلول. ولكن يكفي لإثبات هذه السنة الحديث الأول مع أني لم أقف على خلاف بين أهل العلم في أنه يستحب للإنسان أن يلبس أطيب ما يجد من الثياب في الجمعة. إذاً مسألة لبس الثياب هذا أمر لا إشكال في ثبوته لا من حيث النصوص ولا من حيث المعنى ولا من حيث كلام أهل العلم. والسنة أن يوفق الإنسان في لبسه لبس مجتمعه ما لم يكن اللبس محرماً. فيتجمل بما يتجمل به أهل البلد ما لم يكن محرماً. بناء على هذا لا يتعين ثوب معين لا أن يلبس رداء وإزار ولا أن يلبس ثوي ولا غير ذلك ولا أن يغطي رأسه ولا أن يبقي رأسه مكشوفاً. فكل ذلك لا يتعين وإنما يتجمل بما يتجمل به أهل البلد ما لم يكن محرماً. • ثم قال رحمه الله: ويبكر إليها. يعني: أنه من المستحب والمسنون أن يبكر الإنسان إلى صلاة الجمعة. والدليل على هذا من أوجه كثيرة: - منها حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من اغتسل يوم الجمعة غسل الجنابة ثم راح فكأنما قرب بدنه ومن راح في الساعة الثانية فكأنما قرب بقرة ومن راح في الساعة الثالثة فكأنما قرب كبشاً أقرن ومن راح في الساعة الرابعة فكأنما قرب دجاجة ومن راح في الساعة الخامسة فكأنما قرب بيضة ثم تحضر الملائكة لسماع الذكر). فهذا الحديث فيه حث واضح وصريح أن يحضر الإنسان إلى الجمعة مبكراً. وقوله: (من اغتسل غسل الجنابة ثم راح فكأنما قرب بدنه ..... الخ. يحتمل أن معنى قوله: (من اغتسل غسل الجنابة: يعني أنه يغتسل كغسل الجنابة.

ويؤخذ من هذا قاعدة: أن جميع الاغسال المستحبة والواجبة في الشرع صفتها صفة غسل الجنابة. ويحتمل أن يكون معناه: أنه يتقصد الجماع يوم الجماع ليغتسل غسل جنابة ثم يذهب إلى المسجد. وهذا المعنى ليس ببعيد. بل قال الإمام أحمد رحمه الله: وينبغي للرجل أن يطأ زوجته أو أمته صبح الجمعة. فهو فهم من الحديث هذا أي أنه يغتسل غسل الجنابة الحقيقي. على كل حال الحديث يحتمل ذلك. المقصود الآن أن التبكير الذي دل عليه هذا الحديث سنة متفق عليها ويحصل فيها من المنافع أشياء كثيرة. ولكن اختلفوا في: متى يبدأ التبكير؟ - فمن العلماء من قال: يبدأ وقت التبكير من طلوع الفجر. وعلى هذا كأنه يندب الإنسان أن يصلي الفجر في المسجد الذي سيصلي فيه الجمعة لأنه من المعلوم أنه لن يذهب إلى مسجد الجمعة ويترك صلاة الفجر. - ومن الفقهاء من قال: بل يبدأ وقت الفضيلة من طلوع الشمس لأنه قبل هذا الوقت مشغول بصلاة الفجر وبالأذكار وبتطبيق السنة الصحيحة عن النبي صلى الله عليه وسلم وهي: البقاء في مصلاه إلى طلوع الشمس. وكأن هذا القول - الثاني أحسن. لأن الإنسان في صدر النهار مشغول بهذه الوظيفة أي صلاة الفجر والأذكار والبقاء في موضعه. • ثم قال رحمه الله: ماشياً. أي أن المستحب للإنسان أن يذهب إلى صلاة الجمعة ماشياً ولا يركب. واستدلوا على هذا بقول النبي صلى الله عليه وسلم: (من غسل واغتسل وبكر وابتكر ومشى ولم يركب ودنا واستمع كان له بكل خطوة أجر سنة صيامها وقيامها). هذا الحديث ظاهر إسناده الصحة. والحقيقة ليس له علة واضحة. لكن أشكل على كثير من أهل العلم أنه لم يأت في جميع السنة حديث صحيح فيه من الأجر ما في هذا الحديث. ولذلك بعض العلماؤ استغرب متن الحديث. لأنه يقول: له بكل خطوة أجر سنة قيام وصيام. وهذا أجر عظيم جداً لم يأت في أي نص ولم يترتب على أي عمل من الأعمال هذا الأجر ولذلك استغربه بعض الأئمة. لكن من حيث الإسناد صحيح. ثم مفردات هذا الحديث: من غسل واغتسل ودنا ومشا تشهد لها النصوص الأخرى. بناء على هذا: نقول يستحب للإنسان أن يمشي ولا يركب إن كان يستطيع إلى هذا الأمر سبيلاً.

فإن قال الإنسان: - إن ركبت ووصلت إلى الجامع مبكراً وشرعت في العبادات. - وإن ذهبت ماشياً تأخر الوقت. فالأقرب والله أعلم أنه إذا كان يستطيع فإنه يذهب ماشياً لأن المشي في يوم الجمعة بناء على هذا الحديث مقصود لذاته فيمشي فإذا وصل بدأ بالأعمال الصالحة المختلفة من الصلاة والقراءة. - ومن العلماء من قال: إذا ترتب على مشيه أن يتأخر تأخراً ملحوظاً بيناً فإنه يركب. والذي يظهر لي: الأول. لكون الشارع نص على مسألة المشي بالذات في صلاة الجمعة. • ثم قال رحمه الله: ويدنو من الإمام. الدليل على الدنو: - الحديث السابق. لأن فيه: (ودنا واستمع .. ). ويدل عليه أيضاً عموم الأحاديث الأخرى كقول النبي صلى الله عليه وسلم: (لو يعلمون ما في النداء والصف الأول ... ). وهذا عام لصلاة الجمعة ولغيرها من الصلوات. ومن المعلوم أنه كلما تقدم وصار في الصف الأول صار يدنو من الإمام أكثر. • ثم قال رحمه الله: ويقرأ سورة ((الْكَهْفِ)) في يومها. يندب الإنسان أن يقرأ سورة الكهف يوم الجمعة. وفي الباب نحو ستة أحاديث كلها ضعيفة وأحسن ,اصح ما في الباب حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من قرأ سورة الكهف يوم الجمعة أضاء له من النور ما بين الجمعتين). وله ألفاظ سوى هذا اللفظ كثيرة. وهذا الحديث الذي هو أصح ما في الباب أيضاً معلول بالوقف وممن أعله بالوقف الإمام الحافظ النسائي. ولكن كثير من أهل العلم يرون أن هذا الحديث وإن كان له حكم الوقف فله من جهة أخرى حكم الرفع لكونه مما لا يقال بالرأي فإنه من المعلوم أنه لا أحد يعلم أنه يندب الإنسان أن يقرأ في يوم الجمعة سورة الكهف. ولهذا تتابعت أقوال أهل العلم ولم يشذ منهم أحد أن قراءة سورة الكهف يوم الجمعة مستحبة ومندوبة وإن كان في الحقيقة في هذا الموضوع يحتاج إلى بحث أعمق لا سيما إذا نظر الإنسان في مجموع الأدلة فلا يكاد يجد دليلاً سالماً من العلة يصلح للإعتماد. لكن لا نريد أن ندخل في هذه المسألة. المهم أن أقوى ما في الباب حديث أبي سعيد رضي الله عنه وله حكم الرفع قطعاً من جهة الإسناد. وجماهير أهل العلم يرون استحباب قراءة سورة لكهف يوم الجمعة. •

ثم قال رحمه الله: ويكثر الدعاء. أي أنه ينبغي على المسلم بالذات يوم الجمعة أن يتحرى كثرة الدعاء بأن يكون دعائه يوم الجمعة أكثر من دعائه في غير هذا اليوم. وعلة هذا: أن في الجمعة ساعة إجابة فإذا أكثر من الدعاء صار أقرب أن يصيب هذه الساعة. والدليل على أن في الجمعة ساعة إجابة: الحديث الصحيح: عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن في الجمعة لساعة لا يوافقها مسلم وهو قائم يصلي يسأل خيراً إلا أعطاه الله أياه). وفي الحديث مسألة قائم يصلي - هذا في البخاري. فإذا كان في يوم الجمعة ساعة تعتبر ساعة إجابة يجيب الله سبحانه وتعالى فيها دعاء العبد أدى ذلك إلى أن الإنسان يكثر من الدعاء لعله أن يصيب هذه الساعة. واختلف العلماء في تحديد هذه الساعة اختلافاً كثيراً ومتشعباً ومتنوعاً وذكر الحافظ ابن حجر نحواً من أربعين قولاً في الفتح. ونقتصر على قولين هما أصح هذه الأقوال: = القول الأول: وهو الذي ذهب إليه الإمام أحمد رحمه الله أنها آخر ساعة من العصر. لما ثبت في الحديث الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (تحروها آخر ساعة من العصر). قال الإمام أحمد رحمه الله: وأكثر الأحاديث على أنها بعد صلاة العصر. وتقدم معنا أن الإمام أحمد رحمه الله من أهل الاستقراء التام وإذا كان يقول أن أكثر الأحاديث على أنها بعد صلاة العصر فهذا له وزنه الثقيل باعتبار أن الإمام أحمد رحمه الله حافظ بل إنه - كما تقدم معنا - قيل: أنه أحفظ الأئمة. وعلى كل حال هو من الحفاظ الذين يستقرئون الأحاديث ويتتبعونها فلكلمته هذه وزن ثقيل جداً عند من يعرف هذه الصنعة. = والقول الثاني: أن ساعة الإجابة من صعود الإمام إلى انتهاء الصلاة. وهذا أيضاً ثابت في صحيح مسلم. فينبغي على الإنسان أن يتحرا هاتين الساعتين بالدعاء والابتهال والتضرع. • ثم قال رحمه الله: والصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم. الدليل على أن الجمعة يخص بالصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم: - قوله صلى الله عليه وسلم: (أكثروا عليَّ من الصلاة يوم الجمعة).

وهذا الحديث صححه بعض المتأخرين والصواب أنه ضعيف وممن ضعفه عدد من الأئمة على رأسهم الإمام البخاري والإمام أبو حاتم. - الدليل الثاني: العمومات التي فيها الأمر بالصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم فإنها تشمل أيضاً يوم الجمعة. وبهذا علمنا أن مسألة الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم يوم الجمعة إنما يستأنس لها بالأحاديث العامة وأنه ليس في هذه المسألة حديث صحيح خاص. • ثم قال رحمه الله: ولا يتخطى رقاب الناس. ذهب الحنابلة إلى أنه يكره فقط أن يتخطى الإنسان رقاب الناس. ودليل الكراهة: - أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى رجلاً يتخطى الرقاب يوم الجمعة فقال له: (اجلس فقد آذيت). - والدليل الثاني: أن في تخطيه الرقاب إيذاء للمؤمنين. وإيذاء المؤمنين ممنوع. = والقول الثاني: أن تخطي الرقاب محرم فإن تخطى الرقاب فهو آثم. وهذا القول اختيار شيخ الاسلام ابن تيمية وهو الذي تدل عليه النصوص والقواعد العامة. ومتى علم الإنسان أنه إن تخطى الرقاب أثم صار هذا من أسباب التقدم وحضور الصلاة مبكراً. • ثم قال رحمه الله: إلاّ أن يكون إماماً. إذا كان المتخطي هو الإمام جاز بلا كراهة بشرط أن لا يجد طريقاً آخر يصل من خلاله إلى المنبر بلا تخطي للرقاب فإن وجد طريقاً آخر حرم عليه أن يتخطى الرقاب ولو كان إماماً. والدليل على استثناء الإمام من وجهين: - الأول: أن الحاجة داعية إلى مثل هذا. وتتعلق به مصلحة إقامة الصلاة. - الثاني: أن النبي صلى الله عليه وسلم لما أقيمت الصلاة وهو غائب وقام في الصف تخطى أو تخلص من الصفوف حتى قام في الصف الأول. وإنما فعل ذلك صلى الله عليه وسلم لأنه الإمام. • ثم قال رحمه الله: أو إلى فُرْجَة. يعني أن من دخل المسجد ورأى فرجة في الصفوف الأمامية جاز له أن يتخطى الرقاب إلى أن يصل إلى هذه الفُرْجَة بلا كراهة. والدليل: أن الذين لم يتقدموا إلى هذه الفُرْجَة من المأمومين الذين في الصوف أسقطوا حق أنفسهم بعدم تقدمهم إلى هذا المكان والشارع حث على تسوية الصوف والتراص وسد الخلل فإذا لم يقم به هؤلاء فقد أسقطوا حرمتهم. = والقول الثاني: أنه يجوز التقدم إلى الفرجة بشرط أن تكون في الصف الذي بين يديه فقط.

وهذا اختيار شيخ الاسلام بن تيمية. = والقول الثالث: أنه يجوز إذا كان بينه وبين الفرجة صف أو صفين أو ثلاثة فقط. = والقول الرابع: أنه لا يجوز مطلقاً. وهو رواية عن الإمام أحمد رحمه الله. في الحقيقة اختيار شيخ الاسلام يتوافق مع هذه الرواية. وجه ذلك: أن الشيخ رحمه الله يقول: لا يجوز تخطي الرقاب إلا إذا إلى الفرجة التي بين يديك والفرجة التي بين يدي ليس فيها تخطي للرقاب. فصار قوله كقول الإمام أحمد وربما هو رحمه الله يريد هذا - يريد أن يختار هذه الرواية عن الإمام أحمد وهي المنع مطلقاً. وهذا القول هو الصواب - المنع مطلقاً ولو وجدت فرجة. والدليل على ذلك: أن الرجل الذي قال له النبي صلى الله عليه وسلم اجلس فقد آذيت إنما تقدم ليجلس في فرجة. وهذا هل هو احتمال أو نص؟ هذا احتمال. لأننا نجد اليوم بعض الناس يتقدم لعله يجد فرجة وليس يتقدم ليجلس في فرجة. فربما كان الرجل كذلك لكن مع ذلك نقول: أنه ولو وجدت فرجة فإن حرمة الناس الذين تقدموا لا تسقط بقضية أنهم لم يتقدموا وأذيتهم لا تجوز مع ذلك. • ثم قال رحمه الله: وحرم: أن يقيم غيره فيجلس مكانه. يعني: أنه يحرم أن يقيم الرجل رجلاً آخر ويجلس مكانه فإن فعل فهو آثم وفي صحة صلاته خلاف. والدليل على ذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم: (لايقيم الرجل الرجل من مكانه ليجلس فيه). • ثم قال رحمه الله: إلاّ من قدّم صاحباً له في موضع يحفظه له. يعني: أنه يستثنى من حكم المسألة السابقة ما إذا أرسل الإنسان رجلاً يجلس في مكان ثم إذا قدم هذا الرجل قام له من مكانه ليجلس فيه. فهذا جائز لدليلين: - الأول: أن الذي قام قام باختياره. - الثاني: أن الشيخ الفقيه الإمام الكبير محمد بن سيرين كان يصنع ذلك. فقد كان يرسل غلاماً يجلس حتى إذا جاء قام وجلس مكانه. وأما القائم فإنه يكره له أن يقوم لأن التبرع بالقرب مكروه. ولذلك القاعدة المشهورة تقول: الإيثار بالقرب مكروه. إذاً عرفنا الآن حكم الذي سيأتي وحكم الذي سيقوم.

فإن قام الرجل للرجل بلا إرسال - فلو حضر رجل كبير وقام له رجل آخر بلا اتفاق سابق فإنه ينبغي للإنسان أن لا يجلس فيه بل ينبغي أن يأمر من قام أن يرجع إلى مكانه وإلى هذا ذهب الإمام أحمد فإنه دخل الجامع مرة فقام له رجل فأبى الإمام أن يجلس في مكانه وقال له: ارجع فاجلس في مكانك. وهذا على سبيل الندب ولو جلس لجاز. إذاً في الحقيقة نقول: يكره للقائم ولمن أراد أن يجلس أن يفعل هذا. لكن إن أرسل رجلاً وجلس مكانه فلا مانع على أن هذا لا ينبغي لكن لا نقول أنه لا يجوز بل يجوز لما ذكرنا من الآأثار عن محمد بن سيرين وهو من التابعين وهو بنفسه عالم وقوله معتبر وإقرار الناس له في عصر التابعين أيضاً يستدل به مع أننا لا نقول أن هذا دليل إنما نقول أن غاية ما هنالك أن تكون فتوى لتابعي لكن يستأنس بها الإنسان. • ثم قال رحمه الله: وحرم رفع مصلى مفروش. يعني أنه يحرم على الإنسان أن يرفع المصلي المفروش الذي وضعه شخص ليأتي بعد حين ويجلس فيه. والدليل على التحريم: من وجهين: - الأول: أن في هذا افتياتاً على من وضع هذا المصلى المفروش. - الثاني: أنه يقع في رفعه غالباً نزاع بين الرجلين والشارع الحكيم إنما أمر بالجمعة وحث عليها كما تقدم معنا تأليفاً للقلوب واجتماع الكلمة. فما كان يسبب عكس هذه الحكمة صار ممنوعاً في الشرع. = والقول الثاني: أنه يجوز رفع هذا المصلى. - لأن من وضعه فهو ظالم مغتصب للبقعة. - ولأن الشارع الحكيم إنما أمر بالتبكير بالأبدان لا بحجز الأمكنة. - ثالثاً: ولأن هذا يفضي غالباً إلى تخطي الرقاب وهو مكروه عند الحنابلة ومحرم على الصواب. إذاً القول الثاني: جواز رفع المصلى لهذه الأدلة الثلاثة. = القول الثالث: وجوب رفع المصلى على ولي الأمر. يعني أنه يجب على ولي الأمر أن يرفع هذا المصلى. لأن صاحب المصلى ظالم ومغتصب وعلى ولي الأمر أن ينكر هذا المنكر. - وولي الأمر: المسؤول سواء كان جهة أو غير ذلك إنما المهم أن تكون مخولة من ولي الأمر. وهذا القول - الثالث - اختيار شيخ الاسلام. وهو الصواب.

فما يصنعه بعض الناس اليوم من وضع مصلى مفروش بعد صلاة الجمعة ثم لا يحضر هو إلا في منتصف النهار أو قريباً من الزوال هو آثم بهذا الصنيع ومغتصب للبقعة وفي صحة صلاته خلاف بين الفقهاء. إذاً صار في هذه المسألة - الراجح عكس المذهب تماماً فالمذهب يقولون: وحرم رفع مصلى. والصواب أنه يجب لكن على ولي الأمر. • ثم قال رحمه الله: ما لم تحضر الصلاة. يعني: أنها حضرت الصلاة فيجوز رفع هذا المصلى. الدليل: أن الحرمة للمصلي لا لهذا المصلى فإذا لم يحضر رفع هذا المفروش. وفهم من كلام المؤلف رحمه الله أنه إذا حضرت الصلاة وصاحب المصلى لم يحضر يحرم أن نصلى فوقه بل يجب أن نرفع هذا المصلى - المفروش - ونصلي في المكان ولا يجوز أن نصلي على هذا المفروش لأن هذا المفروش مال للغير لا يجوز أن ننتفع به. وهذا هو الصحيح: أنه إذا تأخر يجب أن نرفع المصلى المفروش ثم نصلي في مكانه. • ثم قال رحمه الله: ومن قام من موضع لعارض لحقه ثم عاد إليه قريباً: فهو أحق به. إذا اتخذ الإنسان مكاناً في صلاة الجمعة ثم قام لعارض سواء كان هذا العارض جوع أو احتاج إلى قضاء الحاجة أو ليقضي مصلحة تتعلق بأهله طارئة فإنه أحق بمجلسه لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (من قام من مجلس فهو أحق به إذا رجع إليه). لكن اشترط الحنابلة: أن يعود قريباً. فإن تأخر جاز لغيره أن يجلس فيه. = والقول الثاني: - أنه إن تأخر وهو ما زال في حاجته التي قام من أجلها وجب أن ينتظر. - وإن اشتغل بحاجة أخرى جاز للآخرين أن يجلسوا في مكانه. وهذا قول للحنابلة وليس رواية عن الإمام أحمد رحمه الله. وهذا القول هو الصواب لأنه ما دام قام لأداء حاجة وهو فيها فإنه ينتظر ولو تأخر لكن إن اشتغل بغيرها وصار يضيع الوقت بأمور أخرى صار الذين في المسجد أحق منه بهذه البقعة. • ثم قال رحمه الله: ومن دخل والإمام يخطب: لم يجلس حتى يصلي ركعتين يوجز فيهما. إذا دخل المصلي والإمام يخطب فإنه يصلي ركعتين ولو فاته استماع الخطبة أثناء صلاته للركعتين. - لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (من دخل والإمام يخطب فليصل ركعتين). وهذا القدر متفق عليه وفي رواية لمسلم: (وليوجز فيهما).

فاشتمل هذا الحديث على جميع الأحكام التي ذكرها المؤلف رحمه الله. - والدليل الثاني: أن رجلاً دخل والنبي صلى الله عليه وسلم يخطب فقال له: أصليت قال: لا. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (قم فصل). - والدليل الثالث: قول النبي صلى الله عليه وسلم إذا دخل أحدكم المسجد فلا يجلس حتى يصلي ركعتين). فلا شك إن شاء الله أن من دخل فالسنة في حقه أن يصلي ركعتين ولو كان الإمام يخطب. • ثم قال رحمه الله: ولا يجوز الكلام: والإمام يخطب. لا يجوز للإنسان أن يتكلم والإمام يخطب. - لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (إذا قلت لصاحبك أنصت فقد لغوت). وإذا كان يحرم على الإنسان أن يأمر بالمعروف وهو قوله: أنصت. فمن باب أولى أن يتكلم بالكلام المباح. - ولقول النبي صلى الله عليه وسلم: (من تكلم والإمام يخطب فهو كالحمار يحمل أسفاراً). وهذا مذهب الجماهير. أنه يحرم على الإنسان أن يتكلم والإمام يخطب. - فإن كان المأموم لا يمكن له أن يسكع كلام الخطيب إما لصمم أو لبعد أو لأي عارض. فإنه أيضاً يجب عليه أن لا يتكلم بكلام مرتفع يسمع. وهو إحدى الروايتين عن الإمام أحمد رحمه الله. لكن مع ذلك يجوز له أن يقرأ القرآن أو أن يصلي على النبي صلى الله عليه وسلم أو أن يذكر الله. قال الإمام أحمد: ولا يرفع بذلك صوته. إذاً عرفنا أن من لايسمع الخطبة لا يجوز له أن يتكلم مع غيره ولا أن يرفع صوته بالكلام لكن يجوز له أن يذكر الله في نفسه. = إذا رأى الإنسان شخصاً يتكلم فإنه بنص الحديث يحرم عليه أن ينهاه عن هذا المنكر. فلا يجوز له أن يقول له: أنصت أو اسكت. فإن قال فقد لغى. - لكن هل يجوز أن يشير إليه إشارة بالسكوت؟ في هذا خلاف: والصواب أنه يجوز. والدليل على ذلك: - ما جاء في الحديث الصحيح أن رجلاً دخل يوم الجمعة والنبي صلى الله عليه وسلم يخطب فتوجه للنبي صلى الله عليه وسلم وقال رافعاً صوته: متى الساعة؟ فتركه النبي صلى الله عليه وسلم. قال الراوي: فأومأ إليه الناس أن اسكت.

ففي هذا الحديث أن الناس أشاروا إليه بالسكوت والنبي صلى الله عليه وسلم يراهم وهو يخطب ولم ينكر عليهم هذه الإشارة فدل ذلك على أن إشارة الناس لمن يتكلم ليسكت تجوز ولا تعتبر من الإخلال بالاستماع للخطبة. • ثم قال رحمه الله: إلاّ له أو لمن يكلمه. يجوز أن يتكلم الإمام. ويجوز للمأموم أن يتكلم مع الإمام فقط. والدليل على ذلك: - ما تقدم معنا: أولاً: النبي صلى الله عليه وسلم قال للرجل: أصليت. فهذا دليل على جواز أن يخاطب الإمام أحد المأمومين. وأما الدليل على أن يخطاطب أحد المأمومين الإمام فهو أن رجلاً دخل على النبي صلى الله عليه وسلم وهو يخطب وقال هلكت الأموال وانقطعت السبل .... الحديث. ولم ينكر عليه النبي صلى الله عليه وسلم أنه خاطبه أثناء الخطبة. فدلت النصوص إذاً على جواز أن يكلم المأموم الإمام أو أن يكلم الإمام من شاء من المأمومين. ولا أعلم في جواز مخاطبة المأموم للإمام والإمام للمأموم خلاف. • ثم قال رحمه الله: ويجوز قبل الخطبة وبعدها. يجوز أن يتحدث الإنسان قبل الخطبة ولو بعد دخول الإمام. ويجوز أن يتحدث بعد الخطبة ولو قبل انصراف الإمام. والدليل على ذلك: - أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: من قال لصاحبه أنصت والإمام يخطب. فحدد المنع في أثناء الخطبة. - والدليل الثاني: أن المأموم ممنوع من الكلام لينصت فإذا لم يكن الإمام يخطب لم توجد هذه العلة. - ثالثاً: أن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه كان يدخل ويصعد المنبر ويجلس ويأخذ أصحابه - الصحابة - بالحديث والكلام مع بعضهم إلى أن يبدأ بالخطبة فينصتون. فهذا دليل على أن تحدث المأمومين مع بعض قبل أن يبدأ الإمام بالخطبة جائز ولا حرج فيه. بل لو قيل أن هذا إجماع الصحابة لكان صحيحاً لأن الذين حضروا خطبة عمر رضي الله عنه هم سادة الصحابة ومع ذلك لم ينكروا على الناس أنهم يتحدثون. مسألة: هل يجوز أن يتحدث الإنسان بين الخطبتين؟ الجواب: فيه خلاف. والصواب أنه يجوز. لما تقدم معنا أن الأحاديث علقت المنع بخطبة الإمام والإمام الآن لا يخطب ولا يتكلم فيجوز حينئذ أن يتكلم المأموم مع صاحبه بين الخطبتين. وبهذا انتهى باب صلاة الجمعة ووقفنا على باب صلاة العيدين. انتهى الدرس،،،

باب صلاة العيدين

باب صلاة العيدين. قال شيخنا حفظه الله: بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين. لما أنهى المؤلف الكلام عن صلاة الجمعة بدأ بالكلام عن صلاة العيد. لأن بين صلاة العيد والجمعة تشابه كبير جداً كما سيأتينا وقيست مسائل كثيرة من مسائل العيد على مسائل الجمعة فهو ترتيب منطقي. وقدم الجمعة على العيد لأنها أوكد منها وأفرض ولأنها تتكرر أكثر من العيد. فهي عيد الأسبوع وصلاة العيدين تتكرر في السنة مرة بالنسبة لكل عيد. • قال رحمه الله: باب صلاة العيدين. العيد أصله من: عود المسرَّة. ولا يطلق العيد على ما ليس فيه مسرَّة. وهو في اللغة: يطلق على ما يعود ويتكرر ويقصد مجيئه في الزمان والمكان. وأما في الشرع: - فهو معلوم - المقصود بصلاة العيدين أي: صلاة عيد الفطر والأضحى. • قال رحمه الله تعالى: وهي فرض كفاية. صلاة العيد مشروعة بالكتاب والسنة والإجماع. كما ستأتينا النصوص في أفراد المسائل. وأجمع أهل العلم قاطبة على أنها مشروعة محبوبة للشارع لكن الخلاف وقع في الحكم التكليفي لها. = فذهب الحنابلة: إلى أن صلاة العيدين فرض كفاية. واستدلوا على هذا بعدة أدلة منها: - أولاً: أن النبي صلى الله عليه وسلم داوم عليها ولم يتركها أبداً. - وثانياً: أنها من شعائر الدين الظاهرة. = والقول الثاني: أن صلاة العيدين سنة. واستدلوا على هذا: - بأن أعرابياً سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن ما فرض عليه. فذكر له الصلوات الخمس فقال: هل علي من شيء بعدهن؟ قال: لا. إلا أن تتطوع. فالحديث نص على أن غير الفروض الخمسة لا يعتبر من الفرائض. = والقول الثالث: وهو مذهب الأحناف ورواية عن أحمد واختاره شيخ الاسلام وعدد من المحققين. أنها فرض عين. واستدلوا على هذا بأدلة: - الأول: أنه ثبت في السنة أنه إذا اجتمع عيد وجمعة سقطت الجمعة بالعيد: أي: سقط الفرض. والمندوب لا يسقط واجباً. - الثاني: أن النبي صلى الله عليه وسلم ثبت عنه أنه أمر الناس بالخروج لصلاة العيد حتى أمر النساء الحيض وذوات الخدور.

ومن المعلوم أن الشارع متشوف جداً لبقاء المرأة في بيتها - فهذا كالمواتر في الشرع - ومع ذلك حث النبي صلى الله عليه وسلم وأكد حتى ذهب بعض العلماء إلى وجوب خروج النساء مما رأى من تأكيد النبي صلى الله عليه وسلم. فهذا يدل على أنه على الأقل في حق الرجال واجباً باعتبار أنه أمر النساء به مع محبة الشارع بقاء المرأة في البيت. - الثالث: - الأخير -: أن صلاة العيد من شعائر الإسلام الظاهرة والإجتماع لها أكبر من الإجتماع لصلاة الجمعة فلا يناسب مع ذلك أن تكون سنة. والراجح. القول الأخير لقوة ما استدل به أصحابه. والجواب عن دليل المالكية والشافعية: القائلين بالسنية: أن المسؤول عنه في الحديث الفرائض اليومية فقط ولذلك توجد صلوات واجبة بالإجماع لم تذكر في الحديث لأنها ليست يومية كالصلاة المنذورة. إذاً قال: وهي فرض كفاية. وعرفنا أن الراجح - إن شاء الله - أنها فرض عين. • ثم قال رحمه الله: إذا تركها أهل بلد: قاتلهم الإمام. أي: أنه يجب على الإمام إذا ترك أهل بلد صلاة العيدين أن يقاتلهم حتى يرجعوا. والدليل على ذلك من وجهين: - الأول: أن في تركها تهاوناً في الدين. - ثانياً: أن صلاة العيد من أعظم شعائر الإسلام فإذا تركوها قوتلوا. • ثم قال رحمه الله: ووقتها كصلاة الضحى. يعني أن وقت صلاة العيدين يبدأ مع بداية وقت صلاة الضحى. ومعلوم أن المؤلف لم يذكر هنا الوقت بالتفصيل وإنما أحال على وقت صلاة الضحى. مع العلم أن صلاة العيد أوكد بل الراجح أنها فرض أوكد من صلاة الضحى فينبغي أن ينص على الوقت بوضوح. المهم: أن صلاة الضحى يبدأ وقتها من خروج الشمس وارتفاعها رمح كما تقدم معنا. واستدل الحنابلة على أن وقت صلاة العيد يبدأ من طلوع الشمس وارتفاعها بأدلة ليست من النصوص. بدليل من النص ودليل من النظر. - أما الدليل من النظر: فقالوا: أن النبي صلى الله عليه وسلم صلاها في هذا الوقت. لماذا؟ لأن العلماء أجمعوا أن وقت الفضيلة لصلاة العيد يبدأ من هذا الوقت ويبعد أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يصلها في وقت الفضيلة.

إذاً هذا دليل مركب لا يعتمد على نص صريح لكنهم يركبون ذلك من إجماع العلماء على أن أفضل الأوقات يبدأ من بعد طلوع الشمس وارتفاعها ويبعد أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يصلها في هذار الوقت المجمع على أنه أفضل الأوقات. - الدليل الثاني: من الأثر أيضاً - وهو: أن الصحابي الجليل عبد الله بن بسر رضي الله عنه خرج لصلاة عيد أو أضحى فتأخر الإمام فأنكر رضي الله عنه تأخر الإمام وقال: قد كنا صلينا صلاتنا في ساعتنا هذه - يعني: مع النبي صلى الله عليه وسلم - وكان وقت صلاة التسبيح. فدل هذا الحديث على أن بداية صلاة التسبيح - يعني النافلة - هو وقت بداية صلاة العيدين وهو: طلوع الشمس وارتفاعها. = وهذا مذهب الجمهور: فالجماهير من أهل العلم ذهبوا إلى هذا القول. = خالف الشافعي - رحمه الله - وهو: القول الثاني: فقال: بل يبدأ وقت صلاة العيدين من طلوع الشمس ولو لم ترتفع. والشافعي رحمه الله محجوج بجميع الأدلة الدالة على أن هذا الوقت وقت نهي ومذهبه رحمه الله في هذه المسألة ضعيف. فالصواب مع الجمهور أن وقت صلاة العيدين يبدأ بعد طلوع الشمس وارتفاعها وأن هذا وقت الجواز والأفضلية. • ثم قال رحمه الله: وآخره الزوال. الزوال تقدم معنا مراراً بيانه وهو: ميلان الشمس عن كبد السماء. فإذا دخل وقت صلاة الظهر انتهى وقت صلاة العيد. ومعنى كلام الفقهاء: أن أوله طلوع الشمس وارتفاعها وآخره الزوال - أنه يفهم من كلام الفقهاء أنه يجوز للإمام والناس أن لا يصلوا صلاة العيد إلا في آخر النهار مثلاً - يعني بعد طلوع الشمس بساعتين. هذا الذي يفهم من كلام الفقهاء ولم أقف على خلاف في أنه يجوز أداء صلاة العيد في كل هذا الوقت. ولو قال قائل: أن تأخير الصلاة عن الوقت الذي كان يصليه النبي صلى الله عليه وسلم وهو صدر النهار أقل أحوال الكراهة لأن النبي صلى الله عليه وسلم وأبو بكر وعمر وعثمان وعلي والخلفاء كلهم ومعاوية إلى عمر بن عبد العزيز إلى من بعده كانوا يصلون العيد في صدر النهار. فالقول بحواز التأخير إلى بعد طلوع الشمس بساعات كثيرة أقل أحواله في الحقيقة الكراهة لمخالفة السنة مخالفة ظاهرة. • ثم قال رحمه الله:

فإن لم يعلم بالعيد إلاّ بعده: صلوا من الغد. أي: أنه إذا لم يعلم الناس والإمام بصلاة العيد إلا بعد الزوال فإنه يجوز لهم أن يصلوات صلاة العيد من الغد. = وهذا مذهب الجماهير - في الجملة. واستدلوا على ذلك: - بما صح عن أبي عمير بن أنس بن مالك أن أعماماً له من الأنصار أخبروه أن هلال شوال غم عليهم فأتموا الشهر حتى جاء ركب فأخبروا النبي صلى الله عليه وسلم أنهم رأو الهلال فأمر النبي صلى الله عليه وسلم الناس أن يفطروا وأن يخرجوا لصلاتهم من الغد. وهذا الحديث صحيح. وكما قلت لكم هذا مذهب الجماهير. = القول الثاني: للإمام مالك رحمه الله. فإنه يرى أنه إذا فاتت الصلاة بأن لم يعلموا بالهلال فإنها لا تصلى من الغد: - لأن وقتها فات. - وقياساً على الجمعة. فإن الجمعة إذا خرج وقتها لا تصلى جمعة وإنما تصلى ظهراً. والراجح مع الجماهير لوضوح النص وصراحته بذلك. * مسألة: = والحنابلة يرون أن صلاة العيد من الغد قضاء مطلقاً. = والقول الثاني: أن صلاة العيد من الغد: - إن كانت بعذر فهي أداء وليست قضاء. والقول الثاني أقرب إن شاء الله. * مسألة: أيضاً تتعلق بمسألة فوات العيد: هل يشرع لمن فاتته صلاة العيد أن يصليها أو لا يشرع؟ اختلفوا في ذلك على أقوال: = فالمذهب أنه يصلي العيد على هيئة العيد. يعني ركعتين. واستدلوا على ذلك: - بأن أنس بن مالك رضي الله عنه فاتته صلاة العيد مع الإمام فجمع أهله وأمر من يصلي بهم العيد. = والقول الثاني: أن من فاتته صلاة العيد والخطبة يصلي أربعاً. وهو قول عند الحنابلة. = والقول الثالث: أن من فاتته صلاة العيد فإنه لا يشرع له أن يقضيها. وهو للأحناف واختيار شيخ الاسلام بن تيمية. واستدل على ذلك: - بأن صلاة العيد شرعت على هيئة وصفة معينة: منها تقدم الخطبة واجتماع الناس وكل ذلك مفقود في المنفرد فلا يشرع له أن يقضي الصلاة. ولولا أثر أنس رضي الله عنه لكان هذا القول هو أقوى الأقوال. • ثم قال رحمه الله: وتسن: في صحراء. السنة في صلاة العيد أن تصلى في الصحراء. ومعنى قوله تسن: أنه لو صلاها في البلد لجاز لكن مع الكراهة كما سيأتينا. = وإلى هذا ذهب جميع الأئمة إلا الشافعي.

واستدل الأئمة على هذا الحكم: - بما نقل متواتراً عن النبي صلى الله عليه وسلم وعن الخلفاء الراشدين أنهم كانوا يصلون العيد في الصحراء القريبة من البلد وأن صلاة العيد في الصحراء القريبة أفضل من صلاة العيد في المساجد الجوامع. = والقول الثاني: - وهو الذي أشرت إليه - للشافعي رحمه الله أن صلاة العيد في الجامع إذا كان يتسع أفضل. واستدل بدليلين: - الأول: أن المسجد أفضل من بقعة الصحراء. - الثاني: أنه أنظف وأهيأ للناس. كأن الإمام الشافعي - نقول: كأنه: هو لم يذكر هذا - كأنه فهم أن النبي صلى الله عليه وسلم إنما خرج بسبب ضيق المسجد كأنه فهم هذا ولذاك يقول: إن اتسع المسجد فالأفضل في الجامع داخل البلد. ولكن هذا المذهب ضعيف وخالفه جميع الأئمة سواء من بقية الأربعة أو غيرهم من أئمة المسلمين وأخذوا بهذه السنة المتواترة التي قعلها النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه. وهذا هو الراجح إن شاء الله أن الإنسان ينبغي له أن يصلي في مكان قريب من البلد. ومع الأسف الشديد هذه السنة عطلت في كثير من الأماكن وإن كانت باقية ولله الحمد في كثير من الأماكن لكن كثير من المدن الآن يصلون العيد في الجوامع وهو خلاف السنة وكما سيأتينا أن الإمام أحمد يرى أن هذا العمل مكروه. • ثم قال رحمه الله: وتقديم صلاة الأضحى وعكسه الفطر. يعني: أنه ينبغي للإمام أن يبادر بصلاة الأضحى ويؤخر صلاة عيد الفطر وأنه إن فعل ذلك فقد أصاب السنة وإن خالف فقد ترك السنة. واستدلوا على هذا بأدلة كثيرة: - الدليل الأول: عدة نصوص فيها أن النبي صلى الله عليه وسلم فعل ذلك وكل هذه النصوص ضعيفة. فإذا رأيت حديثاً فيه أن النبي صلى الله عليه وسلم عجل الأضحى وأخر الفطر فهو ضعيف. - ثانياً: استدلوا بالإجماع. فقد أجمع الفقهاء على هذا الحكم. - ثالثاً: استدلوا بعلل ومعاني استنبطها الفقهاء: فقالوا: بالنسبة لصلاة الفطر ينبغي أن تؤخر لأمرين: - الأول: ليتهيأ للناس إخراج زكاة الفطر. - والثاني: أيضاً ليتمكن الناس من تطبيق سنة الأكل قبل الصلاة.

وبالنسبة للأضحى: استدلوا بمعنيين أيضاً: - الأول: أنه يندب للإنسان أن لا يأكل إلا بعد الأضحى من أضحيته وفي الإمساك مشقة فينبغي أن يبادر الإمام بالصلاة ليأكل الناس. - الثاني: أن ذبح الأضاحي لا يشرع ولا يجوز إلا بعد الصلاة فينبغي أن يبادر بالصلاة ليذبح الناس أضاحيهم. وكما ترون - الإجماع وهذه التعليلات قوية وهي كفيلة إن شاء الله بإثبات هذه السنة مع أن الأحاديث ضعيفة. • ثم قال رحمه الله: وأكله قبلها. يعني أنه يشرع للإنسان أن يأكل قبل أن يخرج لصلاة الفطر. - لما ثبت في صحيح البخاري عن أنس رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن يغدو لعيد الفطر حتى يأكل تمرات. وفي رواية معلقة في صحيح البخاري موصولة عند أحمد بإسناد صحيح: وتراً. فتلخص لنا الآن بالنسبة لصلاة عيد الفطر أنه يستحب أن يأكل هذا أولاً. ثانياً: يستحب أن يكون الأكل من التمر. ثالثاً: أن يأكل وتراً. فإذا طبق هذه الثلاث فقد اقتدى بالنبي صلى الله عليه وسلم. • ثم قال رحمه الله: وعكسه في الأضحى إن ضحى. يعني أنه يستحب للإنسان أن لا يأكل في الأضحى قبل الصلاة وإنما يؤخر إلى أن يأكل بعد الصلاة. استدلوا على هذا: - بحديث بريدة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن يأكل في الأضحى إلا بعد الصلاة. وهذا الحديث فيه ضعف ولكنه يقبل التحسين. وقال الإمام أحمد رحمه الله: كان صلى الله عليه وسلم يأكل من أضحيته. واستدل على هذا بعدم الأكل قبل الصلاة. ومثل هذه العبارة كما تقدم معنا من الإمام أحمد مقبولة جداً لمعرفته رحمه الله بالسنة والسيرة فهو يخبر أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن يأكل إلا من أضحيته صلى الله عليه وسلم. • ثم اشترط شرطاً لهذا: فقال رحمه الله: لمضح. يعني أن ترك الأكل قبل صلاة الأضحى سنة لمن أراد أن يضحي بعد الصلاة. أما من لم يرد الأضحية فالأمر سيان إن شاء أكل وإن شاء لم يأكل. واستدلوا على هذا: - برواية في حديث بريدة أخرجها الدارقطني أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا لم يرد أن يضحي لم يبال أن يأكل.

- واستدلوا بدليل آخر وهو: أن المنع من الأكل إنما كان ليبدأ بأكل الأضحية تقرباً إلى الله فإذا لم يضحي إن شاء أكل وإن شاء ترك. إذاً: إذا قيل لك: ما هي السنة بالنسبة لمن لم يرد أن يضحي؟ - لا نقول: أن السنة أن يأكل. ولا نقول أن السنة أن لا يأكل: ولكن نقول: السنة إن شاء أكل وإن شاء ترك. • ثم قال رحمه الله: وتكره في الجامع بلا عذر. ومن المعلوم أن هذه العبارة لو قدمها المؤلف بعد قوله: في صحراء لكان أنسب فيكون الكلام عن موضوع واحد في موضع واحد. إذا صلى في الجامع فإما أن يكون بعذر أو بغير عذر. - فإن كان بعذر صحت بلا كراهة. لما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم أراد أن يصلي العيد فمطروا فصلاها في الجامع. وهذا فيه ضعف. - وأما إن كان بلا عذر فهو مكروه. ودليل الكراهة: أن في هذا مخالفة صريحة لسنة النبي صلى الله عليه وسلم. * مسألة: يستثنى من هذا: صلاة العيد في الحرم المكي فإنها تكون في الحرم لا في الصحراء. واستدلوا على هذا بدليلين: - الأول: شرف البقعة وعظم الأجر في المسجد الحرام. - الثاني: أن هذا عمل السلف والأئمة من القديم فإنه لم يحفظ أن أحداً منهم خرج من مكة ليصلي العيد. - الثالث - وهو تعليل يستأنس به: أن الخروج لضواحي مكة فيه صعوبة لكثرة الجبال. أي هذه الأدلة أقوى؟ الأقوى: الاستدلال بعمل السلف لأن الاستدلال بمسألة كثرة الأجر موجود في حرم المدينة ومع ذلك لم تؤثر. إذاً علمنا أن الذي يؤثر فعلاً هو أن هذا هو عمل السلف. لكن تذكر مثل هذه الأشياء للإستئناس والتقوية. • ثم قال رحمه الله: ويسن: تبكير مأموم إليها. يسن أن يأتي المأموم لا الإمام إلى الصلاة مبكراً. والدليل على هذا من أوجه: - أولاً: فعله عدد من الصحابة. (وإذا قلنا فعله عدد من الصحابة تعلم مباشرة أنه ليس في المسألة نص). - ثانياً: أن في هذا دنو من الإمام وهو محبوب للشارع في الجملة. - ثالثاً: ما ثبت في السنة أن المسلم في صلاة ما انتظر الصلاة وصلاة العيد داخلة في عموم هذا الحديث. • ثم قال رحمه الله: ماشياً. يعني أنه يندب أن يخرج الإنسان إلى صلاة العيد ماشياً. والدليل: - أن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: المشي إلى العيد من السنة.

وهذا الحديث ضعيف لا تقوم به حجة. - الدليل الثاني: أن في المشي الأجر الذي رتبه الشارع في الخروج للصلاة. - الثالث: أنه روي عن التابعين منهم عمر بن عبد العزيز. = والقول الثاني: إن شاء ذهب ماشياً وإن شاء ذهب راكباً ولا سنة معينة في ذلك. وإلى هذا مال الإمام البخاري رحمه الله. والأقرب والله أعلم - ما مال إليه البخاري رحمه الله لا سيما وأن صلاة العيد تتكرر ويأتي إليها الصحابة من بعيد ومن قريب ولم يأت ما يدل على أن المشي بحد ذاته سنة وهذه الأمور التعبدية تحتاج إلى توقيف. فنقول: يذهب إن شاء ماشياً وإن شاء راكباً. • ثم قال رحمه الله: بعد الصبح. يعني أن السنة أن يكون الذهاب بعد صلاة الصبح: - لأنه وقت الفضيلة. - وليتمكن من التبكير. - وليضمن عدم فوات الصلاة. - وأخيراً: لأنه مروي عن بعض الصحابة. = والقول الثاني: أن السنة أن يخرج إلى المصلى بعد طلوع الشمس. واستدلوا على ذلك: بما ثبت عن ابن عمر أنه كان يخرج بعد طلوع الشمس. والصواب مع الحنابلة. لقوة ما استدلوا به من التعليلات ولأن ابن عمر روي عنه الخروج بعد الصبح وبعد طلوع الشمس. وحمل بعض الفقهاء خروج ابن عمر بعد طلوع الشمس بمسألة القرب لأن مصلى العيد كان قريباً فإذا خرج بعد طلوع الشمس حصل له الدنو وأمن فوات الركعة الأولى. • ثم قال رحمه الله: وتأخر إمام إلى وقت الصلاة. يعني أنه بالنسبة للإمام يستحب أن يتأخر وأن لا يأتي إلا إذا أراد أنى يصلي. ولم يذكروا هذه العبارة في صلاة الجمعة فعلمنا أنها سنة خاصة بصلاة العيد. واستدلوا على هذه المسألة: - بحديث جابر في الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا أتى مصلى العيد أول ما يبدأ به الصلاة. فدل على أنه يبنغي أن يتأخر لكي يكون أول ما يبدأ به الصلاة واو أنه تقدم لكان أول ما يبدأ به تحية المسجد عند من يرى وجوبها في مصلى العيد أو الجلوس والتكبير عند من لا يرى تحية المسجد. • ثم قال رحمه الله: على أحسن هيئة. يعني أنه: يستحب للإنسان في يوم العيد أن يخرج على أحسن هيئة وذلك يكون بعدة أمور: الأول: الاغتسال. والثاني: التطيب. والثالث: الاستياك. والرابع: أن يلبس أحسن ثيابه.

فإذا فعل ذلك فقد خرج على أحسن هيئة. - أما الاغتسال: فدليله: أولاً: أنه مروي عن علي وابن عمر وغيرهما من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم. وثانياً: أنها صلاة شرع لها الاجتماع فاستحب لها الاغتسال كالجمعة. - وأما بالنسبة للبس أحسن الثياب: أولاً: فلما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم كان له حلة حمراء يلبسها في الأعياد. وهو حديث ضعيف لا يثبت. ثانياً: استدلوا: بأن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال للنبي صلى الله عليه وسلم ألا أشتري لك حلة تتجمل فيها بالأعياد وعند الوفود. فدل ذلك على أنهى معروف عندهم التجمل في العيد. وأيضاً أقره النبي صلى الله عليه وسلم ولم ينكر هذا المعنى. = والرواية الثانية عن الإمام أحمد رحمه الله أن الإنسان إن شاء خرج في لباس حسن وإن شاء خرج مبتذلاً بلباس ليس بحسن. قال: إن خرج بلباس حسن فهو من التجمل للعيد. وإن خرج بلباس ليس بحسن - أو مبتذل - فلما فيه من الخشوع والخضوع ولأنه مروي عن عطاء - يعني الخروج بلباس فيه تواضع. فالإمام أحمد خيَّر في الرواية الثانية بين أن تخرج بهذا أو بهذا. والصواب روايته الأولى. لأن المعاني التي ذكرها الحنابلة والنص الذي ذكر عن عمر رضي الله عنه صريح في السنية. - وأما الاستياك والتطيب: فلا إشكال فيه - أنه من الجمال. • ثم قال رحمه الله: إلاّ المعتكف ففي ثياب اعتكافه. يعني أنه يستحب لكل الناس التجمل إلا المعتكف فإنه يشرع له أن يخرج من اعتكافه بثيابه التي اعتكف بها ويذهب إلى المصلى بلا تجمل بل على هيئته التي اعتكف بها. واستدلوا على هذا بأمرين: - الأول: قوله صلى الله عليه وسلم: (والمعتكف يخرج بثياب اعتكافه). وهو حديث ضعيف لا يثبت. - الثاني: أن هذا اللباس من أثر العبادة ولا ينبغي أن يزال. = والقول الثاني: أن المعتكف كغيره من الناس يذهب إلى بيته ويتجمل ويتزين ويتطيب ويغتسل ويلبس من أحسن ثيابه ويذهب إلى العيد. واستدلوا بدليلين: - الأول: أن عموم النصوص والعلل المذكورة يشمل المعتكف وغير المعتكف. - الثاني: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يعتكف ومع ذلك يلبس الثياب الحسنة. وهذا القول الثاني - كما ترون - أنه غاية في القوة. وهو الراجح إن شاء الله.

• ثم قال رحمه الله: ومن شرطها: استيطان وعدد الجمعة. القاعدة العامة عند الفقهاء أنه يشترط في صلاة العيدين الشروط المذكورة في صلاة الجمعة إلا إن في صلاة العيدين شروط وجوب لا صحة بخلافها في الجمعة فهي شروط وجوب وصحة. فهذه قاعدة المذهب العامة. واستدلوا على هذا: - بأن النبي صلى الله عليه وسلم والخلفاء الراشدون لم يصلوا العيد في أسفارهم وقد صادف العيد النبي صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع ولم يصله صلى الله عليه وسلم. = والقول الثاني: أنه لا يشترط للعيد ما يشترط للجمعة. وهذا مذهب مالك والشافعي واختاره من المحققين الشيخ الفقيه المجد. واستدلوا على هذا: - بأن أنس بن مالك رضي الله عنه صلى بأهله العيد. - ثانياً: استدلوا على ذلك بأنه يجوز أن تقضى صلاة العيد عند الحنابلة بلا خلاف ولو بلا هذه الشروط - شروط الجمعة - أي ولو بلا دون عدد واستيطان وما صح قضاء صح أداء. وأجابوا عن كون النبي صلى الله عليه وسلم لم يصل في منى بأن النبي صلى الله عليه وسلم في منى شغل بالواجب والفريضة وهي أعمال نسك وصلاة العيد للمسافر سنة فقدم عمل الفريضة على السنة. وأما وجه الاستدلال بأثر أنس فمعلوم أن أثر أنس لم يستكمل العدد فدل على أن هذه الشروط لا تشترط في العيد كما في الجمعة. بناء على هذا القول - الثاني -: المرأة والمسافر والعبد والنفرد يصلون العيد أصالة لا تبعاً. وبناء على القول الأول: هؤلاء يصلون العيد تبعاً ولا يجوز أصالة. والراجح في الحقيقة من حيث النصوص والأثر القول الأول. والأسهل للناس لا سيما للمغتربين الثاني. لأنهم يتمكنون أن يقيموا صلاة العيد ولو كانوا كلهم من المسافرين. انتهى الدرس الأول

الدرس الثاني بعد العشاء: قال شيخنا - حفظه الله -: بسم الله الرحمن الرحيم • قال رحمه الله تعالى: لا إذن إمام. يعني أنه لا يشترط لصلاة العيدين إذن الإمام كما تقدم معنا في الجمعة أنه لا يشترط لها أيضاً إذن الإمام. وتعليل ذلك: أن هذه الصلاة من شعائر الدين الظاهرة التي لا تتوقف على إذن الإمام أو عدم إذنه بل يقيمها المسلمون إذا توفرت الشروط مباشرة. • ثم قال رحمه الله: ويسن: أن يرجع من طريق آخر. يعني: أنه يسن للإنسان إذا ذهب إلى صلاة العيد من طريق أن يرجع من طريق آخر. والدليل على ذلك: - ما ثبت في الصحيح عن جابر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا ذهب من طريق رجع من طريق آخر فهي سنة ثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم.

واختلفوا في العلة أو الحكمة التي من أجلها صنع ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم على أقوال كثيرة بلغت نحو عشرة أقوال كلها في تحديد أو معرفة الحكمة التي من أجلها يصنع النبي صلى الله عليه وسلم ذلك. والصواب: أن رجوعه - والله أعلم - يحقق حكماً كثيرة ليست حكمة معينة واحدة وإنما يحقق حكماً كثيرة: - منها: شهادة الأرض. - ومنها: إعطاء أهل الطريقين كل منهما حقه في مرور النبي صلى الله عليه وسلم من حيث سؤاله والانتفاع بعلمه والتبرك به صلى الله عليه وسلم. وذكروا عللاً كثيرة خلاصتها أنها في الجملة تصح أن تكون كلها حكم لإخلاف الطريق. * * مسألة: اختلفوا هل الذهاب من طريق والرجوع من طريق آخر سنة خاصة بصلاة العيدين أو هي تشمل الجمعة والاستسقاء والفروض الخمسة؟ = فمن الفقهاء من قال: هذه سنة في جميع الصلوات فإذا ذهب من طريق ينبغي أن يرجع من طريق آخر. = ومن الفقهاء من قال: بل هذه سنة خاصة لصلاة العيدين فقط لأنه لم ينقل عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه فعل ذلك إلا في صلاة العيدين فقط. والصواب مع القول الثاني: أنها سنة خاصة بصلاة العيدين دون سواها من الصلوات. • ثم قال المؤلف رحمه تعالى: يصليها ركعتين. أجمع الفقهاء على أن صلاة العيد ركعتان فلم يخالف في هذا أحد من الفقهاء. ودل عليه: - النص الصريح: فعن ابن عباس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى صلاة العيد ركعتين. - وعن جابر رضي الله عنه أيضاً أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى صلاة العيد ركعتين بلا أذان ولا إقامة. فكونها ركعتين - هذا القدر - دل عليه الإجماع والنص. • ثم قال رحمه الله: قبل الخطبة. يعني: أن المشروع أن تكون الصلاة قبل الخطبة. فإن كانت الخطبة قبل الصلاة بطلت الخطبة.

وهذا القدر - وهو تقدم الصلاة على الخطبة عكس الجمعة - هذا القدر أجمع عليه الأئمة إلا ما يذكر عن بني أمية فإنهم غيروا هذه السنة وأول من غير هذه السنة مروان بن الحكم وفعله لا يعتبر معتداً به في الخلاف بل هو هدر لأن الصحابة أنكروا عليه تقديم الخطبة على الصلاة إنكاراً بالقول والعمل فأنكر عليه أبو سعيد الخدري رضي الله عنه باللسان بأن هذا خلاف السنة وبالعمل بأن جذبه لما أراد أن يصعد ليخطب قبل الصلاة. فعمله هذا مهدر لا قيمة له وأجمع الفقهاء والعلماء المعتد والمشار إليهم على أن الصلاة في العيد قبل الخطبة وأنه إن خطب قبل الصلاة بطلت ووجب أن يعيدها بعد الصلاة. • ثم قال رحمه الله: يكبر في الأُولى بعد الإحرام والإستفتاح وقبل التعوذ والقراءَة: ستاً. أفاد المؤلف رحمه الله في هذه العبارة مسألتين: * الأولى: أن التكبيرات الزوائد ست. * والثانية: أن هذه التكبيرات الزوائد تكون بعد الاستفتاح. بناء على هذا نقول: السنة أن الإمام يكبر تكبيرة الاحرام ثم يقرأ دعاء الاستفتاح ثم يكبر ستاً ثم يستعيذ ويقرأ. = وهذا القول إحدى الروايتين عن الإمام أحمد. = والرواية الثانية: أن الإمام يسرد التكبيرات الزوائد بعد الإحرام. وهذه الرواية اختارها من العلماء الكبار: الخلال وأيضاً اختارها الحافظ ابن القيم وهي: أن التكبيرات الزوائد تكون بعد الإحرام مباشرة ثم يقرأ دعاء الاستفتاح. واستدلوا على هذا: - بأن ظواهر النصوص أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يأتي بالتكبيرات متتالية. المسألة الثانية: أن التكبيرات الزوائد بعد تكبيرة الإحرام ست وهذا هو مذهب الإمام أحمد. واستدلوا على هذا: - بحديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى صلاة العيد فكبر في الأولى سبعاً وفي الثانية خمساً. قالوا: سبعاً. يعني: مع تكبيرة الإحرام. وهذا الحديث صححه الإمام أحمد والبخاري وعلي بن المديني. وتكون التكبيرات الزوائد في الركعة خمساً ليس منها تكبيرة الانتقال. فإذا قال: الله أكبر واستتم قائماً يكبر خمساً متتالية. واستدلوا أيضاً: - بحديث عمر بن شعيب.

وفي هذه المسألة: أي في عدد التكبيرات الزوائد خلاف كبير بين هل العلم. اختلفوا على نحو عشرة أقوال أو أكثر. والسبب في الاختلاف أن الآثار المروية عن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم مختلف فيها ففيها أعداد مختلفة. ولكن = مذهب الإمام أحمد - رحمه الله - أن الأمر في التكبيرات واسع. فيقول الإمام أحمد - رحمه الله -: اختلف أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - والأمر فيه واسع. والخلاف هذا لا يقوم في الحقيقة على نصوص وإنما آثار عن أصحابالنبي - صلى الله عليه وسلم - والأقوال كثيرة نأخذ بعض هذه الأقوال حتى يكون عند الإنسان اطلاع. = فمن الفقهاء من قال: - نحن نتكلم عن الزوائد فلا أحد يقول هل هذا مع تكبيرة الإحرام أو لا؟ إنما نحن نتكلم عن الزوائد. = فالقول الأول: المذهب. ما تقدم ست وخمس. = والقول الثاني: سبع وسبع. = القول الثالث: ثلاث وثلاث. = القول الرابع: أربع وأربع. هذه أبرز الأقوال وهي مروية عن الصحابة. فالإنسان: إن كبر تارة بهذا وتارة بهذا فالأمر واسع وإن التزم أن يكبر ست وخمس فهو في الحقيقة موافق للنص وهو حديث عمرو بن شعيب. في مسألة: مع التسليم في أن الأمر واسع: لكن: = الحنابلة يقولون: ست وخمس. = الرواية الثانية عن الإمام أحمد: سبع وخمس. لماذا؟ قال: الحديث فيه أنه كبر سبعاً وخمس. لكن في - رواية للإمام أحمد قال: سبع مع تكبير الإحرام. - وفي رواية قال: سبع بلا تكبيرة الإحرام. وفي الحقيقة الأقرب للنص أن نقول: أنها سبع وخمس. لأنك تقول الخمس زوائد أيضاً السبع يبنبغي أن تكون زوائد. على كل حال الأمر واسع جداً والخلاف فيه ثابت عن أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم -. والعمل على ست وخمس هنا في هذه البلاد. • ثم قال - رحمه الله -: وفي الثانية قبل القراءَة: خمساً. وتقدم معنا الكلام عن هذه المسألة. • ثم قال - رحمه الله -: يرفع يديه مع كل تكبيرة. لما تبين معنا أن التكبيرات الزوائد ست وخمس فالسنة أن يرفع يديه مع كل تكبيرة زائدة. والدليل على ذلك: - حديث وائل بن حجر أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يرفع يديه مع كل تكبيرة. قال الإمام أحمد - رضي الله عنه - وصلاة العيد من ذلك.

- وبإنه ثبت عن ابن عمر - رضي الله عنه - أنه كان يرفع يديه في الجنائز والعيد. وهذا إن شاء الله هو الصواب: أن الإنسان يرفع يديه مع كل تكبيرة. • ثم قال - رحمه الله -: ويقول: ((اللَّهُ أَكْبَرُ كَبِيراً وَالْحَمْدُ لِلَّهِ كَثِيراً وَسُبْحَانَ اللَّهِ بُكْرَةً وَأَصِيلاً وَصَلَّى اللَّهُ عَلَى مُحَمَّدٍ النَّبِيِّ وَآلِهِ وَسَلَّمَ تَسْلِيْماً كَثِيْراً)) وإن أحب قال غير ذلك. أفادنا المؤلف - رحمه الله - مسألتين: - الأولى: أنه يستحب أن يكون هناك ذكر بين التكبيرات. - الثانية: أن الأمر واسع في هذا الذكر. فإن شاء قال ما ذكره المؤلف - رحمه الله - وإن شاء كبر وهلل وإن شاء كبر وسبح فالأمر فيه واسع. الدليل على مشروعية الذكر بين التكبيرات: - أن ابن مسعود - رضي الله عنه - قال: إذا كبر فإنه يحمد الله ويثني عليه ويصلي على النبي - صلى الله عليه وسلم - قال حذيفة وأبو موسى - رضي الله عنهما - صدق أبو عبد الرحمن. فصار الأثر ثابت عن ثلاثة من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم -. = والقول الثاني: أنه لا يشرع أن يقول شيئاً بين التكبيرات. - لأنه لو وجد ذكر مخصوص لنقل. فلما لم ينقل علمنا أنه لا يشرع. والصواب أن الأمر واسع إن شاء أخذ بهذه الفتوى عن مثل هذا الصحابي الجليل ابن مسعود وحذيفة وأبو موسى وإن شاء أخذ بظاهر النص ولم يذكر بين التكبيرات شيء فالأمر إن شاء الله واسع. • ثم قال - رحمه الله -: يقرأ جهراً. أي أن السنة: للإمام أن يجهر بالقراءة. = وهذا مذهب الجماهير وحكي إجماعاً. واستدلوا على هذا: - بأن أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - أخبروا بما كان يقرأ في الصلاة. فدل على أنه يجهر بالقراءة. وعلى هذا عمل المسلمين من قديم الزمان. • قال - رحمه الله -: في الأُولى بعد الفاتحة: ((بِسَبْحِ))، و ((بِالْغَاشِيَةِ)) في الثانية. تقدم معنا: في حديث النعمان وهو في صحيح مسلم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يقرأ بهاتين السورتين في الجمعة والعيد فإذا وافق يوم الجمعة العيد قرأ بهما في الصلاتين. وفي هذه المسألة سنة أخرى وهي:

- مارواه أبو واقد الليثي أن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - سأله عن السنة في صلاة العيد فقال: يقرأ بـ: ق واقتربت. وهو حديث صحيح في مسلم. فالسنة أن يقرأ هذا أحياناً وهذا أحياناً. وفي هذا الحديث من الفوائد أن العالم الكبير والفقيه المنظور إليه قد يجهل بعض السنن ولذا نجد أن عمر - رضي الله عنه - يسأل هذا الصحابي عن سنة القراءة في صلاة العيد مع العلم أن صلاة العيد أمرها لا يخفى وعمر - رضي الله عنه - كان يصلي مع النبي - صلى الله عليه وسلم - ومع ذلك سأله فقد يخفى على كبير الشأن ما يعلمه من هو أقل منه. = والقول الثاني: أنه ليس لصلاة العيد سنة معينة في القراءة وهذا رواية عن الإمام وكأنه حمل هذه الأحاديث على أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قرأها مصادفة لا قصداً - كأنه انا أقول: كأنه - رحمه الله - في هذه الرواية حمل الأحاديث على هذا أنه قرأها مصادفة لا قصداً. والصواب بلا شك مع القول الأول وهو: أنه يقرأ أحياناً بهذا وأحياناً بهذا لأن الصحابة الذين رووا هذه الأحاديث ومنهم عمر فهموا أن هذا سنة. • ثم قال - رحمه الله -: فإذا سلم: خطب خطبتين كخطبتي الجمعة. يعني: أن المشروع في خطبة العيد أن يخطب خطبتين. وقد اتفق على هذا الفقهاء - رحمهم الله -. واستدلوا على ذلك: - بأن صلاة العيد تقاس على صلاة الجمعة لكثرة الشبه بينهما. - ثانياً: بما رواه عبيد الله بن عبد الله بن عتبة: وهذا تابعي كبير القدر وهو من الفقهاء السبعة وهو شيخ عمر بن عبد العزيز ومعلمه. أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يخطب خطبتين. ولكن هذا الأثر في إسناده ضعف. ثم أن العلماء اختلفوا في قول التابعي: من السنة. هل له حكم الرفع؟ أو حكم الوقف؟ - إذا قال الصحابي من السنة فله حكم: الرفع. لكن إذا قال التابعي من السنة فاختلفوا هل له حكم الرفع؟ أو حكم الوقف؟ فيخ خلاف بين الفقهاء: والأقرب عندي والله أعلم: أن له حكم الرفع. إذا كان القائل بمنزلة هذا التابعي الكبير من العلم والفهم فإنه لا ينسب عملاً إلى السنة إلا وقد علم أنه من السنة. = والقول الثاني: أن المشروع أن تكون خطبة واحدة.

وكأن هذا القول فيه خلاف للإجماع. وممن مال إلى هذا القول شيخنا - رحمه الله - وأظن أن الشيخ - رحمه الله - أخذه من الصنعاني في سبل السلام لأنه ذكر هذا الشيء وهو أن ظاهر النص أنها خطبة واحدة. ولكن في الحقيقة الصنعاني والقول الذي مال إليه شيخنا فيه مخالفة للإجماع فمهما بحثت ف"إنك لا تجد أن أحداً يقول بسنية أن تكون خطبة واحدة وهو أمر معهود معروف من القديم. يعني: نشأ الإمام مالك وهم يخطبون العيد خطبتين. وهذا التابعي الكبير عبيد الله بن عبد الله بن عتبة كذلك يثبت أنها خطبتان فالمهم أنني أظن أن هذا فيه مخالفة للإجماع وخالف هؤلاء الذين ذكرت وكأنهم تفقهوا بالنص مباشرة ولكن الواقع أن أئمة المسلمين كلهم يرون أن المشروع في صلاة العيد أن يخطب الإمام خطبتين. وهذا هو الراجح. • ثم قال - رحمه الله -: كخطبتي الجمعة. يعني أن المشروع أو بعبارة أخرى أن شروط خطبتي العيد كشروط خطبتي الجمعة في كل شيء إلا في بعض المسائل غير المهمة نتركها ونأخذ مسألتين مهمتين: - الأولى: أنه لا يشرع للإمام في خطبتي العيد أن يجلس إذا حضر. لأنه في الجمعة يجلس الإمام لينتظر المؤذن وهنا لا أذان. - الثانية: أنهم اختلفوا في الكلان أثناء خطبة العيد: = فمن الفقهاء من قال: يجوز أن يتكلم الإنسان أثناء خطبة العيد. واستدل على ذلك: - بأن حضور الخطبة كله سنة فالاستماع لا يكون واجباً. = والقول الثاني: أن الا ستماع وترك الكلام واجب فإن تكلم فهو آثم مع الإقرار بأن حضور الخطبة سنة كما سيأتينا. - وذلك لأنه لارتباط بين حكم حضور الشيء والأحكام التفصيلية فيه. فهذا الإنسان يجوز له أن يكبر في النفل ويجوز له أن لا يفعل لكنه إذا كبر وجب عليه واجبان وبطلت صلاته إن لم يستوف مافيها من شروط وأركان.

فنقول: لك أن تحضر ولك أن تغيب لكن إذا حضرت لا يجوز لك أن تتكلم ولذلك قال الإمام أحمد: في الرواية التي ينصر فيها تحريم الكلام: أرأيت إذا تكلموا على من يخطب. وهذا معنى كلامه - رحمه الله - أي: إذا صار الناس يتكلمون إذاً الخطيب يخطب على من؟ لا شك أن هذا مخالف لمقتضى الشرع ومخالف للمقصود من خطبة العيد وأيضاً هو فيه من الإخلال بمظهر المسلمين مافيه لو فتح هذا الباب. فالراجح إن شاء الله أنه يحرم لمن أراد أن يحضر الخطبة أن يتكلم. • ثم قال - رحمه الله -: يستفتح الأُولى بتسع تكبيرات والثانية بسبع. يستفتح الخطبة الأولى بتسع والثانية بسبع. وهذه السنة أيضاً ليس فيها نص عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وإنما فيها حديث عبيد الله بن عبد الله بن عتبة السابق وفيه: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كبر بتسع وبسبع في الخطبة الثانية. واستدلوا على ذلك: - بأن التكبير شعار صلاة العيد فاستحب أن يبدأ الخطبة به. وهذا القول - الأول - قول الجماهير: افتتاح خطبتي العيد بالتكبير. = والقول الثاني: أن المشروع للإنسان أن يبدأ بالحمد. وإلى هذا ذهب شيخ الإسلام - رحمه الله - وبعض الفقهاء. واستدل: - بأنه لا يحفظ عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه بدأ خطبة بغير الحمد. وهذا القول الثاني: أصح. وهو أنه يبدأ بالحمد. لأن هذا هو المعهود عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ولأنه لو كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يستفتح الخطبة بالتكبير بهذا الشكل تسع تكبيرات قبل أن يقول الحمدلله رب العالمين لكان مثل هذا مما توافر الهمم على نقله وبيانه لا سيما وأنه لو كان وقع فهو يخالف المعهود عن النبي - صلى الله عليه وسلم - فإن الفقهاء جميعاً أقروا أن المعهود عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يبدأ الخطبة بالحمد لله رب العالمين. لهذا فإن الراجح إن شاء الله أن الإنسان يبدأ خطبة العيد بالحمد لله رب العالمين ولا يكبر. هذا والله أعلم وصلى الله على نبينا محمد.

قال شيخنا حفظه الله: بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين. • قال رحمه الله: يحثهم في الفطر: على الصدقة ويبين لهم ما يخرجون. ما زال المؤلف في بيان بعض أحكام خطبة العيدين وذكر منها أن المستحب والمسنون للإمام في خطبة عيد الفطر أن يبين لهم أحكام الفطر. فيبين لهم المقدار الذي يخرجون والفئة المستحقة للإخراج ووقت الإخراج. والدليل على ذلك: - أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا خطب قال: (تصدقوا تصدقوا .. ) - مرتين - ثم قال الرواي: وكان أكثر من يتصدق النساء. وهذا الحديث متفق عليه. - والقول الثاني: أن التذكير بأحكام زكاة الفطر يكون في آخر جمعة من رمضان لا في خطبة العيد. - لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (من أداها قبل الصلاة فهي مقبولة ومن أداها بعد الصلاة فهي صدقة من الصدقات. وإلى هذا القول مال شيخنا رحمه الله وهو قول كما ترى وجيه وقوي جداً لأنه لا فائدة من التذكير بأحكام زكاة الفطر بعد مضي وقت زكاة الفطر. • ثم قال رحمه الله ويرغبهم في الأضحى: في الأُضحية ويبين لهم حكمها. يعني: أن المستحب للإمام في خطبة عيد الأضحى أن يبين لهم أحكام الأضحية من حيث السن المجزئ ووقت الذبح وما يتعلق بهذه الأحكام. والدليل على ذلك: - أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في خطبة الأضحى: (من ذبح قبل الصلاة فليذبح مكانها أخرى ومن ذبح بعد الصلاة فقد أصاب سنة المسلمين). فبين لهم صلى الله عليه وسلم أحكام الأضحية في خطبة عيد الأضحى. وهذا صحيح ومناسب ولا يريد المؤلف رحمه الله أن يقتصر الإمام على ذكر هذه الأحكام ولكن يريد أنه ينبغي أن تشتمل الخطبة على إيضاح هذه الأحكام. • ثم قال رحمه الله تعالى والتكبيرات الزوائد والذكر بينها: سنة. التكبيرات الزوائد التي تقدمت معنا والذكر الذي يقال بينها على ما جاء في أثر ابن مسعود: سنة. فإن تركها المصلي سهواً أو عمداً صحت صلاته. والدليل على هذا: - إجماع الفقهاء على سنية هذين الأمرين. فإذا دخل المسبوق بعد تكبير الإمام يعني: إذا كبر الإمام سبعاً ثم دخل المسبوق معه فهل المشروع في حقه أن يكبر أو أن لا يكبر؟ فيه خلاف:

- من الفقهاء من قال: يكبر. - لأنه صادف محل التكبير فيكبر. - ومن الفقهاء من قال: بل يستمع لقراءة الإمام ولا يكبر. - لأن الإستماع لقراءة الإمام واجبة. وهذا القول الثاني هو الصواب. • ثم قال رحمه الله تعالى والخطبتان .. : سنة. خطبتا صلاة العيد سنة عند الجماهير والجم الغفير من أهل العلم. واستدلوا على هذا: - بما رواه عطاء عن ابن السائب أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إنا نخطب خطبتنا هذه فمن شاء أن يجلس فليجلس ومن شاء أن يذهب فليذهب. ولو كانت الخطبة واجبة لكان الاستماع واجباً. وهذا الحديث صححه جمهور المتأخرين. وضعفه المتقدمون. فضعفه أبو داود والنسائي وابن معين. حكموا عليه أنه مرسل يعني أن الصواب فيه أن عطاء قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا خطب يقول ..... بإسقاط ابن السائب وأن من ذكر ابن السائب فقد أخطأ في الرواية وهذا هو الصواب: أن ذكر ابن السائب خطأ ولا يثبت الحديث إلا مرسل من رواية عطاء. - والقول الثاني: أن خطبة العيد من شرائط صلاة العيد وإلى هذا ذهب من الحنابلة ابن عقيل وغيره من الحنابلة. لكنه أبرز من ذهب إلى هذا القول. وظن الشوكاني رحمه الله في نيل الأوطار أن سنية الخطبة: خطبتي العيد محل إجماع ولذلك قال: لا أعلم قائلاً بالوجوب وكأنه لم يقف على اختيار ابن عقيل هذا الذي فيه أنه من شرائط العيد. والمسألة محتملة في الحقيقة فيحتمل أن نقول أنها سنة كما هو مذهب الجماهير ويحتمل أن نقول أنها واجبة لأن لا ينفض الناس عن الإمام فتكون خطبته لا فائدة منها. في الحقيقة مسألة حكم خطبة صلاة العيد محتملة. • ثم قال رحمه الله ويكره: التنفل قبل الصلاة وبعدها. نص الإمام أحمد على أنه يكره للإنسان أن يتنفل قبل وبعد صلاة العيد. واستدل على هذا: - بالحديث المتفق عليه عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم كان لا يصلي قبل العيد ولا بعدها. - والدليل الثاني: ما ذكره الزهري أنه قال: لا أعلم أحداً من العلماء نقل عن أحد من السلف أنه صلى قبل العيد أو بعدها. وقال الزهري أيضاً: لم يصلها بدري قط.

وإذا كان الصحابة من أهل بدر كلهم لم يصلوها فهو إجماع وَمَنِ الناس بعد أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم من أهل بدر. - ولأن النبي صلى الله عليه وسلم لو كان يصلي هو أصحابه لنقل. - ومن الفقهاء من قال: الصلاة قبل العيد جائزة لا مندوبة ولا مكروهه. وكأن الشوكاني يميل إلى هذا. والصواب لا شك مع الإمام أحمد إن شاء الله لما استدل به من الإجماع وحكاية عمل عامة الصحابة لا سيما الكبار منهم كأهل بدر فمعنى هذا أن أبا بكر وعمر وعلي وعثمان وأبو عبيدة وفقهاء الصحابة وكبارهم كلهم لم يكونوا يصلون قبل صلاة العيد. وهذا القول هو الصواب ومن رجح أنه يجوز وأنه لا دليل على المنع فمن وجهة نظري أن قوله بعيد مع ما قاله الزهري. مسألة: هل يشمل ذلك تحية المسجد؟ الجواب: نعم. بل نص الإمام أحمد على أنه لا يصلي ولا تحية المسجد بل يأتي ويجلس بلا صلاة. - والقول الثاني: في مذهب الحنابلة: أن تحية المسجد تستثنى. وإلى هذا ذهب بعض محققي الحنابلة. واستدلوا على ذلك: - بعموم قول النبي صلى الله عليه وسلم إذا دخل أحدكم المسجد فلا يجلس حتى يصلي ركعتين. وهذا القول الثاني: هو الصواب في مسألة تحية المسجد إذا حكمنا أن مصلى العيد مسجد. عرفنا الآن مما نقله الزهري أن الشارع الحكيم يحب من الإنسان أن لا يصلي قبل صلاة العيد والكلام الآن في النفل المطلق أما النفل المعين فبالإجماع فليس لصلاة العيد نفلاً معيناً قبلها ولا بعدها لكن الكلام الآن في النفل المطلق فإذا أتينا مصلى العيد ووجدنا أحداً يتنفل نفلاً مطلقاً فنقول له أنت على خلاف هدي السلف .. فعلك خلاف هدي السلف لما نقله - كما تقدم - الزهري. هذا علمنا أن الشارع الحكيم أحياناً يحب من الإنسان في بعض الأزمنة والأمكنة أن يصلي وأحياناً يحب من الإنسان في بعض الأزمنة أو الأمكنة أن لا يصلي وما ذلك إلا لتعويد النفس على الانقياد والطاعة لله في العبادة فعلاً وتركاً. • ثم قال رحمه الله تعالى: في موضعها. يعني أن الكراهة تختص بموضع صلاة العيد. أما إذا أراد أن يصلي بعدها في بيته فهو جائز. - وهو مذهب الإمام أحمد بل كان يفعل ذلك. والدليل من وجهين:

- الوجه الأول: أنه جاء في السنة أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا رجع إلى بيته من صلاة العيد صلى نفلاً وهذا الحديث فيه ضعف ولكنه يسير لأن ضعفه أتى من قبل أحد الرواة الذين خف ضبطهم. - الدليل الثاني: ما صح عن ابن مسعود رضي الله عنه أنه كان يصلي في بيته بعد صلاة العيد. - الدليل الثالث: أن الإمام أحمد فهم من حديث ابن عباس السابق أن النبي صلى الله عليه وسلم كان لا يصلي قبل العيد ولا بعدها أن هذا في مصلى العيد - فهم هذا الفهم. فهذه ثلاثة أدلة كل واحد منها يقوي الآخر - أن حديث ابن عباس خاص بمصلى العيد وأثر ابن مسعود والحديث المرفوع أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصلي في بيته بعد صلاة العيد. إذاً قول الحنابلة أن الكراهة تختص بمكان صلاة العيد صحيح. • ثم قال رحمه الله: ويسن لمن فاتته ... قضاؤها على صفتها. تقدم معنا الكلام عن حكم قضاء المنفرد لصلاة العيد وأن الجمهور في الجملة يرون مشروعية القضاء وأن الإمام أبا حنيفة وتبعه شيخ الاسلام يرون أنه لا يسن قضاء صلاة العيد - تقدم معنا هذا. والشيء الذي ممكن أن نضيفه هنا أن نقول: أنه صح عن ابن مسعود بإسناد صحيح جيد أنه كان يقضي صلاة العيد أربع ركعات وهو قول عند الحنابلة. فصارت الأقوال - تقضى على هيئتها وهو الموافق لأثر أنس الذي تقدم معنا. - لا يسن أن تقضى. - تقضى أربع ركعات. والذي يظهر لي والله أعلم أن الأمر واسع وإن كان اختيار شيخ الاسلام قوي باعتبار أن هذه الصلاة شرعت بهيئة معينة مع الخطبة والجماعة ولا يوجد هذا الشيء في المنفرد وهذا القول أقعد وأقرب للنصوص لكن مع ذلك أقول الأمر فيه واسع إن شاء الإنسان أن يصليها على هيئتها وإن شاء أن يصليها أربعاً وإن شاء أن لا يصلي فالأمر فيه واسع. • ثم قال رحمه الله أو بعضها. يسن لمن فاته بعض صلاة العيد أن يقضي صلاة العيد على صفتها. ومن فاته بعضها هو: كل من أدرك الإمام قبل أن يسلم. فكل من أدرك الإمام قبل أن يسلم فقد أدرك بعض صلاة العيد فيشره له أن يقضي الصلاة على صفتها. - لعموم قول النبي صلى الله عليه وسلم: (فما أدركتم فصلوا وما فاتكم فأتموا.

وتقدم معنا: هل المدرك لبعض الصلاة يعتبر ما أدرك هو أول الصلاة أو هو آخر الصلاة؟ والثمرة عندنا هنا: - إن قلنا أن المُدْرَك هنا هو آخر الصلاة فالمشروع في حقه إذا قام ليأتي بالتكملة أن يكبر ست أو يبع - حسب الخلاف السابق. - وإذا قلنا أن ما أدرك هو الأول وما يقضي هو آخر الصلاة فالمشروع في حقه إذا قام أن يكبر خمس. إذاً يترتب على هذا القول أشياء كثيرة جداً منها ما يتعلق بصلاة العيد. وتقدم أن الراجح أن ما يدرك هو أول الصلاة وأن ما يقضي هو آخر الصلاة. ثم بدأ المؤلف بموضوع آخر خارج عن مسألة ذات الصلاة وهو التكبير: • فقال رحمه الله تعالى: ويسن التكبير المطلق. التكبير المطلق هو: التكبير الذي لا يختص بأدبار الصلوات بل يكون في الأسواق والطرقات والمساجد والدور وفي كل مكان. هذا هو التكبير المطلق. • يقول رحمه الله تعالى: في ليلتي العيدين. يعني: أنه يشرع في ليلة عيد الفطر وفي ليلة عيد الأضحى أن يكبر المسلم تكبيراً مطلقاً. نبدأ بليلة عيد الفطر: - ذهب العلماء إلى أنه يشرع للإنسان أن يكبر تكبيراً مطلقاً. واستدلوا: بنصوص كثيرة: - منها قوله تعالى: {ولتكملوا العدة ولتكبروا الله على ما هداكم ولعلكم تشكرون}. فالعدة قي الآية: أي أيام رمضان ثم قفال: {ولتكبروا. - الدليل الثاني: أنه ثبت عن ابن عمر أنه كان يكبر في ليلتي العيد. - الدليل الثالث: أن هذا التكبير من شعائر الاسلام الظاهرة فهذه ثلاثة أدلة تدل على التكبير المطلق ليلة عيد الفطر - ونحن الآن نتكلم حول التكبير في عيد الفطر فقط. مسألة: ذهب الحنابلة إلى أن التكبير ليلة عيد الفطر مطلق ولا يسن أن يكبر تكبيراً مقيداً. بناء على هذا: ما يصنعه بعض الناس اليوم في ليلة عيد الفطر - نشاهد الآن كثير من الناس بل عامة الناس إذا صلى المغرب والعشاء والفجر ليلة عيد الفطر يكبر بعد الصلاة مباشرة فهذا عمله عند الحنابلة لا يسن غير مشروع بل المشروع أن يكبر تكبيراً مطلقاً فقط. - والقول الثاني: أنه يشرع أن يكبر تكبيراً مقيداً في ليلة عيد الفطر بل التكبير المقيد فيها يستحب أكثر من المطلق عندهم.

والراجح: أن في الأمر سعة إن شاء الإنسان أن يكبر تكبيراً مقيداً أو مطلقاً مع وجاهة وقوة ما ذهب إليه الإمام أحمد من منع التكبير المطلق ليلة الفطر لأن ظاهر الآثار اختصاص التكبير المقيد بعيد الأضحى كما سيأتينا. إذا عرفنا الآن حكم التكبير ليلة العيد وهل يكون مطلقاً أو مقيداً؟ باقي آخر مسألة: وقت التكبير ليلة العيد. يبدأ من مغيب الشمس ليلة العيد وينتهي بانتهاء الخطبة. - والقول الثاني: أنه ينتهي بحضور الإمام. إذاً الخلاف في الانتهاء لا في الابتداء. والقول الأول في مسألة الانتهاء اختيار شيخ الاسلام. والقول الثاني صح عن ابن عمر وهو الراجح: أنه ينتهي بحضور الإمام لأنه بحضور الإمام ينشغل الإنسان بالصلاة وسماع الخطبة. على أن الأمر في مثل هذه الأحكام واسع ليس فيها نصوص صريحة وإنما هي آثار وشعائر عامة وليست من المسائل التي تنكر فيما لو كبر الإنسان بعد حضور الإمام. لكن نقول: الأقرب باعتبار الآثار وصحة الفتوى عن ابن عمر أن التكبير ينتهي بحضور الإمام لا بالخطبة. • ثم قال رحمه الله: وفي فطر آكد. يعني أن التكبير في عيد الفطر آكد منه في عيد الأضحى. الدليل على أنه آكد: - أنه نص القرآن عليه. - والقول الثاني: أن التكبير في عيد الأضحى آكد. لوجهين: - الأول: أنه اختلف في مشروعية تكبير عيد الفطر ولم يختلف في التكبير في عيد الأضحى. - الثاني: أن في عيد الأضحى تكبيراً مقيداً دون عيد الفطر. - القول الثالث: أن كلاً منهما أرجح من جهة. فهذا أرجح من جهة النص وهذا أرجح من جهة عدم الاختلاف فيه. وهذا هو الصواب. مسألة: عيد النحر أفضل من عيد الفطر. على هذا تدل عبارات السلف وهو اختيار شيخ الاسلام بل رأى أن عيد النحر أفضل أيام السنة. فعيد النحر أعظم وأفضل وأحب إلى الله من عيد الفطر. ثم بدأ المؤلف رحمه الله بالكلام عن التكبير في عيد الأضحى: • فقال رحمه الله وفي كل عشر ذي الحجة. يعني: ويشرع التكبير المطلق في كل أيام العشر الأولى من شهر ذي الحجة. - ويبدأ التكبير عند الحنابلة من فجر أول يوم من أيام العشر وينتهي بانتهاء الخطبة يوم العيد. والدليل على مشروعية هذا التكبير:

- قوله تعالى: { .. ويذكروا اسم الله في أيام معلومات ... } [الحج/28 وابن عباس فسر الأيام المعلومات بأنها أيام العشر. - وبقوله صلى الله عليه وسلم: (أيام التشريق أيام أكل وشرب وذكر لله). - وبأن ابن عمر وغيره من الصحابة كانوا يكبرون في العشر تكبيراً مطلقاً. - والقول الثاني: أن التكبير المطلق في العشر لا ينتهي إلا بغياب الشمس من آخر أيام التشري. استدل هؤلاء (على امتداد التكبير المطلق إلى نهاية أيام التشريق): - بحديث: (أيام التشريق أيام أكل وشرب وذكر لله) - وبقوله تعالى: {واذكروا الله في أيام معدودات ... } [البقرة/184 وابن عباس فسرها بأنها أيام التشريق. - وأن ابن عمر رضي الله عنه كان يكبر في منى في أيام التشريق ويكبر معه الناس. فهذه ثلاثة أدلة تدل على استمرار التكبير إلى نهاية أيام التشسريق وهذا اختيار شيخ الاسلام وهو الصواب إن شاء الله. فصار التكبير المطلق في عيد الأضحى يبدأ من دخول العشر ولا ينتهي إلا بغياب الشمس من آخر أيام التشريق وعند الحنابلة يبدأ من أول يوم وينتهي بانتهاء الخطبة. • ثم قال رحمه الله: والمقيد: عقب كل فريضة في جماعة. يعني: ويشرع التكبير المقيد في عيد الأضحى عقب كل فريضة في جماعة. أولاً: التكبير المقيد هو: التكبير الذي يختص بأدبار الصلوات. ثانياً: خصصه الحنابلة بأمرين: - الأول: أن يكون بعد الفريضة. والثاني: أن يكون في جماعة. - أما أنه بعد الفريضة فهذا محل اتفاق بين الأئمة كلهم إلا الشافعي فقط فإنه يرى مشروعية التكبير بعد النوافل. والصواب مع الأئمة: لأن ظواهر الآثار أن ذلك يتعلق بالفرائض. - وأما أنه في جماعة: فإن صلى الإنسان بمفرده فإنه لا يشرع له أن يكبر. والدليل على هذا - أنه صح عن الصحابة: عن ابن عمر وابن مسعود أنهم كانوا لا يرون التكبير المقيد إلا لمن صلى في جماعة. ونحن نلتزم فتوى ابن عمر وابن مسعود لأن فهمهم مقدم على الآراء المطلقة فهم فهموا أنه مخصوص بصلاة الجماعة. إذاً الصواب إن شاء الله مع الجماهير في أن التكبير المقيد مقيد بالفريضة وبصلاة الجماعة. • ثم قال رحمه الله: في الأضحى من صلاة الفجر يوم عرفة.

يبدأ التكبير المقيد بالنسبة لصلاة الأضحى من فجر يوم عرفة بالنسبة للمحل - وسيأتينا المحرم. - وهذا هو مذهب الحنابلة كما ترون الآن وهو مذهب المالكية ونصره جداً شيخ الاسلام ابن تيمية. واستدل على ذلك: - بأن هذا إجماع الصحابة. إذاً مسألة بداية التكبير من فجر يوم عرفة بالنسبة للمحل هذا محل إجماع من الصحابة وإن وقع خلاف بين الأئمة المتأخرين - أقصد: الذين في القرن الثاني والثالث. لكن يقول شيخ الاسلام أنه محل إجماع من أكابر الصحابة وهو الصواب. فمذهب الحنابلة والمالكية واختيار شيخ الاسلام هو الصواب. • ثم قال رحمه الله: وللمحرم من صلاة الظهر يوم النحر. يعني: أن المحرم يبدأ التكبير المقيد له من صلاة الظهر يوم النحر. - لأنه مشغول قبل ذلك بالتلبية. وإنما علقوه بقولهم: من صلاة الظهر. تغليباً. وطردوا الحكم بمعنى: لو رمى الإنسان قبل صلاة الفجر من اليوم العاشر كما يفعل بعض الضعفة والنساء فإنهم أيضاً لا يكبرون التكبير المقيد إلا بعد الظهر. وكذلك لو أخر أحد الحجاج الرمي إلى ما بعد صلاة الظهر فإنه يبدأ بعد صلاة الظهر. إذاً هذا مذهب الحنابلة وهكذا يرون. يرون أنا نعلق بداية التكبير المقيد بصلاة الظهر تغليباً لأن الحجاج عامتهم سيرمون في الضحى ثم يتحللون فإذا صلى الظهر يبدأ بالمقيد وطردوا هذا في من رمى قبل وفي من رمى بعد. - والقول الثاني: أن الحاج أيضاً يبدأ من فجر يوم عرفة لأنه لا تعارض بين التلبية والتكبير فقد نقل عن الصحابة أنهم قالوا: منا المكبر ومنا الملبي. وفي الحقيقة مسألة بداية التكبير المقيد بالنسبة للحاج تحتاج إلى جمع الآثار أكثر فإن الآثار التي جمعت لم تسعف في تبيين الراجح في الحقيقة لكن على كل حال نقول: القول الثاني الآن باعتبار قول الصحابة منا المكبر ومنا الملبي أقرب - فالقول الثاني أقرب. فالحاج إذا صلى الفجر يوم عرفة يبدأ بالتكبير المقيد مع استمرار التلبية ولا تعارض بين التلبية والتكبير. وكما قلت أن المسألة تحتاج إلى جمع الآثار. • ثم قال رحمه الله: إلى عصر آخر أيام التشريق. وهذا بالنسبة للمحرم والمحل. فيستمر التكبير المقيد إلى نهاية أيام التشريق كما جاء في الآثار. •

ثم قال رحمه الله: وإن نسيه: قضاه. إذا نسي الإنسان التكبير المقيد فإنه يشرع له أن يقضيه بعد الصلاة ما لم يطل الفصل. وهذا بلا نزاع في الجملة بين الحنابلة. استثنى المؤلف مسألتين: • فقال رحمه الله: ما لم يحدث أو يخرج من المسجد. فإن أحدث أو خرج من المسجد فإنه لا يقضي التكبير ولو كان الفصل قليلاً - ولو كان الوقت بين الترك والتذكر قليلاً. استدلوا على هذا: - بالنسبة للحدث: بأن الحدث يبطل الصلاة فمن باب أولى يبطل ما يتعلق بالصلاة وهو التكبير المقيد. - وبالنسبة لمسألة المسجد: أن المسجد يختص بصلاة الفريضة فإذا خرج انقطعت توابعها ومنها التكبير. - والقول الثاني: وهو قول عند الحنابلة اختاره المجد وابن قدامة. أن الإنسان يقضي مطلقاً ما لم يطل الفصل ولو أحدث ولو خرج من المسجد. - لأنه لا ارتباط بين التكبير والطهارة بدليل: أن التسبيح والتهليل المشروع أدبار الصلوات يندب أن يذكره الإنسان ولو خرج ولو أحدث مع أن التصاق هذا التسبيح والأذكار الخاصة بالصلاة أكبر منها بالنسبة للتكبير لأنها في كل السنة والتكبير في وقت محدد. - ولأنه لا دليل على عدم القضاء إذا أحدث أو خرج. فصار القول الراجح: أن الإنسان إذا نسي فإنه يقضي التكبير دائماً ولو أحدث ولو خرج إلا إذا طال الفصل. • ثم قال رحمه الله: ولا يسن عقب صلاة عيد .. يعني: لا يسن للإنسان أن يكبر التكبير المقيد بعد صلاة العيد. واستدلوا على هذا بدليلين: - الأول: أنه لم يأت في الآثار أن الصحابة كانوا يكبرون أدبار صلوات العيد. - والثاني: أن الإنسان بعد صلاة العيد مأمور باستماع الخطبة فلا يشتغل بالتكبير. • ثم قال رحمه الله: وصفته شفعاً:. يعني صفة التكبير المندوب إليه أن يشفعه فيقول: ((اللَّهُ أَكْبَرُ اللَّهُ أَكْبَرُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ، وَاللَّهُ أَكْبَرُ اللَّهُ أَكْبَرُ وَلِلَّهِ الْحَمْدُ. جاء التكبير بصفات كثيرة هذه الصفة التي ذكرها المؤلف عليها أكثر الصحابة وجمهور العلماء. وروي عن الصحابة صفات أخرى كثيرة كلها جائزة: - منها: أن يكبر ثلاثاً. وفي الصف التي ذكر المؤلف يكبر مرتين.

باب صلاة الكسوف

- ومنها أن يكبر ثلاثاً فقط: أي يقول: ((اللَّهُ أَكْبَرُ اللَّهُ أَكْبَرُ اللَّهُ أَكْبَرُ اللَّهُ أَكْبَرُاللَّهُ أَكْبَرُ اللَّهُ أَكْبَرُ. بدون لا إله إلا الله و: لله الحمد. - ومنها: أن يكبر ثلاثاً ويقول لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير. فصارت الصفات أربع والذي عليه جمهور الصحابة وجمهور العلماء ما ذكره المؤلف رحمه الله: باب صلاة الكسوف • ثم قال رحمه الله باب صلاة الكسوف. ذكر صلاة الكسوف بعد صلاة العيد: - لأن وقوعها أقل من صلاة العيد. - ولأن مناسبة صلاة الكسوف عارضة ومناسبة صلاة العيد ثابتة. ومعنى قوله: باب صلاة الكسوف أي: باب تذكر فيه أحكام الصلاة التي سببها الكسوف. والكسوف في اللغة: التغير إلى السواد. والخسوف: النقصان. وفي الاصطلاح: تعريف الخسوف والكسوف: ذهاب ضوء أحد النيرين أو بعضه. وله: - أسباب حسية. - وأسباب شرعية. والمسلم يعنى بالأسباب الشرعية. واختلف العلماء في مسألة الكسوف والخسوف: هل يطلق كل منهما على الشمس والقمر؟ أو يختص كل منهما بأحد النيرين؟ - فالقول الأول: أنه يختص: - فالكسوف خاص بالشمس. - والخسوف خاص بالقمر. وإلى هذا ذهب المحققون من أهل اللغة فاختاره الفراء والجوهري وثعلب وغيرهم. - والقول الثاني: أن كل منهما يطلق على الآخر فيجوز أن نقول: كسوف القمر وخسوف الشمس. واستدل هؤلاء: - بأن النصوص أطلقت الخسوف والكسوف على كل من الشمس والقمر. فائدة: ثبت في النصوص إطلاق الخسوف والكسوف على كل من الشمس والقمر مجتمعات ومنفردات إلا شيء واحد لم يأت في النصوص وهو: إطلاق الكسوف على القمر منفرداً. فهذا لم يأت في النصوص أما ما عدا هذه الصورة فهو موجود. • قال رحمه الله تعالى تسن. - ذهب الجماهير والجم الغفير وحكي إجماعاً أن صلاة الكسوف سنة. واستدلوا على ذلك: - بالحديث الذي تقدم معنا مراراً وهو: قول النبي صلى الله عليه وسلم لما قال له هل علي شيء غيرهن؟ قال: لا. إلا أن تتطوع. - واستدلوا بحديث معاذ أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: أخبرهم أن الله فرض عليهم خمس صلوات في اليوم والليلة. فدل الحديثان على أن ما عدا الفرائض الخمس ليس من الواجبات.

وهذا كما قلت مذهب الجماهير بل حكي إجماعاً. - والقول الثاني: وهو رواية تنسب لأبي حنيفة ورواية تنسب لمالك وقواها ابن القيم أن صلاة الكسوف واجبة. واستدلوا على ذلك بدليلين: - الأول: قول النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث المتفق عليه: (فإذا رأيتموهما فصلوا .. ) فأمر بالصلاة. - الثاني: أن ترك الصلاة مع ما يرى الإنسان من آيات الله العظيمة فيه دليل على رقة الدين. ونحن نقول كما قال ابن القيم القول بالوجوب قوي فهذا غاية ما يقول الإنسان. • ثم قال رحمه الله تسن جماعة. لأن النبي صلى الله وسلم: لما كسفت الشمس في عهده صلى الله عليه وسلم خرج إلى المسجد وأمر المنادي: الصلاة جامعة فدل خروجه والمناداة على أنها تشرع جماعة. • ثم قال رحمه الله: وفرادى. أي أنها وإن كانت تشرع جماعة وتستحب في المساجد إلا أنه يجوز أن يصليها الناس فرادى لعموم قول النبي صلى الله عليه وسلم: (فصلوا) وهذا يتناول الفرد والجماعة. • ثم قال رحمه الله: إذا كسف أحد النيرين. في هذا إشارة إلى وقت صلاة الكسوف. ووقت صلاة الكسوف: من حدوثه إلى انجلائه. - لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (فصلوا حتى تنكشف) وفي رواية: (حتى تنجلي. فدل الحديث على أن الوقت ينتهي بانجلاء هذا الكسوف. • ثم قال رحمه الله: ركعتين يقرأ في الأُولى جهراً. كون صلاة الكسوف ركعتين - هذا القدر: مجمع عليه لكن اختلفوا كم ركوع في كل ركعة؟ كما سيأتينا. قوله: جهراً. - ذهب الحنابلة واختاره ابن حزم وشيخ الاسلام أن القراءة في صلاة الكسوف تكون جهرية. واستدلوا على ذلك: - بما ثبت في صحيح البخاري ومسلم عن عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى صلاة الكسوف فجهر بالقراءة. وهذا نص في المسألة. - وذهب الأئمة الثلاثة أبو حنيفة ومالك والشافعي إلى أن صلاة الكسوف تكون سرية. واستدلوا على ذلك: - بما ثبت في الصحيح أن ابن عباس قال: قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم فأطال بقدر البقرة. ولو كان سمع ما جهر به النبي صلى الله عليه وسلم لم يقدرها تقديراً ولذكر ماذا قرأ صلى الله عليه وسلم. والجواب عليه من وجهين: - إما أن نقول أن ابن عباس كان يصلي بعيداً لم يسمع.

- أو نقول - وهو الأقرب - أنه صلى وسمع ولكنه نسي ماذا قرأ النبي صلى الله عليه وسلم لكنه يذكر مقدار الطول وأنه يقارب سورة البقرة. واستدلوا: - بحديث عائشة أنها كانت تحرز قراءة النبي صلى الله عليه وسلم ولو كانت سمعت القراءة لم تحتج أن تقدر وتحرز. والجواب عليه: أنه حديث ضعيف ويخالف ما صح عنها في المتفق عليه: أنه جهر. والراجح: بلا إشكال أنه جهر لتصريح عائشة رضي الله عنها أنه صلى الله عليه وسلم صلى الكسوف وجهر. ولا أدري بالنسبة للبلدان الذين يأخذون مذهب الشافعي أو مالك أو أبي حنيفة هل يصلون الكسوف سرية أو جهرية؟ الآذان -.

بسم الله الرحمن الرحيم بدأ المؤلف في الكلام على صفة صلاة الكسوف. وصلاة الكسوف صار لها صفة خاصة غير معهودة في جميع الصلوات لأن سبب صلاة الكسوف أيضاً غير معهود في سائر الصلوات. • فقال رحمه الله تعالى: يقرأ في الأُولى جهراً بعد الفاتحة: سورة طويلة، ثم يركع طويلاً، ثم يرفع ويسمع ويحمد، ثم يقرأ الفاتحة .... إلى آخر هذه الصفة المذكورة في الكتاب. وتقدم معنا الكلام عن مسألة الجهر وبقينا في الصفة. هذه الصفة: = ذهب إليها الإمام أحمد ومالك والشافعي واختارها شيخ الاسلام وابن القيم فكل هؤلاء ذهبوا إلى هذه الصفة التي ذكرها المؤلف. واستدلوا: - بأن الصحابة: عائشة وجابر وغيرهما ذكروا أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى هكذا وحديثهم في الصحيحين. فذهب هؤلاء الأئمة إلى هذه الصفة ولصلاة الكسوف صفات أخرى أشار إليها المؤلف في آخر الباب وسنتحدث عنها حين يذكرها رحمه الله. * * مسألة: = ذهب الحنابلة إلى أنه إذا رفع من الركوع فإنه لا يطيل كما يطيل في الركوع والسجود. واستدلوا على ذلك: - بأن الآثار لم تذكر التطويل بعد الرفع من الركوع. = والقول الثاني: أنه يطيل أيضاً إذا رفع من الركوع. - لأن المعهود من صلاة النبي صلى الله عليه وسلم في الفرائض والنوافل أن تكون أجزاء الصلاة متقاربة ولا يعهد منه إطالة جزء إطالة شديدة وتقصير جزء آخر. وإنما لم يذكر في الآثار: - لكونه معلوماً.

- أو - وهو الجواب الثاني: لأنهم اعتنوا بذكر السجود والركوع لأنهما مقصودان أكثر من الرفع من الركوع. والصواب مع القول الثاني - إن شاء الله -. • قوله رحمه الله: ثم يصلي الثانية كالأُولى: لكن دونها في كل ما يفعل. - لأن الصحابة الذين رووا لنا صفة صلاة الكسوف عن النبي صلى الله عليه وسلم ذكروا أنه صلى الثانية أقل من الأولى. وقد حدد ابن عباس رضي الله عنه لنا مقدار التطويل فقال: هو بقدر سورة البقرة. وفي بعض الآثار بقدر قراءة مائة آية. وهذا يبين أنه أطال إطالة شديدة لأن قراءة سورة البقرة في ركعة واحدة لا شك أنه تطويل شديد. * * مسألة: ذكر المؤلف أن الصفة المرجحة في كل ركوع ركوعان. بناء عليه نقول: الركوع الذي تدرك به الركعة هو الركوع الأول دون الثاني. فإذا دخل مع الإمام في الركوع الثاني من الركعة الأولى لزمه بعد سلام الإمام أن يأتي بركعة بركوعين لأن الركعة الأولى تعتبر فاتت هذا المسبوق. • ثم قال رحمه الله تعالى: ثم يتشهد ويسلم. يعني: أن التشهد والسلام صفتها في صلاة الكسوف كما في سائر الصلوات الفرائض منها والنوافل. وهذا لا إشكال فيه. • ثم قال رحمه الله: فإن تجلى الكسوف فيها: أتمها خفيفة. يعني: إن تجلى الكسوف أثناء الصلاة فإنه ينبني على هذا حكمان: - الأول: أنه يتم الصلاة على صفتها. فمعنى قوله المؤلف هنا: أتمها: أي: على صفتها ولو أنه قال على صفتها لكان أوضح لأن هذا مقصود الحنابلة. - والثاني: أنها تكون خفيفة. والسبب في ذلك أن سبب الصلاة زال وإذا زال السبب شرع التخفيف. فإن قيل: ألا يشرع قطع الصلاة إذا زال السبب؟ فالجواب: أنه لا يشرع لقوله تعالى: (ولاتبطلوا أعمالكم). بل يتمها خفيفة , = ومن الفقهاء من قال بل يتمها كالنفل بلا زيادة - أي بلا زيادة ركوعان. والصواب مع الحنابلة أنه يتم الصلاة على صفتها الشرعية المعروفة لكن مع التخفيف. • ثم قال رحمه الله: وإن غابت الشمس كاسفة .... لم يصل. يعني إذا غابت الشمس وهي كاسفة فإنه لا يشرع في هذه الحالة أن نصلي لوجهين: - الوجه الأول: أن الشارع الحكيم علق وجوب الصلاة برؤية الكسوف ومن المعلوم أن الشمس إذا غابت لم نر الكسوف لأن الشمس برمتها غابت.

- الثاني: أن الانتفاع بالشمس يكون بالنهار وهي سلطان للنهار فإذا غابت ذهب سلطانها وذهب مع ذلك الأحكام المتعلقة بها ومنها صلاة الكسوف. إذاً إذا فرضنا أن الناس لم يعلموا بالكسوف إلا قرب الغروب ثم غربت فإننا نقول لا تشرع الصلاة حينئذ. • ثم قال رحمه الله: أو طلعت والقمر خاسف ... إذا خسف القمر ثم طلعت الشمس والقمر خاسف فإنه لا يشرع للمسلمين أن يصلوا. - والأدلة تماماً كالأدلة السابقة في مسألة غروب الشمس تماماً: - أولاً: لأن القمر أصبح لا يرى والحكم معلق بالرؤية. - ثانياً: أن سلطان القمر في الليل لا في النهار فإذا خرجت الشمس صار الوقت نهاراً فلا يشرع أن يصلي الإنسان لأنه لا ينتفع بضوء القمر وليس له سلطان في النهار. * * مسألة: فإن طلع الفجر ولم تطلع الشمس والقمر خاسف: = فعند الحنابلة كذلك لا يصلي. - لذهاب سلطان القمر بطلوع النهار ولو لم تطلع الشمس. = والقول الثاني: أن القمر إذا خسف وطلع الفجر قبل أن تطلع الشمس فإنه يصلي الكسوف وإلى هذا ذهب الشيخ الففيه الكبير المجد بن تيمية. وهذا هو الصواب. - لأن المعنى الذي شرعت صلاة الخسوف لأجله موجود ولو طلع الفجر فإنا نرى القمر خاسف فيجب أن نصلي حينئذ. • ثم قال رحمه الله تعالى: أو كانت آية غير الزلزلة: لم يصل. إذا حدثن آية في السماء أو في الأرض فإنه عند الحنابلة لا يشرع أن يصلي الإنسان صلاة الكسوف. فإذا هبت رياح شديدة غير معتادة أو حصلت ظلمة شديدة أو فيضانات أو براكين أو أي آية فيها تخويف فإنه عند الحنابلة لا يشرع أن يصلي الإنسان صلاة الكسوف إلا في شيء واحد وهو: الزلزلة. - أما الدليل على أنه لا تشرع صلاة الكسوف للآيات الأخرى فهو: أن نظير هذه الآيات وقع في عهد النبي صلى الله عليه وسلم ولم يصل لها. - وأما الدليل على الصلاة في الزلزلة: فلأنه جاء بإسناد صحيح ثابت عن ابن عباس وعن حذيفة أنهما صليا صلاة الكسوف في الزلزلة. فاستثنى الحنابلة الزلزلة لمجيء الآثار بها. على قاعدة الإمام أحمد كما تقدم التنبيه إليه مراراً. = القول الثاني: للمالكية والشافعية. أنه لا يشرع للإنسان أن يصلي صلاة الكسوف لأس شيء سوى الكسوف والخسوف مهما كانت الآية الأخرى.

= والقول الثالث: للأحناف واختاره شيخ الاسلام أنه إذا حصلت آية في السماء أو في الأرض تخوف العبادة فإنه يشرع مطلقاً أن يصلي لها الإنسان صلاة الكسوف. واستدل على هذا: - بأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله لا ينخسفان لموت أحد ولا لحياته ولكن الله يخوف بهما عباده فإذا رأيتم ذلك فصلوا واستغفروا حتى ينكشف). قال شيخ الاسلام: فعلل النبي صلى الله عليه وسلم الصلاة بأنها آية خوف الله بها عباده فكل آية يخوف الله بها عباده يشرع لها أيضاً صلاة الكسوف. والراجح: القول الثالث بسبب أثر ابن عباس وحذيفة ولولا هذين الأثرين لكان قول المالكية والشافعية قوي ووجيه جداً لأنه معلوم أنه في عهد النبي صلى الله عليه وسلم وعهد أبي بكر وعمر وعثمان وعلي حصلت آيات وأشياء خوف الله بها عباده ومع ذلك لم ينقل أن أحداً من الصحابة صلى إلا هذا الأثر عن ابن عباس وحذيفة. فهذا الأثر يقوي أو يجرئ الإنسان على أن يقول: تصلى صلاة الكسوف لكل آية غير طبيعية - فكل آية غير معتادة يصلي لها الإنسان صلاة الكسوف. ولولا مجيء هذين الأثرين لكان قول مالك والشافعي قوي جداً وإذا طالعت تاريخ ابن كثير فستقرأ من الآيات الكثيرة وبعضها مهول جداً ولم نسمع أنهم صلوا لها صلاة الكسوف. لكن لما كان الأثرجاء عن ابن عباس وهو من فقهاء الصحابة وحذيفة وهو من كبار الصحابة فمثل هذا يقوي الإنسان على القول بالصلاة. على أن عمل المسلمين الآن ويبدو لي أنه من قديم على القول الثاني على أنهم لا يصلوا أبداً إلا للكسوف أو للخسوف. • ثم قال رحمه الله تعالى: وإن أتى في كل ركعة بثلاث ركوعات. ثلاث ركوعات: يعني في كل ركعة. لأنه تقدم معنا أن العلماء أجمعوا أن صلاة الكسوف ركعتان وإنما اختلفوا في نقدار الركوع في كل ركعة. = فالقول الثاني: أن يجعل في كل ركعة ثلاث ركوعات. - لما أخرجه مسلم عن جابر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى بست ركوعات. • ثم قال رحمه الله: أو أربع. - أيضاً لما ثبت في صحيح مسلم عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى بثمان ركوعات. = وهذا هو القول الثالث. • ثم قال رحمه الله: أو خمس: جاز.

باب صلاة الإستسقاء

- لما في سنن أبي داود عن أبي بن كعب أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى بعشر ركوعات. فصارت الأقوال مع القول الأول أربعة. واختلف العلماء في التوفيق بين هذه الأحاديث وانقسموا إلى قسمين: = فالقسم الأول: الذين معهم مالك والشافعي والبخاري والبيهقي وشيخ الاسلام وابن القيم وهو المعروف عن الإمام أحمد: أن كل حديث عدا حديث عائشة في الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى ركعتين في كل ركعة ركوعين - كل حديث عدا هذا الحديث فهو شاذ أو منكر لا يعمل به ولو كان في مسلم. - واستدلوا على هذا: - بأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يصل صلاة الكسوف في حياته إلا مرة واحدة لما مات ابنه إبراهيم. فكل هؤلاء يتحدث عن واقعة واحجة وقطعاً أن الحديث الذي في البخاري ومسلم واتفق على روايته عدد من الصحابة مقدم على هذه الأحاديث سواء كان حديث جابر أو حديث ابن عباس أو حديث أبي. = والقول الثاني: وهو الذي ذهب إليه أبو حنيفة ورجحه ابن حزم وابن المنذر والخطابر وغيرهم - عدد من أهل العلم: أنه يشرع للإنسان أن يصلي بجميع هذه الصفات فتارة يصلي بركوعين وتارة بثلاث وتارة بأربع وتارة بخمس. والصواب مع القول الأول. وهو أنه لا يشرع أن يصلي الإنسان إلا ركعتين في كل ركعة ركوعين لأن هذا هو الثابت ولأنه لم يصلها النبي صلى الله عليه وسلم إلا مرة واحدة. وبهذا انتهى باب صلاة الكسوف ولله الحمد ونبدأ بالباب الذي بعده. باب صلاة الإستسقاء. بسم الله الرحمن الرحيم. • يقول رحمه الله تعالى: باب صلاة الإستسقاء. أي باب تبين فيه أحكام صلاة الاستسقاء من حيث الحكم التكليفي والكيفية وغير ذلك. والاستسقاء: لغة: طلب السقيا. والسقيا مفرده: سقي. والسقي هو: أخذ الحظ من الشرب. وفي الاصطلاح: طلب إنزال المطر بصفة مخصوصة عند شدة الحاجة. بدأ المؤلف أول ما بدأ بالأسباب الموجبة لصلاة الاستسقاء. • فقال ر حمه الله: إذا أجدبت الأرض وقحط المطر. إذا أجدبت الأرض: الجدب: ضد الخصب. والخصب هو: نموا العشب والكلأ وحلول البركة فيه. هذا السبب الأول. وقحط المطر: معناه: أي احتبس ولم ينزل.

والمؤلف يقول: إذا أجدبت الأرض وقحط المطر ولم يقل: أو لأن الغالب والكثير أن الجدب يكون بسبب القحط لكن لو فرضنا أنه نزل مطر ولكن مع ذلك بقيت الأرض مجدبة فهل يشرع أن يصلي الإنسان صلاة الاستسقاء؟ الجواب: نعم. لأن المقصود من نزول المطر وجود الكلأ أو العشب ولا يستفيد الناس من المطر إلا بهذا. نعم .. للمطر فائدة أخرى وهي: أن يتجمع ليشرب منه الناس والدواب لكن المقصود الأساس لا سيما في القديم هو طلوع العشب والكلأ الذي معه تتحسن أحوال الدواب والناس. ولذلك لو أن المؤلف رحمه الله قال: أو. لربما كان أدق لكنه لم يقل أو لأن الغالب أن القحط والجدب يتلازمان. • ثم قال رحمه الله: صلوها. الاستسقاء من حيث هو مشروع بإجماع أهل العلم. لكن الخلاف وقع في صلاة الاستسقاء. = فذهب الجماهير والجم الغفير من السلف والخلف إلى أنه تشرع وتسن صلاة الاستسقاء إذا وجد سببها. واستدلوا على هذا: - بما جاء في الصحيحين عن عبد اله بن زيد أن النبي صلى الله عليه وسلم خرج وصلى صلاة الاستسقاء. = والقول الثاني: لأبي حنيفة أن الصلاة لا تشرع وإنما يشرع الدعاء فقط. واستدل على هذا: - بأن النبي صلى الله عليه وسلم لما شكي إليه القحط وقلة المطر وتضرر الناس والدواب يوم الجمعة رفع يديه ودعا واستسقا ولم يخرج للصلاة. وهذا القول في الحقيقة لا قيمة له مطلقاً كما قال كثير من الفقهاء والمحققين لأنه مصادم للنص مصادمة صريحة فقد ثبت في الصحيحين أنه صلى الله عليه وسلم خرج وخطب وصلى فكيف نرد مثل هذا الحديث بأن النبي صلى الله عليه وسلم مرة دعا واستقا في الجمعة بدون خروج. • ثم قال رحمه الله: جماعة. يعني: أن صلاة الاستسقاء جماعة كما سيأتينا أنه ينبغي للإمام أن يخبر الناس ليخرجوا بصفى مخصوصة سيأتي ذكرها. • ثم قال رحمه الله: وفرادى. يعني: مع كون الجماعة أفضل إلا أنه يجوز أن يصلي الناس صلاة الاستسقاء فرادى. وفي تجويز صلاة الاستسقاء فرادى نظر ظاهر لأنه لم ينقل أبداً عن أحد من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أنه استسقا بالصلاة - فنحن نتحدث عن الصلاة - بمفرده بلا جماعة.

أما الدعاء فيشرع لأفراد الناس لكن الصلاة في القول بمشروعيتها لأفراد الناس نظر ظاهر والصواب أنه لا تشرع صلاة الاستسقاء إلا بالصفة التي جاءت عن النبي صلى الله عليه وسلم جماعة. • ثم قال رحمه الله: وصفتها في مواضعها وأحكامها كعيد. يعني: أن أحكام صلاة الاستسقاء كأحكام العيد تماماً. - لقول ابن عباس: سنة الاستسقاء سنة العيد. بناء على هذا: يتفرع عندنا مسائل كثيرة: - فتشرع في الصحراء. - ويشرع لها التكبير سبعاً وخمساً في الأولى والثانية. - ويشرع الذكر بين التكبيرات. - وكل ما قيل في صلاة العيد يقال هنا. إلا أنهم استثنوا بعض المسائل وصار فيها خلاف بينهم: - المسألة الأولى: وهي من أهم المسائل: الوقت. = فالحنابلة يرون أن وقت الاستسقاء وقت الأفضلية في صدر النهار كصلاة العيد ويجوز أن تؤدى بعد الزوال. بل تجوز في كل وقت عدا أوقات النهي. فيجوز أن يصليها قبلر الزوال وبعد الزوال وفي الليل وفي النهار في كل وقت إلا في أوقات النهي. = والقول الثاني: وهو مذهب الإمام مالك: أن صلاة الاستسقاء يبدأ وقتها من طلوع الشمس وارتفاعها قيد رمح وينتهي بالزوال كصلاة العيد تماماً. واستدل على هذا: - بالأثر السابق: سنة صلاة الاستسقاء سنة العيد. وهذا يشمل الوقت. - وثانياً: أنه لم يصلها النبي صلى الله عليه وسلم إلا في هذا الوقت. وكذلك الخلفاء ومن بعدهم. وهذا القول الثاني: هو الصواب. وتختلف صلاة الاستسقاء عن صلاة العيد كما سيأتينا في أن لها خطبة واحدة ولصلاة العيد خطبتان على ما تقدم وسيأتي التنبيه إليه. وتختلف في موضع الخطبة: ففي صلاة العيد يبدأ بالصلاة ثم الخطبة. وفي صلاة الاستسقاء سيأتينا الخلاف في هذه المسألة المهمة وسينص المؤلف على موضع الخطبة: • ثم قال رحمه الله: وإذا أراد الإمام الخروج لها: وعظ الناس، وأمرهم بالتوبة ... إلى آخره. إذا أراد الإمام أن يخرج فإنه يسن له أن يعظ الناس. وعنى وعظ الناس: يعني خوفهم وذكر لهم ما يوجب رقة القلب والخشوع. - والدليل على هذا: - أنه ثبت بإسناد صحيح أن عمر بن عبد العزيز لما أراد أن يخرج للاستسقاء كتب خطاباً فيه موعظة إلى ميمون بن مهران رضي الله عنه.

ومعنى أن نستدل عمل عمر بن عبد العزيز أنه ليس في الباب نص مرفوع ولا أثر موقوف. ولكن في الحقيقة عمل الإمام أن يخوفهم ويذكرهم فيه مصلحة عظيمة وهو يتوافق مع أصول الشرع لا سيما وأن مثل عمر بن العزيز بحضرة العلماء من التابعين يصنع هذا الصنع وهو الموعظة فهذا يجعل الإنسان يرى أن هذا لا بأس به ولا نقول سنة لكن نقول لا بأس به. • ثم قال رحمه الله: وأمرهم بالتوبة من المعاصي والخروج من المظالم. يأمرهم بالتوية من المعاصي والخروج من المظالم لأن هذا من أسباب نزول المطر فإن الذنوب سبب لمنع القطر ولذلك يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (مامنع قوم الزكاة إلا منعوا القطر من السماء). فهذا الحديث كالأصل أن كثرة الذنوب هي سبب منع القطر وإنما تضاد الذنوب بالتوبة كما الشيخ. قوله: والخروج من المظالم: الخروج منها نوع من أنواع التوبة من المعاصي وإنما نص عليها لأن التوبة من المظالم التي بين الخلق أشد وأهم وأجب من التوبة التي بين العبد وبين ربه لأن المعاملة بين العبد والرب تدخلها المسامحة والعفو والصفح من الكريم الرحمن. بينما المعاملة بين الخلق يدخلها الشحناء والتباغض والمنازعة فلذلك نص المؤلف على مسألة الخروج من المظالم وهذا أمر صحيح فينبغي للإنسان أذا أخذ مالاً ظلماً أو اغتاب أحداً أو قصر في عمل أن يتوب من هذا قبيل الخروج لصلاة الاستسقاء. ومن المعلوم أنلا التوبة واجبة في كل حين ولكنها تتأكد عند الخروج لصلاة الاستسقاء. • ثم قال رحمه الله: وترك التشاحن. التشاحن هي: العداوة والبغضاء التي تقع بين الناسز فيجب على الإنسان أن يترك التشاحن إذا أن يخرج لصلاة الاستسقاء. - أولاً: أن التشاحن يولد المعاصي لأنه مع التشاحن دائماً توجد المظالم فإن الشحناء والعداوة تحمل صاحبها على ظلم أخيه. - ثانياً: أن التشاحن والعداوات هي بنفسها من أسباب رفع الرحمة ولذلك لما أراد النبي صلى الله عليه وسلم أن يخبر أصحابه بليلة القدر رفعت لأنهم تلاحوا فيها وتنازعوا فصار التنازع هو بحد ذاته من أسباب رفع الخير. ولذلك يندب للإنسان أن يتركه إذا أراد أن يخرج لصلاة الاستسقاء. • ثم قال رحمه الله: والصيام والصدقة.

يعني: أنه يستحب للإنسان في اليوم الذي يريد أن يخرج فيه لصلاة الاستسقاء أن يصوم وأن تصدق. - أما الصوم: فلقول النبي صلى الله عليه وسلم: (دعوة الصائم لا ترد) وهمة إنما خرجوا ليدعوا الله فناسب أن يكونوا صائمين. - وأما الصدقة فلأنها من أسباب جلب الرحمة. = والقول الثاني: أنه لا يشرع على سبيل الخصوص أن يصوم أم أن يتصدق ولا يشع للإمام أن يحث الناس على أن يصوموا أو يتصدقوا لأنه لم يأت عن النبي صلى الله عليه وسلم ما يدل على ذلك مع كونه خرج في صلاة الاستسقاء. فإن قيل: مالفرق بين الصيام والصدقة ومسألة التوبة وترك التشاحن والخروج من المظالم .. إلى آخره .. فكذلك لك يأت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه أمر الناس بشيء من هذا؟ فالجواب: أن التوبة وترك التشاحن ودفع المظالم هذا يطلب في كل حين يطلب بأصول الشرع بخلاف الصوم فالصوم لا يمكن أن نقول يشرع أن تصوم في اليوم الفلاني بالذات إلا بدليل وكذلك الصدقة. فافترقا من هذا الوجه. • ثم قال رحمه الله: ويعدهم يوماً يخرجون فيه. يعني: وينبغي للإمام أن يبين للناس اليوم الذي سبخرج فيه للصلاة لعدة أوجه: - اولاً: حدسث عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم وعد الناس يوماً للخروج. - ثانياً: أنه صح عن عمر بن عبد العزيز أنه كان يخبر الناس بيوم الخروج. - ثالثاً: ليتمكن الناس من الاستعداد والإتيان بالسنن المطلوبة لصلاة الاستسقاء. - رابعاً: حتى لا يشق على الناس ويفاجأوا بالصلاة وهم لم يستعدوا لها. فلا شك أن هذا مندوب مستحب وينبغي للإمام أن لا يخرج لصلاة الاستسقاء إلا وقد أخبر الناس مسبقاً باليوم الذي سبخرج فيه. • ثم قال رحمه الله: ويتنظف. المقصود بالتنظف هنا: أن يغتسل هذا أولاً. ثانياً: أن يزيل عن جسده كل ما يطلب شرعاً إزالته. = والقول الثاني: أن الاغتسال والتنظف وإزالة الشعور لا تستحب على سبيل الخصوص في صلاة الاستسقاء. - لأنه لم يأت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه فعله ولا عن الخلفاء الراشدين ولا يجوز للإنسان أن يشرع شيئاً لم يأت عنه صلى الله عليه وسلم. • ثم قال رحمه الله: ولا يتطيب.

والعلة في ذلك: أن النبي صلى الله عليه وسلم خرج متذللاً خاضعاً. والطيب ينافي الخضوع والتذلل. ولذلك نقول: ينبغي للإنسان أن يخرج بلا طيب بل يخرج مع التواضع والتذلل. هل هناك منافاة بين التذلل والخضوع والطيب؟ شيخنا رحمه الله يقول في الشرح لا منافاة. ويقع في ذهني أنه في الحقيقة الريح الطيبة وأن يضع الإنسان أحسن ما يجد من الطيب يقع في ذهني أنه ينافي التذلل وذلك تجد دائماً مسألة التنظف ولبس الثياب الحسنة تلازم الطيب والتنظف ولبس الثياب بالإجماع ينافي التذلل. بقينا في الطيب - المتنازع فيه - أمره سهل ولكن يقع في ذهني أنه ينافي كما قال الإمام أحمد. والأمر في هذا واسع إن شاء تطيب وإن شاء ترك. • ثم قال - رحمه الله -: ويخرج متواضعاً متخشعاً متذللاً متضرعاً. - لما ثبت عن ابن عباس أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يخرج: متذللاً متواضعاً متبذلاً. هذا لفظه. والتبذل: - كلمة متبذلاً فيما أرى تؤيد عدم وضع الطيب لأن التبذل لا يكون معه طيب وهذا اللفظ ثابت. • ثم قال - رحمه الله -: ومعه أهل الدين والصلاح. أهل الدين والصلاح. ينبغي للإمام أن يخرجهم معه. والتعليل: - أنه إنما يخرج ليدعو ويبتهل ويتضرع وهؤلاء أقرب إلى الإجابة. وهذا صحيح. فينبغي أن يحرص على أهل الخير والصلاح الذين ترجى إجابتهم. بدليل أن عمر بن الخطاب طلب من العباس أن يدعو فهو بذلك يرجو قبول دعوة العباس - رضي الله عنه - إما لصلاحه ودينه وإما لقربه من النبي - صلى الله عليه وسلم -. • قال - رحمه الله - والشيوخ. المقصود بالشيوخ: كبار السن. - لأن لهم زمناً في طاعة الله وأداء الفرائض ويروى: (خيركم من طال عمره وحسن عمله). فيندب أن يخرج الإنسان معه الشيوخ لما ذكرت. - ولأن غالب الشيوخ يكون معهم لين وحضور قلب وخشوع كما هو مشاهد. • ثم قال - رحمه الله -: والصبيان المميزون. يندب أيضاً أن يخرجوا. - لأنه تكتب لهم الحسنات ولا تكتب عليهم السيئات ولصفاء قلوبهم بسبب حداثة السن. والمعنى يدور: حول مسألة إجابة الدعاء. مسألة / يجوز أن تخرج المرأة الكبيرة: - قيل بل يستحب. ثانياً: يكره: = عند الحنابلة أن تخرج الشابة.

قالوا - لأن المقصود في خروج الاستسقاء الخضوع وحضور القلب والبعد عن المعاصي وخروج الشابة الفاتنة ينافي هذا كله. ثالثاً: = يجوز الخروج ببهيمة الأنعام. = والقول الثاني: أنه لا يستحب ولا يشرع أن يخرج الإنسان ببهيمة الأنعام. - لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يصنع ذلك مع وجود بهيمة الأنعام في المدينة وفي ما حولها. ومع كونه - صلى الله عليه وسلم - خرج خارج المدينة ليصلي فهو قريب من بهيمة الأنعام ومع ذلك لم ينقل أنه أحضرها - صلى الله عليه وسلم -. وهذا هو الصواب. بل لو قيل أن هذا غير مشروع وبدعة لكان قريباً لكن أقسى عبارة وجدها: أنه لا يستحب. • ثم قال - رحمه الله -: وإن خرج أهل الذمة منفردين عن المسلمين لا بيوم: لم يمنعوا. يعني: أنه يجوز فقط ولا يستحب أن يخرج أهل الذمة. منفردين عن المسلمين: في المكان دون الزمان. هذا خلاصة مذهب الحنابلة. = أنه يجوز ولا يستحب أن يخرج أهل الذمة منفردين عن المسلمين بالمكان دون الزمان. ــ أما أنه يجوز: فلأنهم من خلق الله الذين لهم رزق فإذا طلبوه قد يجابوا. ــ وأما أنه يجوز ولا يستحب: فلأنهم من أعداء الله الذين لا يرجى أن يجابوا. ــ وأما أنهم ينفردون بمكان: فلأنهم أهل أن يعاقبوا ويصابوا بقارعة فلأجل أن لا تصيب المسلمين فيكونوا هم بمكان والمسلمين في مكان آخر. ــ وأما أنهم - رابعاً وأخيراً - لا ينفردون بزمان: فلأجل أن لا يمطر الناس في اليوم الذي خرج فيه أهل الكتاب دون اليوم الذي خرج فيه المسلمون فيكون ذلك فتنة لعامة المسلمين وضعفاء الإيمان فيهم. وهذا التفصيل في المذهب كله صحيح. = والقول الثاني: أن أهل الكتاب يمنعوا من الخروج. فإذا أرادوا أن يخرجوا منعهم الإمام. - لأنهم ليسوا أهلاً أن يدعوا. = والقول الثالث: أن لهم أن يخرجوا ولو في غير يوم المسلمين. والصواب المذهب فإن التفصيل الذي ذكروه جميل جداً ويتوافق مع أصول الشرع. • ثم قال - رحمه الله -: فيصلي بهم، ثم يخطب. أي: أن الخطبة بعد الصلاة. عكس الجمعة. وكالعيد. والدليل على هذا: - أن ابن عباس - رضي الله عنه - يقول: سنة الاستسقاء سنة العيد. ومن ذلك موضع الخطبة.

= والقول الثاني: أن خطبة الاستسقاء قبل الصلاة كالجمعة. وإلى هذا ذهب الإمام النسائي والحافظ ابن حزم وعدد من السلف. الأدلة على هذا القول: - أولاً: أنه ثبت في صحيح البخاري ومسلم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - خطب ثم صلى. هذا في الصحيحين. - ثانياً: ثبت عن عمر - رضي الله عنه - وابن الزبير ونحو عشرة من الصحابة بإسناد صحيح أنهم قدموا الخطبة على الصلاة. - أضف إلى هذا أنهم لا يعلم لهم مخالف من الصحابة. - ثالثاً: ثبت بإسناد صحيح عن جمهور التابعين أنهم كانوا يقدمون الخطبة على الصلاة كالجمعة. هذا القول الثاني: وهو رواية عن الإمام أحمد. = القول الثالث: وهو رواية ثالثة عن الإمام أحمد - رحمه الله - أن الإمام: مخير إن شاء جعل خطبة قبل أو بعد الصلاة. والصواب عندي بلا شك والذي تدل عليه النصوص التي في البخاري ومسلم وآثار الصحابة أن الخطبة قبل الصلاة كالجمعة. فإن هذا عمل النبي - صلى الله عليه وسلم - وعمل عمر وهو من الخلفاء الراشدين وعمل ابن الزبير وقد كانت له ولاية ووافقه الناس لما صنع ذلك وعمل عمر بن عبد العزيز وصلى خلفه عدد من أهل العلم من العلماء علماء التابعين. المهم: أن هذا القول هو الصواب وأن الأمر ليس على التخيير لأن هذا عبادة إذا جاءت على وجه معين فيجب أن نلتزم. والأحاديث التي فيها تقديم الصلاة على الخطبة ضعيفة. فالقول الأقرب والله أعلم هو أن هيئة صلاة الاستسقاء كهيئة الجمعة أي أن الخطبة قبل الصلاة. • ثم قال - رحمه الله -: يخطب واحدة. يعني: المشروع في الاستسقاء أن تكون خطبة واحدة. - لأنه لم يرو عن النبي - صلى الله عليه وسلم - إلا أنه خطب خطبة واحدة. فإذاً هي تختلف عن صلاة العيد بهذه المسألة. مسألة / ظاهر السنة أن الإمام يخطب ثم يلتفت ويدعو باتجاه القبلة ثم يحول ردائه ثم ينزل فيصلي. هذا ظاهر السنة. بعد أن تتبعت ألفاظ الأحاديث وجدت أن هذا هو الترتيب. إذا صح هذا الترتيب وهو كما قلت ظاهر السنة فما يفعله اليوم بعض الخطباء من أنه بعد أن يلتفت من الدعاء وهو متوجه إلى القبلة يكمل الخطبة خلاف السنة.

وعمل الناس الآن أنه بعدما يلتفت منتهياً من الدعاء وهو مستقبل القبلة يرجع ويتم الخطبة ثم ينزل الأحاديث التي في صحيح البخاري ومسلم ظاهرها جميعاً أنه - صلى الله عليه وسلم - كان بعد أن يدعو متوجهاً إلى القبلة ينزل فيصلي ولا يتم الخطبة بعد ذلك فهذا الظاهر في الحقيقة يختلف مع عمل الناس اليوم. فالواجب بعد الدعاء أن ينزل فيصلي اقتداءً بسنة النبي - صلى الله عليه وسلم -. • ثم قال - رحمه الله -: يفتتحها بالتكبير كخطبة العيد. = هذا مذهب الحنابلة أنه يفتتح خطبة الاستسقاء بالتكبير كما يصنع في خطبة العيد. = والقول الثاني: وهو رواية عن الإمام أحمد: أنها تفتتح بالحمد لله رب العالمين. واختار هذا القول شيخ الاسلام بن تيمية. - لأنه لم يحفظ عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه افتتح خطبة إلا بالحمد لله رب العالمين. • ثم قال - رحمه الله -: ويكثر فيها الإستغفار. المندوب للخطيب أن يكثر أثناء الخطبة: من الاستغفار. - لما ثبت في الصحيح أن عبد الله بن يزيد خطب الناس وأكثر من الاستغفار. وحضر الخطبة البراء وزيد - رضي الله عنهما -. فهذه سنة عن ثلاثة من الصحابة أنه ينبغي للإنسان أن يكثر من الاستغفار أثناء خطبة الاستسقاء. • قال - رحمه الله -: وقراءَة الآيات التي فيها الأمر به. يعني: بالاستغفار. كقوله تعالى: {ويا قوم استغفروا ربكم ثم توبوا إليه .... } [هود/3] والسبب أن قراءة هذه الآيات مناسب للحال. هكذا عللوا. والحال هو: الخضوع والاستغفار والتوبة. وهو في الواقع مناسب للحال وإن كانت السنة ليس فيها التصريح بقراءة هذه الآيات التي تقرأ اليوم في صلاة الاستسقاء لكن هي مناسبة. السنة فيها الاستغفار ولإن يستغفر الإنسان بلفظ آية خير من أن يستغفر بلفظ عام. على كل حال - نقول: إن شاء الله أنه مشروع قراءة الآيات التي فيها الاستغفار أثناء خطبة الاستسقاء. • ثم قال - رحمه الله -: ويرفع يديه فيدعو بدعاء النبي - صلى الله عليه وسلم -. ثبت في حديث أنس - رضي الله عنه - وفي حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - بإسناد صحيح ثابت أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان إذا دعا واستسقى رفع يديه.

وثبت أنه كان يرفع رفعاً كثيراً حتى يبدو بياض إبطيه. واختلف العلماء: هل تكون كف اليد إذا رفع ليستسقي إلى السماء أو إلى الأرض؟ = القول الأول: أنها إلى الأرض بمعنى: أنه يرفع يديه حتى تكون باطن اليد إلى الأرض ... ((الأذان)). = والقول الثاني: أنه يرفع يديه ويبالغ في الرفع وتبقى بطون اليدين إلى السماء. وإلى هذا ذهب شيخ الإسلام ابن تيمية وحمل الأحاديث التي فيها أنه رفع إلى أن صار باطن اليد إلى الأرض على بيان المبالغة وليس يقصد منها أن يوجه الإنسان يديه إلى الأرض. إذاً: أراد الصحابة بيان شدة رفع النبي - صلى الله عليه وسلم - يديه. والأقرب ما ذكره الشيخ - رحمه الله - أن المقصود بقول الصحابة - رضي الله عنهم - حتى صارت بطون اليدين إلى الأرض أي أنه بالغ في الرفع - صلى الله عليه وسلم - إلى أن وصل إلى هذا الحد.

من الأسئلة: قال الشارح حفظه الله: صلاة الكسوف: اخنلفوا: هل فيها خطبة أو لا؟ = القول الأول: أنه لايشرع لها خطبة وأنه إن خطب فقد أتى بأمر لا يشرع وخالف السنة. = والقول الثاني: أن الخطبة لصلاة الكسوف مشروعة. - لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما صلى صلاة الكسوف خطب خطبة عظيمة. وهذا القول الثاني: هو الصواب لمجيء النص بذلك. - يشترط لصلاة الاستسقاء ما يشترط لصلاة العيدين تماماً. فما قيل هناك يقال هنا. هل تقيد خطبة الكسوف بالحاجة؟ لا تقيد. لأن الأصل التأسي ولا تعلم هل النبي - صلى الله عليه وسلم - خطب لمناسبة معينة أو أنه خطب لأن هذه هي السنة. فالأصل التأسي.

قال شيخنا حفظه الله: بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين. • قول المؤلف رحمه الله: ويرفع يديه فيدعو بدعاء النبي صلى الله عليه وسلم ومنه: ((اللَّهُمَّ اسْقِنَا غَيْثاً مُغِيْثاً)) إلى آخره0 يعني أنه يستحب للإنسان أن يدعو بما جاء في السنة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه دعا به. والدليل على ذلك: - عموم قوله تعالى: - (لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ) -[الأحزاب/21] ومن التأسي به صلى الله عليه وسلم التأسي بالدعاء فينبغي ويتأكد أن يدعو الإمام بما كان يدعو به النبي صلى الله عليه وسلم. • ثم قال رحمه الله: وإن سقوا قبل خروجهم: شكروا اللَّه وسألوه المزيد من فضله. إذا سقو قبل الخروج فتفصيل مذهب الحنابلة:

- أنهم إذا سقو قبل الخروج ولم يتهيأوا للخروج فإنهم لا يخرجون. - وإن سقوا قبل الخروج بعد أن تهيأوا فإنهم يخرجون. أما أنهم لا يخرجون فلأن المقصود من صلاة الاستسقاء حصل وإذا حصل المقصود فلا يوجد داعي لصلاة الاستسقاء. هذا التفصيل الذي ذكرت الآن هو: = المذهب واختيار ابن عقيل والقاضي من الحنابلة. = والقول الثاني: أنهم إذا سقوا لا يخرجون مطلقاً. للتعليل ذاته سواء كانوا استعدوا أو لم يستعدوا لا يخرجون. * * مسألة: فإن سقوا بعد الخروج: صلوا بلى خلاف عند الحنابلة. يعني: إذا استعدوا وخرجوا وأوشكوا على الصلاة ثم سقوا فإنهم يصلون بلا خلاف. ولكنهم يصلون صلاة شكر لا طلب. فيشكرون الله على ما رزقهم من هذه النعمة. • ثم قال رحمه الله: وينادى: ((الصَّلاَةُ جَامِعَةً)). يعني: أنه يستحب إذا خرج الناس وقبل مجيء الإمام أن ينادى الصلاة جامعة. - قياساً على الكسوف. بجامع: أن كلاً منهما صلاة يجتمع لها الناس. = والقول الثاني: أنه لا يشرع أن ينادي الصلاة جامعة. - لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يفعل ذلك ولم يفعله أحد من الخلفاء الراشدين. وعلم من قول المؤلف: (ينادى الصلاة جامعة). أنه لا يشضرع لصلاة الاستسقاء أذان ولا إقامة. وهو كذلك. فإن صلاة الاستسقاء تصلى كما صلاها النبي صلى الله عليه وسلم بلا أذان ولا إقامة. • ثم قال رحمه الله: وليس من شرطها إذن الإمام. يعني ليس من شرط صلاة الاستسقاء أن يأذن بها الإمام بل إذا وجد السبب وهو القحط وقلة المطر صلى الناس ولو بلا إذن من الإمام. واستدلوا: بدليلين: - الأول: القياس على صلاة العيدين. - والثاني: أن صلاة الاستسقاء صلاة نفل وصلاة النوافل لا يشترط لها إذن الإمام. • ثم قال رحمه الله: ويسن: أن يقف في أول المطر.

يسن أن يقف الإنسان في أول المطر. يعني: ويحسر عن جسده: هذا مقصود المؤلف رحمه الله فيقف ويحسر عن جسده لحديث أنس الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم لما أصابهم مطر وقف وحسر عن ثيابه قال فقلنا: لم يارسول الله قال إنه حديث عهد بربه. ويفهم من الحديث أن الحسر لا يكون فقط عن الرأس كما يصنع كثير من الناس اليوم بل يكون عن الرأس وعن بعض أجزاء الجسد لأن الظاهر من حديث أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم حسر عن بعض أجزاء الجسد كاليد أو الظهر لمن كان عليه رداء بالإمكان خلعه. المهم أن يحرص الإنسان أن يصيب المطر بعض أجزاء الجسد مع الرأس. • ثم قال رحمه الله: وإخراج رَحله وثيابه ليصيبها. أي ويسن إذا نزل المطر أن يخرج الإنسان رحله. والمقصود بالرحل هنا: الأثاث. ويخرج ثيابه. والمقصود بالثياب هنا: أي التي لم يلبسها مما في البيت. فيخرج الجميع ليصيبه المطر. واستدلوا على هذا: - بأن ابن عباس رضي الله عنه لما نزل المطر عليهم أمر غلامه أن يصنع ذلك. = والقول الثاني: أن هذا لا يشرع. - أولاً: لأ النبي صلى الله عليه وسلم لم يصنع لك. بل اقتصر على مسألة حصر الثياب عن الجسد. - ثانياً: أن هذا الأثر أخرجه الإمام الشافعي معلقاً فلم يثبت عن ابن عباس رضي الله عنهما. إذاً الأقرب والله أعلم الاكتفاء بحسر الثياب عن الجسد أو الرأس. • ثم قال رحمه الله: وإذا زادت المياة وخيف منها، سن أن يقول: ((اللَّهُمَّ حَوَالَيْنَا وَلاَ عَلَيْنَا اللَّهُمَّ عَلَى الظِّرَابِ وَالآكَامِ وَبُطُونِ الأَوْدِيَةِ وَمَنَابِتِ الشَّجَرِ)). يبدو أن المحقق حصل له سبق قلم وفتح الخاء والصواب: الكسر. إذا زادت المياه أو لم تز المياه ولكن مع ذلك خيف منها لسبب أو لآخر فإنه يشرع للإمام أن يقول: ((اللَّهُمَّ حَوَالَيْنَا وَلاَ عَلَيْنَا اللَّهُمَّ عَلَى الظِّرَابِ وَالآكَامِ وَبُطُونِ الأَوْدِيَةِ وَمَنَابِتِ الشَّجَرِ)). هذا الحديث من قوله: الهم حوالينا إلى قوله: ومنابت الشجر حديث صحيح متفق عليه عن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم لما شكي إليه زيادة المطر دعا بهذا الدعاء.

قوله: ((اللَّهُمَّ حَوَالَيْنَا وَلاَ عَلَيْنَا)): يعني: حوالي المدينة. والسبب: أن نزول المطر في المناطق المجاورة للمدينة لا ينتج عنه ضرر ولا خطر على الناس مع ما فيه من مصلحة الدواب وخروج النبات. فحصلت المصلحة واندفعت المفسدة. وقوله ((اللَّهُمَّ عَلَى الظِّرَابِ ... إلى آخره. هنا تفصيل لمسألة الأشياء التي حول المدينة فهو كالتأكيد في الدعاء. - الظراب: هي: الروابي الصغير. - والآكام: إما أن تكون التلال. أو تكون الجبال الصغيرة. وبهذا علمنا أن الظراب والآكام معناها متقارب لأن الروابي معناها يقارب التلال. نعم. الجبال الصغيرة تختلف في الشكل لكن بالنسبة للتلال والروابي أشكالها متقاربة. - وبطون الأودية: أي الأماكن المنخفضة من الأرض. وتفسير الفقهاء لقول النبي صلى الله عليه وسلم: ((وبطون الأودية)) بأنه الأماكن المنخفضة يدل على أن النبي صلى الله عليه وسلم لا يريد فقط بطون الأودية. يعني: لا يريد فقط المكان الذي يعتبر وادياً بل يريد أي مكان منخفض ولو لم يكن في بطون الأودية. - ومنابت الشجر: أي أصول الشجر لتنتفع الأشجار بهذا الماء وتنتفع تبعاً لذلك بهيمة الأنعام. • ثم قال رحمه الله: } رَبَّنَا وَلاَ تُحَمِّلْنَا مَا لاَ طَاقَةَ لَنَا بِهِ {الآية. يعني: ويقول هذا الدعاء. الدليل على أنه يشرع للإمام أن يقول هذا الدعاء: - أنه مناسب للحال. وعلم من ذلك أنه ليس في السنة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال هذا الدعاء فالصواب أن الإنسان إن قاله أحياناً لا بنية أنه سنة ولكن لمناسبة المقام فهو أمر حسن وهو من جملة الخطبة. وإن قالها دائماً أو بنية أنها سنة فهو دعاء لا يشرع لعدم ثبوته عن النبي صلى الله عليه وسلم. وبهذا انتهى الكلام عن كتاب الصلاة ولولا تيسير الله ورحمته وإعانته لم ينتهي هذا الكتاب ولكن نحمد الله سبحانه وتعالى أن أعان عليه ونسأله أن يعين على ما بعده من الكتب وأن يجعل ذلك كله خالصاً لوجهه الكريم. ((نهاية كتاب الصلاة - - والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات)) يتبع الدرس = كتاب الجنائز.

كتاب الجنائز

كتاب الجنائز قال شيخنا حفظه الله: • قال المؤلف رحمه الله تعالى: كتاب الجنائز هذا الكتب يقصد به بيان أحكام المريض والميت. وفي الحقيقة تفصيل الإسلام لمثل هذه الأمور من حيث يولد الإنسان إلى أن يدفن يعتبر من أعظم محاسن الإسلام وكثير ما يغفل المسلمون عن محاسن الإسلام. ولذلك أنا أوصي إخواني الكرام بمسألة الإعجاز التشريعي حقيقة إذا قرأ فيه الإنسان حصل له أمران: - الأول: زيادة الإيمان. - والثاني: التفقه في دين الله. قبل أسبوعين أعلنت إحدى ولايات الصين أنها لن ترقي أي موظف في الدولة إلا إذا أتى بشهادة تفيد أنه يحسن معاملة والديه فإذا لم يأت بهذه الشهادة لم يرقى وظيفياً. لما قرأت هذا الخبر تعجبت جداً كيف أنهم لم يصلوا إلى هذا المعنى إلا بعد هذه السنين بينما القرآن والسنة مليئان بالنصوص الدالة على بر الوالدين. فأقول أن تنظيم الإسلام لمثل هذه الأمور هذا التنظيم الدقيق العجيب المعجز يستدعي من طالب العلم الوقوف في هذا الجانب بالذات وهو الإعجاز التشريعي. قوله: الجَنَائز: الجَنَائز لا تنطق إلا بالفتح فإن كسرت فهو خطأ - لحن. هذا ما يتعلق بالجنائز. والجنائز جمع جنازة. وجنازة: يجوز أن نفتح ويجوز أن نكسر. وقيل أنها بالفتح للميت. وبالكسر للنعش. وقيل العكس. والجنازة لغة: اسم للميت أو للسرير الذي عليه الميت. • قال رحمه الله: تسن: عيادة المريض. لما كان يعرض كثيراً على الإنسان أن يمرض أراد المؤلف رحمه الله أن يبدأ ببيان أحكام المرض. والمرض اصطلاحاً: هو اعتلال صحة الجسم. والمقصود بالمرض في قول المؤلف: عيادة المريض. مرض الأبدان ولا يقصد مرض القلوب الذي أشارت إليه الآية في قوله تعالى: {فيطمع الذي في قلبه مرض} [الأحزاب/32] هذا المرض لا يقصد بهذا السياق. قوله: تسن عيادة المريض. عيادة المريض مشروعة بالإجماع لم يخالف في هذا أحد من أهل العلم. ولكن اختلفوا في حكمها: = فالجماهير ذهبوا إلى أن عيادة المريض سنة. واستدلوا بأحاديث كثيرة:

- من أصحها: حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (حق المسلم على المسلم خمس) وذكر منها عيادة المريض. - واستدلوا: بأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بسبع. هكذا لفظ الحديث. وذكر منها عيداة المريض. فدل هذا على أن عيادة المريض سنة مرغوبة للشارع. = والقول الثاني: أن عيادة المريض واجبة - فرض عين - إذا علم الإنسان بمريض فيجب أن يزوره وإلى هذا مال البخاري قال ابن مفلح: ويحمل ذلك على الزيارة مرة واحدة. يعني: أن الواجب الزيارة مرة واحدة. = والقول الثالث: أن زيارة المريض فرض كفاية وإلى هذا ذهب شيخ الاسلام ابن تيمية وذهب أيضاً إليه الشيخ الفقيه ابن قاضي الجبل. ويلحظ الإنسان أن ما اختاره شيخ الاسلام فيه توسط فإذا مرض الإنسان ولم يزره أحد من المسلمين أثم الجميع كيف وقد أمر به النبي صلى الله عليه وسلم وجعله حق من حقوق المريض. قوله: تسن عيادة المريض. المراد بالمريض هنا: أي مريض ومهما كان المرض. وإلى هذا ذهب الحافظ ابن حجر ولو كان يستطيع أن يقوم أو أن يخرج أحياناً. والدليل على هذا: - أن زيد ابن الأرقم رضي الله عنه أصيب بمرض في عينيه فعاده النبي صلى الله عليه وسلم. ومن المعلوم أن مرض العين لا منع غالباً من القيام وقضاء المصالح. ثم بدأ المؤلف ببيان السنن التي ينبغي أن يفعلها منن زار المريض: • فقال رحمه الله: وتذكيره التوبة والوصية. يعني: ويسن لمن زار المريض أن يذكره التوبة والوصية. أما تذكيره التوبة فلأمرين: - الأول: النصوص العامة الدالة على وجوب التوبة. - الثاني: تأكد هذا الأمر في حق المريض خشية أن يموت. وأما الوصية: - فلقول النبي صلى الله عليه وسلم: (ماحق امرئ مسلم يبيت ليلتين وله شيء يوصي به إلا كتبه).وهذا الحديث صحيح. وحمل الفقهاء قوله ليلتين على المبالغة والتغليب. وكونه يسن أن يذكر بالتوبة والوصية الصواب أن هذا مستحب ولا يسن لأنه لم ينقل عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه صنع ذلك قصداً مع زيارته للمرضى من أصحابه لكنه مستحب لدلالة النصوص العامة وقواعد الشرع عليه. ومما يسن عند زيارة المريض - مما تركه المؤلف وهو مفيد -: يسن لمن زار المريض أن يقرأ عليه لدليلين:

- الأول: أن جبريل عليه السلام زار النبي صلى الله عليه وسلم وقد اشتكى فقرأ عليه. وهذا صحيح. - الثاني: أن أنس رضي الله عنه زار رجلاً من أصحابه وهو يشتكي فقرأ عليه. وهو صحيح. فثبت بهذين النصين أنه ينبغي لمن زار المريض أن يقرأ عليه. ومما يسن لمن زار المريض: أن يدخل على المريض السرور وأن يطمأن المريض وأن يتحدث معه بما يوجب انشراح الصدر لأن النبي صلى الله عليه وسلم لما زار بعض أصحابه قال كيف تجدك؟ فهذا من جملة السؤال عن المريض وإدخال السرور عليه. ومن جملة المستحبات والسنن أن يبقى عند المريض بالقدر المناسب للحال بطبيعة علاقة الزائر بالمريض وحسب طبيعة مرض المريض فأحياناً نقول ينبغي أن تطيل الجلوس وأحياناً نقول وهو الغالب ينبغي أن لا تطيل الجلوس. ثم انتقل المؤلف للمرحلة التي تلي المرض. • فقال رحمه الله: وإذا نُزل به: سن. معنى إذا نزل به يعني: إذا حضر ملك الموت. وإنما يعرف أن المريض حضره ملك الموت بعلامات يعرف منها الخبير أن هذا الرجل يحتضر الآن وهو في السياق ولذلك روي أن سفيان الثوري لما حضرته الوفاة كان في بيت عبد الرحمنن بن مهدي فمسه عبد الرحمن فوجده حار فقال كيف تجدك يا أبا عبد الله؟ قال: أرجو أن تخرج النفس رشحاً ثم قال: ويلي ثم غشي عليه فلما غشي عليه بقي قليلاً ثم أفاق ثم قال لعبد الرحمن بن مهدي: نادي حماد بن سلمة فإني أحب أن يحضر مصرعي فخرج عبد الرحمن بن مهدي وقال لحماد إن أبا عبد الله في النزع يناديك فخرج حماد بإزار دون رداء ونسي نعله وخرج مسرعاً ولم يغلق الباب وجاء مسرعاً فلما دخل وجد أن سفيان الثوري أغمي عليه فظن أنه مات ثم أفاق فقال سفيان الثوري: لقونني - لاحظ ثبات هذا الإمام - لا إله إلا الله. ثم الفت إلى حماد فقال: وهذا الشاهد - أي حماد اتق مصرعي هذا ثم قضى رحمه الله. فإنما علم عبد الرحمن بن مهدي بأنه حضر بالعلامات والسياق. • قال رحمه الله: تعاهد بل حلقه بماء أو شراب. يعني ويسن إذا نزل به تعاهد بل حلقه ... إلى آخره. يسن أن يلي الميت من أهله من يتصف بصفتين: - الأولى: أنه أرفق أهله به. - والثانية: أن يكون أتقاهم. فإذا وجدت الصفتان في رجل فينبغي أن يكون هو من يلي الميت.

فإذا وليه ينبغي أن يتعاهده بأمرين: - أولاً: بل حلقه بماء أو شراب. - والثاني: وندى شفتيه بقطنه. يعني أنه ينبغي عليه أن يرطب حلقه بقطرات من الماء وأن يندي شفتيه وعللوا ذلك بأمرين: - الأول: أن في هذا تخفيفا للكرب عن الميت. - والثاني: أن في هذا إعانة له ليتشهد الشهادتين. وعلم من هذا أنه لا يوجد دليل نصي على أن هذا من السنن التي تفعل عند المحتضر لكن سيأتينا قاعدة عظيمة جداً وجيدة ذكرها الإمام الشافعي بعد أن ننتهي من هذه السنن. • ثم قال رحمه الله: ولقنه ((لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ)) مرة. السنة أن يلقنه لا إله إلا الله. - لقول النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: (لقنوا موتاكم لا إله إلا الله). - ولقول النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الحسن: (من كان آخر كلامه من الدنيا لا إله إلا الله دخل الجنة). فإذاً تلقين الميت سنة ثابتة في الحديث الصحيح لا إشكال فيها. • ثم قال رحمه الله: مرة ولم يزد على ثلاث. يعني أنهخ يلقنه مرة إلى ثلاث ولا يزيد عن الثلاث لأن لا يضجر الميت من التكرار بلا إله إلا الله .. = والقول الثاني: أنه لا يشرع أن يلقن إلا مرة واحدة فقط ولا يزيد إلا في حالين: - إذا لم يستجب. - أو إذا تكلم بعدها كما سيأتينا. فإذا لم يستجب أو تكلم بعد أن نطق بالشهادة فإنا نكرر عليه. أما إذا قيل له: قل لا إله إلا الله فقال: لا إله إلا الله فإن الصواب أنه لا يشرع أن نكررعليه لأنه لا فائدة من هذا التكرار وقد يضجر ويتكلم بالكلمة التي تكره. فإذا قال لا إله إلا الله نكتفي بذلك. ولذلك روي أن رجلاً حضر عبد الله بن المبارك عند الموت فقال له قل: لا إله إلا الله فقال لا إله إلا الله فقال: قل لا إله إلا الله قال: إذا قلت لا إله إلا الله فلا تكرر علي فإنما أنا عليها ما لم أغير. وصدق رحمه الله إذا قال الميت: لا إله إلا الله فعلام يكرر عليه. وهذا القول الثاني: هو قول عند الحنابلة وهو الصواب أنه يكتفى بمره إذا استجاب الميت. وهل معنى قول المؤلف رحمه الله لقنو أن نقول: قل لا إله إلا الله أو أن نقول: لا إله إلا الله فيسمع ويفهم المراد؟

الحقيقة الأمر واسع. لكن فيما أرى أن النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (لقنوا) هذا الشيء الأول. فهذا يؤيد أن نلقن ونقول: قل لا إله إلا الله. الشي الثاني: أن الميت قد لا يلاحظ أو يفهم إذا قلت أنت لا إله إلا الله أنك تريد أن يسمع فيقول بينما إذا سمعك تقول: قل. استجاب. وبالإمكان أن نجمع بين القولين فنقول: أنت قل عند الميت: لا إله إلا الله. فإن استجب فالحمد لله. فإن لم يستجب فقل له: قل لا إله إلا الله. • ثم قال رحمه الله: إلاّ أن يتكلم بعده: فيعيد تلقينه برفق. إذا تكلم بعد أن قال: لا إله إلا الله فإنا نرجع ونلقنه. والتعليل: - ليكون آخر كلامه من الدنيا لا إله إلا الله. • ثم قال رحمه الله: ويقرأُ عنده ((يس)). أي يشرع ويسن أن يقرأ عند الميت بسورة يس لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (اقرأوا على موتاكم يس). وهذا الحديث ضعيف ضعفه الإمام الدارقطني وابن القطان. والمقصود بموتاكم هنا: المحتضر وليس من في القبر فهو أطلق على المحتضر باعتبار ما سيؤول إليه. = القول الثاني: أنه لا يشرع أن نقرأ يس ولا غيرها من السور كالفاتحة ولا غيرها لأنه لم يأت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه أمر بذلك. إذاً الصواب أن هذا ليس بسنة. • ثم قال رحمه الله: ويوجهه إلى القبلة. أي ويسن أن يوجه الميت إلى القبلة. واستدلوا على هذا بأحاديث: - أولاً: قوله صلى الله عليه وسلم: (قبلتكم أحياء وأمواتاً). - ثانياً: قول النبي صلى الله عليه وسلم: (خير المجالس ما استقبلت به القبلة). وهذان الحديثان ضعيفان. = والقول الثاني: أنه لا يوجه الميت إلى القبلة وإنما يترك على حاله. وإلى هذا ذهب التابعي الجليل سيد التابعين سعيد بن المسيب. والراجح والله أعلم أنه يوجه. والدليل: - أنه جاء بإسناد صحيح ثابت عن عطاء وعن الحسن أنهم قالوا: كانوا يستحبون التوجه إلى القبلة. ومعلوم أن مثل هؤلاء من التابعين الكبار إذا قالوا: كان يستحب فإنما يقصدون الصحابي بل إن عطاء لما سأل عن توجيه الميت إلى القبلة قال: سبحان الله وهل يترك هذا أحد؟.

ففي الحقيقة كون مثل عطاء والحسن يصح عنهما أنهم نشأوا والسنة المعروفة بين الصحابة توجيه الميت إلى القبلة يجعل الإنسان يرى أن هذا مشروع ومستحب إن شاء الله. - بقينا في مسألة: * * كيفية توجيهه إلى القبلة: أكثر النصوص عن الإمام أحمد أن الميت يوضع على شقه الأيمن باتجاه القبلة كحال الميت في القبر. = والقول الثاني: وهو قول عند الحنابلة. أنه يجعل على ظهره وتجعل الرجلين باتجاه القبلة ويرفع رأسه قليلاً. ومما يرجح القول الثاني: سهولة صنع ذلك بالميت. فإنك إذا تصورت أنت الميت على فراش الموت وهو يتألم من الصعوبة بمكان أن تجعله على شقه الأيمن لكن أن يجعل على ظهره وتوجه الرجلان إلى القبلة فهذا أمر سهل. فإذا استطاع الإنسان أن يجعله على شقه الأيمن فهو أحسن وإلا فيجعله على ظهره مستلقياً ويرفه رأسه قليلاً باتجاه القبلة. وبهذا انتهى من المرحلة الثانية وهي: ما يكون في سياق الموت. ثم انتقل انتقالاً طبيعياً إلى ما بعد الموت. • فقال رحمه الله: فإذا مات سن: تغميضه. أي أنه يسن أول ما يموت الميت أن يقوم من عنده بتغميض عينيه لدليلين: - الأول: أنه ثبت في صحيح مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل على أبي سلمة وجلس عنده فلما توفي شخص بصره إلى السماء فأغمض النبي صلى الله عليه وسلم عينيه. فهذا نص صريح بأن إغماض العينين سنة. - الثاني: أن بقاء العين مفتوحة فيه تشويه لمنظر الميت. • ثم قال رحمه الله: وشد لحييه. يعني أن يضم الفك الأسفل إلى الأعلى مربوطاً. وعللوا استحباب هذا الأمر بأمرين: - أولاً: لأن لا يدخل مع فمه هواء. - ثانياً: أن لا يدخل الماء أثناء غسل الميت. • ثم قال رحمه الله: وتليين مفاصله. يعني ويستحب لمن حضر الميت إذا مات أن يلين مفاصله. - ليسهل تغسيله. وتليين المفاصل يكون بثني اليد ثم إرجاعها كما كانت وثني الرجل ثم إرجاعها كما كانت. • ثم قال رحمه الله: وخلع ثيابه. أي: ويشرع أن يخلع ثياب الميت لأن بقاء الثياب على الجسد يزيد من حرارة الجسم مما يؤدي إلى سرعة فساد الميت. • ثم قال رحمه الله: وستره بثوب. أي: ويشرع أن يغطى جميع جسد الميت بثوب من الرأس إلى القدمين. والدليل على هذا:

- أن النبي صلى الله عليه وسلم لما مات سجي بثوب حبر. وكانت من الثياب التي يحبها النبي صلى الله عليه وسلم فغطي تغطية كاملة. ويستثنى من هذا إذا كان الميت محرماً فإنه لا يغطى رأسه. فهذه سنة ثابتة. • ثم قال رحمه الله: ووضع حديدة على بطنه. هذا مستحب بالنسبة للميت لأمرين: - أولاً: أن مولى لأنس رضي الله عنه مات فأمر بوضع حديدة على بطنه. - ثانياً: أنه لو لم توضع لا نتفخ البطن. • ثم قال رحمه الله: ووضعه على سرير يعني: ويستحب أن يوضع الميت على سرير ولا يترك على الأرض لأن وضعه على السرير أحفظ لجسده من وضعه على الأرض. فقد يتأذى من رطوبة الأرض أو من الهوام. • ثم قال رحمه الله: غسله: متوجهاً منحدراً نحو رجليه. يعني: أن يوضع على السرير بحيث يرتفع الجزء الأعلى من جسده وينخفض الجزء الأسفل من جسده. وعللوا ذلك: - بأن هذا يسهل ذهاب الماء أثناء الغسل وعدم بقائه تحت جسد الميت. - وأيضاً خروج الفضلات وذهابها فلا تبقى تحت جسد الميت. نرجع الآن إلى الأمر التي لم تأت في السنة الصريحة وهي: - شد اللحيين. - وتليين المفاصل. - وخلع الثوب - ووضع الحديدة. - ووضعه على سرير. هذه الخمس لم تأت في السنة إنما جاء في السنة الستر بالثوب وتغميض العينين. وذكر الشافعي رحمه الله قاعدة في هذه الأمور: يقول: ((إنه مهما أمكن أن نصنع للميت ما يفيده فإنه لا بأس بذلك)). يعني: أن كل عمل هو من مصلحة الميت لا بأس أن نفعله. وقول الشافعي: لا بأس بذلك: دليل على أن هذه الأعهمال ليست سنن وإنما مستحبة فقط وجائزة. فقول المؤلف: إذا مات سن أن يفعل كذا وكذا ليس بصحيح فإن هذه ليست سنن وإنما هي مستحبات دلت عليها القواعد العامة والتي تدل على أنه يستحب أن نحافظ على الميت وعلى جسده وعلى حرمته وعلى شكله أكثر ما نستطيع. فإذاً نقول هذه الأشياء وغيرها مما يمكن أن يصنع من مصلحة الميت فإنه يستحب أن يصنع به. من ذلك: مثلاً في وفتنا هذا: وضع الميت في الثلاجة فإن هذا من أعظم ما يحافظ به على جسد الميت فإذا كانوا هم يقولون يوضع على السرير ويوضع عليه حديده ويلين ... إلى آخره كل هذه الأمور وأكثر من هذه الأمور تحصل إذا وضعناه في الثلاجة.

فنقول: يستحب المبادرة بوضع الميت في الثلاجة بشرط التأكد التام من مسألة أنه توفي وأنه لم يكن مغمى عليه فقط. • ثم قال رحمه الله: وإسراع تجهيزه. يعني ويستحب أن يسرع في تجهيز الميت قدر الإمكان بلا مشقه. - لقول النبي صلى الله عليه وسلم أسرعوا بها فإن كانت صالحة فإلى خير تقدمونها إليه وإن كانت غير ذلك فشر تضعونه عن رقابكم. وإّا كان الشارع الحكيم أمر بالإسراع الجنازة أثناء التشييع فمن باب أولى أن نسرع بها في التجهيز. فإذاً لا ينبغي أبداً التأخير في مسألةتجهيز الميت والذي سيبين لنا المؤلف كيفية تجهيزه لكن الآن الذي نحتاج أن نفهمه هو أنه يستحب المبادرة الإسراع بتجهيزه. • قال رحمه الله: إن مات غير فجأة. يعني إذا مات على إثر مرض وعلم موته يقيناً فيسرع به. وأما إن مات فجأة فلا يستحب أن يسرع به خشية أن يكون مازال حياً. ومن المعلوم أنه في وقتنا هذا يكاد هذا المحذور قد زال لأن التأكد من موت الميت الآن أصبح ميسوراً وأشبه ما يكون على وجه القطع ولذلك لم نسمع أبداً أن الأطباء حكموا عهلى شخص بالموت ثم تبين أنه ما زال حياً إلا في مسألة واحدة هم ما زالوا يقولون أنه ميت والآخرون يقولون أنه حي وهو الشخص الذي مات دماغه وصارت أعضؤه تعمل على أجهزة خارجيه فالقلب يعمل على جهاز والرئة على جهاز والكلية على جهاز لكن المخ توفى دماغياً هذا الشخص الأطباء يعتبرونه أنه ميت ومن الناس من ينازع في هذا ويقول أنه ما زال حياً. فهذا نستثنيه من البحث. فمن مات موتاً طبيعياً فإن لم نسمع أن الأطباء حكموا عليه أنه مات وتبين أنه حي مما يدل على أنه أشبه ما يكون بالمقطوع به أن حكم الأطباء على شخص بالموت أنه ميت. إذا ثبت ذلك فنقول: ينبغي الإسراع في وقتنا هذا بتجهيز الميت مهما كان موته فجأة أو على إثر مرض. • ثم قال رحمه الله: وإنفاذ وصيته. يعني ويتحب الإسراع بإنفاذ الوصية. ولذلك كان يجدر بالمؤلف أن يقول والإسراع بإنفاذ الوصية لأن هذا هو المستحب أما إنفاذ الوصية فهو واجب. وهو يقول في صدر هذه الجملة: فإذا مات سن. فصارت العبارة فإذا مات سن إنفاذ وصيته وهذا ليس بصحيح بل المسنون هو الإسراع.

وتعليل: أن الإسراع في إنفاذ الوصية مستحب هو أن هذا أسرع في حصول الأجر لهذا الميت. • ثم قال رحمه الله: ويجب في قضاء دينه. يعني: ويجب الإسراع في قضاء الدين. لوجهين: - الأول: حديث أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (نفس المؤمن معلقة بدينه). - والثاني: أن الدين من حقوق العباد التي يجب الإسراع بأدائها. فإذاً: الصواب كما قال المؤلف أن قضلء الدين واجب على لاالفور ولا يستحب فقط بل يجب والله أعلم .... ((الأذان)) ... انتهى الدرس

فصل [في غسل الميت وما يتعلق به] قال شيخنا حفظه الله: بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين. أما بعد: فبدأ المؤلف بالكلام عن غسل الميت وما يتعلق به من أحكام وكيفية ... إلى آخره. فبدأ ببيان حكم تغسيل الميست وتكفينه ... إلى آخره. • فقال رحمه الله: غُسل الميت وتكفينه والصلاة عليه ودفنه: فرض كفاية. ـ غسل الميت وتكفينه فرض كفايه لدليلين: - الأول: قول النبي صلى الله عليه وسلم في المحرم الذي وقصته ناقته ومات: (اغسلوه بماء وسدر وكفنوه في ثوبين). - الثاني: الإجماع. بناء على هذا إذا لم يغسل الميت من أهله وجب على غيرهم أن يغسلوه فإن لم يغسله أحد من المسلمين أثموا جميعاً وهذا معنى كونه فرض كفايه. إذاً تبين معنا الآن حكم الغسل والتكفين. • ثم قال رحمه الله: والصلاة عليه. الصلاة عليه أيضاً فرض كفاية فإن لم يصلوا عليه أثموا جميعاً. [لدليلين: - الدليل الأول]: قول النبي صلى الله عليه وسلم في الذي غل في الحرب لما أراد أن يصلي عليه ترك الصلاة عليه وقال النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه: (صلوا على صاحبكم) وهذا أمر. - والدليل الثاني: الإجماع. فقد أجمعت الأمة على أن الصلاة على الميت فرض كفاية. • ثم قال رحمه الله: ودفنه. أيضاً الدفن فرض كفاية. لعدة أدلة: - الدليل الأول: - وهو أقوى الأدلة - الإجماع. - الدليل الثاني: قوله تعالى: {ثم أماته فأقبره} [عبس/21]. فامتن الله على عباده بالدفن.

- الدليل الثالث: لأن لا يتأذى به الناس من جهة ولأن لا تهتك حرمة هذا الميت من جهة أخرى. فثبت بهذه الأدلة أن دفن الميت فرض كفاية فهو عبادة يتقرب بها الإنسان إلى ربه سبحانه وتعالى فإن تركوها أثموا. ثم بدأ المؤلف رحمه الله بالكلام التفصيلي على مسألة الغسل بالذات لأن الفصل مخصص للغسل وسيخصص فصلاً آخر للتكفين والصلاة ... إلى آخره. • قال رحمه الله: وأولى الناس بغسله: وصيه. (الناس: مضبوطة بالضم عندكم [طبعة الهبدان ص 125] وهي بالكسر). معنى أولى الناس يعني: أحق الناس بغسل الميت من سيذكرهم المؤلف رحمه الله. = أحق الناس بالغسل عند الحنابلة: الوصي. فإذا وصى الميت أن يغسله فلان فهذا أحق الناس وأولى من والد المتوفى وابنه وأخيه وكل الناس. وهذه من مفردات مذهب الإمام أحمد. واستدل بدليلين: - الأول: أن أبا بكر الصديق رضي الله عنه أوصى أن تغسله زوجته. وهذا مرسل لكن مقبول في هذا الباب. - الثاني: أن أنس رضي الله عنه أوصى أن يغسله ابن سيرين رحمه الله. وهذا إسناده صحيح. وبهذا استدل الإمام أحمد وهناك تعليل وهو: - أن الميت لم يوص إلا بمن يرى أنه سيقوم بالأمر على الوجه الأكمل. = القول الثاني: مذهب مالك وأبي حنيفة والشافعي - الجمهور أن العصبات مقدمون على الأوصياء. واستدلوا على هذا بأنهم: - أولى وأحق بالصلاة فكذلك بالغسل. والصواب مع الإمام أحمد لأنه يستدل بآثار عن الصحابة وأولئك يستدلون بعلل والعلل لا ترد الآثار الصحيحة. نعم مسألة أثر أبي بكر رضي الله عنه مرسل لكن المراسيل في مثل هذا الباب مقبولة إن شاء الله. • ثم قال رحمه الله: ثم أبوه ثم جده ثم الأقرب فالأقرب من عصباته. = ترتيب الأحق بغسل الميت عند الحنابلة كما ذكره المؤلف - على ثلاثة جهات. - الجهة الأولى: الأبوة. يعني: الأب وإن علا. - والجهة الثانية: - لم يذكره المؤلف فكان من الأنسب كغيره من الحنابلة أن يقول: ثم أبوه ثم جده ثم ابنه ثم الأقرب فالأقرب - نقول: البنوة: الابن وإن نزل. - الجهة الثالث: باقي العصبات. ومن الطبيعي أنا سنبدأ بباقي العصبات بمن: بالأخ. وترتيب باقي العصبات حسب ترتيبهم في الإرث. دليل الحنابلة على تقديم الأبوة على البنوة:

- أن الأب في العادة أكثر شفقة من الإبن ولذا قدم. = القول الثاني: أن البنوة مقدمة على الأبوة فالابن أحق من الأب فابن الميت أحق من أبيه في غسله. = القول الثالث: أن البنوة مقدمة على الجد فقط دون الأب. = القول الرابع: أن الزوجين يقدمان على غيرهما فإذا مات الزوج فالزوجة أحق من غيرها وإذا ماتت الزوجة فالزوج أحق من غيره وهذا مذهب المالكية. ويظهر لي والله أعلم أن هذا المذهب قوي جداً وأن الزوج مقدم في غسل الزوجة على أبيها وابنها وأخيها وأمها وكل الناس. لماذا؟ التعليل من وجهين: - الأول: أنا وجدنا أن أبا بكر الصديق رضي الله عنه أوصى على زوجته. - الثاني: أن عائشة رضي الله عنها قالت: لو استقبلت من أمري ما استدبرت ما غسل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا أزواجه مع أن الذي تولى غسل النبي صلى الله عليه وسلم من العصبات علي بن أبي طالب رضي الله عنه. - ثالثاً: أن الزوج اطلع من زوجته والزوجة اطلعت من زوجها على ما لم يطلع عليه غيرهما في الحياة. ولذلك أقول أن هذا القول وجيه جداً وإن كان لم يقل به إلا المالكية من بين المذاهب الأربعة. عرفنا الآن كيفية ترتيب الأحق بالغسل عند الحنابلة وعند غيرهم. • ثم قال رحمه الله: ثم ذووا أرحامه. ذووا أرحامه هم: كل قريب لا يرث فرضاً ولا تعصيباً كالجد من جهة الأم والخال والعم من جهة الأم وكل قريب لا يرث لا فرضاً ولا تعصيباً. فهؤلاء يقدمون على غيرهم إذا لم يوجد من ذكر أولاً ولهذا عبر بقوله: ثم ذووا أرحامه. وبهذا عرفنا أن بعد ذوي الأرحام يتساوى الناس فلا أحد أحق من أحد. = والقول الثاني: أنه بعد ذوي الأرحام الأصدقاء. ومن خلال ما سبق عرفت أن مقصود الفقهاء في الترتيب ينبني على مسألة الأكثر شفقة ولهذا ذكروا الأصدقاء. فالضابط الذي في الحقيقة تدور عليه المسألة من أكثر شفقة مِن مَن؟ • ثم قال رحمه الله: وبأُنثى: وصيتها. تقدم الكلام على الوصي والخلاف بين الحنابلة والجمهور في مسألة تغسيل الرجل فكذلك هنا. • ثم قال رحمه الله: ثم القربى فالقربى من نسائها. بناء عليه أحق الناس بغسل المرأة: أمها ثم ابنتها ثم أختها وهكذا حسب ترتيبهم في الميراث.

وعرفنا مما ذكره المؤلف أنه ليس للشخص أن يغسل أمه ولا أخته وسيأتي التصريح بهذا في كلام المؤلف. • ثم قال رحمه الله: ولكل واحد من الزوجين: غسل صاحبه. يعني: ويجوز لكل واحد من الزوجين أن يغسل الآخر إذا مات أحدهما. فذكر المؤلف مسألتين: - المسألة الأولى: غسل الزوج لزوجته. - والمسألة الثانية: غسل الزوجة لزوجها. نبدأ بالمسألة الأولى: غسل الزوج لزوجته: = ذهب الجمهور إلى جواز أن يغسل الزوج زوجته إذا ماتت. واستدلوا بدليلين: - الأول: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لعائشة رضي الله عنها: (ما ضرك لو مت فغسلتك وكفنتك وصليت عليك). - الثاني: أن علي بن أبي طالب رضي الله عنه تولى غسل فاطمة رضي الله عنها وهي نصوص ريحة كما ترى وقوية جداً. = القول الثاني: أنه لا يجوز للزوج أن يغسل زوجته. - لأنه لو شاء لتزوج أختها. فدل على أن العلاقة انتهت بالموت وصارت أجنبية ولا يجوز للإنسان أن يمس الأجنبية. ونلاحظ أن الأحناف وهم أصحاب هذا القول أيضاً قابلوا الآثار الصحيحة بعلل وأدلة عقلية. ولذلك الراجح هو القول الأول بلا إشكال إن شاء الله. وتغسيل علي لفاطمة صحيح ثابت بإسناد صحيح. المسألة الثانية: تغسيل الزوجة للزوج. هذا حكي فيه الإجماع ممن حكاه: ابن المنذر بل حكاه الإمام أحمد نفسه فقال رحمه الله: لا أعلم الناس يختلفون فيه. لكن الواقع أن في المسألة خلاف. = فالقول الأول وحكي إجماعاً الجواز. كما سمعت. واستدلوا: - بقول عائشة رضي الله عنها: لو استقدمت من أمري ما استأخرت ما غسل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا أزواجه. - وبأن زوجة أبي بكر رضي الله عنه غسلته بوصية منه رضي الله عنه. = والقول الثاني: أنه لا يجوز للزوجه أن تغسل زوجها. والغريب أنه رواية عن الإمام أحمد وقول لبعض الفقهاء مع أنه حكى الإجماع. فربما نقول أن الإمام أحمد رحمه الله في الأول علم أن المسألة إجماع ثم تبين أن فيها خلاف فصار له رواية في المسألة أو أن نقول أن الرواية الثانية لا تصح عن الإمام أحمد رحمه الله وإلا لا يمكن أن الإمام أحمد يحكي الإجماع ثم يكون له فيها قول إلا على أحد التخريجين الذين ذكرتهما. واستدل هؤلاء:

- بأن الموت فراق كالطلاق فلا تغسل الزوجة زوجها. والصواب القول الأول بلا إشكال إن شاء الله. • ثم قال رحمه الله. وكذا سيد مع سريته. يعني: أنه يجوز للسيد أن يغسل أمته وللأمة أن تغسل سيدها. واستدلوا على ذلك: - بأن الأمة فراش للزوج فهي كالزوجة تماماً بل هي أولى من الزوجة لأن الحنابلة يرون أنه يجب على الزوج أن ينفق على الزوجة في التكفين والغسل ولا يرون أنه يجب عليه أن ينفق على ... فهي أولى بالعلاقة بعد الموت من الزوجة فالقياس قياس أولوي. • ثم قال رحمه الله: ولرجل وامرأة: غسْل من له دون سبع سنين فقط. يعني أنه يجوز للمرأة أن تغسل الطفل ويجوز للرجل أن يغسل الطفلة. نبدأ بالمسألة الأولى: يجوز للمرأة أن تغسل الطفل فهذا محل إجماع لم يختلفوا فيه. لكن اختلفوا في حد هذا الطفل - إلى متى يجوز للمرأة أن تغسل الطفل؟ = فالحنابلة يرون أنه إلى سبع فإن تم سبع سنوات لم تغسله. لأنه يقول من له دون سبع. واستدلوا على هذا: - بأن النبي صلى الله عليه وسلم علق الصلاة بسبع فقال: (مروهم بالصلاة لسبع). فعلمنا أن الشارع يعلق بعض الأحكام على سن السابعة. = القول الثاني: للشافعية. أنه يختص بالفطيم - من فطم قريباً -. = والقول الثالث: من له أربع أو خمس سنوات. وكما ترون أقوال بلا أدلة وبلا مستند واضح وإنما هي تفقهات وإذا كانت المسألة تفقهات نحن نقول مذهب الحنابلة هو أقوى الأقوال لأنه على أقل تقدير أخذ الحد من نظير جعل الشارع الأحكام تترتب عليه وهو وجوب الصلاة فلأن ننظر بهذا خير من أن نحكم بسن بلا أي دليل وإنما مجرد تعليلات. المسألة الأخرى: تغسيل الرجل للطفلة: هذا فيه خلاف: = فالحنابلة يرون: أنه يجوز له أن يغسل الطفلة ما لم تبلغ سبع سنوات. هذا هو القول الأول. = القول الثاني: التوقف. وهذا مروي عن الإمام أحمد رحمه الله. فتوقف في المسألة وتقدم معنا أن الإمام أحمد رحمه الله إذا توقف دليل على وجود إشكال قوي في المسألة أوجب للإمام أحمد أن يتوقف. = القول الثالث: أنه لا يجوز مطلقاً للرجل أن يغسل الطفلة. وهو رواية عن الإمام أحمد رحمه الله واختيار ابن قدامة. واستدل على هذا القول:

- بأن عورة المرأة أغلظ وأفحش من عورة الرجل وقد جرت العادة أن المرأة تقوم على الطفل بالعناية والتنظيف ولم تجر العادة أن الرجل يقوم على الطفلة بالعناية والتنظيف. بناء عليه يقول لا يجوز للرجل أن يغسل الطفلة مطلقاً. وهذا هو الراجح أنه لا يجوز للرجل أن يغسل الطفلة فمذهب المالكية الذي ذهب إليه أحمد في رواية ورجحه ابن قدامة في الحقيقة قوي ووجيه فيما أرى. تنبيه: قال النووي رحمه الله: أن تغسيل الرجل للطفلة والمرأة للطفل يجوز ما لم يبلغا حداً يشتهيان فيه. فما دام الطفل لا يشتهى من المرأة والطفلة لا تشتهى من الرجل فمادام هذا الوصف موجود فيجوز وإلا فلا. فجعل الضابط ليس من جهة السن وإنما من جهة وجود الشهوة أو عدم وجود الشهوة. هذا القول في الحقيقة قول يلي القول الأخير في القوة فهو وجيه وفيه في الحقيقة تعليق بمعنى اعتاد الشارع أن يعلق عليه الأحكام وهو وجود الشهوة ومظنة وقوع المفسدة. فنجعله كقول ثاني بعد قول المالكية. نرجع إلى مسألتنا التي أشرنا إليها: فيفهم من قول المؤلف: ولرجل وامرأة غسل من له دون سبع سنين أنه لا يجوز للرجل أن يغسل أمه ولا أخته ولا عمته ولا خالته يعني لا يجوز له أن يغسل النساء ولو كن محارم. ولا يجوز للمرأة أن تغسل أباها ولا أخاها ولا أي رجل ولو كان من المحارم. هذا أحد قولي الفقهاء وهو قول صحيح ففيما أرى أنه قول وجيه لأنه لا يناسب أن تغسل المرأة الرجل ولو كان من محارمها بل يتولى غسل الرجال الرجال وغسل النساء النساء. ويستثنى من هذا فقط الزوجة والزوج ومن له دون سبع سنوات فيما عدا هذا فلا يجوز. = والقول الثاني: أنه يجوز للإنسان أن يغسل محارمه من الرجال والنساء ويجوز للمرأة أن تغسل محارمها من الرجال والنساء ولكن هذا القول ضعيف في الحقيقة ويؤدي إلى مفاسد. • ثم قال رحمه الله: وإن مات رجل بين نسوة أو عكسه يمم كخنثى مشكل. أو عكسه: أي ماتت امرأة بين رجال. هذه ثلاث مسائل: المسألة الأولى: إذا ماتت المرأة بين الرجال. والمسألة الثانية: إذا مات الرجل بين النساء. والمسألة الثالثة: إذا مات الخنثى المشكل. في هذه الثلاث مسائل يقول المؤلف: ييمم ولا يغسل.

وطريقة التيمم أن يضرب الإنسان المسلم العاقل يده بالتراب ثم يمسح بها وجه الميت وكفيه. وعلم من هذا أنه ليست الطريقة أن يأخذ كفي الميت ويضرب بهما التراب وإنما يضرب هو التراب بيديه وييمم الميت. الدليل على هذا: - ما رواه مكحول مرسلاً أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا ماتت المرأة مع الرجال أو مات الرجل مع النساء يمما ولم يغسلا). = القول الثاني: أنه في هذه الصورة يدفن الميت بلا تيمم ولا غسل وإنما يدفن مباشرة. = القول الثالث: أنه يغسل من خلف القميص. - يعني: المرأة إذا ماتت بين الرجال أو الرجل مات بين النساء يغسل من فوق القميص بلا تجريد. والراجح مذهب الحنابلة لأمرين: - الأول: أن معهم أثر وإن كان مرسلاً. - الثاني: أنه وسط بين القولين. لما بين رحمه الله من له أن يغسل ومن لا يجوز له أن يغسل تطرق إلى من يحرم عليه أن يغسل: • فقال رحمه الله: ويحرم: أن يغسل مسلم كافراً أو يدفنه. يعني: أو يكفنه أو يتبع جنازته فكل هذه الأشياء محرمة. استدل الحنابلة على ذلك: - بأنه: إذا كان الله سبحانه وتعالى نهى عن الصلاة على الكافرين وعن الدعاء لهم دل ذلك على تحريم أيضاً أن يغسلوا أو يكفنوا أو يدفنوا. - واستدلوا بقوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَتَوَلَّوْا قَوْمًا غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ) -[الممتحنة/13] ... ومن التولي صنع ذلك. = والقول الثاني: أنه يجوز الدفن فقط دون باقي الأشياء. واستدل هؤلاء: - بقول علي رضي الله عنه للنبي صلى الله عليه وسلم إن عمك الشيخ الضال مات فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (اذهب فواره). فدل على أن الدفن فقط يجوز. - الدليل الثاني مع هذا النص: أن بقاء جثة الكافر فيها ضرر على المسلمين لما تسببه من الأمراض والروائح. - الدليل الثالث: أنه قد يتأذى أقارب هذا الميت من المسلمين إذا كان له أقارب من المسلمين. والعمدة في الباب الحديث الأول. وهذا هو الراجح إن شاء الله أنه يجوز الدفن فقط. ولا يدفن على صفة دفن المسلمين وإنما يغمس في الأرض غمساً بدون الترتيبات التي توضع للمسلم. • ثم قال رحمه الله: بل يوارى لعدم. أي لعدم من يواريه يوارى.

يعني: إذا لم يوجد أحد من أقاربه الكفار يواري هذا الميت الكافر فإنه يوارى من قبل المسلمين. والتعليل: - لأن لا يتأذى الناس به فنحن نواريه دفعاً لضرره لا إكراماً له. - والدليل الثاني: ما صح أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بكفار بدر أن يلقوا في قليب. علمنا من قول المؤلف: ويحرم أن يغسل مسلم كافر حكم تغسيل المسلم للكافر. ونأخذ الآن مسألة وهي: حكم تغسيل الكافر للمسلم: فنقول: لا يجوز أن يغسل الكافر المسلم ولا يجزئ. - لأن تغسيل الميت عبادة عظيمة ولا تتأتى من غير المسلمين ولا تصح لأن العبادات لا تصح إلا من المسلمين. = والقول الثاني: أنه يجوز أن يغسل الكافر المسلم. والصواب الأول. ورجح الأول وهو: تحريم تغسيل الكافر للمسلم وأنه لا يجزئ ابن قدامه رحمه الله. • ثم قال رحمه الله: وإذا أخذ في غسله. معنى إذا أخذ في غسله: يعني إذا شرع وبدأ في تغسيل الميت. فالمؤلف بدأ الآن في التفصيل الدقيق لمراحل تغسيل الميت. • قال رحمه الله: وإذا أخذ في غسله: ستر عورته. أي: وجوباً. ووجوب ستر عورة الميت محل إجماع. فيجب على من غسل ميتاً أن يستر عورته. وهو على المذهب ما بين السرة إلى الركبة وتقدم معنا الخلاف في هذه المسألة في شروط الصلاة. • قال رحمه الله: وجرده. أي: ويستحب للغاسل إذا أراد أن يغسل الميت أن يجرده من الثياب. بطبيعة الحال إلا ما يستر عورته. واستدل الحنابلة على استحباب التجريد بدليلين: - الأول: أن هذا أمكن وأبلغ في التنظيف. وهذا صحيح: فبلى شك أنه إذا جرد فإن تنظيفه سيكون أبلغ وأحسن. - الثاني: حديث عائشة الثابت الصحيح أن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم لما أرادوا غسله اختلفوا فقالوا: هل نجرده كما نجرد موتانا؟. وجه الاستدلال: أن هذه العبارة تفيد أن التجريد كان معروفاً بينهم. = والقول الثاني: أن الميت لا يجرد من ثيابه بل تبقى عليه الثياب وهو مذهب الشافعية ويغسل بإدخال اليد تحت الثوب. واستدل الشافعية على هذا: - بأن النبي صلى الله عليه وسلم هكذا غسل وهو أسوة للمسلمين. والراجح مذهب الحنابلة - القول الأول وهو أنه يجرد.

والجواب عن حديث أن النبي صلى الله عليه وسلم غسل في قميصه أن هذا من خصائص النبي صلى الله عليه وسلم. • ثم قال رحمه الله: وستره عن العيون. أي: ويستحب لمن أراد أن يغسل الميت أن يستره عن العيون بأن يغسله بغرفة أو بخيمة أو بأي مكان محجوب. والدليل على هذا: - أن الميت ربما كتم من جسده لا يحب أن يطلع عليه الناس. - ولأن تغسيل الميت على ملإٍ من الناس فيه إيذاء للناس. • ثم قال رحمه الله: ويكره لغير من يعين في غُسْله: حضوره. يعني: يكره ولا يحرم أن يحضر أحد تغسيل الميت وليس ممن يعين على ذلك. - لأنه قد يطلع من الميت على ما لا يحب أن يطلع عليه الميت. = القول الثاني: أنه يحرم أن يحضر من لا يعين لأن جسد الميت بعد الموت يكون كله عورة. والراجح مذهب الحنابلة. * * مسألة: استثنى الحنابلة من مسألة الدخول على الميت أثناء التغسيل ممن لا يعين استثنوا الأولياء فقالوا: للأولياء الدخول بلا كراهة ولو لم يكونوا من المعينين. والأقرب: أن الأولياء إذا لم يكن لحضورهم فائدة الأحسن أن لا يحضروا ولا نقول مكروه لكن الأحسن أن لا يحضروا لأن الميت قد لا يحب أن يطلع على شيء من جسده ولا من قبل بعض الأولياء سواء كان هذا الولي ابن أو أب أوأخ أوغيره. فالأحسن أن لا يحضر إذا لم يكن لحضوره داعي. ومن الدواعي لحضور الأولياء المقبولة: أن يكون الولي حضر ليتأكد من غسل الميت على السنة فهذا جيد فإنه إذا حضر لهذه العلة فهذا جيد لأنه قد يكون الغاسل من المتساهلين - قد يكون - فحضور الولي لأجل أن يتأكد أن التغسيل يتم على وفق السنة فلا بأس به. • ثم قال رحمه الله: ثم يرفع رأسه برفق إلى قرب جلوسه. يعني: ويستحب للمغسل أن يرفع رأس الميت برفقإلى قرب جلوسه ولا يصل به إلى حد الجلوس لأن هذا مؤذي للميت. وأما أصل الرفع: فلإتمام التنظيف. • ثم قال رحمه الله: ويعصر بطنه برفق. أفادنا المؤلف أن العصر سنة وأن السنة أن يكون هذا العصر برفق. استدل الحنابلة على ذلك: - بأن هذا العصر يخرج من بطن الميت ما كان على وشك الخروج لأن لا يخرج أثناء نقله. =القول الثاني: للشافعي وهو أنه يعصر بطن الميت بشدة ولا يقصد بعنف لكن يقصد عصراً قوياً ليخرج كل ما في بطنه.

= والقول الثالث: أنه لا يعصر بطن الميت أصلاً لا برفق ولا بغيره. - لأنه ليس في العصر سنة تتبع عن النبي صلى الله عليه وسلم. والراجح أنه يعصر عصراً رفيقاً ليخرج فقط ما كان على وشك الخروج. وإلى هذا مال الحافظ ابن المنذر. وتقدم معنا قاعدة للشافعي وهي: ((أن كل عمل فعله من صالح الميت يعمل على أساس أنه مستحب وليس على أنه سنة)). • ثم قال رحمه الله: ويكثر صب الماء حينئذ. يعني: مع العصر ليذهب ما يخرج من الميت ولا يتأذى الميت - يعني: لا يتسخ جسده ولا يتأذى الغاسل بل يذهب ما يخرج مع الماء. • ثم قال رحمه الله: ثم يلف على يده خرقة فينجيه. يعني: يستحب أن يفعل ذلك: أن يلف على يده خرقه فينجي الميت. التعليل: - إزالة للنجاسة وطلباً للطهارة الكاملة. ويكون الاستنجاء في هذه الصورة من تحت الثوب الذي يستر العورة. • ثم قال رحمه الله: ولا يحل مس عورة من له سبع سنين. يعني: فأكثر. - لأن التطهير يمكن بدون هذا المس ولذلك لا يحل له أن يمس عورته. أما من له أقل من سبع سنوات فيجوز أن يطهره وينجيه بمس العورة. - لأن عورة من كان عمره دون سبع سنوات لا حكم لها في النظر والمس. • ثم قال رحمه الله: ويستحب أن لا يمس سائره إلاّ بخرقة. يعني: يستحب أن لا يمس سائر الجسد أثناء الغسل إلا بخرقة يلفها على يده. لأمرين: - الأول: أنه مروي عن علي رضي الله عنه أنه كان يصنع ذلك. - الثاني: أن هذا أبلغ في التنظيف. وعلمنا من هذا أن غسل الميت بمباشرة الجسد باليد جائز لكن الأحسن أن يفعل كما قال المؤلف رحمه الله. فصارت الخرق التي يحتاج إليها المغسل: خرقتان. = القول الثاني: أن المغسل يحتاج إلى ثلاث خرق لكل سبيل من السبيلين خرقة ولسائر الجسد خرقة أخرى. فصار المجموع: ثلاث. والصواب: أن المغسل من جهة الخرق يصنع ما فيه الأصلح للميت إن احتاج إلى ثلاث أو أكثر فيأخذ ما فيه صلاح للميت. • ثم قال رحمه الله: ثم يوضيه ندباً. ذكر صاحب الروض أنه كان ينبغي على الماتن أن يقدم النية على الوضوء بينما نجد أن الماتن قدم الوضوء على النية.

وما ذكره صاحب الروض صحيح لأن الوضوء من جملة الغسل الذي يحتاج إلى نية وتقدم معنا أن تغسيل الميت من جملة العبادات التي تحتاج إلى نية. إذاً كان ينبغي من جهة الترتيب أن يقدم النية. نرجع إلى الوضوء: توضأة الميت سنة بالإجماع. - لقول النبي صلى الله عليه وسلم في حديث أم عطية: (ابدأن بمايامنها ومواضع الوضوء منها). = والقول الثاني: أن الوضوء واجب. والصواب مع الحنابلة لأنه لا دليل على وجوب الوضوء .... (الآذان). انتهى الدرس

قال شيخنا حفظه الله: بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين. لما ذكر المؤلف حكم توضأة الميت ذكر تفصيلاً يتعلق بالوضوء. • [قال رحمه الله: ولا يدخل الماء في فيه ولا في أنفه.] فذكر أنه لا يدخل في أنفه ولا في فمه. = وهذا مذهب الحنابلة: أن المغسل لا يمضمض ولا ينشق الميت. واستدلوا على هذا: - بأن في إدخال الماء في أنف وفم الميت ضرر لأنه قد ينزل إلى بطن الميت فيسبب تغيراً فيه. - وأيضاً قد يخرج بعد التكفين. - (الدليل الثالث): أن في المضمضة والاستنشاق بالنسبة للميت عسر ومشقة ظاهرة. وإلى هذا ذهب الجماهير. = والقول الثاني: للشافعية. أنه يمضمض ويستنشق كما يفعل بالحي تماماً. - لعموم حديث أم عطية: (ومواضع الوضوء منها). وأحب أن أنبه إلى أن حديث أم عطية أثنى عليه العلماء ثناء عاطراً جداً وذكر الأئمة جميعاً أنه أصل في باب تغسيل الميت ولذلك اعتنى به أصحاب السنن بألفاظه وطرقه وأسانيده وهو حديث ينبغي لطالب العلم أن يعتني به من حيث تحرير الألفاظ الصحيحة التي رويت خارج الصحيحين. والراجح: قول الجماهير في المضمضة والاستنشاق. • ثم قال رحمه الله: ويدخل أصبعيه مبلولتين بالماء: بين شفتيه فيمسح أسنانه وفي منخريه فينظفهما. أي: يشرع ويستحب أن يعمل هذا العمل بأن يضع على أصبعه خرقه ويبلل هذه الخرقة ثم يمسح فم وأسنان وأنف الميت. والدليل على هذا من وجهين: - الوجه الأول: أن هذا من عموم التنظيف وهو مطلوب في حق الميت.

- الوجه الثاني: لعموم حديث أم عطية: (ومواضع الوضوء) وهذا من مواضع الوضوء. فإذاً يستحب: = عند الجمهور - الذين لا يرون المضمضة والاستنشاق للميت - أن يفعل بدلاً منه هذا الفعل. وهذا صحيح لما فيه من كمال التنظيف والطهارة. • ثم قال رحمه الله: ولا يدخلهما الماء. معلوم أن هذا تكرار. وتقدم الكلام على إدخال الماء في فيه وفي أنفه. • ثم قال رحمه الله: ثم ينوي غسله ويسمي. ـ أما النية: فهي من شروط صحة غسل الميت. - لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (إنما الأعمال بالنيات). - ولأن هذا الغسل من العبادات بل هو فرض كفاية ولا تصح العبادة إلا بنية. ـ وأما الوضوء فالخلاف فيه كالخلاف الذي تقدم معنا في مسألة الوضوء وغسل الجنابة. وتقدم أن الراجح إن شاء الله أنه لا يجب بل الأقوى أنه لا يشرع على ما تقدم تفصيله. • ثم قال رحمه الله: - مبتدأً بالكيفية التفصيلية لتغسيل الميت. ويغسل برغوة السدر: رأسه ولحيته فقط. إذا أراد المغسل أن يغسل الميت فإنه يأتي بورق السدر ويدق هذا الورق إلى أن يكون نعاماً ثم يخلط هذا الورق بالماء ثم يضرب هذا الماء - يعني: يحركه - لأجل أن يخرج له رغوة فإذا خرجت الرغوة بدأ فغسل الرأس واللحية بالرغوة. ولا يغسلهما بما يتبقى من الفتات الذي يترسب في قعر الإناء. - التعليل: أنه لو غسله بغير الرغوة لبقي حب وفتات في الرأس واللحية لا يخرج مع الماء بينما إذا غسله برغوة السدر فقط فإن الماء كفيل بإزالة ما غسل به الشعر واللحية. فتبين من كلام المؤلف رحمه الله أن الرغوة خاصة للشعر وللحية أما سائر البدن فهو: = عند الحنابلة لا يغسل بالرغوة وإنما يغسل بما يتبقى من ورق السدر وهو الحبيبات التي تترسب في أسفل الإناء. = والقول الثاني: أنه يغسل الشعر واللحية وسائر الجسد برغوة السدر. وهذا القول هو الصواب: بشرط أن يحصل بذلك التطهير للجسد - يعني التنظيف -. والدليل على هذا: - ما تقدم معنا مراراً أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (اغسلوه بماء وسدر). فنص على وضع السدر مع الماء ليحصل التنظيف به. • ثم قال رحمه الله: ثم يغسل شقه الأيمن ثم الأيسر. ـ طريقة غسل الشق الأيمن والأيسر هي أن:

- يغسل الميت مما يلي الوجه من شقه الأيمن. - ثم إذا أرا أن يغسل الأسفل - وهو الظهر والإليتين وأسفل القدمين -: قلبه على جنبه الأيسر وغسل شقه الأيمن. ـ فإذا أراد أن يغسل شقه الأيسر فيفعل نفس الشيء: يقلبه على شقه الأيمن ويغسل الظهر والإليتين والقدمين. وعلم من ذلك أنه لا يسن أن يكبه على وجهه وإنما هكذا يصنع: - يقلبه على الجهة اليمنى ثم يغسل ظهره وإليتيه وقدميه. - ويقلبه على الشق الأيمن ويغسل الشق الأيسر. إذاً هذه هي الطريقة في غسل الميت ولا يقلب قلباً كاملاً بحيث يكبه على وجهه. • ثم قال رحمه الله: ثم كله. أي: ثم يفيض الماء على كل الجسد بما في ذلك الرأس. وهذه الغسلة هي الغسلة الكفيلة بإذهاب ما قد يعلق بالجسم والشعر من رغوة السدر أو من الصابون في وقتنا الحاضر. • ثم قال رحمه الله: ثلاثاً. أي: يكرر كل ما صنع ثلاثاً تماماً. - لقول النبي صلى الله عليه وسلم في حديث أم عطية: (اغسلنها ثلاثاً أو خمساً أو سبعاً). فبدأ بالثلاث. فإن اقتصر على واحدة: = كره عند الحنابلة لمخالفة السنة. = وحرم عند الظاهرية. والصواب أن غسل الميت مرة واحدة إذا طهر به فيحوز بلا كراهة. - لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال في المحرم الذي وقصته ناقته: (اغسلوه بماء وسدر). ومطلق الغسل يتحقق بواحدة. فإذاً الصواب إن شاء الله أنه جائز بلا كراهة. • ثم قال رحمه الله: يمر في كل مرة: يده على بطنه. أي: أن إمرار اليد على البطن يشرع في الغسلات الثلاث. فعرفنا أن إمرار اليد على البطن مشروع في الغسلات الثلاث لسببين: - الأول: ليخرج ما تبقى. - والثاني: لأجل أن لا يخرج بعد ذلك شيء من السبيلين فيفسد الغسل والوضوء. * * مسألة: يفعل ثلاثاً كل ما تقدم إلا الوضوء فإنه لا يكون إلا في المرة الأولى فقط أما باقي الأمور فتكرر ثلاثاً. إذاً التكرار يصح للجميع إلا مسألة الوضوء. • ثم قال رحمه الله: فإن لم ينق بثلاث: زيد حتى ينقى ولو جاوز السبع. المشروع: أن يكرر الغاسل غسل الميت إذا لم ينق ثلاثاً وأربعاً وخمساً وستاً وسبعاً وأكثر من ذلك تسع .. إلى آخره.

- لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (اغسلنها ثلاثاً أو خمساً أو أكثر من ذلك) وفي رواية: (اغسلنها ثلاثاً أو خمساً أو سبعاً) ولم يذكر أكثر من ذلك. وهذا تنبيه لطيف جداً من الحافظ ابن حجر فهو يقول: لم يأت في رواية صحيحة - يقصد في الصحيح - أن النبي صلى الله عليه وسلم جمع بين السبع وأكثر من ذلك. يعني: - إما أن يقول: ثلاثاً أو خمساً أو أكثر من ذلك. - أو ن يقول ثلاثاً أو خمساً أو سبعاً. لكن في سنن النسائي ثلاثاً أو خمساً أو سبعاً أو أكثر من ذلك. لكن في البخاري ومسلم لا يوجد الجمع بين السبع ومسألة أو أكثر من ذلك. = فعند الحنابلة يزيد ولو أكثر من سبع. - لأن الزيادة على السبع صارت لمصلحة وهي تطهير الميت. - وقد يكون الميت مع طول المرض أو لأي ملابسة أخرى تراكم عليه الوسخ مما يحتاج معه إلى تكرار للغسل ليتطهر وينظف جسمه. وهذا هو الصواب أنه يزيد على السبع. = والقول الثاني: أنه لا يزيد على السبع بل إذا غسله سبع كرات كفنه وانتهى الغسل بذلك. واستدلوا: - أن الحديث لم يذكر أكثر من سبع. والزيادة على ثلاث غالباً لا يحتاج إليها إلا للمرضى الذين طال مرضهم. • ثم قال رحمه الله: ويجعل في الغسلة الأخيرة: كافوراً. - لقول النبي صلى الله عليه وسلم في حديث أم عطية: (واجعلن في الآخرة كافوراً). والكافور نوع من أنواع الطيب البارد. = فذهب الجماهير: الأئمة الأربعة والجم الغفير إلى أنه يستحب وضع الكافور. = وذهب ابن حزم إلى أنه يجب وجوباً أن نضع الكافور. • ثم قال رحمه الله: والماءُ الحار والأشنان والخلال: يستعمل إذا احتيج إليه. الماء الحار: معروف. والإشنان: نبات يستخدم للتنظيف والتطهير. والخلال: هو العود الذي يستعمل للتخليل بين الأسنان. هذه الأشياء الثلاثة تستعمل عند الحاجة فقط. فإذا كان فيه وسخ لا يذهب إلا بماء حار أو لا يذهب إلا بالإشنان أو كان في فمه طعاماً متبقياً كثيراً يحتاج معه إلى استخدام العود الذي يخلل فيه بين الاسنان: شرع ذلك. ومفهوم عبارة المؤلف أنه إذا لم يحتج إليه فلا يفعل. = وهو كذلك عند الحنابلة بل يكره إذا لم يحتج إليه الإنسان لأنه لم يأت في السنة. • ثم قال رحمه الله: ويقص شاربه ويقلم أظفاره.

قص الشارب وتقليم الأظافر ويضاف إليه نتف الإبط:= يشرع مطلقاً عند الحنابلة. واستدلوا على هذا بعدة أدلة: - الدليل الأول: أن هذا من جملة التنظيف. - الدليل الثاني: قياساً على الحي: لأنه كما شرع في الميت الغسل لأن فيه تنظيفاً بلا مضرة فكذلك بالنسبة للميت. = والقول الثاني: أنه لايشرع فعل ذلك إلا إذا زادت هذه الأشياء زيادة فاحشة ظاهرة. - لأن في تركها في هذه الحالة تقبيح لشكل الميت. = والقول الثالث: أنه لا تشرع هذه الأشياء مطلقاً. - لأنه لم يأت في سنة النبي صلى الله عليه وسلم ولا عن أصحابه أنهم فعلوا بالميت ذلك. - ولأنه لا ينتفع الميت بمثل ذلك. - ولأن الإبط والأظفار لا تظهر حتى تقبح وإنما تغطى وكذلك الوجه. فصارت الأقوال: ثلاثة. وأيها أرجح؟ نقول: إن المسألة فيها إشكال ولذلك فيها ثلاثة أقوال وأكثر العلماء على الأخذ لكن يظهر لي أنه لا يؤخذ. السبب: - ما يمكن أن نطبق قاعدة الشافعي لأن قاعدة الشافعي تصلح فيما ينفع الميت ولم يوجد سببه في عهد النبوة. فوضع الحصا على البطن ربما لم ينتفخ أحد من الصحابة ولذلك لم يضعوه. ومسألة وضعه على السرير وأشياء كثيرة ممكن أن لا يوجد لها سبب في عهد النبي صلى الله عليه وسلم لكن مسألة الشارب والأظفار والإبط موجودات في كل إنسان ومع ذلك لم يذكر أبداً. - ثم أن الميت لا ينتفع بهذا انتفاعاً ظاهراً. - وأما أنه من سنن الفطرة فهذا خاص بالحي دون الميت. - ثم إن الذين قالوا بأنها تؤخذ اشترطوا على من أخذها أن يضعها في الكفن لدفن مع الميت لأنها من الميت. ففي الحقيقة الأظهر والله أعلم أن لا يؤخذ هذا الشيء. * * مسألة: مسألة العانة: = ذهب الجماهير إلى أنها لا تؤخذ - لما فيها من كشف العورة وهتك حرمة الميت. = والقول الثاني: أن العانة تؤخذ - لأن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه غسل ميتاً فجز عانته. ولا أعرف صحة هذا الأثر لم أقف على صحته ولم أبحث في ذلك. والراجح. القول الأول في الحقيقة. لأن هذا الأمر وهو نتف العانة ينبني عليه كشف العورة وغاية ما يقال في نتف عانة الميت أنه سنة فلا نجعل هذا سبباً في كشف عورته وهتك حرمته. * * المسألة الأخيرة: الختان.

= الختان لم يختلف أصحاب الإمام أحمد رحمه الله بلا نزاع أنه لا يختن الميت. فلو فرضنا أنه أسلم ومات قبل أن يختتن فإنه لا يختتن أثناء تغسيله. • ثم قال رحمه الله: ولا يسرح شعره. لا يسن ولا يستحب للمغسل أن يسرح شعر الميت. - خشية أن يقع ويتمزق. - وأيضاً لأنه لم ينقل. • ثم قال رحمه الله: ثم ينشف بثوب. يعني: بعد أن يغسل الميت وقبل أن يكفن يشرع أن ينشف. - لأنه لو كفن وهو رطب لأدى ذلك إلى إفساد الكفن. • ثم قال رحمه الله: ويضفر شعرها ثلاثة قرون ويسدل وراءَها. - لأن هذا جاء صريحاً في حديث أم عطية أن أم عطية ومن معها ضفرن شعر زينت رضي الله عنها ثلاثاً وألقينه خلف ظهرها. فهو سنة صريحة. وهذا كمال هو معلوم لا يقتضي التمشيط فإن ضفر الشعر لا يلزم منه التمشيط وإنما تضفر الشعر إذا كان طويلاً ثلاث قرون ويوضع خلف الظهر. • ثم قال رحمه الله: وإن خرج منه شيءٌ بعد سبع: حشي بقطن. يعني إذا غسله سبع مرات وما زال يخرج منه خارج من أحد السبيلين أو من الأنف كما يحصل أحياناً بالمرضى أو من الفم فإنه بعد الغسلة السابعة يحشى الأنف أو الفم أو أحد السبيلين بقطن. - والتعليل: لأن لا يخرج منه بعد ذلك شيء فيلوث الميت. • ثم قال رحمه الله: فإن لم يستمسك: فبطين حر. الطين الحر: هو الطين الخالص من التراب. والطين إذا خلص من التراب صار أقوى في منع خروج الخارج. وفيما يظهر لي الآن: أن القطن كفيل في أحيان كثيرة بمنع خروج الخارج، لكن لو فرضنا أنه لم يستمسك فبالإمكان وضع هذا الطين. • ثم قال رحمه الله: ثم يغسل المحل ويوضأُ. = عند الحنابلة: ـ إذا خرج شيء قبل الغسلة السابعة فيجب أن نعيد الغسل والوضوء. ـ وإذا خرج بعد الغسلة السابعة فيجب أن نعيد الوضوء فقط. - لأن طهارة هذا الميت انتقضت بخروج هذا الخارج. = والقول الثاني: أنه إذا خرج منه شيء بعد الغسلة الأولى فإنه لا يعاد إلا الوضوء فقط. = والقول الثالث: أنه إذا خرج منه شيء لا يعاد لا الوضوء ولا الغسل وإنما ينظف ويطهر محل هذه النجاسة. والأرجح. القول الثالث. والأحوط القول الثاني.

لأنه إذا غسل الميت الغسلة الأولى طهر وانتهت مسألة الطهارة وصلح للصلاة. ومسألة خروج شيء بعد هذا لا ينقض هذا الغسل. - بدليل: أن خروج النجاسة من أحد السبيلين في غسل الجنابة لا ينقضها فكيف بغسل الميت وهو لا شك أقل وجوباً وتحتيماً من غسل الجنابة. فإذا غسلوه غسلاً كاملاً ولو خرج منه شيء لا يجب إعادة لا الغسل ولا الوضوء وإنما يطهر هذا المحل الذي خرج منه النجاسة. • ثم قال رحمه الله: وإن خرج بعد تكفينه: لم يعد الغسل. - وهذا بالإجماع: إذا كفنوه ثم لا حظو خروج نجاسة فإنه لا يعاد الغسل بالإجماع لما في ذلك من مشقة ظاهرة. • ثم قال رحمه الله: ومُحْرِم ميت كحي: يغسل بماء وسدر. يعني في جميع ما تقدم. - لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (اغسلوه بماء وسدر). إلا ما سيذكر المؤلف مما يستثنى. وقوله: يغسل بماء وسدر. لما تقدم من حديث ابن عباس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في المحرم: (اغسلوه بماء وسدر). ثم ذكر ما يستثنى: • فقال رحمه الله: ولا يقرب طيباً، ولا يُلبس ذكر مخيطاً، ولا يغطى رأسه. - لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (اغسلوه بماء وسدر ولا تحنطوه ولا تغطوا رأسه فإنه يبعث يوم القيامة ملبياً). فقوله: (لا تحنطوه). دليل على أنه لا يمسه الطيب. وقوله: (لاتغطوا رأسه). دليل على المنع من تغطية الرأس. لأن أحكام الإحرام ما زالت باقية. وها صحيح وحديث ابن عباس نص فيه. ويستثنى من هذا إا كان الحاج تحلل التحلل الأول فيجوز أن نغطيه وأن نطيبه وأن نفعل معه كل شيء لأن محظورات الإحرام زالت بالنسبة له بعد التحلل الأول. • قال رحمه الله: ولا يغطى رأسه: يفهم من حديث ابن عباس السابق ويفهم من كلام المؤلف جواز تغطية الوجه. وفيه عن الإمام أحمد روايتان: - الرواية الأولى: جواز تغطية وجه المحرم. وبناء عليه جواز تغطية وجه الميت. - والرواية الثانية: المنع من ذلك. والخلاف مبني على رواية: (ولا تغطوا رأسه ولا وجهه). والصواب أن هذه الزيادة ضعيفة. وإذا كانت هذه الزيادة ضعيفة فيجوز أن يغطى وجه الميت ولا يغطى رأسه فيوضع القماش على الوجه ويبقى الرأس مكشوفاًَ. • ثم قال رحمه الله: ولا وجه أُنثى.

ولا يغطى وجه الأنثى. - لأن إحرام المرأة في وجهها عند الحنابلة فهي ممنوعة من تغطية الوجه من حيث هو بغض النظر عن الآلة التي غطي بها الوجه. = والقول الثاني: أن المرأة ممنوعة من تغطية الوجه بشيء معين هو النقاب لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (لا تنتقب المحرمة ولا تلبس القفازين). وهذا اختيار شيخ الاسلام رحمه الله. بناء عليه: يجوز أن نغطي وجه المرأة الميتة بغير النقاب في الحج وللميتة. والمنع من تغطية وجه المرأة رواية واحدة عن الإمام أحمد رحمه الله في تغسيل الميتة بخلاف الحج. والراجح أنه يغطى بغير النقاب. • ثم قال رحمه الله: ولا يغسل: شهيد. يعني أن المشروع عدم تغسيل الشهيد. - لما ثبت في صحيح البخاري عن جابر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يغسل ولم يصل على شهداء أحد. فهذا نص على أن الشهيد لا يغسل ولا يصلى عليه. = وإلى هذا ذهب الجماهير. وأصحاب هذا القول اختلفوا على قولين: - منهم من قال: يحرم الصلاة وتغسيل الشهيد. - ومنهم من قال: وهو مذهب الحنابلة: يكره. فهم اتفقوا على أنه يمنع لكن بعضهم قال على وجه التحريم وبعضهم قال على وجه الكراهة. = والقول الثاني: - في أصل المسألة - أنه يصلى على الشهيد. - لما ثبت في الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم - في صحيح البخاري - خرج إلى شهداء أحد فصلى عليهم كالصلاة على الميت بعد ثمان سنين من قبرهم كالمودع لهم صلى الله عليه وسلم. وفي الباب أحاديث لكن هذا الحديث في صحيح البخاري وهو أقوى هذه الأحاديث. ومعنى قولنا: في الباب أحاديث: يعني توجد أحاديث تدل على وشروعية الصلاة وتغسيل الشهيد. = القول الثالث: أنه مخير إن شاء صلى وإن شاء لم يصل. وهذا اختيار ابن القيم وعلل ذلك: - باختلاف الآثار المروية عن النبي صلى الله عليه وسلم.

وهذا القول - الأخير - هو الصواب بالنسبة للصلاة. ولولا حديث البخاري أن النبي صلى الله عليه وسلم خرج فصلى على شهدا أحد لقلنا أن الصواب أنه لا يصلي ولا يشرع أن يصلي. لكن هذا الحديث قطع في الحقيقة الخلاف والذين رأوا أنه لا يصلى قالوا أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يصل عليهم صلاة الجنازة وإنما دعل لهم فقط وخرج كالمودع لهم بدليل أنه لم يصل بجماعة ولم يطلب أصحابه ليصفوا خلفه لكن هذا الكلام مع أنه قوي يجول بيننا وبينه أنه في صحيح البخاري بالنص: (وصلى عليهم صلاة الجنازة). أو الصلاة على الميت. هذا لفظ البخاري وحاول بعض الباحثين أن يثبت أن هذا ليس لفظاً في البخاري والصواب أنه ثابت في صحيح البخاري في جميع النسخ أنه قال: فصلى عليهم صلاة الميت أو الصلاة على الجنازة. فهذا نص في الحقيقة صريح. ولذلك نقول أن الصواب إن شاء الله كلام ابن القيم أن الإنسان مخير إن شاء صلى وإن شاء لم يصل. ولكن مع القول بالتخيير فهل الأولى أن يصلي أو لا يصلي؟ = من الفقهاء من قال: الأولى أن يصلي: لأن في الصلاة دعاء وبركة للميت. والصواب والله أعلم: أنه أحياناً يصلي وأحياناً لا يصلي كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم فأحياناً صلى وأحياناً لم يصل لأنه لو قلنا أنه مخير والأولى أن يصلي لنتج عن هذا أن يصلى دائماً على الميت فتنسى سنة أنه لا يصلى على الشهيد. (((وهذا البحث كله في مسألة الصلاة لأن المؤلف يقول: ولا يصلى عليه ونكون بهذا شرحنا قوله: ولا يصلى عليه. نرجع إلى تغسيل الميت: ذكرنا أن الأئمة الأربعة والجماهير يرزن أنه لا يغسل وأنه اختلف هل هذا على سبيل التحريم أو الكراهة؟ هذا كله في الغسل فقط. هناك قول يرى بعضهم أنه شاذ لكن نحن لا نقول أنه شاذ وهو مروي فقط عن اثنين من التابعين الحسن وابن المسيب فهؤلاء يرون أن الشهيد يغسل مخالفين لآراء جماهير أهل العلم. واستدلوا على هذا: - بأن التغسيل إكرام وأحق الناس بالإكرام هو الشهيد. لكن هذا تعليل في مقابلة النص لأنه في حديث جابر في البخاري أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يغسل شهداء أحد))) إذاً نرجع ونلخص هذه المسألة: مسألة تغسيل الشهيد:

= الجماهير والجم الغفير يرون أنه لا يغسل. ويستدلون بحديث جابر في البخاري أنه لم يغسل شهداء أحد. = والقول الثاني: ينسب إلى الحسن البصري وسعيد بن المسيب. أنههم يرون أنه يغسل إكراماً للشهيد وهو تعليل في مقابلة النص. والصواب إن شاء الله مع الجماهير. • ثم قال رحمه الله: إلاّ أن يكون جنباً. وحينئذ عند الحنابلة يشرع أن يغسل الجنب. ويستدلون بأن حنظلة رضي الله عنه خرج لما سمع الداعي مقاتلاً في سبيل الله ثم قتل فرأى النبي صلى الله عليه وسلم أن الملائكة يغسلونه بين السماء والأرض فقال: ما شأنه اسألوا زوجه. فلما سألوها قالت: خرج جنباً. فاستدلوا بذلك على أنه يغسل إذا كان عليه جنابه. = وذهب الجماهير - مخالفين للحنابلة - إلى أن الشهيد لا يغسل ولو كان جنباً. واستدلوا على ذلك: - بعموم حديث جابر. والجواب عن حديث حنظلة. أنه ليس فيه تغسيل لأن الصحابة لم يغسلوا حنظلة وإنما الذين غسلوه الملائكة فنحن نقول إذا غسلته الملائكة فهنيئاً له ولكن نحن لا نغسل الشهيد ولو كان جنباً. • قال رحمه الله: ويدفن بدمه في ثيابه. يعني أن الميت الذي قتل في سبيل الله يدفن في ثيابه وهذا بلا خلاف بين أهل العلم. - لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (وادفنوه في ثيابهم). هذا الحديث حسنه بعض المتأخرين والصواب أنه ضعيف. لكن يشهد له الحال فإن له شواهد كثيرة تقويه إن شاء الله ولا نقول أنه حسن لكن مع الإجماع الذي في المسألة يصلح للاستدلال. • ثم قال رحمه الله: بعد نزع السلاح والجلود عنه. - لأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بنزع الحديد والجلود عن أهل بدر. وهذا الحديث هو نفسه الحديث السابق حسنه بعض المتأخرين وإسناده فيه ضعف لكن تقويه المعاني العامة والظواهر لأن الشهيد لا يستفيد من دفنه بسلاحه وعتاده وجلده. بقي أن نقول: من هو الشهيد؟ لم نعرف الشهيد. الشهيد هو: من قتل في سبيل الله أي: لتكون كلمة الله العليا. على أن يقتل أثناء الحرب مع الكفار. فإن قتل بعد ذلك سيأتينا نص المؤلف على حكمه لكن نقول الآن أن الشهيد المقصود به هنا: هو من قتل في المعركة أثناء القتال لتكون كلمة الله هي العليا. • ثم قال رحمه الله: وإن سلبها كفن بغيرها.

إذا قتل هذا الشهيد وسلب ماله أو لباسه كفن بغيرها على سبيل الوجوب. لأن مصعب رضي الله عنه لما قتل لم يجدوا معه إلا ما يغطي الرأس دون القدمين أو القدمين دون الرأس فأمرهم النبي صلى الله عليه وسلم بأن يغطوا الرأس ويجعلوا على القدمين الإذخر. فهذا دليل أنه إذا كان معه ما لا يكفي وجب على الإمام أن يكفنه بما تيسر. وهذا لا إشكال فيه أنه إذا سلب أو مزقت ثيابه كما يحصل الآن فإنه يشرع أن يكفن بل يجب أن يكفن. • ثم قال رحمه الله: ولا يصلى عليه. وذكرنا الخلاف على ثلاثة أقوال والراجح في ذلك. انتهى الدرس

قال شيخنا حفظه الله: بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين. تقدم معنا بالأمس الكلام على مسألة دفن الميت بثيابه ومسألة حكم الصلاة عليه وقبل أن ننتقل إلى [حكم السقط] أشير إلى إضافة في مسألة دفن الميت في ثيابه فقد ذكرت أنه يدفن في ثيابه وأن هذه المسألة محل إجماع وأن فيها حديث وهو حديث جابر رضي الله عنه أن شهداء أحد دفنوا في ثيابهم. يضاف إلى هذا كله أن هذا ليس على سبيل الوجوب بل يجوز أن نخلع ثياب الشهيد وأن نكفنه. بدليل: - أن النبي صلى الله عليه وسلم بعد معركة أحد - وهذا حديث صحيح - جلس هو وأصحابه وكان القتلى يملؤون الأرض وبعضهم مثل به فرأى النبي صلى الله عليه وسلم من بعيد امرأة فقال صلى الله عليه وسلم: (المرأة المرأة) فقال الزبير وقع في ذهني أنها أمي - هم لا يدرون من هي بسبب البعد - فأخذ يجري ليردها عن القتلى بسبب ما هم عليه من التمثيل والتشويه فلما وصل فإذا هي صفية - أمه رضي الله عنها - فقالت: إليك عني - وكانت امرأة جلدة - فقال: لقد عزم عليك رسول الله صلى الله عليه وسلم فتوقفت ثم قالت: إليك هذين الثوبين فكفن فيهما حمزة فأخذ النبي صلى الله عليه وسلم الثوبين وكفن حمزة في واحد وكفن أنصارياً آخر في الثوب الآخر. ففي هذا الحديث دليل على أنه يجوز أن نكفن الشهيد وحمزة رضي الله عنه سيد الشهداء بثوب آخر. نبدأ بدرس اليوم: • قال رحمه الله:

وإن سقط من دابته، أو وجد ميتاً ولا أثر به ... غسل وصلي عليه. إذا سقط من دابته فمات أو وجد ميتاً ساقطاً على الأرض ولا أثر عليه ولو كان في أرض المعركة ولو كان في الوقت الذي تدور فيه المعركة فإنه يغسل ويصلى عليه. وهذا باتفاق الأئمة كلهم إلا الشافعي. والدليل على ذلك: - أن الذي لا يغسل ولا يصلى عليه هو من باشر الكفار قتله. وأما هذا فلم يباشر الكفار قتله وليس عليه أثر القتل. وفهم من قول المؤلف رحمه الله: ولا أثر به. أنه إن وجد ميتاً قريباً من المعركة وفيه آثار من سيف أو رمح أو سهم فإنه يعتبر شهيداً ولا يغسل ولا يصلى عليه. وهذا صحيح: لأن الغالب أن هذا الرجل الذي مات بقرب المعركة وهو من جنود المسلمين في وقت دوران المعركة أن موته بسبب إصابة الكفار والإسلام يبني الأحكام غالباً على الظاهر والظاهر أنه قتله الكفار. • ثم قال رحمه الله: أو حُمِلَ فَأَكَلَ، أو طال بقاؤُه: غسل وصلي عليه. إذا حمل من المعركة وإن كان جرح جرحاً بليغاً يؤدي غالباً إلى الوفاة لكنه بقي على قيد الحياة وحمل وبعد أن حمل أكل فإنه لا يعتبر في باب الغسل والصلاة من الشهداء وإن كان - إن شاء الله - عند الله شهيد لَكِنَّ من هذا حاله يغسل ويصلى عليه. وكذلك إذا نقل وطال الوقت بين نقله من المعركة وبقائه حياً - طال الوقت عرفاً - فكذلك يغسل ويصلى عليه. الدليل على هذه الأمور: من وجهين: - الأول: أن النبي صلى الله عليه وسلم غسل وصلى على سعد بن معاذ مع أنه مات بأثر جرح وقع في المعركة. - الثاني: أنه إذا أكل دل ذلك على أن فيه حياة مستقرة. فلهذين الدليلين نقول أن من أكل أو نقل وبقي وقتاً طويلاً حياً فإنه يغسل ويكفن ولا يعامل في هذا الباب معاملة الشهيد لما ذكرت من أدلة. * * مسألة: إذا نقل فشرب ولم يأكل: - يعني: استطاع أن يشرب ولم يستطع أن يأكل -: = فعند الحنابلة في قول كذلك: لا يعامل معاملة الشهيد في باب الغسل والصلاة. = والقول الثاني: - الذي رجحه المرداوي وغيره من محققي الحنابلة - أنه ليس كذلك. بل إذا نقل فشرب ثم مات لا يغسل ولا يصلى عليه لأن القتيل أو المجروح قد يشرب وهو في سياق الموت ولكن لا يمكن أن يأكل وهو في سياق الموت.

ولذلك نقول لا يستوي الأكل والشرب في هذا الباب. (فاحفظ هذا الموضع فهو من المواضع القليلة التي يختلف فيها حكم الأكل عن الشرب). • ثم قال رحمه الله: والسقط إذا بلغ أربعة أشهر: غسل وصلي عليه. السقط فيه مسائل: ـ المسألة الأولى: تعريفه: السقط هو: كل جنين سقط من بطن أمه قبل تمام مدته. ـ المسألة الثانية: قوله: (إذا بلغ) يعني: إذا تم له أربعة أشهر. ـ المسألة الثالثة: تحرير محل النزاع في هذه المسألة وهو كالتالي: - أولاً: اتفق الفقهاء على أن الجنين إذا سقط حياً واستهل صلي عليه وغسل بالإجماع. - ثانياً: اتفق الفقهاء - إلا من قد نقول أنه شذ - على أنه إذا سقط قبل الأربعة أشهر فإنه لا يصلى عليه ولا يغسل. - ثالثاً: - في محل البحث - إذا سقط بعد الأربعة أشهر: = فذهب الجمهور إلى أنه يغسل ويصلى عليه ويسمى. واستدلوا على ذلك: - بأنه نفخت فيه الحياة فصار بذلك إنساناً له أحكام بني آدم. وهذا القول هو الصواب الذي يدل عليه حديث ابن مسعود فإنه قال: (إن أحدكم يجمع خلقه في بطن أمه أربعين يوماً نطفه وأربعين يوماً علقه وأربعين يوماً مضغة - هذه أربعة أشهر ثم قال: (ثم يرسل الملك فينفخ فيه الروح). فإذا سقط الطفل بعد الأربعة أشهر يغسل ويكفن ويصلى عليه ويسمى ويعق عنه - وسيأتينا. • ثم قال رحمه الله: ومن تعذر غسله يمم. إذا تعذر على الناس غسل هذا الميت لأي سبب من الأسباب لكونه متمزق أو لكونه إذا غسل تضرر وتقطع أو لأي سبب من الأسباب فإذا لم يمكن أن يغسل فإنه ييمم. الدليل على ذلك: - قياساً على حال الحياة فإن الإنسان إذا لم يستطع أن يغتسل غسلاً واجباً عدل إلى التيمم. = القول الثاني: وهو رواية عن الإمام أحمد. أنه إذا لم نتمكن من غسله فإننا ندفنه بلا غسل ولا تيمم. واستدل هؤلاء: - بأن غسل الميت: المقصود منه تنظيفه. والتيمم لا يزيده إلا اتساخاً. وهذا القول الثاني: أقرب. فإذا لم نتمكن من غسله يدفن على حاله. • ثم قال رحمه الله: وعلى الغاسل ستر ما رآه: إن لم يكن حسناً. شمل كلام المؤلف - رحمه الله - مسألتين: ـ المسألة الأولى: أنه يجب وجوباً على الغاسل أن يستر ما رآه سيئاً من أحوال الميت. واستدلوا على هذا بأدلة كثيرة منها:

- الدليل الأول: قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: (من غسل مسلماً فستره غفر له أربعين مرة) وهذا الحديث إسناده إن شاء الله تعالى - حسن. - الدليل الثاني: قوله - صلى الله عليه وسلم -: (من ستر مسلماً ستره الله). - الدليل الثالث: أن هذا من الغيبة وهي من الكبائر. فلاشك أنه المغسل يجب عليه وجوباً أن يستر ما رآه من أحوال الميت السيئة فإن أشاع ذلك فهو آثم. واستثنى بعض الفقهاء من هذا مسألتين: - المسألة الأولى: إذا كان الميت معروفاً ببدعة شنيعة. وهو يدعو إليها. فقال بعض الفقهاء: يجوز أن نخبر بأحواله السيئة تنفيراً عن ما يدعو إليه من البدعة والخروج عن الدين. - المسألة الثانية: استثنى الفقهاء أن نخبر عن أحوال بعض الموتى السيئة بدون تسمية. ليتعظ الناس. ـ المسألة الثانية: (التي شملها كلام المؤلف) أنه ينبغي للمغسل أن يظهر ما رآه حسناً على الميت. وهذا على سبيل الاستحباب لا الوجوب بخلاف المسألة الأولى. الدليل على هذا من وجهين: - الوجه الأول: ليكثر الترحم والدعاء له. - الوجه الثاني: - وهو في الأهمية كالوجه الأول - ليحصل التأسي بجميل سيرته. وهذا صحيح. ينبغي على المغسل أن يظهر الأحوال الطيبة التي يراها على بعض الموتى. وقد ذكر عن السلف أشياء كثيرة من العلامات الحسنة بعد الموت بغض النظر عن حال السياق فبعد الموت نقل عنهم أشياء كثيرة يحسن بطالب العلم أن يقرأها في مظانها. فصل [في تكفين الميت] • ثم قال رحمه الله: فصل هذا الفصل مخصص للتكفين وهو الترتيب المنطقي بعد التغسيل. • يقول - رحمه الله -: يجب كفنه: في ماله ... إلى آخره ... الكفن هي: الثياب التي يلف بها الميت. والتكفين لغة: التغطية. وشرعاً: إلباس الميت ثياب الموت. فعرفنا ماهو الكفن وما هو التكفين لغة واصطلاحاً. • يقول - رحمه الله -: يجب كفنه: في ماله مقدماً على دين وغيره. يعني: ومقدم على الوصية ومقدم على الإرث فهو مقدم على الدين والوصية والإرث. إذاً الكفن هو أول شيء يبدأ به من تركة الميت. والدليل على هذا: - أن الحي المدين الذي لا يملك إلا ثوبه لا يجب عليه أن يدفعه في سداد الدين فكذلك كفن الميت. وهذا صحيح. أن أول ما نبدأ به هو كفن الميت.

ويلحق بالكفن كل ما لا بد منه للميت. فكل شيء لا بد منه: من أجرة حمل وتغسيل وكفن وأجرة حفر القبر فكل ما لا بد منه يقدم على الدين والوصية والإرث. • ثم قال - رحمه الله -: فإن لم يكن له مال: فعلى من تلزمه نفقته. - فعلى من تلزمه نفقته: أي: في الحياة. فالشخص الذي تلزمه نفقة هذا الميت في الحياة يلزمه الكفن. الدليل على ذلك: - أنه تلزمه نفقته في الحياة فكذلك في الممات. ثم إذا لم يوجد له منفق ننتقل إلى المرتبة الثانية وهي: بيت المال. ثم إذا لم يوجد نفقة من بيت المال ننتقل إلى المرتبة الثالثة وهي: عامة المسلمين فمن علم بحاله وجب عليه أن يبذل كفنه. فإذاً: صارت المراتب أربع: 1 - في ماله. 2 - ثم من تجب عليه نفقته. 3 - ثم في بيت المال. 4 - ثم على عامة المسلمين. لا ننتقل من مرحلة حتى نعجز عن السابقة. • ثم قال - رحمه الله -: إلاّ الزوج لا يلزمه كفن امرأته. = ذهب الحنابلة والمالكية ونصره ابن حزم إلى أن الزوج لا يلزمه أن يبذل كفن الزوجة بعد الموت. واستدلوا بأمرين: - الأول: أن النفقة إنما وجبت لتمكين الزوجة الزوج من الاستمتاع وبعد الموت لا يوجد استمتاع. - الثاني: أن الواجب على الزوج النفقة والكسوة. وكفن الزوجة لا يسمى ولا كسوة لا شرعاً ولا عرفاً. = والقول الثاني: أنه يجب على الزوج أن يبذل كفن زوجته. واستدلوا على هذا: - بأن الله سبحانه وتعالى أمر بالمعاشرة بالمعروف وهذا منها. - الثاني: أن علاقة الزوجة بالزوج لم تنه بالموت بدليل: الإرث وجواز التغسيل فيلحق بذلك الكفن. ومن وجهة نظري أن الخلاف قوي ولكن عامة المتأخرين على ترجيح القول الثاني وهو وجيه وهو أنه تلزم الزوج النفقة. • ثم قال - رحمه الله -: ويسن تكفين رجل: في ثلاث لفائف ... إلى آخره: بدأ المؤلف بذكر الكيفية التفصيلية للتكفين وبدأ بالرجل ثم يذكر المرأة. وبدأ بما يسن ويستحب ثم سيذكر الواجب. - فالسنة بالنسبة للرجل أن يكفن في ثلاث ثياب. - لحديث عائشة الصحيح أنها قالت: كفن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في ثلاثة أثواب سحولية ليس فيها قميص ولا عمامة. والثوب السحولي: هو ثوب أبيض نقي لا يكون إلا من قطن. وهو منسوب إلى مدينة في اليمن.

ففي هذا الحديث دليل على أن الأفضل والأولى للرجل أن يكفن في ثلاث أثواب فقط. * * مسألة: فإن زيد على هذه الثلاثة فهو: = مكروه عند الحنابلة. لوجهين: - الأول: أنه مخالف للسنة ولم يكن أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - ليختاروا للنبي - صلى الله عليه وسلم - إلا الأفضل. - الثاني: لما فيه من إسراف من غير حاجة فإن الثلاثة تكفي وزيادة. • ثم قال - رحمه الله -: بيض. يعني: أنه يسن في هذه اللفائف أن تكون بيضاء. والدليل على أن الكفن يسن أن يكون أبيضاً من ثلاثة أوجه: - الأول: حديث عائشة السابق. فهو نص أنها بيض. - الثاني: الإجماع فقد أجمعوا على أنه يستحب أن يكون الكفن أبيضاً. - والثالث: قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: (خير ثيابكم البياض إلبسوها وكفنوا فيها موتاكم). وله ألفاظ وهو صحيح إن شاء الله. وعرفنا من قول المؤلف - رحمه الله -: ويسن. أنه يجوز أن يكون الكفن أحمراً أو أسوداً أو أخضراً أو بأي لون عدا الأبيض وإنما كونه أبيض فقط مستحب. • ثم قال - رحمه الله -: تجمر. يعني: يستحب أن نجمر اللفائف. والدليل على هذا من وجهين: - الأول: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (إذا أجمرتم الميت فأجمروه ثلاثاً). وهذا إسناده حسن. - الثاني: أنه فعله عدد من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم -. واستحب الفقهاء قبل التجمير أن نجعل في الكفن ما يسبب مسك الرائحة وبقائها كأن نبلله بماء أو بدهن ورد سائل أو بأي سائل يسبب مسك الرائحة وبقائها في الكفن. • ثم قال - رحمه الله -: ثم يبسط بعضها فوق بعض. يعني: أن المشروع أن نبسط الثلاث لفائف بعضها فوق بعض ونجعل السفلى منها هي الأكبر والأجمل لأنها التي ستكون ظاهرة. ويستحب أن يجمل الميت كما يجمل الحي. كا أنا نلبس أثناء الحياة في الأعلى الأجمل فكذلك في تكفين الميت. • ثم قال - رحمه الله -: ويجعل الحنوط فيما بينها. أفادنا المؤلف: - أولاً: أن الحنوط سنة وأنه يوضع بين الأكفان لا في الأعلى منها. أما الدليل على أنه سنة: - فقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: (ولاتحنطوه) فهذا دليل على أن الحنوط مشروع ومعروف بين النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه في كفن الموتى.

- ثانياً: أنه يكون بين الأكفان ولا يوضع في الأخير. - لأنه روي عن أبي بكر الصديق وعمر - رضي الله عنهما - وغيرهما من الصحابة كراهية ذلك وهو أن يكون الحنوط في الكفن الأعلى وإنما يكون بين الأكفان. والحنوط هو: أخلاط من الطيب تصنع للميت ولا تسمى بهذا الاسم إلا إذا وضعت وصنعت للميت. • قال - رحمه الله -: ثم يوضع عليها مستلقياً. إذاً صفة وضع الميت على الأكفان أن يكون مستلقياً. والتعليل: - أن هذا أمكن في إدراجه وشد الكفن عليه. واستحب الفقهاء أن تستر عورة الميت أثناء نقله من المكان الذي غسل فيه إلى مكان الأكفان. والصواب: أنه واجب. لأنه تقدم معنا أن ستر عورة المغسل واجب فإذا أراد أنه ينقله يجب ان يغطي عورته سواء كانت امرأة أو رجل. • ثم قال - رحمه الله -: ويجعل منه في قطن بين أليتيه. يجعل منه: الضمير يعود إلى الحنوط. يعني أنه يغمس القطن في الحنوط ثم يجعل منه بين إليتيه. والغرض من ذلك: تحقيق مصلحتين: - الأولى: منع خروج ما قد يخرج من النجاسات. - والثانية: نشر الرائحة الطيبة. فإذاً يسن أن يصنع هكذا بالميت. • ثم قال - رحمه الله -: ويشد فوقها خرقة مشقوقة الطرف: كالتبان تجمع أليتيه ومثانته. يشرع إذا وضع الإنسان القطنة أن يصنع هكذا. فقوله: فوقها: يعني فوق هذه القطنة. يشرع أن يشد عليها خرقة تشبه التبان وهو السروال القصير. والغرض أيضاً من هذا الشد: أن نأمن خروج شيء ونأمن بقاء هذا القطن بما فيه من حنوط. فهذا هو سبب وضع مثل هذه الخرقة. وتقدم معنا قاعدة الشافعي وهي تصلح للتطبيق هنا إن شاء الله. • ثم قال - رحمه الله -: ويجعل الباقي. مقصوده بالباقي: يعني من القطن المحنط. • قال: على منافذ وجهه ومواضع سجوده. توضع على منافذ الوجه يعني: في العينين من الخارج وبين الشفتين وفي المنخرين. هذه هي منافذ الوجه. والغرض من وضع ذلك: - أولاً: لكي لا يدخله الهوام. - ثانيا: لكي لا يسرع له الفساد فإنهم يقولون أن وضع مثل هذه الأشياء في منافذ الوجه يبطئ من الفساد. وتقدم معنا أنه اليوم هناك وسيلة تمنع الفساد وهي الثلاجة. فإذاً نضع في المنافذ هذه القطنة وفي الأذنين. إذاً: في كل منافذ الوجه.

ـ أما مواضع السجود فالغرض منه: تكريم هذه المواضع ليس إلا. لأنها أشرف مواضع البدن لكون الإنسان يباشر السجود عليها لله سبحانه وتعالى. • ثم قال - رحمه الله -: وإن طيب كله فحسن. يعني: إن طيبنا الميت كله فهذا جيد وحسن. والدليل على هذا: - أن الصحابة فعلوا ذلك كابن عمر وغيره فعل ذلك: طيب جسد الميت كله. • ثم قال - رحمه الله -: ثم يرد طرف اللفافة العليا على شقه الأيمن، ويرد طرفها الآخر فوقه. لا حظ قوله: (ثم يرد طرف اللفافة العليا). أي من الجانب الأيسر للميت لا للمغسل. فنرد الطرف إلى الجانب الأيمن ثم نرد طرف اللفافة الأيمن إلى الجانب الأيسر ونصنع هكذا باللفائف الثلاث. = وقيل العكس: إما من اليمين إلى اليسار. وقيل: الأمر سواء. وهذا هو الأقرب أنه إن رأى أن يشد الميت هكذا أو هكذا فالأمر فيه حسن. • ثم قال - رحمه الله -: ثم الثانية والثالثة كذلك. يعني: يصنع بها ما صنع باللفافة الأولى. • ثم قال - رحمه الله -: ويجعل أكثر الفاضل على رأسه. يعني: إذا فضل شيء من اللفائف التي يكفن بها الميت يجعل هذا الفاضل من جهة الرأس. لأمرين: - الأول: لشرف الرأس. - الثاني: أن تغطية الرأس أوجب من تغطية الرجلين لما تقدم معنا في حديث مصعب - رضي الله عنه -. • ثم قال - رحمه الله -: ثم يعقدها. يعني: ثم يربط اللفائف. وذلك خشية الانتشار وتفكك الكفن. وسواء عقد اللفائف هي بذاتها كما يصنع عند العض أو ربطها بالأحزمة فإن الأمر واحد لأن المقصود أن نأمن انتشار وانفكاك هذه اللفائف التي كفن فيها الميت. • ثم قال - رحمه الله -: وتحل في القبر. يعني: أن السنة إذا وضعنا الميت في القبر أن نحل هذه اللفائف. الدليل: - قالوا: إن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما وضع مسعود بن نعيم فل عنه هذه اللفائف وكان مربوطاً بشوكة فنزع هذه الشوكة - صلى الله عليه وسلم -. - وأيضاً روي عن اثنين من الصحابة - رضي الله عنهم - أنهم كانوا إذا وضعوا الميت في القبر حلوا عنه هذه اللفائف. - ويستدل أيضاً على حل اللفائف أن المقصود من اللفائف هو أن نأمن انتشار وتفكك الكفن وهذا في القبر مأمون لكون الميت لا يتحرك لكونه في اللحد.

ففي الحقيقة حل الكفن هذا لا بأس به وهو مستحب. صحيح أنه ليس في السنة نص صريح لكن وجود هذه الآثار مع المعنى القوي يجعل الإنسان يجزم إن شاء الله بأن هذا مستحب. وأما حديث نعيم بن مسعود فلم أتمكن من النظر في إسناده ولو صح لكان سنة منصوصة. • ثم قال - رحمه الله -: وإن كفن في قميص ومئزر ولفافة: جاز. يعني: إن كفن في ثلاث لفائف فهذه هي السنة. وإن كفن في ثلاث ثياب ليست لفائف وإنما كما قال: قميس ومئزر فيجوز أيضاً. والدليل على ذلك: - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أعطى قميصه لعبد الله بن أبي وكفن فيه. فهذا دليل على أنه يشرع ويجوز أن نكفن الميت بقميص. وأما طريقة ذلك: فنجعل الأول المئزر ثم القميص ثم فوق الجميع اللفافة إذا أردنا أن نكفن بهذه الأشياء لا باللفائف. وأخذنا الآن أنه جائز والسنة أن تكون باللفائف. • ثم قال - رحمه الله -: وتكفن المرأة: في خمسة أثواب. في تكفين المرأة مسائل: ـ المسألة الأولى: أن المرأة والخنثى حكمهما واحد فطريقة تكفين المرأة هي طريقة تكفين الخنثى. ـ المسألة الثانية: قوله - رحمه الله -: (في خمسة ثياب) يعني: من قطن وبيض. ـ المسألة الثالثة: لم أر خلافاً بين الفقهاء أن كفن المرأة يختلف عن كفن الرجل إلا قول لبعض المعاصرين. ولا حظ: ماذا أقول؟ أقول أنه يختلف كفن المرأة عن كفن الرجل ولم أتحدث عن عدد الثياب التي تكفن فبها المرأة. فإن قيل: أن ابن قدامة - رحمه الله - ذكر أن عطاء - رحمه الله - يرى أن المرأة تكفن في ثلاث ثياب. قالجواب: أن الصواب في أثر عطاء - رحمه الله - كما رواه عبد الرزاق في مصنفه أنه قال: تكفن المرأة في ثلاث ثياب ويوضع فوقها لفافة فصار المجموع أربع فلفظه يدل على أن الثياب التي تكفن فيها المرأة أربع وليست ثلاث كما ساقه ابن قدامة - رحمه الله -. ثانياً: فإن قيل: أنه روي عن بعض السلف غير عطاء كسليمان بن موسى أنها ثلاث. فالجواب: صحيح أما عن سليمان فثلاث لكن ذكر من الثلاث الخمار والقميص. ونحن نقول أن كفن المرأة يختلف عن كفن الرجل بغض النظر عن عدد الثياب.

فإذاً قول بعضهم أن الأقرب أن كفن الرجل ككفن المرأة ليس بصحيح بل إنه فيما أرى مخالف للإجماع فبعد البحث لم أجد أحداً ساوى بين كفن المرأة والرجل. ـ المسألة الأخيرة: عدد الثياب. في كم تكفن المرأة؟ = ذهب الجماهير والجم الغفير واختاره ابن المنذر وابن حزم وعدد من السلف أن المرأة تكفن في خمسة ثياب. وتكفين المرأة في خمسة ثياب صح عن ابن سيرين والنخعي والشعبي وغيرهم من السلف بإسناد صحيح. وابن حزم أخذ بهذه الآثار عن هؤلاء الأربعة. الدليل على أنها خمسة ثياب: - أنه روي في طريق من حديث أم عطية خارج الصحيح: أنهن - النساء اللاتي غسلن ابنت النبي - صلى الله عليه وسلم - زينب - كفنها في خمسة ثياب وجعلن عليها خماراً كما تخمر الأحياء. وابن حجر يقول عن هذا الحديث أن إسناده صحيح. وروي بإسناد ضعيف أن أم كلثوم ابنت النبي - صلى الله عليه وسلم - كفنت في خمسة ثياب. فالعمدة في مسألة عدد ثياب المرأة أثناء التكفين - هذا الطريق في حديث أم عطية والآثار الصحيحة الثابتة عن السلف. فهذان دليلان يستطيع الإنسان أن يجزم بهما ثم هو قول عامة الفقهاء. = القول الثاني: أنها تكفن في ثلاث ثياب. = والقول الثالث: أنها تكفن في أربع ثياب. = والقول الرابع: أنها تكفن في سبع ثياب. والصواب: أنها تكفن في خمس ثياب. واختلفوا في هذه الثياب. ماذا تكون؟ الصواب أنها على ما ذكر المؤلف وهي: إزار وخمار. وقميص ولفافتين والإزار: هو ما يستر به الجزء الأسفل من البدن. والخمار هو الذي يغطى به الرأس. والقميص: هو الدرع وهو معروف. فهذه الأثواب الخمس هي الصواب وهو قول الجماهير واختيار ابن المنذر. أن تحديد الثياب هي هذه الثياب التي ذكرها المؤلف - رحمه الله -. والنبي - صلى الله عليه وسلم - صح عنه في البخاري أنه أعطى النساء اللاتي غسلن زينب إزاره وقال: (أشعرنها إياه). والشعار هو الثوب الذي يلي الجسد. فأعطاهم - صلى الله عليه وسلم - إزاره. فإذاً إذا أردنا أن نكفن المرأة فنجعل عليها هذه الثياب الخمس. فنبدأ بالإزار ثم نضع فوق الإزار القميص ثم نضع فوق القميص الخمار ثم نلف اللفافتين على جميع الجسد.

هذا هو السنة. ويراعى في المرأة ما قيل في الرجل في مسألة القطن والحنوط فإن المؤلف لم يكرر في المرأة ما لا يحتاج إلى تكراره مما ذكر في حق الرجل. فالمرأة تختلف عن الرجل فقط في الثياب مما ذكر المؤلف وفيما عدا هذا يستويان تماماً. وبعد أن سألت تبين لي أن عمل الناس عندنا على هذا القول: أن المرأة تكفن في خمس ثياب وهذا موافق للسنة ولله الحمد. إلا أني فهمت أن تغسيل المرأة الآن يختم بوضع غطاء على الجزء الأسفل من البدن. يعني يغطون الفم خشية خروج الدم. ونحن الآن درسنا أن الفقهاء يرون أنه إذا خشينا من خروج الدم أن نضع قطن فمن وجهة نظري أنهم لو وضعوا قطن لكانأولى لا سيما وأن القطن يتقبل وضع الحنوط فيه والطيب بخلاف اللفافة على الفم. لكن مع ذلك لا نستطيع أن نقول أن هذا عمل غير مشروع لأن وضع القطن إنما استحبه الفقهاء لمصلحة الميت وليس فيه نص عن النبي - صلى الله عليه وسلم -. فإذا رأى المغسل أن مصلحة الميت أكثر في وضع هذه الغطاء على الفم خشية خروج الدم فأرى أنه لا بأس إن شاء الله لكن تحرص المغسلة أن تضع على هذا اللثام طيب لينوافق عملها مع ما ذكره الفقهاء. ثم ختم المؤلف - رحمه الله - هذا الفصل ببيان الواجب في الكفن بعد أن بين السنة أراد أن يبين الواجب أي: الذي لا يجوز الاقتصار على دونه. • فقال - رحمه الله -: والواجب: ثوب يستر جميعه. فالواجب ثوب يستر جميع بدن الميت سواء في ذلك المرأة والرجل. والدليل على هذا: - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - هكذا صنع بمصعب فإنه لم يوجد له إلا ثوب واحد فستره به. - أضف إلى هذا أن المنصوص في حديث الزبير وصفية أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كفن حمزة بثوب واحد. فهذان دليلان على أن الواجب في التكفين أن يغطى الميت بثوب واحد. = القول الثاني: أن الواجب في المرأة والرجل فقط ستر العورة. فلو قام المغسل بستر عورة الميت فقط لصح الكفن وجاز وصار أدى فرض الكفاية. = وزالقول الثالث: أنه يجب ستر جميع بدن المرأة والعورة من الرجل. يعني: التفريق بين المرأة والرجل. فصارت الأقوال ثلاثة. والصواب القول الأإول لأنه مؤيد بدليلين عن النبي - صلى الله عليه وسلم -.

وبهذا تم البحث في ما يتعلق بمسألة التكفين وبقي ما يتعلق بالصلاة ثم في آخر الباب مسألة الزيارة والتعزية وما يتعلق بها. والله أعلم وصلى الله على نبينا محمد .... انتهى الدرس

فصل [في الصلاة على الميت] قال شيخنا حفظه الله: بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين. لما أنهى المؤلف الكلام عن طريقة تكفينه الميت وما هي أجزاء الكفن وحكم الكفن انتقل إلى الصلاة. وبدأ في الصلاة من أول مراحل الصلاة وهي موقف الإمام من المأموم. • فقال - رحمه الله -: السنة: أن يقوم الإمام عند صدره. فيه مسائل: - المسألة الأولى: أن مكان وقوف الإمام من الميت سنة فإذا وقف في أي مكان تجاه الميت صحت الصلاة بلا كراهة. - المسألة الثانية: موقف الإمام من الرجل وموقفه من المرأة. نبدأ بالمسألة الأولى وهي: موقف الإمام من الرجل. = موقف الإمام من الرجل: عند الحنابلة: أن يقف عند الصدر كما قال المؤلف - رحمه الله -. وهذا هو المذهب الاصطلاحي عند الحنابلة. = والقول الثاني: أن السنة أن يقف عند رأس الرجل. واستدلوا على هذا: - بأن النبي - صلى الله عليه وسلم - وقف عند رأس الرجل ووسط المرأة. = والقول الثالث: أن الإنسان إذا وقف عند الرأس أو الصدر فالأمر بسيط لتقارب المكانين. فإن الإمام في الحقيقة إذا وقف أمام الصدر فهو واقف أمام الرأس. والراجح: أنه يقف أمام الرأس. باعتبار أن الحديث الصحيح ورد بذلك فنلتزم بالحديث الصحيح ثم قد يميل الإمام يمين كثيراً فلا يصدق عليه إلا أنه أمام الرأس. إذاً قوله: أن السنة أن يقوم الإمام عند صدره. أخذنا الآن الخلاف وأن في المسألة ثلاثة أقوال وأن الراجح أنه يقف عند الرأس وأنه اختيار بن قدامة. • ثم قال - رحمه الله -: وعند وسطها. يعني يقف الإمام عند وسط المرأة للحديث الصحيح عن سمرة - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - صلى على امرأة فقام عند وسطها. فهو نص في أن الإمام يقف عند وسط المرأة. وهذا الحديث في مسلم.

وبهذا علمنا أن تحديد الموقف من المرأة ثبت بسنة صحيحة لا إشكال فيها وأنه أصح من السنة التي فيها تحديد موقف الإمام من الرجل. وظاهر كلام البخاري أن الإمام يقف عند الوسط للرجل والمرأة. واستظهر الحافظ ابن حجر - رحمه الله - أنه يميل - أي البخاري - إلى تضعيف الحديث الذي فيه التفريق بين المرأة والرجل. في الحقيقة بعد البحث في إسناد هذا الحديث الذي يفرق فيه الرسول - صلى الله عليه وسلم - بين الموقف عند الرجل والمرأة لم أجد له علة فإسناده صحيح ومتصل وخال من العلل الخفية والظاهرة. أضف إلى هذا أن الإمام البخاري لم يصرح بالتضعيف لكن يفهم من التبويب حسب فهم ابن حجر - رحمه الله - أنه يميل إلى التسوية بين المرأة والرجل ويضعف حديث التفريق. بعد هذا البحث: الراجح: التفريق لأنا لم نجد في الحديث علة نتمسك بها. • ثم قال - رحمه الله -: ويكبر أربعاً. يعني أن السنة أن لا يزيد عن الأربع ولا يجوز أن ينقص عن الأربع. = هذا المذهب: لا يجوز النقص ويكره الزيادة. - لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - ثبت عنه في الحديث الصحيح أنه خرج بأصحابه وصلى بهم صلاة الجنازة على النجاشي وكبر أربع تكبيرات. وأما التكبير خمس فهو جائز أيضاً. فقد ثبت في الحديث الصحيح الذي أخرجه مسلم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كبر على الجنازة خمساً. إذاً التكبير أربع وخمس هذا ثابت في الأحاديث الصحيحة المروية بالأسانيد الثابتة عن النبي - صلى الله عليه وسلم -. * * مسألة: حكم التكبير الزائد عن الخمس - ست وسبع وثمان وتسع: التكبيرات الزائدة عن الخمس فيها آثار صحيحة ثابتة عن علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - وعن غيره من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم -. ولا أعلم أن في التكبيرات الزائدة عن الخمس حديث مرفوع إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - ومع ذلك نقول: يشرع أحياناً أن يزيد عن الخمس إلى الست والسبع لأنه مروي بأسانيد صحيحة عن أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - ولم يكونوا ليأتوا بما ليس له أصل. * * مسألة: الأقرب والله أعلم أن التكبيرات الزائدة عن الأربع تكون لأهل الفضل والعلم.

وروي أن علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - كان يكبر على أهل بدر ست وعلى سائر الصحابة خمس وعلى الناس أربع. ولما كبر ست في الآثار الأخرى عنه علل ذلك بقوله: إنه بدري. - يعني من أهل بدر. ولذلك ترجم الطحاوي - رحمه الله - على هذه الآثار بأن الزيادة عن الأربع تشرع لأهل الفضل والعلم. وهذا هو الأقرب. لأنا لم نأخذ مشروعية الزيادة على الأربع إلا للآثار عن الصحابة وهم خصوها بأهل بدر وأهل الفضل والخير. فالأقرب أن نقول: - إذا صلى الإنسان على رجل من أهل الخير والفضل فإنه يزيد كما صنع علي بن أبي طالب - رضي الله عنه -. - وإن صلى على عامة الناس فإنه يكبر أربعاً. لكن ينبغي على الإمام إذا صنع ذلك وخشي أن يفهم الناس أن الزيادة خاصة بفلان أن يبين العلم والسنة وأنه كبر خمساً أو ستاً لا لذات الرجل وإنما لوصفه وهو أنه من أهل الفضل والخير والتقدم وغيره يساويه. هذا الذي يظهر من آثار الصحابة. = والقول الثاني: أن التكبير خمس وست لا يتعلق بأهل الفضل بل يجوز لكل الناس. • ثم قال - رحمه الله -: يقرأُ في الأُولى بعد التعوذ: الفاتحة. إذا كبر الإمام فإنه كما قال المؤلف يقرأ في الأولى بعد التعوذ الفاتحة. وفي هذه العبارة عدة مسائل: ـ المسألة الأولى: يفهم من كلام المؤلف أنه لا يشرع لمن يصلي صلاة الجنازة أن يستفتح - يعني: أن يقرأ دعاء الاستفتاح. = وهذا إحدى الروايات عن الإمام أحمد وهو المذهب وإليه ذهب الجماهير. واستدلوا بأدلة: - منها: أن صلاة الجنازة شرع فيها التخفيف بدليل: أنه لا يشرع أن يقرأ الإنسان فيها بعد الفاتحة سورة أخرى. وبدليل: أنه ليس فيها ركوع ولا سجود. - الدليل الثاني: أنه لم يرد في الآثار أن النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه قرأوا دعاء الاستفتاح. = الرواية الثانية عن الإمام أحمد - رحمه الله - أن الإنسان إذا صلى صلاة الجنازة يقرأ دعاء الاستفتاح ورجح هذه الرواية الفقيه الكبير الإمام الخلال. واستدل على ذلك: - بالعمومات وهو: أنه كما يشرع للمصلي في سائر الصلوات أن يستفتح فكذلك في هذه الصلاة. الراجح والله أعلم: أنه لا يشرع لقوة أدلة أصحاب القول الأول.

ـ المسألة الثانية: أنه يشرع لمن صلى صلاة الجنازة أن يستعيذ. والدليل على هذا: - أن الاستعاذة تلحق القراءة وتختص بها فكلما شرعت القراءة شرعت الاستعاذة. ـ المسألة الثالثة: أنه يشرع للمصلي أن يقرأ فاتحة الكتاب. = ومذهب الحنابلة أنه يجب فإن تركها بطلت الصلاة. واستدلوا على هذا بعدة أدلة: - منها: عموم قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: (لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب) وصلاة الجنازة من جملة الصلوات. - ثانياً: وهو دليل خاص بالمسألة: ما صح عن ابن عباس - رضي الله عنه - أنه صلى صلاة الجنازة وقرأ فاتحة الكتاب ثم قال: لتعلموا أنها السنة. = والقول الثاني: أنه لا يشرع للمصلي صلاة الجنازة أن يقرأ بفاتحة الكتاب. واستدلوا على هذا: - بأنه عمل أهل المدينة القديم. - وثانياً: مروي عن ابن عمر - رضي الله عنهما - وغيره من الصحابة. = والقول الثالث: أن قراءة الفاتحة مستحبة وليست بواجبة. وإلى هذا ذهب شيخ الاسلام ابن تيمية على طريقته في الجمع بين القولين. وأصح وأرجح وأقوى هذه الأقوال وجوب قراءة الفاتحة. لصراحة الأدلة ووضوحها وليس للإنسان أن يخرج عن نص جاء عن النبي - صلى الله عليه وسلم -. على أنكم سمعتم الخلاف في المسألة. • ثم قال - رحمه الله -: ويصلي على النبي - صلى الله عليه وسلم - في الثانية. يعني: أنه إذا كبر التكبيرة الثانية شرع له أن يصلي على النبي - صلى الله عليه وسلم -. والدليل على هذا: - أنه صح عن ابن عباس وعن أبي أمامة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - صلى على - النبي - صلى الله عليه وسلم - في صلاة الجنازة في التكبيرة الثانية. وحديث ابن عباس وحديث أبي أمامة إن شاء الله صحيح كما قلت. • ثم قال - رحمه الله -: كالتشهد. يعني: أن المشروع أن يصلي على النبي - صلى الله عليه وسلم - بالصيغة التي يصلي عليه فيها في التشهد الأخير في الصلاة الرباعية. والدليل على هذا: - أن هذه الصيغة هي أكمل أنواع التشهد وينبغي على الإنسان أن يأتي بالأكمل. * * مسألة: فإن صلى على النبي - صلى الله عليه وسلم - بأي صيغة صحت الصلاة. فإن قال: صلى الله عليه وسلم وسكت أجزأه. • ثم قال - رحمه الله -: ويدعو في الثالثة.

يعني: أن المشروع للإنسان بعد أن يكبر التكبيرة الثالثة أن يشرع في الدعاء. والدليل على هذا من أوجه كثيرة: - لأن خلاصة صلاة الجنازة الدعاء ولذلك كثرت الأدلة الدالة على مشروعيته. - فأولاً: حديث ابن عباس السابق. وفيه أنه - صلى الله عليه وسلم - دعا بعد الثالثة. - ثانياً: حديث أبي أمامة وكذلك فيه أنه دعا بعد الثالثة. - ثالثاً: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (إذا دعوتم للميت فأخلصوا له الدعاء) وهذا الحديث إسناده جيد وممن جود إسناده الحافظ ابن كثير - رحمه الله -. - رابعاً: أن المقصود من صلاة الجنازة الدعاء للميت ولذلك صار واجباً - بل ربما ركن من أركان صلاة الجنازة - كما سيأتينا. فهذه أربعة أدلة تدل على أهمية الدعاء في صلاة الجنازة. • ثم قال - رحمه الله -: فيقول: ((اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِحَيِّنَا وَمَيِّتَنَا وَشَاهِدَنَا وَغَائِبَنَا وَصَغِيْرَنَا وَكَبِيْرَنَا وَذَكَرَنَا وَأُنْثَانَا إِنَّكَ تَعْلَمُ مُنْقَلَبَنَا وَمَثْوَانَا وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيْرِ، اللَّهُمَّ مَنْ أَحْيَيْتَهُ مِنَّا فَأَحْيِهِ عَلَى الإِسْلاَمِ وَالسُّنَّةِ وَمَنْ تَوَفَّيْتَهُ مِنَّا فَتَوَفَّهُ عَلَيْهِمَا)). هذا الحديث رواه أبو هريرة - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه كان إذا صلى على الجنازة قال: .. فذكر الدعاء. هذا الحديث مما اختلف فيه العلماء: - فعامة المتأخرين يصححون هذا الحديث مرفوعاً إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - - وذهب الإمام أبو حاتم والإمام البخاري وأشار إليه الإمام الترمذي أن هذا الحديث مرسل لا يصح ذكر أبي هريرة فيه. وهذا الأخير هو الصواب أن الحديث مرسل. ولكن مع ذلك يصلح للاستدلال وأن نستشهد به لما تقدم معنا مراراً أن المراسيل إذا لم يكن في الباب غيرها وصار لها شواهد صارت صالحة للعمل والاستدلال إن شاء الله على طريقة الإمام أحمد - رحمه الله -. هذا هو الدعاء الأول ويسميه الفقهاء: الدعاء العام. ثم يبدأ بالدعاء الخاص. • قال - رحمه الله -:

((اللَّهُمَّ اغْفِرْ لَهُ وَارْحَمْهُ وَعَافِهِ وَاعْفُ عَنْهُ وَأَكْرِمْ نُزُلَهُ وَأَوْسِعْ مُدْخَلَهُ وَاغْسِلْهُ بِالْمَاءِ وَالثَّلْجِ وَالْبَرَدِ وَنَقِّهِ مِنَ الذُّنُوبِ وَالْخَطَايَا كَمَا يُنَقَّى الثَّوْبَ الأَبْيَضَ مِنَ الدَّنَسِ، وَأَبْدِلْهُ دَاراً خَيْراً مِنْ دَارِهِ وَزَوْجاً خَيْراً مِنْ زَوْجِهِ وَأَدْخِلْهُ الْجَنَّةَ وَأَعِذْهُ مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ وَعَذَابِ النَّارِ وَافْسِحْ لَهُ فِي قَبْرِهِ وَنَوِّرْ لَهُ فِيْهِ)). هذا الحديث: حديث ثابت في صحيح مسلم بل قال الإمام البخاري هذا الحديث أصح حديث في الباب ولكنه لم يخرجه في الصحيح وإنما أخرجه الإمام مسلم. عرفنا إذاً الدليل على مشروعية الدعاء العام الأول والدليل على مشروعية الدعاء الخاص الثاني وهو ينتهي بقوله: (عذاب النار). أما قول المؤلف - رحمه الله -: (وَافْسِحْ لَهُ فِي قَبْرِهِ وَنَوِّرْ لَهُ فِيْهِ) فهذا لم يأت في الآثار مرفوعاً إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - ولا موقوفاً. والدليل على مشروعيته عند الحنابلة: - أنه دعاء لائق بالمحل فشرع. يعني مناسب لهذه الصلاة باعتبار أن من يصلى عليه سيقبر بعد الصلاة فناسب أن يدعا له بهذا الدعاء. ولما انتهى المؤلف - رحمه الله - من الكلام عن كيفية الدعاء للكبير انتقل لكيفية الدعاء للصغير: • فقال - رحمه الله -: وإن كان صغيراً قال: ((اللَّهُمَّ اجْعَلْهُ ذُخْراً لِوَالِدَيْهِ وَفَرَطاً وَأَجْراً وَشَفِيْعاً مُجَاباً، اللَّهُمَّ ثَقِلْ بِهِ مَوَازِيْنَهُمَا وَأَعْظِمْ بِهِ أُجُوْرَهُمَا وَأَلْحِقْهُ بِصَالِحِ سَلَفِ الْمُؤْمِنِيْنَ وَاجْعَلْهُ فِي كَفَالَةِ إِبْرَاهِيْمَ وَقِهِ بِرَحْمَتِكَ عَذَابَ الْجَحِيْمَ)). هذا الأثر جاء مرفوعاً وموقوفاً إلى قوله: (وَأَعْظِمْ بِهِ أُجُوْرَهُمَا). فالمشروع لمن صلى على الصغير أن يدعو بهذا الدعاء. وكما ترون الدعاء يتضمن أن يدعو المصلي لوالدي الطفل دون الطفل. والدليل على أنه يدعو لوالديه دونه من أوجه: - الأول: أنه في حديث المغيرة - رضي الله عنه - قال: إذا صلى على الطفل فيدعو لوالديه.

- الثاني: أنه روي عن أبي هريرة - رضي الله عنه - وعن ابن عمر - رضي الله عنه - نحواً من هذا الدعاء. وروي عن الحسن البصري - رحمه الله - نحواً من هذا الدعاء. - ثالثاً: أن هذا هو المنايب والأليق بالمحل لأن الطفل الصغير لا ذنوب عليه فليس من المناسب أن نستغفر لشخص ليس له ذنوب فصار المناسب بناء على ذلك أن ندعو لوالديه. هكذا يقرر الحنابلة. وما ذكروه صحيح باعتبار أنه جاء في بعض الآثار المروية عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وعن الصحابة وعن التابعين كما تقدم. وأيضاً باعتبار أنه مناسب للحال. • ثم قال - رحمه الله -: ويقف بعد الرابعة قليلاً. يعني: يشرع للإمام إذا كبر الرابعة أن يقف قليلاً. أي: قبل أن يسلم. والدليل على هذا: - أن زيد بن أرقم - رضي الله عنه - أخبر أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان إذا كبر الرابعة وقف شيئاً. - والتعليل: ليتمكن المأموم من التكبير. وظاهر عبارة المؤلف - رحمه الله - من قوله: (ويقف بعد الرابعة قليلاً ويسلم) أنه لا يدعو بأي شيء بعد التكبيرة الرابعة وإنما ينتظر قليلاً صامتاً ثم يسلم. = وهذا رواية عن الإمام أحمد - رحمه الله - واختاره بن قدامة أنه لا يدعو بشيء بعد التكبيرة الرابعة. واستدل على ذلك: - بأنه ليس في النصوص الصحيحة المرفوعة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يدعو. = والقول الثاني: أنه يشرع أن يدعو. واستدلوا على مشروعية الدعاء بعد الرابعة: - بأنه روي أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كما في حديث ابن أبي أوفى كان إذا كبر الرابعة دعا. - الدليل الثاني: أن المعهود في الشرع أن لا يخلو جزء من الصلاة من الدعاء ولذلك يشرع الدعاء في هذا الموضع. والأقرب أن الأمر فيه سعة: إن شاء دعا وإن شاء سكت. وإذا أراد أن يدعو فذكر الحنابلة أنه مخير بين: - أن يقول: (ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة). - أو يقول: (اللهم لا تحرمنا أجره ولا تفتنا بعده). - أو - وهو القول الثالث عند الحنابلة: يخير بين أن يقول: هذا أو هذا.

والصواب: أنه يقول هذا الدعاء أو يقول غير هذا الدعاء باعتبار أنه ليس في الباب آثار صحيحة لا عن أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - ولا عن النبي - صلى الله عليه وسلم -. • ثم قال - رحمه الله -: ويسلم واحدة عن يمينه. = مذهب الحنابلة: أن المشروع والمسنون والمستحب في حق المصلي صلاة الجنازة أن يسلم واحدة فإن سلم تسليمتين فهو مباح أو مكروه على خلاف بين الحنابلة - يعني لا يسن ولا يشرع. واستدلوا على هذا: - بأن الإمام أحمد - رحمه الله - قال: عن ستة من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - ولا يعلم مخالف إلا إبراهيم. - وسئل الإمام أحمد - رحمه الله - في موضع آخر: هل تحفظ عن أحد من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه سلم تسليمتين؟ فقال: لم يصح عن أحد من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه سلم تسليمتين. ولذلك استنبط ابن قدامة من هذه العبارة أن التسليمة الواحدة محل إجماع عند الصحابة ومحل إجماع عند التابعين إلا عن إبراهيم النخعي - الخلاف الذي حكاه الإمام أحمد - رحمه الله -. وتقدم معنا: أن حكاية مثل الإمام أحمد - رحمه الله - لإجماع الصحابة أمر له ثقله الكبير بسبب عناية الإمام أحمد - رحمه الله - بآثار أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم -. ثم مع ذلك: = القول الثاني في هذه المسألة: أنه يسلم المصلي تسليمتين. يعني: أن المشروع والمستحب أن يسلم تسليمتين ويجوز أن يسلم تسليمة. عكس مذهب الحنابلة. واستدلوا على ذلك: - بحديث ابن مسعود - رضي الله عنه - أنه قال: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يسلم في صلاة الجنازة كما يسلم في الصلاة. والراجح: بلا إشكال إن شاء الله مذهب الحنابلة. بل إن ابن المبارك - رحمه الله - قال: من سلم تسليمتين فهو جاهل. إذاً الصواب إن شاء الله مع الحنابلة وهو: أن المشروع في صلاة الجنازة تسليمة واحدة ويجوز أن يسلم تسليمتين وإنما المشروع والمندوب والمنقول عن أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - وعن التابعين أن يسلم الإنسان تسليمة واحدة.

وحديث ابن مسعود يدل على الجواز فقط وفي الحقيقة: (لم أتمكن من البحث في إسناد هذا الأثر) لكن مع ذلك لا أشك أن الراجح مذهب الحنابلة باعتبار أن الإمام أحمد ينقل إجماع الصحابة والإمام أحمد ينقل إجماع الصحابة وينقل أقوال معينة عن ستة من الصحابة ولا يقصد أنه لا يعرف مخالف أو أنه لم يسمع وإنما يثبت فتاوى ستة أو سبعة من الصحابة ليس لهم مخالف. فهذا أقوى بكثير من أثر ابن مسعود - رضي الله عنه - وأثره - رضي الله عنه - ليس نصاً في التسليمتين فإنه يقول: يسلم في الجنازة كما يسلم في الصلاة فربما أراد إثبات أصل التسليم. ثم أيضاً: ربما نقول: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أحياناً يسلم في الصلاة سوى صلاة الجنازة تسليمة واحدة فلعله أراد هذا المعنى. وبكل حال: الأقرب ما ذكره الإمام أحمد أن الإنسان يسلم تسليمة واحدة لحكاية إجماع الصحابة. • ثم قال - رحمه الله -: ويرفع يديه مع كل تكبيرة. تقدم معنا: أن تكبيرات صلاة الجنازة أربع. وهذه التكبيرات تنقسم إلى قسمين: - القسم الأول: تكبيرة الإحرام. ورفع اليدين في تكبيرة الإحرام محل إجماع فلم يخالف فيه أحد من الفقهاء. ويدل عليه: - حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - وغيره أن النبي - صلى الله عليه وسلم -: لما كبر لصلاة الجنازة رفع يديه. - القسم الثاني: التكبيرات الأخرى. وهذه لم يثبت فيها عن النبي - صلى الله عليه وسلم - حديث صحيح أنته كان يرفع يديه. لكن مع ذلك صح بإسناد ثابت عن ابن عمر - رضي الله عنه - وصح بإسناد ثابت عن ابن عباس - رضي الله عنه - أنهم كانوا يرفعون أيديهم في صلاة الجنازة في التكبيرات الأربع. = وذلك ذهب الجمهور إلى مشروعية رفع اليدين. = القول الثاني: أنه لا يشرع أن يرفع يديه إلا في تكبيرة الإحرام لأنه لم يرد عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه كان يرفع يديه. والراجح. والله أعلم القول الأول. وسبب الترجيح: ما علم من عناية ابن عمر باتباع السنة فالغالب أنه لم يصنع ذلك إلا عن توقيف. وإذا كنا نقبل الآثار كما قبلها الجماهير في الزيادة على التكبيرات فلأن نقبلها في رفع اليدين من باب أولى.

ولذلك الجمهور الذين قبلوا زيادة التكبيرات قبلوا أيضاً رفع اليدين في صلاة الجنازة. • ثم قال - رحمه الله -: وواجبها. هكذا عبر المؤلف بقوله: وواجباتها. وعبر ابن قدامة في الكافي بقوله: وأركانها. ومقصود المؤلف هنا بقوله: وواجباتها: يعني: الأركان. ولا يقصد الواجب الذي يقابل الركن ولكن مع ذلك لو أن المؤلف - رحمه الله - قال: وأركانها. لكان أوضح لقارئ الكتاب كما عبر الشيخ ابن قدامة - رحمه الله - • قال - رحمه الله -: قيام. القيام. ركن من أركان صلاة الجنازة. والدليل على ذلك: - أنها صلاة مفروضة فوجب القيام فيها كسائر الفرائض. وعلم من هذا التعليل: - أن الصلاة التي يجب فيها القيام هي الصلاة الأولى التي حصل الفرض بأدائها. - وأما الصلاة الثانية. فإنه يجوز أن يصليها الإنسان وهو جالس لأنها ليست فريضة وإنما نافلة. = وقيل: وهو قول عند الحنابلة: بل يجب القيام ولو تكررت الصلاة. والراجح الذي مال إليه المرداوي في الإنصاف وغيره أن الثانية لا يجب فيها القيام. • ثم قال - رحمه الله -: وتكبيرات. التكبيرات أيضاً أركان والسبب أنها أركان أنها تقوم مقام الركعات. واستدلوا على ركنية التكبيرات: - بأن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يصل صلاة الجنازة قط إلا وكبر فيها أربعاً كما ثبت في الصحيح أن النبي - صلى الله عليه وسلم - صلى على الجنازة فكبر أربعاً. إذاً التكبيرات لها دليل من النظر ودليل من النقل. • ثم قال - رحمه الله -: والفاتحة. أي: ركن من أركان الصلاة. وتقدمن معنا الخلاف والأدلة على أنها واجبة ومن أركان الصلاة وأنها إن لم تقرأ بطلت الصلاة. • ثم قال - رحمه الله -: والصلاة على النبي - صلى الله عليه وسلم -. - لأنه جاء ثابتاً في حديث ابن عباس - رضي الله عنه - وفي حديث أبي أمامة أنه - صلى الله عليه وسلم - قرأ الصلاة عليه - صلى الله عليه وسلم - فدل على أنه ركن في صلاة الجنازة. وذكر شيخنا رحمه الله مناسبة لطيفة جداً: أن الصلاة على النبي - صلى الله عليه وسلم - مناسبة في هذا المقام لتكون بين يدي الدعاء. • ثم قال - رحمه الله -: ودعوة للميت. يعني: أن الركن أن يدعو دعوة واحدة للميت.

- لقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: (فأخلصوا له الدعاء) وهذا الحديث ثابت والأمر فيه ظاهر. - والدليل الثاني: على ركنية الدعاء أنه المقصود في صلاة الجنازة. والشيء المقصود في العبادة غالباً أودائماً ما يكون ركن فيها. • ثم قال - رحمه الله -: والسلام. أي: والسلام ركن من أركان الصلاة لدليلين: - الأول: قوله - صلى الله عليه وسلم -: (وتحليلها السلام). - ثانياً: القياس على سائر الفرائض. فإنه في الفرائض جميعاً يجب أن يسلم الإنسان وهو من أركان الصلاة. وبهذا انتهى من سرد أركان الصلاة. فصار القيام والتكبيرات والفاتحة والصلاة والدعوة والسلام. يعني أنها ست أركان في صلاة الجنازة. • ثم قال - رحمه الله -: ومن فاته شيءٌ من التكبير: قضاه على صفته. يريد المؤلف أن يبين حكم المسبوق فإذا فات الإنسان شيء من تكبيرات الصلاة سن له أن يقضيه على صفته. وفي هذه العبارة عدة مسائل: - المسألة الأولى: أن القضاء واجب وأنه لو سلم قبل أن يقضي بطلت صلاته. - لعموم قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: (فما أدركتم فصلوا وما فاتكم فاقضوا). = القول الثاني: أن قضاء ما فات من التكبيرات لا يجب. بناء عليه إذا دخل مع الإمام وقد فاته التكبيرة أو أكثر ثم سلم الإمام فله أن يسلم ولا يقضي وصلاته صحيحة. واستدلوا بدليلين: - أولاً: أنه روي عن ابن عمر - رضي الله عنه - أنه قال: عن تكبيرات صلاة الجنازة: لا تقضى. - ثانياً: القياس على تكبيرات صلاة العيد. فإنه لا يجب أن يقضي الإنسان تكبيرات صلاة العيد. والصواب: إن شاء الله وجوب القضاء لعموم النص وصلاة الجنازة صلاة. إذا تقرر أن القضاء واجب: فكيفية القضاء: أن يدخل مع الإمام في الموضع الذي هو فيه ويتابع الإمام ثم إذا سلم الإمام قضى ما عليه على صفته. والدليل أنه على صفته: - أن القاعدة المشهورة التي اتفق عليها - تقريباً - الفقهاء أن القضاء يحكي الأداء. يعهني: يطابق الأداء.

إلا إذا خشي أن ترفع الجنازة فإنه يتابع التكبير بلا ذكر ودعاء بينه ثم يسلم لأن من شروط صحة صلاة الجنازة أن تكون بين يدي المصلي إلا ما استثني مما سيذكره المؤلف - رحمه الله - كالصلاة على الغائب والصلاة على المقبور هذا مستثنى وفيما عدا ذلك يشترط لصحة الصلاة أن يكون الميت بين يدي المصلي. فإذا خشي الإنسان أن ترفع الجنازة فماذا يصنع؟ يتابع. * * فإن رفعت وهو يتابع يتم المتابعة ويسلم. إذاً: يقضي الصلاة على صفتها. إلا إن خشي أن ترفع فإنه يتابع التكبير ويكمل المتابعة ولو رفعت. هذا ملخص مذهب الحنابلة. وهو الصحيح إن شاء الله. • ثم قال - رحمه الله -: ومن فاتته الصلاة عليه: صلى على القبر ... إلى شهر. أيضاً في هذه العبارة عدة مسائل: ـ المسألة الأولى: أفاد المؤلف أن الصلاة على القبر مشروعة. = وهذا مذهب الحنابلة بل مذهب الجمهور: - لما ثبت في صحيح البخاري ومسلم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - صلى على قبر ميت في أكثر من مناسبة = والقول الثاني: أنه لا يجوز أن نصلي على القبر مطلقاً. والصواب مع الحنابلة لصحة الدليل. فإذا ثبت أن مذهب الحنابلة هو الصواب وهو الأحظ بالدليل وهو جواز الصلاة على القبر ننتقل إلى: ـ المسألة الثانية: وهي إلى متى يصلى على القبر؟ = فمذهب الحنابلة: أنه يصلى على القبر إلى شهر فقط. ثم بعد الشهر لا يجوز أن يصلي إلا إذا زاد الوقت بشيء يسير كاليوم واليومين. - الدليل على هذا: - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - صلى على قبر أم سعد بن عبادة بعد شهر. فإذا قيل لك: من أين لكم الزيادة يوم أو يومين؟ فتقول: تؤخذ من قوله: (صلى بعد شهر) فحملوا هذه البعدية على أنها شيء يسير كاليوم واليومين. = القول الثاني: أنه يجوز أن يصلي الإنسان على القبر أبداً. - لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - خرج وصلى على شهداء أحد بعد ثمان سنين. = القول الثالث: أنه يجوز أن يصلى على القبر ما لم يتفتت الميت ويبلى. والقول الثاني والثالث - الذين ذكرتهما الآن - أقوال ضعيفه. والدليل على ضعفها: - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أخبر أنه لا يبلى ومع ذلك أجمع المسلمون على أنه لا يصلى على قبره.

- ثانياً: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - بقي ولم يصل أحد على قبره. فإذاً القول بأن الصلاة على القبر دائماً أبداً تستمر أو أنها إلى أن يبلى كلا القولين ضعيف بوجود قبر النبي - صلى الله عليه وسلم - وتجنب المسلمين الصلاة عليه. = القول الرابع: أنه يصلي بلا حد إذا كان من أهل الصلاة حين موت الميت. يعني إذا كان هذا المصلي لما مات الميت من أهل الصلاة على الميت فإنه يصلي على القبر ولو بعد سنة أو سنتين أو ثلاث أو أربع بهذا الشرط. واستدل هؤلاء: - بأنه بهذا القول تجتمع الآثار والنصوص. وأن القول الذي فيه الجمع بين الأخبار أرجح من غيره من الأقوال التي تأخذ بنص وتدع الآخر. وهذا القول ظاهر القوة ووجيه كما ترى وفيه جمع بين الأخبار وأخذ بالآثار جميعاً فهو الراجح إن شاء الله. • ثم قال - رحمه الله -: وعلى غائب: بالنية إلى شهر. وهذا أيضاً يتضمن مسألتين: ـ المسألة الأولى: أنه يشرع الصلاة على الغائب من حيث الأصل. = وهذا مذهب الحنابلة. واستدلوا: - بأن النبي - صلى الله عليه وسلم - صلى على الغائب وهو النجاشي. = القول الثاني: أنه لا يشرع مطلقاً أن يصلي الإنسان على الغائب. - لأن عدداً من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - ماتوا ولم ينقل أنه صلي عليهم. - ولأن الخلفاء الراشدين - رضي الله عنهم - لما ماتوا لم ينقل أن أحداً من أهل الأمصار صلى عليهم. فدل هذا على أنه لا يشرع أن يصلي الإنسان على الغائب الميت. والصواب مع الحنابلة: لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - صلى على غائب بالنص الصريح وهو النجاشي. ـ المسألة الثانية: حد الغائب: الغائب: هو ما كان خارج البلد ولو كان دون مسافة قصر بشرط أن لا يكون في موضع تجب إجابة نداء الجمعة منه. إذاً: هل يشترط في الغائب أن يكون على مسافة قصر؟ الجواب: لا. لكن يشترط فقط أن لايكون في موضع تجب على إجابة نداء الجمعة. هذا كله تقرير مذهب الحنابلة. إذا تقرر مشروعية الصلاة على الغائب نأتي أيضاً الضابط:

= فالضابط عند الحنابلة أنه يصلى عليه إلى شهر. وأنه يصلى على كل غائب سواء صلي عليه أو لم يصلى عليه فعلى كل غائب يشرع أن تصلي فإذا سمعت أن إنساناً مات فإنه يشرع لك أن تصلي عليه ولو كان صلي عليه عند قومه. أخذاً بعموم صلاة النبي - صلى الله عليه وسلم - على النجاشي. بناءً على هذا القول يشرع للإنسان أن يصلي كل يوم على أموات المسلمين. لأنه قطعاً أنه مات عدد كبير من المسلمين في هذا اليوم. ولكن هذا القول استبشعه جداً شيخ الاسلام - رحمه الله - ورأى أنه بدعة: (وهو: أنه يشرع أن يصلي على أموات المسلمين في كل يوم). وقال - رحمه الله -: هذا بدعة ولا يشرع. = القول الثاني: أنه يصلى على من كان في حياته مصلحة ونفعاً للمسلمين - نفعاً عاماً. كالنجاشي. فإن المسلمين انتفعوا به في الهجرة وفي غيرها. ودليل هؤلاء: ظاهر. = والقول الثالث: أنه يصلى على من لم يصلى عليه فقط. والمذهب الثالث - الأخير اختيار شيخ الاسلام وابن القيم هو الراجح. وأما الجواب عن قولهم: أن النجاشي ملك ولا يعقل أنه لم يصلى عليه: فنقول أن النبي - صلى الله عليه وسلم - وأبو بكر وعمر لما ماتوا وهم أكثر الأمة غناء في الأمة لم ينقل أنه صلي عليهم في مكة. فدل على أن هذا الضابط وهو أنه إذا مات رجل له غناء ونفع للمسلمين يصلى عليه أنه قول ضعيف بغض النظر عن النجاشي فإذا كان هذا القول ضعيف لم يبق إلا القول أن يصلي على من لم يصلى عليه وأن هذا ظاهر حال النجاشي مع قيام الاحتمال بأنه صلي عليه لكن دائماً وأبداً نحن في الشرع نأخذ بالظاهر والظاهر من حال النجاشي أنه لم يصلى عليه فيكون هذا القول الأخير قول قوي ووجيه. والله أعلم وصلى الله وسلم على نبينا محمد .... بعد الأذان: • ثم قال المؤلف رحمه الله - في ختام هذا الفصل: ولا يصلي الإمام: على الغال ولا على قاتل نفسه. يعني أنه لا يشرع للإمام خاصة أن يصلي على الغال ولا على قاتل نفسه. والدليل على ذلك: - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أوتي برجل قتل نفسه فلم يصل عليه. وهو حديث صحيح. - والدليل الثاني: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال في الغال صلوا على صاحبكم.

= القول الثاني: أن الإمام وسائر الناس يصلون على الغال وقاتل نفسه وعلى كل المسلمين. واستدلوا على هذا: - بعموم قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: صلوا على من قال لا إله إلا الله. = والقول الثالث: وهو أغرب الأقوال: أن الإمام وسائر المسلمين لا يصلون على الغال وعلى قاتل نفسه يعني: لا يصلى عليه بحال. وكما ترون أحظ الناس بالأدلة الحنابلة. والنبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: صلوا على صاحبكم. فكيف لا يصلى عليه بحال وهو مسلم ونحن تقدم معنا أن الأدلة تدل على أن الصلاة فرض كفاية لكن نقول الإمام لا يصلي عليه زجراً عن فعله. وذهب الحنابلة في الصحيح عندهم إلى أنه لا يصلى أيضاً على أهل البدع. قال الإمام أحمد ما كنت لأصلي على جهمي ولا رافضي. واستدل على هذا - الإمام أحمد: - أنهم - أي الجهمي والرافضي - شر من الغال وقاتل نفسه. لأن أولئك وقعوا في معصية عملية وهؤلاء وقعوا في بدعة عقدية. وذهب المجد والشيخ الفقيه ابن مفلح إلى أنه: - وهو النوع الثالث الذين لا يصلى عليهم - لا يصلى على كل من عرف بمعصية ظاهرة مات لم يتب منها. بناء على هذا: إذا عرف شخص من الأشخاص بمعصية مشهورة اشتهر بها فإنه إذا مات وقد عرف بالمغصية وعرف أنه لم يتب منها ينبغي على الإمام أن لا يصلي عليه. فصار الذين لا يصلي عليهم الإمام: قاتل نفسه والغال وصاحب البدعة ومن عرف بمعصية لم يتب منها يعني اشتهر بمعية كبيرة لم يتب منها فإن هذا لا يصلى عليه. مثل إنسان مشهور بشرب الخمر واشتهر به وهو يتبجح بمثل هذا بكتاباته ومات ولم يتب فكذلك. أو يتبجح بالزنى ونحو ذلك بكتاباته وهو معروف ومات ولم يتب فإنهه لا يصلى عليه. وما ذكره الشيخ الفقيه المجد وابن مفلح وهما من أكبر فقهاء الحنابلة صحيح ووجيه. الدليل: - أن هؤلاء شر من الغال على أقل تقدير: فلا نقول أنه شر من قاتل نفسه. - الدليل الثاني: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - إنما ترك الصلاة على هؤلاء زجراً عن أفعالهم وهؤلاء ينبغي أن يزجر الناس عن أفعالهم بترك الصلاة عليهم. • ثم قال - رحمه الله -: ولا بأس بالصلاة عليه في المسجد. يعني لا بأس أن نصلي على الجنازة في المسجد.

- لما صح في صحيح مسلم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - صلى على سهيل بن بيضاء في المسجد. - وأيضاً روي وأظنه صحيح أن أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - صلوا على أبي بكر وعمر في المسجد. فصار الآن: ثبتت السنة بإجماع الصحابة وإلى هذا ذهب ابن قدامة يقول وهذا إجماع لأنه لم ينكر أحد من الصحابة الصلاة على أبي بكر وعمر في المسجد. فثبت بهذه الآثار النبوية والآثار المروية عن أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - جواز الصلاة على الميت في المسجد. واشترط الحنابلة لهذا شرطاً واحداً وهو أن يؤمن التلويث. ومع ذلك السنة أن يوضع مصلى خاص للجنائز خارج المسجد وتكون الصلاة في المسجد جائزة فقط .. والله أعلم وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين. انتهى الدرس

فصل [في صفة حمل الميت ودفنه] قال شيخنا حفظه الله: بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين. لما أنهى المؤلف - رحمه الله - الكلام عن الصلاة انتقل إلى الكلام عن حمل الجنازة والتشييع وما يتعلق بهذا الأمر من أحكام. وبدأ بالمرحلة الأولى وهي: حمل الجنازة: • فقال - رحمه الله -: يستحب: التربيع في حمله. وفيه مسائل: ـ المسألة الأولى: التربيع هو: الأخذ بقوائم السرير الأربع. = وهو عند الحنابلة سنة لحديث ابن مسعود أنه قال: (من تبع جنازة فليأخذ بقوائهما ثم ليتطوع إن شاء أو ليذهب فإنه من السنة). وهذا الأثر صحيح إن شاء الله وله حكم الرفع لوجهين: - الأول: أن ابن مسعود صرح فقال إنه من السنة. - الثاني: أن هذا لا يقال من قبل الرأي. ـ المسألة الثانية: صفة التربيع: صفته: = عند الحنابلة: أن يبدأ بالقائمة اليسرى الأمامية فيضعها على كتفه الأيمن ثم يرجع إلى الخلفية فيضعها على كتفه الأيمن ثم إلى الأمامية اليمنى فيضعها على كتفه الأيسر ثم يرجع إلى الخلفية فيضعها على كتفه الأيسر. فتبين عند الحنابلة أنه يبدأ بالأماميات قبل الخلفيات فهم يرون أن هذا هو السنة.

والأقرب أن الأمر واسع وأن المقصود هو أن يحمل الجنازة مع القوائم الأربع ولا يقتصر على قائمة واحدة وإنما يدور على القوائم الأربع فإذا دار عليها بأي صفة كانت فقد حقق السنة المذكورة في حديث ابن مسعود. وهذه صفة غفل عنها كثير من الناس اليوم فهي صفة وسنة مقصودة أن يربع ويفاوت بين الحمل بين القوائم الأربع ويحتسب هذا عند الله. ويشترط في التربيع أن لا يتسبب ذلك بمضايقة الناس والمشاحة الشديدة بين الذين يحملون الجنازة وإلا لم يستحب كما سيأتينا في مسألة تقبيل الحجر الأسود فكذا يقال هنا إذا كان يحصل زحام ومشادة فإن الإنسان ينبغي له أن لا يفعل. • ثم قال - رحمه الله -: ويباح بين العمودين. يعني: أنه يجوز أن يحمل بين العمودين. والدليل على هذا من وجهين: - الأول: أنه روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه صنع ذلك. - الثاني: أنه روي عن أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم -. وأشار الإمام الشافعي إلى أن المنقول عن الصحابة هو الثابت دون المنقول عن النبي - صلى الله عليه وسلم -. فهذا هو الدليل على أن الوقوف بين القائمتين مباح ولا بأس به. • ثم قال - رحمه الله -: ويسن: الإسراع بها. الإسراع بالجنازة سنة. وضابطه: أن يكون فوق المشي المعتاد وأن لا يزيد على ذلك. وإلى هذا الضابط ذهب المجد بن تيمية - رحمه الله - وهو الضابط الصحيح والإسراع فوق ذلك لا يستحب. ـ المسألة الثانية: الدليل على الإسراع: - قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: (أسرعوا بالجنازة فإن تكن صالحة فخير تقدمونها إليه وإن تكن غير ذلك فشر تضعونه عن أعناقكم). وهذا الحديث تقدم معنا وهو نص في مشروعية المسارعة بالجنازة بهذا الضابط. ويستثنى من ذلك: إذا خشي أهل الميت من حدوث ضرر بالجنازة عند الإسراع بها فإنه لا يشرع مطلقاً إذا خشوا من ذلك. وهذا يحصل أحياناً بحيث تكون الجنازة لو أسرع بها ولو مقداراً يسيراً فإنه يحصل فيها ضرر إما لتفككها أو لكونها مشدودة جداً فيخشى أن تنفجر مع كثرة المياه أو كثرة الهواء فالمهم الضابط أنه إذا خشي أولياء الميت أن تتضرر فإنه لا يسن الإسراع. • ثم قال - رحمه الله -: وكون المشاة أمامها.

يعني: ويسن لمن اتبع الجنازة ماشياً أن يكون أمامها لا خلفها. قال ابن المنذر - رحمه الله -:ثبت أن النبي - صلى الله عليه وسلم - وأبا بكر وعمر كانوا يمشون أمام الجنازة. = والقول الثاني: أن الإنسان إن شاء مشى أمامها أو خلفها أو عن يمينها أو عن شمالها بشرط أن يكون قريباً منها. واستدلوا على هذا: - بقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: (الراكب خلف الجنازة والماشي أمام الجنازة أو خلفها أو عن يمينها أو شمالها). وهذا الحديث مما اختلف في تصحيحه وتضعيفه. وذهب الحافظ ابن حجر إلى أنه مضطرب في الاسناد والمتن. ومع هذا الاضطراب في الاسناد والمتن اختلف أيضاً عل هو مرفوع أو موقوف؟ والمحصلة: أن في هذا الحديث ضعف. لذلك الأقرب أن يكون الماشي أمام الجنازة لأنه ثابت عن سادات الناس: النبي - صلى الله عليه وسلم - وعن أبي بكر وعمر. ثم انتقل إلى الراكب: • فقال - رحمه الله -: والركبان خلفها. أي: والسنة بالنسبة للراكب أن يكون خلف الجنازة. والدليل على هذا من ثلاثة أوجه: - الأول: حكي الإجماع على ذلك حكاه الخطابي. لكن الواقع أن فيه خلاف فمن الذين خالفوا: الإمام الشافعي فإنه يرى أن الراكب الأفضل له أن يكون أمام الجنازة. لكن على كل حال حكي الإجماع على أن السنة للراكب أن يكون خلف الجنازة. - الثاني: حديث المغيرة السابق لأن في أوله أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: والراكب خلف الجنازة). - الثالث: أن الراكب إذا كان أمام الجنازة آذى الناس وإذا كان خلف الجنازة لم يؤذهم. والصواب مع الحنابلة أن السنة في حق الراكب أن يكون خلف الجنازة. * * مسألة: لم يذكرها المؤلف وهي مفيدة: الركوب في تشييع الجنازة ذهاباً عند الحنابلة مكروه. لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - شيع جنازة فعرض عليه الركوب فقال - صلى الله عليه وسلم - ما كنت لأركب والملائكة تمشي. هذا الحديث إن شاء الله حسن. وما ذهب إليه الحنابلة من أن هذا مكروه صحيح لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - دفع الركوب وعلل بأن الملائكة يمشون فمن الأدب والاحترام أن لا يركب الإنسان.

* * المسألة الثانية: يجوز الركوب إذا عاد من التشييع. لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - صح عنه في مسلم أنه شيع جنازة ثم رجع على فرس. فالركوب في الرجوع لا بأس به ولا حرج لكن في الذهاب مكروه فينبغي على الإنسان أن يتحرا المشي ما أمكن وسهل وأن يترك الركوب إذا لم يكن عليه مشقة. • ثم قال - رحمه الله -: ويكره: جلوس تابعها حتى توضع. يكره لمن تبع الجنازة أن يجلس إلا إذا وضعت الجنازة. - لقول النبي - صلى الله عليه وسلم - من تبع جنازة فلا يجلس حتى توضع. = والقول الثاني: وهو مذهب الأحناف أن الجلوس في هذه الحال محرم. لأن النهي صريح ولا صارف له. وهذا صحيح والأقرب أن الجلوس قبل وضع الجنازة محرم. * * مسألة: المقصود بوضع الجنازة: أن توضع على الأرض لا في اللحد لأن الثوري لما روى هذا الحديث ذكر في رواية له أنه قال حتى توضع على الأرض. وأما رواية حتى توضع في اللحد فضعيفة. إذاً إذا وضعت على الأرض سواء وضعت ليصلى عليها أو وضعت ليهيء القبر أو وضعت لأي سبب فمتى وضعت على الأرض جاز للناس أن يجلسوا أما قبل ذلك فعلى المذهب مكروه والصواب أنه محرم. ومن هنا نقول ينبغي للإنسان إذا دخل المقبرة أن ينبه الناس الذين شيعوا الجنازة أن لا يجلسوا إلا إذا وضعت على الأرض. واليوم الجنازة بمجرد ما تدخل المقبرة توضع على الأرض فالأمر يسير فإن انتظار الناس سيكون قصيراً. • ثم قال - رحمه الله -: ويسجى قبر امرأة. يعني ويشرع أن يغطى قبر المرأة حال قبرها أي في وقت إنزالها في القبر. والدليل على هذا: - الإجماع فقد أجمع العلماء على أن هذا مشروع. - والدليل الثاني: أن في هذا العمل ستر للمرأة والمرأة عورة ينبغي أن تستر خشية أن ينكشف منها شيء حال تنزيلها في القبر. فتغطية القبر مستحب ومشروع وهو يفعل الآن في بعض المناطق دون بعض وهو مستحب ينبغي أن يفعل دائماً. • قوله - رحمه الله -: ويسجى قبر امرأة فقط. أي دون الرجل فإن تغطية قبر الرجل مكروهه لأنه لم يأت عن الصحابة ولا عن السلف أنهم فعلوا ذلك. ولأن الرجل لا يحتاج أن يغطى قبره أثناء تنزيله في اللحد. • ثم قال - رحمه الله -: واللحد أفضل من الشق.

اللحد هو السنة وهو أفضل من أن يشق القبر شقاً. والشق عند الحنابلة مكروه إذا كان بلا عذر. واللحد هو: أن يحفر في أرض القبر حفرة مما يلي القبلة. أي إذا انتهى من يحفر القبر إلى أرض القبر فإنه يحفر حفرة جهة القبلة. والشق: أن يحفر حفرة في وسط القبر. وله صورة أخرى هي: أن يقيم من اللبن في وسط القبر كالحفرة ويوضع الميت في وسطها. يعني: إما أن نحفر أو أن نبني شيئاً يسيراً ليكون كالشق في وسط القبر. فاللحد هو السنة والشق مكروه إلا لعذر. والدليل: - ما صح عن سعد بن أبي وقاص أنه قال: (الحدوا لي لحداً وضعوا عليه اللبن كما صنع بالنبي - صلى الله عليه وسلم -). وهذا الحديث صحيح. - ولقول النبي - صلى الله عليه وسلم - في الحديث الذي فيه ضعف: (اللحد لنا والشق لغيرنا). والحديث الأول يكفي في إثبات سنية اللحد. ويستثنى من هذا إذا كانت الأرض لا تقبل اللحد وإنما تقبل الشق فحينئذ يوضع الشق. وأجمع الفقهاء على جواز اللحد والشق. لكن البحث الآن في أيهما أفضل وعرفنا أيهما أفضل. • ثم قال - رحمه الله -: ويقول مدخله: ((بِسْمِ اللَّهِ وَعَلَى مِلَّةِ رِسُولِ اللَّهِ)). يستحب لمن أراد أن يدخل الميت في اللحد أن يقول: ((بِسْمِ اللَّهِ وَعَلَى مِلَّةِ رِسُولِ اللَّهِ)). - لما رواه ابن عمر عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه كان يصنع ذلك. وهذا الحديث اختلف فيه العلماء: = فمنهم من رأى أنه مرفوع. وإلى هذا ذهب عامة المتأخرين. = ومنهم من يرى أنه موقوف. وإلى هذا ذهب أئمة كبار منهم الإمام النسائي والإمام الدراقطني. والصواب أنه موقوف. فإذا تقرر أن حديث ابن عمر موقوف نأتي إلى بحث آخر وهو: هل له حكم الرفع أولا؟ - هل هو مما يقال بالرأي أو لا؟ في الحقيقة أن فيه تردد ولكن الأقرب أن مثل هذا الذكر الغالب أنه على سبيل الرفع والتوقيف عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وإن كان الإنسان عنده نوع تردد لكن يغلب في النظر أن له حكم الرفع. - ن قيل: له حكم الرفع: فهو يسن أن من أراد أن ينزل في القبر ويضع الميت في اللحد أن يقول: ((بِسْمِ اللَّهِ وَعَلَى مِلَّةِ رِسُولِ اللَّهِ)).

- وإذا قيل: أنه ليس له حكم الرفع فلا يسن أن يقال ولا نكتفي بأنه مروي عن ابن عمر في الحقيقة لأن هذه عبادة عظيمة خاصة وتكرر أن النبي - صلى الله عليه وسلم - شارك في دفن عدد من أصحابه - صلى الله عليه وسلم - فإذا لم ينقل أنه صنع ذلك فلا يستحب أن يفعل إلا إذا قلنا أن أثر ابن عمر له حكم الرفع وهو الذي أقول أنه أرجح. بناء على هذا تكون الخلاصة: أنه يستحب بناء على أن لهذا الحديث حكم الرفع. • ثم قال - رحمه الله -: ويضعه في لحده: على شقه الأيمن. استحباباً بلا نزاع عند الحنابلة. والدليل على هذا الحكم من وجهين: - الأول: القياس على النوم لأن النوم هو الموتة الصغرى والموت هو الموتة الكبرى فيقاس أحدهما على الآخر وقد جاءات السنة الصريحة الصحيحة بأنه يستحب للنائم أن ينام على جنبه الأيمن. - الثاني: ما ذكره بن حزم - رحمه الله - أنه على هذا عمل المسلمين من عهد النبوة إلى يومنا هذا. وهذا صحيح. هو يقول إلى يومنا هذا ونحن نقول وأيضاً إلى عصرنا هذا فما زال الناس يضعون الميت على شقه الأيمن. • ثم قال - رحمه الله -: مستقبل القبلة. يعني: ويستحب إذا وضع على شقه الأيمن أن يستقبل به القبلة. = وهذا عند الحنابلة على سبيل الوجوب. = والقول الثاني: عند الحنابلة أنه على سبيل الاستحباب لا الوجوب. الدليل على استحبابه: - قول النبي - صلى الله عليه وسلم - قبلتكم أحياء وأمواتاً. وتقدم معنا أن هذا الحديث في إسناده رجل مجهول. - الدليل الثاني: أيضاً أن ابن حزم قال: أنه على هذا عمل المسلمين من العهد اللنبوي إلى يومنا هذا إنه إذا وضع على جنبه فإنه يوضع مستقبل القبلة. • ثم قال - رحمه الله -: ويرفع القبر عن الأرض قدر شبر. فيث هذه العبارة ذكر سنتين: - الأولى: استحباب رفع القبر. - والثانية: أن مقدار الرفع شبر. فعلمنا من هذا أنه لا يسن أن يكون القبر متساوي مع الأرض بل السنة أن يرفع وأن يكون قدر الرفع شبر. والدليل على ذلك: - أن قبر النبي - صلى الله عليه وسلم - رفع قدر شبر. وفي هذا الحديث ضعف. والتعليل: - أن هذا العمل ينتج عنه أن يعرف أنه قبر فيترحم على صاحبه ولا يؤذى أو يهان فتحصل هذه الفائدة.

والقول بأنه يرفع شبراً صحيح وهو السنة. ويؤيده ما: • قاله المؤلف رحمه الله: مسنماً. يعني: السنة في القبر إذا رفعناه قدر شبر أن نجعله مسنماً أي كهيئة سنام البعير ولا نجعله مسطحاً وإنما يكون مسنماً. - لما رواه سفيان التمار أنه رأى قبر النبي - صلى الله عليه وسلم - مسنماً. وهذا في صحيح البخاري. وكون قبر النبي - صلى الله عليه وسلم - مسنم هذا يدل على أنه مرفوع وعلى أنه نحو الشبر. * * مسألة: استحب الإمام أحمد وكثير من الفقهاء أن لا نزيد في التراب الذي يوضع على القبر عن المقدار الذي أخرجناه منه. وإذا صنعنا هذا الشيء يعني: وضعنا التراب الذي أخرجناه من القبر فقط فوق القبر صار مسنماً ومرفوعاً بقدر شبر. ففي الحقيقة تجد أن هذه الأقوال تجتمع على معنى واحد تؤيده الآثار. لما أنهى ما يتعلق بالسنة انتقل إلى المكروهات. • فقال - رحمه الله -: ويكره: تجصيصه، والبناء عليه، والكتابة. يكره عند الحنابلة أن نجصص القبر أو أن نبني عليه بناء سواء كان مما له صفة الدوام أو مما له صفة الزوال كالخيمة فلا يجوز هذا ولا هذا. وأيضاً يكره أن نكتب عليه. والدليل على هذا: - ما ثبت في صحيح مسلم عن جابر - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم -: نهى عن تجصيص القبور والبناء عليها وأن يقعد عليها. وفي الترمذي: وأن يكتب عليها. فالنهي عن الكتابة ليس قي صحيح مسلم ولكنه في رواية عند الترمذي. واختلف العلماء في صحة هذه الرواية وضعفها. = فذهب بعضهم إلى تصحيحها. = وذهب بعضهم إلى تضعيفها. والصواب إن شاء الله أنها صحيحة. وممن صححها العلامة المعلمي. = القول الثاني: أن التجصيص والبناء والكتابة محرم. - لأن النهي لا صارف له هذا أولاً. - ثانياً: لأنه عهد من الشارع التشديد فيما يتعلق بالقبور لكثرة الافتتان بها. وبهذا البحث عرفنا أن الكتابة الصواب أنها لا تستثنى بل هي محرمة بناء على ثبوت رواية الترمذي وأن من استثنى الكتابة لم يحالفه الصواب لأنها منصوص على النهي عنها ومقرونة بالبناء والتجصيص والجلوس وهذا منهي عنه أشد النهي. • ثم قال - رحمه الله -: والجلوس. يعني: ويكره أن يجلس على القبر. ويدل على هذا:

- ما تقدم معنا في حديث جابر أنه قال نهى عن أن تجصص وأن يقعد عليها. - والدليل الثاني: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى عن الصلاة إلى القبور والجلوس عليها. - والدليل الثالث: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال في الحديث الصحيح: (لأن يجلس أحدكم على جمرة فتنفذ إلى جلدة خير من أن يجلس على قبر) وهذا الحديث صحيح. ومن هذه الأحاديث الثلاثة عرفنا أن الشارع يشدد في مسألة الجلوس على القبر لأن في الجلوس إهانة للميت المسلم والشارع جاء بتكريمه. • ثم قال رحمه الله: والوطء عليها. الوطء على القبر مكروه. والدليل: - أنه في حديث جابر السابق الذي في مسلم رواية وأن يوطأ عليها. فعرفنا أن رواية الوطء والكتابة خارج مسلم لكن مع ذلك الأقرب أن الوطء محرم: إما أن نقول هذه الرواية صحيحة وثابتة - رواية الوطء - ,إن لم تثبت فكذلك الوطء محرم لأن الوطء أشد من الجلوس. فإذا ثبت النهي الصحيح الصريح عن الجلوس فالوطء من باب أولى. والجلوس والوط على الإنسان أشد إهانة من الجلوس عليه. • ثم قال رحمه الله: والإتكاءُ إليه. الاتكاء على القبر مكروه عند الحنابلة. لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - رأى رجلاً متكأ على قبر فقال له - صلى الله عليه وسلم -: لا تؤذي صاحب القبر) وهذا الحديث إسناده حسن. = والقول الثاني: أنه محرم وهذا القول في الحقيقة ينسجم مع النصوص والقواعد العامة في احترام الميت. * * مسألة: المشي بين المقابر يختلف عن الوطء على المقابر فإن الوطء تقدم معنا أنه مكروه عند الحنابلة والأقرب أنه محرم والمشي بين المقابر مكروه - لما فيه منن إيذاء الأموات. - وقلة الإحترام. - ولأن النبي - صلى الله عليه وسلم - رأى رجلاً يمشي بين القبور فأمره أن يخلع نعليه. وسواء قلنا أن هذا الحديث صحيحاً أو كان الحديث ضعيفاً فالحكم صحيح وتدل عليه النصوص العامة. وكثير من الناس لا يفرق بين المشي بين القبور ووطء القبور. ولا يستثنى من وطء القبور أن يجلب الإنسان معه أبنائه الصغار ثم يدعهم يهينون الموتى فإن هذا محرم بل يجل عليه إذا اصطحبهم أن يمنعهم من أن يقوموا على القبور أو يطأوا عليها أو يجلسوا عليها.

والشارع كما مر معنا في الأحاديث الثلاثة وفي الباب أحاديث كثيرة وآثار اعتنى عناية خاصة بإكرام الموتى لأنه مسلم والمسلم يجب أن نحخترمه حياً وميتاً. ثم انتقل إلى المحرمات: • فقال رحمه الله: ويحرم فيه: دفن اثنين فأكثر. يحرم أن ندفن اثنين في القبر الواحد. الدليل على هذا: - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يقبر أصحابه كل إنسان لوحده. =والقول الثاني: الذي مال إليه شيخ الاسلام وابن مفلح وغيره من المحققين أنه مكروه ولا يصل إلى التحريم. - إذ أن مجرد فعل النبي - صلى الله عليه وسلم - لا يدل على التحريم. والذي أميل إليه في الحقيقة أنه يحرم لأن عمل النبي - صلى الله عليه وسلم - وإن كان مجرد فعل لكنه خرج لبيان الواجب وهو التشييع وقبر الموتى وإذا كان خرج لبيان واجب فهو واجب هذا شيء والشيء الثاني: أنه لم يعرف أبداً أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أو أحداً من أصحابه قبر اثنين معاً في قبر واحد. فالأقرب أنه محرم. • ثم قال رحمه الله: إلاّ لضرورة. فيجوز لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما قبر شهداء أحد صار يجعل الاثنين في قبر واحد ويقدم أكثرهما أخذاً للقران إلى جهة القبلة. • ثم قال رحمه الله: ويجعل بين كل اثنين: حاجز من تراب. يعني: ويستحب ولا يجب إذا وضعنا اثنين في قبر واحد في الحالة التي يجوز فيها ذلك أن نضع بينهما تراب. والتعليل: ليكوون كل واحد كأنه في قبر مستقل. وهذا صحيح لأن في هذا إكرام للميت وفيه تقريب من مسألة وضع كل واحد في قبر. • ثم قال رحمه الله: ولا تكره: القراءَة على القبر. القراءة على القبر لا تكره لأنه روي عن ابن عمر بإسناد صحيح أنه أوصى إذا قبر أن يقرأ على قبره فواتح البقرة وخواتيمها. وقد كان الإمام أحمد يكره أن يقرأ على القبر فلما بلغه أثر ابن عمر رخص فيه. = والقول الثاني: أن القراءة على القبر بدعة. لأن القراءة لو كانت مستحبة لفعلها النبي - صلى الله عليه وسلم - وأمر بها أصحابه وهذا ما يفهم من كلام الإمام مالك والإمام الشافعي: أن هذا الأمر بدعة. * * مسألة: على القول بالمشروعية المقصود أن يقرأ عند قبره. يعني: بعد قبره مباشرة.

أما إذا قبر وصار له فترة على القبر فإنه لا يشرع مطلقاً - وهذا من تحرير محل النزاع وذكره شيخ الاسلام رحمه الله. • ثم قال - رحمه الله -: وأيّ قربة فعلها وجعل ثوابها لميت مسلم أو حي: نفعه ذلك. القرب التي تفعل وينوى ثوابها للميت تنقسم إلى قسمين - وهو الذي يسمى عند الفقهاء: إهداء الثواب: ـ القسم الأول: عبادات أجمع الفقهاء على أن ثوابها يصل إلى الميت وهي أربع: 1 - الصدقة. 2 - والعتق. 3 - والاستغفار. 4 - والحج. فهذه أجمع الفقهاء كلهم على أن ثوابها إذا تبرع به العامل فإنه يصل للميت إلا في خلاف شاذ في الحج. والدليل على هذه: - ما ثبت في الأحاديث الصحيحة: أن رجلاً سأل النبي - صلى الله عليه وسلم - أن أباه مات ولم يحج أفأحج عنه قال: نعم. وهذا في الصحيح. - وأن رجلاً سأل النبي - صلى الله عليه وسلم - أن أمه ماتت ولم تحج أفأحج عنها قال: نعم. - وأن رجلاً سأل النبي - صلى الله عليه وسلم - أن أمه ماتت وكانت ستتصدق أفأتصدق عنها؟ فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: تصدق عن أمك. - وأما الاستغفار فلعموم قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: (أو ولد صالح يدعو له). والاستغفار من جملة الدعاء. - أما العتق فليس له دليل خاص - لا أذكر له دليل خاص - لكنه من جملة العبادات المالية. ـ القسم الثاني: ما عدا هذه العبادات فمختلف فيها ومن أبرز الأمثلة لها: كالصلاة والصيام وقراءة القرآن وغالب الإهداء يكون بقراءة القرآن. = فهذه ذهب الجمهور إلى أنه لا يشرع أن يتبرع بها ولا يصل للميت. واستدلوا: - بقوله تعالى: {وأن ليس للإنسان إلا ما سعى}. والجواب على الآية: أن معنى الآية أن لكل إنسان سعيه له خاصة ليس لأحد غيره وهذا لا يمنع أن يتبرع به الإنسان لغيره كما أن المكاتب المالية الدنيوية هي للإنسان ليست لغيره ومع ذلك يجوز أن يتبرع بها لغيره. وبهذا أجاب شيخ الاسلام - رحمه الله - وهو أقوى الأجوبة. وأضعف الأجوبة: القول بأنها منسوخة. - الدليل الثاني للجمهور: قوله - صلى الله عليه وسلم -: (إذا مات ابن آدم انقطع عمله) فنص على أن عمله ينقطع إلا من ثلاث وذكرها.

والجواب عليه: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - ذكر أن عمل الميت الشخصي انقطع وليس في الحديث أنه لا يصله ما يتبرع له ويهدى إليه. وبهذا أيضاً أجاب شيخ الاسلام - رحمه الله - وهو جواب سديد. = والقول الثاني: وهو الذي تبناه الإمام أحمد - رحمه الله - في المشهور عنه أن جميع العبادات تصل إلى الميت. واستدل على ذلك: - بأنه ثبت في السنة وصول بعض العبادات فيقاس عليه سائر العبادات لعدم المانع. بناء على هذا القول الذي تبناه الإمام أحمد: - لو صلى الإنسان ونوى أن أجره لزيد أو لأبيه أو لأمه فإن الثواب يصل. - لو صام كذلك. - لو قرأ القرآن كذلك ... إلخ .. والأقرب والله أعلم مذهب الإمام أحمد - رحمه الله - لأنه لا يظهر للإنسان وجه يخصص فيه العبادات التي جاءت في السنة وإنما هذه العبادات سأل عنها النبي - صلى الله عليه وسلم - فقط. ويؤيد هذا قوله - صلى الله عليه وسلم -: (من مات وعليه صيام صام عنه وليه) مع أن الصيام ليس من المتفق عليه وإنما من المختلف فيه. * * مسألة: إذا عرف الإنسان هذا الخلاف فمن فقه الرجل ومعرفته بأقوال العلماء أن لا يتبرع إلا بالعبادات التي اتفق عليها وأي ضرر يأتي الإنسان أن يقتصر في إهدائه الثواب على العبادات المتفق عليها فإنه بذلك يضمن وصول الأجر للميت ويحصل مقصوده ويخرج من الخلاف. ثم العبادات التي اتفق عليها أسهل وأيسر من العبادات التي اختلف فيها. ومن فقه الرجل أن يكثر في العبادات المتفق عليها من الاستغفار لأمرين: - أولاً: أن الحديث نص: (أو ولد صالح يدعو له) فكأن هذا هو أحسن ما يصل إلى الميت. - ثانياً: أنه ثبت فيث الصحيح أن النبي - صلى الله عليه وسلم - جاء إلى بيت عائشة وخلع ردائه وحذائه واضطجع بجوار عائشة ثم لما ظن أنها نامت قام بهدوء ولطف وأخذ الرداء وانتعل النعال وخرج .. الحديث .. ثم خرجت معه لأنها ظنت - رضي الله عنها - أنه سيذهب إلى نسائه .. إلى آخره .. والشاهد أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما رجعوا إلى البيت قال: إن جبريل أتاني ووقف بجانب الباب وهو لا يدخل إذا وضعت ثيابك يعني عائشة ثم قال: أخرج واستغفر لأهل البقيع. وجه الاستدلال أنه قال: استغفر لهم.

ولا شك أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمر بأحسن الأعمال فإنه لم له صل لهم ولا تصدق عنهم ولا اقرأ القرآن عنهم وإنما قال: استغفر لهم. - الوجه الثالث: ما صح أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: استأذنت ربي أن أزور قبر أمي وأن أستغفر لها فأذن لي بالزيارة ومنعني من الاستغفار. ووجه الاستدلال: أنه طلب الإذن بالاستغفار. فمن فقه الانسان إذا أراد أن ينفع أحداً من أمواته أن يكثر من قضية الاستغفار. • ثم قال - رحمه الله -: ويسن: أن يصلح لأهل الميت طعام يبعث به إليهم. = اتفق الأئمة الأربعة كلهم على أن صنع طعام للميت سنة. - لقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: (اصنعوا لآل جعفر طعاماً فقد أتاهم ما يشغلهم). = وذهب الحنابلة إلى أن هذه السنة تستمر لمدة ثلاثة أيام. = وذهب الشافعية إلى أنه يوم وليلة فقط: يعني يصنع لهم طعام لمدة يوم وليلة. والأقرب والله أعلم ثلاثة أيام لما سيأتينا في التعزية. بهذا انتهى الكلام عن أحكام وسنن ومحرمات الدفن وفي ختام هذا الفصل نذكر ثلاث مسائل أو مسألتين. ـ المسألة الأولى: لا يشرع أن يوضع تحت رأس الميت أي حائل بينه وبين الأرض سواء كان قماش أو حجر خلافاً لمن قال بمشروعية ذلك لأنه لم يثبت أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أو أحداً من أصحابه صنع ذلك بل ثبت عن عمر أنه أمر أن يوضع خده على الأرض حتى في القبر. وأما أن النبي - صلى الله عليه وسلم - وضع تحته قطيفة حمراء فهذا صنع أحد الصحابة ولم يوافقه عليه سائر الصحابة وإنما نزل أخيراً ووضع هذه القطيفة ولم يصنع في قبور المسلمين ذلك ولم يصنعه النبي - صلى الله عليه وسلم -. ـ المسألة الثانية: ذهب بعض أهل العلم إلى مشروعية أن يحثو الإنسان ثلاث حثيات في القبر إما من جهة الرأس أو من غير جهة الرأس. والصواب أن هذا لا يشرع ولا يسن لأنه فيما يظهر لي بعد جمع الأدلة والنصوص أن جميع ما جاء في هذا الباب ضعيف لا يصلح لإقامة السنة. فهذا الذي ظهر لي في مسألة الحثيات لأنه لا يثبت حديث في هذا الباب والأحاديث التي رويت فيه معلولة.

ـ المسألة الأخيرة: لايشرع كشف وجه الرجل لأنه ليس في الآثار أن الصحابة كانوا بعد التكفين إذا وضعوه في اللحد كشفوا وجهه والأصل أن يبقى كما هو إلا في مسألة واحدة على القول بأن المحرم يحرم عليه أن يغطي وجهه فيبقى وجه الميت المحرم مكشوفاً بالإضافة إلى الرأس. وعلى القول السابق الذي ذكرته لكم ورجحته وتبين لي ضعف هذه الرواية وأنها شاذة فيغطى وجه الميت المحرم أيضاً وإنما يكشف فقط الرأس. • ثم قال - رحمه الله -: ويكره لهم فعله للناس. يعني يكره لأهل الميت أن يصنعوا هم للناس طعاماً. الدليل على هذا من وجهين: - الأول: ما روي عن جرير أنه قال: كنا نعد صنع الطعام والجلوس لأهل الميت من النياحة. - الثاني: أن هذا يؤدي إلى اجتماع الناس والاجتماع لا يستحب. - الثالث: أنه لم ينقل أن أهل الميت كانوا يصنعون للناس طعاماً في العهد النبوي وإنما العكس طلب من غير أهل الميت أن يصنعوا طعاماً. * * مسألة: استثنى الشيخ الفقيه ابن قدامة من هذا صورة وهي: ما إذا جاء أقارب أهل الميت من بلد بعيد وسكنوا كضيوف قال: فإنه لا يسعهم عرفاً إلا أن يصنعوا لهم طعاماً. وهذا القول وجيه جداً. وهذا الطعام المصنوع في الحقيقة ليس لأجل الاجتماع للعزاء بقدر ما هو إكرام للضيوف الأقارب الذين حضروا لتعزية أهل الميت بدليل أن هذا الطعام يصنع لهؤلاء ولا يصنع لسائر الناس. فأقول: أن ما ذكره الشخ ابن قدامة - رحمه الله - وجيه ولا بأس به وإن كان قد يفتح باباً لكن الأصل أنه لا بأس به إذا تقيدوا بهذا القيد وهو أن يأتي إليهم ضيوف يسكنون عندهم فيحرجون منهم عرفاً فيكرمونهم فلا بأس بهذا القدر إن شاء الله. والله أعلم وصلى الله على نبينا محمد ... انتهى الدرس

فصل [في زيارة القبور] قال شيخنا حفظه الله: بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين. فهذا الفصل هو آخر فصل في كتاب الجنائز وختم المؤلف - رحمه الله - به كتاب الجنائز ليذكر أحكام زيارة القبور والتعزية وما يتعلق بهذه الأمور. وصدر الفصل بحكم زيارة القبور:

• فقال - رحمه الله -: تسن. ومقصوده - رحمه الله - بقوله: (تسن) يعني للرجال فهي سنة للرجال وهو محل اتفاق. ودليل السنية: - قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: (كنت نهيتكم عن زيارة القبور فزوروها فإنها تذكر الموت). وهذا في مسلم. وفي رواية للترمذي: (فإنها تذكر الآخرة). ـ فزيارة الرجال للقبور سنة بالإجماع والنص. ـ والغرض منها عند أهل السنة والجماعة: - أولاً: الاعتبار والاتعاظ بحال الموتى للاستعداد. - ثانياً: الدعاء للموتى. وليس للزيارة قصد سوى ذلك. ـ وأما قصد القبور لعمل عبادة أو لدعائه أصحابها أو للدعاء عند أصحابها كل هذا يدور بين الشرك والبدعة. فبعض هذه الأعمال شرك وبعضها بدعة - ستأتيكم مفصلة إن شاء الله في كتاب التوحيد. • ثم قال - رحمه الله -: تسن زيارة القبور إلاّ لنساء. مسألة زيارة النساء للقبور مسألة الخلاف فيها قوي والأقوال متكافئة ولكل قول في الحقيقة وجهة نظر معتبرة. = فمذهب الحنابلة واختاره شيخ الاسلام وابن القيم والإمام المجدد محمد بن عبد الوهاب وأبنائه - رحمهم الله جميعاً - أن زيارة المرأة للقبور محرمة، وهو رواية للحنابلة. واستدلوا على التحريم: - بقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: (لعن الله زائرات القبور) وفي رواية: (زوَّارات القبور). واعتمد الذين استدلوا بهذا الحديث على مسألة تصحيح رواية: (زائرات) وأن رواية: زائرات وزوَّارات كلاهما ثابت. وإثبات رواية زوَّارات وزائرات الذي يظهر لي - الآن - أنه صحيح يعني: أن رواية زائرات صحيحة وثابتة عن النبي - صلى الله عليه وسلم -. = والقول الثاني: أن زيارة القبور مكروهة. = والقول الثالث: أنها مباحة. واستدل الذين قالوا بالإباحة بعدة أدلة - نأخذ أقوى وأصح هذه الأدلة: - الدليل الأول: ما ثبت أن عائشة - رضي الله عنها - زارت قبر أخيها عبد الرحمن في مكة. وأجاب المانعون بأجوبة منها: - أنها لم تزر أخاها وإنما مرت على قبره أثناء دخوةل مكة لأنها لم تحضر موته ومرور المرأة بالمقابر لا حرج فيه إنما الممنوع الزيارة فإذا مرت بدون قصد فيشرع أن تسلم ولا حرج في ذلك.

- وأجابوا بجواب آخر وهو: أنها قالت: أنها زارت أخاها لأنها لم تحضر موته وإلا لم تفعل ففي هذه العبارة منها دليل أنها ترى المنع لولا أنها لم تحضر الجنازة. - الدليل الثاني: الحديث الذي سبق معنا وفيه خروج النبي - صلى الله عليه وسلم - واستغفاره لأهل قباء وفي آخره قالت عائشة للنبي - صلى الله عليه وسلم - كيف أقول لهم: يعني للموتى فأخبرها النبي - صلى الله عليه وسلم - بصيغة الدعاء الذي سيأتينا. وهذا الحديث ثابت في الصحيح. والجواب عنه من وجهين: - الوجه الأول: أن يحمل هذا على أنها أرادت العلم لنشره لا للعمل به في هذه المسألة يعني: أرادت أن تعرف أحكام الزيارة لتنشر هذا العلم باعتبار أن عائشة - رضي الله عنها - من علماء الصحابة ولها فتوى معتبرة فأرادت أن تطلب العلم فقط. - والوجه الثاني: أنها أرادت بذلك - يعني: إذا مرت من غير قصد. وإذا سمعت الأقوال عرفت أنه لا قائل بأن زيارة النساء سنة وإنما مكروهة أو محرمة أو مباحة فقط فلا أعلم أن أحداً من أهل العلم قال بأن زيارة النساء سنة. والأقرب والله أعلم فيما يظهر القول الأول.: - لأنه يغلب على النساء عند زيارة القبور الوقوع في المحرم والمنهي عنه من البكاء والجزع وعدم الصبر. - والحكم إذا علل بعلة منتشرة لا تنضبط منع كاملاً. - ومما يدل على التحريم: - مما يقوي القول بالتحريم: حديث أم عطية: (نهينا عن اتباع الجنائز ولم يعزم علينا) فإذا كانت المرأة منهية عن اتباع الجنازة فمن باب أولى الزيارة. وعلى كل الأقرب المنع وإن كان الأمر كما قلت فيه إشكالات وفيه بحث من جهة تكافؤ الأقوال والأدلة ولكن الأقرب هو ما ذكرت من المنع وهو اختيار عدد كبير من المحققين المعاصرين والمتقدمين. * * مسألة: فإذا قيل أن الزيارة محرمة: فالصواب أنه يستوي في ذلك زيارة قبور سائر الناس وزيارة قبر النبي - صلى الله عليه وسلم - إذ لايوجد في الأدلة أبداً ما يدل على التفريق فزيارة قبر النبي - صلى الله عليه وسلم - وغيره سواء. بناء على هذا لا يجوز للمرأة أن تزور قبر النبي - صلى الله عليه وسلم - ولا قبر صاحبيه أبي بكر وعمر - رضي الله عنهما -.

• ثم قال - رحمه الله -: - مبيناً السنة في أذكار دخول المقابر: ويقول إذا زارها أو مر بها. استفدنا من هذه العبارة أن هذا الذكر مندوب لمن زار: يعني: دخل. أو مر مروراً فإنه يقول هذا الذكر. وسواء مر وبينه وبين المقبرة حائل أو ليس بينه وبين المقبرة حائل فما دام مر بالمقبرة فيقول هذا الذكر: - ((السَّلاَمُ عَلَيْكُمْ دَارَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ وَإِنَّا إِنْ شَاءَ اللَّهُ بِكُمْ لاَحِقُونَ يَرْحَمُ اللَّهُ المُسْتَقْدِمِينَ مِنْكُمْ وَالمُسْتَأْخِرِينَ نَسْأَلُ اللَّهَ لَنَا وَلَكُمُ الْعَافِيَةَ اللَّهُمَّ لاَ تَحْرِمْنَا أَجْرَهُمْ وَلاَ تَفْتِنَّا بَعْدَهُمْ وَاغْفِرْ لَنَا وَلَهُمْ)). المؤلف - رحمه الله - في هذا الذكر خلط أربعة أحاديث والحقيقة إتيانه بالذكر على هذه الطريقة مشوش جداً ولو أنه اكتفى بلفظ واحد لأحد الصحابة مخرج في الصحيح لكان أولى من هذا التدخيل بين الألفاظ. فليس في السنة حديث بهذا التركيب. وممن أن نفصل الذي قاله: - فقوله: ((السَّلاَمُ عَلَيْكُمْ دَارَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ وَإِنَّا إِنْ شَاءَ اللَّهُ بِكُمْ لاَحِقُونَ)) إلى هنا هذا الذكر كامل من حديث أبي هريرة في مسلم. - قوله: ((يَرْحَمُ اللَّهُ المُسْتَقْدِمِينَ مِنْكُمْ وَالمُسْتَأْخِرِينَ)) هذا جزء من حديث عائشة في مسلم ولكن في مسلم بدل منكم: منا. - وقوله: ((َسْأَلُ اللَّهَ لَنَا وَلَكُمُ الْعَافِيَةَ)) جزء من حديث بريدة في مسلم. - وقوله: (اللَّهُمَّ لاَ تَحْرِمْنَا أَجْرَهُمْ وَلاَ تَفْتِنَّا بَعْدَهُمْ وَاغْفِرْ لَنَا وَلَهُمْ) هذا جزء من حديث عائشة عند الإمام أحمد. وحديث عائشة الذي رواه الإمام أحمد آخره: ((اللهم لا تحرمنا أجرهم وأوله كلفظ حديث أبي هريرة في مسلم. فصار حديث عائشة الذي رواه الإمام أحمد: (السلام عليكم دار قوم مؤمنين وإنا إن شاء الله بكم لا حقون، اللهم لا تحرمنا أجرهم ولا تفتنا بعدهم. • ثم قال - رحمه الله -: وتسن تعزية المصاب بالميت. في التعزية عدة مسائل: - المسألة الأولى: التعزية هي تسلية المصاب والتخفيف عنه وأمره بالصبر والدعاء له وللميت.

هذه هي التعزية في الشرع فليست ذكراً معيناً كما يفهم بعض الناس وإنما التعزية هي ما يجمع هذه المعاني. - المسألة الثانية: التعزية مشروعة بجماع الفقهاء فلم يخالف أحد من الفقهاء أن التعزية سنة. - المسألة الثالثة: اتفق الفقهاء على أن التعزية مشروعة قبل وبعد الدفن فكلهم رأى أن هذا جائز إلا أنهم اختلفوا في الأولى: = فمنهم من قال: الأولى بعد الدفن. = ومنهم من قال: الأولى قبل الدفن. وعلل الذين قالوا بأن الأولى بعد الدفن: - بأنه قبل الدفن أهل الميت مشغولون به وبتجهيزه وبوقوع الخبر عليهم كما أنه بعد الدفن تزداد عادة الأحزان فيحتاج الإنسان إلى تعزية. - المسألة الرابعة: الصواب أنه ليس للتعزية صيغة معينة وهذا قول الإمام أحمد واختيار شيخ الاسلام بن تيمية فكيفما عزى وبأي لفظ جاز. - المسألة الخامسة: أفضل الصيغ ما صح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ولا يتعين كما تقدم: (لله ما أخذ ولله ما أبقى وكل شيء عنده بمقدار) وأمرها أن تصبر وتحتسب. - المسألة السادسة: مدة التعزية: = ذهب الجمهور من الفقهاء ومنهم الحنابلة إلى أن مدة التعزية ثلاثة أيام. ثم إذا انتهت صارت التعزية مكروهة. واستدلوا على هذا بأمرين: - الأول: أن أهل الميت بعد ثلاثة أيام تخف عندهم الأحزان وفي تعزيتهم إثارة من جديد لهذه الأحزان. - الثاني: استأنسوا بقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: (لا يحل لامرأة مسلمة تحد على ميت فوق ثلاثة أيام إلا على زوج أربعة أشهر وعشرا). فأجاز الإحداد ثلاثة أيام على غير الزوج فاستأنسوا به. = القول الثاني: أنه لا حد لوقته وهو مذهب المالكية. - لعدم الدليل على التحديد. فيجوز أن يعزي الإنسان في اليوم الرابع والخامس والسادس. والصواب: أن التعزية تنتهي بثلاثة أيام إلا إذا رأى المعزي أن الأثر والحزن باق على أهل الميت فلا بأس أن يخفف عنهم بلا كراهة. وقوله: (تعزية المصاب). فيه دليل على أن التعزية لا تختص بأهل الميت بل يعزى أصدقائه ومعارفه الذين ليسوا من الأخلاء إذا أصيبوا بالميت. لأنه يقول: تعزية المصاب. إذا أصيبوا بالميت. يعني: إذا وجدوا لفراقه حزناً وأسىً.

وقد تجد بعض معارف الميت موته أشد عليهم من بعض الأقارب وهذا معروف ولذلك نقول يعزى كل من أصيب بهذا الميت فإذا كان الميت كل الناس أصيبوا به كأن يكون من علماء الأمة المشهود لهم بالخير والصلاح فالجميع يعزي الجميع لأن الجميع مصاب. • ثم قال - رحمه الله -: ويجوز البكاءُ على الميت. يجوز أن يبكي الإنسان على الميت عند الحنابلة والجمهور. ـ لكثرة النصوصض الدالة على جوازه: - منها: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - بكى على ابنه. - ومنها: أنه - صلى الله عليه وسلم - بكى على عثمان بن مظعون. - ومنها: أن جابر بكى على أبيه فجعلوا يسكتونه والنبي - صلى الله عليه وسلم - صامت ولم ينكر عليه. - ومنها: أن أبا بكر الصديق - رضي الله عنه - لما كشف وجه النبي - صلى الله عليه وسلم - بكى. وفي السنة غير هذه الأحاديث كثير في جواز البكاء. ويشترط في البكاء: أن لا يصحبه منكر من النياحة أو الجزع أو التسخط كما سيأتينا. وأما قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: (إن الميت ليعذب ببكاء أهله). فالجواب عليه: أن البكاء المقصود في هذا الحديث هو: النياحة. يعني البكاء المحرم جمعاً بينه وبين النصوص. والبكاء رحمة بالميت وشفقة عليه وطلباً للخير أفضل من التجلد أو من الضحك. ودليل الأفضلية: - أنه حال النبي - صلى الله عليه وسلم -. ثم ختم المؤلف - رحمه الله - الباب بالمحرمات التي تحصل فيما بعد الموت. • فقال - رحمه الله -: ويحرم: الندب، والنياحة، وشَق الثوب، ولطم الخد، ونحوه. ـ الندب: هو تعداد محاسن الميت مع استخدام حرف الندب أو الندبة وهو: وا. هكذا عرفه الفقهاء كأن يقول: وارجلاه واجبلاه واسنداه. قال بعضهم: وأن يكون مع البكاء. والصواب أن البكاء ليس شرطاً في الندب فقد يحصل بلا بكاء. ـ وأما النياحة: فهي البكاء على الميت معه الجزع والتسخط وعدم الصبر ورفع الصوت. فالنياحة لا بد فيها من البكاء. • قوله: وشق الثوب ولطم الخد ونحوه. ـ شق الثوب: واضح. ـ ولطم الخدود: واضح. وقوله: ونحوه: يعني: كالصراخ فإنه من أكثر ما يعمل من الجزع عند موت [الإنسان]. والدليل على تحريم هذه الأمور:

- قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: (ليس منا من لطم الخدود وشق الجيوب ودعا بدعوى الجاهلية). وهذا نص في تحريم هذه الأمور. - وقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: (النائحة إذا لم تتب قبل الموت جاءت يوم القيامة وعليها سربال من قطران ودرع من جرب). وإلباس المرأة سربال من القطران وهو عادة ما يكون حاراً جداً. والدرع هو الثوب ومن جرب دليل على أن هذا الفعل محرم بل هو من الكبائر لما فيه من الاعتراض على قدر الله والتسخط. والمعنى الذي يجمع هذه الأشياء المحرمة هو: إظهار الجزع وعدم الصبر وعدم الرضا مع ما يحتف به من قرائن من الضرب ورفع الصوت والصراخ .. إلى آخره. وبهذا انتهى ولله الحمد الكلام عن كتاب الجنائز وننتقل إلى كتاب الزكاة. يتبع الدرس = كتاب الزكاة.

كتاب الزكاة

كتاب الزكاة قال شيخنا حفظه الله: • قال - رحمه الله -: كتاب الزكاة [المسألة الأولى:] عقب المؤلف الصلاة بالزكاة لأمرين: - الأول: اقتداء بالكتاب الكريم ففيه: {وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة}. - الثاني: أن الزكاة الركن الثاني من أركان الاسلام بعد الصلاة فذكرها - رحمه الله - بعد الصلاة. ـ المسألة الثانية: الزكاة في: - اللغة: معناها: النماء والزيادة والطهارة والبركة والمدح. فكل هذه المعاني تصدق عليها. إلا أن المعنى الأقرب الذي تتفرع عنه المعاني هو: الزيادة والطهارة. - وفي الشرع: فهي إخراج مال مخصوص لأناس مخصوصين على صفة مخصوصة. • قال - رحمه الله -: تجب بشروط خمسة. الزكاة لا تجب إلا إذا تحققت فيها خمسة شروط وإلا فإنها لاتجب. والزكاة تتعلق بأموال معينة وهي في الشرع أربعة فقط: فما عدا هذه الأربع لا تجب فيها الزاكاة ولا ينظر في تحقق الشروط أصلاً لأنها ليست من الأموال الزكوية - أي ما عدا هذه الأربع. والأموال الأربع هي: 1 - بهيمة الأنعام. 2 - والخارج من الأرض. 3 - والذهب والفضة. 4 - وعروض التجارة. • قال - رحمه الله -: تجب بشروط خمسة: حرية. - فالأول الحرية: فإنه يشترط لوجوب الزكاة أن يكون مالك المال حراً فإن كان عبداً فإنها لا تجب عليه الزكاة. والدليل على هذا من وجهين: - الأول: الإجماع. فإنه حكي الإجماع على أن الزكاة لا تجب على العبد. إلا ما يذكر من الخلاف عن عطاء وأبي ثور. أما ما عداهما فهم يرون أن الزكاة لا تجب على العبد. - الثاني: أن الزكاة فرع عن الملك. والعبد ماله لسيده. بناء على هذا: ما يكون في يد العبد من مال تجب زكاته على سيده. • ثم قال - رحمه الله -: وإسلام. -[الثاني: الإسلام] يعني: ويشترط لوجوب الزكاة أن يكون مالك المال: مسلماً. ـ ومعنى أنه شرط وجوب: أي أنه شرط أداء. ويتفرع على هذا: أنه إذا أسلم لا يؤمر أو يطالب بقضاء الزكاة. ـ وأما أنه واجب بمعنى: أنه يعاقب على تركه فهو واجب بهذا الاعتبار حتى على الكافر. ـ إذاً: إذا قيل لك: هل تجب الزكاة على الكافر؟

فتقول: - باعتبار الأداء: لا. - وباعتبار العقوبة: نعم. والدليل على عدم وجوب الزكاة على الكافر: - الأول: حديث معاذ المشهور: حيث أمره بأن يأمرهم بشهادة أن لاإله إلا الله وأن محمداً رسول الله وإقام الصلاة. ثم قال: (فإن هم أطاعوا لذلك فأخبرهم أن الله افترض عليهم زكاة تؤخذ من أغنيائهم وترد على فقرائهم) فنص الحديث على أن وجوب الزكاة يكون بعد الاسلام. - الثاني: أن الزكاة عبادة والكافر ليس من أهل العبادات. - الثالث: الإجماع. فقد أجمعوا على أن الكافر لا تجب عليه الزكاة. فهذه المسألة لا إشكال فيها. • ثم قال - رحمه الله -: وملك نصاب. -[الثالث: ملك النصاب]. ملك النصاب من شروط وجوب الزكاة. والنصاب هو: القدر الذي إذا بلغه المال وجبت فيه الزكاة. وبلوغ النصاب شرط بالإجماع: - لقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: (ليس فيما دون خمسة أوسق صدقة ولا فيما دون خمس نوق صدقة ولا فيما دون خمس أواق صدقة) وهذا الحديث في البخاري. فنص النبي - صلى الله عليه وسلم - على أن المال إذا لم يبلغ النصاب الشرعي ليس فيه صدقة أي: ليس فيه زكاة. * * مسألة: من ملك النصاب فهو غني شرعاً. - لقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: (تؤخذ من أغنيائهم فترد في فقرائهم). فكل من أخرج الزكاة بعد أن يبلغ ماله النصاب فهو غني في الشرع. • ثم قال - رحمه الله -: واستقراره. -[الرابع: استقراره]. الضمير يعود على الملك: أي استقرار الملك. وعَبَّرَ غير المؤلف - رحمه الله - من الحنابلة: بقوله: (تمام الملك). إذاً الشرط: استقرار الملك وتمامه. ومعنى: استقرار الملك: أي أن لا يتعلق به حق الغير بحيث يتصرف فيه كما يشاء. وبالإمكان أن نضيف ضابط يسهل الأمر فنقول: - (أن لا يكون المال عرضة للزوال). وهذا الضابط يمكن أن يؤخذ من أمثلة الفقهاء، فمن أمثلة عدم استقرار الملك: ـ مال المكاتب: فلا زكاة فيه لأن المكاتب قد ينصرف عن المكاتبة ويعجز نفسه ولا يدفع المال. والمكاتب هو: من اتفق مع سيده أن يدفع له مبلغاً معيناً يكون العبد بعده حراً وعادة ما يكون المال الذي يدفعه المكاتب لسيده أقساط أو منجماً فبإمكانه أن يعجز نفسه في أي وقت ولذلك نقول مال المكاتبة ليس مستقراً.

من الأمثلة أيضاً على المال الذي لم يستقر الملك فيه: ـ ربح المضارب: فإذا أعطى شخص شخصاً مالاً ليضارب به ونتج عن هذا المال ربح فإن هذا الربح بعضه للمضارب وبعضه لرب المال. فهذا الربح ليس فيه زكاة إلا بعد القسمة. لماذا؟ - لأن ربح مال المضاربة تعوض به خسارة رأس المال. فإذاً لا يمكن أن نوجب على المضارب زكاة إلا إذا تمت القسمة بعد استكمال رأس المال. هذان مثالان لمسألة استقرار الملك. واستقرار الملك محل إجماع. • ثم قال - رحمه الله -: ومضي الحول. -[الخامس: ومضي الحول] يشترط لوجوب الزكاة مضي الحول: أي أن يملك الإنسان حولاً كاملاً. والدليل على اشتراط مضي الحول من وجوه: - الأول: حكي فيه الإجماع. - الثاني: فيه حديث رواه علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - وعائشة - رضي الله عنها - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (لا زكاة في مال حتى يحول عليه الحول). وهذه الأحاديث ضعيفة لكنها تقوى بالآثار. - الثالث: وهو الآثار. فقد صح عن أبي بكر وعلي وعثمان - رضي الله عنهم - أنهم اشترطوا الحول لوجوب الزكاة. وهذا صحيح عنهم - رضي الله عنهم أجمعين -. - الرابع: - وهو أيضاً من الأدلة القوية: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يبعث عمال الصدقة والسعاة في كل سنة مرة واحدة. فإذاً اشتراط الحول ثابت ولله الحمد. ثم لما ذكر مسألة اشتراط الحول بدأ فيما يستثنى: • فقال - رحمه الله -: في غير المعشر. المعشر: هي الحبوب والثمار. فالزروع والثمار لا يشترط لها الحول بل متى نبتت وخرجت وصلحت وجبت فيها الزكاة بعد الحصاد. - لعموم قوله تعالى: {وآتوا حقه يوم حصاده}. وسميت المعشرات بذلك: لأنه يؤخذ منها العشر أو نصف العشر كما سيأتينا. فهذا الأمر الأول الذي يستثنى. • ثم قال - رحمه الله -: إلاّ نتاج السائمة وربح التجارة ولو لم يبلغ نصاباً، فإن حولهما حول أصليهما: إن كان نصاباً، وإلاّ فمن كماله. - نتاج السائمة وربح التجارة: لا يشترط فيه الحول. [= الأول: نتاج السائمة]:

ـ فإذا جاء عمال الصدقة إلى من يملك المواشي ونتجت - يعني ولدت هذه المواشي قبل حولان الحول بشهر فكانت مثلاً: تسعين شار ثم أصبحت مائة والعشر الزائدة لم تأت إلا قبل حولان الحول بشهر واحد فإن عامل الصدقة يأخذ الزكاة من المائة. - لأنه لا يشترط في نتاج السائمة أن يحول عليه الحول بل حولها حول أصلها. وأصلها: يعني الأمهات. والسائمة: هي التي ترعى الحول ويقصد بها الآن بهيمة الأنعام: البقر والغنم والإبل. ـ فالبقر والغنم والإبل: لا يشترط في نتاجها يعني فيما تلده أن يحول عليه الحول بل يأخذ الساعي الزكاة من مجموع - الأغنام مثلاً - وإن كان بعضها نتج أثناء الحول. ما الدليل؟ - الدليل الأول: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يبعث السعاة إلى أصحاب المواشي فيأخذون الزكاة من الموجود كله ولا يسألون عن ما ولد أثناء الحول. - الدليل الثاني: أنه صح عن الصحابة - رضي الله عنهم - أنهم كانوا يجعلون حول المولود من بهيمة الأنعام حول أصله. = الثاني: ربح التجارة: ربح التجارة لا يشترط له الحول بل حول الربح حول الأصل. ـ فإذا ملك الإنسان مائة ألف وتاجر بها ثم ربحت بعد ستة أشهر خمسين ألف وحال الحول على المائة وخمسين ألفاً فالزكاة تجب فيها مع أن الذي حال عليه الحول كاملاً المائة ألف والخمسين ربح لكن الفقهاء يقولون: ربح التجارة تابع لأصله فلا يشترط له حول جديد. الدليل على هذا من وجهين: - الأول: أن ربح التجارة تابع لأصله. والتابع لا يفرد بحكم. - الثاني: أن المسلمين ما زالوا يخرجون صدقة عروض التجارة ويخرجون الزكاة من رأس المالل والأرباح ولو كانت حاصلة أثناء الحول. ـ إذاً: الذي يستثنى من الحول فقط ثلاثة أشياء: 1 - المعشرات. 2 - ونتاج السائمة. 3 - وربح التجارة. فيما عدا هذه الثلاثة أموال كل شيء يحتاج إلى حول. وهذه قاعدة تريح طالب العلم. ـ مثال ذلك: - رجل يملك خمسين رأس من الغنم وفي أثناء الحول اشترى خمسين أخرى. فالخمسين الجدد التي اشتراها أخيراً: هل نقول: حولها حول الأول أو تحتاج إلى حول جديد؟ الجواب: أنها تحتاج إلى حول جديد: لأنها ليست من الثلاثة.

- رجل يملك مائة ألف ثم بعد مضي ستة أشهر وهبت له خمسين ألف أو ورث خمسين ألف. فهذه الخمسين: تحتاج إلى حول جديد لأنها ليست من الأشياء المستثناة. إذاً نقول: ما عدا هذه الثلاثة أشياء يحتاج إلى حول جديد. وعرفنا الآن نتاج السائمة وربح التجارة • يقول - رحمه الله: فإن حولهما حول أصليهما: إن كان نصاباً. يشترط في عدم اعتبار حول جديد لنتاج السائمة أن يكون الأصل بلغ النصاب. فإن لم يكن بلغ النصاب فإنه لا يبدأ الحول إلا من بلوغ النصاب. ـ مثال ذلك: رجل يملك أربعاً من الإبل. ثم في أثناء الحول ولدت واحدة فصار المجموع خمسة. فإن الحول يحتسب من ولادة هذه الخامسة. لماذا؟ لأنته يقول: بشرط أن يكون حول أصلهما أذا كان يبلغ النصاب. • قال: وإلا فمن كماله: أي وإلا نبدأ احتساب الحول من كمال النصاب ولو كان الكمال حصل بنتاج السائمة أو بربح التجارة. • ثم قال - رحمه الله -: ومن كان له دين أو حق من صداق أوغيره. المؤلف - رحمه الله - يريد أن يبين في هذه العبارة حكم زكاة الدائن ثم سيذكر بعدها حكم زكاة المدين. وهاتان مسألتان غاية في الأهمية لا سيما في وقتنا هذا فإنه لا يخلوا أحد من أن يكون دائن في الغالب أو مدين. نبدأ بما بدأ به المؤلف - رحمه الله - وهو أن يكون دائناً: ـ من كان له دين. الدين في اللغة: كل ما كان غائباً فهو دين في لغة العرب. وفي الشرع: - وهو الذي يهمنا -: اسم للمال الواجب في الذمة بدلاً عن قرض أو مبيع أو منفعة أو إتلاف. فمن خلال هذا التعريف أيهما أعم: القرض أو الدين؟ - الدين: لأن القرض نوع من أنواع الدين. عرفنا الآن الدين لغة واصطلاحاً. الأذان ... انتهى الدرس

قال شيخنا حفظه الله: بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين. بالأمس توقف الكلام عن زكاة الدين: يعني: زكاة مال الدائن. وقلت أن مسائل زكاة الدين مسائل مهمة وتشتد حاجة الناس إليها. وذكرت تعريف الدين لغة واصطلاحاً. وأضيف الآن وأقول: أن حكم زكاة الدين فيه اختلاف شديد بين أهل العلم وتعدد في الأقوال وتتداخل، فهي من المسائل التي قد تعتبر مشكلة. ونأتي إلى حكم زكاة الدين: ينقسم الدين إلى قسمين: ـ القسم الأول: الدين المرجو. ـ والقسيم الثاني: الدين غير المرجو. - فالدين المرجو: هو الدين على غني باذل. - والدين غير المرجو: هو الدين على معسر أو مماطل. نأتي إلى: القسم الأول: الدين المرجو - وقد عرفت ما هو الدين المرجو - اختلف فيه الفقهاء على أقوال: = فالقول الأول: للجمهور: أنه تجب فيه الزكاة لكل سنة. إلا أن بعض الجمهور قال: يجوز له أن يؤخر إخراج الزكاة إلى حين القبض ثم يخرج زكاة السنين جميعاً. واستدل هؤلاء بعدة أدلة: - الدليل الأول: أنه جاء في الآثار عن عدد من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - إيجاب الزكاة. - الدليل الثاني: أن الدين المرجو كالدين الذي في يده [لا يجب أن يزكيه]. - الدليل الثالث: عموم الأدلة. = القول الثاني: أنه لا تجب الزكاة مطلقاً. واستدل هؤلاء: - بأن المال إذا كان ديناً لا يعتبر من الأموال النامية والزكاة تتعلق بالأموال النامية. والجواب: أنه يعتبر نام حكماً لا حقيقة ويكتفى بكونه نام حكماً لا حقيقة. = القول الثالث: أنه تجب فيه الزكاة إذا قبضه لسنة واحدة. واستدل هؤلاء: - بأن من شروط وجوب الزكاة: القدرة على الأداء. وهذا المال ليس بيده. والجواب من وجهين: - الأول: أن الصواب أنه لا يشترط في وجوب الزكاة القدرة على الأداء - كما سيأتينا في كلام الماتن. - الثاني: أن الدائن بإمكانه أن يأخذ المال إلا أنا نفترض أن المدين باذل وغني فيستطيع هو أن يأخذ المال فإذا لم يأخذ المال هو فلا يسقط حق الله فإذا أسقط حق نفسه لا يسقط حق الله وهو الزكاة. والصواب: إن شاء الله مع القول الأول وهو: وجوب الزكاة وله أن يؤخر إخراج الزكاة إلى أن يقبض المال بشرط أن يحسب زكاة كل سنة. ورجح هذا القول عدد من المحققين منهم: أبو عبيد - رحمه الله -. القسم الثاني: الدين غير المرجو - وقد عرفت ما هو الدين غير المرجو - واختلف أيضاً فيه الفقهاء على قولين:

= القول الأول: وهو رواية عن الإمام أحمد واختيار شيخ الاسلام: أنه لا تجب الزكاة فيه مطلقاً. واستدل هؤلاء: - بأن هذا الدين لا يمكن الانتفاع به بحال. = والقول الثاني: وجوب الزكاة فيه. واستدل هؤلاء: - بأثر عن علي - رضي الله عنه -. - وأثر عن أبي هريرة - رضي الله عنه -. - وأثر عن ابن عمر - رضي الله عنه -. ولا يصح من هذه الآثار إلا أثر علي - رضي الله عنه -. = والقول الثالث: أنه تجب فيه الزكاة إذا قبضه لسنة واحدة. والصواب مع القول الثاني. وسبب الترجيح: صحة أثر علي - رضي الله عنه - ولولا وجود هذا الأثر لكان القول الأول وهو: عدم الوجوب مطلقاً هو القول الصواب. لكن مع وجود أثر علي - رضي الله عنه - صرح فيه بأنه يخرج زكاته إذا قبضه فيكون هذا القول هو الراجح. وله أيضاً أن يؤخر إخراج الزكاة إلى أن يقبض المال فيزكي عن الجميع. وأما القول الأخير ففيه ضعف ظاهر. لأنه إما أن تجب الزكاة في كل السنين أو تنتفي في كل السنين. لأن هذا المال على حال واحدة وله حكم واحد فالتفريق بين السنة الأخيرة وما قبلها من السنوات لا دليل عليه. فيكون الراجح مذهب الحنابلة. • ولذلك يقول المؤلف - رحمه الله -: ومن كان له دين أو حق من صداق أو غيره، على مليء أو غيره: أدّى زكاته إذا قبضه لما مضى. فما ذكره المؤلف هو الراجح في المرجو وغير المرجو. * * مسألة: حكم زكاة مال الصبي والمجنون: - ومكانها المناسب بعد الشرط الثاني. ولا حظ معي فإن المؤلف - رحمه الله - يقول في المتن: (تجب بشروط خمسة: حرية وإسلام): هذان الشرطان يتعلقان بالمزكي. ثم قال رحمه الله: (وملك النصاب واستقراره ومضي الحول) وهذه الشروط تتعلق بالمال. فمن قول المؤلف - رحمه الله -: (حرية وإسلام) عرفنا أن الحنابلة لا يشترطون في المزكي أن يكون بالغاً. = وهذا مذهب الجماهير والجم الغفير من أهل العلم من السلف والصحابة ومن يعدهم فكلهم يرى أن الصبي تجب في ماله الزكاة. واستدلوا: ـ أولاً: بالنصوص الصريحة الصحيحة: - كقوله تعالى: {خذ من أموالهم ... }. فعلق الوجوب بالمال. - وقوله - صلى الله عليه وسلم - في حديث معاذ: (صدقة في أموالهم تؤخذ من أغنيائهم فترد في فقرائهم).

ـ وثانياً: الآثار المتكاثرة عن أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - وفيها الأمر بإخراج الزكاة عن مال الصبي. فهذا القول هو القول الراجح. وهو منذهب الجماهير. = والقول الثاني: عدم الوجب. واستدلوا: - بأن الزكاة عبادة والصبي ليس من أهل العبادات. - وبقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: (رفع القلم عن ثلاثة ... ). والصواب مع الجماهير. لكثرة الآثار ولأن ظواهر النصوص ربط الزكاة بالمال لا بالمزكي. [ثم ننتتقل إلى زكاة المدين بعد أن بينا أحكام زكاة الدائن:]. • قال - رحمه الله -: ولا زكاة في مال: من عليه دين ينقص النصاب، ولو كان المال ظاهراً. تنقسم الأموال في الشرع إلى قسمين: - ونحن الآن في صدد الكلام عن زكاة المدين. ـ القسم الأول: أموال ظاهرة. ـ والقسم الثاني: أموال أو باطنة. - فالأموال الظاهرة: تعريفها: هي الأموال التي لا يمكن إخفائها. وتعدادها هي: - الزروع. - والثمار. - والمواشي. - وأما الأموال الباطنة: تعريفها: هي الأموال التي يمكن إخفائها. وتعدادها هي: - الذهب والفضة. - وعروض التجارة. * * مسألة: جنح كثير من المتأخرين بل من المعاصرين إلى أن عروض التجارة أصبحت من الأموال الظاهرة لا من الأموال الباطنة في وقتنا هذا: - لا تساع التجارات وتنوعها وتنوع طريقة العرض فيها. والصواب: أن عروض التجارة من الأموال الباطنة كما هو مذهب الجماهير. وعلة كون عروض التجارة من الأموال الباطنة: أن المنظور فيها إلى القيمة. فهي باعتبار القيمة لا تعرف. لا كما ظن بعض أهل العلم أن المنظور فيها إلى طريقة العرض وكثر أو قلة البضائع. فليس الأمر كذلك. بل هي من الأموال الباطنة باعتبار الثمن وقيمة العروض. ولذلك يحصل كثيراً أن تدخل محلاً ولا تتصور أن تبلغ البضاعة الموجودة في هذا المحل هذا المبلغ الكبير من حيث القيمة ويتفاجأ الإنسان أنه قيمة هذه البضائع تبلغ مبلغاً كبيراً. وهذا دليل على أنها باطنة. لأن المنظور فيها للقيمة. ولا نريد الإطالة في هذه المسألة. لكن هذا هو الراجح مع كذر أقوى دليل وهو أنها باطنة باعتبار الثمن. وقبل نأتي إلى حكم زكاة المدين نبين ما معنى أنه لا زكاة على المدين؟ ـ معنى أنه لا زكاة على المدين:

أن المسلم إذا أراد أن يخرج الزكاة يخصم من الأموال التي بيده قدر الدين الذي عليه ويزكي الباقي إن بلغ نصاباً. فهذا معنى أنه لا زكاة على المدين عند من يقول بهذا القول. نأتي إلى الأحكام: ـ أولاً: حكم زكاة المدين في الأموال الباطنة - ونبدأ بها لأنها الأهم - وقد عرفنا ما هي الأموال الباطنة: = القول الأول: أنه لا تجب الزكاة على المدين في الأموال الباطنة. وإذا قلنا لا تجب الزكاة - عرفنا ما معنى لا تجب الزكاة وليس المقصود لا تجب مطلقاً كما قد يفهم البعض - ولكن المعنى هو ما ذكرت لك كما قرره الفقهاء. وإلى هذا القول ذهب الجماهير من الصحابة والسلف والتابعين وتابعوهم وجمهور الأئمة وعامة العلماء. واستدلوا بأدلة كثيرة: - الدليل الأول: ما روي عن عثمان - رضي الله عنه - أنه خطب الناس وقال: قد جاء شهر زكاتكم فأخرجوا ديونكم لتزكوا أموالكم. وجه الاستدلال: أنه لم يأمر بإخراج الزكاة من مبلغ الدين الذي سيقضى. - الدليل الثاني: إجماع الصحابة. وممن أشار إلى هذا الإجماع ابن سيرين والزهري وذكره غيرهما من العلماء المتأخرين لكن من السلف أشار هذان الإمامان إلى الإجماع. - الدليل الثالث: - مع إجماع الصحابة: الآثار عن الصحابة - رضي الله عنهم -. = القول الثاني: أنه تجب الزكاة على المدين في الأموال الباطنة. وهؤلاء استدلوا: - أولاً: بعموم الأدلة. - وثانياً: أنه لا دليل على استثناء مقدار الدين من الزكاة. والجواب على هذا الاستدلال: أن ما ذكره أصحاب القول الأول من أدلة هي الدالة على الاستثناء. والراجح القول: الأول. كيف وقد حكي إجماع الصحابة. ـ بناء على أن هذا القول هو الراجح: إذا كان الإنسان يملك مائة ألف ريال وهو مدين بثلاثين ألف ريال فالواجب عليه أن يخرج الزكاة عن سبعين ألف ريال. وقد فصَّل هذا التفصيل تماماً من التابعين ميمون بن مهران فذكر أن الإنسان إذا أراد أن يزكي يصنع كما قلت لكم يخصم مما بيده مقدار الدين. * * مسألة: - وهي مهمة جداً -: يشترط لخصم الدين من الزكاة أن لا يجد سوى النصاب ليقضي به الدين. فإن وجد غير النصاب زكى النصاب كاملاً سواء وجد أموالاً نقدية أو عينية.

مثال ذلك: إذا كان الإنسان يملك ألف وهو مدين بألف ويملك سيارة زائدة عن حاجته بألف فكم سيزكي؟ ألف. مع أنه مدين بألف. لكن الدين يقابله العرض الذي يساوي ألف. وتطبيق هذا الشرط لا بد منه. وإذا طبقنا هذا الشرط يندر أن يخصم الإنسان من الوعاء الزكوي لديه مقدار الدين لأنه غالباً يكون عنده عروض أخرى تصلح لسداد الدين. ـ بناء عليه: ليس من المقبول أن يقول شخص: أنا مدين بمائة ألف وهو يملك سيارات واستراحات وأراضي. فنقول له: إذا كنت مديناً فسدد الدين من غير الزكاة وإنما مما تملك من العروض سواء كانت أراضي أو استراحات أو سيارات زائدة عن حاجتك. * * مسألة: رجل يملك عشرة آلاف: وهو مدين بخمسة آلاف وعنده سيارة هي السيارة التي يتنقل عليها. فكم سيزكي؟ خمسة آلاف. ويصح هنا أن يخصم مقدار الدين من الزكاة لأن السيارة التي معه تقوم بحاجته التي لا يستغني عنها. إذاً: لا بد أن ننتبه لهذا الشرط. وهذا الشرط اشترطه جمهور الفقهاء ونص عليه الإمام أحمد وهو شرط صحيح. ـ ثانياً: بقينا في الأموال الظاهرة: والأموال الظاهرة هي: الزروع والثمار والمواشي كما تقدم معنا. اختلف فيها الفقهاء على قولين: = القول الأول: أنه لا يخصم الدين من الزكاة في الأموال الظاهرة. فإذا كان عند الإنسان مائة من الإبل وهو مدين بعشرة آلاف فالواجب أن يخرج زكاة كم؟ مائة من الإبل. ولا يخصم مقدار الدين من الزكاة في الأموال الظاهرة. وإلى هذا ذهب الجمهور. واستدلوا بأدلة قوية جداً: - الدليل الأول: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - والخلفاء - رضي الله عنهم - كانوا يبعثون عمال الصدقة - السعاة - إلى أصحاب الإبل والمواشي فيأخذون منهم الصدقة ولا يسألون عن مقدار الدين. - الدليل الثاني: أن الزهري وابن سيرين نصوا على أن الإنسان يخصم الدين من العين دون المواشي والثمار ونسبوا هذا إلى الصحابة فقالوا: كانوا - يعني الصحابة -. = والقول الثاني: أنه يخصم الدين حتى من الأموال الظاهرة. واستدلوا: - بما استدل به الجمهور بمسألة الأموال الباطنة.

والجواب عليه: أن الأدلة التي استدل بها الجمهور في المسألة الأولى وهي الأموال الباطنة هي بنفسها تفرق بين الأموال الظاهرة والباطنة كما نقلنا عن ابن سيرين والزهري فإنهم نصوا على الفرق بين الأموال الظاهرة والباطنة. فالسلف أنفسهم يفرقون بين الأموال الظاهرة والأموال الباطنة. والراجح القول الأول. فصار القول الراجح: التفريق بين الأموال الظاهرة والأموال الباطنة. وهذا مذهب الجمهور وممن رجحه من المتأخرين الشيخ عبد الرحمن السعدي - رحمه الله -. وبهذا اكتمل الكلام عن مسألة الأموال الظاهرة والباطنة في زكاة المدين. • قال - رحمه الله -: ولا زكاة في مال: من عليه دين ينقص النصاب، ولو كان المال ظاهراً. فعرفنا أن: = مذهب الحنابلة أنه يخصم الدين من الزكاة في الأموال الظاهرة وكذلك في الأموال الباطنة على حد سواء. وتقدم معنا الراجح وهو: أنه لا يخصم في الأموال الظاهرة. • ثم قال - رحمه الله -: وكفارة كدين. مقصود المؤلف أن دين الآدمي يخصم وكذلك دين الله. أي التسوية بين دين الآدمي والدين الذي لله سواء كان الدين الذي لله مما له مطالب كالزكاة أو مما ليس له مكالب كالكفارات. والدليل على أن دين الله كدين الآدمي فيخصم من الزكاة: - قوله - صلى الله عليه وسلم - فيما أخرجه البخاري: (اقضوا الله فالله أحق بالوفاء). فهذا نص أن دين الله كدين الآدمي. • ثم قال - رحمه الله -: وإن ملك نصاباً صغاراً: انعقد حوله حين مَلَكَهُ. يعني: إذا ملك الإنسان من الموشي قدر النصاب إلا أنها صغيرة فتجب فيها الزكاة إذا حال الحول إذا بلغت صاباً. ولا يشترط في المواشي أن تبلغ سناً معينة لكي تجب فيها الزكاة. واستدل هؤلاء: - بعموم ما أخرجه البخاري: (في كل أربعين شاة شاة). وهذا عام سواء كانت هذه الأربعين صغيرة أو كبيرة. • ثم قال - رحمه الله -: وإن نقص النصاب في بعض الحول ... انقطع الحول. إذا نقص النصاب أثناء الحول انقطع الحول. مثال ذلك: رجل يملك خمساً من الإبل وهو النصاب ثم بعد مضي ستة أشهر ماتت واحدة أو ذهبت لأي سبب فأصبح المجموع: أربع. فإذا أصبح المجموع أربع انقطع الحول من حين ينقص النصاب.

فإذا اكتمل النصاب مرة أخرى استأنفنا الحول من جديد. الدليل: - أن اشتراط النصاب في كل الحول دلت عليه النصوص فإذا تخلف النصاب في بعض الحول انقطع. • ثم قال - رحمه الله -: أو باعه. يعني: إذا باع النصاب أو باع بعض النصاب انقطع الحول أيضاً. فإذا كان يملك ثلاثين من البقر ثم باع منها خمساً في أثناء الحول انقطع الحول. فإذا اشترى ما يكمل النصاب استأنف الحول من جديد. والدليل: - هو: نفس الدليل السابق. • ثم قال - رحمه الله -: أو أبدله بغير جنسه. إذا باعه أو أبدله بغير جنسه: انقطع الحول. وتقدم معنا صورة البيع. أما صورة الإبدال: فهي أن يبيع النصاب معاطاة وبعبارة أخرى: المؤلف - رحمه الله - يقول: إذا باعه أو أبدله وسيأتينا أن البيع هو عبارة عن إبدال فلذلك هم يصدرون تعريفه بقولهم: مبادلة مال بمال. فلماذا فرق المؤلف - رحمه الله - بين البيع والإبدال؟ - نقول: نحمل الإبدال على أحد صورتين: ـ الصورة الأولى: أن يكون: - البيع يقصد به: مبادلة عين بنقد. - والإبدال: مبادلة عين بعين. والذي يسمى المقايضة. ـ الصورة الثانية: أن يكون المقصود: - بالبيع: البيع الذي يتم بالإيجاب والقبول. - وبالمبادلة: المبادلة التي ننم عن طريق المعاطاة بدون صيغة إيجاب وقبول. بناء على هذا: إذا أعطى رجل رجلاً آخر ثلاثين من البقر وأخذ منه عشرين من الإبل. فهل هذا بيع أو إبدال؟ الجواب: - باعتبار المصطلح الخاص الذي نتكلم به: إبدال. وإذا باع الثلاثين بعشرة آلاف درهم؟ بيع. إذاً هذا مال بمال أو مال بنقد. إذا باع ثلاثين من البقر بعشرة آلاف درهم بإيجاب وقبول. قال: بعت. وقال الآخر: اشتريت. وتمت المبادلة فهذا: بيع. وإذا كان عن طريق المعاطاة بأن يعطيه البقر ويأخذ النقد بدون كلام وإنما عن طريق المعاطاة فهو: مبادلة. والأمر بسيط لكن نريد أن نعرف لماذا غاير المؤلف - رحمه الله - وفاوت بين البيع والإبدال فخرجوه على أحد هذه التخريجات. • ثم قال - رحمه الله -: لا فراراً من الزكاة: انقطع الحول. فصار الحول ينقطع: - إذا نقص النصاب. - أو باع النصاب. - أو أبدل النصاب. ففي هذه الصور الثلاث ينقطع الحول. وإذا اكتمل النصاب بدأ الحول من جديد.

قال: لا فراراً من الزكاة: فإن كان يريد الفرار من الزكاة فإن عمله لا يقطع الحول. بناء على هذا: إذا ملك الإنسان ثلاثين من البقر فلما بقي على حولان الحول شهر باع البقر بعشرة آلاف درهم ثم بعد عشرة أيام أو أقل أو أكثر اشترى الثلاثين أو غير هذه الثلاثين. فهل يستأنف الحول أو لا؟ نقول: ما دام قصدك قطع الحول فتستمر على حولك الأول كأنك لم تصنع شيئاً. - لأن القاعدة تقول: (أن الحيل لا تسقط الواجبات). بدليل أن الله سبحانه وتعالى ذم اليهود الذين احتالوا على صيد السمك في يوم السبت والأحد وذمهم بذلك واعتبر عملهم محرم مع أن الصورة جائزة. وكذلك كل الحيل. - ولأن النبي - صلى الله عليه وسلم -: (لعن المحلل والمحلل له) ولماذا لعنه؟ لأنهم يحتالون على العقود الشرعية. إذاً إذا كان قصد الإنسان الحيلة فلا يعتبر أن الحول انقطع ... • ثم قال - رحمه الله -: وإن أبدله بجنسه: بنى على حوله. إذا أبدل النصاب بجنسه فإنه لا ينقطع الحول. فإذا كان الإنسان يملك ثلاثين من البقر وباعها بثلاثين من البقر أخرى فإن الحول يستمر ولا ينقطع. لكن إذا أبدل ثلاثين من البقر بعشرين من الإبل ينقطع الحول لأن البقر جنس والإبل جنس آخر. إذاً إذا أبدل الإنسان الشيء بجنسه فإنه لا ينقطع. استثنى الحنابلة من هذه القاعدة وهي: أنه إذا أبدله بغير جنسه انقطع: استثنوا الذهب والفضة وعروض التجارة. - فإذا أبدل الإنسان دراهم بدنانير لا ينقطع الحول. - وإذا أبدل دراهم بعروض تجارة أو دنانير بعروض تجارة لا ينقطع الحول. والصواب أنه: لا يستثنى إلا فقط عروض التجارة. أما الذهب والفضة فهما جنسان إذا أبدل أحدهما بالآخر انقطع الحول إلا إذا كان الإبدال على سبيل التجارة فإنها تصبح الآن عروض تجارة. فالآن: الذين يتعاملون بالعملات ما نقول: إذا اشتريت بالريال السعودي جنيه مصري أنه انقطع الحول أو درهم إماراتي أو أي عملة أخرى ما نقول انقطع الحول لأنهم الآن يبادلون هذه العملات على سبيل التجارة ونحن نقول أنه إذا أبدله بجنسه أو بغير جنسه ما دام على سبيل عروض التجارة فإن الحول لا ينقطع.

لكن لو أن قائلا قال: أنا أحتاج بدل الدراهم دنانير فاستبدل دراهمه بدنانير لينتفع بها لا للتجارة فإنه عند الحنابلة لا ينقطع الحول. والصواب أنه ينقطع: لأن الذهب جنس والفضة جنس آخر. • ثم قال - رحمه الله -: وتجب الزكاة: في عين المال، ولها تعلق بالذمة. اختلف الفقهاء في هذه المسألة وهي: هل تجب الزكاة في عين المال أو في الذمة على أقوال كثيرة: = المذهب خلاف ما ذكره المؤلف: فالمذهب أن الزكاة تجب في عين المال. واستدلوا: - بقوله تعالى: {خذ من أموالهم ... }. - وقوله - صلى الله عليه وسلم -: (في كل أربعين شاة شاة). وقالوا: إن في في هذه النصوص للظرفية يعني أن مقدار الزكاة واجب في عين المال. بناء على هذا القول: - لو تلف النصاب لم يلزمه شيء لأن الوجوب يتعلق بالعين والعين تلفت. وبناء على هذا القول: - لا يجوز له أن يتصرف بمقدار الزكاة من المال. ويترتب على هذا القول أيضاص أشياء كثيرة. = القول الثاني: أن الزكاة تتعلق بالذمة لا بعين المال. واستدلوا على هذا: - بأنه يجوز أن نخرج الزكاة من غير النصاب. فدل على أنها تتعلق بالذمة لا بالعين. مثال ذلك: لة كان عندي عدد من الإبل ووجب فيها بنت لبون أو حقه أو جذعة فهل يجوز أن أشتري من السوق بنت لبون وأخرجها زكاة؟ أو يجب أن أخرج من الإبل التي عندي؟ الجواب: يجوز أن أخرج ولو من غير الإبل التي أملك. فهذا دليل على أن الزكاة تتعلق بالذمة. فلو كانت تتعلق بالعين لوجب أن أخرج من عين الإبل التي عندي. = القول الثالث: أنها تجب في العين وتتعلق بالذمة. وهو القول الذي ذكره المؤلف - رحمه الله -. = القول الرابع: أنها تجب في الذمة وتتعلق بالعين - عكس ما ذكره المؤلف - رحمه الله -. وهذا اختيار شيخ الاسلام - رحمه الله -. وهو الأقرب والله أعلم. أن الأصل في الزكاة أنها تتعلق في الذمة لكن لها تعلق بالعين. فهذا القول تجتمع به المعاني والعلل التي ذكرها أصحاب القول الأول والثاني. إذاًَ هذا القول الأخير هو الراجح.

وأرغب من كل طالب - وإن شئتم أن تعتبرونه ملزماً - أن يراجع آخر قواعد بن رجب فإنه في آخر قواعد بن رجب ذكر عدة مسائل ينبني عليها فروع كثيرة منها: هل تجب أو تتعلق الزكاة بعين المال أو بالذمة ثم ذكر ما يترتب على كل قول في تفريع بديع جداً يصقل طالب العلم ويدربه على فهم ما يترتب على القول. فإنا أرجو من جميع الإخوة أن يقرأوا هذا الموضع وهو في آخر قواعد ابن رجب. • ثم قال - رحمه الله -: ولا يعتبر في وجوبها: إمكان الأداء. ليس من شروط الزكاة إمكان الأداء بل تجب ولو لم يتمكن من الأداء. مثال عدم التمكن من الأداء: - أن يكون المال غائباً. - أو أن يكون المال ديناً. فهل يتمكن الإنسان أن يخرج الزكاة من المال الغائب؟ لا. لا يتمكن ومع ذلك نقول تجب الزكاة ولولم يتمكن من الأداء. الدليل: - قالوا: الدليل: قياساً على سائر العبادات فإن الصوم يجب على المريض وإن كان لا يستطيع. فإذاً لا يشترط في وجوب الزكاة إمكان الأداء. * * مسألة: يشترط لوجوب الإخراج إمكان الأداء. فإذا لم يتمكن من الأداء لم يجب عليه أن يخرج الآن وله أن ينتظر إلى أن يتمكن. فتحصل عندنا الفرق بين وجوب الزكاة ووجوب الإخراج. فالأداء شرط في الإخراج. وليس شرطاً في الوجوب. • ثم قال - رحمه الله -: ولا بقاءُ المال. يعني: أنه لا يشترط لوجوب الزكاة بقاء المال فلو تلف رالمال كله لوجبت الزكاة فيه. وهذا القول يتوافق مع القول بأن الزكاة تجب في الذمة أو في العين؟؟ - في الذمة. وهذا مما يقوي القول الذي رجحه شيخ الاسلام - رحمه الله -. إذاً الحنابلة يرون أنه يجب عليه أن يخرج الزكاة ولو تلف كل المال. الدليل: - قالوا: الدليل أن هذا مال وجب في ذمته فيجب أن يخرجه ولو تلف كدين الآدمي. إذا كان الإنسان مطلوب مائة ألف ريال واحترق كل ما يملك من المال فهل يسقط هذا الدين؟ أو يبقى في ذمته؟ يبقى. فكذلك دين الله وهو الزكاة. = والقول الثاني: أن المال الزكوي: - إذا تلف بغير تفريط ولا تعدي فإنه لا يجب عليه أن يخرج شيئاً. - وإن تلف بتفريط أوتعدي وجب عليه أن يخرج مقدار الزكاة. وهذا القول اختيار شيخ الاسلام واختيار ابن قدامة.

لكن ابن قدامة بين التفريط فقال: والتفريط أن يتأخر بالإخراج مع إمكان الأداء. وظاهر كلام غيره من الفقهاء أن التفريط لا يتعلق بمسألة الإخراج وإنما يتعلق بكيفية حصول التلف: فإن كان لم يفرط بأن جائه آفة سماوية أو حريق ليس له يد في منعه فإنه لا يلزمه إخراج شيء. وإن فرط بأن وضع المال في مكان لا ينبغي أن يوضع فيه أو قرب النار المهم فرط بإتلافه بأي طريقه فإنه تجب عليه. هذا ظاهر كلام الفقهاء فيما عدا ابن قدامة الذي يرى أن التفريط هو بمجرد التأخر في إخراج الزكاة. وهذا القول الذي مال إليه ابن قدامة قوي جداً ويتوافق مع ما سيأتينا من وجوب إخراج الزكاة فوراً. ولذلك أنا أميل إلى هذا الضابط وهو أنه: إذا أخر إخراج الزكاة مع قدرته على إخراجها ثم تلف المال ولو بغير تفريط منه وجب عليه أن يؤدي الزكاة. لأن التفريط حصل بالتأخر في إخراج الزكاة. وهذا الضابط الذي ذكره ابن قدامة جيد وقوي. • ثم قال - رحمه الله -: والزكاة كالدين في التركة. الزكاة كالدين في التركة يعني: أنها مقدمة على الورثة وعلى الوصية. فإذا مات الإنسان ولم يخرج زكاة ماله فإنا نخرج الزكاة قبل أن ننفذ الوصية أو نقسم التركة على الورثة. وسواء في ذلك كان إخراج الزكاة من الميت على سبيل الجواز أو على سبيل التحريم: يعني: سواء كان أخرها قداً وهو آثم بذلك وارتكب محرماً أو مات قبل أن يتمكن من إخراج الزكاة ففي الصورتين يجب أن يخرج الزكاة من مال الميت. لأن الزكاة فيها حق للفقراء فيجب أن يصل إليهم ولو كان الميت أخر إخراج الزكاة تعدياً وظلماً. لكن إن كان الميت لم يتمكن من الإخراج أجزأت عنه ولا إثم وإن كان أخرها عمداً وقصداً وتعدياً وظلماً فإنا ندفعها للفقراء ومع ذلك يأثم بتركه الزكاة. إذاً الزكاة كالدين في التركة تماماً تستوي مع دين الآدمي. بقينا في مسألة: هل هي مثل دين الآدمي أو أقل من دين الآدمي إذا تعارض دين الله ودين الآدمي؟ الصواب: أنهما بمنزلة واحدة فنسدد دين الله ودين الآدمي بالمحاصة إذا لم يتسع المال للجميع. أما إذا اتسع المال للدينين فلا إشكال فسنسدد دين الله ودين الآدمي.

باب زكاة بهيمة الأنعام

وهذا الكلام الذي قلته فيما يتعلق بالزكاة ينطبق على غيره من ديون الله كالكفارات مثلاً. فلو مات وعليه كفارة يمين فنفس الكلام يجب أن نخرج كفارة اليمين قبل أن ننفذ الوصية أو نقسم التركة. باب زكاة بهيمة الأنعام • ثم قال - رحمه الله -: باب زكاة بهيمة الأنعام. بدأ المؤلف بباب زكاة بهيمة الأنعام قبل غيرها من الأموال الزكوية اقتداء بكتاب أبي بكر الصديق - رضي الله عنه - الذي كتبه لأنس حين ذهب إلى البحرين فإن أبا بكر الصديق - رضي الله عنه - بدأ بزكاة بهيمة الأنعام قبل زكاة غيرها من الأموال الزكوية. فتأسياً بهذا الكتاب نبدأ بزكاة بهيمة الأنعام. • يقول - رحمه الله -: تجب في إبل وبقر وغنم. وجوب الزكاة في الإبل والبقر والغنم محل إجماع. فلم يخالف فيه أحد ولله الحمد والنصوص الصريحة الصحيحة أخرجها البخاري وغيره دالة على وجوب الزكاة في هذه الأصناف الثلاثة. وفهم من هذه العبارة أن الزكاة لا تجب في غير الإبل والبقر والغنم. فمثلاً: لا تجب في الضباء البرية ولا تجب في البقر الوحشي ولكنها تجب في الجواميس لأن الجواميس نوع من أنواع البقر. وقوله: الإبل والبقر والغنم. دليل على أن الزكاة تجب في هذه الأصناف مهما تنوعت ماختلفت أشكالها ومسمياتها ما دامت إبلاً أو بقر أو غنم فالماعز والشياه في هذا سواء. • ثم قال - رحمه الله -: إذا كانت سائمة الحول أو أكثره. يشترط لوجوب الزكاة في بهيمة الأنعام الأذان .... انتهى الدرس

قال شيخنا حفظه الله: بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين. باب زكاة بهيمة الأنعام تكلمت بالأمس عن زكاة بهيمة الأنعام من حيث مشروعية الزكاة وإجماع الأمة عليه وما هي بهيمة الأنعام وتوقفنا عند شرط من شروط وجوب الزكاة في بهيمة الأنعام وهي: - أن تكون سائمة. • يقول المؤلف رحمه الله: تجب في إبل وبقر وغنم: إذا كانت سائمة الحول أو أكثره. السائمة في لغة العرب: الراعية. وفي الاصطلاح في هذا الباب: هي التي ترعى المباح أكثر الحول وتكتفي به.

= ذهب الجمهور ومنهم الحنابلة إلى أنه يشترط في وجوب الزكاة في بهيمة الأنعام أن تكون سائمة. وخرج بقولهم: سائمة: المعلوفة والعاملة. واستدل الجمهور على اشتراط هذا الشرط: - بقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: (وفي الغنم في سائمتها) وهو حديث في البخاري ونص على أن الغنم التي تجب فيها الزكاة هي السائمة. - وبقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: (ليس في البقر العوامل صدقة) وهذا الحديث فيه ضعف ولكنه ينجبر بالشواهد وبكثرة الآثار عن أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - الدالة على ذلك. = والقول الثاني: أنه لا يشترط أن تكون سائمة. وهو مذهب المالكية ويوجبون الزكاة في المعلوفة والعاملة. واستدلوا على ذلك: - بعموم الأدلة. كقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: (في كل خمس من الإبل شاة) فإنه لم يقيد في هذا الحديث وجوب الزكاة بأن تكون البهائم سائمة. والصواب مع الجماهير لأن القاعدة الفقهية الأصولية تقول: ((الخاص مقدم على العام)). فأدلة الجمهور تخصص أدلة المالكية. ـ المسألة الثانية: هي التي أشار إليها بقوله: (الحول أو أكثره). أي أنه لا يشترط في السائمة أن تكون راعية كل الحول بل يكتفى بأكثر الحول. واستدل الجمهور على هذا الحكم: - بأن اسم السوم - يعني: اسم كونها سائمة - لا يرتفع عن البهيمة لكونها ترعى بعض الحول. - الدليل الثاني: أنه لا يمكن التحرز عن ترك السوم في بعض الحول. = والقول الثاني: أنه يشترط لوجوب الزكاة أن تكون سائمة في جميع الحول. أخذاً بظاهر النص. والصواب مع الجمهور. ويؤيد ذلك أن العلماء رحمهم الله قرروا أن للأكثر حكم الكل. • ثم قال رحمه الله: فيجب في خمس وعشرين من الإبل: بنت مخاض. بدأ المؤلف ببيان الأنصباء التي حددها النبي - صلى الله عليه وسلم - في بهيمة الأنعام وهي: الإبل والبقر والغنم. وقد جاء تحديد أنصبة الإبل في حديث أنس الذي رواه عن أبي بكر حين بعث بخطابه إليه في البحرين وذكر في الخطاب أن هذه الفروض سنها النبي - صلى الله عليه وسلم -. • فقال رحمه الله: فيجب في خمس وعشرين من الإبل: بنت مخاض. بنت المخاض هي: ما تم لها سنة. وسميت بذلك: لأنه في الغالب تكون أمها حامل. والحامل تسمى مخاض.

وكونه في خمس وعشرين: بنت مخاض. هذا جاء صريحاً في حديث أبي بكر ونص عليه نصاً رضي الله عنه. وهو محل إجماع. ويجوز أن يخرج بدل بنت مخاض ابن لبون إذا لم نجد بنت مخاض بالإجماع لأنه في حديث أبي بكر نص على ذلك. • ثم قال رحمه الله: وفيما دونها: في كل خمس شاة. في كل خمس فيما دون الخمس والعشرين: شاة. وهذا الحكم محل إجماع ودل عليه النص. فدل عليه النص والإجماع لأنه في حديث أبي بكر: (في كل خمس شاة). ولو أن المؤلف بدأ بأنه: في كل خمس شاة قبل الخمس والعشرين لكان هو الموافق للترتيب التصاعدي. • ثم قال رحمه الله: وفي ست وثلاثين: بنت لبون. بنت اللبون هي: التي تم لها سنتان. وسميت بذلك لأنه في الغالب تكون الأم وضعت فهي ذات لبن فهي بنت ذات لبن. إذا بلغت الإبل ستاً وثلاثين فإنها يجب أن نخرج زكاتها بنت لبون وهذا جاء نص في حديث أبي بكر الصديق رضي الله عنه. • ثم قال رحمه الله: وفي ست وأربعين: حقة. والحقة: ما تم لها ثلاث سنين وهو منصوص عليه أيضاً في حديث أبي بكر رضي الله عنه. وسميت حقة: - إما لأنها استحقت ضرب الفحل. - أو أنها استحقت أن يحمل عليها. باعتبار أنها وصلت مرحلة من العمر تتحمل الأمرين. • ثم قال رحمه الله: وفي إحدى وستين: جذعة. وهي ما تم لها أربع سنين. وهذا هو أعلى سن تجب فيه الزكاة. وهذا من رحمة الله وتخفيفه على الناس بينما نجد في الأضاحي أقل سن يجزئ هو الخمس كما سيأتينا. بينما في الزكاة اختلف الأمر فصار أرفع سن تجب فيه الزكاة هو أربع سنوات. • ثم قال رحمه الله: وفي ست وسبعين: بنتا لبون. وفي إحدى وتسعين: حقتان. فإذا زادت عن مائة وعشرين ((وَاحِدَةٌ)): فثلاث بنات لبون. كل هذا نص في حديث أبي بكر: - أنه في ست وسبعين بنتا لبون. - وفي إحدى وتسعين حقتان. - فإذا زادت عن مائة وعشرين واحدة فثلاث بنات لبون. ففي مائة وإحدى وعشرين: ثلاث بنات لبون. ثم يستقر الأمر في كل أربعين بنت لبون وفي كل خمسين حقة. وسنلقي الضوء في الجدول المرفق الذي استلمتموه عن كيفية توزيع الأنصباء. لكن قبل ذلك نريد أن نذكر الأحكام التي تتعلق بالإخراج قبل دراسة المتن.

- جاء في حديث أبي بكر رضي الله عنه أن من لم يجد السن المطلوب ووجد أعلى منه فإنه يجوز لعامل الصدقة أن يأخذ الأعلى ويعطي صاحب البهائم شاتين. أو العكس: إذا لم يجد إلا أقل فإن العامل يأخذ الأقل ويعطي صاحب الإبل العامل شاتين. مثال ذلك: وجبت عليه بنت مخاض ولم يجد في إبله إلا بنت لبون. فماذا يصنع؟ نقول: أعط العامل بنت لبون وخذ منه شاتين. العكس: وجبت عليه بنت لبون ولم يجد إلا بنت مخاض: فنقول: أعط العامل بنت مخاض وأعطه معها شاتين. وهذا القدر الذي ذكرته الآن منصوص عليه في حديث أبي بكر في الصحيح. ــ مسألة: إذا لم يجد إلا أربفع بمرتبتين - يعني: وجب عليه بنت مخاض ولم يجد بنت لبون ولا بنت مخاض ووجد حقة: فحينئذ نقول تعطيه الحقو وتأخذ أربع شياه. هذا الحكم: أنك تأخذ أربعةشياه مقيس على ما ذكر في حديثص أبي بكر وليس من المنصوص عليه لكن قياسهم صحيح وهو قول الحنابلة وهو الراجح إن شاء الله. فإذا لم نجد إلا أكثر: وجبت عليه بنت مخاض ولم يجد إلا جذعة فيأخذ ست. .. وهكذا. إذاً عرفنا الآن أن من لم يجد إلا أقل أو أعلى فإنه يأخذ أو يدفع حسب الموجود. ــ المسألة الثانية هذا العمل وهو أخذ شاتين أو دفع شاتين حسب الموجود يسمى: الجبران ولا يدخل إلا في الإبل فقط لأن النص لم يأتي إلا في الإبل. أما ما عداها من بهائم الأنعام فلا يدخل فيها ما يسمى بالجبران. نقف بعض الشيء مع الجدول .... ((ثم تكلم الشيخ حفظه الله عن الجدول وفصل فيه فيستحسن أخذها من التسجيل بمتابعة الجدول)). ثم قال الشارح حفظه الله: إذاً المسألة أصبحت مسألة حسابية بعد أن فهمت فقه المسألة. فيبقى الآن أن تعرف الحساب وهذا أمر يرجع لكل شخص ومعرفته بتحديد كم في العدد من أربعين وكم في العدد من خمسين. فلا نقف طويلاً مع الأمثلة بعد أن عرف الإنسان فقه الأنصباء وكيفية التعامل معه. فصل [في زكاة البقر] ثم نرجع إلى المتن: • قال رحمه الله: (فصل) يعني في بيان أحكام زكاة البقر. • قال رحمه الله: ويجب في ثلاثين من البقر. وجوب الزكاة في البقر ثابت بالنص والإجماع. - فالإجماع: أجمع أهل العلم رحمهم الله أن تجب الزكاة في البقر.

- أما النص: فما جاء في حديث أبي ذر أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (ما من صاحب إبل ولا بقر ولا غنم لا يؤدي زكاتها إلا جاءت يوم القيامة أسمن ما كانت وأكمل ما كانت ثم تطأ عليه بأظلافها وتنطحه بقرونها) أو قال بأخفافها (ثم ترجع عليه كلما انتهت إلى أن يقضى بين العباد). ففي هذا الحديث بيان أن الزكاة واجبة أن ترك الزكاة من كبائر الذنوب لأنه رتب على ترك الزكاة وعيد خاص يقع يوم القيامة. وزكاة البقر لم تذكر في كتاب أبي بكر وإنما جاءت في حديث معاذ في السنن وهو حديث صحيح إن شاء الله بين فيه النبؤي - صلى الله عليه وسلم - لمعاذ وأبي موسى لما بعثهما إلى اليمن كيف يأخذون الزكاة من البقر. وذكر أهل العلم رحمهم الله من شراح الأحاديث والفقهاء كلهم أن البقر لم تذكر في حديث أبي بكر لأن أهل الحجاز وأهل نجد قلما يتعاملون بالبقر فلما ذهب أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى اليمن وفيها البقر بين لهم - صلى الله عليه وسلم - كيفية أخذ الزكاة من البقر. وكيفية أخذ الزكاة من البقر أسهل من الإبل بكثير: • فيقول رحمه الله: ويجب في ثلاثين من البقر. تبيع أو تبيعة. التبيع والتبيعة: ما له سنة واحدة. وسمي بهذا الاسم لأنه يتبع أمه في ذهابها ومجيئها. فتبين أن ما دون الثلاثين من البقر لا زكاة فيه. وهذا باتفاق الأئمة الأربعة رحمهم الله. لأنه في حديث جابر نص على أنه: أمرني أن آخذ من كل ثلاثين تبيع أو تبيعه. فدل على أن ما دون الثلاثين لا زكاة فيه. وفي مسألة: البقر نستطيع أن نضع ضابط يسهل على الإنسان معرفة كيفية إخراج الزكاة بالنسبة للثلاثين. فنقول: يجزئ الذكر في الثلاثين ومضاعفات الثلاثين. ففي الثلاثين: تبيع. وفي الستين: ..... وفي التسعين: ..... في كل مضاعفة للثلاثين يجزء الذكر. ويجوز إذا قلنا يجزئ الذكر أنه تخرج تبيع أو تبيعة. • كذلك نأتي إلى قوله رحمه الله: وفي أربعين: مسنة. المسنة ما لها: سنتان. فالمسنة يجزئ في الأربعين مسنة. ثم نقول: مضاعفات الأربعين كذلك فيها مسنة. فالثمانين كم فيها؟ ...... وهكذا. إذاً تضيف أربعين وتضيف مع كل أربعين مسنة.

وفي قوله: في كل أربعين مسنة علمنا أنه لا يجزء المسن. وإنما في الأربعين لا بد من إخراج أنثى ولا يجزئ الذكر. ــ مسألة: هل يجزئ في الأربعين تبيعان؟ اختلف الفقهاء في هذا: = فمنهم من قال لا يجزئ في الأربعين تبيعان. لأنه في حديث معاذ نص النبي - صلى الله عليه وسلم - أن الأربعين فيها مسنة. = والقول الثاني: أنته يجزئ تبيعان. واستدل هؤلاء بأنه إذا كان يجزء التبيعان في الستين فمن باب أولى أن يجزئ في الأربعين. وهذا القول هو الصواب. لأن الستين أكثر من الأربعين والنعمة في الستين أكبر منها في الأربعين فإذا أجزأ تبيعان في الستين فكذلك في الأربعين. • ثم قال رحمه الله: وفي ستين تبيعان. وهذا يتفق مع القاعدة: أن الثلاثين ومضاعفاتها فيها ذكر. فالثلاثين تبيع وبطبيعة الحال الستين فيها تبيعان. • قال رحمه الله: ثم في كل ثلاثين: تبيع، وفي كل أربعين: مسنة. إذاً اتضح الأمر أنه في كل ثلاثين تبيع وفي كل أربعين مسنة. فالسبعين: فيها تبيع ومسنة. مائة وعشرين: ثلاث مسنات أو أربعة أتبعه. فهو مخير بينهما. وهكذا بعملية حسابية يستطيع الإنسان أن يعرف كيفية إخراج زكاة البقر بعد أن ذكرنا الأمثلة. • ثم قال رحمه الله: ويجزئ الذكر: هنا، وابن لبون مكان بنت مخاض، وإذا كان النصاب كله ذكوراً. المؤلف رحمه الله يريد بهذه العبارة بيان متى يجوز أن نخرج الذكر في الزكاة سواء كان في الإبل أو في البقر أو في الغنم. لا يجوز أن نخرج الذكر في الزكاة إلا في ثلاث مواضع: - الموضع الأول: يقول: هنا. ويقصد بقوله هنا: التبيه. فإنه يجوز في الثلاثين أن نخرج تبيع. - الموضع الثاني: ما تقدم معنا: أنه يجوز أن نخرج بدل بنت مخاض ابن لبون. - الموضع الثالث والأخير: إذا كان النصاب كله ذكور. فإذا كان الإنسان يملك أربعين من البقر كلها ثيران. فالأربعين الأصل أنه يجب أن يخرج مسنة لكن نقول الآن أن تخرج بدل الأنثى ذكر لأنه جميع القطيع ذكران أي ثيران. الدليل على الجواز: - أن الزكاة وجبت على سبيل المواساة والإنسان إنما يواسي الغير بما يجد. = القول الثاني: أنه لا يجوز في الصورة الثالثة إخراج الذكر بل يجب أن نخرج الأنثى.

- لأن الرسول - صلى الله عليه وسلم - نص في الأحاديث أحياناً على الذكر وأحياناً الأنثى ولا يجوز أن نخرج عما نص عليه الحديث بلا دليل شرعي. والنبي - صلى الله عليه وسلم - بين أنه يجوز ابن لبون بدل بنت مخاض فقط وبين أنه يجوز التبيع مع التبيعة فقط ففيما عداه لا يجوز أن نخرج إلا الإناث تماشياً مع النص. فنقول لصاحي الماشية يجب عليك وجوباً أن تشتري أنثى توافق النصاب المفروض وتخرج هذه الأنثى. والأقرب والله أعلم. مذهب الحنابلة. لأن هذا الرجل لا يملك الآن إلا الذكور ولا يكلف الله نفساً إلا وسعها وهو إنما أخرج الزكاة مواساة لإخوانه ولا يجب عليه أن يواسيهم بما لا يجد. ولا شك أن الاحتياط أن يخرج أنثى في غير الصورتين وهو الأبر لذمته أن يخرج أنثى لكن لا أرى أنه يجب عليه وجوباً. فيكوزن الراجح بهذه المسألة أنه يجوز أن نخرج الذكور إذا كان النصاب كله ذكور. قال الشيخ حفظه الله: - قبل أن ننتقل إلى الغنم نلقي نظره على الجدول ......... ((ثم تكلم عن الجدول يحسن استماعه من التسجيل)). فصل [في زكاة الغنم] • ثم قال رحمه الله: (فصل) ويجب في أربعين من الغنم: شاة. وفي مائة وإحدى وعشرين: شاتان، وفي مائتين وواحدة: ثلاث شياه. ثم في كل مائة: شاة. وجوب الزكاة في الغنم أيضاً محل إجماع. ودل عليه النص والإجماع. - أما الإجماع: فحكاه ابن المنذر وغيره ممن يعتنون بذكر الإجماعات. - وأما النص فالغنم مذكورة في حديث أبي بكر الذي كتبه في كتابه الذي كتبه لأنس في البحرين وبين أنه أخذه عن النبي - صلى الله عليه وسلم -. والفروض المذكورة في زكاة الغنم كما بينها المؤلف موجودة في نصها في حديث جابر. فنأخذ الجدول لأنه يتوافق مع ما ذكره المؤلف رحمه الله .... ((ثم تكلم عن الجدول وبين وضرب أمثلة حفظه الله يحسن أخذها من التسجيل)). ثم قال حفظه الله: (إذاً أنصبة البقر والغنم أسهل من أنصبة الإبل وأقل تفصيلاً .... ثم انتقل المؤلف إلى مسألة الخلطة. • فقال رحمه الله: والخُلطة تصير المالين كالواحد. في الخلطة مسائل كثيرة: ــ المسألة الأولى: أن الخلطة تؤثر في النصاب دون الحول.

ــ المسألة الثانية: الخلطة تؤثر في بهيمة الأنعام دون غيرها من الأموال الزكوية فلا تؤثر في الحبوب والثمار ولا في الذهب والفضة ولا في عروض التجارة ولا في غيرها من الأموال الزكوية. لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - ذكر أن الخلطة تؤثر في بهيمة الأنعام ولا يوجد دليل على أنها تؤثر في غيرها فنبقى على أنها لا تؤثر إلا في بهيمة الأنعام. ــ المسألة الثالثة: الخلطة في اللغة: هي الشركة. وفي الاصطلاح: تنقسم إلى قسمين: - خلطة أعيان. - وخلطة أوصاف. ـ فخلطة الأعيان هي: أن يشترك اثنان فأكثر في بهيمة الأنعام بلا تميز بين ماليهما. مثاله: أن يرث رجلان مائة من الإبل فهذه المائة هي ملك لهما على سبيل الشيوع - مشاعة بينهما - فليس لكل واحد منهما جزء محدد. وكأن يشتريا. ـ وخلطة الأوصاف: هي أن يجتمع المالان في أشياء معدودة - سيأتي ذكرها - مع تميز مال كل واحد من الشريكين. مثاله: إذا ملك زيد خمسين من الإبل وعمرو خمسين من الإبل وصارت هذه الإبل تجتمع ويكون مجموعها مائة فتجتمع في المرعى وفي الأكل وفي غيرها مما سنذكره فهذه تعتبر خلطة أوصاف وليست خلطة أعيان. ففي خلطة الأوصاف: هل يعرف كل واحد من الشريكين ماله وما عليه؟ نعم. أما في خلطة الأعيان فالأمر مشاع لا يتحدد مالكل واحد منهما. = ذهب الجماهير - كما هو مذهب الحنابلة -: إلى أن الخلطة تؤثر في الزكاة. واستدلوا: - بقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: (لا يجمع بين متفرق ولا يفرق بين مجتمع خشية الصدقة). فدل على أنهما إذا اجتمعا وجمعا المالين أو فرقاهما أثر. - نمثل لمسألة لا يجمع بين متفرق ولا يفرق بين مجتمع: إذا ملك كل واحد من الشخصين عشرين من الشياه. إذا استقل كل واحد منهما فهل نجب عليه الزكاة؟ وإذا اجتمعا؟ تجب. إذاً هذا يتعلق بقوله: ولا يفرق بينهما خشية الصدقة. - الجمع: إذا كان لزيد أربعبن وعمروا أربعين وخالد أربعين. فلو اجتمعوا لوجب عليهم شاة واحدة ولو تفرقوا لوجب ثلاث شياه لكل واحد شاة فيقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: (لا يجوز أن تجمعوا بين هذه الشياه بقصد الفرار من الزكاة.

=القول الثاني: أن الخلطة لا تؤثر في الزكاة لا زيادة ولا نقصاً بل كل واحد من الشريكين يزكي ماله بحسب مقداره. واستدلوا على هذا الحكم: - بالعمومات. كقوله: (في كل خمس شاة) (في كل ثلاثين في البقر (تبيع) فهذا الحديث عام يشمل ما إذا كانت الأنعام مجتمعة وما إذا كانت متفرقة. والجواب عليه: كما تقدم معنا: أن الخاص مقدم على العام. وأن عموم أدلة القول الثاني تخصص بالأدلة الخاصة لأصحاب القول الأول وهم الجمهور. والراجح: أن الخلطة تؤثر. • يقول رحمه الله: والخلطة تصير المالين كالواحد. يعني: في الزكاة. من حيث المقدار وما يؤخذ منهما. ــ مسألة: لا تؤثر الخلطة إلا إذا اشتركا في الشياه: - فمنهم من قال خمس. - ومنهم من قال سبع. - ومنهم من قال غير ذلك. على المذهب هي خمسة أشياء: - الأول: المراح. ويقصد بالمراح مكان المبيت. - الثاني: الفحل. ويقصد بالفحل: أن لا يخصص فحل أحد المالين لضرب هذا المال فقط. بل يكون الفحل مشاع للجميع. ولا يقصد الفقهاء بقولهم الفحل أنه يجب أن يكون فحل واحد لجميع الغنم مثلاً بل الشرط أن لا نخصص فحلاً معيناً لفئة من الأموال فنترك المجموعتين على سجيتها بدون أن نخصص فحلاً معينا لأحد المالين. - الثالث: المسرح: وهو المكان الذي تجتمع فيه البهائم لتذهب إلى المرعى - الرابع: الراعي. - الخامس: مكان الحلب. فيجب أنه يشترك المالان في هذه الخمسة أمور فإن لم يشتركا في جميع هذه الخمسة فلا يعتبر المال مخلوطاً وكل يخرج زكاته بحسب ماله. وهذا عند الحنابلة. = القول الثاني: أنه يرجع في معرفة الخلط وعدمه إلى العرف فإذا اعتبر العرف المال مختلطاً - البهائم مختلطه - اعتبرناها مختلطة وإلا فلا. وإلى هذا ذهب ابن مفلح رحمه الله. وهذا القول - الثاني - لا شك أنه هو الصواب. لأن القاعدة الشرعية تقول: (أنه إذا جاء لفظ في الشرع ولم يأت في الشرع له تحديداً فنرجع فيه إلى العرف). والشارع لم يحدد معنى الخلطة. والأحاديث التي فيها تحديد الفحل والمرعى والراعي ضعيفة. فنرجع إلى الأصل وهو أنه يعرف حد ذلك بالعرف. فما اعتبره الناس جميعاً فهو جميع.

باب زكاة الحبوب والثمار

والغالب في الخلط: أن يكون بسبب اتحاد الراعي. فإذا كان يوجد في المدينة شخص يرعى الغنم ومعروف برعيه لها صار كل مجموعة من الناس يعطيه عدد من الغنم فتجتمع عند هذا الراعي من هذا خمس ومن هذا خمس إلى أن تجتمع عنده أعداد كبيرة فيأخذ حكم الخلطة ونقول أخرج الزكاة من مجموع ما لديك من الأغنام مثلاً مع العلم أنه قد يكون لكل واحد من الذي أعطوه شاة واحدة لكن أعطاه أربعين شخص أربعين شاة فوجبت فيه الزكاة شاة واحدة. إذاً عرفنا الآن أن الخلطة تؤثر وعرفنا شروط تأثير الخلطة وعرفنا أن الصواب أنه يرجع في تحديد الخلطة إلى العرف الدارج بين الناس. والراعي يخرج من أموالهم ثم يرجعون على بعضهم بالسوية. فلو أن لشخص عشرين والآخر له عشرين وأخرجنا شاة من عشرين زيد فإن عمراً يعطي زيد نصف قيمة الشاة. والنبي - صلى الله عليه وسلم - يقول في آخر الحديث: (وما كان من الخليطان فإنهما يتراجعان بينهما بالسوية). يعني يرجع بالقيمة على من دفع. باب زكاة الحبوب والثمار بعد أن أنهى رحمه الله الكلام عن زكاة بهيمة الانعام انتقل إلى باب زكاة الحبوب والثمار وهي ثابتة في الكتاب والسنة والإجماع. - أما الكتاب فآيات كثيره منها قوله تعالى: (وآتوا حقه يوم حصاده) قال ابن عباس: حقه الزكاة. - وأما الإجماع فحكاه غير واحد من أهل العلم وهو إجماع في الجملة لأنه سيأتينا الإختلاف في الحبوب والثمار التي تجب فيها والتي لا تجب فيها. فالإجماع يقصد به في الجملة فتجب الزكاة في الحبوب والثمار. - وأما السنة فأحاديث مستفيضة كثيرة سيأتينا أفرادها أثناء بحث الباب. • قال رحمه الله: تجب: في الحبوب كلها ولو لم تكن قوتاً، وفي كل ثمر يكال ويدخر: كتمر وزبيب. يريد المؤلف رحمه الله في هذه العبارة أن يبين الضابط الذي تجب فيه الزكاة في الحبوب والثمار فيقول: في الحبوب كل وفي كل ثمر يكال ويدخر. = ذهب الحنابلة إلى أنه كل ما يكال ويدخر من الحبوب والثمار تجب فيه الزكاة ولذلك قال: في الحبوب كلها. بناء على أن الحبوب كلها مما يكال ويدخر. فالحنابلة يرون: أن كل حب أو ثمر يكال ويدخر فإنه تجب فيه الزكاة. واستدلوا على هذا:

- بقول النبي - صلى الله عليه وسلم - ليس فيما دون خمسة أوسق صدقة. وجه الاستدلال: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - ذكر الاوق فدل على أن ما لا يكال لا تتعلق به الزكاة. فهذا دليل الكيل. وأما دليل الادخار فقالوا: - أن النعمة تتم وتكمل في الادخار يعني فيما يدخر دون ما لا يدخر فلا تجب فيه الزكاة. فيشترط في الحبوب والثمار لكي تجب فيها الزكاة أن تجمع بين وصفين: - الادخار. - والكيل. وهذا مذهب الحنابلة. = القول الثاني: أنه تجب الزكاة في كل ما يخرج من الارض. وهذا مذهب داود الظاهري وهو الذي تبناه الأحناف. واستدلوا: - بقوله تعالى: (وآتوا حقه يوم حصاده). فإن الآية عامة لم تستثن شيئاً. = والقول الثالث: أن الزكاة تجب في كل ما يقتات ويدخر. ونستطيع أن نقول أن هذا مذهب الجمهور لأنه مذهب المالكية والشافعية. واستدلوا على هذا: - بأن النبي - صلى الله عليه وسلم - ذكر أنه لا زكاة في القثاء والبطيخ. وقالوا: سبب ذلك أنها ليست مما يقتات فليست قوتاً. وأما الادخار ف: - لأن النعمة إنما تعظم بما يدخر دون غيره - يعني: قريب مما استدل به الحنابلة. = والقول الأخير: الذي مال إليه شيخ الاسلام أن الضابط: الادخار فقط. - لأنه هو المعنى الذي يناسب أن يربط به وجوب الزكاة دون غيره. والصواب: مع الحنابلة. ما يكال ويدخر. فكل حب أو ثمر يكال أو يدخر فإنه تجب فيه الزكاة. بناء على هذا لا تجب الزكاة في جميع الخضراوات والفواكه. لأنها لا تكال ولا تدخر. ونذكر قول الظاهرية والذي تبناه ابن حزم: وهو أنه لا تجب الزكاة إلا في أربعة أشياء: البر والشعير والزبيب والتمر. فهذا مذهب الظاهرية وذهب إليه أيضاً بعض المحققين مثل أبو عبيد وأيضاً ذهب إليه بعض السلف من التابعين. واستدلوا على هذا: - بأن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما أرسل معاذ إلى اليمن أمره أن لا يأخذ الزكاة إلا من هذه الأربعة. وحديث معاذ هذا الذي فيه الأمر بخذ الزكاة من أربعة أصناف فقط فيه خلاف في تصحيحه وتضعيفه. فممن ضعفه الإمام الدارقطني والترمذي. وومن صححه الإمام البيهقي فقد رأى أن إسناده حسن.

وأنا عندي توقف في هذا الحديث ففي تصحيحه وتضعيفه إشكال فإن له شواهد ممكن أن تقويه وفي المقابل متنه غريب وفي اسناده ارسال ومما يزيد الاشكال أن الذين تكلموا فيه المتقدمون. وكما تلاحظ الخلاف بين البيهقي وهو من المتقدمين والدارقطني. فأوجد هذا نوع إشكال ففي تصحيحه وتضعيفه فيه نوع توقف عندي لكن مع ذلك أقول أن مذهب الحنابلة هو الصواب لأن في حديث الاوساق الإشارة الواضحة إلى مسألة الكيل. وحديث معاذ إن صح يحمل على أنه لا يوجد في ذلك الوقت في اليمن مما تأخذ منه الزكاة إلا هذه الأربع أصناف .. (((الأذان))). انتهى الدرس

قال شيخنا حفظه الله: بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين. لما بين المؤلف الانواع التي تجب فيها الزكاة من الحبوب والثمار انتقل بعد ذلك إلى بيان شروط وجوب الزكاة في الحبوب والثمار. - فالشرط الأول: أن يبلغ النصاب. وعبر عن هذا بـ: • قوله - رحمه الله -: ويعتبر: بلوغ نصاب قدره ألف وستمائة رطل عراقي. اشتراط بلوغ النصاب مما لا خلاف فيه بين أهل العلم لقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: (ليس فيما دون خمس أوسق صدقة). فنص على أن الصدقة لا تجب إلا إذا بلغ خمسة أوسق. والخمسة أوسق تساوي بميزاننا الحديث ستمائة واثنا عشر كيلو. فإذا ملك الانسان هذا المقدار وجبت عليه الزكاة. وتحديده بستمائة واثنا عشر كيلو مما اختلف فيه المعاصرون ولكن نختار هذا التقدير لكون شيخنا - رحمه الله - صنعه بيده. فقام بقياس المقدار بيده - رحمه الله -. والاختلاف بينهم أمره يسير. فيكون النعتبر والمعتمد إن شاء الله هذا الرقم: 612 كيلو. • ثم قال - رحمه الله -: وتضم ثمرة العام الواحد بعضها إلى بعض: في تكميل النصاب. أي إذا وجدت ثمرة واحدة لها أنواع فإن هذه الأنواع يضم بعضها إلى بعض في تكميل النصاب ولا يعتبر كل نوع على حدة.

فمثلاً: إذا قلنا تجب الزكاة في العنب. فإن العنب منه الأحمر ومنه الأبيض ومنه الطائفي ومنه البلدي وله أنواع معروفة فجمع هذه الانواع تضم بعضها إلى بعض فيما لو كانت مزرعة الإنسان تحتوي على جميع هذه الانواع فإذا بلغت النصاب المعتبر وجبت فيها الزكاة. إذاً: الأنواع المختلفة لجنس واحد يضم بعضها إلى بعض. ثم أراد المؤلف - رحمه الله - أن يبين حكم الجنس بعد أن بين حكم النوع. وقبل ذلك نشير إلى أن قوله: (وتضم ثمرة العام الواحد) فالذي يضم ثمرة عام واحد أما ثمرة الأعوام المختلفة فلا يضم بعضها إلى بعض لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يبعث السعاة في كل سنة مرة واحدة. فإذاً لا نضم بعضها إلى بعض فلو فرضنا أن الثمرة بقيت في بعض الشجر إذا أمكن ذلك إلى أن طلع الثمر من السنة القادمة فإنه لا يضم ثمر هذه السنة إلى ثمر السنة القادمة. • ثم قال - رحمه الله -: لا جنس إلى آخر. يعني: لا يضم جنس من الحبوب أو الثمار إلى آخر. فلا يجوز أن نضم البر إلى الشعير. ولا التمر إلى العنب. لأن هذه أجناس مختلفة لا يكمل نصاب بعضها من بعض لاختلاف الجنس وإنما يضم إلى بعضها إلى بعض إذا كانت أنواع مختلفة لجنس واحد. • ثم قال - رحمه الله -: - مبيناً الشرط الثاني: ويعتبر أن يكون النصاب: مملوكاً له وقت وجوب الزكاة. - الشرط الثاني: أن يكون المال الزكوي من الحبوب والثمار مملوكاً للإنسان وقت وجوب الزكاة. وسينص المؤلف - رحمه الله - في الفصل اللاحق على وقت وجوب الزكاة. ووقت وجوب الزكاة هو: صلاح الثمر واشتداد الحب. فبالنسبة للثمر: أن يصلح: بأن يحر أو يصفر. وبالنسبة للحب: أنه يشتد. فإذا وصلت الحبوب أو الثمار إلى هذه المرحلة فقد بلغت وقت الوجوب. فمن شروط وجوب الزكاة: أن يكون المال مملوك للإنسان وقت الوجوب. - فإذا باع المزارع الثمرة قبل بدو الصلاح - وجوب الزكاة - فالزكاة على المشتري. لأن المشتري هو الذي سيصادف وقت وجوب الزكاة. - وإذا باع الإنسان ثمرة بستاه بعد بدو الصلاح فالمشتري لا زكاة عليه وتكون الزكاة على البائع. فيجب أن يخرج زكاة هذه الثمرة التي باعها.

ولما قرر المؤلف - رحمه الله - هذا الشرط: أنه لا تجب الزكاة إلا على من ملك النصاب وقت وجوب الزكاة وعرفت الآن متى يكون وقت وجوب الزكاة - انتقل إلى التفريع على هذا الشرط: • فقال - رحمه الله -: فلا تجب فيما: يكتسبه اللقاط. اللقاط: هو الذي يتتبع المزارع ليأخذ ما سقط منه سوار من الحب أو من الثمر. فلو فرضنا أن هذا اللقاط أخذ من الأرض ما يبغ نصاباً فلا زكاة عليه لأن الشرط لم يتحقق في حقه فإنه ملك هذه الثمار والزروع بعد وقت الوجوب. ونحن عرفنا أنه إذا ملك الإنسان الحبوب والثمار بعد وقت الوجوب فإن الزكاة لا تجب عليه. • ثم قال - رحمه الله -: أو يأخذه بحصاده. يعني: ولا تجب الزكاة على من أخذ الزرع بحصاده. وصورة هذا: أن يقول شخص لآخر: قم بحصاد الزرع ولك ثلث ما نتج. فإذا حصده وأخذ الثلث وبلغ الثلث نصاباً فإنه لا زكاة عليه لأنه ملكه بعد وقت الوجوب وهو: اشتداد الحب ز • ثم قال - رحمه الله -: ولا فيما: يجتنيه من المباح كالبطم والزَعْبَل وبزر قطونا، ولو نبت في أرضه. هذه الأشياء مباحه. ومعنى أنها مباحه: أي أنها لا تملك إلا بعد الأخذ وهب قبل الأخذ ملك لجميع المسلمين. - لقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: (الناس شركاء في ثلاث: الماء والنار والكلأ). فالكلأ ونحوه مما ينبت بغير فعل الآدمي لا يملك إلا بالأخذ فقبل الأخذ هو مباح لجميع المسلمين. فإذا أخذ الإنسان من هذه الأشياء المباحة ما يبلغ نصاباً فإنه لا زكاة عليه. والتعليل: أن هذه الأشياء لا تملك إلا بالأخذ. فإذاً هي وقت الوجوب لم تكن مملوكه لهذا الشخص. ويستثنى من هذا: - إذا سقط في أرض الإنسان بذر مما اعتاد الآدمي على وضعه في الأرض فإنه تجب عليه الزكاة ولو سقط بغير قصد منه. فلو أن شخصاً وقع أو سقط في أرضه المملوكة له بذر وأنبتت الأرض قمحاً ولم يكن وقوع هذا البذر بقصد منه وإنما بغير قصد منه فيجب عليه مع ذلك أن يزكي هذا الذي نبت في أرضه لأن هذا مما يملك وليس من الكلأ الذي يباح لجميبع الناس. إذاً: هذه المسائل الثلاث مفرعة على الشرط الثاني: ما يأخذه اللقاط وما يأخذه بحصاده وما يجتنيه من المباح. فصل [في قدر الواجب في الحبوب والثمار]

• ثم قال - رحمه الله -: (فصل) المؤلف - رحمه الله - يريد أن يبين في هذا الفصل القدر الواجب ويريد أن يبين متى يكون وقت الوجوب وسيبين جملة من المسائل المهمة جداً والتي تتعلق بالحبوب والثمار. • قال - رحمه الله -: يجب: عُشر فيما سُقي بلا مؤونة. كلمة مؤنة هنا في هذه النسخة (نسخة الهبدان) يبدو أنها خطأ من الطابع أو شيء من هذا .. المهم أن النون عليها ضمة والصواب فتحة. وأيضاً تضاف بعد الواو المهموزة واواً أخرى. العشر هو: الواحد من عشرة. فيجب في الزرع والثمر الذي سقي بغير بمؤونة العشر: بالإجماع. - لقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: (فيما سقت السماء أو العيون أو كان عثرياً العشر وفيما سقي بالنضح نصف العشر). وهذا الحديث في البخاري ومسلم ولا إشكال في صحته. إذاً إذا كان الزرع سقي بالسماء - يعني بالمطر - أو من خلال العيون التي تخرج من غير فعل آدمي أو كان عثرياً وهو الماء الذي يتجمع في البرك من غير فعل الإنسان ففي كل هذه الأحوال التي نص عليها الحديث يجب على المزارع أن يخرج العشر لأنه سقي بلا مؤونة. وهذه الأشياء المذكورة في الحديث ذكرت على سبيل التمثيل. فكل زرع سقي بلا مؤونة ففيه العشر. ـ مسألة: كل عمل يقوم به المزارع مرة واحدة في السنة ثم لا يعود إليه إلا من السنة القادمة فإن الزرع يعتبر سقي به بلا مؤونة. مثاله: إذا قام المزارع بشق حفرة ليأتي الماء من النهر إلى المزرعة مرة واحدة في أول السنة ثم صار الماء يأتي من النهر إلى المزرعة بلا عمل من المزارع فهذا يعتبرربلا مؤونة لأنه عمل في السنة مرة واحدة. مثال آخر: إذا قام المزارع بتركيب الدولاب الذي يخرج الماء من النهر إلى المزرعة مرة واحدة والذي يدير الماء هو النهر لا الحيوانات فإنه يركبه في السنة مرة واحدة ثم لا يعود إليه فهذا يعتبر بلا مؤونة. هذه الأشياء التي ذكرت في الحديث والتي ذكرتها الآن مما مثل به الفقهاء فكلها أمثلة. والقاعدة: أن ما سقي بلا مؤونة فيه العشر. • ثم قال - رحمه الله -: ونصفه معها. يعني ويجب نصف العشر في الزرع الذي سقي بمؤونة. - للحديث السابق وللإجماع.

ـ مسألة: توضح المقام: كل ما احتاج المزارع لإخراجه من الأرض وإيصاله للزرع إلى آله فهو بمؤونه. والمقصود بقول الفقهاء هنا: (آله) يعني تدار من قبل الآدمي. أي بصنع وعمل الآدمي. فإذا وضع آلة تدار بالحيوانات أو بالكهرباء أو بغيره من الوقود الذي تدار به الآلات فإنه يعتبر بمؤونة. أما الآلة التي تدور بمرور الماء في النهر فهذه بغير صنع الآدمي وإنما بمجرد جريان النهر. بناء على هذا: ما يوجد من آلات حديثة يخرج الماء عن طريقه في وقتنا المعاصر - كالدينموات والمكائن - فكل هذا يعتبر بمؤونة. لأن المزارع احتاج في إخراج الماء إلى الزرع إلى آله وهذه الآلة تدار من قبل الإنسان. عرفنا الضابط فيما سقي بمؤونة وعرفنا الحكم وهو: وجوب نصف العشر. • ثم قال - رحمه الله - وثلاثة أرباعه بهما. يعني إذا سقي بمؤونة النصف وسقي بلا مؤونة النصف الآخر فإنه يجب فيه ثلاثة أرباع بإجماع الفقهاء. - لأن هذا مقتضى العدل. فإذا سقي ستة أشهر بمؤونة وسقي ستة أشهر أخرى بلا مؤونة فإن فيه ثلاثة أرباع إذا افترضنا أن النبتة بقيت هذا المقدار: اثنا عشر شهراً فإذا كانت عادة تبقى ستة أشهر فإذا سقيت ثلاثة بمؤونة وثلاثة بلا مؤونة ففيها كما قال المؤلف: ثلاثة أرباع. • ثم قال - رحمه الله -: فإن تفاوتا: فبأكثرهما. يعني إذا تفاوت السقي بين أن يكون تارة بمؤونة وتارة بلا مؤونة فـ: = عند الحنابلة يعتبر بأكثرهما. والمقصود بالأكثرية هنا: الأكثر نفعاً ونمواً لا عدداً ووقتاً. وهذا مهم في فهم مذهب الحنابلة. فإذا افترضنا أن المزارع سقى الشجرة لمدة شهر بلا مؤونة وسقاها لمدة عشرين يوماً بمؤونة والذي أثر في نضج الثمرة ونموها السقي الأخرين لمدة عشرين يوماً ففيه النصف لأن السقي الذي أثر هو الذي بمؤونة. الدليل: - قالوا: أن اعتبار كل سقيه ومعرفة مقدار كل سقيه أمر يشق فنرجع إلى الأكثر كما في السوم - في البهائم السائمة فإن في السائمة اعتبرنا الأكثر فكذلك هنا. = القول الثاني: أنه إذا تفاوت السقي بمؤونة وبغير مؤونة يؤخذ بالقسط منهما. لأنا إذا اعتبرنا القسط في النصف فكذلك فيما دون النصف أو أكثر من النصف.

يعني: أصحاب هذا القول يقولون: - عند جميع العلماء: إذا سقي النصف والنصف ففيه ثلاثة أرباع فإذا كنتم تعتبرون النصف حداً طبيعياً فكذلك إذا تفاوت فكان أكثر من النصف وأقل من النصف فكذلك يجب أن نراعي الحساب بحسب السقي. فنعتبر هذا الأمر بالنسبة فالأكثر هو المعتبر. وهذا القول الثاني هو: مقتضى العدل. • ثم قال - رحمه الله -: ومع الجهل العشر. يعني إذا قال المزارع أنا لا أدري أيهما أكثر السقي بمؤونة أو بغير مؤونة ولا أعرف مقدار كل منهما فنقول الواجب عليك حينئذ العشر. لدليلين: - أولاً: ليخرج من العهدة بيقين. - ثانياً: لأن الأصل في الحبوب والثمار وجوب العشر وإنما خفف إلى النصف إذا كان يسقى بالمؤونة. فنرجع إلى الأصل. إذاً إذا قال المزارع أنه يجهل: نقول: الواجب عليك العشر. ولو قيل في هذه المسألة أن المزارع يقدر ويحتاط لكان له وجه قوي جداً. فنقول: قدر واحتط في هذا التقدير ثم زك بحسب النسبة. فإذا قال: أنا لا أدري الزرع بقي لمدة ستة أشهر ولا أدري كم سقي بمؤونة وبغير مؤونة؟ نقول: هل تجزم بشهرين؟ فإذا قال: لا. نقول: شهر ونصف. إذا قال لا أجزم. إذا قلنا فشهر؟ فقال: الشهر قطعاً. أنه مر عليه شهر سقي بمؤونة. فنقول: اعتبر هذا الذي تجزم به واخصم من الزكاة بمقداره. أما على المذهب فإنه بمجرد ما يجهل نسبة كل منهما فيجب عليه مباشرة أن يخرج العشر. ثم انتقل المؤلف إلى بيان وقت الوجوب: • فقال - رحمه الله -: وإذا اشتد الحب وبدا صلاح الثمر: وجبت الزكاة. = ذهب الجماهير إلى هذا الضابط. أنه إذا اشتد الحب وبدا الصلاح فقد حصل وقت الوجوب. واستدلوا على هذا: - بأنه حينئذ يقصد بالأكل والاقتيات. فإذاً وقت الوجوب هو اشتداد الحب وبدو الصلاح. وبدو الصلاح يعني: أن تحمر أو تصفر الثمرة إذا كانت مما يحمر أون يصفر. ويأتي معنا ما تقدم من المسائل المهمة التي كثير من الناس يضطرب فيها فيقول من يخرج الزكاة. هل الذي يشتري المزرعة يخرج الزكاة أو مالك المزرعة يخرج الزكاة؟ وقد عرفنا من هو الذي يخرج الزكاة؟ وهو: الذي تكون الثمرة مملوكة له وقت الوجوب سواء كان البائع أو المشتري.

فأي إنسان يملك الثمرة أو الزرع وقت الوجوب فهو الذي مخاطب بوجوب إخراج الزكاة. وغالباً سيكون: المالك - البائع - لأنه لا يجوز أصلاً بيع الثمر قبل بدو الصلاح. فدائماً سيكون من يجب عليه الزكاة هو: المالك - البائع. لأنه أصلاً لا يجوز له أن يبيع إلا بعد الصلاح. إذاً: لو قيل: هل لهذه المسألة فائدة؟ نقول: نعم لها فائدة لأنه يوجد صور فيها خلاف لكن أجاز بعض أهل العلم شراء الثمر فيها قبل بدو الصلاح. من أمثلة هذه الصورة: أن يشتري الإنسان الثمر قبل بدو الصلاح بشرط القطع ثم يبقيها من غير حيلة. فلو جاء إنسان ليشتري ثمر النخيل لهذا العام قبل بدو الصلاح نقول له: لا يجوز أن تشتري قبل بدو الصلاح. فإذا قال: سأشتري ثم أقطع مباشرة ولن أنتظر النضج لأني سأستعمل هذه الثمار لإعلاف الدواب. نقول: إذا كان ستقطع مباشرة فيجوز أن تشتري قبل بدو الصلاح. ثم لما اشترى بدا له أن يترك الثمرة - من غير حيلة بحيث يكون نوى من الأصل فحينئذ يجوز له أن يشتري وأن يبقي الثمرة ويكون الزكاة على امشتري في هذه الصورة. فالمهم نقول: من ملك هذه الحبوب والثمار وقت وجوب الزكاة فهو الذي يجب عليه أن يخرج الزكاة. • ثم قال - رحمه الله -: ولا يستقر الوجوب: إلاّ بجعلها في البيدر، فإن تلفت قبله بغير تعد منه: سقطت. البيدر هو: اسم للمكان الذي تجمع فيه الثمار ليتم نضجها ويبسها. فالمؤلف - رحمه الله - يقول: لا يستقر الوجوب إلا بجعلها بالبيدر. يعني: إذا خرصنا الثمر على رؤس النخل وعرفنا مقدار الزكاة فيه ثم قبل أن تحصل هذه الثمرة وتجعل في مكان جاف تحت الشمس لتيبس فقبل ذلك أصابتها جائحة فإنه لا يجب على مالك الثمرة الزكاة. = وهذا مذهب الجمهور. واستدلوا على ذلك: - بأن هذه الثمرة قبل التحصيل ليست في يده ولا تحت تصرفه ولو أصابتها جائحة بعد البيع لرجع البائع على المشتري فإذا تلفت لم تجب فيها الزكاة. لكن اشترط المؤلف - رحمه الله - كما تلاحظ في المتن شرطاً: أن يكون ذلك بغير تعد منه: • فقد قال - رحمه الله -: فإن تلفت قبله بغير تعد منه سقطت. إذا تلفت بغير تعد من المزارع قبل أن يجعلها في البيدر سقطت. أما إذا تلفت بتعد منه فإنها لا تسقط.

مثال التعدي: أن يتساهل المزارع قبل جني الثمرة ويرش هذه الثمرة بالسم القاتل للحشرات المضرة ولكن يتساهل ويفرط ويكثر من الرش ولا يراعي الطريقة الصحيحة للرش فيؤدي ذلك إلى فساد الثمر. فعلى المذهب يجب على المزارع أن يضمن الزكاة لأنها فسدت بتفريط منه. وعرفنا بهذه للمؤلف: أن الثمرة من حيث التعدي والتفريط ووجوب الزكاة لها ثلاثة أنواع: - النوع الأول: أن تفسد قبل وجوب الزكاة: يعني: قبل بدو الصلاح: فحينئذ: لا تجب الزكاة ولو فسدت بتعدي وتفريط المزارع. لأن الزكاة لم تجب في ذمته أصلاً قبل وقت الوجوب. - النوع الثاني: الذي ذكره المؤلف عندنا هنا: أن تتلف بعد وجوب الزكاة وقبل جني الثمرة: فإن فرط ضمن وإن لم يفرط لم يضمن. - النوع الثالث: أن تتلف الثمرة بعد جنيها ووضعها في البيدر: فحينئذ يجب على المالك أن يضمن الزكاة ولو كان التلف بغير تفريط ولا تعدي. إذاً هذه ثلاثة أنواع مهمة جداً للمزارعين: متى يجب عليه أن يضمن. - ومتى يجب أن يضمن؟. بالنسبة للنوع الأول وهو: إذا تلفت قبل وجوب الزكاة لا إشكال أنه لا يضمن لأنها لم تجب أصلاً سواء كانت بتعدي أو تفريط أو بغير تعدي أو تفريط. وبالنسبة للنوع الثاني والثالث: = القول الثاني: أن المزارع لا يضمن مطلقاً في أي مرحلة من مراحل الثمرة إلا بالتعدي والتفريط. - تعليل ذلك: أن يد المزارع على الثمرة يد أمانة والقاعدة تقول: ((أن يد الأمانة لا تضمن إلا بتعدي أو تفريط)). وهذا القول الثاني هو الصواب إن شاء الله. ـ مسألة: - تبين ثمرة الخلاف - إذا خذ الإنسان التمر ووضعه في الجريد أو في البيدر لينضج أن ليتم نضجه ويبسه واحترق بغير تفريط ولا تعدي منه: فما الحكم؟ = عند الحنابلة: يضمن. لأنه بعد جني الثمرة. = وعلى القول الصواب: لا يضمن. إذا تلفت الثمرة بعد وقت الوجوب وقبل الجني بغير تعد ولا تفريط فعلى القولين لا يضمن لا عند الحنابلة ولا عند أحاب القول الثاني. إذا تلفت الثمرة قبل وجوبها بتعد وتفريط: لا يضمن. إذا تلفت قبل جنيها بتعد وتفريط: يضمن عند الجميع. وإذا تلفت بعد جنيها بتعد وتفريط: يضمن. إذاً يضمن دائماً بتعد وتفريط إلا إذا كان ذلك قبل الوجوب. • ثم قال - رحمه الله -

ويجب: العشر على مستأجر الأرض. يعني: أن الذي يجب عليه إخراج الزكاة هو: المستأجر لا مالك الأرض. لأن المستأجر الذي زرع هو المالك الحقيق للثمرة لا صاحب الأرض. يدل على هذا: أن من استأجر حانوتاً فإن وجوب زكاة التجارة عليه على مؤجر الحانوت فكذلك من أجر أرضاً لمن يزرعها فالزكاة على الزارع لا على مالك الأرض. ثم انتقل المؤلف رحمه الله للكلام عن العسل: • فقال - رحمه الله -: وإذا أخذ من ملكه أو مواته من العسل مائة وستين رطلاً عراقياً ففيه: عشره. بين المؤلف - رحمه الله - في هذه العبارة مسألتين: ـ المسألة الأولى: النصاب وهي مائة وستين رطلاً. الدليل على هذا التقدير: - أنه روي عن عمر - رضي الله عنه - أنه قدر نصاب العسل بهذا المقدار وهو يساوي: بالكيلوات المعاصرة 62كيلو تقريباً. = القول الثاني: لأبي حنيفة أن الزكاة تجب في العسل في قليله وكثيره. - لعموم قوله تعالى: - (وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ .. ) -[البقرة/267]. فإنه يعتبر العسل من جنس الخارج من الأرض فتجب عنده في القليل والكثير. والصواب. أنها لا تجب إلا إذا بلغت هذا المقدار لوروده عن عمر - رضي الله عنه -. ـ المسألة الثانية: عند قوله: (ففيه عشره) يعني: أن الزكاة تجب في العسل وإلى هذا ذهب الإمام أحمد - رحمه الله -. وهو مذهب الحنابلة والمذهب الشخصي للإمام أحمد. استدلوا على هذا بأمرين: - أولاً: أحاديث مرفوعة إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه أوجب الزكاة في العسل على بعض أهل اليمن. ولا يصح في وجوب زكاة العسل حديث عن النبي - صلى الله عليه وسلم - مطلقاً. فجميع الأحاديث المرفوعة التي تفيد وجوب زكاة العسل ضعيفة. - ثانياً: أنه صح عن عمر - رضي الله عنه - أنه أمر رجلاً من أهل اليمن أن يخرج زكاة العسل الذي يملك نحله ومقابل ذلك يقوم عمر - رضي الله عنه - بمنحه مساحة من الأرض لنحله ويحميها له فقال: نحمي لك وتخرج الزكاة. = القول الثاني: أنه لا تجب الزكاة في العسل. - لأن الأصل براءة الذمة وحرمة مال المسلم. - ولأنه لم يثبت في حديث صحيح وجوب الزكاة في العسل. والقول الثاني هو الصواب.

باب زكاة النقدين

والقول الأول يتعين فيه الاحتياط لأنه مروي عن عمر - رضي الله عنه - ولم ينقل عن أحد من الصحابة أنه خالفه أو اعترض عليه. فينبغي لمن ملك عسلاً أن يحتاط ويخرج العشر من القيمة أو من نفس العسل. وكما قلت الاحتياط في هذا في الحقيقة متعين - نقول الاحتياط متعين لا الزكاة .. • ثم قال - رحمه الله -: والركاز: ما وجد من دفن الجاهلية. الركاز عرفه المؤلف. فهو ما يوجد من دفن الجاهلية. يعني: ما يجده الإنسان مدفوناً عليه من العلامات ما يدل أنه دفن في العهد الجاهلي. فتبين من هذا أنه إذا وجد مدفوناً عليه من العلامات ما يدل أنه دفن في عهد المسلمين فليس من الركاز. وهو كذلك ويعتبر من اللقطة. ثم بين المؤلف - رحمه الله - حكمه: • فقال - رحمه الله -: فيه الخمس في قليله وكثيره. الركاز: تميز بأحكام يختص يها لا يشترك معه غيره من الأموال الزكويه: - منها: أن الزكاة تجب في قليله وكثيره. - ومنها: أنه لايشترط له حول وأنه - كما قلنا لا يشترط له نصاب. - ومنها: أن مصرفه في مصالح المسلمين لا كما في الزكاة في الأصناف الثمانية التي ستأتينا. إذاً اختلف عن غيره من الأموال الزكوية بهذه الثلاثة أمور. الدليل على هذا: - قوله - صلى الله عليه وسلم -: (وفي الركاز الخمس). وقوله: الخمس. قال الحنابلة: المقصود بالخمس هنا ال في الخمس للعهد الذهني يعني: الخمس المذكور في كتاب الله (لله ولرسوله) يعني بعبارة أخرى: الخمس الذي يجب في الفيء وهو يصرف في مصالح المسلمين العامة. فإذا أخرج الخمس من الرماز مهما كانت قيمة هذا الركاز فإن الباقي له قد ملكه إياه الشارع مهما كان نوع الموجود فما دام له قيمة وثمن سواء كان من الذهب أو الفضة أو من غيرهما. فإذا وجد معدناً نفيساً ففيه الخمس ولو لم يكن من الذهب والفضة. باب زكاة النقدين. • ثم قال - رحمه الله -: باب زكاة النقدين. يجب في الذهب: إذا بلغ عشرين مثقالاً .. الخ. الذهب تجب في الزكاة بالإجماع فلم يخالف في هذا أحد من أهل العلم ولله الحمد. وقد دل على وجوبه: الكتاب والسنة. - أما من الكتاب: فقوله تعالى: - (والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله فبشرهم بعذاب أليم) -[التوبة/34].

ومن المعلوم أن البشارة بالعذاب الأليم لا تكون إلا على ترك واجب بل على ترك فريضة. - ومن السنة: قوله - صلى الله عليه وسلم -: (ما من صاحب ذهب ولا فضة لا يؤدي حقها إلا إذا كان يوم القيامة صفحت له صفائح من نار ثم أحمي عليها في نار جهنم ثم كوي بها جنبه وجبينه وظهره في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة حتى يقضى بين الناس). ولا يخفى مقدار المبالغة في العذاب المذكور في هذا الحديث فإنه ذكر أنها تصفح صفائح من نار ومع هذا يحمى عليها في نار جهنم ومع هذا يبقى يكوى عليها لمدة طويلة وهي خمسين ألف سنة ومع هذا يكوى في أكثر من موضع ومع هذا يكوى في أماكن يشتد فيها الألم وهو الجنب والظهر والجبين ومع هذا يكوى في موقع فيه إهانة وتوبيخ وهو الجبين. فلاحظ كيف شدد في العذاب على تارك الزكاة ولهذا اتفقوا على أن تارك الزكاة مرتكب كبيرة. • قال - رحمه الله -: يجب في الذهب: إذا بلغ عشرين مثقالاً: ربع العشر. مع اتفاق العلماء على وجوب الزكاة في الذهب إلا أنه ليس في السنة حديث صحيح يدل على نصاب الذهب وهذا من الغرائب ومن حكمة الله. إذاً: ما هو الدليل؟ الدليل: ذكروا أشياء: - الأول: الإجماع فإن أهل العلم أجمعوا على أن نصاب الذهب عشرين دينار إلا واحد من السلف خالف وهو الحسن البصري فقال: النصاب أربعين مثقالاً. إذاً الدليل الأول الإجماع إلا ما يذكرلا عن الحسن. - الثاني: روي في الباب أحاديث عن عائشة رضي الله عنها وعن علي - رضي الله عنه - ولكنها ضعيفة. - الثالث: فيه آثار عن أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم -. فلا إشكال إن شاء الله في أن النصاب هو عشرون مثقالاً. ـ مسألة - مهمة جداً -: هل نصاب الذهب يعتبر نصابا مستقلا أو يعتبر بالفضة؟ أي: إذا وجدنا عشرين دينار قيمتها أقل من مائتي درهم فهل تجب فيها الزكاة؟ وأيضاً: إذا وجدنا أقل من عشرين دينار لكن قيمتها مائتي درهم فهل تجب فيها الزكاة؟ هذه المسألة اختلف فيها الفقهاء على قولين: = القول الأول: أن الذهب له نصاب مستقل لا يعتبر ولا يرتبط بالفضة فيجب لكي نخرج زكاة الذهب أن يبغ عشرين مثقالاً برأسه.

= القول الثاني: أن نصاب الذهب معتبر بالفضة. ففي الحقيقة نصاب الذهب هو ما يبلغ قيمته مائتي درهم سواء كان أقل أو أكثر من عشرين ديناراً. واستدل هؤلاء: - بأن الله ورسوله أوجبا في الذهب ومع ذلك لم يأت عنهم ما يدل على النصاب فدل على أنهم أرادوا ربطها بالفضة وأنه يعتبر نصاب الذهب بنصاب الفضة. وإلى هذا القول - الثاني - ذهب عدد من السلف. وأنا أرى أنه هو القول الراجح وأن نصاب الذهب يعتبر بالفضة وأنه لهذا المعنى لم يأت في السنة ما يدل على نصاب الذهب ليرتبط بالفضة. أضف إلى هذا أن ربط الذهب بالفضة في الغالب هو من صالح الفقير. فإذا تقرر هذا تبين أن الأصل في اعتبار القيمة في باب الزكاة هو الفضة لا الذهب. هذا إذا رجحنا القول الثاني فدل هذا على أن الأصل أن نعتبر القيمة في الفضة لا بالذهب. فإذا بلغت قيمة الريالات بالفضة زكاة ولم تبلغه بالذهب فهل فيها زكاة أو ليس فيها زكاة؟ الجواب: فيها زكاة. لأن المعتبر هو الفضة. هذا إذا رجحنا القول الثاني وهو قول وجيه جداً كما ترى. • ثم قال - رحمه الله -: وفي الفضة: إذا بلغت مائتي درهم، ربع العشر منهما. نصاب الفضة دل عليه النص والإجماع. فقد أجمع العلماء على أن نصابه مائتي درهم. وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: (ليس فيما دون خمس أواق صدقة). والأوقية الواحد أربعين درهماً. فالمجموع: مائتي درهم. وهي تساوي في موازيننا المعاصرة: خمسمائة وخمس وتسعين جراماً. وأما الذهب - ولم نذكره في محله - يساوي خمس وثمانون جراماً. فمن ملك خمس وثمانين جرام وجبت عليه الزكاة. ومن ملك من الريالات ما قيمته خمس وثمانون جراماً وجبت عليه الزكاة. ومن ملك من الريالات ما قيمته خمسمائة وخمس وتسعين جراماً وجبت عليه الزكاة. وهذا كما هو معلوم يختلف باختلاف سعر الجرام. فإذا أراد الإنسان أن يعرف هل ملك نصاباً من الريالات أو من العملة أي نوع من أنواع العملة المعاصرة فعليه أن يسأل عن سعر الجرام ثم يضرب السعر بالذهب بخمس وثمانين وبالفضة بخمسمائة وخمس وتسعين. • ثم قال - رحمه الله -: ويضم الذهب إلى الفضة في تكميل النصاب. يضم الذهب إلى الفضة في تكميل النصاب في كل منهما.

فإذا كان عنده نصف نصاب من الفضة وعنده من الذهب ما قيمته مائة درهم صار مجموع ما عنده مائتي درهم وهو نصاب الفضة. إذاً يضم نصاب الذهب إلى الفضة في التكميل - يكمل الذهب من الفضة والفضة من الذهب. الدليل: - أولاً: قالوا: الدليل على ذلك: أن المقصود من الذهب والفضة واحد وجهة الانتفاع منهما واحدة لأن كلا منهما يعتبر ثمناً للأشياء. - ثانياً: أن الذهب والفضة كل منهما يقيم ويضم في عروض التجارة. يعني: الذهب يضم إلى عروض التجارة والفضة تضم إلى عروض التجارة فدل على أنهما واحد. = القول الثاني: أن لكل منهما نصاباً مستقل فلا يضم نصاب الذهب إلى الفضة ولا نصاب الفضة إلى الذهب. - لقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: (ليس فيما دون خمس أواق صدقة). قالحديث نص على أن الإنسان إذا ملك من الفضة دون خمس أواق أو دون مائتي درهم فإنه لا يجب عليه أن يزكي ولم يشر الحديث لا من قريب ولا من بعيد إلى التكميل بالذهب بالنسبة للفضة. وهذا القول هو الصواب إن شاء الله. والسبب في ترجيحه أن مال المسلم الأصل فيه العصمة في الحقيقة فما دام لا يوجد دليل صحيح في الضم نبقى على الأصل وهو عدم الوجوب. وإن كان ما ذهب إليه الجنابلة وجيه جداً في الحقيقة لأن الذهب والفضة وعروض التجارة سيأتينا أنها شيء واحد لكن الذي سبب ترجيح القول الثاني هو عصمة مال المسلم وأن الأصل عدم الوجوب وبراءة الذمة. ـ مسألة: هل المعتبر بالفضة الوزن أو العدد؟ اختلف الفقهاء: = فذهب الجماهير والجم الغفير إلى أن المعتبر الوزن لا العدد. فإذا ملك الإنسان أقل من مائتي رهم لكن وزنها خمس أواق فتجب عليه الزكاة. واستدلوا: - بقول النبي - صلى الله عليه وسلم - ليس فيما دون خمس أواق صدقة. = القول الثاني: أن المعتبر في الدراهم في تافضة العدد لا الوزن. - لقول النبي - صلى الله عليه وسلم - فإذا بلغ مائتي درهم وجبت فيه الزكاة فنص على العدد. والحديثان صحيحان. وإلى هذا القول - الثاني - ذهب شيخ الاسلام ابن تيمية. واستدل على هذا: - بأن النبي - صلى الله عليه وسلم - أوجب في مائتي درهم زكاة مع العلم أن الدراهم في وقته تختلف أوزانها فدل على أن المعتبر العدد لا الوزن.

والأقرب: أنه ينظر في ذلك إلى مصلحة الفقير فإذا وجبت الزكاة باعتبار الوزن أو باعتبار العدد وجبت الزكاة. لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - أوجب الزكاة باعتبار الوزن تارة وباعتبار العدد تارةة فمتى وجبت الزكاة بأي منهما وجبت الزكاة. فإذا ملك مائتي درهم تساوي أربعة أواق: = فعند الجمهور: لا تجب. = وعلى القول الثاني: تجب. وإذا ملك الإنسان مائة درهم وزنها خمس أواق: = فعند الجمهور: تجب. = وعلى القول الثاني: لا تجب. = وعلى القول الثالث: في المسألتين: تجب. • ثم قال - رحمه الله -: وتضم قيمة العروض إلى كل منهما. يعني: يكمل النصاب في قيمة عروض التجارة من: - الذهب. - ويكمل أيضاً من الفضة. - ويكمل من الذهب والفضة. الأول والثاني واضح. وأما الثالث فمثاله: لو ملك عروض تجارة قيمتها خمسين درهماً وعنده خمسين درهم وعنده ذهب بقيمة مائة درهم. فكم قيمة المجموع؟ مائتي درهم. وهو النصاب. فالآن أكملنا العروض بالذهب والفضة. وإلى هذا ذهب العلماء كلهم وهي محل إجماع. والدليل على هذا: - أن عروض التجارة تقوم بالذهب تارة وبالفضة تارة. فدل على أنه يكمل منهما النصاب جميعاً. وهذا واضح جدا لأن عروض التجارة أحياناً نعتبرها بالفضة وأحياناً نعتبرها بالذهب. بناء على هذا: نكمل النصاب من الذهب ومن الفضة. وهذه ليست محل خلاف. وقبل الدخول في مسألة ما يباح للذكر وما لا يباح: - ذكرنا أنه الأقرب أنه لا يكمل نصاب الذهب من الفضة ولا نصاب الفضة من الذهب: ـ مسألة: تضاف إلى هذا: مع ذلك الصواب أنه يجوز أن يخرج زكاة الذهب من الفضة وزكاة الفضة من الذهب خلافاً للحنابلة. الدليل: - لأن الغرض يحصل بإخراج الزكاة من أي منهما. وإذا حصل مقصود وغرض الشارع فأي مانع من أن نخرج الزكاة من الذهب عن الفضة أو العكس. بشرط أن لا يضر ذلك بالفقراء. (((الأذان))). انتهى الدرس

توقفنا بالأمس عند الكلام عن حكم الفضة عند قوله - رحمه الله -: ويباح للذكر. • فقال المؤلف - رحمه الله -: ويباح للذكر من الفضة: الخاتم وقبيعة السيف وحلية المنطقة ونحوه. ظاهر كلام المؤلف - رحمه الله - عندما قال: (ويباح للذكر). أن الأصل في الفضة التحريم. إلا ما دل الدليل على جوازه مما سيذكره المؤلف - رحمه الله -. = وإلى هذا ذهب الجمهور. = والقول الثاني: أن الأصل في الفضة الإباحة وهو رواية عن الإمام أحمد اختارها شيخ الاسلام - رحمه الله - وعدد من المحققين. لدليلين: - الأول: قوله - صلى الله عليه وسلم -: (أما الفضة فالعبوا بها لعباً). - الثاني: عدم وجود دليل صريح صحيح يدل على تحريم الفضة مطلقاً. وهذا القول أقرب للدليل. • قال - رحمه الله -: ويباح للذكر من الفضة: الخاتم وقبيعة السيف عرفت أن هذا التفصيل إنما هو على القول بالمنع المطلف للفضة. فإذا قلنا: تمنع مطلقاً فيجوز منها: ــ الخاتم: فيجوز للإنسان أن يتخذ خاتماً من فضة. - لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - صح عنه في الصحيحين أنه اتخذ خاتماً من وَرِقٍ. فدل هذا على جواز أن يتخذ الذكر المسلم خاتماً من وَرِقٍ. وقد صح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه اتخذه تارة باليمين وتارة بالشمال ولم يخص إحدى اليدين بوضع الخاتم فيها. وهذا يدل على أن ما يلبس في اليدين مما هو من جنس الخاتم ليس هناك سنة فيه: أن يكون في اليمين أو أن يكون في الشمال لأنه صح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه جعله تارة في اليمين وتارة في الشمال. • ثم قال - رحمه الله -: وقبيعة سيف. قبيعة السيف هي: ما يجعل على طرف المقبض من السيف. فهذا يجوز أن يكون من الفضة. بعبارة أخرى: يجوز أن نحلي السيف بالفضة. الدليل من وجهين: - الأول: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - اتخذ سيفاً وفي طرف قبضته فضة. وهذا الحديث حكم الأئمة بالإرسال وله شواهد. - الثاني: أن الزبير بن العوام وعروة - رضي الله عنهما - اتخذوا سيوفاً محلاة بالفضة. فدل هذا على الجواز. • ثم قال - رحمه الله -: وحلية المنطقة. المنطقة هي: ما يشدها الرجل على وسطه ليضع فيها ما يشاء من أشيائه. فهذه المنطقة يجوز أن نحليها بالفضة. والدليل على هذا: - ما اشتهر بين أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - أنهم فعلوا ذلك. يعني: حلوا المناطق التي يشدونها بأوساطهم بالفضة فدل هذا على الجواز.

• ثم قال - رحمه الله -: ونحوه. المقصود بنحوه: في هذا السياق يعني: آلات الحرب والملبوسات. فيجوز في هذين الأمرين أن نحليها باليسير من الفضة كما جاء عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وعن أصحابه. وقد سمعت الخلاف في الأصل من حيث حكم الفضة. ولما انتهى المؤلف - رحمه الله - من الفضة انتقل إلى الذهب. • قال - رحمه الله -: ومن الذهب: قبيعة السيف. = يعني: أنه يجوز أن نحلي قبيعة السيف أو أن تكون قبيعة السيف من الذهب. وقوله قبيعة السيف: يعني فقط دون غيره من آلات الحرب. - لأنه جاة عن أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - أنهم اتخذوا السيوف المحلاة بالذهب. يعني: التي كانت يوضع في طرفها شيء من الذهب. = والقول الثاني: أنه يجوز أن نحلي كل آلات الحرب السيف وغيره وأن الحكم لا يختص بالسيف. - إذ لا يوجد معنى يخصص الحكم بالسيف. = والقول الثالث: أنه يجوز اليسير من الذهب في آلات الحرب وفي الملبوسات جميعاً. بشرط أن يكون يسيراً. والدليل على ذلك: - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لبس قباءً أزراره من ذهب. وهذا الحديث ثابت في صحيح البخاري. فدل هذا على جواز لبس اليسير من الذهب سواء كان في آلات الحرب من السيف والرمح والسهم وغيرها أو في الملبوسات بشرط أن يكون يسيراً كما جاء في هذا الحديث الأزرار ونحوها. وهذا القول الأخير: اختيار شيخ الإسلام بن تيمية - رحمه الله -. والأقرب أن يسير الذهب جائز فإن فيه نص في البخاري. • ثم قال - رحمه الله -: وما دعت إليه ضرورة كأنف ونحوه. - لأن عرفجة بن أسعد - رضي الله عنه - قطع أنفه في الجهاد فاتخذ أنفاً من فضة فأنتن ثم اتخذ أنفاً من ذهب. فدل على أنه يجوز أن نضع من الذهب ما دعت ليه الحاجة. ويدل على ذلك أيضاً: - النصوص العامة الدالة على رفع الحرج. - وأن الضروران تبيح المحرمات. ويدل عليه أيضاً: - ما اشتهر عن عدد كبير من السلف - رضي الله عنهم - أنهم شدوا أسنانهم بالذهب. فإذاً: مجموع هذه النصوص يدل دلالة أشبه ما تكون بالقطعية على جواز استخدام الذهب للضرورة. • ثم قال - رحمه الله -: ويباح للنساء من الذهب والفضة: ما جرت عادتهن بلبسه ولو كثر. يجوز للنساء أن تتحلى بالذهب.

وهذا أمر مجمع عليه. ودلت عليه النصوص. فمن ذلك: - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما خطب يوم العيد ثم انتقل إلى النساء وأمرهن بالصدقة صرن يتصدقن بحليهن والنبي - صلى الله عليه وسلم - يأخذ ذلك بقبول. فدل على أن اتخاذ المرأة للحلي جائز. - الدليل الثاني: قول النبي - صلى الله عليه وسلم - عن الذهب والحرير. أحل لإناث أمتي وحرم على ذكورها. - والإجماع: فقد أجمعوا على جواز لبس الذهب بالنسبة للنساء. ولو كان كثيراً: - لأن النصوص عامة. ويستثنى من هذا إذا كانت الكثرة تدخل في حد الإسراف. فإنه حينئذٍ يعتبر محرم. مسألة / دَلَّ عموم كلام المؤلف - رحمه الله - أن الذهب يجوز بجميع أنواعه سواء كان محلق أو غير محلق. وهذه المسألة في الحقيقة أشبه ما تكون متفق عليها بين أهل العلم أن الذهب المحلق يجوز ولك تزل نساء الصحابة والنبي - صلى الله عليه وسلم - يلبسن الذهب المحلق وأكثر ما يتخذ الذهب إنما يتخذ محلقاً ووجد الخلاف عند بعض المعاصرين المتأخرين فذهب إلى المنع من الذهب المحلق متمسكاً بظواهر بعض النصوص والصواب الذي لا إشكال فيه إن شاء الله وعليه عامة السلف ولا أذكر الآن خلاف أصلاً بين السلف أن الذهب بجميع أنواعه جائز سواء كان محلق أو غير محلق. وربما يوجد عن واحد أو اثنين - أنا لا أذكر الآن لكن أقول ربكا نقل عن رجل أو اثنين من السلف: المنع من المحلق. لكن هذا القول أصبح كالمهجور واستقر أهل الرأي وأهل الفتوى من علماء المسلمين وأقصد بذلك المتقدمين بالقرون الأولى والثانية والثالثة والرابعة أن المحلق جائز ولا إشكال فيه. • ثم قال - رحمه الله -: ولا زكاة في حليهما المعد للإستعمال أو العارية. أفادنا المؤلف - رحمه الله - أنه لا زكاة في الحلي المعد للاستعمال أو العارية: يعني الذي يعار ويقاس عليه كل ذهب مباح. كل ذهب أبيح اتخاذه واستعماله. وهذه المسألة مسألة كبيرة وهي هل في الذهب - الحلي المعد للاستعمال زكاة أو لا؟ فيه خلاف كبير: على أقوال: - القول الأول: الذي ذكره المؤلف - رحمه الله - وهو مذهب الأئمة الثلاثة: مالك والشافعي وأحمد وجماهير الصحابة وعلمة العلماء أنه ليس في الذهب إذا اتخذ حلياً زكاة.

واستدل هؤلاء بأدلة: - الدليل الأول: صح عن عائشة - رضي الله عنها - أنها كانت لا تخرج الزكاة عن الذهب إذا اتخذ حلياً. - الدليل الثاني: صح عن ابن عمر - رضي الله عنه - أنه لا يرى في الذهب الذي اتخذ حلياً زكاة. - الدليل الثالث: أن الذهب إذا اتخذ على هيئة الحلي أن هذا الذهب يشبه أدوات القنية أكثر منه الأموال النامية فهو يشبه الملبوس والمركوب والسكن وآلات القنية أكثر منه شبهاً بالأموال الزكوية الأخرى باعتبار أن المناط المشترك أو القاسم المشترك بين الأموال الزكوية قبولها للنماء وهذا الذهب غير قابل للنماء باعتبار أنه يعد للاستعمال. فهذه ثلاثة أدلة تدل على عدم وجوب الزكاة في الحلي وسيأتي إتمام لهذه الأدلة وتأكيد عندما نذكر الراجح. = القول الثاني وهو مذهب الأحناف ومال إليه ونصره بقوة ابن حزم وكثير من المتأخرين. أن الزكاة تجب في الحلي المعد للاستعمال. واستدل هؤلاء بنوعين من الأدلة: 1 - أدلة عامة. 2 - وأدلة خاصة. ــ النوع الأول: الأدلة العامة. استدلوا: - بقوله تعالى { ... والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله فبشرهم بعذاب أليم} [التوبة/34]. ولاشك أن الحلي ذهب أو فضة. والجواب على هذا الدليل: أن الكنز في لغى العرب واستعمال الشارع لا يطلق إلا على الدراهم والدنانير دون الحلي فإن الحلي لا يسمى في اللغة ولا في العرف: كنزاً. ويدل على هذا المعنى أنه سبحانه وتعالى قال: { ... ولا ينفقونها .. } والتي تنفق هي الدراهم والدنانير لا الحلي المعد للإستعمال فإن الحلي المعد للإستعمال لا ينفق وإنما يبقى للإستعمال. فهذا الدليل الأول وجوابه. - الدليل الثاني: استدلوا أيضاً بالعمومات من السنة: ــ كقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: (وفي الرقة ربع العشر). ــ وكقوله - صلى الله عليه وسلم -: (ما من صاحب ذهب ولا فضة لا يؤدي حقها ... ) الحديث. والجواب عليه: أن الرقة والفضة تطلق في العرف والاستعمال على المضروب دون الحلي.

فما أجبنا به عن الآية هو الجواب عن نصوص السنة العامة وهو أنه يقصد بالذهب والفضة في هذه النصوص الدراهم والدنانير التي تتخذ للإنفاق والتنمية دون الحلي فإنها لا تدخل في منطوق هذه النصوص. ــ النوع الثاني: الأدلة الخاصة. واستدلوا بعدة أدلة: - الدليل الأول: حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن امرأة دخلت على النبي - صلى الله عليه وسلم - وفي يدها مسكتان من ذهب فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - (أتؤدين زكاة هذين). قالت: لا. قال: (أيسرك أن يطوقك الله بهما طوقين من نار يوم القيامة). - الدليل الثاني: حديث عائشة - رضي الله عنها - نحو حديث عمرو بن شعيب تماماً. - الدليل الثالث: حديث أم سلمة - رضي الله عنها - وهو أيضاً نحو حديث عائشة وعمرو بن شعيب. فإن ألفاظ هذه الأحاديث الثلاثة متقاربة. وهذه الأحاديث الثلاثة: عمرو وعائشة وأم سلمة هي أقوى الأدلة في الباب. يوجد أدلة أخرى لكن لا نشتغل بها لضعف أسانيدها. نبقى في هذه الأدلة التي تنص على وجوب الزكاة في الحلي. أجاب الجمهور عن هذه الأدلة بجوابين: ــ الجواب الأول: أن المقصود في هذه النصوص: العارية وأن هذا فهم الصحابة فإن الصحابة فهموا أن زكاة الحلي بإعارته. ــ الجواب الثاني: أن هذه الأحاديث ضعيفة. وممن ضعف هذه الأحاديث جميعاً الحافظ الترمذي فإنه قال في السنن: ولا يصح في هذا الباب شيء. وممن ضعف هذه الأحاديث ابن حزم فإنه قال: إنه في وجوب زكاة الحلي آثار ضعيفة. فهو رحمه الله يرى وجوب الزكاة لكن مع ذلك يضعف جميع الأحاديث فهو يعتمد في الوجوب على العمومات حتى لا يشكل على الإخوان كيف يضعف الأحاديث ويقول بوجوب زكاة الحلي. وممن أشار إلى ضعفها أيضاً الإمام الكبير الشافعي فإنه أشار إلى أنه لا يثبت في وجوب زكاة الحلي شيء. فهؤلاء ثلاثة من الأئمة وهذه الأحاديث لا تخلو أسانيدها من ضعف ولا تخلو متونها من بعض النكارة. فكل متن من هذه المتون فيه نوع نكارة والكلام عن كل واحد من هذه الأحاديث من حيث المتن يطول جداً فإن متون هذه الآثار أعلت كل واحد منها بأكثر من وجه.

والذي يظهر والله أعلم أن هذه الأحاديث لا تثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وأن الجواب الثاني هو الأقرب ولا يثبت أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمر تلك المرأة أو عائشة أو أم سلمة بزكاة ما عليها من حلي. - الدليل الأخير لهم: ثبت عن ابن مسعود أنه يرى وجوب الزكاة في الحلي. ونقل عن غيره. والصواب أنه لا يثبت القول بوجوب الزكاة عن أحد من الصحابة إلا عن ابن مسعود فقط. وقد صرح بهذا عدد من الحفاظ. وابن مسعود سكن الكوفة وفقهاء الكوفة أخذوا عنه هذا القول ولذلك تجد أن أبا حنيفة وروي أحد القولين عن الثوري يرون وجوب الزكاة في الحلي لأنهم أخذوا فقه هذه المسألة عن الصحابي الفقيه الجليل الكبير ابن مسعود - رضي الله عنه -. الراجح: الراجح والله أعلم بالصواب: أنه لا تجب الزكاة في الحلي. لماذا؟ أولاً: لأن المنقول عنهم من الصحابة القول بعد الوجوب فيهم امرأتان عائشة وأختها. ومن المعلوم لكل إنسان أن أكثر الناس عناية بحكم الحلي هم النساء لا سيما هذه المرأة الفقيهه العارفة الفاهمة عائشة - رضي الله عنها - فإنه يبعد جداً أن لا تعرف حكم زكاة الحلي. كيف وهي بيت النبوة وتأخذ العلم عنه - صلى الله عليه وسلم - فهذا بعيد كل البعد أن لا تعرف حكم زكاة الحلي. أضف إلى هذا أن الغالب أن ابن عمر - رضي الله عنه - أخذ حكم هذه المسألة عن حفصة أخته - رضي الله عنها - وهي أيضاً نشأت في بيت النبوة ويبعد جداً أن لا تعرف حكم زكاة الحلي. فإذا كان ثبت عن زوجتين من أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - عدم وجوب زكاة الحلي ففي الحقيقة المصير إلى قول هاتين الفقيهتين أشبه ما يكون بالمتعين. ثانياً: أن هذا هو قول جمهور الصحابة قال الإمام أحمد - رحمه الله - عن خمسة من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه لا تجب الزكاة في الحلي وعرفنا أن الذي نقل عنه الوجوب هو ابن مسعود فقط أما خمسة من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - بإثبات الإمام أحمد - رحمه الله - يرون عدم الوجوب فنستطيع أن نقول جمهور الصحابة وجمهور الأئمة يرون عدم الوجوب.

ثالثاً: لو كانت زكاة الحلي واجبة لما خفي هذا على المسلمين فكل بيت من بيوت المسلمين فيه حلي فلو كانت الزكاة واجبة لعرف ونقل واشتهر كيف وقد نقل عن خمسة من الصحابة منهم عائشة عدم الوجوب. أما الخلفاء الراشدون فإنه لم ينقل عنهم شيء في هذه المسألة. فلم يصح عن الخلفاء الراشدين شيء في هذه المسألة. فإذا وجدت أحداً ممن يسوق الخلاف ينسب إلى أحد من الخلفاء الراشدين - رضي الله عنه - أنهم يرون وجوب زكاة الحلي أو عدم وجوب زكاة الحلي فهو ليس بصحيح فلن يثبت عنهم شيء. والخلاصة: أن الأقرب للآثار وللمعنى المفهوم من الزكاة عدم وجوب زكاة الحلي. ولعلك عرفت من خلال سياق الخلاف والنصوص أن الاحتياط في مثل هذه المسألة جيد ووجيه بسبب وجود بعض النصوص التي اختلف الفقهاء في تصحيحها وتضعيفها وبسبب وجود آثر عن ابن مسعود وكل هذا يستدعي أن الإنسان يحتاط بإخراج الزكاة. أما الوجوب فأنا أرى أنه لا يجب على المرأة أن تخرج زكاة الحلي. • ثم قال - رحمه الله -: ولا زكاة في حليهما المعد للإستعمال أو العارية. يقاس على هذا: ما أبيح استعماله للرجل فلا زكاة فيه أيضاً. فلو كان عند الإنسان مائة سيف وفي مقابض هذه السيوف ذهب يبلغ نصاباً فإنه لا زكاة فيه لأنها معدة للاستعمال. ولو اتخذ الإنسان - مثلاً - أنفاً من ذهب واحتاج إلى سن من ذهب فلو فرضنا أنه بلغ مجموع ما احتاج إليه إلى نصاب وهذا بعيد لم تجب الزكاة عليه فيه لأنه استعمله استعمالاً مباحاً. إذاً: أي ذهب يستعمل استعمالاً مباحاً للرجل أو للمرأة فلا زكاة فيه. فقولهم: زكاة الحلي. هذا خرج مخرج الغالب لأن الغالب في استعمال الذهب أن يكون على شكل حلي. • ثم قال - رحمه الله -: وإن أُعد للكرى أو النفقة أو كان محرماً: ففيه الزكاة. إذا أعدت المرأة الحلي للإيجار: تؤجره أو أعدته للنفقة أو كما يصنع الآن كثير من النساء للإدخار أو بضابط أعم: إذا اتخذت الحلي لا للاستعمال. وإنما للنفقة أو للإيجار أو للادخار أو لغيرها مما قد يطرأ فإنه تجب فيه الزكاة. لماذا؟ لأن الحلي المستعمل استثنيناه من وجوب الزكاة لكونه خرج من المعنى وهو أن يكون مالاً نامياً إلى أن يكون مالاً مستعملاً.

باب زكاة العروض

فإذا لم يكن مستعملاً رجع إلى الأصل وهو وجوب الزكاة. وهذا ما لا يتفطن له كثير ممن يعتمد القول بعدم وجوب الزكاة إذا اتخذ الحلي لا للاستعمال. • ثم قال - رحمه الله -: أو كان محرماً: ففيه الزكاة. إذا كان الذهب محرماً كأن تسرف المرأة أو وهو الذي يقع الآن كثيراً: تتخذ حلياً على شكل حيوان فهذا محرم. فلو اتخذت حلياً على شكل حيوان فإن هذا محرم وتجب فيه الزكاة. لأنه بالتحريم لم يصبح مستعملاً لأن هذا استعمالاً محرماً. وأخذنا: أن هذا الحلي إذا فقد خاصية الاستعمال رجع إلى الأصل وهو وجوب الزكاة في الذهب والفضة. إذاً: - عرفنا أنه يستثنى ما أعد للإجارة أوالنفقة وما كان محرماً. - وعرفنا القاعدة في هذه المستثنيات وهو أنه إذا لم يعد مستعملاً أو استعمل استعمالاً محرماً فإنه يرجع إلى الأصل. فما يتخذه بعض الرجال الآن من أنواع الحلي - ذهب - تجب فيه الزكاة ولو كان حلياً مستعملاً لأن استعمال الرجل له محرم. باب زكاة العروض. • ثم قال - رحمه الله -: باب زكاة العروض. العروض: جمع عرض. والعرض: هو ما عدا الأثمان من الأموال. كالأواني والثياب والمنازل وكل ما عدا الأثمان. فإنه يعتبر من العروض. هذا في اللغة. في الاصطلاح الخاص في باب الزكاة العروض هي: كل ما أعد للبيع أوالشراء بقصد الربح ولو كان من الأثمان. فإن هذا يدخل في زكاة عروض التجارة. • قوله - رحمه الله -: إذا ملكها بفعله بنية التجارة وبلغت قيمتها نصاباً: زكى قيمتها. زكاة العروض فيها خلاف: انقسم العلماء فيها إلى قسمين: ــ القسم الأول: وجوب الزكاة في عروض التجارة. وإلى هذا ذهب الأئمة الأربعة والفقهاء السبعة وعامة التابعين وجمهور الصحابة وحكي إجماعاً وكأنه قول جميع أهل العلم إلا من سنذكر فكلهم ذهب إلى وجوب الزكاة في عروض النجارة. واستدلوا بأدلة: - الأول: قوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا أنفقوا من طيبات ما كسبتم ... } [البقرة/57]. والكسب هنا بتفسير عدد من السلف: التجارة. - الثاني: حديث سمرة - رضي الله عنه -: كنا نؤملا بإخراج الزكاة مما نعد للتجارة. وهذا الحديث ضعيف: ففي إسناده ضعف. ولو صح لكان فيصلاً في الباب.

- الثالث: صح عن عدد من الصحابة - رضي الله عنهم - منهم: عمر وابنه وابن عباس وهؤلاء من فقهاء الصحابة. - وصح عن عدد من التابعين: كعطاء والنخعي وغيرهم من أئمة السلف. ولا يعلم للصحابة القائلين بالوجوب ولا للتابعين القائلين بالوجوب لا يعلم لهم مخالف فليس لهم مخالف. ــ القسم الثاني: أنها لا تجب زكاة عروض التجارة. وإلى هذا ذهب ابن حزم وبعض المعاصرين. واستدلوا: - بقول النبي - صلى الله عليه وسلم - ليس على المسلم في عبده ولا فرسه صدقه. وهذا الحديث عام يشمل ما إذا اتخذت للتجارة أو لغير التجارة. - الدليل الثاني: أنه لم يثبت في حديث صحيح أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمر بزكاة عروض التجارة. والقول الراجح هو وجوب زكاة عروض التجارة بل الذي اعتقده ما قاله شيخ الاسلام - رحمه الله - أن القول بعدم الوجوب: شاذ. وأشار إلى الشذوذ عدا شيخ الإسلام بن تيمية أبو عبيد فإنه قال: والقول بعدم الوجوب ليس من أقوال أهل العلم عندنا. ففي الحقيقة هذا القول شاذ خارج عن قول جماهير الفقهاء أهل الفقه وعن فتاوى الصحابة وعن ما جرى عليه عمل المسلمين من القديم ثم أحياناً غالب الأموال تكون من عروض التجارة. فعدم إخراج الزكاة عنها يؤدي إلى عدم إخراج الزكاة عن جملة كبيرة من الأموال. ثم يبعد جداً في حكمة الشارع والله أعلم أن يفرق بين المتماثلات فكف يأمر إنسان يملك عشرة آلاف ريال بالزكاة ولا يأمر إنساناً يملك ملايين من عروض التجارة لا يأمره بالزكاة مع أنه لا مقارنة بينهما في الغنى والغنى هو مناط وجوب الزكاة. • ثم قال - رحمه الله -: مبيناً شروط وجوب زكاة العروض. إذا ملكها بفعله. يشترط لوجوب زكاة العروض عند الحنابلة أن يملكها بفعله سواء مكلكها بثمن - بعوض كالبيع أو بغير ثمن كقبول الهبة. ففي الصورتين يتحقق الشرط وهو أنه ملكهعا بفعله. وخرج بقوله: (ملكها بفعله). ما إذا صارت إليه عن طريق الإرث. واستدلوا على هذا: - بأن الإرث ليس من طرق الكسب. والتجارة تتعلق بالكسب. فإذاً الإرث ليس من التجارة فلا زكاة فيه. وسيأتينا الخلاف في هذه المسألة. • ثم قال - رحمه الله -: بنية التجارة.

مقصوده بقوله: (بنية التجارة). أن ينوي التكسب بها. هذا معنى بنية التجارة. ومراد الحنابلة بقولهم: بنية التجارة أن ينوي التجارة بها من حين اشتراها - من أول الشراء. فإن اشتراها لغير التجارة ثم نواها للتجارة لم تجب فيها الزكاة. الدليل: الدليل على ذلك: - قالوا: النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: (إنما الأعمال بالنيات). والزكاة عبادة والعبادات يجب أن تقترن فيها النية من أول العبادة فإذا لم تقترن نية التكسب من أول الشراء لم يتحقق الشرط. = والقول الثاني: في هذين الشرطين: 1 - إذا ملكها بفعله. 2 - أو بنية التجارة: أنه لا يشترط لا أن يملكها بفعله ولا أن ينوي التجارة بها من حين اشتراها. والدليل على هذا من وجهين: - الأول: أن الآثار المروية عن عمر وابنه وغيرهما من الصحابة - رضي الله عنهم - عامة لم تشترط هذه الشروط فكل من ملك مالاً ونوى به التجارة وجبت عليه الزكاة. - الوجه الثاني: عموم قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: (إنما الأعمال بالنيات). وهذا المال نويت به التجارة والتكسب فصدق عليه أنه من عروض التجارة. وهذا القول الثاني هو الصواب وممن اختاره من المحققين ابن عقيل وهو رواية عن الإمام أحمد - رحمه الله -. • ثم قال - رحمه الله -: وبلغت قيمتها نصاباً: زكى قيمتها. قوله: (بلغت قيمتها نصاباً). هذا في الحقيقة لا يعتبر من الشروط الخاصة بعروض التجارة. إذاً: كم هي الشروط الخاصة بعروض التجارة؟ شرطان فقط. أما هذا فهو شرط في جميع الأموال. فكل مال زكوي لا تجب فيه الزكاة إلا إذا بلغ النصاب. لكن يفهم من قوله: (إذا بلغت قيمتها نصاباً). أن يشترط أن يستمر النصاب في كل الحول. = فإن نقصت قيمة عروض التجارة في بعض الحول استأنف الحول من جديد. = ومنهم من قال: بل إذا نقصت قيمة عروض التجارة في أثناء الحول فإنه لا يضر فإنه من عادة التجار أن ترتفع القيم وتنزل. والصواب أنه يشترط أن يبقى النصاب على مدار الحول أخذاً بالعمومات الدالة على اشتراط النصاب في جميع الحول. • ثم قال - رحمه الله -: مفرعاً على الشرطين: فإن ملكها بإرث أو بفعله بغير نية التجارة ثم نواها: لم تصر لها.

كما تقدم معنا مفصلاً في اشتراتط هذين الشرطين وهذا ما ذكره المؤلف - رحمه الله - هو ثمرة هذين الشرطين. وهو: أنه إذا ملك المال بإرث فلا زكاة وإذا اشترى المال لغير التجارة ثم نوى بها التجارة فلا زكاة وتقدم معنا الخلاف وأن الصواب عدم اشتراط ذلك. • ثم قال - رحمه الله -: وتقوّم عند الحول: بالأحظ للفقراء من عين أو ورق. عروض التجارة تقوم بالأحظ للفقراء. فإن كان الأحظ لهم: الذهب أي تبلغ نصاباً إن قومت بالذهب. فتقوم بالذهب. وإن كانت إن قومت بالفضة بلغت النصاب وجي أن تقوم بالفضة. والدليل على هذا: - أن التقويم أصلاً إنما شرع مراعاة لحظ الفقراء فعندما نقوم فيجب أن نراعي فيه حظ الفقراء. مسألة / إذا كانت عروض التجارة تبلغ النصاب بالذهب وبالفضة فبأيهما يقوم؟ اختلف العلماء في هذه المسألة على قولين: = القول الأول: أنه مخير إن شاء بالذهب وإن شاء بالفضة. - لأنه إن قومه بالذهب أو بالفضة حصل المقصود وهو إخراج الزكاة. = القول الثاني: أنه إذا بلغ نصاباً بالذهب وبالفضة: فيجب أن نقومه بالأحظ لهما. - قياساً على أصل الوجوب. - ومراعاة لحال الفقراء. وهذا القول الثاني هو الأقرب ومال إليه الشيخ الفقيه المجد - رحمه الله -. فهذا القول أقرب. وفي الحقيقة قيمة العروض سيعتبرها التاجر بالأغلى بالأكثر فكذلك في حق الفقراء. المقصود أن الراجح أنها تقوم بالأحظ وإن بلغن نصاباً بالنقد الآخر. • ثم قال - رحمه الله -: ولا يعتبر ما اشتريت به. لا يعتبر ما اشترتيت به لا قدراً ولا جنساً. فإذا اشترى بالدراهم سلعة ثم لما تم الحول صارت تبلغ النصاب بالدنانير دون الدراهم: فإننا نعتبر الدنانير ونترك الدراهم. وهنا نعتبر لم ننظر لما اشترتيت به: جنساً أو قدراً؟ جنساً. لم ننظر إليه جنساً. وأما قدراً: إذا اشترى سلعة بمائة ألف وأصبحت بعد نهاية العام تساوي مائة وخمسين فلا ننظر لما اشترتيت به قدراً وهو المائة وإنما ننظر إلى المائة وخمسين وهو قيمتها بعد الحول. إذاً: لا ننظر إليها لا قدراً ولا جنساً. الدليل: قالوا الدليل على ذلك: - أنه لولا ذلك لذهبت فائدة التقويم على الفقراء.

باب زكاة الفطر

يعني: لولا أنا نقدرها بقيمتها بعد الحول لذهبت فائدة التقدير على الفقراء. • ثم قال - رحمه الله -: وإن اشترى عرضاً بنصاب من أثمان أو عروض: بنى على حوله. إذا اشترى عرضاً يعني عروضاً للتجارة في أثناء الحول فإنه لا يستأنف الحول بل يستمر على حوله ويبني على الأول. والدليل على هذا: - أن من شأن التجار تقليب الأموال والبضائع والسلع تارة تكون سلع وتارة تكون نقود. ولو اعتبرنا أنها إذا كانت نقوداً انقطع الحول وإذا كانت سلعاً انقطع الحول لم يتم حول على تاجر. فإذاً يبني التاجرل على نصابه إذا قَلَّبَ الأموال التي عنده بين النقود والسلع. • ثم قال - رحمه الله -: وإن اشتراه بسائمة: لم يبن. إن اشتراه بسائمة لم يبن: - لأن السائمة تختلف عن عروض التجارة في النصاب وفي الواجب. وما كان كذلك لا يمكن أن يبنى بعضه على بعض بل يستأنف الحول من جديد. مسألة / وهي مهمة جداً: إذا اشترى إنسان سائمة من الماشية ونوى بها التجارة: جعلها ترعى الحول كله ونوى بها التجارة فهل يخرج الزكاة منها باعتبارها من السائمة أو باعتبارها من عروض التجارة؟ فيه خلاف: = فالمذهب: باعتبارها عروض تجارة. إلا في حالة واحدة إذا بلغت النصاب إذا لااعتبرناها سائمة دون إذا اعتبرناها عروض تجارة فحينئذ نزكيها باعتبار أنها سائمة. وإلا فالأصل عند الحنابلة أن تعتبر بأنها عروض تجارة. = القول الثاني: أنها تزكا باعتبارها سائمة. - لأن هذا مجمع عليه - يعني: إخراج الزكاة باعتبارها سائمة - وفيه النصوص بخلاف عروض التجارة. = القول الثالث: أنها تخرج بالأحظ للفقراء. وفي الغالب الأعم أن الأحظ لهم أن تعتبر: عروض تجارة. وبهذا يقترب القول الأخير من مذهب الحنابلة. لكن نقول: الأصل والقول الراجح أن نعتبرها بالأحظ للفقراء. فنقول: انظر: هل الأحظ للفقراء أن تزكيها باعتبارها عروض تجارة أو تزكيها باعتبارها سائمة. باب زكاة الفطر. • ثم قال - رحمه الله -: باب زكاة الفطر. يعني: باب لبيان الأحكام التي تتعلق بالزكاة التي سببها الفطر. • قال - رحمه الله -: تجب. أجمع الفقهاء على أن زكاة الفطر واجبة. وَدَلَّ على الوجوب:

- قوله - صلى الله عليه وسلم - في حديث ابن عمر - رضي الله عنه -: (فرض رسول الله - صلى الله عليه وسلم - زكاة الفطر صاعاً من تمر أو صاعاً من شعير على الحر والعبد والصغير والكبير والذكر والأنثى من المسلمين). وهذا حديث متفق عليه. فدل على الوجوب النص والإجماع. • وقوله - رحمه الله -: وتجب على كل مسلم. يعني ولو كان صغيراً ولو كان من أهل البادية ومهما كانت صفته فتجب عليه زكاة الفطر. - لعموم قوله - صلى الله عليه وسلم -: (على الحر والعبد والصغير والكبير والذكر والأنثى .. ). فإذاً الزكاة واجبة على جميع المسلمين ولهذا لم يشترط إلا أن يكون مسلماً: • فقال - رحمه الله -: على كل مسلم. فلم يقل كبير ولا صغير ولا عاقل ولا مكلف ولا غير مكلف وإنما تجب على كل مسلم. • ثم قال - رحمه الله -: فَضَلَ له يوم العيد وليلته: صاع عن قوته وقوت عياله وحوائجه الأصلية. يعني: أن زكاة الفطر تجب على كل مسلم ملك صاعاً يوم العيد فاضل عن ثلاثة أمور: 1 - قوته. 2 - وقوت عياله. 3 - وحوائجه الأصلية. فإذا ملك هذا الصاع بهذه الشروط الثلاثة وجبت عليه الزكاة. وفهم من كلام المؤلف - رحمه الله - أنه لا يشترط أن يملك نصاباً. بل تجب على من ملك صاعاً واحداً فقط. وهذا هو الصحيح خلافاً لم خرج عن ظاهر نص ابن عمر واشترط أن يملك نصاباً فإن هذا القول ضعيف. بناء على هذا: من ملك متاعاً خارجاً عن حاجته الأصلية وجاء يوم العيد وهو من أهل الوجوب كما سيأتينا متى يكون وقت الوجوب؟ وجب عليه أن يبيع هذا المتاع ويشتري صاعاً ليخرجه عن زكاة الفطر بشرط أن يكون هذا المتاع زائداً عن حاجته الأصلية. ومن الحوائج الأصلية: 1 - ما لا يستغني عنه الإنسان في البيت. 2 - وآلة العمل. 3 - وكتب طالب العلم التي لا يستغني عنها. فإن كتب طالب العلم من حاجاته الأصلية. بشرط أن لا تكون زائدة وإنما نقتصر على ما يحتاجه طالب العلم في المذاكرة ومراجعة المسائل. • ثم قال - رحمه الله -: ولا يمنعها الدين إلاّ بطلبه. الدين لا يمنع زكاة الفطر بخلاف الزكاة التي تتعلق بالمال فهو يمنعها كما تقدم معنا. الدليل: الدليل على ذلك: - أن زكاة الفطر آكد باعتبار أنها تتعلق بالبدن لا بالمال.

فهي آكد من هذه الجهة. فتقدم على الدين ولا يمنع الدين وجوبها. إلا في حالة واحدة وهي التي قال عنها المؤلف - رحمه الله -: إلا بطلبه. يعني: إذا طلب الدائن الدين فحينئذ يقدم على زكاة الفطر. والدليل: - أنه إذا طلبها الدائن صارت آكد من الزكاة. لأنها تتعلق بحق الآدمي. فوجب أن تقدم. وهذا صحيح. فإذا كان عند الإنسان صاع وهو مدين بصاع فالواجب أن يخرج هذا الصاع إلا إذا جاء الدائن يوم العيد وطلب هذا الدين فحينئذ يخرج الدين ولا يخرج زكاة الفطر لأن الدين الذي له مطالب يوم العيد مقدم على زكاة الفطر. • ثم قال - رحمه الله -: فيخرج: عن نفسه. يجب أن يخرج الزكاة أول ما يخرجها عن نفسه. - لقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: في سياق الكلام عن النفقات: (ابدأ بنفسك). وسيأتينا مراراً وتكرارً أن زكاة الفطر تشبه إلى حَدٍّ كبير أحكام النفقات - كما سيأتينا. - الدليل الثاني: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (على كل حرٍّ وعبد وصغير وكبير ... الخ. وأول من يدخل بهذا اللفظ نفس الإنسان. • ثم بين - رحمه الله - القاعدة العامة فيمن يجب على الإنسان أن يخرجها عنهم بقوله - رحمه الله -: ومسلم يمونه.

من الأسئلة: = ما حكم اتخاذ سن من الذهب للزينة؟ - لا يجوز اتخاذ سن من الذهب للزينة لأنه تقدم معنا أنه يجوز للضرورة والسن الذي للزينة ليس من الضرورة في شيء ثم هو ليس باليسير. (((الأذان))). قال شيخنا حفظه الله: أسألكم سؤالاً: ما هي المناسبة أن المؤلف - رحمه الله - ذكر ما يجوز اتخاذه من الذهب والفضة دون ما لا يجوز؟ لأنه يترتب على هذا مسألة الزكاة.

قال شيخنا حفظه الله: بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين. • باب زكاة الفطر بين المؤلف رحمه الله في الدرس السابق أنه يجب على الإنسان أن يخرج زكاة الفطر عن نفسه وتحدثت عن أدلة هذا الحكم. ثم انتقل المؤلف - رحمه الله - في هذا الدرس إلى الكلام عن الذين يلزم الإنسان أن يخرج زكاة الفطر عنهم: • فقال - رحمه الله -: ومسلم يمونه. عني: ويجب أن يخرج زكاة الفطر عن كل مسلم يقوم هو بالنفقة عليه من الأبناء والزوجات والعبيد ... إلخ. فهذه هي القاعدة العامة عند الحنابلة. والدليل على هذا: - رواية في حديث ابن عمر أنه قال: (وعمن يمونون). والذين يخرج الإنسان الصدقة عنهم ثلاثة أصناف: - الصنف الأول: الزوجات. - الصتف الثاني: العبيد. - الصنف الثالث: الأقارب.

نبدأ بالصنف الأول: - الزوجات. = ذهب جماهير أهل العلم إلى أنه يجب على الإنسان أن يخرج زكاة الفطر عن زوجته وأنه لا يجب عليها هي أن تخرج ذلك. واستدلوا بأمرين: - الأول: الرواية السابقة: (وعمن يمونون) والزوجة ممن يجب على الإنسان أن ينفق عليها. - الثاني: أن صدقة الفطر تقاس على النفقة لأن كلاً منهما يتعلق بالبدن. = والقول الثاني: للأحناف واختاره من المحققين ابن المنذر - رحمه الله - أنه يجب على الزوجة أن تخرج هي بنفسها الزكاة ولا يجب على الزوج أن يخرج زكاة الفطر عنها إلا إذا أراد أن يتبرع. واستدلوا على هذا: - بقوله - صلى الله عليه وسلم -: - في حديث ابن عمر: (فرض زكاة الفطر صاعاً من تمر أو صاعاً من شعير قال على الحر والعبد والذكر والأنثى) وهو بعمومه يتناول الزوجة. وسيأتينا الراجح بعد أن نستكمل الحديث عن الأصناف الثلاثة. - الصنف الثاني: العبيد. والعبيد يجب على الإنسان أن يخرج زكاة الفطر عنهم بالنص والإجماع فهي مسألة لا إشكال فيها. - أما النص فقواه - صلى الله عليه وسلم -: (ليس على الإنسان صدقة في فرسه ولا في عبده إلا زكاة الفطر) وهذا الحديث في صحيح مسلم. - والإجماع: فقد أجمع أهل العلم على أنه يجب على الإنسان أن يخرج الزكاة عن عبده. - الصنف الثالث: الأقارب. وهو أنواع: - النوع الأول: الأبناء. - الصغار: فقد أجمع أهل العلم على أنه يجب على الأب أن يخرج زكاة الفطر عنهم. - النوع الثاني: الأبوين: كذلك أجمع أهل العلم ولم يخالف إلا أبو حنيفة في أنه يجب على الإنسان أن يخرج الزكاة عن أبويه. - والنوع الثالث: بقية الأقارب: فيهم خلاف. والراجح والله أعلم. أنه: - يجب على الإنسان أن يخرج زكاة الفطر عن كل شخص يجب عليه أن ينفق عليه من الزوجات والأبناء والأقارب والآباء.

والدليل على هذه القاعدة والتي تشمل الأصناف جميعاً: - أولاً: قوله: (وعمن يمونون) وهذا اللفظ ضعيف لكنه يصلح للإستدلال به لأنه صح موقوفاً. فهو فتوى من صحابي. - ثانياً: عرفنا فيما سبق أنه فيث بعض المواضع - في ثلاثة مواضع - أجمع أهل العلم على وجوب إخراج زكاة الفطر عنهم وهم: العبيد والأبناء الصغار والآباء مع خلاف أبي حنيفة في الآباء فقط. وإذا نظرت في المواضع التي أجمع عليها أهل العلم لم تجد قاسماً مشتركاً بينها ولا معنى تخرج عليه إلا وجوب النفقة. فتبين أن من وجبت نفقته وجب إخراج زكاة الفطر عنه. - ثالثاً: ما تقدم معنا: أن زكاة الفطر في الحقيقة تتعلق بالبدن وليست تتعلق بالمال. فهي تشبه من هذه الجهة النفقة وتأخذ أحكامها. فهذا القول هو الراجح فيما ظهر لي بعد تأمل في النصوص والأدلة: أن الإنسان يجب عليه أن يخرج زكاة من وجب عليه أن ينفق عليهم. • ثم قال - رحمه الله -: ولو شهر رمضان. قصده في قوله: (ولو شهر رمضان): أنه يجب على الإنسان أن يخرج زكاة الفطر عمن تبرع بالنفقة عليه كما إذا قدم ضيف سكن عنده في رمضان فإنه إذا جاء وقت زكاة الفطر وهذا الضيف الذي تبرع بالنفقة عليه لكونه ضيفاً يجب أيضاً عند الحنابلة أن يخرج زكاة الفطر عنه على سبيل الوجوب. بناء على هذا: الضيوف الذين يأتون عادة في العشر الأواخر من روضان إذا بقوا عند الإنسان في بيته ينفق عليهم فإنه يجب عليه وجوباً أن يخرج زكاة الفطر عنهم. = عند الحنابلة. = القول الثاني: أنه لا يجب على الإنسان أن يخرج زكاة الفطر عمن أنفق عليه تبرعاً. وهذا القول اختاره عدد من المحققين المتقدمين. واستدلوا: - بأن الأصل براءة الذمة وعدم الوجوب ولا دليل على إخراج الصدقة عمن لا تجب نفقته. وهذا القول الثاني: هو الصواب. وقوة هذا القول ظاهره ولله الحمد. • ثم قال - رحمه الله -: فإن عجز عن البعض. يعني: إذا لزمته زكاة الفطر عن عدد من أقاربه بما فيهم الزوجات والآباء والأبناء والعبيد ولكنه لا يستطيع أن يخرج زكاة الفطر عن الجميع فيرجع إلى الترتيب الذي ذكره المؤلف - رحمه الله -: • قال - رحمه الله -: - أولاً: بدأ بنفسه. أول ما يبدأ بنفسه:

- لقول النبي - صلى الله عليه وسلم - كما تقدم معنا: (ابدأ بنفسك) وهو في سياق الكلام عن النفقة. - الدليل الثاني: أن نفقة الإنسان نفسه مقدمة على غيره فكذلك زكاة الفطر. ثم في المرتبة الثانية: • قال - رحمه الله -: فامرأته. وأتت المرأة في النرتبة الثانية لـ: تأكد النفقة. والإجماع على وجوبها في حق الزوجة فتكون هي في المرتبة الثانية. • ثم قال - رحمه الله -: فرقيقه. يأتي الرقيق في المرتبة الثالثة لأمرين: - أولا ً: أن وجوب زكاة الفطر على السيد متفق عليه ومحل إجماع كما تقدم. - ثانياً: أنه يجب على الإنسان أن ينفق على العبد الذي يملكه سواء كان السيد موسراً أو معسراً فإن النفقة لا تسقط. المرتبة الرابعة: • قال - رحمه الله -: فأُمه. الأم تأتي في المرتبة الرابعة: - لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - سأل عن أوجب الناس برا فقال: أمك ثم أمك ثم أمك وقال في الرابعة قال ثم أبيك. فدل الحديث على أن الأم مقدمة على الأب في البر. • ثم قال - رحمه الله -: فأَبيه. - للحديث السابق حيث أنه يأتي في البر بعد الأم. • ثم قال - رحمه الله -: فولده. يعني: أنه يجب بعد هؤلاء وفي الأخير: الولد. - لأنه محل إجماع بالنسبة للصغير. في زكاة الفطر وأيضاً محل إجماع في وجوب النفقة فجاء مقدماً على بقية الأقارب. = والقول الثاني: أن ابن الإنسان مقدم على أبويه وزوجته. والراجح مذهب الحنابلة. • ثم قال - رحمه الله -: فأقرب في ميراث. بعد هؤلاء: يرتب الأقارب حسب قربهم باعتبار الميراث. والتعليل: - لأن من كان أقرب فهو أولى. وإنما يتصور أن يكون عند الإنسان كل هؤلاء أبناء وآباء وأقارب وعبيد، يتصور غالباً في أحد حالين: - إما في المجاعات والكوارث العامة حيث يمتليء البيت من العائلة الواحدة. - أو في الحروب. فإنه في الحروب يجتمع في البيت الواحد من الأقارب عدد كبير. ففيما سوى هاتين الحالتين يندر أن يجتمع عند الإنسان مثل هذا العدد من الأقارب حتى يحتاج إلى أن يرتبهم حسب الترتيب الفقهي الذي ذكره الحنابلة. على كل حال: هذا هو الترتيب إذا فرض أنه وجب على الإنسان أن ينفق على كل هؤلاء. • ثم قال - رحمه الله -: والعبد بين شركاء عليهم صاع.

مقصوده: أنه إذا كان العبد مملوكاً لأكثر من شخص فإن الصاع يجب على الملاك جميعاً لكن يقيد ذلك بأنه بحسب الملك. فمن ملك ثلثي العبد وجب عليه أن يخرج ثلثي الصاع وهكذا. وحكي على هذه المسألة الإجماع ولم يخالف إلا أبو حنيفة فإنه قال ليس عليهم شيء. وعن الإمام أحمد روية أنه على كل مالك صاع ولو كثر الملاك. - مسألة: كيف نقول: أن المسألة إجماع ثم نذكر رواية أخرى عن الإمام أحمد؟ الجواب: أن الإمام أحمد رجع عن هذه الرواية وقوله الأخير هو الموافق للإجماع فلما رجع عن هذه الرواية أجمعو ولم يوجد مخالف إلا ما ذكرت عن أبي حنيفة. والصواب مع الجماهير أن عليهم صاع بحسب ملكهم. • ثم قال - رحمه الله -: ويستحب عن الجنين. أي ولا يجب. فيستحب للإنسان إذا كان الجنين في بطن زوجته أن يخرج عنه صاعاً على سبيل زكاة الفطر. وظاهر كلام المؤلف - رحمه الله - أن استحباب زكاة الفطر عامة سواء كان هذا الحنين نفخت فيه الروح أو لم تنفخ فيه الروح. وسواء كان في أول الحمل أو بعد التخليق. وبعبارة أخرى في كل مراحل الحمل. دليل الاستحباب: - أنه روي أن عثمان - رضي الله عنه - أمر بإخراج زكاة الفطر عن الحمل. = والقول الثاني: أن إخراج زكاة الفطر عن الحمل واجب. = والقول الثالث: أنه يجب أن يخرج زكاة الفطر عن الحمل إذا نفخت فيه الروح. والصواب أنه مستحب. إذ لادليل على الوجوب والجنين في البطن لا تتعلق به الأحكام إلا في موضعين: - الإرث. - والوصية. أما ما عداهما فلا تتعلق به الأحكام. فالصواب والله أعلم أنه يستحب. لكن كما أشرت مراراً وتكراراً أنك إذا عرفت الخلاف في هذه المسألة عرفت أن الاحتياط أن الإنسان إذا كان مستطيعاً أن يخرج عن الحمل صاعاً زكاة فطرة. • ثم قال - رحمه الله -: ولا تجب لناشز. يعني لا يجب على الزوج أن يخرج زكاة الفطر عن زوجته الناشز. التعليل: - لأنه لا تجب نفقتها وسبيل زكاة الفطر سبيل النفقة. لذلك نقول أن قول المؤلف - رحمه الله - ولا تجب لناشز. إنما هو على سبيل التمثيل ومثل به لأنه هو الغالب. والقاعدة: أن كل زوجة لا يجب على الزوج أن ينفق عليها فلا يجب تبعاً لذلك أن يخرج زكاة الفطر عنها. كالزوجة التي لم يدخل بها. •

ثم قال - رحمه الله -: ومن لزم غيره فطرته فأخرج عن نفسه بغير إذنه: أجزأت. إذا أخرج الإنسان عن نفسه زكاة الفطر وهي تجب على غيره فينقسم إلى قسمين: - الأول: أن يكون بإذن الغير. الذي يجب عليه أن يخرجها عنه فهذا مجزئ بالإجماع. - الثاني: وهو الذي ذكره المؤلف: أن يخرج زكاة الفطر عن نفسه بغير إذن من تجب عليه: كأن تخرج الزوجة زكاة الفطر بغير إذن الزوج أو الابن الصغير بغير إذن أبيه. فالحنابلة يرون أن هذا مجزئ ولو لم يأذن من تجب عليه الزكاة. واستدلوا على هذا: - بأن المخرج أخرج الزكاة عن نفسه والنبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: على كل حر وعبد فدخل في الحديث. = والقول الثاني: أنه لا تجزئ عنه. - لأنه فعل ما يجب على غيره بغير إذنه. - وقياساً على زكاة المال. والصواب إن شاء الله أنها تجزئ. لكن لا ينبغي للإنسان أن يصنعى هذا الأمر بأن يخرج الزكاة وهي تجب على غيره إلا بعد أن يستأذن هذا الغير خروجا من الخلاف. ثم انتقل - رحمه الله - إلى مسألة مهمة وهي: وقت الوجوب: • فقال - رحمه الله -: وتجب بغروب الشمس ليلة الفطر. نقل عن الإمام أحمد - رحمه الله - أربع روايات. لكن أصول الأقوال قولان فقط وهما روايتان: - الأولى: هي المذهب: أنه بغروب الشمس ليلة العيد تجب زكاة الفطر. وهو مذهب الجمهور. واستدلوا على هذا القول: - بقول ابن عمر - رضي الله عنه -: (فرض رسول الله - صلى الله عليه وسلم - زكاة الفطر) فأضاف الزكاة إلى الفطر. قالوا: والإضافة تقتضي التخصيص والسببية. وأول وقت يحل فيه الفطر هو غروب الشمس من آخر يوم من رمضان. = والقول الثاني: وهو رواية عن أحمد: أن الوجوب يتم بطلوع الفجر الثاني يوم العيد. واستدلوا: - بنفس الحديث: فقالوا: قوله: (فرض رسول - صلى الله عليه وسلم - زكاة الفطر) يعني: زكاة يوم الفطر ويوم الفطر يبدأ من طلوع الفجر الثاني. - وبقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: (صومكم يوم تصومون وفطركم يوم تفطرون) فأطلق على يوم العيد أنه يوم الفطر. والأقرب القول الأول. - لأن ليلة العيد يحصل بها الفطر وتترتب عليها الأحكام من مشروعية التكبير وغيره مما يتعلق بالفطر فدل على أنه زمن الوجوب.

ولا يخفاكم أن ثمرة الخلاف في الليل: من غروب الشمس إلى طلوع الفجر الثاني. فمن ولد أو مات ... الخ كما سيذكره المؤلف في هذا الوقت صار محل خلاف. • يقول - رحمه الله -: فمن أسلم بعده، أو ملك عبداً، أو تزوج، أو ولد له ولد: لم تلزمه فطرتهم. لأنهم وقت الوجوب ليسوا من أهل الوجوب بالنسبة للمنفق. فإذا ولد للإنسان مولود بعد مغيب الشمس فإنه لا يجب عليه أن يخرج فطرته. وكذا لو اشترى عبداً وتزوج زوجة. = وعلى القول الثاني: تجب عليه. أما لو ولد للإنسان مولود بعد طلوع الفجر الثاني فإنه بالإجماع لا يجب عليه أن يخرج زكاة الفطر عنه لأنه وقت الوجوب ليس من أهل الوجوب. • ثم قال - رحمه الله -: مقرراً لما تقدم وهو أمر واضح: وقبله تلزم. قبل هذا الوقت: يعني: إذا أسلم قبل غروب الشمس أو ملك أو تزوج أو ولد قبل غروب الشمس فإنه تلزم الإنسان نفقة هؤلاء. أي تلزمه زكاة الفطر عنهم. وقد عرفت الخلاف في هذه المسألة. • ثم قال - رحمه الله -: ويجوز إخراجها: قبل العيد بيومين فقط. = يجوز عند الحنابلة أن نخرج زكاة الفطر قبل يوم العيد بيوم أو يومين. - لما صح عن ابن عمر - رضي الله عنه - أنه قال: (كانوا يخرجون زكاة الفطر قبل العيد بيوم أو يومين) وهذا الحديث ثابت في الصحيح وهو نص في المسألة. = القول الثاني: أنه يجوز أن نخرج زكاة الفطر قبل العيد بثلاثة أيام. = القول الثالث: أنه يجوز أن نخرج زكاة الفطر من أول الشهر. واستدل هؤلاء: - بأن سبب الوجوب مركب من أمرين: الصوم والفطر. فإذا وجد أحد السببين جاز إخراج الزكاة. - وبأن في هذا توسعة على المسلمين لا سيما إذا كان أهل الزكاة يحتاجون إلى مشقة في الوصول إليهم. والصواب مع الحنابلة لأن معهم نصاً ظاهراً صريحاً واضحاً أنهم كانوا يخرجون الزكاة قبل العيد بيوم أو يومين فقط والتقييد بثلاثة أو بأول الشهر قول ضعيغ مخالف للنص الصريح. • ثم قال - رحمه الله -: ويوم العيد قبل الصلاة أفضل. يعني أن أفضل الأوقات لإخراج الزكاة هو ما بين طلوع الفجر إلى صلاة العيد. وهذه الأفضلية محل إجماع ويدل عليه: - ما في حديث بن عمر أنه - رضي الله عنه - قال: وكانوا يأمرون بها أن تخرج قبل صلاة العيد.

= - ولقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: (من أداها قبل الصلاة فهي زكاة مقبولة). فإذاً اعتبار الوقت هو أفضل الأوقات دل عليه النص والإجماع فلا إشكال فيه. • ثم قال - رحمه الله -: وتكره في باقيه. يتركب هذا من قولين - هذه العبارة تدل على مسألتين بعبارة أخرى: - أنه يجوز أن نخرج الزكاة بعد الصلاة ولكنه مكروه. أما دليل الكراهة فهو: - مخالفة السنة فإنهم كانوا يخرجونها قبل الصلاة. وأما دليل الجواز: - فعموم قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: (أغنوهم عن الطواف في هذا اليوم). يعني بزكاة الفطر. والإغناء يحصل ولو بعد الصلاة. = والقول الثاني: أنه يجوز بلا كراهة أن يخرج الزكاة بعد الصلاة. = والقول الثالث: أنه يحرم ولا يجزئ أن يخرج الزكاة بعد الصلاة. واستدل هؤلاء بأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (من أخرجها قبل الصلاة فهي زكاة مقبولة ومن أخرجها بعد الصلاة فهي صدقة من الصدقات). فنص الحديث على أنها إذا أخرجت بعد صلاة العيد لا تعتبر زكاة فطر فدل على أن هذا محرم وأنه لا يجزئ. وهذا اختيار شيخ الاسلام وابن القيم وهو في الحقيقة الذي يتوافق مع النصوص وإن كان يخالف مذهب أكثر أهل العلم. ويستثنى من هذا: إذا كان التأخير له سبب مقبول. وعذر واضح فإنه حينئذ يرجى أنه إن شاء الله تجزئ عنه ولا يأثم بهذا التأخير كأن لا يجد من يعطيه أو يضيع المال أو - وهو أكثر الأعذار انتشاراً - أن يوكل شخصاً ولا يخرج هذا الموكل الزكاة فإنه من أكثر أسباب التأخر كأن يفرط الموكل فإن الموكل لا حرج عليه وله أن يخرج بعد الصلاة. • ثم قال - رحمه الله -: ويقضيها بعد يومه آثماً. يعني أنه إذا لم يخرج في كل اليوم فإنه آثم وعمله محرم ويجب عليه أن يتوب ولكن مع ذلك يجب أن يخرج الزكاة وتصبح قضاء. واستدلوا على هذا: - بأن زكاة الفطر تعلق بها حقان: - الأول: حق الآدمي. - والثاني: حق الله سبحانه وتعالى. فحق الله بين الإنسان وربه سبحانه وهو آثم ويحتاج إلى توبه. أما حق الآدمي فهو دين في ذمة الذي يجب عليه إخراج الزكاة ولا يسقط بمضي الوقت قياساً على دين الآدمي فيجب أن يخرج الزكاة بعد العيد.

هذا القول: الذي فيه وجوب إخراج الزكاة بعد العيد = مذهب الجماهير وحكاه بعضهم إجماعاً. لكن الذين حكوا الإجماع هم من المتأخرين فلم أر أحداً من المتقدمين - حسب ما وقفت عليه - حكى الإجماع. ولكن هذا الإجماع يدلك على أن هذا القول هو قول عامة أهل العلم. = والقول الثاني: أنه لا يجزئ ولو أخرجها فلا قيمة لها لا أداء ولا قضاء ولا ينظر إليها وهو أيضاً اختيار الشيخين: ابن تيمية وابن القيم وتمسكوا بالحديث. - وهو قوله - صلى الله عليه وسلم -: (ومن أخرجها بعد الصلاة فهي صدقة من الصدقات). واختيارهم قوي. ومذهب الجماهير أحوط. فنقول للإنسان: مهما أخرت الزكاة أخرجها لأنها كالدين في ذمتك. وما استدل به الجمهور فقوي وهو أن هذا دين يتعلق به حق الفقراء فمهما أخر فيجب أن يخرج قياساً على زكاة المال. فإن زكاة المال لها موعد إذا أخر عنه أثم من أخره كما سيأتينا على الخلاف في تحديد هذا الموعد. ومع ذلك نقول: مهما أخرت وأثمت وارتكبت هذا المحرم فيجب أن تخرج الزكاة فكذلك هنا نقول. مهما أخرت وأثمت فيجب أن تخرج الزكاة. فصل [في قدر الواجب ونوعه ومستحقه وما يتعلق بذلك] • ثم قال - رحمه الله -: (فصل). المقصود بهذا الفصل بيان القدر الواجب وما يتعلق بالأجناس وما يجزئ منها وما لا يجزئ. وهو مبحث مهم جداً. • قال - رحمه الله -: ويجب صاع. الصاع: مكيال معروف. والمقصود بالصاع هنا: صاع النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو أربع أمداد. فهذا هو المقصود بقول الفقهاء: يجب صاع. • قال - رحمه الله -: يجب صاع من بر أو شعير ..... إلى آخره .. = ذهب الأئة الثلاثة إلى أنه لا يجزئ من جميع الأصناف إلا إخراج صاع كامل سواء كان المخرج بر أو شعير أو تمر أو إقط أو زبيب أو أي نوع مما سيأتينا. واستدلوا على هذا: - بقول ابن عمر - رضي الله عنه -: فرض رسول الله - صلى الله عليه وسلم - زكاة الفطر صاعاً من شعير أو صاعاً من تمر. - وبحديث أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - أنه قال: كنا نخرج الزكاة إذ كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فينا صاعاً من طعام أو شعير أو إقط أو زبيب أو تمر. وهذه أربعة أصناف.

ففي الحديثين لم يفرق النبي - صلى الله عليه وسلم - بين نوع وآخر. = القول الثاني: أنه يجوز في البر خاصة نصف صاع. وإلى هذا ذهب الأحناف وبعض اليلف على رأسهم الإمام الكبير سعيد بن المسيب وهو اختيار شيخ الاسلام ابن تيمية. واستدلوا بعدة أدلة: - الدليل الأول: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (صاع من بر يكفي عن اثنين). وهو حديث إما ضعيف أو ضعيف جداً. - الدليل الثاني: أن المسلمين استمروا على هذا العمل من زمن معاوية إلى أزمان متأخرة بعده. فما زال عمل المسلمين على هذا. - الدليل الثالث - والأخير -: أن هذا القول مروي عن عدد من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم -. والراجح والله أعلم القول الأول وهو مذهب مالك والشافعي وأحمد. - لأن أبا سعيد الخدري وهو أعرف الناس بهذه المسألة قال: كنا نخرج زكاة الفطر إذ كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فينا صاعاً من تمر أو شعير أو إقط أو زبيب حتى إذا قدم معاوية قال: أرى نصف صاع من سمراء الشام تكفي عن صاع من هذا التمر قال: فأخذ الناس بذلك. وسمراء الشام: هو القمح الدمشقي. والمقصود به: البر. قال أبو سعيد: أما أنا فلا أزال أخرجه كما كنا نخرجه على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. ومع كون القول بوجوب إخراج الصاع هو الراجح إلا أنه لا يخفى أبداً قوة القول الثاني. لا سيما وقد عمل به نحو خمسة من الصحابة فكلهم يرى هذا الرأي ولا سيما أن معاوية خطب بهذا على المنبر وأخذ الناس به والناس في زمن معاوية هم الصحابة والتابعون. فهذا القول قوي ولهذا اختاره شيخ الاسلام بن تيمية لهذه الاعتبارات. لكن القول الراجح هو القول الأول باعتبار أن في المسألة نص وباعتبار أن أبا سعيد الخدري لم يرض بهذا القول وإنما رأى أنه يلزمهم أن يستمروا على إخراج صاع مهما كان نوع المخرج. • قال - رحمه الله -: ويجب صاع من بر. البر لم يذكر في النصوص لكن أهل العلم أجمعوا على أنه يجزئ لأنه أولى مما ذكر من الشعير وغيره. • قال - رحمه الله -: أو شعير. الشعير مذكور في جميع الأحاديث. أنه من الأصناف التي يجزئ إخراجها في زكاة الفطر: في حديث ابن عمر وفي حديث أبي سعيد الخدري. • قال - رحمه الله -:

أو دقيقهما. يعني: أنه يجوز أن نخرج دقيق القمح أو دقيق الشعير. لأن الدقيق هو عبارة عن القمح والشعير مطحون فهو أجزاء لما يشرع إخراجه. فدقيق القمح أجزاء للقمح ولذلك جاز إخراجه. لكن يشترط: 1 - أن يكون بالوزن. 2 - وأن يحتاط إذا كان ثقيلاً بالزيادة. فيحتاط إذا كان وزنه ثقيل بأن يزيد عليه. لأن الصاع مكيال وليس ميزان. والصاع بالميزان الحديث اختلفوا فيه: = منهم من قال: كيلوين وربع. = ومنهم من قال: كيلوين ونصف. = ومنهم من قال: كيلوين وأربعين جرام. هذه ثلاثة أقوال. الوسط منها هو اختيار شيخنا - رحمه الله - وهو الأقرب لكون الشيخ - رحمه الله - بيده قد قاس هذا الأمر فنحن نرى أن هذا أدق شيء. فكيلوين وأربعين جرام إذا كان البر ثقيل صار كمية قليلة من البر تزن كيلوين وأربعين جرام بينما لو وضعنا هذه الكمية في المكيال لكانت أقل من صاع لأن المكيال يعتمد على الحجم والميزان يعتد على الوزن. فإذا كان ثقيلاً فيجب أن نحتاط بالزيادة., والفقهاء - رحمهم الله - كلهم يقولون: إذا أردت أن تخرج دقيق فيجب أن يكون بالوزن حتى ينضبط ويجب أن تحتاط إذا كان ثقيلاً. • ثم قال - رحمه الله -: أو سويقهما. يعني سويق الشعير والبر. والسويق هو: ما يحمص من هذه الأشياء ثم الطحن. فهو في الحقيقة قريب من الدقيق لكنه قبل أن يطحن يحمص فالحكم واحد. • ثم قال - رحمه الله -: أو تمر أو زبيب أو أقط. هذا مذكور في حديث أبي سعيد الذي ذكرته لك آنفاً فقد ذكر فيه: التمر والزبيب والإقط. فزاد الزبيب والإقط. هذه الخمسة أصناف هي التي نص عليها الفقهاء - رحمهم الله -: 1 - البر. 2 - والشعير. 3 - والتمر. 4 - والزبيب. 5 - والإقط. • ثم قال - رحمه الله -: فإن عدم الخمسة: أجزأ كل حب وثمر يقتات ... إلخ. = أفادنا المؤلف - رحمه الله - بهذه العبارة أنه لا يجوز أن نخرج من غير هذه الأصناف الخمسة إذا كانت موجودة فإذا وجدت وأخرج الإنسان غيرها ولو كان هذا الغير من قوت البلد فإنه: لا يجزئ. واستدلوا على هذا: - بأن النبي - صلى الله عليه وسلم - نص على هذه الأصناف. - والصحابة اتفقوا على البر. فهي أصناف منصوص عليها ومتفق عليها لا يخرج عنها إلا إذا لم توجد.

= والقول الثاني: أنه يجوز أن نخرج من أي نوع من الطعام بشرط أن يكون قوتاً للبلد. - لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - إنما نص على هذه الأصناف لأنها في وقتهم هي قوت البلد. بدليل: أنه لم يذكر البر مع أنه أعلى هذه الأصناف لأنه لا يوجد في المدينة بكثره. فنص على الأقوات المعروفة في المدينة. بناءً عليه: يجوز للإنسان أن يخرج أي نوع من أنواع الطعام إذا كان قوتاً ولو لم يكن من هذه الأصناف المنصوص عليها. ووقتنا هذا يؤكد رجحان هذا القول: لأن من الأصناف الآن: الشعير وهو صنف لا يقتات أبداً ولا ينتفع منه الفقير ولا أظن أحداً يقول أنه يخرج شعيراً ولو كان منصوصاً عليه لأن الفقير لا ينتفع منه مطلقاً. وبالإجماع المقصود من زكاة الفطر إغناء الفقير وأن ينتفع بها فكيف نعطيه ما لا ينتفع به. فدل هذا على أن النبي - صلى الله عليه وسلم - إنما أراد أن ينص على الأقوات فمهما كان الطعام قوتاً جاز أن يخرج. بل من الممكن أن نقول: كما ذكرت الآن: أنه إذا كان بعض هذه الأنواع أصبح ليس من الأقوات فإنه لا يشرع أن نخرجه: - لأنا نجزم أن العلة هي القوت فإذا خرج عن أن يكون قوتاً صار لا يجزئ. • ثم قال - رحمه الله -: أجزأ كل حب وثمر يقتات. لما تقدم من أن القاسم المشترك بين الأصناف أو العلة المعتبرة فيها هي: الاقتيات. • ثم قال - رحمه الله -: لا معيب. يعني: لا يجوز أن يخرج الإنسان لا من هذه الأصناف ولا من غيرها إذا لم توجد شيئاً معيباً. - لقوله تعالى: {ولا تيمموا الخبيث منه تنفقون ... } [البقرة/267] - ولأن نفع الفقير يقل أو ينعدم إذا أخرج المعيب. والمعيب: كـ: المبلول وكالذي تغيرت رائحته وطعمه من طول البقاء وكأي عيب يعرفه الناس. • ثم قال - رحمه الله -: ولا خبز. لا يجوز أن يخرج الإنسان في زكاة الفطر خبزاً. لأمرين: - الأول: أنه لا يمكن أن نعرف بالدقة وزن هذا الخبز؟ - الثاني: أن هذا الخبز لا يبقى. وبناءً على هذا يتضرر الفقير من تلفه ولا ينتفع به على الوجه الأكمل. = والقول الثاني: أنه يجوز أن نخرج الخبز في حال واحدة: إذا عرف عن أهل هذا البلد أنهم يأكلون الطعام يوم العيد. فإنه في هذه الحالة لا يفسد لأنه سيؤكل يوم العيد.

باب إخراج الزكاة

وإلى هذا القول - الثاني - ذهب الحافظ ابن القيم. والأقرب والله أعلم: أنه لايجزئ الخبز. لأنه لا ينضبط الوزن فمهما قيل حتى لو وزنت ثم خبزت فإنه سيختلف الوزن والإنسان مطالب إبراءً لذمته أن يخرج صاعاً كاملاً. هذا من جهة. من جهة أخرى: أنه لا شك أن البر أنفع بمراحل. لأنه وإن كان البر يخبز لكنهم يخبزونه على مراحل حسب الحاجة وأيضاً يدخر وينتفع به بشتى الوسائل بخلاف الخبز. فالأقرب والله أعلم أنه لا يجزئ ولو كان أهل البلد يأكلون يوم الفطر. • ثم قال - رحمه الله -: ويجوز أن يعطي الجماعة: ما يلزم الواحد. أي: يجوز أن نعطي الجماعة من الفقراء ما يلزم الواحد يعني: الصاع. صاع واحد. فيجوز أن نفرق الصاع بين جماعة من الفقراء. ولكن ينبغي أن نخبر الفقير أنه أقل من صاع حتى لا يخرجه ظاناً أنه صاع. الدليل على هذا الحكم بالنسبة لهذه الصورة: - الإجماع. فإنه لا يوجد مخالف أن هذا جائز. فيجوز أن نعطي الجماعة صاعاً واحداً. • ثم قال - رحمه الله -: وعكسه. عكس هذه الصورة: يعني يجوز أن يعطي الجماعة فقيراً واحداً. الدليل: - قالوا الدليل: أن الواجب إخراج صاع وقد حصل ولم ينص الشارع على تعداد الأصواع على الفقراء أو تفريق الأصواع على الفقراء بل الواجب إخراج صاع وقد حصل. وهذا كما ترون صحيح ووجيه. إذاً: يجوز أن يعطي الإنسان عدة فقراء ويجوز لعدة أناس أن يعطوا فقيراً واحداً. باب إخراج الزكاة • ثم قال - رحمه الله -: باب إخراج الزكاة. يعني: هذا باب خصص لبيان أحكام إخراج الزكاة. فالحكم الأول: • قال - رحمه الله -: يجب على الفور مع إمكانه. يحرم على الإنسان أن يؤخر إخراج الزكاة بعد تمام الحول. فإن أخر فهو آثم. الدليل: الدليل على ذلك من وجوه: - أولاً: أن الأصل في الأوامر أنها على الفور. وستأتيكا هذه المسألة مبسوطة أتم البسط في باب الأوامر والنواهي في أصول الفقه في الورقات. - ثانياً: أن التأخير يؤدي إلى ضياع حق الفقير بالنسيان والإتلاف والتقصير والتفريط. - ثالثاً: أن المأمور إذا تأخر في التنفيذ استوجب العقوبة شرعاً وعرفاً. والعقوبة تكون على المحرم. إلا أن الحنابلة يقولون: يجوز التأخير اليسير للحاجة.

وحد بعض الحنابلة هذا اليسير: - بيوم أو يومين. - والمصلحة بما إذا أراد أن يعطي قرابته فأخر بعض الشيء ليتمكن من ذلك. - أو إذا أراد أن يعطي من هو أشد فقراً فأخر ليتمكن. - أو أراد أن يعطي من هو أورع وأقرب إلى الله. وقد نصوا على هذه الأمثلة الثلاثة ليقاس عليها ما يشبه هذه الأمثلة الثلاثة. = القول الثاني: أنه يجوز التأخير لمدة شهر فقط فإن زاد عن الشهر أثم. وإلى هذا ذهب ميمون بن مهران. = القول الثالث: أنه يجوز التأخير بلا حد. - لأن الأمر المطلق لا يستوجب وقتاً معيناً بل يحصل الامتثال مهما صنع ولو تأخر. أو بعبارة أوضح: يحصل الامتثال إذا صنع ولو تأخر. وإلى هذا ذهب أبو حنيفة - رحمه الله -. وهو أضعف وأبعد الأقوال عن روح الشرع والنصوص العامة. لأن الافراط في السماح بالتأخير يؤدي غالباً إلى ضياع حق الفقير ودخول الشهوات بأن يقصد المؤخر الانتفاع بالمال لا تحقيق مصلحة معينة. الراجح القول الأول. وفي المسألة: = قول آخر أنه لا يجوز التأخير ولو لحاجة ولو لشي يسير. وهذا رواية عن الإمام أحمد - رحمه الله -: أنه لا يجوز التأخير مطلقاً إلا في حالة واحدة فقط: للضرورة ففي ما عدا هذه الصورة لا يجوز التأخير. وهذا القول الأخير الذي هو رواية عن الإمام أحمد أضيق من مذهب الحنابلة. لكن الأقرب والله أعلم مذهب الحنابلة أنه يجوز للإنسان أن يؤخر تأخيراً يسيراً لتحقيق مصلحة معتبرة. مسألة / بناء على ما تقدم: لا يجوز للإنسان أن يصنع ما يصنعه بعض الناس اليوم: أن يجعل الزكاة عنده ويعطي قريبه الفقير أقساط شهرية فإن هذا لا يجوز لأن الأقساط المؤخرة مؤخرة والزكاة تجب على الفور. والأنفع للفقير في مثل هذه الحالة وهي: أنه إذا رأى أن الفقير لا يحسن التصرف ولا يمكن أن يعطى جميع المال فبدل أن يقسط عليه الزكاة ويدخل في هذا المحذور يجعل الفقير يوكل المخرج أو غيره في شراء أعيان وأشياء ينتفع بها الفقير على مدار السنة. فيشتري له قوتاً أو مسكناً أو فراشاً أو كتباً إن كان من طلاب العلم - كما سيأتينا - المهم يشتري له بها ما تقوم به حاجته في السنة فإن هذا الحل خير من التقسيط.

وقد نص الإمام أحمد في رواية أن جمع الزكاة وإخراجها مقسطة على القريب لا يجوز. • ثم قال - رحمه الله -: إلا لضرر. إذا كان إخراج الزكاة الآن يسبب ضرراً على المخرج: جاز له التأخير. وذكر الفقهاء - رحمهم الله - مثالين: - المثال الأول: أن يكون صاحب ماشية فيبادر بإخراج الزكاة ويخشى أن يأتي السعاة فيأخذوا الزكاة منه مرة أخرى. فحينئذ فإن له أن يؤخر إلى أن يأتي عمال الصدقة فيعطيهم الزكاة. - المثال الثاني: أن يخشى أنه إذا أخرج الزكاة لا سيما إذا كانت من الذهب والفضة: أن يجترئ عليه اللصوص. فحينئذ له أن يؤخر إلى أن يكون في مأمن. وهذا مثالان. والقاعدة أنه ((إذا ترتب على إخراج الزكاة ضرر فله أن ينتظر)) لأن هذا من دفع الضرر. والضرورات تبيح المحرمات. • ثم قال - رحمه الله -: فإن منعها جحداً لوجوبها كفر عارف بالحكم. يعني: أن من لم يخرج الزكاة بسبب أنه يجحد وجوب الزكاة ... (الأذان). إذاً: من تركها جاحداً لوجوبها فهو - نتم هذه المسألة فقط -: فهو كافر بشرط أن يكون عالماً بالحكم. فإن كان من البادية الذين نشأو في الصحراء ولا يعرف الحكم فإنه لا يكفر حتى يعلم أن الزكاة ركن من أركان الإسلام وأن الجاحد لوجوبها يكفر. والجاحد لوجوبها يكفر ولو أخرجها فلو جاءنا إنسان وقال: أنا لا أرى أن الزكاة واجبة لكن سأخرج الزكاة. فنقول: أنت كافر لأن الزكاة واجبة. الدليل على كفره: - أنه مكذب لله مكذب لرسوله مخالف لإجماع المسلمين. ولهذا أصبح كافراً. والقرآن - كما قال الفقهاء - رحمهم الله - مليء بإيجاب الزكاة فلال عذر بعد ذلك لمن أنكر الوجوب فهو كافر.

من الأسئلة: قال شيخنا حفظه الله: يسأل عن مسألة إخراج القيمة بدلاً من الأصناف المذكورة في زكاة الفطر وهي مسألة كثر البحث فيها في وقتنا هذا: والصواب باختصار أنه: لا يجوز. والدليل على ذلك: - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمر بإخراجها من هذه الأصناف وحدد هذه الأصناف. وبناء على هذا لا يجوز أن نخرجها مالاً لأنه يؤدي إلى ذهاب هذه الشعيرة. فإن قيل: أنه أنفع للفقراء: فالجواب: أن الناس في عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - وفي عهد أبي بكر وعمر - رضي الله عنهما - أيضاً فقراء جداً حتى أن سيد الخلق - صلى الله عليه وسلم - كان لا يجد ما يأكل أحياناً وعدد من الصحابة فقراء وأصحاب الصفة فقراء فمعلوم أن وقت النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يشتهر فيه الفقر والإعواز ومع ذلك لم تخرج من الأموال وإنما أمر بإخراجها من هذه الأصناف المذكورة في الحديث.

قال شيخنا حفظه الله: بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين. تقدم معنا الكلام عن حكم من أنكر وجحد وجوب الزكاة وأنه يكفر ولو أخرجها لأنه مكذب لله ولرسوله ولإجماع المسلمين. • وتوقفنا على قول المؤلف - رحمه الله -: وأخذت. يعني إذا حكمنا عليه بالكفر فإنه مع ذلك تؤخذ منه الزكاة فيأخذها الإمام قهراً. - لأن الزكاة وجبت في ذمته قبل أن يكفر فلا بد من إخراج هذه الزكاة لأنها حق للفقراء ولا يسقط هذه الزكاة كونه كفر. • ثم قال - رحمه الله -: وقتل. وهذا هو الحكم الثالث. إذاً يترتب على إنكار وجوب الزكاة أنه: 1 - يكفر. 2 - وتؤخذ منه. 3 - ويقتل. يجب أن يقتل وجوباً لدليلين: - الأول: قوله - صلى الله عليه وسلم -: (أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا إن لا إله إلا الله ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة). وهذا لم يؤت الزكاة. - الثاني: لأنه مرتد والمرتد حكمه القتل. ولكن الفقهاء - رحمهم الله - قالوا: أنه يستتاب ثلاثة أيام قبل أن يقتل. وهذا الحكم لا يختص بجاحد الزكاة بل بكل مرتد. لأنه نقل عن بعض الصحابة أنهم أمهلوه ثلاثة أيام وسيأتينا إن شاء الله في باب حكم المرتد الكلام حول هذه المسألة. • ثم قال - رحمه الله -: أو بخلاً. أُخذت منه وعزر هذا هو السبب الثاني لمنع الزكاة وهو: البخل. ومقصود المؤلف - رحمه الله - بقوله: أو بخلاً. يعني: مع الإقرار بالوجوب. فإذا كان مقراً بالوجوب ومنعها بخلاً ترتب على ذلك الأحكام التي ذكرها المؤلف - رحمه الله -. • أولاً: قال - رحمه الله -: أخذت منه.

أجمع الفقهاء على أن الإمام يأخذ الزكاة قهراً من منعها بخلاً. والحكم الثاني: ما أشار إليه بقوله - رحمه الله -: وعزر. وفهم من قوله: وعزر: أنه لا يكفر وهذا هو الصحيح من قولي أهل العلم أنه لا يكفر إذا كان السبب في منعه إخراج الزكاة هو البخل لا إنكار الوجوب. إلى هذا ذهب الجماهير والجم الغفير وهو المنقول عن الصحابة أن من منع إخراج الزكاة بخلاً لا يكفر. إذاً قال: وعزر: فهو لا يكفر ولا يقتل وإنما يعزر. - لأن القاعدة عند أهل العلم أن كل ذنب لم يرتب الشارع عليه حداً ولا كفارة ففيه التعزير. والمقصود بقوله: التعزير. هنا أي: يعزره حسب ما يراه الإمام كافياً في ردعه وردع أمثاله الذين يمتنعون عن إخراج الزكاة. = وذهب بعض أهل العلم إلى أن التعزير هنا يكون بأخذ شطر ماله. - لأن رجلاً امتنع عن إخراج الزكاة فقال له النبي - صلى الله عليه وسلم -: (إنا آخذوها وشطر مالك). وهذا الحديث اختلفوا في تصحيحه وتضعيفه. والصحيح إن شاء الله أنه صحيح. وممن صححه الإمام أحمد - رحمه الله - ولكن مع ذلك الجماهير وأكثر أهل العلم لم يأخذوا بهذا الحديث. وممن لم يأخذ بهذا الحديث الإمام أحمد - رحمه الله - مع أنه صححه لكنه - رحمه الله - صححه وقال: لا أدري ما وجهه. والسبب الذي جعلهم لا يعملون بهذا الحديث: - أن الصحابة - رضي الله عنهم - لم يأخذوا ممن منع الزكاة شطر ماله هذا أولاً. - ثانياً: ما حكاه بعض الفقهاء بقوله: انعقد الإجماع على عدم العمل بهذا الحديث. فلهذين السببين لم يأخذ الجمهور بهذا الحديث. = والقول الثاني: العمل بمقتضى هذا الحديث. واختلف الذين رأوا أن يعملوا بهذا الحديث: هل مقصود النبي - صلى الله عليه وسلم -: (شطر ماله) يعني شطر ماله الزكوي أو شطر ماله كله؟ فإذا كان عنده مائة من الإبل ولم يخرج زكاتها نأخذ الزكاة ونصف المائة أو المقصود أن تؤخذ الزكاة وشطر كل ماله فلو كان عنده مائة من الإبل ومائة من الغنم ومائة من البقر وما يقدر بمائة ألف من عروض التجارة ... إلخ. ومنع الزكاة في شيء واحد - في الإبل مثلاً - فنأخذ زكاة الإبل ونصف جميع هذه الأموال.؟ = الذي عليه الجمهور أن المقصود: شطر ماله الزكوي.

- قال الصنعاني: قوله: (وشطر ماله) يعني: بعض ماله. وهذا يشعر أنه يميل إلى قول الجمهور. • ثم قال - رحمه الله -: وتجب: في مال صبي ومجنون، فيخرجها وليهما. تقدم معنا في أول الباب الكلام عن حكم زكاة مال الصبي وحكم زكاة مال المجنون وأن الجماهير من أهل العلم رأوا وجوب إخراج الزكاة من مال الصبي وأن من عليه أن يخرج هو: الولي. وأن هذا مذهب أكثر الصحابة. وتقدم معنا الكلام عن هذه المسألة. • ثم قال - رحمه الله -: ولا يجوز إخراجها إلاّ بنية. المقصود بالنية هنا: أن ينوي أن هذا المال زكاة. والدليل على وجوب النية في إخراج الزكاة: - قوله - صلى الله عليه وسلم -: (إنما الأعمال بالنيات). - والدليل الثاني: أن الزكاة عبادة بل من أعظم العبادات فهي ركن من أركان الإسلام وأي عبادة لا تصح إلا بنية. يستثنى من هذه المسألة - وجوب النية -: مسألة واحدة وهي: إذا أخرج الإمام الزكاة قهراً لمن ترك الإخراج سواء كان جحداً أو بخلاً. فهنا يكتفي بنية الإمام عن نية المزكي. وتجزيء مانع الزكاة وليس له الأجر. - ومعنى قول الفقهاء: تجزئ: يعني لا يجوز أن يطالب بها مرة أخرى. - ومعنى: أنه ليس له أجر: أي لا يؤجر عليها وإنما تبرأ ذمته فقط مع الإثم. فهو - نسأل الله العافية والسلامة - يخرج الزكاة ولا أجر له وعليه الإثم. • ثم قال - رحمه الله -: والأفضل: أن يفرقها بنفسه. الأفضل في الزكاة سواء كانت زكاة مال أو زكاة الفطر فالأفضل أن يخرجها بنفسه. وسواء كانت الزكاة من الأموال الظاهرة أو من الأموال الباطنة. وسواء كان المزكي صغيراً أو كبيراً بشرط أن يتمكن من الإخراج إذا كان صغيراً. الدليل على أن هذا هو الأفضل من وجهين: - الأول: ليباشر أداء العبادة. فإن مباشرة أداء العبادة فضل في حد ذاتها. - الثاني: ليستيقن من وصول الزكاة لمستحقيها على الوجه المطلوب ليحصل له اليقين من وصول الزكاة إلى مستحقيها على الوجه المطلوب. فإن الإخلال يقع أحياناً في إعطاء الزكاة لغير مستحقها ويقع أحياناً في أعطاء الزكاة لمستحقها لكن يكون الخلل في كيفية الإعطاء. مثال ذلك: تقدم معنا أن الفقراء والمساكين يجب أن يملكوا الزكاة ولا يجوز أن يعطوا عروضاً.

فمن الخطأ أن نشتري بالزكاة مؤونة للفقير فهذا خطأ في كيفية الإخراج وإن كان صواباً من حيث المستحق للزكاة. الخلاصة: أنه ينبغي أن يفرق الإنسان بنفسه ليأمن من الخطأ فيها - في الكيفية وفي المستحق. • ثم قال - رحمه الله -: ويقول عند دفعها هو وآخذها ما ورد. يعني ويستحب أن يقول الدافع ماورد والآخذ ما ورد. فالدافع: يستحب أن يقول: اللهم اجعلها مغنماً ولا تجعلها مغرماً. وهذا الحديث ضعيف. والصواب أنه لا يوجد دعاء فيما أعلم خاص نصت عليه السنة يقوله من أراد أن يخرج الزكاة. أما الآخذ: فثبت في صحيح البخاري ومسلم أن النبي - صلى الله عليه وسلم -: كان إذا أخذ الزكاة من أربابها صلى عليهم. ولما جاء بزكاة آل أبي أوفى قال: اللهم صل على آل أبي أوفى. - مسألة: هل يختص هذا الدعاء بما إذا أخذ الإمام الزكاة أو يقوله من أخذها ولو كان هو الفقير مباشرة؟ الأقرب والله أعلم - كما هو ظاهر كلام المؤلف أنه يشمل الفقير والإمام فكل من أخذ الزكاة يشرع له أن يدعو لمن أعطاه بهذا الدعاء وهو أن يصلي عليه. ثم انتقل المؤلف - رحمه الله - إلى مسألة أخرى: • فقال - رحمه الله -: والأفضل إخراج زكاة كل مال: في فقراء بلده. مقصود بقوله: بلده يعني: بلد المال لا بلد الرجل أي في فقراء بلد المال. وقوله: الأفضل: يعني ويجوز أن يخرج الزكاة في غير بلده بشرط: أن يكون بين بلده والبلد الذي أخرج فيه الزكاة دون مسافة القصر. والدليل: - أن البلد الذي لا يبعد مسافة قصر حكمه حكم بلد المال. إذاً فقول المؤلف: الأفضل يتعلف بالبلد الذي لا يبعد مسافة قصر ولا يريد المؤلف مطلقاً أن توزيع المال في البلد أفضل ويجوز في غيره. إنما هو أفضل ويجوز في غيره فقط إذا كان دون مسافة القصر. أما إذا كان مسافة قصر فبين المؤلف حكمها: • فقال - رحمه الله -: ولا يجوز: نقلها إلى ما تقصر فيه الصلاة. نقل الزكاة إلى خارج بلد المال الذي يبعد مسافة قصر محل خلاف لكن قبل أن نذكر الخلاف نذكر محل الوفاق:

- اتفق أهل العلم كلهم على أنه يجوز إخراج الزكاة من بلد المال إذا استغنى كل الفقراء فيها وفاض منها فائض جاز أن نخرجها إلى البلدان الأخرى وسيأتينا في كلام المؤلف أنه يخرجها حسب الأقرب فالأقرب. إذا بقي في البلد فقراء فهذا محل خلاف بين أهل العلم: = فذهب الأئمة الثلاثة والجماهير إلى أنه لا يجوز للإنسان أن يخرج الزكاة من بلده إلى بلد آخر ذهب إلى هذا: مالك والشافعي وأحمد. واستدلوا: - بقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: (تؤخذ من أغنيائهم فترد في فقرائهم) فأمر برد الزكاة في فقراء البلد. - والدليل الثاني: أن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - أنكر على معاذ لما أرسل له زكاة اليمن فبين له معاذ - رضي الله عنه - أنه لم يرسلها إلا بعد أن استغنى الفقراء. = القول الثاني: للأحناف. أن إخراج الزكاة عن بلد المال مكروه فقط وترتفع الكراهة إذا أخرج المال لقريب أو لأشد حاجة أو لأكثر ورعاً. ففي هذه الثلاثة أحوال يجوز بلا كراهة وفي غير هذه الثلاثة أحوال يجوز لكن مع الكراهة. = القول الثالث: أنه يجوز إخراج الزكاة إذا كان الإخراج لمصلحة شرعية معتبرة وهو قول لبعض الفقهاء اختاره شيخ الاسلام - رحمه الله -. = القول الرابع: أنه يجوز إخراج الزكاة مطلقاً. وإلى هذا ذهب الإمام البخاري - رحمه الله -. واستدل بدليلين: - الأول: قوله تعالى: - (إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ ... ) -[التوبة/60] يعني: في أي بلد. فالآية مطلقة عامة. - والثاني: قوله - صلى الله عليه وسلم -: (تؤخذ من أغنيائهم فترد في فقرائهم) يعني: في فقراء المسلمين كما قال - رحمه الله - لا في فقراء البلد. والراجح: القول الثالث فإنه وسط بين الأقوال وبه تجتمع الأدلة وتدل عليه آثار الصحابة. وفهم من هذا: أنه من الخطأ أن يتساهل الإنسان بإخراج الزكاة عن بلده بلا مبرر شرعي فإن هذا أقل ما يقال فيه أنه مكروه.

إن لم نجزم كما هو مذهب الجمهور بالتحريم بسبب إنكار عمر على معاذ مع العلم أن أهل المدينة كانوا فقراء بل قد يكونوا أشد حاجة من أهل اليمن باعتبار أن أهل اليمن كانوا يأتيهم مدد من جهتين: بلد تجارة وبلد زراعة فكانوا أحسن حالاً من أهل المدينة ومع ذلك أنكر عمر - رضي الله عنه - على معاذ لما أرسل له زكاة اليمن. الخلاصة: أنه ينبغي على الإنسان إذا لم يكن هناك مبرر شرعي واضح وحاجة ظاهرة يقدرها أهل العلم ينبغي أن لا يخرج الزكاة عن بلده. ومن أشهر المبررات: شدة الحاجة فشدة الحاجة لا شك ولا ريب أنها مبرر فإذا كان بلد آخر يكاد أهله أن يموتوا من الجوع فليس من المنطق ولا من الأخوة أن نحصر الزكاة في بلد غني ونترك ذلك البلد الفقير لا سيما إذا كانت الزكاة تصرف فيما هو محل ضرورة كالأكل واللباس والسكن والعلاج فهذه الأمور الأربعة من أهم ما يدعم به الفقير. • ثم قال - رحمه الله -: فإن فعل أجزأت. يعني: إذا تقرر أن الإخراج محرم وأن المخرج آثم لكن إن فعل فهل تجزئ أو لا تجزئ. = ذهب الجماهير وأكثر أهل العلم إلى أنه إن فعل أثم وأجزأت. واستدلوا على ذلك: - بأن هذا الرجل أخرج الزكاة لمستحقها فلا يوجد ما يدل على بطلانها. = والقول الثاني: أنه آثم والزكاة باطلة ولا تجزئ. واستدلوا: - بأن هذا الرجل أخرج الزكاة في غير أهلها لأن أهلها شرعاً هم فقراء البلد. وهذا القول - الثاني - ضعيف بل الصواب أنها تجزئ إن شاء الله لأنه لا يوجد دليل شرعي واضح يدل على البطلان إنما غاية ما تدل عليه النصوص تحريم النقل أما البطلان فلا دليل عليه ويصدق عليه أن أخرج الزكاة في أحد الأصناف الثمانية. • ثم قال - رحمه الله -: إلاّ أن يكون في بلد لا فقراء فيه: فيفرقها في أقرب البلاد إليه. إذا لم يكن في البلد فقراء: تقدم معنا حكاية الإجماع على جواز إخراجها. وقولهم: أنها في أقرب البلدان. لأنها الأولى. ولأن البلدان التي دون مسافى القصر لا يحرم إخراج الزكاة إليها عند الحنابلة.

والإخراج إذا اغتنى البلد عمل به الرسول - صلى الله عليه وسلم - وأبو بكر وعمر - رضي الله عنهما - فإن النصوص والآثار التي فيها أنه جيء إلى المدينة بالزكاة والصدقات تحمل على أن أهل البلد الذي أخرجت منه الزكاة اكتفوا. وهذا الحمل صحيح. توفيقاً بين النصوص ولأثر معاذ السابق لما أنكر عليه عمر قال: لم أرسل لك منها شيئاً حتى اكتفى أهل البلد. فإذاً يحمل ما نراه من النصوص التي تفيد إحضار الزكوات إلى المدينة على هذا المحمل: أن أهل البلد الذي أخرجت منه اكتفوا. وفي هذه الحالة: في حال النقل: تكون أجرة النقل على المزكي = عند الحنابلة. - لأنه الذي يجب عليه أن يخرج الزكاة ومن وجب عليه شيء وجب عليه مؤونته. = والقول الثاني: أنها إذا أخرجت فمؤونة النقل على بيت المال. والراجح: الأول. وهو: أنه يجب على المزكي أن يدفع من غير الزكاة أجور نقلها لأنه يجب عليه أن يخرج الزكاة لمستحقها وهي لا تصل إلى مستحقها إلا بذلك وهذه الأجور - أجور نقل الزكاة - تشبه ما إذا ذهب هو داخل البلد وتكلف مالاً ليصل إلى الفقير فهنا نفس الشيء. إلا أن هذا قريب وذاك بعيد فالأجرة على المزكي. • ثم قال - رحمه الله -: فإن كان في بلد وماله في آخر: أخرج زكاة المال في بلده. يعني: في بلد المال: إذا كان الشخص في بلد وماله في بلد وهذا يقع كثيراً فإن الزكاة تخرج في البلد الذي فيه المال وهذا يتعلق بزكاة المال دون زكاة الفطر كما سيأتينا. والدليل على هذا: - أن البلد الذي فيه المال تتعلق أنظار الفقراء فيه بهذا المال. فناسب أن تخرج فيه. - ثانياً: أن سبب وجوب الزكاة: المال. فوجب أن تخرج الزكاة حيث وجد سبب الوجوب. وإذا كان الإنسان في بلد وأمواله متفرقة بين البلدان كما يحصل الآن عندنا كثير أن يكون الإنسان يملك محلات معروفة فله في كل بلد فرع فيجب أن يخرج زكاة كل فرع في بلده. لما تقدم: من تعلق أنظار الفقراء بها وأن سبب الوجوب وجد في هذا البلد. • ثم قال - رحمه الله -: وفطرته في بلد هو فيه. يعني: ويجب أن يخرج زكاة الفطر في البلد الذي هو فيه سواء كان هذا البلد بلد إقامة أو بلد سفر فحيث ما كان الإنسان يخرج زكاة الفطر. والدليل على هذا:

- أن زكاة الفطر تتعلق بالبدن لا بالمال فحيثما وجد سبب الوجوب وهو البدن وجب إخراج الزكاة. والأظهر والله أعلم: أن إخراج زكاة المال في بلد المال وزكاة الفطر في بلد البدن على سبيل الندب لا على سبيل الوجوب. فإن أخرج وخالف فلا يأثم وزكاته مجزأة إلا أن الأولى أن لا يفعل. • قال - رحمه الله -: ويجوز تعجيل الزكاة لحولين فأقل. يجوز أن يعجل الإنسان زكاة ماله لحولين فأقل. ولكن بشرط أن يكتمل النصاب حال التعجيل. لأنه يجوز إنفاذ الحكم بعد وجود السبب ولو قبل وجود الشرط. فاكتمال النصاب سبب في الوجوب والحول شرط للوجوب. بناء عليه: لا يجوز أن يعجل الإنسان زكاته قبل وجود النصاب. المسألة الثانية: = ذهب الجمهور إلى أنه يجوز تعجيل الزكاة لحولين فقط. واستدلوا على هذا: - بأن النبي - صلى الله عليه وسلم - تعجل الزكاة من العباس لحولين. وهذا الحديث فيه ضعف لكن مال الحافظ ابن حجر إلى تقوية متنه بمجموع الطرق والشواهد. وهذا صحيح إن شاء الله. = والقول الثاني: أنه يجوز تعجيل الزكاة مطلقاً. وهو مذهب الأحناف. يعني: لسنتين وثلاث وأربع ... . والصواب: مع الجمهور لأن النص ورد بسنتين فقط والأصل أن لا تخرج الزكاة إلا بعد الحول. فمذهب الجمهور هو الصواب. • ثم قال - رحمه الله -: ولا يستحب. يعني: مع جواز التقديم إلا أنه لا يستحب ولا ينبغي أن يقدم. دليل عدم الاستحباب: - أن الأصل في الزكاة أنها عبادة مؤقتة بالحول والخروج عن هذا الأصل لا يستحب. = والقول الثاني: أن مسألة التقديم - تقديم الزكاة - ترجع إلى المصلحة فإذا اقتضت المصلحة التقديم قدم وإلا فلا. وإلى هذا مال ابن مفلح والمرداوي وهو لا شك قول صحيح. ولا يحسن بالإنسان أن يطلق عدم الا ستحباب على عمل قام به النبي - صلى الله عليه وسلم -. فإنه - صلى الله عليه وسلم - تعجل الزكاة. لكن الجمع. هو ما ذكره ابن مفلح: أن نقول: إذا اقتضت المصلحة فالأحسن التقديم وإلا فلا.

باب أهل الزكاة

وبهذا تجتمع النصوص: لأن الأصل في عمل النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه لا يأخذ الزكاة إلا عن كل حول بحوله ولكن وجدناه مرة أخذ واستسلف حولين فدل على أنه يرجع للمصلحة ولا نقول أنه كطلقاً لا يستحب فكأنا نحكم على عمل النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه لا يستحب. باب أهل الزكاة • ثم قال - رحمه الله -: باب أهل الزكاة. مقصود المؤلف - رحمه الله - بهذا الباب بيان من يجوز أن تصرف لهم الزكاة وما يتعلق بهذا من تفصيلات. • قال - رحمه الله -: ثمانية. مقصود المؤلف - رحمه الله - بقوله: ثمانية. أي: ولا يجوز أن تصرف لغيرهم مهما بلغت الجهة المصروف إليها من الفضل والإغراق في العبادة. فلا يجوز في بناء المساجد ولا في طباعة المصاحف ولا في شق الطرق ولا في إقامة الجسور ولا في أي عمل مهما بلغ من الفضل إلا في هؤلاء الثمانية. الدليل على ذلك: - أن الله سبحانه وتعالى قال: {إنما الصدقات للفقراء ... }. وإنما: عند الأصوليين جميعاً تقتضي الحصر. ومعنى الحصر عند الأصوليين: إثبات الحكم فيمن ذكر ونفيه عما عداه. فالآية أثبتت الحكم وهو جواز دفع الزكاة في الأصناف الثمانية ونفته عما عداهم. وحصر الزكاة في الأصناف الثمانية محل إجماع فلم يخالف فيه إلا الحسن - رحمه الله - فجوز إعطاء الزكاة في الطرق والجسور. ولكن لم يوافقه - رحمه الله - العلماء على هذا ورأوا انحصار الزكاة في الأصناف الثمانية. لكن هذه الفتوى عن الحسن تفيد طالب العلم مقدار فضل بناء الجسور أو تعبيد الطرق وأنه من العبادات المهمة في الإسلام مما جعل الحسن يدخل هذه العبادة في أصناف الزكاة. والصحيح والراجح خلاف قوله - رحمه الله - لكن مع ذلك يدل على أن هذا من أعظم الطاعات. • ثم قال - رحمه الله -: (1) الفقراء: وهم من لا يجدون شيئاً أو يجدون بعض الكفاية (2) والمساكين: يجدون أكثرها أو نصفها. في مسألة الفقراء والمساكين عدة مسائل: - المسألة الأولى: أن الفقراء والمساكين صنفان في باب الزكاة وصنف واحد في غيره من الأبواب. - المسألة االثانية: أن الفقير على الصحيح أشد حاجة من المسكين. لأن الله بدأ به ولا يبدأ سبحانه وتعالى إلا بالأهم.

- المسألة الثالثة: الفرق بين المسكين والفقير هو ما ذكره المؤلف. فالفقراء عند المؤلف هم: هم من لا يجدون شيئاً أو يجدون بعض الكفاية. وقوله: (أو يجدون بعض الكفاية.) ينبغي أن يقيد بما دون النصف. والمساكين هم: (يجدون أكثرها أو نصفها.). فالفقير من يجد من الكفاية دون النصف. والمسكين من يجد الأكثر أو النصف فأكثر. وبعبارة أدق: النصف فأكثر يعتبر مسكين. وأقل: يعتبر فقير. والنصف بالذات: مسكين. وبهذا يصح ما تقدم من أن الفقير أشد حاجة من المسكين. عرفنا الآن من هو الفقير؟ هو: من لا يجد كفايته أكثر السنة. وأن المسكين: هو من لا يجد كفايته النصف فأكثر. فأي إنسان ما يجد كفايته من الأشياء المهمة والضرورية هذا المقدار فهو إما مسكين أو فقير وكلاهما من أصناف الزكاة. - المسألة الرابعة: يرتفع اسم الفقر والمسكنة بأحد ثلاثة أمور: = الأمر الأول: أن يجد مالاً يكفيه مهما كان نوع المال. سواء كان من الأثمان أو من المتاع. فإذا وجد الإنسان مبلغاً من المال يكفي مؤونته وحاجاته فإنه ليس بفقير ولا يجوز له أن يأخذ من الزكاة. وإن وجد من الأعيان ما يكفيه لو باعه وجب عليه أن يبيع هذا الشيء وينفق من ثمنه على نفسه. إلا أن يكون هذا الشيء من الحاجات الأصلية له كمسكنه ووسيلة التنقل التي لا يستغني عنها. أما ما زاد عن حاجاته الأصلية فيجب عليه وجوباً أن يبيعه وينفق على نفسه منه ولا يجوز أن يأخذ من الزكاة. فإن كان الفقير يسكن في بيت تقدر قيمته بخمسمائة ألف ويستطيع أن يسكن في بيت تبلغ قيمته ثلاثمائة ألف وجب عليه أن يصنع ذلك: أي أن يبيع ويشنري ما يناسبه من المنازل وينفق الباقي على نفسه ومن تجب عليه نفقتهم. إلا أن يكون البيت الذي يبلغ قيمته خمسمائة ألف لا يعتبر من يسكنه مسرفاً أو مبالغاً بل يتناسب مع وضع عامة الناس فإنه يجوز له أن يسكن فيه. وكذلك لو كان بيع هذا البيت يسبب ضرراً كبيراً عليه بحيث لو باع هذا البيت لم يتمكن من إيجاد مسكن بنصف قيمته مناسب لمثله أن يسكن فيه. الأمر الثاني: - الرافع لاسم الفقر والمسكنة -: أن يوجد من يجب عليه أن ينفق على الفقير ويستطيع. كالأب بالنسبة للإبن والزوج بالنسبة للزوجة.

فإذا كان الإنسان فقير لكن يوجد من يجب عليه أن ينفق عليه فلا نعطيه من الزكاة بل نقول: يجب على وليك أن ينفق عليك. مسألة: فإذا امتنع ولي الأمر من النفقة فهو آثم لأنه ترك ما وجب عليه لكن يجوز أن نعطي الفقير من الزكاة لأنه يصدق عليه حينئذ أنه لا يجد كفايته. الأمر الثالث: - الذي يرفع اسم الفقر والمسكنة - أن يوجد للإنسان مرتب يكفيه أو صنعة يتكسب منها. ولو لم يكن هو مالكاً للمال الآن وإنما يأتيه تباعاً فإنه لا يجوز له أن يأخذ من الزكاة. مسألة: لا يجوز أن نعطي من الزكاة من كان قادراً على التكسب ولو ترك التكسب تفرغاً للعبادة بل يقال له إعمل واكسب وأنفق على نفسك. ويجوز أن نعطي الزكاة من ترك التكسب تفرغاً للعلم ولا ينبغي له أن يصنع ذلك. لا ينبغي له أن يترك التكسب ويبقى على زكوات الناس لكن إن صنع فيجوز أن نعطيه. لأنه يعمل في مصلحة المسلمين فإن العلم نوعى من الجهاد. • ثم قال - رحمه الله -: (3) والعاملون عليها: وهم جباتها وحفاظها. العمال على الصدقة هم الذين يبعثهم الإمام ولي الأمر - لجمع وتحصيل الزكوات والقدوم بها عليه. مسألة: ويدخل فيهم كل من لا يتم العمل إلا به كالرعاة والذين يحسبون والذين يكتبون وكل من لا يقوم العمل إلا به يدخل في العاملين عليها. مسألة: ما يعطى هذا العامل من الأجر من المال يعتبر أجرة مقابل عمله تصرف من الزكاة. بناء على تقرير هذا المبدأ: يعطى أجرة نظيره - أجرة المثل. فإذا قررنا أن ما يعطى هذا العامل هو أجره فيرجع في تقدير هذه الأجرة إلى نظيره ومثيله فيرجع إلى أهل العرف من عمل نظير هذا العمل فكم يعطى؟ فيعطى من الزكاة بهذا المقدار. وعرف مما تقدم - من التعريف - أن الذين يجتهدون في جمع الزكاة ممن لم يرسلهم ولي الأمر لا يعتبرون في عرف الفقهاء من العاملين عليها وإنما يختص هذا بمن يرسله الإمام. وسهم العاملين عليها محل إجماع. ودل عليه: الإجماع والكتاب والسنة. - فالإجماع: حكاه غير واحد من أهل العلم. - والكتاب: الآية.

- والسنة: ثبت في الحديث الصحيح أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يرسل العمال لإحضار الصدقة ويعطيهم وممن أرسل - صلى الله عليه وسلم - عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - وأرسل غيره أيضاً. • ثم قال - رحمه الله - (4) الرابع: المؤلفة قلوبهم ممن يرجى إسلامه أو كف شره، أو يرجى بعطيته قوة إيمانه , المؤلفة ينقسمون إلى قسمين: - من المسلمين. - ومن الكفار. والمؤلفة من الكفار ينقسمون إلى قسمين: - القسم الأول: من يعطى رجاء إسلامه. - والقسم الثاني: من يعطى لكف شره ولو لم يرجا أن يسلم. - القسم الثاني: المؤلفة من المسلمين وهم أنواع: - النوع الأول: من يعطى ليسلم نظرائه. ولو كان هذا الشخص الذي يعطى ممن أسلم وحسن إسلامه. فإنه يعطى ليسلم نظرائه. بدليل: أن عدي بن حاتم - رضي الله عنه - أسلم وحسن إسلامه ومع ذلك أعطي من هذا السهم ليتألف من هم على شاكلته. - النوع الثاني: من يعطى ليزداد إيمانه وليثبت في الإسلام. بدليل: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أعطى الأقرع بن حابس وأعطى مسلمة الفتح تقوية لإيمانهم. - النوع الثالث: من يكون من المسلمين في أطراف البلاد فيعطون ليكفوا الشر عمن دونهم. - النوع الرابع والأخير: من إذا أعطي سعى بجمع الزكاة ممن حوله وتحصيلها للإمام. مسألة: نص الحنابلة في أكثر الكتب أن سهم المؤلفة يتعلق بمن كان رئيساً في قومه وسيداً مطاعاً. أما غير الرئيس والسيد فإنه لا يعطى فإذا رجي إسلام شخص من عامة الكفار فإنه لا يعطى. = والقول الثاني: أنه يعطى. وهذه المسألة: نريد أحد الإخوة يتبرع ببحثها وهي مسألة مهمة وفيها أقوال وأدلة ونحن لن نعين شخصاً لكن نقول إذا أحد نشط لبحثها فهي مسألة مهمة لا سيما من الإخوة الذين ليس عندهم اختبارات في الوقت القريب. • ثم قال - رحمه الله -: (5) الخامس: الرقاب وهم المكاتبون، ويفك منها الأسير المسلم. في الرقاب: يتناول صنفين: وعلى ما ذكر المؤلف ثلاثة:

- الصنف الأول: المكاتبون. فيجوز أن نعطي المكاتب ليكمل المكاتبة ويتحرر. لأن المكاتب عبد ما بقي عليه درهم. ولا يجوز أن نعطي المكاتنب القادر على تسديد ما عليه من الأقساط ولا يجوز أن نعطيه أكثر مما يحتاج إليه في تسديد دين المكاتبة إنما يقتصر على ما يحتاج إليه بشرط أن لا يتمكن هو من تسديد ماعليه. - الصنف الثاني: أن نشتري عبداً من مال الزكاة ثم نعتقه. = وذهب إلى جواز ذلك الجمهور. وذهب إليه الإمام أحمد ثم صار في آخر أمره يتردد في جواز ذلك. وسبب التردد عن الإمام أحمد أنه إذا جاء زيد ممن يخرج الزكاة واشترى العبد وأعتقه صار الولاء لمخرج الزكاة فصارت الزكاة تجر على المخرج نفعاً فلهذا تردد فيها الإمام أحمد - رحمه الله -. والأقرب والله أعلم ما ذهب إليه الجمهور من جواز إعتاق العبيد من الزكاة لأن الآية عامة بل المتبادر إلى الذهن في قوله: (وفي الرقاب) هم الذين يشترون ويعتقون. فالأقرب والله أعلم الجواز لا سيما إذا كان العبد له غناء في الإسلام كأن يكون من العلماء أو من المجاهدين أو يحسن صنعه لا يحسنها غيره فالمهم أن يكون فيه صفة مرغوب فيها فينبغي أن يتبارى الناس في إعتاق مثل هذا الشخص وفي المقابل إذا كان العبد ممن يحسن صنعة محرمة كأن يكون مغنياً فإنه لا ينبغي أولا يجوز أن يعتق من مال الزكاة فاحتمال أنه لا ينبغي أو أنه لا يجوز. لأن اعتاق مثل هذا الشخص مفسدة في الحقيقة. الصنق الثالث: هم من أشار إليهم المؤلف - رحمه الله -: (ويفك منها الأسير المسلم). = ذهب الإمام أحمد في رواية اختارها المجد وحفيده أنه يجوز أن نعتق الأسير. - أولاً: لأن هذا فك رقبة الأسير من الأسر. - ثانياً: لأنه أولى من المؤلف فهو مسلم مأسور فيكون أولى من المؤلفة. = والقول الثاني: أنه لا يجوز أن نفك الأسير بمال الزكاة وهو الرواية الثانية عن الإمام أحمد لأنه لا يدخل في عموم: (وفي الرقاب). والصواب الأول إن شاء الله - وهو جواز فك الاسير من الزكاة. والله أعلم وصلى الله وسلم على نبينا محمد .... مسألة: تلحق في الكلام عن المؤلفة قلوبهم. سؤال: ألم يسقط سهم المؤلفة قلوبهم؟

الجواب: = من الفقهاء من ذهب إلى أن سهم المؤلف سقط ولا يشرع الآن أن نعطي أحداً من المؤلفة. - لقوة الإسلام واستقراره. - ولأن الصحابة - رضي الله عنهم - لم يعطوا هذا السهم في خلافتهم. = والقول الثاني وهو الذي عليه الجماهير أن هذا السهم باق كما هو. - لأن آية حصر الزكاة في الأصناف الثمانية من آخر القرآن نزولاً ولم يثبت لها ناسخ لا في السنة ولا في صريح فتاوى الصحابة. وهذا القول الثاني - هو الصواب. والجواب عن أن الصحابة - الخلفاء الراشدين - رضي الله عنهم - لم يعطوا هذا السهم لأصحابه: أنهم لم يحتاجوا إلى ذلك لقوة الإسلام. فنحن نقول إذا لم يحتنج ولي الأمر إلى هذا السهم فإنه لا يخرجه. وإذا احتاج إليه يخرجه. أما أنه ينسخ ونقول لا يجوز فهذا قول مرجوح. انتهى الدرس

قال شيخنا حفظه الله: بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين. انتهى المؤلف رحمه الله من الكلام عن خمسة من الذين يستحقون الزكاة بنص كتاب الله وانتقل إلى السادس: • فقال - رحمه الله -: باب أهل الزكاة (6) السادس: الغارم لإصلاح ذات البين. قوله: (الغارم). الغارم يقصد به هنا المدين. والغارم الذي يستحق الزكاة ينقسم إلى قسمين - ذكرهما المؤلف: - - القسم الأول: هو الغارم لإصلاح ذات البين. وتعريفه هو: من يتحمل في ذمته مالاً لإصلاح الخصومة التي تقع بين فئتين في مال أو دم. فهذا الرجل الذي يتحمل هذا المال في ذمته للإصلاح بين المتخاصمين يستحق أن يعطى من الزكاة. والدليل على هذا من وجهين: - الوجه الأول: عموم الآية فإن هذا الرجل يصدق عليه أنه غارم. - الوجه الثاني: ما ثبت في الصحيح أن فبيصة - رضي الله عنه - تحمل حمالة بين فئتين متخاصمتين ثم جاء إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - وطلب أن يساعده فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: (أمكث عندنا فإن الصدقة تأتي ونعطيك). ثم قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: (إن المسألة لا تحل إلا لثلاثة:) ثم قال في تعريف الأول: (إلا لثلاثة: من تحمل حمالة فيسأل حتى يقضيها).

فهذا الحديث نص لقوله: (من تحمل حمالة فيسأل حتى يقضيها). فإذاً: أخذ الغارم دل عليه في الحقيقة الكتاب والسنة وعرفنا من هو الغارم لإصلاح ذات البين؟ • ثم قال - رحمه الله -: ولو مع غنى. يعني يجوز لمن تحمل حمالة للإصلاح أن يأخذ من الزكاة ولو كان غنياً. الدليل على هذا أيضاً من وجهين: - الوجه الأول: حديث أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - (لا تحل الصدقة لغني إلا لخمسة) وذكر منهم الغارم. - الوجه الثاني: - أو الدليل الثاني لجواز أخذه مع غناه - أنه إنما يأخذ لمصلحة المسلمين لا لمصلحة نفسه فجاز أن يأخذ ولو كان غنياً. كالعامل والمؤلفة قلوبهم. مسألة: فهم مما تقدم أن المصلح لو تحمل مالاً بين الناس ودفعه نقداً ولم يلتزمه في ذمته فإنه لا يجوز له أن يأخذ من الصدقات. التعليل: - أنه بعد أن دفعه نقداً لا يسمى مديناً والغارم هو المدين. والله سبحانه وتعالى إنما أجاز للمدين أن يأخذ دون من دفع نقداً. = والقول الثاني: أنه يجوز له أن يأخذ ولو دفع نقداً. - لأن لا ينسد باب الإصلاح. - ولأن لا يدخل الضرر على المصلحين. ويشترط لأخذه على هذا القول أن: - ينوي الرجوع: أي حال الدفع نقداً. ثم انتقل المؤلف - رحمه الله - للقسم الثاني: وهو الغارم لنفسه مع الفقر. • فقال - رحمه الله -: أو لنفسه مع الفقر. - - فالقسم الثاني - من الغارمين -: الغارم لإصلاح نفسه. وتعريفه هو: الفقير الذي يستدين لينفق على نفسه ومن يعول أو ليعالج نفسه أو نحو هذا من المهمات. فهذا يجوز له أن يأخذ من الزكاة ويقضي الدين الذي عليه بإجماع العلماء. فلم يخالف فيه أخد. ودل على مشروعية أخذه: - عموم الآية. ويشترط ليأخذ شرطان: - الشرط الأول: أن لا يكون اقترض الدين لمعصية فإن كان اقترض الدين ليعصي الله فإنه لا يجوز أن يسدد عنه من الزكاة إلا إذا تاب. - الشرط الثاني: أن لا يوجد عنده من المال ما يتمكن به من السداد مهما كان نوع المال سواء كان هذا المال أثمان كالذهب والفضة أو عروض منقولة أو ثابتة. المهم أنه يشترط أن لا يكون عنده أي مال يستطيع أن يسدد به هذا الدين سواء كانت التسديد مباشرة أو بأن يبيع العرض ويسدد دينه.

فإن أخذ مع وجود ما يمكن أن يسدد به الدين فقد أخذ مالاً محرماً عليه. • ثم قال - رحمه الله -: (7) السابع: في سبيل اللَّه. السابع من مصارف الزكاة: في سبيل الله. ويقصد به: المجاهد. وهذا عند الحنابلة. فإن المجاهد في سبيل الله يجوز له أن يأخذ من الزكاة. واختلف العلماء في تحديده: = فذهب الجماهير من الأئمة الأربعة وجمهور السلف والخلف وعامة العلماء إلى أن المقصود بسبيل الله هو: المجاهد في سبيل الله فقط. واستدلوا على هذا بأدلة: - الدليل الأول: أن مصطلح في سبيل الله يراد به في الشرع المجاهد. فإن كلمة في سبيل الله جاءت في كتاب الله في جميع المواضع - إلا شيئاً يسيراً -: يقصد بها المجاهد. وإذا كان يقصد بها المجاهد فإن العلماء قرروا قاعدة وهي: ((أن حمل اللفظ على معناه المتبادر المعروف المنتشر أولى من حمله على غيره من المعاني)). - الدليل الثاني: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (لاتحل الصدقة لغني إلا لخمسة: ثم قال: (لغاز في سبيل الله). فنص على الغازي. والغازي هو: المجاهد. - الدليل الثالث: أن القول بأن مصرف في سبيل الله يقصد به: جميع أوجه البر والخير يؤدي إلى إلغاء الحصر الموجود في الآية فيصبح كأنه لا معنى له. = القول الثاني: وهو قول لبعض الأحناف وقول لبعض المعاصرين أن فس سبيل الله يقصد به جدميع أوجه البر. واستدلوا بدليلين: - الأول: أن سبيل الله لفظ عام يقصد به جميع أنواع رالطاعات والبر والخير. فحصر مدلول اللفظ على شيء واحد - وهو الغازي - بلا دليل لا يجوز. والجواب: نقول: تقدمت الأدلة الواضحة على هذا الحصر. - الثاني: قالوا: أنه روي عن ابن عمر وابن عباس - رضي الله عنهما - أنهما قالا: الحج من سبيل الله. والحج نوع من الطاعات يختلف كما هو معلوم عن الجهاد. والجواب: أن الحج من سبيل هذا صحيح. لكن لا يقصد به السبيل الذي ذكر في الآية بل يقصد به السبيل العام. وبهذا أجاب الجمهور. وبكل حال لا يمكن لفتوى ابن عباس وابن عمر أن يعارض بها النص الصريح وأنا أعتبر أن الآية صريحة بأن المقصود المجاهد لأنه لا معنى للحصر لو جعلنا المقصود بها جميع أنواع الطاعات.

ثم يكون التنصيص على الفقير والمسكين والعامل والمؤلفة والغارم لا معنى له مطلقاً لأن هذه جميعاً تدخل في سبيل الله وغيرها من بناء الجسور وتمهيد الطرق والحج وغيره فصارت الآية لا معنى لها ولا مفهوم ولذلك لم يذهب إلى هذا القول أحد من الأئمة المتقدمين سوى بعض الأحناف وأولع به بعض المعاصرين وصار يتبناه وهو قول فيما أرى ضعيف بل ضعيف جداً. • ثم قال - رحمه الله -: وهم الغزاة المتطوعة الذين لا ديوان لهم. قوله: (وهم الغزاة) يدل على أنه يجب أن نعطي المجاهد في سبيل الله المال مباشرة ولا يجوز أن نشتري له فرساً أو آلة حرب. الدليل: - أنا إذا أعطيناه الفرس فقد أعطيناه فرساً ولم نعطه الزكاة. قال الإمام أحمد: آتاه فرساً ولم يؤته الزكاة. والواجب أن يؤتيه الزكاة. = القول الثاني: أنه يجوز للإنسان أن يشتري بماله الزكوي ما يتعلق من آلاته ووسائل النقل الخاصة به التي تستعمل فيه أي في الحرب ثم يعطيها المجاهدين أو يرسلها للثغور. واستدلوا على هذا: - بأن من اشترى بزكاته آلة الحرب فقد صرف الزكاة في سبيل الله أي في الجهاد. وهذا القول الثاني إن شاء الله هو الأقرب وإن كان القول الأول أحوط. لكن القول الثاني هو الراجح. ومن أسباب ترجيحه أن الله تعالى قال: - (وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ). فعبر بفي ولم يعبر باللام. واللام: هي التي تقتضي التمليك. وفي: تقتضي أن يبذل مال الزكاة في هذه الجهة. ومن اشترى آلة حرب وأرسلها للمجاهدين فقد بذل هذا المال في هذه الجهة. ولهذا نقول أن الثاني إن شاء الله أرجح لكن الأول أحوط باعتبار أنه إذا أعطى المجاهد المال مباشرة فقد أخرج الزماة في مصرفه بإجماع أهل العلم. وقوله: (وهم الغزاة المتطوعة) قوله وهم الغزاة لم يقيد هذا بأن يكونوا فقراء فيجوز أن تعطي المجاهد ولو كان غنياً ولو كان يستطيع أن يجهز نفسه. = وإلى هذا ذهب الجماهير: أنه يجوز أن نعطي المجاهد ولو كان غنياً. واستدلوا على هذا: - بأن الآية عامة: (وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ) ومن أعطاها مجاهداً غنياً فقد بذلها في سبيل الله.

- واستدلوا بدليل آخر: وهو: أن المجاهد إنما يأخذ الزكاة لمصلحة المسلمين لا لمصلحة نفسه وكل من أخذ الزكاة لمصلحة المسلمين جاز أن يأخذ مع غناه كالعامل كما تقدم. = وذهب الأحناف إلى أنه لا يجوز أن نعطي المجاهد زكاة إلا إذا كان فقيراً. - لعموم قول النبي - صلى الله عليه وسلم - تؤخذ من أغنيائهم فترد في فقرائهم. والصواب اتلقول الأول: - لأن قوله - صلى الله عليه وسلم - فترد في فقرائهم مخصوص بالنصوص العامة. هذا أولاً. - وثانياً: لأن اشتراط الفقر في المجاهد يلغي مصرف في سبيل الله مستقلاً يعني: يصبح مصرف في سبيل الله غير مستقل فيصير تبعاً للفقير فيكون لا حاجة لذكره. والقول الذي يؤدي إلى إلغاء مصرف من المصارف الثمانية دليل على ضعفه ولذلك لم يذهب إليه أحد من الأئمة الأربعة إلا أبو حنيفة فقط وأما الجماهير من الأئمة الثلاثة وغيرهم من السلف فيرون جواز إعطاء المجاهد ولو كان غنياً. • ثم قال - رحمه الله -: المتطوعة أي - وفي نسخة - (الذين) لا ديوان لهم. ونسخة الذين أوضح. وقوله: (الذين لا ديوان لهم) أي: فإن كان لهم مرتب من الديوان فإنه لا يجوز أن نعطيهم من الزكاة لاستغنائهم بما يأخذون من بيت المال عن الزكاة. إلا في حالة واحدة: إذا كان الذي يأخذون من بيت المال لا يكفي فيجوز أن نعطيهم كمال الكفاية من الزكاة. • ثم قال - رحمه الله -: (8) الثامن: ابن السبيل. وعرف ابن السبيل بقوله: المسافر المنقطع به. ابن السبيل: تعرفه: هو المسافر الذي ليس له ما يرجع به إلى بلده. فإذا وجدنا رجلاً فقيراً انقطع ولم يستطع الرجوع إلى بلده جاز أن نعطيه من الزكاة ولو كان غنياً في بلده كما سيأتينا في كلام المؤلف - رحمه الله -. مسألة: تبين من هذا التعريف أنه لا يعتبر داخل في مفهوم ابن السبيل من أراد أن يسافر من بلده إلى بلد آخر ولو كان فقيراً. ويجب أن تفهموا أنه إذا قيل المسافر إذا أراد أن يسافر من موطنه لا نعطيه من الزكاة ولو كان فقيراً أنا لا نعطيه بسبب ابن السبيل لكن إذا أردنا أن نعطيه لكونه فقير فهذا باب آخر وإنما البحث الآن في مصرف ابن السبيل.

فالإنسان الذي في بلده يريد أن يسافر ولو كان فقيراً ولو كان سيسافر لحاجة مهمة فإنه لا يجوز أن عطيه. الدليل: الدليل: - أن المتبادر من إطلاق ابن السبيل: الغريب. ومن كان في وطنه فهو في وطنه وليس غريباً. - ثانياً: أن قوله: (ابن السبيل) تعني: من يلازم السبيل أي الطريق ومن كان في بلده فليس كذلك. مسألة: علم من التعريف أن من كان مسافراً ويريد أن يسافر إلى بلد غير بلده ثم يرجع إلى بلده فإنه لا يعطى من الزكاة إنما الذي يعطى من أراد أن يرجع إلى بلده. فإن كان يريد أن يذهب من البلد التي هو فيها إلى بلد آخر ثم يرجع إلى بلده فإنه لا يعطى. = وإلى هذا ذهب بن قدامة ونصره. واستدل على هذا: - بأن النص إنما جاء بإعطاء من يريد أن يرجع إلى بلده لحاجته أما من يريد أن يذهب إلى بلد آخر ثم يرجع إلى بلده فلا يدخل في هذا المصرف. = القول الثاني: - وهو وجه للحنابلة - أنه يجوز أن نعطي من كان هذا شأنه ليذهب إلى البلد التي يريد ثم يرجع إلى بلده إلا إذا كان ذهابه لتلك البلد على سبيل النزهة. الدليل: - لأن هذا الرجل يصدق عليه أنه ابن السبيل وكونه سيذهب إلى بلده أو سيذهب إلى بلد آخر ثم يرجع إلى بلده لا يرفع عنه أنه ابن سبيل لا سيما وأن سفره سيكون لحاجة لأنه اشترطنا أن لايكون سفره سفر نزهة. ويبدو لي والله أعلم أن هذا القول - الثاني - أقرب لمقصود الشارع وهذا فيما يبدو لي مع العلم أن المسألة تحتمل البحث وما ذكره ابن قدامة قوي. لأنا نقول: إذا كنت فقير إذهب إلى بلدك مباشرة وخذ من الزكاة لكن الذي يجعل الإنسان يرجح القول الثاني أنه قد يحتاج الإنسان إلى الذهاب إلى بلد آخر قبل أن يذهب إلى بلده إما لحاجة العلاج أو لأي حاجة لابد له منها فيعطى وحتى لا تكون المسألة شكلية لأنه إذا ذهب إلى البلد الآخر ثم أراد أن يرجع إلى بلده فسنعطيه عند جميع المذاهب. فبقينا فقط في ذهابه من البلد الآخر إلى البلد الذي سيذهب منه إلى بلده فما دام أنه محتاج وفقير ولا يستطيع أن يسافر وهو منقطع الآن ولن يصل إلى بلده ويريد أن يذهب إلى بلد آخر ثم بلده فالأقرب والله أعلم أنه يعطى. • ثم قال - رحمه الله -: فيعطى قدر ما يوصله إلى بلده.

يعني: ولو كان غنياً فيه. - لأن المال الذي في بلده لا قدرة له عليه فوجوده كعدمه. وفهم من هذا - بطبيعة الحال - أنه إذا كان له مال في بلده وهو بلد آخر لكن يتمكن من الحصول على هذا المال كما في وقتنا هذا ببساطة وسهولة فإنه يحرم عليه أن يأخذ من الزكاة وليس مصرفاً من مصارف الزكاة. فإن أخذه فقد أخذ مالاً محرماً. • ثم قال - رحمه الله -: دون المنشئ للسفر من بلده. هذه تحدثنا عنها ... ثم انتقل المؤلف - رحمه الله - للكلام عن قدر ما يعطى الفقير. • فقال - رحمه الله -: ومن كان ذا عيال: أَخَذَ ما يكفيهم. يعني أن الفقير يجوز له أن يأخذ ما يكفيه ويكفي من يعول سواء كان من يعول من عياله أو من أقاربه الذين يجب عليه أن ينفق عليهم. التعليل: - لأن مقصد دفع الزكاة كفايته وكفاية من يعول. فإذا كان مع الرجل في منزله عشرة أنفس فإنه يعطى من الزكاة قدر ما يكفي عشرة ولا يعطى قدر ما يكفيه هو فقط. عرفنا الآن أنه يجوز أن نعطي الفقير كفايته وكفاية من يعول. ننتقل إلى مسألة أخرى وهي: كم يعطى؟ وما هي الكفاية؟ اختلف العلماء في هذه المسألة اختلافاً طويلاً: = فالجمهور ومنهم الحنابلة: أنه يعطى ما يكفيه لسنة واحدة فقط. واستدلوا: - بأن الله سبحانه وتعالى شرع الزكاة حوليه فيأخذ ما يكفيه لسنة فإن استغنى فبها ونعمت وإلا أخذ من الزكاة للسنة القادمة. = القول الثاني: أنه يأخذ ما يغنيه لفتح متجر أو لشراء آلة عمل. يعني: يعطى من المال ما يكون سبباً في غناه عن طريق فتح متجر أو اشتراء آلة عمل. وإلى هذا ذهب الشيخ ابن قاضي الجبل - وقد تقدم معنا أن له اختيارات قوية. = القول الثالث: أنه يعطى من المال دفعة واحدة ما يكون به غنياً ولو كثر. وهذا قول لبعض الحنابلة ونسب إلى شيخ الاسلام اختياراً. = القول الرابع: أنه يعطى مقدار النصاب فقط. يعني يعطى مقدار مائتي درهم فقط فاضلاً عن مسكنه وفرشه وخادمه. يعني: يعطى ما يتمكن به من السكن واللباس والأكل والخادم ثم يعطى فوق ذلك النصاب مائتي درهم. استدلوا: - بأن من ملك نصاباً فهو غني لقوله: (تؤخذ من أغنيائهم). ومن ملك نصاباً فعليه زكاة.

= [القول الخامس] وقيل: يعطى من المال ما يكفيه العمر كله حسب الغالب في سنه. = [والقول السادس] وقيل: أنه لاحد لذلك. فليس لما يعطى حد معروف بل يرجع فيه إلى رأي ولي الأمر حسب ما تقتضيه الحال. وإلى هذا ذهب ابن حزم - رحمه الله -. لأنه ليس في الباب أدلة. وذكرنا ستة أقوال في المسألة. والأقرب والله أعلم القول الأول وهو رأي الجمهور إلا في حالة واحدة إذا كثرت الزكاة واتسع الأمر فإنه يعطى ما يصير به غنياً مما يتمكن به من التجارة. يعني القول الثاني. يعني ما نعطيه نقداً ما يكون به غنياً كما هو القول الثالث ولكن نعطيه ما يتمكن به من الشراء شراء ما يتاجر به ويصبح غنياً وينتفع المجتمع به. فالحقيقة هذا القول جيد جداً ويكاد يكون هو الراجح. لكن لابد من تقييده أنه في حال السعة فليس من المعقول ولا من المقبول أن يبقى رجل فقير لا يجد ما يأكل ونعطي الفقير الآخر ما يشتري به حانوتاً أو يشتري به آلة ليتاجر بها. لكن في حال السعة إخراج هذا الفقير من فقره إلى حد الغنى عن طريق التجارة ونفع المسلمين أمر مقصود للشارع بهذا القيد. ولعل هذا القول الأخير يكون جامعاً بين القول الأول والثاني وهو الأقرب. • ثم قال - رحمه الله -: ويجوز صرفها إلى صنف واحد. إذا أراد الإنسان أن يخرج الزكاة فإما أن يخرج الزكاة إلى جميع الأصناف أو إلى صنف واحد. فإن أخرج الزكاة إلى جميع الأصناف فهو المستحب ويجزيء بالإجماع. فهو خارج محل النزاع. وإن أخرجها - وهو القسم الثاني - إلى بعض الأصناف ففيه خلاف: = القول الأول وهو مذهب الحنابلة والجمهور: أنه يجوز أن تدفع الزكاة إلى صنف واحد بل إلى رجل واحد من صنف واحد. أي فلا يجب أن نقسم الزكاة بين المستحقين من صنف واحد. واستدل هؤلاء: - بعموم قوله - صلى الله عليه وسلم -: (تؤخذ من أغنيائهم فترد في فقرائهم). فنص على صنف واحد. - وقوله: {وإن تخفوها وتؤتوها الفقراء فهو خير لكم} [البقرة/271]. ونص على صنف واحد. = القول الثاني: وهو للإمام مالك أنها تصرف حسب الحاجة الأولى فالأولى مهما كان الصنف. = القول الثالث: وهو للشافعية: أنه يجب أن نقسم الصدقة على الأصناف الثمانية وجوباً.

- لأن الله سبحانه وتعالى عطف الأصناف بالواو مما يدل على التشريك بينهم حال التوزيع. والراجح والله أعلم: أنه يجوز أن تصرف لصنف واحد وتعطى الأولى فالأولى على سبيل الاستحباب لا الوجوب. - لأن من أعطى الزكاة صنفاً ولم يعطه آخر أو أعطى شخصاً مع وجود من هو أولى منه يصدق عليه أنه أخرج الزكاة لمستحقها. والقول بأنه يجب استيعاب الأصناف الثمانية بل والقول بأنه يتحتم إعطاء الأولى فالأولى يتعذر العمل به ولا تكاد تجد أحداً يعمل بهذا القول: - أولاً: لصعوبة التقصي ومعرفة حال الناس. - وثانياً: لتوزع الأصناف واختلافها ووجود بعضها في منطقة دون بعض فلا شك أن هذا متعذر العمل به. فنقول: نجمع بين القول الأول والثاني. أنه يجوز صنف ويستحب فقط أن نعطيها الأولى فالأولى. • ثم قال - رحمه الله -: ويسن إلى أقاربه الذين لا تلزمه مؤنتهم. يعني: يسن أن يقدم الإنسان من هذه الأصناف قريبه. يسن وليس ذلك من المحابات في شيء بشرط: أن لا يلزم المخرج نفقة الفقير. والدليل على استحباب هذا الأمر من وجهين: - الأول: الإجماع. وحكاه المجد. وقال - رحمه الله -:إجماعاً. - الثاني: قوله - صلى الله عليه وسلم -: (الصدقة على القريب صدقة وصلة). فلاشك أنه ينبغي للإنسان أن يعطي قريبه ويقدم هذا القريب على غيره من الناس مادام من أهل الزكاة. فصل • ثم قال - رحمه الله -: (فصل). المقصود بهذا الفصل: - بيان الأصناف الذين لا يجوز أن نعطيهم من الزكاة ولو كانوا في الجملة من الأصناف الثمانية. - وليبين مسألة صدقة التطوع وما يتعلق بها من أحكام. • قال - رحمه الله -: ولا يدفع: إلى هاشمي. الهاشمي هو من كان من سلالة: هاشم جد النبي - صلى الله عليه وسلم -. فلا يجوز لمن كان هاشمياً أن يأخذ من الصدقة. ولا يجوز لمن أراد أن يدفع الصدقة أن يعطيها من يعلم أنه من بني هاشم. والدليل على هذا أيضاً من وجهين: - الأول: الإجماع. فقد أجمعوا - في الجملة - على أن الهاشمي لا يأخذ من الصدقات. أجمعوا - في الجملة - ففي بعض المسائل فيها خلاف لكن في الجملة أن الهاشمي لا يجوز أن يأخذ من الزكاة.

- الثاني: قوله - صلى الله عليه وسلم - في الحديث الصحيح: (إن الصدقة لا تحل لآل محمد إنما هي أوساخ الناس). - الثالث: ما صح أن الحسن - رضي الله عنه - أراد أن يأخذ تمرة من الصدقة فنهاه النبي - صلى الله عليه وسلم - وقال: (أما علمت أن الصدقة لا تحل لآل محمد). فلم يبق شك ولا إشكال بعد هذه النصوص والإجماع أن الصدقة أي الزكاة لا تحل لآل النبي - صلى الله عليه وسلم - من بني هاشم. • ثم قال - رحمه الله -: ومطلبي. = يعني أيضاً: لا يجوز أن نعطي المطلبي من الزكاة. واستدلوا على هذا بدليلين: - الأول: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (بنو المطلب بنو هشام شيء واحد). - الثاني: أنه ثبت في السنة أن المطلبي له حق في الخمس كما للهاشمي فاستووا في استحقاق الخمس فيستوون في منع الزكاة. = والقول الثاني: أنه يجوز دفع الزكاة للمطلبي. - لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - نص على المنع في آل محمد وليسوا من آله. وأما أن الخمس يستحقه المطلبي فلأن هذا مرجعه إلى النصرة لا إلى القرب بدليل: أن الذين يساوونهم في القرب من النبي - صلى الله عليه وسلم - كبني عبد شمس ليس لهم من الخمس شيء فدل على أنهم استحقوا الخمس بالنصرة والوقوف مع النبي - صلى الله عليه وسلم - لا بالقرابة. وهذا القول الثاني هو الصواب. بناء على هذا: يحصر المنع في الهاشمي فقط. مسألة/ هل يجوز أن يأخذوا من الصدقة التي ليست واجبة؟ فيه خلاف: = القول الأول: أنه لا يجوز. - لأنها تسمى صدقة. = القول الثاني: أنه يجوز. - لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - علل بأنها أوساخ الناس وصدقة التطوع ليست من أوساخ الناس بل من فضائل الناس. مسألة / هل يجوز للهاشمي أن يأخذ من زكاة الهاشمي؟ فيه خلاف: والأقرب والله أعلم في مسألة هل يجوز للهاشمي أن يأخذ من زكاة الهاشمي؟ - أنه لا يجوز.: - لأن النص عام. - ولأن الزكاة سواء كانت من بني هاشم أو من غيرهم إنما هي أوساخ الناس. مهما كان المخرج. ففي المسألة الثانية وهي: صدقة الهاشمي: لا يجوز أن يأخذ. • ثم قال - رحمه الله -: ومواليهما. يعني مولى الهاشمي ومولى المطلبي. مولى الهاشمي ومولى المطلبي: لا يجوز له أيضاً أن يأخذ.

- أما مولى الهاشمي: فلا يجوز له أن يأخذ. ولا إشكال: لأن أبا رافع مولى النبي - صلى الله عليه وسلم - أراد أن يخرج مع عامل الصدقة ليأخذ معه فنهاه النبي - صلى الله عليه وسلم - وقال: (إن مولى القوم من أنفسهم). فحكم مولى بني هاشم حكم بني هاشم. - وأما مولى المطلبي فإذا كان الراجح في المطلبي أنه يأخذ فمولاه من باب أولى. ولو رجحنا أن المطلبي لا يأخذ لكان المولى أيضاً لا يأخذ. • ثم قال - رحمه الله -: ولا إلى فقيرة تحت غني منفق. لا يجوز للفقيرة أن تأخذ إذا كانت تحت غني منفق سواء كان هذا الغني المنفق زوج أو أب أو أي قريب ممن يجب عليه أن ينفق عليها. والتعليل: - أنها مستغنية بهذه النفقة. والمستغني بالنفقة لا يجوز له أن يأخذ من الزكاة. وهذا الحكم معلوم مما تقدم معنا حين بحثنا مسألة: متى يرتفع اسم الفقر؟ وأخذنا أنه يرتفه بثىثة أمور منها: وجود المنفق. فتلك المسألة توضح هذه ولكن نص المؤلف - رحمه الله - عليها لكزيد الإيضاح. فنقول: من وجد من ينفق عليه فإنه لا يجوز أن يأخذ من الزكاة. • ثم قال - رحمه الله -: ولا إلى فرعه وأصله. لا يجوز للانسان أن يدفعه الزكاة إلى فرعه ولا يجوز أن يدفع الزكاة إلى أصله. والمقصود بالأصل: الوالد وإن علا. وبالفرع: الولد وإن نزل. والكلام حول هذا الموضوع ينقسم إلى قسمين: ــ القسم الأول: من تجب عليه نفقتهم: سواء كان والد أو ولد. = فهذا لا يجوز أن يدفع الزكاة لهم بالإجماع.: - لأن دفعه الزكاة فيه وقاية لماله. - ولأن حقيقة هذه الزكاة تعود إليه. ولأن فائدة هذه الزكاة تعود إليه لأنه يوفر على نفسه في النفقة. ــ القسم الثاني: من لا تلزمه نفقته: - إما أنه لا يرثه كابن البنت. - أو لأن ماله لا يتسع له. فهذا فيه خلاف. = القول الأول: للحنابلة أن أيضاً هذا لا يجوز أن ندفع الزكاة له. - لدخوله في عموم مسمى الابن ولو لم يرث. = والقول الثاني: أنه يجوز أن نعطي من كان هذه حاله من الزكاة. - لوجود المقتضي السالم من المعارض. المقتضي للزكاة: هو أنه فقير. وهذا المقتضي لا يجوز له معارض أو دافع لأنه ليس هو الذي ينفق عليه.

بناء على هذا: إذا كان شخص عنده عائلة ويخرج الزكاة ولا يستطيع أن ينفق إلا على من في بيته وله ابن بنت فقير: = فعند الحنابلة: لا يجوز له أن يعطيه من الزكاة. = وعلى القول الصواب يجوز أن يعطيه من الزكاة. وهذا القول الأخير اختيار شيخ الإسلام - رحمه الله - وهو اختيار قوي ومسدد لأن لا يدفع الإنسان زكاته للغريب مع حاجة القريب لأن هذا الابن بكل حال لن ينفق عليه فدفع الزكاة للبعيد مع بقاء حاجة القريب. مسألة / يجوز أن يدفع الزكا للوالد وإن علا والولد وإن نزل إذا كانت الزكاة تعطى لمصلحة المسلمين لا لمصلحته الخاصة: كأن يكون مجاهداً أو عامل أو من المؤلفة أو كل من يعطى الزكاة لمصلة المسلمين. أو أن يكون غارماً لإصلاح ذات البين. فإذاً إذا كان الإنسان ابن مجاهد أو ابن لأحد العاملين عليها أو من المؤلفة قلوبهم أو غارم لإصلاح ذات البين فيجوز أن يعطيه من الزكاة ولو كثرت. حتى لو كان هو الذي ينفق عليه. مسألة / يجوز للوالد أن يعطي ابنه وللابن أن يعطي أباه من الزكاة في كل ما لا يجب عليه أن يقضيه عنه. مثاله: الدين. فإذا كان الأب مديناً فإنه لا يجب على الابن أن يقضي دين أبيه. كذلك العكس: لو كان الابن مديناً فإنه لا يجب على الأب أن يقضي دين الإبن. بل يجب عليه فقط أن ينفق أما قضاء الديون فليس بواجب. فإذا كان لا يجب عليه جاز أن يعطيه من الزكاة. • ثم قال - رحمه الله -: ولا إلى عبد. - لأن العبد مستغني بنفقة سيده. - ولأن حقيقة الأمر أن المال سيذهب إلى السيد فسيكون ملكاً للسيد. بناء على هذا التعليل: يجوز أن نعطي العبد إذا كان السيد يستحق الزكاة. لأن إعطاء العبد هو بمثابة إعطاء السيد. • ثم قال - رحمه الله -: وزوج. لا يجوز للمرأة أن تعطي زوجها: = عند الحنابلة. وعللوا ذلك: - بأنها تنتفع من الزكاة. لأن الزوج سينفق على الزوجة. = والقثول الثاني: أنه يجوز للزوجة أن يعطي الزوج. واستدلوا: - بحديث ابن مسعود لما ذهبت زوجه زينب تستفتي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ان تعطيه من الصدقة أولا فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: (زوجك وولدك أحق من تصدقت عليه).

فبين النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه يجوز بل هم أحق من غيرهم. وهذا القول هو الصحيح لأن الحديث فيه نص. مسألة / هل يجوز أن تعطي زوجها ولو كان لها أولاد منه وهو وهم فقراء؟ فيه خلاف قوب: = اقول الأول: أنه لا يجوز. - لأنه سينفق المال على الأولاد الفقراء. وهؤلاء الأولاد الفقراء إذا كانوا لا يجدون كفايتهم يجب على الأم أن تنفق عليهم. = والقول الثاني: أنه يجوز أن تعطي زوجها ولو كان لها منه أولاد فقراء. لدليلين: - الأول: أنه لا يجب على الأم أن تنفق على الأبناء بوجود الأب. كما قال الحافظ بن حجر - رحمه الله -. - الثاني: - وهو الدليل الأقوى - أن حديث ابن مسعود عام ولم يستفصل النبي - صلى الله عليه وسلم - هل لك منه أولاد أو لا؟ وإنما أمرها بدفع الصدقة له بلا تفصيل. فإن قيل: الصدقة في حديث ابن مسعود هي صدقة التطوع لا الواجبة. فالجواب: من وجهين: - الأول: أنه لا دليل على تخصيص الصدقة للتطوع بل الحديث شامل التطوع والواجبة لأنه لا يوجد ما يدل على التخصيص وتخصيص اللفظ بلا دليل لا يجوز. - والثاني: أنه في صدقة التطوع أيضاً لا يجوز أن ترجع المصلحة للمتصدق أو المتطوع ولو كانت صدقة تطوع. وذلك نهى النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يشتري الإنسان ما تصدق به مع أنه سيأخذه بالثمن ومع ذلك نهاه. فالأقرب والله أعلم أنه يجوز للزوجه أن تعطي زكاتها للزوج مطلقاً بلا تفصيل كما جاء في الحديث فتعطيه ولو كان لها منه أولاد. • ثم قال - رحمه الله -: وإن أعطاها لمن ظنه غير أهل فبان أهلاً ... لم يجزئه. يعني لم تجزئ عنه. لماذا؟ لأنه أعطى وهو شاك. والعبادة يجب أن يؤديها الإنسان وهو جازم على يقين. هذا شيء. الشيء الثاني: ان من أعطى زكاته لرجل يظن أنه ليس أهلاً للصدقة فهو إما متساهل أو متلاعب. ولا نقول دائماً أنه متلاعب. بل الغالب أنه متساهل. ولا يجوزأن يتساهل الإنسان في إبراء ذمته حين إخراج الزكاة. • ثم قال - رحمه الله -: أو بالعكس. لم يجزئه. إلاّ لغني ظنه فقيراً. يعني: لايجوز ولا تجزئ الزكاة إذا أعطاها لمن يظن أنه أهل ثم بان أنه ليس من أهل الزكاة إلا الغني إذا ظنه فقيراً.

إذاً: = عند الحنابلة إذا أعطى الزكاة لمن يظنه أهلاً للزكاة ثم تبين أنه ليس من أهل الصدقات فإنه لا يجزئه إلا في صورة واحدة إذا أعطاها غنياً يظنه فقيراً. الدليل على أنها لا تجزئه: - أن بالإمكان لنخرج الزكاة أن يتثبت بالعلامات الظاهرة من حال الفقير أو من حال المستحق. فإذا لم يفعل لم يجزئه لأنه ترك ما يستطيع فعله أثناء أداء الواجب. وأما استثناء الغني: - فلما ثبت في الصحيح أن رجلاً قال: لأتصدقن وفي رواية الليلة ثم خرج ووضع الصدقة في يد فقير ثم لما أصبحوا تحدثوا أنه تصدق البارحه على غني فقال على غني: الحمد لله ثم أتي أي في المنام وقيل له قد قبل الله صدقتك. فاستدلوا بهذا الدليل على استثناء الغني فقط من بين أصناف أهل الزكاة. = والقول الثاني: أن من دفع إلى من يظن أنه من أهل الزكاة فبان من غيرهم أجزأته مهما كان الصنف سواء كان غنياً أو غير هذا الصنف. - قياساً على الغني: لأنه لا يوجد ما يدل على تخصيصه بالحكم وإنما هذه حادثة عين. - والدليل الثاني: أن معن بن يزيد - رضي الله عنه - أخذ صدقة والده ظاناً أنه يريده هو بالصدقة فقال والده: والله ما أردتك. فاختصما إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: (لك ما أخذت يا معن ولك ما نويت يا يزيد). فصحح الصدقة مع العلم أن الأب ما كان ناوياً الابن فدل على أن الإنسان إذا وضع الزكاة في غير محلها أو أخطأ في مراده فإن صدقته تجزئ وتجوز. وهذا القول هو الصواب أنه مادام اجتهد ثم وضعها في غير أهلها تجزئ عنه. فائدة:/ ظاهر مذهب الحنفية: التفصيل التالي: - أنه إن اجتهد وبذل الوسع أجزأت عنه. - وأن لم يجتهد وفرط لم تجزئ عنه. وقالوا: الاجتهاد يكون بالنظر إلى المظاهر الخارجية للفقير ومعرفة أحواله التي يمكن للإنسان أن يعرفها من مظهره فهذا هو الاجتهاد. فإن اجتهد أجزأت وإن لم يجتهد لم تجزئ. هذا تفصيل عند الأحناف. والقول الثاني: الذي ذكرت أنه هو الراجح هو الأقرب.

أما مسألة: اجتهد أو لم يجتهد إذا لم يجتهد وفرط فهو آثم بكل حال وفي كل مناسبة فلا نحتاج أن نقيد في مثل هذا السياق مسألة أنه اجتهد أو لم يجتهد لكن الأصل أن من أراد أن يخرج الزكاة أن يجتهد في وضعها في أهلها فإن لم يجتهد فهو آثم بل ربما نقول: لو أن الإنسان لم يجتهد ووضعها في أهلها فإنه لا يسلم من الإثم مع أنها تجزئ عنه لأنه فرط لأن الواجب على من أراد أن يخرج أن يجتهد في إيقاعها في الأصناف التي نص الله عليها في كتابه. والله أعلم.

قال شيخنا حفظه الله: بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين. (نقص من التسجيل) وإلا فقد يعرض لصدقة العلانية ما تكون به أفضل من صدقة السر. لكن الأصل أن صدقة السر أفضل لقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: (سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله ... وذكر منهم رجل تصدق بصدقة قال في الحديث فأخفاها حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه) ففي قوله: أخفاها وفي قوله: حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه. تأكيد على أن السر أفضل من العلانية. وصدقة التطوع: مستحبة. • ثم قال - رحمه الله -: وفي رمضان. يعني: أفضل. أي أن هذا الوقت المحدد وهو شهر رمضان الصدقة فيه أفضل من الصدقة في سائر الشهور. ويدل على هذا عدة أمور: - الأول: أن الحسنات تضاعف في هذا الشهر الكريم. - الثاني: أنه يستعان بالصدقة في هذا الشهر بالذات على أعمال البر والخيرات. كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: (من فطر صائماً فله مثل أجره). - الثالث: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان أجود ما يكون في رمضان. وكونه - صلى الله عليه وسلم - يجتهد في إخراج الصدقة في رمضان ما لا يجتهده في سائر الشهور دليل على فضل هذا الشهر. • ثم قال - رحمه الله -: وأوقات الحاجات: أفضل. أوقات الحاجات الإطعام فيها أفضل من غيرها من أوقات السعة. فإذا تصدق الإنسان على الناس الفقراء في أوقات الحاجة فهو أفضل.

وكذلك يقال: أن الصدقة على الأشد حاجة أفضل من الأقل حاجة ولو كانت الحاجة ليست عامة لقوله تعالى: - (أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ) -[البلد/14] فنص على أن الإطعام في اليوم الشديد أحب إلى الله ولأن حاجة المسكين أشد في هذه الأحوال سواء كان حاجة خاصة كما قلت أو حاجة عامة كأن تنزل بالمسلمين نازلة عامة. • ثم قال - رحمه الله -: وتسن: بالفاضل عن كفايته ومن يمونه. يعني أن الصدقة تكون سنة ومحبوبة إلى الله إذا تصدق الإنسان بما يزيد عن نفقته ونفقة من يمونهم. فحينئذ تكون مستحبة. - لقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: (خير الصدقة ما كان عن ظهر غنىً وابدأ بمن تعول). ففي هذا الحديث دليل على أن الصدقة المستحبة إنما تكون بما زاد عن نفقته ونفقة من يمونهم ولا يريد المؤلف في هذه العبارة أن يبين حكم النقص من النفقة للصدقة فإن هذا سيذكره بالعبارة التالية لكنه يريد أن يبين أن الصدقة إنما تستحب في هذه الحال بأن تكون بالزائد عن حاجته ونفقته. • ثم قال - رحمه الله -: ويأثم بما ينقصها. يُنَقِّصُهَا أو: ولعله الأقرب: يُنْقِصُهَا كما ضبطها شيخنا - رحمه الله -. والمعنى قريب إن شاء الله. إن تصدق بصدقة أدت إلى النقص في نفقته أو نفقة من يمونهم فهو آثم. - لأنه قدم المستحب على الواجب. فإن نفقة الإنسان على نفسه وعلى من يجب عليه أن ينفق عليهم واجبة ولا يجوز للإنسان أن يقدم المستحب على الواجب. - ويستدل لهذا أيضاً بما نقل عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: (كفى بالمرء إثماً أن يضيع من يعول). فهذا الحديث دليل على أنه لايجوز للإنسان أن يضيع من يعول بأن ينفق نفقة تنقص من الواجب لهم. - ويدل على ذلك أيضاً أن رجلاً سأل النبي - صلى الله عليه وسلم - أن عنده دينار يريد أن يتصدق به فقال: (تصدق به على نفسك) فقال عندي آخر فقال: (على ولدك) فقال عندي آخر فقال: (على زوجك) فقال عندي آخر فقال: (على خادمك) فقال عندي آخر فقال: (أنت أبصر). يعني ضعه حيث تشاء. فجعل الصدقة في المرتبة الرابعة أو الخامسة مما يدل على وجوب تقديم النفقات المذكورة في الحديث على صدقة التطوع. - - مسألة: هل يجوز للإنسان أن يتصدق بكل ماله؟

الجواب: أن هذا فيه تفصيل: - فإن كان يصبر على شظف العيش وقلة المؤونة هو وأهله ولا يترتب على هذا مفاسد فإنه يجوز له أن يتصدق بكل ماله وقد صنعه أبو بكر الصديق أكثر من مرة. - وإن كان لا يتحمل شظف العيش ولا نقص المؤونة فإنه يحرم عليه أن يتصدق بكل ماله لما يترتب على هذا من الضرر عليه وعلى من يعول. وفي الحقيقة حال غالب الناس هو هذا: أنهم لا يتمكنون من الصبر على شظف العيش. فإذا كان الإنسان يعلن من نفسه هذا فإنه لا يجوز له أن يتصدق بكل ماله. وبهذا انتهى ولله الحمد الكلام على كتاب الزكاة. وقبل أن ننتقل إلى كتاب الصوم أريد أن أتكلم عن مسألة الهاشمي والمطلبي لأني لا حظت أن بعض الإخوان لم تتضح لهم من حيث النسب تماماً. فسأذكر ما يتعلق بالشجرة الشريفة من كان منهم من المسلمين ويلحق ما سأذكره الآن (بالنسبة لأخينا الذي يكتب) بالكلام عن الهاشمي. نقول: جد النبي - صلى الله عليه وسلم - الثالث هو عبد مناف بن قصي بن كلاب. عبد مناف هذا ولد له أربعة: 1 - هاشم. 2 - والمطلب. 3 - وعبد شمس. 4 - ونوفل. هؤلاء أربعة. 1 - هاشم - والذي هو جد النبي - صلى الله عليه وسلم - ولد له عبد المطلب. وعبد المطلب ولد له أولاد هم: 1 - أبو طالب. وهو والد: علي، وجعفر. كما هو معلوم. 2 - وعبد الله: والد نبينا - صلى الله عليه وسلم -. 3 - والعباس: كما هو معروف. 4 - وحمزة. 5 - والحارث بن عبد المطلب. تقدم معنا عند قول المؤلف: (ولا يدفع إلى هاشمي ومطلبي). وذكرنا الآن أن عبد مناف له من الولد: هاشم والمطلب وعبد شمس ونوفل. - فالمقصود بقوله: (مطلبي). هو هذا: المطلب بن عبد مناف أخو هاشم وهو يختلط بعبد المطلب عند كثير من الطلاب يخلطون بين عبد المطلب والمطلب. فعبد المطلب ابن لهاشم وأما المطلب فعمه. وهاشم هذا اسمه: عمرو. وهو أول من سافر إلى الشام واليمن - رحلة المشرق والمغرب وهذا الرجل - هاشم - تزوج من بني النجار ولهذا النبي - صلى الله عليه وسلم - يعتبرهم أخواله. هذا بالنسبة لهاشم.

بالنسبة لعبد المطلب فإن هاشم لما تزوج من بني النجار اشترطوا عليه أن تبقى زوجته في المدينة فبقيت في المدينة وولدت له عبد المطلب وهو جد النبي - صلى الله عليه وسلم -. وعبد المطلب اسمه شيبة الحمد كما هو معروف وسمي بعبد المطلب لأن هاشم لما تزوج ودخل بزوجته سافر إلى الشام وتوفي فالمطلب صار هو الذي يرعى عبد المطلب جد النبي - صلى الله عليه وسلم - فظنه الناس عبد للمطلب فسموه عبد المطلب وإلا فاسمه شيبة الحمد وهو أول من خضب بالسواد. المهم عبد المطلب كما تقدم أتى له من الأبناء أبو طالب وعبد الله والعباس ... إلخ. فالمطلب الآن وهاشم أخوين والنبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: (إنما بنوا هاشم وبنوا المطلب شيء واحد) وبني المطلب لهم الخمس كما أن لهاشم خمس. بينما عبد شمس ونوفل وهم في درجة واحدة ليس لهم شيء. وعبد شمس من أحفاده أمير المؤمنين عثمان بن عفان. ونوفل من أحفاده جبير بن مطعم. فعثمان بن عفان وجبير بن مطعم أتوا إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - ثم قالوا: أنت تعطي بني المطلب من الخمس ولا تعطينا ونحن وهم سواء - يعني من حيث النسب. فبين لهم النبي - صلى الله عليه وسلم - أن بني هاشم والمطلب شيء واحد. الخلاصة: الذين لهم ذرية من بني هاشم من الذين لا تجوز لهم الصدقة هم هؤلاء الذين سأذكرهم فقط وأما الباقي فليس لهم ذرية. : - آل علي بن أبي طالب. - وآل جعفر. - وآل عقيل. كلهم أبناء أبي طالب. : - وآل العباس. - وآل أبي لهب. - وآل الحارث بن عبد المطلب. هؤلاء هم الذين لهم نسل ويوجد إلى الآن وهم الذين لا يجوز لهم أن يأخذوا الصدقة. فكل إنسان من قريش عدا هؤلاء الذين ذكرت تجوز له الصدقة. إنما الذي تحرم عليه الصدقة هؤلاء الذين بقي لهم ذرية توجد إلى عصرنا هذا.

كتاب الصيام

كتاب الصيام قال شيخنا حفظه الله: • قال - رحمه الله -: كتاب الصيام. الصيام في لغة العرب: الكف والإمساك سواء كان عن الطعام أو عن الكلام أو عن العمل أو عن أي شيء. وفي الاصطلاح: هو الإمساك بنية عن المفطرات من طلوع الفجر الصادق - الثاني - إلى غروب الشمس. وهذا التعريف ذكره بعض الفقهاء. وهو أوضح من أن يقال: إمساك مخصوص في زمن مخصوص عن أشياء مخصوصة. فإن هذا التعريف ما يفيد كثيراً لكن التعريف الذي ذكرت وذكره بعض الفقهاء أوضح في بيان المقصود. • يقول - رحمه الله -: يجب صوم رمضان. صيام رمضان مفروض بالكتاب والسنة والإجماع. ولم يختلف أهل العلم في فرضيته. وهو مما يعلم وجوبه من الدين بالضرورة. فمن أدلة فرضيته: - في الكتاب: قوله تعالى: - (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) -[البقرة/183]. - وأما من السنة: فقوله - صلى الله عليه وسلم -: (بني الإسلام على خمس) وذكر منها صيام رمضان. - وأما الإجماع: فقد أجمع المسلمون علماء وعوام وكل من يعقل الأحكام من الإسلام أن صيام رمضان واجب متحتم. ورمضان فرض في السنة الثانية. وصام - صلى الله عليه وسلم -: تسع رمضانات بإجماع الفقهاء. • يقول - رحمه الله -: يجب صوم رمضان برؤية هلاله. يجب الصوم بثلاثة أسباب: - السبب الأول: رؤية الهلال: فإذا رأى المسلمون الهلال وجب عليهم الصيام لدليلين: - أولاً: الإجماع. فإنه لم يختلف المسلمون أنه إذا رؤي الهلال وجب الصوم. - ثانياً: ما صح عن ابن عمر في الصحيحين أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (إذا رأيتموه فصوموا وإذا رأيتموه فأفطروا). - السبب الثاني: إتمام عدة شعبان ثلاثين يوماً. وهذا أيضاً مما أجمع عليه الفقهاء. أنه إذا أتم المسلمون شهر شعبان ثلاثون يوماً وجب عليهم الصيام. - لقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: (فإن غم عليكم فأكملوا عدة شعبان ثلاثين يوماً).

- السبب الثالث: إذا كانت ليلة الثلاثين فيها غيم أو قتر. فيجب الصيام حينئذ عند الحنابلة وسيأتينا الآن قريباً تفصيل هذه المسألة وذكر الخلاف والراجح فيها. لكن المقصود الآن أن يتصور الإنسان الأسباب الثلاثة عند الحنابلة التي توجب على المسلمين الصيام وأن السبب الأول والثاني محل إجماع وأن الثالث محل خلاف سيأتي الكلام عليه. • ثم قال - رحمه الله -: فإن لم ير مع صحوٍ ليلة الثلاثين: أصبحوا مفطرين. وذلك لعدم استنادهم على ما يوجب الصيام شرعاً. لأنه إذا لم ير مع الصحو إذاً لم يهل ولا يجوز للإنسان أن يصوم إلا بموجب شرعي. وإذا تأملت تجد هذه الصورة التي ذكرها المؤلف تخرج عن الأسباب الثلاثة. • ثم قال - رحمه الله -: وإن حال دونه غيم أو قتر: فظاهر المذهب يجب صومه. إذا حال بين الناس وبين رؤية القمر غيم أي: سحب أو قتر يعني: غبار وذلك ليلة الثلاثين من شعبان فإنه: = يجب عند الحنابلة أن يصوم الناس. واستدل الحنابلة لهذا الحكم بأدلة: - الأول: أنه يجب الصيام احتياطاً. - الثاني: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (فإن غم عليكم فاقدروا له). قالوا ومعنى (فاقدروا): يعني: ضيقوا وإذا ضيقنا شعبان صار تسعة وعشرين يوماً. فنصوم بناء على هذا من الغد. - الثالث: أنه صح أن ابن عمر - رضي الله عنه - كان يصوم في يوم الغيم. إذاً استدل الحنابلة بثلاثة أدلة. = القول الثاني: أنه لا يجب الصيام. بل إما أن يكون مباحاً أو مستحباً. لكنه لا يجب. والقول: بأنه لا يجب. وهو إما مباح أو مستحب: كل هذه الأقوال نسبت لشيخ الإسلام أنه - رحمه الله - قال: مباح وأنه قال مستحب. فكأن له في هذه المسألة أكثر من قول. واستدل: - بأنه لم ينقل عن الصحابة أبداً الوجوب ولا عن النبي - صلى الله عليه وسلم -. = القول الثالث: أن الصيام في هذا اليوم محرم. لدليلين: - الأول: قوله - صلى الله عليه وسلم -: (من صام يوم الشك فقد عصا أبا القاسم) ويوم الشك هو ليلة الثلاثين من إذا حال بين الناس وبين رؤية القمر سحاب أو قتر. - الثاني: قوله - صلى الله عليه وسلم -: (لا تقدموا رمضان بصوم يوم ولا يومين). ومن صام هذا اليوم فقد تقدم رمضان بصوم يوم أو يومين حسب الواقع.

= القول الرابع - الأخير -: أنه لا يستحب. وهذا أيضاً نسب لشيخ الاسلام - رحمه الله -. فصارت الأقول: يجب، يباح، يستحب، لا يستحب، يحرم. والأقرب أنه يحرم مع قوة القول بالإستحباب. وسبب قوة القول بالإستحباب: أنه مروي عن الصحابة. وسبب ترجيح التحريم: وضوح النصوص لأن معصية النبي - صلى الله عليه وسلم - بصوم يوم الشك تؤدي إلى التحريم. • ثم قال - رحمه الله -: وإن رؤي نهاراً: فهو لليلة المقبلة. المقصود بهذا: أنه لا أثر لرؤية الخلال في النهار. أما بالنسبة لليلة السابقة فلا إشكال في أنه لا أثر له. وأما بالنسبة لليلة القادمة فكذلك لا أثر له. إلا إن رؤي بعد غروب الشمس. الدليل على هذا: - أن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - قال: إذا رأيتموه في النهار فلا تصوموا حتى تروه في العشية. • ثم قال - رحمه الله -: وإذا رآه أهل بلد: لزم الناس كلهم الصوم. هذه مسألة مهمة وهي من المسائل التي يكثر فيها الخلاف والأخذ والعطاء. = ذهب الحنابلة والأحناف والمالكية. يعني: الأئمة الثلاثة. إلى أنه إذا رؤي القمر في بلد لزم جميع الناس الصوم. واستدلوا على هذا بأدلة: - الدليل الأول بقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: إذا رأيتموه فصوموا وإذا رأيتموه فأفطروا. والخطاب في قوله: رأيتموه لجميع المسلمين. - الدليل الثاني: قوله سبحانه وتعالى: - (فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ ... ) -[البقرة/185] وشهادة الشهر لا يمكن أن تكون من جميع الناس بل يصدق عليها أنها شهادة ولو من بعض الناس. = القول الثاني: وهو للشافعية واختيار شيخ الاسلام - رحمه الله -. أنه إذا رؤي الهلال في بلد وجب عليهم الصيام وعلى كل بلد يوافقهم في مطلع القمر. واستدل هؤلاء: - بأن مطالع القمر تختلف باتفاق أهل الفلك. وإذا كانت تختلف فقد يطلع على قوم دون آخرين. - وبحديث كريب أنه قدم من معاوية من الشام إلى ابن عباس فقال: له ابن عباس متى رأيتم القمر قال ليلة الجمعة فقال: ابن عباس إنا لم نره إلا ليلة السبت فلا نزال صائمين حتى نراه أو نكمل العدة ثلاثين. وجه الاستدلال: أن ابن عباس لم يعتد برؤية أهل الشام.

= القول الثالث: أنته لكل بلد رؤية خاصة به. فإذا رؤي في بلد لزم أهله الصيام دون سائر البلدان. = القول الرابع - الأخير -: أنه يرجع إلى رأي الحاكم. فإذا أمر بالصيام وجب على من تحت ولايته أن يصوموا ولو كانوا في بلدان مختلفة المطالع. والراجح والله أعلم القول الأول: أنه إذا رآه أحد من المسلمين وجب على الجميع الصيام. - أولاً: لعموم قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: (إذا رأيتموه فصوموا) هذا الحديث لا يوجد عنه جواب صحيح وهو عام: إذا رأيتموه فصوموا: للجميع. - ثانياً: أن اختلاف المطالع الذي قال به شيخ الاسلام - رحمه الله - يشكل عليه أن كثيراً من الناس لا يحسن ولا يعرف مسألة اختلاف المطالع وتقدم معنا مراراً من القواعد التي قررها أهل العلم ومنهم شيخ الاسلام: ((أن الشارع لا يربط الحكام بما لا يحسنه كثير الناس وإنما يربطه بالأشياء الواضحة التي يشترك جميع الناس في معرفته)). كطلوع الشمس وغروبها والزوال فكل الناس يحسن هذه الأشياء. - ثالثاً: لم يأت في النصوص أبداً الإشارة إلى اعتبار اختلاف المطالع. - رابعاً - وأخيراً: أنا نجد نظير هذا في الأحكام الشرعية الأخرى ومنها: أن يوم الجمعة في الدنيا كلها يوم واحد يتقدم ويتأخر لكنه يوم واحد عند جميع الأمصار. مما يدل على أن قضية تأخر طلوع الشيء أو تقدمه وإنما يوم الجمعة بكل ما تترتب عليه من أحكام سواء كانت أحكام العبادات أو المعاملات يحل في الدنيا كلها بيوم واحد يتقدم ويتأخر لكنه هو يوم واحد في زمن واحد. كذلك نقول رمضان في جميع البلدان والأمصار هو شهر واحد يبدأ بوقت واحد وينتهي بوقت واحد وإن تقدم وإن تأخر لكنه من حيث اليوم واحد. المهم: أن الراجح إن شاء الله هذا القول الأول ومع ما ذكرت من أدلة وتعليلات يضاف إليه شيء يستأنس به وإن كان لا يعتمد عليه ما يحصل بسبب هذا القول من اتفاق الكلمة واتحادها والبعد عن الاختلاف لأنه بناء على هذا القول إذا رؤي في أي بلد من البلدان رؤية شرعية صحيحة مستوفية الشروط وجب على جميع المسلمين أن يصوموا. وبهذا يتحدوا اتحاداً تاماً في مسألة دخول الشهر وخروجه. • ثم قال - رحمه الله -: - مبيناً شروط الرؤية:

ويصام: برؤية عدل ولو أُنثى. يعني: أن وجوب صيام شهر رمضان يكتفى به برؤية عدل واحد ولو أنثى ولا يشترط أن يشهد بذلك اثنان. = وهو مذهب الحنابلة والشافعية. واستدل هؤلاء بنصوص واضحة: - أولاً: بحديث ابن عباس أن أعرابياً جاء إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه رأي الهلال فقال له النبي - صلى الله عليه وسلم - أتشهد أن لا إله إلا الله فقال: نعم. فأمر الناس بالصيام. فهذا الأعرابي رجل واحد قبل النبي - صلى الله عليه وسلم - شهادته. وهذا الحديث يصححه بعض المتأخرين. والصواب أنه مرسل كما قال الإمام النسائي. - ثانياً: ما صح عن ابن عمر - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمر الناس أن يتراؤوا الهلال قال: فرأيته وأخبرت النبي - صلى الله عليه وسلم - فصامه وأمر الناس بصيامه. - أي: الشهر. وهذا الحديث الصواب أنه ليس له علة وهو صحيح ثابت إن شاء الله وهو نص في قبول شهادة الرجل الواحد. = القول الثاني: أنه تقبل شهادة الرجل الواحد إذا قدم من خارج البلد وترد إذا شهد وهو في البلد. - لأنه إذا شهد قادماً من الخارج فيحتمل أن يرى ما لا يراه الناس لكونه في موقع يتمكن من الرؤية دون الناس. وأما إذا كان في وسط البلد مع الناس وزعم أنه رآه ولم يره الناس فترد شهادته لأنهم يتمكنون من رؤية ما يرى. - ولأن الأعرابي الذي شهد عند النبي - صلى الله عليه وسلم - قدم من الخارج. = والقول الأخير - وهو الثالث - أنه يشترط في ثبوت دخول الشهر شهادة اثنان. - لقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: (فإذا شهدا شاهدان ذوا عدل فصوموا وأفطروا). والصواب: القول الأول. • قوله - رحمه الله - : (ولو أنثى). يعني خلافاً للشافعية الذين يشترطون أن يكون الرائي من الرجال. والدليل على صحة مذهب الحنابلة: - أن هذا خبر ديني يقبل به قول الرجل والمرأة كرواية الحديث وكالإخبار بمواقيت الصلاة فإن هذه الأخبار الدينية لا يشترط فيها أن يكون المخبر رجل بل تقبل من النساء. وهذا هو الصواب بلا شك. - - مسألة: خروج الشهر - بل نقول رؤية شهر شوال وغيره من الشهور فيما عدا رمضان لا يقبل في إثباتها إلا شهادة رجلين ولا يكتفى بالواحد.

وحكي على هذا الإجماع - حكاه أكير من واحد من أهل العلم ولم يخالف فيه إلا فقيه واحد وهو أبو ثور. فمن الفقهاء من حكى الإجماع ولم يشر إلى خلاف أبي ثور ومنهم من حكى الإجماع وقال: خالف أبو ثور فقط. وهذا هو الصواب لأنها محل إجماع أنه يشترط في إثبات دخول سائر الشهور عدا رمضان أن يشهد اثنان. • قوله - رحمه الله - : (ويصام برؤية عدل). اشتراط العدالة دل عليه الحديث السابق: وهو قوله - صلى الله عليه وسلم -: (فإذا شهدا شاهدان ذوا عدل). فيشترط لقبول الشهادة أن يكون الشاهد عدل مستقيم تارك للكبائر لقوله تعالى: - (إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا) -[الحجرات/6] فالفاسق لا يقبل قوله في الأخبار العادية فكيف بدخول شهر رمضان. • ثم قال - رحمه الله -: وإن صاموا بشهادة واحد ثلاثين يوماً فلم ير الهلال .... لم يفطروا. قوله: (لم يفطروا): لأنه لا يمكن أن يخرج الشهر بشهادة واحد إذا تقدم معنا الآن أنه يشترط في إثبات خروج الشهر شهادة اثنان. وإذا أخرجنا الشهر بتمام الثلاثين نكون اعتمدنا على شهادة رجل واحد وهو الذي شهد بإدخال الشهر. وذلك لا نقبل هذا ويشترط شهادة شاهدان. = القول الثاني: أنه إذا تم ثلاثون يوماً أفطر الناس ولو كان الشهر دخل بشهادة رجل واحد. - لأن الإفطار هنا إنما هو بإتمام الشهر ثلاثين لا بشهادة الرجل الأول. والقاعدة المتفق عليها: (يثبت تبعاً ما لايثبت استقلالاً). فإتمام الثلاثين تبع لشهادة الرجل ولكن يثبت تبعاً ما لا يثبت استقلالاً. فنثبت الآن الفطر بثلاثين تبعاً لشهادة الرجل الواحد لا أصلاً. وهذا القول لا شك أنه هو الراجح إن شاء الله: أنه إذا تم الشهر ثلاثون يوماً أفطر الناس ولو كان دخول الشهر بشهادة رجل واحد. وعلى هذا عمل الناس. • قال - رحمه الله -: أو صاموا لأجل غيم: لم يفطروا. تقدم معنا أن الحنابلة يرون أنه إذا كان ليلة الثلاثين من شعبان عليها غيم أو قتر وجب الصيام فإذا صام الناس بناء على هذا القول فإنهم لا يفطرون بإتمام الثلاثين يوماً لأن الصيام في أول الشهر إنما وجب احتياطاً والاحتياط في آخر الشهر أن الأصل بقاء رمضان. وهذه المسألة مفروضة عند الحنابلة.

وعلى القول الراجح لا إشكال لأنه لا يجب أن يصام بل يحرم فلا ترد هذه المسألى على هذا القول. • ثم قال - رحمه الله -: ومن رأى وحده هلال رمضان وردّ قوله ... صام. إذا رأى الإنسان هلال رمضان وحده ولم يره الناس وجب عليه أن يصوم وحده باتفاق الأئمة الأربعة. واستدلوا على هذا: - بأن النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: (إذا رأيتموه فصوموا) وهذا رآه. - وبقوله تعالى: - (فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ ... ) -[البقرة/185] وهذا شهد الشهر. - وبأن هذا الذي رأى الهلال يعلم قطعاً أن هذا اليوم من رمضان فلا يجوز له أن يفطر. = القول الثاني ك رواية عن الإمام أحمد اختارها شيخ الاسلام: أن من رأة هلال رمضان وحده فإنه لا يجب عليه أن يصوم. واستدلوا بدليلين: - الدليل الأول: أن هذا اليوم محكوم عليه شرعاً أنه من شعبان. لأنه عند الناس من شعبان فهو شرعاً من شعبان فكيف يصوم يوماً من شعبان. - الدليل الثاني: - وهو الدليل القوي - قوله - صلى الله عليه وسلم - (فطركم يوم تفطرون وصومكم يوم تصومون) ومعنى الحديث أن الفطر المعتبر وكذلك الصيام المعتبر ما وافق فيه المسلم جماعة المسلمين. واختيار شيخ الاسلام هو الاقرب. ومذهب الأئمة الأربعة لا يخفاكم أنه هو الأحوط لكن مع ذلك إذا صام الإنسان فينبغي أن يصوم سراً. والسبب في ذلك: لأن لا يدخل بين الناس النزاع والخصومة بسبب أنه صائم فإنه مافي شك أنه إذا رؤي أنه صائم في يوم يعتبره من رمضان صار بينه وبين الذين لم يصوموا مخاصمة وهذا لاشك يقع كثيراً فإذا أراد أن يحتاط ويصوم يصوم سراً. • ثم قال - رحمه الله -: أو رأى هلال شوال: صام. يعني: أنه إذا رأى الإنسان هلال شوال وحده دون الناس فيجب عليه أن يصوم. (= على المذهب: إذا رأى هلال شوال لا يجوز له أن يفطر وهومذهب الجمهور واختيار شيخ الاسلام. واستدلوا: - بالحديث السابق: (فطركم يوم تفطرون وصومكم يوم تصومون). - ولأن - وهذا دليلهم الأقوى - خروج رمضان لا يثبت إلا بشهادة اثنان والذي رآه الآن واحد فهو شرعاً لم يخرج الشهر - وإن كان هو رآه. إذاً ذهب الجمهور كلهم بمن فيهم شيخ الاسلام إلى أنه إذا رأى هلال شوال وحده لا يفطر.

= القول الثاني: وهو قول للشافعية: ونصره ابن حزم ومن المتأخرين الصنعاني أنه يجوز له أن يفطر. واستدلوا: - بالحديث (وإذا رأيتموه فصوموا وإذا رأيتموه فأفطروا). والصواب مع الجمهور أنه لا يجوز له أن يفطر بل يبقى إلى أن يفطر الناس. - - مسألة: يستثنى من المسائل السابقة إذا رآه وحده سواء رأى هلال رمضان أو هلال شوال يستثنى إذا رآه منفرداً كأن يكون في البر فرأى الهلال أو كان محبوساً لا يتمكن من الكلام مع الناس ورأى الهلال من النافذة لو فرضنا وقوع مثل هذا الشيء فإنه حينئذ يجب عليه أن يعمل برؤيته. وهذا اختيار شيخ الاسلام بن تيمية. - لأن هذه الرؤية لا تتعارض مع قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: (صومكميوم تصومون وفطركم يوم تفطرون). إذاً عرفنا الآن أن الإنسان إذا رأى الهلال وحده منفرداً عن الناس - أثناء سفر أو في أي ملابسات أخرى فيجب عليه أن يصوم ويعمل بقوله: (إذا رأيتموه فصوموا وإذا رأيتموه فأفطرو). • ثم قال - رحمه الله -: ويلزم الصوم: لكل مسلم مكلف قادر. هذه شروط وجوب الصيام. فيشترط لوجوب الصيام أن يكون مسلماً وبالغ وعاقل والشرط الرابع: قادر. لكن المؤلف جمع المسلم العاقل بقوله: مكلف. اشتراط هذه الشروط محل إجماع في الجملة. نأتي إلى التفصيل: - الشرط الأول: أن يكون مسلماً. فيشترط في وجوب الصيام أن يكون مسلماً. لأن الصيام عبادة والعبادة تحتاج إلى نية والنية لا تتأتى من الكافر. وتقدم معنا في الزكاة أن معنى قول الفقهاء لا يجب عليه يعني: لا يطالب بها ولا بقضائها إذا أسلم وليس المراد أنه لا يعاقب على تركها. - الشرط الثاني: أن يكون مكلفاً. يعني: بالغ وعاقل. والدليل عليه: قوله - صلى الله عليه وسلم - (رفع القلم عن ثلاثة الصغير حتى يبلغ والمجنون حتى يفيق). فهؤلاء لا يجب عليهم الصيام وسيأتينا تفصيل أحوال الصبي والمجنون لكن من حيث الأصل لا يجب عليهم الصيام. - الشرط الثالث - الأخير - أن يكون قادراً. والدليل على اشتراط هذا الشرط: - أولاً: الإجماع. فإنه أجمع العلماء أنه لا يجب على من لا يستطيع الصيام أن يصوم. - ثانياً: قوله تعالى: - (فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ) -[التغابن/16].

- ثالثاً: قوله تعالى: - (لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا ... ) -[البقرة/286]. - الرابع: قوله - صلى الله عليه وسلم -: (إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم). وترك الصيام لغير القادر لمرض أو غيره ينقسم إلى قسمين: - الأول: أن لا يستطيع في الوقت ويستطيع بعد الوقت كالمريض الذي يرجى برؤه فهذا يجوز له الفطر. وعليه القضاء فقط. - الثاني: من لا يستطيع في الوقت ولا بعد الوقت. والمقصود بالوقت هنا: شسهر رمضان. فهذا يجوز له الفطر وعليه الإطعام. ومثاله: الشيخ الكبير والمريض الذي لا يرجى برؤه. وسيأتي تفصيل أكثر لأحكام المريض الذي يرجى والذي لا يرجى برؤه. • ثم قال - رحمه الله -: وإذا قامت البينة في أثناء النهار: وجب الإمساك والقضاء على كل من صار في أثنائه أهلاً لوجوبه. في الواقع المؤلف - رحمه الله - في هذه العبارة كأنه خلط بين مسألتين ولذلك لو رجعت للمقنع أو لكشاف القناع أو لأي كتاب من كتب الحنابلة ستجد أنه فصل بين المسألتين: - المسألة الأولى: إذا قامت البينة في أثناء النهار. - والمسألة الثانية: من صار أهلاً للوجوب في أثناء النهار .. نبدأ بالمسألة الأولى: إذا قامت البينة في أثناء النهار: وجب الإمساك والقضاء. إذا قامت البينة في أثناء النهار: يعني عرف في وسط النهار أن هذا اليوم من رمضان فيترتب على هذا: وجوب أمرين: - الأول: وجوب الإمساك. - والثاني: وجوب القضاء. أما الأول: وهو وجوب الإمساك: فهومحل إجماع. فيجب على من علم بأن هذا اليوم من رمضان في أثناء النهار أن يمسك. والدليل على هذا: - أولاًِ: قوله - صلى الله عليه وسلم -: (فاتقوا الله ما استطعتم) وهذا يستطيع أن يتقي الله في باقي اليوم بامتثال الأمر. - ثانياً: لحرمة اليوم فإن هذا اليوم من رمضان لا يجوز للإنسان أن يأكل فيه. - ثالثاً: لما صح عن سلمة بن الأكوع - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أرسل إلى قوم أكلوا أول اليوم من عاشوراء أن أمسكوا وأتموا الصيام. مع أنهم أكلوا أول اليوم بنص الحديث. وكما قلت المسألة محل إجماع. وأما الثاني: وهو وجوب القضاء. يجب على المسلمين إذا أمسكوا مع ذلك أن يقضوا هذا اليوم. والدليل:

- أن هؤلاء الناس لم يصوموا يوماً شرعياً كاملاً ولم يأتوا بشروط الصيام الصحيحة. إذاً اختل الصيام من جهتين: أنه لم يصوموا يوماً كاملاً وأنهم لم يأتوا بشروط الصيام: كالنية من الليل. = وإلى هذا ذهب الجماهير من أهل العلم. أنه: يجب مع الإمساك القضاء. = والقول الثاني: أنه يجب الإمساك دون القضاء. وإلى هذا ذهب شيخ الإسلام بن تيمية. واستدل بدليلين: - الأول: أن الذين أكلوا أول اليوم في عاشوراء وأمرهم النبي - صلى الله عليه وسلم - بالإمساك لم يأمرهم بالقضاء مع أن صيام عاشوراء كان واجباً في صدر الإسلام. - الثاني: أن الوجوب وجوب العبادة فرع العلم. فقبل العلم لم يجب أصلاً. فالإمساك على هؤلاء يجب من حين علموا إلى آخر اليوم دون صدر اليوم ولا يجب على الإنسان أن يقضي ما لا يجب عليه. والراجح. القول الثاني. وهذه المسألة إن كانت تقع في القديم فإنها لا يتصور أن تقع في وقتنا هذا إذ لا يتصور أن يرىحد الهلال ثم لا يستطيع أن يخبر المختصين والمختصون بدورهم يخبرون الناس لكن في القديم يقع كثيراً أن يراه في مكان بعيد ثم لا يصل إلا في منتصف النهار ثم يشهد وتقبل شهادته ويؤمر الناس بالصيام فهذا كان يقع. أما اليوم فهي ولله الحمد لا تقع أو يندر جداً أن تقع مثل هذه المسألة. • ثم قال - رحمه الله -: على كل من صار في أثنائه أهلاً لوجوبه. من صار أهلاً للوجوب في أثناء اليوم أيضاً يجب عليه أن يمسك وأن يقضي. مثاله: أن يسلم الكافر. أو يبلغ الصبي. أو يفيق المجنون. فإذا بلغ الصبي في أثناء اليوم أو أسلم الكافر ترتب على هذا: - أنه يجب عليهم أن يمسكوا. - وأيضاً يجب أن يقضوا. وهذه المسألة فيها عن الإمام أحمد روايتان وقيل ثلاثة لكن تشككوا في إثبات الرواية الثالثة. = فالرواية الأولى: وجوب الإمساك والقضاء. وهو المذهب. . أما وجوب الإمساك فلما تقدم أنه احتراماً للزمن ولأنهم أفطروا لعذر فزال هذا العذر فوجب أن يمسكوا. = القول الثاني: لا يجب لا الإمساك ولا القضاء وهو رواية عن الإمام أحمد وهي الثانية. أما أنه لا يجب الإمساك: فاستدلوا بأن من أفطر في أول اليوم ظاهراً وباطناً جاز له أن يفطر في آخر اليوم.

والصبي قبل أن يبلغ يجوز له أن يفطر في صدر اليوم ظاهراً وباطناً. بخلاف الذين لم يبلغهم الخبر إلا في أثناء اليوم فهؤلاء يجوز لهم أن يفطروا ظاهراً فقط. أما هؤلاء فإنه يجوز لهم أن يفطروا ظاهراً وباطناً. إذاً هذا الدليل على عدم الإمساك. وأما الدليل على عدم القضاء فلأن هؤلاء حال التلبس بالعبادة ليسوا من أهل العبادة. ((الأذان)) (نتم هذه المسألة فقط). = والقول الثالث: ما قال عنه الزركشي: أظنه رواية عن الإمام أحمد: أنه يجب الإمساك دون القضاء. والزركشي يقول: أظن أن شيخ الاسلام جعله رواية. يعني: في إثبات هذه الرواية عن الإمام أحمد شك. وهذا القول الأخير هو الصواب أنه يجب الإمساك دون القضاء. أما عدم وجوب القضاء فلما تقدم: من أنهم لم يدركوا وقتاً يتمكنوا فيه من العبادة. أي أنهم في صدر النهار لم يكونوا من أهل العبادة. وأما وجوب الإمساك فلحديث عاشوراء حيث أمرهم النبي - صلى الله عليه وسلم - بالإمساك فكذا هؤلاء نأمرهم بالإمساك بقية النهار ولا يجب عليهم أن يقضوا. انتهى الدرس

قال شيخنا حفظه الله: بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين. • قال - رحمه الله -: وكذا حائض ونفساءُ طهرتا، ومسافر قدم مفطراً. هؤلاء ثلاثة: 1 - الحائض إذا طهرت. 2 - والنفساء إذا طهرت. 3 - والمسافر إذا قدم. ويلحق بهم شخص رابع وهو: 4 - المريض إذا شفي. فهؤلاء أيضاً يأخذون الحكم السابق وهو وجوب القضاء ووجوب الإمساك. - فنبدأ بالأول: وهو: وجوب القضاء بالنسبة لمن كان يمنعه مانع من الصيام كالحيض والنفاس أو كان يجوز له الفطر كالمريض والمسافر فهؤلاء يجب عليهم القضاء إجماعاً. - لقوله تعالى: - (فمن كان منكم مريضا أو على سفر فعدة من أيام أخر) -[البقرة/184]. فمسألة القضاء لا إشكال فيها بنص الكتاب وإجماع أهل العلم. - والمسألة الثانية: الإمساك: فيجب على هؤلاء أن يمسكوا إذا زال العذر في أثناء النهار. = واستدل الحنابلة على ذلك:

- بأن العذر المبيح للفطر زال فيجب أن يزول حكمه وهو الإفطار ويمسك هذا الشخص. = والقول الثاني: وهو رواية عن الإمام أحمد أنه لا يجب على هؤلاء الأربعة أن يمسكوا. واستدلوا بأدلة: - الأول: أن الله سبحانه وتعالى إنما فرض على المسلم صيام يوم ولا يجوز أن نلزمه بصيام يوم وصيام بعض يوم. لأنا نوجب عليه أن يقضي. فإذا أوجبنا عليه أيضاً أن يمسك صرنا أوجبنا عليه أن يصوم يوماً أو بعض يوم وهذا لا يدل عليه دليل من الشرع. - الثاني: أنهم أفطروا في صدر النهار ظاهراً وباطناً بإذن الشارع الذي لا شك فيه فكذلك في آخر النهار. لأن الصوم الشرعي: الإمساك يوماً كاملاً. وهذا القول الثاني هو الراجح إن شاء الله. • ثم قال - رحمه الله -: ومن أفطر لكبر أو مرض لا يرجى برؤهُ: أطعما لكل يوم مسكيناً. أي جاز له أن يفطر وعليه أن يطعم. فالشيخ الكبير - الرجل الكبير السن - ومن كان مريضاً مرضاً لا يرجى برؤه إذا لم يستطيعوا الصيام جاز لهم الفطر وعليهم فقط الإطعام. = وإلى هذا ذهب جماهير أهل العلم: الشافعية والحنابلة والأحناف والجماهير. واستدلوا: - بما صح عن ابن عباس - رضي الله عنه - أنه قال: الشيخ والشيخة الكبير يفطرون ويطعمون. واستدل بقوله تعالى: - (وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ) -[البقرة/184]. = القول الثاني: للإمام مالك وهو أنهم يفطرون ولا شيء عليهم. واستدل: - بأنهم أفطروا بعذر شرعي ومن أفطر بعذر شرعي فإنه لا يلزم بالفدية. وقول الإمام مالك ضعيف والصواب مع الجمهور لما استدلوا به عن ابن عباس ولا يعلم له مخالف من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم -. • ثم قال - رحمه الله -: أطعما لكل يوم مسكيناً. لم يبين المؤلف - رحمه الله - المراد بالإطعام هنا ولا مقداره. = ومقصود الحنابلة هنا هو ما يجزئ في الكفارات وهو مد بر أو نصف صاع من غيره من الأطعمة. واستدلوا على ذلك: - بأن النبي - صلى الله عليه وسلم - أوجب في فدية الحج بالحديث الصحيح - نصف صاع. وأما أن البر مد: - فلأنه أغلى ثمناً وأنفس فهو يساوي مدين من غيره من الأطعمه من الشعير أو التمر. = والقول الثاني: أن الواجب نصف صاع من أي طعام كان.

واستدلوا: - بنفس الدليل: قياساً على ما جاء في فدية الحج وقالوا: لا دليل على التفريق بين البر وغيره من الأطعمة. = والقول الثالث: أنه مد من كل الأطعمة. واستدلوا: - بأنه روي عن أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم -. = والقول الرابع: أنه لاحد ولا قدر لما يطعمه الإنسان. - لأن الله سبحانه وتعالى أمر بالإطعام ولم يذكر حداً ولا مقداراً. - وليس في السنة تحديد لمقدار ما يطعم. فالواجب في الإطعام هنا كالواجب في كفارة اليمين (من أوسط ما تطعمون أهليكم). فيخرج الإنسان طعاماً يكفي شخصاً واحداً ويبرأ بذلك. وعلى القول بالتقدير فالأقرب أن يكون نصف صاع كما جاء في فدية الحج. فإن فدية الحج تشابه هذه الفدية. والتقدير النبوي خير من التقدير بالرأي إذا أردنا أن نقدر. ولكن الصواب أنه لا تقدير فيه. بناء على هذا: إذا أراد الإنسان أن يطعم: - فإما أن يصنع طعاناً يكفي لثلاثين شخص من الفقراء ويدعوهم ليأكلوا في منزله. - أو يدفع من الطعام ما يكفي ثلاثين مسكيناً. وبذلك تبرأ ذمته. • ثم قال - رحمه الله -: ويسن لمريض يضره. يعني: يسن له أن يفطر. فإن صام مع حاجته للفطر فقد أتى مكروهاً. ونحتاج في هذا الموضوع إلى عدة مسائل: - المسألة الأولى: ما هو المرض؟ المرض هو: خروج البدن عن حد الصحة إلى الاعتلال. فإذا خرج البدن عن حد الصحة إلى الاعتلال فهو مريض. - المسألة الثانية: ضابط المرض الذي يجوز أن يفطر من أصيب به: هو: كل مرض يتسبب الصيام في تأخير شفائه أو زيادة المرض. بناء على هذا: كل مرض لا يكون للضيام تأثير عليه فإنه لا يجوز لصاحبه أن يفطر. كما إذا أصيب الإنسان بألم في الضرس أو جرح في الإصبع ونحو هذه الأمور التي لا دخل للصيام بها لا زيادة ولا نقصاً. فإن صاحب هذا المرض إن أفطر فقد ارتكب محرماً. - المسألة الثالثة - الأخيرة -: يجوز للصحيح الذي لم يمرض أن يفطر إذا خشي أنه لو صام مرض. لأن هذا بمعنى زيادة المرض. بل هو أبلغ من زيادة المرض لأنه حدوث للمرض.

والفطر بالمرض محل إجماع في الجملة بين أهل العلم: للآية. - (فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ) -[البقرة/184] فهي نص في جواز فطر المريض. • ثم قال - رحمه الله -: ولمسافر يقصر. يعني: ويسن لمسافر يقصر أن يفطر. والفطر للمسافر جائز بإجماع أهل العلم. ويجوز له أن يصوم على الصحيح: - لما أخرجه البخاري ومسلم عن أنس أنه قال: كنا في السفر فمنا الصائم ومنا المفطر ولم يعب أحدنا على الآخر. وينقسم الصيام في السفر إلى قسمين: - القسم الأول: ما يترتب عليه مشقة. فالسنة في السفر الشاق أن يفطر. فإن صام فقد ارتكب مكروهاً أو محرماً بحسب الأذى الذي يلحق البدن من الصيام. والدليل على هذا التفصيل: - أولاً: قوله - صلى الله عليه وسلم -: (ليس من البر الصيام في السفر). - وثانياً: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أفطر في سفر فقيل له إن قوماً ما زالوا صائمين فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: (أولئك العصاة، أولئك العصاة). - القسم الثاني: أن لا يترتب على الصيام في السفر مشقة. فهذا فيه خلاف بين أهل العلم: = فذهب الحنابلة: الإمام أحمد - المذهب الإصطلاحي والشخصي - إلى أنه يسن للمسافر أن يفطر ولو لم يجد مشقة. واستدل - رحمه الله -: - بالنصوص السابقة وبالآثار التي نقلت عن أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - والتي تدل على كراهية الصيام في السفر ولو بلا مشقة. = القول الثاني: للأئمة الثلاثة: أبو حنيفة ومالك والشافعي أن الصيام أفضل في السفر إذا لم يترتب عليه مشقة. واستدل الجمهور بدليلين: - الأول: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - سافر في يوم حار فصام هو وابن رواحة. فدل صيام النبي - صلى الله عليه وسلم - على أنه إذا لم يجد مشقة فالأفضل الصيام لأنه لا يصنع إلا الأفضل. - الثاني: أن في الصيام في السفر إسراع في إبراء الذمة. والجواب على حديث: (أولئك العصاة):أنه ثبت في هذا الحديث أن الصيام شق على أصحابه. ونحن نقول: أنه إذا شق الصيام فهو مكروه أو محرم. وإنما البحث مفروض فيما إذا لم يجد مشقة. والذي يظهر والله أعلم أن مذهب الأئمة الثلاثة أحسن وأقوى وأقرب للجمع بين النصوص.

• ثم قال - رحمه الله -: وإن نوى حاضر صوم يوم ثم سافر في أثنائه: فله الفطر. يعني: إذا صام الإنسان في بلده ونوى الصيام وصام ثم سافر في أثناء اليوم وخرج عن البلد فإنه يجوز له عند الحنابلة أن يفطر. ولو كان في أول النهار مقيماً صائماً. واستدلوا: - بأنه ثبت عن أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - أنهم كانوا يفطرون في أثناء اليوم في السفر. = والقول الثاني: للأئمة الثلاثة أنه إذا أصبح صائماً في بلده ثم خرج مسافراً فإنه لا يجوز له أن يفطر. - لأنه شرع في عبادة واجبة فوجب عليه أن يتمها. ومذهب الأئمة الثلاثة في هذه المسألة ضعيف أو ضعيف جداً. لأنه مخالف للمنقول والمعقول. فالمنقول عن أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - وهم أفقه الناس أنهم كانوا يفطرون. وأما المعقول: فلأن المعنى المناسب الذي أباح الله سبحانه وتعالى للإنسان أن يفطر فيه وهو السفر موجود في هذه الصورة ولا يقدح في ذلك أنه كان في أول النهار مقيماً فإن هذا المعنى لا يقدح في وجود علة جواز الفطر وهي السفر. فالراجح في هذه المسألة مذهب الحنابلة. • ثم قال - رحمه الله -: وإن أفطرت حامل أو مرضع خوفاً على أنفسهما: قضتاه فقط. الحامل والمرضع إذا أفطرتا فعليهما القضاء إذا كان الفطر بسبب الخوف على أنفسهما لا بسبب الخوف على الجنين. فإن كان الفطر بسبب الخوف على الحنين فهي المسألة الثانية التي ستأتي الآن معنا. وجواز الفطر وأنه لا يجب عليهما إلا القضاء كلاهما محل إجماع. حكى الإجماع ابن قدامة وابن مفلح وغيرهما وأشار إليه شيخ الإسلام بن تيمية. إذاً إذا أفطرتا خوفاً على نفسيهما لا على الجنين فعليهما فقط القضاء دون الإطعام. • ثم قال - رحمه الله -: - مبيناً النوع الثاني: وعلى ولديهما: قضتا وأطعمتا لكل يوم مسكيناً. هذه المسألة وهي إذا أفطرت الحامل والمرضع خوفاً على الجنين محل إشكال بين أهل العلم واختلفوا فيها اختلافاً كثيراً ونحن إن شاء الله نلخص هذا فنقول: = ذهب الحنابلة والشافعية إلى ما ذكره المؤلف - رحمه الله - أنه عليهما أن يقضيا وأن يطعما. واستدلوا على ذلك: - بما صح عن ابن عباس وابن عمر: أنهما أفتيا المرضع والحامل بذلك: بأن يطعما.

وأما القضاء: - فقياساً على المريض. لأن الحامل والمرضع تشبه من حيث الحقيقة المريض. = القول الثاني: أن الحامل والمرضع إذا أفطرتا بسبب الجنين لا يجب عليهما إلا الإطعام فقط. واستدلوا: - بأنه صح عن ابن عمر وابن عباس أنه ليس على المرأة المرضعة والحامل إذا أفطرت إلا الإطعام دون القضاء ونصوا رضي الله عنهم بالفتوى أن الواجب الإطعام دون القضاء. وهذا صحيح وإسناداً ثابت صححه الدارقطني وغيره. وأما مارواه البيهقي عن ابن عمر أنه قال لها: - أي المرأة السائلة - أطعمي واقضي فهو أثر منكر. فالثابت عنهما الإفتاء بالإطعام دون القضاء. = القول الثالث: أن الحامل والمرضع إذا أفطرتا فإنه لا يجب عليهما لا إطعام ولا قضاء. وهذا مذهب ابن حزم - رحمه الله -. واستدل على هذا: - بحديث ابن عباس أن النبي - صلى الله عليه وسلم - وضع عن المسافر والحامل والمرضع الصيام. قال ابن حزم فإذا أجاز الشارع لها أن تفطر فلا يترتب على هذا لا قضاء ولا إطعام. = والقول الرابع - والأخير -: وهو مذهب الجمهور وأكثر أهل العلم وحوب القضاء دون الإطعام. أما وجوب القضاء: - فقياساً على المريض. وأما عدم وجوب الإطعام فلدليلين: - الأول: أنه ليس في السنة الصحيحة ما يدل على وجوب الإطعام. - الثاني: أنه في قول ابن عباس وضع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن المسافر والمرضع والحامل الصوم لم يذكر وجوب الإطعام. والراجح والله أعلم. وجوب القضاء والإطعام. قال شيخ الاسلام - رحمه الله -: صح الإطعام عن ثلاثة من الصحابة لا يعلم لهم مخالف وهم: أبو هريرة وابن عمر وابن عباس. وإذا صح عن ثلاثة من فقهاء الصحابة إلزام المرأة بالإطعام فإنه يصعب الخروج عن هذا. وهذا القول اختيار شيخ الاسلام في أكثر من كتاب من مصنفاته. وهو مذهب الإمام أحمد الاصطلاحي والشخصي وهو مذهب الإمام الشافعي. وهذا القول قوي بسبب الآثار الصحيحة الثابتة التي ليس لها مخالف ولا دافع سواء: - قلنا أن هذه الفتوى مما لا مدخل للرأي فيها وهذا محتمل لأنه قد يقال أنه يبعد أن ابن عباس وابن عمر يلزمون المرأة بالإطعام بلا دليل ولا مستند عن النبي - صلى الله عليه وسلم -.

- أو قلنا أنه فتوى صحابي ليس له مخالف فيشبه أن يكون إجماع ثلاثة من الصحابة يفتون بهذا الأمر فأيضاً هذا كافي في أن يذهب الإنسان إلى هذا المذهب. فنقول: يجب على المرأة إذا أفطرت بسبب الجنين أن تقضي هذا اليوم وأن تطعم. • ثم قال - رحمه الله -: ومن نوى الصوم ثم جن، أو أُغمي عليه جميع النهار ولم يفق جزءاً منه: لم يصح صومه. أي أذا نوى الصوم من الليل ثم جن أو أغمي عليه في جميع النهار: يعني: من طلوع الفجر إلى غروب الشمس فإن الصيام باطل ولا يصح: - لقول النبي - صلى الله عليه وسلم -[أن الله تعالى يقول - في الحديث القدسي]: (كل عمل ابن له إلا الصيام فإنه لي وأنا أجزي به يدع طعامه وشرابه وشهوته من أجلي). ومن أغمي عليه أو جن لا ينسب إليه أنه قصد ترك الطعام ولا الشراب. فلا يعتبر من الصائمين. وفهم من عبارة المؤلف أن المغمى عليه لو استيقظ في أي جزء من النهار صح صومه وكذلك لو أفاق المجنون في أي جزء من النهار صح صومه سواء أفاق - المجنون أو المغمى عليه - من أول النهار أو من آخره. - لأنه قصد الإمساك في جزء من وقت العبادة فصحت عبادته. • ثم قال - رحمه الله -: لا إن نام جميع النهار. أي فيصح صومه. وصحت صوم النائم في جميع النهار محل إجماع لأمرين: - الأول: أن النوم عادة فلا تبطل الصيام. - والثاني: لأن النائم لا يفقد الإحساس بالكلية كما في الإغماء والجنون. وللإجماع الذي ذكرته فلا إشكال إن شاء الله في مسألة النائم. فلو نام الإنسان من قبل أن يطلع الفجر الثاني إلى أن غابت الشمس ولم يستيقظ أبداً فصومه صحيح. • ثم قال - رحمه الله -: ويلزم المغمى عليه: القضاءُ فقط. فقط: أي دون المجنون. فالمسألة الأولى: أن المغمى عليه يجب عليه أن يقضي الصيام: أي في الحال التي لا يصح فيها صومه كما إذا أغمي عليه جميع النهار. - لأن زوال العقل بالنسبة له ليس زوالاً كلياً فلا يرفع التكليف. - ولأنه لا يتأخر عادة أي لا يطول. فإذاً المغمى عليه يجب عليه أن يقضي إذا استيقظ. المسألة الثانية: المجنون. المجنون ينقسم إلى قسمين:

- الأول: أن يكون مجنوناً طول النهار: أي من أول اليوم إلى آخره: من طلوع الفجر إلى غروب الشمس فهذا لا يجب عليه أن يقضي هذا اليوم. لقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: (رفع القلم عن ثلاثة) قال: (والمجنون حتى يفيق). والمرفوع عنه القلم ليس من المكلفين فلا يجب عليه أن يقضي لأنه لم يثبت في ذمته وجوب العبادة أصلاً. - الثاني: أن يصحو في جزء من النهار ويجن في جزئه الآخر. فهذا يجب عليه عليه أن يقضي. لأنه أدرك جزءاً من العبادة فوجبت في ذمته. فإذاً المجنون فيهه هذا التفصيل الذي ذكرته. • ثم قال - رحمه الله -: ويجب تعيين النية من الليل: لصوم كل يوم واجب لا نية الفريضة. يعني: أنه يجب: = عند الحنابلة أن يعين الإنسان النية في الليل. ومقصود الحنابلة بالتعيين: أن ينوي أنه يصوم من رمضان أو من قضائه أو من نذره وإنما الواجب أن يعين ما هو الصيام الذي سيصومه؟ وإذا نوى نية التعيين فلا يجب عليه أن ينوي نية الفريضة لقوله - رحمه الله -: (لا نية الفريضة). والتعليل: - أن نية التعيين تغني عن نية الفريضة. فلو نوى الإنسان أنه غداً سيصوم قضاء عليه أو من نذره أو من رمضان فلا يشترط مع ذلك أن ينوي أنه يصوم فريضة من فرائض الله. بل يكتفي بالتعيين. - الدليل: - الدليل على وجوب التعيين والنية - في الجملة: - الأول: قوله - صلى الله عليه وسلم -: (إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى) أي: أن الأعمال إنما تعتبر وتصح وتقبل بالنية. - الثاني: قوله - صلى الله عليه وسلم -: (لا صيام لمن لم يبيت الصيام من الليل). وهذا الحديث فيه خلاف في إثباته وتعليله. ولعل الأقرب إن شاء الله أنه موقوف. لكن كما هو ظاهر: أن مثل هذا الحكم يبعد جداً أن يقوله الصحابي من تلقاء نفسه بل يجزم الإنسان أن له حكم الرفع لأن فيه جزماً بإبطال عبادة مع تعيين وقت محدد لنية هذه العبادة وهو الليل فالغالب أنه مرفوع. = القول الثاني: أن الصيام إذا كان متتابعاً سواء كان صيام رمضان أو كفارة الجماع في نهار رمضان أو كفارة قتل الخطأ أو أي صيام يشترط فيه التتابع أنه يكتفى فيه بالنية في أوله ولا يجب أن ينوي في كل يوم. واستدل هؤلاء:

- بقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: (إنما الأعمال بالنيات) وهذا المسام نوى أن يصوم كل رمضان حين دخل الشهر. والفقهاء متفقون على أن الواجب استمرار النية حكماً لا حقيقة. وهذا استمرت نيته حكماً وإن لم تستمر في بعض المواضع حقيقة فيما لو نسي أو نام. ويشترط على هذا القول: أنه إذا جن أو أغمي عليه أو عرض له أي عارض أن يجدد النية. وكذلك لو أفطر بسبب لا يقطع التتابع فيجب عليه أن يجدد النية لأن النية الحكمية انقطعت هنا. وهذا القول الثاني: أقرب إن شاء الله. وثمرة الخلاف تقريباً في مسألة واحدة: وهي: في الشخص الذي ينام من غروب الشمس إلى طلوع الفجر. أي الذي ينام في كل الليل فإن هذا لم يبيت الصيام من الليل فهذا: = عند الجمهور: صيامه باطل. لأنه لم ينو في الليل. = وعلى القول الثاني: صيامه صحيح. ومن هنا تعلم خطورة ما يصنعه بعض الشباب من النوم طيلة الليل فإن هذا يعرض صيامه للبطلان عند جماهير أهل العلم الذين يستندون على نص صحيح عند المتأخرين وحكم بعضهم عليه بالوقف وهو: (لا صيام لمن لم يبيت الصيام من الليل) ففي عمله هذا خطورة عظيمة جداً. • ثم قال - رحمه الله -: ويصح النفل: بنية من النهار هذه المسألة كالتقييد للمسألة السابقة: وهي: أنه يجوز للإنسان أن يصوم ولو في أثناء النهار إذا كان الصيام نفل. واستدل الحنابلة على هذا: - بما ثبت في الصحيح أن النبي - صلى الله عليه وسلم - دخل على عائشة فقال: (أعندك طعام قالت لا:. قال: إني إذاً صائم). فصام - صلى الله عليه وسلم - في أثناء النهار لما كان الصيام نفلاً. = والقول الثاني: أنه لا يجوز صيام النفل إلا بنية. - لعموم حديث: ((لا صيام لمن لم يبيت الصيام من الليل). والراجح مع الحنابلة. لأن حديثهم مخصص لعموم هذا الحديث. مسألة: = ذهب بعض أهل العلم إلى أن الأجر يترتب من النية فقط. وما سبق من اليوم فإنه لا أجر له عليه. واستدلوا على هذا: - بأن الأجر يترتب على العبادة والعبادة لا يمكن أن تصح إل بنية والنية لم تأت إلا في أثناء اليوم. = والقول الثاني: أنه إذا صام في أثناء النهار فإن له أجر يوم كامل.

- لأن الصيام في الشرع لا يكون في بعض النهار وإنما يكون في يوم كامل. فإذا صححنا صيامه فله الأجر كاملاً. والصواب مع القول الأول: وهو مذهب الإمام أحمد. لأنه لا يمكن أن يثاب الإنسان بلا نية. مسألة: يشترط لصحة صيام التطوع في أثناء اليوم أن لا يأتي بمفسد للصيام في صدر النهار سواء كان أكل أو شرب أو جماع أو أي مفسد من مفسدات الصيام. فإن أتى به فلا صيام له ولو نواه في أثنائه. • ثم قال - رحمه الله -: قبل الزوال وبعده. يعني: أنه يصح أن يصوم في أثناء النهار سواء كانت النية جاءت بعد الزوال أو قبل الزوال. واستدل الحنابلة على هذا: - بعموم حدبث عائشة. فإنه لم يفصل بين أن تكون هذه النية بعد أو قبل الزوال. = والقول الثاني: أنه إن كان بعد الزوال لم يصح صيامه. واستدلوا على هذا: - بأن غالب النهار ذهب. وإذا ذهب غالب العبادة لم تحتسب. بدليل أن الإنسان إذا أدرك ركعة من الصلاة حسبت له هذه الركعة وإذا أدرك ما بعد الركعة لم تحسب له هذه الركعة. فدل على هذا التفصيل. وهذا القول الثاني ك مجرد رأي لا قيمة له - من وجهة نظري - في مقابلة النص الصريح الذي لم يفرق بين أن يكون بعد الزوال أو قبل الزوال. نعم. ليس في حديث عائشة ما يدل على أن دخوله - صلى الله عليه وسلم - كان قبل أو بعد لكن هذا لا يؤثر في قوة الاستدلال بعموم الحديث. ثم أيضاً المعنى: إذا كان الشارع صحح الصيام في أثناء النهار وسيحسب له الأجر من حين النية فما الفرق بين أن يكون قبل أو بعد الزول؟ إلا تعليلات عقلية لا قيمة لها. • ثم قال - رحمه الله -: ولو نوى إن كان غداً من رمضان فهو فرضي: لم يجزئه. يعني: إذا قال الإنسان إن كان غداً من رمضان فهو فرضي وإلا فهو نفل ثم صار من رمضان فإنه لا يجزأه = عند الحنابلة. ومعلوم أن هذا يتصور في اليوم الأول. واستدل الحنابلة: - بأنه في هذه الصورة فقد شرط التعيين الجازم لأن هذا الرجل متردد. وتقدم أنه يشترط أن يعين جازماً. = والقول الثاني: أن صيامه صحيح ويجزأه عن رمضان. - لأن التردد في هذه الصورة ليس في النية وإنما في الواقع. يعني: أنه يتعلق بالواقع لا بالنية. أما هو فهو جازم إن كان من رمضان فهو صائم.

باب ما يفسد الصوم ويوجب الكفارة

وهذا القول الثاني هو الصواب إن شاء الله. فإذا فعله الإنسان فإنه يجزئ عنه من رمضان إن شاء الله. • ثم قال - رحمه الله -: ومن نوى الإفطار: أفطر. من نوى الإفطار أفطر ولو لم يأكل. والدليل على هذا: - أن استصحاب النية حقيقة أو حكماً شرط لصحة العبادة وهذا قطع النية فبطلت العبادة. فإذا نوى الإنسان أنه أفطر فقد أفطر وبطل صيامه. مسألة: ليس من ذلك أن ينوي أنه سيفطر. وهذه تقع كثيراً عند الناس ولا يفرقون بين نية الفطر ونية أنه سيفطر. فإذا نوى أنه سيفطر فإن صيامه صحيح إلى أن يفطر لأنه لم ينوي الفطر وإنما نوى أنه سيفطر كما لو قال: سأفطر إذا جاء زيد. أو سأفطر بعد ساعة. فهذا صيامه صحيح لأنه لم يقطع النية. وإذا قال: سأفطر بعد ساعة فإذا مضت الساعة فإن نوى الفطر أو أفطر حقيقة بطل صيامه وإلا فهو صحيح ويبقى على نيته الأولى ولا يؤثر أنه نوى أنه سيفطر. باب ما يفسد الصوم ويوجب الكفارة. • ثم قال - رحمه الله -: باب ما يفسد الصوم ويوجب الكفارة. هذا الباب مخصص لمفسدات الصيام. ومفسدات الصيام هي: كل ما ينافي الصيام ويبطله. فهو من المفسدات. وما يفسد الصيام ينقسم إلى قسمين: - الأول: ما يبطل الصيام مع كونه مجزأ وهو بهذا المعنى يذهب بالأجر علن الصائم. ومثاله: من يتعاطى الشتم والسب ولا يتأدب بآداب الصيام وهوصائم. فهذا صومه مجزيء لكن يصح أن نقول لاصيام لك يعني: لا أجر لك. - الثاني: المفسد للصيام أي المبطل الذي يترتب عليه وجوب القضاء. وهو المقصود في هذا الباب. • قال - رحمه الله -: من أكل أو شرب ... إلى أن قال: فسد صومه. الأكل والشرب مفسد للصيام إذا كان مغذياً بإجماع أهل العلم. - أولاً: لقوله - صلى الله عليه وسلم -: (يدع طعامه وشرابه). فدل على أن من شأن الصائم أن يدع الطعام والشراب وإلا فليس بصائم. - ثانياً: قوله تعالى: - (وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ) -[البقرة/187] القسم الثاني: ما يؤكل مما لا يغذي فهذا يبطل الصيام: = عند الأئمة الأربعة وجماهير السلف والخلف. كأن يبلع حصانة أو درهماً أو تراباً أو نجو ذلك مما لا يغذي.

= والقول الثاني: وهو مذهب لبعض المالكية والحسن بن صالح ونصره شيخ الاسلام: أن من أكل ما لا يغذي فإنه لا يفطر. واستدلوا بدليلين: - الأول: أن الأكل والشرب إذا أطلق في اللغة وفي العرف وفي الشرع ينصرف إلى الأكل المعروف الذي يتغذى به الجسد. ولا ينصرف إلى ما لا يؤكل عاجة ولا يغذي. ولذلك: لما أراد الخليل بن أحمد أن يعرف الأكل قال: والأكل معروف. يعني: الذي يطعم وينتفع الجسم منه. - الثاني: أن علة التفطير التي تعقل من نصوص الشارع هي ما يتقوى به الجسد ويستمد منه الطاقة والنشاط دون ما ليس كذلك. فإن هذا هو المعى المعقول الذي يناسب أن يكون علة للنصوص. وهذا القول الثاني من حيث الأدلة هو القول الصحيح. وهو قول قوي جداً ويتناسب مع نصوص الشرع. بناء على هذا إذا بلع الإنسان حصاة فإن صيامه باطل عند الجماهير وصحيح عند من ذكرت. • ثم قال - رحمه الله -: أو استعط. السعوط هو ما يصل إلى الجوف من خلال الأنف فإذا وصل إلى الجوف ماء أو غيره مما يغذي من طريق الأنف بطل الصيام. - لقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: (بالغ في الا ستنشاق إلا أن تكون صائماً). فدل الحديث على أن الأنف من المنافذ التي إذا وصل المعدة من خلالها ما يطعم أبطل الصيام. وهذا لا إشكال فيه وهو واضح. • ثم قال - رحمه الله -: أو احتقن. الاحتقان لغة: هو الاحتباس. واصطلاحاً: هو تعاطي الدواء في الدبر بالحقنة. = وذهب الجماهير إلى أن الحقنة تفطر الصائم. - لأنها إدخال مادة إلى الجوف. = والقول الثاني: أن الاحتقان لا يفطر وإليه ذهب بعض أهل العلم ونصره شيخ الاسلام - رحمه الله - واستدل بدليلين: - الأول: أن ما يحصل بالحقنة الشرجية هو استفراغ ما في البدن لا إدخال القوة والنشاط إليه فكيف يفطر الصائم بذلك؟ وهذا عكس ما يقوله الجمهور الذين يقولون هو إدخال مادة إلى الجوف. - الثاني: أن الاحتقان في الدبر لا يفيد الجسم وليس من الغذاء لا لغة ولا شرعاً. فلا يسمى المحتقن آكل ولا شارب لا عرفاً ولا شرعاً. والصواب التفصيل وهو:

- أنه إذا احتقن الإنسان في الأمعاء الغليظة وانت المادة المحقونة فيها ماء أو مواد غذائية فإنه يفطر لأن الأمعاء الغليظة من الأماكن التي يمتص فيها الماء والغذاء. فإذا امتصت الماء أو الغذاء تقوى الجسد وهذا سبب الفطر. - وإن حقن في الدبر أدوية ليس فيها ماء ولا غذاء: إن تصور هذا - فإنها لا تسبب الفطر. هذا القول هو الصواب وأظن أن شيخ الاسلام لو علم من خلال الطب الحديث أن الأمعاء الغليظة محل لامتصاص الماء لم يتوقف في التفطير - أظن هذا - وعاى كل حال سواء صار هذا أو لم يصر فالصواب أنه إذا دخل ماء أو مواد غذائية أن الإنسان يفطر. وفي الغالب لن يخلو من ماء لأن المقصود من الحقنة الشرجية التنظيف أو خفض الحرارة أو غيره من الأغراض. وفي الغالب مع ذلك إلى الماء فلابد من الماء. فإذا حقن بماء فهو يفطر وعليه أن يقضي هذا اليوم لأن الأمعاء ستمتص هذا الماء. • ثم قال - رحمه الله -: أو اكتحل بما يصل إلى حلقه. إذا اكتحل بما يصل إلى حلقه يعني: بما يستطعم حلقه فإنه يفطر. واستدلوا على هذا: - بأن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى عن الإثمد للصائم. وهذا الحديث ضعيف جداً. = واالقول الثاني: أن الكحل لا يفطر ولو وجد الإنسان طعمه في حلقه. - لأن الاكتحال ليس بأكل ولا شرب ولا يحصل للجسد منه أي نوع من أنواع النشاط والتقوية فلا سبب شرعي للتفطير به. وهذا هو الصواب. أن الكحل لا يفطر. لعدم وجود المقتضي الدال على التفطير به. • ثم قال - رحمه الله -: أو أدخل إلى جوفه شيئاً من أي موضع كان غير إحليله. أراد المؤلف - رحمه الله - في نهاية المسائل التي يفطر بها الإنسان أن يقعد قاعدة وهي تتعلق بما يوجب الفطر من الأشياء التي تدخل البدن. لو لاحظت معي: فإن المؤلف - رحمه الله - قسم المفطرات إلى قسمين: - مفطرات تدخل البدن. - ومفطرات تخرج من البدن. فالقسم الأول: المفطرات التي تدخل البدن - لاحظ معي في المتن -: الأكل والشرب والاستعاط والاحتقان والاكتحال فهذه تدخل البدن. والقسم الثاني: المفطرات التي تخرج من البدن وهي في قوله: استقاء استمنى باشر أنزل ... الخ. فالمؤلف يريد الآن أن يقرر قاعدة للأشياء التي تفطر إذا دخلت:

• فقال - رحمه الله -: أو أدخل إلى جوفه شيئاً. إذاً قاعة المذهب: أن كل ما يدخل إلى الجسد إلى جوف فيه يصل إلى المعدة فإنه يفطر. سواء دخل من المدخل المعتاد كالفم أو من غير المعتاد كما ذكر الأنف والعين أو الجاحات والجروح الغائرة أو من أي منفذ. وسواء كان هذا الداخل مما يتغذى به الجسم أو مما لا يتغذى به الجسم. ففي الجميع يجب على من دخل إلى جوفه مما يصل إلى المعدة شيء أن يقضي ذلك اليوم. هذه هي قاعدة المذهب. = والقول الثاني: - من حيث القاعدة - أنه لا يفطر شيء مما يدخل البدن إلا ما يدخل إلى المعدة أو إلى موضع يمكن أن تمتص منه المواد الغذائية والماء سواؤ كان من المدخل الطبيعي وهو الفم أو من غيره من المداخل بشرط أن يكون الداخل مغذياً. ((إذاً مرة أخرى كل ما يدخل إلى ما ينتفع به الجسم أو يمكن أن يمتص فيه مما يغذي)). وفي الحقيقة ما يمكن أن ينتفع به الجسم هما موضعين فقط: المعدة والأمعاء الدقيقة والغليظة فقط. وباقي الأشياء التي في البدن مما يدخلها مواد لا يمكن أن ينتفع بها الإنسان من حيث القوة والنشاط. يضاف إلى مسألة المعدة والأمعاء الغليظة والدقيقة فقط مسألة المغذيات التي تدخل للدم. فهذه تفطر لأنها في معنى الطعام والشراب وفيما عدا الإبر المغذية الضابط: ما يدخل إلى المعدة أو الإثنا عشر الغليظ أو الدقيق مما ينتفع به الجسم فهذا هو الضابط. • ثم قال - رحمه الله -: غير إحليله. = ذهب الجمهور. إلى أن ما يدخل الإحليل فإنه لا يسبب الفطر. واستدلوا على هذا: - بأنه ليس بين الإحليل والجوف منفذ. وما ذهب إليه الجمهور هو الصواب لأنه أولاً ليس بين الإحليل والجوف منفذ. ثانياً: أن ما يوضع في الإحليل لا يمكن أن يسبب نشاطاً ولا قوة للجسم. - ثم هو ليس في معنى الطعام ولا في معنى الشراب. • ثم قال - رحمه الله -: أو استقاء. استقاء يعني: قاء عمداً. فمن قاء عمداً وجب عليه أن يقضي هذا اليوم. وحكى عدد من أهل العلم الإجماع على هذا الحكم منهم الخطابي وغيره - عدد من أهل العلم حكوا الإجماع. واستدلوا على هذا الحكم:

- بحديث: أبي هريرة: (من ذرعه القيء فلا قضاء عليه ومن استقاء فعليه القضاء) وهذا الحديث معلول والصواب أنه موقوف. ((الأذان)). والصواب ما عليه الجماهير الذي حكي إجماعاً أن من استقاء عمداً فعليه القضاء: - أولاً: للإجماع المحكي. - وثانياً: للآثار الموقوفة عن أبي هريرة وابن عمر - رضي الله عنهما -. ومن ذهب إلى أنه لا يفطر فقوله ضعيف بمقابل ما عليه جماهير أهل العلم أو حكي إجماعاً. انتهى الدرس

قال شيخنا حفظه الله: بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين. مازال المؤلف - رحمه الله - في سياق الكلام عن الأشياء التي إذا خرجت من البدن سببت فساد الصوم فذكر منها من استقاء عمداً وتحدثنا عنها في الدرس السابق. • ثم قال - رحمه الله -: أو استمنى. الاستمناء هو: استدعاء المني باليد أوم بغيره مما يستدعى به المني. فإذا استدعى المني بأي طريقة كانت فهو ينقسم إلى قسمين: - القسم الأول: أن لا ينزل. فإن لم ينزل فعمله محرم وصيامه صحيح. - القسم الثاني: أن ينزل. فإن أنزل فإن صومه يفسد. واستدل العلماء على فساد الصوم بالإستمناء بدليلين: - الأول: أنه إذا كان الصوم يفسد بالقبلة التي تؤدي إلى الإنزال فبالإستمناء من باب أولى. - الثاني: قوله - صلى الله عليه وسلم -: (يدع شرابه وطعامه وشهوته) وهذا لم يدع شهوته. = والقول الثاني: أن الصيام لا يفسد وإليه ذهب الظاهرية. وذكروا أنه لادليل على فساد الصوم. والصواب أن الصوم يفسد وسيأتينا مزيد إيضاح في مسألة المباشرة. لأنهم قاسوا الإستمناء على المباشرة - كما سمعتم -. • قال - رحمه الله -: أو باشر فأمنى ... فسد. المباشرة يقصد بها: أن يباشر امرأته بما دون الفرج. فالمباشرة والتقبيل واللمس حكم هذه الثلاث مسائل واحد. = فذهب الجماهير من السلف والخلف وحكي إجماعاً أن الإنسان إذا باشر أوقبل أو لمس فأنزل فإن صيامه يفسد. واستدلوا على هذا بأدلة: - الأول: قوله - صلى الله عليه وسلم -: (يدع شرابه وطعامه وشهوته) فإنه لم يدع شهوته.

- الثاني: ما أخرجه البخاري عن عائشة - رضي الله عنها - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يقبل ويباشر وهو صائم ولكنه كان أملككم لإربه. يعني يملك نفسه وشهوته عن الإنزلاق إلى المحرم. وجه الاستدلال: أن مفهوم حديث عائشة أن من لا يملك نفسه فإنه لا يجوز له أن يقبل أو يباشر لأن هذا يؤدي إلى الإنزال الذي يؤدي إلى فساد الصوم. - الثالث: القياس على الجماع. ووجه القياس: أن غاية ما يطلب في الجماع الإنزال. وقد حصل له بالمباشرة أو التقبيل. وقد حكى ابن قدامة الإجماع فيصلح أن نجعله أيضاً دليلاً. ولم يخالف إلا الظاهرية وهم أصحاب: = القول الثاني: فذهبوا إلى أنه لا يفسد الصيام إلا بالجماع لعدم الدليل. وقد سمعت الأدلة. - - مسألة: فإن باشر أو قبل أو لمس ولم ينزل فالصواب أن هذا جائز إذا أمن نفسه. وفي المسألة - مسألة مباشرة الصائم أقوال هذا القول هو الصواب الذي يدل عليه مفهوم حديث عائشة المتقدم. واعلم أن هذه المسألة كالأصل لمسائل الإنزال والمباشرة. فأخذنا قبل قليل أن مسألة الاستمناء باليد أو بغيرها تقاس على مسلة التقبيل والآن هذه المسائل - المباشرة والتقبيل واللمس - وهذا الخلاف الذي حكيناه في المباشرة يعتبر كالقاعدة لمسائل التعامل مع الزوجة فيما يتعلق بالشهوة. • ثم قال - رحمه الله -: أو أمذى. إن باشر فأمذى ولم ينزل فسد صيامه أيضاً. والدليل على ذلك: - القياس على المني. ووجه القياس: أن في كل منهما خروج السائل بشهوة. = والقول الثاني: أن المذي لا يوجب فساد الصوم. - لأن المذي ليس كالمني , بدليل وجوب الغسل في المني دون المذي فلا يصح أن نلحق المذي به. وإلى هذا ذهب أكثر أهل العلم. وهو الصواب إن شاء الله. فإذا باشر الإنسان فأمذى فإن صومه صحيح. إلا عند الحنابلة فإن صومه فاسد على ما سمعت من الخلاف والترجيح. • ثم قال - رحمه الله -: أو كرر النظر فأنزل. = ذهب الحنابلة إلى أن الصائم إذا كرر النظر على سبيل الشهوة فأنزل فإن صيامه يبطل. واستدلوا على هذا: - بأن تكرير النظر يشبه المباشرة في استدعاء المني. فأفسد الصيام كالمباشرة. ولهذا قلت لكم أن المباشرة أصل في مسائل هذا الباب.

= القول الثاني: أن تكرير النظر وإن أدى الإنزل فإنه لا يفسد الصيام. - لأنه ليس منه مباشرة فيقاس على من تفكر فأنزل. والجواب: أن هناك فرق كبير بين من تفكر وبين من كرر النظر فإنه من كرر النظر قصد النظر إلى المحرم وكرر ذل على سبيل الشهوة حتى أنزل وأما من تفكر فإن التفكر يخرج عن إرادة الإنسان فهو شيء يخطر بالبال يصعب دفعه فاختلفا من هذه الجهة. ولذلك الراجح إن شاء أن من كرر النظر وأنزل فإنه يفسد صيامه كما قلنا في المباشرة تماماً وفيمن استمنى. وعلم من كلام المؤلف أن من نظر نظرة واحدة فأنزل: أن صيامه صحيح. لأنه قيد الذي يفسد بأن يكرر. والسبب في أن صيامه صحيح: أن النظرة الأولى: جائزة. ولا يترتب على المأذون محذور. وتبين أيضاًَ من كلام المؤلف أن من كرر النظر فأمذى فإن صيامه صحيح حتى عند الحنابلة. فتبين أن الحنابلة يفرقون بين المذي الذي يكون سببه المباشرة وبين المذي الذي يكون سببه تكرار النظر. فالمذي الأول: يفسد الصيام. والمذي الثاني: لا يفسد الصيام وهذا مما يضعف القول بإفساده في مسألة المباشرة. • ثم قال - رحمه الله -: أو حجم أو احتجم وظهر دم. قال: أو حجم أو احتجم. وقيد ذلك بقوله: وظهر دم. إذا حجم أو احتجم فإن الحجامة تفسد الصيام. = وهذا مذهب الإمام أحمد. ونصره شيخ الاسلام بن تيمية بقوة. واستدلوا: - بقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: (أفطر الحاجم والمحجوم). وهو حديث صحيح فقد صححه عدد من الأئمة. وهذا الحديث هو عمدة القائلين بإفساد الصيام بالحجامة. وذهب إلى هذا الإمام أحمد وكثير من فقهاء أهل الحديث كإسحاق لابن راهويه - رحمه الله -. = القول الثاني: وإليه ذهب جماهير العلماء من اليلف والخلف. أن الحجامة لا تفسد الصيام. واستدلوا على هذا بأدلة: - الدليل الأول: ما ثبت في صحيح البخاري أن النبي - صلى الله عليه وسلم - احتجم وهو صائم. وأجاب شيخ الاسلام - رحمه الله - عن هذا الحديث: بأنه منسوخ بحديث: (أفطر الحاجم والمحجوم). - الدليل الثاني: ما ثبت في حديث أبي سعيد الخدري أنه قال: رخص رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الحجامة. قال الداقطني: رجاله ثقات.

- الدليل الثالث: حديث أنس - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - مر على جعفر بين أبي طالب وهو يحتج فقال: أفطر هذان يعني الحاجم والمحجوم. قال أنس: ثم رخص النبي - صلى الله عليه وسلم - بالحجامة وكان أنس يحتجم. قال الداقطني: لا أعلم له علة. والراجح والله أعلم: أن الحجامة لا تفطر والسبب في ترجيح هذا القول: ما ذكره ابن حزم - رحمه الله - أن قول الصحابي رخص لا يكون إلا بعد منع. فتبين من هذا أن آخر الأمرين من النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه لا يفطر من احتجم. وكما قلت أن لفظ الترخيص الذي جاء في حديث أنس وفي حديث أبي سعيد الخدري صريح في أن آخر الأمرين من النبي - صلى الله عليه وسلم - أن الحجامة لا تفطر. أما حديث: أفطر الحاجم والمحجوم فهو صحيح لكنه يعتبر منسوخاً بهذه الأدلة. لأنه لا نعقل من كلمة رخص إلا هذا وما ذكره ابن حزم صحيح وقوي. وهو أقوى مما ذكره شيخ الاسلام على قوة كلامه - رحمه الله - في العلة التي من أجلها يفطر الصائم إذا احتجم لكن مع وجود هذه الأحاديث الصحيحة فإنه لا مفر من القول بها ولعله بهذا ذهب إليه الجماهير من الصحابة فمن بعدهم فهم لا يرون التفطير بالحجامة. • ثم قال - رحمه الله -: عامداً ذاكراً لصومه: فسد. هذه الشروط ترجع إلى المفطرات السابقة جميعاً. ولذلك لو أن المحقق وفقه الله جعل عامداً ذاكراً لصومه في سطر مستقل لتشمل جميع ما تقدم من المفسدات. يشترط في الإفساد بهذه المفطرات: 1 - أن يكون الإنسان عالماً. 2 - وأن يكون ذاكراً. 3 - وأن يكون عامداً. فإن اختل أحد هذه الشروط فإنه لا يبطل الصيام. والدليل على هذا النصوص العامة والنصوص الخاصة. - فالنصوص العامة: كقوله تعالى: {ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا ربنا} [البقرة/286] وكقوله - صلى الله عليه وسلم -: (عفي عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه). - والنصوص الخاصة: كقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: (من نسي فأكل أو شرب فليتم صومه فإنما أطعمه الله وسقاه).

فإذاً دل على هذه القاعدة نصوص عامة ونصوص خاصة مما لا يدع مجالاً للشك أن من أكل أو شرب أو تعاطى أي مفطر من المفطرات المذكورة فإن صيامه صحيح إذا كان ذلك تم منه جهلاً أو نسياناً أو إكراهاً. ثم بدأ المؤلف - رحمه الله - بتعداد الأشياء التي لا تفطر عند الحنابلة. • فقال - رحمه الله -: لا ناسياً أو مكرهاً. تقدم معنا. فإن هذا كالتأكيد للشرط السابق. فإن الأدلة الدالة على اشتراط أن يكون عامداً ذاكراً هي الأدلة الدالة على أن الناسي والمكره لا يبطل صيامهما. • ثم قال - رحمه الله -: أو طار إلى حلقه ذباب أو غبار. هاتان مسألتان حكمهما واحد. إذا إلى حلقه غبار أو ذباب أو نحو هذه الأشياء فإن صيامه صحيح. - لأنه فعل هذا من غير قصد. فإذا فعله من غير قصد بقي صيامه صحيحاً لما تقدم من اشتراط العمد في تناول هذه المفطرات. • ثم قال - رحمه الله -: أو فكر فأنزل. إذا فكر الإنسان فأنزل فإن صيامه = عند الحنابلة صحيح ولا يفسد ولو أنزل بالتفكر. واستدلوا على هذا: - بأن التفكر أمر خارج عن الإرادة لا يستطيع الإنسان أن يدفعه. وإذا كان كذلك لم يؤاخذ الإنسان بما يترتب عليه. = والقول الثاني في هذه المسألة: أن الإنسان إذا فكر حتى أنزل فإن صيامه فاسد. واستدلوا على هذا: - بأن الله سبحانه وتعالى أثنى على الذين يتفكرون في خلق السموات والأرض ولا يثني الله على عمل إلا وهو داخل في الإرادة فدلت الآية على أن التفكر ممكن من بني آدم وأنه في مقدورهم أن يتفكروا أو أن لا يتفكروا. = والقول الثالث: وهو مذهب الإمام مالك وهو جميل جداً: وهو الراجح: أنه إن تفكر فانساق وراء هذه الأفكار ولم يمنع نفسه أفطر وإن تفكر فمنع نفسه وصرفها واشتغل بغيرها ولم يستطع دفع هذه الأفكار فأنزل فإن صيامه لا يفسد. فإنه في الحقيقة بهذا التفصيل تجتمع الأدلة وتنسجم وتتوافق. وأيضاً من جهة المعنى واالنظر فإنه تفصيل دقيق وجميل من الإمام مالك - رحمه الله -. وهو كما قلت - إن شاء الله - الراجح. • ثم قال - رحمه الله -: أو احتلم. أي: فإنه لا يفسد صيامه إذا احتلم. وتعليل ذلك: يشبه التعاليل السابقة وهو:

- أن الاحتلام أمر خارج عن الاختيار والإرادة ولا يملك الإنسان دفعه. فإذا احتلم صح صيامه ولو كان في وسط النهار. وأمر الاحتلام واضح وهو محل إجماع. • ثم قال - رحمه الله -: أو أصبح في فيه طعام فلفظه. إذا استيقظ الإنسان من النوم ووجد في فيه طعام فإنه ينقسم إلى قسمين: - القسم الأول: الطعام اليسير المختلط بالريق. فإن هذا لا يفسد الصيام ولو ابتلعه. وقد حكي الإجماع على هذا الحكم. - القسم الثاني: أن يكون الطعام كثيراً فإنه ينقسم إلى قسمين: - إن أخرجه ولفظه صح صيامه. لأن الفم في حكم الظاهر لا في حكم الباطن. - وإن ابتلعه بطل صيامه. وتعليل البطلان: أنه أكل طعاماً عامداً ففسد صيامه. وبهذا التفصيل يكمل حكم هذه المسألة التي قد تكثر عند بعض الناس بسبب أنه يتسحر ثم ينام مباشرة فإذا استيقظ اكتشف أن في فمه بقايا طعام فحكمه على هذا التفصيل الذي ذكرت. ثم قال - رحمه الله - في مسائل لها حكم واحد: أو اغتسل أو تمضمض أو استنثر. • قال رحمه الله: أو اغتسل ... فدخل الماء حلقه. أو تمضمض .. فدخل الماء حلقه. أو استنثر .. فدخل الماء حلقه. هذه المسائل حكمها واحد لكن من الظاهر أن المؤلف رحمه الله وهم بقوله: أو استنثر. وأن الصواب: أو استنشق. ولذلك جاءت على الواب في المقنع الذي هو أصل هذا الكتاب وفي غيره من كتب الحنابلة جاءت على الصواب ولعل المؤلف - رحمه الله - جاء في ذهنه الاستنثار فكتبه والمعنى ولله الحمد واضح. إذا اغتسل أو تمضمض أو استنشق فدخل إلى حلقه الماء وابتلعه فإن صيامه صحيح - لأن هذا وقع منه بغير إرادة. وتقدم معنا أن الإنسان إذا شرب أو أكل بغير إرادته فإن الصيام صحيح. • ثم قال - رحمه الله -: أو زاد على الثلاث، أو بالغ ((يعني في الاستنشاق)) فدخل الماءُ حلقه: لم يفسد. هاتان مسألتان لهما حكم واحد. فالمسألة الأولى: زاد على الثلاث. والمسألة الثانية: إذا بالغ في الاستنشاق. فإذا زاد على الثلاث أو بالغ في الاستنشاق فإن صيامه: = عند الحنابلة صحيح. - لأن الماء ذهب إلى حلقه من غير إرادة ولا قصد فلم يؤاخذ عليه.

= والقول الثاني: أنه إذا زاد على الثلاث أو بالغ في الاستنشاق ثم دخل إلى حلقه الماء فسد صومه ولو كان بغير قصد منه. وعللوا هذا: - بأن دخول الماء كان بسبب تعد منه للأحكام الشرعية فضمن ما ترتب على ذلك. فإن الإنسان منهي في الوضوء أن يزيد على ثلاث ومنهي في الوضوء إذا كان صائماً عن أن يبالغ. فهو خالف الأمر وأدت هذه المخالفة إلى دخول الماء ففسد صومه. والراجح والله أعلم الأول. لأن كون المتوضيء يخطيء ويزيد عن الحد الشرعي فهذه مسألة يحاسب عليها وعمله محرم أو مكروه لكن مسألة أخرى وهي صيامه يبقى صحيحاً لأنه دخل الماء بغير قصد والربط بين المسألتين ليس بصحيح فيما أرى. فنقول: زيادتك وتعديك للحكم الشرعي تأثم عليها. ومسألة دخول الماء بغير قصد لا يترتب عليه حكم فيبقى صيامك صحيحاً. • ثم قال - رحمه الله -: ومن أكل شاكاً في طلوع الفجر: صح صومه. يعني: إذا شك الإنسان هل طلع الفجر أو ما زال في الليل ثم أكل فإن صيامه صحيح. وتعليل ذلك: - أن الأصل بقاء الليل. ومع ذلك لا يكره أن يأكل ويشرب ولا يفسد صومه. - لأن الأصل بقاء الليل وإذا كان الليل باقياً جاز للإنسان أن يأكل ويشرب بلا كراهة لقوله تعالى: {وكلوا واشربوا حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر} [البقرة/187] فأجاز الله سبحانه وتعالى إلى طلوع الفجر. ولا دليل مع من قال بالكراهة إذا شك. وهذه المسألة - وهذا مما ينبغي أن تتنبه إليه - مفروضه فيما إذا لم يتبين له بعد ذلك أن الفجر طلع. فإن تبين له فهي المسألة بعد الثالية. فنحن الآن نتكلم على شخص شك ولم يتبين له. فصيامه صحيح لأن الأصل بقاء الليل ولدلالة الآية. • ثم قال - رحمه الله -: لا إن أكل شاكاً في غروب الشمس. إذا أكل وهو يشك بغروب الشمس فإن صيامه باطل عند جميع الأئمة. - لأن الأصل بقاء النهار وعدم دخول الليل. فهو أفطر في حال لا يجوز له أن يفطر فيها. - - فإن أكل شاكاً في غروب الشمس ثم تبين أنها قد غابت فعلاً. فالحكم: أنه آثقم وعليه التوبة وصيامه صحيح. - لأنه حين أكل أكل متعدياً للأحكام الشرعية فهو آثم وصيامه صحيح لأنه تبين من الواقع أن عمله وافقه المشروع حيث لم يأكل إلا بعد غروب الشمس.

• ثم قال - رحمه الله -: أو معتقداً أنه ليل فبان نهاراً. هذه العبارة تشمل مسألتين: - - المسألة الأولى: إذا أكل يظن غروب الشمس فبانت لم تغرب. - - والمسألة الثانية: إذا أكل يظن عدم طلوع الفجر فبان طالعاً. فعبارة المؤلف - رحمه الله - تشمل المسألتين. = فعند الحنابلة: أن من صنع ذلك بطل صيامه. واستدلوا على ذلك: - أولاً: بأنه ثبت عن عمر أنه قضى. حيث أنه - رضي الله عنه - أفطر وكان يظن أنم الشمس قد غابت ثم تبين أنها لم تغب. - وثانياً: قياساً على من أكل وهو شاك بغروب الشمس. = والقول الثاني في هذه المسألة التي تكثر جداً بين الناس: أن صيامه صحيح في المسألتين. واستدلوا بأدلة: - أولاً: أنه جاء عن عمر - رضي الله عنه - أيضاً أنه فعل ذلك ولم يقض. فيكون المنقول عن عمر - رضي الله عنه - روايتين. ولا أعرف أيهما أصح لأني لم أنظر في أسانيد هذين الأثرين لأن في المسألة نصوص فلا نحتاج في الحقيقة إلى هذه الآثار. - ثانياً: حديث أسماء - رضي الله عنها - أنهم في زمن النبي - صلى الله عليه وسلم - تلبدت السماء بالغيوم فأفطروا ظانين أن الشمس غربت فلما انكشف الأمر خرجت الشمس. وليس في الحديث أنه أمرهم بالقضاء. فلو كان القضاء واجباً لبين لهم - صلى الله عليه وسلم - وجوبه. - ثالثاً: حديث عدي بن حاتم - رضي الله عنه - أنه لما سمع الآية: {وكلوا واشربوا حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر} [البقرة/187] جعل تحت وسادة عقالاً أسود وأبيض ثم صار ينظر إليه ولا يمسك حتى يتبين له الأبيض من الأسود فلما ذكر ذلك للنبي - صلى الله عليه وسلم - قال له: إن وسادك إذاً لعريض الأبيض والأسود بياض الليل وسواد النهار ولم يأمره بالقضاء. وهذا القول: الثاني: هو الأقرب إن شاء الله والذي تدل عهليه النصوص. فإذا أخطأ الإنسان فإن صيامه صحيح وعليه بعد أن يتبين له أن يمسك إلى أن تغرب الشمس. فصل [فيما يتعلق بالجماع في نهار رمضان] • قال - رحمه الله -: (فصل) ومن جامع. خص المؤلف - رحمه الله - أحكام الجماع في نهار رمضان بفصل خاص لأمرين: - الأول: كثرة الأحكام المتعلقة بهذا المفطر.

- الثاني: للدلالة على أنه من أعظم الذنوب التي يقترفها الصائم. • قال - رحمه الله -: من جامع في نهار رمضان في قبل أو دبر. المقصود بقوله: في قبل أو دبر. أي لا بد أن يكون في فرج أصلي سواء كان من حي أو من ميت. فإن لم يكن فرجاً أصلياً فإنه لا تترتب عليه الأحكام المذكوة في هذا الفصل. فلو افترضنا أن خنثى أو لج في امرة أو رجل أولج في خنثى فإنمها لا تترتب أحكام الجماع في نهار رمضان لاحتمال أن يكون هذا العضو زائداً وليس بأصلي. وإذا كان زائداً فإنها لا تترتب عليه الأحكام المذكورة في النمصوص. إذاً عرفنا الآن أن قصده لافي قبل أو دبر يعني أن يكون أصلياً. ومفهوم قوله: في قبل أو دبر: أي: سواء كالن هذا القبل أو الدبر محرم أو مباح أي من زوجة أو من أجنبي أو من رجل فإن هذه البارة عامة تشمل الجميع. • ثم قال - رحمه الله -: مبيناً ما يترتب على الجماع في نهار رمضان: فعليه القضاءُ. إذا جامع الإنسان في نهار رمضان فعليه: = عند الجماهير القضاء. يجب عليه مع الكفارة التي سيذكرها المؤلف أن يقضي ذلك اليومن. واستدلوا بدليلين: - الأول: أن الأمر العام بهذا اليوم ما زال قائماً وهو في ذمته لابد أن يؤديه. - الثاني: أنه في حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - في حديث الأعرابي المجامع والذي سيأتينا في بعض ألفاظه: (وأمره أن يقضي يوماً مكانه). وهذه الفظة شاذة وإن حاول بعضهم تصحيحها فإنها في الحقيقة الصواب فيها أنها ضعيفة لأنها مخالفة لرواية الثقات. = القول الثاني: وإليه ذهب الإمام الشافعي ونصره ابن حزم: أن المجامع في نهار رمضان عليه الكفارة دون القضاء. واستدلوا على ذلك: - بأن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يأمر المجامع أن يقضي. - وبأن المجامع أفطر عمداً وسيأتينا أن من أفطر عمداً لا يقبل منه القضاء وعليه بالتوبة والاستغفار والإكثار من العمل الصالح. وهذا القول الثاني هو الأقرب إن شاء الله. • ثم قال - رحمه الله -: والكفارة. دلت عبارة المؤلف على أن من جامع في نهار رمضان فعليه الكفارة أنزل أو لم ينزل. فبمجرد أن يجامع تجب عليه الكفارة والقضاء على المذهب.

والدليل على ذلك: ما أخرجه البخاري ومسلم وغيرهما من أصحاب السنن والمسانيد أن رجلاً دخل على النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال يا رسزول الله هلكت فقال وما أهلكك قال وقعت على امرأتي في رمضان فقال له النبي - صلى الله عليه وسلم - هل تجد رقبة قال لا قال هل تستطيع أن تصوم شهرين متتابعين قال لا قال هل تجد ما تطعم به ستين مسكيناً قال لا. فجلس ولم يأمره النبي - صلى الله عليه وسلم - بالذهاب ثم جاء النبي - صلى الله عليه وسلم - مكتلاً فيه تمر فقال خذه وتصدق به فقال على أفقر مني يا رسول الله فضحك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقال: أطعمه أهلك. وقوله: أطعمه أهلك أيضاً في الصحيحين. فدل هذ الحديث على وجوب الكفارة وهو نص في وجوبها. وستأتينا إن شاء الله في كلام المؤلف - رحمه الله - أحكام الكفارة. • ثم قال - رحمه الله -: وإن جامع دون الفرج فأنزل. .. أفطر ولا كفارة. المجامعة دون الفرج هي المباشرة. وتقدم معنا أن المباشرة فيها القضاء فقط. فإذا جامع الإنسان بما دون الفرج كأن يكون بين الفخذين أو أن يستمتع بأي جزء من أجزاء زوجته فإن الواجب عليه أن يقضي هذا اليوم فقط دون الكفارة ولو أنزل. والدليل على هذا: - أن النص إنما جاء بكفارة في الجماع فقط وهذا لا يسمى جماعاً في الشرع إنما الجماع ما يصير فيه إيلاج أما المباشرة فيما دون الفرج فإنها لا تسمى جماعاً في الشرع فلا يجب بناء على ذلك كفارة. • ثم قال - رحمه الله -: أو كانت المرأة معذورة. يعني إذا كانت المرأة معذورة بجهل أو نسيان فإنه لا يجب عليها الكفارة = عند الحنابلة ويجب عليها القضاء. = والقول الثاني: أنه لا قضاء ولا كفارة ما دامت معذورة بجهل أو نسيان أو إكراه. وهذا القول - الثاني - هو الصواب لأنه تقدم معنا أنه يشترط للمفطر أن يتم مع الذكر والعمد وهذه نفترض أنها معذورة بجهل أو نسيام أو إكراه. وفهم من كلام المؤلف - رحمه الله - أن المرأة إذا لم تكن معذورة فيجب عليها هي أيضاً كفارة. واستدلوا على ذلك: - بحديث أبي هريرة فإنه دل على أن من جامع في نهار رمضان فعليه الكفارة ما دام عمداً قصداً.

= والقول الثاني: أن المرأة ليس عليها كفارة. أو أن كفارة الرجل عنه وعنها ومؤدى القولين واحد أنه ليس على المرأو كفارة. واستدلوا على هذا: - بأن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يأمر المرأة أن تكفر ولم يرشد السائل لذلك. والجواب عليه من وجهين: - الأول: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - إنما سأله الرجل دون المرأة. فأفتى من سأل وسكت عمن لم يسأل. - الثاني: أن الظاهر في قصة الرجل - من بعض الألفاظ - أنها مكرهة يدل عليه أمران: - الأمر الأول: ما رواه الداقطني أنه قال: يارسول الله هلكت وأهلكت. فقوله: أهلكت دليل على أنها مكرهة. - الأمر الثانمي: أن الرجل لما طلب منه النبي - صلى الله عليه وسلم - الصيام قالا لا أستطيع وفي لفظ وهل أوتيت إلا من الصيام فيدل هذا اللفظ على أن الرجل لا يصبر عن الجماع وأن هذا ربما كالن مسوغاً لإجبار الزوجة على الجماع. فدل هذا اللفظان على أن ظاهر الحال أن المرأة مكرهة. ونحن لا نجزم بهذا لكن كما قال بعض الفقهاء: ظاهر الحال أن المرأة كانت مكرهة فلم يأمرها النبي - صلى الله عليه وسلم - بالكفارة. وبكل حال عدم ذكر الكفارة بالنسبة للمرأة لا يدل على عدم الوجوب. وهذا هو القول الراجح إن شاء الله. = ومفهوم عبارة المؤلف أن الرجل لو طكان ناسياً فإنه يجب عليه أيضاً الكفارة. - لأنه نص على عذر المرأة دون الرجل. = والقول الثاني: أن الرجل إذا كان ناسياً أو مكرهاً فإنه أيضاً لا كفارة ولا قضاء عليه. - لما تقدم في حق الزوجة. فما ذكرناه من تعليل في عدم وجوب الكفارة والقضاء بالنسبة للزوجة المكرهة أو المعذورة هو نفس التعليل بالنسبة للرجل. • ثم قال - رحمه الله -: أو جامع من نوى الصوم في سفره: أفطر ولا كفارة. إذا نوى المسافر الصوم أو نوى المريض الذي يجوز له الفطر الصوم ثم جامع فلا كفارة. والدليل على هذا: - أن إتمام الصوم بالنسبة لهؤلاء لا يجب. وإذا لم يجب الإتمام لم يجب في إفساده كفارة. فمعلوم أن المسافر لا يجب عليه أن يتم الصيام وكذا المريض الذي يجوز له أن يفطر. وعليه القاء: فتقدم معنا أن المسافر والمريض يجب القضاء عليهما بالإجماع.

= والقول الثاني: أنه لا يجوز له أن يجامع - المسافر والمريض -. - لأنه شرع في صوم واجب. والأقرب كما هو ظاهر القول الأول وهو مذهب الحنابلة. • ثم قال - رحمه الله -: وإن جامع في يومين .... فعليه كفارتان. يعني إذا جامع الإنسان في اليوم الأول من رمضان ثم جامع في اليوم الثاني من رمضان فإنه يجب عليه كفارتان. وهذه المسألة تنقسم إلى قسمين: - القسم الأول: أن يجامع في اليوم الأول ويكفر. ثم يجامع في اليوم الثاني فهذا بالإجماع عليه كفارتان ولا إشكال وأمره واضح. لكن الإشكال والذي يريده المؤلف: -[في القسم الثاني] إذا جامع فيب اليوم الأول ولم يكفر ثم جامع في اليوم الثاني فيجب عليه كفارتان = عند الحنابلة. الدليل: قالوا: الدليل على هذا: - الأول: أن كل يوم من أيام رمضان يعتبر يوماً مستقلاً. وهو عبادة مفردة تترتب عليها الأحكام فإذا جامع في يومين وجبت عليه كفارتان. - الثاني: وهو قوي إذا تأملت قياساً على ما إذى جامع في يومين من رمضانين ولم يكفر. فمثلاً لو أن أحدهم جامع في رمضان سنة 1400 ولم يكفر ثم جامع في رمضان من سنة 1401 فإنه يجب عليه كفارتين. = القول الثاني: في هذه المسألة بعد أن حكينا الإجماع في القسم الأول ونحن نتكلم في القسم الثاني. أنه تجب عليه كفارة واحدة. - لأنهما كفارتان من جنس واحد فاكتفي بأحدهما. وهذا القول الثاني: - الاكتفار بكفارة واحدة - فيما أرى ضعيف جداً ليس له حظ من النظر ولذلك نجد أن الشيخ الفقيه المجد بن تيمية رجح القول الأول ونصره مما يدل على أنه قوي عنده وهو كذلك في الحقيقة فإني لا أعلم وجهاً مقنعاً للاكتفاء بكفارة واحدة مع كونه انتهك حرمة يومين من رمضان. هذا فضلاً عن أن المناسب في حق مثل هذا الشخص أن يؤدب بإيجاب كفارتين ونحن لا نقول بوجوب كفارتين من باب التأديب فإن الأحكام الشرعية لا تنبني فقط على مسألة التأديب بل الأدلة تدل أن عليه كفارتان ومع ذلك هو من باب التأديب. • ثم قال - رحمه الله -: أو كرره في يوم ولم يكفر: فكفارة واحدة في الثانية وفي الأُولى اثنتان. لو أن المؤلف - رحمه الله - جعل حكم كل مسألة بجوارها.

وإن جامع في يومين فعليه كفارتان أو كرره في يوم واحد فكفارة واحدة. لكنه فصل بينهما وليس له مبرر من وجهة نظري. المهم: إذا كرره في يوم ولم يكفر فكفارة واحدة في الثانية. يعني: لو جامع في أول النهار في رمضان ثم جامع في آخر النهار في رمضان قبل أن يكفر فعليه كفارة واحدة. - لأنه انتهك حرمة يوم واحد. فعليه كفارة واحدة. • ثم قال - رحمه الله -: وإن جامع ثم كفر ثم جامع في يومه: فكفارة ثانية. هذا القسم الثاني: للمسألة السابقة. رجل جامع في يوم الأول من رمضان مثلاً ثم كفر ثم جامع فهذا الرجل اختلف فيه الفقهاء: = فمنهم من يقول: عليه كفارتان. وإلى هذا ذهب الإمام أحمد في رواية. قال: لأنه انتهك المحرم مرتين فوجبت عليه كفارتان. = والقول الثاني: وهو للجماهير بل حكاه ابن عبد البر إجماعاً أنه إذا جامع ثم كفر ثم جامع فلا تجب عليه كفارة أخرى. واستدلوا: - بأن هذا الذي جامع وكفر فسد صومه وأصبح من المفطرين فلا تجب عليه كفارة أخرى فإنه الآن مفطر. ولا يوجد دليل على إيجاب كفارة أخرى عليه. وربما نستدل بالإجماع الذي حكاه ابن عبد البر. وهذه الإجماعات كما أشرت مراراً يستأنس بها ويستدل بها فإن كانت محكمة فهي دليل مستقل وإن كانت غير محكمة بأن يوجد مخالف فلا أقل من أن يستأنس بها ويقوى القول التي هي معه. لأنه لا شك أنه يحكى إجماع في قول فإن هذا يقويه. • ثم قال - رحمه الله -: وكذلك من لزمه الإمساك إذا جامع. من يلزمه الإمساك في رمضان ينقسم إلى قسمين: - القسم الأول: من يلزمه الإمساك لكون البينة جاءت في وسط النهار أو لكونه صار أهلاً في وسط النهار. - والقسم الثاني: من يلزمه الإمساك من نحوحائض طهرت ومريض صح ومسافر قدم. ففي القسم الأول: إن جامع وجبت عليه الكفارة ولا إشكال إن شاء الله. - لأنه انتهك حرمة اليوم. وهويجب عليه الإمساك. والقسم الثاني: تقدم معنا ذكر الخلاف في أنه: هل الحائض إذا طهرت والمريض إذا صح والمسافر إذا قدم وما أشبه هؤلاء هل يجب عليهم أن يمسكوا أو لا يجب؟ فإن قيل بوجوب الإمساك فعليهم كفارة. وإن قيل أن الإمساك لا يجب غلا كفارة عليهم.

وتقدم معنا أن الراجح أنه لا يجب عليهم أن يمسكوا وبناء على هذا فالراجح أنه لا كفارة عليهم. إذاً الخلاف في وجوب الكفارة يرجع إلى الخلاف في وجوب الإمساك. • ثم قال - رحمه الله -: ومن جامع وهو معافى، ثم مرض أو جن أو سافر: لم تسقط. يعني: رجل مقيم مكلف يجب عليه الصيام جامع ثم لما جامع زال عنه التكليف. بأن سافر لا حيلة أو جن أو بأي سبب يزول معه التكليف. = فقال الحنابلة: تجب عليه الكفارة ولو ارتفع عليه التكليف في أثناء اليوم. واستدلوا على هذا: - بأن وجوب الكفارة سابق لزوال التكليف. = والقول الثاني: أن مثل هؤلاء لا تجب عليهم الكفارة. - لأنه تبين أنهم ليسوا من أهل الصيام في ذلك اليوم. فأي القولين أرجح؟ الجواب: أن هذا يرجع إلى مسألة متى تجب الكفارة في الذمة؟ هل يشترط مضي وقت أو بمجرد الجماع؟ الجواب: بمجرد الجماع. ولذلك لو جامع. ومات أخرجنا الكفارة من تركته. فالأقرب والله أعلم الوجوب. • ثم قال - رحمه الله -: ولا تجب الكفارة: بغير الجماع في صيام رمضان. الكفارة الكبرى لا تجب إلا بشرطين: - أن يكون الفطر بالجماع. - وأن يكون هذا الجماع في نهار رمضان. فإن تخلف أي شرط من هذه الشروط لمتجب الكفارة. والدليل على هذا: - أن حديث أبي هريرة الذي فيه ذكر المجامع نص على وجوب الكفارة فيمن أفطر في نهار رمضان وما عدا هذه الصورة لا نص فيها ولا إجماع. = والقول الثاني: أنها تجب الكفارة فيمن جامع في قضاء رمضان. = والقول الثالث أنها تجب الكفارة بأي مفطر من المفطرات ولو بغير الجماع. فالقول الثاني: أخل بشرط نهار رمضان. والقول الثالث: أخل بشرط أن يكون الفطر بالجماع. والصواب القول الأول وعليه الجماهير وعليه تدل النصوص أنه لا يجب عليه الكفارة إلا بهذين الشرطين. • ثم قال - رحمه الله -: وهي: عتق رقبة، فإن لم يجد فصيام شهرين متتابعين، فإن لم يستطع فإطعام ستين مسكيناً، فإن لم يجد سقطت دل كلام المؤلف - رحمه الله - على أن الكفارة تجب على الترتيب لا على التخيير. = وإلى هذا ذهب الجماهير والجم الغفير ورأوا أنه لا ينتقل من خصلة إلى أخرى إلا إذا يستطع الأولى. واستدلوا:

- بأنه في حديث أبي هريرة رتب الكفارات بقوله: فإن لم تجد أو أتجد ولم ينتقل عن واحدة إلى أخرى إلا إذا قال لا أستطيع. = والقول الثاني: وهو مذهب لبعض الفقهاء أن الكفارة على التخيير. - لما جاء في صحيح مسلم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال في حديث أبي هريرة عليك عتق رقبة أو صيام أو إطعام. وأو تأتي بلغة العرب للتخيير ولا تدل على الترتيب. الصواب أن الترتيب واجب وأن الرواية الصحيحة فيها الترتيب ولذلك نقل بعض الحفاظ أن الزهري روى عن ثلا ثين راوياً أنهم نقلوا الترتيب فالترتيب المذكور في االصحيحين هو اللفظ الصحيح وهو يدل على وجوب عدم الانتقال من واحدة إلى أخرى إلا عند العجز. المسألة الثانية: قوله: وهي عتق رقبة فإن لم يجد: • قوله : فإن لم يجد: أي فإن لم يجد الرقبة ولا ثمن الرقبة فإنه حينئذ ينتقل إلى النوع الثاني من الكفارة. • قال: فإن لم يجد فصيام شهرين متتابعين. المرتبة الثانية في الكفارة أن يصوم شهرين. ويشترط في هذين الشهرين أن يكونا متتابعين. وإذا شرع في الصيام ثم وجد الرقبة فإنه لا يجب عليه أن ينتقل إلى الصيام نص عليه الإمام أحمد - رحمه الله -. والدليل على ذلك: - أنهى شرع في الكفارة المجزأة فلا يجب عليه أن ينتقل إلى غيرها. فإن انتقل فهو الأولى. وقد أحسن وأجاد. • ثم قال - رحمه الله -: فإن يستطع فإطعام ستين مسكيناً. إطعام ستين مسكيناً. الخلاف الذي ذكرناه في السابق حول الإطعام لمن أفطر من حيث المقدارهو نفسه الخلاف هنا فيكرر كما تقدم تماماً هل هو نصف صاع أو مد وهل هو من البر أو من غيره وهل يقدر أو لايقدر؟ على الأقوال الثلاثة. التي ذكرتها في الدرس قبل السابق. • ثم قال - رحمه الله -: فإن لم يجد سقطت. = ذهب الحنابلة إلى أنه إذا لم يجد جمبع أنواع الكفارات فإنها تسقط. واستدلوا على هذا: - بأن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما جاءه المكتل من التمر أعطاه للرجل وأمره أن يتصدق فلما قال على أفقر مني قال خذه وأطعمه أهلك وإطعام هذا الرجل التمر لأهله عند الحنابلة ليس على سبيل الكفارة ونصر هذا من العلماء المحققين اثنان: ابن دقيق العيد والصنعاني.

أي أن هذا الأعرابي أخذ الطعام لا على أنه كفارة وإنما على أنه صدقة لأهله. وإذا كان الرجل أخذ هذا الطعام لا على أساس أنه كفارة ولم يأمره النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يكفر لا حقاً دل هذا على سقوط الكفارة. والحنابلة يرون والإمام أحمد أن الكفارة التي تسقط هي فقط كفارة الجماع في نهار رمضان دون الكفارات الأخرى - ككفارة القتل وكفارة الحج - فهذه الكفارات وغيرها لا تسقط عند العجز إنما الذي يسقط فقط هذه الكفارة لأنها التي دل النص فيها على السقوط. = والقول الثاني: أن الكفارة تبقى في ذمته وكون النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يقل له كفر فقد اكتفى بكونه قال له في صدر الحديث أعتق رقبة صم شهرين أطعم ستين مسكيناً فهذا الأمر يكفي في بقاء الكفارة في ذمته وكونه أعطاه هذا التمر صدقة لأهله لحاجته لا يعني أنه لا تجب عليه الكفارة. - - مسألة: قوله: فإن لم يستطع فإطعام ستين مسكيناً. كيف يكون هذا الأعرابي لا يستطيع وهويصوم رمضان؟ الجواب على هذا: أن هذا الأعرابي قال كما تقدم: وهل وقعت فيما وقعت فيه إلا من الصيام وهل أوتيت إلا منه - الالفاظ مختلفة. فدل على أن هذا الرجل لا يستطيع أن يصوم شهرين متتابعين بدون أن يقع في الجماع فاعتبر النبي - صلى الله عليه وسلم - هذا عذراً. فنقول لمن لا يستطيع أن يصوم شهرين متتابعين خشية الوقوع في الجماع أن هذا عذر كما عذر النبي - صلى الله عليه وسلم - هذا الأعرابي ويجوز له بناء على هذا أن ينتقل إلى الخصلة الثانية وهي الإطعام. وفي مثل هذه الأمور يدين الإنسان فلو قال لا أستطيع أن أصوم لمرض أو لشدة الرغبة في الجماع فهذا شيء بينه وبين الله سبحانه وتعالى يدين فإن كان صادقاً سلم وإن كان كاذباً أثم. انتهى الدرس

قال شيخنا حفظه الله: بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين. انتهينا من الفصل السابق ما عدا مسألة بقيت في من أراد أن يكفر بالصوم فسيصوم شهرين متتابعين. والمسألة التي بقيت هي: كيفية هذا الصيام: نقول: كيفية هذا الصيام تنقسم إلى قسمين: - القسم الأول: إذا بدأ الصيام من أول الشهر فإنه يصوم شهرين كاملين سواء تم الشهران ثلاثين يوماً أو نقص. وسواء نقص أحدهما أو نقص كلاهما فإنه إذا انتهى الشهر الثاني فإنه يعتبر قد أدى ما عليه من الكفارة ما دام أنه بدأ من أول الشهر. وهذا واضح ولا إشكال في لأن الشهر في الشرع تارة يكون ثلاثين يوماً وتارة يكون تسعة وعشرين يوماً. - القسم الثاني: أن يبدأ من وسط الشهر فسيصوم بعض الشهر الأول وكل الشهر الثاني وبعض الشهر الثالث.

باب ما يكره ويستحب وحكم القضاء

وسيصوم من الشهر الثالث ما يكمل به عدد الأيام التي صامها من الشهر الأول. فالشهر الثاني لا إشكال فيه أنه هلالي. لأنه سيبدأ من الأول فيصوم حسب عدد أيام ذلك الشهر سواء تم أو نقص. بقينا إذا أراد أن يكمل من الشهر الثالث فإنه الفقهاء - رحمهم الله - قد اختلفوا في هذه المسألة على قولين: = القول الأول: أنه يتم ثلاثين يوماً فإذا كان صام من الشهر الأول عشرة أيام فسيصوم من الشهر الثالث عشرين يوماً. لأنهم قالوا: لا يمكن اعتبار هذين شهرين بالأهلة لأنهما مفترقان فوجب الرجوع إلى العدد. والأحوط فيه ثلاثين يوماً. = القول الثاني: أن يصوم بحسب الشهر الأول: - فإن كان الشهر الأول تاماً أكمل من الشهر الثالث ثلاثين يوماً. - وإن كان الشهر الأول ناقصاً أكمل من الشهر الثالث تسعة وعشرين يوماً. والراجح والله أعلم: - أنه إن كان الشهر الأول والثالث كلاهما ناقص صام تسعة وعشرين يوماً. - وإن كان أحدهما تاماً أكمل ثلاثين يوماً احتياطاً. وبهذا القول إن شاء الله تجتمع الأقوال ويحصل الاحتياط في مسألة أداء الكفارة. باب ما يكره ويستحب وحكم القضاء • ثم قال - رحمه الله -: باب ما يكره ويستحب وحكم القضاء خصص المؤلف - رحمه الله - هذا الباب كما قال لبيان: - الأشياء التي يكره للصام أن يأتيها. - والأشياء التي تستحب. - وكيفية القضاء. • وقوله - رحمه الله -: باب ما يكره. إنما ذكره تغليباً وإلا فإنه - رحمه الله - سيذكر أشياء محرمة. • قال - رحمه الله -: يكره: جمع ريقه فيبتلعه. قوله: فيبتلِعُهُ. شيخنا - رحمه الله - ضبط هذه الكلمة بالفتح والمحقق هنا ضبطها بالضم ولعل الأقرب ما ذكره شيخنا - رحمه الله -.

= على المذهب: يكره بلا نزاع عند الحنابلة أن يجمع ريقه ويبتلعه. فإذا فعل هذا الأمر فقد فعل شيئاً مكروهاً. = والقول الثاني: أن جمع الريق ثم ابتلاعه لا يكره بل هو جائز مباح بلا كراهة لأمرين: - الأمر الأول: أن هذا مما يعتاد ويفعله الصائمون ولم يأت شيء في الشرع يدل على النهي عنه. - والأمر الثاني: أن الكراهة حكم شرعي تحتاج إلى دليل. وإذا تأملت فستجد كل واحد من الأمرين يكمل الآخر. والأقرب والله أعلم القول الثاني. لكن الاحتياط في عدم فعل ذلك جيد بسبب أن هذه المسألة عند الحنابلة لا خلاف فيها كأن دليلها واضح عندهم. وفهم من قول المؤلف - رحمه الله -: (يره جمع ريقه) أنه إذا ابتلع الريق بلا جمع فإنه جائز بلا كراهة ولا يفطر وهذا مما أجمع عليه الفقهاء. فإذا بلغ ريقه بلا جمع فلا حرج عليه ولا كراهة ولا إفطار بإجماع أهل العلم لعدم وجود مقتضي الكراهة أو التحريم. • قال - رحمه الله -: ويحرم: بلع النخامة. النخامة. وأحياناً تسمى النخاعة: هي ما يخرجه الإنسان من حلقه من مخرج الخاء سواء كانت هذه النخامة أو النخاعة نازلة من الأعلى أو صاعدة من الجوف. فبلعها لا يجوز عند المؤلف - رحمه الله - لأنه مستقذر والأشياء المستقذرة لا يجوز للإنسان أن يبتلعها. وظاهر عبارة المؤلف: أن بلع النخامة أو النخاعة محرم على الصائم وعلى المفطر. لأنه لم يقيد بل قال: (ويحرم بلع النخامة). وهذا هو الصواب أنه يحرم بلع النخامة لا ستقذارها سواء كان الإنسان صائم أو مفطر. = والقول الثاني: أن بلعها مكروه. والذي يتوافق مع قواعد الشرع التحريم. فإذا استطاع الإنسان أن يخرج هذه النخامة وأن يلفظها فهو الواجب وإذا غلبه الأمر فإن شاء الله لا حرج عليه لأنه في هذه الحالة أن يخرجها. • ثم قال - رحمه الله -: ويفطر بها فقط إن وصلت إلى فمه. يعني: أنه يفطر ببلع النخامة دون بلع الريق ولو جمعه وهذا معنى قوله فقط: يعني لإخراج الريق. فدل كلام المؤلف - رحمه الله - على أن الإنسان إذا بلع النخامة فإنه آثم وقد أفطر. والدليل على أنه أفطر: - أنه بلع شيئاً من خارج الفم يمكنه التحرز منه فأشبه الأكل. = والقول الثاني: أن بلع النخامة لا يفطر.

- أولاً: لأنه مما يعتاد فأشبه بذلك الريق. ووجه الشبه أن كلاً منهما معتاد. - وثانياً: أن هذا مما تمس حاجة الناس إليه ويكثر فيهم ولو كان من الفطرات لبينه الشارع. والقول الثاني أقرب.: أنه لا يفطر إن شاء الله. • ثم قال - رحمه الله -: ويكره: ذوق طعام بلا حاجة. ظهر من كلام المؤل - رحمه الله - أن ذوق الطعام ينقسم إلى قسمين: - القسم الأول: أن يكون بلا حاجة: = فحكمه عند الحنابلة مكروه. وليس بمحرم. ودليل الكراهة: - أنه بذلك يعرض صومه للفساد. إذ ربما ذهب شيء إلى جوفه. - القسم الثاني: أن يكون لحاجة. فحينئذ يجوز بلا كراهة. والدليل على هذا: - أن الإمام أحمد والبخاري ذكروا أن ابن عباس أفتى بذلك. فدل على أنه يجوز بلا كراهة. وهذا التفصيل هو الراجح. التفريق بين أن يكون بحاجة وبغير حاجة وأن الذي ليس بحاجة لا يصل إلى أن يكون محرماً بل هو مكروه. • ثم قال - رحمه الله -: (ويكره) مضغ علك قوي. العلك القوي: هو العلك الذي إذا مضغ لا يتفتت إلى أجزاء وإنما يزيده المضغ صلابة. فهذا النوع من العلك يكره. ودليل الكراهة تعليلان: - الأول: أن مضغ هذا العلك يؤدي إلى العطش وإلى تجمع الريق. وتقدم معنا: أن تجميع الريق ثم بلعه حكمه: مكروه. - الثاني: أنه يؤدي إلى اتهام الماضغ لأن من رآه ظن أنه مفطر. = القول الثاني: أن مضغ هذا العلك إذا أمن بلع أي جزء منه فجائز بلا كراهة. - لأن الفم في حكم الظاهر فما وصله لا يعتبر من المفطرات. فإذا أمنا عدم نزول شيء إلى الجوف لم يبق دليل على الكراهة. والراجح أنه مكروه. لأدلة الحنابلة. وأدلتهم وجيهه لا سيما وأنه يؤدي في الغالب إلى الاستهانة بالصيام وذهاب حرمة اليوم فلا شك أنه ليس من صفات الصائم الجاد. • ثم قال - رحمه الله -: وإن وجد طعمهما في حلقه: أفطر. = يعني: إن وجد طعم العلك أو وجد طعم الطعام الذي ذاقه في حلقه فإنه يفطر. - لأنه أوصل إلى جوفه شيئاً فأفطر كما لو أكل. = والقول الثاني: أن مجرد وجود الطعم في الحلق لا يؤدي إلى الفطر.

- لأن وجود الطعام في الحلق لا يستلزم نزول الشيء إلى المعدة. بدليل: أن الإنسان لو وطئ حنظلة برجله لوجد كعمها في حلقه مع أنه قطعاً لا يوجد في الحلق شيء نزل إلى المعدة. وهذا القول الثاني هو الراجح إذا لم يعلم قطعاً أنه وصل إلى معدته شيء. وإنما كان هذا القول راجح لما ذكرت من الأدلة ولأنه غالباً نزول الطعان الذي ذاقه بغير إرادة ونحن أخذنا أن أي شيء يصل إلى المعدة بغير قصد لا يكون من المفطرات. • ثم قال - رحمه الله -: ويحرم: العلك المتحلل إن بلع ريقه. العلك المتحلل هو: عكس العلك القوي وهو الذي يزيده المضغ تفتتاً. فهذا النوع من العلك يحرم إجماعاً. - لأنه يؤدي إلى إفساد الصيام. إذ الإنسان إذا علك ما يتفتت فإن هذه الأجزاء المتفتتة من العلك ستنزل إلى المعدة وهو يعلم بذلك فصار مفسداً لصومه عمداً فهو محرم. ويستثنى من هذا إذا علك العلك ولم يبلعه بل لفظه. استثنى هذه الصورة عدد من أهل العلم من الحنابلة ومن غيرهم. والصواب والله أعلم أن هذه الصورة لا تستثنى لأن الإنسان لا يمكن أن يلفظ جميع أجزاء العلك المتفتت بل سيبقى بغير إرادته شيء في الفم. فالأقرب والله أعلم أن العلك المتفتت غير القوي لا يجوز أن يعلك في نهار رمضان وهو محرم. فإن ذهب شيء إلى حلقه: أفطر. وإلا فلا. فالتحريم شيء والفطر شيء آخر. • ثم قال - رحمه الله -: وتكره: القُبلة لمن تحرك شهوته. القبلة بالنسبة للشخص الذي تحرك القبلة شهوته: = تكره عند الحنابلة فقط. وتعليل الكراهة: - أن هذا العمل ربما أدى إلى فساد الصوم بخروج المني. وهذه المسألة فيها خلاف. فمع وجود النصوص فيها إلا أن أهل العلم اختلفوا فيها اختلافاً كثيراً جداً. = فالقول الأول: للحنابلة: أنها تكره لمن خشي على نفسه وتباح لغيره. = القول الثاني: أنها تكره مطلقاً. = القول الثالث: أنها تحرم. = القول الرابع: أنها مستحبة. وهذا مذهب ابن حزم - رحمه الله -. = القول الخامس: أنها مباحة. وتحرم إن علم من نفسه الإنزلاق في شهوته. وتكره إن ظن ذلك. إذاً هي إما أن تكون مباحة أو مكروهه أو محرمة. وهذا القول الخامس هو القول الصواب إن شاء الله.

وأما القول بالتفريق بين الشيخ والشاب فهو أضعف الأقوال. والدليل على رجحان القول الخامس: - حديث عائشة الذي تقدم معنا في البخاري أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يقبل ويباشر وهو صائم قالت: ولكنه كان أملككم لإربه. فعللت عائشة - رضي الله عنها - فعل النبي - صلى الله عليه وسلم - بأنه كان من الذين يملكون أنفسهم. - الدليل الثاني: ما ثبت في الصحيح أن رجلاً قبل امرأته ثم قال: اسألي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن ذلك. فسألت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: (أفعله أنا وهذه). فلما رجعت إلى زوجها. قال زوجها: رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: رجل غفر له ذنبه. فغضب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - غضباً شديداً وقال: (إني لأخشاكم لله وأعلمكم بما أتقي). فدل هذا الحديث على أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أراد أن يبين أن التقبيل جائز ما دام أن الإنسان يملك نفسه. وإذا جمعت بين حديث عائشة وحديث الرجل الذي قَبَّل خرج معك التفصيل المذكور في القول الخامس. • ثم قال - رحمه الله -: ويجب: اجتناب كذب وغيبة وشتم. قوله: (ويجب) مراده ويتأكد الوجوب. لأن اجتناب هذه الأشياء واجب للصائم ولغير الصائم. الكذب هو: الإخبار بخلاف الواقع. سواء كان عن أمر سلف أو سيأتي. والغيبة: ذكرك أخاك بما يكره. وقول العلماء: ذكرك: لا يعني تقييد الغيبة بالذكر فقد تكون الغيبة بالإشارة أو بالغمز أو بأي وسيلة تؤدي إلى ذكر أخاك بما يكره. فهذه الأشياء محرمة على غير الصائم ويتأكد التحريم في حق الصائم. لقول النبي - صلى الله عليه وسلم - (من لم يدع قول الزور والعمل به فليس لله حاجة أن يدع طعامه وشرابه). ولقوله - صلى الله عليه وسلم - (إذا كان يوم صوم أحدكم فلا يرفض ولا يفسق وإن سابه أحد أو قاتله فليقل: إني امرؤ صائم). فدل الحديثان صراحة على أنه يتأكد في حق الصائم أن يدع هذه الأشياء وما هو من جنسها. • ثم قال - رحمه الله -: وسن لمن شتم قوله: ((إِنِّي صَائِمٌ)). يسن لمن شتم أن يقول للشاتم: إني صائم. والدليل على هذا: - حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - السابق حيث نص على أنه إذا سبه أحد أو قاتله يقول: إني صائم.

ولم يبين المؤلف - رحمه الله -: هل يقول هذا الشيء جهراً أو سراًَ؟ وهل يفرق بين صوم الفرض أو النفل؟ وهذا التقسيم هو خلاف بين أهل العلم على ثلاثة أقوال: = القول الأول: أنه يقول هذا القول - إني صائم - جهراً في صوم رمضان وفي غيره يعني في الفرض والنفل. وإلى هذا ذهب شيخ الإسلام بن تيمية - رحمه الله -. واستدل على هذا القول: - بأن القول في الشرع في اللغة لا يصدق إلا على المنطوق المسموع ولا يصدق على ما إذا تحدث به الإنسان في نفسه. وأما قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: (عفي لأمتي عن ما حدثت به أنفسها) فسمى حديث النفس حديثاً فهو مقيد بحديث النفس. يعني: لا يمكن أن يأتي الحديث والقول الذي لا يراد به النطق إلا مقيداً كما في حديث عفي عن أمتي. = القول الثاني: أنه يقوله جهراً في رمضان وسراً في النفل. وإلى هذا ذهب المجد وذلك: - بعداً عن الرياء. إذاً يجهر فيه في رمضان لأنه لا رياء لأن الجميع صائم. وسراً في النفل خشية الوقوع في الرياء. وكما قلت لك إلى هذا ذهب المجد جد شيخ الإسلام. = والقول الثالث: يقوله سراً في النفل والفرض. واستدلوا: - بأن مراد النبي - صلى الله عليه وسلم - بهذا الحديث أن يقول الصائم ذلك وعظاً لنفسه وتذكيراً لها لا للآخرين. فوعظ النفس وتذكيرها يحصل بحديث النفس. والأقوال مرتبة حسب القوة فأقواها الأول ثم الثاني وأضعفها الثالث. والراجح من حيث الدليل كما قلت الأول أن الإنسان يقول ذلك القول سواء كان في رمضان يعني في الفرض أو في غيره يعني في النفل. • ثم قال - رحمه الله -: وتأخير سحور. السُحور: بالضم. يعني: نفس فعل الأكل. والسَّحور هو نفس الأكل. فبالضم الفعل وبالفتح ما يؤكل. والسَّحُور هي أكلة آخر الليل. وفي السَّحور مسألتان: - الأولى: حكمه: هو مستحب بإجماع أهل العلم. لقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: (تَسَحَّرُوا فإن في السَّحُوْرِ بركة). - الثانية: أنه يستحب تأخيره إلى قبيل الأذان. لأنه ثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه كان يتَسَحَّرُ ثم يقوم للصلاة. قيل للصحابي: كم كان بينهما؟ قال: قدر خمسين آية.

وقراءة خمسين آية من الآيات المتوسطة لا يأخذ وقتاً طويلاً مما يدل على قرب الأكل من الأذان. وتأخير السحور محل إجماع. • ثم قال - رحمه الله -: وتعجيل فطر. يعني: ويستحب أن يعجل الفطر إذا تيقن أو غلب على ظنه غروب الشمس. والدليل على استحباب ذلك: - قوله - صلى الله عليه وسلم -: (لا يزال الناس بخير ما عجلوا الفطر). - ولأن مسروق - رحمه الله - جاء إلى عائشة - رضي الله عنها - وقال: رجلان من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - أحدهما يعجل الفطر والصلاة والآخر يؤخر الفطر والصلاة. قالت: أيهما الذي يعجل. قال: عبد الله. يعني: ابن مسعود. قالت - رضي الله عنها -: هكذا كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. ولم تسأل عن الآخر وهذا من الأدب أدب عائشة - رضي الله عنها - ولم يذكر اسمه مسروق وأيضاً هذا من أدبه - رحمه الله -. إذاً التعجيل ثابت بالنص: (لا يزال الناس بخير ما عجلوا الفطر) , وبالإجماع. فدل عليه النصوص والإجماع. ثم بين ما يفطر عليه الصائم: • فقال - رحمه الله -: على رطب فإن عدم فتمر فإن عدم فماء. السنة: أن يفطر الإنسان إذا كان يجد ويتيسر له: على رطب. فإن لم يجد فعلى تمر. وهو اليابس من ثمر النخيل. فإن لم يجد فعلى ماء. والدليل على هذا التفصيل: - حديث أنس - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (ليفطر أحدكم على رطب فإن لم يجد فعلى تمر فإن لم يجد حسا حسوات من ماء). وهذا الحديث صحيح إن شاء الله وممن صححه الإمام الكبير الدارقطني. فهو حديث ثابت وهو نص في سنية هذا الترتيب: أن يكون أولاً على رطب. ثم على تمر. ثم على ماء. (((وهل تتحقق السنية بإخراج الرطب من الثلاجة؟ أو لابد من أن يكون مجتنى حديثاً من النخلة؟ هذه المسألة ترجع لأي شيء؟ يعني: كيف نرجح بناء على ماذا نرجح؟ ننظر في اللغة. يعني: هل التمر الذي يخرج من الثلاجة رطب أو تمر؟ الجواب: رطب لأن الرطب هو التمر اللين من ثمرة النخيل. إذاً تتحقق به السنة. ولعل بعض الناس يذهب ذهنه إلى أن الرطب هو الذي يجنى حديثاً من النخلة. ولا يظهر ذلك بل متى أخرجه من الثلاجة وصدق عليه أنه رطب فهو رطب وتتحقق به السنة. • ثم قال - رحمه الله -: وقول ماورد.

يعني: ويشرع له أن يقول ماورد في السنة مما يشرع للصائم عند فطره أن يقوله: - كقوله: (اللهم لك صمت وعلى رزقك أفطرت). - وكقوله: (ابتلت العروق وثبت الأجر إن شاء الله). وله ألفاظ. والأحاديث التي رويت في دعاء الإفطار كلها ضعيفة لا يثبت منها حديث. لكن بعض العلماء يرى أن هذه الأحاديث بمجموعها تصبح صحيحة. وبعضهم يقول: لم يثبت في دعاء الفطر حديث. ومما يشكل في الحقيقة على ثبوت هذه الأحاديث أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لو كان يقول هذا الذكر في كل يوم من رمضان لمدة تسع رمضانات لنقل. ولنقل بإسناد صحيح. والسبب في أنه يفترض في مثل هذا أن ينقل بإسناد صحيح كثرة وقوعه وحاجة الناس إليه لأنه يومياً يفطر - صلى الله عليه وسلم - هذا عدا أنه - صلى الله عليه وسلم - ثبت في الأحاديث الصحيحة كما سيأتينا أنه يصوم ثلاثة أيام ويصوم الإثنين والخميس وعاشوراء وعرفة إذا لم يحج وأشياء كثيرة مما يصومه - صلى الله عليه وسلم - ولم ينقل بإسناد صحيح أنه قال هذه الأذكار. مما يرجح عدم ثبوتها. وبعض العلماء يقول: أنها أذكار أسانيدها ليست ضعيفة ضعفاً شديداً فتقبل ويقوي بعضها بعضاً. 0 وفيها تردد. ومما يلحق بهذا مسألة إجابة الدعاء فإنه جاء في الحديث أيضاً أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: إن دعوة الصائم عند فطره مجابة. وهذا الحديث أيضاً ضعيف والأحاديث التي فيها إجابة الدعاء عند الفطر أيضاً ضعيفة وما قيل في أذكار الافطار يقال تماماً في أن دعوة الصائم مجابة عند الفطر. • قال - رحمه الله -: ويستحب: القضاء متتابعاً. يعني: ويستحب أن يقضي ما عليه من أيام متتابعة. أي: ولا يجب. = وإلى هذا ذهب الأئمة الأربعة: أن قضاء مافات الإنسان ما أفطره في رمضان متتابعاً سنة وليس بواجب. واستدلوا: - بقوله تعالى {فعدة من أيام أخر} [البقرة/184] وليس في الآية ما يدل على تقييد ذلك بأن تكون متتابعة. وأما الدليل على أنه يستحب أن تكون متتابعة: - فالقاعدة المتفق عليها: (أن القضاء يحكي الأداء). ولولا الآية لكان الأصل وجوب قضاء هذه الأيام متتابعة. ثانياً: دلت الآية وفتاوى الصحابة على أن القضاء يجوز ولو لم يكن متتابعاً.

= وذهب ابن حزم إلى أنه يجب أن نقضي ما علينا من أيام رمضان متتابعة. واستدل: - بقوله تعالى: {وسارعوا إلى مغفرة من ربكم ... } [آل عمران/133] وفي قضائها متتابعة مسارعة في تحصيل الرحمة والمغفرة. والصواب مع الجماهير الذين معهم ظاهر القرآن وفتاوى الصحابة. • ثم قال - رحمه الله -: ولا يجوز إلى رمضان آخر من غير عذر. يجوز للإنسان أن يؤخر القضاء. بشرط: أن لا يدركه رمضان الثاني قبل أن يقضي ما عليه من رمضان الأول. فإن أَخَّر فهو آثم ويجب عليه أن يتوب وسياتينا هل يلزمه شيء آخر أو لا؟ والدليل على أنه يحرم تأخيره إلى بعد رمضان الآخر: - حديث عائشة - رضي الله عنها - أنها قالت: كان يكون عليَّ القضاء من رمضان فلا أقضيه إلا في شعبان وذلك لمكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مني. فدل أثر عائشة على أنها كانت تقول أنه كان يكون عليَّ من رمضان وأؤخر رمضان إلى درجة أن أقضي في آخر الوقت الممكن وهو شعبان. هذا الذي يفهم من الأثر وهذا الفهم الذي يفهم من هذا الأثر فهمه جمهور الأئمة: فقد فهموا من الحديث عدم جواز تأخير رمضان إلى ما بعد رمضان التالي. = وذهب بعض المحدثين إلى أن الحديث لا يدل على التحريم وهو قول ضعيف جداً ودلالة حديث عائشة على التحريم واضح جداً. • ثم قال - رحمه الله -: فإن فعل: فعليه مع القضاء إطعام مسكين لكل يوم. فإن فعل: أي أَخَّرَ بلا عذر فعليه مع القضاء أن يطعم عن كل يوم أَخَّرَهُ مسكيناً. = وإلى هذا ذهب الأئمة الثلاثة: أحمد والشافعي ومالك. واستدلوا على هذا: - بالآثار الصحيحة الثابتة عن ثلاثة من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - وهم: 1 - ابن عباس. 2 - وابن عمر. 3 - وأبو هريرة. رضي الله عنهم أجمعين وهم من علماء الصحابة ولا يعلم لهؤلاء مخالف لا من الصحابة ولا فيما أعلم من التابعين. أما من الصحابة فلا شك. وأما من التابعين فهذا الذي يظهر لي الآن أنه ليس لهم منهم مخالف فتلاميذ هؤلاء الأئمة أخذوا بفتاويهم. = والقول الثاني: وهو مذهب أبي حنيفة واختاره عدد من المحققين أنه لا يجب على الإنسان إلا أن يقضي. واستدلوا على هذا:

- بأنه ليس في السنة الصحيحة المرفوعة إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - ما يدل على الوجوب والأصل براءة الذمة وحرمة مال المسلم. • ثم قال - رحمه الله -: وإن مات ولو بعد رمضان آخر. قوله: (وإن مات). أي: إذا مات وقد ترك صيام رمضان فليس عليه إلا الإطعام. وهذه المسألة تنقسم إلى قسمين: ــ القسم الأول: أن يترك الإنسان القضاء بعذر ويستمر هذا العذر إلى الموت فهذا: لا يجب عليه شيء لا إطعام ولا غيره. والدليل على ذلك: - أن الصيام من الواجبات التي تجب لله فإذا عجز عنها ثم مات سقطت كالحج. وهذا لا إشكال فيه: أن من ترك القضاء لعذر ثم مات فإنه لا شيء عليه ولا يجب على الورثة أن يخرجوا من التركة ما يطعمون به إطعام مساكين عن هذا الميت. ــ القسم الثاني: أن يترك الصيام بلا عذر ثم يموت. فهذا على الورثة أن يطعموا. ومقصود المؤلف - رحمه الله - بقوله: (وإن مات) يعني: أنه يجب أن يطعموا ولا يشرع أن يصوم الأولياء. ففهم من كلام المؤلف أنه لا يشرع أن يصوم أحد عن أحد فرض الصيام إذا مات وعليه صيام. = وإلى هذا ذهب الأئمة الأربعة وعامة أهل العلم. واستدلوا: - بأن هذا مذهب عائشة وابن عباس الصحيح الثابت عنهما - رضي الله عنهما - مع أن عائشة - رضي الله عنها - وابن عباس - رضي الله عنه - هما اللذان رويا قوله - صلى الله عليه وسلم -: (من مات وعليه صيام صام عنه وليه). فدل على أنهما فهما أن هذا الحديث في صوم النذر دون صوم الواجب. - الدليل الثاني: أن حديث ابن عباس - رضي الله عنه - في صحيح البخاري فُسِّرَ في رواية: بأنه سأل النبي - صلى الله عليه وسلم - عن رجل نذر أن يصوم ثم مات. فقال: صُمْ عنه. فدلت هذه الرواية على أن الصيام الذي يقوم به الولي عن الميت صيام النذر دون الواجب بأصل الإسلام. - الثالث: قول ابن عباس - رضي الله عنه - لا أحد يصوم عن أحد ولا يصلي أحد عن أحد. قال شيخ الإسلام - رحمه الله -: وقد ضَعَّفَ بعض الناس هذا القول ولم يعرف غوره وهو قول الصحابة. = والقول الثاني: أنه إذا مات الإنسان وعليه صيام صام عنه وليه ولو كان من رمضان. وإلى هذا ذهب بعض الشافعية وأبو ثور وكثير من المتأخرين. واستدلوا:

- بعموم حديث عائشة - رضي الله عنها -: (من مات وعليه صيام صام عنه وَلِيَّه). والحديث عام ليس فيه تخصيص صيام دون صيام. واستدلوا: - بحديث ابن عباس. وهو كحديث عائشة في اللفظ الأول في الرواية الأولى أنه أمره بأن يصوم عنه ولم يقيد ذلك بالنذر. والأقرب والله أعلم قول الأئمة الأربعة. وليس من المناسب في مثل هذه المسألة فيما أرى - ليس من المناسب أن نقول العبرة بما روى لا بما رأى. وجه ذلك: أن عائشة وابن عباس من أكابر الصحابة وأكثرهم علماً وفقهاً بالذات عائشة وابن عباس فيبعد جداً أن يخالفا الحديث بمجرد الرأي بل الأقرب أنهم فهموا أن هذا مراد النبي - صلى الله عليه وسلم - من دلالة الحال. وليس لعائشة ولا لابن عباس أن يخصصوا هذا الحديث برأيهم المجرد فإن هذا يبعد جداً. ولهذا: لعل هذا الذي أقول - لعله - هو الذي يشير إليه شيخ الإسلام - رحمه الله -. وكذلك هكذا فهم الأئمة الأربعة وغيرهم من أئمة المسلمين - فهموا أن هذا الحديث يحمل على النذر دون ما وجب بأصل الإسلام وهو صيام رمضان. • ثم قال - رحمه الله -: ولو بعد رمضان آخر. يعني أنه لا يجب عليه إذا ترك القضاء إلى الرمضان التالي ثم تركه أيضاً إلى الثاني أو إلى الثالث أو إلى الرابع أو إلى أكثر لا يجب عليه إلا إطعام مسكين واحد عن كل يوم. واستدلوا على هذا: - بأن ما وجب بسبب التأخير لا يزيد مع زيادة التأخير. كما إذا أَخَّرَ الحج سنين فليس عليه إلا أن يحج مع أنه آثم في كل سنة يؤخر فيها الحج إذا كان مستطيعاً. كذلك هنا نقول: الواجب عليك إطعام مسكين ولا يزيد هذا الواجب ولو أَخَرْتَهُ إلى أكثر من رمضان. • ثم قال - رحمه الله -: وإن مات وعليه صوم ... استحب لوليه قضاؤه. إن مات وعليه صوم يعني: منذور. فإن مات وعليه صوم منذور فصام عنه وليه. = وإلى هذا ذهب الإمام أحمد وكثير من فقهاء الحديث. واستدلوا: - بقوله - صلى الله عليه وسلم -: (من مات وعليه صيام صان عنه وليه). وإذا لم نحمل هذا الحديث على صيام النذر ولا على صيام الفريضة بقي لا معنى له. ولا يمكن أن يصدر عن النبي - صلى الله عليه وسلم - كلام لا معنى له فوجب حمله على النذر.

- الدليل الثاني: أنه صح عن عائشة وابن عباس أنه إذا نذر الإنسان ومات قبل أن يفي بلا عذر صام عنه وليه. قالوا: والفرق بين: الصيام الواجب بالنذر والصيام الواجب بأصل الإسلام أن الأصل في الصيام الواجب بالنذر أنه لا يجب وإنما أوجبه المكلف على نفسه وبهذا أشبه الدين فصار مما تدخله النيابة. وهذا كلام جيد وصحيح: أن الصيام الواجب بالنذر الأصل عدم وجوبه إنما وجب بإيجاب الإنسان له على نفسه فأشبه بذلك الدين وإذا أشبه الدين صارت النيابة تدخله. بالإضافة إلى تفريق الصحابة وهو في الحقيقة العمدة. فالعمدة أن الصحابة فرقوا بين النذر وغير النذر. وهذا القول الأول: من مفردات الحنابلة. = القول الثاني: وهو مذهب الأئمة الثلاثة أنه لا يقضي أحد عن أحد صيام النذر وإنما يطعم فقط. - لعموم قوله تعالى: { ... ولا تزر وازرة وزر أخرى ... } [الأنعام/164]. - وعموم قوله تعالى: {وأن ليس للإنسان إلا ما سعى} [النازعات/35]. - ولعموم أثر ابن عباس: (لا يصم أحد عن أحد ولا يصلي أحد عن أحد) وهذا يشمل الواجب بالنذر وبغيره. والراجح مذهب الإمام أحمد لصحة حديث عائشة - رضي الله عنها -. ومن العجائب أن الأئمة الثلاثة - رحمهم الله - لم يأخذوا بحديث عائشة لا بالنذر ولا بما وجب بأصل الشرع أما الإمام أحمد - رحمه الله - فعمله ليس بعجيب لأنه وافق الصحابة فأخذ بأقوالهم وفهم النصوص كما فهموها. بينما الإمام مالك والشافعي وأبو حنيفة لم يأخذوا بحديث عائشة وابن عباس جملة وتفصيلاً لا في النذر ولا فيما وجب بأصل الإسلام وهو رمضان وهو غريب وأنا أتعجب من أنه الأئمة الثلاثة لم يأخذوا بهذا الحديث مع صحته ووضوحه فالنبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: (من مات وعليه صيام صام عنه وليه). فهو نص صريح في المسألة. • ثم قال - رحمه الله -: أو حج. يعني: إذا نذر الإنسان أن يحج ثم مات حج عنه وليه. - لما ثبت في الصحيح: أن امرأة جاءت إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - وقالت إن أمي نذرت أن تحج وماتت ولم تحج أفأحج عنها فقال - صلى الله عليه وسلم -: (حجي عن أمك). وبالنسبة للحج يجوز للإنسان أن يحج عن غيره سواء كان الحج واجباً بالنذر أو كان حجة الإسلام.

- لأن رجلاً جاء إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - وقال: إن فريضة الله أدركت أبي شيخاً كبيراً لا يثبت على الراحلة أفأحج عنه؟ فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: (حج عن أبيك). فدل الحديثان على أن النيابة تدخل الحج فيما كان منذوراً وما كان واجباً وهو حجة الإسلام. • ثم قال - رحمه الله -: أو اعتكاف. يعني: يجوز للإنسان أن يعتكف عن غيره إذا نذر هذا الغير أن يعتكف ثم مات قبل أن يعتكف. والدليل على ذلك: - القياس على الصيام. فقط هذا هو الدليل: كما أنه يجوز ذلك في الصيام كذلك يجوز في الاعتكاف. • ثم قال - رحمه الله -: أو صلاة نذر. فإذا نذر اإنسان وقال: لله عَلَيَّ نذر أن أصلي ثم مات ولم يصلي: = فعند الحنابلة وهو الرواية الأول عن الإمام أحمد - رحمه الله - أنه يصلي عنه. واستدلوا: - أيضاً: بالقياس على الصيام. والجامع بينهما أن كلاً منهما عبادة. = والقول الثاني: وهو رواية عن الإمام أحمد - رحمه الله - أنه لا يشرع أن يصلي أحد عن أحد ولو نذر الصلاة ومات ولا نقول: ولو فنحن نتكلم الآن عن الصلاة المنذورة أصلاً. إذاً القول الثاني وهو رواية عن الإمام أحمد أنه لا يصلي أحد عن أحد الصلاة التي نذرها. واستدلوا على ذلك: - بأنه يوجد فرق بين الصلاة والصيام وهذا الفرق هو أن الصلاة عبادة بدنية محضة لا يدخلها المال بخلاف الصوم فإنه عبادة بدنية قد يدخلها المال فيما إذا لم يستطع أن يصوم فإنه يمكنه أن يطعم. فافترقا من هذه الجهة. والفرق الثاني: بين الصلاة والصيام: أن الصلاة أجمع الفقهاء على أن الصلاة المفروضة لا يصليها أحد عن أحد بينما الصيام تقدم معنا أن الصيام المفروض فيه خلاف فدل على أن بينهما فرقاً. وفي الحقيقة فيها إشكال: مسألة الصلاة: يعني لو أن إنساناً قال لله عليَّ نذر أن أصلي ثم مات فيها إشكال فالأقوال فيها متقاربة. والأقرب والله أعلم: أنه لا يصلي لأنه لم يعهد من الشارع أبداً النيابة في الصلاة بينما تنجد الحج فيه نصوص والصيام فيه نصوص واضحة أما الزكاة فأمرها أوضح من هذا بكثير.

باب صوم التطوع

فإذا وجدنا النصوص في الصيام وفي الحج ولك نجد في الصلاة أي دليل يدل على عدم النيابة مع وجود أثر ابن عباس: (لا يصلي أحد عن أحد) يجعل الإنسان يميل إلى أنه لا يصلي أحد عن أحد لا النذر ولا الفريضة. باب صوم التطوع. • ثم قال - رحمه الله -: باب صوم التطوع. • قال بعده - رحمه الله -: يسن صيام أيام البيض. أيام البيض ... (((الأذان))) ... بعد الأذان))). قال الشارح حفظه الله: • قال المؤلف - رحمه الله - باب صوم التطوع. أراد المؤلف - رحمه الله - أن يبين أحكام صيام التطوع بهذا الباب وما يتعلق بأيهم أفضل؟ وما يكره من الصيام. وما يتعلق بهذه الأحكام. يقول - رحمه الله - يسن صيام أيام البيض. صيام أيام البيض سنة = عند الجمهور. والأيام البيض هي: الثالث عشر والرابع عشر والخامس عشر. وسميت بهذا الاسم لشدة ضوء القمر. وصيام أيام البيض نتكلم عنه في مسألتين: ــ المسألة الأولى: صيام ثلاثة أيام بغض النظر عن أن تكون في البيض أو في غيرها. فهذا سنة بالإجماع والنصوص المستفيضة تدل على أنه ثابت: - كحديث أبي هريرة - رضي الله عنه - أنه قال: (أوصاني خليلي - صلى الله عليه وسلم - أن أوتر قبل أن أنام وأن أصلي سبحة الضحى وأن أصوم من كل شهر ثلاثة أيام). - وأيضاً ثبت في الصحيح أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمر عبد الله بن عمرو بن العاص أن يصوم من كل شهر ثلاثة أيام. - وأيضاً ثبت في الصحيح من حديث عائشة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يصوم من كل شهر ثلاثة أيام قيل لها - رضي الله عنها - في أي الأيام يصوم؟ قالت كان - صلى الله عليه وسلم - لا يبالي أي الأيام صام. فهذه الأحاديث تدل دلالة صريحة على أنه يستحب صيام ثلاثة أيام من كل شهر. ــ المسألة الثانية: أن يجعل الإنسان هذه الأيام الثلاثة توافق البيض وهي اليوم: الثالث عشر والرابع عشر والخامس عشر. وجاء في هذا الباب وهو استحباب صيام البيض أحاديث كثيرة نحو أربعة أحاديث منها: - حديث أنس - رضي الله عنه -. - ومنها حديث جرير - رضي الله عنه -. وكل الأحاديث المروية في صيام الأيام البيض - كلها ضعيفة. لكن ضعف هذه الأحاديث ضعف يسير وليس بالضعف الشديد:

= فمن العلماء من يصححها وهم عامة المتأخرين بمجموع الطرق والألفاظ والشواهد يصححون مشروعية صيام ثلاثة أيام. ومنهم من يرى أن هذا الباب لا يثبت فيه حديث لضعف الأحاديث. وفي الحقيقة صيام ثلاثة أيام - صيام البيض أحاديث البيض تقبل التقوية إلا أنه يشكل عليها حديث عائشة - رضي الله عنها - وهي أنها ذكرت أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يكن يبالي أي الأيام يصوم. يعني: لم يكن يحرص على موافقة البيض. فهذا الحديث يشكل على الأحاديث التي في الباب. فإما أن يقال أنها لم تقف - رضي الله عنها - على أنه - صلى الله عليه وسلم - كان يحب أن يوافق الأيام البيض أو أن مشروعية صيام الأيام البيض جاء متأخراًَ أو أي جواب ممكن أن يجاب به عن حديث عائشة متى أردنا أن نصحح أحاديث الأيام البيض. والأمر في هذا يسير لأنه ما دام ثابتاً فإنه - صلى الله عليه وسلم - يصوم ثلاثة أيام فكون الإنسان يجعل هذه الثلاثة أيام توافق الأيام البيض لا يضر ويحصل على فضيلة موافقة هذه السنة من غير ضرر. • ثم قال - رحمه الله -: والاثنين والخميس. أولاً: الاثنين: صيام يوم الاثنين ثابت في صحيح مسلم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يصوم يوم الاثنين ويقول: هو يوم ولدت فيه. وأشار الإمام مسلم في صحيحه إلى أن رواية كان يصوم الاثنين والخميس في هذا الحديث ضعيفة. ثانياً: صيام يوم الخميس: يوم الخميس جاء فيه أحاديث كثيرة منها: حديث أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يصوم يوم الاثنين والخميس ويقول هما يومان تعرض فيهما الأعمال على الله فأحب أن يعرض عملي وأنا صائم. وهذا الحديث يقبل أنه حديث حسن إن شاء الله بمجموع طرقه وبشواهده الكثيرة يقبل التحسين. لكن يجب أن تعلم أن حديث الاثنين في مسلم بينما حديث الخميس في السنن وهو صحيح بشواهده وطرقه. فثبت بهذا أن صيام يوم الاثنين والخميس مشروع إن شاء الله. والله أعلم وصلى الله وسلم على نبينا محمد ... انتهى الدرس،،،

قال شيخنا حفظه الله: بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين. • قال المؤلف - رحمه الله -: وست من شوال. صيام الست من شوال سنة استحبها جماهير أهل العلم. - لقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: (من صام رمضان وأتبعه بست من شوال كان كصيام الدهر). وفضيلة صيام الست تحصل سوتء صامها متتابعة أو متفرقة في أول الشهر أو في آخره لإطلاق الحديث إلا أن عدداً من السلف استحب أن يبادر بها لأن لا يشتغل عنها فتفوته. - - مسألة: اختلف أهل العلم هل يشترط في صيام الست أن يكون أتم صيام رمضان؟ اختلفوا فيها على قولين: = القول الأول: أنه لا يصوم الست إلا إذا أتم رمضان. - لقوله - صلى الله عليه وسلم -: (من صام رمضان) , ومن أفطر بعض رمضان لا يصدق عليه أنه صام رمضان بل صام بعض رمضان. = والقول الثاني: أنه لا يشترط بل إذا صام الإنسان رمضان جملة وإن أفطر بعضه جاز له أن يؤخر القضاء وأن يبدأ بصيام الست. واستدلوا على ذلك: - بأن من صام رمضان وأفطر منه يوماً أو يومين فإنه يصدق عليه بأنه صام رمضان. - وبحديث عائشة الذي تقدم معنا وهو قولها - رضي الله عنها - كان يكون علي قضاء من رمضان فلا أقضيه إلا في شعبان. ووجه الاستدلال أنه يبعد أن عائشة - رضي الله عنها - لم تكن تصوم الست من شوال فإذا كانت تصوم الست من شوال فهي تصوم قبل القضاء. والأقرب لظاهر الحديث أن الإنسان لا يصوم إلا بعد القضاء. • ثم قال - رحمه الله -: وشهر المحرم. يعني: ويسن أن يصوم الإنسان شهر الله المحرم. - لقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: (أفضل الصيام بعد رمضان صيام شهر الله المحرم). فدل هذا الحديث على أن صيامه مندوب إليه مستحب. • ثم قال - رحمه الله -: وآكده العاشر. أي آكد أيام الشهر المحرم اليوم العاشر وهو يوم عاشوراء. فتعريف عاشوراء أنه اليوم العاشر من الشهر المحرم. ودليل (الاستحباب): - قوله - صلى الله عليه وسلم -: (أحتسب على الله أن يكفر السنة التي قبله) وهو حديث صحيح. والسنة أن يصوم الإنسان اليوم العاشر ويوماً قبله ويوماً بعده وإلا يصوم العاشر ويوماً قبله أو بعده ويجوز أن يفرد العاشر بالصيام.

وجواز إفراد العاشر بالصيام = مذهب الحنابلة فيجوز بلا كراهة واختاره شيخ الاسلام وابن القيم - رحمهما الله -. - لعموم الحديث حيث فيه أن من صام العاشر فإنه يغفر له السنة التي قبله. • ثم قال - رحمه الله -: ثم التاسع. صيام اليوم التاسع من شهر المحرم متأكد يأتي في المرتبة الثانية بعد العاشر. بناء على هذا من أراد أن يصوم العاشر ويوماً فقط فالأحسن أن يصوم التاسع بدل أن يصوم الحادي عشر لأن اليوم التاسع يأتي في الأفضلية والآكدية بعد اليوم العاشر. والدليل على استحباب اليوم التاسع: - ما أخرجه مسلم في صحيحه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما صام عاشوراء قالوا له: إنه يوم تعظمه اليهود فقال: لأن عشت إلى قابل لأصومن التاسع. يعني مع العاشر. فهذا دليل على أنه يستحب للإنسان إذا أراد أن يصوم العاشر أن يجمع إليه التاسع. فإن جمع معهما الحادي عشر فهو أطيب وأكمل. • ثم قال - رحمه الله -: وتسع ذي الحجة. يعني: ويسن أن يصوم الإنسان تسع ذي الحجة أي من اليوم الأول إلى اليوم التاسع من شهر ذي الحجة. - لقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: (ما من أيام العمل الصالح فيهن أحب إلى الله من العشر قالوا: يا رسول الله ولا المجاهد في سبيل الله قال ولا المجاهد في سبيل الله إلا من خرج بنفسه وماله ولم يرجع من ذلك بشء). فقوله: (ما من أيام العمل الصالح) دليل على أفضلية الصيان في هذه الأيام لأن الصيام من جملة العمل الصالح. = وإلى مشروعية الصيام ذهب الجماهير. فإن قيل: أنه ثبت عن عائشة - رضي الله عنها - أنها قالت ما صام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - العشر قط. فالجواب: أن الإمام أحمد - رحمه الله - سلك مسلكين في الجواب عن هذا الحديث: - الأول: قال - رحمه الله -:أن حديث عائشة هذا فيه اختلاف ورواه بعضهم مرسلاً وروي عن حفصة إثبات الصيام. فكأن الوجه الأول يشير فيه الإمام أحمد إلى نوع ضعف ولا يظهر من عبارة الإمام أحمد أبداً أنه يضعف الحديث لكن يشير إلى أنه فيه ضعف.

- الثاني: قال الإمام أحمد - رحمه الله - أن المراد في حديث عائشة نفي استغراق العشر في الصيام: يعني: أنه لم يصم جميع العشر - صلى الله عليه وسلم - فأرادت نفي جميع العشر. والمثبت في حديث حفصة صيام بعض العشر. وبهذا يكون - رحمه الله - جمع بين حديث حفصة وبين حديث عائشة. بناء على هذا - على الجمع الأخير: نقول لا ينبغي استغراق العشر صياماً. فلا ينبغي أن يستغرق الإنسان جميع أيام العشر بالصيام. هذا إذا أردنا أن نجمع بالجمع الثاني وأنا أرى أنه وجيه وجيد وهو أقوى من الوجه الأول الذي ذكره الإمام أحمد - رحمه الله -. • ثم قال - رحمه الله -: ويوم عرفة لغير حاج بها. يشرع للإنسان الذي لم يحج أن يصوم يوم عرفة. - لقول النبي - صلى الله عليه وسلم - عن صيام يوم عرفة: (أحتسب على الله أن يكفر السنة التي قبله والسنة التي بعده). فدل الحديث على مشروعية الصيام بالنسبة لغير الحاج وأنه يوم أحب الشارع فيه أن يصبح الإنسان صائماً. • ثم قال - رحمه الله -: لغير حاج بها. أي: لا يشرع أن يصوم الإنسان في يوم عرفة. والدليل على هذا: - ما ثبت في الصحيح أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أوتي بقدح من لبن في يوم عرفة فشربه والناس ينظرون. - - مسألة: الحكمة من النهي عن صيام يوم عرفة للحاج: اختلفوا فيها: - الأول: ذهب شيخ الإسلام - رحمه الله - إلى أن الحكمة أن يوم عرفة عيد وكل عيد لا يصام. - الثاني: أن العلة في النهي عن صيام يوم عرفة ليتقوى الحاج على عبادة الله والدعاء والابتهال والتضرع. والأقرب والله أعلم أن الحكمة مركبة من الأمرين ولا مانع. فهو لا يصام لأنه عيد وليتقوى فيه الحاج. - - مسألة: حكم الصيام: اختلفوا في حكم الصيام - بعد أن عرفنا أنه ليس بمشروع اختلفوا فيه: = [القول الأول]: فذهب بعض العلماء إلى أنه لا يستحب أن يصوم الإنسان يوم عرفة. = والقول الثاني: أنه جائز بلا كراهة. = والقول الثالث: أنه مستحب ما لم يضعف الحاج. = والقول الرابع: أنه مكروه. والقول بالكراهة قريب من القول من أنه لا يستحب وهو مذهب الحنابلة - مسألة: أنه لا يستحب هو مذهب الحنابلة.

عرفنا من الخلاف أن الجماهير لا يرون أن الصيام محرم فليس في الأقوال أنه محرم فلم يذهب إلى التحريم إلا عالم واحد من السلف وهو يحيى بن سعيد الأنصاري فقال: لا يجوز أن يصوم الإنسان يوم عرفة , أما عامة علماء الأمة فأقوالهم تدور بين الكراهة والإباحة. والراجح والله أعلم. أنه يدور بين الكراهة والتحريم. • ثم قال - رحمه الله -: وأفضله: صوم يوم وفطر يوم. أفضله: الضمير يعود إلى: صوم التطوع. فأفضل الصوم الذي للتطوع أن يصوم الإنسان يوماً ويفطر يوماً. والدليل على هذا: - ما ثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: (أفضل الصيام صيام داود كان يصوم يوماً ويفطر يوماً). وصيام يوم وإفطار يوم هو أفضل أنواع صيام التطوع من حيث الأصل وقد تصبح مفضولة عند بعض الناس كمن يعوقه الصيام عن أداء الواجبات أو عن أداء عبادة هي أفضل من الصيام يوماً والإفطار يوماً. كأن تتعلق به مصالح عامة أو يتعلق به بيان الناس وإرشادهم ووعظهم. ولعله لهذا الأمر لم ينقل أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يصوم يوماً ويفطر يوماً. أي لأنه يقوم بما هو أفضل وأعظم من صيام يوم وإفطار يوم. وربما أن السبب في عدم صيام النبي - صلى الله عليه وسلم - يوم وإفطار يوم لكي لا يدخل المشقة على الناس لأنه لو كان يفعل ذلك لحرص كثير من الناس على الاقتداء به فدخل عليه المشقة. لأن الناس يحبون الاقتداء بما فعله - صلى الله عليه وسلم - أكثر مما قاله ولم يفعله. وبعد أن بين الأيام التي يسن ويحب الشارع أن تصام انتقل إلى المكروهات وبعدها سيذكر المحرمات. • فقال - رحمه الله -: ويكره: إفراد رجب ... بصوم. يكره للإنسان أن يفرد شهر رجب بالصوم لأمرين: - الأول: أن في هذا تشبهاً بالجاهليين لأنهم كانوا يعظمون هذا الشهر. - والثاني: أن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - كان ينهى عن ذلك. - والثالث: أنه لم يثبت في حديث صحيح ولا حسن أن الشارع حث على صومه وجميع الأحاديث التي في الباب ضعيفة جداً أو موضوعة. - - مسألة: وتزول الكراهة بأحد أمرين: - الأول: أن لا يستكمل شهر رجب بالصيام. يعني: أن يصوم بعض الأيام ويفطر بعض الأيام فتزول الكراهة.

- الثاني: أن يصوم مع شهر رجب شهراً آخر سواء كان هذا الشهر الثاني يلي رجب أو هو شهر بعيد عن رجب فلا يشترط فالمهم أن لا يفرد شهر رجب من بين شهور السنة بالصيام. إذاً تلخص عندنا أن الكراهة تزول بأن يصوم ويفطر في شهر رجب أو أن يصوم رجب كاملاً ويصوم معه شهراً آخر. - - مسألة: لم يتطرق المؤلف إلى غير شهر رجب هل يكره أن يصوم الإنسان جميع الشهر في غير شهر رجب؟ اتفق الفقهاء أنه لا يكره إلا في شهر رجب. أما ما عداه من الشهور فإنه يستحب ولا يكره أن يصوم الإنسان جميع الشهر لأن هذا الصيام يدخل في العمومات التي تحث المسلم على الصيام مالم يعتقد أن للشهر الفلاني الذي صامه مزية معينة شرعية فحينئذ يحرم الصيام لأنه يكون بدعة. وعرفنا من هذا التفصيل أن الإنسان يحرم عليه أو يكره له أن يصوم جميع شهر رجب ولو بدون اعتقاد فهذا الشهر لايستكمل صياماً لما فيه من التشبه. • ثم قال - رحمه الله -: والجمعة. يعني: ويكره أن يفرد الإنسان الجمعة بالصيام. - لقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: (لا تصوموا يوم الجمعة إلا أن تصوموا يوماً قبله أو يوماً بعده). - وقوله في صحيح مسلم: (إلا أن يكون في صوم يصومه أحدكم). يعني: إذا وافق الجمعة صيام أيام اعتاد الإنسان أن يصومها فلا بأس أن يصومها. وتزول الكراهة بأن يصوم يوماً قبله أو يوماً بعده. - - مسألة: فهم من الأحاديث أن المنهي عنه هو تقصد الجمعة بالصيام. فإن صام الجمعة لا قصداً وإنما لأنه هو المتيسر فقد أفتى الإمام أحمد أن من صام الجمعة بلا قصد فلا بأس. وفي الحقيقة أن هذا يفهم من الأحاديث لأن الشارع الكريم أجاز أن يصوم الإنسان الجمعو مفرداً إذا كان في صوم يصومه الإنسان مما يدل على أن الإنسان إذا صامه لا قصداً له وإنما لكونه صادف وقتاً متيسراً له أو صادف صوماً هو اعتاد أن يصومه فلا بأس بذلك. بناء عليه: الذين يشتغلون طيلة أيام الأسبوع في دوام لا يتمكنون معه من الصيام لمشقة العمل أو لأي أمر آخر فإنه لا حرج عليهم فيما أرى أن يصوموا يوم الجمعة لكونه هو المتيسر لا لأنه يوم الجمعة. بدليل: - أن إجازة هذا الموظف لو وافقت غير الجمعة لصامه أيضاً مما يدل على أنه لم يتقصد يوم الجمعة.

ففي هذه الصورة لا بأس إن شاء الله أن يصوم ولا حرج عليه. = القول الثاني: أن صيام يوم الجمعة محرم. - لقوله: (لا تصوموا). والأصل في النهي التحريم. وإلى هذا ذهب شيخ الاسلام - رحمه الله - أخذاً بظاهر الحديث. ولأن النبي - صلى الله عليه وسلم - دخل على بعض أزواجه وهي صائمة في يوم الجمعة فقال أصمت بالأمس قالت لا ثم قال أتصومين غداً قالت لا قال إذاً أفطري. فأمرها بالفطر وقطع العبادة. وهذا هو الراجح: أنه لا يجوز أن يتقصد الجمعة لأن هذا فيه محادة للشارع. فإن الشارع ينهى عن تقصد صيام يوم الجمعة وهو يتقصد صيام يوم الجمعة فالأقرب ما قاله شيخ الاسلام - رحمه الله - أنه محرم. • ثم قال - رحمه الله -: والسبت. يعني: ويكره إفراد السبت بالصيام. والدليل على كرهية إفراد السبت بالصيام: - ما روي أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (لا تصوموا يوم السبت إلا فيما افترض عليكم). وتزول الكراهة بأن يصوم يوماً قبله أو يوماً بعده. بدليل: - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما نهى عن صيام يوم الجمعة أمر بأن يصام معه يوم قبله أو يوم بعده واليوم الذي بعده هو السبت. = والقول الثاني: وإليه ذهب جماهير علماء المسلمين: أن صيام السبت على سبيل الإفراد أو التبع جائز ولا حرج فيه. وإلى هذا ذهب عدد من المحققين الأفذاذ منهم شيخ الاسلام بن تيمية - رحمه الله -. وأجابوا عن الحديث الذي فيه: لا تصوموا يوم السبت. بأنه حديث شاذ منكر ولا يثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وإن ثبت فهو منسوخ. لكن الجواب الصحيح عندي أنه حديث ضعيف ضعفه عدد كبير من الحفاظ منهم: الإمام أحمد والإمام مالك والإمام النسائي وغيرهم من الحفاظ. وقد أبعد جداً من صحح هذا الحديث من المعاصرين وخالف ما عليه جمهور الأئمة من تضعيف هذا الحديث. فالراجح بناء على التقرير جواز إفراد السبت بالصيام. فلو أراد الإنسان أن يصوم السبت فقط تطوعاً لله وتقرباً فلا حرج عليه. • ثم قال - رحمه الله -: والشك. يعني: يكره أن يفرد الإنسان صيام يوم الشك. ونحتاج إلى مسألتين: الأولى: ما هو يوم الشك؟. والثانية: الدليل.

- فالمسألة الأولى: ما هو يوم الشك: = عند الحنابلة هو يوم الثلاثين من شعبان إذا كانت السماء صحو ولم ير الهلال. فحكم صيامه: أنه مكروه. = القول الثاني: أن يوم الشك هو يوم الثلاثين من شعبان إذا كان على السماء غيم أو قتر أو غبار. والراجح هو القول الثاني: - لأن يوم الثلاثين إذا كانت السماء صحواً ولم ير الهلال فلا يوجد شك بل الأمر متضح أن شهر رمضان لم يدخل. - والمسألة الثانية: الدليل على الكراهة. - الأول: قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: (لا تقدموا رمضان بصوم يوم ولا يومين). ومن صام يوم الشك فقد تقدم رمضان إما بيوم أو بيومين. - والثاني: قوله - صلى الله عليه وسلم -:من صام اليوم الذي يشك فيه فقد عصا أبا القاسم. وصيام يوم الشك مكروه عند الحنابلة. = والقول الثاني: أنه محرم. - لأن المعصية في لفظ الشارع لا تكون على المكروه بل على المحرم. ويقصد بالنهي عن صيام يو م الشك إذا صامه الإنسان احتياطاً لرمضان. • ثم قال - رحمه الله -: ويحرم: صوم العيدين ولو في فرض. يعني: ويكره إفراد العيد للكفار بصوم. يكره للإنسان أن يفرد يوماً من أيام السنة يوافق عيداً من أعياد الكفار بالصيام. والدليل على الكراهة: - الأول: أن في إفراد هذا اليوم تعظيماً لشعائر المشركين والكفار ولا يجوز للمسلم أن يعظم شعائر الكفار. - والثاني: قوله - صلى الله عليه وسلم -: (من تشبه بقوم فهو منهم). وهذا قد تشبه بهم بتعظيم يوم يعظمونه. والذي يظهر من الأدلة أن إفراد يوم من أيام الكفار بالصيام محرم وليس بمكروه فقط لأن مقتضى الأدلة التي استدلوا بها أن هذا العمل محرم وليس بمكروه. ثم انتقل المؤلف - رحمه الله - إلى الأيام التي يحرم على الإنسان أن يصومها: • فقال - رحمه الله -: ويحرم صوم العيدين ولو في فرض. المقصود بالعيدين: عيد الفطر وعيد الأضحى. فلا يجوز للإنسان أن يصوم عيد الفطر ولا عيد الأضحى. - لأنه ثبت في الصحيح أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى عن صيان يوم الفطر ويوم الأضحى. فإن صام: فإن صيامه باطل. - لأنه منهي عن الصيام في هذين اليومين فصيامه فيها محادة للشارع. قوله: ولو في فرض.

لأن الحديث عام لم يستثن أن يكون هذا الصيام قضاء لفرض معين أو لنذر معين أونفل أو أي نوع من أنواع الصيام. • ثم قال - رحمه الله -: وصيام أيام التشريق. صيام أيام التشريق محرم. - لقول النبي - صلى الله عليه وسلم - أيام التشريق أيام أكل وشرب وذكر لله. بناء على هذا: من وجبت في ذمته كفارة صيام شهرين متتابعين فإنه يجب أن يفطر في أيام التشريق وهذا الفطجر لا يقطع التتابع لأنه لعذر شرعي. كما أنه أيضاً يفطر في يوم العيد تماماً لأن صيام هذه الأيام محرم بنص الحديث. فقد جعلها الشارع من أيام الأكل والشرب فكيف يجعلها الإنسان من أيام الإمساك عن الأكل والشرب. إذاً يحرم على الإنسان أن يصوم أيام التشريق. يستثنى من هذا ما ذكره المؤلف - رحمه الله -: • بقوله: إلاّ عن دم متعة وقران. إذا وجب على الإنسان في الحج دم متعة أو قران. يعني: من تمتع بالحج أو حج قارناً ووجبت عليه ذبيحة - دم - ولم يجد فإنه يجب أن يصوم فإذا وجب عليه الصيام جاز له أن يصوم في أيام التشريق. - لقول عائشة رضي الله عنها لم يرخص في أيام التشريق أن يصمن إلا لمن لم يجد الهدي. فهذا الحديث هودليل على تحريم صيامها وجوازه لمن لم يجد الهدي لأنها قالت لم يرخص. وتقدم معنا أن الرخصة تأتي في الأمر المحرم. • ثم قال - رحمه الله -: ومن دخل في فرض موسع: حرم قطعه. الفرض الموسع يقصد: بالموسع: يعني ك من جهة الوقت. كالصلوات المفروضة في أول أوقاتها أو قضاء رمضان قبل أن يتضايق الوقت أو النذر المطلق فكل هذه الأشياء واجبة وجوباً موسعاً. فإذا دخل الإنسان في هذا الواجب الموسع حرم عليه أن يقطعه. والدليل على هذا: - أنه شرع في الواجب فلا يجوز له أن يقطعه. - ولقوله تعالى: - (وَلَا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ) -[محمد/33]. فإذا بدأ الإنسان بالصيام حرم عليه أن يقطعه إذا كان قضاء أو نذر وإذا بدأ الإنسان بالصلاة وشرع فيها وكبر تكبيرة الإحرام فإنه يحرم عليه أن ينفتل من صلاته بل يجب عليه وجوباً أن يتم هذه الصلاة فإن قطعها فهو آثم لأن قطع العبادة الواجبة إذا شرع فيها الإنسان محرم ومن فعل محرما أثم. • ثم قال - رحمه الله -: ولا لايلزم: في النفل.

أي ولا يلزم الإنسان إذا شرع في النفل أن يتمه. فقوله: (ولا يلزم) يعني: الإتمام. سواء كان هذا النفل صلاة أوصيام أو صدقة أو ذكر أن تسبيح أو أي نوع من أنواع العبادات. والدليل على ذلك: - ما ثبت في الحديث الصحيح أن النبي - صلى الله عليه وسلم - دخل على عائشة فقالت أهدي لنا حيس فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - أرنينيه فقلد أصبحت صائماً. ففي هذا الحديث دخل النبي - صلى الله عليه وسلم - وقد عزم على صيام النفل ومع ذلك أفطر وأكل من هذا الطعام الذي أهدي لهم - صلى الله عليه وسلم - فدل هذا الحديث على أن الإنسان إذا بدأ بالنفل لا يجب عليه أن يقطعه. وهذا الحديث وإنكان في الصيام إلا أنه يقاس عليه كل العبادات. لكن ذهب الحنابلة إلى أن من شرع في نفل فيستحب له أن لا يقطعه مع الجواز. • ثم قال - رحمه الله -: ولا قضاءُ فاسده. أي لا يجب قضاء فاسد العبادة التي دخل فيها الإنسان على سبيل التنفل. فلا يجب أن يتمها زلا يجب أن يقضيها إذا فسدت. والدليل على هذا: - أن ما كان أصله ليس واجباً فلا يجب قضاء فاسده. • ويستثنى من هذا الحج كما قال المؤلف - رحمه الله -: إلاّ الحج. ويستثنى الحج في المسألتين: فيجب إتمام نفله. ويجب قضاء فاسده. إذاً الاستثناء بالنسبة للحج يرجع إلى المسألتين: الإمام والقضاء. وسيأتي مفصلاً في الحج إن شاء الله. ثم انتقل المؤلف - رحمه الله - إلى الكلام عن ليلة القدر: • فقال - رحمه الله -: وترجى ليلة القدر: في العشر الأواخر. ترجى ليلة القدر في العشر الأخير من رمضان لما - صح في البخاري ومسلم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (تحروا ليلة القدر في العشر الأخير من رمضان). - ولأن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يصوم العشر الأول ثم الوسطى ثم في سنة لما صام الوسطى وكان في معتكفه رفع الستر عن خباءه وتحدث مع الناس حتى اجتمعوا ثم قال: إنه قد أوحي إليًّ أن أتحراها في العشر الأخير فمن اعتكف في الوسطى فليعتكف معنا إن شاء في الأخيرة). فهذا الحديث نص مع الأحاديث السابقة على أن ليلة القدر يتحراها الإنسان في العشر الأخيرة من رمضان. • ثم قال - رحمه الله -: وأوتاره آكد.

الأوتار من العشر الأخيرة: هي خمس ليال: وهي اللبالي الأوتار: ليلة إحدى وعشرين وثلاث وعشرين وخمس وعشرين وسبع وعشرين وتسع وعشرين. هذه الليالي أرجاها: لقول النبي - صلى الله عليه وسلم - تحروا ليلة القدر في الأوتار من العشر. وهذا أيضاً حديث صحيح ثابت. وعلى هذا جماهير الأمة أن ليلة القدر أرجى في الآحاد منها في غيرها من الليالي في الأشفاع من ليالي العشر. ثم بعد أن خصص من رمضان العشر وخصص من العشر الأوتار خصص أيضاً أكثر من ذلك: • فقال - رحمه الله -: وليلة سبع وعشرين أبلغ. قوله هنا: أبلغ: يعني: أرجى ولو أنه - رحمه الله - عبر كما عبر هو نفسه في الإقناع بقوله: أرجى فلو عبر بنفس تعبيره الآخر لكان أوضح وأسهل من قوله: أبلغ. وعلى كل المعنى واضح: أن ليلة سبع وعشرين أبلغ. والدليل على هذا: - أنها أرجى ما ثبت في الحديث الصحيح أن أبي بن كعب - رضي الله عنه - كان يحلف ولا يستثني أنها ليلة سبع وعشرين قيل له: ما علامة ذلك؟ قال: علامة ذلك: ما أخبر النبي - صلى الله عليه وسلم - أنها تطلع الشمس صبيحة ليلة القدر بلا شعاع. - وأيضاً ثبت عن ابن عباس أنها ليلة سبع وعشرين. - وعن غيره من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم -. = والقول الثاني: أنها ليلة إحدى وعشرين. - لما ثبت في الصحيح أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: أريت أني أسجد في ماء وطين صبيحة ليلة القدر فلما أصبح من ليلة إحدى وعشرين سجد بعد أن أمطرت السماء فصار في جبهته وأنفه ماء وطين. = والقول الثالث: أنها في ليلة ثلاث وعشرين. - لما ثبت في الصحيح أيضاً: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: أريت أني أسجد في صبحها بماء وطين فلما أصبح ليلة ثلاث وعشرين أمطرت السماء فسجد في الماء والطين - صلى الله عليه وسلم - فخرج وأثرهما على جبهته. هذه الأقوال الثلاثة. وفي تحديد ليلة القدر أقوال كثيرة جداً اكتفيت بثلاثة لوضوح الأحاديث فيها. والصواب من هذه الأقوال أنها: تتنقل. فليست في ليلة واحدة دائماً بل كل سنة تكون في ليلة مختلفة. والدليل على هذا:

- أنه لا يمكن الجمع بين النصوص الصحيحة الثابتة التي تعين ليلة القدر في أكثر من ليلة - دع عنك الضعيفة - إلا بهذا القول. فهي إذاً تتنقل. وهذا القول من محاسنه أن الإنسان لا يجتهد في ليلة واحدة معينة بل يجتهد في جميع الليالي. - - مسألة مهمة: يتحتم على الإنسان وينبغي ويتأكد أن يجتهد في كل العشر. والسبب في ذلك: أن الليالي الآحاد أو الأفراد - الأوتار - تختلف بتمام الشهر ونقصانه. فإذا تم صارت ليلة إحدى وعشرين هي ليلة إحدى وعشرين. وإن نقص تغيرت فصارت الشفع هي ليلة الآحاد. إذاً يختلف الأمر بين أن يتم الشهر وبين أن ينقص. ولذلك قال شيخ الاسلام - رحمه الله -: ينبغي أن يجتهد الإنسان في جميع الليالي. إذاً تبين من مسألتين: أن الإنسان ينبغي أن يجتهد جداً في جميع ليالي رمضان: - الأولى: أنها تتنقل. - والثانية: أن الآحاد تختلف بتمام أو نقصان الشهر. فعلى الإنسان أن يجتهد في كل ليلة اجتهاده كأنها هي ليلة القدر. • ثم قال - رحمه الله -: ويدعو فيها بما ورد. مما ورد: - ما جاء في حديث عائشة رضي اللهى عنها أنها سألت النبي - صلى الله عليه وسلم - ما أقول إن وافقت ليلة القدر؟ فقال لها: قولي: (اللهم إنك عفو تحب العفو فاعف عني). فهذا الدعاء مما ينبغي أن يتحراه الإنسان في ليلة القدر. وبهذا الكلام انتهلا الكلام عن ليلة القدر. وتبين من خلال النصوص كقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: (من قام ليلة القدر إيماناً واحتساباً غفر له ذنبه). تبين من هذه النصوص أن المندوب في ليلة القدر الصلاة والدعاء والاستغفار. وأنه لم يأت نص صحيح ولا ضعيف يدل على استحباب العمرة في ليلة القدر بالذات سواء قلنا أنها ليلة سبع وعشرين أو غيرها من الليالي. وقد نبه شيخنا - رحمه الله - هذا التنبيه المهم جداً وهو أن تحري ليلة القدر بالعمرة قد يكون بدعة. لأنه تخصيص بما لم يأت دليل من الشارع يدل على تخصيصه. العمرة خصت في شهر رمضان. (عمرة في رمضان تعدل حجة معي) ىما في ليلة القدر فليس في النصوص ما يدل على أنها مستحبة أو مندوبة فإذا رأى الإنسان أنه يستحب تخصيص هذه الليلة بالعمرة فقد ابتدع.

باب الإعتكاف

فهذه من المسائل المهمة في الحقيقة لا سيما في وقتنا هذا مع تيسر الوصول إلى الحرم والتي ينبغي على طالب العلم أن ينبه الناس إليها. باب الإعتكاف. • ثم قال - رحمه الله -: باب الإعتكاف. ذكر المؤلف رحمه الله باب الاعتكاف بعد أحكام الصيام وجعله ضمن كتاب الصيام لأمرين: - الأول: أنه لم يأت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه اعتكف إلا في رمضان فيما عدا سنة واحدة سيأتي الحديث عنها. - الثاني: أن بعض أهل العلم اشترط للإعتكاف الصيام. فناسب لهذا أن يجعل باب الاعتكاف ضمن كتاب الصيام. قوله: باب الاعتكاف. الاعتكاف لغة: هو لزوم الشيء وحبس النفس عليه. سواء كان هذا اللزوم أو الحبس على جهة بر أو على جهة مباحة أو على جهة معصية. فمن حيث اللغة لا يختلف الأمر. وأما اصطلاحاً: فقد عرفه المؤلف: • بقوله - رحمه الله -: هو لزوم مسجد لطاعة اللَّه تعالى. وقد انتقد شيخ الاسلام - رحمه الله - هذا التعريف ورأى أن الصواب أن يقول: لزوم مسجد لعبادة الله بدل لطاعة الله. وعلل ذلك: بأن الطاعة قد تنصرف لغير العبادة المحضة كالأعمال التي تكون عبادات بالنية كمن نام وقد نوى التقوي أو أكل وقد نوى التقوي. فهذا النوم والأكل والاستراحة تعتبر عبادة بالنية. فأراد شيخ الاسلام أن يقول أن الاعتكاف ليس لهذا النوع من العبادات وإنما هو للعبادة المحضة التي هي التذلل والخضوع لله. فيكون الصواب في التعريف أن نقول هو لزوم مسجد لعبادة الله. • ثم قال - رحمه الله -: مسنون. أي أن الاعتكاف مسنون ومستحب ومشروع. ودل على مشروعيته الكتاب والسنة والإجماع. - أما الكتاب: فقوله تعالى: - (وَلَا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ) -[البقرة/187]. فدل هذا النص على أن الاعتكاف مشروع في الجملة. - أما من السنة: فأحاديث كثيرة وأعظمها ما ثبت وتواتر أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يعتكف في رمضان في العشر الأخير منه. - وأما الإجماع: فقد حكى أكثر من واحد أن الاعتكاف مسنون مندوب مستحب. • ثم قال - رحمه الله -: ويصح بلا صوم. يعني أن الاعتكاف يصح ولو لم يكن معه صوم.

=وهذا مذهب الحنابلة - كما ترون - والشافعية واختاره ابن حزم - رحمه الله -. واستدلوا على هذا بأدلة: - الدليل الأول: ما جاء في الصحيح أن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - قال: نذرت أن أعتكف ليلة في المسجد الحرام. زالليل ليس وقتاً للصيام. - الدليل الثاني: صح عن ابن عباس أنه قال: ليس بلازم على المعتكف أن يصوم. - الدليل الثالث: أنه لا دليل على اشتراط الصيام للاعتكاف. فالأصل صحة العبادة ومن اشترط شرطاً فعليه الدليل. = والقول الثاني: أنه لا يصح الاعتكاف إلا بصيام. فمن أراد أن يعتكف فلا بد أن يصوم وإلا بطل اعتكافه. وإلى هذا ذهب شيخ الاسلام - رحمه الله -. واستدل: - بأنه لم يحفظ عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه اعتكف قط وإلا وهو صائم ولا عن أصحابه أنهم اعتكفوا إلا وهو صائمون. - والدليل الثاني: أن الله سبحانه وتعالى قرن بين الصيام والاعتكاف في كتابه بقوله: - (ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ وَلَا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ) -[البقرة/187]. والصواب مع الحنابلة ورجحان هذا القول بين وظاهر. والجواب عن قول شيخ الاسلام أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يعتكف: أنه اعتكف فإنه - صلى الله عليه وسلم - لما اعتكف في سنة من السنوات اعتكف معه أزواجه كلهن فلما رأى النبي - صلى الله عليه وسلم - ذلك ورأى الأخبية منتشرة في المسجد قال: آلبر أردن. فأكر بخبائه أن يزال وبأخبيتهن أن تزال وخرج من معتكفه ثم قضا الاعتكاف في شوال. فاعتكف العشر الأول من شوال. ومن المعلوم أن العشر الأول من شوال أولها عيد والعيد لا يجوز صيامه فتبين أنه اعتكف بلا صيام. إذاً هذا القول الذي مشى عليه المؤلف - رحمه الله - وهو مذهب الشافعية واختيار بن حزم هو الصواب إن شاء الله. • ثم قال - رحمه الله -: ويلزمان بالنذر. يعني: أن الصوم والاعتكاف يصبحان واجبان على من نذر ذلك. - لعموم قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: (من نذر أن يطيع الله فليطعه). وهذا يشمل أي عبادة ومن ذلك الصيام والاعتكاف. • ثم قال - رحمه الله -: ولا يصح: إلاّ في مسجد يُجْمَّع فيه. شمل كلام المؤلف - رحمه الله - مسألتين:

- - المسألة الأولى: أن الاعتكاف لا يصح إلا في مسجد. وهذا القدر: أن الاعتكاف لا يصح إلا في مسجد محل إجماع فقد أجمع العلماء أن الاعتكاف لا يصح إلا في مسجد. واستدلوا على ذلك: - بقوله سبحانه وتعالى: (وَلَا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ) -[البقرة/187]. فربط الاعتكاف بالمسجد - وبأنه - صلى الله عليه وسلم - لم يعتكف إلا في مسجد. - وبما ثبت في حديث عائشة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان إذا اعتكف لم يدخل داره إلا لحاجته أي التي لا بد منها. هذه هي المسألة الأولى وهي محل إجماع. - - المسألة الثانية: قوله: (إلا في مسجد يجمَّع فيه). يعني: يشترط في المسجد أن يجمَّع فيه أي تقام فيه الجماعات دون الجمعة فلا يشترط. = فالحنابلة يرون أنه يشترط في المسجد الذي يعتكف فيه الانسان أن تقام في الجماعات. الدليل: قالوا: الدليل على ذلك: - أنه يلزم من عدم ذلك: إما أن يترك صلاة الجماعة وهي واجبة. أو أن يخرج لها فيتكرر خروجه مما يقدح في اعتكافه لأنه يستطيع أن يتحرز عن هذا الخروج بأن يعتكف في مسجد فيه صلاة جماعة. هذا الدليل الأول. - الدليل الثاني: أنه روي عن ابن عباس وعائشة وغيرهما أنه يشرع الاعتكاف في المسجد الذي تقام فيه الجماعة. = القول الثاني: أنه يشترط للمسجد الذي يعتكف فيه الإنسان أن تقام فيه الجمعة. واستدلوا على هذا: - بقولهم: لأن لا يخرج مع إمكان التحرز من هذا الخروج. = والقول الثالث: وهو أخص الجميع: أنه لا يصح الاعتكاف إلا في المساجد الثلاثة. فإن اعتكف في غيرها بطل اعتكافه. واستدلوا على هذا: - بقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: (لا اعتكاف إلا في المساجد الثلاثة). ويقصد بالمساجد الثلاثة: المسجد الحرام والمسجد النبوي والمسجد الأقصى.

والجواب عن هذا القول ودليله: أن هذا الحديث لا يصح مرفوعاً إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - بل هو من قول حذيفة فقد دخل حذيفة - رضي الله عنه - على مسجد الكوفة الكبير فوجد الناس فيه معتكفين فقال: من أمركم بهذا فقالوا: ابن مسعود وأبو موسى فذهب منكراً وقال: لابن مسعود أعتكاف في غير المساجد الثلاثة فقال ابن مسعود: لعلك أخطأت وأصابوا. ولعلك نسيت وتذكروا. فأخذنا من هذه القصة أن رأي ابن مسعود وأبو موسى الأشعري جواز الاعتكاف في غير المساجد الثلاثة. الراجح من هذه الثلاثة أقوال: المذهب. - أولاً: لقوة ما استدلوا به. - ولأنه مروي عن عدد من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - جواز الاعتكاف في غير مسجد الجمعة واشتراط مسجد الجماعة. - ولأن حديثهم - أصحاب القول الثالث - ضعيف. واجتهاد ابن مسعود لا شك أنه أحب إلينا من اجتهاد حذيفة مع علو وفضل كلاً منهما - رضي الله عنهما - إلا أن ابن مسعود من أعلم أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - وبشهادة النبي - صلى الله عليه وسلم -. • ثم قال - رحمه الله -: إلاّ المرأة ففي كل مسجد. يعني إلا المرأة فيجوز أن تعتكف في كل مسجد ولو في مسجد لا تقام فيه الصلوات الخمس. ويقاس على المرأة: كل من لا تجب عليه صلاة الجماعة: كالمريض وسائر أصحاب الأعذار. فكل هؤلاء يجوز لهم أن يعتكفوا في غير مسجد جماعة. لكن لابد في مسجد أيضاً. فيجوز لهم أن يعتكفوا في مسجد ولو كان هذا المسجد لا تقام فيه الجماعة لسبب أو لآخر. • ثم قال - رحمه الله -: سوى مسجد بيتها. أي: فلا يجوز أن تعتكف فيه. ومسجد البيت هو: المكان الذي خصصته المرأة للصلاة في بيتها. فهذا المسجد لا يجوز أن تعتكف فيه لأمرين: - الأول: أن المسجد عند الاطلاق ينصرف إلى المسجد المبني الذي تقام فيه الجماعة بنداء وإمام. - الثاني: أن أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - كن يعتكفن في المسجد ولو كان الاعتكاف في البيت جائز لاعتكفن في البيت لأنه أستر وأحفظ. فبهذين الدليلين: تبين بلا شك أن المرأة لا يجوز لها أن تعتكف ببيتها وإنما تعتكف في المسجد. • ثم قال - رحمه الله -:

ومن نذره أو الصلاة في مسجد غير الثلاثة - وأفضلها الحرام فمسجد المدينة فالأقصى -: لم يلزمه فيه. معنى هذه العبارة التي أدخل المؤلف فيها المسائل بعضها ضمن بعض. - المسألة الأولى: وهي المقصودة الآن: أن من نذر أن يصلي أو يعتكف في مسجد من المساجد فإنه لا يلزمه أن يعتكف في هذا المسجد المنذور. بل له أن يعتكف في مسجد آخر. - المسألة الثانية: غير الثلاثة: يعني أن هذا الحكم يستثنى منه المساجد الثلاثة فإذا نذر أن يعتكف في المساجد الثلاثة فلا بد وستأتي في كلام المؤلف. ونبقى إذاً في هذه المسألة: من نذر أن يعتكف أو أن يصلي في مسجد غير المساجد الثلاثة فلا يلزمه أن يصلي ولا أن يعتكف في هذا المسجد بل له أن يصلي أو أن يعتكف في أي مسجد. استدلوا على هذا: - بأن الشارع الحكيم لم يعين موضعاً خاصاً للعبادات فلا تتعين .... ((الأذان)). (بعد الأذان): قال شيخنا حفظه الله: - الدليل الثاني على عدم اللزوم: أنه لو ألزمناه بما نذر للزم من ذلك أن تشد الرحال إلى غير المساجد الثلاثة فلو نذر أن يعتكف في مسجد خارج بلدته للزمه أن يشد الرحال إلى هذا المسجد. والنبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: (لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد). = القول الثاني في هذه المسألة: أن من نذر أن يعتكف في مسجد معين فإنه يلزمه أن يعتكف في هذا المسجد إلا إذا لزم من ذلك شد الرحال فلا يلزمه. = والقول الثالث: أن من نذر الاعتكاف في مسجد معين فلا يلزمه إلا إذا كان نذر ذلك لمزية شرعية في المسجد ككثرة الجماعة أو قدم المسجد أو أي مزية شهد لها الشارع بالاعتبار. وهذا اختيار شيخ الاسلام بن تيمية. والصواب والله أعلم القول الثاني: أن من نذر أن يعتكف في مسجد معين لزمه أن يعتكف في هذا المسجد إلا إذا ترتب على ذلك شد الرحال. والدليل على ترجيح هذا القول: - عموم قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: (من نذر أن يطيع الله فليطعه).ووجوب الوفاء بالنذر يشمل أصل النذر ووصف النذر وهذا النذر موصوف بأنه في مسجد معين. إذاً هذا القول الثاني هو الصواب. بقينا في مسألة وهي: • قوله - رحمه الله -: (وأفضلها المسجد الحرام ثم النبوي ثم الأقصى). الدليل على هذا الترتيب:

- ما ثبت في صحيح مسلم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (صلاة في مسجدي هذا بألف صلاة مما سواه إلا المسجد الحرام). - وجاء في حديث جابر وصححه بعض العلماء أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: صلاة في مسجدي هذا بألف صلاة إلا المسجد الحرام فهي بمائة صلاة من مسجدي هذا وصلاة في المسجد الأقصى بخمسمائة صلاة). فصار الترتيب حسب دلالة هذا الحديث: - المسجد الحرام: مائة ألف صلاة. - والمسجد النبوي: ألف صلاة. - والمسجد الأقصى: خمسمائة صلاة. فهذا الترتيب في الفضل ومضاعفة الأجر في الصلاة دليل على أن المسجد الحرام هو أفضل البقاع ثم يليه المسجد النبوي ثم يليه المسجد الأقصى. والله أعلم وصلى الله على نبينا محمد. انتهى الدرس،،،

قال شيخنا حفظه الله: بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين. بالأمس انتهينا من مسألةإذا نذر الاعتكاف والصلاة في المسجد فإنه عند الحنابلة لا يلزمه أن يعتكف أو أن يصلي قي هذا المسجد وله أن يصلي في أي مسجد شاء مع الخلاف والترجيح. واليوم نبدأ ب: • قوله - رحمه الله -: وإن عين الأفضل: لم يجز فيما دونه. قوله: وإن عين الأفضل: لم يجز فيما دونه. هذه العبارة تتعلق بالمساجد الثلاثة فقط. وإن عين الافضل من المساجد الثلاثة لم يجز فيما دونه. بناء على ذلك: لو نذر أن يعكتف بالمسجد الحرام فلا يجوز ولا يفي بنذره لو اعتكف بالمسجد الأقصى أو في المسجد النبوي. ولو نذر أن يعتكف في المسجد النبوي فلا يجوز ولا يفي بنذره لو اعتكف في المسجد الأقصى. • ثم قال - رحمه الله -: وعكسه بعكسه. الدليل على المسألة الأولى: - قوله - صلى الله عليه وسلم -: (من نذر الله فليطعه). وتقدم معنا أن هذا الحديث يوجب الوفاء بالنذر من حيث الأصل والوصف. والوصف هنا هو: أن يعتكف في مكان معين وهو: المسجد. • وقوله - رحمه الله -: وعكسه بعكسه. يعني إذا نذر أن يعتكف في المفضول جاز في الفاضل. فلو نذر أن يعتكف في الأقصى جاز في المسجد الحرام وفي المسجد النبوي.

ولو نذر أن يعتكفق في المسجد النبوي فيجوز له أن يعتكف في المسجد الحرام ولا يفي بنذره لو اعتكف في المسجد الأقصى. والدليل على هذا: - أن رجلاً جاء إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - لما فتح مكة فقال يارسول الله إني نذرت إن فتح الله عليك مكة أن أصلي في بيت المسجد. فقال له النبي - صلى الله عليه وسلم -: (هاهنا فصل). فأعاد الرجل السؤال فقال له النبي - صلى الله عليه وسلم - في المرة الثانية: (هاهنا فصل) فأعاد الرجل السؤال غفال النبي - صلى الله عليه وسلم -: (شأنك إذاً). وهذا حديث صحيح فيه دلالة على أن الإنسان إذا نذر أن يصلي في مسجد من المساجد الثلاثة جاز له أن يصلي فيما هـ أفضل منه كما في هذه القصة. وفي هذا الحديث دليل على أن عدم الانقياد للأحكام الشرعية والتمسك بالظاهر قديم من عهد الصحابة وإن كان هذا ليس من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - الملازمين له وكأنه من الذين جاءوا في فتح مكة. المهم: الحكم الذي يهمنا الآن أنه إذا نذر الإنسان شيئاً أن يصلي أوم أن يعتكف في مسجد من الثلاثة جاز له أن يصلي في غيره. وإنما قلنا أن هذا البحث الذي نتكلم عنه خاص بالمساجد الثلاثة لأنه تقدم معنا أن المؤلف - رحمه الله - يرى أن من نذر الاعتكاف في مسجد يجوز له أن يعتكف في مسجد آخر. • ثم قال - رحمه الله -: ومن نذر زمناً معيناً: دخل معتكفه قبل ليلته الأُولى. إذا نذر الانسان أن يعتكف زماناً معيناً كالعشر الأخيرة من رمضان أو العشر الأولى من شوال أو العشر الوسطى من محرم أي زمن محدد فإن هذا الزمن يبدأ في الاعتكاف لكي يصدق عليه أنه أوفى بنذره بأن يدخل قبل ليلته الأولى. ولنجعل المثال الذي نوضح به المسألة: أن ينذر الاعتكاف في العشر الاخيرة من رمضان فيجب عليه ليوفي نذره أن يدخل قبل مغيب الشمس من اليوم العشرين بقليل قبيل مغيب الشمس ليصدق عليه أنه من أول ليلة الواحد والعشرين موجود في المسجد. واستدل الحنابلة على هذا الحكم بدليلين: - الدليل الأول: أن العشر الاخيرة من رمضان تبدأ بمغيب الشمس لليوم العشرين.

- الدليل الثاني: حديث أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما اعتكف العشر الاوسط قال للناس من اعتكف معي فليعكتف في العشر الاخيرة. وجه الاستدلال بهذا الدليل من وجهين: ــ الأول: أن كلمة العشر بدون الهاء هي عدد لليالي. ولا تكون الليالي عشر إلا بإدخال ليلة الواحد والعشرين. ــ الثاني: أنه قال لهم هذا - صلى الله عليه وسلم - قبيل ليلة الواحد والعشرين. ــ ثالثاً: هذا الدليل خاص بالعشر من رمضان ولا يصدق في غيرها من الاوقات وهو أن النبي - صلى الله عليه وسلم - إنما اعتكف في العشر ليوافق ليلة القدر وليلة القدر ربما تكون ليلة إحدى وعشرين فلزم من هذا أن يبقى ويعتكف في هذه الليلة ليوافق ليلة القدر. = والقول الثاني: أن الدخول يكون في النذر الواجب بعد طلوع الفجر منم اليوم الواحد والعشرين أو في نذر العشر النفل بعد صلاة الفجر. إذاً القول الثاني: أن يدخل إذا كان نذراً واجباً بعد طلوع الفجر مباشرة يعني قبيل طلوع الفجر يكون بالمسجد ليصدق عليه أنه من أول الفجر موجود في المسجد. وإذا كان يعتكف تنفلاً في العشر الاخيرة فمن بعد صلاة الفجر. والدليل على هذا القول المركب: - أن عائشة - رضي الله عنها - قالت أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - دخل معتكفه لما صلى الفجر من اليوم الواحد والعشرين. والجواب على هذا الحديث: أن المقصود أن النبي - صلى الله عليه وسلم - دخل بعد صلاة الفجر المكان الذي خصصه للاعتكاف أي اعتزل الناس واختلا بنفسه وإلا فهو في المسجد من الليل , وإنما حملنا هذا الحديث هذا المحمل للنصوص الاخرى الدالة على أن العشر تبدأ من مغيب الشمس من اليوم العشرين. والقول الراجح إن شاء الله هو القول الاول وهو مذهب الحنابلة. لما بين المؤلف - رحمه الله - البداية وهي قبل ليلته الاولى بين النهاية: • فقال - رحمه الله -: وخرج بعد آخره. المقصود بخرج بعد آخره يعني: بعد مغيب الشمس من آخر يوم من الايام التي نذر أن يعتكفها. فإذا خرج في هذا الوقت فقد صدق أنه نذر أو صدق عليه أنه أوفى بنذره باعتكاف عشرة أيام.

= إلا أنه يستحب عند الحنابلة بالنسبة للعشر من رمضان أن يبيت ليلة العيد في المسجد ويخرج من المسجد إلى المصلى مباشرة ولا ينام عند أهله تلك الليلة. واستدلوا على استحباب هذا الامر: - بأنه مروي عن بعض الصحابة وعن جماعة من السلف. وعللوا هذا بالاضافة إلى الآثار المروية: - بأن في هذا القرن بين العبادتين الاعتكاف وصلاة العيد. = القول الثاني: أنه يخرج إلى بيته إذا غابت الشمس ويذهب إلى مصلى العيد من بيته. والقول الثاني أقرب وليس في السنة ما يدل بوضوح على استحباب بقاء المعتكف إلى أن يخرج إلى صلاة العيد فليس في السنة هذا الامر مع أن النبي - صلى الله عليه وسلم - اعتكف مراراً ولم يأت في حديث صحيح أنه خرج من المسجد إلى مصلى العيد مباشرة. وإن كان القول الأول وجيه ولذلك نص عليه الامام أحمد وأفتى به: أنه ينبغي ويستحب للإنسان أن يخرج من المسجد إلى مصلى العيد مباشرة وأن يبيت تلك الليلة يعني ليلة العيد في المسجد. واعتمد الامام أحمد على الآثار المروية عن جماعة من السلف. • ثم قال - رحمه الله -: ولا يخرج المعتكف: إلاّ لما لابد منه. شرع المؤلف - رحمه الله - في بيان أحكام خروج المعتكف. وخروج المعتكف من المسجد ينقسم إلى أقسام: ــ القسم الأول: ما ذكره المؤلف - رحمه الله - نصاً وهو قوله: (لما لابد منه) وهوأن يخرج المعتكف لأمر لابد له منه. فخروج المعتكف لأمر لا بد له منه جائز بالاجماع ولا يبطل الاعتكاف. - لما صحة عن عائشة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان إذات اعتكف لم يخرج إلا بيته إلا لحاجته التي لابد منها. فهذا الحديث نص على أن الانسان يخرج لحاجته التي لابد منها. ومن أمثلة هذه الحاجة: قضاء الحاجة. إذا لم يكن في المسجد مكان لها. الاغتسال الواجب إذا لمخ يكن في المسجد مكان له. الطعام والشراب أذا لم يتهيأ من يحضره له وما جرى مجرى هذه الأمور كأن يحتاج إلى تناول دواء لا يمكن أن يتناوله في المسجد. وهذه أمثلة والقاعدة أن يخرج لأمر لابد له منه ولا يستطيع أن يبقة بدنه. فهذا هو القسم الأول وهو محل إجماع. • ثم قال - رحمه الله -: مشيراً إلى: القسم الثاني: ولا يعود مريضاً، ولا يشهد جنازة.

ــ القسم الثاني: خروج المعتكف إلى قربة إلى عبادة كزيارة مريض وشهود جنازة يعني إلى عبادة ليست واجبة. فاختلف الفقهاء - رحمهم الله - في حكم خروج المعتكف لعبادة ليست واجبة: = فذهب الحنابلة إلى أنه لا يجوز له أن يخرج إلا بالشرط. واستدلوا: - بحديث عائشة السابق. واستدلوا أيضاً: - بأن عائشة - رضي الله عنها - كانت إذا اعتكفت وخرجت إلى بيتها لما لابد لها منه قالت فكنت لا أسأل عن المريض إلا وأنا مارة. فهذان نصان على أن للمعتكف لا يخرج للقرب بدون شرط. = والقول الثاني: أن المعتكف له أن يخرج ولو لم يشترط إلى كل قربة محبوبة إلى الله سواء كانت شهود جنازة أو عيادة مريض أو صلة رحم أو أي عبادة محبوبة إلى الله. واستدل هؤلاء: - بأن هذا مروي عن علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - أن للمعتكف أن يخرج لقربة ولو لم يشترط. والصواب كما هو واضح وظاهر مع الحنابلة لصراحة الأدلة التي تدلع أنه - صلى الله عليه وسلم - لم يكن يخرج إلا لأمر ضروري يحتاج إلى الخروج له. ثم أشار المؤلف - رحمه الله - إلى القسم الثالث بـ: • قوله - رحمه الله -: إلاّ أن يشترطه. وهو خروج المعتكف بالشرط. وهذه المسألة فيها فرعان: ــ الأول: مشروعية الشرط من حيث هو: = ذهب الجمهور إلى أن الشرط مشروع - اشتراط المعتكف مشروع. وتنبني عليه آثاره وهي عدم بطلان الاعتكاف إذا خرج لما اشترط. واستدلوا: - بالقياس على الشرط في الحج. ووجه القياس: أن اللزوم في الحج أعظم منه في الاعتكاف بدليل: أن فاسد الاعتكاف لا يجب عليه قضائه وفاسد الحج يجب قضائه فاللزوم في الحج أعظم ومع ذلك جاز فيه الشرط ففي الاعتكاف من باب أولى. = والقول الثاني: أن الشرط لا أثر له ولا يشرع فإن خرج بطل اعتكافه ولو اشترط. واستدلوا: - بأنه ليس في الشرع ما يدل على مشروعية الاشتراط في الاعتكاف مع كون النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه اعتكفوا ولم يأت عنهم ما يدل على مشروعية الاشتراط. والصواب بإذن الله مع الجمهور الذين أجازوا الاشتراط وأما أنه لم ينقل عن النبي - صلى الله عليه وسلم - فلعله أنه لم يحتج إلى الاشتراط. ولذلك لم ينقل عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه فعله.

فالراجح هو مشروعية الاشتراط وتأثيره في الاعتكاف. ــ الفرع الثاني: ما حدود الاشتراط. = ذهب الحنابلة إلى أنته يجوز أن يشترط الخروج لكل قربة ولكل أمر مباح لا يتنافى مع حقيقة الاعتكاف. أما القربة فذكرنا الامثلة فيما تقدم. وأما الأمر المباح الذي لا ينافي الاعتكاف ف: - كاشتراطه أن يتعشى كل ليلة عند أهله. - أو أن يخرج ليمكث عندهم ساعة. وأما المثال للأمر المباح الذي ينافي الاعتكاف فكاشتراط الجماع أو مباشرة الزوجة أو - وهذا المهم - أو الخروج للتجارة. فهذه ثلاثة أمثلة على الأمر المباح الذي ينافي الاعتكاف. فالحنابلة يرون جواز اشتراط العبادة - القربة والأمر المباح الذي لا ينافي الاعتكاف. = القول الثاني: وهو أضيق من الأول: أنه لا يشرع الاشتراط إلا للعبادات فقط دون الامر المباح وإلى هذا ذهب الشيخ المجد بن تيمية. والأقرب القول الأول إن شاء الله وهو مذهب أكثر العلماء لأنه ما دام أننا صححنا مشروعية الاشتراط فتضييقه يحتاج إلى دليل. وفهم من الخلاف الذي ذكرت أنه لا قائل بجواز اشتراط التجارة. بناء عليه: أرى أن الذين يشترطون الخروج للدوام أن اعتكافهم باطل. لماذا؟ لأن الدوام هو نوع من التكسب والتجارة فهو عمل يدر على صاحبه مكسب سواء كان هذا العمل وظيفياً أو أخذ صبغة التجارة فإن هذا التفريق حادث يعني لا أثر إنما المقصود أن يخرج للتكسب بأي وسيلة. بناء عليه: نقول للذين لا يستطيعوع ترك الوظائف أنه لا يشرع لكم الاعتكاف لا ينفعكم الشرط لكن الانسان إن شاء الله يبلغ الاجر بنيته وينتظر إلى أن تبدأ الإجازة ثم يشرع في الاعتكاف ولو من وسط العشر. ثم بدأ المؤلف - رحمه الله - بذكر مبطلات الاعتكاف: • فقال - رحمه الله -: وإن وطئَ في فرج: فسد اعتكافه. الجماع مبطل للإعتكاف بالنص والإجماع. - أما النص فقوله تعالى: {ولا تباشروهن وأنتم عاكفون في المساجد} [البقرة/187]. = وذهب الجمهور وعامة المفسرين إلى أن المباشرة فيث هذه الآية هي الجماع. وممن اختاره من المحققين الذين لأقوال أثر وثقل ابن جرير الطبري - رحمه الله -. اختار أن المقصود بالمباشرة في الآية هو الجماع. إذاً الجماع لا إشكال فيه.

المسألة الثانية: المباشرة. المباشرة: مباشرة الزوجة محرمة بالإجماع ولكن اختلفوا هل تفسد أو لا تفسد؟ = فمن الفقهاء من قال تفسد قياساً على الجماع. = ومنهم من قال: المباشرة محرمة ولكنها لا تفسد الاعتكاف. واستدلوا على هذا: - بأن المباشرة لا تفسد الصيام فمن باب أولى أن لا تفسد الاعتكاف. لأن عبادة الصيام أعظم وألزم من الاعتكاف فإذا لم يبطل الصيام المباشرة فكذلك في الاعتكاف. وعرفنا من المسألة الثانية أن هناك فرقاً كبيراً بين المباشرة في الصيام والمباشرة في الاعتكاف. - المباشرة في الاعتكاف محرمة بالإجماع. - بينما المباشرة في الصيام فالصواب أنها جائزة إلا إذا خشي على نفسه. هي: والقبلة واللمس كما تقدم معنا. بقينا في: مسألة / الاستمناء. إذا استمنى ثم أنزل فاختلف الفقهاء هل يفسد أو لا يفسد. = والجمهور رأوا أن الاعتكاف يفسد. = والقول الثاني: أنه لا يفسد. - قياساً على المباشرة التي لا تفسد إذا كانت بدون إنزال. والأحوط للمعتكف الذي صنع هذا الصنع أن يجدد نية الاعتكاف. لأن الأقرب بطلانه في مثل هذا العمل. أيضاً نضيف من المبطلات: وهو أشار إليه المؤلف ولذلك لم نذكره مع المبطلات: - الخروج: إذا خرج الإنسان من الاعتكاف في الحال التي لا يجوز له أن يخرج فيها على التقسيم السابق بطل اعتكافه. والدليل على بطلان الاعتكاف: - حديث عائشة فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - لا يخرج إلا لحاجته ففي هذا دليل على أن الخروج يبطل. - كما أن النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا كانت له حاجة ليست شديدة فإنه لا يخرج كما في الحديث الصحيح أن عائشة كانت تمشط له شعره - صلى الله عليه وسلم - وهو في المسجد. واختلف الفقهاء في المقدار الذي إذا خرجه المعتكف بطل اعتكافه: = فذهب الجمهور إلى أن خروج المعتكف خروجاً لا يجوز له يبطل الاعتكاف ولو قل. فإذا خرج فعليه أن يستأنف الاعتكاف. = وذهب الأحناف إلى أن الخروج الذي بطل هو الذي يكون نصف يوم فأكثر. واستدلوا على هذا: - بأن ما دون نصف اليوم يسير واليسير لا حكم له. وكأن الاحناف كأنهم يتكلمون عن من أراد أن يعتكف عشرة أيام لأن الإمسان إذا اعتكف عشرة أيام صار نصف اليوم يسيراً.

لكن من أراد أن يعتكف يوماً فنصف اليوم في حقه كثير. فأنا لم أر أنهم صرحوا أن مقصودهم إذا اعتكف في العشر لكن فيما يظهر أن هذا مرادهم. وعلى كل حال الراجح مذهب الجمهور. لأن النصوص عامة. وهي تفيد أن الخروج يبطل والتخصيص بأي مخصص وتحديد أي مقدار بلا دليل ظاهر لا يمكن المصير إليه. • ثم قال - رحمه الله -: ويستحب: اشتغاله بالقرب. يستحب للمعتكف أن يشتغل أثناء الاعتكاف بالقرب ويتأكد في حقه جداً لأن هذا هو الغرض من الاعتكاف. والقر ب يقصد بها بالدرجة الأولى: - قراءة القرآن. - والتبتل. - والالحاح في الدعاء. - والتفكر في آيات الله. وما جرى مجرى هذه العبادات التي تسبب خضوع القلب والخشوع. مسألة / واختلف الققهاء: هل من ذلك تدريس العلم أو لا؟ = فذهب الإمام مالك - رحمه الله - والإمام أحمد - رحمه الله - إلى أنه لا يستحب أن يشتغل المعتكف بتدريس العلم. = وذهب الإمام أبو حنيفة والإمام الشافعي إلى أن هذا مستحب. والراجح بوضوح القول الأول وهو أنه لا يستحب الاشتغال بالعلم أثناء الاعتكاف وإنما يجعل المعتكف اعتكافه للعبادة ونفع القلب. والدليل على هذا: - أن سيد الخلق - صلى الله عليه وسلم - ومن أرسل ليعلم الناس لم يكن يشتغل بالتعليم في الاعتكاف وإنما كان يخلو بنفسه ويبتهل ويجتهد في الدعاء. • ثم قال - رحمه الله -: واجتناب ما لا يعنيه. يستحب لكل أحد أن يجتنب ما لا يعنيه ويتأكد هذا في حق المعتكف. - لقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: (من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه). ومما يتأكد جداً تركه في الاعتكاف المراء والنقاش والجدال فإن هذه الأمور تؤدي إلى ضد المقصود من الاعتكاف فهي تقسي القلب وتبعده عن الله. وسواء كان الجدال والمراء في العلم أو في غيره وسواء قلنا يستحب الاشتغال بالعلم أو لا يستحب فعلى جميع هذه الأقوال فإن الجدال مذموم وهو مما يقسي القلب ومثله المراء وما جرى مجرى هذه الألفاظ مما يشغل ويقسي القلب. وبهذا المقدار انتهى الكلام على باب الاعتكاف وبه ولله الحمد انتهى الكلام على كتاب الصيام ونبدأ بالكلام على كتاب المناسك. يتبع الدرس = كتاب المناسك.

كتاب المناسك

شرح كتاب المناسك الدرس رقم (1) كتاب المناسك - قال - رحمه الله -: كتاب المناسك. جعل المؤلف - رحمه الله - المناسك في آخر العبادات: - لتتوافق مع حديث: "بني الإسلام على خمس" فإنه جعل الحج آخر الأركان. هذا من جهة. - ومن جهة أخرى: أن الأركان الأخرى تتكرر في كل سنة بينما الحج فيجب في العمر مرة واحدة فناسب أن يؤخر. - وقوله - رحمه الله -: كتاب المناسك. المناسك: جمع منسك. والمنسك ينطق: بالفتح وبالكسر. - فإن نطقته بالفتح: فالمقصود المصدر أي التعبد لله. - وإن نطقته بالكسر: فالمقصود مكان العبادة. والمناسك مأخوذة من: الذبيحة. ويقصد بالذبيحة: النسيكة - يقصد بها هنا -: التي تذبح تقرباً إلى الله. ثم توسع مدلول هذا اللفظ ليشمل جميع العبادات، ولذلك يسمى العابد ناسكاً، ثم أصبح هذا الاسم علماً على الحج: - لكثرة الأعمال والعبادات فيه. - ولكثرة ما يراق فيه من الدماء. فإذاً: هذا هو معنى المناسك. • وأما الحج فهو: - في اللغة: قصد ما يعظم. وإنما عرفنا الحج: - لأن بعض أهل العلم يقول: كتاب الحج. - وبعض أهل العلم يقول: كتاب المناسك. - وبعض أهل العلم - وكلهم من الحنابلة - يقول: كتاب الحج والمناسك. والأمر واحد لكن لما اختلف التعبير رأيت أن أذكر تعريفاً لكل منهما، فالحج هو: قصد ما يعظم. ومن القصور أن نقول: الحج هو القصد فقط، فإن القصد المطلق لا يسمى حجاً فلابد أن يقصد الإنسان شيئاً معظماً، بل إن بعضهم قال لا يسمي الحج حجاً إلا إذا قصدت شيئاً معظماً مكرراً، يعني إذا صار يعتاد المجيء إلى هذا المعظم سمي حجاً، وهذا في اللغة. - أما في الاصطلاح: فهو: قصد مكة لأداء المناسك في وقت مخصوص. - ثم قال - رحمه الله -: الحج والعمرة واجبان. الحج واجب في: الكتاب والسنة والإجماع. - أما الكتاب فقوله تعالى: {ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا} - وأما السنة فقوله - صلى الله عليه وسلم -: (بني الإسلام على خمس شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله .. إلى أن قال .. وحج بيت الله الحرام).

- وأما الإجماع فحكاه عدد من أهل العلم بأن الحج واجب. والحج أعظم وأكبر من أن يكون واجباً بل هو ركن من أركان الإسلام. والحج مفروض في السنة التاسعة. والقول بأنه مفروض في السنة التاسعة هو مذهب الجمهور واختاره من المحققين ابن القيم - رحمه الله -. والدليل على ذلك: - أن الآية الدالة على وجوب الحج نزلت في صدر سورة آل عمران. وصدر سورة آل عمران أيضاً جاء فيها إيجاب الجزية وهي متوافقة مع الوفود الذين وفدوا على النبي - صلى الله عليه وسلم - وكل ذلك كان في السنة التاسعة. - ثم قال - رحمه الله -: والعمرة: واجبان. = ذهب الحنابلة إلى أن العمرة أيضاً واجبة. واستدلوا بأدلة: - الدليل الأول: قوله تعالى: {وأتموا الحج والعمرة لله}. والجواب عليه: أن الآية أمرت بالإتمام ولم تأمر بأصل الفعل. فهناك فرق بين إتمام الفعل بعد الشروع وبين إيجاب الشروع به. - الدليل الثاني: قوله - صلى الله عليه وسلم - لما سأله النساء هل على النساء من جهاد؟ فقال - صلى الله عليه وسلم -: (نعم عليهن جهاد لا قتال فيه: الحج والعمرة). وجه الاستدلال: أن على - كما قال الأصوليون - تأتي للوجوب - وهو يقول: (عليهن). والجواب عليه: أن لفظة: (والعمرة) شاذة ولذلك أخرج البخاري - رحمه الله - هذا الحديث بدون قوله: (والعمرة)، وإنما قال: (عليهن جهاد لا قتال فيه: حج مبرور). ولم يذكر العمرة. - والدليل الثالث: قوله - صلى الله عليه وسلم -: (العمرة حج أصغر أو الحج الأصغر). وهو لفظ جاء في كتاب عمرو بن حزم وهو كتاب تلقته الأمة بالقبول. - والدليل الأخير: قوله - صلى الله عليه وسلم - لأبي رزين: (حج عن أبيك واعتمر). = القول الثاني: أن العمرة واجبة على الآفاقي ولا تشرع للمكي. ومنهم من قال: واجبة على الآفاقي وليست بواجبة على المكي. واستدلوا على هذا: - بأن ابن عباس كان يرى وجوب العمرة وكان يقول لأهل مكة ليس عليكم عمرة. - والدليل الثاني: أن الركن الأعظم للعمرة هو الطواف وأهل مكة يكثرون من الطواف. = والقول الثالث: أن العمرة ليست بواجبة بل مندوبة. واستدل هؤلاء بأدلة:

- الدليل الأول: أن الله سبحانه وتعالى لما ذكر وجوب الحج لم يذكر معه وجوب العمرة فقال: {ولله على الناس حج البيت}. ولم يذكر العمرة بينما لما كان إتمام العمرة واجبة ذكرها فقال {وأتموا الحج والعمرة لله}. فكونه تعالى يذكر العمرة في الإتمام دون الوجوب دليل على أنها لا تجب. - الدليل الثاني: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - حج وحج معه أمم لا يحصون كلهم لأداء الفريضة: ومنهم المفرد. ومع ذلك لم ينقل عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه أمر المفردين: - لا بأن يعتمروا بعد الحج. - ولا بأن يرجعوا بعد ذلك ليؤدوا العمرة وقد انصرفوا وهم يرون أنهم قد أدوا فرض الله فهذا دليل على أن العمرة ليست بواجبة. - الدليل الأخير: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - ذكر وجوب الحج ولم يذكر وجوب العمرة كما في حديث: (بني الإسلام على خمس). وأوضح منه في الدلالة: - الرجل الذي جاء يسأله - صلى الله عليه وسلم - عن شعائر الإسلام فأمره بالصلاة والزكاة والحج فقال الأعرابي: لا أزيد على ذلك. ولم يأمره بالعمرة. بناء على هذه الأدلة التي أرى أنها قوية جداً وواضحة وهي تنصرف للأصول: أرى أن القول بعدم الوجوب هو الراجح وهو رواية عن الإمام أحمد واختيار شيخ الإسلام بن تيمية وذلك: - لوضوح الأدلة الدالة على عدم الوجوب. - وأن الأصل براءة الذمة. - ثم قال - رحمه الله -: على المسلم الحر المكلف القادر. يريد المؤلف - رحمه الله – أن يبين شروط الوجوب، فإنه لما بين أن الحج واجب أراد أن يبين: شروط الوجوب. - فقال - رحمه الله -: على المسلم. يشترط لوجوب الحج أن يكون: الشخص مسلماً. - لأن العبادة لا تقبل من غير المسلم. - ولقوله تعالى: {وما منعهم أن تقبل منهم نفقاتهم إلا أنهم كفروا بالله وبرسوله}. فدلت الآية على: أن المانع من قبول النفقة وهو نوع من العبادة: الكفر. والحج عبادة بدنية مالية. وشرط الإسلام: - شرط وجوب وصحة. وتقدم معنا المقصود بقول الفقهاء - رحمهم الله -: أنه لا يجب على الكافر العبادة الفلانية أو العبادة الأخرى. وأن المقصود ليس عدم المؤاخذة أو عدم التأثيم أو عدم المحاسبة يوم القيامة، وإنما المقصود عدم المطالبة بالأداء أو القضاء.

- ثم قال - رحمه الله -: الحر. الحرية شرط لوجوب الحج وإجزائه وليست شرطاً لصحته. الدليل على اشتراط هذا الشرط: - - أن العبد منافعه مملوكة لسيده فالزمن ليس له وإنما لسيده. - - ولقول النبي - صلى الله عليه وسلم - فيما يرويه ابن عباس: (أيما صبي حج ثم بلغ فعليه حجة الإسلام وأيما عبد حج ثم عتق فعليه حجة الإسلام). واختلفوا في هذا الحديث: = فمنهم من حكم عليه: بالوقف. = ومنهم من حكم عليه: بالرفع. وبكل حال هو حجة لأنا لو حكمنا عليه بالوقف فهو فتوى صحابي ليس لها مخالف وتحتمل بقوة حكم الرفع. بناء على هذا: نقول إذا حج العبد ثم عتق: فيجب عليه أن يحج حجة الإسلام، وكذلك الصبي. - ثم قال - رحمه الله -: المكلف. المكلف هو: البالغ العاقل، فهذا لا يجب عليه أن يحج. والتكليف: شرط وجوب وإجزاء دون الصحة. والدليل على اشتراط هذا الشرط: - قوله - صلى الله عليه وسلم -: (رفع القلم عن ثلاثة: - وذكر منهم - المجنون حتى يفيق والصغير حتى يبلغ). بناء عليه: • إذا أفاق المجنون وقد حج فنقول له: عليك حجة الإسلام. • وإذا بلغ الصبي وقد حج فنقول له: عليك حجة الإسلام. وهذا مبني على تصحيح حج المجنون: = فمن الفقهاء من قال: المجنون لا يصح منه الحج. لا منه ولا من وليه فلا يصح منه مطلقاً. = ومنهم من قال: المجنون يشبه تماماً الصبي غير المميز. فإذا صح حج الصبي غير المميز فيصح أن يحج المجنون وينوي عنه وليه، وهذا القياس جلي وواضح. والراجح إن شاء الله: أن حج وعمرة المجنون إذا تولاه الولي صحيح وله الأجر يوم القيامة أي: للمجنون. كما أن الصبي غير المميز له الأجر يوم القيامة. - ثم قال - رحمه الله -: القادر. من شروط وجوب الحج: القدرة. وشرط القدرة من الشروط الذي سيفصل فيه المؤلف - رحمه الله - تفصيلاً طويلاً لكن اشتراط القدرة من حيث هو: مجمع عليه. - لقوله تعالى: {من استطاع إليه سبيلا}. فإذا لم يستطع لأي سبب مما سنذكره إذا تعرض المؤلف - رحمه الله - لتفصيل هذا الشرط فإنه لا إثم عليه إن شاء الله. - ثم قال - رحمه الله -: في عمره مرة. اتفق الفقهاء: على أن وجوب الحج في العمر مرة وأن من أدى فرضه فلا يجب عليه أن يحج مرة أخرى.

- لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما خطب الناس وبين وجوب الحج قال له رجل: أفي كل عام هي يا رسول؟ الله فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (لا. ولو قلت نعم لما استطعتم). فهذا الدليل نص على: أن الحج يجب في العمر مرة واحدة. - ولقوله فيما يروى عنه - صلى الله عليه وسلم -: (من حج مرة فما زاد فهو تطوع). وعلى كل حال كون الحج يجب في العمر مرة واحدة: محل إجماع. ودل عليه الحديث الصحيح الذي ذكرت. - ثم قال - رحمه الله -: على الفور. يعني: أن من استطاع أن يحج ولم يحج فهو آثم لأن الحج يجب على الفور. والدليل على أن الحج يجب على الفور من وجهين: - الوجه الأول: أن الصواب في مسألة الأوامر أنها على الفور. وهي مسألة أصولية ستأتيكم مطولة وهي مهمة جداً، فالأصل: أنه إذا أمر الإنسان بأمر فإن المقصود به أن يأتي به على الفور. - الوجه الثاني: أن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - قال: (من وجد يسراً ثم لم يحج فلا عليه إن شاء أن يموت يهودياً أو نصرانياً). وفي الباب آثار كثيرة عن أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - تدل على أن الحج واجب على الفور. - ثم قال - رحمه الله -: فإن زال الرق والجنون والصبا في الحج بعرفة ... صح فرضاً إذا زال المانع في عرفة صح حجه فرضاً. والدليل على صحة حج الصبي إذا بلغ والمجنون إذا أفاق [والعبد إذا أعتق] من وجهين: - الوجه الأول: أنه أتى بالمناسك وبركن الحج وهو عرفة وهو على صفة الكمال. وصفة الكمال هنا البلوغ والحرية. - الوجه الثاني: أن ابن عباس أفتى من بلغ أو أفاق من الجنون أنه إن أفاق بعرفة صح حجه فرضاً وإن أفاق ليلة جمع بقي نفلاً. فإذاً الدليل: أثر عن ابن عباس والتعليل الذي ذكرت. ويلحق بما ................ ((انقطاع في التسجيل)). .... لأنه تبين أن إحرامه كان على جهة الفريضة وهذا الخلاف لا أثر له على صحة النسك وأنه يجزئ عنه فريضة، إنما الخلاف فيما قبل يوم عرفة هل يبقى نفلاً؟ أو ينقلب إلى فرض، والأمر يسير. وثمرة الخلاف أكثر ما تكون في الأجر فإن ثواب الفرض أعظم من ثواب النفل. انتهى التسجيل ......

شرح كتاب المناسك الدرس رقم (2) قال شيخنا حفظه الله: بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين. تقدم معنا في درس الأمس الكلام عن: إذا زال الرق والجنون والصبا في الحج بعرفة والأحكام التي تتعلق بهذه المسألة. - ثم قال - رحمه الله -: في المسألة التالية: وفي العمرة قبل طوافها: صح فرضاً. أي إن زالت هذه الموانع بعد الإحرام بالعمرة وقبل الشروع في الطواف أيضاً: صحت فرضاًَ، فإن شرع في الطواف أو طاف وانتهى: ثبتت نفلاً ولم تنقلب فرضاً، فيشترط لصحة وقوع العمرة فرضاً أن يزول المانع قبل البدء بالطواف. - لأن طواف العمرة هو الركن الأكبر فيها وغالب أعمالها كما تقدم معنا في الدرس السابق. - وقوله - رحمه الله -: صح فرضاً. هذا بناء على المسألة السابقة وهي: أن العمرة واجبة. - ثم قال - رحمه الله -: وفعلهما من الصبي والعبد: نفلاً. قوله: وفعلهما من الصبي ... : نفلاً. يعني: ويصح حج الصبي وأن يعتمر ويصبح نفلاً. والصبي ينقسم إلى قسمين: 1 - مميز. 2 - وغير مميز. - فالمميز ينوي هو بنفسه. ويأتي بما يستطع من واجبات وأركان الحج. وما لا يستطيع منها يؤديه عنه وليه. - وأما: غير المميز: فغير المميز: لا نية له ويؤدي النية عنه الولي. ثم يؤدي الصبي ما استطاع من الأعمال ويقوم الولي بما لم يستطع من الأعمال. * * مسألة/ وهي مهمة وتكثر الحاجة إليها: * إذا كان الصبي غير المميز لا يستطيع أن يطوف * - فالحكم: أن يطوف به وليه. فإن كان الولي محرماً أيضاً: فإن الولي سيحمل الطفل ويطوف به. ونحن نتكلم عن الطفل غير المميز لأنا انتهينا من الكلام عن الطفل المميز. * فإذا حمل الولي الطفل غير المميز وطاف به: فاختلف أهل العلم في هذا الطواف هل يكون للحامل؟ أو للمحمول؟ أو لهما؟ = فالقول الأول: أن هذا الطواف: لهما. فيجزئ عن الولي الحامل وعن الصبي المحمول. واستدل هؤلاء: - بأن المرأة التي رفعت صبياً وسألت النبي - صلى الله عليه وسلم - ألهذا حج؟ فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: (نعم ولك أجر).

ولم يبين أنها إذا حملته وهي محرمة فإنه لابد أن تأتي بطواف لها وبطواف له. فإن هذا القدر لم يذكر في الحديث. =والقول الثاني: أنه يكون للحامل دون المحمول. يعني: للولي دون الصبي. واستدلوا على هذا: - بأن العمل الواحد لا يكفي عن واجبين إذا كان بنية واحدة. فالآن الناوي والطائف هو: الولي. وليس من الصبي: عمل ولا نية ولا يمكن أن يكون العمل الواحد يكفي عن فرضين بنية واحدة. = والقول الثالث: أنه يصح عن الصبي - عن المحمول دون الحامل وهو الولي. - وقالوا: أنه في هذه الصورة صار الحامل كالآلة والحكم للمحمول. والقول الصواب إن شاء الله: أن الطواف عن الصبي غير المميز إذا نوى عنه الولي يصح عنه وعن الولي. يعني: الراجح القول الأول. وسبب الترجيح: - أن المسلمين ما زالوا يطوفون بأطفالهم وبصبيانهم ولم يأت في الشرع قط ما يدل على أن الولي يحتاج أن يطوف أولاً عن نفسه ثم عن الصبي أو يطوف عن الصبي أولاً ثم عن نفسه بل ما زال الناس يطوفون طوافاً واحداً وهم يحملون الأطفال. وهذا التعليل يتوافق مع عموم حديث المرأة التي استأذنت النبي - صلى الله عليه وسلم - في حج الصبي. وممن رجح هذا القول: أنه يجزئ عنهما: - الشيخ الفقيه ابن المنذر - رحمه الله -. - وأيضاً الفقيه الحافظ ابن حزم - رحمه الله -. - وأيضاً مال إليه ابن قدامة - رحمه الله -. وما ذهب إليه هؤلاء في الحقيقة قوي جداً وواضح. - ويضاف إلى الأسباب التي ذكرت: ما في هذا القول من التيسير على كثير من الناس الذين يحتاجون أن يطوفوا بأبنائهم وهم محرمون. - ثم قال - رحمه الله -: والعبد. يعني: ويصح حج العبد وعمرته. وتكون كما تقدم معنا نفلاً ويحتاج إذا عتق أن يأتي بحجة الإسلام. والدليل على صحة حج العبد: - أنه أهل للعبادة ويخلو من الموانع. فصحت عبادته. ولكن يشترط بالنسبة للعبد: أن يأذن السيد. لأنه تقدم معنا أن منافع العبد مستحقه للسيد. - ثم قال - رحمه الله -: والقادر: من أمكنه الركوب ووجد زاداً ومركوباً صالحين لمثله. بدأ المؤلف - رحمه الله - بتفصيل الشرط الخامس الذي تقدم معنا وهو: القدرة على الحج. - فبدأ بقوله - رحمه الله -: والقادر: من أمكنه الركوب.

من أمكنه الركوب هو: القادر. - ومن لم يستطع الركوب لأي سبب من الأسباب: سواء كان لمرض عارض أو لصفة جسدية دائمة إذا كان لا يستطيع أن يركب: فإنه لا يجب عليه أن يحج: لأنه لن يستطيع أن يصل إلى المشاعر إلا بالركوب. وهذا الشرط: • يتعلق بالشخص البعيد عن مكة. • أما بالنسبة للقريب الذي يستطيع أن يصل عادة وهو ما كان دون مسافة القصر فإنه لا يشترط له ذلك إذا كان يستطيع أن يمشي إلى مكة. ثم بين الشرط: - فقال - رحمه الله -: ووجد زاداً ومركوباً. = ذهب الحنابلة والجماهير إلى أن الاستطاعة تحصل بملك الزاد والراحلة. الحنابلة والشافعية والأحناف وجماعة كبيرة من السلف ذهبوا إلى أن الاستطاعة المذكورة في الآية هي: أن يجد الزاد والراحلة. بناء على هذا: مناط الوجوب عند هؤلاء أن يجد مالاً. وهو ما صرح به الإمام أحمد - رحمه الله -، فإن لم يجد مالاً يشتري به الزاد والراحلة أو لم يوجد عنده أصلاً الزاد والراحلة فإنه لا يجب عليه أن يحج ولو كان قادراً ببدنه. إذاً: يجب أن تفهم أن مناط الوجوب عند هؤلاء وجود المال الذي يستطيع به أن يحج بواسطة الزاد والراحلة. الدليل على هذا: - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - فَسَّرَ قوله تعالى {من استطاع إليه سبيلا}. فقال: (السبيل: الزاد والراحلة). وهذا الحديث جاء عن جماعة من الصحابة بطرق كثيرة موصولة، ومرسلة مرفوعة وموقوفة ضعيفة وضعيفة جداً وجاء من طرق كثيرة جداً وأفتى به الحسن البصري ناسباً إياه إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - واحتج به الإمام أحمد. فالأقرب والله أعلم أن أحاديث الزاد والراحلة: تصلح للاحتجاج بمجموعها وبكثرتها واختلاف المخارج وإفتاء السلف بها فكل هذه الأمور تدعم وتقوي أن حديث الزاد والراحلة يصلح للاحتجاج. بناءً على هذا: • من ملك زاداً وراحلة وجب عليه أن يحج. • ومن لم يملك الزاد والراحلة فإنه لا يجب عليه أن يحج ولا يأثم بذلك. = القول الثاني: وهو للمالكية فقط قالوا - رحمهم الله - أن الاستطاعة هي أن يتمكن من الوصول إلى الحرم بلا مشقة زائدة عن السفر المعتاد ولو مشياً. • فلا يشترط الراحلة إذا كان يستطيع أن يصل ببدنه.

• ولا يشترط الزاد إذا كان يستطيع أن يتكسب أثناء الطريق وفي مكة بأي وسيلة كان التكسب. واستدلوا على هذا: - بأن هذا الشخص يصدق عليه أنه مستطيع. - وأن أحاديث الزاد والراحلة ليست صحيحة. والصواب إن شاء الله وبوضوح مع الجمهور. سبب الترجيح: أن الله سبحانه وتعالى في الحج خاصة اشترط الاستطاعة: {من استطاع إليه سبيلا} [آل عمران/97]. ولم نجد أن الله سبحانه وتعالى اشترط الاستطاعة في الزكاة أو في الصيام أو في الصلاة أو في سائر العبادات. مع العلم أن شرط الاستطاعة موجود في كل العبادات. ولذلك النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: (صل قائماً فإن لم تستطع فقاعداً). فإذا وجدنا أن الله سبحانه وتعالى نص على اشتراط الاستطاعة في الحج دون سائر العبادات عرفنا أن هذا الشرط هو قدر زائد عن المشترط في العبادات الأخرى ولا يكون إلا بالمال. بالإضافة كما لا يخفاكم إلى حديث: الزاد والراحلة وأنه يصلح للاحتجاج وأفتى به جماعة من الفقهاء. بناءً على هذا: من لم يجد الزاد والراحلة لا يجب عليه أن يحج. ففي وقتنا هذا إذا لم يتمكن من الحصول على وسيلة نقل يصل من خلالها إلى مكة أو لم يجد مالاً يكفيه للأكل والشرب من خروجه من بيته إلى رجوعه فإنه لا يجب عليه أن يحج وقد سقط عنه الفرض ويصدق عليه أنه لا يستطيع. - ثم قال - رحمه الله -: صالحين لمثله. يعني: يجب أن تكون: - الراحلة صالحة لمثله. - والزاد صالحاً لمثله. والراحلة التي تصلح لمثله: يتحقق هذا بوجهين: - الوجه الأول: أن يكون الشخص لا يستطيع أن يركب على الراحلة إلا بوجود المحمل فإن ركب في غير محمل سقط. فالراحلة التي ليست لها محمل لا تصلح لمثله. - الوجه الثاني: أن يكون نوع المركوب لا يصلح لمثله لكونه كان من الشرفاء أو من الأغنياء أو من الوجهاء ممن لا يناسب معه أن يركب هذا المركوب. إذاً: فسرت مسألة أن يكون المركوب صالحاً لمثله بهذين الأمرين. بالنسبة للزاد: فكذلك: - الأمر الأول: أن لا يجد زاداً يصلح لمثله مما اعتاد على أكله وهو مناسب لمستواه المادي.

- الأمر الثاني: أن لا يجد زاداً يصلح لمثله من حيث مرضه. يعني: لا يجد - مثلاً لو افترضنا أنه لا يجد - في الحج أكلاً يناسب واقعه الصحي ولا يجد إلا أكلاً لو أكله لتضرر به كمرضى السكر والضغط على سبيل المثال. فهذا لم يجد زاداً يصلح لمثله. = القول الثاني: أنه لا يشترط أن تكون الراحلة والزاد تصلح لمثله بل متى وجد أي راحله أو أي زاد وجب عليه أن يحج سواء كانت من المستوى المناسب لحاله أو من المستوى الذي لا يناسب حاله. والراجح والله أعلم. أنه يشترط أن تكون الراحلة والزاد مناسبة لحاله بالمعنى الأول دون المعنى الثاني. يعني: • يشترط في الأكل أن يناسبه من حيث المرض والصحة. • ويشترط في الراحلة أن يستطيع أن يركبها بأن لا يسقط أو يتضرر. أما المعنى الثاني: وهي أن تكون مناسبة لمثله من حيث الشرف والغنى والوجاهة فهذا غير معتبر. - ثم قال - رحمه الله -: بعد قضاء الواجبات. = يعني: أن الشرط يتحقق: إذا وجد المال الزائد عن قضاء الواجبات فإن كان لا يملك إلا مالاً يقضي به الواجبات فليس بمستطيع للحج. ويقصد بالواجبات هنا: الديون الحالة أوالمؤجلة التي لله أو للآدمي. ويقصد بها الزكاة التي لم تخرج من ذمته ويقصد بها الكفارات مهما كان نوع الكفارة. فهذه ثلاثة أنواع: - الديون. - والزكوات. - والكفارات. - فمن كان عليه دين يستغرق ما بيده من المال لم يجب عليه الحج. = والقول الثاني: أن الدين إذا كان مؤجلاً ويتمكن من أداء الدين بعد رجوعه من الحج من تكسبه بصنعة معينة أو بوجود راتب وظيفة يأتي منتظماً فإنه يجب عليه أن يحج ويعتبر مستطيعاً. - لأن هذا الدين لا يطالب به حالاً وهو يتمكن من الأداء بعد الحج. ولعل هذا القول أقرب والله أعلم. بناء عليه: الذين عليهم أقساط سواء كانت هذه الأقساط للسيارات أو للبيوت، والذين عليهم أقساط للبنك العقاري والذين عليهم ديون لأناس يمهلونهم ويقبلون بالسداد المقسط فكل هؤلاء يجب عليهم أن يحجوا إذا وجدوا مالاً يكفي لحج هذه السنة، بشرط كما تقدم: أن يكونوا من الذين يستطيعون قضاء الديون إذا رجعوا. - ثم قال - رحمه الله -: والنفقات الشرعية.

يشترط في المال الذي يجب أن يحج الإنسان إذا وجد عنده: أن يكون زائداً عن النفقات الشرعية. - لقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: (كفى بالمرء إثماً أن يضيع من يعول). ويقصد بالنفقات: نفقة الرجل ونفقة جميع من يعول. أي نفقة الرجل ومن يجب عليه أن ينفق عليه. * * مسألة/ هل يشترط أن توجد النفقة من ذهابه إلى رجوعه فقط؟ أو يجب أن توجد النفقة على الدوام؟ = من الفقهاء من قال: يجب أن توجد النفقة على الدوام. فلا يجب عليه أن يحج إلا وقد أمن نفقته ونفقت أولاده على الدوام. إما بصنعة أو بإيجار أو بأي طريقة. = والقول الثاني: أن الواجب أن يؤمن نفقته ونفقة من يعول إلى أن يرجع من الحج فقط. ثم إذا رجع سعى في تحصيل النفقة. وهذا القول الثاني: هو الأقرب والله أعلم. أنه لا يجب عليه تحصيل النفقة على الدوام. وقال بعض المحققين أن هذا القول: (يشترط النفقة على الدوام)، يؤدي إلى عدم وجوب الحج على عامة الناس لأن كثيراً من الناس لا يملك النفقة على الدوام - يعني: نفقته لمدة سنين - فكثير من الناس لا يملكها في هذا الوقت الحاضر، وهذا يؤدي إلى عدم وجوب الحج على كثير من الناس وهذا من أوجه ضعف هذا القول. - ثم قال - رحمه الله -: والحوائج الأصلية. أي: يجب أن يكون المال الذي يحج به زائداً عن الحاجات الأصلية وإلا لم يجب عليه الحج. والحاجات الأصلية هي: التي لا يستغني عنها الإنسان ويحتاج إليها ولو لم تكن من الضروريات: كالمسكن والملبس والمركب والخادم وآلة العمل والكتاب الذي يقرأ فيه ونحو هذه الأمور التي يحتاج الإنسان إليها حاجة ملحة ولو لم تكن ضرورية. فإن كان عند الإنسان متاعاً زائداً عن حاجته الأصلية وجب عليه أن يبيعه وأن يحج به، مثل: أن يكون عند الإنسان أكثر من بيت أو أكثر من سيارة أو أكثر من أرض أو أن يكون عنده داخل البيت أغراض كثيرة لا تمس الحاجة إليها. بل إن الفقهاء - رحمهم الله - مثلوا بمن يجد أو بمن يوجد عنده كتابان - يعني: نسختين من كتاب واحد - فيجب أن يبيع إحدى النسختين ليحج. وهذا تدقيق منهم - رحمهم الله - أن الإنسان لا يجوز له أن يترك الحج وهو يملك من المتاع ما يستطيع أن يبيعه ويؤدي به فريضة الحج.

- ثم قال - رحمه الله -: وإن أعجزه كبر أو مرض لا يرجى برؤه: لزمه أن يقيم من يحج ويعتمر عنه من حيث وجبا. معنى هذه العبارة: أن الإنسان إذا اكتملت فيه جميع شروط الوجوب السابقة - وهي خمسة إلا أنه لا يستطيع لكونه مريضاً أو لكونه شيخاً كبيراً لا يستطيع أن يحج ففي هذه الحالة يجب عليه وجوباً أن ينيب من يحج عنه الفريضة. وهذا الذي يسميه الفقهاء: المستطيع بغيره، فهو لا يستطيع بنفسه لكنه يستطيع بغيره. ويشترط لوجوب الإنابة على هذا الشخص: أن يجد مالاً ونائباً وإلا لم يجب عليه أن ينيب. • فإن وجد نائباً ولم يجد مالاً: لم يجب عليه الحج بالإجماع. • وإن وجد مالاً ولم يجد نائباً: لم يجب عليه الحج. لكن اختلفوا في هذه المسألة: هل إذا وجد المال ولم يجد النائب تخلف في حقه شرط الوجوب أو شرط الأداء؟ والفرق بينهما: - أن شرط الوجوب إذا تخلف لم يجب في ذمته شيء أصلاً. - بينما شرط الأداء تكون العبادة واجبة في ذمته لكن لا يجب عليه أن يؤديها الآن، فإن مات وجب على الورثة أن يخرجوا من ماله من يحج عنه. يعني تبقى في ذمته. والصواب إن شاء الله: أن تخلف النائب أو عدم وجود النائب يعتبر إخلال بشرط الوجوب لا بشرط الأداء: لأنه يصدق عليه أنه لا يستطيع. بناء عليه: من مات وهذه حاله فلا يجب على الورثة أن يخرجوا من التركة من يحج عنه لأنه لم يجب عليه أصلاً. وعلى القول الثاني: يثبت في ذمته وجوب الحج فإن مات قبل أن يتمكن من وجود النائب وجب على الورثة أن يقيموا من يحج عنه. = القول الثاني: - في أصل المسألة - أن من لم يستطع بنفسه واستطاع بماله لا يجب عليه أن ينيب ولو ملك مالاً كثيراً. وإلى هذا ذهب الإمام مالك - رحمه الله -. واستدل: - بقوله تعالى: {ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا} [آل عمران/97]. وهذا لا يستطيع إليه سبيلاً. فهو بنفسه لا يستطيع إليه سبيلاً فسقط الوجوب. والراجح والله أعلم مع الجمهور وهو القول الأول: - لما ثبت في الصحيح أن رجلاً سأل النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: إن فريضة الله أدركت أبي شيخاً كبيراً لا يستطيع الثبوت على الراحلة. أفأحج عنه؟ قال: (حج عنه).

فدل هذا الحديث على: أن هذا الشيخ الكبير الذي يجد المال لكنه لا يستطيع أن يثبت على الراحلة يجب أن يقيم الابن من يحج عن أبيه بمال أبيه. - ولحديث أبي رزين أنه سأل النبي - صلى الله عليه وسلم - عن أبيه وأنه لم يستطع الحج فقال له النبي - صلى الله عليه وسلم -: (حج عن أبيك واعتمر). فهذه الأحاديث صريحة وواضحة في وجوب إقامة النائب لمن كان مستطيعاً بماله دون بدنه. - قوله - رحمه الله -: من حيث وجبا. يعني يجب إنابة النائب من حيث وجب الحج على هذا الذي لا يستطيع ببدنه ويستطيع بماله. ولم يقل المؤلف - رحمه الله -: (من بلده). لأن مكان الوجوب قد يكون البلد وقد يكون مكان ((الإيسار)). فمثلاً: لو كان الإنسان فقيراً لا يستطيع الحج وهو من سكان الكوفة ثم سافر إلى المدينة وفي المدينة وجد مالاً كسبه وأصبح يستطيع الحج. فهو الآن وجب عليه الحج في الكوفة أو في المدينة؟ في المدينة: فيجب أن ينيب عنه من يحج من المدينة لا من مدينته الأصلية وهي الكوفة، ولهذا قال المؤلف - رحمه الله -: (من حيث وجبا). ولم يقل: (من مدينته أو من بلدته) فيجب أن يقيم النائب أو أن يكلف النائب من حيث وجب عليه الحج. واستدلوا على هذا: - بأن المنيب إنما وجب عليه الحج من مكان الوجوب فكذلك النائب. - وبأن القضاء يحكي الأداء. - وببعض ظواهر الآثار عن الصحابة. فقد روي عن بعض الصحابة آثار ظاهرها وجوب الحج من البلد. = والقول الثاني: وهو مذهب الشافعي: أن الواجب الإنابة من من ميقات هذا المنيب. واستدل الشافعي على هذا القول: - بأن الإحرام إنما يجب من الميقات ولا يجب قبل الميقات بل لا يشرع. فإذا كان الإحرام وهو النسك يجب من الميقات فيجب أن نقيم النائب من الميقات لا من البلده، لأن المسافة بين بلدة المنيب والميقات لا دليل على وجوب قطعها. والراجح والله أعلم القول الثاني: لأن قطع المسافة من البلد إلى مكة مطلوب لغيره لا لذاته. يعني: مطلوب لأن يصل الإنسان إلى مكة وليس هو بنفسه مطلوباً.

على أن بعض العلماء قال: بل قطع المسافة من البلد إلى مكة مطلوب بذاته لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - سمى الحج جهاداً بالنسبة للنساء وكذلك الرجال والجهاد من المقصود فيه قطع المسافات. لكن الأقرب قول الشافعي لعدم وجود دليل واضح على وجوب إقامة النائب من بلد الذي لا يستطيع الحج ببدنه ويستطيع بماله. علم مما تقدم من الخلاف: أنه لم يقل أحد من الفقهاء فيما أعلم أن يكون النائب من مكة، يعني: جواز إنابة الشخص من مكة، فبعد البحث حسب ما تيسر لي لم أجد من صرح بجواز إقامة النائب من مكة وإنما قالوا: إما من بلده أو من الميقات. اختلفوا على هذين القولين. لكن لعله يلتمس قول ثالث ويبحث ويتأكد من عدم وجود قول ثالث: أنه يجوز إقامة النائب من داخل مكة. أما الآن فلم أجد من صرح على الأقل بجواز إقامة النائب من مكة. - ثم قال - رحمه الله -: ويجزئ عنه وإن عوفي بعد الإحرام. إذا أنا الإنسان شخصاً يحج مكانه فهو ينقسم إلى ثلاثة أقسام: ـ القسم الأول: أن يعافى المنيب قبل أن يشرع النائب بأعمال الحج، ففي هذه الحال لا يجزئ حج النائب عن فريضة الإسلام قولاً واحداً. ـ القسم الثاني: أن يشفى ويعافى الذي لا يستطيع ببدنه بعد أن يأتي النائب بجميع مناسك الحج. ففي هذه الصورة خلاف: = فالمذهب أنه يجزئه. - لأن الذي أناب قد أتى بما أمر الله به ورسوله - صلى الله عليه وسلم - على الوجه الشرعي فبرئت ذمته. = والقول الثاني: أنه لا يجزئه. - لأنه تبين أنه ليس من أهل الإنابة فقد برئ. والصواب مع الحنابلة. ـ القسم الثالث: أن يعافى ويشفى أثناء أداء الحج. فأيضاً في هذه الصورة خلاف: = فالحنابلة يجزئه. - لأنه شرع في العبادة. قياساً على من شرع في خصلة من خصال الكفارة ثم قدر على التي أعلى منها. = والقول الثاني: أنه لا يجزئه، بل يكون حج النائب نفلاً، وإلى هذا مال ابن قدامة وشيخ الإسلام ابن تيمية - رحمهما الله -. - - قياساً على من صلى بالتيمم ثم حضر الماء أثناء الصلاة. فتقدم معنا أن الأقرب في هذه المسألة أنه يستأنف بعد الوضوء. وكذلك هنا الراجح أنه لا يجزئه إن عوفي في أثناء الحج بل تكون نفلاً له. ويلزم بحجة الإسلام من العام القادم.

- ثم قال - رحمه الله -: ويشترط لوجوبه على المرأة: وجود محرمها. يشترط في المرأة خاصة وجود المحرم: = وهذا مذهب الحنابلة. والعلماء اختلفوا في هذه المسألة على ثلاثة أقوال: = القول الأول: أن وجود المحرم بالنسبة شرط وجوب. فإن لم تجد محرماً ولو كانت غنية فلا يجب عليها الحج وإن ماتت لا يجب على الورثة أن ينيبوا من يحج عنها. واستدل هؤلاء: - بالأحاديث الصحيحة الصريحة المشهورة المتواترة التي جاءت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - من أكثر من وجه أنه قال: (لا يحل لمرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تسافر إلا مع ذي محرم) فقال رجل يا رسول: إن امرأتي انطلقت حاجة وقد اكتتبت في غزوة كذا وكذا، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: (انطلق فحج مع امرأتك). فهذا الحديث فيه وجوب المحرم في الحج خاصة، وهو في الصحيح. - وروي عنه - صلى الله عليه وسلم - من الأحاديث التي لم تنص على الذهاب مع المرأة في الحج أحاديث كثيرة جداً تشترط المحرم ومخارجها متعددة، ومنها ما قيد بثلاثة أيام ومنها ما قيد بيوم وليلة ومنا ما قيد ببريد وحمل الفقهاء - رحمهم الله - هذه الاختلافات عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنها ترجع إلى اختلاف السائل - بحسب اختلاف السائل. = القول الثاني: أن شرط المحرم شرط أداء لا وجوب. يعني: يشترط لوجوب الحج وجود المحرم لكنه شرط أداء لا وجوب فلا يجب على المرأة إذا لم تجد المحرم أن تحج في وقتها هذا لكنها إن ماتت قبل أن تحصل المحرم وجب على ورثتها أن يخرجوا من يحج عنها من تركتها. = القول الثالث: أن المحرم بالنسبة للمرأة إذا أرادت أن تحج لا يشترط مطلقاً. ويجب أن تفهم: أننا نتحدث عن المحرم في الحج لا المحرم في سائر الأسفار، وهذا القول الثالث الذي لا يشترط المحرم مطلقاً هو مذهب مالك والشافعي. واستدلوا على هذا: - بأن المرأة إذا وجدت فيها جميع الشروط وهي قادرة ببدنها وتجد الزاد والراحلة والمال فهذه مستطيعة ولو تخلف المحرم فيجب عليها أن تحج. ولكن مع ذلك اشترطوا: - أن تحج مع رفقة مأمونة. فهذا من شروط المالكية والشافعية. أن تحج مع رفقة مأمونة: إما مع جماعة النساء أو مع امرأة مأمونة مسلمة ثقة.

ولذلك شيخ الإسلام - رحمه الله - يقول: أجمع العلماء على أن المرأة إذا أرادت أن تحج يجب أن توجد سبل الأمان لها لكن اختلفوا: فمنهم من قال المحرم، ومنهم من قال جماعة النساء، ومنهم من قال امرأة ثقة. إذاً القول بأنه يجوز أن تحج بدون محرم مطلقاً هذا يخالف كلام الأئمة الذين لم يشترطوا المحرم، فإنهم اشترطوا أن تكون في سفر مأمون، ونصوا على: إما أن تكون مع مجموعة من النساء الثقات أو على الأقل امرأة واحدة ثقة تباشر حاجات هذه المرأة. واستدل هؤلاء: - بما تقدم. - وبقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: (يوشك أن تخرج الضعينة من الكوفة إلى مكة ليس معها أحد). فدل الدليل على أن المرأة - الضعينة - يمكن أن تخرج وتسافر بلا محرم. والجواب على الاستدلال بهذا الحديث: من وجهين: - أولاً: أن هذا الحديث ليس خاصاً في المحرم والاستدلال بالخاص مقدم على الاستدلال بالعام. - ثانياً: أن هذا الحديث ليس من مقصوده بيان حكم سفر المرأة بدون محرم وإنما سيق لبيان أو لضرب المثل على وجود الأمن في آخر الوقت. والراجح والله أعلم القول الأول وهو أنه شرط وجوب. ومن العجب أن يترك الإمام الشافعي والإمام مالك الأحاديث الصحيحة الصريحة المصرحة بجواز اشتراط المحرم للمرأة في الحج خاصة. وأيضاً الأحاديث الأخرى التي اشترطت وجود المحرم للمرأة في السفر لم تفرق بين سفر وسفر. ومن المعلوم أن سفر المرأة لا سيما في القديم للحج لأنه ليس من شأنها التجارة فغالب أسفارها ستكون في الحج فسفر الحج من أوائل ما يدخل في السفر الذي نهى النبي - صلى الله عليه وسلم - أن تسافره إلا مع محرم. وأما شيخ الإسلام - رحمه الله - فجاء عنه قولان في هذه المسألة: = القول الأول: أنه يشترط فقط وجود صحبة من النساء الثقات. = والقول الثاني: أنه يشترط محرم. وبهذا أفتى لما كان بمصر - رحمه الله -. وعلى كل حال سواء كان اختيار شيخ الإسلام أنه يجب أو لا يجب الراجح بلا شك وبوضوح أنه يجب على المرأة أن لا تسافر إلا مع محرم وأنها إن سافرت ولو لقربة كالحج بلا محرم فقد ارتكبت إثماً وعرضت نفسها للانتهاك. * * مسألة / فإن سافرت بلا محرم وحجت: فهي آثمة والحج صحيح. - ثم قال - رحمه الله -:

وهو زوجها، أو من تحرم عليه على التأبيد: بنسب أو سبب مباح. يريد المؤلف - رحمه الله - أن يبين بهذه العبارة من هو المحرم؟ والمحرم على ثلاثة أنواع: - النوع الأول: الزوج. - النوع الثاني: من يحرم على التأبيد بنسب. - النوع الثالث: من يحرم على التأبيد بسبب مباح. وجميع الأنواع الثلاثة ذكرها المؤلف - رحمه الله -. فالزوج واضح. - الثاني: من يحرم على التأبيد بنسب: وهم الأب والابن والأخ وابن الأخ وابن الأخت والخال والعم. فهؤلاء سبعة. - الثالث: من يحرم على التأبيد بسبب مباح: وهو ينقسم إلى قسمين: ـ الأول: الرضاع. ـ والثاني: المصاهرة. - فالذين يحرمون بالرضاع هم: نفس السبعة الذين يحرمون بالنسب. - لقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: (يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب). فصار سبعة بالنسب وسبعة بالرضاع. - من يحرم بالمصاهرة أربعة: 1 - أبو الزوج. 2 - وابن الزوج. 3 - وزوج الأم. 4 - وزوج البنت، فهؤلاء الأربعة يجوز للمرأة أن تحج معهم وهم يحرمون: بالمصاهرة. وعلم من كلام المؤلف - رحمه الله - - وهو من قوله: (بنسب أو بسبب مباح) أن السبب المحرم لا يجوز معه السفر ولا يعتبر محرماً. السبب المحرم كالزنا: فأم المزني بها وابنة المزني بها لا يعتبر الزاني محرماً لهما ولا يجوز أن يسافروا معه لأن هذا سبب محرم. - وكذلك قول المؤلف - رحمه الله - هنا -: (من تحرم عليه على التأبيد). أما من تحرم عليه لكن ليس على التأبيد فليس بمحرم في السفر. ومثال من تحرم عليه - ليس على التأبيد أخت زوجته فإنها تحرم على الزوج لكن ليس على التأبيد. فهو ليس محرماً لها وإن كانت تحرم عليه. - ثم قال - رحمه الله -: وإن مات من لزماه: أُخرجا من تركته. يعني: وإن مات من استوفى شروط الحج والعمرة ولم يحج فهو آثم إذا كان بغير عذر ويجب أن يُخرج من تركته من أصل المال - من رأس المال - من يحج عنه. وسواء في هذا أوصى هذا الميت أو لم يوص، فهي دين في ذمته وهي دين لله فيجب أن يخرج الورثة من تركته من يحج عنه. وبهذا انتهينا من الباب الأول من كتاب المناسك ونقف عند هذا الحد سائلين المولى أن يعين على باقيه. والله أعلم وصلى الله وسلم على نبينا محمد ...

باب المواقيت

شرح كتاب المناسك الدرس رقم (3) قال شيخنا حفظه الله: بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين. في السنة السابقة انتهينا من الباب الأول من كتاب الحج وتوقفنا على باب المواقيت، فنبدأ إن شاء الله ومستعينين به تعالى. باب المواقيت. - قال - رحمه الله -: باب المواقيت. المؤلف - رحمه الله - خصص هذا الباب لبيان مواقيت الحج. والميقات في لغة العرب هو: الحد. فالموقت هو: المحدد. والأصل في لغة العرب: أن المواقيت تتعلق بالزمان لكن اتسع الاصطلاح ليشمل المواقيت المكانية، وإلا فالأصل أن الميقات يتعلق فقط بالزمان. ومواقيت الحج تنقسم إلى قسمين: - القسم الأول: المواقيت الزمانية. - والقسم الثاني: المواقيت المكانية. والمواقيت الزمانية ستأتينا. والمواقيت المكانية تنقسم إلى قسمين: - القسم الأول: من كان سكنه دون الميقات. - والقسم الثاني: من كان سكنه قبل الميقات. وسيأتينا في كلام المؤلف حكم كل واحد من النوعين. والمؤلف - رحمه الله - بدأ بالمواقيت المكانية والسبب - والله أعلم - في أنه - رحمه الله - بدأ بها: - أن الأحكام التي تعلق بالمواقيت المكانية أكثر والحاجة إليها أمس. - قال - رحمه الله تعالى -: ميقات أهل المدينة ذو الحليفة. ميقات أهل المدينة: ذو الحليفة. وسيأتينا النص الدال على أن هذا هو ميقات أهل المدينة. وذو الحليفة هو أبعد المواقيت من مكة. ويسمى الآن: أبيار علي، وسمي بهذا الاسم: لأنه واد تكثر فيه أشجار الحلفة. ويبعد عن مكة نحو: 420 كيلو، ولذلك اعتبر أبعد المواقيت من مكة. - ثم قال - رحمه الله تعالى -: وأهل الشام ومصر والمغرب الجحفة. الجحفة هو ميقات: أهل الشام. والجحفة في الأصل قرية كبيرة عامرة في طريق الحجاج من الشام إلى مكة لكنها الآن قرية خربة. وسبب خراب هذه القرية: أن السيول اجتحفتها فأصبحت خرابة ولذلك سميت الجحفة، ولما صارت خراباً انتقل الناس إلى الإحرام من رابغ. - وقول المؤلف - رحمه الله -: أهل مصر والمغرب.

لأن أهل مصر والمغرب كانوا يأتون إلى الحرمين عن طريق البر وذلك قبل حفر قناة السويس، فكانوا هم وأهل الشام يلتقون في هذا الميقات. ويقصد بالمغرب: لا يقصد البلد وإنما يقصد جميع الدول التي في جهة المغرب، فمصر ودول المغرب كانت كلها تحرم من الجحفة، والجحفة تلي ذي الحليفة في البعد، فأبعد المواقيت ذو الحليفة ثم يليه الجحفة. وتبعد نحو 190 كيلاً. - ثم قال - رحمه الله تعالى -: وأهل اليمن يلملم. يلملم: وادي في طريق القادم من اليمن إلى مكة. ويبعد عن مكة نحو 120 كيلاً. وفي هذا الوادي بئر يسمى السعدية كانوا يحرمون منه قديماً وهو يقع على الخط القديم الذي يصل ما بين الجنوب ومكة، وأما الآن فقد وضعت الدولة خطاً جديداً مهيئاً وهو أحسن من الخط الأول فصار الميقات على الخط الجديد بدل الخط القديم، فقد أوجدوا مسجداً على الخط الجديد محاذٍ ليلملم وصار الناس يحرمون من هذا الميقات الذي هو على الخط الجديد بدل السعدية الموجودة على الخط القديم. ثم قال - رحمه الله تعالى -: وأهل نجد قرن. القرن في لغة العرب: هو الجبل الصغير المنفصل عن الجبال الكبيرة القريبة منه. وقرن المنازل وادٍ معروف يسمى الآن: السيل الكبير، وهو: أقرب المواقيت إلى مكة إذ يبعد نحواً من 75 كيلاً تقريباً، وهو ميقات لأهل نجد، وذكر بعض الفقهاء أن الحكمة من كونه قريباً من مكة: أن أهله بعيدين عن مكة فإن نجداً بعيدة عن مكة.

* * مسألة/ الميقات الذي يوجد الآن على طريق النازل من الطائف على طريق الهدى والذي يسمى وادي محرم هو نفسه السيل الكبير لأن هذا الوادي يمتد إلى أن يصل إلى تلك المنطقة فهو أعلى هذا الوادي الذي ينزل إلى قرن المنازل - المعروف الآن - ولذلك فإن أهل نجد مخيرون في إحرامهم سواء كان من السيل الكبير أو من وادي محرم فهم بالخيار، فإذا كانت طائرة الإنسان مثلاً: تأتي من الرياض إلى الطائف مباشرة فلا شك أن وادي محرم أهيأ له وأقرب ليحرم منه أثناء نزوله من الطائف إلى مكة، والذي يعنينا الآن أن نعرف أن وادي محرم هو امتداد لهذا الوادي الذي جعله النبي - صلى الله عليه وسلم - محرماً والإحرام منه يجوز أو من السيل الكبير الذي هو قرن المنازل فالأمر فيه سعة. - ثم قال - رحمه الله تعالى -: وأهل المشرق ذات عرق. العرق: هو الجبل الصغير. وذات عرق: هي ميقات لأهل العراق، وهي محاذية للجحفة، وكانت مكاناً عامراً يحرم منه أهل العراق ثم لما وجدت الطرق السريعة المعاصرة لم يكن هذا الميقات على أحد من هذه الطرق فأصبح الآن مهجوراً لا قيمة له بسبب عدم مرور أي من الطرق السريعة على هذا الميقات. فهذه المواقيت هي المواقيت التي حددها النبي - صلى الله عليه وسلم -. والدليل على هذه المواقيت - ولله الحمد - صحيح صريح وهو: - ما أخرجه البخاري ومسلم عن ابن عباس - رضي الله عنهما - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - "وقت لأهل المدينة ذا الحليفة ولأهل الشام الجحفة ولأهل نجد قرن ولأهل اليمن يلملم". فالترتيب الموجود في الحديث يخالف الترتيب الموجود عند المؤلف فإنه ذكر ميقات أهل المدينة ثم ميقات أهل الشام ثم ميقات أهل اليمن ثم ميقات أهل نجد ولو أنه قدم ميقات أهل نجد على ميقات أهل اليمن لكان كلامه متوافق مع ترتيب الحديث. قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: (هن لهن ولمن أتى عليهن من غير أهلهن ممن أراد الحج أو العمرة ومن كان دون ذلك فمن حيث أنشأ حتى أهل مكة من مكة). وقوله: (هن لهن) أي: لمن سكن في هذه البلدان، يعني: لأهل هذه البلدان. ففي هذا الحديث: التوقيت لأهل الشام واليمن ونجد والشام ومصر وليس فيه التوقيت لأهل العراق.

واختلف العلماء: من هو الذي وقت ذات عرق لأهل العراق؟ على قولين: = القول الأول: أنه النبي - صلى الله عليه وسلم -. واستدلوا على هذا: - بما أخرجه أصحاب السنن أن النبي - صلى الله عليه وسلم - وقت لأهل العراق ذات عرق. =والقول الثاني: أن الذي وقت لهم هذا الميقات هو أمير المؤمنين عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - * * والصواب * * مع القول الثاني: - لأن الحديث المرفوع الذي فيه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - هو الذي وقت ذات عرق: حديث ضعيف معلول ولا يثبت مرفوعاً إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -، ولذلك ذكر البخاري هذا الحديث موقوفاً عن عمر وأعرض عن الحديث المرفوع إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -، فإذاً صار الذي وقته هو عمر ب الخطاب - رضي الله عنه -. - ثم قال - رحمه الله تعالى -: وهي لأهلها ولمن مرّ عليها من غيرهم. أي: أن هذه المواقيت لمن حددت له من الأمصار، وهي ميقات لمن مر عليها ولو من غير أهل تلك الأمصار، وهذه العبارة من المؤلف فيها عدة مسائل مهمة: o المسألة الأولى: هل يجوز الإحرام قبل المواقيت المكانية؟ كما لو أحرم أهل العراق من البصرة - مثلاً - أو من بغداد قبل أن يصلوا إلى ميقاتهم، أو لو أحرم أهل الشام من دمشق أو من عمان قبل أن يصلوا إلى الجحفة ... إلخ .. الجواب: أجمع أهل العلم أنه يجوز أن يحرم قبل الميقات المكاني وأنه ينعقد لكن مع الكراهة - ونحن نتكلم في المواقيت المكانية وسيأتينا الحديث عن الإحرام قبل الموقيت الزمانية -. إلا أن ابن حجر ذكر أن إسحاق بن راهويه وداود الظاهري خالفوا الجماهير وحرموا ومنعوا أن يحرم الإنسان قبل الميقات المكاني. * * والصواب * *: مع قول الجماهير والذي حكي إجماعاً. والسبب في ترجيح مذهب الجماهير: - أنه مروي عن أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - أن بعضهم أحرم قبل الميقات المكاني، فإذا كان هذا القول مروي عن أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - ومحكي إجماعاً وهو مذهب الجماهير ولم يخالف إلا داود وإسحاق فلاشك - إن شاء الله - أن الراجح مع الجماهير وهو: الجواز مع الكراهة، وأن من فعل ذلك فقد خالف السنة.

o المسألة الثانية: من كان في طريقه إلى مكة ميقاتان: فهل يجب أن يحرم من الميقات الأول؟ أو يجوز أن يؤخر الإحرام إلى الميقات الثاني؟ إذا كان الميقات الثاني هو الميقات الأصلي له. إذاً المسألة مفروضة فيمن مر على ميقاتين الثاني هو الميقات الأصلي له. مثاله: كأن يسافر رجل من أهل نجد إلى مكة ويمر بميقات أهل المدينة فأمامه ميقات أهل نجد وهو الآن مر بميقات أهل المدينة فهل يجب عليه أن يحرم من هذا أو ذاك؟ فيه خلاف: = القول الأول: للجماهير والجم الغفير من أهل العلم - أنه يجب أن يحرم من أول ميقات يمر عليه ولا يجوز أن يؤخر إلى الميقات الثاني ولو كان هو ميقاته الأصلي. واستدلوا على هذا القول: - بأن النبي - صلى الله عليه وسلم - في حديث ابن عباس - رضي الله عنهما - بين هذه المسألة فقال: (هن لهن ولمن مر عليهن من غير أهلهن). ويكاد يكون الحديث نص في المسألة، أن الميقات الأول هو ميقات له، وإذا كان ميقات لهذا الذي مر فالميقات لا يجوز لإنسان أن يتجاوزه بلا إحرام. = القول الثاني: - لبعض المالكية واختاره شيخ الإسلام - أنه يجوز أن يؤخر الإحرام إلى الميقات الثاني إذا كان هو ميقاته الأصلي. واستدلوا أيضاً بأدلة فيا وجاهة: - الدليل الأول: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال لأصحابه لما أرادوا أن يحرموا من ميقات أهل المدينة: (من أراد أن يستمتع بثيابه إلى الجحفة فليفعل). فالنبي - صلى الله عليه وسلم - أذن لهم أن يؤخروا الإحرام إلى الميقات الثاني. والجواب عليه: أن هذا لحديث لا يصح مرفوعاً إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - لكنه يصح مرسلاً إلى محمد بن علي - رضي الله عنه -، فهو صحيح مرسلاً ضعيف مرفوعاً إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -. - الدليل الثاني: روي أن عائشة - رضي الله عنها - أحرمت مرة من ذي الحليفة ومرة من الجحفة وهي من أهل المدينة فأخرت إحرامها إلى الجحفة. والجواب عليه: أن هذا الأثر فهم من عائشة - رضي الله عنها - وهو يخالف منطوق حديث ابن عباس - رضي الله عنهما -.

- الدليل الثالث - والأخير -:أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (ميقات أهل الشام الجحفة) فالحديث جعل الجحفة ميقاتاً للشام سواء مر قبل ذلك بذي الحليفة أو لم يمر. والجواب عليه: أن آخر الحديث ينقض الاستدلال بأوله فإن آخر الحديث بين أن هذه المواقيت مواقيت لأهل تلك الأمصار ولمن مر عليها من غير أهل تلك الأمصار. وهذه المسألة: أصبحت في وقتنا المعاصر غاية في الأهمية لسهولة السفر وكثرة الذين يمرون بالمواقيت القريبة من الحرم. فصار سؤال الناس عن هذه المسألة كثير جداً لأنه يسهل عليهم أن يمروا بالميقات القريب من مكة وهو كما تقدم معنا: السيل. * * الراجح * * في هذه المسألة إشكال - وقلت لكم أن القول الثاني هو لبعض المالكية وأيضاً اختاره شيخ الإسلام بن تيمية، لكن يظهر لي أن هذا القول ضعيف وأن الأقرب - إن شاء الله - مذهب الجماهير وهو: أنه يجب أن يحرم من أول ميقات. على أني أقول كما نبهت مراراً إلى أن المسألة الخلاف فيها قوي وأدلة أصحاب القول الثاني فيها وجاهة وتحتمل القبول وأن يرجح القول لأجلها. لكن لما كان الجمهور معهم نص صريح صحيح وواضح وهو أحوط فرأيي أن هذا القول أوفق للحديث وأحوط لدين الإنسان. o المسألة الأخيرة: حكم تجاوز الميقات بدون إحرام لمن أراد الحج أو العمرة. - أجمع أهل العلم بلا خلاف على: - تحريم تجاوز الميقات بلا إحرام لمن كان مريداً للنسك. - وأنه إذا تجاوز الإحرام فهو آثم إذا كان عمداً بعلم وعليه أن يتوب ويستغفر. - ثم: إن رجع إلى الميقات قبل أن يحرم فإنه يسقط عنه الدم على الصحيح من قولي أهل العلم. - وإن أحرم بعد أن تجاوز الميقات فإنه يثبت عليه الدم رجع أو لم يرجع لا كما يفهم بعض إخواننا أنه إذا رجع ولو بعد الإحرام سقط عنه الدم بل إذا أحرم بعد أن تجاوز الميقات فإنه يثبت عليه الدم رجع أو لم يرجع ما دام أنه أحرم. ولا نريد الآن أن ندخل في مسألة: الدم المترتب على ترك الواجب لأنه سيأتينا في منطوق المؤلف أو نصه ونتحدث عن هذه المسألة. المهم: أن تجاوز الميقات لمن أراد النسك محرم بالإجماع: فإن رجع قبل أن يحرم سقط عنه الدم وبقي أن يتوب. وإن رجع بعد أن يحرم فالدم يثبت في ذمته.

- ثم قال - رحمه الله تعالى -: ومن حج من أهل مكة: فمنها. تقدم معنا أن الناس على قسمين: منهم من هو دون المواقيت. سواء كان من أهل مكة أو من غير أهل مكة ممن هو دون المواقيت كأهل جدة وبحرة وغيرهم، فهؤلاء يقول المؤلف - رحمه الله - عنهم: (ومن حج من أهل مكة: فمنها) فالإحرام لأهل مكة: من مكة بالإجماع. - لقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: (حتى أهل مكة من مكة). ونحن نتحدث عن الحج وسيأتينا الكلام عن العمرة. ومقصود المؤلف - رحمه الله - بقوله: (أهل مكة) من كان في مكة عند إرادة النسك سواء كان مقيماً في مكة أو غير مقيم، فكل شخص في مكة نوى أن يحج فإنه يحرم من مكة. - ثم قال - رحمه الله تعالى -: وعمرته من الحل. يعني أنه إذا أراد المكي أن يعتمر فيجب عليه وجوباً أن يحرم من الحل ولا يجوز أن يعقد الإحرام من مكة. وهذا القول الذي ذكره المؤلف - رحمه الله - هو: = مذهب الأئمة الأربعة. بل مذهب الجماهير من أهل العلم من فقهاء التابعين وغيرهم بل حكاه الطبري إجماع أهل العلم: أن المكي لا يجوز له أن يعقد إحرام العمرة من مكة. واستدلوا على هذا بدليلين: - الأول: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمر بالخروج بعائشة - رضي الله عنها - إلى التنعيم لتحرم بالعمرة في قصتها المشهورة لما حاضت وفاتها أن تأخذ عمرة مع الحج - كما سيأتينا حديثها مفصلاً. - والثاني: أنه مروي عن ابن عباس - رضي الله عنهما - أن المكي إذا أراد أن يحرم فإنه يجب أن يخرج إلى الحل. - والدليل الثالث: أن المعهود في الشرع أن الإحرام لابد أن يجمع فيه الإنسان بين الحل والحرم. ففي الحج سيجمع الإنسان بين الحل والحرم بأن يخرج إلى عرفة وفي العمرة لن يخرج إلا إذا أحرم من خارج الحرم من الحل فوجب عليه أن يخرج. = والقول الثاني: جواز الإحرام بالعمرة من مكة. وإلى هذا ذهب الصنعاني - رحمه الله - ولا أعلم أن أحداً من أهل العلم تابع الصنعاني على هذا القول - أعني من المتقدمين إلا أن البخاري قال: باب مهل أهل مكة للحج والعمرة. الراجح من القولين إذا اعتبرنا القول الثاني قولاً يعتد به:

الراجح هو القول الأول الذي حكي إجماعاً، بل نستطيع أن نقول أن هذا القول قول شاذ ويحكم على هذا القول بأنه من الأقوال الشاذة. فإن الإمام مالك بن أنس - رحمه الله - يقول: لا أعلم أن أحداً رأى العمرة من مكة. وانطلاقاً من حكاية الإجماع الذي حكاه الطبري ومن هذه العبارة من الإمام مالك: نستطيع أن نقرر أن هذا القول قول شاذ مخالف لأقوال أهل العلم. ولذلك لا ينبغي في الحقيقة - ومن وجهة نظري - التعويل عليه أو الفتوى به لمخالفته ما عليه جمهور أهل العلم أو إجماع أهل العلم. ثم بدأ المؤلف بالمواقيت الزمانية: - فقال - رحمه الله تعالى -: وأشهر الحج: شوال وذو القعدة وعشر من ذي الحجة. أشهر الحج: = عند الحنابلة: هذه التي ذكرها المؤلف - رحمه الله -. شوال وذو القعدة وعشر من ذي الحجة. واستدل الحنابلة: - بأن هذا التحديد مروي عن ابن عمر - رضي الله عنه - وليس مما يقال من قبيل الرأي. = والقول الثاني: أن أشهر الحج شوال وذو القعدة وذو الحجة كاملاً. واستدل هؤلاء بدليلين: - الدليل الأول: أن هذا القول صح عن عمر وابنه وابن عباس - رضي الله عنهم - - الدليل الثاني: أن الله تعالى قال: {الحج أشهر معلومات .. } [البقرة/197] وأشهر جمع، والجمع في لغة العرب لا يصدق إلا على ثلاثة فصاعداً. فدل على أن المواقيت الزمانية ثلاثة أشهر. فهذا القول هو القول الصحيح إن شاء الله، لو لم يكن في الباب إلا أن هذا رأي عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -، فضلاً عن أنه يتوافق مع ظاهر الآية، فضلاً عن أنه يتوافق مع فتوى اثنين من علماء الصحابة: ابن عمر وابن عباس، فإذا نظر الإنسان في هذه الأدلة تبين له بوضوح أن القول بأن أشهر الحج ثلاثة هو القول الصواب إن شاء الله. ونختم هذا الباب بمسألة مهمة: - وهي: حكم الإحرام بالحج قبل ميقاته الزماني: = ذهب الحنابلة رحمهم الله تعالى إلا أنه يجوز وينعقد مع الكراهة الإحرام بالحج قبل ميقاته الزماني. = والقول الثاني: وهو مذهب الجماهير - الأئمة الثلاثة وغيرهم أن الإحرام بالحج لا ينعقد قبل ميقاته الزماني، فإذا لبى بالحج قبل أشهره انقلب إلى عمرة.

باب في الإحرام والتلبية وما يتعلق بهما

- لأن الله تعالى وقت للحج ميقاتاً زمانياً معيناً ولا يعلم بهذا فائدة إلا منع الإحرام في غير هذا المقت المحدد. وكما ترون مذهب الحنابلة في هذه المسألة: ضعيف، ومذهب الأئمة الثلاثة قوي ومتوافق مع النصوص. ويؤيد هذا: - أنه لم يرو عن أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - في هذا الباب ماروي عنهم في باب الميقات المكاني، فلم يرو عن أحد من أصحابه - صلى الله عليه وسلم - أنه أحرم بالحج قبل ميقاته الزماني فيما أعلم. وهناك فارق آخر بين الميقات الزماني والمكاني ذكره بعض الفقهاء - وهو حسن - فقال: مقصود النبي - صلى الله عليه وسلم - من الميقات المكاني أن لا يتجاوز الإنسان هذا المكان إلا بعد الإحرام فإذا أحرم قبله بمراحل فهو لم يخالف هذا الغرض بل إن الأحناف بالغوا ورأوا أن الإحرام بالحج أو العمرة قبل ميقاته المكاني مستحب بينما ذهب الجمهور إلى أنه مكروه مع الجواز والصحة. المهم أن هذا الفارق بين الميقات الزماني والمكاني يؤكد صحة ما ذهب إليه الأئمة الثلاثة وهو أن الإحرام بهذه المواقيت لا ينعقد. باب في الإحرام والتلبية وما يتعلق بهما. - قال - رحمه الله -: باب في الإحرام والتلبية وما يتعلق بهما. أي باب لبيان أحكام الإحرام من الواجبات والسنن وغير ذلك مم يتعلق بتفاصيل أحكام الإحرام. - قال - رحمه الله -: الإحرام: نية النسك. تقدم معنا مراراً أن المؤلف - رحمه الله - ممن لا يعتنون ببيان معاني المفردات في لغة العرب لكونه من المختصرات. o ففي لغة العرب: الإحرام هو: نية الدخول في التحريم. ومعنى التحريم: أن يحرم الإنسان على نفسه ما كان حلالاً أياً كان نوع هذا التحريم، فإذا قال الإنسان: عزمت على أن أتكلم، فقد أحرم الآن يعني: دخل في التحريم أي التحريم على نفسه جنس الكلام، ومعنى الإحرام يعني: الدخول في التحريم كما تقول: أمسى يعني دخل في المساء، وأصبح يعني دخل في الصباح، فأحرام يعني دخل في التحريم، إذاً الآن تبين لنا معنى هذه اللفظة في لغة العرب. o أما في الاصطلاح: فالإحرام هو: نية الدخول في النسك.

وأصبحت هذه اللفظة (الإحرام) في الشرع علم على إحرام مخصوص وهو نية الدخول في أعمال الحج والعمرة فقط، فالمعنى الشرعي ضيق وحدد المعنى اللغوي، إذاً عرفنا الآن معنى الحرام في لغة العرب وفي الشرع. - ثم قال - رحمه الله تعالى -: سن لمريده: غسل. كل الأشياء التي سيذكرها المؤلف سنن وليست بواجبات. 1 - فالسنة الأولى الغسل. ومراد الفقهاء بهذا الاغتسال يعني اغتسال خاص للإحرام، ولذلك يسن للرجل وللمرأة وللمرأة الحائض والطاهر وللمرأة النفساء وغير النفساء. بدليل: - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمر أسماء بنت عميس أن تغتسل وتحرم مع أنها نفساء. - وأمر عائشة أن تغتسل مع أنها حائض. فدلت هذه النصوص على أن الاغتسال سنة من سنن الإحرام. ودل عليه أيضاً: - حديث زيد أن النبي - صلى الله عليه وسلم - تجرد لإهلاله واغتسل. وهذا الحديث: حديث ضعيف ولا تقويه كثرة الطرق بل هو حديث ضعيف لا يثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه اغتسل. ومع ذلك ذهب الجماهير إلى أن الاغتسال سنة اعتماداً على حديث أسماء وعلى حديث عائشة ولا أظن أن في هذه المسألة خلاف - فلم أطلع على خلاف في استحباب الاغتسال للإحرام. - ثم قال - رحمه الله تعالى -: أو تيمم لعدم. فيسن لمن أراد الإحرام أن يغتسل فإن لم يستطع فإنه يسن له أن يتيمم. والدليل على ذلك: - أن الشارع الحكيم أقام التيمم بدلاً عن الاغتسال، فإذا لم يتمكن من الاغتسال تيمم. = القول الثاني: أنه لا يشرع التيمم في غسل الإحرام بل لا يشرع في جميع الأغسال المستحبة بل الواجبة فقط. واستدلوا على هذا: - - بأن المقصود في التيمم في الأغسال الواجبة استباحة ما يمنع بلا الاغتسال من صلاة وغيرها. بينما المقصود بالاغتسال المستحب النظافة والتطهر، والتيمم يناقض النظافة لأن فيه ضربا على التراب. وهذا القول وهو عدم مشروعية التيمم في جميع أنواع الاغتسال المستحب اختيار شيخ الإسلام وهو قول قوي راجح كما ترون، بناء عل ذلك: إذا أراد الإنسان أن يحرم فإما أن يغتسل فإن لم يستطع فإنه يتيمم. - ثم قال - رحمه الله تعالى -: وتنظف.

إذا جمع الفقهاء بين الاغتسال والتنظف صار معنى التنظف ينحصر في تقليم الأظافر وحلق العانة والإبط باعتبار أن الاغتسال يتناول مسألة تعميم الجسم بالماء. ليس في النصوص الشرعية ما يدل على أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أو أن أحداً من أصحابه كان يتقصد التنظف بهذا المعنى عند الإحرام لكن الجمهور استدلوا بدليلين: - الدليل الأول: وهو الأقوى - أن إبراهيم النخعي - رضي الله عنه - قال: كانوا يفعلون ذلك. وأنا قلت لكم: أن مثل هذه العبارة عن مثل هذا التابعي عبارة مهمة جداً وللإنسان أن يعتمد عليها في تقرير الحكم أو على أقل تقدير يستأنس بها، لأن معنى قوله - رضي الله عنه -: (كانوا) إما أن ينصرف إلى الصحابة أو على أقل تقدير إلى كبار التابعين، وإذا كان هذا المعنى معروفاً في تلك الطبقة التي هي خير القرون صار هذا أمراً يمكن للإنسان أن يتمسك به في إثبات استحباب التنظف. - الدليل الثاني: قالوا: أنه يستحب أن يفعل ذلك لأن لا يحتاج إلى أخذ هذه الشعور أثناء الإحرام ولن يتمكن من ذلك بسبب الإحرام فإن الأخذ من الشعر من محظورات الإحرام. تبين معنى الآن أن الاغتسال والتنظف نقول: أنه مستحب ولا نقول سنة، فهو مستحب وليس بسنة. - ثم قال - رحمه الله تعالى -: وتطيب. يعني ويستحب لمن أراد أن يحرم أن يتطيب. ومقصود الحنابلة هنا بقولهم يتطيب: يعني في جسده دون ثياب الإحرام فالسنة أن يضع الطيب على الجسد لا على ثياب الإحرام. واستدلوا على ذلك: - بقول عائشة - رضي الله عنها - كنت أطيب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لإحرامه قبل أن يحرم ولحله قبل أن يطوف. واستدلوا على أن التطيب يكون في البدن دون الثياب: - بأن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى في الحديث الصحيح عن لبس ثوب زعفر أو مسه ورس، والورس والزعفران من أنواع الطيب. فدل مجموع الحديثين على أن الطيب يكون في البدن دون الثوب. * * مسألة: حكم وضع الطيب على ثياب الحرام: = عند الحنابلة: مكروه مع الجواز. لكن قالوا: إذا وضع الطيب على الثياب ثم أحرم ثم خلع هذه الثياب لأي غرض من الأغراض فإنه حينئذ لا يجوز له أن يرجع فيلبس هذا الإحرام.

= والقول الثاني: أن وضع الطيب في لباس الإحرام لا يجوز من الأصل. (((الأذان))) .... والراجح من القولين: مع الجمهور الذين يرون عدم جواز وضع الطيب في ثياب الحرام من الأصل. وسبب الترجيح: أن القاعدة الفقهية تقول: ((أنه متى أمكن إعمال الأحاديث جميعاً فهو أولى من إعمال بعضها وتعطيل بعضها الآخر)) وإذا أخذنا بمذهب الحنابلة فقط عطلنا الحديث الذي ينهى عن لبس المزعفر والذي مسه ورس. ولهذا نقول: أن القول الصواب هو أنه لا يجوز وضع الطيب إلا في البدن دون الثياب. - ثم قال - رحمه الله تعالى -: وتجرد عن مخيط. التجرد عن المخيط: = سنة عند الحنابلة وليس بواجب. فيجوز للإنسان أن يحرم بثيابه، لكن قالوا: إذا أحرم بثيابه فإنه لا يجوز له أن يستديم لبس الثياب ولو للحظة واحدة بعد الزمن الذي يمكن له أن يخلع الثياب. إذاً يجوز للإنسان أن يحرم بثيابه عند الحنابلة والتجرد عندهم سنة لكن لا يجوز له أن يستديم هذا اللبس إلى أكثر من مدة خلع الثياب فإن استدامه بزيادة ولو لحظه واحدة فإنه يأثم وعليه الفدية. = والقول الثاني: أن التجرد للإحرام واجب وهو مذهب المالكية وغيرهم. وهذا هو الصواب وعليه عمل المسلمين من قديم وحديث. ويدل على ترجيح هذا القول أن: (ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب) ويمكن للإنسان أن يكون متجرداً من المخيط طيلة وقت الإحرام إلا إذا خلع الألبسة المخيطة قبل الوقت - قبل دخوله في الإحرام. ولذلك نقول: هذا القول الثاني هو الراجح ... والله أعلم وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين،،،

شرح كتاب المناسك الدرس رقم (4) قال شيخنا حفظه الله: بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين. توقفنا في الشرح عند قوله - رحمه الله -: (وتجرد عن مخيط) وذكرنا أن التجرد سنة وما يتعلق بهذا من الأحكام. وبقينا في مسألة: ما هو المخيط الذي يجب على المحرم أن يتجرد عنه؟ المخيط الذي يجب على لمحرم أن يتجرد عنه: هو كل لباس مفصل عل قدر الجسم أو على قدر عضو منه. وليس المراد بالمخيط كل ما دخلته الخياطة. بل المراد: كل ما فصل على قدر الجسم كله كالثوب أو على قدر جزء منه كالفانيلة والجوارب وأشياء أخرى كثيرة. إذاً هذا هو الذي يجب أن يتجرد عنه المحرم وسيأتينا تفصيل لمسألة لبس المخيط ما يترتب عليه في باب الفدية إن شاء الله. - ثم قال - رحمه الله تعالى -: في إزار ورداء. يعني: يسن للإنسان أن يحرم في إزار ورداء. - لقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: (ليحرم أحدكم في إزار ورداء ونعلين). - ولأن السنة استفاضة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه هو وأصحابه أحرموا بهذه الألبسة. وعلم من قول المؤلف - رحمه الله -: (في إزار ورداء) أنه سواء كان هذا الإزار أو الرداء من قطن أو من خيوط أو من صوف أو من أي مادة كانت، فما دام أنه إزار ورداء فيجوز: لأنه يقول: (إزار ورداء) ولم يعين نوع المادة التي خيط منها هذا الإزار والرداء. - ثم قال - رحمه الله تعالى -: أبيضين. يسن أن يحرم الإنسان بالأبيض. - لقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: (خير ثيابكم البياض). - ولأن المعروف في السنة أنه - صلى الله عليه وسلم - أحرم برداء أبيض. وأيضاً علم من كلام المؤلف - رحمه الله - أنه يسن أن يكون الرداء والإزار أبيضين: جواز الإحرام بالأحمر والأصفر والأخضر وبأي لون، إلا أن الأحمر تقدم معنا الخلاف في حكم لبس اللباس الأحمر الخالص وأن الصواب أن لبس الأحمر الخالص لا يجوز وأن لبس الأحمر المشوب في السنة ما يدل على جوازه. المهم: أنه أي لون من الألوان عدا الألوان التي نهى عنها الشارع وهو الأحمر يجوز أن يحرم به الإنسان ولا حرج عليه. - ثم قال - رحمه الله تعالى -: وإحرام عقب ركعتين. أي ويسن لمن أراد النسك أن يحرم عقب ركعتين. = واتفق الأئمة الأربعة على أن للإحرام سنة خاصة به. وأنه يسن للإنسان قبل أن يحرم أن يصلي ركعتين إذا لم يصادف فريضة. واستدلوا على هذا الحكم:

- بأن النبي - صلى الله عليه وسلم - ثبت عنه في الحديث الصحيح أنه أحرم بعد أن صلى الظهر وكأن الأئمة الأربعة يرون أن ذلك كان مقصوداً من النبي - صلى الله عليه وسلم - أن لا يحرم إلا بعد هذه الصلاة. - وبقوله في الحديث القدسي أنه قيل للنبي - صلى الله عليه وسلم -: (صل في هذا الوادي المبارك وقل: عمرة في حجة). فقوله: (صل ثم قل) دليل على أن النسك يستحب الشروع فيه بعد صلاة: سواء كانت فريضة بأن صادف الوقت فريضة أو بعد نافلة. = والقول الثاني: أنه ليس للإحرام سنة خاصة به. فإن صادف الإنسان فريضة صلاها ثم أحرم فإن لم يصادف فليس للإحرام سنة خاصة، وإلى هذا ذهب شيخ الإسلام بن تيمية وتابعه عدد من أهل العلم. واستدلوا: - بأنه ليس في السنة الصحيحة ما يدل على أنه من مقصود الشارع أن يقع الإحرام بعد صلاة فريضة أو نفل. ولكل من القولين حظ من النظر وما ذكره الأئمة الأربعة فيه قوة ويؤيده هذا اللفظ (صل في هذا الوادي المبارك وقل) فكأن الحديث رتب الإحرام على الصلاة، ففي الحقيقة ينبغي للإنسان أن لا يحرم إلا بعد صلاة، والأمر في هذه المسألة سهل ولكنه يرجع إلى الاعتقاد، فهل يعتقد الإنسان أنه يستحب ويسن له أن لا يحرم إلا بعد صلاة أو لا؟ أنا أرى أنه يسن أن يعتقد وأن يرى أن النبي - صلى الله عليه وسلم - إنما صنع ذلك قصداً كما فهم الأئمة الأربعة وكما قلت لكم النصوص التي ذكرت تؤيد هذا الفهم. - ثم قال - رحمه الله تعالى -: ونيته شرط. نية الإحرام شرط لصحة وانعقاد الإحرام. أي: فلا يكتفي الإنسان بمجرد التجرد من المخيط أو التلبية بل لابد مع ذلك من أن ينوي الدخول في النسك. واختلف الفقهاء: هل يدخل الإنسان في النسك بمجرد النية؟ أو يشترط مع النية شيء آخر. =فالجمهور: على أن النية فقط هي التي تشترط ولا يشرط لدخول الإحرام شيء آخر. واستدلوا على ذلك: - بقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: (إنما الأعمال بالنيات).

= والقول الثاني: وهو قول لبعض الفقهاء: أن الإنسان لا يدخل في النسك إلا إذا انضاف إلى النية أحد أمرين: 1) إما أن يسوق الهدي، 2) أو أن يلبي. فإن لم يسق الهدي ولم يلبي فإنه لا يدخل في الإحرام بمجرد النية بل لابد أن يضاف إليه أحد هذين الأمرين، وكأن شيخ الإسلام - رحمه الله - يميل إلى هذا القول. والراجح والله أعلم: أنه لا يشترط للدخول في الإحرام: أن يسوق الهدي ولا أن يلبي بل بمجرد أن ينوي أنه دخل في النسك: لزمته أحكام النسك ولو لم يلبي أو يسق الهدي. وما ذكره شيخ الإسلام من وجهة في هذه المسألة ضعيف وسبب الضعف أنه ليس في السنة دليل واضح يدل على اشتراط هذا الأمر وهذا أمر تمس الحاجة إليه والمسلمون ما زالوا يعتمرون ويحجون فلو كان هذا الشرط اعتبره الشارع لبينته السنة بشكل واضح على أن الخطب في هذه المسألة سهل لأنه ليس أحد من المسلمين اليوم يحرم إلا مع التلبية بل إن بعض الناس يظن أن الإحرام هو التلبية فلا إشكال من حيث الواقع في هذه المسألة. - ثم قال - رحمه الله تعالى -: ويستحب قوله: (اللَّهُمَّ إِنِّي أُرِيْدُ نُسُكَ كَذَا فَيَسِّرْهُ لِي وَإِنْ حَبَسَنِي حَابِسٌ فَمَحَلِّي حَيْثُ حَبَسْتَنِي). هذه العبارة اشتملت على مسألتين: - المسألة الأولى: أنه: =يستحب عند الحنابلة: النطق بالنية عند إرادة الإحرام سواء أراد الإحرام بالحج أو بالعمرة. وتقدم معنا أن الحنابلة لا يرون مشروعية النطق بالنية عند إرادة الإحرام بالصلاة، وفرقوا بينهما: لأن نية النسك تطول على الإنسان وتكثر فيها الأعمال فناسب لذلك أن يصرح أو أن ينطق بالنية ليتصور العمل بخلاف الصلاة فإن وقتها وجيز ولا يدخل الإشكال على المصلي في ضبط نيته. = والقول الثاني: أن النطق بالنية لا يشرع ولا يستحب وليس له أصل في السنة وأخذ النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه عمراً وحجوا ولم ينقل عنهم أنهم نطقوا بالنية. فالأقرب والله أعلم: أن النطق بالنية لا يشرع إن لم نقل إنه بدعة. والنطق بالنية شيء والتلبية التي ستأتينا شيء آخر.

- المسألة الثانية: - التي اشتملت عليها عبارة المؤلف - رحمه الله -: أنه يستحب للمحرم أن يشترط فيقول: (اللهم محلي حيث حبستني). = ومذهب الحنابلة: أن الاشتراط سنة مطلقاً. واستدلوا على هذا: - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - دخل على ضباعة بنت الزبير وهي على وشك الإحرام وقد كانت تشتكي مرضاً فقال لها النبي - صلى الله عليه وسلم -: (حجي واشترطي وقولي: اللهم محلي حيث حبستني). فقالوا: هذا دليل يدل على أنه يستحب للإنسان إذا أراد أن يحرم أن يشترط خشية أن يقع في مانع من إتمام النسك. = القول الثاني: أن الاشتراط لا يشرع مطلقاً. واستدلوا على هذا: - بأن الصحابي الجليل والفقيه الكبير ابن عمر - رضي الله عنه - سأل عن الاشتراط: فقال: حسبكم سنة نبيكم - صلى الله عليه وسلم -. وقد كان ابن عمر ينهى عنه، فهو - رضي الله عنه - يرى أن الاشتراط لا يشرع لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يشترط هو ولا أصحابه وأن حادثة ضباعة حادثة عين. =القول الثالث: أن الاشتراط يشرع فقط لم خشي على نفسه من عدم إتمام النسك. فإذا خشي الإنسان أن لا يستطيع أن يتم النسك لمرض أو لحيض بالنسبة للنساء أو لأي سبب من الأسباب فإنه والحالة هذه يشرع له أن يشترط. وصاحب هذا القول رأى أنه بذلك جمع بين الأقوال. فالنبي - صلى الله عليه وسلم - لم يشترط هو ولا أصحابه وأمر ضباعة أن تشترط فجمع بين الأدلة: بأنه يشرع لمن كانت حاله تشبه حالة ضباعة - رضي الله عنها - من حيث خشية عدم التمكن من إتمام النسك. = والقول الرابع: أن الاشتراط واجب فإن لم يشترط فهو آثم. وإلى هذا ذهب الشيخ الفقيه ابن حزم - رحمه الله -. وهو لاشك أنه قول ضعيف وفيه شذوذ. والراجح والله أعلم الذي تجتمع به الأدلة القول الثالث لكونه أخذ بجميع النصوص. وأما مذهب ابن حزم فضعفه واضح إن شاء الله. ثم بدأ المؤلف - رحمه الله - بالأنساك: - فقال - رحمه الله -: وأفضل الأنساك (1) التمتع. الأنساك في الحج ثلاثة: 1 - التمتع. 2 - والقران. 3 - والإفراد.

وقول المؤلف - رحمه الله -: (وأفضل الأنساك التمتع) دليل على أنه يجوز للإنسان إذا أراد أن يحرم أن يحرم بأي من الأنساك الثلاثة فإن أراد أن يتمتع يتمتع وإن أراد القران أو الإفراد فعل. وهذه المسألة فيها خلاف بين أهل العلم: = فالقول الأول: هو ما ذهب إليه المؤلف - رحمه الله - وهو مذهب الأئمة الأربعة وجمهور الفقهاء وعامة التابعين والفقهاء كلهم طبقة عن طبقة: أنه يجوز للإنسان أن يتخير ما شاء من الأنساك. واستدلوا على هذا: - بحديث عائشة - رضي الله عنها - أنها قالت: خرجنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فمنا من أهل بعمرة ومنا من أهل بعمرة وحج وأهل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بحج. - وذكر جابر - رضي الله عنه - في الصحيح كما ذكرت عائشة - رضي الله عنها - تماماً. - وذكر ابن عباس - رضي الله عنهما - أيضاً في الصحيح كما ذكرت عائشة تماماً. فدلت هذه الأحاديث الثلاثة على أن من أراد الحج فهو مخير بين هذه الأنساك الثلاثة. = والقول الثاني: وإليه ذهب ثلاثة على رأسهم الصحابي الجليل الفقيه الكبير - رضي الله عنه -: ابن عباس ثم تابعه ابن حزم ثم تابعهم ابن القيم. فهؤلاء يرون أنه يجب على من أراد الحج أن يحرم متمتعاً. واستدلوا - رحمهم الله -: - بأن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما ساق الهدي ووصل إلى مكة أمر جميع الصحابة الذين لم يسوقوا الهدي أن يحلوا الحج وأن يقلبوه إلى عمرة ويتمتعوا. - كما أنه - صلى الله عليه وسلم - تحسر وتمنى أنه لم يسق الهدي لكي يحرم متمتعاً. فقالوا هذا أمر من النبي - صلى الله عليه وسلم - بأن يحرم الإنسان بالعمرة متمتعاً والأمر يدل على الوجوب بل أن هذا الأمر أكد بالغضب وتعنيف الصحابة من قبل النبي - صلى الله عليه وسلم -. وهذا القول - الثاني - قول فيما يظهر لي ضعيف جداً وهو قول كما قال الشيخ الشنقيطي - رحمه الله -: (قول مهجور) لم يعمل به ربما من عهد الصحابة إلى اليوم إلا من قبل قائليه. كيف نقول أنه يجب على الإنسان أن يحرم بالتمتع وعروة بن الزبير - رضي الله عنه - يقول: إن الخلفاء الثلاثة والمهاجرين والأنصار كانوا يحجون مفردين؟

كيف للإنسان أن يقول: يجب على الحاج أن يحرم متمتعاً ونحن نرى أفضل خلق الله - الخلفاء الثلاثة والمهاجرون والأنصار يحرمون مفردين؟ ولهذا أقول إن هذا القول على جلالة قائليه وعظم شأنهم أنه قول ضعيف جداً وهو قول مهجور. إذاً الراجح إن شاء الله أنه يجوز للإنسان أن يتخير من الأنساك ما شاء. - قال - رحمه الله -: وأفضل الأنساك: التمتع. = ذهب الحنابلة وهو من المفردات إلى أن أفضل الأنساك التمتع. = وفي رواية عن الإمام أحمد - رحمه الله - وهي أيضاً من المفردات: أن أفضل الأنساك التمتع لكن لمن لم يسق الهدي، وذهب إلى هذا القول عدد من أهل العلم من المحققين أن أفضل الأنساك التمتع. واستدلوا: - بالحديث السابق أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمر أصحابه بالتمتع وأقل درجات الأمر أنه هو المسنون والمقدم. = القول الثاني: أن أفضل الأنساك الإفراد وربما نقول أن هذا قول الجمهور. واستدل هؤلاء بعدة أدلة: - الدليل الأول: ما ثبت عن عائشة - رضي الله عنها - في الصحيحين - كما تقدم معنا - أنها قالت: وأهل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالحج. - والدليل الثاني: أنه ثبت عن جابر - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أهل بالحج. بل ذكر ابن القيم - رحمه الله - أن ستة عشر صحابياً رووا أن النبي - صلى الله عليه وسلم - حج مفرداً. - واستدلوا بما ذكرته سابقاً عن عروة بن الزبير - رضي الله عنه - أن الخلفاء الثلاثة - رضي الله عنهم - والمهاجرين والأنصار كانوا يحجون مفردين، والظن بهؤلاء أنهم يختارون أفضل الأنساك. = القول الثالث: أن أفضل الأنساك القران. واستدل هؤلاء بأحاديث أيضاً صحيحة: - الحديث الأول: عن أنس - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - حج قارناً وجمع في نسكه بين الحج والعمرة. - وأيضاً أنه روي عن عدد كبير - وذكرت لكم أن ابن القيم أن ستة عشر صحابياً رووا القران وليس الإفراد ولذلك يقول الإمام أحمد - رحمه الله -: (لا أشك أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان قارناً). إذاً العدد الكبير من الصحابة الذين رووا نسك النبي - صلى الله عليه وسلم - إنما رووا القران لا الإفراد - فصح هذه المسألة.

قالوا: والله سبحانه وتعالى إنما يختار لنبيه - صلى الله عليه وسلم - أفضل الأنساك لا سيما وهو سبحانه وتعالى يعلم أنه - صلى الله عليه وسلم - لن يحج إلا في سنة واحدة. = القول الرابع: أن التمتع هو أفضل الأنساك إذا كان الإنسان سيأتي بالعمرة والحج في سفر واحد، أما إذا كان سيأتي بالعمرة في سفر وبالحج في سفر آخر فالأفضل له الإفراد. وصاحب هذا القول لم يفرق بين أن تكون سفرة العمرة في أشهر الحج أو في غيرها من الأشهر ما دام السفران في سنة واحدة. وهذا القول هو القول الذي نصره شيخ الإسلام وأيده بالآثار وذكر أن به تجتمع النصوص. وقال: لذلك كان أبو بكر وعمر - رضي الله عنهما - يحجون مفردين، ويقوي هذا القول: صنع الصحابة حيث كان الصحابة يحرمون مفردين، ومع ذلك نقول: الأولى والأحسن أن يحرم الإنسان متمتعاً ليكون أتى بأفضل الأنساك على كل حال. - ثم قال - رحمه الله تعالى -: وصفته: أن يحرم بالعمرة في أشهر الحج ويفرغ منها، ثم يحرم بالحج من عامه. صفة التمتع: أن يحرم بالعمرة في عامه ثم يفرغ منها ثم يحرم بحج. وهذه الأشياء الثلاثة التي ذكرها المصنف - رحمه الله - هي شروط التمتع: - أن يحرم بالعمرة في أشهر. هذا هوالشرط الأول. - الشرط الثاني: أن يفرغ منها. - الشرط الثالث: أن يحرم بالحج في عامه. - قوله - رحمه الله -: أن يحرم بالعمرة في أشهر الحج. هذا الشرط الأول من شروط التمتع: أنه لو لم يحرم بالعمرة في أشهر الحج لم يكن جمع بين نسكين في عام واحد. فيشترط لصحة التمتع: أن تقع العمرة والحج كلاهما في أشهر الحج. فإن اعتمر في رمضان وحج في أشهر الحج فهو مفرد فلابد أن تكون العمرة في أشهر الحج. الشرط الثاني: - قوله - رحمه الله -: ويفرغ منها. معنى قوله: يفرغ منها: يعني يتحلل. (معنى الفراغ في عبارة المؤلف - رحمه الله - أي أن يتحلل التحلل الشرعي بأداء جميع مناسك العمرة). والدليل على ذلك: - أنه لو أحرم بالحج قبل أن يفرغ من العمرة لصار قارناً وليس متمتعاً لأنه أدخل الحج على العمرة حيث أحرم بالحج وهو ما زال في إحرام العمرة وهذه صورة من صور القران.

إذاً هذا هو الدليل على اشتراط أن يفرغ من العمرة كما أنني لا أعلم خلافاً في اشتراط هذا الشرط فيمكن أن نقول: إجماع. الإجماع على اشتراط هذا الشرط، إذاً يشترط أن يفرغ من العمرة قبل أن يحرم بالحج للمعنى الذي ذكرت وللإجماع. الشرط الثالث: - قال - رحمه الله -: ثم يحرم بالحج في عامه. يجب أن يحرم بالحج في نفس العام الذي أخذ فيه العمرة، وهذا صرحوا فيه بالاتفاق، أي أنه شرط متفق عليه. - ويدل عليه قوله سبحانه وتعالى {فمن تمتع بالعمرة إلى الحج} [البقرة/196]. فإنه يدل على أنه يجب أن يتوالى النسكان فيأتي نسك الحج متوالياً مع نسك العمرة فلابد فيهما من الموالاة وأن يكونا في سنة واحدة. وهذا كما قلت لكم - الشرط الثالث - محل اتفاق. ثم لما فرغ الشيخ - رحمه الله - من شروط التمتع وهي ثلاثة انتقل إلى شروط وجوب الدم في التمتع، وكثير من إخواننا يخلط بين شروط التمتع وشروط وجوب الدم في التمتع وهما موضوعان منفصلان، لذلك يتصور أن يكون الإنسان من المتمتعين ولا يجب عليه دم لأن شروط التمتع انطبقت عليه وشروط الدم لم تنطبق عليه، فنقول: أنت متمتع ولا يجب عليك دم، لكن مع ذلك ينبغي أن يلاحظ الإنسان أن شروط التمتع وشروط وجوب الدم في المتعة متقاربة وأحياناً تكون متطابقة لكن يجب أن يعلم الإنسان أن بينهما فرق في الفقه وفي الثمرة بحيث ربما يكون الإنسان متمتعاً ولا يجب عليه دم. بدأ بشروط الدم. - فقال - رحمه الله تعالى -: وعلى الأفقي دم. ذكر المؤلف - رحمه الله - شرط واحد من شروط وجوب الدم وهو: أن يكون المتمتع من غير حاضري المسجد الحرام وهو معنى قوله: (وعلى الأفقي) فالأفقي من لم يكن من حاضري المسجد الحرام. واشتراط أن يكون الإنسان ليس من حاضري المسجد الحرام ليجب عليه الدم في المتعة هذا شرط متفق عليه. لكن اختلفوا في من هو الذي ليس من حاضري المسجد الحرام؟ أما أنه شرط فهذا متفق عليه. إذاً اتفقوا على اشتراط هذا الشرط واختلفوا في حد الأفقي أو في حد من ليس من حاضري المسجد الحرام. = فمذهب الحنابلة وهو القول الأول: أن حاضر المسجد الحرام هم أهل الحرم ومن كان منه دون مسافة قصر. واستدلوا على هذا:

- بأن الله تعالى قال: - (ذَلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ) -[البقرة/196] ومن قرب من الشيء أخذ حكمه. والذين هم على مسافة دون مسافة القصر هم قريبون من أهل الحرم فيأخذون حكم أهل الحرم. بدليل أن من كان دون مسافة قصر يأخذ أحكام أهل مكة في السفر فدل على أن لهم نفس الأحكام بسبب القرب. = القول الثاني: أنهم أهل مكة فقط وهو مذهب المالكية. فإذا كان الإنسان يسكن في الحرم ولكنه خارج مكة إذا تصورنا وقوع هذا فإنه يجب عليه الدم عند المالكية. واستدلوا على هذا: - بأن المقصود بقوله - (ذَلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ) -[البقرة/196] أن المقصود بالمسجد الحرام في الآية مسجد الكعبة فقط. ومن كان حول مسجد الكعبة هم فقط أهل مكة. فكل من كن خارج مدينة مكة ولو كان في الحرم فإنه يجب عليه الدم. = القول الثالث: أنهم أهل الحرم فقط وهو مذهب ابن حزم ومال إليه ابن القيم. ما هو الفرق بين هذا القول ومذهب الحنابلة؟ الفرق بينهما هو: أن من كان على مسافة قصر من أهل الحرم لا يدخل على هذا القول ضمن حاضري المسجد الحرام فيجب عليه دم، إذاً هذا هو الفرق فابن حزم يضيق ويجعله الحرم فقط دون من كان على مسافة قصر. واستدل على هذا: - بأن الله سبحانه وتعالى نص على أن المقصود بالأفقي هو من كان حاضر المسجد الحرام فقط. من كان في الحرم هو المقصود ومن كان خارج الحرم فليس بالمقصود بالآية بنص الآية. = والقول الرابع والأخير: أن المقصود بحاضري المسجد الحرام هم أهل مكة والحرم: o فإن كان من أهل مكة خارج الحرم دخل في الآية. o وإن كان من أهل الحرم خارج مكة أيضاً دخل في الآية. وإلى هذا القول ذهب شيخنا ابن عثيمين - رحمه الله - وهو قول إذا تأمله الإنسان وجده متين جداً في الحقيقة وفيه جمع بين أقوال أهل العلم. ولكن ينظر فيمن سبق الشيخ - رحمه الله - في هذا القول فإني لم أجد مع العلم أن البحث غير موسع لكني لم أجد من سبقه - رحمه الله - بهذا التفصيل.

لكنه في الحقيقة قول جيد جداً وقوي. وهو أن المقصود أهل مكة وأهل الحرم لأن الآن يوجد من أهل مكة من هو خارج الحرم ويوجد من أهل الحرم م هو خارج مكة، فهذا القول قول وجيه. وإذا تأملت وجدت أن هذا القول يكاد يتوافق مع قول الحنابلة. لأن الحنابلة عندهم: أن الأمر يشمل كل الذين على مسافة قصر من مكة فسيشمل أهل الحرم الذين هم خارج مكة لأنهم وإن كانوا خارج مكة لأن ليس بينهم وبين مكة مسافة قصر، فهو قول يقرب من قول الحنابلة لكن بهذا التفصيل وهو أن يشمل الأمر أهل مكة وأهل الحرم، وهو تفصيل قوي وسديد. إذاً أخذنا الشرط الأول من شروط وجوب الدم في التمتع. الشرط الثاني: أن لا يسافر بين النسكين - وهو شرط لم يذكره المؤلف. وهذا الشرط اتفق عليه المذاهب الأربعة. لكن اختلفوا في حد السفر المسقط للدم، وسيأتينا الخلاف في هذه المسألة. = القول الثاني: أن المتمتع يبقى متمتعاً ولو سافر. وإلى هذا ذهب الفقيه الحافظ ابن المنذر فرأى - رحمه الله - أن الإنسان ولو سافر ورجع إلى بلده فإن دم المتعة لا يسقط عنه ويبقى متمتعاً. واستدل: - بالعمومات. فإن من سافر يصدق عليه أنه أخذ العمرة والحج في سنة واحدة فهو متمتع ويصدق عليه أنه تمتع بين الإحرامين. واستدل الجماهير: وهم الأئمة الأربعة وغيرهم كفقهاء التابعين وغيرهم من فقهاء المسلمين: - بأثر عمر بن الخطاب أنه قال: (من تمتع بالعمرة إلى الحج إن بقي في مكة فهو من المتمتعين وإن سافر أو رجع فليس من المتمتعين) , فاستدل الجمهور بهذا الأثر عن عمر - رضي الله عنه - على أن السفر يقطع أحكام التمتع. واستدلوا على ذلك: - بتعليل: وهو أن المتعة إنما سميت بذلك لأنه يترفه بترك أحد السفرين في أداء النسك أي أنه يأتي بالنسكين في سفر واحد، وهذا لا يصدق على من سافر بين النسكين فاستدلوا بالعلة التي من أجلها وجب هذا الدم وهو دم شكران. الراجح: من حيث الأصل مع الجمهور لاستدلالهم بهذا الأثر الصحيح عن أمير المؤمنين عمر - رضي الله عنه -. نأتي إلى المسألة الثانية: الاختلاف في حد السفر المسقط لدم المتعة. فاختلف الأئمة الأربعة في هذه المسألة على أقوال:

= القول الأول: أنه إذا خرج مسافة قصر سقط عنه الدم مباشرة. = القول الثاني: أنه إذا خرج ورجع إلى مصره أو إلى أبعد منه سقط عنه الدم وإلا فلا. = القول الثالث: أنه إذا رجع إلى مصره سقط الدم وإلا فلا. الفرق بين القول الثاني والثالث: الفرق بينهما يتصور في شخص سافر إلى مدينة أبعد من مدينته فعلى القول الثاني سقط عنه الدم وعلى القول الثالث لم يسقط عنه الدم لأن أصحاب القول الثالث يشترطون في سقوط الدم أن يرجع فقط إلى ((مصره)) فإن رجع إلى غير مصره سواء كان هذا المصر أبعد أو أقرب من مصره فإن الدم لا يسقط. والأقرب والله أعلم - على أن هذه المسألة ليس فيها نصوص ولذلك كثر فيها الأقوال وتشعبت لأنه ليس في الباب نص يرجع إليه - لكن الأقرب هو أنه إذا رجع إلى بلده سقط عنه الدم وإن رجع إلى غير بلده لم يسقط عنه الدم. ووجه الترجيح: • أن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - قال: فإن رجع. والرجوع المطلق إنما هو في رجوع الإنسان إلى بلده لا في رجوعه إلى بلد آخر، يوضحه ما يحصل الآن من كثير من الحجاج فهو في الحقيقة يوضح أثر أمير المؤمنين عمر - رضي الله عنه -. فإذا جاء أهل المغرب مثلاً إلى مكة وأخذوا العمرة ثم ذهبوا إلى المدينة قبل أن يحرموا بالحج هل يصدق عليهم أنهم رجعوا أو سافروا؟ هل يمكن أن نقول أنهم رجعوا؟ وإذا سافروا إلى المغرب هل نقول رجعوا؟ إذاً لعل أمير المؤمنين عمر - رضي الله عنه - يشير بكلمة رجع إلى هذا المعنى فيكون سبب الترجيح هو ورود لفظة رجع في أثر أمير المؤمنين عمر - رضي الله عنه -. • كما أن هذا القول فيه توسعة على الناس لأن الحجاج إذا قيل لهم ذهبت العمرة أو سقطت العمرة شق عليهم هذا الأمر جداً وكثير منهم يرغب بأن يرجع بنسك التمتع لأنه أفضل الأنساك. ويشترط لوجوب الدم أن ينوي التمتع عند الإحرام بالعمرة: - لأنه أراد أيجمع بين نسكين فوجب أن ينوي قبل أن يشرع في الأول منهما. - وقياساً على الجمع بين الصلاتين. = والقول الثاني: أنه لا يشترط أن ينوي التمتع عند إحرامه بالعمرة. بل لو أحرم بالعمرة بلا نية تمتع ثم أحرم بالحج في عامه فهو متمتع نوى أو لم ينوي.

المثال الذي يبين الخلاف: لو أن رجلاً جاء إلى مكة في أشهر الحج واعتمر ولم ينو الحج أصلاً ولا التمتع ولم يخطر بباله بل كان ناوياً الرجوع إلى أهله ثم يسر له أن بقي في مكة إلى الحج ثم أحرم بالحج. فـ: o على القول الأول لا يعتبر متمتعاً. o وعلى القول الثاني يعتبر من المتمتعين. وهو القول الراجح إن شاء الله. الشرط الرابع: = عند الحنابلة -: أن يحرم بالعمرة من ميقات بلده لأنه بذلك يحصل له الترفه بترك أحد السفرين بينما إذا أحرم بالعمرة من مكة أشبه حاضري المسجد الحرام. =والقول الثاني: أنه لا يشترط للإنسان أن يحرم بالعمرة من ميقات بلده بل لو أحرم من أدنى الحل ثم أحرم بالحج بعد ذلك فهو متمتع ويجب عليه الدم وله أجر المتعة إن شاء الله. والفرق بينهما يتصور في رجل سافر إلى مكة لا يريد العمرة ولا الحج في أشهره فلما وصل إلى مكة حضرته النية وأراد أن يحرم بالعمرة والحج. o فعلى القول الأول: يشرط أن يرجع إلى ميقات بلده فإن أحرم من الحل فليس من المتمتعين. o وعلى القول الثاني: وإن أحرم من الحل فهو متمتع له أحكام المتعة. والله أعلم وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين،،،

شرح كتاب المناسك الدرس رقم (5) قال شيخنا حفظه الله: بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين. انتهينا بالأمس من بيان صفة التمتع والشروط الخاصة بالتمتع والشروط الخاصة بدم المتعة وبيان أنه لا يلزم من توفر شروط أحدهما توفر شروط الآخر، أي: أن شروط دم المتعة تختلف عن شروط التمتع، بمعنى أنه قد تصدق على شخص شروط الدم دون شروط التمتع وقد يقع العكس. والمؤلف - رحمه الله - ذكر التمتع لكونه أفضل الأنساك ولكنه لم يذكر - رحمه الله - ما يتعلق بصفة الإفراد والقران. o فالإفراد: هو: أن يحرم الإنسان بالحج وحده ويمضي في الأنساك إلى أن يتحلل ويتم نسكه. والإفراد ليس له عند أهل العلم إلا صورة واحدة فقط كما في التمتع فالإفراد والتمتع لكل منهما صورة واحدة فقط.

نأتي إلى القران. o القران: وله عند أهل العلم ثلاث صور: - الصورة الأولى المعروفة والمتبادرة إلى الذهن: أن يحرم بالحج والعمرة في وقت واحد من الميقات ويتم الأنساك إلى أن يفرغ من حجه. ويقول عند إرادة الإحرام: لبيك حجاً وعمرة، أو يقول: لبيك عمرة وحجا. والأفضل أن يقول: لبيك عمرة وحجة ليتوافق لفظه مع لفظ الحديث. وهذه الصفة مشروعة باتفاق أهل العلم بل تقدم معنا أن عدداً كبيراً من أهل العلم يرون أنها أفضل الأنساك. - الصورة الثانية: أن يحرم الإنسان بالعمرة أولاً ثم يدخل عليها الحج. والدليل على جواز هذه الصفة: - حديث عائشة - رضي الله عنها - أنها أحرمت بالعمرة ثم لما حاضت وخشيت فوات الحج أدخلت الحج على العمرة. - والدليل الثاني: الإجماع وقد حكاه شيخ الإسلام بن تيمية وابن القيم - رحمهما الله -. * * مسألة/ وظاهر عبارات أهل العلم - رحمهم الله - أنه لا يشترط لهذه الصفة أن تكون بعذر بل يجوز للإنسان أن يدخل الحج على العمرة ولو بلا عذر. والإجماع الذي حكاه الشيخان أيضاً مطلق لم يشترط أن يكون هناك عذر. وهذا هو الصحيح: أنه يجوز مطلقاً. ويشترط: = عند لحنابلة للصورة الثانية وهي أن يدخل الحج على العمرة - أن يكون إدخال الحج على العمرة قبل بداية طواف العمرة. - لأنه إذا بدأ بالطواف فقد بدأ بالتحلل. = والقول الثاني: أنه يجوز للإنسان أن يدخل الحج على العمرة ولو بعد الشروع في الطواف. - لأن صورة القران تصدق عليه حينئذ ولو كان شرع في طواف العمرة. والأقرب والله أعلم: القول الثاني وهو أنه يجوز إدخال الحج على العمرة ولو بعد الشروع في طواف العمرة. وفهم مما تقدم أنه لا يجوز لإنسان أن يدخل نسك الحج على العمرة بعد الشروع في السعي، إنما الخلاف فيما إذا أدخل الحج على العمرة بعد الشروع بطواف العمرة فقط. - الصورة الثالثة: أن يحرم الإنسان بالحج مفرداً ثم يدخل عليه العمرة. وهذه الصورة ممنوعة: = عند الحنابلة. فإن فعل فإن إحرامه بالعمرة ملغي لا قيمة له وهو ما زال مفرداً. واستدلوا على هذا بأمرين: - الأول: أنه روي عن علي - رضي الله عنه - النهي عن هذه الصورة. وبهذا الأثر استدل الإمام أحمد - رحمه الله -.

- والثاني: أنه لا ينتفع بعمله هذا زيادة إذ عمل المفرد والقارن واحد. وإلى هذا ذهب شيخ الإسلام - رحمه الله -. = القول الثاني: جواز إدخال العمرة على الحج. واستدلوا بدليلين: - الدليل الأول: قياساً على العكس: فإذا جاز إدخال الحج على العمرة فيجوز إدخال العمرة على الحج. - الدليل الثاني: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أحرم أولاً بالحج ثم أدخل عليه العمرة. وهذا الحديث يستدل به بعض الفقهاء وتتبعت أحاديث الحج تتبعاً لا بأس به فلم أجد في الأحاديث التصريح بأن النبي - صلى الله عليه وسلم - أحرم بالحج أولاً ثم أحرم بالعمرة إنما فيه قوله في الحديث القدسي: (صل في هذا الوادي وقل عمرة في حجة). فالفقهاء وشراح الأحاديث قالوا: لا يوجد - وهذا هو الأمر المهم - لا يمكن التوفيق بين الأحاديث التي ظاهرها التعارض إلا أن نفترض أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أحرم بالحج ثم أدخل عليه، وما دام لا يمكن التوفيق بين النصوص إلا بهذا القول صاروا يقولون: إن النبي - صلى الله عليه وسلم - أحرم بالحج ثم أدخل عليه العمرة وإلا لا أعلم أنه يوجد حديث صحيح أن النبي - صلى الله عليه وسلم - هكذا صنع، ومن أدلة عدم الوجود أن الحفاظ المتأخرين من الشراح صرحوا أن اعتمادهم في إثبات هذه الطريقة للنبي - صلى الله عليه وسلم - هو أنه لا يمكن الجمع بين النصوص إلا إذا حملنا عمل النبي - صلى الله عليه وسلم - على هذا المحمل. * * مسألة: أخرج البخاري ومسلم عن ابن عمر أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أحرم بالعمرة ثم أحرم بالحج. - هكذا هذا لفظه في البخاري. وظاهر هذا اللفظ عكس ما ذهب إليه أصحاب القول الثاني. وهو أن النبي - صلى الله عليه وسلم - بدأ بالعمرة أولاً ثم أدخل عليه الحج.

ولكن مع ذلك الشراح ذكروا أنه لا يمكن أن نحمل هذا الحديث على ظاهره بل نقول: أراد ابن عمر - رضي الله عنه - بهذا الكلام أن يبين أن النبي - صلى الله عليه وسلم - حج قارناً بغض النظر عن الصورة التفصيلية لكيفية نسكه فحملوه على هذا المحمل وإن كان الفظ صريحاً لكنهم لم يرتضوا أن يكون النبي - صلى الله عليه وسلم - أحرم بالعمرة أولاً وحملوا هذا اللفظ على أنه أراد الصورة العامة لا الصورة التفصيلية والذي دعاهم إلى هذا الحمل هو أنه لا يمكن التوفيق بين الأحاديث إلا إذا قلنا بهذا القول. والراجح - والله أعلم - الجواز: - لأنه وإن استدل الإمام أحمد - رحمه الله - بأثر علي إلا أن أصحاب القول الثاني معهم ظاهر السنة - وليس صريحها - فهذا يجعل الإنسان يركن إلى هذا القول، ثم إذا أحرم الإنسان بالحج ثم أدخل عليه العمرة استفاد سقوط نسك العمرة عنه وتقرب إلى الله بالهدي لأن القارن يجب عليه الهدي، فبين أن لهذا العمل فائدة كبيرة. - ثم قال - رحمه الله تعالى -: وإذا حاضت المرأة فخشيت فوات الحج: أحرمت به وصارت قارنة. هذه إحدى صور القران وهي الصورة الثانية. ودليلها: - حديث عائشة - رضي الله عنها - الذي تقدم معنا أنها أحرمت بالعمرة ثم خشيت فوات الحج لأنها حاضت فأدخلت الحج على العمرة. إذاً من خشي فوات الحج وهومحرم بالعمرة تمتعاً فإنه يدخل الحج على العمرة سواء كانت خشية الفوات بسبب الحيض بالنسبة للنساء أو بأي سبب بالنسبة للرجال، فما دام خشي أن يفوت الحج فالحل أن دخل الحج على العمرة. = والقول الثاني: أن من أحر بالعمرة ثم خشي فوات الحج ولن يتمكن م إتمام العمرة كالحائض فحكمه أن يرفض العمرة وهو معذور بهذ الرفض لأنه لا يستطيع إتمام النسك. وهذا مذهب الأحناف. وهو غاية في السقوط والضعف: - لأنه مخالف لنص السنة الصريحة فإن هذه المسألة أفتى فيها النبي - صلى الله عليه وسلم - وأمرها أن تحرم بالحج فكيف نقول بأن الحل أن ترفض العمرة ويكون رفضها مقبولاً في هذه الصورة لأنها معذورة. - ثم قال - رحمه الله تعالى -:

وإذا استوى على راحلته قال: ((لَبَّيْكَ اللَّهُمَّ لَبَّيْكَ لَبَّيْكَ لاَ شَرِيكَ لَكَ لَبَّيْكَ إِنَّ الْحَمْدَ وَالنِّعْمَةَ لَكَ وَالْمُلْكَ لاَ شَرِيكَ لَكَ)). يريد المؤلف - رحمه الله - أن يبين الوقت الذي يشرع فيه التلبية، فهنا يريد المؤلف - رحمه الله - أن يتكلم عن التلبية وسبق أنه تكلم عن نية الإحرام وذكرت لك أن الحنابلة يفرقون بين نية الإحرام وبين التلبية فيجعلون وقت استحباب نية الإحرام بعد الصلاة وقت استحباب التلبية إذا استوت به راحلته، إذاً يفرقون بين وقت النية ووقت التلبية. = والقول الثاني: أن وقت النية وقت التلبية واحد. واستدلوا: - - بأن هذا هو ظاهر السنة أنه - صلى الله عليه وسلم - نوى ولبى في قت واحد. وهذا القول الثاني ظاهر القوة وهو الصواب إن شاء الله. نأتي الآن إلى مسألة: متى يشرع للإنسان أن يلبي؟ = عند الحنابلة إذا استوى على راحلته. والمؤلف - رحمه الله - خالف في هذه المسألة المشهور من مذهب الحنابلة، فالحنابلة في المشهور عندهم يرون أن وقت التلبية بعد الإحرام أي بعد الصلاة. إذاً ما مشى عليه المؤلف - رحمه الله - هنا هو أنه يحرم إذا ستوت به راحلته واستدل الحنابلة على هذا الحكم - يعني ما ذكره المؤلف - رحمه الله - هنا: - - بحديث ابن عمر أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما استوى على راحلته أهل ولبى - صلى الله عليه وسلم -. = القول الثاني: أن التلبية تكون بعد الصلاة فإذا صلى نوى ولبي. واستدلوا على هذا: - - بحديث ابن عباس - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أهل بعد الصلاة. وهذا الحديث على شهرته وكثرة الاستدلال به إلا أنه لا يثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه نُقِلَ عنه نَقْلٌ صحيح أنه لبى بعد الصلاة. = والقول الثالث: أنه إذا استوى على البيداء - يعني إذا على هذا المرتفع. والبيداء مكان معروف قريب من ميقات أهل المدينة. واستدلوا على ذلك: - - بأن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما استوى على البيداء أهل بالتلبية. - وكان ابن عمر - رضي الله عنه - ينكر هذا القول إنكاراً شديداً ويقول: ما أهل النبي - صلى الله عليه وسلم - إلا لما استوى على راحلته.

باب محظورات الإحرام

والأقرب والله أعلم من هذه الأقوال أنه بعد الصلاة وإن كان حديث ابن عباس ضعيف لمن هذا ظاهر السنة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نوى ولبى في وقت واحد وذلك يكون بعد الصلاة. ويؤيد ذلك أن ضعف حديث ابن عباس ليس ضعفاً شديداً وإنما ضعف بالإمكان أن يستأنس به. الإضافة إلى أن عدداً من المعاصرين صح هذا الحديث. - ثم قال - رحمه الله تعالى -: يصوت بها الرجل. يعني: أن المشروع في حق الرجل أن يرفع صوته قدر ما يستطيع. وهذا معنى قوله: يصوت. والدليل على ذلك: - ما ثبت في الحديث الصحيح أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: أمرني جبريل أن آمر أصحابي أن يرفعوا أصواتهم بالإهلال. - والدليل الثاني: أن أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - كانوا يرفعون أصواتهم حتى تبح من شدة رفع الصوت. ولما بين ما يتعلق بالرجل انتقل إلى المرأة: - فقال - رحمه الله -: وتخفيها المرأة. أي أن السنة في حق المرأة أن تلبي بصوت منخفض. والراجح أن المراد بالانخفاض هنا: أي بحيث تسمع من بجوارها من النساء لا أن تلبي بصوت لا يسمعه من بجوارها - يعني لا تلبي ي نفسها وإنما تلبي بصوت منخفض يسمعه من بجوارها من النساء. هذه هي السنة لأن التلبية نوع من الشعائر وإنما أمرنا المرأة بخفض الصوت خشية الافتتان ولأن صوت المرأة غالباً يؤدي إلى انشغال أذهان الرجال فلذلك أمرت بخفض الصوت وإلا فإن الأصل أن هذه شعيرة تحتاج إلى إعلاء. فإذاً لا تتجاوز المرأة إسماع من بجوارها ولو كانت في مكان منعزل خاص بالنساء فإنها لا تعدى هذا الحد وهو أن تسمع من بجوارها. باب محظورات الإحرام - ثم قال - رحمه الله تعالى -: باب محظورات الإحرام. الحظر في لغة العرب: المنع. والمقصود بمحظورات الإحرام: ما يحرم على المحرم فعله بسبب الإحرام. فالكذب يحرم على المحرم فعله لكن ليس بسبب الإحرام إنما بالتحري الأصلي. إذاً المحظورات المقصودة في هذا الباب فقط ما يكون سبب المنع منه الإحرام وهي كما قال المؤلف - رحمه الله -: تسعة. - قال - رحمه الله -: (1) حلق الشعر. حلق الشعر من محظورات الإحرام. وحلق الشعر ينقسم إلى قسمين:

- القسم الأول: حلق شعر الرأس. وهو من محظورات الإحرام: بالنص والإجماع. - أما النص فقوله تعالى: - (ذَلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ) -[البقرة/196]. فهذه الآية نص في تحريم حلق شعر الرأس أثناء الإحرام. - والثاني: الإجماع فقد حكى الإجماع أكثر من واحد ولا يعلم في هذه المسألة مخالف لصراحة النص في النهي عنه. - القسم الثاني: ما عدا شعر الرأس من شعر البدن. وفيه خلاف بين أهل العلم - رحمهم الله - على قولين: = القول الأول: وإليه ذهب الأئمة الأربعة والجماهير والجم الغفير من الفقهاء أنه من محظورات الإحرام. قال الإمام أحمد لا أعلم أحداً فرق بين الرأس والإبط. واستدلوا بدليلين: - الدليل الأول: القياس على شعر الرأس. بجامع ترك الترفه أي أن الشارع إنما نهى المحرم عن أخذ شعر الرأس لأن لا يترفه والترفه حاصل بأخذ الشعور الأخرى. - - الدليل الثاني: قوله سبحانه وتعالى - (ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ) -[الحج/29]. قضاء التفث فسره ابن عباس - رضي الله عنه - بأخذ شعر العانة والإبط وتقليم الأظافر. وجه الاستدلال بالآية: أنه تعالى قال: {ثُمَّ لْيَقْضُوا} والآية معطوفة على نحر الهدي. فمعنى الآية أن الإنسان لا يقضي تفثه إلا بعد أن ينحر الهدي وما دام لم ينحر فهو محرم ويمنع من أخذ هذه الشعور وهو استدلال غاية في القوة كما ترى لا سيما وأن هذا التفسير مروي عن ابن عباس ولا يعرف له مخالف. = القول الثاني: أن أخذ باقي الشعور جائز ولا يترتب عليه فدية وأن الممنوع فقط شعر الرأس. وإلى هذا ذهب ابن حزم - رحمه الله -. واستدل على ذلك كما هي طريقته: - - بأنه ليس في النصوص مطلقاً المنع من أخذ باقي الشعور وإنما نص الله سبحانه وتعالى فقط على شعر الرأس. وهو قول ضعيف جداً مخالف لظاهر الآية وللآثار عن الصحابة ولما عليه جماهير الفقهاء بل إن عبارة الإمام أحمد يفهم منها الإجماع حيث يقول - رحمه الله -: لا أعلم أحداً فرق بين شعر الرأس والإبط. إذاً الراجح أن باقي الشعور كشعر الرأس وهي من محظورات الإحرام.

ثم انتقل المؤلف - رحمه الله - إلى المحظور الثاني من محظورات الإحرام: - فقال - رحمه الله -: (2) وتقليم الأظافر. تقليم الأظافر من محظورات الإحرام. فإن قلم المحرم أظافره فعليه فدية كما سيأتي تفصيل أحكامها. وليس في النصوص ما يدل على أن تقليم الأظافر من محظورات الإحرام. ولذلك الخلاف الذي سمعت في الشعر غير شعر الرأس وجد تماماً في حكم تقليم الأظافر سواء من حيث الأدلة ومن حيث القائلين فلا يختلف بشيء. والراجح كذلك في هذه المسألة كالراجح في المسألة السابقة وهي أن تقليم الأظافر بمقتضى ظاهر الآية وفتاوى الصحابة من محظورات الإحرام وأن اختيار ابن حزم في هذه المسألة ضعيف. ثم لما بين - رحمه الله - المحظور الأول والثاني انتقل إلى الضابط الذي تجب فيه الفدية في الشعور والأظافر: - فقال - رحمه الله -: فمن حلق أو قلم ثلاثة: فعليه دم. إذا حلق الإنسان ثلاث شعرا فصاعداً: فعليه دم. فإن حلق شعره ففيه: طعام مسكين. وإن حلق: شعرتين: فيه طعام مسكينين. وإن حلق بعض شعرة: فيه ما في حلق الشعرة. واستدلوا: - بأن الثلاثة أقل الجمع. = القول الثاني: لأبي حنيفة - رحمه الله - أن الفدية تجب إذا حلق ربع الرأس فصاعداً. فإن حلق أقل من ذلك فلا فدية فيه. = القول الثالث: للمالكية وهو أن الحلق الذي تجب فيه الفدية هو ما اتصف أحد صفتين إما أن يون فيه ترفه أو أن يكون فيه إزالة للأذى. فإن حلق شعر يحصل به الترفه أو يحصل به إزالة الأذى: وجبت الفدية وإلا فلا. ومعنى هذا القول: أن لا تجب الفدية إلا - في الحقيقة - عمم شعره بالحلق. أما إذا حلق بعض الرأس فلا فدية فيه. وهذا القول هو القول الصحيح. فإن حلق الرأس أو أغلب الرأس ففيه الفدية. وإن حلق دون ذلك ففيه طعام مسكين. * * مسألة/ والفقهاء الذين يقولون حلق ما دون الثلاث شعرات مثلاً ليس فيه فدية يرون مع ذلك أنه: محرم. فهو محرم وإن ل تكن فيه فدية. إذاً: الحديث الآن لا عن حكم الحلق وإنما عن متى تجب الفدية وقد سمعتم الخلاف والراجح إن شاء الله مذهب المالكية. - ثم قال - رحمه الله تعالى -: (3) ومن غطى رأسه بملاصق: فدى. تغطية الرأس من محظورات الإحرام. وهي في الجملة: محل إجماع.

- - لقول النبي - صلى الله عليه وسلم - في الحديث الذي سيأتينا: (ولا العمائم ولا البرانس) - فيما ينهى المحرم عن لبسه. - - ولقوله - صلى الله عليه وسلم - في المحرم الذي وقصته ناقته: (ولا تخمروا رأسه). إذاً من حيث الجملة دل على المنع منه النص والإجماع فلا إشكال فيه. لكن من حيث التفصيل ففيه خلاف. فتغطية الرأس تنقسم إلى قسمين: - إما أن تكون بملاصق. - أو أن تكون بغي ملاصق. القسم الأول: أن تكون بملاصق. يعني أن يغطي رأسه بما يلاصق الرأس هذا ينقسم إلى قسمين: - إما أن يغطي بملاصق معتاد. كالعمامة والطاقية أو الشماغ وما أشبه ذلك من الألبسة المخصصة للرأس. - أو أن يغطيه بغير معتاد. كأن يضع عليه قرطاس أو أن يضع عليه خرقه ليست مما أعد لستر الرأس. والنوعان ممنوعان. فإن غطى رأسه بملاصق معتاد أو غير معتاد فهو محرم وعليه الفدية. القسم الثاني: أن يغطي رأسه بغير ملاصق. وهو ينقسم إلى قسمين: - الأول: أن يكون غير الملاصق غير تابع للمحرم، والتابع هو الذي يتحرك بحركة المحرم وغير التابع هو الذي لا يتحرك بحركة المحرم. مثاله: أن يستظل تحت سقف مبني أو أن يستظل تحت خيمة فهذه لأمور ليست تابعة تحرك بحركة المحرم فهذه لا إشكال أنه لا فدية فيها لما ثبت في الحديث الصحيح أن النبي - صلى الله عليه وسلم - ضربت له خيمة بنمرة. - الثاني: أن يكون غير ملاصق ولكنه تابع للمحرم. كأن يستظل بمظلة شمسية أو بالسيارة أو بما أشبه هذه الأمور مما تحرك بحركة المحرم. فهذه: = عند الحنابلة لا تجوز وفيها فدية. واستدلوا على هذا: - بأثر عن ابن عمر - رضي الله عنه - وبأنها تابعة لهذا المحرم. = والقول الثاني: أنه لا بأس بالاستظلال بغي الملاصق ولو كان تابعاً. - - لما ثبت في الحديث الصحيح أن بلالاً وأسامة بن زيد - رضي الله عنهما - كانوا مع النبي - صلى الله عليه وسلم - في حجة الوداع وأحدهما آخذ بخطام ناقة النبي - صلى الله عليه وسلم - والآخر يستره بثوب إلى أن رمى جمرة العقبة.

فهذا الثوب الذي ستر به النبي - صلى الله عليه وسلم - تابع له ويتحرك بحركته بل إن الصحابي الجليل إما أن يكون بلال أو أسامة ولعله أسامة كان يقصد أن يتحرك إذا تحرك النبي - صلى الله عليه وسلم - ليستمر الظل فوق رأسه - صلى الله عليه وسلم -. وهذا الحديث نص في المسألة. ويجزم الإنسان ويقطع أن ابن عمر لم يعلم أن أسامة صنع هذا مع النبي - صلى الله عليه وسلم - وإلا لم يكن ليخالف أو أن يكون الإسناد إلى ابن عمر لا يثبت. المهم أن هذا الأثر ليس مما يتمسك به في مقابل الحديث الصحيح. - ثم قال - رحمه الله تعالى -: (4) وإن لبس ذكر مخيطاً: فدى. لبس المخيط من محظورات الإحرام. والمقصود بالمخيط: هو كل ما فصل على قدر عضو أو على قدر الجسم جميعاً. فكل ملبوس فصل على قدر عضو من أعضاء الجسم أو على قدر الجسم كله فهو من محظورات الإحرام في باب اللباس. والدليل على هذا: - ما أخرجه في الصحيح عن ابن عمر أن الني - صلى الله عليه وسلم - سئل: ما يلبس المحرم؟ فقال - صلى الله عليه وسلم -: (لا يلبس القميص ولا العمائم ولا البرانس ولا السراويلات ولا الخفاف إلا من لم يجد نعلين فليلبس الخفين وليقطعهما أسفل من الكعبين ثم نهى أن يلبس المحرم ثوباً مسه زعفران أو مسه ورس). هذا الحديث: قاعدة في مسألة لبس المخيط والنهي عنه وتفصيل ما يجوز أن يلبس وما لا يجوز أن يلبس. فكل ماذكر في الحديث وما يستوي معه في العلة فهو مما لا يجوز للإنسان أن يلبسه في الإحرام. * * مسألة/ لبس الإزار المخيط. هذه المسألة الخلاف فيها طويل واشتهرت في هذا الوقت ولذلك سنفرد لها كلاماً خاصاً وربما يكون مكتوباً. والراجح في هذه المسألة والله أعلم أنه لا يجوز لإنسان أن يلبس هذا اللباس ومن أقوى الأدلة أن هذا اللباس إذا فصل على هذه الهيئة فقد فصل على قدر جزء من البدن وهو: الجزء الأسفل.

وكما أن الثوب الذي يفصل على قدر الدن كله ممنوع كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: (القميص) كذلك ما فصل على قدر الجزء الأسفل من البدن فهو ممنوع لكن هذه المسألة: الخلاف فيها قوي والذين قالوا: أنه يجوز لبسه فقهاء كبار وأدلتهم قوية جداً وقولهم معتبر وليس هناك إجماع على المنع من هذه اللبسة وإنما هي لبسة خلافية وإن شاء الله نحن نلخص لكم جميع الأدلة والأقوال في مجلس آخر وأرجو أن تكون مكتوبة لأن الناس بحاجة إليها ويتبين الأمر لكن مع ذلك من الخطأ البين المغالاة في هذه المسألة وكثرة النقاش وإخراجها عن أن تكون من مسائل العلم إلى أن تكون مسألة من المسائل التي يكثر فيها النقاش والخلاف. - ثم قال - رحمه الله تعالى -: (5) وإن طيب بدنه أو ثوبه، أو ادهن بمطيب، أو شم طيباً، أو تبخر بعود ونحوه: فدى. التطيب من محظورات الإحرام بالإجماع في الجملة وبالنص. - - أما النص فقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: (ولا يلبس ثوباً مسه رس ولا زعفران). واختلف أهل العلم في الحكمة التي من أجلها نهي المحرم عن لبس الثوب الذي فيه زعفران وورس: هل هو لطيب رائحة الزعفران؟ أو لأن الزعفران ممايتجمل بلونه؟ اختلفوا على قولين في هذه المسألة: = الجمهور على أن النهي لأجل الطيب لا لأجل الزينة وهذا هو الصواب. ويحتمل أن يكون النهي لأجل الأمرين. لكن الذي يعنينا الآن ولاشك أنه داخل في النص: مسألة الطيب. - الدليل الثاني: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال في الذي وقصته الناقة: (ولا تحنطوه). وفي لفظ صحيح إن شاء الله (ولا تطيبوه). فدلت هذه النصوص على أن الطيب من محظورات الإحرام فإن تعطر المحرم أو مسه فإنه ارتكب محظوراً من محظورات الإحرام. - ثم قال - رحمه الله تعالى -: أو شم طيباً. = ذهب الحنابلة إلى أن شم الطيب أيضاَ من محظورات الإحرام. واستدلوا على هذا: - - بقولهم: وهل يقصد من الطيب إلا الشم. فإذا شم المحرم الطيب فقد وقع في محظورات الإحرام. وما استدل به الحنابلة وجيه: هل يقصد من الطيب شيء غير الشم؟ ولا يعترض على قول الحنابلة بأن المقصود من الطيب التجارة مثلاً لأن عندنا قاعدة وهي:

((أنه لا يمكن القول أنه يقصد من أي سلعة بيعها)). لأن هذا القصد موجود في جميع السلع. فالمطعومات مثلاً المقصود منها الأكل وهو المقصود الأصل منها لا التجارة. فمسألة البيع والاتجار ليست من مقاصد السلع الأساسية لأنها توجد في جميع السلع. إذاً لا يعترض على الحنابلة بمثل هذا. = القول الثاني: أن الشم ليس من محظورات الإحرام ولا حرج فيه وأن من شم طيباً فقد فعل أمراً مباحاً. واستدلوا على هذا: - - بأن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يكثر من الطيب عند الإحرام في جسده وهذا يستلزم ولابد أنه سيشم الطيب أثناء أداء النسك. فدل هذا على أن الشم ليس من محظورات الإحرام إذ يلزم من تطيب النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يشمه، ولوازم أقوال وأفعال النبي - صلى الله عليه وسلم - معتبرة شرعاً. = القول الثالث: أن المحظور تقصد الشم فإن تقصد أن يشم فقد فعل محظوراً وإن شم عرضاً من غير قصد فإنه لا يقع في محظور. وهذا القول مال إليه ابن القيم وهو في الحقيقة قريب من مذهب الحنابلة بل إن بعض الحنابلة صرح أن مقصودهم (شم الطيب) يعني إذا تقصد. القول الثالث وجيه لكن الإشكال ما يزول وظاهر كلام شيخ الإسلام أنه يميل لمذهب الحنابلة وأن الشم من محظورات الإحرام. والحقيقة المسألة فيها إشكال ولذلك الأحوط أن لا يتقصد شم الطيب، فإذا لم يتقصد شم الطيب فلا إشكال أنه لم يقع في المحظور، فإن اعتبار شم الطيب من المحظورات مطلقاً ولو بغير قصد هذا خطأ لأننا نكاد نجزم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - شم الطيب الذي وضعه لا سيما وأنه كان يضع من أطيب الطيب كما في الحديث يعني من أحسن أنواع الطيب، فمثل هذا النوع لابد أن يشمه الإنسان، فالقول بأن شم الطيب من محظورات الإحرام مطلقاً ضعيف ويتنافى مع صنع النبي - صلى الله عليه وسلم -. فالراجح إما القول الثاني أو القول الثالث. - ثم قال - رحمه الله تعالى -: أو تبخر بعود. إذا تبخر بعود فقد وقع بمحظور من محظورات الإحرام، لأن العود هكذا يصنع به، إذاً لا يلزم أن يضع الإنسان الطيب لكن حتى لو تبخر بعود فقد وقع في المحظور لأن العود هكذا يوضع. - ثم قال - رحمه الله تعالى -:

(6) وإن قتل صيداً مأكولاً برّياً أصلاً .... قوله: (وإن قتل) يريد المؤلف - رحمه الله - أن يبين أن قتل الصيد من محظورات الإحرام. وظاهر عبارة المؤلف - رحمه الله - أن المحظور هو القتل. والصواب أن المحظور هو القتل وملك الصيد بأي طريقة سواء كان بالشراء أو بالهبة أو بأي طريق من الطرق فإنه من محظورات الإحرام، فليس المقصود في الحقيقة القتل فقط وإنما أن يتملك المحرم الصيد بأي طريق من الطرق، وإنما يعبر الفقهاء كثيراً بالقتل لأنه الغالب في الحصول على الصيد. والدليل على تحريم الصيد: - قوله تعالى: - (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ) -[المائدة/95]. فهذا النص صريح بأن الصيد من محظورات الإحرام. - ثم قال - رحمه الله تعالى -: مأكولاً برّياً أصلاً. الصيد الذي يحرم قتله له شروط اختصرها المؤلف - رحمه الله -: ـ الشرط الأول: أن يكون مأكول اللحم، فإن قتل غير مأكول اللحم فلا شيء عليه. واستدلوا على ذلك بأمرين - الأول: أن الصيد عند الإطلاق يتناول مأكول اللحم لأن الناس يصيدون مأكول اللحم. - الثاني: قوله تعالى - (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ) -[المائدة/95]. وجه الاستدلال: أن الآية منعت المحرم من قتل الصيد الذي يجوز له أن يقتله بدون إحرام وينتفع من هذا القتل وهو المأكول فقط، وهذا الاستدلال وجيه. = والقول الثاني: أن المحرم ممنوع من قتل المأكول وغير المأكول، لعموم الآية. والصواب مع القول الأول. ـ الشرط الثاني: أن يكون متوحشاً أصلاً، ومقصوده أصلاً: أي أن الصيد المتوحش لو تأهل فلا يجوز أن نقتله والأهلي لو توحش يجوز أن نقتله. لماذا؟ لأن الفقهاء يقولون: العبرة بالأصل لا بالوصف الطارئ، فالوصف الطارئ لا يؤثر في الحكم، فإذاً لو تأهل واستأنس حيوان بري فإنه لا يجوز أنقتله وكذلك العكس، فلو توحش حيوان أهلي فيجوز للمحرم أن يقتله فإذاً العبرة بالأصل لا بالوصف الطارئ. ـ الشرط الثالث: أن يكون برياً لا بحرياً.

- لقوله تعالى: - (أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ مَتَاعًا لَكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُمًا وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ) -[المائدة/96]. فصيد البحر بالنسبة للمحرم جائز ولا حرج فيه. إذاً يشترط في الصيد ليمنع هذه الشروط الثلاثة. - ثم قال - رحمه الله تعالى -: ولو تولد منه ومن غيره. تغليباً للحظر، فإذا اجتمع مبيح وحاظر غلب الحاظر. وهي قاعدة شرعية صحيحة وفيها مؤلفات وأظن بعض إخوانا المعاصرين ألف فيها رسالة طيبة في تقرير قاعدة: ((إذا اجتمع مبيح وحاظر غلب الحاظر)). - ثم قال - رحمه الله تعالى -: أو تلف في يده: فعليه جزاؤه. إذا تلف الصيد في يد المحرم ولو لم يصطده فعليه الضمان: - لأن يده يد اعتداء وكان الواجب إما أن يطلقه أو أن يرده إلى المالك. - ثم قال - رحمه الله تعالى -: ولا يحرم: حيوان إنسي ولا صيد البحر ولا قتل محرّم الأكل. هذا تصريح بمفهوم الكلام السابق، تصريح بمفهوم الشروط السابقة، وأخذنا الكلام حول الإنسي وصيد البحر والخلاف في قتل المحرم محرم الأكل. - ثم قال - رحمه الله تعالى -: ولا الصائل. الصائل: يجوز للإنسان أن يقتله ولو اجتمعت فيه الشروط: - لأنه لما صال صار من جنس الدواب التي أمر الشارع بقتلها لأنها مؤذية. فإذاً إذا دخل في زمرة الحيوانات المؤذية التي أمر الشارع بقتلها صار له نفس الحكم ولو كان مأكولاً وحشياً وانطبقت فيه الشروط. * * مسألة/ فإذا قتله لأنه صال عليه فهو ميتة ولو كان مأكول اللحم: - لأن القاتل الآن ليس من أهل الصيد ولا من أهل التذكية فيجوز له أن يقتله ولكن لا يجوز له ولا لغيره أن يأكله.

شرح كتاب المناسك الدرس رقم (6) قال شيخنا حفظه الله: بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين. بدأ المؤلف - رحمه الله - بالمحظور السابع وهو عقد النكاح: - فقال - رحمه الله -: (7) ويحرم عقد النكاح. وعقد النكاح من محظورات الإحرام التي اتفق الفقهاء عليها. - لدلالة السنة الصريحة على ذلك في قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: (لا ينكح المحرم ولا ينكح ولا يخطب). والمقصود بالمنع هم ثلاثة: 1. الزوج. 2. والزوجة. 3. والولي. - وأما الشاهد فلا يدخل في الحديث لكن ذكر الفقهاء أنه يكره له أن يشهد وهو محرم. فإذا عقد المحرم عقد النكاح فإن العقد يبطل. والدليل على ذلك: - - أن النهي في الحديث يعود إلى ذات العقد: (لا ينكح). وإذا عاد النهي إلى ذات العقد فهو باطل. وعليه فإنه يلزم الزوج والزوجة إعادة العقد إذا عقداه أثناء الإحرام. إذاً: الخلاصة أن عقد النكاح من المحظورات المتفق عليها على التفصيل الذي سمعت. - قال - رحمه الله -: ولا فدية. يعني: مع كون النكاح من المحظورات إلا أنه إذا وقع المحرم فيه فلا فدية عليه بل عليه الإثم والتوبة وفساد العقد دون الفدية. والدليل على هذا: - أنه ليس في النصوص الشرعية ما يدل على وجوب الفدية على المحرم الذي عقد نكاح في أثناء الإحرام، والأصل براءة الذمة وحرمة مال المسلم لذلك قرروا أنه لا فدية. ثم لما ذكر المؤلف - رحمه الله - النكاح ذكر الرجعة: - فقال - رحمه الله -: وتصح الرجعة. الرجعة هي: أن يراجع المطلق زوجته الرجعية. وسيأتينا في كتاب النكاح من هي الرجعية وغير الرجعية؟ وما هي الرجعة؟ والرجعة: = عند الحنابلة تجوز. واستدلوا على جواز المراجعة بدليلين: - - الأول: أن الحديث نهى عن النكاح والرجعة ليست نكاحاً. - - الثاني: أن الأصل الجواز والمنع يحتاج إلى دليل. = والقول الثاني: أن الرجعة أثناء الإحرام لا تجوز ولا تصح وعليه أن يراجع بعد الإحرام. واستدلوا على هذا: - بأن الرجعة أثناء الإحرام غالباً ما تؤدي إلى وقوع الوطء وما أدى إلى محظور فهو محظور. والصواب إن شاء الله مع القول الأول، فيجوز للإنسان أن يراجع زوجته ولا حرج عليه والمنع من مثل هذا بدون دليل مذهب ضعيف. ثم انتقل المؤلف بعد أن انتهى من المحظور السابع إلى المحظور الثامن. - فقال - رحمه الله -: (8) وإن جامع المحرم قبل التحلل الأول: فسد نسكهما، ويمضيان فيه ويقضيانه ثاني عام.

الثامن من محظورات الإحرام هو: الجماع. والجماع من أعظم المحظورات والله سبحانه وتعالى ورسوله - صلى الله عليه وسلم - والصحابة - كما سيأتينا في فتاويهم - عظموا قضية الجماع والوطء وما يتعلق به، وعظموا تحريمه وعظموا فيه الفدية، لذلك سيأتينا في بعض المسائل أن الراجح في بعضها التشديد انطلاقاً من ملحظ وهو أن الشارع في جنس الوطء في الحج شدد الأمر من حيث التحريم والفدية، ولذلك تجد أن الصحابة - رضي الله عنهم - وعلى رأسهم ابن عباس - رضي الله عنه - شددوا في هذا الباب في أكثر من مسألة ستأتينا الآن. نبدأ بالمسألة الكبيرة وهي: ـ الجماع قبل التحلل الأول: فهو أعظم محظورات الإحرام. والجماع قبل التحلل الأول محرم بإجماع الفقهاء لم يخالف فيه أحد. - لقوله تعالى: - (الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ) -[البقرة/197] قال ابن عباس - رضي الله عنه - الرفث: الجماع ومقدماته. والجماع قبل التحلل الأول ينقسم إلى قسمين: - القسم الأول: أن يكون قبل الوقوف بعرفة. فإذا جامع قبل الوقوف بعرفة فسد حجه بإجماع الأمة، فقد أجمعوا على أن الحج فاسد. واستدلوا على فساده: - بالآثار الصحيحة الثابتة المروية عن عمر وابنه وابن عباس وأبي هريرة وغيرهم من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم -. - القسم الثاني: أن يكون بعد الوقوف بعرفة. = وأيضاً ذهب إلى فساده الجماهير والجم الغفير من أهل العلم ولم يخالف في هذه المسألة إلا: = الأحناف: فهم يرون أن الجماع بعد الوقوف بعرفة لا يفسد الحج. واستدلوا على هذا: - بقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: (الحج عرفة). والصواب مع الجمهور: - - لأن الآثار التي رويت عن أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - لم تفرق بين أن يقع قبل الوقوف بعرفة أو بعد الوقوف بعرفة. ولذلك تكون الخلاصة أن الجماع قبل التحلل الأول مفسد للحج مطلقاً بالإجماع قبل عرفة وعلى الصواب الذي عليه الجماهير: بعد عرفة. ثم لما بين المؤلف - رحمه الله - مسألة حكم الجماع قبل الحلل الأول ذكر ما يترتب على هذا الحكم: فالأثر الأول: - قال - رحمه الله -: فسد نسكهما. وتحدثنا الآن عن أقسام فساد النسك.

الأثر الثاني: - قال - رحمه الله -: ويمضيان فيه. يعني أن من جامع قبل التحلل الأول: فسد نسكه ويجب عليه وجوباً أن يمضي في هذا النسك الفاسد. ولا يعلم لهذا الحكم نظير في الشرع بأن يمضي الإنسان في عبادة فاسدة وهذا يؤكد ما ذكرت لكم سابقاً أن الشارع وفتاوى الصحابة تعظم هذا الأمر في الحج بشكل لافت للانتباه. والدليل على وجوب المضي: - الآثار: ذات الآثار المروية عن أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - التي دلت على الفساد فإنها دلت على وجوب المضي. لكن وقع في هذه المسألة خلاف وهو وجوب المضي: = فالجماهير: ذهبوا - كما ذكرت لك - وحسب ما ذكره المؤلف إلى وجوب المضي. = والقول الثاني: أن الحج يفسد ولا يمضي فيه بل ينصرف إلى أهله، وإلى هذا ذهب الفقيه ابن حزم - رحمه الله -. واستدل على ذلك: - بأن هذا عمل ليس عليه أمر الله ولا رسوله (أي المضي في الحج الفاسد). والجواب على ما استدل به ابن حزم - رحمه الله -: أن هذا المضي إن كان الحج فاسداً فعليه أمر الله ورسوله بدلالة الآثار ولا يعلم مخالف بين أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم -. = القول الثالث: وهو رواية عن الإمام أحمد - رحمه الله - أن من أفسد نسكه بالجماع قبل التحلل الأول فإنه يتحلل بعمرة ويمضي إلى أهله. والصواب: القول الأول: - لصراحة الآثار ووضوحها في مسألة وجوب المضي. والأثر الثالث (الأخير): - قال - رحمه الله -: ويقضيانه ثاني عام. وجوب القضاء ثاني عام محل اتفاق بين الفقهاء ودلت عليه الآثار، ويجب أن يقضي هذا النسك الفاسد من حيث أحرم به عام أول، وهذا أيضاً نوع من التشديد في جنس هذا المحظور. وحكم هذا الحج الثاني - القضاء - وحكم الحج الذي مضى فيه: حكم الحج الصحيح في كل شيء. فإذا أفسد المحرم نسكه ومضى فيه وألزمناه أن يمضي فيه فهذا الحج الذي مضى فيه له نفس أحكام الحج الصحيح من وجوب الكفارات ولزوم أداء الأركان والواجبات وأنه لو أفسده بجماع آخر فعليه أن يمضي فيه وأن يقضيه، وكذلك حجة القضاء تأخذ نفس الأحكام - أحكام الحج الصحيح. إذاً بين المؤلف - رحمه الله - ثلاثة آثار للجماع: - الأول: فساد النسك. - والثاني: وجوب المضي.

- والثالث: عليه أن يحج من العام المقبل. وبقي أثران: وهما الرابع والخامس: - فالأثر الرابع: الإثم العظيم ووجوب التوبة. - والخامس والأخير: وجوب الفدية كما سيأتينا مفصلاً في باب الفدية. فترتب على الجماع قبل التحلل الأول كل هذه الآثار. بَيَّنَ المؤلف - رحمه الله - حكم الجماع قبل التحلل الأول ولم يتطرق إلى حكم الجماع بعد التحلل الأول. فالجماع بعد التحلل الأول: محرم بالإجماع. ولا يفسد النسك عند: = الجماهير. = والقول الثاني: أنه يفسد النسك: - قياساً على الوطء قبل التحلل، بجامع أن الوطء قبل وبعد التحلل الأول كلاهما وقع في إحرام، والمقصود في إحرام بالنسبة لما بعد التحلل الأول، يعني: فيما تبقى من الإحرام. إذاً هذا الحكم الأول وهو أنه محرم بالإجماع، والحكم الثاني: وهو أنه لا يفسد على الصواب الحج، والحكم الثالث: ـ إن كان الجماع بعد التحلل الأول قبل طواف الزيارة: فسيأتينا تفصيله. ـ وإن كان بعد طواف الزيارة: فلا يلزمه إلا المضي وإكمال النسك مع التوبة والفدية التي ستأتينا في باب الفدية لكن لا يلزمه شيء آخر. إذاً: إذا جامع الإنسان بعد التحلل الأول بعد طواف الزيارة الذي هو طواف الركن فإنه لا شيء عليه إلا الإثم ويلزم منه التوبة والفدية وستأتينا في باب الفدية. ـ وإن جامع قبل طواف الزيارة بعد التحلل الأول: = فعليه عند الحنابلة: أن يخرج إلى الحل ويحرم من جديد ليطوف طواف الزيارة في إحرام صحيح: - لأن هذا الجماع أفسد ما تبقى من إحرامه بعد التحلل الأول. وقبل أن ندخل في تفصيلات القول الثاني يجب أن يستوعب الحكم: فالإنسان إذا تحلل التحلل الأول لم ينته من الإحرام كله وإنما بقي عليه من الإحرام ما يتعلق بالوطء فهو ما زال محرماً في هذا المحظور فقط هذا الإحرام المتبقي يفسد بهذا الوطء الذي وقع بعد التحلل الأول، إذاً عليه عند الحنابلة أن يخرج ويحرم ليأتي بالطواف وقد أحرم إحراماً صحيحاً بدل الذي أفسده بالوطء.

=القول الثاني: أن عليه أن يخرج إلى الحل ويحرم إحراماً جديداً بالعمرة ويطوف ويسعى ويحلق ثم يطوف للزيارة، وإلى هذا ذهب الأئمة الثلاثة مالك والشافعي وأبو حنيفة وهو منصوص الإمام أحمد واختيار شيخ الإسلام. واستدل هؤلاء جميعاً: - أن ابن عباس - رضي الله عنه - أفتى بهذا لمن وقع منه الوطء بعد التحلل الأول وقبل طواف الزيارة. وهذا القول الثاني هو الصحيح وأنه لا يكتفى من الذي وقع منه الوطء مجرد الإحرام بل عليه أن يأتي بعمرة كاملة كما أفتى ابن عباس ولا يكتفى بالإحرام كما يصنع بعض الناس اليوم بناء على شهرة القول بالاكتفاء بالإحرام فقط بل يجب أن يأتي بعمرة كاملة ونستطيع أن نقول أن هذا مذهب الأئمة الأربعة وإن كان خلاف المشهور من مذهب الحنابلة لكن هو منصوص الإمام أحمد - رحمه الله -. إذاً الآن تبين معنا كل ما يتعلق بحكم الجماع بعد التحلل الأول. - ثم قال - رحمه الله -: في المحظور التاسع: وتحرم المباشرة، فإن فعل فأنزل: لم يفسد حجه وعليه بدنة، ولكن يحرم من الحل لطواف الفرض. المحظور الأخير وهو المحظور التاسع المباشرة، المباشرة محرمة وهي من محظورات الإحرام. - لقوله تعالى: - (فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلَا رَفَث) -[البقرة/197] وتقدم معنا أن الرفث فسره ابن عباس - رضي الله عنه - بالجماع ومقدماته، فالمباشرة لا تجوز للمحرم. ـ فإن باشر فأنزل: فيترتب على هذا أحكام ذكرها المؤلف - رحمه الله -: * الحكم الأول: أنه لا يفسد حجه. ولو كان قبل التحلل الأول. - لأن إفساد الحج جاء في الآثار بالوطء فقط. - ولأن الوطء يختلف في أحكام كثيرة عن المباشرة منها: الحد فالحد يجب بالوطء دون المباشرة (حد الزنى يجب بالوطء دون المباشرة). = والقول الثاني: أنه إذا باشر فأنزل فسد حجه. - قياساً على الصيام فإن في الصيام الوطء والمباشرة كلاهما يفسد الصيام. والجواب على هذا: أن هذا قياس مع الفارق الظاهر والواضح، ووجه النقض: أن محظورات الصيام الخاصة به (الأكل والشرب وما يتعلق بالصيام بالذات) كلها تفسده، بينما محظورات الحج ليس منها شيء يفسد الحج إلا واحد وهو: الوطء فامتنع لذلك القياس. - ثم قال - رحمه الله -: وعليه بدنه.

إذا باشر فأنزل فعليه: بدنه. = وهذا هو مذهب الحنابلة. واستدلوا على هذا: - بالقياس: على الوطء، بجامع: حصول الإنزال في كل منهما. يعني: يقيسون المباشرة على الوطء. والجامع بينهما: حصول الإنزال. = والقول الثاني: أنه لا تجب فيه إلا شاة. - قياساً على: ما إذا باشر ولم ينزل، والجامع بينهما: أن كلاهما مباشرة. يعني: الأول والثاني كلاهما مباشرة وليست وطء. قال الفقيه ابن مفلح: والقياسان ضعيفان. إذاً: الآن: = القول الأول: وجوب بدنه. = والقول الثاني: وجوب الشاة فقط. وعرفت دليل القول الأول ودليل القول الثاني. والراجح والله أعلم وجوب بدنه، والدليل: - هو ما قاله الإمام أحمد - رحمه الله -: ابن عباس جعل عليه بدنه، هكذا يقول - رحمه الله -، وإذا كان القياسان ضعيفين بقي معنا الأثر، فتأخذ بالأثر ونترك الأقيسة الضعيفة. إذاً نقول: إذا باشر الإنسان فأنزل فعليه بدنه كاملة. وهذا كما قلت لك يحقق القاعدة التي ذكرتها وهو: ((أن الشارع عظم أمر الجماع وما يتعلق به)). لوم يذكر المؤلف - رحمه الله - حكم ما إذا باشر ولم ينزل، ونحن عرفنا حكم المباشرة من حيث هي وحكم إذا باشر وأنزل. بقي لنا: إذا باشر ولم ينزل، فإذا باشر ولم ينزل: = فالجمهور: على أن عليه شاة فقط. يعني: فدية أذى. وهذا هو القول الصواب: أن عليه شاة: - لأنه بدون إنزال لا يمكن أن نقيس المباشرة التي ليس معها إنزال لا على الوطء ولا على المباشرة التي معها إنزال للفرق الواضح جداً بين الإنزال وعدمه وهو فرق مؤثر في الحكم بشكل واضح بحيث تكون الفدية بدل بدنه: شاة. - ثم قال - رحمه الله -: لكن يحرم من الحل لطواف الفرض.

ظاهر كلام المؤلف - رحمه الله - أن من باشر فأنزل عليه أن يخرج إلى الحل ويحرم ليطوف بإحرام صحيح، وهذا الظاهر الذي ذكره المؤلف - رحمه الله - مخالف لكلام جميع الأصحاب فإن أحداً من الحنابلة لم يجعل على المباشر إذا أنزل أن يخرج إلى الحل ويحرم ليطوف طواف الزيارة محرماً إحراماً صحيحاً وإنما ذكروا هذا الحكم فيمن جامع قبل طواف الزيارة بعد التحلل الأول، فهذا الحكم من أحكام الجماع بعد التحلل الأول ولذلك يذهب كثير من الشراح إلى أن ما ذكره المؤلف - رحمه الله - هنا من قبيل الوهم أو سبق القلم. - ثم قال - رحمه الله -: وإحرام المرأة: كالرجل إلاّ في اللباس، وتجتنب: البرقع والقفازين وتغطية وجهها، ويباح لها التحلي. لما انتهى المؤلف - رحمه الله - من بيان كل ما يتعلق بمحظورات الإحرام بالنسبة للرجل انتقل ليفصل الكلام عن المرأة. فذكر القاعدة العامة في المرأة وهي: (أن إحرام المرأة كإحرام الرجل في كل ما سبق ذكره) فكل ما ذكر من محظورات الإحرام فهي تنطبق على المرأة كما تنطبق على الرجل إلا ما سيستثنيه المؤلف - رحمه الله - وهو قد استثنى: - فقال - رحمه الله -: إلا في اللباس. المرأة تختلف عن الرجل في شيئين فقط: - الأول: تغطية الرأس. فهو محظور بالنسبة للرجل وليس بمحظور بالنسبة للمرأة. - الثاني: لبس المخيط. فالمرأة تختلف عن الرجل في لبس المخيط ولا يجوز للرجل. واستثناء هذين الأمرين بالنسبة للمرأة محل إجماع، وفيما عدا هذين الأمرين فالمرأة كالرجل في كل شيء. ولما بين المؤلف ما هو محظور بالنسبة للرجل دون المرأة انتقل إلى الأشياء المحظورة بالنسبة للمرأة: - فقال - رحمه الله -: وتجتنب البرقع. البرقع في لغة العرب في كتب اللغة هو: النقاب، فهم يفسرون البرقع بالنقاب تماماً بدون فارق بينهما عندهم، والنقاب هو: هو ما تلبسه المرأة على وجهها مفتوح ما قبل العينين للنظر، حتى أنهم ينصون أنه للنظر وليس للزينة، فإذاً كل لباس تلبسه المرأة على الوجه يكون مفتوح مقابل العينين للنظر فهو النقاب، والنقاب من محظورات الإحرام بالنسبة للمرأة:

- لما رواه ابن عمر - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (لا تنتقب المحرمة ولا تلبس القفازين). وإلى المنع من النقاب وجعله من محظورات الإحرام للمرأة: = ذهب جماهير أهل العلم. = والقول الثاني: أن النقاب ليس من محظورات الإحرام بل يجوز للمرأة أن تلبس ما شاءت نقاباً أو غطاء بلا فتحة، وهو مذهب الأحناف. واستدلوا على هذا: - أنه ليس في السنة الصحيحة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى عن النقاب. - وأما حديث ابن عمر هذا فهو موقوف عليه ولا يصح رفعه، قالوا: وقد أعله بالوقف عدد من الحفاظ، والحديث في صحيح البخاري. والجواب عن هذا الدليل: أن حديث النقاب: صحيح أنه قد أعله بعض الحفاظ بالوقف وجعلوه فتوى لابن عمر لكن ذهب آخرون من الحفاظ من المحققين إلى تصحيح رفعه وأنه من كلام النبي - صلى الله عليه وسلم - وعلى رأس الذين صححوه مرفوعاً الإمام البخاري بل أورده في صحيحه، وتصحيح الحديث مرفوعاً هو الصواب فما ذهب إليه البخاري هو الصحيح إن شاء الله. وبذلك يثبت صحة مذهب الجمهور: وهو أن النقاب من محظورات الإحرام. - ثم قال - رحمه الله -: والقفازين. هما ما يلبس في اليدين مفصلاً، وهو من محظورات الإحرام: = عند الجماهير. = والقول الثاني: أن القفازين ليسا من محظورات الإحرام. - لقول النبي - صلى الله عليه وسلم - (إحرام المرأة في وجهها)، فدل الحديث على حصر المحظور في الوجه. والجواب عليه: أن هذا اللفظ لا يصح مرفوعاً إلى النبي - صلى الله عليه وسلم – مطلقاً، وفي مقابل هذا: استدل أصحاب القول الأول بالسنة الصحيحة. لذلك الراجح أن القفازين من محظورات الإحرام بالنسبة للمرأة.

وفهم من كلام المؤلف - رحمه الله - أن الجوارب والخفاف ليست من محظورات الإحرام بالنسبة للمرأة لأنه نص على القفازين فقط فلا يجوز للمرأة أن تلبس ما يلبس في اليدين ولكن يجوز لها أن تلبس ما يلبس في الرجلين ونحن الآن عندما نقول يجوز لا نريد الحديث عن حكم تغطية الرجلين هل هي من العورة أو لا؟ فإن هذا البحث سيأتينا في كتاب النكاح. فالبحث الآن في هل هو من محظورات الإحرام أو لا؟ فإذا قال الإنسان: يجوز فلا يعني أنه لا يجب، فربما أنه يجوز وأيضاً يجب. إذاً لبس ما فصل على قدر القدم من خف أو جورب لا بأس به للمرأة وهو جائز لأن الحديث نص على شيء واحد وهو القفازين. - ثم قال - رحمه الله -: وتغطية وجهها. تغطية المرأة وجهها أثناء الإحرام من محظورات الإحرام وهو محل إجماع وحكاه أكثر من واحد من أهل العلم: أنه لا يجوز للمرأة أثناء الإحرام أن تغطي وجهها. ويستثنى من هذا عند الفقهاء جميعاً إذا مر الرجال الأجانب فإنه يجب على المرأة أن تسدل الغطاء لتستر وجهها عن الرجال الأجانب. * * مسألة/ يفهم من كلام شيخ الإسلام - رحمه الله - وابن القيم - رحمه الله - أن المحظور بالنسبة للمرأة هو لباس معين وهو النقاب وليس المحظور هو تغطية الوجه، فهم يقولون: النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يمنع المرأة من ستر الوجه، لا وإنما منعها من ستر الوجه بشيء معين وهو النقاب، والجمهور لم يفهموا من حديث (لا تنتقب المرأة) هذا الفهم، وإنما فهموا من حديث لا تنتقب المرأة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى عن النقاب لا لأجل النقاب وإنما لأجل أنه يغطي الوجه. ويؤيد هذا الفهم - ويشكل في نفس الوقت على مذهب شيخ الإسلام وابن القيم - الإجماع الذي حكاه ابن حجر وغيره أن تغطية الوجه محظور عند جميع أهل العلم، فهذا الإجماع يسند فهم الجمهور للحديث وهو أن المراد من الحديث منع المرأة من تغطية الوجه سواء كان بغطاء معين وهو النقاب، أو بغير هذا الغطاء مما يستر به الوجه. فإن قيل: إذا كان المقصود النهي عن تغطية الوجه فلماذا ذكر النبي - صلى الله عليه وسلم - نوعاً معيناً من غطاء الوجه وهو النقاب؟

فالجواب: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كثيراً ما يذكر غالب حال الناس، وكأن الغالب في ذلك الوقت لبس النقاب لا سيما أثناء السفر والحج يؤدى في سفر فلذلك نص على المنع منه. وعلى كل حال: منع المرأة من تغطية الوجه محل إجماع ليس فيه خلاف فلا ينبغي للمرأة مطلقاً أن تغطي وجهها أبداً إلا في حال واحدة وهي إذا مر الرجال الأجانب قريباً منها أو أمامها لتستر وجهها عنهم، فيما عدا هذه الصورة فإنه يجب أن تبقى المرأة كاشفة للوجه، والفتاوى المنقولة عن عائشة وغيرها من أمهات المؤمنين تفيد هذا المعنى لأنها كانت تقول: أنا نكشف حتى إذا مر الرجال الأجانب سدلنا، ويفهم من هذا أنهم كانوا يتحرون كشف الوجه ويغطونه إذا مر الرجال الأجانب. * * مسألة أخيرة/ ذهب بعض الحنابلة إلى أن المرأة إذا أرادت أن تستر وجهها لمرور الرجال الأجانب فإنه ينبغي أن تضع ما يبعد الغطاء عن الوجه. لأنهم يرون أن المماسة مماسة الغطاء للوجه أيضاً هو من محظورات الإحرام. قال شيخ الإسلام - رحمه الله -: وهو خطأ على المذهب وعلى القول الصواب. يعني خطأ على قواعد وأقوال المذهب وأيضاً خطأ من حيث النصوص لأنه ليس في النصوص الشرعية ما يدل على وجوب مجافاة المرأة الغطاء عن وجهها إذا أرادت أن تسدل الغطاء بسبب مرور الرجال الأجانب بل في النصوص ما يدل على خلاف ذلك لأن ما جاء عن عائشة وغيرها من أنهن يسدلن عند مرور الرجال الأجانب لم يذكر فيه قضية المجافاة فهو قول ضعيف جداً. - ثم قال - رحمه الله -: ويباح لها التحلي. يعني: يباح للمحرمة أثناء الإحرام أن تتحلى وأن تلبس الحلي لدليلين: - الأول: أن هذا مروي عن بعض أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم -. - الثاني: أنه لا يوجد في النصوص المنع من التحلي، والأصل بالنسبة للمرأة جواز التحلي وليس في النصوص ما يدل على أنه من محظورات الإحرام. لكن مع ذلك مع كون التحلي جائزاً إلا أنه لا ينبغي أبداً أن تستعمل المرأة الحلي من ذهب أو فضة أو التزين أثناء الإحرام. لا ينبغي. لا نقول: مكروه ولا أي حكم شرعي لكن نقول لا ينبغي لأمرين:

باب الفدية

- الأول: أن شأن الحج ترك الترفه وهذا مفهوم من النصوص العامة ومما يروى عن النبي - صلى الله عليه وسلم - بل حتى عن الأنبياء من قبله. - الثاني: خشية أن يكون هذا التحلي والتزين سبباً في وقوع المحظور بالنسبة للمرأة المتزوجة. فتفادياً لهذين الأمرين لا ينبغي مطلقاً أن تتحلى أو تتزين المرأة أثناء الإحرام. باب الفدية - ثم قال - رحمه الله -: باب الفدية. الفدية مصدر فداه ومعناه: دفع فدية عنه، هذا من حيث اللغة. ومن حيث الاصطلاح الفقهي: هو ما وجب بسبب إحرام أو حرام. فكل ما يجب على الإنسان بسبب الإحرام أو بسبب الحرم فهو فدية سواء كان طعام أو صيام أو ذبح. والفدية تنقسم إلى قسمين: - القسم الأول: الفدية التي على سبيل التخيير. وهو نوعان: 1 - فدية الأذى. 2 - وفدية جزاء الصيد. - القسم الثاني: ما هو على الترتيب وهو ثلاثة أنواع: 1 - دم المتعة والقران. 2 - ودم الوطء. 3 - ودم الإحصار. فهذه ليست على التخيير وإنما على الترتيب. - قال - رحمه الله -: مبيناً تفصيل الأحكام: يخيّر بفدية حلق وتقليم وتغطية رأس ...... الخ. أفادنا المؤلف - رحمه الله - بهذه العبارة مسألتين: - المسألة الأولى: التخيير. - والثانية: وجوب الفدية في هذه الأمور التي ذكرها. إذاً: تجب فيها فدية وأيضاً هي على سبيل التخيير. - الأول: وجوب الفدية. أما وجوب الفدية في حلق شعر الرأس. فدليله: - - النص. - والإجماع. وتقدم معنا. فإذا حلق الإنسان شعر رأسه وجبت عليه الفدية بالنص والإجماع لم يخالف في هذا أحد من أهل العلم: - لحديث كعب الذي سيأتينا وصريح الآية. الثاني: سائر محظورات الإحرام المذكورة في هذا القسم: من الطيب وتغطية الرأس ولبس المخيط وأخذ الشعور عدا شعر الرأس. = فالجماهير يرون أن الفدية تلزم في هذه المحظورات. - قياساً على فدية شعر الرأس. = والقول الثاني: أنه لا فدية في هذه الأمور وإنما عليه التوبة والإنابة والإقلاع. - لعدم وجود دليل خاص يدل على وجوب الفدية في هذه المحظورات. والراجح مع جماهير فقهاء المسلمين الذين رأوا صحة قياس هذه المحظورات على شعر الرأس. إذاً انتهينا الآن من المسألة الأولى: وهي وجوب الفدية.

المسألة الثانية: التخيير. فدية هذه الأشياء التي ذكرها المؤلف على التخيير وليست على الترتيب بل الإنسان مخير فيختار ما شاء مما سيذكره المؤلف - رحمه الله - والدليل على ذلك: - ما أخرجه البخاري ومسلم أن كعب بن عجرة - رضي الله عنه - لما تأذى من هوام رأسه شكى إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال له النبي - صلى الله عليه وسلم -: (احلق رأسك وصم ثلاثة أيام أو أطعم ستة مساكين لكل مسكين نصف صاع أو انسك شاة) وعبر النبي - صلى الله عليه وسلم - بقوله (أو) في الحديث. وفي بعض الألفاظ التي في الصحيح أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أولاً قال له (أتجد شاة) ثم قال له بعد ذلك وأمره بالصيام والإطعام، وهذا اللفظ يحمل على الألفاظ الأخرى التي بينت أن النبي - صلى الله عليه وسلم –خيره، لكنه يدل على أنه ينبغي للإنسان إذا استطاع أن يبدأ بالذبح. - قال - رحمه الله -: بين صيام ثلاثة أيام. الأول: من أنواع الفدية صيام ثلاثة أيام. وصيام ثلاثة أيام لا يشترط فيه أن تكون هذه الأيام متتالية: - لعدم وجود دليل على اشتراط هذا الشرط. هذا أولاً. ثانياً: يجوز أن يصوم في أي مكان في الحرم وخارج الحرم بإجماع أهل العلم. فليس للصيام مكان خاص: - للإجماع. - ولأن منفعة الصيام خاصة للصائم ولا تتعداه إلى غيره. - ثم قال - رحمه الله -: أو إطعام ستة مساكين. لكل مسكين: مدُّ بُر أو نصف صاع من تمر أو شعير. تقدم معنا أن: الحنابلة يرون أن الكفارات مد من البر أو نصف صاع من غيره من الأطعمة، وذلك لنفاسة البر بالنسبة لغيره من الأطعمة. = والقول الثاني: أن عليه نصف صاع مهما كان نوع الطعام. بدليل: - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (أو أطعم ستة مساكين لكل مسكين نصف صاع) وهذا في البخاري ولم يفرق النبي - صلى الله عليه وسلم - بين البر وبين غيره من الأطعمة.

فإذاً تبين أن الصواب أنه نصف صاع فمجموعها سيكون ثلاثة آصع على من وقع في محظور من المحظورات واختار أن يطعم أن يخرج ثلاثة آصع بصاع النبي - صلى الله عليه وسلم -،وهي تقدر بالكيلوات المعاصرة - بالأوزان المعاصرة - = (ستة كيلوات ومائة وعشرون جرام)، ومعلوم أن إخراج ستة كيلوات ومائة وعشرون جرام من أي نوع من الأطعمة مهما ارتفع فسيكون أقل من الذبح بكثير، لأن ستة كيلو سواء كان من الرز الجيد أو من البر أو من أي نوع من الأطعمة أو من التمر فلن يكون بقيمة ذبيحة مهما كان، ولذلك من الرفق بالحاج الفقير أن يرشد إلى هذا الأمر، ولعل من حكمة الشارع التخيير لأجل هذا. ((((الأذان)))). قال الشارح حفظه الله: نتم قبل أن نأخذ الأسئلة مسألة الأنواع المخير فيها. - قال - رحمه الله -: بعد أن بينا الصواب في مقدار كفارة إطعام ستة مساكين: أو ذبح شاة. يشترط في هذه الشاة التي تذبح أن تتوفر فيها شروط الأضحية. والشاة في لغة العرب: تطلق على الذكر والأنثى وعلى الماعز وعلى الضأن. فالعرف الآن الموجود عندنا يختلف عن اللغة لأن العرف أن الشاة تطلق على الضأن لكن في لغة العرب يطلقون الشاة حسب ما وقفت عليه تصريحاً في كتب اللغة أنها على الماعز والضأن والذكر والأنثى. إذاً: الخيار الثالث أن عليه ذبح شاة إذا اختار هذا الخيار من الأنواع الثلاثة. وهل هذا التخير على سبيل المصلحة أو على سبيل التشهي؟ الصواب: أنه على سبيل التشهي وليس على سبيل المصلحة. يعني: لا ننظر إلى مصلحة الفقير أو نقول يجب عليك أن تنظر إلى مصلحة الفقير وإنما يختار من وقع في أحد هذه المحظورات ما شاء من الأنواع الثلاثة التي هي الإطعام والصيام والذبح. انتهى الدرس،،،

باب الفدية

شرح كتاب المناسك الدرس رقم (7) قال شيخنا حفظه الله: بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين. باب الفدية تقدم معنا أن الفدية على قسمين: - فدية تجب على الترتيب. - وفدية تجب على التخيير. وأن المؤلف - رحمه الله - بدأ بالفدية التي تجب على التخيير وأخذنا أنواعاً من الفدية التي تجب على التخيير وبقي النوع الأخير من محظورات الإحرام التي تجب فيها الفدية على التخيير. - فيقول - رحمه الله -: وبجزاء صيد: بين مثل إن كان، أو تقويمه. الصيد تقدم معنا أنه من محظورات الإحرام والمؤلف - رحمه الله - يريد أن يبين كيفية جزاء الصيد، وذكر - رحمه الله - الترتيب الذي يجب على من قتل الصيد. ودليل الترتيب: - - قوله تعالى: - (وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّدًا فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ أَوْ عَدْلُ ذَلِكَ صِيَامًا) -[المائدة/95]. فبينت الآية الترتيب الذي يجب على من كَفَّرَ في جزاء الصيد. - يقول - رحمه الله -: وبجزاء صيد: بين مثل إن كان ... الخ .. الصيد ينقسم إلى قسمين: - القسم الأول: المثلي. والمقصود به: ما له شبيه ونظير من النعم. والمقصود بالنعم: البقر والغنم والإبل. والتشابه المقصود في هذا القسم هو: التشابه في الشكل والصورة لا بالثمن. - القسم الثاني: ما ليس له نظير من الصيد. وهو ما ليس له نظير ولا شبيه من النعم. هذه المسألة الأولى. المسألة الثانية: كيفية تحديد المثل: إذا قتل المحرم الصيد فكيف نحدد المثل؟ تحديد المثل: على أنواع: - النوع الأول: أن يحكم به النبي - صلى الله عليه وسلم -. كما ثبت في الحديث الصحيح الذي صححه البخاري وأحمد وغيرهما أن النبي - صلى الله عليه وسلم - جعل في الضبع كبشاً. فإذا وجدنا أن الصيد حكم به النبي - صلى الله عليه وسلم - فإنه لا يجوز أن نخرج عن حكم النبي - صلى الله عليه وسلم - بالإجماع. - النوع الثاني: أن يحكم به الصحابة - رضي الله عنهم -. فإذا حكم الصحابة ثم قتل محرم شيئاً نظير ما حكم به الصحابة فاختلف الفقهاء على قولين: = القول الأول: أنه يجب المصير إلى مثل ما قدرت به الصحابة هذا الصيد. = والقول الثاني: أنه يجتهد اجتهاداً جديداً. والصواب مع الذين قالوا: نكتفي بحكم الصحابة.

- النوع الثالث: أن لا يحكم به النبي - صلى الله عليه وسلم - ولا الصحابة - رضي الله عنهم - وحينئذ نرجع إلى قول عدلين عارفين بصفات الصيد ليحكما بالمثل من النعم. إذاً عرفنا الآن كيف نعرف المثل بالنسبة للصيد إذا صاده المحرم. - قال - رحمه الله -: وبجزاء صيد: بين مثل إن كان، أو تقويمه. إذا قتل المحرم الصيد فنقول: أنت مخير: - إما أن تخرج المثل. - أو تقوم المثل - سيأتينا الخلاف في مسألة التقويم - فإذا قومت المثل فتشتري به طعاماً وتطعم المساكين لكل مسكين - على المذهب - مد أو تصوم بقدر هذه الأمداد أياماً. في هذه المسائل خلاف سيأتينا لكن المقصود الآن أن يتصور الإنسان كيف يكون جزاء الصيد. إذاً نقول: أنت مخير إذا عرفنا المثل فإما أن تخرج المثل - تذبح المثل - أو تقيم المثل وتشتري به طعاماً فتطعم كل مسكين مد أو تصوم بقدر هذه الأمداد، فإذا قدرنا أن قيمة المثل يستطيع أن يشتري بها صاعاً من طعام واختار الصيام فكم سيصوم؟ أربعة أيام. لأن الصاع أربعة أمداد. إذاً الآن تصورنا، ونأتي إلى الخلاف الذي في تفصيل المسائل. - قال - رحمه الله -: وبجزاء صيد: بين مثل إن كان، أو تقويمه. التقويم عند الحنابلة يكون للمثل لا للصيد. واستدلوا على ذلك: - بقوله تعالى: - (أَوْ عَدْلُ ذَلِكَ صِيَامًا) -[المائدة/95] والإشارة في الآية إلى المثل لا إلى الصيد. فإذاً الحنابلة يرون أنه يقوم المثل. = القول الثاني: أن التقييم يكون للصيد. - لأنا إنما عدلنا إلى المثل بدل، فإذا سقط البدل رجعنا إلى الأصل والأصل الصيد. والصواب مع الحنابلة: لظاهر الآية. - ثم قال - رحمه الله -: بدراهم يشتري بها طعاماً فيطعم كل مسكين مداً. = الحنابلة: يرون أنه يطعم عن كل مسكين مدا إذا كان من البر، أو مدين إذا كان من غيره من الطعام، كما تقدم معنا في الصيام والزكاة. = والقول الثاني: أنه يطعم كل مسكين نصف صاع. واستدلوا: - بأن ابن عباس - رضي الله عنه - هكذا حكم جعل في الطعام نصف صاع. - واستدلوا أيضاً بالقياس على كفارة فدية الأذى وفيه حديث أبي بن كعب وهو صحيح وقد مر معنا أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال (أو تطعم ستة مساكين لكل مسكين نصف صاع).

وهذا القول الثاني هو الصواب: أنه نصف صاع مطلقاً. ومما يستأنس به لترجيح هذا القول: أنه أيسر من جهة الصيام، - فأيهم أكثر أن يصوم على قول الحنابلة أو أن يصوم بعدد الأيام على القول الثاني؟ على القول الثاني بلا إشكال لأنا إذا قدرنا أن قيمة الطعام يشترى بها صاع فعند الحنابلة سيصوم بدل الصاع أربعة أيام وعلى القول الثاني الذي يعضده أثر ابن عباس سيصوم يومين فقط، وهذا مما يستأنس به وليس من المرجحات وإنما رجحنا هذا القول لأثر ابن عباس. - ثم قال - رحمه الله -: أو يصوم عن كل مد يوماً. - لقوله تعالى: {أَوْ عَدْلُ ذَلِكَ صِيَامًا} -[المائدة/95]. * * مسألة/ إذا قدر المثل بقيمة وأراد أن يشتري طعاماً فلم يجد طعاماً يستغرق جميع الثمن فهل يجوز أن يشتري بهذا المال بعض الطعام ويصوم عن الباقي؟ أو يجب أن ينتقل إلى الصيام ولا يجمع بين الصيام والإطعام. الجواب: ذهب الإمام أحمد واختاره ابن المنذر وغيره من المحققين إلى أنه لا يجمع في مثل هذه الصورة بين الإطعام والصيام، بل ينتقل مباشرة إلى الصيام إن لم يجد يكفي ليشتريه، نص الإمام أحمد على هذا واختاره ابن المنذر وهذا هو الصواب. وتكاد هذه المسألة في وقتنا أن لا تقع وذلك لوفرة الطعام ولله الحمد وتتالي النعم ولكنها في القديم قد يتصور بحيث لا يجد الإنسان في منى ولا في عرفة ولا في مكة طعاماً يشتريه. - ثم قال - رحمه الله -: وبما لا مثل له: بين إطعام وصيام. إذا لم يكن للصيد مثل بأن أتينا بأهل الخبرة العدول وقالوا: بأن هذا الصيد ليس له نظير من بهيمة الأنعام فحينئذ هو مخير بين الإطعام والصيام، وفي مثل هذه الصورة سيكون التقويم بلا شك لأنه لا يوجد مثل نقومه أصلاً، لكن هل نقوم الصيد وننظر في ثمنه - إذا اختلفت القيمة - في محل الصيد أو في مكة؟ الجواب: أنا ننظر إلى قيمة الصيد في مكان الصيد الذي صيد فيه لا في مكة مهما اختلف الثمن: - لأن مكان الصيد هو المكان الذي وقع فيه المحظور ففيه يقوم الصيد. - وقوله - رحمه الله -: وبما لا مثل له: بين إطعام وصيام.

كما سبق على التفصيل السابق في كيفية حساب الطعام: لكل مسكين نصف صاع وعلى المذهب مد. وفي كيفية الصيام على ما تقدم تماماً. وبهذا انتهى المؤلف من الكلام عن الفدية التي على التخيير وانتقل إلى الكلام عن الفدية التي هي على الترتيب. - ثم قال - رحمه الله -: وأما دم متعة وقران: فيجب .... الخ. تقدم معنا أن هذا الباب يتكلم فيه عما وجب بسبب الحرم أو بسبب الإحرام، ودم المتعة والقران وجبا بسبب الإحرام وهما دم شكران، يعني: شكر على نعمة إتمام النسك لا جبران: يعني: بسبب الإخلال بالنسك. فدم المتعة والقران يجبان: أولاً: دم المتعة يجب على المتمتع أن يهدي بإجماع المسلمين بلا خلاف. - لقوله تعالى: - (فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ) -[البقرة/196]. فوجوب الهدي في المتعة دل عليه النص من القرآن وإجماع أهل العلم والسنة المتواترة عن النبي - صلى الله عليه وسلم -. - ثم يقول: وقران. = ذهب الجماهير - وحكي إجماعاً - إلى وجوب الدم على القارن. واستدل الجمهور - رحمهم الله - بدليلين: - الأول: ما استفاض واشتهر ونقل عن أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - أنهم كانوا يدخلون القارن في مسمى المتمتع. فدل ذلك على استوائهما في وجوب الهدي. - الثاني: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - ذبح عن عائشة بقرة وقد كانت قارنة. - الثالث: أن كلاً من المتمع والقارن ترفه بترك أحد السفرين والإتيان بالنسكين في سفر واحد فإذا استويا في هذه الجهة استويا في وجوب الهدي. = والقول الثاني: وينسب لداود الظاهري أنه لا يجب على القارن هدي. - لأن الآية نصت على المتمتع. وهو قول غاية في الضعف مخالف لفقه الصحابة وهي ظاهرية وجمود غير محمود في هذه المسألة لأنه خالف الجمهور - أو الإجماع كما حكي - ثم خالف ما روي عن أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم. - قوله - رحمه الله -: وأما دم متعة وقران: فيجب الهدي. يجب الهدي بالآية وبالنصوص الأخرى بالنسبة للقارن، وفي وقت وجوب الهدي خلاف بين أهل العلم سيأتينا في صفة الحج، والقول الأقرب الذي يذكر الآن أنه فجر يوم العيد فإذا طلع الفجر فقد وجب الهدي.

- ثم قال - رحمه الله -: مبيناً الترتيب - لأننا قلنا أنه بدأ ببيان ما يجب ترتيباً: فإن عدمه. أي أنه لا يجوز الانتقال عن الهدي والذبح إلا إذا لم يستطع سواء كان لم يستطع لعدم وجود الأضاحي والهدي أو لم يستطع لعدم وجود المال بحوزة الحاج أو لم يستطع لأي سبب كان فإذا لم يستطع فإنه ينتقل إلى المرتبة الثانية. - قال - رحمه الله - فإن عدمه: فصيام ثلاثة أيام. صيام ثلاثة أيام هذا منصوص عليه في الآية - (.فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ) -[البقرة/196]. فوجوب صيام ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجع لأهله محل إجماع إذا عدم الهدي أو إذا لم يستطع أن يذبح المتمع أو القارن لكن تتعلق بهذه الثلاثة أيام بعض المسائل: - المسألة الأولى: متى يجوز للحاج الذي عدم الهدي أن يشرع في الصيام؟ الجواب: وقت جواز بداية الصيام ينقسم إلى قسمين: القسم الأول: أن يكون قبل الإحرام بالعمرة - ونحن نتكلم عن المتمتع والقارن - فقبل الإحرام بالعمرة لا يجوز بالإجماع أن يصوم الإنسان الثلاثة أيام التي بدل هدي التمتع إلا رواية عن الإمام أحمد - رحمه الله - وهي خطأ قطعاً على الإمام أحمد ولذلك يقول ابن قدامة: نزه الله الإمام أحمد عن هذه الرواية - وصدق لأن هذه الرواية خطأ وهو قول خطأ مخالف للإجماع إذ كيف يشرع بأعمال الحج وهو لم يحرم بالعمرة أصلاً فالخطأ من الذي نقل هذه الرواية عن الإمام أحمد - رحمه الله -. إذاً تكون المسألة إذا زيفنا هذه الرواية: إجماع. القسم الثاني: بعد العمرة. فاختلف الفقهاء في هذه المسألة: في متى يجوز بداية الصيام بعد العمرة على أقوال: = القول الأول: أنه من بداية الإحرام بالعمرة، وهذا مذهب الحنابلة واختاره شيخ الإسلام. واستدلوا على هذا: - بقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: (دخلت العمرة في الحج إلى يوم القيامة) فإذا دخلت العمرة في الحج صارت الأعمال الخاصة بهما تفعل من حين الإحرام بالعمرة. = والقول الثاني: أنه لا يجوز البداية بالصيام إلا بعد إتمام نسك العمرة. = والقول الثالث: أنه لا يجوز أن يبدأ الإنسان بالصيام إلا إذا شرع في أعمال الحج. واستدلوا:

- بالآية: (فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ). فالآية صريحة أن الصيام لهذه الثلاثة أيام يكون في الحج لا في العمرة. والراجح بلا إشكال إن شاء الله مع الحنابلة وهو أنه من حين يحرم بالعمرة التي يريد أن يتمتع بها إلى الحج فإنه يجوز له أن يبدأ بصيام ثلاثة أيام لأن العمرة دخلت في الحج ولأنه بدأ في نسك الحج متمتعاً، فمذهب الحنابلة والذي اختاره شيخ الإسلام هو القول الصواب. ثم انتقل المؤلف - رحمه الله - لبيان ما هي الأيام التي يستحب تخصيصها بالصيام فـ - قال - رحمه الله -: والأفضل كون آخرها يوم عرفة. الأفضل: = عند الحنابلة أن يصوم الحاج اليوم السابع والثامن والتاسع فيبدأ الصيام من اليوم السابع، ويستحب على هذا عندهم أن يحرم بالحج استحباباً من اليوم السابع: - خروجاً من الخلاف في متى يجوز البداية بصيام الثلاثة الأيام؟. = القول الثاني: أنه يبدأ باليوم السادس فيصوم اليوم السادس والسابع واليوم الثامن. واستدلوا: - بأن هذه الأيام هي أفضل الأيام لأن لا يصوم في اليوم التاسع والشارع الحكيم لا يحب الصيام في اليوم التاسع بل نهى عنه ولكن في حديث ضعيف، لكن كون الشارع لا يحب الصيام في هذا اليوم هذا بالإجماع ولا إشكال فيه، وعلى هذا استحب أصحاب هذا القول أن يبدأ بالإحرام في اليوم السادس ليخرج من الخلاف السابق. = القول الثالث: أن المستحب للحاج أن يصوم في أيام التشريق. - لقول عائشة - رضي الله عنها - لم يرخص في أيام التشريق أن يصمن إلا لمن لم يجد الهدي، وإلى هذا القول مال شيخنا - رحمه الله - ورأى أن هذا القول متوجه إن قيل به. والأقرب والله أعلم: القول الثاني وهو البداية في اليوم السادس بالصيام لا بالإحرام لأن المعروف والمشهور عن أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - في الأحاديث الصحيحة أنهم أحرموا في اليوم الثامن.

وإذا كان الراجح أنه يجوز للإنسان أن يبدأ بالصيام من بعد إحرامه بالعمرة فيصوم في اليوم السادس ولو لم يحرم وفي اليوم السابع ولو لم يحرم وفي اليوم الثامن وهو محرم، ويكون هذا القول هو أرجح الأقوال وهو أنه يستحب أن يبدأ في السادس ولو لم يحرم بل ربما نقول يستحب أن يصوم في اليوم السادس وأن لا يحرم إلا في اليوم الثامن لأن الظاهر من آثار الصحابة أنهم صنعوا كذلك لأن عدداً كبيراً من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - أحرموا متمتعين وكثير منهم لم يكن واجداً للهدي فالظاهر من حالهم أنهم - رضي الله عنهم - أنهم صاموا في اليوم السادس والسابع والثامن، وعلى هذا يدل أثر ابن عمر وعائشة وغيرهما من الآثار المروية عن أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - أن الصيام يكون في اليوم السادس والسابع والثامن، فهذا القول هو الراجح. وأما القول الذي ذكره شيخنا - رحمه الله - فالذي يظهر لي أنه ضعيف من جهتين: - الجهة الأولى: أنه لا قائل بهذا القول فلا أعلم أن أحداً من الفقهاء قال باستحباب الصيام في أيام التشريق بل اختلفوا على القولين الذين ذكرتهما لك. - الثاني: أنه يفهم من حديث عائشة أن صيام أيام التشريق رخصة وليس بعزيمة فهي تقول: (لم يرخص) والأصل في أيام التشريق أنها أيام أكل وشرب وذكر لله، فكأنه رخص لبعض الصحابة الذين لم يصوموا في اليوم السادس والسابع والثامن أن يصوموا أيام التشريق وفرق بين أن نقول هذا رخصة وبين أن نقول أنه هو الأفضل. وقد أشار شيخنا - رحمه الله - في الممتع إلى أنه يقول: إن قيل بهذا القول أو إن كان قيل بهذا القول فكأنه هو أيضا - رحمه الله - لم يمر عليه أحد قال بهذا القول. وعلى كل حال الراجح هو القول الثاني وأن الأفضل صيام السادس والسابع والثامن لوجود الآثار الصحيحة الدالة على هذا الأمر ولأنه يفهم من حديث عائشة عدم استحباب الصيام. - ثم قال - رحمه الله -: وسبعة إذا رجع إلى أهله.

السبعة يصومها الحاج إذا رجع إلى أهله، والآية صريحة في ذلك: - (وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ) والفقهاء أجمعوا على أن هذا هو المندوب بأن يصوم سبعة إذا رجع إلى أهله، واختلف الفقهاء: هل الشارع العظيم أمر بصيام السبعة عند الأهل تخفيفاً أو هو نسك مقصود؟ اختلفوا على قولين: = القول الأول: أنه سبحانه وتعالى أمر بهذا تخفيفاً. وبناء عليه: إذا أراد الحاج أن يصوم سبعة أيام في مكة قبل أن يرجع إلى أهله فلا حرج عليه ويكون بريء الذمة من هذه السبعة الأيام. = والقول الثاني: أن هذه الأيام السبعة لا يجزئ صيامها إلا إذا رجع إلى أهله. واستدلوا على ذلك: - بالآية. - واستدلوا عليه أيضاً: بقول النبي - صلى الله عليه وسلم – (من لم يجد الهدي فليصم ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجع إلى أهله) وهو حديث صحيح. والصواب والله أعلم أن الصيام يجوز في مكة وإذا رجع إلى أهله: - لأن الظاهر من النصوص أن هذا الحكم شرع تخفيفاً على المسلمين. - ويدل عليه أيضاً كما سيأتينا قريباً أن أهل العلم أجمعوا على أن الصيام في كفارات المحظورات يجوز في أي مكان من الحل والحرم، فإجماعهم على تلك المسألة يعطي تصوراً أن الصيام في الحج أمر شرع فيه التخفيف والمطلوب من الحاج أن يصوم هنا أو هناك، لكن الشارع خفف عليه بتأخير سبعة أيام إلى أن يرجع إلى أهله. - ثم قال - رحمه الله -: والمحصر إذا لم يجد هدياً: صام عشرة أيام ثم حلّ. دلت عبارة المؤلف - رحمه الله - أن المحصر عليه هدي: وهذا بإجماع أهل العلم. - ودلت عيه الآية: - (فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ) -[البقرة/196]. - ودل عليه الإجماع ولا إشكال فيه ثبوته. ثم إذا لم يتمكن فعليه أن يصوم عشرة أيام على مذهب الحنابلة وهذا وجه الترتيب، إذاً: عليه أن يذبح إذا أحصر فإن لم يستطع فعليه أن ينتقل إلى المرتبة الثانية وهي الصيام، وسيفرد المؤلف - رحمه الله - باباً خاصاً بحكم الإحصار وسنذكر الخلاف في مسألة وجوب الصيام على من لم يجد الهدي في بابه إن شاء الله. - ثم قال - رحمه الله -: ويجب بوطء في فرج: في الحج بدنة.

إذا وطء الإنسان في الحج فعليه بدنه، ومقصود المؤلف - رحمه الله - إذا كان قبل التحلل الأول. والدليل على وجوب البدنة: - الآثار المستفيضة عن أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - كما تقدم معنا: عمر وابنه وابن عباس وأبو هريرة وعدد من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم -. وهذه البدنة تذبح في القضاء لا في سنة ارتكاب المحظور، فإذا حج من قادم ذبح هذه البدنة ولا يذبحها في سنة ارتكاب المحظور. والدليل على ذلك: - آثار الصحابة - رضي الله عنهم -. - فإن كان الوطء بعد التحلل الأول: فالواجب عليه: = عند الحنابلة: شاة. - لأن الوطء بعد التحلل الأول أخف من الوطء قبل التحلل الأول فلا يقاس عليه. = القول الثاني: أنه يجب عليه بالوطء بعد التحلل الأول بدنه. والدليل على ذلك: - أثر ابن عباس - رضي الله عنه - حيث أفتى أن من وطئ ولو بعد التحلل الأول فعليه بدنه، قال شيخ الإسلام ولا يعلم لابن عباس مخالف، يعني من الصحابة وهذا القول الثاني هو الراجح، وإذا كنا أوجبنا على المباشر الذي باشر وأنزل بدنه على القول الصواب فكيف بمن وطئ ولو بعد التحلل الأول. * * مسألة/ - مهمة جداً -: مقصود الفقهاء بقولهم: التحلل الأول: أي بعد رمي جمرة العقبة سواءً قلنا أن التحلل يحصل بالرمي وحده أو يحصل بالرمي ومعه شيء آخر فعلى القولين المقصود به هو رمي جمرة العقبة، وهذا تنبيه مهم جداً قد يغفل عنه من يفتي في هذه المسألة، وهذا هو مذهب الحنابلة واختيار شيخ الإسلام. - ثم قال - رحمه الله -: وفي العمرة شاة. إذا وطئ الإنسان في العمرة فعليه شاة: = وإلى هذا ذهب الجمهور: سواء كان الوطء قبل الطواف، أو بعده، وقبل السعي، أو بعد الطواف والسعي وقبل التحليق، في أي موضع من مواضع العمرة فعليه شاة. = والقول الثاني: أن عليه بدنه وهو وجه للشافعية. والصواب أن عليه شاة: - لأن ابن عباس أفتى من وطئ في العمرة أن عليه شاة فقط وكما أخذنا قوله في البدنه نأخذ قوله في الشاة بالنسبة للعمرة. * * مسألة/ يجب بالوطء بالعمرة ما يجب بالوطء في الحج من: - فساد النسك. - ووجوب المضي. - وأن عليه الإثم. - وأن عليه الفدية وهي على الصواب شاة كما تقدم معنا.

وإلى هذا ذهب الجماهير - الأئمة الأربعة - على خلاف بينهم في مسألة أخرى، لكن من حيث فساد العمرة بالوطء فقد اتفق الأئمة الأربعة على أن فيه ما في إفساد الحج. * * مسألة / - فإن كان الوطء قبل الطواف والسعي فهو بإجماع الأئمة الأربعة أنه يترتب عليه ما ذكرنا. - وإن كان بعد الطواف والسعي فيفسد عند الحنابلة فقط ولا يفسد عند الحنفية ولا عند المالكية. - وإن كان بعد الطواف وقبل السعي فسد عند الجميع إلا الأحناف. وأضعف الأقوال مذهب الأحناف. وأقوى الأقوال وألصقها بفقه الحج والعمرة مذهب المالكية وهو أنه إذا كان بعد الطواف والسعي ولم يبق عليه إلا التحليق فإنه لا يفسد النسك لأنه في الحقيقة شرع في التحلل وانتهى من جملة الأنساك بالنسبة للعمرة فلم يبق إلا التقصير، وإذا أردنا أن نقارنه بالحاج نجد أن الحاج يحصل له التحلل الأول بعد الرمي مع بقاء مناسك كثيرة، فهنا من باب أولى، ولا أذكر في هذه المسألة - أنه مر علي - آثار , نعم. أفتى الصحابة في العمرة لكن أنه يفسد بعد الطواف أو بعد الطواف والسعي بهذ التفصيل فلا أذكر الآن آثار لكن من حيث النظر مذهب المالكية هو أقوى الأقوال. - ثم قال - رحمه الله -: وإن طاوعته زوجته لزمها. إذا طاوعت الزوجة الزوج فعليها مثل ما على الزوج تماماً، جميع الأحكام الخمسة .. = والقول الثاني: أنها وإن طاوعته فالفدية على الزوج دون الزوجة لأنه جماع واحد فلا يوجب كفارتين. والصواب مع الجمهور الذين يرون أن عليها كفارة إذا طاوعته. - وإذا أكرهها فإن على الزوج كفارة وليس على الزوجة كفارة وليس على الزوج أن يخرج كفارة أخرى عن زوجته التي أكرهها، لأن هذا يقال فيه جماع واحد لا تجب فيه كفارتان. (فصل) يعني في بيان بعض الأحكام التفصيلية للفدية. - يقول - رحمه الله -: ومن كرر محظوراً من جنس ولم يفد: فدى مرة. إذا كرر الإنسان محظوراً من جنس واحد كأن يتطيب ثم يتطيب مرة أخرى ثم يتطيب مرة ثالثة سواء كان هذا الطيب في عضو واحد أو في أعضاء فهو ينقسم إلى قسمين: - القسم الأول: أن يفدي قبل أن يكرر.

فحينئذ يجب عليه فدية أخرى لأنه سبب آخر كما لو أقسم يميناً ثم حنث وكفر وأقسم يمينا آخر، وكما لو اقترف حداً ثم أقيم عليه العقوبة ثم اقترف هذا الحد مرة أخرى. - القسم الثاني: أن يكرر المحظور الذي من جنس واحد قبل أن يكفر. فحينئذ تجب عليه كفارة واحدة فقط. لأن الله تعالى أوجب في حلق الرأس فدية واحدة مطلقاً ولو تكررت فيؤخذ من الآية أن هذه الفدية تجب ولو تكرر المحظور. إذاً عرفنا الآن الحكم إذا كرر المحظور الذي هو من جنس واحد سواء كرره قبل أو بعد أن يفدي. - ثم قال - رحمه الله -: بخلاف صيد. فالصيد يجب بعدده كفارات ولو كثر. - لقوله تعالى: - (فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ) -[المائدة/95]. كل ما تقتل ففيه جزاء ولو كان القتل الجماعي للمصيد تم بإطلاق واحد فإنه يجب بعدد المقتول كفارات، وهذا لا إشكال فيه لأن الآية صريحة بأنه يجب في كل مقتول من الصيد فدية خاصة، ولا يستثنى من هذه القاعدة وهي ارتكاب محظور من جنس واحد عدة مرات إلا في الصيد فقط. - ثم قال - رحمه الله -: ومن فعل محظوراً من أجناس: فدى لكل مرة. إذا فعل محظوراً من أجناس فهو ينقسم إل قسمين: - القسم الأول: أن يكون لكل جنس كفارة مختلفة: كأن يلبس المخيط ويجامع. فهذان المحظوران لكل منهما كفارة وحينئذ يجب عليه أن يكفر بعدد المحظورات قولاً واحداً عند الحنابلة، ولا إشكال. - القسم الثاني: أن يكرر محظوراً من أجناس لكن كفارته واحده كأن يغطي رأسه ويلبس المخيط ويتطيب ويحلق شعره، هذه الأفعال لها كفارات من جنس كفارة واحدة ففي هذا القسم الأخير خلاف: = فالمذهب: أنه يجب عليه بعدد المحظورات فإذا غطى رأسه وتطيب فعليه كفارتان. واستدلوا: - بالقياس على إقامة الحد في المعاصي التي فيها حدود وعلى كفارة اليمين إذا تكررت. = والقول الثاني: أنه إذا فعل محظورات من أجناس لها كفارة واحدة فتكفيها كفارة واحدة ولو تعددت فإذا غطى وتطيب ولبس فكفارة واحدة. والصواب مع القول الأول مع الحنابلة: - لأن هذه أجناس تختلف.

- ولأن الاتحاد في الكفارة لا يعني أن تتداخل ولذلك لو أقسم الإنسان أن لا يسافر وأن لا يكتب وأن لا يقرأ ثم خالف في الجميع فالكفارة واحدة ومع ذلك يجب عليه الكفارة في كل يمين فاتحاد جنس الكفارة لا أثر له. لذلك نقول أن الراجح إن شاء الله مع الحنابلة وهو أنه يجب أن يكفر كفارات بعدد ما ارتكبه من المحظورات. - ثم قال - رحمه الله -: رفض إحرامه أو لا. رفض الإحرام هو نية الخروج من النسك بلا مبرر شرعي، ولا يستطيع الإنسان أن يخرج من النسك أبداً في الشرع إلا بثلاث طرق: - أن يتم أعمال النسك. - أن يحصر فيتحلل. - أن يشترط في أول الإحرام ثم يقع ما اشترط منه فيتحلل. فيما عدا هذه الثلاثة الأنواع لا يمكن للإنسان أن يخرج من الإحرام مطلقاً. فإذا رفض المحرم الإحرام فإنه لا يقبل منه إجماعاً، ويترتب على هذا: أن ما فعله من محظورات الإحرام تبقى فيها الفدية ولو كان رفض الإحرام لأن رفضه للإحرام مرفوض إجماعاً، إذاً عرفنا الآن معنى رفض الإحرام وكيف ينتهي الإنسان من النسك وماذا يجب على من ارتكب محظورات الإحرام بعد أن رفض الإحرام. - ثم قال - رحمه الله -: ويسقط بنسيان: فدية. المقصود بالنسيان هنا: الأعذار سواء كانت نسياناً أو جهلاً أو إكراهاً أو أي عذر معتبر شرعاً. يريد المؤلف - رحمه الله - أن يبين هنا الأشياء التي تسقط بالأعذار الشرعية من كفارات محظورات الإحرام والأشياء التي لا تسقط. الحنابلة يقسمون محظورات الإحرام إلى قسمين: - القسم الأول: ما ليس فيه إتلاف وهو الذي بدأ به المؤلف - رحمه الله -. - القسم الثاني: ما فيه إتلاف وهو الذي ثنى به المؤلف - رحمه الله -. نأخذ القسم الأول: إذا ارتكب الإنسان محظوراً ليس فيه إتلاف كاللبس والطيب وتغطية الرأس فقد: = ذهب الجماهير: أنه لا فدية عليه إذا كان ارتكبه بعذر من نسيان أو جهل أو إكراه. - لقوله تعالى: - (رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا) -[البقرة/286]. - ولقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: (عفي عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه). = القول الثاني: أنه لا يعفى عن كفارة محظورات الإحرام ولو فعلت نسياناً. ((الأذان)).

قال الشارح حفظه الله: نتم ما ليس فيه إتلاف ونترك ما فيه إتلاف إلى الدرس القادم. إذاً القول الثاني: أنه إذا فعل الإنسان ما ليس فيه إتلاف ولو كان معذوراً فعليه الفدية. واستدل هذا: - بأن قال: أن الشارع الحكيم رفع عن المعذور الإثم دون على ما يترتب

شرح كتاب المناسك الدرس رقم (8) قال شيخنا حفظه الله: بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين. تقدم معنا بالأمس الكلام عن سقوط فدية محظورات الإحرام إذا كان هناك عذر وأخذنا الخلاف والراجح. واليوم نبدأ بالمحظورات التي فيها إتلاف كالصيد والحلق وتقليم الأظافر وكل محظور فيه إتلاف، ففدية هذه المحظورات فيها خلاف بين أهل العلم - رحمهم الله -: = القول الأول: ذهب إليه الأئمة الأربعة فقد اتفق الأئمة الأربعة على أن هذا النوع من المحظورات لا تسقط فديته بالعذر. واستدلوا: - بأن ما ذهب بسبب هذا المحظور ذهب على وجه لا يمكن استدراكه فإذا حلقالإنسان شعره فلا يمكنه أن يستدرك هذا المحظور بأن يعيد الشعر - مثلاً، بينما إذا لبس المخيط فيمكن أن يستدرك هذا المحظور بأن ينزع هذا المخيط، فعرفنا الآن أن الأئمة الأربعة يرون أن المحظور لا يسقط ولو بالعذر في ما فيه إتلاف. = القول الثاني: وهو رواية عن الإمام أحمد نصرها شيخ الإسلام - رحمه الله - أن المحظورات وإن كان فيها إتلاف فإن الفدية تسقط بالعذر سواء كان العذر جهلاً أو نسياناً أو خطأً. واستدلوا: - بقوله تعالى: - (وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّدًا) -[المائدة/95]. وهذه الآية في جزاء الصيد واشترطت التعمد مع أن الصيد من محظورات الإحرام التي فيها إتلاف، والآية نص في العذر غير المتعمد كالناسي والمخطئ والجاهل والمكره بأنه لا يدخل في الآية، ولا يمكن أن نستدل الآن بحديث يعلى بن أمية لأن المحظورات التي فيه ليس فيها إتلاف. والأقرب والله أعلم هذه الرواية الثانية: - لظاهر القرآن.

والأحوط بلا شك ولا إشكال أن من اقترف محظوراً فيه إتلاف أن يفدي احتياطاً لاتفاق الأئمة الأربعة على هذا المذهب وعامة أهل العلم وإنما هي رواية عن الإمام أحمد كما قلت، لكن من حيث الدليل فالراجح إن شاء الله الراجح عدم وجوب الفدية إذا كان ارتكاب المحظور خطأ. - ثم قال - رحمه الله -: دون وطء وصيد وتقليم وحلاق. هذه المحظورات التي فيها إتلاف وتقدم معنا الكلام عليها مفصلاً. ثم بدأ المؤلف - رحمه الله - بالكلام على مكان الهدي يريد أن يبين مكان الهدي: - فيقول - رحمه الله -: وكل هدي أو إطعام: فلمساكين الحرم. مقصود المؤلف - رحمه الله - (وكل هدي أو إطعام): يعني: وكل هدي أو إطعام وجبا بسبب الحرم أو الإحرام فمكانه في الحرم كفدية الأذى إذا كانت في الحرم وكفدية ترك الواجب وكهدي المتمتع وكهدي القارن وكفدية جزاء الصيد ونحو ذلك، فهذه يجب أن تكون في الحرم. وقول المؤلف - رحمه الله - (وكل هدي أو إطعام: فلمساكين الحرم): يشمل مسألتين يجب أن نفرق بينهما: - المسألة الأولى: مكان الذبح. - المسألة الثانية: بالنسبة للهدي والإطعام -: مكان التوزيع. ـ ونبدأ بالمسألة الأولى: وهي مكان الذبح. اتفق الأئمة الأربعة وحكي إجماعاً أن الذبح لا يجزئ إلا في الحرم فإن ذبح في الحل لزمه أن يذبح هدياً آخر. واستدلوا بعدة أدلة: - منها قوله تعالى: - (وَلَا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ) -[البقرة/196] يعني: الحرم. - وبقوله سبحانه وتعالى: - {هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ} -[المائدة/95] في جزاء الصيد. - وبقوله - صلى الله عليه وسلم - فيما رواه مسلم عن جابر: (نحرت ههنا ومنى كلها منحر). فهذه الأدلة من الكتاب والسنة تدل على أن النحر لا يجزئ إلا في الحرم. = القول الثاني: وهو لبعض الشافعية: أن النحر خارج الحرم يجزئ بشرط أن يوزع في الحرم. واستدل هؤلاء: - بأن المقصود من الذبح والنحر هو إطعام الفقراء فإذا حصل هذا المقصود أجزأ الذبح ولو كان خارج الحرم. والجواب على هذا الاستدلال:

- أن المقصود من الهدي ليس توزيع اللحم فقط وإنما الذبح تقرباً إلى الله في المناسك فالذبح مقصود كما أن التوزيع مقصود ولكن قصد الذبح أكبر وأعظم وأهم. وعرف من سياق هذا الخلاف أنه إذا ذبح خارج الحرم ووزع خارج الحرم فبإجماع العلماء لا يجزئه وعليه أن يذبح هدياً آخر. ـ المسألة الثانية: توزيع لحوم الأضاحي: توزيع لحوم الأضاحي اختلف فيه الفقهاء على قولين: = القول الأول: أنه لا يجزئ إلا في الحرم. واستدلوا على هذا: - بأن المقصود من الإلزام بذبح الهدي في الحرم التوسعة على فقراء الحرم فإذا وزع خارج الحرم ذهب هذا المقصود وذهبت الفائدة التي من أجلها أوجب الشارع الذبح في الحرم. = والقول الثاني: جواز التوزيع في أي مكان من الحل أو الحرم. إنما الشرط عند هؤلاء أن يذبح أما التوزيع ففي أي مكان. واستدلوا على هذا: - بأنه لا يوجد دليل صريح على وجوب توزيع الهدي في الحرم. والراجح: القول الأول وهو مذهب الحنابلة: - لأن الظاهر والله أعلم من الإلزام من الذبح في الحرم أن من مقاصده التوسعة على فقراء الحرم. وعلم من الخلاف: أن إيقاع الذبح في الحرم أهم من التوزيع أما الخلاف في التوزيع فهو خلاف متكافئ حتى من حيث العدد بين الفقهاء فمنهم من ذهب إلى الجواز ومنهم من ذهب إلى وجوب توزيعه داخل الحرم. - ثم قال - رحمه الله -: وفدية الأذى واللبس ونحوهما. يعني حيث وجد سببه، ففدية الأذى واللبس ونحو هذه الأشياء التي فيها الفدية التي تقدمت معنا حيث وجد السبب سواء وجد السبب في الحل أو في الحرم. استدل الحنابلة على هذا: - بأن كعب بن عجرة - رضي الله عنه - لما اشتكى إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - أمره أن يفدي وكانت القصة وقعت في الحديبية ولم يأمره - صلى الله عليه وسلم - بأن يذهب إلى الحرم لأداء الفدية وإنما وقعت الفدية خارج الحرم، فدل الحديث على أن الفدية تكون حيث وجد السبب ولو في الحل. = والقول الثاني: أنه يلزم من فعل محظوراً خارج الحرم أن يفدي داخل الحرم. لنفس العلة السابقة وهي: - أن ينتفع فقراء الحرم. والراجح بلا إشكال إن شاء الله مع الحنابلة:

باب جزاء الصيد

- لأن معهم حديثاً صحيحاً صريحاً وهو إذنه - صلى الله عليه وسلم - لكعب أن يذبح في الحديبية وهي من الحل. - ثم قال - رحمه الله -: ودم الإحصار: حيث وجد سببه. دم الإحصار يعني: الدم الواجب بسبب الإحصار وهو المنع من دخول مكة لأداء النسك يجب حيث وجد سببه. - لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما أحصر ذبح في الحديبية وتقدم معنا أن الحديبية من الحل، فدل هذا على أنه يجوز ذبح دم الإحصار في المكان الذي وجد فيه الإحصار. = وذهب بعض الفقهاء إلى أنه يجب عليه أن يسير الهدي إلى داخل الحرم إن استطاع. والراجح مع القول الأول: - لصريح السنة التي استدلوا بها. لكن مع ذلك كما قلت: يستحب للإنسان خروجاً من الخلاف في فدية الأذى والإحصار أن يرسل الهدي والكفارة إلى الحرم ليوزع على فقرائه خروجاً من الخلاف وأيضاً توسعة على فقراء الحرم. - ثم قال - رحمه الله -: ويجزئ الصوم بكل مكان. الصوم الواجب كفارة والصوم الواجب بدل هيي التمتع: يجوز أن يكون في كل مكان وهذا محل إجماع بين الفقهاء بين أهل العلم فلم يختلفوا في هذا. والسبب والعلة في جواز الصيام في كل مكان أن فائدة الصيام تقتصر على الصائم ففي أي مكان صام أجزأه. - ثم قال - رحمه الله -: والدّم: شاة أو سُبع بدنة، وتجزئ عنها بقرة. قوله: (والدم) يعني والدم المذكور في هذا الباب هو إما شاة أو سبع بدنه أو سبع بقرة. والدليل على هذا: - أن ابن عباس لما قرأ - (فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ) -[البقرة/196]. قال: شاة أوشرك في دم. بناء على هذا من وجب عليه ذبح سبع شياه أجزأت عنه بدنه واحده أو بقرة. إذاً المؤلف - رحمه الله - يريد أن يبين ما المقصود بالدم وما هي الأشياء التي تجزئ وبين أنها شاة أو سبع بدنه أو سبع بقرة. والدليل على البقرة أنها تجزئ عن البدنة: - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - ذبحها بدل البدنة. - وأيضاً عموم أثر ابن عباس وهو قوله: (شرك في دم) يشمل دم البدنة ودم البقرة. وبهذا انتهى الباب وانتقلنا إلى باب جزاء الصيد. باب جزاء الصيد

جزاء الصيد هو: ما يجب على من أتلفه سواء كان الإتلاف بمباشرة أو بتسبب وهذا الواجب يشترط فيه كما تقدم معنا المماثلة والمشابهة في الصورة لا في الثمن. وتقدم معنا أيضاً أن معرفة المثل ينقسم إلى قسمين: - إما أن يكون بحكم النبي - صلى الله عليه وسلم - ولا أعلم الآن أن النبي - صلى الله عليه وسلم - حكم في حديث صحيح إلا في الضبع وقد تقدم معنا أن الإمام أحمد والإمام البخاري صححا هذا الحديث وهو النبي - صلى الله عليه وسلم - جعل في الضبع شاة. وأما فيما عدا الضبع فجميع المروي في الباب هو عن أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم -. والذين كثرت فتواهم في جزاء الصيد هم أربعة: عمر بن الخطاب وعثمان بن عفان وعلي بن أبي طالب وابن عباس - رضي الله عنهم -، فهؤلاء الأربعة هم أكثر من روي عنهم التقدير والتمثيل وروي أيضاً عن ابن مسعود لكن شيء قليل وروي عن ابن عمر لكن شيء قليل، أما عمر وعثمان وعلي وابن عباس فروي عنهم التقدير كثيراً. - يقول - رحمه الله -: في النعامة بدنة. يعني: يجب على من قتل النعامة أن يذبح بدنة بدلاً عنها، والذي حكم بهذا الحكم هم الأربعة: عمر وعثمان وعلي وابن عباس - رضي الله عنهم -. والشبه بين النعامة والبعير ظاهر من حيث الخلقة لا من حيث الثمن، فشكل النعامة يشبه شكل البعير ولذلك حكم به الصحابة - رضي الله عنهم -. - ثم قال - رحمه الله -: وحمار الوحش وبقرته والإيِّل والثَّيْتَل والوَعْل: بقرة. هذه خمسة أشياء: - الثلاثة الأول: حمار الوحش وبقرته والأيل: هذه حكم بها الأربعة الذين تقدم ذكرهم من الصحابة، فقد حكموا أن في هذه الحيوانات بقرة والشبه بينها وبين البقرة واضح وجلي. بقينا في: - الثيتل والوعل: وهما من أنواع الأيل. فيدخلان في فتوى الصحابة في نفس المسمى وليس قياساً. فلا نقول قياساً لكن في نص فتوى الصحابة لأن الأيل ما هو إلا نوع من أنواع الوعل يختلف هذا عن هذا بالشكل. وقيل: في القرون وقيل فيه أقوال أخرى. والمهم أنه اتفق أهل اللغة أن هذه الثلاثة حيوانات حيوان واحد بينها اختلاف في الشكل والهيئة ومكان الحياة .. إلخ، فالمهم أنها شيء واحد وقد حكم الصحابة في الأيل يشمل الثيتل والوعل.

- ثم قال - رحمه الله -: والضبع كبش. حكم النبي - صلى الله عليه وسلم - في الحديث الصحيح: أن في الضبع كبش، والكبش هو الذكر من الضأن. ووجه الشبه أيضاً ظاهر بين الكبش والضبع من حيث الخلقة الخارجية - من حيث الشكل والحجم عموماً، فيجب على من قتل ضبعاً أن يذبح كبشاً. - ثم قال - رحمه الله -: والغزالة عنز. الغزال فيها عنز، والذي حكم بهذا الحكم هم: عمر وعلي وابن عباس دون عثمان فلم نجد لعثمان فتوى في قتل الغزال، فهؤلاء الثلاثة حكموا أن الغزال فيه عنز والشبه أيضاً بينهما ظاهر في شيئين: - الشيء الأول: شكل الشعر الخارجي. - والشيء الثاني: شكل الذنب والذيل. فقال الفقهاء أن العنز والغزال يتشابهان في هذين الأمرين ولذلك حكم الصحابة في الغزال بعنز. - ثم قال - رحمه الله -: والوبر والضب جدي. كان ينبغي أن يقول المؤلف - رحمه الله - والضب والوبر جدي لا والوبر والضب جدي، يعني: كان ينبغي أن يقدم الضب، والسبب: أن الضب هو الذي فيه فتاوى والوبر مقيس عليه، فالضب أفتى فيه: عمر وزيد بن ثابت أن فيه جدي، فإذاً حكموا عليه بهذا الحكم، ولا يوجد تشابه ظاهر في الشكل بين الضب والجدي ومع ذلك جعل الصحابة الجدي يقارب للضب لعله من جهة كمية اللحم. وبعد التأمل لم يتبين لي وجه الشبه بين الجدي والضب فإن الحيوانات التي تقدمت وجه الشبه فيها واضح لكن بين الجدي والضب لا أدري لماذا حكم عمر بن الخطاب وزيد بن ثابت بهذا الحكم، وتقدم معنا أن الصحابة إذا حكموا بحكم فإن الصواب أن من جاء بعدهم ليس له أن يجتهد فلو جاءنا رجل يجتهد فإنه على الصواب اجتهاده مرفوض ويجب أن نجعل في الضب جدي، والجدي هو ما بلغ ستة أشهر من الماعز خاصة، فيجب على من قتل ضباً أن يذبح هذا الجدي جزاء عن الصيد، والوبر قاسه الفقهاء على الضب. - ثم قال - رحمه الله -: واليربوع جفرة. الجفرة: هي ما أتمت أربعة أشهر من الماعز. ففي اليربوع جفرة. والشبه بينهما واضح وهو أن اليربوع - وهو الذي تسميه العامة الجربوع - يجتر كاجترار الماعز تماماً فتشابها في هذا الشيء والذي حكم بهذا الحكم هم: عمر بن الخطاب وابن مسعود. - ثم قال - رحمه الله -: والأرنب عناق.

باب صيد الحرم

العناق هو ما فوق الجفرة ودون الجدي، وقال بعض الفقهاء بل هو ما تحت الجفرة، يعني ما هو أصغر من الجفرة من الماعز، لكن الصواب أن العناق أكبر من الجفرة. - بدليل: أن الأرنب أكبر من اليربوع فالمناسب أن نذبح فداء الأرنب عنزاً أكبر مما نذبح فداء لليربوع. والذي حكم في الأرنب هو - حسب ما وقفت عليه - هو عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -. - ثم قال - رحمه الله -: والحمامة شاة. الحمامة فيها شاة، والذين حكموا فيها هم: عمر وابنه وابن عباس، فهؤلاء رأوا أن في الحمامة شاة. واختلفوا في الحمامة هل يقصد بها الحمامة المعينة أو كل طير يشبه الحمامة؟ وهذا الاختلاف لا يضر في حكم المسألة، فنقول: المقصود بالحمامة هنا كل ما عب الماء من الطير وهدر، فكل طير يعب الماء عبا ويهدر بصوت كصوت الحمامة فيأخذ نفس حكم الحمامة، وعب الماء هو أن يكرع الطير فيه تكريعاً ولا يشرب كشرب الدجاج نقطة فنقطة، فإن الحمام لا يشرب كشرب الدجاج إنما يكرع في الماء ويشرب، بينما الدجاج يأخذ من الماء نقطة نقطة، فنجد أن شرب الحمام يشبه شرب الشياه، ولهذا جعل الصحابة في الحمامة شاة، ونقول كل طائر يشبه الحمامة سواء سمي حمامة أو لم يسمى بهذا الاسم فمادام يشرب بهذه الطريقة ويصدر صوتاً يشبه صوت الحمامة فله نفس الحكم: أن فيه شاة. سواء أدخلنا باقي الطيور في مسمى الحمام أو قلنا الحمام اسم لطير خاص ونقيس عليه باقي الطيور فالأمر واضح، وبهذا انتهى المؤلف - رحمه الله - من بيان ما حكم به الصحابة، ثم: أي حيوان أو طير لم يحكم به الصحابة فإنه يندب إليه عدلان من أهل الخبرة وينظر ماذا يشبه من الحيوانات من بهيمة الأنعام خاصة كما تقدم معنا فإن لم نجد له شبيهاً وحكم أهل الخبرة أنه لا شبيه له انتقلنا إلى قيمة الصيد على ما تقدم معنا في الباب السابق. باب صيد الحرم المقصود بالحرم هنا حرم مكة وحرم المدينة، أي أن المؤلف - رحمه الله - سيبين في هذا الباب حكم صيد وحشائش وشجر مكة والمدينة، وبطبيعة الحال سيبدأ - رحمه الله - بمكة لعظمها ورفع قدرها. - يقول - رحمه الله -: يحرم صيده: على المحرم والحلال. الصيد داخل الحرم: محرم بالنص والإجماع لم يختلف الفقهاء في تحريمه.

واستدلوا على تحريمه: - بقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((إن هذا البلد حرمه الله منذ خلق السموات والأرض فهو حرام بتحريم الله إلى قيام الساعة لا يختلا خلاه ولا يعضد شوكه ولا ينفر صيده ولا تلتقط لقطته إلا لمعرف)). فقال العباس يا رسول الله: إلا الإذخر فإنه لقينهم وبيوتهم. - والقين: هو الحداد أو الصائغ - فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (إلا الإذخر). فهذا الحديث نص في تحريم الصيد وتحريم الحشيش وتحريم الشجر وتحريم تنفير الصيد ولو للجلوس مكانه. يعني يحرم على من في داخل الحرم أن ينفر الصيد ولو كان بغير قصد اصطياده بل بقصد الجلوس مكانه لأنه سيجلس في الظل مثلاً فإنه يحرم عليه أن يفعل هذا فإن الأشجار والحشائش والحيوانات آمنة بأمن الله داخل الحرم، إذاً هذا الحكم حكم مجمع عليه ودلت عليه النصوص الصريحة الصحيحة. - ثم قال - رحمه الله -: وحكم صيده كصيد المحرم. حكم الصيد داخل الحرم كحكم صيد المحرم فيه المثل وهو مخير بين الصيام والإطعام فإن لم يجد قوم الصيد وهو أيضاً مخير بين الصيام والإطعام على الترتيب والأحكام التي تقدمت معنا في جزاء الصيد تماماً. وإلى هذا: أي إلى وجوب جزاء صيد الحرم: = ذهب الجماهير من أهل العلم الأئمة الثلاثة: مالك والشافعي وأحمد وغيرهم من فقهاء الإسلام ذهبوا إلى وجوب الجزاء في صيد الحرم. واستدلوا على هذا: - بأن أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - حكموا بهذا الحكم لأن أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - حكموا بوجوب جزاء الصيد على من صاد في الحرم. = وذهب الأحناف إلى أنه لا يجب جزاء الصيد بل عليه التوبة والاستغفار. واستدلوا على هذا - بأنه ليس في النصوص الصحيحة الصريحة ما يوجب جزاء الصيد داخل الحرم. والجواب: أن الآثار المروية الصحيحة في هذا الباب كافية في إثبات هذا الحكم فهي إجماع من الصحابة إذ لا يعلم مخالف للفتاوى التي أفتى فيها الصحابة بوجوب جزاء الصيد داخل الحرم. ثم لما بين المؤلف - رحمه الله - حكم الصيد انتقل إلى الشجر: - فقال - رحمه الله -: ويحرم: قطع شجره وحشيشه الأخضرين. قطع الشجر والحشيش الأخضرين محرم بالإجماع:

- لدلالة الحديث السابق. والذي يدل على اشتراط كونه أخضراً أنه قال: (الكلأ) والكلأ في لغة العرب لا يطلق إلا على الحشيش الرطب. بقينا في أمور أخرى تخرج عن الشجر الأخضر والحشيش الأخضر: - الأول: ما زرعه الآدمي. وهو ينقسم إلى قسمين: ـ القسم الأول: الزرع. ـ والقسم الثاني: الشجر. - فالزرع: أجمع الفقهاء بلا خلاف أن يجوز لمن زرع في الحرم أن يحصد ولا فدية عليه. - والشجر: فيه خلاف: لكن مع ذلك ذهب الجماهير إلى جواز قطع الشجر الذي زرعه الآدمي قياساً على الزرع المجمع عليه. وهذا القول هو الصواب، والقول الآخر الذي يمنع من الشجر ضعيف. - المسألة الثانية: حكم قطع الشجر الميت اليابس والحشيش اليابس، اتفق الأئمة الأربعة على جواز قطع ما يبس من الشجر والحشيش: - لأن هذا اليابس في حكم الميت فجاز أخذه والانتفاع به. - الثالث والأخير: ما قطع من الشجر بغير فعل الآدمي وسقط أو ظل متعلقاً بالشجرة بعد كسره. فهذا يجوز عند الجماهير أن ينتفع به الإنسان وأن يأخذه لأن مآل هذا الساقط إلى اليبس والموت ومآل الذي سقط وبقي متعلقاً أن ييبس ويموت أيضاً فله أخذ كل منهما، وأما إن كان هذا السقوط بفعل آدمي: = فمن الفقهاء من قال: يجوز له أن ينتفع به. = ومنهم من قال: لا يجوز أن ينتفع به. وقالوا: لا يجوز أن ينتفع به نظير الصيد فإن الصيد إذا صاده المحرم أصبح ميتة فكذلك هذا لا يجوز الانتفاع به. والأقرب والله أعلم: أنه يجوز الانتفاع به ولو كان بفعل آدمي والآدمي آثم لكن نحن الآن نتحدث عن الانتفاع بما قطعه الآدمي. - والدليل على ذلك: أن بين الذبيحة والشجر فارق كبير. لأن الذبيحة يشترط فيها أن يكون الذابح من أهل الذكاة فإن أهلية المذكي من شروط جواز أكل الذبيحة بخلاف الحطب وكسره فإنه لا يشترط له ما يشترط للذبائح والأطعمة، فافترقا من هذه الجهة فجاز الانتفاع بما قطعه الآدمي من الشجر ولم يجز بما قتله الآدمي من الصيد. ـ ويستثنى أيضاً: الرعي: = ذهب الجمهور إلى جواز الرعي. جواز أن يجعل الإنسان بهائمه ترعى في الحرم. واستدلوا على هذا:

- بأن النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه - رضي الله عنهم - دخلوا الحرم في هديهم ولم ينقل أنهم كانوا يكممون أفواه ابهائم حتى لا تأكل من حشيش الحرم. فدل هذا على الجواز وهذا ظاهر. - واستدلوا أيضاً بحديث ابن عباس لما أتى إلى الصف على أتان ثم تركها ودخل الصف وصارت الأتان ترعى من الأرض وهم في الحرم. = والقول الثاني: أنه لا يجوز أن يمكن الإنسان بهائمه أن ترعى في الحرم. - لأن هذا الرعي يستلزم الإتلاف والإتلاف من محظورات الحرم. وهو قول ضعيف جداً مصادم لظواهر النصوص، فإنه يجوز للإنسان أن يبذل المرعى لبهائمه ولو كان في الحرم فهو أمر مستثنى. ـ المسألة الأخيرة: الفدية. o يجب في الشجر الكبيرة والمتوسطة: بقرة. o وفي الشجرة الصغيرة: شاة. بهذا حكم بعض أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم -. = والقول الثاني: أنه ليس في إتلاف الشجر والحشيش فدية لأنه لا يوجد دليل يدل على وجوب الفدية في الشجر أو الحشيش. وإلى هذا ذهب المالكية. والصواب والله أعلم مع الجمهور: - لأنا نحكم في كل باب الجزاء بفتاوى الصحابة ثم إذا وصلنا إلى جزاء الشجر توقفنا عن الأخذ بفتاوى الصحابة فهذا لا شك تناقض وعدم اضطراد في قواعد الترجيح، فما دام قبلنا آثار الصحابة هناك نقبلها هنا ولا يوجد فارق أو مانع يمنع من الأخذ بفتاوى الصحابة في هذا الباب. - ثم قال - رحمه الله -: إلاّ الإذخر. الإذخر مستثنى بالإجماع: - لأن حديث ابن عباس فيه التصريح باستثنائه من قبل النبي - صلى الله عليه وسلم -. ثم انتقل المؤلف إلى حرم المدينة: - فقال - رحمه الله -: ويحرم: صيد المدينة. صيد المدينة محرم: = عند الجماهير وهو الأئمة الثلاثة: مالك وأحمد والشافعي. واستدلوا: - بما أخرجه مسلم عن علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (المدينة حرم ما بين عير إلى ثور). - وبالحديث الصحيح الآخر أن النبي - صلى الله عليه وسلم - حرَّم ما بين لا بتي المدينة. = وذهب الأحناف وهو القول الثاني: إلى أن المدينة ليست حرماً. فيجوز للإنسان أن يختلي خلاها وأن يقطع شجرها وأن يقتل صيدها. واستدلوا على هذا:

- بأن المدينة فيها حرم حكم كبير يحتاج لإثباته إلى نقل عام لا إلى نقل خاص. والجواب على هذا الدليل من وجهين: - الوجه الأول: أن تحريم المدينة نقل نقلاً عاماً فقد نقله عدد من الصحابة. - الوجه الثاني: أن هذه القاعدة قاعدة منكرة إذ لا يشترط في ثبوت الأحكام أن تنقل نقلاً عاماً بل يكتفى فيها بالنقل الخاص ولذلك نجد أحكاماً مهمة لم تنقل لنا إلا نقلاً خاصاً فيكون الذي رواها من الصحابة واحد أو اثنان ورواها عنه عدد قليل من التابعين إلى أن وصلت إلى أصحاب الكتب الستة أو التسعة، فهذا شرط غير صحيح ويخالفه عمل علماء المسلمين. بناء على هذا: الراجح: إن شاء الله ما ذهب إليه الأمة وهو أن المدينة لها حرم صحيح وثابت وكيف نرد الأحاديث الصريحة والصحيحة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في صحيح مسلم أنه حرم المدينة في مثل هذه الأقيسة والتعليلات. - ثم قال - رحمه الله -: ولا جزاء فيه. = ذهب الحنابلة واختاره ابن قدامة وذكر عن الإمام أحمد - رحمه الله - أنه ليس في قتل صيد المدينة جزاء وإنما فيه التوبة، قال الإمام أحمد: لا أعلم أن فيه جزاء. = والقول الثاني: أن فيه جزاء. والجزاء هو سلب قاتل الصيد أو قاطع الشجرة. واستدلوا على هذا: - بما أخرجه مسلم عن سعد - رضي الله عنه - أنه رأى عبداً يقطع شجراً في حرم المدينة فأخذ سلبه. فجاء قومه إليه فقالوا: أرجع سلب العبد فقال - رضي الله عنه -: ما كنت أرد شيئاً نفلنيه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. فهذا الحديث صريح بأن سعد يرى أن النبي - صلى الله عليه وسلم - جعل في قطع شجر الحرم أو قتل صيده سلب المعتدي، والمقصود بالسلب: على هذه الرواية هو: ثياب المعتدي دون دابته، فالسلب في هذا الباب يختلف عن السلب في الجهاد، والدليل: - أن السلب في باب الجهاد إنما جاز فيه أخذ الدابة لأن لا يتقوى بها الكافر ولأجل أن يتقوى بها المجاهد المسلم وهذا المعنى مفقود في حرم المدينة. - والشيء الآخر أنه لم ينقل أن سعداً رضي الله عنه أخذ دابة العبد.

وهذا القول: هو الظاهر من اختيار شيخ الإسلام وابن القيم فإنهم ضربوا أمثلة على التعزير المالي في الشرع وذكروا عدة أمثلة ومنها أخذ سلب من قطع شجر المدينة، فظاهر هذا أنهم يرون أنه يؤخذ السلب وأن في صيد المدينة وأخذ الشجر جزاء. وهذا القول هو الصواب. بقينا في إشكال كبير جداً وهو قول الإمام أحمد - وهو من هو -: أنه لا يعلم أنه نقل إيجاب الجزاء فهذا في الحقيقة، مشكل فمثل الإمام أحمد إذا نفى بعلمه وورعه وسعة اطلاعه فيكون إشكال: وأنا لم أجد جواباً على هذه الكلمة من الإمام أحمد والذي يظهر لي أن الإمام أحمد - رحمه الله - وقف على هذا الأثر لكن كأنه - رحمه الله - يرى أنه ليس بصريح في وجوب الجزاء وإلا فإن الإمام أحمد لا يخالف مطلقاً سنة مروية عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أو يكون يرى ضعف الحديث لكن ما يبدو لي أن الإمام أحمد يرى ذلك فإن الحديث في مسلم وإسناده قوي.

باب دخول مكة

شرح كتاب المناسك الدرس رقم (9) قال شيخنا حفظه الله: بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين. باب دخول مكة - قال - رحمه الله -: باب دخول مكة. يعني: باب يوضح فيه الأحكام المتعلقة بدخول مكة، وذكر - رحمه الله - أن أول سنة في دخول مكة أن يدخل من أعلاها وفاته - رحمه الله - بعض السنن التي تسبق هذه السنة، فمما فات المؤلف - رحمه الله -: - استحباب الاغتسال: = فقد ذهب الأئمة الأربعة والجماهير وحكي إجماعاً أنه يستحب للإنسان إذا أراد أن يدخل مكة أن يغتسل. - ويستحب أيضاً: أن يدخل نهاراً. - ودليل ذلك: أن ابن عمر - رضي الله عنه - لما أراد أن يدخل مكة توقف وبات فيها واغتسل نهاراً وقال: هكذا كان يصنع رسول الله - صلى الله عليه وسلم -.

والأئمة - رحمهم الله - أخذوا من هذا الحديث وفهموا استحباب الاغتسال وأن يدخل نهاراً. وأما الدخول في الليل: فهو أيضاً جائز ولم يدخل النبي - صلى الله عليه وسلم - ليلاً إلا مرة واحدة. وهو دليل الجواز، فيجوز أن يدخل ليلاً ويستحب أن يدخل نهاراً وهو أمر مقصود كما فهم الأئمة وليس أمراً عرضياً وقع صدفة بل ينبغي ويستحب للإنسان أن يتقصد أن يغتسل وأن يدخل مكة نهاراً. ثم نأتي إلى السنة التي ذكرها المؤلف: - فقال - رحمه الله -: يسن: من أعلاها. استحباب دخول مكة من أعلاهاً من حيث الجملة لا أعلم فيه خلافاً. لكن ذهب بعض الشافعية إلى أنه يستحب الدخول من أعلى مكة لمن كان طريقه يمر بأعلى مكة وإلا فلا. ويفهم من هذا الخلاف أن جميع أهل العلم يرون استحباب الدخول من أعلى مكة إذا كان طريق الإنسان يمر بأعلى مكة، وكما قلت: الجماهير يرون الاستحباب مطلقاً فقط بعض الشافعية يرون أنه مستحب في حال واحدة: إذا كان طريقه يمر بأعلى مكة. وهذا القول الراجح وهو أرجح من القول بأن هذا الدخول وقع لأنه الأسهل أو لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - إنما طريقه من هذا الطريق فإن الأئمة الثلاثة أبو حنيفة ومالك وأحمد كلهم يرون أن هذا أمر مقصود وأن النبي - صلى الله عليه وسلم - تقصد الدخول من أعلاها. واستدلوا: - بما ثبت في حديث ابن عمر وحديث عائشة وغيرهما أن النبي - صلى الله عليه وسلم -: دخل مكة من أعلاها. بل نستطيع أن نقول: أن هذا فهم حتى الصحابة فإنا لا نعلم فائدة من قول عائشة أو ابن عمر أن النبي - صلى الله عليه وسلم - دخل من أعلا مكة إلا أن هذا أمر مستحب أو أنه أمر مقصود. فإذاً هذه سنة ثابتة نستطيع أن نقول بالإجماع لمن كان طريقه يمر بأعلى مكة وعند الجماهير لمن كان طريقه يمر بغير هذا الطريق يعني: من غير أعلى مكة. - ثم قال - رحمه الله -: والمسجد من باب بني شيبة. يعني: ويستحب أن يدخل المسجد الحرام من هذا الباب. والدليل على استحباب هذه السنة: - ما أخرجه البيهقي في سننه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - دخل المسجد من هذا الباب.

- وأيضاً ما ثبت أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما أراد أن يحكم بين قريش في وضع الحجر دخل من باب بني شيبة. وحديث البيهقي نسبه بعضهم خطأ إلى مسلم وهو في البيهقي وليس في مسلم: يعني دخول النبي - صلى الله عليه وسلم - من باب بني شيبة، وهذا الباب لا وجود له الآن بعد العمارة الحديثة للحرم لكن اشتهر أن الدخول من باب السلام أن من دخل من باب السلام ثم اتجه إلى الكعبة فإنه سيمر من باب بني شيبة وإلا فإن الباب نفسه لم يعد موجوداً الآن. - قال - رحمه الله -: فإذا رأى البيت: رفع يديه وقال ما ورد. يعني: ويستحب عند رؤية البيت أن يرفع الإنسان يديه ويدعو بما ورد. والدليل على هذا العمل: - ما رواه ابن جريج - رحمه الله - مرسلاً إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه كان يصنع ذلك، ومراسيل بن جريج ضعيفة أو ضعيفة جداً لا تصلح للاستدلال. = القول الثاني: أنه لا يشرع للإنسان أن يصنع ذلك بأن يرفع يديه ويدعو. وإلى هذا ذهب الإمام مالك - رحمه الله -. واستدل على ذلك: - بأن جابر بن عبد الله - رضي الله عنه - أنكر ذلك وقال: لم يكن يصنعه النبي - صلى الله عليه وسلم -. وآراء هذا الصحابي الجليل في الحج لها أهمية والسبب في ذلك أنه اعتنى عناية خاصة بحج النبي - صلى الله عليه وسلم - ومن هنا كان لفتاويه وآرائه ورواياته منزلة كبيرة عند الترجيح في مسائل الحج والعمرة. - ثم قال - رحمه الله -: ثم يطوف مضطبعاً. الاضطباع هو أن يضع وسط الرداء تحت عاتقه الأيمن وطرفيه على عاتقه الأيسر، والاضطباع سنة لثبوته في الأحاديث الصحيحة. وينبغي أن يعلم أن: - الاضطباع إنما يسن عند إرادة الطواف لا عند الإحرام، فإذا أوشك أن يبدأ الإنسان بالطواف اضطبع لا من حين يحرم من الميقات. - الأمر الثاني: أن الإضطباع سنة في طواف القدوم فقط دون غيره من طوافات الحج. - ثم قال - رحمه الله -: يبتدئ: المعتمر بطواف العمرة، والقارن والمفرد للقدوم. - طواف القدوم: سنة بإجماع أهل العلم لم يختلفوا في أنه سنة مندوب إليها.

وقول الماتن - رحمه الله -: (يبتدئ). مقصود. لأنه يسن - عند أهل العلم من الحنابلة وغيرهم -:لمن دخل المسجد الحرام ليطوف يسن أن يبدأ بالطواف وأن لا يشتغل بأي عبادة أخرى حتى ولا بتحية المسجد. واستثنوا من هذا مسألة واحدة وهي: أنه إذا دخل وصادف إقامة الفريضة فإنه يصلي معهم الفريضة. فيما عدا هذه الصورة فإنه يشرع له أن يبدأ بالطواف. وطواف العمرة بالنسبة للمتمتع يغني عن طواف القدوم. وعلى هذا يدل كلام المؤلف - رحمه الله - لأنه جعل طواف القدوم خاصاً بالقارن والمفرد. وهذا صحيح. فلا يشرع للمتمتع أن يطوف أولاً للقدوم ثم يطوف ثانياً للعمرة. والدليل على ذلك: - أن ظاهر حال أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - الذين قدموا متمتعين أنهم اكتفوا بطواف واحد وهو طواف العمرة وقد أجزأهم عن طواف القدوم. - ثم قال - رحمه الله -: فيحاذي الحجر الأسود: بكله. يشترط لصحة الطواف: أن يحاذي الطائف إذا أراد أن يبدأ: الحجر بكله. ويجوز أن يحاذي بكله بعض الحجر. ولا يجوز أن يحاذي ببعضه الحجر أو بعض الحجر. إذاً: الشرط هو أن يكون كل الجسم محاذي لكل أو لبعض الحجر. الدليل على هذا: - قالوا: الدليل على هذا: أن ما شرط استقباله وجب أن يستقبل بكل الجسم كما في استقبال القبلة في الصلاة. كأنها قاعدة عندهم. بناء على هذا: إن بدأ الطواف وبعض جسمه من جهة باب الكعبة ولو استقبل بالبعض الآخر الحجر فإن الطواف لا يصح لأنه لم يستقبل بجميع جسده الحجر. = القول الثاني: أنه يجوز أن يقابل ببعض جسده بعض الحجر، وإلى هذا ذهب شيخ الإسلام بن تيمية - رحمه الله -. والدليل على ذلك: - أن الظاهر من حال النبي - صلى الله عليه وسلم - وحال الصحابة أنهم لم يكونوا ينتصبون انتصاباً تاماً كاملاً أمام الحجر بحيث يكون جسد المعتمر أو الحاج مقابل بكله للحجر الأسود. - كما أن في هذا الشرط لا سيما في هذه الأزمان مشقة ظاهرة وزائدة وهو أن نوجب أن يستقبل الإنسان بكل جسده كل الحجر ففي هذا مشقة عظيمة لا سيما في المواسم. - كما أنه لا دليل على هذا الشرط. إنما الواجب أن يبدأ الإنسان من الحجر إلى الحجر سواء استقبل الحجر ببعضه أو بكله وسواء استقبل بعض الحجر أو كل الحجر.

وهذا القول الثاني هو القول الراجح إن شاء الله وهو الذي يسع العمل به ولو اشترطنا ما اشترط الحنابلة لدخل مشقة عظيمة على الناس. - قال - رحمه الله -: ويستلمه ويقبله. الاستلام هو: المسح باليد. وظاهر كلام المؤلف - رحمه الله - أنه يستحب الاستلام والتقبيل وأن الدرجة الأولى من مراتب استلام الحجر هو أن يجمع بين الاستلام وهو المسح باليد والتقبيل. وإلى هذا ذهب كثير من أهل العلم أن السنة: الاستلام مع التقبيل. ولكني بحثت في جميع الأحاديث بحثاً كثيراً فلم أجد أي حديث فيه الجمع بين الاستلام والتقبيل إلا في حديثين صريحين في سنية الجمع بينهما ولكن فيهما ضعف، أما الأحاديث الصحيحة الصريحة فهي تشير إلى الاستلام أو التقبيل. - ففي حديث جابر - رضي الله عنه -: الاستلام بلا تقبيل. - وفي حديث عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - أنه قبل الحجر وقال لولا أني رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقبلك ما قبلتك. وفيه التقبيل ولم يذكر الاستلام. لذلك الأظهر والله أعلم أن: - المرتبة الأولى: التقبيل بدون استلام. بحيث يضع الإنسان فمه على الحجر بلا إظهار صوت عند الحنابلة وإنما يضع شفتيه على الحجر وضعاً بدون تقبيل بصوت وينقلون أن النبي - صلى الله عليه وسلم - هكذا صنع ولأن هذا فيه نوع من التأدب عند بيت الله وهذا بخلاف ما يصنعه كثير من الناس اليوم حيث يقبلون بطريقة تخالف هذه الطريقة. إذاً الأقرب والله أعلم أن المرتبة الأولى: التقبيل بلا استلام. هكذا ظهر لي لأنه لا يوجد حديث يجمع بينهما. وهذه الأمور تعبدية. - المرتبة الثانية: الاستلام مع تقبيل اليد. ودل على هذا: الحديث الصحيح أن النبي - صلى الله عليه وسلم - استلم الحجر بيده وقبل يده. - ثم قال - رحمه الله -: وإن شق قبّل يده. (وإن شق) يعني: الاستلام مع التقبيل (قبل يده) تقدم معنا أنه إذا شق عليه فإنه يستلم الحجر يعني يمسح عليه ويقبل يده وأن هذا ثابت في حديث ابن عباس - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - فعل ذلك. - ثم قال - رحمه الله -: فإن شق اللمس أشار إليه.

ترك المؤلف - رحمه الله - مرتبة من مراتب الاستلام وهي: أن يستلم الحجر بشيء مع ويقبل هذا الشيء. - لما صح في الحديث الذي رواه مسلم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - استلم الحجر بمحجن وقبله. ثم المرتبة الأخيرة: (فإن شق اللمس أشار إليه). يعني: بيده بلا تقبيل، فيشير الإنسان إلى الحجر بدون أن يقبل يده. فصارت المراتب: - التقبيل مجرداً عن الاستلام. - ثم الاستلام مع التقبيل. - ثم استلام الحجر بشيء من عصا أو نحوه مع تقبيله. - ثم الإشارة بلا تقبيل. فهذه هي مراتب استلام الحجر. وكما لا يخفى أن هذه المراتب ما عدا الأخير نستطيع أن نقول أنها في مواسم الحج المعاصرة غير مشروعة لكثرة الزحام وما يؤدي إليه هذا الأمر - وهو الاستلام أو التقبيل - من شقاق ونزاع ومدافعة لا يأتي الإسلام بمثلها لا سيما وأن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى أمير المؤمنين عمر بن الخطاب أن يزاحم ليقبل وسواء صح هذا الحديث أو لم يصح لاشك أن قواعد الإسلام تقتضي أنه في مثل هذه المواسم - مواسم الحج والعمرة في رمضان أنا نستطيع أن نقول أن التقبيل لا يشرع لما يترتب عليه من زحام شديد وإضرار بالآخرين. وذهب الجمهور إلى أن التقبيل لا يشرع للمرأة وبنو هذا على أن التقبيل يؤدي إلى اختلاط المرأة بالرجال وكثرة المساس بين المرأة والرجل مما تأباه النصوص العامة الدالة على وجوب محافظة المرأة على جسدها من الاختلاط بالرجال. ثم نقول: ما يقع اليوم من تقبيل النساء للحجر الأسود اليوم في الزحام في الحج أو في العمرة في رمضان لا يشك أي إنسان أنه محرم وأن المرأة آثمة بهذا التقبيل لما يلحظه الإنسان من تعرض المرأة لشيء عظيم من ذهاب الحياء والمساس بالرجال والاختلاط على وجه يحرمه الشرع بلا إشكال فإن التقبيل غاية ما هنالك أنه سنة بينما اختلاط المرأة بالرجال مع الالتصاق والمساس محرم بإجماع الفقهاء بإجماع أهل العلم وهذا الذي تقتضيه النصوص ولذلك ينبغي على طالب العلم أن يشير على المرأة أو على ولي المرأة أن التقبيل في الزحام محرم. - ثم قال - رحمه الله -: ويقول ما ورد.

- ثبت في حديث جابر وغيره أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان إذا أراد أن يبدأ بالطواف واستقبل الحجر كبر. فالتكبير ثابت في الأحاديث الصحيحة، وليس في الأحاديث الصحيحة المرفوعة إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - دعاء يثبت عند بداية الطواف إلا التكبير فقط، لكن صح عن ابن عمر - رضي الله عنه - أنه كان يبسمل فيقول: (بسم الله، والله أكبر) عند بداية الطواف، فإن أخذ الإنسان بهذا الأثر فقد أخذ بأثر عن أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - وإن تركه فهو عندي أولى لأن الحج أمر مضبوط منقول عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ولو كان هذا الذكر مشروعاً لنقل عن النبي - صلى الله عليه وسلم - لا سيما مع شدة عناية أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - بحجه الأخير وأما أثر ابن عمر فلا يمتنع أن يكون اجتهاداً منه - رضي الله عنه - لكثرة بداية الأعمال بالبسملة في الشرع. كما عند الوضوء إن صح وهو ضعيف. وكما عند الأكل وعند قراءة القرآن وغيره فقد جاء في الشرع في مواضع كثيرة أن الإنسان إذا شرع في العبادة يبسمل فلعل ابن عمر - رضي الله عنه - قاس على عبادة الطواف على غيره من العبادات. والأقرب والله أعلم فيما يظهر لي أنه لا يشرع للإنسان إلا أن يقول: (الله أكبر)، تأسياً بالنبي - صلى الله عليه وسلم -. - ثم قال - رحمه الله -: ويجعل البيت عن يساره. دل النص والإجماع: على أن الطائف إذا بدأ بالطواف فإنه يجب أن يجعل الكعبة عن يساره فإذا استقبل الحجر وكبر انصرف عن يمينه. والدليل على ذلك: - قول النبي - صلى الله عليه وسلم - (خذوا عني مناسككم) وقد طاف كذلك - صلى الله عليه وسلم -. وذكر أهل العلم حكماً كثيرة لكون الطواف يكون على هذه الهيئة أي أن يجعل الإنسان البيت عن يساره، أما الدليل فهو السنة المستفيضة، وهذه الحكم استنباطات من أهل العلم:

- منها: ونقتصر عليه: أن الطائف إذا جعل البيت عن يساره فإنه يعتمد على الشق الأيسر وبذلك يكون الشق الأيمن أرفع شأناً ومن المعلوم أن الشارع كرم الشق الأيمن للإنسان، هذا أقوى الحكم المذكورة. وفيه ما فيه من التكلف. وما ذكر من التعليلات الأخرى والحكم أيضاً فيها تكلف أكثر من هذه الحكمة فالواجب أن يقتصر الإنسان في مثل هذا على ما جاء في النصوص لا سيما في الحج فإنه يكثر في الحج الأعمال التي قد يصعب تعليلها وطلب الحكمة عدا أن الحكمة هي امتثال الأوامر وتعظيم الله وذكره في هذا الحج، هذا هو الذي يظهر وواضح من النصوص كما سيأتينا، أما التماس بعض الحكم في الحج ففيها تكلف ظاهر. - ثم قال - رحمه الله -: ويطوف سبعاً. أي: أن عدد الأشواط في الطواف سبعة ولا يجوز له أن يزيد على هذا المقدار فإن زاد تعبداً فهو مبتدع ولا يجوز له أن ينقص فإن نقص متعبداً فهو مبتدع بالإضافة إلى بطلان الطواف لأنه نقص منه ركناً وهذا الأمر مجمع عليه بين أهل العلم. - ثم قال - رحمه الله -: يرمل الأفقي. الرمل هو: مقاربة الخطى مع الإسراع، وهو سنة باتفاق الأئمة. قوله: (الأفقي) هذا يدل على أن الرمل سنة خاصة بغير المكي، فالأفقي يسن له أن يرمل والمكي لا يسن له أن يرمل. والدليل على ذلك: - ما ثبت عن ابن عمر وابن عباس أنهم قالوا: ليس على المكي رمل، فثبت بهذه الفتاوى أنها سنة خاصة بمن قدم من خارج مكة. - كما أنه يدل على ذلك: الآثار المروية عن حال الصحابة أن الذين كانوا يرملون هم الذين يقدمون من خارج مكة دون المكيين. - ثم قال - رحمه الله -: يرمل الأفقي في هذا الطواف ثلاثاً ثم يمشي أربعاً. أفاد المؤلف - رحمه الله - أن الرمل سنة خاصة بطواف القدوم وأنه يختص بالأشواط الثلاثة. والدليل على ذلك: - ما صح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - من حديث ابن عمر أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان إذا دخل مكة طاف في قدومه ثلاثاً سعياً وأربعاً مشياً.

ففي حديث ابن عمر النص على أن الرمل كان في قدومه. يعني: في طواف القدوم، وعلى أنه كان في الثلاثة الأشواط الأولى لأنه يقول (سعى ثلاثاً ومشى أربعاً) فالحديث نص في تخصيص طواف القدوم وتخصيص الأشواط الثلاثة فإذاً لا يشرع ولا يسن أن يستمر الإنسان في الرمل إلى نهاية الطواف. * * مسألة / فإن لم يستطع أن يأتي بهذه السنة إلا بالابتعاد عن الكعبة: = فمن الفقهاء من قال: القرب من الكعبة أولى من هذه السنة. - لأن الطواف إنما كان حول الكعبة لتعظيم الكعبة. وكلما قرب الإنسان من الكعبة كان أولى في الإتيان بمعنى الطواف. - كما استدلوا: بفتاوى لبعض التابعين. وليست بدليل. - الفتوى من التابعي ليست بدليل - لكن اعتاد أهل العلم أن يذكروا في سياق إثبات الحكم الفتاوى التي تأتي عن التابعين. = والقول الثاني: أنه يأتي بالسنة ولو كان بعيداً عن الكعبة ولو أد الإتيان بالسنة إلى البعد عن الكعبة. - للقاعدة المشهورة أن السنة المتعلقة بذات العبادة أولى ومقدمة على السنة التي تتعلق بمكان العبادة. وهذا القول الثاني هو الصحيح. - ثم قال - رحمه الله -: يستلم الحجر والركن اليماني كل مرة. - ثبت في صحيح مسلم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يستلم الحجر الأسود والحجر اليماني. وهذا يدل بمفهومه أن الركنين الشاميين لا يشرع للإنسان أن يستلمهما. وأطبق أهل العلم واستقر الأمر على هذا وهو أنه لا يستلم من البيت إلا الحجر الأسود والركن اليماني، إلا أن الركن اليماني يشرع الاستلام فيه دون التقبيل. لأنه لم يأت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - فيه إلا الاستلام دون التقبيل، كذلك لا يشرع في الحجر اليماني الإشارة إذا لم يستطع الإنسان أن يستلم، وتبين من هذا أن مرتبة الحجر اليماني بالنسبة للاستلام والتقبيل وغيره مرتبة واحدة وهي الاستلام فقط فإن استطاع أن يستلم وإلا ينصرف. والسنة: أنه إذا استلم الحجر اليماني يدعو فيقول: (ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار)، وهذا ثابت في حديث عطاء بن السائب - رضي الله عنه - وهو حديث صحيح ثابت.

ولا يشرع بين الركنين أن يدعو بأي دعاء آخر على سبيل التعيين والقصد، وله أن يدعو بما شاء على سبيل الدعاء المطلق، كذلك: لا يشرع أنه يدعو الإنسان بين الحجر الأسود والركن اليماني. ونحن تحدثنا عن الدعاء بين الركن اليماني والحجر الأسود - الآن لا يشرع له أن يدعو بدعاء معين بين الحجر الأسود والركن اليماني. يعني: تكملة الدورة فلا يشرع في هذا أن يتقصد دعاء معيناً فإن تقصد دعاء معيناً رأى أنه خاص بهذا المكان فإنه مبتدع وإن دعا بدعاء عام فهذا هو الواجب، وينبغي للإنسان أن لا يطوف وهو صامت فإما أن يدعو أو أن يقرأ القرآن لأن هذا مكان عبادة وخضوع يناسب أن يبتهل الإنسان إلى الله فيه إما بالدعاء أو بقراءة القرآن غير المعين والمقصود وإنما بدعاء عام مطلق. - ثم قال - رحمه الله -: ومن ترك شيئاً من الطواف ... لم يصح. من ترك شيئاً من الطواف ولو يسيراً فإن الطواف باطل. والدليل على هذا: - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - استغرق في طوافه ما بين الحجر الأسود إلى الحجر الأسود ولم يترك منه شيئاً، فإذا نقص الإنسان عن هذا المقدار فقد عمل عملاً ليس عليه أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - فيبطل طوافه. - ثم قال - رحمه الله -: أو لم ينوه ... إذا طاف الإنسان بلا نية: فطوافه: = عند الحنابلة غير صحيح. والطواف بلا نية ينقسم إلى قسمين: - القسم الأول: أن يطوف بلا نية مطلقاً. كمن يطوف حول الكعبة بقصد إتباع رجل من الرجال أو لحاقه لأي سبب من الأسباب، فهذا لاشك أن طوافه باطل ولا يعتبر طوافاً ولو كان محرماً، ولو كان بصدد أن يطوف للعمرة أو للقدوم، لأنه لم ينو الطواف مطلقاً وإنما نوى أن يتبع هذا الرجل، وهذا قد يقع اليوم كثيراً فيمن تطوف أو يطوف للبحث عن طفل فهذا الطواف لا يجزئ لأنه إنما يطوف حول الكعبة لكن بقصد البحث عن طفل لا بقصد التعبد لله بالدوران حول الكعبة. - القسم الثاني: أن يطوف ناوياً الطواف العام بلا تخصيص فلم ينو أنه طواف قدوم أو طواف إفاضة أو طواف نفل وإنما يطوف طوافاً عاماً: = فعلى المذهب لا يصح أيضاً. - لقول النبي - صلى الله عليه وسلم - (إنما الإعمال بالنيات).

= والقول الثاني: أن الطواف مع وجود نية التعبد لله صحيح ولو لم ينو العبادة المخصصة، ويكتفى بالنية العامة لعبادة الحج. - قياساً على من ركع وسجد وقرأ في الصلاة بنية الصلاة العامة بدون أن ينو أنه سيركع الآن أو سيسجد الآن فنكتفي بنية الصلاة العامة وهي تغني عن النية الخاصة لمفردات وأجزاء العبادة. والأحوط: القول الأول. وينبغي للإنسان إذا أراد أن يطوف أن يعلم أنه سيطوف قدوماً أو عمرة أو حجاً أو إفاضة فيحدد ما الذي سيطوف الآن، والسبب أن بين الصلاة والحج فروقاً منها: أن الصلاة وقتها قصير ومجتمع بخلاف الحج فهو متباعد وأعماله كثيرة فقد ينسى الإنسان أن يستحضر نية خاصة للعبادة الجزئية داخل الحج، ولذلك الأحوط لاشك أن الإنسان إذا أراد أن يطوف أن يعين نوع الطواف، والغالب على المسلمين الآن أنهم يطوفون بتعيين هذه النية. - ثم قال - رحمه الله -: أو نكسه. تنكيس الطواف هو أن يجعل الكعبة عن يمينه، فإذا جعل الكعبة عن يمينه وطاف سبعة أشواط فإن الطواف باطل، والسبب: أن هذا الطواف مخالف لسنة النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو ابتداع في هيئة وصفة الطواف، وهذا بحث نظري. وهو بحث نظري من وجهين: - الوجه الأول: أنه لا يقع. فلم نر أحداً فعله ولا من الجهال، لأنه يرى الطواف الصحيح يجري أمامه فيجري معه. - والوجه الثاني: هو طواف نظري من حيث: عدم المقدرة. فإن الإنسان بالكاد يستطيع الطواف الآن فكيف بمن يطوف بالعكس. فهو نظري من هذين الوجهين. وعلى كل حال إن طاف فطوافه باطل. يقول هنا (أو نكسه) وفي نسخة: (نسكه). ونحن شرحنا النسخة المعتمدة (أو نكسه) أما على النسخة الثانية (نسكه) يعني أو لم ينو نسكه بأن أحرم إحراماً مطلقا ولم يعين قبل أن يبدأ بالطواف: فهذا الطواف باطل وملغى لأنه لا يوجد شيء يبني عليه باقي نسكه لأن هذا الطواف لم يعين فيه نسكاً معيناً. وهذا صحيح أنه إذا أحرم إحراماً مطلقاً ولم يعين قبل أن يبدأ بالطواف فإن هذا الطواف لا يصح.

وهذا يقع اليوم كثيراً من الجهال فإذا جاء الحاج إلى الميقات تجد أنه لا يعرف الأنساك الثلاثة ولا كيفية الأنساك فيحرم بالحج إحراماً مطلقاً لا يعين لا الإفراد ولا التمتع ولا القران ثم يأتي ويطوف قبل أن يحدد فمثل هذا طوافه لا يصح إلا أنه إذا كان الإنسان لما أحرم يقول أنا أحرمت بالحج أقصد الحج فحينئذ يعتبر مفرداً. لكن إذا أحرم إحراماً مطلقاً ولم يعين شيئاً تقول له: هل تقصد أنك معتمر أو حاج أو حاج ومعتمر؟ ويقول لم أقصد شيئاً فهذا يجب أن يعيد الطواف أما إذا قال أنا أقصد الحج ولا أقصد شيئاً آخر فهذا مفرد ولا إشكال فيه. - ثم قال - رحمه الله -: أو طاف على الشاذَروان. فإنه لا يصح طوافه، لأن هذا الجزء يعتبر من الكعبة، والشاذروان هو: الجزء الزائد في أصل الكعبة، وهو معروف، وكان هذا الجزء مربعاً بحي يستطيع الإنسان أن يطوف عليه ثم إن الذين بنوه فلا أدري هل هي الحكومة السعودية وفقها الله أو الذين قبلهم بنوه مائلاً بحيث لا يستطيع الإنسان أن يمشي عليه وبهذا انتهت هذه المشكلة من أصلها وهي أنه لا يستطيع الإنسان أن يطوف أصلاً وملاحظ الآن أنه مائل وبالإضافة إلى أنه مائل أيضاً هو ناعم فلا أحد يستطيع أن يطوف على هذا الجدار لأنه يتعذر على الإنسان المشي عليه إلا إنسان يتكلف أن يمشي عليه متكأ على من بجواره وهذا تكلف ولا أظنه يقع الآن، المهم: أنه إذا طاف الإنسان على هذا الشاذروان فطوافه لا يصح. = والقول الثاني: أن الطواف عليه صحيح ويجزئ وأنه ليس من الكعبة ولا يدخل في مسماها وإنما وضعه من وضعه دعامة لجدار الكعبة. وهذا القول فيه وجاهة لأن الظاهر أن الكعبة هي الكعبة المربعة بدون هذه الزوائد لكن في الحقيقة الترجيح في هذه المسألة يستدعي أولاً معرفة تاريخ البناء وهل هذا الجزء هو من مسمى البيت الكعبة أو أنه ليس من مسمى البيت. فالترجيح في هذه المسألة يرجع إلى معرفة بناء الكعبة وما الذي يدخل فيه وما الذي يخرج منه. - ثم قال - رحمه الله -: أو جدار الحِجر. - لأن الحجر من الكعبة. فإذا طاف عليه الإنسان فقد طاف في الكعبة وليس حول الكعبة، والواجب الطواف حول الكعبة ولذلك يكون طوافه باطلاً وعليه أن يعيد.

- فإن علم أثناء الطواف أعاد هذا الشوط فقط. - وإن علم فيما بعد أعاد الطواف كاملاً. - ثم قال - رحمه الله -: أو عريان. إذا طاف الإنسان عرياناً: فإن الطواف لا يصح: - لما رواه ابن عباس - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (الطواف بالبيت صلاة إلا أن الله أباح فيه الكلام). - ولأن النبي - صلى الله عليه وسلم - أرسل أبا بكر الصديق - رضي الله عنه - وأمره أن يأمر الناس أن لا يطوف بالبيت عريان ولا مشرك. فهذان دليلان على بطلان طواف من طاف بلا سترة. - ثم قال - رحمه الله -: أو نجس: لم يصح. إذا طاف الإنسان نجساً فطوافه باطل. والدليل على هذا: - الحديث السابق: (أن الطواف بالبيت صلاة). - وأيضاً أن الطواف للمتنجس ربما يؤدي إلى تنجيس المسجد والله تعالى أمر بتطهيره للطائفين. = والقول الثاني: أن الطواف طاهراً بلا نجاسة ليس شرطاً في الصحة فإذا طاف وهو متنجس فالطواف صحيح. واستدل هؤلاء: - بأنه لا يوجد دليل على اشتراط على اشتراط الطهارة من النجاسة في الطواف، وهذا الحديث لا يصح مرفوعاً إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -. وهذا القول هو الصواب: والحاجة إلى مثل هذه المسألة كثيرة فإنه قد يطوف الإنسان وعليه نجاسة إما عالماً بها ولم يتمكن من الغسل أو أن لا يعلم بها، فقد يكون الإنسان تنجس إحرامه بالدم بسبب جرح أو غيره وعلم به ولا يتسنى له ولا يتهيأ أن يغسل هذه النجاسة قبل أن يطوف، فعلى الصحيح إن شاء الله أن طوافه صحيح، وعلى المذهب عليه أن يعيد. - ثم قال - رحمه الله -: ثم يصلي ركعتين خلف المقام - يستحب للإنسان أن يصلي ركعتين خلف مقام إبراهيم - صلى الله عليه وسلم -. - لقوله تعالى: (وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى). - ولما تواتر في الأحاديث الصحيحة أن النبي صلى الله عليه وسلم - لما طاف ذهب إلى المقام وصلى خلفه ركعتين. = والجمهور على أن الركعتين: سنة. - لعدم الدليل على الوجوب. = والقول الثاني: أن الركعتين واجبتان إذا كان الطواف في نسك واجب. وسنة إذا كان الطواف لنسك مسنون. = والقول الثالث: أن ركعتي الطواف واجبة مطلقاً. وإلى هذا القول مال الفقيه ابن مفلح - رحمه الله -.

واستدل هؤلاء: - بقوله تعالى) وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى (. فالآية فيها الأمر الصريح. - كما أنه لا يحفظ عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ولا عن أحد من أصحابه مطلقاً أنه طاف بلا صلاة. وهذا القول هو الراجح بالنسبة لي بلا إشكال. لوضوح النصوص الآمرة به ولأن هذه صلاة معتبرة مقصودة من النسك فكيف نقول أنها سنة، فالأقرب ما اختاره ابن مفلح وه, وجوب ركعتي الطواف. المسألة الأخيرة: إذا ترك الصلاة خلف المقام فيجوز له أن يصليها في أي مكان من مسجد الكعبة ويجوز له أن يصليها في أي مكان من الحرم ويجوز له أن يصليها في الحل. - لأن أمير المؤمنين عمر - رضي الله عنه - لم يصل إلا بذي طوى. وفي هذه المسائل خلاف لكن هذا هو الراجح الذي تعضده الآثار عن أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه يجوز أن يصلي الركعتين في أي مكان من الحل أو الحرم.

شرح كتاب المناسك الدرس رقم (10) قال شيخنا حفظه الله: بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين. انتهى الكلام بنا في الدرس السابق إلى نهاية الطواف، ثم بدأ المؤلف - رحمه الله - بالكلام عن ما يتعلق بالسعي: - فقال - رحمه الله -: ثم يستلم الحجر. - ثبت في صحيح مسلم عن جابر - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما انتهى من ركعتي الطواف استلم الحجر قبل أن يذهب إلى الصفا. فهذه سنة ثابتة في صحيح مسلم لا إشكال فيها، لكن اختلف الفقهاء: هل هذه السنة تختص بطواف القدوم أو هي عامة لكل طواف أو تختص بشيء ثالث؟ على قولين: = القول الأول: الذي عليه الجمهور أن الرجوع إلى الحجر لاستلامه بعد صلاة ركعتي الطواف إنما يشرع فقط بعد طواف القدوم فقط، إلى هذا ذهب النووي - رحمه الله - وغيره من أهل العلم. = القول الثاني: أنه يشرع بعد كل طواف بعده سعي.

والصحيح القول الأول، وهو أنه مشروع بعد طواف القدوم فقط، وهذه السنة: سنة مهجورة. ولا أقصد أنها مهجورة بسبب الزحام بل حتى في أيام السعة قل أن تجد أحداً يصلي ركعتي الطواف ثم يذهب ليستلم الحجر مع أنها سنة ثابتة. - ثم قال - رحمه الله -: ويخرج إلى الصفا من بابه: فيرقاه حتى يرى البيت. - ثبت أيضاً في حديث جابر - رضي الله عنه - في مسلم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما انتهى من الطواف خرج إلى الصفا من بابه فلما دنى قرأ - (إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ) -[البقرة/158] أبدأ بما بدأ الله به ثم رقى الصفا واستقبل القبلة ووحد الله وكبره. فاشتمل الحديث على السنن التي ذكرها المؤلف - رحمه الله -.وهي: - الصعود على الجبل. - واستقبال القبلة. - والتوحيد. – والتكبير، وهذه الأشياء كلها سنن. فإن فعلها فقد اتبع النبي - صلى الله عليه وسلم - وإن تركها فقد ترك سنة لا حرج عليه فيها، إلا أن كثيراً من الفقهاء أو الجماهير منهم ولم أقف على خلاف وأيضاً لم أقف على حكاية إجماع أن سنة صعود الجبل خاصة بالرجال، وأما باقي السنن فهي عامة للرجل وللمرأة. - قال - رحمه الله -: ويكبر ثلاثاً. في مسلم: وحد الله وكبره وذكر بعضهم أن الإمام أحمد زاد في مسنده: وحد الله وكبره ثلاثاً. واستدلوا بهذه الزيادة على أن التكبير عند الصفا ثلاثاً، واجتهدت أن أجد هذه الفظة في مسند الإمام أحمد فلم أجدها من خلال البحث اليدوي وغير اليدوي لم أجد هذه اللفظة في مسند الإمام أحمد، ويغلب على ظني أنها لا تثبت وأنها من الزيادات الشاذة، لكن الإشكال هو أني لم أجد هذه اللفظة حتى ينظر الإنسان في الإسناد ويحكم عليها بما يقتضيه من حيث الشذوذ لكن بداية فإن مسلماً تركها ولم يذكرها وهذا بحد ذاته يشعر الإنسان أنه هذه الزيادة تفرد بها راوي مما يشير إلى شذوذها وضعفها. - ثم قال - رحمه الله -: ويقول ما ورد.

الذي ورد هو قول النبي - صلى الله عليه وسلم - (لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كي شيء قدير، لا إله إلا الله أنجز وعده ونصر عبده وهزم الأحزاب وحده) فهذا الذكر مشروع ويقال على الصفا، ولا أعلم في السنة ذكر خاص يقال عند الصفا سوى هذا الذكر، والنبي - صلى الله عليه وسلم - ذكر هذا الدعاء ثم دعا الله بدعاء عام ثم كرر هذا الدعاء ثم دعا دعاء عاماً ثم كرر هذا الدعاء فعل ذلك ثلاثاً، ومعنى هذا أن هذا الدعاء سيكرر ثلاثاً والدعاء العام سيكون مرتين، هذا ظاهر السنة أن الإنسان يصنع هذا العمل إذا كان على الصفا. - ثم قال - رحمه الله -: ثم ينزل ماشياً إلى العلم الأول، ثم يسعى شديداً إلى الآخر، ثم يمشي. أفادنا المؤلف - رحمه الله - بأمرين: - الأمر الأول: أن السنة بين العلمين: هي السعي الشديد. - والأمر الثاني: أن السن فيما عدا ذلك أن يمشي بهدوء. والأمران مسنونان. والدليل على السعي: - أن جابر - رضي الله عنه - قال: فلما انصبت قدماه في بطن الوادي سعى - صلى الله عليه وسلم -. واختلف العلماء: متى يبدأ السعي: = فالمذهب أنه يبدأ بالسعي الشديد قبل العلم بستة أذرع. = والقول الثاني: وهي منصوص الإمام أحمد رحمه الله أنه من العلم إلى العلم فقط ولا يبدأ قبل العلم بستة أذرع. والراجح إن شاء الله أنه من العلم إلى العلم، قال الإمام أحمد - رحمه الله -: السعي من العلم إلى العلم، ولا أدري ما هو دليل الحنابلة فقد بحثت لهم عن دليل: لماذا يرون أن الإنسان يتقدم قبل العلم بستة أذرع؟ فلم أجد لهم دليلاً وهم لم يذكروا دليلاً لكن لعلهم يستدلون بهذا الوادي أنه لما انصبت قدماه في بطن الوادي فلعلهم يرون أنه لن يتمكن الإنسان من السعي الشديد إلا إذا تقدم وسعى بقوة قبل أن يصل إلى العلم حتى يستكمل المسافة التي بين العلمين اجتهاداً وسعياً فربما هم يستدلون بهذا، على كل حال: الأمر على ما قال الإمام أحمد - رحمه الله - أنه من العلم إلى العلم. - ثم قال - رحمه الله -: ويرقى المروة ويقول ما قاله على الصفا.

يصنع عل المروة كما صنع على الصفا وظاهر الحديث أنه بما في ذلك قراءة الآية (إن الصفا والمروة). في أول مرة. - لقول جابر - رضي الله عنه -: وصنع على المروة كما صنع على الصفا. فالسنن المذكورة على جبل الصفا تفعل على المروة. - ثم قال - رحمه الله -: ثم ينزل فيمشي في موضع مشيه ويسعى في موضع سعيه إلى الصفا. وهذا واضح. والدليل عليه: - ما نقل عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه سعى على هذه الصفة. فما كان يصنع من الصفا إلى المروة هو نفس الشيء الذي يصنعه من المروة إلى الصفا تماماً. فالدليل على التشابه هو السنة. - ثم قال - رحمه الله -: يفعل ذلك سبعاً: ذهابه سعية ورجوعه سعية. = ذهب الجماهير من أهل العلم وحكاه بعض الفقهاء إجماع العلماء أن الذهاب يعتبر واحدة والإياب واحدة. = والقول الثاني: وهو لبعض الشافعية ونقل عن ابن جرير - رحمه الله - أن الذهاب والإياب واحدة. قال ابن قدامة - رحمه الله - معلقاً على هذا القول: (وهذا خطأ) لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - لو كان ذهابه وإيابه واحدة لانتهى بالصفا وهو - صلى الله عليه وسلم - انتهى في الصحيحين بالمروة، فدل انتهاؤه بالمروة على أن هذا القول كما قال ابن قدامة: خطأ، ثم هذا القول ترك: وربما نقول حصل الإجماع على خلافه. - ثم قال - رحمه الله -: فإن بدأ بالمروة: سقط الشوط الأول. إن بدأ بالمروة سقط الشوط الأول. لأن الواجب أن يبدأ بالصفا. - - لقوله - صلى الله عليه وسلم -: (أبدأ بما بدأ الله به). ذوفي لفظ: (نبدأ). وفي لفظ (ابدأوا) وهذه الألفاظ كلها تدل على وجوب البداية بالصفا، فإذا خالف وبدأ بالمروة فإن هذا الشوط يسقط ويستأنف بداية جديدة من الصفا. - ثم قال - رحمه الله -: - مبيناً السنن - وتسن فيه: الطهارة. الطهارة من سنن السعي ليؤدي العبادة على طهارة وليست من الواجبات بإجماع العلماء. - لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال لعائشة - رضي الله عنها - (افعلي ما يفعل الحاج غير أن لا تطوفي بالبيت). وإذا كانت الحائض يجوز لها أن تسعى ففي هذا دليل على أنه يجوز لمن لم يكن على طهارة أن يسعى ولا يعتبر من شروط السعي كما يقوله الجمهور في الطواف.

هذا الحكم بالنسبة للطهارة الصغرى لا إشكال فيه مطلقاً. فإذا لم يكن الإنسان على طهارة بأن أحدث حدثاً أصغر فلا إشكال في صحة السعي مطلقاً، وفي القديم قبل أن يوسع الحرم هذه التوسعة لما كان المسعى خارج الحرم وكان الناس يخرجون من باب الحرم ويدخلون في باب المسعى في ذلك الوقت لا إشكال أيضاً في هذا الحكم وهو أن الطهارة من الحدث الأكبر والأصغر سنة، لكن الإشكال: والذي يحتاج إلى وقفة وتحرير وأنا أذكره الآن مذاكرة لأنها مسألة تحتاج إلى وقت أكبر: أن الفقهاء - رحمهم الله - يرون أن النبي - صلى الله عليه وسلم - منع الحائض من الطواف. ثم اختلفوا في ما هو السبب في المنع: = فمن العلماء من قال: أن سبب المنع هو أنها ليست على طهارة وأن الطواف بذاته من شروطه الطهارة. = ومن العلماء من قال: بل السبب في منع الحائض من الطواف هو أنه فقط أنه لا يجوز لها أن تدخل المسجد. وإلى هذا القول الثاني ذهب شيخ الإسلام - رحمه الله - فإنه يرى أن سبب المنع هو تحريم دخول الحائض للمسجد والمنع من ذات الطواف لمن لم تكن طاهرة. فإذا كان السبب في منع الحائض من الطواف هو دخول المسجد نأتي إلى البحث الآخر: هل المسعى الآن يعتبر ضمن حدود المسجد ودخل في حكم المسجد الآن من حيث الصلاة واتصال الصفوف ودخول الحائض ومن حيث جميع الأحكام أو إلى الآن لا يعتبر من المسجد؟ هذه المسألة أيضاً: الثانية محل خلاف: = فمن الفقهاء المعاصرين من يرى أن المسعى إلى الآن لم يدخل المسجد فبناءً عليه يجوز للحائض أن تسعى ولا يأخذ أحكام المسجد فمن دخل إلى المسعى مباشرة لا يجب عليه أن يصلي تحية المسجد ويجوز للحائض التي يصلي أهلها في المسجد أن تمكث في المسعى، ويترتب على هذا أحكام كثيرة، والمهم أنه ليس من المسجد. =والقول الثاني: أن المسعى الآن من المسجد. وأن الجدار الفاصل بين المسعى والسرحة الخلفية يدل على أن المسعى من ضمن حدود المسجد. كما أن التوسعة الخلفية للمسجد التي تلي المسعى دلت على أن المسعى دخل ضمن المسجد.

والترجيح في هذه المسألة يحتاج إلى نظر أكثر وتأني واستفسار من القائمين على المسجد هل هم يرون أن التوسعة التي من قبل المسعى توسعة ضمن المسجد؟ وهذا هو الظاهر أو لا يرون ذلك، والمهم هو أن الترجيح في هذه المسألة يحتاج كما قلت لكم إلى مزيد عناية وتأمل وتأني لكثرة ما يترب عليها من أحكام، لكن الذي يظهر لي بداية وأميل إليه الآن ويحتاج - كما قلت - إلى تحرير أنه من المسجد، بدليل أن الناس يصلون في التوسعة ولو لم تتصل الصفوف، وبدليل أن البناء الخاص بالتوسعة يشبه الخاص بالمسجد مما يدل على أنهم أرادوا أن يكون من المسجد توسعة على المصلين وحتى يتسع لهم في المواسم، وإذا كانت التوسعة من المسجد فمن باب أولى أن المسعى يكون من المسجد، فالذي يظهر الآن أن المسعى من المسجد، وكما قلت لكم: أنه يترتب عليه مسائل كثيرة جداً فيحتاج إلى نظر آخر وتلمس لأدلة أخرى. - ثم قال - رحمه الله -: والستارة. يعني: ليس من شروط صحة السعي أن يستر الإنسان عورته، بل هو مستحب، وستر العورة واجب من حيث هو لكن هو الآن يتكلم عنه في السعي. واستدلوا على عدم اشتراط السترة في السعي: - بأنه إذا سقط شرط الطهارة وهو أعظم فالستر من باب أولى أن يسقط. - ثم قال - رحمه الله -: والموالاة. الموالاة بين أشواط السعي، عند المؤلف سنة، = والمذهب أنه شرط لصحة السعي، فالمؤلف - رحمه الله - خالف المذهب في هذه المسألة. واستدل الحنابلة على اشتراط الموالاة: - بالقياس على الطواف فقط. = والقول الثاني: وهو مروي عن الإمام أحمد - رحمه الله - أنه سنة كما قال المؤلف - رحمه الله -. قال الإمام أحمد: السعي أهون. يعني من الطواف. ودليلهم: - أنه لا يوجد في النصوص نص واضح على وجوب الموالاة بين أشواط السعي. هذا أولاً. - وثانياً: أنه ثبت عن ابنة ابن عمر أنها سعت في ثلاثة أيام لأنها كانت امرأة ثقيلة لم تتمكن من السعي المتواصل فكانت تسعى القدر الذي تستطيعه ثم تذهب للراحة وترجع واستمرت هكذا لمدة ثلاثة أيام حتى أتمت السعي. وفي هذا دليل على أنه لا تشترط له الموالاة. لا سيما وأنه لم ينقل عن المعاصرين لها الإنكار عليه رضي الله عنها.

* * مسألة/ هل تشترط الموالاة بين الطواف والسعي؟ وبعبارة أخرى: هل يشترط أن يقع السعي بعد الطواف؟ = ذهب الجماهير من أهل العلم. بل حكاه الماوردي - رحمه الله - إجماع أهل العلم: إلى أن السعي لا يصح إلا إذا كان بعد الطواف. مطلقاً في العمرة والحج. = والقول الثاني: أن هذا لا يشترط مطلقاً لا في العمرة ولا في الحج. = والقول الثالث: وهو رواية عن الإمام أحمد - رحمه الله -: أنه شرط إلا للمعذور. والراجح: هو القول الأول المحكي أجماعاً. وأن من سعى قبل أن يطوف فإن سعيه لا يجوز. لكن نحتاج إلى تأني في فهم هذا القول: لذلك سنورد إيراداً ليتضح هذا القول: - فإن قيل: إن النبي - صلى الله عليه وسلم - سأل يوم العيد عن رجل سعى قبل أن يطوف فقال: (افعل ولا حرج). فالجواب: أن هذا السعي الذي وقع يوم العيد تقدمه طواف وهو طواف القدوم أو طواف العمرة، وبهذا أجاب الخطابي والنووي عن هذا الحديث وهو جواب صحيح، وبهذا نعلم أنه يجب لمن أراد أن يفتي بجواز تقديم السعي على الطواف يوم العيد أن يعلم أن هذا مشروط بأن يتقدم هذا السعي طواف ولو قبل يوم العيد كما قال الأئمة، وأن ما يذكره بعض الفقهاء من أن تقديم السعي على الطواف يجوز وأن هذا الجواز خاص بيوم العيد ليس بصحيح، إذاً هذا الجواز لا يتعلق بيوم العيد وإنما سببه أن هذا السعي تقدمه في الأصل طواف، ولذلك لابد أن ينتبه الإنسان إلى أن الحجاج الذين يأتون إلى منى أو عرفة مباشرة ولا يتقدم يوم العيد لهم أي طواف ولا عمرة أنه لا يجوز لهم أن يقدموا السعي وأن هذا الجواز خاص بمن تقدم منه الطواف قبل يوم العيد، فهذه مسألة يجب أن ينتبه إليها طالب العلم ويفهمها وينبه الذين يقدمون السعي على الطواف بدون تقديم طواف لأن السعي سيأتينا أنه ركن من أركان الحج وأن من صنع ذلك ثم رجع إلى أهله يجب عيه أن يأتي ويسعى وأنه لم يتحلل التحلل الكامل إلى الآن، ولذلك مسائل الحج بعضها ينبني على بعض ويجب أن ينتبه الحاج إلى هذا التسلسل حتى لا يقع في نسك خطأ. ((سؤال: لو أن إنساناً ذهب من الصفا إلى المروة ثم رجع مع نفس طريقه فهل هذا يعتبر إخلال؟

الجواب: لا يعتبر إخلالاً لأن الواجب هو أن يسعى بين الصفا والمروة أما الذهاب والإياب الموجود الآن فهو محدث وضعوه أخيراً لتسهيل الزحام فلو أن الإنسان ذهب مع الإياب ورجع مع الذهاب لصح نسكه. * * مسألة أخرى/ وهي الواجب الذي يتأدى به هذا ركن (السعي) هو: أن يستكمل ما بين الجبلين ذهاباً وإياباً، وهذا يؤكد ما قلته لكم أن الصعود عل الجبل سنة ولو أنه سعى ما بين الجبلين بدون صعود على الجبل لكان سعيه صحيحاً، قال شيخنا - رحمه الله -: والواجب الآن يتوافق مع ممر العربات، وهذا كلام جيد منه - رحمه الله - يسهل المسألة ويوضح المقصود، فلو أن الإنسان بمجرد ما ينتهي من ممر العربات يعطف ويبدأ بالشوط الثاني لكان شوطه صحيحاً وكل ما فوق ذلك زيادة وهو من الجبل، إذاً عرفنا الآن حدود السعي. - ثم قال - رحمه الله -: ثم إن كان متمتعاً لا هدي معه: قصر من شعره وتحلل. أفادنا المؤلف - رحمه الله - أمرين: - الأول: أن السنة للمتمتع أن يقصر ولا يحلق ليبقى من شعره شيء لنسك الحج. وعلم من هذا أن الحاج لو أخذ العمرة في وقت مبكر وعلم أنه سينبت له من الشعر ما يقوم بنسك الحج فإن السنة له أن يحلق ولا يقصر، لكن عبارة المؤلف - رحمه الله - خرجت مخرج الغالب وهو: قرب نسك العمرة من نسك الحج عند كثير من الناس. - الثاني: أن المتمتع الذي لم يسق الهدي: السنة في حقه إذا طاف وسعى أن يحلق ويتحلل: - لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما أتم السعي وصار على المروة أمر أصحابه أن يقلبوا النسك إلى متعة. وتقدم معنا: هل هذا القلب واجب أو سنة؟ وأن الراجح: أنه سنة.

والنبي - صلى الله عليه وسلم - لما أمر أصحابه على المروة أن يتحللوا تحلل بعضهم وذهب النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى مكانه ثم تحدث الصحابة في استغرابهم من أن يأمروا بجعل هذا النسك عمرة وهم لا يعرفون العمرة في أشهر الحج وقد أتوا للحج. فبلغ النبي - صلى الله عليه وسلم - إما من أحد الصحابة أو أبلغه الله سبحانه وتعالى أن الصحابة صاروا يتحدثون ويستغربون من هذا الأمر وأن بعضهم لم يمتثل الامتثال الكامل فخرج النبي - صلى الله عليه وسلم - وخطبهم. وأمرهم وشدد عليهم أن يتحللوا فتحلل كل الصحابة الذين لم يسوقوا الهدي. ولهذا نقول كما قال المؤلف: أن السنة أن الإنسان إذا طاف وسعى ولم يسق الهدي أن ينوي هذا النسك عمرة إذا لم ينوه ويقصر ويتحلل. - ثم قال - رحمه الله -: وإلاّ حلّ إذا حج. (وإلا) أي: وإلا يكن متمتعاً بأن كان مفرداً أو قارناً أو كان متمتعاً لكنه ساق الهدي فهؤلاء الثلاثة كلهم لا يحلون إلا بعد الحج، أي إلا بعد استكمال المناسك ورمي جمرة العقبة كما سيأتينا، إذاً: السنة للقارن والمفرد والمتمتع إذا ساق الهدي أن لا يحلوا إلا بعد رمي جمرة العقبة. وهذا معنى قول الشيخ (إذا حج). - ثم قال - رحمه الله -: والمتمتع إذا شرع في الطواف: قطع التلبية. المتمتع إذا شرع في الطواف قطع التلبية أي ولا يشرع أن يقطع التلبية قبل ذلك. واستدلوا على هذا: - بأنه مروي بإسناد صحيح عن ابن عباس - رضي الله عنه -. واستدلوا بدليل آخر وهو: - أن من تتبع المناسك علم أن التبية تنقطع إذا أخذ الحاج في التحلل. بدليل: أن الحاج أيضاً يقطع التلبية إذا رمى جمرة العقبة يعني إذا بدأ في التحلل فكذلك بالنسبة للمتمتع إذا شرع في طواف العمرة فقد شرع في التحلل فيشرع له أن يقطع التلبية. وكل هذه التعليلات تعليلات قوية وتفيد أن من علل بها قد استند على مقصود الشارع. = القول الثاني: أن الإنسان يقطع التلبية من حين يدخل حدود الحرم. وليس الحرم الذي هو المسجد. واستدلوا على هذا: - بأن ابن عمر ثبت عنه في الصحيح أنه كان يقطع التلبية إذا دخل الحرم ويقول: كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يصنع ذلك.

باب صفة الحج والعمرة

وفي الترجيح بين القولين إشكال والخلاف قوي لأن كلاً من القولين معه دليل وجيه ويصلح للاستناد إليه، فالترجيح فيه إشكال، وليس في هذه المسألة احتياط. فلو أن الإنسان قال: سأحتاط وأستمر في التلبية إلى أن أبدأ بالطواف أو أن أدخل المسجد الحرام فهذا عند أصحاب القول الثاني يكون قد خالف السنة لأن تلبيته من حدود الحرم إلى دخول المسجد تلبية خلاف السنة عند أصحاب القول الثاني، فليس في هذه المسألة احتياط لأن الحقيقة الخلاف فيها قوي. باب صفة الحج والعمرة - يقول - رحمه الله -: باب صفة الحج والعمرة يعني: باب يذكر فيه تفصيل صفة الحج والعمرة، وهذا الباب يعتبر أهم الأبواب، وكما قلنا في باب صفة الصلاة نقول في هذا الباب: أنه خلاصة فقه كتاب الحج. - ثم قال - رحمه الله -: يسن للمحلين بمكة: الإحرام بالحج يوم التروية. يسن للمحلين: أي المتمتعين، أن يحرموا بالحج يوم التروية. - لقول جابر - رضي الله عنه -: فلما كان يوم التروية أهلوا من الأبطح أو من البطحاء. وهو المكان الذي يسمى الآن المعابدة وهو مكان معروف وفي ذلك المكان نزل النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه وأحرموا بالحج منه. - قال - رحمه الله -: الإحرام بالحج يوم التروية قبل الزوال. إذاً: يسن أن يحرموا بالحج في هذا اليوم وأن يكون الإحرام قبل الزوال. والدليل على هذا: - أن أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - أحرموا بالحج وذهبوا إلى منى وصلوا فيها الظهر. وهذا دليل على أنهم أحرموا في الضحى قبل الزوال لأنهم صلوا في منى محرمين إذاً لاشك أنهم تقدم الإحرام بالنسبة لهم في ضحى هذا اليوم الثامن. لكن في أي وقت من الضحى؟ ليس في السنة شيء واضح وهو أمر فيه سعة: من طلوع الشمس إلى قبيل الزوال فكل هذا وقت إحرام. - ثم قال - رحمه الله -: منها. يعني: أن السنة لمن أراد أن يحرم أن يحرم من مكة، وهذا - أي استحباب الإحرام من مكة - بلا نزاع بين الحنابلة: - ليدرك فضل مكة بالإحرام منها. = والقول الثاني: أن السنة أن يحرم الإنسان حيث كان نازلاً. - لما ثبت في الأحاديث الصحيحة الثابتة أن أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - أحرموا من المكان الذي كانوا فيه نازلين وهو الأبطح.

وهذا اختيار شيخ الإسلام - رحمه الله - هو الذي تدل عليه النصوص، فإذاً السنة أن يحرم الإنسان في مكانه الذي هو نازل فيه في أي جهة من مكة، فالمشروع له أن يتقصد الإحرام من هذا المكان ليأتي بالسنة في هذا الأمر. - ثم قال - رحمه الله -: ويجزئ من بقية الحرم. يعني: وله أن يحرم من أي مكان من الحرم، ولا يختص الإحرام ببقعة معينة لا المسجد الحرام ولا غيره. = ويفهم من كلام المؤلف - رحمه الله - أن من أحرم خارج الحرم فإنه لا يجزئ إحرامه وعليه دم. - لأنه ترك واجباً وهو الإحرام من الحرم. = والقول الثاني: أن للإنسان أن يحرم بالحج في اليوم الثامن من أي مكان كان فيه من حل أو حرم. وهذا هو الصواب: - لأنه ليس في النصوص ما يدل مطلقاً على تعين الحرم للإحرام للحاج في اليوم الثامن بل النصوص مطلقة، فإذا أحرم من الحل أو من الحرم من قريب من مكة أو من بعيد منها فالأمر فيه سعة وهو جائز، بل ربما نقول أن الإنسان ينبغي أن يحرم من المكان الذي هو نازل فيه ولو كان خارج الحرم لأنا إذا رجحنا أن السنة أن يحرم الإنسان من المكان الذي هو نازل فيه فيستوي في هذا أن يكون الإنسان في الحرم أو خارج الحرم، فإذا نزل عند أقاربه في مكان خارج حدود الحرم فلا ينبغي له أن يتقصد الدخول للحرم والإحرام بل يحرم من مكانه ثم يأتي إلى إكمال المناسك. - ثم قال - رحمه الله -: ويبيت بمنى. يخرج الحاج إلى منى ويصلي فيها الظهر والعصر والمغرب والعشاء والفجر ويقصر هذه الصلوات بلا جمع فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - قصر فيها الصلاة بدون جمع. والمبيت في منى: = سنة عند الجماهير وحكى بعضهم الإجماع على: أن المبيت فيها سنة فإذا خرج الإنسان إلى عرفة مباشرة فإن حجه صحيح ولا يلزمه أي فدية، وهذا القول: وهو أن المبيت في منى سنة هو الصحيح إن شاء الله. = والقول الآخر: قد نقول إن فيه شذوذاً لأنه مخالف لفقه الصحابة والسلف والتابعين ومن بعدهم الذين أطبقوا على سنية المبيت في منى. - ثم قال - رحمه الله -: فإذا طلعت الشمس: سار إلى عرفة. ظاهر كلام المؤلف - رحمه الله - أن السنة للحاج إذا طلعت الشمس أن يذهب مباشرة إلى عرفة، وأنه لا يسن له أن ينزل في نمرة.

= والقول الثاني: أن النزول في هذا الوادي - نمرة - سنة مقصودة. فينبغي على الحاج إذا خرج أن ينزل في هذا الوادي. - لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - والخلفاء الراشدون كلهم نزلوا في هذا المكان. والأصل في أفعال النبي - صلى الله عليه وسلم - التأسي. ((الأذان)). وإذا كان النبي - صلى الله عليه وسلم - والخلفاء الذين لهم سنة متبعة - رضي الله عنهم - نزلوا في نمرة فهذا يدل دلالة واضحة جداً أن هذا أمر مقصود وسنة يجب أن تتبع وتفعل، هذا إذا تيسر: وكل سنن الحج إذا تيسر. لا سيما مع وجود الزحام فقد لا تتيسر بعض السنن بل قد يكون من الأنسب والأوفق شرعاً عدم فعل السنة إذا ترتب عليها ضرر أكثر على الآخرين أو على من أداها، لكن المقصود الآن تقرير السنن وأن هذه السنة وإن استطاع الإنسان أن يجلس ولو بجانب الطريق ولو في أي مكان في هذا الوادي فإنها سنة، وذكر بعض السلف أنه جرب أن من نزل في نمرة فإنه يشعر بالراحة الزائدة والانبساط وسعة الصدر وهذا ذكره بعض السلف وهذا أمر مجرب وربما يكون هذا صحيح ويكون هذا من ثمرات إتباع سنة النبي - صلى الله عليه وسلم -،ونترك باقي أبحاث عرفة للدرس القادم إن شاء الله. ((انتهى الدرس)).

من الأسئلة: - الموالاة بين الطواف والسعي: فيه خلاف. والراجح إن شاء الله أن الموالاة بينهما سنة. وأفتى الإمام أحمد رحمه الله بهذا مراراً، وأنه سنة إن والى بينهما فمستحب وإلا فلا حرج عليه. - لم يذكر في النصوص تماماً ماذا كان يصنع النبي - صلى الله عليه وسلم - في خيمته في نمرة. لكن الأصل أن هذه المناسك وهذه الأوقات مكان للدعاء والاستغفار، لكن قطعاً ليست في الدعاء كالدعاء الذي بعد الزوال وقصده بل يغلب عليها طابع الاستعداد لما بعد الزوال - التكبير: الظاهر أنه في كل شوط يكبر وليس في الشوط الأول (فقط). - الشرب من ماء زمزم: جاء فيه حديث وهو أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما استلم ذهب إلى ماء زمزم وشرب منه وفي بعض الروايات أنه أكثر من الشرب. لكن في الحقيقة لم أتمكن من النظر في إسناده هل هو ثابت أولا؟. هذا والله أعلم وصلى الله وسلم على نبينا محمد ...

شرح كتاب المناسك الدرس رقم (11) قال شيخنا حفظه الله: بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين. قبل درس أو درسين ذكرت لكم أنه لا يشرع للإنسان إذا رأى الكعبة أن يرفع يديه وأن جابر - رضي الله عنه - أنكر هذا الفعل وهذا كله صحيح. لكن أحضر لي اثنان من الطلبة فائدة: أن الترمذي أخرج في سننه أن جابر قال: كنا نفعله مع النبي - صلى الله عليه وسلم - مع أنه بوب للحديث بقوله: (لا يشرع رفع اليدين) فظهر بهذا أنه بين الترجمة - التبويب - وبين المتن تعارض كما أنه يخالف ما ذكرت من أن جابر نفى الرفع. وفي الحقيقة أن في هذه النسخة إشكال ثم لما رجعت لبعض النسخ الأخرى وجدت أنه سقط من المطبوعة حرف واحد وهو (همزة الاستفهام) التي للإنكار. وصواب العبارة: (أفكنا) وهي: كنا. فسقوط هذه الهمزة قلب المعنى رأساً على عقب ولذلك ذكرت هذه الفائدة حتى يعلم الإنسان أهمية العناية بتصحيح النسخ لما يترتب عليه من اختلاف المعنى. وتقدم معنى الكلام عن عرفة وأن النزول في نمرة مختلف فيه بين أهل العلم: فمنهم من قال سنة، ومنهم من قال هو منزل نزله النبي - صلى الله عليه وسلم - وذكرت أن أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - لا سيما الخلفاء كانوا ينزلون وأن الصواب أن النزول في هذا المكان سنة مقصودة لذاتها متى استطاع الإنسان أن يأتي بها، وتقدم معنا الحديث عن هذه المسألة وكانت هي آخر مسألة تحدثت عنها. - قال - رحمه الله -: فإذا طلعت الشمس: سار إلى عرفة. تقدم معنا أنه ترك ذكر النزول في نمرة، وظاهر كلام المؤلف - رحمه الله - أنه لا يشرع للإنسان أن يخرج إلى عرفة إلا في هذا الوقت. يعني: بعد طلوع الشمس، وعلم من كلامه - رحمه الله - أن الذهاب إلى عرفة ليلة عرفة أنه خلاف السنة، فإن كان ذهب إلى عرفة تعبداً فهو مبتدع، وإن كان ذهب إلى عرفة ليستعد أو ليأتي بأعمال تخصه فغاية ما هنالك أنه خالف السنة. - ثم قال - رحمه الله -: وكلها موقف إلاّ بطن عُرَنَة.

وادي عرنة: هو الوادي الذي يفصل بين عرفة ومزدلفة وهذا الوادي ليس من عرفة. - لقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: (كل عرفة موقف وارفعوا عن وادي عرنة - أو عن بطن عرنة). فهذا الوادي ليس بموقف إجماعاً. لكن اختلفوا في مسألة أخرى وهي: هل هذا الوادي من عرفة أو ليس من عرفة؟ = فمن الفقهاء من قال: هو من عرفة ولا يجزئ الوقوف فيه. - لأنه في هذا الحديث استثني من عرفة فهو منها. = ومنهم من قال: بل هو ليس من عرفة. وهذا الخلاف لا طائل تحته لأن الجميع يتفق على المسألة المهمة وهي: أن الوقوف في هذا الوادي لا يجزئ سواء اعتبرناه من عرفه أو لم نعتبره من عرفه. - ثم قال - رحمه الله -: ويسن أن يجمع بين الظهر والعصر. يسن للإمام وللناس أن يجمعوا الظهر والعصر جمع تقديم، ويصلي خلف الإمام: الآفاقي والمكي وكل حاج، ومسألة الجمع هذه - التي ذكرها المؤلف - رحمه الله -: حكي الإجماع حتى بالنسبة لأهل عرفة أنهم يجمعون خلف الإمام. والمسألة التي فيها خلاف: القصر. ولن نتحدث عنها الآن: إنما الذي يعنينا في سياق كلام المؤلف - رحمه الله – الجمع، والجمع: سنة وحكي الإجماع عليه، أما القصر ففيه خلاف والأقرب والله أعلم بالنسبة لعرفة أن المكي يقصر فيها ولعله تأتي مناسبة لذكر الخلاف في ذكر القصر بالذات، أما الجمع فلا إشكال فيه إن شاء الله، والسبب في أنه لا إشكال في الجمع وفيه إشكال في القصر: - أن الجمع متفق عليه. والقصر مختلف فيه. هذا أمر. - والأمر الآخر: أن القصر يتعلق بالسفر فقط. بينما الجمع يتعلق بوجود سبب ومن الأسباب في هذا الموقف العظيم أن يتفرغ الحاج لدعاء الله والابتهال إليه لئلا ينشغل بإقامة كل صلاة في وقتها. فهذا الجمع لا إشكال فيه من هاتين الجهتين: - الإجماع. - ووجود سبب. بخلاف القصر. - ثم قال - رحمه الله -: ويقف راكباً. يعني: أنه يستحب للإنسان في عشي عرفة أن يقف راكباً وهو أفضل من أن ينزل إلى الخيام ويجلس فيها. واستدل الحنابلة على هذا: - بأن النبي - صلى الله عليه وسلم - وقف راكباً. والظاهر من صنيعه أنه فعل ذلك قصداً. والأصل في أفعاله التأسي لا سيما في الحج. = والقول الثاني: أن الوقوف يستحب على الأرض لا راكباً.

واستدلوا على ذلك: - بأن هذا أهيأ للدعاء وأرفق بالدابة. = والقول الثالث: أن هذا يختلف باختلاف حال الشخص. فإن كان الشخص إذا ركب اقتدي به وانتفع بعمله أو كان الركوب أهيأ للراكب فهو حينئذ أفضل. وإن كان النزول أهيأ للحاج فهو أفضل، وهذا اختيار شيخ الإسلام - رحمه الله -، وشيخ الإسلام - رحمه الله - دائماً يحاول أن يوفق بين الأقوال ويجمع بينها لتنسجم الأدلة سواء كانت من النصوص أو من التعليلات، والقول بأن الوقوف راكباً سنة: قوي ووجيه. وهو الآن في وقتنا الحاضر متهيئ أكثر من السابق لسهولة الركوب والراحة التي يجدها الإنسان في السيارات هذا من جهة، ومن جهة أخرى: أن الراكب لاشك أنه ينقطع عن الاختلاط ويتفرغ للعبادة والابتهال أكثر منه مختلطاً مع الناس في المخيم، فربما نقول اليوم أن الوقوف راكباً على القول الأول وعلى القول الثالث: يستحب. لأنه أهيأ. ثم أن الذي يقف راكباً يتمكن من إرشاد الناس وتوجيههم أكثر منه داخل الخيام، وعلى كل حال هي مسألة أفضلية وليست مسألة تتعلق بركن الوقوف. * * مسألة/ وهذا الخلاف نفسه في أقواله يأتينا في مسألة الحج ماشياً وراكباً ففيه ثلاثة أقوال كهذه الأقوال تماماً: أنه يستحب ماشياً - ويستحب راكباً - وأنه يختلف باختلاف حال الشخص. - ثم قال - رحمه الله -: عند الصخرات وجبل الرحمة. يعني: يستحب أن يقف في هذا الموطن. - لأن جابر - رضي الله عنه - أخبر أن النبي - صلى الله عليه وسلم - وقف في هذا الموقف وجعل يدعو - صلى الله عليه وسلم -. والسنة: أن يقف في هذا الموقف مستقبل القبلة، واستقبال القبلة في هذا الموطن أهم من أن يقف عند الصخرات والجبل، فإذا دار الأمر بين أن يستقبل القبلة أو يستقبل الصخرات فإنه يستقبل القبلة ولو استدبر الجبل أو الصخرات، وفهم من كلام المؤلف - رحمه الله - أن قصد الوقوف في هذا المكان: سنة، ومن الفقهاء من قال: إنما وقف النبي - صلى الله عليه وسلم - في هذا الموقف لا قصداً وإنما لأنه مكان قريب منه.

* * مسألة/ ولا يسن الصعود على الجبل. بل هو بدعة لا أصل له. كما أنه يذهب الوقت على الحاج ويسبب التشويش والضيق والزحام ومنكرات أخرى. فهو مكروه أو محرم: أي الصعود على الجبل. - ثم قال - رحمه الله -: ويكثر الدعاء مما ورد. يعني: ويستحب أن يكثر من الدعاء حال وقوفه. والدليل على هذا من وجهين: - الوجه الأول: أن هذا الموطن موطن إجابة. فقد عهد الشارع استحباب كثرة الدعاء والعبادة في مواطن الإجابة. - والثاني: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - هكذا صنع أي أكثر من الدعاء وقال: (خذوا عني مناسككم). وفهم من كلام المؤلف - رحمه الله - أن أفضل أنواع العبادات في ذلك الوقت الدعاء وهو أفضل من قراءة القرآن ومن الفتوى ومن تعليم العلم ومن سائر أنواع العبادات، ومع ذلك نقول: ينبغي للإنسان إذا تعب من الدعاء أن ينصرف إلى نوع آخر من العبادات وأن لا يخرج عن إطار العبادات مهما كان، لكن كلما كانت العبادة قريبة من الدعاء كقراءة القرآن أو الابتهال أو تعداد أسماء الله وصفاته فهو خير من العبادات الأخرى ولو كانت مذاكرة علم أو غيره، فإذا لم يستطع ذهب إلى مسألة مذاكرة العلم لأنه أثر عن الصحابة على الأقل أنهم يتداولون المسألة، فهذه ثلاث مراتب: - الدعاء. - ثم ما يقرب من الدعاء: من قراءة القرآن وتدارس أسماء الله وصفاته. ... - والثالث: مسألة تدارس العلم. - ثم قال - رحمه الله -: ومن وقف ولو لحظة. قوله: (ومن وقف). يقصد - رحمه الله -: الحصول في عرفة، أن يوجد في عرفة. فلو كان واقفاً أو مضطجعاً أو جالساً أو على أي هيئة كان، فالمقصود بالوقوف هنا: هو أن يوجد ويحصل في عرفة. - قال - رحمه الله -: ولو لحظة من فجر يوم عرفة. بين المؤلف - رحمه الله - في قوله: (من فجر يوم عرفة) بداية وقت الوقوف. = فذهب الحنابلة وهو من المفردات. إلى أن الوقوف يوم عرفة يبدأ من فجر يوم عرفة. واستدل الإمام أحمد - رحمه الله - على هذا الحكم: - بحديث عروة بن مضرس أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال له: (من شهد صلاتنا هذه ووقف معنا حتى ندفع وقد وقف في عرفة ليلاً أو نهاراً فقد تم حجه وقضى تفثه).

فقوله: (ليلاً أو نهاراً) يشمل من طلوع الفجر. لأن النهار يطلق على الوقت من طلوع الفجر. = والقول الثاني: أن الوقوف لا يبدأ إلا من بعد الزوال. فإن وقف قبل الزوال ثم خرج من عرفة ولم يرجع إليها: بطل حجه، وإلى هذا ذهب: مالك والشافعي وأبو حنيفة، واختاره عدد من المحققين منهم شيخ الإسلام - رحمه الله -. واستدل هؤلاء: - بأن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يقف في عرفة لا هو ولا الخلفاء الراشدين إلا بعد الزوال. وأجابوا عن حديث: عروة بن المضرس - رضي الله عنه - بأن قوله: (ليلاً أو نهاراً) أن كلمة نهاراً يقصد بها ما بعد الزوال جمعاً بين الأخبار. والراجح والله أعلم: مع الإمام أحمد - رحمه الله. وسبب الترجيح: أن كون الصحابة والنبي - صلى الله عليه وسلم - لم يقفوا قبل الزوال لا يعني أنه ليس موقفاً يعتد به بدليل: أن الليل يعتبر موقفاً صحيحاً وزمناً صحيحاً للوقوف بالإجماع ولم يقف فيه النبي - صلى الله عليه وسلم -، ثم يصعب جداً أن نبطل حج شخص وقف الصبح من ضحى يوم عرفة ثم خرج من عرفة مع وجود هذا الحديث الصريح أن الإنسان إذا وقف من فجر يوم عرفة إلى فجر ليلة مزدلفة أن حجه صحيح (وقد وقف في عرفة ليلاً أو نهاراً)، فالحديث يساعد الإمام أحمد بوضوح وتأويلهم للحديث وتخصيصهم له بما بعد الزوال بمجرد فعل النبي - صلى الله عليه وسلم - والصحابة لا يكفي، لكن: إذا سمعت هذا الخلاف عرفت أن من لم يقف إلا قبل الزوال فقد خاطر وعرض حجه للفساد لقوة الخلاف جدا وأن ما ذهب إليه الأئمة الثلاثة وجيه وقوي ويتعين الاحتياط في مثل هذا الأمر. - ثم قال - رحمه الله -: مبيناً نهاية الموقف: إلى فجر يوم النحر. يستمر الوقوف إلى فجر يوم النحر وهذا بالإجماع. فهم اختلفوا في البداية ولم يختلفوا في النهاية. والدليل على استمرار الوقوف إلى الفجر: - حديث عروة بن المضرس - رضي الله عنه -. - وقوله - صلى الله عليه وسلم -: (الحج عرفة. فمن وقف قبل أن تذهب ليلة جمع صح حجه). وهو حديث إن شاء الله حسن. - والإجماع. فلا إشكال إن شاء الله أن من وقف في الليل فحجه صحيح. - ثم قال - رحمه الله -: وهو أهل له.

يعني: وهو أهل للوقوف، والحاج الذي هو أهل للوقوف: هو من اتصف بثلاث صفات: - أن يكون مسلماً. - عاقلاً. - محرماً بالحج. فإذا اتصف بهذه الثلاث فهو أهل للوقوف، وشمل كلام المؤلف - رحمه الله - من وقف في عرفة وهو يعلم أن هذه هي عرفة ومن وقف فيها وهو يجهل أن هذه عرفة. فكلاهما حجه صحيح. واستدل الجماهير على هذا الحكم: - بأن عروة بن المضرس - رضي الله عنه - أخبر النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه وقف في كل جبل وتل متحرياً عرفة ولم يخبره النبي - صلى الله عليه وسلم - أن وقوفه بلا تعيين لا يجزئ. وهذا لا إشكال فيه، فإذاً: من وقف في جبل يتحرى يوم عرفة ولم يعلم أنه من عرفة فإن حجه صحيح ما دام في عرفة، وهذا إن تصور في السابق فلا يتصور الآن أبداً لوضوح المعالم وكثرة الناس فإنه لا يخطئ الإنسان أن هذه من عرفة أو من خارج في الجملة. * * مسألة/ دخل تحت كلام المؤلف - رحمه الله - عدة صور: ـ الصورة الأولى: النائم. فلا إشكال أن النائب وقوفه صحيح. وإلى هذا ذهب الجماهير والجم الغفير وفيه خلاف ضعيف ضعفه يغني عن سياقه. ـ الصورة الثانية: المغمى عليه. وهي مسألة مشكلة. فالمغمى عليه محل خلاف بين أهل العلم: = القول الأول: أن المغمى عليه لا يصح وقوفه. أي: إذا أغمي على الحاج من فجر عرفة إلى فجر مزدلفة ولم يستيقظ أبداً فإن حجه باطل. واستدل هؤلاء: - بأن الوقوف عبادة، بل هو ركن الحج. والعبادة يشترط لها النية ولا تتأتى من المغمى عليه. = القول الثاني: أن وقوف المغمى عليه صحيح. - لأن أجزاء الحج لا تحتاج إلى نية خاصة كما تقدم معنا. كما نقوله في أجزاء الصلاة. = والقول الثالث: التوقف. ولعلها الرواية الثانية. وهي رواية عن الإمام أحمد لكن يبدو لي أنها الرواية الثانية. في المسألة إشكال. ويتردد الإنسان في صحة حج المغمى عليه أو بطلانه لتعارض الأدلة ولعله توقف الإمام أحمد، لكن من المحققين الذين نصروا صحة الحج الشيخ الشنقيطي - رحمه الله - فإنه يرى صحة حج المغمى عليه. ـ الصورة الثالثة: السكران. والخلاف في السكران كالخلاف في المغمى عليه. - ثم قال - رحمه الله -: صح حجه وإلاّ فلا.

إذاً: ذكرنا النائم وأن الخلاف فيه ضعيف وأيضاً المغمى عليه ثم السكران، وأما المجنون فلا خلاف في عدم صحة وقوفه وممن حكى الإجماع: المرداوي بقوله: (لا أعلم فيه خلافاً) لا بقول: لا نزاع فيه فكأنه ينفي الخلاف بين المذاهب الأربعة، وعلى كل حال: المجنون لا إشكال في عدم صحة وقوفه إنما الخلاف في المغمى عليه والسكران وهو خلاف قوي، والنائم لا إشكال في صحة وقوفه. - قوله - رحمه الله -: صح حجه وإلا فلا. يعني: إذا تحققت فيه الشروط صح حجه وإلا فإن حجه غير صحيح. - ثم قال - رحمه الله -: ومن وقف نهاراً ودفع قبل الغروب ولم يعد قبله: فعليه دم. إذا وقف الإنسان قبل الغروب ثم دفع قبل أن تغرب الشمس ثم رجع: = فالجمهور أنه إذا رجع فلا دم عليه. - لأنه رجع قبل أن يتقرر في حقه الدم. = ومنهم من قال: بل يجب عليه الدم بمجرد الدفع قبل الغروب. والقول الأول: هو المذهب وهو الصواب. ـ الصورة الثانية: إذا دفع قبل الغروب ولم يرجع إلا بعد الغروب فيجب عليه دم ولو رجع. - لأنه رجع بعد ثبوت الدم ولأن الواجب أن يوجد في عرفة حال الغروب. وهذا هو الصواب ويدل على رجحانه: القياس على من تعدى الميقات ثم أحرم ثم رجع كما تقدم معنا: أن من تعدى الميقات ثم أحرم ثم رجع فإنه يثبت الدم في حقه بخلاف من تعدى الميقات ثم رجع قبل أن يحرم. - قوله - رحمه الله -: ومن وقف نهاراً ودفع قبل الغروب ولم يعد قبله: فعليه دم. أفادنا المؤلف - رحمه الله - أن الوقوف في عرفة إلى غروب الشمس واجب، ونحن الآن نريد أن نذكر الخلاف في مسألتين قد يخلط بينهما بعض الناس: ـ المسألة الأولى: حكم الوقوف في عرفة قبل إلى غروب الشمس. ـ المسألة الثانية: ماذا يترتب على الخروج من عرفة قبل غروب الشمس. فإن عدداً من الناس يحكي الخلاف فيهما بمساق واحد وهما مسألتان. ـ المسألة الأولى: الوقوف في عرفة إلى غروب الشمس: = ذهب الجماهير إلى أن الوقوف في عرفة إلى غروب الشمس واجب. فإن تركه فعليه دم وسيأتينا الكلام عن هذا الدم، وإلى هذا ذهب الإمام أحمد ومالك والشافعي في المشهور وأبو حنيفة وجماهير الفقهاء والجم الغفير من أهل العلم: على أن من خرج من عرفة قبل غروب الشمس فعليه دم.

استدل هؤلاء: - بأن النبي - صلى الله عليه وسلم - انتظر إلى أن غربت الشمس ثم دفع. وقد أكد جابر - رضي الله عنه - هذا المعنى تأكيداً بليغاً فقال: حتى إذا غربت الشمس وذهبت الصفرة وغاب القرص. كأنه يؤكد - رضي الله عنه -: دفع النبي - صلى الله عليه وسلم -. ولو كان يجوز الخروج من عرفة قبل غروب الشمس ولو للضعفة لرخص لهم النبي - صلى الله عليه وسلم - كما رخص في ليلة مزدلفة مع العلم أن المشقة الحاصلة في الانتقال من عرفة إلى مزدلفة أكبر من المشقة الحاصلة في الانتقال من مزدلفة إلى منى. وهذا معلوم. = والقول الثاني: أن الوقوف إلى غروب الشمس ركن من أركان الحج فإن خرج قبل غروب الشمس: بطل حجه. وهو مروي عن الإمام مالك، فالركن عند الإمام مالك يتركب من أمرين: - الوقوف. - وأن تقف إلى أن تغرب الشمس. ليجمع بين الليل والنهار في عرفة. = والقول الثالث: وهو قول للشافعية: أن الوقوف إلى غروب الشمس: سنة. فإن دفع قبل الغروب فلا حرج عليه. واستدلوا على ذلك: - بأنه لا يوجد نص صريح يمنع من ذلك كما أن الوقوف الذي هو الركن تحقق بالوقوف السابق. والراجح إن شاء الله: مع الجماهير. لظهور السنة في ذلك ظهوراً بيناً. فإن الإنسان إذا طالع الأحاديث جزم بأن النبي - صلى الله عليه وسلم - وقف قصداً وأراد أن لا يخرج أحد من عرفة إلا بعد غروب الشمس. ـ المسألة الثانية: ماذا يترتب على الخروج من عرفة قبل غروب الشمس. هذا أيضاً اختلف فيه الفقهاء على ثلاثة أقوال: = القول الأول: أن في الخروج دم. شاة تذبح وتوزع على الفقراء. - لأنه ترك واجباً من واجبات الحج ومن ترك واجباً من واجبات الحج فعليه شاة. = القول الثاني: أن عليه بدنة، وهو قول محكي عن بعض التابعين. = والقول الثالث: أنه لا شيء عليه. وهو رواية عن الإمام أحمد وقول عند الشافعية، فالإمام أحمد - رحمه الله - مع كونه يرى وجوب البقاء إلى غروب الشمس مع ذلك يرى أن من خرج فقد ترك واجباً ولا دم عليه. والراجح: أن عليه دم. وهو القول الوسط الذي يدل عليه فتوى الصحابة. - ثم قال - رحمه الله -: ومن وقف ليلاً فقط فلا.

المؤلف - رحمه الله - يريد أن يتحدث هنا: عمن لم يدرك أي جزء من النهار في عرفة وإنما جاء إليها ليلاً، فإذا جاء إليها ليلاً فلا شيء عليه. واستدلوا على ذلك بدليلين: - الأول: القياس على من كان منزله دون المواقيت. فهذا سيحرم دون المواقيت ولا دم عليه لأنه لم يدرك المواقيت أصلاً. كذلك الذي يدرك عرفة ليلاً لا دم عليه لأنه لم يدرك جزأ من النهار أصلاً. - والثاني: أن وجوب الوقوف في عرفة إلى الغروب يتناول من أدركها نهاراَ. وهذا الدليل إذا تأملت تجد أنه استدلال بنفس القول. فهو يقول: (لا يجب على من وقف ليلاً) لأنه لم يدرك النهار، والدليل: أن من لم يدرك النهار لا يجب عليه الوقوف إلى غروب الشمس، فهو استدلال بنفس القول. إذاً العمدة على التعليل الأول وهو تعليل وجيه. وهو أن من لم يدرك النهار لا يجب عليه أصلاً الوقوف لأنه ليس من أهل وجوب الوقوف كما نقول فيمن مكانه ومنزله دون المواقيت. - ثم قال - رحمه الله -: ثم يدفع بعد الغروب إلى مزدلفة بسكينة. قوله: (ثم يدفع بعد الغروب) يعني: وجوباً. - لما تقدم في حديث جابر - رضي الله عنه - أنه لا يجوز للإنسان أن يدفع من عرفة إلا بعد غروب الشمس وذهاب القرص تماماً. فهذه العبارة مستندها النص الصريح. - ثم قال - رحمه الله -: إلى مزدلفة بسكينة. يعني: أنه يسن للإنسان في ذهابه من عرفة إلى مزدلفة أن ينتقل بسكينة. - لقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: (السكينة السكينة) يعني عليكم أو الزموا السكينة، وظاهر الحديث وظاهر كلام الفقهاء أن الانتقال بسكينة سنة مطلقاً ولو بدون زحام، وهذا صحيح. والسكينة لا تنافي الإسراع أحياناً، لأن السكينة كما تقدم معنا من صفات أعضاء البدن. والإسراع من صفات البدن جملة. فيستطيع الإنسان أن يسرع ببدنه مع السكينة. - ثم قال - رحمه الله -: يسرع في الفجوة. النبي - صلى الله عليه وسلم - أردف أسامة فأخبر أسامة في قوله في الحديث الصحيح أن النبي - صلى الله عليه وسلم – (كان يسير العنق فإذا وجد فجوة نص). ومعنى قوله: (نص) أي أسرع. (العنق) يعني بسهولة وتؤده.

الحديث نص في أن الإنسان إذا وجد مجالاً وفجوة فإنه يسرع الإسراع المعتدل وإذا لم يجد فإنه يمشي ببطء، والسنة في حال انتقاله من عرفة إلى مزدلفة أن يكثر من ذكر الله. - لقوله تعالى: - (فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ) -[البقرة/198]. هكذا ذكر بعض الفقهاء. لكن الاستدلال بهذه الآية فيه نظر ظاهر لأن في الآية: - (فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ) -[البقرة/198].فالمقصود بالآية الذكر عند المشعر الحرام لا أثناء الانتقال، وإذا لم يصح الاستدلال بالآية فإنه لا يوجد في السنة شيء صريح في ماذا يصنع الإنسان أثناء الانتقال من عرفة إلى مزدلفة. والذي يظهر لي أن المستحب الإكثار من الاستغفار، ودليل ذلك: أن قاعدة الشرع. (الاستغفار في نهاية الأعمال)، وعرفة ركن الحج الأعظم فإذا انتهى منه فينبغي أن يستغفر لما وقع فيه من تقصير أو إخلال أو خطأ. - ثم قال - رحمه الله -: ويجمع بها بين العشائين. يفهم من كلام المؤلف أن السنة أن يؤخر الإنسان صلاة المغرب إلى أن يصل إلى مزدلفة، فإن صلى قبل أن يصل إلى مزدلفة فقد خالف السنة مخالفة ظاهرة، ولكن صلاته عند الجماهير وعامة العلماء صحيحة. والسنة أيضاً أن الحاج إذا وصل إلى مزدلفة فإنه يبادر بصلاة المغرب قبل أن يحط الرحال ثم إذا انتهى من المغرب حط الرحال ثم صلى العشاء. كما جاء في الحديث الصحيح أن النبي - صلى الله عليه وسلم - صنع ذلك. بقينا في مسألة مشكلة وهي: هل المشروع في حقه أن يؤذن ويقيم أو أن لا يؤذن ولا يقيم مطلقاً أو ماذا يصنع؟ هذا فيه خلاف بين أهل العلم: = القول الأول: أن المشروع في حقه أن يؤذن أذاناً واحداً ويقيم لكل صلاة. وهذا ما ذكره جابر - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - صلى بأذان وإقامتين. = القول الثاني: وهو القول الذي استقر عليه قول الإمام أحمد أن المشروع أن لا يؤذن وأن يقيم إقامتين. واستدل على ذلك:

- - بأن أسامة - رضي الله عنه - أخبر بأن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يؤذن وإنما أقام إقامتين. وأسامة أقرب إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - من جابر فهو رديفه - رضي الله عنه - فهو أعلم بالحال من جابر - رضي الله عنه -. = القول الثالث: أنه يقيم إقامة واحدة للصلاتين. - وهذا ثابت في حديث ابن عمر - رضي الله عنه - في صحيح مسلم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أقام إقامة واحدة للصلاتين. قال بعض الفقهاء أي: مع الأذان، الحديث الذي في مسلم ليس فيه أنه أذن وأقام إقامة واحدة ولكن فيه أنه أقام إقامة واحدة لكن الفقهاء قالوا: يقصد مع أذان. فيؤذن ويقيم إقامة واحدة. = والقول الرابع: أنه يؤذن لكل صلاة ويقيم لكل صلاة. والقول الرابع: أضعف الأقوال إذ ليس له دليل. وأقوى الأقوال القول الذي استقر عليه الإمام أحمد - رحمه الله - والقول الذي ذكره جابر - رضي الله عنه -. وكما ترون: المسألة مشكلة: فجابر - رضي الله عنه - يثبت وأسامة - رضي الله عنه – ينفي، فهل نقول: المثبت مقدم على النافي؟ أو نقول: إن أسامة أقرب كما قال الإمام أحمد وأعلم بحال النبي - صلى الله عليه وسلم - وقد نفى عن علم. ولعل جابر - رضي الله عنه - ذكر الأذان باعتبار الغالب من حاله أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان إذا جمع الصلاة يؤذن أذاناً واحداً ويقيم لكل صلاة فجرى على غالب حال النبي - صلى الله عليه وسلم - لا عن سماع ورؤية. ففيه احتمال كبير، لكن الأقرب أن لا ننسب جابر إلى الوهم وأن نقول أن أسامة - رضي الله عنه - مع قربه من النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يسمع الأذان لأي عارض. وإذا عرفنا الخلاف عرفنا أن بعض الناس الذين ينكرون على الذين يصلون بلا أذان أنهم ينكرون بجهل لأن الصلاة بلا أذان مجرد الإقامتين قول قوي وهو الذي استقر عليه رأي الإمام أحمد وهو قول وجيه جداً كما ترون. لكن مع ذلك الأقرب إن شاء الله أن الإنسان يؤذن أذاناً واحداً ويقيم لكل صلاة. - ثم قال - رحمه الله -: ويبيت بها. أي في المزدلفة. المبيت في مزدلفة واجب = عند الحنابلة. - لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - بات بها وقال: (خذوا عني مناسككم).

= والقول الثاني: أن المبيت في مزدلفة سنة. فإذا مر بها وخرج فلا شيء عليه. = والقول الثالث: أن المبيت في مزدلفة ركن وإلى هذا ذهب عدد من المحققين منهم: ابن المنذر وابن خزيمة وغيرهم رحمهم الله. واستدلوا: - بحديث عروة بن المضرس فإن النبي - صلى الله عليه وسلم -: علق تمام الحج على إدراك الصلاة والوقوف عند المشعر الحرام. - واستدلوا: بقوله تعالى: (فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ) -[البقرة/198] فأمر به نصاً. والراجح: هو القول الوسط بين القولين أنه واجب. لكن كما نبهتكم مراراً أن حكاية الخلاف تثمر عند طالب العلم الاحتياط وأنتم سمعتم الآن أن بعض أهل العلم من المحققين: كابن المنذر والذي اختياراته غاية في الدقة وهو يرى أنه ركن. فمثل هذا الخلاف والسياق يثمر عند الإنسان الاحتياط الواجب وأن يعلم أنه يأمر بحجه إذا ترك الوقوف جملة. * * مسألة/ ذهب شيخ الإسلام - رحمه الله - وقرر هذا بأدلة كثيرة وانتصر له كثيراً أن الوقوف في مزدلفة لا ينتهي بطلوع الفجر وإنما يستمر إلى قرب طلوع الشمس. وذكر لهذا عدة أدلة كثيرة: منها: - أن المقصود الأعظم هو الوقوف والدعاء فكيف نخرج وقت الوقوف والدعاء من جملة المبيت أو من جملة الوقوف بمزدلفة. وهذا القول هو الراجح. بناء على هذا القول: الحجاج الذين لا يدركون ليلة مزدلفة إلا بعد طلوع الفجر فلا حرج عليهم: - لأنهم جاءوا إلى مزدلفة قبل خروج وقت الوقوف بينما على المذهب إذا جاءوا بعد الفجر كما سيأتينا فعليهم دم. وعلى هذا القول الذي اختاره الشيخ - رحمه الله - لا شيء عليهم وهو قول قوي ووجيه. - ثم قال - رحمه الله -: وله الدفع بعد نصف الليل، وقبله فيه دم: كوصوله إليها بعد الفجر لا قبله. لما بين المؤلف - رحمه الله - حكم النزول في المزدلفة والمبيت بها وأخذنا الخلاف في حكم هذه المسألة انتقل إلى المسألة الأخرى وهي: ـ القدر الواجب من المبيت. وبين المسألتين فرق ظاهر. اختلف الفقهاء في القدر الواجب من المبيت في مزدلفة: = القول الأول: وهو مذهب الحنابلة والجمهور أن القدر الواجب إلى نصف الليل.

فإن خرج بعد نصف الليل فلا حرج عليه سواء خرج بعذر أو بغير عذر. واستدل الحنابلة على هذا القول بثلاثة أحاديث: - الأول: حديث أسماء حيث كانت تأمر من يرقب القمر فإذا غاب دفعت. وقالت: رضي الله عنها: أذن للضعن - وهو جمع ضعينة وهي: المرأة -. فتخبر أن هذا الخروج كان بإذن النبي - صلى الله عليه وسلم -. - الثاني: حديث ابن عمر أنه كان يرخص لبعض أهله ويقول - رضي الله عنه - أرخص في أولئك رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. - الثالث: أن سودة - رضي الله عنها - استأذنت النبي - صلى الله عليه وسلم - وكانت امرأة ثقيلة فأذن لها , - والرابع: حديث ابن عباس - رضي الله عنه - ... (الأذان). - حديث ابن عباس وهو أن النبي - صلى الله عليه وسلم - رخص له أن يخرج بليل. وهذه الأحاديث التي ذكرت كلها صحيحة في الصحيح، ففي هذه الأحاديث جواز الخروج من مزدلفة إلى منى قبل طلوع الفجر. وأما التحديد بالنصف: فقالوا: أن قول ابن عباس: (بليل) وقول أسماء (بعد غروب القمر) أقرب ما يحد به نصف الليل. وعلمنا من هذا التعليل أنه ليس مع الحنابلة دليل واضح لهذا التحديد. = القول الثاني: أن الواجب هو الوقوف بعد طلوع الفجر ولو للحظه إلى قبيل طلوع الشمس. وأما الليل فليس وقتاً للوقوف ولا يجب وإنما شرع النوم فيه للتقوي لهذا الموقف الذي هو بعد طلوع الفجر. = والقول الثالث أن هذا الوقوف ليس بواجب ولا سنة ولا مشروع وإنما هو منزل نزله النبي - صلى الله عليه وسلم - بين عرفة ومنى، وهو من عجائب الأقوال. = والقول الرابع: أن الواجب المكث في مزدلفة قدر تنزيل الرحل فإذا خرج بعد ذلك فلا حرج عليه. = والقول الأخير: وهو الذي مال إليه ابن المنذر وغيره من المحققين أن الوقت للضعفة إلى غروب القمر فإذا غرب القمر خرجوا. والوقت بالنسبة للأقوياء إلى طلوع الفجر .. هذا والله أعلم وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين

باب دخول مكة

شرح كتاب المناسك الدرس رقم (12) قال شيخنا حفظه الله: بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين. - قال - رحمه الله -: باب دخول مكة. تقدم معنا تقرير مذهب الحنابلة وأنه يجوز الخروج من مزدلفة بعد منتصف الليل، وأن من وصل إلى مزدلفة بعد منتصف الليل فلا دم عليه، وأما من خرج قبل المنتصف ولم يعد أو جاء بعد خروج الفجر فإن الدم يستقر عليه، هذا خلاصة مذهب الحنابلة. إذاً هذا التقسيم الذي ذكرته لك الآن ذكره المؤلف - رحمه الله - بنصه في المتن، ثم ذكرت لكم في الدرس السابق الأقوال في مسألة الخروج من مزدلفة ومذاهب الأئمة وهي: = أن الحنابلة والشافعية يرون الجواز بعد منتصف الليل. = وأن الأحناف يرون أن الوقوف يبدأ من بعد طلوع الفجر إلى قبيل طلوع الشمس وأن المالكية يكتفون بحط الرحل ثم بعد ذلك له أن يخرج من المزدلفة. = وأن القول الرابع: أن الضعفة ومن في حكمهم لهم أن يخرجوا بعد غروب القمر والأقوياء لا يجوز لهم أن يخرجوا إلا بعد طلوع الشمس. وتوقفنا عند هذا الحد. وبقينا في الراجح: الراجح في هذه المسألة وهي مسألة كبيرة والحاجة إليها ماسة وكثيرة والذي يظهر من تتبع النصوص وفتاوى الصحابة أن الأقرب مذهب ابن المنذر وهو: التفريق بين الضعفة وغيرهم. وأخذ رجحان هذا القول من استخدام كلمة الترخيص في الأحاديث التي ذكرت والترخيص معناه نقل الحكم من العزيمة إلى الرخصة وهذا النقل نقل للضعفة بموجب الحديث وبقي الأقوياء على أصل الحكم وهو وجوب البقاء إلى طلوع الشمس. على أني أريد أن أنبه إلى بعض المسائل: ـ من خلال ذكر الأقوال عرفت أن الأئمة الأربعة في الجملة لا إشكال عندهم في الخروج بعد منتصف الليل. (الأئمة الأربعة إذا أردنا أن نستقرئ الأقوال تجد أن المحصلة أن الأئمة الأربعة كلهم لا إشكال عندهم في الخروج بعد منتصف الليل. هذا شيء. ـ الشيء الثاني: أن القول الذي قلت أنه الراجح ذهب إليه نفر قليل من أهل العلم فهو اختيار ابن المنذر وظاهر عبارة ابن القيم وترجيحه واختاره نفر يسير من الفقهاء المتقدمين.

والإنسان - كما قلت - يجب أن يكون واعياًَ عند دراسة الخلاف، فعرفت الآن أن مذاهب الأئمة الأربعة وهي مذاهب الناس اليوم في الأقطار الإسلامية يرون جواز الخروج فلا تثريب على من أفتاهم ولا على من خرج بعد منتصف الليل لأنه أخذ بفتوى الجمهور, بل إن المالكية يرون أنه لو وصل ووقف بالسيارة لمدة عشر دقائق ونزل الرحل وأصلح له شيئاً يسيراً مما يطعم أو يشرب ثم ركب وخرج فلا حرج عليه عند الإمام مالك، فالمسألة فيها سعة. وكون الطالب يعرف الراجح شيء وكونه يعرف الخلاف بين أهل العلم ومذاهب الناس مما يعذر به من يفتي به أو من يطبقه من العوام. - ثم قال - رحمه الله -: فإذا صلى الصبح. فيه دليل على مشروعية صلاة الصبح في مزدلفة والسنة أن يبادر بصلاة الصبح ويصليها بغلس - والغلس: ظلمة آخر الليل -. والدليل على هذه المبادرة: - قول جابر - رضي الله عنه -: فلما خرج الفجر صلى صلاة الفجر. مما يدل على أنه بادر بالصلاة بعد طلوع الفجر. إذاً: من يؤخر الصلاة فقد خالف السنة الظاهرة لا سيما في هذا اليوم. - ثم قال - رحمه الله -: فإذا صلى الصبح أتى المشعر الحرام، فيرقاه أو يقف عنده. المشعر الحرام: هو جبل صغير يسمى قزح، وهذا الجبل كما هو معلوم أزيل الآن ومكانه المسجد الموجود في مزدلفة. فالمسجد الموجود أقيم في مكان الجبل الصغير الذي يسمى المشعر الحرام. واختلف العلماء بالمراد بالمشعر الحرام: = فقال بعضهم: المراد بالمشعر الحرام هذا الجبل فقط. والمتبقي من مزدلفة لا يسمى مشعراً حراماً بل يسمى مزدلفة. = والقول الثاني: أن مزدلفة كلها مشعر حرام. والراجح والله أعلم أن المشعر الحرام هو هذا الجبل فقط وباقي المنطقة تسمى المزدلفة وليست مشعراً حراماً. فهي مزدلفة ويجوز الوقوف فيها لكن المشعر الحرام هو هذا الجبل فقط. والدليل على ذلك: - أن جابر - رضي الله عنه - قال: فلما صلى الفجر ركب إلى المشعر الحرام. فكون النبي - صلى الله عليه وسلم - يركب إلى المشعر الحرام دليل على أنه لم يكن في المشعر الحرام وإلا لو قلنا أن مزدلفة كلها مشعراً حراماً لكان نتيجة هذا أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان خارج مزدلفة ثم دخل مزدلفة. وهذا كله خطأ.

إذاً الأقرب والله أعلم أن المشعر هو هذا المكان بالذات فإن تيسر للإنسان أن يأتي إلى هذا المكان ويقف فيه فهذا جيد واقتداء بالسنة وإن لم يتيسر فإنه يقف في المكان الذي هو نازل فيه، ومن المعلوم اليوم أنه يكاد يتعذر على الإنسان أن يذهب إلى المشعر الحرام. والذهاب إليه يكاد يكون متعذراً بسبب المواصلات، ثم نقول: إن الذهاب إلى المشعر الحرام إذا أدى إلى ضياع الوقت وتشتت ذهن الإنسان وعدم تركيزه بالدعاء فإنه لا يستحب فقد أخذنا القاعدة التي تكررت معنا مراراً: ((أن الفضيلة التي تتعلق بذات العبادة مقدمة على الفضيلة التي تتعلق بمكان أو بزمان العبادة)). فهنا كذلك الذهاب إلى هذا المكان اليوم يسبب زحاماً على الناس ويشتت ذهن الداعي فالأقرب أنه يبقى في مكانه لكن إن تيسر أو كان مكان نزوله في السيارة بسبب وصوله مبكراً قريب من المسجد فالذهاب إلى المسجد فيه اقتداء بالنبي - صلى الله عليه وسلم -. - ثم قال - رحمه الله -: ويحمد اللَّه ويكبره. ثبت في صحيح مسلم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما صلى استقبل القبلة ووحد الله وهلله وكبره ودعا. والتهليل الحمد والتكبير مما يغفل عنه كثير من الناس مع أنه في حديث جابر هذا الذي معنا يكثر - رضي الله عنه - من قوله: إن النبي - صلى الله عليه وسلم - وحد الله وكبره ففي الصفا ذكر أنه كبر ووحد وهنا قال كبر ووحد وهلل. فهذا دليل على أنه ينبغي للإنسان في الدعاء في مناسك الحج أن يكثر مع الدعاء الذي هو بمعنى الطلب من الدعاء الذي هو بمعنى تقديس الله سبحانه وتعالى وحمده وشكره وتهليله والثناء عليه بما هو أهله كما هو ظاهر حديث جابر - رضي الله عنه -. - ثم قال - رحمه الله -: ويقرأ: {فَإِذَآ أَفَضْتُم مِّنْ عَرَفَاتٍ} الآيتين. - ليس لهذا العمل سنة صحيحة ولعلهم قاسوا هذا على أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قرأ (إن الصفا والمروة من شعائر الله) فقالوا يقرأ هنا أيضاً (فَإِذَآ أَفَضْتُم مِّنْ عَرَفَاتٍ).

والصواب أن قراءة هاتين الآيتين عند الوقوف بالمشعر الحرام لا أصل له وينبغي على الإنسان أن يتحرى أن لا يقول هذا الدعاء لأن في تركه اتباعاً للسنة وقد أخذنا مراراً أن شيخ الاسلام - رحمه الله - قرر قاعدة مفيدة وهي: ((أن السنة في المتروك في العبادة أن يترك)) وفي هذا فائدة وهي أنه إذا نوى الإنسان أن يترك ما لم يفعل من قبل النبي - صلى الله عليه وسلم - فهذه النية في حد ذاتها سنة كأنه فعل سنة موجبة فالسنة التركية كالسنة الفعلية. - ثم قال - رحمه الله -: ويدعو حتى يسفر. لو قال المؤلف - رحمه الله -: حتى يسفر جداً لكان أقرب إلى لفظ الحديث. لقول جابر - رضي الله عنه - فدعا حتى أسفر جداً، والسنة أن يدعو الإنسان حتى يسفر وأن يخرج من مزدلفة قبل أن تطلع الشمس. والأقرب والله أعلم أن الخروج قبل طلوع الشمس واجب: - لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - خرج من مزدلفة قبل أن تطلع الشمس. فهذه سنة فعلية ولأنه فعل ذلك مخالفاً للمشركين الذين كانوا لا يخرجون من مزدلفة إلا بعد طلوع الشمس ومخالفة المشركين واجبة. فالأقرب والله أعلم وجوب الخروج إذا تمكن الإنسان وتهيأت له الأمور قبل أن تطلع الشمس. - ثم قال - رحمه الله -: فإذا بلغ محسراً: أسرع رمية حجر. وادي محسر هو وادي بين مزدلفة ومنى، واختلف العلماء فيه: = فقيل ليس منهما: لا من مزدلفة ولا من منى. = وقيل: بل ليس من مزدلفة لكنه من منى. وأيضاً هذا الخلاف لا فائدة عملية تحته سواء قلنا هو من منى أو من منى فإن الأحكام التي تترتب على وادي محسر هي هي فإنها لا تختلف. - قال - رحمه الله - فإذا بلغ محسراً: أسرع رمية حجر. السنة أن الإنسان إذا بلغ هذا الوادي أسرع ومقدار هذه السرعة: رمية حجر. - لقول جابر - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما جاء وادي محسر حرك قليلاً. والإسراع في هذا الوادي محل إجماع بين الفقهاء إنما اختلفوا في الحكمة من الإسراع، لكن أن يسرع ويقصد ذلك فهذه سنة لا إشكال فيها، ومقدار رمية الحجر قدرت بنحو (545 ذراع) فيسرع الإنسان في أثناء قطع هذا الوادي ومدة السرعة هذه المسافة.

وهذه السنة: معلوم أن ترجع إلى إمكانية الإسراع من عدمه باعتبار أن ازدحام السيارات اليوم قد لا يمكن الإنسان من أن يطبق هذه السنة فإذا تمكن فبها ونعمت وإلا فتكفي النية في حصول الأجر. - ثم قال - رحمه الله -: وأخذ الحصى. أخذ الحصى فيه مسائل: - المسألة الأولى: أن الأئمة الأربعة اتفقوا على أنه يجوز أخذ الحصى من أي مكان شاء وأنه لا إشكال إذا أخذه من أي بقعة مر بها. - المسألة الثانية: بعد الاتفاق على الجواز اختلفوا في الاستحباب. = فذهب الجمهور إلى أنه يستحب أن يلتقط الحصى من مزدلفة. واستدلوا على ذلك: - بأن ابن عمر - رضي الله عنه - كان يلتقط الحصى من مزدلفة وكان رجلاً يحب إتباع النبي - صلى الله عليه وسلم -. - الثاني: ما روي عن سعيد بن جبير - رضي الله عنه - أنه قال: كانوا يستحبون أخذ الحصى من مزدلفة وتكلمنا مراراً عن قول التابعي المبرز في العلم: (كانوا) وعن أهمية هذه اللفظة وأنه يقصد أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم -. - الدليل الثالث: أن الأخذ من مزدلفة يساعد على المبادرة في الرمي والمبادرة في الرمي كما سيأتينا: سنة. والأقرب: أن مقصودهم بقولهم: (من مزدلفة) يعني بعد صلاة الصبح لا في الليل لأن السنة في الليل أن يرتاح الإنسان ويستعد لأعمال الغد. = القول الثاني: أن المستحب أن يأخذ الإنسان الحصى من أي مكان شاء. هكذا قالوا: ولم يقولوا: (من منى). وهذا يعني: أن المستحب أن لا يقصد مكاناً معيناً فيأخذ منه مع أن الاستدلال الذي استدلوا به يدل على أن الاستحباب ينصب على منى لكن هم قالوا هكذا - أصحاب القول الثاني ومنهم ابن قدامة - رحمه الله -. واستدلوا على هذا: - بأن النبي - صلى الله عليه وسلم - غداة العقبة قال لابن عباس: القط لي. فأمره بلقط الحصى صبح اليوم العاشر مما يدل على أنهم أخذوها من غير مزدلفة من خارج مزدلفة.

والاستدلال بهذا الحديث محتمل لأن الغداة تصدق حتى على بعد صلاة الفجر وتصدق على بعد طلوع الشمس. فتعيين أنها أخذت من منى من لفظ الحديث لا يتأتى. لكن وجه الاستدلال أن ابن قدامة قال: (أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال لابن عباس هذا اللفظ في منى) والظاهر والله أعلم أنه أخذ هذا الاستنباط لا من قوله (غداة العقبة) ولكن من ألفاظ أخرى فلهذا الحديث ألفاظ في سنن الترمذي وفي سنن النسائي وفي سنن أبي داود تفيد أن هذا الأمر كان بعد أن تجاوز النبي - صلى الله عليه وسلم - وادي محسر، فلعل ابن قدامة استدل بهذ. = فيه قول ثالث: أشار إليه النسائي ولم أر أحداً نص عليه لكن في الحقيقة هو قول جميل جداً. وأشار إليه من خلال التبويب فهو يرى: أن السنة أن يلتقط الإنسان الحصى بعد مجاوزة وادي محسر مباشرة. يعني في أول منى. لقول ابن عباس - رضي الله عنه -: (فلما جاوز محسراً قال القط لي الحصى) ففي هذا اللفظ دليل على أنه يستحب الإنسان أن يلقط الحصى أول ما يدخل منى. وإذا تأملت وجدت أن هذا القول يجمع بين القولين فهو لم يلقط عند الجمار ليتأخر وإنما في أول منى ولم يشتغل عن الدعاء الذي في فجر مزدلفة بلقط الحصى فهذا القول في الحقيقة وجيه وقوي مع العلم أنه لا يمكن أن نعمل به اليوم لأن الإنسان لا يستطيع أن يتوقف بعد وادي محسر وينزل ويأخذ حصى مع الزحام. لكن تقدم معنا أن تقرير القول الراجح أو السنن شيء وإمكان الإتيان بها شيء آخر. - ثم قال - رحمه الله -: وعدده سبعون. عدد الجمار سبعون يعني مع جمار العقبة. وظاهر عبارة المؤلف - رحمه الله - أن السنة أن الإنسان أن يلقط في هذا الوقت الجمار المتعلقة بجمرة العقبة والجمار المتعلقة بأيام التشريق. والأقرب والله أعلم: أن المقصود بالآثار أخذ جمار العقبة وأما جمار أيام التشريق فإنها تلتقط أيام التشريق من منى أو من غير منى مما يتيسر للإنسان، أما في هذا اليوم فالمستحب أن يعتني الإنسان فقط بجمار العقبة فقط، ففي قوله المؤلف - رحمه الله - (وعدده سبعون): فيه نظر بل السنة التقاط السبع فقط. - ثم قال - رحمه الله -: بين الحمص والبندق.

يعني: أن المستحب أن تكون بهذا المقدار، وهي ما يقارب حجم النواة: نواة التمر وما يقارب أيضاً أنملة الأصبع طولاً وعرضاً. والدليل على ذلك: - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نص في حديث ابن عباس وفي حديث جابر أن لقط الحصى يكون للحصى التي تستعمل في الخذف يقول - صلى الله عليه وسلم -: (كحصى الخذف) وحصى الخذف هو الذي كان العرب يخذفون به غيرهم بالأصبع ومقداره هذا المقدار. واعلم أن هذا التحديد على سبيل الوجوب فإن أخذ أكبر من هذا المقدار بكثير أو أصغر من هذا المقدار بكثير فإنه لا يجوز أن يرمي به لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمر بهذا الحجم وحذر من الزيادة عليه. وقال: (إياكم والغلو) وفي هذه الألفاظ دلالة على الوجوب. واعلم أيضاً أن أخذ الحجر الأكبر أشد من أخذ الحجر الأصغر لأن الحديث أشار إلى الغلو والغلو إشارة إلى الزيادة لا إلى النقص ولأن أكثر مخالفات الناس هي أخذ الحجر الكبير لا بأخذ الحجر الصغير. لكن على كل حال قد يوجد من الناس من هو متساهل فيأخذ الصغير فالواجب أن يتوسط الإنسان وأن لا يتقعر ويتشدد على نفسه وإنما يأخذ هذا الحجم أو ما هو أصغر منه قليلاً أو أكبر منه قليلاً. أما أخذ الحجر الكبير فهذا لا يجوز ولا يجزئ وعلى من رمى به أن يرمي مرة أخرى لأنه رمى بحجر لم تتوفر فيه الشروط الشرعية. - ثم قال - رحمه الله -: فإذا وصل إلى منى - وهي من وادي محسر إلى جمرة العقبة - رماها. في هذه العبارة عدة مسائل: ـ المسألة الأولى: أن السنة أن الحاج إذا وصل إلى منى أن يبادر بالرمي وأن لا يشتغل بغير الرمي. لأن الرمي هو تحية منى. - ويدل على ذلك: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما خرج من منى سلك الطريق التي توصل إلى الكبرى مما يدل على أنه بادر إلى الرمي ولم يشتغل بشيء غير الرمي. ـ المسألة الثانية: يفهم من قوله: (رماها). أنه إن وضعها وضعاً فإنها لا تجزئ. وهذا صحيح. - لقول جابر - رضي الله عنه -: (ثم رماها بسبع حصيات يكبر مع كل حصاة). فقوله: (ثم رماها) يدل على أن الوضع لا يجزئ لأن الرمي في لغة العرب لا يصدق على الوضع، فإذاً يشترط أن يرميها.

ـ المسألة الثالثة: أن يكون الرمي متتابعاً. فإن رماها جملة واحدة فلا يصح الرمي. وتحتسب واحدة. - لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - رماها هكذا. والعبادات توقيفية والرمي جملة واحدة مخالفة للصفة النبوية. ـ المسألة الرابعة: أنه يجب أن يوالي بين الرمي. فإذا رمى الحجر الأول ثم بعد نصف ساعة رمى الثاني فالرمي باطل. وفي هذه المسألة خلاف وهي: حكم الموالاة في الرمي بين حصى الجمار التي ترمى بها جمرة العقبة أو أيام التشريق: = فالجمهور على أن الموالاة: سنة. - لأنه لا يوجد دليل على اشتراط الموالاة. فإن من رمى واحدة ورمى الست بعد نصف ساعة يصدق عليه أنه رمى سبعاً. = والقول الثاني: أن الموالاة شرط للصحة وإليه ذهب نفر قليل بعض الفقهاء من الشافعية. واستدلوا على هذا: - بأن النبي - صلى الله عليه وسلم - رماها متوالية وهذه العبادة توقيفية والتفريق بين الحصى يخالف صفة رمي النبي - صلى الله عليه وسلم -. ولا شك إن شاء الله أن القول الراجح مع القول الثاني وأن من رمى حجراً ثم رمى بعد ساعة باقي الأحجار أن عليه أن يعيد الرمي من جديد لأن هذه عبادة واحدة تؤدى في وقت واحد. لكن تقدم معنا: أن شيخ الإسلام له قاعدة مفيدة وهي: (أن العبادات التي يشترط فيها الموالاة تسقط عند العذر فإذا كان هناك عذر لا بأس بالإخلال بشرط الموالاة في الحج والوضوء وفي كل شيء). وهذه قاعدة مفيدة دلت عليها نصوص كثيرة. - ثم قال - رحمه الله -: بسبع حصيات متعاقبات. سبع: - لما في حديث جابر - رضي الله عنه - أنه رماها بسبع. ومتعاقبات: يعني لابد أن يرمي واحدة بعد أخرى ولا يرميها جملة واحدة. وأيضاً تأتي معنا مسألة الموالاة وتقدم معنا ذكر الخلاف في الموالاة، فلابد أن يكون الرمي متتابعاً كما قال المؤلف - رحمه الله -، إذاً تقدم معنا شرح قوله: (متعاقبات). - ثم قال - رحمه الله -: يرفع يده اليمنى حتى يرى بياض إبطه. يعني: يسن للإنسان: = عند الحنابلة: أن يتقصد صنع هذه الصفة وهي أن يرفع يده إذا أن يرمي إلى أن يرى بياض إبطه. واستدلوا على استحباب هذه الصفة: - بأن في هذا إعانة على إيصال الحجر إلى مكانه.

وتلمست قولاً آخر للحنابلة فلم أجد شيئاً يسند هذا القول .... فبعض التابعين لما سئل عن الرمي قال: هكذا تصنع. ثم أمر أن يرفع يده إلى أن رأى بياض إبطه لكنها فتوى تابعي لم تصل ولا إلى أن تكون قول صحابي. فالأقرب والله أعلم أن هذه الصفة إن احتاج إليها صنعها وإن لم يحتج إليها فلا حاجة لفعلها. فإذا كان يستطيع أن يوصل الحجر بدون رفع اليد إلى هذه الدرجة فلا بأس أن لا يرفع، لأن هذه الكيفيات في العبادات تحتاج إلى نصوص وليس في هذا الباب أي نص، كما أن هذا الرفع اليوم غالباً ما يؤدي إلى فقع عين من خلفه. لأن كثيراً من الحجاج يرفع يده فيعمي من خلفه وهذا كثير، فاليوم مع كثرة الجهل بعض السنن ربما نقول بتهوينها عند بعض الناس - إذا فرضنا أن رفع اليد سنة - حتى لا يقع الضرر، وهذا الضرر ليس ضرراً متوقعاً أو نادراً بل كثير وأثناء الرمى نرى كثرة المخالفات المتعلقة بكيفية الرمي وهي كثيرة جداً. - ثم قال - رحمه الله -: ويكبر مع كل حصاة. - لما في حديث جابر - رضي الله عنه - أنه قال: يكبر مع كل حصاة. - ثم قال - رحمه الله -: ولا يجزئ الرمي: بغيرها. = ذهب الجماهير والجم الغفير من أهل العلم: إلى أنه لا يجزئ الرمي إلا بالحصى فقط. والحصى في لغة العرب هي الحجارة الصغيرة. واستدلوا على هذا: - بأن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمر بلقط الحصى فقط مع وجود أعيان أخرى على الأرض. ومع ذلك لم يرم إلا بهذا الشيء. فإن رمى بغير الحجر فإن رميه باطل. = القول الثاني: جواز الرمي بما هو من جنس الأرض فقط كالطين بالإضافة إلى الحصى. وهذا مذهب الأحناف وخالفوا فيه الأئمة الثلاثة.

والراجح مع الجمهور لأن هذه عبادات توقيفية فيجب أن نصير فيها إلى ما جاء عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وعلم من سياق الخلاف أن الرمي بما ليس من جنس الأرض لا يجوز بالإجماع. كاللرمي بالخرسانة أو الاسمنت المتحجر ولو كان متحجراً كتحجر الحجر أو أشد فإنه لا يجوز أن يرمى به لأنه ليس من جنس الأرض وإنما هو مصنع فضلاً عن الرمي بالأشياء الأخرى كالرمي بالنعال أو بالأشياء المعدنية المصنعة فهذه بالإجماع لا يجزئ الرمي بها وإذا اعتقد أنه يفعل ذلك تقرباً وتعبداً إلى الله فهو آثم. إذاً عرفنا: أن الخلاف ينحصر في: ما هو من جنس الأرض. أما ما ليس من جنس الأرض فلا يجزئ الرمي به. فإن قيل: أنه ثبت أن سكينة بنت الحسين - رضي الله عنها - كانت تتناول الحجر من مولاها وترمي فانتهى الحجر من يده في الخامس أو السادس فأخذت الخاتم ورمت به في المرمى تعبداً لله؟ فالجواب: أن رميها - رضي الله عنها - غير صحيح وأن سكينة عملها لا يحتج به إذ ليست مع فضلها وعظيم قدرها - رضي الله عنها - لا من الفقهاء وهذا العمل لا يستدل به. ولذلك أعرض الأئمة عن الاستدلال بهذا لأنها ممن يستدل بعملها وإنما هي أرادت - رضي الله عنها - تعظيم شعائر الله وهي مثابة في هذه النية لكن عملها ليس بصحيح وكان عليها أن ترمي بحجر. إذاً: يبقى أن الراجح أنه لابد من الرمي بحجر. - ثم قال - رحمه الله -: ولا بها ثانياً. يعني لا يجوز للإنسان أن يرمي بالحجر مرة أخرى، وإلى هذا ذهب عدد كبير من الفقهاء أنه لا يجوز أن نرمي بما رمي به من الأحجار. واستدلوا على هذا: - بأن الرسول - صلى الله عليه وسلم - أمر بلقط الحصى لا أخذه من المرمى. - الثاني: أن هذا الحجر استعمل في عبادة فلا يستعمل مرة أخرى. وهذا القول كما قلت لكم مذهب الجمهور واختاره شيخ الإسلام بن تيمية - رحمه الله -. = القول الثاني: جواز الرمي بما رمي به. - لأنه لا دليل على المنع من الرمي بما رمي به. - ولأن من رمى بما رمي به يصدق عليه أنه رمى الجمرة بسبع حصيات. والأحوط والله أعلم أن لا يرمي الإنسان بما رمي به. ويتأكد جداً أن لا يرمي الإنسان بما رمي به. أن لا يأخذ من المرمى.

أما إذا أخذ من أرض المرمى مما لم يرم به فلا حرج فيه لكن أن يأخذ مما رمي به ففي الحقيقة ينبغي أن لا يصنع فإن صنع فالأحوط أن يعيد. - ثم قال - رحمه الله -: ولا يقف. يعني: أنه لا يسن للإنسان أن يقف بعد أن يرمي جمرة العقبة. - لأنه صح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه لم يقف وإنما رمى ثم انصرف إلى المنحر. - ثم قال - رحمه الله -: ويقطع التلبية قبلها. يعني: أن السنة أن الإنسان يقطع التلبية إذا أراد أن يرمي جمرة العقبة. - لما صح عن ابن عباس أنه قال: لم يزل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يلبي حتى رمى جمرة العقبة. وهذا لا إشكال فيه. لكن اختلفوا في: هل يقطع التلبية مع أول حجر أو يستمر إلى أن ينهي الرمي؟ فيه خلاف: على قولين في مذهب أحمد وغيره: = فالقول الأول: أنه يقطع التلبية مع أول حجر. واستدلوا بدليلين: - الدليل الأول: أنه بعد بدء الحاج برمي الحجر سينشغل بالتكبير عن التلبية. لأنه ثبت في مسلم أنه كان يكبر مع كل حصاة. - الدليل الثاني: أنه حنبل - عم الإمام أحمد - أخرج في كتابه رواية لحديث ابن عباس أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يزل يلبي حتى رمى أول حجر. = والقول الثاني: أنه لا يقطع التلبية إلا بعد أن ينهي الرمي تماماً. والأقرب والله أعلم القول الأول لظاهر النص الذي استدلوا به وللتعليل القوي وهو انشغال الحاج بالتكبير. أما رواية حنبل فالغالب عليها الضعف. لأن عند ابن رجب قاعدة مفيدة لطالب العلم - وهي عنده وعند غيره لكنه - رحمه الله -: (قررها في شرح العلل: (أن الأحاديث التي أعرض عنها أصحاب الكتب المشهورة كالكتب الستة أو التسعة أنه يغلب عليها الغرائب والموضوعات والضعاف والمعضلات) فينبغي أن لا يفرح الإنسان إذا وجد حديثاً ليس في الكتب التسعة لأنه يغلب عليه أنه حديث ضعيف أعرض عنه الأئمة لضعفه ولذلك تجد بعض المحققين من أهل العلم كشيخ الاسلام وابن القيم أحياناً يستدلون على الإعراض عن الحديث بقولهم: وهذا الحديث لم يخرجه أحمد في مسنده مع أنه أخرج عدداً كبيراً من الأحاديث. فهذه القاعدة مفيدة جداً ولو رجع الإنسان إلى شرح علل ابن رجب ليقرأ تقرير هذه القاعدة فسيجد فيه فوائد كبيرة.

- ثم قال - رحمه الله -: ويرمي بعد طلوع الشمس، ويجزئ بعد نصف الليل. المؤلف - رحمه الله - يريد أن يبين بهذه العبارة متى يبدأ وقت الجواز في الرمي ومتى يبدأ وقت الفضيلة. فنقول: الرمي بعد طلوع الشمس: صحيح بإجماع أهل العلم فمن رمى بعد طلوع الشمس فقد وافق سنة النبي - صلى الله عليه وسلم - ورميه صحيح بالإجماع. ـ المسألة الثانية: متى يبدأ وقت جواز الرمي. في هذه المسألة خلاف بين أهل العلم. وقد اختلفوا فيها على قولين: = القول الأول: أن وقت جواز الرمي يبدأ بعد منتصف الليل. واستدل أصحاب هذا القول بأدلة: - منها: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أذن لأم سلمة وأمرها أن تخرج فخرجت ورمت قبل طلوع الفجر. وَنُصَّ في الحديث على هذا أنها رمت قبل طلوع الفجر. والجواب على هذا الحديث أنه حديث ضعيف لا يثبت. - الثاني: استدلوا بأن النبي - صلى الله عليه وسلم - أذن في حديث ابن عباس في البخاري ومسلم للضعفة في الخروج بليل. وإنما فائدة الخروج الرمي. = والقول الثاني: أنه لا يجوز للأقوياء أن يرموا إلا بعد طلوع الشمس ويجوز للضعفاء أن يرموا بعد منتصف الليل أو بعد غروب القمر. (إما بعد منتصف الليل أو بعد غروب القمر). واستدل أصحاب هذا القول: - بأن النبي - صلى الله عليه وسلم - وقف في المشعر الحرام ولم يخرج إلا قبيل الإشراق ولم يرم إلا بعد طلوع الشمس. - وأنه إنما أذن للضعفة فقط دون الأقوياء في الخروج والرمي. - واستدلوا أيضاً: بأن ابن عمر - رضي الله عنه - صح عنه أنه نهى عن الرمي قبل طلوع الشمس. والأقرب والله أعلم هو هذا القول: أنه لا يجوز الرمي للأقوياء إلا بعد طلوع الشمس. ويجوز للضعفاء بعد منتصف الليل أو بعد غروب القمر. ومنتصف الليل هو منتصف الليل وغروب القمر يكون في أول الثلث الأخير. إذاً الفرق بين منتصف الليل وغروب القمر وقته يسير فإن بينهما فرقاً ولكنه فرق يسير. فهذا نصف الليل وهذا أول الثلث الأخير من الليل. - ثم قال - رحمه الله -: ثم ينحر هدياً: إن كان معه. يعني: أن السنة بعد الرمي أن يبادر بالنحر.

- لقول جابر - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما رمى جمرة العقبة ركب إلى المنحر ونحر هديه - صلى الله عليه وسلم -. فنحر ثلاثاً وستين وأعطى علياً لينحر ما غبر. يعني: ما بقي. ويسن أن الإنسان إذا نحر أن يأكل من هديه. وقال بعض أهل العلم: بل يجب أن يأكل من هديه. والقول بالوجوب وجيه جداً: لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - تقصد أن يأخذ من كل ذبيحة قطعة ولا شك أنه تقصد هذا تقصداً ورأى أنه نسكاً فينبغي أن نتبع سنة النبي - صلى الله عليه وسلم - وأن نأكل من الذبيحة، صحيحٌ أن الجمهور والجم الغفير يرون أن هذا سنة لكن القول بالوجوب متوجه. ويستوي في هذا - يعني الأكل - أن يأكل من الهدي الواجب ومن الهدي المسنون. فالهدي الواجب: ذبيحة واحدة فلو تقرب إلى الله بعشر ذبائح فيأكل من الهدي الواجب ومن الهدي المسنون. ويسن للإنسان أن لا يكتفي بالذبح بل عليه أن يوزع اللحم على الفقراء. - ثم قال - رحمه الله -: ويحلق أو يقصر. - ثبت في الأحاديث الصحيحة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما نحر حلق. فالواجب أن يحلق أو يقصر، والمستحب أن يحلق، وإذا أراد الإنسان أن يحلق فالمستحب له أن يبدأ بشقه الأيمن: - ما ثبت في الصحيح عن أنس - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما أراد أن يحلق بدأ بشقه الأيمن. والمستحب - كما قلت - الحلق دون التقصير. لأنه صح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه دعا للمحلقين ثلاثاً ..... ((الأذان))) - ثم قال - رحمه الله -: من جميع شعره. = ذهب الجمهور إلى أن الواجب أن يعمم الشعر. - لقوله تعالى: - (مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ) -[الفتح/27] فدلت الآية على أن التحليق عام لأن الآية شملت جميع الرأس. هذا هو الدليل الأول. - والدليل الثاني: أن الآية أمرت بالتحليق والنبي - صلى الله عليه وسلم - عمم الرأس فهو مفسر للآية من جهة الكيفية فيجب أن نقتدي بتفسيره - صلى الله عليه وسلم - العملي للآية. = والقول الثاني: وهو مذهب الحنفية: يجوز الاكتفاء ببعض الرأس. = والقول الثالث: وهو للشافعية: يجوز الاكتفاء بثلاث شعرات.

والراجح أنه لابد من تعميم الرأس، ولا يشترط أن يطال القص إذا كان سيقصر كل شعره لكن الشرط أن يعمم الرأس. - ثم قال - رحمه الله -: وتقصر منه المرأة قدر أنملة. المشروع للمرأة التقصير ولا يشرع لها الحلق. وإنما تقصر قدر أنملة. والدليل على ذلك: - قوله - صلى الله عليه وسلم -: (ليس على النساء حلق إنما عليهن تقصير). - ثم هذه المسألة محل إجماع. أنه لا يشرع في حقها إلا التقصير دون الحلق.

شرح كتاب المناسك الدرس رقم (13) قال شيخنا حفظه الله: بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين. المبحث الأخير ((في الدرس الماضي)) كان الكلام على السنة بالنسبة للمرأة وذكرنا أن السنة بالإجماع بالنسبة للمرأة التقصير دون الحلق وأن قدر التقصير قدر أنملة. وذكرنا الدليل على هذا وهو أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (ليس على النساء حلق وإنما عليهن التقصير) هذا الحديث صحيح وممن صححه ممن يعتمد قوله في التصحيح ويركن إليه: أبو حاتم - رحمه الله -. بقينا في الدليل على هذا التحديد: وهو قدر الأنملة: لم أجد نصاً مرفوعاً بعد البحث يفيد هذا التحديد ولم أجد فتوى عن أمهات المؤمنين وهن المعنيات بهذه المسألة بعد البحث - وربما يوجد ولكنني لم أجد بعد البحث إنما العمدة فتوى لعمر بن الخطاب - رضي الله عنه - بأنه هذا هو مقدار التقصير ويعتمد عليها في إثبات هذا الحكم إن شاء الله. - ثم قال - رحمه الله -: ثم قد حل له كل شيء إلاّ النساء. يريد المؤلف - رحمه الله - بيان التحلل الأول. وأنه يحصل بعد الرمي والتحليق. وأن التحلل الأول يفيد حل كل ما كان ممنوعاً على المحرم إلا النساء وسيأتينا المقصود بكلمة: (إلا النساء). وما يحصل به التحلل الأول محل خلاف بين الفقهاء على أقوال كثيرة نأخذ منها المهم وهو: = القول الأول: مذهب الحنابلة والجمهور أن التحلل الأول يحصل بفعل اثنين من ثلاثة: الرمي والحلق والطواف. واستدل الجمهور على هذا الحكم بدليلين:

- الدليل الأول: حديث عائشة في الصحيح أنها - رضي الله عنها - قالت: طيبت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لإحرامه قبل أن يحرم ولحله قبل أن يطوف. وجه الاستدلال بالحديث: استنبطه الحافظ بن حجر استنباطاً رائعاً - من وجهة نظري - وهو أنه قال: لولا أن التحلل حصل بعد الرمي والحلق لم تكتفي بذكر الطواف. وهذا صحيح فإنك إذا تأملت النص فإنك لا تجد تعليلاً مقنعاً لقولها: (ولحله قبل أن يطوف) إلا أن الرمي والحلق سبق هذا أطيب والطواف فما ذكره الحافظ في الحقيقة وجيه جداً في استنباط هذا الحكم من هذا اللفظ. - الدليل الثاني: قوله - صلى الله عليه وسلم -: (إذا رميتم وحلقتم فقد حل لكم كل شيء إلا النساء). وهو مروي من حديث عائشة - رضي الله عنها -. لكن هذا الحديث ضعيف. = القول الثاني: أن التحلل الأول يحصل بالحلق فقط يعني ولو لم يرم. وهذا مذهب الأحناف. = القول الثالث: أن التحلل يحصل بالرمي فقط. وهذا مذهب المالكية ورواية عن الإمام أحمد - رحمه الله -. واستدل هؤلاء بثلاثة أدلة: - الدليل الأول: ما جاء في حديث عائشة - رضي الله عنها - أنها قالت: إذا رميتم جمرة العقبة فقد حل لكم كل شيء إلا النساء. - والدليل الثاني: حديث أم سلمة - رضي الله عنها - أنها قالت: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إن هذا اليوم أذن لكم إذا أنتم رميتم العقبة أن تحلو. - والدليل الثالث: حديث ابن عباس - رضي الله عنه - أنه قال: قال رسول - صلى الله عليه وسلم -: (إذا رميتم العقبة فقد حل لكم كل شيء إلا النساء). وهذه الأحاديث الثلاثة هي عمدة القوم في الاكتفاء بالرمي وهذه الأحاديث ضعيفة لا يثبت منها شيء وإن حسنها بعض أهل العلم لكن الصواب أنه لا يصح في إثبات أن الرمي لجمرة العقبة يكفي وحده في التحلل حديث ثابت إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -. وأضعف هذه الأقوال: القول الثاني فهو قول بعيد عن الصواب جداً ومخالف للآثار المروية. لأن بعض هذه الأحاديث الضعيفة روي موقوفاً فهو من فتاوى الصحابة. وأصح هذه الأقوال - إن شاء الله - بشكل واضح أن التحلل لا يحصل إلا بفعل اثنين من ثلاثة: الرمي والحلق والطواف.

سبب الترجيح: إذا تأملت سياق حديث جابر - رضي الله عنه - وحديث أسامة والأحاديث التي وصفت نسك النبي - صلى الله عليه وسلم - وحديث أنس في مسلم تكاد تجزم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - رمى ثم ذهب إلى المنحر فنحر ثم ذهب إلى مكانه وأمر الحلاق أن يحلق الشق الأيمن ثم الأيسر ثم اغتسل وتطيب وذهب إلى الحرم. يكاد الإنسان يجزم بهذا الترتيب. لماذا؟ لأنا لو فرضنا أن النبي - صلى الله عليه وسلم - تحلل بعد الرمي والذبح فسيكون تحلل وتطيب ثم حلق فلا يوجد ترتيب آخر، لو فرضنا أن النبي - صلى الله عليه وسلم - تحلل بمجرد الرمي بعد أن رمى ونحر سيكون تبعاً لذلك - صلى الله عليه وسلم - حلق بعد أن تطيب وهذا بعيد جداً لأن المقصود من التطيب النظافة ويبعد أن يؤجل النبي - صلى الله عليه وسلم - التنظف والتطيب والتهيؤ للطواف ويبعد أن يقدمه قبل الحلق لأن الحلق يقتضي الشعث وعدم النظافة بلا إشكال، فيبعد جداً أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قدم التحلل على الحلق، وإذا تأمل الإنسان الأحاديث ظهر هذا له جلياً، فإذا كان النبي - صلى الله عليه وسلم - تحلل بعد الحلق فهذا هو المقصود، إذاً دلت السنة بالتأمل أنه - صلى الله عليه وسلم - رمى ثم نحر ثم حلق ثم تحلل وطيبته عائشة - رضي الله عنها - وذهب إلى الطواف، فمن الخطأ البين أن يكتفي الإنسان بالرمي ويعجز عن الحلق ويتحلل ويذهب ويلبس المخيط بعد ذلك. وهي مسألة خلافية لكن الراجح هو مذهب الجمهور وأنا أرى أن من فعل ذلك فقد ارتكب محظوراً من محظورات الإحرام وهو لبس المخيط قبل أن يتحلل هذا إذا قلنا أنه يشترط للتحلل أن يفعل اثنين من ثلاثة. * * مسألة / يقولون: يفعل اثنين من ثلاثة والأحاديث والنصوص ليس فيها إلا الرمي والحلق لكن أدخلوا الطواف مع هذه الثلاثة. وعللوا ذلك بأنه إذا كان للطواف تأثير في التحلل الكبير الثاني فلأن يؤثر في التحلل الأول من باب أولى. - فإذا رمى وطاف حل التحلل الأول. - وإذا حلق وطاف حل التحلل الأول. بفعل اثنين من ثلاثة. والتحلل الأخير يحصل بفعل الثالث منهما كما سيأتي منصوصاً عليه في كلام المؤلف - رحمه الله -.

إذاً خلاصة هذه المسألة أن الراجح إن شاء الله أنه لا يتحلل الإنسان إلا بالرمي والحلق وأنه لا يكتفى برمي جمرة العقبة. - ثم قال - رحمه الله -: إلا النساء. المقصود بالنساء هنا عند الحنابلة ما يشمل عدة أمور: - الأول: الوطء. - والثاني: المباشرة. - والثالث: اللمس بشهوة. - والرابع: التقبيل. - والخامس: عقد النكاح. والمقصود بلا شك التمثيل فكأن الحنابلة يقولون: كل ما يتعلق بالمرأة مما هو من جنس الرفث فهو ممنوع عنه قبل أن يتحلل التحلل الأول. = والقول الثاني: أن المراد بالنساء هنا وهو رواية عن الإمام أحمد: الوطء خاصة. وما عدا الوطء فهو جائز. - لأن الوطء هو المحذور الأكبر في الحج فيتعلق المنع به فقط. والأقرب والله أعلم القول الأول لأن التقبيل واللمس بشهوة والمباشرة تؤدي غالباً إلى الوطء لا سيما بعد طول انقطاع وهي الأيام التي بقي فيها الحاج محرماً، ثم إنه في الأحاديث قال: فقد حل له كل شيء إلا النساء. وكلمة إلا النساء عامة تشمل جميع هذه الممارسات، كما أن المباشرة والتقبيل من محظورات الإحرام وهي داخلة في معنى الرفث فيبقى الإنسان ممنوعاً منها إلى أن يحل من جنس هذا الأمر وهو ما يتعلق بالنساء. بناء عليه: الأقرب والله أعلم أن الإنسان إذا تحلل التحلل الأول ولبس الثياب وتطيب فإنه ينبغي عليه ويتأكد أن يجتنب الكلام فيما يتعلق بالنساء سواء كان على سبيل المزاح أو على سبيل الجد. ولم أر أحداً من الفقهاء نص على مسألة التحدث في أمور النساء وما يتعلق بهن سواء كان بالنكاح أو بالجماع أو .. لم ينص الفقهاء على المنع منه لكنهم مثلوا بأشياء أخرى تقع كثيراً وهي هذه الخمسة التي ذكرت لك. فهذا الأمر الذي يقع من بعض إخواننا أحياناً يظهر والله أعلم أنه داخل في المنع وإن كان بلا شك أنه أهون من التقبيل والوطء والمس بشهوة والمباشرة التي ذكرها الفقهاء لكنه داخل في المعنى العام مع أني أقول هو أهون منها لكن ينبغي على الإنسان أن يجتنب مثل هذه الأشياء: أي: يجتنب كل ما يتعلق بالنساء إلى أن يتحلل التحلل الثاني. - ثم قال - رحمه الله -: والحلاق والتقصير: نسك.

نسك: يعني عبادة يتقرب بها الإنسان إلى ربه وليس إطلاقاً من محظور كما يقول بعض أهل العلم ولعل المؤلف - رحمه الله - أن يرد على الذين قالوا أن الحلق والتقصير مجرد إطلاق من محظور كأنه كان ممنوعاً منه ثم أذن له فيه كما أنه كان ممنوعاً من الصيد ثم أذن له بالصيد وهكذا. فالمؤلف - رحمه الله - يريد أن يبين أن الحلق أو التقصير نسك يتعبد الإنسان به إلى ربه. وهذا القول هو الصواب الذي تدل عليه النصوص لا سيما والنبي - صلى الله عليه وسلم - في الحديث الصحيح دعا للمحلقين ثلاثاً وللمقصرين مرة وهذا إنما يكون في العبادات لا في المباحات. - ثم قال - رحمه الله -: لا يلزم بتأخيره دم. لا يلزم من تأخير الحلق أو التقصير دم، وظاهر عبارة المؤلف - رحمه الله - أنه ليس لهذا التأخير حد بل له أن يؤخر إلى ما شاء ولو انتهت أشهر الحج، وهذا هو = مذهب الحنابلة: أن له التأخير ما شاء ولو انتهت أشهر الحج إذ لا دليل يدل على التوقيت. = والقول الثاني: أن له التأخير إلى نهاية أشهر الحج. واستدل هؤلاء: - بأنه إذا تقرر أن الحلق أو التقصير عبادة وهي عبادة خاصة بالحج فإن مناسك الحج يجب أن تؤدى في وقته وفي زمنه وزمن الحج ينتهي بأشهره. وهذا القول هو الصواب بلا شك إن شاء الله: أنه لا يجوز له التأخير عمداً إلى أن تنتهي أشهر الحج. - ثم قال - رحمه الله -: ولا بتقديمه على الرمي والنحر. يعني: أنه يجوز للإنسان أن يقدم ويؤخر في أعمال اليوم العاشر: وهي: الرمي والنحر والحلق والطواف. فله أن يقدم بعضها على بعض. والدليل على ذلك: - ما ثبت في الأحاديث المشتهرة أو النقول المتواترة التي جاءت عن أكثر من صحابي في الصحيح وخارج الصحيح أن النبي - صلى الله عليه وسلم - سئل عن أعمال اليوم العاشر عن التقديم فيها والتأخير وهذا بعض ألفاظ الأحاديث (عن التقديم فيها والتأخير) فقال: (افعل ولا حرج). فهذا نص في جواز تقديم بعض الأعمال على بعض وأنه لا محظور في ذلك ولا يترتب على من فعله دم. - ثم قال - رحمه الله -: فصل. هذا الفصل مخصص للكلام عن باقي أركان الحج وباقي أعمال الحج. فالأركان: الطواف والسعي. والأعمال: المبيت والرمي. - يقول - رحمه الله -:

ثم يفيض إلى مكة، ويطوف القارن والمفرد بنية الفريضة: طواف الزيارة. هذا الطواف الذي يسمى طواف الإفاضة أو طواف الزيارة ركن من أركان الحج التي أجمع أهل العلم على أنه ركن فيها ولا يصح حج الإنسان إذا لم يأتي به. وقوله - رحمه الله -: (ثم يفيض إلى مكة، ويطوف القارن والمفرد بنية الفريضة: طواف الزيارة.) ظاهر عبارة المؤلف - رحمه الله - أنه يطوف طواف الإفاضة ولا يشترط أن يطوف طواف القدوم قبل أن يطوف طواف الإفاضة. = والمذهب على خلاف ما ذكره المؤلف - رحمه الله - وهو أن من جاء من عرفة ومزدلفة وأراد أن يطوف عليه أن يطوف طواف القدوم إن كان متمتعاً أو قارناً. لكن إن كان متمتعاً فإنه يطوف طواف القدوم بلا رمل وإن كان قارناً أو مفرداً فإنه يطوف طواف القدوم مع الرمل هذا إذا لم يكن طاف طواف القدوم بالنسبة للقارن والمفرد، فغاية ما يستفاد من كلام المؤلف - رحمه الله - أنه يريد أن يبين أنه يطوف ولا يجب عليه أن يأتي بطواف القدوم قبل ذلك. وقول المؤلف - رحمه الله - هنا (ويطوف القارن والمفرد) لا معنى له بل يجب أن يقول: ويطوف القارن والمفرد والمتمتع، إنما خص المؤلف - رحمه الله - القارن والمفرد لأنهما عليهما الرمل في طواف القدوم دون المتمتع. يعني في هذه الصورة، ولذلك تجد أن غير المؤلف - رحمه الله - من أهل العلم والفقهاء الحنابلة ينصون على القارن والمفرد والمتمتع فاقتصار المؤلف - رحمه الله - على القارن والمفرد هنا ليس له معنى في الحقيقة وكان الواجب أن يذكر الجميع لأن الحكم يتناول الجميع. تلخيص ما سبق: = الحنابلة يرون أن القارن والمفرد والمتمتع إذا أراد أن يطوف طواف الإفاضة فعليه أن يطوف طواف القدوم أولاً ثم يطوف طواف الإفاضة. إنما الفرق بين المتمتع والقارن والفرد هو: أن هؤلاء يرملون وهو لا يرمل. = والقول الثاني: أنه ليس عليهم جميعاً لا المفرد ولا القارن ولا المتمتع أن يطوفوا طواف القدوم بل يطوفوا طواف الإفاضة مباشرة. وهذا القول: الثاني هو الصواب.

والقول الأول وهو: أنهم يطوفون طواف القدوم أولاً قول في الحقيقة تفرد به الإمام أحمد - رحمه الله -، ومن أضعف ما مر عليَّ من أقوال الإمام أحمد - رحمه الله - هذا القول ولذلك لم يوافق الإمام - رحمه الله - أحد على مشروعية هذا الطواف، فالقول بأنه يطوف طواف قدوم قول ضعيف حتى أصحاب الإمام أحمد - رحمه الله - أو كثير من أصحاب الإمام أحمد لم يوافقوه على هذا القول. - ثم قال - رحمه الله -: وأول وقته بعد نصف ليلة النحر. أول الوقت الذي يجوز فيه أن يطوف الإنسان فيه بعد منتصف ليلة النحر، والخلاف في هذه المسألة كالخلاف تماماً في مسألتين تقدمتا: وهما: - متى يجوز للإنسان أن يخرج من مزدلفة؟ - ومتى يجوز للإنسان أن يبدأ برمي جمرة العقبة؟ فالخلاف المذكور في هاتين المسألتين هو نفسه الخلاف الذي وجد في مسألة متى يبدأ وقت جواز طواف الإفاضة؟ تقدم معنا أن: - الجماهير يرون أنه من بعد منتصف الليل فإذا انتصفت ليلة مزدلفة فللإنسان أن يخرج من مزدلفة مباشرة إلى الحرم ويطوف طواف الإفاضة. وأن القول الراجح جواز تقدم الخروج من مزدلفة والرمي والطواف خاص بالضعفة. - ثم قال - رحمه الله -: ويسن في يومه. يسن أن يقع طواف الإفاضة في يوم العيد، ويسن أن يكون بعد الرمي والحلق والنحر، ولو أن المؤلف - رحمه الله - أشار إلى هذا لكان حسناً. لأن السنة الكاملة هي أن يقع في يوم العيد وأن يقع بعد هذه الأعمال، فإذاً السنة أن يؤخر الإنسان الطواف إلى أن ينتهي من أعمال يوم العيد الأخرى وهي الرمي والنحر والحلق ثم يطوف ويجعل هذا الطواف في يوم العيد، إذاً هذا معنى قول المؤلف - رحمه الله - ويسن في يومه. - ثم قال - رحمه الله -: وله تأخيره. يعني: وله تأخير طواف الإفاضة. واختلف أهل العلم في الحد الذي يجوز أن يؤخر الإنسان إليه طواف الإفاضة: = فالحنابلة يرون أن له أن يؤخر تأخيراً غير محدود بزمن ولو أخرجه عن أشهر الحج. = والقول الثاني: أنه له أن يؤخر إلى نهاية أيام التشريق فقط. = والقول الثالث: أن له أن يؤخر إلى نهاية أشهر الحج فقط.

وهذا القول الأخير هو القول الصواب إن شاء الله وهو أنه يشترط أن لا يؤخر إلى أكثر من نهاية أشهر الحج لأنه عبادة بل هو ركن الحج بل هو من أعظم العبادات في الحج بعد الوقوف في عرفة فكيف نخرج هذا العمل وهذا النسك العظيم عن أشهر الحج التي هي زمان أداء أعمال الحج؟ - ثم قال - رحمه الله -: ثم يسعى بين الصفا والمروة: إن كان متمتعاً أو غيره ولم يكن سعى مع طواف القدوم 0 ثم قد حلّ له كل شيء. بعد الطواف يقوم الحاج بالسعي، والسعي ركن من أركان الحج، وسيأتينا الخلاف في مسألة حكم السعي. لكن الذي يعنينا الآن مسائل أخرى: - المسألة الأولى: أنه إذا سعى فقد تحلل التحلل الثاني. بإجماع أهل العلم. - المسألة الثانية: أن المتمتع يلزمه سعيان: o السعي الأول: في العمرة. o والسعي الثاني: في الحج. وإلى هذا: = ذهب الجماهير. أنه يلزم المتمتع أن يسعى مرتين: السعي الأول: للعمرة. والسعي الثاني: للحج. واستدل الجمهور بأدلة: - منها: الدليل الأول: حديث ابن عباس - رضي الله عنه - أنه ذكر شأن المتمتعين ووصف حجهم ثم قال: ثم سعوا بين الصفا والمروة مرة أخرى وهذا نص في المقصود. وأجيب عن الحديث: بأنه حديث ضعيف وأنه معلول وأن البخاري - رحمه الله - لم يخرجه مسنداً وإنما أخرجه معلقاً. والصواب أن الحديث صحيح وقد تأملت العلل التي ذكروها للحديث فلم أجد فيها على تثبت وهم ذكروا أشياء لكنها لا تثبت ومنهم شيخ الإسلام حاول أن يضعف هذا الحديث لكن لم يأت بشيء مقنع في تضعيف هذا الحديث. - الدليل الثاني: أن عائشة - رضي الله عنها - ثبت عنها في الصحيح أنها وصفت حج المتمتع والمفرد والقارن ونصت على أن المتمتعين طافوا بين الصفا والمروة مرة أخرى. وهذا نص في المسألة. وأعل بأن هذا التفصيل المذكور في آخر حديث عائشة مدرج من كلام الزهري. وأنه لا يصح مرفوعاً إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -. والأقرب والله أعلم: أن الحديث صحيح مرفوعاً وبهذا يشعر صنيع البخاري - رحمه الله - فإنه أخرجه مرفوعاً كاملاً. ولم يذكر شيخ الاسلام - رحمه الله - سبباً في الحكم على الحديث بالإدراج. هذا أولاً.

ثانياً: تقدم معنا مراراً وتكراراً أن الحافظ الفقيه الإمام الزهري إذا وصف شيئاً أنه من السنة فقوله له ثقل ويصلح أن يستدل به الإنسان لأنهم شهدوا له جميعاً بمعرفة السنة استقراءً، فلو فرضنا أن هذا الكلام من كلام الزهري وأنه يثبت أن الصحابة الذين تمتعوا سعوا مرتين فهذا بحد ذاته دليل قوي، هذا إذا سلمنا بأن الحديث مدرج من كلام الزهري - رحمه الله -. = والقول الثاني: أن المتمتع يجزئه سعي واحد ولا يلزم أن يسعى مرتين وهو رواية عن الإمام أحمد انتصر لها شيخ الاسلام - رحمه الله -. واستدل بحديث صحيح صريح وهو: - أن جابر - رضي الله عنه - قال: أن أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يسعوا بين الصفا والمروة إلا مرة واحدة. ومن المعلوم أن أكثر أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - - جملة الصحابة - حجوا متمتعين وأن الذين حجوا بنسك قران نفر معدود وحسبوا فمنهم من قال خمسة أو كثر أو أقل وبكل حال هم نفر معدود فهم جماعة قليلة من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم -، وإذا كان جابر - رضي الله عنه - يقول: إن أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يسعوا إلا سعياً واحداً بين الصفا والمروة فمن أول ما يدخل في كلام الصحابي الجليل جابر المتمتعون من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم -. وأجاب الجمهور عن هذا الحديث بأن المقصود فقط القارنين للتوفيق بين النصوص وللجمع بينها فإن عائشة وابن عباس يثبتون سعياً آخر وجابر ينفيه نفياً عاماً، والمثبت مقدم على النافي ولكي نحفظ على جابر ما ذكر نجمع بينه وبين ما قالت عائشة وابن عباس بأن يحمل كلامه على القارنين فقط. والراجح والله اعلم القول الأول. ولو سلم لشيخ الإسلام تضعيف حديث ابن عباس وتضعيف حديث عائشة لكان قوله قوي جداً ومتوجه لكن الإشكال أن هذه الأحاديث التي أعلها شيخ الإسلام - رحمه الله - في الواقع ليست معلولة بل ثابتة وصحيحة، وهذا يقدح في استدلاله - رحمه الله - وقوة قوله. فنقول الراجح مع الجماهير من الأئمة الأربعة وغيرهم من فقهاء المسلمين الذين رأوا أن المتمتع عليه أن يسعى مرتين الأولى للعمرة والثانية للحج.

ومن أدلة شيخ الاسلام: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (دخلت العمرة في الحج إلى يوم القيامة). قال وفي هذا دليل على أن المناسك التي أداها الإنسان في العمرة تجزئ عنه في الحج وإنما تحلل بين النسكين تسهيلاً عليه والشريعة إنما جاءت سمحة سهلة فمن اليسر على الإنسان أن يتحلل بين النسكين ليأخذ قسطاً من الراحة ويتمتع بهذا التحلل وإلا فإن نسك العمرة والحج شيء واحد حتى بالنسبة للمتمتع. لكن نقول: ما دام معنا حديث صحيح عن ابن عباس - رضي الله عنه - وحديث صحيح آخر عن عائشة - رضي الله عنها - فإنه لا يمكن العدول عن هذا القول ويكون إن شاء الله هو القول الراجح. - ثم قال - رحمه الله -: ثم يسعى بين الصفا والمروة: إن كان متمتعاً أو غيره ولم يكن سعى مع طواف القدوم في هذا دليل على أن القارن والمفرد إذا سعوا مع طواف القدوم فإن هذا السعي يجزئهم عن سعي الحج ويكون هو ركن الحج ولو كان مقدماً على الوقوف بعرف. والدليل على هذا: - ما أخرجه الإمام مسلم عن عائشة - رضي الله عنها - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال لها: (طوافك بين الصفا والمروة يجزئك عن حجك وعمرتك). وهذا نص صريح في إجزاء السعي بالنسبة للقارن والمفرد الأول عن سعي الحج، فإذا سعى فإنه يكتفى بذلك عن السعي في الحج. بل نقول: أن السنة للقارن والمفرد أن يصنعا ذلك لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه الذين وافقوه في نسك القران صنعوا ذلك. وهو: أن يقدم الإنسان السعي مع طواف القدوم. * * مسألة / هل يستطيع أهل مكة إذا كان الحاج منهم مفرداً أو قارناً أن يقدموا السعي كما يقدمه الآفاقي؟ أو أن هذا الحكم خاص بالآفاقي. الجواب: أن الأقرب والله أعلم أن هذا الحكم خاص بالآفاقي. - لأنه يشترط كما تقدم معنا أن يكون السعي بعد طواف مسنون ونسك. والطواف المسنون والنسك هنا هو: طواف القدوم وطواف القدوم لا يشرع لأهل مكة إذ ليس لهم طواف قدوم، ولذلك ذهب الجماهير وحكي إجماعاً حكاه بعضهم إجماعاً أن هذا الحكم خاص للآفاقي ولا يتناول المكي. - ثم قال - رحمه الله -: ثم قد حلّ له كل شيء. وهو التحلل الثاني وذكرنا أنه بعد أن يطوف ويسعى فقد تحلل التحلل الثاني بالإجماع. -

ثم قال - رحمه الله -: ثم يشرب من ماء زمزم: لما أحب. - ثبت في صحيح مسلم من حديث جابر - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما سعى ذهب إلى زمزم وشرب - صلى الله عليه وسلم -. وهذا هو الموضع الثاني في حديث جابر فيه الشرب من ماء زمزم. وهو الموضع الوحيد الموجود في صحيح مسلم، وأخرج الإمام أحمد - رحمه الله - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما طاف طواف القدوم وقبل أن يسعى ذهب إلى زمزم وشرب منها، إذاً في حديث جابر الشرب من زمزم مرتين. الثاني منهما ثابت في مسلم والأول منهما لم يخرجه مسلم وهو ثابت في مسند الإمام أحمد فقط، الأول منهما: الأظهر والله أعلم أنه شاذ لأنه تفرد به رجل وصف بأنه يهم أحياناً. فليس من السنة بعد طواف القدوم سواء كان هذا الطواف لطواف العمرة أو لطواف القدوم بالنسبة للمفرد والقارن ليس من السنة أن يذهب ويشرب من زمزم إنما السنة أنه إذا طاف يوم العيد يعني بعد طواف وسعي الحج يذهب إلى زمزم ويشرب منه كما ثبت في الحديث الصحيح. إذاً الموضع الأول ليس من السنة. - ثم قال - رحمه الله -: لما أحب. يعني أنه يستحب للإنسان حال شرب زمزم أن ينوي به تحقيق ما أحب. - لقول النبي - صلى الله عليه وسلم - في حديث ابن عباس - رضي الله عنه -: (ماء زمزم لما شرب له). هذا الحديث عامة المتأخرين على تصحيحه فحسنه الحافظ بن حجر وظاهر عبارة الحافظ ابن القيم أيضاً تحسينه ونقل بعضهم تصحيح ابن عيينة له. فإن كان ابن عيينة صححه فإليه المنتهى في التصحيح وهو إمام من أئمة العلل ومن أئمة أهل الحديث فإذا صححه فإليه المنتهى، وعلى كل حال هذا الحديث إن شاء الله ثابت يعني: صححوه ونقل تصحيحه عن ابن عيينة فهو إن شاء الله ثابت. فالأحسن أن الإنسان إذا أراد أن يشرب أن يشرب زمزم بنية تحقيق ما يحب، ويستحب أن ينوي أمراً من أمور الآخرة وأن لا ينويً من أمور الدنيا لأن الاشتغال بتحقيق مصالح الآخرة أنفع للعبد من الاشتغال بتحقيق مصالح الدنيا. - ثم قال - رحمه الله -: ويتضلع منه. يعني: ويستحب إذا شرب من ماء زمزم أن يشرب إلى أن يتضلع أي إلى أن يمتلئ ما بين أضلاعه من ماء زمزم.

واستدلوا على سنية أن يشرب هذه الكمية ولو لم يكن بحاجة إليها: - بحديث ابن عباس أن آية ما بيننا وبين المنافقين أنا نتضلع من زمزم. وهذا الحديث حديث ضعيف ولا يثبت مرفوعاً إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فالأقرب والله أعلم أن هذا لا يسن. بل إذا أتى الإنسان إلى زمزم فإنه يشرب قدر حاجته ويكتفي، وهذا كما أنه لا دليل عليه أيضاً هو ظاهر السنة فإن المنقول عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه استقي له من ماء زمزم فأخذه وشربه ولم يشر لا جابر ولا غيره من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه تقصد هذه القضية وهو أن يملأ ما بين أضلاعه من الماء ولو لم يكن بحاجة إلى شرب هذا الماء، فالأصل والسنة أن يشرب الإنسان على طبيعته وليس من السنة أن يتضلع منه. - ثم قال - رحمه الله -: ويدعو بما ورد. روي أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (اللهم إني أسألك علماً نافعاً ورزقاً واسعاً وشفاءً من كل داء) لكن هذا الحديث روي من حديث ابن عباس وهو حديث ضعيف. لكن لعله يصح موقوفاً. وأنا لم أنظر في الإسناد موقوفاً أما مرفوعاً فلا إشكال أنه لا يصح مرفوعاً لكنه قد يصح موقوفاً. وفي هذا الحديث إشارة إلى أن ماء زمزم يستعمل في الشفاء في قوله: (وشفاء من كل داء). ففي هذا الأثر إشارة إلى استخدام ماء زمزم صرفاً في الدواء أو ممزوجاً مع غيره أمر له أصل في السنة. بالإضافة إلى ما وصفت به هذه العين من البركة. - ثم قال - رحمه الله -: ثم يرجع فيبيت بمنى ثلاث ليال. المبيت بمنى ثلاث ليال مسنون ثابت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - واختلفوا في حكمه: والخلاف إنما هو في المبيت: في الليلة الأولى والثانية أما الليلة الثالثة فبالإجماع المبيت فيها سنة إن شاء الإنسان أن يتأخر بات فيها وحقق السنة وإن شاء أن يتعجل فلا حرج عليه، إذاً الخلاف في المبيت ليلة الحادي عشر وليلة الثاني عشر. = فذهب الجماهير وأكثر أهل العلم إلى أن المبيت في منى ليالي التشريق واجب من واجبات الحج الذي يجبر بالدم إذا ترك - كما سيأتينا تفصيل متى يجبر بالدم في كلام المؤلف - رحمه الله -. لكن الذي يعنينا الآن أن المبيت واجب عن الجماهير. واستدلوا على هذا بدليلين:

- الدليل الأول: أن جابر - رضي الله عنه - وصف حج النبي - صلى الله عليه وسلم - وبين أنه لما صلى الظهر في منى وعلى رواية لما صلى الظهر في مكة رجع إلى منى وبات فيها وقال: (خذوا عني مناسككم). - فعلى الرواية الأولى أنه صلى في مكة الدليل بقوله: (خذوا عني مناسككم). - وعلى الرواية الثانية: لأن الصحابة اختلفوا أين صلى النبي - صلى الله عليه وسلم - الظهر يوم العيد على الرواية الثانية أنه صلى في منى فالدليل من قوله: (خذوا عني مناسككم) وأيضاً من مبادرة النبي - صلى الله عليه وسلم - في الرجوع إلى منى وترك الصلاة في المسجد الحرام، ففي هذا إشارة إلى أن المبيت فيها متأكد. - الدليل الثاني: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أذن للعباس كما في صحيح البخاري وغيره أن يبيت في مكة ويترك المبيت في منى ورخص له في ذلك لأنه مشغول بالسقاية. وقوله: (رخص) دليل على أن البقاء عزيمة لأن الرخصة لا تأتي إلا من عزيمة. = والقول الثاني: أن المبيت فيها ليالي التشريق سنة فإن فعل الإنسان فقد أحسن ويؤجر وإن تركه فلا حرج عليه ولا دم وهذا هو مذهب الأحناف. واستدلوا على هذا: - بقولهم: إن المبيت في منى إنما شرع فقط ليتسنى للإنسان الرمي أيام التشريق وإلا المبيت ليس بمقصود لذاته وإنما شرع فقط ليسهل على الحاج الرمي أيام التشريق وإذا كان شرع لهذا الغرض فقط فهو سنة وليس بواجب إذ ليس مقصوداً هو بذاته. وهذا قول غاية في الضعف وغاية في البعد ومن تأمل السنة علم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قصد المبيت فيها لا سيما وأنه سيأتينا آثار عن الصحابة في أنهم أفتوا بجزاء معين سيأتينا إما إطعام أو دم على من ترك ليلة أو أكثر وهذا يشعر أنهم رضي الله عنهم وأرضاهم كانوا يرون أن المبيت أمر متحتم. - ثم قال - رحمه الله -: فيرمي الجمرة الأولى وتلي مسجد الخيف بسبع حصيات، ويجعلها عن يساره، ويتأخر قليلاً ويدعو طويلاً. ثم الوسطى مثلها. ثم جمرة العقبة، ويجعلها عن يمينه، ويستبطن الوادي، ولا يقف عندها. يفعل هذا: في كل يوم من أيام التشريق.

هذا الوصف الذي ذكره المؤلف - رحمه الله - مروي في حديث ابن عمر - رضي الله عنه - في صحيح البخاري وهو أنه - رضي الله عنه - جاء فرمى الجمرة الصغرى بسبع حصيات يكبر مع كل حصاة ثم أخذ ذات اليمين ووقف يدعو وفي حديثه يدعو طويلاً وفي الآثار الأخرى المروية عن غيره - رضي الله عنه - أنها بقدر سورة البقرة لكن التقدير بسورة البقرة ليس في البخاري ثم أنه رمى الوسطى وأخذ ذات الشمال ودعا دعاء طويلاً وكذلك نص على طول الدعاء بلا تقدير وقدر في روايات أخرى أنه بمقدار قراءة سورة البقرة ثم رمى العقبة وانصرف ولم يقف. وهذا التفصيل الذي ذكره المؤلف - رحمه الله - هو المذكور في حديث ابن عمر - رضي الله عنه - ولما صنع - رضي الله عنه - ذلك قال: هكذا رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصنع. فهذه الكيفية كيفية ثابتة في الأحاديث الصحيحة ويتأكد على الحاج أن يتحراها بأن يرمي على هذه الصفة مقتدياً بالنبي - صلى الله عليه وسلم - كما أنه يتأكد عليه أن يدعو دعاء طويلاً فإن هذا سنة من سنن الرمي المتأكدة، وكما قلت لكم أن هذا الطول حدد بسورة البقرة، وفي بعض الروايات بقراءة نحو مائتي آية .. ((الأذان)) ... نكون توقفنا عند هذا الحد وغداً إن شاء الله يكون الكلام عن قوله (رماها بسبع حصيات) والخلاف في من نقص حصاة أو حصاتين أو ثلاث أو أربع وكلام أهل العلم فيما يتعلق بالنقص مما لا يتسع الوقت لذكر الخلاف فيه الآن.

شرح كتاب المناسك الدرس رقم (14) قال شيخنا حفظه الله: بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين. تقدم معنا أن هذه الكيفية التي ذكرها المؤلف - رحمه الله - بقوله: (يرمي الجمرة الأولى بسبع حصيات ويجعلها عن يساره ويتأخر قليلاً ... إلى آخر الصفة .. تقدم معنا أن هذه الصفة جاءت صريحة في حديث ابن عمر - رضي الله عنه - في صحيح البخاري وأنه لما صنع هذه الكيفية في الرمي قال هكذا رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يفعل وهذا تقدم معنا في الدرس السابق. - بقينا في قول المؤلف - رحمه الله -: بسبع حصيات. في هذه العبارة دليل على أنه يشترط لصحة الرمي أن يستكمل الرامي سبع حصيات فإن نقص حصاة واحدة أو أكثر بطل الرمي. - لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - رمى بسبع حصيات وقال: (خذوا عني مناسككم) ولا يجوز أن ننقص في أداء النسك عما صنعه النبي - صلى الله عليه وسلم -. = والقول الثاني: أنه يجوز أن ينقص الإنسان حصاة واحدة. واستدل هؤلاء: - بقول بن عمر - رضي الله عنه - لا أبالي بسبع رميت أو بست. وهذا الأثر فيه ضعف وانقطاع. = والقول الثالث: أنه يجوز أن ينقص حصاة أو حصاتين. واستدلوا: - بحديث سعد بن مالك أنه قال - رضي الله عنه -: رجعنا من الحج وبعضنا يقول رميت بست وبعضنا يقول رميت بخمس. ومن رمى بخمس فقد نقص رميه بحصاتين، وهذا الحديث أيضاً أعل بالانقطاع وضعفوه. فصار في المسألة ثلاثة أقوال: أنه لابد من سبع. أنه لابد من ست. أنه لابد من خمس. ومن سياق هذا الخلاف تعلم أن الفقهاء لم يجيزوا الرمي إذا نقص العدد عن ثلاث. يعني: إذا نقص ثلاث فأكثر لم يجيزوه إنما الخلاف في حصاتين فأقل. وهذا هو الواقع فإني لم أجد خلافاً فيما اطلعت عليه من كلام أهل العلم فيمن نقص من الحصا قدر ثلاث إنما الخلاف في نقص واحدة أو نقص ثنتين. والراجح والله أعلم أنه لا يجوز النقص أبداً لعدم صحة الآثار ولأنه لا مستند للذين قالوا بجواز النقص عن حصاتين.

وإن كانت هذه المسألة في الحقيقة تحتاج إلى جمع الآثار أكثر والتثبت من قضية عدم وجود فتاوى عن الصحابة تفيد جواز نقص حصاة أو حصاتين. نعم. هذه الآثار التي ذكرت الآن فيها ضعف لكن مثل هذا الباب يحتاج إلى تتبع أكثر وحسب ما بحثت لم أجد آثار أو فتاوى لكن يقع في ذهني أنه لو تتبعت هذه المسألة تتبعاً دقيقاً لوجد الإنسان فتاوى إما عن الصحابة أو عن التابعين ينسبونها إلى الصحابة تفيد جواز النقص. وعلى كل حال هو ما سمعتم من الخلاف فبحسب كلام الفقهاء يجوز النقص على قول: حصاة وعلى قول حصاتين ولا يجوز النقص ثلاث مطلقاً. - ثم قال - رحمه الله -: يفعل هذا: في كل يوم من أيام التشريق. يعني: أن هذه الكيفية لا تختص باليوم الأول بل تفعل في كل أيام التشريق على نفس الهدي الذي ذكره الصحابي الجليل الفقيه ابن عمر - رضي الله عنه -. - ثم قال - رحمه الله -: بعد الزوال. يعني: أن الرمي لا يجوز قبل الزوال. = وهذا مذهب الحنابلة وإليه ذهب الجماهير من الفقهاء وأغلب أهل العلم على هذا القول: أنه لا يجوز الرمي قبل الزوال. واستدلوا بأدلة كثيرة: من أقواها: - الدليل الأول: حديث ابن عمر - رضي الله عنه - أنه قال: كنا نتحين الزوال ثم نرمي بعده. وهذا الحديث نص في المسألة لأنهم كانوا ينتظرون بدأ وقت الجواز كما كانوا ينتظرون الزوال لصلاة الظهر. - الدليل الثاني: حديث جابر في الصحيح أنه قال: رمى النبي - صلى الله عليه وسلم - جمرة العقبة ضحى ثم لم يرم بعد إلا بعد الزوال. وهذا نص في أنه فرق بين ما يرمى في الضحى وبين ما يرمى بعد الزوال. - الدليل الثالث: صح عن ابن عمر - رضي الله عنه - النهي عن الرمي قبل الزوال. - الدليل الرابع: روي عن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - النهي عن الرمي قبل الزوال. - الدليل الخامس: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - رخص في مواضع من الحج عديدة في ليلة مزدلفة وفي مبيت ليالي التشريق وفي الرمي أيام التشريق. فهذه الرخص التي جاءت عن النبي - رضي الله عنه - تدل على أن مناط الترخيص هو في ما جاء عنه - صلى الله عليه وسلم - دون ما حفظ أنه لم يرخص فيه وإلا لم يكن لمواطن الترخيص فائدة. فهذه خمسة أدلة.

= القول الثاني: جواز الرمي قبل الزوال في جميع أيام التشريق. واستدل هؤلاء: - بأن النبي - صلى الله عليه وسلم - ليس عنه نص صريح في المنع قبل الزوال. - والدليل الثاني: القياس على رمي جمرة العقبة. - والدليل الثالث: أنه صح عن عبد الله بن الزبير لما كان أميراً للمؤمنين أنه كان يرمي قبل الزوال. والجواب على هذه الأدلة: - أن النصوص الأخرى دلت على المنع فكيف نقول ليس في المسألة نص. - وأما القياس على رمي جمرة العقبة فهو قياس مع الفارق الكبير. كيف نقيس أيام التشريق على رمي جمرة العقبة وجابر - رضي الله عنه - ينص على الفرق بينهما؟ يقول: رمى العقبة الضحى وفيما بعد ذلك رمى بعد الزوال. فهذا قياس مصادم للنص ولا عبرة به مطلقاً. = القول الثالث: جواز الرمي قبل الزوال في اليوم الثالث عشر وهو يوم النفر الثاني. واستدل هؤلاء: - بأنه روي عن بعض الصحابة كابن عباس - رضي الله عنه - تخصيص جواز الرمي قبل الزوال باليوم الثالث عشر. - واستدلوا كذلك: بأن اليوم الثالث عشر يجوز ترك الرمي فيه جملة فمن باب أولى التقديم قبل الزوال. واشترط هؤلاء الفقهاء الذين أجازوا الرمي في اليوم الثالث عشر اشترطوا لجواز الرمي قبل الزوال أن لا ينفر إلا بعد الزوال، فقالوا: يجوز الرمي قبل الزوال. لكن لابد أن يبقى إلى ما بعد الزوال، نص على هذا الشرط لهؤلاء الفقهاء ابن قدامة - رحمه الله -. =القول الرابع والأخير: جواز الرمي قبل الزوال في يوم التعجل وهو اليوم الثاني عشر فقط، وأيضاً اشترط الفقهاء الذين أجازوا الرمي في هذا اليوم أن لا ينفر إلا بعد الزوال، فأجازوا الرمي قبل الزوال ولكن يبقى إلى ما بعد الزوال. واستدل هؤلاء: - بأنه روي عن بعض الصحابة جواز الرمي قبل الزوال فنقيس عليه في اليوم الثاني عشر. - والدليل الثاني: الحاجة الماسة إلى تجويز الرمي قبل الزوال دفعاً لضرر الزحام الشديد. - الدليل الثالث: أن الله تعالى أمر بذكره في أيام معدودات والأيام المعدودات هي أيام التشريق والذكر يجوز قبل الزوال وبعد الزوال والرمي نوع من الذكر. لأن المقصود من الأنساك ذكر الله كما في الحديث الصحيح: (إنما جعل الطواف والرمي لإقامة ذكر الله).

والجواب: أن الآية دلت أن الذكر في كل الأيام والسنة خصت ذكر الرمي بما بعد الزوال، ولا يصلح الاستدلال بالعمومات مع وجود نصوص خاصة في المسألة. والأقرب والله أعلم الذي تدل عليه النصوص ومقاصد الشرع وفتاوى الصحابة فيما عدا ابن الزبير وابن الزبير كان يخالفه ابن عمر في نفس السنة فكان الناس ينتظرون ابن عمر فكان ابن الزبير يخرج من خبائه ويرمي قبل الزوال وكان ابن عمر ينتظر ويرقبه الناس حتى تزول الشمس ثم يخرج فيرمي فكأنه يريد أن يبين أن السنة في هذا لا ما كان يصنعه ابن الزبير ثم ابن الزبير خالف ابن عمر وابن عمر أفقه منه وأكثر إتباعا للسنة وخالف عمر وليس بينهما أي وجه للمقارنة في الفقه والفهم عن الله وعن رسوله وبهذا صارت فتوى ابن الزبير لا تقاوم النصوص مع الآثار السابقة. إذاً الراجح إن شاء الله أنه لا يجوز الرمي في جميع أيام التشريق إلا بعد الزوال. وأما الزحام الذي يلحظ في الحج ليس سببه المنع من الرمي قبل الزوال إنما سببه جهل بعض المسلمين بكيفية الرمي أو إلزام بعض أصحاب الحملات الحجاج أن يرموا في وقت معين، المهم أنها أمور خارجة عن مسألة قبل أو بعد الزوال وتعود غالباً إلى جهل الناس، ولذلك مما يغلب على الظن أن الرمي لو قدم بعد الزوال لوجد الزحام كما وجد بعد الزوال تماماً، وسيكون الزحام عند أول ساعة يجاز فيها الرمي فإذاً الزحام لن ينتهي بتقديم الرمي أو تأخيره عن الزوال إنما يحل بطرق أخرى، ومن المشاهد أنهم بعدما أوجدوا هذه التوسعة المباركة للرمي وهي توسعة مفيدة جداً ووسعت على الناس بشكل ملحوظ أنه بعد هذه التوسعة خف الزحام بشكل ملحوظ لأن مكان الرمي صار واسعاً وصار الناس يتمكنون من أن ينتشروا في مكان واسع من الأرض ليرموا هذه الجمرة سواء بعد الزوال في اليوم الثاني عشر أو بعد الزوال في اليوم الحادي عشر. فالأقرب إن شاء الله للنصوص فيما يظهر لي بوضوح أنه لا يجوز الرمي إلا بعد الزوال. - ثم قال - رحمه الله -: مستقبل القبلة. يعني أنه يرمي ويدعو مستقبل القبلة إذا أمكن، واستقبال القبلة أثناء الدعاء هذا ثابت في حديث ابن عمر في البخاري: أنه كان يستقبل القبلة ويدعو.

ولو لم يأت استقبال القبلة في حديث ابن عمر لكانت السنة الواضحة أن يستقبل القبلة لأنه من قواعد الشرع فإن من آداب الدعاء العامة استقبال القبلة وهذا يتناول الدعاء بعد رمي الأولى والوسطى ويدخل في عموم نصوصه. - ثم قال - رحمه الله -: مُرَتِّبَاً. يعني: أنه يشترط لصحة الرمي أن يبدأ بالصغرى ثم يثني بالوسطى ثم ينتهي بالكبرى. فإن أخل بهذا الترتيب فإن الرمي لا يصح وعليه أن يستدرك الترتيب. فإذا عكس مثلاً وبدأ بالكبرى ثم الوسطى ثم الصغرى فعليه أن يرمي مرة أخرى الوسطى ثم الكبرى ليكون الترتيب منسجماً مع ما صنع النبي - صلى الله عليه وسلم -. واستدل: = الجماهير من أهل العلم على وجوب الترتيب: - بأن النبي - صلى الله عليه وسلم - رمى مرتباً وقال: (خذوا عني مناسككم). فهذه عبادة جاءت على صفة معينة لا يجوز الخروج عنها. = والقول الثاني: أن الترتيب سنة فإذا رمى الوسطى ثم الصغرى ثم الكبرى أو الكبرى ثم الصغرى ثم الوسطى أو بأي ترتيب شاء فإنه لا حرج عليه ورميه صحيح. واستدل هؤلاء بدليلين: - الدليل الأول: أن المقصود رمي الجمار الثلاث وهذا حصل. - الدليل الثاني: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (افعل ولا حرج) فيما قدم وأخر يوم النحر. فدل على أن التقديم والتأخير في مناسك الحج لا حرج فيه. والجواب على الاستدلال (بإفعل ولا حرج): أنه استدلال ضعيف جداً لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - أجاز التقديم والتأخير في المناسك التي هي عبادة مستقلة: النحر عبادة مستقلة والحلق عبادة مستقلة والرمي عبادة مستقلة فلا بأس في التقديم والتأخير بين هذه العبادات المنفصلة أما العبادة الواحدة فإنه لا يجوز الإخلال بالترتيب فيها كما في الرمي. والقول بأن الترتيب سنة مذهب الأحناف وهو غاية في الضعف والبعد عن النصوص التي جاءت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - مما يدل على عنايته بالترتيب، والكيفية التي جاءت في البخاري عن ابن عمر - رضي الله عنه - تدل دلالة واضحة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أراد أن تؤدى العبادة على هذه الصفة: نعم الوقوف للدعاء وأخذ ذات اليمين ليس بواجب لأن هذا محل إجماع.

أما باقي الصفة وهي الترتيب فهذا واجب عند الأئمة الثلاثة وهو إن شاء الله الصواب. - ثم قال - رحمه الله -: إن رماه كله في الثالث: أجزأه. = ذهب الحنابلة: إلى أنه يجوز تأخير الرمي إلى اليوم الثالث عشر بما في ذلك رمي يوم النحر. وهذا الحكم عند الحنابلة بلا نزاع داخل المذهب. فلا يوجد خلاف عند الحنابلة في جواز تأخير الرمي كله إلى اليوم الثالث عشر، ونص الحنابلة على أن الرمي إذا أخر فهو أداء وليس بقضاء، إذاً الآن تصورنا مذهب الحنابلة وهو: أنهم يرون أن أيام التشريق مع يوم العيد كلها وقت للرمي إن شاء أخر فلا حرج عليه بما في ذلك رمي جمرة العقبة. وإلى هذا = ذهب الجمهور. فأجازوا أن يرمي في نفس يوم الرمي أو يؤخره إلى ما بعده من الأيام ويجمع يوم في يومين أو يومين في اليوم الثالث أو ثلاثة أيام في اليوم الرابع، فالحاج مخير في ذلك كله. واستدل الجمهور على ذلك: - بأن أيام الرمي وقت واحد لعبادة واحدة وهي الرمي. فإذا كان وقتاً واحداً لعبادة واحدة جاز أن يأتي بالرمي في أول هذا الوقت أو في آخره لأنه وقت واحد. وأنا نبهتكم أن بعض الفقهاء يستدلون أحياناً بنفس الدعوى. هم يقولون يجوز الرمي في اليوم الثالث عشر لأن اليوم الثالث عشر والثاني عشر والحادي عشر كله وقت للرمي، ونحن نريد الدليل على أنها كلها وقت للرمي. فهم يستدلون بنفس الدعوى وهذا يقع من بعض الفقهاء. - الدليل الثاني: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أذن للسقاة أن يرموا يوم النحر ثم يرموا غداً ومن بعد غد في اليوم الذي يليه ثم يرموا اليوم الأخير. فترخيص النبي - صلى الله عليه وسلم - للسقاة والرعاة بتأخير رمي يوم إلى ما بعده دليل على أن هذه الأيام الثلاثة كلها وقت للرمي. واختلف الشراح في معنى الحديث هل النبي - صلى الله عليه وسلم - أذن لهم أن يرموا رمي اليوم الحادي عشر والثاني عشر في اليوم الثالث عشر، أو أذن لهم أن يرموا يوم الحادي عشر مع اليوم الثاني عشر ثم يأتوا في الثالث عشر، أو أذن لهم أن يرموا في اليوم الثاني عشر رمي جمرة العقبة واليوم الحادي عشر. اختلف الشراح على ثلاثة أو أربعة أقوال في معنى هذا الحديث؟

لكن لا يعنينا هذا مطلقاً: لأن الجميع متفق على أنه - صلى الله عليه وسلم - أذن لهم بأن يؤخروا رمي يوم إلى الذي [يليه] سواء المؤخر الحادي عشر أو الثاني عشر فهذا لا يشكل قضية في جواز التأخير. = والقول الثاني: أنه لا يجوز تأخير رمي يوم إلى الذي يليه. فإن فعل فقد أخل بواجب وهو تخصيص الرمي بيومه. واستدل هؤلاء: - بأن النبي - صلى الله عليه وسلم - رخص للسقاة والرعاة والرخصة يعبر بها في مقابل العزيمة. فدل على أن غير هؤلاء المعذورين لا يوجد لهم رخصة وإنما الرخصة لهؤلاء الصنف فقط. والباقي عزيمة وهي أن يأتي برمي كل يوم في يومه. = والقول الثالث: أن رمي جمرة العقبة لابد أن يكون في يومه ويجوز تأخير بعض أيام التشريق إلى بعض. واستدل هؤلاء: - بالحديث فقالوا: في الحديث قوله: (إذا هم رموا جمرة العقبة أن يرموا من بعد غد لغد وما بعده) فنص الحديث على أنهم إذا رموا جمرة العقبة لهم أن يؤخروا رمي غد إلى ما بعده. فقالوا: إذاً العقبة لا تؤخر وما بعدها من الأيام يجوز أن يؤخر الإنسان رمي يوم إلى ما يليه. والراجح والله أعلم أنه لا يجوز تأخير رمي يوم إلى رمي اليوم الذي بعده. إلا لمعذور. فإذا كان الإنسان معذوراً جاز له أن يؤخر رمي يوم إلى يوم آخر. وهذا العذر الذي يجوز تأخير الرمي فيه: لا يشترط فيه أن يكون لمصلحة عامة بل ولو كان لمصلحة خاصة، فالمصلحة العامة مثل من أذن لهم النبي - صلى الله عليه وسلم - الرعاة والسقاة فهؤلاء يقومون على خدمة الناس، والمصلحة الخاصة مثل أن يكون الإنسان مريضاً أو كبيراً أو معه عائلة كثيرة ويسكن في آخر منى أو يشق عليه المجيء لرمي كل يوم في يومه لأي سبب من الأسباب. إذاً سواء كان العذر خاصاً أو عاماً. ولا يشترط أن يكون العذر عاماً. وإلى هذا ذهب - أي: أن لا يشترط أن يكون العذر عاماً - ذهب عدد من الصحابة منهم ابن عمر - رضي الله عنه - وهو ظاهر اختيار ابن القيم. وهو ظاهر فتاوى الإمام أحمد: أن العذر الذي يرخص فيه عام لا يتعلق بخدمة الحجيج العامة وإنما يتعلق به وبغيره من الأعذار الخاصة. - ثم قال - رحمه الله -: ويرتبه بنيته.

هذا الحكم مفرع على جواز التأخير. فإذا أخر فإن عليه أن يرتب الرمي وأن يرتب بنيه. فإذا أخر رمي اليوم الحادي عشر إلى الثاني عشر فعليه أن ينوي أنه يرمي رمي اليوم الحادي عشر أولاً فيبدأ بالصغرى ثم الوسطى ثم الكبرى بنية الرمي عن اليوم الحادي عشر ثم يرجع ويرمي عن اليوم الثاني عشر وهو يومه الذي هو فيه بنفس الترتيب الصغرى ثم الوسطى ثم الكبرى. ولا يجزئ أن يرمي الصغرى عن اليوم الحادي عشر والثاني عشر ثم يرمي الوسطى عن اليوم الحادي عشر والثاني عشر والأخيرة كذلك هذا لا يجزئ بل يجب أن يرتب الرمي بنيته عن كل يوم بيومه. فإن رمى الصغرى عن يومين والوسطى والكبرى كذلك فرميه عن اليوم الأول صحيح وعليه أن يرجع ويرمي عن اليوم الثاني. فيكون الرمي المشترك عن اليوم الأول والرمي المفرد الثاني عن اليوم الثاني. ولا يجزئه أن يجمع بين اليومين. - قال - رحمه الله -: فإن أخره عنه ... فعليه دم. الرمي: رمي أيام التشريق ينتهي بغروب الشمس من اليوم الثالث عشر بإجماع أهل العلم. فقد حكي الإجماع من عدد من الفقهاء. فإذا غربت الشمس من اليوم الثالث عشر وهو لم يرم فقد أساء وتعدى ولا يشرع ولا يسن أن يرمي بل عليه أن يتوب وأن يذبح شاة مكان ترك هذا الواجب. والمؤلف - رحمه الله - بين حكم ترك الرمي جملة. ولم يبين حكم ترك الرمي جزءاً. وحكمه كما يلي: - إن ترك حصاة واحدة ففيه إطعام مسكين. - وإن ترك حصاتين ففيه إطعام مسكينين. - وإن ترك ثلاثاً ففيه دم. وعنه: ليس في ترك الحصاة والحصاتين شيء. وعلم مما تقدم أنه إذا ترك رمي يوم أو جمرة كاملة فإنه من باب أولى أن عليه دم لأنه ترك واجباً من واجبات الحج إنما الخلاف في رمي جمرة أو حصاة أو حصاتين. والراجح والله أعلم أنه كما قال الحنابلة إن ترك رمي حصاة فعليه إطعام مسكين أو حصاتين فمسكينين أو ثلاث فشاة، وهذا الذي كان يفتي به الإمام أحمد - رحمه الله -. - ثم قال - رحمه الله -: أو لم يبت بها: فعليه دم. تقدم معنا ذكر حكم المبيت في منى وأن الراجح أنه واجب، فإذا تركه جملة: ترك المبيت في الليالي الثلاث فعليه دم يذبح في مكة ويوزع على فقراء الحرم.

وكما قلنا في الرمي وأيضاً في المبيت إذا فات الوقت فإنه لا يشرع المبيت ولا يسن وعليه أن يتوب وأن يذبح شاة لتركه الواجب. أما ترك بعض الليالي ففيه خلاف: = فالحنابلة يرون أنه إذا ترك ليلة فكذلك: فإطعام مسكين. وإذا ترك ليلتين: فإطعام مسكينين. وإذا ترك الثلاث: فعليه شاة، وقالوا: إن ترك الليلة والليلتين لا يوجب شاة لأنه ليس منسكاً كاملاً مستقلاً وإنما المنسك الكامل المستقل هو: ترك المبيت في الليالي الثلاث لمن تأخر وترك المبيت في ليلتين لمن تعجل. إذاً: إذا ترك ليلتين وهو يريد أن يقيم الثالثة فعليه إطعام مسكينين، أما إذا ترك ليلتين وهو سيتعجل فعليه شاة لأنه ترك المبيت جملة، فالتفصيل السابق: الأصل فيه: أنه في المتأخر. يعني: يطعم مسكين إذا ترك ليلة ويطعم مسكينين إذا ترك ليلتين وعليه شاة إذا ترك الثلاث هذا في المتأخر أما المتعجل فإذا ترك ليلتين فعليه شاة وإذا ترك ليلة فعليه إطعام مسكين. = وعنه: ليس في ترك المبيت ولو لثلاثة ليال شيء. بل أساء وعليه التوبة ولا شيء عليه وهو رواية عن الإمام أحمد. والراجح: الرواية الأولى. وهي المشهورة عن الإمام أحمد وهي المذهب وعليها تدل فتاوى الصحابة كما سيأتينا في أثر ابن عباس - رضي الله عنه -. - ثم قال - رحمه الله -: ومن تعجل في يومين: خرج قبل الغروب. يعني أنه يجوز للإنسان أن يتعجل: - لقوله تعالى: - (فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ) -[البقرة/203]. وهذا القدر وهو جواز التعجل مجمع عليه لصريح الآية ولم يلزم أحد من الفقهاء أحداً من الحجاج أن يتأخر مع صراحة الآية وكونها نص في المسألة.

أما قوله - رحمه الله -: (خرج قبل الغروب). ففي هذا تحديد للوقت الذي إذا خرج قبله لم يلزمه المبيت ولا الرمي، والتحديد بالخروج قبل الغروب ليس في شيء من النصوص المرفوعة إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - لكن صح عن عمر وابنه - رضي الله عنهما - التحديد بذلك، وهذه الفتوى التي جاءت عن عمر وابنه - رضي الله عنهما - مؤيدة بظاهر القرآن. لقوله تعالى: - (فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ) -[البقرة/203] واليوم في لغة العرب الأصل أنه يطلق على النهار لا على الليل فإذا أدركه الليل فلم يتعجل في يومين، فتبين بهذا أن من أراد أن يتعجل عليه أن يخرج قبل غروب الشمس. فإن تأخر وبقي إلى غروب الشمس فهو ينقسم إلى قسمين: -[القسم الأول]: أن يبقى متهاوناً. أو متشاغلاً بغير ما يتطلبه الخروج. فهذا عليه أن يبقى ويبيت ويرمي في اليوم الثالث عشر. - القسم الثاني: أن يتأخر لانشغاله بالخروج كتحميل الأمتعة والاستعداد للخروج أو لعدم تمكنه من الخروج بسبب الزحام. فهذا القسم الثاني: = عند الحنابلة يجب عليه أن يبيت ويرمي. - لأن أثر عمر وابنه - رضي الله عنهما - عام فيمن أدركه المغيب بعذر أو بغير عذر. = والقول الثاني: أنه إذا أدركه المغيب بعذر من هذه الأعذار التي ذكرنا فإنه لا حرج عليه في الخروج لأنه لم ينو البقاء وإنما بقي بغير إرادته. وهذا القول الثاني. أرفق بالناس لكن على الإنسان الذي يريد أن يتعجل أن يحتاط تماماً ويتقدم ليتمكن من الخروج قبل غروب الشمس. - ثم قال - رحمه الله -: وإلاّ لزمه المبيت والرمي من الغد. تقدم معنا الدليل على هذه الأحكام وهي الآثار عن عمر وابنه - رضي الله عنهما -. - ثم قال - رحمه الله -: فإذا أراد الخروج من مكة: لم يخرج حتى يطوف للوداع. طواف الوداع فيه مسائل كثيرة: - المسألة الأولى: حكمه. طواف الوداع: = واجب عند الجماهير: أحمد والشافعي وعند الإمام أبي حنيفة. إلا في رواية في المذهب لكن المذهب الوجوب، فالجماهير يرون وجوب طواف الوداع. واستدل الجماهير:

- بالسنة الصحيحة الثابتة وهي: ما رواه ابن عباس عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: (أمر الناس أن يكون آخر عهدهم بالبيت وخفف عن الحائض). وهذا في الصحيح. - وأيضاً صح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه لما رأى الناس يخرجون من كل جهة في اليوم الأخير قال: (لا يخرجن أحد منكم حتى يكون آخر عهده بالبيت). فهذه النصوص صريحة وفيها الأمر الصريح وفيها استخدام الصحابي للفظ: (أمرنا) وهو عند الجماهير وعلى الصحيح يعنى به النبي - صلى الله عليه وسلم -. = القول الثاني: وهو للمالكية أن طواف الوداع سنة. واستدل المالكية: - بأن النبي - صلى الله عليه وسلم - رخص للحائض. - وبأن أهل العلم أجمعوا أن أهل مكة لا طواف عليهم. فهذان صنفان من الناس لا يجب عليهم الطواف: الحائض وأهل مكة - يعني: طواف الوداع، فاستثناء هؤلاء دليل على أن الأمر شرع على سبيل الاستحباب لا على سبيل الوجوب لأن واجبات الحج لا تسقط بالأعذار. والجواب على هذا الدليل: أن واجبات الحج لا تسقط بالأعذار أو تسقط إلى بدل لكن طواف الوداع ليس بواجب أصلاً على الحائض حتى يسقط أو لا يسقط ولا على أهل مكة، فاستدلال المالكية في غير مكانه. والأقرب هو مذهب الجمهور واختاره عدد كبير جداً من المحققين من أهل العلم وهو كما قلت مقتضى النصوص الصريحة. - المسألة الثانية: على من يجب طواف الوادع؟ يجب على كل إنسان يريد الخروج من مكة ومنزله خارج الحرم. فإن كان منزله داخل الحرم فلا طواف وداع عليه، وسواء كان منزله عن الحرم مسافة قصر أو أقل من ذلك فيجب عليه طواف الوداع، إنما الشخص الذي لا يجب عليه طواف الوداع هم فقط أهل مكة وأهل الحرم. - المسألة الثالثة: وهي مسألة مهمة: هل طواف الوداع من مناسك الحج؟ أو يجب على كل خارج من مكة. هذه المسألة فيها خلاف: = فذهب الجماهير من أهل العلم من أصحاب المذاهب الأربعة وغيرهم من الفقهاء إلى أن طواف الوداع من مناسك الحج خاصة وواجب من واجبات الحج ولا يتعلق بكل خارج من الحرم. واستدل هؤلاء بأدلة:

- الدليل الأول: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم ينقل عنه أنه أمر أحداً من الناس بطواف الوداع إلا في حجة الوداع لما رأى الناس يخرجون أمرهم أن لا يخرج أحد منهم إلا وقد طاف طواف الوداع. - الدليل الثاني: أنه صح عن عمر - رضي الله عنه - أن طواف الوداع آخر المناسك. هكذا قال - رضي الله عنه - وعبر بالمناسك. - الدليل الثالث: أنه صح عن ابن عمر - رضي الله عنه - أنه رأى أن طواف الوداع آخر المناسك. - الدليل الأخير: أن طواف الوداع لو كان يتعلق بكل خارج من مكة لبين النبي - صلى الله عليه وسلم - ذلك بياناً ظاهراً واضحاً ليعلم الناس أن كل من خرج فعليه أن يطوف سواء كان من الحجاج أو من المعتمرين أو من التجار أو من الزائرين أو من أي صنف كان. = القول الثاني: أن طواف الوداع يتعلق بكل خارج من الحرم ولو لم يكن من الحجاج ولا من المعتمرين. وهو مذهب لبعض الفقهاء اختاره شيخ الإسلام وابن القيم - رحمهما الله -. وذكروا أن الخارج من الحرم عليه الطواف ولو لم يكن من أصحاب المناسك. واستدلوا على هذا: - بأن مقصود النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يكون آخر عهد الإنسان حين الخروج الطواف وهذا يستوي فيه الحاج والمعتمر والتاجر والزائر وكل من خرج من الحرم. والراجح والله أعلم مذهب الجماهير ولم يذكر شيخ الإسلام ولا ابن القيم دليلاً يعتمد عليه ويركن إليه في وجوب الطواف على كل خارج. ((الأذان)). علم من الخلاف السابق أن أهل العلم انقسموا إلى فريقين: - فريق يرى وجوب طواف الوداع على الحاج. - وفريق يرى وجوب طواف الوداع على كل خارج. إذاً: ليس من الفقهاء أحد قال: يجب طواف الوداع على الحاج والمعتمر فقط فهذا القول لم ينقل عن أحد من الفقهاء إلا عن فقيه واحد وهو رجل من الأحناف خلافه غير معتبر وهو رجل وصف أيضاً بقلة الدين. على كل حال: رجل واحد من الأحناف ذكر وجوب طواف الوداع على المعتمر. أما ما عداه من الفقهاء فهم: - إما أن يقولوا يجب طواف على كل خارج لا يتعلق بالأنساك أصلاً. - أو يجب على الحاج فقط كنسك من الأنساك.

أما القول أنه يجب على الحاج والمعتمر دون كل خارج فهذا لم يقل به أحد، وبهذا علمنا حكم مسألة طواف الوداع في العمرة، وفي الدرس القادم: نأخذ إن شاء الله بعض الأدلة التفصيلية للقول بوجوب طواف الوداع في العمرة والجواب عليها.

شرح كتاب المناسك الدرس رقم (15) قال شيخنا حفظه الله: بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين. قبل أن نستكمل الحديث عن طواف الوداع أحد زملائكم سأل سؤالاً مفيداً: عن أنه إذا كان يجوز أن نؤخر رمي يوم إلى ما بعده ونجمع في اليوم الثاني عشر فهل يجوز لنا أن نقدم فنرمي في اليوم الحادي عشر عنه وعن الثاني عشر؟ وهو سؤال مفيد وقد يحتاج إليه الآن. والجواب على هذا: - أنه فيما يظهر من النصوص يجوز والله أعلم أن يقدم أو يؤخر. والدليل على هذا: - أن الإمام مالك - رحمه الله - أخرج حديث الترخيص للسقاة والرعاة في أن يرموا في يوم عن يومين وفي لفظه قال: (ثم يرموا عن اليومين في أيهما). قال الإمام مالك - رحمه الله - أظنه قال: (في الأول منهما، ثم يرمون يوم النفر). فالحديث نص في جواز الرمي في اليوم الحادي عشر عنه وعن اليوم الثاني عشر. فإذاً: يتلخص أنه كما قررنا جواز التأخير كذلك يجوز التقديم والنص دل على جواز الأمرين. - يقول المؤلف - رحمه الله -: في إكمال ما يتعلق بطواف الوداع: فإن أقام أو اتجر بعده: أعاده. إذا أقام أو اتجر ومكث مكثاً طويلاً فإنه يجب أن يعيد طواف الوداع ويعتبر الطواف الأول لاغياً. والدليل على هذا: - قوله - صلى الله عليه وسلم -: (أمر الناس أن يكون آخر عهدهم بالبيت الطواف)، ومن اتجر أو أقام لم يكن آخر العهد الطواف بالبيت.

أما إن اشتغل بما يتعلق بالسفر من تجهيز أو إعداد فإنه يخرج ولو بقي وقتاً طويلاً ما دام لم يشتغل إلا بالإعداد للسفر. مثل أن يقوم بربط العفش أو أن تخرب السيارة فيسعى في إصلاحها، فمثل هؤلاء يرخص لهم في الخروج، ويرخص أيضاً بالبقاء وقتاً قصيراً وشراء سلع تتعلق بالخارج ولو لم تتعلق بالسفر ما دام الشراء والبقاء في وقت قصير فلا بأس ولو أنه أخذ سلعاً لا تتعلق بالسفر كأن يقتني هدايا أو كتب أو أي شيء لا يتعلق بالسفر. - ثم قال - رحمه الله -: وإن تركه غير حائض: رجع إليه. فإن شق أو لم يرجع: فعليه دم. في هذه العبارة مسائل: ـ المسألة الأولى: الترخيص للحائض في ترك طواف الوداع: - لما ثبت في الحديث الصحيح وقد تقدم معنا أنه خفف عن الحائض (أمر الناس أن يكون آخر عهدهم بالبيت الطواف إلا أنه خفف عن الحائض). فإن همت بالخروج ثم طهرت: فينقسم إلى قسمين: ـ إن طهرت قبل أن تغادر البنيان وجب عليها أن تبقى وترجع وتغتسل وتطوف للوداع. ـ وإن طهرت بعد أن جاوزت البنيان ولو بشيء يسير فإنها تمضي ولا يجب عليها الرجوع. * * مسألة / هل يقاس على الحائض غيرها من الذين لا يتمكنون من طواف الوداع من أصحاب الضرورات كالمرضى الذين لا يستطيعون بحال أن يطوفوا؟ أو هذا الحكم خاص بالحائض فقط. قل من تعرض لهذه المسألة من أهل العلم. وبحثها بشكل موسع، لم أجده في كتب أهل العلم لكن شيخ الإسلام - رحمه الله - ذكر ما يشبه القاعدة فقال: - في سياق كلام له - (كما يرخص في ترك طواف الوداع للضرورة). فظاهر هذا السياق أن هذا الحكم لا يختص بالحائض وإنما يتناول كل حاج لم يستطع أن يطوف لمرض أو أي مانع آخر. وربما نقول هذا الحكم خاص بالحائض لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - حج معه عدد كبير من الناس ليتأسوا به ولا شك أن فيهم المريض الذي لم يتمكن من الطواف ومع ذلك لم ينقل الترخيص إلا للحائض. والراجح والله أعلم أنه لا يتعلق بالحائض ولا يختص بها بل يتناول كل حاج لا يستطيع أن يطوف للضرورة إلا إن كان هناك إجماع على أنه يتعلق بالحائض فإن لم يكن هناك إجماع فلا شك أن هذا القول الذي أشار إليه شيخ الإسلام هو القول الصواب.

ـ المسألة الثانية / يقول - رحمه الله -: (وإن تركه رجع إليه). إذا ترك الحاج طواف الوداع فإنه ينقسم إلى قسمين: - القسم الأول: أن يرجع بعد مسافة بعيدة. - والقسم الثاني: أن يرجع بعد مسافة قريبة. وسيأتينا حد المسافة البعيدة والمسافة القريبة. * فإن رجع بعد مسافة بعيدة فيجب عليه أن يصنع أمرين: الأول: أن يأتي معتمراً وجوباً. الثاني: أن يذبح دماً. * وإن رجع من قريب فلا شيء عليه. = والقول الثاني: أنه إن رجع من قريب أو بعيد فلا شيء عليه. - لأنه أدى ما أمر به فلا يلزمه شيء. والدليل على أصل الرجوع بعد أن انتهينا من مسألة التفريق بين البعيد والقريب: الدليل على أصل وجوب الرجوع من وجهين: - الوجه الأول: أن طواف الوداع واجب. وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب. فإذا تركه فيجب وجوباً أن يرجع. - الوجه الثاني: أن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - أمر برد رجل خرج بلا طواف للوداع وردوه من مر الظهران. ومر الظهران تبعد عن مكة نحواً من خمس وعشرين كيلاً. فهذان دليلان على وجوب الرجوع. * * مسألة / الضابط في استقرار الدم: عند:= الحنابلة: ـ أنه إن رجع من بعيد استقر الدم ولو رجع وطاف. ـ وإن رجع من قريب لم يستقر عليه الدم الواجب بسبب ترك طواف الوداع. والقريب والبعيد عند الحنابلة مسافة القصر على الخلاف الذي أخذناه في كتاب الصلاة. = القول الثاني: أن القريب والبعيد يتعلق بالحرم. ـ فمن رجع قبل أن يخرج من الحرم فهذا رجع من قريب. ـ ومن رجع بعد أن تعدى حدود الحرم فهذا رجع من بعيد. ونحن نحتاج إلى مسألة القريب والبعيد إذا أردنا أن نوجب الدم على من رجع من بعيد. أما على القول الراجح الذي لا يوجب الدم على أي راجع ما دام أنه رجع وأدى الواجب فالخلاف المذكور هنا لا ينتفع منه على القول الراجح. * * مسألة / ظاهر كلام = الحنابلة: أن من رجع من قريب فإنه لا يستقر عليه الدم سواء كان هذا القريب هو محل الإقامة أو بلد آخر. وعلى هذا إذا ذهب أهل الطائف وأهل جدة إلى منازلهم ثم رجعوا إلى طواف الوداع فلا حرج عليهم. هذا ظاهر مذهب الحنابلة فإنهم لم يفرقوا في القريب بين أن يذهب إلى بلده أو أن يذهب إلى بلد آخر. = والقول الثاني: وهو للمالكية:

ـ أن هذا القريب إذا كان هو موطن السكن فإن الدم يستقر ولو كان قريباً. ـ وإن كان هذا القريب بلداً آخر فإن الدم لا يستقر. والراجح بوضوح إن شاء رجحاناً بيناً مذهب المالكية وهو أن الإنسان إذا خرج إلى منزله وبلده ولو كان قريباً فإنه الدم يستقر. فإذا خرج الرجل إلى مدينة الطائف أو إلى مدينة جدة وترك طواف الوداع فإن كان سكنه في هذه المدينة استقر عليه الدم وإن كان سكنه في مدينة أخرى وخرج إليها لقضاء حاجة فلا دم عليه ولا حرج عليه من الخروج. وقلنا أن مذهب المالكية هو الراجح لأن الإنسان إذا رجع إلى بلده فقد ترك طواف الوداع ولو كان البلد قريباً ولأنه لو قلنا بظاهر مذهب الحنابلة لأدى هذا إلى أن جميع الذين يسكنون بمكان قريب من مكة يؤجلون طواف الوداع إلى أن يخف الزحام وهذا يؤدي إلى ترك طواف الوداع. على كل حال هذا القول إن شاء الله هو الراجح. - ثم قال - رحمه الله -: فإن شق أو لم يرجع: فعليه دم. يعني: لترك الواجب. وسيأتينا قريباً دليل إيجاب الدم في ترك الواجب. - ثم قال - رحمه الله -: وإن أخر طواف الزيارة فطافه عند الخروج: أجزأ عن الوداع. إذا أخر الإنسان طواف الإفاضة إلى خروجه ثم طاف فإنه يجزئ عن طواف الوداع. سواء: - طاف بنية الإفاضة فقط أولم ينو الوداع. - أو طاف بنية الإفاضة والوداع. فإنه في الصورتين يجزئ عن الوداع. لأنه يصدق عليه أنه آخر عهده بالبيت. بقينا في الصورة الثالثة وهي محل الإشكال: - إذا طاف بنية طواف الوداع فقط ولم يكن طاف قبل ذلك طواف الإفاضة ثم خرج. ففي هذه المسألة خلاف: = فالحنابلة يرون أن هذا الطواف الذي نوى به الوداع دون الإفاضة لا يجزئ عن الإفاضة ويعتبر ما زال محرماً ولم يتحلل التحلل الثاني ويجب عليه أن يرجع ويطوف. واستدلوا: - بقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: (إنما الأعمال بالنيات). وهذا نوى الوداع ولم ينو الإفاضة. = والقول الثاني: أن هذا الطواف يجزئه عن طواف الإفاضة ولو لم ينو. وابن رشد في بداية المجتهد ينسب هذا القول - الثاني - للجمهور. وهو أنه إذا طاف ناوياً الوداع ولم ينو الإفاضة كفاه عن الإفاضة. واستدل الجمهور - بحسب نسبة ابن رشد -:

- بأن هذا الرجل طاف بالبيت وصادف وقت الوجوب فوقع عنه. - واستدلوا: بأن أجزاء الحج لا تحتاج إلى نية خاصة كما تقدمت معنا هذه المسألة مراراً. لكن الإشكال في هذه المسألة أنه وإن قلنا أن أجزاء الحج لا تحتاج إلى نية خاصة إلا أن الإشكال أن هذا الرجل نوى الوداع كأنه خصه بالنية ولو كان طاف طوافاً عاماً بلا نية لقلنا أجزاء الحج لا تحتاج إلى نية لكن هذا الرجل طاف بنية الوداع وعين النية وهذا مما يضعف القول بأن طواف الوداع يجزئ عن طواف الإفاضة. ولذلك الأقرب والله أعلم والذي تبرأ به الذمة أنه يجب أن يطوف طوافاً آخر للإفاضة. بناء على هذا يتحتم على طالب العلم تنبيه الناس الذين يؤخرون طواف الإفاضة أن ينووا الإفاضة. فهذا هو أهم شيء: أن ينووا الإفاضة سواء نووا معه الوداع أو لم ينووا فإنه يكفيهم بالإجماع لكن الإشكال إذا لم ينووا طواف الإفاضة. - ثم قال - رحمه الله -: ويقف غير الحائض: بين الركن والباب. يقف الحاج إذا أراد أن يخرج: بين الركن والباب وهو الملتزم. ويبسط عليه كفيه ويضع خده على هذا الملتزم. وروي في السنن أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يصنع هذا والحديث ضعيف ولم يثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه صنع هذا العمل: أي أنه التزم الملتزم، لكن صح عن أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - أنهم كانوا يفعلون ذلك، لكن الإشكال أن المروي عن أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - إنما هو عند القدوم لا عند الخروج، لكن الفقهاء قالوا: ما داموا صنعوا هذا العمل فهو مستحب عند القدوم وعند الخروج، وجعلوه عند الخروج ليكون آخر عهده بالبيت الابتهال إلى الله سبحانه وتعالى والتضرع إليه، وما دام هذا العمل مروي عن أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - فلا بأس به. وظاهره أنه لا يشرب من زمزم وذهب بعض أهل العلم ومنهم الإمام الكبير مجاهد ومنهم شيخ الإسلام بن تيمية إلى أنه يشرع أن يشرب من ماء زمزم كذلك في هذا الموضع، وبعد التتبع لم أجد للإمام مجاهد ولا لشيخ الإسلام دليلاً على استحباب تخصيص هذا الموضع بشرب زمزم. فالأصل أنه لا يستحب. - ثم قال - رحمه الله -: وتقف الحائض ببابه. وتدعو بالدعاء.

ظاهره أن الحائض كذلك تقف عند الباب لأنها ممنوعة من دخول المسجد وتصنع من حيث الدعاء ما يصنعه من يقف عند الملتزم. = والقول الثاني: أنه لا يشرع للحائض أن تقف هذا الموقف ولا أن تصنع هذا العمل ولا أن تدعو بالدعاء الوارد. - لأن صفية - رضي الله عنه - كانت حائضاً ولم يأمرها النبي - صلى الله عليه وسلم - ولم تصنع هي من نفسها هذا العمل مما يؤكد عدم مشروعية هذا العمل بالنسبة للحائض. - ثم قال - رحمه الله -: ويستحب زيارة: قبر النبي - صلى الله عليه وسلم - وقبري صاحبيه رضي اللَّه عنهما. يستحب إذا انتهى الإنسان من الحج أن يقصد إلى المدينة المنورة ويزور قبر النبي - صلى الله عليه وسلم - ويزور قبر صاحبيه - رضي الله عنهما -. واستدل الحنابلة على استحباب هذا العمل: - بقوله - صلى الله عليه وسلم -: (من حج فزار قبري فكأنما زارني حياً) أو (فكأنما زارني في حياتي). والأشبه والله أعلم أن هذا الحديث موضوع. ولم يثبت في مسألة زيارة قبر النبي - صلى الله عليه وسلم - بخصوصه أي حديث صحيح. لا في فضلها أو ثوابها ولا في الحث عليها. وممن قرر هذه القاعدة عدد كبير من الحفاظ من أحسنهم تقريراً وتوضيحاً الحافظ ابن عبد الهادي فإنه - رحمه الله - بحث هذه المسألة بحثاً طويلاً وقرر أنه ليس في السنة أي حديث صحيح يدل على خصوص مشروعية زيارة قبر النبي - صلى الله عليه وسلم -. أما حكم زيارة قبر النبي - صلى الله عليه وسلم - فهو: سنة. والدليل على أنه سنة: - الأحاديث العامة. فقبر النبي - صلى الله عليه وسلم - يدخل في النصوص العامة التي فيها الحث على زيارة المقابر. * * مسألة/ ولا يجوز شد الرحال قاصداً الإنسان زيارة قبر النبي - صلى الله عليه وسلم -، فإن فعل وشد الرحال بقصد زيارة قبر النبي - صلى الله عليه وسلم - فهو: مبتدع بهذا العمل وآثم بهذا الصنع. وأما إن شد الرحال بقصد زيارة مسجد النبي - صلى الله عليه وسلم - ثم زار قبره - صلى الله عليه وسلم - فلا حرج عليه. - ثم قال - رحمه الله -: وصفة العمرة: أن يحرم بها من الميقات أو من أدنى الحل، من مكي ونحوه.

بدأ المؤلف - رحمه الله - بذكر صفة العمرة لما أنهى الكلام عن صفة الحج، فصفة العمرة أن يحرم بها من الميقات يعني: إن مر به، فإن لم يمر بالميقات أحرم من أدنى الحل. وتقدم معنا الكلام عن المواقيت وحكم إحرام المكي بالعمرة ومن أين يحرم .. إلخ. وتبين معنا مما سبق أن العمرة يجب أن يحرم بها الإنسان المكي وغير المكي إما من الميقات إن مر به أو من الحل إن لم يمر بالميقات، وتقدم معنا تفصيل هذا بشكل موضح. - ثم قال - رحمه الله -: لا من الحرم. يعني: لا يجوز أن يحرم من الحرم، - فإن أحرم من الحرم انعقدت العمرة - وهو آثم إن فعل ذلك عمداً - وعليه دم إن فعل ذلك عمداً أو سهواً أو جهلاً كما سيأتينا، فالإثم يتعلق بالقصد والعلم، والدم يجب مطلقاً ولو مع الجهل أو النسيان، هذا كله تفصيل حكم من أحرم بالعمرة من الحرم. - ثم قال - رحمه الله -: فإذا طاف وسعى وحلق أو قصر: حلّ. ظاهر عبارة المؤلف - رحمه الله - أن المعتمر لا يجوز له أن يتحلل إلا بعد إتمام جميع مناسك العمرة بأن يحلق بعد الطواف والسعي، فإن حل قبل ذلك فعمله ملغى ولا زال محرماً. = والقول الثاني: أن المعتمر إذا طاف وسعى حل: حلق أو لم يحلق. - لأنه أتى بأركان العمرة. وهذه المسألة مبينة على مسألة سابقة وهي هل الحلق والتقصير نسك أو إطلاق من محظور، وتقدم معنا الخلاف وأن الراجح أنه نسك، وإذا كان الراجح أنه نسك فالراجح أيضاً في هذه المسألة أنه لا يحل إلا إذا حلق بعد الطواف والسعي. - ثم قال - رحمه الله -: وتباح كل وقت. قوله: (وتباح في كل وقت) عبر المؤلف - رحمه الله - هنا بكلمة تباح مع أننا في سياق الكلام عن العبادات، والسبب في ذلك أنه أراد دفع قول من يقول أن العمرة تكره في بعض أيام السنة: كقول بعضهم تكره يوم عرفة أو في أيام التشريق أو في يوم النحر أو في أشهر الحج، فدفعاً لهذا عبر بقوله: (تباح). لكن مع ذلك في الحقيقة ليس بمناسب مطلقاً أن نقول عن العمرة أنها تباح، بل العمرة: ـ إما أن تكون سنة: - إذا قلنا: أنها مشروعة واستوفت الشروط والأركان والواجبات والمشروعية. - أو نقول: لا تجوز إذا أخذت على صفة غير مشروعة.

أما أن نعبر عن عبادة من العبادات بقولنا (تباح) فهذا من وجهة نظري ليس بمناسب وكان ينبغي أن لا يعبر بمثل هذا التعبير عن عبادة عظيمة كعبادة العمرة. - قوله - رحمه الله -: تباح في كل وقت. ظاهر عبارة المؤلف - رحمه الله - أنه لا بأس بالموالاة بين العُمَرِ، ولا يشترط أن يفصل بينها بأي فاصل كان، والموالاة بين العمر ينقسم إلى قسمين: ـ القسم الأول: أن يقصد بالموالاة أن يأخذ في السنة الواحدة أكثر من عمرة. فهذه المسألة فيها خلاف بين أهل العلم بل فيها خلاف بين السلف الصالح من التابعين، والذي يظهر لي أن هذا الخلاف موجود في عصر الصحابة. واختلفوا - رحمهم الله - على قولين: = القول الأول: أنه لا يشرع أن يأخذ الإنسان في السنة إلا عمرة واحدة كما في الحج. واستدل أصحاب هذا القول: - بقول إبراهيم النخعي - رحمه الله -: (ما كانوا يأخذون في السنة إلا عمرة واحدة). = والقول الثاني: أنه يشرع للإنسان أن يأخذ في سنة واحدة أكثر من عمرة. واستدل هؤلاء: - بآثار عن ثلاثة أو أربعة من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - بل عبر بعضهم بأن عليه عمل الصحابة، أنهم يأخذون في السنة الواحدة أكثر من عمرة. وهذا القول الثاني: وهو جواز أخذ أكثر من عمرة في السنة هو القول الصواب إن شاء الله وعليه عمل الصحابة. وتقدم معنا أن قول إبراهيم النخعي أو الزهري: (كانوا) أنه مهم جداً ويعبر عن طبقة من الصحابة أو من كبار التابعين وأنه يصلح للاعتماد عليه، لكن لم نأخذ به هنا لأنه مصادم بالآثار الصحيحة عن أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم -. ـ القسم الثاني: الموالاة بين العمرة بمعنى أن يأخذ عمراً متعدد في وقت قريب كأن يأخذ في كل يوم أو في كل أسبوع. فهذا أيضاً فيه خلاف: = القول الأول: أن هذا مشروع ولا حرج فيه بل مستحب. - لقوله - صلى الله عليه وسلم -: (العمرة إلى العمرة كفارة لما بينهما والحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة). فدل الحديث على أنه من شأن العمرة أن تكرر ومن شأن الحج أن يكون في السنة مرة واحدة. = القول الثاني: أنه لا يشرع للإنسان أن يكرر العمرة بهذا المعنى بأن يأخذ في كل يوم أو في كل أسبوع. واستدل أصحاب هذا القول:

- بأن السلف الصالح أطبقوا على كراهية هذا العمل. والقاعدة عند أهل السنة والجماعة: (أن النصوص المطلقة والعامة يجب أن تفهم على ضوء فهم السلف الصالح). ونحن نجد أن السلف الصالح الذين رووا لنا حديث (العمرة إلى العمرة كفارة) كانوا يكرهون الموالاة بين العمر بهذا الاعتبار. وهذا القول هو الراجح. بقينا في ضابط الفاصل بين العمر لنخرج من هذه الكراهة. فيه خلاف: وهو على أقوال كثيرة نأخذ منها قولين: = القول الأول: أن الضابط أن يفصل بينهما بنحو عشرة أيام وهي المدة التي يخرج فيها الشعر. وإلى هذا ذهب الإمام أحمد - رحمه الله -. واستدل: - بأن أنس - رضي الله عنه - كان إذا أخذ عمرة لا يأخذ أخرى حتى يحمم رأسه أي حتى يسود. إشارة إلى طلوع الشعر، وهذا يحصل بنحو عشرة أيام. = والقول الثاني: أنه يجوز للإنسان أن يأخذ في شهر واحد عمرتين. والراجح: القول الأول لأن معه أثر عن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم. - ثم قال - رحمه الله -: وتجزئ عن الفرض. أي أن العمرة التي يأخذها الإنسان مهما كان نوعها تجزئ عن الفرض، سواء كانت عمرة مفردة أو عمرة التمتع أو عمرة القران وسواء كانت عمرة مأخوذة من الميقات أو عمرة مأخوذة من أدنى الحل، فأي عمرة صحيحة فإنها تجزئ عن الفريضة. - ثم قال - رحمه الله -: وأركان الحج. أركان الحج: هي أجزائه التي لا يتم ولا يصح إلا بها. وهي أربعة: ـ الأول: الإحرام. فالإحرام هو الركن الأول من أركان الحج. واستدلوا على أنه من أركان الحج: - بقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: (إنما الأعمال بالنيات). - وبأن الإنسان لا يدخل في الحج إلا به فهو ركنه. والمقصود بالإحرام هنا نية دخول النسك. = والقول الثاني: أن الإحرام واجب. - لقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: (الحج عرفة). وإلى هذا مال - فيما نقل - ابن قدامة - رحمه الله -. = والقول الثالث: أنه شرط. - قياساً على الطهارة مع الصلاة. والقول المنسوب لابن قدامة فيه ضعف ظاهر إن ثبتت النسبة. والراجح: إما أنه ركن أو شرط. والمؤدى واحد. فالنتيجة من حيث الحكم والثمرة واحدة وهو عدم صحة الحج إذا فقد. ـ الثاني: الوقوف. الوقوف من أركان الحج بالنص والإجماع.

- أما النص فقوله - رحمه الله -: (الحج عرفة). - وقد أجمع أهل العلم على أنه ركن الحج ولا إشكال فيه. ـ الثالث: طواف الزيارة. وطواف الزيارة: ركن من أركان الحج بالنص والإجماع. - أما النص فقوله: - (وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ) -[الحج/29]. - وأيضاً قوله: - (وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ) -[آل عمران/97] وزيارة البيت هي أول ما يدخل في هذه الآية. - وأجمع أهل العلم على أنه ركن من أركان الحج ولا إشكال فيه. ـ الرابع: السعي. السعي ركن من أركان الحج وفيه خلاف قوي: = فذهب الحنابلة والجمهور إلى أن السعي ركن من أركان الحج. واستدلوا على هذا بأدلة كثيرة نأخذ أقواها: - منها: ما أخرجه الإمام مسلم عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: ""ما أتم الله حج رجل لم يطف بين الصفا والمروة"". وهذا في مسلم ولا إشكال في ثبوته. - الدليل الثاني: قوله - صلى الله عليه وسلم -: (اسعوا فإن الله كتب عليكم السعي) ومعنى كتب: أي فرض، وهذا الحديث في ثبوته خلاف كبير من أهل العلم منهم من ضعفه كالإمام ابن حزم ومنهم من صححه كالذهبي وابن عبد الهادي ومنهم من اختلف قوله فصححه تارة وضعفه تارة مثل الذهبي، والأقرب أنه مقبول وأنه يمكن الاستدلال به. - الدليل الثالث والأخير: - (إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ) -[البقرة/158]. فمن تعظيم هذه الشعائر وجوب الطواف بينها. = القول الثاني: أن السعي سنة. واستدلوا بأدلة: - الدليل الأول: أن هذا مذهب ابن عباس وأنس وابن الزبير. - الدليل الثاني: قوله تعالى: - (فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا) -[البقرة/158]. فرفع الجناح يدل على الإباحة أو السنية. والجواب عن الاستدلال بالآية: أن رفع الجناح في الآية لرفع الكراهة التي كانت موجودة عند الأنصار حيث كان على الجبلين الصف والمروة صنمان فكانوا يتحرجون من السعي بينهما فبينت الآية أنه لا حرج على من سعى بينهما، وليست الآية لبيان حكم السعي وإنما لرفع هذا التوهم الخاص.

- الدليل الثالث: أنه في مصحف أبي وابن مسعود: (فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ لا يَطَّوَّفَ بِهِمَا).يعني: إن لم يطف فلا جناح عليه، وهذه قراءة ثابتة. قالوا: فإن كانت من القرآن فهي دليل وإن لم تكن من القرآن فلا أقل من أن تكون بدرجة خبر الآحاد. فإنه لم يكن لابن مسعود أن يجزم بمثل هذا اللفظ في مصحفه إلا أن تكون قرآناً أو عن النبي - صلى الله عليه وسلم -. واختار القول بأنه سنة عدد من الفقهاء وليس قولاً شاذاَ. = القول الثالث والأخير: أنه واجب. واستدلوا: - بالجمع بين نصوص الذين قالوا أنه ركن وبين نصوص الذين قالوا أنه سنة، فقالوا هو واجب وليس بركن. واختار أيضاً هذا القول عدد من المحققين منهم الشيخ الفقيه ابن قدامة - رحمه الله -. ومنهم تلميذ شيخ الاسلام - رحمه الله - ابن قاضي الجبل - رحمه الله - ومنهم رجل من كبار الحنابلة وهو القاضي أبو يعلى - رحمه الله - وغيرهم ممن رجح أن السعي واجب جمعاً بين النصوص. والذي تدل عليه النصوص في الحقيقة وتدل عليه الآثار أنه واجب وليس بركن. والإنسان إذا استعرض الأدلة ينساق إلى هذا القول بسبب قوة الأدلة كيف وقد روي عن بعض أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه سنة فنحن نقول: القول بأنه واجب هذا هو القول الذي تدل عليه النصوص، ولذلك من ترك السعي في الحج أو العمرة فإن الإنسان لا يجرؤ أن يقول ترك ركناً وأنه ما زال محرماً ويجب أن يرجع ويطوف ويسعى ... إلى آخره. بل ترك واجباً وعليه دم. المهم لا يعنينا الآن ماذا يترتب على القول بقدر ما يعنينا أي الأقوال أرجح وبينا أنه القول بأنه واجب. - ثم قال - رحمه الله -: وواجباته. الإحرام من الميقات المعتبر له، والوقوف بعرفة إلى الغروب، والمبيت لغير أهل السقاية والرعاية: بمنى، ومزدلفة إلى بعد نصف الليل، والرمي والحلاق والوداع. واجبات الحج سبعة ذكرها المؤلف - رحمه الله - مرتبة: ـ الأول: الإحرام من الميقات المعتبر له. الإحرام من الميقات واجب. وتقدم معنا أن أهل العلم أجمعوا بلا خلاف أن من مر على الميقات وهو يريد النسك ثم تعداه فهو آثم وقد خالف واجباً من واجبات الشرع. واستدلوا على هذا:

- بأن النبي - صلى الله عليه وسلم - حدد المواقيت في حديث ابن عباس ولا يعلم لهذا التحديد فائدة إلا المنع من تجاوز هذه المواقيت بلا إحرام، فدل على هذا الحكم الإجماع والنص. - ثم قال - رحمه الله -: والوقوف بعرفة إلى الغروب. تقدم معنا الخلاف فيه وأن الوقوف واجب وهذا الوقوف والوجوب يتعلق بمن جاء إلى عرفة في النهار دون من جاء إليها بالليل. - لأنه يجب على من جاء إلى عرفة بالنهار أن يجمع بين الليل والنهار في الوقوف بعرفة. وتقدم معنا هذا والأدلة والخلاف والراجح، وأن مذهب الحنابلة في هذه المسألة هو الصواب. - ثم قال - رحمه الله -: والمبيت لغير أهل السقاية والرعاية: بمنى. المبيت بمنى واجب، وتقدم معنا ذكر الخلاف وأن الراجح الذي تدل عليه النصوص إن شاء الله أنه واجب. بقينا في مسائل: ـ المسألة الأولى: أن القدر الواجب من المبيت هو: أن يبقى معظم الليل. وإلى ذهب الفقهاء وقرره الحافظ بن حجر وهو واضح. أن القدر الواجب هو البقاء في منى معظم الليل. والمقصود بمعظم الليل: الزيادة ولو يسيرة على نصفه. يعني: أن يبقى النصف مع زيادة ولو يسيرة بهذا يكون قد بقي معظم الليل سواء كان البقاء من أول أو وسط أو آخر الليل. ـ المسألة الثانية: من لم يجد مكاناً في منى. ففي من لم يجد مسألتين: - - المسألة الأولى: هل يجب أن يبقى في طرق وأرصفة منى ليحقق المبيت؟ أو له أن يخرج عن منى. الراجح والله أعلم أنه لا يجب عليه بل لا ينبغي وربما نقول إذا كان معه نساء لا يمكن أن يستترن لا يجوز أن يبقى في منى على الطرق والأرصفة يؤذي الناس ويؤذي نفسه لأن الفقهاء يشترطون في البقاء في منى أن يبقى في مكان يصلح لمثله والبقاء على الأرصفة لا يصلح لكثير من الناس كما أنه يؤذي المارة. فنقول: لا يجب على الإنسان أن يبقى لا في الطرق ولا على الأرصفة ولو كانت فارغة لأن الأرصفة لم توضع لينام عليها الإنسان وإنما وضعت لتستخدم من قبل المارة في الحج وفي غير الحج. إذاً نقول: لا يجب على الإنسان أن يبقى على الأرصفة أو على الطرقات إما أن يجد مكاناً مناسباً أو لا يجب عليه.

- - المسألة الثانية: إذا قلنا لا يجب عليه فهل يجب أن يبقى على حدود منى في أقرب مكان يمكن أن يجلس فيه ملاصقاً لمنى من أي جهة منها؟ أو يجوز له أن يذهب ثم يبيت في أي مكان من مكة. في هذا خلاف: ... ((الأذان)). في هذه المسألة خلاف: والحاجة إليها ماسة: = فالقول الأول: أنه له أن يذهب فيبيت في أي مكان شاء ولا يجب أن يبقى متصلاً بالحجاج الذين في منى. واستدل هؤلاء: - بأن الشارع إنما أوجب المبيت في منى. فإذا لم يتمكن الإنسان منها خرج إلى أي مكان. كما أن الإنسان الذي قطعت يده لا يجب عليه أن يغسل شيئاً آخر وإنما سقط عنه وجوب المبيت كما سقط عن ذاك غسل اليد. = القول الثاني: أنه يجب وجوباً إذا لم يجد مكاناً في منى أن يجلس في أقرب مكان يمكن أن يجلس فيه متصلاً بالحجاج في منى. واستدل هؤلاء: - بأن الله سبحانه وتعالى أوجب الجلوس في منى فإذا لم يتمكن أتى بأقل الواجب وهو الجلوس متصلاً بأهلها كما أن من لم يجد مكاناً في المسجد لا نقول له لا تجب عليك صلاة الجماعة بل نقول يجب أن تصلي في المكان الذي تتصل فيه الصفوف. وفي المسألة إشكال وبقيت أتأمل فيها وقتاً طويلاً في الحقيقة ففيها إشكال وفي النصوص تعارض، لكن سنأخذ ثلاث نقاط تساعد على الترجيح يلتمس الإنسان من خلالها الراجح في هذه المسألة: ـ النقطة الأولى: أن المبيت في منى وجوبه وجوباً مخففاً. بدليل أن الإمام أحمد - رحمه الله - عنه رواية أن ترك المبيت لا شيء فيه. بينما لم يختلف قوله أن ترك الرمي كله أن فيه دم، وقرر شيخ الإسلام أن هذا مذهب أحمد وهو أن الوجوب وجوب مخفف والأدلة الدالة على هذا ولا إشكال في أن المبيت وجوبه مخفف، فهؤلاء الرعاة يتركون المبيت جملة لكن الرمي لا يتركونه وإنما يرمون في يوم عن يومين، فإذاً لا إشكال أن المبيت وجوبه وجوب مخفف.

ـ النقطة الثانية: جاء في مجموعة من الآثار بعضها مرفوع إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - وبعضها موقوف على أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - أن الاجتماع في منى إنما شرع لأنه عيد أن أيام منى أيام عيد وفي أيام الأعياد يشرع الاجتماع وفي منى لا يمكن أن نجتمع بالنهار لأن الحجاج مشغولين بالرمي فإذا يكون الاجتماع بالليل. وهذا قرره جماعة من السلف. ومن المعلوم أن الاجتماع للأعياد مستحي وليس بواجب. ـ النقطة الثالثة: أنه ثبت أن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - كان يبعث رجالاً أن من بات خارج حدود منى يجب عليه أن يدخل إلى منى مما يدل على أن البقاء في البقعة مقصود لذاته. - أخيراً: القياس على صلاة الجماعة فيه نظر من جهة أن وجوب الصلاة مع اتصال الصفوف إنما هو للإقتداء بالإمام وهذا المعنى غير موجود في منى، لذلك أنا أميل إلى أنه لا يجب على الحاج أن يجلس في أقرب مكان إلى منى بل له أن يبيت في أي مكان، لكن من خلال سياق الخلاف ومن خلال ما سمعتم تعلمون أنه يتأكد على الإنسان أن يجلس في أقرب مكان يتهيأ له الجلوس فيه مما يتصل بمنى. أما الوجوب ففي الحقيقة لا أرى أنه يوجد أدلة تساعد على إيجاب مثل هذا الأمر وأن من تركه جملة فعليه دم. والله أعلم وصلى الله على نبينا محمد ...

شرح كتاب المناسك الدرس رقم (16) قال شيخنا حفظه الله: بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين. - يقول المؤلف - رحمه الله -: والمبيت. تقدم معنا الكلام عن المبيت وعن حكم وجوب الجلوس قرب منى عند الزحام وما يتعلق به. - ثم قال - رحمه الله -: ومزدلفة إلى بعد نصف الليل. المبيت بمزدلفة إلى بعد نصف الليل واجب: = عند الحنابلة. فإن جاء بعغد نصف الليل قبل الفجر فلا شيء عليه وإن جاء بعد صلاة الفجر فعليه دم. وتقدم معنا هذا كله.

ظاهر عبارة المؤلف - رحمه الله - أن السقاة والرعاة أيضاً يجوز لهم ترك المبيت في ليلة مزدلفة. لأنهم منن الذين عذروا في ليالي منى فكذلك في ليلة مزدلفة. = والقول الثاني: أنه لا يعذر أحد في المبيت ليلة مزدلفة. يعني: المبيت الواجب الذي تقدم معنا في مقداره. - لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - أذن لأهل الأعذار في المبيت ليالي منى ولم يأذن لهم في مزدلفة. - ولأن وجوب المبيت ليلة مزدلفة آكد بكثير من المبيت ليالي منى حتى قيل إنه من الأركان. - وثالثاً: لأن المبيت ليلة مزدلفة ليلة واحدة لا تشق لا على الرعاة ولا على السقاة ولا على أي أحد. وهذا الثاني هو الأقرب أنه لا يرخص في ليلة مزدلفة كالترخيص ليالي منى. لا سيما وأن المبيت عند الحنابلة والجماهير فقط إلى منتصف الليل. - ثم قال - رحمه الله -: والرمي والحلاق والوداع. الرمي والحلاق والوداع من الواجبات وتقدم معنا عدة مباحث تتعلق بكل واحد من هذه الواجبات، وقوله: (والحلاق) يعني: أو التقصير. - ثم قال - رحمه الله -: والباقي سنن. أي: الأشياء التي لم تذكر مع الواجبات ولا مع الأركان فهي سنن، وهذا يشمل جميع ما ذكر في صفة الحج المفصلة مما لم يدخل ضمن الواجبات أو ضمن الأركان. - ثم قال - رحمه الله -: وأركان العمرة: إحرام وطواف وسعي. أركان العمرة: إحرام وطواف وسعي، والخلاف الذي تقدم معنا في السعي فيما يتعلق بالحج يوجد أيضاً تماماً في العمرة ولا فرق. فالخلاف فيهما واحد. وتقدم معنا الخلاف في الإحرام والسعي. - ثم قال - رحمه الله -: وواجباتها: الحلاق والإحرام من ميقاتها. واجبات العمرة: أن يحلق أو يقصر والثاني أن يحرم من الميقات لمن مر به أو من الحل لمن كان في مكة، وأيضاً تقدم معنا الكلام عن أحكام المواقيت وأحكام الحلق والتقصير وما يجب في تركه وما هو القدر الواجب بالنسبة للحلق وأيضاً الأحكام التي تتعلق بالإحرام. - ثم قال - رحمه الله -: فمن ترك الإحرام: لم ينعقد نسكه. من ترك الإحرام لم ينعقد نسكه. بدأ المؤلف - رحمه الله - بتفصيل الكلام عن ترك هذه الواجبات والأركان والسنن، فمن ترك الإحرام لم ينعقد الحج من أصله. وهذا بالإجماع.

- لقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: (إنما الأعمال بالنيات). فإذا ترك الإنسان الإحرام جملة نسياناً أو عمداً أو لأي سبب فإنه لا يدخل في الحج أصلاً ولا ينعقد له النسك. - ثم قال - رحمه الله -: ومن ترك ركناً غيره أو نيته: لم يتم نسكه إلاّ به. معنى العبارة: من ترك ركناً أو ترك نية الركن وإن أتى به فإنه لم يتم يعني: لم يصح نسكه، وهذا معنى لم يتم نسكه، أما إذا ترك الركن فلا إشكال بالإجماع أنه إذا ترك ركناً على الخلاف في الأركان لكن إذا قيل إنه ركن فترك الركن يفسد الحج بالإجماع، وأما ترك نية الركن فتقدم معنا الخلاف في النية التفصيلية لأعمال المناسك وأن من العلماء من رأى أنها واجبة وتشترط لصحة الركن، ومنهم من رأى أنه يكتفى بالنية العامة للحج، وتقدم معنا الخلاف في هذه المسألة. - ثم قال - رحمه الله -: ومن ترك واجباً: فعليه دم. من ترك أي واجب من واجبات الحج فعليه دم، وظاهر عبارة المؤلف - رحمه الله -: سهواً أو جهلاً أو عمداً بعذر أو بغير عذر ففي الجميع يجب عليه دم، وهذا الدم نص المؤلف - رحمه الله – عليه، وتقدم معنا في المتن أن الدم يقصد به الشاة أو سبع البقرة أو سبع البدنة، وأيضاً تقدم معنا أنه يشترط في هذا الدم ما يشترط في الأضاحي وستأتينا قريباً، فيشترط فيه أن يتصف بالشروط المجزأة في الأضحية. والدليل على وجوب الدم في الحج: - ما روي عن ابن عباس مرفوعاً وموقوفاً أنه قال: (من ترك شيئاً من نسكه أو نسيه فليهرق دماً). وهذا الأثر صحيح موقوفاً وضعيف مرفوعاً. والقول بوجوب الدم لترك الواجب هو القول الراجح بل هو قول أهل العلم فمنذ أن أفتى ابن عباس بهذه الفتوى إلى يومنا هذا الصحابة والتابعين وتابع التابعين وجميع العلماء كلهم يفتون بوجوب الدم إذا ترك الإنسان واجباً من واجبات الحج. فهذا هو الدليل الأول. - الدليل الثاني: أنه لم ينكر أحد على ابن عباس أنه أفتى بهذا. - الثالث: أنه لا يعلم مخالف له وهذا بحد ذاته كاف. فلا يعلم له مخالف مطلقاً من الصحابة ولا من التابعين. - الرابع: أنه حكي الإجماع على وجوب الدم.

والإجماع متحقق في بعض الصور لا شك، كمن ترك الرمي جملة فلا يوجد خلاف وممن حكى الإجماع على وجوب الدم في ترك الرمي جملة شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله -، فوجوب الدم من حيث هو محل إجماع. لكن يختلفون في تحقيق المناط. يعني: يختلفون في مسألة هل هذا العمل يستحق أن نوجب عليه الدم أو ليس من الأنساك الكاملة التي يوجب تركها دماً. إذاً يختلفون في تحقيق المناط، أما الوجوب من حيث هو فهذا لم يختلفوا فيه، حتى أن الإنسان إذا ذهب يبحث عن الخلاف لم يجد خلافاً بين أهل العلم أن ترك الواجب فيه دم، وبهذا علمنا إن شاء الله أن هذا القول هو الراجح وأن مخالفة هذا القول الذي أطبق عليه الناس من عصر الصحابة من فتوى ابن عباس والتابعين مخالفة أشبه ما تكون بالشاذة، ولا يجرؤ الإنسان أن يخالف مثل هذه الفتوى التي أطبق عليها خيار الناس بلا حجة شرعية، فإن قيل أن إجابة الدم على الناس بلا دليل: لا يجوز. لأنه إخراج للمال المملوك للمسلم بلا دليل شرعي، فالجواب: الدليل الشرعي هو هذا. وأي دليل أكثر من أنه يجمع الناس على مثل هذه الفتوى ولا أحد يخالف ابن عباس فهذا بحد ذاته دليل قوي، والإجماع هو الأصل الرابع من أصول أهل السنة والجماعة، فوجوب الدم لا إشكال فيه إن شاء الله. * * مسألة / قال بعض أهل العلم: يجب الدم في ترك النسك أو ترك بعض النسك. فلو ترك ليلة واحدة أو حصاة واحدة أو أي شيء من الأنساك فعليه دم. واستدل: - بقول ابن عباس في هذا الأثر: (من ترك نسكاً أو بعض نسك).وفي لفظ: (من ترك نسكاً أو شيئاً من نسك). = والقول الثاني: أن الدم لا يجب إلا إذا ترك الإنسان نسكاً كاملاً كأن يترك المبيت في الليالي الثلاث. فهذا نسك كامل إذا تركه وجب الدم. وإلا فلا يجب. - لأن اللفظ المشهور في أثر ابن عباس ليس فيه: (من ترك شيئاً من النسك) وإنما فيه من ترك نسكه أو نسيه. فالتبعيض هذا لا يوجد في كتب السنة فيما وقفت عليه. فهذا لفظ لا أدري من أين جاء به بعض الفقهاء ليوجبوا الدم في كل ترك نسك ولو جزئي.

والراجح: أن الدم لا يجب إلا إذا ترك نسكاً كاملاً: مبيت بمزدلفة أو الرمي أو رمي جمرة كاملة أو المبيت جميع الليالي أو الحلق والتقصير جملة. فالمهم أن يترك نسكاً كاملاً، وهذا القول وسط بين من يتوسع في الدماء وبين من يضيق في الدماء حتى لا يوجب الدم إلا في أشياء مخصوصة فقط. - ثم قال - رحمه الله -: أو سنة: فلا شيء عليه. إذا ترك سنة من سنن الحج فلا شيء عليه ولا حرج. لكن الحج ناقص النقص الفاضل فليس بحج تام التمام الكامل، وإن كان الحج تاماً من حيث تمام الوجوب لكنه ليس بتام من حيث تمام الأفضلية فهو ناقص بلا إشكال وينبغي أن يراعي الإنسان هذا. أن من ترك سنة من سنن الحج فإنه الحج ناقص الكمال، وبهذا انتهى الكلام عن السنن والأركان والواجبات وما يترتب على ترك كل واحد منها. * * مسألة / لم نتكلم عن الرمي في الليل: اختلف أهل العلم في حكم الرمي في الليل على قولين: = القول الأول: وهو للجمهور أنه لا يجوز أن يرمي بالليل بل ينتهي وقت الرمي يوم رمي جمرة العقبة وأيام التشريق بغروب الشمس. واستدلوا على هذا: - بأن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يرم في الليل. - وبأن اليوم ينتهي بغروب الشمس. والرمي يتعلق باليوم. - واستدلوا أيضاً بأن الليالي شرعاً ولغة تتبع اليوم القادم لا اليوم الفائت. = والقول الثاني: أن الرمي ليلاً جائز. واستدلوا: - بما روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال له السائل: رميت بعدما أمسيت فقال افعل ولا حرج والمساء في لغة العرب يطلق من بعد الزوال إلى غروب الشمس في قول، وإلى منتصف الليل في قول آخر. - واستدلوا أيضاً: - بأن النبي - صلى الله عليه وسلم - رخص للرعاة بالرمي ليلاً. والجواب على الدليلين: ـ أما الأول: فسؤال السائل عن الرمي حين قال: (رميت بعدما أمسيت) كان ضحى الرمي يوم العيد أن هذه الأسئلة كانت في الضحى. فلا شك أنه رمى بعد الزوال وقبل الغروب وسكاه مساء لأن هذا يسمى مساء في لغة العرب فلم يرم في الليل، فإذاً أجاب النبي - صلى الله عليه وسلم - على السؤال على مقتضى الحال وهو أنه رمى نهاراً.

باب الفوات والإحصار

ـ وأما أن النبي - صلى الله عليه وسلم - رخص بالرمي للسقاة والرعاة فهذا دليل للذين قالوا لا يجوز الرمي بعد غروب الشمس لأنه إذا رخص لهؤلاء بقي الذين ليس لهم عذر بلا رخصة وأنه لا يجوز أن يرموا بعد مغيب الشمس، لكن الجواب عن هذا الحديث أنه رواه الدارقطني وإسناده ضعيف فلم يثبت أن النبي - صلى الله عليه وسلم - رخص في الرمي بعد مغيب الشمس للسقاة والرعاة وإلا في الحقيقة لو صح هذا الحديث لكان دليلاً قوياً للذين يرون عدم جواز الرمي بعد غروب الشمس لكن الحديث لا يصح مرفوعاً إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -. والأقرب والله أعلم: أنه يجوز للإنسان أن يرمي في الليل وإن احتاط ورمى في النهار فهو أولى ومتأكد لا سيما أن آخر النهار تكون الجمار شبه فارغة ولا حرج على الإنسان ولا ضيق ولا زحام في الرمي آخر اليوم في أيام التشريق. لكن إن رمى بعد مغيب الشمس ولو بلا عذر ولو مع تمكنه من الرمي نهاراً فإن الرمي يكون أداءً وهو صحيح لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - بين أول الوقت ولم يبين آخره. وأيضاً يستدل على صحة الرمي: بأن المنع منه قد يوجب ضيقاً وحرجاً على الناس والشريعة جاءت برفع الضيق والحرج. وعلى كل حال: ما دام ليس في المسألة نص يمنع من الرمي لا إيماء ولا إشارة ولا أثر عن صحابي فالقول بأن الرمي لا يجوز فيه بعد. ونأتي إلى باب الفوات والإحصار. باب الفوات والإحصار - قال - رحمه الله -: باب الفوات والإحصار. الفوات: هو ما يسبق فلا يدرك، فالفوات أخص من السبق المطلق إذ الشيء قد يسبق ويدرك، لكن الفوات لا يطلق إلا على الذي يسبق ولا يمكن أن يدرك يكون قد فات، هذا هو الفوات. وأما الإحصار فهو الحبس والمنع من إتمام النسك في الحج والعمرة. - قال - رحمه الله -: من فاته الوقوف: فاته الحج. بدأ المؤلف - رحمه الله - بالفوات ثم سيختم الباب بالإحصار: من فاته الوقوف يعني في عرفة فاته الحج، والوقوف بعرفة يفوت: بطلوع الفجر يوم العيد - يوم النحر. - لقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: (الحج عرفة فمن أدرك قبل طلوع الفجر من يوم النحر فقد تم حجه). مفهوم الحديث: أن من لم يدرك لم يتم حجه.

- والدليل الثاني: الإجماع على أنه إذا طلع الفجر ولم يقف بعرفة فقد فات الحج. إذاً عرفنا الآن من قوله: (من فاته الوقوف: فاته الحج) متى يفوت الوقوف وماذا يترتب على فوات الوقوف وهو: فوات الحج. - ثم قال - رحمه الله -: وتحلل بعمرة. إذا فاته الوقوف بعرفة تحلل بعمرة، وهذه العمرة: = على المذهب: عمرة مقصودة صحيحة. واستدلوا على ذلك: - بأنه صح عن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - أنه أفتى رجلاً فاته الوقوف بعرفة بأن يتحلل بعمرة ويذبح ما استيسر من الهدي ويحج من العام القادم. - وأفتى عمر - رضي الله عنه - أبا أيوب الأنصاري بأن يصنع ما يصنع المعتمر. = والقول الثاني: أن من فاته الحج يتحلل بأعمال العمرة لا بعمرة مقصودة فسخ الحج إليها، أي أن نسكه لم ينقلب من الحج إلى العمرة وإنما تحلل بهذه الأعمال التي تشبه أعمال العمرة. واستدل هؤلاء: - بقول عمر لأبي أيوب اصنع ما أنت صانع في عمرتك. فإذاً هي أعمال تشبه أعمال العمرة وليست عمرة. والراجح مذهب الحنابلة وهو أن إحرام الحج يصبح عمرة، والجواب على أثر عمر أن قوله (اصنع ما أنت صانع في عمرتك) لا يعني أنها هذا النسك ليس بعمرة كما أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال لعائشة اصنعي ما يصنع الحاج ولا يعني هذا أنها لم تحج تماماً، إذاً هذه العبارة لا يقصد منها أنها أعمال عمرة وليست بعمرة. * * مسألة / وهذه العمرة = عند الحنابلة لا تجزئ عن عمرة الإسلام. - لأنه لم ينوها في أول الإحرام وإنما قلب النسك إليها. - والنبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: (إنما الأعمال بالنيات). فعليه أن يأتي بعمرة أخرى لعمرة الإسلام. = والقول الثاني: أن هذه العمرة تجزئ عن عمرة الإسلام. - لأن الصحابة عمر وغيره سموها عمرة. والأصل في الإطلاق صحة المدلول الشرعي، فإذا سماها أمير المؤمنين (عمرة) فهي عمرة والعمرة الأصل فيها أنها تجزئ عن عمرة الإسلام، كما أن من أهل بالحج مفرداً ثم أدخل عليه العمرة فأدخل نسك العمرة على نسك الحج كما تقدم معنا وهو الصورة الثالثة من صور القران تجزئ عنه هذه العمرة عن عمرة الإسلام وهو لم ينوها في أول النسك وإنما نواها بعد ذلك.

هذا القول الأخير هو الراجح إن شاء الله. - ثم قال - رحمه الله -: ويقضي. يعني: يجب على من فاته الحج وتحلل بعمرة أن يقضي من السنة القادمة وجوباً، فإن كان هذا الحج حج الفريضة وجب عليه أن يقضي. لأنه يجب أن يقضي هذا الفائت ولأن الحج أصلاً واجب في ذمته، ولا إشكال فيمن كان حجه الذي فات حج فريضة، وإن كان حج تطوع فكذلك = عند الحنابلة يجب عليه أن يقضيه. وإلى هذا ذهب الجمهور وهو وجوب القضاء في الفوات. واستدلوا بأدلة: - الدليل الأول: ما روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: (من لم يدرك فعليه دم وأن يتحلل بعمرة والحج من قابل). هذا الحديث من مراسيل عطاء. فهو لم يثبت مرفوعاً لكن مع ذلك هذا المرسل حجه باتفاق الأئمة الأربعة لأنه احتفت به قرائن تقويه: القرينة الأولى: أنه من مراسيل عطاء وهو أفقه التابعين بالمناسك فهذا يقويه. ثانياً: أنه أفتى على وفق هذا الحديث المرسل ستة من الصحابة صح عنهم الإفتاء بما يوافق مرسل عطاء. الثالث: أن هذا المرسل يتأيد بظاهر القرآن كما سيأتينا في دليل مستقل. والمرسل إذا تأيد يمثل هذه الأمور صار حجة باتفاق الأئمة. - الدليل الثاني: أن هذا مروي عن ستة من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم -. - الدليل الثالث: أن هذا ظاهر القرآن في قوله تعالى: - (وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ) -[البقرة/196] وجه أن ظاهر القرآن يؤيد هذا القول: أن الله أمر بأحد أمرين: - إما إتمام النسك. - أو الوقوع في الإحصار. بقي الفوات فيجب أن يتم وإذا أتمم لم يمكن أن يتم إلا بأن يأتي به في السنة القادمة. وهذا صحيح، يعني: أن ظاهر القرآن يؤيد الوجوب. = القول الثاني: أنه لا يجب على الإنسان أن يقضي هذا الحج الفائت. واستدلوا على هذا بأمرين: - الأمر الأول: ليس في السنة الصحيحة ما يدل على وجوب قضاء الحج الفائت بل في السنة الصحيحة ما يشير إلى عدم الوجوب وهو قوله - صلى الله عليه وسلم -: (الحج مرة فما زاد فهو تطوع) ولو أوجبنا قضاء الحج الفائت لأوجبنا أكثر من حج.

- - الأمر الثاني: أنه صح عن ابن عباس - رضي الله عنه - أنه قال: (من فاته الحج فلا قضاء عليه). والراجح والله أعلم: مذهب الجمهور وهو القول الأول ورجحانه رجحان ظاهر بين. والجواب على أدلة القول الثاني: ـ أما قوله - صلى الله عليه وسلم - (الحج مرة فما زاد فهو تطوع) يعني: أنه لا يجب بأصل الشرع إلا أن يحج الإنسان مرة واحدة أما الواجبات بأسباب أخرى فلم يمنعها الحديث ولذلك لو أن الإنسان نذر أن يحج وجب عليه أن يحج ولا نقول أنه لا يجب الحج في العمر إلا مرة واحدة بل نقول يجب أن توفي بنذرك وأن تحج، كذلك الفائتة بسبب شرعي نقول: يجب أن تقضي هذه الفائتة. ـ وأما فتوى الصحابي الجليل الفقيه ابن عباس فهي مرجوحة: - أولاً: أن ابن عباس لما أفتى عمر وكبار الصحابة بوجوب القضاء كان صغيراً ليس من أهل الفتوى وأجمعوا على ذلك ولا يعرف مخالف لفتاوى عمر وكبار الصحابة في ذلك الوقت ثم لما كبر ابن عباس رأى بعد ذلك أنه لا يجب قضاء الفائت ففتواهم كانت لما كان صغيراً ليس من أهل الفتوى ففتواهم - رضي الله عنهم - مقدمة على فتوى ابن عباس لإجماعهم واتفاقهم عليها، ثم لو فرضنا أن ابن عباس خالف في حين صدور فتوى عمر مع إجماع من مع عمر من كبار الصحابة ففتوى عمر المتوافقة مع ظاهر القرآن المتوافقة مع مرسل عطاء أقوى وهي مقدمة على فتوى ابن عباس بلا إشكال. فالراجح إن شاء الله أن من فاته الحج لأي سبب من الأسباب ولو بعذر من الأعذار فإن عليه أن يحج من السنة القادمة وهذا يقع وكثيراً ما يقع. فيقع للمرضى الذين لا يمكن أن يقفوا ولا محمولين في عرفة. ويقع لبعض الأطباء الذين يدخلون لإجراء عملية أو لعلاج مريض طارئ من حين يبدأ الوقوف إلى أن يطلع الفجر فلا يتمكنون من الخروج من المستشفى فهذا يعتبر الحج بالنسبة لهم فائت وعليهم أن يتحللوا بعمرة وأن يقضوا من السنة القادمة. - ثم قال - رحمه الله -: ويهدي. يجب عليه القضاء والهدي، ووجوب ذبح ما استيسر من الهدي أيضاً هو:= مذهب الجمهور ولم يخالف إلا الأحناف. واستدل الجمهور:

- بالآثار السابقة. فإنه في مرسل عطاء أوجب الهدي وفي فتوى عمر أوجب الهدي. فالأدلة الدالة على القضاء تدل أيضاً على وجوب الهدي. = وقال الأحناف: لا يجب عليه هدي. بل يتحلل بعمرة وينصرف إلى أهله. والصواب مع الجمهور وهذه المسألة تشبه مسألة القضاء فما قيل في القضاء وقوة أدلة أصحابه يقال هنا في مسألة الهدي. * * مسألة / وهذا الهدي يذبح في السنة القادمة في حجة القضاء لا في حجة الفوات، وهذا الهدي يذبح ولو ذبح الإنسان في الحجة الفائتة ما معه من الهدي وقربه إلى الله في الحرم فإنه يجب عليه أيضاً أن يذبح هدياً آخر من السنة القادمة. * * مسألة / وهذا الحج المقضي عن الفائت يجزئ عن حجة الإسلام. ولا يوجد دليل يمنع من أن يكون يجزئ عن حجة الإسلام. - ثم قال - رحمه الله -: إن لم يكن اشترط. فإن كان اشترط فلا قضاء ولا هدي ولا يجب عليه أي شيء بل يتحلل بموجب الشرط ولا حرج عليه. - ثم قال - رحمه الله -: ومن صدّه عدو عن البيت: أهدى ثم حل. بدأ المؤلف - رحمه الله - بالإحصار فمن صده عدو عن البيت صنع ما قال المؤلف - رحمه الله -: - سواء صده عن نسك الحج. - أو صده عن نسك العمرة. - وسواء كان نسك الحج تمتعاً أو قراناً أو إفراداً. - وسواء صده عن الحج بعد التحلل الأول أو قبل التحلل الأول. إذا صد عن الحج فإنه يعتبر من المحصرين ويتحلل. = والقول الثاني: أن الإحصار لا يكون بعد التحلل الأول بل عليه أن يبقى محرماً إلى أن يتيسر له الطواف بالبيت لأنه بعد التحلل الأول حل من كل شيء إلا النساء فسهل عليه أن ينتظر لإتمام النسك، وإلى هذا القول الثاني مال ابن قدامة - رحمه الله -. والصواب مع القول الأول: وهو أن الإحصار عذر بعد التحلل الأول وقبل التحلل الأول. والمشقة الموجودة بالمنع من الطواف موجودة بعد التحلل الأول وقبل التحلل الأول. - قال - رحمه الله -: ومن صدّه عدو عن البيت: أهدى ثم حل. قوله: (أهدى): = ذهب الجماهير إلى وجوب الهدي. - لقوله تعالى: - (فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ) -[البقرة/196].

- ولأن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمر أصحابه أن ينحروا هديهم في عمرة الحديبية حين صد عن البيت - صلى الله عليه وسلم -. = والقول الثاني: أن الهدي لا يجب فمن كان معه هدي يذبحه ومن لم يكن معه شيء فإنه يتحلل بالحلق والتقصير وينصرف. والصحيح وجوب الهدي والآية صريحة: - (فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ) -[البقرة/196]. يعني: فعليكم أن تذبحوا ما استيسر من الهدي. فلا يتحلل الإنسان إلا بالهدي أو بالإتيان ببدله كما سيأتينا في كلام المؤلف - رحمه الله - لكن الآن: الأصل هو تقرير وجوب الهدي على المحصر. - ثم قال - رحمه الله -: أهدى ثم حل. ظاهر كلام المؤلف - رحمه الله - أنه لا يجب عليه أن يحلق ولا أن يقصر لأنه يقول - رحمه الله -: (أهدى ثم حل). وفي هذه المسألة خلاف: = فالجماهير وأكثر أهل العلم رأوا وجوب الحلق أو التقصير وأنه يشترط للتحلل أن يحلق أو أن يقصر. واستدلوا على هذا: - بأن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمر أصحابه بالحلق ثم أمرهم وأكد الأمر بقرائن كثيرة وغضب لما تأخروا وهذا كله يدل على وجوب الحلق. = القول الثاني: أن الحلق لا يجب لأن الله تعالى أمر المحصر بذبح الهدي فقط والآية لم تتعرض للحلق أو التقصير فإيجابه إيجاب لشيء زائد عن الآية. والصواب مع القول الأول: لأن ما لم يذكر في الآية ذكر في السنة وكم من الأحكام إما لم تذكر جملة في القرآن ذكرت في السنة أو ذكرت على سبيل الإجمال في القرآن وفصلتها السنة وهذا ليس بأمر مستغرب على الشرع فإيجاب الحلق والتقصير بناء على وجود السنة الصريحة فيه هو القول الصحيح. ومن العلماء من قال: وجوب الحلق والتقصير على المحصر ينبني على مسألة: هل الحلق والتقصير نسك أو ليس بنسك ولا يتعلق بالأدلة التي ذكرها الجمهور بل ينبني على هذه المسألة الثانية وهي: هل هو نسك أو ليس بنسك؟ ونقول: إذا كانت تنبني على مسألة هل هي نسك أو ليس بنسك فتقدم معنا أن الحلق والتقصير في الحج والعمرة نسك. بناء على هذا يجب أيضاً أن لا يتحلل المحصر إلا إذا حلق أو قصر. - قال - رحمه الله -: فإن فقده: صام عشرة أيام ثم حلّ.

إذا فقده صام عشرة أيام ثم حل بدل عن الذبح بدلاً عن الهدي، ودليل الوجوب: - القياس على المتمتع. = القول الثاني: أنه إذا لم يجده اشترى بقيمة الدم طعاماً ووزعه على الفقراء أو صام عن كل مد يوماً. = القول الثالث: أنه ليس للذبح بدل فإذا لم يجد الهدي بقي محرماً إلى أن يتيسر له الهدي. - - لأن الله ذكر في الآية الهدي ولم يذكر له بدلاً ولو كان له بدل لذكر كما ذكر البدل في جزاء الصيد. هذه هي أقوال أهل العلم التي اطلعت عليها. لم أطلع على قول يقول: أنه إذا لم يجد الهدي سقط بلا بدل. حسب مطالعتي اليسيرة لم أجد أحداً نص على هذا وإنما أهل العلم اختلفوا على ثلاثة أقوال: - قولين في تحديد ما هو البدل. - وقول أنه ليس له بدل. لكن هذا القول الذي يقول ليس له بدل يلزمه أن يبقى محرماً ولا يقول له أن يتحلل. فالقول بأنه إذا لم يجد هدياً أنه يتحلل بدون شيء بدون بدل عن الدم هذا القول لم أقف عليه وهو قول يتوافق مع قواعد الشرع لكن نحتاج أولاً البحث عن قائل به. الراجح: - إذا كان ليس في المسألة إلا هذه الثلاثة أقوال فالراجح هو: القول الثاني فإن البدل بهذا الأمر جاء في الشرع. - ثم قال - رحمه الله -: وإن صدّ عن عرفة: تحلل بعمرة. إن صد عن عرفة فإنه يتحلل بعمرة. وهذا ينقسم إلى قسمين: ـ القسم الأول: أن يتحلل قبل خروج وقت الوقوف. فحينئذ يتحلل بعمرة. ـ القسم الثاني: أن يصد عن عرفة ويبقى ينتظر ويرجو أن يدخل عرفة إلى أن يخرج يوم عرفة فحينئذ ينتقل إلى الفوات ولا يأخذ حكم الإحصار. لذلك ينبغي لمن صد عن عرفة وظن أنه لن يتمكن: أن يبادر إلى التحلل. لكي لا يأخذ أحكام الفوات. - ثم قال - رحمه الله -: وإن حصره مرض أو ذهاب نفقة: بقي محرماً إن لم يكن اشترط. يريد المؤلف - رحمه الله - أن يبين أن الحصر لا يكون إلا بعدو. - لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - إنما أحصر بعدو ولم يحصر بغير ذلك. فأحكام الحصر تتعلق بالعدو فقط كما جاءت السنة. - الدليل الثاني للحنابلة: أن ابن عباس - رضي الله عنه - يقول: (لا حصر إلا بالعدو).

باب الهدي والأضحية

- الدليل الثالث: أن الشارع الحكيم شرع للمريض أو لمن يخشى من عدم إتمام النسك أن يشترط كما في حديث ضباعة. ولو كان المريض الذي لا يتمكن من إتمام النسك يأخذ حكم الإحصار لم يكن للاشتراط فائدة لأنا نقول إذا لم تتمكن فأنت محصر. = القول الثاني: أن الإحصار يحصل بالعدو وبالمرض وبكل ما يمنع الإنسان من الوصول إلى الحرم. كأن يحبس أو يمرض أو يربط فأي سبب من الأسباب. واستدل هؤلاء أيضاً بأدلة: - الدليل الأول: ما روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وصححه المتأخرون أنه قال: (من كسر أو عرج فهو محصر). - والدليل الثاني: أن الحصر في لغة العرب يتناول المنع بالعدو وبالمرض في أصل لغة العرب. فالحصر بالمرض يدخل بالآية على وفق لغة العرب التي نزل القرآن بها، ولا دليل على إخراجه من مقتضى اللغة. والأقرب والله أعلم الثاني. وأن الإنسان إذا منع فإنه يتحلل بأن يذبح ويحلق ويحل إذا أحصر وأن من منع بأي سبب من الأسباب فهو كمن منع بالعدو ولا فرق. وإنما تركنا هنا أثر ابن عباس لأمرين: - - الأول: حديث: (من كسر أوعرج .. ) فهذا حديث مقدم على فتوى صحابي. - - والثاني: أن مع أصحاب هذا القول ظاهر القرآن. والذين معهم ظاهر القرآن ونص أقوى من الذين تمسكوا بمجرد فتوى لصحابي جليل. وبهذا يكون انتهى باب الفوات والإحصار. باب الهدي والأضحية - قوله - رحمه الله - باب الهدي والأضحية. الهدي: هو ما يهدى إلى الحرم من بهيمة الأنعام وغيرها، فليس في مكة مما يذبح إلا وهو هدي وليس بأضحية. ومن سماه أضحية فقد أخطأ. والأضحية: هو ما يتقرب به إلى الله من بهيمة الأنعام في أيام مخصوصة، وهي أيام عيد الأضحى. - قال - رحمه الله -: أفضلها: إبل ثم بقر ثم غنم. أفادنا المؤلف - رحمه الله - أن الأضاحي لا تكون إلا ببهيمة الأنعام. - لقوله تعالى: - (لِيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ) -[الحج/34]. - ولأنه لم ينقل لا بحديث صحيح ولا ضعيف ولا بأثر صحيح ولا ضعيف لا عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ولا عن أصحابه ولا عن التابعين أن أحداً منهم ضحى بغير بهيمة الأنعام.

= والقول الثاني: أنه يجوز التضحية بكل ما يؤكل سواء مشى على الأربع أو طار بجناحه. وإلى هذا ذهب ابن حزم - رحمه الله -. وهو قول شاذ مستنكر وضعيف جداً مخالف لعمل وهدي الصحابة والسلف ومخالف لظاهر القرآن. والله تعالى إنما امتن ببهيمة الأنعام ولو كان غيرها يكفي ويضحي لذكره النص. - قال - رحمه الله -: أفضلها: إبل ثم بقر ثم غنم. ظاهر كلام المؤلف - رحمه الله - أن الأفضل في الهدي والأضحية الإبل ثم البقر ثم الغنم. ـ أما في الهدي: فهذا بلا إشكال: أن الأفضل: الإبل ثم البقر ثم الغنم. ولا أظن أن في هذه المسألة خلاف أصلاً في هذا الترتيب هذا بالنسبة للهدي لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - أهدى إبلاً فلا إشكال وذبح عن زوجاته البقر وذبح عامة أصحابه الشياه فلا إشكال في هذا من حيث أقوال أهل العلم ولا من حيث النصوص. ـ المسألة الثانية: هذا الترتيب حتى في الأضاحي:= وإليه ذهب الجمهور: أن الأفضل الإبل البقر ثم الغنم حتى في الأضاحي. واستدلوا على هذا: - بأن النبي - صلى الله عليه وسلم - ذبح الإبل في مكة. - وأيضاً استدلوا بأنها أنفس وأغلى وأنفع للفقراء. = القول الثاني: وهو للإمام مالك أنه في الأضاحي أفضل بهيمة الأنعام (الشياه) الجذع الضأن. - لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - ضحى به. والله سبحانه وتعالى يختار لرسوله - صلى الله عليه وسلم - الأفضل والأحب إليه ولو كان الأفضل أن يضحي بالإبل لصنع ذلك كما صنع في الحج. فهو يقول: جنس الغنم في الأضاحي خاصة أفضل فهو يخالف بهذا الجمهور. في الحقيقة في هذه المسألة تردد فإذا نظر الإنسان من جهة قال: الشياه خير لاختيار الله لنبيه، وإذا نظر من جهة قال الإبل لأنها أنفع وأفضل، ففيها إشكال. ((الأذان)). الأضاحي لا تجزئ في الشرع إلا بشروط: - الشرط الأول انتهينا منه وهو: الجنس الذي يجزئ في الأضاحي. - الشرط الثاني: السن. وعبر عنه: - بقوله - رحمه الله -: ولا يجزئ فيها: إلاّ جذع ضأن وثنيّ سواه، فالإبل خمس سنين والبقر سنتان والمعز سنة والضأن نصفها. يشترط في بهيمة الأنعام لتجزئ أن تبلغ سناً معينة فإن لم تبلغها فإنها لا تجزئ. والدليل على هذا الشرط:

- قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: (لا تذبحوا إلا مسنة إلا إن عسر عليكم فاذبحوا الجذع من الضأن) وهذا الحديث في مسلم ولا إشكال في ثبوته. إذاً: الحديث نص في اشتراط بلوغ سن معينة لهذه البهيمة لتجزئ في الأضاحي. والحديث يتوافق مع ما قاله المؤلف - رحمه الله -: - فهو يقول - رحمه الله -: ((ولا يجزئ فيها: إلاّ جذع ضأن)). وجذع الضأن هو ما بلغ ستة أشهر. - ثم قال - رحمه الله -: وثنيّ سواه. يعني سواء كان من الماعز أو من الإبل أو من البقر، فالماعز: سنة. إلا أن يكون من الضأن فستة أشهر كما تقدم، والإبل خمس سنين: ومعنى قول المؤلف - رحمه الله -: (خمس سنين): يعني: ما تم خمس سنوات ودخل في السادسة لا ما تم أربع ودخل في الخامسة بل لابد أن يتم خمس سنوات، وكذلك يقال في البقر لابد: أن يتم سنتين، وكذلك في المعز لابد أن يتم سنة، فإن نقص عن هذا السن فإنه لا يجزئ، فإن ذبحه فعليه أن يذبح آخر مكانه لعدم وجود الشروط المشترطة شرعاً، وهذا هو الشرط الثاني وهو بلوغ السن المجزئة، ونتوقف هنا ...

شرح كتاب المناسك الدرس رقم (17) قال شيخنا حفظه الله: بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين. تقدم معنا آخر الدرس السابق الكلام عن السن المشترط في الأضحية لتجزئ وتبين معنا أنه يشترط في جميع الأضاحي أن تكون مسنة إلا ما يتعلق بالضأن فيجوز أن يكون جذعاً. وهذا معنى قول المؤلف - رحمه الله -: (ولضأن نصفها) وتقدم معنا الدليل من السنة الصريحة الصحيحة في صحيح مسلم. ثم بدأ المؤلف - رحمه الله - ببيان ما تجزئ عنه الشاة والبدنة. - فقال - رحمه الله -: وتجزئ الشاة عن واحد. يقول المؤلف - رحمه الله - أن الشاة تجزئ عن واحد وهذا بإجماع أهل العلم، فإنه لم يخالف أحد من أهل العلم أن الشاة تجزئ عن واحد. واستدلوا على هذا الحكم:

- بما أخرجه الإمام مسلم عن عائشة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أتي بكبش أقرن يطأ في سواد وينظر في سواد ويبرك في سواد فأمر به النبي - صلى الله عليه وسلم - أضحية ثم أخذه فأضجعه وذبحه وقال: (بسم الله. اللهم تقبل من محمد وآل محمد وتقبل من أمة محمد). هذا الحديث في صحيح مسلم وهو نص في إجزاء الذبيحة عن واحد. لأنه ضحى بكبش وهو في مسلم مصرح بأنه ذبحه أضحية، ولذلك ختم الحديث بقوله: فذبحه أضحية، وتجزئ الشاة عن الشخص الواحد وعن أهل بيته: - للحديث السابق الذي ذكرناه. - ولما روي عن أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - أنهم قالوا: كان الرجل منا يذبح الشاة عنه وعن أهل بيته. - ثم قال - رحمه الله -: والبدنة والبقرة عن سبعة. البقرة والبدنة تجزئ عن سبعة عند الجماهير من أهل العلم من طبقة الصحابة والتابعين ومن بعدهم. واستدل الجماهير على هذا الحكم: - بقول جابر - رضي الله عنه - ذبحنا ونحرنا يوم الحديبية البقرة عن سبعة والبدنة عن سبعة. والهدي في الحديبية هدي واجب حكمه حكم الأضحية. = وذهب ابن عمر إلى أن البدنة لا تجزئ إلا عن واحد والبقرة لا تجزئ إلا عن واحد. وقال: لا تكون النفس الواحدة إلا عن نفس واحدة، فالنفس الواحدة يعني من الإبل أو من البقر لا تكون إلا عن نفس واحدة، وهذا عجيب جداً من ابن عمر إن صح عجيب من جهتين: - الجهة الأولى: أنه خالف النص. - الجهة الثانية: أنه استعمل الأقيسة في خلاف النص وهذا بعيد عن ابن عمر - رضي الله عنه - جداً. ويبعد أن نقول أنه لم يعلم بقصة الحديبية لأنها مشهورة وواقعة عرفها كل الصحابة لما فيها من صد المسلمين عن الكعبة، فإما أن نقول أنه لم يصح عن ابن عمر أو نقول أنه في هذا الموضع رأى هذا الرأي وإن كانت ليست له بطريقة. والراجح مذهب الجمهور بلا إشكال فإن الحديث صحيح وصريح في المسألة. * * مسألة / سبع البدنة وسبع البقرة يجزئ عن الواحد ولو أراد البقية اللحم ولم يريدوا القربة. والدليل على هذا: - أن الجزء المجزئ من البقرة أو من البدنة لا ينقص بإرادة الآخرين اللحم دون القربة.

= وذهب الأحناف: إلى أنه يشترط في البقر والإبل ليجزئ أن يريد الجميع بهذه الذبيحة القربة سواء كانت قربة واجبة أو قربة مندوبة. والراجح مع الجمهور وأنه لا ترابط بين إرادة بعضهم اللحم وإرادة بعضهم التقرب إلى الله بالأضحية أو بالهدي. - - ثم قال رحمه الله - ولا تجزئ: العَوْراء. شرع المؤلف - رحمه الله - في بيان العيوب التي إذا اتصفت بها الذبيحة فإنها لا تجزئ في الذبح الواجب سواء كان أضحية أو هدي أو دم واجب لترك أحد واجبات الحج، فالمهم أي ذبيحة واجبة. - يقول - رحمه الله -: العوراء. المقصود بالعوراء هنا: العوراء البين عورها، وهي التي أصيبت بخسف العين أو بروز العين، فهذا معنى العور البين، فإن كانت العين قائمة يعني ليست منخسفة ولا بارزة لكن البهيمة لا تبصر بها فهذه البهيمة تسمى عوراء لأنها تبصر بعين ولا تبصر بالأخرى، ومع ذلك هذه العوراء من البهائم تجزئ لأن عورها ليس عوراً بيناً، والعور المانع من الإجزاء هو العور البين، وهو يتلخص بـ: - الخسف. - والبروز. فإن كانت البهيمة عمياء لم تجزئ من باب أولى. فإذا منعنا العوراء فالعمياء من باب أولى. والدليل على المنع: - ما رواه البراء بن عازب - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (أربع لا تجوز في الأضحية: العوراء البين عورها والمريضة البين مرضها والعرجاء البين ضلعها والعجفاء التي لا تنقي). فهذه أربعة عيوب إذا اتصفت بأحدها الذبيحة لم تجزئ في الأضحية. - ثم قال - رحمه الله -: والعَجْفاء. العجفاء هي الهزيلة التي لا تنقي، فيشترط في الذبيحة لكي تعتبر عجفاء: أن تكون هزيلة ولا تنقي في نفس الوقت، ومعنى لا تنقي: يعني: لا يوجد في عظمها مخ. لأن النقي هو مخ العظام، فإن اتصفت بإحدى الصفتين فإنها تجزئ بأن كانت سمينة وليس في عظامها مخ فهذا النوع من الأضاحي يجزئ لأمرين: - الأمر الأول: أن المقصود الأساس من الأضاحي هو اللحم. وإذا كانت سمينة فإنه لا يعنينا أن تكون العظام خالية من المخ. - الأمر الثاني: أن العجفاء اشترط فيها أن تكوت هزيلة ولا تنقي وهذه ليس هزيلة لا تنقي وإنما سمينة وإن كانت لا تنقي.

فإن قيل: النبي - صلى الله عليه وسلم - نص على النقاء فقال: (العجفاء التي لا تنقي) ولم يتعرض - صلى الله عليه وسلم - لمسألة أن تكون هزيلة أو سمينة. فالجواب: والله أعلم: أن المراد بهذه العبارة أن تكون هزيلة لأنها إذا هزلت من قلة الأكل قل المخ في عظامها وأصبحت هزيلة من اللحم ومن المخ في العظام فالأظهر والله أعلم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أراد بهذه العبارة الهزيلة، بدليل: أن معرفة ما في العظام من مخ غير متهيئ من النظرة الأولى وإنما نعرف أن العظام ليس فيها مخ إذا رأينا البهيمة هزيلة فكأنه أشار بهذا إلى أنها ليست سمينة. - ثم قال - رحمه الله -: والعَرْجاء. العرجاء: يقصد بها البين عرجها، ويعرف العرج بأنه بين بما ذكره الفقهاء من أنها لا تستطيع أن تمشي مع السليمة وإنما تتخلف عنها فإذا تخلفت عنها وصلت السمينة إلى المرعى قبلها وأكلت المرعى وصار هذا سبباً في أن تكون العرجاء هزيلة هكذا يقرر الفقهاء أن هذا معنى العرجاء وأن هذا سبب المنع، وظاهر هذا التعليل من الفقهاء أنه إذا كانت العرجاء إذا وصلت إلى المرعى وجدت ما تأكل وأبقت لها السليمة ما تأكل ولم تصبح هزيلة وبقيت سمينة أنه لا حرج. هذا ظاهر تعليل الفقهاء. والصواب: أن العرج هو بذاته عيب فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - جعله عيباً سواء تمكنا من إطعام العرجاء إلى أن سمنت وأصبحت سمينة وجيدة المظهر أو صار العرج سبباً في أن تكون هزيلة ففي الصورتين لا يجوز أن نضحي بالعرجاء. - ثم قال - رحمه الله -: والهَتْماء. الهتماء هي التي سقطت ثناياها من أصولها فهذه لا تجزئ: - لأن هذا نقصاً مخلاً بكمال الذبيحة. = والقول الثاني: أن الهتماء تجزئ. - لأن هذا العيب لم يذكر في حديث البراء مع أنه وارد في تعداد العيوب التي تمنع الإجزاء. - ولأن هذا العيب ليس مقيساً على أحد العيوب المذكورة في حديث البراء. وهذا والله أعلم هو الأقرب: أن الهتماء تجزئ. فإن قال قائل: أن الهتماء لا تستطيع أن تأكل أكلاً جيداً فتصير عجفاء فالجواب: إذا صارت عجفاء منعناها لأنها عجفاء لا لأنها هتماء. - ثم قال - رحمه الله -: والجَدَّاء.

الجداء هي التي نشف ويبس ضرعها، وغالباً ما يكون هذا بسبب قلة الأكل. وقد يكون بسبب كبر السن. = والقول الثاني: أنها تجزئ. - لأنه لا دليل على منع هذا النوع من بهيمة الأنعام من الإجزاء. والأصل في بهيمة الأنعام أنها تجزئ في الأضاحي ما لم يدل الدليل الصريح الواضح على خلاف ذلك. وليس في الأدلة ما يدل على خلاف ذلك. والراجح: أنها تجزئ. - ثم قال - رحمه الله -: والمريضة. المريضة المقصود بها البين مرضها يعني: التي يظهر على حالها علامات المرض. فهذه لا تجزئ، ومن أمثلتها: الجرباء. فإن الجرب مرض بين ومن أمثلتها: ما يسمى بالطالوع والطالوع يصيب جنساً من بهيمة الأنعام وهو الشياه النجدية وإذا رأيت الشاة النجدية التي فيها طالوع أو اثنين أو ثلاثة تجدها على أحسن ما يرام وعلى أطيب ما يكون من الشكل ثم إذا ذبحها الإنسان فوجئ بوجود الطالوع، وفي الحقيقة الفقهاء يقولون: النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: (المريضة البين مرضها). وهذه إذا رأيتها ورأيت سمنها وحسن شكلها يخطر ببالك أنها مريضة لكن الطالوع مرض ولا إشكال في أنه مرض، وأيضاً هو مرض بين لكن يمنع من رؤيته الشعر. بمعنى: أنه يمنع من رؤيته أمر عارض وإلا فهو أمر ظاهر، ولذلك جرى كثير من الناس على أن الطواليع تمنع من الإجزاء. وسألت بعض الأطباء البيطريين عن مسألة وهي: الطالوع هل هو عبارة عن تجمع المادة الصفراوية ولا يؤثر على لحم الذبيحة أو هو تجمع يؤثر على لحم الذبيحة ولم أأخذ جواباً واضحاً يركن إليه الإنسان لكن خلاصة كلامه أنه يميل إلى أن هذا المرض يؤثر على اللحم، فإن كان هذا المرض يؤثر على اللحم فلا إشكال أنه لا يجزئ. وقد نص الفقهاء على أن الأمراض التي تؤثر على اللحوم تمنع من الإجزاء وأنها تدخل دخولاً أولوياً في قول النبي - صلى الله عليه وسلم - المريضة البين مرضها، لكن يبقى البحث الآن في ما إذا لم يثبت أن له أي تأثير على اللحم بحيث يمكن أزالته قبل الذبح ولا يؤثر على اللحم ولا ينشق أثناء الذبح وينسكب على اللحم فمثل هذه الصورة تحتاج إلى بحث إذا ثبت أنه لا يؤثر. والأصل الآن أنه مرض يمنع من الإجزاء. - ثم قال - رحمه الله -: والعضباء.

العضباء هي البهيمة التي ذهب أكثر من نصف القرن أو الأذن لها. واستدل الحنابلة على أنها هذا النوع من العيوب يمنع من الإجزاء: - بقول علي - رضي الله عنه - نهى النبي - صلى الله عليه وسلم - عن أن نضحي بمشقوقة الأذن أو مكسورة القرن. وهذا الحديث إسناده ضعيف. ولا يصح أبداً مرفوعاً إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -. = والقول الثاني: أن مكسورة القرن أو مقطوعة الأذن تجزئ. واستدلوا بدليلين: - الدليل الأول: أن الراوي لحديث البراء قال للبراء - رضي الله عنه - فإني أكره النقص في الأذن والذنب. فقال له البراء: ما كرهته فدعه ولا تضيق على الناس، وفي لفظ آخر: ما كرهته فامتنع عليه ولا تحرم على الناس مباحاً. جواب البراء: جاء بلفظين: اللفظ الأول واللفظ الثاني والأجوبة كلها تدل على أن النقص في القرن والأذن لا يمنع من الإجزاء. - الدليل الثاني: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يذكره مع الأربع التي لا تجزئ والأصل السلامة والإجزاء. وهذا الثاني: هو الراجح. ويؤيده أن النقص في القرن والنقص في الأذن ليس له أي تأثير على اللحم. فهذا إن شاء الله هو الأقرب. وقبل الانتقال إلى البتراء: العضباء عند الحنابلة لا تجزئ إذا كان النقص أكثر من النصف. فإن كان النصف فأقل فهي تجزئ مع الكراهة وسوف يذكر المؤلف - رحمه الله - ما يتعلق بذلك. - ثم قال - رحمه الله -: بل البتراء خِلقة. البتراء: مقطوعة الذنب، فإن كانت بتراء خلقة: أجزأت، وإن كانت بتراء قطعاً للذنب - يعني: مقطوعة الذنب من قبل الآدمي - فإنها: لا تجزئ. = والقول الثاني: أن البتراء تجزئ خلقة أو مقطوعة. - لأنه لا دليل على المنع. - وروي عن ابن - رضي الله عنه - السماح بذلك. أي أن البتراء تجزئ. * * مسألة / هذا حكم الذنب. أما حكم الإلية فيختلف. وحكم الإلية: = عند الحنابلة: كحكم الأذن تماماً. فإن كان مقطوع أكثر من النصف فإنها لا تجزئ. وإن كانت مقطوعة النصف فأقل فإنها تجزئ كالتفصيل الذي في الأذن. = وذهب الشافعية إلى أن مقطوع الإلية إن كان خلقة فإنه يجزئ. وإن كان قطعاً فإنه لا يجزئ. وهذا القول أقرب. فنفرق بين ما ولد بلا الإلية وبين ما ولد بإلية ثم قطعت. - ثم قال - رحمه الله -:

والجَمَّاء. الجماء هي البهيمة التي تولد بلا قرن، وهي: تجزئ بإجماع الأئمة الأربعة. - لأنها لم تذكر في حديث البراء. - ولأن هذا الأمر ليس له أي تأثير على جودة وكثرة اللحم. - ثم قال - رحمه الله -: والخصيّ غير المجبوب. الخصي هو ما قطعت خصيتاه أو سلتا أو دقتا يعني: ما ذهب بخصيتيه بأي طريقة ولو بغير هذه الطرق الثلاث التي ذكرها الفقهاء، فالخصي يجزئ وحكي فيه الإجماع. والدليل على إجزائه: - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - ضحى بكبشين موجوئين. والوجاء: رض الخصيتين. - والدليل الثاني: أن الذهاب بالخصيتين بأي طريقة له أثر جميل وحسن على اللحم ولذلك قال بعض السلف: ما جاء الذبيحة من الشحم واللحم خير مما ذهب منها. يعني: من الخصيتين. - ثم قال - رحمه الله -: غير المجبوب. الخصي: إذا كان مجبوباً أي مقطوع الذكر فإنه لا يجزئ. - قياساً على قطع الأذن. - ولأن هذا نقصاً في خلقته. وذهاب بعضو ينتفع به. = والقول الثاني: أن مقطوع الذكر يجزئ. - أولاً: أن المقيس عليه الأذن والأذن تقدم أنها تجزئ. - ثانياً: لأنه لم يذكر في حديث البراء. - ثالثاً: لأنا إذا أجزنا الخصاء فإن الذكر يبقى بلا فائدة فهو إذهاب لعضو لا فائدة فيه. فمن يجوز الخصاء يجب أن يجوز المجبوب. - ثم قال - رحمه الله -: وما بأذنه أو قرنه قطع أقل من النصف. ظاهر عبارة المؤلف - رحمه الله - أنه يجزئ إذا كان أقل من النصف ولا يجزئ إذا كان النصف فأكثر، وتقدم معنا أن مذهب الحنابلة المعتمد هو أنه: إذا كان النصف فأقل فإنه يجزئ مع الكراهة. وإنما الذي لا يجزئ هو ما كان أكثر من النصف. والدليل على كراهة هذا الأمر: - ما روي عن أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - أنهم قالوا: (أمرنا أن نستشرف العين والأذن) والاستشراف هو: تدقيق النظر تفادياً للعيوب. وهذا الحديث اختلف فيه الحفاظ حتى المتقدمين منهم اختلفوا: = فذهب ابن عبد البر إلى أن إسناده حسن ومقبول ويحتج به. = وذهب الدارقطني إلى أنه موقوف ولا يصح مرفوعاً إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - والراجح: أنه موقوف ومع ذلك يصلح للاستدلال على كراهية ما قطع منه الأذن أو القرن.

ثم انتقل المؤلف - رحمه الله - إلى كيفية الذبح. - فقال - رحمه الله -: والسنة: نحر الإبل قائمة معقولة يدها اليسرى. الدليل على هذا: - ما ثبت عن ابن عمر - رضي الله عنه - أنه رأى رجلاً أناخ بدنته لينحرها فقال: (أقمها قياماً معقودة أو مربوطة سنة محمد - صلى الله عليه وسلم -). وأما الدليل على ربط اليد اليمنى وأن تقف على ثلاث: - فما في سنن أبي داؤد أن أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - كانوا يربطون القائمة اليسرى وحملها الفقهاء على اليد. فالسنة إقامة البدنة على ثلاث: الرجلين واليد. والسنة أن نربط اليد اليسرى وليست اليد اليمنى. فإن نحرها على غير هذه الصفة أجزأ إجماعاً. * * مسألة / فإن خشي الذابح أن لا يتمكن من السيطرة عليها وهي قائمة فإن الأحسن أن يذبحها وهي جالسة لأن الضرر المتوقع منها إذا انطلقت أكبر من تحقيق السنة من ذبحها وهي قائمة. وهذا يحصل أحياناً فينبغي إذا علم الإنسان من نفسه أنه لا يعرف الذبح أو لا يحسن الذبح قائماً أن يذبحها وهي جالسة. - يقول - رحمه الله -: فيطعنها بالحربة في الوهدة التي بين أصل العنق والصدر. يعني: أن النحر يكون في أسفل العنق. في الوهدة التي بين العنق والصدر، وهذا هو الفرق بين النحر والذبح، فإن النحر يكون في أسفل العنق والذبح يكون في أعلى العنق، هذا الفرق بينهما فقط. والحكمة من الذبح في هذا الموضع: لأن لا يعذب الذبيحة البدنة لأنه إذا ذبحها من أعلى العنق تأخر خروج الدم وتألمت الذبيحة إلى أن تموت. بخلاف إذا ذبحها من أسفل العنق فإن القلب يدفع الدم بسرعة مما يعجل في موت هذه الذبيحة. * * مسألة / فإن نحرها من أعلى العنق. - رجل لا يعرف - وذبح البدنة في موضع قريب من الرأس فإن الذبيحة وصحيحة ومجزأة. - لقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: (ما أنهر الدم وذكر اسم الله فكل) فهذا أنهر الدم وذكر اسم الله فيأكل.

وروي عن الإمام أحمد أنه إن ذبح ما ينحر فإنه لا يؤكل. بخلاف إن نحر ما يذبح فالأمر أسهل لكن إن ذبح ما ينحر فإنه لا يؤكل، وهو قول - في الحقيقة - ضعيف جداً ومصادم للنص ولعل الإمام أحمد - رحمه الله - ذكره على سبيل الكراهة والاحتياط لا على سبيل التحريم والمنع فإن حديث ما أنهر الدم صريح في الجواز. - ثم قال - رحمه الله -: ويذبح غيرها. أي: أن النحر للبدنة خاصة والذبح لما عداها سواء كان ما عداها من بهيمة الأنعام أو من غير بهيمة الأنعام، فالذبح يكون للشياه وللماعز وللبقر وللغزال وللأرنب ولكل ما عدا بهيمة الأنعام، وأقول أنا: تفقهاً: (لم أطلع على كلام أهل العلم). إلا الزرافة. لأنها تشبه في البعير ولأن العلل التي ذكروها تجتمع في الزرافة بل الزرافة أولى لأنها أطول على القول بجواز أكل الزرافة. - ثم قال - رحمه الله -: ويجوز عكسها. يجوز أن تذبح ما ينحر أو أن تنحر ما يذبح. - للحديث السابق: (ما أنهر الجم وذكر اسم الله عليه فكل). وهذا يدل على أنه إذا قطع العروق وسال الدم جاز الأكل مع التسمية بأي طريقة تمت هذه الإراقة، وهذا معنى قوله - رحمه الله -: (ويجوز عكسها). - ثم قال - رحمه الله -: ويقول: ((بِسْمِ اللَّهِ وَاللَّهُ أَكْبَرُ)). يقول: بسم الله والله أكبر. ـ أما بسم الله: فهي واجبة. ـ وأما الله أكبر: فهي سنة. الدليل على التسمية: - ما تقدم معنا في حديث عائشة حيث قالت: ثم ذبحها وسمى وقال: (اللهم تقبل من محمد وآل محمد وتقبل من أمة محمد). وأما البسملة مع التكبير فدليله: - حديث أنس - رضي الله عنه - وهو في الصحيح أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أتي بكبشين أقرنين فوضع قدمه - صلى الله عليه وسلم - على صفاحهما وذبحهما وقال: (بسم الله. والله أكبر) وذبحه بيده. هكذا قال أنس - رضي الله عنه - ونص على أنه ذبحه بيده. فقال العلماء: أن التسمية واجبة. لقوله: {ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه} [الأنعام/121]. والتكبير سنة: لحديث أنس - رضي الله عنه -. ولعلهم أيضاً استدلوا على أنه سنة أنه مذكور في حديث أنس ولم يذكر في حديث عائشة. - ثم قال - رحمه الله -: ((اللَّهُمَّ هَذَا مِنْكَ وَلَكَ)).

الأحاديث التي فيها ذبح النبي - صلى الله عليه وسلم - ثلاثة: - حديث عائشة الذي ذكرت لك وفيه: (اللهم تقبل من محمد وآل محمد .. الخ. - وحديث أنس - رضي الله عنه - وليس فيه دعاء خاص وإنما قال: بسم الله والله أكبر وذبح. - وحديث جابر وفيه هذا الدعاء: اللهم هذا منك وإليك. لكن حديث جابر - رضي الله عنه - ضعيف. فالأقرب والله علم أنه لا يسن أن يقول: اللهم هذا منك وإليك. لأنه لا دليل على هذا وإنما يسن أن يقول: اللهم تقبل مني ومن آلي. إذا كان يذبح عن نفسه وأهل بيته، لأن هذا ثابت في صحيح مسلم بينما حديث جابر - رضي الله عنه - إسناده ضعيف ولا يصح إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -، ومعلوم أن الذبح من أعظم العبادات التي يجب أن تقيد فيها بالسنة. - ثم قال - رحمه الله -: ويتولاها صاحبها. معنى: يتولاها هنا: يعني: يذبح بيده، هذا هو معنى التولي في عبارة المؤلف - رحمه الله -، وليس المقصود أن يصرف الأمر ويدبر الذبح ويأمر به وإنما المقصود أن يتولى الذبح بيده. - وهو سنة. لما استفاض عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه كان يذبح بيده الشريفة - صلى الله عليه وسلم -: ـ فذبح في الحج ثلاثاً وستين من الإبل. ـ وثبت في حديث أنس أنه ذبح بيده. ـ وثبت في حديث عائشة أنه ذبح بيده. فلا إشكال أن السنة المتواترة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يتولى الإنسان الذبح بيده، وهذا ما فهمه أنس حيث نص - رضي الله عنه - على ذلك بقوله: وذبحها بيده، فالسنة للإنسان أن يتولى ذبح الهدي والأضحية بيده ما أمكن واستطاع فإن لم يتمكن من الذبح في سنة من السنوات فإنه ينبغي أن لا يترك الذبح في كل السنوات، فإذا كان برنامجه أو من هو معهم من الحجاج أو الحملة التي هو معهم لا يتمكن معها من الذهاب إلى المسالخ والذبح ينبغي على الأقل ويتأكد أن يتولى الذبح ولو لمرة واحدة حتى يطبق هذه السنة التي استفاضت بها النصوص. - ثم قال - رحمه الله -: أو يوكل مسلماً ويشهدها. يعني: يجوز للإنسان أن يوكل غيره من المسلمين في ذبح الأضاحي والهدايا، وهو جائز بالإجماع بالنسبة لتوكيل المسلم.

- لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - وكل علياً كما في الحديث الصحيح ليتم ذبح ما غبر من الهدي الذي جاء به النبي - صلى الله عليه وسلم -. ـ فإن وكل ذمياً: ففيه خلاف: = فعند الحنابلة: يجزئ مع الكراهة. دليل الإجزاء عند الحنابلة: - أن الكتابي ذبيحته جائزة وإذا جاز أن يذبح في غير الأضاحي والهدايا جاز فيها. = والقول الثاني: أنه يشترط فيمن يوكل في ذبح الهدايا والأضاحي خاصة أن يكون من المسلمين. فإن كان من أهل الكتاب وجب على من وكله أن يذبح بدلها. واستدل هؤلاء: - بأن هذا الذبح ذبح عبادة وتقرب إلى الله والذمي ليس من أهل العبادة. وهذا القول هو الصواب. لأنا نقول: كما أن الكتابي لا يجوز أن ينوب عن المسلم في أي عبادة أخرى فكذلك في هذه العبادة: أنه لا يجوز أن يصوم عنه ولا أن يصلي عنه - على القول بجواز أن ينوب أحد عن أحد في الصلاة - فكذلك لا يجوز أن يذبح عنه لأن هذا عبادة ونسك كالصلاة (فصل لربك وانحر). فكيف نقول: يجزئ أن يذبح الكتابي. فالأقرب دليلاً أنه لا يجزئ إذا ذبح الكتابي. - ثم قال - رحمه الله -: ويشهدها. يعني: أن السنة لمن لم يتمكن من الذبح لعدم معرفته أو لمرضه أو لأي سبب من الأسباب فإن السنة أن يشهد الذبح وأن يحضر عند الذبح. - لما روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - من حديث فاطمة - رضي الله عنها - ومن حديث ابن عباس - رضي الله عنه - أن (من شهد أضحيته غفر له مع أول قطره). هذا الدليل من النص: والدليل من التعليل: - أن حضوره للذبح يستشعر معه التقرب والخضوع لله ويحصل معه مقصود العبادة. ثم انتقل المؤلف - رحمه الله - للكلام عن الوقت المجزئ في الذبح: - فقال - رحمه الله -: ووقت الذبح: بعد صلاة العيد. قوله: (وقت الذبح). يعني: ذبح الأضاحي والهدايا. وقوله: (بعد صلاة العيد). يعني: ولو قبل الخطبة. فإن الواجب مضي قدر العيد فقط. = وهذا مذهب الحنابلة: أنه لا يجوز الذبح إلا بعد صلاة العيد. واستدل الحنابلة: - بالحديث الصريح الصحيح الثابت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: (من ذبح قبل صلاة العيد فليذبح بدلاً عنها) وهذا نص صريح.

وعلى هذا القول: الجواز يتعلق بأداء الإمام الصلاة لا بالوقت. بمعنى: لو تأخر الإمام عن أداء الصلاة فإنه لا يجوز للإنسان أن يذبح. = القول الثاني: أن وقت جواز الذبح يبدأ بمضي قدر وقت الصلاة. يعني: ولو لم يصل. واستدل هؤلاء بدليلين: - الدليل الأول: أن آخر زمن الذبح حدد بالوقت فكذلك يجب أن يحدد أوله بالوقت لا بفعل الصلاة. - الدليل الثاني: القياس على الذين لا تقام فيهم صلاة العيد فإن أهل العلم أجمعوا على أنه إذا لم تقم صلاة العيد في منطقة لأي سبب من الأسباب فإن وقت الجواز يبدأ بمضي قدر الوقت الذي تؤدى فيه الصلاة. وهذه التعليلات قوية لكن لا عبرة بها ولا ينظر إليها في مقابلة النص الصريح الذي نص على أن البداية بعد الصلاة. ((الأذان)). نحن بدأنا بأول الوقت فننهيه ونتوقف على آخر الوقت فيكون في الدرس القادم. باقي في أول الوقت: - قول المؤلف - رحمه الله -: (أو مضي قدره). مقصود المؤلف - رحمه الله - بقوله: (أو قدره) خاص عند القوم الذين لا تقام فيهم الصلاة، فالقوم الذين لا تقام فيهم صلاة العيد لا يمكن اعتبار الصلاة لأنها لا توجد فاعتبر مضي قدر الوقت، فإذا مضى وقت يتسع للصلاة جاز لهم أن يذبحوا، وهذا لا إشكال فيه لأنه لا يمكن أن نعتبر الصلاة حداً في مكان لا تصلى فيه. لأن هذا يؤدي إلى أن لا يضحوا لأنا نقول لهم انتظروا إلى ما بعد ولا توجد صلاة. فإذاً هذه الصورة لا إشكال فيها.

من الأسئلة: - إذا ذبح عن غيره: يعني وكل عن غيره: فإنه لا يقول شيئاً. ولا يسمي هذا الغير وإنما ينوي فقط. والتسمية الآن تكون في المُوَكَّلِ والشروط يجب أن تتوفر في المُوَكَّلِ لا في المُوَكِّلِ. - عندما يقول: (اللهم عن فلان وآل فلان) فيدخل في (آل فلان) أهل بيته فقط الذين يتحدون في النفقة فإذا كان له أبناء يستقلون بمنازل خاصة لهم فإن على كل واحد منهم أضحية لأنهم يتفرقون في النفقات. - من فاته الحج بمرض ثم مات: فلا شيء عليه. ولذلك الرجل الذي وقصته الناقة لم يأمر النبي - صلى الله عليه وسلم - فيه بشيء. - ما حكم رش ماء زمزم على الجسم بقصد البركة والدواء؟ لا بأس. استخدام ماء زمزم استخداماً خارجياً واستخدامه استخداماً داخلياً لا حرج فيه لأنه ماء مبارك بالسنة الثابتة. - هل يشرع للنساء أن يسعين السعي الشديد بين العلمين؟ لا يشرع لهن السعي بالإجماع. إلا قولاً شاذاً لا عبرة به فلا يشرع لهن السعي ولا يجوز لأمرين: ـ أولاً: لأنه بدعة. فإنه لم ينقل عن نساء الصحابة أنها أسرعت بين العلمين. ـ ثانياً: أن هذا السعي يؤدي إلى انكشاف المرأة. - يشترط في الذابح شروطاً ستاتينا في كتاب الأطعمة فإن المؤلف - رحمه الله - سينص عليها وليس من المناسب ذكرها الآن.

شرح كتاب المناسك الدرس رقم (18) قال شيخنا حفظه الله: بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين. انتهى الكلام بنا بالأمس إلى بيان متى يبدأ وقت ذبح الأضحية وتوقفنا عند النهاية: - فالمؤلف - رحمه الله - يقول: يومين بعده. = ذهب الحنابلة رحمهم الله إلى أن أيام الذبح ثلاثة: يوم النحر، وفي يومين بعده دون اليوم الثالث عشر. واستدلوا على هذا: - بقول الإمام أحمد - رحمه الله - عن خمسة من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم -. يعني: أنهم اعتبروا وقت الذبح ينتهي باليوم الثاني عشر. = والقول الثاني: وهو مذهب الشافعية واختيار شيخ الإسلام بن تيمية واختيار ابن القيم: أن أيام الذبح أربعة: يوم النحر، وثلاثة بعده. واستدلوا على هذا: - بأنه روي عن علي بن أبي طالب التحديد بهذا. - والدليل الثاني: استدلوا بقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: (كل أيام التشريق أيام ذبح). - واستدلوا: بقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: (أيام التشريق أيام أكل وذكر لله).فالإشارة بقوله: (أكل). إلى الذبح. - واستدلوا: بأن أيام التشريق تشترك في أحكام كثيرة: - فهي أيام للذكر. - ولا يجوز أن تصام - وهي أيام للرمي. فإذا اشتركت في أحكام كثيرة كيف تفترق في الذبح. والجواب عن أدلة القول الثاني:

- أن علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - روي عنه التحديد بأربعة أيام ولكن روي عنه أيضاً ما يوافق قول الصحابة. - وأما حديث: (كل أيام التشريق أيام ذبح). فهو حديث ضعيف لا يثبت. - وأما حديث: (أيام التشريق أيام أكل وشرب وذكر لله) فليست صريحة بجواز الذبح. وإذا تأمل المنصف اللبيب أدلة كل قول. وجد أن أدلة القول الثاني وجيهة في الحقيقة لا سيما القياس على اتحاد الأحكام في أيام التشريق، لكن مما يحول بين الإنسان وبين الجزم بصحة هذا القول الآثار المروية عن أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - فإنها مشكلة جداً بل إن الإمام أحمد - رحمه الله - في رواية قال: عن خمسة. وفي رواية قال: عن فلان وفلان وعدد ستة، فهؤلاء الصحابة الذين نقل عنهم هذا القول فإن الإنسان لا يجترئ العدول عن قولهم في الحقيقة، ونحن قررنا قاعدة مراراً وتكراراً: أن لقول الصحابي منزلة عندنا وأنها من أقوى المرجحات لا سيما على طريقة ابن قدامة إذا روي عنهم قول ولم يخالفوا من قبلهم. أما مخالفة علي فهي ملغاة بموافقته إياهم في الرواية الأخرى. لذلك نقول الأحوط: ما ذهب إليه الإمام أحمد وأن الإنسان ينبغي أن ينتهي من الذبح في اليوم الثاني عشر أي قبل غروب شمس اليوم الثاني عشر. - ثم قال - رحمه الله -: ويكره في ليلتهما. = ذهب الحنابلة إلى أنه يجوز الذبح في الليل لكن مع الكراهة. أما دليل الكراهة: - فهو الخلاف في جواز الذبح ليلاً. والحنابلة يعللون بالخلاف كثيراً. وتقدم معنا أن الخلاف ليس دليلاً شرعياً تؤخذ منه الكراهة. وأما دليل الجواز فمن عدة أوجه: - الوجه الأول: القياس على جواز الرمي ليلاً. - والوجه الثاني: أن ليالي أيام التشريق داخلة في جملة وقت الجواز. لأنا نقول أن وقت الجواز ثلاثة أيام فالليالي من هذه الحيثية داخلة في جملة الوقت. = والقول الثاني: أنه لا يجوز الذبح ليلاً فإن ذبح فعليه أن يعيد. لأنه ليس وقتاً للذبح. واستدلوا على هذا أيضاً بأمرين: - الأمر الأول: قوله تعالى: - (وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ) -[البقرة/203]. قالوا: والأيام اسم للنهار.

- الأمر الثاني: أنه يغلب على الذابح في الليل عدم التمكن من توزيع اللحم فصار الذبح ليلاً يخل بمقصود أساس من مقاصد الأضحية. والراجح: أن الذبح ليلاً جائز بلا كراهة. وإن تجنبه الإنسان احتياطاً للأضحية فهو حسن. - ثم قال - رحمه الله -: فإن فات قضى واجبه. يعني: إذا خرج وقت جواز الذبح فإنه يقضي هذا الذبح. وهذه المسألة تنقسم إلى قسمين: ـ القسم الأول: أن يفوت وقت الذبح الواجب. كأن يكون نذر نذراً أنه يذبح. فحينئذٍ: = ذهب الجمهور إلى أنه يجب عليه أن يذبح وأن يصنع في ذبيحته كما كان يصنع لو ذبح في الوقت المشروع تماماً. ويعتبر الذبح والتوزيع قضاءً وليس بأداء. ـ القسم الثاني: أن تكون الذبيحة تطوع. فإذا كانت من التطوعات فحكمها أنه مخير بين أن يمسك فلا يذبح وبين أن يذبح وَيُوَزِّعُ: فإذا ذبح ووزع فإن اللحم الذي يوزع لحم صدقة وليس لحم أضحية. (فصل) - ثم قال - رحمه الله -: (فصل) ويتعينان بقوله: ((هَذَا هَدْيٌ أَوْ أُضْحِيَةٌ)). يريد المؤلف - رحمه الله - أن يبين أحكام التعيين لما يترتب على التعيين من ثمرات فقهية كثيرة سيذكرها المؤلف - رحمه الله -. - فالمؤلف - رحمه الله - يقول: ويتعينان بقوله: ((هَذَا هَدْيٌ أَوْ أُضْحِيَةٌ)). إذا قال الإنسان على ذبيحة من الذبائح هذا هدي أو أضحية تعينت هذه الذبيحة للهدي أو للأضحية وصارت معينة لا يجوز التصرف فيها كما سيأتينا. والدليل على هذا: - أن هذا اللفظ موضوع شرعاً لإفادة هذا الحكم. فأفاده لما أطلقه. يعني: فأفاد الحكم لما أطلقه الإنسان. واستفدنا من قول المؤلف - رحمه الله -: (بقوله) أن النية المجردة لا تعين الهدي ولا الأضحية بل لابد من التلفظ بأن يقول: هذه أضحية، فإن اشترى ذبيحة ناوياً بها الهدي أو الأضحية واكتفى بالشراء فقط فإنها لا تتعين بذلك. - ثم قال - رحمه الله -: لا بالنية. النية المجردة كما قلت الآن لا تفيد التعيين إلا في صورة واحدة وهي: إذا اقترن بالنية إشعار أو تقليد. والتقليد: هو أن يعلق على البدنة ما يدل على أنها من الهدايا. والإشعار: هو شق سنام البعير الأيمن شقاً يسيراً حتى يدمي. فإذا اقترن بالنية إشعار أو تقليد تعينت بذلك.

والسبب: أن عند أهل العلم قاعدة مفيدة وستتكرر معنا وهي: ((أن النية مع العمل تقوم مقام اللفظ))، فإذا نوى وقَلَّد فكأنه قال: هذه أضحية أو هدي. وهذا سيأتينا في أبواب متكررة وهي استعمال هذه القاعدة: (أإن النية مع الفعل تقوم مقام اللفظ) كما سيأتينا في الوقف مثلاً: فإن الإنسان إذا فتح باب مزرعته وجعلها مقبرة ناوياً التوقيف صارت هذه المزرعة مقبرة لا باللفظ ولكن بالعمل المقترن بالنية - كما سيأتينا في أبواب أخرى. * * مسألة / فإن اشترى ناوياً: فقد تقدم معنا أن الذبيحة لا تتعين بالشراء بنية بدون لفظ. = والقول الثاني: أنه إذا اشترى بنية تعينت هدياً ولو لم يتلفظ. وهذا اختيار شيخ الاسلام - رحمه الله - ونصره: بأن هذا الشراء وهو العمل مع النية قام مقام القول. والراجح والله أعلم مذهب الحنابلة واختيار الشيخ - رحمه الله - هنا ليس بقوي: لأن طريقة الشارع أن الإنسان إذا هم بالصدقة ولم يخرجها فإنها لا تتعين بذلك. فلو اشترى عبداً ليعتقه فإنه لا يجب عليه بالإجماع أن يعتق هذا العبد فإذا غير نيته وأمسك العبد فلا حرج عليه، وعلى هذا تبين أن الشراء بالنية لا يقوم مقام اللفظ. * * مسألة / النية مع الإشعار والتقليد يُعَيِّنُ الهدايا دون الضحايا. لأن من شأن الهدايا التقليد والإشعار دون الضحايا. فتبين من هذه المسألة الأخيرة أن الأضحية لا يمكن أن تتعين إلا بالقول. إلا ما سيأتينا بعد قليل: مسألة الذبح فإن الذبح تتعين به لكن إذا ذبحت فحكمها حكم آخر، لكن الآن قبل الذبح لا تتعين الأضحية إلا بالقول فقط. - ثم قال - رحمه الله -: وإذا تعينت: لم يجز بيعها ولا هبتها. هذا الحكم الأول لأنها تعينت وهو: أنه لا يجوز البيع ولا الهبة، وهذا بإجماع أهل العلم أن الأضحية أو الهدي إذا تعين لا يجوز أن يباع ولا أن يوهب ولا أن يهدى. والدليل على ذلك: - أنه أخرجها لله فلم يجز له الرجوع فيها. - وثانياً: القياس الجلي على الوقف. فإن الأضحية إذا تعينت صارت من جنس الوقف. فإن عَيَّنَ الأضحية ثم مات قبل أن تذبح فإنه لا يجوز للورثة أن يتصرفوا فيها تصرف الملاك بل يجب عليهم أن يذبحوها كأضحية لأنها تعينت والبيع والهبة حكمهما واحد. -

ثم قال - رحمه الله -: إلاّ أن يبدلها بخير منها. أفاد المؤلف - رحمه الله - بقوله: (إلا أن يبدلها) أنه يجوز للإنسان أن يبدل الأضحية بخير منها وأنه لا حرج في هذا العمل. واستدلوا على هذا الحكم: - بأن هذا الإبدال هو في الحقيقة زيادة في الأضحية. وهو زيادة معنوية لا حسية لأن الزيادة ليس في نفس الأضحية ولكن في أخرى. - واستدلوا: بأن المقصود من الأضحية تحقق في الإبدال مع زيادة نفع الفقراء. وظاهر كلام المؤلف - رحمه الله - أن الإبدال جائز دون البيع. فإذا أراد أن يبيع الأضحية ليشتري خيراً منها فإنه لا يجوز وإذا أراد أن يبدل جاز، فالإبدال جائز دون البيع. = والقول الثاني: أن الإبدال والبيع كلاهما جائز. يعني: ليشتري خيراً منها. - لأن المبادلة هي نوع من البيع. - ولأن العلل التي ذكروها في جواز المبادلة موجودة في البيع. وهذا القول الثاني هو الصواب: أن الإبدال والبيع يجوز إلا لمن خشي أن لا يقوم بالواجب بعد البيع، فإذا ظن أنه لن يقوم بالواجب فإنه يحرم عليه البيع. (فإذا ظن أنه سيأخذ المال ولن يشتري ذبيحة أخرى خيراً منها فإنه يحرم عليه البيع، ويحرم عليه البيع أيضاً إذا ظن أنه إذا باع وبحث لن يجد خيراً منها فإنه لا يجوز له أن يبيع، فصار الجواز مجدد في صورة واحدة وهي: أن يعلم أنه إذا باع سيشتري وسيشتري أضحية خيراً من التي باع، ففي هذه الصورة يجوز أن يبيع الإنسان أضحيته ويشتري خيراً منها. - قال - رحمه الله -: ويجزُّ صوفها ونحوه: إن كان أنفع لها ويتصدق به. المؤلف - رحمه الله - يريد أن يبين بهذه العبارة ما هي الأشياء التي يجوز لنا أن ننتفع بالأضحية بها. وذكر مسألة واحدة وهي: جَزُّ الصوف، فنقول: يجوز للإنسان أن يركب وأن يشرب اللبن وأن يجز الصوف. فيجوز له أن ينتفع من الأضحية بهذه الثلاثة أمور. لكن لكل واحد شرط: - فشرط جز الصوف: أن يكون الجز أنفع لها. - وشرط شرب اللبن أو الحليب: أن لا يضر ذلك بابنها. ولا نقول: (أن لا يضر بها) لأن أخذ الحليب من بهيمة الأنعام لا يضرها أبداً. - وشرط الركوب: أن لا يضرها وينقص منها. فإذا توفرت هذه الشروط جاز الانتفاع بهذه الأوجه الثلاثة. والدليل على ذلك:

- أن النبي - صلى الله عليه وسلم - رأى رجلاً يسوق هدايا فقال له: اركبها. فقال: إنها من الهدايا. فقال له النبي - صلى الله عليه وسلم -: ثلاثاً – (اركبها). فدل هذا الحديث على أنه للإنسان أن ينتفع بالمعروف بالأضحية والهدي. - قال - رحمه الله -: ويتصدق به. إذا جز الصوف فإنه يتصدق به لكن على سبيل الندب لا الوجوب: عند الحنابلة، فإذا جزه فله أن ينتفع هو به وله أن يتصدق به ولكن التصدق أفضل ليكون تبرع أو تصدق بجميع هذه الأضحية ليصدق عليه أنه تصدق أو تبرع بكل هذه الأضحية لكن لا يجب عليه. ودليل عدم الوجوب: - أن الانتفاع بالصوف من جنس الانتفاع باللبن أو الحليب ومن جنس الانتفاع بالركوب فله أن ينتفع لكن إن تصدق: فالجمهور يرون أنه أفضل. - ثم قال - رحمه الله -: ولا يعطى جازرها: أُجرته منها. لا يجوز أن يعطي المضحي والهادي أجرة الجازر - وهو من يقوم بذبح الضحايا والهدايا - منها. سواء كان أعطي من اللحم أو من الجلد أو الرأس أو أي شيء من الهدايا أو الضحايا. والدليل على عدم الجواز من وجهين: - الوجه الأول: الإجماع. فإنهم أجمعوا على أنه لا يجوز أن يعطى. - والوجه الثاني: ما أخرجه البخاري ومسلم عن علي - رضي الله عنه -:أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال له: (لا تعطه منها نحن نعطيه من عندنا). فدل هذا على عدم جواز أعطائه وهذا لا إشكال فيه لأنه محل إجماع كما سمعت. * * مسألة / ويجوز أن يعطى منها من اللحم أو من غيره على سبيل الهدية أو الصدقة لأن الجازر لا يخرج عن جملة المسلمين الذين يجوز أن يعطوا من الهدايا والضحايا على سبيل الصدقة أو على سبيل الهدية. - ثم قال - رحمه الله -: ولا يبيع جلدها ولا شيئاً منها، بل ينتفع به. لا يجوز أن يبيع الإنسان الجلد ولا أي شيء من الهدايا أو الضحايا إلا أنه يجوز له أن ينتفع بالجلد، فيجوز له الانتفاع دون البيع. ودليل جواز الانتفاع: - أنه يجوز للإنسان أن يأكل من الهدي وأن يأكل من الأضحية. والانتفاع بالجلد بعد الذبح من جنس الأكل من لحمها بل إن اللحم بالنسبة للهدايا والضحايا أنفس وأفضل وأغلى من الجلد فإذا جاز الانتفاع باللحم أكلاً فالانتفاع بالجلد استعمالاً من باب أولى.

فإذاً: لا إشكال في أنه يجوزك للإنسان أن ينتفع بالجلد ولا يبيع منها شيئاً. - ثم قال - رحمه الله -: وإن تعيبت: ذبحها وأجزأته. إذا تعيبت ومقصود المؤلف - رحمه الله - بعد التعيين فإنه يجوز أن يذبحها وإذا ذبحها فإنها تجزئ عنه. وحكم هذه المسألة فيه تفصيل: وهي تنقسم إلى قسمين: ـ القسم الأول: أن تتعيب بتعديه أو تفريطه. فحينئذ يجب عليه وجوباً أن يستبدلها بأخرى ويذبح ما يجزئ في الأضاحي من حيث الشروط لأنه متعد مخل بالأمانة. ـ القسم الثاني: أن تتعيب بلا تعد ولا تفريط. ففي هذه المسألة خلاف: = فالحنابلة يرون أنه لا يضمن هذه الأضحية ويذبحها وتجزئ عنه. - لأن يده يد أمانة ولا ضمان على يد الأمانة إلا بالتعدي والتفريط. = والقول الثاني: أنه يجب عليه أن يذبح ما يجزئ ولا تجزئه هذه المعيبة. وهذا مذهب القائلين بوجوب الأضحية. فكل عالم يقول بوجوب الأضحية فإنه يقول: إذا تعيبت فإنه يجب أن تستبدلها بخير منها. لأنه إذا قال تجب الأضحية صارت واجبة في الذمة. وما يجب في الذمة فيجب أن يذبح سليماً من العيوب. والراجح: أنه إذا لم يتعد ولم يفرط فإنه لا يضمن. لأن هذا مقتضى أن يده يد أمانة. - ثم قال - رحمه الله -: إلاّ أن تكون واجبة في ذمته قبل التعيين. إذا كانت واجبة في ذمته قبل التعيين فإنها إذا تعيبت فيجب أن يذبح أخرى سليمة، ومثال التي تجب في الذمة قبل التعيين: كالمنذورة فإذا قال رجل: لله علي نذر أن أضحي هذه السنة وجب في ذمته أضحية سليمة بخلاف الواجبة بالتعيين فإنها لا تجب في ذمته وإنما تجب بالتعيين. يعني: أن الوجوب يتعلق بعين هذه البهيمة بينما الواجب في الذمة فالوجوب يتعلق بذمته ولا تبرأ الذمة إلا بأداء هذا الواجب الذي في ذمته فإذا كانت واجبة في الذمة وتعيبت فيجب عليه أن يذبح أخرى سليمة لأن الذمة لا تبرأ إلا بأداء سليمة. والدليل على هذا من وجهين: - الوجه الأول: القياس على من أراد أن يقضي الدين بمبلغ عينه ثم سرق. فإذا خرج الإنسان بمبلغ يريد أداء دين عليه ثم هذا المبلغ سرق فهل يجب عليه أن يسدد دين الرجل وإلا يقول سرق المال الذي كنت ناوياً تسديدك به؟ الجواب: يجب أن يسدد. لماذا؟ لأنه واجب في الذمة.

بينما إذا أودع عندك إنسان مبلغاً من المال وديعة وأصبحت يدك يد أمانة فإنه إذا ضاعت هذه الوديعة بدون تفريط ولا تعدي فإنه لا يجب عليك أن تؤدي هذا المبلغ لصاحبه. كذلك هنا: الفرق بين الأضحية التي لا تجب في الذمة ولكنها وجبت بالتعيين وبين الأضحية التي وجبت في الذمة. إذاً يجب أن يؤدي أخرى سليمة لتبرأ ذمته فإن ذبح فإن ذمته مشغولة ولم تبرأ ويجب عليه أن يذبح أخرى. - ثم قال - رحمه الله -: والأُضحية سنة. = ذهب الجماهير من أهل العلم: الأئمة الثلاثة: مالك والشافعي وأحمد إلى أن الأضحية: سنة. واستدل هؤلاء الفقهاء عليهم رحمة الله ورضوانه: - بقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: (إذا دخلت العشر وأراد أحدكم أن يضحي فلا يمسن من بشرته ولا من شعره شيئاً). وجه الاستدلال: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (وأراد أحدكم) فعلق الأضحية بالإرادة ولو كانت الأضحية واجبة لقال: (إذا دخلت العسر فلا يمسن أحدكم). - الدليل الثاني: أن أبا بكر الصديق وعمر بن الخطاب - رضي الله عنهما - كانا لا يضحيان السنة والسنتين خشية أن يظن أن ذلك واجباً - وروي عن ابن مسعود - رضي الله عنه - مثل ذلك. = القول الثاني: وهو مذهب الأحناف ونصره شيخ الإسلام - رحمه الله - واستدل له بأدلة وهو: أن الأضحية واجبة وجوباً عينياً على كل مستطيع. واستدل بأمور: - الأول: أن الله تعالى قال: - (فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ) -[الكوثر/2]. فقرن الصلاة بالنحر وكلاهما واجب. - واستدل أيضاً: بأن الأضحية من شعائر الإسلام الظاهرة وشعائر الإسلام الظاهرة واجبة. واستدل بعض القائلين بالوجوب: - بقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: (من وجد سعة فلم يضح فلا يقربن مصلانا) وهو نص في الوجوب. وهذا الحديث حديث منكر الإسناد واللفظ ولا يصح أبداً عن النبي - صلى الله عليه وسلم -.

بقينا في الراجح: الراجح والله أعلم وبوضوح: أنها سنة واختيار شيخ الإسلام في هذه المسألة ضعيف جداً، كيف نعتبر الأضحية واجبة وأبو بكر وعمر لا يضحيان، والإشكال أنهم لا يضحون دفعاً للوجوب. فإنهم صرحوا أنه خشية أن يرى أن ذلك واجب. فكيف نقول عن مثل هذا القول أنه مرجوح وشيخ الإسلام يقول: وليس مع الذين رأوا سنية الأضحية إلا ظاهر قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: (إذا دخلت العشر وأراد أحدكم) ونحن نقول: أن هذا الظاهر كفاية وفيه غنى وهذا الظاهر تأيد بالآثار والآثار المروية عن أفقه أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - أبو بكر الصديق وعمر بن الخطاب فلا شك أن اختيار الشيخ ضعيف ولو أنه لم يخالف الآثار في مثل هذه المسألة لكان أولى وأجدر به لا سيما وأن في المسألة نص وهو يستدل بالعمومات: عموم الآية وظاهرها ودلالة الاقتران تقدم معنا أنها دلالة ضعيفة وأنه لا يؤخذ منها حكم مستقل وإنما تتأيد بالقرائن الأخرى وليس هنا قرائن أخرى. فكلام الشيخ - رحمه الله - فيما يظهر لي في هذه المسألة ليس بقوي. - ثم قال - رحمه الله -: وذبحها أفضل من الصدقة بثمنها. ذبح الأضحية أفضل وأولى وأحب إلى الله من الصدقة بثمنها. لدليلين: - الأول: أن المقصود في الأضحية إنهار الدم لله وهذا لا يحصل أبداً في الصدقة. فاستبدال الأضحية في الصدقة إخلال بالمقصود الأساس وهو التقرب إلى الله بذبح البهيمة. - ثانياً: أن هذا مخالف لهدي النبي - صلى الله عليه وسلم - وهدي أصحابه - رضي الله عنهم - حيث كانوا كلهم يجمعون بلا خلاف أن يضحوا ولا يعدلوا إلى الصدقة. فمن زعم أن الصدقة بقيمة الأضحية خير من الذبح فقد صادم عمل السلف وقوله شاذ وضعيف جداً. - يقول - رحمه الله -: ويسن أن يأكل ويهدي ويتصدق أثلاثاً. يريد المؤلف - رحمه الله - أن يبين كيفية توزيع لحوم الهدايا والضحايا، فالسنة أن يقسم الإنسان الهدي والأضحية إلى ثلاثة أقسام: - قسم يأكله. - وقسم يتصدق به. - وقسم يهديه. واستدلوا على هذا التقسيم بأمرين: - الأمر الأول: أن هذا التقسيم جاء منصوصاً مصرحاً به عن اثنين من فقهاء الصحابة: ابن مسعود وابن عمر - رضي الله عنهما -.

- والأمر الثاني: قوله - صلى الله عليه وسلم -: (كلوا وتصدقوا وادخروا). نعم. الإهداء ليس مذكوراً في الحديث لكن عمل عليه الصحابة فهؤلاء اثنين من الصحابة ولا يعلم لهما مخالف. = القول الثاني: أن لحوم الأضاحي والهدايا السنة فيها أن تقسم إلى قسمين: - نصف يؤكل. - ونصف يتصدق به. وهو مذهب للشافعي أظنه القديم - لكن نسيت الآن -. واستدل: - بقوله تعالى: - (فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرَّ) -[الحج/36]. فقسم الله سبحانه وتعالى الهدي والأضاحي إلى قسمين. والقانع هو: السائل. والمعتر هو: الذي يتعرض لأخذ الصدقة ولكنه لا يسأل. = القول الثالث: أنه ليس في تقسيم الهدي والأضاحي شيء مخصوص ولا حد مقدر بل يصنع كيفما تيسر وكيفما أراد وهو مذهب الإمام مالك. - لأنه ليس في النصوص ما يدل على التقسيم. والراجح: الأول. لأن معهم ظواهر النصوص المؤيدة بالآثار عن الصحابة. وهو أقوى مما استدل به أصحاب القول الثاني والثالث. - قوله - رحمه الله -: وإن أكلها إلاّ أُوقية تصدق بها. أفادنا المؤلف - رحمه الله - أنه يجوز للإنسان: أن يأكل جميع الأضحية وجميع الهدي إلا مقدار الأوقية وأنه لو استغرقها أكلاً إلا هذا المقدار فلا بأس. واستدلوا على هذا الحكم: - بأن الله تعالى قال: - (فَكُلُوا مِنْهَا) -[الحج/36].فأطلق ولم يقيد. وهذا يتناول كل الذبيحة إلا مقدار أوقية. فإن أكلها ولم يبق شيئاً وجب عليه أن يخرج ما يقع عليه الاسم. يعني: اسم الصدقة. لأن الله أمر بالأكل والصدقة وأقل ما يقع عليه الاسم: أوقية، والأوقية مذكورة على سبيل التمثيل، يعني: أن يخرج نحواً من هذا المقدار وهو أقل ما يقع عليه اسم الصدقة. والدليل هو ما قلت لك: - أن الله أمر بالأمرين سبحانه وتعالى: الأكل والصدقة. - قال - رحمه الله -: وإن أكلها إلاّ أُوقية تصدق بها. جاز وإلاّ ضمنها. يعني: إن أكلها كلها ولم يخرج منها شيء ضمن هذا المقدار وهو: الأوقية. - لأن الله أمر بالصدقة ولم يفعل هو. - ولأن ظاهر الآثار: أنه لابد من الصدقة.

* * مسألة/ والواجب عند الصدقة التمليك لا الإطعام. (الواجب إذا أراد الإنسان أن يتصدق من الهدايا والضحايا التمليك لا الإطعام. فإن أخذ اللحم وطبخه وأطعمه الفقراء فإنه لا يجزئ بل يجب أن يملك الفقراء اللحم نيئاً. - لأنه إذا أطلق التمليك فإنه ينصرف إلى ذلك. والتمليك شيء والإطعام شيء آخر. ولا يخفى على أحد أن التمليك أنفع للفقير من الإطعام وهو أنفع بكثير. - ثم قال - رحمه الله -: ويحرم على من يضحي. أن يأخذ في العَشر: من شعره أو بشرته شيئاً. إذا دخلت العشر وأراد الإنسان أن يضحي أو دخلت العشر وأراد في أثنائها أن يضحي ففي الصورتين فإنه يحرم عليه أن يمس شيئاً من شعره وبشرته وأظفاره. وإلى هذا: = ذهب الجمهور. واستدلوا: - بالحديث الصحيح الذي تقدم ذكره وهو أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (إذا دخلت العشر وأراد أحدكم أن يضحي فلا يمسن من شعره ولا بشرته) وفي رواية في مسلم (ولا أظفاره شيئاً). فهذه ثلاثة أشياء لا يجوز للإنسان أن يمسها إذا أراد أن يضحي. = القول الثاني: أنه لا يجب الإمساك عن هذه الأشياء لمن أراد أن يضحي بل يجوز له أن يفعل ما يفعل غيره ممن لم يرد الأضحية واستدل على ذلك: - بأن المضحي لا يمنع من تغطية الرأس ولا من الطيب ولا من لبس المخيط فكذلك لا يمنع من تقليم الأظافر وحلق الشعر. وهو استدلال غاية في الضعف والتهافت. كيف نعارض النصوص بمثل هذه الأقيسة. = والقول الثالث: أن الأخذ مكروه ولا يحرم. وهذا تبناه الإمام الشافعي. واستدل على الكراهة دون التحريم: - بأنه ثبت في الحديث الصحيح أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يرسل الهدي إلى مكة ولا يحرم عليه شيئاً كان جائزاً قبل الإرسال. وقرر الاستدلال بقوله: أن إرسال الهدايا إلى مكة أعظم من الأضحية فإذا لم يجب الإمساك عند إرسال الهدايا ففي الأضحية من باب أولى. فقال: نجمع بين النصين بأن النهي إنما هو للكراهة لا للتحريم. والراجح والله أعلم أنه يحرم. والجواب عن استدلال الإمام الشافعي - رحمه الله -: أن القاعدة الفقهية الأضبط من قاعدة الشافعي هي: (أنه يجب أن نستعمل النصوص كل نص في موضعه).

فنحن نقول: من أرسل الهدايا لا يجب عليه أن يمسك. ومن أراد أن يضحي فيجب عليه أن يمسك. فنستعمل كل نص في موضعه ولا نضرب النصوص بعضها ببعض ولا نرى أنها متعارضة. فإن هذا التعارض إنما وجد في ذهن هذا الفقيه أو ذاك دون حقيقة الأمر. كذلك هنا نقول: لا تعارض بين حديث إرسال الهدايا وبين حديث وجوب الإمساك للمضحي. فالراجح إن شاء الله أنه لا يجوز له أن يأخذ شيئاً من هذه الثلاثة أشياء إذا أراد أن يضحي. * * مسألة / فإن أخذ فهو آثم وعليه التوبة ولا كفارة. ويجوز له ويجزئ أن يضحي. لأن هذا الإمساك ليس شرطاً في صحة الأضحية. (فصل) - ثم قال - رحمه الله -: (فصل). خصص المؤلف - رحمه الله - هذا الفصل لبيان أحكام العقيقة. - يقول - رحمه الله -: فصل تسن العقيقة. العقيقة في اللغة: القطع والشق. وفي الإصطلاح: هي الذبيحة التي تذبح عند قدوم المولود شكراً لله. وأجمع العلماء - رحمهم الله - على مشروعيتها. واختلفوا في حكمها: = فالقول الأول: أنها سنة. وإلى هذا ذهب الجماهير. واستدلوا: - بقول النبي - صلى الله عليه وسلم - (من أحب أن ينسك نسيكة فليذبح عن الغلام شاتين وعن الجارية شاة). - وقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: (أمرنا النبي - صلى الله عليه وسلم - أن نعق عن الغلام شاتين وعن الجارية شاة). وإذا جمعنا بين الحديثين دلَّا على أن الأمر للندب لا للوجوب. = والقول الثاني: أنه يجب وهو مذهب الظاهرية وبعض الفقهاء. واستدلوا: - بأن النبي - صلى الله عليه وسلم - في حديث عائشة قالت: (أمرنا). - واستدلوا: بقول النبي - صلى الله عليه وسلم - في البخاري: (اذبحوا عنه ذبيحة وأميطوا عنه الأذى). فقوله: (اذبحوا) أمر. = والقول الثالث: أن العقيقة مباحة. - لقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: (من أحب منكم أن ينسك .. ). وإذا تأملت وتدبرت فستجد إن شاء الله أن القول الأول هو الراجح وأن القول الأخير ضعيف جداً. - ثم قال - رحمه الله -: عن الغلام شاتان وعن الجارية شاة.

تقدم معنا في حديث عائشة - رضي الله عنها - أنها قالت: (أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يذبحوا عن الغلام شاتين وعن الجارية شاة).فدل هذا على أن السنة أن نذبح عن الغلام هذا المقدار وعن الجارية هذا المقدار. * * مسألة/ ويجوز أن نذبح عن الغلام شاة واحدة. - لحديث ابن عباس - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم -: (ذبح عن الحسن والحسين شاة شاة). لكن الاستدلال بحديث ابن عباس فيه نظر لأنه في رواية في سنن النسائي: (شاتين شاتين). ثم الحديث في أصله في ثبوته خلاف. لكن مع ذلك الراجح أنه يجوز أن نذبح عن الغلام شاة. لقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: (كل غلام مرتهن بذبيحته تذبح عنه يوم سابعه ويحلق ويسمى) وإذا كان مرتههن بذبيحته فإن ذبح شاة واحدة يفي بفك الارتهان. وإلى هذا القول - وهو جواز الاكتفاء بشاة واحدة - ذهب ابن القيم وهو القول الصحيح إن شاء الله. - ثم قال - رحمه الله -: تذبح يوم سابعه. تذبح يوم سابعه: - لحديث سمرة - رضي الله عنه - أنه قال: (كل غلام مرتهن بذبيحته تذبح عنه يوم سابعه). وحديث سمرة حديث صحيح ثابت إن شاء الله. وهو يدل على أن الذبح يكون في اليوم السابع. * * مسألة / ويدخل في حساب اليوم السابع يوم الولادة. والأحوط أن لا يحسب إذا كان مولوداً في الليل أما إذا كان مولوداً في النهار فإنه يحسب في السبعة أيام وهو ما ذهب إليه الإمام أحمد. * * مسألة / ويسن أن يسمى في اليوم السابع إلا إن كان الأب أعد في نفسه اسماً قبل الولادة فإن السنة أن يسميه في يوم الولادة إذاً على هذا التفصيل: - إن كان لم يعد اسماً ويبحث فإنه يسن أن يؤخر التسمية إلى اليوم السابع. - وإن كان أعد اسماً فإنه يسميه في يوم الولادة. لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - سمى ابنه إبراهيم في يوم ولادته. * * مسألة / التسمية واجبة بالإجماع وهي واجبة على الأب وهي في نفس الوقت حق من حقوق الأب فإذا تنازع الأب والأم أو الأب والجد أو الأب والجدة فإن الأب هو الأحق بالتسمية. فهي واجبة عليه وهي حق من حقوقه. - ثم قال - رحمه الله -: فإن فات ففي أربعة عشر، فإن فات ففي إحدى وعشرين.

الدليل على اعتبار الأسبوع الثاني والأسبوع الثالث: - أن هذا جاء منصوصاً مروياً عن عائشة رضي الله عنها فإنها ذكرت أنه في اليوم السابع أو في الأسبوع الثاني أو في الأسبوع الثالث. قال ابن قدامة - رحمه الله -: ولا يكون هذا منها إلا توقيفاً ثم إذا تعدى الاسبوع الثالث فإنه يذبح في أي يوم كان ولا يراعي التسبيع. * * مسألة / إذا فات اليوم السابع: فاختلف الفقهاء هل يعق أو لا يعق: = فذهب الجمهور إلى أن وقت العقيقة يستمر ولا ينتهي بفوات اليوم السابع. واستدلوا على هذا: - بأنه لا دليل على التوقيت وإنما ذكره النبي - صلى الله عليه وسلم - على سبيل الاستحباب بدليل أن التوقيت باليوم السابع لم يذكر في حديث عائشة. ولم يذكر في حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده. = وذهب الإمام مالك إلى أنه بغياب شمس اليوم السابع انتهى وقت العقيقة. فإن ذبحها فهو كمن ذبح الأضحية في اليوم الخامس عشر فلا عبرة بها ولا ينظر إليها. والراجح: مذهب الجمهور وهو اختيار ابن القيم إذ لا دليل على التحديد بل ظواهر النصوص الاطلاق. * * مسألة / على القول بأنه لا يتحدد باليوم السابع فإلى متى ينتهي؟ = ذهب الجماهير والجم الغفير من أهل العلم إلى أنه يستمر إلى البلوغ. فإذا بلغ فقد انتهى وقت العقيقة. فإن أراد أن يعق عن نفسه بعد البلوغ صارت مسألة أخرى: وهي مسألة: هل يعق الكبير عن نفسه أو لا يعق وهي مسألة في خلاف وفيها أقوال: == فالقول الأول: أنه يستحب له أن يعق حتى ولو كان كبيراً ومقصودهم بالكبير هنا: ما بعد البلوغ مباشرة فإنه يعتبر كبيراً. وإلى هذا ذهب الإمام أحمد في رواية: - لأنه لا دليل على التأقيت. - ولأن هذا الغلام مرتهن. فلكي يفك الرهن عن نفسه فليذبح ولو كان كبيراً. == والقول الثاني: أنه لا يصح ولا يجزئ أن يذبح من كان كبيراً. - لأن ذبح العقيقة واجب على الأب ولا يصح من غيره. والأقرب: القول الأول وهو أنه له أن يضحي ولو كان كبيراً إذ لا دليل على المنع وظواهر النصوص تؤيد الاستمرار ولو كان الإنسان كبيراً في السن. * * مسألة/ ويسن أن يحلق المولود: وحلق المولود موجود في الأحاديث الصحيحة فلا إشكال في ثبوته في البخاري وغيره.

لكن هل يشرع إذا حلق أن يتصدق بوزنه فضة؟ فيه خلاف: = القول الأول: أنه يشرع. - لأنه نقل عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه أمر بذلك. = والقول الثاني: أنه لا يشرع. - لأنه لم يصح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - حديث ثابت في وزن شعر الصبي والتصدق به فضة. = والقول الثالث: وهو الذي مال إليه الإمام أحمد: أنه لا بأس به. قال الإمام أحمد: قيل أن فاطمة حلقت رأس الحسن وتصدقت به فضة. وهذا الحديث مرسل حتى عن فاطمة. يعني ولا يثبت ولا عن فاطمة لكن الإمام أحمد يقول: قيل أنها فعلت هذا. ثم قال الإمام أحمد - رحمه الله -: ولا بأس أن يتصدق الإنسان. وهذا القول هو الراجح: أنه لا بأس. فلا نقول أنه سنة ولا نقول أنه لا يشرع ولكن نقول: لا بأس. ((الأذان)). - ثم قال - رحمه الله -: وينزع جُدولاً ولا يكسر عظمها. معنى جدولاً: أي أعضاء. فنأخذ اليد ونأخذ الرجل ولا نكسر عظماً للعقيقة. والدليل على هذا: - أنه روي عن عائشة - رضي الله عنها - أنها نهت عن كسر العظام. والحديث الذي فيه النهي عن كسر العظام هو نفس الحديث الذي فيه التوقيت في الأسبوع الثاني والثالث. يعني السابع والأربع عشر والأسبوع الثالث. لكن هذه الزيادة مدرجة من قول عطاء ولم تفت بها عائشة. وصدر الأثر الذي فيه التوقيت بالأسبوع الثاني والثالث ثابت وأما النهي عن كسر العظام فهو مدرج ولا يثبت عن عائشة. لذلك: = القول الثاني: للإمام مالك أنه لا بأس بكسر عظم العقيقة. لأمرين: - الأمر الأول: أنه لم يثبت النهي لا بأثر صحيح ولا بحديث مرفوع. - الأمر الثاني: أن في كسر العظام مصلحة أكثر وانتفاع بالعقيقة على وجه أكمل. فلذلك جاز ولا حرج فيه. وهذا القول الثاني: وهو مذهب مالك هو الصواب. - ثم قال - رحمه الله -: وحكمها كالأُضحية. حكم العقيقة كالأضحية في كل شيء: في التثليث - تثليث اللحم وفي أنه لابد من شروط الإجزاء في مسألة جواز البيع أو عدم جوازه والتفصيل الذي قيل في الأضحية يقال تماماً في العقيقة. - ثم قال - رحمه الله -: إلاّ أنه لا يجزئ فيها شرك في دم. = ذهب الجمهور: إلى أنه لا يجزئ الاشتراك في العقيقة وأن سبيلها ليس كسبيل الأضحية والهدايا. واستدلوا على هذا:

- بأن المقصود من العقيقة هي فداء النفس وفداء النفس يكون بالنفس مقابل النفس. هذا أمر. - والأمر الآخر وهو الأقوى: أنه لم يثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ولا عن أحد من أصحابه أنهم أجازوا التشريك في العقيقة وإن كان جاء عنه - صلى الله عليه وسلم - وعن أصحابه التشريك في الأضحية. فدل هذا على أن بينهما هذا الفرق في الحكم. - ثم قال - رحمه الله -: ولا تسن: الفَرَعة، ولا العتيرة. - الفرعة هي: نحر أول ولد للناقة. وكانوا ينحرونه تقرباً لأوثانهم فنهى عنه الشارع. - والعتيرة هي: ذبيحة العشر الأول من رجب. والدليل على النهي: - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (لا فرع ولا عتيرة) فنهى عنهما. لكن الجمهور يرون أن هذا النهي لا للكراهة وإن أراد أن يذبح لا تقرباً للأصنام ولكن تقرباً لله ولا قصداً لهذا الزمان بعينه يعني: رجب فإنه لا بأس بالذبح في هذا المكان. أخيراً: ذهب الجمهور إلى أن الأفضل في العقيقة أن يذبح شاتاً ثم بدنه ثم بقرة على خلاف الترتيب الذي مر علينا في الأضحية. وبهذا انتهى كتاب المناسك. والحمد لله رب العالمين وصلى الله على نبينا محمد.

كتاب الجهاد

شرح كتاب الجهاد الدرس رقم (1) قال شيخنا حفظه الله: بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين. كتاب الجهاد. في الدرس السابق انتهينا من كتاب المناسك ولله الحمد وتطرق الماتن - رحمه الله - إلى بعض سنن المولود وذكرت بعضاً منها مما اتسع له الوقت وما لم يتسع لم أذكره، ووزعنا عليكم الآن هذه الورقة التي فيها الآداب ذكرت فيها ما ذكره الفقهاء من الآداب وعقبت على ما رأيت أنه لا يثبت في السنة منه شيء. وإنما ذكرته وإن لم يثبت في السنة ليعلم حكمه وأنه وإن ذكره الفقهاء فليس عليه دليل صحيح. - قال المؤلف - رحمه الله -: كتاب الجهاد. هذا الكتاب هو آخر كتاب في قسم العبادات، والحنابلة رحمهم الله جعلوا كتاب الجهاد آخر كتاب العبادات لأنه أفضل ما يتطوع به الإنسان بالبدن، وعن الإمام أحمد - رحمه الله - روايات كثيرة صرح فيها أن أفضل الطاعات البدنية المندوبة هو الجهاد في سبيل الله، فلذلك جعلوه آخر العبادات. - قوله - رحمه الله -: كتاب الجهاد. الجهاد: مصدر مشتق مأخوذ من جاهد جهاداً، وهو مشتق من: جهد إذا بالغ في قتال عدوه، وهو في اللغة: بذل الوسع والطاقة. وأما الجهاد في الاصطلاح فهو: قتال الكافر الحربي لتكون كلمة الله هي العليا، فالجهاد في الشرع إذا أطلق فهو ينصرف إلى هذا المعنى في الأحكام وفي النصوص الحاثة. - قال - رحمه الله -: وهو فرض كفاية. قوله: (وهو فرض كفاية) أجمع أهل العلم بلا خلاف على مشروعية الجهاد. وأنه مندوب إليه. واستدلوا على هذا: - - بقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: (من مات ولم يجاهد ولم يحدث نفسه بالجهاد مات على شعبة من النفاق) وهذا الحديث في مسلم. وبعد اتفاقهم على أن الجهاد مشروع في الجملة: = ذهب الجماهير والجم الغفير إلى أنه: فرض كفاية. وفرض الكفاية هو: العبادة التي إذا قام بها من يكفي سقطت عن الباقين وإن لم يقم بها أحد أثموا أجمعين. والدليل على أن الجهاد فرض كفاية:

- قوله تعالى: {فضل الله المجاهدين بأموالهم وأنفسهم على القاعدين درجة وكلا وعد الله الحسنى} [النساء/95]. فالآية صريحة بأنه فضل المجاهدين لكن الكل موعود إن شاء الله بالحسنى. وهذا نص بأن الجهاد فرض كفاية. ثم لما بين المؤلف - رحمه الله - أن الجهاد فرض كفاية انتقل للصور التي يكون فيها الجهاد فرض عين: - فقال - رحمه الله -: ويجب إذا حضره. هناك صور ذكرها الفقهاء يكون الجهاد فيها فرض عين: ـ الصورة الأولى: إذا حضر الصف وأوشكوا على البدء بالقتال فحينئذ يحرم الانصراف وهو من كبائر الذنوب: - وقد أجمع على هذا أهل العلم. - وفي الحديث الصحيح أن النبي - صلى الله عليه وسلم - جعل التولي يوم الزحف من السبع الموبقات. - ويدل عليه قوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا إذا لقيتم الذين كفروا زحفا فلا تولوهم الأدبار} [الأنفال/15]. فدل على تحريم الإنصراف في المصافة: الكتاب والسنة والإجماع. وإنما شدد الشارع فيه لأن فيه فتاً في عضد المجاهدين وتخذيلاً لهم، إلا أنه يجوز الانصراف عن الصف في ثلاث صور: - الصورة الأولى: أن ينصرف متحرفاً لقتال. ومعنى ذلك: أن ينسحب عن صف المعركة ليرجع باستعداد أو بطريقة أخرى تكون أنكى في العدو. فإذا خرج ليعود فلا بأس. - الصورة الثانية: أن يتحيز إلى فئة. أي يخرج من الصف لينظم إلى فئة أخرى إما لضعفها أو لتكالب الأعداء عليها أو لأي سبب أو لأمر الأمير - القائد للجيش - أو لأي سبب. - الصورة الثالثة: يجوز له أن ينصرف إذا قابله من العدو ثلاثة فأكثر. وما دون ذلك فإنه لا يجوز أن ينصرف، وفهم من كلام الفقهاء أنه لا يجوز الانصراف عن واحد ولا عن اثنين مهما بلغت القوة فيهما أو فيه، وليس من مسوغات الانصراف قوة الخصم أثناء المبارزة. الثاني مما يجب هو: - قوله - رحمه الله -: أو حصر بلده عدو.

إذا حصر البلد العدو وحضر لقتالها فإنه يحرم الانصراف ويصبح الجهاد من فروض الأعيان، وهذا محل إجماع بين الفقهاء، قال الفقهاء: والقتال حينئذ هو أعظم واجبات صد العدو. وهو أعظم أنواع دفع الصائل لأن تمكين الأعداء من دخول البلاد يعني الفساد التام وتعذر إقامة الحدود والشعائر ومفاسده لا تحصى ولا تعد. - مفاسد تمكين الأعداء من دخول بلاد المسلمين لا تحصى ولا تعد - ولذلك جعله الفقهاء من أعظم صور دفع الصائل. - ثم قال - رحمه الله -: أو استنفره الإمام. الاستنفار هو: طلب الخروج للجهاد، فإذا طلب الإمام من فئة أو من شخص معين الخروج للقتال وجب على جميع الذين طلب منهم الخروج أن يخرجوا وجوباً عينياً. ومن تخلف منهم فقد ترك واجباً عينياً وهو آثم. والدليل على ذلك: - - قوله - صلى الله عليه وسلم -: (لا هجرة بعد الفتح ولكن جهاد ونية فإذا استنفرتم فانفروا). فهذه ثلاث صور يصبح الجهاد فيها واجباً عينياً ويضاف إليها: - صورة رابعة: وهي إذا احتيج إلى شخص معين للخروج. كأن يكون ماهراً في الرماية أو في استخدام آلات الحرب أو في التخطيط ولو لم يكن شجاعاً في المقاتلة. المهم إذا احتيج إلى شخص معين لأي سبب صار الجهاد في حقه واجباً عينياً. فتحصل عندنا الآن أربع صور يصبح الجهاد فيها واجباً عينياً. - ثم قال - رحمه الله -: وتمام الرباط: أربعون يوماً. الرباط هو: ملازمة الثغر للجهاد والدفع عن المسلمين. والثغر: هو الموضع المخوف الذي تحيط به الأعداء. إذاً الثغور ليست هي الحدود ولكن الثغور هي الأماكن التي يخشى من دخول الأعداء إليها. والمرابطة مشروعة بإجماع العلماء. وهو من أعظم الطاعات والقربات. - لقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: (رباط يوم في سبيل الله خير من الدنيا وما عليها). وهذا الحديث يبين بوضوح وجلاء حقارة الدنيا في نظر الشارع، فإن رباط يوم أربع وعشرين ساعة في مكان واحد مخوف أفضل من الدنيا وما عليها. وقوله: (من الدنيا). يشمل من آدم - عليه السلام - إلى قيام الساعة. و: (ما عليها) يشمل جميع أنواع ملاذ الدنيا. فهذا الحديث من أصح الأحاديث في حقارة الدنيا في نظر الشارع ويجب أن يكون نظر المسلم تبعاً لنظر الشارع.

- قال - رحمه الله -: أربعون ليلة. تمام الرباط: أن يبقى الإنسان في الثغر: لمدة أربعين ليلة. - لقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: (تمام الرباط أربعون ليلة). لكن هذا الحديث ضعيف ولا يثبت إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -. لكن روي هذا التحديد عن عمر وابنه وأبي هريرة - رضي الله عنهم -. فهم جعلوا تمام الرباط أن يبقى الإنسان لمدة أربعين ليلة. وأما أقل الرباط: فساعة. ومقصود الفقهاء - رحمهم الله - بقولهم: (ساعة): يعني: أن الرباط يحصل ولو بزمن قليل ولا يريدون الساعة المعاصرة بالتحديد الذي نعرفه الآن وإنما يريدون أنه وإن بقي الإنسان وقتاً قصيراً فإنه يعتبر مرابطاً في سبيل الله. - ثم قال - رحمه الله -: وإذا كان أبواه مسلمين: لم يجاهد تطوعاً إلاّ بإذنهما. لا يجوز للإنسان أن يخرج للجهاد في سبيل الله تطوعاً إلا بإذن والديه إذا كانا مسلمين. - لما ثبت في صحيح البخاري ومسلم: أن رجلاً خرج للجهاد فقال له النبي - صلى الله عليه وسلم -: (ألك أبوان؟) قال: نعم. قال: (ففيهما فجاهد). فهذا الحديث نص على أنه لا يجوز له أن يخرج إل بإذنهما ما داما من المسلمين. - والدليل الثاني: أن بر الوالدين من فروض الأعيان وجهاد الطاعة من فروض الكفايات ولا يجوز للإنسان أن يقدم فروض الكفايات على فروض الأعيان. - وقول المؤلف - رحمه الله -: وإذا كان أبواه مسلمين. يدل على أنه إذا كانا الأبوان من غير المسلمين فإنه يجوز أن يخرج بلا طاعة ولا إذن ولو كان الجهاد تطوعاً، وهذا صحيح. فإنه لا إذن للأبوين الكافرين. واستدلوا على هذا: - بأن عدداً من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - كانوا يخرجون للجهاد بلا إذن الوالدين لأنهما لم يكونا من المسلمين منهم: أبو بكر الصديق - رضي الله عنه -. إذاً لا يلزم أن يستأذن الأب الكافر ولا الأم الكافرة وإنما الإذن للمسلمين. - ثم قال - رحمه الله -: ويتفقد الإمام: جيشه عند المسير. يعني: وجوباً. فيجب على الإمام وجوباً قبل الخروج والمسير أن يتفقد الجيش. والدليل على هذا:

- أن النبي - صلى الله عليه وسلم - في معركة أحد استعرض الجيش وظاهر هذا اللفظ أنه استعرض جميع الجيش. كل فرد من أفراد فلما وصل إلى ابن عمر - رضي الله عنه - لم يأذن له بالخروج لأنه لم يبلغ. - واستعرض النبي - صلى الله عليه وسلم - كل الجيش في بدر وأيضاً أخرج جملة من الصحابة منهم أسامة - رضي الله عنه - لأنه لم يبلغ. فهذا دليل على أن القائد العام للجيش يجب عليه وجوباً قبل أن ينطلق الجيش للجهاد أن يتفقد الجيش. - وقول المؤلف - رحمه الله -: يتفقد. هذه العبارة تدل على عموم التفقد: o فيشمل الجيش من حيث الرجال: صلاحية الأفراد. وسنهم. وملائمة كل فرد لمكانه. o ويشمل كذلك الآلات والمعدات من حيث: صلاح الآلة. ومناسبتها لهذا الخروج وبعدها عن الأعطال وعدم مضرتها للقائمين عليها o ويشمل أيضاً: المؤونة وأنها تكفي للجيش من الخروج وأثناء الطريق والرجوع. o ويشمل كل ما يتعلق بالجيش مما قيل أو لم يقل فإنه يجب أن يتفقد هذا الإمام جيشه تفقداً تاماً على سبيل الوجوب. - قال - رحمه الله -: ويمنع المخذل. وهذا من جملة التفقد، والمخذل: هو الذي يسعى في منع الناس من الخروج بذكر العلل المهبطة: o كقوله: (الأعداء أقوياء). o وكقوله: (الجو حار لا يطاق). o وكقوله: (الجو بارد يقتل). o وكقوله: (أرض المعركة بعيدة) وما جرى مجرى هذه الأمثلة. فأي كلام يقصد منه تخذيل المجاهدين ومنعهم من الخروج فمن يقوله من المخذلين فإنه يجب على الإمام والقائم على الجيش أن يطرده من الجيش ولا يسمح له بمصاحبة المجاهدين. - ثم قال - رحمه الله -: والمرجفة. لو أن المحقق - وفقه الله - اختار النسخة التي في ثلاث نسخ خطية وهي: (المرجف) وهي التي تتوافق مع باقي كتب الحنابلة لكان أسهل وأوضح. فالمرجف: أوضح من المرجفة والمعنى واحد. المرجف: هو الذي يقول: o ( هلك المسلمون). o ( انقطع المدد). o ( لا طاقة لنا بهم اليوم). وما جرى مجرى هذه الأمور مما يرجف بالجيش. فالمخذل والمرجف يجب وجوباً على قائد الجيش أن يمنعهم من الخروج. - وقوله - رحمه الله -: المخذل والمرجف.

أراد المؤلف - رحمه الله - التمثيل. أي: وعليه منع كل من في خروجه ضرر على المسلمين والمجاهدين بأي طريقة من الطرق. * * مسألة / هل من ذلك: منع خروج الأحمق خشية أن يفشي الأسرار أو أن يؤذي باقي الجيش؟ فيه تفصيل: ـ إن كان هذا الأحمق يعهد منه الإفساد وخلخلة الجيش ونقل ما لا ينبغي نقله للأعداء فيجب وجوباً أن يمنع. ـ وإن كان أحمقاً لكن لا يقع منه مثل هذه التصرفات فإنه يسمح له بالخروج لأنه لاشك أنه كان مع جيوش المسلمين من عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى يومنا هذا من يوصف بالحمق ولم يمنع من الخروج. إذاً: وصف الحمق المجرد لا يعني المنع من الخروج. لكن إذا احتف به قرائن تدل على احتمالية وقوع الأذى على المسلمين وجب منعه. - قوله - رحمه الله -: ويمنع المخذل والمرجف. الدليل على ذلك: - قوله تعالى: {لو خرجوا فيكم ما زادوكم إلا خبالا ولأوضعوا خلالكم يبغونكم الفتنة} [التوبة/47]. (ما زادوكم إلا خبالاً). الخبال هو الفساد: الفساد في الجيش ونشر الأراجيف، وقوله: (ولأوضعوا خلالكم) يعني: لسعوا في الفساد بينكم بالنميمة أو بالطرق الأخرى. وإذا تأملت الآية تأملاً دقيقاً وجدت أنها تركز على مسألة واحدة وهي: أن الاختلاف إذا وقع في الجيش بسبب المرجف أو المخذل صار هذا من أعظم أسباب نكوص الجيش وهزيمته، فالاختلاف شر في كل مكان وأعظم ما يكون إذا وقع في الجيوش فإن الاختلاف بين الجيش يذهب قوة الجيش، ولذلك ركزت الآية على منع الاختلاف ومنع كل من يتسبب به. ثم بدأ - رحمه الله - بالأحكام التي تتأتى بعد خروج الجيش مع الإمام: - فقال - رحمه الله -: وله أن ينفل في بدايته. التنفيل: هو إعطاء المجاهد فوق السهم الواجب له، فهذا التنفيل يقول عنه المؤلف - رحمه الله -: (له أن ينفل في بدايته)، يعني أنه يجوز للإمام أن يعطي فئة معينة - كما سيأتينا - نفلاً وهو زيادة على نصيبه المقرر شرعاً وهو: سهم للراجل وثلاثة للفارس - كما سيأتينا. لكن هذا يخضع للتفصيل التالي: - يقول - رحمه الله -: الربع بعد الخمس وفي الرجعة الثلث بعده. إذاً: ـ في البدأة: الربع. ـ وفي الرجعة: الثلث. والبدأة هي: بداية دخول الإمام والجيش لدار الحرب.

والرجعة: الرجوع من دار الحرب. فمعنى قوله المؤلف - رحمه الله -: (الربع بعد الخمس): يعني: أن الجيش إذا دخل أرض العدو ذاهباً للمعركة فإن الإمام إذا أرسل سرية في البدأة فإن له أن ينفلهم الربع. ومعنى هذا: أنها إذا رجعت السرية ومعها غنائم أخرج من الغنائم: الخمس ثم أعطى هؤلاء أصحاب هذه السرية الربع ثم قسم الباقي على الجيش بما فيهم أصحاب السرية. إذاً: إذا ذهبوا وأتوا بالغنائم: ـ أخذ من الغنائم الخمس لله ولرسوله. ـ ثم أعطى أصحاب السرية في البدأة الربع ثم قسم الباقي على الجيش بمن فيهم أصحاب السرية. هذا التنفيل في البدأة وهو يتعلق بالربع. والثلث: في الرجعة. فإذا رجع الجيش وخرج من أرض العدو ورأى الإمام والقائد العام للجيش أن يرسل سرية تتعقب الأعداء أو تكشف حال الأعداء بعد انتهاء الحرب فلهم الثلث ويقسم الثلث كما قسم الربع تماماً. وإنما صار نصيب أصحاب البدأة أقل من الرجعة لأن الخروج في الرجعة وبعد انتهاء الحرب أشق وأصعب بمراحل من بعث السرية في بداية المعركة. لاشك. وهذا لا يشك فيه فقيه: أن إرسال السرية في أول المعركة أسهل من إرسال السرية بعد انتهاء المعركة: ـ أولاً: لأنه قد أخذ منهم التعب والجهد ما أخذ. ـ ثانياً: لأنهم يتشوفون إلى انتهاء المعركة. ـ وثالثاً - وأخيراً -: لأن الغالب أن فيهم جراح. إذاً: له أن ينفل في بدايته الربع بعد الخمس وفي الرجعة الثلث بعده. والدليل على ذلك: - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نفل الربع في البدأة والثلث في الرجعة. وهو حديث صحيح. * * مسألة / ظاهر الحديث وهو المتوافق مع كلام الفقهاء - رحمهم الله -: أنه لا يجوز للإمام أن ينفل أكثر من ذلك بل له فقط: الثلث أو الربع، الربع في الدخول والثلث في الخروج ولا يجوز أن يزيد على هذا المقدار. وهذا صحيح لأن الحديث أجاز التنفيل بهذا المقدار وماعداه من الغنائم تبقى حق لجميع المجاهدين لا يجوز للإمام أن ينقصهم عنها، وهذا صحيح.

* * مسألة / ظاهر النص: أنه يجوز أن ينفل أقل من ذلك: في البدأة والرجعة إذا رأى أن الأمر يستحق أن يخفض عن ذلك فله أن يخفض عن الثلث أو الربع بحسب حال الجهاد وملابسات المعركة، وهذا صحيح: أن له أن ينقص، فإذاً: له أن ينقص وليس له أن يزيد. - ثم قال - رحمه الله -: ويلزم الجيش: طاعته. يجب على الجيش: أن يطيع الإمام. وطاعة الجيش للإمام قوام المعركة. والدليل على وجوب الطاعة: - قوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم} [النساء/59]. وهذه الآية عامة في طاعة ولي الأمر وأشد ما تكون حال المعركة وهو أولى المواضع دخولاً تحت الآية. والدليل على ذلك أيضاً: - ما جاء عن عدد من الصحابة أنهم قالوا: أمرنا بالسمع والطاعة في منشطنا ومكرهنا. والنصوص الدالة على وجوب طاعة ولي الأمر في حال السلم وفي حال الحرب كثيرة جداً بلغت مبلغ التواتر. * * مسألة / ولا طاعة لولي الأمر في المعصية. - لقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: (إنما الطاعة في المعروف). - ولأن ولي الأمر إنما اكتسب وجوب الطاعة من قبل الشارع فلا يطاع فيما خالف فيه الشارع. فإذا أمر بمعصية لله عز وجل فإنه لا يطاع ولا تقدم طاعة المخلوق مهما كان على طاعة الخالق عز وجل، وهذا محل إجماع. فدل عليه النص والإجماع. وقوله - رحمه الله -: (ويلزم الجيش طاعته) يعني: ولو رأوا أن المصلحة في خلاف ما أمر به ولو تثبتوا وتأكدوا من ذلك فإنه يجب عليهم أن يطيعوا مهما كان الأمر لأن في ذهاب كل فرد من الجيش برأيه مفسدة عظيمة وانتشار للجيش وانفلال لأمره، فلاشك أنه من أعظم المعاصي: الإخلال أثناء المعركة بطاعة ولي الأمر مهما كان رأي الفرد أن هذا الأمر خطأ فليس عليه أكثر من أن يبين وينصح أما الطاعة فهي واجبة لا سيما أثناء اشتداد أمر الحرب. - ثم قال - رحمه الله -: والصبر معه. الصبر مع الإمام واجب ولو اشتدت الحرب. ويدل على ذلك: - قوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا اصبروا وصابروا} [آل عمران/200]. ويدل عليه: - جميع النصوص التي تدل على تحريم التولي يوم الزحف. فإن الثبات من الصبر.

ويجب على الفرد من الجيش بنفسه أن يطيع ولو كلفه قائد الجيش بشيء صعب فيجب عليه أن يصبر ويمتثل. - ثم قال - رحمه الله -: ولا يجوز الغزو إلاّ بإذنه. الغزو من حقوق ولي الأمر العامة والتي ليس لأحد من أفراد المسلمين أن يفتات عليه فيها. والدليل على هذا من وجهين: - الأول: النصوص الدالة على وجوب الطاعة. - والثاني: أن ولي الأمر عادة أعلم بالمصالح العامة وبما يناسب من أمر القتال أو تركه. - وثالثاً: لأن إقدام غير الإمام على الجهاد قد يدخل جميع المجاهدين في ما لا تحمد عقباه. فلا يجوز الجهاد إلا إذا أذن الإمام. - ثم يقول - رحمه الله -: إلاّ أن يفجأهم عدو يخافون كلَبه. (كلبه) يعني: شره وفساده وشدته. فإذا فجأهم العدو فإنه لا يحتاج الأمر إلى إذن أحد لا إمام ولا أب ولا أم ولا دائن ولا أي شخص بل يجب على جميع المسلمين أن ينفروا نفرة واحدة. - لأن في تمكين الأعداء إذا فاجأوا المسلمين في بلادهم من الدخول والقتل ما فيه من المفاسد التي تذهب بمصالح الدين والدنيا. وهذا محل إجماع: أنه إذا فجأ العدو البلد وأوشك على الدخول وجب على الناس أن ينفروا. وويستثنى من ذلك: ما إذا أراد الإمام أن ينظم تنظيماً معيناً لا يتأتى مع الغوغاء وخروج الناس بلا قائد فإنه يجب على المجموعة التي أراد منها الإمام أن تتنظم تنظماً معيناً فيجب وجوباً الطاعة: - لأن في هذا التنظم مصلحة تعود على جميع المسلمين. - ثم قال - رحمه الله -: وتملك الغنيمة: بالإستيلاء عليها في دار الحرب. الغنيمة: هي الأموال التي يأخذها المسلمون من الكفار الحربيين على سبيل القهر والغلبة، فهذه تسمى غنيمة. والغنيمة لم تبح لأحد قبل هذه الأمة. وثبت في الحديث الصحيح أن الغنائم في الأمم السالفة كانت تنزل عليها النار فتحرق هذه الغنيمة. وهذا في مسلم وأبيحت لأمة محمد - صلى الله عليه وسلم -. فالمؤلف - رحمه الله - يقول: (وتملك الغنيمة: بالاستيلاء عليها في دار الحرب.). إذا استولى الجيش على أموال الكفار وهي الغنائم الموصوفة في التعريف السابق أصبحت بذلك مباشرة من أملاك المسلمين. لدليلين: - الأول: أنه بالاستيلاء عليها زال عنها ملك الكفار.

- والثاني: أن سبب الملك هو الاستيلاء التام وقد وجد. إذاً بالاستيلاء على أموال الكفار في دار الحرب تصبح من أموال المسلمين ولا يشترط أن تنتهي المعركة بل إذا استولوا على بعض أموال الكفار أثناء الحرب فهي ملك للمسلمين للدليلين السابقين سواء انتهت المعركة أو لم تنته. والاستيلاء على الغنائم وأنها ملك للمسلمين شيء وتقسيمها ومتى يستحقها أفراد الجيش شيء آخر سينص عليه المؤلف - رحمه الله -. - ثم قال - رحمه الله -: وهي لمن شهد الوقعة من أهل القتال. الغنيمة حق لمن شهد المعركة ممن هو من أهل القتال وهو المسلم الذكر البالغ سواء قاتل أو لم يقاتل. فما دام حضر المعركة ليقاتل فالغنيمة له. والدليل على ذلك: - قول عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -: (إنما الغنيمة لمن حضر الوقعة). فالمجاهدون الذين يحضرون أرض المعركة ويحضرون الوقعة لهم أن يتملكوا من الغنائم ولهم حق في الغنيمة سواء كانت أو لم يقاتلوا لأي سبب. فما داموا حضروا ليقاتلوا، ويشمل هذا الحكم عند الإمام أحمد - رحمه الله -: من خرج مع الجيش ليقاتل ويتاجر. ومن خرج مع الجيش ليقاتل ويعمل بصنعته كالخياط والحداد قال الإمام أحمد - رحمه الله -: إنما هم من الغزاة، فكون الإنسان يخرج ليقاتل في سبيل الله وليتاجر إذا وجد فرصة فهذا لا يخرجه عن أن يكون من جملة المجاهدين الذين لهم حق في الغنيمة. = والقول الثاني: أن من خرج مع المسلمين من التجار والصناع ونحوهم لاحظ له في الغنيمة. - لأنه لم يخرج ليقاتل فقط. والصواب مع الإمام أحمد - رحمه الله - لأن هذا من الغزاة كما أن الحاج من الحجاج ولو خرج تاجراً، فإذا خرج الإنسان وقصده ونيته الحج ومع ذلك سيتاجر فهو من الحجاج الذين يرجى لهم المغفرة. - ثم قال - رحمه الله -: فيخرج بدأ المؤلف - رحمه الله - في تفصيل تقسيم الغنائم: - قال - رحمه الله -: فيخرج الخمس. يجب على الإمام قبل إخراج الخمس: أن يدفع لأهل الأسلاب أسلابهم فالأسلاب لا تخمس. والسلب: هو ما يدفع للرجل إذا قتل رجلاً من المشركين. والدليل على أن السلب لمن قتل رجلاً من المشركين: - قوله - صلى الله عليه وسلم -: (من قتل قتيلاً فله سلبه).

واختلف الفقهاء - رحمهم الله - في تحديد السلب: والذي يعنينا رأي الحنابلة - رحمهم الله - لأن الخلاف متقارب جداً: = فالحنابلة يرون أن السلب يشمل: الفرس وآلة الفرس وما معه من نقود ونفقه والثياب، فهذا هو السلب، يعني: كل ما مع المقاتل المشرك أو الكافر مما يلبس أو يحمل أو يركب: ـ ولو كان ما معه باهض الثمن. ـ ولو كان ما معه يشكل نصف الغنائم. = والقول الثاني: أنه إذا كان السلب فيه عيناً باهضة الثمن فإن للإمام أن يرضي المجاهد عنها. والأقرب: أنه من قتل قتيلاً فله سلبه مطلقاً وهذا حكم من النبي - صلى الله عليه وسلم - لا يمكن أن نخصصه لا بفتوى صحابي ولا بغيره. وفي هذا ما فيه من التشجيع على القتل والمجاهدة والمبارزة. * * مسألة / تتعلق بالأسلاب: يجوز عند الجماهير والجم الغفير أن يخرج الإنسان منفرداً للمبارزة بل ويندب إذا علم من نفسه القوة. وله إذا خرج أن يخدع خصمه الكافر بكلمة أو بحركة. - لقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: (الحرب خدعة). - ولأن علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - لما خرج خدع مقابله وقتله فقال خدعتني قال - رضي الله عنه - الحرب خدعة. ((انتهى الدرس)).

شرح كتاب الجهاد الدرس رقم (2) قال شيخنا حفظه الله: بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين. - يقول - رحمه الله -: فيخرج الخمس. ونحن ذكرنا في الدرس السابق أنه يجب على الإمام قبل التخميس أن يخرج الأسلاب. وعرفنا حكم الأسلاب وما هي وماذا تشتمل عليه. - قوله - رحمه الله -: فيخرج الخمس. الخمس يجب أن يخرج من الغنيمة قبل أن تقسم على الجيش. - لقوله تعالى: - (وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ) -[الأنفال/41]. فالآية نصت على أن الخمس يخرج قبل تقسيم الأربعة أخماس على المجاهدين. ـ فسهم الله ورسوله يصرف في: مصالح المسلمين.

ـ وسهم ذوي القربى: لبني هاشم وبني المطلب. وجاء في صحيح البخاري أن النبي - صلى الله عليه وسلم - خصهم بهذا السهم دون بطون قريش. فقط. بني هاشم وبني المطلب. ـ وسهم اليتامى: يصرف: = عند الحنابلة على فقراء اليتامى. فيشترط فيمن يعطى من اليتامى أن يكون فقيراً. = والقول الثاني: أن سهم اليتامى يعطى لليتيم سواء كان من الفقراء أو من الأغنياء. - لأن الله سبحانه وتعالى ذكر في الآية اليتامى وذكر المساكين مما يدل على أنهم صنفان. وإلى هذا ذهب الشيخ الفقيه ابن قدامة أي: أنه لا يشترط في اليتامى أن يكونوا من الفقراء بل هم سهم قائم برأسه لا علاقة له بالفقر. واليتيم هو: من مات أبوه قبل أن يبلغ. فكل إنسان مات أبوه قبل أن يبلغ فله حظ في غنائم المسلمين يقسمها عليهم الإمام. ـ والمساكين هم: الفقراء. ـ وابن السبيل هو: المنقطع. وسهم المساكين يدخل فيه الفقراء لأنه تقدم معنا قاعدة في الزكاة: أنه: ((إذا أطلق المسكين دخل فيه الفقير وإذا أطلق الفقير دخل فيه المسكين)). وكيفية صرف سهم المسكين وابن السبيل من الغنيمة تماماً: ككيفية إعطائه من الزكاة فما قيل في كتاب الزكاة من تفصيلات حول ابن السبيل وما يعطى والقدر الذي يكفية وما قيل حول المسكين ومن هو وكم يعطى يأتي معنا هنا تماماً فيعطى كما أعطيناه في كتاب الزكاة. * * مسألة / السنة أن الإمام يقسم الغنائم قبل أن يرجع إلى البلد. فإن صبر حتى رجع إلى البلد فقد خالف صريح السنة فقد تواتر أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يقسم غنيمة قط في المدينة وإنما كان - صلى الله عليه وسلم - يقسم في دار الحرب، فالسنة هكذا أن تقسم الغنائم قبل أن يقدم الجيش والوالي إلى المدينة التي خرجوا منها. - ثم قال - رحمه الله -: ثم يقسم باقي الغنيمة. إذا أخرج الخمس يقسم باقي الغنيمة: الأربعة أخماس. لكن يجب قبل أن يقسم الأربعة ألأخماس أن يخرج نصيب صنفين من المجاهدين: ـ الأول: النفل. فيجب أن يخرج النفل قبل أن يقسم الأربعة أخماس وتقدم معنا هذا: التنفيل في البدأة وفي الرجعة. ـ والثاني: الرضخ. فيجب أن يخرج الرضخ قبل أن يقسم الأربعة أخماس على المجاهدين.

والرضخ: هو كل ما يعطى من الغنيمة لمن ليس من أهل الأسهم. كالمرأة والصبي والعبد .. إلى آخره. فهؤلاء ليس لهم نصيب في الغنائم لكن لهم نصيب في الرضخ. والرضخ ليس له حد في الشرع. إنما يرجع فيه إلى رأي الإمام ومقدار غناة الذين سيرضخ لهم من النساء والصبيان، إلا أنه لا يجوز أن يبلغ بالرضخ نصيب السهم مهما كان غناء هذا المرضوخ له من النساء والصبيان والعبيد إلا في صورة واحدة إذا رضي جميع الجيش فإذا أذن الجيش كلهم أن هذا الرجل يستحق زيادة على الرضخ بما يصل معه إلى السهم أو أكثر فلا بأس أما بدون ذلك فإنه لا يجوز لا للإمام ولا لقائد الجيش أن يزيد عن أن يصل إلى سهم المجاهد. - قال - رحمه الله -: ثم يقسم باقي الغنيمة. أجمع أهل العلم بلا خلاف أن المجاهدين هم أصحاب الأربعة أخماس وأنها لهم بعد إخراج خمس الغنيمة ولا يشاركهم فيه أحد. والدليل على ذلك: - الإجماع الذي ذكرته. - والآية. لأنه قوله تعالى: - (وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ) -[الأنفال/41]. يدل على أن ما عدا هذا الخمس فهو للمجاهدين. ثم بين المؤلف - رحمه الله - نصيب كل مجاهد: - فقال - رحمه الله -: للراجل سهم وللفارس ثلاثة أسهم. ـ الراجل من المجاهدين له سهم. وهذا بالإجماع فلم يخالف أحد من أهل العلم أن الراجل له سهم. وستأتينا النصوص الدالة على ذلك. ـ وللفارس ثلاثة أسهم. سهم له وسهمان للفرس. والدليل على هذا: - ما ثبت في الصحيح في البخاري وغيره عن ابن عمر أن النبي - صلى الله عليه وسلم - يوم خيبر أعطى الفارس ثلاثة أسهم والراجل سهم واحد. وهذا متواتر في السيرة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يعطي الفارس ثلاثة أسهم سهم له وسهمان للفرس والراجل يعطيه سهم واحد يعني من مجموع الغنيمة. = وإلى هذا ذهب الجماهير والجم الغفير وأخذوا بالسنة الصحيحة الثابتة عن النبي - صلى الله عليه وسلم -. * * مسألة/ يشترط في الفرس ليعطى سهمين أن يكون فرساً عربياً أصيلاً: الأب والأم، فإن كان هجيناً بأن كان أحد أبويه ليس عربياً ومن باب أولى إذا كان جميع الأبوين ليسا عربيين فإنه يعطى سهم واحد. والدليل على هذا من وجهين:

- الوجه الأول: أن غناء الفرس العربي وإعطاءه في الحرب أكبر وأعظم من غيره من الهجين. - والوجه الثاني: أن أميراً لعمر بن الخطاب لما أراد قسمة الغنائم أعطى الفرس العربي سهمين وأعطى الهجين سهم واحد فلما رفعت القضية لعمر بن الخطاب أمضاها بل وأبدى إعجابه بهذا التقسيم - رضي الله عنه -. = والقول الثاني: أن حديث ابن عمر عام وأن النبي - صلى الله عليه وسلم - في جميع معاركه لم يفرق بين العربي والهجين. أي أن القول الثاني: أن يعطى الفرس العربي والفرس الهجين سهمان ولا يفرق بينهما. والراجح والله أعلم أنه يشترط في الفرس أن يكون عربياً: - أولاً: لأن هذا مروي عن عمر. - ثانياً: لأنه بالفعل لا يمكن أن يستوي العربي والهجين في الغناء والأداء أثناء الكر والفر في الحرب. وأما قولهم: إن النبي - صلى الله عليه وسلم - في خيبر وفي غيرها لم يفرق بين العربي والهجين: فالجواب عليه: أن الهجين لم يوجد لا في خيبر ولا في غير خيبر وإنما وجد الهجين بعد الفتوح التي فتحها أمير المؤمنين عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - فهذا يدل على أن الهجين لم يوجد في زمن النبي - صلى الله عليه وسلم - ولا في زمن أبي بكر الصديق - رضي الله عنه -، فهذا الاستدلال ليس في محله بل هو استدلال بوقعة ليس فيها فرس هجين وإنما فيها أفراس عربية، فهذا والله أعلم: أقرب وهو أن نفرق بين الفرس الهجين والفرس العربي. * * مسألة / لا يعطى المجاهد نصيب أكثر من فرسين: - فإذا كان معه فرسان أعطي أسهم أربعة. - وإذا كان معه خمسة وستة وسبعة وأكثر فإنه لا يعطى إلا نصيب فرسين. - لأنه مروي عن عمر بن الخطاب أنه أعطى إلى فرسين. = والقول الثاني: أنه لا يعطى إلا نصيب فرس واحد ولو كان قدم إلى الحرب بعشرات الخيول العربية الأصيلة فإنه لا يعطى إلا نصيب فرس واحدة. فله سهم. ولأفراسه كلها سهمين. والصواب مع القول الأول وهو أن نبلغ بهم إلى فرسين ثم نتوقف ولا نعطيه أكثر من ذلك. - ثم قال - رحمه الله -: ويشارك الجيش سراياه فيما غنمت، ويشاركونه فيما غنم. ما غنم الجيش دون السرايا وما غنمت السرايا دون الجيش فإنه في نهاية المعركة يجمع جميعاً ويقسم بالاشتراك بين السرايا والجيش:

ـ سواء كانت غنائم السرايا أولاً أو غنائم الجيش أولاً. ـ وسواء كان غناء الجيش أعظم أو كان غناء السرية أعظم. ففي كل الأحوال نسوي بينهم ونجمع الغنائم جمعاً واحداً ويقسمها الإمام على ما تقدم معنا. والدليل على هذا من وجهين: - الوجه الأول: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - في غزوة هوازن شرك بين السرايا والجيش. وهذا نص لا يمكن العدول عنه. - الوجه الثاني: هو أن الجيش والسرايا جيش واحد فلا يمكن التفريق بينهما وإن أدى كل منهم ما عليه من القتال في ظروف معينة وفي وقت معين وفي مكان معين إلا أن الجميع جيش واحد. فالجميع يشترك في الغنائم ولا ينظر إلى مقدار ما أتت به السرية ولا إلى مقدار ما أتى به الجيش إلا أن ظاهر كلام الفقهاء أن التنفيل بالربع والثلث يكون مما أتت به السرية وأنه لا يكون التنفيل من مجموع الغنائم وإنما يكون مما أتت به السرية. هذا ظاهر كلام أهل العلم وإذا تأمله الإنسان وجد أنه وجيه لأنهم تسببوا في إحضار هذه الغنائم المعينة فاستحقوا أن يخصوا بالثلث أو الربع. - ثم قال - رحمه الله -: والغال من الغنيمة: يحرق رَحله كله، إلاّ السلاح والمصحف وما فيه روح. الغال هو: الذي يكتم شيئاً من الغنائم ولا يطرحه أمام الأمير في جملة الغنائم. وحكمه: أنه محرم بل من كبائر الذنوب نسأل الله العافية والسلامة. والدليل على ذلك: - قوله تعالى: - (وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ) -[آل عمران/161]. فالآية نص على أن هذا العمل من الكبائر وهو محرم. ـ المسألة الثانية: عقوبة الغال. تنقسم عقوبة الغال إلى قسمين: - القسم الأول: أن يتولى الإمام معاقبة الغال بما يراه مناسباً من الحبس أو الضرب أو غير ذلك، وهذا مشروع وجائز بالإجماع. فللإمام أن يعاقبه بما يراه مناسباً. وللإمام أن يتركه فإن هذه العقوبة عقوبة تعزيرية. - القسم الثاني: ما ذكره المؤلف - رحمه الله - وهو التحريق. بأن يقوم الإمام باحريق متاع هذا الغال كله إلا ما استثنى المؤلف - رحمه الله -. = وإلى هذا ذهب الحنابلة وهو من المفردات. واستدلوا على هذا: - بأن النبي ثم قال - صلى الله عليه وسلم - أمر بتحريق مال الغال أو متاع الغال.

فأخذ الحنابلة بهذا النص. والجواب عليه: أنه لا يثبت حديث صحيح مرفوع إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فيه الأمر بالتحريق. بل ولا عن أصحابه فيما اطلعت عليه ولا عن أصحابه. إنما هناك أثر يروونه ويقولون رواه سعيد بن منصور ولا يوجد له أثر في سنن سعيد بن منصور. = والقول الثاني: أن التحريق لا يشرع وأن الإمام يعاقب بما دون التحريق. واستدلوا على هذا بدليلين: - الدليل الأول: أنه ثبت في صحيح البخاري أن رجلاً أو رجلين وقعا في الغلول في معركة فتح خيبر ولم يحرق النبي - صلى الله عليه وسلم - أمتعتهم. - الدليل الثاني: ما ثبت في صحيح البخاري أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى عن إضاعة المال. وتحريق متاع الغال من إضاعة المال. = والقول الثالث: وهو رواية عن الإمام أحمد - رحمه الله - أن التحريق ليس حداً وإنما تعزيراً فلا يتحتم على الإمام أن يحرق بل يعزر به إن رأى ذلك وإلا فيعاقب بعقوبة أخرى وإلا يتركه بلا عقوبة. وهذا القول اختاره شيخ الاسلام - رحمه الله -. والقول الثاني هو مذهب الجماهير. والراجح والله أعلم القول الثاني. واختيار الشيخ ضعيف. ووجه الضعف: - أولاً: أنه لا يصلح أن نسوغ للإمام أن يعاقب بما نهى عنه الشارع فإن الشارع نهى عن إضاعة المال فكيف نسوغ للإمام أن يعاقب بأمر نهى عنه الشارع. - ثانياً: ما دام ثبت في صحيح البخاري أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يحرق متاع الغال فكيف نوجد مثل هذه العقوبة التي ليس لها نظير في الشرع ونحكم بأن للإمام أن يصنعها تعزيراً أو حداً.

فالذي يظهر لي أن هذه المسألة التي هي من مفردات الحنابلة ضعيفة وإن كان تقدم معنا مراراً أن مفردات الحنابلة في الغالب قوية لأن الإمام أحمد - رحمه الله - لا ينفرد عن الأئمة إلا وقد اعتمد على نص صحيح. لكن في هذه المسألة يظهر لي أنه فيه ضعف بل ضعفه واضح لأنه لا فائدة من تحريق المتاع، فإن أراد الإمام أن يعزر بأخذ المال فهو جائز. وجائز بالإجماع لأن للإمام أن يعزر بما شاء من حبس وضرب وأخذ للمال، لكن أن يحرق المتاع ولا سيما أنهم في الحرب وأثناء المعركة فأرى أن هذا القول فيه ضعف واضح ويؤيد أو يقوي هذا الضعف مصادمته للنصوص الصحيحة التي فيها الغلول وليس فيها التحريق. ثم ذكر المؤلف - رحمه الله - ما يستثنى على مذهب الحنابلة: - فقال - رحمه الله -: إلا السلاح. فإنه لا يجوز أن يحرق ولا أن يدخل في النار. - لأن السلاح يحتاج إليه في الحرب فلا يجوز أن نحرق سلاح المقاتل بل يؤخذ منه ويدفع لغيره أو يبقى معه ليجاهد هو به في سبيل الله. - ثم قال - رحمه الله -: والمصحف. كذلك لا يجوز أن يحرق المصحف. - لما له من حرمة. - ثم قال - رحمه الله -: وما فيه روح. لا يجوز تحريق ما فيه روح إذا افترضنا أن من متاع الغال شيء فيه روح فإنه لا يجوز أن يحرق. لوجهين: - الوجه الأول: أن الحيوان له حرمة. فأي حيوان مأكول له حرمة. ولذلك نهى الشارع عن تعذيب الذبيحة وعن إيذاء الحيوان وما ذلك إلا لأن له حرمة. - والوجه الثاني: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى عن التعذيب بالنار وقال: (لا يعذب بالنار إلا رب النار). إذاً: السلاح والمصحف والحيوان - يعني: وكل ما فيه روح: فلا يجوز أن يحرق على القول بالتحريق. يضاف إلى هذا إلى ما لا يجوز أن يحرق: - النفقة. - وكتب أهل العلم. - وثيابه التي عليه. فإنه لا يجوز أن يترك عرياناً. ولعل المؤلف - رحمه الله - لم يذكرها لأنه معلوم: فالثياب لا يجوز أن يبقى عرياناً والنفقة ليرجع إلى أهله وكتب أهل العلم لحرمتها على كل حال صارت الآن المستثنيات ستة أمور. - ثم قال - رحمه الله -:

وإذا غنموا أرضاً فتحوها بالسيف: خيّر الإمام بين قسمها ووقفها على المسلمين، ويضرب عليها خراجاً مستمراً، يؤخذ ممن هي بيده. الأراضي المفتوحة تنقسم إلى قسمين: ـ القسم الأول: ما فتحت عنوة. ـ والقسم الثاني: ما فتحت صلحاً. والمؤلف - رحمه الله - فَصَّلَ تماماً وذكر أحكام الأراضي التي فتحت عنوة ولكنه لم يتطرق للأراضي التي فتحت صلحاً وفي الحقيقة كان من الأجدر أن يتطرق لهذا النوع من الأراضي. ونبدأ بالعنوة: - يقول - رحمه الله -: وإذا غنموا أرضاً فتحوها بالسيف: خيّر الإمام بين قسمها ووقفها على المسلمين. = ذهب الحنابلة والجمهور والجم الغفير من أهل العلم إلى أن الإمام إذا فتح أرضاً عنوة فإنه مخير بين أن يقسمها بين المجاهدين أو يجعلها وقفاً على جميع المسلمين ويضرب عليها الخراج. واستدلوا على هذا التخيير وأنه من حق الإمام: - بما صح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه تارة قسم كما في خيبر وتارة لم يقسم كما في جميع الفتوحات الأخرى فإنه لم يثبت أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قسم إلا في خيبر فقط أما باقي الفتوحات فإنه لم يقسمها النبي - صلى الله عليه وسلم -. واستدلوا أيضاً: - بأن عمر - رضي الله عنه - لما فتح الشام أراد أن يقسم الأراضي بين المجاهدين فدخل عليه معاذ وهذا من فقهه - رضي الله عنه - وقال له: إن فعلت ذلك بقيت الأراضي الكثيرة تؤول إلى الشخص الواحد إذا مات أقربائه ثم لا تجد من يدفع للمجاهدين ويقوم بمؤونتهم. والرأي عندي أن تجعلها وقفاً على المسلمين.

فرأى عمر - رضي الله عنه - وجاهة هذا القول وأنه خير من أن يقسم بين المجاهدين ثم عزم على هذا الأمر فدخل عليه بلال - رضي الله عنه - وقال: يا أمير المؤمنين اقسم فإن هذه الأراضي من حق المجاهدين خذ الخمس واقسم الباقي. فتكلم معه عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - وبين له المصلحة في إبقاء الأرض وقفاً لتفتح الأراضي التي تليها ولتكون عوناً للمجاهدين فقال: يا أمير المؤمنين خذ الخمس واقسم ثم دخل هو وجماعة وقال: يا أمير المؤمنين خذ الخمس واقسم. فقال أمير المؤمنين عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -: اللهم اكفني بلالاً وذويه. قال الراوي فما حال الحول وفيهم عين تطرف. وإنما استجيب له - والله أعلم - لأن غرضه - رضي الله عنه - كان صحيحاً وكان يريد أن تبقى هذه الأراضي وقفاً ينتفع بها المجاهدون ويفتحون الأراضي التي تليها وهذا ما وقع وصار فإنها صارت عوناً وردأً للمجاهدين وصارت غلات هذه الأراضي من أعظم ما يعين على الجهاد. ففي تصرف عمر - رضي الله عنه - أولاً: هم بالقسمة ثم رجع إلى الوقف مما يدل على أن الأمرين مخير فيهما الإمام. - قال - رحمه الله -: ويضرب عليها خراجاً مستمراً، يؤخذ ممن هي بيده. إذا اختار الأمير أن لا يقسم وأن يجعلها وقفاً فإن هذه الأرض تصبح من أوقاف المسلمين وتضرب عليها الخراج ويكون الخراج بمنزلة الأجرة ويبقى الخراج يؤخذ من الأراضي ولو أسلم من هي في يده ولو انتقلت إلى مسلم فإن هذا الخراج يبقى دائماً وأبداً لأنها من الأوقاف التي يؤخذ منها الأجرة وتصرف في مصالح المسلمين. إذاً: فكرة الخراج هي أن تؤخذ على هذه الأراضي التي أقرت في أيدي أهلها وتستمر ولو كان الذي يتولى الأرض من المسلمين. فإنها بمنزلة الأجرة وليست بمنزلة الجزية كما سيأتينا. إذاً: هذا هو الخراج. وعمر بن الخطاب - رضي الله عنه - صار في الفتوح الأخيرة كلها يسلك هذا المسلك فلما فتح الشام أوقف أراضيه ولما فتح مصر أوقف أراضيه ولما فتح العراق أوقف أراضيه. فصار - رضي الله عنه - يوقف الأراضي بعد أن رأى وجاهة هذا القول وهو - رضي الله عنه - أخذ بسنة النبي - صلى الله عليه وسلم -. - قال - رحمه الله -:

والمرجع في الخراج والجزية: إلى اجتهاد الإمام. يعني: والمرجع في تقدير قيمة الخراج والجزية يرجع فيها إلى الإمام ولا يلزم أن نبقى على التقدير الذي قدره أمير المؤمنين عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -. بل للإمام أن يزيد عن تقدير أمير المؤمنين أو ينقص ولا يعتبر التقدير الذي قاله عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - وقفاً لا يجوز الزيادة ولا النقص عليه. والدليل على ذلك: - أن تقدير الجزية والخراج مما يرجع فيه للإمام لأنه يتعلق بالمصالح العامة وهي تختلف باختلاف الأماكن والأزمان فما يصلح في وقت وفي أرض فقد لا يصلح في وقت وأرض آخرين. ولذلك نقول هذا هو الصواب. وهو: أنه يرجع إلى تقدير الإمام الذي باشر القضية ولا نلتزم بتقدير عمر - رضي الله عنه -. لكن بالنسبة للأراضي التي قدر فيها عمر - رضي الله عنه - الجزية أو الخراج وكذلك بالنسبة للأراضي التي فتحها إمام من أئمة المسلمين وقدر فيها خارجاً معيناً وجزية معينةً فلا يجوز في هاتين الصورتين العدول عن تقدير الإمام لأن هذا تقديراً مؤبداً ثابتاً لا يجوز تغييره. لكن ما يفتح من الأراضي فنحن لا نلتزم بتقدير أمير المؤمنين عمر بل للإمام أن يتخير مبلغاً معيناً يرى أنه أنسب. وقبل أن ننتقل فقد نسينا القسم الثاني: ـ القسم الثاني: ما فتح صلحاً. وهو القسم الذي لم يذكره المؤلف - رحمه الله -. وما فتح صلحاً ينقسم إلى قسمين: ـ القسم الأول: أن يصالح الكفار عليه على أن يبقى في أيديهم وهو ملك للمسلمين، فهذا حكمه حكم الأراضي التي فتحت عنوة تماماً. فيكون وقفاً مستمراً كالأجرة على هذه الأرض، فإن أسلم الذين فتحت أرضهم صلحاً بقيت الأجرة. وإن انتقلت الأرض إلى مسلم بقيت الأجرة. ـ القسم الثاني: ما صولحوا عليه على أنه لهم، فهذا: - حكم الأرض: أنها ملك لأهلها تباع وتوهب وتورث. - وحكم ما يؤخذ منها: حكم الجزية. فيسقط إذا أسلم أهل الأرض أو انتقلت إلى مسلم.

إذاً: القسم الثاني: إذا صالحنا الكفار على أنه يؤخذ منهم قدراً معينا مما ينتج من الأرض والأرض ملك لهم فهذا كما قلت حكمه حكم الأملاك وهو لهم يتوارثونه ويبيعونه كيف شاؤوا وإذا أسلموا أو انتقلت إلى مسلم سقط الخراج لأن الخراج هنا بمنزلة الجزية. - ثم قال - رحمه الله -: ومن عجز عن عمارة أرضه: أُجبر على إجارتها أو رفع يده عنها. إذا لم يستطع الإنسان أن يعمر أرضه بالزراعة أو بالبناء والإيجار فإنه يجبر إجباراً على أحد أمرين: - إما أن يقوم بالواجب عليه. بأن يزرع أو يعمر. - أو يدفعها إلى غيره: ـ إما على سبيل التأجير. ـ أو على سبيل الانتقال. - أو تنزع منه الأرض. فليس هناك خيار رابع فهو مخير بين أحد هذه الثلاثة أمور: إما أن يعمر هو ويزرع أو يدفعها دفعاً مجانياً أو بأجرة إلى غيره ليعمل أو تنزع منه. فيقوم الإمام بنزع هذه الأرض وإعطائها لمن يقوم بالعمل فيها. والدليل على ذلك: - أن في هذه الأرض حقاً للمسلمين يضيع لو لم نفعل ذلك. ولا يجوز تضييع حقوق المسلمين بتركه وما يشاء بدون عمل. - ثم قال - رحمه الله -: ويجري فيها الميراث. يعني: أنها تنتقل إلى الورثة انتقال الميراث. والوارث حكمه حكم المورث فكل ما قيل في أحكام المرث تنطبق على الوارث تماماً سواء كانت أرض صلح أو أرض عنوة. - ثم قال - رحمه الله -: وما أُخذ من مال مشرك بغير قتال كجزية وخراج ... بدأ المؤلف - رحمه الله - بالكلام عن مال الفيء ولو أنه وضع فصلاً أو تنبيه لأنه بدأ بالكلام عن مال الفيء لكان أوضح في التنظيم. والفيء: هي الأموال التي تؤخذ من الكفار بغير قتال. وذكر المؤلف - رحمه الله - أمثلة هذه الأموال. - فيقول - رحمه الله -: وما أُخذ من مال مشرك بغير قتال كجزية. هذا النوع الأول من أموال الفيء وهي الجزية. والجزية هي: الأموال المضروبة على رؤوس أهل الذمة، تؤخذ من كل رأس منهم حسب ما يقدره الإمام، والنبي - صلى الله عليه وسلم - في حديث معاذ قدر جزية الكفار بدينار على كل رأس، فهذه الجزية تتعلق بالرؤوس ولا تتعلق بالأراضي. - ثم قال - رحمه الله -: وخراج. الخراج هو: ما يؤخذ من الأراضي التي أقرت في أيدي أصحابها كأجرة.

وتقدم معنا تفصيل ما يتعلق بالخراج وأنه لا يسقط بحال. - ثم قال - رحمه الله -: وعشر. العشر هو: ما يأخذه ولي الأمر من التجار من أهل الذمة أو من الحربيين الذين يجتازون حدود الدولة الإسلامية مفابل تركهم وتأمين الطريق لهم. يؤخذ منهم عشر الأموال فنحصي جميع الأموال التي مروا بها ونأخذ منهم العشر. - قال - رحمه الله -: وما تركوه فزعاً. ما تركوه فزعاً فكذلك هو من الفيء ويصرف مصارف الفيء. - لأنه أخذ بغير قتال. وظاهر عبارة المؤلف - رحمه الله - أن ما تركوه فزعاً سواء كان بخبر أو بسماع قدوم جيش أو بغير ذلك. ففي الكل يعتبر فيئاً وليس غنيمة. = والقول الثاني: أن ما تركوه فزعاً بسبب الجيش يعتبر غنيمة ولو لم يحصل قتال. فإن: - اعتبرناه فيئاً فيصرف مصارف الفيء. وإن اعتبرناه غنيمة فيصرف مصارف الغنيمة التي تقدمت معنا الآن مفصلة. - ثم قال - رحمه الله -: وخُمس خمس الغنيمة: ففيء يصرف في مصالح المسلمين.

باب عقد الذمة وأحكامها

الأخير هو: خمس خمس الغنيمة الذي هو لله ولرسوله. فهذا يصرف في مصالح المسلمين، ويجب على الإمام وجوباً إذا أراد أن يصرف هذه الأموال التي ذكرها المؤلف - رحمه الله - كالجزية والخراج والخمس وغيرها مما يدخل إلى مخزون الدولة فيجب عليه كما صرح الفقهاء أن يبدأ بالأهم فالأهم ولا يجوز أن يقدم المفضول على الفاضل بل يجب أن يبدأ بالأهم فالأهم سواء فيما يصلح الدين أو فيما يصلح الدنيا، فما يتقاضاه القضاة أهم مما يتقاضاه الكتاب فيجب أن يبدأ بالقضاة لأن موضوع القضاء فصل المنازعات بينما الكتاب يؤدون مهمة يالإمكان الاستغناء عنها، فالمهم أنه يبدأ بالأهم فالأهم، قال الفقهاء: فإن غطى جميع حاجات الدولة وبدأ بالأهم فالأهم فإن الباقي يصرف على المسلمين بالتساوي، وتقدم معنا أن لأبي بكر الصديق - رضي الله عنه - طريقة في العطايا ولعمر بن الخطاب طريقة في العطايا، فأبو بكر الصديق - رضي الله عنه - يسوي بين الناس مهما كانت سابقتهم وفضلهم في الدين والعلم لأنه يرى أن الدنيا ليست بشيء ينظر إليه فهي حقيرة ولذلك يقول هو أمر تافه لا نريد أن نفاضل بين الناس فيه، فلما جاء عمر - رضي الله عنه - لم يسو بين الناس بل عرف لكل إنسان أسبقيته وغناه وفضله وهجرته وصار يفاضل بين الناس بهذه الموازين - رضي الله عنه وأرضاه -. باب عقد الذمة وأحكامها - قال - رحمه الله -: باب عقد الذمة وأحكامها الذمة في لغة العرب: هي العهد والأمان. وفي الاصطلاح: هي إقرار بعض الكفار على دينهم بشرط دفع الجزية والدخول في حكم الملة. يعني: أن يدخلوا تحت أحكام الإسلام. وقوله: (إقرار بعض الكفار) هذا على المذهب وسيأتينا الخلاف في هذه المسألة. فالخلاصة: أن عقد الذمة في الاصطلاح هو: إقرار بعض الكفار على كفرهم بشرط دفع الجزية والدخول تحت أحكام الإسلام. وعقد الذمة: مشروع بالإجماع. فإنه لم يخالف أحد من الفقهاء في جواز عقد الذمة وهذا في الجملة وسيأتينا الخلاف في بعض الكفار. ودل على ذلك: - الكتاب. والسنة.

- فالكتاب: قوله تعالى: - (قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلَا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ) -[التوبة/29].فهذا نص: أن منتهى القتال أن يعطوا الجزية عن يد وهو صاغرون. - وأما السنة: فإنه قد تواترت الأحاديث أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان إذا أرسل أميراً على جيش أوصاه أن يخير من يقدم عليهم بين ثلاثة أمور: - الأمر الأول: أن يدخلوا في الإسلام. - والأمر الثاني: أن يبقوا على دينهم ويخضعوا للمسلمين بدفع الجزية والانقياد لأحكام الإسلام. - والأمر الثالث: القتال. ففي هذا دليل على جواز إقرار الكفار على كفرهم متى بذلوا الجزية وأقروا بأحكام الإسلام. - ثم قال - رحمه الله -: ولا يعقد: لغير المجوس وأهل الكتابين ومن تبعهم. المجوس وأهل الكتاب: هذان الصنفان هما فقط من يجوز أنه يعقد لهم الذمة، فإذا جاء ملحد فلا يجوز أن نعقد له الذمة بل نخيره إما أن يسلم أو نقاتله. الدليل على ذلك: والمؤلف - رحمه الله - بدأ بالمجوس ولو أنه بدأ بأهل الكتاب لأنهم هم الأصل والمجوس تبع لهم لكنه - رحمه الله - بدأ بالمجوس. فدليل المجوس: - حديث عبد الرحمن بن عوف في الصحيح أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أخذ الجزية من مجوس هجر وسن بهم سنة أهل الكتاب. أما الدليل على قبول الذمة وفرض الجزية على أهل الكتاب: - - فالآية: - (مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ) -[التوبة/29]. فإن الله تعالى نص على أهل الكتاب. - وقول المؤلف - رحمه الله -: ومن تبعهم. يعني: ومن دان بدينهم وأخذ بكتابهم من الطوائف الأخرى. ((الأذان)). إذاً تبين معنا أن الحنابلة يرون أنه لا تقبل الجزية ولا تعقد الذمة إلا لطائفتين فقط: 1 - المجوس. 2 - وأهل الكتاب. فقط. ومن عداهم فيجب أن يسلم أو يقاتل. = القول الثاني: أنها تقبل - أي الجزية - وتعقد - أي الذمة - لكل كافر. بلا تفريق مهما كان كفره. واستدلوا على هذا:

- بأن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما كان يبعث الأمراء وقادة الجيوش كان يأمرهم بتخيير الناس بين ثلاثة أمور ولم يفصل بين أن يكونوا من أهل الكتاب والمجوس أو من غيرهم بل خرجت الأحاديث مخرج العموم، وأما ذكر أهل الكتاب في الآية فهو خرج مخرج الغالب لأن كثيراً ممن حول المدينة وفي الجزيرة كانوا من أهل الكتاب فليس المقصود بذكرهم في الآية تخصيص الحكم بهم وحصره عليهم. - والدليل الثاني: أن المقصود من عقد الذمة وفرض الجزية عند بعض الفقهاء ترغيب هؤلاء بالإسلام وأن يروا عن قرب وكثب عدل الإسلام وخيريته وهذا المطلب ينبغي تحقيقه في أهل الكتاب وفي غيرهم من الكفار. وهذا القول الثاني هو الصواب وهو اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله -. وهو اختيار سديد ووجيه وقوي وتدل عليه عموم النصوص التي جاءت في السنة.

شرح كتاب الجهاد الدرس رقم (3) قال شيخنا حفظه الله: بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين. تقدم معنا الكلام عن أول باب عقد الذمة ووصلنا إلى: - قوله - رحمه الله -: ولا يعقدها إلاّ إمام أو نائبه. أي أن عقد الذمة لأهل الكتاب أو المجوس على المذهب أو للكفار جميعاً على القول الصواب ليست إلا للإمام فقط أو لمن أنابه الإمام ليقوم مقامه. = وهذا مذهب الجماهير وحكي إجماعاً ولم يخالف في هذه المسألة إلا الأحناف فقط أما جمهور فقهاء المسلمين فإنهم يرون أن هذا من اختصاصات الإمام. والدليل: - أن في هذا - أي في عقد الذمة - مصالح عامة للمسلمين يختص بالنظر فيها الإمام فإنه أعلم بتقدير المصلحة: هل تكون في عقد الذمة؟ أو في عدم عقده؟ مما لا يناسب أن يكون إلا من الإمام. - ثم قال - رحمه الله -: ولا جزية: على صبي. لما قرر أن الجزية واجبة كما تقدم معنا أراد أن يبين من يستنثنى من أهل الكتاب فلا يؤخذ منه جزية. - فقال - رحمه الله -: ولا جزية على صبي ولا امرأة.

أجمع أهل العلم على أنه لا جزية على الصبي ولا على المرأة ولا على المجنون، فهؤلاء لا جزية عليهم. - لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمر معاذاً - رضي الله عنه - أن يأخذ عن كل حالم ديناراً. فنص على أنه يجب أن يكون بالغاً وإلا لم يؤخذ منه. فإذاً يستثنى المرأة والصبي والمجنون بالحديث. - والدليل الثاني على استثناء هؤلاء الثلاثة: الإجماع. - ثم قال - رحمه الله -: ولا عبد. العبد ينقسم إلى قسمين: - القسم الأول: عبد كافر لمسلم. - والقسم الثاني: عبد كافر لكافر. ـ فالعبد الكافر الذي لمسلم: فقد أجمع أهل العلم أنه لا يؤخذ منه الجزية بلا إشكال وأمره واضح وحكمه ظاهر. ـ وأما العبد الكافر للكافر: = فذهب الجماهير: إلى أنه لا تؤخذ عليه جزية وإنما يكتفى بالجزية التي تؤخذ على سيده لأنه من جملة مال سيده. = والقول الثاني: أن على العبد الكافر تحت الكافر الجزية تؤخذ منه كما تؤخذ من الأحرار. واستدلوا على هذا بدليلين: - الأول: أن هذا مروي عن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -. - والثاني: أنه رجل كبير قوي مكتسب فناسب أن تؤخذ منه الجزية. ورجح ابن قدامة القول الأول وهو المذهب. وهذا القول وهو المذهب قول قوي أنه: كأن العرف والعمل على أن العبيد الذين تحت أيدي الكفار في الدولة الإسلامية كانت لا تؤخذ منهم الجزية إلا إن صح الأثر عن عمر - رضي الله عنه - ففتوى عمر تكون فاصلة في الموضوع. - ثم قال - رحمه الله -: ولا فقير يعجز عنها. إذا كان في أهل الذمة فقير يعجز عن دفع الجزية فإنها تسقط عنه. - لقوله تعالى: - (لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا) -[البقرة/286]. - ولأن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - فرض الجزية على طبقات الناس وجعل أدنى الطبقات الفقير المعتمل. يعني: العامل. فإذا كانت هذه أدنى طبقة فإذاً الفقير الذي لا يعمل لا جزية عليه وهو المقصود بمن يعجز عنها، إذاً: من عجز عنها من أهل الكتاب فإنها تسقط عنه ولا يلزم بشيء لا يستطيع أن يؤديه. - ثم قال - رحمه الله -: ومن صار أهلاً لها: أُخذت منه. من صار أهلاً: بأن بلغ الصبي وأفاق المجنون فإن الجزية تؤخذ منه.

ومقصود المؤلف - رحمه الله - بقوله: (أخذت منه) أي: بلا حاجة إلى تجديد عقد الذمة. والدليل على هذا: - أنه تواتر عن الخلفاء بداية من أمير المؤمنين عمر ومن تبعه من الخلفاء الراشدين وخلفاء المسلمين أنهم لم يكونوا يجددون العقد لمن يبلغ من أهل الكتاب ولا لمن يفيق من المجانين ولو كانوا يجددون العقد لنقل هذا نقلاً متواتراً لكثرة من يبلغ من الكفار وهذا أمر معلوم أنه في كل فترة يبلغ مجموعة من صبيان الكفار ولم ينقل عن أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه لابد من تجديد العقد لهم. - ثم قال - رحمه الله -: في آخر الحول. يعني: أنه إذا بلغ فإنا لا ننتظر به حولاً جديداً من حين بلغ بل تؤخذ منه على رأس الحول ولكن تؤخذ منه بالحساب. ـ فإن بلغ في نصف السنة أخذت منه نصف الجزية. ـ وإن بلغ بعد مضي ربع السنة أخذت منه ثلاثة أرباع الجزية. وهكذا .. والدليل على أنا لا ننتظر به حولاً: - أنا لو انتظرنا في صبي وفي كل بالغ حولاً لأصبح أهل الكتاب لكل واحد منهم حول مستقل. وفي حساب حول كل واحد من أهل الكتاب ما فيه من المشقة والعنت على ولي الأمر وعلى من يقوم بأخذ الجزية على رؤس الكفار. فلاشك أنه يجب وجوباً ولو لم يحل عليه الحول أن تؤخذ منه الجزية على رأس الحول لكن بالحساب فلا يُظلَم ولا يَظلِم.: - لا يُظْلَم بأن يؤخذ أكثر منه. - ولا يَظلِم بأن يوجب الانتظار لمدة سنة كاملة لأن هذا يجعل لكل شخص حولاً مستقلاً وتتفاوت أحوالهم. - ثم قال - رحمه الله -: ومتى بذلوا الواجب عليهم: وجب قبوله وحرم قتالهم. إذا بذلوا الواجب المطلوب منهم فإنه يجب أن نقبل منهم ويجب أن نكف عن قتالهم. - لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال لبريدة لما أرسله: (فإن هم أطاعوك فاقبل منهم - يعني: الجزية - وكف عنهم - يعني عن قتالهم -).

فهذا النص صريح بأن الكفار إذا أجابوا لإحدى الخصال فإنه يجب على أمير الجيش وجوباً أن يقبل منهم هذه الخصلة وأن يكف عن قتالهم ويأخذ منهم الجزية، وكما يترتب على قبول الكفار لخصلة الجزية أنه تؤخذ منهم ويكف عن قتالهم أيضاً يجب تبعاً لذلك أن يدافع عنهم، فإنهم أصبحوا تحت حماية المسلمين بدفعهم الجزية فلا يقاتلون ولا يسلمون للأعداء لأنهم دفعوا الجزية وصاروا تحت ظل وحكم المسلمين فوجب عليهم أن يدافعوا عنهم. - ثم قال - رحمه الله -: ويمتهنون عند أخذها، ويطال وقوفهم، وتجر أيديهم. يجب: = عند الحنابلة أن يتقصد آخذ الجزية إهانة الكافر. - لقوله تعالى: - (يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ) -[التوبة/29]. والصغار يدل على تقصد إهانتهم فمن ذلك: ـ أنه يجب أن يأتي بنفسه بالجزية فإن أرسل بها موليه أو رسولاً من الأحرار فإنها ترد ويقال له يجب أن تسلم الجزية بنفسك. ـ ومنها أنه يجب أن يطول انتظاره لكي يسلموا الجزية. ـ ومنها: أنه يجب أن يطول انتظارهم أثناء تسليم الجزية، فيقف الإنسان وقوفاً طويلاً ينتظر أن يسلم الجزية وإذا دخل وأراد أن يسلم الجزية أيضاً ترك فترة طويلة وإذا مد يده بالجزية ترك فترة طويلة ثم بعد هذه السلسلة من الإهانات تؤخذ منه مع جذب يده، فكل ذلك: تحقيقاً للصغار المذكور في الآية، وإلى هذا ذهب الحنابلة كما ترون وهو مذهب الإمام أحمد - رحمه الله -. = والقول الثاني: أن هذه الممارسات لا تدل عليها الآية ولا يدل عليها عمل الصحابة بل الواجب أن تؤخذ منهم أخذاً هيناً طبيعياً بلا إكرام ولا إهانة. والدليل على هذا: - أن أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - وأمراء الأجناد ومن يوليهم الخلفاء على البلدان التي فيها أهل الذمة كانوا يأخذون الجزية من أهل الكتاب بطريقة سليمة وبطريقة طبيعية ولم ينقل عنهم أنهم كانوا يمارسون هذه الممارسات لإذلال الكفار، وإن كان إذلال الكفار مقصد شرعي بلا شك لكن أخذ الجزية منهم بهذه الطريقة وهذا التفصيل يحتاج إلى دليل. وأما الآية: فالجواب عنها: أن الصغار المقصود بالآية يتحقق بأمرين: - الأمر الأول: أن يدفعوا الجزية: فدفعهم الجزية بحد ذاته صغار.

- والأمر الثاني: أن يدخلوا تحت أحكام الملة. فدخولهم تحت أحكام ملة غير ملتهم هو بحد ذاته صغار. والمنصف إذا تأمل القولين وجد أن القول الثاني ينسجم مع آثار الصحابة ولو كانت هذه التفصيلات التي ذكرها الفقهاء تفعل في القرن الأول والثاني والثالث لنقلت إلينا لأنه شيء غريب يستحق النقل. ولذلك الراجح القول الثاني وهو اختيار الحافظ ابن القيم - رحمه الله. (فصل) - قال - رحمه الله -: (فصل) ويلزم الإمام: أخذهم بحكم الإسلام. تقدم معنا أنه يحرم عقد الذمة إلا بشرطين: ـ الأول: بذل الجزية. ـ والثاني: الدخول تحت أحكام الإسلام. فهذا معنى قول المؤلف - رحمه الله - هنا (فصل يلزم الإمام أخذهم بحكم الإسلام). والمراد بالحكم هنا: أن يلزموا بأحكام العقود والجنايات والإتلافات والحدود فيما يحرم عليهم كما سيأتينا إذاً يلزمون بأحكام الإسلام ويلزمون أيضاً بدفع الجزية. ولما ذكر المؤلف - رحمه الله - هذه القاعدة العامة وهي: إلزام أهل الكتاب بدفع الجزية ذكر التفصيل: - فقال - رحمه الله -: ويلزم الإمام: أخذهم بحكم الإسلام في النفس والمال والعرض. يلزم أن نأخذهم بحكم الإسلام بهذه الأمور: - النفس. - والمال. - والعرض. بدليل: - أن يهودياً قتل جارية على أوضاح لها فقتله النبي - صلى الله عليه وسلم -. فقد أقام عليه الحد وأخذه بحكم الإسلام - صلى الله عليه وسلم -. - والدليل الثاني: أن رجلاً وامرأة من أهل الكتاب زنيا فأقام النبي - صلى الله عليه وسلم - عليهما الحد. وهذه الأحاديث في الصحيح فلا إشكال في ثبوتها، ففي هذه الأحاديث دليل على أن أحكام الإسلام تجري عليهم لكن بالقيد الذي سيذكره المؤلف - رحمه الله - لاحقاً وهو أنه يكون من الأعمال التي يرون هم تحريمها في ملتهم. - يقول - رحمه الله -: وإقامة الحدود عليهم: فيما يعتقدون تحريمه. ما يعتقدون تحريمه يجب أن نقيم عليهم فيه الحد مثل: - الزنا. فهو محرم في كل ملة. - والقتل: وهو كذلك. - والقذف: وهو كذلك. فهذه الأشياء التي هي محرمة في دين أهل الكتاب نأخذهم بها. والدليل على أنه يجب أن نأخذهم بها: - أنهم يقرون بتحريمها. وقد التزموا حكم الإسلام.

فنتج عن هاتين المقدمتين وجوب إقامة الحد عليهم. * * مسألة / يؤاخذون وتقام عليهم الحدود فيما يرون تحريمه ولو لم يترتب عليه حد في دينهم وإنما يكتفى بأنه محرم في دينهم ولا يشترط أن يضاف مع ذلك أن يرتب عليه حد في دينهم. فقط إذا كان محرماً فإنه تقام عليهم الحدود. - ثم قال - رحمه الله -: دون ما يعتقدون حلّه. الأعمال التي يعتقدون أنها حلال لا تقام عليهم فيها الحدود. مثال ذلك: ـ شرب الخمر. فهو ليس بمحرم عندهم. ـ وأكل الخنزير. فهو ليس بمحرم عندهم. ـ ونكاح المحارم عند المجوس. لأنه ليس بمحرم في دينهم. فهذه الأعمال التي يرون هم أنها مباحة لا تقام عليهم فيها الحدود ولو كانت محرمة في شرعنا. والدليل على هذا: - أن أهل الكتاب يقرون على كفرهم وهو أعظم من هذه الأعمال فإذا أقروا على الكفر فهو أعظم معصية فمن باب أولى أن يقرون على الأعمال التي هم يرون أنها مباحة ونحن نرى أنها محرمة، لكن اشترط الفقهاء لذلك: أن لا يظهروا هذه الأعمال. فإن أظهروها كما سيأتينا: انتقض عهدهم، فيجب أن يسروا ويكتموا شرب الخمور وأكل الخنازير ونكاح المحارم فإن أظهروه عاقبناهم بنقض العهد. - ثم قال - رحمه الله -: ويُلزمهم التّميز عن المسلمين. يجب وجوباً على الإمام أن يلزم اهل الذمة بالتميز عن المسلمين. والتميز يحصل بأربعة أمور: - الأمر الأول: وهو الأهم بلباسهم. فيجب أن يلزموا بلباس يخالف لباس المسلمين لا سيما من حيث اللون بحيث إذا رآهم الإنسان عرف أنهم من أهل الذمة. - والأمر الثاني: بشعورهم. فيجب أن يمنعوا من الفرق لأنه سنة المسلمين وأن تجز نواصيهم ليعرف أنهم من أهل الذمة. - والأمر الثالث: بركوبهم. والركوب فَصَّلَ فيه المؤلف - رحمه الله - لأنه من أشهر العلامات التي يعرف فيها أنه من أهل الذمة. - والأمر الرابع: بكناهم. فإنه لا يجوز أن يمكنوا من التكني بكنى المسلمين فلا يسمى أحدهم أبو عبد الله ولا أبو عبد الرحمن ولا أبو محمد ولا غيرها مما يختص به المسلمون. ولا بالألقاب العلمية التي اختص بها المسلمون مثل: نور الدين. وتقي الدين .... وإلى آخره. إذا قيل: أن التسمي بهذه الألقاب جائز.

* * مسألة / ويجوز أن يتكنوا بغير هذه الأشياء مما لا يختص بالمسلمين. فإن الإمام أحمد - رحمه الله - رأى طبيباً نصرانياً وقال: يا أبا إسحاق. فهذه الكنية لا تتعلق بالمسلمين وإطلاق الإمام أحمد - رحمه الله - بهذه الكنية يدل على أنه - رحمه الله - لا يرى المنع المطلق من التكني لكنه يرى المنع من التكني الخاص بالمسلمين، ومن جمع من الحنابلة بين روايات الإمام أحمد - رحمه الله - بهذا الجمع بأن النفي المطلق والجواز المطلق يجمع على هذا الجمع فقد أصاب وعلى هذا تحمل الروايات المختلفة عن الإمام أحمد. ثم انتقل - رحمه الله - إلى مسألة الركوب: - فقال - رحمه الله -: ولهم ركوب غير خيل بغير سُرُج بإكاف. بالنسبة للركوب: فيجب أن يتميزوا بعدة أمور: ـ الأمر الأول: لا يجوز أن يركبوا الخيل والفرس مطلقاً لأن في ركوب الفرس عزة ومنعة وعلو. ـ والأمر الثاني: يجوز أن يركبوا البغال والحمير والإبل بشرط أن يستخدموا السرج. لأن السرج فيه أيضاً عزة ومكانة ورفعة. ـ والأمر الثالث: أن يركبوا على جهة بأن يسدل أحدهم رجليه من جهة ويعطي ظهره للجهة الأخرى ولا يركب معتدلاً. فكل ذلك ليتميز أهل الكتاب من الذميين عن المسلمين ولتحقيق الانفصال التام الجسدي والحسي الذي يتبعه الانفصال التام المعنوي وما يتعلق بالتشبه. وقوله - رحمه الله -: (بإكاف) الإكاف هو: البرذعة وهي قماش أو قطن يلقى فوق ظهر المركوب إياً كان ويركب، فكل ما ليس بسرج فهو إكاف. الدليل على هذه الأمور الأربع: - الآثار الصحيحة المروية عن أمير المؤمنين عمر - رضي الله عنه - حينما اشترط على أهل الذمة مجموعة من الشروط منها: المخالفة في هذه الأشياء الأربع. - ثم قال - رحمه الله -: ولا يجوز: تصديرهم في المجالس. لا يجوز أن يجلس الذمي في صدر المجلس. لدليلين: - الدليل الأول: أن من شرط أمير المؤمنين عمر - رضي الله عنه - عليهم: أن إذا قدم المسلم قاموا له من مكانهم، فإذا كان يلزمهم القيام من المكان لحضور المسلم فكيف يمكنون من الجلوس في صدر المجلس. - والدليل الثاني: أن في جلوسهم في صدر المجالس عزة لهم وتعظيماً وهو خلاف مقصود الشارع في الكافر مطلقاً وفي الذمي خصوصاً.

فإذاً لا يجوز أن نمكنهم من الجلوس في صدر المجالس. - ثم قال - رحمه الله -: ولا القيام لهم. لا يجوز أن نقوم لهم لما تقدم. فإن الأدلة الدالة على عدم تصديرهم في المجالس دالة كذلك على أنه لا يجوز أن نقوم لهم. ولا يخفى على أي طالب علم أن هذه الأشياء المذكورة في الكتاب إنما نص عليها المؤلف - رحمه الله - لأمرين: ـ أولاً: أن كثيراً منها جاءت في شروط عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -. ـ وثانياً: أنها كثيرة الوقوع. وإلا فإنه لا يقتصر في إذلال الذمي على هذه الأمثلة بل يشمل كل ما يمنع مما فيه إعزاز للذمي أو تصديراً له أو رفعاً من شأنه. فهذه هي القاعدة العامة وإنما ما ذكره المؤلف - رحمه الله - إنما هو أمثلة اختارها لكثرة وقوعها ولأنها جاءت في شروط أمير المؤمنين عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -. - قال - رحمه الله - ولا بداءتهم بالسلام. لا يجوز أن نبدأ أهل الكتاب بالسلام. - لقول النبي - صلى الله عليه وسلم - في الحديث الصحيح: (لا تبدؤوهم بالسلام). فهذا نص: (وإذا رأيتموهم في طريق فاجعلوهم في أضيقه). وهذا نص صريح بأنه لا يجوز أن نبدأهم بالسلام. * * مسألة / أما قول: كيف حالك. وصباح الخير. ومساء الخير. فالأقرب: الجواز. حيث لا يوجد دليل على المنع وليس في هذه التحايا شيء من التعظيم وليست في معنى السلام فإن السلام دعاء. فالأقرب الجواز إلا: إذا علم من حال الذمي أنه إن خوطب بمثل هذه تكبر ورأى أنه اعتز فحينئذ يجب أن لا تلقى عليه لا هذه التحية ولا غيرها من التحايا. * * مسألة / رد السلام يجوز. لكن يجب أن يكون بقول الراد: (وعليكم) لقول النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا سلم عليكم أهل الكتاب فقولوا: (وعليكم)، وهذا الحديث عام يشمل جميع الصور. فأي ذمي يسلم فإنا نقول له: (وعليكم). = والقول الثاني: في المسألة: أنا إذا علمنا على وجه القطع واليقين أنه قال: (السلام عليكم) صريحة ولم يقل: (السام عليكم) أو لفظة أخرى فيها سب أو دعاء. يعني: إذا علمنا أنه سلم سلاماً صحيحاً فإنه يجوز أن نرد التحية بمثلها. - لعموم الآية: - (وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا) -[النساء/86].

- ولأن الحديث إنما ورد على سبب وهو قول اليهود: (السام عليكم). وإلى هذا القول ذهب ابن القيم وانتصر له وهو أنه لا يجب دائماً أن نقول: (وعليكم) بل يجوز أن نقول: (وعليكم السلام) إذا علمنا أنهم سلموا سلاماً خالياً من الإساءة. أي القولين أرجح؟ الذي يظهر لي بعد التأمل - والمسألة تحتمل - يظهر لي أن المذهب أصح. لأنه وإن كان فتوى النبي - صلى الله عليه وسلم - خرجت مخرجاً مترتباً على علة وهي قول اليهودي إلا أن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب وكم من فتوى من النبي - صلى الله عليه وسلم - خرجت بسبب وتعاملنا معها تعاملاً عاماً، مع ذلك ما ذكره ابن القيم وجيه وخلاف قوي فمن أخذ بهذا أو بهذا فهو في سعة وأنا أرى أنه ما يزيد على قوله: (وعليكم) كما أن في هذا مصلحة وهي: تربية الإنسان على معاملة غير المسلم بما يستحق وفيه تربية على مسألة الوقوف مع النص. - ثم قال - رحمه الله -: ويمنعون: من إحداث كنائس وبيع. لا يجوز تمكين أهل الذمة من بناء الكنائس، وعلى القول بأن عقد الذمة يجوز لكل الكفار فلا يجوز لأي كافر أن يمكن من إقامة بيت للعبادة. والدليل: من ثلاثة أوجه: - الأول: الإجماع. فهذا محل إجماع: أنهم لا يمكنون من إقامة كنائس مهما كان السبب. - الثاني: أن أمير المؤمنين عمر - رضي الله عنه - شرط عليهم أن لا يحدثوا كنيسة. - الثالث: أن في تمكينهم من بناء الكنائس إظهار لشعائر الكفر بعد أن لم تكن وليست داخلة في العقد - يعني: في عقد الذمة. وهذه الثلاث أدلة: الإجماع وغيره من أقوى الأدلة على منع مسألة إقامة إحداث كنيسة جديدة. نأتي إلى المسألة الثانية: وهي إذا كانت الكنيسة موجودة ثم انهدمت: - قال - رحمه الله -: وبناء ما انهدم منها ولو ظلماً. ويمنعون من بناء ما انهدم منها ولو كان انهدامه على سبيل الظلم. ولذلك نقول: انهدام الكنائس ينقسم إلى قسمين: ـ القسم الأول: أن ينهدم بنفسه. فإذا انهدمت الكنيسة بنفسها فإنه لا يجوز إعادة إعمارها. بدليل: - أن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - شرط عليهم أن يجددوا ما خرب من كنائسهم. ـ والقسم الثاني: ما انهدم ظلماً بأن اعتدي على الكنيسة وهدمت: = فالمذهب: كذلك لا تجدد.

- لأن الأرض للمسلمين ولا يقام عليها دور عبادة للكافرين. = والقول الثاني: أنها إن انهدمت ظلماً جاز بنائها. - لأن الشرع جاء بنفي الظلم عامة: الواقع على المسلم وعلى المعاهد. وهذا القول اختاره ابن مفلح - رحمه الله -. وهو القول الصحيح فإذا اعتدي على كنائسهم فإن من تمام العقد والأمان الذي أعطوا أن تجدد ما دام اعتدي عليها ظلماً. * * مسألة / انهدام بعض الكنيسة كانهدام الكنيسة: فالكلام في انهدام بعض الكنيسة كالكلام في انهدام الكنيسة. فإذا سقط نصف الكنيسة: = فعند الحنابلة: لا يجوز الإعمار. بل يبقون في النصف الذي لم يسقط سواء كان سقوطه ظلماً أو كان سقوطه بنفسه. وما ذكر من خلاف وترجيح هو نفسه في انهدام بعض الكنيسة. - ثم قال - رحمه الله -: ومن تعلية بنيان على مسلم. يمنع أهل الذمة أن يبنوا بنياناً عالياً عن الجار ولو كان الجار ليس من الملاصقين ما دام جاراً فإن الذمي لا يمكن من رفع البنيان فوق مستوى بنيان المسلم. والدليل من وجهين: - الوجه الأول: أن عمر شرط عليهم أن لا يطلعوا على بيوت المسلمين وفي تعلية البنيان تمكين لهم من مخالفة هذا الشرط. - والوجه الثاني: أن في إعلاء البنيان على بنيان المسلم إعزاز للكافر وهو خلاف مقصد الشارع. فإن بنا بناء عالياً على بناء المسلم فيجب وجوباً أن ينقض الزائد. * * مسألة/ فإن لم يبن الذمي بيتاً أعلى من بيت المسلم ولكن اشتراه ففي هذه المسألة خلاف: = فمن الفقهاء من يقول: أنه إذا اشترى ولم يعمره هو فإنه يمكن البقاء. - لأن العلو لم يكن بصنعه ولا بيده. = ومن الفقهاء من قال: بل إذا اشترى بيتاً يعلو بيت المسلم فإنه ينقض الزائد كذلك. واستدلوا على ذلك: - بأن العلل الموجودة في البنيان العالي الذي تولى هو بنايته موجودة في البنيان الذي اشتراه تماماً وإذا وجدت العلة فيجب أن يوجد الحكم. وهذا القول الثاني هو الأقرب. - ثم قال - رحمه الله -: لا مساواته له. أي: فيجوز. فإنه بنا بنياناً مساوياً لبنيان المسلم فإنه يجوز ولا يجب عليه أن ينقض من بنيانه ما ينزل به عن مستوى المسلم. = والقول الثاني: أنهم لا يمكنون من مساواة بنيان المسلم.

- لأنه إذا كان عمر - رضي الله عنه - أمر بعدم التساوي في المركوب والملبوس والشعور والكنى فمن باب أولى في البنيان فلا يمكنون من المساواة بينهم وبين بنيان المسلمين. والذي يبدو لي أنه لا حرج وأنه لا يلزم بالهدم وأنه لا بأس بالمساواة لأن المساواة في البنيان ليست كالمساواة في ما عداها من الملبوس والمركوب وغيره بل بينهما فرق ظاهر. - ثم قال - رحمه الله -: ومن إظهار خمر وخنزير وناقوس، وجهر بكتابهم. لا يمكن الذمي من إظهار شعائره في المطعم والملبس والعبادة. بل يجب أن يكتم هذه الأمور وأن يسر بها. والدليل على ذلك: - أن في تمكينهم من هذا الأمر إيذاء للمسلمين. لأنهم إذا أخذوا يشربون الخمور في الشوارع ويأكلون في نهار رمضان يطبخون الخنازير ويدقون الننواقيس صار هذا من أعظم الإيذاء للمسلم والمؤمن الذي يغيضه معصية الله. - والدليل الثاني: أن منعهم من إظهار الشعائر محل إجماع. فلا يجوز أبداً أن يمكنوا من إظهار الشعائر. - ثم قال - رحمه الله -: وإن تهود نصراني أو عكسه: لم يقر. ولم يقبل منه إلاّ الإسلام أو دينه. إذا تهود النصراني أو تنصر اليهودي: فعن الإمام حمد - رحمه الله - ثلاث روايات: = الرواية الأولى: أنه إذا تنصر اليهودي أو تهود النصراني فإنه لا يقر ولا يقبل منه إلا الإسلام أو القتل. - لأنه مقر بفساد الدين الآخر فلا يقر على دين فاسد. = الرواية الثانية عن الإمام أحمد - رحمه الله - وهي المذهب: أنه يقال له: إما أن ترجع إلى دينك أو تسلم ولا يقر على الملة التي انتقل إليها. إذاً تتفق الرواية الثانية مع الرواية الأولى في عدم إقراره على الملة التي انتقل إليها لكن تختلف الروايتين بالخيار الآخر. = الرواية الثالثة: أنه يقر. - لأن انتقال اليهودي إلى النصرانية أو العكس لم يخرج به عن أن يكون من أهل الكتاب فإنه ما زال من أهل الكتاب فانتقاله داخل أديان أهل الكتاب لا محذور فيه. * * مسألة / نحن ذكرنا أنه لا يقر في الرواية الأولى وفي الراية الثانية. فما هي صيغة عدم الإقرار؟ أسلوب عدم الإقرار؟ فيه خلاف: = القول الأول: أن عدم الإقرار يكون بتخييره بين القتل أو الإسلام مثلاً على الرواية الأولى.

- لقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: (من بدل دينه فاقتلوه). = القول الثاني: أن صيغة عدم الإقرا تكون بالحبس والجلد والتعزير والتعذيب إلى أن يرجع إلى دينه - أو يسلم على المذهب أو إلى أن يسلم على الرواية الأولى. (فصل) - ثم قال - رحمه الله -: فإن أبى الذمي: بذل الجزية، أو إلتزام حكم الإسلام .. انتقض عهده. هذا الفصل خصصه المؤلف - رحمه الله - للأشياء التي تنتقض بها عهود أهل الذمة وعقودهم، فإذا رفض بذل الجزية أو الإلتزام بأحكام الإسلام فإن عهده ينتقض، وإنما بدأ المؤلف - رحمه الله - ببذل الجزية والالتزام بأحكام الإسلام لأنها أبرز شعائر إلزام أهل الذمة. والدليل على ذلك: - قوله تعالى: - (حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ) -[التوبة/29]. وتقدم معنا: أن التفسير الصحيح لقوله: (وهم صاغرون) هو أن يبذلوا الجزية وأن يلتزموا بأحكام الإسلام. فإذا رفضوا فإن العهد انتقض وسيأتينا ماذا يترتب على انتقاض العهد. ـ الثالث مما ينتقض به عهدهم: - قوله - رحمه الله -: أو تعدى على مسلم بقتل أو زنا. ـ إذا تعدى على مسلم بقتل أو على مسلمة بزنا فإن عهده ينتقض. والدليل على هذا: - أن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - شرط عليهم في كتابه أن يضربوا مسلماً عمداً. فإذا كان الشرط بيننا وبينهم أن لا يضربوا مسلماً عمداً فكيف بالقتل العمد العدوان. ولذلك نحن نقول: مقصود المؤلف - رحمه الله - بالقتل هنا الذي ينتقض به العهد هو ما يكون عمداً. ـ وأما الزنا: فكذلك تنتقض به عهودهم وعقودهم. - لأن ذمياً سعى في أمر امرأة ليزني بها ورفع أمره إلى عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - فقال: ما على هذا عاهدناكم اصلبوه. فصلب في بيت المقدس. فهذا دليل على أنه إذا حاول الزنا بالمسلمة - وإذا قيل الزنا هنا - يعني بالمسلمة - فإن عهده ينتقض، وعمر - رضي الله عنه - في ذلك الذمي اختار القتل ولذلك صلبه لأن هذا الذمي حاول عبثاً أن يهتك عرض مسلمة فكأنه عامله معاملة المحارب أو معاملة قطاع الطرق المهم أنه صلبه تعزيراً - رضي الله عنه -، الذي يعنينا من الصلب: القتل. فلو قتله فقط لتبين بذلك أن عهده انتقض. - ثم قال - رحمه الله -:

أو قطع طريق، أو تجسيس أو إيواء جاسوس. إذا فعل أيا من هذه الثلاث فإن عهده ينتقض لأن في هذا العمل ما فيه من الإيذاء والإغراء بالمسلمين، وإذا أوقع الضرر والإيذاء بالمسلمين انتقض عهده وهذا أمر ظاهر. - قال - رحمه الله - أو ذكر اللَّه أو رسوله أو كتابه بسوء .. أي: ينتقض عهده. وهو أعظم أنواع الانتقاض وقد يكون أعظم من الامتناع عن بذل الجزية والدخول تحت أحكام المسلمين. والدليل على انتقاض العهد بذلك: - أن يهودية كانت تقع بالنبي - صلى الله عليه وسلم - وتسبه - صلى الله عليه وسلم - فقام إليها رجل وقتلها فلما رفع إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - أهدر دمها. فدل ذلك على أن العهد انتقض في خصوص هذه المرأة بسبب أنها سبت النبي - صلى الله عليه وسلم -. قال شيخ الإسلام: ومن سب النبي - صلى الله عليه وسلم - فإنه يقتل ولو أسلم. فإذا بادر الذمي وأسلم بعد أن سب النبي - صلى الله عليه وسلم - نقبل منه الإسلام ونعامله معاملة المسلم ولكن مع ذلك: يقتل. - ثم قال - رحمه الله -: ذاكراً الحكم العام: انتقض عهده. وتقدم معنا انتقاض العهد في كل واحد من هذه الخمس التي ينتقض بها عهد الذمي. - ثم قال - رحمه الله -: دون نسائه وأولاده. الإسلام دين عدل. فإذا أتى يهودي أو نصراني بناقض من نواقض العهد فإن الانتقاض يختص به دون نسائه وأبنائه وعبيده .. إلى آخرهم. ودليل ذلك: - أن النقض وجد منه فاختص الحكم به. وأما عهود الباقين فهي على وجهها ولا يجوز لنا أن نمسهم بسوء وإنما هذا الذي انتقض عهده بأي ناقض من النواقض السابقة فإنه يعامل معاملة من انتقض عهده دون بقية أهله. - - ثم قال - رحمه الله -: وحلّ دمه وماله. إذا انتقض عهد الذمي فولي الأمر مخير فيه كما هو مخير بالأسير: - إن شاء قتل. - وإن شاء مَنَّ. - وإن شاء فداه. وهذا القول: وهو أن الذمي الذي انتقض عهده يعامل معاملة الأسير ويرجع إلى رأي الإمام هو أعدل الأقوال. وعليه تدل تصرفات عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -. وبهذا تم كتاب الجهاد ولله الحمد ونبدأ إن شاء الله تعالى بكتاب البيوع.

من الأسئلة: * أخونا يسأل عن مسألة نسيت أن أنبه عليها وتلحق بالشرح فإنه لابد منها: وهي: أن قول المؤلف - رحمه الله -: (لا يجوز بناء كنيسة) يفهم من عبارة المؤلف - رحمه الله - أن الكنائش التي وجدت وقام العهد والعقد وهي موجودة فإنه يجب أن تبقى ولا يجوز لولي الأمر أن يهدمها وهذا هو الصحيح: أن ما وجد سابقاً من حين العقد فإنه يجب أن يبقى. والدليل على هذا: - أن أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - الذين عاهدوا وعاقدوا أهل الذمة لم يهدموا أي كنيسة دخلوا البلاد وهي فيها. وإنما لا يجددون ما انهدم منها أما الموجود من حين فتح المسلمين للبلاد فإنه يبقى كما هي سيرة الصحابة - رضي الله عنهم - فهذا يلحق عند قول المؤلف - رحمه الله -: (وبناء ما انهدم منها).

كتاب البيع

شرح كتاب البيع الدرس رقم (1) قال شيخنا حفظه الله: بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين. - قال المؤلف - رحمه الله -: - كتاب البيع. = جرى جمهور الفقهاء: على تقسيم الكتب إلى أربعة أو خمسة أقسام فيذكرون في: الأول: كتب العبادات. ثم البيوع وما يتعلق بها. ثم النكاح وما يتعلق به. ثم الجنايات وما يتعلق بها. ثم القضاء وما يتعلق به. وإنما قدموا البيوع على النكاح لأمرين: - الأول: كثرة تعامل الناس بالبيوع بالنسبة للنكاح. - الثاني: شدة الحاجة لمعرفة أحكام البيوع بالنسبة للنكاح. فإن البيع يقع من غالب الناس والنكاح يقع في الناس أقل منه في البيوع. = وذهب الأحناف إلى: أن النكاح ينبغي أن يقدم على البيوع فيذكر بعد الحج مباشرة هو وتوابعه ثم يذكر بعد ذلك كتاب البيوع. واستدلوا على هذا الترتيب: - بأن كلاً من الحج والنكاح يشترك في خصائص واحدة وهي أنها عبادة لابد فيها من البدل والمال وهذا التشابه يقتضي أن نجعل النكاح بعد الحج. - وأيضاً أن النكاح من الفقهاء من قال: هو سنة. ومنهم من قال: هو واجب بينما لم يوجب أحد من أهل العلم البيع. بناء على هذا قالوا: يجب أن يكون النكاح بعد الحج وقبل البيع. ولا يخفى على طالب العلم أن هذا الترتيب أمر اصطلاحي وأنه فيه سعة: فمن رأى تقديم بعض الأبواب على بعض فهو جيد ولكن لو أن الأحناف وافقوا الجمهور لكان أسهل من حيث أن الفقهاء الأربعة يكون ترتيب الفقه عندهم على نسق واحد. - قال - رحمه الله -: - كتاب البيع. البيع: مشروع بالكتاب والسنة والإجماع. ـ فأما الكتاب: فقوله تعالى - ( ... وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا ... ) -[البقرة/275] وهو نص في المسألة. ـ وأما السنة: فجملة عظيمة كثيرة من النصوص المروية بالأسانيد الثابتة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في جواز البيع: - منها: قوله - صلى الله عليه وسلم - في الصحيحين: (البيعان بالخيار ما لم يتفرقا).

ـ وأما الإجماع: فقد حكاه أكثر من واحد من أهل العلم. على أن البيع جائز ولم يخالف فيه أحد. - قال - رحمه الله -: - وهو: مبادلة. البيع لم يتعرض المؤلف - رحمه الله - لتعريفه في اللغة. والبيع في اللغة: هو أخذ شيء وإعطاء شيء. وقيل - وهو أجود -: أن البيع لغة هو مطلق المبادلة. والبيع: مشتق في اللغة من المبايعة. وهي: المطاوعة. وقيل: مشتق من الباع لأن كلاً من البائع والمشتري يمد باعه للآخر لتسليم السلعة وأخذ الثمن. ولعل المعنى الأول أقرب. والاعتراض عليه أقل. والبيع من الأضداد الذي يطلق على كل من المتعاقدين إلا أنه عند الاطلاق في العرف واللغة ينصرف إلى باذل السلعة لا إلى باذل الثمن. والمؤلف - رحمه الله - ذكر تعريف البيع في الاصطلاح: - فقال - رحمه الله -: - وهومبادلة .... إلى آخره .. لم يتابع المؤلف - رحمه الله - الأصل فهذا مختصر عن المقنع لكنه لم يتابع الأصل في التعريف: لأن تعريف الأصل عليه مؤاخذات كثيرة فعدل المؤلف - رحمه الله - عنه واختار تعريفاً ذكره المرداوي - رحمه الله - ورأى المرداوي أن هذا التعريف أسلم التعاريف ويكاد يخلو من الانتقاد والاعتراض فذكره. وقد أجاد - رحمه الله - بأنه ذكر تعريفا سليماً من الاعتراضات. - قال - رحمه الله -: - وهو مبادلة. المبادلة هي: دفع شيء وأخذ آخر عوضاً له. فكل جملة من التعريف مقصود: فلابد أن يكون فيه دفع. ولا بد أن يكون فيه أخذ. ولابد أن يكون الأخذ مبني على أنه عوض عما دفع فإن لم يكن عوضاً وإنما إعطاء جديد فليس بمبادلة. وهذا كله تعريف للمبادلة في اللغة. ولعلك تلمس أن تعريف المبادلة في اللغة قريب من تعريف البيع لأن البيع أيضاً مبادلة ففي الحقيقة بين البيع والمبادلة في لغة العرب تقارب عظيم جداً. ولذلك عرفوه به. يعني: عرفوا البيع بالمبادلة. - قال - رحمه الله -: - وهو مبادلة مال ولو في الذمة. المال في الشرع لا يطلق إلا على كل عين مباحة النفع لا لحاجة. وكل عين لا ينطبق عليها هذا التعريف فليست مالاً في الشرع ولو اعتبرها الناس من الأموال. فيشترط في المال: أن يتضمن نفعاً فإن لم يكن فيه نفع فليس بمال شرعاً.

ويشترط في النفع: أن يكون مباحاً. فإن كان محرماً فليس بمال شرعاً. ويشترط في هذه المنفعة المباحة: أن تكون مباحة إباحة مطلقة لا لحاجة ولا لضرورة. فمثال المباح للحاجة: الكلب. فإنه مباخ النفع لكن للحاجة. يعني: يشترط لجوازه وجود الحاجة: ككلب الماشية والرعي ... إلى آخره. ومثال العين المباحة النفع للضرورة: الميتة. فإن الميتة في حال الضرورة مباحة. لكنها مباحة بهذا القيد وهو الضرورة. وسيخصص المؤلف - رحمه الله - شرطاً كاملاً من شروط البيع في تحديد ماهية العين التي يجوز أن تباع وتشترى ويعتبر من أهم شروط البيع - كما سيأتينا. - قوله - رحمه الله -: - وهو مبادلة مال ولو في الذمة. يعني: ولو كان المبيع موصوفاً في الذمة. فلا يشترط في المبيع أن يكون من الأعيان بل يجوز أن يكون موصوفاً في الذمة. والعين الموصوفة في الذمة غالباً ما يسميه الفقهاء: الدين - كما سيأتينا. فإذاً المبيع ربما يكون عيناً قائمة مشاهدة موجودة. وربما يكون موصوفاً في الذمة ولا يوجد حال العقد. مثال الموصوف في الذمة: أن أقول: بعت عليك كتاباً عنوانه كذا ومطبوع في كذا وصفته كذا وكذا وإن لم يكن الكتاب موجوداً حال إجراء العقد. لكن بشروط ستأتينا في كتاب البيع. - ثم قال - رحمه الله -: - أو منفعة مباحة. قوله: (أو منفعة مباحة). يعني: إما أن يكون المبيع عيناً سواء كان في الذمة أو مشاهد أو يكون منفعة. ويشترط في هذه المنفعة ما يشترط في العين: وهي: أن تكون هذه المنفعة مباحة وإباحتها إباحة مطلقة لا لحاجة ولا لضرورة. فشراء المنفعة المحرمة باطل شرعاً وليس مما يجوز إجراء العقد عليه - أي المنفعة. مثل المؤلف - رحمه الله - للمنفعة: - بقوله - رحمه الله -: - كممر دار. في الحقيقة التمثيل لو كان أدق لكان أحسن. لأن العقد يقع على منفعة المرور لا على الممر لأن الممر عين وهي قطعة من الارض والعقد لا يقع على هذه العين وإلا لكان من الأعيان ولدخل في النوع الأول وإنما هو يريد - رحمه الله - بقوله: (كممر) يعني: كمنفعة ممر.

فيجب أن يقع العقد على المنفعة لا على الممر وهذا مراده - رحمه الله -. وغيره من الحنابلة وضح هذا الأمر. وهو في الحقيقة كان ينبغي أن لا يمثل بكلمة ممر لأن الممر من الأعيان فلو قال: كمنفعة ممر. - ثم قال - رحمه الله -: - بمثل أحدهما. قوله: (بمثل أحدهما) الجار والمجرور يتعلق بقوله: (مبادلة) فالمبادلة تكون: للأعيان المباحة أو للمنافع المباحة. لكن المؤلف - رحمه الله - قسم الأعيان إلى: أعيان مشاهدة وأعيان في الذمة. فصارت الأشياء التي يجوز إجراء عقد البيع عليها ثلاثة: 1 - العين المباحة. 2 - وما في الذمة. وهو الدين. 3 - والمنفعة. ويستطيع الإنسان أن يوجد من هذه الثلاث أشياء تسع صور تجوز في البيع. ومعلوم أنه إذا بادلت بين هذه الثلاثة أشياء فسيكون عندنا تسع صور. ونأخذ ثلاث صور. ثم أنت تستطيع أن تأخذ ست صور بإجراء نفس العملية. ـ الصورة الأول: بيع عين بعين. بأن نبيع هذا الكتاب بهذه العشرين ريال الموجودة حال إجراء العقد. فهذا بيع عين بعين. ـ الصورة الثانية: بيع عين بدين. وهو الذي يسميه المؤلف - رحمه الله -: (ما في الذمة). بأن أقول: اشتريت منك الكتاب أو بعت عليك الكتاب الذي اسمه كذا وصفته كذا بعشرين ريالاً. فأنت تعطيني العشرين ريال الآن والكتاب موصوف في الذمة يسلم لاحقاً وفي موعد يتفق عليه. ـ الصورة الثالثة: بيع عين بمنفعة. بأن أشتري منك منفعة هذا الممر وليس الممر. فالممر لا يجوز لي أن أبيعه ولا أن أتصرف فيه لكن منفعة هذا الممر هي التي وقع عليها العقد. ثم تستطيع أن توجد ست صور بإجراء نفس العملية إلا أنه في الصورة التاسعة وهي: (بيع ما في الذمة بما في الذمة) يشترط لصحة العقد تسليم أحد العوضين في مجلس العقد لكي لا يدخل تحت بيع الدين بالدين وهي الصورة التي اتفق الفقهاء - رحمهم الله - على تحريمها. فيما عدا هذه الصورة التاسعة وهي بيع ما في الذمة بما في الذمة فالصور جميعاً جائزة بلا شرط إضافي عدا الشروط الأصلية لصحة إجراء عقد البيع. - ثم قال - رحمه الله -: - على التأبيد. أراد أن يخرج بقوله: (على التأبيد): عقدين: - الأول: الإجارة. فإن الإجارة وإن كان شراء منافع إلا أنها: شراء منافع مؤقتة.

- والثاني: العارية. لأنها ليست بتمليك للمنفعة وإنما هي على اسمها: عارية مؤقتة وترجع. فإذاً هذا القيد أخرج هذين العقدين. وبهذا القيد: استغنى المؤلف - رحمه الله - عن قيد آخر ذكره الفقهاء وهو: قوله بعضهم (على سبيل التمليك): مبادلة مال بمال على سبيل التمليك. فلا نحتاج إلى هذا القيد إذا وضعنا التأبيد لأن التأبيد يخرج الصور التي ليس فيها تمليك. - ثم قال - رحمه الله -: - غير ربا وقرض. لو تأملت: فستجد ن التعريف المذكور: ينطبق على الربا تماماً. وينطبق عهلى القرض تماماً. لكن الربا والقرض ليسا من عقود البيع ولذلك استثناه المؤلف - رحمه الله -. ـ أما الربا فهو مستثنى لأنه محرم: - ( .. وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا ... ) -[البقرة/275] وهو أمر اتفقت عليه الأمة ودلت عليه النصوص المتواترة. ـ وأما القرض: فليس من البيع لأن الملحوظ فيه في الأكثر هو الارفاق لا التمليك. ومعلوم أنه إذا كان يقصد به الإرفاق لا التمليك فليس من البيوع لأن البيوع يقصد فيها المعاوضة على سبيل التمليك. أما القرض فليس كذلك. ويدل على أنه ليس من البيوع: أن القرض نوع من الربا إلا أن الشارع أباحه وأجازه للحاجة إليه وهو من محاسن الشرع وإلا فإن القرض مبادلة مال بمال مع التأخير لكنه جاز للإجماع ولحاجة الناس إليه وليس من البيوع في شيء لأنه يشترط في البيع أن يخلو العقد من الربا ونحن لا نشترط في القرض أن يخلو من الربا ولا من صورة الربا الذي ليس فيه زيادة ولذلك هو فيه نسيئة لكنه جاز بالإجماع كما قلت لحاجة الناس إليه. إذاً تبين معنا لماذا نص المؤلف - رحمه الله - على الربا والقرض: لأنهما لو لم يخرجا لدخلا في تعريف البيع. - ثم قال - رحمه الله -: - وينعقد .... ينعقد الييع في الشرع بصورتين فقط: ومعنى (ينعقد) يعني: يوجد. ـ الصورة الأولى: قولية. ـ والصورة الثانية: فعلية. وإنما بدأ المؤلف - رحمه الله - بالصورة القولية: لأنه متفق على جوازها وأخر الفعلية لما فيها من الخلاف بين أهل العلم فقدم المتفق عليه على المختلف فيه. - قال - رحمه الله -: - ينعقد بإيجاب وقبول. - الإيجاب: هو اللفظ الصادر من البائع.

- والقبول: هو اللفظ الصادر من المشتري. ويجب أن يكون الإيجاب من البائع والقبول من المشتري وجوباً. إلا ما سيستثنيه المؤلف - رحمه الله -. - يقول - رحمه الله -: - بإيجاب وقبول بعده. الأصل: أن القبول يجب أن يكون بعد الإيجاب مباشرة. فإذا أوجب البائع فيجب أن يقبل المشتري مباشرة. وهذا هو الأصل: وهو ان يكون القبول بعد الإيجاب. وهذه الصورة التي بدأ بها المؤلف - رحمه الله - إنما بدأ بها لأنها الأصل. - ثم قال - رحمه الله -: - وقبله. يعني: ويصح أن يكون القبول قبل الإيجاب. بشرط: أن لا يوجد في الإيجاب ما يدل على عدم إرادة إيقاع العقد. أو بعبارة أخرى: بشرط أن يكون الإيجاب بلفظ الأمر أو الماضي الخالي عن الاستفهام. إذاً: يشترط في الإيجاب إذا تقدم على القبول ان لا يقترن به ما يدل على عدم إرادة إيقاع العقد. فإن اقترن به ما يدل على ذلك: لم يتم العقد. فإذا قال: أتبيع علي؟ فهذا ليس بإيجاب مقبول ولو قال البائع: نعم. فإن العقد باطل. لأنه يشترط في حال تقدم الإيجاب أن لا يقترن بما يدل على عدم إرادة العقد. إذاً: يجوز: = عند الحنابلة تقدم القبول لكن بهذا الشرط. فإن تقدم القبول بغير هذا الشرط فإن العقد باطل ولو استوفى أركانه. = والقول الثاني: أن الإيجاب والقبول يصح بأي صيغة وبأي كيفية بلا مراعاة للترتيب ولا للصيغة ما دام العاقدان يريدان إيقاع العقد. فما داموا يريدون أيقاع العقد فالعقد صحيح بلا شرط ولا قيد: - تقدم الإيجاب أو تأخر القبول وحصل العكس أو احتف به ما يدل على التردد فما دام أن كلاً من العاقدين يريد إيقاع العقد فالعقد صحيح. وإلى هذا: ذهب شيخ الإسلام - رحمه الله - وانتصر له بأدلة كثيرة ويمكن أن يفهم هذا القول أيضاً من تعليلات الشيخ الفقيه ابن قدامة - رحمه الله - كما سيأتينا. فتعليلات الشيخ - رحمه الله - تدل أيضاً على أنه يميل إلى هذا القول. - ثم قال - رحمه الله -: - ومتراخياً عنه في مجلسه. يعني: يجوز أن يقع القبول متراخياً عن الإيجاب بشرط أيقع ذلك في المجلس. فإن وقع القبول بعد المجلس فإن العقد باطل ولابد من إعادة العقد من جديد بإيجاب وقبول جديدين.

فإذا قال زيد لعمرو: بعتك السيارة. ولم يجب عمرو حت قاموا من المجلس ووصل كل واحد منهما إلى بيته فاتصل وقال: قبلت. = فعلى المذهب: العقد باطل ولابد من إجراء العقد من جديد. بأ يقول البائع: بعتك السيارة. فيقول: المشتري: قبلت. فإن قال المشتري: قبلت. بدون إيجاب جديد فالعقد باطل. لماذا؟ لأن الحنابلة يشترطون مع التراخي أن يكون الإيجاب في المجلس. دليلهم: - قالوا: الدليل على ذلك: أن المجلس في معنى العقد. يعني: ما دام المجلس موجوداً كأن العقد وهو العرض موجود وهو الإيجاب فإذا انفض المجلس فكأن المشتري رد البيع وإذا رد المشتري لبيع لم يمكن أن يعقد إلا بإيجاب جديد لأن القبول وقع من غير إيجاب لأن الإيجاب الأول رد في المعنى. = والقول الثاني: أن الإيجاب يصح مع التراخي ولو في غير المجلس ولو تراخى الأمر وقتاً طويلاً. - لأنه لا يوجد دليل على اشتراط البقا في المجلس مع التراخي. وإلى هذا أيضاً: ذهب شيخ الإسلام بن تيمية - رحمه الله -. وهو القول الصواب. * * فإن قيل يلزم من هذا أن نلزم الموجب الذي هو البائع بعقد قد يكون رجع عنه؟ فإذ قال شخص: - زيد لعمرو - بعتك السيارة وجاء عمرو بعد ست ساعات فقال: نعم. فنكون ألزمنا البائع بأن يبيع وقد يكون صرف النظر عن البيع؟ فالجواب: أن هذا ليس بصحيح. لأنه إذا جاب المشتري وقال: قبلت. صار هذا مجلس العقد الجديد ومجلس العقد للبائع والمشتري فيه الخيار فللبائع أن يقول: عدلت عن البيع. فليس في تأخير الإيجاب أي نوع من أنواع إلزام البائع لأن له بمقتضى خيار المجلس أن يرفض البيعة. - ثم قال - رحمه الله -: - فإن اشتغلا بما يقطعه: بطل. هذا هو الشرط الثاني: أن يكون في المجلس ويضاً أن لا يشتغل بما يقطع الرد. فإن أوجب البائع واشتغل المشتري بشيء خارج عن موضوع العقد ثم ىجاب بعد ذلك فالبيع باطل ويحتاج كل منهما إلى إعادة العقد بأن يعيد الإيجاب ويعيد المشتري القبول. والدليل: - هو الدليل الأول: أن في تشاغل المشتري ما يدل على الإعراض والرد. فالإيجاب الأول مردود فيحتاج القبول الثاني إلى إيجاب جديد.

والخلاف في هذه المسألة كالخلاف في المسألتين السابقتين تماماً إذ لا دليل على هذا التفصيل وما زال المسلمون يتبايعون هذه المبايعات ولو اشتغلوا بغير العقد الذي تكلموا فيه وتتم هذه البيوع ولم ينقل عن أحد من السلف الإبطال بمثل هذه الانقطاعات. فالصواب أنه جائز ولا حرج فيه والعقد صحيح بلا حاجة إلى إجراء عقد صوري جديد. - ثم قال - رحمه الله -: - وهي الصيغة القولية. يعني: وما تقدم من الإيجاب والقبول هي الصيغة القولية. - ثم قال - رحمه الله -: - وبمعاطاة وهي الفعلية. الصورة الثانية لإيجاد العقد في الشرع: الصيغة الفعلية وهي: المعاطاة. = ذهب الحنابلة والمالكية والأحناف والجماهير إلى أن عقد المعاطاة: صحيح ونافذ. واستدلوا على هذا: - بأن عقد البيع جاء في القرآن والسنة مطلقاً غير مقيد بشيء. ولم يبين القرآن ولا السنة كيفية تفصيلية لإجراء عقود البيع. وكل عقد جاء في الشرع ولم يحدد بصفة وكيفية معينة فإنه يرجع في كيفيته إلى العرف. وإذا رجعنا إلى العرف فإن العرف يقر إجراء العقود بالمعاطاة والمبادلة ولو لم يكن في أثناء هذه المبادلة صيغة قولية. = والقول الثاني: للشافعية. وهو أنه لا يمكن إجراء عقد البيع إلا بصيغة قولية. والسبب: أن الشافعي - رحمه الله - لا ينظر إلى حقيقة العقود بقدر ما ينظر إلى صيغ وأشكال العقود. فهو يقول: وإن كان قصد كلاً من المتبايعين إيقاع العقد إلا أنا لا ننظر لهذا القصد وأنا ننظر إلى الشكل الظاهر وهو لم يوجد صيغة قولية تفيد إرادة البيع.

وهذا المبدأ عند الشافعي من أضعف المباديء وهو أنه ينظر للصورة لا للحقيقة. فإن هذا المبدأ عند الإمام الشافعي أدى به إلى المنع من العقود الجائزة وأدى به في نفس الوقت إلى إجازة عقود باطلة فهو في الحقيقة من أضعف أصول الشافعي وهو أصل ليس عند الإمام أحمد - رحمه الله - ولا عند مالك - رحمه الله - لكنه من أصول الشافعي التي يستغرب الإنسان من الشافعي أن يؤصل مثل هذا الأصل وهو: أن العبرة عنده بظاهر وشكل العقد لا بحقيقته. وكما قلت لكم: أدى به إلى المنع من شيء واضح الجواز: كمسألتنا هذه وإلى جواز صور هي من الحيل الظاهرة التي يكاد جميع الفقهاء فيما عدا الشافعي يحرمها إلا هو نظراً منه إلى ظاهر العقد - كما سيأتينا في كتاب البيوع أمثلة كثيرة. والراجح: كما هو واضح هو مذهب الجماهير. ثم انتقل المؤلف - رحمه الله - إلى مبحث من أهم المباحث وهو: الشروط. - فقال - رحمه الله - - ويشترط ... اشترط الفقهاء لصحة عقثد البيع سبعة شروط. لا يصح العقد إلا إذا توفرت. ولعل المؤلف - رحمه الله - رتب هذه الشروط حسب الأهمية فسيأتينتا أن الشرط الثاني من أهم الشروط إلا أن الشرط الأول هو مبدأ إجراء العقد فبدأ به المؤلف - رحمه الله -. الشرط الأول: - قال - رحمه الله -: - (1) التراضي منهما. يشترط لصحة البيع التراضي. والتراضي هو: أن يقع العقد باختيار كل من الطرفين. فإذا فقد الاختيار فقد التراضي. والدليل على هذا الشرط: - قوله تعالى: - ( ... إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ ... ) -[النساء/29]. فنصت الآية على أنه لابد من التراضي في التجارة. = وذهب إلى اشتراط التراضي: الجماهير. فكلهم رأى أن العقد لا يصح إلا بالتراضي. والخلاف الذي يوجد في التراضي هو من وجهة نظري خلاف شاذ فيما يتعلق بإسقاط هذا الشرط. أما ما يتعلق بتصحيحه مع بقاء الخيار للعاقدين فهذا خلاف قد يكون معتبراً لكنه يؤول إلى اشتراط التراضي فلا حاجة للتطويل به. أما القول: بأن التراضي ليس بشرط وأنه نكتفي بظاهر قبول وإيجاب العاقدين فهو قول شاذ بعيد عن مقاصد الشرع والنصوص الفقهاء المحققين. - قال - رحمه الله -: - فلا يصح من مكره بلا حق.

الإكراه نقيض التراضي تماماً. ولذلك نص عليه المؤلف - رحمه الله -. والإكراه ينقسم إلى قسمين: - إكراه بغير حق. وهو المقصود بالبحث والذي ذُكِرَتْ له الأدلة في إبطال العقد إذا جرى معه - يعني: مع الإكراه الذي بغير حق. - القسم الثاني: الإكراه بحق وهذا يصح معه العقد. لأنا إنما أبطلنا رضى البائع بحق. وإذا سقط الشرط بحق صح العقد. ومن أمثلة هذا السقوط: أن يُلزِم الحاكم المدين ببيع أحد أمتعته أو مملوكاته لوفاء الدين الذي عليه - أي لوفاء الدين الحال الذي عليه. فهذا العقد ولو كان مع عدم رضى البائع فهو عقد صحيح نافذ تنبني عليه كل فروع صحة عقد البيع. * * مسألة / ذكرها العلماء: وهي مفيدة في وقتنا هذا: - إذا أكره الإنسان على دفع مال فباع متاعه ليدفع المال: فحكم هذا العقد: = عند الحنابلة: أنه صحيح مع الكراهة. ـ أما أنه صحيح عند الحنابلة: فلأن الإكراه وقع على دفع المال لا على البيع. وإذا كان الإكراه لا يتعلق بالعين المباعة التي جرى عليها العقد: فالعقد صحيح. وهذا دليل الصحة. ـ وأما الكراهة فدليلها: أن هذا المكره غالباً سيبيع السلعة بأقل من ثمنها. ولذلك قالوا: هو مكروه. = القول الثاني: أن هذا البيع صحيح بلا كراهة. وهو قول تبناه شيخ الإسلام - رحمه الله -. دليله: - أن القول بكراهة هذا العقد قد يؤدي إلى عدم الشراء من هذا المضطر فنوقع هذا المضطر في ضرر زائد. وهذا العقد يسمى عند الفقهاء: بيع الاضطرار. وهذا العقد يقع في وقتنا هذا كثيراً فيما يستخدمه الناس بالتورق فتجد الشخص يشتري سيارة بقيمة مؤجلة ثم يبيع هذه السيارة بقيمة حاضرة أقل قطعاً من القيمة المؤجلة بل هي أقل من سعر المثل. فهل هذه الصورة المعاصرة تدخل في بيع المضطر؟ ـ على الخلاف فيه. ومن وجهة نظري: أنه ينقسم إلى قسمين:

- القسم الأول: أن يشتري السيارة بالتقسيط - يعني: بثمن مؤجل زائد - بغرض التجارة. فهذا ليس من بيع المضطر لأنه ليس بمضطر إلى أن يجري هذا العقد وإنما يريد التزيد والتجارات. فهذا ليس من بيع المضطر في شيء ولا يأخذ أي حكم من أحكام بيع المضطر. - وأنتم الآن سمعتم الخلاف في بيع المضطر ومن أحكام بيع المضطر المتفق عليها: أنه ينبغي لمن استطاع أن يراعي المضطر أن يراعيه بأن يشتري بسعر المثل وليس من المراعاة أن لا يشتري لأنه يوقع هذا المضطر في إحراج لكن من المراعاة أن يشتري بسعر المثل. إذاً: القسم الأول ليس من بيع المضطر وإن كانت صورته صورة بيع الضطر لأن الإنسان لا يمكن أن يشتري ويجعل في ذمته مبلغاً أكثر من قيمة البيع الحال إلا وهو مضطر. - القسم الثاني: أن يفعل ذلك اضطراراً. كأن يريد أن يتزوج أو يريد أن يسدد ديناً حالاً اضطر إليه أو أن يريد العلاج كما يصنعه بعض الناس. فهذا القسم الثاني من بيع المضطر وتتنزل عليه الأحكام التي ذكرها الفقهاء لبيع المضطر. - ثم قال - رحمه الله -: - (2) أن يكون العاقد جائز التصرف. الشرط الثاني لصحة العقد: أن يكون العاقد جائز التصرف. وجائز التصرف هو: الحر المكلف الرشيد. فيشترط أن يكون حراً وأن يكون بالغاً عاقلاً وأن يكون رشيداً يحسن التصرف في الأموال. ومقصود الفقهاء بقولهم (يحسن التصرف في الأموال) أي: فلا يقع في السفاهات والتصرفات التي يحكم عليه بها أنه سفيه ولا يقصدون بقولهم (يحسن التصرف) أن يكون تاجراً متميزاً عارفاً بالصنعة فإن هذا لا يشترط: فمن الناس من يحسن التجارة ومنهم من لا يحسن التجارة. ومن لا يحسن التجارة: لا يمنع من البيع والشراء. فإذاً مقصودهم هو هذا: أن لا يكون أخرقاً يقع في السفاهات وسيأتينا مزيد إيضاح في كتاب الحجر فهو مبحث مهم من مباحث كتاب الحجر. الدليل على اشتراط هذا الشرط: - قوله تعالى: - (وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْ آَنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ) -[النساء/6] فلابد أن يبلغ النكاح. يعني: أن يبلغ وأن يكون رشيداً.

لما ذكر المؤلف - رحمه الله - هذا الشرط وذكرنا الآن دليل هذا الشرط وأن العقد لا يصح إلا بتوفر أهلية العاقد ذكر ما يشبه الاستثناء: - فقال - رحمه الله -: - فلا يصح تصرف صبي وسفيه: بغير إذن ولي. تصرف الصبي والسفيه: معلوم أنه لا يصح من الشرط الأساسي وإنما أعاده المؤلف - رحمه الله - ليبين أنه يستثنى بحكم وهو: جواز تصرف الصبي والسفيه بشرط: إذن الولي. وهذا الحكم خاص بالصبي والسفيه. فالمجنون: لا يجوز أن يعقد ولو أذن له الولي. فإنه ليس بأهل للعقود. إذاً: يستثنى من هذا الشرط الصبي والسفيه إذا أذن لهما الولي. والدليل على أنه يستثنى إذن الولي: - قوله تعالى: - (وَابْتَلُوا الْيَتَامَى ... ) -[النساء/6] وابتلاء اليتامى لا يكون إلا بتمكينهم من إجراء بعض العقود لينظر هل يحسنوا العقد أو لا؟ فدلت الآية على أن لولي الصبي والسفيه أن يأذن لهما بإجراء العقود. ويشترط في إذن الولي شرطان: - الأول: أن لا يأذن لهما إلا بما فيه مصلحة. فإن أذن لهما بما لا مصلحة فيه فإذنه باطل والعقد باطل. - والثاني: أن يأذن لهما إذناًً مقيداً لا مطلقاً بأن يأذن لهما بإجراء عقد أو أكثر من عقد لكنها معلومة معينة مقيدة أما الإذن المطلق فهو ينتنافى مع اشتراط أهلية العاقد. * * مسألة / فإذا أذن لهما الولي فإنه يجوز إجراء العقد من قبل الصبي في الكثير والقليل. لو يأذن لهما ببيع - مهما كان من الأعيان - الباهضة في الثمن فالعقد صحيح ما دام أنه جرى بإذن الولي. لأنا نفترض أن الولي لن يأذن إلا بما فيه مصلحة للصبي. * * مسألة/ وإذا أذن الولي للصبي فللصبي أن يباشر العقد ولا يشترط أن يباشر العقد الولي. * * مسألة/ الصبي والسفيه: لا يجوز لهما إجراء العقود بلا إذن الأولياء إلا فيما كان يسيراً فإذا كان الشيء الذي يباع أو يشترى شيئاً يسيراً فإنه يصح العقد. والدليل على ذلك: - أن صبيان الصحابة والناس ما زالوا يبيعون ويشترون فيما خف وسهل من الأمور. فدل هذا على أن الشارع أجاز مثل هذه الأمور إذ لم ينقل عن أحد من الصحابة منع الصبيان من إجراء العقود التي جرى العرف بها مما هو يسير.

الأمر الثاني: أن اليسير أمره خفيف ولا مضرة فيه ظاهرة على الصبي وفيه تمرين عليه فجاز لتحقيق هذه المصالح. وبهذا انتهى الشرط الثاني ونبدأ إن شاء الله في الدرس القادم بالشرط الثالث.

شرح كتاب البيع الدرس رقم (2) قال شيخنا حفظه الله: بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين. تقدم معنا الكلام عن شروط البيع وأخذنا الشرط الأول والثاني ونبدأ اليوم بالشرط الثالث. - قال - رحمه الله -: - وأن تكون العين مباحة النفع من غير حاجة. الشرط الثالث: أن تكون العين المباعة مالاً شرعاً. أي: أن تعتبر من الأموال في الشريعة. والمال في الشرع: هو كل عين فيها منفعة مباحة لغير حاجة. وخرج بهذا القيد: العين التي ليس فيها منفعة: كالحشرات. فإنها أعيان لكن لا منفعة فيها فهي ليست مالاً في الشرع. وخرج بهذا القيد: الأعيان التي فيها منفعة لكنها محرمة: كالخمر. فإنه ليس بمال في الشرع. وخرج أيضاً: الأعيان التي فيها منفعة مباحة لكن عند الضرورة: كالميتة. فهذه ليست بمال شرعاً. وخرج أيضاً: الأعيان التي فيها منفعة مباحة للحاجة: كالكلب. فهذه ليست مالاً شرعياً. إذاً يشترط في المبيع ليجوز بيعه وشرائه: أن يكون مالاً شرعياً. والمال الشرعي هو: ما اتصف بالصفات السابقة. ولما بين المؤلف - رحمه الله - القاعدة العامة ذكر أمثلة لهذه القاعدة لكنه راعى في الأمثلة أن ينوع في المسائل ليشمل أجناس الأعيان التي يجوز أن تشترى وتباع: - فقال - رحمه الله -: - كالبغل والحمار. البغل والحمار من الأموال الشرعية. يعني: مال في الشرع فيجوز أن يباع وأن يشترى. وأشار المؤلف - رحمه الله - بهذا المثال إلى أن الأعيان التي يجوز أن تباع وتشترى لا يشترط أن يتفق على طهارتها بل هي من الأموال الشرعية ولو اختلف في طهارتها كالخمار والبغل: = فمن الفقهاء - رحمهم الله - من يرى أنها طاهرة. = ومن الفقهاء - رحمهم الله - من يرى أنها نجسة. والدليل على جواز بيع وشراء البغل والحمار من وجهين:

- الوجه الأول: أن الحمار عين مباحة الاقتناء بلا حاجة وفيها نفع مباح. - والوجه الثاني: الإجماع. فإن الأمة ما زالت من عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى يومنا هذا وهي تبيع وتشتري الحمير والبغال بلا نكير من أحد. فهو إجماع. والمؤلف - رحمه الله - بدأ بالبغل والحمار لأنا سنقيس عليها أشياء ولأنه متفق في الجملة على جواز بيعه. - ثم قال - رحمه الله -: - ودود القز وبزره. دود القز: هو الدود الذي ينتج القز. والقز هو: أفخم أنواع الحرير. فهذا النوع من الحشرات يجوز أن يباع ويشترى. والدليل على جواز بيعه وشرائه: - أن هذه العين عين طاهرة فيها نفع مباح. وهذا الدليل هو قاعدة الشرط الثالث. وهو أن يكون المبيع فيه نفع مباح. فإذاً هذه الدودة التي تنتج هذا النوع لا بأس ببيعها وشرائها لما تقدم من أنها عين طاهرة وأيضاً مباحة النفع. وبزره: هو الدود قبل أن يبدأ بالدب يعني: صغيره. وإنما نص المؤلف - رحمه الله - عليه: ليفيد أن ما يجوز بيعه لنفعه يجوز وإن كان النفع سيأتي في المستقبل ولا يشترط في المبيع أن يكون النفع الذي يرجى منه موجود في الحاضر ولذلك نص على بزره. - ثم قال - رحمه الله -: - والفيل وسباع البهائم التي تصلح للصيد. - الفيل: حيوان معروف. وينتفع به في أمرين: ـ الأمر الأول: في الحرب فهو من أعظم الدواب التي يقاتل بها. ـ والأمر الثاني: في نقل الأمتعة وغيرها. هذا بالنسبة للفيل. - الثاني: سباع البهائم. أيضاً سباع البهائم يجوز أن تباع وأن تشترى بشرط: وهو أن تصلح للصيد. فإن كانت لا تصلح للصيد فلا يجوز أن تباع أو أن تشترى لأنه لا فائدة فيها. = ذهب الجماهير وأكثر أهل العلم - بل إن بعض الفقهاء حكاه إجماعاً: إلى جواز بيع وشراء الفيل وسباع البهائم التي تصلح للصيد. واستدلوا على هذا الحكم: - بأن فيها نفعاً مباحاً. - وبأنه يجوز أن تقتنى بلا حاجة. - وبالقياس على الحمار. = والقول الثاني: أن سباع البهائم لا يجوز أن تشترى ولا أن تباع. وإليه ذهب عدد قليل من أهل العلم. واستدلوا بأمرين: - الأمر الأول: أنها أعيان نجسة. - والأمر الثاني: القياس على الكلب. وسيأتينا حكم بيع وشراء الكلب.

والراجح والله أعلم جواز بيع سباع البهائم التي ينتفع بها في الصيد والفيلة التي تستخدم استخدامات نافعة ومباحة. وهو مذهب الجماهير: لأن القياس على الكلب قياس فيه نظر من وجهين: - الوجه الأول: أن إلحاق السباع بالحمار أقرب. لأن الحمار وإن كان نجساً: جاز بيعه وشرائه فكذلك سباع البهائم. فالنجاسة لا تمنع دائماً من البيع والشراء. - والوجه الثاني: أن الشارع الحكيم خص الكلب بجملة من الأحكام. فالكلب يغسل من ولوغه سبعاً وأمر في أول الإسلام بقتله والأسود منه يقطع الصلاة. فخصه الشارع بجملة من الأحكام فلا يقاس عليه غيره من الأعيان الأخرى يعني: من البهائم. والخلاصة: أن الراجح جواز بيع وشراء سباع البهائم بهذا الشرط. * * مسألة/ الذي يظهر لي: أن الفقهاء - رحمهم الله - إنما نصوا على أن يكون مما يصلح للصيد: لأن هذا العمل هو الذي ينتفع به بسباع البهائم في وقتهم. فإن أمكن أن ينتفع بسباع البهائم بشيء غير الصيد كما هو في وقتنا الحاضر: ينتفعون به بأشياء كثيرة فإنه أيضاً يجوز لأن العلة والمناط هو أن ينتفع به في شيء مباح. فإذا حصل الانتفاع جاز ولو لغير الصيد. - ثم قال - رحمه الله -: - إلاّ الكلب. يعني: فلا يجوز أن يباع ولا أن يشترى. = ذهب الجماهير - الأئمة الثلاثة: مالك والشافعي وأحمد وغيرهم من الفقهاء - رحمهم الله - إلى أن بيع وشراء الكلب: محرم. - لما ثبت في الصحيحين: بأسانيد صحيحة ثابتة: أن النبي - صلى الله عليه وسلم -: نهى عن ثمن الكلب. - ولما روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: (ثمن الكلب خبيث). - ولما روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال في بائع الكلب: (فإن جاء يوماً يطلب الثمن فاملأ كفه من التراب). وهذه الأحاديث بعضها في الصحيحين وبعضها في السنن ومجموعها يدل دلالة واضحة على أن الشارع نهى وأبطل بيع الكلب. = القول الثاني: أن الكلب يجوز أن يباع وأن يشترى. - لأن فيه نفعاً مباحاً بل نفعه أكبر من غيره من الحيوانات. وهو أطوع وأقبل للتعليم. وإلى هذا ذهب الأحناف.

وهذا القول: قول شاذ ضعيف وأحسن ما يقال في من ذهب إليه: أنه لم تبلغهم النصوص وإلا فإنه ليس للإنسان أن يخالف هذه النصوص الصريحة الصحيحة مع عمل السلف لمجرد علل يصادم بها النصوص. = والقول الثالث: أنه يجوز بيع الكلب المعلم دون غيره. - لما رواه النسائي في سننه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى عن ثمن الكلب إلا كلب صيد. والجواب: أن الإمام النسائي نفسه - رحمه الله - لما أخرج هذا الحديث قال: وهو حديث منكر. فهذا الاستثناء ضعيف ولا يثبت مرفوعاً إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -. والراجح: القول الأول وهو مذهب الجماهير الذي يتفق مع النصوص الصريحة الصحيحة. - ثم قال - رحمه الله -: - والحشرات. يعني: ولا يجوز أن تباع الحشرات. - لأنه يشترط في المبيع أن يكون له نفع. والحشرات ليس لها نفع فالعقد عليها باطل لأنها ليست من الأموال الشرعية. وعلم من تعليل الفقهاء أنه لو كان لبعض الحشرات التي ليس لها نفع في السابق نفع في اللاحق أو في وقتنا هذا المعاصر فإنها تصبح من الأموال. فلو جمع الإنسان حشرات بكميات كبيرة وباعها على المختبرات فإن العقد عقد صحيح لأنه عقد على عين فيها منفعة وإنما أبطل الفقهاء - رحمهم الله - البيع في الحشرات لأنه ليس لها في وقتهم أي نفع لا مباح ولا غير مباح. - ثم قال - رحمه الله -: - والمصحف. = المصحف لا يجوز أن يباع ولا يشترى عند الحنابلة. وقد انتقد كثير من الشراح كون المؤلف يعطف المصحف على الحشرات. ولو أنه أعاد الفعل مع حرف العطف وجعل منع بيع المصحف في جملة مستقلة لكان أولى وأحسن وأكثر أدباً مع المصحف. = ذهب الحنابلة إلى أنه لايجوز أن يباع المصحف ولا يكره أن يشرى استنقاذاً. إذاً مذهب الحنابلة لا يصح ولا يجوز بيع المصحف ولا يكره أن يشترى إذا كان على سبيل الاستنقاذ. واستدلوا على هذا الحكم بدليلين: - الدليل الأول: أن ابن عكر - رضي الله عنه - وددت أن الأيدي تقطع فيه. يعني: في بيع المصحف. - والدليل الثاني: احتراماً وتقديراً ورفعةً للقرآن أن يكون من السلع التي تباع وتشترى. = القول الثاني: أنه لا بأس ببيعه ولا حرج. - لأن العقد يقع على الورق والحبر لا على كلام الله.

- ولأن الحاجة تدعو إلى مثل هذا. - ولأنه ما زال المسلمون يتبايعون على المصاحف من غير نكير. والعمل على القول الثاني. - ثم قال - رحمه الله -: - والميتة. يعني: ولا يجوز بيع الميتة. وبيع الميتة: محرم بالإجماع. - لحديث جابر - رضي الله عنه - في الصحيح أنه قال: إن الله ورسوله يحرمان بيع الميتة والخنزير والأصنام والخمر. فدل النص والإجماع على تحريم بيع الميتة. - والتعليل يدل على ذلك: لأنها نجسة. فإذاً: لا يجوز بيع ولا شراء الميتة وهذا أمر واضح ومجمع عليه. وقوله (والميتة). يستثنى من ذلك: ميتتان وهما: - السمك. - والجراد. لأن ميتة السمك وميتة الجراد طاهرة ويجوز أن ينتفع بها: فجاز بيعها وشرائها. - ثم قال - رحمه الله -: - والسرجين النجس. السرجين: كلمة فارسية معربة. ومعناها: الروث أو السماد. وقوله: (النجس) يعني: الأرواث النجسة وهي أرواث غير مأمولة اللحم من الحيوان. فالأرواث النجسة لا يجوز أن تباع ولا أن تشترى. لدليلين: - الأول: أنها نجسة. - والثاني: قياساً على الميتة. = والقول الثاني: أنه يجوز أن تباع وأن تشترى. - لأن عمل الناس ما زال على ذلك. والراجح والله أعلم: أنه لا يجوز أن تباع ولا تشترى. لأن عمل الناس لا يؤخذ به إذا صادم النص أو معنى النص. ولأن عمل الناس إنما يعتد به ويعتبر إذا صدر ممن هو أهل لاعتباره كعمل الصحابة أو السلف وأما عمل العوام فلا عبرة به. فإذاً لا يجوز أن يشتري الإنسان سماد الحمار ولا البغل ولا الفيل ولا الإنسان ولا كل ما حكمنا على روثه بأنه نجس. - ثم قال - رحمه الله -: - والأدهان النجسة. لا يجوز بيع ولا شراء الأدهان النجسة. لأنها نجسة. وهي تقاس قياساً جلياً على شحم الميتة المجمع على تحريمه. فإذاً الأدهان النجسة لا يجوز أن تباع ولا يجوز أن تشترى لأنها نجسة وأيضاً كما قلت قياساً على شحم الميتة. - ثم قال - رحمه الله -: - ولا المتنجسة. سقط على المحقق وفقه الله حرف الواو وهي ثابتة في كل النسخ كأنها سقطت منه وهماً فالذي معه هذه النسخة يضيف (ولا المتنجسة). الأدهان المتنجسة يقصد بها الأدهان التي هي في الأصل طاهرة ثم تنجست بوقوع نجاسة فيها.

= فعند الحنابلة: لا يجوز أن تشترى ولا أن تباع. - قياساً على الشحم في الميتة. - وقياساً على الأدهان نجسة الأعيان. وهي المسألة السابقة. = والقول الثاني: أن الأدهان المتنجسة يجوز أن تباع وأن تشترى بشرط أن يمكن تطهيرها. فإذا أمكن أن تطهر جاز أن تباع. واستدلوا على ذلك: - بأن الحكم يدور مع علته وجوداً وعدماً. إذا كانت هذه الأدهان ستؤول إلى الطهارة فإذاً زالت علة المنع. وإلى هذا ذهب عدد من المحققين من أهل العلم. والراجح والله أعلم في هذه المسألة: مذهب الحنابلة. والسبب: أن الأدهان المتنجسة هي عرف الشرع نجسة وإن كان أصلها طاهراً لكنها الآن نجسة. ويقولون: الحكم يدور مع علته. نقول: صحيح الحكم يدور مع علته فهي الآن نجسة والحكم يدور مع علته وجوداً وعدماً وإذا كان يمكن أن تطهر فلتطهر قبل البيع. فالذي يظهر لي بوضوح: أن الأدهان إذا كانت متنجسة وإن كانت في الأصل طاهرة الأعيان إلا أنها الآن نجسة فيجب أن تطهر قبل أن تباع أو أن تشترى. - ثم قال - رحمه الله -: - ويجوز الإستصباح بها. الضمير في قوله: (بها) يعود على: المتنجسة دون النجسة. فيجوز الاستصباح يعني: استخدام هذا الدهن في إشعال الضوء. ولا يجوز الاستصباح بالنجسة. إذاً: نحتاج إلى دليلين: - الأول: على جواز الاستصباح بالمتنجسة. - والثاني: وعلى المنع من النجسة. ـ أما جواز الاستصباح بالمتنجسة: فالدليل عليه: القياس على جواز الانتفاع بجلد الميتة بعد الدباغة فإن جلد الميتة بعد الدباغة يبقى نجساً عند الحنابلة ومع ذلك يجوز الانتفاع به فنقيس عليه الأدهان المتنجسة. ـ وأما الدليل على المنع من النجسة فحديث جابر المتقدم حيث ذكر فيه: أن الله ورسوله حرم الميتة والخنزير والأصنام والخمر فقالوا: أرأيت يا رسول الله شحم الميت فإنه تطلى به السفن وتدهن به الجلود ويستصبح به الناس فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - (لا. هو حرام).قال الحنابلة يعني: الانتفاع حرام. فدل الحديث بنصه على أن الانتفاع بالنجسة لا يجوز لا بالاستصباح ولا بدهن الجلود ولا السفن ولا بغير ذلك من أنواع الانتفاع. = والقول الثاني: أنه يجوز الانتفاع بالنجسة والمتنجسة.

- لأن قوله - صلى الله عليه وسلم -: (لا. هو حرام) ينصرف إلى المسئول عنه وهو البيع لا إلى الانتفاع الذي ليس هو موضوع السياق. وهذا القول أقرب إن شاء الله: أن الانتفاع بالأعيان النجسة لا بأس به وله نظائر في الشرع فهذا الكلب لا يجوز أن يباع ولا أن يشترى ويجوز ان ينتفع به: بالصيد أو الحراسة أو الزرع أو بغير ذلك مما أجازه الشارع. وإذا كان لهذا الحكم نظير في الشرع صاغ لنا أن نحكم به. المسألة الثانية: - يقول - رحمه الله -: - في غير مسجد. يجوز الاستصباح بالمتنجسة لكن لا يجوز أن يكون ذلك في المسجد. - لأن الدخان الذي يخرج بعد الإحراق نجس فلا يجوز أن ندخله إلى المسجد. وهذه المسألة مبنية على مسألة أخرى وهي: هل الاستحالة تطهر بها العين النجسة أو لا تطهر؟ وتقدمت معنا في كتاب الطهارة وأن الراجح إن شاء الله: بلا إشكال أن الاستحالة تطهر الأعيان النجسة لأنها تقلب العين النجسة من عين إلى عين أخرى تختلف في الصفات والشارع الحكيم إنما يربط الأحكام بالعلل والأوصاف وأوصاف هذه العين النجسة زالت وأصبحت عيناً أخرى طاهرة. فإذاً الأقرب أن الاستحالة تطهر بها الأعيان النجسة. فبناءً على ذلك: يجوز الاستصباح في المسجد وفي غير المسجد. - ثم قال - رحمه الله -: - وأن يكون من مالك أو من يقوم مقامه. الشرط الرابع من شروط البيع: أن يصدر العقد من مالك السلعة أو ممن يقوم مقامه من وكيل أو غيره. فإن صدر من غير المالك فالعقد باطل. الدليل على هذا الشرط: - قوله - صلى الله عليه وسلم - في حديث حكيم بن حزام - رضي الله عنه -: (لا تبع ما ليس عندك). وجه الاستدلال: أنه لا يمكن حمل الحديث إلا على أحد معنيين: ـ المعنى الأول: لا تبع ما ليس عندك يعني: لا تبع مالك الغائب. ـ أو لا تبع ما ليس عندك يعني: لا تبع ماليس مملوكاً لك. ولا يمكن حمله على المعنى الأول: لأن أهل العلم أجمعوا على جواز العين المملوكة الغائبة أجمعوا على جوازها. إذاً: لم يبق إلا أن يحمل على: (لا تبع ما ليس مملوكاً لك). وهذا هو وجه الاستدلال بالحديث وهو ظاهر كما رأيت فلا يجوز للإنسان أن يتصرف بغير ملكه.

- الدليل الثاني: أن ما لا يملك الإنسان هو ملك لغيره والنبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: (لا يجل مال امرئ مسلم إلا بطيب نفس منه). فليس للإنسان أن يتصرف في مال غيره شرعاً. الدليل الثالث: أن هذا الشرط في الجملة مجمع عليه فيما عدا مسائل ستأتينا أما في الجملة فإنه مجمع عليه أنه ليس للإنسان أن يبيع ما لا يملك. - قال - رحمه الله - - فإن باع ملك غيره أو اشترى بعين ماله بلا إذنه: لم يصح. إذا باع ملك غيره، أو اشترى ملك غيره بغير ماله: فالعقد باطل. لوجهين: - الوجه الأول: ما تقدم معنا من حديث حكيم. والأدلة الدالة على تحريم بيع ما لا يملك الإنسان. - والوجه الثاني: أنه لا يقدر على تسليم هذه العين لأنها ليست من أملاكه. فإذاً دل على هذا الحكم هذان الدليلان. = القول الثاني: في هذه المسألة - أن الإنسان إذا باع أو اشترى بغير ملكه فإن العقد يكون صحيحاً ويوقف على إجازة المالك فإن أجاز صح العقد وإلا بطل. واستدل أصحاب هذا القول: - بحديث عروة - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أعطاه ديناراً ليشتري شاةً فاشترى بالدينار شاتين ثم وهو راجع إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - باع إحداهما فرجع إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - بدينار وشاة فقال له النبي - صلى الله عليه وسلم -: (بارك الله لك في صفقة يمينك). والدعاء من النبي - صلى الله عليه وسلم - إقرار له على عمله. فهذا الصحابي الجليل تصرف وتصرف بالبيع والشراء ففي العقد الأول: اشترى من دون إذن المشترى له وفي العقد الثاني: باع من دون إذن مالك السلعة ومع ذلك صحح النبي - صلى الله عليه وسلم - العقدين بل ودعا له. وهذا القول: هو القول الراجح لأن الحديث صريح فيه ولا يمكن الخروج عن هذا الحديث الصريح الذي فيه إقرار بيع وتصرف الفضولي إذا أجازه المالك. - ثم قال - رحمه الله -: - وإن اشترى له في ذمته بلا إذنه ولم يسمه في العقد: صح له بالإجازة ولزم المشتري بعدمها ملكاً. هذه الصورة هي الصورة الوحيدة التي يصحح فيها الحنابلة تصرف الفضولي. فتصرف الفضولي وهو: من لا يملك. يصح عند الحنابلة بشرطين:

- الشرط الأول: أن يشتري في الذمة. ولا يشتري بعين ماله ولا بعين مال الآخرين. - والشرط الثاني: أن لا يسمي من اشترى له في العقد. فإذا وجد الشرطان صح العقد. فإن أجاز المشترى له: تم العقد وأصبحت السلعة ملكاً له. وإن رفض: لزمت السلعة من اشتراها لأنه لم يسم أثناء العقد أحداً. فلزمته السلعة وليس له أن يرد السلعة إلى البائع إذا لم يجز المشترى له. = والقول الثاني: أنه يجوز أن يشتري لغيره. سواء في الذمة أو بمعين. وسواء كان المعين من مال نفسه أي: المشتري المتصرف تصرف الفضولي. أو من مال المشترى له. وسواء سماه أي من اشترى له أو لم يسمه ففي جميع الصور يصح ويجوز العقد بشرط إجازة المالك. واستدل أصحاب هذا القول: - بالأدلة المذكور في المسألة السابقة. فيجوز استدلالاً بحديث عروة - رضي الله عنه -. ولا إشكال أنه يجوز إن شاء الله في الصورة الأولى وفي الصورة الثانية. - ثم قال - رحمه الله -: - ولا يباع غير المساكن مما فتح عنوة: كأرض الشام ومصر والعراق بل تؤجر. قوله: (ولا يباع غير المساكن مما فتح عنوة). أولاً: يقصد المؤلف - رحمه الله - الأراضي التي فتحت عنوة ولم تقسم. ولو أنه ذكر هذا القيد لكان أوضح. إذاً هو يقصد الأراضي التي لم تقسم كأرض الشام ومصر والعراق. الأراضي المفتوحة عنوة التي رأى الإمام أن لا يقسمها بين المجاهدين وإنما يجعلها وقفاً على عموم المسلمين هذه الأراضي لا يجوز أن تباع ولا أن تشترى. لأنها أوقاف والوقف لا يجوز أن يباع ولا يوهن ولا يشترى ولا يتصرف فيه بأي تصرف. والدليل على تحريم بيع هذه الأراضي: - أن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - أوقف هذه الأراضي على المسلمين وجعل عليها خراجاً بمنزلة الأجرة يدفع للمجاهدين. وإذا كان أوقفها على المسلمين فلا يجوز أن تباع ولا تشترى. - الدليل الثاني: أن بعض الصحابة باع واشترى في أراضي الشام والعراق فأبطل عمر بيعه وأبطل شرائه. =القول الثاني: أنه يجوز أن تباع وتشترى. يعني: الأراضي التي فتحت عنوة. ونحن نتكلم عن الأراضي التي فتحت عنوة لا عن البيوت والمساكن فالبيوت والمساكن سيأتي الحديث عنها.

إذاً القول الثاني جواز بيع وشراء الأراضي التي فتحت عنوة بشرط أن يلتزم المشتري بدفع الخراج. وهو رواية عن الإمام أحمد - رحمه الله - نصرها وأطال في تقريرها شيخ الإسلام - رحمه الله -. الجواب: عن أن هذه الأراضي وقف عند أصحاب هذا القول: قول شيخ الإسلام - رحمه الله -: أن هذه الأراضي ليست وقفاً من كل جهة بل هي عقد مستقل. بدليل: أن العلماء أجمعوا على أنها تورث والوقف لا يورث. وبدليل: جواز هبة هذه الأراضي والوقف لا يوهب. فيقول الشيخ - رحمه الله -: هذه الأراضي التي أوقفها الخلفاء ليست وقفاً من كل جهة بل هي وقف من جهة ومحررة من جهة أخرى. ونظير ذلك: بيع المنافع الذي تقدم معنا في أول الباب فبيع المنافع ليس بيعاً من كل وجه وليس إجارة من كل وجه فهو إجارة من حيث أنه بيع منافع لأن المنافع موضوعها في الإجارة وهو بيع من حيث التأبيد فهو عقد بين البيع وبين الإجارة لكنهم ذكروه في البيع لأن عقد التأبيد غلب عليه. فإذاً يوجد في الشرع عقود هي بين عقدين: فبيع المنافع بين عقد البيع وبين عقد الإجارة والأراضي التي لم تقسم: بين الأراضي الموقوفة والأراضي المحررة. ولاشك أن هذا التقرير بديع جداً من شيخ الإسلام - رحمه الله - وفيه توضيح وجمع بين النصوص التي تدل على جواز هذه الأراضي وشراؤها وبين النصوص التي تدل على المنع. والأقرب والله أعلم: أنه يجوز أن تباع وتشترى: - أولاً: لأنه وقع من الصحابة. - وثانياً: لأن في المنع من مثل هذا حرج شديد. - وثالثاً: لأن مقصود الخلفاء حين أو قفوا هذه الأراضي هو أن تضرب على رقابها أي: على الأرض نفسها: خراج بمنزلة الأجرة فإذا ضمن هذا الخراج وهذه الأجرة واستمر فلا حرج من البيع ولا مفسدة من تصحيح العقد. وكما قلت هذا القول إن شاء الله عليه العمل وهو أسهل للمسلمين وفيه فقه وفهم للنصوص التي جاءت عن الصحابة. * * فإن قيل: لماذا عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - أبطل العقد؟ فالجواب: لأنه خشي من ضياع الأجرة التي هي الخراج وخشي أن يفهم المسلمون أن الأرض إذا انتقلت إلى مسلم أن الخراج يسقط ولذلك منع من ذلك وأبقى الأراضي في يد أهل الذمة ليبقى الخراج.

وإذا عرفنا مقصود عمر - رضي الله عنه - عرفنا لماذا أبطل البيع. أي: أنه لم يبطله لأن الأرض وقف وإنما لهذا الاعتبار فإذا ضمنا استمرار اخراج والأجرة فلا حرج إن شاء الله. وعلى هذا العمل اليوم ومنذ قرون أن أراضي الشام ومصر والعراق أنها تباع وتشترى بلا حرج. * * مسألة / فإن قيل اعتراضاً على الحنابلة: كيف تقولون إن الأراضي التي فتحت عنوة لا تباع ولا تشترى ومكة فتحت عنوة بلا إشكال وتباع وتشترى؟ الجواب: أن مكة - شرفها الله - لا شك أنها فتحت عنوة وهذا مذهب كثير من المحققين وداخلها النبي - صلى الله عليه وسلم - بالجيش فاتحاً. لكن النبي - صلى الله عليه وسلم - خطب فيها وأقر أهلها كل في بيته وأعطاهم بيوتهم ولم يقسم مكة بين المهاجرين ولا بينهم وبين الأنصار وإنما أقرها بأديدي أهلها وصاروا يبيعون فيها ويشترون بمحضر النبي - صلى الله عليه وسلم - والصحابة. فيدل على أنها خصصت في هذا الحكم. = هذا مذهب الحنابلة. فهم يجيبون عن مكة بمثل هذا. أن مكة مخصوصة من بين الأراضي التي فتحت عنوة بهذا الدليل وهو أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما فتحها أقرها في أيدي أهلها. وعلى القول الراجح لا إشكال ويكون تصرف أهل مكة ببيوتهم وأراضيهم دليل لأصحاب القول الثاني. - ثم قال - رحمه الله -: - ولا يباع غير المساكن. تحدثنا عن الأراضي وباقي المساكن. فالمساكن يجوز أن تباع عند الحنابلة وعند غيرهم. - وذلك أن أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - اقتطعوا خططاً وبنوا فيها مساكن وباعوا واشتروا فيها من غير نكير: في الشام وفي العراق وفي مصر لا سيما في البصرة والكوفة فإنهم أخذوا خططاً كثيرة وبنوا فيها مساكن وتبايعوا - رضي الله عنه -. فإذاً لا إشكال في المساكن وإذا باع الإنسان المسكن فالبيع عند الحنابلة يقع على المسكن لا على أرض المسكن. - ثم قال - رحمه الله -: - ولا يصح: بيع نقع البئر. نقع البئر: هو الماء المتجمع في قعر البئر. ومثله العيون التي تنبع. فهذه المياه لا يجوز أن تباع ولا أن تشترى. ويجوز أن يبيع الإنسان الأرض التي فيها النبع والبئر بمعنى الحائط - جدر البئر. أما الماء نفسه فإنه لا يجوز أن يباع ولا يشترى.

= وإلى هذا ذهب الجمهور. واستدلوا: - بما أخرجه مسلم في صحيحه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى عن بيع الماء الفاضل. - واستدلوا: بقول النبي - صلى الله عليه وسلم - (المسلمون وفي لفظ: الناس: شركاء في ثلاث: الماء والكلأ والنار). فدلت هذه الأحاديث على أنه لا يجوز للإنسان أن يبيع الماء الفاضل عن حاجته وإنما يجب عليه وجوباً أن يبذل الماء الفاضل عن حاجته. = القول الثاني: أن الماء الذي في البئر والمتبقي من العين النابعة الفاضل عن حاجته: يجوز أن يباع وأن يشترى. - لأن هذا الماء نابع من أرضه فحكمه حكم الأرض ومن يملك الأرض يملك ما ينتج عن الأرض. وحملوا الحديث: على الماء الذي في غير الأرض المملوكة. والراجح والله أعلم: القول الأول. لأن الحديث نهى عن بيع الماء بلا تفصيل بين أن يكون في الأرض المملوكة أو في الأرض غير المملوكة.

شرح كتاب البيع الدرس رقم (3) قال شيخنا حفظه الله: بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين. تقدم معنا في الدرس السابق الكلام عن حكم بيع الماء وذكر الخلاف في ذهه المسألة وأن الراجح فيما يظهر والله أعلم أنه لا يجوز بيع الماء الزائد عن الحاجة مطلقاً وتقدمت الأدلة والمناقشات. ونبدأ اليوم بمسائل تتعلق بهذه المسألة وهي: حكم بيع الماء. ـ المسألة الأولى: حكم الماء إذا حيز: إذا حاز الإنسان ماء سواء كانت هذه الحيازة في وعاء أو في بركة أو في خزان فإنه لا يجب عليه أن يبذل هذا الماء بل هو ملك له له أن ينتفع به بما شاء وله أن يبيعه: - لأنه بالحيازة أصبح ملكاً. - ولأن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمر رجلاً أن يحتطب ليستغن عن الناس والحديث في الصحيح. وحكم الحطب حكم الماء. فهذا الرجل إذا حاز الحطب فإنه سيبيع الحطب وكذلك الماء إذا حيز بوعاء أو غيره مما ذكرت فهو ملك لمن حازه فله أن يتصرف فيه تصرف الملاك.

ـ المسألة الثانية: إذا تقرر أن من وجد الماء في أرضه في بئر أو عين أنه يجب أن يبذل ما زاد عن حاجته فإنه مع ذلك نقول: هو أولى وأحق الناس بهذا الماء. فإذا كانت له حاجة بهذا الماء فهو مقدم على غيره ولا يجوز لغيره أن يعتدي على الماء الذي يحتاجه صاحب الأرض وإنما يجب بذل الزائد عن الحاجة فقط أما ما يحتاجه صاحب الأرض فهو له. بناء على ذلك: ما يقع الآن في وقتنا من تعبئة السيارات بالماء وبيعها حكمه فيه تفصيل: ـ إن كان صاحب البئر يملأ السيارات من البئر مباشرة فهو لا يجوز حسب ما قررنا. لأنه باع الزائد عن حاجته بيعاً والإنسان لا يجوز له أن يبيع ما زاد عن حاجته ولو تكلف في إخراجه لأن البئر أيضاً يتكلف الإنسان في إخراج الماء منها ومع ذلك لا يجوز أن يبيعه. ـ وأما إن كان يضع الماء في خزانات كبيرة أو في برك أو ما أشبه هذه الأمور ثم يعبي السيارات منها فهذا جائز وعمله مباح. ومن هنا يجب أن يتنبه الذين يتاجرون ببيع الماء أن لا يبيعوه من البئر مباشرة بل يحوزوه أولاً في برك أو خزانات ثم بعد ذلك يتصرفون فيه تصرف الملاك. - ثم قال - رحمه الله -: - ولا ما ينبت في أرضه من كلأ وشوك. الكلأ والشوك: حكمه حكم الماء. فالتفصيل الذي ذكر في الماء تماماً ينطبق على حكم بيع الكلأ الذي ينبت في أرض الإنسان. والراجح في تلك المسألة هو الراجح في هذه المسألة. * * مسألة / فإن كان الكلأ أنبته الإنسان في أرضه باعتنائه واختياره. فهو ملك له ولا يدخل في المنع وله أن يتصرف فيه تصرف الملاك. لأنه نبت بعمله والأصل في الكلأ الذي لا يجوز أن يحوزه الإنسان بعد حاجته - الأصل فيه الكلأ والنبات الذي خرج بأمر الله. وما خرج بفعل الإنسان وبدون فعله كله بأمر الله لكن المقصود ما خرج بلا تدخل من صاحب الأرض فإن زرعه هو أو أبقى الأرض بلا زرع لينبت فيها الكلأ فكذلك هو ملك له يتصرف فيه تصرف الملاك. - ثم قال - رحمه الله -: - ويملكه آخذه.

تبين معنا مما سبق أن الماء الزائد عن الحاجة والكلأ الزائد عن الحاجة مباح وهو لمن أخذه ولذلك إذا وجد في أرض مملوكة فيجوز للإنسان أن يدخل في هذه الأرض وأن يأخذ هذا الماء الزائد عن حاجة مالك الأرض والكلأ الزائد عن حاجة مالك الأرض ولا حرج عليه في ذلك. وإذا أخذه تملكه بمجرد الأخذ لأن هذا شأن المباحات فإن المباحات تملك بالأخذ لكن يشترط في دخوله الأرض أن لا يكون في دخوله أذى على صاحب الأرض وأن يستأذن قبل الدخول. ومن جهة أخرى يحرم على صاحب الأرض أن يمنع دخول الداخل بلا ضرر فإذا استأذنه ولا ضرر عليه فإنه يحرم عليه أن يمنعه. * * مسألة / فإن منع صاحب الأرض الناس من الدخول إليها بلا ضرر: فهو آثم. لكن هل يجوز للناس أن يدخلو قسراً وقهراً بالقوة؟ =من الفقهاء من قال: نعم. لهم أن يدخلوا ليستنقذوا حقهم الذي أباحهم الله إياه، ولأن المانع ظالم لأنه منع بلا حق. = ومن الفقهاء من قال: بل إذا منع بلا حق فهوآثم لكن لا يجوز الدخول إلى أرضه لما في هذا من الضرر ومن إيقاع الفوضى ومن المفاسد التي تعلم عند التأمل. وهذا القول الثاني هو الصحيح. - ثم قال - رحمه الله -: - (5) وأن يكون مقدوراً على تسليمه. يشترط في المبيع أن يقدر على تسليمه فإن كان المبيع مما لا يستطيع البائع تسليمه للمشتري فإن العقد باطل. لأن هذه الشروط كما تقدم معنا شروط صحة. والدليل على هذا الشرط من وجهين: - الوجه الأول: أن الإمام مسلم أخرج في صحيحه أن النبي - صلى الله عليه وسلم -:نهى عن بيع الحصاة وعن بيع الغرر. فهذا حديث ثابت يفيد المنع من الغرر وعدم القدرة على التسليم من أعظم الغرر. - والوجه الثاني: أن المعجوز عن تسليمه كالمعدوم والمعدوم لا يجوز أن يباع بلا إشكال. فدل على هذا الشرط النص والاعتبار الصحيح. فهو شرط ثابت لا إشكال فيه وإذا تخلف هذا الشرط عن عقد البيع فهو باطل. ثم لما قرر الشرط بدأ بالتفصيل: - فقال - رحمه الله -: - فلا يصح بيع آبق. المقصود بالآبق هنا: العبد الهارب الذي لا يقدر عليه فهذا هو الآبق. فالآبق لا يجوز أن يباع ولا يجوز أن يشترى لأمرين:

- الأمر الأول: أنه روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه نهى عن شراء العبد الآبق. - الأمر الثاني: النهي عن الغرر وتقدم معنا الحديث الذي في مسلم. = والقول الثاني: أنه يجوز أن يباع العبد الآبق. - لأنه عين مملوكة فجاز لصاحبها البيع. وهو مذهب ابن حزم. = القول الثالث: أنه يجوز بيع العبد الآبق على من استطاع أخذه ورده. واستدل هؤلاء: - بأن المنع من بيع العبد الآبق إنما هوم للغرر والعجز عن التسليم وهو منتف في حق من يستطيع أن يرده ويأخذه. وهذا القول الثالث: هو الصواب. أنه يجوز البيع بشرط أن يكون المشتري ممن يقدر على أخذه ورده. * * مسألة/ فإن اشترى العبد الآبق يظن أنه يستطيع أن يرده أو أن يأخذه ثم لم يستطع وفاته: = فمن الفقهاء من قال: يبطل العقد من الأصل. = ومن الفقهاء من قال: بل يخير المشتري بين الفسخ والإمضاء. وهذا القول الثاني هو الصحيح. أنه يخير بين الفسخ والإمضاء. - ثم قال - رحمه الله -: - وشارد. يعني: ولا يجوز بيع الجمل الشارد. والخلاف في الجمل الشارد كالخلاف تماماً في العبد الآبق من حيث التفصيل فإن الأحكام متطابقة تماماً. - ثم قال - رحمه الله -: - وطير في هواء. أي ولا يجوز للإنسان أن يبيع الطير الذي في الهواء ولو كان الطير ملكاً له ولو اعتاد الطير الرجوع إلى مكانه. - لأنه معجوز عن تسليمه الآن. * * فإن قيل / الطير الذي في الهواء المملوك لصاحبه الذي اعتاد الرجوع يشبه تماماً ملك الإنسان الغائب عنه وملك الإنسان الغائب يجوز أن يباع وأن يشترى. ـ فالجواب: بل إن بينهما فرق ظاهر: لأن الملك الغائب يرجع بإرادة المالك والطير الذي في الهواء يرجع بإرادة نفسه وليس للمالك أن يجبره على الرجوع متى شاء بل يرجع بإرادة نفسه. فبينهما فرق واضح من هذه الجهة. = والقول الثاني: أنه يجوز بيع الطير في الهواء إذا كان من الطيور التي تعتاد الرجوع إلى مكانها. - لأن هذا الطير يقدر على تسليمه وإن تأخر التسليم إلى الرجوع.

- ولأن الناس اعتادوا على بيع الحمام الطائر ووصفه للمشتري أثناء طيرانه وإتمام الصفقة وقد جرى على هنذا عمل الناس بل إن من الناس من لا يشتري الطير إلا إذا طار ليتأكد من كيفية الطيران المطلوبة عنده أو من صفة في الطير خاصة. وهذا القول الثاني ظاهر القوة والرجحان وهو أولى بالقبول. فإذا كان الطير معتاد الرجوع فلا بأس ببيعه ولو كان لا يمكن تسليمه الآن وإنما لاحقاً. - ثم قال - رحمه الله -: - وسمك في ماء. لا يجوز للإنسان أن يبيع السمك المملوك له في الماء. - لأنه لا يستطيع أن يسلم هذا السمك فهو غير مقدور على التسليم وفي هذا من الجهالة ما يبطل العقد. = القول الثاني: جواز بيع السمك في الماء. وذكروا للجواز شروطاً: ويغني عن هذه الشروط التي ذكرها الفقهاء والتفصيلات أن نقول بكل بساطة: أن يمكن اصطياده. وباقي الشروط في الحقيقة تطويل من وجهة نظري أنها شروط تطويلية لا فائدة منها لأنها شروط أرادوا منها الاستيثاق من إمكان الاصطياد فنحن نقول: يشترط في السمك إمكانية اصطياده فقط بلا تطويل. فإن أمكن أن يصاد سواء لكونه في بركة كحصورة أو لكونه في بركة يرى منها لشفافية الماء أو لأي سبب من الأسباب فمادام يمكن أن يصاد ومقدور عليه فيجوز أن يباع. وهذا القول الثاني بهذا الشرط المختصر هو الصواب: أنه إذا أمكن أن يصاد أو يباع فلا حرج في ذلك. - ثم قال - رحمه الله -: - ولا مغصوب من غير غاصبه. لا يجوز للإنسان أن يبيع المغصوب. للعلل السابقة وهي: الجهالة بسبب عدم القدرة على التسليم. لأن العين المغصوبة في تصر ف الغاصب وليست في تصرف المغصوب الذي عقد العقد ولهذا عقده باطل. وهذا أمر واضح. - ثم قال - رحمه الله -: - من غير غاصبه وقادر على أخذه. أي: لا يجوز بيع المغصوب إلا إذا بيع على الغاصب أو على رجل يأخذ أو يستطيع أخذ العين من الغاصب. أما الغاصب: فلكون العين في يده. فالتسليم متحقق من قبل العقد. وأما من استطاع أن يأخذ العين من الغاصب: فلأن الجهالة والغرر منتفية في حقه لكونه يستطيع أن يسترد العين المغصوبة من الغاصب. وهذا صحيح: أنه يجوز بيع المغصوب من غاصبه أو ممن يستطيع أن يأخذ العين من الغاصب.

* * مسألة/ فإن ظن أنه يستطيع أن يأخذ العين من الغاصب ثم تبين له أنه لا يستطيع. فالكلام فيها كالكلام في الجمل الشارد والعبد الآبق تماماً. الشرط السادس: - يقول - رحمه الله -: - (6) وأن يكون معلوماً برؤية أو صفة. الشرط السادس: العلم بالمبيع. ولا يمكن العلم بالمبيع إلا من طريقين: ـ الرؤية. ـ أو الوصف. فإن تم العقد بلا علم بالمبيع: = فذهب عامة أهل العلم: إلى أن العقد باطل. واستدلوا على ذلك: - بنهي النبي - صلى الله عليه وسلم - عن الغرر. وقالوا الجهل بالمبيع من أعظم الغرر. = والقول الثاني: أن البيع بلا علم بالمبيع جائز وصحيح. فإذا رأى المشتري السلعة فهو بالخيار إن شاء أتم وأمضى العقد وإن شاء فسخ. وإلى هذا ذهب بعض الفقهاء واختاره شيخ الإسلام - رحمه الله -. والراجح والله أعلم: أنه لا يصح العقد بدون معرفة المبيع وأن هذا من أوضح صور الغرر التي تدخل في حديث: النهي عن الغرر. وشيخ الإسلام - رحمه الله - نفسه تردد في هذه المسألة: فتارة رجح قول الجمهور وأن العقد باطل وتارة رجح أن العقد صحيح وللمشتري الخيار وتردده - رحمه الله - يدل على أن المسألة محل إشكال وتردد ونظر وأنه لم يتثبت في اختياره. والقول ببطلان العقد هو اختيار ابن قدامة وهو كما قلت واضح بالنسبة لي أنه هو القول الراجح وأنه لا يمكن تصحيح عقد مع الجهل التام بالسلعة فإن هذا غالباً ما يفضي إلى الشقاق والنزاع وهو أيضاً من الغرر الواضح لأن السلعة أحد أركان عقد البيع فكيف نصحح العقد مع الجهل بالسلعة التي وقع عليها العقد؟ وأنا أتعجب من الذين يصححون هذا العقد. الجمهور: لا يصححون العقد لكن في الحقيقة: أرى أن في ترجيح القول بصحة العقد مع عدم العلم بالسلعة مطلقاً لا رؤية ولا وصف أنه بعيد عن مقاصد الشرع. معنى هذا: أني لو قلت لك: عندي شيء. تشتري شيئاً عندي. فينبغي على القول الثاني أنهم يصححون هذا العقد وأي غرر أعظم من أن أقول لك: تشتري شيئاً عندي. ماهو هذا الشيء؟ فإن الإشياء تتراوح من أشياء عظيمة جداً إلى أشياء بخيسة جداً. المهم: رأيي في المسألة: هو رأي الجمهور وأنه هو الصواب وأن رجحانه ظاهر. - ثم قال - رحمه الله -:

- فإن اشترى ما لم يره أو رآه وجهله ... لم يصح. المقصود بالرؤية هنا: الرؤية التي يحصل بها معرفة المبيع: - سواء كانت الرؤية مقارنة للعقد. - أو كانت الرؤية سابقة للعقد ولم يتغير المبيع. إذاً: المقصود بالرؤية هنا: لا أي رؤية. بل الرؤية التي يحصل معها معرفة المبيع. يحقق هذا التقرير قول المؤلف - رحمه الله - هنا: (أو رآه وجهله). إذا رأى الإنسان المبيع ولكن مع كون المشتري رأى المبيع إلا أنه يجهل المبيع: - إما لأنه رآه عن بعد فلم يتثبت ولم يره على الوجه المطلوب. - أو رآه وهو مستتر بما لا يتمكن معه من التثبت في رؤيته. - أو لأي سبب من الأسباب. إذا رآه وهذه الرؤية لم تفيد المعرفة وإنما بقي يجهل المبيع فإن هذه الرؤية تعتبر لا شيء وكأنه لم ير المبيع. فالمؤلف - رحمه الله - يريد أن يحقق أن الرؤية يجب أن تكون الرؤية التي يحصل بها معرفة المبيع على الوجه المطلوب. - ثم قال - رحمه الله -: - أو وصف له بما لا يكفي سلماً: لم يصح. ذكرت أن أحد طريقي معرفة المبيع: الوصف. واعتبار الوصف أحد طريقي معرفة المبيع هو: = مذهب الجمهور. وهو الصواب إن شاء الله. ورجحانه ظاهر بما يغني عن سياق الخلاف بالنسبة للذين لا يرون أن الوصف قائم مقام الرؤية في البيع ومذهبهم ضعيف ونكتفي بالإشارة إلى هذا وأن الصواب أن الوصف يقوم مقام الرؤية إذا كان وصفاً شرعياً. والوصف الشرعي هو: الوصف الذي يحصل معه بيان صفات المبيع بما يكفي في عقد السلم، والذي يكفي في عقد السلم - إجمالاً وسيأتينا إن شاء الله التفصيل والذي يعنينا في هذا الباب - هو بيان الصفات التي يختلف بها الثمن. أن يبين من الصفات أو أن يبلين جميع الصفات التي يختلف فيها الثمن. فإن وصف المبيع بما لا يجزئ في السلم فالوصف هنا باطل ولم يتحقق شرط معرفة المبيع. * * مسألة/فإن وصف البائع السلعة للمشتري وصفاً دقيقاً يجزئ في السلم وجاءت السلعة مطابقة للمواصفات: = فإن الجمهور: يرون أنه ليس للمشتري الخيار ولو أنه اشترى بالوصف بدون الرؤية. بل إذا جاءت السلعة مطابقة للوصف ثبت البيع ولا خيار للمشتري.

= والقول الثاني: أن المشتري إذا اشترى عن طريق الوصف بلا رؤية فإن له الخيار بعد الرؤية ولو كان الوصف مطابقاً للسلعة. ... وإلى هذا ذهب الأحناف. والأقرب للصواب - والله تعالى أعلم - مذهب الجمهور. لأن الغرض من تصحيح البيع بالوصف أن لا يثبت للمشتري الخيار إذا طابقت السلعة الأوصاف. وإذا جعلنا له الخيار فأي فائدة في الوصف. إذاً نقول يشترط الرؤية ونرجع إلى مسألة: هل يشترط الرؤية أو الوصف؟ المهم نقول: إن شاء الله أن الأقرب أنه إذا رأى السلعة فإنه لا خيار له ما دامت الأوصاف مطابقة لما اتفق عليه في العقد. - ثم قال - رحمه الله -: - ولا يباع حمل في بطن ولبن في ضرع منفردين. ـ لا يباع حمل في بطن: فإذا قال البائع للمشتري: بعت عليك هذا الحمل الذي في بطن هذه الفرس وعين الفرس وأشار إلى الحمل الموجود في بطن الفرس: فإن البيع باطل: بالإجماع. لعدة أمور: - الأمر الأول: أن هذا الحمل غير مقدور على تسليمه. - والأمر الثاني: أن الحمل في البطن مجهول الوصف والحياة فهو مغرق في الجهالة. - والأمر الثالث: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى عن بيع الملاقيح والمضامين. والملاقيح: ما في البطون. والمضامين: مافي أصلاب الفحول. وهذا الحديث فيه ضعف لكن تشهد له النصوص العامة. وتشهد مقاصد الشريعة. إذاً دل على بطلان بيع الحمل: الإجماع والنص الضعيف والاعتبار الصحيح. - ثم قال - رحمه الله -: - ولبن في ضرع. اللبن في الضرع لا يجوز أن يباع. فإن بيع فالعقد باطل. والدليل على هذا أيضاً من أوجه: - الوجه الأول: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى عن بيه الصوف على الظهر واللبن في الضرع. وهذا الحديث روي مرفوعاً وموقوفاً ومرسلاً. والصواب من هذه الأوجه أنه صحيح موقوفاً على ابن عباس وثابت وصحيح ثابت مرسلاً عن عكرمة وضعيف مرفوعاً إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -. وتقدم معنا مراراً: أن الحديث المرسل الذي صح إلى قائله وتأيد بفتاوي الصحابة الثابتة وبأصول الشرع أنه يصلح للاحتجاج. فهذا الحديث ينطبق على القاعدة التي تكررت معنا مراراً: وأن شيخ الإسلام يرى أن الأئمة الأربعة يحتجون بمثل هذه المراسيل.

- الوجه الثاني: النهي عن الغرر. لأن هذا اللبن الموجود في الضرع مجهول تماماً: مجهول من حيث الكمية ومجهول من حيث الصفة والجودة. فهو مجهول من أكثر من اعتبار. - والوجه الثالث: أن اللبن في الضرع يتجدد فيجتمع في الضرع ما وقع عليه العقد وما استجد مما ليسمن ملك المشتري والفصل بين المستجد وما وقع عليه العقد لا يمكن وهذا المعنى يؤكد الجهالة واختلاط المبيع بغيره. = القول الثاني: أن بيع اللبن في الضرع صحيح وجائز. - لأن اللبن في الضرع مشاهد ويستطيع أهل الخبرة تقدير ما في الضرع من لبن. وهذا القول: ساقط جداً وضعيف. = القول الثالث: في المسألة - تفصيل وهو: - أن بيع اللبن في الضرع ينقسم إلى أقسام: ـ القسم الأول: أن يبيع اللبن المشاهد في الضرع فهذا: لا يجوز. وهو المقصود بالحديث. ـ القسم الثاني: أن يبيع آصاع معلومة معينة من هذه الشاة. فهذا أيضاً باطل لأنه يشبه بيع الثمر قبل بدو الصلاح. ـ القسم الثالث: بيع آصاع موصوفة في الذمة مطلقة يشترط أن تكون من هذه الشاة. وهذا النوع الثالث أجازه شيخ الإسلام - رحمه الله -. إذاً: القول الثالث: التفصيل الذي سمعت وهو أن بيع اللبن في الضرع ينقسم إلى هذه الثلاثة أقسام: - القسم الأول والثاني: لا يجوز ولا يصح. - والقسم الثالث: قسم منعه الجمهور. وأجازه شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله -. * * مسألة / لا يجوز عند الجمهور استئجار البهيمة لحلبها بأن يستأجر البقرة لمدة خمسة أيام ليحلبها لأن العقد وقع في الحقيقة على اللبن. = وذهب شيخ الإسلام: إلى أن استئجار الدابة للحلب لمدة معلومة: جائز. بل إنه - رحمه الله - صنف مصنفاً مستقلاً خاصاً في هذه المسألة نصرة للقول بالجواز وأنه يتوافق مع أصول الشرع. - ثم قال - رحمه الله -: - منفردين. أي أن تحريم بيع الحمل في حمل الدابة وتحريم بيع اللبن في الضرع: إنما يكون إذا بيعا على سبيل الانفراد والاستقلال. أما إذا بيعا تبعاً فالعقد صحيح: بالإجماع. فإذا باع الشاة وفيها لبن: أو وهي حامل: فالعقد صحيح: بالإجماع. والدليل على صحة هذا العقد:

- أن النبي - صلى الله عليه وسلم - صحح بيع المصراة. وسيأتينا الكلام عنها وعن تفصيلها. لكن الذي يعنينا هنا أن المصراة بيعت وفيها لبن ومع ذلك صحح النبي - صلى الله عليه وسلم - العقد وجعل للمغرور الخيار. - ثم قال - رحمه الله -: - ولا مسك في فأرته. = لا يجوز عند الحنابلة: أن يبيع الإنسان المسك في الفأرة. وفأرة المسك هي: الوعاء الذي يكون من جلد الغزال فيه المسك. واستدل الحنابلة على المنع من بيع الفأرة التي فيها المسك: - بأنه مجهول: لا تعرف كميته ولا جودته. = والقول الثاني: أن هذا البيع صحيح ونافذ. - لأن الفأرة بالنسبة للمسك كالوعاء الحافظ فهي تشبه الثمرة المغطاة بالقشرة. وهذا القول الثاني هو الصحيح: لأن إخراج المسك من الفأرة قد يؤدي إلى فساده. ولأن فأرة المسك بالفعل هي كالقشر الذي يغطي اللب في الفواكة التي أجمع العلماء جواز الشراء والبيع فيها. فالأقرب والله أعلم. القول الثاني. - ثم قال - رحمه الله -: - ولا نوى في تمر. بيع النوى داخل التمر: لا يجوز. بالإجماع. - لعظم الجهالة في وصفه. فقد يكون قليلاً أو صغيراً. وقد يكون كبيراً وهو مجهولٌ تماماً. فهو داخل في نهي النبي - صلى الله عليه وسلم - عن بيع الغرر. وأمره واضح. - ثم قال - رحمه الله -: - وصوف على ظهر. = الجماهير: يرون تحريم بيع الصوف على الظهر. واستدلوا على هذا بأمرين: - الأول: ان الصوف على الظهر معجوز على تسليمه. - والثاني: أن الصوف على الظهر إذا بيع يختلط بما ينبت بعد العقد. وهذا يؤدي إلى جهالة المبيع حيث يختلط ماهو من ملك المشتري الذي وقع عليه العقد وماهو من ملك البائع مما نبت بعد العقد. = والقول الثاني: أنه يجوز بيع الصوف على الظهر بشرط: الجز في الحال. وأن لا يؤدي إلى إيلام أو إيذاء البهيمة. وهذا القول مال إليه ابن القيم ورجحه صراحة المرداوي.

والأقرب والله أعلم أنه لا يجوز بيع الصوف على الظهر: لأن الحديث الذي تقدم معنا نص في المسألة فإنه - صلى الله عليه وسلم - نهى عن بيع الصوف على الظهر. ولأن إدراك هذا أمره سهل بأن يقال: جز الصوف ثم بعه. لأن جز الصوف لابد أن يتم بعد العقد فليجعل قبل العقد. وإلى هذا: أي إلى المنع: وهو قول الجمهور: ذهب الشيخ الصنعاني - رحمه الله - ونصره وهو الصواب إن شاء الله. - ثم قال - رحمه الله -: - وفجل ونحوه قبل قلعه. المقصود بنحوه: كل نبات كان المقصود منه مستتر تحت الأرض كالبصل والثوم وأشباه هذه النباتات التي يكون المقصود منها مستتر تحت الأرض. وعلة المنع: الجهالة. فربما كانت الثمرة المستترة قليلة صغيرة وربما كانت كبيرة وربما أصيبت بمرض وربما لم تصب. فالجهالة موجودة. = والقول الثاني: أن بيع ما المقصود منه مستتر تحت الأرض جائز وصحيح. وإلى هذا ذهب ابن القيم وشيخ الإسلام ونصروه نصراً كثيراً بأدلة كثيرة من أهمها: - أن هذه البقولات إذا ألزم المزارع بإخراجها قبل البيع ربما تفسد قبل أن يتم بيعها. - ثانياً: أنه ما زال الناس يبيعون هذه الأشياء وهي في باطن الأرض بدون اشتراط للقلع. والراجح والله أعلم: مذهب الجمهور. وإذا كان العرف في وقت الشيخ أنها تباع في الأرض فالعرف في وقتنا أنها تباع بعد القلع. فهل أحد منكم يعرف أن البصل يباع قبل القلع؟ فإن كل ما أعرفه من العرف الآن أن مثل هذه الأشياء: البصل والثوم والفجل لا يباع إلا بعد القلع. وهو الأكثر. على كلٍ: الراجح والله أعلم أنه لا يباع إلا بعد القلع ونحن نعرف مشاكل كثيرة وقعت بسبب أن المزارع باع الثمار قبل القلع فتبين أنها مصابة بمرض أو صغيرة أو لا تصلح لسوق معين ... إلى آخره. فنقول: مذهب الجمهور في هذه المسألة قوي ووجيه ويؤيده النهي عن بيع الغرر. - ثم قال - رحمه الله -: - ولا يصح بيع الملامسة والمنابذة. ـ الملامسة: هو أن يقول الرجل: أي ثوب لمست فهو لك بكذا. وفسر أبو هريرة - رضي الله عنه - الملامسة بأمر آخر وهو: أن يلمس كل من الرجلين ثوب صاحبه ليتبايعا من غير تدقيق ولا نظر في الثوبين. وفسر بتفسيرات كثيرة تدور حول هذه المعنى.

ـ والمنابذة: هي أن يقول المشتري للبائع أي ثوب نبذت إلي فهو علي بكذا. وبيع الملامسة والمنابذة: باطل. بإجماع الفقهاء. لما فيه من الجهالة. ولأن النبي - صلى الله عليه وسلم - في صحيح البخاري ومسلم: نهى عن بيع الملامسة والمنابذة. ولأن هذا البيع في شبه من القمار. فالبائع والمشتري كل منهما إما غارم أو غانم. فإن كان الثوب من الثياب الرفيعة المستوى والثمن قليل صار الكاسب هو المشتري وإن كان العكس فالكاسب هو البائع. على كل حال هذه علل تقوي الحكم ونحن معنا نص في البخاري ومسلم أن النبي - صلى الله عليه وسلم -: نهى عن هذين البيعين. - ثم قال - رحمه الله -: - ولا عبد من عبيده ونحوه. لا يجوز أن يبع الإنسان عبداً من عبيد بدون تحديد. وقوله: (ونحوه) كأن يبيع شاة من قطيع. أو نخلة من بستان بلا تحديد. فهذه البيوع باطلة. - لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى عن الغرر. وهذا الحديث العظيم الذي تستنبط منه جملة من الأحكام ولذلك يقول النووي - رحمه الله -: (هو حديث عظيم تقوم عليه جملة من الأحكام الشرعية). إذاً بيع عين غي محدده لامن جملة أعيان: باطل. للنهي عن الغرر. وهذا البيع باطل سواء كانت أقيام هذه الأعيان متساوية أو كانت متفاوتة. فإذا كان عنده في الشبك عشر من الشياه قيمها متساوية تماماً: فإنه إذا باع عليه شاة من هذا المكان فإن هذا العقد باطل. وإذا باع عليه عين من بين أعيان فالعقد باطل ولو كان العدد قليلاً. ولو كان لا يوجد في الشبك إلا ثلاثة. فقال: بعت عليك شاة من هذه الثلاث فإن البيع باطل. والعلة: كما تقدم: الجهالة. فإنه لا تعرف أي واحدة من هذه الأعيان المباعة هي المقصودة بالعقد. - ثم قال - رحمه الله -: - ولا استثناؤه إلاّ معيناً. لا يصح بيع مبيع واستثناء شيء منه إلا أن يكون هذا الشيء معيناً. فإن استثنى مجهولاً فالبيع باطل. فإذا قال: بعت عليك هذا القطيع من الشياه إلا واحدة ولم يبين أي واحدة هي المستثناة فالبيع كله باطل. فإن قال: بعت عليك هذا القطيع إلا هذه وأشار إليها فالبيع صحيح بالإجماع. نرجع إلى مسألة: إذا استثنى ولم يبين المستثنى: فالبيع قلنا أنه: باطل. الدليل:

- أولاً: ما أخرجه أبو داود في سننه: أن النبي - صلى الله عليه وسلم -: نهى عن الثنيا إلا أن تعلم. - وأيضاً: ما أخرجه مسلم في صحيحه أن النبي - صلى الله عليه وسلم -: نهى عن الثنيا. ويحمل النهي على ما لم يعلم. - ثالثاً: أن استثناء المجهول يجعل المبيع والمستثنى كلاهما مجهول. لأن المبيع لا يمكن أن يعرف إلا إذا عرف المستثنى والمستثنى مجهول إذاً لن نعرف لا المبيع ولا المستثنى. فإذاً استثناء المجهول يصير الصفقة كلها مجهولة. والقاعدة عند أهل العلم: (أنه لا يجوز استثناء إلا ما يجوز إفراده بالعقد). وتقدم معنا أنه لا يجوز الإفراد بالعقد إلا للمعلوم. - ثم قال - رحمه الله -: - وإن استثنى من حيوان يؤكل رأسه وجلده وأطرافه: صح. يعني وإن استثنى من حيوان يؤكل رأسه وجلده وأطرافه: صح. إذا استثنى البائع أثناء البيع رأس وأطراف وجلد الشاة المأكولة: صح الاستثناء وصح البيع. والدليل على ذلك: - أن هذه المستثنيات معلومة بالمشاهدة (الأذان). قال شيخنا حفظه الله: نتم هذه المسألة: إذا استثنى البائع جلد ورأس وأطراف المبيع: صح الاستثناء وقلنا أن سبب الصحة هو: أن المبيع معلوم بالمشاهدة. فهذا الاستثناء صحيح. والدليل على ذلك: - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى عن الثنيا إلا أن تعلم وهي الآن معلومة. ثم إذا استثنى هذه الأشياء: الرأس والجلد والأطراف. فإن كان اشترط على المشتري الذبح: فيجب على المشتري أن يذبح وأن يعطي المستثني ما استثناه. وإن كان البائع لم يشترط على المشتري الذبح: فحينئذ لا يجب على المشتري أن يذبح بل له أن يبقي الشاة حية ولكن يبعطي المستثني قيمة الرأس والأطراف والجلد - قيمة ما استثنى ولا يلزمه أن يذبح. * * مسألة / - نسيناها بالأمس - تلحق بحكم بيع الكلب: والمسألة هي: حكم بيع الهر. = ذهب الجماهير - جمهور أهل العلم: الأئمة الأربعة: إلى أن بيع الهر جائز. واستدلوا على هذا: - بأن الهر حيوان طاهر مباح النفع يجوز اقتنائه بلا حاجة , وهذه الأوصاف كلها تدل على جواز البيع. = والقول الثاني: وهو رواية عن الإمام أحمد واختيار ابن القيم ومال إليه ابن مفلح واختاره المرداوي: أن بيع الهر لا يجوز.

- لما أخرجه مسلم في صحيحه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى عن بيع الكلب والهر. وأجاب الجمهور عن هذا الحديث الصحيح الذي في مسلم الصريح في منع البيع: بعدة أجوبة: - الجواب الأول: أن هذا الحديث وإن كان في مسلم فهو ضعيف فإنه ممن ضعفه من الآئمة الترمذي لأنه حكم عليه بالإضطراب في السنن وممن ضعفه من الأئمة ابن عبد البر حيث قال: ولا يثبت مرفوعاً إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -. - الجواب الثاني: أن الحديث محمول على الهر الذي لا نفع فيه. - الجواب الثالث: أن الحديث محمول على الكراهة لا على التحريم. والراجح في هذه المسألة: ينبني تماماً على تحقيق الحديث ولم يتسن لي جمع طرق الحديث والنظر فيه ولماذا صححه مسلم ولماذا ضعفه الترمذي. فهذا يحتاج إلى وقت طويل. لكن إن صح الحديث فلا كلام أن اختيار ابن القيم ورواية عن الإمام أحمد هو الصواب وإن لم يصح الحديث فقول الجمهور واضح القوة تماماً. هذا والله أعلم وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين.

شرح كتاب البيع الدرس رقم (4) قال شيخنا حفظه الله: بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين. تقدم الكلام عن بيع مأكول اللحم واستثناء الرأس والجلد والأعضاء والأطراف وأن الصواب: صحة هذا الاستثناء، وانتهينا من هذه المسألة. وكنا تكلمنا على مسألة: (ولا عبد من عبيد ونحوه). وذكرت ما يتعلق بهذه المسألة وأن بيع عبد من عبيد لا يجوز ولو تساوت القيمة ولو قل العدد، وباقي مسألة من مسائل هذه العبارة وهي من مسائل قوله: (ولا عبد من عبيد ونحوه). وهي: إذا صار العبيد أو الشياه أو أي شيء مما سبق التمثيل به متساوي القيمة ومتساوي أيضاً من جهة الصفة بحيث تتطابق أوصاف هذه الأشياء التي بيع واحد منها. ففي هذه الصورة: لا بأس بقوله: (بعت عليك واحداً من هذه الأشياء). لأن الغرر في هذه الصورة منتف تماماً. وغالباً ما يقع هذا في الجامدات والمصنوعات ونحوها فهي تتطابق في الصفة وتتطابق في القيمة.

أما الأشياء الحية من بهائم الأنعام أو العبيد أو ما شابه هذه الأشياء فيكاد يتعذر أن تطابق الأوصاف تماماً والقيمة، وقد تتطابق القيمة مع اختلاف في الأوصاف وتتطابق القيمة لاعتبارات أخرى لكن الأوصاف تختلف. فقد تجد مثلاً من الماعز الذكر ما قيمته تساوي الأنثى لاختلاف السن أو لرغبة المشتري بالذكر دون الأنثى: فهنا تطابقت القيمة لكن مع اختلاف بين في الوصف بل إن هذا ذكر والآخر أنثى. فإذاً: الخلاصة أنه يصعب أن تتطابق الصفات في الأعيان الحية لا سيما بهيمة الأنعام ولكن قد يحصل هذا في المصنوعات والمنتوجات الجامدة وهو كثير. فمثلاً: السيارات الجديدة اليوم: متطابقة تماماً. وتختلف في شيء واحد وهو: اللون. فبالنسبة للسيارات التي من طبقة واحدة في الصفة لا تختلف إلا في اللون. فإذا وجدت سيارة من نفس الموديل جديدة بنفس اللون وبنفس المواصفات: فإنه لا يوجد أي فرق بين السيارتين. فإذا قال: بعت عليك سيارة مما في المعرض وكل الذي في المعرض من موديل واحد ونوع واحد ولون واحد وصفة واحدة: فهذا على الصواب يجوز وإن كانت عبارة المؤلف - رحمه الله - أن هذا البيع لا يجوز لأنه عمم. لكن كما قلت: هذا يجوز. إذاً: انتهينا من مسألة استثناء المعين من مسألة استثناء رأس وجلد وأطراف الحيوان المأكول وبقينا في مسألة اليوم: - قال - رحمه الله -: - وعكسه الشحم. معنى قوله: (وعكسه الشحم) أي: فلا يجوز أن يستثنى. والسبب: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى عن الثنيا إلا أن تعلم. وتقدير الشحم في الحيوان المأكول اللحم لا يمكن أن يضبط. فإذا قال: بعت عليك هذه الشاة واستثنيت ما فيها من لحم: فالبيع باطل. لأن المستثنى مجهول ولا يمكن معرفة المستثنى منه إلا بمعرفة المستثنى. فالبيع باطل. إذاً: الشحم يأخذ عكس حكم استثناء الرأس والجلد والأطراف. * * مسألة / فإن استثنى نوعاً معيناً من الشحم وهو الإلية فقط فإن هذا الاستثناء جائز لأنها مشاهدة معلومة مقدرة وليست مجهولة في داخل الجسم. فاستثناء هذا النوع من الشحم فقط: جائز ولا حرج فيه فإذا انتفت الجهالة صح العقد. - ثم قال - رحمه الله -: - والحمل. يعني ولا يصح أن يستثني الحمل.

فإذا قال: بعت عليك هذه الشاة وأستثني حملها. فإنه: لا يصح. للجهالة. وما قيل في الشحم يقال في الحمل حيث لا يمكن معرفة صفة هذا الحمل ولا هل هو حي؟ أو ميت؟ فهو مجهول. =والقول الثاني: أن استثناء الحمل: جائز. - لأن عبد الله بن عمر - رضي الله عنه - باع أمة واستثنى حملها. والقول الراجح إن شاء الله: أن استثناء الحمل: لا يجوز. والجواب على أثر ابن عمر: أن لفظه الصحيح: (أنه أعتق جارية واستثنى حملها) ومن المعلوم أن العتق ليس من عقود المعاوضة فلا بأس فيه باستثناء المجهول. ومما يدل على رجحان مذهب الحنابلة: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى عن بيع الحمل منفرداً. وتقدم معنا بالأمس قاعدة وهي أنه: (لا يصح استثناء إلا ما يجوز بيعه منفرداً) وتقدم في نص المؤلف - رحمه الله - أنه لا يجوز بيع الحمل منفرداً. إذاً: هذا مما يؤيد مذهب الحنابلة - رحمهم الله -. والشيء الثالث: إن قيل أن استثناء الحمل هو: عبارة عن استبقاء وليس بيعاً جديداً فلا يأخذ هذه الأحكام إنما هو استبقاء للحمل على ملك البائع. فالجواب: أن كلمة استبقاء تعني: الاستثناء واختلاف العبارة لا يعني اختلاف المعنى والنبي - صلى الله عليه وسلم - نهى عن الثنيا إلا أن تعلم فالاستبقاء هو استثناء. فإذاً: إذا اعتبرنه عقداً جديداً فهو محرم وإذا اعتبرناه استثنائي واستبقاء فهو أيضاً محرم ولذلك لا أرى ي وجه لتصحيح استثناء الحمل. فهو باطل ومجهول وربما كان الحمل واحد أو اثنان أو ربما كان أنثى أو ذكر أو ربما كان حي أو ميت وربما كان بصحة جيدة أو ربما كان بصحة سيئة وهذه كلها أشياء موغلة في الجهالة وتقدم معنا حكم بيع الحمل وما قيل فيه من نصوص وآثار فهو كذلك ينطبق على هذه المسألة. فاستثناء الحمل الذي قد يمارسه بعض الناس اليوم في بيع بهيمة الأنعام: لا يجوز. ويجب أن يبطل العقد وأن يقال: إما أن تشتريها بالحمل أو أن تنتظر إلى أن تلد ثم تشتري الشاة حائلاً ليست حاملاً. - ثم قال - رحمه الله -: - ويصح بيع ما مأكوله في جوفه: كرمان وبطيخ.

بيع ما مأكوله في جوفه: جائز بالإجماع. ولا مجال للخلاف في هذه المسألة بسبب أن إخراج هذا المأكول من جوف القشر إفساد للسلعة. وهل يتصور أحد أن يبيع البيض بلا قشره؟ هل هو ممكن؟. لا يمكن أبداً. إذاً: ما مأكوله في جوفه يجوز أن يباع في جوفه بالإجماع لأنه إذا أخرج فسد فلا إشكال في هذه المسألة. - ثم قال - رحمه الله -: - وبيع الباقلاء ونحوه في قشره والحب المشتد في سنبله. يعني: صحيح. الباقلاء هو: الفول. فبيع الباقلاء والجوز واللوز والحب داخل السنبل وكل ما شابه هذه الأعيان: جائز وصحيح. لدليلين: - الأول: أنه مستتر في قشره الأصلي. - والثاني: أن هذه الأعيان تقاس على ما مأكوله في جوفه. - الثالث - وينبغي أن يكون الأول -: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى عن بيع الحب حتى يشتد. ومفهوم الحديث أنه إذا اشتد الحب: جاز بيعه ولو في سنبله. فمفهوم الحديث يدل على الجواز. = والقول الثاني: أن هذه الأشياء لا يجوز أن تباع لا الجوز ولا اللوز ولا الحب في سنبله ولا الفول قبل أن يقشر وكل ما شابه هذه الأمور. - لأن هذه الأعيان مستتره وهذا الاستتار يؤدي إلى الجهالة والجهالة تمنع من صحة البيع. وكأن هذا القول نظري ولا أظن أنه عمل بهذا القول من بداية الناس بالبيع والشراء لأننا ما علمنا أن الجوز واللوز يباع بدون قشره. فيبدو لي أن الجوز واللوز والفستق والفول: ما زال الناس يبيعونه بقشره الأصلي. فالراجح والذي عليه العمل هو القول الأول ولا أظن القول الثاني كما قلت إلا قول نظري لا يمكن تطبيقه. - ثم قال - رحمه الله -: - وأن يكون الثمن معلوماً. يشترط أن يكون الثمن معلوماً: - من جهة القدر. - ومن جهة الصفة. - ومن جهة النوع. والمقصود بكونه معلوماً: أن يعرف البائع كل ما يتعلق بالثمن. والدليل: - أن الثمن أحد طرفي العوض فوجب أن يبين. ـ وأما كيفية معرفة الثمن: فالتفصيل الذي قيل في معرفة السلعة يأتي معنا هنا تماماً في معرفة الثمن من حيث الرؤية ومن حيث الوصف وكل ما قيل من مسائل تتعلق بمعرفة المبيع تأتي في معرفة الثمن تماماً ولا فرق لأن العقد اشتمل على سلعة وثمن فالكلام فيهما واحد.

ولو أن الفقهاء - رحمهم الله - جعلوا هذا الشرط شرطاً واحداً فقالوا: يشترط معرفة السلعة والثمن. كان أوضح. لكن هم - رحمهم الله - رأوا التفصيل لزيادة التوضيح وللتأكيد على كل شرط بحد ذاته ليعلم أن الثمن لابد أن يعرف والسلعة لابد أن تعرف. إذاً: لا نحتاج إلى إعادة الكلام فيما يتعلق بكيفية معرفة الثمن لأنه يكون بالرؤية والوصف على ما تقدم. - ثم قال - رحمه الله -: - فإن باعه برقمه. المرقوم هو: المكتوب. يعني: فإن باع السلعة بثمنها المكتوب عليها. ومقصود الفقهاء: يعني وجهلاه. أما الثمن المكتوب عليه والذي قرأ وعرف فهذا غير داخل في مسألتنا. إذاً: هم يريدون المرقوم الذي جهله البائع والمشتري. فهذا لا يجوز العقد عليه: لأن الثمن مجهول. ومعرفة الثمن شرط لصحة العقد. صورة المسألة: أن يقول زيد لعمرو: بعت عليك هذه السيارة فيقول: عمرو بكم؟ فيقول: بالسعر المكتوب عليها وهو لا يعرف السعر المكتوب عليها. بأن تكون السيارة غائبة أو بعيدة أو مستترة. فهذه الصورة لا تجوز. = القول الثاني: أن بيع الشيء بسعره المرقوم عليه جائز. - لأنه إن لم يعرف الآن عرف إذا رأي الرقم. وإلى ذهب شيخ الإسلام بن تيمية وهو رواية عن الإمام أحمد. والأقرب والله أعلم: المنع. لأنه تقدم معنا مراراً أنه لابد من معرفة السعر ومعرفة المبيع في الحال لا في المآل لأن الشقاق إنما يحصل عند المعرفة بعد مجلس العقد. فلابد قبل أن يتم العقد أن يعرف الثمن ولا نكتفي بقوله: بسعرها المكتوب عليها. بل إني أقول: أنه غالباً لا يقول البائع مثل هذا اللفظ يعني: ولا يصرح بالسعر إلا ويريد إخفاء شيء على المشتري وإلا لو كان الأمر على ظاهره لقال: بكذا ولم يقل: بالمكتوب عليه. وعلى كل حال: الأمر سهل ومذهب الحنابلة أوضح. نقول: إذا أردت أن تبيع فصرح بالثمن ولا تقول بالمكتوب ولو كان المكتوب سيتضح عند الوصول إلى السيارة أو إلى السلعة أياً كانت فنقول: صرح بالمكتوب بسعره في مجلس العقد ليدخل البائع على بينة وليكون أيضاً المشتري على بينة. فالصواب إن شاء الله مع الحنابلة وأنه لا يجوز البيع بالرقم إلا أن يعلم للمشتري والبائع. وغالباً سيكون معلوماً للبائع والجاهل هو المشتري.

وقد يحصل أن البائع والمشتري يجهلان وذلك بأن يضع السعر على السلعة من وقت طويل ثم لا يذكر كم السعر الآن فيقول: مثلاً: بعت هذه السلعة عليك بالسعر المكتوب ولا أذكر الآن كم وضعنا سعر هذه السلعة لكن ننظر إذا وصلنا إلى السلعة. فعلى كل حال: إن كان السعر مجهولاً للبائع أو المشتري أو لأحدهما فإنه لا يجوز. - ثم قال - رحمه الله -: - أو بألف درهم ذهباً وفضة. يعني: لا يجوز أن يكون الثمن ألف درهم: بعضه ذهب وبعضه فضة ولم يبين البائع مقدار الذهب ومقدار الفضة. وعلة المنع: أن مقدار الذهب والفضة من مجموع القيمة مجهول، والجهالة تمنع صحة البيع. = القول الثاني: أنه إذا قال: بعت عليك هذه السلعة بألف درهم ذهباً وفضة فإن الثمن يكون مناصفة: نصفها ذهب ونصفها فضة. - لأن الإطلاق هذا يفهم منه المناصفة. = والقول الثالث: أنه إذا قال: بعت عليك بألف درهم ذهباً وفضة: صح مطلقاً. علمنا مقدار الذهب والفضة من مجموع الثمن أو لم نعلم. واستدل هذا القائل: - بأن السعر الآن معلوم وهو: ألف درهم. فحيثما سدد المشتري ألف درهم: جاز. مهما سدد فالسعر في الأخير معلوم سواء سدد بثلاثة أرباعه فضة وربعه ذهب أو بالعكس أو بالمناصفة ففي الأخير والمآل سيكون الثمن: ألف درهم. فإذاً العقد جائز. وهذا القول: وجيه جداً وصحيح وراجح. بشرط: أن لا يكون للناس نظرة وتفريق بين الذهب والفضة. فإذا كان للناس رغبة زائدة في الدنانير أو رغبة زائدة في الدراهم في وقت من الأوقات أو في ملابسات معينة فإنه يجب وجوباً أن يبين مقدار الدراهم ومقدار الدنانير. يعني: مقدار الذهب ومقدار الفضة، فهذا يجب وجوباً. وأما في وقتنا هذا الآن فيتعين البيان فلو قال: بعت عليك بألف ريال دنانير وأريل. فالبيع لا يجوز لأن الدينار الآن عملة موجودة في بلد وفي بلد آخر وفي ثالث. فهو مسمى لعملة في أكثر من بلد والدينار في البلد الفلاني يختلف تماماً قوة ومقداراً وقوة في الشراء عن الدينار في البلد الآخر. فإذاً: نقول في وقتنا هذا لا يصلح أن يقول: بعت عليك بألف ريال ونقول الألف ريال معروفة ولكن تحضر قيمة الألف ريال بعضها من الأريل وبعضها من الدنانير.

كذلك لا يصلح أن يقول: بعت عليك بألف ريال: أريل ودولارات مثلاً. فهذا لا يصلح لأن الناس يفرقون اليوم بين الدولار ويرون أن له قيمة أكثر مثلاً من معادلة من بعض العملات الأخرى ولو كانت تعادله في القيمة إلا أنهم يرغبون في الدولار أكثر لرواجه وقوته ولأنه يباع في أي سوق أو لأي سبب آخر. الخلاصة: أنه إذا جمع بين نوعين من النقد فيشترط لصحة العقد أن لا يكون عند الناس عرف ورغبة في أحد النوعين أكثر من الآخر فحينئذ لابد من البيان وإلا إذا لم يكن هذا واقعاً بين الناس فإن القول الثالث الذي يقول: أن الألف درهم معروفة كيفما سددت هذه الألف: جاز. فهذا قول وجيه وهو من حيث المعنى قوي. - ثم قال - رحمه الله -: - أو بما ينقطع به السعر. إذا باع عليه بما ينقطع به السعر. أي: بالمبلغ الذي يقف عليه السعر بلا زيادة فإنه جائز. لكن في الحقيقة بعد التأمل والنظر وجدنا أنه فيه اختلاف في تعريف ما ينقطع به السعر. ـ فالمعنى المتبادر: أن البيع يكون بما ينقطع عليه السعر أثناء البيع مزايدة. فيقول: بع هذا مزايدة وما ينقطع عليه السعر فهو لي بكذا. هذه الصورة هي المتبادرة للذهن وكثير من الشراح يفرع على هذه الصورة. ـ الصورة الثانية: أن يقول الرجل لبائع السلع قبل أن يبدأ بالبيع: اشتريت منك هذه السلعة بمثل ما تبيع به نظيرها. وهذا يكون غالباً في افتتاح السوق قبل أن يبدأ بالبيع ولا يدري بكم سيبيع فهنا لا يوجد حراج ولا مزايدة لكن لا يدري هو بكم سيبيع فيقول: أنا شتري منك بما ينقطع به السعر كيفما بعت هذه السلعة فأنا أريد التي نشبهها بنفس الثمن. ـ الصورة الثالث: وهي الصورة التي: ذكرها ابن القيم وشيخ الإسلام أن يأخذ الإنسان من البقال تباعاً كل مثلاً - كيلو بكذا. والذي ينقطع به السعر هو في النهاية عند المحاسبة. هذه ثلاث صور: تختلف تماماً في الحقيقة إذا تأملت ذلك. - فالصورة الأولى: وهو البيع مزايدة: الأقرب أنه لا يصح. إذ ربما يرتفع الثمن بسبب ملابسات المزايدة ارتفاعاً لا يرضاه المشتري مطلقاً ثم يحصل بعد ذلك الشقاق والنزاع بقوله: ما كنت أظن أن يبلغ السعر هذا المبلغ.

- والصورة الثانية: الأقرب فيها الصحة. لأن السعر سيكون متصوراً ومعروفاً ومحدوداً بين سعرين متقاربين وليس هناك مزايدة تخرج عن الظن أحياناً وإنما تحديد متقارب بين سعرين متقاربين فهذا لا إشكال فيه وغالباً ما يقع في السلع اليسيرة الرخيصة. - الصورة الثالثة: هذه الصورة لا بأس بها. بل إن شيخ الإسلام وابن القيم يزعمون أن هذه الصورة بالناس إليها ضرورة ون أكثر معاش الناس لعله في زمنهم يكون على وفق هذه الصورة ولا يمكن أن يمنع الشارع صورة الناس بحاجة إليها حاجة ماسة أو ضرورة. وعلى كل حال: سواء كانت حاجة الناس لمثل هذه الصورة ماسة أو ليست بماسة ضرورية أو ليست بضرورية فهي جائزة ولا محظور فيها. وبهذا كمل صور البيع بما ينقطع عليه السعر. - ثم قال - رحمه الله -: - أو بما باع زيد وجهلاه أو أحدهما: لم يصح. إذا قال: بعت عليك بما باع به زيد: فإنه لا يصح. - لأن ما باع به زيد: مجهول، وجهالة السعر تبطل العقد. = والقول الثاني: أنه إذا باع بما باع به زيد: فهو صحيح وجائز. - لأن الناس غالباً لا يستعملون هذه الصيغة إلا بتعليق السعر على رجل له خبرة بأسعار مثل هذه السلع. - ولأن عمل الناس فيما يجهلون من أسعار السلع يكون غالباً كذلك. فيقول: أبيع عليك بمثل ما باع فلان سيارته أو بيته أو غلته أو ثماره .. إلى أخره. والأقرب والله أعلم أنه لا يجوز كما قال الحنابلة. لأن حاجة الناس في مثل هذه الصور تندفع بأن يعرف ما باع به زيد ثم يتم العقد ولا حرج في ذلك. إما بأن يعده أن لا يبيع السلعة أو بأخذ عربون أما إتمام الصفقة تماماً والعقد وإنهاء الأمر على أساس أن سعر السلعة هو بمثل ما باع به زيد. فهذه جهالة واضحة جداً لأن السعر مجهول تماماً إلى أن يبيع زيد فإن باع زيد ربما رضي المشتري أو البائع بما باع به زيد وربما سخط ما باع به زيد ثم وقع بينهما الشقاق والنزاع. وهذه الصورة ما تمس الحاجة إليها ولا يوجد معنى لتصحيحها. يعني: لا يوجد مقصد شرعي يجعل الفقيه يصحح مثل هذه الصورة لأن الحاجة تندفع كما قلت لكم بأن يؤجل إتمام الصفقة إلى ما بعد معرفة السعر الذي باع به زيد. - ثم قال - رحمه الله -:

- وإن باع ثوباً أو صبرة أو قطيعاً كل ذراع أو قفيز أو شاة بدرهم: صح. يعني: نلاحظ أن المؤلف - رحمه الله - يأتي بصور ممنوعة ثم يأتي بصور جائزة ثم يرجع للصورة الممنوعة ثم يتكلم عن الصور الجائزة. فبدأ: ولا يصح بيع الملابسة والمنابذة. ثم: ويصح ما مأكوله في جوفه. إذاً انتقل إلى العيان التي تصح. ثم رجع فقال: فإنه باعه برقمه ... إلى آخره. قال: لم يصح. ثم رجع مرة أخرى وقال: وإن باع ثوباً أو صبرة ... صح. فهذا في الحقيقة يخالف الترتيب المنطقي والمتبادر للذهن أن يجعل العقود الصحيحة جملة واحدة ثم يجعل العقود الغير الصحيحة جملة واحدة لكن المؤلف - رحمه الله - إنما فرق هذا التفريق ليبين المسائل المتشابهة التي بعضها يصح وبعضها لا يصح. فيجعل المسائل المتشابهة جميعاً في مكان واحد التي تصح والتي لا تصح. فمثلاً: يبين مسائل الثنيا في مكان واحد فيذكر ما يصح من الثنيا وما يحرم من الثنيا ثم ينتقل لمسائل المستتر فيبين ما يصح وما لا يصح ثم الآن انتقل إلى مسائل بيع الصبرة غير معروفة العدد وسيبين ما يصح وما لا يصح وهو بدأ الآن بالأشياء التي تصح: - فيقول - رحمه الله -: - وإن باع ثوباً أو صبرة أو قطيعاً كل ذراع أو قفيز أو شاة بدرهم: صح. = ذهب الجمهور من أهل العلم إلى أنه يجوز أن يبيع الإنسان الثوب: كل ذراع بكذا والصبرة كل قفيز بكذا والقطيع كل شاة بكذا. ولو جهل مقدار الصبرة ومقدار الثوب وعدد الشياه. واستدلوا على هذا: - بأن الصبرة مشاهدة معلومة والقطيع مشاهد معلوم فهو تحت نظر المشتري. وما الثمن فهو يعلم بمعرفة عدد الأذرع والأقفزة وعدد الشياه، فصار كل من المبيع السلعة والثمن معلوماً معروفاً وليس بمجهول. ولذلك ذهب الجمهور إلى تصحيح هذا العقد. وهذا صحيح فإذا قال: بعت عليك هذه الصبرة كل قفيز منها بدرهم فلا إشكال لأنه لن يسلم الدراهم إلا بعد معرفة كم قفيز في هذه الصبرة. فإذاً تم معرفة الثمن بمعرفة عدد الأقفزة في هذه الصبرة ولا إشكال إن شاء الله في هذه المسألة. ثم انتقل المؤلف إلى ما لا يجوز: - فقال - رحمه الله -: - وإن باع من الصبرة كل قفيز بدرهم ... لم يصح. إذا باع الصبرة كل قفيز بدرهم: صح.

وإذا باع من الصبرة كل قفيز بدرهم: لم يصح. لماذا؟ لأن من هذه للتبعيض وهو يقول: كل قفيز من هذه الصبرة بدرهم ونحن لا نعلم هذا المبعض ما مقداره. فهذا وجه الجهالة الذي أبطل العقد لأن هذا المستثنى والمبعض غير معلوم. فإذا قال البائع للمشتري: هذه صبرة طعام لك منها: كأنه قال: لك بعضها كل قفيز بدرهم. كم المبيع الآن؟ لا يمكن أن يعلم. لماذا؟ لأنه ليست هذه الصبرة المشاهدة كلها مبيعة وإلا لدخلت في المسألة الأولى ولكن بعض هذه الصبرة هو المبيع وهذا البعض مجهول. = والقول الثاني: أن هذا البيع صحيح وجائز. - لأن قيمة كل جزء من هذه الصبرة معلوم وبقدر ما يأخذ من الأجزاء ينعقد البيع. والقفيز معلوم. فالمشتري يأخذ من هذه كل قفيز بدرهم فالآن سعر القفيز معلوم وهو الدرهم والكمية معلومة وهي أنه: كل قفيز قل أو كثر. والذي يظهر والله أعلم: أن هذا صحيح وأن القول الثاني أقوى. لأن الجهالة غير موجودة الآن. فإن كلاً من العوض والمعوض معلوم ويتبين بمجرد الاستلام يعني بمجرد الوزن. - ثم قال - رحمه الله -: - أو بمائة درهم إلاّ ديناراً وعكسه. إذا قال: بعت عليك بمائة دينار إلا درهم. فإن العقد باطل. أو قال: بعت عليك بمائة درهم إلا ديناراً: فإن العقد باطل. لأن قيمة الدينار مجهولة واستثناء المجهول من المعلوم يصيره مجهولاً. لأنه كما تقدم لا يمكن أن يعلم المستثنى منه إلا بمعرفة المستثنى والمستثنى مجهول فصار كل من المستثنى والمستثنى منه مجهول. =والقول الثاني: أن البيع صحيح ويخصم من المائة درهم قيمة الدينار الواحد وقيمة الدينار ليست بمجهولة بل هي معلومة لغالب الناس وإذا كان المستثنى معلوم صار الثمن كله معلوم. فإذا باع عليه مائة درهم إلا ديناراً وقيمة الدينار عشرة دراهم فالثمن: تسعين. إذاً ليس بمجهول. والقول الثاني: هو الصواب. ولا شك أن طالب العلم إذا قرأ القول الثاني وتعليل القول الثاني علم أنه إذا قال: بعت عليك بمائة ريال إلا دولار وأنت ما تعرف قيمة الدولار فإن هذا العقد باطل حتى على القول الثاني. لأن هذا معلوم من التعليل فإذاً إذا كانت العملة المستثناة مجهولة المقدار للبائع أو المشتري فإن الثمن مجهول والعقد باطل.

فإذاً طالب العلم ما يأخذ الأقوال جامدة وإنما يأخذ القول ويعلم متى يخرج من هذا القول إذا لم تتحقق فيه الشروط. - ثم قال - رحمه الله -: - أو. هذه زائدة أيضاً تشطب لأنها ليست في النسخ. - ثم قال - رحمه الله -: - أو باع معلوماً ومجهولاً يتعذر علمه ولم يقل كل منهما بكذا: لم يصح. في هذا الموضع من أصل المتن وهو المقنع قال ابن قدامة - رحمه الله -: (فصل في تفريق الصفقة) فإذاً المؤلف - رحمه الله - الآن بدأ في مسائل تفريق الصفقة وكأن الماتن - رحمه الله - ما أراد أن يكثر من الفصول فلم يعقد لهذه المسائل فصلاً خاصاً لكنه في المقنع فصل. فإذاً بدأ المؤلف - رحمه الله - بالكلام عن مسائل تفريق الصفقة. والعقد الذي فيه تفريق الصفقة تعريفه هو: بيع ما يجوز بيعه وما لا يجوز بيعه بعقد واحد بثمن واحد. فإذا باع على هذه الصفة فهي من مسائل تفريق الصفقة. فإذا قال: بعت عليك هذه السيارة وهذه السيارة بمائة ألف فليست من مسائل تفريق الصفقة لأنه لم يجمع بين ما يجوز وبين ما لا وإنما جمع بين ما يجوز وما يجوز. ومسائل تفريق الصفقة لها ثلاث صور: بدأ بالصورة الأولى: - بقوله - رحمه الله -: - أو باع معلوماً ومجهولاً يتعذر علمه ولم يقل كل منهما بكذا: لم يصح. إذا جمع في الصفقة الواحدة بالسعر الواحد بين: معلوم ومجهول. فالعقد: باطل. مثاله: أن يقول: بعت عليك هذه السيارة التي تراها أمامك وسيارة أخرى. سعر السيارتين: مائة ألف. والسيارة الأخرى مجهولة تماماً. = فعند الحنابلة: هذا العقد لا يصح. تعليل البطلان: - أنه في مثل هذه الصورة لا يمكن تقسيط الثمن على السلعتين لأن تقسيط الثمن يشترط له معرفة قيمة السلعة المجهولة لإمكانية التقسيط فإذا جهلت قيمة السلعة المجهولة لم يمكن مع ذلك التقسيط. فبطل العقد لأن الثمن مجهول. وهذا صحيح بلا إشكال. إذاً: تعليل المنع: أن تقسيط الثمن على السلعتين لا يمكن إلا بمعرفة قيمة السلعة المجهولة. وإذا لم يعرف الإنسان قيمة السلعة المجهولة لم يمكن تقسيط الثمن وإذا لم يمكن تقسيط الثمن صار مجهولاً والثمن المجهول يبطل العقد. فهذا الحكم صحيح وثابت والجهالة بهذه الكيفية تؤدي إلى إفساد البيع.

والمثال المشهور الذي يذكره الفقهاء أن يقول: بعت عليك هذه الشاة وما في بطن الأخرى. فالشاة هذه معلومة لكن ما في بطن الأخرى مجهول الثمن والصفة والكيفية والحياة والممات كما تقدم معنا. ويستثنى من هذه الصورة الأولى: ما ذكره المؤلف - رحمه الله - بقوله: فإن لم يتعذر: صح في المعلوم بقسطه. يستثنى في هذه المسألة: صورتين: - الصورة الأولى: إذا حدد قيمة كل من السلعتين. فإذا قال: بعت عليك هذه السيارة والسيارة الأخرى بمائة ألف. قيمة هذه السيارة سبعين وقيمة تلك ثلاثين. إذاً بين سعر كل واحدة من السلعتين وإن كان الثمن واحد والعقد واحد. ففي هذه الصورة يصح العقد. - الصورة الثانية: أن لا يتعذر علم المجهول بأن قال: بعت عليك هذه السيارة المشاهدة المعلومة وسيارة أخرى مجهولة ثم أمكن معرفة هذه المجهولة فالبيع: صحيح. لأنه ما دام أمكن معرفة السيارة المجهولة فيمكن تبعاً لذلك أن نعرف سعر السيارة المجهولة ثم ننسب القيمة إلى مجموع قيمة السيارتين. فإذا قال: بعت عليك هذه السيارة والسيارة الأخرى وعلمنا صفة السيارة التي كانت مجهولة ثم تبين أن قيمة السيارة المعلومة مائة وقيمة السيارة المجهولة خمسين صار مجموع القيمتين: مائة وخمسين. فإذا نسبنا قيمة المعلومة إلى المجهولة تبين أنه بنسبة الثلثين إلى الثلث. فتبين الآن أن قيمة السيارة المعلومة هي: سبعين ألف. إذاً أمكن التقسيط: وقاعدة الفقهاء أنه متى أمكن التقسيط في تفريق الصفقة: صحت. صحت فيما يصح وبطلت فيما يبطل. فإن قلت: أنه ما دام علمت السيارة المجهولة فلماذا نبطل العقد؟ فالجواب: أن العقد تم ووقع والسيارة مجهولة. فالعقد حين تم هو باطل في هذه السيارة المجهولة صحيح في السيارة المعلومة. وإنما صححنا العقد في المعلومة بعد أن علمنا قيمة المجهولة. إذاً هذه هي الصورة الأولى من مسائل تفريق الصفقة وعلمنا متى تصح ومتى تبطل وأن الأصل أنها باطلة إلا في صورتين. ثم بدأ بالصورة الثانية: - فقال - رحمه الله -: - وإن باع مشاعاً بينه وبين غيره كعبد، أو ما ينقسم عليه الثمن بالأجزاء: صح في نصيبه بقسطه.

إذا باع مشتركاً بينه وبين غيره: يعني ولم يستأذن هذا الغير. أو باع مشاعاً لكن معلوم المقدار بأن كانت هذه الصبرة مشتركة بين زيد وعمرو لكن من المعلوم أن نصفها لزيد ونصفها لعمرو. فالعقد صحيح. لأنه يمكن تقسيط الثمن بوضوح وسهولة. فإذاً لا جهالة في الثمن ثم إذا قسط الثمن صح في نصيبه وبطل العقد في نصيب شريكه. فإذا قال: بعت عليك هذه الصبرة بمائة ريال ومن المعلوم أن نصفها له ونصفها لشريكه فصار نصف الصبرة صح العقد فيها بخمسين ريال والنصف الآخر الذي للشريك بطل فيه العقد وإنما صحح العقد في هذه الصورة لأنه يمكن تقسيط الثمن. والقاعدة كما تقدم: أنه متى أمكن تقسيط الثمن في تفريق الصفقة فإنه يصحح فيما صح ويبطل فيما ما بطل. ثم بدأ بالصورة الثالثة: - فقال - رحمه الله -: - وإن باع عبده وعبد غيره بغير إذنه، أو عبداً وحراً، أو خلاً وخمراً صفقة واحدة: صح في عبده وفي الخل بقسطه. ما هو الفرق بين هذه المسألة والمسألة السابقة؟ إذا باع عبداً مشتركاً بينه وبين آخر أو باع عبده وعبد غيره؟ الفرق: أنه في الصورة الأولى: الملك مشترك. وفي الصورة الثانية: الملك منفرد. لا اشتراك. فهذا هو الفرق فقط بين الصورتين. فإذاً في الصورة الأولى: مشاع ومشترك وفي الصورة الثانية منفرد. فإذا باع عبده وعبد غيره. أو عبداً وحراً أو خلاً وخمراً صفقة واحدة: صح ىفيما يصح فيه وهو العبد والخل وبطل فيما يبطل فيه وهو العبد ملك للغير والخمر. = هذا هو مذهب الحنابلة. أن هذا العقد صحيح. تعليل الحنابلة: - أن لكل من أجزاء العقد قيمة تخصه معلومة فصح العقد في ما يملك الإنسان لاستيفاء شروط البيع وبطل في الآخر لعدم استيفاء شروط البيع. ففي عبد غيره سقط شرط: الملك. وفي الخمر سقط شرط: المالية التي تقدمت معنا. إذاً هذا هو مذهب الحنابلة: الصحة والتعليل هو ما سمعت. = والقول الثاني: أنه إذا باع عبده وعبد غيره فالعقد: باطل. - لأنه جمع في عقد واحد بين الحلال والحرام فنغلب جانب الحرام. ((الأذان)). نتم الفصل. إذاً ذكرنا القول الثاني: وهو: أن العقد لا يصح لأنه جمع بين الحلال والحرام فغلب الحرام.

= والقول الثالث: أن العقد صحيح ما لم يكن طرفي الصفقة محرم بالنص أو الإجماع. ـ فإذا باع عليه خلاً وخمراً فإن العقد: باطل. ـ وإذا باع حراً وعبداً فإن العقد: صحيح. - لأن الخمر يحرم بيعه بانص والإجماع. والصواب مذهب الحنابلة وهو أنه يجوز تفريق الصفقة في هذا العقد ويقسط الثمن. ـ فإذا باع حراً وعبداً: نقدر الحر عبد وننظر كم قيمته لو كان عبداً ثم نقسط الثمن على وفق ذلك كما تقدم معنا. ـ وفي مسألة الخمر: نقدر الخمر خلاً ثم نقسط القيمة على وفق ذلك. وقال بعض الفقهاء: بل ننظر إلى قيمة الخمر عند أهل الكتاب ونقسط الثمن على وفق قيمة الخمر عند أهل الكتاب. وهذا القول ضعيف جداً فإن الخمر لا قيمة له شرعاً ولا ينظر لقيمه عند مستحليه بل المتعين إن شاء الله أنا ننظر إلى الخمر كأنه خل ونقيمه على هذا الأساس ونقسط القيمة حسب قيمة هذا الخمر لو كان خلاً.

شرح كتاب البيع الدرس رقم (5) قال شيخنا حفظه الله: بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين. انتهينا من الكلام عن مسائل تفريق الصفقة وصور تفريق الصفقة وحكم كل صورة، وبقي علينا مسألة أخيرة وهي: - قول المؤلف - رحمه الله -: - وللمشتري الخيار: إن جهل الحال. للمشتري الخيار إذا جهل أنها فرقت عليه الصفقة. وهذا الحكم راجع للصور التي يصح في تفريق الصفقة، وأما الصور التي لا يصح فيها تفريق الصفقة فهي باطلة ليس لأحد منهم الخيار. وثبت الخيار للمشتري: لأنه فرقت عليه الصفقة. وغالباً ما يشتري الإنسان بصفقة واحدة وله قصد في السلعتين، وأمثلة هذا كثيرة جداً. مثاله: إذا قال: بعت عليك عبدي والعبد الآخر والآخر ليس ملكاً له، وأحدهما بناء والآخر نجار، وعمل أحدهما لا يتم إلا بالآخر، فهنا: إذا فرقنا على المشتري الصفقة تضرر ودخل عليه النقص فنقول: له الخيار إن شاء أمضاه فيما يصح من الصفقة وإن شاء رد العقد جملة.

* * مسألة/ ظاهر كلام المؤلف - رحمه الله - أن البائع لا خيار له وإنما الخيار فقط للمشتري: = وهذا مذهب الجمهور. أنه لا خيار للبائع: - لأنه دخل على علم. = والقول الثاني: أنه يثبت الخيار أيضاً للبائع. وهذا اختيار شيخ الإسلام - رحمه الله -. والصحيح إن شاء الله: أنه لا يثبت للبائع الخيار إلا إذا ظن أن العقد صحيح، بأن جهل أنه لا يجوز أن يبيع على هذه الكيفية فحينئذ يثبت له الخيار. أما إن باع على علم ومعرفة فإنه لا يثبت له الخيار، بل ينبغي أن يؤدب إذا يعلم أن مثل هذا البيع لا يجوز ولا ينعقد ثم باع بيعاً يعلم أنه لا ينعقد فإنه ينبغي أن يؤدب فضلاً عن أن يعطى الخيار. فصل [فيما نهي عنه من البيوع ونحوها] - ثم قال - رحمه الله: - فصل. أراد المؤلف - رحمه الله - أن يبين في هذا الفصل جملة من البيوع التي لا تصح، وهذه البيوع التي لا تصح مختلفة المآخذ: - فبعضها مأخذه الربا. - وبعضها مأخذه تعطيل الواجبات. - وبعضها له مأخذ آخر. المهم: أن الفصل معقود لبيان جملة من البيوع المنهي عنها. - قال - رحمه الله -: - ولا يصح البيع: ممن تلزمه الجمعة بعد ندائها الثاني، ويصح النكاح وسائر العقود. ولا يصح بيع عصير ... إلى آخره؟ القاعدة العامة لهذه البيوع: - البيع الأول والثاني: ((أن العقد المباح إذا أفضى إلى فعل محرم أو إلى ترك واجب: صار محرماً)). إذاً قاعدة هذه المسائل: وهي المسألة الأولى والثانية: ((أن العقد المباح إذا أفضى إلى فعل محرم أو أفضى إلى ترك واجب فإنه يكون بذلك محرماً)). وهذه القاعدة: يمكن أن تدرج تحتها جملة كبيرة من المسائل التي تختلف باختلاف الناس وباختلاف العادات. إذاً: نأخذ المسألة وهي كما قلت: إنما ذكرت وخصها المؤلف - رحمه الله - لسببين: - السبب الأول: أن فيها نصاً من كتاب الله. - والسبب الثاني: أن تكون كالتمثيل للقاعدة المذكورة. - قوله - رحمه الله -: - ولا يصح البيع: ممن تلزمه الجمعة بعد ندائها الثاني. البيع بعد النداء الثاني: والمقصود بالنداء الثاني هنا: النداء الذي يكون بعد جلوس الإمام على المنبر فالبيع بعد هذا النداء: محرم. والعاقدان آثمان. والدليل على ذلك:

- قوله سبحانه وتعالى: - (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ .. ) -[الجمعة/9]. فالآية صريحة ونص في مسألة ترك البيع. * * مسألة/ ظاهر كلام المؤلف - رحمه الله -: (ولا يصح البيع) أن الشراء جائز كما يقوله بعض الشراح. والصواب: أن هذا ليس بظاهر لكلام المؤلف - رحمه الله - وليس بمقصود. لماذا؟ لأنه جرى العرف أنه إذا أطلق البيع دخل فيه الشراء. ولأنه تقدم معنا في أول كتاب البيع أن البيع من الأضداد الذي يطلق على البيع والشراء. فمن التكلف أن نقول: أن اقتصار المؤلف - رحمه الله - على البيع تقصير. وهذا ذكره عدد من الشراح وأشار إليه أيضاً الشيخ منصور في الروض باعتبار أنه كأنه يستدرك ويقول: (والشراء). على كل حال أريد أن أقول: أنه لا يستدرك على المؤلف - رحمه الله - مثل هذا لوضوحه. - ثم قال - رحمه الله -: - ممن تلزمه الجمعة ... إلى آخره. ظاهر كلام المؤلف - رحمه الله -: أن التحريم يختص بالذين تلزمهم الجمعة. أما الذين لا تلزمهم الجمعة كالنساء والصبيان والمرضى ومن لا يسمع النداء وكل من لا تلزمه الجمعة أنه لا يحرم في حقهم عقد البيع. والدليل على ذلك: - أن الله تعالى إنما منع من عقد البيع من أوجب عليه السعي وهؤلاء لا يجب عليهم السعي فلا يحرم عليهم البيع. - ولأن الله تعالى إنما حرم البيع لأن لا ينشغل به الإنسان عن الصلاة وسماع الخطبة وهؤلاء لا حرج في انشغالهم لأنه لا تجب عليهم أصلاً. * * مسألة/ يستوي في هذا الحكم مع من تلزمه الجمعة من يجب عليه السعي قبل سماع النداء لإدراك الخطبة، فإذا قدرنا أن زيداً من الناس يحتاج ليصل إلى المسجد ويسمع الخطبة إلى مدة نصف ساعة من مكانه الذي هو فيه. فمن نصف ساعة قبل الآذان لا يجوز له أن يبيع ولا أن يشتري، وهذا المعنى أخذ من روح النص ومفهومه، لأن الله إنما نهى عن البيع لنسعى إلى سماع الخطبة، فإذا جلس الإنسان يشتري ويبيع وهو يحتاج ليصل إلى المسجد إلى نصف ساعة وجلس إلى ما قبل ربع ساعة فهذا قطعاً سيضيع الحكمة التي من أجلها نهى الله عن البيع.

إذاً: هذه الصورة داخلة في المعنى المقصود من النهي ولا يجوز - بناء عليه - أن يعقد البيع. * * مسألة/ إذا كان أحد العاقدين ممن تلزمه الجمعة والآخر لا تلزمه الجمعة. فهذه الصورة فيها خلاف بين العلماء - رحمهم الله -: = منهم من قال: أن هذا العقد يحرم على من تلزمه الجمعة، ويكره فقط على من لا تلزمه الجمعة، فإذا قدرنا أن امرأة تملك أرضاً وعقدت البيع مع رجل تلزمه الجمعة فإنه يحرم على الرجل أن يعقد البيع، وأما بالنسبة للمرأة: فيكره فقط. = والقول الثاني: أنه يحرم عقد مثل هذا البيع: - على من تلزمه. - وعلى الطرف الآخر الذي لا تلزمه. فالجميع وقع في المحرم. - لقوله تعالى: - (وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ .. ) -[المائدة/2]. وهذا القول الثاني: هو الصواب إن شاء الله، لأنه كيف نسوغ لمن لا تلزمه الجمعة أن يكون سبباً في ضياع الجمعة على من تلزمه، إذاً: الصواب أنه محرم على الطرفين. - ثم قال - رحمه الله -: - ويصح النكاح وسائر العقود. أي: أن المحرم فقط هو عقد البيع، أما ما عداه من العقود فإنها لا تحرم. واستدل الحنابلة على هذا بدليلين: - الدليل الأول: أن الله تعالى نص على البيع. - (وَذَرُوا الْبَيْعَ .. ) -[الجمعة/9] فما عدا البيع لا يدخل في النهي. - الدليل الثاني: أن البيوع هي التي تكثر ويكثر الانشغال بها عن الجمعة بخلاف النكاح فإنه نادراً ما يقع ولا يؤدي تجويزه إلى الانشغال عن الجمعة. = والقول الثاني - في هذه المسألة -: أن جميع العقود سواء كانت عقود تبرعات أو معاوضات بل جميع الأعمال حتى المباحات لا تجوز إذا أدت إلى ضياع الجمعة أو إلى تفويت سماع الخطبة، وهي محرمة. وهذا القول هو القول الصواب، كيف نمنع الإنسان أن يشتري قلماً بريال ونجوز له أن يعقد النكاح على امرأة بمائة ألف؟ وكيف نمنعه أن يشتري قلماً مع أن هذا الشراء لا يشغل الذهن ولا يحتاج إلى تأمل ونجيز له أن يعقد النكاح الذي يشغل الذهن أكثر بأضعاف مضاعفة من شراء هذه السلع اليسيرة؟ فلا شك أن الشارع لا يأتي بمثل هذا وأن الشرع لا يفرق بين مثل هذه المسائل، فمذهب الحنابلة في هذه المسألة ضعيف. - ثم قال - رحمه الله -:

- ولا يصح بيع عصير ممن يتخذه خمراً، ولا سلاح في فتنة. القاعدة العامة لهذه المسائل: مسائل بيع السلاح في الفتنة وبيع العصير لمن يتخذه خمراً: ((أن العقد المباح إذا أدى إلى محرم صار محرماً وإن كان هو في نفسه مباحاً)). وهذه قاعدة عظيمة: ما أشد حاجة طالب العلم إلى فهمها وتطبيقها. الدليل على هذه القاعدة: من الكتاب والسنة والأثر والمعنى الصحيح. - فمن الكتاب: ـ قوله سبحانه وتعالى: - (وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ .. ) -[المائدة/2]. ـ وقوله: - (وَلَا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا .. ) -[الأنعام/108]. - وأما من السنة: ـ فما جاء في السنن أن النبي - صلى الله عليه وسلم: نهى عن بيع السلاح في الفتنة ـ والدليل الثاني من السنة: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لعن في الخمر عشرة: أحدهم عاصرها. مع أن العاصر إنما يعصر العنب لينتج منه عصير لكن لما كان هذا العصير يقصد منه أن يتحول إلى خمر لعن العاصر بسبب ذلك. - وأما من الآثار: ـ فما روي عن سعد بن أبي وقاص - رضي الله عنه - أن عامله على بستانه قال: إن ثمرة العنب لا تصلح زبيباً ولا تصلح إلا عصيراً. فقال - رضي الله عنه: بئس الشيخ أنا إن بعت الخمر. ومن المعلوم أنه لن يبيع الخمر وإنما سيبيع عنباً لا يصلح إلا عصيراً، فلن يبيع حتى العصير وإنما سيبيع عنباً لكن هذا العنب لا يصلح إلا عصيراً. - وأما من المعنى: فإن ما أدى إلى النتيجة المحرمة أخذ حكمها، وإلا لانفتح من إباحة مثل هذه الأعمال باباً عظيماً من الشرور. إذاً هذه القاعدة المهمة تدل عليها النصوص المتكاثرة والآثار والمعنى الصحيح وإنما ذكر المؤلف - رحمه الله - لها أمثلة. إذاً: ولا يصح بيع عصير ممن يتخذه خمراً ولا سلاح في فتنة. * * مسألة/ = ذهب الحنابلة إلى أن تحريم بيع العصير ممن يتخذه خمراً يشترط له أن يتحقق أنه سيتخذه خمراً، أما إن ظن أو غلب على ظنه فإنه يجوز له أن يبيع العصير لمن يتخذه خمراً. = والقول الثاني: أنه لا يشترط أن يتحقق أن المشتري سيتخذه خمراً بل لو غلب على ظنه ذلك لكفى في التحريم.

وهذا القول الثاني: اختيار شيخ الإسلام - رحمه الله - وهو الصحيح إن شاء الله: - لأن البائع قد يتعذر عليه في صور كثيرة أن يتحقق ويعلم يقيناً أن هذه السلعة ستستخدم في المحرم وإنما الواقع غالباً أن يغلب على ظنه باعتبار القرائن وحال المشتري أنه سيستخدم هذه السلعة فيما حرم الله. فإذا غلب على ظنه فهذا يكتفى به ولا يشترط أن يتحقق العلم، لا سيما في الأمور التي ستستقبل. مثال ذلك: إذا استأجر مجموعة من الناس استراحة فإن اتخاذ هذه الاستراحة لما حرم الله أمر في المستقبل ويصعب أن يتحقق منه الإنسان الآن لكن قد يغلب على ظنه من النظر إلى طبيعة المستأجر والقرائن المحتفة بالمستأجر أنه سيستخدم هذا المكان في معصية الله فحينئذ يحرم عليه أن يؤجر إذا غلب على ظنه أن هؤلاء سيستخدمون هذا المكان في ما حرم الله. وفي الحقيقة مذهب الحنابلة وهو اشتراط التحقق قد - ما أقول يلغي هذه القاعدة - لكن يقلل من فائدة هذه القاعدة، لأنه في غالب الصور إذا تأملت فستجد أن الواقع هو غلبة الظن لا العلم اليقيني. - ثم قال - رحمه الله -: - ولا عبد مسلم لكافر. يعني: ولا يجوز أن يبيع عبداً مسلماً لكافر. استدل الحنابلة على هذا الحكم بدليلين: - الأول: أن في هذا صغاراً على المسلم ولا يجوز إيقاع الصغار على المسلم. - الثاني: أن استدامة يد الكافر على العبد المسلم ممنوعة فكيف بالابتداء؟. = والقول الثاني: أنه إذا اشترى الذمي عبداً مسلماً صح العقد وتم ولكن يلزم الذمي ببيعه فوراً. وهذا مذهب الأحناف، وهو مذهب ضعيف جداً ما الفائدة أن نصحح العقد ثم نقول للكافر الذمي بع العبد فوراً إذاً لماذا هو اشترى العيد ليبيعه فوراً وهذا غريب على مذهب الأحناف لأنهم أناس يعتنون بالعلل وتحكيم العقل وهذا عقلاً غير مقبول. - ثم قال - رحمه الله -: - إذا لم يعتق عليه. أي: إذا اشترى الكافر عبداً مسلماً يعتق عليه: صح الشراء. والعبد إنما يعتق على الإنسان إذا اشتراه في صورتين: ـ الصورة الأولى: إذا كان ذا رحم محرم منه. كما إذا اشترى الإنسان عبداً مسلماً وهذا العبد أخوه: فيصح العقد.

ـ الصورة الثانية - فيما يعتق على الإنسان إذا اشتراه -: أن يكون معلق العتق على الشراء: فحينئذ أيضاً يصح الشراء. إذاً: القاعدة العامة بغض النظر عن الصور ولا يوجد إلا هاتين الصورتين: التعليق، وأن يكون ذا رحم. لكن القاعدة العامة أنه إذا اشترى من يعتق عليه: صح العقد. والتعليل: - أن في هذا الشراء تخليصاً للعبد المسلم من الرق، ففيه نفع للمسلم، ولذلك صحح الفقهاء - رحمهم الله - هذا العقد. وما ذكرنا من أدلة وشواهد تنطبق على بيع العصير لمن يتخذه خمراً أو السلاح في فتنة. - ثم قال - رحمه الله -: - وإن أسلم في يده: أُجبر على إزالة ملكه. يعني: إذا كان العبد الذي تحت ملك الكافر من الكفار ثم أسلم فإنا نلزم السيد الكافر بأن يخرج هذا العبد من ملكه. ولم يتطرق المؤلف - رحمه الله - إلى كيفية الإخراج. والسبب في ذلك: أن كيفية الإخراج راجعة إلى المالك الكافر: فإن شاء باعه وإن شاء وهبة وإن شاء أعتقه وإن شاء جعله ثمناً في سلعة، فالمقصود أن يخرج هذا العبد من تحت ملكه بأي طريقة كانت. والدليل هو: - قوله تعالى: - (وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا) -[النساء/141]. - ولأن في بقاء العبد بعد إسلامه خطر على دينه. - ولما فيه من الإذلال. ولذلك هذه المسألة محل إجماع: وهو أنه يجب عليه أن يخرج هذا العبد إذا أسلم من ملكه. - ثم قال - رحمه الله -: - ولا تكفي مكاتبته. المكاتبة: هو أن يشتري العبد نفسه من سيده. فالمكاتبة لا تكفي إذا أسلم العبد تحت السيد الكافر. - لأن هذا العبد في مدة المكاتبة تحت ملك وتصرف السيد، وهذا ما لا يقره الإسلام ولذلك لا نكتفي بالمكاتبة بل نأمره بإخراج العبد عن يده بأي طريقة من الطرق التي أشرت إليها قريباً. - ثم قال - رحمه الله -: - وإن جمع بين بيع وكتابة .. إلى قوله: ويقسط العوض عليهما.

هذه المسألة من مسائل تفريق الصفقة، ولا أدري لماذا المؤلف - رحمه الله - أخر هذه المسألة إلى هذا الموضع؟ وهو بذلك خالف كثيراً من فقهاء الحنابلة بل الغريب أنه خالف الأصل وهو المقنع فإن المقنع جعل هذه المسألة مع مسائل تفريق الصفقة التي ذكرت آخر الفصل السابق، ففي الحقيقة ذكر المؤلف - رحمه الله - لها هنا غير مناسب بل موضعها مع مسائل تفريق الصفقة، ولذلك إذا قرأت المتن فستشعر أن إدخال هذه المسألة ضمن المسائل لا مكان له وأنه فيه شيء من التكلف. - قال - رحمه الله -: - وإن جمع بين بيع وكتابة. إذا جمع الإنسان بين بيع وكتابة في تعامله مع العبد: صحت الكتابة وبطل البيع. صورة هذه المسألة: أن يقول الإنسان لعبده: بعت عليك عبدي فلان وكاتبتك. فهو الآن جمع بين بيع وكتابة. فإذا جمع بين بيع وكتابة وقال: بعت عليك عبدي فلان وكاتبتك: بطل البيع. - لأنه في الحقيقة باع ماله على ماله. ولا يستقيم أن يبيع الإنسان ماله على ماله. - ثانياً: لأنه باع على العبد والعبد لا يملك. فعقد البيع: باطل. أما عقد المكاتبة: فهو صحيح. لأنها مكاتبة اكتملت فيها الشروط ولا يقدح في صحتها أنها قرنت بعقد آخر باطل هذا أولاً وثانياً: لأن الشارع متشوف لإعتاق العبيد فهو يصحح العقود التي فيها اعتاق العبيد. إذاً: عرفنا الآن الحكم إذا جمع بين بيع وكتابة. وما هو مقصودهم؟ وأن مقصود الحنابلة بذلك أن يجمع بين بيع ومكاتبة يعني لنفس العبد المكاتب كما بينه المثال الذي ذكرت لك. - ثم قال - رحمه الله -: - أو بيع وصرف. قوله: (أو بيع وصرف) هذا ذكر على سبيل التمثيل، وقاعدة هذه المسائل: قاعدة مسائل بيع وصرف هي: ((أن يجمع في عوض واحد - (ولاحظ أني لم أقل في عقد) - أقول في عوض واحد بين عقدين مختلفي الحد والأحكام)) كأن يقول: بعت عليك وصارفتك، أو يقول: بعت عليك وأجرتك. لكن بثمن واحد - كما قلت لك في التعريف: بعوض واحد. فإذا قال: بعت عليك هذا البيت وأجرتك هذه المزرعة بمائة ألف. صارت من هذه المسائل. إذاً: عرفنا الآن القاعدة في المسائل التي ذكرها المؤلف - رحمه الله -. - يقول - رحمه الله -: - صح في غير الكتابة.

مقصود المؤلف - رحمه الله - بقوله: (صح في غير الكتابة). يعني: صحت العقود إلا في مسألة البيع والكتابة فإن البيع يبطل والكتابة تصح. خلافاً لظاهر كلام المؤلف - رحمه الله - فإن المتبادر إلى الذهن إذا قرأ الإنسان هذا أن الكتابة هي التي لا تصح وهو لا يريد هذا وإنما يريد أن العقدين يصحان إلا في صورة البيع والكتابة، فالذي يصح فقط الكتابة دون البيع. - ثم قال - رحمه الله -: - ويقسط العوض عليهما. عندنا الآن: مسألتان: ـ المسألة الأولى: حكم العقد الذي جمع فيه بين عقدين مختلفي الحد في عوض واحد. حكمه: = أنه جائز عند الحنابلة، وصحيح ونافذ. - لأنه لا محذور فيه. - ولأنه لا يشتمل لا على غرر ولا على شبهة الربا. = القول الثاني: أن مثل هذه العقود لا تصح. - لأنه لا يمكن الجمع بين عقدين وأحكام كل عقد تختلف عن الآخر. فالصرف يشترط له التقابض ولا يشترط هذا في البيع. فكيف نجمع بين عقدين وأحكامهما تختلف؟ أجاب الحنابلة عن هذا: بأن اختلاف حقيقة وأحكام كل عقد لا تمنع من تصحيح العقد. وأي ضرر في اختلاف الأحكام. وما ذكره الحنابلة صحيح ووجيه وقوي، فإنه لا يوجد أي معنى لإبطال مثل هذا العقد ولو اتحد الثمن. لكن تبقى معنا مشكلة أن الثمن الواحد أطلق على عقدين، فهذه المسألة: حلها الحنابلة - رحمهم الله - بقولهم هنا: - ويقسط العوض عليهما. طريقة التقسيط هنا كطريقته فيما سبق في مسائل تفريق الصفقة. فإذا اشترى الإنسان بيتاً واستأجر مزرعة بعوض واحد مثلاً: بمائة وخمسين ألف. ثم لما قدرنا قيمة البيت وجدنا أن قيمة البيت ثمانين ألف وقيمة إيجار المزرعة أربعين ألفاً فإذا جمعنا الثمانين مع الأربعين صارت النتيجة مائة وعشرين. وإذا نسبنا قيمة البيت إلى مجموع القيمتين صارت: الثلثان. وقيمة إيجار المزرعة: الثلث. فإذا رجعنا للثمن الذي وقع عليه العقد نقول: ثلثاه للبيت وثلثه للمزرعة، فمائة ألف قيمة بيع البيت وأربعون ألفاً قيمة إيجار المزرعة. وهذا التقسيط بهذه الكيفية فيه عدل وإنصاف وتقسيم للثمن على مقتضى قيمة السلعتين في السوق. وهذا القول كما قلت لك: هو الراجح. وهذه الطريقة في التقسيم تؤدي إلى وقوع العدل في العقد إن شاء الله.

- ثم قال - رحمه الله -: - ويحرم بيعه على بيع أخيه. ويحرم بيعه على بيع أخيه ويحرم شراؤه على شراء أخيه وسيأتينا صورة ذلك في كلام المؤلف - رحمه الله -. ـ البيع على بيع أخيه، والشراء على شراء أخيه: محرم. وفاعله آثم. - لقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: (لا يبع أحكم على بيع أخيه) وهذا الحديث في الصحيحين وهو نص في تحريم هذه الصورة. - وأما دليل تحريم الشراء فهو نفس الحديث لما تقدم معنا أن الشراء يدخل في مفهوم البيع في الشرع واللغة. فنحن لسنا بحاجة إلى تكرار أحكام الشراء عند الكلام عند أحكام البيع. ولذلك الدليل هنا على تحريم البيع على بيع أخيه والشراء على شراء أخيه هو نفس الدليل. - الدليل الثاني على تحريم هذين العقدين: قوله - صلى الله عليه وسلم: (لا ضرر ولا ضرار) والبيع على بيع أخيه إضرار بأخيه وهو واضح الإضرار لأن البيع على البيع يؤدي إلى فسخ العقد الأول، وفي هذا ما فيه من الإضرار على البائع الأول. - الدليل الثالث: أن الشارع الحكيم من قواعده الكبار العامة: النهي عن كل ما يسبب البغضاء والتشاحن، وهذا العمل من الأعمال التي تسبب التفرقة والبغضاء بين المسلمين. فإذاً: دل على تحريم البيع على بيع أخيه والشراء على شراء أخيه هذه النصوص والعلل المذكورة. - ثم قال - رحمه الله -: - مبيناً صورة بيع الإنسان على بيع أخيه -: - كأن يقول لمن اشترى سلعة بعشرة: ((أَنَا أُعْطِيْكَ مِثْلَهَا بِتِسْعَةٍ)). إذاً إذا اشترى سلعة بعشرة قال له الآخر: أنا أعطيك يعني: أبيع عليك نفس هذه السلعة بأقل منها ثمناً بتسعة. فهذا لا شك أنه من البيع على بيع أخيه. وكذلك لو قال: أنا أبيع عليك بعشرة نفس الثمن لكن سلعة أجود من سلعة البائع الأول فهو نفس الصورة. ففي الصورتين عمل الثاني: محرم. فهذه هي صورة بيع الإنسان على بيع أخيه. أما الشراء: - فقال - رحمه الله -: - كأن يقول لمن باع سلعة بتسعة: ((عِنْدِي فِيْهَا عَشَرَةٌ)). يعني: أنا أشتريها منك: بعشرة. فهذا أيضاً من الشراء على شراء أخيه. وكذلك لو قال: استأجرت منك هذه الشقة بعشرة فقال له الآخر: أنا أستأجرها منك بعشرين. فهذا من الشراء على شراء أخيه.

- لأن عقد الإيجار هو عقد بيع تماماً إلا أن السلعة فيه المنافع وليست الأعيان. فهذا أيضاً مما يدخل ضمن الشراء على شراء أخيه. - ثم قال - رحمه الله -: - ليفسخ ويعقد معه. ظاهر هذه العبارة: أن النهي إنما يكون إذا أدى إلى فسخ العقد الأول وإجراء العقد مرة أخرى مع البائع على بيع أخيه أو الشاري على شراء أخيه. أما إذا كان لإجراء أو لإتمام صفقة جديدة على سلعة جديدة فهذا لا يدخل في النهي. = هذا هو ظاهر مذهب الحنابلة. وهذا هو الصحيح: أن النهي يتعلق بالسلعة التي تم عليها العقد. أما العقود المستأنفة التي ستأتي في المستقبل على سلع أخرى فإنها لا تدخل في هذا النهي لأن النهي إنما هو عن صورة واحدة فقط وهي: محاولة ثني البائع عن البيع في هذا العقد المعين. وهذا المفهوم الذي ذكره المؤلف - رحمه الله - صرح به جملة من الشراح، بل لم أر أحداً من الشراح صرح بخلاف هذا المفهوم من شراح الأحاديث لا من الفقهاء. فاتفق الحنابلة مع شراح الأحاديث على هذا المعنى. وهو أن النهي إنما يتعلق بما إذا أدى البيع إلى فسخ العقد. * * مسألة/ مفهوم كلام المؤلف - رحمه الله - أن النهي إنما هو فيما إذا كان البيع على بيع أخيه في مدة الخيار. أما بعد مدة الخيار ولزوم العقد فلا بأس ببيع الإنسان على بيع أخيه. واستدل الحنابلة على هذا: - بأنه بعد انتهاء مدة الخيار لن يدخل الضرر على البائع لأنه لن يستطيع المشتري إنهاء العقد. = والقول الثاني: أن النهي عن البيع على بيع أخيه والشراء على شراء أخيه يشمل أيضاً ما يكون بعد انتها زمن الخيار وثبوت العقد ولزومه. - لأن المشتري إذا علم بأنه ربما حصل على سلعة نظيرة لسلعته بثمن أقل ربما يسعى في إنها العقد بطريقة غير شرعية، وربما أدى هذا إلى أن يقع الشجار بينه وبين البائع الأول حيث يظن أنه غلب أو مكر به في العقد الأول.

وفي هذه المسألة عندي تردد كثير جداً وتوقف. وسبب التوقف: أنا نلمس من كلام كثير من أهل العلم عدم توسيع مفهوم البيع على بيع أخيه، لا يريدون توسيع هذا المعنى وإدخال صور كثيرة وإنما مقصود النبي - صلى الله عليه وسلم - في هذا: العقد المعين، أما ما بعد انتهاء العقد فلا يدخل في هذا الحديث النبوي وقلة من أهل العلم من يوسع مفهوم هذا الحديث وهذا البيع المنهي عنه. فلهذا وقع عندي في هذه المسألة - في الحقيقة - تردد. لأن القول الثاني أيضاً وجيه لأنه في الغالب سيكون بين البائع والمشتري الأول شقاق ونزاع ومحاولة لإنهاء العقد ومحاولة لفسخ العقد ودخول في متاهات الشعور بأنه غلب في العقد الأول. فبين المعنيين يقع الإنسان في تردد في الحقيقة وإشكال. فليس عندي فيها قولاً راجحاً. - ثم قال - رحمه الله -: - ويبطل العقد فيهما. يعني: أنه مع كون بيع الإنسان على بيع أخيه محرم، أيضاً العقد باطل. والمقصود ببطلان العقد هنا في كلام المؤلف - رحمه الله - يعني: العقد الثاني. أما العقد الأول فلا إشكال فيه. إذاً: مقصودهم بالبطلان ينصرف إلى العقد الثاني. دليل البطلان: - أن هذا العقد الثاني: منهي عنه، والنهي يقتضي الفساد. - ولأن في تصحيح العقد إمرار وتسويغ لبيع الإنسان على بيع أخيه. = القول الثاني: أن العقد في بيع الإنسان على بيع أخيه: صحيح ونافذ مع التحريم والإثم، إلا أن العقد صحيح. واستدل هؤلاء: - بأن النهي لا ينصرف إلى العقد وإنما يقصد بالنهي أن يبيع على بيع أخيه يعني: أن يعرض على عرض أخيه وهذا الأمر إنما هو قبل وقوع العقد، فوقوع العقد صار بعد العمل منهي عنه. فالنهي ينصرف إلى هذا العرض لا إلى ذات العقد ولذلك فليس عندنا الآن عقد منهي عنه حتى يؤدي النهي إلى الفساد. والصواب: أن العقد الثاني باطل. لأن أدلة القول الأول قوية ولأن قاعدة الشارع أن ما أدى إلى محرم فهو محرم. وكيف نمنع ونحرم أن يبيع على بيع أخيه ثم نصحح العقد فبين تصحيح العقد والتحريم مناقضة ومنافاة. فإذاً: مذهب الحنابلة في هذه المسألة هو الصحيح إن شاء الله. - ثم قال - رحمه الله -: - ومن باع ربوياً بنسيئة واعتاض عن ثمنه ما لا يباع به نسيئة.

نعم. هذه مسألة: يقول - رحمه الله -: ومن باع ربوياً بنسيئة واعتاض عن ثمنه ما لا يباع به نسيئة ... لم يجز. ... وبطل العقد. صورة هذه المسألة: أن يبيع الإنسان مائة كيلو قمح بعشرة آلاف ريال مؤجلة: عكس السلم. والمهم عندنا الآن: أن يبيع مائة كيلوا قمح بعشرة آلاف ريال مؤجلة ثم إذا حل الأجل أعطاه بدل العشرة آلاف مائة كيلو رز فصار الرز عوض عن القمح في الصورة الأولى. فهذه الصورة: = محرمة عند الحنابلة. لماذا؟ - لأنها تؤدي إلى بيع ربوي نسيئة بما لا يجوز أن يباع به نسيئة. لأنه لا يجوز للإنسان أن يبيع الرز بالقمح نسيئة وإن جاز التفاضل إلا أنه لا يجوز نسيئة. فصار هذا العقد حيلة على بيع ربوي بجنسه الذي لا يباع به نسيئة. هذه وجهة نظر الحنابلة. = والقول الثاني: الذي تبناه ونصره ابن قدامة - رحمه الله -: أن هذا العقد صحيح: بشرط أن لا يكون حيلة على الربا. دليل ابن قدامة: - يقول - رحمه الله -: أن تسليم الأرز - في المثال - بعد انقضاء الأجل هو في الحقيقة بيع لما في الذمة من النقد كأنه اشترى بما في ذمته من النقد هذا الأرز وليس في الحقيقة بيعاً للأرز بالقمح .. (الأذان). نتم هذه المسألة: إذاً هذه وجهة نظر الشيخ الفقيه ابن قدامة - رحمه الله - أن هذا العقد جائز وأن حقيقة هذا العقد هو شراء للمال الذي في الذمة لهذا الجنس الربوي الذي سلم في الأخير وهو الأرز في المثال. = القول الثالث: أن هذه الصورة تجوز للحاجة وتحرم لغيرها. وهذا القول اختاره شيخ الإسلام بن تيمية - رحمه الله -. ومثال الحاجة: أن لا يجد من في ذمته المال النقد لا يجد هذا النقد عند حلول الأجل ويجد مالاً ربوياً آخر كالأرز في المثال فهنا احتاج أن يسدد لعدم وجود النقد أن يسدد بهذا المال الربوي للدين الذي في ذمته. فهذا مثال للحاجة التي يريد شيخ الإسلام - رحمه الله -. الراجح: يبدو لي أن: - أضعف الأقوال القول الثالث. - وأصح الأقوال: اختيار ابن قدامة - رحمه الله -. والسبب: أنه: ـ إما أن نحكم على هذا العقد أنه عقد ربوي وأنه حيلة على الربا فيكون محرماً للحاجة ولغير الحاجة لأن الربا لا يجوز مطلقاً.

ـ أو أن نحكم عليه: بأنه ليس بعقد ربوي كما يقول ابن قدامة فنصححه للحاجة ولغير الحاجة. أما أن نقول: أنه يصح للحاجة ونعلل بشبهة الربا فهذا غير مستقيم مطلقاً. فمن وجهة نظري أن اختيار الشيخ - رحمه الله - هنا ضعيف وأن كلام الشيخ ابن قدامة في هذه المسألة أقوى وأوجه.

شرح كتاب البيع الدرس رقم (6) قال شيخنا حفظه الله: بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين. - مسألة: قول الماتن - رحمه الله -: - ومن باع ربوياً بنسيئة واعتاض عن ثمنه ما لا يباع به نسيئة ... لم يجز. ذكرنا صورة المسألة والخلاف في هذه المسألة على ثلاثة أقوال: وأن القول الأقرب لمقاصد الشرع - والله أعلم - هو اختيار ابن قدامة - رحمه الله - في هذه المسألة. نستكمل الكلام عن هذه المسألة بأمرين: ـ الأمر الأول: شرحُ عبارة المؤلف - رحمه الله - لأنها أشكلت على بعض الإخوان: يقول المؤلف - رحمه الله: (ومن باع ربوياً) يعني: من باع أحد الأموال الربوية - وستأتي في باب الربا مفصلة - ولنمثل لها: بالقمح (بنسيئة) يعني: باعه بثمن من النقد مؤجل، (واعتاض) عن هذا الثمن المؤجل (ما لا يباع به نسيئة) يعني: ما لا يباع به الربوي قوله (به) يعني الربوي الأول وهو القمح في المثال (نسيئة) يعني اعتاض عنه بمال لا يجوز أن يباع به نسيئة كأن يبادل القمح بالأرز لأن القمح بالأرز يشترط فيه التقابض. إذاً هذا معنى كلام المؤلف - رحمه الله - وإذا قرأت المثال بتأني استطعت أن تنزل عبارات المؤلف - رحمه الله - على المثال بوضوح إن شاء الله. * * مسألة/ إذا باع الإنسان ربوياً بثمن مؤجل، ولنقل باع رزاً حال بمائة ألف مؤجلة، ثم هذا البائع اشترى بالمائة ألف التي له في ذمة المشتري مائة صاع من القمح، ثم تصارفا، فهذه الصورة تجوز عند الحنابلة ما لم تكن حيلة على الربا، فإذا كان قد عقد هذا العقد حيلة على الربا فإنه لا يجوز.

فمثلاً: إذا اشتريتُ منك مائة صاع قمح بألف ريال مؤجلة ثم اشتريتَ مني مائة صاع أرز بألف ريال مؤجلة: جاز أن نتصارف فيسقط ما في ذمتك ويسقط ما في ذمتي ولا يعتبر من هذه المسألة حتى عند الحنابلة بشرط: أن لا يكون ذلك على سبيل الاحتيال بيني وبينك، أن لا يكون حيلة لبيع القمح بالأرز مع النسيئة، فإذا لم يكن حيلة فلا بأس لأنهما عقدان منفصلان. - ثم قال - رحمه الله -: - أو اشترى شيئاً نقداً بدون ما باع به نسيئة. هذه المسألة: هي المسألة التي تسمى: العينة. فالمؤلف - رحمه الله - يفسر العينة هنا بقوله: (اشترى شيئاً نقداً بدون ما باع به نسيئة.)، فالمؤلف - رحمه الله - بدأ بالعقد الثاني وهذا من فقهه وسيتبين معنا ما هو العقد الأول وما هو العقد الثاني. فالعينة هي: بيع الشيء بالشيء مع النسيئة. وفي الاصطلاح: ما ذكره المؤلف - رحمه الله -. وصورته: أن يبيع التاجر سلعة بثمن مؤجل ثم يشتري هذه السلعة بثمن حال أقل منه مؤجلاً، هذه هي الصورة المعروفة المشهورة للعينة. فالمؤلف - رحمه الله - يقول: (اشترى شيئاً نقداً) فبدأ بالعقد الثاني ومن المعلوم أن المسألة ستبدأ من العقد الأول وهو البيع المؤجل لكنه بدأ بالبيع الثاني لأن البيع الثاني هو محل الخلاف، أما أن يبيع الإنسان شيئاً مؤجلاً فهذا لا إشكال فيه. = ذهب الحنابلة والجماهير من أهل العلم من السلف والخلف: إلى أن هذه الصورة التي ذكرت لك وهي: العينة: أنها محرمة وهي من العقود الربوية بل هي عند هؤلاء أقبح من الربا الصريح، لأن قاعدة شيخ الإسلام أن الحيل لا تزيد العقود إلا تحريماً، يعني: لا تزيد العقود المحرمة إلا تحريماً وإيغالاً في معصية الله. واستدل الجمهور على هذا الحكم بأدلة كثيرة: - منها: قوله - صلى الله عليه وسلم -: (إذا تبايعتم بالعينة وأخذتم أذناب البقر واشتغلتم بالزرع .. سلط الله عليكم ذلاً لا ينزعه عنكم حتى ترجعوا). وهذا الحديث له طرق كثيرة لا يخلو شيء منها عن ضعف لكن مجموع الطرق في مثل هذا الحديث تنقله من الضعف إلى أن يكون حسناً لذاته أو صحيحاً لغيره. المهم أنه مما يحتج به، لا سيما وأنه يؤيد بالمقاصد العامة للشرع.

- الدليل الثاني: أن هذا البيع من الحيل، ونصوص الشرع متكاثرة في تحريم الحيلة وذم فاعلها. - الدليل الثالث: أن أم ولد زيد بن أرقم - رضي الله عنه - باعته عبداً بثمانمائة درهم إلى العطاء - يعني: مؤجلة - ثم اشترته منه بستمائة درهم نقداً - يعني: حالة - فسألت عائشة - رضي الله عنها - عن حكم هذا العمل، فقالت عائشة - رضي الله عنها -: (بئس ما اشتريتي وبئس ما شريتي، أبلغي زيداً أنه أبطل جهاده مع النبي - صلى الله عليه وسلم - إلا أن يتوب). قال الحنابلة: وهذا الحكم لا يصدر من عائشة إلا توقيفاً، وليس لها أن تقول هذا من قبل الرأي، وهذا الأثر إسناده صحيح إن شاء الله وممن صححه ابن عبد الهادي. فهذه ثلاثة أدلة تدل على أن عقد العينة محرم. = القول الثاني: أن عقد العينة جائز. وهو مذهب الإمام الشافعي. واستدل على هذا: - بأن العقد الأول عقد صحيح مستوفي الشروط والأركان، والعقد الثاني: كذلك عقد صحيح مستوفي الشروط والأركان فهذه المعاملة من حيث الظاهر جائزة، وليس لنا أن نتدخل في مقاصد الناس من البيع والشراء. وتقدم معنا التعليق على هذا الأصل للشافعي - رحمه الله - وهو: أنه ينظر لظواهر العقود ولا ينظر لحقيقة العقد وبناء على ذلك يصحح - رحمه الله - ما لا يصححه الجمهور من العقود ومنها: عقد العينة، ولذلك نجد أن بعض الشافعية يقول: نحن لا نتابع الشافعي على هذا الحكم لأنه - رضي الله عنه - نص على أنه إذا وجد دليل على خلاف قوله فهو مذهبه، والآن وجد الدليل وهو: (إذا تبايعتم بالعينة). وعلى كل حال القول الراجح - إن شاء الله - هو مذهب الجمهور وهو أي: عقد العينة واضح الحيلة على الربا وهو من أكل أموال الناس بالباطل وهو أقبح من الربا الصريح الذي يأخذ زيادة صريحة منصوص عليها في العقد لأن هذا لا يخادع الله والمتعاملون بالعينة يخادعون الله. إذاً: هذا هو حكم مسألة العينة وهي كثيرة الوقوع في عصرنا وقبل ذلك ومن أزمان وهي تتخذ وسيلة لأكل الربا بعقود ظاهرة الصحة وهي عقود ربوية. - ثم قال - رحمه الله -: - لا بالعكس. قوله (بالعكس) أي: فإن عكس: جازت. ومقصوده بالعكس هنا: أن يشتري بأكثر أو بمثل ما باع به مؤجلاً.

مثاله: إذا باع زيد على عمرو سيارة مؤجلة بمائة ألف: فإن اشتراها بمائة ألف أو بأكثر: جاز، وهي العكس. وإن اشتراها بأقل: حرم وهي العينة. فإذا اشترى من باع مؤجلاً بمثل أو بأكثر من الثمن: جاز، ومعلوم أن هذا جائز وهو من الإرفاق ولا حرج فيه ولا يثرب على فاعله، لكن لا يخفى عليكم أن هذه الصورة لا تقع، لأن الإنسان إذا أراد أن يبر أخاه فإن له أن يقرضه إقراضاً مباشراً بلا دخول في قضية البيع والشراء عن طريق السلعة، لكن على كل حال: إن فعل فإنه لا بأس وليست من العينة. * * مسألة/ أما عكس العينة فلها صورة أخرى: وصورتها أن يبيع الإنسان السلعة بثمن حال على شخص ثم يشتري السلعة بثمن مؤجل أكثر منه، ولتسهيل قضية العينة وعكس العينة الفرق بسيط جداً: العينة: تكون السلعة عند آكل الربا. وعكس العينة تكون السلعة عند معطي الربا. فقط هذا الفرق، أما الصورة فهي هي. فإن كانت السلعة عند آكل الربا: فهي العينة التي سبق، فيبيعه مؤجلاً بثمن ثم يشتريه حالاً بثمن أقل، أو العكس: تكون السلعة عند معطي الربا فيبيعها بثمن حال ثم يشتريها بثمن أكثر مؤجلاً. فإذا أردت أن تفهم العينة وعكس العينة فالفارق بينهما بسيط: إن كانت السلعة التي هي محل الحيلة عند آكل الربا فهي العينة وإن كانت السلعة عند معطي الربا فهي عكس العينة. فقط هذا هو الفارق بينهما. ـ حكم (عكس العينة): حكمه ينقسم إلى قسمين: - القسم الأول: - إذا كان المقصود من عكس العينة الحيلة على الربا: فهي محرمة بالاتفاق. - وإذا لم يكن المقصود الحيلة على الربا فإن عكس العينة: فيه خلاف داخل مذهب الحنابلة: = فمنهم من قال: هي جائزة. = ومنهم من قال: هي محرمة. والصواب أن حكم عكس العينة حكم العينة تماماً، وهي حيلة على الربا مكشوفة ولا فرق بين أن يبدأ العقد من عند معطي الربا أو أن يبدأ العقد من عند آكل الربا فالأمر واحد وليس لهذا الأمر أي أثر على الحكم، فهي حيلة على قرض جر نفعاً فلا فرق بينهما. * * مسألة/ إذا تبين أن العينة من العقود الربوية المحرمة فالمقصود بالعينة في هذا الكلام أي: العقد الثاني. أما العقد الأول ففيه خلاف:

= فمن الفقهاء من قال: العقد الأول جائز لكن يحرم أن يعقدوا العقد الثاني ليتحيلوا به على الربا. = ومن الفقهاء من قال: بل العقد الأول محرم من الأصل لأن المقصود به التوصل إلى هذه الحيلة. = ومن الفقهاء من قال: إن كان المقصود بالعقد الأول الحيلة على الربا فهو محرم وإن كان المقصود من العقد الأول إجرائه على ظاهره فهو جائز، وهذا اختيار شيخ الإسلام - رحمه الله -. وإذا تأملت فستجد أن مرد اختيار شيخ الإسلام للقول المانع لأن غالب من يوقعون عقود الربا لا يقصدون من العقد الأول إلا التوصل للعقد الثاني للتوصل للقرض الذي جر نفعاً. فغالب عقود العينة يقصد من العقد الأول فيها هذا الأمر، فدائماً يتحقق شرط شيخ الإسلام وهو أن يكون حيلة على الربا فيكون القول الثالث والأول (يعني القول الذي فيه تفصيل والقول الذي فيه المنع مطلقاً) قولان متقاربان ومن حيث الواقع والتطبيق هما قول واحد في الحقيقة. إذاً: هذا ما تقدم، معنى قول المؤلف - رحمه الله -: (أو اشترى شيئاً نقداً بدون ما باع به نسيئة لا بالعكس: لم يجز). فالآن عرفنا معنى هذا الكلام وصورة العينة وصورة عكس العينة ومقصود المؤلف - رحمه الله - بقوله - هنا - (لا بالعكس). - ثم قال - رحمه الله -: - وإن اشتراه بغير جنسه، أو بعد قبض ثمنه، أو بعد تغير صفته، أو من غير مشتريه، أو اشتراه أبوه أو ابنه: جاز. قوله: (وإن اشتراه) يعني: من باعه بأقساط مؤجله أكثر مما اشتراه به نقداً. وقوله - رحمه الله -: (وإن اشتراه بغير جنسه) يعني: باعه بالدراهم واشترى بالدنانير. فإن باعه بالدراهم واشترى بالدنانير: جاز. مثال المسألة: زيد باع على عمرو سيارة مؤجلة بمائة ألف درهم، ثم اشتراها منه بخمسين ألف دينار حالة، صورة عقد الربا والذي اختلف الآن: أن الثمن في البيع يختلف عن الثمن في الشراء. فحينئذ: = يقول الحنابلة: هذه الصورة جائزة وليست من الربا. - لأن التفاضل بين الثمنين جائز، فلم يوقع هذا العقد في الربا. = والقول الثاني: أنه إذا اشتراه بثمن آخر فلا يجوز أيضاً.

- لأن كلاً من الدراهم والدنانير في المثال، كلاً منها يشتركان في معنى الثمنية، وفي تحقيق الربا، فاختلافهما لايؤثر على حقيقة العقد. وهذا القول هو الصواب، ولو قيل بما ذهب إليه الحنابلة لكانت من الحيل الباردة على الربا: بأن يبيع السيارة بالريالات ويشتريها بالدنانير أو بالدولارات أو بأي عملة أخرى وهذا لا يخرج بالعقد عن صورة الربا مطلقاً. إذاً: عرفنا الآن معنى قول المؤلف - رحمه الله -: (بغير جنسه) وأن الحنابلة يرون إذا اختلف الثمن الذي اشترى به عن الثمن الذي باع به فإنه لا ربا وأن الصواب أن هذا العقد ربا وإن اختلف الجنس وعرفتَ تعليل ذلك. - وقوله - رحمه الله - (أو بعد قبض ثمنه). إذا اشتراه من باعه بأقساط مؤجلة بعد قبض ثمنه: جاز: بأقل أو بأكثر أو بمثل. - لأنه لا شبهة للربا هنا. مثاله: رجل باع سيارة بسبعين ألف ريال مؤجلة لمدة سنة ثم بعد تماما السنة انتهى سداد جميع الأقساط واستلم جميع الثمن فحينئذ له أن يشتري هذه السيارة بمثل الثمن أو بأكثر أو بأقل وليس من الربا في شيء وذلك بعد استلامه جميع الثمن. وهذا صحيح. لأنه لا ربا هنا مطلقاً، ليس هناك أي نوع من أنواع الربا لأن الثمن المؤجل تم استلامه كاملاً فإذاً لم يثبت في ذمة المشتري أكثر مما أعطى في هذه الصورة لأنه انتهى العقد الأول تماماً وبدأنا بعقد جديد آخر وهذا واضح. لكن ما أقل ما تقع هذه الصورة، قد تقع لكن لا فائدة منها بالنسبة للمتحيلين على الربا لأنه بعد السداد ليس له أي مصلوح في شراء السلعة، اللهم إلا أن لا يكون حيلة على الربا ويريد أن يشتري السلعة شراءً جديداً فحينئذٍ لا يوجد هناك أي نوع من أنواع الربا ولا شبهة الربا. إذاً: كما قلت لك: إذا باع زيد على عمرو سيارة بمائة ألف ريال لمدة سنة فإنه بعد تمام السداد وانتهاء السنة فلزيد أن يشتري السيارة بمبلغ كاش مثل أو أقل أو أكثر وبمقسط وبأكثر وبأقل فهو عقد جديد ليس له علاقة بالعقد الأول لأن العقد الأول تم بأقساطه واستلام سلعته. - قوله - رحمه الله -: (أو بعد تغير صفته). إذا اشتراه بعد تغير صفته بثمن أقل فإنه لا بأس. والمقصود بتغير الصفة هنا يعني: إلى النقص لا إلى الزيادة.

مثاله/ إذا باع زيد على عمرو سيارة بمائة ألف مؤجلة لمدة سنة وبعد مضي ستة أشهر حصل على السيارة حادث وأثر هذا الحادث بنقص قيمة السيارة ثم اشترى هذا الذي باع مؤجلاً اشترى هذه السيارة بقيمة أقل مما باع به لكن هذا النقص سببه نقص الصفة وليس الحيلة على الربا: فحينئذ لا بأس لأن النقص الآن ليس تحيلاً على الربا وإنما بسبب النقص الذي طرأ على العين. فهذا لا بأس به. بشرط أن يكون النقص: متناسباً مع نقص الثمن. ومتناسباً مع نقص صفة المبيع. فمثلاً: إذا حصل في – المثال - على السيارة حادث فصارت بدل ما تكون قيمتها سبعين ألفا صارت بسبب الحادث قيمتها ستين ألفاً فإذا دفع فيها ستين ألفاً فلا حرج لكن إن دفع فيها خمسين أو أقل فإنه من عقود الربا. فإذاً: يجب أن يكون هناك تناسباً بين النقص في القيمة والنقص في الصفة حتى نأمن الحيل الربوية. - قوله - رحمه الله -: (أو من غير مشتريه). إذا اشتراه من غير مشتريه فلا بأس فإذا باع زيد على عمرو سيارة مؤجلة ثم باع عمرو على خالد السيارة ثم اشترى زيد السيارة من خالد فلا حرج ولا ننظر للسعر سواء كان أقل أو أكثر لأن هذا يبعد أن يكون من حيل الربا ولأن العقد الثاني الذي بين البائع الأول والمشتري الثاني عقد جديد لا علاقة له بالعقد الأول إلا: إذا كانت حيلة ثلاثية بأن يتفق الثلاثة على هذا العقد بأن يقول: كل من بعت عليه أنا أقساط فاشتري أنت منه هذه السلعة وأشتريها أنا منك. فتجد أن هذه السيارة تدور بين ثلاثة: اثنين ثابتين والثالث هو المعطي للربا في كل عقد جديد. فتجد أن السيارة تدور بين هؤلاء الثلاثة وهذا من عقود الربا إذا كان تم بالاتفاق بين الثلاثة. أما إذا تم مصادفة بدون أي اتفاق بأن ذهب الذي اشترى السلعة وباعها في السوق على شخص ثالث ثم جاء الذي باع بأقساط مؤجلة واشترى من هذا الشخص الثالث فإنه لا حرج وليس هناك أي شبهة للربا لبعد ما بين الأطراف. - وقوله - رحمه الله: (أو اشتراه أبوه أو ابنه). الضمير في قوله: (أبوه أو ابنه) يعود على البائع أقساط أو الذي نسميه نحن هنا: آكل الربا.

باب الشروط في البيع

فإذا باع زيد على عمرو سيارة مؤجلة بمائة ألف لمدة سنة ثم اشترى هذه السيارة أبو زيد أو أخوه أو ابنه أو عمه أو خاله فإنه لا حرج. بشرط: كما تقدم: أن لا تكون هذه المعاملة حيلة على الربا بأن يتفقوا على إجراء هذه المعاملة الصورية. فإن كانت حيلة على الربا فهي محرمة. (¬1). وهذه المعاملة ربما تكون حيلة على الربا وربما لا تكون حيلة على الربا. فإذا باع زيد سيارته بثمن مؤجل وأخوه يعرف أن هذه السيارة نظيفة وليس بينه وبين أخيه أي اتفاق ثم ذهب إلى المشتري واشترى منه السيارة بقصد الحصول على هذه السيارة التي يعرف هو أنها نظيفة وأنها بحالة جيدة فهذا ليس من الربا في شيء لأنه ليس هناك أي تواطؤ على العقد، والعقد الثاني لا حرج فيه وليس له أي علاقة بالعقد الأول الذي هو البيع أقساط. إذاَ: إذا اشترى السيارة أبوه أو أخوه أو ابنه فإنه لا حرج وإن اشترى السيارة رجل أجنبي لا أبوه ولا أخوه فيجوز من باب أولى ولذلك لم يذكرها المؤلف - رحمه الله - لأن الحيلة تتصور من أبيه وأخيه ولا تتصور من رجل أجنبي ليس بينهما معرفة. إنما نص على الأب والأخ للحذر من أن يكون هناك حيلة فإذا لم يكن هناك حيلة فإنه يجوز عند الحنابلة وهو قول صحيح لأنه ليس هناك محذوراً من هذه المعاملة. باب الشروط في البيع - ثم قال - رحمه الله -: - باب الشروط في البيع. هذا الباب من أهم الأبواب، وربما نقول هو يلي في الأهمية الشروط لأنه قل أن يخلو عقد من شرط. قوله - رحمه الله -: (باب الشروط): الشرط في اللغة: العلامة. وفي الاصطلاح: إلزام أحد المتعاقدين الآخر ماله فيه منفعة بسبب العقد. فإن كان الإلزام ليس بسبب العقد فليس من الشروط. وإن كان الإلزام من رجل آخر ليس أحد العاقدين فليس من الشروط. فلابد أن يكون من أحد العاقدين ولابد أن يكون الإلزام بسبب العقد ولابد أن يكون له فيه منفعة. - قال - رحمه الله -: - منها صحيح. تنقسم الشروط إلى قسمين: - القسم الأول: شروط صحيحة. - والقسم الثاني: شروط فاسدة. ـ القسم الأول: الشروط الصحيحة، وهي تنقسم إلى ثلاثة أقسام: ¬

_ (¬1) - ملاحظة: كانت في التسجيل فلا بأس: والصحيح ما أثبت بمراجعة شيخنا - حفظه الله -.

- القسم الأول: من الشروط الصحيحة: اشتراط ما هو من مقتضى العقد: كأن يشترط عليه أن يقبضه السلعة. أو أن يشترط عليه أن يتصرف - يعني: البائع - بالسلعة كيفما يشاء. فهذا النوع من الشروط هو من الشروط التي هي تحصيل حاصل، لأن العقد يقتضيها بدون الشرط، وهي جائزة بالإجماع، بل هي واجبة لأن العقد يقتضي هذه الشروط وإنما لم يذكر المؤلف - رحمه الله - هذا النوع لما قلت لك: من أن العقد يقتضي هذه الشروط فلا حاجة للكلام عنها، مع العلم أن الأصل ذكر هذا الشرط - أصل الكتاب وهو المقنع ذكر هذا الشرط - فهذه من المسائل التي تركها المؤلف - رحمه الله - وتركه إياها جيد لأن هذا الشرط تحصيل حاصل. - القسم الثاني: هو الذي بدأه المؤلف - رحمه الله - بقوله: (كالرهن وتأجيل الثمن، وكون العبد كاتباً). - فالقسم الثاني هو: اشتراط ما فيه منفعة للبائع أو للمشتري. غالباً لا تكاد تخرج عن أن تكون: صفة في المبيع أو صفة في الثمن أو لتوثيق البيع كاشتراط الرهن. فلا تكاد تخرج شروط الناس عن هذه الأنواع الثلاثة. وهذا القسم الثاني هو القسم الأول عند المؤلف. - قال - رحمه الله -: - كالرهن. أي: كأن يشترط البائع على المشتري أن يرهنه مقابل الثمن سلعة أخرى فيقول بعت عليك هذا البيت بشرط أن ترهنني هذه الأرض. فهذا العقد وهذا الشرط: صحيح. لأن في هذا الشرط منفعة للبائع. - قال - رحمه الله -: - وتأجيل الثمن. الأول من شروط البائع والثاني من شروط المشتري. كأن يقول: اشتريت منك هذه السلعة بشرط: أن تؤجل الثمن. فهذا الشرط صحيح، ويلزم البائع أن يؤجل الثمن. - لقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: (المسلمون على شروطهم) وهو حديث صحيح إن شاء الله. * * مسألة/ فإن اشترط التأجيل فلابد من العلم بالأجل، فإن لم يذكر بطل الشرط. - لأن النبي - صلى الله عليه وسلم: (نهى عن الثنيا إلا أن تعلم). - ولأنه - صلى الله عليه وسلم -: (نهى عن الغرر). وفي تأجيل الثمن لا إلى موعد محدد غرر وإقحام للمتعاقدين في الخلاف. = القول الثاني: أنه يجوز تأجيل الثمن إلى موعد معروف وإن لم يحدد كقوله: (إلى الحصاد)، (أو إلى الجذاذ).

والأقرب والله أعلم أنه لابد من تحديد الأجل بموعد محدد. لأن إطلاق العقود والشروط بلا تحديد وإن ربطت بموعد متعارف عليه يؤدي غالباً أو دائماً إلى الاختلاف والشجار بين المتبايعين. وإذا كان موعد الجذاذ معروفاً فليذكر في العقد، وموعد الجذاذ يحتمل أن يقصد به أول بداية الموعد ويحتمل أن يقصد به آخر موعد الجذاذ، ويحتمل أن يكون في وسط موعد الجذاذ. وهذه المدة طويلة غالباً ما تكون خلاف بين المتبايعين. لذلك الأقرب أنه لابد من تحديد موعد معروف محدد باليوم لتسليم الثمن. - ثم قال - رحمه الله -: - وكون العبد كاتباً. هذا شرط في السلعة. إذا اشترط المشتري أن يكون العبد كاتباً: صح الشرط ولزم الإتيان به. فإن أخل: فسيأتينا ماذا يترتب على الإخلال. - ثم قال - رحمه الله -: - أو خصياً. إذا اشترط أن يكون العبد خصياً أو اشترط أن يكون العبد فحلاً. فإنه لابد من الإيفاء بالشرط. لأن هذا فيه منفعة للمشتري. سواء اشترط أن يكون خفياً أو اشترط أن يكون فحلاً. فإن اشترط أن يكون خصياً: فصار فحلاً. أو فحلاً فصار خصياً. فسيأتينا ماذا يترتب على الإخلال بالشرط. - قال - رحمه الله -: - أو مسلماً. إذا اشترط أن يكون العبد مسلماً فبان كافراً فقد اختل الشرط. أما إن اشترط أن يكون كافراً فبان مسلماً فلا خيار للمشترط. إذا قال: أشترط أن يكون العبد كافراً ثم تبين أنه مسلم فإنه عند الإمام أحمد - رحمه الله - لا خيار. لماذا؟ - لأنه لا يمكن أن نجعل صفة الإسلام نقصاً في السلعة، بل هي كمال مهما كان مقصود المشترط، فهذا الشرط يسقط. * * مسألة/ قال ابن مفلح: فإن اشترطه أحمقاً فبان ذكياً فلا خيار. يعني: لو قال: أنا أشترط في العبد أن يكون أحمقاًَ فبان ذكياً فلا خيار له عند ابن مفلح - رحمه الله -. لأن صفى الذكاء أكمل من صفة الحمق. والصواب: أن له الخيار. وأن الإخلال بهذا الشرط إخلال بمقتضى الشرط الذي في العقد. لأن الحمق قد يكون مقصوداً لبعض الناس لأن عمل هذا العبد لا يناسب فيه أن يكون رجلاً أو عبداً ذكياً بل لابد أن يكون عبداً أحمقاً، فإن كان ذكياً ضره .. ((الأذان)). نتم القسم الثاني من النوع الأول. - يقول - رحمه الله -: - والأمة بكراً.

يعني: إذا اشترط أن تكون الأمة بكراً فبانت ثيباً فقد أخل بالشرط. - لأن البكارة مقصوده. فإن اشترطها ثيباً فبانت بكراً: فلا خيار له. - لأن صفة البكارة أكمل من غيرها. والصواب: أنه إذا اشترطها ثيباً وبانت بكراً فله الخيار إذا كان له مقصود صحيح بهذا الشرط، فإن بعض الناس قد يشترط أن تكون الأمة ثيباً ويقصد من هذا قصداً صحيحاً فلا حرج عليه، ولا نقول ليس لك خيار ما دامت بكراً ما دام أنه هو يريدها ثيباً ولا نقول: ليس لك خيار ما دامت بكراً ما دام هو يريدها ثيباً. فالصواب أنه أن يثبت له فيها الخيار. وبهذا انتهى النوع الأول من الشروط الصحيحة. وسيأتينا: ماذا يترتب على الإخلال بهذا النوع ثم نتطرق غداً إن شاء الله للنوع الثاني من الشروط.

شرح كتاب البيع الدرس رقم (7) قال شيخنا حفظه الله: بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين. تقدم الكلام عن أقسام الشروط الصحيحة وذكرنا الشرط الأول وهو الشرط الذي لم يذكره المؤلف - رحمه الله - والشرط الثاني وصور ونماذج من الشرط الثاني وانتهينا من تقرير صور الشرط الثاني. باقي من مسائل الشرط الثاني: مسألة واحدة وهي: الحكم إذا أخل بالشرط: فإذا اشترط عليه صفة مقصودة مرادة ثم أخل بها البائع أو أخل بها المشتري إذا كانت مشترطة على المشتري، فالحكم على التفصيل التالي: ـ ينقسم الحكم إلى قسمين: - القسم الأول: أن يتعذر رد السلعة المبيعة: فإذا تعذر فليس لمن فقد الشرط في حقه إلا الأرش، وسيأتينا كيفية تقدير الأرش. - القسم الثاني: إذا أمكن الرد ولم يتعذر فلمن فقد الشرط في حقه الخيار بين الإمضاء مع أخذ الأرش أو فسخ العقد، فهو مخير إن شاء فسخ وأخذ كامل الثمن وإن شاء أخذ السلعة وأخذ معها الأرش. وكيفية تقدير الأرش: هو بأن نقدر قيمة السلعة بدون هذه الصفة المطلوبة ونقدر قيمة السلعة إذا كانت هذه الصفة المطلوبة فيها والفرق بين القيمتين يدفعه البائع.

نقدر قيمة السلعة بلا صفة وقيمة السلعة مع الصفة والفرق بين القيمتين يدفعه البائع للمشتري. وفهم من هذا التفصيل أن البائع فيما إذا كان هو الذي أخل بالشرط أنه لا خيار له، إنما الخيار فقط للمشتري. وهذا صحيح فيما إذا أخل البائع بالشرط عمداً مع العلم، وليس بصحيح إذا أخل بالشرط معذوراً بجهل أو نسيان فحينئذ يثبت الخيار للطرفين. مثال ذلك: اشترط المشتري على البائع أن تكون الأمة معلمة، تقرأ وتكتب وتحفظ القرآن، والبائع نسي هذا الشرط أو جهل أنه يجب عليه الإيفاء بالشرط فباعه أمة تخلو من هذا الشرط فحينئذ نقول للمشتري الخيار وللبائع الخيار فإذا اختار المشتري الإمضاء مع أخذ الأرش فالبائع أيضاً له الخيار إما بالقبول أو باسترداد السلعة ودفع الثمن، يعني إرجاع الثمن للمشتري، فالجميع بالخيار - طرفي العقد بالخيار. هذه الصورة فيما إذا كان البائع أخل بالشرط بعذر مع العلم أن غالب العقود يكون فيها الإخلال بغير عذر، فإذا كان الإخلال بغير عذر فالحكم هو ما سمعت أنه له الخيار بين الإمضاء مع أخذ الأرش وبين رد السلعة وأخذ الثمن. - ثم قال - رحمه الله -: - ونحو أن يشترط البائع: سكنى الدار شهراً. قوله: (ونحو أن يشترط البائع). بدأ المؤلف - رحمه الله - بالقسم الثالث من أقسام الشروط الصحيحة، وهذا الشرط - يعني: هذا القسم الثالث - تعريفه: أن يشترط نفعاً معلوماً في السلعة أو نفعاً من البائع في السلعة. والأمثلة التي ذكرها المؤلف - رحمه الله - توضح المقصود كما سيأتي التعليق عليها. حكم هذا الشرط: = ذهب الجماهير إلى صحة هذا الشرط، وأنه شرط لازم. واستدلوا على هذا: - بأن جابر - رضي الله عنه - لما اشترى منه النبي - صلى الله عليه وسلم - بعيره اشترط جابر - رضي الله عنه - على النبي - صلى الله عليه وسلم - حملانه إلى المدينة - يعني اشترط ظهر البعير إلى المدينة، فهذا اشتراط نفع في المبيع. = والقول الثاني: أن هذا الشرط باطل ولا يصح. واستدلوا على بطلانه: - بأن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى عن بيع وشرط. وهذا بيع وشرط. والراجح والله أعلم مذهب الجماهير وهو صحة هذا النوع من الشروط.

والجواب على هذا الحديث: أنه حديث ضعيف، بل قال الإمام أحمد - رحمه الله - هو حديث منكر. فهذا الحديث لا يثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم -. فتبين معنا أن الراجح صحة هذا الشرط وأنه يعمل به ويلزم من اشترط عليه أن يؤدي ويفي بالشرط. - قال - رحمه الله -: - ونحو أن يشترط البائع: سكنى الدار شهراً. هذا هو المثال الأول للقسم الثالث من الشروط الصحيحة وهو: - أن يشتري الدار ويشترط على المشتري سكنى الدار لمدة سنة. فيقول: أبيع عليك الدار بشرط أن أسكنها لمدة سنة أو لمدة شهر أو لأي مدة يتفقون عليها، فهذا الشرط صحيح. ويدل على صحة هذا الشرط: - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى عن الثنيا إلا أن تعلم. وفهمنا من كلام المؤلف - رحمه الله - أن اشتراط المنفعة لابد أن يكون معلوماً محدداً وإلا فإن الشرط يبطل. واستدلوا على هذا: - بنفس الحديث الدال على صحة الشرط وهو أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى عن الثنيا إلا أن تعلم، وهذه من الثنيا فقد استثنى البائع شيئاً من المبيع وهو المنفعة. = والقول الثاني: أنه يجوز استثاء شيء من المبيع ولو إلى مدة غير معلومة ولو إلى الممات. واستدلوا على هذا: - بأن أم سلمة - رضي الله عنها - أعتقت الصحابي الجليل سفينة واشترطت عليه خدمة النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى أن يموت. فاستثنت - رضي الله عنها - منفعة غير محددة بل تستمر إلى الموت. والراجح أنه لابد من معرفة المستثنى وأن يكون معلوماً محدداً. وأما الحديث: فإن ثبتت صحته فإنه يجاب عنه بأن العقد الذي أجرته أم سلمة عقد عتق وهو ليس من عقود المعاوضات، ويتسامح في هذا العقد ما لا يتسامح في عقود المعاوضات. هذا إذا صح. فالراجح أنه إذا أراد أن يشترط شرطاً في ذات السلعة أو في منفعتها فلابد أن يكون معلوماً محدداً خروجاً من النزاع الذي سيقع قطعاً إذا لم تحدد فترة الانتفاع. - ثم قال - رحمه الله -: - أوحملان البعير إلى موضع معين.

هذا الشرط جاء منصوصاً عليه في حديث جابر - رضي الله عنه - كما تقدم فالسنة الصحيحة نصت على هذا الشرط فهو شرط صحيح ويلزم من اشترط عليه الإيفاء به لما تقدم معنا من حديث جابر - رضي الله عنه - فلا إشكال فيه إن شاء الله. - ثم قال - رحمه الله -: - أو يشرط المشتري على البائع: حمل الحطب أو تكسيره أو خياطة الثوب أو تفصيله. ذكرنا أن القسم الثالث هو: اشتراط منفعة في المبيع أو اشتراط نفع من البائع في المبيع فهذا القسم أو هذا التمثيل للقسم الثاني: وهو اشتراط منفعة البائع في المبيع كأن أقول: أشتري منك هذا الحطب بشرط أن تحمل الحطب إلى الدار فهذا الشرط يتعلق بمنفعة البائع لكن في المبيع - يعني منفعة تتعلق بالمبيع. فهذا الشرط صحيح وجائز: - لأن محمد بن مسلمة - رضي الله عنه - اشترى من ذمي حطباً واشترط عليه أن يحمله إلى منزله. - كما أن النصوص الدالة على صحة هذا النوع الثالث من الشروط الصحيحة دالة على صحة هذا النوع الخاص من الشرط. - كما أن في هذا الشرط منفعة مباحة لا بأس باشتراطها. * * مسألة/ فإذا اشترط هذا الشرط: صار هذا العقد يتضمن بيعاً وإيجارة، فالبيع للحطب والإيجارة لنقله. وتقدم معنا أن الجمع بين عقدين بثمن واحد صحيح ولا حرج فيه ولو اختلفت أحكام كل عقد وهذا النوع من هذه العقود فإذاً لا بأس أن يشترط نفع البائع في المبيع. * * مسألة/فإن اشترط نفع البائع في غير المبيع: كأن يقول: اشتريت منك هذا الحطب على أن تبني لي هذا الجدار. فالآن النفع ليس في المبيع وإنما في عين أخرى وهذا العقد أيضاً صحيح لأن النصوص تدل على صحته ولا يشتمل أي نوع من الغرر أو الظلم فهو متوافق مع مقاصد الشريعة ويدخل ضمن الحديث العام أن النبي - صلى الله عليه وسلم - اشترط الثنيا إلا أن تعلم فهو عقد صحيح إن شاء الله ولا فرق بين أن يشترط الإنسان منفعة من البائع في المبيع أو منفعة من البائع في غير المبيع، وأي فرق بين الصورتين فالشرط في الصورتين صحيح إن شاء الله ويلزم من اشترطه بالأداء والوفاء بما اشترط على نفسه أو بما التزم على نفسه. - ثم قال - رحمه الله -: - وإن جمع بين شرطين: بطل البيع.

إذا جمع الإنسان بين شرطين فغن البيع عند الحنابلة: باطل. وهذا الحكم يتعلق فقط بالقسم الثالث الأخير. أما إذا شرط شرطين في القسم الأول والثاني فلا حرج عليه. إنما هذا القيد يعود إلى اشتراط منفعة في المبيع أو اشتراط نفع البائع في المبيع. فالقسم الأول: لو قال: اشتريت منك هذه السيارة بشرط أن تقبضني إياها وأن أتصرف فيها كيفما أشاء، كم اشترط من شرط؟ شرطين: وهذا يدخل تحت القسم الأول. وإذا قال: اشتريت منك هذه السيارة بشرط أن يكون لونها أبيض وأن تكون جديدة فالآن اشترط شرطين وهذا يدخل تحت القسم الثاني. وإذا قال: اشتريت منك هذا الحطب بشرط أن تحمله وأن تكسره، فاشترط شرطين وهذا في القسم الثالث وهذا لا يجوز عند الحنابلة، والعقد باطل والشرط باطل. واستدلوا على هذا: - بأن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى عن بيع وسلف وعن شرطين في بيع وعن بيع ما لا يملك. قال الإمام أحمد - رحمه الله -: فهذا نص في النهي عن الشرطين. = القول الثاني: وهو رواية عن الإمام أحمد - رحمه الله - اختارها شيخ الإسلام وابن القيم وعدد من المحققين. أن اشتراط شرطين أو ثلاثة أو أكثر أو أقل: صحيح. - لعموم قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: (المسلمون على شروطهم)، فقوله (على شروطهم) عام وهو جمع يشمل الشرط والشرطين والثلاثة والأكثر والأقل. - واستدلوا بالقياس على صحة أكثر من شرط في القسم الأول والثاني من الشروط الصحيحة. بقينا في الجواب عن الحديث: فإن الحديث نص: نهى عن شرطين في بيع. فالجواب عليه: أن أهل العلم اختلفوا في معنى هذا الحديث: أي في معنى نهي النبي - صلى الله عليه وسلم - عن شرطين، اختلفوا إلى خمسة أقوال: = القول الراجح منها: أن معنى النهي عن الشرطين أن يقول: بعت عليك هذا الشيء نقداً بكذا واشتريته منك نسيئة بأكثر منه. وهي صورة العينة، فحملوا الحديث: النهي عن شرطين. على صورة العينة. واستدلوا على هذا: - بأنه يعهد في الشرع وفي اللغة تسمية الشيء ببعضه. فالنهي عن الشرط هنا يقصد بالشرط العقد، فالشرط هنا هو المشروط، كما أن نطلق الضرب على المضروب.

- والدليل الثاني على حمل هذا الحديث على هذا المعنى: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: من باع بيعتين في بيعة فله أوكسهما أو الربا. وإذا أردت أن تطبق هذا الحديث على صور المعاملات فإنه لا ينطبق إلا على العينة، فإذا باع الإنسان بيعتين النبي - صلى الله عليه وسلم - أخبر أن له أوكسهما أو الربا. أوكسهما: يعني: أقلهما. والمقصود بأقلهما هنا: رأس المال. فإذا باع سيارة بنقد بعشرة آلاف واشتراها نسيئة بعشرين ألف فأيهما الأوكس والأقل؟ النقد وهو العشرة آلاف. وهو رأس المال. وإذا أردت أن تطبق هذا الحديث على صور المعاملات المنهي عنها فستجد أنها تنطبق تماماً على العينة فهي التي فيها ثمنين أحدهما أكثر من الآخر وهي التي إذا لم يأخذ الأقل وقع في هذه الصورة في الربا. وقع في المعاملة هذه في الربا. إذاً: لحمل هذا الحديث على خلاف ظاهره نحتاج إلى أشياء قوية تخرجنا عن ظاهر نهي النبي - صلى الله عليه وسلم - عن شرطين. والإمام أحمد - رحمه الله - يقول: هذا النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى عن شرطين. نص صريح وواضح وصحيح ولذلك نحتاج للخروج عن هذا الظاهر هذه الأدلة التي انتصر لها ابن القيم - رحمه الله - بالذات وشيخ الإسلام - رحمه الله - أيضاً لكن ابن القيم - رحمه الله - هو الذي أطال فيها وبين أن معنى النهي عن شرطين الذي لا ينطبق إلا عليه هو العينة بدلالة هذين الأمرين. أن الشرط يطلق على العقد وأن النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: فله أوكسهما أو الربا وهذه الصورة لا تنطبق إلا على صورة العينة. والراجح والله أعلم: القول الثاني وهو: أنه يجوز أن يبيع الإنسان بشرط وبشرطين وبثلاثة. في القسم الأول والثاني والثالث. أولاً: لأن هذا الحديث وإن كان حديثاً صحيحاً إلا أنه يتعين حمله على هذا المعنى جمعاً بين النصوص والآثار. ولأنه لا يعلم علة واضحة معقولة للنهي عن شرطين وإجازة شرط لا سيما أنا نجيز الشرطين في القسم الثاني بالإجماع ولا فرق بين القسم الثاني والقسم الثالث.

ولذلك نحن نقول إن شاء الله الرواية الثانية عن الإمام أحمد - رحمه الله - هي الصواب إن شاء الله وأنه يجوز للإنسان أن يشترط شرطاً أو شرطين أو ثلاثة وأكثر وأقل للنصوص التي ذكرت. - ثم قال - رحمه الله -: - ومنها فاسد: يبطل العقد، كاشتراط أحدهما على الآخر عقداً آخر: كسلف وقرض وبيع وإجارة وصرف. القسم الثاني من الشروط: الشروط الفاسدة. والشروط الفاسدة: يحرم على الإنسان أن يشترطها، فإن اشترط شرطاً فاسداً فهو آثم. لأنها مخالفة للشرع، ولا يجوز للإنسان أنة يقتحم العقود المحرمة. وهذا القسم الثاني ينقسم إلى ثلاثة أقسام: - القسم الأول: من الشروط الفاسدة: أن يشترط عقداً في عقد آخر، اشتراط عقد في عقد، ولا تخلط بين هذه الصورة وبين جمع عقدين بثمن واحد، فتلك ليس فيها شروط أما هذه الصورة فهو يشترط عقد في عقد آخر. فإذا اشترط عقداً في عقد آخر فهو باطل. مثاله: - يقول المؤلف - رحمه الله -: (كسلف وقرض). السلف: المقصود به هنا: السلم. صورة المسألة: أن يقول: أسلمك بشرط أن تقرضني. فهو اشترط عقداً آخر وهو عقد القرض. فهذا صورة السلف والقرض. - قال - رحمه الله -: (وبيع). أيضاً: صورة البيع ظاهرة: كأن يقول: أبيع عليك هذه السيارة بشرط أن تقرضني ألف ريال. فهو أضاف إلى عقد البيع شرطاً آخر وهو: عقد القرض. - ثم قال - رحمه الله -: (وإجارة). نفس الشيء. كأن يقول: أقرضك هذا المبلغ بشرط أن تؤجرني بيتك سواء كان بأجرة المثل أو بأكثر أو بأقل، فمجرد اشتراط أن لا يقرضه إلا إذا أجره فهذا اشتراط عقد في عقد وهو من الشروط الفاسدة كما سمعت. - قال - رحمه الله -: (وصرف) والصرف كذلك نفس الصورة. كأن يقول: لا أوأجرك بيتي بشرط أن تصارفني هذه الدراهم بالدنانير. أو هذه الريالات بالدولارات. فيشترط عبيه بعقد الإجارة عقد الصرف. إذاً: هذه هي الصور التي ذكرها المؤلف - رحمه الله - لاشتراط أحدهما على الآخر عقداً آخر. حكم هذه المسألة: حكمها: أنها لا تجوز. وأن العقد والشرط باطل: - لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى عن بيعتين في بيعة، وهذا أجرى بيعتين في بيعة، وذلك بسبب اشتراطه عقداً آخر في العقد الأول.

- واستدلوا بأن النبي - صلى الله عليه وسلم -:نهى عن بيع وسلف. مما يدل على تحريم اشتراط عقد في عقد آخر. = القول الثاني: في هذه المسألة: أنه يجوز اشتراط عقد في عقد آخر وهو رواية عن الإمام أحمد - رحمه الله - واختارها شيخ الإسلام وابن القيم. - لأنه ليس في النصوص الشرعية ولا في القواعد والمقاصد الشرعية ما يدل على تحريم اشتراط عقد في عقد آخر. - والأصل في المعاملات الحل والنبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: (المسلمون على شروطهم). ويستثنى على القول الثاني: بيع وسلف. ويستثنى اشتراط عقد القرض في أي عقد آخر. فلا يجوز للإنسان أن يشترط عقد القرض في أي عقد آخر أما باقي العقود فلا بأس بها، فلو قال: أبيعك بشرط أن تؤجرني، أصارفك بشرط أن تبيعني، أسلم إليك بشرط أن تؤجرني فلا حرج في هذه العقود، لكن لو قال: أؤجرك بشرط أن تقرضني فإنه لا يجوز. أما دليل الجواز: فذكرناه. وأما دليل المنع: في صورة القرض إذا دخل على عقد آخر: - فلأن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى عن كل قرض جر نفعاً. وإذا اشترط عقداً آخر في القرض فقد جر قرضه له نفعاً زائداً وهو العقد الآخر. ولذلك نحن نقول أن العقد الآخر سواء تم بمثل القيمة السوقية أو بأكثر أو بأقل لا يجوز لأن النفع الذي جره هوم نفس العقد الآخر. سواء كان بأقل أو بكثر وحتى لو كان بأقل من سعر السوق فما دام مشترطاً لإجراء القرض فهو ممنوع ومحرم. = والقول الثالث: أن البيع صحيح والشرط فاسد. فإذا قال: أبيع عليك بشرط أن تؤجرني. فأي منهما الفاسد على القول الثالث؟ الإجارة. فالإجارة المشترطة هي الفاسدة والعقد الأول صحيح. والراجح والله اعلم: القول الثاني. وأما الجواب عن حديث: نهى عن بيعتين في بيعة. فهو أن يحمل على عقد العينة كما سبق تفصيله الآن وهو أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى عن بيعتين في بيعة ولكن بين هذا بقوله: (من باع بيعتين في بيعة فله أوكسهما أو الربا) وهذه الصورة لا تنطبق إلا على العينة. وما هو الجواب عن دليلهم الثاني: وهو أنه - رحمه الله - نهى عن بيع وسلف؟

الجواب: أنا لا نحتاج إلى جواب لأنا نقول بمفهوم هذا الحديث ونستثني صورة القرض، وإنما يجيب الإنسان عن حديث لم يعمل به لعارض أقوى منه أو لفهم آخر للحديث. إذاً: القول الراجح إن شاء الله لعقد بيعتين في بيعة أنه جائز ولا حرج فيه وكثير من الناس اليوم يحتاج إلى هذا العقد حاجة ماسة ومن أبرز صور الحاجة: الذين يبيعون بيوتهم التي يسكنون فيها غالباً ما يشترطون على المشتري أن يؤجرهم بيتاً آخر. أما إن اشترطوا منفعة السكنى فهذا لا بأس به، لكن غالباً ما يشترطون: يقول: أبيع عليك البيت بشرط أن تؤجرني بيتك الآخر. فهذا العقد صحيح وفيه منفعة للبائع وفيه منفعة للمشتري وفيه منفعة للمجتمع ولا يوجد فيه أي محظور شرعي ولا يتعارض مع أي من مقاصد الشرع. فإن شاء الله أن هذا القول هو الصواب وحاجة الناس تمس إليه. ثم بدأ بالثاني: - فقال - رحمه الله -: - وإن شرط أن لا خسارة عليه، أو متى نفق المبيع وإلاّ رده، أو لايبيع ولا يهبه ولا يعتقه، أو إن أعتق فالولاء له، أو أن يفعل ذلك: بطل الشرط وحده. النوع الثاني من الشروط الفاسدة: أن يشترط ما ينافي العقد لكن يصح معه العقد وإنما يبطل الشرط، بخلاف القسم الأول فإن العقد والشرط كلاهما باطل. صور هذه المسألة: - ـ يقول - رحمه الله -: (وإن شرط أن لا خسارة عليه). الخسارة في اللغة العربية: هي النقص. فإذا قال: أنا أشتري منك هذه السلعة بشرط أن لا خسارة علي فإن بعتها بخسارة فالعقد الأول باطل وتكون الخسارة على البائع الأول. فهذا الشرط باطل عند الحنابلة. لأن هذا الشرط ينافي مقتضى العقد، لأن العقد يقتضي أن يكون الضمان على المشتري إذا انتقلت إليه السلعة فهذا العقد في الحقيقة ينافي مقتضى العقد. وسياتينا الخلاف فيها. - ـ قال - رحمه الله -: (أو متى نفق المبيع وإلاّ رده). نفق: يعني: بيع. وهو ضد الكساد. فيقول: أنا أشتري منك هذه السلعة بشرط أن تباع وتمشي في السوق وإلا فإني أردها. فالأول: اشترط عدم الخسارة. والثاني: اشترط أن تباع السلعة ولو بدون ربح. فهذا ينافي مقتضى العقد للتعليل السابق. - ـ قال - رحمه الله -: (أو لايبيع ولا يهبه ولا يعتقه). اشترط عليه: أن لا يبيع ولا يهب ولا يعتق.

يقول: أنا أبيع عليك هذه السيارة بشرط أن لا تبيع هذه السيارة ولا تهب هذه السيارة وإنما تبقى معك. وأنا أبيع عليك هذا العبد بشرط أن لاتهبه ولا تبيعه ولا تعتقه. فيشترط عليه هذا الشرط. فعلى المذهب: العقد صحيح والشرط فاسد. فنقول للمشتري: لك أن تبيع ولك أن تهب ولك أن تعتق وأن تصنع ما تشاء لأن العقد صحيح والشرط فاسد. - ـ قال - رحمه الله -: (أو إن أعتق فالولاء له). يقول: أنا أبيع عليك هذا العبد بشرط إذا أعتقته فولاء هذا العبد لي. فهذا الشرط أيضاً: باطل. والعقد صحيح. - ـ قال - رحمه الله -: (أو أن يفعل ذلك). يعني: أن يبيع وأن يهب وأن يعتق. فالمنفي يصبح مثبتاً في العبارة. فيقول: انا أبيع عليك هذه السيارة بشرط أن تبيع هذه السيارة. أنا أبيع عليك هذه السيارة بشرط أن تهب هذه السيارة. إذاً: يشترط عليه عكس المنفي في الأمثلة السابقة. فكذلك هذا الشرط باطل والعقد صحيح. - قال - رحمه الله -: - بطل الشرط وحده. هذا هو الحكم. هذا حكم النوع الثاني من الشروط الفاسدة: أن الذي يبطل هو الشرط وحده وأما العقد فهو صحيح. واستدل الحنابلة على هذا الحكم: - بان بريرة - رضي الله عنها - جاءت إلى عائشة وقالت: إني كاتبت أهلي على تسع أواق فأعينيني. قال - رضي الله عنها: إن شئت نقدن لك الثمن دفعة واحدة ويكون الولاء لي. فذهبت إلى أهلها فأبو أن يكون الولاء لعائشة. فرجعت فلما رجعت - رضي الله عنها - ودخلت على عائشة فإذا النبي - صلى الله عليه وسلم - عند عائشة - رضي الله عنها - فأخبرت بالأمر فقال النبي - صلى الله عليه وسلم: (خذيها - يعني اشتريها - واشترطي لهم الولاء فإنما الولاء لمن اعتق) ثم قام - صلى الله عليه وسلم - خطيباً في الناس فقال: (ما بال رجال يشترطون شروطاً ليس في كتاب الله كل شرط ليس في كتاب الله فهو باطل وإن كان مائة شرط كتاب الله أوثق وإنما الولاء لمن أعتق). فالحديث صحيح ونص في إبطال الشرط وصحة العقد. وهذا الحديث في الصحيحين لا إشكال في ثبوته. والإمام أحمد - رحمه الله - تمسك بهذا الحديث وقال: هذا النوع من الشروط هو الباطل والنبي - صلى الله عليه وسلم - صحح العقد وانتقلت بريرة إلى عائشة وصار الولاء لها.

= القول الثاني: أن هذا النوع من الشروط صحيح. بشرط: أن يكون لمشترطه قصد صحيح. وهذا الشرط بالذات في هذا القسم لابد منه: أن يكون لمشترطه قصد صحيح. وإلى هذا ذهب أيضاً شيخ الإسلام وابن القيم - رحمهما الله -. واستدلوا: - بأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (المسلمون على شروطهم) فكل شرط يحقق غرضاً صحيحاً ولا يتنافى مع الشرع فإنه صحيح ويؤخذ به. - واستدلوا: بأن امرأة ابن مسعود باعت عليه عبداً من عبيدها أو أمة من إمائها واشترطت عليه أنه إذا باعها فهي لها بالثمن. فهذا هو عين هذا الشرط الثاني. ولما سأل ابن مسعود عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -: صحح الشرط. بقينا في الجواب على قضة بريرة: ما هو الجواب على قصة بريرة؟ الجواب: أنه مخالف للنص. فالجواب أنا قلنا في القول الثاني أنهم يقولون كل شرط فيه مصلحة لأحد العاقدين ولا يخالف نصاً من النصوص. فهذه الشروط جائزة بهذين الشرطين: 1 - أن يكون فيه منفعة لأحد العاقدين. 2 - وأن لا يخالف نصاً من النصوص. فمثلاً: اشتراط الولاء لغير المعتق هذا يخالف نصاً والنص هو: (إنما الولاء لمن أعتق). فهذا الشرط مناقض تماماً لمقتضى العقد. أما الشروط الأخرى التي ليس في المنع منها نص شرعي ولا قاعدة تدل عليها النصوص فليس هناك دليل يدل على إبطالها. فإذا قال: بعت عليك هذا العبد بشرط: أن لا تبيعه أبداً إلا لي. وهذا هو نفس شرط امرأة ابن مسعود فهذا شرط صحيح لأن للمشترط غرض ومن أعظم أغراض المشترط الحفاظ على سلامة هذا العبد. كأن يكون من طلاب العلم لا سيما في القرن الثاني والثالث كان سادة الناس من الموالي أئمة الناس من الموالي. فهؤلاء لابد أن يعاملوا معاملة خاصة ولذلك إذا باعه الإنسان فإنه لا يبيعه إلا وقد ضمن عدم الإضرار به، وهذا مثال. وكأن يقول: بعت عليك هذه العمارة بشرط أن لا تبيع هذه العمارة إلا لي وأنا آخذها منك بالثمن. من أمثلة النفع الحاصل للمشترط: أن كثيراً من الناس قد يبيع العمارة على شخص ويراعيه ويحابيه فيها في ثمنها فيريد أن هذا الذي اشترى إذا كان يريد أن يبيع ولا ينتفع بهذه العمارة أن ترجع لمن؟ للبائع.

فعلى كل حال: كل شرط لا يخالف نصاً وفيه نفع لمشترطه فهو صحيح. إذا قال أحدهم: بعت عليك هذه السيارة بشرط أن لا تبيعها. فقلنا له: لماذا اشترطت هذا الشرط؟ قال: ليس لي أي غرض. لكن هكذا أريد. أريد أنه لا يبيعها. فهل هذا الشرط صحيح أو باطل؟ باطل. لماذا؟ لأنه ليس له غرض صحيح. فلابد أن نراعي هذه القضية. فإذا كان لمجرد التحكم وليس لغرض صحيح فإنه فعلاً يناقض مقتضى العقد، لكن إذا كان لغرض صحيح فلا بأس به. - ثم قال - رحمه الله -: - إلاّ إذا شرط العتق. إذا شرط العتق فالشرط صحيح حتى عند الحنابلة. كأن يقول: بعت عليك هذا العبد بشرط أن تعتقه. فالشرط صحيح ويلزم المشتري أن يعتق العبد الذي اشترى. الدليل على هذا: - أن أهل بريرة اشترطوا على عائشة شرطين: - الأول: أن تعتق بريرة. والثاني: أن الولاء لهم. فأبطل النبي - صلى الله عليه وسلم - اشتراط الولاء وصحح اشتراط الإعتاق. فدل هذا على أن هذا الشرط بالذات صحيح. - الدليل الثاني: أن الشارع متشوف للعتق ويرغب فيه ويتطلبه بشتى الوسائل من ذلك: إذا اشترط البائع على المشتري أن يعتق من اشتراه. إذاً دل على صحة اشتراط العتق دليلان. - ثم قال - رحمه الله -: - ((وَبِعْتُكَ عَلَى أَنْ تَنْقُدَنِي الثَّمَنَ إِلَى ثَلاَثٍ وَإِلاَّ فَلاَ بَيْعَ بَيْنَنَا)) صح. صح: يعني صح البيع والتعليق. فإذا قال له: بعتك هذه السيارة على أن تأتيني بالثمن قبل مضي ثلاثة أيام وإلا فإنه لا بيع بيننا. يعننيك وإلا فإنني أفسخ البيع. فهذا العقد والتعليق صحيح. يدل عليه دليلان: - الأول: أنه روي عن عمر - رضي الله عنه - تصحيح هذا الشرط. - والثاني: القياس على خيار الشرط كما سيأتينا تفصيله. - الثالث: عموم قوله - صلى الله عليه وسلم -: (المسلمون على شروطهم). فهذه الأدلة تدل على صحة هذه الصورة وهو صحيح. - ثم قال - رحمه الله -: - ((وَبِعْتُكَ إِنْ جِئْتَنِي بِكَذَا أَوْ رَضِي زَيْدٌ))، أو يقول للمرتهن: ((إِنْ جِئْتُكَ بِحَقِّكَ وَإِلاَّ فَالرَّهْن لَكَ)) لا يصح البيع. - ـ قوله - رحمه الله -: (وَبِعْتُكَ إِنْ جِئْتَنِي بِكَذَا أَوْ رَضِي زَيْدٌ).

هذا هو النوع الثالث من الشروط الفاسدة: وهو: أن يعلق البيع على شيء آخر. فإذا علق البيع على شيء آخر: فالشرط فاسد. استدل الحنابلة - رحمهم الله - على فساد هذا النوع من الشروط: - بأن مقتضى البيع نقل الملك - يعني: في المبيع - والتعليق يمنع ذلك. فإذاً: صار هذا النوع من الشروط أيضاً أبطلوه لأنه يناقض مقتضى العقد، فغالباً ما تجد الحنابلة يدورون في الشروط الفاسدة حول هذا المعنى. وهو أن الشرط يناقض مقتضى العقد. = القول الثاني: أن هذا النوع من الشروط صحيح وأنه يدخل تحت العمومات ولا يتضمن أي محذور من محذورات عقود المعاوضات، لا ظلم ولا غرر ولا ربا. فهو صحيح. فإذا قال: بعت عليك هذا الشيء إن جاء زيد: صح. فإن جاء زيد فتم البيع وإلا فلا. وإن قال: بعت عليك هذه السيارة إن نجحت: فكذلك. وإن قال: بعت عليك هذا البيت إن تزوجت: فكذلك. وهذه الشروط صحيحة ولا تخالف شيئاً من قواعد الشرع. والقول الثاني: هو الصحيح. وأن هذا الشرط صحيح والعقد صحيح خلافاً للمذهب. - ـ قوله - رحمه الله -:أو يقول للمرتهن: ((إِنْ جِئْتُكَ بِحَقِّكَ وَإِلاَّ فَالرَّهْن لَكَ)) لا يصح البيع. هذه الصورة من جهة مستقلة ومن جهة داخلة تحت القسم الثالث، لأن فيها تعليقاً فهي من هذه الجهة داخلة تحت القسم الثالث من الشروط الفاسدة وهي مسألة مستقلة لأن فيها نصاً خاصاً. إذا قال الراهن للمرتهن: - الرهن هو: المدين. والمرتهن هو: الدائن. - إذا قال له: إن جئتك بالثمن قبل كذا وكذا وإلا فالرهن لك. فالبيع والشرط كلاهما باطل عند الحنابلة. استدلوا على هذا: - بقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: (لا يغلق الرهن من راهنه). والإمام أحمد - رحمه الله - فسر هذا الحديث تماماً بهذه الصورة. فقال - رحمه الله -:معنى هذا الحديث أن يقول: إن جئتك بالثمن إلى كذا وإلا فالرهن لك. ففسره - رحمه الله - تماماً بهذا. = والقول الثاني: أن هذه الصورة جائزة وأنه لا حرج فيها. والجواب على الحديث من وجهين: - الوجه الأول: أنه ضعيف. - والوجه الثاني: أن معناه: أخذ الرهن بمقتضى العقد بدون شرط. (أخذ الرهن: يعني من قبل المرتهن. بنقتضى العقد بدون شرط). هذا هو المنهي عنه. ((الأذان)).

إذاً مسألة: (إن جئتك بحقك وإلا فالرهن لك لا يصح البيع). تبين معنا الآن أن القول الثاني: صحة البيع. وصحة العقد وهو رواية عن أحمد واختارها كما قلت لكم شيخ الإسلام وابن القيم. وأجابوا عن الحديث: بأحد جوابين: - إما أن نقدح في صحته ونقول لا يثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم -. - أو أن نحمله على أخذ المرتهن للرهن بمجرد العقد - يعني: إذا تأخر عن السداد. والراجح إن شاء الله: صحة هذا الشرط لأنه لا ينافي شيئاً من مقاصد الشريعة ولعموم: (المسلمون على شروطهم).

شرح كتاب البيع الدرس رقم (8) قال شيخنا حفظه الله: بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين. - قال المؤلف - رحمه الله -: - وإن باعه وشرط البراءة من كل عيب مجهول: لم يبرأ. لا يصح عند الحنابلة: أن يشترط البراءة من كل عيب مجهول. والبراءة من كل عيب تنقسم إلى قسمين: ـ القسم الأول: أن يبرأ إليه من كل عيب معلوم سماه، وأوقف المشتري عليه. كأن يقول في هذه السلعة: العيب الفلاني، فهذه البراءة صحيحة وليس للمشتري بعد ذلك أنه يرد السلعة بالعيب. وهذه الصورة غير داخلة في كلام المؤلف - رحمه الله -. ـ القسم الثاني: البراءة من العيب المجهول. أي الذي لم يسمه ولم يبينه البائع أثناء العقد. فهذه البراءة عند الحنابلة لا تصح. وهو شرط ساقط وللمشتري أن يطالب بخيار العيب. واستدل الحنابلة على هذا القول: - بأن خيار العيب لا يثبت إلا بعد العقد فليس أن يسقطه قبل ذلك. = والقول الثاني: في مسألة البراءة من كل عيب مجهول: وهو رواية عن الإمام أحمد - رحمه الله -. أن البراءة من كل عيب: - إن كان العيب غير معلوم للبائع صحت البراءة منه. - وإن كان معلوماً للبائع لم تصح البراءة منه ولو شرطه. واستدل الإمام أحمد - رحمه الله - على هذا الحكم: - بأن هذا هو فقه الصحابة والذي أفتوا به. واستدل على هذا:

- بأن (عمر بن الخطاب) - رضي الله عنه - باع غلاماً على زيد بن ثابت بثمانمائة درهم واشترط عليه البراءة من كل عيب ثم قال زيد: بعد ذلك في الغلام عيب لم تسمه واختصما فارتفعا إلى عثمان بن عفان - رضي الله عنه - فنظر في المسألة ثم قضى بأن يحلف بن عمر أن ليس في العبد عيب يعلمه فأبى ابن عمر أن يحلف وارتجع الغلام ثم صح الغلام فباعه ابن عمر بألف وخمسمائة درهم - بضعف الثمن تقريباً - وإنما رفض ابن عمر - رضي الله عنه - أن يحلف لأنه لم يرد أن يجعل الأيمان داخلة في بيعه وشرائه تورعاً، ولذلك والله أعلم يسر الله أمره بأن باع العبد بضعف الثمن. فهذا الأثر دال على أن البائع إذا برئ من كل عيب وهو لا يعلم الآن عيوب السلعة فالبراءة صحيحة وإن برئ من كل عيب وهو يعلم هذه العيوب فإن البراءة باطلة وللمشتري أن يطالب بخيار العيب بعد ذلك ولو كان مشترطاً. وهذا القول اختيار شيخ الإسلام وابن القيم وهو قول صحيح تدل عليه الآثار وتدل عليه المقاصد العامة التي تدل على اعتبار الشروط التي لا تخالف مقتضى الشرع وهذا الشرط منها. - ثم قال - رحمه الله: - وإن باعه داراً على أنها عشرة أذرع فبانت أكثر ... صح إذا باعه داراً أو أرضاً على أنها عشرة أذرع فبانت أكثر يعني: بانت خمسة عشر ذراعاً مثلاً: صح البيع. - لأن هذا النقص نقص على المشتري، فإذا أسقطه فله الحق كما إذا أسقط خيار العيب. ووجه أن هذه الزيادة نقص على المشتري أن هذه الزيادة ستدخل عليه بملكه شريكاً، ودخول الشريك في الملك نقص في المعنى. إذاً زيادة الأذرع نقص على المشتري مع أنها زيادة لكن هي نقص في المعنى لأنه سيدخل عليه شريكاً في الملك، لأن هذا الزائد سيبقى في ملك البائع لأنه إنما باع له عشرة أمتار أو عشرة أذرع فقط وإذا بقيت الزيادة في ملك البائع صار شريكاً في الأرض أو في البيت للمشتري وهذا هو وجه النقص. - ثم قال - رحمه الله: - أو أقل: صح. إذا بانت أقل: فأيضاً يصح. إذا بانت أقل فهو صحيح بأن تبين أن الدار تسعة أذرع وهو نقص على البائع فإذا رضي به صح كما إذا وجد عيب في الثمن.

ووجه النقص على البائع في هذه الصورة: أن الثمن سيقسط على السلعة وبذا ينقص الثمن الذي استلمه البائع، وبهذا ينقص الثمن الذي اشتراه البائع. فإذاً إذا تبين النقص فالبيع صحيح لكن لكل من المشتري والبائع في هذه الصورة الخيار كما سيأتينا لكن الكلام الآن عن صحة العقد. وصحة العقد ثابتة والسبب في صحة العقد هو أنه نقص إما على البائع أو على المشتري وهذا النقص الذي على البائع أو على المشتري إذا رضي به من عليه النقص: جاز، كما إذا أسقط خيار العيب. - ثم قال - رحمه الله: - ولمن جهله وفات غرضه: الخيار. إذاً مع صحة العقد إلا أنه يثبت للبائع والمشتري الخيار لكن بشرطين: 1 - أن يجهل الزيادة أو النقص. 2 - وأن يفوت بذلكم غرضه. فإن لم ينطبق الشرطان بأن كان البائع يعلم بأن الأرض زائدة فإنه لا خيار له بل الخيار فقط للمشتري وكذلك لو كان يعلم أنها ناقصة فلا خيار له بل الخيار للمشتري. وأيضاً في المقابل إذا كان المشتري يعلم أن هذه الأرض التي بيعت عليه على أنها عشرة أذرع هي في الحقيقة أكثر من هذا المقدار أو أقل فليس له الخيار والخيار للبائع فقط. إذاً يثبت الخيار لمن جهل وأيضاً لمن فات غرضه أما إذا لم يفت الغرض فلا خيار له. * * مسألة/ (يتبين فيها فوات الغرض وعدمه) إذا رضي البائع ببذل الزيادة بنفس القيمة فلا خيار للمشتري: لأنه لا ضرر عليه ولأن مقصوده لا يفوت، إلا إذا ترتب على الزيادة فوات غرض المشتري. وهذا قد يتصور وممكن أن الإنسان يتكلف له أمثلة لكنه قليل جداً، قليل جداً أن يفوت غرض المشتري بزيادة الأمتار، فهذا يعني: يتلمس له الإنسان أمثلة وهي قليلة جداً والاشتغال به في الحقيقة ليس له فائدة كبيرة ولذلك الفقهاء لما ذكروا هذه المسألة لم يقولوا إلا إن فات غرض المشتري لأنه صورة نادرة جداً. لكن إذا تصور أن المشتري يفوت غرضه بزيادة الأمتار لأي سبب من الأسباب لأي سبب كان من الأسباب فإنه لا حرج عليه أن يرد البيع وإلا فالأصل أن البائع إذا بذل الزيادة بنفس الثمن أنه لا خيار عليه. - الصورة الأخرى: إذا رضي المشتري بشراء الأرض الناقصة بنفس الثمن فلا خيار للبائع لأنه لا ضرر عليه مطلقاً.

ونفس الشيء إذا فات غرض البائع فإنه له الخيار. وفوات غرض البائع في هذه الصورة أقل وأبعد وأكثر تكلفاً من فوات غرض المشتري فيما إذا زادت الأمتار فإنه لا يكاد الإنسان يتصور مثالاً مستقيماً ليس فيه تكلف لمسألة إذا باع الإنسان أرضاً على أنها عشرة فبانت تسعة ورضي البائع ببذل كامل الثمن فأي ضرر يدخل على البائع ومتى نتصور أنه فات غرضه. أما في الصورة الأولى ربما - يعني: أقرب من هذه الصور - ربما يكون للمشتري غرض بأرض محددة بدون زيادة ولا نقص - ربما - لكن العكس هذا قليل جداً. إذاً: إذا بذل المشتري الثمن على الناقص أو رضي البائع بالثمن على الزائد فلا خيار حينئذ لأنه لا ضرر على كل من البائع والمشتري في كل صورة تخصهما. وبهذا تم الباب. وقبل أن ننتقل إلى باب الخيار نذكر بصورة مختصرة مسألة التورق لأنا نسينا أن نتطرق إليها عند الكلام على العينة ونقول: التورق. التورق: تعريفه: أن يشتري السلعة بثمن مؤجل ليبيعها بثمن حال أقل منه. فإن كان اشترى السلعة بثمن مؤجل ليبيع بثمن مماثل أو بأكثر فليست من التورق. وهذه في السابق قد لا تتصور ولكن الآن قد تتصور. فقد يشتري الإنسان السلعة بثمن مؤجل ليبيع بثمن حال أو مساوي لا سيما في السلع التي لا تختلف القيم فيها بالتأجيل والحلول كالأسهم مثلاً. فالأسهم مثلاً - ربما يشتري الإنسان السهم بثمن مؤجل ولو كان أكثر من الحال ثم قبل أن يبيع يرتفع السوق ويبيع بمثل أو بأكثر مما اشترى به مؤجلاً. هذا مثال. على كل حال نحن نقول: التورق إنما يكون إذا باع بثمن حال أقل مما اشترى به مؤجلاً. هذه هي صورة التورق. حكمها: = ذهب الجماهير: جماهير أهل العلم من السلف والخلف إلى صحة هذه المعاملة، بشرط أن يبيع على غير من اشترى منه. يعني: يشتري السلعة مؤجلة ثم يبيع حال بأقل على غير من اشترى منه. واستدل الجماهير على هذا: - بأن الأصل في المعاملات الحل. - وبأن الربا صورته لا توجد. لأن الأصل في الربا أن يدفع المرابي نقداً ليأخذ أكثر منه نسيئة. وهذه الأمر لم يتحقق في بيع التورق لأن الآخذ شخص آخر غير المعطي.

- واستدلوا أيضاً بدليل وجيه: وهو قول بعض الفقهاء ومنهم الشيخ العلامة عبد الرحمن السعدي: أن الإنسان قد يشتري السلعة لينتفع بها أكلاً أو شرباً أو لبساً أو ركوباً وقد يشتري السلعة لينتفع من ثمنها ولا فرق بين أن يشتري السلعة لينتفع منها أو لينتفع من ثمنها. وهذا دليل إذا تأملته تجد أنه دليل جيد وفيه فقه وفهم لصورة المسألة. = القول الثاني: وهو رواية عن الإمام أحمد اختارها ونصرها وتمسك بها شيخ الإسلام بن تيمية وقال ابن القيم: كنا نراجعه مراراً في هذه المسألة فلا تزيده المراجعة إلا ثباتاً على القول وكان يقول لنا إذا راجعناه في التورق: الحيل لا تزيد العقود إلا تحريماً، يعني: لا تزيد العقود المحرمة إلا تحريماً. وذهب إلى هذا القول أيضاً عمر بن عبد العزيز. واستدل هؤلاء: - بأن عقد التورق حيلة على الربا. - وأن أي عقد المقصود منه دفع المال الكثير المؤجل لأخذ مال قليل حال فهو ربا. والراجح رجحاناً ليس بيناً رجحاناً ضعيفاً: صحة التورق وأنه جائز. أولاً: لما ذكره الشيخ عبد الرحمن السعدي وهو من وجهة نظري جيد وفيه فقه. ثانياً: لأن هذا القول هو قول عامة فقهاء المسلمين بل قبل شيخ الإسلام ربما الذين يرون التحريم يعدون بالأصابع: رواية للإمام أحمد واختيار عمر بن عبد العزيز وربما إذا بحثت بحثاً دقيقاً تجد مع هؤلاء واحد أو اثنين وأما باقي الفقهاء فكلهم يون الجواز. ثالثاً: لأن القاعدة الشرعية التي قررها عدد من أهل العلم منهم شيخ الإسلام: أن العقود التي بالناس إليها حاجة ملحة وليس لها بديل فإن الشرع لا يمنعها. وإذا طبقت هذه القاعدة على التورق تجد أنه ينطبق تماماً. ولذلك نقول: من يتعاطى التورق لحاجة ملحة عارضة فهو أقرب إلى الحل والإباحة ممن يتعاطى التورق لمزيد الاستثمار والتوسع في الأموال. لأنا نقول أن التورق جائز بناء على هذه القاعدة الشرعية. فينبغي أن يضبط بهذا القيد. ولذلك: فإن شيخنا - رحمه الله - يشترط لجواز التورق هذا الشرط وهو: أن يكون عن حاجة. لكن لا نستطيع في الحقيقة أن نشترط هذا الشرط ونجعله شرطاً للجواز، بمعنى: أن الذي يريد التورق لغير حاجة يحرم عليه لعدة أمور:

باب الخيار

ـ أولاً: أن هذا الشرط لم يشترطه أحد من الفقهاء. بل الذين قالوا بالجواز قالوا: هو مطلقا. يعني: قرروا الجواز. وقرروا أنه جائز مطلقاً بدون شرط أو قيد. ـ ثانياً: لأن النصوص التي استدل بها المجيزون تدل على مطلق الجواز. لأنهم يستدلوا بالعمومات والعمومات تدل على الجواز المطلق. لكن مع ذلك نقول: ينبغي للإنسان أن لا يتعاطى عقد التورق إلا مع حاجة واضحة. لأنه حينئذ يقرب تماماً للجواز ولا يبقى في النفس شيء وتردد من منع هذا العقد. وأما إذا أخذه تزيداً وتوسيعاً للتجارات فإنه يكون في النفس من جوازه شيء. وإن كان الراجح الجواز لكن تعلمون أنتم كما تقدم معنا مراراً أن المسائل الفقهية ليست أبداً على مستوى واحد من الوضوح وأن بعض المسائل يجزم الإنسان بأنها مباحة وجائزة وبعضها يتوقف فيها وبعضها تكون قريبة للجواز مع أن الإنسان ينبغي أن يحتاط وينبغي لطالب العلم أن يعلم ذلك وأن المسائل ليست على حد سواء وإنما المسائل على حد سواء عند العوام والجهَّال الذين عندهم المسائل قسمين فقط: حلال وحرام. هذا عند العوام. أما طالب العلم الذي يتعاطى النصوص يجب أن يعلم أن المسائل ليست على مستوى واحد وأن دلالات النصوص عليها تختلف فينبغي أن يتعامل معها على قدر دلالة النص على الجواز أو المنع. باب الخيار - ثم قال - رحمه الله -: - باب الخيار. الخيار في لغة العرب: اسم مصدر من الفعل اختار. وأما في الاصطلاح فهو: طلب خير الأمرين بين الإمضاء والفسخ. وهذا التعريف لا يتعلق فقط بالبيع بل في البيع وغيره. فالخيار في الاصطلاح ولا أقصد في الاصطلاح الفقهي - في الاصطلاح العام العلمي هو هذا.: طلب خير الأمرين بين الفسخ والإمضاء. والحنابلة في باب الخيار أبدعوا وحققوا وأجادوا حيث أثبتوا من أنواع الخيار ومن صفات أنواع الخيار ما لم يثبته كثير من الفقهاء. فالإمام أحمد - رحمه الله - أخذ في هذا الباب بالآثار والنصوص والمعاني الصحيحة كما سيأتينا عند مناقشة كل نوع من أنواع الخيار. - قال - رحمه الله -: - وهو أقسام. أقسام الخيار عند الحنابلة سبعة. والتقسيم راجع لسبب الخيار فبحسب السبب تنقسم أنواع الخيار. - قال - رحمه الله -:

- الأول: خيار المجلس. خيار المجلس هو الخيار المنسوب للمجلس. والمجلس في الأصل هو مكان الجلوس. والمقصود به هنا: مكان التعاقد. سواء تم التعاقد وهو جالس أو وهو قائم أو وهو مضطجع أو على أي صفة. إذاً: المقصود بخيار المجلس في الاصطلاح الفقهي في هذا الباب: خيار المكان الذي وقع فيه التعاقد سواء كان عن طريق الجلوس وقع أو بغير هذه الصفة. - ثم قال - رحمه الله -: - يثبت في البيع. بدأ المؤلف - رحمه الله - بخيار المجلس وأنه مشروع في عقد البيع. وإلى هذا: = ذهب الجماهير من السلف والخلف: وهو إثبات خيار المجلس. على رأسهم الإمام أحمد - رحمه الله -. واستدل الفقهاء الذين ذهبوا هذا المذهب بأدلة صحيحة ثابتة في الصحاح - في الصحيحين وغيرهما: - الدليل الأول: حديث ابن عمر وهو الصحيحين وهو: قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: (إذا تبايع الرجل فهما بالخيار ما لم يخخير أحدهما صاحبه فإن خير أحدهما صاحبه فقد وجب البيع). واستدلوا أيضاً بـ: - حديث حكيم بن حزام - رضي الله عنه - وهو قوله: قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: (البيعان بالخيار مالم يفترقا فإن صدقا وبينا بورك لهما وإن كذبا وكتما محقت بركة بيعهما). وهذا أيضاً في الصحيح. واستدلوا بـ: - أن الصحابة عملوا بخيار المجلس. ومنهم ابن عمر راوي الحديث. مما يدل على أن هذا المعنى محفوظ ثابت عمل به الصحابة ولم ينسخ. = القول الثاني: وهو مذهب أبي حنيفة ومالك. وهو: أنه لا يثبت للمتبايعين خيار المجلس، بل إذا تم العقد بالإيجاب والقبول فقد لزم ولا خيار ولو كانوا في المجلس. واستدلوا على هذا بنصوص: - الدليل الأول: قوله تعالى: (إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم). وجه الاستدلال: أن الله تعالى اشترط لصحة البيع التراضي ولم يذكر التفرق. - الدليل الثاني: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى الرجل أن يبيع الطعام إذا ابتاعه حتى يستوفيه. فاشترط النبي - صلى الله عليه وسلم - لجواز بيع البائع لما اشتراه أن يستوفيه فقط ولم يشترط انتهاء خيار المجلس.

وهذا القول الثاني: قول ضعيف جداً ولذلك استغرب كل العلماء المعاصرون للإمام مالك والذين أتوا بعد ذلك إعراض الإمام مالك - رحمه الله - عن هذا الحديث. استغربوه جداً وبعضهم لام الإمام مالك - رحمه الله - وبعضهم تكلم في هذا القول للإمام مالك بكلام شديد جداً لأن الإمام مالك أخرج هذا الحديث في الموطأ ويعرفه ومع ذلك لم يأخذ به - رحمه الله -. وإنما استغربوا على الإمام مالك - رحمه الله - ولم يستغربوا على الأحناف لأن هذا ليس بغريب على الأحناف لأنهم دائماً يتركون النصوص. ولذلك: إذا رجعت لكلام اهل العلم تجد أنهم يشنون حملة على الإمام مالك ولا يتكلمون عن أبي حنيفة لأن هذا ليس بغريب عن أبي حنيفة لكن بالنسبة للإمام مالك رجل معروف بالأخذ بالآثار والعمل بها ولذلك يستغرب عليه جداً أنه لم يأخذ بحديث ابن عمر في مسألة خيار المجلس. وهذا يعطي الإنسان صورة واضحة وجلية وأنه لا أحد معصوم وأنه ينبغي للإنسان أن يتبع النص ولا يتبع الرجال. - ثم قال - رحمه الله -: - والصلح بمعناه. أي: ويثبت خيار المجلس في الصلح الذي هو بمعنى البيع. - لأن الصلح كما سيأتينا ينقسم إلى قسمين: ـ صلح بمعنى البيع. ـ وصلح ليس بمعنى البيع. ولا يعنينا الآن هذا التقسيم. لأنه سيأتي في باب الصلح. الذي يعنينا هنا: ما هو الصلح الذي بمعنى البيع؟ فالصلح الذي بمعنى البيع هو: الصلح على مال. مثاله/ أن يقر الإنسان بأن في ذمته دين لفلان أو أن هذه السلعة التي في يده هي لفلان ثم يصالحه عن الدين أو عن السلعة بمال. فهذا الصلح بمعنى البيع ويثبت فيه خيار المجلس. لماذا؟ لأنه بمعنى البيع. وإذا ثبت الخيار في البيع فيثبت أيضاً فيما يكون بمعناه. - ثم قال - رحمه الله -: - والإجارة. يعني: ويثبت خيار المجلس في الإجارة. - لأن الإجارة في الواقع ليست في معنى البيع بل هي بيع لكنها بيع للمنافع وليست بيعاً للأعيان. وليس هناك فرق بين الإجارة والبيع في حقيقة العقد إلا من حيث أن هذا بيع للمنافع وهذا بيع للأعيان. وإذا كانت بيعاً دخلت في قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: (إذا تبايع الرجلان فهما بالخيار).

فإذا أجر زيد بيته لعمرو فكل من المؤجر والمستأجر بالخيار ما داما في المجلس. - ثم قال - رحمه الله -: - والصرف والسلم. أي: ويثبت خيار المجلس في الصرف ويثبت أيضاً في السلم. - لأن الصرف والسلم بيع إلا أنه أضيفت إليه شروط بالإضافة إلى شروط البيع. فهو بيع مخصوص. ولذلك سيأتينا في باب السلم أن المؤلف - رحمه الله - يقول: (ويسترط فيه ما يشترط في البيع والشروط التالية) فنصوا على أنه يشترط في السلم شروط البيع وزيادة فهوز بيع إلا أنه بيع خاص له شروط خاصة. فإذا تبين وثبت أنه بيع دخل في عموم حديث ابن عمر - رضي الله عنه -. - ثم قال - رحمه الله -: - دون سائر العقود. يعني: دون باقي العقود التي لم تذكر فليس فيها خيار المجلس. والعقود التي لم تذكر تنقسم إلى أقسام: ـ القسم الأول: العقود اللازمة من الطرفين لا على سبيل المعاوضة. كالنكاح والعتق. فإن عقد النكاح لازم من الطرفين لكن لا على سبيل المعاوضة. ـ القسم الثاني: العقود اللازمة من طرف ولو كانت لى سبيل المعاوضة. كعقد الرهن. ـ القسم الثالث: العقود الجائزة من الطرفين ولو على سبيل المعاوضة. كعقد الشركة والوكالة. فهذه عقود جائزة من الطرفين. أي: لكل من أطراف العقد فسخ العقد بدون رضى الآخر. وهذا معنى أن يكون العقد جائزاً. ـ القسم الأخير: اعقود التي اختلف في كونها جائزة أو لازمة وهي على المذهب جائزة. كعقد المزارعة والمساقاة. هذه أربعة أنواع للعقود التي تدخل في قول المؤلف - رحمه الله -: (دون سائر العقود). الدليل على استثناء هذه العقود: - الدليل على ذلك: - أن العقود الجائزة والمختلف في جوازها يستغنى بجوازها عن اشتراط خيار المجلس. لأن لكل من طرفي العقد فسخ العقد وليس بحاجه إلى خيار المجلس. ـ أما القسم الأول: فهو لازم لا يدخل فيه خيار المجلس لأنه ليس من المعاوضات والنبي - صلى الله عليه وسلم - إنما نص على البيع فيدخل في البيع وما في معناه دون ما ليس في معناه من العقود التي ليست من عقود المعاوضات. فإذا قلت: ما هو الضابط الذي يضبط العقود التي ليس فيها خيار مجلس؟ فالجواب:

الضابط: ان نقول: (كل عقد ليس من عقود المعاوضات أو منها لكنه من العقود الجائزة فلا خيار مجلس فيه). هذا ضابط يريح الإنسان من تعداد العقود: كل عقد تعرضه على هذا الضابط فيتبين هل هو من عقود خيار المجلس أو ليس من عقود خيار المجلس. - قال - رحمه الله -: - ولكل من المتبايعين الخيار. هذا هو ثمرة إثبات خيار المجلس: أن العقد يقع جائزاً في مدة خيار المجلس وإن كان أصله اللزوم. فالبيع الأصل فيه أنه من العقود اللازمة التي ليس لأحد من الطرفين الفسخ فيها إلا بسبب شرعي. فثمرة خيار المجلس: وقوع العقد اللازم جائزاً مدة خيار المجلس. فالمؤلف - رحمه الله - يريد أن يصرح بثمرة إثبات هذا العقد بقوه: (ولكل من المتبايعين الخيار). - ثم قال - رحمه الله -: - ما لم يتفرقا عرفاً. بأبدانهما. المفصود بالتفرق: = عند الجماهير: التفرق بالأبدان. والمقصود بالتفرق عند: = المالكية والأحناف: التفرق بالأقوال. ومعنى التفرق بالأقوال: أنه متى تم الإيجاب والقبول: فقد حصل التفرق قولاً ولزم البيع وحملوا حديث ابن عمر - رضي الله عنه - على هذا المعنى يعني: (ما لم يتفرقا) بأقوالهما لا بأبدانهما. الذي يعنينا الآن أن الجماهير يقصدون بالتفرق التفرق بالأبدان. ثم يحملون هذا التفرق على العرف. واستدلوا على هذا: - بأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (ما لم يتفرقا) وهذا اللفظ موجود في حديث ابن عمر وفي حديث حكيم وفي الصحيحين كلاهما. والنبي - صلى الله عليه وسلم - وقت خيار المجلس بالتفرق ولم يجعل لهذا التف رق بالأبدان حداً معلوماً وكل ما اتى في الشرع ولم يحدد بحد جاء عن الشارع فمرجعه إلى العرف. فالتفرق المذكور في هذا الحديث نرجع في معناه إلى العرف لأنه لم يرد في الشرع ما يبين حده. ولذلك نقول: إذا تبايع الرجلان في الصحراء وهما يمشيان فالتفرق بأن ياخذ هذا من هنا وهذا من هنا كما قال الإمام أحمد - رحمه الله -. لأن هذا التفرق هو التفرق المعروف في اعراف الناس في الصحراء. لأنه لا يمكن أن يتفرقا بحيث لا يرى بعضهما الآخر لانهم الآن في الصحراء. فإذا أخذ أحجهما من هنا وأخذ أحدهما من هنا فقد تفرقا ولزم البيع.

والتفرق حين إجراء العقد في غرف المنازل يكون بالخروج من الغرفة إلى غرفة أخرى. والتفرق في السفينة الكبيرة بأن ينزل إلى الأسفل أو يصعد إلى الأعلى أو يذهب إلى مقدم السفينة أو غلى مؤخر السفينة بشرط: أن تكون السفينة كبيرة. وإذا كانت السفينة صغيرة: جلس أحدهما أمام الآخر: متى يكون التفرق؟ كيف يتفرقون؟ (غرضي من هذا المثال: انه لا يشترط أن يحصل التفرق. إذا كانوا في مكان صغير محدود وبقيا بأبدانهما في هذا المكان فإنه لا تفرق لو يبقى العقادان في البحر سنة فلا تفرق). ولذلك حتى تتضح هذه المسألة - تكتبون -: * * مسألة: إذا بقي العاقدان في غرفة واحدة لم يخرجا منها فإن خيار المجلس يبقى ولو بقيا مدة طويلة ولو ناما واستيقظا واكلا وشربا وبقيا على ذلك مدة طويلة فإن خيار المجلس يبقى. وقد نص الفقهاء على هذه المسألة بل نصوا على مسألة النوم ولو طال في غرفة بلا تفرق فإنه يبقى خيار المجلس كما هو ولا يسقط لأن الشارع ربط التفرق بالأبدان فما دامت الأبدان موجودة ولم تتفرق فإن الحكم يبقى كما هو ولو طالت المدة. وإذاً هذا معنى قول المؤلف - رحمه الله -: (ما لم يتفرقا عرفاً بأبدانهما). إذاً: التفرق يكون بتفارق الأبدان فقط. * * مسألة/ إذا تم البيع بالهاتف: متى ينتهي خيار المجلس؟ الجواب: ينتهي خيار المجلس: عند إنهاء المكالمة. * * مسألة/ فإن انتهت المكالمة بسبب خلل في الاتصالات لا باختيار كل من المتعاقدين. فهل نقول لهما أن يستئنفا المكالمة لإتمام العقد؟ أو بهذا التفرق انتهى مجلس الخيار؟ الأقرب أنه لم ينته أن هذا التفرق حصل بغير اختيارهما فهو يقاس على ما لو أكرها على التفرق. ولذلك نقول: عند العود للمكالمة يستمر خيار المجلس إلى أن يتم إنهاء المكالمة بخيارهما وبتصرفهما.

شرح كتاب البيع الدرس رقم (9) قال شيخنا حفظه الله: بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين. - قال - رحمه الله -: - وإن نفياه أو أسقطاه: سقط. معنى قول المؤلف - رحمه الله -: (وإن نفياه) يعني: وإن نفى البائع والمشتري خيار المجلس بأن تبايعا على أن لا خيار أصلاً: سقط. - لأنه حق لهما وقد أسقطاه. [ومعنى قوله - رحمه الله: (أو أسقطاه) يعني: بعد أن ثبت لهما خيار المجلس: أسقطاه في أثناء المجلس. فأيضاً يسقط: - لقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: (فإن تبايعا على أن لا خيار بينهما فقد وجب البيع). فصار الفرق بين قوله - رحمه الله -: (نفياه) و: (أسقطاه): ـ أن النفي يكون إسقاط لأصل الخيار من حين انعقاد العقد. ـ والإسقاط يكون تنازل عن خيار المجلس في أثناء المجلس. - ثم قال - رحمه الله -: - وإن أسقطه أحدهما: بقي خيار الآخر. إذا أسقط أحد المتبايعين إما البائع أو المشتري: خيار المجلس ولم يسقطه الآخر: بقي حق الآخر على وجهه. - لأنه حق ثابت له لم يسقطه فبقي على حاله. لأن الحقوق الشرعية التي ثبتت بمقتضى النصوص لا تسقط إلا بتنازل صاحب الحق عنها أو بإسقاط الشارع عنها أو لها بسبب خلل معين في العقد. فيما عدا هاتين الصورتين لا تسقط الحقوق التي أكسبها الشارع لأحد المتبايعين. - ثم قال - رحمه الله -: - وإذا مضت مدته: لزم البيع. معنى قوله - رحمه الله -: (وإذا مدته) يعني: قضى مجلس العقد. - لأن خيار المجلس ليس له مدة معينة في الشرع وإنما مدته هي مدة خيار المجلس. إذاً: معنى: (إذا انقضت مدته) يعني: إذا تفرقا. ولو أن المؤلف - رحمه الله - قال: (وإذا تفرقا) لكان أوضح وأقرب للفظ الحديث. والدليل على أنهما إذا افترقا سقط الخيار: - قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: (فإذا افترقا فقد وجب البيع). فهذا نص صريح على أنه إذا انتهت بتفرق الأبدان سقط خيار وليس لأحد منهم أن يرجع عن العقد. وبهذا انتهى الكلام عن خيار المجلس. وبدأ المؤلف - رحمه الله - بخيار الشرط: وخيار الشرط من حيث الأصل: (ويجب أن تتنبه إلى هذه المسألة) - خيار الشرط من حيث الأصل:

- فقال - رحمه الله -: - الثاني: أن يشترطاه في العقد. أي: والثاني: من أنواع الخيارات خيار الشرط. وهو: أن يشترط كل من البائع أو المشتري أو أحدهما الخيار في إمضاء البيع أو فسخه مدة معلومة. فهذا هو خيار الشرط. - ثابت بالسنة والإجماع. فإن أحداً من الفقهاء لم ينازع في أصل مشروعية خيار الشرط. إنما اختلفوا في بعض تفاصيل أحكامه - أما هو من حيث هو فإنه مشروع باتفاق الفقهاء. وقدحكى الإجماع على مشروعية خيار الشرط: الإمام النووي من الشافعية والشيخ الفقيه ابن الهمام من الأحناف وهو إجماع ثابت إن شاء الله. ـ وأما الدليل من السنة: - فقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: لحبان بن منقذ وكان يخدع في البيع قال له النبي - صلى الله عليه وسلم - لما اشتكى هذا الصحابي كون النتس يخدعونه قال - صلى الله عليه وسلم -: (إذا بايعت فقل: لا خلابة) يعني: لا مخادعة. فثبت الخيار لهذا الصحابي بهذا الشرط. أنه متى خدع وغبن فإن له أن يرجع في البيع ويفسخ العقد. - والدليل الثاني: قول النبي - صلى الله عليه وسلم: (البيعان بالخيار ما لم يفترقا إلا بيع خيار) وهذا اللفظ ثابت في الصحيح. وقد فسره الفقهاء والشراح كلهم فيما وقفت عليه على أنه خيار الشرط. فإذاً: خيار الشرط مشروع بالسنة الصحيحة الثابتة وبالإجماع المحفوظ إن شاء الله. فهذا معنى قول المؤلف - رحمه الله -: (الثاني: أن يشترطاه في العقد). - ثم قال - رحمه الله -: - مدة معلومة. أي: أنه يشترط لصحة خيار الشرط أن تكون المدة معلومة محددة معروفة لطرفي العقد. وإلى اشتراط معلومية المدة: = ذهب الجماهير من اهل العلم والجم الغفير. واعتبوا تخلف معلومية المدة مفسد للعقد وللشرط. - لأن جهالة شرط الخيار يفضي إلى الجهالة والغرر وهي أسباب تفسد العقود. = والقول الثاني: وهو قول عند الحنابلة. أن العقد يصح والشرط يفسد ويكون العقد لازم من حين العقد وسقط خيار الشرط. = والقول الثالث: أن العقد والشرط صحيح. ولمل كان الشرط مجهولاً قالوا: يكون له الخيار لمدة ثلاثة أيام. - قياساً على حديث حبان بن منقذ حيث جعل النبي - صلى الله عليه وسلم - له الخيار ثلاث ليال. فقالوا: يثبت الشرط والخيار ويوقت له هذا التوقيت الشرعي. - ولأن النبي - صلى الله عليه وسلم - جعل الخيار لمن اشترى شاة مصراة ثلاثة أيام وهذا في (([مسلم] أو في [المسند] لم تتضح لي)). فاعتبار هذه المدة جاءت النصوص في الخيارات بالذات.

وهذا القول الثالث: اختاره شيخ الإسلام - رحمه الله -. وهو قول - كما ترى - وجيه جداً يليه في القوة القول الأول وهو مذهب الجماهير يليه وهو أضعف الأقوال: الثاني. لأن الثاني: يلزم العاقدين بالعقد ويسقط حقهما في الخيار. والإنسان إذا تأمل هذا القول يشعر أن الشارع لا يأتي بمثل هذا الحكم. بل إبطال العقد أرفع للضرر من إمضاء العقد وإلغاء الشرط. على كل: القول الثالث هو أحسن الأقوال والثاني هو أضعف الأقوال. - ثم قال - رحمه الله -: - ولو طويلة. مدة الشرط تنقسم إلى قسمين: ـ قصيرة. ـ وطويلة. - فأما القصيرة: فلا حد لأقلها بالإجماع ولو كانت لحظة. - وأما الطويلة: فهي محل خلاف. = فذهب الحنابلة: إلى أنه لا حد لطول مدة خيار الشرط. بشرط أن لا تكون مدة متطاولة تفسد المقصود من البيع كأن يشترط عشر سنين. وإلا فإنها صحيحة مهما طالت. واستدل الحنابلة على هذا القول: - بأن النصوص التي دلت على مشروعية خيار الشرط جاءت مطلقة ولم تبين مدة معينة يصح الشرط فيها وبعده لا يصح. فإذا أخذنا بإطلاق النصوص دلت على صحة اشتراط المدة ولو كانت طويلة. = القول الثاني: للأحناف أن خيار الشرط لا يجوز أن يتجاوز ثلاثة أيام. - لأن الشارع حد لحبان - رضي الله عنه - ثلاث ليال. وفي المصراة أيضاً ثلاثة أيام. فدل على أن الخيارات تحد بمثل هذا المقدار. والجواب عليه: ـ أن حديث حبان الذي فيه التحديد بثلاث ليال أن رواية التحديد بثلاث ليال: ضعيفة. وأن الحديث في الصحيح بدون تحديد. ـ وأما المصراة فهي رد بالعيب وهو يختلف عن خيار الشرط. = القول الثالث: أن خيار الشرط يختلف باختلاف السلعة. وهو مذهب المالكية. واستدلوا على هذا: - بأن المقصود من خيار الشرط هو أن يقوم المشتري بتجربة السلعة. وتجربة السلعة تختلف باختلاف السلع. فبعضها يحتاج إلى وقت طويل وبعضها يحتاج إلى وقت قصير. والراجح والله أعلم مذهب الحنابلة فهو محكم في هذه المسألة ومضبوط وينسجم مع النصوص.

أما مذهب المالكية فهو أضعف الأقوال. مع أنهم أي المالكية لهم أقوال مسددة في المعاملات لكن في هذه المسألة قولهم ضعيف لأنه يفضي إلى الاختلاف الشديد ومن يضبط المدة المناسبة لهذه السلعة والمدة المناسبة لهذه السلعة ويصبح ضبط الخيارات أمر صعب ويدخل الناس في متاهات ونزاعات. فالأقرب أن للبائع أو المشتري أن يشترط المدة التي تناسبه سواء كانت ثلاثة أيام أو أربعة أو أكثر أو أقل حسب ما يناسبه ويتسنى له الفحص عن السلعة. - ثم قال - رحمه الله -: - وابتداؤها من العقد. أي: وابتداء المدة الطويلة أو القصيرة من العقد. والمقصود: إذا شرطا خيار الشرط حين العقد فإن لم يشرطاه أثناء العقد فمن حين شرطاه فيما إذا كان في مدة خيار المجلس. فإذا عقدا العقدة وهما في المجلس في الساعة الخامسة ولم يشترط هو شرط خيار الشرط إلا في الساعة السادسة وهم ما زالوا في المجلس فخيار الشرط يبدأ من الساعة السادسة: من حين شرطاه. أما إن شرطاه من العقد فمن العقد. فإذاً: قول المؤلف - رحمه الله -: (وابتداؤها من العقد) لا يؤخذ على إطلاقه: ابتداؤه من العقد إذا شرطاه في العقد وإلا فمن حين شرطاه. - ثم قال - رحمه الله -: - وإذا مضت مدته أو قطعاه: بطل. قوله: (وإذا مضت مدته .. : بطل). يعني: ولم يفسخا العقد لزم البيع. فمن حين تنتهي المدة فإن البيع يصبح لازماً والسلعة ملك المشتري والثمن ملك للبائع. استدل الحنابلة على هذا: - بأن الأصل في عقد البيع اللزوم. ومنع منه خيار الشرط وقد بطل فإذا بطل لزم العقد. وهذا القول هو في الواقع شبه إجماع. اتفق عليه جميع الفقهاء اللهم إلا قول للمالكية حيث يرون أنه إذا انتهت والسلعة ما زالت بيد البائع فإن انتهاء المدة هو في الواقع فسخ للبيع وليس إلغاء له. فالمالكية ينازعون في هذه الصورة وهي: ما إذا انتهت المدة والسلعة في يد البائع. أما إذا انتهت المدة والسلعة في يد المشتري فبإجماع الفقهاء تم البيع وانعقد ولزم وبطل خيار الشرط. إذاً: عرفنا الآن لماذا أنا قلت أن هذا القول أشبه ما يكون إجماعاً؟ لأنه لم يستثنى إلا هذه الصورة المعينة. والصواب مع الجمهور أن العقد يصبح لازماً ولو كانت السلعة في يد البائع.

فمن حين ينتهي مدة خيار الشرط يلزم العقد وينتهي خيار الشرط. - ثم قال - رحمه الله -: - أو قطعاه .. بطل. يعني: خيار الشرط ولزم البيع. فإذا قطعاه: ـ بأن قالا: أبطلنا خيار الشرط الذي لنا. ـ أو أوجبنا البيع. ـ أو أتممنا البيع. ـ أو أي لفظ يدل على قطع خيار الشرط لزم البيع وانتهى خيار الشرط بإجماع الفقهاء بلا مخالف. إذاً: إذا أبطلاه بإرادتهما هنا لم يخالف أحد أن البيع لزم وأن خيار الشرط انتهى إنما الخلاف اليسير فيما إذا انتهت المدة. - ثم قال - رحمه الله -: - ويثبت في البيع ... معنى قوله - رحمه الله -: (ويثبت في البيع ... إلى آخره) يعني: لا يثبت إلا في المذكورات. فكل ما لم يذكره تالمؤلف - رحمه الله - فلا خيار شرط فيه. إذاً لو أن المؤلف - رحمه الله - قال: (ولا يثبت إلافي البيع والصلح بمعناه والإجارة على على مدة تلي العقد) لكان أوضح لأن هذا مقصود الحنابلة. أن خيار الشرط لا يثبت إلا في هذه العقود المذكورة فقط. = القول الثاني: أن خيار الشرط يثبت في كل العقود. فللإنسان أن يشترط في كل العقود. - لأن الحكمة التي من أجلها شرع الشارع خيار الشرط موجودة في كل العقود. وهذا القول اختاره أيضاً شيخ الإسلام وهو كما ترى من اقوة والانسجام مع مقاصد الشرع. فهو الراجح إن شاء الله. - قوله - رحمه الله -: (ويثبت في البيع). يثبت خيار الشرط في البيع: بالإجماع. - لأن النص الذي جاء في السنة لإثبات خيار الشرط إنما ورد في البيع. فلا إشكال في ثبوته في عقد البيع. - ثم قال - رحمه الله -: - والصلح بمعناه. أي: ويثبت في الصلح الذي بمعنى البيع. وتقدم معنا نظير هذه العبارة في خيار المجلس وبينا أن الصلح الذي هو بمعنى البيع ما يكون بعوض عن عين أو دين ثابتة في الذمة. وسيأتينا الصلح الذي هو بمعنى البيع والصلح الذي ليس بمعنى البيع في كتاب الصلح، إنما الذي يعنينا الآن أن الصلح بهذا المعنى وهو ما يكون بعوض مقابل عين أو دين حكمه حكم البيع في ثبوت خيار الشرط. - ثم قال - رحمه الله -: - والإجارة في الذمة. يعني: ويثبت خيار الشرط في الإحارة التي في الذمة.

معنى قول المؤلف - رحمه الله -: (الإجارة في الذمة) يعني: الإجارة على عمل في الذمة. وبهذا يتضح المقصود بعبارة سهلة. إذاً: الإجارة في الذمة: الإجارة على عمل في الذمة. فهذه الإجارة يثبت فيها خيار الشرط. فإذا قال زيد لعمرو: استأجرتك على أن تبني لي هذا الحائط فالبناء هذا عمل في الذمة. فيثبت فيه خيار الشرط. كذلك لو قال: استأجرتك على أن تخيط هذا الثوب فكذلك. استأجرتك على أن تعلم زيد الكتابة والقراءة فكذلك. استأجرتك على أن تحفظ عمرو الألفية كذلك. - لأن هذا عمل في الذمة. فيدخله خيار الشرط. الدليل على ذلك: - أن الإجارة كما تقدم معنا مراراً إنما هي بيع لكنه بيع للمنافع. وإذا كانت بيع دخلت في النصوص الدالة على مشروعية خيار الشرط. ثم بين المؤلف - رحمه الله - ما يستثنى من ذلك: - فقال - رحمه الله -: - أو على مدة لا تلي العقد. إذا استأجر شيئاً مدة معلومة فينقسم إلى قسمين: ـ إما أن تلي المدة العقد. ـ أو أن لا تلي العقد. ـ القسم الأول: أن لا تلي العقد: كأن يستأجر هذا البيت في محرم على أن يبدأ الأجار في صفر. فالعقد وقع في محرم وبداية الأجار في صفر فالمدة لا تلي العقد بل بعد العقد بشهر. فهذا النوع من الإجارة على الوقت أو من استئجار الشيء وقتاً معلوماً: يصح فيها خيار الشرط. بشرط: أن ينتهي وقت خيار الشرط قبل أن يبدأ الأجار. ففي هذه الصورة يصح خيار الشرط وهو لازم للطرفين. ـ القسم الثاني: أن يسنأجر مدة معلومة تلي العقد. كأن يستأجر الآن بيتاً معلوماً يبدأ من حين انعقاد العقد. فهذا النوع من الإجارة لا يدخله خيار الشرط: = عند الحنابلة. واستدل الحنابلة على هذا: - بأنه إذا أدخل خيار الشرط على استئجار بيت مدة معلومة فإنه لا يخلو من أمرين: - الأمر الأول: أن لا يبدأ بالانتفاع بالعين المستأجرة إلا بعد انتهاء خيار الشرط. وهذا لا يجوز لأن للمستأجر الحق في الانتفاع بالعين المستأجرة من بداية العقد. - الحال الثانية: أن يبدأ بالانتفاع بالعين المستأجرة من حين العقد وهذا لا يجوز لأنه يناقض خيار الشرط إذاً ما الفائدة من خيار الشرط.

ولهذا قال الحنابلة: أن خيار الشرط لا يكون في استئجار عين معلومة مدة معينة إذا كانت المدة تلي العقد. = القول الثاني: أن خيار الشرط يدخل الإجار ولو على مدة تلي العقد. - لأنه لا ضرر ولا ظلم لأي منهما. فإن تم العقد وأمضياه فالأمر واضح. وإن اختار المستأجر الفسخ فإنه يدفع من الأجار بقسط ما انتفع من المستأجر. أي: من العين المستأجرة. وبهذا لا يقع ظلم على أي منهما. وهذا القول الثاني هو الأقرب والأصح إن شاء الله. واليوم الناس على هذا العمل. يقول: استأجرت منك البيت ولي الخيار يوم أو يومين أو ثلاثة أو أقل أو أكثر ثم يذهب ويتأمل في أمره وينظر هل يناسبه ثم يأتي ويتم العقد فهذا لا حرج فيه. لكن ينبغي أن يعلم أنه إذا اختار المستأجر الفسخ فيجب عليه أن يدفع بالقسط من قيمة مدة الإجارة وهذا ما لا يفعله كثير من الناس بل يختار الفسخ ويظن أنه بالشرط الأول لم يجب عليه أن يدفع القسط المقابل للمدة التي بين تمام الشرط وانعقاد العقد. وهذا خطأ. فبهذا الشرط يكون القول الثاني إن شاء الله هو الأقرب وهو الأنفع للناس. - ثم قال - رحمه الله -: - وإن شرطاه لأحدهما دون صاحبه: صح. إن اتفق البائع والمشتري على أن يكون خيار الشرط لأحدهما دون الآخر صح هذا الشرط. والتعليل: - أن الشارع الكريم إنما شرع هذا الخيار رفقاً بالنتعاقدين ولمصحتهما فإذا رضيا أن يكون الخيار لأحدهما: صح. وفي بعض العقود لا يمكن أن ينتفع مشترط الخيار إلا إذا كان خيار الشرط له دون صاحبه. فإن كان لهما لم ينتفع بخياره مطلقاً لا سيما في العقود المعاصرة. فالقول بتصحيح أن يكون خيار الشرط من أحدهما إذا رضي الطرف الآخر قول مهم وفيه نفع للناس ولا تأباه النصوص ولا القواعد العامة. ولذلك نقول إذا شرط المشتري أو البائع هذا البائع فلا بأس. وفي الغالب يكون من يشترط هو المشتري لغرض أو لآخر. وكما قلت لكم ربما لا يتحقق انتفاعه من الشرط إلا إذا كان هو الذي اشترط فقط دون البائع. - ثم قال - رحمه الله -: - وإلى الغد أو الليل يسقط بأوله. يعني: بأول لحظه يدخل فيها الغد أو الليل فإنه يسقط خسار الشرط. واستدل الحنابلة على هذا الحكم:

- بأن إلى في لغة العرب موضوعة لانتهاء الغاية ومعنى انتهاء الغاية أن ما بعدها لا يدخل فيما قبلها. وهذا يدل على أن الوقت الذي بعد إلى لا يدخل في حكم الوقت الذي قبل إلى وهو ثبوت خيار الشرط. = والقول الثاني: أنه إذا قال: إلى الغد. دخل الغد في خيار الشرط. - لأن العرب تستعمل أيضاً إلى في معنى مع. كقوله: (ولا تأكلوا أموالهم إلى أموالكم) يعني: مع أموالكم. - والأصل في أموال المسلمين الحرمة فإذا أمكن إدخال الوقت في خيار الشرط فهو أحفظ لمال المسلم. والراجح والله أعلم بقوة ووضوح مذهب الحنابلة. لأن حمل اللفظ على المتعارف عليه في اللغة والذي استعمل أكثر أولى وأوجب من الحمل على ما استعمل على خلاف الأصل. وأما التعليل بحرمة مال المسلم فحرمة مال البائع ليست بأكثر من حرمة مال المشتري ولا العكس فربما كان من مصلحة المشتري انتهاء الخيار ليتملك العين تملكاً تاماً. فإذاً: لا يرد علينا في مثل هذه المسألة أن نقول: أن نحفظ مال المسلم لأنه قد يكون حفظ مال المسلم بإنهاء خيار الشرط. فالراجح إن شاء الله هو القول الأول وهو مذهب الحنابلة لما ذكرت لكم. - ثم قال - رحمه الله -: - ولمن له الخيار: الفسخ ولو مع غيبة الآخر وسخطه. يعني: أن من له الخيار يجوز له أن يفسخ العقد ولو كان الآخر غائباً أو كان ساخطاً. والدليل على هذا: - قاعدة شرعية وهي: (أن من جعل الشارع من حقه حل العقود فإنه لا يتوقف على رضا الطرف الآخر ولا حضوره كما نقول في الطلاق). فالطلاق الآن: حل للعقد وقد جعله الشارع من حقوق الزوج فله أن يحل هذا العقد بحضور أو غياب الزوجة وبرضاها أو سخطها. كذلك نقول: الشارع الكريم جعل لمن له خيار الشرط الحق في حل العقد وكل من له الحق في حل العقد فإنه يحل العقد بحضور أو غياب الآخر وسخطه أو رضاه. وهذه قاعدة مفيدة ما دام الشارع جعل لك الحق في حل العقد فأنت تستخدم هذا العقد متى شئت ولا يشترط لا الحضور ولا الرضى من الطرف الآخر. - ثم قال - رحمه الله -: - والملك مدة الخيارين: للمشتري. المقصود بالخيارين: ـ خيار الشرط. ـ وخيار المجلس. وهذه المسألة مسألة مهمة. = ذهب الحنابلة إلى أن ملك السلعة مدة الخيار للمشتري.

وسيأتينا ما يترتب على هذا القول بعد مناقشة هذا القول بنفسه. واستدلوا على هذا بأدلة: - الدليل الأول: أن العقد الذي فيه خيار الشرط عقد تام مكتمل الشروط فيسبب نقل الملك. - الدليل الثاني: ان النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (من باع عبداً وله مال فماله لسيده إلا أن يشترط المبتاع). - وقال - صلى الله عليه وسلم -: (من باع نخلاً بعد أن تؤبر فثمرتها لمن باعها إلا أن يشترط المبتاع). فالحديثان نص على أن السلعة تدخل في ملك المشتري بمجرد الشرط. = والقول الثاني: أن السلعة مدى الخيارين تبقى على ملك البائع. - لأن هذا العقد وإن استوفى الشروط إلا أنه عقد ناقص بوجود خيار الشرط والعقد الناقص لا ينقل الملك. = القول الثالث: أن ملك السلعة يتوقف فيه فإن فسخ المشتري تبينا أنه مدة الخيارين من ملك البائع وإن أمضيا البيع تبينا أن مدة الخيارين من ملك المشتري. والراجح والله اعلم. مذهب الحنابلة. لأن ما استدلوا به من نصوص واضحة ولأن القول الثالث فيه تردد في ملك السلعة في زمنه. ولا يمكن أن توجد سلعة ليس لها مالك. لهذا نقول هذا القول الذي ذهب غليه الحنابلة وهو مهم جداً قول سديد وفيه فقه للنصوص لا سيما حديث ابن عمر الذي ذكرت فإنه أشبه ما يكون بالنص على مثل هذه المسألة. - ثم قال - رحمه الله -: - وله نماؤه المنفصل. أي: وللمشتري نماء السلعة المنفصل. ومقصود المؤلف - رحمه الله - ولو فسخا العقد بعد ذلك. فالنماء المنفصل من حق المشتري. والسبب في ذلك: - أنا حكمنا أن السلعة ملك له في مدة الخيار والإنسان إذا ملك الشيء ملك نمائه. والنماء المنفصل: أمثلته كثيرة مثل: ما يخرج من بهيمة الانعام من لبن وما يخرج من الدجاج ومنه الكسب فإن الكسب من النماء المنفصل فإذا كسب على هذه السيارة مدة الخيارين فإن الكسب له. = القول الثاني: أن النماء المنفصل يرجع أيضاً للبائع فإذا فسخ المشتري العقد رجعت السلعة والنماء المنفصل للبائع وهذا القول مبني على أن ملك السلعة في مدة الخيارين للبائع وإذا كانت السلعة على ملك البائع فالنماء أيضاً للبائع.

والراجح هو الأول بلا إشكال إن شاء الله. لأن ضمان السلعة في مدة الخيارين على المشتري والنبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: (الخراج بالضمان). وفهم من قول المؤلف - رحمه الله -: (النماء المنفصل والكسب) للمشتري أن النماء المتصل للبائع. وهو مذهب الحنابلة بل مذهب الجمهور أن النماء المتصل للبائع. ((الأذان)). من الأسئلة: ـ ما هي ثمرة الخلاف في مسألة الملك مدة الخيار؟ - ثمرة الخلاف في هذه المسألة المهمة تنقسم إلى قسمين: - القسم الأول: الضمان. وسياتينا في الفصل الذي سيعقد المؤلف - رحمه الله - بضمان السلع قبل القبض والخلاف في ضمان السلع قبل القبض هو نفس الخلاف في ضمان السلعة مدة الخيارين. - الثمرة الثانية: هو الذي نتحدث عنه وهو النماء المتصل والمنفصل والكسب فهو ينبني تماماً على مدة الملك مدة الخيارين. وتحدثنا عن المنفصل وغداً نتحدث عن المتصل إن شاء الله. بالمناسبة تحدثت في أول كتاب البيوع عن التورق الذي تجريه المصارف وضربت به بعض الأمثلة وذكر لي عدد منكم انه فهم من هذا المثال أني أقول بجواز التورق وهو أن يشتري أسهم أو سلعة حسب ما تجريه البنوك. وانا لم أقصد لما ضربت هذا المثال أن أتكلم عن حكم هذه المسألة وهذه المسألة التي تجريها البنوك التورق المنظم تختلف تماماً عن مسألة التورق التي تجحدثنا عنها في الدرس السابق وما قبل السابق. فالتورق المنظم الذي تجريه البنوك حالياً هذا له حكم آخر وفي كثير من صورة هو حيلة مكشوفة على الربا فأنا لا أريد مطلقاً الكلام عن حكمه وإنما مثلت به تمثيلاً لأظن لبيع المضطر أو لمسألة أخرى. المهم أني لا أريد أن أتحدث في ذلك الدرس عن حكم هذه المسألة. سبحانك اللهم وبحدمك أستغفرك وأتوب إليك.

شرح كتاب البيع الدرس رقم (10) قال شيخنا حفظه الله: بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين. أحب أن أنبه قبل أن نبدأ بالشرح أن هذا آخر درس في الزاد مغرب الغد يكون للآجرومية وبعد غدً يكون لنظم الورقات. وتكون بداية الدروس بعد الحج مع أول يوم في الدراسة. وتكون الدراسة لمدة أسبوعين ثم نتوقف قبل الامتحانات بأسبوع ليكون فرصة للمراجعة والاستعداد لها. - قال - رحمه الله -: - وله نماؤه المنفصل وكسبه. تقدم معنا الكلام عن النماء المنفصل والكسب والخلاف فيه وبيان أن مذهب الحنابلة إن شاء الله في هذه المسألة قوي وتوقفنا عند النماء المتصل. فالنماء المتصل حكمه: = عند الحنابلة: أنه للبائع. وأنتم تعلمون أن هذه المسألة مفروضة فيما إذا فسخ العقد. فإذا فسخ العقد فالنماء المتصل بكل حال للبائع. - قياساً على الرد بالعي فإنه إذ ردها مع العيب فالنماء المتصل للبائع. وإلى هذا ذهب جمهور أهل العلم: أن النماء المتصل في مدة زمن الخيارين للبائع. = القول الثاني: أن النماء المتصل أيضاً للمشتري. - لأنه نماء وقع في ملكه وحصل بفعله فهو له. وإلى هذا القول ذهب شيخ الإسلام بن تيمية وهو الراجح. وعلى هذا القول: على القول بأن النماء المتصل للمشتري إذا اختار الرد فإن السلعة تحسب قيمتها قبل النماء الكتصل وبعد النماء المتصل ويدفع البائع الفرق بين القيمتين للمشتري. ومن أمثلة النمار المتصل/ ـ السمن بالنسبة للدواب. ـ وتعلم صنعة بالنسبة للعبيد. وما أشبه هذين المثالين. فنقول: كم قيمة هذه الشاة قبل أن تسمن وكم قفيمتها بعد أن سمنت فالفرق بين القيمتين يلزم البائع بدفعه للمشتري. وقوله - رحمه الله -: (وكسبه) الكلام فيه كالنماء المنفصل كما تقدم لأن الكسب هو نوع من النماء المنفصل وكنا تكلمنا عن النماء المنفصل والكسب بكلام واحد فكل ما قيل عن النماء المنفصل يقال تماماً عن الكسب ولذلك شرح العبارة واحد. - ثم قال - رحمه الله -: - ويحرم ولا يصح: تصرف أحدهما في المبيع وعوضه المعين. مقصود المؤلف - رحمه الله - أيضاً في الخيارين: في خيار الشرط وفي خيار المجلس. يحرم تصرف المشتري بالسلعة وتصرف البائع بالثمن زمن الخيارين. التعليل: - أن هذا التصرف يسقط حق الآخر ولا يجوز للمسلم أن يسقط حق أخيه بلا مسوغ شرعي.

ويستثنى من هذا الحكم مسألتان: ـ الأولى: إذا كان الخيار للمشتري فقط وتصرف في السلعة فإن هذا يعتبر إمضاء منه وقطع للخيار. لأن هذا التصرف دليل على الرضا. وكذلك إذا كان الخيار للبائع فقط وتصرف في الثمن فإنه قطع للخيار وهو إمضاء للبيع لأنه دليل على الرضا. ـ ويستثنى أيضاً: إذا تصرف البائع مع المشتري أو بإذنه. أو العكس: تصرف المشتري مع البائع أو بإذنه. فإنه حينئذ يصح التصرف. مثال ذلك/ إذا استأجر البائع بالثمن أرضاً أخرى للمشتري فهو الآن تصرف مع: المشتري. أو استأجر بالثمن أرضاً لزيد لكن بإذن المشتري فهذا التصرف جائز وصحيح. كذلك العكس إذا باع المشتري السلعة على البائع أو باعها على زيد بإذن البائع فإن الخيار يسقط لأنه تم بإذن من له الحق. - ثم قال - رحمه الله -: - وعوضه المعين فيها. قوله: (فيها) يعني: في مدة الخيار. وقزله: (عوضه المعين) يعني: أن المشتري يحرم عليه أن يتصرف بالثمن المعين. فإذا قال المشتري اشتريت هذه السيارة بهذا المال وعينه فإن هذا المبلغ المعين في العقد لا يجوز للمشتري أن يتصرف فيه بل عليه أن يبقيه في مكان مستقل إلى أن إما أن يمضي البيع أو يفسخ العقد. وقوله: (عوضه المعين) أي أنه لو كان في الذمة فإنه لا يمنع المشتري من التصرف فلو قال: اشتريت هذه السيارة بمائة ألف ولم يعين المائة ألف فالمائة ألف هذه في الذمة وللمشتري أن يتصرف فيها كيف يشاء هذا بالنسبة للمشتري. نأتي إلى البائع: البائع ليس له أن يتصرف بالثمن لا المعين ولا الذي في الذمة. بخلاف المشتري. فلو قال له: اشتريت منك هذه السيارة بعشرة آلاف واعطاه العشرة آلاف وأخذ السيارة فليس للبائع أن يترف في العشرة آلاف مدة زمن الخيار. ولو قال: اشتريت منك هذه السيارة بعشرة آلاف غير المعينة في الذمة فالبائع لم يقض شيئاً الآن ومع ذلك لا يجوز له أن يتصرف في هذا الثمن الذي في الذمة بأن يحيل عليه مثلاً هذه الحوالة خطأ ولا تجوز. لماذا؟ لأنها تصرف في المبيع في العوض ولا يجوز له أن يتصرف في العوض. الخلاصة: المشتري يجوز له أن يتصرف في الثمن الذي في الذمة ولا يجوز له أن يتصرف في الثمن المعين.

والبائع لا يجوز له أن يتصرف في الثمن لا المعين ولا الذي في الذمة. وبهذا عرفنا حكم تصرف كل من البائع والمشتري في كل من السلعة والثمن. - ثم قال - رحمه الله -: - بغير إذن الآخر. تقدم معنا أن التصرف بغذن الآخر جائز. - لأن التصرف منع منه لحق الآخر فإذا أذن به فقط أسقط حقه. - ثم قال - رحمه الله -: - بغير تجربة المبيع. أي: يستثنى من تحريم التصرف أن يتصرف على سبيل التجربة كأن يركب الدابة. أو يحلب الشاة. أو يبحر في السفينة. أو يقود السيارة. فمثل هذا جائز. - لأن هذا التصرف على سبيل الاختبار والتجربة. وإنما شرع خيار الشرط لتجربة المبيع. فهذا التصرف لا يتعارض مع خيار الشرط. ويقيد ذلك: بالتصرف الذي يفهم منه عرفاً أنه للتجربة. فليس من المقبول مثلاً: أن يأخذ سيارة للتجربة ويسافر بها إلى مكة لمدة شهر وإلى ابها لمدة شهر ويقول إنما سافرت على سبيل التجربة. فهذه ليست تجربة هذا استهلاك للسلعة. فإذاً يقيد جواز التصرف في العين على سبيل التجربة بأن يكون مقبولاً في العرف وإلا فإنه لا يجوز وهو آثم. - ثم قال - رحمه الله -: - إلاّ عتق المشتري. أي: ويستثنى أيضاً من تحريم التصرف عتق المشتري فيجوز مع التحريم. فإذا أقدم المشتري عللى عتق العبد فنقول: انت آثم بهذا العتق وعليك التوبة والعتق صحيح. واستدلوا على هذا: - بأن الشارع الحكيم يتشوف للعتق وحث عليه وفي تجويز هذا الحكم تأدية لمقصود الشارع. = والقول الثاني: أنه لا يجوز حتى العتق. ان العتق أيضاً محرم. - لأن في هذ العتق اعتداء على حق البائع ولا يجوز للمشتري أن يعتدي على حق البائع. وهذا القول الثاني هو الصحيح. لأن الشارع تشوف لعتق العبيد لكن ذلك مشروط بأن لا يدخل الضرر على الآخرين. * * مسألة/ قول المؤلف - رحمه الله - (عتق المشتري) يدل بمفهومه على أن عتق البائع لا يستثنى وإنما الذي يستثنى عتق المشتري وهو كذلك. فإن: = المذهب يرون أن عتق البائع لا يجوز مطلقاً. وعللوا ذلك: - بأن السلعة ليست في ملك البائع حتى يعتق أو لا يعتق. لما تقدم معنا أن السلعة زمن الخيارين هي من أملاك المشتري. فعتق البائع لا يجوز مطلقاً عند الحنابلة.

فتبين لنا الآن: أن الحنابلة يفرقون في مسألة العتق زمن الخيارين بين تصرف البائع وبين تصرف المشتري وأنه على القول الصواب: تصرف البائع وتصرف المشتري واحد كلاهما لا يجوز لما فيه من الاعتداء على حق الآخرين. - ثم قال - رحمه الله -: - وتصرف المشتري فسخ لخياره. تصرف المشتري فسخ لخياره: يعني: إذا كان الهيار للمشتري فقط. ولو أن المؤلف - رحمه الله - نبه إلى هذا بعبارة أو بشرط لكان أولى وأوضح. إذاً: تصرف المشتري فسخ لخياره إذا كان الخيار له وحده. والدليل على ذلك: - أن هذا التصرف دليل على الرضا وإذا رضي فقد لزم البيع ومنع من الرد. وفهم من كلام المؤلغ - رحمه الله - أن تصرف المشتري فسخ لخياره أن البائع ليس كذلك. وهذا هو المذهب: ان تصرف البائع في السلعة لا يعتبر فسخاً للخيار. لماذا؟ لما تقدم معنا أن لاالملك زمن الخيارين للمشتري. فعرفتم الآن: كثرة الفروع التي تنبني على هذه المسألة: - مسألة ملك السلعة زمن الخيارين لمن؟ ومن المفيد جداً لطالب العلم أن يراجع ما كتبه ابن رجب حول هذه المسألة في القواعد ويرى كيف فرع فروعاً كثيرة على هذه المسألة وهو مفيد لطالب العلم. - ثم قال - رحمه الله -: - ومن مات منهما بطل خياره. أي واحد منهما يموت يبطل خياره. إن مات المشتري بطل خياره وإن مات البائع بطل خياره. - لأن حق الخيار لا يورث. ولذلك بمجرد الموت انتهى حقه وبطل ولزم البيع للورثه. =والقول الثاني: ان حق الخيار من جملة الحقوق التي تورث. وهي حق ينتقل للورثة ويستمر الحق مدة خيار الشرط وإلى انتهاء المجلس في خيار المجلس. وهذا القول الثاني هو الصحيح إن شاء الله لأن هذا من جملة الحقوق التي تورث. فلا يجوز أن نمنع الورثة من هذا الحق. - ثم قال - رحمه الله -: - الثالث: إذا غبن في المبيع غبناً يخرج عن العادة، بزيادة الناجش والمسترسل. (الثالث: إذا غبن) أي والثالث من أنواع الخيارات: خيار الغبن. والغبن في لغة العرب: هو النقص والخديعة. هذا هو الغبن في لغة العرب. وأما الغبن في الاصطلاح ففسره المؤلف - رحمه الله - بقوله: (إذا غبن في المبيع غبناً يخرج عن العادة)

إذاً: خيار الغبن أن يغبن البائع أو المشتري غبناً يخرج عن العادة. وذلك بزيادة الثمن بالنسبة للمشتري وبنقص الثمن بالنسبة للبائع. * * مسألة - مهمة - / = ذهب الجمهور إلى أن خيار الغبن لا يثبت بمجرده حق للمشتري والبائع ولو كان فاحشاً بل لا يثبت إلا في حالات معينة سأتي ذكرها. = والقول الثاني: أن خيار الغبن يثبت مطلقاً. واستدل الحمهور: - بأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال لحبان - رضي الله عنه -: (إذا بايعت فقل لا خلابة). وجه الاستدلال: ان الحديث أفاد ان خيار الغبن لا يثبت إلا بالشرط. واستدل أصحاب القول الثاني: [ان الغبن يثبت مطلقاً. - بأن الغبن خديعة ولا يجوز للمسلم أن يخدع غيره. - قال - رحمه الله -: - إذا غبن في المبيع غبناً يخرج عن العادة. قيد المؤلف - رحمه الله - الغبن با؟ ن يكون خارجاً عن العادة. يعني: ان يغبن في السعر بالزيادة عليه غبناً يخرج عن العادة. فدلت عبارة المؤلف - رحمه الله - على أن الغبن ليس له حد معين ولا قدر محدود بل يرجع فيه إلى عرف التجار فما اعتبروه غبناً فهو كذلك وإلا فلا. = والقول الثاني: أن الغبن يقدر بالثلث. فإذا كانت الزيادة الثلث ثبت الحق للمشتري وإذا كان النقص الثلث ثبت الحق للبائع. = وقيل: الضابط في ذلك: الخمس. = وقيل: الربع. ولا يخفى إن شاء الله أن الصواب انه يرجع في ذلك إى العرف. ومن أقوى الأدلة على أنه يرجع في ذلك إلى العرف أن الشارع أثبت الحق للمغبون بلا حد وكل شيء جاء في الشرع بلا حد فإنه يرجع فيه إلى العرف. الأمر الثاني: الدال على رجحان تقييده بالعرف أنه لا يمكن أن تنضبط السلع بمقدار معين. فالثلث مثلاً في بعض السلع غبن وفي بعضها ليس بغبن بل زيادة مائة بالمائة في بعض السلع ليست بغبن وزيادة عشرة في المائة في بعض السلع يعتبر غبن وهذا يرجع إلى طبيعة السلعة والقيمة. فالسلعة التي قيمتها ريال إذا زيد عليه مائة بالمائة تصبح كم؟ ريالين. هل هذا غبن؟ ثلاثة أو أربعة أو خمسة؟ فليس بغبن. لكن البيت الذي اشتري بمليون زيادة عشرو بالمائة كم؟ مائة ألف. هل هذا غبن؟ ( ... ). إذاً: تفترق السلع من حيث هي: طبيعة السلعة ومن حيث القيمة.

فلا يمكن أبداً أن نضع حداً معلوماً بأن نقول الثلث أو الربع أو الخمس أو أكثر أو أقل بل لابد أن يرجع في ذلك إلى العرف لهذين الدليلين الذين ذكرتهما لك. - ثم قال - رحمه الله -: - بزيادة الناجش والمسترسل. خيار الغبن: = عند الحنابلة لا يثبت إلا في ثلاث صور. فالحنابلة مع الجمهور في الخلاف الذي ذكرته آنفاً: خيار الغبن لا يثبت عند الحنابلة إلا في ثلاث صور. ـ الصورة الأولى: تلقي الركبان. ـ والصورة الثانية: بيع النجش. ـ والصورة الثالثة: بيع المسترسل. ولذلك: في الحقيقة من الخطأ أن المؤلف - رحمه الله - حذف الكلام عن تلقي الركبان فإنه كما تلاحظ بدأ المؤلف - رحمه الله - بالكلام عن بيع النجش وترك تلقفي الركبان مع أن تلقي الركبان موجود في الأصل الذي اختصر منه المؤلف - رحمه الله - كتابه موجود في جميع الكتب أضف إلى هذا أن المذهب المعتمد عند الحنابلة أنه لا يوجد خيار غبن إلا في ثلاث صور. فكلهم ىنص على هذه الثلاث صور. فلذلك حذفها ليس من المناسب مطلقاً في الحقيقة. إذاً: نبدأ بالصورة الأولى: وهي: تلقفي الركبان. بعد أن عرفنا أن الحنابلة يخصصون خيار الغبن في ثلاث صور. فالصورة الأولى منها: تلقي الركبان. وفي تلقي الركبان مباحث: ـ المبحث الأول: تعريفه: هو أن يخرج الرجل لتلقي الركبان والشراء منهم قبل القدوم إلى السوق ومعرفة الأسعار. هذا هو تلقي الركبان. ـ حكمه: تلقي الركبان: محرم. والعقد صحيح. الدليل: الدليل على ذلك: - قوله - صلى الله عليه وسلم -: (لا تلقوا الجلب فمن تلقاه فاشترى منه فسيده بالخيار إذا أتى السوق) فالحديث دل على المنع وعلى تصحيح العقد إلا أن صاحب السلعة بالخيار إذا هبط إلى السوق. - الدليل الثاني: قوله - صلى الله عليه وسلم -: (لا تلقوا الركبان ولا يبع بعضكم على بعض ولا تناجشوا) الشاهد منه: ولا تلقوا الركبان. فهو نهي صريح. ـ المسألة الثالثة: الصحيح من قولي أهل العلم أن تلقي الركبان محرم قبل أن يهبطوا إلى السوق سواء داخل البلد أو خارج البلد فليس المناط أبداً دخولهم البلد وإنما وصولهم إلى السوق.

ـ المسألة الرابعة: اختلف الفقهاء فيما إذا تلقى الركبان واشترى منهم بنفس سعر السوق. ولم يدخل عليهم أي نوع من الغبن. = فمن الفقهاء من صحح العقد. ومعنى صحح العقد يعني: بلا خيار للبائع. واستدل على ذلك: - بأن النبي - صلى الله عليه وسلم - إنما أثبت له الخيار دفعاً لضرر الغبن عليه وهو الآن لم يغبن. واستدل الذين يرون أن له الخير حتى لو اشترط منه بسعر السوق: - بظاهر النص. قالوا: فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى عن تلقي الركبان وأثبت للركبان الحق والخيار مطلقاً ولم يشر إلى التفريق بين إذا باع وبنفس سعر السوق أو بأقل منه. وهذه المسألة مفيدة لطالب العلم وستتكرر معه. أقصد أصل هذه المسألة فإنه غالباً ما يقع خلاف بين أهل العلم فمنهم من يأخذ بالمعنى الذي جاء النص من أجله ومنهم من يأخذ باللفظ الذي جاء الحديث على وفقه. وهي مسألة مهمة. الراجح فيها إن شاء الله الراجح في أصل المسألة: أن الإنسان يأخذ بالمعنى بشرط: أن يكون معنىً متفق عليه ليس فيه خلاف وهو من الظهور بحيث لا يختلف فيه. وإلى هذا القيد أشار عدد من المحققين منهم (؟ إن لم أنس) الشيخ الفقيه ابن دقيق العيد. فله كلام حول هذه المسألة مهم أشار فيه إلى أنه في حالة ما إذا ظهر المعنى بحيث لا يتوقف فيه الإنسان فإن الأرجح الأخذ بالمعنى. وإذا تردد الإنسان أو لم يظهر له المعنى أو اختلف العلماء فيه فالأسلم أن يأخذ بظاهر اللفظ ولا يعول على المعنى. بناء على هذا الترجيح في أصل المسألة: نقول الراجح إن شاء الله في هذه المسألة أنه لا خيار للركبان. لأنه من المقطوع به أن النبي - صلى الله عليه وسلم - إنما أثبت لهم الخيار دفعاً للضرر والغبن الذي ربما وقع عليهم بسبب عدم معرفتهم للسوق. فإذا كان اشترى منهم بسعر السوق فلا حرج عليه إن شاء الله. فالراجح إن شاء الله في هذه المسألة أنه لا خيار وأن البيع يقع صحيحاً وهو إن شاء الله أي هذا القول الذي رجحناه لا يتعارض مع ظاهر النص. لأن الإنسان يأخذ بالمعنى متى كان ظاهراً واضحاً. ولا يأثم لأن الإثم مترتب على الغبن والاثم ملازم للخيار إذا أثمناه فنحكم بالخيار. - ثم قال - رحمه الله -: - بزيادة الناجش.

بعد أن بينا الصورة الأولى ننتقل للصورة الثانية التي يتحقق فيها خيار الغبن وهي: بيع النجش. والنجش في لغة العرب: الاستخراج والإثارة. كأن الناجش يثير غيره ليشتري السلعة. وأما في الاصطلاح فهو زيادة من لا يريد شراء السلعة في قيمتها تغريراً للمشتري. والنجش حرام: لما أخرجه البخاري ومسلم: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى عن النجش. ولما في الصحيح أيضاً: من قوله - صلى الله عليه وسلم -: (لا تلقوا الركبان ولا تناجشوا). * * مسألة/ عرفنا الآن أن النجش إذا ثبت فإنه يثبت لصاحبه الخيار وهو خيار الغبن فإذا تبين أن في العقد نجش فللمشتري المغبون الخيار بين إمضاء العقد وبين فسخه. * * مسألة/ إذا زاد الناجش لتصل إلى ثمنها الحقيقي. فما الحكم؟ الجواب: أن أهل العلم اختلفوا اختلافاً كثيراً في هذه المسألة على ثلاثة أقوال: = القول الأول: أن هذا العمل محرم. وأن أي إنسان يزيد في السلعة وهو لا يريد الشراء فعمله محرم. بناء عليه: يثبت الخيار للمشتري. = القول الثاني: أن هذا العمل مندوب إليه. - لأن في هذه الزيادة تحصيل لحق البائع. - ولان المقصود من النهي عن النجش الزيادة التي يحصل بها تغرير للمشتري وهذه الزيادة ليس فيها تغرير. = والقول الثالث: أنها مباحة. لا مندوبة ولا محرمة. والراجح: ( ... ) [محرم] فيما يظهر لي .. لماذا؟ أولاً: لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: دعوا الناس يرزق الله بعضهم من بعض. ثانياً: لأنه يزيد كذباً. ثالثاً: لأنه يزيد ولا يريد الشراء. فهو في الواقع غرر حتى بالمشتري لان المشتري يظن ان الناس لهم رغبة في هذه السلعة ولو توقف عن المزايدة ربما لم يشتر فلما رآه يزيد في السلعة ظن أنها مرغوبة فالذي يظهر لي أنه محرم وأنه لا يخرج عن الحكم العام للنجش. باقي مسألة وهي: من صور النجش أن يقول: اعطيت فيها هكذا أو أعطيت فيها كذا ولم يعط فيها هذا المبلغ فهذا من النجش. ويترتب على حكمنا على هذه الصورة أنه من النجش إثبات الخيار وهذا هو بيت القصيد في المسألة. فكل مسألة نثبت فيها أنها من النجس فنحن تبعاً لذلك نثبت خيار الغبن فللمشتري أن يفسخ رضي البائع أو سخط.

ـ من صور النجش: أن يسومها سوماً مرتفعاً ليشتري المشتري بثمن قريب من هذا السوم. لأن هذا في الحقيقة تغرير وهو إذا تأملت يشبه تماماً الزبادة في أثناء الحراج. ((الأذان)) نتم هذه المسألة حتى ننتهي - وهي آخر مسألة/فإذا سامها البائع بأكثر من ثمنها بكثير ليشتري المشتري بثمن قريب من هذا الثمن فإنه نجش ويثبت له خيار الغبن. ومعنى سامها: هو ما نعبر عنه بعرف الناس اليوم: (حدها) يعني إذا حد السلعة نقول: كم تحد سلعتك؟ يقول: أنا أحدها يعني سأبيع عليك بكذا ورفع ثمنها رفعاً عظيماً حتى تشتري انت بثمن ولو كان أقل من هذا إلا أنه قريب منه فهذا يتعبر لاشك من التغرير ومن النجش وإلى هذا القول يعني: إلى اعتبار هذه الصورة من صور النجش ذهب شيخ الإسلام ابن تيمية وهو قول وجيه جداً وهو قول صحيح ويثبت بناء عليه الخيار للمشتري إن شاء أخذ السلعة وإن شاء ردها.

شرح كتاب البيع الدرس رقم (11) قال شيخنا حفظه الله: بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين. مع بداية الدروس بعد هذه الإجارة أرحب بإخواني سائلاً المولى سبحانه وتعالى أن يقبل الأعمال الصالحة في الأيام الفاضلة سبقت من عشر ذي الحجة ... وكنا توقفنا في آخر درس وتكلمنا فيه عن الخيارات على الخيار الثالث وهو خيار الغبن وتحدثت فيه عن الصور الثلاث التي يعتبرها الحنابلة من صور خيار الغبن. وهي: تلقي الركبان وزيادة الناجش. وتوقفنا عند المسترسل ولم نتكلم عنه وهو الصورة الثالثة التي يثبت فيها الخيار وهو خيار الغبن للمشتري. - يقول المؤلف - رحمه الله -: - والمسترسل. المسترسل: هو الذي يجهل الثمن ولا يحسن المماكسة ولا المبايعة فتجتمع فيه صفتان: - الأولى: أن لا يعرف الثمن. - والصفة الثانية: أنه لا يحسن البيع والشراء والمماكسة والمبايعة ومحاولة الحط من الثمن. سواء كان البائع أو المشتري. ويسمى عند الفقهاء: غبن المسترسل.

بعد أن عرفنا ما هو المسترسل نأتي إلى حكمه. ومعنى قولنا (حكمه) يعني: حكم غبن المسترسل. ـ غبن المسترسل: محرم. - لقوله - صلى الله عليه وسلم - (غبن المسترسل حرام). - والدليل الثاني: أن غبنه من الغش والخداع للمسلم وهو محرم. بهذه الصورة الثالثة اكتملت صور خيار الغبن. بعد ذلك نبين مسألة تشترك فيها جميع الصور وهي مسألة مهمة/ إذا وقع الغبن فإنه يثبن للمغبون في الصور الثلاث: الخيار. لكن اخلتفوا في الخيار: = فالحنابلة يرون: أنه مخير بين أن يمسك السلعة أو يردها بلا أرش. إما إمساك أو رد. = والقول الثاني: أن المغبون مخير بين الرد أو الامساك مع حط الثمن الذي غبن فيه. يعني: مع حد مقدار ما غبن فيه من الثمن. فإذا اشترى السلعة بمائة وهي بخمسين: فهو مغبون بخمسين فله أن يمسك ويأخذ من البائع خمسين. والراجح والله أعلم مذهب الحنابلة له أن يمسك أو يرد فقط. والدليل على ذلك: - ان النبي - صلى الله عليه وسلم - في حديث المصراة - سيأتينا - خير المشتري بين أمرين: إما أن يمسك أو يرد. فإن رد رد معها صاعاً من تمر وهذا لا يعنينا في مسألتنا لكنه - صلى الله عليه وسلم - خير المشتري بين أمرين فقط إما الإمساك أو الرد. فإذا نظرنا إلى هذا الحديث علمنا أن ما ذهب إليه الحنابلة إن شاء الله أقرب وهو أن المشتري مخير بين الإمساك والرد فقط. ثم لما أنهى المؤلف - رحمه الله - النوع الثالث من الخيارات بدأ بالرابع. - فقال - رحمه الله -: - الرابع: خيار التدليس. يعني: الخيار الذي يثبت بسبب التدليس. والتدليس في لغة العرب: مأخوذ من أحد شيئين: - إما من الدلسة وهي الظلمة. - أو من الدلس وهو الخديعة. والأقرب والله اعلم أنه مأخوذ منهما. لأن المدلس أخفى وخدع. وأما في الاصلاح: فأحسن وأوضح التعاريف أن يقال هو: كل فعل يزيد به الثمن ولو لم يكن عيباً. فالعيوب لا تدخل معنا في خيار لأن لها خياراً خاصاً وهو خيار العيب. إذاً: المقصود بخيار التدليس الأفعال التي يقوم بها البائع والتي تؤدي إلى زيادة الثمن من غير العيوب. ثم لما بين المؤلف - رحمه الله - أن التدليس يثبت الخيار ذكر الأمثلة: - فقال - رحمه الله -: - كتسويد شعر الجارية.

هذا المثال الأول من أمثلة التدليس. وهو أن يعمد البائع إلى الجارية التي لون شعرها أشقر أو أبيض أو أسود وليس بسواد ناصع ثم يصبغ هذا الشعر ليكون أسوداً سواداً ناصعاً ترغيباً للمشتري. فهذا البائع أظهر شعر الجارية بخلاف ما هو عليه لزيادة السعر. ونحن نقول التدليس كل فعل يزيد بعه الثمن ولو لم يكن عيباً. فهذا ليس من العيوب: كون شعر الجارية أشقر ليس من العيوب لكنه صبغه بالأسود لزيادة السعر إذا علم أن المشتري يرغب بأن يكون شعر الجارية لونه أسود. وهو مثال واضح. الثاني: - قال - رحمه الله -: - وتجعيده. يعني: وكتجعيد شعر الجارية. كأنه والله أعلم كان تجعيد الشعر نوع من الصفات المرغوبة في الجواري في وقتهم. فإذا قام البائع بتجعيد الشعر الناعم ترغيباً للمشتري فقد دلس عليه. هذا إذا اعتبرنا أن تجعيد الشعر من الصفات المحمودة المرغوبة ولا شك أن الفطر السليمة تأبى مثل هذا العمل لأن تجعيد الشعر الناعم ليس من صفات الجمال. وإن اعتبر في عرف قوم من الجمال فهو في الحقيقة ليس من الجمال كما أن تنعيم الشعر الجعد ليس من الجمال بل الجمال إبقاء الشيء على ما خلقه الله سبحانه وتعالى إذا لم يكن عيباً ونحن نتحدث في التدليس الذي ليس من العيوب. فإذا كان شعر الجارية جعداً وليس جعودة تعتبر من العيوب فالأولى تركه على ما هو عليه. الذي يعنينا الآن أنه إذا جعد شعر الجارية الذي أصله ناعم تدليساً على المشتري لأنه يرغب في هذه الصفة فعمله محرم. - ثم قال - رحمه الله: - وجمع ماء الرحى وإرساله عند عرضها. الرحى: هي التي تطحن الحب. فإذا جمع الماء ثم تركه إذا جاء المشتري لينظر إلى الرحى فإن الرحى ستتحرك بشرعة وتطحن كمية أكبر وتعمل بشكل فعال أكثر فيظن المشتري أن هذا من عادة هذه الرحى. والواقع أن ليس من عادتها أن تطحن بهذه السرعة وإنما طحنت بسرعة بسبب إمساك الماء. فهذا من التدليس. لماذا؟ لأن جريان الرحى ببطء ليس من العيوب ما دام طبيعياً وهو يزيد زيادة السرعة لتظهر السلعة بصفة ليست هي عليها في الواقع. هذا هو المثال الأخير من أمثلة المؤلف - رحمه الله - على التدليس. حكمه: التدليس: محرم.

- لقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: (لا تصروا الإبل ولا الغنم فمن ابتاعها فهو بخير النظرين بعد أن يحلبها إن شاء ردها وصاعاً من تمر وإن شاء أمسكها) أو إن شاء أمسكها وإن شاء ردها وصاعاًمن تمر. فهو مخير إما أن يمسك ويعطي البائع صاعاً من تمر أو يرد. التدليس بنص هذا الحديث محرم. وهو محرم لثلاثة أمور: ـ لهذا الحديث. ـ وللإجماع, ـ ولما تقدم أنه من الغش والخداع. والغش والخداع في جميع الأمور لا سيما في المعاملات: محرم. وخيار التدليس يثبت: = عند الحنابلة على التراخي. يعني: له أن يرد بخيار الندليس متى شاء إلا في التصرية. فالخيار فيها فقط ثلاثة أيام. فيفرقون في التدليس بين التصرية وغيرها من التدليسات. سبب التفريق: قالوا: أنه في حديث التصرية في اللفظ الذي أخرجه مسلم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (فهو بالخيار ثلاثة أيام). فأثبت له الخيار في التصرية لمدة ثلاثة أيام فقط. وسيأتينا مسألة مدة الخيار في خيار العيب وهو ينطبق على خيار التدليس ونذكر الخلاف والراجح في هذه المسألة. - ثم قال - رحمه الله: - الخامس: خيار العيب. يعني: الخيار الذي يثبت بسبب وجود عيب في السلعة أو في الثمن. وخيار العيب ثابت بالنصوص من الكتاب والسنة. ـ أما الكتاب: فقوله تعالى: (إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم). ومن المعلوم أنه لن يرضى بالسلعة المعيبة. ـ وأما من السنة. فحديث عائشة - رضي الله عنها - أن رجلاً باع عبداً فيه عيب فرده المشتري فقال البائع: وغلت العبد فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: (الخراج بالضمان) يعني: كما أن المشتري كان ضمان العبد عليه في فترة التجربة كذلك له غلته. وهذا الحديث فيه خلاف كثير وممن صححه يحيى بن سعيد القطان. وضعفه أو أشار إلى ضعفه عدد من الأئمة لكن معنى الحديث صحيح وثابت أن الخراج بالضمان ويكاد يجمع اهل العلم على معنى هذا الحديث. - قال - رحمه الله -: - وهو ما ينقص قيمة المبيع. يريد المؤلف - رحمه الله - أن يعرف العيب الذي يثبت به الخيار. فيقول: (هو ما ينقص قيمة المبيع). لكن الحنابلة لا يريدون قصره على العيب الذي يسبب نقص القيمة بل يشمل مع ذلك نقص العضو وإن لم ينقص معه الثمن.

ولا يخفى عليكم أنه توجد عيوب قد لا ينقص معها الثمن وإن كانت عيب في عرف الناس أو عيب عند المشتري بالذات لحاجته الخاصة لهذه السلعة. لذلك نقول: التعريف الأعم والأحسن أن نقول: أن العيب: هو كل وصف مذموم يقتضي سلامة السلعة منه. في هذا يكون التعريف يشمل الصور جميعاً إن شاء الله. ثم شرع المؤلف - رحمه الله - بذكر الأمثلة. وأما الحكم أي: ماذتا يترتب على خيار العيب فسيتكلم عنه المؤلف - رحمه الله - بالتفصيل. إذاً: الآن عرفنا خيار العيب وأنه ثابت بالشرع وما هو العيب الذي يثبت معه الخيار. - ثم قال - رحمه الله: في التمثيل. - كمرضه. يعني: كمرض المبيع. وهو يقضصد كل ماله من نفس وحياة مما يمرض. وقوله: (كمرضه) يعني: مهما كان المرض يسيراً. فجنس المرض يعتبر من العيوب التي يثبت بها لخيار للمشتري وهذا يؤخذ من عموم كلام المؤلف - رحمه الله -. وهو صحيح: فالمرض بأنواعه سواء كان يسيراً أو شديداً هو من العيوب. - ثم قال - رحمه الله: - وفقد عضو وسِنْ أو زيادتهما. إذا فقد عضو أوسن في المبيع أو فقد جزء في المبيع الذي ليس له حياة فهو من العيوب. وهو نقص بين ظاهر في المبيع. - ثم قال - رحمه الله -: - وزنا الرقيق. (زنا الرقيق) يشمل زنا الغلام وزنا الجارية. أما زنا الجارية فهو من العيوب بإجماع العلماء فلم يخالف فيه أحد من الفقهاء. وأما زنا الغلام فهو عيب كذلك عند جماهيثر أهل العلم لم يخالف إلا الأحناف فهم الذين فرقوا بين زنا الجارية وزنا الغلام. والصواب الذي لاشك فيه أن زنا الجارية والغلام من أكبر العيوب. ومذهب الأحناف في الغلام ضعيف جداً. والزنا عيب في الدين والدنيا: يعني: عيب في دين العبد وأيضاً في الدنيا لأنه يفسد الجارية أو الغلام على المالك والرد به من أظهر ما يكون. - ثم قال - رحمه الله -: - وسرقته. يعني: وكون العبد ممن يسرق هذا من العيوب التي للمتري رد العبد إذا تبين أنه من الذين يسرقون وهو كما قلنا في الزنا عيب في الدين والدنيا. - ثم قال - رحمه الله -: - وإباقه. يعني: وهربه. إذا كان العبد معروف بأنه يهرب من سيده فهذا من أكبر العيوب لأن هذا العيب يؤدي إلى عدم انتفاع المشتري بالعبد.

- ثم قال - رحمه الله -: - وبوله في الفراش. إذا كان العبد أو الجارية عف عنه أنه يبول في الفراش فإن هذا من العيوب التي يرد بها لأنه يتعب أهل البيت ويلوث فرشهم. قوله - رحمه الله -: (وزنا الرقيق. وسرقته. وإباقه. وبوله في الفراش) هذه العيوب يشترط لتكون من العيوب أن تقع من ابن عشر فما فوق. فإن وقعت من ابن تسع فأقل فليست من العيوب وليس للمشتري أن يرد بها. لأن الصغير قد يقع منه مثل هذه الاعمال ثم تستقيم حاله. والقاعدة عند الحنابلة: (ان كل عيب ينسب إلى فعل العبد وقصده يشترط فيه ان يكون من ابن عشر فما فوق). سواء كانت هذه الأشياء: الزنا والسرقة والإباق والبول أو غيرها. كل فعل ينسب إلى العبد من العيوب يشترط فيه ان يكون من ابن عشر فما فوق. ووجهة نظر الحنابلة في اشتراط هذا الشرط قوية لأن الطفل الصغير قد يقع منه بعض الممارسات التي لا تكون له خلقاً وإنما بسبب صغر سنه ثم إذا كبر اعتدل حاله. - ثم قال - رحمه الله -: مبيناً ماذا يترتب على خيار العيب. - فإذا علم المشتري العيب بعد: أمسكه بأرشه - وهو قسط ما بين قيمة الصحة والعيب - أو رده وأخذ الثمن. = عند الحنابلة في خيار العيب يختلف حكمهم عن خيار التدليس. ففي خيار العيب المشتري مخير بين أمرين: ـ إما أن يمسك مع أخذ الارش وسيأتينا ما هو الأرش وكيف نخرج الارش. ـ أو يرد. واستدل الحنابلة على هذا: - بقولهم: إن العيب هو عبارة عن نقص في العين المباعة وإذا فات على المشتري جزء من العين المباعة فله أن يأخذ مقابل ذلك وهو الأرش. = والقول الثاني في هذه المسألة: أن المشتري ليس له إلا الإمساك أو الرد. إلا - في صورة واحدة: - إذا تعذر الرد - بتلف المبيع مثلاً فحينئذ له الأرش. واستدل أصحاب هذا القول - أي الثاني -: - بحديث المصراة وقالوا: إن التصرية نوع من العيب فإنه المشتري خدع بإظهار الحليب على غير ما هو عليه. ومع ذلك خيره النبي - صلى الله عليه وسلم - بين أمرين إما الإمساك أو الرد مع صاع من تمر.

والقول الثاني صحيح ويؤيده النص وإن كان الإنسان من حيث النظر قد يترائى له أن المذهب أقوى لكن مع وجود هذا النص الذي يخير المشتري بين الرد والإمساك فقط ليس للإنسان أن يصير إلى هذا الحديث وإن رأى أنه يخالف المعنى الذي يقع في ذهنه. على كل حال: الراجح إن شاء الله أنه ليس له إلا الرد أو الإمساك إلا في صورة واحدة وهي إذا تعذر الرد. ثم نأتي إلى كلام المؤلف - رحمه الله - وكيفية تحديد الأرش. - يقول - رحمه الله -: - فإذا علم المشتري العيب بعد: أمسكه بأرشه - وهو قسط ما بين قيمة الصحة والعيب -. كيفية تحديد الأرش تقدمت معنا ونعيد الآن بيانها. كيفية ذلك: ان ينظر الإنسان إلى قيمة هذه السلعة معيبة وقيمة هذه السلعة صحيحة. فإذا فرضنا أن قيمة السلعة صحيحة مائة وقيمة السلعة معيبة خمس وسبعين فتلاحظ أن الفرق من حيث النسبة بين العدد: الربع. نأخذ هذا الربع وهو الفرق بين القيمتين ونطبقه على الثمن الحقيقي فإذا كانت هذه السلعة بيعت بثمن مقداره ثمانين فتكون القيمة كم؟ ستين. وعلى البائع أن يرد عشرين ريالاً مثلاً إلى المشتري إذا رأى المشتري أن يمسك السلعة. فنقول: الآن أنت مخير بين أن تمسك السلعة وتأخذ عشرين ريالاً عند الحنابلة على المذهب على المثال الذي قلت أو ترد السلعة وتأخذكامل الثمن. وعرفت أن قضية الإمساك مع الأرش محل خلاف. - يقول - رحمه الله -: - فإذا علم المشتري العيب بعد. (بعد) يعني: بعد العقد. فإذا يشترط لثبوت الخيار أن يعلم بالعيب بعد العقد أما إذا علم بالعيب قبل العقد فلا خيار له ولا أرش ولا يستطيع أن يرد وليس هناك إلا حل واحد وهو أن يأخذ السلعة ويدفع الثمن لأنه دخل في العقد على بينة فإنه علم بالعيب قبل العقد. - قوله - رحمه الله -: - أو رده وأخذ الثمن. إذا اختار المشتري الرد فإن مؤونة الرد على المشتري. مهما بلغت. - لقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: (على اليد ما أخذت حتى تؤديه). لم أجد خلافاً في هذه المسألة مع بعض البحث بين الفقهاء في أن مؤونة الرد على المشتري وهو من وجهة نظري قول ضعيف جداً إذا كان البائع يعلم بالعيب.

فإذا كان البائع يعلم بالعيب وأرسل السلعة إلى المشتري عالماً بالعيب ثم اكتشف المشتري العيب فإلزام المشتري برد السلعة على نفقته يتنافى مع الظلم الذي وقع على المشتري لا سيما في وقتنا هذا إذ قد يكون إرسال السلعة ومؤونة تحميلها وإرسالها بالبريد أو بغيره تفوق قيمة السلعة فكيف نلزم المشتري بمؤونة الرد مع أن البائع هو الذي كتم العيب فإذا كان أحد من الفقهاء قال: بأن مؤونة الرد على البائع فهو لاشك الراجح وإن كانت المسألة إجماع بأن مؤونة الرد على المشتري فمؤونة الرد على المشتري وليس للإنسان أن يخرج عن الإجماع. - ثم قال - رحمه الله -: - وإن تلف المبيع أو عتق العبد: تعين الأرش. يعني: عند المشتري بأن أكله أو أتلفه بإحراق كالحطب أو بأي صورة من الصور. هذه الصورة الأولى: إذا تلف المبيع. (أو أعتق العبد) أي: أو أعتق المشتري العبد فهنا فاتت السلعة لأن العبد صار حراً لا يباع ولا يشترى. - يقول - رحمه الله -: - تعين الأرش. يتعين في هذه الصورة الأرش: - لأن الرد متعذر. ونحن سبق وأن قلنا أنه إذا تعذر الرد فإنه يتعين الأرش حتى على القول الثاني الذين لا يرون أخذ الأرش إذا اختار المشتري الإمساك. ففي هذه الصورة كالاتفاق بينهم أنه إذا تعذر الرد فله الأرش لأنه ليس هناك حل آخر. ثم انتقل المؤلف - رحمه الله - إلى نوع آخر من التعذرات: - فقال - رحمه الله -: - وإن اشترى ما لم يعلم عيبه بدون كسره، كجوز هند وبيض نعام، فكسره فوجده فاسداً فأمسكه: فله أرشه، وإن رده: رد أرش كسره، وإن كان كبيض دجاج: رجع بكل الثمن. هذه المسائل واحدة وهي: إذا لم يمكن العلم بالعيب إلا بعد كسر السلعة فهذا ينقسم إلى قسمين: ـ القسم الأول: ما لمكسوره قيمة مالية. يعني: السلعة التي لها قيمة مالية حتى بعد الكسر. كبيض النعام وجوز الهند. لأن بيض النعام وجوز الهند يستخدم بعد الكسر كإناء أو كوعاء. فلمكسوره قيمة مالية. فإذا كان لمكسوره قيمة مالية خير المشتري بين أمرين: ـ إما أن يرد السلعة ويرد معها الأرش لأنه أتلف ما لمكسوره ماليه - أتلفه على البائع. ـ أو يمسك وله الأرش.

ويستثنى من هذا صورة واحدة وهي واضحة عند التأمل وهي: ما إذا كسر هذه السلعة بما لا يفوت ماليتها كأن يكسرها بالنصف فالآن يستطيع البائع أن ينتفع بها تماماً أي: كوعاء. لكن إن كسرها بما يفوت ماليتها فالحكم هو: أنه يخير بين: الإمساك وأخذ الأرش. أو الرد ودفع الأرش. ـ القسم الثاني: ما ليس لمكسوره مالية كالبيض والبطيخ. فهذه السلع إذا كسرت ليس لقشور البيض ولا لقشور البطيخ أي ثمن ولا ينتفع به بشيء. فهذا حكمه أن يرجع المشتري بكامل الثمن. لأنا تبينا أن هذه السلعة لا نفع فيها ومن شروط صحة البيع أن يكون المبيع مما ينتفع به. ويترتب على ذلك: أنه لا يجب على المشتري أن يرد الكسر لا كسر البيض في المثال ولا كسر البطيخ لأنه لا قيمة له شرعاً فلم يلزم برده. إذاً: عرفنا الآن الفرق بين ما يكسر وله قيمة وما يكسر وليس له قيمة. وأن بينهما فرقاً في النتيجة. وإذا تأملت وجدت أن هذا معنى كلام المؤلف - رحمه الله - وقد أوضحه إيضاحاً جيداً: يقول - رحمه الله -: (وإن اشترى ما لم يعلم عيبه بدون كسره، كجوز هند وبيض نعام) هذا أمثلة ما لا يعلم عيبه بدون كسره. لكن إذا كان مما ينتفع بكسره (فكسره فوجده فاسداً) فالحكم (أمسكه: فله أرشه، وإن رده: رد أرش كسره). (وإن كان كبيض دجاج) وهذا هو القسم الثاني الذي ليس لمكسوره مالية (رجع بكل الثمن) لأنا تبينا أنه ليس له قيمة في الشرع. ثم انتقل المؤلف - رحمه الله - إلى مدة خيار العيب: - فقال - رحمه الله -: - وخيار عيب متراخ. (خيار العيب متراخ) يعني: أنه يثبت للمشتري على التراخي ولو لم يبادر برد السلعة. دليل الحنابلة: - قالوا: أن هذا الخيار إنما شرع لدفع ضرر متحقق فلم يبطل بالتراخي. وإذا اختار المشتري الرد فإن السلعة تكون أمانة في يده. هذا كله تفصيل مذهب الحنابلة. = القول الثاني: أن خيار العيب يثبت على الفور: إما أن يرد أو يمسك. - لأن في التأخير إيقاع الضرر على البائع والنبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: (لا ضرر ولا ضرار). وهذا القول اختاره شيخ الإسلام ولا يخفى إن شاء الله أنه أرجح القولين.

لأن المشتري: نقول له: إما أن ترد وإما أن تمسك. أما أن لا ترد ولا تمسك فإن هذا لا معنى له وهو من الإضرار بالبائع. يستثنى من هذا إذا لم يعلم المشتري بالعيب إلا بعد حين. ويستثنى أيضاً: إذا علم بالعيب ولم يتمكن لظرف خاص من إخبار البائع ولا من تسليم السلعة إلا بعد زمن فكذلك يثبت له الخيار ولو بعد فترة في هاتين الصورتين. أنه معذور. (الصورة الثانية/ أن يعلم بالعيب لكن لا يتمكن من إخبار البائع ولا من إرجاع السلعة إلا بعد فترة لظرف طارئ فحينئذ له الخيار ولو تباعد الوقت). - ثم قال - رحمه الله -: - ما لم يوجد دليل الرضا. هذا مفرع على قول الحنابلة أن خيار العيب يثبت على التراخي يشترط الحنابلة أنه يثبت على التراخي إلا إذا ظهر من المشتري ما يدل على الرضا. كتصرفه. وهو أوضح علامات الرضا. إذا تصرف بالمبيع ببيع أو هبة أو إهداء فإن هذا من أدلة الرضا. وهذا مثال/ التصرف مثال. كل ما يدل على الرضا فإنه يقطع خيار العيب. وظاهر كلام احنابلة هنا أنه من غير الأرش. إذا ظهر منه ما يدل على الرضا مع علمه بعيب السلعة فإن العقد يثبت ولا خيار للمشتري ولا أرش. = والقول الثاني: أنه إذا ظهر منه ما يدل على الرضا ثبت العقد لكن مع الأرش. - لأن غاية ما يدل عليه التصرف الرضا بالمبيع دون إسقاط حقه بالأرش. وهذا القول الثاني هو القول الصحيح إذا قلنا بأخذ الأرش في العيوب. وتقدم معنا الخلاف في قضية هل يؤخذ الأرش أو لا يؤخذ الأرش؟ - ثم قال - رحمه الله -: - ولا يفتقر إلى حكم ولا رضا ولا حضور صاحبه. (ولا يفتقر) يعني: الفسخ لا إلى الرضا ولا إلى الحضور ولا إلى حكم حاكم. لماذا؟ - لأن الفسخ من الحقوق الثابتة للمشتري فلا تحتاج مع ذلك إلى رضا ولا حكم حاكم كالطلاق. فالطلاق من حقوق الزوج له أن يطلق بلا رضا الطرف الآخر ولا حكم حاكم. وكالرجعة فإن الرجعة من حقوق الزوج فله أن يراجع بلا رضا الزوجة ولا الأولياء وبلا حكم حاكم. وهكذا كل حق ثابت للشخص فله أن يستعمل هذا الحق بدون رضا الطرف الآخر ما دام حقاً خاصاً به. - قال - رحمه الله -: - وإن اختلفا عند من حدث العيب: فقول مشتر مع يمينه.

مسألة مهمة جداً وتكثر الحاجة إليها: وهي: إذا اختلفا عند من حدث العيب؟ = فالحنابلة يرون أنه إذا اختلف البائع والمشتري عند من حدث البيع فالقول قول المشتري. فقوله مقدم وهو من المفردات التي انفرد بها الحنابلة عن بقية المذاهب الأربعة. واستدلوا على هذا: - بأن العيب جزء الأصل فيه عدم التسليم فثبت الخيار لذلك للمشتري. هذا مذهب الحنابلة وهو كما قلت من المفردات. = القول الثاني: مذهب الجماهير من اهل العلم - من المذاهب الثلاثة وغيرهم من فقهاء المسلمين أن القول قول البائع. واستدلوا بدليلين: - الأول: أن الأصل السلامة من العيوب. فإن العيب الأصل عدمه وهذا صحيح./ الأصل عدم العيب. - الثاني: استدلوا بحديث ابن مسعود وهو حديث صحيح: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (إذا اختلف المتبايعان فالقول قول البائع أو يترادان). وهذا الحديث نص في أنه عند الاختلاف فالقول المقدم قول البائع. وهذا القول الثاني هو القول الصحيح. والسبب: أن الحديث نص في المسألة. فالنبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: (إذا اختلف المتبايعان فالقول قول البائع أو يترادان). * * مسألة/ الحنابلة يرون أن القول قول المشتري لكن يشترطون لهذا شرطاً وهو أن لا تخرج السلعة من يده إلى يد شخص آخر فإن خرجت فليس له خيار لأن العيب قد يحدث عند هذا الشخص الآخر. فإذا أعار المشتري السلعة لأحد أو وضعها عنده أمانة أو خرجت إلى يد شخص آخر بأي سبب من الأسباب حينئذ سقط خيار المشتري لأن العيب قد يحدث عند هذا الشخص الآخر. هذه المسألة مفرعة على اختيار الحنابلة وهو أن يكون القول قول المشتري وعرفت أن الراجح أن القول قول البائع أو يترادان كما في الحديث. - ثم قال - رحمه الله -: - وإن لم يحتمل إلاّ قول أحدهما: قبل بلا يمين. إذا دلت القرينة أن قول أحدهما هو الصواب فالقول قوله ولا يطالب باليمين. - لأنا لا نطالب أحداً باليمين إذا ثبت صدقه وظهر بما لا يدع مجالاً للشك. فمثلاً/ إذا كان العيب هو عبارة عن زيادة أصبع فقال المشتري هذا العيب موجود من قبل العقد وقال البائع بل هو بعد العقد. فالقول قول من؟ المشتري. لماذا؟ لأنه لا يمكن أن يظهر الأصبع وينبت بساعة فهذا غير مقبول.

مثال آخر/ ((نقص في التسجيل ....................................... )) مذهب الحنابلة أن خيار التخبير بالثمن يثبت في هذه الصور فقط دون ما داها من الصور. وهذه الصور: التولية والشركة والمرابحة والمواضعة. يثبت فيها خيار التخبير إذا بان الأمر على خلاف ما أخبر به البائع. وهذه البيوع من أنواع البيوع وإنما اختصت باسم لاختصاصها بصفات كما نقول في السلم. السلم نوع من البيوع لكنه اختص بهذا الاسم لاختصاصه بصفات خاصة به. كذلك التولية والمرابحة والشركة والمواضعة هي من البيوع لكنها اختصت بهذا الاسم لاختصاصها بصفات معينة. - قال - رحمه الله -: - ويثبت في التولية. التولية: هو البيع برأس المال مع الإخبار به. كأن يقول البائع/ بعته عليك بمثل ما اشتريته به. فإذا قال: بمثل ما اشتريته به فهذا بيع يسمى بيع: تولية. لأنه باع سلعة بنفس ما اشتراها به. - ثم قال - رحمه الله -: - والشركة. الشركة: أن يبيع بعض السلعة بقسطها من الثمن. كأن يقول/ شاركتك في هذه السلعة. وإذا قال: شاركتك وأطلق فالأصل عند الحنابلة أنه شريك معه في النصف لأن الشراكة المطلقة تتقتضي التنصيف. وإذا قال: شاركتك في هذه السلعة بالربع فعلى المشتري أن يدفع كم؟ ربع الثمن وهو شريك في ربع السلعة. إذاً: المشاركة هي أن يدخل المشتري مع البائع شريكاً في السلعة بقسطها من الثمن. وإنما صارت من بيوع التخبير لأنه يبيع عليه جزء السلعة بما أخبر به من رأس المال. فإذا قال اشتريت هذه السلعة بمائة ريال ثم اشترك معه مشاركة مطلقة فكم سيدفع المشتري؟ خمسين ريالاً. إذاً: لهذا السبب صارت من بيوع التخبير. - ثم قال - رحمه الله -: - والمرابحة. المرابحة أن يبيع السلعة برأس لمال وربح معلوم. فإذا قال البائع بعت عليك هذه السلعة مرابحة عشرة بالمائة واشتريتها بمائة كم سيدفع المشتري؟ مائة وعشرة. إذاً هي البيع برأس المال مع ربح لابد أن يكون هذا الربح معلوماً. عكسها المواضعة: وهي أن يبيع برأس المال مع خسارة معلومة. كأن يقول/ أبيع عليك برأس مالها مع خسارة عشرة بالمائة فإذا اشتراها بمائة فكم سيدفع المشتري؟ تسعين. إذاً المواضعة هي عكس المرابحة.

وهذه هي صور خيار التخبير وسيأتينا إن شاء الله في الدرس القادم كيفية الخيار والخلاف بين أهل العلم فيه. هذا والله أعلم وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين ...

شرح كتاب البيع الدرس رقم (12) قال شيخنا حفظه الله: بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين. كنت بالأمس تكلمت عن الخيار الذي يثبت بسبب التخبير بالثمن، وأخذنا تبعاً لذلك البيوع الاربعة وعرفنا ما هي البيوع الأربعة، اليوم نبين ما يتعلق بهذه البيوع الاربعة من أحكام. - فيقول المؤلف - رحمه الله -: - ولابد في جميعها من معرفة المشتري رأس المال. لابد لصحة هذه البيوع أن يعرف المشتري وأيضاً البائع، لكن المؤلف - رحمه الله - اكتفى بالمشتري لأن البائع غالباً ما يكون عارفاً بالثمن، لكن في الأصل يشترط معرفة البائع والمشتري لرأس المال، بأن يخبر البائع المشتري عن رأس المال. علة هذا الوجوب: - أن معرفة الثمن من شروط صحة البيع كما تقدم معنا، ولا يمكن أن تعرف قيمة هذه السلعة إلا إذا عرف رأس المال، لأنه يبيع برأس المال إما بزيادة أو نقص أو مساوياً، ولا يمكن أن نعرف الثمن إلا إذا عرفنا رأس المال. فإذاً بيوع التولية والمرابحة والشركة والمواضعة لا تصح إلا إذا بين البائع للمشتري رأس المال، والسبب في ذلك كما قلت: أن معرفة الثمن من شروط صحة البيع، ولا يمكن معرفة الثمن في هذه البيوع الأربعة إلا إذا عرف مقدار رأس المال. * * مسألة/ ظاهر كلام المؤلف - رحمه الله - أنه يثبت الخيار للمشتري في هذه البيوع الأربع إذا بان أقل أو أكثر، إذا بان الأمر على خلاف ما أخبر به البائع: بين الإمساك والرد. وقد خالف المؤلف - رحمه الله - المذهب في هذه المسألة. عرفنا ما هو قول المؤلف - رحمه الله - وهو ثبوت الخيار بين الإمساك والرد، وباقي أن نعرف المذهب الذي خالفه المؤلف - رحمه الله -.

= فالمذهب أن البيع في هذه البيوع الاربع يصح ويقع لازماً ولو أخبر البائع بخلاف الصدق، لكنه يصح ويلزم مع حط الثمن، أي: مع حط المقدار الزائد الذي أخبر به البائع على غير وجه الصدق، ومع حطه أي: الزائد، ومقدار الربح في المرابحة، ومع حطه ومقدار الخسارة في المواضعة. المثال الموضح: ـ إذا باع شخص على شخص سلعة وأخبره أن رأس المال فيها مائة وباعها تولية، فكم الثمن؟ مائة، ثم إذا تبين أن القيمة الحقيقية لهذه السلعة هي ثمانون، فعلى قول المؤلف - رحمه الله -: للمشتري الخيار بين الإمساك والرد، وعند الحنابلة ليس له خيار وإنما يقع البيع لازماً ولكن له أن يحط مقدار الزيادة، فيصبح السعر: بثمانون. كذلك في المرابحة والمشاركة والمواضعة، ففي المرابحة مثلاً: إذا باع عليه السلعة مع ربح عشرة بالمائة، ونحن عرفنا أن المرابحة هي البيع مع ربح معلوم، فإذا باع عليه مع ربح معلوم وهو عشرة بالمائة - في المثال - وأخبره أن رأس المال مائة، فكم الثمن؟ مائة وعشرة، ثم إذا تبين أن الثمن الحقيقي يعني: رأس المال هو: تسعون، فسنحط من الثمن الأصلي عشرة ومن مقدار الربح عشرة بالمائة: واحد لأنك ستنقص من مقدار الربح، فستنقص من رأس المال وستنقص من مقدار الربح بنفس القيمة الحقيقية، فسيدفع بدل مائة وعشرة تسعة وتسعون، فسيدفع بعد خصم ما يقابل رأس المال وما يقابل نسبة الربح، وهكذا في الشركة وفي الوضيعة نفس الشيء، فلو باع وضيعة، يعني: برأس المال وخسارة عشرة بالمائة، ففي المثال إذا أصبح تسعين فسيكون الثمن ثامنين وننقص عشرة بالمائة، وهكذا نجري المثال كما قلنا في المرابحة. هذا هو القول الثاني وهو الذي يمثل المذهب. دليل الحنابلة: - قالوا: أنه إذا ظهر أن البائع تولية أو مرابحة لم يخبر برأس المال على الوجه المطلوب ثم تبين أنه أقل فإن هذا لم يزد المشتري إلا ربحاً، فهو قد رضي بشراء السلعة في المثال بمائة وعشرة والآن أصبحت بتسعة وتسعين، فإذا هذا البيان لم يزد المشتري إلا خيراً، فلا يثبت له الخيار وإنما له أن يحط من الثمن فقط.

وإذا تأملت وجدت أن قولهم قوي جداً وأنه لا معنى لإثبات الخيار بين الفسخ والرد للبائع في مثل هذه الصور لأنه رضي بالأكثر فكيف لا يرضى بالأقل. = القول الثالث: أنه يثبت الخيار للمشتري مطلقاً. - لأن المشتري يخشى أن البائع كما خان في الثمن الأول يخون في الثمن الثاني. - ولأن المشتري قد يكون له غرض في الثمن الأول الذي تبين أنه ليس بصحيح. فيثبت له الخيار. من أمثلة أن يكون له غرض في الثمن الأكثر أن يكون المشتري قد حلف أن يشتري هذه السلعة بهذا الثمن فهو لا يخرج من يمينه إلا إذا اشتراها بالثمن الأول، فالذي يحقق غرض المشتري هو الثمن الأكثر في مثال المرابحة. الراجح: الراجح هو المذهب، وأنه لا يثبت الخيار، بل له فقط أن يحط بمقدار الزيادة، إلا إذا تبين أن هناك سبباً يقتصي ثبوت الخيار كالأمثلة المذكورة في القول الثاني. إذاً نقول الأصل أنه لا يثبت الخيار إلا إذا وجد ما يدعو إلى إثبات الخيار فحينئذ نثبت الخيار، وإلا من حيث الأصل أنه لا خيار، ومذهب الحنابلة وجيه جداًومتوافق مع المنطق وقل أن يكون للمشتري غرض بأن يشتري بأكثر من السعر الذي حصل له بعد اكتشاف خيانة البائع، فهذا قل أن يقع، والحكم في الشرع للغالب لا للنادر، فنحن نقول: الراجح أنه لا خيار والبيع لازم وإنما يحط له من القيمة بمقدار ما زاد البائع. - ثم قال - رحمه الله -: - وإن اشتراه بثمن مؤجل. يعني: وإن اشترى البائع هذه السلعة بثمن مؤجل ولم يبين للمشتري أنه اشترى هذه السلعة بهذا الثمن لكن مؤجلاً، فإنه يثبت للمشتري الخيار بين الإمساك والرد، وهذا عند المؤلف - رحمه الله -. مثال ذلك: إذا اشترى زيد سلعة (سيارة) بمائة ألف أقساط ثم ذهب يبيع هذه السيارة تولية، و ... للمشتري الجديد أنه اشترى هذه السيارة بمائة ألف وأنه سيبيع عليه بمثل ما اشترى به يعني تولية، فيقوم المشتري ويدفع مائة ألف ثم يتبين بعد ذلك أنه اشترى هذه السيارة بثمن مؤجل، فعند المؤلف - رحمه الله - للمشتري الثاني الخيار بين الفسخ والرد لأنه تبين أن البائع غشه بإخبار الثمن من حيث الصفة لا من حيث المقدار.

= والقول الثاني: أنه لا يثبت للمشتري الخيار بل يقع البيع لازماً ولكن للمشتري الثاني الأجل الذي يساوي أجل البائع الأول. فنثبت للمشتري نفس الأجل الذي ثبت للبائع ونجعل البيع لازماً. - لأن المشترب الثاني لم يزده هذا الحكم إلا خيراً فإنه اشترى في الأول مائة نقداً والآن اشترى بمائة مؤجلاً، وهذا فيه زيادة خير للمشتري كما قلنا في المسألة السابقة. وهذا هو الراجح، إل في صورة واحدة وهي إذا دخل الضرر على المشتري بسبب التأجيل فحينئذ له الرد، يعني: الفسخ. من أبرز وأوضح وأشهر الأمثلة على أن يدخل الضرر على المشتري بسبب تمكينه من الشراء مؤجلاً: أن يكون هذا سبباً في إضاعة المال، لأن بعض الناس إذا بقي المال بيده ضاع عليه وصرفه في ما ينفع وما لا ينفع بينما إذا دفع نقداً صار هذا سبباً في حفظ المال، فإذا كان هذا البائع الثاني من الناس الذين لا يحسنون التصرف بالمال فلاشك أن تمكينه من البيع المؤجل فيه إضاعة للمال عليه، فحينئذ يثبت له الخيار بين الفسخ والرد، ولا نقول: إذا خشي من تلف المال فليدفع المال نقداً، لأن البائع باع عليه تولية برأس المال وكتم عنه التأجيل، فثمن هذه السلعة في الواقع إذا أراد أن يشتريها نقداً أقل من مائة، فإذاً لا يجوز أن نلزمه بالدفع إذا كان يضره الانتظار بل له الفسخ لأنه مظلوم. - ثم قال - رحمه الله -: - أو ممن لا تقبل شهادته له. معنى هذه العبارة: أي إذا اشترى البائع ممن لا تقبل شهادته له كأبيه وابنه وزوجته ولم يخبر المشتري أنه اشترى من هذا الشخص، فحينئذ يثبت للمشتري الثاني الخيار بين الإمضاء والإمساك وبين الرد والفسخ. وهذا الحكم عند المؤلف - رحمه الله - وعند الحنابلة، فالمؤلف - رحمه الله - لم يخالف في هذا الحكم الحنابلة، وإنما خالفهم في مسألة البيع المؤجل، وفي مسألة بيوع التولية إذا أخبر بخلاف الواقع.

التعليل في أنه يثبت له الخيار أن الإنسان إذا باع واشترى مع مثل هؤلاء، مع من لا تقبل شهادته له فإنه غالباً سيراعيه ويجامله وهذا يكون على حساب المشتري الجديد، فالواجب أن يخبر المشتري الجديد أنه اشترى هذه السلعة بهذا الثمن لكن ممن لا تقبل شهادته له، وهذا يؤكد ما تقدم معنا في الدرس السابق أن هذه البيوع - البيوع بتخبير الثمن - أضيق من بيوع السوم، لأنه ملزم بالإخبار عن التفاصيل الدقيقة حتى أنه يجب عليه أن يخبر ممن اشترى إذا كان لهذا أثر على الثمن كما في هذا المثال. فهو في الحقيقة ما ينبغي أن الإنسان يبيع بيوع تخبير إلا إذا بين كل شيء حتى ما يظن هو أنه ليس له علاقة. ثم قال - رحمه الله -: - أو بأكثر من ثمنه حيلة. يعني: إذا اشتارى البائع هذه السلعة بأكثر من ثمنها حيلة ليرجع فيبيع هذه السلعة تولية على شخص آخر. مثاله: أن يشتري الشخص من غلامه الذي أعتقه بثمن مرتفع حيلة فيشتري السيارة التي تقدر بسبعين بمائة ويعطي الثمن لغلامه وهو إذا أعطى الثمن إنما يعطيه لغلامه الحر وهم قالوا الحر لأن العبد لا يشتري من سيده ولا يشتري سيده منه ثم يذهب إلى السوق ويبيع هذه السلعة بيع تولية بمائة وهذه الزيادة حيلة ليتمكن من تصريف هذه السلعة بثمن أكبر من ثمنها الحقيقي، ففي مثل هذه الحالة يثبت الخيار للمشتري بين الإمساك والرد ويعتبر هذا العمل من الغش والخداع للمسلمين، لأنه لا شك خدعه وغشه بأن يشتري بأكثر من ثمنها حيلة.

ـ من ذلك أيضاً وهو أقبح من هذه السورة: أن يشتري من شخص آخر من أجنبي بثمن مرتفع ويتفقا أن الربح الذي يحصل بعد ذلك إذا باعه تولية يقسم بينهما. فيأتي لزيد ويقول: سأشتري منك هذه السلعة بثمن أكثر من ثمنها الحقيقي ليتمكن من بيعها تولية وأقول اشتريت برأس المال لأن كثيراً من الناس إذا جاء ورأى التاجر الذي يعرف الأسعار وقال له التاجر أنا اشتريت هذه السلعة بهذا الثمن سأبيعها بنفس الثمن يتشجع لأنه يعلم أن هذا التاجر لم يخدع فيقول إذا كان هذا التاجر اشترى بهذا السعر فأنا أشتري بهذا السعر فإذا كان التاجر زاد في السعر حيلة ليتمكن من أخذ ربح زائد على الثمن الحقيقي للسلعة فهو حيلة محرمة وهو آثم وللمشتري إذا تبين الأمر الخيار بين الإمساك والرد. وألحق الفقهاء ثلاث صور ذكرها في الشرح: ـ الصورة الأولى: المحاباة. أن يشتري بثمن مرتفع محاباة لا حيلة، يعني: أن يأتي شخص إلى رجل فقير يبيع السلع ويشتري منه السلعة التي تقدر بخمسين بمائة محاباة وإعانة له، نقول له: أنت محسن بالإعانة لكن إذا أردت أن تبيع هذه السلعة بتخبير الثمن فيجب أن تخبر برأس المال وأنك اشتريت هذه السلعة محاباة وإعانة للبائع، فإن لم يخبر فإنه يثبت أيضاً للمشتري الخيار بين الإمساك والرد. - والصورة الثانية: إذا اشترى لرغبة تخصه. إذا كان في السلعة رغبة تخص هذا المشتري الأول بالذات وأما سائر الناس فلا تعنيهم هذه الصفة فإذا أراد الإنسان أن يشتري لرغبة تخصه فسيشتري السلعة مهما ارتفع الثمن، وإن ارتفع عن السعر المعتاد بالنسبة لهذه السلعة لأن فيها صفة خاصة تخصه هو، فإذا اشترى على هذه الطريقة فيجب عليه أن يبين أنه اشتراها لوجود صفة خاصة به وأن سعر هذه السلعة في السوق ليس بهذا الارتفاع الذي اشتراها هو به.

وهذا موجود كأن يشتري سيارة لصفة تخصه هو ولا تخص الناس أو يشتري كتاباً وهذا قد يقع - يخصه هو ولا يخص الناس، مثال ذلك وهو كثير أن يشتري الإنسان مخطوطة باهضة الثمن لأن له فيها حاجة خاصة بأن يراجع مسألة لا توجد إلا في هذا المخطوط أو لأي غرض بينما سائر الناس لا تعنيهم هذه المخطوطة لا من قريب ولا من بعيد فليست من المخطوطات النفيسة ولا فيها زيادة عن غيرها، فإذا أراد أن يبيع وأراد ن يبيع بتخبير الثمن فيجب أن يخبر أنه اشتراها لصفة خاصة به. - والمثال الأخير: إذا اشترى في موسم يفوت. إذا اشترى في موسم ترتفع فيه بعض السلع ثم فات فلا يجوز له أن يبيع بتخبير الثمن بدون أن يخبر أنه اشترى هذه السلعة في موسم فات. مثال ذلك: مع بداية الدراسة موسم للأدوات القلمية، ومع قرب الحج موسم لأشياء كثيرة مثل السيارات الكبيرة والهدي والأضاحي التي تهدى للحرم. فإذا اشتراها بثمن مرتفع بسبب أنها في موسم الحج ثم أراد أن يبيع هذه السلعة فلا يجوز أن يبيع بتخبير الثمن إلا إذا أخبر ألأنه اشتراها في الموسم. - ثم قال - رحمه الله -: - أو باع بعض الصفقة بقسطها من الثمن ولم يبين ذلك في تخبيره بالثمن: فلمشتر الخيار بين الإمساك والرد. أو باع بعض الصفقة بقسطها من الثمن ولم يبين ذلك في تخبيره بالثمن، يعني: ثبت للمشتري الخيار بين الإمساك والرد. صورة هذه المسألة: إذا اشترى الإنسان شيئين بصفقة واحدة بثمن واحد، ثم أراد أن يبيع أحد هذين الشيئين بقسطه من الثمن فإنه يجب عليه وجوباً أن يخبر أنه اشترى هذه السلعة صفقة، يعني: مع سلعة أخرى، بهذا القيد: أن يكون بثمن واحد. لماذا؟ تعليل أنه يجب أن يخبر: التعليل أن تقسيط الثمن على السلعتين مما تختلف فيه الأنظار وهو من الظن والاحتمال وليس من القطع فيجب أن يعلم المشتري أن تقسيم وتقسيط الثمن على السلعتين قام به البائع حتى يقرر هو هل يشتري أو لا يشتري.

ويستثنى من هذا صورة واحدة: إذا كان البائع الأول اشترى سلعتين متطابقتين تماماً فحينئذ لا يجب عليه حتى لو باع بتخبير الثمن أن يخبر أنه اشترى هذه السلعة صفقة، لأن هذه السلعة كالسلعة الأخرى تماماً فالثمن يقسم على السلعتين بالمناصفة ولا إشكال ولو لم يخبر بالثمن أما إذا اشترى مثلاً سيارتين من نوعين مختلفين صفقة يعني بسعر واحد ثم هو يرى أن هذه السيارة لها ثلث الثمن وهذه السيارة لها ثلثا الثمن وأراد أن يبيع بتخبير الثمن فيجب أن يخبر المشتري الجديد أن تقدير الثمن من سعر الصفقة قام به هو حتى ينظر المشتري الجديد إن رأى أن هذا التقسيم صحيح قبل وإلا رد. إذاً: هذا هو الحكم. يقول المؤلف - رحمه الله: في الصور السابقة جميعاً من قوله: (وإن اشتراه بثمن مؤجل) هذه المسألة الأولى، والثانية: (أو ممن) والثالثة: (أو بأكثر) والرابعة: (أو باع بعض الصفقة) فالحكم في الصور جميعاً: فلمشتر الخيار بين الإمساك والرد. لما تقدم من أن هذه الأعمال تعتبر من الغش والخيانة والخديعة التي تثبت للمشتري الجديد الخيار بين الإمساك والرد. وتقدم معنا أن المؤلف - رحمه الله - متوافق مع الحنابلة في المسائل الثلاث الأخيرة وأنه يختلف مع الحنابلة في المسألة الأولى، ففي المسألة الأولى تقدم أن الصواب أنه لا يثبت للمشتري الخيار وهو المذهب وتقدم معنا. - ثم قال - رحمه الله -: - وما يزاد في ثمن أو يحط منه في مدة خيار. المقصود هنا: خيار الشرط أو خيار المجلس. فإذا اشترى الإنسان السلعة بثمن معين ثم في مدة الخيار زاد في الثمن أو نقص فإنه يجب على البائع بتخبير الثمن أن يخبر المشتري الجديد بالسعر الأول والزيادة ولا يكتفي بالسعر الأول دون الإخبار بالزيادة أو بالنقص، والتعليل: أن الزيادة أصبحت جزءاً من الثمن الذي هو رأس المال والذي يجب أن يبين في بيوع التخبير، فيجب عليه أن يبين فإن لم يبين يثبت للمشتري الخيار.

مثال هذا: إذا اشترى أرضاً بمائة ألف ثم في مدة خيار المجلس - إن تصور المثال - أو في مدة خيار الشرط وهو يتصور كثيراً ارتفعت الأسعار فجأة فحينئذ سيقول البائع للمشتري إما أن تزيد في الثمن أو أستعمل خيار الشرط وأبطل البيع، فإذا زاد في الثمن واشترى المشتري مع الزيادة فعليه إذا أراد أن يبيع أن يبين رأس المال الأصلي مع الزيادة وكذلك رأس المال الأصلي مع النقص. - ثم قال - رحمه الله -: - أو يؤخذ أرشاً لعيب أو جناية عليه: يلحق برأس ماله ويخبر به. يعني: وإذا أخذ البائع مع الثمن أرشاً عن العيب أو أرشاً على الجناية على المبيع فإنه يجب عليه أن يبين إذا أراد أن يبيع بالتخبير الثمن الأصلي والأرش المضاف على الثمن. وقال الحنابلة في هذه الصورة: يجب أن يبين على وجهه، معنى ذلك: أن يقول: اشتريت هذه السلعة بمائة وأخذت أرش العيب ثلاثين، صارر الثمن: سبعين، فلا يجوز له أن يقول: ثمن هذه السلعة سبعين، بل يجب أن يقول: اشتريت هذه السلعة بمائة وأخذت أرش العيب ثلاثين، فأصبح الثمن سبعين. كذلك الجناية على المبيع: فلو جنى على المبيع الذي اشتراه بمائة وكانت قيمة الجناية ثلاثين فستكون قيمة المبيع سبعين، فيجب أن يبين بالتفصيل ما حصل له. هذا هو مذهب الحنابلة. = والقول الثاني: أن له أن يحط الأرش من السعر ويخبر بالباقي، لأن هذا حقيقة السلعة فهي الآن أصبحت بسبعين كما في المثال - مثلاً - وهو إذا أخبر فإنما يخبر بالواقع. وهذا القول - من وجهة نظري - ضعيف جداً بل يجب أن يخبر بالتفصيل لأن النقص الذي كان بسبب العيب ينقص السلعة، ثم هل يستوي أن يشتري الإنسان السلعة ابتداء بسبعين وبين أن يشتري السلعة بمائة ثم يكتشف عيب ويأخذ أرش هذا العيب وتصبح بسبعين هل يستوي هذا عند المشتري الجديد أن يعلم أو أن لا يعلم ذلك؟ قطعاً أنه لا يستوي فإنه في المثال الثاني ستنقص السلعة لأن نقصان السعر صار بسبب العيب أو بسبب الجناية وكل منهما يسبب نقصان مالية السلعة. فالصواب: كما قال الحنابلة أنه يجب أن يخبر بدقة وتفصيل، وإذا استثقل هذا التفصيل وهذه الدقة فليبع مساومة ولا يبع بتخبير الثمن. - ثم قال - رحمه الله -:

- وإن كان ذلك بعد لزوم البيع: لم يلحق به. الإشارة بذلك: فقط إلى مسألة الزيادة والنقص في الثمن دون أخذ أرش العيب أوالجناية فأخذ أرش العيب أو الجناية يجب أن يخبر به مطلقاً ولو بعد العقد. أما الزيادة والنقص فيجب أن يخبر بها قبل العقد يعني قبل تمام العقد ولا يجب أن يخبر بها بعد تمام العقد. لماذا؟ - أما وجوب الإخبار بأرش العيب وأرش الجناية فلأن هذا أصبح جزءاً من الثمن الذي يجب أن يخبر به وهذا لا يختلف أن يكون بعد أو قبل العقد. - وأما عدم وجوب الإخبار بالزيادة والنقص بعد العقد لأن هذه الزيادة أو النقص في الحقيقة ليست من الثمن وإنما هي تبرع. مثال ذلك: إذا اشترى زيد من عمرو سلعة بمائة ريال ثم لما أراد عمرو أن يسلم مائة ريال قال زيد يكفي أن تسلم تسعين بعد تمام العقد وانتهاء خيار الشرط وخيار المجلس. في الحقيقة خصم هذه العشرة إنما هي تبرع وليس لها علاقة بقيمة المبيع، فلا يجب على البائع بتخبير الثمن أن يقول أنه خصم لي في هذه السلعة كذا وكذا لأن هذا تم بعد العقد. وهذا هو مذهب الحنابلة وهو وجيه ومع ذلك أقول: لو أنه أخبر بذلك لكان هو الأولى ما دام يبيع بتخبير الثمن لماذا؟ لأن الغالب أن البائع الأول إنما يحط من الثمن لأنه غالباً يكون رفع سعر السلعة فإذا أراد أن يستلم الثمن الباهض حط له من السعر اختياراً لكن مراعياً سعر السلعة في السوق فينبغي ويتأكد حتى ولو كان بعد العقد إذا حط البائع الأول من الثمن أن تخبر بذلك إلا فتجنب قضية البيع بتخبير الثمن. - ثم قال - رحمه الله -: - وإن أخبر بالحال فحسن. يعني: في الأحوال التي لا يجب أن يخبر فيها بالحال فالأولى والأحسن أن يخبر لأن هذا أكمل في الورع وأقرب إلى الصدق. وبهذا انتهى النوع السادس من الخيار ونبدأ بالنوع السابع. - قال - رحمه الله -: - السابع: خيار لاختلاف المتبايعين.

النوه السابع هو الخيار الذي يثبت بسبب اختلاف المتبايعين ولاحظ أن المؤلف - رحمه الله - أطلق الاختلاف لأنه سيبين أنواع هذا الاختلاف إذ قد يكون الاختلاف في قدر الثمن وقد يكون في قدر المثمن وقد يكون في نوع السلعة وقد يكون في نوع الثمن وقد يكون في اشتراط شرط وقد يكون في التأجيل وقد يكون في الرهن. إذاً أنواع الاختلافات بين البائع والمشتري كثيرة ولذلك أطلق ثم سيبين كل نوع على حدة. بدأ الشيخ بالاختلاف المتعلق بقدر الثمن وإنما بدأ به المؤلف - رحمه الله - لأنه أكثر أنواع الاختلافات بين المتبايعين فإن الاختلاف غالباً هو في القيمة في قدر الثمن، قد يكون فيه اختلاف في السلعة وسيأتينا لكن الغالب أنه في قدر الثمن. = المذهب: - يقول المؤلف - رحمه الله -: - فإذا اختلفا في قدر الثمن تحالفا. إذا اختلفا في قدر الثمن فالحكم عند الحنابلة أن يحلف كل منهما - سيأتينا من يبدأ وكيف يبدأ؟ - لكن نحن الآن معنيون بالحكم الأصلي تحالفا ثم إذا لم يرض أحدهما بقول الآخر انفسخ البيع. هذا هو الحكم عند الحنابلة. ولو أن المؤلف - رحمه الله - قال: تحالفا ولكل الفسخ ثم بين طريقة الحلف لكان أوضح وأكمل في الحكم. على كل الآن نقول: إنه إذا اختلفا في قدر الثمن في قدر الثمن تحالفا ثم إذا لم يرض أحدهما بقول الآخر - كما سيأتينا - انفسخ البيع. الدليل: - قالوا: الدليل على هذا: أن كلاً من البائع والمشتري مدع لما ينكره الآخر فكل منهما مدع من وجه ومنكر من وجه آخر. والنبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: (البينة على المدعي، واليمين على من أنكر) وهنا كل منهما منكر، فاليمين على كل منهما. هذه وجهة نظر الحنابلة. = القول الثاني: أن القول قول البائع ليمينه أو يترادان. واستدل هؤلاء: - بقول النبي - صلى الله عليه وسلم - في حديث ابن مسعود - رضي الله عنه -: (إذا اختلف البيعان فالقول قول البائع أو يترادان). فالحديث نص وهو حديث صحيح. = والقول الثالث: أن القول قول المشتري. - لأنه منكر لوجوب الثمن عليه، وفي الشرع القول قول المنكر بيمينه. والراجح والله أعلم القول الثاني. لأن حديث ابن مسعود نص في المسألة.

لكن أشار الشيخ الفقيه ابن قدامة إلى شيء لو تأملت أنت أيضاً لوجدته وهو أن القول الأول والقول الثاني في المعنى متقاربان جداً أو متفقان، لأن القول الثاني القول قول البائع لكن إذا لم يرض المشتري يترادان بنص الحديث وفي القول الأول يتحالفان وإذا لم يرض أحدهما بالقول الآخر أيضاً فسخ البيع. فهما في الحقيقة متقاربان لكن نقول ما دام النبي - صلى الله عليه وسلم - أثبت القول للبائع فنحن نقول للمشتري القول قول البائع إن رضيت وإلا خذ الثمن وانصرف. إذاً القول الراجح هو القول الثاني مع العلم أن القول الأول والثاني متقاربان. - ثم قال - رحمه الله -: مبيناً كيفية الحلف: - فيحلف بائع أولاً. يجب أن يبدأ البائع بالحلف. لأمرين: - الأمر الأول: أن جانبه أقوى لأن السلعة سترجع إليه عند الفسخ وهذا نوع قوة في جانبه. - والأمر الثاني: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - في حديث ابن مسعود جعل القول قول البائع يعني بيمينه فإذاً نبدأ به. = والقول الثاني: أنا نبدأ بالمشتري. لأنه منكر. والصحيح مذهب الحنابلة: أنا نبدأ بالبائع. لأن جانبه أقوى لاشك لا سيما مع وجود حديث ابن مسعود. - ثم قال - رحمه الله -: - ((مَا بِعْتُهُ بِكَذَا وَإِنَّمَا بِعْتُهُ بِكَذَا)). اشتملت العبارة على أن يمين البائع يجب أن يشتمل على نفي وإثبات ويجب أن يبدأ بالنفي. أما اشتماله على النفي والإثبات فلتحقيق السعر لأنا نطلب من البائع أن يثبت السعر الذي يدعيه وأن ينفي السعر الذي يدعيه المشتري وأما أنه يبدأ بالنفي فلأن شأن اليمين في الدعاوى أنها للنفي لأن البينة على المدعي واليمين على من أنكر فهو ينكر وينفي فلذلك دائماَ الشأن في أيمان الدعاوى أن يبدأ بالنفي. وما ذكروه وجيه سواء لاشتماله على نفي وإثبات وأيضاً البدء بالنفي فهو وجيه ولا ضرر بإلزام البائع بهذا ولا يفوت عليه المقصود. - ثم قال - رحمه الله -: - ثم يحلف المشتري: ((مَا اشْتَرَيْتُهُ بِكَذَا وَإِنَّمَا اشْتَرَيْتُهُ بِكَذَا)).

ما قيل في البائع يقال في المشتري تماماً فإن السبب الذي جعلنا نقدم البائع هو السبب الذي جعلنا نؤخر المشتري، وأما مسألة أن يجمع بين النفي والإثبات وأن يبدأ بالنفي للعلل السابقة. - ثم قال - رحمه الله -: - ولكل الفسخ: إذا لم يرض أحدهما بقول الآخر. إذا تحالفا لا يخرج الأمر عن أنواع: ـ النوع الأول: أن ينكل أحدهما عن اليمين. فإذا قلنا لهما تحالفا وأحدهما قال لن أحلف فالحكم إذا نكل أحدهما عن اليمين أن القول قول الآخر. والدليل على ذلك: قصة ابن عمر مع زيد وعثمان رضي الله عنهما فإن ابن عمر لما رفض اليمين حكم عليه عثمان ورد السلعة. ـ الثاني: أن يتحالفا ثم يرضى أحدهما بقول الآخر فيسلم ويقول فعلاً ما ذكره الآخر صحيح فحينئذ يقع البيع لازماً وينفذ وتنتهي الدعوى. ـ الثالث: أن يتحالفا ولا يرضى أحدهما بقول الآخر فحينئذ وهو الذي يريد المؤلف - رحمه الله - أن يشير إليه يحصل فسخ للعقد وينتهي العقد ويأخذ البائع السلعة والمشتري الثمن. لماذا؟ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: (أو يترادان). فإذا لم يرض أحدهما بقول الآخر فسخ البيع. - قال - رحمه الله -: - ولكل الفسخ: إذا لم يرض أحدهما بقول الآخر. الفسخ لا يحصل بمجرد التحالف وإنما لا يحصل الفسخ إلا بتصريحهما بالفسخ فإذا انتهى التحالف نقول لهما: هل رضي أحدكما بقول الآخر؟ فإذا قالا: لا. فماذا نقول؟ افسخا العقد. لماذا؟ لأن هذا العقد عقد صحيح لازم مستوفي الشروط ر نفسخ بمجرد التحالف وإنما يحتاج إلى فسخ بإرادة المشتري والبائع. إذاً نقول لا يقع الفسخ بمجرد التحالف بل لابد من التصريح بالفسخ، ولا يقع الفسخ أيضاً بمجرد عدم الرضا بل لابد من الفسخ، وهذه تدقيقات عند الفقهاء لكن بالنسبة للعوام الأمر يرجع للعرف إذا رأى أنهما تفاسخا بمجرد اليمين أو بعدم الرضا بالثمن أو بالسلعة حصل الفسخ لأن الفسخ أمر يرجع إلى عرف الناس. - ثم قال - رحمه الله: - فإن كانت السلعة تالفة: رجعا إلى قيمة مثلها، فإن اختلفا في صفتها: فقول مشتر. هذه المسائل ملحقة بمسألة اختلاف المتبايعين. المسألة الأولى يقول - رحمه الله -: فإن كانت السلعة تالفة: رجعا إلى قيمة مثله.

إذا اختلفا في السلعة ثم تلفت فإنهما يتحالفان على التفصيل السابق تماماً فإن رضي أحدهما بالقول الآخر وإلا انفسخ العقد. إذاً لماذا أعاد المؤلف - رحمه الله - هذه المسألة مع أن لها نفس حكم المسألة الأخرى؟ ليبين ما هو العوض، وهو قوله: (رجعا إلى قيمة مثلها) أما الاختلاف في السلعة سواء كانت تالفة أو ليست بتالفة فهو واحد: أنهما يتحالفان ثم يحصل الفسخ. = القول الثاني: في هذه المسألة إذا تلفت السلعة أنهما لا يتحالفان وإنما القول قول المشتري. - لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (إذا اختلف المتبايعان والسلعة قائمة فالقول قول البائع أو يترادان) فمفهوم الحديث أنه إذا كانت السلعة ليست قائمة فالقول قول المشتري. والصحيح: الأول وأن حكم هذه المسألة حكم المسالة السابقة والجواب عن هذا الحديث أن الإمام أحمد حكم على هذه الزيادة بالضعف والشذوذ وأن الرواة الذين رووا هذا الحديث لم يزيدوا هذه الزيادة وإنما زاده رجل واحد فيه ضعف. الخلاصة: أن هذه الزيادة ضعفها الإمام أحمد. إذاً تبين معنا حكم الإختلاف على السلعة التالفة. - قال - رحمه الله -: - رجعا إلى قيمة مثلها. ظاهر كلام المؤلف - رحمه الله - أنه إذا تلفت السلعة نرجع إلى قيمة المثل مباشرة بدون نظر هل يوجد مثلها أو لا يوجد؟ وهذا مذهب عامة الحنابلة فجماهير الحنابلة يرون أنه في هذه الصورة نرجع إلى القيمة لا إلى المثل. = وذهب أحد الحنابلة وهو الشيخ مجد الدين بن تيمية إلى أنه في هذه الصورة ننظر إن كان للسلعة مثل أتينا بالمثل وإلا رجعنا إلى القيمة، فنبدأ بالمثل، فإن لم يوجد رجعنا إلى القيمة. وما اختاره الشيخ - هذا الشيخ الجليل - هو الصحيح، فما دام أنا نستطيع أن نوجد مثل هذه السلعة فلماذا نذهب إلى القيمة؟ وهذا الشيخ - مجد الدين - له ترجمة في ذيل طبقات الحنابلة بينه وبين ابن قدامة مراسلات لطيفة جداً طيب أن طالب العلم يطلع عليها فيها من العلم والأدب شيءٌ كثير جداً، فقد حصل بينهما مراسلات كثيرة في مسألة من المسائل وكتب له الشيخ ابن قدامة كتاب ينضح بالأدب والعلم والتواضع مع أنه يخالفه وبين له قوله وأدلته. ((الأذان)) .. - قال - رحمه الله -:

- فإن اختلفا في صفتها فقول مشتر. فإن اختلفا في صفتها فقول مشتر) الضمير في صفتها يعود للسلعة التالفة، يعني: إذا اختلفوا في صفة هذه السلعة التالفة فزعم البائع أن صفتها كذا والمشتري أن صفتها كذا فالقول قول المشتري. لماذا؟ لأن القاعدة عند الفقهاء أن القول قول الغارم دائماً، فإذا اختلف اثنان أحدهما غارم والآخر غير غارم فالقول قول الغارم. ما هو دليل هذه القاعدة؟ دليل هذه القاعدة: القاعدة الأخرى المتفق عليها: وهي: أن الأصل براءة الذمة. فإذا تلفت السلعة وزعم البائع أن - مثلاً - العبد - لو كانت السلعة كاتب - وزعم المشتري أن العبد عامي لا يكتب ولا يقرأ فالقول قول المشتري. لماذا؟ لأنه غارم. وجه الغرم: أنه إذا أثبتنا هذه الصفة فقيمة هذا المتلف سترتفع، ونفي الشيء في السلع الأخرى: السيارات المطعومات فكل صفة يزيد بها الثمن. وكذلك: لو زعم البائع أن المشتري اشترى منه سيارتين والمشتري يقول اشتريت سيارة واحدة فالقول قول المشتري. لماذا؟ لأنه غارم. لأنا لو أخذنا بقول البائع للزم أن يدفع المشتري قيمة سيارتين فهو غارم فالقول قوله. هذا من حيث الأصل والقاعدة، أما إذا دلت القرائن والبينات والأدلة على خلاف ذلك فلا شك أن القاضي سيأخذ بالبينات والأدلة، لكن الأصل أن القول قول المشتري. - ثم قال - رحمه الله -: - وإذا فسخ العقد: انفسخ ظاهراً وباطناً. يعني: في حق المشتري والبائع، لأن هذا الفسخ إنما ثبت لحق من عليه الظلم دفعاً لهذا الظلم، وهذه المسألة تحتاج إلى مزيد تفصيل نرجئها للدرس القادم.

شرح كتاب البيع الدرس رقم (13) قال شيخنا حفظه الله: بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين. - قال - رحمه الله -: - فإذا فسخ العقد انفسخ ظاهراً وباطناً. تقدم معنا بالأمس أن الحنابلة يرون أنه في الصور التي نحكم فيها بانفساخ العقد فإن العقد ينفسخ في الظاهر والباطن. ومعنى الظاهر والباطن: يعني في أحكام الدنيا وأحكام الآخرة وهذا بالنسبة للمشتري وبالنسبة أيضاً للبائع. دليل الحنابلة على هذا: - أن هذا الفسخ ثبت لتلافي الظلم الواقع في وجود الخلل فهو مقيس على الفسخ بالعيب والفسخ بالعيب يقع ظاهراً وباطناً في حق المشتري وفي حق البائع. = والقول الثاني: أن الفسخ يقع فسخاً في الظاهر والباطن في حق الصادق ويقع فسخاً في حق الظاهر فقط بالنسبة للكاذب. ويكون أخذه لما أخذ أي الكاذب ظلماً وتصرفه كتصرف الغاصب. - لأن ليس له حق في أخذ هذا الثمن أو المثمن حسب ما يكون الكاذب. إذاً القول الثاني أنه فسخ في الظاهر والباطن في حق الصادق دون الكاذب. سواء كان البائع أو المشتري - يعني سواء كان الكاذب البائع على المشتري فإنه لا ينفسخ في حقه إلا ظاهراً دون الباطن ويحاسب على هذا الغش يوم القيامة ويعاقب عليه. - ثم قال - رحمه الله: - وإن اختلفا في أجل أو شرط فقول من ينفيه. إذا اختلفا هل اشترطا هذا الشرط أو لم يشترطاه؟ أو هل أجل الثمن أو لم يؤجل؟ فإن القول قول من ينفيه: سواء كان النافي هو البائع أو النافي هو المشتري. والدليل على ذلك: - أن الأصل براءة الذمة والأصل العدم. ودائماً القول مع من يؤيده الأصل والظاهر. والقول الثاني: أنه إذا اختلفا في الشرط أو الأجل ونحوهما فإنهما يتحالفان على قاعدة المذهب السابقة. والراجح: أن القول قول من ينفيه. لأن الأصل عدمه. - ثم قال - رحمه الله: - وإن اختلفا في عين المبيع: تحالفا وبطل البيع. إذا اختلفا في عين المبيع: كأن يقول المشتري: اشتريت منك هذه السيارة. ويقول البائع: بل بعتك السيارة الأخرى. فالآن حصل اختلاف في عين المبيع. فالحكم: يقول المؤلف - رحمه الله -: (تحالفا وبطل البيع) الحكم: أنه ليس القول قول المشتري ولا القول قول البائع بل يتحالفان. الدليل؟ الدليل على ذلك: - أن كلاً منهما يدعي ما ينكر الآخر. فالبائع يدعي أن هذه هي السلعة والمشتري ينكر ذلك. والمشتري يدعي أن تلك هي والبائع ينكر ذلك. = والقول الثاني: أن القول قول البائع. - لقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: (إذا اختلفا المتبايعان فالقول قول البائع أو يترادان)

فالاختلاف في تعيين المبيع كالاختلاف تماماً في الثمن. والراجح إن شاء الله أنه القول قول البائع. وكما تقدم معنا التنبيه إلى ما ذكره ابن قدامة في المسألة السابقة وكذلك هنا وهو أن القول الأول والثاني متقاربان. - ثم قال - رحمه الله: - وإن أبى كل منهما تسليم ما بيده حتى يقبض العوض والثمن عين: نصب عدل يقبض منهما. إذا تم البيع بشروطه وأركانه وصح ولزم ثم اختلفا هل يبدأ البائع بتسليم السلعة أو المشتري بتسليم الثمن؟ ولم يتفقا فإنه ينصب لهما عدل يأخذ منهما ويسلم كل واحد منهما حقه. فلا نقدم المشتري ولا نقدم البائع. الدليل أنا لا نقدم أياً منهما؟ الدليل على ذلك: - أنهما استويا في الحق فلا وجه لتقديم أحدهما على الآخر. فصار الحكم أن ينصب عدل خارج عنهما ليستلم منهما ويسلم كل واحد منهما نصيبه. = والقول الثاني: أن المشتري يلزم بدفع الثمن. = والقول الثالث: أن البائع يلزم بدفع السلعة. والصواب: الأول. لأنه لا يوجد أي معنى يجعلنا نوجب على المشتري أن يبدأ ولا على البائع أن يبدأ. لأنهما مستويان. فالصواب إن شاء الله مع مذهب الحنابلة في هذه المسألة. - قال - رحمه الله -: - ويسلم المبيع ثم الثمن. يعني: يجب على العدل أن يسلم المبيع أولاً. لمن؟ للمشتري. ثم يسلم الثمن: للبائع. هكذا مذهب الحنابلة: أنه يبدأ بتسليم المبيع أولاً. = والقول الثاني: أن العدل يسلمهما معاً. فيسلم هذا الثمن وذاك السلعة في وقت واحد. وإذا تأملت تجد أن القول الثاني ينسجم مع المسألة الأولى لأنا إذا كنا نقول يجب أن ينصب رجل عدل يأخذ منهما ولا نلزم أحدهما أن يبدأ كذلك هذا العدل لماذا نلزمه أن نلزمه أن يبدأ بالسلعة قبل الثمن بأي شبء نستدل على هذا الإلزام؟ إذاً: الأقرب إن شاء الله: أن نقول يسلمهما معاً. ولا يخفى عليك إن شاء الله أن هذه المسألة إلى حد كبير: نظرية. يعني: يبعد أن يقع التنازع إلى درجة أن يقول أينا يسلم الثمن وأينا ...

ثم هذه المسألة قد لا نحتاج إليها من الأساس في وقتنا هذا لأنه إذا لم يركن أحدهما للآخر فبإمكانه أن يستخدم طريقة أخرى في السداد تضمن له إذا لم يستلم السلعة أن لا يستلم البائع الثمن بأن يكتب له شيك ومن خصائص الشيك أنه بإمكان محرر الشيك إيقاف التعامل به لاحقاً. فإذا أعطاه شيك ولم يستلم السلعة فبإمكانه بعد ذلك أن يوقف هذا التعامل. وهذا أولى وأحسن وابعد من إقامة عدل يستلم منهما ثم يسلمهما معاً. إذاً بالإمكان تفادي هذا الاختلاف في وقتنا هذا باستخدام طرق أخرى في السداد. - ثم قال - رحمه الله: - وإن كان ديناً حالاً: أُجبر بائع ثم مشتر إن كان الثمن في المجلس. إذا كان الثمن ديناً حالاً أجبر أولاً البائع ثم المشتري. تعليل الحنابلة: تعليلهم: = أن تعلق الحق بالعين أكبر من تعلق الحق بالدين. فمن تعلق حقه بالعين مقدم على من تعلق حقه بالدين ولذلك نبدأ به. ثم نلزم المشتري بدفع الثمن حالاً. - لأنه بتسلم المشتري السلعة وجب عليه وثبت في حقه جفع الثمن وهو حال وموجود فيجب أن يبادر بدفع الثمن مباشرة. إذاً: إذا كان ديناً حالاً فهذا هو الحكم. وقد نقول فعلاً إذا كان الثمن ديناً حالاً نبدأ بالمشتري لأن تعلق حقه بالعين مقدم على التعلق بالدين ونحن نحفظ حق البائع بأن نوجب على المشتري بالمبادرة بدفع الثمن. - ثم قال - رحمه الله: - وإن كان غائباً في البلد: حجر عليه في المبيع وبقية ماله حتى يحضره. يعني: وإذا كان الثمن غائباً داخل البلد وكذلك لو كان خارج البلد دون مسافة القصر فإنا نجبر البائع على تسليم المبيع ولكن نحفظ حقه بأن نحجر على المبيع بل وعلى بقية مال المشتري إلى أن يدفع الثمن. التعليل: قال الحنابلة في تعليل وجوب الحجر: - لئلا يؤدي ذلك إلى ضياع حق البائع. وبهذا نكون حفظنا حق كل منهما فأوجبنا على البائع أن يسلم المبيع وأوجبنا على المشتري أن لا يتصرف لا في المبيع ولا في بقية ماله إلا ان يدفع المال - أي الثمن إلى البائع كاملاً. وبذلك نأمن عدم ضياع حق البائع. - ثم قال - رحمه الله: - وإن كان غائباً بعيداً عنها أوالمشتري معسر: فللبائع الفسخ. إذا كان بعيدا: ويقصد الحنابلة بالبعيد ما هو: مسافة قصر.

أو كان ديناً على معسر. ففي هذه الصورة لا نلزم البائع بدفع السلعة بل نخير البائع بين الفسخ وبين أن يدفع السلعة وينتظر ولا نلزمه بيدفع السلعة. لماذا؟ لأن في إلزامه بدفع السلعة ضرر عليه لأن ذلك يستلزم أن ينتظر إلى أن يدفع المشتري الثمن وهذا الانتظار فيه ضرر على البائع. = القول الثاني: في المسألتين: المسألة الأولى: إذا كان غائباً. والمسألة الثانية: إذا كان بعيداً. ان البائع لا يلزم بدفع السلعة حتى يحضر المشتري الثمن. التعليل؟ التعليل: - أن مبنى البيوع على الرضا والبائع إنما رضي بدفع السلعة حين يتمكن المشتري من دفع الثمن. ولذلك له ان يؤخر دفع السلعة إلى أن يحضر المشتري الثمن. ولا شك أن هذا القول الثاني: أقرب إلى مقاصد الشرع وأحفظ للحقوق وأبعد عن التنازع ولذلك كله فهو إن شاء الله الراجح. ثم انتقل - رحمه الله - إلى الخيار: - فقال - رحمه الله -: - ويثبت الخيار للخلف في الصفة. هذا هو النوع الثامن والأخير من أنواع الخيار. وهو الخيار الذي يثبت للخلف في الصفة. معنى ذلك: تقدم معنا أن من شروط صحة البيع: العلمى بالمبيع. وأن العلم بالمبيع يحصل بأحد طريقين: ـ إما الرؤية. ـ أو الوصف. فإذا علم المشتري بالمبيع عن طريق الوصف ثم حضرت السلعة فوجد أن الصفة تختلف عن الوصف الذي تم في مجلس العقد فيثبت له حينئذ خيار يسمى خيار الخلف في الصفة. وله أن يفسخ العقد. التعليل؟ التعليل: - أنه إنما اشترى هذه السلعة بصفة اتفقا عليها فإذا ظهر المبيع مغايراً لهذه الصفة ثبت له الحق في الفسخ. وهذا القول: أنه يثبت له الحق إذا اختلفت الصفة هو القول الصحيح إن شاء الله وكما قلت متوافق مع إعطاء كل ذي حق حقه. = والقول الثاني: أنهما يتحالفان. لكن الصواب أن الحق يثبت للمشتري. * * المسألة الثانية: - يقول - رحمه الله -: - وتغير ما تقدمت رؤيته. يعني: إذا اشترى عن طريق الرؤية المتقدمة. فإذاً: يجب أن تعلم أن هذا الخيار يثبت في الرؤية المتقدمة لا في الرؤية المقارنة للعقد. فالرؤية المقارنة للعقد ليس فيها خيار. إنما يثبت في الرؤية المتقدمة.

فإذا رأى السلعة اليوم وعقد على هذه السلعة من الغد بناء على الرؤية المتقدمة ثم لما رأى السلعة بعد العقد وجد أنها متغيرة: يثبت أيضاً له خيار يسمى خيار الخلف في الصفة. هذا مذهب الحنابلة: أنه يثبت له الخيار لاختلاف صفة المبيع. قال الفقهاء - أو كثير منهم: لا سيما في المطعومات لسرعة التغير. = القول الثاني: أن القول قول البائع. الدليل: - أن الأصل المتقرر هو عدم التغير. ومن قوله معه الأصل فيقبل والأصل هو عدم التغير. وهذا صحيح: هل الأصل في السلعة أن تتغير أو أن لا تتغير؟ الأصل أن لا تتغير. التغير وصف طاريء. = القول الثالث: أن القول ليس للمشتري ولا للبائع بل يتحالفان. والذي يظهر والله أعلم: أن هذا القول الثالث: أقرب. أنهما يتحالفان. ونتيجة أن يتحالفان: ما هي النتيجة؟ أنه عند عدم الرضا: الفسخ. فيجب أن تفهم أنه إذا اخترت هذا القول وأفتيت المتبايعان إذا اختلفا به فهذا يعطي فرصة للمشتري بفسخ العقد. فيجب أن يتصور الإنسان ماذا ينبني على القول قبل أن يرجحه. إذاً: على كل حال: نقول: هذا القول: أن يتحالفا أقرب لأنه لا يوجد معنىً واضح يرجح به جانب لا المشتري ولا جانب البائع. باعتبار أن الصفة متقدمة والصفة المتقدمة قد يحصل فيها تغيير. بهذا انتهى الفصل المتعلق بالخيارات وننتقل إلى الفصل الذي يليه. فصل [في التصرف في المبيع قبل قبضه، وما يحصل به قبضه] - قال - رحمه الله -: - (فصل) ومن اشترى مكيلاً ونحوه: صح ولزم بالعقد. هذا الفصل خصصه المؤلف - رحمه الله - للحديث عن أمور غاية في الأهمية: ـ الأمر الأول: الضمانات. على من يكون الضمان؟ ـ الأمر الثاني: التصرف. يعني: متى يجوز للمشتري أن يتصرف في السلعة. ـ الأمر الثالث: وهو أيضاً: مهم: القبض وحقيقته. وهذا الباب يعتبر من أكثر أبواب البيوع غموضاً ودقة. وقد اعترف شيخ الإسلام - رحمه الله - في الفتاوى أن هذا الباب له مآخذ قد تخفى على بعض العلماء قال - رحمه الله -: ولهذا السبب - يعني: ولأنها تخفى - كثر تنازع الفقهاء واختلافهم فيها. فكثرة التنازع والاختلاف من الفقهاء كانت نتيجة لخفاء مآخذ بعض مسائل القبض والضمان.

ولذلك: نحتاج حميعاً أن نأخذ هذا الفصل بهدوء وأن نحاول أن نفهم هذا الباب وستلاحظ أنه ينبني على هذا الباب عشرات المسائل لا سيما في وقتنا هذا المعاصر. والمؤلف - رحمه الله - في الحقيقة رتب ترتيباً منطقياً يسهل على الإنسان أن يتدرج في مسائل القبض ثم الضمان ثم التصرف بعد ذلك. - يقول - رحمه الله -: - ومن اشترى مكيلاً ونحوه. من اشترى مكيلاً ونحوه: المقصود بنحو المكيل: المذروع والموزون والمعدود. أو نقول بعبارة أوسع وهي قاعدة: المقصود: (بنحوه) كل ما يحتاج إلى توفيه. فكل مبيع يحتاج إلى توفيه فهو داخل عند الحنابلة ونحن ما زلنا نقرر ونشرح مذهب الحنابلة ثم ننتقل إلى غيره. المهم إذاً: كل ما يحتاج إلى توفيه وأشهر وأبرز الأمثلة: الموزون. والمكيل. والمذروع. والمعدود. هذه الأمور تحتاج إلى توفيه وهي داخلة في الأحكام التي سيذكرها المؤلف - رحمه الله -. - قال - رحمه الله -: - ومن اشترى مكيلاً ونحوه: صح ولزم بالعقد. يعني: ان إجراء العقد المستوفي للشروط الخالي عن الخيارات ينتج عنه لزوم العقد. فهذه العقود لازمه من حيث تقع. أما مسألة الضمان ومتى يجوز للمشتري أن يتصرف فهي مسائل أخرى. أما العقد فهو لازم ولا يستطيع المشتري أن ينفك عنه ولا البائع أن ينفك عنه إلا برضا الطرفين. - ثم قال - رحمه الله: (وهو بيت القصيد) - ولم يصح تصرفه فيه حتى يقبضه. أفادنا المؤلف - رحمه الله - أن المبيعات إذا كانت مما يحتاج إلى توفيه كالمكيل والموزون ونحوه فإنه لا يجوز للإنسان أن يتصرف فيها إلا بعد القبض. ومفهوم كلام المؤلف - رحمه الله - أنه سواء كانت هذه الموزونات والمكيلات من المطعومات أو من غير المطعومات. وهذا مذهب الحنابلة. أنه لا يشترط في هذه الموزونات والمكيلات أن تكون مطعومة ولا أن تكون غير مطعومة بل الأمر عام. إذاً: الموزونات والمكيلات والمعدودات والمذروعات لا يجوز للإنسان إذا اشتراها أن يبيعها إلا بعد القبض. ويستثنى من هذا عند الحنابلة صورة واحدة وهي: بيع الجزاف. إذا باعه جزافاً بدون تقدير فإنه يجوز له ان يبيعه قبل أن يقبضه.

الدليل: استدل الحنابلة بنصوص صحيحة في الصحيحين ومسند أحمد وسنن أبي داود ثابتة لا إشكال فيها عن ابن عباس وابن عمر وجابر وغيرهم من الصحابة: - ان النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (إذا اشترى أحدكم طعاماً فلا يبعه حتى يقبضه) وفي لفظ آخر: (حتى يستوفيه) وجه الاستدلال بالحديث: قالوا: أن المطعومات في العهد النبوي لا تباع إلا كيلاً فدل الحديث على أن ما بيع بالكيل لا يجوز أن يتصرف فيه الإنسان حتى يقبضه. وقسنا على المكيلات كل ما يحتاج إلى توفيه كالمعدود والمذروع والموزون. إذاً: حديث ابن عباس عند الحنابلة يدل على المكيلات بالذات ويقاس عليه ما يحتاج إلى توفيه: بجامع: أن كلاً من المكيل والمزوزن والمعدود والمذروع كل منها يحتاج إلى توفيه. ويلحق بالمكيل ونحوه عند الحنابلة: المبيع بالصفة والمبيع برؤية متقدمة ولو لم يكن مكيلاً ولا موزوناً ولا معدوداً يعني ولو كان مما لا يحتاج إلى توفيه. إذا: عند الحنابلة الآن صار الذي لا يجوز أن يتصرف فيه المشتري قسمان: ـ الموزون والمكيل ونحوه. ـ والثاني: ما بيع بصفة أو رؤية متقدمة ولو لم يبع عن طريق الكيل والوزن والعد والذرع. هذا هو خلاصة مذهب الحنابلة. = القول الثاني: في هذه المسألة. أنه لا يجوز لمن اشترى السلعة أن يبيعها إلا بعد القبض مهما كان نوع السلعة ومهما كانت طريقة الاشتراء: بالقدر أو جزافاً. ومهما كانت طبيعة السلعة مطعومة أو غير مطعومة. يعني: العموم المطلق. لا يجوز للإنسان أن يبيع شيئاً إلا إذا قبضه. وهذا رواية عن الإمام أحمد - رحمه الله - وهو مذهب الظاهرية واختاره شيخ الإسلام بن تيمية وابن القيم وذهب إليه عدد من المحققين. دليل هؤلاء: استدلوا: - بحديث زيد - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى أن تباع السلع حيث تبتاع وأمر أن تنقل إلى رحال التجار. فقوله في الحديث: (السلع) يشمل جميع أنواع السلع فإنه لم يحدد مطعوماً ولا غير مطعوم ولا مكيل ولا غير مكيل ولا ما يحتاج إلى توفيه ولا ما لا يحتاج إلى توفيه ولا ما بيع بقدر ولا ما بيع بجزاف. فقوله: (السلع) عام.

- الدليل الثاني: أن ابن عباس - رضي الله عنه - راوي حديث الطعام والكيل لما روى الحديث قال: ولا أحسب كل شيء إلا مثله. يعني: ولا أحسب إلا جميع السلع حكمها حكم الطعام المذكور في الحديث المرفوع. ومن أولى وأهم من يفسر الحديث راويه لا سيما إذا كان فقيها مثل ابن عباس يفمه معنى الكلام وينزله على الأحكام. - الدليل الثالث: أن هذا مذهب كثير من الصحابة منهم ممن روي عنه بإسناد صحيح منهم جابر وابن عباس. مع أن جابراًَ وابن عباس من الذين رووا أحاديث وجوب القبض قبل بيع المبيع. = القول الثالث: أنه يجوز بيع أي مبيع قبل قبضه مطلقاً عكس القول الثاني. وإلى هذا ذهب عثمان البتي ويروى عن الشيخ الفقيه عطاء بن ابن أبي رباح. أما عثمان فأظنه يصح عنه. وأما عطاء فلا أظن أن هذا القول يصح عنه وهو رجل يعلم السنن والأحاديث في هذا الباب أكثر من أن تحصر. وهذا القول غاية في الضعف ولذلك تجد أن ابن عبد البر لما حكى هذا القول لم يشتغل بالرد عليه وإنما اشتغل بالاعتذار لقائليه فقال: أحسب أنهم لم تبلغهم النصوص. أما عثمان البتي ممكن أنه لم تبلغه النصوص وأما عطاء سيد التابعين فيبعد أنها لم تبلغه هذه النصوص المتكاثرة عن نحو أربعة من الصحابة في السنن والمسانيد والصحاح فالغالب أنه لم يثبت عنه. على كل حال: المهم الآن عندنا أن هذا القول الثالث ضعيف وهو مناقض للأدلة وصاحبه يحتاج أن يعتذر له لا أن يجاب عن دليله. = القول الأخير: وهو مذهب المالكية ورواية أيضاً عن الإمام أحمد واختاره من المحققين ابن المنذر وانتصر له واختاره أيضاً الشيخ الفقيه أبو ثور. فأيضاً هذا القول الأخير أيضاً كما ترى ذهب إليه عدد من أئمة اهل العلم وهو: أنه لا يجوز بيع المبيع إذا كان مطعوماً مكيلاً أو موزوناً اي: يحتاج إلى توفيه. ويجوز إذا بيع جزافاً. ما هو الفرق بين هذا القول ومذهب الحنابلة؟ - المطعوم وغير المطعوم. تقريباً هذا هو الفرق لا يوجد فرق. استدل هؤلاء الذين اشترطوا في المنع أن يكون في المطعومات: - بأن الأحاديث التي جاءت في الباب كلها فيها إذا باع طعاماً نهى أن يباع الطعام.

وهذا صحيح حديث ابن عباس فيه الطعام وحديث جابر فيه الطعام وحديث ابن عمر أيضاً في الصحيحين فيه الطعام إنما حديث زيد ليس فيه الطعام فيه أنه نهى أن تباع السلع. وبما تقدم ظهر لك ان دليلهم الاعتماد على الأحاديث التي فيها التنصيص على الطعام وان الجواب على هذا أن هذه الأحاديث وإن كانت نصت على الطعام فالأحاديث الأخرى نصت على باقي السلع ثم الذين رووا هذه الأحاديث كجابر وابن عباس رأوا أن الحديث لا يختص بالمطعومات وإنما يتناول جميع السلع. هذه الأقوال: ـ أربعة. هي الأقوال التي اخترت أن أذكرها لكم لأنها أقوى الأقوال وبالنظر أيضاً إلى من رجح هذه الأقوال وإلا المسألة فيها نحو ثامنية أقوال وهذا يحقق ما قاله الشيخ أنه كثر تنازع العلماء فيها لخفار المآخذ والاستدلال بالنصوص. الأقرب للصواب والله أعلم الذي تدل عليه فتاوى الصحابة هو القول الثاني: أنه لا يجوز للإنسان أن يبيع أي شيء إلا بعد أن يقبضه. ومما يدل على رجحان هذا القول: الثاني. حديث عائشة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى عن ربح ما لم يضمن. وهذه الأعيان قبل القبض ليست مضمونة على المشتري وإنما على البائع ولا يأتي الشرع بأن يجعل الربح لإنسان والضمان على آخر بل الربح والضمان دائماً متلازمان في الشرع. فكون النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى عن ربح ما لم يضمن يدل على رجحان القول الثاني. فهو إن شاء الله أقرب الأقوال. - ثم قال - رحمه الله: - وإن تلف قبله: فمن ضمان البائع. يعني: وإن تلف المبيع قبل القبض فهو من ضمان البائع. السلعة قبل القبض من ضمان البائع. لماذا؟ لأن القاعدة أن الضمان يتبع التصرف ولو أجزنا للمشتري أن يتصرف لصار الضمان عليه فإذا منعناه من أن يتصرف لم نجعل الضمان عليه. فإذاً: الضمان والتصرف متلازمان إذا منعته من التصرف فارفع عنه الضمان. هذه هي قاعدة المذهب. = والقول الثاني: ان الضابط في الضمان ليس هو المنع من التصرف وإنما هو التمكن من القبض فكل سلعة لا يتمكن المشتري من قبضها فليس عليع ضمانها. وكل سلعة يتمكن المشتري من قبضها فعليه ضمانها.

وإلى هذا القول ذهب شيخ الإسلام - رحمه الله - وانتصر له وذكر لهذا أمثلة فقال: نجد أن الشارع جعل المبيع إذا كان ثمراً على رؤوس الشجر فالضمان على البائع. لماذا؟ لأن المشتري لا يتمكن من أخذ المبيع جملة واحدة لا حتياجه أن يأخذ منه على دفعات ليتفكه به وليتمكن من تصريفه في السوق ولعلل أخرى. ولأنه لم ينضج .... إلى آخره. إذاً: لما وجدنا الشارع جعل الضمان في الثمر إذا بيع على رؤس النخل على البائع بحثنا عن السبب فوجدنا أنه لعدم تمكن المشتري من قبض هذا المبيع. أيضاً الشارع جعل الضمان على البائع في المكيل لأن المشتري لا يتمكن من قبضه إلا بكيله ووزنه وعده. وكيله ووزنه وعده هو القبض كما سيأتينا فما دام لم يكل ولم يوزن ولم يعد لا يستطيع المشتري ولا يتمكن من قبضه فالضمان ليس عليه. فمثلاً: إذا اشترى الغنسان عشرين كتاباً متشابهاً متى يتمكن من قبض هذه الكتب؟ إذا عدها البائع وسلمها إياه. قبل ذلك هي من ضمان البائع لأنه لن يتمكن من القبض إلا بالعد. إذا اعتبرنا الكتب معدودة وهي تباع عند بعض الناس بالوزن وإنما يبيعها بالوزن من لا يعرف قيمة الكتب وإنما ينظر إلى الورق والورق يباع بالوزن لكن الكتاب ليس ورقة وإنما معنى ولذلك سيأتيكم إن قدر حقوق التأليف وحكم بيع وشراء حقوق التأليف وهي ترجع إلى مضمون الكتاب. المهم الآن اختلف الفقهاء كما ذكرت لكم الآن في ضابط الضمان: فعند الحنابلة الضابط ملازم للقبض فما لم يقبض لا يضمن وما قبض ضمن. وعند شيخ الإسلام ضابط الضمان هو التمكن من القبض. ولعلك إذا تأملت إذا رجعت إلى المنزل وتأملت ستجد أن الفرق بين القولين يسير وأنه لا يتصور إلا في صور قليلة جداً وإلا بين القولين تقارب كبير جداً. لأن المشتري إذا تمكن من القبض يقبض وإذا تمكن من القبض وبذله البائع ولم يقبض هو فالضمان عليه فالتمكن من القبض قريب من القبض. لكن على كل حال هذه قاعدة شيخ الإسلام وهذه قاعدة المذهب. - ثم قال - رحمه الله: - وإن تلف بآفة سماوية: بطل البيع. يعني: المبيع. بطل البيع. إذا تلف المبيع بآفة سماوية فإن البيع يبطل. ومقصود المؤلف - رحمه الله - بقوله: (بطل) أي: انفسخ. والفرق بين الانفساخ والبطلان:

أن البطلان إنهاء للعقد من أصله. والفسخ إنهاء للعقد من حين الفسخ فبينهما فرق كبير. وعلى طريقة الفقهاء التدقيق في الألفاظ كان ينبغي على المؤلف - رحمه الله - أن يقول: انفسخ. إذاً إذا تلفت السلعة بآفة سماوية فهي من ضمان البائع. والآفة السماوية هي كل ما يصيب السلع ويؤدي إلى تلفها بغير إرادة الإنسان. كأن يصيبه الحريق أو صاعقة أو يغرق ... إلى آخره مما ليس للإنسان فيه يد ولا يتصرف فيه. ويلحق بالآفة السماوية ما أتلفته الحيوانات لأنه لا يمكن تضمين الحيوان ويلحق بالآفة السماوية ما أتلفه آدمي لا يمكن تضمينه فهذا يلحق أيضاً بالآفة السماوية. ومن هنا نستطيع أن نخرج بقاعدة: يلحق بالآفة السماوية كل ما لا يمكن تضمينه. لكن إذا تأملت ستجد أن ما لا يمكن تضمينه يكاد ينحصر في المثالين: ما أتلفه الحيوان. وما أتلفه آدمي لا يمكن تضمينه. ولذلك سواء جعلت قاعدة أو ذكرت الحكم مباشرة. - قال - رحمه الله -: - وإن أتلفه آدمي: خير مشتر بين فسخ وإمضاء ومطالبة متلفه ببدله. إذا أتلفه الآدمي ولو كان هذا الآدمي هو البائع فإنه يخير بين الفسخ وبين الإمضاء ومطالبة المتلف. الدليل على هذا التخيير: - القياس على خيار العيب لأن في كل منهما ثبوت حق للمشتري بسبب آفة أصابت السلعة. ففي الحقيقة إتلاف السلعة هو في معنى العيب فثبوت الخيار مقيس على خيار العيب. - لكن المؤلف - رحمه الله - هنا يقول: - ومطالبة متلفه ببدله. المقصود: بـ (بدله) هنا: يعني: بمثله فإن لم يوجد مثله فالقيمة. المثل عند الحنابلة: ينحصر في: المكيل والموزون الذي لا صنعة للآدمي فيها فقط ما عداه فهو ليس مثلي وإنما قيمي. فكل عين نعتبرها مثلية فالواجب عند الإتلاف مثلها. وكل عين نعتبرها قيمية فالواجب عند الإتلاف قيمتها. إذاً: لا يقى علينا إلا تحديد ما هو المثلي؟ وإذا عرفت ما هو المثلي؟ عرفت تبعاً لذلك القيمي. إذاً: الحنابلة يرون أن المثلي كل مكيل وموزون لا صنعة للآدمي فيها. يعني: غالباً ما سيكون: القمح والحبوب والثمار هذه هي المثليات. = القول الثاني: أن المثلي هنو كل ما يوجد نظيره ومساو له في الصفات بلا اختلاف يعتد به.

وهذا المفهوم يوسع المثليات إلى كل ماله نظير وربما لم يأت في زمن من الأزمان كثرة المثليات في مثل زمننا هذا لأنه يكثر المصانع التي تنتج السلع المتشابهة تماماً. إذاً: القول الثاني: هو ... ((الأذان)) بعد أن عرفنا الخلاف في هذه المسألة: الراجح: القول الثاني. وينبني على ذلك أنه لا يجوز أن نبدأ بالقيمة ويوجد للسلعة نظير ومثال. فإذا كان لها مثلي فيجب أن نحضر هذا المثلي وتبرأ الذمة به. فإذا لم يوجد فحينئذ نرجع إلى القيمة. ويجب أن تتساوى السلعتان في كل الصفات المعتبرة التي يعتد بها أهل الخبرة. وإذا اختلف البائع والمشتري في هل هذا مثلي أو ليس بمثلي؟ فالمرجع في ذلك إلى أهل الخبرة. فإذا قالوا: هذا مثل هذا فما يوجد بينهما من اختلاف فغير مؤثر فيعتبر مثله تماماً وإذا كان مؤثر فلا شك أنه لا يتعبر مثلي. فالموديل الآن بالنسبة للسيارات يعتبر فارق مؤثر أو غير مؤثر؟ يعني: سيارتين تماماً لا يوجد بينهما أي فرق حتى في الممشى إلا أن هذا موديل وهذا موديل؟ يؤثر بلا إشكال ولا نحتاج لأهل الخبرة بل هو مؤثر مطلقاً لأن انتاجهم هذه السيارات. فإذاً ستجد هنا في هذا المثال الذي اخترته أن بين السلعتين من التطابق تام لأنه إذا تخلف الشركة أي صفة فستجد أن بينهما تطابق تام جداً لا يوجد فرق إلا هذا الموديل ومع ذلك هو مؤثر. ما دام أنه فارق مؤثر في السعر وفي نظرة الناس فهو فارق يعتد به. - ثم قال - رحمه الله: - وما عداه: يجوز تصرف المشتري فيه قبل قبضه. (وما عداه) الإشارة إلى المكيل والموزون ونحوه ما عداه يجوز للإنسان أن يتصرف فيه فور تمام العقد ولو لم يقبض المشتري السلعة. بناء على هذا: يجوز في الحيوانات إذا لم تبع على سبيل العد وفي السيارات وفي عامة السلع يجوز للإنسان أن يبيع بمجرد تمام العقد. لأن المنع من البيع إنما هو خاص بالمكيلات والموزونات وما يحتاج إلى توفيه والحيوانات والسيارات وغيرها لا تحتاج إلى توفيه. استدل الحنابلة على الجواز في مثل هذه السلع: - بحديث ابن عمر أنه قال: كنا نبيع البعير بالبقيع بالدراهم ونقتضي عنها دنانير ونبيع بالدنانير ونقتضي عنها دراهم.

وجه الاستدلال: قال الحنابلة: فهذا ابن عمر يبيع الثمن قبل قبضه. وأجاب أصحاب القول الثاني بأن هذا بيعاً لما في الذمة ونحن نتحدث عن البيوع المعينة. ففرق بين بيع ما في الذمة وبين بيوع الأعيان الموجودة المعينة. وبذلك يتبين أن الأمر ليس كما قال الحنابلة ليس كل ما عدا المكيل والموزون يجوز بيعه بمجرد العقد بل جميع السلع لا يجوز أن تباع ولا أن تشترى إلا بعد القبض. وأما ما هو الذي سيحقق القبض فسيتكلم عنه المؤلف - رحمه الله - بتوسع.

شرح كتاب البيع الدرس رقم (14) قال شيخنا حفظه الله: بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين. قبل أن نشرع في درس اليوم قوله - رحمه الله -: (وإن كان ديناً حالاً) يسأل كثير من الإخوة ما معنى: (ديناً حالاً) الدين إما أن يكون مؤجلاً أو حالاً، والدين المؤجل هو الدين الذي ضرب له مدة يسلم فيها الدين، وأما الحال فهو الدين الذي يستحق التسليم مباشرة، يعني: المبلغ النقدي غير المعين، فالدين يقصد به المؤلف - رحمه الله -: ما في الذمة، فإذا اشترى زيد من عمرو سيارة بألف ريال غير معينة ولا مؤجلة فهي دين ولكنه حال، فهو دين لكنه في الذمة، فكل ما لم يعين فهم في الذمة، فهذا يؤدي إلى أنه دين، ولما لم يضرب له أجل معين فهو دين جال. فهذا هو معنى هذه العبارة. كنا قد توفقنا بالأمس عند قوله - رحمه الله -: (وما عداه: يجوز تصرف المشتري فيه قبل قبضه). - ثم قال - رحمه الله -: - وإن تلف ما عدا المبيع بكيل ونحوه: فمن ضمانه. إذا تلف ما عدا المبيع بكيل ونحوه فمن ضمانه أي: من ضمان المشتري. وبعبارة أخرى: إذا تلف المبيع الذي يجوز التصرف فيه قبل قبضه فهو من ضمان المشتري على الخلاف السابق في الأشياء التي لا يجوز التصرف فيها قبل القبض. والمؤلف - رحمه الله - يقول: (ما بيع بغير كيل ووزن) لأن الحنابلة يرون أن ما لا يجوز التصرف فيه قبل قبضه هو المكيل والموزون. والدليل على ذلك:

- قول النبي – صلى الله عليه وسلم – (الخراج بالضمان). - وأيضاً: أن هذا المبيع دخل في ملك المشتري وجاز له التصرف فيه فهو من ضمانه. وهذه المسألة مبنية تماماً على المسألة الأولى من مسائل هذا الفصل وهي: ما هي الأشياء التي يجوز التصرف فيها قبل القبض والأشياء التي لا يجوز التصرف فيها قبل القبض. ولذلك نقول: القول الراجح في هذه المسألة: أن جميع الأعيان إذا بيعت فإنه لا يجوز التصرف فيها وهي من ضمان البائع وليست من ضمان المشتري، بناء على القول الراجح الذي رجحناه في تلك المسألة. إذاً: عرفنا الآن معنى قول المؤلف – رحمه الله -: (وإن تلف ما عدا المبيع بكيل ونحوه: فمن ضمانه). * * مسألة / تقرر بما سبق أن كل ما لا يصح التصرف فيه فليس بمضمون، يعني: بالنسبة للمشتري، لكن هذه القاعدة عكسها ليس بصحيح مطلقاً، فليس كل ما يصح التصرف فيه فهو من ضمان المشتري، بمعنى: قد يصح التصرف في بعض الأعيان ومع ذلك تبقى من ضمان البائع، مثاله: نذكر له مثالين: - - المثال الأول: بيع الثمر على رؤوس الشجر. فهذا يجوز للمشتري أن يتصرف فيه ومع ذلك يبقى من ضمان البائع - المثال الثاني: ما منع البائع المشتري من قبضه. فهذا يجوز للمشتري أن يتصرف فيه ومع ذلك هو من ضمان البائع. الخلاصة: أن كل ما لا يجوز التصرف فيه فهو من ضمان البائع، وليس كل ما يجوز التصرف فيه فهو من ضمان المشتري بل قد يجوز التصرف ويبقى الضمان مع ذلك على البائع. هذا إذاً بيان للقاعدة وبيان لعكس القاعدة وأن فيها استثناء. - يقول المؤلف – رحمه الله -: - ما لم يمنعه بائع من قبضه. فإن منعه بائع من قبضه فهو من ضمان البائع، ولو كانت السلعة مما يجوز التصرف فيه قبل قبضه. وأيضاً: ولو كان البائع منع المشتري من قبض السلعة لضمان الثمن. ففي الصورتين: الضمان على البائع. قال الفقهاء: ويضمنه البائع على وجه ضمان الغصب فيأخذ أحكام ضمان الغصب بمعنى أنه يضمن السلعة والنماء المنفصل والمتصل، وذلك لأن يد البائع في هذه الحال يد متعدية وهو يضمن مطلقاً كضمان الغاضب.

ثم انتقل المؤلف – رحمه الله – إلى موضوع آخر وهو مهم جداً أيضاً، وينبغي عليه مسائل كثيرة وهو مسألة القبض واختلاف الأعيان فيها. - يقول المؤلف – رحمه الله -: - ويحصل قبض ما يبع بكيل أو وزن أو عد أو ذرع: بذلك، وفي صبرة وما ينقل بنقله وما يتناول بتناوله وغيره: بتخليته. المؤلف – رحمه الله – يريد بيان أحكام القبض. والقبض في اللغة: تناول الشيء بجميع الكف. ومفهوم هذه العبارة: أنه إذا تناول الشيء ببعض الكف أو بالأصابع فليس بقبض في اللغة. وأما في الشرع: فالخلاف فيه طويل جداً ومتشعب ومضطرب لكن نحن سنلخص الخلاف على وفق ما ذكر المؤلف – رحمه الله – فلاحظ معي الآن في المتن: - المؤلف – رحمه الله – قسم الأشياء المبيعة إلى أربعة أقسم: - القسم الأول: ما بيع بتقدير: وأشار إليه بقوله (بكيل أو وزن ... إلخ). - القسم الثاني: ما بيع جزافاً: وأشار إليه في بقوله (وفي صبرة ... ). - القسم الثالث: المنقولات: وأشار إليه بقوله (وما ينقله بنقله ... ). - القسم الرابع: المتناولات: وأشار إليه بقوله (وما يتناول بتناوله). - والقسم الخامس والأخير: العقارات وأشار إليه بقوله (أو وغيره .. ). في الحقيقة تقسيم المؤلف – رحمه الله – تقسيد جيد جداً ونحن سنتكلم عن كل قسم من هذه الأقسام ليتبين للإنسان تماماً كيفية القبض. - يقول – رحمه الله -: - ويحصل قبض ما بيع بكيل أو وزن أو عد أو ذرع: بذلك. = ذهب الأئمة الأربعة إلى أن ما بيع بقدر أي بتقدير: من مكيل وموزون ونحوه فإن قبضه يحصل بذلك، أي: بكيله وبوزنه وبعده وبذرعه. = وذهذب الأئمة الثلاثة: إلى أن هذه الأشياء تقبض بذلك ولو بدون النقل. = وذهب الإمام الشافعي فقط من بين الأئمة الأربعة إلى أن هذه الأشياء لا يتم القبض فيها إلا بذلك مع النقل. إذاً عرفنا الآن أن ما بيع بقدر (بتقدير) عند الأئمة الأربعة حتى الأحناف يحصل القبض بذلك: يعني: بعده وكيله ووزنه إلا أن الشافعية أضافوا إلى ذلك أنه لابد من النقل. الدليل على أصل المسألة وهو: أن هذه الأشياء تقبض بالكيل والوزن والعد. - قول النبي – صلى الله عليه وسلم -: (إذا بعت فكل، وإذا ابتعت فاكتل). فهذا الحديث صريح بأن البيع يتم بالكيل.

- واستدلوا بحديث ابن عباس السابق معنا: أن النبي – صلى الله عليه وسلم -: (نهى أن يباع الطعام حتى يستوفى) والاستيفاء يكون بذلك يعني: بالكيل والوزن والعد والذرع. واستدل الشافعية على وجوب النقل: - بأن النبي – صلى الله عليه وسلم -: نهى أن تباع السلع حيث تبتاع حتى يحوزها التجار إلى رحالهم. فالحديث نص على أنه لا يجوز أن تباع حتى تحاز يعني: تنقل. والراجح والله أعلم في مسألة بيع الموزونات والمكيلات مذهب الجمهور وأنه لا يلزم من تمام القبض النقل. وأما الجواب عن حديث: نهى أن تباع السلع حيث تبتاع حتى يحوزها التجار إلى رحالهم. فالجواب عنه: أن هذا الحديث مروي في السنن وأصله في البخاري وهو يدل على أن هذا الحديث وارد فيما بيع جزافاً، وبيع الجزاف سيأتينا، وليس في بيع المكيلات والموزونات. وبهذا عرفنا كيفية القبض في المكيل والموزون وكثير من المبيعات اليوم إنما تباع على سبيل الكيل أو الوزن أو العد، فإذا تم العد والتمييز لها فقد تم القبض، ولا يشترط أن تنقل. - ثم قال – رحمه الله -: - وفي صبرة. الصبرة: كما تقدم معنا: هي الكومة من الطعام غير معلومة المقدار. فحكمها: = عند الحنابلة: أنه لابد في قبضها – أي ما بيع جزافاً – من النقل والتحويل، فإن لم تنقل أو تحول فلم تقبض. واستدل الحنابلة ومعهم الشافعية على هذا الحكم: - بحديث ابن عمر الذي أخرجه الإمام البخاري ومسلم أنه قال: كنا نشتري الطعام جزافاً من الركبان ثم نبتاعه فنهانا النبي – صلى الله عليه وسلم – عن بيعه حتى ننقله. ولفظ النقل موجود في الصحيح، وفي لفظ أيضاً في الصحيح: كان التجار يضربون على ذلك. يعني: على بيع الطعام جزافاً قبل نقله. = والقول الثاني: وهو مذهب الأحناف. أن بيع الطعام جزافاً يتم قبضه بمجرد التخلية ولا يشترط لا النقل ولا التحويل. واستدلوا على هذا: - بأن النبي – صلى الله عليه وسلم – نهى عن بيع الطعام حتى يستوفى. والاستيفاء يكون بوضع اليد مع التخلية.

والراجح إن شاء وبلا إشكال: أن ما بيع جزافاً لا يقبض إلا بالنقل والتحويل، والسبب في ترجيح هذا القول: أن الأحاديث متكاثرة جداً في أن ما بيع جزافاً لابد من نقله، في الصحيحين وألفاظهما نص في المسألة ولا يمكن الخروج عن مثل هذه الأحاديث بأي تعليل كان، فإن النقل والتحويل جاء منصوصاً في الأحاديث إذا بيع الطعام جزافاً، فالراجح في مسألة البيع جزافاً أنه لابد من نقله وتحويله. - ثم قال – رحمه الله -: - وما ينقل بنقله. ما ينقل من الأعيان المبيعة لابد من نقله: كالأخشاب والأمتعة والحيوانات والسيارات، فهذه الأعيان يشترط في قبضها: أن تنقل. استدل الحنابلة على هذا الحكم: - بالقياس على بيع الجزاف. قالوا: إذا كان النص دل على أنه لابد من نقل الأعيان إذا بيعت جزافاً فكذلك ما ينقل. - واستدلوا كذلك: بالعرف. قالوا: أن العرف جرى أن مثل هذه الأعيان لا يكتفى في قبضها بوضع اليد بلا نقل. وهذه المسألة تعتبر هي أهم مسائل القبض لأن كثيراً من الأعيان المبيعة منقولة. = القول الثاني: أنه يرجع في قبض هذه الأعيان المنقولة إلى العرف. وإلى هذا ذهب الإمام مالك، فننظر إلى العرف في كيفية قبض هذه الأشياء ونعمل به. = القول الثالث: وهو للأحناف. أن قبض المنقولات بالتخلية فقط. واستدلوا على هذا: - بأن قبض المنقولات يكون بتسليمها للمشتري بلا مشارك وهذا يحصل بالتخلية، فإن البائع إذا حلًى بين المشتري والسلعة صارت له سالمة بلا مشارك. الراجح في المنقولات: الراجح والله أعلم: أنه يرجع فيه إلى العرف كما هو مذهب المالكية. من أمثلة الترجيح: إذا باع الإنسان الدابة – الحيوان – فإن العرف أنه بمجرد ما يسلم البائع المشتري هذه الدابة ويخلي بينه وبينها ويسلمه الزمام إذا كان لها زمام فإن المشتري يعتبر: قبض. المثال الثاني: السيارات. جرى العرف الآن أن قبض السيارة يكون – فيما أفهم – بحصول أمرين: - الأمر الأول: كتابة العقد. – والأمر الثاني: تسليم المفتاح. – والأمر الثالث ك نقل الملكية. وأن هذه الأمور الثلاثة أهم من تحريك السيارة.

فدل العرف اليوم أن قبض السيارات يكون بهذه الثلاثة أمور تسليم المفتاح وكتابة العقد داخل معارض السيارات والثالث نقل الملكية. فإذا حصل هذا الأمر فإن المشتري يعتبر قبض السيارة وله بناء على هذا أن يبيع ولا يشترط تحريك السيارة. المثال الثالث: الأخشاب – مثلاً – فالأخشاب وبقيت في المستودعات فالكل يعلم أن المشتري إلى الآن لم يقبض هذه الأخشاب. إذاً العرف فرق بين بعض المبيعات فجعل النقل في بعضها شرط للقرض ومجرد التخلية أو وضع اليد على الشيء في بعضها يعتبر بمجرده قبض. وأنت الآن تعلم الآن الخلاف الذي سقته على ثلاثة أقوال ورجحنا فيه مذهب ((الحنابلة)) لا تدخل فيه المكيلات والموزونات. - ثم قال – رحمه الله -: - وما يتناول بتناوله. هذا هو القسم الرابع وهي الأعيان التي جرى العرف في أن قبضها يكون بالتناول كالدراهم والثياب والأجهزة الكهربائية ونحو هذه الأشياء التي يكون قبضها بتناولها، وإلى هذا ذهب الجماهير من أهل العلم: أن قبض ما يتناول بتناوله. فالدراهم الآن إذا باع الإنسان ريالاً بدرهم، فهل يكون قبضه بوضعه على الطاولة؟ لا. فلابد من التناول، يعني: لابد أن يتناوله المشتري وأنه يتناول البائع الثمن الآخر. كذلك بيع الألبسة: يكون بالتناول، فإذا اشتريت مثلاً ثوباً بعشرة ريالات ما لم تقبض هذا الثوب وتناوله بيدك لم يحصل القبض فلا يجوز لك أن تبيع – مثلاً – الثوب إذا وضعه البائع على الطاولة التي أمامه ولم تتناوله أنت فلا يجوز لك أن تبيعه ولو سلمت الثمن. إذاً: ما يتناول قبضه بتناوله. ثم انتقل – رحمه الله – إلى القسم الأخير وهو: - قوله – رحمه الله -: - وغيره بتخليته. يقصد المؤلف – رحمه الله – (بغيره) العقار. ولذلك غيره من الحنابلة يصرح ويقول: والعقار بتخليته، أو بعضهم يقول: وغيره كالعقار بتخليته. ولو أن المؤلف – رحمه الله – صرح لكان أوضح وأحسن. إذاً: المقصود بغيره العقارات. تعريف العقارات: العقار عند الفقهاء: هو كل ما لا يمكن نقله كالدور والأراضي والشجر، فدخلت الأشجار معنا في تعريف ما لا يمكن نقله من العقارات.

قبض ما لا يمكن نقله وهو القسم الخامس يكون بالتخلية، يعني: بأن يخلي البائع بين المشتري والسلعة. مثال يوضح هذا: إذا اشترى زيد من عمرو بيتاً ودفع الثمن ونقل الصك باسم المشتري الجديد لكن ما زال البائع في البيت وطلب من المشتري أن ينتظر عليه يوماً أو يومين أو ثلاثة أو أسبوع إلى أن يتمكن من إخلاء المنزل للمشتري الجديد مع أن المشتري الجديد دفع الثمن وانتقل الصك باسم المشتري الجديد فهل يجوز له أن يبيع؟ لا يجوز. لماذا؟ - لأن قبض العقارات يكون بالتخلية. - ولأن معنى التخلية هو أن يخلي البائع بين السلعة والمشتري. وكل هذا لم يحصل في المثال الذي ذكرت، فإذاً لا يجوز له أن يبيع، فإذا خرج وأعطاه المفتاح فقد خلا بينه وبين العقار. إذاً هذا القسم الثالث. هذا الحكم بالإجماع بالاتفاق: أن ما لا ينقل: قبضه بالتخلية. ومما سبق تبين لك أن الإشكالف هو في مسألتين. - المنقولات. - والمكيلات والموزونات. أما ما يتناول ولا يمكن نقله فهذا لا إشكال فيه، والمسألة الأولى عليها الجماهير، والمسألة الثانية: محل اتفاق إذاً: الإشكال في هاتين المسألتين، أما ما بيع جزافاً فلا إشكال عندي فيه مطلقاً لأن النصوص واضحة، ولو كان بعض الفقهاء قد يذكر فيه خلافاً لكن النصوص فيه واضحة، يبقى الإشكال في المنقولات وهو رقم واحد في محل الإشكال والثاني الموزونات والمكيلات يعني: ما بيع بتقدير. ثم انتقل المؤلف – رحمه الله – إلى موضوع آخر: - فقال – رحمه الله -: - والإقالة: فسخ تجوز قبل قبض المبيع بمثل الثمن، ولا خيار فيها ولا شفعة. انتقل المؤلف – رحمه الله – إلى حكم الإقالة في نهاية هذا الباب لأن حكم الإقالة يترتب عليه أحكام كثيرة بحسب التخريج الفقهي لها، وسيأتي إيضاح لهذا الكلام. الإقالة في اللغة: هي الرفع والإزالة. وأما في الاصطلاح فهي: رفع العقد ورفع حكمه. وحكم الإقالة من حيث الأصل: أنها مستحبة، لقول النبي – صلى الله عليه وسلم -: (من أقال مسلماً أقال الله عثرته) وفي لفظ: (يوم القيامة). - قال – رحمه الله -: - الإقالة فسخ. عرفنا ما هي الإقالة وحكمها، باقي أن نعرف حكمها الوضعي.

فالإقالة عند المؤلف – رحمه الله -: فسخ، وفي هذه المسالة خلاف بين الفقهاء كثير وطويل لكثرة ما ينبني على هذه المسألة من فروع. = فذهب الحنابلة إلى أن الإقالة فسخ يعني: وليست بيعاً جديداً، وأظنكم تعرفون معنى الإقالة مون حيث المعنى العام، فمعنى الإقالة هي: أن يبيع زيد على عمرو بيعاً ثم يندم عمرو ويطلب الإقالة من البائع بأن ترجع السلعة إلى البائع والثمن إلى المشتري. وذكر الفقهاء رحمهم الله أسبابً كثيرة لا تعنينا للإقالة، أسباب ندم المشتري، فمن أسباب ندمه: أن يظهر له أن السعر مرتفع، ومن أسباب ندمه أن تكون له حاجه في هذه السلعة ثم بعد البيع تنتهي حاجته من السلعة قبل أن يستمتع بها فيريد أن يرد السلعة، ونحن في الحقيقة لا يعنينا ما هي الأسباب التي تجعل المشتري يطلب الإقالة. إذاً: القول الأول: أن الإقالة فسخ وهو مذهب الحنابلة وليست ببيع. واستدلوا على هذا بأمرين: - الأمر الأول: أن الإقالة في لغة العرب هي الرفع والرفع يعني فسخ العقد لا إنشاء بيعاً جديداً. - والأمر الثاني: أن البيع أخذ مسمى خاصاً والإقالة أخذت مسمى خاصاً واختلاف الأسماء يدل على اختلاف الحقائق. = القول الثاني: وهو مذهب المالكية. أن الإقالة بيع جديد، فيشترط لها ما يشترط للبيع، واستثنى المالكية من ذلك صورة واحدة وهي: إذا لم يمكن تحقيق الإقالة باعتبارها بيع فنعتبرها فسخ. مثال: ما لا يمكن. أن يرجع في مكيل مطعوم قبل القبض ونحن أخذنا أن المكيل قبل القبض لا يجوز بيعه وهم يعتبرون الإقالة بيع ففي هذه الصورة لن يمكن للبائع أن يقيل المشتري فيقولون نعتبرها فسخاً ويقيله. دليل المالكية: - المالكية يقولون: أن الإقالة هي عبارة عن مبادلة مال بمال، وهذه حقيقة البيع. = القول الثالث: أن الإقالة فسخ بالنسبة للمتعاقدين، بيع بالنسبة للأجنبي. وهذا مذهب الأحناف وهو من أعجب الأقوال. الدليل: - قالوا: أما الدليل على أنها بالنسبة للمتعاقدين فسخ: فما استدل به الحنابلة وهو: أن الإقالة رفع فليست ببيع جديد.

- وأما أنها بيع بالنسبة للأجنبي فلأن حقيقة الإقالة مبادلة مال بمال فنعتبرها كذلك بالنسبة للأجنبي لئلا تضيع حق الأجنبي في هذه المبادلة كما في الشفعة، فإذا اعتبرها الإقالة بيع بالنسبة للأجنبي تمكن من استخدام حقه في الشفعة، وإذا اعتبرناها فسخاً بالنسبة للأجنبي لم يتمكن من الشفعة لأن الشفعة تتعلق بالبيع ولا تتعلق بالفسخ. ولا يخفى إن شاء الله أن هذا قول بعيد جداً من الصواب إذ لا يمكن أن نحكم على عقد واحد بأنه في حق المتعاقدين فسخ وفي حق الأجنبي بيع فهذا لا يمكن أن يقع في الشرع لأن العقد الواحد له حقيقة واحدة. فبالغ الأحناف باستخدام العقل في مثل هذه المسألة حتى خرجوا عن المعقول، إذ لا يعقل أن نحكم على عقد واحد بتخريجين فقيهيين. الراجح والله أعلم مذهب الحنابلة وهو أنها فسخ لأن هذا هو حقيقة العقد، لأن مقصود كل من البائع والمشتري في الإقالة رفع العقد لا إنشاء عقد جديد. * * مسألة/ وإذا قلنا إن الإقالة فسخ فهل هي فسخ للعقد من أصله أو فسخ للعقد من حينه؟ اختلف الحنابلة في هذا اختلافاً كثيراً والأقرب والله أعلم الذي مال إليه أيضاً شيخ الإسلام أن الإقالة فسخ للعقد من حينه لا من أصله، يعني: فسخ للعقد من حين اتفق والطرفان على الفسخ، بينما على القول الآخر إذا فسخا العقد تبين أنه مفسوخ من أصل العقد، وتقدم معنا الفرق بين المسألتين مراراً،، فإذا باع زيد على عمرو سيارة وطلب المشتري الفسخ بعد يوم من إجراء العقد، فعلى القول بأنها فسخ. للعقد من أصله يكون العقد انفسخ من متى؟: من اليوم الأول يعني من الأمس، وعلى القول بأن الإقالة فسخ من حينه يكون العقد انتهى من يوم الفسخ، وإذا جرى العقد الآن وطلب الفسخ الآن – جرى العقد في الساعة الخامسة وجرت الإقالة في الساعة الخامسة واتفق الطرفان، فهل هناك فرق بين القولين؟ لا. لا يوجد فرق، لأن وقت الإقالة وأصل العقد صار واحداً.

تبين الآن معنا أن الإقالة فسخ فسيذكر المؤلف – رحمه الله – فروعاً تنبني على القول بأن الإقالة فسخ وأحب أن أشير إلى أن الشيخ الفقيه الكبير ابن رجب ذكر في القواعد أمثلة وفروعاً وفوائد كثيرة تنبني على القول بأن الإقالة فسخ أو أنها بيع، فالإمام أحمد عنه في هذه المسألة روايتان: الرواية الأولى: أنها فسخ، والرواية الثانية: أنها بيع. فيذكر الأمثلة الفقهية ثم يقول على الرواية الأولى: تجوز، وعلى الرواية الثانية: لا تجوز، وذكر لهذا الخلاف فروعاً كثيرة، فمن المفيد جداً لطالب العلم أن يراجعها، فإنته ينمي ملكة الطالب الفقهية على التطبيق فيما اختلف فيه أهل العلم. - قال – رحمه الله -: في بيان بعض الفروع وكأنه اختار بعض المهمة: - تجوز قبل قبض المبيع. هذا هو الفرع الأول: أن الإقالة تجوز قبل قبض المبيع حتى في الأعيان التي لا يجوز أن تباع إلا بعد القبض، لماذا؟ لأن اشتراط القبض إنما هو في البيع، ونحن نفترض أنم الإقالة ليست بيعاً وإنما فسخ، ولذلك يجوز كما قال المؤلف – رحمه الله -: قبل قبض المبيع. الفرع الثاني: - قال – رحمه الله -: - بمثل الثمن. يعني: تجوز الإقالة بمثل الثمن تماماً بلا زيادة ولا نقصان فإن زاد أو نقص فالعقد ليس بصحيح. الدليل: - الدليل على هذا: أن الإقالة عقد موضوع للإرفاق والإحسان برد البيع فإذا زاد في الثمن خرجت عن موضوعها. = القول الثاني: وهذا القول لا يحفظ عن الإمام أحمد نصاً ولكن أومأ إليه إيماء كما قال الحافظ ابن رجب – رحمه الله – أما نصاً فليس عن الإمام أحمد نص في الجواز. ما هو القول الثاني؟ القول الثاني: أنه تجوز الإقالة بأكثر من الثمن حتى إذا اعتبرنا الإقالة فسخاً. واستدلوا على هذا: - بأن الزيادة في الثمن تقابل النقص الحاصل برد السلعة. وأريد أن أنبه هنا إلى مسألة: وهي: أن المسائل المترتبة على كون الإقالة فسخ أو بيع لا تأتي في مسألة بمثل الثمن. ما معنى هذا الكلام؟ عن الإمام أحمد رواية أنه: فسخ، وعنه أنها: بيع. فعلى القول بأنها فسخ: لا يوجد في المذهب قول بجواز الزيادة في الثمن. وعلى القول بأنها بيع ففي المذهب قولين في جواز زيادة الثمن، وما هي فائدة هذا الكلام؟

باب الربا والصرف

فائدة هذا الكلام: أنه إذا اخترت أنت أنه فسخ فلا يوجد في المذهب قول بجواز الزيادة على الثمن، وإنما يوجد قول إذا اخترت أنها: بيع. ولذلك يخطئ من يظن أنه يوجد خلاف حتى على القول بالفسخ، لكن كما أشرت في أول الخلاف أشار ابن رجب إلى أن الإمام أحمد أومأ في بعض فتاويه أنه يجوز الزيادة على القول بأنها فسخ، ولولا هذه الإيماءة لم يوجد أحد يقول بجواز الزيادة على القول بأنها فسخ. على كل حال الآن الخلاف ثابت وهو ما أومأ إليه الإمام أحمد. والراجح إن شاء الله: جواز الزيادة بعني: تجوز الإقالة بثمن المثل أو بأكثر إنما هو على القول بأنها فسخ وأما إذا كانت بيع فلا إشكال مطلقاً في جواز الزيادة. - ثم قال - رحمه الله -: - ولا خيار فيها. يعني: لا يثبت الخيار في الإقالة. ومقصود المؤلف - رحمه الله - ب (الخيار) هنا: جميع أنواع الخيارات: فليس فيها خيار مجلس ولا شرط ولا عيب ولا أي نوع من أنواع الخيارات، لأن الخيارات تثبت تبعاً للعقود التي فيها معاوضات والإقالة ليست من عقود المعاوضات يل هي من عقود الفسوخ فلا تثبت فيها الخيارات. = والقول الثاني: أنه يثبت في الإقالة خيار واحد فقط وهو خيار العيب، فإذا رد المشتري السلعة على البائع ثم تبين للبائع أن فيها عيباً حادثاً ثبت له الخيار وله أن يرد الإقالة. وهذا القول الثاني هو الصحيح: لأن البائع إنما رضي بالإقالة إحساناً للمشتري فلا يناسب مع ذلك أن يلزمه بالسلعة المعيبة، وليس هذا من مقتضى عدل الشرع. فهذا القول الثاني إن شاء الله هو الصحيح. - ثم قال - رحمه الله -: - ولا شفعة. يعني ولا تثبت الشفعة في عقد الإقالة: لأن الشفعة تثبت في المعاوضات طرف أجنبي يستحق الشفعة ولا تثبت في العقود التي ليست من عقود المعاوضات فلا شفعة بالإقالة. وهذا كله مرتب على القول: بأن الإقالة فسخ. * * مسألة / أخيرة في هذا الباب، إقالة الإقالة أيضاً مستحبة، وتأخذ أحكام الإقالة، فإذا أقاله ثم طلب البائع من المشتري أن يقيله من إقالته فالإقالة الثانية أيضاً مستحبة وهي فسخ وتأخذ الأحكام السابقة. باب الربا والصرف - ثم قال - رحمه الله -: - باب الربا والصرف. الربا في اللغة الزيادة.

وفي الشرع: الزيادة أو النسأ في أشياء مخصوصة. وقوله: (والصرف). الصرف: هو بيع النقد بالنقد. وفي هذا الباب من الإشكال نظير ما في الباب السابق وقد صرح الشيخ الحافظ الفقيه المفسر ابن كثير بأن هذا الباب من أشكل أبواب البيوع، وصرح غيره من الفقهاء بأن في هذا الباب إشكالاً وخفاء. - قال - رحمه الله -: - يحرم: ربا الفضل. الربا محرم بالكتاب والسنة والإجماع. فمن الكتاب قوله تعالى: (وأحل البيع وحرم الربا). ومن السنة: أحاديث كثيرة: منها: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - عد الربا من السبع الموبقات. وهذا إيغال في التحريم. ومنها: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لعن في الربا آكله وموكله وكاتبه وشاهديه. وأحاديث كثيرة في السنة بعضها صحيح وبعضها حسن وبعضها ضعيف يدل على أن الربا من أكبر الكبائر في الشرع. * * مسألة / وكان في القرن الأول خلاف في ربا الفضل ثم استقر الأمر على تحريم ربا الفضل كتحريم ربا النسيئة، واعتبر كثير من الفقهاء هذا الخلاف منتهياً وأن الإجماع استقر على تحريمه، واعتبر بعض الفقهاء أن الإجماع غير صحيح وأن الخلاف موجود، وبكل حال: الصحيح والذي عليه الجماهير: أن ربا الفضل محرم للنصوص الصريحة الصحيحة الثابتة التي لا مجال لمخالفتها وروي عن المخالف وهو ابن عباس - رضي الله عنه - أنه رجع. وروي أنه لم يرجع فروي عنه الأمران، لكن في الحقيقة هذه المسألة لا طائل من بحثها واستقر الأمر عند المذاهب الأربعة وفقهاء المسلمين السبعة والفقهاء المتبعين كالأوزاعي والثوري ومن لهم إتباع ولو كانوا انقرضوا وابن حزم وغيره إلى أنه استقر الأمر على أن ربا الفضل محرم كتحريم ربا النسيئة.

شرح كتاب البيع الدرس رقم (15) قال شيخنا حفظه الله: بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين. كنت تكلمت في الدرس السابق عن أول باب الربا وتقدم معنا تعريف الربا والصرف وحكم الربا وتوفقنا على قول المؤلف - رحمه الله -: (يحرم: ربا الفضل في مكيل وموزون بيع بجنسه) ومن هنا بداية الشرح إن شاء الله. - فقوله - رحمه الله -: - في مكيل وموزون. إشارة من المؤلف - رحمه الله - لعلة تحريم ربا الفضل ليتمكن الطالب من معرفة الأموال الربوية في الشرع. والأصل في هذا الباب حديث عبادة بن الصامت - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (الذهب بالذهب والفضة بالفضة والبر بالبر والشعير بالشعير والتمر بالتمر والملح بالملح مثلاً بمثل سواء بسواء يداً بيد) هذا الحديث هو أصل الأموال الربوية. وسنأخذ في هذا الحديث عدة مباحث: - المبحث الأول: أن الأعيان الستة المذكورة في الحديث هي من الأموال الربوبية بإجماع العلماء بلا مخالف. - ثانياً: ما عدا هذه الأعيان الستة المذكورة في الحديث انقسم العلماء في إلى قسمين: - منهم من يرى أن هذه الأعيان اعتبرت من الربا لعلة أرادها الشارع فقاس عليها كل الأموال التي تشبهها في العلة. - ومنهم من رأى أن الأموال الربوية هي فقط هذه الأموال الستة المذكورة في الحديث. فتحصل معنا الآن أن هذه المسألة اختلفوا فيها على قولين: = القول الأول: القياس والأخذ بالعلل والمعاني وإلى هذا ذهب الأئمة الأربعة وعامة فقهاء المسلمين والجم الغفير من السلف والخلف. واستدل هؤلاء بأدلة: - الدليل الأول: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (الطعام بالطعام مثلاً بمثل) فقوله - صلى الله عليه وسلم - (الطعام) إشارة إلى أن المعدودات في الحديث لا يقصد الاقتصار عليها. - الدليل الثاني للجاهير: بأن المعلوم والمعهود في الشرع اعتبار العلل والمعاني التي على وفقها جاء الشرع وتعدية الحكم إلى كل ما تنطبق فيه المعاني الموجودة في النص. = القول الثاني: أن الأموال الربوية هي فقط الأعيان الستة. - لأن الشارع الحكيم لو أراد تعدية الحكم إلى غير هذه الأموال الستة لقال " الربا في الموزوزنات والمكيلات " ولم يعدد الأعيان.

وإلى هذا ذهب الظاهرية واختاره من علماء المعاني والقياس ابن عقيل من الظاهرية والصنعاني من شراح الأحاديث. والراجح إن شاء الله القول الأول: لأن المعهود في الشرع التعويل على العلل والمعاني والقياس. ولأن الشارع كثيراً ما يعلق الحكم بأسماء ونعديه إلى ما يشبه هذه الأسماء من المعاني. - المسألة الثالثة: اتفق الذين يرون تعدية الحكم إلى غير هذه الأصناف الستة – هؤلاء اتفقوا على أن الأموال الربوية المذكورة في الحديث تنقسم إلى فئتين: - الفئة الأولى: الأثمان: وهي الذهب والفضة. - والفئة الثانية: بقية الأعيان الأربعة: البر والشعير والتمر والملح. واتفقوا على أن لكل فئة الفئتين علة خاصة، ثم اختلفوا في تحديد علة الفئة الأولى علة الفئة الثانية إلى أقوال: نبدأ أولاً بعلة الربا في الذهب والفضة. اختلف العلماء في علة الربا في الذهب والفضة إلى أقوال: = القول الأول: وهو المذهب وأيضاً مذهب الأحناف. أن العلة هي الوزن، فكل الموزونات يحرم فيها التفاضل، كالحديد والحرير والنحاس والرصاص وكل شيء يوزن فلا يجوز أن نبيع كيلوا حديد بكيلوين. واستدلوا: - بأن النبي – صلى الله عليه وسلم – قال: (مثلاً بمثل، سواء بسواء) فاشترط المثلية والتساوي وهي لا تعلم إلا بالوزن فدل ذلك على أنها علة الحكم. وأجيب عن هذا الدليل: بأن هذا الدليل غير مضطرد، ويشترط في العلة أن تضطرد. دليل عدم الأضطراد: جواز بيع الموزونات بالذهب والفضة فيجوز أن نبيع ذهب بحديد ولو متفاضلاً ولو مؤخراً، فدل هذا على ضعف هذا التعليل. = القول الثاني: أن العلة هي غلبة الثمنية وهي على تختص – عند هؤلاء – بجوهر الذهب والفضة فلا تتعداه إلى غيرهما من المعادن، وهذا مذهب الشافعية. واستدلوا على هذا: - بأن الذهب والفضة لهما صفات لا توجد في غيرهما من الأعيان. وعلى هذا القول: لا يجري الربا في الفلوس ولا في الأوراق النقدية لأن الحكم يختص بعين الذهب والفضة. = القول الثالث: وهو رواية عن الإمام أحمد وقول للمالكية واختيار شيخ الإسلام بن تيمية وابن القيم وعدد كبير من المحققين: أن العلة هي مطلق الثمنية لا غلبة الثمنية.

وعلى هذا القول يتعدى الحكم إلى كل ما هو أو ما اعتبر أو ما اتخذ ثمناً للأشياء، فيدخل الأوراق النقدية والفلوس وكل ما اتخذ ثمناً للأشياء. واستدل هؤلاء بأمرين: - الأمر الأول: أن النبي – صلى الله عليه وسلم – إنما ذكر الذهب والفضة لأنهما أثمان الأشياء. - والأمر الثاني: أن المعنى يدل على هذا القول لأنه يجب أن تكون أثمان الأشياء ثابتة القيمة لا تباع ولا تشترى ولا تزيد ولا تنقص لأنه بها تعرف قيم الأشياء، فإذا كانت تزيد وتنقص لم يمكن أن نعرف أقيام الأشياء. مثال موضح: لو أن الريال صار يباع ويشترى فتارة بريالين وتارة بثلاثة وتارة بريال ثم قيل: كم قيمة هذا البيت؟ أو كم قيمة هذا الإناء؟ مثلاً: فقيل: بريال فهنا يحصل إشكال: ماذا تقصد بريال: الريال الذي قيمته ريالين أو الريال الذي قيمته ثلاثة أو الريال الذي قيمته ريال. فيختل ميزان قيم الأشياء، فدل ذلك على أن كل ما هو ثمن للأشياء يجب أن تبقى قيمته ثابتة. وفي الحقيقة هذا الدليل هو الدليل المعول عليه في رجحان القول الثالث. وعلى هذا القول الثالث تدخل معنا الأوراق النقدية والفلوس وكل ما وضع ثمناً للأشياء. وعلى هذا القول الثالث العمل في باب الربا وفي باب الزكاة، لأنه إذا قيل أن الأوراق النقدية لا تدخل في الأموال الربوية فإنها كذلك لا تجب فيها الزكاة لأن الزكاة والربا كلاهما معلق بمسمى الذهب والفضة وهذه الثمرة تدل على ضعف قول الشافعية بأن الذهب والفضة يجري فيهما لذات معدنها. الخلاصة: أن الراجح إن شاء الله هو القول الأخير وكما قلت عليه العمل وتدل عليه المعاني العامة في الشريعة. ولا يخفى عليكم أن الصنفان الأولان: الذهب والفضة من الموزونات والأربعة المكيلات. ثانياً: علة الربا في الأنصاف الأربعة. اختلف الفقهاء في علة الربا في الأصناف الأربعة: = فذهب الحنابلة والأحناف أيضاً إلى أن علة الربا الكيل فقط ولا يشترط معه أن يكون مطعوماً فكل مكيل فيه الربا سواء كان مطعوماً كالبر والشعير أو ليس بمطعوم كالأشنان، فكل مكيل فهو يجري فيه الربا فلا يجوز بيع بعضه ببعض متفاضلاً. واستدل هؤلاء: وهم الحنابلة والأحناف.

- بقريب مما استدلوا به في مسألة علة الذهب والفضة وهو أن الحديث نص على التساوي وهو يعرف بالكيل. والجواب على هذا الاستدلال: أن الحديث وإن نص على التساوي ففيه أيضاً معنى الطعام ويدل على ذلك ويؤكده قوله – صلى الله عليه وسلم -: (الطعام بالطعام مثلاً بمثل سواء بسواء) فهذا الحديث دليل على اعتبار هذا المعنى وهو وجود الطعم أي أن يؤكل. = القول الثاني: وهو مذهب الشافعية أن العلة في الأصناف الأربعة الاقتياب والادخار، يعني: يشترطون أن يكون مدخراً مقتاتاً. واستدلوا على هذا: - بأن الأصناف الأربعة المذكورة في الحديث تشتمل على المعنيين أنها قوتاً ومدخرة فاعتبرنا المعنى الموجود في النص. وإلى هذا القول ذهب ابن القيم – رحمه الله -. والجواب عليه: أن النص ذكر ما يدخر ويقتات وما لا يدخر ولا يقتات. فمما لا يقتات: الملح، فالملح لا يعتبر من القوت وهو مذكور في الحديث، ومما لا يدخر: بعض أنواع التمر وهو النوع الذي يؤكل رطباً ولا يدخر تمراً يابساً فهذا النوع من التمر لا يدخر ومع ذلك نص الحديث على أن فيه ربا. = القول الثالث: وهو رواية عن الإمام أحمد – رحمه الله – واختارها شيخ الإسلام ابن تيمية أن العلة هي: الطعم مع الكيل أو الوزن. واستدل هؤلاء: بأن هذا في هذا القول جمع بين أدلة المذاهب الأخرى ففيه اعتبار الطعم وفيه اعتبار الكيل. هذه هي الأقوال وكما سمعت: القول الثالث ينسب لشيخ الإسلام ابن تيمية، لكني وجدت للشيخ قولاً آخر في الفتاوى غير هذا القول فيكون له في المسألة قولان: = وهذا القول هو: أن علة الربا هي الطعم مع الاقتيات وما يصلحه، وإنما قال الشيخ – رحمه الله -: (وما يصلحه) ليدخل معنى الملح لأن الملح يتخذ لإصلاح المطعومات التي تتخذ قوتاً بل إن غالب تفريعات شيخ الإسلام – رحمه الله – ترجع لهذه العلة لا للعلة المذكورة في القول الثالث.

وأقوى الأقوال: القول الثالث والرابع، أن العلة: إما أن تكون الطعم مع الكيل أو الوزن أو تكون الطعم مع أن يتخذ قوتاً، وإن كان القول الأخير أظهر فيما يبدو لي، لأن الأعيان المذكورة في الحديث تجمع هذه الصفات وإذا كانت العلة خفية العلة من أجلها جعل الشارع هذه الأموال ربوية ليست ظاهرة ظهوراً بيناً فالواجب أن نأخذ جميع الصفات الموجودة ومن أبرز الصفات الموجودة في المطعومات الأربع أنها قوت للناس يقتاتون فاعتبار هذا الوصف في الحقيقة جيد وسليم ولو كان فيه قول يقول أن العلة هي الطعم مع الكيل والوزن والقوت لكان قولاً قوياً جداً لكني لم أقف على أحد صرح بأن العلة مرتبة من جميع صفات الأموال الأربع لكن لو قيل به لكان قولاً وجيهاً جداً ورجحانه بين في ذلك. وعلى طريقة شيخ الإسلام الذي يقول: يجوز أن نأخذ بعض هذا القول وبعض هذا القول ولا نكون بذلك خرجنا عن الأقوال يكون هذا القول الخامس هو الراجح. وبهذا نضيق نطاق الربا تماماً لأنه لا يوجد الربا إلا حيث توجد جميع الصفات وبهذا يستطيع طالب العلم الآن أن يعرف ما هي الأموال الربوية في تطبيق العلة أياً كانت العلة على الأموال الموجودة في تعاملات الناس فيعرف هل هي من الربا أو ليست من الربا. فإذا قيل لك: هل يجوز بيع النحاس بالنحاس متفاضلاً؟ فستقول: - أما عند الحنابلة فلا لأن العلة عندهم هي الوزن. - وأما على القول الراجح: فنعم. لأن العلة هي الثمنية وليست موجودة في النحاس. إذاً هكذا يستطيع الإنسان أن يطبق العلل. - ثم قال – رحمه الله -: - يحرم ربا الفضل في مكيل وموزون بيع بجنسه. سيبين المؤلف – رحمه الله – ما مقصود الفقهاء بقولهم: (بجنسه) لكن الذي يعنينا الآن أنه إذا بيع ربوي بجنسه فإنه يحرم التفاضل فلا يجوز أن نبيع كيلو ذهب بكليوين، ولا كيلو فضة بكيلوين، وهكذا. ولا يجوز أن نبيع صاع بصاعين ولا صاع بر بصاعين وإنما يحب أن نبيع صاعاً بصاع وهو المقصود بالتساوي. والدليل على ذلك: ما تقدم معنا من قوله: (مثلاً بمثل، سواء بسواء، يداً بيد) فهذا الحديث نص على أنه يجب أن نبيع الأعيان الربوية متساوية.

وتقدم معنا في الدرس السابق أن البحث إنما هو في: ربا الفضل وسيخصص المؤلف - رحمه الله - فصلاً مستقلاً لربا النسيئة. - ثم قال - رحمه الله -: - ويجب فيه الحلول والقبض. مقصود المؤلف - رحمه الله - أنه إذا اتحد الجنس فإنه يجب مع التساوي: الحلول والتقابض فمع اتحاد الجنس واتحاد العلة لابد من الحلول والتقابض ولابد من التساوي. وإذا قال الإنسان: اتحاد الجنس فإنه لا يحتاج مع ذلك أن يقول اتحاد العلة لأنه إذا كان الجنس واحد فنحن لسنا بحاجة إلى أن نعرف العلة لأنه هو جنس واحد والجنس في المثال المذكور - مثلاً - الذهب فلا يجوز أن نبيع الذهب إلا بشرطين: - التساوي. - والتقابض. والقسمة هنا في هذه المسألة رباعية لأن عندنا جنس وعندنا علة يخرج الإنسان منهما أربعة أنواع وسيأتينا حكم كل نوع، يعني: - إذا اتفق الجنس اختلفت العلة. - إذا اختلفت العلة اتفق الجنس. - إذا اختلفا كلاهما. - إذا اتفقا كلاهما. وسيأتي في كلام المؤلف - رحمه الله - حكم كل قسم. - ثم قال - رحمه الله -: - ولا بياع: مكيل بجنسه إلا كيلاً، ولا موزون بجنسه إلا وزناً. لما بين المؤلف - رحمه الله - وجوب التساوي إذا باع ربوياً بجنسه وأنه يحرم التفاضل بين كيفية معرفة التساوي وهو: أن هذا التساوي الواجب يجب أن يعتبر بمقياسه أو بمعياره الشرعي. ومعياره الشرعي هو: أن المكيل لا يباع إلا بالكيل، والموزون لا يباع إلا بالوزن. فلا يجوز أن نبيع المكيلات بالوزن، ولا يجوز أن نبيع الموزونات بالكيل. السبب: السبب أن الشارع اعتبر تساوي المكيلات بالكيل واعتبر تساوي الموزونات بالوزن فلا يجوز أن ننقل أحدهما للآخر. ولا يخفى عليك أن المعتبر في الكيل هو الحجم والمعتبر في الوزن هو الثقل، فقد يتساوي الشيئان كيلاً ويختلفان في الوزن، وقد يحصل العكس. الدليل على ذلك - على اعتبار الوزن في الموزونات والكيل في المكيلات، الدليل على ذلك: - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (الذهب بالذهب، والفضة بالفضة، وزناً بوزن سواء بسواء) وهذا الحديث في مسلم، فقوله: (وزنا بوزن) نص على أن أداة معرفة التساوي هي الوزن وليست الكيل. وأما في المكيلات فالدليل عليه:

- قوله – صلى الله عليه وسلم -: (البر بالبر كيلاً بكيل). فهذا دليل على أن المعيار الشرعي في معرفة تساوي المكيلات هو الكيل لا الوزن. واستثنى شيخ الإسلام – رحمه الله – من هذه القاعدة الأعيان التي لا تختلف بالوزن والكيل يعني: إن كلتها وتساوت أو وزنتها وتساوت فالأمر واحد، ومثل على ذلك: بالمائعات، فإذا أراد الإنسان أن يبيع ويشتري زيتاً بزيت فإن شاء وزناً وإن شاء كيلاً لأن الأمر سيان لا يختلف في الوزن والكيل بالنسبة للمائعات، وهذا القول من حيث النظر صحيح. لكن لو أن البائع احتاط واكتفى بالمعيار الشرعي المذكور في الأحاديث لكان أولى. - ثم قال – رحمه الله -: - ولا بعضه ببعض جزافاً. لا يجوز أن نبيع الربويات بعضها ببعض جزافاً. - لأن القاعدة الشرعية المتفق عليها أن الجهل بالتساوي كالعلم بالتفاضل والعلم بالتفاضل فالجهل بالتساوي. إذاً الجهل بالعلم كالعلم بالتفاضل والعلم بالتفاضل محرم بنص الأحاديث السابقة فلا يجوز أن نبيع جزافاً لعدم العلم بالتساوي. - ثم قال – رحمه الله -: - وإن اختلف الجنس: جازت الثلاثة. المقصود بالثلاثة: الكيل والوزن والجزاف. فإذا اختلف الجنس فإنه يجوز التفاضل، وإذا جاز التفاضل جاز لنا أن نبيع المكيلات وزناً والموزونات كيلاً وأن نبيع الجميع جزافاً، لأن التحديد بالكيل والوزن والمنع من الجزاف إنما هو لاشتراط التساوي، فإذا سقط في اختلاف الجنس سقط المعيار الشرعي تبعاً له. فإذا باع الإنسان الذهب بالفضة: هنا اختلف الجنس، فيجوز أن نبيع الذهب بالفضة كيلاً وزناً بزيادة أو بنقص أو جزافاً. وإذا باع الإنسان البر بالشعير فكذلك يجوز أن يبيع بالوزن وبالكيل وبالجزاف لأن التساوي لا يشترط. ثم انتقل – رحمه الله – إلى بيان الجنس المذكور في الأحكام. - فقال - رحمه الله -: - والجنس: ماله اسم خاص يشمل أنواعاً كبر ونحوه. الجنس هو: الشامل لأشياء مختلفة بأنواعها. بينما النوع هو: الشامل لأشياء مختلفة بأشخاصها. فالنوع: تحت الجنس. فالبر تحته أنواع. والتمر جنس أنواع: كالسكري والبرحي وغيره من أنواع التمر. الذهب جنس تحته أنواع لأن لكل نوع من الذهب بحسب البلدان والجودة اسم خاص فتحته أنواع.

أما النوع فهو الذي يشمل أشياء مختلفة بأشخاصها، فإذا كان عند زيد بر وعند عمرو بر فهذا البر: جنس تحته أنواع: التمر: جنس تحته أنواع. يقول الشارح ابن أبي عمرو: أن النوع هو الشامل لأشياء مختلفة بأشخاصها، فإذا كان عند عمرو تمر سكري وعند خالد تمر سكري فهذه مختلفة: بأنواعها، يعني: بأشخاصها، فهذا التمر غير هذا التمر وإن كان الجميع من نوع واحد فهي تختلف لكن لا باعتبار الحقيقة وإنما باعتبار ذاتها يعني باعتبار شخصها. مثال آخر: الحيوان جنس تحته أنواع: الإنسان والبقر والغنم هذا عند أهل المنطق هكذا، الحيوان جنس تحته أنواع. إذاً الإنسان بالنسبة للحيوان: نوع. وهو يختلف بأشخاصه فعمرو غير زيد خالد والجميع يعتبر من نوع واحد وهو الإنسان، إذاً: الآن عرفنا المقصود بالجنس. ففي الأموال الربوية كل واحد من الستة يعتبر: جنس. فالذهب: جنس، والفضة: جنس، والشعير: جنس والبر: جنس، والتمر: جنس، والملح: جنس. فإذا قيل: لا يباع الشيء بجنسه إلا متساوياً مع القبض والحلول: يعني: ما نبيع الذهب ولا البر بالبر ... إلخ. إذاً عرفنا معنى قول المؤلف – رحمه الله -: (والجنس ماله اسم خاص أنواعاً كبر ونحوه). - ثم قال – رحمه الله -: - وفروع الأجناس أجناس. فروع الأجناس أيضاً هي أجناس، لأنها تتبع الأصل فإذا كان الأصل جنسا ًفالفرع تابع للأصل فهو أيضاً جنس. لما قرر المؤلف – رحمه الله – هذه القاعدة وهي أن فروع الأجنس أجناس مثل لها: - فقال – رحمه الله -: - كالأدِقة: الأدقة: جمع دقيق. فدقيق البر: جنس. ودقيق الشعير: جنس. لماذا؟ لأن فروع الأجناس أجناس. فدقيق البر فرع عن البر، ودقيق الشعير فرع عن الشعير، فهي أجناس كأصولها. - ثم قال – رحمه الله -: - والأخباز. فخبز البر جنس، وخير الشعير: جنس، وهي جنس بالنسبي لغيرها لا بالنسبة لأصلها. فلا يجوز أن نبيع خبز البر بالبر إلا متساوياً. ولا يجوز أن نبيع خبز الشعير بالشعير إلا متساوياً. فهي أجناس (صحيح) لكن لا بالنسبة إلى أصولها وإنما بالنسبة لغيرها. فهل خبز البر جنس بالنسبة للشعير؟ نعم. خبر البر جنس بالنسبة للشعير. وهل دقيق البر جنس بالنسبة لعبيط التمر؟ نعم. صحيح.

وهل عبيط التمر جنس بالنسبة للتمر؟ لا. لأن الشيء لا يكون جنس بالنسبة لأصله. إذاً عرفنا أن فروع الأجناس أجناس إلا بالنسبة لأصولها. - ثم قال – رحمه الله -: - والأدهان. الأدهان نفس الشيء، نفس القاعدة. فدهن السمسم يختلف عن دهن العود وإن اتفقا في الاسم فكل منعهما يسمى دهناً، لكن ينظر إلى أصله ففروع الأجناس أجناس، فدهن السمسم جنس ودهن العود جنس وكل دهن جنس – مستقل – بالنسبة لأصله، يعين: أن دهن السمسم لما كان دهناً ناتجاً عن السمسم فهو أصل بينما دهن العود ناتج عن العود فهو أصل لكن لا بالنسبة لأصله. فهو جنس بالنسبة لأصله لغيره لكن ليس الجنس بالنسبة لأصله فهل يجوز أن نبيع دهن السمسم بالسمسم؟ لا. لا يجوز إلا بشرط التساوي. إذاً: القاعدة التي ذكرناها في الأدقة والأخباز هي نفسها في الأدهان. - ثم قال – رحمه الله -: - واللحم أجناس باختلاف أصوله. وفي الحقيقة لو طبقت القاعدة السابقة لعرفت هذا الحكم، فهو يقول: أن اللحم بالنسبة لأجناسه أصول، فلحم الماعز: أصل، ولحم البقر: أصل. ولحم الإبل: أصل، ولحم الدجاج: أصل. فاللحوم أجناس بالنسبة لأصولها. فهل يجوز أن أبيع كيلو من لحم الغنم بكيلوين من لحم البقر؟ يجوز. وهل يجب التقابض؟ نعم يجب التقابض. وهذا سيأتينا في ربا النسيئة. إذاً يجب التقابض لكن يجوز التفاضل لأن فروع اللحم تعتبر أجناساً مختلفة إلا أنهم قالوا: أن الضأن والماعزم جنس واحد والقبر والجواميس جنس واحد. أما بالنسبة لباقي اللحوم فكل لحم بالنسبة إلى أصله جنس مستقل. إذاً هذا معنى قول المؤلف – رحمه الله -: (واللحم أجناس باختلاف أصوله). - ثم قال – رحمه الله -: - وكذا اللبن: كذلك اللبن أجناس بالنسبة لأصوله. فلبن الماعز جنس ولبن البقر جنس ولبن الإبل جنس، ولبن كل ما يشرب جنس من المطعومات المباحة شرعاً. بينما لبن الأتان مثلاً – هل هو جنس مستقل أو هو تابع لغيره؟ هو جنس لكنه لا يدخل معنا لأنه لا يجوز شربه. فلا يجوز أن نبيع كيلو من حليب البقر بكيلو من حليب الأتان لا لعلة الربا وإنما لعلة أخرى وهي: أنه تقدم معنا أن من شروط المبيع أن يكون مباح النفع، إذاً هو ممنوع لهذه الجهة. - ثم قال – رحمه الله -:

- والشحم والكبد أجناس. لما بين – رحمه الله – اللحوم بالنسبة للحيوانات أراد أن يبين أجزاء الحيوان الواحد، فهو يقول – رحمه الله – اللحم والشحم والكبد كل واحد منهن جنس مستقل، فيجوز أن نبيع كيلو لحم بعشرة كيلو شحم، ويجوز أن نبيع كيلو من الكبد بكيلوين من الشحم، لماذا؟ لأن اللحم والكبد والشحم كل واحد منها جنس مستقل، ما الدليل؟ قالوا: الدليل على هذا أن كلاً من هذه الأشياء يستقل باسم وحقيقة مختلفة، فدل ذلك على أن كل واحد منها يستقل بجنس بالنسبة للآخر. وهذا صحيح. وهذا كله: على القول بأن اللحم من الأموال الربوية. وأما على القول بأنه لابد أن يكون المال الربوي، لابد: يشترط فيه القوت، فهل يعتبر اللحم ربوياً أو ليس من الربويات؟ ليس من الربويات، إلا في مكان يقتاته الناس، والمقصود بالقوت: يعني: أن يكون قوتاً يأكل منه جميع الناس ويشتركون فيه، فهو الآن عندنا ليس بقوت لكن قد يكون من الأقوات في البلاد الباردة فاللحم يعتبر قوتاً ووجبة أساسية. - ثم قال – رحمه الله -: - ولا يصح: بيع لحم بحيوان من جنسه، ويصح: بغير جنسه. هذه المسألة هي مسألة حكم بيع اللحم بالحيوان. = فالحنابلة يقولون: أنه يجوز بيع اللحم بالحيوان إذا كان مكن غير جنسه. فإذا أردت أن تبيع لحم غنم ببقرة، فهل يجوز أو لا يجوز؟ جائز، لأنه بغير جنسه. وإذا أردت أن تبيع لحم غنم بماعز فإنه لا يجوز لأنه بجنسه. وستأتينا الأدلة بالأقوال. = القول الثاني: أنه لا يجوز بيع اللحم بالحيوان مطلقاً بدون تفصيل. واستدل هؤلاء بدليلين: - الأول: مرسل سعيد بن المسيب: أن النبي – صلى الله عليه وسلم – (نهى عن بيع اللحم بالحيوان). ومر معنا مراراً أن مراسيل سعيد من المسيب من أصح المراسيل، وأثنى عليها الأئمة ثناءً كثيراً. - الثاني: أنه روي عن أبي بكر الصديق – رضي الله عنه – أنه كره بيع اللحم بالحيوان، وعقب الإمام الشافعي على هذا الأثر بقوله: ولا أعلم خلافاً عن غيره، فظاهر عبارة الشافعي أنه لا يوجد خلاف عن الصحابة أو بين الصحابة عن غير أبي بكر بالمنع. وبعبارة أوضح: لم يخالف أبو بكر أحد من الصحابة.

= القول الثالث: التفصيل، وهو: إن كان المقصود من بيع اللحم بالحيوان: اللحم فلا يجوز. وإن كان المقصود ببيع اللحم بالحيوان غير اللحم: يعني: الحيوان. فيجوز. مثاله: إذا باع الإنسان لحم الإبل بفرس: فإنه معلوم أن مقصوده الفرس لأن الفرس عادة تتخذ لا للحم وإنما للركوب، فهنا يجوز لأنه لا يقصد اللحم. أما إذا باع لحماً بحيوان يقصد للحم فلا يجوز للنصوص العامة. وظهر من القول الأخير أنهم لا يفرقون بين قضية بجنسها وبغير جنسها لم يتطرقوا إليها وإنما جعلوا الضابط: قصد اللحم وعدمه. وهذا القول الأخير اختيار شيخ الإسلام واختيار ابن القيم – رحمهما الله -. فإذاً عرفنا الآن الأقوال الثلاثة في المسالة وحجة كل قول. - قال – رحمه الله -: - ولا يجوز: بيع حب بدقيقه. لا يجوز أن نبيع الحب بالدقيق. - لأن الدقيق يأخذ من المكيال مكاناً أكبر من الحبوب فتفوت المساواة وهي واجبة. = القول الثاني: وهو رواية عن الإمام أحمد – رحمه الله – اختارها من المحققين ابن قاضي الجبل وهو أنه يجوز بيع الحب بدقيقه لأن غاية ما هنالك أنه بيع حب بحب مكسر لكن لا يباع على القول بالجواز إلا وزناً لأن التساوي متعذر كيلاً. وهذا القول هو الصواب إن شاء الله. وتقدم معنا أن المعتبر في المساواة كل شيء بالمعيار الشرعي، والبر معياره الشرعي الكيل، وإنما خرجنا عن المعيار الشرعي لسبب وهو أن التساوي لا يمكن تحصيله بالكيل ولذلك خرجنا عنه إلى الوزن. وهذا إن شاء الله أقرب. - ثم قال – رحمه الله -: - ولا سويقه. يعني: ولا يجوز أن نبيع الحب بسويقه، والسويق هو: دقيق البر يحمص مع السمن والزيت. فهذا لا يجوز أن يباع والعلة أن النار تعقد وتنقص الدقيق فلا تحصل المساواة، ونحن نقول: إن كل شيء يباع بجنسه من الأموال الربوية لابد في من المساواة. - ثم قال – رحمه الله -: - ولا نيئه بمطبوخه. يعني: ولا يجوز أن نبيع النيء بالمطبوخ كأن يبيع الإنسان الحنطة بالهريسة، فالحنطة حب نيء والهريسة مطبوخة. وسبب المنع: عدم معرفة التساوي لأن الماء الذي في الطبخ يزيد من الوزن مما يجعل التساوي متعذر. - ثم قال – رحمه الله -: - وأصله بعصيره. يعني: ولا يجوز أن نبيع أصل الشيء بعصيره.

فلا يجوز أن نبيع زيتون بزيت زيتون. لأنه لا يمكن التحقق من التساوي. - ثم قال – رحمه الله -: - وخالصه بمشوبه. يعني: ولا يجوز أن نبيع الخالص بالشوب. فلا يجوز أن نبيع صاع بر بصاع بر مشوب بشعير. لأن التساوي غير متحقق الآن. ويستثنى من ذلك: إذا كان الشعير يسير جداً لا يؤبه له، فإذا كان يسيراً لا يؤبه له: فهو جائز. - ثم قال – رحمه الله -: - ورطبه بيابسه. فلا يجوز أن نبيع العنب بالزبيب ولا الرطب بالتمر. لأنه لا يحصل التساوي. فهذه المسائل التي سردها المؤلف – رحمه الله – العلة فيها واحدة وهي: أنا لا نأمن من التفاضل وهو محرم. - ثم قال – رحمه الله -: - ويجوز: بيع دقيقه بدقيقه إذا استويا في النعومة. يجوز أن نبيع دقيق الشيء بدقيقه، لأن التساوي حاصل الآن بشرط: أن يتساويا في النعومة. ((الأذان)). بشرط أن يتساويا في النعومة، لأنهما إذا لم يتساويا في النعومة أخذ الحب غير المطحون تماماً حيزاً أكثر من المطحون فلم تحصل المساواة المشترطة شرعاً. إذاً إذا استوى الدقيق مع الدقيق نعومة جاز لأنا نأمن عدم التفاضل لتساويهما في مقدرا الطحن. - ثم قال – رحمه الله -: - ومطبوخه بمطبوخه. يعني: ويجوز بيع المطبوخ بالمطبوخ كسمن بسمن مطبوخ. فيجوز أن نبيع مطبوخ الربوي بمطبوحه. لنفس العلة: أنه إذا تساويا في الطبخ ثم كيلا وتساويا في الكيل أمنا المساواة وأنها مساواة حقيقة. - ثم قال – رحمه الله -: - وخبزه بخبزه إذا استويا في النشاف. أو في الرطوبة: فالمهم أن يستويا في الصفة. ولكن بالنسبة للخبز تكون المساواة بالوزن لا بالكيل أيضاً كما في المسألة السابقة لأنه تتعذر المساواة بالكيل فنصر إلى الوزن. ونستطيع أن نقول هذه قاعدة أن المكيلات إذا لم نتمكن من مساواتها ببعضها كيلاً جاز لنا حينئذ فقط أن نصير إلى الوزن. ثم قال – رحمه الله -: وعصيره بعصيره. يعني: عصير ربوي بعصير ربوي كزيت زيتون بزيت زيتون أو زيت سمسم بزيت سمسم فيجوز لنا أن نبيع العصير بالعصير لأن المساواة حينئذ متحققة. وتقدم معنا أن على مذهب شيخ الإسلام بالنسبة للمائعات يجوز أن نحقق المساواة بالكيل أو بالوزن. - ثم قال – رحمه الله -: - ورطبه برطبه.

يجوز أن نبيع رطب الربوي برطبه كأن نبيع العنب بالعنب أو الرطب بالرطب لأن المساواة متحققة لتساويهما في الصفة وإن وجد اختلاف يسير فهو لا ينظر إليه، يعني: قد يكون الرطب من بعض بشيء يسير فهذا لا ينظر إليه. أما إذا كان الفرق بينهما شيء واضح وكبير فلا يجوز، فلابد أن يكون مستوى الرطوبة متقارب أو متساوي. - ثم قال - رحمه الله =: - ولا يباع ربوي بجنسه ومعه أو معهما من غير جنسهما. هذه مسألة مد عجوة ودرهم وتحتاج إلى وقت طويل ... والله أعلم وصلى الله على نبينا محمد ...

شرح كتاب البيع الدرس رقم (16) قال شيخنا حفظه الله: بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين. شرع المؤلف - رحمه الله - ببيان مسألة مشهورة والحاجة إليها كثيرة وصور وقوعها في المعاملات المعاصرة أيضاً كثيرة وهي مسألة كما أشرت بالأمس: مد عجوة ودرهم. - يقول - رحمه الله -: - ولا يباع ربوي بجنسه ومعه أو معهما من غير جنسهما. شملت عبارة المؤلف - رحمه الله - صوراً: ـ الصورة الأولى: أن يبيع مد عجوة ودرهم بدرهمين. ـ الثانية: مد عجوة ودرهم بمد عجوة ودرهم. ـ الثالثة: مد عجوة ودرهم بمدين. وهذا معنى قول المؤلف - رحمه الله - هنا: (ومعه أو معهما من غير جنسهما) واختلف الفقهاء في حكم هذه المسألة وهو: أن يبيع الإنسان ربوي بربوي ومعه أو معهما من غير جنسهما كما في الأمثلة الثلاثة: اختلفوا في هذه المسألة: هل هي من مسائل الربا فلا تجوز أو ليست كذلك فتجوز: = فالحنابلة يرون: أنها لا تجوز. واستدلوا على هذا: - بالحديث الصحيح: أن فضالة بن عبيد - رضي الله عنه - قال: اشتريت يوم خيبر قلادة من خرز باثني عشر ديناراً قال ففصلتها - هكذا شدد بالتشديد في مسلم - فوجدت فيها يعني بعد الفصل اثني عشر ديناراً فسألت النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: (لا. إلا أن تفصل)

قال الحنابلة هذا الحديث صريح بمنع مسألة مد عجوة ودرهم. لأنه اشترى دنانير بقلادة فيها خرز وفيها دنانير ومنع النبي - صلى الله عليه وسلم - منها فدل ذلك على أن هذه المسألة لا تجوز. وكما ترون: النص معهم واضح وهذا الحديث في البخاري ومسلم وله روايات خارج الصحيحين. = القول الثاني: أنها تجوز بشرط: أن يكون الذي معه غير مقصود. واستدلوا على هذا: - بأنه إذا كان غير مقصود فإنه يثبت تبعاً ملا يثبت استقلالاً وليس هو مقصوداً بالثمن. وهذا القول: رواية عن الإمام أحمد - رحمه الله - وهو أحد اختياري شيخ الإسلام بن تيمية - رحمه الله -. وهذا القول ضعيف: لأن حديث فضالة في بعض رواياته أنه قال للنبي - صلى الله عليه وسلم -: لما أبطل عليه البيع إنما أردت الخرز. فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: (لا. إلا أن تميز بين هذا وهذا) فالحديث يدل على أنه وإن قصد غيره فإن المعاملة لا تخرج عن أن تكون ربوية. = القول الثالث: يجوز بشروط: ـ الشرط الأول: أن لا تكون المعاملة حيلة على الربا. ـ والثاني: أن يكون المفرد أكثر من الذي معه غيره. أو يكون مع كل منهما من غير جنسهما. وهذا مذهب الأحناف وهو القول الثاني لشيخ الإسلام بن تيمية. واستدلوا على هذا: - بأن في حديث فضالة - في آخره - ففصلتها فوجدت فيها أكثر من اثني عشر ديناراً. فقالوا: لما كانت القلادة فيها أكثر من القيمة المفردة منع منه النبي - صلى الله عليه وسلم -. واستدلوا على هذا: - بأنه إذا باع مد عجوة ودرهم بدرهمين فإن الدرهم مقابل للدرهم والدرهم الآخر مقابل للمد ولا ربا في ذلك. وهذا معنى قوله: أن يكون المفرد أكثر من الذي معه غيره. باقي علينا أن نبين مثالاً لقول أصحاب هذا الاتجاه أن لا يكون حيلة على الربا - صورة الحيلة المشهورة: أن يبيع كيس فيه مائة دينار بمائتي دينار ويقول: المائة دينار مقابل مائة دينار والمائة دينار الأخرى مقابل الكيس. هذه حيلة على الربا. فإذا كان الذي تعامل بمسألة مد عجوة ودرهم يريد التحايل على الربا فلا يجوز ولو كان المفرد أكثر. كما في المثال.

بقي علينا أخيراً: مثال يوضح الفرق بين القول الثاني والقول الثالث. أما القول الأول فهو يمنع مطلقاً فلا نحتاج إلى أمثلة للتوضيح. لكن نحتاج التوضيح للفرق بين الثاني والثالث: فإذا باع الإنسان سيفاً فيه - في مقبضه أو في حليته - ذهب مقداره دينار: بدينار: = فعلى القول الثاني: جائز. لأن مقصوده السيف لا الذهب. وهو يقول: إذا كان غير مقصود الذي معه فيجوز. = وعلى القول الثالث: لا يجوز لأنهم يشترطون أن يكون المفرد أكثر. / إذا اشترى سيفاً فيه ذهب زنته دينار بدينارين. فما الحكم؟ يجوز على جميع الأقوال إلا القول الأول. إذاً: هكذا نطبق القضية. أخيراً: أشير إلى شرط ضروري وقد لا يتنبه إليه كثير من طلبة العلم وهو: أن أصحاب القول الثالث يشترطون مع ذلك أن ينقسم الثمن على أجزاء المبيع بالتساوي. مثال ذلك/ إذا اشتريت مد عجوة ودرهم بدرهمين فالعملية جائزة بشرط أن يكون قيمة المد عجوة قيمته في السوق: درهم. لينقسم الثمن على المثمن فيكون درهم مقابل درهم ودرهم مقابل مد عجوة. لكن إذا اشترى مد عجوة ودرهم بعشرة دراهم. الآن: أليس المفرد أكثر؟ بلى. هو أكثر. لكن مع ذلك: لا تجوز هذه الصورة حتى على القول الثاني: لأن الثمن لا ينقسم. فبالتالي سيكون مقابل الدرهم أكثر من درهم ومقابل مد عجوة قيمته. إذاً هذا الشرط لابد من اعتباره وتحقيقه لتجوز المعاملة. الراجح والله أعلم: وهو رجحان ليس بقوي ولا ببين ولا ظاهر لكنه أرجح من الأقوال الأخرى وهو القول الثالث. والسبب في أن هذا القول رجحانه ليس قوياً السبب في ذلك: أن حديث فضالة عام لم يفصل النبي - صلى الله عليه وسلم - ولم يقل له كم كان في القلادة وكم كان معك ولم يأت في الحديث إشارة إلى أن النبي - صلى الله عليه وسلم - إنما منع لأجل أن الدراهم أو الدنانير التي في القلادة كانت أكثر من الدنانير التي دفعها فضالة وإنما منع النبي - صلى الله عليه وسلم - وأمره أن يفصل فيشتري الخرز بالدنانير ويشتري الدنانير بدنانير مساوية لها. لذلك أقول أن هذا القول راجح وجيد لكن رجحانه ليس برجحان قوي. ثم انتقل - رحمه الله - إلى مسائل تشبه مسألة بيع مد عجوة ودرهم. ولكن تختلف أحيانا عنه في الحكم.

- قال - رحمه الله -: - ولا تمر بلا نوى بما فيه نوى. يعني: ولا يجوز أن يبيع الإنسان تمر ليس فيه نوى بتمر فيه نوى. التعليل: - كل هذا الباب يرجع إلى العلة الأصلية في ربا الفضل وهي: الزيادة يعني: عدم التساوي. لأن التمر الذي فيه نوى أثقل من التمر الذي ليس فيه نوى كما أنه يأخذ من المكيال أكثر مما يأخذ الآخر. فلأجل عدم التساوي منع منه الفقهاء. - قال - رحمه الله -: - ويباع النوى بتمر فيه نوى. إذا باع نوى دفعه ثمناً لتمر فيه نوى فالبيع صحيح. - لأن النوى الذي في التمر لا يقصد. وليس له حظ من الثمن. فجازت المعاملة لأنه اشترى بالنوى تمر. وهل التمر من الأموال الربوية عند بعض العلل أو عند كل العلل؟ بالأمس ذكرنا: أن الأصناف الستة مجمع عليها ما يحتاج تقول هل ينطبق عليها علة أوم ما ينطبق عليها علة. فإذاً قول القائل أن التمر ربوي بجميع العلل خطأ لأن التمر ربوي بالنص بغض النظر عن العلل. إذاً: إذا باع النوى بتمر فيه نوى: جاز. والتعليل: - أن النوى الذي في التمر غير مقصود. ثم ذكر - رحمه الله - مسألة أخرى هي نفس هذه المسألة: - فقال - رحمه الله -: - ولبن وصوف بشاة ذات لبن وصوف. يجوز أن نبيع لبن وصوف مقابل شاة فيها أيضاً لبن وصوف. والتعليل هو التعليل السابق وهو: - أن اللبن والصوف الذي في الشاة غير مقصود. ليس له حظ من الثمن. وإنما هو أراد أن يدفع اللبن لتحصيل الشاة. وما فيها من صوف أو لبن فهو تابع غير مقصود والتابع غير المقصود لا يؤثر في الحكم. نرجع قليلاً إلى مسألة: التمر الذي فيه نوى والتمر الذي ليس فيه نوى. التمر التساوي التساوي فيه بالكيل أو بالوزن؟ بالكيل. إذا كان بالكيل: فالحجم الذي سيأخذه التمر الذي ليس فيه نوى هو نفس الحجم الذي سيأخذه التمر الذي فيه نوى. ما وجه عدم التساوي؟ ((ونحن نقول العبرة بالكيل والوزن ليس موجوداً الآن وغير معتبر.)) نقول: ان التمر الذي ليس فيه نوى أكثر من التمر الذي فيه نوى. ولو شغل نفس الحيز من الكيل. لكن في الواقع التمر الذي ليس فيه نوى أكثر من التمر الذي فيه نوى. لأن النواة تشغل حيزاً من التمرة بينما هذا الحيز مملوء بالتمر بالتمر الذي ليس فيه نوى.

إذاً: هذا هو وجه عدم التساوي. ثم انتقل - رحمه الله - إلى مسألة أخرى ختم بها الفصل: - فقال - رحمه الله -: - ومرد الكيل لعرف المدينة، والوزن لعرف مكة زمن النبي - صلى الله عليه وسلم -. لما بين المؤلف - رحمه الله - أنه يجب أن نبيع المكيلات كيلاً والموزونات وزناً أراد أن يبين كيف نعرف هل هذا الشيء المطعوم يوزن أو يكال؟ هل هذا من الموزونات أو من المكيلات؟ فبين أن العبرة بذلك أي العبرة باعتبار الأشياء موزونة أو مكيلة هو عرف الحجاز فقط. فالكيل: كيل المدينة. والوزن وزن مكة. فإذاً في الكيل والوزن نرجع إلى عرف الحجاز. لكن بالنسبة للكيل نرجع إلى المدينة وبالنسبة للوزن نرجع إلى مكة. الدليل: قالوا الدليل على هذا: - حديث ابن عمر - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: المكيال مكيال المدينة والوزن وزن مكة. وهذا الحديث صححه عدد من الأئمة منهم ابن حبان ومنهم وعليه العمدة الدارقطني فهو حديث ثابت إن شاء الله. والحديث يدل على أن اعتبار الأشياء موزونة أو مكيلة إنما هو في عرف أهل احجاز. فلو صار الناس اليوم يزنون أشياء كانت تكال في مكة فهي مكيلة في عرف أهل مكة ولا نعتبر الوزن. شيء كان يباع عداً فأصبح يباع وزناً فماذا نعتبره؟ الوزن. من أبرز الأمثلة فيه: التفاح والبرتقال. صرح الحنابلة أنها معدودة وأنها لا ربا فيها لأنها ليست من الموزونات واليوم هي تباع بالوزن بينما كانت تباع بالعد. إذاً - نحن نقول - لا عبرة ببيع الناس اليوم لها وزناً وليست من الأموال الربوية هذا إذا أردنا أن نفرع على مذهب الحنابلة الذين يقولون العلة هي الوزن. إذاً المؤلف - رحمه الله - يقول هنا: (ومرد الكيل عرف المدينة. والوزن لعرف مكة زمن النبي - صلى الله عليه وسلم - والسبب في جعله الكيل للمدينة: أنهم أهل زراعة والكيل يعتد بما يكون عندهم مكيلاً لا في مكة. بينما أهل مكة أهل تجارة فاعتبر فيهم الوزن. وهذا التعليل لتوضيح الحديث وإلا الاعتماد على الحديث. - قال - رحمه الله -: - وما لا عرف له هناك: اعتبر عرفه في موضعه. الأشياء التي ليس لها عرف في مكة ولا في المدينة نعتبر عرفها في موضعها. والدليل على ذلك:

- أن القاعدة الشرعية أن ما لم يرد محدداً في الشرع فنرجع في تحديده إلى العرف. وهذا لم يحدد في الشرع. فنرجع في تحديده إلى العرف. = والقول الثاني: وهو وجه عند الحنابلة. أن ما لا يوجد في المدينة ومكة فإنا نرجع إلى شبيهه ونظيره مما يوجد في مكة والمدينة فنقيس عليه. فنقول هذا الشيء ما هو أقرب الأشياء إليه في مكة موزوناً أو مكيلاً أو في المدينة؟ فإذا عرفنا أخذ حكمه. قال الشيخ الفقيه ابن قدامه: وهذا القول: أقيس. قلت وهو صحيح. يعني: كلامه وجيه جداً. وجه أن هذا القول أقيس. أن عادة المتفقهين أن ما فيه نص يقاس عليه وهذه المسألة فيها نص وهي أنه اعتبر عرف المدينة ومكة هو العرف الشرعي فنقيس على ما في المدينة ومكة. وهذا وجه كون هذا القول الثاني في مذهب الحنابلة أقيس على حد تعبير ابن قدامه. وهذا القول الثاني صحيح أرجح وأقوى وما مال إليه ابن قدامة صحيح. فننظر إلى أقرب الأشياء. فإذا لم نجد شيئاً مشابهاً ولا قريباً يأخذ نفس الصفات فإنا نرجع حينئذ إلى عرف المدينة الذي وجد فيه هذا الأمر. ومن وجهة نظري أنه كلما أمكن تقليل مسألة الرجوع إلى الأعراف لكان أولى لأن الرجوع إلى الأعراف في كثير من المسائل لا ينضط. فإذا أمكن الفقيه أن يجتهد في تحديد حد مأخوذ من النصوص الشرعية لا من الأعراف فهو دائماً أضبط وأسهل تطبيقاً بكثير. كما تقدم معنا في مسألة حد السفر. وبهذا انتهى الكلام عن ربا الفضل. وانتقل المؤلف - رحمه الله - إلى ربا النسيئة. فصل [في أحكام ربا النسيئة] - فقال - رحمه الله -: - فصل. ويحرم: ربا النسيئة. أراد المؤلف - رحمه الله - أن يبين في هذا الفصل أحكاماً متعلقة بالنسيئة. - يقول - رحمه الله -: - ويحرم ربا النسيئة. النسيئة في لغة العرب هو التأخير. النسأ أو النساء هو: التأخير. وينقسم ربا النسيئة إلى قسمين: ـ القسم الأول: ربا البيوع. يعني: ربا النسيئة في البيوع. وهذا القسم هو الذي سيتكلم عنه المؤلف - رحمه الله - ويفصل فيه ويبين أحكامه. ـ القسم الثاني: ربا القروض. وهو اشتراط زيادة مقدرة في القرض. وعند كثير من الفقهاء اصطلحوا على أن ربا القروض يسمى ربا النسيئة وربا البيوع يسمى ربا النسأ أو النساء.

وهو اصطلاح وتسمية ليس له أثر على الأحكام الشرعية. إذاً: عرفنا الآن أن ربا النسيئة ينقسم إلى هذين القسمين وأن المؤلف - رحمه الله - سيتكلم عن القسم الأول أما القسم الثاني فسيخصص له باباً كاملاً هو باب القرض. - قال - رحمه الله -: - يحرم ربا النسيئة. ربا النسيئة محرم بالإجماع بلا خلاف وهو أشد تحريماً من ربا الفضل وهو الربا الجلي وهو ربا الجاهلية فهو الربا المقصود بالربا وهو كما قلت لكم محرم بالإجماع وأيضاً بالنص. - لقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: (إنما الربا في النسيئة) - ولقوله - صلى الله عليه وسلم - في حديث عبادة: (فإذت اختلفت هذه الاصناف فبيعوا كيف شئتم إذا كان يداً بيد) فهذه النصوص والإجماعات دالة على تحريم الربا مع النص الأصلي: (وأحل الله البيع وحرم الربا) فهو أول ما يدخل في النص. - يقول - رحمه الله -: - في بيع كل جنسين اتفقا في علة الربا. كل جنسين اتفقا في علة الربا فلا يجوز فيهما التأخير فإن أخر فقد وقع في ربا النسيئة. ونحن ذكرنا أن الأصناف الربوية تنقسم إلى قسمين: - الذهب والفضة. ولهما علة. والأصناف الأربعة ولها علة. وأن هذا القدر مجمع عليه بين الفقهاء أن لكل من الفئتين علة مستقلة لكن اختلفوا في تحديد العلة. إذاً كل جنسين لهما علة واحدة في باب ربا الفضل يحرم فيهما التأخير فلا يجوز أن نبيع ذهب بفضة مع التأخير. لماذا؟ لأن كلاً من الذهب والفضة لهما نفس العلة. ولا يجوز أن نبيع على القول الصحيح: ريال بجنيهين مع التأخير. ولا يجوز أن نبيع ريال بدينار. وهل يجوز أن نبيع ريال سعودي بريال آخر - عماني - مثلاً -؟ هل هما جنسان أو جنس؟ النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: (إذا اختلفت هذه الأجناس فبيعوا كيف شئتم) فهل يجوز أن نبيع ريال بريالين؟ يجوز بشرط التقابض دون التساوي. يعني جنسين. وهذا صحيح. ولو اتفقا في المسمى لأنه لا عبرة بالاسم وإنما العبرة في الحقيقة. وفي الحقيقة أن هذا الريال يختلف عن ذاك الريال. إذاً: - يقول - رحمه الله -: - يحرم ربا النسيئة في بيع كل جنسين اتفقا في علة ربا الفضل الفضل ليس أحدهما نقداً. المقصود بالنقد هنا: الذهب والفضة وما قيس عليهما عند من يقيس.

فإذا كان أحد العوضين هو الذهب أو الفضة فإنه يجوز التأخير. يعني: مع الأعيان الأخرى. مع غير الذهب والفضة. المثال الموضح/ هل يجوز ان نشتري الحديد بالذهب مؤجلاً؟ نحن نتملم على وفق مذهب الحنابلة؟ الحديد ربوي. وهل له نفس العلة التي للذهب؟ نعم. العلة فيهما هي الوزن. مع ذلك يجوز لأن المؤلف - رحمه الله - يقول: يجوز إذا كان أحد العوضين هو أحد النقدين فإنه يجوز التأخير. فيجوز أن يشتري بالذهب حديداً مؤخراً ويجوز أن يشتري بالفضة حديداً مؤخراً. لكن لا يجوز أن يشتري بالذهب فضة ولا بالفضة ذهب. الدليل الذي دل على استثناء النقدين في الموزونات بالتأخير: هو: - أحاديث السلم. لأنه لولا الجواز لانسد باب السلم كما قال الفقهاء. والسلم لا يمكن أن ينسد بابه والنبي - صلى الله عليه وسلم - فتحه بقوله: (في وزن معلوم). فقوله: (في وزن معلوم) دليل على أنه يجوز أن نبيع ونشتري الموزونات بالذهب والفضة سلم وهذا يقتضي التأخير فدل على أن بيع الموزونات بالذهب والفضة يجوز ولو مع التأخير. ولذلك نحن نشتري بالعملة النقدية الأمتعة والقمح والدقيق والأموال الربوية مؤخراً. مع أنها أموال ربوية والنبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: (فإذا اختلفت هذه الأصناف فبيعوا كيف شئتم إذا كان يداً بيد) لكن مع ذلك يجوز لهذه العلة وهي الأحاديث الدالة على جواز السلم دالة أيضاً على جميع المعاملات التي فيها تأخير ولو على غير وجه السلم. - ثم قال - رحمه الله -: - كالمكيلين والموزونين. هذا تمثيل للمنع. المكيلين: كبر بشعير. فهذا لا يجوز التأخير فيه. بل يجب أن يكون يداً بيد. لماذا؟ لأن كلاً من البر والشعير ينتمي إلى زمرة واحدة ذات علة واحدة. والموزونين: كالنحاس والحديد. فلا يجوز أن نبيع نحاس بحديد إلا يداً بيد. وهل نقول في الموزونات: وكا الذهب والفضة؟ نعم نقول وكالذهب والفضة. لكن نقول: كالذهب والحديد؟ لأنه إذا كان أحد البدلين نقد فإنه يجوز. إذاً عرفنا الآن المثال على المكيلين والمثال على الموزونين. - قال - رحمه الله -: - وإن تفرقا قبل القبض: بطل. - لقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: (فإذا اختلفت هذه الأصناف فبيعوا كيف شئتم إذا كان يداً بيد)

فدل هذا هلى أن البيع مع التأخير الذي ليس فيه تقابض باطل لأنه فاسد بمقتضى الحديث. فهذه العبارة في الحقفيقة هي تصريح بالحكم الذي ينتج عن قوله يحرم. يعني: ان هذا التحريم وهذا النهي نهي إلى الفساد. - قال - رحمه الله -: - وإن باع مكيلاً بموزون: جاز التفرق قبل القبض والنساءُ. وإن باع مكيلاً بموزون جاز البيع بلا شروط: لا التساوي ولا التقابض. لماذا؟ لأن الجنس والعلة اختلفت. نحن ذكرنا لكم التقسيم الرباعي. نرجع الآن إلى التوضيح وهي: الجنس والعلة. ـ القسم الأول: إذا اتفقا في الجنس والعلة. مثل/ ذهب بذهب. فحينئذ يشترط التساوي والتقابض. ـ القسم الثاني: إذا اتفق في العلة واختلفا في الجنس. فيشترط التقابض فقط. ومثاله/ ذهب بفضة. ـ القسم الثالث: إذا اختلفا في الجنس والعلة. كبيع ذهب بشعير. فلا التقابض ولا التساوي. ـ القسم الرابع: أن يتفقا في الجنس ويختلفا في العلة. وهذا القسم غير موجود وغير متصور. كيف يتفقا بالجنس ويختلفا في العلة هما جنسهما واحد فكيف يختلفا في العلة. ولعل هذا من الأمثلة التي تدل على أنه لا يمكن استنتاج تقسيم رباعي من كل ثنائين. فليس أي ثنائين يمكن أن نستنتج منهما رباعي فالآن عندنا جنس وعلة لا نستطيع أن نخرج منهما أربع أنواع بل نخرج منهما ثلاثة أنواع لأنه إذا اتفقا الجنس ذهب وذهب فلا يمكن أن تختلف العلة. وبر وبر فلا يمكن ان تختلف العلة ومستحيل. إذاً: التقسيم الأخير هذا غير واقع ولا متصور أصلاً. وعرفنا بهذا التقسيم كيفية بيع الربويات من حيث التساوي ومن حيث القبض. - قال - رحمه الله -: - وما لا كيل فيه ولا وزن، كالثياب والحيوان: يجوز فيه النساءُ. مقصود المؤلف - رحمه الله - بهذه العبارة - يريد أن يقول: والأموال التي ليست من الأموال الربوية يجوز فيها التأخير والتفاضل. ولو أنه عبر بهذا التعبير لكان كالقاعدة وأوضح من ان يقول: وما لا كيل فيه ولا وزن: كالثياب والحيوان. لو قال والأموال التي ليست ربوية. لأن ما لا كيل فيه ولا وزن لا ربا فيه لأن العلة عند الحنابلة هي الكيل والوزن فقط. - ثم قال - رحمه الله -: - كالثياب والحيوان. الثياب ليست ربوية. والحيوان الحي ليس بربوي.

لأنه لا مكيل ولا موزون. فيجوز أن يبيع الإنسان ثوب بثوبين. ويجوز أن يبيع ثوب بثوبين إلى أجل. ويجوز أن يبيع حيوان بحيوانين إلى أجل وحال. والدليل على مسألة بيع الحيوان بالذات: - حديث ابن عمر الصحيح المشهور أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمره أن يأخذ البعير إلى قلائص الصدقة ببعيرين. فكان يأخذ من الشخص بعير فإذا جاءت الصدقات أعطاه بعيرين مع الاتفاق المسبق. فهذا دليل على أن الحيوانات ليس فيها ربا. سواء كان المقصود من الحيوان اللحم أو الزينة أو الركوب أو أي شيء مما يقصد من الحيوانات فإنه يبقى مالاً ليس بروي لا موزون ولا مكيل. فإن قيل/ اليوم بعض الثيران الصغيرة تباع بالوزن. وهو حي. فالجواب ماتقدم: أنه لا عبرة ما تعارف عليه الناس مما يخرج عن عرف أهل المدينة وأهل مكة. - قال - رحمه الله -: - ولا يجوز بيع الدين بالدين. بيع الدين بالدين محرم وهو من الربا. والدليل على هذا من وجهين: - الوجه الأول: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى عن بيع الكاليء بالكاليء. والكاليء هو المؤخر فلا يجوز أن نبيع مؤخر بمؤخر. - الوجه الثاني: الإجماع. فإن الإمام أحمد - رحمه الله - سأل عن هذا الحديث: (بيع الكاليء بالكاليء) فقال: الحديث ضعيف وهو مجمع عليه. يعني: أن إسناده إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - لا يثبت ولكن المعنى الذي فيه محل إجماع. ولا أعلم أنه يوجد مخالف في هذه المسألة إلا بعض المعاصرين مما ينبغي أن لا يعول على قولهم لمخالفة الإجماع السابق المحكم. مثال هذه المسألة:/ إذا اشترى الإنسان بخمسة أريل ثوب واتفقوا على تأخير تسليم الثوب وتأخير تسليم الثمن فحينئذ يكون من بيع الدين بالدين لأن كلاً من العوض والمعوض كلاهما مؤخر. فهذا لا يجوز وهو مجمع على بطلانه. أما إن كان أحد العوضين سواء كان الثوب أو الثمن مسلم في مجلس العقد فإن العقد صحيح.

((السلم سياتينا أنه يشترط فيه تسليم الثمن في مجلس العقد، الاستصناع سيأتينا: الاستصناع والتوريد مستثنى من هذه القاعدة لأدلة أخرى لأنه بالتوريد الثمن والمثمن مؤخر وفي الاستصناع الثمن والمثمن مؤخر لكن في الاستصناع المنظور إليه الصنعة لأن ما يوجده المستصنع يأتي بالتدريج شيئاً فشيئاً فهو بالإجار أشبه منه ببيع الدين بالدين. فيما عدا الاستصناع والتوريد المسألة مجمع عليها أنها لا تجوز أما الاستصناع والتوريد اففيه خلاف لعله ياتينا في السلم. على كل حال الاستصناع والتوريد الأقرب جوازه وأنه خارج عن هذه القاعدة. فصل [في أحكام الصرف] - قال - رحمه الله -: -[فصل) ومتى افترق المتصارفان. هذا الفصل في الصرف. والصرف له معنى في اللغة وله معنى في الاصطلاح. فمعناه في اللغة: منتشر وله عدة معاني لكن هذه المعاني تعود إلى رجوع الشيء. ويمكن أن نقول تسهيلاً: أن معنى الصرف في لغة العرب إبدال الشيء بغيره. ومقصودي بأن هذا معناه في لغة العرب يعني: الذي يعنينا في هذا الباب. وإلا له معاني كثيرة. وأما معنى الصرف في الاصطلاح: فهو بيع نقد بنقد من جنسه أو من غير حنسه. هذا التعريف هو تعريف للجماهير: الأئمة الثلاثة وجماهير الفقهاء. وذهب مالك إلا: أنه إن بيع بجنسه فهو مراطلة. وإن بيع بغير جنسه فهو صرف. فإذا بعت ذهب بذهب: فاسمه عند الجمهور: صرف. واسمه عند المالكية: مراطلة. وإن بعت ذهب بفضةفاسمه عند كل أهل العلم: صرف. ولا يظهر لي أن هذا الاختلاف في التسمية له أي أثر في الأحكام. إنما هي تسميه. - قال - رحمه الله -: - ومتى افترق المتصارفان قبل قبض الكل أو البعض: بطل العقد فيما لم يقبض. إذا افترقوا قبل التقابض بطل العقد. والدليل على هذا: - ما أخرجه البخاري ومسلم: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (بيع الذهب بالفضة ربا إلا هاء وهاء). وهذا نص في الصرف صريح جداً وهو أخص من حديث عبادة الذي فيه: (فإذا اختلفت هذه الأجناس فبيعوا يداً بيد) وإن كان هذا الحديث دليل ونص إلا أن هذا الحديث أكثر تنصيصاً على أحكام الصرف. - الدليل الثاني: الإجماع. فإن هذه المسألة محل إجماع. أنه إذا باع النقد بالنقد لابد من التقابض. -

يقول - رحمه الله -: - قبل قبض الكل أو البعض: بطل العقد فيما لم يقبض. أشار - رحمه الله - إلى أنه إن تفرقوا قبل قبض كل الثمن بطل العقد برمته. وإن تفرقوا قبل قبض بعض الثمن بطل فيما لم يقبض وصح فيما قبض. فإذا اشتريت أنا عشرين درهماً بدينارين: سلمته دينار وأخرت الدينار الآخر وأخذت العشرين درهم فالحكم أنه يصح في المقبوض وهو عشرة دراهم ويبطل في الذي لم يقبض وهو العشرة الأخرى. وتصحيح هذه المسألة مفرع على مسألة تفريق الصفقة التي تقدمت معنا - فعلى القول بصحة تف ريق الصفقة تكون هذه المعاملة صحيحة وعلى القول ببطلان الصفقة وعدم تفريقها يكون البيع برمته باطل. وتقدم معنا أن الصحيح صحة تفريق الصفقة بناء عليه نقول أيضاً يصح هذا البيع فيما قبض ويبطل فيما لم يقبض. - قال - رحمه الله -: - ومتى افترقا. لم يبين المؤلف - رحمه الله - حد هذا الافتراق ولا شروطه ولا صفته والسبب في ذلك: ان هذا الافتراق كالافتراق الذي ذكر في خيار المجلس بكل تفاصيلة. فإذاً الافتراق هنا إنما هو افتراف بالأبدان لا بالأقوال. وهو يتعلق أكثر ما يتعلق بالمكان. فإذا أعطيتك عشرة وأخذت منك عشرة بعد ساعتين ونحن في مكان واحد فالصرف صحيح. فكلمة التأخير هنا في باب الصرف ليست مقصودة بقدر ما هو أن يسلم العوض والمعوض في نفس المجلس ولو مع التأخير ماداموا في نفس المجلس. لأن هذا الذي تعطيه كلمة الافتراق. هكذا قرر الفقهاء مع العلم أن الأحاديث فيها إشارة إلى خلاف هذا وأن المقصودالتسليم الفوري المباشر لأنه يقول: (هاء وهاء) يعني: خذ وأعط. وأصرح منه: (إلا يداً بيد) فكأنه لابد أن يعطي وياخذ. لكن في الحقيقة القول بأن الأمر مربوط بالمجلس أرفق بالناس وعليه الجماهير بل إني لم أقف على خلاف في أن المقصود بالافتراق هو الافتراق في المجلس. والمحاذير التي منع من أجلها التأخير في الصرف لا توجد في هذه الصورة. فالأقرب إن شاء الله أن المقصود في المجلس فما داموا في المجلس فلو أخروا لوقت طويل فإنه الصرف صحيح.

وفي مسألة/ لا تظن أن إيطال الصرف أمره يسير يعني: لا تقول: إبطال الصرف أمر سهل لأنا إذا أبطلنا الصرف نقول لهم تصارفوا من جديد هذا غير صحيح لا سيما في وقتنا هذا إذ قد تختلف القيمة اختلاف كثير جداً في وقت قصير في ساعات أو في دقائق. فإذا اشتريت بالأريل دولار أمريكي ثم بطل الصرف وأردنا أن نعيد الصرف بعد ساعتين ربما يرتفع ارتفاعاًً عظيماً جداً فيحصل اختلاف بين المتبايعين. فليس الأمر سهلاً بالنسبة لإبطال الصرف تقول يتصارفان من جديد بل هو أعظم من البيع لأن ثبات أسعار السلع أكثر من ثبات أسعار العملات. ومن هذه الجهة فقط يكون اصرف أصعب. - قال - رحمه الله -: - والدراهم والدنانير: تتعين بالتعيين في العقد فلا تبدل. يعني: إذا اشترى الإنسان لعة بهذه الدنانير المعينة التي أشار إليها فإن هذه الدنانير تتعين وتكون هي الثمن ولا يجوز أن يبدل هذه الدراهم ولا هذه الدنانير. العلة: استدل الجمهور على ذلك: - بأن هذه الدراهم أو الدنانير هي أحد عوضي العقد وعوض العقد لا يجوز تبديله قياساً على السلع. ولذلك قالوا: إن الدراهم والدنانير تتعين. وهذا مذهب الجماهير: الأئمة الثلاثة لم يخالف إلا الأحناف. ((الأذان)) نتم هذه المسألة: = القول الثاني للأحناف. أن الدراهم والدنانير لا تتعين إن عينت في العقد بل يجوز أن يبدلها ولا تأخذ أحكام المعينات. واستدلوا على هذا: - بأنه يجوز إطلاق الدراهم والدنانير بلا تعيين فإذا كان يجوز أن تطلق بلا تعيين كذلك يجوز أن تبدل إذا عينت. فيقول الأحناف نحن نستطيع أن نشتري بلا تعيين. حينئذ تكون مطلقة. فقالوا كذلك إذا عينتها فلتكن مطلقة كما إذا لم تعينها لأنه في الأصل نستطيع ان لا نعين. وإذا تأملت في الحقيقة تجد أن هذا الدليل وجيه جداَ. وجه قوة هذا الدليل أن هذا الدليل يبين الفرق بين الدراهم والدنانير والسلع. نحن نقول في السلعة لابد أن تعين من شروط صحة البيع العلم بالمبيع بينما الدراهم والدنانير لايجب أن تعين إنما يجب أن يعين مقدارها أما ذاتها فى يجب أن تعين. فهي في الحقيقة من هذه الجهة تختلف عن السلع فيجوز أن لا تحدد ولا تعين بخلاف السلع يجب أن تحدد وتعين.

ففي قول الأحناف قوة في الحقيقة ووجاهة وتتأكد جداً قوى هذا القول في الورقيات لأنه وإن اختلف الدينار والدرهم في القديم ضربه وزنته وجودته وكونه مغشوش أو غير مغشوش كل هذه الأمور غير موجودة في الأوراق النقدية. مع ذلك لو أراد البائع أو المشتري أن يشترط تحديد وتعيين أحد الأوراق النقدية بذاتها لغرض فيها فإنه يجب أن لا تبدل وتتعين بالتعيين حتى لو رجحنا قول الأحناف. المثال المشهور/ لغرض البائع في تحديد الأوراق النقدية: أن لا يريد إلا فئة معينة. هو لا يريد إلا مقابل فئة معينة. يريد فئة مائة يريد فئة خمسمائة فئة أقل أو أكثر وله غرض صحيح في طلبه لهذه الفئة فلا يجوز أن اقول اشتريت منك هذا الشيء بخمسمائة ونعين خمسمائة من فئة ورقة واحدة ثم آتي بخمسمائة من فئة خمس ورقات. في هذه الصورة وجيه قول الجمهور وهي انها تتعين. أما إذا لم يوجد أي مبرر ولا سبب فقول الأحناف وجيه في الحقيقة وقوي ويتأكد في الأوراق النقدية. هذا والله أعلم وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين،،،

شرح كتاب البيع الدرس رقم (17) قال شيخنا حفظه الله: بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين. قبل أن نبدأ هذا الدرس هو آخر درس في الفصل الثالث وتتوقف الدروس بعد هذا الدرس إن شاء الله. ويكون أول درس هو أول يوم في الفصل الثاني بالنسبة لهذه السنة الدراسية والفصل الرابع بالنسبة للدورة. - قال - رحمه الله -: - وإن وجدها مغصوبة: بطل. يعني: إذا صارف وكان أحد العوضين يعني أحد النقدين مغصوباً فإن المصارفة تبطل. لأنا تبينا أنه صارف على غير ماله وإذا باع الإنسان أو اشترى بغير ماله فإن العقد باطل. والسبب في البطلان هنا: مبني على ان النقود تتعين. فإذا صارف ريال بريال والمشتري غصب الريال فالعقد باطل ولا نقول تأتي بريال بدل الريال بل نقول العقد باطل. - قال - رحمه الله: - ومعيبة من جنسها: أمسك أو رد. يعني: إذا صارف الإنسان بنقد معيب. فالحكم:

= عند الحنابلة: كما قال المؤلف - رحمه الله -: (أمسك أو رد). والواقع أن الإنسان إذا صارف بنقد معيب ينقسم الأمر إلى قسمين اشار إليهما الماتن حين قال هنا: (ومعيبة من جنسها) فالصرف المعيب ينقسم إلى قسمين: ـ أن يكون معيباً من جنسه. ـ أن يكون معيباً من غير جنسه. ـ * القسم الأول هو الذي أشار إليه المؤلف - رحمه الله - وهو أن يكون معيباً بجنسه. كأن يبيع دينارا صحيحاً سليماص بدينار معيب إما بان يكون أبيضاً أو خشناً أو أي عيب لكن في جنس هذا المعدن يعني في جنس الدينار. فحينئذ المشتري مخير بين أمرين: ـ إما أن يمسك. ـ وإما أن يرد. فإن اختار الإمساك: ففي ثبوت الأرش له تفصيل وهو ينقسم إلى قسمين: ـ إما أن يكون صارف نقداً بجنسه فحينئذ لا يبثت الارش لأن الارش يؤدي إلى الزيادة ونحن نقول: ان مبادلة الشيء بجنسه لا يجوز فيه التقابض. ـ الثاني: أن يصارف بغير جنسه كان يصارف درهم بدينار ثم يتبين أن الدينار مغشوش بجنسه أو معيب بجنسه فحينئذ يجوز الأرش لكن بشرط أن يتم التسليم في مجلس العقد. لأن مصارفة الذهب بالفضة يشترط فيها التقابض. وبهذا عرفنا حكم المصارفة بنقد معيب إذا كان العيب من جنس النقد. ـ * القسم الثاني: أن يكون من غير جنسه. كأن يوضع في الدينار نحاس. يخلط مع الدينار نحاس فحينئذ يبطل العقد لأنا تبينا أنه عقد على غير المسمى في العقد فهو أبدل دينار بدرهم والواقع أن هذا الدينار ليس ديناراً وإنما دينار فيه نحاس. فيبطل العقد من أصله. وبهذا عرفنا كامل الحكم فيما إذا صارف بنقد معيب ولعل المؤلف - رحمه الله - اقتصر على ذكر العيب الذي من الجنس لأن العيب الذي ليس من الجنس حكمه قريب من حكم المسألة السابقة وهي المغصوب وهو ان العقد يبطل. لكن في المغصوب يبطل: لأن الثمن ليس ملكاً للمصارف وهنا يبطل لان العوض أصبح يختلف عن المسمى أثناء العقد. - ثم قال - رحمه الله: - ويحرم الربا: بين المسلم والحربي. = ذهب جماهير أمة محمد - صلى الله عليه وسلم - من أهل العلم إلى أن الربا محرم حتى بين المسلم والحربي. فذهب إليه أحمد ومالك والشافعي وجمهور وجملة فقهاء المسلمين. واستدلوا على هذا:

باب بيع الأصول والثمار

- بأن النصوص الدالة على ىحرين الربا عامة مطلقة لم تخصص أن يعامل الإنسان حربياً أو غير حربي. = والقول الثاني: أن المسلم إذا عامل الحربي لكن بشرط أن تكون المعاملة في دار الحرب فإنه يجوز الربا. واستدلوا على هذا بدليلين: - الدليل الأول: أن مال الحربي هو برمته مباح فالزيادة في المعاملة من باب أولى فهو في الحقيقة أخذه لأن مال الحربي مباح ولم يأخذه بعقد ربوي. - الدليل الثاني: مرسل عطاء عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: (لا ربا بين المسلم والحربي في دار الحرب). وهذا الحديث ضعفه أهل العلم وممن ضعفه من الأمة الإمام الشافعي. والراجح إن شاء الله القول الأول. لأن إباحة مال الحربي لا تعني أن يؤخذ بطريق محرم والربا الذي اكتسبه محرم بالنصوص الصريحة. - ثم قال - رحمه الله: - وبين المسلمين مطلقاً، بدار إسلام أو حرب. يعني: ويحرم التعامل بين المسلمين بالربا ولو كانوا في دار حرب أما في دار الإسلام فهي محل إجماع كما تقدم معنا. وأيضاً في دار الحرب هي محرمة لأنه إذا حرم على الإنسان أن يرابي مع المسلم الحربي فمن باب أولى أن يرابي مع المسلم فهو محرم ولا يجوز. وبهذا كمل باب الربا إن شاء الله نسأل الله أن تكونوا فهمتم ما فيه من مسائل وننتقل إلى باب أسهل بكثير من باب الربا وهو باب بيع الأصوال والثمار. باب بيع الأصول والثمار - قال - رحمه الله -: - باب بيع الأصول والثمار. قوله: (باب بيع الأصول). الأصل هو ما يتفرع عنه غيره. والمقصود به هنا في هذا الباب الدور والاراضي والشجر. هي الأصول. وقوله: (والثمار) الثمار اصطلاحاً: هي ما تحمله الأشجار. فهذا هو المقصود بالثمار في الاصطلاح. وإنما نص على الثمر مع أن الشجر داخل في كلمة الأصول لأن الإنسان قد يبيع الثمرة بلا أصلها كما سيأتينا ولذلك نص عليها في الباب. - قال - رحمه الله -: - إذا باع داراً شمل: أرضها وبناءها وسقفها. بدأ المؤلف - رحمه الله - في بيان الأمور التي تدخل في عقد شراء الدار. وبدأ بهذه الثلاثة لأنها من أولى ما يدخل في شراء الدار. فيدخل في شراء الدار البناء والسقف والأرض.

وهذه الأشياء تدخل في شراء الدار بالإجماع لم يخالف في هذا أحدمن أهل العلم. ودليل هذا الإجماع: - أن هذه الثلاثة تدخل دخولاً أولياً في مسمى الدار. فهذه الثلاثة لا إشكال فيها إن شاء الله. - ثم قال - رحمه الله: - والباب المنصوب، والسّلم. يعني: ويدخل في العقد على الدار: كل باب منصوب والسلم. ودليل دخول هذه الأشياء في الدار: - أن هذه الأشياء متصلة بالدار ولا تتم المصلحة من الدار إلا بها. ومفهوم قول المؤلف - رحمه الله - الباب المنصوب: أن الباب الذي لم ينصب في الجدار ويركب وإنما موضوع في ناحية من البيت إما مخزن أو لأي غرض آخر فإنه لا يدخل في مسمى العقد إنما الذي يدخل في مسمى العقد الباب المنصوب المركب أثناء إجراء العقد. إذاً: عرفنا الآن حكم خمسة أشياء: - الأرض. - والبناء. - والسقف. - والباب. - والسلم. - قال - رحمه الله -: - والرّف المسمورين. يعني: السلم والرف المسمورين. فيشترط لدخول السلم والرف أن يكون مسموراً وبعبارة أخرى أوسع أن يكون مثبتاً في الدار بمسمار أو بغيره أو بأي شيء. المهم أن يكون مثبتاً في الجدار. فإذا كانت هذه الأشياء مثبتة في الدار فهي داخلة في مسمى العقد وهي: داخلة في هذا المبيع وهو الدار. - يقول - رحمه الله -: - والخابية المدفونة. الخابية: هي وعاء كبير من الطين يوضع فيه عادة السمن أو الدهن وقليلاً الماء. ويكون مدفوناً تحت الأرض في عادة المتقدمين. عرفنا الآن أن شرط السلم والرف أن يكون مسموراً. فإن كان موضوعاَ فهو من أملاك المشتري أو البائع؟ البائع. والخابية شرطها آخر وهي: أن تكون مدفونة. فإن لم تكن مدفونة وإنما موضوعة بجانب البيت فهي تبع للبائع. التعليل على دخول السلم والرف والخابية: - أنها متصلة بالدار لمصلحتها فشملها العقد. - ثم قال - رحمه الله: - دون ما هو مودع فيها: من كنز وحجر. الكنز هو المال المدفون. وبطبيعة الخال لا نقول هنا من أيام الجاهلية بل نقول الكنز المدفون ويقصد بكلمة الكنز المدفون. يعني: من قبل مالك البيت الأول. والحجر: معروف. لكن الأقرب أن الحنابلة يقصدون بالحجر الأحجار التي لها قيمة ووزن ومرغوبة.

فالكنز والحجر المدفون ليس داخلاً في البيع وهو من أملاك البائع لأنه موضوع في الأرض بقصد استخراجه. فليس متصلاً بالبيت اتصالاً ثابتاً دائماً وإنما متصل به على وجه أخذه بعد فترة. فالكنز والحجر ولو نسيه البائع فهو لا يدخل في العقد وله أن يرجع ويستخرج الكنز أي ماله الذي دفنه والحجر ويأخذه معه. وقولهم: (الكنز والحجر) إنما هو على سبيل التمثيل. ومثل به لأن غالب ما يدفن عند الأقدمين هو هذا إما الكنز أو حجر. لكن لو افترضنا أنه دفن أي شيء آخر فإنه له ولو نسيه ورجع بعد فترة فهو له يستخرجه لأنه لم يدخل في مسمى العقد. لما بين المؤلف - رحمه الله - أحكام المتصلات من الأعيان الموجودة في البيت وهي تنقسم كما مر معنا إلى قسمين: متصل: داخل في العقد. ومتصل غير داخل بالعقد - كما مر معنا الآن. انتقل إلى المفصلات: - فقال - رحمه الله -: - ومنفصل منها: كحبل ودلو وبكرة وقفل وفرش ومفتاح. المنفصلات لا تدخل في العقد. ومثل لها المؤلف - رحمه الله -: بالحبل والدلو والبكرة والقفل والفرش والمفاتيح. هذه الأشياء منفصلة عن الدار فلا تدخل في مسمى العقد لأنها لا تدخل في مسمى الدار وليست متصلة بها فهي ملك للبائع. وهذه الاعيان التي ذكرها المؤلف - رحمه الله - بعضها لا إشكال فيه وهو محل إجماع كالفرش والحبل والدلو والبكرة. هذه الأشيا محل إجماع. لكن بعض هذه الأشياء التي مثل بها المؤلف - رحمه الله - محل خلاف وليست محل اتفاق. منها: ـ المفتاح. فالمفتاح في الحقيقة فيه خلاف داخل المذهب وخارج المذهب. = فالحنابلة يرون أنه لا يدخل في مسمى الدار وأنه لا يدخل تبعاً لذلك في مسمى العقد لأنه منفصل عن الدار. = والقول الثاني: أن المفتاح داخل في مسمى العقد. - لأن مصالح الدار لا تتم إلا به. - ولأن التسليم الذي هو القبض يتم في الدور بتسليم المفتاح. فلذلك اعتبروها داخلة في مسمى العقد ويجب على البائع أن يسلم هذه الفاتيح إلى المشتري. وكما ترون هذا القول هو القول الصحيح. * * مسألة/ ذكرها الحنابلة وهي مفيدة ليقاس عليها كا ما هو من جنسها. نحن الآن ذكرنا المتصلات والقسم الثاني: المنفصلات.

المسألة هي في القسم الثالث: وهي الذي بعضه متصل وبعضه منفصل. مثل حجر الرحا. حجر الرحا قاعدته متصلة مربوطة في الأرض مثبتة وعلويه ينزع. = فالحنابلة يقولون: قاعدة الرحا تبع البيت وغطاء الرحا تبع البائع يعني: لا يدخل في العقد. لماذا؟ - لأن أصلها متصل ثابت وأعلاها منفصل. والقاعدة عند الحنابلة: التفريق بين المتصل والمنفصل. = والقول الثاني: أن هذه الأعيان التي تنقسم إلى متصل ومنفصل أنها داخلة في مسمى البيع وهي تبع للبيت. - لأن الجزء المثبت منها لا ينتفع به إلا بالجزء المتحرك. وهذا القول الثاني كما ترى قوي وسديد وواضح جداً وهو أن كل شيء يثبت في البيت فالجزء المنفصل منه تبع له وهو داخل في مسمى العقد. ثم بعد ذلك نقول: بعد أن فصَّل المؤلف - رحمه الله - في الأعيان التي تدخل في مسمى الدار: أقول: أن هذه الأمور ترجع إلا العرف. والأعراف حاكمة على عقود الناس. فإذا دلَّ العرف على أن هذه الأشياء داخلة في مسمى العقد فتدخل وإذا لم يدل فإنها لا تدخل. وإنما ينتفع بكلام الفقهاء وتعليلاتهم واستدلالاتهم بالأشياء التي ليس فيها عرف أو الأشياء التي اختلفت فيها الأعراف حينئذ ننتفع من هذه التفصيلات بتقرير ما ذكره الفقهاء. فمثلاً/ من الأشياء التي انتهى الخلاف فيها ولم يعد له وجود مطلقاً مسألة المفتاح والقفل. هل [يوجد] أحد من المعاصرين يمكن أن أن يقول أن المفتاح والقفل ليس داخل في مسمى البيت؟ لا يمكن أبداً. فإذاً دلت هذه المسألة على أن العرف في كثير من البيوع حاكم. إذا كان العرف واضح وجلي وليس فيه تردد ولا اختلاف. كذلك هذه مشمولات المبيع نرجع فيها إلى الاعراف سواء في الدور أن في الأراضي التي ليست بساتين أو في الأراضي التي هي بساتين. فمثلاً/ اليوم بيع المزارع جرى العرف أنه لا يشمل بهيمة الأنعام التي فيها. لكن جرى العرف أنه يشمل الأحواش ولو كانت من أشياء منفصلة متحركة كالشبك مثلاً: جرى العرف أن ما في المزرعة من شبوك وأحواش مسورة أنها داخلة في مسمى العقد دون ما فيها من بهيمة الأنعام ودون ما في هذه الأحواش من أعلاف. فكل هذه الأمور لا تدخل بينما الأحواش تدخل.

هذه أمثلة تبين أن المرجع في دخول بعض الأشياء وخروجه هو العرف. - قال - رحمه الله -: - وإن باع أرضاً ولو لم يقل: ((بِحُقُوقِهَا)) شمل: غرسها وبناءها. إذا باع أرضاً فإما أن يقول: اشتريت هذه الأرض بحقوقها. أو يقول: اشتريت هذه الأرض ولم يقيد ذلك بحقوقها. ـ فإن قال: اشتريت هذه الأرض بحقوقها: دخلت بالإجماع. والحقوق مثل ما ذكره المؤلف - رحمه الله: الغرس والبناء. ويجب أن تلاحظ أنا نتكلم عن شراء الأرض بينما لو أنه شرى البناء لدخلت الأرض بلا خلاف. لكن إذا اشترى الأرض نحن الآن نحتاج إلى الكلام في حكمها. فإذا اشترى الأرض: ـ فإن قال بحقوقها دخلت الأشجار والبنيان بالإجماع. ـ وإذا قال اشتريت الأرض وسكت ففيه خلاف: = القول الأول: أنه إذا اشترى الأرض دخلت الحقوق في الأرض ولو لم ينص عليها في العقد. استدلوا على هذا: - بأنه إذا اشترى الأرض ونص على حقوقها دخلت بلا خلاف فكذلك إذا لم ينص على حقوقها. لأن النص على حقوقهالا كشف لنا أنها داخلة. = والقول الثاني: أنه إذا اشترى أرضاً فيها غرس وبناء فيها شجر وبناء فإن الشجر والبناء لا يدخل في مسمى الأرض. واستدلوا على هذا: - بأن كلمة الأرض تطلق على غير الغرس والبناء فالغرس والبناء لم يدخل في مسمى العقد فلا يشمله العقد. والراجح: القول الأول: وهو كما ترى مذهب الحنابلة: أنه إذا اشترى أرضاً شمل الغرس والبناء ولو لم يقل بحقوقها. وهذه المسألة من أمثلة المسألة السابقة وهي أن العرف أنهى الخلاف الفقهي. فاليوم إذا اشترى الإنسان أرضاً: هل يمكن أن يطالب الإنسان بالشجر الذي فيها؟ يدخل الشجر والبناء وكل ما على الأرض بلا جدل ولا نقاش بل يحتاج إذا أراد أن يقلع الشجر أن يشترط ذلك في العقد. من الذي يحتاج أن يشترط؟ البائع. إذا أراد أن يحمل معه الغرس يحتاج إلى اشتراط. فإذا كان البائع هو الذي يحتاج إلى اشتراط صار دخوله في ملك المشتري بديهي وأولوي. إذاً: هذا أيضاً من أمثلة أن العرف أنهى الخلاف الفقهي. - قال - رحمه الله -: - وإن كان فيها زرع كبر وشعير: فلبائع مبقى. ما زال المؤلف - رحمه الله - في بيان الأشياء الموجودة على الأرض.

فإذا كان فيها زرع وهذا الزرع يحصد مرة واحدة: كالبر والشعير فإنه ملك لمن؟ للبائع. إذا كانت هذه الأشياء تؤخذ مرة واحدة فهي للبائع بالإجماع بلا خلاف. ويلحق بالزرع الذي يحصد مرة واحدة كل ما يلقط مرة واحدة مثل/ الجزر والبصل والثوم. هذا يلقط: مرة واحدة. فهو يشبه حصاد القمح والبر والشعير. فهذه الأشياء التي تؤخذ مرة واحدة هل للبائع بالإجماع لماذا؟ - قالوا: لأن هذه الأشياء توضع في الأرض بقصد أخذها فهي كالفرش بالنسبة لبيع الدور. وهذا أمر واضح جداً وهي كما قال المؤلف - رحمه الله -: للبائع بلا إشكال. فإنه ما أودعها إلا ليأخذها. ثم انتقل إلى نوع آخر: - فقال - رحمه الله -: - وإن كان يُجَزُّ أو يلقط مراراً: فأُصوله للمشتري. والجزة واللقطة الظاهرتان عند البيع: للبائع. الذي يجز مراراً: كالرطبة. الذي يسمى البرسيم. والذي يلقط مراراً: كالقثاء. وكل ما يلقط أكثر من مرة. فهذه حكمها يختلف وفيه تفصيل: ـ فأصول الشجر للمشتري واللقطة الظاهرة للبائع. لكن يشترط أن يجز هذه اللقطة الظاهرة فوراً. لئلا تختلط مع ما ينبت بالتدريج ولا يمكن التمييز بين ما هو للمشتري وما هو للبائع. الدليل: أن اللقطة الظاهرة للبائع: قالوا: أن الدليل: - أن اللقطة الظاهرة تشبه الثمر بعد التأبير. والثمر بعد التأبير ملك للبائع. ولما كانت هذه اللقطة الظاهرة تشبها أخذت نفس الحكم. وأما الدليل على أن أصل الشجر للمشتري: - فلأنه أصل ثابت تابع للأرض. فعرفنا الآن أن الشيخ - رحمه الله - قسم ما ينبت في الأرض إلى ثلاثة أقسام: ـ القسم الأول: الأصول الثابتة من الشجر وأصول النباتات التي تثمر مراراً فهذه للمشتري. ـ والقسم الثاني: ما يلقط مرة واحدة فهذا للبائع. ـ والقسم الثالث: بين القسمين فأصوله للمشتري ولقطته الظاهرة للبائع. وفي هذا التقسيم أروع ما يكون من العدل والإنصاف للمشتري والبائع وإعطاء كل واحد منهما ما يستحقه بعد إجراء العقد. - قال - رحمه الله -: - وإن اشترط المشتري ذلك: صح. يعني: كل ما قلنا إنه للبائع: إن اشترطه المشتري فهو لمن؟ للمشتري. - لقول النبي - صلى الله عليه وسلم - المسلمون على شروطهم.

فإن قيل: كيف يصح اشتراط اللقطة وهي مجهولة إذا لا يعرف كمية هذه اللقطة ولا العدد ولا الجودة ولا النوعية ولا يعرف عنها شيء؟ فكيف نجوز استثناء شيئاً مجهولاً؟ فالجواب: أن استثناء المجهول إذا كان تبعاً لأصله المعلوم وليس هو المقصود بالذات فهو جائز. فهذه الأشياء دخلت تبعاً للأرض فالجهالة فيها مغتفرة. فصل [في بيع الثمار وما يتعلق به] - قال - رحمه الله -: - فصل. ذكرت لكم أن المؤلف - رحمه الله - عقد هذا الباب لبيان أحكام بيع الدور والأراضي وهذا انتهينا منه في الفصل السابق. ولبيان أحكام الثمار وهذا عقد له هذا الفصل اللاحق. - يقول - رحمه الله -: - ومن باع نخلاً تشقق طلعه: فلبائع مبقى إلى الجذاذ إلاّ أن يشترطه مشترٍ. إذا باع الإنسان النخل فاختلف الفقهاء في حكم الثمرة التي فيه واختلفوا إلى أربعة أقوال: = القول الأول: وهو المذهب. وهو: إن كان البيع تم والطلع تشقق فالثمرة للبائع وإلا فهو للمشتري. والطلع: هو الوعاء الذي يكون في التمر قبل أن ينضج وأن يظهر. فإذا تشقق وخرجت الثمرة الصغيرة منه فهو ملك للبائع. قال الحنابلة: سواء تشقق بنفسه أو بصنع الآدمي: (أو شقه الآدمي) ليلقحه. وسواء تم العقد قبل التلقيح أو بعد التلقيح. فمناط ملك البائع لها عند الحنابلة هو: تشقق الطلع. واستدل الحنابلة على هذا: - بأن الحكم بكون الثمرة للبائع أو للمشتؤي مرتبط بظهور الثمرة. وظهور الثمرة إنما يكون بعد تشقق الطلع. فجعلنا المناط هو تشقق الطلع. = القول الثاني: أن البيع إذا تم والثمرة مؤبرة يعني ملقحه فهو للبائع وإلا فهو للمشتري. واستدلوا على هذا: - بالحديث الذي أخرجه البخاري ومسلم ولاشك في صحته أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (من باع نخلاً بعد أن يؤبر فثمرته للبائع إلا أن يشترطه المبتاع). فهذا الحديث نص في تعليق الحكم بالتأبير لا بالتشقق. فقالوا: أن الحكم يناط بالتأبير متابعة للحديث. وأجاب الحنابلة: بأن المقصود بالحديث أي بالتأبير في الحديث: يعني: معرفة طلوع الثمرة. لا حقيقة التأبير. وطلوع الثمرة يتبين بتشقق الطلع. وأجاب أصحاب القول الثاني: بأن هذا التأويل صرف للحديث عن ظاهره بلا دليل يؤيد هذا الصرف.

= القول الثالث: أن الإنسان إذا باع النخل فالثمرة للبائع مطلقاً. مطلقاً بدون تفصيل. واستدل هؤلاء: - بالقياس على بيع الأرض ومعها الزرع. وتقدم معنا: أن الإنسان إذا باع الأرض وفيها زرع فالزرع لمن؟ للبائع. فيه تفصيل أو بدون تفصيل؟ بدون تفصيل: إذا كان زرعاً يؤخذ مرة واحدة. فقالوا: كذلك ثمرة النخيل أو ثمرة الأشجار. = القول الأخير: وهو الرابع: أنه للمشتري مطلقاً. واستدلوا: - بأن هذه الثمرة تابعة للشجرة والشجرة ملك للمشتري. وأحظ الأقوال بالنص هو القول الثاني. إذاً: إذا الآن الإنسان باع نخلاً فيه ثمرة وسئلت وقيل لك: لمن تكون الثمرة؟ فالجواب: على القول الراجح: ـ إن كانت مؤبرة فهي للبائع. ـ وإذا كانت على وشك أن تخرف فهي للبائع لأنها حينئذ تكون [مؤبرة] أنا ذكرت لكم أن الراجح هو القول الراجح هو القول الثاني. وأحب أن أنبه إلى شيء: القول الأول: قوي جداً. وهو المذهب مع أن القول الثاني هو الراجح. لماذا؟ وجه قوة القول الأول: أنك ستلاحظ في مسائل ستأتينا الآن وفي الدروس السابقة أن كثيراً من الفقهاء يعولون على خروج الثمرة في أحكام كثيرة. فيربطون الحكم أياً كان كما سيأتينا بخروج الثمرة مما يدل على أن ظهور الثمرة في الحقيقة يصلح لربط الحكم به بدليل ربطه به في مسائل كثيرة بعضها محل إجماع. مما يدل على أن نظرة الحنابلة نظرة قوية وليست بعيدة. بدليل أن الذين يرجحون القول الثاني وهو مسألة التأبير يضطرون إلى تعليق الحكم في مسائل أخرى. أمر آخر: الحنابلة يعرفون الحديث وإمامهم رواه في المسند: يعرفون أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (من باع نخلاً بعد أن تؤبر ... ) مع ذلك لم يربطوا الحكم بالتأبير وإنما ربطوه بظهور الثمرة نظراً للأصول الأخرى العامة. غرضي من هذا: أن تعرفأن ترجيح قول من الأقوال كما مر علينا مراراً لا يعني أبداً الاستخفاف بقول آخر: اللهم إلا - لا يعني: الاستخفاف مطلقاً لكن قد يعني تضعيف بعض الأقوال تضعيفاً شديداً إذا صادمت النصوص.

[ ..... ]- كأن السائل قال: ما وجه الترجيح؟ -] (النص: يعني: مع وجود هذه العلل التي ذكرت والمعاني لكن ما دام في المسألة نص لا يمكن للإنسان أن يخرج عنه والنبي - صلى الله عليه وسلم - ربطها بالتأبير كما أنأصحاب هذا القول أيدوا قولهمى بأشياء تشبه ما أيد به أصحاب القول الأول قولهم: منها ومن أقواها: أن نظرة البائع للثمرة بعد التابير تختلف تماماً عن نظرته لها قبل التأبير لأن بعد التأبير يكون البائع قد تعب عليها وأبَّرَهَا وتشوف إلى ثمرتها فناسب أن يربط الحكم به. ذكروا هذا وأنا أرى أن هذا جيد ولكن لا يكفي لولا الحديث لكان القول الأول وجيه جداً وهو أنا نربط القضية بظهوره لكن ما دام موجود حديث صحيح نص عن النبي - صلى الله عليه وسلم - يربط الحكم بالتأبير فليس للإنسان أن يخرج عنه). - ثم قال - رحمه الله: - مبقى إلى الجذاذ. يجب على المشتري الجديد أن يبقي الثمرة إلى الجذاذ. وليس له أن يأخذ أجراً على هذه التبقية لأنها تبقية مستحقة للبائع بأصل العقد. فليس له - أي: للمشتري - أن يأخذ عليها أجراً. وقوله - رحمه الله -: (إلى الجذاذ). المقصود بالجذاذ: يعني: إلى ما جرت به العادة من اكتمال الثمرة وبلوغها الحلاوة التي يصلح معها أن تقطف. لا إلى الجذاذ ولو تأخر هذا ليس بمقصود لكن عبروا بالجذاذ لأن الجذاذ غالباً يتوافق مع اكتمال نضج الثمرة. فإذا بلغت الثمرة كمالها الأول وصارت صالحة للأكل بحلاوة معتادة فإنه يجب على البائع أن يقطف الثمرة فوراً ولو كان الإبقاء فيه صلاح زائد للثمرة بل يقول: يجب أن تقطف. ((الأذان)) - ثم قال - رحمه الله: - إلاّ أن يشترطه مشترٍ. إذا اشترط المشتري فهو له ولو بعد التأبير أو بعد التشقق. - لصريح الحديث: (إلا أن يشترطه المبتاع) يعني: المشتري. فإذا اشترطه صار ملكاً له بالشرط. - ثم قال - رحمه الله: - وكذلك شجر العنب والتوت والرمان وغيره. (وكذلك شجر العنب والتوت والرمان وغيره) فالحكم فيها: كالتفصيل السابق؟ ـ إن اشتراها بعد ظهور الثمرة فهو: للبائع. ـ وإن اشتراها قبل ظهور الثمرة فهو: للمشتري. فالحكم هنا معلق بالتأبير أو بظهور الثمرة؟ بظهور الثمرة مطلقاً.

إذاً: في الأشجار الأخرى التي غير النخيل: الحكم يعلق بظهور الثمرة. - ثم قال - رحمه الله: - وما ظهر من نوره كالمشمش والتفاح. (نوره) يعني: زهرته. يعنيك والثمرة التي زهرت من هذه الزهرة إذا كانت ظهرت فهي ملك للبائع وإن كان ( ... - كلمة غير واضحة - ... ) قبل ظهورها فهي ملك للمشتري. فالحكم في الشجر وما يظهر ثماره من خىل زهوره حكم واحد. - ثم قال - رحمه الله: - وما خرج من أكمامه كالورد والقطن. (الكم) هو الغلاف الذي يغلف الثمرة أو ما يخرج من النبات. فإن كان خرج من أكمامه فهو للبائع وإن كان لم يخرج من أكمامه فهو للمشتري. ومن الشجر الذي يخرج ثمره من أكمامه: النخيل. فالنخيل داخلة دخولاً أولياً بهذه العبارة ولكنه - رحمه الله - أراد أن يؤصل أن كل ثمرة تخرج من الأكمام أي من غلافها إن كانت خرجت فهي للبائع وإن كانت لم تخرج فهي للمشتري. - قال - رحمه الله -: - وما قبل ذلك والورق: فلمشتر. يعني: ما قبل هذه الحدود: التشقق وظهور الثمرة. إذا تم العقد قبل التشقق وقبل ظهور الثمرة فهو: ملك للمشتري لمفهوم الحديث. فالحديث نص على التفريق بين التأبير وعدمه. ويستفاد منه التفريق بين ظهور الثمرة وعدم ظهوره. - ثم قال - رحمه الله: - الورق. الورق والأغصان وكل ما في الشجرة عدا الثمر: ملك للمشتري بلا خلاف وإنما الخلاف والتفصيل في الثمر. وإنما أراد المؤلف - رحمه الله - أن يبين وينص على هذا الحكم. هذا ما تيسر والله أعلم وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين. -[نهاية المذكرة .. وبه تنتهي دروس الفصل الأول من السنة الثانية من هذه الدورة المباركة والحمد لله أولاً وآخراً وظاهراً وباطناً .. وله الحمد في الأولى والآخرة .. ] - أبو أسامة/ محمد بن مقبل بن رحيل الوهبي الحربي

الدرس: (18) من البيع (تابع) باب بيع الأصول والثمار قال شيخنا حفظه الله: بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين. - قال - رحمه الله: - ولا يباع ثمر قبل بدو صلاحه، ولا زرع قبل اشتداد حبه. أفاد المؤلف - رحمه الله - أنه لا يجوز للإنسان أن يبيع الثمرة أو الزرع إلا بعد بدو صلاح الثمر واشتداد الحب. وقد دل على هذا الحكم - وهو تحريم البيع قبل بدو الصلاح واشتداد الحب: - السنة الصحيحة الصريحة: ـ فجاء في الصحيحين أن النبي - صلى الله عليه وسلم: نهى عن بيع الثمار حتى يبدو صلاحها، نهى البائع والمبتاع. ـ وجاء أيضاً في الحديث الصحيح أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى عن بيع الحب حتى يشتد، نهى البائع والمشتري. فهذه الأحاديث صريحة في المنع من بيع الثمار قبل بدو صلاحها أو الحب قبل أن يشتد. وهذا الحكم المتقرر يستثنى منه صور: - الصورة الأولى: أن يبيع الثمر قبل بدو صلاحه تبعاً لأصله، أي: أن يبيع الأصل وفيه ثمر لم يبد صلاحه: فحينئذ يجوز بيع الثمر في هذه الصورة ولو لم يبد صلاحه ما دام تبعاً للأصل، والأصل هنا - كما تعلمون - في الثمار الشجرة، وفي الزرع الأرض. والدليل الدال على جواز البيع في هذه الصورة: - القاعدة التي تقرر العمل بها عند الفقهاء وهي قولهم: ((يثبت تبعاً ما لا يثبتع استقلالاً)) - وقولهم: ((التابع تابع)) وهو نفس المعنى. ودل على صحة هذه القاعدة قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: (من باع عبداً وله مال فماله لسيده إلا أن يشترط المشتري). فهذا المال إنما صح بيعه لأنه تبع للعبد. وستأتينا هذه المسألة وسيفصل المؤلف - رحمه الله - في بعض الأحكام الخاصة بهذه المسألة. - الصورة الثانية: - التي تستثنى من الحكم: أن يبيع الزرع أو الثمر لمالك الأصل. استثنى الحنابلة هذه الصورة ورأوا أن هذا جائز.

صورة المسألة: أن يعطي إنسان إنساناً أرضاً مزارعة على النصف من الثمر، ففي هذا المثال الأرض لمالك الأرض والزرع بعضه لمالك الأرض وبعضه للمزارع. ففي هذه الصورة يجوز للمزارع أن يبيع الحب قبل أن يشتد، لكن لمن؟ لمالك الأصل وهو في هذه الصورة: الأرض. نفس الشيء بالنسبة للثمر لكن في الثمر سيكون المثال مساقاة لا مزارعة، فإذا دفع أحد أرضه ليقوم على الشحر الذي فيها سواء كانت شجر نخل أو عنب أو غيره من أنواع الفواكه والثمار فنفس الشيء يجوز لمالك الثمر أن يبيع هذا الثمر قبل أن يبدو صلاحه لمالك الأصل، والأصل في مثال المساقاة هو: الشجر. هو الشجر لا الأرض. فالأصل في المساقاة هو الشجر والأصل في المزارعة هو: الأرض. فإذا قيل مالك الأصل يعني: مالك الشجر أو مالك الأرض. = والقول الثاني: في هذه الصورة المستثناة: أنه لا يجوز. لا يجوز بيع الثمر قبل أن يبدو صلاحه ولو لمالك الأصل. واستدل أصحاب هذا القول: - بعموم النهي، فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى عن بيع الثمار قبل أن يبدو صلاحها ولم يستثن أن يكون البيع لمالك الأصل أو لغيره. وهذا القول الثاني هو الصحيح إن شاء الله وهو المتوافق مع النص. إذاً يستثنى من هذا الحكم العام الذي ذكره المؤلف - رحمه الله -: يستثنى مسألتان: - الأولى: الاستثناء فيها صحيح. - والثانية: الاستثناء فيها مرجوح. - ثم قال - رحمه الله: - ولا رطبة وبقل، ولا قثاء ونحوه كباذنجان دون الأصل. مراد المؤلف - رحمه الله - في هذه المسألة أن يبين: أن ما يؤخذ تباعاً إما بالجز كالنعناع والرطبة ونحوه أو باللقط كالقثاء والخيار والباذنجان ونحوه. أن ما يؤخذ بهذه الطريقة تباعاً لا يجوز بيعه ما لم يوجد منه تبعاً لما وجد. وقول المؤلف - رحمه الله -: ولا رطبة وبقل ... إلى آخره يعني: ولا يجوز أن نبيع نحو رطبة وبقل لم يوجد مع ما وجد منه، وإنما يجوز أن نبيع اللقطة الظاهرة فقط دون التي لم توجد. وإلى هذا الحكم ذهب الجماهير وأشدهم في المنع الإمام الشافعي - رحمه الله -. واستدل أصحاب هذا القول في المنع من بيع ما لم يوجد مع ما وجد من هذه الأشياء التي تجز أو تلقط:

- بأن ما لم يوجد يقاس في المنع على الثمار التي لم يبدو صلاحها. فإذا كان الشارع يمنع من بيع الثمرة قبل بدو صلاحها فكيف بالثمرة التي لم توجد. - ثانياً: ثالوا: إن عقد البيع الذي يقع على الثمرة الموجودة أو اللقطة والجزة الموجودة لا يتناول ما لم يوجد فما لم يوجد هو ملك للبائع. ما زظال ملكاً للبائع. وبناءً على هذا: سيختلط ما يملكه البائع مع ما يملكه المشتري ولا يمكن التمييز بينهما ليستلم المشتري حقه. = القول الثاني: وهو مذهب المالكية واختيار شيخ الإسلام بن تيمية وتلميذه العلامة ابن القيم: أن بيع ما هذه صفته جائز. فللمزارع أن يبيع جميع نتاج ما يلقط الظاهر منه والذي لم يظهر. واستدلوا على هذا بدليلين: - الأول: أن تمييز الجديد من هذه الثمار عن القديم عسر جداً. فالجمهور يقولون: وقع العقد على هذا الموجود من اللقطة الحاضرة المنظورة والمالكية يقولون: هذا الموجود يعسر أن نميزه عما ينتج من الثمار بعد ذلك، التمييز بينهما عسر جداً, والشرع لا يأتي بأحكام يصعب العمل بها. - الثاني: أن حبس أوله على آخره - حبس أول هذا الملقوط على آخره يؤدي إلى فساده. مثال هذا: نقول للمزارع الذي نبت عنده خيار لا يجوز لك أن تبيع جميع الثمار بل تبيع اللقطة الظاهرة ثم اللقطة التي تليها أو تنتظر إلى أن يستتم خروج الخيار فتبيع الجميع المنظور. فالمالكية يقولون: إذا قلتم للمزارع انتظر حتى تخرج جميع الثمرة أدى هذا إلى حبس أوله على آخره فيفسد الأول قبل أن يستتم خروج الأخير. وما ذكره المالكية من حيث العمل أرجح. فيجوز للإنسان أن يبيع جميع ثمار هذه الثمرة الذي وجد والذي لم يوجد صفقة واحدة ولا حرج عليه. واليوم العمل بهذا قليل لأن غالب المزارعين يبيع في السوق: لقطة فلقطة. ولا يبيع جميع الموجود في زمن واحد، غالب المزارعين الآن على هذا عملهم. - ثم قال - رحمه الله: - دون الأصل. يعني: أنه يمنع من بيع هذه الأشياء إذا كانت مستقلة أما إذا بيعت مع الأصل فهو جائز. - قياساً على بيع الشجرة بثمارها. فتحصل معنا: ـأن بيع الناتج من الثمار لقطة فلقطة جائز. ـ وبيع الناتج جميعه ما وجد وما لم يوجد لا يجوز على المذهب.

ـ وبيع نفس النبتة: أصل الشجرة مع ما يظهر منها: جائز. ولذلك نقول للمزارع بدل أن ترتكب مخالفة لقول الجماهير لا تبع اللقطات، لا تقول أبيع عليك الخيار وإنما يقول: الشجرة بما فيها من ثمار، أو البقلة، البقلة يعني: التي تنتج الخيار والقثاء ونحوه بما فيها من ثمار. إذاً هذا معنى قول المؤلف - رحمه الله -: (دون الأصل) - ثم قال - رحمه الله: - إلاّ بشرط القطع في الحال. يعني: أنه يجوز أن يبيع الإنسان الثمر قبل بدو الصلاح بشرط أن يقطع البائع الثمرة حالاً. يعني: فور الشراء. وهذا الحكم: محل إجماع من الفقهاء لا إشكال فيه. أن الإنسان إذا اشترى ما لم يبدو صلاحه بشرط القطع فهو جائز والبيع صحيح. تعليل الجواز: - أن الشارع إنما نهى عن بيع الثمار قبل بدو الصلاح خشية التلف وإصابة العاهة بهذه الثمار. وإذا اشترط الإنسان أن يقطع الثمرة حالاً أمنا العاهة لأنه سيقطع الآن. لكن يشترط لصحة هذه المعاملة أن تكون هذه الثمرة المقطوعة فيها نفع: كأن تكون طعاماً للدواب أو ينتفع بها بأي شيء، المهم أن تكون مشتملة على نفع معلوم. والدليل على هذا: - ما تقدم معنا في شروط البيع أن من شروط البيع أن يكون المبيع له نفع مباح. - ثم قال - رحمه الله: - أو جزة جزة أو لقطة لقطة. يعني: يجوز بيع ما يظهر تباعاً مما يلقط أو يجز إذا باعه جزة جزة ولقطة لقطة. - لأنه إذا باعه لقطة لقطة أو جزة جزة فلا جهالة ولا ضرر ولا غرر ولا أي شيء يسبب المنع. ولذلك الجواز محل إجماع ولم يخالف أحد من أهل العلم في جواز بيع ما يلقط أو يجز جزة جزة ولقطة لقطة. فهو ولله الحمد محل إجماع. - ثم قال - رحمه الله: - والحصاد واللقاط على المشتري. تحصيل المبيع من هذه الثمار وما يلقط وما يجز من واجبات المشتري. التعليل على أنه من واجبات المشتري: - أن نقل المبيع وتخليصه من البائع من مهام المشتري، لأن البائع ليس عليه إلا التسليم والتسليم في مثل هذه الثمار يحصل بالتخلية. فإذا خلا البائع بين المشتري وبين الثمار وجب على المشتري هو بنفسه أن يأخذ هذه الثمرة وهذا الحكم وهو أنه يجب على المشتري هو أن يحصل السلعة محل إجماع.

واليوم العمل على هذا، فإذا اشترى الإنسان تمراً أو عنباً أو غيره من المنتوجات فالعمل على أنه هو الذي يحصل هذه الثمار، ولو ترتب على هذا أن يدفع المشتري المبالغ لتحصيل هذه الثمار. - ثم قال - رحمه الله: - وإن باعه مطلقاً. قوله: (وإن باعه) الضمير يعود على الثمار التي لم يبدو صلاحها. وإن باع الثمار التي لم يبدو صلاحها مطلقاً: مطلقاً يعني: بدون شرط الإبقاء ولا الجز أو القطع. فإن البيع في هذه الصورة باطل. والدليل على بطلانه: - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى عن بيع الثمار قبل أن يبدو صلاحها، وهذا باع ثمرة قبل أن يبدو صلاحها ولا يوجد في العقد شرط القطع. والثمار التي لم يبدو صلاحها إنما يجوز أن تباع بهذا الشرط فإذا لم يوجد دل هذا على بطلان العقد. = والقول الثاني: أن العقد صحيح. - لأن العقد على ثمار لم يبدو صلاحها ينصرف إلى القطع تصحيحاً للعقد. وإلى هذا ذهب الأحناف. وقولهم غاية في الضعف ومذهب الجماهير إن شاء الله هو الصحيح، وهو أنه إذا أجرى العقد بلا شرط القطع فإن العقد باطل. وكما قلت لك يترتب على البطلان أن يأخذ المشتري الثمن وترجع الثمرة إلى البائع. - ثم قال - رحمه الله: - أو بشرط الإبقاء. إذا اشترى الإنسان ثمر لم يبدو صلاحها بشرط الإبقاء فمعلوم أن البيع باطل: بالنص والإجماع. فإنه معارضة صريحة للسنة فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى عن بيع الثمر قبل أن يبدو صلاحها. فإذا اشترى ثمرة قبل أن يبدو صلاحها واشترط الإبقاء صار العقد باطلاً بلا إشكال. - ثم قال - رحمه الله: - أو اشترى ثمراً لم يبدُ صلاحه بشرط القطع وتركه حتى بدا. إذا اشترى ثمراً لم يبدو صلاحها واشترط القطع فتقدم معنا أن هذا العقد صحيح. فإذا ترك المشتري الثمرة حتى بدا صلاحها فحينئذ يصبح العقد عند الحنابلة باطلاً. واستدل الحنابلة على هذا بدليلين: - الأول: أن المنع والإبطال لمنع الحيلة إذ قد يحتال الإنسان على شراء ثمرة قبل أن يبدو صلاحها بأن يشترط القطع ثم يترك الثمرة حتى يبدو صلاحها فاتخذ هذا الحكم حيلة للوصول إلى المحرم.

- الدليل الثاني: أن هذا العمل يصدق عليه النهي لأن هذا الرجل اشترى ثمرة قبل أن يبدو صلاحها ولم يقطع فدخل في عموم النهي. وإلى هذا القول - الذي هو المذهب ذهب شيخ الإسلام بن تيمية - رحمه الله - وفي هذا دليل على أن الشيخ - رحمه الله - له عنية خاصة وواضحة في قضية سد الذرائع وأنه يطبق هذا في الأحكام الشرعية. = القول الثاني في هذه المسألة: أن العقد لا يبطل، بل يشترك البائع والمشتري في الزيادة. والزياة في هذه المسألة هي الفرق بين قيمة الثمرة وقت العقد ووقت الأخذ. فإذا افترضنا أنه اشترى ثمرة نخلة قبل بدو الصلاح بمائة ريال وتركها حتى بدا الصلاح فلما بدا صلاح الشجرة ارتفع سعر الثمرة إلى أن أصبخ بخمسمائة ريال وهذا على أقل تقدير لأنه دائماً سيكون الفرق بين سعر الثمرة قبل بدو الصلاح وبعده كبير جداً. فالآن الفرق بين السعرين كم؟ أربعمائة فيشترك البائع والمشتري في هذه الزيادة. واستدل أصحاب هذا القول: - أن غاية ما هنالك أن هذا المبيع اختلط بغيره وهي الزيادة الحاصلة ببدو الصلاح واختلاط المبيع بغيره لا يؤدي إلى فساد العقد. كما لو اشترى الإنسان صبرة طعام وانكب عليها صبرة أخرى فإن هذا لا يؤدي إلى فساد العقد بل نفرز نصيب البائع من المشتري. والقول الثاني: وجيه وقوي. فإن قيل: أليس مبدأ سد الذرائع والمنع من الحيل مبدأ نحفوظ ودلت عليه النصوص؟ فالجواب: صحيح ولابد من الاهتمام بهذا المبدأ والعمل على وفقه وفهمه من طالب العلم. لكن في هذه المسألة لم نمكن المشتري من تحقيق غرضه. ولذلك لم ينتفع من ترك هذه الثمرة إلى أن بدا الصلاح. وكل عمل أدى إلى إبطال ما احتال عليه الإنسان فقد أذهب ثمرة هذه الحيلة. فنحن نقول الآن: بدل أن نبطل هذا العقد والشارع لا يتشوف إلى إبطال عقود المسلمين نبطل الحيلة بأن نمنع المشتري من أن يأخذ جميسع الزيادة فنقسمها بين المشتري والبائع. على أن قول شيخ الإسلام - رحمه الله - في الحقيقة أيضاً فيه قوة. لكن يظهر لي الآن أن القول الثاني أوجه. - ثم قال - رحمه الله: - أو جزة أو لقطة فنمتا. تقدم معنا: أن ما يجز ويلقط لا يجوز أن يباع على المذهب إلا جزة جزة أوة لقطة لقطة.

فإذا اشترى ما يباع على هذه الكيفية: جزة جزة ولقطة لقطة، وتركها حتى نمت فالحكم تفصيلاً وخلافاً كالمسألة السابقة تماماً. فالمذهب يرون أنه باطل ويستدلون بنفس الأدلة السابقة. والقول الثاني: الصحة وأنهم يقتسمون الزيادة وقد عرفت كيف نحدد الزيادة في مثل هذه الثمار. وأما على القول الراجح أنه يجوز أخذ ما يلقط وما يجز جملة واحدة ما وجد وما لم يوجد. فهذه المسألة لا تتصور أصلاً على القول الراجح وإنما تتصور على مذهب الحنابلة. - ثم قال - رحمه الله: - أو اشترى ما بدا صلاحه وحصل آخر واشتبها. إذا اشترى ما بدا صلاحه: يعني: وتركه حتى وجدت ثمرة أخرى واختلطت مع الأولى التي اشتراها بعد أن بدا صلاحها فحينئذ ينقسم الحكم إلى قسمين: - القسم الأول: أن يتميز الجديد من القديم فحينئذ لا إشكال مطلقاً فللبائع ما اشترى لأن ما ظهر بعد ذلك متميز عن السابق الذي وقع عليه العقد. - القسم الثاني: أن لا يتميز ما ظهر مع ما وقع عليه العقد. فحينئذ يبطل العقد على ما ذهب إليه المؤلف - رحمه الله -: لأن السلعة اختلطت بغيرها على وجه لا يمكن تمييزه فيرجع المشتري بالثمن والبائع بالثمرة. = والقول الثاني: أن العقد لا يبطل بل يأخذ كل من البائع والمشتري ثمرته التي تميزت فإن تتميز فإنهما يصطلحان على معرفة ما لكل واحد. وفي هذه الصورة نضطر إلى الصلح فلا يمكن الخروج من هذا المأزق إلا بالصلح فنقول للبائع والمشتري: اصطلحا. واستدل أصحاب هذا القول بما تقدم معنا أن غاية ما هنالك أن تختلط السلعة بغيرها واختلاط السلع بغيرها لا يؤدي إلى فساد العقد كما أن الحيلة في هذه المسألة بعيدة جداً بل قد لا تتصور أن يتخذها الإنسان حيلة لأنه اشترى بعد بدو الصلاح. لذلك الراجح إن شاء الله في هذه المسألة الثانية بوضوح الجواز. وأن العقد صحيح ويصطلح البائع والمشتري إذا لم تتميز الثمرة الأولى من الثانية. أما إذا تميزت فلا إشكال. والصحة هي مذهب الحنابلة الاصطلاحي فالمؤلف - رحمه الله - في هذه المسألة خالف المذهب الاصطلاحي. قالمذهب هو الصواب خلافاً لما ذكره المؤلف - رحمه الله -. - ثم قال - رحمه الله: - أو عرية فأثمرت: بطل.

إذا اشترى عرية وتقدم معنا ذكر العرايا. وهو أن يشتري الإنسان الرطب برؤوس النخل بشروط معروفة. فإذا اشترى الإنسان الرطب في رؤوس النخل ثم تركها حتى أثمرت فيكون البيع باطل. واستدل الحنابلة على هذا: - بأن الشارع الحكيم إنما أجاز بيع العرايا للحاجة فلما تركها الفقير الذي هو المشتري تبينا أنه ليس بحاجة فإذا لم يكن بحاجة بطل البيع. وتقدم معنا الآن أكثر من مرة أن بطلان البيع يعني: أن يرجع المشتري بالثمن ويرجع البائع بالثمرة. = القول الثاني: أن المشتري إذا ترك الرطب فيث رؤوس التخل حتى أثمر فالبيع صحيح ولا يبطل. - لأن تركه الثمر في رؤوس النخل لا يعني أن حاجته انتفت فقد يترك هذا التمر لسبب أو لآخر. - وأيضاً تقاس هذه المسألة على مسألة أخرى وهي ما إذا أخذ الرطب جنى الرطب ثم تركه في البيت إلى أن أصبح تمراً ولم يأكله وهو رطب. ففي هذه المسألة الثانية لا يبطل البيع بالإجماع فنقيس مسألتنا - مسألة الكتاب - على هذه المسألة. وهذا القول هو الصواب إن شاء الله ولا نبطل العقد بمجرد أن المشتري المحتاج ترم الثمرة على رؤس التخل. - ثم قال - رحمه الله: - بطل والكل للبائع. بطل: ترجع إلى المسائل السابقة جميعاً من قوله: (وإن باعه ... ) ففي كل هذه المسائل يبطل البيع. (والكل للبائع) يعني: وكل الثمرة للبائع في مسألة إذا بدا الصلاح واختلط بغيره وفي مسألة إذا نمتا الملقوط والمجزوز وفي مسألة إذا اختلط بغيره وإذا بدا صلاحه قبل أن يبدو ثم بدا صلاحه. في هذه المسائل الثلاث الجميع: يعني: كل الثمرة للبائع. وتقدم معنا الخلاف في كل واحدة من هذه المسائل لكن على القول بالبطلان فالكل يكون للبائع. - ثم قال - رحمه الله: - وإذا بدا ما له صلاح في الثمرة واشتد الحب: جاز بيعه مطلقاً وبشرط التبقية. إذا بدا الصلاح في الثمر واشتد الحب جاز البيع بالإجماع لكن إذا باع فله صور: - الصور الأولى: أن يبيع ما بدا صلاحه بشرط القطع. فهذا جائز بالإجماع لأنه إذا جاز أن يبيع ما لم يبدو صلاحه بشرط القطع فكيف بما بدا صلاحه.

- الصورة الثانية: أن يبيع ما بدا صلاحه بشرط التبقية. وهذا أيضاً جائز وصحيح عند الجماهير والجم الغفير من أهل العلم فللمشتري أن يبقي الثمرة التي اشتراها بعد أن بدا الصلاح. واستدل الجماهير على هذا الحكم: - بأن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى عن بيع الثمار قبل أن يبدو صلاحها وعلل ذلك بخشية إصابة الثمرة بعاهة أو أن تتلف فدل هذا التعليل على أن الأصل ان البائع إنما يشتري ليبقي وأن شرائه لإبقاء الثمرة جائز لأنه لو كان الشراء دائماً للقطع لم يحتج النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى النهي عن شراء الثمرة قبل أن يبدو صلاحها لأن القطع ليس معه عاهه. وهذا القول الذي هو مذهب الجماهير هو الصواب إن شاء الله ولسنا في الحقيقة بحاجة لذكر خلاف الأحناف في هذه المسألة لقوة مذهب الجماهير وتوافقه مع ظاهر الحديث الدال على النهي عن بيع الثمار قبل أن يبدو صلاحها. - ثم قال - رحمه الله: - وللمشتري تبقيته إلى الحصاد والجذاذ. ظاهر عبارة المؤلف - رحمه الله - أن المشتري له أن يبقي الثمرة إلى الحصاد والجذاذ: يعني: إلى وقت الحصاد والجذاذ. وليس له أن يبقي الثمرة إلى ما بعد ذلك. أن إبقاء الثمرة إلى ما بعد وقت الجذاذ والحصاد فيه تعدي على حق البائع. ولا يجوز بناء على هذا للمشتري أن يبقي الثمرة بعد وقت الحصاد والجذاذ إلا بإذن البائع وإلا فإبقائه محرم. ولا يقصد الفقهاء بقولهم إلى الحصاد والجذاذ يعني إلى أول وقت الحصاد والجذاذ بل إلى ما تبقى الثمرة عادة. وبعد ذلك لا يجوز له أن يبقي الثمرة إلا بإذن البائع. - ثم قال - رحمه الله: - ويلزم البائع سقيه إن احتاج إلى ذلك، وإن تضرر الأصل. يلزم البائع السقي إن احتاجت الثمرة إلى السقي. وتعليل ذلك: - أنه يجب على البائع أن يسلم الثمرة كاملة ولا يمكن أن تسلم الثمرة كاملة إلا بإتمام السقي. - يقول - رحمه الله: - وإن تضرر الأصل. يعني: حتى لو ترتب على السقي تضرر الأصل وهو الأرض في الزرع والشجرة في الثمر. - لأن البائع دخل على هذا الأساس. أي: دخل على أن يؤدي الثمرة كاملة وهذا لا يتم إلا بالسقي. فإذا كان السقي يسبب ضرراً على الأصل فيجب عليه مع ذلك أن يسقي.

وهذا هو الحكم الشرعي الواضح لكن من مكارم الأخلاق بالنسبة للمشتري إذا كان السقي يؤدي إلى تضرر الأرض أو الشجرة أن يبادر في جني الثمرة لكي لا تتضرر الشجرة ولا تتضرر الأرض التي سيزرع فيها السنة القادمة هذا لاشك أنه من مكارم الأخلاق وأنه ينبغي أن يبادر بالجني ما دام الجني لا يؤثر عليه ولا يضره في مكاسبه. - ثم قال - رحمه الله: - وإن تلفت بآفة سماوية: رجع على البائع. (وإن تلفت) يقصد بقوله: (وإن تلفت): يعني: الثمار. ومقصود الفقهاء بقولهم: (وإن تلفت) يعني قبل أوان الجذاذ. أما إن تلفت بعد أوان الجذاذ فهذا من تفريق المشتري وهو الذي يضمن هذا النقص أو التلف. إذاً: البحث الآن في ما إذا تلفت قبل أوان الجذاذ. - يقول - رحمه الله -: - بآفة سماوية. الآفة السماوية هي كل ما يصيب الزروع والثمار مما لا صنع للآدمي فيه كالحر الشديد والبرد الشديد والجراد والنار ونحو هذه الأشياء. ويلحق بالآفة السماوية ما للآدمي فيه صنع ممن لا يمكن تضمينه كما إذا أفسدت الجيوش والدروع أو قطاع الطرق أو اللصوص ممن لا يمكن تضمينهم فهو أيضاً يلحق بأحكام الآفة السماوية. - يقول - رحمه الله -: - رجع على البائع. يعني: ان الجوائح إذا أصابت الثمار قبل أوان الجذاذ فإن الضمان يكون على البائع. وإلى هذا ذهب الجماهير من أهل العلم وتمسكوا بالنصوص الصريحة الصحيحة الدالة على هذا الحكم. - منها أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمر بوضع الجوائح. - ومنها أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: إذا ابتعت من أخيك ثمراً فأصابته جائحه فلا تأخذ منه شيئاً بم تأخذ مال أخيك بغير حق. وهذه الأحاديث في الصحيح وهي صريحة جداً برفع الجوائح. = القول الثاني: أن الثمرة إذا تلفت مطلقاً: من مال المشتري ولا يضمن البائع شيئاً ولا توضع الجوائح. واستدل هؤلاء:

- بما ثبت أيضاً في الصحيح أن رجلاً طلب من أخيه أن يضع عنه أو أن يرفع العقد فحلف البائع أن لا يفعل فسمعه النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: من الذي يتألى على الله أن لا يصنع معروفاً وفي رواية أن لا يفعل خيراً. فقال الرجل: أنا يا رسول الله وله ما شاء - رجع لما أنكر عليه النبي - صلى الله عليه وسلم - - فقال: وله ما شاء. وفي رواية: له أي ذلك أحب. قالوا: فهذا النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يضع الجوائح ولم يأمره أمراً ملزماً بأن يقيله وإنما الرجل من نفسه هو الذي وضع هذه الجائحة. والجواب على هذا الحديث: أنه حديث صحيح لكن الاستدلال فيه خطأ لأنه ليس للجوائح أي ذكر في الحديث. وهكذا كل الذي استدل به أصحاب هذا القول ليس فيه تعرض للجوائح. بينما أدلة أصحاب القول الأول صريحة بوضع الجوائح. لذلك نقول: الراجح بلا إشكال إن شاء الله هو أن الجوائج توضع. ومعنى وضع الجوائح يعني أن السلعة إذا أصيبت بآفة فمن ضمان البائع. هذا إذا كانت الجائحة قبل أوان الجذاذ. - ثم قال - رحمه الله: - وإن أتلفه آدمي: خير مشتر بين الفسخ والإمضاء ومطالبة المتلف. قوله: (وإن أتلفه آدمي) يعني: بذلك الآدمي الذي يمكن تضمينه. فإذا أتلف الثمار آدمي يمكن تضمينه فليست من مسائل الجوائح. وإذا لم تكن من مسائل الجوائح فلها حكم آخر. وهو الذي ذكره المؤلف - رحمه الله -: خير المشتري بين الفسخ وأخذ جميع الثمن وبين الإمضاء ومطالبة المتلف. يخير المشتري بين الأمرين. وبطبيعة الحال أن المشتري سيختار: الأحسن فإذا ارتفعت الثمار فسيختار الإمضاء وإذا نقصت قيمة الثمار فسيختار الفسخ. إذاً هذا هو الحكم فيما إذا أتلفه الآدمي. التعليل في أن إتلاف الآدمي ليس من الجوائح التي توضع: تعليل هذا الحكم: - أنه في هذه الصورة يوجد من يمكن تضمينه فخرجت عن مسائل الجوائح. - ثم قال - رحمه الله: - وصلاح بعض الشجرة: صلاح لها. لما ربط المؤلف - رحمه الله - كثيراً من الأحكام بمسألة صلاح الثمرة أراد أن يبين الأحكام المتعلقة بالصلاح. - فقال - رحمه الله: - صلاح بعض الشجرة: صلاح لها.

فإذا صلح بعض الشجرة ولو ربطة واحدة من التمر فهذا يعتبر صلاح لجميع الشجرة فيجوز أن يبيع جميع الثمرة التي في الشجرة وهذا الحكم بالإجماع. ولله الحمد. إذا صلح بعض الشجرة فهو صلاح لجميع الشجرة فله الشجرة كاملة ولو لم يصلح إلا بعضها. - ثم قال - رحمه الله: - ولسائر النوع الذي في البستان. صلاح بعض الشجرة صلاح لها ولسائلا النوع الذي في البستان ولو لم يصلح من هذا النوع كله الذي في البستان إلا حبة واحدة إلا تمرة واحدة. مثلاً: إذا افترضنا أن الشجر هو ( ..... ). (لعلها: النخيل). وقول المؤلف هنا: (ولسائر النوع الذي في البستان). أفاد أمرين: - الأمر الأول: أن صلاح النوع الواحد لا يعتبر صلاحاً لجنس هذا النوع كله بل للنوع الواحد فقط. - الثاني: وهو منصوص المؤلف - رحمه الله -: أن صلاح شجرة واحدة صلاح لجميع النوع. المثال الذي يوضح هذا: إذاكان في البستان نخيل بعضه النخيل الذي يسمى سكري. وبعضه النخيل الذي يسمى برحي. فإذا صلح بعض شجرة من السكري فصلاح بعض هذه الشجرة صلاح لها ولجميع السكري الموجود في هذا البستان لأنه صلاح لها ولجميع النوع الواحد لكن لا يعتبر صلاح للبرحي لأن صلاح النوع لا يتعبر صلاحا لجميع الجنس. * * مسائل مهمة تتعلق بهذه المسألة: ـ الأولى: أن صلاح النوع في بستان لا يعتبر صلاح للنوع في كل البساتين بل يعتبر كل بستان بحسبه. - الثانية: أن بيع ما لم يبدو صلاحه من النوع الذي بدا صلاح بعضه يجوز إذا كان صفقة واحدة. أما إذا باع الشجرة التي لم يبدو صلاحها مستقلة فإنه لا يجوز ولو بدا صلاح بعض نوع هذا الشجر. المثال الموضح: إذا بدا صلاح شجرة واحدة من السكري وفي البستان عشرة أشجار من النخل فإن باع هذه النخيل جملية صفقة واحدة جاز ولو كان بعضها لم يبدو صلاحه. لكن إن باع واحدة من هذه الشجر واختار ما لم يبدو منها الصلاح فإنه لا يجوز أن تفرد بالبيع ولم يبدو صلاحها. هذا مذهب الحنابلة. = القول الثاني: أنه يجوز أن تفرد بالبيع إلحاقاً لها بما بدا صلاحه وإن لم تبع معه. ((الأذان)) والراجح مذهب الحنابلة.

والتعليل: أن القاعدة التي أخذناها آنفاً أنه: ((يثبت تبعاً ما لا يثبت استقلالاً)) وإذا أردنا أن نطبق هذه القاعدة فإن هذه الثمرة التي لم يبدو صلاحها إنما يكون يجوز أن تباع تبعاً لما بدا صلاحها لا استقلالاً فهذه القاعدة دلت على رجحان مذهب الحنابلة وتقدم معنا أن هذه القاعدة صحيحة ومقررة عند الفقهاء وبناء عليه نقول ما ذهب إليه الحنابلة هو إن شاء الله الصواب. وقبل أن نتجاوز مسألة صلاح بعض الشجر صلاح له وسائر النوع الذي في البستان. نحن قلنا الآن أنه صلاح لها ولسائر النوع لا لسائر الجنس. لكنا لم نذكر الخلاف في هذه المسألة: الآن عرفنا أن الحنابلة يرون أن يرون أنه صلاح لها ولسائر النوع لا لسائر الجنس. علل الحنابلة ذلك: - بأن صلاح ما بين الجنسين متباعد بخلاف صلاح النوع الواحد. = والقول الثاني: أن صلاح النوع صلاح لكل الجنس فإذا صلحت نخلة واحدة في البستان فهو صلاح لها ولكل النخل مهما اختلفت أنواعه. وإلى هذا ذهب شيخ الإسلام بن تيمية - رحمه الله -. وهو قول عند الحنابلة. واستدل أصحاب هذا القول: - بأنه في باب الزكاة نضم الأنواع المختلفة والأجناس المختلفة من التمر بعضها إلى بعض في تكميل النصاب فكذلك هنا نضم بعضها إلى بعض في جواز البيع. قياساً على ضمها في النصاب. - والدليل الثاني لهم: أن اعتبار بدو الصلاح في كل جنس فيه مشقة لأن صاحب البستان يريد أن يبيع ثمرة البستان بأكملها. والراجح والله أعلم مذهب الجمهور ولا أرى أن اختيار شيخ الإسلام في هذه المسألة قوي. والسبب في ذلك: أن صلاح ما بين الجنسين متباعد ففي بعض النخيل يتباعد ذلك إلى أن يقرب من ثلاثة أسابيع أو نحو هذه المدة فإلحاق بعضها إلى بعض ليس بصحيح. ثم قياس الزكاة على صلاح الثمر قياس مع الفارق لأن مقصود الزكاة تحقيق الغنى وهو يتحقق في أي جنس بينما هنا المقصود التحقق من بدو الصلاح وقرب بعضها من بعض وهذا لا يتحقق بالأجناس. هذا والله أعلم وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين.

الدرس: (19) من البيع قال شيخنا حفظه الله: بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين. (ناقص من أوله) ... وهذا الذي يريد المؤلف - رحمه الله - أن يبينه بقوله: (وبدو الصلاح في ثمر النخل أن تحمر أو تصفر). وسيبين المؤلف - رحمه الله - ببعض التفصيل كيفيك بدو الصلاح في الثمار. واختار - رحمه الله - من الثمار النخل والعنب لكثرة الحاجة إليهما، وكثرة البيوع في ثمار هاتين الشجرتين. ثم سيذكر القاعدة العامة في بدو الصلاح في الثمار. ـ فنبدأ بالنخيل: المؤلف - رحمه الله - يقول: أن بدو الصلاح في ثمر النخيل أن يحمر أو أن يصفر. فإذا احمر الذي من شأنه أن يحمر وإذا اصفر الذي من شأنه أن يصفر بحسب تنوع النخيل فقد بدا صلاحه وجاز بيعه. والدليل على ذلك: - حديث أنس - رضي الله عنه - في الصحيحين: أن النبي - صلى الله عليه وسلم -: نهى عن بيع ثمار النخل حتى يصفر أو يحمر - وفي لفظ: يصفار أو يحمر. فهذا الحديث نص على الضابط في كيفية بدو الصلاح في ثمر النخل. ثم انتقل المؤلف - رحمه الله - إلى العنب: - فقال - رحمه الله -: - وفي العنب أن يتموه حلواً. العنب ينقسم إلى قسمين: - القسم الأول: العنب الذي ينضج بأن يسود. فهذا بدو الصلاح فيه أن يسود. ولا يجوز أن يباع قبل أن يسود للحديث المروي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه: نهى عن بيع العنب حتى يسود. وهذا الحديث - أي: النهي عن بيع العنب حتى يسود - حديث ضعيف، أعله الأئمة كالبيهقي والدارقطني. وصححه المتأخرون. والصواب أنه ضعيف. لكن معنى هذا الحديث صحيح. وأنه لا يجوز أن يباع العنب الذي من شأنه أن يسود إذا نضج إلا إذا اسود ولو كان الحديث ضعيفاً لأن المعنى العام والنصوص الأخرى الدالة على اشتراط بدو الصلاح في الثمر تدل على صحة معنى هذا الحديث. وهناك فرق كبير - ويجب أن يتنبه إليه الطالب - بين إثبات اللفظ المنسوب إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - وإثبات صحة المعنى المذكور في الحديث الضعيف فإن إثبات صحة المعنى المذكور في الحديث الضعيف لا يقتضي أبداً تصحيح اللفظ منسوباً إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -.

وهذه المسألة مع وضوحها وبساطة فهمها إلا أن كثيراً من المتأخرين يقع فيها وذلك بأن يصحح الأحاديث الضعيفة لأن معناها تشهد له الأحاديث العامة، ومنها هذا الحديث، فهذا الحديث صحيح فإن الأحاديث الأخرى تشهد لمعناه، لكن من حيث الصناعة الإسنادية لا يثبت مرفوعاً منسوباً إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -. - القسم الثاني: العنب الذي يتم نضجه بدون أن يسود وهو العنب الأبيض. وبدو الصلاح فيه أن يتموه حلواً. ومعنى قوله - رحمه الله -: (يتموه) يعني يتصف بصفتين: - أن يلين. - ويبدو فيه الماء الحلو. فإن اتصف بهاتين الصفتين فقد تموه حلوا وجاز بيعه. إذاً هذان قسمان لنضج العنب. - ثم قال - رحمه الله -: - وفي بقية الثمر أن يبدو فيه النضج ويطيب أكله. هذه القاعدة العامة في ضابط بدو الصلاح. هو: أن يطيب أكله. ودليل هذه القاعدة العامة: - الحديث الصحيح: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى عن بيع الثمر حتى يطيب ويظهر نضجه. فهذا الحديث هو في الحقيقة متنه قاعدة وهو أن الضابط العام في بدو الصلاح هو أن يطيب ويظهر نضجه ويصلح للأكل. فهذه هي القاعدة العامة في كل شيء. والضوابط التي ذكرها المؤلف - رحمه الله - في مسألة النخل والعنب ما هي إلا أمثلة لهذه القاعدة العامة. ومن المعلوم أن الثمار تختلف اختلافاً بيناً في النضج: - فمن الثمار ما ينضج وهو صغير ويطيب أكله ولا ينتظر فيه أن يستتم نماؤه، مثل: الخيار. فالخيار يؤكل صغيراً. - ومن الثمار من لا يستتم ولا يطيب إلا بعد فترة طويلة وبعد أن يكبر. وغالب الثمار هكذا: كالموز وكل الفواكه فهي لا تطيب إلا بعد مضي فترة يستتم فيها اكتمال الموز والحجم والطعم. إذاً هذه هي القاعدة العامة. إذا طاب وأمكن أكله وتم نضجه جاز بيعه وهو يختلف اختلافاً كبيراً بيناً بين ثمرة إلى أخرى. ومن الفقهاء من استطرد جداً في الكلام عن كل فاكهة وعن كل ثمرة وعن كل نبتة كيف يتم نضجها وهذا تطويل بلا فائدة لأن القاعدة العامة تغني عن الاستطراد الطويل وإنما تخدم القاعدة العامة بالأمثلة الموضحة فقط. - ثم قال - رحمه الله -: - ومن باع عبداً له مال: فماله لبائعه إلاّ أن يشترطه المشتري.

إذا باع الإنسان العبد ومع العبد مال - أي نوع من المال سواء كان من النقدين أو من الأموال الأخرى من العروض، فإن هذا المال للبائع بلا شرط فهو للبائع من حيث الأصل إلا أن يشترطه المشتري. والدليل على هذا: - نص صحيح جاء في الأحاديث الصحيحة وهو أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: من اشترى عبداً وله مال فماله للبائع إلا أن يشترطه المبتاع. فهذا الحديث نص في المسألة وهو أن يكون للبائع ولا يدخل ضمن العقد الذي تم بينه وبين صاحب المال. ثم استثنى المؤلف - رحمه الله - من هذا الحكم العام مسألة: - فقال - رحمه الله -: - فإن كان قصده المال: اشترط علمه وسائر شروط البيع وإلاّ فلا. هذا كالاستثناء من قول المؤلف - رحمه الله - إلا أن يشترطه المشتري. فإن معنى قول المؤلف - رحمه الله - (إلا أن يشترطه المشتري) يعني: فحينئذ يجوز ويكون تبعاً للمبيع ولا يراعي فيه شروط البيع. فإذا اشترط المشتري المال الذي مع العبد دخل في العقد ولا يراعى فيه أي شرط لأنه دخل ضمناً في العقد. لما قرر المؤلف - رحمه الله - هذا المفهوم أراد أن يستثني من هذا الحكم بقوله هنا: (فإن كان قصده المال اشترط علمه وسائر شروط البيع وإلا فلا).إذا كان قصد المشتري العبد والمال الذي مع العبد فحينئذ يشترط في المال شروط البيع، جميع شروط البيع. وإنما نص المؤلف - رحمه الله - على شرط من شروط البيع وهو قوله: (اشترط علمه) لأنه أهم الشروط حينئذ. فيشترط في المال الذي مع العبد إذا قصده المشتري وأراده أن يعلم عن هذا المال وعن ماهية هذا المال ويشترط مع هذا الشرط جميع شروط البيع بما في ذلك انتفاء الربا بحيث لا يكون بين الثمن الذي سيدفعه المشتري والمال الذي مع العبد ربا - بحيث لا يكون بينهما ربا. الخلاصة أنه يشترط فيه جميع شروط البيع. التعليل: تعليل ذلك: - أنه مال مقصود أشبه ما لو اشترى العبد ومالاً آخر. فلو اشترى الإنسان العبد والمزرعة صار كل من العبد والمزرعة مقصود يشترط فيه شروط البيع. فإذاً اتضح الآن التفصيل في حكم المال الذي مع العبد.

بناء على هذا: إذا اشترى الإنسان عبداً في جيبه مائة ريال وكان المشتري لا يقصد هذه المائة ريال ولم يعلم بها لكن قال للبائع أنا أشتري العبد وأشترط أن المبالغ التي في جيبه تكون ضمن البيع. فهل البيع صحيح أو فاسد؟ صحيح. مع أنه لا يعرف الآن لا يعرف كم في جيب العبد لكن هذا المال الذي في جيب العبد غير مقصود ولذلك جاز بيعه بدون اشتراط شروط البيع اأخرى ومنها العلم بالمبيع. وبالعكس لو أن هذا العبد معه مال مقصود والمشتري قال: أنا أريد العبد وأريد المال الذي معه قصداً فحينئذ لابد أن تستكمل شروط البيع في هذا المال الذي مع العبد. - ثم قال - رحمه الله -: - وثياب الجمال للبائع، والعادة للمشتري. لما بين المؤلف - رحمه الله - حكم المال الذي مع العبد انتقل إلى حكم ثياب العبد. فقسم الثياب إلى قسمين: - القسم الأول: الثياب التي تلبس في العادة. - والقسم الثاني: الثياب التي تتخذ للزينة والتجمل. * فالثياب التي تلبس في العادة: وضابطها: ما يلبسه العبد عند البائع في غالب أحواله. فهذه الثياب تدخل ضمن العقد بلا اشتراط. * القسم الثاني: الثياب التي يلبسها العبد للتجمل والتزين في مناسبات معينة: فهذه ليست ضمن العقد وهي ملك للبائع. الدليل على أنها ليست ضمن العقد: من وجهين: - الوجه الأول: عموم الحديث السابق. فإن هذا مال - الثياب نوع من الأموال والحديث دل على أن المال الذي مع العبد يبقى للبائع. - الوجه الثاني: أنه جرت العادة في الاكتفاء بثياب المهنة. * * مسألة/ ليس من الثياب ولا يدخل ضمن هذا التفصيل ما تلبسه الجارية من الزينة بل ما تلبسه الجارية من الزينة كله للبائع بلا تفصيل إلا أن يشترط المبتاع كما قلنا في القاعدة الأولى. إذاً الزينة التي على الجارية لا تدخل ضمن هذا التفصيل ولو كانت ملبوسة وهذا التفصيل يختص باللباس. وإنما نص المؤلف - رحمه الله - على اللباس لأنه قد يتوهم القارئ للمسألة أن كل ما على العبد يدخل ضمن العقد ولم ينص على الأموال الأخرى لأن الأموال الأخرى الحكم فيها واضح. فإذا كان بيد العبد دابة وباعه. فهل هي للبائع أو للمشتري؟ للبائع. والأمر فيها واضح.

باب السلم

وإذا كان في يده سيارة أو بيت أو دكان أو مزرعة: فهذه الأمور كلها الأمر فيها واضح. أنها تبع أو ملك للبائع لكن لما وجد بعض الإشكال في اللباس نص عليه المؤلف - رحمه الله - بياناً وإيضاحاً. وبهذا انتهى ولله الحمد هذا الباب: باب بيع الأصول والثمار. وندخل في الباب الذي يليه وهو باب السلم. باب السلم - قال - رحمه الله -: - باب السلم. السلم والسلف في لغة العرب واحد. إلا أن السلم لغة أهل الحجاز. والسلف لغة أهل العراق. السلم هي لغة النبي صلى الله عليه وسلم باعتبار أنه من أهل الحجاز. وسمي السلم سلماً لتسليم رب المال المال في مجلس العقد. وسمي السلف سلفاً. لتقديم رأس المال في مجلس العقد. هذا ما يتعلق بمعنى السلف والسلم لغة. وأما اصطلاحاً: - فقال المؤلف رحمه الله: - وهو: عقد على موصوف في الذمة مؤجل بثمن مقبوض بمجلس العقد. ذكر الحنابلة تعريفات كثيرة للسلم. اختار منها صاحب كتاب المطلع على أبواب المقنع هذا التعريف الذي ذكره المؤلف - رحمه الله - واختار هذا التعريف من الحنابلة المرداوي ثم جاء المؤلف - رحمه الله - واختار ما اختاره المرداوي وتكرر معنا أن الشيخ - رحمه الله - يميل في كثير من الأحيان إلى التعريفات التي يميل إليها المرداوي وهو والمرداوي وصاحب المطلع أصابوا في اختيار هذا التعريف فإن هذا التعريف من أوضح وأسلم التعريفات وأبسطها في الدلالة على معنى السلم. - يقول - رحمه الله -: - وهو عقد على موصوف في الذمة. قوله: (وهو عقد). السلم عقد مشروع بالكتاب والسنة والإجماع. فقوله: (وهو عقد) دل على أنه من العقود. وهو من العقود المشروعة بالكتاب والسنة والإجماع. - أما الكتاب: فقوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا إذا تداينتم بدين إلى أجل مسمى فاكتبوه ... } [البقرة/282] ودين السلم من جملة الديون الداخلة في مفهوم الآية.

- وأما السنة: فأحاديث كثيرة: - من أصحها حديث ابن عباس وهو عمدة الباب وسيأتينا ويعول عليه في كثير من الفروع في السلم وهو قوله - رضي الله عنه -: (قدم النبي - صلى الله عليه وسلم - المدينة والناتس يسلفون فيها في الثمار السنتين والثلاث) وفي لفظ: (السنة والسنتين). لكن لفظ السنتين والثلاث هو الذي في البخاري - فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: (منن أسلف في شيء فليسلف في كيل معلوم ووزن معلوم إلى أجل معلوم. هذا الحديث عمدة وأصل في هذا الباب كما سيأتينا الاستشهاد والاستدلال بألفظه مراراً وتكراراً. وأجمعت الأمة في الجملة على مشروعية السلم. - قال - رحمه الله -: - وهو عقد على موصوف في الذمة. خرج بذلك: المعين. فإن المعين لا يعقد عليه في عقد السلم وإنما يعقد عليه في عقد البيع. وقوله: (على موصوف في الذمة). الذمة هي: وصف يصير به المكلف أهلاً للإلزام والالتزام. فالذمة لا تكون إلا لمن يعقل وهو مكلف. فالمسجد لا ذمة له: فهو لا يبيع ولا يشتري ولا يقترض ولا يرهن ولا يفعل ما يفعله المكلفون. فإذاً الذمة هي هذا الوصف الذي من اتصف به من المكلفين أصبح أهلاً أن يلتزم وأن يلزم. فخرج به: الصبي والمجنون وكل من لم يكلف. - قال - رحمه الله -: - مؤجل. خرج بقوله: (مؤجل) الحال. وقوله: (عقد على موصوف في الذمة) لا تغني عن قوله: (حال). كما قد يتبادر إلى ذهن بعض من يقرأ الكتاب. فقد يكون الشيء موصوف في الذمة. وهو ليس مؤجلاً بل حال. فإذاً السلم لابد أن يكون مؤجلاً. وهذا القيد سيذكره المؤلف - رحمه الله - في الشروط بالتفصيل وهو محل عناية من الفقهاء لكن الذي يعنينا الآن أن كلمة مؤجل تخرج الحال. - ثم قال - رحمه الله -: - بثمن مقبوض بمجلس العقد. لابد في السلم أن يكون مقبوضاً في مجلس العقد. وسيأتينا تفصيل هذا الشرط. والذي يعنينا هنا أن بعض الفقهاء قالوا أن هذه الجملة إدخالها في التعريف خطأ. والسبب: أن هذا الحكم من شروط السلم وليس من حقيقته. ومن العلماء الذين رجحوا أن إدخال هذه الجملة في التعريف خطأ: ابن حجر العسقلاني - رحمه الله - فهو يرى أيضاً أن هذا من الشروط ولا يدخل في حقيقة السلم.

ومع ذلك مهما يكن من أمر أقول: أن وجود هذا القيد مفيد للغاية لأنه وإن لم يكن من حقيقة السلم إلا أنه يبين السلم على الوجه الأكمل. والمقصود من التعريف هو أن يعرف الإنسان الشيء المعرف على وجحه يتضح به المراد. وإلا فإن حقيقة السلم هي: عقد على موصوف في الذمة مؤجل. وأما تسليم رأس المال في المجلس فهو من الشروط. لكن كما قلت لك أن وجود هذا القيد مما يتمم من معرفة السلم. صورة السلم المبسطة قبل أن ندخل في الأحكام: * * صورة السلم: أن يقول شخص لآخر: خذ مائة ريال الآن على أن تعطيني مائة صاع من القمح بعد سنة. فقوله: (عقد على موصوف في الذمة). الموصوف في الذمة في المثال هو: مائة صاع من القمح. (بثمن مقبوض في مجلس العقد) الثمن في المثال هو المائة ريال. هذه هي صورة السلم العامة وهناك بعض التفصيلات ستأتي أثناء مدارسة مسائل هذا الباب. وعقد السلم بالنسبة للمعاملات المعاصرة مهم جداً هو وعقد القرض والشركة وبعض الأبواب التي ستأتينا بعد هذا الباب لكثرة الحاجة إليها من جهة ولكثرة التخريج عليها من جهة أخرى. فكثير من العقود المعاصرة تخرج على عقد السلم. فمن المهم لطالب العلم أن يفهم باستيعاب باب السلم. - ثم قال - رحمه الله -: - ويصح: بألفاظ البيع. يعني: أنه لو عقد السلم بلفظ البيغ لصح. تعليل ذلك: - أن السلم نوع من البيوع والفرق بينه وبين البيع هو فقط في أنه جاز فيه بمقتضى السنة بيع المعدوم. وإلا فهو والبيع شيء واحد فهو نوع من البيوع لكنه نوع خاص بشروط خاصة. - ثم قال - رحمه الله -: - والسلم والسلف. يعني: ويجوز أن يعقد هذا العقد بلفظ السلم أو بلفظ السلف وهذا صحيح لأن السلم والسلف هما تقديم رأس المال وتأخير العوض وهذا حقيقة السلم لأن السلم والسلفهو ما ذكرت لك من تقديم رأس المال وتأخير العوض وهذا حقيقة السلم. فإذاً يجوز أن نعقد هذا العقد بلفظ البيع أو السلم أو السلف. وهذه المسألة الحاجة إليها يسيرة لأنه تقدم معنا أن العقود يجوز أن تعقد بأي لفظ يدل عليها. ثم شرع المؤلف - رحمه الله - بالشروط: - فقال - رحمه الله -: - بشروط سبعة.

ـ قوله: (بشروط سبعة) يعني: مضافة إلى شروط البيع السابقة فيجب أن تتحقق في السلم الشروط العامة في البيع وهذه الشروط الخاصة. وسيمر بك أن بعض هذه الشروط الخاصة تتوافق مع الشروط العامة في المعنى العام. مثل: شرط العلم بالمسلم فيه هذا يتوافق مع شرط العلم بالمبيع لكنه نص عليه هنا لأن فيه مزيد تفصيل ولأن معرفة السلعة في السلم تختلف عن معرفة السلعة في البيع الحاضر في البيع المعين. بدأ المؤلف - رحمه الله - بأهم الشروط: - فقال - رحمه الله -: - أحدها: انضباط صفاته بمكيل وموزون ومذروع. في الحقيقة سيتبين لك من خلال هذا الشرط ما هي الأعيان التي يجوز السلم فيها وما هي الأعيان التي لا يجوز السلم فيها وهو مبحث مهم جداً. - يقول المؤلف - رحمه الله -: - انضباط صفاته. المقصود بقوله: (صفاته) كل الصفات التي يختلف فيها الثمن اختلافاً ظاهراً. وانضباط الصفات في المبيع في السلم محل اتفاق لحديث ابن عباس السابق وهو نص بقوله: (في كيل معلوم ووزن معلوم). ولأنه لو لم تضبط الصفات التي يختلف فيها الثمن لأدى هذا الاختلاف إلى التنازع عند تسليم المبيع. وعلم من قول المؤلف - رحمه الله - أنه لابد أن تعرف الصفات التي يختلف فيها الثمن اختلافاً ظاهراً أنه لا يجب أن تعرف الصفات التي لا تؤثر على الثمن أو تؤثر فيه لكن تأثيراً يسيراً. فهذه لا يجب أن تذكر في العقد لأن الإلزام بها فيه مشقة وعنت ولأنه ليس لها أثر على الثمن إلا أثر يسير وهو معفو عنه في العقود. مثاله: لو قال: أسلمت إليك مائة ريال على أن تعطيني مائة صاع من التمر الأحمر. فالتمر الأحمر الآن يأتي على درجات يعني: درجات في الحمرة وهي تختلف فبيان درجات الحمرة ليس بواجب لأن هذا لا يؤثر تأثيراً ظاهراً على الثمن. أما في القديم فليس له أي أثر حسب ما فهمت من كبار السن أن لون التمرة ودرجة الحمرة والصفرة فيها ليس له أي أثر على قيمة التمر. أما اليوم - فدرجة الصفرة والحمرة هل لها أثر على ثمن التمر؟ أو ليس لها أثر؟

- لها أثر كبير جداً لا سيما في بعض الأنواع. فإذاً هذا المثال إنما هو في التمر الذي ليس لدرجة الحمرة أثر على الثمن. أما في الأنواع التي له أثر على الثمن فلابد أن يبين. الخلاصة: أن كل صفة لها تأثير بالغ في الثمن يجب أن تذكر. - ثم قال - رحمه الله -: - انضباط صفاته بمكيل. المكيل: كالحبوب والثمار والمائعات. قوله هنا: (انضباط صفاته بمكيل) تجوز في العبارة - بدل أن نقول خطأ - وصحة العبارة أن يقول: (انضباط صفاته كالمكيل) لأن انضباط الصفات لا يكون بالكيل وإنما يكون بذكر صفات إضافية. فإذا قال أسلمت إليك في خمسين صاع من التمر. هل انضبط التمر الآن؟ مع موجود الكيل - هل انضبط؟ أو لا بد من ذكر صفات هذا التمر؟ لابد من ذكر صفات هذا التمر. فقول المؤلف - رحمه الله - هنا: (بمكيل) عرفنا أن الأسلم فيها: (كمكيل).فالمكيلات من الأعيان التي تنضبط في الصفات. - ثم قال - رحمه الله -: - وموزون. الموزون كالحرير والصوف. ومن المعادن كالنحاس والذهب والفضة. فكل هذه الأشياء من الموزونات وهي تنضبط بالصفة. إجراء عقد السلم في المكيلات والموزونات: محل جواز باتفاق أهل العلم. لأنها تنضبط بالصفات فلا إشكال في أن ن ( .... ) (((لم تتبين لي))) ... المكيلات والموزونات. - قال - رحمه الله -: - ومذروع. المذروع: كالثياب والخيوط. فهذه يجوز السلم فيها لأنها تنضبط بالصفات. والمذروعات حكي فيها الإجماع أنه يجوز فيها السلم فقالوا المكيل والموزون والمذروع. لكن الصواب أن المكيل والموزون هو الذي محل إجماع. والمذروع يعني: اتفاق من الجماهير وخالف فيه بعض الفقهاء ولكن الصواب أنه ينضبط بالصفة. بعد أن ذكر - رحمه الله - الأشياء التي يجوز فيها السلم انتقل إلى الأشياء التي لا يجوز فيها السلم عند الحنابلة: - فقال - رحمه الله -: - وأما المعدود المختلف كالفواكه .. المعدودات تنقسم إلى قسمين: - القسم الأول: ما لا تختلف آحاده اختلافاً ظاهراً. كالبيض والجوز. فهذه الأشياء من المعدودات لكن آحادها لا تختلف اختلافاً بيناً. فهذا ذهب الجماهير - وحكي إجماعاً - حكاه بعض الفقهاء إجماعاً - جواز السلم فيها.

- القسم الثاني: من المعدودات: ما تختلف آحادها اختلافاً ظاهراً مؤثراً في السعر. وهذا القسم - الثاني - هو الذي ذكر المؤلف - رحمه الله - أمثلته: - فقال - رحمه الله -: - كالفواكه والبقول. (الفواكه). كالرمان والخوخ والبرتقال والتفاح. (والبقول). البقول: كالبصل والثوم وكل نبات ليس له ساق. الفواكه والبقول: لا يجوز السلم فيها عند الحنابلة أنها من المعدودات التي تختلف آحادها اختلافاً ظاهراً مؤثراً في السعر. وهذا الاختلاف يمنع انضباط الصفات. فإذا أسلمت في برتقال. فالبرتقال منه الكبير ومنه الصغير وتختلف صفاته بما يمنع من السلم. إذاً نحن الآن نتكلم عن المعدودات التي تتفاوت وإنما الفواكه والبقول أمثلة. وعرفنا الآن قول الحنابلة ودليلهم. = القول الثاني: جواز السلم في المعدودات. واستدل هؤلاء: - بأنه يمكن أن تضبط صفتها بأحد أمرين: - الأمر الأول: تحديد الحجم: صغراً وكبراً. - أن تربط بالوزن. فإذا ربطت بالوزن أمكن أن تضبط الصفة. وهي الآن في وقتنا هذا لا تباع إلا وزناً. وهذا القول الثاني عليه العمل وهو إن شاء الله الأقرب لمقاصد الشرع. وكما أن الإنسان يسلم في التمر بالإجماع مع أن التمر منه الكبير والصغير والحلو وما دون ذلك وتختلف صفاته بعض الاختلاف إلا أنه مع ذلك جاز فيه السلم فكذلك في الفواكه ولا فرق بأن تضبط بصفات معينة من حيث الحجم أو من حيث الحجم أو من حيث التنظير. ما معنى التنظير؟ أن يقول له: في مثل هذه ويشير إلى فاكهة منظورة موجودة فيقول أسلمت إليك في مثل هذه. فكل هذه الطرق الثلاث يمكن بها ضبط الصفات. - ثم قال - رحمه الله -: - والجلود والرؤوس. الجلود والرؤوس لا يصح السلم فيها. - أما الجلود فلأنها تختلف اختلافاً كثيراً متفاوتاً يؤثر على السعر بما لا يمكن ضبط صفته. - وأما الرؤوس فلأن غالبها من العظام واللحم فيها قليل. ولأنها لا تباع وزناً. = القول الثاني: جواز السلم في الرؤوس والجلود. واستدل القائلون بالجواز: - على أن الرأس يجوز السلم فيه: أن الرأس عبارة عن لحم وعظم. يجوز بيعه فيجوز السلم فيه كالسلم في اللحم مع العظم.

والذي يظهر لي في مسألة الرؤوس أن مذهب الحنابلة أقرب لأن اللحم مع العظم يمكن ضبطه بالوزن ويعرف عادة ويقدر من قبل أهل المعرفة. أما اللحم الذي في الرأس فهو يتفاوت تفاوتاً كثيراً ويتنوع وضبطه في الحقيقة فيه صعوبة بخلاف ضبط اللحم مع العظم فيه سهولة يمكن ضبطه بالوزن. لكن الرأس لا يوزن ولا يعرف مقدار الذي فيه بالوزن. فعلى كل حال الأقرب بالنسبة للرأس فيما يظهر لي الآن عدم جواز السلم فيه. - ثم قال - رحمه الله -: - والأواني المختلفة الرؤوس، والأوساط كالقماقم والأسطال الضيقة الرؤوس. هذه الأشياء حكمها واحد: الأواني المختلفة الرؤوس، والقماقم والأسطال. هذه ثلاثة أواني لا يجوز السلم فيها. تعليل الحنابلة: علل الحنابلة ذلك: - بأنها تختلف اختلافاً ظاهراً في الحجم وفي جودة الاستعمال. بما لا يمكن ضبطه بالوصف. وقوله: (القماقم) تطلق على أحد شيئين: - الشيء الأول: آنية خاصة يستخدمها أهل العطارة. - وتطلق أيضاً على آنية تستخدم في تسخين الماء. فتطلق على هذا وهذا. = القول الثاني في هذه الأواني: جواز السلم فيها وذلك بأن تضبط بالوصف من حيث الحجم لأنها إنما تختلف من هذه الحيثية. وهذا الخلاف لا يخفاكم أنه خلاف يتصور في القديم أما في وقتنا هذا فإنه لا ينبغي أن يكون هناك خلاف في جواز السلم في الأواني. لماذا؟ لأنها أصبحت تصنع بدقة وبمواصفات ثابتة بما يستطيع معه الإنسان أن يحضر ما يريد من الأواني ويسلم فيها. ففي وقتنا هذا لا إشكال أبداً في جواز السلم في الأواني لانضباطها ودقة التصنيع. نعم في القديم وربما لو رأى أحدكم الأواني القديمة للاحظ الاختلاف البين الذي بين الآنيتين وإن تشابهتا في الأداء والعمل. لكن في وقتنا هذا لا يتصور هذا الاختلاف. - ثم قال - رحمه الله -: - والجواهر. الجواهر: كالدر والعقيق واللؤلؤ وكل ما يستخرج من البحار مما يطلق عليه أنه من الجواهر: فهذا لا يجوز السلم فيه لأنه يختلف في عدة نواحي: فيختلف أولاً: في الحجم وله دور كبير في الثمن. ويختلف في جودة الاستدارة وله أثر كبير في الثمن. ويختلف في جودة الإضاءة وله أثر كبير في الثمن. لهذا كله رأى الحنابلة أنه لا يجوز السلم في الجواهر.

= والقول الثاني: جواز السلم فيها. وذلك بأن تضبط الصفات الثلاث فيذكر الحجم والاستدارة ولو على سبيل التقريب. - ثم قال - رحمه الله -: - والحامل من الحيوان. الحوامل من الحيوان لا يجوز السلم فيها. وفي الحقيقة المؤلف - رحمه الله - سيتكلم قريباً عن حكم السلم في الحيوان ولو أنه أخر الكلام عن الحيوان الحامل إلى حكم الحيوان لكان أنسب. والذي جعله يقدم ذكر الحيوان الحامل أنه من قسم الممنوعات بينما الحيوان من الأقسام التي يجوز فيها السلم. على كل حال: الحيوان الحامل عند الحنابلة لا يجوز السلم فيه وذلك لأن وصف الحيوان الحامل لا يمكن أن يتم على الوجه المطلوب إلا بوصف الحمل والحمل مجهول. = القول الثاني: جواز السلم في الحيوان الحامل. واستدلوا على هذا: - بأن الحيوان الحامل جائز كما تقدم معنا في كتاب البيوع. والسلم نوع من البيوع كما أن الحمل الذي في البطن يثبت تبعاً ولا يثبت استقلالاً. وهذا القول هو الصحيح إن شاء الله. إلا في حالة واحدة إذا كان الحمل الذي في البطن مقصود. فإذا كان مقصوداً فالسلم فيه لا يجوز وهو محرم أنه مجهول وكثيراً لا سيما في وقتنا هذا وفي القديم ما يكون الحمل مقصود بأن يكون من فحل معين مقصود تمدح صفاته. الخلاصة: أن الحيوان الحامل عند الحنابلة لا يجوز السلم فيه ويجوز على القول الصحيح إلا إذا كان الحمل مقصوداً. فإذا كان الحمل مقصوداً فإنه لا يجوز السلم فيه. - ثم قال - رحمه الله -: - وكل مغشوش. لا يجوز السلم في المغشوشات. في أي سلعة كانت. من النقود أو من الأعيان. والسبب أن الغش الذي في هذه السلعة يمنع من معرفة صفاتها المعرفة التامة. ومن شروط صحة السلم: معرفة صفة المسلم فيه. نسينا أن نبين لكم في أول الباب مسميات ستتكرر معنا فنذكرها الآن: - المسلم: هو المشتري. - والمسلم إليه: هو البائع. - والمسلم فيه: هي السلعة. فرب المال هو: المسلم. ورب السلعة: المسلم إليه. والسلعة: هي المسلم فيها. إذاً هذه هي أركان السلم. - ثم قال - رحمه الله -: - وما يجمع أخلاطاً غير متميزة كالغالية والمعاجين.

ما يجمع أخلاطاً غير متميزة لا يجوز السلم فيه. ومثل المؤلف - رحمه الله - لهذا: بالغالية: وهي أخلاط من طيب. والمعاجين: وهي ما يتداوى بها ويقصد المؤلف - رحمه الله - المركبات التي تركب من أكثر من عنصر سواء ليتداوي بها أو ليفعل بها أشياء أخرى. هذه الأشياء التي اختلطت اختلاطاً غير متميز لا يجوز السلم فيها أنه لا يمكن وصف كل نوع من الأخلاط وصفاً دقيقاً لكونها اختلطت على وجه غير متميز وهذا صحيح. الغالية مثلاً: لا يعرف إذا كانت قد أعدت من خمسة أنواع من الطيب لا يمكن أن نعرف صفات كل واحدة من هذه الأنواع بعد الخلط أنها اختلطت اختلاطاً غير متميز. فإن افترضنا وجود آلة تستطيع أن تميز بدقة نسبة ونوع وصفة الأخلاط الغير متميزة فحينئذ جاز السلم. وهذا قد يتصور في وقتنا المعاصر مع وجود الآلات الحديثة. أما في القديم فلا يتصور. - قال - رحمه الله - - فلا يصح السلم فيه. راجع إلا جميع المذكورات بعد قول المؤلف - رحمه الله -: (وأما المعدود المختلف). ثم بدأ المؤلف - رحمه الله - فيما يصح السلم فيه. وقبل أن ندخل فيما يصح السلم فيه: تبين معنا مما سبق أن القاعدة العامة للسلم أن كا ما يمكن أن يضبط بالصفة يجوز أن يسلم فيه. وهذه القاعدة قاعدة متقنة جداً وسهل بها الفقهاء أحكام المسلم فيه من حيث ما يجوز وما لا يجوز أن يسلم فيه الإنسان. فكل ما يمكن أن يضبط في الصفة يجوز فيه السلم. وهذه القاعدة توفر على طالب العلم جهداً كثيراً في تعداد ما يجوز السلم فيه وما لا يجوز. ومع ذلك لما انتهى المؤلف - رحمه الله - من ما لا يجوز انتقل إلى ما يجوز. - فقال - رحمه الله -: - ويصح: في الحيوان. الحيوان: اختلف فيه السلف والخلف والصحابة وكثير من الفقهاء في جواز السلم فيه أو عدمه. = فالحنابلة يرون جواز السلم فيه. ومنهم الإمام أحمد. وهو من أئمة العلماء. استدل الحنابلة على ذلك: - بأن النبي - صلى الله عليه وسلم - استسلف بكراً ورد رباعياً. ففي هذا الحديث أنه - صلى الله عليه وسلم - اقترض حيواناً. - الدليل الثاني: أنه يمكن ضبط الحيوان باصفات التي يختلف فيها الثمن.)) الأذان ((.

= القول الثاني: في هذه المسألة: أن السلم في الحيوان لا يجوز. واستدل هؤلاء بدليلين: - الأول: أنه روي عن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - أنه كره السلم في الحيوان. - الثاني: أن ضبط وصف الحيوان متعذر أو صعب. لأنه إما أن تبالغ في اوصف وتستطرد في الوصف لينضبط وحينئذ يتعذر وجود الحيوان. أو تقتصر على قدر معين من الوصف وحينئذ لا يكفي في الانضباط. فإذا قلت: أنا أريد جمل صفته أن طول الرقبة كذا وشكل الظهر كذا والوجه كذا والقوائم كذا، يعني: استقصى الإنسان في الوصف فحينئذ إذا جاء وحل وقت السلم قد لا تجد بعيراً بهذا الوصف الدقيق ويتعذر إيجاده. وإن تذكر الأوصاف لم ينضبط بالوصف. الراجح: ذكرت لكم مراراً وتكراراً أن أي مسألة يختلف فيها الصحابة فهي مسألة فيها صعوبة وإشكال - دائماً وأبداً قاعدة - فإن الصحابة - رضي الله عنهم - مع ما رزقهم الله من الفقه والفهم لا يختلفون إلا في مسأة فيها إشكال. مع ذلك الأقرب والله أعلم جواز السلم في الحيوان. واختار هذا القول من المحققين ابن المنذر - رحمه الله -. فإن قلت: لماذا لم يأخذ الإمام أحمد - رحمه الله - بأثر عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - مع أن قاعدة الإمام - رحمه الله - الأخذ بآثار الصحابة؟ فالجواب: من وجهين: - الوجه الأول: أنا ذكرنا أن هذه المسألة اختلف فيها الصحابة. - الوجه الثاني: أن مع أصحاب القول الأول نص أثري. والإمام أحمد - رحمه الله - لا ينظر آثار الصحابة ما دام في الباب حديث مرفوع إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -. - قال - رحمه الله -: - والثياب المنسوجة من نوعين. الثياب المنسوجة من نوعين: يجوز السلم فيها إذا كانت متميزة كأن ينسج الثوب من القطن والحرير فحينئذ يجوز لأنها متميزة يمكن أن تضبط بالوصف. - ثم قال - رحمه الله -: - وما خلطه غير مقصود: كالجبن. تقدم معنا أن ما خلطه مقصود وغير متميز لا يجوز السلم فيه. هنا يريد المؤلف - رحمه الله - أن يبين ما خلطه غير متميز لكنه ليس بمقصود. - فيقول - رحمه الله -: - كالجبن. مقصود المؤلف - رحمه الله - بقوله: (كالجبن) يعني: كالإنفحة التي في الجبن. ولو أن المؤلف - رحمه الله - بين هذا لكان أوضح.

إذاً المثال: الإنفحة التي في الجبن. وإنما قال المؤلف - رحمه الله -: (كالجبن) لأن الجبن في وقته لا يمكن أن يتكون إلا إذا وضعت فيه الإنفحة. والإنفحة هي: عصارة تؤخذ من معدة الجدي توضع على الجبن حتى يتجمد ويصفو ويطيب أكله. فهذا الإنفحة يسيرة وغير مقصودة ولمصلحة الجبن. فاتصفت بهذه الصفات الثلاث فلم تؤثر لما اختلطت ولم تُمَيَّز، لم تؤثر مع أنها اختلطت ولم تميز. - قال - رحمه الله -: - وخل التمر. يقصد بخل التمر: يعني: الذي فيه الماء. فخل التمر الذي فيه الماء له نفس الحكم ولنفس العلل. - ثم قال - رحمه الله -: - والسكنجبين. هذا مرمب من السكر والخل. فهذا يوضع فيه حياناً ماء فهو أيضاً يجوز السلم فيه لأن ما وضع فيه وإن كان غير مقصود وإن كان غير متميز إلا أنه غير مقصود. فهذه ثلاث أمثلة لما خلطه غير مقصود يجوز فيها السلم وتوقفنا على الشرط الثاني. والله أعلم وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

الدرس: (20) من البيع قال شيخنا حفظه الله: بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين. - قال - رحمه الله -: - الثاني: ذكر الجنس والنوع. الشرط الثاني من شروط صحة السلم: معرفة المسلم به. فهذا من شروط صحة السلم: بالإجماع. تعليل ذلك: - أن المسلم فيه أحد العوضين فوجب أن يعرف. - وكذلك: أن العلم بالمبيع من شروط صحة البيع والسلم نوع من البيوع كما تقدم معنا مراراً. إذاً تبين معنا أن هذا الشرط محل اتفاق. لما قرر المؤلف - رحمه الله - الشرط بدأ بالتفصيل: - فقال - رحمه الله -: - ذكر الجنس والنوع. هذه هي الأمور التي يعرف بها المسلم فيه. وهو المبيع كما تقدم معنا. ذكر الجنس وذكر النوع. ذكر الجنس والنوع والقدر كما سيأتينا بعد قليل: واجب بالإجماع. فإذا أراد أن يسلم في شيء من الثمار أو في غيرها فلابد أن يذكر الجنس والنوع. فيقول: أسلمت في تمر. وهذا جنس. ونوعه: سكري - مثلاً وهذا هو النوع.

ومن الفقهاء من قال: أنه لا حاجة لذكر الجنس مع ذكر النوع. لأن ذكر النوع يغني عن ذكر الجنس. على كل حال بيان جنسه وقدره أمر متفق على وجوبه كذلك أيضاً القدر وسيأتينا مصرحاً به في كلام المؤلف - رحمه الله -. - ثم قال - رحمه الله -: - وكل وصف يختلف به الثمن ظاهراً. يعني: ويجب في بيان المسلم فيه أن يبين كل وصف يختلف فيه الثمن اختلافاً ظاهراً وهذا تقدم معنا بيان (( ... )) وفهم من كلام المؤلف - رحمه الله - أنه لا يجب على العاقدين: المسلم والمسلم إليه بيان جميع صفات المسلم فيه بل يجب فقط بيان الصفات التي يختلف بها الثمن. ما عدا هذا من الصفات التي لا يختلف فيها الثمن فإنه لا يجب على العاقدين أن يذكراها في العقد. - ثم قال - رحمه الله -: - وحداثته وقدمه. يجب أن يبين حداثة وقدم المسلم فيه. تعليل ذلك: - أن الثمن يختلف باختلاف الحداثة والقدم. فيجب أن يقول: حديث أو قديم. لكن كلمة حديث وقديم: كلمة واسعة مطاطة ولا تكفي في بيان الحداثة والقدم. فيجب أن يقيد الحداثة والقدم بحسب السلعة. ففي مثال التمر: يجب أن يقول: من تمر هذه السنة أو من تمر السنة السابقة أو من تمر التي قبلها. فلابد أن يبين ميزان الحداثة والقدم. فإن شرطه قديماً ولم يبين: = فالحنابلة يرون في هذه الصورة أن المسلم إليه له أن يأتي بأي نوع من التمر قديم من السنة السابقة أو من التي قبلها أو من التي قبلها لأن الجميع يصدق عليه أنه قديم ولم يبين في العقد مقدار القدم. فالحنابلة يرون أنه يجوز أن يأتي بأي تمر قديم من أي سنة. والحقيقة لم أطلع على خلاف - وقد راجعت المسألة على عجل - لم أطلع على خلاف في هذه الصورة وهي: ما إذا شرط قديماً ولم يبين مقدار القدم. لكن الحنابلة يرون أن المسلم إليه له أن يأتي بأي ثمن قديم ولو كان من عشر سنوات. ولو كان يوجد قول آخر يقول أن تحديد المسلم فيه بالقدم بدون ضابط لا يوجد أصلاً وأنه يجب أن يحدد مدى قدمه وحداثتة لكان هذا القول في الحقيقة متوجه ويمنع من النزاع لا سيما وأنه يوجد فرق كبير بين القديم جداً والذي صنع في السنة السابقة. - ثم قال - رحمه الله -: - ولا يصح شرط: الأردأ أو الأجود.

لا يجوز أن يشرط الأردأ أو الأجود. والسبب أن هذا الشرط يوقع في الاختلاف إذ ما من جيد إلا ويوجد أجود منه. وما من سيء إلا ويوجد أسوأ منه. وإذا كان هذا الشرط يوقع في التنازع والاختلاف فهو عكس المطلوب من شروط السلم وهي: انضباطه بما يقع في الاختلاف. = والقول الثاني: أنه يجوز شرط الأردأ دون الأجود. - لأنه إذا شرط الأردأ وأتى بأحسن مما ظنه المسلم فقد جاءه بخير مما سبقه فعليه أن يقبل. فيجوز أن يشترط في العقد أن يأتي بالأردأ ويكون شرط صحيح لأنه مهما أتى فهو خير مما وقع العقد عليه. - ثم قال - رحمه الله -: - بل جيد ورديء. يعني: بل يجوز أن يشترط أن يكون جيداً ورديئاً. وظاهر عبارة المؤلف - رحمه الله - أنه يجوز ان يكون جيداً أو رديئاً. والصواب عند الحنابلة أنه يجب أن يشترط أنه جيد أو رديء. بمعنى أنه يجب أن يبين الجودة والرداءة. فهي من شروط بيان المسلم فيه التي تضاف إلى الجنس والقدر والنوع التي سبق الكلام عنها. = والقول الثاني: أنه لا يجب أن نذكر الجيد ولا الرديء. لماذا؟ - قالوا: لأن الصفات التي يختلف الثمن باختلافها مغنيه عن وصفه بأنه جيد أو رديء. وهذا صحيح بلا إشكال. ولا معنى لكلمة جيد ولا معنى لكلمة رديء. - أَيُّ: معنى أن تقول سآتيك بتمر جيد. أي معنى لهذه الكلمة. لأن الصفات السابقة التي يجب أن تبين لا ختلاف الثمن لا ختلافها تغني عن كلمة جيد وعن كلمة رديء. كما أن كلمة جيد ورديء كلمة لا تفيد في الحقيقة تصوراً دقيقاً للسلعة محل العقد. فالصواب إن شاء الله أنه لا يجب أن يبين الجودة والرداءة أثناء عقد السلم. - ثم قال - رحمه الله -: - فإن جاء بما شرط أو أجود منه. فإن جاء بما شرط أو أجود منه: وجب على المسلم أن يقبل هذه السلعة. - لأنه جاءه بما عقد عليه وزيادة فوجب أن يقبل. = والقول الثاني: أنه لا يجب أن يقبل بل له أن يمتنع وأن يطالب بمثل ما شرط في العقد تماماً. - لأنه قد يدخل على المسلم إذا قبل الضرر والمنة.

والصواب: أنه يجب أن يقبل إلا إذا ترتب على ذلك ضرر. ولا نقول: لا يجب لأنه قد يترتب ضرر بل نقول: يجب إلا إذا ترتب ضرر. لأن الأصل أنه لا ضرر على الإنسان بأن يقبل السلعة الأجود من التي شرطت من العقد. هذا من جهة. ومن جهة أخرى: أن رد المسلم للمسلم فيه يضر المسلم إليه. فربما يجتهد في توفير هذا النوع من السلعة فإذا ردها المسلم ربما لا يتمكن من إحضار السلعة المطابقة لصفات العقد فيدخل الضرر على المسلم إليه. والشرع جاء بالتوسط ومراعاة طرفي العقد. فنقول: القول الوسط: أنه يجب أن يقبل إلا إذا ترتب ضرر. - ثم قال - رحمه الله -: - من نوعه. يعني: أنه يجب عند الحنابلة: أن يقبل إذا أتى بخير مما شرط إذا كان من نوعه. فإن لم يكن من نوعه فإنه لا يجب أن يقبل لكن يجوز. فإذا أسلم في تمر سكري وأتاه ببرحي فحينئذ - هل يجب أو يجوز أن يقبل؟ يجوز. وإذا شرط في السلم سكري وأتى بسكري أجود مما شرط؟ فإنه يجب. . تلاحظ أن المؤلف - رحمه الله - بين الحكم إذا أتى بنفس النوع ولم يبين الحكم إذا أتى بجنس آخر كما إذا أسلم في تمر وأحضر قمحاً وهذا سيذكره المؤلف - رحمه الله - في آخر الفصل لأنه مسألة تكثر الحاجة إليها. إذاً عرفنا الآن الحكم إذا أتى بنوع .... من نفس النوع أو إذا أتى بسلعة أجود لكن من نفس النوع. - ثم قال - رحمه الله -: - ولو قبل محله ولا ضرر في قبضه: لزمه أخذه. المحل هو: وقت حلول القبض. أو وقت حلول الأجل. إذا كان الاتفاق أن يحضر المسلم فيه في أول يوم من شهر صفر - مثلاً - وهو أتى بالمسلم فيه في منتصف شهر محرم. فهو الآن أتى به قبل محله يعني: قبل وقت حلوله. = فعلى المذهب: يجب أن يقبل وجوباً. إلا في صورة واحدة إذا ترتب على القبول ضرر كأن يأتي بفاكهة تفسد قبل حلول الأجل. فحينئذ لا يجب عليه أن يقبل وإلا فإنه يجب عليه القبول. = والقول الثاني: أنه لا يجب عليه أن يقبل ولو بلا ضرر. وهذا مذهب المالكية. أنه إذا أتي بالسلعة قبل الوقت فلا يجب على المسلم أن يقبل ولو بدون ضرر.

ويظهر لي والله أعلم أن مذهب المالكية أصح وأنا لا نلزم المسلم أن يقبل السلعة ولو بدون ضرر ما دام الإتفاق والعقد على أن يأتي بالسلعة في وقت محدد فإنه يجب أن نلتزم بهذا العقد. والحنابلة يقولون. أن تقديم المسلم فيه قبل وقته يقاس على الإتيان بسلعة أجود من المتفق عليه. فتقديم الأجل كرفع النوعية عندهم. والصواب أن هذه المسألة لا تقاس على تلك. لأن تلك نفع محض. فإنه أتى بسلعة خير مما اتفق عليها. أما تقديم الأجل فليس بنفع محض بل ربما يكون نفعاً وربما يكون لا نفع ولا ضرر إنما هو تقديم للسلعة عن وقتها وغالباً سيقع ضرر على المسلم لو قبل لأنه يكون قد رتب أموره على أساس أن السلعة ستأتي في وقت معين وتصرف في وقت معين. على كل حال. الأقرب والله أعلم مذهب المالكية وهو أنه لا يجب على المسلم مطلقاً أن يقبل إذا أتي بسلعة قبل محلها. انتهى المؤلف - رحمه الله - من الشرط الثاني وما زال في الشروط المتعلقة بالمسلم فيه: - قال - رحمه الله -: - الثالث: ذكر قدره. الثالث من شروط المسلم فيه: ذكر القدر. تقدم معنا قريباً أن ذكر القدر أمر مجمع عليه. لأنه لا يمكن أن يتميز المسلم فيه إلا بذكر قدره وإلا وقع في نزاع له أول وليس له آخر. لأن جهالة القدر أعظم أحياناًَ من جهالة الصفة. إذاً: هذا معنى قول المؤلف - رحمه الله -: (ذكر قدره) - قال - رحمه الله -: - بكيل أو وزن أو ذرع يعلم. معرفة القدر تكون بأي مقدار يعرف به مقادير السلع: كيل، وزن، عد، ذرع. بأي طريقة يعرف بها المقدار. فإن بين قدره بالكيل والوزن فقد بينه بإجماع الفقهاء، فقد تم البيان بإجماع الفقهاء من أهل المعاني والظاهرية وغيرهم. بإجماع الفقهاء. إن بينه بالكيل والوزن. وأما إن بينه بغير الكيل والوزن كأن يبينه بالعد أو بالذرع أو بأي وسيلة تبين مقدار السلعة فكذلك ذهب الجماهير جميع أهل العلم ما عدا ابن حزم إلى أنه كافي في بيان المقدار. وقالوا إنما ذكر النبي - صلى الله عليه وسلم - الكيل والوزن في حديث ابن عباس - رضي الله عنه - لأن السلع غالباً ما تقاس بهذه الموازين في العهد النبوي.

وذهب ابن حزم إلى أن السلم إذا قدر بغير الكيل والوزن فهو باطل لأن الكيل والوزن هو المذكور في حديث ابن عباس فلا نخرج عن الكيل والوزن في بيان مقدار المسلم إليه. وهو قول غاية في الضعف ولا ينظر إليه في الحقيقة عند تأملك له فستجد أنه كذلك لا عبرة به ولا وزن له. - ثم قال - رحمه الله -: - يعلم. يعني: يجب إذا أردت أن تبين مقدار المسلم فيه أن تستعمل وحدة معلومة. فمثلاً - إذا قال شخص بعدت أو أسلمت في التمر خمسين صاعاً بصاع زيد. وصاع زيد مجهول لا يتساوى مع صاع النبي - صلى الله عليه وسلم - ولا مع صاع الناس وهو مجهول. فهذا بينه في كيل ووزن لكنه كيل ووزن لا يعلم لأن صاع زيد مجهول لا يعلمه الناس. فيجب إذا أراد الإنسان أن يبين أن يذكر وحدة معلومة للعاقدين. وهذا الشرط يحتاج إليه في القديم كثيراً لاختلاف الأصواع أحياناً بين البلدان بل داخل البلد الواحدة قد تختلف. أما اليوم فوحدات القياس متساوية في العالم تقريباً. فيكفي أن تقول أي وحدة من الوحدات المعروفة ولا يشترط أن تعين أنها وحدة البلد الفلاني أو غيره لا تحاد الأمر في وقتنا هذا. - ثم قال - رحمه الله -: - وإن أسلم في المكيل وزناً أو في الموزون كيلاً: لم يصح. هذه المسألة من مفردات الحنابلة. واستدلوا - رحمهم الله - على هذا الحكم: - بأن السلم فيه مبيع يجب معرفة قدره فوجب الرجوع إلى القدر الشرعي وهو الكيل والوزن في العهد النبوي. هكذا استدل الحنابلة - رحمهم الله -. = والقول الثاني: للجماهير: الأئمة الثلاثة وغيرهم من أهل العلم ذهبوا إلى أنه يجوز أن يسلم في المكيل وزناً وفي الموزون كيلاً. واستدلوا على هذا: - بأن المقصود في باب السلم هو معرفة المقدار وهذا يحصل سواء بالوزن لما يكال أو بالكيل لما يوزن.

وهذا القول الثاني أرجح وأقوى ونحن نقول أن مفردات الحنابلة في الغالب مسائل راجحة وقوية لأن الإمام أحمد - رحمه الله - لا يتفرد إلا بموجب صحيح ودليل قوي. لكن قد يشذ عن هذه القاعدة بعض المسائل التي لا يكون الراجح فيها مع الإمام أحمد - رحمه الله - ومن ذلك هذه المسألة التي معنا فقول الحنابلة فيها ضعيف في الحقيقة وبعيد من حيث التعليل وأيضاً فيه مشقة على الناس. - ثم قال - رحمه الله -: - الرابع: ذكر أجل معلوم. يشترط في السلم أن يكون مؤجلاً. فإن كان حالاً بطل. فإن قال: أسلمت إليك بخمسين صاعاً من التمر تسلمها لي الآن فهو باطل. = وإلى هذا ذهب الجمهور: بطلان السلم الحال هو مذهب الجمهور. واستدلوا على هذا بأدلة: - الدليل الأول: قوله - صلى الله عليه وسلم - في حديث ابن عباس - رضي الله عنه -: (إلى أجل معلوم). فأشار النص إلى أنه يتحتم وجود الأجل في عقد السلم. - الدليل الثاني: أن عقد السلم اغتفرت فيه بعض الواجبات لأجل الرفق بالناس والرفق إنما يحصل مع وجود الأجل لا بدونه. = القول الثاني: للإمام الشافعي واختاره شيخ الإسلام بن تيمية - رحمهما الله - أنه يجوز السلم الحال. استدلوا بدليلين: - الدليل الأول: أن السلم الحال أبعد عن الغرر من السلم المؤجل. وإذا جاز المؤجل مع أن الغرر فيه أظهر فيجوز المعجل من باب أولى. - الدليل الثاني: أن السلم الحال غاية ما يكون بيع فلنصححه بيعاً. الراجح: والله أعلم مذهب الجمهور. واختيار الشافعية وشيخ الإسلام في هذه المسألة فيه ضعف. سبب الترجيح: نحن نقول أنه يجوز في السلم العقد على معدوم فإذا صححتم السلم حالاً وجعلتموه بمثابة البيع يلزم من ذلك جواز العقد في البيع على المعدوم وهذا لا يجوز. شيخ الإسلام - رحمه الله - تنبه لهذه المشكلة فقال في الاختيارات يجوز السلم الحال إذا كانت السلعة موجودة حتى يخرج من هذا الإشكال. وأنا أقول لا يزال الإشكال موجوداً ولا يخرج منه بقوله: (بشرط أن يكون السلم حالاً) لماذا؟ لأن العلماء أجمعوا على جواز السلم في المعدوم فإذا اشترطت أنت في هذه الصورة أن يكون السلم على الموجود لم يصبح من السلم.

وقول الشافعية: (فليكن بيعاً) نعم نقول فليكن بيعاً ولا يكون سلماً فالسلم شيء والبيع شيء آخر. السلم له شروطه ومواصفاته وأحكامه الخاصة ومن أبرزها جواز بيع المعدوم والبيع له شروطه الخاصة ومن أبرزها عدم جواز بيع المعدوم. فنقول: السلم الشرعي يجب أن يكون مؤجلاً. فإن أسلم حالاً فالبيع باطل. قد تكون ثمرة الخلاف ليست كبيرة. لماذا؟ لأنه إذا أسلم حالاًوأبطلنا العقد. فماذا يصنع؟ يبيع بيع المعينات. لكن الخلاف في الحقيقة مهم لتصور المسألة. فإنه يساعد على تصور المسائل والفروق بين العقود بشكل جيد. إذاً الراجح إن شاء الله مذهب الحنابلة وهو مذهب الأحناف والمالكية: أنه يشترط في بيع السلم الأجل. - يقول - رحمه الله -: - الرابع: ذكر أجل معلوم. له وقع في الثمن. يشترط في الأجل أن يكون معلوماً. لأنه إذا لم يكن معلوماً وقع المتعاقدان في الغرر والجهالة. والشرط الثاني للأجل: أن يكون له وقع في الثمن. معنى قول الفقهاء: (له وقع في الثمن). أي: أثر في زيادته. فلابد أن يكون في الأجل له وقع في الثمن. فإن أسلم في وقت قصير كأن يقول أسلمت في يومين أو أسلمت في ثلاثة أيام فهذه المدة ليس لها وقع في الثمن. السلم بناء على ذلك باطل لبطلان الأجل. = القول الثاني: أنه لا يشترط في الأجل أن يكون له وقع في الثمن بل يجوز ولو كان الوقت قصيراً. وانتصر لهذا ابن حزم - رحمه الله - وقال: النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: (إلى أجل معلوم) ولم يقل إلى أجل طويل معلوم ولا إلى أجل قصير معلوم وإنما قال: (إلى أجل) وأطلق. هذا الدليل الأول. - الدليل الثاني: أن المقصود من السلم إيقاع الرفق بالمتعاقدين. وهذا قد يقع حتى في الوقت القصير. لذلك الراجح إن شاء الله أنته يجب أن يكون مؤجلاً لكن لا يشترط في هذا الأجل أن يكون له وقع في الثمن بل أي مدة من الزمن يحصل بها الإرفاق فهي كافية. وبالغ ابن حزم فقال: ولو ساعة. نحن نقول الساعة لا يحصل بها إرفاق لكن اليوم واليومين والثلاثة لا شك أنه يحصل بها إرفاق ويتسنى للمسلم إليه تجهيز المسلم فيه.

لما ذكر المؤلف - رحمه الله - الشرط الرابع ذكر محترزاته فما سيذكره من المسائل الثلاث هي موزعة على الشرط الرابع. - قال - رحمه الله -: - فلا يصح: حالاً ولا إلى الحصاد والجذاذ ولا إلى يوم. قوله: (فلا يصح: حالاً) يرجع إلى قوله: (ذكر أجل) وقوله: (ولا إلى الحصاد والجذاذ) يرجع إلى قوله: (معلوم) وقوله: (ولا إلى يوم) يرجع إلى (وقع في الثمن) مسألة (حالاً) هذه كما تقدم معنا أن اىلسلم الحال باطل عند جماهير الفقهاء وتقدم معنا الآن الخلاف. قوله: (ولا إلى الحصاد والجذاذ) لا يصح السلم إلى الحصاد ولا إلى الجذاذ. = هذا مذهب الحنابلة. وعللوا ذلك بأمرين: - الأمر الأول: أنه روي عن ابن عباس أنه كره تأجيل السلم إلى الحصاد والجذاذ. - الثاني: أن تأجيله إلى الحصاد والجذاذ أمر مجهول لا ينضبط إذ الحصاد والجذاذ يبعد ويقرب. = القول الثاني: جواز تأجيل السلم إلى الحصاد والجذاذ. واستدلوا أيضاً على الجواز: أي استدل القائلون بالجواز بأمرين: - الأمر الأول: أن الحصاد والجذاذ يعرف بالعرف والعاد واختلافه يسير. - والأمر الثاني: أن ابن عمر - رضي الله عنه - يشتري ويبيع إلى العطاء. فيؤخذ منه جواز التأجيل إلى الجذاذ والحصاد. الراجح إن شاء الله مذهب الحنابلة. لماذا؟ لأن الجذاذ والحصاد أحياناً يطول وتمتد فترته ولاشك أن مثل هذا يوقع الخلاف والنزاع. ثم الأمر سهل نقول لهم: اضبطوا ذلك بوقت يعني بتاريخ بدل أن تدخلوا في متاهة الجذاذ والحصاد أذكروا تاريخاً محدداً يحصل فيه التسليم. وبهذا نكون رجحنا مذهب ابن عباس على مذهب ابن عمر على أن ابن عمر لم يرو عنه التصريح بجواز السلم إلى الجذاذ وإنما روي عنه ما يفهم منه الجواز وهو أنه يبيع ويشتري إلى العطاء بينما ابن عباس روي عنه التصريح أنه يكره أن يحد الإنسان الأمر بالجذاذ والحصاد. فالأقرب والله أعلم ضبطاً للعقد مذهب الحنابلة. - قوله - رحمه الله -: - ولا إلى يوم. تعليله ظاهر: - لأنه ليس له وقع في الثمن. ثم لما قرر هذا الحكم وهو الأجل استثنى مسألة مهمة: - فقال - رحمه الله -: - إلاّ في شيء يأخذه منه كل يوم: كخبز ولحم ونحوهما.

هذه المسألة مستثناة من اشتراط: أن الأجل ليس بمعلوم، واستثناء بالنسبة للسلع التي تستلف في الأيام الأولى من قضية له وقع في الثمن. صورة المسألة/ أن يقول الإنسان لصاحب البقالة هذه مائة ريال أأخذ منتك كل يوم خبزاً أو أأخذ منك كل يوم لحماً. فالآن صورة السلم موجودة لأنه يوجد رأس المال الذي قبض في مجلس العقد وهو مائة ريال والمسلم فيه وهي السلع التي يأخذها تباعاً. والشرط الذي اختل في هذه الصورة هو شرط معلومية الأجل وأن يكون له وقع في الثمن كما تقدم معنا. فهذه الصورة جائزة. واستدلوا على جوازها بأمرين: - الأمر الأول: أن الحاجة ماسة إليها وداعية إلى المعاملة بها. لاسيما في القديم، ولا سيما إلى الآن في بعض البلدان الحاجة ماسة لمثل هذا العمل. إما لحاجة المسلم أو لأنه أخرق والأخرق من مصلحته أن يقدم ثمن السلع التي سيستلمها مقدماً ويستلم السلع تباعاً لأن المبلغ لو بقي في يده فإنه سيتلفه في غير طائل. إذاً: الدليل الأول هو الحاجة. - العلة الثانية: أنه إذا جاز الشيء إلى أجل جاز إلى أجلين وثلاثة ولا فرق. تبين معنا الآن أن هذه المسألة هي مسألة الإسلام في جنس إلى أجلين. والإسلام في جنس إلى أجلين سيذكر المؤلف - رحمه الله - في الشرط السادس الذي سيأتينا إن شاء الله تفصيلاً عنه وسنأخذ هناك الفرق بين المسألة التي ستأتي وهذه المسألة. والذي يعنينا الآن جواز هذه الصورة وأن سبب الجواز ما ذكرته لك من التعليلين. لكن يشترط لجواز هذه المعاملة أن تكون الأجزاء معلومة بأن يقول: كل يوم آخذ كيلو لحم. أو نصف كيلو لحم. المهم يبين جزءاً كل يوم. - ثم قال - رحمه الله -: - الخامس: أن يوجد غالباً في محله ومكان الوفاء. المحقق - وفقه الله - فتح الحاء والصواب: مَحِلِّهِ. بكسر الحاء وهذا يبدو أنه سهو لأنه هو ضبطها ضبطاً صحيحاً فيما تقدم وقبل محله. فتصلح الفتحة إلى كسرة. يشترط لصحة السلم: أن يوجد المسلم فيه في محله غالباً. يعني: يشترط لصحة السلم أن يغلب وجود هذه السلعة في وقت حلول الأجل. فإذا أسلم في رطب في الشتاء فالسلم باطل لأن الرطب لا يوجد في الشتاء واختل هذا الشرط وهو أن يوجد غالباً.

فإذا أراد أن يؤجل فعليه أن يضع أجلاً توجد فيه السلعة غالباً. وهذا الشرط متفق عليه وصحيح بلا إشكال لأنه لا يمكن إتمام العقد وتسليم المسلم فيه إلا بأن يكون غالب الوجود في وقت محله. - ثم قال - رحمه الله -: - ومكان الوفاء. يعني ويجب أن يوجد غالباً في مكان الوفاء. فإن غلب على الظن عدم وجوده في مكان الوفاء فإن السلم باطل. إذاً يجب أن نراعي في الأجل الزمان والمكان. أما مثال الزمان: فتقدم أن يسلم في الرطب في الشتاء فهذا باطل. المكان: كأن يسلم في مكان محاصر لا تدخله سلعة معينة ولو كانت توجد في ذلك الزمن لكن لا توجد في ذلك المكان فهذا السلم باطل لأنه يغلب عدم وجود هذه السلعة في هذا المكان كما قلت لك كالمكان المحاصر. هذا معنى كلام المؤلف - رحمه الله -: (ومكان الوفاء). وإذا قرأت عبارة المؤلف - رحمه الله - تفهم منها هذا المعنى ببساطة وهو معنى وجيه وقيد جيد. الشيخ منصور في شرحه في الروض فهم من هذا الكلام فهماً آخر فقال: (معنى في مكان الوفاء) يعني: أنه لا يجوز أن نسلم في ثمرة بستان معين. ولا في نتاج فحل معين. فحمل العبارة على هذا المعنى. ويظهر لي أن ما حمله الشيخ منصور - رحمه الله - على هذا المعنى بعيد وأن سياق المؤلف - رحمه الله - سهل وواضح ومراد لكن لعله حمله على هذا الحمل لأن هذه العبارة لم تذكر في غالب كتب الحنابلة. لكن مع ذلك أقول هذا الفهم الذي ذكرته لك أولاً وشرح العبارة بهذا المعنى هو الصحيح وهو المتبادر إلى الذهن. نأتي مع ذلك إلى مسألة: السلم في بستان معين. وفي نتاج فحل معين التي ذكرها الشيخ منصور. ذهب الجماهير وحكي إجماعاً أنه لا يجوز للإنسان أن يشترط ثمرة بستان معين. - لأن ثمرة هذا البستان المعين معرضة للتلف فإذا تلفت لم يمكن للمسلم إليه أن يأتي بالمسلم فيه. = والقول الثاني: أنه يجوز أن يسلم في ثمرة بستان معين بشرط أن يكون السلم بعد بدو الصلاح. والصحيح إن شاء الله أنه لا يجوز السلم في ثمرة بستان معين مطلقاً لأن هذا فيه غرر ولأن فيه مخاطرة ولأنه لا حاجة لتخصيص ثمرة بستان معين.

فإذا كان الإنسان يرغب بمواصفات ثمرة بستان معين فالحل: أن يذكر هذه المواصفات ولا يذكر أنها من بستان معين. فالأقرب وحكي إجماعاً وربما المخالف فيه نفر قليل من أهل العلم - بأنه لا يجوز أن يسلم في شيء معين. لا في ثمرة بستان ولا في نتاج فحل. - ثم قال - رحمه الله -: - لا وقت العقد. يعني: أنه لا يشترط أن يوجد المسلم فيه في وقت العقد. والدليل على هذا: - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أقر أهل المكدينة على السلم في السنتين والثلاث ومن المعلوم أن الثمرة في السنتين والثلاث تنقطع. فدل هذا على أنه لا يشترط وجود الثمرة من حين العقد إلى وقت التسليم. - الدليل الثاني: أن اشتراط وجود الثمرة من حين العقد إلى وقت التسليم يمنع الإرفاق الموجود في السلم. إنما أردنا الأجل ليتمكن من تحصيل هذه السلعة. فإذا اشترطنا وجود هذه السلعة من حين العقد إلى التسليم فأين الإرفاق حينئذ الحاصل بتأجيل الثمن. فالأقرب هو أنه لا يجب أن توجد السلعة في وقت العقد. وهذا مذهب الجماهير فلم يخالف في هذه المسأل إلا الأحناف. وقولهم في هذه المسألة ضعيف جداً. - ثم قال - رحمه الله -: - فإن تعذر أو بعضه: فله الصبر أو فسخ الكل أو البعض. (إن تعذر) يعني المسلم فيه. (فله) يعني: المسلم. إذا تعذر المسلم فيه: إما أن لا تحمل الشجرة ثماراً لأي سبب من الأسباب أو أن تصاب بآفة أو أن يتغيب المسلم إليه أو لأي سبب من الأسباب تعذر تسليم المسلم فيه. (فله) أي للمسلم الخيار بين: الفسخ والصبر. وهذا معنى قول المؤلف - رحمه الله - هنا: (فله الصبر أو فسخ الكل) يعني فهو مخير بين أن يصبر وبين أن يفسخ. ومفهوم عبارة المؤلف - رحمه الله - أنه إذا تلفت الثمرة فإن العقد لا يبطل. ولو تلفت الثمرة. وعللوا ذلك: - بأن بقاء الثمرة ليس من شروط صحة السلم. بل نخير المسلم إذا تلفلت الثمرة بين أن يصبر إلى أن يتمكن المسلم إليه من إحضار الثمرة أو يفسخ. = والقول الثاني: أن عقد السلم بمجرد تلف السلعة يبطل. - لأن السلعة هي محل العقد. فإذا تلفت بطل العقد.

والراجح مذهب الحنابلة. وهو أن العقد لا يبطل وسبب الترجيح أن بطلان العقد بتلف السلعة إنما هو في بيوع الأعيان أما في البيوع التي تثبت في الذمة فإن تلف السلعة لا يؤدي إلى تلف العقد لأن السلعة ثابتة في الذمة فتلفت أو لم تتلف فهي ثابتة في الذمة. ولهذا لا إشكال إن شاء الله في أن الأقرب للصواب مذهب الحنابلة وهو أن العقد لا يبطل. - يقول - رحمه الله -: - الصبر أو فسخ الكل أو البعض. الخلاف في البعض كالخلاف في الكل. يخير بين الصبر أو الفسخ. = والقول الثاني: أن العقد يبطل. إلا أنه في مسألة البعض من الفقهاء من قال إذا تلف البعض فإما أن يفسخ في الكل أو يصبر على الكل. والصواب أن حكم البعض كحكم الكل. فما وجد يستلمه الإنسان وما تلف فالمسلم مخير بين الصبر أو الفسخ. ثم لما بين أنه مخير بين الصبر أو الفسخ انتقل إلى الحكم فيما إذا اختار الفسخ. - ثم قال - رحمه الله -: - ويأخذ الثمن الموجود أو عوضه. يعني: فإذا اختار الفسخ فإنه يأخذ الثمن الموجود إن بقي موجوداً أو مثله إن كان مثلياً أو قيمته إن كان من القيميات. إذاً إما أن يكون نفس الثمن موجود فيأخذه وإلا أن يكون الثمن غير موجوداً لكنه من المثليات فيأخذ مثله أو نرجع إلى القيمة في القيميات. إذاً الحكم مفصل على هذا النحو فيما إذا اختار الفسخ. ولم يبين المؤلف - رحمه الله - ماذا يحصل إذا اختار الصبر لأنه إذا اختار الصبر فالأمر واضح. يصبر إلى أن يأتي المسلم إليه بالسلعة. - ثم قال - رحمه الله -: - السادس: أن يقبض الثمن تاماً معلوماً قدره ووصفه قبل التفرق. السادس من شروط الثمن لا من شروط المسلم فيه: أن يقبض الثمن تاماً في مجلس العقد. اتفق الفقهاء كلهم على وجوب تسليم وتقديم الثمن. واستدلوا على هذا: - بقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: (من أسلف فليسلف) قالوا معنى قوله: (فليسلف) يعني: فليعط. - واستدلوا: بأن الإرفاق إنما يحصل بتقديم الثمن. هذا محل اتفاق. إلا أن المالكية فقط يجوزون التأخير لمدة ثلاثة أيام. وقالوا: أن هذه المدة يسيرة ولا تمنع الإرفاق. والراجح مذهب الجماهير أنته لا يجوز تأخير قبض الثمن لأي مدة بل يجب أن يقبض في مجلس العقد.

ويترتب على الخلاف بين الجمهور والمالكية مسألة أخرى وهي: ثبوت الخيار وعدمه. فاخيار ثابت على قول المالكية لأنه إذا أجل الثلاثة أيام أمكنه أن يشترط الخيار مدة هذه الثلاثة أيام. والخيار لا يثبت في عقد السلم عند الجمهور لأنه يجب أن يكون با ... ) في مجلس العقد. وإذا كنا نرجح مذهب الجمهور وأنه لا يجوز تأخير ثلاثة أيام فتبعاً لذلك نرجح أنه لا خيار في السلم. بل يقع لازماً. لأنه كيف يشترط الخيار والقبض لازم وواجب. - يقول - رحمه الله -: - السادس: أن يقبض الثمن تاماً معلوماً قدره ووصفه قبل التفرق. إذاً يجب أن يقبض ويجب أن يكون معلوماً قدره ووصفه. الثمن الذي يسلم في مجلس العقد ينقسم إلى قسمين: - إما أن يكون الثمن في الذمة. - وإما أن يكون معيناً. فإن كان في الذمة: فيجب بالإجماع بيان القدر والوصف. القسم الثاني: أن يكون معيناً فإذا كان معيناً: = فذهب الحنابلة إلى وجوب معرفة القدر والوصف: فيجب أن تقول خمسين ريال سعودي: القدر خمسين والوصف ريال سعودي. قالوا: - لأن الثمن لا يعلم على الوجه المطلوب إلا بذلك. - ولأن الثمن يجب أن يعلم قياساً على السلعة ونحن قررنا فيما سبق أن السلعة المسلم فيها يجب أن تكون معلومة. = القول الثاني: أنه يجب معرفة القدر دون الوصف. = والقول الثالث: أنه لا يجب أن يعلم لا القدر ولا الوصف وإنما نكتفي بالمشاهدة فقط. - قالوا: لأن المشاهدة مغنية عن معرفة القدر والوصف. وفي الحقيقة: بالنسبة لي أنا لا ينتهي عجبي من هذا القول: يعني: أتعجب من أن يقال بعدم وجوب معرفة القدر والوصف قول عجيب وإن كان قال به أئمة ربما كبار لكن أنت إذا تأملت كيف ينضبط العقد بدون معرفة القدر والوصف. لا يمكن أن ينضبط. ووقوع الخلاف أمر لاشك فيه. هذا أمر. الأمر الآخر نحن نقول إذا بطل العقد فإنه يجب الفسخ وقررنا في الدرس السابق أن كل ما قلنا يبطل العقد فثمرة ذلك أن يرجع المشتري بالثمن والمسلم إليه بالمسلم فيه. فكيف يرجع؟ بماذا يرجع؟ ربما يقول: كنت سلمت لك مبلغاً كبيراً أو صغيراً وإذا كان الثمن ليس من النقدين بل من العروض يختلفون في مقدار هذا العرض إلى آخره من الخلاف والنزاع.

ففي الحقيقة تعجبت من هذا القول ومن وجهى نظري أن مذهب الحنابلة لاشك أنه أرجح وأضبط وأقرب لقواعد البعد عن الشقاق في المعاملات المالية. وأي كفاية في المشاهدة. - ثم قال - رحمه الله -: - وإن قبض البعض ثم افترقا: بطل فيما عداه. إذا قبض البعض ثم قبل أن يقبض الباقي افترقا صح في المقبوض وبطل في الذي لم يقبض. وهذا مبني على مسألة سابقة تقدمت معنا وهي مسألة تفريق الصفقة. فتقدم معنا أن تفريق الصفقة صحيح وأنه على مذهب الحنابلة يجوز أن يفرق الصفقة ومعنى تفريق الصفقة أن يصح العقد في بعض السلع ويبطل في بعضها. كذلك هنا نقول: يصح في القبوض ويبطل فيما لم يقبض. - ثم قال - رحمه الله -: - وإن أسلم في جنس إلى أجلين أو عكسه: صح إن بين كل جنس وثمنه وقسط كل أجل. يقول - رحمه الله -: (إن أسلم في جنس إلى أجلين). صورة المسألة: أن يسلم في خمسين صاع من التمر يسلم بعضه في محرم وبعضه في رجب. فهو أسلم في جنس إلى أجلين. فهذه الصورة جائزة عند الحنابلة. واستدلوا على هذا: - بجنس ما استدلوا به في المسألة السابقة وهي أنه إذا جاز إلى أجل جاز إلى أجلين وثلاثة وأربعة. والنبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: إلى أجل معلوم. فثبت جواز الأجل فيثبت جواز الأجلين. (((الآذان))). لكن يصح لجواز السلم في جنس إلى أجلين أن يبين أمرين: - الأول: قسط كل أجل. - والثاني: ثمن كل قسط. فيقول: أسلمت إليك في خمسين أو في مائة صاع من التمر خمسين منها في محرم وخمسين منها في صفر. قيمة الخمسين الأولى كذا من المئة ريال وقيمة الخمسين الثانية كذا من المائة ريال فلابد أن يبين قسط كل أجل ويبين ثمن كل قسط. واستدل الحنابلة على هذا: - بأن الأجل الأبعد له قسط أكبر من الثمن. فيجب أن يبين حتى إذا فسخ العقد أمكن الرجوع بكل قسط بقيمته. = القول الثاني: أنه لا يشترط أن يبين لا قسط ولا قيمة كل أجل. فإن تعذر إيفاء بعض هذا الجنس في أحد الأجلين سقط من الثمن بقدر ما يسقط من المسلم فيه. فإذا افترضنا أنه لم يتمكن من تسليم نصف المسلم فيه فإنه يسقط من الثمن النصف أيضاً. وإلى هذا يميل ابن قدامة - رحمه الله -.

لكن الأقرب مذهب الحنابلة. لأنه لا سيما في وقتنا هذا للأجل وقع عظيم في الثمن - اليوم في بيوع السلم الأجل له وقع كبير في السلم فيجب أن تبين قيمة كل قسط من البضاعة موزعة على الآجال حتى إذا تخلفت بعض البضاعة في بعض الآجال أمكن معرفة ثمنها وخصمه من قيمة السلعة أما إذا ترك الأمر هكذا أن نصف السلعة تساوي نصف الثمن فهذا يؤدي إلى الاختلاف بلا شك. - يقول - رحمه الله -: - (أو عكسه). يعني: أسلم في جنسين إلى أجل. إذا أسلم في جنسين إلى أجل فهو أيضاً يجوز. صورته أن يسلم في بر وقمح إلى محرم فالآن في جنسين إلى أجل. بين المؤلف - رحمه الله - شرط صحة هذا البيع: - فقال - رحمه الله -: - صح إن بين كل جنس وثمنه. يعني: صح. في الواقع: العبارة أسهل إذا قلنا صح إذا بين ثمن كل جنس. فإذا بين ثمن كل جنس فإنه صحيح. هذا والله أعلم وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أحمعين.

الدرس: (21) من البيع قال شيخنا حفظه الله: بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين. - قال - رحمه الله -: - السابع: أن يسلم في الذمة. (السابع) يعني من شروط السلم. (أن يسلم في الذمة) - ثم قال - رحمه الله - موضحاً هذا الشرط: - فلا يصح في عين. بناء على أنه يجب أن يكون في الذمة لا يصح في عين. علل الحنابلة هذا الحكم: - بأن السلم في المعين قد يفضي إلى بطلال السلم بتلف هذا المعين. بخلاف الذي في الذمة فإنه لا يبطل. = وقال بعض الفقهاء: لا حاجة لهذا الشرط. - لأن اشتراط الأجل يغني عنه. والأقرب فيما يظهر لي أن هذا الشرط شرط صحيح ومعتبر: لأن شرط الأجل لا يغني عن شرط عدم التعيين إذ قد يسلم في عين معينة بشيء معين مؤجلاً. فإنه تقدم معنا أن السلم يجوز فيه أن يكون بسعة ليست مملوكة للمسلم إليه وقت العقد. لهذا أقول أن هذا الشرط صحيح ولا يغني عنه شرط آخر. - ثم قال - رحمه الله -: - ويجب الوفاء في موضع العقد.

قوله: (ويجب الوفاء في موضع العقد) يعني: أنه لا يشترط بيان موضع التسليم في العقد. - لأن موضع التسليم هو موضع العقد عند الحنابلة. ويستثنى من ذلك إذا كان موضع العقد لا يمكن التسليم فيه كأن يتم العقد في البر أو في البحر أو في الجو. فإن هذه الأماكن ليست موضعاً لتسليم المسلم فيه حينئذ لابد من تعيين موضعاً لتسليم السلعة. فإذاً عرفنا الآن: أنه لا يجب عند الحنابلة تحديد موضع التسليم. = القول اثاني: أنه يجب أن يحدد موضع التسليم مطلقاً. - دفعاً للخلاف حول موضع إقباض المسلم فيه. = والقول الثالث: أنه يجب في صورة واحدة وهي: ما إذا كان لحمله مؤونة. يعني: لحمله تكلفة مالية. والصواب إن شاء الله مع تفصيل الحنابلة وهو: أنه لا يجب ذكر موضع تسليم المسلم فيه إلا إذا اقتضى الحال ذلك. فحينئذ لابد من بيان موضع التسليم. والدليل على رجحان هذا القول: - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - في حديث ابن عباس لم يحدد موضع تسليم السلعة وإنما اشترط الكيل والوزن والأجل فقط. - ثم قال - رحمه الله -: - ويصح شرطه في غيره. أي مع عدم وجوب ذكره: أي: موضع التسليم في العقد إلا أنه يجوز اشتراط موضع التسليم. - لقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: (المسلمون على شروطهم). فإن اشترط مكاناً معيناً للتسليم سواء كان موضع العقد أو غيره وجب التقيد به. - ثم قال - رحمه الله -: - وإن عقدا ببر أو بحر: شرطاه. يعني: وإن تم العقد في البر أو في البحر: (شرطاه) أي شرطا موضع التسليم. وتعليل ذلك: - تعذر التسليم في هذه المواضع. وتقدم معنا بيان ما يتعلق بموضع التسليم. وكان من الأنسب أن تكون هذه العبارة تبع لقوله: (ويجب الوقاء في موضع العقد) ولا يفصل بينهما في قضية اشتراط أن يسلم السلعة في غير محل العقد. - ثم قال - رحمه الله -: - ولا يصح بيع المسلم فيه: قبل قبضه. = ذهب الجمهور من أهل اعلم إلى أنه لا يصح بيع المسلم فيه بل حكي إجماعاً. ولا يجوز عند الجماهير بيع المسلم فيه لا للمسلم إليه ولا لغيره ولا بمثل الثمن ولا بأكثر ولا بأقل. واستدل الجماهير على هذا بدليلين:

- الأول: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى عن بيع الطعام قبل قبضه وهذا المسلم فيه لم يقبض. - الثاني أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى عن ربح ما لم يضمن والمسلم فيه إذا باعه المسلم قبل قبضه فقد باعه قبل أن يدخل في ضمانه وربح فيه قبل أن يضمنه فوقع في نهي النبي - صلى الله عليه وسلم -. = القول الثاني: وهو في الجملة مذهب المالكية ورواية عن الإمام أحمد واختيار شيخ الإسلام بن تيمية وتلميذه ابن القيم - وسيأتينا بعض القيود على مسألة اختيار ابن القيم - لكن في الجملة اختار هذا القول هؤلاء. وهو: جواز بيع المسلم فيه إلى المسلم إليه وإلى غيره لكن بمثل الثمن أو أقل ولا يجوز بأكثر. واستدل هؤلاء بدليلين: - الأول: أن الأصل في المعاملات الحل. - الثاني: ما صح عن ابن عباس أنه قال: إذا أسلفت في شيء ولم تأخذ فخذ عوضاً وفي رواية: عرضاً - عنه بأنقص منه ولا تربح مرتين. فهذا الأثر الثابت عن ابن عباس فيه جواز بيع المسلم فيه. لكن اشترط القائلون بالجواز شرطاً: هذه الشروط مروية عن القائلين بالجواز: عن الإمام أحمد وذكرها أيضاً ابن القيم وغيره. - الشرط الأول: ان لا يربح. - كما تقدم. أن لا يربح إذا باع المسلم فيه. - الثاني: التقابض إذا كان بينهما ربا. - أن لا يجعله رأس مال لسلم آخر. لئلا يربح فيه مرتين ولئلا يكون من قلب الدين. وفي الحقيقة إذا تأملت تجد أنه لا حاجة للشرط الثالث لأن الشرط الأول أن لا يربح فيه وإذا جعله رأس مال لسلم آخر فسيربح فيه لكن هكذا ذكر الفقهاء هذه الشرط. الراجح إن شاء الله: أنه يجوز بيع المسلم فيه إلى المسلم إليه فقط دون غيره. والدليل على ذلك: - أن أثر ابن عباس فيه جواز بيع المسلم فيه إلى المسلم إليه فقط. وممن فهم هذا الفهم في أثر ابن عباس: ابن القيم فهو يقول: وابن عباس لم يجز بيع السلم إلى لمن هو عليه. ويظهر لي من سياق كلام ابن القيم أنه أيضاً يميل إلى هذا القول وهو الجواز لكن إلى المسلم إليه فقط دون غيره. فهذا القول إن شاء الله هو الراجح.

ولا يغيب عن ذهنك أبداً أن القول بالمنع حكي إجماعاً. يعني يغني أن نقول الجماهير أن نقول: حكي إجماعاً فغالب السلف وفقهاء المسلمين على المنع ولذلك الورع والاحتياط يتوجه جداً في مثل هذه المسألة. المسائل التالية مبنية في الغالب على مسألة البيع. - يقول - رحمه الله -: - ولا هبته. يعني: ولا يجوز أن يهب المسلم المسلم إليه لأحد. واستدلوا على ذلك: - بالقياس على البيع. لأن في كل منهما تمليك. وظاهر كلام المؤلف - رحمه الله - أن الذمعب لا يجوز هبة المسلم فيه لا للمسلم إليه ولا لغيره. والصواب أن الحنابلة يجيزون هبة المسلم فيه للمسلم إليه ولا يجيزونها لغيره. واستدلوا على هذا: يعني: على الجواز: - بأن هبة السلم للمسلم إليه هو في الحقيقة إسقاط وإبراء وليس معاوضة. وإذا كان إسقاطاً وإبراءً جاز. = والقول الثاني: في أصل المسألة: جواز الهبة للمسلم إليه ولغيره. - لأنه لا دليل على المنع. - ولأن الهبة ليست من عقود المعاوضات التي يتشدد في شروطها بل هي من عقود التبرعات فإذا قال المسلم لرجل وهبتك السلم الذي لي عند فلان فأي محظور في هذا إذ ليس هذا من باب المعاوضات التي يشترط لها القبض والعلم وعدم الجهالة والغرر وإنما هي من باب التبرعات. - ثم قال - رحمه الله -: - ولا الحوالة به. ذكرنا أن قوله: (ولا يصح بيع المسلم فيه قبل قبضه) وأن ما بعده من المسائل مبنية على المسألة في البيع. هنا نقول: (ولا الحوالة به) يعني: ولا أن نحيل المسلم إليه السلم إلى رجل آخر. صورة المسألة: أن يقول المسلم إليه للمسلم: أحلتك بالسلم (بالدين الذي علي) الذي علي على فلان فأحال المسلم إلى رجل آخر. وذكرنا سابقاً أن المسلم هو: المشتري. والمسلم إليه: هو المدين البائع. وكا قلت: هذه المسائل مبنية على البيع. لذلك عللوا المنع: - بأن هذه الحوالة إنما هي نقل للملك فمنع كالبيع. وإذا كان الدليل مبني على مسألة منع البيع فقد تقدم معنا أن البيع جائز وإذا كان البيع جائزاً فكذلك الحوالة به جائزة. - ثم قال - رحمه الله -: - ولا عليه. يعني: ولا يجوز احوالة بالمسلم فيه على شخص آخر.

صورة المسألة: أن يقول المسلم: أحلتك بالدين الذي لي على فلان لتأخذه. المسلم يقول لرجل يطلبه دين: أحلتك بديني على المسلم إليه المدين لي بكذا وكذا. ولتبسيط المسألة: الحوالة به. المحيل هو: المسلم إليه. والحوالة عليه: المحيل هو: المسلم. وبهذا تتضح وتكون متوافقة. بقينا في الدليل: دليل الحنابلة على الصورة الثانية وهي إذا أحالها عليه: - قالوا: أن من شروط الحوالة أن تكون على دين مستقر ودين السلم ليس ديناً مستقراً. لأنه تقدم معنا أنه إذا عجز المسلم إليه فالمسلم بالخيار بين الفسخ والصبر. فصار ديناً ليس مستقراً. = والقول الثاني: أن السلم به والسلم عليه جائز. - لعموم قول النبي - صلى الله عليه وسلم - من أحيل على مليء فليحتل. فهذا النص يتناول دين السلم وغيره من الديون. وهذا البحث في الحقيقة من صميم مباحث الحوالة وسيأتينا في الحوالة شروط الحوالة وأن منها على دين مستقر وماقشة هذه المسألة. والذي يعنينا الآن أن الحوالة بالسلم عليه: يعني: بدين السلم عليه: جائزة لعموم الحديث. - ثم قال - رحمه الله -: - ولا أخذ عوضه. يعني: ولا يجوز أن يأخذ المسلم عوضاً عن دين السلم. وأخذ العوض عن دين السلم هو البيع. ولما كان أخذ العوض عن دين السلم هو البيع: لزم من هذا أن يبين الحنابلة مالفرق بين قولهم هنا: (ولا أخذ عوضه) وبين بيع المسلم إليه. لابد أن يبين الحنابلة لأنهم هم الذين ذكروا هذه الألفاظ. وجدنا أن بعض الحنابلة بين الفرق لكن من أحسن من بين الفرق رجل كتب حاشية على شرح المنتهى فبين الفرق: فقال: الفرق بين أخذ العوض والبيع هو أنه المقصود في أخذ العوض أن يكون من غير النقدين ولغير المسلم إليه. فإذا أسلم في قمح فلما حل الأجل أخذ بدله شعيراً قهل هذامن بيع السلم أو من أخذ عوضه عليه؟ من أخذ العوض. وإذا باعه بخمسين ديناراً فهو من بيع السلم. هكذا فرقوا بين اللفظين. وإلا في الحقيقة فهو بيع. ولذلك الخلاف السابق في البيع ينطبق على الخلاف في الحوالة في مبادلة دين السلم بشيء من غير النقدين وتقدم معنا أن الصواب صحته إلا لغير المسلم إليه. - ثم قال - رحمه الله -: - ولا يصح الرهن والكفيل به.

باب القرض

لا يصح الرهن والكفيل بالمسلم فيه. واستدل الحنابلة على هذا: - بأنه إذا أخذ المسلم فيه من ثمن الرهن أو من ذمة الكفيل فقد صرف السلم في غير ما هو متفق عليه. والنبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: (من أسلم في شيء فلا يصرفه إلى غيره). = والقول الثاني: أن أخذ الرهن والكفيل بالمسلم فيه جائز ولا حرج فيه. واستدلوا بأمرين: - الأمر الأول: عموم قوله تعالى: {فرهان مقبوضة .. } [البقرة/283]. والآية تشمل دين السلم ودين القروض وكل أنواع الديون ودين البيوع هو أي دين يكون في ذمة الإنسان فهي عامة تمل دين السلم وغيره. - والأمر الثاني: أن الحديث ضعيف لا يثبت مرفوعاً إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -. والأصل في المعاملات الحل وتوثقة الديون جاء به الشرع والسلم من جملة الديون. لذلك الأقرب إن شاء الله جواز أخذ الرهن والكفيل وهذا مذهب الجمهور. إلا أن الإشكال فقط في هذه المسألة: أن المنع روي عن بعض الصحابة: كره بعض الصحابة أخذ الرهن والكفيل في دين السلم. وكأنهم رضي الله عنهم وأرضاهم رأو أن أخذ الرهن والكفيل يتنافى مع المبدأ الذي شرع من أجله السلم وهو الرفق بالناس. لأن هذا العقد كله لم يشرع إلا رفقاً بالناس وتوسعة عليهم فإذا أخذ الرهن أو الكفيل صار في هذا ضيق لأن الرهن معناه حبس عين ينتفع بها الإنسان ولا يمكن أن يبيعها أو يشتريها. يبدو لي أن هذا مأخذ الصحابة. لكن على كل حال ما دامت الآية عامة والقةل بالجواز مذهب الجماهير من أئمة المسلمين فهو الأقرب إن شاء الله. وإن رأى الإنسان أن لا يأخذ رهناً ولا كفيلاً لأجل هذه الآثار فقد احتاط لدينه. وبهذا انتهى باب السلم وننتقل إن شاء الله إلى باب القرض. باب القرض - قال - رحمه الله -: - باب القرض. القرض في لغة العرب: القطع. وفي الاصطلاح الفقهي: دفع مال لمن ينتفع به ويرد بدله. - قال - رحمه الله -: - وهو مندوب. القرض مشروع بالسنة والإجماع. - أما السنة: فإنه صح أن النبي - صلى الله عليه وسلم - اقترض بكراً. - وأما الإجماع فقد أجمع أهل العلم على مشروعية القرض وجوازه. وقوله: (وهو مندوب). يعني: للمقرض.

وفهم من هذا: أن الإنسان إذا طلب منه قرض وامتنع فإنه لم يترك واجباً ولا إثم عليه. وهذا صحيح بالإجماع. فالقرض مندوب وليس بواجب. ولا إثم ولا تثريب على من امتنع من الإقراض، إلا أن الإقراض مندوب ومحبوب إلى الشارع. والدليل على أن الإقراض محبوب: - حديث ابن مسعود - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (ما من مسلم يقرض مسلماً مرتين إلا كان كصدقة مرة). وهذا الحديث فيه خلاف في صحته. والأقرب والله أعلم: أنه موقوف على ابن مسعود وممن رجح الوقف الإمام الدارقطني والبيهقي. لكن مع ذلك أقول أن هذا الحديث له حكم الرفع وأن ابن مسعود - رضي الله عنه - لا يقول مثل هذا الحكم التوقيفي إلا عن خبر عن النبي - صلى الله عليه وسلم -. فإذاً وإن كان موقوفاً فله حكم الرفع. واستدلوا على أن القرض مندوب بدليل آخر: - وهو: أن من يقترض فإنه غالباً محتاج لأنه لن يشغل ذمته إلا وهو محتاج. واستدلوا على أنه مندوب: - أنه خير من الصدقة من وجه وهو: أنه يلحق طالب الصدقة غضاضة ولا يلحق طالب الدين أو القرض غضاضة. * * مسألة/ طلب القرض ليس من المسألة المكروهة. كيف وقد اقترض النبي - صلى الله عليه وسلم -. - ثم قال - رحمه الله -: - وما يصح بيعه: صح قرضه. = ذهب الحنابلة والظاهرية إلى أنه كل ما صح بيعه صح قرضه. ونحن نتحدث الآن عن موضوع مهم وهو ما هي الأشياء التي يجوز أن تقرض. إذاً الحنابلة والظاهرية هم أوسع المذاهب: فهم يرون أن كل عين يجوز أن تباع يجوز أن تقرض ولو لم يجز السلم فيها. = القول الثاني في هذه المسألة المهمة: أنه لا يجوز إلا قرض ما يجوز السلم فيه. واستدلوا على هذا: - بأن ما لا يجوز السلم فيه لا يمكن أن يضبط فيكون الوفاء به صعب. وإلى هذا ذهب الشافعية. لكن الشافعية اضطروا أن يستثنوا بعض الأشياء: فقالوا: يجوز فيها القرض ولا يجوز فيها السلم. وهذا الاستثناء يشير إلى ضعف في هذا القول. = والقول الثالث: وهو أضيق الأقوال: أنه لا يجوز قرض إلا المثليات دون القيميات. ستأتينا ما هي المثليات والقيميات. وهذا القول ضيق جداً وضيق بمعنى الكلمة. واستدلوا على هذا:

- بأن القيميات يقع التنازع عند تقييمها لسداد القرض فنكتفي بالمثليات. والصواب إن شاء الله مع الحنابلة والظاهرية: لعموم قوله تعالى: {إذا تداينتم بدين إلى أجل مسمى فاكتبوه} [البقرة/282].والآية عامة. - ولأن النبي - صلى الله عليه وسلم - استسلف بكراً وهو عند أصحاب هذا القول من القيميات وليس من المثليات. فالأقرب إن شاء الله جواز اقتراض كل ما يجوز بيعه. - ثم قال - رحمه الله -: - إلاّ بني آدم. = ذهب الجماهير إلى المنع من اقتراض بني آدم. واستدلوا على هذا بأمرين: - الأول: تكريمهم. - الثاني: أن اقتراض بني آدم قد يؤدي إلى وطء الجارية المحرمة. فإذا إقترض جارية لغيره ربما يطأ هذه الجارية فيكون زنا. = والقول الثاني: جواز اقتراض الذكور دون الإناث. = والقول الثالث: جواز إقتراض الذكور والإناث بشرط أن تكون الإناث من محارم المقترض. = والقول الرابع: الجواز مطلقاً. بلا شرط ولا قيد وهذا الذي نصره ابن حزم. فهذه أربعة أقوال لكن هذه الأربعة أقوال لا تدل على شدة الخلاف: لأن الجماهير على المنع - جماهير أهل العلم على المنع. - ثم قال - رحمه الله -: - ويملك بقبضه. المؤلف - رحمه الله - يريد أن يبين متى يملك الإنسان القبض. فقال: (يملك بقبضه) يعني: ولا يملك قبل ذلك. ولو تم العقد فإن الملك لا يكون إلا بالقبض. = القول الثاني: أن الملك يكون بالعقد ولو لم يقبض. واستدل هؤلاء وهم المالكية: - بأن العقود في الشرع يملك المعقود عليه فيها بمجرد العقد قبل القرض. فالإنسان إذا باع سيارة فامشتري ملك السيارة حتى قبل القبض ولو بقيت السلعة عند البائع. أما مسألة: هل يبيع أو لا يبيع والضمان؟ هذه مسائل أخرى لكن ملك السلعة انتقل بمجرد العقد. وهذا القول - الثاني - أضيق من القول الأول. = القول الثالث - وهو أضيق الأقوال وأشقها: أن القرض لا يملك إلا بالانتفاع به على جهى الاستهلاك بالبيع أو بالأكل أو بغيره. يعني: لابد أن ينتفع ولابد أن يكون الانتفاع على وجه الاستهلاك. وهذا غاية في التضييق. الراجح: يظهر لي في هذه المسألة المهمة التي كثيراً ما ينبني عليها فروع ويكون حل النزاع بمعرفة حكم هذا القرض من حيث الملك.

الذي يظهر لي أن القرض لا يملك إلا بالقبض. تعليل ذلك: ذكر بعض الفقهاء تعليلاً لطيفاً جداً: وهو قوله: أن القرض عقد يشتمل على معنى المعاوضة والتبرع. فهو معاوضة لأنه سيأخذ بدله وهو تبرع لأنه إرفاق بالمقترض. إلا أن جانب الإرفاق والتبرع فيه يغلب جانب المعاوضة. وإذا كان جانب التبرع به يغلب جانب [[المعاوضة]] فمن المعلوم أن الاشياء المتبرع بها كالهدية والصدقة والهبة لا تملك إلا بالقبض. وهو في الحقيقة تعليل فقهي عميق من وجة نظري. فالأقرب إن شاء الله أنه لا يملك إلا بالقبض ولا يملك قبل ذلك ولو تم العقد. - ثم قال - رحمه الله -: - فلا يلزم رد عينه. هذه المسألة مبنية على المسألة السابقة. يعني: فإذا كان الملك يتم بالقبض فإنه بعد ذلك لا يملك طلب بعين القرض. لأنه أصبح مملوكاً لمن؟ للمقترض. ولأن عقد القرض لازم للمقرض. جائز من جهة المقترض. عكس ما قد يتصوره بعض الناس. صورة المسألة: إذا أقرض زيد عمرو ألف ريال. متى يملك عمرو الألف؟ إذا قبضه. فإذا قبض عمرو الألف وأصبحت بيده مقبوضة فإن زيد لا يملك الرجوع في القرض. فلو قال: رجعت في القرض. يعني: في عين القرض فإنه لا يملك. وإنما له البدل. فهذا عين المال المملوكة المقبوضة للمقترض لا يملك المقرض إلزامه بردها بل يملك البدل كما سيأتينا فقط. فهو من هذه الجهة ملزم لا يستطيع أن يرجع المقرض. لكنه جائز للمقترض فلو قال المقترض: إذا أردت أن ترجع في القرض فهذا عين مبلغك. قد لا يظهر ثمرة كبيرة للخلاف إذا كان القرض مبالغ نقدية لكن يظهر الفرق الكبير لو كان القرض على أعيان لها قيم مالية فإن الأعيان تختلف فبعضها أجود من بعض. فلو أراد المقرض أن يرجع فللمقترض أن يقول: لا. لك البدل. - ثم قال - رحمه الله -: مكملاً لهذا الحكم. - بل يثبت بدله. إذاً إذا اقترض الإنسان شيئاً فإن الذي يثبت في ذمته: بدل القرض. وسيأتينا بالتفصيل في كلام المؤلف - رحمه الله - ماذا يرد المقترض؟ - ثم قال - رحمه الله -: - في ذمته حالاً ولو أجله. = ذهب كثير من الفقهاء - الجمهور: إلى أن الدين يقع حالاً ولو أجل في العقد. وذكروا أيضاً أنه يقع حالاً ولو سلم أقساطاً. وهذا عجيب.

يعني: لو أن إنساناً يقرض إنساناً كل فترة مائة ريال ألف ريال فهذا القرض أقرض جملة واحدة أو أقساط؟ أقساط. فالفقهاء يقولون إذا أقرض أقساط فإن له أن يطالب بجميع المبلغ دفعة واحدة ولا يتأجل وإلى هذا ذهب الجماهير. واستدلوا على هذا: - بأن التأجيل تبرع والتبرع دائماً لا يلزم. = والقول الثاني: أنه إذا أجل في العقد وجب التأجيل ولزم للمقرض. وإلى هذا ذهب المالكية واختاره شيخ الاسلام بن تيمية وتلميذه العلامة ابن القيم. واستدلوا على هذا: - بالنصوص العامة الدالة على وجوب الوفاء بالعقود والشروط. وهذا من جملة العقود والشروط. = وذهب بعض الفقهاء إلى أن القرض يتأجل ولو لم يؤجل لكن إذا لم يؤجل فإنه يتأجل فقط إلى وقت عرفي يمكن أن ينتفع المقترض من المبلغ به. فإذا أقرض زيد عمراً ولم يشترط أجلاً فعند هؤلاء يجب أن ينتظر المقرض إلى أن يمضي وقت يمكن في العرف ان ينتفع المقترض من المال. وفي الحقيقة هذا القول - الأخير - هو الأقرب إن شاء الله: لأن عقد القرض عقد من العقود التي كما تقدم فيها شائبة المعاوضة وفيها شائبة التبرع لكن أي نفع للمقترض إذا أخذ منه القرض بعد ساعة من القرض؟ أي نفع في هذا القرض؟ لكن مع ذلك الجماهير وغالب أهل العم لا يرون انه يتأجل لا سيما بدون شرط ولو طرفة عين ولا ساعة بل متى طالبه لزمه أن يسدد. الخلاصة: المسألة التي تهمنا الآن: أنه إذا أجل القرض فالجمهور يرون أنه لا يتأجل والمالكية يرون أنه يلزمه الأجل ويلزم بالانتظار إلى حلول الأجل وأن هذا القول هو الذي تدل عليه النصوص. - ثم قال - رحمه الله -: - فإن رده المقترض: لزم قبوله. يعني: فإن رد المقترض عين القرض لزمه أي: لزم المقرض أن يقبله. بشرط: أن لا يتعيب ولا ينقص. وسواء ارتفع سعره أو انخفض فإن هذا لا ينظر إليه. وهذا الحكم في المثليات أما المتقومات فيجب أن يرد القيمة. إذاً إذا رد المقترض القرض بعينه لم ينقفص ولم يتعيب فيجب وجوباً على المقرض أن يقبله ولو انخفض سعره. فإذا اقترض خمسين صاعاً من القمح وكان قيمتها خمسون درهماً ثم رده هو بعينه وأصبح سعره يوم الرد أربعين درهماً فيجب وجوباً أن يقبل. أنه رد له عين ماله بلا نقص.

- ثم قال - رحمه الله -: - وإن كانت مكسرة أو فلوساً، فمنع السلطان المعاملة بها: فله القيمة وقت القرض. يعني: وإن أقرضه دراهم مكسرة أو أقره فلوساً ثم منع السلطان من التعامل بالدراهم المكسرة والفلوس فحينئذ يجب أن يرد القيمة. وسيأتينا القيمة هل هي يوم القرض أو يوم الرد أو يوم الابطال؟ الدليل: - قالوا: أن إبطال السلطان للتعامل بالدراهم المكسرة وبالفلوس هو إبطال لماليتها فهو كما لو تلفت وهي لو تلفت لم يجز أن يرجع فيها. وهذا صحيح ولا إشكال في ذلك: إذا أقرضه دراهم مكسرة كان الناس يتعاملون بها ثم أبطل السلطان العمل بها فإن إبطال السلطان يعني أن هذه الأشياء ليس لها قيمة مالة مطلقاً في عرف الناس: فكيف نلزم المقرض المحسن أن يقبل هذا الرد؟ لكن المؤلف - رحمه الله - يقول: (فله القيمة وقت القرض). إذا جاء في كلام الفقهاء: (وقت القرض) فيعني: يوم القرض. وقول بعض الفقهاء: (يوم القرض) أوضح وأدق. = فالحنابلة يرون أنه يجب عليه أن يدفع القيمة يوم القرض. فإذا كانت قيمة الفلوس يوم اقرض مائة درهم وقيمة الفلوس يوم الإبطال خمسين درهماً فالواجب: مائة. لأن الواجب هو يوم القرض. لماذا؟ قال الحنابلة: لأنها وجبت - يعني: هذه الفلوس في المثال - في ذمته في ذلك اليوم. = والقول الثاني: أنها تجب يوم الإبطال فننظر لليوم الذي أبطل فيه السلطان العمل بهذه الفلوس وندفع تلك القيمة. واستدل هؤلاء: - بأن الواجب في ذمة المقترض إلى يوم الإبطال: الفلوس أو قيمة الفلوس؟ (نحن نقول: متى تجب القيمة في الفلوس؟ إذا أبطلها السلطان) معنى هذا أنه قبل إبطال السلطان فالواجب الفلوس لأن الفلوس مثلية. إذاً: مرة أخرى - نقول: هل الواجب في ذمة المقترض إلى يوم الإبطال الفلوس أو قيمة الفلوس؟ الفلوس. ثم يوم الإبطال صار الواجب في ذمته القيمة. فهم يقولون نأخذ باقيمة يوم الإبطال لأنها أصبحت في ذمته في ذلك اليوم وقبل ذلك كانت الفلوس هي التي في ذمته. أي القولين أرجح؟ طبعاً: القول الثالث أنه يوم الرد وهذا ضعيف ضعيف فقهاً ونظراً لكن الإشكال في أنه هل الواجب ذمة المقترض يوم الإبطال أو يوم القرض؟

فيها إشكال في الحقيقة وتردد لأنه إذا ألزمناه بأن يدفع قيمة الفلوس يوم الإبطال ففي هذا نوع من الغضاضة على المقرض والمقرض محسن وهو أعطاه الفلوس - يعني: قيمتها يوم الإقراض مثلاً: مائة. فكيف نلزمه في يوم الإبطال بخمسين فقط. ومن جهة أخرى أن الذي ثبت في ذمة المقترض هو قيمة هذه الفلوس يوم الإبطال فقط لا يوم القرض لأنها إلى يوم الإبطال والواجب في ذمته هو الفلوس فقط. ففيها عندي نوع تردد. - ثم قال - رحمه الله -: - ويرد المثل في المثليات والقيمة في غيرها. هذا المبحث يتعلق بما هو الواجب على المقترض إذا أراد أن يرد فبين المؤلف - رحمه الله - أن الواجب أن يرد المثل في المثليات والقيمة في القيميات. وهذا يستدعي أن نعرف بالضبط ما هي المثليات وما هي القيميات؟ وهذا البحث وهو تحديد مفهوم المثليات: محل خلاف. لكن من الأشياء المفيدة أن تعرف الآن أن الخلاف في المثليات فقط: أنه كلما عرفت المثليات فالقيميات ما سواها. إذاً الخلاف في الحقيقة في المثليات وتبعاً للخلاف في المثليات يكون الخلاف في القيميات. = فالحنابلة يرون: أن المثليات هو: كل مكيل وموزن يصح السلم فيه ولا صنعة مباحة فيه. مثال المثليات عند الحنابلة: الحديد. فالحديد موزون ويصح السلم فيه وليس فيه صنعة مباحة. فإذا أخذنا الحديد وصنعنا منه أواني خرج عن أن يكون من المثليات وأصبح من القيميات لأنه صار فيه صنعة. وكذلك الذهب وكذلك الفضة وكل المعادن. وكذلك كل مكيل أو موزون من الحبوب التي يمكن أن تصنع لتكون خبزاً أو غير ذلك مما يؤكل لا على هيئة الحبوب. = القول الثاني: أن المثليات هي كل ما لا تختلف آحاده اختلافاً تختلف به أقيامها. ولا نحتاج أن نقول القيميات لا في القول الأول ولا في القول الثاني لأن القيميات هي ما عدا ذلك على القول الأول وعلى القول الثاني. = القول الثالث: أن المثليات هي كل ماله شبيه أو نظير أو مثيل ولو لم يتطابق معه تماماً. وإلى هذا القول ذهب بعض الفقهاء ونصره من المتأخرين شيخ مشائخنا الشيخ السعدي - رحمه الله -. واستدل على هذا بأدلة:

- الأول: أن عائشة رضي الله عنها لما كسرت آنية أختها من أمهات المؤمنين قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: (إناء بإناء) مع أن الإناء على مقتضى تعريف الحنابلة: قيمي. ومع ذلك جعله النبي - صلى الله عليه وسلم - مثلي. - وقال أيضاً: في الحديث نفسه: (إناء بإناء وطعام بطعام) والطعام بعد الصنع والطبخ يصبح أيضاً قيمي. - ولأن النبي - صلى الله عليه وسلم - استسلف بكراً. وهذا القول الثالث مع قلة القائلين به من الفقهاء إلا أنه ظاهر القوة بسبب الأدلة التي استدل بها من الأحاديث المرفوعة الثابتة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ولا يحول بين الإنسان وبين ترجيحه قلة القائلين به. بل هو في الحقيقة قول قوي وأيضاً فيه تيسير كبير على المتعاملين بالقروض. على أنه قلما يحتاج الإنسان لهذه المباحث. لماذا؟ لأن غالب القروض إنما هي في النقود. هل سمعتم قروض في غير النقود؟ قل. يوجد لكن قليل جداً. ولذلك قد لا يحتاج الإنسان لا سيما في وقتنا هذا إلى كثير من هذه البحوث. - ثم قال - رحمه الله -: - فإن أعوز المثل: فالقيمة إذاً. لما قرر المؤلف - رحمه الله - أن الواجب في المثليات: المثل. قال: (فإن أعوز) يعني فإن لم يستطع المقترض أن ياتي بالمثلي لأي سبب من الأسباب فالواجب حينئذ في ذمته القيمة. وقول المؤلف - رحمه الله -: (فالقيمة إذاً) يعني يوم الإعواز. فننظر يوم الإعواز كم قيمة هذا المثلي وندفع للمقرض قيمة ما أقرضه. وهذه المسألة ترجح أي قول من الأقوال السابقة في مسألة إذا أبطل السلطان العمل بالفلوس أو الدراهم المكسرة؟ أنه يوم يوم الإبطال أو يوم القرض؟ في الحقيقة هو يؤيد يوم الإبطال لأن يوم الإبطال مثل يوم الإعواز. وهذا يؤيد نوعاً ما رجحان المسألة الأولى مع بقاء الإشكال فيها. المهم أن الواجب القيمة يوم الإعواز ينظر في قيمته وتدفع للمقرض. ((الأذان)). - ثم قال - رحمه الله -: - ويحرم: كل شرط جر نفعاً. أي: للمقرض. أما الشروط التي تجر النفع للمقترض في من الإحسان. إذاً كل شرط يجر نفعاً للمقرض فهو محرم. وهو الذي يسميه الفقهاء ربا القروض. بخلاف ربا البيوع الذي تقدم معنا في بيع الأعيان هذا يسمى ربا القروض.

الدليل: استدل العلماء رحمهم الله على تحريم هذه الزيادة وأنها من الربا بعدة أدلة: - الدليل الأول: الإجماع. فإن هذه المسألة ولله الحمد مجل إجماع لم يختلف فيها فقهاء المسلمين. - الثاني: استدلوا بآثار صحيحة في البخاري وغيره عن علماء أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - وكلها تدل على أن القرض إذا جر نفعاً فهو ربا. - أخيراً استدلوا بما روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال:: (كل قرض جر نفعاً فهو ربا) وهذا الحديث فيه ضعف لكن معناه صحيح. إذاً هذه هي القاعدة: أنه لا يجوز اشتراط نفع سواء كان هذا النفع أعيان أو منافع. وسواء كان هذا النفع مشروط شرطاً صريحاً أو تواطئوا عليه بلا شرط في العقد. وذلك لعموم الأدلة الدالة على المنع من الزيادة. لما ذكر المؤلف - رحمه الله - القاعدة العامة وهي تحريم كل قرض جر نفعاً بدأ بالمستثنيات. - فقال - رحمه الله -: - وإن بدأ به بلا شرط أو أعطاه أجود أو هدية بعد الوفاء: جاز. (وإن بدأ به بلا شرط أو أعطاه أجود) إذا بدأ بالنفع الزائد بلا شرط فهو جائز لكن بشرط أن يكون بعد القضاء. فإن بدأه بدون شرط قبل القضاء فإنه سيأتينا حكمه وماذا يصنع المقرض. قال: (أو أعطاه أجود) يعني: بلا شرط. ولا نحتاج هنا أن نقول بعد القضاء لأنه إذا أعطاه أجود فقد قضاه. والدليل على جواز هذه المسألة والتي قبلها: - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - استسلف بكراً ورد رباعاً خياراً وقال: (خيركم أحسنكم قضاء). فهذا دليل على أنه إذا حصلت الزيادة بلا شرط ولا مواطئة وبعد القضاء فإنه جائز ولا حرج فيه. ونتوقف عند هذا الحد والله أعلم وصلى الله على نبينا محمد ...

الدرس: (22) من البيع قال شيخنا حفظه الله: بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين. تقدم معنا الكلام عن القرض الذي جر نفعاً والأدلة التي تدل على تحريم القرض الذي جر نفعاً وأنه من ربا القروض. وكما هي عادة الفقهاء يقررون الحكم ثم يذكرون ما يستثنى من هذا الحكم فذكر المؤلف - رحمه الله - مسائل تستثنى من هذا الحكم. - يقول - رحمه الله -: - وإن بدأ به بلا شرط أو أعطاه أجود أو هدية بعد الوفاء: جاز. هذه ثلاث مسائل: - المسألة الأولى: أن يبدأ بإعطاء النفع بلا شرط. - والثانية: أن يقضيه خير مما اعطاه بلا شرط. - الثالثة: أن يهديه. دل كلام المؤلف - رحمه الله - أنه إذا أعطاه النفع أو الهدية أو رد أجود مما اقترض فإنه جائز بشرطين: ـ الشرط الأول: أن يكون بعد الوفاء. ـ والشرط الثاني: أن يكون بلا شرط. فإذا أعطاه هذه الأمور بلا شرط وبعد الوفاء: جاز بلا إشكال. الدليل على ذلك: - أن إعطاء المقرض هذه الأمور بعد الوفاء لم تصبح بسبب القرض. بل صارت إعطاء مبتدأ به. والمحرم هو ما يأخذه المقرض بسبب القرض. ثم لما بين المؤلف - رحمه الله - حكم الإعطاء والإهداء والنفع بين إذا تبرع لمقرضه قبل وفائه: يعني: لما بين حكم هذه الأشياء بعد الوفاء أراد أن يبين تفصيل حكم هذه الأشياء قبل الوفاء. ذكرت لكم أن الدليل أن إعطاء هذه الأشياء بعد القرض يصبح ليس سببه القرض وتعرفون الدليل الثاني ذكرناه لكم في الدرس السابق وهو أن النبي - صلى الله عليه وسلم -: اقترض بكراً ورد رباعياً خياراً وقال: (خيركم أحسنكم قضاء). فهذا دليل على أن ((القضاء)) بعد الوفاء لا إشكال فيه. إذاً دل على هذا دليل من التعليل وهو دليل مهم ومفيد لأنه ((يكشف)) مسائل أخرى ودليل من السنة. - ثم قال - رحمه الله -: - وإن تبرع لمقرضه قبل وفائه بشيء لم تجر عادته به: لم يجز. إذا أعطاه هدية أو نفعاً قبل الوفاء فينقسم إلى قسمين: - القسم الأول: أن لا تكون العادة بينهما جرت بالتهادي. فحينئذ يصبح محرماً ويدخل في الحكم السابق وهو ربا القروض. - القسم الثاني: أن تكون العادة جرت بينهما بالإهداء والتبادل فهو جائز ولا حرج فيه. استدل الحنابلة على هذا التفصيل: - بحديث أنس أن النبي - صلى الله عليه وسلم -: أجاز التهادي بينهما إذا جرت العادة بذلك.

وهذا الحديث إسناده ضعيف. ولكن معناه صحيح. والذي دل على صحة معناه أن الصحابة أفتوا بمقتضاه. وتقدم معنا أن إفتاء الصحابة بمقتضى دليل شرعي وإن لم يجعله بمنزلة المرفوع إلا أنه يقويه ويجعل الاستدلال به مقبولاً إذا انضاف إلى هذه الفتاوى. - ثم قال - رحمه الله -: - إلاّ أن ينوي مكافأته أو احتسابه من دينه. هذا استثناء من الاستثناء. يعني: لا يجوز للمقترض أن يدفع للمقرض هدية قبل الوفاء إذا لم تجر العادة بينهما إلا إذا نوى أن يحتسبه من دينه أو أن يكافأة عليه وقد نص الإمام أحمد - رحمه الله - على هاتين المسألتين. يعني: على جوزا الأخذ. إذا نوى أن يحتسبها من الدين أو أن يكافأه عنها. والدليل على هذا الاستثناء: - فتاوى الصحابة. فقد نقل عن أكثر من صحابي - رضي الله عنهم - أنهم أفتوا من أخذ هدية ممن أقرضه لم تجر العادة بينهما به أن يحتسبه من الدين. فإذا اقترض منه عشرة آلاف وأهداه هدية قيمتها خمسة آلاف صار القرض: خمسة آلاف. وإذا اقترض منه عشرة آلاف وأعطاه هدية بمبلغ خمسة آلاف ولم يرد أن يحسمها من الدين فأعطاه هدية بخمسة آلاف فكذلك أيضاً هو جائز. * * مسألة/ إذا قلنا بجوز أخذ الهدية التي لم تجر العادة بها مع نية احتسابه من الدين أو المكافأة: فهل الأفضل مع الجواز أن يأخذ أو أن لا يأخذ؟ الجواب: أنه لا يوجد قاعدة عامة لهذه المسألة. فكونه يأخذ أو لا يأخذ هذا يخضع لملابسات الأحوال، وطبيعة العلاقة بين المقرض والمقترض، والمقصود من الهدية ... إلى آخره. فأحياناً يرى الإنسان أنه من الأنسب أن يقبل ويكافيء. وأحياناً يرى من الأنسب أن لا يقبل مطلقاً. * * مسألة/ إذا قبل بنية المكافأة أو احتسابه من الدين: فهل الأفضل أن يحتسبه من الدين أو أن يكافيء؟ هذه المسألة تشبه المسألة السابقة وهي أنها تخضع للملابسات والأحوال إلا أني أقول: أن الغالب أن المكافأة خير من خصمها من الدين. لأن في خصم الهدية المهداة من الدين غضاضة على المقترض واضحة بينما المكافأة وإهدائه هدية أخرى قد لا يجد ىمقترض في نفسه غضاضة من قبول الهدية ممن استقرض منه.

فالأولى والأحود غالباً أن يكافيء لا أن يخصم أن الخصم من القرض دائماً ما يشعر بشيء من النقص. فالأولى العدول عنه إلى الإهداء مقابل الهدية التي أخذها من المقترض. - ثم قال - رحمه الله -: - وإن أقرضه أثماناً فطالبه بها ببلد آخر: لزمته. المقصود (بالبلد الآخر) يعني: غير بلد القرض. فإذا اقترض زيد من عمرو بالرياض عشرة آلاف وطالبه عمرو بها في مكة وهي أثمان يعني: من النقدين فإنه يلزم (عمرو) أن يسدد القرض ولو في غير بلد الاقتراض وهو في المثال (مكة) يلزمه لزوماً ويجب عليه وجوباً. واستدل الحنابلة على هذا الحكم: - بأنه يمكنه السداد بم لا ضرر عليه فيه. فإذا أمكن السداد ولا ضرر عليه لزمه أن يسدد. * * مسألة/ ويلحق بالأثمان كل ما ليس لنقله مؤونة. فيأخذ نفس الحكم. أي: يلزم المقترض أن يسدد القرض ولو في غير بلد القرض الذي تم عقد القرض فيه بنفس السبب وهو أنه يمكنه الوفاء بلا ضرر عليه. - ثم قال - رحمه الله -: - وفيما لحمله مؤونة: قيمته إن لم تكن ببلد القرض أنقص. يعني: (وفيما لحمله مؤونة) لا يلزمه أن يسدد القرض. فإذا اقترض شيئاً لحمله مؤونة وطالبه بها في غير بلد القرض لم يلزم المقترض أن يرد القرض. واستدلوا على هذا بأمرين: - الأمر الأول: أن في هذا جر نفع للمقترض. لأنه سيكسب أجرة النقل. - الثاني: أنه ليس في النصوص الشرعية ما يلزم المقترض نقل القرض من بلد لبلد ولو لم يكن بلا مؤونة. وإنما ألزمناه في الصورة الأولى لأنه لا ضرر عليه وذمته مشغولة. * * مسألة/ يقول المؤلف - رحمه الله -: (وفيما لحمله مؤونة قيمته) يعني: لما تبين أنه لا يلزمه السداد بين أنه يلزمه قيمة هذا القرض. فيلزم المقترض أن يعطي المقرض قيمة القرض في بلد القرض ما لم تكن القيمة في بلد القرض أكثر. سيأتينا أن المؤلف - رحمه الله - وهم في قوله أنقص. المهم الآن أن تفهموا الصورة ثم نرجع إلى عبارات المؤلف - رحمه الله -.

إذا اقترض زيد من عمرو خمسة آصع من القمح في الرياض ثم طلبها منه في مكة: فنحن قررنا الآن أنه لا يجب على المقترض أن يوفي هذه الآصع في مكة لأن لحملها مؤونة. كن يجب عليه أن يعطي المقرض قيمة هذه الخمسة آصع ويشترط لهذا الوجوب أن تكون قيمة هذه الخمسة آصع في بلد المقرض ليست أكثر من قيمتها في بلد الإداء. فإن كانت القيمة في بلد القرض أكثر من قيمتها في بلد الأداء فالواجب عليه أن يعطيه القيمة يشتري بها القرض. صورة المسألة/ إنسان - كما قلت - اقترض خمسة آصع في الرياض قيمتها مائة ريال فطالبه بها في مكة وقيمتها في مكة خمسون ريالاً فالآن يجب على المقترض أن يدفع القيمة في بلد القرض أو في بلد السداد؟ في بلد السداد. لماذا؟ لأن في بلد السداد أرخص فيذهب ويشتري بخمسين ريالاً خمسة آصع ويسدد. بدل أن يعطيه مائة ريال. فإذا كانت قيمة الآصع في الرياض مائة ريال وقيمتها في مكة مائة وخمسين ريالاً: فالواجب عليه كم؟ مائة ريال. وهي قيمة القرض في بلد القرض لا في بلد الأداء. وإذا فهمت المثال فستفهم أن قول المؤلف - رحمه الله - هنا: (إلا أن تكون ببلد القرض أنقص) خطأ لأنها إذا كانت في بلد القرض أنقص فهو من مصلحة المقترض. ولعل صواب العبارة وكأنه سيكتب المؤلف - رحمه الله -: إن كانت في بلد القرض أنقص. بدون النفي. على كل حال بغض النظر عن عبارة المؤلف عرفنا الآن الحكم. إذاً: يتلخص الحكم: - في أنه إذا طلبه قرضاً لحمله مؤونة: فإنه لا يجب عليه أن يوفي ويجب عليه أن يعطي القيمة: ـ إن كانت القيمة في بلد القرض أنقص. أو بعبارة أوضح: (إن لم تكن في بلد القرض أكثر). فإن كانت أكثر فإنه لا يلزمه قيمة ويلزمه القيمة في بلد السداد. هذا ما يتعلق بالسداد. ومن المعلوم كما أشرت مراراً أن غالب القروض الآن من الأثمان ليست مما لحمله مؤونة. وهذا التفصيل إنما هو فيما لحمله مؤونة فقط. وبهذا انتهينا من باب القرض وننتقل إلى باب الرهن. وقبل أن ننتقل إلى باب الرهن أريد أن أشير إلى أن القرض ينقسم إلى قسمين من حيثية غير الحيثيات التي ذكرنا تقسيمها الآن: وهذا التقسيم مفيد ليتصور بعض الأحكام:

باب الرهن

- القسم الأول للقرض: القرض الحقيقي. وهو: القرض الذي ذكرت تعريفه في أول الباب وتنصرف إليه عبارات الفقهاء. - القسم الثاني: القرض الحكمي. وهو القرض الذي يثبت في الذمة بسبب النفقة على البهيمة أو على الإنسان مع نية الرجوع. فهذه انفقة تثبت في ذمة المنفق عليه إذا نوى المنفق الرجوع وتصبح في حكم القرض لكنها من القروض الحكمية. يعني: انها أخذت حكم القرض وإن لم تكن في الحقيقة من القروض الني تدخل ضمن التعريف الاصطلاحي الذي ذكره الفقهاء للقروض. وبهذا يستطيع الإنسان أن يعرف أن مدلول القرض في الشرع أوسع مما يقع في ذهن الطالب أنه فقط إعطاء مال لينتفع به ويرد غيره. وبهذا انتهى الباب ولله الحمد ونبدأ بباب الرهن. باب الرهن - يقول - رحمه الله -: - باب الرهن. الرهن في لغة العرب هو: الثبوت والدوام. هذا هو المعنى الأصلي. وأي معنى آخر يذكر لهذه الكلمة وينسب أنه معنى لغوي فهو في الحقيقة راجع إلى هذا المعنى. فالمعنى الأصلي هو هذا وكل ما عداه ليس من المعاني الأصلية وإنما من المعاني المتفرعة عن هذا المعنى الأصلي وهو: الثبوت والدوام. وأما في الاصطلاح: فهو توثقة دين بعين يتستوفى منها أو من ثمنها. صورة الرهن: حتى نفرع عليه المسائل التي يذكرها المؤلف - رحمه الله -: صورة الرهن: أن يقترض زيد من عمرو مائة ريال ويأخذ منه رهناً بها عشرة آصع من القمح. فالرهن في المثال هو القمح. والغرض منه كما في التعريف استيفاء الدين منه أو من ثمنه. علم من قولنا: (منه) أنه إنما يستوفى منه إذا كان من نفس الجنس. وإذا كان من جنس آخر فيستوفى من ثمنه. فإذا اقترض قمحاً ورهنه قمحاً آخر فهل يستوفى منه أو من ثمنه؟ يستوفى منه. وإذا اقترض ألف ريال ورهنه سيارة فمن ماذا؟ من الثمن. والرهن مشروع بالكتاب والسنة والإجماع - ولله الحمد. ولا إشكال فيه. - أما الكتاب: فقوله تعالى: {فرهان مقبوضة} [البقرة/283] وهو نص في المقصود. - وأما السنة فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - اقترض من يهودي ورهنه درعه - صلى الله عليه وسلم -. - وأما الإجماع: فحكاه غير واحد من أهل العلم. وما زال عمل المسلمين عليه.

إنما وقع الخلاف فقط في مسألة: هل الرهن يتعلق بالسفر والحضر أو يتعلق بالسفر فقط؟ وفي الحقيقة الخلاف في هذه المسألة خلاف ضعيف: = فذهب الجماهير الأئمة الأربعة وعامة فقهاء المسلمين وعليه عمل الناس إلى أن الرهن مشروع في الحضر والسفر ولا تفريق بينهما. = وذهب مجاهد فقط وهو من أئمة السلف - رحمه الله - إلى أن الرهن لا يكون إلا في السفر فقط. واستدل: - بالآية. (وإن كنتم على سفر فلم تجدوا كاتباً فرهان مقبوضة) فقوله: (وإن كنتم على سفر) صفة تقيد الحكم عنده. والصواب مع الجماهير بلا شك لأمرين: - الأمر الأول: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - رهن وهو في المدينة. فهو لم يكن على سفر - صلى الله عليه وسلم -. - الثاني: أن هذا القيد خرج مخرج الغالب لأن الغالب أن يحتاج الإنسان إلى توثقة الدين بالرهن في السفر لأنه قد لا يجد من يشهده على الدين أو لا يجد ما يكتب به الدين. وأما في الحضر فقد لا يحتاج إلى هذا. هذا في القديم أما اليوم فالحاجة إلى الرهن كبيرة جداً وتتعدى إثبات الدين إلى الوثوق بأداء المدين بالدين. فالحاجة إليه اليوم كبيرة جداً وقصره على السفر فيه تضييق على الناس وهذا على كل حال القول أشبه ما يكون بالقول المهجور. ثم بدأ المؤلف - رحمه الله - يبين الأشياء التي يجوز أن ترهن: - فقال - رحمه الله -: - يصح في كل عين: يجوز بيعها. هذه قاعدة الباب: أنه يجوز رهن كل عين يجوز أن تباع. واستدلوا على هذا: - بأن المقصود من الرهن هو: استيفاء الدين عند عجز المدين عن السداد أو امتناعه. وهذه الحكمة تتحقق في كل عين يجوز أن تباع. وظاهر قول المؤلف - رحمه الله -: (في كل عين) أنه لا يجب أن نجعل الدين والمنافع رهناً بل لا يرهن إلا العين فقط. وهذا مذهب الحنابلة: أن الرهن لا يقع إلا على العين دون الدين والمنافع. واستدلوا على هذا: - بأن الوارد في السنة رهن الأعيان دون المنافع والديون فنقتصر على مورد النص. = القول الثاني: أنه يجوز أن نجعل المنافع والديون رهناً.

وعللوا ذلك: - بان المقصود من الرهن يتحقق في رهن المنافع ورهن الديون. فإذا كان المدين يملك منفعة معينة - يملك منفعة عين دون رقبتها. فبالإمكان أن يرهن هذه المنفعة. ويستوفى الدين من قيمة هذه المنفعة. وكما ترى في الحقيقة لا إشكال في رجحان القول الثاني فهو ظاهر وقوي. إلا انه لا ينبغي أن نجعل الديون والمنافع رهناً لأن هذا يدخل الدائن والمدين في متهاة المطالبة بالدين الآخر والاختلاف والتنازع. بينما إذا رهنت عين معلومة حاضرة صار هذا أبعد عن التنازع وأقرب إلى إيفاء الديون. فقول الجمهور من حيث الواقع العملي والتطبيق قوي وجيد. والقول الثاني من حيث الدليل اتفصيلي وجيه جداً كما ترى. - ثم قال - رحمه الله -: - حتى المكاتب. يعني: حتى المكاتب: العبد الذي كوتب من سيده يجوز أن يجعل رهناً. والتعليل واضح: - وهو أنه يجوز أن يباع فجاز أن يرهن. وكل ما جاز أن يباع جاز أن يرهن. فإن أتم المكاتب الأقساط التي عليه وأصبح حراً لا يباع صار ثمنه هو الرهن. وتسدد الديون من هذا الثمن الذي يكون محل المكاتب. وكون قيمة المكاتب تقع محله رهناً هذا بلا إذن من الراهن بل مباشرة تكون مكان العبد المكاتب الذي كان رهناً. وليس للراهن الخيار: لأن قيمة العبد المكاتب بدله فتكون هي الرهن. وبهذا نخرج من الجهالة والغرر التي قد تكون موجود في المكاتب حين يستكمل الأقساط ويصبح حراً. إذاً: إذا قيل لك: كيف تصحح أن يكون المكاتب رهناً وهو ربما أصبح من الأحرار فلا يجوز أن يباع. فالجواب: أنه إذا أصبح حراً صارت قيمته مكانه. - ثم قال - رحمه الله -: مبيناً وقت الرهن. - مع الحق. يعني: يجوز أن نعقد الرهن مع عقد البيع. فيقول: بعتك هذه السيارة إلى شهرين بشرط أن ترهنني هذا البيت. وهذا المثال مثال صحيح لأن اليوم بعض السيارات أغلى من بعض البيوت - مع الأسف - ولا يقال أن امثال غير منطقي لأن اليوم بعض السيارات أغلا من بعض البيوت وإن كان ليس من العقل أن يشتري الإنسان سيارة باهضة الثمن وهو لا يملك بيتاً كما يفعله بعض الناس اليوم. فهذا لاشك أنه من سوء التدبير. لكن المثال صحيح. هذا عقد الرهن مع العقد. ومع الحق يعني: مع العقد.

وانتم تعلمون أن الرهن عقد مضاف لعقد البيع. - الرهن عقد آخر مع عقد البيع. فهو عقد يحتاج إلى إيجلب وقبول وشروط وعاقدان ... إلى آخره. فعقد الرهن مع عقد البيع الذي يسبب الحق جائز. وهو جائز باتفاق الأئمة الأربعة. - قال - رحمه الله -: - وبعده. يعني: ويجوز عقد الرهن بعد الحق - بعد ثبوت الحق. وصورته/ أن يبيع عليه بيتاً ثمن مؤجل ثم بعد ثبوت الثمن في ذمة المشتري يقول البائع وأريد رهناً بهذا البيت. فهذا الرهن تم بعد العقد أو مع العقد؟ بعد العقد. يعني: بعد ثبوت الحق في ذمة المدين وهذا جائز بالإجماع بل هو المقصود من الرهن. ودليل جواز مع الإجماع: - أن قيمة المؤجل أصبحت ثابتة في ذمة المدين وإذا كانت ثابتة في ذمة المدين احتاجت إلى توثقة بالرهن. وأنا أريد أن تنتبهوا إلى هذا التعليل حتى تفهموا المقصود من الرهن. إذاً إذا أخذ رهنا بعد ثبوت الحق يعني: بعد وقوع العقد فهو جائز بالإجماع. لأنه بعد العقد أصبح الثمن ثابتاً في ذمة المدين فأصبح يحتاج إلى توثقة. وظاهر كلام المؤلف - رحمه الله - أنه لا يجوز عقد الرهن قبل ثبوت الحق أي قبل إجراء العقد لأنه يقول: (مع الحق وبعده) ولم يقل: (وقبله). وهذا: = مذهب الحنابلة: أن عقد الرهن لا يصح قبل ثبوت الحق. واستدلوا على هذا: - بأن الرهن يقصد منه الاستيثاق من الدين ولا دين هنا. = والقول الثاني: صحة وقوع الرهن قبل ثبوت الحق. يعني: قبل وقوع العقد. واستدلوا على هذا: - بالقياس على الضمان. لأن الضمان يكون قبل ثبوت الحق في ذمة المدين. - واستدلوا على هذا: بأن الأصل في المعاملات الحل. - واستدلوا على هذا أيضاً: بأنه لا ضرر من إثبات الرهن قبل الحق فإن وجد الحق نفع الرهن وإن لم يوجد الحق لم يضر الرهن. وهذا القول الثاني هو الراجح. على أن هذه المسألة لا تكاد تقع في الواقع. لأنه لا حاجة إليها. وإذا كان البائع يريد الاستيثاق التام فيجعل الرهن مع الحق. فإذاً لا حاجة ماسة لإيقاع الرهن قبل العقد. لما بين المؤلف - رحمه الله - الأعيان التي يجوز أن تجعل رهناً انتقل لبيان الديون التي يجوز أن نأخذ عليها رهناً: أو بعبارة أدق: (الحقوق التي يجوز أن نأخذ عليها رهناً).

- فيقول - رحمه الله -: - بدين ثابت. فسرت لما يؤخذ عليه الرهن شرطين: - الشرط الأول: أن يكون ديناً. - والشرط الثاني: ان يكون هذا الدين ثابتاً. نبدأ بالشرط الأول: = يشترط فقهاء الحنابلة لصحة الرهن أن يؤخذ مقابل دين. فلا يجوز أن نأخذ الرهن مقابل عين ولا منفعة. ـ مثال العين: - العارية. - ومثاله الثاني: وهو الأهم: ثمن المبيع المعين. = فالحنابلة يرون: أن الرهن لا يؤخذ إلا عن شيء ثابت في الذمة. ما عدا هذا لا يؤخذ عليه رهن. واستدلوا على هذا: - بأن الدين الثابت في الذمة هو الذي يحتاج إلى توثيق وما عداه فليس بحاجة إلى توثيق. - واستدلوا: بأن الآية في الدين - الآية التي دلت على مشروعية الرهن إنما هي في الدين فنبقي فيما ورد فيه النص فقط. = والقول الثاني: جواز أخذ الرهن على الأعيان والديون على حد سواء. - لأن الإنسان كما يحتاج إلى توثقة الدين لاستيفاء حقه من الرهن فإنه يحتاج إلى التوثقة من رجوع العين ووصولها إليه. فالحكمة التي شرع من أجلها الرهن موجودة في الأعيان والمنافع. مثال المسألة/ إذا قال زيد لعمرو: أعرني سيارتك. فقال عمرو: أنا أعيرك السيارة بشرط أن ترهنني رهناً حتى أستوثق من إرجاع السيارة سليمة ليست معيبة. = فعند الحنابلة: الرهن باطل. - لأنه على شيء ليس في الذمة. = وعلى القول الثاني: الرهن صحيح وهو لازم ويؤخذ منه الحق عند عدم رد العارية. ففي الحقيقة هذا الخلاف مهم ومفيد وقد يحتاج إليه الإنسان. والقول الثاني فيه أرجح. ونحمل النصوص - كما تقدم معنا - أنها خرجت مخرج الغالب - لأن الغالب أن الإنسان يحتاج إلى توثقة الديون لا الأعيان. ـ الشرط الثاني: أن يكون بدين. فلا يصح على دين غير ثابت. والدين الثابت/ هو الدين الذي ثبت في الذمة وليس عرضةً للسقوط. فمن أمثلة الدين غير الثابت: دين المكاتبة. لأن العبد يستطيع أن يعجز نفسه ويرجع إلى العبودية.

ومن أمثلة الدين غير الثابت: الجعل قبل أن يبدأ في العمل.: إذا جعل جعلاً لمن صنع عملاً معيناً فقبل أن يبدأ العامل بالعمل فهذا الدين وهو الجعل عرضة للسقوط وذلك بأن لا يبدأ بالعمل. لأنه كما سيأتينا اعقد بين من يجعل جعلاً لعمل وبين العامل عقد جائز وليس بلازم. فهذه الديون لا يصح: = عند المذهب أخذ الرهن عليها. - لأنها هي بنفسها عرضة للسقوط فكيف نستوثق منها بالرهن؟ = والقول الثاني: أنه يجوز أخذ الرهن بالدين الغير مستقر. فإن استقر انتفعنا من الرهن وإن لم يستقر رجع الرهن إلى صاحبه. - ثم قال - رحمه الله -: - ويلزم: في حق الراهن فقط. الراهن: هو المدين. والمرتهن هو: الدائن. والرهن: هي العين التي يراد استيفاء الدين منها. إذاً لابد أن نفهم الآن الراهن والمرتهن لأنه سيتكرر معنا. فالراهن هو الذي ذمته مشغولة). يقول رحمه الله: (يلزم في حق الراهن فقط) يعني: دون المرتهن. ويلزم في حق الراهن: - لأنه ثبت بحق الغير فهو لازم في حق الراهن حفظاً لحق المرتهن. ومعنى أنه لازم: يعني: أن الراهن لا يستطيع فسخ الرهن ولا إلغاء هذا العقد ولا ما يترتب على هذا الأمر. وسيأتينا متى يلزم؟ وماذا يترتب من الأعمال على اللزوم. إنما الذي يعنينا الآن في عبارة المؤلف - رحمه الله - هنا: أنه لازم في حق الراهن فقط. - ثم قال - رحمه الله -: - ويصح: رهن المشاع. ويصح رهن المشاع: = عند الجماهير من أهل العلم. - لأن المشاع يجوز أن يباع وكل ما جاز أن يباع جاز أن يرهن. وفي المسألة خلاف ضعيف لا نشتغل به. فالجماهير على جواز رهن المشاع والآن عليه العمل وكثيراً ما يرهن المشلع اليوم لأن المشاع يمكن بيعه وتمييزه عن الذي معه سواء كان أرض أو بيت أو شيء يمكن أن يباع لسداد الدين. ولما كانت القاعدة أن كل ما جاز بيعه جاز رهنه والمشاع يجوز أن يباع لذلك الجماهير جوزوا رهنه. - ثم قال - رحمه الله -: - ويجوز: رهن المبيع غير المكيل والموزون على ثمنه وغيره. في الحقيقة العبارة تكون أسهل وأوضح لو أن المؤلف - رحمه الله - يقو: (ويجوز رهن المبيع على ثمنه وغيره إلا إذا كان مكيلاً أو موزوناً). فتكون أوضح. فإدخال الاستثناء في وسط الجملة يصعب فهمها.

نقول في شرح الجملة: يجوز للإنسان أن يرهن المبيع على: - ثمنه. - وعلى غيره. والمقصود: (بغيره) يعني على دين آخر سابق. سواء قبض الثمن أو لم يقبض في مسألة: (على غيره). صورة المسألة/ أن يشتري زيد من عمرو سيارة فيحبس عمرو السيارة إلى أن يسدد المشتري الثمن. أو يسدد المشتري الثمن ومع ذلك يحبس البائع السيارة لأن له على زيد ثمن آخر - دين آخر. فيمسك السيارة كرهن إلى أن يسدد قيمة الدين الآخر. حتى لو سدد قيمة السيارة إذا كان هناك دين آخر فله أن يمسك السلعة على هذا الثمن. الدليل على الجواز: - أن هذا المبيع يجوز بيعه فجاز رهنه. ولو قبل القبض. وأنتم تعلمون أننا نتحدث الآن عن المبيع من غير المكيل والموزون. أو بعبارة أخرى: (عن المبيع الذي لا يحتاج إلى قبض). إذاً انتهينا من هذا القسم عند الحنابلة. أنه إذا باع ما لا يحتاج إلى قبض يعني: غير المكيل والموزون عند الحنابلة فإنه يجوز أن يحبسه على ثمنه وعلى غيره ولو قبل القبض. - القسم الثاني: المبيع من المكيل والموزون. فهذا لا يجوز رهنه على ثمنه - لا يجوز حبسه على ثمنه. لماذا؟ لأنه لا يجوز أن يباع. فالمكيل والموزون قبل القبض لا يجوز أن يباع. فإذاً: المكيل والموزون قبل القبض لا يجوز حبسه على ثمنه. لماذا؟ لأنه لا يجوز أن يباع إلا بعد القبض ونحن نقول لا يجوز أن نرهن إلا ما يجوز أن يباع. = القول الثاني في المكيل والموزون: جواز حبسه على ثمنه ولو قبل القبض. واستدل هؤلاء على هذا الحكم: - بأن بقاء المبيع عادة في يد البائع قبل القبض يسير وينتقل إلى المشتري وهذا البقاء اليسير لا يتنافى مع حكمة الرهن. (استدلوا: بأن بقاء الرهن أو المبيع في يد البائع عادة يبقى وقت يسير هذا الوقت اليسير لا يتنافى مع حكمة الرهن.) إذا باع الإنسان عيناً لا يجوز أن تباع إلا بعد القبض. فنحن نقول للمشتري لا يجوز لك أن تبيع العين إلا بعد القبض لأنه نهي عن بيع الطعام قبل قبضه ولئلا يقع في نفس البائع عليك حرج إذا كسبت أنت في هذه السلعة. إذاً: واضح الآن أن تحريم بيع السلعة قبل القبض أمر محكم وأدلته واضحة.

لكن إذا رهن هذه العين قبل أن يقبضها فبقاء السلعة هذا الوقت القصير في يد البائع لا يتعارض مع الرهن لأن الرهن مؤجل. - الدين مؤجل - وبالتأكيد خلال هذه الفترة ستنتقل العين من يد البائع إلى يد المشتري فتصبح رهناً يجوز بيعه. ولهذا نقول: الراجح إن شاء الله القول الثاني. * * مسألة/ علم من قوله: (لا يجوز بيع المكيل والموزون) انه على القول الراجح لا يجوز رهن كل ما لا يجوز بيعه قبل القبض هذا عند الحنابلة ولا نقصر الحكم على المكيل والموزون. ونحن لن ندخل في هذه المسألة لأنه تقدم معنا الخلاف في الأشياء التي تحتاج إلى استيفاء وقبض والأشياء التي لا تحتاج فتنزل ذلك الخلاف على هذه المسألة. * * المسألة الثانية/ علم من هذا الخلاف كله أنه لا حرج مطلقاً في رهن أو حبس المبيع على ثمنه وغيره بعد القبض - فبعد القبض لا إشكال. وبلا تفصيل - يجوز بلا تفصيل - حتى قال المرداوي في الإنصاف: يجوز بعد القبض بلا نزاع. يعني: في المذهب. إذاًَ عرفنا الآن حكم حبس المبيع على ثمنه: بعد القبض وقبل القبض. - بعد القبض: يجوز بلا نزاع وبلا تفصيل. - وقبل القبض: يجوز على التفصيل والخلاف الذي ذكرته لك. - ثم قال - رحمه الله -: - وما لا يجوز بيعه: لا يصح رهنه. وفي الحقيقة هذه العبارة مستفادة من العبارة الأولى: أن كل ما يجوز بيعه يجوز رهنه. لكن المؤلف - رحمه الله - أراد أن يبين الحكم صريحاً حتى يكون أوضح للقاريء. (فكل ما لا يجوز بيعه لا يجوز رهنه). الأشياء التي لا يجوز أن تباع ينبغي أن تكون معلومة لك من خلال: شروط البيع. فإذا فهم الإنسان شروط البيع عرف جميع الأعيان اتي لا يجوز أن تباع. - فالكلب مثلاً: لا يجوز أن يرهن. - آلات المعازف: لا يجوز أن ترهن. - أم الولد: لا يجوز أن ترهن. فكل ما لا يجوز أن يباع لا يجوز أن يرهن. التعليل: - قالوا: أن ما لا يجوز أن يباع لا تتحقق حكمة الرهن منه. لأن المراد استيفاء القرض من ثمنه وهذا لا يباع. فكيف سنستوفي من ثمنه. وهذا أمر واضح ودليله واضح. - ثم قال - رحمه الله -: - إلاّ الثمرة والزرع الأخضر قبل بدو صلاحهما، بدون شرط القطع.

تقدم معنا أن الفقهاء جميعاً إذا قرروا حكماً أعقبوه بالاستثناء. فهذا يستثنى من الحكم السابق العام .. ((الأذان)). استثنى الحنابلة من الحكم السابق وهو عدم جواز رهن ما لا يجوز بيعه: الثمرة والزرع الأخضر قبل بدو الصلاح: لا يجوز أن يباعا. ومع ذلك جوز الحنابلة أن يجعلا رهناً. مع العلم أنه لا يجوز أن يباع. واستدلوا على هذا بأمرين: - الأمر الأول: أن النهي عن بيع الثمرة قبل بدو صلاحها إنما هو خشية إصابة العاهة والعيوب. وهذا الأمر مفقود في مسألتنا فلا نخشى إصابة العاهة ولا إصابته العاهة فإنه لا يضر في مسألة الرهن. - الثاني: قالوا: أنه إذا أصيبت اثمار والحبوب قبل بدو صلاحها بعاهة وأصبحت غير صالحة للبيع لم يخسر المرتهن شيئاً لأن الرهن بقي في ذمة الراهن. ولم يسقط منه شيء. فلا جهالة ولا غرر ولا ضرر على المرتهن ولهذا صححوا هذا العقد. واستثناء الثمرة قبل بدو صلاحها والزرع قبل أن يشتد: استثنء صحيح. لأنه في الحقيقة لا يتعارض مع الحكمة من الرهن. ولأن عادة وقت الرهن الأجل طويل فبإمكانه أن يتبين من صلاحية الثمرة للبيع أو عدمه. وأما قول المؤلف - رحمه الله -: (بدون شرط القطع). فلا يريد أنه إذا كان مع شرط القطع فلا يجوز. بل معنى العبارة: حتى ولو بدون شرط القطع. أما مع شرط القطع فيجوز رهنه بالإجماع. لماذا؟ لأنه يجوز أن يباع. ولذلك لو قال المؤلف - رحمه الله -: (ولو بدون شرط القطع) لكان أوضح. - ثم قال - رحمه الله -: - ولا يلزم الرهن: إلاّ بالقبض. = ذهب الجماهير إلى أن عقد الرهن لا يلزم من قبل المرتهن إلا بقبض المرتهن له. أما إذا لم يقبض المرتهن الرهن فإنه يصبح جائزاً فللراهن أن يفسخ الرهن أي ساعة شاء. وهذه المسألة غاية في الأهمية. إذاً لا يلزم الرهن إلا بقبض المرتهن له. فإن بقي بيد الراهن فالعقد جائز وليس بلازم. استدلوا على هذا: - بالآية فإن الله تعالى يقول: (فرهان مقبوضة). فنصت الآية على اشتراط القبض. ومعلوم أن قوله مقبوضة يعني: من المرتهن. واستدلوا على هذا: - بأن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما رهن الدرع عند اليهودي أقبضه إياه. فدل الكتاب والسنة على هذا الشرط.

= والقول الثاني: أنه يلزم ولو بقي في يد الراهن. واستدلوا على هذا: - بأن الغرض من الرهن يتحقق ولو بقي في يد الراهن. - وبأن الناس بحاجة إلى أن يبقى الرهن بيد الراهن وعلى هذا عملهم. نكتفي بهذا ... والله أعلم وصلى الله على نبينا محمد ....

الدرس: (23) من البيع قال شيخنا حفظه الله: بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين. إن شاء الله في آخر الدرس سنشرح قوله - رحمه الله -: (بدين ثابت) لأن بعض الإخوة لم يفهم معنى هذه العبارة من المؤلف - رحمه الله -. - يقول - رحمه الله -: - ولا يلزم الرهن: إلاّ بالقبض. تكلمنا بالأمس عن هذه المسألة وذكرنا وجهة نظر الجماهير وأدلتهم. = والقول الثاني في هذه المسألة: أن الرهن يلزم بالعقد. ولا ينفسخ إلا بإذن المرتهن بمجرد العقد ولو لم يقبض. واستدل هؤلاء على هذا الحكم: - بقياس عقد الرهن على عقد البيع. فإن عقد البيع يلزم بالعقد ولو لم يقبض. كما تقدم معنا. إذا تم العقد في البيع لزم ولزم البائع أن يسلم السلعة والمشتري أن يسلم الثمن. ولو لم يكن هناك قبض فقاسوا عقد الرهن على عقد البيع. واستدلوا على ذلك أيضاً: - بأن عمل الناس على هذا فإنهم يرهنون أمتعتهم وتبقى في أيديهم. وتقدم معنا بالأمس أن الأثر الأهم لهذه المسألة هو: أن الرهن قبل القبض عند الجماهير غير لازم. ومعنى: (غير لازم) أن للراهن أن يفسخ الرهن ويجوز له أن يلغي هذا العقد باعتبار أنه لم يقبض: أي: أن الرهن لم يقبض إلى الآن. هذه المسألة فيها إشكال: وشيخ الإسلام يرى رجحان قول الجماهير فهو يقول: أن الفائدة من الرهن لا تتحقق على الوجه المطلوب إلا إذا انتقل الرهن إلى يد المرتهن ليتمكن من استيفاء الحق بعد عجز المدين عن السداد. وما ذكره - رحمه الله - قوي. وكذلك أصحاب القول الثاني يستدلون بأن عمل النس على بقاء الرهن بيد [الراهن] وبقاء انتفاعه به.

ففي الحقيقة في المسألة نوع من الإشكال بالنسبة لي ولا يظهر لي رجحان قول من الأقوال رجحاناً بيناً إلا أن هذه المسألة والحاجة إليها خفت في زماننا هذا. فبإمكاننا أن نرجح القول الثاني الذي يجعل الرهن لازماً بمجرد العقد. لماذا؟ لأنه في هذه الأيام أصبح التوثيق في الأوراق فبمجرد ما يختم على الصك أصبح مرهونا بقي البيت في يد المدين أو لم يبق انتقل أو لم ينتقل وبمجرد ما ترهن السيارة تصبح مرهونة أين ما كانت السيارة في يد الدائن أو المدين وبهذا صارت فائدة قليلة بالنسبة لوقتنا هذا. وإذا أمكن توثيق الدين بلا انتقال العين إلى المرتهن يعني مع بقاء العين في يد الراهن وانتفاعه منها فهذا لاشك أرجح لأنه يتحقق الاستيثاق من الرهن ويتحقق أيضاً بقاء الرهن في يد الراهن: يعني: المدين. ولذلك نحن نقول: الراجح إن شاء الله في وقتنا هذا القول الثاني. أما من حيث أصل المسألة بدون النظر إلى ملابسات الواقع المعاصر ففيها إشكال وقول الجمهور وجيه وهو أرجح عندي لكن كما قلت لكم رجحانه ليس رجحاناً بيناً. - ثم قال - رحمه الله -: - واستدامته شرط. يعني: من شروط اللزوم استدامت القبض. - لأنهم قالوا: نقيس الاستدامة على الابتداء فإذا كان الابتداء لابد فيه من القبض فالاستدامة لابد فيها من القبض. وبه علمت أن هذه المسألة مبنية على المسألة السابقة. فما ترجح في تلك المسألة فرجحه في هذه المسألة. - ثم قال - رحمه الله -: - فإن أخرجه إلى الراهن باختياره: زال لزومه. (فإن أخرجه) يعني: فإن أخرج المرتهن الرهن إلى الراهن باختياره زال لزومه. - لأن علة اللزوم عند الحنابلة القبض فإذا زال القبض باختيار المرتهن زال اللزوم تبعاً له. وبعد ذلك يجوز للراهن أن يفسخ العقد وأن يتصرف في العين المرهونة كيف شاء. وعلكنا من قول المؤلف - رحمه الله - هنا: (باختياره) أنه لو زال الرهن بغير اختياره فإنه يبقى لازماً ولا ينفك ولو زال عن يد المرتهن فهي عين مرهونة.

وعلنا من قول المؤلف - رحمه الله -: (فإن زال الرهن باختيار المرتهن) أن هذا الزوال عام سواء كان زوال بإرجاع العين إلى الراهن أو بتأجير العين إلى الراهن أو بإعارة العين إلى الراهن أياً كانت صورة الإرجاع ما دامت باختيار المرتهن فإن الرهن يصبح غير لازم. ولا يخفى عليك أيضاً أن هذه المسألة مبنية على مسألة القبض. ولهذا قلت لك في الدرس السابق أن مسألة متى يلزم الرهن: مسألة مهمة من جهتين: - من جهة ما يترتب عليها من مسائل. - ومن جهة الواقع وحاجة الناس إليها. - ثم قال - رحمه الله -: - فإن رده إليه: عاد لزومه إليه. يعني: فإن رد الراهن العين إلى المرتهن عاد اللزوم. والتعليل: - هو ذات التعليل السابق وهو أنه يلزم من القبض اللزوم ويلزم من عدم القبض عدم اللزوم عند الحنابلة. فإذاً تعليل هذه المسألة هو عكس تعليل المسألة السابقة. فعاد اللزوم لوجود القبض. - ثم قال - رحمه الله -: - ولا ينفذ تصرف واحد منهما فيه: بغير إذن الآخر. يقول - رحمه الله - أنه لا ينفذ تصرف واحد منهما بغير إذن الآخر. المقصودبـ: (بواحد منهما). الراهن والمرتهن. والمقصود بـ: (التصرف). أي: أي تصرف مالي كأن يؤجر العين. فالمؤلف - رحمه الله - يشترط لتصرف أي منهما بالعيم رضا اجميع فإذا رضي الراهن ولم يرض المرتهن لم يجز التصرف وأصبح ملغياً وإذا رضي المرتهن ولم يرض الراهن فكذلك. ـ أما اشتراط رضا الراهن فمعلوم لأن الراهن هو المالك وليس لأحد أن ستصرف في ملك غيره إلا بإذنه وإن كانت مرهونة فهي مازالت في ملك الراهن فلابد من إذن الراهن. ـ أما اشتراط رضا المرتهن فلأجل أن لا يضيع حقه بتصرف الراهن. هذا هو: = مذهب الحنابلة. فإن لم يرض أحدهما أو لم يرض كلاهما بقي الرهن معطلاً فلابد للتصرف فيه من رضا الاثنين. = والقول الثاني: هو أنه يجوز أن يستصرف الراهن خاصة ولو لم يرض المرتهن بشرط أن لا يؤدي تصرف الراهن إلى إنقاض مالية العين بما يضر بالدين. فما دام سيتصرف تصرفاً لا يضر بالعين المرهونة ولا ينقص من قيمتها المالية فإنه يجوز له أن يتصرف ولو لم يأذن المرتهن. والتعليل: ظاهر:

- لأن هذه العين ملك للراهن وهذا التصرف لا يؤدي إلى الإخلال بحق المرتهن فلأي شيء نمنع. المثال الذي يوضح المسألة/ إذا كان الرهن بيتاً يؤجر فقام المرتهن بتأجيره بمبلغ مائة ألف ريال. وهذا التأجير لا يخل أو لا يضر بمالية البيت مطلقاً. فإذا كان الدين مائة ألف وقيمة البيت خمسمائة ألف وأجره بمائة ألف فإن هذا الأجار مهما كان لن يخفض قيمة البيت بل إنه في وقتنا هذا إذا كان البيت مؤجراً فإن هذا من أسباب ارتفاع قيمة البيت. ففي هذه الصورة عند الحنابلة لا يجوز أن يؤجر ولو لم يضر بالمرتهن. وعلى القول الثاني: يجوز أن يؤجر ولا ننظر لإذن المرتهن. وهذا القول الثاني كما قلت لكم هو الصواب. المثال العكس/ أن يؤجر هذا البيت تأجيراً ينقص من مالية العين. مثل/ أن يؤجر السيارة لشخص يسير بها في طرق سيئة وهو لا يحسن القيادة. فهذا لاشك ينقص من مالية السيارة. ولذلك من الأشياء التي يسأل عنها من أراد أن يشتري سيارة من هو الذي كانم يستعمل هذه السيارة؟ فإن كان إنساناً يعرف بحسن القيادة والهدوء صار هذا من أسباب زيادة مالية وقيمة السيارة وإن كان العكس: كان العكس. فمثل هذه الصورة لا نسمح للراهن أن يؤجر السيارة بهذه الصفة التي تسبب نقص مالية العين. وكما ترى هذا القول وجيه وهو إن شاء اله الراجح والمتوافق مع مقاصد الشرع. - ثم قال - رحمه الله -: - إلاّ عتق الراهن: فإنه يصح مع الإثم. وتؤخذ قيمته رهناً مكانه. استثنى المؤلف - رحمه الله - من الحكم العام وهو المنع من التصرف إلا بإذن الاثنين: العتق. فإذا قام الراهن بعتق العبد الذي وضع رهناً. فالحكم: = عند الحنابلة: أن العتق صحيح مع التحريم. فالراهن آثم والعتق صحيح. ـ أما التحريم: - فلأنه اعتدي على حق المرتهن. ـ وأما التصحيح: - فلأن الشارع سبحانه وتعالى متشوف للعتق. - ولأن العتق فيه سراية وتغليب مما يدل على قوة هذا الحكم. لأنه إذا اتصف العقد بالسراية والتغليب صار دليلاً على قوة الحكم. ومعنى: (السراية) أنه لو أعتق بعضه عتق كله. ومعنى: (التغليب) أنه لو أعتق عبداً ولم يحدد باسم ولا وصف عتق جميع العبيد. فهذا من باب التغليب والأول من باب السراية.

وإذا صححنا العتق فإن قيمة العبد تكون مكان العبد فنلزم الراهن الذي أعتق العبد بأن يسلم المرتهن قيمة هذا العبد لتكون رهناً بدل هذا العبد الذي أعتق. هذا هو مذهب الحنابلة وتفصيل المذهب ودليل المذهب. =والقول الثاني: أن العتق لا يقع في هذه الصورة وهو محرم وباطل. - لأن في العتق في هذه الصورة اعتداء على حق المرتهن والشارع الحكيم متشوف إلى العتق الذي ليس فيه اعتداء فنبطل العتق ويبقى العبد مرهوناً ولو أعتقه السيد ويصبح من التصرفات اللاغية. وهذا الثاني هو القول الصحيح إن شاء الله. - قال - رحمه الله -: - ونماء الرهن وكسبه وأرش الجناية عليه: ملحق به. نماء الرهن وكسبه وأرش الجناية ملحق بالرهن. ومعنى أنه ملحق بالرهن يعني: أنه يبقى مع الرهن ويباع مع الرهن. - لأنه متفرع عن أصل مرهون فتبعه في الحكم. هذا هو مذهب الحنابلة. واعلم قبل أن نذكر القول الثاني: أن نماء الرهن المتصل به تبع للرهن: بالإجماع. لأنه لا يمكن أن ينفك عن الرهن. مثال النماء المتصل/ السمن. أو تعلم صنعة. أو تعلم علم محمود. فمثل هذه الأشياء لا يمكن أن تنفك عن الرهن فهي تبع للرهن بالإجماع. إذاً: القول الثاني ينحصر في النماء المنفصل. عرفنا أن مذهب الحنابلة والجماهير أن النماء المنفصل تبع للعين المرهونة للتعليل السابق. = القول الثاني: أن النماء المنفصل ليس تبعاً للعين المرهونة بل يرجع للراهن. وهذا مذهب الإمام الشافعي. ودليل هذا القول: - أن المرتهن رضي بعين الرهن رهناً بلا زيادة. - وأيضاً نماء هذه العين هو في الحقيقة ملك للراهن لأن العين هي أيضاً ملك للراهن. والأصل أن ملك الإنسان له أن يتصرف فيه بماء يشاء وإنما منعنا التصرف في العين المرهونة لأنها مرهونة. القول الأول: مذهب الجماهير وعليه العمل في كثير من البلدان. القول الثاني هو مذهب الشافعي وهو فيما يظهر لي أرجح من مذهب الجمهور وومن نصره ابن المنذر - رحمه الله - فإنه يرى أن النماء المنفصل ليس تبعاً للعين.

وهذا الذي يظهر لي أن النماء المنفصل ليس تبعاً للعين المرهونة لأنه ملك للراهن ولا يوجد دليل يمنع الراهن من أن ينتفع بهذا النماء المتصل وأما الاستيثاق من الدين فهو حصل بالعين المرهونة. يستثنى من هذا صورة واحدة: إذا كان هذا النماء المنفصل يؤدي إلى مالية العين المرهونة ففي هذه الصورة لاشك ان النماء المنفصل ينبغي أن يبقى مع العين حتى تكون العين مع نمائها المتصل كافية في سداد الدين. فإذا رهن شاة حاملة وفي أثناء الرهن ولدت هذه الشاة وهذه الولادة سببت ضرراً للشاة - أي ضرر جسماني - أدى هذا الضرر إلى نقصان مالية هذه الشاة. فنقول: هذا الولد الذي ولدته الشاة تبع لها لأن الشاة أصبحت لا تفي بالدين. أما فيما عدا هذه الصورة فالراجح مذهب الشافعية واختيار ابن المنذر ومن أبرز أمثلته الأجار فالأجار الآن لا يضر بالعين كما تقدم معنا. فإذا أجر البيت المرهون فالأجار ليس تبعاً للبيت ولا يحبس كما يحبس البيت وإنما هو من حقوق الراهن على القول الصحيح ينتفع بع كيف شاء. - قال - رحمه الله -: - وكسبه وأرش الجناية عليه: ملحق به. كسبه وأرش الجناية عليه هو والمسألة السابقة واحد: النماء والكسب والأرش مسألة واحدة والخلاف الذي ذكرت ينطبق على الجميع. - ثم قال - رحمه الله -: - ومؤونته على الراهن وكفنه وأُجرة مخزنه. = ذهب الجماهير إلى أن النفقة والمؤونة التي تصرف على العين المرهونة تحتسب على الراهن هو الذي ينفق على العين المرهونة. واستدلوا على هذا: - بأن هذه العين المرهونة ملك للراهن والأصل أنه يجب على الإنسان أن ينفق على ملكه. واستدلوا أيضاً: - بقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: (لا يغلق الرهن من راهنه له غنمه وعليه غرمه) والحديث كما ترى نص في المسألة. لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: (عليه غرمه). فكل النفقات التي تترتب على بقاء الرهن عند المرتهن الذي يقوم بدفعها هو الراهن الأكل والشرب والسكن والكسوة والتخزين وكل ما يتعلق بهذه الأمور إنما هو على الراهن.

هذا الحديث المهم في باب الرهن محل خلاف بين الأئمة: فذهب بعض الأئمة إلى أنه معلول بالإرسال وأنه لا يثبت مرفوعاً إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - وممن ذهب إلى هذا الإمام أبو داود وابن القطان والدارقطني وغيرهم من أئمة المسلمين. وذهب بعض الأئمة إلى أنه يثبت مرفوعاً متصلاً إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - وممن ذهب إلى هذا من الأئمة عدا المتأخرين الإمام الدارقطني. فأنت تلاحظ أن الدارقطني تارة يرى أنه موصول وتارة يرى أنه مرسل. فاختلف قوله - رحمه الله - في هذا الحديث. أما قوله الذي هو بالإعلال فذكره في العلل. وأما الحكم عليه بالصحة والاتصال فذكره في السنن فقد عقب هذا الحديث بقوله إسناد جيد متصل ومن المعلوم لكل طالب علم: أن كلام الإمام الدراقطني في العلل أمتن وأعمق وأهم من كلامه في السنن لأن العلل مخصص للكلام على الطرق والأسانيد والعلل وأما السنن فهو مخصص لجمع الأحاديث. وقيل مخصص لجمع الأحاديث الضعيفة كأنه أراد أن يجمع الأحاديث الضعيفة. وأياً كان فكلامه في العلل الذي يتوافق مع كلام الحافظ أبي داود وغيره هو الصحيح وهو مقدم على كلامه في السنن. وهذا الحديث وإن كان مرسلاً إلا أنه يصلح للاستدلال وما زال أهل العلم يستدلون به ويستشهدون به لأنه مرسل وتعضده النصوص وتعضده فتاوى الصحابة. - قال - رحمه الله -: - وهو أمانة في يد المرتهن، إن تلف من غير تعد منه: فلا شيء عليه. الرهن أمانة في يد المرتهن. وقول المؤلف - رحمه الله - هنا: (إن تلف من غير تعد منه فلا شيء عليه) هذا ثمرة كون العين أمانة. فالحكم الآن: أن الرهن أمانة في يد المرتهن لا يضمنه إلا إذا تعدى أو فرط. وهذا مذهب الجماهير. واستدلوا على هذا بأمور: - الأمر الأول: أن رفع الضمان عن المرتهن إذا تلفت العين بغير تعد ولا تفريط مروي عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب - رضي الله عنه -. - الثاني: الحديث الذي تقدم معنا وفيه قوله - صلى الله عليه وسلم -: (وعليه غرمه).

= القول الثاني: أنه إذا تلفت العين في عين المرتهن فهي من ضمان المرتهن لكن بأدنى القيمتين من قيمته أو قدر الدين. (القول الثاني أنه إذا تلف فهو من ضمان المرتهن لكن بشرط أن يضمن بأدنى القيمتين من قيمته أو قدر الدين). واستدلوا على هذا بأمرين: - الأمر الأول: أن هذا مروي عن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -. - الثاني: استدلوا بمرسل لعطاء - رضي الله عنه - أن رجلاً رهن عند رجل فرساً فنفقت فجاء إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: (ذهب دينك) فجعل الدين في مقابل الرهن الذي تلف. = القول الثالث: أن العين إذا تلفت عند المرتهن فهي مضمونة مطلقاً ولو كانت بأكثر من الدين. وهذا من عجائب الأقوال في الحقيقة. فأصحاب هذا القول يضمنون المرتهن قيمة الرهن التالف ولو كانت القيمة أكثر من الدين. فبموت الرهن الذي قيمته أكثر من الدين انقلبت الآية فأصبح المدين دائناً والدائن مديناً. مع العلم أن هذا الرجل لم يأخذ هذه العين إلا لاستيثاق الدين فصار الاستيثاق وسيلة لوقوع المرتهن في دين آخر. وهذا من وجهة نظري غاية في الضعف والبعد عن أصول الشرع وعن المنطق. كيف نجعل المرتهن الذي أخذ العين رهناً لإيفاء الدين ينقلب إلى مدين ونحن نتكلم الآن كما تعلمون عن التلف الذي بغير تعد ولا تفريط. لأن تلف العين مع التعدي والتفريط عند المرتهن هي من ضمان المرتهن بالإجماع لأنه تعدى وفرط. فالخلاف الذي سمعت كله فيما إذا تلفت العين بغير ولا تفريط. والراجح والله أعلم القول الأول وأنه لا ضمان مطلقاً لا بقيمة الدين ولا بأقل ولا بأكثر. أولاً: لأن هذا الحديث المرسل الذي تقدم معنا صالح للاحتجاج كما قلت لك. ثانياً: لأ الآثار عن الصحابة مختلفة فرأي علي - رضي الله عنه - يختلف عن رأي عمر بن الخطاب إن صح عن عمر - رضي الله عنه -. وأخشى أن عمر - رضي الله عنه - أفتى في قضية معينة لها ملابسات معينة. أما أن هذا يكون رأياً من أمير المؤمنين عمر فمن وجهة نظري أنه بعيد. على كل حال هو ينسب إلى عمر - رضي الله عنه -.

وثالثاً: أن أثر عطاء هذا مرسل ومراسيل عطاء ضعيفة. أضف إلى هذا كله أن عطاء كان يفتي بخلاف هذا الأثر الذي يرويه وهذا مما يوهن الأثر. فالراجح والله أعلم مذهب الحنابلة وهو القول الأول. - قال - رحمه الله -: - ولا يسقط بهلاكه: شيء من دينه. هذا قول مفرع على المسألة السابقة. فإذا اعتمدنا أن المرتهن لا يضمن فغنه لا يسقط من دينه شيء ولو تلف الرهن ويكون كله من ضمان الراهن. ودليل ذلك: - أن الدين ما زال باقياً في ذمة الراهن ولو تلفت العين المرهونة. فإذاً لا يسقط منه شيء مطلقاً وإنما يبقى كما هو ويرجع يطالب الراهن بدينه مرة أخرى. وهذا معنى: (لا يسقط بهلاكه شيء من دينه) وهو كما قلت مفرع على المسألة السابقة. - ثم قال - رحمه الله -: - وإن تلف بعضه: فباقيه رهن بجميع الدين. (وإن تلف بعضه) يعني: وإن تلف بعض الرهن فباقيه رهن بالدين. وهذا بلا نزاع وهو معلوم لأنه إذا كانت العين كاملة رهناً فإذا تلف بعضها فبقاء ما بقي منها في حكم الرهن من باب أولى. فإذا رهنه قطيع شياة يتكون من خمسين رأس من الغنم ومات نصف هذا القطيع فالباقي يبقى أو يرجع ينفك عنه الرهن؟ يبقى. وهذا لا إشكال فيه لكن أراد المؤلف - رحمه الله - أن يبين الحكم. - قال - رحمه الله -: - ولا ينفك بعضه مع بقاء بعض الدين. المقصود من هذه العبارة أنه إذا قام المدين بسداد بعض الدين الذي فيه رهن فإنه لا يفنك من الرهن بقدر ما قضى من الدين بل يبقى جميع الرهن كما هو رهناً على باقي الدين. واستدلوا على هذا: - بأنه جميع أجزاء الرهن مرتبطة بالدين حتى ينقضي كله فسداد بعض الدين لا يسبب انفكاك بعض أجزاء الرهن لأن جميع الأجزاء مرتبطة. وهذا عكس ما يفهمه بعض الناس أنه كلما قضى شيئاً من الدين انفك بعض الرهن بل الحكم كما سمعت. - قال - رحمه الله -: - وتجوز الزيادة فيه دون دينه. (تجوز الزيادة فيه) يعني: في الرهن. فإذا افترضنا أن زيداً اقترض من عمرو خمسين ألفاً ووضع عنده سيارة رهناً ثم أتى بسيارة أخرى لتكون مع الرهن الأول فأصبح الرهن يتكون من سيارتين وقد كان سيارة واحدة. فهذا زيادة في الرهن أو في الدين؟ هذا زيادة في الرهن.

وهو صحيح بالإجماع: لأن الحكمة التي من أجلها شرع الرهن تتأكد إذا زيد. ولذلك أجمعوا على هذا الحكم لوضوحه. - ثم قال - رحمه الله -: - وتجوز الزيادة فيه دون دينه. لا لا تجوز الزيادة في دين الرهن ولو رضي الراهن والمرتهن. صورة المسألة/ إذا اقترض زيد من عمرو ورهنه كتاباً. ثم أراد أن يقترض مائة ريال أخرى وقال: اجعل الرهن الأول رهناً للدين الأول والثاني. فهذا زيادة في الدين أو في الرهن؟ زيادة في الدين مع بقاء الرهن بدون تغيير. هذا لا يجوز: = عند الحنابلة. ويصبح الدين الثاني ديناً مرسلاً لا رهن فيه لأن الرهن الثاني باطل. استدلوا على هذا الحكم: - الدليل الأول: قالوا: إن الرهن مرتبط بكل جزء منه بالدين الأول. ولهذا فهو لا يتسع للدين الثاني. ومعلوم أن الرهن إذا كان مرتبط بكل جزء من أجزائه فكيف تشغله بدين آخر. = والقول الثاني: جواز زيادة الدين في الرهن الواحد إذا رضي المرتهن ورضي الراهن. فلابد من رضا الكرتهن ورضا الراهن. الدليل على هذا: استدلوا على هذا: - بأنه إذا أمكن كل من الراهن والمرتهن أن يرفع العقد من أصله فكيف بالزيادة فيه. الراهن والمرتهن ألا يستطيع أن يبطل الرهن من أصله فكيف بالزيادة فيه؟! نجوز لهما إبطال الرهن من أصله ولا نجوز لهما الزيادة فيه. هذا نوع من التناقض. ولذلك فالراجح هو القول الثاني. واليوم الناس عملهم على هذا - أقصد عمل الناس لا الحكم الشرعي - لا سيما إذا كان الرهن يفي بالدين الأول وبالدين الثاني فحينئذ لا إشكال مطلقاً. - قال - رحمه الله -: - وإن رهن عند اثنين شيئاً فوفى أحدهما. صورة المسألة/ إذا استدان من رجلين وجعل عندهما رهناً واحداً ثم قضى أحدهما دون الآخر انفك في نصيبه. فإذا استدان عمرو من زيد وخالد ورهن زيد وخالد عيناً واحدة ثم قضى خالد انفك الرهن في نصيبه. التعليل: - أن العقد مع خالد والعقد مع زيد كل منهما يعتبر عقداً منفرداً فإذا قضى دينه انفك في نصيبه. - قال - رحمه الله -: - أو رهناه شيئاً فاستوفى من أحدهما: انفك في نصيبه.

صورة المسألة/ إذا استدان رجلان من شخص واحد ورهناه عيناً مشتركة بينهما. فإذا كان عمرو وزيد يملكان جميعاً سيارة واحدة واقترضا من خالد ورهناه هذه السيارة التي هي ملك لهما فإذا قضاه أحدهما انفك في نصيبه. فإذا قضاه زيد ولم يقضه عمرو انفك في نصيبه أو قضاه عمرو ولم يقضه زيد انفك في نصيبه. والتعليل هو ذات التعليل السابق: - أنا ننزل الرهن كأنه عقدين منفصلين فينفك العقد الأول دون العقد الثاني. - قال - رحمه الله -: - ومتى حل الدين وامتنع من وفائه، فإن كان الراهن أذن للمرتهن أو العدل في بيعه: باعه ووفى الدين. إذا حل الدين وجب على المدين أن يقضي سواء وثق الدين برهن أو لم يوثق. فإن أخر فهو آثم ومماطل وظالم فيجب عليه أن يبادر بسداد الدين. فإن لم يسدد الدين فإن كان أذن للمرتهن ببيع العين فإن المرتهن يقوم ببيع العين مباشرة وسداد الدين بثمنها. والمؤلف - رحمه الله - يريد بهذه العبارة أن المرتهن لا يحتاج إلى تجديد إذن آخر بل الإذن الأول في البيع عند حلول الأجل وعد السداد كافي في البيع حينئذ فيقوم المرتهن بالبيع مباشرة. تعليل هذا الحكم: - أن هذا هو المقصود من الرهن وهو استيفاء الدين. ونحن نقول أن هذا الحكم إنما هو فيما إذا لم يسدد المدين الدين الذي عليه بعد حلول الأجل فحينئذ يقوم المرتهن بالبيع ويسدد. هذا إذا كان الراهن أذن للمرتهن بالبيع بأن قال له إذا حل الأجل ولم أسدد فبع العين التي هي مرهونة وخذ دينك منها حينئذ يبيع مباشرة. - قال - رحمه الله -: - وإلاّ أجبره الحاكم على وفائه أو بيع الرهن. هو في الحقيقة من حيث النضيد وصف الجمل كان ينبغي أن تكون عبارة: (أو بيع الرهن) في نفس السطر الذي فيه: (وإلا أجبره الحكم). فالمعنى: (إلا أجبره الحاكم على وفائه أو بيع الرهن). إذا لم يأذن الراهن للمرتهن ببيع الرهن فإنه لا يجوز للمرتهن أن يبيع الدين ولو لم يف ولو لم يقض المدين الدين. لكن حينئذ يجب على الحاكم إما أن يتولى إجبار المدين على السداد أو إجباره على بيع العين. تعليل هذا:

- أن الحاكم منوط به إرجاع حقوق الناس إليهم وهنا تعلقت الحقوق وبقيت بلا سداد فوجب عليه أن يقوم بواجبه وهو سداد أو إيفاء الحقوق إلى أصحابها. هذا هو التعليل. - ثم قال - رحمه الله -: - فإن لم يفعل: باعه الحاكم ووفى دينه. فإن لم يفعل أي لم يسدد الدين ولم يبع العين المرهونة قام الحاكم ببيع العين وسداد الدائن دينه. تعليل هذا: - أن هذا الحق وجب على المدين ولم يقم وكل حق لم يقم به صاحبه قام به الحاكم يعني: من الحقوق الواجبة التي تتعلق بالأموال. وهذه قاعدة: كل حق واجب وواجب مالي امتنع صاحبه عن القيام به وجب على الحاكم أن يقوم به. أما الحقوق غير المالية فهذه لها أحكام أخرى. فبر الوالدين: واجب. لكنه ليس من الواجبات المالية فلا يقوم الحاكم مقام العاق في بر الوالدين. لكن إما أن يعزره .. المهم بحث آخر والذي يعنينا الآن الحقوق المالية. وبهذا انتهى الفصل الأول من باب الرهن وننتقل إلى الفصل الثاني. فصل [فيمن يكون الرهن عنده] - قال - رحمه الله -: - ويكون عند من اتفقا عليه. إذا اتفق كل من الراهن والمرتهن على دفع العين إلى رجل عدل: جاز. وصار هذا الرجل العدل وكيلاً عن المرتهن أو الراهن؟ سؤال يبين جواب هذه: العين عند الحنابلة يجب أن تكون عند من؟ عند: المرتهن فالذي يقبضها هو وكيل المرتهن أو الراهن؟ وكيل المرتهن وليس وكيلاً عن الراهن. الراهن مالك فلا أحد وكيلاً عنه. لكن هون وكيل عن المرتهن لأن الحنابلة يفتضون أن العين يجب أن تكون عند المرتهن فالعدل هو في الحقيقة وكيل عن المرتهن. فإذا ارتضى الراهن والمرتهن أن تكون بيد شخص آخر طرف ثالث عدل جاز ولا حرج لأنه يجوز للإنسان أن يوكل غيره في القبض فيجوز للمرتهن أن يوكل غيره في قبض العين المرهونة. = القول الثاني: أنه يجب أن تكون عند المرتهن ولا يجوز أن تدفع لشخص ثالث. - لقوله تعالى: (فرهان مقبوضة). والراجح القول الأول بلا تردد وليست هذه المسألة كمسألة أنه يلزم بالقبض وأنه يجب أن يكون القبض عن المرتهن بل هنا رجحان المسألة بين وواضح لأن باب الوكالة مشروع وإذا وكل المرتهن شخصاً آخر رضي به الراهن فأي حرج بهذه المسألة. - قال - رحمه الله -:

- وإن أذن له في البيع: لم يبع إلاّ بنقد البلد. يعني: وإن أذنا للعدل بالبيع باع. فهم من عبارة المؤلف - رحمه الله - أن العدل لا يجوز له أن يبيع إلا بإذن الراهن والمرتهن. فإن باع بدون إذنهما لا سيما الراهن فالبيع باطل. لأنه لم يخول بالبيع فتصرفه فضولي باطل. ولا نقول هذا التصرف الفضولي يصح إذا أذن المرتهن أو الراهن. لماذا؟ لأنا نفترض المسألة إذا لم يأذن الراهن ولا المرتهن. - ثم قال - رحمه الله -: - لم يبع إلا بنقد البلد. إذا أذن للعدل فإنه لا يجوز له أن يبيع إلا بنقد البلد خاصة دون نقد غيره من البلاد. علل الحنابلة هذا: - بأن الحظ الأوفر للدائن يكون بذلك. أي: بأن يبيع بنقد البلد. فإن كان في البلد أكثر من جنس تتداول جميعاً في وقت واحد. فجيب أن يبيع بجنس الدين. وإن كان جنس الدين لا يوجد في البلد فيجب أن يبيع بالأصلح. هكذا قرر العلماء هذا الحكم وأنه يجب أن يبيع بنقد البلد. وعللوا ذلك: - بأنه أنفع وأحظ للمدين تبعاً لذلك للدائن. أقول أنا: أن تعليل الحنابلة وغيرهم من الفهاء بأن هذا الحكم إنما وجب لأنه أحظ ينبغي أن ينبني على هذا أن نقول: إذا كان غير نقد البلد أحظ فلا بأس أن يبيع به. وهذا لم يقل به الحنابلة كأنهم يفترضون دائماً أن نقد البلد أحظ للدائن والمدين ولكن اليوم قد يكون نقد غير البلد في بعض الأوقات أحظ للدائن والمدين. وانطلاقاً من تعليل الفقهاء له أن يبيع بغير نقد البلد وليس للراهن أن يعترض ولا للمرتهن أن يعترض على هذا العدل إذا باع. فإذا افترضنا أنه إذا باع البيت بالريال السعودي كانت قيمة البيت: مائة ألف. وإذا باع بالدولار: ثم قام ببيع الدولار بعد ذلك: صارت قيمة البيت: مائة وخمسين ألفا. فالأحظ الآن بنقد البلد أو بغير نقد البلد؟ بغير نقد البلد. فانطلاقاً من تعليلهم نقول لك أن تبيع بغير نقد البلد إذا استوثقت أن غير نقد البلد أصلح. - ثم قال - رحمه الله -: - وإن قبض الثمن فتلف في يده: فمن ضمان الراهن. إذا قبض هذا العدل الثمن ثم تلف في يده من غير تعد ولا تفريط فهو من ضمان الراهن. لماذا؟ - قالوا: لأن هذه العين الملك للراهن ولا علاقة للمرتهن بها مطلقاً والضمان دائماً تبع للملك.

واستدلوا أيضاً: - بقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: (وعليه غرمه). = القول الثاني: أنه إذا تلف أي الثمن في يد العدل فهو من ضمان المرتهن. واستدلوا على هذا: - أن البيع إنما تم لمصلحة المرتهن فالبيع إنما هو لسداد الدين الذي هو للمرتهن. لذلك نقول الضمان عليك أيها المرتهن. ما تقولون في هذا القول؟ في الشرع الضمان لازم للوكالة: هل هناك علاقو بين الوكالة والضمان؟ ليس هناك أي علاقة بين الضمان والوكالة إنما العلاقة بين الملك والضمان. أنا أقول: أن هذا القول غاية في السقوط من وجهة نظري والضعف. لماذا؟ - كيف نلزم المرتهن بضمان قيمة المبيع ولا علاقة له بالأمر مطلقاً ولم يتعد ولم يفرط العدل. نعم المرتهن أذن للعدل أن يبيع لكن مع ذلك أذن له الراهن. ثم هذه العين المرهونة ملك للراهن. أي علاقة بين المرتهن وبين الضمان في مثل هذه الصورة. فهو قول بعيد جداً لهذه الأسباب التي ذكرت لك. ولذلك نقول: مذهب الجماهير من فقهاء المسلمين أن الضمان على الراهن هو القول الصحيح والمتوافق إن شاء الله مع العدل. - قال - رحمه الله -: - وإن ادعى دفع الثمن إلى المرتهن فأنكره ولا بينة، ولم يكن بحضور الراهن: ضمن كوكيل. إذا ادعى أنه سلم المال إلى المرتهن يعني: قيمة العين المبيعة وهي الرهن ولكن بلا شروط ولا قرائن تدل على صدق قوله وأنكر المرتهن فهو من ضمانه يعني: فهو من ضمان المرتهن ولا العدل؟ الآن عدل باع السلعة وقبض الثمن وادعى أنه أقبض المرتهن لكن لم يشهد ولا توجد بينة تدل على أنه أقبض المرتهن والمرتهن أنكر فالضمان على العدل. لماذا؟ - لأنه فرط في حفظ حقه. - ولأن الأصل أن القول قول المنكر. فالقول هنا قول المرتهن لأن هذا العدل مفرط. يقول - رحمه الله - هنا: (كوكيل). يعني: وهذا الحكم نفسه في الوكيل. فإذا سلم الوكيل الدين إلى الدائن ولم يشهد ولا توجد دلائل ولا قرائن تدل على صدقه فهو الضامن. فإذا أعطى زيد عمرو مال وقال: وكلتك أن تؤدي هذا المال إلى خالد الذي هو الدائن وأقبضه بلا إشهاد ولا بينة ثم أنكر خالد وهو الدائن فالضمان هنا على من؟ على الموكل. يعني: على الوكيل. لماذا؟ - لأنه فرط ولم يستوثق في التسليم.

وهذا صحيح وهذا قد يقع كثيراً. على الأقل الدائن قد ينسى أنه أخذ القرض نسياناً لا إنكاراً للحق فحينئذ نقول: يجب أن تقوم بسداد الدين يعني: الموكل والعدل لأنك فرطت في حفظ حقك. - قال - رحمه الله -: - وإن شرط أن لا يبيعه إذا حلّ الدين، أو إن جاءه بحقه في وقت كذا وإلاّ فالرهن له: لم يصح الشرط وحده. ـ وإن شرط أن لا يبيعه إذا حل الدين: فالشرط باطل والرهن صحيح. الشرط باطل: لماذا؟ - لأنه ينافي مقتضى العقد والغرض الذي من أجله شرع فإن الغرض من الرهن سداد الدين فإذا شرط أن يسدد الدين منه صار الشرط باطلاً والعقد صحيحاً. هذه الصورة الأولى. - ثم قال - رحمه الله -: - أو إن جاءه بحقه وقت كذا وإلا فالرهن له. فالشرط باطل والعقد صحيح. يعني: عقد الرهن. صورة المسألة: قال له: إن سددت لك الدين في يوم كذا وكذا وإلا فالرهن لك. هذه الصورة الشرط باطل والعقد صحيح. ونقوم بييع الرهن وسداد الدين ولا يملك المرتهن هذا الرهن؟ لماذا؟ - قال الحنابلة: لأن الإمام أحمد فسر قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: (لا يغلق الرهن من صاحبه) بهذه الصورة. بأن يقول إنسان للدائن: إن قضيتك وإلا فالرهن لك. فهذال دليل بطلان الشرط. وأما دليل صحة العقد: - فلأن النبي - صلى الله عليه وسلم - أبطل الشرط بقوله: (لا يغلق الرهن من صاحبه) ولم يبطل الرهن. لأنه قال: (له غنمه وعليه غرمه). فأبقى العقد صحيحاً وأبطل الشرط. فنحن كذلك نبطل الشرط ونبقي العقد. = القول الثاني: أن هذه الصورة صحيحة ومشروعة ونافذة وتصبح العين ملكاً للمرتهن بمجرد حلول الأجل. قال أصحاب هذا القول: والإمام أحمد - رحمه الله - نفسه عمل هذه المعاملة فإنه وضع رهناً وقال لصاحب الدكان: إن جئتك وإلا فهي لك ... ((الأذان)). فالقول الثاني صحة هذا العقد وأن الإمام أحمد - رحمه الله - عمل به. واستدلوا على هذا: - بأن الأصل في المعاملات الحل. - وبأن هذا الشرط لا ينافي مقتضى الرهن بل يحقق مقتضى الرهن. وأجابوا عن الحديث: بأن حملوا الحديث على ما إذا لم يشترط أما إذا اشترط فلا بأس فحملوا الحديث على هذا المعنى.

وهذا القول الثاني هو الصواب إن شاء الله ولا ضرر على الراهن لأن الراهن إذا رأى أن قيمة الرهن تفوق قيمة الدين فسيبادر بأخذ الرهن وبيعه وسداد الدائن أو أن يسدد الدائن من ماله ويأخذ العين التي هي مرهونة لأن ثمنها أكبر من ثمن الدين. - ثم قال - رحمه الله -: - ويقبل قول راهن: في قدر الدين والرهن ورده. يقبل قول الرهن في قول الدين. أي: الذي ارتبط به الرهن. فإذا قال الراهن: أعطيتك هذا الرهن بألف ريال وقال المرتهن بل أعطيتني هذا الرهن بألفي ريال فالقول قول من؟ الراهن. فيكون الرهن مرتبط بالألف فقط. لماذا؟ - لأن الراهن منكر للزيادة فالأصل عدم ارتباطه بالرهن. لأن الأصل عدم الرهن أو وجود الرهن؟ عدم الرهن. فإذا كان الأصل عدمه فالأصل أيضاً عدمه فيما لم يقر به الراهن. = والقول الثاني في هذه المسألة: أن القول قول المرتهن بشرط أن لا يدعي ديناً أكثر من قيمة الرهن. واستدلوا على هذا: - بأن الرهن إنما يقصد منه الاستيثاق من الدين وأن يقوم مقام الشهود والكتابة. ولهذا يجب أن يؤدي الغرض منه بشمول جميع الدين. لأنهم في هذه الصورة لم يختلفوا في الدين وإنما اختلفوا في القدر الذي ربط بالرهن من الدين. وفي الحقيقة يبدو لي رجحان القول الأول: لأن معهم أصلاً قوياً وهو أن الأصل عدم وقوع الرهن وعدم ارتباطه بهذا الدين. وينبني على المسألة ثمرة كبيرة فإذا صار مرتبطاً بالدين الفلاني وبدين آخر مختلف فيه: فعند الحنابلة إذا سدد الدين الأول انفك الرهن. وعلى القول الثاني: لا ينفك الرهن حتى يسدد جميع الدين. فيترتب على هذا الخلاف بقاء أو انفكاك الرهن. - ثم قال - رحمه الله -: - والرهن. يعني: إذا اختلفوا في العين المرهونة فقال المرتهن رهنتني هذا البيت بل رهنتط هذه السيارة فقالول قول من؟ الراهن. - لأن الأصل عدم الرهن. فنقر ما يقره الراهن فقط. وهذا صحيح. لأن جانب الراهن في هذه المسألة قوي ويستثنى من هذا إذا دلت القرائن والملابسات أنه لا يمكن أن يكون قول الراهن صحيح. مثال ذلك/ أن يكون الدين يبلغ مليون ريال فيقول الراهن رهنتك هذا الكتاب ويقول المرتهن بل رهنتني هذا البيت. هل يمكن أن يقبل المرتهن بكتاب مقابل مليون ريال؟

هذه صورة واضحة وعلى القاضي إذا حصل خلاف أن يراعي الملابسات وما يحتف به من قرائن. - قال - رحمه الله -: - ورده. ويقبل قول الراهن في الرد. فإذا قال الراهن لم ترد إلي الرهن وقال المرتهن بل رددت الرهن إليك فالقول قول من؟ قول الراهن. - لأن الأصل عدم الرد. فنلزم المرتهن بأن يأتي بالعين محل الرهن إذا أنكر الراهن أنه قبلها وقبضها. وبهذه المسأل نختم درس اليوم ... والله أعلم وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه ....

الدرس: (24) من البيع قال شيخنا حفظه الله: بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين. - قال - رحمه الله -: - وكونه عصيراً لا خمراً. يعني: ويقبل قول الراهن في كونه عصيراً لا خمراً. والمقصود بهذه المسألة: إذا اشترط الدائن رهناً معيناً وهو العصير فقال أقرضك على أن ترهنني هذا العصير ثم لما قبض المرتهن العصير رجع إلى الراهن وقال: العصير خمر وليس بعصير. فالقول في هذه المسألة: فول الراهن. وعلل الحنابلة بذلك: - بأنه ينبني على قول المرتهن فساد العقد وينبني على قول الراهن صحة العقد والأصل في العقود الشرعية الصحة ولذلك غلبنا قول من قوله يصحح العقد. وهو في هذه الصورة من؟ الراهن. - ثم قال - رحمه الله -: - وإن أقر أنه ملك غيره .... : قبل على نفسه. إذا أقر الراهن أن هذه العين المرهونة هي في الواقع ملك لغيره. لغير من؟ لغير الراهن. كأن يزعم أنه باعها أو وهبها أو أهداها فهو الآن أقر بأن العين ليست ملكاً له. فالحكم: = عند الحنابلة: أنه يقبل قوله في حق نفسه لا في حق المرتهن. فنقول هذه العين أصبحت من أملاك المقر له هذا بالنسبة للراهنلكن لا يقبل إقراره في حق المرتهن وينبني على عدم القبول أن تبقى العين رهناً ثم إذا انفك الرهن رجع إلى الراهن أو إلى المقر له؟ رجعت العين إلى المقر له.

إذاً هذا معنى قول المؤلف - رحمه الله -: (قبل على نفسه دون المرتهن). أي: أنه تصبح العين ملك للمقر له ولكن يتبقى رهناً في يد المرتهن إلى أن يسدد القرض وينفك الرهن. * * مسألة/ تفرض نفسها: وهي ما إذا لم يسدد ثم باع المرتهن الرهن فما الحكم؟ الحكم: أنه يلزم الراهن أن يعطي المقر له قيمة هذه العين. ولاشك أنك تلحظ الآن أن الشارع الحكيم قوى جانب المرتهن وهذا من أسرار وحكم التشريع. لأن المقصود من الرهن هو توثيق حق الدائن وكل ما يتعارض مع هذا القصد فهو ملغي. وانظر كيف مكن الشارع - إذا كان هذا القول هو الراجح - كيف مكن الشارع المرتهن أن يبيع العين التي نحكم شرعاً أنها لغير الراهن. لكن مع ذلك مكنه من البيع كل ذلك لزيادة استيثاق الدائن بحقه - أي ليتمكن من الحصول على حقه. - ثم قال - رحمه الله -: - أو أنه جنى. يعني: وإذا أقر الراهن أن العبد المرهون جنى قبل على نفسه دون المرتهن. والعبد إذا جنى فإن الجناية تتعلق برقبته عند الفقهاء. ومعنى أنها تتعلق برقبته: أنه لابد أن يدفع هو للمجني عليه أو تدفع قيمته للمجني عليه. إذاً: تعلقت الجناية برقبة العبد. فإذا أقر الراهن أن هذا العبد المرهون جنى قبل في حق نفسه دون حق المرتهن كما تقدم في المسألة السابقة تماماً. فنقول: يبقى العبد تحت الرهن فإذا انفك الرهن سلم العبد لمن؟ للمجني عليه. كما قلنا في المسألة السابقة تماماً. = القول الثاني: في مسألة العبد: أن إقرار الراهن يقبل عليه وعلى المرتهن. ويدفع العبد مباشرة لصاحب الجناية. واستدلوا على هذا: - بأن إقرار الراهن الآن لا يتضمن محاولة الاحتيال. لأنه أقر بما يخرج العبد عن ملكه. فنقبل هذا الإقرار مطلقاً. والقول الراجح القول الأول. أنه كذلك في هذه الصورة تبقى عيناً مرهونة لاستيفاء المرتهن دينه منها. - قوله - رحمه الله -: - وحكم بإقراره بعد فكه. يعني: بمسألة الإقرار بانتقال الملك وفي مسألة الإقرار بجناية العبد. - ثم قال - رحمه الله -: - إلاّ أن يصدقه المرتهن. إذا صدقه المرتهن صح إقراره في حق نفسه وفي حق المرتهن وانفك الرهن وسلمت العين لصاحبها الذي أقرت له به. وتعليل ذلك:

- أن المرتهن اعترف بما يبطل الرهن فينفك بسبب اعتراف المرتهن. فصل [الانتفاع بالرهن وما يتعلق بذلك] - قال - رحمه الله -: - (فصل) وللمرتهن أن يركب ما يركب ويحلب ما يحلب: بقدر نفقته بلا إذن. = الحنابلة يرون: أن ما يركب ويحلب ينتفع منه ركوباًَ وحلباً لكن بقدر النفقة. ولتوضيح المسألة نقول/ الرهن ينقسم إلى قسمين: ـ حيوان. ـ وغيره. والحويان ينقسم إلى قسمين: مركوب. أو محلوب. وغيره. ولا يمكن أن يخرج الرهن عن هذه القسمة. هل يمكن أن يخرج؟ هل يوجد قسم غير هذه الأقسام؟ لا يوجد. لأنا نقول حيوان أو غيره وغيره هذه شملت كل شيء. نبدأ بالقسم الأول: ـ الحيوان المركوب المحلوب وهو مسألتنا التي ذكرها المؤلف - رحمه الله -: فهذه المسألة: = ذهب الحنابلة فيها إلى أنه له أن يركب ويحلب بالنفقة. ومعنى: بالنفقة: أي بمقدار النفقة. فإذا أخذنا الركوب مثلاً: فنقول: إذا أنفقت فلتركب بما يساوي أجرته مائة. فإن زادت النفقة على الركوب رجع المرتهن على الراهن. وإن زاد الركوب على النفقة رجع الراهن على المرتهن. هذا معنى قول الحنابلة: (بنفقته). وهذه المسألة من المفردات انفرد بها الحنابلة عن مذهب الأئمة الثلاثة. استدل الحنابلة: - بقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: (الرهن يركب بنفقته ويشرب بنفقته) وعلى الذي يركب ويشرب النفقة. وهذا الحديث صحيح ثابت. والإمام أحمد - رحمه الله - أخذ بهذا الحديث الثابت واستدل به كما هو شأنه - رحمه الله - الاستدلال بالأحاديث الصحيحة ولو خالف الجمهور. = القول الثاني: للجماهير. أنه لا يجوز أن ينتفع بالرهن مطلقاً ولو أنفق. واستدلوا على هذا بدليلين: - الأول: أن الرهن ملك للراهن فلا نمكن المرتهن من الانتفاع بملك غيره. واستدلوا: - بقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: (له غنمه وعليه غرمه). والمقصود بالحديث: الرهن. والجواب على هذا الحديث: أن هذا الحديث وهذا التعليل صحيح ونحن نوافق عليه لكنه عام ودليلنا خاص والخاص دائماً مقدم العام. فهذه أدلة صحيحة إلا في هذه المسألة التي فيها نص صريح ظاهر معناه لا إشكال فيه.

ولهذا نحن نقول أجاد الحنابلة في هذه المسألة ووفقوا إلى اتباع النص الصحيح إن شاء الله وقولهم هو الراجح. ـ القسم الثاني: الحيوان الذي لا يركب ولا يحلب. مثل: الغزال. - الحنابلة مثلوا بالعبد والأمة لأن الإنسان عند الفقهاء هو حيوان ناطق فلا يجوز أن تقول للإنسان حيوان مطلقاً لكن يجوز أن تقول حيوان ناطق. فإن قلت حيوان مطلقاً وجب عليك تعزير وإن قلت حيوان ناطق فلا شيء عليك لأن كلامك صحيح. لكن يوجد هناك مثال ظهر لي: وهو: ذكر الماعز. يركب؟ لا. يحلب؟ لا. يؤكل؟ هذا لا يعنينا وكما قلت ربما يمثل بالغزال. فهذا القسم: = عند الحنابلة: ( .... غير واضح) لا ينتفع منه مطلقاً. والأدلة التي استدل بها على أنه لا ينتفع به مطلقاً هي الأدلة السابقة التي استدل بها أصحاب القول الثاني. ـ القسم الأخير: ما عدا الحيوان مما ليس له مؤونة كالبيوت والأراضي والسيارات ونحوها. فهذه أيضاً لا يجوز للمرتهن أن ينتفع منها بأي شيء. وأيضاً: الدليل على ذلك: الأدلة السابقة. من الخلاف السابق يتضح لنا أن الحنابلة يخصصون الحكم فقط بما يركب ويحلب فقط خاص جداً. أي عين لا تركب ولا تحلب فإن الحكم لا يتناولها - صرحوا بهذا أنه حكم خاص بهذه الأعيان التي تركب أو تحلب. ويظهر لي أنا والله أعلم بعد تأمل هذه المسألة وتأمل النص الوارد فيها أن الحكم ينبغي أن يربط بالنفقة فكل ما تنفق عليه يجوز لك أن تنتفع به وكل ما لا تنفق عليه لا يجوز أن تنتفع به. هذا ما يظهر لي تأمل النص لأن النص علل بالنفقة. فلو قيل بهذا القول فهو في الحقيقة متوجه جداً وأما ذكر الركوب والحلب في الحديث فلأنها غالب الانتفاعات في الهد النبوي. ولأن ما عداها غالباً لا يحتاج إلى نفقة. لكن إذا تصورنا أن هناك عين مرهونة تحتاج إلى نفقو فإنه للمرتهن إذا أنفق أن ينتفع وهذا يتوافق مع تعليل النص. - ثم قال - رحمه الله -: - بلا إذن. يعني: أن هذا الحكم السابق وهو انتفاع المرتهن بالرهن المركوب والمحلوب يجوز بلا إذن ومقصودهم بلا إذن أي سواء تمكن المرتهن من أخذ الإذن من الراهن أو لم يتمكن. وسواء تمكن من أخذ النفقة أو لم يتمكن. وسواء بذل الراهن النفقة أو لم يبذل النفقة.

في جميع الصور للمرتهن أن ينتفع من الرهن الذي يركب ويحلب بعد أن يدفع نفقته فهذا هون معنى قول المؤلف - رحمه الله -: (بلا إذن). - قال - رحمه الله -: - وإن أنفق على الرهن بغير إذن الراهن مع إمكانه: لم يرجع. إذا أنفق المرتهن على الراهن بغير إذن الراهن فإنه لا يرجع. ويكون من المتبرعين. والمسألة تنقسم إلى أقسام: ـ القسم الأول: أن ينفق بنية الرجوع مع استئذان الراهن. فهذا لا إشكال أنه يرجع. ـ القسم الثاني: أن ينفق بغير نية الرجوع يعني: بنية التبرع. فهذا لا إشكال أنه لا يرجع. ـ القسم الثالث: وهو مسألتنا التي ذكرها المؤلف - رحمه الله -:أن يتوي الرجوع ولكن لا يستأذن. = فالحنابلة يرون أنه في هذه الصورة الثالثة أنه لا يرجع على الراهن بما أنفق. - لأنه لم يستأذن وهو بذلك فرط وإذا فرط فهو يتحمل تبعت هذا التفريط. وكا ينبغي عليه أن يستأذن قبل أن ينفق على هذه العين المرهونة. = القول الثاني: في هذه المسألة/ أن له أن يرجع إذا نوى الرجوع ولو لم يستأذن من الراهن إذا لم يمكنه الاستئذان. وكذلك إذا أمكنه. مطلقاً. بخلاف قول المؤلف - رحمه الله - إذا لم يمكنه. واستدل أصحاب هذا القول: - بأن الله تعالى أمر بإيتاء المرضعة أجرها ولم يشترط إذن المرتضع يعني: والد الطفل. بل أمر تعالى بأنه إذا حصل الرضاع حصلت الأجرة ولم يتطرق لقضية الإذن. ... هذا من الكتاب. واستدلوا من الأثر: - بأن جماعة من التجار في عهد أمير المؤمنين عمر - رضي الله عنه - اشتروا جماعة من الأسارى فأمر أمير المؤمنين بأن يفك الأسارى وأن يعطى التجار حقوقهم وأموالهم. ففي هذه الصورة لم يستأذن التجار ومع ذلك رد أمير المؤمنين إليهم ما أنفقوه. وإلى هذا ذهب شيخ الإسلام وابن القيم وقعدوا لهذه المسائل جميعاً قاعدة واحدة وهي: (أن كل من أدى عن غيره واجباً جاز له الرجوع).ىفهي قاعدة مريحة لطالب العلم. والنفقة هنا واجبة لأنه يجب أن يحافظ على حياة المنفق عليه. وكذلك افتكاك الأسير واجب على المسلم - واجب وجوباً متحتماً. فإذا فك أسيراً فإنه له أن يرجع على الأسير بما افتكه به لأنه أدى عن غيره واجباً. قاعدة. المهم أن كل كل من أدى عن غيره واجباً فله أن يرجع عليه به.

المؤلف - رحمه الله - يقول: (بغير إذن الراهن مع إمكانه). ومفهوم هذه العبارة: وهي: (مع إمكانه) صرح به في العبارة الثانية: - بقوله - رحمه الله -: - وإن تعذر: رجع ولو لم يستأذن الحاكم. (وإن تعذر) يعني وإن لم يمكن أن يستأذن (رجع ولو لم يستأذن الحاكم). إذا لم يمكن للمرتهن أن يسأذن من الراهن فحينئذ له أن يرجع على الراهن عند الحنابلة أيضاً: لأنه لم يتمكن من الرجوع. وله أن يرجع (ولو لم يستأذن الحاكم): لأنه عمل عملاً فيه إرفاق بالراهن فليس من العدل منعه من النفقة. وأما إذا لم يتمكن من استئذان الراهن ولكنه استأذن الحاكم فله الرجوع بالإجماع. إذاً: الخلاف فيما إذا لم يستأذن الحاكم. - قال - رحمه الله -: - وكذا وديعة ودواب مستأجرة هرب ربها. يعني: وكذا إذا أنفق على وديعة أو على دواب مستأجرة هرب ربها فله الرجوع. - لأنه إذا هرب ربها فلن يتمكن من الاستئذان. فله أن يرجع بما أنفق كالمسألة السابقة تماماً. فإن استأذن من الحاكم رجع بالإجماع وإن لم يستأذن رجع عند الحنابلة وهو القول الصحيح. - قال - رحمه الله -: - ولو خرب الرهن فعمره بلا إذن: رجع بآلته فقط. معنى كلام المؤلف - رحمه الله -: أن المرتهن إذا قام بإلاح الرهن وعمارة الرهن بلا إذن فإنه لا يرجع على الراهن مطلقاً. وهذا رواية واحدة عن الإمام أحمد لم يختلفوا عنه في هذا الحكم. لماذا؟ - لأن عمارة الرهن من جهة لا تجب على الراهن ومن جهة أخرى ليست من النفقات الواجبة لأن الرهن لو بقي بلا عمارة لن يهلك كما في الحيوانات. ونحن نقول أن الإنسان يتحمل عن غيره ما أداه إذا كان واجباً وهنا هذا ليس من الواجبات. ولذلك نقول: ليس له أن يرجع على الراهن بقيمة عمارة الرهن لأن هذا العمل ليس بواجب على الرهن. = والقول الثاني: أن له الرجوع مطلقاً. - لأن عمارة الرهن من مصالح الرهن ومما يزيد من الإستيثاق من أداء الدين. ب = والقول الثالث: أنه يرجع إذا كان ترك الرهن بلا عمارة ينقص ماليته عن وفاء الدين.

باب الضمان

فإذا خرب الرهن وصارت قيمته بعد الخراب خمسين ألف ريال والدين مائة ألف ريال. فعلى هذا القول للمرتهن أن يعمر هذا الرهن إلى أن تبلغ قيمته مائة ألف ريال حسب الدين المذكور في المثال وله أن يرجع بما قام به على الراهن في هذه الصورة فقط. وهذا القول مال إليه الحافظ بن رجب وأيضاً قواه وجوده المرداوي في الإنصاف وهو كما ترى من القوة بمكان. قول قوي ووجيه جداً. فنحن نسمح للمرتهن أن يعمر (ال .. ) في هذه الصورة فقط. لكن في الحقيقة يجب فيما يبدو لي في مسألة تعمير الرهن أن يستأذن الحاكم وأن يكون هذا التعمير بإشراف الحاكم. لماذا؟ - لأن التعمير يتفاوت تفاوتاً كبيراً من حيث مواد البناء والأيدي العاملة وقيمة هذه الأشياء فربما يحصل نزاع كبير بين المرتهن والراهن في كيفية تعمير الرهن. فالواجب أن يكون هذا تحت مظلة القاضي حتى يحكم بحكم متوسط مناسب لا فيه شطط على الراهن ولا نقص بالنسبة للمرتهن. قوله - رحمه الله -: (رجع بآلته فقط) يعني رجع بأعيان آلته فقط كالخشب والحديد الذي وضعه في هذا التعمير. أما ما عداه من المواد كالطين والبلوك والاسمنت والماء فإنه لا يرجع بها. هذا على مذهب الحنابلة. إذاً الحنابلة لا يرجع مطلقاً إلا بهذه الأشياء. وعلى القول الثالث يرجع بما صرف إذا تحقق الشرط الذي ذكرناه في القول الثالث. أما القول الثاني فهو ضعيف جداً. لأنه لا معنى لتسليط المرتهن على بناء الرهن وتكليف الراهن أموال ونفقات البناء وكل ذلك ليس له علاقة بالاستيثاق من الدين. وبهذا انتهينا من باب الرهن وننتقل بعون إلى باب الضمان. باب الضمان - قال - رحمه الله -: - باب الضمان. الضمان مشتق في لغة العرب من الضم. لأن ذمة الضامن تضم إلى ذمة المضمون عنه في الوفاء بالدين. وقيل مشتق من التضمين. لأن الدين ضمن في ذمة الضامن. وأما في الاصطلاح: فهو التزام جائز التصرف ما وجب على غيره في ذمته. مع بقائه في ذمة المضمون عنه. هذه عبارة ذكرها بعضهم وهي توضح وإن كانت مفهومة. من المعلوم أن الدين لم ينتقل من ذمة إلى ذمة وإنما اشتركت ذمتان في تحمله.

إذاً: عرفنا الآن معنى الضمان. الضمان هو: أن يتحمل الإنسان في ذمته ما على غيره من المال وتصبح ذمة الضامن والمضمون عنه مشغولة بالدين. والضمان مشروع ولله الحمد بالكتاب والسنة والإجماع وحاجة الناس إليه ماسة. ـ أما الكتاب فقوله: (ولمن جاء به حمل بعير وأنا به زعيم). والزعيم هو الغارم كما قال ابن عباس. ـ وأما من السنة فما صح في البخاري وله ألفاظ في السنن والمسانيد أن رجلاً مات في عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - فغسلوه وكفنوه وأتوا به النبي - صلى الله عليه وسلم - ليصلي عليه فقام ليصلي عليه فلما هم بالصلاة قال هل عليه من دين قالوا: نعم. قال - صلى الله عليه وسلم -: صلوا على صاحبكم. فقام أبو قتادة وقال: الدين علي يا رسول الله. فقام النبي - صلى الله عليه وسلم - وصلى. وله ألفاظ كثيرة في السنة. لكن هذا اللفظ الذي ذكرت هو أقرب الألفاز إلى لفظ الإمام البخاري إذ ليس فيه زيادات وإنما فيه فقط أن أبا قتادة تحمل الدين في ذمته. ـ وأما الإجماع فأجمعوا في الجملة على مشروعية الضمان. - يقول المؤلف - رحمه الله -: - لا يصح إلاّ من جائز التصرف. يعني: الضمان من العقود التي لا تصح إلا من جائز التصرف. وعلة ذلك: - أنه من جملة التبرعات المالية والتبرعات المالية لا تصح إلا من جائز التصرف. ولهذا نقول ليس لغير المكلف أن يضمن ديناً لأحد مطلقاً وضمانه باطل. - ثم قال - رحمه الله -: - ولرب الحق: مطالبة من شاء منهما في الحياة. (لرب الحق) يعني: الدائن. أن يطالب الضامن أو المضمون عنه. هو بالخيار ويستطيع أن يطالب الضامن مع إمكانية مطالبة المضمون عنه. واستدل الحنابلة على هذا الحكم: - بحديث وتعليل. ـ أما الحديث: فقوله - صلى الله عليه وسلم -: (الزعيم غارم) هذا الحديث إسناده جيد إن شاء الله. ـ وأما التعليل فقالوا: أن حقيقة الضمان إشغال ذمة الضامن والمضمون عنه بالدين وإذا كانت ذمته مشغولة بالدين جازت مطالبته. = والقول الثاني: أنه لا يجوز أن نطالب الضامن مع إمكانية مطالبة المضمون عنه. واستدلوا على هذا:

- بأن المقصود من الضمان لا إشغال ذمة الضمان في الحقيقة وإنما توثقة الدين. وإذا كان المقصود توثقة الدين فإنه بناء على ذلك لا يجوز أن يطالب الضامن مع إمكانية مطالبة المضمون عنه. واستدلوا على هذا أيضاً: - بأن الضامن محسن ومتبرع وليس من المناسب أن نجازي المحسن بمطالبته وإشغاله. وهذا القول هو الصحيح إن شاء الله ومال إليه ابن القيم وهو كما ترى قوي ووجيه. فلا يجوز للدائن أن يطالب - على هذا القول - يحرم عليه أن يطالب الضامن مع إمكانية مطالبة المضمون عنه. وأما عند الحنابلة فله أن يطالب من شاء منهما. ومن المعلوم الآن أن عمل الناس على عدم مطالبة الضامن إذا أمكنه أن يطالب المضمون عنه - معلوم هذا - كما أنه من مكارم الأخلاق ومحاسن الأعمال أن لا يطالب الضامن المتبرع المحسن مع إمكانية مطالبة المضمون عنه. - قال - رحمه الله -: - والموت. يعني: أنه يجوز أن يطال بالدين في الحياة وبعد الممات وله أن يطالب الضامن والمضمون عنه. والمضمون عنه هو: المدين الأصلي. واستدلوا على هذا: - بالأدلة السابقة. = والقول الثاني: أن الضامن إذا ضمن ميتاً فإن الدائن ليس له أن يطالب إلا الحي دون الميت - يعني: إلا الضامن دون المضون عنه. ومن المعلوم أن المقصود بمطالبة الميت يعني مطالبته في التركة. واستدلوا على هذا: - بأنه في مسند الإمام أحمد في ألفاظ حديث أبي قتادة أنه قال - صلى الله عليه وسلم -: (وبرئ منهما). يعني: الميت. فقالوا: إذا برئ الميت فإن البرئ لا يجوز أن يطالب. وفي الحقيقة لم أجد وقتاً لمراجعة إسناد الزيادة التي في مسند الإمام أحمد - رحمه الله - وإن كان يغلب على ظني أنها ضعيفة. والسبب في ذلك: أن هذه اللفظة تحمل حكماً فقهياً مهماً والغالب أن البخاري لا يدع الألفاظ المهمة مع صحتها وإنما يدعها: إما لأنها شاذة أو منكرة. لكن هذا القدر الذي ذكرت لا يكفي لتضعيف الحديث لكنه إشارة وعلامة وقرينة مع البحث في إسناده ورجاله. على كل حال لم أجد وقتاً لمراجعة هذه اللفظة ولكن يغلب على ظني أنها ضعيفة.

ولذلك أنا أرى أن الراجح القول الأول وهو مذهب الحنابلة وأنه للضامن أن يطالب من التركة بما سدده عن الميت وهذا من مكافأته على إحسانه ولا نقول للدائن ليس له أن يطالب أصحاب التركة بل نقول له أن يطالب أصحاب التركة وأما الضامن فهو ضمن الدين عن الميت إما بتحقيق مصلحة معينة مثل قصة النبي - صلى الله عليه وسلم - أو لغيرها من المصالح. المهم أنه محسن ولا نجعل إحسانه سبباً في انتقال الدين من ذمة المدين إلى ذمة الضامن بسبب أنه ضمن رجلاً ميتاً. - ثم قال - رحمه الله -: - فإن برئت ذمة المضمون عنه: برئ ذمة الضامن. هذا الحكم بالإجماع. إذا برئت ذمة المضمون عنه وهو المدين الأصلي برئت ذمة الضامن بلا إشكال. وأما التعليل الفقهي لهذا فهو: - أن الضامن فرع عن أصل فإذا برئ الأصل أيضاً برئ الفرع. وهذا صحيح ولا يستقل الفرع بحكم. - ثم قال - رحمه الله -: - لا عكسه. فإذا برئت ذمة الضامن لم تبرأ ذمة المضمون عنه. لماذا؟ - لأنه إذا سقط الفرع فإنه لا يلزم من ذلك سقوط الأصل. هذا من حيث التعليل. - ولأن ذمة المدين ما زالت مشغولة لأن الدين لم يقض. وأما لاصورة براءة الضامن/ فهي الصورة القريبة: أن يقول الدائن سامحتك في الضمان وأسقطته عنك. لأن الضمان من حقوق: الدائن. والإنسان له أن يسقط حقه. فإذا أسقط حقه عن الضامن فيبقى الدين في ذمة المدين الذي هو المضمون عنه. وهذا معنى قول المؤلف - رحمه الله -: (لا عكسه). - ثم قال - رحمه الله -: - ولا تعتبر معرفة الضامن للمضمون عنه. - وهذا مذهب الجماهير: فللإنسان أن يضمن شخصاً لا يعرفه مطلقاً ولا يعرف أمانته ولا سداده ولا يعرف عنه أي شيء. وضمانه صحيح ومعتبر شرعاً وتصبح ذمته مشغولة بالدين كما أن ذمة المدين مشغولة بالدين. واستدل الجمهور على هذا: - بأنه في حديث أبي قتادة لم يذكر أنه - رضي الله عنه - كان يعرف الميت لأن الميت جاء ملفوفاً ولم يذكر في الحديث أنه - رضي الله عنه - كان يعرف هذا الميت. وضمنه وأقر النبي - صلى الله عليه وسلم - ضمانه. = والقول الثاني: أنه لا بد من معرفة المضمون عنه - يعني: لابد أن يعرف الضامن الضمون عنه ليرى إن كان أهلاً للضمان أو لا.

أي القولين أليق بحقيقة الضمان؟ ـ القول: ( .. الأول) لأنه تبرع. لأن هذا العقد من عقود التبرعات وطبيعة عقود التبرعات لا يلزم فيها معرفة المتبرَعْ له. لأنه تبرع. فإذاً: قول الجماهير في هذه المسألة هو الصحيح. * * مسألة/ لا يشترط رضا المضمون عنه بالإجماع. فإذا قال شخص: أنا ضمنت فلان فليس له أن يقول: لا أسمح لك أن تضمن لي. فليس له ذلك: بالإجماع: لأن في هذا الضمان توثقة دين بلا مضرة ولا عتب على المدين. وهنا لا نجد الفقهاء يذكرون مسألة: المنة. لم يذكروا مسألة المنة. إما لأنهم لا يرون أن في الضمان منة أو لم يتبين لي لماذا لم يذكروا مسألة المنة في هذه المسألة - في مسألة أنه لا يشترط رضا المضمون عنه. - ثم قال - رحمه الله -: - ولا له. يعني: ولا يشترط معرفة المضمون له. وحديث أبي قتادة - رضي الله عنه - في الدلالة على عدم معرفة المضمون له أقوى أو في الدلالة على عدم معرفة المضمون عنه؟ ـ يظهر لي: له. لأنه لم يذكر من هو الدائن مطلقاًَ في الحديث بينما ربما يكون أبو قتادة يعرف هذا الميت باعتبار أن المدينة صغيرة والأموات فيها يعرفون لكن أن لا يعرف من المضمون له فهذا أقوى في الحديث. وهذا أيضاً مذهب الجماهير. = والقول الثاني: أن معرفة المضمون له شرط. وتعليل ذلك: - أنه لن يتمكن من الوفاء إلا إذا عرف المضمون له. والراجح القول الأول. فنقول: إذا أجري عقد الضمان وهو لا يعرف الآن المضمون له فالعقد صحيح. ثم بعد ذلك يبحث عن المضمون له. لكن بالعقد عند إنشائه صحيح ولازم وتام وأصبحت ذمته مشغولة. - ثم قال - رحمه الله -: - بل رضى الضامن. الضامن متبرع ونحن نقول أنه لا يمكن أن نأخذ مال امرئ مسلم إلا بطيب نفس منه فلابد لنأخذ الضمان أو لنوجب الضمان على شخص أن يرضى. وأنتم تعلمون أن الضمان من العقود التي تؤول للمال. ما معنى تؤول للمال؟ يعني: إذا لم يتمكن الضمون عنه من السداد من الذي سيسدد؟ الضامن. فإذاً: هو يؤول لمال. فلابد من رضا الضامن وهذا أيضاً محل إجماع. - ثم قال - رحمه الله -: - ويصح ضمان المجهول: إذا آل إلى العلم. وهنا نرى أن الحنابلة توسعوا في الضمان: لا يعرف الضمون عنه ولا المضمون له ولا المضمون.

إذاً: لا يشترط أن يكون المضمون معلوماً بل يجوز أن تضمن ديناً مجهولاً. واستدلوا على هذا - الجماهير: - بالآية: (ولمن جاء به حمل بعير) وحمل البعير مجهول. ووجه الجهالة: أن حمل البعير يختلف باختلاف البعير. فبعضها تحمل حملاً كثيراً وبعضها تحمل حملاً قليلاً. إذاً: حمل البعير يختلف باختلاف البعير والإبل تختلف اختلافاً كثيراً. فدلت الآية على أنه لا يشترط أن يكون معلوماً. لكن اشترط الحنابلة: أن يؤول إلى علم. بأن يسأل عن قدر الدين بعد ذلك. بأن يتمكن الضامن من معرفة قدر الدين. أما أن يضمن ديناً ((لن) (لم)) يتمكن من معرفته فهذا لا يجوز وهو في صميم الغرر والجهالة. لكن إذا تمكن بعد ذلك من معرفته فهو جائز. ومن المعلوم أن غالب الديون يتمكن الإنسان من معرفتها بعد إجراء عقد الضمان. = والقول الثاني: أنه لا يجوز ضمان المجهول مطلقاً. - لأن ضمان المجهول فيه غرر وجهالة ويفضي إلى النزاع والاختلاف إذا تبين أن الدين قيمته مرتفعة. - ولأن الضامن قد يضمن ديناً هو لا يستطيع سداده. - الضامن نفسه لا يستطيع سداده. والراجح: في الحقيقة فيه إشكال. أصحاب القول الأول معهم الآية والآية ظاهرة في الجهالة. فعلاً حمل البعير غير معلوم مطلقاً ولا نقول: إن جهالته يسيرة لا سيما في القديم لأنه قد يحمل آصع كثيرة وقد يحمل آصع قليلة. من جهة أخرى من حيث الواقع العملي: إقرار الضمان بالمجهولات أمر يفضي غالباً إلى الشقاق والنزاع الكثير. ولكن ولله الحمد قد لا نحتاج إلى الترجيح كثيراً في هذه المسألة لأنه قلَّ أن يضمن شخص ديناً لا يعرفه. - ثم قال - رحمه الله -: - والعواري والمغصوب والمقبوض بسوم. هذه الأعيان الثلاثة يجمعها وصف واحد وهي التي يسميها الفقهاء الأعيان المضمونة. ولذلك كان من الأنسب فيما أرى أن يقول المؤلف - رحمه الله -: (ويضح ضمان الأعيان المضمونة) حتى يشمل ما ذكره وغيره. فإذا هذه الأشياء تسمى الأعيان المضمونة ويصح أن يضمن الإنسان الأعيان المضمونة. فإذا ضمن الأعيان المضمونة فهو بالخيار: إما أن يحضر العين أو يحضر قيمة العين إذا تلفت. لكن نحتاج إلى أن نقف مع الأعيان المضمونة التي مثل بها المؤلف - رحمه الله -:

المثال الأول/ (العواري). العارية مضمونة مطلقاً عند الحنابلة. ولهذا صح أن يمثل بها المؤلف. وصح أن تسمى من الأعيان المضمونة. وستأتينا هذه المسألة وهي: هل العارية مضمونة مطلقاً أو بالتعدي والتفريط؟ في باب العارية وسيخصص المؤلف - رحمه الله - باباً كاملاً لأحكام العارية. / وقوله - رحمه الله -: (والمغصوب). المغصوب: مضمون مطلقاً. وسيخصص المؤلف - رحمه الله - باباً للغصب وهو من أهم الكتب لا سيما في وقتنا هذا - سيأتينا الكلام لماذا هو مهم؟ المهم أن المغصوب مضمون مطلقاً: وهذا بالإجماع. وستأتينا المسألة في باب الغصب. / وقوله - رحمه الله -: (والمقبوض بسوم) المقبوض بسوم أطلق المؤلف - رحمه الله - أنه من الأعيان المضمونة وهو في الحقيقة فيه تفصيل حتى عند الحنابلة. فنقول: المقبوض بسوم له ثلاثة صور: ـ الصورة الأولى: المقبوض بعد السوم والقطع بالثمن. يعني: ساومه وانتهوا إلى ثمن معين اتفقوا عليه. فإذا قبضه على هذا الأساس ليريه أهله أو ليريه من أراد ممن سيستفيد فهو مضمون عند الحنابلة. ـ الصورة الثانية: أن يقبضه بعد السوم بلا قطع للثمن - يعني: ساومه ولم ينتهوا إلى ثمن معين يتفقوا عليه. فقال: سأقبضه - لنفس الشيء - لعرضه على أهله أو على من سيشاوره في السلعة. في هذه الصورة أيضاً هو مضمون عند الحنابلة. ومعنى أنه: (مضمون) يعني: انه من الأعيان المضمونة والأعيان المضمونة هي التي تضمن ولو بلا تعد ولا تفريط. ـ الصورة الثالثة: أن يقبضه بلا سوم ولا قطع. يعني: بمجرد ما رأى السلعة وقبل أن يساومه بالثمن طلب منه أن يقبضها ليريها أهله أو من يريد أن يشاوره. ففي الصورة الثالثة: لا ضمان حتى عند الحنابلة. = والقول الثاني: في المقبوض بسوم في صوره الثلاث أنه لا يضمن مطلقاً. - أولاً: لأن هذه السلعة ما زالت في ملك البائع ولو انقطع الثمن ما دام العقد لم يتم. - ثانياً: لأن يد القابض على وجه السوم يد أمانة فهو مؤتمن على هذه العين. والمؤتمن لا يضمن إلا بالتعدي أو التفريط. بناء على هذا: إذا أخذ الإنسان سلعة داخل المحل ليقلبها وينظر فيها وسقطت من يده وانكسرت. فهل هي مضمونة عند الحنابلة؟ غير مضمونة.

لماذا؟ - لأنه لم يحصل لا سوم ولا قطع. أما إذا أخذها - وهذه الصورة تحصل كثيراً ويظن كثير من الناس أنها من ضمان المشتري لأنها سقطت من يده وهي في الحقيقة ليست من ضمان المشتري إلا إذا فرط أو تعدى. إذا دخلت أنت وأولادك إلى محل فيه زجاج فقام أحد الأطفال بكسر أحد الزجاجات فهل هي من ضمان البائع أو المشتري؟ - المشتري. لماذا؟ لأنه فرط. كذلك في الصورة الأولى: إذا أخذ الإنسان شيئاً ثميناً وصار يعبث به ويحركه يميناً وشمالاً كما يفعل بعض السفهاء ويلقيه في الهواء ثم يقبضه ثم سقط فهو من ضمان من؟ فهو من ضمان هذا المتلاعب. - ثم قال - رحمه الله -: - وعهدة المبيع. (عهدة المبيع) يقصد بها: ضمان الثمن للبائع أو المشتري. ((الأذان)). (عهدة المبيع) هو ضمان الثمن للبائع وللمشتري. أو للبائع أو المشتري. ـ فأما ضمانه للبائع: ففيما إذا تبين أن السلعة معيبة. فحينئذ يضمن الثمن للمشتري فيما إذا تبين أن السلعة معيبة. ـ وأما ضمان الثمن للبائع فهو فيما إذا لم يقبضه أو قبضه وتبين أنه مغشوش فإذاً عهدة المبيع تتصور بالنسبة للبائع وأيضاً بالنسبة للمشتري وهي تتعلق كما قال الفقهاء بالثمن. - قال - رحمه الله -: - لا ضمان الأمانات بل التعدي فيها. أي: لا يجوز ولا يصح ضمان الأمانات. بل يضمن التعدي فيها. فلا يجوز ولا يصح أن نضمن الأمانات. - لأن الأمانة في الوضع الشرعي غير مضمونة على صاحبها الأصلي وهو الذي وضع يده عليها فكيف تكون مضمونة للضامن الفرعي إذا كانت ليست مضمونة على الأصل فكيف تكون مضمونة على الفرع. ولذلك نقول: لا يصح الضمان ولا يلزم منه أن يؤدي الامن شيئاً للمضمون عنه لأنه فاسد شرعاً. يقول - رحمه الله -: (بل التعدي) يعني: بل يجوز أن يضمن التعدي في الأمانات. فإذا قال: أنا أضمن فلان أنه إن تعدى في هذه الأمانة فأنا ضامن قيمة هذا الذي تعدى عليه. فهذا صحيح لأن التعدي في الأمانات يوجب انشغال الذمة بقيمة الذي تعدى عليه فصح حينئذ أن يضمن. إذاً: الأمانات لا يجوز أن تضمن هي بنفسها لكن يضمن التعدي. فصل - قال - رحمه الله -: - (فصل) وتصح الكفالة.

تميز فقهاء الحنابلة بأنهم فرقوا بين الكفالة والضمان وأما في غالب المذاهب الفقهية فالضمان والكفالة شيء واحد لكن الحنابلة فرقوا بينهما. وجعلوا الضمان يتعلق بالذمة المالية والكفالة تتعلق ببدن المدين. لذلك نحن نقول تعريف الكفالة عند الحنابلة: هي التزام الرشيد إحضار بدن من عليه دين أو الأعيان المضمونة. يعني: يلتزم إحضار بدن من عليه دين أو إحضار الأعيان المضمونة. وهو مشروع وحكي فيه الإجماع. ودليل المشروعية: - أن حاجة الناس تمس إليه فإن كثيراً من الناس لا يريد أن يضمن ضماناً مالياً لكن تطيب نفسه بالضمان البدني. فلما صارت حاجة الناس مشتدة إليه أجازه الشارع وإذن به. ولا يوجد فيما أعلم دليل صحيح يدل على مشروعيته من الكتاب والسنة لكن جميع أدلة الضمان استدل بها الفقهاء على مشروعية الكفالة من حيث أن كلاً منهما عقد توثيق. ذاك بالمال وهذا بالبدن. - يقول - رحمه الله -: - بكل عين مضمونة. يعني: يجوز الكفالة بكل عين مضمونة. ونحن الآن تقدم معنى قريباً الأعيان المضمونة. وما هي؟ وذكر بعض الأمثلة لها. لكن هل مقصود المؤلف - رحمه الله - بقوله: الأعيان (المضمونة) أو بعبارة: (بكل عين مضمونة) يعني: ببدن كل من يده على العين المضمونة أو بالعين الضمونة نفسها. هذا فيه خلاف عند الحنابلة: = فصاحب منتهى الإرادات - كما ترون: يرى أن صواب العبارة: (ببدن من يده على العين المضمونة) وأن الكفالة لا تتعلق بنفس العين المضمونة وإنما تتعلق بالبدن. = والقول الثاني: أن عبارة المؤلف - رحمه الله - صحيحة وأن الكفالة ترد على بدن المدين وعلى الأعيان المضمونة. فإن استطاع أن يأتي بالعين المضمونة أو يأتي بثمنها إذا تلفت. وبهذا القول الثاني نعلم أن مفهوم الكفالة قربت جداً من مفهوم الضمان. وإلى هذا القول ذهب عدد من فقهاء الحنابلة وهو أن عبارة المؤلف صحيحة وأنه عليه ان يحضر الأعيان المضمونة نفسها. وهذا القول أرجح فيما أرى. وسيأتينا إن شاء الله سبب الرجحان في الدرس القادم والله أعلم .. وصلى الله على نبينا محمد ...

الدرس: (25) من البيع قال شيخنا حفظه الله: بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين. كنا في الدرس السابق أخذنا بداية الفصل المتعلق بالكفالة وتقدم معنا تعريف الكفالة وأنها التزام رشيد إحضار بدن من عليه دين أو الأعيان المضمونة. وبينا أيضاً مشروعية الكفالة. - وتوقفنا عند قول المؤلف - رحمه الله -: - بكل عين مضمونة. وقلت إن الشارح - رحمه الله - الشيخ منصور أدخل على عبارة الماتن كلمة: إحضار بدن من بيده الأعيان الضمونة. وعلل ذلك: - بأن الواجب هو إحضار بدن من عليه الأعيان الضمونة لا ذات الأعيان المضمونة وأنه يحكم بناء على هذا على عبارة المؤلف - رحمه الله - بالقصور. وقلت إن القول الثاني: أن عبارة المؤلف صحيحة ولا قصور فيها وأن الكفيل عليه أن يحضر الأعيان المضمونة ذاتها وصرح بهذا المعنى الثاني وهو أنه يحضر ذات الأعيان المضمونة لا بدن من هي بيده عدد من الحنابلة. وقال بعض الحنابلة مستدلاً لهذا القول: - أن إحضار الأعيان الضمونة أولى بالجواز والمشروعية من إحضار بدن من عليه دين. وعلل ذلك بقوله: أن إحضار بدن من عليه دين هو ذريعة للوصول للحق يعني: وسيلة - بينما الكفالة بذات الأعيان المضمونة هو في الحقيقة إحضار لذات الحق وإحضار المقصود أولى بالجواز من إحضار ذريعة المقصود. وهذا القول الثاني وهو أن قول المؤلف - رحمه الله -:: (وتصح الكفالة بكل عين مضمونة) أنه على ظاهره وأنه يكفل إحضار ذوات الأعيان المضمونة. هذا القول هو الصحيح. وكما قلت لك صرح به عدد من الحنابلة. فإن استطاع أن يحضر الأعيان المضمونة فهذا المطلوب وإلا فعليه أن يحضر قيمة هذه الأعيان المضمونة. وبذلك عرفنا أن عبارة المؤلف - رحمه الله - إن شاء الله صحيحة ولا غبار عليها وهي أقرب إلى التعليل الفقهي من حملها على البدن. وسيأتينا في نفس هذا الباب من المسائل ما يؤكد أن المعنى المقصود هو إحضار الأعيان المضمونة لابدن من بيده الأعيان المضمونة. - يقول - رحمه الله -: - وببدن من عليه دين.

يعني: وتصح وتشرع الكفالة بإحضار بدن من عليه دين. - لأن الدين حق مالي واجب فجازت الكفالة على إحضار بدن من هو عليه. قياساً على الضمان. وتقدم معنا أن كثيراً من العلماء يستدلون بأدلة الضمان على مسئل الكفالة لأن المعنى واحد إلا أن هذا يضمن المال وهذا يضمن البدن. وإحضار بدن من عليه الحق هو المقصود الأصلي للكفالة. - ثم قال - رحمه الله -: - لا حد. أي: لا تصلح ولا تشرع الكفالة بإحضار بدن من عليه حد. ـ سواء كان هذا الحد لله: كإقامة الحد على شارب الخمر. ـ أو كانت حداً لحق الآدمي: كحد القذف. الجميع لا يجوز الكفالة به. واستدل الحنابلة على هذا: - بأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: لا كفالة في حد. وهذا الحديث حديث منكر وممن حكم بنكارته الإمام الحافظ البيهقي وهو كذلك فإن في إسناده رجلاً كثير المنكرات. - ثم قال - رحمه الله -: - ولا قصاص. يعني: ولا تصح الكفالة ببدن من عليه قصاص. واستدل أيضاً الحنابلة على هذا الحكم: - بأن الكفيل إذا تخلف من عليه القصاص لن يفي بما عليه فإن الحدود لا تقام إلا على من اقترف الجريمة ... إذاً: لن ننتفع من كفالته بشيء جيث لن يقام الحد إلا على من تعدى حدود الله. وإذا كانا لن ننتفع من الكفالة بشيء فهي لا تشرع. = والقول الثاني: - في مسألة الحد والقصاص: أنه يشرع الكفالة بالحد والقصاص مطلقاً. والغرض منها هو إحضار بدن من عليه الحد والقصاص. = والقول الثالث: أن الكفالة تشرع في القصاص وفي الحد الذي هو حق الآدمي فقط دون الحد الذي هو لحق الله. والأقرب إن شاء اله المذهب أنه لا تشرع الكفالة لا بحد ولا بقصاص. - قال - رحمه الله -: - ويعتبر رضى الكفيل. يعني: ويشترط لصحة لكفالة أن يرضى الكفيل. وهذا بالاتفاق. - لأنه لا يلزم الإنسان حقاً إلا برضاه. - ولأنه لا يمكن إلزام أحد بكفالة أحد وتحمل تبعت إحضار بدنه إلا وقد رضي بذلك. ولوضوح هذه المسألة اتفقوا عليها. - قال - رحمه الله -: - لا مكفول به. في هذه العبارة مسألتان: ـ المسألة الأولى: أن بعض أهل العلم انتقد عبارة المؤلف: (لا مكفول به) وقال الكفول به هو الدين وصواب العبارة: (لا مكفول). يعني: لا يشترط رضى المكفول.

والصواب أن العبارة صحيحة ولم أقف على أحد من الحنابلة عبَّر بغير هذا التعبير فكلهم يعبر بالمكفول به. هذا من جهة. من جهة أخرى: كلمة المكفول به: صحيحة. لأن المكفول به في الواقع في الكفالة هو بدن من عليه دين لا الدين نفسه. إذاً: المكفول به: إذا تأملت فستجد أنه فعلاً هو البدن وهو المكفول. فإذاً كلمة المكفول به: تساوي كلمة المكفول والمعنى صحيح التعبيرين. وبهذا التعبير عبر كل الحنابلة. فهو تعبير صحيح من حيث النقل عن الحنابلة ومن حيث المعنى. ـ المسألة الثانية: أنه لا يشترط رضى المكفول. فإذا كفل شخص شخصاً عند آخر فالكفالة صحيحة ولو سخط المكفول. واستدلوا على هذا: - بالقياس على الضمان. = والقول الثاني: أنه يشترط رضى المكفول فإن لم يرض لم تصح الكفالة. واستدل أصحاب هذا القول على قوهم: - بأن موضوع الكفالة إحضار بدن المكفول فإذا لم يرض المكفول لن يتمكن الكافل من إحضاره فإذا لم يحضره لم يحصل المقصود. والصواب أنه لا يشترط رضاه ما دام الكافل رضي أن كفل مع علمه بعدم رضى المكفول وإلتزامه إحضاره فهذا شيء إليه وعليه إما أن يحضر المكفول أو إذا عجز - كما سيأتينا - يضمن الدين. فما دام رضي بهذا الحكم فليس للمكفول حق أن يرضى أن يسخط. - قال - رحمه الله -: - فإن مات. يعني: المكفول. قال في آخر العبارة: بريء الكفيل. ولن يلزمه بعد ذلك شيء لاضمان البدن ولا ضمان المال. واستدل الحنابلة على هذا: - بأن المكفول لا يستطيع الحضور وحضوره متعذر فإذا سقط حضور الأصل فكيف بالفرع الذي يلوم بإحضار هذا الأصل الذي لا يستطيع الحضور. فالميت لا يمكن لأحد أن يلزمه بالحضور في مجلس الحكم أو الحضور لأداء الدين لأنه ميت. وإذا كان لا نلزم المكفول فكيف نلزم الكافل. = والقول الثاني: التفصيل: ـ إن كان الكافل توانى وتساهل إلى أن مات المكفول وجب عليه أن يلتزم الحق ولا يسقط ولا يبرأ. ـ وإلا فإنه يبرأ. = والقول الثالث: أن الكافل إذا مات المكفول لا يبرأ مطلقاً بل عايه أن يلتزم الحق.

باب الحوالة

وعللوا هذا: - بأن الدائن إنما رضي بأن يقرض هذا الشخص لوجود الكفيل فإذا مات الكفيل لا يذهب حق الدائن وإنما يلزم الكافل بأداء الحق لأن الدين بني عليه. يعني: لأن المقرض إنما أقرض بناء على وجود الكفيل. وهذا القول الأخير هو الصحيح وممن اختاره من المحققين شيخ الإسلام بن تيمية - رحمه الله -. وهو قول عند التأمل تجد أنه قول قوي. - ثم قال - رحمه الله -: - أو تلفت العين بفعل اللَّه تعالى. يقصد المؤلف - رحمه الله - بقوله: (تلفت العين) يعني: العين المضمونة. فإذا تلفت العين المضمونة بفعل الله فحكم المسألة كحكم لو مات المكفول تماماً خلافاً وأدلة وترجيح. وهذه هي المسألة التي قلت لك أنها تؤكد أن المؤلف - رحمه الله - أراد في صدر اباب الكفالة بذات الأعيان لا ببدن من عليه أعيان مضمونة. لأنه الآن هنا أوجب إحضار نفس العين إذا تلفت بغير فعل الله كما هو مفهوم العبارة فدلت هذه العبارة على أنه يريد ذات الأعيان المضمونة لا بدن من عليه ضمان الأعيان المضمونة. فهذا يؤكد صحة ما تقدم إن شاء الله. وقوله - رحمه الله -: (أو تفلت العين بفعل الله) مفهوم العبارة أنها إذا تلفت فعل الآدمي فإن الكافل لا يبرأ. - لأنه إنما أقيم لمثل هذا. يعني طلب كافل لمثل هذا: حتى لا يذهب حق المكفول له. - ثم قال - رحمه الله -: - أو سلم نفسه: بريء الكفيل. يعني: أو سلم المكفول نفسه للمكفول له فحينئذ يبرأ الكفيل. - كما أنه لو سدد المدين الدين بريء الضامن فكذلك هنا لأن موضوع الكفالة هنا البدن فإذا سُلِّم بريء الكفيل. وبهذا انتهى الفصل الخاص بالكفالة وننتقل إلى باب الحوالة. باب الحوالة - قال - رحمه الله -: - باب الحوالة. الحوالة: مشتقة في لغة العرب من النقل والتحويل. وهي في اصطلاح الفقهاء نقل الحق من ذمة إلى ذمة أخرى. والحوالة مشروعة بالسنة والإجماع. ـ أما السنة فما أخرجه البخاري ومسلم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (مطل الغني ظلم وإذا أتبع أحدكم على مليء فليتبع). وهذا الحديث صريح في الحوالة.

ودلت عليه الآثار فإن عدداً من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - عامل بالحوالة منهم أمير المؤمنين علي - رضي الله عنه -. وغيره من الصحابة. وإنما ذكرته لأنه من الخلفاء الراشدين. وأما الإجماع فقد أجمعوا في الجملة على مشروعية الحوالة وإن اختلفوا في بعض الصور لكن في الجملة هي مشروعة بإجماع الفقهاء. * * مسألة/ والصواب أن الحوالة ليست من بيع الدين بالدين وإنما هي من جنس استيفاء الحق فهي بذلك من عقود الإرفاق وليست من عقود المعاوضات. والقول بأنها من البيوع قول ضعيف: يعني: من المعاوضات، بل هي من عقود الإرفاق إن شاء الله والمقصود منها استيفاء الحق فقط فليس موضوع الحوالة الربح ولا المعاوضة ولا الاستزادة إنما فقط استيفاء الحق. وهذه القاعدة مهمة جداً لأنا سنحتاج إليها في كثير من مسائل الترجيح لأن الإنسان إذا أراد أن يرجح يحتاج أن يرجع إلى أصل ينطلق و [ ... ] منه في مسائل الفقه. فالأصل في هذا الباب هو كما قلت لكم أنه استفياء الحق. - يقول - رحمه الله -: - لا تصح. مقصوده: لا تصح الحوالة إلى بثلاثة شروط، إن فقد شرط منها بطلت الحوالة. وربما لو صرح الشيخ بهذا المعنى لكان أوضح فلو قال: لا تصح إلا بثلاثة شروط لكان أوضح. - قال - رحمه الله -: - إلاّ على دين مستقر. هذا هو الشرط الأول: أن الحوالة لا تصح إلا على دين مستقر. واستدلوا على هذا: - بأن موضوع الحوالة نقل الحق من ذمة المحيل إلى ذمة المحال عليه فإذا لم يكن الدين ثابتاً في ذمة المحال عليه لم تصح الحوالة أن المحال عليه ربما أبطل الدين. ومثلوا على هذا: بدين المكاتبة. فإن المكاتب له أن يبطل المكاتبة فلا يصح أن نحيل على دين المكاتبة. ومثلوا على ذلك: أيضاً: بثمن المبيع في زمن الخيار فهذا أيضاً غير مستقر إذ ربما اختار الفسخ أحدهما أو كلاهما. فإذاً: الدين المستقر هو الدين الذي لا يكون عرضة للسقوط بل هو ثابت وكل دين عرضة للسقوط فهو دين غير مستقر. وهذا الشرط صحيح. فلا يصح أن نحيل إلا على دين ثابت مستقر. - يقول - رحمه الله -: - ولا يعتبر استقرار المحال فيه.

يعني لا يعتبر أن يكون الدين المحال مستقراً. فإذا اشترى شخص من آخر سلعة بثمن معين واشترط الخيار فله أن يحيل بهذا الدين على دين آخر ثابت. (أن يحيل بثمن هذه السلعة التي هي في زمن الخيار على دين آخر مستقر). لأن الدين المحال لا يشترط أن يكون مستقراً. واستدلوا على هذا: - أن المدين له أن يدفع هذا الدين ابتداء فله أن يحيل به. ومعنى: (له أن يدفع هذا الدين ابتداء) أن هذا الثمن غير المستقر يملك المشتري أن يدفعه وإن كان في زمن الخيار. فإذا كان يملك أن يدفعه في زمن الخيار فيملك أن يحيل به على دين آخر مستقر. وهذا أيضاً حكم صحيح. ثم بدأ - رحمه الله - بالشرط الثاني: - فقال - رحمه الله -: - ويشترط: اتفاق الدينين. يشترط اتفاق الدينين. ودليل ذلك في الجملة: - أن موضوع الحوالة نقل الحق من ذمة إلى ذمة ولنقل هذا الحق من ذمة إلى ذمة لابد أن يتساوى الحقان في الصفات. والمؤلف - رحمه الله - فصَّل في هذا الشرط: - فقال - رحمه الله -: - ويشترط اتفاق الدينين جنساً. يشترط أن يكون جنس الدين المحال والمحال عليه: واحداً. فلا يجوز أن نحيل بالذهب على الفضة. ولا بالفضة على الذهب. ولا بالقمح على الشعير. وبالشعير على التمر. وهكذا. يجب أن يكون الجنس متحداً. دليل هذا الشرط: - أنه إذا اختلف الجنس خرج عن كونه من عقود الإرفاق إلى عقود المعاوضات لأنه إذا اختلف الجنس لابد أن نراعي الثمن فصارت معاوضة ونحن نقول أن الحوالة من عقود الإرفاق. فهذا الشرط وهو اشتراط اتفاق الجنس: صحيح. - يقول - رحمه الله -: - ووصفاً. يعني: ويشترط أن يكون وصف كلٍ من الدين المحال والمحال عليه: متحداً. والمقصود بالوصف هنا: كما صرح كثير من الحنابلة: الجودة والرداءة وهو في الحقيقة معنىً أعم من الجودة والرداءة لكن الغالب أن يكون هذا المقصود. بناء على هذا: لا يجوز أن نحيل بصحاح على مكسة. فإذا كان مطلوب من الشخص مائة درهم صحيحة لا يجوز أن نحيل هذا الدين على شخص آخر يطلب منه مائة درهم مكسرة. ولا يجوز أن نحيل مغشوش على سليم ولا بسليم على مغشوش. ولا يجوز أن نحيل قمحاً سليماً جيداً من إنتاج هذه السنة على قمح قديم فاسد. وهكذا.

= والقول الثاني: أنه يجوز اختلاف الصفة إذا كان المحال عليه أجود. يعني: إذا كان من صالح المحال. استدلوا على هذا: - أن هذا لا يعدو أن يكون تبرعاً من المحيل. والتبرع إنما هو بالزيادة. بزيادة الحسن في الصفة. = والقول الثالث: الجواز مطلقاً. سواء كان الدين المحال أو المحال عليه أجود أو أردأ فالجميع جائز. بشرط رضا الجميع: المحيل والمحال عليه. واستدل أصحاب هذا القول: - بأنه لا حرج ولا ضرر شرعي من إحالة الرديء على الجيد أو الجيد على الرديء ما دام المحال رضي والمحيل رضي. فإنه ليس في هذا العقد جهالة ولا ضرر ولا ربا ولا قمار ولا أي مانع شرعي. والقول الأخير أجود لأن المنع من المعاملات يحتاج إلى دليل واضح. فالأصل فيه الحل. ثم الناس قد يحتاجون إلى هذا العمل بكثرة بأن نحيل شيئاً جيداً على رديء أو رديء على جيد لغرض أو لآخر. فالأقرب إن شاء الله الجواز. - ثم قال - رحمه الله -: - ووقتاً. المقصود بالوقت: أن يستويا في التأجيل والتعجيل. وذلك بأن يكون الدين المحال والدين المحال عليه كلاهما مؤجل أو كلاهما معجل. = والقول الثاني: الجواز إذا كان الدين المحال عليه معجل. فيجوز للإنسان أن يحيل ديناً مؤجلاً على دين معجل. = والقول الثالث: الجواز مطلقاً. وإذا تأملت فستجد أن اخلاف في هذه المسألة قريب من الخلاف من مسألة الصفة. لماذا؟ لأن التأجيل والتعجيل من جملة الصفات وإنما نصوا عليه لأنه مهم. ولهذا تجد أن الخلاف متقارب جداً. قبل أن نتجاوز مسألة التأجيل هو كما قلت لكم والقول في الخلاف في المسألتين واحد والأقرب القول الأخير. إلا أنه فقط من خلال البحث لم أجد من العلماء المتقدمين سوى المعاصرين من قال بالجواز مطلقاً في مسألة التأجيل والتعجيل. بحثت عن قائل من المتقدمين - حسب ما تيسر من الوقت - ولم أجد هذا القول إلا للمعاصرين. فيحتاج فقط أن يتثبت الإنسان أن لا تكون المسألة محل اتفاق فإن كان فيه هناك خلاف فالراجح القول الأخير. - يقول - رحمه الله -: - وقدراً. يعني: ويشترط لصحة الحوالة اتفاق الدينين في القدر فلا يجوز أن نحيل بخمسة على ستة.

- لأنا إذا أحلنا خمسة على ستة صارت المسألة معاوضة وصار المحال يكسب على المحيل وموضوع الحوالة أن لا كسب فيها إنما استيفاء فقط. وهذا القول صحيح أو وهذا الشرط صحيح. أنه يجب أن يتساوى [ ... ]. - ثم قال - رحمه الله -: - ولا يؤثر الفاضل. مقصود المؤلف - رحمه الله - بهذه العبارة أنه لا يؤثر أن: ـ تحيل بعض الدين على دين مساوي. ـ أو تحيل الدين على بعض الدين الذي في ذمة الآخر. مثال الصورة الأولى: أن يحيل الإنسان بخمسة على خمسة من عشرة. فإذا كان زيد مطلوب خمسة آلاف وهو يطلب عمرو عشرة آلاف فأحال الشخص الذي يطلبه خمسة آلاف على خمسة من العشرة التي عند زيد فلا بأس. - لأن الفاضل وهي الخمسة الأخرى لا تؤثر في العقد. كذلك العكس/ لو أحال بخمسة من عشرة على خمسة. بأن يكزم زيد مطلوباً عشرة آلاف وهو يطلب عمرو خمسة آلاف فأحال الدائن بخمسة من العشرة على الخمسة التي عند زيد فلا حرج. - لأن زيادة الدين لا تؤثر أيضاً في صحة الحوالة. وهذا معلوم لكن المؤلف - رحمه الله - أراد أن يبين أن الفاضل لا يؤثر على الباقي. - ثم قال - رحمه الله -: - وإذا صحت: نقلت الحق إلى ذمة المحال عليه وبريء المحيل. إذا استوفت الحوالة الشروط اللازمة للصحة نقلت الحق من ذمة المحيل إلى ذمة المحال عليه لاولا يرجع الحق مطلقاً ولو تعذر إيفاء المحال عليه بالدين أو أفلس أو مات أو ماطل. فإنه لا يرجع المحال على المحيل مطلقاً متى استوفت الشروط. وإلى هذا القول ذهب الجماهير - الجماهير من الفقهاء ذهبوا إلى أنه إذا استوفت الشروط فإنه ليس للمحال أن يرجع على المحيل مطلقاً ولو تعذر استيفاء الحق. واستدلوا على هذا بأدلة: من أقواها: - الحديث: فقالوا النبي - صلى الله عليه وسلم - أمره فقال: (إذا أحيل أحدكم على ملئ فليحتل). والأمر في (فليحتل) للوجوب. وهذه خارج الصحيحين. وفي اللفظ الآخر - في الصحيحين -: (من أتبع على مليء فليتبع). هذا الدليل الأول. - الدليل الثاني: أنه روي عن علي بن أبي طالب أنه رأى أن لا يرجع المحال على المحال عليه.

فقد أحال رجلاً - هو - رضي الله عنه - يطلبه على رجل آخر فمات المحال عليه فرجع الدائن إلى علي فلم يقبل رجوعه - رضي الله عنه -. - الثالث: قالوا: أن الحوالة مشتقة من النقل فهي تنقل الحق من ذمة إلى ذمة. والمنقول لا يعود. = القول الثاني: أن المحال له أن يرجع إذا تعذر استيفاء الحق بإعسار أو موت. وهذا مذهب الأحناف. واستدلوا على هذا: - بأن المقصود من الحوالة الإرفاق بالاستيفاء فإذا لم يحصل الاستيفاء بموت أو إفلاس أو مماطلة لم يحصل الغرض من الحوالة وجاز له الرجوع. هذه المسألة من مهمات الباب - من أهم مسائل الباب. = القول الثالث: أن له الرجوع مطلقاً. واستدل أصحاب هذا القول: - بأن الحوالة ليست إلا إذن بالاستيفاء من المحال عليه فقط ولذا فللمحال أن يرجع على المحيل. فكأنه أذن له بأن يستوفي حقه من المحال عليه فإذا أراد أن يرجع: يرجع. والأصل أن ذمة المحيل ما زالت مشغولة بالدين. أي الأقوال أرجح؟ (مناقشة مع الطلاب في أيه القول الراجح .... ) ... شيخ الإسلام يرجح القول الثالث. وهو في الحقيقة عند التأمل والتأني أقرب. لماذا؟ لأنا نحمل الحديث على أن الأمر فيه للإستحباب وإلا لم يكن هناك في الحقيقة جواب واضح على الحديث إلا أن نحمله على الاستحباب. فإذا حملناه على الاستحباب جاز لنا أن نقول فعلاً الحوالة ليست إلا إذنٌ في الاستيفاء. وحمل الحديث على الاستحباب مذهب الجماهير بل حكي إجماعاً ولكن الإجماع ليس بصحيح فإن الإمام أحمد - رحمه الله - والإمام ابن حزم - رحمه الله - حملوه على الوجوب. لكن يبدو أن الأقرب حمله على الاستحباب وأن هذا الأمر إنما هو لبيان أنه ينبغي للمحال إذا كان المحال عليه [مريض أن يحتل] ((هكذا فهمتها من التسجيل)). أما أثر علي - رضي الله عنه - يحتاج أولاً إلى التثبت من صحته. ثانياً: أثر علي هنا يصطدم مع الأصول العامة والأصول العامة هي أن الأصل بقاء الدين في ذمة المدين وأن مال الإنسان محفوظ. والأصول العامة التي تدل على أن مال الإنسان محفوظ تدل على رجحان هذا القول [الثاني] لأنا نرجح بأصول دلت عليها النصوص.

وطريقة الإمام أحمد - رحمه الله - أن الأصل الثابت الذي دل عليه نص لا يترك لفتوى صحابي على أني أكاد أقطع أن بين الصحابة خلاف في هذه المسألة لكن يحتاج ربما الإنسان إلى توسع في البحث لننظر هل خالف الإمام علي أحد أو لا؟ وإلا كما ذكرت يتحرج الإنسان في الحقيقة من مخالفة هذا الأثر لولا وجود هذه الملابسات. - يقول - رحمه الله -: - ويعتبر رضاه. هذا هو الشرط الثالث. يعني: رضا المحيل. - لأن المحيل لا يلزم بقضاء الدين الذي عليه من دين آخر له إلا برضاه. وإذا كان هذا هو الشرط الثالث علمت أن المؤلف في الحقيقة قدم وأخر. لأنه يقول: (وإذا صحت) وهذه العبارة يؤتى بها بعد إتمام الشروط. فلو أخر قوله وإذا صحت إلى بعد (ويعتبر رضاه) لكان من حيث الترتيب الفقهي أوجه. - قال - رحمه الله -: - لا رضى المحال عليه. يعني: لا يشترط رضى المحال عليه. وهذا مذهب الجماهير. - لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يشترط في الحديث رضى المحال عليه. - ولأن المحيل إذا أحال على المحال عليه فكأنه وكَّل شخصاً ليقبض دينه وهذا جائز بالإجماع بلى رضى المحال عليه. =والقول الثاني: أنه يشترط رضى المحال عليه. - لئلا يحيل عليه رجلاً رجلاً شرساً سيء الأخلاق صعب المطالبة. فيقول المحال عليه للمحيل لا أرضى أن تحيل علي فلاناً فإنه صعب والمعاملة معه عسرة وقد أتأذى من مطالبته ... إلى آخره. وهذا مذهب الأحناف. وهذا القول ضعيف. لأنا نقول للمحال عليه لئلا تتأذى أدِّ ما عليك لأن ذمته مشغولة بالحق فلا يعتذر بسوء المعاملة. - قال - رحمه الله -: - ولا رضى المحتال على مليء. يعني: لا يشترط رضى المحتال بشرط أن تكون الحوالة على مليء. فإذا أحيل على مليء وجب عليه أن يحتال. وانتقل الحق بغير إرادته من ذمة المدين الأصلي إلى ذمة المحال عليه. استدب الحنابلة والجمهور على هذا: - بالحديث. وهو أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (وإذا أتبع أحدكم على مليء فليتبع) والأمر في الحديث للوجوب عند الحنابلة. واستدلوا على هذا أيضاً: - بأن للمحيل أن يوكل من يقبض عنه بلا رضاه وله أن يوكل من يسدد عنه بلا رضاه فكأنه وكل المحال عليه بسداد الدين.

= والقول الثاني: أنه يشترط رضى المحال. وأنه إذا أحيل على رجل لا يرضاه ولو كان مليئاً فإنه لا يلزمه. - لأن الإحالة قد تدخل الضرر على المحال وإن كان المحال عليه مليء. فبعض الناس قد يسدد مباشرة ولكن مع الإيذاء فهو إذا سدد بلا تأخير فهو مليء لكن قد يؤذي مع هذا التسديد يؤذي كما هو معلوم من أمثلة كثيرة. وهذا القول الثاني في الحقيقة هو الصحيح والدائن محسن فكيف نلزم الدائن بأن يحتال أو بأن يذهب ويحال إلى رجل سيء الأخلاق وإن كان مليئاً. لاشك في ما يظهر لي بعد التأمل أنه لا يلزمه ولا يجب عليه وله أن يمتنع من الإحالة. وإن كان عامة العلماء والجمع الغفير منهم على القول الأول. لكن هذا القول الثاني في الحقيقة وجيه وقوي. - ثم قال - رحمه الله -: - وإن بان مفلساً ولم يكن رضي: رجع به. مقصود المؤلف - رحمه الله - إذا لم يرض المحال بالحوالة ثم بعد أن أحيل تبين أن المحال عليه مفلس: رجع على المحيل. وهذا الحكم بالإجماع. إذا لم يرض ثم تبين أن المحال عليه مفلس رجع بالإجماع. وهذا الحكم في هذه المسألة هو حكم لصورة من هذه المسألة. فهذه المسألة لها صور: ـ الصورة الأولى: هي التي ذكرها المؤلف - رحمه الله - وذكرتها لك. ـ الصورة الثانية: أن يحال برضاه - أن يرضى بالحوالة - ولكنه لم يشترط أن يكون المحال عليه مليئاً ثم تبين أنه معسر. ((الأذان)). إذاً: الصورة الثانية إذا رضي المحال بالإحالة ولم يشترط أن يكون المحال عليه موسراً ثم تبين أنه معسراً أو مماطلاً. = فعند الحنابلة: لا يرجع. ويبرأ المحيل. واستدلوا على هذا: - بأن المحال فرَّط ولم يشترط الملاءة - أو الغنى أو اليسار. = والرواية الثانية عن الإمام أحمد - رحمه الله -: أنه له الرجوع إذا تبين أنه مماطل أو معسر. - لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - إنما أمر بأن يتبع إذا كان مليئاً وقد تبين أنه ليس ملئياً. والقول الثاني هو الصحيح إن شاء الله لأنه هو الذي يدل عليه الحديث. ـ الصورة الثالثة والأخيرة: أن يحال بالدين مع اشتراط المحيل غنى المحال عليه. الذي اشترط هو المحيل. يعني: قال أحيلك على زيد وأشرط لك أنه مليء.

ثم إذا تبين أنه ليس بمليء رجع: عند الحنابلة وعند غيرهم. - لأن الشرط تخلف. والمسلمون على شروطهم. - يقول - رحمه الله -: - ومن أُحيل بثمن مبيع ... فبان البيع باطلاً: فلا حوالة. إذا أحيل بثمن مبيع ثم بان البيع باطلاً فلا حوالة. صورة المسألة/ أن يحيل المشتري البائع بقيمة الثمن على شخص ثالث. مدين للمشتري ثم تبين أن البيع باطل بأن كان المبيع ملكاً لشخص آخر غير البائع أو تبين أن المبيع - أنه خمر أو خنزير أو كل عين لا يصح العقد عليها حينئذ لا حوالة. يعني: تبطل الحوالة. وعللوا ذلك: - بأن الحوالة تمت على ثمن المبيع وهنا لا يوجد ثمن للمبيع لأنه لا يوجد بيع أصلاً. - يقول - رحمه الله -: - أو أُحيل به عليه. صورة المسألة/ أن يحيل البائع على المشتري بثمن السلعة بدين سابق عليه. في الصورة الأولى: من المحيل؟ المشتري. في الصورة الثانية: المحيل من؟ البائع. والإحالة في الصورتين على ثمن السلعة. ثم إذا تبين أن البيع باطل للأسباب السابقة فلا حوالة. وهذا الحكم صحيح. - ثم قال - رحمه الله -: - وإذا فسخ البيع: لم تبطل. إذا فسخ البيع: يعني: لخيار أو لعيب أو لتدليس فإن الحوالة لا تبطل بل تبقى صحيحة. وظاهر كلام الشيخ المؤلف - رحمه الله - أن الحوالة إذا فسد البيع صحيحة قبل القبض وبعد القبض. والصواب أن في المسألة تفصيلاً. في الصورة الأولى أن يحيل ......... ((أقيمت الصلاة ... انتهى الدرس)).

الدرس: (26) من البيع قال شيخنا حفظه الله: بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين. تقدم معنا في الدرس السابق في الكلام عن الحوالة إذا أحال البائع المشتري وتبين أن البيع باطل ورأي الحنابلة في هذه المسألة وكنا توقفنا على المسألة الأخرى وهي: إذا تبين أن البيع فاسد وليس بباطل والحنابلة يفرقون بين أن يتبين أن البيع باطل أو يتبين أنه فسخ بالفساد. فيما يتعلق بالبطلان: تقدم معنا. - يقول المؤلف - رحمه الله -: - وإذا فسخ البيع: لم تبطل.

يعني: وإذا فسخ البيع بسبب من الأسباب الموجبة للفسخ: كالعيب أو الخيار أو أي سبب يوجب الفسخ وأشهرها العيب والخيار. فإذا فسخ البائع والمشتري العقد وقد أحال المشتري البائع بالثمن فإنه عند الحنابلة: تصح الحوالة مطلقاً. ومعنى: (مطلقاً) أي: قبل وبعد القبض. وفي الحقيقة المسألة فيها تفصيل. وللمسألة صورتان: - الصورة الأولى: أن يكون بعد القبض. صورة المسألة: أن يحيل المشتري البائع بالثمن على طرف ثالث ويقبض البائع الثمن من المحال عليه. فيتم القبض ففي هذه الصورة: الحوالة صحيحة قولاً واحداً عند الحنابلة بلا خلاف لأن القبض تم وصح. وإذا صح القبض وتم ترتبت عليه آثاره. - الصورة الثانية: أن يكون ذلك أي: الفسخ قبل القبض. مثل/ أن يحيل البائع أم أن يحيل المشتري البائع بالثمن وقبل أن يقبض البائع من المحال إليه الثمن: انفسخ العقد بعيب أو بخيار أو لأس سبب من أيباب الفسخ. فالحنابلة يصححون الحوالة حتى قبل القبض. فالحكم عند الحنابلة قبل وبعد واحد. ويستدل الحنابلة على هذا: أي تصحيح الحوالة ولو قبل القبض: - بأن هذه الحوالة: حوالة صحيحة استوفت الشروط فصحت ولزمت وانتقل الحق تماماً من ذمة المشتري إلى ذمة المحال عليه. وصار المشتري بريء الذمة والمسألة بين البائع والمحال عليه. = القول الثاني: أن الحوالة قبل القبض لا تصح. وعلى هذا لا يبرأ المحيل وهو المشتري. ويخرج البائع لا دائناً ولا مديناً لأن العقد انفسخ ورجع الثمن. ويرجع المشتري يطالب المحال عليه كما كان قبل العقد. وإلى هذا ذهب عدد من المحققين من الحنابلة وهذا القول هو الصحيح: أنه قبل القبض لا تصح الحوالة لأنا تبينا أن لا ثمن ولا عقد. وإذا كانت العلة في بطلال الحوالة في مسألة بطلان البيع أنه تبينا أن لا ثمن على المشتري كذلك هنا تبينا أن لا ثمن وإن اختلف السبب إلا أن النتيجة واحدة وهي أنه لا ثمن. فتلخص معنا الآن: أن الحوالة تصح في صورة واحدة وهي ما إذا قبض الثمن. - يقول - رحمه الله -: - ولهما أن يحيلا. يعني: وللمحال أن يرجع فيحيل مرة أخرى لتبرأ ذمته. فإذا أحال المشتري البائع ثم تبينا البطلان فللبائع أن يحيل المشتري على من أحاله المشتري عليه.

باب الصلح

يعني: يرجع الوضع كما كان. وهذا التقرير من الحنابلة يدل على رجحان القول بأنه إذا انفسخ البيع فلا حوالة وإلا ما معنى أن نصحح الحوالة ثم نقول: يرجع كل ما كان على وضعه الأول بأن يحيل من أحيل عليه مرة أخرى. إذاً صارت النتيجة واحدة سيقوم البائع بإحالة المشتري على من أحاله المشتري عليه. إذاً النتيجة واحدة. وهذا يدل كما قلت - إن شاء الله - على رجحان بطلان الحوالة فيما إذا لم يقبض الثمن. وبهذا انتهى باب الحوالة وننتقل إن شاء الله إلى باب الصلح. باب الصلح - قال - رحمه الله -: - باب الصلح. الصلح في لغة العرب: اسم بمعنى المصالحة. ويقصد بالمصالحة ضد المنازعة والمخاصمة. وقيل أنه رفع المنازعة. والاختلاف لفظي. وأما في الاصطلاح: فإن الصلح: عقد يرفع المنازعة برضا الطرفين. والصلح: مشروع بالكتاب والسنة. - فمن الكتاب: قوله تعالى: {وإن امرأة خافت من بعلها نشوزا أو إعراضا فلا جناح عليهما أن يصلحا بينهما صلحا والصلح خير.} [النساء/128] والشاهد قوله تعالى: (والصلح خير). - وأما من السنة: فقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: (الصلح جائز بين المسلمين). - وأيضاً: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - طلب من غرماء جابر - رضي الله عنه - أن يضعوا عنه من الدين صلحاً. والصلح عند فقهاء المسلمين له أنواع: - صلح بين الأزواج. - وصلح بين الكفار والمسلمين. - وصلح بين أهل العدل وأهل البغي. وهذه الأنواع كلها لا تقصد بهذا الباب فلكل منها باب مستقل وسيأتي. إنما الذي يقصد هنا: الصلح في الأموال: فهو باب معقود خاصة للصلح في الأموال. والصلح: أي على أموال: إلى قسمين: - صلح على إنكار. - وصلح على إقرار. وبدء المؤلف - رحمه الله - بالقسم الأول: وهو الصلح على إقرار وأخر الكلام عن الصلح على إنكار. - فقال - رحمه الله -: - إذا أقر له بدين أو عين فأسقط، أو وهب البعض وترك الباقي: صح إن لم يكن شرطاه، وممن لا يصح تبرعه. قوله - رحمه الله -: (إذا أقر له بدين) كما قلت لك بدء بالصلح على إقرار. والصلح على إقرار: أيضاً هو ينقسم على قسمين: - القسم الأول: الصلح على غير الجنس. يعني: على غير جنس الحق. - والقسم الثاني: صلح على جنس الحق.

نبدأ بالقسم الأول: لأنه أقل القسمين أحكاماً وهو واضح. ـ القسم الأول هو: الصلح على غير جنس الحق. وصورته/ أن يدعي زيد على عمرو سيارة فيقر له عمرو بها ويصالحه عنها ببيت. فجنس الحق المدعى به الآن هو: السيارة. وصالحه على غير جنسها وهو: البيت. وهذا القسم صحيح بالاتفاق وهو بيع يلزم له ليصح جميع شروط البيع. والدليل على هذا: - أن صورة المسألة الحقيقية مبادلة عين بعين. أو معاوضة عين بعين وهذه حقيقة البيع. ـ القسم الثاني: المصالحة على جنس العين المدعى به وهو الذي ذكره المؤلف: - فيقول - رحمه الله -: - إذا أقر له بدين أو عين فأسقط، أو وهب البعض وترك الباقي: صح إن لم يكن شرطاه، وممن لا يصح تبرعه. (إذا أقر له بدين) يعني: إذا أقر له بدين معلوم. فأسقط حقه: صح. وسيأتينا دليل الصحة. وحقيقة الإسقاط في الدين: إبراء. هو عقد إبراء. فالصلح هنا: حقيقته الإبراء. الثاني: (أو عين) يعني: إذا أقر له بعين وصالحه على بعضها. كأن يقول: أقر لك بخمسين صاعاً من القمح ويصطلحا على أن للمقر ربعها. فهذا أيضاً كما سياتينا صحيح. وحقيقة هذا العقد: أنه عقد هبة. ومعنى أنه عقد هبة: أنه تشترط فيه شرط الهبة التي ستأتينا في باب الهبة والعطايا. إذاً حقيقة العقد الأول أنه: إبراء. وحقيقة العقد الثاني أنه: هبة. - ثم قال - رحمه الله -: - فأسقط أو وهب البعض وترك الباقي: صح. يعني: صح هذا العقد. والدليل على صحة هذا العقد من النص ومن المعقول: - أما من النص: فحديث جابر - رضي الله عنه - فإنه ثبت في الصحيح: ان جابر - رضي الله عنه - اشتكى إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - الدين الذي عليه وكان تمراً فطلب النبي - صلى الله عليه وسلم - من غرمائه أن يضعوا عنه فأبوا. فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - لجابر: اجعل كل تمر عندك على حدة: أي كل نوع منه على حدة فجعل جابر - رضي الله عنه - العجوة على حدة وعذق زيد على حدة فجلس النبي - صلى الله عليه وسلم - في أعلى التمر ثم قال يا جابر: كل للقوم فصار جابر - رحمه الله - يكيل للناس ويقضي الناس كلهم فلما قضى الناس جميعاً نظر فإذا التمر لم ينقص شيئاً. - اللهم صل وسلم على نبينا محمد.

فهذا الحديث عظيم وفيه فوائد كثيرة: - منها: أنه لا حرج على الرجل الشريف كبير القدر أن يدخل في صلح مالي. فهذا لا حرج فيه ولا غضاضة ولا يقال: لا ينبغي لمثله الدخول في العقود المالية فهذا جابر - رضي الله عنه - دخل. - ومنها: أنه لا حرج على الرجل الشريف أن يتولى بعض أمور أصحابه. فهذا النبي - صلى الله عليه وسلم - أمره أن يقسم التمر وكيف يكيل للناس وجلس أثناء قضاء الناس حوائجهم. - ومنها: - وهو أيضاً مفيد ومهم - أنه لا حرج على المطلوب إذا رفض ولو كان الطالب كبير القدر لأن الحقوق المالية أساسها يرجع إلى الرضا. فلا حرج على الإنسان أن يرفض إذا لم ير أن هذا مناسباً له. ولهذا ليس في الحديث مطلقاً أي إشارة إلى لوم هؤلاء الذين كانوا يطلبون جابر لما أبوا أن يجيبوا النبي - صلى الله عليه وسلم - وهذا لا ينفي أن يكون أنه من المروءة وحسن الخلق إجابة الرجل الذي له قدر في الإسلام لكن لو لم يجب فلا حرج ولا لوم على من رد طلبه فهذا هو الدليل من النص. - وأما الدليل من المعقول: - فهو أن حقيقة هذا الصلح: إما أن يكون إبراء أو هبة وللإنسان أن يهب أو أن يبرئ ما شاء من ماله ما دام جائز التصرف. - ثم قال - رحمه الله -: - صح إن لم يكن شرطاه، ولا يصح ممن لا يصح تبرعه. لما ذكر المؤلف - رحمه الله - هذا الحكم ذكر شروط هذا الحكم وذكر شرطين: - الشرط الأول: أن لا يكون هذا الصلح على سبيل الاشتراط. وتلاحظ أن عبارة المؤلف - رحمه الله -: (شرطاه) وأطلق. فهو يتناول المُقِرْ والمُقَرّ له. - فالمُقَرّ له: شرطه أن يقول: وهبتك نصف ما لي على أن تقر لي به. فإذا وقع العقد بهذا الشرط: فالصلح باطل. - لأن المقر له صالح عن ماله ببعضه ففيه هضم لحقه. - النوع الثاني: أن يكون المشترط: المُقِر. كأن يقول: لا أقر لك حتى تعطيني نصفه. فهذا الصلح بهذا الشرط أيضاً باطل. وهو أقبح من الأول: لأنه من أكل أموال الناي بالباطل. إذ يجب عليه أن يقر بلا عوض. - الشرط الثاني: الذي ذكره المؤلف. هو: أن يكون الإقرار ممن يصح تبرعه.

- لأن حقيقة هذا النوع: تبرع. والتبرع لا يكون إلا ممن يجوز تبرعه. فلا يجوز لولي اليتيم أن يصالح هذا الصلح ولا لولي الوقف ولا للمضارب المؤتمن ولا لكل من لا يجوز له أن يتبرع. واستثنى الفقهاء من هذا الحكم: استثناء لطيف مفيد وهو: أن يدور الأمر بين أن يصالح ويكسب البعض أو أن لا يصالح ويخسر الكل. فإذا دار الأمر بين أن يخسر الكل بلا صلحأو يكسب البعض مع الصلح جاز له أن يصالح لأن حقيقة هذا الصلح من حظ المصالح عنه. وهو مثلاً: اليتيم أو الوقف حسب صور من لا يجوز له أن يتبرع. أما ما عدا هذه الصورة المستثناة فإنه لا يجوز له أن يصالح على هذا الوجه. إذاً يقول المؤلف - رحمه الله -: (إذا لم يكن شرطاً .... إلى آخره: بقي الشرط الثالث لم يذكره المؤلف - رحمه الله - وهو: (أن هذا الصلح: أن لا يكون بلفظ الصلح. السبب: أن هذا فيه أيضاً هضم للمقر له لأنه صالح عن ماله ببعضه. فالتعليل هو نفس التعليل السابق. إذاً: تعليل اشتراط هذا الشرط هو كتعليل اشتراط أن لا يشترط المقر له نصف ما عليه - السابق. = والقول الثاني: أنه يصح بلفظ الصلح وبأي لفظ بشرط أن يكون المعنى المراد معلوماً. ومعنى المراد هنا: إما هبة أو إبراء. فإذا عرف المقصود صح العقد بلفظ الصلح أو بأي لفظ كان. لأنه تقدم معنا أن العبرة بالمعاني لا بالألفاظ والمباني فاللفظ ليس هو الذي تنبني عليه الأحكام وإنما المعاني. - ثم قال - رحمه الله -: - وإن وضع بعض الحال وأجل باقيه: صح الإسقاط فقط. وإن وضع بعض الحال وأجل باقيه: صح الإسقاط دون الوضع / فإذا كان زيد يطلب عمرو مائة ألف فوضع بعضه وأجل باقيه فقال: أبرأتك من خمسين وأجلت لك خمسين. صح الإسقاط دون التأجيل. أما الإسقاط فهو يصح: لأنه إبراء. وللمكلف الرشيد البالغ العاقل أن يبرأ من شاء لأن هذا من التصرفات المالية التي يؤذن بها لمن جاز تصرفه. وأما التأجيل فلأن قاعدة المذهب كما تقدم معنا في كتاب القرض أن الحال لا يؤجل. أي شيء حال فإنه لا يمكن أن يتأجل بالشرط والعقد. فهذه المسألة مبنية تماماً على المسألة السابقة التي هي تأجيل القرض.

وأخذنا الخلاف هناك في هذه المسألة وأن الأقرب إن شاء الله أن المؤجل إذا أشترط تأجيله صح ولزم. إذاً: عرفنا الآن أن: = القول الثاني: صحة الإسقاط والتأجيل. - لما تقدم من الخلاف في تأجيل القرض. - ثم قال - رحمه الله -: - وإن صالح عن المؤجل ببعضه حالاً ... لم يصح. هذه المسألة هي المسألة التي تسمى مسألة:""ضع وتعجل"". وهي مسألة مهمة وحاجة الناس إليها كثيرة. حكم المسألة/ اتفق الأئمة الأربعة وجماهير الفقهاء على أن:""ضع وتعجل"" لا تجوز. واستدلوا على هذا بعدة أدلة: - الدليل الأول: أن هذا مروي عن عمر وابنه - رضي الله عنهما -. وهذا في الحقيقة محل الإشكال - كما سيأتينا. - الدليل الثاني: أن حقيقة العقد معاوضة عن الأجل - عن التأجيل أو التعجيل. والتأجيل والتعجيل لا يباع ويشترى. - الدليل الثالث: أن هذا الوضع مقابل الأجل وهو حقيقة الربا. هذه أدلة الجماهير. = القول الثاني: أن:""ضع وتأجل"" صحيح وجائز وليس من الربا في شيء. وهو مذهب لبعض الفقهاء نصره بقوة شيخ الإسلام وابن القيم. واستدلوا بأدلة: - الدليل الأول: أن الجواز صح عن ابن عباس صريحاً فقد ثبت أنه أفتى بصحة مسألة:""ضع وتأجل"". وفتواه - رحمه الله - أصرح من فتوى غيره من الصحابة. - الثاني: أن المسألة تشتمل على إسقاط وتعجيل. والإسقاط مفرداً يصح والتعجيل مفرداً يصح فإذا اجتمعا صحا. إذاً يقولون أن العقد يشتمل على إسقاط وتعجيل والإسقاط مفرداً تقدم معنا أنه صحيح والتعجيل أيضاً أكثر من أنه صحيح إذ الحنابلة لا يرون التعأجيل أصلاً فقالوا إذا جمعنا بينهما صحا لأنه مكون من أمرين جائزين. وهذا الدليل ضعيف: لأنه اجتمع من الإسقاط والتعجيل صورة ثالثة ولأنه هذه الطريقة - طريقة التلفيق بين الأحكام ليست بصحيحة. - الدليل الثالث: أن حقيقة هذا العقد عكس الربا ففي الربا تأجيل وزيادة وفي هذا العقد إسقاط وتعجيل. فأين التأجيل مع الزيادة من الإسقاط مع التعجيل. فهما عكس بعض فهو ليس من الربا لا صورة ولا حقيقة. والأقرب والله أعلم الجواز: باعتبار أن الصحابة اختلفوا وباعتبار أن هذا الدليل الذي ذكره ابن القيم وهو أن حقيقة الصورة عكس الربا تماماً دليل وجيه عند التأمل.

وكما قلت: مراراً: هذه المسألة لاشك ولا ريب أنها محل تورع واحتياط وأنه إذا لم يتورع من أراد أن يتورع في المعاملات المالية في مثل:""ضع وتعجل"" فأين سيتورع؟ كيف وعامة فقهاء المسلمين على هذا القول وروي عن أكثر من صحابي. ففي الحقيقة هي محل تورع وشبهة. لكن من حيث الأدلة نستطيع أن نقول أن القول الثاني: أرجح. - ثم قال - رحمه الله -: - أو بالعكس. يقصد بقوله: (أو بالعكس) المسألة السابقة: إذا صالحه عن الحال ببعضه مؤجلاً تماماً. تقدم معنا هذه الصورة وأن الحنابلة يقولون: يصح الإسقاط دون التأجيل. وأن الصواب صحة الإسقاط والتأجيل. وهو في الحقيقة: محض تعاون من الدائن مع المدين: لأنه أرفقه في شيئين: - التأجيل. - والإسقاط. فهو في الحقيقة: إرفاق منه لا يمنع. - ثم قال - رحمه الله -: - أو أقر له ببيت فصالحه على سكناه. صورة المسألة / أن يقول: لا أقر لك بهذا البيت إلا إذا أبحتني الانتفاع به سنة. فالصلح باطل. فإن أسكنه البيت فهو تبرع محض له أن يخرجه متى شاء. = والقول الثاني: أنه لا فرق بين هذه المسألة وبين الإبراء والهبة في المسألة الأولى. إذا أقر له بدين أو عين صححنا الإبراء والهبة كذلك هنا نصحح هذا الصلح ونشترط فيه ما اشترطنا في الصورة الأولى.: أن لا يكون بشرط من المقر ولا من المقر له وأن يكون من جائز التصرف. فالأقرب صحة هذه المسألة ولا فرق بين أن يكون الصلح على عقار أو دار وبين أن يكون على عين تقسم أو على دين في الذمة لا فرق أبداً بين الصورتين ففي كل منهما إبراء أو هبة. - ثم قال - رحمه الله -: - أو يبني له فوقه غرفة. يعني: يقول: لا أقر لك بالبيت إلا إذا بنيت لي فوقه غرفة. ففي المسألة الأولى اشترط منفعة وفي المسألة الثانية اشترط ملك عين وهي الغرفة. والخلاف في هذه المسألة كالخلاف في المسألة السابقة اماماً من حيث قول الحنابلة والقول الثاني وأيضاً من حيث الراجح. - ثم قال - رحمه الله -: - أو صالح مكلفاً ليقر له بالعبودية. يعني: رجل صالح رجلاً آخر على أن يقر له بالعبودية: فقال: أعطيك مائة ألف صلحاً وتقر بأنك عبداً لي. فهذا الصلح باطل. لأمرين:

- الأمر الأول: أنه لا يجوز للإنسان أن يرق نفسه. وليس هذا باختياره. بل الحر حر شرعاً والعبد عبد شرعاً. - الثاني: أن هذا محرم على المقر له. لأنه من أكل أموال الناس بالباطل. - ثم قال - رحمه الله -: - أو امرأة لتقر له بالزوجية بعوض: لم يصح. (أو امرأة لتقر له بالزوجية بعوض: لم يصح.) أي: هذا الصلح. - لم يصح هذا الصلح: أيضاً لأمرين: - الأمر الأول: أنه لا يجوز للمرأة أن تهب نفسها مقابل عوض مالي بل المرأة لا تحل للرجل إلا بعقد شرعي لا بعوض مالي. - الثاني: لأن المقر له لا يجوز له أن يطلب فرجاً محرماً. فهذا الصلح لا يصح وهو باطل. - ثم قال - رحمه الله -: - وإن بذلاهما له صلحاً عن دعواه: صح. أي: بذل كل من العبد والمرأة العوضين له أي: للمقر له صلحاً: جاز. جاز: من جهة المقر له. ومن جهة: المقر. أما من جهة المقر: وهو العبد - إذا افترضنا أن المقر الآن هو ليصالح - أما من جهة المقر وهو العبد والزوجة فلأنهما يدفعان الخصومة عن أنفسهما. وهذا مطلب شرعي صحيح. وأما من جهة المقر له: فلأنه لا يخرج عن أن يكون معاوضة عما يعتقد أنه ملك له. فهذه العبارة من المؤلف - رحمه الله -: نحمل على ما إذا اعتقد المقر له أن هذا الرجل فعلاً عبد من عبيده وأن هذه المرأة فعلاً زوجة. فيكون ما يأخذه عن العبد عوض وما يأخذه عن الزوجة خلع. ويجوز للرجل أن يعاوض عن ماله أو أن يخالع زوجته. إذاً: يصح أن يبذله له - يصح العقد وما يأخذه كل منهما فهو جائز. فإن كان المقر له يعلم أنه كاذب وأن الرجل ليس بعبد له وأن المرأة ليست بزوجة له فما يأخذه محرم وهو من أكل المال بالباطل وما يدفعه العبد والمرأة صحيح لأنهما أرادا تخليص أنفسهما. - ثم قال - رحمه الله -: - وإن قال: ((أَقِرْ لِي بِدَيْنِي وَأُعْطِيْكَ مِنْهُ كَذَا)) ففعل: صح الإقرار لا الصلح " - أما الإقرار فيصح: لأنه أقر بحقه عليه: فإقراره واجب عليه. - وأما الصلح فهو باطل: لأنه لا يجوز للإنسان أن يأخذ عوضاً على أمر واجب عليه. ونحن فررنا أن إقراره بهذا الحق واجب فكيف يأخذ على واجب مالاً. إذاً: لا يجوز للإ؟ نسان أن يقول: أقر لي بديني وأعطيك منه كذا: لا يجوز هذا.

وبهذا انتهى القسم الأول وهو: الصلح على إقرار. وانتقل المؤلف - رحمه الله - إلى القسم الثاني: الصلح على إنكار. فصل [القسم الثاني: الصلح على إنكار] - فقال - رحمه الله -: - (فصل) ومن ادعي عليه بعين أو دين فسكت أو أنكر وهو يجهله، ثم صالح بمال: صح. يقول - رحمه الله -: ((فصل) ومن ادعي عليه بعين أو دين فسكت أو أنكر) يعني: ثم صالح عليه صح الصلح. وهذا كما قلن الصلح على إنكار. ونزلزا الساكت منزلة المنكر: لأنه لم يقر والإنسان إما أن يقر أو أن ينكر. فهو لم يقر فهو منكر. وهذا الصلح: أي: على إنكار: جائز عند جماهير أهل العلم. الإمام أحمد والإمام مالك والإمام أبو حنيفة كلهم يصححونه وجمهور السلف. واستدلوا على تصحيح هذا الصلح: - بعموم قول النبي ثم قال - رحمه الله -:: (الصلج جائز بين المسلمين). فهو عام يتناول الصلح على إقرار ويتناول الصلح على إنكار. - وكذلك: عموم الآية وهي: قوله: (والصلح خير). يعني بكل أنواعه. = والقول الثاني: وهو مذهب الإمام الشافعي: أن الصلح على إنكار لا يصح. واستدل على هذا: - بأنه كيف يصالح على أمر لم يثبت له. فهو كما لو باع شيئاً لا يملكه. لأنا نفترض أن المقر عليه: أنكر. إذاً: لم يثبت الحق إلى الآن للمدعي فكيف يصالح على أمر لم يثبت له يقول الإمام الشافعي. هذا من أكل أموال الناس بالباطل. والجواب على هذا الدليل القوي: أن المدعي يصالح عن أمر يعتقد أنه ملكاً له. هو لم يثبت قضاء لكنه هو يعتقد أنه من أملاكه. فصالح عليه بناء على هذا الأصل. وأن المدعى عليه فإنه يصالح لدفع الخصومة عن نفسه والشرع لا يمنع الإنسان عن أن يدفع الخصومة والوضاعة عن نفسه. فإن من الناس من يحب أن يفتدي ذهابه إلى المجكمة أو اليمين بحضرة القاضي أو في حضرة المحكم بكب ما يملك لا يحب أن يدخل باليمين: إما لأنه لا يحب أن يخاطر بدينه كما فعل ابن عمر - رضي الله عنه - فإنه امتنع عن اليمين مع علمه بصدق نفسه تورعاً. أو لأنه لا يريد أنه من أشراف الناس أن يبذل اليمين أو يدخل مجلس القاضي وهذه الأمور يقرها الشارع فلا حرج للإنسان أن يمتنع عن مثل هذا.

إذاً: تبين أن المدعي والمدعى عليه لهم علل صحيحة في إجراء الصلح ولو كان على إنكار. إذاً فالراجح إن شاء الله مذهب الجماهير. - ثم قال - رحمه الله -: - ومن ادعي عليه بعين أو دين فسكت أو أنكر وهو يجهله. يعني: وهو يجهل الدين الذي أنكره أو الدين الذي سكت عنه. إذا كان يجهل ثبوته: صح الصلح على إنكاره. لأن الأصل براءة الذمة. بين المؤلف - رحمه الله - الآن لنا الحكم فيما إذا كان يجهل الدين الذي أنكره أو الدين الذي سكت عنه: فما الحكم فيما لو علم أنه بريء ولا دين عليه؟ وبين المؤلف - رحمه الله - الحكم فيما لو كان يجهل. فما الحكم لو كان يعلم أنه بريء؟ / زيد ادعى على عمرو. وعمرو أنكر. قلنا له: أنت الآن تنكر هذه الدعوى. قال: نعم أنا أنكرها. أنا أجهل أن زيد يطلبني شيء. نقول: هذا الصلح صحيح. لأنه يجهل. والأصل براءة الذمة. / لو كان زيد يعلم أن عمرو لا يطلبه. ما يجهل - يعلم: من باب أولى. ولذلك لم يذكرها المؤلف - رحمه الله - أنه إذا كان في الجهل ففي العلم من باب أولى. - ثم قال - رحمه الله -: - ثم صالح بمال: صح. على الخلاف السابق بين الجماهير والشافعية. - ثم قال - رحمه الله -: - وهو للمدعي: بيع. يعني: والصلح على إنكار بالنسبة للمدعي بيع. ومعنى أنه بيع: يشترط له جميع شروط البيع. / فإذا لدعى عمرة على زيد سيارة وأنكر زيد ثم تصالح على أن يعطيه عن السيارة عشرة آلاف صلحا. فحقيقة هذا العقد أنه بيع يشترط له شروط البيع. فإن كان صرقاً: اشترطنا له شروط الصرف. فهو بيع من كل وجه. وسيفرع المؤلف - رحمه الله - على هذا الحكم. - قال - رحمه الله -: - يرد معيبه ويفسخ الصلح. يعني: إذا صالحه على عين: وأخذها صلحاً عن العين التي ادعاها ثم تبين أن في الثمن عيباً فله الرد وله الفسخ وله القبول مع الأرش كما تقدم معنا في مسألة الرد بالعيب. فإذا ادعى عليه السيارة وصالحه بخمسين صاع من البر فهذا العقد حكمه حكم البيع. والثمن في المثال هو: الخمسين صاعاً. فإذا تبين أن في الخمسين صاعاً عيب فيه تسويس في خراب خفيف الوزن. أي عيب من عيوب القمح. فللمدعي الآن أن يرد بالعيب ويفسخ وله أن يقبل ويأخذ الأرش. لماذا؟ لأنه من عقود البيع.

ويستثنى من هذا: صورة مهمة ولطيفة جداً من الحنابلة - من الحنابلة وغيرهم من الفقهاء: / وهي أنه إذا وقع الصلح على بعض العين المدعاة فلا خيار عيب له ولا فسخ. لماذا؟ - الصورة/ إذا صالحة على بعض اعين المدعاة - في المثال السابق - أخذ عن السيارة قمح - فإن صالحه على بعض العين المدعاة فقال: أنا أدعي عليك: خمسين صاعاً من القمح فصالحه على نصفها وأخذها فلما وصل إلى البيت وجد أنه معيب. فهنا ليس له الرد بالعيب. لماذا؟ لأنه في هذه الصورة إنما أخذ ماله وهل يرد الإنسان ماله بالعيب. لأنه هو يدعي أن هذا القمح ملكاً له. فحينئذ نقول: إذا وجدته معيباً فليس لك الخيار. - ثم قال - رحمه الله -: - ويؤخذ منه بشفعة. وهذا أيضاً مبني على أن العقد من عقود البيع. فإذا صالحه عن السيارة ببيت هذا البيت ملك للمدعى عليه ومعه شريك: فالآن هو صالحه على بعض البيت والبيت ملك للمدعى عليه ونصفه ملك لشخص ثالث. فإذا وهبناه أو أعطيناه المدعي وشفَّع شريك المدعى عليه: صحت الشفعة. لأنا نعتبر أن العقد عقد بيع. وماذا يترتب على هذا؟ أن ننزع البيت من المدعي ونعطيه: المشفِّع. وبذلك يكون موضوع الصلح انتهى فلابد من صلح جديد على عوض يتراضاه الطرفان. إذاً: له أن يشفع: شريك المدعى عليه: له أن يشفع لأن هذا يعتبر عقد بيع وعقد البيع فيه التشفيع. - ثم قال - رحمه الله -: - وللآخر: إبراء فلا رد ولا شفعة. (وللآخر: إبراء) يعني: ويعتبر الصلح بالنسبة للآخر: إبراء. وجه ذلك: أن غاية ما حصل أن بقيت السلعة التي يعتقد أنها ملكه في يده. - أن السلعة التي بقيت معه تعتبر ملكه بقي في يده. لماذا؟ لأن المدعى عليه ينكر أن تكون هذه السلعة للمدعي ويعتبرها له. فإذاً العقد بالنسبة له عقد إبراء. - يقول - رحمه الله -: - فلا رد. / صورة المسألة/ إذا ادعى زيد على عمرو أن هذه السيارة له/ المدعى عليه: عمرو. فصالحه عمرو عن السيارة بمائة ألف. لما ركب السيارة وجدها معيبة. نقول: ليس لك الرد بالعيب. لماذا؟ لأن هذه السيارة ملكك ولم تعاوض عنها عقد معاوضة للمدعي. فهي ملكك بقيت في يدك. فليس لك الرد. - يقول - رحمه الله -: - ولا شفعة.

كذلك ليس في هذه العين شفعة لأنها ملكه بقيت في يده. / صورة المسألة/ أن يدعي زيد على عمرو نصف البيت الذي هو فيه. ونصفه يكون لمن؟ لشخص آخر. ثم يصالح عمرو زيد على البيت الذي هو فيه الآن ويعطيه ثمناً له خمسين ألفاً. فهل لشريك زيد أن يُشَفِّع؟ ((الآن: زيد يسكن في بيت له نصفه. ادعى عمرو عليه أن هذا البيت ملكاً له - يعني لعمرو - صالحه زيد فقال: هذا البيت لي وأنا صأصالحك عنه بخمسين ألف ريال. تم الصلح. لما علم جار زيد أنه وقع صلح قال أنا سأشَفِّع وآخذ هذا البيت منك.) ( ..... ) لأنه بقي في ملكه. والشفعة إنما تكون في أي عقد؟ في عقد البيع. يعني: عند انتقال السلعة أو شقص العقار إلى شخص آخر. هنا لا يوجد انتقال أنه يعتقد أن ملكه ما زال باقياً في يده. وهذا قد يتوهم بعض الناس أن له الشفعة في مثل هذه الصورة. والصواب: أن العقد عقد إبراء. - ثم قال - رحمه الله -: - وإن كذب أحدهما: لم يصح في حقه باطناً وما أخذه حرام. (وإن كذب أحدهما) سواء كان المدعي أو المدعى عليه فما أخذه محرم عليه. ((الأذان)) - يقول - رحمه الله -: - وإن كذب أحدهما: لم يصح في حقه باطناً وما أخذه حرام. وهذا يشمل إذا كان الكاذب المدعي أو كان الكاذب المدعى عليه. وإذا كان كاذباً فالعقد والصلح والتسليم والاستلام في الظاهر وفي معاملات الناس: صحيح ونافذ. وأما في الباطن: فهو محرم على الكاذب. وذلك لأن الكاذب أخذ مال غيره بغير حق. وأكل مال الناس بالباطل محرم. - ثم قال - رحمه الله -: - ولا يصح: بعوض عن حد سرقة وقذف. يعني: معنى المسألة/ أنه لا يجوز أن يصالح إنسان سارقاً أو قاذفاً أوشارباً للخمر أو زانياً على أن لا يرفعه للسلطان بعوض معلوم متفق عليه. هذا الصلح: باطل. فإذا وجده سكراناً أو يزني أو سمعه يقذف وأراد أن يرفعه إلى السلطان. فقال: اترك رفعي إلى السلطان وأعطيك كذا وكذا. لا ترفعني إلى السلطان وأعطيك كذا وكذا. فهذا الصلح باطل. بل ومحرم. لأمور: - الأمر الأول: أن الرفع إلى السلطان ليس من الحقوق التي يأخذ الإنسان عنها عوضاً. - ثانياً: أن هذا من المصالحة على حقوق الله. وموضوع الصلح هو ما يقع بين العباد في حقوقهم.

- وثالثاً: لأن هذا الصلح لو صححناه لأصبح وسيلة لتعطيل الحدود. وذكر بعض الفقهاء ضابطاً مريحاً لطالب العلم: وهو: ((أن الصلح إنما يجوز عن الحقوق التي يجوز الاعتياض عنها فقط)). مثال ذلك/ القصاص حق يجوز الاعتياض عنه: بأخذ الدية. فيجوز أن تصالح عن القصاص بأخذ عوض كالدية أو أقل أو أكثر. وممن ذهب إلى جواز أخذ أكثر من الدية بالذات في القصاص عدد من الصحابة منهم الحسن والحسين وسعد بن أبي وقاص - رضي الله عنهم -. القصاص من الحقوق التي يجوز الاعتياض عنها. مثال ثان/ بدل العين المتلفة. أليست من الحقوق التي يجوز الاعتياض عنها؟ بدل العين أو المبيع المعيب: فيجوز الاعتياض عنه. كل هذه الأمور يجوز الصلح عنها أما حدود الله فهي ليست مما يجوز الاعتياض عنه فلا يجوز الصلح فيه. - ثم قال - رحمه الله -: - ولا حق شفعة. حق الشفعة: وحق الخيار: لا يجوز الاعتياض عنه. - أما حق الشفعة فهو موضوع. يعني: فالمنع منه: لأنه موضوع لدفع الضرر بالشراكة. فإذا رضي بالصلح تبين أنه لا ضرر عليه فسقط حقه. ((أما الشفعة فلأنها موضوعة لدفع الضرر الحاصل بالاشتراك فإذا رضي الشريك بالصلح تبين أن لا ضرر عليه فسقط حقه)). وإذا سقط حقه وبطل العوض لا يرجع للشفعة. = والقول الثاني: أن المصالحة عن حق الشفعة صحيح لأن حق الشفعة من الحقوق المالية. يعني: من الحقوق التي تؤول للمال فيصح أخذ العوض عنها. هذا والله أعلم وصلى الله على نبينا محمد ...

الدرس: (27) من البيع قال شيخنا حفظه الله: بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين. - يقول المؤلف - رحمه الله -: - ولا حق شفعة. تقدم معنا الكلام عن الشفعة والخيار وذكر الخلاف في الشفعة والخيار. إذاً: قوله: (ولا حق شفعة ولا خيار) ذكرنا الخلاف والراجح جواز الحق في الشفعة: يعني: جواز الصلح بعوض عن حق الشفعة وحق الخيار. - ثم قال - رحمه الله -: - وترك شهادة.

معنى قوله: (وترك شهادة). يعني: ولا يصح أن يصالح على ترك شهادة سواء كانت الشهادة لإثبات حق من حقوق الله أو إثبات حق من حقوق العباد. صورة المسألة/ أن يقول رجل لمن يشهد عليه: (لا تشهد علي بوجوب الزكاة ولك كذا وكذا). هذا بالنسبة لحق الله. وبالنسبة لحق العبادة أن يقول: (لا تشهد علي بثبات الدين ولك كذا وكذا). فهذا الصلح على ترك الشهادة: محرم. لأنه صلح يؤدي إلى محرم. لأن كتم الشهادة التي توصل الحق إلى أصحابه: محرم. فالصلح على محرم: محرم. ولذلك يقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: (الصلح جائز بين المسلمين إلا صلحاً أحل حراماً أو حرم حلالاً). - يقول - رحمه الله -: - وتسقط الشفعة والحد. أي: أن مذهب الحنابلة أنه مع إبطال الصلح على حق الشفعة إلا أنه مع ذلك يسقط حقه في الشفعة لأنه كما تقدم معنا لما صالح تبينا أنه لم يتضرر من المشاركة فسقط حقه في الشفعة. وهذا مبني على ما تقدم من أن الحنابلة يرون أنه لا يصح الصلح على الشفعة. = وعلى القول الثاني: الذي تقدم وهو صحة الصلح على الشفعة لا نحتاج إلى مسألة يسقط أو لا يسقط حقه من الشفعة لأنا نصحح الصلح أصلاً. يقول: (ويسقط الحد). يقصد بالحد هنا: حد القذف. وفي الحقيقة لو صرح بهذا لكان هو الأحسن والأسلم إذ مقصود الحنابلة بسقوط الحد سقوط حد القذف فقط. وسقوط حد القذف في هذه المسألة مبني على مسألة أخرى وهي: هل القذف من حقوق الله أو من حقوق الآدمي: أي: من حقوق المقذوف؟ فإن كان من حقوق الله لم يسقط ولو صالح عليه. وإن كان من حقوق الآدمي: سقط إذا صالح عليه. لأنا تبينا أنه رضي بالتنازل عن حقه في إقامة حد القذف على قاذفه. والحق إليه، فلما أسقطه سقط. إذاً: الحنابلة يسقطون الشفعة والحد مع إبطال الصلح. إلا أن الصلح الذي تم صار علامة وقرينة على أن صاحب الشفعة وصاحب الحد تنازلوا عن حقوقهم. و [ ..... ] بهذا انتهى الكلام عن الصلح وانتقل المؤلف - رحمه الله - ليتكلم عن أحكام الجوار بين الجارين بداية من قوله: (وإن حصل ... إلى آخره). - قال - رحمه الله -: - وإن حصل غصن شجرته في هواء غيره أو قراره: أزاله.

عبر المؤلف - رحمه الله - بقوله: (إن حصل). ليشمل ما إذا وجد الغصن بلا فعل من الجار بأن يمتد وينمو إلى أن يصل إلى هواء جاره أو بفعله بأن يوجه الأغصان إلى بيت الجار: فيشمل الجميع. والغالب أن حصول الأغصان في بيت الجار يكون بغير فعل مالك الشجرة. فالمؤلف - رحمه الله - يقول: إذا حصل ووجدت الأغصان في بيت الجار فإنه يجب على الجار أن يزيل هذا الضرر بإبعاد الغصن. والدليل على هذا: - أن الهواء بالنسبة للجار ملك له ولا يجوز للإنسان أن ينتفع بملك غيره إلا بإذنه. وظاهر عبارة المؤلف - رحمه الله -: أن الجار صاحب الشجرة لا يجب عليه إزالة الغصن إلا إذا طلب منه جاره ذلك فإن سكت فإنه لا يجب على الجار أن يزيل الغصن ولو تأذى جاره ولو رأى أنه متأذي. إنما يجب في صورة واحدة ونهي: ما إذا طلب الجار منه ذلك. والصحيح أن الإنسان إذا رأى أغصان شجرته آذت جاره فإنه يجب عليه وجوباً أن يزيل هذا الضرر ولو بلا طلب من الجار. - لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - أوصى بالجار فكيف بالإضرار به. - وثانياً: لأنه - صلى الله عليه وسلم - يقول: (لا ضرر ولا ضرار). والضرر منفي ويجب أن يرفع ولو بلا طلب من المتضرر. فالأقرب والله اعلم أنه يجب عليه أن يبادر بإزالة الضرر إذا علم أن الأغصان تضر. وإذا رأى أو ظن أن الأغصان وإن وجدت في بيت جاره فإنها لا تضره فإنه والحالة هذه لا يجب عليه أن يزيل الأغصان إلا بطلب الجار. والمؤلف - رحمه الله - يقول: (في هواء غيره أو قراره) يعني: إذا امتدت الأغصان في الهواء فوصلت إلى هواء الجار أو دبت على الأرض ووصلت إلى أرض الجار ففي الصورتين يجب عليه وجوباً أن يزيل الضرر إذا طلبه جاره. وعلى القول الثاني: يجب أن يبادر بإزالة الضرر متى علم بوجوده ولو بلا طلب من الجار. إذاً: يستوي الأمر بين أن تكون الأغصان في الهواء أو يدب دبيباً على الأرض فالأمر واحد. المهم أو قاعدة المسألة: أنه لا يجوز الانتفاع بملك الغير إلا بإذنه. سواء كان الهواء أو الأرض. - ثم قال - رحمه الله -: - فإن أبى: لواه إن أمكن، وإلاّ فله قطعه. إن أبى: يعني: صاحب الأغصان. لواه: يعني: صاحب الهواء. وأرجعه إلى بيت صاحب الشجرة.

فإن لم يندفع قطعه. وهذا معنى قول المؤلف - رحمه الله -: (إن أمكن وإلا فله قطعه). حكم المسألة/ أنه إذا أبى الجار مالك الشجرة أن يزيل ضرر الأغصان فللجار مالك الهواء أن يزيل هذا الضرر لكن يجب عليه وجوباً أن يتدرج في إزالة الضرر. فإن أمكن إزالة الضرر بمجرد اللي والإبعاد: فيجب أن يقتصر على ذلك. فإن قطعه مع إمكان إزالته باللي: ضمنه. وإن لم يمكن إزالته مطلقاً إلا بالقطع: فله أن يقطعه ولا ضمان عليه. لأن حكم هذه المسألة كحكم دفع الصائل. وهذه الشجرة كالصائل على ملك جاره. وسيأتينا أن دفع اصائل يجب أن يتم بالتدريج: يبدأ بالأهون فالأهون. عكس ما يفعله بعض الناس: التدريج عنده أن يبدأ بالأصعب وهذا لا يجوز وهو يضمن ولو تأذى إذا بدأ بالأعلى: ضمن. ولاحظ عدالة الشرع إذ أن صاحب الشجرة أبى أن يزيلها ومع ذلك نلزم المتضرر أن يدفع الضرر بالتدريج مع ان المالك للأغصان أبى أن يزيل الضرر. لكن مع ذلك يجب أن يزيله بالتدريج فإن تعدى مرحله قبل أخرى ضمن. وظاهر كلام المؤلف - رحمه الله - أنه لا يجب على المالك بنفسه أن يزيل الضرر لأن المؤلف - رحمه الله - أسند إزالة الضرر إلى مالك الهواء. وعلل الحنابلة ذلك: أي: عدم وجوب إزالة الأغصان على المالك: - بأن هذا الامتداد والنمو حصل بغير فعله. فلم يجب عليه إزالته. بناء عليه: فللجار أن يقول لجاره: إن تأذيت بالأغصان فأنت تصرف بها إزالة أو قطعاً أو لياً أو ربطاً .. إلى آخره. ولا يجب على المالك أن يزيل هو. إذا تضررت فأزله أنت لأن نمو هذه الأشجار بغير إرادتي. هذا هو مذهب الحنابلة فعلاً ولا يجب عليه هو أن يزيل ولا أن يحظر من يقلم الأشجار ولو تضرر الجار. = والقول الثاني: انه يجب على المالك أن يزيل. - لأنه وإن كان بغير فعله إلا أنه نماء ملكه. فوجب عليه هو أن يزيله. ويترتب على هذا الخلاف نفقة الإزالة إذ قد تكون نفقة الإزالة مرتفعة فيما إذا كانت الأشجار كثيرة. والراجح إن شاء الله: القول الثاني. * * مسألة/ تتعلق بهذا الحكم وهي: أنه يجوز أن يتصالح الجاران على ثمن لإبقاء الأغصان. كأن يقول: ادفع لي كذا وكذا وأسمح بامتداد الأغصان. وهو صلح جائز ولا حرج فيه.

وأشبه ما يكون بالإجارة. كأنه اجره الهواء. والهوار تبع للقرار كما تقدم معنا. * * مسألة/ ولهم أن يتصالحوا على الثمرة بجزء معلوم. كأن يقول: دع الأغصان كما هي. وما فيها من ثمرة: لك نصفه ولي نصفه. فإن قيل: كيف يصح هذا الصلح والثمرة مجهولة: إذ قد تكون ثمرة هذا الجزء من الشجرة كثيرة وقد تكون قليلة وقد لا تنبت الشجرة.؟ فالجواب: أن هذا الصلح هو في الحقيقة من باب تبادل المنافع لا من باب البيع الذي يشترط فيه العوض والعلم ونفي الجهالة. كأنه قال: لي هوائك ولك الثمرة. فهو من باب تبادل المنافع لا أكثر. فجازت فيه الجهالة. ثم انتقل المؤلف - رحمه الله - إلى موضوع آخر: - فقال - رحمه الله -: - ويجوز في الدرب النافذ: فتح الأبواب للإستطراق. الدرب النافذ هو: الدرب المفتوح الذي لا ينغلق على مجموعة معينة من الجيران. هذا هو الدرب النافذ. المؤلف - رحمه الله - يقول: (ويجوز في الدرب النافذ: فتح الأبواب للإستطراق) يجوز للإنسان إذا كان بيته على درب نافذ لا على درب مغلق أن يفتح ما شاء من الأبواب وأن يستطرق هذا الطريق. يعني: يجعله طريقاً له في دخوله وخروجه. والدليل على جواز هذا: - أن هذا الطريق ملك لجميع المسلمين وهو من جملة المسلمين فجاز له أن ينتفع ويرتفق به. لأن الطريق المفتوح لا يعتبر ملك للبيوت التي عليه. وإنما هو ملك لجميع المسلمين لأنه مفتوح. فيمر من عند هذا الطريق من بيته على الطريق ومن بيته في مكان آخر. بخلاف الطريق المغلق كما سيأتينا فإنه لا يمر به غالباً إلا أصحاب البيوت. أليس كذلك؟! إذ يقل أو يندر أو لا يوجد أن يمر إنسان من طريق مسدود ليس له فيه بيت. فإن قيل: ربما جاء للزيارة: فهذا نادر لا حكم له. إذاً الخلاصة أن الطريق المفتوح للجميع يجوز للإنسان إذا كان بيته عليه أن يفتح باباً وأن يستطرق فيدخل ويخرج وينتفع بالطريق لأنه من جملة المسلمين الذين يملكون هذا الطريق. ثم ذكر المؤلف - رحمه الله - مسألة أخرى تتعلق أيضاً بالطريق المفتوح. - فقال - رحمه الله -: - لا إخراج روشن وساباط. يعني: لا يجوز أن في الدرب المفتوح إخراج الروشن والساباط.

الروشن: هو الشرفة التي تبنى لها القواعد في أصل جدار البيت وتمتد إلى الخارج. ويظهر لي أنها أشبه ما تكون في وقتنا الحاضر بالبلكونة. وأما الساباط: فهو ما يشغل جميع الهواء ويتكيء على البيتين. وهذا في القديم كثير جداً. وفي الحديث: لا يوجد. فما نرى الساباط الآن في البيوت المسلحة لكن لو دخلت أحد الأحيار القديمة فستجد الساباط وهو البناء الذي يمتد بين البيتين فإنه كثير جداً. = الحنابلة يرون: أنه لا يجوز للإنسان أن يضع هذين الشيئين في الطريق المفتوح الممتد. واستدلوا على هذا: - بقولهم: أن هذه الطريق ملك لجميع المسلمين ولا يجوز للإنسان أن ينتفع بملك غيره إلا بإذنه. فالإرتفاق بالطريق ببناء هذين البنائين: محرم واعتداء على حقوق المسلمين. = والقول الثاني: أن بناء الساباط والروشن أو الشرفة أو الجناح: جائز. بشرط أن لا يؤذي المارة. واستدلوا على هذا: - بأن الانتفاع بهذا الملك يشبه استطراق الطريق. فإذا جاز له أن يستطرق الطريق جاز له أن يبني الشرفة والساباط. - واستدلوا على هذا: بأن الناس في حاجة شديدة إلى مثل هذين: أي الشرفة والساباط. - واستدلوا على هذا: بأن الانتفاع مع اشتراط عدم الضرر لا محظور فيه. وهذا القول الثاني: يظهر والله أعلم أنه أرجح كما أن العمل في القديم عليه فتجد الرواشن والساباطات تملأ الشوارع. فالعمل عليه والأظهر إن شاء الله أنه جائز. * * مسألة/ فإن أذن الحاكم جاز بلا شكال لأن الحاكم يمثل المسلمين فإذنه كإذنهم. بناء على هذا: إذا أخذ الإنسان إذناً من البلدية يخرج من منزله شرفة تمتد إلى وسط الطريق فإن هذا العمل لا بأس به. بشرط: أن لا يؤذي. ولذلك ما نراه الآن أحياناً من وجود الجسر بين بنائين يمر من فوق في الطريق المفتوح لا حرج فيه ما دام لا يؤذي. ويمكن أن تمر من تحته حتى السيارات المحملة بالأشياء الكثيرة. فما دام أنه لا يؤذي فإنه جائز لا سيما وأنه لا يبنى اليوم إلا بإذن من البلديات وهي تمثل ولي الأمر. - ثم قال - رحمه الله -: - ودكة. الدكة: بناء مسطح يتخذ للجلوس بجوار جدار البيت. والدكة: لا تجوز عند الحنابلة. بل حكي الإجماع على تحريمها. واستدلوا على هذا:

- بأنها تؤذي وتضر المارة ضرراً ظاهراً وتضيق الطريق. فإن قيل: ما الفرق بين الدكة وبين اتخاذ الناس المجالس وقد أذنت السنة به بشروطه؟ ما الفرق بين أن يجلس الإنسان على حافة الطريق وبين أن يتخذ دكة؟ الجواب: الفرق بينهما: أن الدكة دائمة ومستقرة والجلوس عارض ويزول. وفرق بين ما يدوم وما يزول. وهذا القول الذي حكي الإجماع عليه: صحيح والدكة مؤذية بلا إشكال وتضيق الطريق وهي دائمة وضررها من حيث تضييق الطريق أمر ظاهر جداً ولعله لهذا أجمع عليه بخلاف الروشن والساباط فإنه لا يؤذي ولا يضيق الطريق فإن الإنسان يمر من تحته. بل إن له بعض الأحيان منافع إذ قد يستظل الإنسان به من حر الشمس أو من نزول المطر. - ثم قال - رحمه الله -: - وميزاب. أي: ولا يجوز للإنسان أن يجعل الميزاب ممتداً إلى الطريق المفتوح النافذ. والمنع من اتخاذ الميزاب من مفردات الحنابلة. وكذلك الروشن والساباط من مفردات الحنابلة. استدل الحنابلة على المنع من اتخاذ الميزاب بأدلة: - الدليل الأول: أنه يؤذي المارة بخروج الماء عليهم. ويؤذي المارة بجعل الطريق طيناً. - واستدلوا على هذا أيضاً: بأنه انتفاع بملك غيره بلا إذنه. فعلى هذا يجب على صاحب البيت أن يجعل مخرج المياه إلى الداخل لا إلى الخارج. = والقول الثاني: أن اتخاذ الميزاب جائز ولا حرج فيه بل قال شيخ الإسلام: هو السنة. أي: اتخاذه. لوجوده في العهد النبوي. واستدلوا على الجواز أيضاً: - أن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - مر على دار العباس وفيها ميزاب فقال العباس لعمر - رضي الله عنه - أتقلعه وقد وضعه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال عمر - رضي الله عنه - والله لا تضعه إلا على ظهري. - رضي الله عنه وأرضاه - فصعد على ظهره ووضع الميزاب في مكانه. فهذا دليل من وجهين: - الوجه الأول: أن الذي وضعه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. - الوجه الثاني: أنه معتاد في العصر النبوي. وهذا الأثر لا يصح. ولا أظن أن عمر بن اخطاب يجهل مثل هذه السنة وهي مشهورة. الراجح: القول الثاني: وهو جواز وضع الميزاب. ومما يدل على رجحان هذا القول أن وضع الماء إلى الداخل مؤذي جداً ويسبب الضرر على أهل البيت.

- ثم قال - رحمه الله -: - ولا يفعل ذلك في ملك جار. الإشارة بقوله - رحمه الله -: (ذلك) إلى وضع هذه الأشياء التي ذكرها المؤلف - رحمه الله -: الساباط والروشن والميزاب والدكة. فليس له أن يجعل هذه الأشياء في ملك جاره. وهذا صحيح: لأن ملك اجار ملكاً خاصاً ولا يجوز للإنسان أن ينتفع بالملك الخاص إلا بإذن صاحبه. فلا يجوز أن يبني البلكونة خارجة عن حدود أرضه ولا أن يجعل الميزاب إلى جاره لأن هذه الأراضي أموال خاصة لا يجوز للنسان أن ينتفع منها بشيء إلا بإذن صاحبها. وهذا الحكم ثابت ولو كان الجار لم يبني إلى الآن ولا يتضرر بسقوط الماء عليه لأن الإنسان حر في ملكه تضرر أو لم يتضرر. فلا يجوز أن يفعل ذلك إلا بإذن جاره. - ثم قال - رحمه الله -: - ودرب مشترك: بلا إذن المستحق. انتقل المؤلف - رحمه الله - إلى النوع الثاني من الطرق وهو الدرب المشترك. ويمكن أن تقول: الدرب غير النافذ لأنه يلزم من كونه غير نافذ أن يكون مشتركاً بين البيوت التي عليه. فهذا الدرب لا يجوز أيضاً أن يضع الإنسان فيه الروشن أو الساباط ولا الميزاب ولا أن يضع دكة بجوار بابه. هذه أربعة أبنية لا تجوز عند الحنابلة لا في الدرب النافذ ولا في الدرب غير النافذ. نحن الآن في الدرب غير النافذ. لا يجوز وضع هذه الأشياء لأن الدرب النافذ ملك لأصحاب البيوت التي تطل عليه فقط غلا يجوز أن نفعل ذلك إلا بإذنهم فإذا أذنوا وهم أصحاب الحق: جاز وإلا فلا. لأنه من الانتفاع في ملك الغير بغير إذنه. = القول الثاني: الجواز. واستدلوا أيضاً: - بأن لصاحب البيت أن ينتفع بالطريق استطراقاً وجلوساً فكذلك أن يبني هذه الأبنية. ويشترط على هذا القول: أن لا تضر بأصحاب الطريق. سواء كان هذا الضرر معهوداً أو غير معهود. فلا يجوز إذا كانت هذه الأبنية تضر أن تبنى. والخلاف في هذه المسألة قريب من الخلاف في المسألة السابقة إلا أن الجواز في مسألة الطريق النافذ أقوى من الجواز في مسألة الطريق غير النافذ. لماذا؟ لأن أصحاب الطريق غير النافذ أخص من أصحاب الطريق النافذ. - لأن أصحاب الطريق غير النافذ هم فقط أصحاب البيوت التي على الطريق.

وأما أصحاب الطريق النافذ فهو جميع المسلمين ومنهم صاحب هذا الروشن أو الساباط. - ثم قال - رحمه الله -: - وليس له وضع خشبه على حائط جاره: إلاّ عند الضرورة إذا لم يمكنه التسقيف إلاّ به. أفاد المؤلف - رحمه الله - أنه يجوز للجار أن يضع خشبه على جدار جاره بشروط. - الشرط الأول: أن لا يكون في الوضع ضرر على الجدار. وهذا الشرط محل إجماع. - الشرط الثاني: أن يكون بحال الضرورة لوضع خشبه على جدار جاره. فإن لم يكن بحال ضرورة وإنما حاجة فقط فإنه لا يجوز. ومثل المؤلف - رحمه الله - على الضرورة بأن لا يستطيع تسقيف الغرفة إلا بوضع الخشب على جدار الجار. ومن المعلوم أن تسقيف الغرفة ضرورة لأنه لا يمكن للإنسان أن يعيش في غرفة مفتوحة الغما. واستدل الحنابلة على هذا الحكم: - بقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: (لا يمنعن أحدكم جاره أن يضع خشبه على جداره). والحديث نص في المسألة. = القول الثاني: أنه لا يجوز مطلقاً أن يضع الإنسان خشبه على جدار جاره ملطقاً. - لأن جدار الجار ملك خاص لا يجوز الانتفاع به إلا بإذنه. = القول الثالث: أنه يجوز وضع الخشب على جدار الجار ولو للحاجة بلا ضرورة. فيكون الشرط عند أصحاب القول الثالث عدم الضرر فقط. ما هو دليلهم؟ - الحديث السابق: وجه الاستدلال: الإطلاق. فهو وجه الاستدلال فإن الحديث عام: (لا يمنعن أحدكم جاره أن يضع خشبه على جداره) فلم يخصص بحال الضرورة أو حال الحاجة أو سوى ذلك. فاشتراط الضرورة لا دليل عليه. وإلى هذا القول: ذهب ابن عقيل من الحنابلة. وهو في الحقيقة من وجهة نظري هو الراجح: لأن الحديث عام وتخصيصه بلا مخصص لا معنى له. وما دمنا نشترط أن لا يكون هناك ضرر على الجار فبأي حق يمنع. * * مسألة/ على القول بأنه للجار أن يضع خشبه على جدار جاره - على هذا القول - له أن يضع ولو لم يأذن الجار ولو امتنع وعلى الحاكم أن يجبره. * * مسألة/ لو حكم حاكم - يعني: قاضي - بعدم جواز وضع الخشب على جدار الجار فللقاضي الآخر إذا عرضت عليه أن ينقض الحكم وقد نص الإمام أحمد - رحمه الله - على ذلك. والسبب أنه خالف بذلك حديثاً صريحاً صحيحاً. وإذا خالف حكمه حديثاً صريحاً صحيحاً وجب نقضه.

ونحن لا نقول ينقض مباشرة لكن نقول إذا عرضت القضية على قاض آخر فله أن ينقض الحكم السابق لمخالفته لصريح السنة. * * مسألة/ على القول بجواز وضع الخشب على جدار الجار لا يلزم الجار بإنشاء جدار آخر في منزله لوضع الخشب عليه ولو أمكن. إذاً تبين الآن أن الراجح هو: جواز وضع الخشب على الجدار إما في حال الضرورة الحاجة على حسب الخلاف. كيف نجيب على دليل أصحاب القول الثاني: والنبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: (لا يحل مال امرئ مسلم إلا بطيب نفس منه). تقدمت معنا قاعدة مفيدة في الترجيح: ((أن الدليل الخاص بالمسألة مقدم على الدليل العام ولو كان الدليل العام صحيحاً ومتوجهاً)). لكن ما دام في المسألة دليل خاص فلا ننظر إلى الأدلة العامة. - ثم قال - رحمه الله -: - وكذلك المسجد وغيره. يعني: والحكم في وضع الخشب على جدار المسجد كالحكم في وضعه على جدار الجار تماماً. بالتفصيل السابق. فيجوز أن يضع بالشروط التي ذكرها الحنابلة. = وعن الإمام أحمد - رحمه الله - رواية ثانية أنه لا يجوز وضع الخشب على جدار المسجد وإن جاز وضعه على جدار الجار. واستدل الإمام أحمد - رحمه الله - بأن الحديث نص على جدار الجار ولم يذكر جدار المسجد. واختار هذه الرواية: من الحنابلة أبو بكر: وهو من كبار الحنابلة وله ترجمة ممتعة لو رجعتم إليها لكان مفيداً. والراجح: القول الأول: وهو أن المسجد كغيره. والمرجح لهذا القول: أن حقوق الله يدخل فيها المسامحة أكثر من حقوق العباد لكرمه وفضله. فإذا جاز في جدار الآدمي ففي جدار الوقف من باب أولى. - ثم قال - رحمه الله -: - وإذا انهدم جدارهما أو خيف ضرره، فطلب أحدهما أن يعمره الآخر معه: أُجبر عليه. ذكر المؤلف - رحمه الله - مسألتين: - المسألة الأولى: إذا انهدم الجدار الذي بني بين الجارين وهو ملك لهما. يعني: ملك مشترك. فإذا انهدم وطلب أحدهما من الآخر أن يشتركا في البناء والترميم وجب وجوباً على الآخر أن يجيب. وهذه المسألة أيضاً من مفردات الحنابلة. واستدلوا على هذا الحكم: - بأن ترك بناء الجدار يؤدي إلى الإضرار وهو ملك لهما فوجب عليهما أن يشتركا في بنائه. = القول الثاني: أنا لا نجبر الجار على بناء الجدار.

واستدلوا بدليلين: - الأول: أن الإنسان لا يلزم بتعمير ملكه. فلا يلزم يتعمير ما ملكه مع غيره. - الثاني: أن الإنسان لا يلزم بالنفقة على غير المحترم. ويقصدون بالمحترم: الذي له نفس. يهلك إذا لم ينفق عليه. وإذا لم يجب عليه فلا يجوز أن نلزمه بغير واجب. وإلى هذا ذهب ابن قدامة. فمال إلى أنه لا يلزم. إذا لم يرد بناء جدار لايلزم. أي القولين أرجح؟ في الحقيقة تتجاذب المسألة أدلة قوية لكن الراجح فيما يبدو لي: أنه لا يلزم إذا أبدى عذراً صحيحاً ويلزم بدون ذلك. فإذا أبدى عذراً واضحاً لم نلزمه وإذا امتنع إضراراً ألزمناه. وهذا القول وسط لا ضرر عليه إذا امتنع بسبب وجيه ولا نلزمه بعد ذلك وإذا اعتذر بعذر غير وجيه نلزمه. وفي الغالب الذي يتولى تقدير عذر الممتنع هو: القاضي بلا شك. ليخرج من الخلاف بين الأشخاص ويفصل القاضي بين الخصوم. - المسألة الثانية: إذا خيف ضرره. إذا خيف ضرر الجدار بأن ينهدم وجب على كل منهما إقامة الجدار والنفقة عليه. وهذا لا إشكال فيه. لأن بقاء الجدار مع خوف الانهدام فيه ضرر ظاهر. والهلاك بسقوط الجدار على الإنسان غالب. فيجب وجوباً النفقة عليه إذا خيف ضرره. فإذا انهدم رجعنا إلى المسألة السابقة. - ثم قال - رحمه الله -: - وكذا النهر والدولاب والقناة. يعني: والحكم نفسه إذا تهدم الدولاب أو القناة أو النهر وطلب أحد الشريكين من الآخر أن يصلحها وجب على الجميع الاشتراك في الإصلاح. والنهر: هو الماء الجاري الذي يشتط منه للمزارع أي من النهر الكبير. فهذا النهر الصغير يسمى أيضاً نهراً. والدولاب: هي آلة تستعمل في إخراج الماء إما عن طريق الإدارة بالحيوانات أو بالماء. والقناة: حسب ما يقول الحنابلة: هي الآبار التي تحفر متقاربة يخرج الماء منها على سطح الأرض. هكذا فسر الحنابلة القناة مع أن الذي يتبادر إلى الذهن من كلمة القناة أنها قناة ممتدة لتوصيل الماء. لكن هم يرون أنها الآبار. فهذه الأشياء إذا انهدمت وتعطلت وجب على الشريكين الاشتراك في إصلاحها. والقول بوجوب إصلاح مثل هذه الأشياء - الثلاثة الأخيرة - أوجه وأوجب من القول بوجوب إصلاح الجدار.

باب الحجر

لأن هذه الأشياء إذا تعطلت مات الزرع. والنبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: (لا ضرر ولا ضرار). وأي ضرر أعظم من أن يترك الإنسان زرعه الذي تعب عليه طوال السنة بلا سقي فيموت ويخسر ما استدان في إقامته. فيجب في الحقيقة. والقول بالوجوب متوجه جداً في مثل هذه الأشياء. نفس الشيء: اليوم لو اشترك الجاران بالمزرعة بحفر بئر ووضع الماكينة التي تخرج الماء فخربت فيجب وجوباً عند الحنابلة وهو القول الأقرب أن يشترك في إصلاحها وسقي الماء بها لأن تركها فيه ضرر ظاهر. وبهذا انتهى باب الصلح وندخل إن شاء الله في باب الحجر .. ((الأذان)). باب الحجر - قال - رحمه الله -: - باب الحجر. الحجر في اللغة: المنع والتضييق. وغالب استخدامات الحجر عند الفقهاء في الحجر الحسي كما سيأتينا وهو المنع من البيع والشراء. والعوام اليوم يستخدمون الحجر في الحجر المعنوي. وفي الحقيقة لم يتبين لي هل لغة تستخدم في الحجر الحسي والمعنوي. يعني: في المنع سواء كان منعاً حسياً أو معنوياً. أو لا تستخدم إلا في الحسي. لم يتبين لي من كتب اللغة ما يفيد هذا الأمر إنما العوام يستخدمونها اليوم. فإذا حصل نقاش ومناظرة يستخدمون كلمة حجره. يعني: منعه وضيق عليه. فهي من جهة المعنى صحيحة لكن هل تستخدم أو لا. وشرعاً: الحجر هو منع الإنسان من التصرف بماله. وأصل المشروعية: قوله تعالى: {ولا تؤتوا السفهاء .. } [النساء/5]. وينقسم الحجر إلى قسمين: - لحظ النفس. كالحجر على الصغير أو السفيه أو المجنون. - والحجر لحظ الغير. كالحجر على المفلس أو على المريض إذا تبرع بأكثر من الثلث وهو لحظ الورثة. نكتفي بهذا .. سبحانك اللهم وبحمدك أشهد أن لا إله إلا أنت أستغفرك وأتوب إليك ...

الدرس: (28) من البيع قال شيخنا حفظه الله: بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين. تقدم معنا أن الحجر له قسمان: - محجور لحظ نفسه. - ومحجور لحظ غيره. فالمؤلف - رحمه الله - بدأ بالكلام عن المحجور لحظ غيره: لأنه الأكثر وقوعاً والحاجة إليه أكثر. كما أن ضياع الأموال بالنسبة للمحجور عليه لحظ غيره أكثر منها بالنسبة للمحجور عليه لحظ نفسه. وسيبين المؤلف - رحمه الله - أنواع المدين المحجور عليه لحظ نفسه. وسيأتينا اقتصاراً حتى تتصور المسأة أنها ثلاثة أقسام. وأن الذي يحجر عليه منها قسم واحد - سيأتينا: - فالقسم الأول: - إجمالاً -: هو الذي لا يستطيع أن يوفي الدين. - القسم الثاني: هو الذي يستطيع أن يوفي الدين. - القسم الثالث: هو الذي يستطيع أن يوفي بعض الدين. فقسمة المدين هنا ثلاثية. وسيأتينا الآن حكم كل واحد من هؤلاء الأقسام. فالقسم الأول: - يقول المؤلف - رحمه الله -: - ومن لم يقدر على وفاء شيء من دينه: لم يطالب به. هذا هو القسم الأول: الذي لا يقدر على وفاء شيء من دينه وهو المسمى عند الفقهاء بالمعسر. فهذا لا يملك ما يؤدي به أي شيء من الدين. ولاحظ عبارة المؤلف - رحمه الله -: (على وفاء شيء من دينه) يعني: لا يستطيع أن يوفي أي شيء من دينه فهو معسر وحكمه في الشرع: أنه لا يطالب. ولهذا قال المؤلف - رحمه الله -: (لم يطالب به). إذاً المعسر لا يجوز أن نطالبه. - لقوله تعالى: {وإن كان ذو عسرة فنظرة إلى ميسرة} [البقرة/280] فأمر الله بإنظاره إلى أنى يتيسر له ما يسد به الدين. وحكم مطالبته وهو معسر: محرم. والطالب: آثم. لأمرين: - أولاً: لأنه خالف الآية. - وثانياً: لأنه آذى أخاه المسلم فإن هذا الشخص لا يستطيع أن يسدد فلا تزيده المطالبة إلا إحراجاً ومضرة. ولا يجوز أن يحجر عليه: وهذا الذي يهمنا - ولهذا: - يقول المؤلف - رحمه الله -: - وحرم حبسه. فلا يطالب ولا يحبس ولا يحجر عليه. وكل هذه المسائل مبنية على المسألة الأولى وهي: أنه لا يجوز أن يطالب. فمن لا يجوز أن يطالب لا يجوز أن يحبس ولا يجوز تبعاً لهذا أن يحجر عليه. لأن أول مراحل المعاملة مع المدين: الطلب. فإذا لم يجز أن نطلب: سقط كل ما بعد الطلب من الحبس والحجر. إذاً: المعسر لا يطالب ولا يحجر عليه ولا يحبس.

ومن وجهة نظري لو أن المؤلف - رحمه الله - صرح أنه لا يحجر عليه وإن كان مفهوماً من كلامه لكن لما كان الباب مخصص للحجر وهو لبيان حكم الحجر بالذات كان من امناسب أن يقول ولا يحجر عليه. وهو أهم من الحبس في مثل هذا السياق لأنه إذا لم يحجر عليه فمن باب أولى: لم يحبس. ثم انتقل إلى القسم الثاني: - فقال - رحمه الله -: - ومن ماله قدر دينه .. إذا كان عنده من المال ما يفي بالدين أو عنده ما يزيد عن الدين فهذا هو القسم الثاني وسيبين المؤلف - رحمه الله - الأحكام التي تترتب على مقدرة الإنسان على وفاء الدين. - فيقول - رحمه الله -: - لم يحجر عليه. هنا صرح بالحكم: فقال: (لم يحجر عليه). والدليل أنه لا يحجر عليه: - أنه لا حاجة للحجر لأنه يستطيع وفاء الدين بما عنده من مال. - (أنه لا حاجة للحجر في مثل صورة هذا المدين لأنه يستطيع أن يوفي بما عنده من مال. فلا يجوز أن نحجر عليه ولو بطلب الغرماء. لكن سيبين المؤلف - رحمه الله - الأحكام التي تترتب على القدرة: - فيقول - رحمه الله -: - وأمر بوفائه. - المرحلة الأولى للمدين القادر على الإيفاء: ليس أن يؤمر بوفائه: المرحلة الأولى: أن يوفي هو وجوباً. فإن لم يفعل فإنه آثم. - المرحلة الثانية: أن يأمره الحاكم بوفاء الدين. فحينئذ يجب عليه هو أن يمتثل ويجب على الحاكم أن يأمره بالوفاء. ودليل هذين الحكمين: يعني: أنه يجب أن يبادر بالوفاء وأنه يجب أن يأمره الحاكم إذا لم يفي: - قوله - صلى الله عليه وسلم -: (مطل الغني ظلم). والظلم محرم في جميع الشرائع السماوية وبالأخص في شريعتنا فهو من الأخلاق المحرمة بالإجماع. المهم هذا هو الدليل على أنه يجب أن يفي ثم إذا لم يفعل فيجب على الحاكم أن يطلبه. وأفاد الحديث أن مطل الغني محرم: لأنه ظلم. بقينا في: * * مسألة/ وهي مهمة: متى يعتبر من يستطيع أداء الدين مماطل: = عند الحنابلة: يعتبر مماطلاًَ إذا طولب بالدين ولم يسدد فحينئذ نعتبره مماطلاً. فبمجرد ما يمتنع عن سداد الدين فنقول: أنت مماطل. لأنك تستطيع ولم تفعل وهذا حقيقة المماطلة.

ويحتمل أن نقول: أن المماطلة يرجع فيها إلى العرف: فالانتظار يوم أو يومين أو الانتظار إلى مجيء مبلغ مالي للمدين معين سياتي بعد فترة لا يعتبر من المماطلة. لكن إذا طالت القضية وأعطى موعداً أكثر من مرة فمع أنه يستطيع أن يوفي في المرة الأولى فحينئذ نعتبره مماطل. الذي يريد أن أقوله: أنه لا نعتبره مماطل من أول مرة كما هو رأي الحنابلة: أنه إذا طولب ولم يسدد فهو مماطل. أقول أنه لو رجع في تحديد المماطل إلى العرف لكان أولى فإن الناس لا يعتبرون الإنسان مماطلاً بالرفض من أول مرة لا سيما إذا كان عنده سبب وجيه. ثم انتقل إلى المرحلة الأخرى: إذا لم يفي. - فقال - رحمه الله -: - فإن أبى: حبس بطلب ربه. إن أبى هذا المستطيع وفاء الدين فإنه يحبس. لكنه لا يحبس إلا بطلب صاحب الدين لأنه من حقوق صاحب الدين وليس من الولايات العامة التي يفعلها الحاكم بلا طلب من صاحب الحق بل هو حق خاص إنما يحبس إذا طلب. وحبس المدين إذا لم يوف ما عليه: مذهب الجماهير من السلف والخلف. وأول من حبس على الدين شريح - رحمه الله - ولم يكن النبي - صلى الله عليه وسلم - ولا أبو بكر ولا عمر ولا عثمان ولا علي يحبسون وإنما كانت الطريقة في العهد النبوي والقرون المفضلة أن يلازم الدائن المدين إلى أن يفي بما عليه ولم يكونوا يحبسون. لكن من المعلوم أنه بعدما كثرت أقضية الناس وخف دينهم في وقت شريح وهو في وقت مبكر احتاج الحاكم أن يحبس وأصبح أداء الحقوق يكاد يتعذر عند المماطلين بدون الحبس. فالحبس مشروع. والدليل على مشروعيته مع عمل السلف الصالح به: - قوله - صلى الله عليه وسلم -: (لي الواجد يحل عرضه وعقوبته). فالعقوبة هي الحبس ونحوه. وأما العرض: فهو أنه يجوز للدائن إذا ماطله المدين - يجوز له ولا حرج عليه أن يقول للمدين الواجد: يا ظالم يا باغي يا معتدي ولا حرج عليه. لأن هذا الذي امتنع من أداء الدين أحل عرضه الدائن بمقتضى الشرع. - ثم قال - رحمه الله -: - فإن أصر. أي فغن أصر بعد الحبس فإنه يعزر إما بالضرب أو بالتشهير أو بما يراه الحاكم مناسباً لحال هذا المعتدي.

وظاهر ترتيب المؤلف - رحمه الله - أن الحاكم ينبغي أن يبدأ أول ما يبدأ بالحبس ثم بعد ذلك تتدرج العقوبات. والصحيح أن للحاكم أن يبدأ بغير عقوبة الحبس: إذا رأى أن غير عقوبة الحبس كالتشهير أبلغ وأزجر لهذا المدين المماطل فيبدأ مباشرة بالتشهير. وإن رأى أن الضرب أبلغ في حقه ضربه ولم يحبسه. وإن رأى أن الحبس هو المفيد في مثل حاله. وإن رأى أن يجمع عليه بين الحبس والضرب والتشهير وغيرها من العقوبات التعزيرية فله ذلك. إذاً: ما هي القاعدة؟ القاعدة: ((أن يعزره بما يجعل هذا المدين يسدد ما عليه)) حسب ما يرى من مصلحة. - ثم قال - رحمه الله -: - ولم يبع ماله: باعه الحاكم وقضاه. فإن لم تنفع تلك العقوبات فإنه يقوم الحاكم ببيع مال المدين وإيفاء الدائن حقه. وتولي الحاكم بيع ما للمدين الغني: مذهب الجماهير. واستدلوا على هذا بعدة أدلة: - الدليل الأول: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما كثر الدين على معاذ حجر عليه وباع ماله. - والدليل الثاني: أن عمر بن الخطاب لما كثرت الدون على أحد الحجاج من الصحابة خطب في الناس وقال من كان له دين على فلان فليبكر غداً فإنا بائعوا متاعه. وهذان الأثران المرفوع والموقوف ضعيفان لا يصح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ولا عن عمر - رضي الله عنه -. - الدليل الثالث: أن بيع المدين ماله ليوفي الدائن واجب عليه. وتقدمت معنا قاعدة: (أنه إذا وجب على الإنسان واجب ولم يقم به قام به الحاكم)) تقدمتن معنا مراراً فهنا كذلك نقول: هذا واجب على المدين لم يقم به قام به الحاكم مكانه. - والدليل الرابع: لأن لا تضيع أموال الناس. فإذاً إذا لم يمتثل المدين بعد هذه العقوبات التعزيرية قام الحاكم ببيع المال ووفاء الدين. = والقول الثاني: أنه لا يجوز للحاكم أن يبيع المال بل يجبر مالك السلعة على أن يبيعها هو ويسدد الدائن. - لأنه ليس للحاكم أن يتصرف في ملك غيره بغير إذنه.

وهذا القول غاية في الضعف من وجهة نظري أنه يؤدي إلى ضياع حقوق الناس ثم إن هذه القاعدة العامة لا يصلح الاستدلال بها على مسألة خاصة وهي في المماطل لأن المماطل حكم النبي - صلى الله عليه وسلم - عليه أنه ظالم فلا يمكن ان ننزل عليه قاعدة حفظ المال الخاص للمسلم. فالراجح وهو مذهب عامة الأمة أن الحاكم يتولى البيع إذا لم يوف المدين الغني. - ثم قال - رحمه الله -: - ولا يطالب بمؤجل. يعني: ولا يطالب المدين بدين مؤجل. وعلة ذلك: - أن الدين المؤجل لا يلزمه أدائه فكيف نطالبه بما لا يلزمه أدائه. فالإنسان لا يطالب بما لم يلزمه إنما يطالب بما لزمه. وهذا لا إشكال فيه. - ثم قال - رحمه الله -: - ومن ماله لا يفي بما عليه حالاً: وجب الحجر عليه بسؤال غرمائه أو بعضهم. بدأ المؤلف - رحمه الله - بالقسم الثالث وهو كما قلت: من ماله يفي ببعض دينه. وهذا القسم في الحقيقة هو المقصود بالباب. وإنما ذكر المؤلف - رحمه الله - القسم الأول والثاني لكتمل صور الأحكام. فمن لا يفي ماله بكل دينه وجب على الحاكم أن يحجر عليه لكن لا يجوز أن يحجر عليه إلا بطلب الغرماء أو بطلب بعضهم. فإن لم يطلب أحد من الغرماء حرم على الحاكم أن يحجر عليه لأن هذا الحجر لحق خاص وليس لسلطة عامة فيتوقف على مطالبة صاحب الحق الخاص. فإن لم يطالبوا فإنه لا يجوز أن يحجر عليه. والقول بوجوب الحجر على المدبن الذي يفي ماله ببعض الدين أيضاً مذهب الجماهير. واستدلوا على هذا بثلاثة أمور: - الأمر الأول: حديث معاذ السابق. - والأمر الثاني: حديث عمر السابق. - والأمر الثالث: أن ترك الحجر عليه يؤدي إلى ضياع أموال الناس إذ قد يتصرف فيها بما يفوت الحظ على الدائنين. = والقول الثاني: أنه لا يجوز أن يحجر عليه. - لأنه رجل بالغ مكلف جائز التصرف فلا يجوز أن يحجر عليه وإنما يطالب بالسداد كما يطالب من ماله يفي بالدين كالقسم الثاني. = والقول الثالث: أن من كان ماله ينقص عن الدين فإنه يعتبر في حكم المحجور عليع من حين ينقص المال ولو بلا حكم حاكم. بناء عليه: لا تنفذ تصرفاته كما سياتينا.

إذاً: القول الثالث: أن من نقص ماله عن دينه أصبح في حكم المحجور عليه ولو بلا حكم حاكم مباشرة من حين ينقص لا تنظر تصرفاته. وهذا رواية عن الإمام أحمد واختيار شيخ الإسلام بن تيمية. واستدل على هذا: - بأن تمكينه في مثل هذه الحالة من التصرف يؤدي إلى الإضرار بالمدين. والشرع جاء بقاعدة: (لا ضرر ولا ضرار). أما العمل فهو على المذهب الأول ولا أحد يبطل تصرفات الناس بدون حكم الحاكم. وأما من حيث النظر والتأمل ففي الحقيقة القول الثالث هو الصحيح. وسبب الترجيح: أن هذا القول يتوافق مع مقصود الشارع من الحجر. لأن مقصود الشارع من الحجر تمكين المدين من أداء الديون لأصحابها بلا تفريط ولا إضاعه وهذا يتحقق أكثر مع القول الثالث. - ثم قال - رحمه الله -: - ويستحب إظهاره. يعني: ويستحب إظهار وإشهار أن هذا المدين محجور عليه. - ليمتنع الناس من معاملته. لئلا تؤدي المعاملة إلى ضياع أموالهم. ويستحب أيضاً: الإشهاد. فيشهد عليه أنه محجور عليه. والحكمة في ذلك: أنه لو تغير القاضي فإن القاضي الآخر لا يحتاج إلى حكم جديد وليعرف الدائن القاضي الجديد بالشهود أن هذا المدين محجور عليه. وهذا كله لا نحتاج إليه في وقتنا لأن الحجر على الإنسان يثبت الآن بالأوراق. لكن الإشهار مهم وضروري حتى لو كان عن طريق إشهاره في وسائل الإعلام العامة كالجرائد إلا أنه ينبغي للقاضي أن يعتبر حال المدين. فإن ظن أنه مماطل ومسرف ولا يحسن التصرف وربما دخل في معاملات جديدة بادر في الإشهار. وإن علم أنه رجل أمين لكن ظروف التجارة هي التي أدت به إلى الإفلاس فإنه ينبغي أن يرفق به إلى ان يتمكن من سداد الدين. فالقاضي في الحقيقة له مجال واسع في النظر واعتبار حال المدين. - ثم قال - رحمه الله -: - ولا ينفذ تصرفه في ماله: بعد الحجر ولا إقراره عليه. هذه الأحكام هي في الحقيقة ثمرة للحجر. فمن أعظم ثمرات الحجر بل هي المقصودة منه: أن لا ينفذ تصرفه في ماله. فلا يبيع ولا يشتري ولا يرهن ولا يتصرف أي تصرف في ماله. واستدل الحنابلة على منعه من تصرفه بدليلين:

- الدليل الأول: القياس على الرهن. لأنه في الرهن يمنه الراهن من التصرف بالرهن ليضمن الدائن حقه من الرهن فنقيس عليه أموال المحجور عليه وهو قياس صحيح ووجيه. - الدليل الثاني: أنه بالحجر على أموال المدين تعلق حق الغرماء بها - يعني: بأعيانها. وإذا تعلق حق الغرماء بها لم يجز التصرف بها. وهذا صحيح بل هو ثمرة الحجر - فثمرة احجر أن لا يتصرف في ماله. - ثم قال - رحمه الله -: - ولا إقراره عليه. يعني: ولا يقبل إقراره على ماله الحاضر المشاهد. فلو أقر أنه وهب هذه السيارة لزيد لم يقبل. ولو أقر أنه أعطى ثمرة هذا العام لعمرو لم يقبل. ويصبح إقراره ملغياً. * * مسألة/ ظاهركلام المؤلف - رحمه الله - أنه لا يقبل إقراره حتى لو أقر بالدين. يعني: حتى لو أقرل بدين لشخص آخر. = وهذا هو المذهب: أنه إذا أقر بدين لشخص آخر فإنه لا يقبل. واستدل الحنابلة على هذا الحكم: - بالأدلة السابقة. = والقول الثاني: أنه إذا أقر بدين فإنه يقبل ويشارك المقر له الغرماء بمال المدين. واستدل أصحاب هذا القول: - بأن هذا الدين دين ثبت بإقرار فيقاس على ما لو ثبت ببينه. والدين إذا ثبت ببينة دخل في مال المدين وشارك الغرماء بلا إشكال. إذاً: نقيس الدين الذي ثبت بالإقرار على الدين الذي ثبت ببينة. ورجح هذا القول: ابن المنذر. وانتصر له. والراجح والله أعلم: أنه يقبل إقراره ويدخل المقر له مع الغرماء بشرط: أن لا تدل القرائن والأحوال على أنه أرد الإضرار بالغرماء والهروب من سداد الدين. وبهذا نجمع بين القول الثاني والقول الأول. * * / فإذا قال المدين أن هذه الآصع الموجودة في مخزني دين سلم لزيد. = فعند الحنابلة: الحكم أن زيد لا يدخل مع الغرماء أصلاً وإنما يقتسم الغرماء جميع المال. = وعند ابن المنذر: يدخل معهم ولا يأخذ هذا المال لكن يكون أسوة الغرماء. = وعلى القول الثالث: كذلك كما قال ابن المنذر إلا إذا تبين أنه أراد الهروب من سداد الدين كاملاً. - ثم قال - رحمه الله -: - ومن باعه أو أقرضه شيئاً بعده: رجع فيه إن جهل حجره وإلاّ فلا. يقول: (ومن باعه أو أقرضه شيئاً بعده: رجع فيه)

إذا باعه أو أقرضه شيئاً بعد الحجر رجع فيه. يعني: رجع بعين ماله. ولا يكون أسوة الغرماء بل يرجع بعين ماله يأخذه. واستدل الحنابلة على هذا بدليلين: - الدليل الأول: قوله - صلى الله عليه وسلم -: (من وجد عين ماله فهو أحق به). - والدليل الثاني: أن هذه المعاملة لا تصح أنا نقول: أن المجور عليه بعد الحجر لا تنفذ تصرفاته فهذه السلعة في الحقيقة لا زالت ملكاً للبائع. إذاً لا إشكال. مفهوم قول المؤلف - رحمه الله -: (بعده) أنه إذا كان قبله فإنه لا يرجع. وهذا المفهوم غير مراد بل إذا كان قبله أو بعده فإنه يرجع. فإذا باع زيد على عمرو سيارة قبل الحجر ثم بعد مضي خمسة أيام من البيع حجر عليه فإن صاحب السيارة يعني: البائع له أن يأخذ هذه السيارة بذاتها. الدليل: (من وجد عين ماله فهو أحق به).والحديث عام. سواء كان العقد تم قبل الحجر أو بعد الحجر. إذاً لماذا نص المؤلف - رحمه الله - على قوله: (بعده). الجواب: ليبين فقط أن العقد إذا تم بعد الحجر فإنه لا يرجع إلا إذا كان جاهل لأن هذا الشرط يختص بما إذا كان بعد العقد أما قبل العقد فلا يتصور أن نقول هل هو جاهل بكونه محجوراً عليه أو عالم بكونه محجور عليه. إذاً: الخلاصة: أن وجد عين متاعه الذي باعه قبل الحجر رجع مطلقاً. والذي وجد عين متاعه الذي باعه بعد الحجر رجع بشرط أن يجهل أن هذا الرجل محجور عليه. فإن كان يعلم أنه محجور عليه فإنه لا يرجع. والتعليل: أنه دخل على بصيرة وبينه وعلم بحال هذا المحجور عليه. لهذا نص المؤلف - رحمه الله - على قوله: (بعده). - ثم قال - رحمه الله -: - وإن تصرف في ذمته .. صح. يعني: إذا تصرف هذا المحجور عليه في ذمته لا بعين ماله: صح. تصرفه في ذمته: كأن يشتري بثمن مؤجل. فالثمن المؤجل ثابت في ذمته. المثال الثاني: أن يضمن ديناً لشخص آخر فهذا الضمان في ذمته. فتصرف المحجور عليه لحق غيره في ذمته: صحيح. وعرفنا الآن ما معنى في ذمته؟ وما صورة في ذمته؟ التعليل: - عللوا ذلك: بأن الحجر يتعلق بماله لا بذمته. - ولأنه رجل رشيد جائز التصرف فجاز له أن يتصرف في ذمته. وهذا صحيح: أن له أن يتصرف في ذمته كيف شاء.

بناء على هذا: إذا تصرف المدين في ذمته فإن الشخص الدائن الجديد لا يدخل مع الغرماء سواء كان يعلم أن هذا الرجل محجور عليه أو لا يعلم أنه محجور عليه. - علم أو لم يعلم. لأنه إن علم فقد فرط وإن لم يعلم فقد جهل شيئاً مشهوراً. - ثم قال - رحمه الله -: - أو أقر بدين. يعني: أنه إذا أقر بدين في ذمته فإنه يصح. إذاً ما الفرق بين إذا أقر بدين هنا وإذا أقر في المسألة السابقة؟ هذا الذي صححوه في ذمته. والذي منعوه في عينه المشاهد المعلوم الموجود. إذاً إذا أقر بدين صحوأصبحت ذمته مشغولة بهذا الدين. وإقراره صحيح. وسيأتينا ماذا يصنع بعد ذلك. - ثم قال - رحمه الله -: - أو جناية توجب قوداً أو مالاً: صح. الجناية: إما أن توجب قوداً أو توجب مالاً. فهي توجب القود: إذا أمكن الاقتصاص. - إذا أمكن أن يقتص منه بلا زيادة: صار المصير إلى الجناية. وإذا لم يمكن أن يقتص منه إلا مع حيف وزيادة فإنه ينتقل إلى المال. وينتقل إلى المال في صورة ثالثة وهي/ إذا وجبت عليه الجناية لكن اختار المجني عليه الدية - دية العضو فحينئذ يصبح انتقلت المسألة من القصاص إلى الدية يعني: إلى مال. إذاً: المؤلف - رحمه الله - يقول: (إذا أقر بجناية توجب القود أو توجب المال) صح اعترافه وأخذ بهذا الإقرار. لكن عند الحنابلة إذا أقر لا يكون أسوة الغرماء. = والقول الثاني: أن المدين المحجور عليه إذا جنى جناية توجب دية فإن المجني عليه يدخل مع الغرماء. - لأنه لا تهمة في مثل هذه الصورة إذ ليس من المعقول أن يذهب ويقطع يد رجل آخر ليقر بأنه جنى عليه لينقص الغرماء فهذا غير معقول. فإذاً يدخل المجني عليه مع الغرماء ولو كانت الجناية بعد الحجر. وعلل أصحاب هذا القل قولهم: - بأن هذا حق ثابت لا تهمة فيه ولم يؤخره مستحقه. وهذا صحيح والكلام سليم جداً. فإذاً لا نؤخر المجني عليه ونقول أنت لا تدخل مع الغرماء بل يدخل معهم ويكون أسوة الغرماء. - يقول - رحمه الله -: - ويطالب به بعد فك الحجر عنه. يطالب بما التزمه في ذمته بعد فك الحجر عنه. تعليل هذا: - أنه حق ثابت. وإنما أخر للحجر. فإذا زال الحجر طولب بهذا الدين. وهذا صحيح بلا إشكال. - ثم قال - رحمه الله -:

- ويبيع الحاكم ماله. ويقسم ثمنه. وهذا = مذهب الحنابلة: أن المحجور عليه يقوم الحاكم ببيع ماله وتقسيمه على الغرماء ستأتينا كيفية التقسيم. استدل الجمهور على هذا الحكم: - أنه يباع ويقسم بالأدلة السابقة.: أولاً: حديث معاذ. وثانياً: أثر عمر - رضي الله عنه -. - وثالثاً: وهو المهم: أن هذا هو الغرض وهو المقصود من الحجر. إذ لم يحجر عليه إلا ليباع ويوفى الدائنون حقهم. إذاً استدلوا يثلاثة أشياء: الأثرين والمعنى: وهو: أنه إنما يقصد ويراد الحجر هذا الأمر. فيقوم الحاكم ببيع ماله. * * مسألة/ قال شيخ الإسلام: ولا يجوز أن يبيع الحاكم متاع المدين إلا بثمن المثل أو أكثر وإلا فإنه لا يباع. بناء عليه: لا يجوز أن يستعجل وأن يجلب السلعة في أي سوق مهما كانت جودة السوق ويبيع بثمن أقل من المثل. فحينئذ يكون التصرف غير صحيح. وما ذكره شيخ الإسلام وغيره من الحنابلة صحيح وفيه من العدل ما لا يخفى. فنقول: يجب أن يجتهد في بيعه بثمن المثل. - ثم قال - رحمه الله -: - ويقسم ثمنه بقدر ديون غرمائه. إذا باع وحصل المال فإنه يجب أن يقسم بقدر الديون. لكن يجل قبل ذلك: قبل أن يقسم المال: يجب أن يعطي صاحب الرهن قيمة الرهن إذا كانت أقل من الدين أو قيمة الدين. فصاحب الرهن يقدم على باقي الغرماء. مثال ذلك/ إذا كان المدين عنده سيارة وبيت ومزرعة وأرض هذه أربعة أشياء .. ((الأذان)) .. إذا كان عنده - كما قلت - سيارة ومزرعة وأرض مثلاً وأحد الدائنين رهن السيارة. فباع القاضي جميع الأملاك وقيمة السيارة مائة ألف. ودين هذا الرجل الذي هو المرتهن مائة ألف: وقيمة جميع السلع مجتمعة خمسمائة ألف فأول ما نبدأ: نعطي هذا المرتهن كم؟ ((مائة ألف)) ولايشترك مع باقي الغرماء. فإن كانت قيمة السيارة في هذا المثال تسعين ألف فماذا نصنع؟ نعطية التسعين ألفاً ويدخل بالعشرة أسوة الغرماء. فإن كانت قيمة السيارة مائة وعشرة: يأخذ المائة والعشرة ترجع إلى الغرماء. إذاً: يقدم صاحب الرهن. ثم بعد ذلك نقسم المال على باقي الغرماء. وطريقة القسم: أن ننسب قيمة المال المباع إلى الدين. وهل سيكون الدين أكثر أو المال المباع؟

دائماً الدين أكثر لأنا نحن نتكلم عن القسم الثالث. ننسبها فنعطي كل واحد بقدر نسبته - فنعطي كل واحد بقدر هذه النسبة. مثال ذلك: رجل بيع متاعه كله فصار المتاع بعشرة آلاف ريال. ويطلب هذا الرجل اثنان واحد منهما يطلبه ستة عشر ألف ريال. وواحد يطلبه أربعة آلاف ريال. كم الدين؟ عشرين. ننسب المال إلى الدين: عشرة إلى عشرين: النصف. فكم نعطي صاحب الستة عشر ألف؟ ((ثمانية)) والأربعة: ((ألفين)). إذاً كل واحد يدخل عليه النقص بمقدار دينه. وفي هذا عدل عظيم. إذاً هكذا طريق قسمة التركة. - ثم قال - رحمه الله -: - ولا يحل مؤجل بفلس. يعني إذا كان على هذا المفلس دين مؤجل فإنه إذا حكم بإفلاسه لا يحل الدين. لماذا؟ لأن التأجيل حق من حقوقه لا يسقط بفلس إذ الفلس ليس من مسقطات الأجل فيبقى المؤجل مؤجلاً. وليس للدائن صاحب الدين المؤجل إذا رأى أنه أفلس أن يأتي ويطالب بتعجيل دفع الدين له خشية أن تنتهي أموال هذا المدين. وهذا واضح لا إشكال فيه. - ثم قال - رحمه الله -: - ولا بموت: إن وثق ورثته برهن أو كفيل مليء. يعني: ولا يحل الدين إذا مات المدين. فإذا مات المدين فإن الدين يبقى مؤجلاً. وعلة ذلك: - أن الدين من جملة الحقوق التي تورث فالورثة ورثوا عن واىلدهم المدين المتوفى حق التأجيل. = والقول الثاني: أنه يحل الأجل بمجرد الموت. والقول بعدم حلوله - الأول الذي هو المذهب - من المفردات. وهذا القول الثاني: هو قول الجمهور أنه بمجرد الموت يحل الأجل. استدلوا على هذا: - بأنه في العادة الغالبة إذا مات المدين اقتسم الورثة الدين وبقي الدائن بلا مال. يقول المؤلف - رحمه الله -: إن وثق ورثته برهن أو كفيل مليء. يشرط لعدم تعجيل الدين أن يوثق الرهن فيقوم الورثة بتوثيق الدين برهن أوكفيل. فإن لم يوثقوه تعجل الدين. نكتفي بهذا والله أعلم وصلى الله على نبينا محمد.

الدرس: (29) من البيع قال شيخنا حفظه الله: بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين. تقدم معنا بالأمس أن المفلس الذي عليه دين مؤجل لا يسقط الأجل بالفلس ومعنى هذا أن حقه بالتأجيل يبقى. وعللنا ذلك: - بأن الفلس ليس من مسقطات الأجل. - الصورة الثانية/ موت المدين. فإذا مات المدين الذي دينه مؤجل فإنه لا يسقط الأجل بموته عند الحنابلة. وذكرنا القول الثاني: وهو أنه يسقط بموته. وعلل الذين أسقطوه إسقاطه: - بخشية ضياع حقوقه بسبب توزيع التركة. إلى هنا توقفنا بالأمس. وبهذا عرفنا أن مذهب الحنابلة أنه لا يسقط إلا أنهم اشترطوا لهذا شرطاً فقالوا: إن وثق ورثته برهن أو كفيل ملئ. يعني: إن وثق الورثة الدين برهن أو كفيل مليء لم يسقط الأجل وإلا فإنه يسقط. ويشترط في الرهن - في هذا الرهن الذي يوثقون به الدين -: أن يكون بقدر أقل من الدين أو التركة. فإذا افترضنا أن التركة كلها: خمسين ألف ريال وأبوهم مدين بمائة ألف ريال. كم يجب أن يكون قيمة الرهن؟ خمسين. لأنا نحن نقول بالأقل من قيمة الدين أو التركة. بمعنى: أنه لا يجب على الورثة أن يقيموا رهناً بجميع الدين إذا كان الدين أكثر من التركة. فإن كان الدين أقل من التركة فيلزمهم أن يقيموا رهناً بجميع الدين. فإذا حققوا هذا الشرط فإن الأجل لا يسقط. وإن فات الشرط سقط وحل الأجل. فإذا رفض الورثة إقامة الرهن أو الكفيل المليء حل الأجل ووجب عليهم دفع الدين مباشرة. وفي هذه الحالة تأتينا مسألة وهي: إذا افترضنا أنهم لم يوفوا بالشرط - أو لم يقوموا بالشرط - وحل الأجل فهل يأخذ الدائن كامل المبلغ ولو كان فيه زيادة بسبب التأجيل؟ أو نخصم منخ بقدر التأجيل الذي سقط؟ صورة المسألة/ إذا كان المورث اشترى سيارة قيمتها حالة بمائة: اشتراها بمائة وخمسين بسبب التأجيل ثم مات. ولم يأت الورثة برهن ولا بكفيل مليء قلنا أنه يحل الدين. فهل على الورثة أن يعطوه كامل المبلغ: مائة وخمسين أو يعطوه قيمة السيارة بثمنها الحال لأن الأجل سقط؟ = عند الحنابلة: يعطونه كامل المبلغ ولا يسقطون من قيمة الثمن ما يقابل الأجل. = والقول الثاني: أنه يسقط بقدر الأجل. وإلى هذا ذهب عدد من محققي الحنابلة المتقدمين وهو مقتضى العدل. - لأنه لما سقط الأجل يقتضي أن يخصم من الثمن ما يقابل هذا الأجل.

هذه المسألة مبنية على مسألة أخرى سبقت معنا: وهي: ضع وتعجل. فمن يرجح في مسألة ضع وتعجل أنها تصح ينبغي هنا أن يضع من الدين ما يقابل التعجيل. وإذا كانت مبنية على هذه المسألة فتقدم معنا أن الراجح إن شاء الله أن ضع وتعجل: صحيح ومشروع وليس في ربا. - ثم قال - رحمه الله -: - وإن ظهر غريم بعد القسمة: رجع على الغرماء بقسطه. إذا ظهر غريم لم يكن موجوداً أثناء القسمة فإنه يرجع على الغرماء بقسمه كأنه موجود حال القسمة. واستدل الحنابلة على هذا: - بأنه لو وجد حال القسم لأخذ معهم فكذلك إذا جاء بعد القسم. لأن حقه لا يسقط بتغيبه. = والقول الثاني: أنه يسقط وينتظر أن يوفيه الورثة ولا يدخل مع الغرماء فيما اقتسموه. - لأنه لم يحضر. والصواب القول الأول وهو المذهب. لأن تعغيب الرجل لا يعني سقوط حقه. سواء تغيب بعذر أو بغير عذر. - ثم قال - رحمه الله -: - ولا يفك حجره إلاّ حاكم. معنى هذه العبارة: أن المحجور عليه لا فيك حجره بمجرد قسمة المال. وإنما لابد من أن يفك الحجر الحاكم. وعلل الحنابلة هذا: - بأنه حجر تم بأمر الحاكم فلا يفك إلا بأمره. = والقول الثاني: أنه بمجرد قسمة المال يفك الحجر. وعللوا هذا: - بأن الحجر إنما وقع لغرض قسمة ماله بين الغرماء. فإذا قسم زال سبب الحجر فزال معه الحجر. لأن الحكم يدور مع علته وجوداً وعدماً. والراجح هو القول الأول وهو المذهب وممن رجحه من المحققين الشيخ الفقيه ابن قدامة. وسبب الترجيح: أن فك الحجر عن المفلس يحتاج إلى نظر وتأمل من الحاكم ليتأكد من أن ماله فرغ ولم يبق من ماله ما يمكن أن يباع. وهذه القضية تحتاج إلى نظر واجتهاد والحاكم هو أهل هذا النظر والاجتهاد. فالصواب أنه لا يفك بمجرد بيع المال وإنما ينتظر إلى أن يصدر الحاكم أمراً بفك الحجر عنه بعد أن يتأكد من أنه لا مال زائد عنده. فصل [في المحجور عليه لحَظِّه] - ثم قال - رحمه الله -: - فصل. هذا الفصل خصصه المؤلف - رحمه الله - للكلام عن المحجور عليه لحظ نفسه. وكما تقدم أخره لأن المحجور عليه لحق غيره أكثر الأحكام تتعلق به وهو الأهم. والمحجور عليه لحظ نفسه ثلاثة: - الصغير. - والمجنون. - والسفيه.

هؤلاء هم من يحجر عليهم لحق أنفسهم. - قال - رحمه الله -: - ويحجر على السفيه. فالسفيه هو: من يسيء تدبير المال. وسيأتينا بالتفصيل في كلام المؤلف - رحمه الله - كتى يرتفع وصف السفه عن من لا يجيد تصريف المال لكن هذا هو تعريفه العام. كل شخص لا يحسن تصريف ماله فهو سفيه. * * مسألة/ وذهب الأئمة الأربعة كلهم إلى من ينفق ماله في المعاصي والمحرمات فهو سفيه يحجر عليه. وذهب الأئمة الثلاثة: مالك وأحمد والشافعي إلا أن من أنفق ماله في الطاعات كالصدقات والقربات فإنه ليس من السفه ولا يحجر عليه مهما أنفق. وذهب أبو حنيفة إلى أنه إذا أنفق في وجوه البر ما يخرج به عن الإنفاق المعهود المعروف فإنه يعتبر سفه. والصواب أنه ليس بسفه: يعني: الصواب مع الأئمة الثلاثة إن شاء الله. - ثم قال - رحمه الله -: - والصغير. الصغير هو من لم يبغ. وسيأتينا أيضاً في كلام المؤلف - رحمه الله - متى يبلغ الإنسان. - يقول - رحمه الله -: - والمجنون. المجنون هو فاقد العقل. هؤلاء الثلاثة يحجر عليهم لحظ أنفسهم. - ثم قال - رحمه الله -: - لحظهم. قوله: (لحظهم) يعني أنه يحجر عليهم لمصلحتهم. والدليل على أنه يحجر عليهم: - قوله تعالى: {ولا تؤتوا السفهاء أموالكم التي جعل الله لكم قياما} [النساء/5]. - والدليل الثاني: أن تركهم وما يشاؤون من التصرف فيه إضاعة لأموالهم. ولا يجوز للمسلم أن يمكن موليه من إضاعة المال. فهذا هو الدليل على أنه يحجر على الصغير. ونحن نحتاج دائماً في مثل هذه الأحكام إلى أدلة ليس من السهل أن تحجر على رجل بالغ رشيد إلا بدليل واضح إذا كان سفيهاً. - ثم قال - رحمه الله -: - ومن أعطاهم ماله بيعاً أو قرضاً: رجع بعينه. إذا عامل هؤلاء الثلاثة رجل ببيعهم أو إقرارهم فإنه إذا بقيت العين كما هي لم تتلف يرجع بعين ماله. والسبب في ذلك: - أن ماله ما زال على ملكه لأن تصرفاتهم فاسده. فيرجع بعين ماله. - ثم قال - رحمه الله -: - وإن أتلفوه لم يضمنوا. يعني: وإن أتلف السفيه أو الصغير أو المجنون المال الذي أعطاهم إياه هذا الرجل الراشد ولو هلى سبيل السبيل فإنه يضمن هو ولا يضمنون. فيكون الضمان عليه فتذهب هذه العين المتلفة سدى عليه.

وعلل الحنابلة هذا: - بأنه هو سلطهم على ماله برضاه فضمن ولم يضمنوا. = والقول الثاني: أنهم جميعاً يضمنون السفيه والمجنون والصبي. - لأنهم أتلفوا ماله فوجب عليهم الضمان. والصواب مع الحنابلة. وأنه هو الذي فرط إذ عامل من يوصف بالجنون أو بالصغر أو بالسفه. - ثم قال - رحمه الله -: - ويلزمهم: أرش الجناية. يعني: أن هؤلاء إذا جنوا جناية على نفس أو طرف فإنهم يضمنون. وعلل الحنابلة ذلك: - بأن المجني عليه لا خيار له ولا تفريط منه فلزم هؤلاء أن يضمنوا. وهذا صحيح ولا أظن أن فيه خلافاًَ. - ثم قال - رحمه الله -: - وضمان مال من لم يدفعه إليهم. يعني وعليهم أن يضمنوا المال الذي لم يدفع إليهم. كأن يأخذوه غصباً أو اختلاساً أو من غير علم المالك أو عبثاً ففي هذه الحال يضمن هؤلاء - الأطفال أو المجانين أو السفهاء - المال. - لأنهم أخذوا مال المسلم بغير رضاه ولا تفريط منه فوجب أن يضمنوا. بناء على هذه المسألة: ما يتلفه الصبيان في المحلات أو في الولائم أو في الأماكن العامة فهو مضمون عليهم. ما دام صاحب الملك لم يمكنهم منه. أما إذا مكنهم منه بأن قال صاحب المحل للطفل خذ هذا الشيء وانظر إليه أو إلعب به ما دمت في المحل ثم تلف فلا ضمان. لأن هذا المالك مكنه من المال برضاه وسلطهم عليه بإرادته. أما إن أخذ الطفل شيئاً يعبث به فانكسر منه فهو مضمون لأن صاحب المال لم يمكن هذا الطفل من هذه الأموال. بل إنا نلحظ دائماً أن أصحاب المحلات إما بمنطوقهم أو بمكتوبهم أنهم لا يسمحون للأطفال بالعبث في الأشياء الموجودة داخل المحل. فهذا يرفع الضمان عن صاحب المحل مطلقاً ويجعله على الطفل دائماً. والضامن في هذا الاتلاف هو الطفل لا الأب لأن الطفل له ذمة مستقلة ولأنه هو المتلف وليس الأب. ولكل واحد من الأب والطفل ذمة مستقلة. لكن من المعروف وحسن التصرف أن يضمن الأب المال. باعبار أن هذا الطفل ليس له من المال ما يؤدي به هذا الضمان. فإن لم يضمن الأب بقيت القيمة في ذمة الصبي إلى أن يحصل المال. فعليه أن ينتبه إذا بلغ ليسدد ما عليه من إتلافات.

ولهذا نقول: من الخطأ البين أن يترك الأب الطفل بدون سداد لهذه الأموال ويجعل ذمته مشغوله إلى البلوغ وغالباً سوف ينسى الطفل ما عليه. وليعلم أنه إذا بلغ فإن ذمته الآن مشغولة. نعم إذا كان ناسياً فلا إثم عليه لكن الذمة مشغولة. فينبغي أن لا يتساهل أولياء الأطفال في مسألة الاتلافات لا في زيارة الأقارب ولا في دخول المحلات ولا في المكث في الأماكن العامة. - ثم قال - رحمه الله -: - وإن تم لصغير خمس عشرة سنة. بدأ المؤلف - رحمه الله - في بيان االأشياء التي يتم بها بلوغ الطفل. - فقال: - رحمه الله -: - وإن تم لصغير خمس عشرة سنة. حكم ببلوغه. فيصبح بالغاً. والدليل على أن بلوغ هذا السن يصبح به الطفل بالغاً: - الحديث الذي أخرجه البخاري ومسلم عن ابن عمر - رضي الله عنه - أنه عرض على النبي - صلى الله عليه وسلم - وله أربع عشرة سنة فلم يره - أو فلم يجزه - وعرض عليه وله خمس عشرة سنة فأجازه - صلى الله عليه وسلم -. فتفريقه - صلى الله عليه وسلم - بين سنين دليل على أنه انتقل من مرحلة إلى مرحلة. = وذهب بعض العلماء إلى أن سن البلوغ سبع عشرة سنة. = وبعضهم قال: ثمانية عشرة سنة. = وبعضهم قال: تسع عشرة سنة. وهذه الأقوال الثلاثة للمذاهب الفقهية عدا الحنابلة. وهذه الأقوال ضعيفة جداً. ولا تعتمد إلى أي تحديد منقول عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وإنما هي محض تخمينات ومن العجائب أن القول الثالث: وهو تسع عشرة سنة مذهب الظاهرية. الظاهرية دائماً مع النصوص وفي هذه المسألة اخترعوا هذا القول الذي ليس له زمام ولا خطام إذ لا يقوم على أي دليل منقول ولا معقول وإنما زعم ابن حزم أن هذا أكثر ما قيل وهذا التعليل لا يصح للتمسك. فالراجح بإذن الله والواضح الرجحان هو مذهب الحنابلة ولو لم يكن معنا إلا أنه تقدير عن التبي - صلى الله عليه وسلم -. فهذه هي العلامة الأولى للبلوغ. - ثم قال - رحمه الله -: - أو نبت حول قبله شعر خشن. العلامة الثانية للبلوغ أن ينبت في قبله شعر خشن. فاشترط المؤلف - رحمه الله - شروطاً:

- أولاً: أن يكون هذا النابت في القبل فإن نبتت له لحية قبل ذلك فما يزال صغيراً لم يبلغ. ولا ينظر لنبات الشعور الأخرى كشعر الإبط. إنما يعول فقط على شعر العانة. - ثانياً: أن يكون هذا الشعر الذي نبت على العانة خشناً. فإن كان ناعماً فليس من علامات البلوغ. واستدل الحنابلة على كون هذا من علامات البلوغ: - بحديث سعد بن معاذ - رضي الله عنه - أنه حكم على بني قريظة بأن يقتلوا وتسبى ذراريهم ثم أمر بالكشف عن ذراريهم فمن أنبت قتل ومن لا لم يقتل. فجعل - رضي الله عنه - الضابط في بلوغ الذراري وعدمه هو الإنبات. ولما حكم صدقه النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: (لقد حكمت فيهم بحكم الله من فوق سبعة أر (( ... ))). فدل هذا الحديث على أن هذه من علامات البلوغ التي تنقل الإنسان من الذراري والصغار إلى الكبار الذين يقتلون في هذا الحكم. - ثم قال - رحمه الله -: - أو أنزل. هذه العلامة الثالثة. والإنزال هو خروج المني بشهوة من نائم أو مستيقظ ذكراً كان أو أنثى متزوجاً أو لم يتزوج. وكون الإنزال من علامات البلوغ: محل إجماع. - ثم قال - رحمه الله -: - أو عقل مجنون ورشدا. لما بين علامات البلوغ وهي التي تنقل الطفل من الصغر إلى أن يكون بالغاً ذكر المسألة الثانية وهي: (عقل مجنون). يعني: رجع إليه عقله. اشترط للبلوغ والعقل شرطاً آخر فقال - رحمه الله -: (ورشدا). أي: أنته لابد مع البلوغ والعقل من الرشد والرشد هو حسن التصرف بالمال عكس السفه. وكما قلت سيخصص المؤلف - رحمه الله - كلاماً طويلاً عن حد الرشد. - ثم قال - رحمه الله -: - أو رشد سفيه: زال حجرهم بلا قضاء. إذاً اشترط المؤلف - رحمه الله -: البلوغ والعقل مع الرشد. فإذا توفرت هذه الأمور/ البلوغ والعقل مع الرشد فقد خرج عن الحجر. والمؤلف - رحمه الله - يريد أن يبين أنهم ينفكون عن الحجر بلا حكم حاكم. - ولهذا: يقول - رحمه الله -: - زال حجرهم بلا قضاء. يعني: بلا حكم حاكم. نأخذ هؤلاء واحداً واحداً: - بالنسبة للأول وهو الصبي إذا بلغ: فإنه يرفع عنه الحجر بلا حكم حاكم. = وهذا مذهب الحنابلة. - لأنه حجر عليه بسبب الصغر وقد زال فيزول الحجر. وهذا لا إشكال فيه.

- الثاني: المجنون. فالمجنون أيضاً الحنابلة يرون أنه يزول الحجر عنه بمجرد رجوع العقلب إليه. واستدلوا: - بجنس الدليل السابق. وهو أنه إنما حجر عليه لجنونه فلما زال الجنون زال الحجر. = والقول الثاني: أن المجنون لا يزال حجره بمجرد العقل. - لأن بلوغه الرشد يحتاج إلى اجتهاد من الحاكم فلا يفك إلا به أي: بالحاكم. والراجح: مذهب الحنابلة وهو: أنه يزول الحجر بمجرد العقل ولا نحتاج إلى حكم حاكم. - الثالث: والأخير هو: من حجر عليه لسفهه. فإذا رشد وزال السفه انفك عنه الحجر بلا قضاء: عند الحنابلة. = والقول الثاني: أن السفيه لا يفك عنه الحجر إلا بحكم حاكم. واستدلوا على هذا بدليلين: - الأول: أنه حكم عليه بالحجر بحكم حاكم فلا يرفع إلا بحكم حاكم. - الثاني: أن انتقال الرجل من السفاهة إلى الرشد يحتاج إلى نظر وتأمل وتحقق. ولا يكتفى فيه بظاهر أعماله وأقواله وتصرفاته. وهذا هو الصحيح إن شاء الله بالنسبة للسفيه فلا ينفك إلا بحكم حاكم لأنه لا يحجر عليه إلا بحكم حاكم. فتلخص معنا أنهم ثلاثة: اثنان بمجرد البلوغ والعقل ينفك عنهما الحجر. والثالث هو السفيه لا ينفك إلا بحكم حاكم. - ثم قال - رحمه الله -: - وتزيد الجارية في البلوغ: بالحيض. وتزيد على الصبي بالحيض. فإذا حاضت فقد بلغت. وهذا بالإجماع: - لقول النبي - صلى الله عليه وسلم - لا يقبل الله صلاة حائض إلا بخمار. فربط التكليف بالحيض. فدل على أنه علامة عليه. - ثم قال - رحمه الله -: - وإن حملت: حكم ببلوغها. وإن حملت حكم ببلوغها ولو لم يسقط حيض. واستدلوا على هذا: - بأن الحمل علامة على الإنزال ونحن نقول الإنزال من علامات البلوغ. ودليل أنه علامة على الإنزال أي الحمل: - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أخبر أن المولود يخلف من ماء الرجل وماء المرأة. فإذاً لم يوجد إلا بعد وجود ماء المرأة وهو الإنزال. فإذا حملت فقد ببلغت ولو لم يتقدم ذلك حيض ولا إنزال. - ثم قال - رحمه الله -: - ولا ينفك قبل شروطه. لا ينفك الحجر. أي: في الحجر لحظ نفسه. إلا بعد اكتمال الشروط. والشروط هي البلوغ والعقل مع الرشد.

هذه هي الشروط فكل إنسان بالغ عاقل راشد ليس بسفيه فإنه لا حجر عليه ولا نفك الحجر إلا بتحقق هذه الشروط ولو كبر سنه. ولو أصبح شيخاً كبيراً. ولو كان من أعقل الناس فيما عدا الأموات لأن الحجر هنا يتعلق بالمال. فما دام سفيهاً لا يحسن التصرف في أمواله فإنه يحجر عليه مهما بلغ لأن الشرط لم يتحقق وهو: الرشد. وهذه السألة نظرية جداً يعني: أن يكون عاقلاً من أحسن الناس تصرفاً في كل شيء إلا المال فهذا لا يكاد يقع لكن لو وقع فهذا حكمه. - ثم قال - رحمه الله -: - والرشد: الصلاح في المال. بدأ المؤلف - رحمه الله - في بيان حد الرشد النافي للسفاهة فيقول: (هو الصلاح في المال) فمن أصلح ماله وأجاد التصرف فيه فهو رشيد. وفهم من كلام المؤلف - رحمه الله - أن الرشد هو الصلاح في المال دون الدين. فلو كان من الصالحين في المال دون الدين فهو رشيد في هذا الباب. وإن لم يكن رشيداً في حقيقة أمره. لكن نحن الآن يعنينا مسألة/ حكم الأموال. فإذا وجد رجل سفيه في الدين يتساهل في الصلاة وفي الزكاة وفي الصيام وفي بر الوالدين لكنه حسن التصرف في المال فهو عند الحنابلة في هذا الباب رشيد - فهو رشيد. واستدل الحنابلة على هذا: - بقوله: {فإن آنستم منهم رشدا فادفعوا إليهم أموالهم} [النساء/6] وأن ابن عباس فسر هذا بحسن التصرف في المال. فنص ابن عباس على المال. وهذا الأثر فيه ضعف. = القول الثاني: أن الرشد لا يكون إلا بالصلاح في المال والدين. - لأن السفيه في الدين لا يؤمن أن يبذر في المعاصي. والراجح إن شاء الله مذهب الحنابلة وهو أنه لا يشترط الصلاح لافي الدين لأن المقصود هنا بحث الصلاح في المال وأما فساد دينه فيعاقب ويزجر من باب آخر. أما أن يحجر عليه فليس في الأدلة ما يدل عليه. ثم ما زال عمل المسلمين على وجود سفهاء في الدين لكنهم من الراشدين في المال. ومع ذلك لم يحجر عليهم على مر العصور واختلاف القضاة والحكام فالأدلة الشرعية مع الاستئناس بعمل المسلمين يدل على رجحان القول الأول. إذاً نقول أن الراجح هو أن الصلاح هو الرشد في المال فقط لا في الدين. ثم مع كون المؤلف - رحمه الله - بين الصلاح والرشد بماذا يكون فصل نوعاً ما في هذه المسألة:

- فيقول - رحمه الله -: - بأن يتصرف مراراً: فلا يغبن غالباً ولا يبذل ماله في حرام أو في غير فائدة. الصلاح يحصل في الحقيقة بتحقق هذه الثلاثة العناصر. ـ العنصر الأول: أن يتصرف بالمال ولا يغبن. لكن يشترط أن لا يغبن غبناً فاحشاً. أما الغبن اليسير فلا حرج. وفي الحقيقة كان يتعين على المؤلف - رحمه الله - أن يقول: (غبناً فاحشاً). لأن هذا من صميم الحكم وليس من الزيادات أو الشروط أو الشروح. المهم أن العنصر الأول أن يتصرف في البيع والشراء ولا يغبن غبناً فاحشاً. ـ الثاني: أن يتصرف ولا يبذل ماله في المحرمات. والمحرمات: كل عمل حرمه الله. كأن يشتري الخمر أو يلعب القمار أو يشتري آلة اللهو أو يشتري ما يستمع به: آلة الغناء أو يسافر بقصد ارتكاب المحرمات أو يأخذ المال بقصد الربا به أو يستعمله في أي محرم. وهذا معنى قول المؤلف - رحمه الله -: (ولا يبذل ماله في حرام). ـ والعنصر الثالث: أن لا يبذله في غير فائدة. فيشترط للصلاح في المال أن لا يكون من الذين يبذلون أموالهم في غير فائدة. من ذلك: أن يشتري الشيء التافه بالمال العظيم. فهذا من الذين يبذلون أموالهم في غير فائدة. علم من كلام المؤلف - رحمه الله - أن شراء الطعام والشراب والمسكن وما يتنقل عليه ليس من السفه والإسراف ولو زاد. ما لم يبلغ حداً معيناً سيذكره المؤلف - رحمه الله - لكن الأصل أن توسع الإنسان في الطيبات ليس من الإسراف ولا من الأشياء التي يحجر عليه بسببها. - ثم قال - رحمه الله -: - ولا يدفع إليه: حتى يختبر قبل بلوغه بما يليق به (ولا يدفع إليه) يعني إلى الصغير ماله إلا بعد الاختبار. فإذا اختبرناه وتبين صلاحه ورشده دفعنا إليه ماله. والمؤلف - رحمه الله -: يقول: (بما يليق به). لأن اختبار كل واحد يختلف عن الآخر: فالصبي مثلاً يختبر بأن يعطى ما يبيع ويشتري به ويقلبه في الأسواق وننظر هل يغبن غبناً فاحشاً أو لا؟ وهل يشتري ما لا يناسب شرائه أولا؟ وينظر في تصرفه.

ويعطى الشخص الذي ليس من عادته البيع والشراء أو من طبقة لم تعتد البيع والشراء يعطي مصروفه الخاص وينظر ماذا يعمل بهذا المصروف فإن أجاد العمل بالمصروف وأجاد توزيعه على حاجاته الأساسية حكم برشده. وتعطى المرأة ما تعطى عادة ربة المنزل وننظر في تصرف المرأة في هذا المال في داخل المنزل وشراء حاجات المنزل وما يحتاجه وتصريف الخدم من النساء وما يتعلق بهذه الأمور. الخلاصة: أن كل واحد يعطى بحسب طبيعة وضعه وينظر في تصرفه فإن تصرف تصرفاً حسناً حكمنا بأنه رشيد. - وقول المؤلف - رحمه الله -: - قبل بلوغه. فيه دليل على أن الأختبار قبل البلوغ لا بعد البلوغ ولا ننتظر إلى أن يبلغ ثم نختبره. والدليل على هذا من وجهين: - الوجه الأول: قوله تعالى: {وابتلوا اليتامى} [النساء/6] فأمر بالابتلاء وسماهم يتامى فهو ابتلاء قبل البلوغ لأنه بعد البلوغ لا يسمى يتيماً. - الثاني: أنه يلزم من تأخير الابتلاء الحجر على بالغ رشيد. ولا يح [كم] على بالغ رشيد. وجه ذلك: أنه إذا أخر الاختبار فسيمكث فترة من الوقت وهي مدة الاختبار والطفل محجور عليه فهو في هذا الوقت محجور عليه وهو رشيد وبالغ ونحن نقول لا يجوز الحجر على البالغ الرشيد.= والقول الثاني: أنه يختبر وهي رواية عن الإمام أحمد - يختبر بعد البلوغ. والصواب إن شاء الله الرواية الأولى. وهي المذهب. - ثم قال - رحمه الله -: - ووليهم حال الحجر: الأب ثم وصيه ثم الحاكم. بدأ المؤلف - رحمه الله - ببيان الأولياء فيقول - رحمه الله -: ووليهم حال الحجر: الأب. الأب هو الولي ولا ينازعه في الولاية أحد أبداً. والدليل على تقديم الأب من وجهين: - الوجه الأول: كمال شفقة الأب وحسن نظره للابن. - الوجه الثاني: القياس على النكاح. وفهم من هذه الأدلة أن الأب إذا لم يكن كامل الشفقة فإنه لا يكون الأحق بالولاية. كأن يكون مسرفاً أو شارباً للخمر أو صاحب قمار ويأخذ أموال اليتامى في ذلك. فحينئذ لا يكون هو صاحب ولاية لأنا نعلل تقديمه في الولاية: نعلل هذا بأنه كامل الشفقة. وهذا معدوم الشفقة. فالولاية ليست له في هذه الحال. أما لمن تكون؟ فسيأتينا. - ثم قال - رحمه الله -: - ثم وصيه.

الولي في المرتبة الثانية: الوصي الذي أوصى به الأب. واستدلوا على هذا: - بأنه نائب الأب فهو يقاس على وكيله في الحياة. فإذاً: الولي بالمرتبة الأولى: الأب. ثم في المرتبة الثانية: الوصي. ثم في المرتبة الثالثة: - قال - رحمه الله -: - ثم الحاكم. قوله: (ثم الحاكم). فهو في المرتبة الثالثة لأن الولاية انقطعت من جهة القرابة فانتقلت إلى الحاكم. وفهم من كلام المؤلف - رحمه الله - أن الترتيب هكذا: الأب ثم الوصي ثم الحاكم. وأنه لا مدخل للجد في الولاية ولا للأم في الولاية ولا للعصبات كالأخ والعم في الولاية. هؤلاء لا مدخل لهم في الولاية مطلقاً وإنما نقول: الأب ثم الوصي ثم الحاكم. استدل الحنابلة على هذا التريب: - بأن الجد ... ((الأذان)). إذاً: تبين معنا أن الجد والأقارب والعصبات لا ولاية لهم. واستدلوا على عدم دخول الجد في الولاية: - بأن الجد يدلي بالأب فهو كالأخ. فكل منهما يدلي بالأب والأخ لا ولاية له. واستدلوا على عدم ولاية الأخ: - بأن هذه الولاية مالية تحتاج إلى كمال الشفقة ويخشى فيها من الخيانة. فلا [[يسلط]] عليها الأخ. = والقول الثاني: أن الولاية بعد الأب للجد وهو مقدم على الوصي ومقدم على الحاكم. بشرط أن يكون أهلاً للولاية أميناً يحسن التصرف. وهذا رواية عن الإمام أحمد - رحمه الله - واختيار ابن قاضي الجبل والمرداوي وهو قول قوي. = والقول الثالث: أن للجد والأم والعصبات ولاية كلهم. يقدم الأكثر شفقة ونصحاً وحسن تصرف. وهذا ليس رواية عن الإمام أحمد - رحمه الله - وإنما هو قول عند الحنابلة واختاره شيخ الإسلام بن تيمية. والراجح إن شاء الله أنه بعد الأب نختار الأصلح من هؤلاء الذي يقوم بمال الصبي على الوجه الأكمل. - ثم قال - رحمه الله -: - ولا يتصرف لأحدهم وليه إلاّ بالأحظ. لا يتصرف الولي إلا في حدود مصلحة مال اليتيم. فلا يجوز له أن يهدي ولا أن يتبرع ولا أن يعطي كما لا يجوز له أن يزيد في النفقة ولو بطلب اليتيم. - لعموم قوله تعالى: (ولا تقربوا مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن). فإذاً ليس له أن يفعل هذه الأمور. / فإن أهدى أو تبرع أو زاد في النفقة أو أنفق على من لا تلزم اليتيم النفقة عليه: ضمن وجوباً.

- لأنه وإن كان أميناً إلا أنه تعدى. والأمين إذا تعدى يضمن. - ثم قال - رحمه الله -: - ويتجر له مجاناً. فهم من العبارة أمرين: - الأمر الأول: أن الأحسن والأولى أن يتجر الولي بمال اليتيم وأن لا يتركه جامداً. وهو مذهب الجماهير من السلف والخلف. واستدلوا على هذا: - بأثر عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -: (اتجروا بأموال اليتامى لا تأكلها الصدقة). = وذهب الحسن البصري فقط من السلف إلى أنه ينبغي تجميد المال وأن لا يتجر به. ولعله - رحمه الله - خشي من ضياع المال. والصواب مع الجمهور لكن يشترط أن لا يضع المال إلا في مكان أمين من حيث المتجر به وأمين من حيث المستقبل التجاري للمال. أن لا يضعه في مشاريع خاسرة. فإذا تحققت الشروط فقولا الحنابلة: مقدم وهو الصواب إن شاء الله. هذا والله أعلم وصلى الله وسلم على نبينا محمد ...

الدرس: (30) من البيع (¬1) - قال - رحمه الله - (ويتجر له مجاناً). معنى هذه العبارة , أنه إذا اتجر لمن هو وليٌ عليه , فإنّ هذا الإتجار يكون مجاناً , أي فلا يأخذ نسبة المشاعة من الربح ولايأخذ أيضاً أجراً على عمله , بل يتجر مجاناً , واستدلوا على هذا بأنه من مهامه القيام على مال موليه ومن القيام عليه الإتجار. القول الثاني: أنه يتجر به وله نسبة مشاعة من الربح , واستدلوا على هذا بأنه إذا أعطى غيره وأعطاه نسبة مشاعة صح , فإذا اتجر هو وأخذ نسبة مشاعة صح أيضاً. القول الثالث: أنه لايأخذ نسبة مشاعة وإنما يأخذ أجرة واستدلوا على هذا بالقياس على أخذ عمال الزكاة الأجرة , فهم يأخذون الأجرة على تقسيم الزكاة. وهذا الأخير وهو أنه يأخذ أجراً, ولايأخذ نسبة مشاعة من الربح. إختيار شيخ الإسلام ابن تيمية وهوأعدل الأقوال. - ثم قال - رحمه الله - (وله دفع ماله مضاربة بجزء من الربح). ¬

_ (¬1) - ملاحظة: هذا الدرس قام بكتابته أحد الإخوة - جزاه الله خيراً.

أي ولوليّ الصبيّ ونحوه أن يدفع ماله لمن يتجر به وان يعطي من اتجر به جزءاً مشاعاً معلوماً من الربح , والدليل على هذا أنّ عائشة - رضي الله عنها - فعلت أعطت مال ابي بكر لمن يتجر به , ولأنّ هذا العمل من القيام على مال الصغير , ومن رعاية مصالحه فجاز. وهذا لا إشكال فيه. تقدم معنا الخلاف في مسألة هل الأولى أن يتجر بمال الصبيّ ونحوه أو أن يتركه بلا اتجار تقدم معنا أنه لم يخالف من السلف إلاّ الحسن فقط. وأنّ الراجح إن شاء الله أنه يتجر بشرط أن يضعه في مجال مأمون وفي يد مأمونة. - قال - رحمه الله - (ويأكل الوليٌ الفقير من مال موليّه). يريد المؤلف أن يبيّن حكم أخذ الولي من مال الصبي ونحوه. وهذه المسألة لها صورتان: الصورة الأولى" أن يفرض الحاكم أجراً معلوماً , فإذا فرض الحاكم له أجراً معلوماً , جاز أن يأخذ بالإجماع ولو كان غنياً , مادام أخذ بفرض الحاكم له. الصورة الثانية" ألاّ يفرض له الحاكم فعلى المذهب لايأخذ إلاّ إذا كان فقيراً , فإن كان غنياً لم يجز له أن يأخذ. والقول الثاني: أنّ له أن يأخذ وإن كان غنياً , لأنه يأخذ مقابل عمله , ومن يأخذ مقابل عمله فإنه لايشترط أن يكون فقيراً. والراجح مذهب الحنابلة. لقوله تعالى {ومن كان فقيرا فليأكل بالمعروف} [النساء/1] فالآية نصّ مع الحنابلة, أنّ الغنيّ يستعفف والفقير يأكل بالمعروف ومادامت الآية فرّقت بين الغني والفقير فلا يسع الإنسان الخروج عنها. فإذا تقررّ أنّ الفقير يأخذ مع حاجته سيبيّن المؤلف ماذا يأخذ. - قال - رحمه الله - (الأقل من كفايته أو أجرته مجاناً). ويأكل الولي الفقير من مال موليه الأقل من كفايته أو أجرته مجاناً , الحنابلة يرون أنه يأخذ الأقل من كفايته وأجرته فإن كان الأقل الأجرة أخذ وإن كان الأقل الكفاية أخذ , مثال ذلك /إذا كانت كفاية هذا الرجل يعني المبلغ الذي يكفيه ويكفي مؤنته مائة ريال وأجرة مثله للقيام بمال الصبي خمسين ريال , فكم سيأخذ مع أنه لاتقوم بكفايته لكن هو يأخذ الأقل من أجرته وكفايته.

استدل الحنابلة على هذا بأنّ ولي الصغير يأخذ بسببين: العمل والحاجة , فهو لايأخذ مقابل العمل وحده, ولايأخذ مقابل الحاجة وحدها وإنما يأخذ مقابل الاثنين في آن واحد , وإذا كان كذلك فلايأخذ إلاّ إذا وجدت العمل والحاجة. وهذا يدل على أنه يأخذ الأقل من كفايته أو أجرته. القول الثاني: أنه يأخذ أجرته كاملة , لأنّ الأخذ مقابل العمل فقط , والصحيح المذهب , وهو إختيار شيخ الإسلام. فإذا تبيّن أنه يأخذ بسببين , لابسبب واحد ولابد أن تتصور هذه المسألة, لأنه ينبني عليها مسائل أخرى فلابد أن يتضح في ذهنك الآن أنه يأخذ بسببين لابسبب واحد , والسببان هما الحاجة والعمل. - قال - رحمه الله - (مجاناً). يقصدون بها أنه يأخذ ثم إذا أيسر وحسن حاله مادياً فإنه لايجب عليه أن يعيد ما أخذ من اليتيم أو من الصغير المحجور عليه. واستدلوا على هذا بأنه يأخذ مقابل عمله ومقابل حاجته , ومن أخذ مقابل عمله فإنه لايردّ ما أخذ إذا أيسر. والقول الثاني: أنه إذا أخذ من مال اليتيم ثم أيسر, يردّ كل ما أخذ من النفقة , لأنّ إنما أذِنّ له بالأخذ لحاجته , ومن أخذ لحاجته ردّ إذا أيسر , والراجح المذهب لايلزمه أن يرجع ما أخذه. والدليل أنّ الله سبحانه تعالى قال [فليأكل بالمعروف] ولم يذكر شرطاً سوى ذلك ولم تشر الآية من قريب أوبعيد إلى أنه إذا أيسر عاد بالمال. إذا تقرر هذا الحكم تبيّن معنا مسألة أخرى , وهي إذا كان يأخذ مقابل العمل والحاجة, أيهما أغلب على حاله؟ لأنه مارّد لو كان يأخذ مقابل الحاجة لغلبّنا قول الذين يقولون يردّ , لكن لما لم يردّ عرفنا أنّ الغالب على عقده أنه يأخذ مقابل عمله , لكن هذا لايعني أنه يأخذ مقابل العمل فقط بل هو يأخذ مقابل العمل والحاجة. مالدليل على أنه يأخذ مقابل العمل والحاجة , وليس مقابل العمل فقط؟ لأنّ الآية اشترطت لأخذه الحاجة إذاً هو يأخذ مقابل حاجته فدلت الآية مع الأصل الأول على أنه يأخذ مقابل العمل والحاجة , ودلّت في نفس الوقت على العمل غالب على العقد. - قال - رحمه الله - (ويقبل قول الوليُ , والحاكم بعد فك الحجر في النفقة).

هذه المسألة والمسائل التالية ترجع إلى أصل واحد , إذا عرفه الإنسان عرف حكم كل مسألة من المسائل التالية. وهذا الأصل هو أنه إذا أدعى اليتيم على الولي ما يؤدي إلى الضمان , أو ادعى تفريطاً, فالقول قول الولي , فإن كان الولي هو الحاكم فالقول قوله بلا يمين , وإن كان الولي غير الحاكم فالقول قوله لكن مع اليمين. إذاً القاعدة أنّ اليتيم إذا ادعى على الولي ما يوجب الضمان أو ادعى عليه التعدّي والتفريط , فالقول قول من؟ الولي. فإن كان هو الحاكم فالقول قوله بلا يمين , وإن كان سواه فالقول قوله لكن مع اليمين. هذه قاعدة وكل المسائل التالية تندرج تحت هذه القاعدة , الدليل على ذلك أنّ الولي يده يد أمانة وهو محسن ومن كانت يده يد أمانة , فإنه لا يضمّن والقول قوله. ثانياً" أنّ القول بتضمينه يؤدي إلى إمتناع الناس الأكفاء العدول عن القيام على أموال اليتامى , وهذه مفسدة وضرر. الآن تمهدت معنا القاعدة ننظر في الأمثلة. - يقول الشيخ - رحمه الله - (ويقبل قول الوليُ , والحاكم بعد فك الحجر في النفقة). فإذا ادعى اليتيم أنه لم ينفق. وادعى الولي أنه أنفق , أو ادعى اليتيم أنه لم ينفق القدر الواجب , وادعى الولي أنه أنفق على الوجه المطلوب. فالقول قول الولي , ولايطالب ببيّنة , وهذا معنى قولنا القول قوله , وإنما يطالب فقط بماذا؟ باليمين. هذه هي المسألة الأولى. - قال - رحمه الله - (والضرورة). يعني ويقبل قول الولي إذا ادعى أنه باع البيت للضرورة , فإذا اختلف هو واليتيم , وقال اليتيم بل بيع البيت بلا ضرورة , وقال الولي أن البيت لم يبع إلاّ بسبب الضرورة كالحاجة إلى النفقة الملحة فالقول قول الولي. فهمنا من هذه العبارة أنه لايجوز لولي اليتيم أن يبيع شيئاً من أملاك اليتيم إلاّ للضرورة. فإن باع بلا ضرورة ولو بثمن المثل ضمن ,

والقول الثاني: أنّ ولي اليتيم له أن يبيع بالمصلحة ولو بلا ضرورة , لأنه قائم على مال اليتيم بما يصلحه , والبيع لمصلحة مما يصلح مال اليتيم. وهذا القول الثاني لاشك إن شاء الله أنه الراجح وعليه العمل. ولايقتصر البيع على الضرورة, بل إذا رأى المصلحة بأن يباع باع. مثال ذلك/ إذا كان ترميم البيت ليصبح للآجار يستغرق أموال اليتيم , ثم بعد ذلك يؤجر بمبلغ زهيد. فالمصلحة هنا البيع ولاتوجد ضرورة , لأنّ اليتيم له أموال يمكن أن ينفق عليه منها , فإذاً في هذا المثال البيع للمصلحة وليس للضرورة ولاشك أنه الأقرب يباع , لأنّ بيعه في هذه الصورة من مصالح اليتيم. المهم الراجح إن شاء الله هو أنه يريد أن يبيع إذا وجدت المصلحة ولو لغير ضرورة. - يقول - رحمه الله - (والغبطة). أيضاً هذه المسألة اشتملت على مسألتين: الأولى. جواز البيع للغبطة , بخلاف المسألة السابقة. وجواز البيع مع وجود الغبطة قال عنه المرداوي بلا نزاع يعني في المذهب , وربما يكون بلا نزاع عند جميع أهل العلم , لأنّ هذا في صميم مصلحة اليتيم. والغبطة / هي أن يبيع بأكثر من ثمن المثل بكثير, بزيادة كثيرة نحو النصف أوالثلث. ومن الغبطة أن يبيع خشية الإنهدام أو التلف. عرفنا الآن أنّ الولي إذا باع أثاثاً أو متاعاً لليتيم غبطة جاز بلا نزاع. نأتي إلى المسألة التي هي تعنينا الآن وهي أنه إذا اختلف اليتيم والولي هل باع غبطة , أو باع بلا غبطة فالقول قول من؟ قول الولي. لأنّ قوله قول مؤتمن فيصدق بيمينه - ثم قال - رحمه الله - (والتلف). يعني إذا تلفت العين , وتنازع اليتيم والولي , هل تلفت بتعدّي أوتفريط؟ أو اختلفوا في كون العين تلفت أو لم تتلف. فهاتان صورتان فالقول في جميع هذه قول الولي. ومن المعلوم أنه إذا ادعى أنّ العين تلفت فهو سيدعي تبعاً لذلك أنها تلفت بغير تعدّي ولاتفريط.

لكن هاتان صورتان. فإذا قال اليتيم لم تتلف وإنما أكلها الولي وهي محسوبة عليه. أو قال لم تتلف وإنما اخذها الولي إلى حيث لايعلم وأشبه هذه الدعاوى فالقول قول الولي , كذلك إذا أقرّ اليتيم أنها تلفت لكن زعم أنه بتعدّي أوتفريط من الولي فالقول قول الولي لأنه يده يد أمانة وهو محسن كما تقدم معنا. قبل أن ننتقل إلى مسألة دفع المال لأنها تختلف نوعاً ما عن المسائل السابقة ,يشترط في جميع المسائل السابقة , وهي النفقة والضرورة والغبطة والتلف. أربع أو خمس مسائل, يشترط ألاّ يدعي شيئاً يكذبه الواقع. فإذا ادعى شيئاً لايقبل ويكذبه الواقع صار يجب عليه أن يثبت دعواه ببيّنة , ولانكتفي منه باليمين , لأنّ ظاهر الحال يكذب دعواه. مثال/ إذا تلفت الثمار جميعاً كل ثمرة في البستان تلفت زعم الولي أنّ كل ما في البستان من ثمار تلف يقصد ثمار السنة التي انتهت. ثم إذا قيل له كيف تم ذلك. قال أنه في السنة السابقة هجم جراد عظيم على البلد وأكل هذه الثمار , حينئذ إذا لم يكن معروفاً عند جميع الناس , أنه وجدت آفة الجراد , يلزم أن يقيم بيّنة على وجود الجراد , فإن لم يقم بيّنة على وجوده ضمن جميع الثمار , لأنّ دعواه يكذبها الواقع. من الأمثلة المعاصرة والتي قد تقع أن يحتاج الولي إلى بيع البيت, بيت اليتيم فلنقل للضرورة عند الحنابلة ثم لما باعه قيل له بكم بعت البيت فقال بعت البيت بخمسين ألف , وحرّج عليه ولم يأت أو لم يحصل البيت تحت الحراج إلاّ على هذا المقدار. ولما نظرنا وجدنا أنّ البيت قيمته السوقية نحو مليون ريال, حينئذ نرضى أنّ هذا الحراج لم يكن موجوداً أصلاً , لأنه كيف يتم الحراج على بيت قيمته مليون ولايشترى إلاّ بخمسين ألف. لأنّ عادة التجار وأصحاب العقار أن يتنازعوا على البيوت التي فيها حراج لغلبة الظن في نزول سعرها بسبب الحراج ,فأين هم عن هذا البيت الذي نقص فيه هذا الثمن العظيم من مليون إلى خمسين ألف. هنا نقول فإما أن تأتي ببيّنة أنك أقمت حراجاً معتبراً معلناً مع وجود أهل الإختصاص , وإلاّ فتضمن الفرق بين القيمتين. هذه الأمثلة المقصود منها أن تتصور الشرط. وإلاّ القاعدة العامة أن يدعي ما يكذبه الواقع.

- ثم قال - رحمه الله - (ودفع المال). المقصود بدفع المال أن يتنازع اليتيم والولي , في دفع المال فيقول الولي دفعت المال إلى اليتيم كاملاً , وقبضه قبضاً صحيحاً , ويقول اليتيم لم أقبض شيئاً , ولم يدفع إليّ المال , فالقول عند الحنابلة قول من؟ الولي. لأنّ يده يد أمانة. والقول الثاني: أنّ القول قول اليتيم في مسألة دفع المال. واستدلوا بدليلين: الدليل الأول" أنه في هذه المسألة بالذات الأصل عدم القبض. الدليل الثاني" أنّ الولي فرط , والمفرط يضمن , ووجه التفريط أنه لم يشهد. والله تعالى يقول {فإذا دفعتم إليهم أموالهم فأشهدوا عليهم} [النساء/5] فأمر بالإشهاد عند دفع المال فخالف ففرط. والقول الثاني هو الصحيح. لأنه فرط في عدم الإشهاد المأمور به في الآية , وهذا الدليل هو الذي يرجح القول , وإلاّ قضية أنّ الأصل عدم الدفع دليل ضعيف لأنّ الأصل عدم التلف أيضاً. ليس الأصل في الأعيان التلف الأصل في الأعيان عدم التلف , فإذاً المرجح هو في الحقيقة التفريط. - قال - رحمه الله - (وما استدان العبد لزم سيده إن أذن له). إذا استدان العبد من الناس أموالهم , وهذا الإقتراض كان بإذن السيد. فالسيد يضمن ما على العبد , ويطالب به من الدائن , والسبب في ذلك , أنه لما أذن له غرّ الناس به , وإذا غرّهم ضمن. - قال - رحمه الله - (وإلاّ ففي رقبته). وإلاّ يكن اقترض بإذن السيد ففي رقبة العبد. يعني تتعلّق الديون برقبة العبد ولاشأن للسيد بهذه الديون مطلقاً , فإذا تعلّقت الديون رقبة العبد فالسيد مخير بين أمرين: إما أن يبيع العبد ويقضي للناس , أو أن يفتدي العبد , فإذا اختار افتداء العبد فعليه أن يفتدي العبد بالأقل من قيمته أو الدين أو بالأكثر؟ الجواب بالأقل. صورة ذلك / أن يكون العبد استدان مائة ألف وقيمة العبد إذا بيع خمسون ألف , فكم يجب على السيد أن يدفع؟ خمسين ألف. إذا كانت الديون خمسين ألف , وقيمة العبد مائة ألف فكم يجب على السيد أن يدفع؟ خمسين ألف. والباقي للسيد. لاشأن للدائن به

الصورة/ عبد استدان خمسين غألف ريال , بدون إذن السيد فتعلّق الدين برقبته , فاختار السيد أن يفتديه. فالآن قيمة العبد مائة ألف وقيمة الدين خمسين ألف , فإذا باع السيد العبد سيقضي الدائن بخمسين ألف , ويتبقى معه خمسين ألف فتكون له. المقصود أنه يفتدي العبد بالأقل من الدين أو قيمة العبد. المثال الموضح لقضية الأقل , هو المثال الأول وإنما المثال الثاني للتوضيح ذكرته , المثال الأول وهو أن تكون قيمة العبد أقل من الدين حينئذ نقول إذا أراد السيد أن يفتدي العبد فإنه يدفع فقط قيمة العبد, وإن لم تكفي الدين. إذاً يفتديه إذا اختار الإفتداء بالأقل من القيمة أو الدين. القول الثاني: أنه لاشأن للسيد بدين العبد ولو بلا إذنه , ويتعلق الدين برقبة وذمة العبد, بل صواب العبارة يتعلق بذمة العبد. فإذا عتق وأيسر الزمناه بالسداد , إذاً القول الثاني أنّ العبد إذا استدان بلا إذن السيد تعلق الدين بذمته لابرقبته , فإذا عتق وأيسر الزمناه بماذا؟ بالسداد. واستدلوا على هذا بأنه تصرف من العبد لم يأذن به السيد, فيبقى في ذمته إلى أن يتمكن من السداد. وهذا القول ضعيف جداً لأنه يؤدي إلى ضياع أموال المسلمين. إذ بناء على ذلك يقوم العبد بالإقتراض مراراً وتكراراً , وتكون هذه الديون معلقة بماذا؟ بذمته وينتفع السيد من هذه الأموال لأنه سيتسلط عليها , لأنّها أموال العبد وبهذا تضيع أموال الناس. ومتى يعتق العبد ثم متى يكون عنده يسار ومال حتى يسدد الناس هذا غاية في البعد , وليس الغالب على الرقيق العتق. وإنما الغالب أن يستمر , المهم هذا القول الأخير ضعيف جداً. والمذهب هو الراجح إن شاء الله. - قال - رحمه الله - (كاستيداعه وأرش جنايته , وقيمة متلفه).

باب الوكالة

أي أنّ هذه المسائل الثلاث حكمها ما إذا استدان بلا إذن السيد , فتتعلق الجنايات والأروش والودائع برقبة العبد , ونفعل فيها كما فعلنا في المسألة السابقة تماماً , نخيِر السيد بين البيع والإفتداء على ماتقدم بنفس التفصيل تماماً , إذاً هذه المسائل الثلاث استيداعه وأرش جنايته وقيمة متلفه. حكمها حكم ماذا؟ حكم القروض التي تمت بلا إذن السيد. فالحكم متفق لما تقدم ذكره , وتقدم معنا أن قوله كا استيداعه مبني على أنّ الحنابلة يرون الوديعة مضمونة , وسيأتينا في باب الوديعة حكم ضمان الوديعة. وبهذا انتهينا من الحجر. باب الوكالة - يقول الشيخ - رحمه الله - باب الوكالة. الوكالة في اللغة العربية /اسم من التوكيل , ولها في لغة العرب معنيان لاتخرج باقي الاشتقاقات عنهما في ما يظهر لي. الأول" الحفظ فالوكيل على الشيء هو الحفيظ. والثاني" الإعتماد والتفويض. فتوكيل شخص لشخص ما هو في الحقيقة اعتماد وتفويض إليه بالأعمال. وهي مع الله من أعظم وأجل العبادات , بل نقل عن شيخ الإسلام أنه قال تأملت فلم أرى أنفع من طلب إعانة الله على عبادته. وهذا صحيح لأنه إذا طلب الإنسان إعانة الله على رضاه وعبادته حصل المقصود , وأماّ من العبد يعني الوكيل فهي برّ وإحسان. وإن كانت بأجرة فهي بر وإحسان من الموكّل , وإن كانت بأجرة مع حاجة الوكيل والموكّل فلا بر ولا إحسان من الجميع كل واحد بحاجة الآخر. وأما في الشرع /فهي استنابة جائز التصرف فيما يجوز فيه التوكيل , أو فيما تجوز فيه النيابة. وبعضهم يقول استنابة الغير وهو أخصر وأوضح. لكن استخدام كلمة جائز التصرف يعطي دلالة على أنّ الوكيل لابد أن يكون جائز التصرف. وهي جائزة بالكتاب والسنة والإجماع. أماّ الكتاب فقوله {إنما الصدقات للفقراء والمساكين والعاملين عليها} [التوبة/60] والعامل على الزكاة موكل سواء كان بأجرة أو مجاناً. وأماّ من السنة فأحاديث كثيرة أوضحها حديث عروة بن جعد - رضي الله عنه - في البخاري أنّ النبي - صلى الله عليه وسلم - أعطاه ديناراً وأمره أن يشتري شاة. فهذا توكيل محض. وأماّ الإجماع فحكاه غير واحد من أهل العلم. وهو أنهم أجمعوا على مشروعيتها بالجملة.

- قال - رحمه الله - (تصح بكل قول يدل على الإذن). أي أنّ الوكالة عقد من العقود يحتاج إلى ايجاب وقبول , ولايتم إلاّ بايجاب وقبول لكن الوكالة تصح عند الحنابلة بكل قول يدل عليه فلا يشترط أن يقول وكلتك , فلو قال اعتمد عليك في انجاز العمل أو فوضت إليك اتمام العمل , أو قم بصنع كذا وكذا , بأيّ عبارة تدل على المقصود يصح عقد الوكالة ويكون هذا ايجاب. ولماّ بيّن الشيخ الإيجاب انتقل إلى القبول. - قال - رحمه الله - (ويصح القبول على الفور والتراخي). يجوز أن يقبل فوراً ويجوز أن يقبل متراخياً , فإذا قبل فوراً جاز بالإجماع , كأن يقول وكلتك فيقول قبلت. أويقول وكلتك في صنع كذا وكذا فيشرع في العمل مباشرة , أما على التراخي فله صور: الصورة الأولى" أن يقول الموكِل للموكل وكلتك وأنت غائب قبل شهر, فيقول قبلت يعني الوكيل. فالآن الإيجاب صدر قبل كم؟ شهر. والقبول بعد شهر. الصورة الثانية" أن يقول وكلتك في بناء البيت. والوكيل حاضر ولايقبل ثم بعد سنة يقبل ويبدأ ببناء البيت. ففي الصورة الأولى لم يعلم الموكل بالإيجاب أصلاً إلاّ بعد شهر , وفي الصورة الثانية علم ولكنه لم يقبل إلاّ متراخياً بعد سنة مثلاً. الجميع جائز عند الحنابلة. لأنّ التوكيل عبارة عن إذن في التصرف فمادام الإذن قائماً جاز أن يقبل في أيّ وقت , والصحيح أنّ هذا يرجع للعرف فإن كان العرف يدل على أنه إن بدأ بالعمل بعد الإيجاب مباشرة , وإلاّ فهو منتقل فليس له أن يقبل بعد مدة ثم يشرع في العمل. والعرف يدل على أنه غالباً إذا لم يقبل مباشرة فإنه ليس له أن يقوم بما وكل به, فليس من المقبول في الأعراف المعاصرة أن أقول لشخص وكلتك في بيع هذه السيارة ثم لايبدي ايجاباً ولارفضاً ثم بعد خمسة أشهر بدون علم الموكِل يأتي بمشتري ويقول هذه السيارة أنا موكل ببيعها ويبيعها عليه ويأتي بحامل السيارات ويحمل السيارة ويذهب, هذا غير مقبول في العرف مطلقاً, بل يرى الموكِل أنّ الموكل لماّ لم يبدي ايجاباً ولاقبولاً ولارفضاً, فإنه انتهى التوكيل بعد مفارقة المجلس. إذاً الراجح نرجع في هذا إلى العرف. فإن دلّ العرف على الإستمرار وإلاّ فهو ملغي.

- قال - رحمه الله - (بكل قول أو فعل دال عليه). يعني يصح القبول بكل قول أو فعل يدل على القبول لأنه ليس في نصوص الكتاب ولا السنة ما يدل على تحديد ألفاظ معيّنة بالقبول فما دام قبل صح القبول وتم العقد بأيّ لفظ كان لعدم وجود الدليل الشرعي على التحديد. قال - رحمه الله - (ومن له التصرف في شيء فله التوكيل والتوكل فيه). بدأ الشيخ المؤلف في مسائل مهمة بعد أن انتهينا من قضية الإيجاب والقبول , بدأ بمسألة متى يجوز للإنسان أن يُوكل ومتى يجوز له أن يتوكل , فيقول من له التصرف في شيء فله التوكيل والتوكل فيه. من له التصرف في شيء يعني بنفسه , كل إنسان يجوز له أن يتصرف هذا التصرف فله أن يوكل غيره به وله أن يقبل توكيل غيره له الدليل على هذا. أنّ من لا يملك التصرف في نفسه , لايملك أن ينيب غيره فيه , وهذا صحيح بناء على هذه القاعدة الجميلة عند الحنابلة تعرف أنت الآن إذا قيل لك هل يجوز للمحجور عليه لسفه أن يوكل غيره في البيع والشراء لماذا؟ لأنه هو يملك التصرف حيث تقدم معنا أنّ تصرفه باطل. هل يجوز للعبد أن يوكل غيره في بيع متاع سيده؟ لأنه هو لا يملك. إذا اتضح الآن من خلال هذه الأمثلة معنى القاعدة وهي قاعدة جميلة تريح الإنسان في قضية من هو الشخص الذي أو الموضوع الذي يجوز أن نتوكل أو أن نوكل فيه. - قال - رحمه الله - (ويصح التوكيل في كل حق آدمي من العقود). يجوز التوكيل في كل حق آدمي من العقود , يجوز أن يوكل في جميع أنواع العقود , واستدل الحنابلة على هذا , بدليل وتعليل: الدليل" حديث عروة بأنّ النبي - صلى الله عليه وسلم - وكله في عقد البيع , ونحن نقيس على عقد البيع كل العقود الأخرى المضاربة والشركة والإجارة ,. وعقد النكاح وكل العقود التي تتعلق بحق الآدمي , إذاً الدليل هو هذا الحديث ونحن نقيس على مافيه من توكيل في البيع سائر العقود الأخرى.

الدليل الثاني" وهو دليل صحيح أنّ الحاجة تدعوا إلى هذا وأحياناً الضرورة. وكل عمل تمس الحاجة إليه والضرورة فإنّ الشارع لايمنع منه. وهذه قاعدة من قواعد شيخ الإسلام. لكن يبقى علينا تحقيق هل هذا مما تدعوا له الحاجة أو لا. لكن القاعدة لاشك فيها أنّ كل عمل تدعوا إليه الحاجة أو الضرورة فإنّ الشارع لايمنع منه. إذاً عرفنا الآن يقول ويجوز التوكيل في كل حق آدمي من العقود عرفنا أنّ هذه العبارة تدل على جواز البيع وقيس عليه عقود المعاوضات وتدل على جواز عقود النكاح وما يتعلق به. - ثم قال - رحمه الله - (والفسوخ). الفسوخ كالخلع والإقالة , فالخلع فسخ عند الحنابلة والإقالة فسخ وتقدمت معنا , وأنه هو الراجح إن شاء الله أنّ الإقالة فسخ وليست ببيع جديد. - يقول - رحمه الله - (والعتق والطلاق). العتق هو تحريررقبة الآدمي من العبودية , والطلاق سيأتينا , الدليل على هذه العقود الثلاثة الفسوخ والعتق والطلاق , هو أنه إذا جاز التوكيل في إنشاء هذه العقود ففي فسخها من باب أولى. لأنّ الإنشاء في الشرع أعظم من الفسخ. فالفسخ أسهل من الإنشاء ولهذا إنشاء عقد النكاح يحتاج إلى شروط وولي وشهود ومهر ويحتاج إلى أشياء كثيرة ليتم , الطلاق لايحتاج إلى أيّ شيء, فأيهما أسهل إنشاء النكاح أوفسخه؟ إذاً جاز الإنشاء فالفسخ من باب أولى. - قال - رحمه الله - (والرجعة). الرجعة إعادة المطلقة الرجعية إلى عصمة الرجل. تجوز يعني يجوز التوكيل فيها , يجوز أن يقول زيد لعمرو وكلتك في مراجعة زوجتي لماذا؟ قالوا قياساً على البيع , ولأنّ الحاجة تدعوا إليه , لكن ربما يقال ما وجه الحاجة لأنّ الإنسان يستطيع أن يراجع بلا شهود وبلا حضور الزوجة وبلا حضور الولي فما الفائدة في أن يقول لغيره وكلتك في مراجعة زوجتي , الفائدة وهي موجودة كثيراً أن يريد أن تتم هذه المراجعة في حضرة ولي الزوجة وفي حضرة شهود ليثبت هذا الأمر , وهذه مصلحة مندوبة إليها في الشرع , إذاً توجد حاجة. وبهذا شمل الشيخ - رحمه الله - تقريباً جميع أنواع العقود. - قال - رحمه الله - (وتملك المباحات من الصيد والحشيش ونحوه).

يعني ويجوز أن يوكل الإنسان غيره في تملك المباحات , فيقول له وكلتك أن تأتي لي بحطب , أوبحشيش من البَر. وهذا هو مذهب الحنابلة واستدلوا على هذا بأنّ الإحتطاب وجز الحشيش من وسائل التملك المباحة , التي لاتتعيّن على المتملّك فجازت الإنابة فيها وهذا صحيح الإحتطاب وسيلة من وسائل التملك , كما أنّ الشراء وسيلة من وسائل التملك , كما أنّ الهبة وسيلة من وسائل التملك. فإذا كان الإحتطاب من وسائل التملك جاز أن يوكل غيره فيه. والقول الثاني: أنه لايصح التوكيل في تملك المباحات , بناء عليه يكون الحطب للمحتطب , لا للموكل , واستدلوا على هذا بأنه كيف يسوغ للإنسان أن يوكل غيره في تملك عين لم يتملكها هو بعد , وإلى هذا القول الثاني مال الشيخ المرداوي. ورأى أنّ التوكيل في المباحات غير صحيح , والراجح إن شاء الله في تصوري بلا تردد المذهب. والسبب أنّ هذا عقد معاوضة مباحة لا ضررفيه وفيه نفع للطرفين فأيّ مانع منه , أيّ شيء يمنع هذا , ثم قد يكون في هذا التوكيل مصلحة واضحة جداً. مثل أن يريد المُوكَل أن يبُرالموكِل ومثل أن يريد الموكِل أن يبُر الموكَل , وذلك إذا كان الناس يثقون في الموكِل دون الموكَل. حينئذ يكون الموكِل هو الذي برَ الموكَل فالراجح إنشاء الله جواز ذلك. - قال - رحمه الله - (لا الظهار). بدأ في الأشياء - رحمه الله - التي لا يجوز التوكيل فيها , قال ولا الظهار يعني ولا يجوز للإنسان أن يوكل غيره في أن يظاهر من زوجته لماذا؟ لأنه هو لا يملك هذا التصرف لأنه محرم , ومن لا يملك التصرف لايملك أن ينيب غيره فيه , هذا التعليل فقهي أما لماذا لايملك التصرف فلأنه جور وقول بهتان , وحرمه الله ورسوله. - يقول الشيخ - رحمه الله - (واللعان). لا يجوز أن يوكل شخص شخصاً آخر في أن يلاعن زوجته , فيما لو احتاج إلى اللعان , نسأل الله العافية والسلامة , فلا يجوز أن يقول وكلتك أن تلاعن زوجتي , لماذا؟ لأنّ اللعان يمين, والأيمان كما سيأتينا لا يجوز التوكيل فيها. - يقول - رحمه الله - (والأيمان).

يعني لا يجوز للإنسان أن يوكل غيره في الأيمان , بأن يقول وكلتك أن تحلف عني , تعليل قالوا أنّ الأيمان تتعلق بعين الشخص وتتعلق بذاته فهي من هذه الجهة تشبه العبادات البدنية المحضة. فلا تجوز الوكالة فيها. وبعد أن عرفنا حكم الظهار واللعان والأيمان. سيتبيّن لنا أنّ الترتيب فيه خلل , أين الخلل؟ الأيمان قبل اللعان , لأنّ اللعان المنع منه مبني على المنع من الأيمان. - قال - رحمه الله - (وفي كل حق لله تدخله النيابة من العبادات). رجع الشيخ إلى مايجوز فيه التوكيل , فيقول وفي كل حق لله تدخله النيابة من العبادات , يعني ويجوز للإنسان أن يوكل غيره في كل حق تدخله النيابة من العبادات , لكن بقي علينا أن نعرف ما هي العبادات التي تدخلها النيابة , والعبادات التي لاتدخلها النيابة. العبادات التي تدخلها النيابة / هي العبادت المالية كالزكاة والصدقات والكفارات ونحوها ,وكذلك العبادات المالية البدنية كالحج والعمرة , وأما العبادات التي لا تدخلها النيابة البدنية, القسمة ثلاثية إما أن تكون عبادة مالية, أو مالية بدنية, أو بدنية. فالبدنية لا يجوز فيها التوكيل , فلا يجوز لأحد أن يوكل غيره أن يصلي عنه الظهر أو أن يصوم عنه رمضان ونحو ذلك , إذاً العبادات البدنية لا يجوز التوكيل فيها , أما المالية والمالية البدنية فيجوز. بقينا في مسألة الدليل على الحكم وهوجواز التوكيل في العبادات , لأنّ الأصل في العبادة أن يقوم الإنسان بها بنفسه , الدليل على الجواز فيما يجوز فيه التوكيل ,أنّ النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يوكل السعاة والجباة في جلب الزكاة , فدل على أنّ هذه العبادة يجوزالتوكيل فيها. - قال - رحمه الله - (والحدود إثباتها واستيفائها). يعني ويجوز للإمام أن يوكل غيره في أمرين. في إثبات الحد واستيفائه, فإذا وكل غيره بذلك جاز ويعتبر أقام حدود الله , الدليل على جواز ذلك أنّ النبي - صلى الله عليه وسلم - قال لأنس (واغد يا أنيس إلى إمرأة هذا فإن اعترفت فارجمها) فقوله فإن اعترفت هذا توكيل في الإثبات , وقوله فارجمها توكيل في استيفاء الحد , والحديث نصّ في جواز ذلك. - قال - رحمه الله - (وليس للوكيل أن يوكل فيما وكل فيه).

ليس للوكيل أن يوكل فيما وكل فيه , ومقصود الحنابلة , أي فيما جرى العرف أن يقوم به بنفسه , حينئذ لا يجوز له أن يوكل , واستدلوا على هذا بأمرين: الأمر الأول أنّ الوكالة أمانة , فيجب أن يقوم بما عليه بنفسه. الثاني" أنّ إذن الموكِل لم يتناول أن يوكل غيره فلا يجوز أن يخرج عن حدود الإذن. والقول الثاني: أنه يجوز أن يوكل غيره , واستدلوا على هذا بتعليل وهو قولهم أنه أي الموكل لما ملك التصرف ملك أن يوكل فيه كالمالك الأصلي. والأقرب أنه يرجع في ذلك إلى العرف. فإن لم يوجد عرف فالصحيح المذهب أنه لايوكل غيره , لأنّ للموكل نظر في إختيار الموكَل , فإذا وكل غيره أسقط هذا النظر. - يقول - رحمه الله - (إلاَّ أن يجعل إليه). يعني إلاّ أن يأذن الموكِل للموكَل أن يوكل غيره , فإذا أذن جاز بإجماع أهل العلم بلا خلاف. كما أنه إذا اشترط عليه ألاّ يوكل حرم عليه بالإجماع بلا خلاف بين أهل العلم , إذاً في صورة إذا أذن أو إذا نصّ على المنع لا إشكال وإنما الإشكال والخلاف إذا أطلق ولم يحدد. - قال - رحمه الله - (والوكالة عقد جائز تبطل: بفسخ أحدهما). الوكالة عقد جائز وليست من العقود اللازمة, بلا نزاع عند الحنابلة واستدلوا على هذا بأنّ عبارة عن إذن في التصرف , والإذن يصح رفعه. وهذا صحيح. أنها عقد جائز وليست بعقد لازم , يقول تبطل بفسخ أحدهما, هذا من ثمرة أنه عقد جائز فإذا فسخه انفسخ سواء من الموكِل أو الموكَل , لكن سيأتينا مايترتب على الفسخ بلا علم الموكَل , وهي مسألة مهمة. - يقول - رحمه الله - (وموته). اتفق الأئمة على أنه إذا مات الموكِل انفسخ عقد الوكالة , هذا إذا علم الموكَل بموته , الإتفاق إذا علم الموكَل بموته, أما إذا لم يعلم فهي المسألة التي ستأتي بعد هذا , والله أعلم ..

الدرس: (31) من البيع قال شيخنا حفظه الله: بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين. تقدم معنا بالأمس أن الوكالة تبطل بأمور: ذكرنا منها أمس اثنين: - الأول: بفسخ أحدهما. - والثاني: بموته. تقدم معنا أن بطلان الوكالة بالموت محل إجماع. بشرط أن يعلم بموت الموكل. فإن لم يعلم فسيأتينا إن شاء الله - اليوم - الحكم. - يقول - رحمه الله -: - وعزل الوكيل. يعني: وتبطل الوكالة بعزل الموكل للوكيل. فإن علم الوكيل بالعزل: بطلت إجماعاً. كما أنه إذا علم بموت الموكل: بطلت إجماعاً. وإن لم يعلم الوكيل بعزله أو بموت الموكل ففيه خلاف: = فعلى المذهب: تبطل أيضاً. ولهذا تجد أن عبارة المؤلف - رحمه الله - مطلقة لم تقيد بالعلم أو عدمه. واستدل الحنابلة على بطلان الوكالة ولو لم يعلم: - بأن هذا - وهو إبطال أو عزل الموكل للوكيل فسخ للعقد مع من لا يشترط رضاه. فلا يشترط علمه كالطلاق. معنى هذا: أن الوكيل لا يشترط أن يرضى بعزل الموكل له. وكل عقد لا يشترط رضا أحد طرفيه فلا يشترط علمه كما في الطلاق. فللزوج أن يطلق زوجته بلا رضاها فكذلك بلا علمها. = والقول الثاني: أنه يشترط العلم بالموت والعزل. فإن لم يعلم الوكيل فكل تصرفاته قبل العلم صحيحة. واستدل هؤلاء: - بأن في إمضاء العزل بلا علم المعزول - وهو الوكيل - ضرر بالغ على الوكيل وعلى البائع أو المشتري الذي تعامل معه إذ قد يشتري الطعام فيؤكل أو يشتري الجارية فتوطأ فإذا أبطلنا العقد دخل الضرر على الوكيل وعلى البائع. وهذا القول الثاني هو الراجح. وأنه يجب على الموكل إذا أراد أن يعزل أن يخبر الوكيل بأنه عزله حتى لا يقدم على تصرف بعد العزل فيقع البائع والوكيل والموكل في إشكال. فإذاً: الراجح إن شاء الله هو ما ذكرت لك. - ثم قال - رحمه الله -: - وحجر السفيه. يعني وتبطل الوكالة إذا أصبح الوكيل سفيهاً وحجرنا عليه. - لأنه خرج بذلك عن أهلية التصرف. وتقدم معنا: القاعدة المهمة: (وهي أن من لا يتصرف لنفسه لا يتصرف لغيره). وعلم من قول المؤلف - رحمه الله -: (لسفه) أن من حجر عليه لفلس فلا تبطل الوكالة. لأن من حجر عليه بفلس ما زالت أهلية التصرف فيه كاملة وصحيحة فيما عدا الأموال المعينة التي بيده فقط. ولهذا تقدم معنا جواز تصرف المحجور عليه لفلس في ذمته. فإذاً هو ما زال من أهل التصرف المعتبر والمصحح شرعاً. - ثم قال - رحمه الله -:

- ومن وكل في بيع أو شراء: لم يبع ولم يشتر من نفسه وولده. ضبطها المحقق: (وَكَّلَ) والصواب: (وُكِّلَ). فتعدل. من وُكِّلَ في بيع أو شراء لم يجز له أن يبيع ولا أن يشتري مع ولده ولا مع نفسه - أو مع نفسه ولا مع ولده - ولا يجوز كذلك أن يتعامل كل من لا تقبل شهادته له. إذاً إذا وكل الإنسان ببيع سلعة مثلاً فإنه لا يجوز أن يبيع لا على نفسه ولا على ولده ولا على كل من لا تقبل شهادته له. الدليل: - أنه إذا باع على نفسه تنافى الغرضان. ومعنى هذا: أنه في هذه الصورة إما أن يراعي مصلحة نفسه لأنه هو المشتري أو يراعي مصلحة موكله لأنه ائتمنه على بيع السلعة. وكيف سيراعي الأمرين في وقت واحد. - الدليل الثاني: أن هذا التصرف محل تهمة. - الدليل الثالث: أنه ينافي مقتضى إطلاق التوكيل. لأن التوكيل المطلق ينصرف إلى البيع على غير نفسه. = والقول الثاني: أنه يجوز أن يبيع على نفسه أو على ولده أو على أخيه أو على أبيه أو على كل من لا تقبل شهادته له بشرطين: - الشرط الأول: أن يزيد على الثمن في بيع المزايدة. - الشرط الثاني: أن يتولى النداء غيره. والراجح: المذهب. ولا يجوز أن يبيع أو يشتري إلا بإذن خاص مسبق من الموكل لتبادر التهمة إلى من فعل ذلك. ولهذا تجد أن من يبيع أو يشتري على نفسه من مال موكله يحب أن لا يعلم الموكل أنه قام بهذا العمل مما يدل على أنه إثم. - ثم قال - رحمه الله -: - ولا يبيع بعرض. يعني: لا يجوز إذا وكل في بيع سلعة أن يبيعها مقابل عرض بل يشترط أن يكون البيع مقابل النقد. وإلى هذا ذهب جماهير أهل العلم. واستدلوا على هذا: - بأن الموكل إنما وكله في البيع المعروف. والبيع المعروف: ما يكون بالنقد. = والقول الثاني: أن له أن يبيع بما شاء من نقد أو عرض. واستدلوا على هذا: - بأنه وكله في البيع والبيع بعرض: بيع. فدخل مطلق التوكيل. والراجح: الأول. لأن المتبادر في التوكيل ببيع السلع أن تكون بالنقد فلا يجوز مطلقاً أن يبيع بعرض إلا بإذن خاص من الموكل. - ثم قال - رحمه الله -: - ولا نساء. يعني: ولا يجوز أن يبيع بثمن مؤجل.

والخلاف في هذه المسألة كالخلاف في المسألة السابقة تماماً. من حيث القائلين والأدلة والترجيح. فلا حاجة لإعادة القول. بناء على هذا: لا يجوز لمن أعطي سلعة أن يبيعها أن يبيع بثمن مؤجل ولو كان بأكثر من ثمن المثل بأضعاف مضاعفة ولو كان فيه الحظ لصاحب السلعة لأن التأجيل في حد ذاته يعتبر خروجاً عن البيع المعروف وفي مضرة لا سيما لمن أراد المال نقداً لينتفع به في الحال. فإنه في هذه الصورة لا ينتفع من المؤجل مهما بلغت قيمة المؤجل وزيادته على ثمن الحال. - ثم قال - رحمه الله -: - ولا بغير نقد البلد. لما تقدم: من أن إطلاق التوكيل ينصرف إلى نقد البلد. وإذا أراد أن يبيع بغير نقد البلد فعليه أن يستأذن. بناء على هذا: لا يجوز لمن كان في السعودية ووكل في بيع سيارة أو سلعة أن يبيع بغير الريال السعودي ولو كان من غير السعوديين. لأن النقد في هذا البلد ينصرف عند إطلاق التوكيل إلى هذه العملة. وإذا أراد أن يبيع أو يشتري بغير هذه العملة فإنه يستأذن من الموكل. وكذلك إذا كان في مصر فلا يجوز إلا بالجنيه. وإذا كان في الأردن فلا يجوز إلا بالدينار وهكذا بحسب كل عملة بلد. كما أن الموكل إذا باع بغير نقد البلد ربما تعذر صرف هذه العملة وربما صرفت بثمن منخفض مما يؤدي إلى النزاع والتشاحن فلا يجوز البيع إلا بنقد البلد. - ثم قال - رحمه الله -: - وإن باع بدون ثمن المثل، أو دون ما قدره له ... صح وعليه النقص. = فالحنابلة يرون: أن البيع صحيح. وسيأتينا دليلهم. لكن مع ذلك على الوكيل أن يضمن النقص. واستدلوا على هذا: - بأن من وكل في البيع فإن المتبادر إلى الذهن أن يبيع بمثل ثمن المثل لا بأقل. ورأى الحنابلة أنه يتجاوز عن النقص اليسير الذي يتغابن الناس بمثله وما عداه فإن الوكيل يضمن النقص. واختلفوا في كيفية تحديد النقص. ـ فذهب أكثر الحنابلة: إلى أنه الفرق بين قيمة المثل وثمن البيع. ـ والقول الثاني: أنه الفرق ... بين ما يتغابن به الناس وما لا يتغابن به الناس. وغالباً ما سيكون الفرق بين القولين: يسير. = القول الثاني: صحت البيع ولا يضمن الوكيل شيئاً من النقص.

- لأنه وكله في البيع وهو باع. ولا يستغرب في عرف الأسواق أن تباع الساعة بأقل من ثمن المثل. = القول الثالث: أن حكم البيع حكم بيع الفضولي فإن أجازه الموكل وإلا لم يصح. واستدل هؤلاء: - بأنه باع بيعاً لم يؤذن له فيه. ومن تصرف تصرفاًَ لم يؤذن له فيه فحكمه حكم بيع الفضولي. وهذا القول الأخير هو الصحيح إن شاء الله. تنبيه:/ تقدم معنا أن الحنابلة يتجاوزون عن الغبن اليسير الذي يتغابن به الناس في مسألة بيعه بمثل ثمن المثل. لكنهم لا يتجاوزون هذا التجاوز إذا خالف وباع بغير ما حدده البائع. وأنت تلاحظ أن المؤلف - رحمه الله - ذكر مسألتين: ـ المسألة الأولى: بدون ثمن المثل. ـ والمسألة الثانية: بدون ما قدره له الموكل. فالخلاف في المسألتين واحد. الفرق فقط في أن الحنابلة يتجاوزون عن الغبن اليسير في الأولى ولا يتجاوزون عن أي مقدار في الثانية. لأن مخالفة تحديد الموكل مخالفة صريحة للإذن في التوكيل. ولذلك لم يتجاوزوا مطلقاً في المسألة الثانية. ولو كان الفارق يسيراً بل عليه أن يدفع الفارق: أي: الوكيل. - ثم قال - رحمه الله -: - أو اشترى له بأكثر من ثمن المثل، أو مما قدره له. أو اشترى له بأكثر من ثمن المثل، أو بأكثر مما قدره له. عكس الصورة السابقة: الصورة السابقة توكيل في البيع والصورة الثانية توكيل في الشراء. فإذا قال له: اشتري لي سيارة وأعطاه مواصفات السيارة وكان ثمن المثل فيها مائة ألف واشتراها بمائة وعشرين ألفاً فهذا المقدار مما لا يتغابن به الناس فعليه أن يضمن النقص عند الحنابلة. ولو قال له: خذ هذا المبلغ - أو اشتري لي سيارة بالمبلغ الفلاني ولو لم يعطه إياه وخالف فإنه يضمن الفرق سواء صار الفرق كبيراً أو صغيراً. إذاً التفصيل في هذه المسألة كالتفصيل في المسألة السابقة تماماً بلا اختلاف. - قوله - رحمه الله -: - صح. صححوا البيع وتقدم معنا الخلاف في المسألة وقررنا أنهم يصححون البيع ويلزمونه بالفرق وأخذنا دليل الإلزام بالفرق. لكن نريد الآن أن نأخذ دليل صحة البيع. فقالوا دليل صحة البيع: - أن من جاز له أن يبيع بثمن المثل جاز له أن يبيع بأقل وبأكثر وإنما نلزمه بالفرق فقط. - يقول - رحمه الله -:

- وضمن النقص. يعني: بالبيع. - قال - رحمه الله -: - والزيادة. يعني: في الشراء. إذاً بهذا تم ما يتعلق بمسألة إذا اشترى أو باع وخالف في ثمن المثل أو خالف ما حدده الموكل. وهذا كثير بين الناش. يقول له: اشتري لي الغرض الفلاني فيما بين السعر هذا أو السعر هذا. يحدد له الأدنى والأعلى ثم أحياناً يخالف الوكيل - وأحياناً نصحاً للموكل - لأنه رأى فرصة ينبغي استغلالها. لكن مع ذلك إذا صنع هذا العمل فعليه أن يضمن النقص عند الحنابلة. وتقدم أن الراجح أن حكم بيعه حكم بيع الفضولي. - ثم قال - رحمه الله -: - وإن باع بأزيد .. صح. وإن باع بأزيد صح البيع. - لأنه زاده خيراً وثمناً. فيصح البيع ولا إشكال. - ثم قال - رحمه الله -: - أو قال: ((بِعْ بِكَذَا مُؤَجَّلاً)) فباع به حالاً. أو قال: ((بِعْ بِكَذَا مُؤَجَّلاً)) فباع به حالاً: صح البيع. - لأنه نفع ظاهر للبائع. فإذا قال له: بع هذه السيارة بمائة ألف مؤجلة واستطاع الوكيل ان يبيع بمائة ألف حالة. فهذا فيه زيادة خير لمن؟ للبائع الذي هو الموكل. فالبيع صحيح. وسيأتينا دليل المسائل الثلاث. المسألة الثالثة: - قال - رحمه الله -: - أو ((اشْتَرْ بِكَذَا حَالاً)) فاشترى به مؤجلاً، ولا ضرر فيهما: صح وإلاّ فلا. أو قال: اشْتَر لي بِكَذَا حَالاً فاشترى له به مؤجلاً. فإذا قال له اشتر لي سيارة بمائة ألف حالة واستطاع بفطنته وخبرته أن يشتريها بمائة ألف مؤجلة فهذا التأجيل زيادة نفع للمشتري الذي هو في هذه الصورة: الموكل. فهنا البيع صحيح. - لأنه زاده خيراً. لكن استثنى المؤلف - رحمه الله - في المسائل الثلاث عدم وجود الضرر كما سيأتينا: الدليل على صحة هذه البيوع: - حديث عروة بن الجعد. فإنه زاد النبي - صلى الله عليه وسلم - خيراً بأن اشترى الشاة بدينار ثم باعه بدينارين. واشترى بأحدهما شاة فرجع إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - بديناره وشاة. وأقره النبي - صلى الله عليه وسلم - لأن هذا زيادة خير وفضل للموكل فدل الحديث على صحة البيع في المسائل الثلاث. - ثم قال - رحمه الله -: - ولا ضرر فيهما: صح وإلا فلا.

ظاهر عبارة المؤلف - رحمه الله - أن الضرر يستثنى في المسألة الثانية والثالثة فقط. إذ لا يتصور الضرر في المسألة الأولى. فإذا صار في هذا البيع ضرراً على البائع أو ضرراً على المشتري في المسألة الثانية والثالثة فإن البيع لا يصح. والضرر يتصور جداً في المسألتين: * * فإذا قال له: بع هذه السلعة مؤجلة وباعها حالة بنفس الثمن ربما دخل الضرر على البائع بسبب أنه لا يريد أن يكون في يده نقود مجتمعة لأنه معتاد على إتلاف النقد فهو يريد أن يبيع مؤجلاً ليأتيه الثمن مقسطاً ويستطيع أن يصرف منه في أطول فترة ممكنة. فهذا فيه مضرة ظاهرة. فإذا وجدت المضرة فإن البيع لا يصح. هذا ظاهر كلام المؤلف - رحمه الله -. = والقول الثاني: أن البيع صحيح. ويضمن الوكيا الاختلاف - ما نقول النقص ولا الزيادة - ولكن نقول الاختلاف. وتكون هذه المسألة حكمها حكم المسألة السابقة تماماً: إذا اشترى بأكثر مما حدد له أو بأكثر من ثمن المثل. فالخلاف في تلك المسألة يأتينا في هذه المسألة تماماً. وهذا القول الثاني - أن حكم هذه المسألة هو حكم المسألة السابقة: هو المذهب. أي أن الحنابلة لا يبطلون البيع وإنما يعاملونه معاملة المسألة السابقة: يلزمونه بالنقص أو الزيادة أو الاختلاف مع تصحيح العقد. وهذا القول الثاني هو الصحيح. وبهذا نكون انتهينا من الفصل الأول من باب الوكالة. ثم ننتقل إلى الفصل الثاني. فصل [في ما يلزم الموكل والوكيل] - قال - رحمه الله -: - وإن اشترى ما يعلم عيبه: لزمه إن لم يرض موكله. إذا اشترى الوكيل سلعة يعلم أن فيها عيباً. فالحكم أن السلعة تلزم هذا الوكيل. ومعنى أنها تلزم الوكيل: أي لا يستطيع أن يردها عن البائع ولا يستطيع أن يلزم بها الموكل. أما الرد على البائع: فلا يستطيع أن يفعل ذلك: لأنه اشترى على علم بالعيب. ومن اشترى على علم بالعيب سقط عنه خيار العيب. ولا يستطيع أن يلزم بها الموكل: لأنه إنما أمره بشراء سلعة سليمة. وهو اشترى سلعة معيبة وهو عالم. - يقول - رحمه الله -: - إن لم يرض موكله. فإن رضي الموكل بالسلعة مع وجود العيب فيها: صح. وصار هو المالك مباشرة. ولا نحتاج أن نجري عقداً آخر - جديد - بين الوكيل والموكل.

والسبب في ذلك: أنه إنما اشترى في الأصل لمن؟ للموكل. فلما رضي وقبل دخلت في ملكه مباشرة. وبهذا عرفنا أحكام شراء السلعة المعيبة مع العلم بالعيب. وقلما إن شاء الله أن يقع مثل هذا من الموكل وربما وقع إذا رأة أن مصلحة الموكل تقتضي شراء السلعة ولو كانت معيبة: إما لندرة هذه السلعة أو لانخفاض الثمن مع إمكان إصلاح هذا العيب. حينئذ في هذه الصورة ليس من المروءة أن يرد الموكل تصرف الوكيل. فإن رد فهذا حق من حقوقه وله شرعاً أن يرد مهما كانت نية الوكيل صالحة. - ثم قال - رحمه الله -: - فإن جهل: رده. أفادنا المؤلف - رحمه الله - أن الوكيل له أن يرد السلعة. - لأنه يقوم مقام الموكل. والموكل له أن يرد بالعيب فللوكيل أن يرد بالعيب. فإذا رده هو أو الوكيل: صح الرد وبرئت ذمة الموكل والوكيل. وعلم من كلام المؤلف - رحمه الله - أن الوكيل إذا اشترى سلعة معيبة لا يعلم بعيبها فالعقد صحيح. لكنه يملك خيار (((البيع))) [[كذا: ولعلها: العيب]]. وله أن يرد هو أو الموكل. - ثم قال - رحمه الله -: - ووكيل البيع: يسلمه ولا يقبض الثمن بغير قرينة. الوكيل في البيع مخول شرعاً في تسليم السلعة دون استلام الثمن. فإذا وكل زيد عمرا ببيع سلعة معينة فلعمرو أن يبيع السلعة وأن يسلم السلعة للمشتري. لكن ليس له عند الحنابلة أن يقبض الثمن. واستثنى الحنابلة من هذا الصورة إذا علم من واقع الحال أنه وكله بتسليم السلعة وقبض الثمن. كأن يكون المشتري في سوق يخرج عنه إلى خارج البلد مما يعني عدم إمكانية أخذ الثمن بعد ذلك. فإذا دلت القرائن على أنه وكله بتسليم سلعة وقبض الثمن ولم يقبض الثمن فهو مفرط وعليه الضمان. ((مرة أخرى:: تقرير مذهب الحنابلة: أن الوكيل إذا وكل في بيع سلعة فهو من صلاحياته أن يبيع السلعة أي أن يجري العقد وأن ((يطبق)) المشتري السلعة لكن ليس له أن يأخذ الثمن، إلا في حالة واحدة: إذا دلت القرائن على أن الموكل أراد منه قبض الثمن - كما في المثال الذي ذكرت - فإن لم يفعل فهو مفرط وعليه الضمان)). الدليل على هذا التفصيل: ـ قالوا: أما أن على الوكيل تسليم السلعة فدليل ذلك:

- أنه وكله بالبيع. والبيع لا يتم إلا بذلك. أي: لا يتم إلا بتسليم السلعة. فصار من أعمال الوكيل بمقتضى الوكالة: تسليم السلعة. ـ أما أنه لا يستلم الثمن: - فلأنه ربما كان الموكل يأمنه على تسليم السعة ولا يأمنه على قبض الثمن. فلا يجوز له أن يقبض الثمن. = القول الثاني: - وهو أضيق من هذا القول - أن الوكيل ليس له أن يقبض الثمن مطلقاً إلا بالإذن الصريح ولو دلت القرائن على أن له أن يقبض الثمن. فإن قبضه بغير إذن صريح فهو متعد. = والقول الثالث: أن له أن يقبض الثمن إذا دلت الأعراف والقرائن على أن مثله يقبض الثمن. وهذا القول الأخير هو الصحيح إن شاء الله. وفيما أفهم من أعراف اليوم أن من السلع من جرى العرف أن الوكيل يقبض مباشرة لا سيما مع زهادة المبيع. ومن السلع ما جرى العرف أنه لا يقبض الثمن لا سيما إذا كان الثمن مرتفعاً جداً فحينئذ ليس له أن يقبض. المهم أنه حسب العرف. - ثم قال - رحمه الله -: - ويسلم وكيل الشراء: الثمن. فإذا وكل خص شخصاً أن يشتري وأعطاه الثمن فإنه يسلم الثمن للبائع. لكن ليس له أن يقبض: السلعة. وله أن يسلم الثمن لأن مقتضى الشراء تسليم الثمن ولا يتم إلا بذلك. فصححنا تسليم الثمن. وليس له أن يقبض السلعة: لما تقدم معنا في المسألة السابقة. ولا يخفى عليكم إن شاء الله أن الخلاف واحد. والمسألتان هما: - شراء الوكيل. - وبيع الوكيل. شراء الوكيل: يعني: قبضه السلعة. وبيع الوكيل: قبضه الثمن. عاتان المسألتان الخلاف فيهما: واحد. - قال - رحمه الله -: - فلو أخره بلا عذر وتلف: ضمنه. يعني: إذا أعطى زيد مبلغاً من المل ليشتري. فأخر عمرو تسليم المبلغ بعد إتمام العقد. فإنه يضمن. والسبب في ضمانه أنه مفرط. وتقدم معنا أن التفريط ترك ما يجب. والتعدي فعل ما لا يجوز. وأنهما من أسباب ضمان اليد الأمينة, فكل يد حكمنا عليها بأنها يد أمانة تضمن في التعدي والتفريط. أيهما أشد: التعدي أو التفريط؟ التعدي: لأن التعدي فيه فعل موجب. يعني هو تقدم وتعدى. أما التفريط فهو فعل: سالب. فهو ترك فقط ما يجب عليه. - ثم قال - رحمه الله -: - وإن وكله في بيع فاسد فباع صحيحاً. فإن وكله ببيع فاسد فباع صحيحاً: فالبيع باطل.

مثاله: إذا قال له اشتر لي خمراً أو خنزيراً أو آلة لهو. ثم اشترى حصاناً أو بقرة أو شاة فالبيع فاسد. سبب الفساد: أنه وكله في شيء واشترى شيئاً آخر فهو فعل فعلاً لم يؤذن له فيه. فإذاً إذا وكل أحد أحداً في بيع فاسد فالبيع فاسد مطلقاً سواء اشترى ما وكل به أو اشترى شيئاً آخر صحيحاً. لأنه إن اشترى ما وكل به فقد اشترى شيئاً فاسداً فالبيع باطل. وإن اشترى غيره فالبيع باطل أيضاً عند الحنابلة لماذا؟ لأنه فعل ما لم يؤذن له فيه. = القول الثاني: أن البيع صحيح. - لأنه إذا وكله في شراء فاسد فالصحيح من باب أولى. والصحيح: المذهب: لأن عقد البيع والتوكيل يقوم على مبدأ الرضا والرضا معتبر. ونحن نلوم الموكل على أنه وكله بشراء فاسد لكن نحفظ له حقه في أن لا يشترى له إلا ما يرضاه. بهذا تعلم أن الحنابلة توازنوا جداً في هذه المسألة مع العلم أنه قد يتبادر إلى الذهن أن التوازن هو تصحيح شراء ما يصح شرائه. والواقع أن الحنابلة هم الذين توازنوا بإبطال البيع مطلقاً. - ثم قال - رحمه الله -: - أو وكله في كل قليل وكثير. إذا وكله في كل قليل أو كثير فالوكالة باطلة. وما ينبني عليها من تصرفات أيضاً باطلة. صورة المسألة:/ أن يقول: وكلتك في كل قليل أو كثير من شؤوني. وكالة مطلقة مفتوحة. فشملت الوكالة: أن يشتري ويبيع في جميع أملاكه. ان يوقف جميع أملاكه. أن يعتق جميع عبيده. ان يطلق جميع نسائه. أن يتزوج له أربع نسوة .. أليس كذلك!؟ أليست هذه العقود تقدم أنه يدخلها الوكالة وهو أعطاه وكالة مفتوحة تماماً. دليل البطلان: - أن هذا العقد يتصف بالغرر الفاحش والضرر الكبير. وأحد العبارتين لا يغني عن الآخر. أحياناً يكون في العقد غرر ولا يكون فيه ضرر. لكن هذا العقد فيه غرر وفيه ضرر. وفيما أفهم أن كتاب العدل اليوم لا يمضون هذه الوكالة وهذا من حسن التصرف لأنه قد يأخذ الإنسان أحياناً الحماس والعاطفة والمحبة لشخص فيقوم بتوكيله هذه الوكالة المفتوحة ثم يندم بعد ذلك أشد الندم. فما يفعله اليوم كتاب العدل من الامتناع عن التوكيل بهذه الصفة هو عين المصلحة. - قال - رحمه الله -: - أو شراء ما شاء. إذا وكله في شراء ما شاء فالوكالة باطلة ولا تصح.

وصورة المسألة/ أن يقول وكلتك في شراء شيء: إذهب إلى السوق واشتري لي شيئاً. ماهو الشيء؟ لم يحدد العين لا من حيث الجنس ولا من حيث العين. فالوكالة باطلة. لأن في هذا أيضا غرر كبير وقد يكون فيه ضرر وقد لا يكون. بحسب ما يشتري. إذاً: نقول في هذا العقد غرر ظاهر واضح. والنبي - صلى الله عليه وسلم - في هذا الحديث الجامع المانع: نهى عن الغرر. - قال - رحمه الله -: - أو عيناً بما شاء ولم يعين: لم يصح. أي طلب منه أو وكله أن يشتري له شيئاً معيناً. ولذلك يقول: (عيناً) أي حدد الذي حدد الذي يشتريه - العين التي تشتري. لكنه لم يحدد الثمن فقال إشتر هذه العين بما شئت. فالعقد باطل ولا يصح. - لأنه ربما زاد في الثمن في هذه السلعة زيادة فاحشة مما يدخل الضرر والنزاع بين الاثنين: الموكل. والوكيل. هكذا قرر الحنابلة حكم هذه المسألة. وفي الحقيقة الضرر في هذه المسألة أخف من الضرر في المسألة السابقة. ومن الضرر في المسألة التي قبلها. لأنه في الغالب الموكل لا يقول لأحد اشتر لي هذه السلعة مهما بلغت إلا وهو يتصور نطاق ثمن هذه السلعة لا سيما إذا كانت منخفضة السعر. ولا يريد أن يحدد ثمناً لئلا تفوته السلعة مع أن الاختلاف يسير. فمثلاً: لا يريد أن يقول: اشتر لي هذه السلعة بمائة ريال ثم تباع بمائة وريال. هو يريد أن يخرج من هذا المأزق فيقول: اشتر لي هذه السلعة وهو يعلن أن هذه السلعى لن تزيد عن حد معين مهما كان. وسعر هذه السلعة معروف في السوق. فالمنع من هذه الصورة - بالذات: الذي ذكرت - فيه نظر. إلا أنه مع ذلك تحتاج المسألة إلى ضبط. فلو يقال: أن التوكيل في شراء عين بلا تحديد السعر يجوز في المحقرات والأشياء اليسيرة. ويمنع في الأشياء الكبيرة: لكان هذا القول متوافق إن شاء الله مع الشرع وفيه فسحة للناس وبعد عن التضييق عليهم وفي نفس الوقت بعد عن الأضرار الشرعية من وجود الغرر أو وجود الضرر. - ثم قال - رحمه الله -: - والوكيل في الخصومة لا يقبض. معنى العبارة: أنه إذا وكل شخص شخصاً في الخصومة فليس من صلاحياته أن يقبض بعد انتهاء الخصومة. استدل الحنابلة على هذا:

- بأن الإنسان قد يوكل غيره في الخصومة لكونه يتقن الخصومة ويعرف البينات والأدلة. ولكن لا يريد منه أن يقبض. لأحد سببين: ـ السبب الأول: أنه لا يأتمنه على ثمن العين محل الخصومة. ـ والسبب الثاني: يخشى أن يموت الخصم فتنتقل العين إلى الورثة وهو يحب بقاء العين مع الورثة ولا يريد التضييق على الورثة. فهو لهذين الأمرين وكله في الخصومة دون القبض. = والقول الثاني: أنه إذا وكله في الخصومة ودلت القرائن والأعراف على أن مثله يقبض فإنه يقبض. وربط هذه المسائل بالأعراف هو الصحيح. لأنه ليس في النصوص وصف تفصيلي للأحكام فنرجع إلى عرف الناس إذ سيتعامل الناس غالباً على وفق العرف. - قال - رحمه الله -: - والعكس بالعكس. فإذا وكله في القبض فله أن يخاصم. واستدلوا على هذا: - بأن القبض لا يتم إلا بالخصومة. ((الأذان)). إذاً يقول المؤلف - رحمه الله -: والعكس بالعكس. فإذا وكله بالقبض ملك الخصومة. واستدلوا على هذا: - أن القبض لا يتم إلا بالخصومة. يعني: إلا بعد الخصومة. وبهذا فرق الحنابلة بين هذه المسألة والمسألة السابقة. = القول الثاني: أنه إذا وكله في القبض فإن هذا لا يعتبر توكيلاً بالخصومة إلا إذا علم الموكل من دلالة الحال أن القبض لن يكون إلا بعد خصومة. كأن يعلم الموكل أن المدين مماطل أو جاحد أو يتهرب فحينئذ إذا وكله في القبض فهو توكيل في الخصومة. وهذا القول الثاني هو الصحيح. أن التوكيل بالقبض ليس توكيلاً بالخصومة مطلقاً. بل ربما كره الموكل أن يخاصم الوكيل الدائن وقال له: إنما وكلتك بالقبض فقط. فهذا القول الثاني: هو الصحيح وهو أقوى من المذهب. وعليه عمل الناس. إذ ليس التوكيل في القبض توكيل مباشر بالخصومة. هذا أمر ظاهر. - ثم قال - رحمه الله -: - و ((اقْبِضْ حَقِّي مِنْ زَيْدٍ)) لا يقبض من ورثته. يعني: وإذا قال الموكل للموكل اقبض حقي من زيد. فهذا ليس توكيلاً بقبض الحق من الورثة. - لأنه إنما وكله بقبض الحق من زيد ونص عليه. فلا تتجاوز الوكالة زيد. - ولأنه رما كره أن يطالب الورثة بالدين بعد موت المدين. = والقول الثاني: أن التوكيل بالقبض من زيد توكيل بالقبض من ورثته.

وعلى هذا العمل. أنه إذا وكل شخص بمطالبة زيد ثم مات فله أن يطالب الورثة. وهذا القول هو الصحيح. وعلى الموكل إذا أراد من الوكيل أن لا يطالب أن يبين ذلك في الوكالة. لأن هذا خلاف المعهود وخلاف العرف. - ثم قال - رحمه الله -: - إلاّ أن يقول: ((الَّذِي قَبْلَهُ)). أي: إلا أن يقول الموكل اقبض ديني الذي قبل زيد. يعني: الذي عند زيد. - لأن هذا اللفظ يتناول ما إذا كان الدين عند زيد أو عند الورثة لأنه يريد أن يقبض الدين الذي قبل هذا الشخص. وهذا يتساوى فيه المدين والورثة. ففرق الحنابلة بين العبارتين. لأن العبارة الثانية: تركز على الدين. والعبارة الأولى: تركز على قبضه من زيد. فالحنابلة عندهم دقة في ألفاظ التوكيل لأنه سبق معنا أنه عقد من العقود المعتبرة. - ثم قال - رحمه الله -: - ولا يضمن وكيل الإيداع: إذا لم يشهد. يعني: إذا وكل زيد عمراً أن يودع هذه السلعة عند آخر. فأودعها ولم يشهد. فإن الوكيل لا يضمن ولو ترك الإشهاد. استدل الحنابلة على هذا: - بأن هذا الإشهاد لا فائدة منه. لأن المودَع لا يضمن مطلقاً. - ولأن قول المودَع مقبول دائماً. = والقول الثاني: أن الوكيل إذا أودع ولم يشهد فهو ضامن. واستدلوا على هذا: - بأن هذا الاشهاد ينتفع منه فيما إذا نسي المودَع. فإذا نسي المودَع وكان المودِع أشهد نفعت الشهادة. وهذا القول الثاني هو الصحيح. والمذهب في هذه المسألة: ضعيف. ففي ترك الإشهاد تفريط ظاهر. هذا والله أعلم وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وأصحابة أجمعين ...

الدرس: (32) من البيع قال شيخنا حفظه الله: بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين. - قال - رحمه الله -: - (فصل). هذا الفصل عقده المؤلف - رحمه الله - لبيان غالب أحكام الضمان بين الوكيل والموكل. ولذلك بدأ بقاعدة الباب: - فقال - رحمه الله -: - والوكيل أمين: لا يضمن ما تلف بيده بلا تفريط. هذه هي القاعدة أن الوكيل: أمين لا يضمن إلا بالتفريط. = وعند الحنابلة لا يضمن إلا بالتفريط ولو كان وكيلاً بأجرة أو بجعل. فعدم الضمان مطلقاً ما لم يفرط. واستدلوا على هذا: - بأنه - أي الوكيل - يقوم مقام المالك., والتلف في يد المالك لا يوجب ضماناً لأنه تلف في يد المالك فكذلك التلف في يد الوكيل. وهذا التعليل صحيح. وهذا هو تعليل القول بأن يده يد أمانة. - قال - رحمه الله -: - إلا بلا تفريط. يعني: أو تعدي. وإنما اقتصر على التفريط لأنه أقل من التعدي. فإذا كان يضمن بالتفريط فبالتعدي من باب أولى. ولذلك اقتصر عليه المؤلف - رحمه الله -. قبل أن نتجاوز المسألة السابقة: هذا الحكم المذكور فيها هو قاعدة الأعيان المقبوضة بيد أمانة: كالأب والوصي والمضارب والشريك. وكل من يده يد أمانة. فهي في الحقيقة قاعدة تشمل جميع الذين تعتبر أيديهم يد أمانة وهذا الحكم ينطبق عليهم. - ثم قال - رحمه الله -: - ويقبل قوله في نفيه والهلاك مع يمينه. يعني: ويقبل قول الوكيل في نفي التفريط والتعدي. ويقبل قوله أيضاً في التلف. فإذا ادعى الوكيل أنها تلفت وادعى الموكل أنها باقية. فالقول قول الوكيل. واستدلوا على هذا بأمور: - الأمر الأول: أن يده يد أمانة. - الأمر الثاني: أنا لو ألزمنا الوكيل بالبينة لكنا ألزمناه بأمر يتعذر ولأدى هذا إلى انقطاع يد الأمانة في تعامل الناس. (لأنا لو ألزمناه بالبينة لألزمناه بأمر يتعذر غالباً ولأدى ذلك إلى انقطاع يد الأمانة في تعامل الناس). - الأمر الثالث: أن البينة على المدعي واليمين على من أنكر). فهذه الأدلة مجتمعة تدل على قوة ما ذهب إليه الحنابلة. وهو: أن قوله مقبول في نفي التعدي والتفريط وفي وجود التلف. - يقول - رحمه الله -: - مع يمينه. يعني: أنه يقبل لكن مع اليمين. لأمرين: - الأول: الحديث: البينة على المدعي واليمين على من أنكر. وهو منكر الآن فعليه اليمين. - الثاني: احتمال صدق الموكل. * * مسألة/ فإن اختلف الوكيل والموكل في رد السلعة أو الثمن إلى الموكل: = فعند الحنابلة أيضاً القول قول الوكيل بشرط أن يكون وكيلاً مجاناً. فإن كان وكيلاً بأجرة فالقول قول الموكل. واستدلوا على هذا: - بأنه إذا كان وكيلاً بأجرة فقد قبض المال لمصلحة نفسه فضمن.

= والقول الثاني: أن القول قول الوكيل مطلقاً. - لأنه وإن أخذ أجرة فما زالت يده يد أمانة. كالمضارب. فالمضارب يأخذ كما سيأتينا مقابل عمله - ولا نقول أجره وإنما هو جزء من الربح - مع ذلك يده يد أمانة ولا يضمن. والأقرب والله اعلم ان الوكيل لا يضمن ولو كان بأجره مطلقاً. فإن هذا هو المتوافق مع حقيقة وضع الوكيل ولا يخرجه عن ذلك أنه يأخذ أجرة مقابل عمله. - ثم قال - رحمه الله -: - ومن ادعى وكالة زيد في قبض حقه من عمرو: لم يلزمه دفعه إن صدقه. يعني: إذا ادعى شخص أنه وكيل لزيد في القبض من عمرو وصدقه عمرو فإنه لا يلزم عمرو أن يعطيه الدين. وعلم من المثال أن الدائن زيد والمدين عمرو. إذاً: إذا ادعى أنه وكيل زيد في قبض الدين وصدقه عمرو فإنه لا يلزمه مع أنه مصدق أن يدفع إليه ماله. التعليل: - قالوا: التعليل أنه ربما أنكر زيد فرجع الحق في ذمته. يعني في ذمة المدين. وهو عمرو في المثال. واستثنى الحنابلة من هذا الحكم ما إذا أتى ببينة على أنه وكيل لزيد فحينئذ يلزم عمرو أن يدفع له الدين لأنه لا توجد تبعه على عمرو مهما حصل لأنه أثبت الأمر ببينة. إذاً عرفنا الآن أنه إذا صدقه لا يلزمه أن يعطيه. = والقول الثاني: أنه إذا ادعى أنه وكيل لزيد وصدقه عمرو فيجب أن يعطيه - يجب أن يقبضه الدين. - لأنه صدقه. والراجح: المذهب. لأن المدين قد يصدق أنه وكيل لزيد لكنه لا يثق بزيد فيحتمل أن ينكر وإن كان فعلاً أرسل هذا الوكيل. ولهذا لا يلزمه وإن صدق. - ثم قال - رحمه الله -: - ولا اليمين إن كذبه. يعني: ولا يلزم عمرو في المثال اليمين إن كذب وكيل زيد. لماذا؟ - قالوا: لأن هذا اليمين لا فائدة منها. وجه ذلك: أن الفائدة من اليمين في جميع الدعاوى القضاء عليه حين النكول. وفي هذه الصورة إذا نكل عن اليمين فسنقضي عليه بأن الوكيل صادق. وتقدم معنا أنه إذا صدقه لا يلزم أن يعطيه الدين.

فإذاً لا فائدة من اليمين. وهذا صحيح لأن الفائدة دائماً في الدعاوى من اليمين القضاء بالنكول. وهنا إذا قضينا عليه بالنكول فغاية ما هنالك أن نقول: جكمنا عليك بأنك مصدق للوكيل وإذا صدقه أيضاً لا يلزمه أن يدفع إليه الدين لأنه تقدم أنه إذا صدقه لا يلزم أن يعطيه الدين. فإذاً تبين معنا أن ما ذكره الحنابلة: صحيح. أنه لا يلزمه اليمين وذلك لأنه لا فائدة منها في هذا المقام. - ثم قال - رحمه الله -: - فإن دفعه فأنكر زيد الوكالة: حلف وضمنه عمرو. (فإن دفعه) يعني: فإن دفع المدين وهو عمرو في المثال الدين إلى وكيل زيد بعد أن صدقه ثم أنكر زيد أنه وكَّل هذا الشخص فحينئذ يترتب على هذا حكمان: ـ الأول: أن يحلف زيد. ـ الثاني: إذا حلف زيد: ضمن عمرو جميع المال. فيرجع زيد على عمرو ويطالبه بالدين. وليس لعمرو أن يطالب هذا الوكيل بالدين. لماذا؟ - لأنه صدقه فهو أمين والقول قوله وهو يعتبر - أي: الوكيل - زيد هو الظالم. (مرة أخرى: إذا دفع عمرو وهو المدين: الدين إلى وكيل زيد ثم أنكر زيد أنه وكل أحداً في قبض الدين. حينئذ نقول: على زيد اليمين. وعلى عمرو الضمان مطلقاً. فيرجع زيد وهو الدائن على عمرو بالدين الذي كان في ذمته لأنه ما زال في ذمته وليس لعمرو وهو المدين أن يرجع على من زعم أنه وكيل عن زيد. لماذا؟ لأنه صدقه فأصبح أميناً - لأن عمرو صدقه فأصبح هذا الوكيل أميناً والأمين لا يطالب بالضمان. وهو يعتبر أن زيداً هو الظالم. فعمرو الآن في المثال يعتقد أن زيد كذب وأنه ظلم هذا الوكيل. لماذا؟ لأنه صدق الوكيل. وهذا صحيح. لأنه لا مجال للرجوع على عمرو لأنه ينكر التوكيل ولا مجال للرجوع على الوكيل لأنه لم يكذب. فبقي الدين كما هو. وهذه المسألة - المسألة الثانية - مما يقوي قول الحنابلة في المسألة السابقة اتي قد يستغربها البعض. فنقول وإن صدقه فله أن لا يدفع الدين. لأنه سيترتب على دفع الدين المسألة الثانية. - ثم قال - رحمه الله -: - وإن كان المدفوع وديعة: أخذها. (وإن كان المدفوع وديعة) يعني: وليس ديناً ثابتاً في الذمة. وهذا هو الفرق بين المسألتين. ويوجد فرق آخر سيأتينا.

باب الشركة

إذاً: إذا كان المدفوع وديعة وليس ديناً كما في المسألة السابقة. يقول - رحمه الله -: (أخذها). يعني أخذها ربها ممن هي بيده سواء كانت بيد الوكيل الذي زعم أنه وكيل أو بقيت في يد المودع. إذاً: يأخذها ممن هي بيده وهذا الحكم لا إشكال فيه. - قال - رحمه الله -: - فإن تلفت ضمّن أيهما شاء. إن تلفت الوديعة فللمودع أن يضمن أياً منهما. ـ فإن شاء ضمن المودع. ـ وإن شاء ضمن مدعي الوكالة. التعليل: - قالوا: أما المودع: فلأنه فرط حيث دفع الوديعة بغير إذن شرعي فيلزمه الضمان. - وأما الموكل فإنه يضمن لأنه استلم ما لا يستحق. وبهذا عرفنا الفرق بين هذه المسألة وبين مسألة الدين الذي في الذمة والفرق هو أنه في المسألة الثانية له أن يضمن أيهما شاء وفي المسألة الأولى: لا يضمن إلا المدين. - يعني: عمرو في المثال. وهذا هو الفرق بين المسألتين. وبهذا انتهى الكلام ولله الحمد على الوكالة وننتقل إلى باب مهم وهو الشركة. باب الشركة - يقول - رحمه الله -: - باب الشركة. الشركة معناها في لغة العرب: الاختلاط. ومعنى شارك غيره: يعني: دخل معه في عمل أو في غيره. هذا معنى المشاركة. والمؤلف - رحمه الله - على غير عادته عرف الشركة مع أنه لا يعرف في العادة. - يقول - رحمه الله -: - وهي: اجتماع في استحقاق أو تصرف. عرف المؤلف - رحمه الله - الشركة مع أنه ليس من عادته التعريف ولعل السبب أن الشركة لها خمسة أنواع كما سيأتينا. فذكر التعريف في بداية الباب يغني عن تكراره في الأنواع الخمسة. أو لعله عرف الشركة لأهميتها وليتصور القارئ معناها. أو عرف الشركة لا لسبب واضح. يقول - رحمه الله -: (هي: اجتماع في استحقاق أو تصرف). دل تعريف المؤلف - رحمه الله - على أن للبيع نوعين: ـ النوع الأول: الشركة في المال - أو تسمى الشركة في الملك. أو تسمى شركة الأملاك. ونقول الشركة في المال ولا نقول شركة الأموال وإنما نقول الشركة في المال. أو شركة الأملاك. وهو الذي دل عليه المؤلف - رحمه الله -: (اجتماع في استحقاق). ومعنى شركة التملك: أن يشترك اثنان في ملك عين بأي سبب شرعي. سواء كان السبب شراء أو هبة أو إرث أو أي سبب شرعي لتملك الأعيان. وهذا هو النوع الأول.

وهذا النوع غير مراد في الباب مطلقاً ولن يتحدث عنه المؤلف أبداً لكنه يذكر للتفريق بين أنواع الشركة. ـ أما النوع الثاني: فهو شركة العقود وهو الذي عبر عنه المؤلف - رحمه الله - بقوله: (تصرف). شركة العقود هي اجتماع في تصرف. والمقصود بالتصرف نحو أن يبيع أن يستأجر أو أن يضارب على تفصيل سيأتينا. هذا هو المقصود بالتصرف. ما هو الفرق بين النوعين؟ إذا لاحظت ودققت ستجد أن الفرق بن النوعين هو في وجود العقد في الثاني وعدم وجوده في الأول. ففي الأول لا يوجد عقد. في الثاني: لا توجد الشركة إلا من خلال عقد. وهذا هو روح الفرق بين النوعين. - ثم قال - رحمه الله -: - وهي أنواع، فشركة عنان. النوع الأول: شركة عنان. والعنان مشتقة في لغة العرب من: (عَنَّ الأمر) لأنه عَنَّ لكل واحد منهما أن يشارك صاحبه. وقيل: مشتقة من: عنان الفرس. ووجه الاشتقاق أن كل واحد من الشريكين يتصرف بنصيب شريكه كما يتصرف الفارس بعنان الفرس. والراجح: الاشتقاق الثاني. والسبب: السبب في ترجيح هذا الاشتقاق من وجهين: ـ الوجه الأول: أن هذا الاشتقاق اختاره الإمام الكسائي والأصمعي. وهما إماما هدى في اللغة ولقولهما ثقل. لا سيما الكسائي. ـ الثاني: أن المعنى الثاني: أخص بشركة العنان بالذات من المعنى الأول. لأن الأول. فيه أنه عَنَّ لهما وكونه يعرض للإنسان أن يشارك غيره هذا موجود في جميع أنواع الشركات. وإنما الشيء الخاص هو المعنى الثاني. وأما في الاصطلاح فتكفل المؤلف بالبيان: - فيقول - رحمه الله -: - أن يشترك بدنان بماليهما المعلوم. تعريف شركة العنان: أن يشترك بدنان بماليهما المعلوم. ففي شركة العنان مال وبدن. وقول المؤلف - رحمه الله - (بدنان). لا يريد التقييد وإنما يقصد التمثيل يعني ولو أكثر. ولو كان المشتركون أكثر من اثنين ثلاثة أو أربعة أو خمسة. وقوله: (بماليهما المعلوم). عرفنا من كلام المؤلف أنه لابد أن يكون المال معلوماً. فإن لم يكن معلوماً: بطلت الشركة. والسبب في ذلك: أن الاشتراك بمال مجهول يؤدي إلى الغرر والاختلاف والجهالة.

والسبب الثاني: أن الاشتراك بمال مجهول يمنع الرجوع عند فسخ الشركة لأنه لا يعرف ما لكل واحد من مال حتى يرجع بماله بعد فسخ الشركة. وهذا لا إشكال فيه. أن الاشتراك بمال مجهول لا تصح معه الشركة. - ثم قال - رحمه الله -: - ولو متفاوتاً. يعني: يجوز الاشتراك بالمال ولو كان المال متفاوتاً. بأن يحضر أحدهما أكثر مما يحضر الآخر. فإذا تفاوت المال جازت الشركة. - لأنه لا دليل على اشتراط تساوي المالين. - ثم يقول - رحمه الله -: - ليعملا فيه ببدنيهما. لابد في شركة العنان أن يعمل كل من الطرفين ولا يجوز أن يعمل أحدهما. - لأن مبناها على الاشتراك في المال والبدن. واسنثنى الحنابلة صورة واحدة ففيها يجوز أن يعمل أحدهما دون الآخر وهذه الصورة هي: أن يشترط مع ذلك أن يكون للعامل ربح أكثر من الآخر ليكون الربح الزائد مقابل العمل. وإذا صححنا هذه الشركة التي يعمل فيها واحد مع وجود مالين فتخريجها الصحيح أنها عنان ومضاربة. أما أنها عنان: فلأن المال من الاثنين. وأما أنها مضاربة فلأن العمل من واحد فليست هي عنان من كل وجه ولا مضاربة من كل وجه بل هي عنان ومضاربة. فيما عدا هذه الصورة لا يجوز أن يتولى العمل أحدهما دون الآخر عند الحنابلة. = والقول الثاني: النه يجوز مطلقاً. سواء كان الربح أكثر له أو لم يكن. فيجوز أن يشارك زبد وعمرو من كل واحد منهما مائة ألف والذي يعمل بالمال عمرو والربح مناصفة بينهما. فهذه الصورة التي ذكرت صحيحة على القول الثاني باطلة عند الحنابلة. والصحيح: الجواز. لأنه لا دليل على المنع ولأن مبنى المعاملات على الرضا فما دام الرضا موجوداً مع عدم وجود غرر ولا جهالة ولا ربا فلا يوجد ما يمنع. وقد يكون السبب في هذا: شهرة صاحب المال الأول أو استشارته أحياناً أو إرادة العانل نفع صاحب المال. أياً كان السبب فلا يوجد مانع شرعي. وهذا كما قلت هذا القول هو الراجح إن شاء الله. - قال - رحمه الله -: - فينفذ تصرف كل منهما فيهما: بحكم الملك في نصيبه والوكالة في نصيب شريكه. ينفذ تصرف كل واحد منهما في نصيبه بحكم الملك وهذه لا تحتاج إلى تعليق لأنه يتصرف في ملكه وهذا أمر ظاهر. وفي نصيب شريكه بعقد الوكالة.

وهذا يفيد أموراً: ـ الأمر الأول: أن مبنى الشركة على الوكالة. ـ الثاني: - وهو مفرع من الأول - أن مبنى الشركة على الأمانة. ـ الأمر الثالث: أن لكل واحد منهما أن يتصرف في المالين بمجرد العقد ولو قبل اختلاط المال. ـ الأمر الرابع: وهو مهم. أن كل ما يشترى بعد العقد فهو ملك للجميع. وكل ما يتلف بعد العقد فهو من ضمان الجميع. ولو كان مال أحدهما قبل العقد. وهذه المسائل تعتبر كالقواعد في الشركات. وسيأتينا أن المؤلف - رحمه الله - وغيره بعد شركة العنان يبدأون بالإحالة على أحكام العنان والمضاربة لأن الأحكام متفقة. المهم هذه أربع مسائل هي كالقواعد لمسألة الشركة. لم نذكر الدليل على المسألة - السابقة - الأصل وهي أنه يتصرف في ملك شريكه بالوكالة. الدليل على هذا: - أن كل واحد من الشريكين أذن لصاحبه في التصرف. والإذن في التصرف هو حقيقة الوكالة. نحن تقدم معنا أن الوكالة إذن في التصرف. إذاً: نقول نحن: لما أذن كل واحد منهما لأخيه بالتصرف فهذه هي حقيقة الوكالة. - ثم قال - رحمه الله -: - ويشترط (1) أن يكون رأس المال: من النقدين المضروبين. يشترط لصحة الشركة: ـ أن تكون في النقدين المضروبين. فلا يصح أن يشتركا في عروض. استدل الحنابلة على هذا بأمرين: - الأول: أن النقود هي قيم الأشياء. فهي موضوع الشركة. - الثاني: أن الاشتراك بالعروض يؤدي إلى الاختلاف والتنازع. لأن الاشتراك فيها مبني على تقدير القيمةوتقدير القيمة فيه اختلاف وتفاوت. والقاعدة الشرعية: أن المعاملات المالية التي تؤدي إلى التنازع يمنع منها الشارع. = والقول الثاني: جواز الاشتراك بكل أنواع المال. من نقد وعرض وغيره ومنفعة وغيرها. واستدلوا على هذا: - بأن الأصل في المعاملات الحل. - وبأن المفسدة المذكورة من قبل أصحاب القول الأول تندفع بتقدير قيمة العرض من قبل من يرض به الشريكان وتكون الشركة مبنية على القيمة لا على العرض. مثال ذلك/ إذا اشترك كل واحد منهما بسيارة - كل واحد أحضر سيارة - إذا أردنا إجراء العقد نقول: كم قيمة سيارة زيد؟ قالوا خمسين. كم قيمة سيارة عمرو؟ قالوا سبعين. مبلغ الشركة كم؟ مائة وعشرين.

لزيد خمسين ولعمرة سبعين. ولا ننظر بعد إتمام العقد إلى العرض. إلى السيارة. وبهذا نخرج من إشكال الاختلاف. وهذا القول هو الصحيح. وعليه العمل من قديم وحديث. إذ قد لا يجد الناس نقداً يشتركون فيه لكن يجدا عرضاً يشتركان فيه والربح بينهما مناصفة. - قال - رحمه الله -: - ولو مغشوشين يسيراً. يعني: ويعفى الغش اليسير في النقدين. وعلة ذلك: - أن الغش اليسير يصعب ويتعذر التحرز منه فعفي عنه لأن المشقة في الشرع تجلب التيسير ولو شرطنا على المتشاركين أن لا يشتركوا إلا بنقود خالصة لا غش فيها لأدى هذا إلى تضييق الشركة. وفهم من كلام المؤلف - رحمه الله - أنه إذا كان الغش كثيراً فإنه لا يجوز وهو كذلك لأنه إذا كثر الغش وجدت الجهالة في النقدين وتقدم معنا أن الجهالة تمنع عقد الشركة. - ثم قال - رحمه الله -: - (2) وأن يشترطا لكل منهما: جزءاً من الربح مشاعاً معلوماً. يعني: ويشترط لصحة الشركة أن يشترط لكل واحد من الشريكين ربحاً وأن يكون هذا الربح مشاعاً معلوماً. مثال ذلك/ أن يقول لأحدهما الربع وللآخر ثلاثة أرباع. أو أن يقول لأحدهما النصف وللآخر النصف. فالنصف والربع في الأمثلة جزء معلوم ولكنه مشاع. فهم من إطلاق عبارة المؤلف - رحمه الله - أنه يجوز التفاوت في الجزء المشاع ولو مع التساوي في قدر المال. فإذا أخرج زيد خمسين وعمرو خمسين فيجوز أن نشترط لعمرو سبعين في المائة. وفهم من إطلاق كلام المؤلف - رحمه الله - أنه يجوز أن نشترط الأكثر للأقل يعني: يجوز أن نشترط الربح الأكثر لمن ماله أقل. لأن هذا مفهوم من إطلاق عبارة المؤلف - رحمه الله -. وهذا صحيح. إذ لا يوجد في الأدلة الشرعية ما يدل على أنه يجب أن يكون الربح المشترط متناسباً مع قدر المال. لأنه قد يكون أحدهما أحذق بالعمل من الآخر وأقدر على تصريف الأمور فيشترط ربحاً زائداً ولو كان ماله أقل من مال صاحبه. - ثم قال - رحمه الله -: - فإن لم يذكرا الربح أو شرطا لأحدهما جزءاً مجهولاً أو دراهم معلومة أو ربح أحد الثوبين: لم تصح. يقول - رحمه الله -: (فإن لم يذكرا الربح) يعني: بطلت الشركة.

وينبني على البطلان: أن يكون لكل واحد منهما ربح ماله وأجرة مثله مخصوماً منها أجرة تشغيل ماله. إذاً ينبني على هذا - كما قلت -: أن يكون لكل واحد ربح ماله وأجرة مثله لكن يخصم من أجرة المثل ما يقابل العمل في ماله. وينبني على هذا: أنه لا يضمن أي منهما مال الآخر لأنا حكمنا على الشركة بالفساد. دليل الفساد إذا لم يذكرا ربحاً: - استدلوا على هذا: بأن المقصود الأساس من الشركة الربح. فإذا أهمل بطلت الشركة. وهذا الحكم: صحيح إلا إذا دل العرف على أن الشريكين إذا لم يذكرا الربح فالأصل أنه بينهما مناصفة. إذا كان العرف يدل على هذا فالشركة صحيحة والحكم أنه بينهما مناصفة. قال - رحمه الله -: (أو شرطا لأحدهما جزءاً مجهولاً). كأن يقول: لك جزء من الربح ولي الباقي: فهذه الشركة فاسدة. لأنه كما تقدم المقصود من هذا العمل الربح. فإذا أهمل بطلت الشركة. وهذا مع أن العقل يستبعد وقوعه بين الناس إلا أنه يقع الآن كثيراً فيقول: فلنشترك وسأعطيك بعض الربح. هذا هو الربح المجهول. فالشركة بناء على هذا باطلة. والحكم كما تقدم. كل واحد يأخذ ربح ماله. يقول - رحمه الله -: (أو دراهم معلومة). لاشتراط الدراهم المعلومة: صورتان. ـ الصورة الأولى: أن يقول: لك الربع - يعني: من الربح - وعشرين درهماً. أو يقول: لك عشرون درهماً. يعني: سواء كانت الدراهم المعلومة مع وجود نسبة مشاعة أو بدون وجود نسبة مشاعة في الكل الشرط باطل والشركة باطلة. السبب: السبب: أنه ربما أن هذه الشركة لم تربح إلا هذه العشرين دينار. فيدخل الضيم والنقص على الآخر وربما ربحت الشركة ربحاً كبيراً جداً فيدخل النقص والضيم على من اشترط له دراهم معلومة. قال - رحمه الله -: (أو ربح أحد الثوبين: لم تصح) أو اشترط ربح أحد الثوبين أو أحدى السفرتين أو جزءاً معيناً من البضاعة كما يحصل أحياناً ففي الكل: لا يجوز والشرط والعقد فاسد. والتعليل: هو ما تقدم. إذ ربما لا يربح إلا في إحدى السفرتين دون الأخرى وربما لا يربح إلا في أحد الثوبين دون الآخر. فالتعليل في المسائل هذه واحد.

وهذا: - أي تحديد ربح أحدهما بأس نوع من أنواع التحديد - من أشهر القوادح في الشركات ولو استمرأة بعض الناس فهو عقد باطل مخالف لمقتضى الشرع وخالف لموضوع الشركة. ما هو موضوع الشركة؟ موضوع الشركة: الاشتراك المشاع في الأرباح. فهذا الشرط في الحقيقة يتعارض ويناقض الأصل المقصود من الشركة. ولو كان كما قلت كثير من الناس يرى أنه لا بأس به وقد يتعامل بمقتضاه وهو باطل ومبطل للشركة. - ثم قال - رحمه الله -: - وكذا مساقاة ومزارعة ومضاربة. يعني: ويشترط فيها أن يكون الربح جزءاً مشاعاً. ولا يجوز في المساقاة ولا المزارعة أن يختار جزءاً معيناً من المزرعة يكون نتاجه له. وسيخصص المؤلف - رحمه الله - باباً مستقلاً للمساقاة والمزارعة. والمساقاة والمزارعة والمضاربة حكمها واحد وهو أنه يشترط أن يكون فيها جزءاً مشاعاً وكما قلت المساقاة والمزارعة سيفرد لها المؤلف - رحمه الله - باباً مستقلاً. - ثم قال - رحمه الله -: - والوضيعة: على قدر المال. الوضيعة: هي الخسارة. والمؤلف - رحمه الله - يقول: أنها على قدر المال. يعني: تحسب بالنسبة فلكل منهما من الخسارة بقدر ماله. فمن دفع ثلاثة أرباع المال: فعليه من الخيارة ثلاثة أرباع. ومن دفع الربع فعليه الربع. وإذا كان المال مناصفة فالخسارة أيضاً مناصفة. وهذا الحكم وهو أن الخسارة على قدر المال مطلقة مهما كان سبب الخسارة. سواء كان سبب الخسارة أن تنقص أسعار السلع أو كان سبب الخسارة أن تتلف السلع فالأمر واحد. فالخسارة على قدر المال. وهذا الحكم بالإجماع أن الخسارة على قدر المالين. فلا يجوز أبداً أن يقول: فلنشترك ولنعمل فإن كانت خسارة فهي علي. هذا الشرط باطل لا يجوز - كما يصنعه بعض الناس - أن يقول فلنشترك وندخل في هذه المتاجرة فإن وجدت الخسارة فهي علي ومن مالي. هذا الشرط باطل فإذا وجدت الخسارة فهي على قدر المالين. وهذا الشرط مهم في الحقيقة: والسبب أنه إيضاً كثيراً ما يقع الإخلال فيه من المشتركين. - ثم قال - رحمه الله -: - ولا يشترط: خلط المالين. = ذهب الأئمة الثلاثة: أحمد ومالك وأبو حنيفة إلى أنه لا يشترط خلط المالين.

ومعنى هذا: أن الشركة تبدأ وتنفذ بمجرد العقد ولكل منهما أن يتصرف بعد العقد مباشرة. = وذهب الإمام الشافعي: إلى أنه يشترط لصحة الشركة خلط المالين قبل التصرف. فعند الإمام الشافعي تضييق في هذا الباب. وإذا قيل عند فلان تضييق في مسألة فإن هذا لا يعني أن قوله مرجوح. التضييق والتوسيع تتبع فيه النصوص. الذي يدل على أن قول أحدهم مرجوح وجود الحرج والمشقة أما التضييق فليس من أسباب الترجيح. ((الأذان)). والراجح قول الأئمة الثلاثة. الدليل: الدليل أن المقصود من الشركة هي الإذن بالتصرف بتقليب المال لتحقيق الربح وهذا يتحقق مع الخلط وبدونه. وأنا نبهت مراراً إلى كيفية الاستفادة من الأصل المقرر في الترجيح. هنا نستفيد من الأصل: نحن نقول أن موضوع الشركة والأصل من مشروعيتها هو الإذن في التصرف والمقصود من التصرف تحقيق الربح وهذا يكون مع الخلط وبدونه فإذا تحقق الأصل المقصود من الشركة مع الخلط وبدونه دل على رجحان قول الأئمة الثلاثة. لا سيما ونحن نبطل الشركة التي لا يراعى فيها شروط الربح ونعلل ذلك بأن الربح هو المقصود من الشركة. وبهذا استطعنا أن نسخر معرفة المقاصد في الترجيح. - ثم قال - رحمه الله -: - ولا كونهما من جنس واحد. ولا يشترط أن يكون المالان من جنس واحد فيجوز أن يأتي أحدهما بدراهم والآخر بدنانير أو أحدهما بريالات والآخر بجنيهات. = وذهب الإمام الشافعي إلى أنه يشترط اتحاد النقدين. فلابد أن يحضر كل منهما نقداً متحداً. وهذه المسألة مبنية على المسألة السابقة وهي مسألة الاختلاط. فإذا كان الراجح أنه لا يجوز الخلط فالراجح أنه لا يشترط اتحاد النقدين. وبهذا انتهى الكلام عن شركة العنان. وننتقل إلى المضاربة. فصل - قال - رحمه الله -: -) فصل) الثاني: المضاربة لمتجر به ببعض ربحه. المضاربة مشتقة من الضرب في الأرض. والضرب في الأرض هو المشي فيها بقصد السفر. والمضاربة مشروعة بالإجماع وبالسنة التقريرية وبالآثار الصحيحة عن أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم -. ـ أما الإجماع. فحكاه غير واحد من أهل العلم. ـ أما السنة التقريرية فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - جاء والناس يتعاملون بالمضاربة وأقرهم على ذلك.

ـ وأما الآثار الصحيحة: فثبت أن عمر - رضي الله عنه - وعثمان وعلي وابن مسعود وابن عمر وعائشة كلهم عامل بالمضاربة. ولا شك إن شاء الله في أنه مشروع لهذه الأدلة القوية. وإن وقع خلاف في بعض صوره. وإنما الكلام على أصل المشروعية. يقول - رحمه الله -: (المضاربة لمتجر به ببعض ربحه) أي: أن المضاربة هي دفع المال لمن يتجر به ببعض ربحه. وقول المؤلف - رحمه الله - هنا: (ببعض ربحه) أي: أنه لابد من تقدير نصيب العامل. يشترط لصحة المضاربة أن يقدر نصيب العامل فإن لم يقدر لم تصح المصاربة. الدليل على هذا: - أن العامل لا يستحق الربح إلا بالشرط فإذا لم يشترط لم يصر له ربحاً وفسدت المضاربة. وقاعدة الحنابلة أن أي مضاربة تفسد تنقلب إلى عقد الإجارة ويعطى المضارب أجرة المثل. = والقول الثاني: أن له ربح المثل. ولو قلنا بفساد المضاربة. وهذا القول الثاني اختاره شيخ الإسلام - رحمه الله - وهو مقتضى العدل لأنه عمل على أساس أن له ربحاً لا على أن له أجره .. والله أعلم وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

الدرس: (33) من البيع قال شيخنا حفظه الله: بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين. بالأمس توقفنا عند مسألة أن الحنابلة يرون أنه لابد من أن يفرض للعامل في المضاربة نصيباً محدداً وأنه من شروط صحة المضاربة. وأخذنا دليلهم على هذا الشرط وتطرقنا لمسألة الأصل في المضاربة الفاسدة. ومذهب الحنابلة في هذا الأصل والقول الثاني. وانتهينا من هذا كله. اليوم نبدأ بتكميل المسألة: فنقول: = القول الثاني: انه إذا لم يذكر نصيباً للمضارب فالأصل أن الربح بينهما نصفين ولا تبطل المضاربة. والدليل على ذلك: - أنهما عقدا عقد مضاربة وأطلقا فانصرف إلى المناصفة. فصل - وقوله - رحمه الله -: - (المضاربة لمتجر به ببعض ربحه). قوله: (ببعض ربحه) يدخل فيه: مسألة/ وهي: إذا قال: خذ هذا المال واتجر به والربح كله لي: فالعقد صحيح. وهو إبضاع.

والإبضاع هو: دفع لاالمال لمن يعمل به مجاناً. وإن قال: (خذ هذا المال واتجر به والربح كله لك). فالعقد: صحيح. والعقد: عقد قرض. وإن قال: (خذ هذا المال مضاربة والربح لك) أو قال: (خذ هذا المال مضاربة والربح لي) فهو عقد: فاسد. - لأنه جمع بين عقد المضاربة والقرض والأصل في المضاربة الاشتراك في الربح. والفرق بين المسألتين: ـ في اللفظ فقط. ففي الأول يقول: (خذ هذا المال واتجر به والربح لك) لم يذكر كلمة مضاربة. وفي الثانية يقول: (خذ هذا المال مضاربة واتجر به والربح لك). = والقول الثاني: أنه إذا قال: (خذ هذا المال مضاربة والربح لك أولي) فالعقد: صحيح. ولا يفسد بذلك. - لأن العبرة في العقود بالمعاني والقصود لا بالألفاظ والمباني. فإذا عرفنا أن قصده أن يكون العقد قرضاً أو إبضاع صححنا العقد ولو مع وجود كلمة مضاربة نظراً للمعنى وإهمالاً للفظ. وهذا القول الثاني هو الصحيح. إن شاء الله. بناء عليه: صار حكم المسألة واحد سواء قال: مضاربة أو لم يقل: مضاربة والتفريق على المذهب وهو ضعيف. - ثم قال - رحمه الله -: - فإن قال: ((وَالرِّبْحُ بَيْنَنَا)) فنصفان. إذا قال: (خذ هذا المال مضاربة والربح بيننا) فهو مناصفة. والدليل على هذا: - أنه أضاف الربح إليهما ولا يوجد في اللفظ مرجح لأحدهما فاقتسماه على التساوي. وهذا صحيح: فإذا قال: الربح بيننا انصرف إلى المناصفة. - ثم قال - رحمه الله -: - وإن قال: ((وَلِي أَوْ لَكَ ثَلاَثَةُ أَرْبَاعِهِ أَوْ ثُلُثُهُ)) صح والباقي للآخر. إن قال رب المال: خذ هذا المال مضاربة وثلث الربح لي. فللعامل ثلثاه. وإن قال العكس فالعكس. وتعليل ذلك: - أن الربح حق منحصر في هما فإذا بين نصيب أحدهما صار الباقي للآخر. وقال بعض الحنابلة: إذا قال: خذ هذا المال مضاربة والربع لي - يعني لرب المال -: فهي فاسدة. لأنه لم يسم نصيب العامل ونحن نقول لابد من تسمية نصيب العامل. والصواب أنه صحيح وأنه في الواقع سمى نصيب العامل: لأن نصيب العامل هو: المتبقي. * * مسألة/ فإن قال: خذ هذا المال ونصف الربح لك وربعه لي. كم الباقي؟ ربع. فهو عند الحنابلة: لرب المال. فالذي لم يسمى لرب المال.

وعللوا ذلك: - بأن العامل ليس له إلا ما شرط له. فما لم يشرط فهو مباشرة لرب المال. هكذا قال الحنابلة. ولو قيل: أن هذا الشرط يبطل العقد لأنه يؤدي إلى النزاع وإلى جهالة الربح وجهالة الربح تخل بمقصود الشركة وما يخل بمقصود الشركة يؤدي إلى البطلان. فلو قيل بهذا لكان هو المتوجه. لكن الحنابلة بنوا هذا على أصل صحيح عندهم وهو: أن العامل لا يستحق الربح إلا بالشرط فكل شيء لم يشرط له فهو لرب المال. - قال - رحمه الله -: - وإن اختلفا لمن المشروط: فلعامل. في هذه المسألة: اتفقوا على الجزء المشروط يعني: على تسمية الجزء المشروط فاتفقوا على أن المشروط هو النصف لكن اختلفوا لمن هذا الجزء المشروط؟ = فعند الحنابلة: أن الجزء المشروط للعامل. واستدلوا على هذا بدليلين: - الدليل الأول: أن العامل لا يستحق الربح إلا بالشرط. فالأصل أن الشرط في حق العامل. - الدليل الثاني: أن العامل يختلف ربحه تبعاً لقة وكثرة العمل بينما رب المال لا يختلف لأن رأس المال ثابت. وما يختلف ربحه هو الذي يحتاج إلى اشتراط. وهو العامل. وهذه المسألة قد تكون قليلة الوقوع. * * المسألة الثانية/ وهي التي محل إشكال: أن يختلفوا في مقدار الجزء المشروط. وهذا هو الإشكال. وهو الذي يقع. فيقول رب المال: اشترطت لك الربع فقط. ويقول العامل: بل اشترط لي: النصف. وهنا تقع المشكلة الحقيقية. ولو أن المؤلف - رحمه الله - ذكر هذه المسألة الثانية وترك المسألة التي ذكرها لكان أنفع. حكمها: = عند الحنابلة: إذا اختلفوا في مقدار الجزء المشروط واتفقوا لمن هو؟ فالقول قول رب المال. واستدلوا على هذا: - بأنه منكر للزيادة ومنكر الزيادة القول قوله. = القول الثاني: وفيه تفصيل: قالوا: إذا اختلفا فالقول قول من يوافق العرف والعادة في مثل هذه المضاربة إن كان رب المال أو العامل. فإن كان قول رب المال والعامل الجميع يوافق العرف والعادة واختلفوا أيضاً فالقول قول العامل. - لأن المال بيده والربح من إنتاجه فقدم قوله.

وهذا التفصيل الجميل هو مذهب المالكية. وهو الراجح إن شاء الله. فنرجع إلى العرف إذا اختلفا ولا نقدم قول أحد على أحد فإن وافق العرف القولين لرب المال والعامل قدمنا قول العامل. - ثم قال - رحمه الله -: - وكذا مساقاة ومزارعة. يعني في المسألتين السابقتين. إذا اختلفوا في الجزء المشروط من الثمر في المساقاة أو من الزرع في المزارعة فهو للعامل. وإن اختلفا في مقدار الجزء المشروط فالقول قول رب الأرض في مسأة المساقاة والمزراعة. نقول رب الأرض ولا نقول رب المال إذ لا يوجد مال كما سياتينا. والخلاف في هذه المسألة كالخلاف في المسألة السابقة تماماً بلا زيادة ولا نقص والراجح فيها هو الراجح في تلك. - قال - رحمه الله -: - ولا يضارب بمال لآخر: إن أضر الأول ولم يرض. في هذه المسألة تفصيل: ـ إذا ضارب العامل لرجل آخر بلا مضرة بالأول أو معها لكن برضى رب المال الأول: جاز بالإجماع. ولهذا لو أن المؤلف - رحمه الله - استبدل الواو بأو لكن أنسب للحكم لأنه هو في الواقع يجوز إذا لم يضر أو رضي ولا نشترط أن لا لا يضر وأن يرضى. المهم: إذا ضارب لرجل آخر بلا مضرة أو معها برضى الأول: جاز بالإجماع. ـ وإذا ضارب لرجل آخر مع المضرة بلا رضى الأول: فإنه لا يجوز: = عند الحنابلة. وهو منصوص الإمام أحمد - رحمه الله -. هذه المسألة من المسائل التي تبناها الإمام أحمد شخصياً وأفتى فيها مراراً. الدليل: - قالوا: الدليل: أن مبنى الشركة على تحقيق الربح والسعي في تكميله واستغاله بمضاربة أخرى يضر بهذا المقصود. - واستدلوا أيضاً: بأن منافع العامل مستحقة بالعقد الأول. = والقول الثاني: وهو مذهب الجماهير: أن العامل له أن يعمل بالمضاربة مع رجل آخر بشرط: أن لا ينص في العقد الأول على المنع من ذلك. واستدلوا على هذا: - بأن عقد المضاربة لا يستلزم استغراق منافع المضارب كلها بل هو عقد على عمل معين. وهذا القول هو الصحيح. إذ ليس في الأدلة شيء واضح يدل على تحريم عمل المضارب بمضاربة أخرى. لكن نقول أن ما ذهب إليه اإمام أحمد - رحمه الله - وجيه فيما إذا تبين لنا أن العقد الثاني أخل وأضر بالعقد الأول. فلرب المال الأول أن يمنع الثاني من المضاربة.

والأحوط في الحقيقة أن يكون هتاك شرط في العقد الأول فحينئذ يصبح لا يجوز له ان يضارب عند جميع الفقهاء. عرفنا الآن أن الحنابلة يرون أنه لا يجوز أن يضارب فإن ضارب فقد بين المؤلف - رحمه الله - ماذا يفعل بالربح: - قال - رحمه الله -: - فإن فعل: رد حصته في الشركة. يعني: فإن خالف وضارب لرجل آخر وحصل ربح فإن نصيب رب المال الثاني يبقى له حتى عند الجنابلة ونصيب المضارب من المضاربة الثانية يرد في الشركة الأولى ويدخل في أرباحها فيقتسمه هو ورب المال الأول على ما اتفقا عليه. واستدلوا على هذا: - بما تقدم: انه عمل - أي المضارب - لرجل آخر في وقت مستحق بالعقد الأول. فصارت المنافع والأرباح للعقد الأول. ونحن الآن نناقش داخل مذهب الحنابلة - التفريع على مذهب الحنابلة. = والقول الثاني: على القول بالمنع. أن الربح لا يشاركه رب المال الأول فيه فهو للمضارب كاملاً مع الإثم. وعللوا هذا: ((وهذا مبدأ مهم لطالب العلم)) - بأن الإنسان لا يستحق الربح أبداً في الشركات إلا بأحد أمرين مال أو عمل. وفي هذه الصورة ليس من رب المال الأول لا مال ولا عمل فلا يستحق الربح. وهذا القول الثاني اختيار شيخ الإسلام بن تيمية واختيار تلميذه النجيب ابن قاضي الجبل واختيار عدد من المحققين. وهو بلا شك: إن شاء الله، الراجح. - ثم قال - رحمه الله -: - ولا يقسم مع بقاء العقد إلاّ باتفاقهما. الربح لا يجوز أن يقسم مع بقاء العقد - ولاحظ أن هذه عبارة دقيقة من المؤلف - رحمه الله - - الربح لا يملك أحد الشريكين أن يجبر الآخر على قسمته مع بقاء العبد. وإنما يشترط رضى الطرفين. فما دام العقد موجوداً لم يفسخ فليس لأحدهما أن يلزم الآخر بتقسيم الأرباح ولو ظهرت أرباح كبيرة. إنما يجوز أن يقسم في حال واحدة إذا رضي كل منهما. الدليل: الدليل على ذلك: - أنه من جهة رب المال له أن يمتنع لأن الربح في حقه وقاية لرأس المال. وأما من جهة العامل فلأنه ربما قسم الربح ثم صارت خسارة فألزم برد ما أخذ فوقع في حرج. فليس لأحدهما أن يجبر الآخر.

ونحن نقول مع بقاء العقد. لأنه تقدم معنا أن شركة المضاربة شركة: جائزة. لكل منهما أن يفسخ العقد. فلا نقول ما دام العقد لم يفسخ يجب أن لا يقسم الربح إلا برضا الجميع فإذا اختار أحدهما فسخ العقد فحينئذ سياتينا أنه يقسم الربح بطريقة معينة. إذاً: عرفنا الآن أنه لا يمكن القسمة إلا برضى الجميع. قوله - رحمه الله -: (إلا باتفاقهما) وهذا معلوم وعلته الفقهية: أن الحق لا يخرج عنهما. وإذا كان الحق لا يخرج عنهما جاز برضى الطرفين. - ثم قال - رحمه الله -: - وإن تلف رأس المال أو بعضه بعد التصرف. فهم من كلام المؤلف - رحمه الله - أن الحكم قبل التصرف يختلف عنه بعد التصرف وإن كان لم يذكر الحكم قبل التصرف. فالحكم قبل التصرف: أنه إذا تلف كل المال بطل عقد الشركة من أساسه. وإذا تلف بعض المال بطلت الشركة في هذا الجزء التالف. لأنه إذا بطل المال لم يعد هناك رأس مال لتقليبه في التجارة. فانفسخ عقد المضاربة. هذا الحكم فيما إذا كان قبل التصرف. - يقول - رحمه الله -: - وإن تلف رأس المال أو بعضه بعد التصرف. أو خسر: جبر من الربح. يجب أن تجبر الخسارة من الربح ولا يجوز للعامل أن يأخذ الربح مع وجود خسارة. وعلل الفقهاء هذا بتعليل جميل جداً: - فقالوا: الربح اسم للمال الذي يأتي بعد رأس المال. فإذا لم يأت رأس المال فليس هناك ربح والعامل إنما له جزء من الربح لا من رأس المال. وتبين معنا أنه لا ربح لأن الربح في الشرع هو ما يأتي بعد رجوع رأس المال. وهذا في الحقيقة لفتة جيدة وقوية وفيها ترك للمسميات التي تغر طالب العلم. لأنه قد يسمى عند الناس ربح وإن لم يرجع رأس المال وهو في الحقيقة ليس بربح. وإنما ما زال الذي يأتي هو رأس المال. - قال - رحمه الله -: - قبل قسمته أو تنضيضه.

أريد أن أنبه إلى مسألة:/ ما ذكره الفقهار من قضية أنه لا يقسم الربح إلا بعد عدم وجود خسارة هذا الحكم يستوي فيه أن تكون الخسارة في صفقة واحدة والربح في صفقة أخرى أو الخسارة والربح في صفقة واحدة فكل ذلك ما دام العقد موجوداً. فما دام العقد وهو عقد المضاربة موجوداً فلا ربح وإن كانت الخسارة من صفقة والربح من صفقة أخرى. فكل ذلك - كما قلت - ما دام العقد موجوداً لا كما يتصور البعض أن لكل صفقة حسابها الخاص فهذا خطأ بل الصفقات كلها حسابها واحد ما دام العقد موجوداً. - يقول - رحمه الله -: - قبل قسمته. يعني: يجب أن نسدد رأس المال قبل قسمة الأرباح. ومقصود المؤلف - رحمه الله - هنا قبل القسمة مع انتهاء العقد ومع بقائه. فالقسمة تنقسم إلى نوعين: ـ قسمة قبل انتهاء العقد. فالقسمة التي قبل انتهاء العقد لا تجوز ولا تعتبر ملكاً تاماً. (وقولي لا تجوز يعني: لا تمضى). فإذا قسموا مع وجود العقد ثم حصلت خسارة فإنا نرجع على من أخذ الربح وهذا معنى قولي فيما تقدم أنه سواء كان الربح والخسارة في صفقة أوم في صفقتين. ـ النوع الثاني: ان تكون القسمة بعد انتهاء العقد. فإذا كانت القسمة بعد انتهاء العقد فإنه لا شأن للأرباح المقبوضة بالخسائر التي تأتي بعد ذلك ولو بنفس رأس المال ولو من قبل نفس المضارب ورب المال. إذاً القسمة: إذا قيل لك القسمة فالفقسمة لفظ مطلق يجب أن تستفصل هل هي قسمة مع بقاء العقد أو قسمة انتهاء العقد. فالقسمة قبل انتهاء العقد لا تعتبر قسمة حقيقية ونرجع على القابض إن حصلت خسارة. وبعد العقد لا نرجع. - يقول المؤلف - رحمه الله -: - أو تنضيضه. التنضيض هو عملية تحويل السلع إلى النقود. والتنضيض ينقسم إلى قسمين: ـ إما أن يكون تنضيض مع محاسبة. ـ أو تنضيض بلا محاسبة. والمقصود بالمحاسبة: معرفة نصيب كل واحد من الطرفين. - - فإن كان التنضيض بعد المحاسبة فهو كالقسمة تماماً - فحكمه حكم القسمة -. فتنقسم إلى: ـ ما بعد العقد. ـ وما قبل العقد. - - وإن كان قبل: فلا حكم له. لأن التنضيض بدون محاسبة لا يعرف به أصلاً نصيب كل واحد ولا ربح كل واحد. إذاً: عرفنا الآن القسمة وأنواعها. والتنضيض وأنواعه.

والذي يهمنا الآن أن التنضيض مع المحاسبة حكمه حكم القسمة. وبهذا نتهينا من الباب - من الفصل المخصص للمضاربة. والمؤلف - رحمه الله - خصص فصلاً كاملاً للمضاربة لأهميته ولكثرة وقوعه. وستلاحظ أنه في الفصل الثاني أدرج النوع الثالث والرابع والخامس بفصل زاحد لقلة المباحث وقلة الوقوع. فصل - قال - رحمه الله -: - (الثالث) شركة الوجوه. الثالث من أنواع الشركات: شركة الوجوه. والوجه: معناه الجاه. يعني: إذا قيل شارك بوجهه يعني: بجاهه. وسياتينا معنى الجاه. وشركة الوجوه مشروعة. والدليل على مشروعيتها: - الأدلة العامة الدالة على مشروعية الشركة من حيث هي. وسيبين المؤلف - رحمه الله - معناها. - قال - رحمه الله -: - أن يشتريا في ذمتيهما بجاههما فما ربحا فبينهما. هذه هي شركة الوجوه. ومعناها: أن يشتريا بذمتيهما وما كان من ربح فهو بينهما. فعرفنا من ذلك: أنه ليس في شركة الوجوه مال. وإنما يكون الشراء في الذمة. وعرفنا كذلك: أن مبنى شركة الوجوه على عقدين: 1 - الوكالة. 2 - والكفالة. فحقيقة شركة الوجوه هي انها مكونة من عقدين: - عقد الوكالة. - وعقد الكفالة. إذاً: تبين معنا الآن حقيقة هذه الشركة ومعناها وهي أن يشترك اثنان في اقتراض مال أو سلع والاتجار به وما يكون من ربح فهو بينهما. - يقول - رحمه الله -: - في ذمتيهما بجاهيهما. الجاه في الاصطلاح هو المكانة والقدر والرفعة. وطلبها: طلب الجاه والمكانه من مفسدات القلوب. وإذا حصلت بلا طلب وتاجر بها يعني بذمته - لا أقصد تاجر بها يعني: يتاجر بجاهه - لكن إذا تاجر معتمداً على جاهه وأخذ الأموال في ذمته فتصرفه صحيح ولا لوم عليه. عرفنا الآن إذاً وتصورنا ما هي شركة الوجوه. - قال - رحمه الله -: - فما ربحا فبينهما. يعني على حسب ما شرطاه. وليس مقصود المؤلف - رحمه الله -: (بينهما) بدون ضابط ولكن حسب ما شرطاه. - قال - رحمه الله -: - وكل واحد منهما: وكيل صاحبه. يعني: في شراء نصيبه. فما يشتريه هو في الواقع وكيل عن شريكه فيه. لكن هو وكيل عن شريكه في نصف ما يشتري. والنصف الآخر يشتريه بالأصالة. إذاً هذا الجزء الأول وهو أنه وكيل. - قال - رحمه الله -: - وكفيل عنه بالثمن.

وكفيل عنه بالثمن كاملاً وليس بنصف الثمن. - لأن مبنى شركة الوجوه على الضمان. فإذا اشترى فقد ضمن الثمن كاملاً وشريكه ضمن الثمن كاملاً. إذاً: هو وكيل بالنصف ولكنه ضمين بكامل الثمن. - قال - رحمه الله -: - والملك: بينهما على ما شرطاه. - لقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: (المسلمون على شروطهم). ومعنى هذه العبارة: أنهما إذا اشتريا سلعاً بذمتهما وبجاههما فالملك بينهما على ما شرطاه ولا يقال لكل واحد ملك ما اشتراه. فإذا اشترك زيد وعمره شركة وجوه واشترى زيد بذمته بيتاً يقدر بمائة ألف. واشترى عمرو بذمته بيتاً يقدر بخمسين ألف. المجموع: مائة وخمسين. ونصفه: خمسة وسبعون. زيد في المثال اشترى البيت الذي قيمة مائة ألف ومع ذلك لا يملك منه إلا النصف وكذلك الآخر. ولو اشترطوا لزيد ثلاثة أرباع أو أربعة أخماس أوحسب ما اشترطاه فإن الشرط صحيح ويكون أربعة أخماس هذه السلع المجتمعة للمشترط له والخمس للآخر. ولا ننظر أبداً ماذا اشترى هذا أو ماذا اشترى الآخر. - قال - رحمه الله -: - والوضيعة: على قدر ملكيهما. وهذا مبنى على المسألة السابقة. الوضيعة على قدر المال في جميع الشركات. وبالإجماع. حتى في المضاربة التي فيها المال من طرف واحد الوضيعة على المال لأن المال هنا من طرف واحد. فإذاً: قاعدة الشركات المجمع عليها أن الوضيعة على قدر المال. - قال - رحمه الله -: - والربح: على ما شرطاه. الربح على ما شرطاه: قياساً على شركة العنان. والوضيعة أيضاً قياساً على شركة العنان. تقدم معنا أن شركة العنان سيبنى عليها أحكام شركات أخرى فهنا نقول الوضيعة والربح حكمهما حكم العنان. فالوضيعة على قدر المال والربح حسب ما اتفقا. - قال - رحمه الله -: - (الرابع) شركة الأبدان. شركة الأبدان. هي: أيضاً من الشركات التي تكون بلا مال. وتنقسم إلى قسمين: ـ القسم الأول - من شركة الأبدان -: أن يشتركا في تقبل عمل في الذمة. ـ القسم الثاني: أن يشتركا فيما يملكان من العمل المباح. كالاحتطاب مثلاً. مثال القسم الأول: أن يشتركا في بناء جدار في ذمتهما ويكون الربح مقسوماً بينهما.

مثال القسم الثاني: أن يقول كل ما اكتسبنا من عملنا المباح فهو بيننا. فلو فرضنا أنهما اشتركا في الصيد وأحدهما صاد مائة طير والآخر صاد طيراً واحداً فهما شركاء في المجموع يقسم بينهما بالسوية أو حسب ما اتفقا. وشركة الأبدان مشروعة عند الحنابلة. واستدل الإمام أحمد - رحمه الله - بنفسه على مشروعية شركة الأبدان: - بالحديث الذي رواه عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - أنه اشترك يوم بدر هو وسعد وعمار في الغنيمة قال: فلم أجيء أنا وعملا بشيء وجاء سعد بأسيرين. فهم رضي الله عنهم وأرضاهم اشتركوا شركة أبدان وهي من النوع: الثاني. فدل الحديث على مشروعية هذه الشركة. وهذا الحديث صحيح وثابت ولا يعل بالانقطاع لأن أبا عبيد حفيد بن مسعود وإن لم يسمع إلا أنه سمع من ثقات اهل بيته كما قال علي بن المديني وابن رجب وغيرهم. المهم هذا الحديث صحيح ثابت. = القول الثاني: أنها شركة غير مشروعة. - لأن الشركة تبنى على المال ولا مال في هذه الشركة. والراجح مذهب الحنابلة. وقبل أن نكمل شركة الأبدان نسينا مسألة مهمة جداً في المضاربة/ مهمة جداً وودت أن المؤلف - رحمه الله - ذكرها. * * المسألة هي/ متى يملك المضارب الربح؟ اتفق الفقهاء كلهم على أن المضارب - العامل - لا يملك الربح ملكاً مستقراً إلا بعد القسمة. والمقصود بالقسمة هنا: التي تكون بعد العقد. إذاً هذه المسألة متفق عليها. واختلفوا في زمن ملك الربح قبل ذلك: = فالحنابلة يرون أنه يملك بمجرد الظهور. فإذا ظهر الربح ملكه العامل. واستدلوا على هذا: - بأن عقد المضاربة قام على أنه للمضارب جزء من الربح مشروط. فإذا وجد الربح وجد الشرط فملك المال. = القول الثاني: أنه لا يملك إلا بعد القسمة. واستدلوا على هذا: - بأن الربح هو في الحقيقة وقاية لرأس المال وتمليك العامل إياه يفوت هذا المقصود. والراجح بإذن الله مذهب الحنابلة. والجواب على دليل القول الثاني: أن تمليك المضارب لا يفوت هذا المقصود لأنه إذا حصل خسارة نرجع على العامل ونأخذ منه ما أخذ. أو نقول: - وهو الجواب الثاني - نملك العامل المال بلا قسمة. ثمرة الخلاف: ثمرة الخلاف ثمرة كبيرة جداً:

- الثمرة الأولى: إذا وطيء العامل جارية من مال الشركة: ـ فإن قلنا يملك صارت أم ولد له. ـ وإن قلنا لا يملك صارت من باقي أموال الشركة ليست ملكاً للعامل. - وإذا اشترى العامل من مال الشركة من يعتق عليه كأن يشتري أباه أو أخاه أو نحوهما: ـ فعلى القول الأول: إذا ظهر ربح في الشركة: عتق. ـ وعلى القول الثاني: يبقى عبداً لأن المضارب - العامل - لا يملك من المال شيئاً ولو بعد الربح. فبين القولين فرق واضح جداً. وكما قلت إن شاء الله الواضح القول الأول. نرجع إلى مسائل شركة الأبدان. - قال - رحمه الله -: - أن يشتركا فيما يكتسبان بأبدانهما. يعني: حسب الاتفاق. أن يشتركا في الربح حسب الاتفاق. ودل كلام المؤلف - رحمه الله - على أن شركة الأبدان صحيحة سواء اتفقت الصنائع أو اختلفت. أي: سواء اشترك نجاران أو نجار وحداد. فالشركة صحيحة ولا يشترط اتفاق الصنعة. وسيأتينا ما العمل إذا لم يستطع النجار إكمال العمل والحداد لا يعرف النجارة. سيأتينا ما الحكم. - قال - رحمه الله -: - فما تقبله أحدهما من عمل يلزمهما فعله. إذا تقبل أحدهما العمل لزم الاثنين الاتمام. ودخل وجوب إكمال العمل في ذمة كل منهما. والدليل: - أن مبنى هذه الشركة على الضمان. لأنهما يتقبلان العمل بالذمة. فكل واحد من الشريكين مطالب بإتمام العمل. بمقتضى عقد الشركة. = والقول الثاني: أنه لا يلزم من لم يجر العقد إتمام العمل ولو كان شريكاً. فإذا اشترك نجار وحداد وعقد النجار مع شخص على عمل ولم يتمه لم يلزم الحداد إتمام العمل. استدلوا على هذا: - بالقياس: فقالوا: الشركة إذا كانت موضوعة في ما يكتسبان بأبدانهما من الملك المباح فإنه لا يلزم أحدهما بإكمال العمل. فكذلك هنا. فإذا اشترك زيد وعمرو على أن ما يكتسبان من الاحتطاب بينهما وأحدهما لم يحتطب لم نلزمه بالاحتطاب لأنه عمل مباح. فكذلك هنا والصواب مع الحنابلة وبين الصورتين فرق ظاهر. فما هو الفرق؟ الفرق: في الصورة الأولى انشغلت الذمة بما التزماه جميعاً. وفي الصورة الثانية لا يوجد انشغال للذمة من الأصل. فالراجح إن شاء الله مذهب الحنابلة. - ثم قال - رحمه الله -: - وتصح: في الإحتشاش والإحتطاب وسائر المباحات.

يعني: تصح الشركة في كل عمل مباح. ومثل بمثالين: - الاحتشاش. - والاحتطاب. فكل عمل مباح يجوز أن يشتركا فيه. مفهوم عبارة المؤلف - رحمه الله - أن كل عمل محرم فيحرم الاشتراك فيه. وهو كذلك إجماعاً. ودليل جواز الاشتراك في كل عمل مباح: - حديث ابن مسعود السابق. ففيه الاشتراك في عمل مباح. - قال - رحمه الله -: - وإن مرض أحدهما: فالكسب بينهما. وإن مرض أحدهما وأتم العمل الآخر فالكسب بينهما وإن لم يعمل الآخر. تعليل ذلك: - أن هذا الكسب سببه الالتزام في الذمة. والالتزام في الذمة صدر من الاثنين فيجب أن يقتسما الربح بينهما. ومذهب الحنابلة سواء امتنع أحدهما لعذر أو لغير عذر. والسبب كما قلت لك أنه حتى إذا امتنع لغير عذر فإن سبب الربح هو الالتزام في الذمة وهو صادر منهما. = والقول الثاني: أنه إذا امتنع عن العمل بغير عذر فالكسب للعامل كله. - لأن الربح يستحق بالالتزام في الذمة والعمل معاً. والعمل لم يوجد ممن لم يعمل. ((الأذان)). والخلاف في هذه المسألة قوي لأن لكل من القولين وجهة نظر قوية. ولم أر عند الحنابلة خلاف أن الربح بينهما - لم يمر علي في كتب الحنابلة أنهم ذكروا خلافاً في هذه المسألة. لكن القول الثاني أيضاً وجيه وهو أنه لم يعمل بلا عذر فلا يستحق الربح. أقول: الذي يظهر لي بوضوح قول ثالث لم أر أحداً قال به فإن قيل به فهو في الحقيقة فيه العدل وهو أن نقول: - إذا امتنع الشريك عن العمل بلا عذر أخذ نصف الربح المقرر له. وجهه أنا نقول أن هذا الربح يستحق بأمرين: - العمل. - والالتزام في الذمة. الالتزام في الذمة وقع منه فهو ملتزم في الذمة. ولو لم يتم الأول العمل لطولب هو بالعمل وهذا يجب أن تلاحظه - يعني هو ليس خالياً تماماً هو مطالب وذمته مشغوله ولذلك أعطاه الحنابلة الربح كاملاً. فنقول: بما أنه يستحق بالأمرين ووجد منه أحد الأمرين فله تبعاً لذلك: نصف الربح. فإن قيل بهذا القول فهو في الحقيقة قول فيه عدل من وجهة نظري. - قال - رحمه الله -: - وإن طالبه الصحيح أن يقيم مقامه: لزمه. إذا طالب الصحيح المريض أن يقيم مقامه رجلاً آخر ليعمل معه لزمه. أي: لزم المريض أن يقيم رجلاً مكانه.

تعليل ذلك: - أن مبنى هذه الشركة - أي: شركة الأبدان - على الاشتراك في العمل بالبدن فإذا لم يفم بما عليه وجب عليه البديل. وهذه قاعدة شرعية. كل إنسان عليه أن يقوم بالواجب أو ببديل الواجب. فنجن نقول الآن إما أن تقوم بالعمل أو تأتي بمن يقوم بالعمل بدلك. فإن امتنع فللمضارب الآخر فسخ الشركة. ومعلوم أن قولهم له فسخ الشركة يعني أنه من الأسباب الوجيهة في فسخ الشركة وإلا تقدم معنا أن الشركة من العقود الجائزة وله أن يفسخ بسبب وبدون سبب. لكن إذا وجد هذا السبب تأكد حقه في الفسخ وصار وجيها. - قال - رحمه الله -: - (الخامس) شركة المفاوضة. المفاوضة معناها العام في اللغة الاشتراك في كل شيء. أما الاشتقاق فهو من كلمة فوَّضَ والتفويض هو: إسناد التصرف إلى شخص آخر. والمفاوضة لها نوعان ذكر المرلف - رحمه الله - النوع الأول والنوع الثاني. - قال - رحمه الله -: - أن يفوض كل منهما إلى صاحبه كل تصرف مالي وبدني من أنواع الشركة. هذا هو النوع الأول من أنواع الشركة وهو أن يفوض كل منهما صاحبه في كل أنواع الشركة. فيفوضه في شركة المضاربة والعنان والوجوه والأبدان. فشركة المفاوضة على هذا تشمل جميع أنواع الشركات. وشركة المفاوضة صحيحة ومشوعة عند الحنابلة. استدلوا على هذا: - بأن شركة المفاوضة تجمع أنواع الشركات وكل واحد منها جائز فإذا جمعت فهي جائزة أيضاً. لأن ما يتركب من الجائز: جائز. = والقول الثاني: أنها شركة باطلة وغير مشروعة. - لأنه يدخل فيها الغرر والجهالة لسعة نطاق التوكيل. والراجح مذهب الحنابلة لأنه لا يوجد دليل واضح على المنع والغرر منفي بتحديدها بأنواع الشركة الموجودة بأنواع الشركات المسماة في الفقه الإسلامي. - قال - رحمه الله -: - والربح: على ما شرطاه، والوضيعة: بقدر المال. تقدم معنى: أن الربح على ما شرطاه. والوضيعة على قدر رأس المال في جميع الشركات وأن دليل ذلك: القياس على شركة العنان. فالوضيعة على قدر المال والربح على قدر الاتفاق. ونقف على القسم الثاني والله أعلم وصلى الله على نبينا محمد ....

الدرس: (34) من البيع قال شيخنا حفظه الله: بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين. كنا في آخر درس تحدثنا عن الخامس من أنواع لشركات وهو شركة المفاوضة وأخذنا النوع الأول منه وانتهينا منه وتوقفنا على النوع الثاني. والنوع الثاني: يبدأ من قول المؤلف - رحمه الله -: (فإن أدخلا فيها كسباً أو غرامة نادرين). النوع الثاني من شركة المفاوضة هو: أن يدخلا في الشركة كل كسب نادر لهما أو غرامة نادرة عليهما. فالكسب النادر: كاللقطة. فإنه يندر أن يجد الإنسان لقطه. وكذلك الميراث. وكذلك الهبة. هذه الأمور نادرة. فإذا اشتركا على هذا الكسب النادر فهي في الشرع شركة مفاوضة. النوع الثاني من القسم الثاني: أن يشتركا على غرامة نادرة. مثل: أرش جناية. فإن هذا نادر ما يقع. نادراً ما يقع أن يصيب الإنسان شخصاً بجناية ويجب عليه الأرش. ففي النوع الأول: اشتركا في المغنم. وفي النوع الثاني: اشتركا في المغرم. - ثم قال - رحمه الله -: - أو ما يلزم أحدهما من ضمان غصب أو نحوه: فسدت. كذلك الاشتراك في ضمان الغصب له نفس الحكم السابق وهو أنه يعتبر من شركة المفاوضة. = الحنابلة يرون: أن هذه شركة غير صحيحة. ولذلك يقول - رحمه الله -: (فسدت). وعرفنا الآن ما هي هذه الشركة. إذاً: الشركة أن يشتركا في المغنم أو في المغرم لكن الذين وصفا بالندرة. فالحنابلة يرون ان هذه الشركة فاسدة. عللو ذلك: - بأن في الاشتراك بهذا النوع غرر وجهالة إذ قد يجب عليه ضمان أرش أو غصب بمبلغ مرتفع جداً ولا يستطيع الشريك أن يساهم معه في سداد هذا المبلغ وفي المقابل أيضاً قد يكسب كسباً نادراً كبيراً مرتفعاً في وقت قصير فلا تسمح نفسه بأن يشاركه معه فيه أحد. ففي المغنم وفي المغرم يوجد غرر وجهالة تؤدي غالباً إلى المنازعة. ولهذا رأوا رحمهم الله أنها فاسدة. وما ذكره الحنابلة صحيح ودائماً العموميات في المعاملات تؤدي إلى المخاصمات في كل مغنم في كل مغرم إلى استخدام ألفاظ العموم (كل) دائماً يدخل الشريكين في متاهات.

باب المساقاة

وبهذا عرفنا أن شركة المفاوضة تنقسم إلى قسمين وان القسم الأول منها صحيح وأن القسم الثاني منها باطل. باب المساقاة - قال - رحمه الله -: - باب المساقاة. المساقاة في لغة العرب: مشتقة من السقي. وسميت هذه المعاملة بهذا الاسم لأن أشق أعمال المساقي في الحجاز السقي لكثرة حاجة الشجر إلى الماء وصعوبة تحصيل الماء. وهذا المعنى يختص بالحجار. وفي غيره من الأماكن قد لا يكون سقي الشجر هو أصعب الأعمال. قد يكون هو أسهل الأعمال وفي صور كثيرة لا يسقس أصلاً وإنمات يتكفل المطر بسقي النبات ويكون عمله في جانب آخر. وهذا لا يعنينا في الأحكام الشرعية ولكن نحن نتحدث الآن من الاشتقاق وأن هذا الاشتقاق شيء أو معنى يختص بأهل الحجاز. - يقول - رحمه الله -: - باب المساقاة. المساقاة هي: دفع شجر لمن يقوم عليه بجزء من الثمر. وله صور ولكن هذا معناه العام. إذاً صورة المساقاة - حتى تتصور هذه المعاملة قبل أن ندخل في الأحكام - هي أن يعطي الإنسان الذي يملك البستان الشجر كالنخل - مثلاً - إلى شخص آخر ليقوم هذا الشخص بسقي النخل والقيام عليه ومراعاته وإصلاحه إلى أن يثمر فتكون الثمرة بينهما حسب الاتفاق. يعني: بجزء من الثمر متفق عليه. إذاً هذه هي المساقاة وما زال الناس من القديم إلى يومنا هذا يعملون بها وإن كانت في هذه الأيام خفت باعتبار أن الإنسان أصبح يستطيع أن يستأجر عمالاً بدل أن يساقي على جزء من الثمرة. لكن في القديم كانت الحاجة إليها ماسة جداً وعمل الناس عليها كثير. - يقول - رحمه الله -: - تصح. أفادنا المؤلف - رحمه الله - أن المساقاة صحيحة وجائزة ومشروعة. وإلى هذا ذهب الجماهير من السلف والتابعين وتابعوهم والفقهاء السبعة وعامة علماء الأمة. بل حكي إجماعاً. على أنها معاملة مشروعة صحيحة. واستدلوا - رحمهم الله -: - بما ثبت في الصحيح أن النبي - صلى الله عليه وسلم - عامل أهل خيبر بشطر ما يخرج منها من ثمر أو زرع. واستدلوا أيضاً: - بأن الخلفاء الراشدين - رضي الله عنهم - عملوا بها. وكذلك عامة الصحابة. واستدلوا على هذا الحكم: - بأن الحاجة تدعو إليها.

= والقول الثاني: وهو للأحناف فقط: أن هذه المعاملة لا تصح. فذهبوا إلى إبطال المساقاة. واستدلوا على هذا: - بحديث رافع - رضي الله عنه - وهو صحيح - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (من كانت له أرض فليزرعها أو ليزرعها أخاه ولا يكريها على الربع أو الثلث). قالوا: والحديث صريح في النهي عن المساقاة والمزارعة. ولو كانت نسبة الربح مشاعة لقوا في الحديث: (الربع أو الثلث). والراجح إن شاء الله مذهب الجماهير بلا إشكال مطلقاً إن شاء الله. وسبب الترجيح أن هذا الحديث بينت الروايات الأخرى له وأحاديث أخرى ختلف في المخرج عن هذا الحديث كل هذه الروايات والأحاديث بينت أن النهي في هذه الحديث إنما هو نهي خاص وهو عن أن يشترط لنفسه جزءاً معيناً من البستان. كأن يشترط أن له ما على الجداول لجودة ما يخرج فيه أو ما يخرج في المكان المشمس لجودة ما يخرج فيه أو أي بقعة من البستان. فنحمل هذا الحديث على هذا المعنى والذي سوغ حمله على ذلك أن الروايات الأخرى لنفس الحديث تبين هذا المعنى. إذاً الراجح إن شاء الله هو القول الأول. - يقول - رحمه الله -: - على شجر له ثمر. يعني: تجوز المساقاة لكن لابد أن تكون على شجر ولابد أن يكون هذا الشجر له ثمر. فهم من كلام المؤلف - رحمه الله -: أن الشجر الذي ليس له ثمر لا تصح المساقاة فيه. وفهم من كلام المؤلف - رحمه الله -: أن غير الشجر كالمقاثي والخضروات لا تجوز المساقاة عليها. وإنما فقط الشجر الذي له ثمر. فالشجر يخرج ما عداه. والثمر يخرج الشجر الذي ليس له ثمر. وهذا هو مذهب الحنابلة. واستدلوا على هذا: - بأن الدليل الدال على الجواز جاء في النخل فقط وهو شجر وله ثمر فنبقى مع هذا الحديث ولا نتجاوزه إلى أنواع أخرى من النباتات. هكذا قرر الحنابلة. = والقول الثاني: أن المساقاة تجوز على كل ما فيه منفعة للمتعاملين من شجر له ثمر أو ليس له ثمر أو من نباتات لا تعتبر من الأشجار كالمقاثي ونحوها. واستدل أصحاب هذا القول على قولهم:

- بأن الشارع الحكيم إنما أجاز للمساقاة نظراً لحاجة الناس والحاجة موجودة في الشجر الذي لا يثمر والحكم في الشرع يدور نع علته وجوداً وعدماً. فما دامت الحاجة موجود فالحكم موجود. واستدلوا على ذلك: - بأن تخصيص بعض أفراد العام بحكم لا يقتضي تخصيصه بالحكم. فكون حديث خيبر نص على جواز المساقاة في النخل لا يعني منع المساقاة في غيره من الأشجار. وهذا القول الثاني هو الراجح وهو إن شاء الله المتوافق مع قواعد الشرع والمقاصد العامة. - قال - رحمه الله -: - وعلى ثمرة موجودة. يعني: وتجوز المساقاة على الثمرة بعد طلوعها ويكون المقصود بالمساقاة رعاية الثمرة والقيام عليها وتنميتها وحفظها من الآفات. واستدلوا على جواز المساقاة على الثمر الموجود: - بأنه إذا جازت المساقاة على الثمر المعدوم كما في قصة خيبر ففي الموجود من باب أولى. وهذا صحيح. - قال - رحمه الله -: - وعلى شجر يغرسه ويعمل عليه حتى يثمر: بجزء من الثمرة. ذكر المؤلف - رحمه الله - الشجر قبل أن يغرس: ليغرس. وبعد أن غرس قبل أن يثمر. وبعد أن غرس وبعد أن يثمر. فذكر المراحل الثلاث للشجرة. المرحلة الأخيرة هيي أن: يساقي على شجر لم يغرس فيقوم بغرسه والعناية به إلى أن يثمر بجزء معلوم مشاع من الثمرة. استدلوا على الجواز بدليلين: - الدليل الأول: أن هذا العمل عمل معلوم مباح فجاز العقد عليه. - الدليل الثاني: القياس على الشجر المغروس الذي يساقى عليه إلى أن يثمر. سؤال: لماذا نقيس على الشجر المغروس. لماذا أصبحت أولى. فكأنها هي الأصل؟ لأنها المذكورة في الحديث - لأن هذه الصورة دل النص على جوازها فنحن نقيس على حكم دل النص على جوازه. ولهذا السبب ذاته قدم المؤلف - رحمه الله - الحكم على الشجر الذي يساقى إلى أن يثمر وإلا فإن المنطق أن تكون أول مسألة الذي لم يغرس ثم الذي غرس ولم يثمر ثم الذي غرس وأثمر. لكنه خالف هذا الترتيب ليقدم ما ذكر في الحديث. إذاً تجوز هذه المعاملة. لكن اشترط الحنابلة لجواز هذه المعاملة أن يكون الشجر من رب الأرض. فإن كان من العامل فإنه لا يجوز. = والقول الثاني: جواز أن يكون الشجر من العامل.

وهذا القول الثاني هو الراجح واختصرنا في هذه المسألة لأنها ستأتينا في المزارعة وهي أصلاً في المزارعة. إنما يعنينا الآن أن نعرف أنه عند الحنابلة: يشترط أن يكون الغرس - يعني الشجر - من رب الأرض لا من العامل. والقول الثاني أنه يجوز من العامل. وهذا القول الثاني هو الصحيح. من المعلوم أن غالب عمل الناس على المذهب. [بمعنى] هل صاحب الأرض سيكلف العامل بأن يأتي بالنخل؟ أو هو الذي يعطيه النخل ويقول له: اغرس النخل؟ حتى يبقى النخل ملكاً لصاحب الأرض. إذاً: هذا الخلاف الفقهي قد لا يكون له رصيد كبير في الواقع. في الواقع دائماً يكون الغرس من رب الأرض حتى يبقى الشجر في الأرض ملكاً له. - قال - رحمه الله -: - وهي عقد جائز. هذه المسألة انفرد بها الحنابلة: أن المساقاة من العقود الجائزة. ولا أظن اني بحاجة إلى بيان ما معنى أن يكون العقد جائز؟ يعني: أنه له الفسخ متى شاء. = الحنابلة يرون: أن عقد المساقاة من العقود الجائزة وهو من مفردات الحنابلة. رحمهم الله. واستدلوا على هذا الحكم: - بأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال ليهود خيبر نقركم فيها ما نشاء. يعني: نبقيكم في خيبر إلى الوقت الذي ناء ثم نخرجكم منها. وجه الاستدلال؟ وجه الاستدلال من هذا الحديث أن المساقاة لو كانت من العقود اللازمة لم يطلق النبي - صلى الله عليه وسلم - لهم العقد ولوقته بوقت محدد. لأن العقود اللازمة تحتاج إلى تحديد فلما لم يحدد عرفنا أن المساقاة من العقود الجائزة. ويصدق هذا ويؤكده أن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - أخرجهم. كأنه فسخ المساقاة وأخرجهم وهذا يدل أيضاً على أنها من العقود الجائزة. - الدليل الثاني: قالوا: أن المساقاة أشبه ما تكون بالمضاربة وإذا كانت تشبه المضاربة تأخذ حكمها من حيث الجواز. = القول الثاني: وهو مذهب الجماهير أن عقد المساقاة من العقود اللازمة. واستدلوا أيضاً بدليلين: - الدليل الأول: القياس على عقد الإيجار. كأن رب الأرض استأجر العامل وإذا كان عقد المساقاة يشبه الإجارة فالإجارة من العقود اللازمة - كما سيأتينا. واستدلوا على هذا:

- بأن القول بأن المساقاة من العقود الجائزة يفضي إلى مفسدة وهذه المفسدة هي أن يفسخ رب الأرض المعاملة قبيل أخذ الثمرة فيذهب نصيب العامل من الثمرة. هذه المسألة لاشك أنها من المسائل المشكلة والمهمة جداً وعمل الناس على أنها من العقود اللازمة لأن المزارع والعامل كل منهما يتضرر لو قيل بأنه جائز. هذا من حيث الواقع. نأتي إلى الترجيح. الترجيح بين القولين: فأيهما أرجح؟ في الحقيقة المسألة فيها إشكال. لكن يظهر لي مع ذلك مع شيء من الوضوح أنها: جائزة وليست لازمة. والدليل المرجح: النص والتعليل فكل من الدليلين المذكورين للحنابلة في الحقيقة قوي: لأنك إذا تأملت ستجد أن هذا العقد أقرب إلى المضاربة منه إلى الإيجار. ما هو الدليل على أن هذا العقد أقرب إلى المضاربة من الإيجار؟ الدليل على هذا: أن من الأمور الحاكمة في العقود والموضحة لحقيقتها بالدرجة الأولى: كيفية توزيع الأرباح - ولا يحسن أن نقول أرباح يعني: - كيفية الحصول على مقابل العوض. تجد أن كيفية الحصول على المقابل يتشابه مع المضاربة. لأنها نسبة مشاعة من الأرباح بينهما الإجارة مبلغ مقطوع. وهذا التشابه في الوارد مقابل العمل يجعل المساقاة أقرب إلى المضاربة. وفي الحقيقة هذا هو الذي أوجد بالنسبة لي أنا الترجيح أنه جائز وأن قول الإمام أحمد - رحمه الله - هذا أرجح. - قال - رحمه الله -: - فإن فسخ المالك قبل ظهور الثمرة: فللعامل الأُجرة. بين المؤلف - رحمه الله - حكم الفسخ قبل ظهور الثمرة. ولم يبين حكم القفسخ بعد ظهور الثمرة. فحكم الفسخ بعد ظهور الثمرة أنه لا فسخ بل يلزم العامل بالاتمام ورب الأرض أيضاً بالإتمام. وظاهر كلام بعض الحنابلة - ألسنا نقول أن عقد المساقاة من العقود الجائزة فكيف يقول الحنابلة أنه بعد ظهور الثمرة لا فسخ.؟ ظاهر كلام بعض الحنابلة: أن الفسخ صحيح فإذا فسخا انفسخ العقد لكن مع الفسخ نلزم العامل بالاتمام ورب الأرض بالصبر.

وفي الحقيقة إذا قلنا بالفسخ مع الإلزام بالاتمام أصبح الفسخ لا معنى له. (إذاً أصبح الفسخ لا معنى له إذا كنت ستلزم العامل بالاتمام ورب الأرض) لكن من وجهى نظري أن المخرج من هذا أن نقول أن عقد المساقاة عقد جائز لكن قد يعرض للجائز ما يجعله لازماً. كما تقدم معنا في الوكالة فالوكالة عقد جائز لكن لا تنفسخ قبل علم الموكل بسبب عارض وهذا العارض هو الضرر الداخل على الموكل والمشتري. كذلك نحن نقول هنا الأصل في المساقاة كما أنه بالاتفاق عقد الوكالة عقد الوكالة جائز مع ذلك في بعض الصور صار لازم فكذلك هنا نقول هو جائز لكن العكس يصبح في بعض الصور لازم. هذا الذي يظهر لي من وجه الجواب. أما كونه يصبح لازماً بعد ظهور الثمرة فهذا صحيح ولا أظن عالماً يخالف في هذا لأنه بعد ظهور الثمرة تعلق حق العامل بها ورب الأرض بها. كلاهما: لا العامل يجوز له أن ينصرف ولا رب الأرض. فإذا قال العامل أنا لا أريد جزئي من الثمرة نقول ولو كنت لا تريد جزئك من الثمرة يجب أن تبقى وأن تكمل عملك إلى أن يحصل لرب الأرض جزئه من الثمرة. وكذلك يقال لرب الأرض. - قال - رحمه الله -: - فإن فسخ المالك قبل ظهور الثمرة: فللعامل الأُجرة. تبين معنا حكم بعد. والآن نبين الحكم قبل: إذا فسخ رب الأرض قبل فعليه أجرة عمل العامل من حين تم العقد إلى أن تم الفسخ. تعليل ذلك: - أن رب الأرض هو الذي تسبب في فسخ العقد ولولاه لاستحق العامل الثمرة. هذا الوجه الأول. - الوجه الثاني: أنه مهما يكن من أمر فإن ظهور الثمرة بعد ذلك للعامل فيه دور. فاستحق العوض على هذا الدور. إذاً استدلوا بدليلين وكلامهم صحيح. - ثم قال - رحمه الله -: - وإن فسخها هو: فلا شيء له؟ يعني: وإن فسخ العامل المساقاة فلا شيء له. - لأنه رضي بإسقاط حقه. وهذه العبارة تحمل على قبل أو بعد ظهور الثمرة؟ قبل. أما بعد فتبين معنا أنه لا يجوز له أصلاً أن يترك العمل. وقولنا: أن يترك العمل أدق من أن نقول لا يجوز أن يفسخ. - قال - رحمه الله -: - ويلزم العامل كل ما فيه صلاح الثمرة. انتقل المؤلف - رحمه الله - إلى بيان عمل كل واحد من رب الأرض والعامل وبدأ بالعامل لأن عمله هو الأكثر.

والعامل عليه جل العمل. وقد اتفق الأئمة الأربعة على أن العمل كله المحدد من نصيب العامل وأنه لا يجوز أن يشترط على رب الأرض أي عمل. إذاً: اتفق الأئمة الأربعة على أن العمل يلزم به من؟ العامل وأنه لا يجوز أن نشترط على رب الأرض أي نوع من أنواع العمل. والسبب في ذلك: أن اشتراط جزءاً من العمل على رب الأرض ينافي موضوع المساقاة فإن موضوع المساقاة أن تكون الأرض من رب الأرض وأن يكون العمل من العامل. لكن المؤلف - رحمه الله - يريد بعد أن قرر أن العمل على العامل يريد أن يضبط ما هي الأعمال التني تجب على العامل. - يقول - رحمه الله -: - كل ما فيه صلاح الثمرة وزيادتها. كل ما فيه صلاح الثمرة وزيادة الثمرة فهو من مهام العامل. وهذا ضابط مريح. هناك ضابط آخر: يقرب أكثر. يقول: كل ما يتكرر كل سنة فهو من مهمام العامل وما يعمل مرة واحدة فهو من مهام رب الأرض. وهذا يعطي انطباعاً وتصوراً أوضح عن أعمال العامل. وهناك ضابط ثالث يقول: أنه كل ما دل العرف على أنه من أعمال العامل فهو من أعماله. وإلا فهو على رب الأرض. وهذه الأقوال ليست أقوالاً متناقضة بل أقوال متقابة ويصدق بعضها بعضاً وتكمل المعنى. فالذي يتكرر كل سنة هو نفسه الذي يعرف في العرف أو وجد العرف على أنه من أعمال العامل. ومع ذلك أرلد المؤلف - رحمه الله - أن يزيد الأمر وضوحاً بالتعداد: - فقال - رحمه الله -: - من حرث. الحرث من مهام العامل بلا إشكال. وبالإجماع. والبقر الذي يحرث به عند الحنابلة على العامل. - لأن الحرث وآلته من مهام العامل. وهذا يقتضي اليوم أن آلات الحرث على العامل. لكن العرف اليوم أن السيارة الكبيرة التي تحرث الأرض تكون عادة موجودة في المزرعة. فإن تقبل العامل أرض المساقاة وليس فيها آلة حرث: فعند الحنابلة: الملزم بآلة الحرث هو العامل لأن هذا من مهامة الأساسية. - يقول - رحمه الله -: - وسقي. يعني: وعليه أن يسقي الشجر وهذا واضح. - يقول - رحمه الله -: - وزِبار. الزبار هو: تقليم الأغصان الميتة بالنسبة للعنب والسعف الميت بالنسبة للشجر. وهو بقاعدة عامة: أخذ ما يحسن أخذه من الشجر. سواء كانت عنباً أو كان نخلاً. - قال - رحمه الله -: - وتلقيح.

التلقيح على العامل: عليه هو أن يلقح الشجر. إذا كانت من الأنواع التي تلقح وإذا كانت من الأنواع التي لا تلقح فليس من عمل لا رب الأرض ولا العامل لكن تلاحظ أن اتجاه المؤلف - رحمه الله - في الكلام عن النخيل. كأنه يغلب عليه الكلام عن النخيل لأن غالب المساقاة على النخيل ولأن النص إنما جاء في النخيل. - قال - رحمه الله -: - وتشميس. وإصلاح موضعه. يعني: عليه أن يشمس ما يناسب تشميسه. وعليه أن يصلح موضع التشميس بأن يمنع الآفات عنه والدواب وأن يجعله في مكان ظاهر للشمس ... إلى آخره. - قال - رحمه الله -: - وطرق الماء. يعني وعليه إصلاح طرق الماء. يجب على العامل إصلاح طرق الماء بأن يسهل وصول الماء إلى أماكنه من الشجر. اليوم التمديدات التي تعمل في المزارع تكلف مبالغ طائلة في الحقيقة ولا أعرف العرف في هذا: هل إذا استأجر الإنسان مزرعة عليه هو أن ياتي بالتمديدات أو على رب الأرض أن تكون موجودة يعني لا أعرف العرف لكن يبدو لي أن مثل هذا الأمر لما كان باهض الثمن أصبح اليوم لابد من الاتفاق المسبق عليه. وهذا يؤكد القول الثالث: وهو أن المسألة ترجع إلى أعراف الناس ونما يتعارفوه بينهم في الأعمال المنوطة بكل من العامل ورب الأرض. - يقول - رحمه الله -: - وحصاد. عليه الحصاد. عليه أن يحصد ما يناسب الحصاد وعليه أن ينقي أخواض الجر من النباتات الصغيرة التي تفسد على الشجرةو طلعها وثمرتها. - قال - رحمه الله -: - ونحوه. يعني ونحو هذه الأعمال اتي جرى العرف بأنها من العامل. من أبرز الأعمال التي تكون على العامل: - حفظ الثمرة بعد مزجها إلى أوان التقسيم فهذا من أعمال العامل. وإن أخل أو فرط أو تعدى فيضمن. فلا تنتهي مهمة العامل بنضج الثمرة وصلاحيتها للأكل أو للبيع بل مهامه تستمر إلى أن يتم التقسيم. * * مسألة/ لم يذكر المؤلف - رحمه الله - الجذاذ وهو أمر مهم جداً. = عند الحنابلة: أن الجذاذ ليس على العامل وليس على رب الأرض بل على كل منهما أن يجذ نصيبه. فمعنى هذا: أن العلاقة انتهت إذا حان أوان الجذاذ. فيمكن رب الأرض ويقول هذا لك وهذا لي وانتهت مهمة العامل. فعلى كل منهما أن يحذ نصيبه.

= والقول الثاني: أنها من مهام العامل وأنه لا يترك العمل إلا بعد إيصال الثمرة إلى رب الأرض. مجنية من الشجرة. من حيث الدليل والتعليل والنظرة الفقهية الراجح مذهب الحنابلة. وجه ذلك: أن مهمام العامل تتعلق بتنمية الثمرة وإصلاحها إذا تم هذا الهدف انتهت مهمة العامل. والجذاذ ليس من إصلاح الشجرة ولا من القيام عليها ولا من تنمية الثمرة وإنما هو أخذ للثمرة فقط. فمن حيث الدليل الأقرب مذهب الحنابلة وهو أنه ليس من أعمال العامل بل كل واحد منهما يأخذ نصيبه. لكن بالنسبة للواقع فإني أرى أنه يجب - يكاد يقرب من الوجوب - الاتفاق المسبق على جني الثمر. وجه ذلك: أن تحصيل التمر من الشجر اليوم أصبح يكلف مبالغ طائلة جداً وإذا كان يكلف هذه المبالغ فيجب أن يكون هناك اتفاق مسبق على هذا القضية حتى لا يكون هناك اختلاف فإن لم يكن اتفاق فكما قلت لكم أرى أن مذهب الحنابلة أرجح. انتهى المؤلف - رحمه الله - من بيان ما يلزم العامل ولاحظت أنه ختم الأعمال بقوله: (ونحوها) فإذاً هو لا يريد الحصر وإنما يريد التمثيل. - قال - رحمه الله -: - وعلى رب المال ما يصلحه: كسد حائط وإجراء الأنهار والدولاب ونحوه. أيضاً أعمال رب الأرض لها ضابط ولو أنه ذكره - رحمه الله - كما ذكر ضابط العامل لكان أحسن وأوضح. الضابط بالنسبة لرب الأرض: أن عليه كل ما فيه حفظ الأصل. فأي عمل يتعلق بحفظ الأصل فهو من أعمال فما ذكره المؤلف - رحمه الله - من سد الحائط فهذه من اعمال رب الأرض لأن هذا يتعلق بحفظ الأصل. - أصل الملك. - قال - رحمه الله -: - وإجراء الأنهار والدولاب. يعني أن على رب الأرض كل آلة تأتي بالماء. أو بعبارة أخرى: على رب الأرض تحصيل الماء. ولذلك كمل قلنا أن الحرث يقتضي أن البقر على العامل هنا نقول أن الحيوانات التي تدير الدولاب من مهام رب الأرض. قياساً عليه نقول: الآلات الحديثة لإخراج الماء - الدينمو والمواطير والمكائن التي تخرج الماء وما يتبعها من مواسير ونحوه هو من مهام رب الأرض وهذا لا إشكال فيه لا من حيث العرق ولا من حيث النظرة الفقهية لأن العامل لا مصلحة له بأن يؤسس في تامزرعة لإخراج الماء وهو سيمكث فيها سنة.

إذاً كل ما من أنه تحصيل الماء فهو من مهام رب الأرض. والقاعدة العامة هي التي ذكرت لك وهي: أن عليه كل ما فيه حفظ الأصل. فصل [في أحكام المزارعة] - فقال - رحمه الله -: - (فصل) انتهى المؤلف - رحمه الله - من المساقاة وانتقل لقرينتها وهي المزارعة. والمزارعة هي دفع الأرض لمن يزرعها بجزء مشاع من الزرع. فيقول رب الأرض للعامل: دونك هذه الأرض ازرعها قمحاً أو شعيراً أو غيره. وما يخرج من هذا الزرع فهو بيني وبينك مناصفة. = ذهب الجماعير إلى مشروعية المزارعة. واستدلوا على هذا: - بأن النبي - صلى الله عليه وسلم - عامل أهل خيبر - كما تقدم معنا - بشطر ما يخرج منها - من ثمر أو زرع. فهو أيضاً ساقاهم وزارعهم - صلى الله عليه وسلم -. واستدلوا على هذا: - بما أثر عن غير واحد من السلف أنهم قالوا: ما من بيت في المدينة المنورة إلى وزارع أهله. واستدلوا على هذا أيضاً: - بأن عمر - رضي الله عنه - وعلي وابن مسعود وغيرهم تعاملوا بالمزارعة. = والقول الثاني: ان المزارعة لا تشرع. واستدلوا على هذا بدليلين: - الدليل الأول: ما جاء في الصحيح: ان النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى عن المحاقلة. والمحاقلة هي المزارعة. - والدليل الثاني: الحديث الذي تقدم معنا: من كان له أرض فليزرعها أو فليزرعها أخاه ولا يكريها أخاه بالثلث أو بالربع. والراجح في هذه المسألة هو الراجح في المسألة السابقة وهو أن المعاملة مشروعة عمل بها النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه. وأما الأحاديث الناهية فتحمل على صورة خاصة منهي عنها وهي المزارعة على جزء معلوم من الأرض. - قال - رحمه الله -: - وتصح المزارعة: بجزء معلوم النسبة مما يخرج من الأرض لربها أو للعامل، والباقي للآخر. قوله - رحمه الله -: (بجزء معلوم النسبة) يعني: مشاعاً. بجزء مشاع معلوم النسبة. وكأنه - رحمه الله - اكتفى ببيان أن هذه الأجزاء تكون دائماً مشاعة وإلا لابد أن يعلم أن الجزء المعلوم النسبة لابد أن يكون مشاعاً. فلو أخذ ربع الأرض المحدد لبطلت بالإجماع. لو أخذ الربع الشمالي أو الشرقي أو الربع الذي في الوسط وعينه وحدده لبطلت. لكن يجب أن يأخذ جزءاً مشاعاً.

لكن المؤلف - رحمه الله - ترك كلمة مشاع لأنه بيينها في المعاملات السابقة. قوله - رحمه الله -: (مما يخرج من الأرض لربها أو للعامل والباقي للآخر) يعني أنه إذا شرط لأحدهما فالباقي للآخر ولا نحتاج إلى تسميته. ودليل ذلك: - أن الحق لا يخرج عنهما فإذا حدد نصيب أحدهما فالباقي للآخر. - قال - رحمه الله -: - ولا يشترط: كون البذر والغراس من رب الأرض، وعليه عمل الناس. = ذهب الحنابلة إلى أنه لا يشترط أن يكون البذر من رب الأرض بل يجوز أن يكون من العامل. واستدلوا على هذا بدليلين: - الدليل الأول: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - عامل أهل خيبر بشطر ما يخرج منها من الزرع ولم يذكر اشتراط أن يكون البذر منه - صلى الله عليه وسلم -. - الدليل الثاني: أنه جاء في النص ما يدل على أن البذر من اليهود - وهو قول الراوي: عن عمله - صلى الله عليه وسلم -: بشطر ما يخرج منها يعتملوها بأموالهم. فدل هذا على أنهم زرعوها بأموالهم. - الدليل [الثاني]: ما صح عن عمر - رضي الله عنه - أنه عامل الناس على أنه إن جاء عمر بالبذر فله الشطر وإن جاءوا هم بالبذر فله كذا كذا. فدل الحديث على جواز أن يكون البذر من رب الأرض أو من العامل لأن عمر - رضي الله عنه - جوَّز الأمرين. - الدليل [الثالث]: أن الحاجة تدعو إلى ذلك. إذ يكون العامل لديه البذر ورب الأرض ليس لديه بذر. = القول الثاني: أنه يشترط لصحة المزارعة أن يكون البذر من رب الأرض. واستدلوا على هذا: - بأن المزارعة والمساقاة تشبه المضاربه ونحن نشترط في المضاربة أن يكون المال من رب المال. فكذلك في المزارعة تكون الأرض والبذر من رب الأرض وإنما يكون من العامل شيء واحد فقط وهو العمل. والجواب على هذا الدليل: أن هناك فرقاً واضحاً بين المال في المضاربة والبذر في المزارعة لأن المال في المضاربة يعود إلى صاحبه وهو رب المال بينما البذر لا يعود إلى صاحبه. والراجح القول الأول ... ((الأذان)) - قوله - رحمه الله -: - والغراس. الغراس هو دفع شجر لمن يغرسه بجزء من الشجر لا من الثمر. وهذا هو الفرق بين الغراس والمساقاة.

باب الإجارة

الخلاف في الغراس كالخلاف في المزارعة تماماً من حيث اشتراط كون الغرس من رب الأرض أو العامل. وتقدم أن الراجح أنه يجوز أن يكون البذر من أيهما فكذلك يجوز أن يكون الغراس من رب الأرض أو من العامل. إذاً لا نحتاج إلى إعادة الخلاف في الغراس بعد أن عرفنا ماهو. باب الإجارة. - قال - رحمه الله -: - باب الإجارة الإجارة من أنفع العقود التي من الله سبحانه وتعالى بها على المسلمين وفيها توعة على الناس عظيمة جداً وهي من محاسن التشريع وكذلك المزراعة والمساقاة إلا أن الحاجة للإجارة أشد وأكثر. الإجارة مشتقة من الأجر والأحر معناه في لغة العرب: العوض. حقيقة الإجارة هي أنها بيع منافع كما أن حقيقة البيع هو أنه بيع أعيان. فالفرق بينهما فقط في أن هذا بيع أعيان وهذا بيع منافع. وأما تعريفها في الشرع في: بذل العوض في منفعة معلومة أو عمل معلوم. وهذا التعريف من أخصر التعريفات وأكثرها دلالة على المراد وأكثرها وضوحاً. والإجارة من العقود المشروعة بإجماع المسلمين لم يخالف فيه أحد. ودل عليه الكتاب والسنة. - أما الكتاب فقوله تعالى: (فإن أرضعن لكم فآتوهن أجورهن) فسمى هذا العوض أجر وذلك دال على عقد الإجارة. - وأما من السنة فقوله - صلى الله عليه وسلم -: عن ربه تبارك وتعالى: (ثلاثة أنا خصمهم يوم القيامة) قال: (ورجل استأجر أجيراً فاستوفى منه ولم يعطيه أجره). وأما الإجماع فهو محكي من أكثر من واحد من أهل العلم. إذاً عرفنا الآن حقيقة الإجارة في اللغة وفي الشرع والحقيقة الفقهية للإجارة لأن هذا سنحتاج إليه في مسائل كثيرة والأجلة الدالة على مشروعيته. - يقول - رحمه الله -: - تصح بثلاثة شروط. (أحدها) معرفة المنفعة. معرفة المنفعة: من شروط الإجارة المتفق عليها. ودليل اشتراط معرفة المنفعة أن المنفعة في عقد الإجارة هي المعقود عليه كما أن العين في عقد البيع هو المعقود عليه. فيجب أن نعرف هذا المعقود عليه أي المنفعة كما يجب أن نعرف العين المعقود عليها. وهذا الحكم كما قلت لكم بالإجماع. يعني: اشتراط معرفةو المنفعة. - يقول - رحمه الله -: - كسكنى دار وخدمة آدمي وتعليم علم. تحصل المعرفة بأحد أمرين: - الأمر الأول: العرف. ونكتفي بهذا سبحانك اللهم وبحمدك أشهد أن لا إله إلا أنت أستغفرك وأتوب إليك ...

الدرس: (35) من البيع قال شيخنا حفظه الله: بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين. بالأمس أخذنا أول باب الإجارة وأخذنا التعريف والمشروعية وتوقفنا عند الشروط وتوقفنا عند الشرط الأول وهو: معرفة المنفعة. وأخذنا الدليل على اشتراط هذا الشرط لصحة الإجارة. وتوقفنا على مسألة وهي: بماذا تحصل المعرفة؟ تحصل المعرفة بأحد طريقين: - الطريق الأول: العرف. وهذا الذي ذكره المؤلف - رحمه الله - في الأمثلة فقوله: (كسكنى دار وخدمة آدمي وتعليم علم) فهذه المنافع تعرف بالعرف. والمنفعة التي تعرف بالعرف نكتفي بمعرفتها بالعرف ولا نشترط الوصف. - الطريق الثاني: الوصف. وهو الذي لم يذكر له المؤلف - رحمه الله - مثالاً ومن المعلوم أنه نوع الأمثلة بحسب الطرق لكان أسلم. مثاله: بناء الجدار. فإذا استأجر رجلاً ليبني له جداراً فهذه المنفعة يشترط فيها الوصف بأن يقول جدار: مكانه كذا وبناءه من المادة الفلانية وطوله كذا وعرضه كذا ويصفه بما يتبين معه المنفعة المطلوبة. إذاً: تبين لنا الآن كيف نعرف المنفعة في الإجارة وأنها بأحد طريقين: - العرف. وهو الأكثر. - والوصف. وهو الأقل. - قال - رحمه الله -: - (الثاني) معرفة الأجرة. الشرط الثاني: معرفة الأجرة. والدليل على هذا الشرط من ثلاثة أوجه: - الوجه الأول: الإجماع. - والوجه الثاني: القياس على البيع. - والوجه الثالث: (وهو الأول في الحقيقة) أنه روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه نهى عن استئجار الأجير إلا بمعرفة أجرته. وهذا الحديث اختلفوا في رفعه ووقفه وذهب الشيخ الحافظ أبو زرعة إلى أن الحديث موقوف على ابن مسعود ولم يصحح رفعه.

(وأقترح عليكم مراجعة كلام الشيخ في علل ابن أبي حاتم يمكن يكون في خمسة أسطر فقط أو أقل ولكن مفيد حتى تعرف طريقة الإمام أبو زرعة وأبو حاتم في تعليل هذا الحديث وسيكون ذهنك مشدوداً أكثر لما تقرأ في حديث يتعلق بموضوعنا). إذاً: ذهب أبو زرعة إلى أن الحديث موقوف على ابن مسعود. قلت ويظهر لي والله أعلم وبوضوح أنه موقوف ولكن يظهر لي أنه مما لا مجال للرأي فيه. وإذا صح أنه لا مجال للرأي فيه أخذ حكم المرفوع. وعلى كل حال هو دليل صحيح سواء حكمنا بوقفه مع الحكم عليه بالرفع أو حكمنا عليه بوقفه واعتبرناه فتوى من ابن مسعود والدليل إن شاء الله يصلح أن يتمسك به الإنسان. * * مسألة/ معرفة الأجرة تحصل بما يحصل به معرفة الثمن في البيع. فالمباحث التي ذكرناها في الثمن في البيع تأتي معنا في الأجرة في عقد الإجارة. فما تحصل به المعرفة هناك تحصل به المعرفة هنا. - ثم قال - رحمه الله -: - وتصح في الأجير. لما قرر المؤلف - رحمه الله - أن معرفة الأجرة شرط من شروط صحة الإجارة بدأ في الاستثناء كما هي العادة. لأن الفقهاء - رحمهم الله - يقررون الحكم ثم يذكرون المسائل المستثناة. ـ المسألة الأولى: أن يستأجر الأجير بطعامه وكسوته. أي يجوز أن يستأجر الإنسان العامل بطعامه وكسوته أي وليس من الجهالة. يعني: في الأجرة. استدل الحنابلة على هذا: - بأن أبو بكر الصديق وعمر بن الخطاب وابن مسعود استأجروا الأجير بطعامه وكسوته. فدل على أن هذا مشروع وليس بقادح في شرط معرفة الأجرة. ـ المسألة الثانية: - يقول - رحمه الله -: - والظئر. الظئر: هي المرضع سواء كانت هي الأم أو سواها. والدليل على صحة هذا الحكم: - قوله تعالى: (وعلى المولود له رزقهن وكسوتهن بالمعروف) فجعل مقابل الإرضاع الرزق والكسوة بالمعروف. فدل هذا الدليل على صحة استثناء الظئر. - قال - رحمه الله -: - بطعامهما وكسوتهما. يشترط بالنسبة للظئر - يشترط لصحة الحكم: معرفة المدة. وظاهر كلام المؤلف - رحمه الله - أنه يجوز استئجار الأجير والظئر بالطعام والكسوة فقط. فلا يجوز استئجار الدابة بعلفها. ولا السيارة بالنزين والزيت. ولا أي شيء آخر إلا مسألة الأجير والظئر.

= والقول الثاني: أنه يجوز استئجار كل ما يشبه الأجير والظئر. قيجوز أن يستأجر الدابة بعلفها. - لأن دليل الجواز لم يقصر الحكم على هذين النوعين بدليل تعدية الصحابة الحكم من الظئر إلى الأجير. فدل على أنهم رأوا علة الحكم وقاسوا عليه ما يشبهه. فنقول: كل ما يشبه هذه المسألة صحيح والحاجة داعية إليه. ونصر هذا القول ابن القيم - رحمه الله - وبين قوة هذا القول وأنه لا فرق بين استئجار الدابة بالطعام وبين استئجار المرأة للإرضاع بالكسوة والطعام وأن المسألة واحدة. - قال - رحمه الله -: - وإن دخل حماماً أو سفينة أو أعطى ثوبه قصارا أو خياطاً بلا عقد: صح بأجرة العادة. هذه المسائل المجموعة كلها لها حكم واحد: وهي: أنه يصح العقد ولو بلا لفظ وإنما بمجرد العمل. هذا القاسم المشترك بين هذه المسائل الأربع. واستدلوا على هذا الحكم: أي: على صحة الإجارة في هذه المسائل بمجرد العمل ولو بلا لفظ: - بأن العرف قام مقام التصريح في تصحيح وثتبيت هذه العقود. - يقول - رحمه الله -: - وإن دخل حماماً. الحمام هو المكان المخصص لاغتسال الناس. وهو موجود في البلدان قديماً في الشام ومصر والعراق وفي كل مكان والآن انحصر ولا يوجد أبداً فيما أعلم إلا في الشام - هكذا فهمت من بعض الناس أنه لا يوجد إلا في هذه المدينة فقط. وكانت هذه الحمامات أماكن عامة يشترك فيها الناس والغرض منها الاغتسال بأجرة معلومة. فإذا دخل الإنسان هذا الحمام وفوراً بدأ بالاغتسال وانتفع بما في الحمام من ماء حار وصابون وآلات بدون أن يعقد مع صاحب الحمام فالعقد صحيح ولو بلا لفظ. - لأن العرف جار على تصحيح العقد بمجرد الاغتسال. - ثم قال - رحمه الله -: - أو سفينة. يعني: إذا ركب الإنسان في السفينة لنقله من شاطيء إلى شاطيء بلا عقد مع رب السفينة فإن العقد صحيح بمجرد الركوب. - لأنه وضع نفسه لنقل الناس فدل العرف على تصحيح عقده بمجرد الركوب. ولا يخفى عليكم أنه تستوي بعض المواصلات الحديثة في هذا الحكم مع رب السفينة مثل لو ركب القطار فإنه لا يوجد عقد مطلقاً وإنما يدفع التذكرة مثل لو ركب مع أصحاب التكاسي بلا كلام فكذلك نفس الحكم.

إذاً: كل ما جرى العرف على أنه يستأجر فالعمل والركوب معه صحيح. - يقول - رحمه الله -: - أو أعطى ثوبه قصارا أو خياطاً .. إذا أعطى ثوبه قصاراً ليغسله أو خياطاص ليخيطه بلا عقد لفظي: صح. - لأنهم وضعوا أنفسهم لهذا العمل. أي: ليغسلوا ثياب الناس وليخيطوا ثياب الناس. واليوم العمل على هذا تجد الإنسان يدخل ويعطي ثيابه الغسال بلا عقد بينه (يعني: بلا عقد لفظي). اكتفاءً بدلالة العرف. فهذا معنى قول المؤلف - رحمه الله - بلا عقد. يعني: في المسائل السابقة: (صح بأجرة العادة). فإذا اختلفوا في الأجرة فالعقد صحيح والمرجع في تحديدها إلى العرف. - قال - رحمه الله -: - (الثالث) الإباحة في العين. يشترط في صحة الإجارة أن تكون العين مباحة النفع مطلقاً. ومعنى: (مطلقاً) أي: لا في حال الضرورة ولا في حال الحاجة. مثال للضرورة/ آنية الذهب. فآنية الذهب اتخاذها محرم ويجوز عند الضرورة. مثال الحاجة/ الكلب. الكلب محرم اقتناؤه والانتفاع به. إلا في حال الحاجة. ففي حال الحاجة يجوز اقتناء الكلب للراعي أو للسقي أو للحراسة ولا يجوز في غير حال الحاجة. وما أبيح في حال الضرورة أو في حال الحاجة فإنه لا يتعبر مباحاً إباحة مطلقة فلا يجوز بناء على ذلك أن يستأجر لأنه يشترط فيما يستأجر أن يكون مباحاً إباحة مطلقة. وهذه الأعيان ليست مباحة إباحة مطلقة. بعبارة أخرى: إذا قيل لك: ما حكم استئجار الكلب للحراسة؟ فالجواب: أنه استئجار الكلب للحراسة لا يجوز لأنه لا يجوز أن نستأجر إلا مباح النفع إباحة مطلقة والكلب يباح إباحة خاصة للحاجة. إذاً عرفنا الآن مذهب الحنابلة ووجهة نظرهم في الأعيان التي يجوز أن تستأجر والتي لا يجوز. الدليل على ذلك: - قوله تعالى: (ولا تعاونوا على الإثم والعدوان) واستئجار الممنوع من التعاون على الإثم والعدوان. = والقول الثاني: إباحة استئجار ما يباح نفعه في حال الحاجة أو الضرورة في حال الحاجة أو الضرورة. - في وقت إباحته. وهذا القول وجه عند الحنابلة ورجحه صراحة ابن حزم - رحمه الله -. استدل هؤلاء:

- أن هذه الأعيان في حال الحاجة تصبح منافعها مباحة. ونحن نقول: يشترط في العين أن تكون مباحة النفع وهذه مباحة النفع حين الاستئجار. وهذا القول وجيه وقوي وراجح لأنه ينظر إلى العلة في المنع. بناء على هذا: ما حكم استئجار الكلب للزينة؟ لا يجوز بالإجماع. ما حكم استئجار الكلب للرعي؟ يحرم عند الحنابلة. ويجوز على القول الثاني. ما حكم استئجار الرجل للحرير للبس؟ لا يجوز. وما حكمه إذا أراده لأن فيه حكة أو مرض؟ يجوز عند غير الحنابلة. إذاً: تصورنا هذه المسألة وهي مسألة كثيرة الحاجة إليها فكثيرة هي الأعيان التي تباح في حال وتمنع في حال. فالآن عرفنا هل يجوز أن نستأجر هذه الأعيان أو لا يجوز؟ - قال - رحمه الله -: - فلا تصح على نفع محرم: كالزنا والزمر والغناء وجعل داره كنيسة أو لبيع الخمر. لا يجوز بالإجماع استئجار العين لعمل محرم. لدليلين: - الأول: قوله تعالى: (ولا تعاونوا على الإثم والعدوان). - والدليل الثاني: وهو دليل فقهي يحتاج إليه الإنسان في كثير من التعليلات - يعني: على منواله - التعليل يقول الفقهاء: ((أن المنفعة المحرمة المطلوب شرعاً إبطالها وإتلافها واستئجارها عكس هذا المطلوب. طبيعي أن حكم استئجار المحرمات ظاهر للعامي والعالم. لكن هذا التعليل يساعد في معرفة مسائل أخرى ويدرب الذهن على كيفية تعليلات الفقهاء للأحكام الفقهية التفصيلية. نأتي للأمثلة التي ذكرها المؤلف - رحمه الله -. - قال - رحمه الله -: - كالزنا. لا يجوز الاستئجار لمعصية الزنى بالإجماع. والمال المكتسب في هذا العمل سحت وهو من أكل المال بالباطل. وأمره أوضح من أن يبين. - قال - رحمه الله -: - والزمر. الزمر. هو استخدام آلة المزمار. فلا يجوز استئجار من يستخدم أو استئجار نفس الآلة للاستخدام وهذا الاستئجار محرم وهو سحت ومن أكل المال بالباطل نسأل الله العافية والسلامة. ولو أن المؤلف - رحمه الله - قال بدل الزمر: (وآلة الطرب) لكان أجمل وأوسع لأن هذا الحكم لا يختص بالمزمار وإنما يتناول جميع آلات الطرب فكلها محرمة وتحريمها مغلظ. - قال - رحمه الله -: - والغناء. المقصود بالغناء هنا أحد أمرين:

- إما الغناء المصاحب لآلات اللهو والطرب. فهذا محرم عند جماهير السلف والخلف والخلاف فيه شاذ ولا عبرة به. وذلك لوضوح النصوص الصريحة وفتاوى الصحابة الواضحة ولاشك في أن الغناء محرم وأن الخلاف فيه شاذ. - القسم الثاني من الغناء: الغناء الذي لا يصاحب آلات اللهو ويكون محرماً لما فيه من الألفاظ المحرمة. - قال - رحمه الله -: - وجعل داره كنيسة. لا يجوز تأجير من أراد أن يتخذ الدار كنيسة في بلاد المسلمين. وهو محرم. وتقدم معنا في كتاب الجهاد الإجماع على تحريم إنشاء الكنائس في بلاد المسلمين. - نحن نتحدث عن إنشاء الكنائس فهذا محرم بالإجماع. بناء عليه: لا يجوز أن نؤجر الدار لشخص يريد أن يتخذها كنيسة وذلك للإجماع على التحريم ولأن في هذا تمكين لهم بالشرك لأن الكنائس تتخذ للشرك والتثليث. - ثم قال - رحمه الله -: - أو لبيع الخمر. لا يجوز أن نستأجر آلة لبيع الخمر أو لنقل الخمر. والأجرة محرمة. لأن في هذا أعظم إعانة على المنكر وهو شرب الخمر. بناء على هذا: لا يجوز للإنسان إذا كان في غير بلاد المسلمين أن يتقبل العقود التي فيها نقل للخمور. وروي عن بعض الأئمة أنه إذا كان ينقل الخمر للذمي فلا بأس. وأنا أنزه هذا الإمام عن أن تروى عنه هذه الفتوى وأعتقد جازماً كما قال بعض الفقهاء المتأخرين أنها فتوى خطأ - يعني: منسوبة إليه خطأ. لأن نقل الخمر للمسلم والذمي هو كذلك من الإعانة على المعصية لأنا نرى أن المسلم والذمي كلاهما لا يجوز له أن يشرب الخمر. على كل حال نقل الخمر محرم والأجرة عليه فاسدة. - قال - رحمه الله -: - وتصح: إجارة حائط لوضع أطراف خشبه عليه. تصح إجارة الحائط لوضع أطراف الخشب عليه. - لأن هذا النفع نفع معلوم. ولكن يتشرط لصحة استئجار الحائط معرفة المدة. وظن بعض الفقهاء أنه لا يشترط عند الحنابلة معرفة المدة في وضع الخشب على جدار الحائط والواقع أنها تشترط. وصرح بهذا الحكم غير واحد من الحنابلة: أنه يشترط لصحة هذه الإجارة معرفة مدة استئجار الحائط لوضع الخشب فيه. والمؤلف - رحمه الله - مقصوده باستئجار الحائط لوضع الخشب فيه: أي: في الحالات التي لا يجب على الجار أن يبذل جداره لجاره.

فإن وجب عليه فإنه يحرم عليه أخذ الأجرة. - قال - رحمه الله -: - ولا تؤجر المرأة نفسها: بغير إذن زوجها. لا يجوز للمرأة أن تؤجر نفسها بغير إذن زوجها بل يشترط لصحة العقد إذن الزوج. وتعليل ذلك: - أن في تأجير المرأة نفسها للغير تفويت لحقوق الزوج وتفويت لمصالحه فلا يجوز إذن. وعلم من تعليل الحنابلة وغيرهم من الفقهاء: أنها إذا أجرت نفسها على وجه لا تخل به بحقوق الزوج فإنه لا يشترط رضى الزوج. فإذا أبرمت عقد إجارة لعمل شيء داخل المنزل لا يفوت حقوق وحظوظ الزوج فإنه لا يشترط رضا الزوج والمال ملكها لها أن تتصرف فيه كما شاءت. تبين معنا الآن أن طلب الزوجة الوظيفة خارج البيت إما للتدريس وإما وظيفة في أي دائرة أخرى أنه يشترط فيه رضى الزوج لأنه لا يمكن ان تخرج للتدريس أو للعمل أو لأي عمل آخر طيلة الصباح إلا مع تفويت لبعض حقوق الزوج إما فيما يتعلق بالبيت أو فيما يتعلق بالأولاد أو فيما يتعلق بالزوج نفسه. فإذاً يشترط للعمل الخارجي أن يرضى الزوج. أما العمل الداخلي فهو ينقسم إلى قسمين: - إن كان يضر بحقوق الزوج فإنه لابد من رضاه. - وإن كان لا يضر فإنه لا يشترط رضاه. فصل [في أحكام العين المؤجرة] - قال - رحمه الله -: - فصل. - ويشترط في العين المؤجرة (1) معرفتها برؤية أو صفة: في غير الدار ونحوها. عقد المؤلف - رحمه الله - هذا الفصل لبيان شروط العين المؤجرة وهي خمسة. وهذا نظير ما تقدم معنا في البيع. حيث تحدث أولاً عن الثمن ثم تحدث عن السلعة كذلك هنا تحدث عن الأجرة ثم سيتحدث عن العين المؤجرة. الشرط الأول: معرفة العين المؤجرة. والمعرفة تحصل بأحد طريقين: - إما الرؤية. - أو الصفة. فتشترط الرؤية في كل عين لا يمكن أن توصف وصفاً دقيقاً. ونكتفي بالوصف في كل عين يمكن أن توصف وصفاً دقيقاً. ولذلك: عبارة المؤلف - رحمه الله - معناها: - لاحظ معي - (معرفتها برؤية.) انتهى الكلام (أو صفة: في غير الدار ونحوها) - ((معرفتها برؤية.) ثم تتوقف (أو صفة: في غير الدار ونحوها)) - يعني: أنه في الدار ونحوها لا نكتفي بالوصف وإنما نشترط مع لذك الرؤية لأنه لا يمكن أن توصف.

إذاً: في غير الدار ونحوها يعود إلى الصفة أو الرؤية؟ يعود إلى الصفة. إذا عرفنا - قبل أن نذكر القول الثاني - أن مذهب الحنابلة هو: أنه يشترط في العين المؤجرة أن تعرف برؤية أو بصفة وعرفنا متى نشترط الرؤية. وأنه إذا أجرت بغير معرفة من خلال الرؤية أو الصفى فالعقد باطل. لأن معرفة العين المؤجرة: شرط. = القول الثاني: أنه لا يشترط لا الرؤية ولا الصفة ثم إذا رأى المستأجر العين فهو بالخيار إن شاء أمضى العقد وإن شاء رده. وهذا القول الثاني هو الراجح وتقدمت المسألة في شروط المبيع. بقينا في مسألة/ دل كلام المؤلف - رحمه الله - أن البيت ونحوه مما لا يعرف بالصفة. وهذا صحيح. إذا أراد الإنسان أن يستأجر بيتاً فإنه لايمكن أن يكتفي بالصفة مهما وصف البيت وصفاً دقيقاً. وهذا الحكم أنه لا يكفي بالنسبة لمعرفة الإنسان للبيت الوصف. يدل عليه الشرع. ويدل عليه الواقع. ولهذا تجد - أنت نفسك - أنه يوصف لك مكان للسكن وصفاً دقيقاً مبالغاً فيه ثم إذا حضر الإنسان للبيت وجد أن معرفته للبيت تختلف تماماً عن الوصف, وهذا مشاهد ومجرب. فقول الحنابلة: أن البيت من الأعيان التي لا يكتفي فيها بالوصف: صحيح. ولابد من الرؤية هذا على القول الأول. وعلى القول أنه لا يشترط لا الرؤية ولا الصفة والإنسان بالخيار له أن يجري العقد ثم إذا أجراه ورأى البيت فهو بالخيار. - قال - رحمه الله -: - (2) وأن يعقد على نفعها دون أجزائها. يشترط في العين المؤجرة أن ينتفع بها بلا إتلاف. أي: ينتفع بنفعها من غير إتلاف للأجزاء. إذاً القاعدة أنه لا يصح أن نستأجر ما لا ينتفع به إلا بإتلافه. الدليل: - قالوا الدليل: أن عقد الإجارة يقع على المنفعة والانتفاع بالأجزاء انتفاع بالعين لا بالمنفعة. وهذه المسألة وهي أنه يشترط أن يحصل العقد على نفع العين لا على أجزائها صحيح في الجملة. وسيأتينا في أفراد المسائل الخلاف في بعضها من المسائل التي تندرج تحت هذه القاعدة. - قال - رحمه الله -: - فلا تصح: إجارة الطعام للأكل ولا الشمع ليشعله. هاتان مسألتان: ـ المسألة الأولى/ أن يستأجر الطعام ليأكله أو الشمع ليشعله. = فعند الحنابلة: العقد باطل.

- لأن العقد وقع على أجزاء العين لا على نفعها. ولهذا تجد أن المؤلف - رحمه الله - يقول في عبارته: (فلا) يعني: ان الحكم مترتب على القاعدة السابقة. = القول الثاني: انه يجوز أن يستأجر الشمع ليشعله بأن يقول كل أوقية بدرهم. ويعتبر العقد حينئذ عقد معاوضة غير لازم. فلا هو بيع ولا هو إجارة. فليس من باب الإجارات ولا من باب البيوع. بل بينهما: عقد معاوضة لكن غير لازم. قال أصحاب هذا القول: وليس في الشرع ما يمنع من تصحيح هذا العقد. وليس من باب الإجارات. وهذا القول مصرع في أكثر من موضع شيخ الاسلام بن تيمية - رحمه الله -. ولعلك تلاحظ دائماً أن الشيخ - رحمه الله - ينحى إلى نحو معرفة حقيقة العقد دون التعلق بالاسم. رحظ الآن هنا: يقول: هذا ليس من باب الإجارات ولا من باب البيع وإنما هو عقد بينهما. وتقدم معنا نظير هذا في كتاب الأراضي التي غنهما المسلمون وأوقفها ولاة الأمر وهو أن الشيخ جعلها بين حكمين. وهذا كثير عند شيخ الإسلام يحاول أن يعرف حقيقة العقد ويعطيه الحكم المناسب. هذا القول الثاني هو الصحيح إن شاء الله. لكن أيضاً أقول - لعلك لاحظت شيء - وهو: أن هذا العقد اعتبره الشيخ ليس من باب [الإجارة] إذاً صحيح أن الإجارة لا يعقد فيها على الأجزاء. يعني: حتى على القول الثاني ونحن نرجح القول الثاني ونرى أن كلام شيخ الإسلام قوي إلا أنا نقول في نفس الوقت أنه دليل أن كلام الحنابلة صحيح لأنه حتى شيخ الإسلام - رحمه الله - أخرجه عن عقد الإجارة. ويجب أن تلاحظ هذ. إذاً: قاعدة الحنابلة ما زالت صحيحة لأن الشيخ لم يصحح ويبقيه داخل الإجارة وإنما صححه وأخرجه عن باب الإجارة. إذاً: قاعدة الحنابلة ما زالت صحيحة. - قال - رحمه الله -: - ولا حيوان ليأخذ لبنه. ولا يجوز استئجار الحيوان لأخذ اللبن. - لأن العقد حينئذ يكون على أجزاء من العين المعقود عليها وهو اللبن. فاللبن ليس من منافع الحيوان وإنما من أجزاء الحيوان. إذاً هو مبني على القاعدة السابقة. = والقول الثاني: أنه يجوز أن نستأحر الحيوان لنأخذ منه اللبن. واستدل أصحاب هذا القول بدليلين:

- الدليل الأول: القياس على الظئر. تقدم معنا أن الحنابلة يصححون استئجار المرأة لإرضاع الصبي بطعامها وكسوتها. - الدليل الثاني: أن الأعيان التي تستخلف شيئاً فشيئاً استئجارها ألصق بالإجارة منه في البيوع وتجويزها أقيس. وجه ذلك: أنه في الإجارة الإنسان تأتيه المنافع تبعاً - تستخلف المنافع تبعاً. ينتفع اليوم ثم غداً .... إلى آخره. فهو لا يحصل على المنافع في يوم واحد وإنما تأتيه المنافع تباعاً بخلاف البيع. فأنت إذا اشتريت شيء تحصل على المبيع جملة واحدة. إذاً: هذا العقد ألصق بالإجارات منه في البيوع. وبناء على هذا: قرر شيخ الإسلام قاعدة وأن كل شيء تأتي منافعه تباعاً شيئاً فشيئاً فهو جائز وهو أقرب إلى الإجارة منه إلى البيوع. - قال - رحمه الله -: - إلاّ في الظئر. يعني: فيجوز لأنه تقدم معنا جواز استئجار الظئر. - قال - رحمه الله -: - ونقع البئر وماء الأرض: يدخلان تبعاً. يعني: للأرض. فيجوز للإنسان إذا استأجر أرضاً وفيها بئر أو ماء فيجوز للإنسان أن يستأجره بما فيه من منافع. - لأن القاعدة تقول: يثبت تبعاً ما لا يثبت استقلالاً. فهم من كلام المؤلف - رحمه الله - أنه لا يجوز للإنسان أن يستأجر البئر على سبيل الاستقلال. لماذا؟ لأنه ينتفع بأجزاء المستأجر لا بنفعه - على قاعدة الحنابلة. = والقول الثاني: جواز استئجار البئر. - لأن البئر كذلك منافعه تأتي تباعاً وتستخلف. فاليوم يخرج الماء ثم غداً ثم بعد غد .. إلى آخره. فمنافعه تستخلف. * * مسألة/ ما حكم أن يستأحر الإنسان جالون ماء لينتفع بالماء الذي فيه؟ لا يجوز. لأن المنفعة في هذه الصورة لا تستخلف. إذاً: عرفنا الآن ماذا يقصد شيخ الإسلام وكيف نطبق الحكم على المسائل المختلفة. - قال - رحمه الله -: - (3) والقدرة على التسليم. يشترط لصحة استئجار العين: القدرة على تسليم العين. وهذا الشرط محل إجماع. وهو مقيس على المسألة التي تقدمت في البيوع وهو القدرة على تسليم المبيع. وأي فائدة في استئجار عين لا يمكن أن تسلم. - قال - رحمه الله -: - فلا تصح إجارة الآبق والشارد. ولا المغصوب ونحو هذه المسائل: - لأنه لا يمكن أن يسلم.

وتقدم معنا في البيوع أنه تستثنى مسألة/ وهي: إجارة هذه الأعيان للقادر على تحصيلها. فكما استثنينا في البيوع كذلك في الإجارة. فإذا أجر عبده الشارد لمن يستطيع أن يحضره. فلا بأس. ومن أجر داره المغصوبة لمن يستطيع أن يستخلصها فلا بأس. - قال - رحمه الله -: - (4) واشتمال العين على المنفعة. يشترط أن يكون في العين اشتمال العين على المنفعة. فإن استأجر عيناً لا منفعى فيها فالعقد باطل. الدليل: - قالوا: الدليل على ذلك. أن العقد وقع على المنفعة. ولا يمكن تحصيل المنفعة مما لا نفع فيه. وهذا أيضاً تعليل جميل. وإن كان واضحاً لا يحتاج إلى دليل لكنه من حيث الصنعة الفقهية تعليل جميل. إذاً: نقول إنه لا يجوز تأجير ما لا نفع فيه. لأنه لا يمكن تحصيل النفع مما لا نفع فيه. ثم ضرب المؤلف - رحمه الله - أمثلة: - فقال - رحمه الله -: - فلا تصح: إجارة بهيمة زمنة للحمل. عرفنا من المثال: أن قول المؤلف - رحمه الله -: واشتمال العين على المنفعة. عرفنا من المثال: أن المقصود على المنفعة المعقود عليها لا على أي منفعة وإنما على المنفعة المعقود عليها. وهو أراد بيان ذلك من خلال المثال. فهل يجوز أن يستأجر الإنسان - يقول المؤلف (البهيمة الزمنة) والغرض منه أن تحمل المتاع؟ لا. لأن المنفعة المعقود عليها غير موجودة لأنها لا تستطيع أن تحمل. لكن هل يجوز أن يستأجر البهيمة الزمنة لأخذ اللبن منها؟ يجوز. لأن المنفعة المعقود عليها موجودة. - يقول - رحمه الله -: - ولا أرض لا تنبت للزرع. يعني: ولا يجوز أن تستأجر أرضاً لا تنبت لتزرع فيها. - لأن هذه العين المستأجرة لا نفع فيها. أي: النفع المعقود عليه. فإذا أراد أن يستأجر الأرض التي لا تنبت للبناء: صحت الإجارة. - قال - رحمه الله -: - وأن تكون المنفعة للمؤجر أو مأذوناً له فيها. يشترط أن تكون المنفعة المعقود عليها للمؤجر أو مأذون له فيها. تعليل ذلك: - أنه لا يجوز للإنسان أن يتصرف إلا في ملكه أو فيما وكل فيه. وتقدم معنا خلاف في نظير هذه المسألة وهو: تصرف الفضولي. فنقول هنا كذلك: إذا تصرف نصرفاً فضولياً وأجر منزل غيره فإن أجاز المالك صحت الإجارة وإلا فلا. - قال - رحمه الله -:

- وتجوز إجارة العين: لمن يقوم مقامه لا بأكثر منه ضرراً. تجوز إجارة العين المستأجرة .. ((الأذان)) ..

إذاً: الحنابلة يرون أنه يجوز للإنسان أن يؤجر ما استأجر. بشرط: أن لا يكون المستأجر الثاني أكثر ضرراً من الأول. وفهم من كلام المؤلف - رحمه الله - أنه يجوز للمستأجر أن يؤجر بمثل أو بأكثر من الثمن الذي استأجر به. وهو كذلك. وهو مذهب الحنابلة: أنه يجوز أن يستأجر بمثل أو بأكثر. الدليل: استدل الحنابلة: - بأنه ملك المنفعة ومن ملك المنفعة جاز له أن يتصرف فيها. = القول الثاني: أنه لا يجوز للإنسان أن يؤجر ما استأجر. فإن فعل فإن العقد باطل. واستدلوا على هذا: - بأن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى عن ربح ما لم يضمن. والجواب على هذا الاستدلال: أنه لم يرح فيما لم يضمن بل ربح فيما ضمن لأن منفعة البيت دخلت في ضمانه ولو أنه لم ينتفع بالبيت مثلاً إلى انتهاء وقت الإجار لضاعت عليه هذه المنفعة. فهي أيضاً من ضمانه. * * مسألة/ يجوز للمستأجر أن يؤجر قبل القبض وبعد القبض. وجه ذلك: أن المنافع المستأجرة تدخل في ضمان المستأجر مباشرة ولو قبل القبض بخلاف البيع فإن السلعة لا تدخل في ضمان المشتري إلا بعد القبض. فاختلفت الإجارة عن البيع في هذه المسألة. فتحصل معنا أنه الراجح جواز تأجير المستأجر بأكثر أو بمثل الثمن قبل أو بعد القبض. فالأمر واسع عند الحنابلة في هذه المسألة ومذهبهم هو الصحيح إن شاء الله. - قال - رحمه الله -: - وتصح إجارة الوقف. تصح إجارة الوقف من الموقوف عليه. - لأنه ملك المنفعة. ومن ملك المنفعة جاز له أن يتصرف فيها. ثم انتقل المؤلف - رحمه الله - إلى مسألة أخرى: - فقال - رحمه الله - - فإن مات المؤجر فانتقل إلى من بعده: لم تنفسخ. يعني: إذا مات الموقوف عليه وانتقل الوقف إلى من بعده لم تنفسخ. وظاهر كلام المؤلف - رحمه الله - أنها لم تنفسخ مطلقاً. والمذهب بخلاف هذا الإطلاق. المذهب فيه تفصيل وهو كالتالي:

ـ إن كان المؤجر هو الناظر سواء كان الناظر أجنبياً أو هو الموقوف عليه لكنه هو الناظر فإنه إذا أجر ومات لم تنفسخ الإجارة لأنه تصرفه هنا بموجب الولاية ومن تصرف بموجب الولاية فإن من بعده لا ينقض تصرفه. ـ وإن كان المؤجر هو الموقوف عليه - المستحق - فإنه إذا مات انفسخت الإجارة. لماذا؟ قالوا: لأنه تبين أنه أجر ملكه وملك غيره. فإن الوقت بعد الموقوف عليه الأول ملك للموقوف عليه الثاني. = والقول الثاني: أنها لا تنفسخ مطلقاً يعني كما ذكر المؤلف - رحمه الله -. والذي يظهر لي أن الراجح هو القول الثاني وهو أنها لا تنفسخ مطلقاً. والسبب: أنه سيأتينا أن عقد الإجارة لا ينتقض بموت أحجد العاقدين. ولم أر خلافاً - أو فارقاً بين هذه المسألة بعد التأمل والمسألة التي ستأتينا في موت أحد العاقدين.

الدرس: (36) من البيع قال شيخنا حفظه الله: بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين. تقدم معنا بالأمس حكم ما إذا مات الموقوف عليه الذي أجر وأن ظاهر كلام المؤلف - رحمه الله - أنها لا تنفسخ. وذكرنا ما يتعلق بهذه المسألة. - ثم يقول - رحمه الله -: - وللثاني حصته من الأجرة. يعني: أن من انتقل الوقف إليه له حصته من الأجرة. وهي التي تبدأ من الوقف ..... فحينئذ يرجع على الورثة. - ثم قال - رحمه الله -: - وإن أجر الدار ونحوها مدة معلومة ولو طويلة يغلب على الظن بقاء العين فيها: صح وإن استأجرها لعمل ... إلى آخره. المؤلف - رحمه الله - بدأ ببيان أن العين المؤجرة لا تخرج إما أن تؤجر على مدة أو أن تؤجر على عمل. فاستئجار البيت على مدة. واستئجار العامل على عمل. واستئجار العامل لعمل كذلك: إما أن يحدد بمدة أو أن يحدد بالمعمول فيه كأن يقول: احرث هذه الأرض من صلاة الفجر إلى صلاة الظهر. حددت بالمدة. النوع الثاني: أن يقول: احرث هذه الأرض من هنا إلى هنا. ولم يحدد له وقتاً. فحينئذ صارت الأجرة على المعمول فيه.

نبدأ بالمدة كما بدأ المؤلف - رحمه الله - بالمدة. - قال - رحمه الله -: - وإن أجر الدار ونحوها مدة معلومة ولو طويلة يغلب على الظن بقاء العين فيها: صح. أفادنا المؤلف - رحمه الله - بهذه العبارة أن الحنابلة يرون جواز التأجير لمدة طويلة. ولو طالت جداً بشرطين: - أن تكون المدة معلومة. - وأن يغلب على الظن بقاء العين في هذه المدة. إذا تحقق الشرطان فإن الحنابلة لا يرون بأساً من طول مدة الإجارة مهما طالت. واستدلوا على هذا: - بأن الإجارة لمدة طويلة لا تخرج عن مفهوم الإجارة فهي نفع معلوم في مدة معلومة فتندرج ضمن النصوص الدالة على مشروعية الإجارة. = والقول الثاني: أنه لا تجوز الإجارة لمدة طويلة. ثم اختلف أصحاب هذا القول في تحديد المدة التي يجوز أن تؤجر الدار ونحوها إليها. واضطربوا اضطراباً لا ضابط له وأشبه ما تكون أقوالهم بالتحكم بلا دليل. ـ فمنهم من يقول: سنة. ـ ومنهم من يقول: ثلاث سنوات. وهذا تحكم بلا دليل واضطراب ضابط القول علامة على ضعفه. بناء على هذا: نقول الراجح إن شاء الله: مذهب الحنابلة. واليوم أصبحت التأجير لمدة طويلة من أبرز عناصر التجارة لأنه لا يستطيع أن ينتفع من المستأجر إلا إذا كانت المدة طويلة. - وقول المؤلف - رحمه الله -: - وإن استأجر داراً أونحوها. لا يريد المؤلف - رحمه الله - تخصيص الحكم الدار بل له أن يستأجر آدمياً لمدة طويلة. كأن يستأجر خادماً لمدة عشرين سنة. فلا حرج. وإنما نص على الدار لأن الغالب في استئجار المدد الطويلة أن تكون في الدور فلذلك نص عليها وإلا لو استأجر الإنسان سيارة أو آدمي أو دابة وتحقق الشرطان فلا بأس. فإن استأجر حماراً لمدة مائة سنة: جاز أو منع؟ منع. لأنه لا يغلب على الظن بقاء هذا الشيء إليه. وإ استأجر سيارة لمدة قرن؟ لا يجوز. وهكذا. كذلك إذا لم يحدد: قال استأجرت منك هذه الدار مدة طويلة: = فعند الحنابلة وغير الحنابلة العقد باطل. في الحقيقة أجاد الحنابلة في أحكام الإجارة من وجهة نظري عندهم في نفس الوقت انضباط وتوسيع. انهينا من المدة وانتقل المؤلف - رحمه الله - إلى الاستئجار على العمل. - فيقول - رحمه الله -:

- وإن استأجرها لعمل كدابة لركوب إلى موضع معين، أو بقر لحرث أو دياس زرع، أو من يدلّه على طريق: اشترط معرفة ذلك وضبطه بما لا يختلف. العبارة تكون أوضح إذا قلت: (وإن استأجرها لعمل اشترط معرفة ذلك وضبطه بما لا يختلف). فحينئذ ذكر الحكم والضابط. إذاً: إذا استأجر العين لعمل معين اشترط: أن يضبط هذا العمل. وأن يعرف معرفة دقيقة. والدليل على هذا: - أنه تقدم معنا أن عقد الإجارة من عقود المعاوضات. وعقود المعاوضات يجب أن يكون طرفي العوض معلوماً محدداً. وهنا الطرف المال والطرف الآخر العمل. فيجب أن يكون العمل واضحاً محدداً منضبطاً بصفات لا تختلف من المستأجر إلى المؤجر أو من المؤجر إلى المستأجر. إذاً: يجب أن يضبط هذا العمل ضبطاً دقيقاً. ثم ذكر المؤلف - رحمه الله - بعد القاعدة الأمثلة: - فيقول - رحمه الله -: - كدابة لركوب إلى موضع معين. إذا استأجر دابة يجب أن يبين هل استأجر الدابة ليركب هو أو ليحمل عليها متاعاً آخر. ويجب أن يبين إلى أين سيذهب بها. وإذا بين إلى أي مكان سيذهب بها فيجب أن يبين وعورة الطريق من عدمها إذا كان المؤجر لا يعرف الطريق. والخلاصة: يجب أن يبين كل كا يتعلق بهذا النقل. - قال - رحمه الله -: - أو بقر لحرث. إذا استأجر البقر للحرث فبديهي أنه من أول الأشياء التي يجب أن تعلم: المساحة. كم سيحرث من الأرض؟ ثم إذا عرف يجب أن يعرف قساوة الأرض أو كون الأرض سهلة. بعد المكان من مكان الاستئجار وقربه وسهولة القيام بمنافع الدابة عند الحري وعدمه. المهم يجب أن يبين كل ما يتعلق بهذا الأمر. - قال - رحمه الله -: - أو دياس زرع. إذا أراد أن يستأجر لدياس زرع يبين أول مايبين: الكمية. إذاً رقم واحد في البيان أن يبين كمية الزرع لأنه عليه المعول. ثم يبين المكان الذي فيه دياسه وسهولته ووعورته وكون الزرع حديث الحصاد أو قديم الحصاد. ويبين كل ماله أثر في العمل. - ثم قال - رحمه الله -: - أو من يدله على الطريق. إذا استأجر من يدله على الطريق: إما أن يدله بالوصف.

أو أن يدله بالذهاب معه. فإن دله بالوصف فمعلوم أن الشيء المعقود عليه هنا أن يصف له وصفاًَ دقيقاً يتمكن معه المستأجر من الوصول إلى المكان المراد وتنتهي المهمة. أما إذا كان سيذهب معه فحينئذ لابد أن يبين كل ما يتعلق بتفاصيل الطريق من حيث البعد والقرب والوعورة وسهولة الوصول للمكان المراد وعدم سهولته .. إلى آخره. إذاًَ ذكر المؤلف - رحمه الله - أربع أمثلة لعله اختارها لكثرة وقوعها في زمنه. ولكن هي مجرد أمثلة والضابط هو: أن يعرف الإنسان العمل بدقة. - قال - رحمه الله -: - ولا تصح: على عمل يختص فاعله أن يكون من أهل القربة. انتقل المؤلف - رحمه الله - إلى مسألة مهمة: يقول: (ولا تصح: على عمل يختص فاعله أن يكون من أهل القربة). معنى: (يختص فاعله أن يكون من أهل القربة). أي: لا يمكن أن يقوم به إلا مسلم. فالمسلم هو أهل القربة. والقربة في اصطلاح العلماء هي: كل فعل يتقرب العبد به إلى الله. ومقصوده بقوله: (يختص فاعله أن يكون من أهل القربة) يعني: أن يكون عبادة. وهي مسألة كبيرة ومهمة والنصوص فيها بالنسبة للمجتهد فيها تعارض في الظاهر. قبل أن نبدأ بالمسألة تحرير محل النزاع: اتفق الفقهاء على أن العبادات التي لا تتعدى منافعها إلى الآخرين لا يجوز فيها أخذ العوض: كالصلاة والصيام ونحوهما. واختلفوا في العبادات التي تتعدى منافعها إلى الآخرين: مثل: الأذان - الإمامة - تعليم القرآن - الحج. وكل مافيه تعدي منافع للآخرين. اختلفوا فيه اختلافاً طويلاً ومتشتت جداً. نحاول تبسيطه وتلخيصه كالتالي: = ذهب الحنابلة - وهو المذهب كما ترى - والأحناف إلى التحريم المطلق وأنه لا يجوز للإنسان أن يأخذ أجراً على العبادة مطلقاً. أي نوع من أنواع العبادات. واستدلوا على هذا بعدة أدلة: - الدليل الأول: ما صح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - من حديث عثمان بن أبي العاص أنه قال - صلى الله عليه وسلم -: (واتخذ مؤذناً لا يأخذ على أذانه أجرا). والحديث نص على المراد. غهو يمنع من اتخاذ المؤذن الذي يأخذ أجراً والحديث مطلق لم يبين هل باشتراط من المؤذن أو بلا اشتراط من المؤذن. وأجاب أصحاب القول الثاني: بحمل الحديث على الاستحباب.

وممن حمل الحديث على الاستحباب من المتأخرين: الشيخ الصنعاني. والواقع أن حمله على الاستحباب لا يساعد عليه اللفظ مطلقاً. - الدليل الثاني: أنه صح عن ابن عمر وابن مسعود النهي عن اتخاذ مؤذن يتخذ أجراً. وهذا الأثر فيما يتعلق بالأذان ضعيف. الأثر عن ابن مسعود وابن عمر فيما يتعلق بالأذان. لكن صح عن الصحابة أحاديث ستأتينا في النهي عن تعليم القرآن. المهم أن أثر ابن مسعود وابن عمر ضعيفان. - الدليل الثالث: قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: (من أخذ قوساً على تعليم القرآن فقد تقلد قوساً من النار). وهذا الحديث له ألفاظ عن ثلاثة من الصحابة. له ألفاظ مختلفة تدور حول هذا المعنى وأيضاً له أكثر من مخرج فجاء عن أكثر من صحابي. هذه الأحاديث في الحقيقة لا تخلو أسانيدها من ضعف. لكن بالإمكان - يعني - تحسينها بالمجموع - بمجموع الطرق لا سيما على طريقة المتأخرين: يصححون مجموع طرق هذه الأحاديث. هذه هي أدلة الحنابلة التي استدلوا بها على العموم - يعني: على عموم المنع. = القول الثاني: بإزائه - وهو: الجواز مطلقاً. واستدلوا أيضاً بأدلة كثيرة: - الدليل الأول: قصة الرجل الذي زوجه النبي - صلى الله عليه وسلم - بما معه من القرآن. فقال له في قصة طويلة الشاهد منها - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما ذهب الرجل أرسل في طلبه ثم قال: (زوجتكها بما معك من القرآن). وفي صحيح مسلم: - وهذا لفظ مهم - (زوجتكها بما معك من القرآن تعلمها إياه). هذا الحديث كما ترى في الصحيح ودلالته واضحة. - الدليل الثاني: قصة النفر الذين نزلوا على بعض الأعراب فلم يضيفوهم ولدغ سيد الحي فقالوا هل معكم من راق فقال أحدهم: نعم أنا. ولكن لا أرثي سيدكم إلا بحعل فرقاه وأوفى القوم له وأعطوه من الغنم ما اشترط ثم لما رجع إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - أقرهم وقال: اضربوا لي معكم بسهم - صلى الله عليه وسلم -: فأقرهم وأكل معهم. وفي لفظ في البخاري لهذا الحديث أن النبي - صلى الله عليه وسلم - ختم الفتوى بقوله: (إن أحق ما أخذتم عليه أجراً كتاب الله).

وفي لفظ للحديث في الصحيح: أن الصحابة لما أخذوا القطيع قالوا لمن أخذه لا نأكل حتى نسأل أخذته مقابل القراءة. فالمعنى موجود عند الصحابة. فلما رجعوا إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - أفتاهم بالجواز. وكل هذا الملابسات تساعد في تحديد القول الراجح. إذاً: عرفنا بهذه الروايات والألفاظ صراحة هذا الحديث في الدلالة على الجواز. - الدليل الثالث: قالوا: إن هذه منفعة معلومة محددة فجاز أخذ العوض عليها. وأجاب عليهم الحنابلة: بأن هذا قياس في مقابل النص ولا عبرة بالقياس إذا صادم النص. = القول الثالث: أنه لا يجوز مطلقاً إلا عند الحاجة أو الضرورة. - لأنه إذا أخذ لحاجته وضرورته فقد أخذ ليتقوى على عبادة الله ولا ينافي ذلك أن تكون العبادة لله. لأنه أخذ لحاجته لا لأنه أدى هذا العمل. وإلى هذا ذهب بعض الحنابلة وبعض الشافعية واختاره شيخ الإسلام بن تيمية - رحمه الله -. كما قلت لكم المسألة فيها إشكال وفيها نوع من التعارض في الأدلة ولذلك صرت إلى قول فيه احتياط وهو الأخذ بالأدلة جميعاً: فنقول: لا يجوز أخذ الأجرة إلا على تعليم القرآن ونحوه. لصراحة النصوص بالجواز. ولا يجوز أخذ الأجرة على الأذان والإمامة ونحوها لدلالة السنة الصريحة على المنع. وهذا القول الذي رجحته هو نفس اختيار بن حزم - رحمه الله - إلا في نقطة واحدة وهو أن ابن حزم يرى جواز أخذ الأجرة عن الحج. وأنا أرى أن الحج يلحق بالأذان والإقامة. لأنه ليس فيه معنى التعليم. وكلام الأئمة في المنع من أخذ الأجرة في الحج واضح جداً. وهو يندرج في النصوص المانعة فيما أرى. فيما عدا الحج تستطيع أن تقول هذا اختيار ابن حزم. وأرى أن هذا القول يأخذ بكل الأدلة وأن جنس التعليم كجنس القراءة فيه عمل وليس عبادة محضة فجاز له أن يأخذ مقابل هذا العمل وإن تلبس بشيء من العبادة. وأرى إن شاء الله أن هذا القول هو القول المتوافق مع النصوص وهو القول الراجح وأنا أعجبت باختيار ابن حزم وأعتبره تتبع النصوص وأخذ بها إلا أنه فقط أجاز في الحج ولم يوفق من وجهى نظري فيما يتعلق في الحج لأنه عبادة محضة. - قال - رحمه الله -:

- وعلى المؤجر كل ما يتمكن به من النفع: كزمام الجمل ورحله وحزامه والشد عليه، وشد الأحمال والمحامل والرفع والحط، ولزوم البعير ومفاتيح الدار وعمارتها. على المؤجر كل ما لا يمكن الانتفاع بالمستأجر إلا به. هذه هي القاعدة. كل شيء لا يمكن أن ننتفع من المستأجر إلا به فهو من عمل المؤجر. وإذا ضبطت هذه القاعدة سهل عليك معرفة الأمثلة. وذكر المؤلف - رحمه الله - جملة كبيرة من الأمثلة. ولكنه صدر الحكم بالقاعدة وعلى المؤجر كل ما يتمكن به من النفع. يقول - رحمه الله -: (كزمام الجمل): يجب وجوباً على من أجر جملاً أن يضع معه الزمام لأنه لا يمكن أن ننتفع من الجمل إلا مع وجود الزمام. فإن أجره فرساً لابد من اللجام. لأنه لا يمكن أن ينتفع به إلا بذلك. ولابد في الفرس من السرج لأن ركوب الحصان عارياً مؤذن للإنسان ولا ينتفع ولا يستطيع أن يقطع به مسافات طويلة. وكل هذا أمثلة. يقول - رحمه الله -: (ورحله) يعني: عليه أن يؤمن الرحل. والرحل هو ما يوضع على الجمل للركوب. إذ ما الفائدة أن نستأجر جملاً ليس عليه رحل: أين سيركب الإنسان؟ قال - رحمه الله -: (وحزامه). يعني: يجب أن يضع الرحل ويجب أن يربط الرحل. فلا يكتفي بوضع الحزام ثم يقول للمستأجر اربط الحزام أنت أو ائتي بحزام من عندك. يقول - رحمه الله -: (والشد عليه) يعني: والشد على الرحل. يعني والشد على الرحل. إذاً جميع هذه الأحكام الثلاثة تتعلق بالرحل. وأطال بها لأنه لانفع من الجمل إلا بالرحل. ثم قال - رحمه الله -: (وشد الأحمال) يعني عليه أن يشد الأحمال وهي ما يحمل من الأمتعة ونحوها على الجمل. عليه أن يضع الأمتعة وأن يشد هذه الأمتعة. فالتحميل بناء على هذا: من مهمام المؤجر. ويظهر لي الآن أن العرف كذلك. أنه إذا استأجرت سيارة فإنه على المؤجر أن يحمل المتاع من الأرض إلى السيارة. وعلى هذا جرى العرف لا في السيارات الكبيرة ولا في السيارات الصغيرة. وعلى هذا يدل كلام الحنابلة. يقول - رحمه الله -: (والمحامل) هي ما يوضع على البعير ليركبه الناس إلا أن الرحل في الأعلى والمحامل في الجوانب وإلا الغرض من المحامل والرحل هو الركوب.

ثم قال - رحمه الله -: (والرفع والحط، ولزوم البعير) يعني: وعلى المؤجر إذا استؤجر هو والدابة جميعاً أن يقوم بمسك الزمام ورفع الأمتعة فيما إذا نزل المستأجر لحاجة شرعية أو لحاجة طبيعية. كأن ينزل ليصلي أو ينزل ليقضي حاجته. قال الحنابلة وليس من الحاجات الأكل لأنه يستطيع أن يأكل على الدابة وليس من الحاجات القراءة لأنه يستطيع أن يقرأ على الدابة. وهذا ربما يكون صحيحاً في الجمال على كلام المؤلف - رحمه الله - لكن اليوم لا يتمكن الإنسان من الأكل على ظهر السيارة. ولا يتمكن من أن يأكل بطريقة طبيعية وغير مضرة. فالواجب أن يلحق الأكل اليوم بالحاجات الضرورية. فإذا أراد الراكب أن يأكل ينبغي أن يتوقف الإنسان. ومن المعلوم عندكم أن الأكل يختلف إذا أكلاً خفيفاً جرى العرف أنه في السيارة. وإذا كان أكلاً يأخذ وقتاً وتبعه فإنه لابد من النزول. ثم يقول - رحمه الله -: (ومفاتيح الدار). يجب على المؤجر أن يؤمن المفاتيح وأن يسلمها للمستأجر. - لأنه لن يستطيع أن يدخل الدار ولا أن ينتفع منها بشيء إلا بالمفاتيح. قال - رحمه الله -: (وعمارتها). هل من الأشياء الضرورية في الدار التي تلحق بالمفاتيح المكيفات واللمبات؟ أما الأبواب فلا إشكال حتى عند المتقدمين. هل هي كذلك؟ الظاهر أنه في البلاد الحارة المكيفات تلحق بالأشياء التي لابد أن يؤمنها المؤجر. إلا بشرط - الشروط لا تدخل معنا في الكلام: إذا اشترط المؤجر أنه بدون مكيف - لكن بلا شرط فالعقد يقتضي تأمين المكيف. لأنه في الحقيقة في البلاد الحارة لا يمكن أن تنتفع بالعين المؤجرة أي: البيت. إلا مع وجود المكيفات. أما في الأماكن التي توصف باعتدال الجو فليس من مصالح العقد ولا من مصالح العين المؤجرة تأمين المكيفات. أما اللمبات فلا إشكال أبداً أنها تجب على المؤجر. ما لم يكن هناك شرط. - يقول - رحمه الله -: - وعمارتها. يعني: ويجب على المؤجر أن يعمر الدار فيما إذا خربت فلو سقط باب أو خشبة أو جدار أو ما شابه هذه الأمور فعلى المؤجر أن يقوم بإصلاح هذا الخلل. - لأن المستأجر لا يستطيع أن ينتفع من الدار إلا بذلك.

= والقول الثاني: أنه لا يجب عليه أن يصلح ما فسد من الدار والمستأجر بالخيارإن أراد أن يبقى بقي وإن أراد أن يخرج خرج. فيصبح العقد بالنسبة للمستأجر عقداً جائزاً إذل اختلت الدار. ولعل الأقرب أنه يلزم بالإصلاح. لأن هذا الأمر لا يمكن بدونه الانتفاع من الدار فهو يدخل بالضابط العام الذي ذكره المؤلف - رحمه الله -. - قال - رحمه الله -: - فأما تفريغ البالوعة والكنيف: فيلزم المستأجر إذا تسلمها فارغة. تفريغ البالوعة والكنيف من مهام المستأجر. بشرط أن يتسلم الدار وهي فارغة. يعني: والبالوعة والكنيف فارغة. وهذا بلا نزاع عند الحنابلة كأنه من الأحكام الواضحة عندهم. = والقول الثاني: أن مثل هذه الأشياء ترجع إلى العرف. فاليوم العرف أن المستأجر عليه أن يفرغ الكنيف إذا امتلأ في أثناء الإقامة. فإذا خرج فإنه لا يلزم بتفريغ الكنيف أو البالوعة. هكذا العرف. المهم أن الأمر يرجع إلى العرف حسب العرف تكون المسألة. طبيعي أنه في الأماكن التي لا يوجد فيها كنف وإنما يوجد فيها تصريف فليس على المؤجر ولا على المستأجر. بهذا انتهى الفصل وننتقل إلى الفصل الذي بعده. فصل [في لزوم عقد الإجارة وما يوجب الفسخ] - قال - رحمه الله -: - فصل. وهي عقد لازم. الإجارة من العقود اللازمة. وقد اتفق الفقهاء كلهم على هذا الحكم في الجملة: أن الإجارة من العقود اللازمة التي لا يمكن أن تفسخ إلا برضا الطرفين. لم يخالف في هذا الحكم إلا رجل واحد وهو القاضي شريح فإنه رأى - رحمه الله - أن عقد الإجارة عقد جائز وليس بلازم. وهو قول غريب ومخالف لتقريرات جميع الفقهاء - رحمهم الله -. والأقرب أنه عقد لازم. ودليل ذلك: - أنه من عقود المعاوضات والعقود التي فيها معاوضة في الشرع الأصل فيها أنها لازمة. لأنها معوضة. فكيف نسمح بعد المعاوضة بالفسخ. - قال - رحمه الله -: - فإن آجره شيئاً ومنعه كل المدة أو بعضها: فلا شيء له. إذا أجره - ولنفرض أنه أجره داراً ثم منعه الانتفاع بالدار فينقسم الأمر إلى قسمين: ـ القسم الأول: ان يمنعه من جميع الانتفاع. فحينئذ ينفسخ العقد ولا إشكال ولا شيء للمؤجر. لأنه منه من تسليم المنفعة كما لو منع البائع من تسليم العين.

ـ القسم الثاني: أن يمنعه من بعض الانتفاع كأن يؤجره لمدة سنة ثم بعد مرور ستة أشهر يمنعه من الانتفاع. بإخراجه أو بأي طريقة من الطرق. = فعند الحنابلة أيضاً ليس للمؤجر شيء من الأجرة مطلقاً. لأنه منع المستأجر من الانتفاع. استدل الحنابلة على حرمان المؤجر من جميع الأجرة بقولهم: - أن المعقود عليه الانتفاع طيلة المدة ولم يقع وإذا لم يقع المعقةد عليه لم يستحق العوض. = والقول الثاني: أنه إذا منعه بعض الأجرة فإنه يسقط عليه بقسطها. فإذا منعه من النصف فإنه لا يعطى إلا نصف الإجار. والربع لا يعطى إلا ربع الإجار. يعني: إذا منعه المؤجر من الربع فكم سيعطى ثلاثة أرباع وإذا منعه من ثلاثة أربع فسيعطى الربع إذاً: بقسطه. ولعلك تلاحظ أن هذا القول الثاني أقرب إلى العدل إن شاء الله من القول الأول الذي يحرم المؤجر من جميع الأجرة مع كون المستأجر انتفع ببعض المدة من العين. فهذا القول إن شاء الله هو الراجح. - قال - رحمه الله -: - وإن بدأ الآخر قبل انقضائها: فعليه. يعني وإن بدا للمستأجر أن ينصرف باختياره فعليه كل الأجرة. وهذا صحيح ولا أظن أن فيه خلاف. الدليل: الدليل: - أن المؤجر بذل المنفعة كاملة للمستأجر وهو امتنع عن الانتفاع مع وجود العقد وصحته فلزمه العوض. وهذا لا إشكال فيه. نأتي إلى المسألة التي تنبني عادة على هذه المسألة/ إذا امتنع المستأجر من الانتفاع فإنه يحرم على المؤجر أن يتصرف بالعين المؤجرة مطلقاً. وهذا أيضاً إشكال فيه. ولا أظن أن فيه خلافاً. إذاً: يحرم عليه أن يتصرف لأنه لا يجوز للإنسان أن يتصرف في ملك غيره. والمنفعة مدة الإجارة ملك للمستأجر. فإن تصرف فهنا وقع بعض الإشكال. إن تصرف: فينقسم تصرفه إلى قسمين: ـ إما أن يتصرف قبل أن يضع المستأجر يده على العين. ـ أو ان يتصرف بعد أن يضع المستأجر يده على العين. / فإن تصرف قبل أن يضع المستأجر يده على العين: انفسخت الإجارة ولا إشكال. وعليه أن يعيد كل الأجرة إن كان استلمها أو ما استلم منها إن كان استلم بعضها. / وإن كان تصرف بالعين المؤجرة بعد ان وضع المستأجر يده عليها فـ: = عند الحنابلة: له أجرة المثل. لمن؟ للمستأجر. له أجرة المثل.

- لأنه اعتدى على مال غيره. والمال في هذا المثال هو المنفعة. = القول الثاني: أنه تفسخ الإجارة بقدر المدة التي اعتدى عليه فيها المالك. فنقول للمستأجر اخصم من الأجرة بقدر المدة التي انتفع مالك العقار به فيها. ولا يخفى عليكم من خلال المسائل السابقة أن بين القولين فرقاً كبيراً. إذ قد تكون أجرة المثل أضعاف أجرة الاستئجار الأصلية وقد تكون أقل بكثير. فإذا أردت أن ترجح يجب أن تراعي أن المستأجر أحياناً ينتفع وأحياناً يتضرر. إذاً لن ننظر لا إلى انتفاعه ولا إلى تضرره. وإنما ننظر إلى العدل. والعدل هو القول الأول. لأنه إذا اعتدي على الإنسان في حق من حقوقه المالية فالعدل فيه أن يعطى أجرة المثل. لأن هذا المستأجر لو أجر متاعه أو عقاره في الوقت الذي أخذه منه مالك الأصل لأخذ هذا المبلغ وهو أجرة المثل. نذكر مثالاً يوضح هذه القضية/ لو استأجر بيت لمدة سنة بمائة ألف. وأخرجه المؤجر بعد ستى أشهر فأجرة الستة أشهر: خمسين ألف. سألنا أجرة المثل بعد مرور ستة أشهر من العقد: كم سيكون أجرة الستة أشهر التالية التي اعتدي على المستأجر فيها فقالوا: أجرتها سبعين ألف. فعلى القول الاول كم يجب للمستأجر؟ سبعين ألف. وعلى القول الثاني: ( .......... ) لو كانت هذه السبعين ثلاثين - الأجارات نقصت كذلك نفس الشيء سيكون [[للمؤجر]] (هكذا في الشرح). إذاً: القول الأول إن شاء الله أعدل وهو أقرب إلى الصواب. - قال - رحمه الله -: - وتنفسخ: بتلف العين المؤجرة. إذا استأجر عيناً وتلفت انفسخت الإجارة بالإجماع. - لأنه لم يعد بالإمكان تحصيل المنفعة محل العقد. كما لو اشترى إنسان شيئاً وتلف قبل القبض تماماً. كذلك هنا نقول: ينتهي وينفسخ عقد الإجارة ويرجع المستأجر بماله إن كان سلمه. - قال - رحمه الله -: - وبموت المرتضع. فإذا استأجرنا ظئراص لترضع طفلاً ومات الطفل انفسخت الإجارة. ووجه ذلك: أنه تعذر استيفاء المنفعة. إذ لا يمكن أن نستوفي المنفعة من هذه المرأة. فإن قيل: يمكن استيفاء المنفعة بأن نحضر طفلاً آخر. فالجواب: أن العقد وقع على الطفل الأول والعقود في الشرع دقيقة جداً. إذاً: العقد أن ترضع هذه المرأة هذا الطفل فقط.

فإذاً نقول: إذا مات الطفل انفسخ العقد لا سيما وأنه في الغالب مستأجر الظئر يريد أن يرضع ابنه لا يريد أن يرضع أبناء الناس. إذاً: قضية أنه ىيمكن الانتفاع بشخص آخر لا ترد علينا في هذه المسألة. - قال - رحمه الله -: - والراكب إن لم يخلف بدلاً. يعني: إذا استأجر الإنسان دابة ليركبها ومات فإن العقد ينفسخ: = عند الحنابلة بشرط: أن لا يخلف هذا الراكب بدلاً عنه. فإن خلف بدلاً عنه صح العقد. وصار الذي ينتفع بالمنفعة هو من استخلفه الميت. = القول الثاني: ان العقد لا ينفسخ. والسبب: أن العقد هنا على منفعة الركوب لا على ركوب هذا الشخص. ونقول: إذا مان هذا الرجل ينتفع غيره. وضربوا لهذا مثلاً: فقالوا لم استأجر زيد دابة لعمرو ومات عمرو فإن العقد لا ينفسخ ولزيد أن يركب من شاء. الصواب والله أعلم: أنه إذا مات من أجرى العقد بنفسه ينفسخ. وإذا مات من استؤجرت له الدابة فإنه لا ينفسخ. بهذا يكتمل الحكم ويتضح أما تصحيح العقد مع موت المستأجر فمن وجهة نظري بعيد جداً. إذ إن المستأجر نعم العقد على منفعة الركوب لكن المنتفع هو الراكب وهو نظير تماماً من استأجر ظئراً تماماً نفس المعنى. مالفرق بين المسألتين؟! مع ذلك يفرق بعض الحنابلة بينهما والصواب أنه لا فرق بينهما. - قال - رحمه الله -: - وانقلاع ضرس أو برئه ونحوه. يعني: إذا استأجر زيد طبيباً ليقلع ضرسه فلما وصل إلى العيادة سقط الضرس. حينئذ انفسخت الإجارة. وليس للطبيب أي شيء ولو كان باذلاً لنفسه. السبب: أنه يتعذر الآن استيفاء المنفعة. لأن استيفاء المنفعة متعلق بالضرس. الصورة الثانية: البرء. يعني: استأجر الطبيب لضرس أو لعين أو لمعدة أو لرأس وقبيل الدخول على الطبيب شفي. شعر بأنه شفي. حينئذ: عنج الحنابلة ينفسخ العقد ولا إجارة ولا يستحق الطبيب الأجرة.

بناء على هذا نقول: تسديد الفواتير في المستشفيات الخاصة إذا سدد الفاتورة ثم دخل على الطبيب وشفي - لما دخل على الطبي - شفي - إذا افترضنا هذا قد يكون بعيداً لكن إذا افترضنا هذا. فإنه يجب على المستشفى الخاص وجوباً إعادة الأجرة مع إن العمل أنه إذا دفع الأجرة ودخل على الطبيب هم يعتبرون الدخول على الطبيب هو بحد ذاته تحصيل للمنفعة. لماذا؟ لأنهم يتعاملون مع الطبيب من حيث الوقت. فهم لا يعنيهم شيء كثير المريض - أقصد طبيعة المرض - يعنيهم الوقت. بناء إنك أخذت وقتاً إذاً تدفع مقابل هذا الوقت. والواقع أن الفقهاء يرون أن الأجرة ليست على الوقت. وإنما على العلاج. فإذا افترضنا أنه شفي لما دخل إلى الطبيب فالصواب أنه يجب عليهم ترجيع المبلغ لأنه لم ينتفع الآن من الطبيب مطلقاً. - قال - رحمه الله -: - لا بموت المتعاقدين أو أحدهما. موت المتعاقدين أو موت أحدهما لا يبطل العقد. وإلى هذا ذهب: = الجماهير من أهل العلم. - لأن العقود اللازمة. لا تبطل بموت أحد المتعاقدين. إنما الذي ينفسخ العقود الجائزة على خلاف تقدم معنا في انسفساخها بالموت قبل العلم وبعده. تقدم معنا. في العقود اللازمة الموت ليس من الأشياء التي تنفسخ فيها العقود اللازمة. لكن نحتاج الآن إلى الجمع بين كلام المؤلف - رحمه الله - الآن أنه لا تنفسخ وبين قوله إنه إذا مات الراكب انفسخ. فما هو الجمع؟ نحن نستطيع أن نجمع من كلام المؤلف - رحمه الله -؟ ما نريد أي زيادة على كلام المؤلف - رحمه الله - مجرد تأمل في كلام المؤلف - رحمه الله -. لأنه - رحمه الله - يقول: (إن لم يخلف). إذاً نحمل الصورة الثانية على أنه خلف. إذاً هكذا نجمع. ونحمل الصورة الثانية على أنه خلف. وعلى القول الراجح: لا يوجد تناقض بين الكلامين. فإذا مات لا تنفسخ الأجرة. ((الأذان)) - قال - رحمه الله -: - ولا بضياع نفقة المستأجر أونحوه. إذا لم ينمكت المستأجر من الانتفاع بسبب من عنده فإن الأجرة تلزمه. مثل/ أن تضيع النفقة. ومثل/ أن يستأجر دكاناً فتحترق الأمتعة. ومثل/ أن يستأجر الأرض ويزرع فيها ولا تنبت. كل هذه الصور يجب عليه أن يدفع الأجرة.

لأن عدم الانتفاع لا بسبب من المؤجر وإنما من المستأجر. وهذا أمر إن شاء الله واضح. - قال - رحمه الله -: - وإن اكترى داراً فانهدمت، أو أرضاً لزرع فانقطع ماؤها أو غرقت: انفسخت الإجارة في الباقي. ضابط هذه المسائل: إذا حدث في العين المستأجرة ما يمنع الانتفاع بها. حكم المسألة/ الحكم فيه تفصيل: ـ إذا حدث في العين المستأجرة ما يمنع جميع أنواع المنافع انفسخت الإجارة وجهاً واحداً. يعني: أصبحت العين المستأجرة لا يمكن الانتفاع بها في أي نوع من أنواع الانتفاع. ـ القسم الثاني: أن تصاب العين المستأجرة بما يمنع من الانتفاع بالمعقود عليه خاصة. مثاله/ أن يستأجر الأرض للزرع ثم يفاجأ أن الماء غار. هذه الأرض مستأجرة لماذا؟ للزرع. والآن لا يمكن أن ننتفع منها بالمعقود عليه. لكن يمكن أن ينتفع منها بأمر آخر: كأن يبني عليها أن يجعلها مكاناً للتخزين مختلف أنواع الانتفاعات غير المعقود عليه. هذه هي المسألة التي يريد المؤلف - رحمه الله - أن يتكلم عنها. = فعند الحنابلة: تنفسخ الإجارة مباشرة. - لأن المعقود عليه هنا لا يمكن استيفاؤه. وهذا هو المذهب. = والقول الثاني: أن العقد لا ينفسخ. وللمستأجر الخيار بين الفسخ والإمضاء. وأظن ألأنك تعرف الفرق بين أن نقول لا تنفسخ وله الخيار في الفسخ وبين أن نقول تنفسخ. إذاً القول الثاني: أنها لا تنفسخ وله الخيار بين الإمضاء والانتفاع وبين الفسخ. ثم إذا اختار الإمضاء فإنه يجب أن يدفع كامل الأجرة. - لأن تعطل منافع هذه العين المعقود عليها بعتبر كالعيب ومن رضي بالعيب دفع الثمن كاملاً. وإلى ذهب القاضي أبو يعلى من كبار الحنابلة له ترجمة ممتعة في طبقات الحنابلة مفيد لطالب العلم مراجعتها. والراجح والله اعلم المذهب. أخذنا هذه الصورة وهي إذا ما تعطلت المنافع المعقود عليها بالكلية. الصورة الثالثة والأخيرة: إذا تعطلت بعض المنافع المعقود عليها. كأن يستأجر أرضاً ليزرعها ثم يكتشف أن جزءاً منها غير صالح للزراعة. والباقي صالح.

فحينئذ الحكم أن المستأجر مخير بين الفسخ أو البقاء مع تقسيط الأجرة على المستأجر. فإذا استأجر الأرض بمائة ألف وتبين أن النصف منها غير صالح للزراعة فالواجب الأجرة مقسطة وهي خمسين ألف. وهذا القول فيه عدل: نحن نخيره بين أن يبقى أو أن يفسخ وإذا أراد البقاء لا يدفع إلا ما يقابل الانتفاع وهذا قمة العدل. وبهذا ننتهي من درس هذا اليوم. والله أعلم وصلى الله على نبينا محمد ..

الدرس: (37) من البيع قال شيخنا حفظه الله: بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين. تقدم معنا بالدرس السابق الكلام عن أخذ الأجرة على أعمال الطاعة ومن المسائل التي نسيت أن أنبه إليها وسأل عنها عدد من الطلاب: مسألة/ هل ما يأخذه الأئمة والمؤذنون من وزارة الشؤون الإسلامية تدخل في الخلاف في مسألة أخذ الأجرة على أعمال الطاعة كالأذان والإمامة؟ والجواب على هذا السؤال: أن ما يأخذه الأئمة والمؤذنون لا يدخل ضمن الخلاف السابق أصلاً وهو خارج من نطاق الخلاف عند تحرير محل النزاع. لأن ما يأخذه المؤذنون والأئمة هو رزق من بيت المال والرزق جائز بالإجماع. والدليل على هذا: - أن أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - كانوا يلون الولايات الدينية ويأخذون عليها الأرزاق ولا يعتبرون هذا من الأخذ على عمل القربات: فأبو بكر وعمر وعثمان وعلي ولو الولاية العامة وأخذوا رزقاً من بيت المال والقضاة كذلك أخذوا رزقاً من بيت المال. والعمال الذين كانوا يرسلهم النبي - صلى الله عليه وسلم - لجباية الزكاة ونحوها كانوا يأخذون من بيت المال رزقاً وكل هذا لا يتعبر من الأجرة التي تدخل في الخلاف الذي ذكرناه في الدرس السابق. والفرق بين الرزق والأجرة: هو أن الرزق ما يأخذه الإنسان من بيت المال مساعدة له للقيام بالولايات الشرعية. فقولنا: (مساعدة) يعني: أن ما يأخذه ليس معاوضة وليس مقابلاً للعمل الذي يعمله وإنما هو إحسان وإعانة من ولي الأمر. وهذا الفارق الجوهري بين الرزق وبين الأجرة.

تبين الآن معنا إن شاء الله حكم هذه المسألة وأنا أطلب من كل واحد من الطلاب - ملزم - أن يرجع للفروق للقرافي - المطبوع - ويراجع مسألة الفرق بين الرزق والأجرة ذكر - رحمه الله - فروقاً كثيرة بالتتبع وجوهر الفروق هو ما ذكرت لك. لكن هو - رحمه الله - ذكر نحوا من أربعة أو خمسة فروق وقراءة هذه الفروق مفيد جداً لطالب العلم وتنمي عنده ملكة التفريق بين المسائل المتشابهة وهذا كتاب مهم فإن كان في مكتبتك فبها ونعمت وإلا فيحسن بالإنسان أن يقتنيه وله عدة طبعات منها طبعة مرتبة على أبواب الفقه مختصرة جاءت في مجلد واحد ومنها طبعة للكتاب كما وضعه المؤلف - رحمه الله - محققه وهي أيضاً طبعة جيدة ولك أن تختار أي الطبعتين من هذه الطبعات إذا لم يكن الكتاب موجوداً عندك من قبل وتقرأ في الفرق بين الرزق والأجرة. - قال - رحمه الله -: - وإن وجد العين معيبة أو حدث بها عيب: فله الفسخ، وعليه أجرة ما مضى. قال - رحمه الله -: (وإن وجد العين معيبة فلع الفسخ). العيب في هذه المسألة بالذات هو: ما يؤثر نقصانا على الأجرة. أي ما تكون الأجرة معه أنقص فإن كانت العين معيبة عيباً لا أثر له على الأجرة فإنه لا يثبت الخيار في الفسخ. تبين معنا الآن أن العيب المذكور في هذه المسألة هو العيب الذي تصبح الأجرة معه أقل. يقول - رحمه الله -: (وإن وجد العين معيبة أو حدث بها عيب: فله الفسخ). يريد المؤلف - رحمه الله - أن يشير إلى أن هذا الحكم يستوي فيه ما إذا كان العيب موجوداً في العين المؤجرة من قبل العقد ولكن لم يفطن له المستأجر ثم علم به وبينما ما إذا حدث العيب بعد العقد. ففي المسألتين الحكم واحد. الحكم هو: أن له الفسخ. يعني: أو الامضاء مجاناً ولو أن المؤلف - رحمه الله - صرح بالحكم لكان أكمل في الحقيقة لأنه من صميم الحكم. إذاً الحكم إذا وجد عيباً في العين المؤجرة أنه مخير بين الفسخ أو الامضاء مجاناً. ومعنى: (مجاناً) أي بلا أرش الفرق بين العين معيبة وبلا عيب. هذا هو مذهب الحنابلة. إذاً إذا وجد الإنسان عيباً في العين المستأجرة فهو مخير بين الفسخ والإمضاء: فإن اختار الإمضاء فالإمضاء يكون مجاناً.

الدليل على ثبوت خيار الفسخ إذا وجد المستأجر في العين المستأجره عيباً: - الأول: الاتفاق. (ونحن نتكلم الآن على الفسخ). فإن الأئمة اتفقوا على هذا الأمر وهو أنه إذا وجد العين معيبة له الفسخ. - الثاني: القياس على السلعة في عقد البيع. فإن الإنسان إذا اشترى عيناً فوجد بها عيباً فإنه مخير بين الفسخ والإمضاء. ويستثنى من هذا الحكم: وهو خيار الفسخ: ما إذا قام المؤجر بإصلاح العيب بلا ضرر على المستأجر. مثاله/ إذا وجد المتأجر البالوعة ممتلأه وهذا عيب من عيوب البيوت له أن يفسخ إذا وجد البالوعة ممتلأه لكن إذا بادر المؤجر بتفريغ البالوعة مباشرة فإنه لا خيار للمستأجر بل يجب عليه أن يبقى لأن الضرر زال وأمكنه ألأن ينتفع بالعين على الوجه الكامل. * * مسألة/ ذكرنا أن مذهب الحنابلة أنه إذا اختار الإمضاء فهو مجاناً. واستدلوا على هذا: - بأن المستأجر لما اختار الإمضاء فقد اختار العين معيبة برضاه. فله الاستمرار فقط. = والقول الثاني: أنه إذا اختار الإمضاء ثبت له الأرش. والأرش هنا هو الفرق بين أجرة العين سليمة وأجرة العين معيبة. فإذا استأجر سيارة ووجدها معيبة بخلل في الماكينة وأجرة السيارة في العقد مائة ريال ثم لما اكتشف العيب وسأل وجد أن أجرة مثل هذه السيارة المعيبة ثمانين ريال فإنه يحط من قيمة الأجرة: عشرين ريال. على القول الثاني. استدل أصحاب القول الثاني: - بأن مقتضى العدل أن ينقص من الأجرة بمقدار ما نقص من الانتفاع. وهذا القول إن شاء الله هو الراجح. فعلى القول الراجح يصبح مخيراً بين الفسخ أو الامضاء وأخذ الأرش. وعلم مما تقدم أن المؤجر لا يستطيع أن يلزم المستأجر بالبقاء ويقول أدفع لك الفرق بين الأجرتين. إنما الخيار للمستأجر. - قال - رحمه الله -: - وعليه أجرة ما مضى. يعني فيما إذا حدث العيب بعد أن لم يكن. فإذا حدث العيب بعد أن لم يكن وانتفع المستأجر من العين مدة من الزمن فإن للمؤجر أجرة هذه المدة. والتعليل: - أنه استوفى المنفعة في هذه المدة فوجب عليه أن يدفع العوض. لكن هل ينقص من أجرة المدة بقدر النقص الموجود في العين المستأجرة بسبب العيب أو يدفع كامل أجرة هذه المدة؟ فيه تفصيل:

ـ إن كان انتفع بالعين مع وجود العيب في هذه المدة انتفاعاً كاملاً بحيث تحقق غرضه على الوجه المطلوب فإن الذي يظهر لي أنه لا يخصم من الأجرة شيء. ـ وإن كان انتفع بالعين المستأجرة في هذه المدة لكن مع خلل في النفع بسبب العيب. فإنه يحط من الأجرة بمقدار العيب. - قال - رحمه الله -: - ولا يضمن أجير خاص: ما جنت يده خطأً. انتقل المؤلف - رحمه الله - إلى أحكام الضمان. - وقال - رحمه الله -: - ولا يضمن أجير خاص. يقسم الفقهاء ال الأجير إلى قسمين: - أجير خاص. - وأجير مشترك. ـ فالأجير المشترك سيأتينا. ـ والأجير الخاص هو: من استؤجر في مدة معلومة بحيث يستغرق المستأجر كامل المنافع ولا يشاركه فيه أحد. مثاله/ أن يستأجر العامل يوماً كاملاً لبناء جدار. أو يستأجر الخياط عشر ساعات لخياطة ثوب. ويجب أن تلاحظ الأمثلة ملاحظة جيدة حتى تفرق بين المشترك والخاص. نحن نقول: يستأجر الخياط في مدة معلومة وتكون منافع الخياط في هذه المدة للمستأجر وحده. فهذا أجير خاص. الأجير الخاص: لا يضمن عند الفقهاء. ولهذا يقول - رحمه الله -: (ولا يضمن أجير خاص). السبب في أنه لا يضمن: القياس على المضارب والوكيل. فنقيس الأجير الخاص على المضارب والوكيل. الجامع: يعني علة القياس: هو أن كلاً منهما - أي من الأجير الخاص والوكيل والمضارب - نائب عن المالك في التصرف فهو أمين. وهذا القياس قياس صحيح. والحكم المبني عليه وهو عدم تضمين الأجير أيضاً حكم صحيح. * * أريد أن أنبه أنه بالنسبة للأجير الخاص ينظر إلى المنافع في الزمن لا في المكان. فإذا استأجر زيد عمراً ليخيط له الثوب في يوم فهو أجير خاص سواؤ خاط الثوب في بيت المستأجر أو خاط الثوب في بيت نفسه - يعني في بيت الأجير. إذاً: المكان لا ينظر إليه في الأجير الخاص وإنما ينظر إلى استغراق جميع المنافع في مدة معينة. ثم انتقل المؤلف - رحمه الله - إلى مسألة أخرى: - يقول - رحمه الله -: - ولا حجام وطبيب وبيطار: لم تجن أيديهم إن عرف حذقهم. الحجام معروف والطبيب معروف والبيطار هو من يعالج الحيوانات وهو الذي يسمى في وقتنا البيطري.

هؤلاء إذا تلف في أيديهم شيء من المعالج فإنهم لا يضمنون ولكن هذا مشروط بشرطين: ـ الشرط الأول: الحذق. وهو العلم بالصنعة. ـ الشرط الثاني: أن لا تنجي أيديهم. ولذلك يقول - رحمه الله - هنا: (لم تجن أيديهم إن عرف حذقهم). والمقصود بالجناية هنا: أن يتعدى الموضع المقرر له في العلاج. مثاله/ ان يتاتي لقطع موضع فيقطع في موضع آخر خطأ. فإذا تحقق الشرطان: لم تجن يده وهو حاذق يعني عنده علم بالصنعة فإنه لا يضمن. وهذا لا إشكال فيه مطلقاً. تقدم معنا مراراً أنا نستطيع أن نخرج من الشرطين: أربع حالات. دائماً نستطيع أن نخرج من الشرطين أربع حالات: ـ فالحالة الأولى: إذا انطبق الشرطان وحكم هذه الحالة أنه لا ضمان. ـ الصورة الثانية: إذا لم ينطبق الشرطان. فلا إشكال أنه يضمن. فإذا كان جاهلاً وجنت يده فهو يضمن. ـ الصورة الثالثة: إذا كان جاهلاً ولم تجن يده. يعني: أصاب مصادفة: هو جاهل في علم الطب ولكنه عالج أشخاصاً مرضى وأصاب ولم تجن يده. فإنه يضمن بالاتفاق. لأنه جاهل وهذا اعتداء وتفريط. ـ بقينا في الصورة الرابعة: وهي ما إذا كان حاذقاً عالماً عارفاً مجرباً وجنت يده. ففي هذه المسألة خلاف وقبل أن أشير إلى الخلاف أحب أن أنبه إلى أن الحالات الأربع مفروضة فيما إذا لم يتعدى ولم يفرط. وقد يثور إشكال في أذهانكم: كيف تتعدى يده أو تجني يده بلا تفريط ولا تعدي؟ هذا متصور لم يرط ولم يتعد يعني لم يقصر ولم يتجاوز الواجب لكنه أخطأ أثناء العمل. هنا لا يعد مفرطاً ولا متعد لكنه أخطأ. الحكم: الحكم: أنه: = ذهب الجماهير بل حكي إجماعاً أنه يضمن. (لاحظ معنا الصورة وهي أكثر الصور وقوعاً لأنه قل أن تجد طبيباً جاهلاً يعالج أو يتعدى أو يفرط لكن الكثير من الأخطاء هي أن يكون حاذقاً لكن جنت يده يعني أخطأ). الحكم كما قلت: ذهب الجماهير وحكي إجماعاً أنه يضمن. عللوا هذا: - بأنه في الاتلافات الواقعة على بدن الآخرين لا ينظر إلى التعدي ولا إلى التفريط بل يضمن مطلقاً. قياساً على إتلافات المال. فإتلافات المال إذا أتلف زيد مال عمرو فهو يضمنه سواء تعدى وفرط أو لم يتعد ولم يفرط فكذلك الاتلافات على بدن الإنسان.

= القول الثاني: أنه يضمن إن كان مشتركاً. ولا يضمن إن كان خاصاً. = القول الثالث: يضمن إن كان خاصاً ولا يضمن إن كان مشتركاً. = القول الرابع والأخير: لا يضمن مطلقاًَ إذا لم يتعد أو لم يفرط. - لأن يده يد أمانة. والراجح والله أعلم: أنه يضمن. لأنه وإن كانت يده يد أمانة إلا أنه هنا أخطأ وأتلف بدن معصوم أو جزءاً من بدن المعصوم. بناء عليه: يضمن. الدليل الثاني: للإستئناس ووتقوية الترجيح: لا للإعتماد أن في هذا القول رجعاً لتساهل الأطباء. وحماية للمرضى. وهذا القول يشعر من كلام ابن القيم - رحمه الله - أنه يميل إليه. بل يكاد يكون صريح كلامه ترجيح هذا القول. * * مسألة/ إذا أردنا أن نطبق بعض هذه الأحكام نقول: إذا وصف الطبيب للمريض دواء وأخطأ فيه. فهو من أي الأقسام؟ القسم الرابع. إذا وصف الدواء ولكنه أخطأ في الدواء لأن معلوماته ناقصة ما درس في كلية الطب على الوجه المطلوب. أو درس وتخرج من فترة طويلة ونسي أن هذا الدواء لا يصرف لمن عنده حساسية مثلاً أو للمرأة الحامل أو لمن عنده صداع .. إلى آخره. المهم الأمثلة كثيرة: أنا أعتبره من القسم الثاني: وهو الذي يداوي وهو جاهل وأيضاً جنت يده. / إذا تخرج الإنسان من كلية الطب بالغش ما عنده علم مطلقاً وصرف دواء وشفي المريض. فهو من أي قسم؟. من القسم الثالث: وهو: إذا لم تجن يده وأيضاً. ( ..... ). ماذا يضمن هذا والمريض شفي؟ ما يضمن شيئا. لكن يجب أن يعاقب ويؤدب ويعزر. عرفنا إذاً الآن أقسام هذه المسألة التي يحتاج الإنسان إليها. نحن نقول في القول الثاني والثالث أنه يضمن إذا كان مشتركاً ويضمن إذا كان خاصاً. الطبيب أجير مشترط أو أجير خاص؟ قد يكون مشتركاً وقد يكون خاصاً. وهذا معلوم لأن أصحاب القول الثاني يقولون: أنه يضمن إذا كان مشتركاً يعني معناه أنه من الممكن أن يكون مشتركاً ويمكن أن يكون خاصاً. فإذا أتيت بالطبيب إلى بيتي ليعالجني في وقت محدد فهو خاص. وإذا كان في المستشفى يعالج الناس فهو مشترك. - قال - رحمه الله -: - ولا راع لم يتعد. راعي الغنم لا يضمن إذا لم يتعد.

وقد حكي الإجماع على هذا: لأنه كالمودع ويده يد أمانة ولم يخالف من الفقهاء أحد إلا رجل واحد وهو الشعبي فإنه رأى أن الأجير يضمن. وقوله - رحمه الله - ضعيف جداً وربما تكون هذه الفتوى من الشعبي مناسبة لوقت من الأوقات أو لانتشار التساهل بين الرعاة في زمنه أو لأي سبب عارض. لكن من حيث الدليل الراعي لا يضمن. بل قال الفقهاء شيئاً يدل على إئتمانهم للراعي بشدة: وهو أنه لو ادعى أنها تلفت وماتت أو أكلها لا يلزم بأن يأتي بشيء منها. بل مجرد دعواه أنها ماتت أو افترست أو أكلها الذئب .... إلى آخره. فإنه تقبل دعواه بلا مطالبة بالبينة. وعللوا ذلك: بأن الراعي قد لا يستطيع أو يتعذر عليه إقامة البينة على مثل هذه الأمور فإلزامهم بالبينات يفضي إلى اعتذار كثير من الناس من الرعي لغيره بأجر معلوم. الخلاصة: أن الراعي لا يضمن إذا لم يتعد بالإجماع ولم يخالف إلا الشعبي. - قال - رحمه الله -: - ويضمن المشترك ما تلف بفعله. انتقل المؤلف - رحمه الله - إلى المشترك. فيقول: (ويضمن المشترك ما تلف بفعله). المشترك هو من لا يختص نفعه للمستأجر. بل يتقبل العمل لاثنين فأكثر في وقت واحد. مثاله/: الخياط والقصار - يعني الغسال - والطباخ ونحو هؤلاء. فهؤلاء يتقبلون أعمالاً متعددة في وقت واحد ويصبح وقته مشتركاً للجميع. وحقيقة الأجير المشترك: أن العقد معه عقد على العمل. ذكر المؤلف - رحمه الله - أنه يضمن ما تلف يفعله. ومقصود المؤلف - رحمه الله - بقيد: (بفعله) إخراج ما عدا ذلك كما سيأتينا فهو وصف وقيد معتبر. قبل أن نأتي بفعله وما يخرج به نتحدث عن أصل المسألة/ = يرى الحنابلة ان الأجير المشترك يضمن. واستدلوا على هذا بعدة أدلة: - الدليل الأول: أنه مروي عن أمير المؤمنين عمر وعن أمير المؤمنين علي - رضي الله عنهما -. - الثاني: أن أمر الناس لا يصلح إلا بهذا. وهذا التعليل مروي عن علي - رضي الله عنه -. وعلل به بعض الفقهاء. ويقصدون بهذا التعليل: أنه لو لم نضمن الأجير المشترك لأدى هذا إلى تهاونه وإضاعته لأموال الناس والتفريط فيها. فإذا ضمناه ضمنا قيامه بالواجب تجاه أموال الناس.

- الدليل الثالث: أن عمل الأجير المشترك مضمون عليه. وما تولد عن المضمون مضمون. ولاحظ أن المؤلف - رحمه الله - يقول: (بفعله). ونحن نقول ما تولد عن هذا الفعل: مضمون. شرح الدليل: قولهم أن عمل الأجير المشترك مضمون عليه: معنى: (مضمون عليه) أنه لا يستحق الأجرة إلا بتمامه. وقولهم: (ما تولد عن المضمون مضمون) يعني ما تولد عن هذا العمل من إتلاف أيضاً مضمون لأنه متولد عن عمل مضمون. = القول الثاني: أنه لا يضمن. واستدلوا على هذا: - بالقياس على الأجير الخاص. لأن كلاً منهما أخذ مال الغير لنفع الغير. - ولأن يده يد أمانة كالمودع. الراجح والله أعلم: القول الثاني: أنه لا يضمن. لأن الآثار عن عمر وعلي ضعيفة منقطعة لا تثبت ولأن الأجير في أصل العقد مؤتمن. ولو قيل: أن تضمين الأجير المشترك يرجع فيه إلى رأي الحاكم فإذا رأى أن الأجراء الذين يعملون للناس على سبيل الاشتراك عندهم تساهل وتفريط بأموال الناس ضمنهم وإلا فلا: فيكون من باب السياسة الشرعية لا من باب الأحكام المضبوطة التي دلت عليها النصوص المحكمة وإنما تكون من السياسة الشرعية لكان هذا القول وجيه ومفيد. - قال - رحمه الله -: - ولا يضمن ما تلف من حرزه أو بغير فعله. هذا في الحقيقة بيان لما يخرج بقوله (بفعله). إذا تلف المال عند الأجير المشترك في حرزه أو بغير فعله فإنه لا يضمن. مثال هذا الأمر:/ إذا أعطى رجل خياطاً ثوباً له ليخيط هذا الثوب فأخطأ الخياط وخرق الثوب بفعله وهذه هي الصورة التي ذكرنا الخلاف فيها. لكن إذا أعطى الرجل رجلاً عمل في المجوهرات أعطاه ذهباً ليقوم بصياغته على شكل معين ووضع صاحب المحل الذهب في المكان المخصص وهو التجوري المغلق المحكم ومع ذلك سرق. فيعتبر سرق من حرزه وإن كان المال موجوداً عند الأجير المشترك لكن لا يضمنه لأنه سرق من حرزه. ـ الصورة الثانية: إذا تلف بغير فعله. كأن يتلف بآفة سماوية أو يتلف بما لا يد للأجير المشترك به كالحرائق ونحوها. حينئذ لا يضمن. لأنه ليس بفعله. والحنابلة يرون أنه يضمن إذا نتج التلف عن فعله فقط. - قال - رحمه الله -: - ولا أجرة له.

معنى هذا الكلام: أن الأجير المشترك إذا اخذ ثوباً ليخيطه مثلاً وجلس يخيط في هذا الثوب لمدة خمسة أيام في اليوم السادس احترق الثوب بفعله: بأن وضع المحماة على الثوب واخترق وتلف. فعند الحنابلة الآن يضمن الثوب ولا أجرة له في عمله السابق. وإن كان يعمل في الخياطة لمدة خمسة أيام لا أجرة له في عمله السابق. واستدلوا على هذا: - بأن العقد يقتضي تسليم العمل أو نتيجة العمل وهو في المثال الثوب. فإذا لم يسلم المعقود عليه لم يتحق شيئاً من الأجرة. = والقول الثاني: أن به من الأجرة بقدر عمله. - لأنه لم يفرط ولم يعتدي فيدفع له من الأجرة ما يوافق المدة التي عمل بها. وينبغي أن يحسب هذا بحسب العمل. ما معنى بحسب العمل؟ يعني: إذا كان أول العمل أشق من آخره والمعمول تلف بعد أول عمل في المنتصف فيجب أن يأخذ أكثر من نصف العمل. لأن العمل في الأول أشق من العمل في الأخير. كذلك العكس إذا كان العمل في الأخير هو الشاق وهو المتعب وإنما عمل به عملاً يسيراً فإنه يجب أن يعطى بمقدار ذلك من الأجرة ويرجع في تحديده إلى أهل العرف. = والقول الثالث: أنه يأخذ إذا كان العمل في البناء أو في النقل فقط ولا ياخذ إذا كان في أمر آخر. وذلك لمشقة البناء والنقل. والراجح القول الثاني. - قال - رحمه الله -: - وتجب الأجرة بالعقد: إن لم تؤجل. وتجب الأجرة بالعقد. هذه المسألة مهمة جداً وينبني عليها فروع. يقول - رحمه الله -: (تجب الأجرة بالعقد) معنى تجب: أي تملك. فالأجرة تملك بالعقد يعني بمجرد العقد. سواء كان العقد إجارة أعيان أو عمل في الذمة. فبمجرد العقد يملك. الدليل على هذا: - قالوا: الدليل على هذا: أنه في عقود المعاوضات المعوض يملك بمجرد العقد. كما في البيع. في البيع بمجرد العقد ينتقل ملك الثمن إلى البائع والسلعة إلى المشتري. وكما في النكاح فإنه بعد النكاح يجب المهر مباشرة. = القول الثاني: أن الأجرة لا تملك بالعقد فقط. بل تملك بعد استيفاء المنافع يوماً فيوماً. واستدلوا على هذا بأدلة: - الدليل الأول: قوله تعالى: (فإن أرضعن لكم فآتوهن أجورهن) فأمر بإيتاء الأجر بعد الإرضاع. واستدلوا أيضاً:

- بالحديث القدسي: (ثلاثة أنا خصمهم يوم القيامة) قال: (ورجل استأجر أجيراً فاستوفى منه ولم يوفيه أجره). قوله: (فاستوفى منه) دل الحديث على أن الذنب إنما يكون بتأخير الأجرة بعد استيفاء المنفعة لقوله: (فاستوفى منه) - الدليل الثالث: ان الأجرة في عقد الإجار مقابل منفعة فإذا لم ياخذ المنفعة لم يجب عليه أن يملك الأجرة. وظاهر كلام شيخ الإسلام - رحمه الله - أنه يرجح القول الثاني. وهو الأقرب إن شاء الله. - قال - رحمه الله -: - وتستحق بتسليم العمل الذي في الذمة. قبل أن ندخل في هذه المسألة: عندنا في مسألة الأجرة ثلاث أزمان: ـ زمن الملك. ـ وزمن استحقاق المطالبة. ـ وزمن استقرار الأجرة. لكل واحد منها وقت في الشرع. نحن ذكرنا في كتاب الإجارة ان الإجارة على نوعين: ـ على عين. ـ وعلى عمل في الذمة. إذا كانت على عمل في الذمة فهي المسألة التي ذكرها المؤلف - رحمه الله - وسنأتي إليها. إذا كانت على عين: نقول: إذا كانت على عين تملت بالعقد كما ذكر المؤلف - رحمه الله - وذكرنا الخلاف فيه. وتستحق - يعني: يجوز المطالبة بالثمن - بتسليم العين. - ونحن نتكلم عن الأجرة إذا كان المعقود عليه عين - متى يجوز المطالبة بالثمن؟. بتسليم العين. فمجرد ما يسلم اعين له أن يطالب بالأجرة ولو لم ينتفع المستأجر. واستدلوا على هذا: - بأن تسليم العين يجري مجرى الانتفاع بمنافعها. هكذا يقولون. بقينا في الزمن الثالث: وهو: الاستقرار. لا تستقر الأجرة إلا بمضي المدة. وما معنى تستقر؟ يعني: تملك ملكاً تاماً. إذاً عرفنا الآن فيما إذا كان المعقود عليه عين متى تملك ومتى يستحق المطالبة ومتى تستقر الأجرة. نأتي إلى مسألة المؤلف - رحمه الله - حيث يقول: (وتستحق بتسليم العمل الذي في الذمة.) إذا كان المعقود عليه عمل في الذمة مثل أن أقول للعامل: ابن لي هذا الجدار. فأيضاً له ثلاثة أزمان: ـ الزمن الأول: ملك الاجرة ويكون بالعقد. لماذا؟ لأن المؤلف - رحمه الله - في المسألة الأولى يقول: (وتجب الأجرة بالعقد. هل فرق بين أن يكون عمل وبين أن يكون عين؟ إذاً يشمل الأمرين. إذاً: متى تملك؟ بالعقد. ولكن لا تستحق ولا تستقر إلا بعد تسليم العمل.

وهذا هو الفرق بين أن يكون العقد على عين وبين ان يكون العقد على عملفي الذمة. إذاً الفرق بينهما في مسألة استحقاق المطالبة: ـ ففي العين يستحق المطالبة بمجرد التسليم. ـ وأما في العمل على الذمة لايستحق المطالبة إلا بعد تسليم العمل. أما الملك ففي المسألتين يكون بالعقد. - قال - رحمه الله -: - ومن تسلم عيناً بإجارة فاسدة وفرغت المدة: لزمه أجرة المثل. إذا استأجر الإنسان بيتاً وصار عقد الإجار باطلاً أو فاسداً لفوات شرط أو لوجود مانع أو لأي سبب من مبطلات عقد الإجارة فإنه إذا مضت المدة يجب عليه أجرة المثل. ((الأذان)) وكلام المؤلف - رحمه الله - يشمل ما إذا سكن أو لم يسكن انتفع أو لم ينتفع من العين المستأجرة. وهذا هو مذهب الحنابلة. واستدلوا على هذا: - بأن منافع هذه العين تلفت تحت يد المستأجر. فيجب أن يدفع عوض ذلك. = والقول الثاني: أنه إذا لم يسكن ولم ينتفع من العين فإنه لا يجب عليه دفع الأجرة. - لأن الأجرة مقابل انتفاع وهو لم ينتفع. والحنابلة أسعد بالدليل والبالنظره الفقهية لأن منافع هذا البيت المستأجر وإن كان بعقد فاسد تلفت تحت يد هذا المستأجر سكن أو لم يسكن. إذا الراجح إن شاء الله مذهب الحنابلة. * * مسألة/ تبين مما سبق أنه إذا لم يسلم المؤجر المستأجر العين في العقد الفاسد فإنه لا يجب عليه دفع الاجرة وإنما الخلاف السابق فيما إذا سلم العين. كذلك إذا بذل المؤجر العين للمستأجر ولم يستلمها مع بذله لها فلا يجب عليه أيضاً دفع الأجرة. وهذا صحيح يجب عليه في حال واحدة إذا استلم العين المؤجرة. وقول المؤلف - رحمه الله -: (أجرة المثل.) = ذهب الحنابلة إلى أن عليه أجرة المثل. - لأن العقد فاسد والمسمى فيه فاسد تبعاً لفساد العقد. ولذلك نرجع إلى أجرة المثل. سواء كانت أكثر أو أقل من المسماة. فإذا استأجر البيت بخمسين ألف وتبينا أن العقد فاسد بعد مضي سنة وأجرة مثلة في هذه السنة عشرين ألف: الواجب على المستأجر أن يدفع: عشرين. وإذا كانت أجرة مثله مائة ألف الواجب أن يدفع: ( ... ) مع أن المسمى في العقد: خمسون ألفاً. = والقول الثاني: أن عليه أن يدفع المسمى في العقد لا أجرة المثل. - لأن هذا أقرب إلى العدل.

باب السبق

- وقياساً على النكاح الفاسد. وهذا القول نصره اثنان من علماء الحنابلة: الأول: ابن عقيل - رحمه الله -. والثاني: شيخ الإسلام - رحمه الله -. وهو القول الصحيح إن شاء الله. بهذا انتهينا من هذا الباب المهم وهو الإجارة وهو كتاب حري بالعناية به ويكاد يكون من أكثر العقود تعاملاً بين الناس فضبط أحكامه وتفصيلاته مفيد لطالب العلم. وننتقل إلى باب السبق. باب السبق. - قال - رحمه الله -: - باب السبق. السبق: يقرأ بتسكين الباء وفتحها. قال الخطابي: والأفصح الموافق للرواية الفتح. والسبَق هو: العوض الذي يجعل للمتسابقين. يعني: للفائز من المتسابقين. وأما بالسكون: السبْق فهو: المناضلة والمجاراة بين اثنين: حيوان أو غير حيوان. والسبْق يعني: والمسابقة مشروعة بالإجماع والسنة. - أما السنة فإنه ثبت في الصحيح أن النبي - صلى الله عليه وسلم -: سابق بين الخيل المضمرة (أو المضَمَّرَة كلاهما صحيح إن شاء الله). وهي الخيل التي تعلف حتى تقوى وتشتد وتتحسن ثم يقطع عنها العلف وتعطى قدر الكفاية فقط إلىن تشتد ويصلب جسدها وتقوى. ففي هذا الحديث تصريح بأن النبي - صلى الله عليه وسلم - أجرى المسابقة بين الخيل. - وأما الإجماع. فأجمع أهل العلم على مشروعية المسابقة إلا في أشياء معينة وتفصيلات معين ستأتينا. لكن من حيث الجملة أحمعوا على مشروعية المسابقة. والله أعلم وصلى الله على نبينا محمد ...

الدرس: (38) من البيع قال شيخنا حفظه الله: بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين. وذهب بعض الحنابلة وهو وجه في المذهب إلى أن المسابقات على الألعاب التي لا يستفاد منها وتضيع الأوقات بها مكروهة. وذهب شيخ الإسلام إلى ضابط آخر فقال: كل مسابقة تؤدي غالباً إلى محرم فهي ممنوعة. وهذا الضابط صحيح إذا كانت المسابقة تؤدي غالباً إلى محرم فهي وإن كانت مباحة في أصلها إلا أنها محرمة لوصفها وهو أنها تؤدي إلى محرم. - يقول - رحمه الله -: - يصح: على الأقدام.

تصح المسابقة على الأقدام بالإجماع. يعني: بلا عوض. وأنا قلت في أول الدرس أن القسم الأول: المسابقات التي ليست على عوض. فنحن نتكلم عن المسابقات التي ليست على عوض فلسنا بحاجة في كل مسابقة أن نقول: يعني بغير عوض. أجمع الفقهاء على جواز المسابقة على الأقدام. واستدلوا على هذا بدليلين: - الدليل الأول: أن سلمة بن الأكوع - رضي الله عنه - سابق بين يدي النبي - صلى الله عليه وسلم - - سابق رجلاً من الأنصار. - الدليل الثاني: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - سابق عائشة - رضي الله عنه - فسبقته ثم سابقها لما ثقلت فسبقها - صلى الله عليه وسلم - وقال هذه بتلك. فهذا نص في جواز المسابقة. واختلف الفقهاء في المسابقة على الأقدام إذا كانت على عوض: = فذهب الجمهور: إلى أن المسابقة على الأقدام إذا كانت على عوض فلا تجوز. واستدلوا على هذا: - بأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (لاسبق إلا في خف أو حافر أو نصل). والأقدام ليست من المذكورة في الحديث. ووجه الاستدلال: أن الحديث جاء بصيغة الحصر فقال: (لا إلا في). وهذا من صيغ الحصر. = والقول الثاني: أن المسابقة على الأقدام على عوض تجوز. واستدلوا على هذا: - بان النبي - صلى الله عليه وسلم - إنما أجاز السبق في هذه الثلاثة الأشياء لانها تعين على الجهاد وتقوي المتسابق والجهاد تارة يكون على الخيل وبالأسهم وتارة يكون على الرجل. فالراجلة من الجنود كلهم يجاهدون بلا ركوب أما المسابقة على الاقدام تقوي الرجل ليتمكن من الجهاد على رجليه فتقاس على المذكورة في الحديث. وهذا القول الثاني هو الصحيح إن شاء الله ورجحانه ليس رجحاناً بيناً قوياً لكنه هو الراجح. والسبب في عدم قوة ترجح هذا القول أن المسابقة بالأقدام والجهاد بالرجل موجود في عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - فهذا سلمة سابق بين يدي النبي - صلى الله عليه وسلم - ومع ذلك حصر النبي - صلى الله عليه وسلم - جواز أخذ العوض في هذه الثلاثة أشياء. فهذا في الحقيقة يشير ولو من بعيد إلى حصر الأمر في هذه الثلاثة أشياء.

لكن باعتبار أن طريقة التفقه السليمة هي النظر إلى معنى النص وروح النص وأخذ العلة التي حكم النبي - صلى الله عليه وسلم - بناء عليها من هذا المنطلق نقول الراجح قياس المسابقة بالاقدام على المسابقة بالخيل والرمي بالسهام. ويكون هذا القول إن شاء الله هو الراجح. * * مسألة/ هل يعني هذا جواز أخذ العوض في لعبة كرة القدم لأنها تشبه المسابقة على الأقدام. لأنهم يتسابقوع على الكره ويجرون خلفها وفي هذا تقوية للقدم كما أن في المسابقة على الأقدام تقوية على القدم؟ الجواب: أن لعبة كرة القدم ليس من ذلك في شيء مطلقاً ولا يجوز أخذ العوض عليه مطلقاً. والسبب: ان المقصود بجواز أخذ العوض على المسابقة بالأقدام أي المسابقة التي تقوي على الجهاد وتساعد عليه من غير ضرر. والواقع في لعبة كرة القدم أن فيها أضراراً كثيرة جداً وليست تتخذ للتقوية على الجهاد فلا تقاس أبداً على المسابقة على الأقدام. أبرز أضرار هذه اللعبة ضرران: ـ الأول: كثرة الإصابات لا يكاد يخلو لاعب من إصابه فصارت عكس المقصود ليست تقوي وإنما تعيق أحياناً. ـ الثاني: وهو أعظم من الأول: أن اللاعب بها يتعلق قلبه بهذه اللعبة ويكثر من المتابعة لها وتتبع أخبارها وهذا عكس مقصود الشارع الحكيم لا يحب أي لعبى تشغل القلب عن ذكر الله وهذه من أعظم الألعاب التي تشغل القلب عن ذكر الله فأنى لها أن تقاس على الجري على الأقدام بالكاد تكون جائزة فكيف نقول يجوز العوض عليها. - ثم قال - رحمه الله -: - وسائر الحيوانات. يعني: ويجوز المسابقة بسائر الحيوانات فيجوز أن يسابق على الخيل والجمال والفيلة والبغال والحمر وكل الحيوانات. والدليل على ذلك: - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كما تقدم معنا في أول الباب سابق بين الخيل - صلى الله عليه وسلم - فيقاس عليها المسابقة بين باقي الحيوانات. * * مسألة/ وهب يجوز أخذ العوض في المسابقة على غير المذكورة في النص؟ كالمسابقة على البغال أو المسابقة على الفيلة. الجواب: الجمهور يقولون لا يجوز إلا في المذكورة بالنص. وما عداها لا يجوز. واستدلوا: - بما استدل به أصحاب القول الأولر في المسألة السابقة وهي الحديث فإن الحديث حصر الجواز في الثلاثة.

= والقول الثاني: الجواز. واستدلوا على هذا: - بأن النبي - صلى الله عليه وسلم - إنما ذكر الخيل لأنها مركوب العرب وعليها يجاهدون. والفيلة لم تكن موجودة في المدينة ربما ولا في شبه جزيرة العرب. فلم تذكر في النص لهذا. فإذا استخدمت للجهاد وصارت الناس يتسابقون عليها للتقوي على الجهاد جاز أخذ العوض عليها. واستدلوا على ذلك بأمر آخر وهو: - أن الفيلة في الحروب أبلغ نكاية من الجمال ومن الخيل أيضاً عند التحام الصفين وإن كان الخيل أبلغ في الكر والفر. وهذا القول الثاني هو الصحيح ورجحانه بين وظاهر. لأن تخصيص النص على هذه الثلاثة الأشياء يظهر جلياً أنه لعدم وجود الفيلة ونحوها بين يدي أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم -. - ثم قال - رحمه الله -: - والسفن والمزاريق. السفن: معروفة. والمزاريق: هي الرماح القصيرة. فالمسابقة على السفن وعلى المزاريق جائز: قياساً على أمرين: - المسابقة على الأقدام. وفيه نص. - والمسابقة على الخيل وفيها نص. والخلاف الذي مر معنا في المسابقة على الأقدام والمسابقة على الحيوانات من حيث أخذ العوض يأتي معنا في المسابقة على السفن تماماً. = فالقول الأول: لا يجوز. - للنص. = والقول الثاني: يجوز. - لأن الناس يقاتلون تارة على الدواب والأقدام في البر. وتارة على السفن في البحر. وإذا كانت تستخدم في القتال البحري بل هي آلة القتال البحري الأساسية جاز المسابقة عليها تقوية لهذا الأمر. والقول الثاني إن شاء الله هو الراجح. - قال - رحمه الله -: - ولا تصح بعوض: إلاّ في إبل وخيل وسهام. لما انتهى المؤلف - رحمه الله - من المسابقات التي لا يجوز أخذ العوض عليها انتقل إلى المسابقات التي يجوز أخذ العوض عليها. - فيقول - رحمه الله -: - ولا تصح بعوض إلا في إبل وخيل وسهام. تجوز المسابقة بعوض على هذه الثلاثة أشياء بالإجماع فإنه لم يخالف أحد من الفقهاء في جواز المسابقة عليها بعوض لورود النص الصريح الصحيح فيها. وسواء كان المخرج للعوض أحد المتسابقين أو أجنبي. وسواء كان هذا الأجنبي الحاكم أو رجل آخر. في جميع هذه الصور يجوز بالاتفاق.

الصورة الأخيرة: إذا كان المخرج للعوض أحد المتسابقين جميعاً لا أقول أحد المتسابقان جميعاً هم الذين أخرجوا العوض. ففي هذه الصورة وقع الخلاف. إذاً: قبل ذكر الخلاف في الصورة الأخير: عرفنا الصور الآن: ـ أن يكون المخرج أحدهما. ـ الصورة الثانية: أن يكون المخرج أجنبي وهو الحاكم. ـ الصورة الثالثة: أن يكون المخرج أجنبي من غير الحاكم. ـ الصورة الرابعة: أن يكون المخرج للعوض المتسابقان. = فذهب الجماهير - جماهير اهل العلم وحكي إجماعاً أنه لا يجوز أخذ العوض في هذه الحالة إلا إذا دخل مع المتسابقين محلل. والمحلل هو من يدخل في المسابقة مع المتسابقين ويربح إن فاز ولا يدفع شيئاً من العوض ولا يؤمن أن يسبق. هذا هو المحلل عند الجمهور. واستدلوا على اشتراط المحلل بأدلة: - الدليل الأول: وهو العمدة وهو دليل مهم: أن المسابقة بلا محلل تصبح من القمار. والقمار معلوم التحريم. وجه ذلك: أنه بلا محلل يدور الأمر بين المتسابقين بين الغنم والغرم وكل معاملة دار الأمر فيها بين الغنم والغرم فهي من القمار. والمقصود بالغنم والغرم: يعني: المترتب على المخاطرة فكل واحد منهما يخاطر بدخول مسابقة ربما يفوز فيأخذ العوضين وربما يخسر فيدفع العوض الذي عليه. - الدليل الثاني: أن المسابقة إذا دفع العوض المتسابقان خرجت من عقد المسابقة إلى عقد المعاوضة. فخرجت عن المقصود الشرعي الذي من أجله أجاز الشارع بذل العوض. الدليل الثالث: الإجماع المحكي. فائدة: ليس في هذه المسألة حديث صحيح. يمكن المصير إليه والاعتماد عليه. = القول الثاني: أنه يجوز بذل المتسابقين للعوض بلا محلل. وهذا قول لبعض الفقهاء - عدد قليل - واحد أو اثنين منهم واختيار شيخ الاسلام وابن القيم. واستدل هؤلاء بأدلة: - الدليل الأول: ان النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: (لا سبق إلا في خف ونصل وحافر). ولم يقيد ذلك بأنه إذا كان المخرج المتسابقان لزم دخول المحلل. - الدليل الثاني: أنه لم ينقل عن أحد من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه اشترط في المسابقة المحلل. = القول الثالث: انه لا يجوز مطلقاً لا بمحلل ولا بغير محلل. وهو مذهب المالكية. واستدلوا على هذا:

- بأن الأحاديث التي أجازت المسابقة المروية عن النبي - صلى الله عليه وسلم - فيها أن المخرج للعوض أجنبي. فلا يجوز أن يكون المخرج هم المتسابقون. وهذه المسألة وهي اشتراط المحلل من المسائل التي تبناها شيخ الغسلام وتبناها ابن القيم بقوة ونصرزوها بأدلة كثيرة بل إن ابن القيم سجن من أجل هذه المسألة لأنه تمسك بعد اشتراط المحلل وأيضاً بعد إخراجه من السجب عقدت له مجالس للمناظرة حول هذه المسألة - أكثر من مجلس أثبتها ابن كثير - رحمه الله - وذلك لما فيها من مخالفة الاجماع. الراجح من حيث الدليل: كلام الشيخ الفقيه ابن القيم. فكلامه وجيه ولا يجد الإنسان جواباً لتعليلاته وأدلته. لكن الاشكال فقط هو المخالفة لجمهور العلماء من القرن الثالث إلى وقت ابن القيم. يعني هذه الفتوى مروية عن سعيد بن المسيب من الفقهاء السبعة. ومن بعده لم يخالف من بعده أحد من أهل العلم. الأئمة الأربعة وفقهاء المسلمين. حكي إجماعاً. فمثل هذه المسألة لاشك أن الإنسان لابد أن يكون عنده نوع من التردد مهما كانت أدلة ابن القيم في الجزم بصويبه والاستقرار على ذلك استقرار مريحاً. ولذلك أقول أنه من حيث الأدلة كلامه قوي وسديد لكن من حيث مخالفة الناس بهذا الشكل - يعني يجعل عند الإنسان نوع توقف. والأحوط أن لا يفعل الإنسان مسابقة مبذولة العوض من الطرفين إلا مع وجود محلل. فإنه بهذا يخرج من مخالفة جماهير العلماء. - ثم قال - رحمه الله -: - ولابد من تعيين المركوبين واتحادهما. لما قرر المؤلف - رحمه الله -: جواز أخذ العوض في هذه الأشياء انتقل إلى الشروط فلا يجوز أخذ العوض في المسابقات التي أجاز الشارع فيها أخذ العوض إلا بخمسة شروط ذكرها المؤلف. ـ الشرط الأول: تعيين المركوبين. يشترط تعيين المركوبين قبل المسابقة. ولا يشترط تعيين الراكب. تعيين الراكبين لا يشترط إنما يشترط تعيين المركوبين. فيجب أن نقول أن المسابقة سوف تكون بين هذا الخيل وهذا تعييناً محدداً. تعليل ذلك: أن العلة التي من أجلها أجاز الشارع المسابقة معرفة نجابة وقوة الخيل المشاركة في المسابقة. وهذا لا يحصل بدون تعيين الخيلين.

فإذا قال رجل لآخر: فلنتسابق على خيلين بلا تعيين ثم ذهبا وركبا أي خيلين وتسابقا فالعقد باطل ولا يجوز للفائز أخذ العوض. لابد من التعيين قبل إجراء المسابقة. - ثم يقول - رحمه الله -: - واتحادهما. يعني: لابد من أن يتحد المركوبان في الجنس والنوع. ـ في الجنس: أن تكون المسابقة بين الخيل أو بين الإبل. ـ أيضاً في النوع: أن تكون المسابقة بين خيلين عربيين أو بين خيلين هجينين. فلا يجوز بناء على هذا المسابقة بين خيل عربي وخيل هجين. واستدلوا على هذا: - بأن المقصود معرفة أيهما أسرع وأنجب وأقوى. فإذا اختلف الجنس لم يحصل هذا المقصود. لأنه لا مقارنة بين مختلفين. مثال للتوضيح فقط/ وإن كان معلوماً وبسيط لكنه للتوضيح. لا مقارنة بين مختلفين: فلا يصلح ان تقول أيهما أفضل هذا البيت أو هذه السيارة لماذا؟ لأنه لا مقارنة بين البيت والسيارة وإنما يقال أيهما أفضل هذا البيت أو هذا البيت أو هذه السيارة أو هذه السيارة. إذاً: لا مقارنة بين مختلفين وهذه وجهة نظر الحنابلة. = القول الثاني: الجواز مطلقاً بشرط أن يكون بينهما مقاربة في السرعة والعدو. فإذا كان بينهما مقاربة جازت المسابقة. فإذا أتينا بخيل عربي وخيل هجين هما في العدو واحد ولكن نريد أن نعرف أيهما أسرع: جازت المسابقة ولا حرج. وهذا القول الثاني بهذا القيد هو الصحيح إن شاء الله. بناء على هذا الشرط عند الحنابلة لا يجوز أن نسابق بين فرس عربي فاره سريع قوي معروف وبين فرس ضعيف مريض معروف بالبطء المسابقة باطلة عند الحنابلة ولو رضي صاحب الفرس البطيء المسابقة باطلة لأنه يشترط التكافؤ بين المركوبين هذا شرط من شروط صحة المسابقة فإن تخلف فإنه لا يجوز. وهذا قد يقع أحياناً. تكون مسابقة بين اثنين ليس بنهما أي تكافؤ يكون المقصود يعرف إلى أي مدى يسبق القوي هذا الضعيف. هذه تجوز بلا عوض لكن بعوض لا تجوز. * * ((الجنس يشترط: والخلاف فيه ضعيف ولذلك أعرضنا عنه ما يجوز أن نسابق بين الإبل وبين الخيل. ولا بين الإبل وبين الحمر. ولا بين الفرس والبغل وإن كان البغل أحياناً يكون - البغل الفاره القوي - أسرع من الخيل الضعيف مع ذلك لا يجوز لأنه لا مجال للمقارنة بينهما. -

يقول - رحمه الله -: في الشرط الثالث. - والرماة. يعني: ويشترط تعيين الرماة. والسبب في ذلك: ان المقصود معرفة أيهما أقدر على الإصابة وأعرف للتسديد. وبلا تعيين لا يصح. ويشترط في الرماة أيضاً التكافؤ. فلا يصح أن نأتي برام قوي مجرب الإصابة متمرس في الرمي ونجعله يسابق شخصاً هذه المرة الأولى التي يرمي فيها. هذا السباق لا يجوز. وأخذ العوض عليه محرم لأنه يشترط التكافؤ بين الرماة لأن المقصود معرفة أيهما أقدر على الإصابة ولا مقارنة بين من لا يحسن وبين من يحسن. - ثم قال - رحمه الله -: في الشرط الرابع. - والمسافة. يعني: ويشترط تحديد المسافة. سواء كانت المسافة التي تحدد هي التي يراد قطعها على الخيل أو المسافة التي يراد الرمي من البعد المقدر فيها. في الصورتين يجب تحديد المسافة. - لأن الغرض كما تقدم تحديد الأقوى والأحسن في الرمي ولا يكون إلا مع أمر محدد. بناء عليه: لا يجوز المسابقة بين الخيلين أيهما يتعب أولاً. ولا يجوز المسابقة بين الراميين أيهما يرمي أبعد وإنما لابد من الإصابة ولابد من السبق في الخيل والإصابة في السهم. = والقول الثاني: الجواز. بأن نقول أيهما يتعب أولاً؟ وأن نقول: أيهما يرمي أبعد؟ ومذهب الحنابلة في الحقيقة وجيه جداً في اشتراط هذا الشرط. لأن المقصود أن نعرف أيهما أحذق وهو لا يحصل إلا بالتسديد على هدف. أما أيهما أكثر بعداً فإنه لا ينفع كثيراً في الجهاد. لماذا؟ لأنه مالفائدة أنه يرمي بعيداً لكنه لا يصيب ماذا نستفيد من إنسان يرمي بعيد لكن لا يصيب؟ ليس له أي فائدة. هذا بالنسبة للرمي. بالنسبة للخيل: معرفة أيهما يجري وقتاً أطول مفيد. لماذا؟ لأنه يفيد في إيصال الرسائل في الأوقات الحرجة وفي الهرب عند أعطاء ولي الأمر الأمر بالانهزام. حينئذ يفيد الأسرع. ولذلك نقول: الأقرب إن شاء الله القول الوسط. فيجوز في الخيل أيهما يجري أكثراً ولا يجوز في الرمي أيهما يرمي أبعداً لأنه لا فائدة فيكون قولاً وسطاً بين القولين. - ثم قال - رحمه الله -: - بقدر معتاد. يعني: يجب أن نجعل المسافة معتادة في العرف يمكن الجري إليها. ومسافة الرمي المعتادة في العرف يمكن الإصابة فيها.

بناء على هذا: إذا جاء اثنان متسابقان للمسابقة في الرمي بالسهم على بعد ثلاثة كيلو. هذا لا يجوز. لماذا؟ لأنهم لا يرون الهدف فضلاً عن أن يصيبوه. ثم مالفائدة من أن يتباريا على هدف بعيد لا يمكن إصابته والمقصد من المسابقة معرفة أيهما أكثر إصابة. إذاً: لابد أن تكون المسافة معتاد عرفاً. ترك المؤلف - رحمه الله - الشرط الخامس: والشرط الخامس هو: معرفة العوض. لابد من معرفة العوض ولا يكون مطلقاً غير معين لأن المقصود بعد الفوز أخذ العوض وعدم تحديده يؤدي إلى الاختلاف العظيم لا سيما إذا كانت المسابقة شاقة. إذاً: الشرط الخامس اشتراط تحديد العوض في المسابقة - ولا أعلم خلافا. - قال - رحمه الله -: - وهي جعالة. يعني والعقد. وعقد المسابقة جعالة. وصرح المؤلف بالفائدة: - فقال - رحمه الله -: - لكل واحد فسخها. أي يجوز لكل منهما الفسخ. ومقصود المؤلف - رحمه الله - بجواز الفسخ يعني: ما لم يظهر تفوق أحدهما على الآخر. فيجوز الفسخ في صورتين: - قبل البداية. - وبعد البداية إذا تساويا في السبق. أما إذا ظهر الفضل لأحدهما فلا يجوز للآخر أن يفسخ العقد. الدليل أن عقد المسابقة عقد جعالة: - أنه مترتب على أمر قد يقع ويحصل وقد لا يحصل. وما ترتب على أمر قد يحصل وقد لا يحصل فهو جعالة. بدليل: أنه في الجعالة يقول: من رد عليَّ عبدي فله كذا وكذا. ربما تمكن من رد العبد وربما لم يتمكن. فكذلك المسابقة ربما حصل الشيء وربما لم يحصل. فهو كالجعالة. = والقول الثاني: أنه إذا بذل العوض المتسابقان فهو إجارة. وإذا بذل العوض أحدهما فهو جعالة. والدليل على ذلك: - أنه إذا بذل العوض المتسابقان صار منفعة في مقابل العوض وهذه حقيقة الإجارة. والراجح أنها جعالة. فهي أقرب في مفهومها العام إلى عقد الجعالة منه إلى عقد الإجارة. - قال - رحمه الله -: - وتصح المناضلة على مُعَيَنِيْنَ. المناضلة هي: المسابقة في السهام. تصح بين مجموعتين ولذلك الأحسن في ضبط اللفظ: (على مُعَيَنِيْنَ) لا على: (مُعَيَّنَيْنِ). يعني بكسر النون لا بفتحها. فالمسابقة بالسهامة جائزة. بدليل: - النص الذي تقدم معنا وهو قوله: (لا سبق إلا في خف أو حافر أو نصل). والنصل هو: السهم.

باب العارية

لكن اشترط المؤلف - رحمه الله - شرطاً: - فقال - رحمه الله -: - على مُعَيَنِيْنَ يحسنون الرمي. تجوز المسابقة في السهام بشرطين: ـ الشرط الأول: تعيين المتسابقين. ... ـ الشرط الثاني: أن يكون كل فرد من المجموعتين يحسن الرمي. فإن وجد فرد في إحدى المجموعتين لا يحسن الرمي فإنه يجب وجوباً إخراجه. ويجب تبعاً لذلك إخراج المقابل له من المجموعة الثانية. فإذا تم الإخراج صح العقد وتصحيح العقد هنا مبني على مسألة تفريق الصفقة. ونحن تقدم معنا أن الحنابلة يصححون العقد مع تفريق الصفقة. كذلك هنا يصححون عقد المسابقة بالرمي مع إخراج أحد المتسابقين لعدم حذقه. ولا يجوز أن يبقى أحدهم وهو لا يحسن الرمي. ويشترط في مسابقة الرمي بالسهام: أن يكون قائد كل مجموعة يختلف عن الأخرى. فلا يجوز أن يكون قائد المجموعتين واحد. والعلة في ذلك: - أن المقصود من المسابقة هي تمرين القائد على القيادة وتمرين المتسابقين على الإصابة. وإذا كان القائد واحد فإنه لا يكترث فازت هذه المجموعة أو تلك لأنه يقود المجموعتين. فلا يجوز ولا يصح. ونبهتكم مراراً إلى أن المسابقة وغيرها من العقود التي تقدمت معنا عقد شرعي لا كما يتصور بعض الناس أنه نوع من اللعب أو النزهة. عقد شرعي. عقد يصح ويبطل ويحتاج إلى إيجاب وقبول وشروط كما تقدمة معنا. فهذا العقد لا يصح إلا بهذه التفاصيل. إذاً نقول يجب أن يكون قائد كل مجموعة يختلف عن الآخر. ولا يشترط أن يكون قائد امجموعة مترك معهم في الرمي بل له أن يكون موجهاً فقط. فإذا تمت الشروط جازت المسابقة بالرمي ومن المعلوم أنه لابد من الحذر من إصابة أحد الفرقتين لرجل من الفرقة الأخرى بمقتل أو بما يؤذي. ولذلك أشار الإمام أحمد - رحمه الله - أنه في مسابقة السيوف ينبغي أن يتخذ الإنسان سيفاً من خشب أو شيفاً من حديد لكن ليس مصلتاً وليس حاداَ كذلك في السهام غما أن يتخذ سهم من خشب أو يتخذ سهم ليس له مقدمة حادة. المهم تتخذ الإجراءات التي تأمن سلامة المجموعتين. بهذا انتهى الكلام عن باب السبق وننتقل إلى الباب الذي بعده. باب العارية - قال - رحمه الله -: - باب العارية. العارية: مشتقة في لغة العربمن عار إذا ذهب وجاء.

وجه الاشتقاق: أن الشيء المعار يتردد بين المعير والمستعير. فهو يذهب ويجيء. وقيل مشتق من العري وهو التجرد لأن هذا العقد يتجرد من العوض. وقيل: ماق من العار لأن من يطلب يلحقه عار. من يستعير يلحقه عار. وهذا الاشتقاق الثالث باطل وخطأ وأتعجب ممن قاله لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - استعار وسادة الناس من أصحابه ومن بعدهم من أئمة الناس استعاروا وليس في الاستعارة أي حرج. والعارية مشروعة بالكتاب والسنة والإجماع. ـ أما الكتاب فقوله تعالى: (ويمنعون الماعون).وفسرها اثنان من كبار أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - من العلماء وهما: ابن عباس وابن مسعود بأنها العارية يعني يمنعون: ما يستعار عادة كالماعون. ـ ومن السنة: ان النبي - صلى الله عليه وسلم - استعار فرساً ليركب عليها واستعار من صفوان بن أمية أدرعاً ليستعملها في الجهاد - صلى الله عليه وسلم -. ـ وأحمعت الأمة على مشروعية العارية. وأما شرعاً فلم نذكره لأنه المؤلف - رحمه الله - ذكره. - قال - رحمه الله -: - وهي إباحة نفع عين تبقى بعد استيفائه. هذا هو التعريف الاصطلاحي للعارية. فهي: (إباحة) ويفهم من هذا أنها ليست تمليك. وهي كذلك. فالعارية هي عبارة عن إاحة وليست تمليكاً للعين المعارة. وهي إباحة للمنفعة وليست تمليكاً أيضاً للمنفعة. ليست تمليكاً لا للعين ولا للمنفعة. ولابد أن تبقى العين بعد استيفائها فإن أعاره كا لا يبقى بعد استيفائه فهو هبه وليست عارية. فات المؤلف - رحمه الله - قيد مهم جداً وهو في صميم التعريف وهو أن يقول: (بلا عوض). لأن هذا في حقيقة العارية. فإن الشيء الذي يميز العارية عن باقي العقود أنه بلا عوض. وفاته - رحمه الله - أن يقول: (بلا عوض). - قال - رحمه الله -: - وتباح إعارة كل ذي نفع مباح. أفادنا المؤلف - رحمه الله - أن الإعارة مباحة فيباح للإنسان أن يعير أخاه ويباح له أن يستعير. يعني: يباح لأخيه أن يستعير منه. = والقول الثاني: أن الإعارة مستحبة. - لأن الله أمر بالإحسان والبر وهي من البر والإحسان. = القول الثالث: أنها واجبة على الغني. فيجب على الغني وجوباً أن يبذل ما لاحاجة له به.

وإلى هذا القول ذهب شيخ الإسلام واستدل بالآية. فإن الله ذم الذين يمنعون. وكلام شيخ الإسلام - رحمه الله - ليس فيه قيد أن يكون المستعير محتاجاً وهو قيد مهم لم أره في كلامه والواقع أنه لابد أن نقيد بهذا القيد. فإذا كان المستعير مستكثراً فإنه لا يجب على المالك الغني البذل. فلابد إذاً للوجوب من ثلاثة شروط: ـ الأول: ان يكون الباذل غنياً. ـ الثاني: ان لاتكون حاجته متعلقة بهذا الشيء. ـ الثالث: أن يكون المستعير بحاجة إلى هذه العين. من وجهة نظري أنه لابد من تحقق الشروط للوجوب. يعني: للقول بالوجوب. - يقول - رحمه الله - في ضابط ما يمكن أن يستعار: - تباح إعارة كل ذي نفع مباح. تباح إعارة كل عين لها نفع مباح. والدليل على هذا: - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - استعا فرساً واستعار أدرعاً فقيس عليها سائر الأموال. تقاس على هذين النوعين من الأموال, وفهم من كلام المؤلف أنه تجوز إباحة مباح النفع ولو لم يجز بيعه كالكلب. إذا أبيح نفعه جازت إعارته. فإذاً الحنابلة يرون أن باب العارية أوسع من باب الإجارة لأنهم في الإجارة يشترطون أن يكون مباح النفع مطلقاً وهنا لا. يكتفون بأن يكون مباح النفع فقط. فلا يجوز عند الحنابلة إجارة الكلب مباح النفع وتجوز إعارته. إذاً: الخلاصة أن هذه هي القاعدة: كل عين مباحة النفع فإنه يجوز أن تعار. معلوم أن مفهوم هذا الكلام أن كل عين محرمة النفع فإن إعارتها محرمة فلا يجوز إعارة آلات اللهو ولا أشرطة الموسيقى ولا الحرير للرجل الذي سيلبسه بلا سبب ومسوغ شرعي ولا الذهب الذي سيلبسه. ولا كل عين لا تباح منفعتها. - قال - رحمه الله -: - إلاّ البضع. تقدم معنا أن طريقة الفقهاء بعد تقرير القاعدة بيان المستثنيات. فالمستثنى الأول معنا: (البضع). البضع هو: الفرج. لا يجوز إعارة المرأة للانتفاع بفرجها. والانتفاع بالفرج هو الزنا. الدليل على المنع: - أن الله سبحانه وتعالى لم يبح الفروج إلا بأحد سببين: ـ النكاح. ـ وملك اليمين. والعارية ليست داخلة في هذين السببين. - ولأنه لو أبيح إعارة الفروج لصار هذا من أعظم ابواب إباحة الزنا واختلاط المياه.

ولهذا صار هذا الحكم مجمع عليه بين الفقهاء فلا يجوز بالإجماع أن نعير الفروج لهذا القصد. - قال - رحمه الله -: - وعبداً مسلماً لكافر. لا يجوز أن نعير العبد المسلم للكافر للخدمة. والحنابلة قيدوا هذا بقولهم: (للخدمة). ودليل التحريم: - أن في إعارته إذلال له ولا يجوز إذلال المسلم لا سيما عند الكافر. فهم من قيد للخدمة جواز إعارة العبد المسلم للكافر لعمل في الذمة. لأنه لا إذلال في ذلك. الحنابلة يعللون المنع بالإذلال. فهل نقول إذا ذهب العبد المسلم لخدمة الكافر خدمة لا إذلال فيها أنه يجوز؟ الأقرب. نعم يجوز لأن هذه المسألة ليس فيها نص من كتاب الله وسنة رسوله وإنما فيها الاعتماد على القواعد العامة فإذا أمكن ذلك بلا إذلال جاز بلا حرج. من أمثلته المعاصرة: أن ندفع المسلم لكافر لخدمة (يعني: تسمى خدمة في عرف الفقهاء) لكن مثلاً: لعمل مكتبي مرموق قد يكون في وجود هذا المسلم بهذا العمل عزة - وهي عكس الاذلال وإن كانت في عرف الفقهاء خدمة. فمثل هذه الصورة منعها فيه بعد. يعني بالنظر إلى هذا التعليل. الخلاصة: نقول: إذا أمكن إعارة العبد المسلم للكافر في عمل لا إذلال فيه مطلقاً بوجه من الوجوه فالأقرب الجواز. ((الأذان)). - قال - رحمه الله -: - وصيداً ونحوه لمحرم. يعني: ولا يجوز عارة الصيد للمحرم. - لأنه لا يجوز للمحرم استدامة القبض على الصيد. فلا يجوز بناء على هذا أن نعيره إياه. في الحقيقة هذا الحكم مستفاد من العبارة السابقة وهي: (كل ذي نفع مباح) ونفع الصيد مباح للمحرم أو ممنوع منه؟ ممنوع منه. فهي في الحقيقة داخلة فيه لكن أراد المؤلف - رحمه الله - التأكيد عليها. - قال - رحمه الله -: - وأمة شابة لغير امرأة أو محرم. ولا يجوز إعارة أمة شابة لغير امرأة أو محرم للأمة. التعليل: - أنه لا يؤمن من وقوع المفسدة. وهي الفتنة الواقعة بين هذه الأمة الشابة والمستعير. وفهم من كلام المؤلف - رحمه الله - أنها إذا لم تكن شابة يجوز. والقاعدة العامة: أنه إذا أمنت الفتنة جاز إعارة الأمة للخدمة. لكن يشترط مع ذلك عدم النظر إليها لأن النظر إلى المرأة الأجنبية محرم وعدم الخلوة بها لأن الخلوة بها محرمة.

وأشار الشيخ ابن عقيل - رحمه الله - إلى قيد مهم ومفيد جداً وهو أنه لابد أن يكون عند المستعير نساء إما زوجات أو محارم ليجوز له أن يستعير أمة سواء كانت صغيرة أو كبيرة. وفي الحقيقة هذا القيد ممتاز جداً وهو يدل على ذكاء الشيخ - رحمه الله - لأن غالب المفاسد تقع مع الخلوة وعدم وجود نساء محارم في البيت. فهذا السبب أعظم من السبب الآخر وهو كونها شابة جميلة. يعني بعبارة أخرى: وقوع المفاسد مع عدم وجود المحارم في البيت أكثر منه مع وجود المحارم وإن كانت المرأة شابة. وهذا قيد جميل واشتراطه صحيح. بناء على هذا نقول: لا يجوز استقدام الخادمة إذا لم يكن مع الرجل في بيته محارم. محرم ولا يجوز مطلقاً. لأنه يؤدي غالباً إلى المفاسد. والقاعدة تقول: أن كل عمل يؤدي غالباً أو دائماً إلى المفاسد فهو محرم وإن كان في أصله جائز. - قال - رحمه الله -: - ولا أجرة: لمن أعار حائطاً حتى يسقط. يعني: إذا أعار الإنسان حائطه لجاره ووضع الجار خشبه على الحائط وبنى عليه. كل واحد من هذه شرط. لابد: أن يعيره ولابد أن يضع الجار خشبه على جدار جاره ولابد أن يبني عليه. إذا اكتملت هذه الشروط فإنه لا يجوز للجار - يعني: صاحب الحائط - أخذ الأجرة على وضع جاره خشبه على جداره ولو رجع عن الإعارة. فإذا أعار زيد عمراً جداره ووضع الخشب وقام عمرو بالبناء على الخشب ثم بعد مضي شهر قال المعير العارية أنا لست ملزماً بها ورجعت عن العارية وبقاء الخشب من الآن فصاعداً بأجرة. تقول لا يستحق الجار هذه الأجرة لأنه رجع بعد أن بنى الجار على الخشب وأصبح قلع الخشب يسبب ضرراً على المستعير. بناء على هذا نقول: لا يجوز له أن يأخذ أجرة وهو ملزم بالبقاء إلى أن يسقط الجدار فإذا سقط الجدار حيتئذ ليس للجار أن يضع خشبه إلا بإذن أو بأجرة في الأحوال التي لا يلزم فيها الجار. في الحقيقة هذه مسألة. والقاعدة العامة لهذه المسألة أنه لا يجوز للمعير أن يسحب ما أعاره إذا ترتب على ذلك ضرر على المستعير. هذه هي القاعدة وما ذكره المؤلف - رحمه الله - مثال.

مثال يوضح الأمر أكثر: لو استعار زيد من عمرو قطعة حطب ووضعها كمغلقة لفتحة في السفينة فإنه ليس للمعير إذا توسطت السفينة البحر فال أنا رجعت عن الإعارة. وعلى هذا المثال قس والقاعدة ذكرتها وهي واضحة والله أعلم وصلى الله على نبينا محمد ...

الدرس: (39) من البيع قال شيخنا حفظه الله: بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين. ((مسألة أنه بعد سقوط الجدار لابد من استئذان الجار تقدمت وشرحناها)). - وتوقفنا على كلام المؤلف - رحمه الله -: - وتضمن العارية. هذه المسألة من أمهات مسائل الباب ومن أهم المسائل التي)). - يقول المؤلف - رحمه الله -: - ولا يرد إن سقط إلا بإذنه. يعني: إذا وضع الجار خشبه على جدار جاره وبنى عليه ثم سقط الجدار فحينئذ ليس للجار أن يعيد الخشب على الجدار إلا بإذن المالك. لأنه الآن لا ضرر على الجار بنزع الخشب عن الجدار. فإذاً لا يعيدها إلا بإذن المالك. وقلت لكم: أن هذا التفصيل فيما إذا لم يجب على الجار تمكين جاره من وضع الخشب على ما تقدم في باب الصلح. إذاً: تحمل على هذه الحال. فإذاً بين المؤلف - رحمه الله - بهذا الحكم قبل السقوط والحكم بعد السقوط. - ثم قال - رحمه الله -: - وتضمن العارية. هذه المسألة من أمهات مسائل الباب ومن أهم المسائل. هذه المسألة من المسائل التي اختلف فيها الصحابة. وممن حكى خلاف الصحابة بأسلوب مبسط وجيد الإمام الترمذي - رحمه الله - ولذلك أقترح على كل واحد إذا رجع أن يقرأ في سنن الترمذي كيف ساق الشيخ - رحمه الله - الخلاف. طبعاً ساقه مختصراً جداً لكن عبارات السلف دائماً مليئة ومفيدة لطالب العلم. = ذهب الحنابلة وقلة من أهل العلم إلى أن العارية مضمونة مطلقاً ولو اشترط أن لا ضمان. يعني: حتى لو اشترط المستعير أن لا ضمان عليه. واستدلوا على هذا بأدلة:

- الدليل الأول: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - استعار من صفوان بن أمية أدرعاً فقال صفوان أغصباً يا محمد فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: (بل عارية مضمونة). فالنبي - صلى الله عليه وسلم - وصف العارية في الحديث بأنها مضمونة. - والدليل الثاني: قوله - صلى الله عليه وسلم -: (على اليد ما أخذت حتى تؤديه). وهذا الحديث فيه ضعف. هذا هو استدل به الحنابلة رحمهم الله هذا أقوى ما ستدل به الحنابلة. = القول الثاني: وهو للجمهور: أنه لا ضمان مطلقاً - عكس القول الأول -. واستدلوا على هذا: - بقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: (ليس على المستعير غير المغل ضمان) فدل الحديث على أن المستعير الذي لا يخدع ولا يتلف ولا يخون لا ضمان عليه. وهذا الحديث أيضاً ضعيف. والصحيح إن شاء الله أن هذا من كلام شريح. ليس من كلام النبي - صلى الله عليه وسلم -. - الدليل الثاني: أنه صح عن عمر وعلي - رضي الله عنهما - أنه لا ضمان في العارية. - الدليل الثالث: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (العارية مؤداة). وأيضاً هذا الحديث فيه كلام - في ثبوته كلام. وجه الاستدلال من الحديث: ان النبي - صلى الله عليه وسلم - وصف العارية بأنها مؤداة والأداء يوصف للأمانات. بدليل قوله تعالى: (إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها). فالأداء إنما يكون في الأمانات فدل على أنه أمانة. والأمانة لا تضمن إلا بالتعدي أو التفريط. = القول الثالث: أنه لا ضمان إلا بالشرط. وهذا اختيار شيخ الإسلام - رحمه الله - وابن القيم - رحمه الله -. واستدل: - بالجمع بين النصوص. يبقى الآن أن نرجح: الأقرب والله أعلم أنه لا ضمان. لأن من شأن العارية أنها أمانة والأمانات لا تضمن إلا بالتعدي أو التفريط وكما قلت لكم أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - اختلفوا في هذه المسألة. فهي ليست مسألة واضحة بل مشكلة.

يبقى علينا الجواب على الحديث وهو دليل الحنابلة: الجواب من وجهين: ـ الوجه الأول: أن معنى قوله: (بل عارية مضمونة) أن المقصود بالضمان هنا ضمان الرد لا ضمان التلف. بدليل أن صفوان قال للنبي - صلى الله عليه وسلم - أغصباً. فأراد النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يبين له أنها مردودة. ـ الوجه الثاني: ان نقول: أن قول النبي - صلى الله عليه وسلم - بل عارية مضمونة إنشاء للشرط فكأنه قال: بل عارية اشترط على نفسي أنها مضمونة. يعني وليست صفة كاشفة والصفة الكاشفة هي الصفة أو القيد التي ذكرت لبيان الحال لا لمزيد فائدة. فالحنابلة يقولون: قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: (بل عارية مضمونة) يعني: كأنه قال بل عارية والعارية من شأنها أن تضمن. الجوابان المذكوران عن الحديث فيهما قوة. ولهذا انا قلت أنه إن شاء الله أن الراجح القول بعدم الضمان لا سيما وأن من القائلين بعدم الضمان اثنين من الخلفاء الراشدين. ولقولهم مزية على باقي الصحابة. - ثم قال - رحمه الله -: - بقيمتها يوم تلفت. العارية تضمن بالقيمة. يعني: إذا لم تكن مثلية. فإن كانت مثلية فبمثلها. وتقدم معنا الخلاف في حد المثلي والقيمي. ولسنا بحاجة إلى أعادة الكلام في هذه المسألة فالخلاف الذي ذكرناه في المثلي والقيمي يأتي معنا هنا. - يقول - رحمه الله -: - يوم تلفت. يعني: أن تقدير القيمة إذا لم تكن مثلية يكون يوم التلف لا يوم القبض ولا غيره وإنما يوم التلف لأن يوم التلف هو اليوم الذي فقدت فيه العارية. واليوم الذي فقدت فيه هو اليوم الذي وجبت القيمة في ذمة المتلف. فنقول: ننظر إلى القيمة في ذلك اليوم. ومن المعلوم كما تقدم معنا في أبواب كثيرة أن تحديد زمن القيمة له دور كبير جداً وليس من المسائل التي لا أهمية لها بل مسألة مهمة. لماذا؟ لأنه قد تكون القيمة يوم التلف أضعاف القيمة يوم القبض أو قد يكون العكس فتحديد الفقيه متى يكون في أي زمن تحدد القيمة أمر مهم. - ثم قال - رحمه الله -: - ولو شرط نفي ضمانها. يعني: حتى لو شرط نفي الضمان فإن الضمان ثابت.

وعللوا هذا: - بقاعدة جميلة عند الفقهاء وهي: ((أن كل ما دل العقد على أنه مضمون فإن هذا الضمان لا ينفى بالشرط - وكل ما دل العقد على أنه أمانة فإنه لا يضمن بالشرط)). العكس - يعني: كل قاعدة عكس الأخرى. بناء على هذه القاعدة: نحن نقول: كل ما كان مضمونا فإن ضمانه لا ينتفي بالشرط وكل ما كان أمانة فإنه لا يضمن بالشرط. لو قال المضارب: أنا أضمن لك رأس المال. مالحكم؟ لا يجوز. لماذا؟ لأن رأس المال عند المضارب أمانة. ونحن نقول: (كل ما هو أمانة فإنه لا يضمن بالشرط). بهذه القاعدة استدل الحنابلة. دليل هذه القاعدة: - أن هذا الشرط شرط ينافي مقتضى العقد. والشرط إذا نافى مقتضى العقد بطل. وعن الإمام أحمد - رحمه الله - رواية ثانية: أنه ينفى بالشرط فإذا اشترط أن لا ضمان فلا ضمان. والرواية الثانية هذه هي الصحيحة. بدليل: - حديث: (بل عاريو مضمونة). ولولا هذا الحديث لكان ما قاله المؤلف - رحمه الله - صحيح لأن القاعدة التي ذكرت صحيحة. وإنما استثنينا العارية من القاعدة بدلالة النص. إذاً: يجب أن تفهم أن القاعدة صحيحة وأن ترجيح القول الثاني هو بمثابة الاستثناء من القاعدة وأن سبب الاستثناء هو النص. فلولا النص لكان كلام الحنابلة سليم. - قال - رحمه الله -: - وعليه مؤونة ردها. أي: وعلى المستعير مؤونة رد العين المستعارة. - لقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: (على اليد ما أخذت حتى تؤديه). وهذه المسألة لا إشكال فيها. أنه على المستعير رد العين. * * المسألة الثانية/ التي تتعلق بهذه المسألة أن رد العين على المستعير لكن مؤونة العين - في زمن الإعارة - على المعير. وإلى هذا - أي: إلى أنه على المعير - ذهب الجمهور. واستدلوا على هذا: - بأن الأصل أن الإنسان ينفق على ملكه. وهذه العين لم تخرج عن ملكه فعليه نفقتها. بناء عليه: إذا استعار زيد من عمرو سيارة لمدة أسبوع وذهب بها في كل مكان فإنه إذا أراد أن يسلم السيارة فإنه يطلب من المعير قيمة البنزين والزيت وكل شيء. لأن مؤونة العين على المعير فيقول: أنا انتفعت من السيارة لكن أريد قيمة البنزين التي صرف والزيت ... وهذا مذهب الجمهور وهو عجيب.

= القول الثاني: وهو مذهب الأحناف. أن مؤونة العين على المستعير لا على المعير. واستدلوا على هذا: - بأن المعير محسن. والشرع جاء بمكافئة المحسن. لقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: (من صنع إليكم معرةفاً فكافئوه). فدل احديث على أن الأصل الشرعي مكافأة المحسن لا تحميله نفقات زائدة لم ينتفع منها هو بشيء. وظاهر جداً إن شاء الله أن القول الثاني أقرب وأرجح كما أنه عليه العمل. - قال - رحمه الله -: - لا المؤجرة. فإن العين المؤجرة مؤونة فيها الرد على المؤجر لا المستأجر. وقالوا: إنما على المستأجر إذا انتهت مدة الإجارة أن يرفع يده فقط وليس عليه إيصال العين إلى المؤجر بل نفقة الإيصال على المؤجر. - لأنه: أي المستأجر: قبض العين لمصلحة المؤجر فلا يجب عليه أن يعود بالعين إليه. وهذا القول صحيح. لكن جرى العرف الآن وهو كالشرط أن المستأجر عليه إيصال العين المستأجرة والمعروف عرفاً كالمشروط شرطاً. فضلاً عما إذا اشترط المؤجر صراحة أن على المستأجر مؤونة رد العين. فإذا شرط فلا إشكال أن عليه مؤونة رد العين. إذاً: بدون شرط الأصل أن مؤونة رد العين ليست على المستأجر فله إذا استأجر سيارة لمدة شهر وانتهى الشهر وهو يبعد عن المؤجر مسافة عشرات الكيلوات فله أن يبقي السيارة في المكان الذي انتهى فيه الوقت ويرفع يده عنها ويقول للمؤجر عليك بسيارتك. وهذا صحيح لولا الشرط. نسينا أن ننبه إلى مسألة مهمة بمسألة ضمان العارية: وهي أن الشيخ - رحمه الله - يقول: أن ضمان العرية على: المستعير. لكن نبه الشيخ منصور إلى قيد مهم ومفيد وهو: أنه يستثنى من هذا ما إذا تلفت فيما استعيرت فيه. فإذا تلفت فيما استعيرت فيه بلا تعد ولا تفريط فإن الحنابلة أيضاً لا يضمنونه. واستدلوا على هذا: - بأن الإذن في الاستعمال إذن في الإتلاف. صورة المسألة/ إذا استعار زيد من عمرو منشار واستخدم المنشار في نشر الخشب ونشر كمية كبيرة من الخشب هذا يؤدي إلى تلف أسنان المنشار لكن هل تلف في غير ما استعمل فيه أو فيما يستعمل فيه؟ [الثاني]: وقد أذن له أن يستخم المنشار في النشر. فإذا تلف ولم يبق فيه أي أسنان تصلح للعمل فلا ضمان لأنه تلف فيما استعير له.

فيما عدا هذا فإنه يضمن. فإذا أخذ الإناء للطبخ وطبخ فيه وانتهى وسقط وانكسر هل الإناء يستخدم للسقوط؟ إنما يستخدم للطبخ. فإذا سقط فيضمنه على الخلاف السابق. - قال - رحمه الله -: - ولا يعيرها. يعني: ولا يجوز للمستعير أن يعير ما استعار. الدليل: - قالوا: الدليل: أنه تقدم معنا: أن حقيقة العارية إباحة المنافع لا تمليك المنافع. فالمعير أباح للمستعير أن ينتفع بالعين فقط ولم يملكه المنفعة. وإذا ثبت أن المستعير لم يملك المنفعة فإنه لا يجوز للإنسان أن يتصرف فيما لا يملك. = والقول الثاني: ان له أن يعير - إذا استعار له أن يعير. وهذا القول مبني على أن المستعير يملك المنفعة. وأن حقيقة العقد هبة المنافع لا إباحة المنافع. والإنسان إذا ملك الشيء فله أن يتصرف فيه. = القول الثالث: وهو رواية عن الإمام أحمد: أنه يجوز أن يعير في العارية المؤقتة. فإذا أعاره شيئاً لمدة شهر هذه عارية مؤقتة فإنه يجوز له في خلال هذا الشهر أن يعير ما استعار. لماذا؟ قالوا: - لأنه إذا أقتت العارية أصبحت المنفعة مملوكة في هذا الزمن فله أن يعير ما ملك. والراجح أنه لا يعير مطلقاً. ليس له ان يعير مطلقاً إلا بإذن المالك. سواء كانت مؤقتة أو غير مؤقته لأن هذا في الحقيقة نوع من الاعتداء. وسواء كان المستعير الثاني يستعمل كاستعمال الأول أو أشد أو أقل فلا يجوز أن يعير. لأن هذه العين أمانة في يده ولا يجوز له أن يتصرف فيها هذا التصرف بلا إذن المالك. لكن مع ذلك بين المؤلف - رحمه الله - ما يترتب على ما لو خالف وأعار. - فقال - رحمه الله -: - فإن تلفت عند الثاني: استقرت عليه قيمتها. يعني: وإذا خالف المستعير الأول وأعارها للمستعير الثاني وتلفت عند المستعير الثاني فإن الضمان على المستعير الثاني. الدليل: - قالوا: لا يخلو الأمر من أن يكون المستعير الثاني عالماً بأن الأول أعاره ما لا يملك إعارته فحينئذ يكون غاضب. والغاصب ضامن كما سيأتينا اليوم إن شاء الله. الحال الثانية: أن لا يعلم أن المعير أعاره ما لايملك إعارته فحينئذ هو أخذها على أنها عارية والعارية عند الحنابلة مضمونة. إذاً تبين أنه بكل حال الضمان على الثاني. لأن العين تلفت تحت يده.

ولا يخفى عليكم أنه في الصورة الثانية يأتي معنا الخلاف في العارية هل تضمن أو لا تضمن؟ يعني: بعبارة أخرى: إذا أخذها ولم يعلم أن المعير لا يملك هذه العين وإنما ظن أنها ملك له فإنه عند الحنابلة يضمن لأنه أخذها على أنها عارية وعلى القول الثاني لا يضمن لأن العارية لا تضمن. - قال - رحمه الله -: - وعلى معيرها أجرتها. يعني: على المستعير الأول الذي أعارها الأجرة. - لأنه هو الذي سلط المستعير الثاني على هذه العين. ويستثنى من ذلك ما إذا كان المستعير الثاني يعلم بالحال وتقدم معنا ما هو معنى قول الفقهاء يعلم بالحال يعني: يعلم أن العين ليست ملكاً للمعير. حينئذ يكون على الثاني الضمان والأجرة. إذاً: إذا قيل لك متى يكون الضمان والأجرة جميعاً على المستعير الثاني فتقول: إذا كان عالماً بالحال. - قال - رحمه الله -: - ويضمن أيهما شاء. يعني: وللمالك أن يطالب - فمعنى: (يضمن): يطالب - أيهما شاء. إن شاء طالب المستعير الأول. وإن شاء طالب المستعير الثاني. أما المستعير الأول فلأنه هو السبب في وقوع اعين تحت يد المستعير الثاني. وأما المستعير الثاني: فلأنه تلفت العين تحت يده. لكن كيف يقول الشيخ: (يضمن أيهما شاء) وهو يقرر أن الضمان على الأول أو الى الثاني - حسب الحال.؟ ما معنى هذا؟ إذاص: يكون معنا: (يضمن) يطالب. ولو قال المؤلف - رحمه الله - في الحقيقة: (ويطالب أيهما شاء) لكان أوضح وأدق لأنه هو في الحقيقة لا يضمن وإنما يطالب والضمان يرجع إلى من عليه الضمان حسب التفسير السابق. - قال - رحمه الله -: - وإن أركب منقطعاً للثواب: لم يضمن. يعني: وإذا أركب شخص منقطعاص في السفر لا مال معه ليركب به فتصدق عليه وأركبه على دابته فإنه في هذه الحال لا يضمن الراكب ولو تلفت تحت يده. إذاً: - مرة أخرى - معنى هذه العبارة: أنه إذا تبرع شخص لمنقطع لا مال معه وأركبه على دابته ثم تلفت تحت هذا الراكب فإنه لا ضمان عليه. التعليل: عللوا هذا بأنه: - أولاً: أركبه تقرباً إلى الله. - ثانياً: وهو الأهم: وهو العلة احقيقية: أن يد المالك ما زالت على الدابة ولم يرفع يده عنها.

وهذا الحكم لا يختص بالمنقطع بل يشمل كل من اعطى غيره دابة ونحوها وبقيت يد المالك عليها. مثاله/ حتى تتضح القضية: لو أركب خلفه شخص رديفاً له ففي هذه الحالة لو تلفت الدابة فإن الرديف لا يتعبر ضامناً. وإن كان المردف أعاره نفع الجابة بإركابه لكن ما زالت يد المالك على الدابة. إذاً: لا يضمن. المثال الثاني وهو مثال مشهور/ لو سلم الدابة للسائس ليقوم بتمرينها وتلفت تحت يده فإنه لا يضمن. لأن يد المالك ما زالت على هذه الدابة. وليس معنى قول الفقهاء يده ما زالت أنه راكب أو ممسك باللجام وإنما مقصود أنها باقية في حوزته. - قال - رحمه الله -: - وإذا قال: ((آجَرْتُكَ)) قال: ((بَلْ أَعَرْتَنِي)) أو بالعكس عقب العقد: قبل قول مدعي الإعارة. بدأ المؤلف - رحمه الله - في الكلام على الاختلافات التي تقع بين القابض والمالك. يقول - رحمه الله -: (وإذا قال: ((آجَرْتُكَ)) قال: ((بَلْ أَعَرْتَنِي)) أو بالعكس عقب العقد: قبل قول مدعي الإعارة.) إذا اختلفوا: فقال أحدهما أجرتك وقال الآخر بل أعرتني: بعد العقد ومقصود المؤلف - رحمه الله - هنا: (ببعد العقد) يعني: وقبل مضي مدة يؤخذ على مثلها أجره وهذا هو معنى [[قبل]] العقد في كلام المؤلف - رحمه الله - حينئذ إذا اختلفا فإن القول قول مدعي العارية مطلقاً. فإن كان مدعي العارية المالك فالقول قوله. وغن كان مدعي العارية القابض ولا نقول المستعير - لانا لم نحكم له إلى الآن هل هو مستعير أو مستأجر - فالقول قول القابض. إذاً: بعبارة أخرى: إذا اختلفوا: يزعم أحدهما أن العقد عقد إجارة والآخر قال: العقد عقد عارية فالقول قول من؟ المالك أو القابض؟ مدعي العارية. سواء كان القابض أو المالك. التعليل: - قالوا: السبب في ذلك: أن مدعي العارية ينفي عقد الإجارة والأصل عدم وقوع عقد الإجارة. وكان هذا هو الأصل لأن الأصل براءة الذمة. وبراءة الذمة تتحقق في عقد العارية لا في عقد الإجارة. لأنه في عقد الإجارة يترتب الأجرة وفي عقد العارية لا يترتب على ذمة المستعير أجرة. إذاً: إذا اختلفوا فالقول قول مدي العارية مهما كان حتى لو كان القابض. لأن الأصل معه. - قال - رحمه الله -:

- وبعد مضي مدة: قول المالك في ماضيها بأجرة المثل. وبعد مضي مدة فالقول قول المالك. الآن أنت تعرف ما معنى بعد مضي مدة؟ يعني: تؤخذ على مثلها الأجرة. وليس المقصود أي مدة وإنما المدة التي يؤخذ على مثلها أجرة. بعد مضي هذه المدة القول قول المالك. / فإذا أخذ المستعير العين وبعد مضي شهر جاء فاختلفوا فقال: المالك أجرتك وقال المستعير أعرتني فالقول قول المالك. لأنه مضت مدة يؤخذ على مثلها أجرة. الدليل: قالوا الدليل على ترجيح قول المالك من وجهين: - الوجه الأول: أن الأصل في أموال الغير المقبوضة الضمان. - الوجه الثاني: القياس على عقد البيع. فإنه إذا وقع هذا الاختلاف في البيع فالقول قول البائع. = والقول الثاني: أن القول قول المنكر. فإذا كان المنكر ينكر عقد الإجارة فالقول قوله لأن الأصل براءة الذمة. قهم يقولون الأصل براءة الذمة سواء مضت مدة أو لم تمض مدة الأصل دائماً براءة الذمة. الراجح: - الراجح: المذهب. السبب في الترجيح: أنا نأخذ هذه الأجرة في الواقع مقابل الانتفاع والأصل في مال الإنسان أنه محفوظ ومضمون ولسنا نأخذ الأجرة مقابل عقد الإجارة تماماً وإنما مقابل الانتفاع بهذه العين. وهذا القول في الحقيقة هو الراجح ومال إليه ابن قدامة وفيه قوة. ولكن الخلاف قوي لأن القول بأن الأصل براءة الذمة أيضاً وجيه. - قال - رحمه الله -: - وإن قال: ((أَعَرْتَنِي))، أو قال: ((أَجَرْتَنِي)) قال: ((بَلْ غَصَبْتَنِي)) ... فالقول قول المالك. إن قال قابض العين: أعرتني أو قال أجرتني فقال المالك: بل غصبتني. فالقول قول المالك. لماذا؟ - لأن المالك ينطر التمليك والأصل مع المنكر دائماً. فعلى من يدعب خلاف الإنكار الاثبات. وتقدم معنا قاعدة: (أنه دائماً القول قول المنكر بيمينه). وهنا المنكر هو القابض أو المالك؟ المالك وهو ينكر انتقال المنافع. وهذا صحيح. ولو لم نقل بهذا لأمكن كل إنسان أن يأخذ متاع الناس ويقول أخذته عارية. إذاً: لا مجال لتصحيح قول القابض مطلقاً إلا ببينة. بلا بينات فالقول قول المالك. - قال - رحمه الله -: - أو قال: ((أَعَرْتُكَ)) قال: ((بَلْ آجَرْتَنِي))، والبهيمة تالفة أو اختلفا في رد: فقول المالك.

انتقل المؤلف - رحمه الله - إلى القسم الثاني والتفصيل السابق كله فيما إذا كانت البهيمة لم تتلف. والآن انتقل إلى حكم الاختلاف مع تلف البهيمة. يقول - رحمه الله -: (أو قال: ((أَعَرْتُكَ)) قال: ((بَلْ آجَرْتَنِي))، والبهيمة تالفة فقول المالك.) وهذه الصورة - يعني إذا تلفت البهيمة - تنقسم إلى قسمين: ـ أن يكون التلف قبل مضي مدة: - ما معنى قبل مضي مدة؟ يؤخذ على مثلها أجرة - فإذا كانت قبل مضي مدة فالقول قول المالك سواء ادعى الإجارة أو العارية. ((إذاً: نقول: إذا كان قبل مضي المدة فالقول قول المالك سواء ادعى الإجارة أو ادعى العارية. التعليل: - قالوا: لأنه إذا ادعى أن العقد عقد إجارة فهو في احقيقة يبرئ القابض لأنه في عقد الإجارة لا ضمان على المستأجر. تقدم معنا أن المستأجر لا ضمان عليه. وإذا ادعى أنها عارية فهو يدعي أنها عارية والقول قوله. لماذا القول قوله؟ لأن الأصل في قبض مال الغير الضمان. ـ ننتقل إلى القسم الثاني وهو ما إذا كان بعد مضي المدة: إذا كان بعد مضي المدة فينقسم إلى قسمين: - القسم الأول: أن تكون قيمة العين التالفة وقيمة الأجرة متساوية. فحينئذ القول قول من؟ (لكي تتصور المسألة وتجيب عن هذا السؤال: الآن رجل قبض دابة هذه الدابة تلفت: المالك: أيهما أنفع له أن يدعي أن العقد عقد إجارة أو عقد عارية؟ عارية. لماذا؟ لأن العارية مضمونة. والأجرة غير مضمونة وهذا بخلاف المسألة السابقة فإنه من صالح المالك أن يكون العقد عقد إجارة لأن فيه أجرة أما الآن العين تالفة فمن صالح المالك أن يكون ( ... ) نرجع إلى مسألتنا: العين تلفت واأجرة وقيمة العين التالفة واحد فالقول قولمن؟: ( ... نفس الشيء أو مافيه خلاف كله واحد ... [غير واضح]) لماذا؟ سواء قلنا القول قول المالك أو القابض النتيجة: ( ... ) لأن المبلغ متفق. نأتي إلى: - الصورة الثانية وهي محل الخلاف: إذا كانت قيمة العين أكثر من الأجرة وهذا الإشكال. إذا كانت قيمة العين أكثر من الأجرة: فالمالك سيدعي أن العقد عقد عارية القابض سيدعي أن العقد عقد إجارة.: فالقول قول: المالك. لماذا؟ - قالوا: لما تقدم من أن الأصل في الأموال المقبوضة وهي للغير: الضمان.

باب الغصب

وبهذا اكتملت الصورة وعرفنا الاختلاف في حال تلف الدابة والاختلاف في حال بقاء الدابة حية. وأنه في غالب الصور نلاحظ أن الفقهاء يراعون جانب المالك. لأن الأصل في الأموال الحفظ. - قال - رحمه الله -: - أو اختلفا في الرد فقول المالك. إذا اختلفا في الرد فالقول قول المالك. لماذا؟ - لأن الأصل عدم الرد. فالمالك منكر للرد والقول قول المالك. يعني والقول قول المنكر. وبهذا تم باب العارية وننتقل إلى بعض مائل الغصب. باب الغصب. - قال - رحمه الله -: - باب الغصب. الغصب في لغة العرب هو: أخذ مال الغير قهراً. والغصب محرم بالكتاب والسنة والإجماع. ـ أما الكتاب: فقوله تعالى: {ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل ... } [النساء/29]. ـ وأما السنة: فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - خطب الناس في الحج وقال: (إن دمائكم وأموالكم وأعراضكم حرام عليكم كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا في بلدكم هذا). وهذا تغليظ في الدماء والأموال والاعراض. ـوأما الإحماع فلم يختلفوا أبداً في أن الغصب محرم. وإن اختلفوا ببعض المسائل داخل باب الغصب لكن الغصب من حيث هو محرم. وأما التعريف الشرعي فذكره المؤلف - رحمه الله -: - فقال - رحمه الله -: - وهو: الإستيلاء على حق غيره قهراً بغير حق. المؤلف - رحمه الله - عدل عن تعريف الأصل - يعني عن تعريف الشيخ ابن قدامة في المقنع واختار تعريف رجل من كبار الحنابلة يسمى الحارثي. وهو من علماء الحنابلة الكبار. وذكر التعريف المذكور هنا واختاره المؤلف - رحمه الله - وفي الحقيقة هو من أجود التعاريف. - يقول - رحمه الله -: - وهو الاستيلاء. لا تتحقق حقيقة الغصب إلا مع الاستيلاء وهو الأخذ. وإذا لم يوجد الاستيلاء فلا غصب. فإذا دخل رجل بيت آخر بلا إذن وتلف البيت فهنا: لا يتعبر استيلاء ولا ضمان عليه. لماذا؟ لأنه وإن دخل بغير إذنه إلا أنه لم يستول عليه. لكن لو دخل بغير إذنه وأخرج صاحب الدار قصراً من الدار وجلس في الدار حينئذ يعتبر استولى فإن انهدمت الدار فيضمنها. إذاً لابد من عنصر الاستيلاء. ولا يشترط في الاستيلاء كما يتوقع كثير من الناس نقل العين ... ((الأذان)) ...

الدرس: (40) من البيع قال شيخنا حفظه الله: بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين. أخذنا أول باب الغصب وتعريف الغصب في اللغة وأدلة التحريم والتعريف الاصطلاحي وذكرت أن المؤلف - رحمه الله - عدل عن تعريف الأصل وهو تعرلايف ابن قدامة واختار تعريف الحارثي والسبب في ذلك هو أن التعريف الذي اختاره الحارثي أجمع وأشمل وأمنع. وذلك قدمه المؤلف - رحمه الله - على تعريف ابن قدامة. لأن في تعريف ابن قدامة كلمة المال وفي تعريف الحارثي كلمة الحق والحق أوسع من المال ولذلك اختارها وهو إن شاء الله مصيب باختياره تعريف الحارثي. - يقول - رحمه الله -: - وهو: الإستيلاء على حق غيره. الاستيلاء: تحدثنا عنها وبينا أنها من الشروط الأساسية في الغصب. - يقول - رحمه الله -: - على حق غيره. المقصود بالحق هنا: سواء كان حقاً مالياً أو حق اختصاص. ومعنى (حق الاختصاص) هو أن يختص الإنسان بمنفعة العين وإن لم تكن مالاً متقوماً في الشرع. مثال حق الاختصاص/ الكلب. فالكلب يختص نفعه بصاحبه وليس من الأموال التي يجوز أن تباع وأن تشترى. فرأينا أن كلمة حق شملت النوعين فهي أولى بالتقديم في التعريف من كلمة مال. - قال - رحمه الله -: - قهراً. يعني: أنه يجب لكي نحكم على العمل أنه غصب أن تؤخذ تاعين بالقوة فإن أخذت عن طريق السرقة أو النهب أو الاختلاس فإنه لا يعتبر من باب الغصب. فالسارق - مثلاً - لا يأخذ العين قهراً وإنما خفية. فيشترط في الغصب أن يأخذ العين بقوة وقهراً حتى نسميها غضباً. - ثم قال - رحمه الله -: - بغير حق. خرج بهذا: ما لو أخذت العين بالقوة والقهر لكن بحق. مثال ذلك/ أخذ الحاكم المال من المفلس. فهو يأخذه بقوة وقهر ولكنه بحق. ومثاله أيضاً/ أخذ ولي اليتيم المال من اليتيم لئلا يضيع اليتيم المال فهذا أخذ بحق. المهم: القاعدة أنه إذا أخذ المال قهراً لكن بحق فليس من الغصب. - يقول - رحمه الله -: - من عقار.

انتهى المؤلف - رحمه الله - من التعريف في الحقيقة ودخل في مسألة العين المغصوبة وأحكام هذه العين. وهو مبحث أساسي في باب الغصب. فسيتكلم عن أنواع العين المنصوبة وأنواع الاغتصاب وأنواع العين بعد الاغتصاب كما سيأتينا كل هذا في الباب. بدأ أولاً بالعين التي يمكن أن يقع عليها فعل الغصب. - فيقول - رحمه الله -: - من عقار أو منقول. العقار. تعريفه: هو كل ما يملك ثابتاً أصله لا يتحرك. فالأموال الثابتة الأصول دائماً تعتبر عقار عند الفقهاء. ولا تختص كلمة عقار بالمباني كما هو في العرف بل عند الفقهاء: العقار: كل ما كان ثابت الأصل. فالدار: عقار أو منقول؟ عقار. والنخلة؟ والشجرة؟ والأرض؟ هذه أمور واضحة. والبيوت المتنقلة التي تنقل من مكان إلى مكان - لست أقصد البيوت التي تكون على هيئة سيارة أقصد البيوت التي تنقل وتوضع في مكان ثم بعد فترة تنقل وتوضع في مكان آخرى تكون جاهزة وتوضع للسكن أو للعمل ... إلخ؟ هذه عقار أو منقول؟ (السؤال الذي يبنبغي أن تسأل نفسك إياه؟ كيف أحكم على الشيء أنه عقار أو منقول؟ الجواب: أن الثابت عقار والمنقول ... والسؤال الثاني الذي تسأل نفسك إياه: إذا اجتمعت في العين صفتان كيف أحكم عليها؟ على الغالب. إذاً: إذا تدرج الإنسان في التفقه استطاع أن يعرف الحكم. إذا قيل: أيهما الصفة الغالبة على البيوت المتنقلة: الثبات أو التنقل؟ الثبات. إذاً التدرج في معرفة الحكم يساعد على معرفة حقيقة العين. بالنسبة للبيوت التي تأتي على شكل سيارة أصلاً: منقولة وإن كانت فيها جميع مرافق البيت. لماذا؟ لأن الأصل فيها والغرض منها التنقل الكثير. فالأصل فيها التنقل لا الثبات. إذاً: الآن نستطيع إن شاء الله نستطيع أن نعرف ما هو العقار وما هو المنقول؟ نأتي إلى حكم المسألة: = ذهب الحنابلة إلى أنه يتصور الغصب في العقار. واستدلوا على هذا القول بأدلة: - الدليل الأول: قوله - صلى الله عليه وسلم - في الحديث المتفق على صحته: (من ظلم شبر أرض طوقه يوم القيامة من سبع أرضين). فهذا الحديث دليل على أن أخذ الشبر من الأرض يعتبر غصباً.

- الدليل الثاني: أنه بالإمكان الاستيلاء على العقار ومنع صاحبه من الانتفاع به وهذا حقيقة الغصب. = القول الثاني: أنهى لا يتصور مطلقاً الغصب في العقار. وهو مذهب الأحناف. واستدلوا على هذا: - بأن من أوصاف الغصب اللازمة له النقل فلا يتصور غصب بلا نقل والعقار لا يمكن نقله. لأن وصفه الأساسي هو الثبات. والراجح قول الحنابلة - وهو قول الجماهير - ووجه الترجيح أن وصف الأحناف للمغصوب بأنه لابد أن ينقل غير صحيح: لأن هذا الشرط ليس في الكتاب ولا في السنة بل يصح الغصب بلا نقل. ولذلك لو جاء رجل وغصب متاع إنسان ولم ينقله أبقاه في مكانه لاعتبرناه غاصباً وإن لم ينقله. فالراجح أنه يتصور الغصب في العقار. * * مسألة/ حتى تفهم ما يترتب على أن نحكم على العقد أنه غصب أو ليس بغصب يترتب بصورة عامة - سيأتينا تفصيل هذا - يترتب بصورة عامة على عقد الغصب: الضمان المطلق. وإذا حكمنا على العمل أنه ليس بغصب فإنه لا يضمن إلا بالإتلاف. فإذا جاء شخص وأخذ البيت قهراً وقصراً ولما أخذ البيت انهدم البيت: ـ فعند الأحناف: إلا أن تعدى أو فرط. ـ وعند الجمهور: يضمن مطلقاً حتى لو خرج من البيت وسافر وسقط البيت بسبب الريح فإنه يضمن. لأنا حكمنا على أخذه العين أنه عقد غصب. إذاً: هذا الذي يسمى ثمرة الخلاف. وهو مبحث مهم: أحياناً: يأخذ الإنسان الخلاف في شيء ولا يعرف ماذا يترتب على هذا الخلاف. - يقول - رحمه الله -: - ومنقول. المنقول: هي الأموال التي يمكن نقلها وهي غالب الأموال كالأمتعة والأطعمة والمركوبات وأشياء كثيرة. ولا إشكال بالإجماع أن المنقول يغصب إنما الخلاف فقط في العقار. - قال - رحمه الله -: - وإن غصب كلباً يقتنى. إذا غصب كلباً يقتنى ككلب الماشية أو الرعي أو الصيد فإنه يجب عليه أن يرد الكلب وجوباً. فيجب على الغاصب إرجاع الكلب إلى صاحبه. والتعليل: - أن منافع الكلب ملك لصاحب الكلب المختص به ولا يجوز للإنسان أن يضيع على أخيه منافع أمر يختص به. وهذا لا إشكال فيه. * * مسألة/ فإن تلف الكلب فليس على الغاصب دفع القيمة: = عند الحنابلة. واستدلوا على هذا:

- بأن القاعدة الفقهية تقول: كل ما لا يجوز بيعه لا يجب ضمانه. والكلب لا يجوز بيعه فلا يجب ضمانه. = والقول الثاني: أن على الغاصب للكلب إذا تلف أن يدفع قيمة الكلب. - لأنه ضيع على المغصوب منافع الكلب. وفي الحقيقة الخلاف قوي. لكن لو قيل: أن عليه أن يدفع وهذا الدفع في الحقيقة ليس قيمة للكلب وإنما هو عوض المنافع. ومنافع الكلب محترمة شرعاً. ولذلك أخذنا الخلاف في تأجير الكلب. وأن الأقرب جواز تأجيره في الحال التي يجوز فيها نفعه. كذلك هنا نقول: المال أو القيمة هي مقابل المنافع. ويكون هذا القول وهو خلاف المذهب هو الأقرب من حيث التعليل. - يقول - رحمه الله -: - أو خمر ذمي. إذا غصب المسلم خمر الذمي فيجب عليه أن يرده. فهم من كلام المؤلف - رحمه الله - أنه إذا غصب خمر المسلم فإنه لا يجب أن يرده وهذا صحيح. بل يجب عليه أن يتلفه وجوباً. إذاً: هناك فرق بين خمر الذمي وخمر المسلم. نرجع إلى خمر الذمي: إذا غصب الإنسان خمر الذمي فإنه يجب عليه أن يرده للذمي. والسبب في ذلك: - أنه يجوز للذمي أن يتاجر في الخمر وأن يتعاطاها سراً. - والدليل الثاني: أن الصحابة - رضي الله عنهم - سألوا عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - عن تجار أهل الذمة الذين يتاجرون في الخمر هل يعشر عليهم أو لا يعشر. فقال - رضي الله عنه -: (ولوهم بيعها وخذوا عليهم العشر من الثمن) فدل الأثر على أن الخمر مال محترم بالنسبة للذمي. وهذا كله يدل على أنه يجب ردها إليه. * * مسألة/ فإن تلفت فإنه لا يجب على المسلم ضمان القيمة: لأنى الخمر مال مهدر في الشرع. = والقول الثاني: أنه يجب على المسلم الغاصب أن يضمن الخمر للذمي. واستدلوا على هذا: - بأن عقد الذمة أوجب - حفظ مال ونفس الذمي. والخمر بالنسبة للذمي مال متقوم. فوجب لذلك الضمان. وهذا القول هو الصحيح. لأن مال الذمي محفوظ بعقد الذمة وهو مال بفتاوى الصحابة فعليه أن يضمن هذا المال. فإذا أتلفه دفع إلى الذمي قيمة الخمر. - قال - رحمه الله -: - ولا يرد جلد ميتة. إذا غصب الإنسان من أخيه جلد ميتة فإنه لا يجب: = عند الحنابلة أن يرد هذا الجلد. وعللوا هذا:

- بأن جلد الميتة لا يطهر بالدباغ فلا يمكن الانتفاع به فلا فائدة في رده. = والقول الثاني: أن جلد الميتة يطهر بالدباغة. وإذا كان يطهر بالدباغة فيجب على المسلم أن يرده على من اغتصبه منه. - لأنه يمكن الانتفاع به. = والقول الثالث: أنه يجب رد جلد الميتة المغصوب سواء قلنا يطهر بالدباغة أو لا يطهر بالدباغة. والسبب في هذا: - أنه يجوز الانتفاع بجلد الميتة في اليابسات وإذا كان يجوز الانتفاع به في اليابسات وجب رده سواء قلنا يطهر أو لا يطهر بالدباغة. وهذا القول هو الصحيح. فإذا غصب جلدة ميتة فيجب عليه أن يرد هذا الجلد. - قال - رحمه الله -: - وإتلاف الثلاثة: هدر. الثلاثة هي: المتقدمة. الكلب والخمر والجلد الميتة. وتقدم معنا الخلاف عند ذكر كل واحد منهم فيما إذا تلفه الغاصب. والراجح في الجميع أنه يجب: القيمة. وتقدم هذا ولذلك نحن رأينا أن نذكر الخلاف في الاتلاف عند ذكر كل واحدة على حدة حتى يكون الحكم مجتمعاً فيما يختص بالكلب وفيما يختص بالخمر وفيما يختص بجلد الميتة. - ثم قال - رحمه الله -: - وإن استولى على حر: لم يضمنه. هذه المسألة ترجع إلى قاعدة:: ((وهي أن الغصب لا يقع على غير الأموال)) وهي قاعدة مفيدة. وبدن الإنسان ليس من الأموال يعني: بدن الإنسان الحر ولذلك لا يعتبر مغصوباً. بناء على هذا: لا يضمن. لا ضمان فإذا غصب زيد عمراً فإنه لا يضمنه إلا إذا أتلفه بتعد وتفريط. مثال يوضح المسألة/ إذا غصب زيد عمراً وفي مدة الغصب (غصبه يعني: أخذه وحبسه عنده) وفي مدة الحبس أصيبت يده بجرح ولزم من ذلك قطع اليد: ـ على القول بأنه لا يغصب الإنسان تكون يده: هدر. لأنا لا نحكم عليه بأنه غصب وإنما يضمن لو قام بقطع يده: ضمن.: كما لو قطع يد أي شخص في الشارع. ويكون الضمان بسبب الجناية والتعدي لا بسبب الحبس والغصب. - قال - رحمه الله -: - وإن استعمله كرهاً .. فعليه أجرته. إذا استعمل الإنسان آخر مغصوباًَ كرهاً: فعليه الأجرة. والسبب في هذا: - أنه استغرق منافعه واستوفاها فوجب عليه أجرة هذه المنافع. إذاً: إذا غصبه واستعمله بأن جعله يعمل في أعمال خاصة بالغاب فعليه الأجرة. لماذا؟ لأنه استغرق منافعه.

وقبل ان نتعدى الاستعمال هناك فيه قول آخر في المسألة لكنه - ضعيف - ونحن نستبق هذا القول ونقول هو قول ضعيف وتركناه. لكن نشير إليه لأن تعليله جيد: = القول الثاني: انه إذا استعمله لا يدفع الأجرة. التعليل: - قال: التعليل: لأنه إذا لم يضمن الأصل فكيف يضمن الفرع. لأن عمل الإنسان فرع عن بدنه. وهذا اختاره لحارثي. وإن كان اختيار الحارثي في التعريف جيد لكن اختياره في هذه المسألة مرجوح. والراجح أن عليه ضمان الأجرة وإنما ذكرت هذا القول لأن تعليله لطيف. وهذا واضح. - قال - رحمه الله -: - أو حبسه: فعليه أجرته. إذا حبسه فعليه أجرته ولو لم يعمل. التعليل: - أنه أتلف منافع هذا الرجل مدة الحبس. ولاحظ هذا التعليل يختلف عن تعليل المسألة السابقة. المسألة السابقة نقول إنه استغرق المنافع وانتفع بها هنا لم ينتفع هو بالمنافع لكنه أتلف المنافع بالحبس. = والقول الثاني: انه في مسألة الحبس لا يضمن الأجرة. - لأنه لم ينتفع منه بشيء والبدن لا عوض عليه. ومن المعلوم أن الحارثي الذي يرى عدم أخذ الأجرة مع الاستعمال واستخدام المحبوس هنا من باب أولى أنه يرى أنه لا أجرة. والراجح: أن عليه الأجرة. لأنه في الواقع أتلف المنافع هذه المدة. بناء على هذا: نقول قيمة الأجرة تتفاوت بحسب منافع هذا المحبوس أو المغصوب. ـ فإن كانت كبيرة فسيكون المبلغ كبير جداً. ـ وإن كانت بسيطة فسيكون بسيط جداً. * * مسألة/ نحن أخذنا استعمله والمسألة الثانية: إذا حبسه بلا استعمال. المسألة الثالث: وهي مرتبة عقلياً: إذا منعه مكن العمل بلا حبس. يعني: لم يحبس ولم يستعمل. ففيه خلاف: = الراجح: أنه إذا منعه من العمل ولم يحبسه فعليه أيضاًَ الأجرة. وممن اختار هذا القول من المحققين الشيخ ابن مفلح - رحمه الله - والشيخ المرداوي. صورة المسألة/ أن يقول زيد لعمرو إن عملت في دكانك برحتك ضرباً. هو الآن لم يحبسه. لكنه منعه من العمل بالتهديد. هذا المُهَدَّد إذا كان المُهَدِّد يقول ويفعل ويضرب فلهن يعمل ويعتبر محبوس. فنقول أنت لم تعمل لأنك محبوس وعليه أجرة هذه المدة. إذاً تبين معنا في الحقيقة أنه في كل الصور عليه الضمان لأنه ظالم ومعتدي. - قال - رحمه الله -:

- ويلزم ردُّ المغصوب: بزيادته. رد المغصوب: واجب بالإجماع. لم يختلفوا رحمهم الله في وجوب رد المغصوب. - لقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: (ليس لعرق ظالم حق). - ولقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: (لا يأخذ أحدكم متاع أخيه جاداً ولا لاعباً وإذا أخذ أحدكم عصا أخيه فليردها). الحديث أفاد تحريم أخذ مال الغير وفي نفس الوقت وجوب الرد: (فليردها). كما أن الحديث يفيد بيان حكم مسألة تقع كثيراً الآن لكن أنا لم أتمكن من مراجعة إسناد الحديثز لكنه يدل إن صح على مسألة أن المزح الذي يقع بين بعض الناس في أخذ المتاع أنه لا يجوز وهذا يقع كثيراً. يعني: يمزح مع أخيه ويأخذ شيئاً من متاعه ويجعله مستتراً من باب المزاح. الحديث يقول: (جاداً ولا لاعباً). فالواجب إذا صح الحديث الامتناع عن هذا النوع من المزاح ويكون من المزاح الممنوع شرعاً. كما أنه ممنوع من جهة أخرى وهي: الترويع. لا سيما إذا كانمت مصالح الإنسان تتعلق بهذه العين بكثرة أو كان يحتاج هذا المال في هذا الوقت بشدة مثل ما يصنع بعض الناس يأخذ: مفتاح السيارة أو السيارة كاملة إذا كانت تشتغل أو الجوال يأخذه ويضعه في مكان مستتر وقد تكون حاجة الإنسان للسيارة أو الجوال أو أي شيء الآن ملحة وما في شك أنه سيصدم حين لا يجد هذا المال الخاص به. ففي الحقيقة ما ذكر في الحديث تؤيده الأصول. فإن صح الحديث فهو حديث مفيد جداً. - قال - رحمه الله -: - بزيادته. يجب على الغاصب أن يرد المغصوب بزيادته. سواء كانت هذه الزيادة منفصلة أو متصلة. فإذا غصب عبداً وعلمه الكتابة لمدة سنة وصرف عليه في التعليم مبالغ طائلة فإنه يأخذ المغصوب غلامه مع هذه الزيادة: المتصلة ولا شيء للغاصب. كذلك لو أنه غصب من بهيمة الأنعام وأتت بولد أو أكثر فإنه يأخذ الشاة وما جائت به وليس للظالم شيء. - قال - رحمه الله -: - وإن غرم أضعافه. يعني: ويجب على الغاصب رد المغصوب وإن أدى الرد إلى غرامة أضعاف قيمة العين المغصوبة. وأبرز صور ارتفاع قيمة رد المغصوب يقع في صورتين:

- أن يكون المغصوب بعيداً. فإذا [[سرق]] العين ووضعها في مكان بعيد وصار إحضار هذه العين من هذا المكان البعيد تترتب عليه نفقات هي أضعاف قيمة العين فيجب عليه أن يحضر هذه العين. - الصورة الثانية: أن يبني على هذه العين. مأن يغصب خشبة - خشبة واحدة - ويضعها في عمارة من عشرين طابق فتكلفة إرجاع هذه الخشبة هدم كل هذه العشرين دور. لأن استخراج الخشبة لا يمكن إلا بهدم هذه الأدوار إلا إذا كان بالإمكان كسر الجدار أو استخراج الخشبة فممكن. لكن فانفرض أنه لا يمكن استخراج الخشبة إلا بهدم البيت: فيجب وجوباً على الغاضب أن يهدم البيت وأن يستخرج الخشبة. استثنى الحنابلة من هذا الحكم العام صورتين: ـ الصورة الأولى: إذا تلفت العين. أخذ خشبة واستعملها في البناء وتلفت وانقرضت ولم يعد لها عين. فلا حاجة لا سترجاع العين لأنها تلفت. أصلاً هذه العين تلفت. ـ الصورة الثانية: إذا كان المغصوب خيطاً خيط به جرح إنسان محترم. فإنه لا يجب نقض الجرح وإرجاع الخيط إلى صاحبه. فيما عدا هذا يجب مطلقاً إرجاع العين المغتصبة ولو أدى إرجاعها إلى أضعاف قيمتها. = والقول الثاني: أن الغاصب إذا غصب خشبةً أو غصب حجراً واستخدمه في البناء فإنه لا يلزم بنقض البناء بل يلزم بقيمة الخشبة. واستدلوا على هذا: - بأن إلزام الغاصب بالنقض فيه ضرر ظاهر عليه. والنبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: (لا ضرر ولا ضرار). وهذا القول هو الراجح إن شاء الله. إلا في صورة واحدة: ـ إذا تعلقت حاجة المغصوب بهذه العين بحيث لا تنقضي إلا بها. فحينئذ يجب إرجاع هذه العين المغصوبة مهما كلف الأمر. لأنه في هذه الصورة لم يعد الأمر ضرر وإضرار وإنما صارت المسألة حاجة المغصوب لهذه العين. هذا القول إن شاء الله هو الصحيح. - قال - رحمه الله -: - وإن بنى في الأرض أو غرس: لزمه القلع. إذا غرس في الأرض أو زرع فيها فله صورتان: ـ الصورة الأولى: أن يزرع وينتهي موسم الزرع ويحصد الزرع ويأخذ الزرع كاملاً ثم يأتي المغصوب لأخذ حقه.

فالحكم حينئذ: أن الزرع جميعه للغاصب. وليس للمغصوب إلا أجرة الأرض. وقد حكى الشيخ ابن قدامة - رحمه الله - الإجماع على هذه الصورة. فيقول - رحمه الله -: (لا أعلم فيه مخالفاً). ـ الصورة الثانية: التي ذكرها المؤلف - رحمه الله -: إذا بنى على الأرض بيتاً أو غرس فيها شجراً فإنه يجب عليه القلع. ومقصود المؤلف - رحمه الله - بوجوب القلع: يعني: إذا طلب المالك منه القلع. فحينئذ يجب عليه أن يقلع. والسبب: أنه معتد ظالم انتفع بمال غيره بلا إذن فوجب عليه الإزالة. وهذا الحكم لاإشكال فيه. وجوب القلع: لا إشكال فيه. * * مسألة/ إذا بنى في الأرش وطلب المالك القلع ولا مصلحة للمالك في القلع فحينئذ وقع بين الفقهاء خلاف: = منهم من قال: إذا لم يكن لصاحب الأرض غرض صحيح في قلع المبنى: هدم المبنى: فإنه لا يمكن من هذا الحكم. - لأن هذا مفسدة لا مصلحة فيها. والشرع جاء بتحصيل المصالح وتكميلها وإبطال المفاسد وتخفيفها. = والقول الثاني: أنه يمكن ولو طلب هذا على سبيل الإضرار بالغاصب فقط. بأن قال: اهدم البيت لأبني مكانه مثله. ((الأذان)). والراجح إن شاء الله أنه لا يلزم بالقلع لأنه كما قلت لا فائدة من إلزام الغاصب بهذا الحكم. : الراجح إذاً: عدم الإلزام: أنه لا فائدة في هذا العمل. لكن إذا كان هناك فائدة بأن بنى الغاصب في أرض ينوي المالك أن يجعلها مزرعة وهو في حاجة إلى اتخاذها مزرعة فحينئذ له أن يلزم الغاصب بالقلع وبكل ما يترتب على القلع كما سيأتينا في نص كلام المؤلف - رحمه الله -. - قال - رحمه الله -: - وأرش نقصها. يلزمه أيضاً: أرش النقص. إذا نقصت العين وهي في هذه المسائل الأرض بسبب أنه بني فيها بيت وهدم أو غرس فيها شجر وقلع. فإن على الغاصب أرش النقص. والتعليل: - أن هذا النقص حصل بتعديه وظلمه. وإذا ترتب النقص على التعدي والظلم وجب ضمانه. والأرش هو: أن نقول كم ثمن الأرض قبل هذا العمل وهو البناء ثم الهدم؟ وكم قيمتها بعد هذا العمل؟ والفرق بينهما يدفعه الغاصب. - ثم يقول - رحمه الله -: - والتسوية. يعني: ويجب عليه بعد القلع أن يسوي الأرض. والضابط في ذلك: أن ترجع كما كانت.

سواء كانت تسوية بعد هدم أو تسوية بعد قلع فيجب عليه أن يسويها كما كانت. - لأنه أيضاً. أي: التفاوت الواقع في الأرض كان بسبب الظلم فيجب على الظالم تفادي هذا الضرر الواقع على الأرض. - يقول - رحمه الله -: - والأجرة. ويجب على الغاصب أجرة الأرض مدة الغصب. التعليل: - أن منافع الأرض تلفت تحت يد الغاصب ومن أتلف المنافع فعليه قيمتها. فنقول: كم تستحق هذه الأرض أجرة في هذه المدة التي اغتصبها الغاصب ونلزم الغاصب أن يدفع الأجرة. إذاً: سيترتب على عمل الغاصب أشياء كثيرة: ـ عليه القلع. ـ ثم بعد ذلك: التسوية. ـ ثم بعد ذلك: دفع الأرش. ـ ثم بعد ذلك: دفع الأجرة. فسيترتب على فعله وتعديه مبالغ طائلة وذلك بالنظر لأنه متعدي ومفرط. والترتيب المنطقي أن المؤلف - رحمه الله - لو قدم التسوية على الأرش لتكون المبالغ المدفوعة جميعاً والأعمال التي تترتب عليه جميعاً. وغير المؤلف - رحمه الله - سلك هذا الترتيب لكن مؤلفنا - رحمه الله - اختار هذا الترتيب. - ثم قال - رحمه الله -: - ولو غصب جارحاً أو عبداً أو فرساً فحصل بذلك صيد: فلمالكه. قاعدة هذه المسائل جميعاً: (إذا غصب ما هو آلة للتكسب أو نقول: إذا غصب ما هو أداة للتكسب ثم كسب بهذه الآلة فالكسب لمالك الآلة)) وهذه مسألة طويلة ... ونكتفي بهذا والله أعلم وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين ..

الدرس: (41) من البيع قال شيخنا حفظه الله: بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين. - يقول - رحمه الله -: - ولو غصب جارحاً أو عبداً أو فرساً فحصل بذلك صيد: فلمالكه. مراد المؤلف - رحمه الله - بهذه العبارة أنه إذا استخدم الغاصب وسيلة للصيد مغصوبة فإن الصيد الحاصل بهذه الوسيلة المغصوبة هو ملك لمن غصبت منه العين. ومثل المؤلف - رحمه الله - بثلاثة أمثلة:

يقول - رحمه الله -: (ولو غصب جارحاً). يعني: سواء كان حيواناً أو طائراً (أو عبداً) وسلطه على الصيد (أو فرساً) وصاد عليه فالحكم كما يقول - رحمه الله - هنا: (فلمالكه) أي: فالصيد لمالكه. وهذه التي ذكرها المؤلف - رحمه الله - إنما ذكرها على سبيل المثال وإلا كل ما يشبه هذه الأشياء له نفس الحكم. كما لو غصب شبكة أو غصب مصيدة وصاد بها فإن الصيد يكون لمالك يعني: للمغصوب منه. هذا هو: = مذهب الحنابلة. استدلوا على هذا: - بأن الصيد حصل بهذه الآلة المغصوبة وهي السبب فيه فصار الصيد للمغصوب منه. = والقول الثاني: أن الصيد يكون للغاصب وعليه أجرة هذه التي صاد بها. - لأن الذي صاد حقيقة هو الغاصب وهذه الأشياء ليست أكثر من تكون آلة استعان بها الغاصب. = والقول الثالث: أن الصيد يكون بينهما وطريقة التقسيم: أن ينظر إلى قدر نفع كل منهما ويقسم الصيد بهذا الاعتبار. فإن كان نفع الفرس أكثر من نفع الغاصب فالأكثر للمغصوب. وإن كان العكس فالأكثر للغاصب. واستدل أصحاب هذا القول: - بأن الصيد حصل بعمل مشترك بين الدابة المغصوبة والصائد الغاصب فقسم الصيد بينهما لأنه نتاج لفعلهما. وهذا القول اختيار شيخ الإسلام - رحمه الله - وفيه عدل وإنصاف وهو أقرب الأقوال إن شاء الله. ثم انتقل المؤلف - رحمه الله - إلى مسألة أخرى: - فقال - رحمه الله -: - وإن ضرب المصوغ ونسج الغزل وقصر الثوب أو صبغه بغصب ونجر الخشبة ونحوه، أو صار الحب زرعاً والبيضة فرخاً والنوى غرساً: رده وأرش نقصه ولا شيء للغاصب. يقول - رحمه الله -: (وإن ضرب الصوغ ونسج الغزل وقصر الثوب ... إلى آخره) هذه المسائل يجمعها معنىً واحد. وهو: (إذا عمل الغاصب في المغصوب عملاً أخرجه به عن مسماه. هذا هو القاسم المشترك بين هذه المسائل جميعاً. وذكر المؤلف - رحمه الله - عدة أمثلة لهذه القاعدة: ـ المثال الأول: يقول: (وإن ضرب المصوغ). يعني: أخذ ذهباً أو فضة وضربه دراهم أو دنانير. فهنا خرج عن اسم المادة الأصلية وهي الذهب والفضة إلى ما نتج بعد الصناعة وهو: الدراهم والدنانير.

ـ يقول - رحمه الله -: (ونسج الغزل). يعني: فصار بعد ذلك ثوباً فإن هذه الخيوط بعد الغزل والنسج صارت ثوباً فخرجت عن مسماها إلى مسمى جديد. ـ (وقصر الثوب). تقصير الثوب يعني: غسله. وأحياناً يعني: غسله وتبييضه. ـ (أو صبغه). والصبغ معروف. يعني: أخذ الثوب وصبغه بلون من الألوان. فهنا نلاحظ أن الغاصب أخرج المغصوب عن مسماه بعمل منه. فالحكم: يقول - رحمه الله -: (رده وأرش نقصه). - الحكم الأول: أنه يجب رد المغصوب مع زيادته ولو زاد الثمن بها كثيراً. تعليل وجوب رد المغصوب مع زيادته: - أن هذا المغصوب ما زال مالاً مملوكاً للمغصوب منه ولك تخرجه الصنعة عن أن يكون ملكاً للمغصوب منه فوجب رده. لأن قاعدة الشرع وجوب رد الأموال إلى أصحابها. فهذا هو الحكم الأول: وجوب الرد ولو زادت قيمة المغصوب بسبب العمل أضعافاً مضاعفة. - الحكم الثاني: عليه أرش النقص. يعني: على الغاصب أرش ما نقص من المغصوب بسبب عمله. فنقول: هذا الثوب الذي صبغ وهذا الذهب الذي أصبح دراهم ودنانير يعني: ضرب. ننظر هل نقص بسبب هذه الصنعة فإن نقص فعليه - يعني على الغاصب - الفرق بين قيمته قبل وبعد النقص. وهذا الحكم ثابت كما قلت في الصورة الثانية وهي: أرش النقص. ولو زاد ثمن المغصوب. مثال هذا/ إذا أخذ كيلو حديد - إذا اعتبرنا أن الحديد يوزن بالكيلو - ثم عمله مسامير. هذا الكيلو من الحديد لما عمله مسامير أصبح قيمته أضعافاً مضاعفة لكن مع ذلك بسبب العمل والصناعة نقص أصبح كيلو إلا ربع بسبب العمل والحت والضرب وتعريضه للنار .. إلى آخره. فحينئذ يجب أن يرد الحديد ويجب أن يرد النقص الحاصل بالصنعة ولو أن قيمة هذا الحديد بعد الضرب زادت لكن لا ننظر إلى هذا الأمر. يقول - رحمه الله -: (ولا شيء للغاصب) لا شيء للغاصب مقابل عمله ولو كان عملاً رائعاً واكتسب المغصوب بهذه الصنعة رونقاً جديداً وثمناً مرتفعاً فلا شيء للغاصب. التعليل: قالوا تعليل ذلك: أنه عمل في ملك غيره بغير إذنه. ومن عمل في ملك غيره بغير إذنه فلا أجرة له. فلو جاء إنسان وبنى في بيت آخر جداراً يحتاج إليه صاحب البيت فإنه لا أجرة له لأنه عمل في ملك غيره بغير إذنه.

= والقول الثاني: أن الغاصب والمغصوب يشتركان في الزيادة فقط. - لأن هذه الزيادة حصلت بعمل الغاصب. فله منها نصيبه. = القول الثالث: أن هذه العين تكون ملكاً للغاصب بالقيمة. وهذا القول الثالث: رواية عن الإمام أحمد وهو أضعف الأقوال وأبعدها عن الصواب. لذلك ذكر بعض الحنابلة رجع عن هذه الرواية وهذا أشبه ما يكون أنه صحيح لأنه قول ضعيف. وهذه الرواية ذكرها الإمام أحمد - رحمه الله - في أول بداية التفقه. سبب الضعف: أن هذا القول يؤدي إلى تسلط الناس على أموال الآخرين. وجه ذلك: أنه إذا أراد أن يأخذ من زيد متاعه ولم يستطع. ماذا يصنع؟ يأخذه ويجري عليه صناعة وبهذا يكون ملكاً له بالثمن. إذاً: كل من أراد أن يأخذ ملك غيره ولم يرض هذا الغير بالبيع فما عليه إلا أن يأخذ هذا الشيء ويعمل فيه عملاً من الصناعات المباحة فسيكون ملكاً له بالقيمة. هذا القول كما ترى ضعيف جداً. الراجح إن شاء الله: مذهب الحنابلة. لأن هذا الظالم لا حق له ولو عمل في المغصوب عملاً زادت به قيمته. ثم نستكمل باقي الأمثلة: - قال - رحمه الله -: - ونجر الخشبة ونحوها، أو صار الحب زرعاً والبيضة فرخاً والنوى غرساً: رده وأرش نقصه ولا شيء للغاصب. هذه أمثلة: يقول: (ونجر الخشبة ونحوه) يعني: إذا اغتصب خشبة ونجرها فأصبحت باباً أو أصبحت دولاباً فالحكم: كما تقدم: ـ عليه أن يرد المغصوب مع زيادته. ـ وأرش النقص. ـ ولا شيء للغاصب. قال: (أو صار الحب زرعاً) يعني: أخذ حباً - غصبه - وزرعه ونبت وصار زرعاً يانعاً مثمراً فهو للمغصوب منه. وهذه المسألة تختلف عن المسألة السابقة التي ذكرنا فيها حكم من زرع في أرض غيره بغير إذنه لأنه في تلك الصورة الزرع ملك للغاصب وإنما غصب الأرض وهنا غصب الحب وزرعه فحينئذ يكون ملكاً للمغصوب منه وهذا هو الفرق بين المسألتين. قال: (أو البيضة فرخاً) يعني: غصب بيضة ووضعها تحت الطائر أو وضعها في أجهزة كما في وقتنا هذا أجهزة معينة للتفريخ وفرخت بعد عمل مضن وشاق من الغاصب فإن الفرخ يكون: للمغصوب منه. قال: (والنوى غرساً) يعني: أخذ نوى وغرسه في الأرض ونبت شجرة مفيدة مثمرة فإنه للمغصوب منه.

والخلاف في هذه المسائل تماماً كالخلاف في المسألة السابقة. = فالقول الثاني: أنهما يشتركان. والقول الثالث: أنه يكون ملك للغاصب بالقيمة - كما تقدم في الخلاف السابق. والأحكام التي ذكرت لك فيما تقدم ذكرها المؤلف - رحمه الله - هنا: - يقول - رحمه الله -: - رده وأرش نقصه ولا شيء للغاصب. وتقدم معنا أن معنى قول المؤلف - رحمه الله -: (رده) يعني: مع زيادته. وأما أرش النقص وأنه لا شيء للغاصب فتقدم معنا الخلاف في عبارة المؤلف - رحمه الله - وهي: (ولا شيء للغاصب). وأن في هذه المسألة ثلاثة أقوال. - ثم قال - رحمه الله -: - ويلزمه ضمان نقصه. يعني: ويلزم الغاصب ضمان نقص المغصوب مطلقاً ولو بغير فعل من الغاصب. مثال الذي يوضحه/ لو غصب جرة طيب ووضعها على الرف ولم يتعرض لها بأي نوع من الاتلاف أو النقص لكن هذه الجرة مع مرور الوقت نقصت قوة الرائحة فيها. وهذا النقص أدى إلى نقص القيمة فإنه يضمن ولو أن هذا النقص بغير فعل منه. يبقى علينا مسألة/ ما الفرق بين قول المؤلف - رحمه الله -: (ويلزمه ضمان نقصه) وبين قوله: (وأرش نقصه).؟ ـ أن العبارة الأولى: يعني: إذا كانت بسبب من الغاصب. ـ والعبارة الثانية: يعني: مطلقاًَ. فأي نقص يحصل للعين المغصوبة بأي طريقة من الطرق فإنها مضمونة على الغاصب عليه أن يدفع هذا النقص للمغصوب منه. وسواء كان النقص في العين أو في الصفة. فأحياناً تنقص العين وأحياناً تنقص الصفة ففي المثال الذي ذكرت لك النقص في العين أو في الصفة؟ في الصفة. ففي مثال جرة الطيب الذي تقدم النقص صار في الصفة. وأما نقص العين فنذكر نفس المثال حتى يتضح الفرق بينهما. لو انسكب نصف الطيب الذي في الجرة فهذا النقص ليس في الصفة وإنما في العين. فسواء كان النقص في الصفة أو في العين فإنه عليه أن يضمن هذا النقص. - قال - رحمه الله -: - وإن خصى الرقيق: رده مع قيمته. إذا خصى الغاصب الرقيق بعد الغصب فإنه يرده مع قيمته. ـ أما الرد فتقدم معنا: أن الغاصب إذا أخذ شيئاً وجب عليه مطلقاً الرد فهو مستفاد من كلام المؤلف السابق. وإنما يريد أن يبين أنه مع الرد عليه أن يدفع كامل القيمة. والسبب في ذلك:

- أن في الجناية على الخصيتين كامل قيمة العبد كما أن في الجناية على خصيتي الحر الدية كاملة. فكذلك في العبد فعليه أن يرد العبد ويرد مع العبد كامل القيمة. والسبب: - هذا النقص الذي تسبب فيه في العبد. والمؤلف - رحمه الله - يريد أن يبين أن هذا النقص الخاص العوض فيه تام. ولة أن المؤلف - رحمه الله - لم يذكر هذا المثال وإن كان ذكره مفيد جداً لكن أقصد أن أقول أنه لو لم يذكر هذا المثال لعرفنا حكم المسألة من القاعدة السابقة وهي أن أي نقص في المغصوب فإنه يضمن من الغاصب. فهنا نقول: إذا [سرق] العبد وخصاه فيه أو ليس فيه نقص؟ ( ..... ) فنقول للغاصب: فيه نقص عليك ضمانه. فالقاعدة الأولى في الحقيقة شاملة لكن أراد أن يبين حكم هذه المسألة الخاصة لأن فيها دفع كامل القيمة. * * مسألة/ لو غصب العبد وخصاه وتضاعفت قيمة العبد بسبب هذا الخصاء. لأن العبد المخصي قد يكون أرغب من غيره عند بعض الناس فما الحكم؟ الجواب: أن عليه أن يرد العبد المخصي وكامل القيمة ولو تضاعفت قيمة العبد. لأنه يجب عليه أن يضمن هذا النقص بغض النظر عن حالة المغصوب بعد النقص. فعليه أن يضمنه كاملاً. - قال - رحمه الله -: - وما نقص بسعر: لم يُضْمَن. مقصود المؤلف - رحمه الله - أنه إذا كان نقص السلعة بسبب نقصان الأسعار في الأسواق فإن الغاصب لا يضمن هذا النقص. التعليل: - قالوا: أن الواجب على الغاصب أن يرد العين كاملة لم ينقص منها عين ولا صفة. وهذا الغاصب رد العين كاملة لم ينقص منها عين ولا صفة. فلم يجب عليه ضمان فرق الأسعار. = هذا القول الأول: وهو مذهب الجماهير وهي مسألة مهمة للغاية. = القول الثاني: أن على الغاصب ان يضمن نقص الأسعار. فإذا غصب العين وهي تسوى خمسين ثم أصبحت بعد ذلك قيمتها عشرين فعليه ان يرد العين المغصوبة ومعها ثلاثين. واستدل هؤلاء: - بأن نقص الأسعار بمثابة نقص الصفات. والفرق بينهما: فقط: ـ أن نقص الصفات نقص لصفات في ذات العين. ـ ونقص السعر نقص في صفة خارجة عن العين. وهذا الفرق - الذي ذكره الجمهور - لا يؤثر في الحكم. وهذا القول الثاني إن شاء الله أقرب للصواب. فإن قيل: جاء في السنة التضمين بالإتلاف بلا نظر لفروق الأسعار.

فالجواب: أن التضمينات التي وقعت في العهد النبوي كان التضمين قريباً من الإتلاف بحيث لم يتغير السعر ولذلك لم ينظر إليه النبي - صلى الله عليه وسلم -. والخلاصة: أن الراجح أنه لابد من النظر إلى الأسعار لأن هذا مقتضى العدل. ولأن في إهمال ذلك لا سيما في وقتنا هذا الذي صارت الأسعار فيه تتذبذب بقوة ففي إهمال هذا الشيء ظلم واضح على المغصوب. فإن حصل العكس: غصب العين وتضاعفت القيمة زيادة لا نقصاً فإنه يرد العين ولا شيء للغاصب. لأنه ظالم ولا حق للظالم. - قال - رحمه الله -: - ولا بمرض عاد ببرئه. مقصود المؤلف - رحمه الله - بقوله: (ولا بمرض عاد ببرئه) يعني: ولا يضمن النقص الذي حصل بالمرض إذا عاد سليماً بعد البرء. وقوله: (المرض) هذا على سبيل التمثيل. والقاعدة: (أن الغاصب لا يضمن النقص الذي حصل بسبب ثم عاد كاملاً بعد زوال السبب) هذه هي القاعدة. التعليل: - قالوا: التعليل: أن العين رجعت كما هي وما زالت في يد الغاصب. فلا موجب للضمان. مثال ذلك/ إذا غصب شاة ثم مرضت وهزلت ونقصت قيمتها جداً ثم برئت وشفيت وعادت سليمة كما كانت تماماً فإذا أراد أن يرد الغاصب هذه الشاة فإنه يردها بلا زيادة ولا نظر للنقصان العارض. = القول الثاني في هذه المسألة: أنه يضمن. - لأن هذا نقصاً وقع على العين المغصوبة فوجب ضمانه. وهذا القول في الحقيقة الثاني فيه نوع من الظاهرية وهو مرجوح. لأن العبرة في الشرع بالمعاني والأسباب والعلل ونحن نضمن الغاصب بالنقص ولا نقص الآن. فالغاصب رد العين إلى المغصوب منه كما هي تماماً فلا يوجد أي سبب للتضمين. فمذهب الحنابلة هو الصحيح إن شاء الله. - قال - رحمه الله -: - وإن عاد بتعليم صنعة: ضمن النقص. معنى هذه العبارة: أن المغصوب إذا نقص بسبب من الأسباب كالمرض ونحوه ونقصت القيمة تبعاً لذلك. ثم زادت القيمة بسبب آخر من جنس آخر فإن الغاصب يضمن. مثاله/ إذا اشترى عبداً ومرض العبد ونقصت قيمة العبد ثم قام الغاصب بتعليم العبد صنعة مفيدة فارتفع سعر العبد من جديد وصار كسعره الأول فإن الغاصب إذا أراد أن يرد العبد فإنه يرده ويضمن النقص الحاصل بالمرض ولا ننظر للزيادة الحاصلة بسبب آخر. علل الحنابلة ذلك:

- بأن الزيادة حصلت بغير سبب النقص. وما دام سبب النقص موجوداً فإن الضمان يصبح أيضاً موجوداً. وهذا القول صحيح ووجيه جداً. لأن القاعدة أن أي نقص يحصل بالعين بسبب الغاصب فهو مضمون ولا ننظر لأي سبب آخر. - قال - رحمه الله -: - وإن تعلم أو سمن فزادت قيمته ثم نسي أو هزل فنقصت: ضمن الزيادة كما لو عادت من غير جنس الأول. ـ إذا تعلم أو سمن: يعني عند الغاصب وزادت قيمته كل ذلك عند الغاصب ثم نقصت بسبب أنه هزل أو نسي الصنعة فإنه يُضْمَن للمغصوب منه. أي: فإن هذا النقص الثاني يضمن للمغصوب منه. إذاً صورة المسألة/ إذا زادت قيمة المغصوب بسبب عمل من الغاصب ثم نقصت فإن هذا النقص يضمن من الغاصب. التعليل: قالوا التعليل: - أن المغصوب منه لو طلب المغصوب حال زيادته لوجب على الغاصب أن يدفعه إليه. فكذلك يضمن إذا نقص. بناء على هذا: إذا غصب فرساً غير معلمة قيمتها مائة ألف ثم علمها ودربها وصارت تستحق خمسمائة ألف ثم نسيت هذا التعليم وأصبحت لا تصلح للمسابقة ثم طلبها المغصوب منه حينئذٍ: طلبها وقيمتها عادت مائة كما كانت حين الغصب - فعليه أن يرد الفرس ومعها أربعمائة ألف وهو فرق كبير. هذا هو كلام الحنابلة. = والقول الثاني: أنه لا يضمن الزيادة الحاصلة بعمله. بل عليه أن يرد العين كما كانت. أيهما أرجح؟ أنا متوقف في هذه المسألة فلم يظهر لي أي القولين: أقوى لأن الأدلة في الحقيقة متكافئة. - يقول - رحمه الله -: - كما لو عادت من غير جنس الأولى. ومن جنسها: لا يضمن إلاّ أكثرهما. لو عادت من غير جنس الأولى: تقدم معنا أنها مضمونة. ففي قول المؤلف - رحمه الله - فيما تقدم: (وإن عاد بتعليم صنعة: ضمن النقص) هي ذات مسألة: (كما لو عادت من غير جنس الأولى) فإذا نقصت العين المغصوبة عند الغاصب ورجعت القيمة كما كانت بسبب غير سبب النقص فقاعدة المذهب أنها مضمونة. وتقدم معنا الخلاف في هذه المسألة وكأن المؤلف - رحمه الله - أعاد هذه المسألة ليرتب عليها: (ومن جنسها: لا يضمن إلاّ أكثرهما)

إذا نقصت العين هذا معنى قول المؤلف - رحمه الله -: (ومن جنسها لا يضمن إلا أكثرهما). إذا نقصت العين بسبب من الأسباب ثم زادت بسبب من جنس السبب الذي نقصت منه وإن لم يكن عينه لكنه من جنسه فإنه أي الغاصب لا يضمن، إلا إذا وقع تفاوت بين الجنسين - بين الاثنين الذين من جنس واحد - فإنه يضمن النقص. مثال المسألة/ غصب فرساً معلماً ثم ذهب عنه العلم وهو مغصوب: في هذه الحالة ستنقص قيمته أو تزيد؟ ستنقص. ثم علمه الغاصب صنعة أخرى - علمه أمراً آخر غير الذي علمه المالك. فرجعت القيمة كما كانت. فالآن: زادت القيمة بسبب من جنس الأول أو من غير جنس الأول؟ من جنس الأول: لأن الجميع تعليم وصنعه. لو أردنا أن نمثل بشيء من غير جنس الأول: مثاله/ أن ترتفع أسعار الخيول في السوق. فالآن ارتفعت بسبب من جنس الأول أو بسبب آخر؟ من غير جنس الأول. إذاً: عرفنا ما معنى أن ترتفع بسبب من جنس الأول أو بغير جنس الأول. فالمؤلف - رحمه الله - يقول: إذا ارتفعت بسبب من جنس الأول لم يضمن الغاصب إلا إذا كان بين الصنعة الأولى والصنعة الثانية فرق فحينئذ يضمن الفرق لصالح المغصوب منه. مثاله/ إذا غصب عبداً يحسن تصنيع الذهب ثم نسي العبد صنعة الذهب ثم علمه صنعة النجارة فارتفعت قيمته مرة أخرى: فحينئذ لا يضمن الغاصب النقص وإنما يضمن الفرق بين الصنعتين. وهذا معنى قول المؤلف - رحمه الله -: (لا يضمن إلا أكثرهما) يعني: يضمن الفرق بين قيمة الصنعتين. هذا ما يتعلق بهذا الفصل. وننتقل إن شاء الله إلى الفصل الثاني. فصل [في حكم ما إذا خلط المغصوب أو صبغه وغير ذلك] - قال - رحمه الله -: - فصل وإن خلطه بما لا يتميز كزيت أو حنطة بمثلهما. أفادنا المؤلف - رحمه الله - أن الغاصب إذا غصب شيئاً وخلطه فإما أنى يخلطه مع شيءٍ يتميز أو مع شيءٍ لا يتميز. ـ فإن خلطه مع شيءٍ يتميز عنه المغصوب وهي الصورة التي لم يذكر المؤلف - رحمه الله - فالحكم أنه عليه أن يخلص المغصوب من الشيء الذي خلطه معه مهما بلغ قيمة التخليص.

المؤلف - رحمه الله - لم يذكر المخلوط الذي يتميز. لماذا؟ لأنه ذكره في السابق: ألم يذكر المؤلف - رحمه الله - أنه إذا غصب خشبة أو حجراً وبنى عليه فعليه تخليصه مهما بلغ. الخشب من جنس الموضوع معه أو من غير جنسه؟ ( ... ) مختاط أو متميز؟ ( ... ) إذاً ذكره المؤلف - رحمه الله - ولذلك لم يذكره الآن. فإذاً نقول: إذا خلطه بما يتميز فقد تقدم وهو أنه يجب أن يخلصه مهما بلغت قيمة التخليص. نأتي إلى كلام المؤلف - رحمه الله -: وإن خلطه بما لا يتميز كزيت أو حنطة بمثلهما. إذا خلطه بما لا يتميز كأن يخلط زيت بزيت أو حنطة بحنطة فينقسم إلى قسمين: ـ القسم الأول: أن يكونا في الجودة متساويين. يعني: خلط زيت بزيت آخر يساويه في الجودة. فالحكم: = عند المؤلف - رحمه الله -: أنهما يشتركان في هذا المخلوط. فيصبح ملكاً للجميع. هذا هو الذي مشى عليه المؤلف - رحمه الله -. =القول الثاني: وهو المذهب ان على الغاصب أن يرد من ها المخلوط (ولابد) بقدر ماغصب - مثل ما غصب للمغصوب منه. تعليل الحنابلة: - قالوا: إنه إذا رد عليه من المغصوب فقد رد عليه بعض ماله والبعض الآخر مثله ورد بعض المال والآخر مثله أولى من أن يرد المثل في جميع المال. ((إعادة)):: ((الآن إذا خلط زيت وخلط زيت المغصوب مع زيت عند الغاصب وهما يتساويان في الجودة: ـ فالمؤلف - رحمه الله - الحكم عنده واضح: أنهما شريكان: يباعر الزيت ويعطى كل واحد نصيبه. ـ المذهب يرون أنه يجب على الغاصب أن يعطي المغصوب مثل ما غصبه من هذا الزيت المخلوط فإذا غصب كيلو وخلط معه كيلو أصبح المخلوط: (اثنين) يأخذ من هذا المخلوط كيلو ويعطيه للمغصوب منه ولابد أن يأخذ من هذا المخلوط وليس له أن يشتري من السوق)) التعليل: - قالوا: أنه إذا فعل ذلك فقد رد بعض عين المغصوب والبعض الآخر مثلها. وهذا أولى من أن يعطي المثل في كل المال. هذه وجهة نظر الحنابلة وهي رواية عن الإمام أحمد - رحمه الله -. الراجح: هو مذهب الحنابلة: وهو أن عليه أن يرد من المخلوط. بقي علينا قول - في الحقيقة مرجوح لكنه يوضح المسألة - بعض الأقوال وإن كانت مرجوحة لكن تستكمل بها صورة المسألة:

= القول الثالث: أن على الغاصب أن يأتي بمثله من حيث شاء من السوق من هذا المخلوط فمن حيث شاء لا نلزمه أن يكون من هذا المخلوط. - قالوا: لأن الواجب على الغاصب رد المثل وقد رد المثل من المخلوط أو من غيره. الراجح: المذهب كما قلت لكم. لأن تعليلهم قوي. وقولهم أخص وأفقه من القول الثالث. أما أضعف الأقوال: فقول المؤلف - رحمه الله - لأنه يلزم المغصوب منه بالشراكة مع الغاصب. ـ االقسم الثاني: (نحن أخذنا القسم الأول: وهو ( .... ) ـ القسم الثاني: أن يكون المغصوب أجود. أو يكون المغصوب والمخلوط معه من جنس آخر - من جنسين. فحينئذ يشتركان في هذا المغصوب. عللوا هذا: - بأنه في هذه الصورة لا يتمكن المغصوب منه من أخذ نصيبه إلا مع نقص ولا يمكن أن ندخل النقص على المغصوب منه. فإذا اشتركا فهما بالخيار بين أن يبقيا هذا الشيء ملك لهما وبين أن يبيعاه. فإذا باعاه أخذ كل واحد منهما نصيبه. مثال/ إذا غصب زيت زيتون وخلطه مع زيت سمسم. قيمة زيت الزيتون: مائة. وقيمة زيت السمسم: خمسين. الآن: خلطه مع جنسه أو من غير جنسه؟ مع غير جنسه. وإذا خلطه مع غير جنسه فالحكم: يصبح شراكة بينهما. فنقول هذا الشراكة يباع وكل واحد يأخذ ما يوازي سعره. ففي المثال لصاحب زيت الزيتون صعف ما لصاحب زيت السمسم فنعطيه من القيمة مهما بلغت. وإن أراد إبقائه كأن يقول: فلنبق هذا الزيت المخلوط ملكاً لنا إلى أن ترتفع الأسعار فلا حرج لأن الحق لهما فإذا رضيا: جاز. - قال - رحمه الله -: - أو صبغ الثوب، أو لتّ سويقاً بدهن. أخذنا مسألة/ إذا خلط شيئاً لا يتميز الآن نأخذ مجموعة أخرى من الأمثلة وهي ما إذا صبغ الثوب أو لت سويقاً بدهن. ـ إذا صبغ الثوي أو لت السويق بالدهن فالدهن والصبغ ممن؟ من الغاصب. فتصبح العين مشتركة بينهما. والحكم فيها كالحكم في السألة السابقة. وهي تدخل ضمن أي قسم؟ إذا خلطه بغير جنسه. لكن هنا ما نقول: خلطه: لأنه لا يحصل خلط بمعنى الكلمة وإنما يحصل صبغ أو لت. وحكم هذه المسألة حكم القسم الثاني في المسألة السابقة. - قال - رحمه الله -: - أو عكس. ( ................. لم تشرح) - قال - رحمه الله -:

- ولم تنقص القيمة ولم تزد: فهما شريكان بقدر ماليهما فيه. يعني: يشترط للحكم بأنهما شريكان أن لا تنقص القيمة ولا تزيد. فيجب لكي نحكم على هذه المسألة أنهما شريكان أن لا تنقص قيمة المغصوب ولا تزيد. فإن نقصت أو زادت فسيذكر المؤلف - رحمه الله - حكم النقص وحكم الزيادة. إذاً: حكم الاشتراك مقيد بما إذا لم تنقص القيمة ولم تزد. - قال - رحمه الله -: - وإن نقصت القيمة: ضمنها. مقصود المؤلف - رحمه الله - إذا نقصت بسبب الخلط: فإن الغاصب يضمن. أما إذا نقصت بسبب آخر فإنه لا يضمن لأن الحنابلة يرون أن النقص بسبب تدني الأسعار مضمون أو غير مضمون؟ غير مضمون. تقدم معنا الآن أن النقص في السعر غير مضمون. إذاً: هو يقصد بقوله: (نقصت القيمة) يعني: بماذا؟ يعني: بسبب الخلط. فإن نقصت بسبب تدنس أسعار السوق: فإنها لا تضمن عند الحنابلة وتقدم معنا الخلاف في هذه المسألة. فإذا أخذ ثوباً وصبغه وكان الثوب قيمته قبل الصبغ عشرة وبعد الصبغ أصبح يسوى: خمسة. بسبب أن الصبغ أساء للثوب وأصبح منظره سيئاً فإن الغاصب يضمن في هذه الصورة: كم؟ يضمن خمسة للمغصوب منه. - قال - رحمه الله -: - أو زادت قيمة أحدهما: فلصاحبه. إذا زادت قيمة أحدهما فلصاحبها. بقصد المؤلف - رحمه الله - هنا: (إذا كانت الزيادة بسبب السوق) عكس المسألة السابقة. أما إذا كانت الزيادة بسبب الخلط فهي: للمغصوب منه. إذاً: إذا قيل لك: ما الحكم إذا زادت القيمة؟ فتقول: ـ إذا زادت القيمة بسبب ارتفاع الأسعار في السوق. فالزيادة لمن زادت عينه. سواء كان الغاصب أو المغصوب. ـ وإذا كانت الزيادة بسبب تالخلط فهي من نصيب المغصوي. المثال/ ـ إذا غصب ثوباً وصبغه. الثوب قبل الغصب في السوق: قيمته خمسون. وبعد الصبغ أصبحت قيمة الثوب بلا صبغ: سبعون. هذه الزيادة في الصبغ أو في الثوب؟ في الثوب. بسبب السوق أو بسبب الخلط؟ السوق. فهي لمن؟ للمغصوب منه. وإذا كان الصبغ قيمته خمسون وبعد الخلط أصبحت قيمته سبعون بسبب ارتفاع أسعار الصبغ فهو لمن؟ للغاصب. وإذا ارتفعت قيمة الثوب بسبب أن الصبغ صار جيداً وأتقن صنعته فهو لمن؟ للمغصوب. لأن الزيادة بسبب الخلط. ((الأذان))

ذكرت الآن أنه إذا زادت قيمة المغصوب مع المخلوط بسبب الخلط فإن الزيادة لمن؟ للمغصوب منه. لماذا لم يستحق الغاصب شيئاً؟ - لأن من عمل في ملك غيره بغير إذنه لم يستحق شيئاً وهذا العمل في ملك غيره لا يستحق به شيئاً. - قال - رحمه الله -: - ولا يجبر من أبى قلع الصبغ. سواء كان الذي أبى الغاصب أو الذي أبى المغصوب. إذا طلب أحدهما قلع الصبغ فإنه لا يجبر الآخر على طلبه سواء كان الطالب الغاصب أو المغصوب. التعليل: - قالوا: لأن في هذا القلع إضرار بملك الآخر والشارع قال: (لا ضرر ولا ضرار). = والقول الثاني: ـ أنه إذا طلب الغاصب قلع الصبغ فإنه يجاب إلى القلع. بشرط: أن ينتفع من الصبغ بعد القلع. - لأنه يطالب بتخليص عين ماله وله ذلك. ـ وإذا طلب المغصوب قلع الصبغ فله أيضاً ذلك. لماذا؟ - لأنه يطال بتخليص ملكه من ملك غيره وله ذلك. والراجح: المذهب. لأنه لا يكاد ينتفع بالثوب بعد قلع الصبغ. كما أنه لا يكاد ينتفع بالصبغ بعد قلعه من الثوب. فهم من هذا: أنه إذا طلب منه قلع ما ينتفع به بعد ذلك فإنه يجاب. - قال - رحمه الله -: - ولو قلع غرس المشتري أو بناؤه لاستحقاق الأرض: رجع على بائعها بالغرامة. أفادنا المؤلف - رحمه الله - بهذه العبارة أنه يجوز قلع المغروس. والمؤلف - رحمه الله - طوى ذكر هذه المسألة كأنها مفروغ منها. فإذا غرس زيد في أرض عمرو غرساً فلعمرو قلع الشجر مهما بلغ حسن الشجر. وعلل الحنابلة هذا الحكم: (ونحن الآن لا نتحدث عما يتكلم عنه المؤلف وإنما نتحدث عن أصل المسألة وهو: حكم القلع) = الحنابلة يقولون: له القلع. وعللوا ذلك: - بأن له أن يطلب تخليص ماله من مال غيره. أو تخليص ملكه من مال غيره. = والقول الثاني: أنه لا يجبر على القلع إلا إذا ضمن صاحب الأرض لصاحب الغرس النقص. فإذا ضمن النقص فله ذلك. = والقول الثالث: أنه لا يقلع مطلقاً بل يأخذه صاحب الأرض بالقيمة. وهذا القول الأخير له دليل قوي. الدليل: - أن هذا الغارس غرسه محترم شرعاً لأنه ظن أنه اشترى الأرض من مالكها وهذه هي الصورة التي يتحدث عنها المؤلف - رحمه الله. وإذا كان كذلك فإن هذا الغارس ماله محترم. وإذا كان محترماً شرعاً فإنه يجب أن لا يزال.

وهذا القول الأخير نصره ابن رجب بقوة بل ذكر أنه لا يحفظ عن الإمام أحمد - رحمه الله - إلا هذا القول. وكأنه يضعف الروايات الأخرى. وهذا القول هو الصحيح إن شاء الله. أنه لا يقلع بل يأخذه بالقيمة لأنه شجر محترم شرعاً. والله أعلم .. وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين ..

الدرس: (42) من البيع قال شيخنا حفظه الله: بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين. تقدم معنا بالأمس آخر مسألة تحدثت عنها وهي مسألة حكم: قلع النخيل أو البناء من الأرض ونتم اليوم الكلام عن صورة المسألة. صورة المسألة/ أن يقصد الإنسان أرضاً ثم يذهب فيبيع هذه الأرض على شخص ثالث موهماً إياه أن الأرض ملك له فيقوم المشتري بالبناء أو الغرس ثم بعد أن يبني أو يغرس يظهر أن الأرض مستحقة. ومغنى: (أن الأرض مستحقة) يعني: أنها ملك لغير البائع الغاصب. فهذه هي صورة المسألة. وتقدم معنا بالأمس: حكم قلع المالك الحقيقي لهذا الشجر أو البناء بعد بناء المشتري وتغرير الغاصب له. تقدم معنا الخلاف في هذه المسألة وأنها على ثلاثة أقوال وأن الراجح أنه يبقى على ملك صاحب الأرض وأن السبب في ذلك أنه غرس محترم شرعاً. اليوم نتم الكلام عن هذه المسألة. - يقول - رحمه الله -: - ولو قلع غرس المشتري أو بناؤه لاستحقاق الأرض: رجع على بائعها بالغرامة. = المذهب أن لمالك الأرض أن يقلع البناء والغرس. فإذا قلع رجع المشتري على البائع الذي هو الغاصب بكل ما خسره ويضمن جميع ما صرفه المشتري. وعلل الفقهاء ذلك: - بأن الغاصب غرر بالمشتري حيث أوهمه أن الأرض ملك له وترتب على هذا الغرر أن بنى أو غرس. ولذلك يكون الغاصب يكون ضامناً لهذا البناء والغرس لأنه مترتب على تغريره. وهذا لا إشكال فيه. وعلى القول بالغرس أو البناء يرجع بلا إشكال. وعلى القول بقلعه يرجع على الغاصب الذي هو سبب البناء أو الغرس. - قال - رحمه الله -: - وإن أطعمه لعالم بغصبه: فالضمان عليه.

يعني: وإن أطعم الغاصب رجلاً عالماً بأنه مغصوب فالضمان على الآكل. ـ الصورة الأولى: إذا أطعمه لعالم بأن هذا الطعام مغصوب فالضمان على الآكل. ومراد المؤلف - رحمه الله - بقوله: (فالضمان عليه) يعني: يستقر الضمان عليه. ـ وإن أطعمه لجاهل فالضمان يستقر على الغاصب ولمالك الطعام مطالبة أي من الغاصب أو الآكل. ((((وإن شاء الله أنت تفرق بين الطلب بالضمان واستقرار الضمان: ـ فالطلب: يعني: المغرور يحق له أن يطالب أكثر من شخص. ـ وأما استقرار الضمان فلا يكون إلا من شخص واحد. ففي هذه المسألة يستقر الضمان على الغاصب الذي أطعم غيره وهو لا يعلم أي هذا المُطْعَم أنه مغصوب ولكن المطالبة يجوز لمالك الطعام أن يطالب الآكل أو الغاصب فله أن يطالب هذا أو هذا لأن الآكل باشر الإتلاف والغاصب سبب في الإتلاف لكن يستقر الضمان بعد ذلك على الغاصب)))) والقاعدة: (أن الضمان على من أتلف عالماً). فكل إنسان يتلف وهو عالم بأنه ملك لغيره فالضمان يستقر عليه. - قال - رحمه الله -: - وعكسه بعكسه. - قال - رحمه الله -: - وإن أطعمه لمالكه. فالحكم: أنه لايبرأ إن كان المالك عالم بأنه طعامه. فإذا قدم الطعام المغصوب لمالك الطعام ولم يخبر المالك أن هذا طعامه وأكل المالك فإن الضمان يستقر على الغاصب. لأن مالك الطعام أكله وهو لا يعلم أنه طعامه. التعليل: التعليل في ذلك: - أن الطعام وإن كان رجع إلى مالكه إلا أن رجوعه رجوع ناقص لأن سلطان المالك لم يكتمل على الطعام. وإن قدمه الغاصب له. وجه عدم الاكتمال: أن المالك حين قدم الغاصب له الطعام ليس له أن يتصرف إلا بتصرف واحد وهو الأكل بينما يفترض بالمالك أن يتصرف بما شاء في أكله - بيعاً أو هبة أو أكل - هنا سلطانه ناقص. = والقول الثاني: أنه إذا أطعمه لمالكه ولو لم يعلم المالك فلا ضمان. - لان العين رجعت إلى مالكها. وهذا قول ضعيف جداً. بل الضمان يستقر على الغاصب. * * مسألة/ ونفس الشيء لو وهبه أو أهداه أو أعطاه أو تصدق عليه. معنى نفس الشيء يعني على المذهب الضمان يستقر على الغاصب ولو أعطاه لمالكه. التعليل: التعليل في مسألة الهبة والهدية والصدقة:

- أن في إرجاع العين إلى مالكها بهذه الطريقة منة وتبعة والأصل أن الإنسان يملك ماله بلا منه ولا تبعة. - الدليل الثاني: أن الموهوب وهو المالك الحقيقي ربما كافأ الواهب وهو الغاصب فبطل إرجاع العين. = والقول الثاني: أنه إذا وهبه ونحوه فقد تم الإرجاع وبرئت ذمة الغاصب. - لأنه مكن المالك من العين تمكيناً كاملاً حيث وضع المالك يده على العين وله أن يتصرف فيها بما يشاء. = والقول الثالث: التفصيل: - إن كان الغاصب يخشى من المغصوب إن أخبره أنه غصب فيعتبر إرجاع كامل. - وإن كان الغاصب لا يخشى من إخبار المغصوب أنه غصبه وأن هذه العين ملك له في الأصل فإنه لا يبرأ. وهذا القول الثالث اختيار ابن القيم: إلا أنه يقول: لو كافأه - أي المالك كافأ الغاصب - فإن الغاصب لا يبرأ. والراجح والله أعلم المذهب. والقول الثاني والثالث فيهما ضعف ظاهر فيما يظهر لي لان العلة التي ذكرها ابن القيم وهي أن يخاف من المغصوب لو أخبره أنه غصبه أن يؤذيه هذه العلة بالإمكان تفاديها بأن يوصل العين بطريق غير مباشرة كأن يرسلها مع أحد أو يضعها له في مكان أو بالنسبة لوقتنا المعاصر أن يرسلها بالبريد ويكتب معها أن هذه العين ملك لك مغصوبة وبهذا يتفادى ضرر المغصوب فيما إذا كان للمغصوب ضرر. فالراجح إن شاء الله أنه لا حق للغاصب في إرجاع العين إلا على وجهها بأن يخبر المغصوب أنها ملك له وأن هذا إرجاع لملكه أما أن يعطيها إياه كهبة أو كهدية أو كصدقة فكيف يقبل مثل هذا؟! وفيه ما فيه من المنة. فأصبح الغاصب يمن على المغصوب والأصل أن العين ملك للمغصوب. هذا فيما يظهر لي بعيد جداً. - قال - رحمه الله -: - أو رهنه أو أودعه أو آجره إياه. الضابط لهذه المسائل لو قال: (أو أعطاه إياه بعقد أمان) هذه عقود أمانة. فإذا أرجع الغاصب العين المغصوبة إلى المغصوب منه بعقد من عقود الأمانة فإنه لا يبرأ إلا إذا علم المغصوب أنها عينه. الدليل: - أن المغصوب منه إذا أخذ العين بعقد أمانة كالعقود التي ذكرها المؤلف - رحمه الله -: (الأجار أو الرهن) فإنه لن يتصرف فيها تصرف الملاك وسيكون ملكه لها ناقص. وهذا لا إشكال فيه. - قال - رحمه الله -: - ويبرأ بإعارته.

يعني: ويبرأ الغاصب من العين المغصوبة بإعارتها للمالك الذي هو المغصوب منه. ويبرأ مطلقاً سواء علم المغصوب أنها عينه أو لم يعلم. التعليل: تعليل الحكم: أن نقول: - أنه في هذه الصورة لا فائدة من التضمين. يعني: لا فائدة من تضمين الغاصب لأنه وضع العين عند المالك بعقد العارية والعارية مضمونة على المذهب مطلقاً. فلو ضمنا الغاصب فسيرجع على المالك المغصوب منه لأن العين عنده عارية. فلا فائدة من تضمين الغاصب في هذا العقد. إذاً: إذا أعاره - يعني: أعار العين المغصوبة للمالك فإنه يبرأ مطلقاً. لماذا؟ لأنه لا فائدة من تضمين الغاصب لأنه إذا ضمنا الغاصب فسيرجع على المعار وهو المالك لأن عقد العارية عند الحنابلة مضمون مطلقاً. بناء على هذا التعليل: نستطيع أن نقول: على القول الراجح: يضمن مطلقاً. أي: على القول بأن العارية ليست مضمونة نقول الصواب أنه يضمن مطلقاً لأن تعليل الحنابلة انتقض وهو قولهم: لا فائدة من التضمين بل هناك فائدة لأن المعار لا يضمن. إذاً: على القول الأول: إذا أعار الغاصب المغصوب منه الشاة وهي العين المغصوبة وماتت يضمن الغاصب أو لا يضمن؟ لا يضمن. لأنا لو ضمناه فسيرجع على المغصوب منه وهو المالك. وعلى القول الثاني: إذا تلفت عند المعار بغير تفريط ولا تعدي فإنه يضمن - الغاصب يضمن ولو كانت الشاة عند المغصوب منه وينتفع منها لمدة سنة ثم ماتت يضمن. لأن هذه العين دخلت في ملكه على سبيل الضمان. وإذا تلفت العين المغصوبة عند المالك وهو المعار بتعدي أو تفريط فهل يضمن الغاصب أو المغصوب منه؟ المغصوب منه لأنه في هذه الصورة فعلاً يكون المغصوب منه هو الضامن ولا فائدة من تضمين الغاصب. إذاً صار لهذه المسألة ثلاث صور. - قال - رحمه الله -: - وما تلف أو تغيب من مغصوب مثلي: غرم مثله إذاً وإلاّ فقيمته يوم تعذر. يقول - رحمه الله -: أنه إذا تلف المغصوب أو تغيب وفي نسخة جيدة (أو تعيب) وهي الأصل كما يقول المحقق وفقه الله. وفي كل من النسختين فائدة.

ـ إذا تلف المغصوب أو تعيب أو تغيب: ضمنه بمثله. يعني إن كان مثلياً وهو أي المؤلف - رحمه الله - يقرر الآن قاعدة الضمان وهي: (أنه إذا تلفت العين المغصوبة فإن كانت مثلية ضمنها الغاصب بمثلها وإن كانت قيمية ضمنها الغاصب بقيمتها وبدأ بالأول وهو أن تكون مثلية لأنه الأصل. التعليل: لماذا نضمن المثلي بمثله لا بقيمته: التعليل: علل الفقهاء هذا: - بأن ضمان المثلي بمثله أقرب إلى حقيقة المضمون من ضمانه بقيمته. لأن القيمة تزيد وتنقص وتختلف وقد تختلف وجهات النظر في تقديرها أما المثلي فهو مثل المغصوب تماماً بلا إشكال. ولهذا قدم الفقهاء المثلي في الضمان على القيمي. أما ما هو المثلي وما هو القيمي؟ فتقدم معنا الخلاف فيه: على ثلاثة أقوال: وذكرنا الأدلة وأن الراجح: أن المثلي هو كل ماله نظير أو شبيه مقارب. - يقول - رحمه الله -: - وإلا فقيمته يوم تعذر. أي: يجب على الغاصب ضمان المثلي بمثله إلا إذا تعذر فإذا تعذر فعليه القيمة. لكن بقينا في مسألة وهي متى نقدر هذه القيمة؟ = فعند الحنابلة: تقدر القيمة يوم التعذر فنقول: انظر لليوم الذي تعذر فيه الحصول على المثلي حينئذ تدفع قيمة هذا الشيء في ذلك اليوم يعني في يوم التعذر. تعليل الحنابلة: - قالوا: أن يوم التعذر هو يوم الاستحقاق فهو الأجدر باعتبار القيمة. = والقول الثاني: أنه ينظر إلى قيمته يوم التلف لا يوم التعذر فإذا تلف في واحد محرم وتعذر في خمسة محرم فننظر إلى قيمته يوم واحد محرم. وعللوا ذلك: - بأنه يوم التلف ثبت في ذمة الغاصب القيمة. = والقول الثالث: أنه ينظر إلى قيمته يوم الطلب. فإذا طلب في واحد محرم وتعذر وجود مثله في الأسواق في خمسة محرم وطالب المغصوب الغاصب في عشرة محرم فعلى القول الثالث متى؟ يكون قيمته يوم عشرة محرم. وهذا القول اختاره عدد من المحققين من الشيخ الفقيه الكبير القاضي أبو يعلى. ومنهم الشيخ الفقيه ابن عقيل رحمهما الله. وعللوا ذلك: - بأن المثل هو الواجب إلى يوم الطلب. بدليل: أنه لو تعذر قبل الطلب ثم وجد بعد التعذر وقبل الطلب لكان الواجب: المثلي أو القيمة؟ المثلي لأنه لما طالبه وجد المثلي.

وليلهم كما ترى وجيه في الحقيقة. وهو بإذن الله الأقرب. وقد نبهتك مراراً أن مسائل متى يقدر السعر مهمة جداً؟ إذا قد يتفاوت السعر تفاوتاً فاحشاً جداً ولو في فترة قصيرة. فتحديد الوقت الذي تعتبر فيه القيمة أمر مهم جداً. - قال - رحمه الله -: - ويضمن غير المثلي: بقيمته يوم تلفه. غير المثلي يضمن بالقيمة. متى؟ يوم التلف. - لأنه لا يوجد تعذر لأنه هو أصلاً غير مثلي. فلا يوجد يوم تعذر. إذاً: نذهب إلى يوم التلف. ما هو الدليل أنه في غير المثلي نرجع إلى القيمة؟ استدل الحنابلة وغيرهم من الفقهاء على ذلك: - بقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: (من أعتق شركاً له في عبد قوم عليه تقويم العدل). وجه الاستدلال: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - ألزم المعتق بالقيمة لا بالمثل. وأنتم تعلمون أن العبد عند الحنابلة: قيمي. لان الحنابلة يرون أن المثلي هو كل موزون أو مكيل ينضبط بانضباط صفات السلم والعبد ليس كذلك. لأنه يتفاوت بل جميع الحيوانات ليست كذلك. لأنها تتفاوت. إذاً: هذا هو الدليل في أنا ننتقل في القيمي من المثلي إلى القيمة. - الدليل الثاني: أن هذا أمر بديهي لأن هذا التالف ليس له مثيل فوجب المصير إلى القيمة إذ لا يوجد خيار آخر. لأنه لا يوجد له مثيل. - قال - رحمه الله -: - وإن تخمر عصير: فالمثل. يقول - رحمه الله -: وإن تخمر عصير فعليه المثل. إذا غصب الإنسان عصيراً وبقي عنده ثم تخمر فعليه المثل. لماذا؟ لأن هذه العين فقدت ماليتها الشرعية وإذا فقدت العين المالية الشرعية صارت كأنها تالفة. وإذا تلفت العين وجبت القيمة. سؤال: لماذا نص المؤلف - رحمه الله - على هذه المسألة؟ هو قرر أن المثلي فيه المثل والقيمي فيه القيمة. لأن العين التي ستضمن موجودة. فمع وجود العين المغصوبة مع ذلك عليه القيمة. أراد المؤلف - رحمه الله - أن ينبه إلى هذا المعنى وأنه ليس دائماً لا تجب القيمة إلا بالتلف بل ربما تجب القيمة بلا تلف با يفقد الشيء ماليته الشرعية. - قال - رحمه الله -: - فإن انقلب خلاً: دفعه ومعه نقص قيمته عصيراً.

يعني: إذا [[سرق]] عصيراً ثم صار العصير خمراً ثم صار الخمر خلاً فالحكم: أنه يرد الخل ويرد مع الخل الفرق بين قيمة الخل والعصير إذا افترضنا أن قيمة العصير أعلى من قيمة الخل وهذا هو الغالب. إذاً: الواجب عليه أن يرد الخل ويرد مع الخل الفرق بين القيمتين. وهذا أمر واضح. لأن العين المغصوبة رجعت إلى المالية الشرعية فوجب ردها إلى صاحبها مع الفرق. * * مسألة/ فإن كان دفع الغاصب للمغصوب بدلاً عن العصير لما كان خمراً فهل يسترد هذا الشيء أو لا يسترده إذا انقلبت إلى خل. أولا: الحنابلة يفترضون أن العصير لابد أن يمر بثلاثة مراحل: عصير. وهي المرحلة الأولى ثم خمر ثم يكون خلاً فمسألة الخل يفترض فيها أنه مر بمرحلة الخمر ولا يوجد عندهم ما يوجد عندنا من تحويل العصير إلى خل بدون مرور بمرحلة الخمر هم لابد من المرور بمرحلة الخمر. فالمؤلف - رحمه الله - الآن لما قال: فإن انقلب خلاً. ما هو الذي انقلب خلاً؟ العصير أو الخمر؟ الخمر. إذاً: المسألة التي أريد أن أتحدث عنها. إذا صار العصير خمراً وأعطى الغاصب المغصوب بدلاً عن الخمر ثم انقلبت الخمر إلى الخل ودفع الخل مع فرق السعر إلى المغصوب منه فهل يجب على المغصوب أن يرد ما استلمه من الغاصب أو لا؟ = المذهب يجب أن يرد. - لأنه أخذ عينه كاملة مع الفرق في السعر. = القول الثاني: أن العين لا ترد. السبب في ذلك: - أن المغصوب استلم هذه العين بالمقتضى الشرعي. ومن استلم مالاً بالمقتضى الشرعي فلا يجب عليه أن يردها. والراجح: أنه يجب أن يرد. والجواب على تعليل أصحاب القول الثاني: أن المغصوب وإن استلمها بدليل أو بمقتض شرعي إلا أنه تبين أن الأمر خلاف الواقع. وإذا تبين أن الأمر خلاف الواقع وجب الرد كما نقول فيمن باع سلعة نظن أنه يملك هذه السلعة ثم تبين أنه لا يملك السلعة فيجب على المشتري رد السلعة إلى المالك الحقيقي. مع أن شراء المشتري في هذه الصورة صحيح شرعاً لأن البائع يظن أنه مالك. لكن العقد صحيح في الظاهر باطل في الباطن. كذلك هذه الصورة التي معنا. فصل [في تصرفات الغاصب وغيره] - قال - رحمه الله -: - (فصل) وتصرفات الغاصب الحكمية: باطلة.

المؤلف - رحمه الله - أراد بهذا الفصل بيان تصرفات الغاصب التي تتعرض لها العين المغصوبة. والتصرفات تنقسم إلى قسمين: ـ أن يتصرف فيها في العبادات. ... ـ والقسم الثاني: أن يتصرف فيها في العقود. وتصرفات الغاصب تنقسم إلى قسمين: ـ تصرفات حكمية. ... ـ وتصرفات غير حكمية. نبدأ بالقسم الثاني التصرفات غير الحكمية. وهي التي لا توصف بصحة ولا فساد. فلا يقال هذا التصرف صحيح ولا فاسد. مثالها/ أن يقوم الغاصب بلبس المغصوب أو يقوم الغاصب بإتلاف المغصوب أو يقوم الغاصب بأكل المغصوب. فهذه التصرفات ونحوها لا يمكن أن نقول أنها صحيحة أو فاسدة وإنما نقول هي محرمة. لكن لا يحكم عليها بحكم وضعي وإنما يحكم عليها بحكم تكليفي. ـ القسم الثاني: التصرفات الحكمية. وهي كل تصرف يحكم بأنه صحيح أو فاسد. كأن يبيع أو يشتري. وكأن يتوضأ بالماء المغصوب. وكأن - وهذه المشكلة - يحج بالمال المغصوب. وكأن يزكي عن ماله من المال المغصوب. .. إلى آخره. فمثلنا للعقود ومثلنا للعبادات. = فالحنابلة: يتكلمون الآن عن التصرفات الحكمية وغير الحكمية لماذا لم يتحدث عنها المؤلف - رحمه الله -؟ لأنها تقدمت. نأتي إلى موضوع الفصل: فنقول التصرفات الحكمية للغاصب عند الحنابلة باطلة مطلقاً. سواء كان التصرف يتعلق بالعبادات أو بالمعاملات. واستدلوا على هذا بدليلين: - الدليل الأول: قوله - صلى الله عليه وسلم -: (من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد). وبيع الغاصب وهبته ونحوها بالعين المغصوبة ليس عليها أمر الله ورسوله. بل أمر اله ورسوله أن يرد العين المغصوبة إلى صاحبها. - الدليل الثاني: أنه تصرف في ما لا يملك ومن تصرف فيما لا يملك فعمله باطل. = القول الثاني: أن تصرفات الغاصب الحكمية تخرج على عمل الفضولي. فإن أجاز المغصوب صحت وإن منع بطلت. فنخرج تصرفات الغاصب على تصرفات الفضولي. واستدلوا على هذا بدليلين: - الدليل الأول: أن الواقع يدل على أن تصرفات الغاصب غالباً ما تكثر ويترتب بعضها على بعض وتتخذ سلسلة متعاقبة مما يؤدي إلى الضرر البالغ في إبطال كل تلك العقود.

- الدليل الثاني: أن المنع في تصرف الغاصب إنما هو لحق المغصوب وكل عقد منع منه لحق المغصوب أو لحق الآدمي فيتوقف في صحته على إذن هذا الآدمي. يعني: صاحب الحق. = القول الثالث: التفريق بين العبادات والمعاملات فإن تصرف تصرفات مبنية على العقود فهي باطلة. وإن تصرف بالمغصوب في العبادات صحت. - لأن النهي في تصرفه في العبادات لأمر خارج عن العبادة لا لأمر يتعلق بالعبادة والنهي في العقود لأمر يتعلق بالعبادة لأن من شروط العين محل العقد أن تكون مملوكة كما تقدم معنا في شروط البيع. والراجح القول الثاني مع وجاهة في الحقيقة القول الثالث. لكن الراجح إن شاء الله أنه إذا أذن المغصوب فلا حرج. * * مسألة/ إذا أبطلنا تصرفات الغاصب فهل الأولى أن يعطى نصيب من العين المغصوبة أو يحرم؟ لأنه تعلمون أن العين المغصوبة قد ينميها الغاصب وتبلغ أموالاً طائلة فهل الأولى أن نقول للمغصوب عليك أن تعطي الغاصب بعض هذه الأموال يستحب شرعاً؟ أو لا؟ الجواب: أن في هذا تفصيل: ـ فإنه كان الغاصب تاب توبة حسنة ومع ذلك يخشى من ارتداده إذا لم يعط شيئاً فإن الأولى - ولا نقول الواجب - والأحسن أن يعطى. وإلا فلا. يعني: بأن كشف وأخذ منه المال قصراً ولم يتب ولم يبد ندماً ولا رجوعاً فحينئذ لا يعطى. - قال - رحمه الله -: - والقول في قيمة التالف أو قدره أو صفته: قوله. القول في هذه المسائل الثلاث قول الغاصب. فإذا اختلفوا في قيمته أو اختلفوا في قدره أو اختلفوا في صفته فالقول قول الغاصب. - لأن الغاصب ينكر الزيادة والأصل براءة الذمة. فإذا اختلفوا في قيمة العين التالفة فقال المغصوب منه قيمتها مائة وقال الغاصب قيمتها خمسين فالقول قول الغاصب إلا إذا دلت القرائن وشهد أهل الخبرة بقول المغصوب فحينئذ فالقول قوله ولو زاد. (وفي قدره) يعني: لو قال: هي مائة وخمسين المغصوبة وقال المغصوب بمنه بل مائتين فالقول قول الغاصب. والثالثة: (صفته) بأن قال الغاصب: العبد المغصوب جاهل ولا يحسن الكتابة ولا الحساب. وقال المغصوب منه: بل عالم. ويحسن الحساب والكتابة فالقول قول: الغاصب. ويصح جاهلاً ويسترد العين على هذا الأساس وليس له الفرق بين قيمته عالماً وجاهلاً.

لما ذكر المؤلف - رحمه الله - المسائل التي القول فيها قول الغاصب انتقل إلى المسائل التي القول فيها قول المغصوب. - قال - رحمه الله -: - وفي رده أو تعيبه: قول ربه. إذا تنازع الغاصب والمالك في أن العين هل ردت أو لم ترد فالقول قول المالك. وإذا تنازعوا هل كلن هذا العيب الموجود الآن في المغصوب من الأصل أو وجد عند الغاصب فالقول قول المالك. - لأن الأصل في الرد عدمه والأصل في العين عدمه. ولما كان الأصل في جانب المالك صار القول قوله. - قال - رحمه الله -: - وإن جهل ربه: تصدق به عنه مضموناً. وإن جهل مالك المغصوب تصدق عنه مضموناً. دل كلام المؤلف - رحمه الله - على حكمين: ـ أن الحكم أنه يتصدق إذا جهل المالك. التعليل: أنه يتصدق: - أنه تعذر على الغاصب رد المغصوب وإذا تعذر الشيء رجعنا إلى بدله. والبدل هنا أن يتصدق به مضموناً هذا هو البدل بكل ما يحمله من تفاصيل يتصدق وأيضاً مضموناً. ما معنى مضموناً؟ يعني: إذا تصدق بالعين ثم جاء المالك أي المغصوب منه وطالب بالعين فإن المغصوب ملزم برد العين ولو كان تصدق بها على أن الثواب للمغصوب منه. فإن اختار المغصوب منه وهو المالك للعين ردها إليه والثواب يكون للغاصب وإلا بقي الثواب للغاصب. = والقول الثاني: أنه ليس له أن يتصدق بها. ليس له أن يفعل هذا الفعل بل يجب عليه أن يدفعها إلى نائب الحاكم. وعللوا هذا: - بأنه لا يجوز للإنسان أن يتصرف في ملك غيره. والأمانات تحفظ عند نائب الحاكم. والراجح: الأول. لأنه أحظ للمالك. وجه ذلك: أن السلعة إذا وضعت عند نائب الحاكم ربما تبقى هكذا لمدة سنين. بينما إذا تصدق بها عنه فإن الأجر يجري عليه من حين الصدقة وهو مع ذلك لم يخسر العين لأنه لو جاء وطالب بها لحصلها. فقوة هذا القول ظاهرة إن شاء الله. تأتي معنا المسألة السابقة تماماً إذا قلنا يتصدق به فهل له أن يأخذ لنفسه؟ أو ليس له أن يأخذ لنفسه؟ = الحنابلة يرون أنه لا يأخذ لنفسه ولو كان فقيراً ولا يعطي أحداً من أقربائه أو من تربطه بهم صلة. إذاً يجب أن يعطي شخصاً أجنبياً تماماً. = والقول الثاني: وهو اختيار شيخ الإسلام. أن له أن أخذ من هذا المال بشرطين:

ـ الشرط الأول: أن يكون محتاجاً فقيراً. ـ الشرط الثاني/ أن يكون تائباً نادماً. إذا تحقق الشرطان فله أن يأخذ. واستدل على هذا: - بما تقدم: أنه يخشى عليه الرجوع عن التوبة إذا ألزم بإخراج جميع المال. واستدل بأمر آخر: - وهو قوله: أنه إذا أجزنا له أن يتصدق على الفقراء فهو من جملة الفقراء بل هو يفوق الفقراء بسبب استحقاق وهو أنه حصل هذا المال. - قال - رحمه الله -: - ومن أتلف محترماً، أو فتح قفصاً أو باباً، أو حل وكاء أو رباطاً أو قيداً، فذهب ما فيه، أو أتلف شيئاً ونحوه: ضمنه. المؤلف - رحمه الله - بدأ الكلام عن ضمان الإتلافات بغير غصب. ولذلك كانت في الحقيقة هذه المسائل جديرة بأن يضع لها المؤلف - رحمه الله - فصلاً خاصاً وهي أجدر من تصرفات الغاصب الحكمية لأنه انتقل إلى جنس آخر جديد ليس من باب الغصب وإنما ألحق به لمشابهته إياه. وهي الإتلافات التي ليست على سبيل الغصب. فكان من المناسب جداً فيما أرى أن يضع فصلاً لهذا دون تصرفات الغاصب الحكمية. - يقول - رحمه الله -: - ومن أتلف محترماً، أو فتح قفصاً ... إلى آخره. القاعدة لهذه المسائل أن من أتلف مالاً محترماً لغيره بغير إذنه ضمنه مطلقاً. ومعنى مطلقاً أي سواء كان جاهلاً أو عالماً أو سواء كان مكلفاً أو غير مكلف. ففي جميع الصور يضمن. تعليل ذلك: - أن هذا المتلف فوت المال على صاحبه فضمنه له. وهو تعليل صحيح. لأنه لما كان هو سبباً في الإتلاف فلابد أن يكون الضمان في ذمته. وما سيذكر بعد هذا ليس إلا أمثلة. وهذه الأمثلة كما سيأتينا وستلاحظ ذلك إن شاء الله تشترك في معنىً واحد وهو أن يكون سبباً في الإتلاف فإذا كان سبباً في الإتلاف فيجب عليه أن يضمن. وسيأتينا في بعض المسائل خلاف وستلاحظ أن الخلاف مبني على: هل يتحقق فيه أنه سبب أو لا يتحقق أنه سبب فسياتينا أنه دائماً الخلاف مبني على هذا المعنى. * * المسألة الأولى/ يقول - رحمه الله -: (فتح قفصاً) يعني فتح القفص عن طائر فطار فالذي فتح القفص هو السبب في هروب الطير وفي تفويته على صاحبه فضمنه. وهل هذا غصب؟ هل هو غصب الطائر؟ لا لم يغصب الطائر وإنما فوته على صاحبه. وهو أمر ظاهر.

* * قال - رحمه الله -: (أو باباً) يعني: أو فتح باباً فخرج ما كان مقفلاً عليه فيه. يعني: يفتح باب الاصطبل فتهرب الخيول أو يفتح باب الدواجن فتهرب الدجاج أو أي مثال آخر. المهم أن خروج من بداخل الباب كان بسبب فتح الباب. فإن جاء وفتح الباب وكان الذي في الغرفة من الحيوان أو الطير مربوط فهل يضمن؟ ( ... ) لأن فتح الباب لم ينتج عنه ( ... ) فإن كان الباب مقفل وجاء رجل وكسر الباب ثم جاء آخر وحل رباط الخيل فالضمان على من؟ على الثاني لأنه مباشر لتفويت المالية. ودائماً الضمان على المباشر لا على المتسبب. * * يقول: (أو حل وكاء). يعني: حل وكاء إناء فيه شيء مائع ولابد أن نقول: وانسكب المائع. قإن حل الرباط لإناء فيه مائع وبقي المائع في الإناء فلا ضمان لأن المالية لم تفت أصلاً. فإذاً مقصود المؤلف - رحمه الله - أنه حله وترتب على هذا الحل الإنسكاب. * * قال - رحمه الله -: (أو رباطاً) يعني: لو حل الرباط عن دابة أو حل الرباط عن سفينة وذهبت في البحر فإنه يضمن. وهل من ذلك: أن تكون السيارة مسحوب ما يسمى: (بصمام الأمان) ثم لما فك هذا البريك مشت السيارة وصدمت يضمن أو لا يضمن؟ لأن تفويت المالية الخاص وهو النقص في هذه العين كانت بسبب من حل هذا الرباط. * * قال - رحمه الله -: (أو قيداً) يعني: حل قيد العبد أو الأسير فذهب وفات وكأنه يقصد أن القيد يعبر به عمن يعقل والرباط يعبر به عمن لا يعقل وإلا المسألة واحدة. * قال - رحمه الله -: (أو أتلف شيئاً ونحوه) هل هذه العبارة: (أو أتلف شيئاً) هو يقول: (من أتلف محترماً) لماذا يعود فيقول: (أو أتلف شيئاً) الضمير في: (أو أتلف شيئاً) لا يعود إلى الغاصب وإنما يعود إلى هذا الذي فك رباطه أو حل رباطه أو فتح بابه. فإذا أتلف شيئاً فالغاصب يضمن وليس مالك الحيوان. لماذا؟ لنفس العلة. وهي أن تفويت المال كان بسبب من حل الرباط. ((الأذان)). - قال - رحمه الله -: - وإن ربط دابة بطريق ضيق فعثر به إنسان: ضمن. وكذلك يضمن لو جنت الدابة برجلها أو فمها أو يدها. وتعليل الحكم في المسألتين: يعني إذا عثر بها الشخص أو جنت هي بيدها أو رجلها:

- أن هذه الجناية كانت بتعدي صاحب الدابة حيث أوقفها بطريق المسلمين. مع العلم أن الطريق ضيق. فلما صار عمله فيه تعدي ترتب على ذلك الضمان. وهذه المسألة ليس فيها مباشرة الإتلاف ولكن فيها التعدي الذي سبب الإتلاف فهذا هو تعليل وجوب الضمان وذكروا أيضاً حديثاً وهو أنه يروى أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (من أوثق دابة في طريق المسلمين فأتلفت في يدها أو رجلها فهو ضمان) لكن هذا الحديث ضعيف ضعفه الأئمة كلهم ولا يثبت مرفوعاً إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - وإن كانت معناه صحيحاً. وفهم من كلام المؤلف - رحمه الله - أن الطريق إذا كان واسعاً فإنه لا ضمان. وهذا فيه عن الإمام أحمد - رحمه الله - روايتان: = الأولى: أنه لا ضمان. - لأن إيقاف الدابة في الطريق الواسع لا يعتبر من أنواع التعدي. = والرواية الثانية: أن عليه الضمان ولو كان الطريق واسعاً. والرواية الأولى هي الراجحة إن شاء الله ورجحها عدد من محققي الحنابلة وهي كما ترى ظاهرة القوة لأنه لا يوجد أي نوع من أنواع التعدي إذا وقف الإنسان دابته بطريق واسع. والأحكام التي قيلت في الدابة تنطبق تماماً على السيارة فإذا أوقفها في طريق ضيق كما يحصل كثيراً الآن فهو ضامن لما يترتب على هذا الإيقاف. وإن أوقفها في طريق واسع فلا حرج عليه. إلا أنه يستثنى من ذلك إذا أوقف الإنسان السيارة في طريق ضيق ولكن خصص فيه أماكن رسمية للوقوف إذا أوقفها في هذه الأماكن الرسمية فلا ضمان ولو في طريق ضيق لماذا؟ لأن الحكم يدور مع علته. وهو التعدي وهو هنا لم يتعد. - قال - رحمه الله -: - كالكلب العقور لمن دخل بيته بإذنه أو عقره خارج المنزل. أي وكذلك: يضمن إذا أتلف الكلب العقور شيئاً من الآدمي في صورتين: ـ أن يتلفه خارج البيت. ـ الصورة الثانية: أن يتلفه داخل البيت ويكون الداخل دخل بإذنه. ففي الصورتين يضمن صاحب الكلب ما ترتب على إتلافه. التعليل؟ التعليل في ذلك: - أن صاحب الكلب العقور متعد بإمساك الكلب العقور أصلاً فإذا الإمساك محرم فما يترتب على هذا الفعل المحرم مضمون لأن فعله لم يؤذن به شرعاً فما ترتب عليه فهو مضمون.

ودلت عبارة المؤلف - رحمه الله - على أنه إذا أتلف الكلب العقور مار إنسان دخل البيت بغير إذن فلا ضمان لأنه دخل بغير إذن فليس محترماً شرعاً. وأيضاً: لو أتلف الكلب العقور مال رجل بسبب أن الرجل جاء إلى الكلب العقور وهو مربوط: فإنه لا ضمان. والصورة الثالثة والأخيرة: لو أتلف الكلب العقور مال رجل لكن صاحب الكلب كان سبق منه التحذير فأيضاً في هذه الصورة لا ضمان. ففي هذه الصور الثلاث لا ضمان وفي الصور الثلاث الأولى هناك ضمان. بقينا في مسألة حفظ المواشي بالليل وحفظ الزروع في النهار وهي مسألة طويلة نجعلها في الدرس القادم. والله أعلم وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين ..

الدرس: (43) من البيع (¬1) قال شيخنا حفظه الله: بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين. كنا توقفنا بالأمس على مسألة إتلاف البهيمة ,والتفريق بين الليل والنهار أليس كذلك؟ إنتهينا من (كالكلب العقور). - قال - رحمه الله - (وما أتلفت البهيمة من الزرع ليلا ضمن صاحبها وعكسه النهار). أفاد المؤلف - رحمه الله - أنّ ما تتلفه البهيمة بالليل فإنه يضمن وما تتلفه بالنهار فإنه لايضمن ,وهذا التفريق هو مذهب الحنابلة. استدلوا على هذا بأدلة. الدليل الأول"ماروي أنّ النبي - صلى الله عليه وسلم - قضى على أهل الأموال بحفظها في النهار ,وعلى أهل المواشي بحفظها في الليل. وهذا الحديث اتفقوا على أنه مرسل. لايصح مرفوعاً إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - ومع ذلك فإنّ الإستدلال به صحيح. لأنه يتوافق مع ظاهر القرآن كما سيأتينا. بالإضافة إلى أنّ فقهاء أهل الحديث لاسيما فقهاء أهل الحجاز قبلوا هذا الحديث واستدلوا به وتداولوه وهذا عند أهل العلم يعطي الحديث المرسل قوة. قبول العلماء للحديث يعطي الحديث قوة ,فإذا تأيّد هذا المرسل بأمرين: قبول العلماء له. وتأيّد ظاهر القرآن له. ونتج من ذلك صحة الإستدلال به. ¬

_ (¬1) - هذا الدرس قام بكتابته أحد الإخوة - جزاه الله خيراً.

الدليل الثاني" أنه جرى العرف بأنّ أصحاب المواشي يرسلون مواشيهم في النهار لترعى ,وأنّ أصحاب الأموال يحفظون أموالهم بالنهار فإذا تعدت البهيمة على المال نهاراً. فإنه لايعتبر صاحب البهيمة متعدّي فلا يضمن لأنه تقدم معنا أنّ سبب الضمان هو التعدّي. هذا الدليل الثاني للحنابلة فتكون أدلتهم اثنان. القول الثاني: أنّ أصحاب المواشي يضمنون ليلا ونهاراً يعني مطلقاً. واستدل أصحاب هذا القول بأنّ الجناية كانت بسبب ترك صاحب البهيمة لبهيمته ,فلما كانت الجناية أو الإتلاف بسبه ضمن , الدليل الثاني "القياس على جناية العبد فإنها مضمونة مطلقاً. وهذا القول ضعيف جدا. القول الثالث " أنّ أصحاب المواشي لايضمنون مطلقاً لا ليلاً ولانهاراً. واستدلوا على هذا بقول النبي - صلى الله عليه وسلم - في الحديث المتفق عليه (العجماء جرحها جبار) يعني هدر وهو في الحقيقة نصّ في المسألة. فدّل الحديث على أنّ ماتتلفه البهيمة فهو هدر مطلقاً. ولم يفرق الحديث بين الليل والنهار. والراجح إن شاء الله المذهب. ودليل ذلك أنّ حديث المذهب وإن كان مرسلاً إلاّ أنه أخص في المسألة من حديث أصحاب القول الثالث لأنه عام ,وتقدم معنا مراراً تكراراً أنّ الخاص مقدم على العام ,مادام صححنا الإستدلال بهذا الحديث المرسل فهو خاص ويقدم على العام , مسألة /إذا حكمنا على أنّ أصحاب المواشي يضمنون بالليل ,فهذا مشروط على الصحيح من قولي أهل العلم, بأن يفرطوا ,فإن لم يفرطوا فإنهم لايضمنون ولا بالليل ,فإذا قام صاحب الماشية بحبسها والتأكد من عدم خروجها وتوثيقها ثم خرجت بعد ذلك بلا تفريط منه فلا يضمن ,ولو كان الإتلاف بالليل ,وأما إذا فرط لم يحبسها ولم يجعلها في مكان لاتخرج لتؤذي فإنه يضمن.

القول الثاني: أنّ أصحاب المواشي يضمنون ماأتلفت المواشي بالليل مطلقاً ,فرطوا أو لم يفرطوا ,والصحيح إن شاء الله كما قلت القول الأول ,لأنه إذا لم يفرط فليس منه ما يوجب الضمان. والأصل كما سيأتينا إن شاء الله أنّ ماتتلفه البهيمة هدر, وبهذا عرفنا حكم مايتلف من قبل البهائم. باقي تنبيه واحد وهو أنّ إتلاف البهائم ينقسم إلى قسمين: إما أن تتلف ويد صاحبها عليها. أو تتلف ويد صاحبها ليست عليها. وهذه المسألة التي ذكرنا فيها الخلاف وتحدثنا عنها هي من القسم الذي تتلف فيه البهيمة ويد صاحبها ليست عليها, يعني أنه لايتحكم بها ,إذاً هذا الخلاف في أي النوعين ,في أن تكون يده عليها , أو ليست عليها؟ ليست عليها. فإن كانت يده عليها فهو قسم آخر سيتحدث عنه المؤلف بالتفصيل. فيجب أن تعلم أنّ هذا الكلام محمول على ما إذا كانت يده ليست على البهيمة - ثم قال - رحمه الله - (إلاّ أن ترسل بقرب ما تتلفه عادة). لما قرر المؤلف أنّ أصحاب البهائم لايضمنون بالنهار مطلقاً , استثنى هذه الصورة وهي ما إذا أطلقها في النهار قرب ما تتلف. ففي هذه الحالة يضمن. والسبب أنه لما جعلها تقرب ما تتلفه عادة فرط وتعدّى ,فضمن لذلك. والقول الثاني: وهو المذهب أنّ أصحاب البهائم لايضمنون بالنهار مطلقاً, سواء أطلقوها قرب ماتتلف عادة أو لم يطلقوها. واستدل أصحاب هذا القول وهم الحنابلة وهو المذهب المؤلف خالف المذهب في هذه المسألة. استدلوا بعموم الحديث فإنّ النبي - صلى الله عليه وسلم - قضى على أصحاب الأموال بحفظها في النهار. ولم يفرق بين أن يطلق أصحاب المواشي مواشيهم قرب ماتتلف أو يطلقوها بعيداً عن ماتتلف. ولذلك نقول الراجح إن شاء الله القول الثاني. وهو المذهب ومما يدل على صحة قول الحنابلة أنه يعسر على الإنسان مراقبة البهيمة, لكي تقترب مما تتلفه في العادة ,فإنها هذه بهيمة والتحكم فيها ومراقبتها في النهار وهي ترعى فيه مشقة وعسر, فهذا ايضاً مما يدل على قوة القول الثاني وهو عدم الضمان في النهار مطلقاً. - قال - رحمه الله - (وإن كانت بيد راكب أو قائد أو سائق ضمن جنايتها بمقدمها لا بمؤخرها).

لما ذكر المؤلف القسم الأول , وهي إذا كانت ليست عليها ذكر هذا القسم الثاني , وهي إذا كانت تحت يد المالك , وتكون تحت يد المالك في ثلاث صور: أن يكون راكب. وأن يكون قائد وهو الذي يمشي أمام البهيمة. وأن يكون سائق وهو الذي يمشي خلف البهيمة , هذه هي الصور التي تكون يد صاحب البهيمة عليها. ومعنى قول الشيخ هنا وإن كانت بيد راكبها مقصود المؤلف يعني وكان قادراً على التحكم فيها ,فثبوت حكم اليد يشترط فيه أن يكون قادراً على التحكم فيها , فإن لم يكن قادراً على التحكم فيها فتعتبر ليست تحت يده وإن كان قائداً أو سائقاً أو راكباً. نأتي إلى الحكم يقول المؤلف - رحمه الله - (وإن كانت بيد راكب ................. لابمؤخرها). أفاد المؤلف أنّ الحنابلة يرون أنه إذا كانت الدابة تقاد من قبل المالك أو وكيله , فإنه يضمن ماتتلفه بمقدمها يعني بيدها أوفمها ,ولايضمن ماتتلفه بمؤخرها يعني برجلها. هذا هو المذهب. لكن الحنابلة قيّدوا عدم الضمان فيما يتلف بالرجل , أن لايكون الإتلاف بالوطء. بأن يكون بالرمح, فإن كان الإتلاف بالوطء فيضمن ولو بمؤخرها ,ولذلك كان من الأحسن أن يقول الشيخ هنا لابمؤخرها إذا كان رمحاً , فإن كان بالوطء فهو يضمن , ماهو دليل الحنابلة التفريق بين الرمح والوطء؟ قالوا أنّ سائق الدابة منعها من الوطء بالتحكم بها , ولايستطيع منعها من الرمح , لأنه لايعلم متى يصدر أليس كذلك؟ لايمكن له أن يتحكم بالرمح , هذا هو دليل التفريق في إتلاف البهيمة بمؤخرها بين الوطء والرمح. نأتي إلى دليل الحنابلة على القول برمته , وهو التفريق بين المقدم والمؤخر , استدل الحنابلة على هذا بدليلين: الدليل الأول أنّ النبي - صلى الله عليه وسلم - قال (رِجل العجماء هدر) أوقال (رِجل العجماء جبار) فهذا الحديث يدل على أنّ رِجل العجماء لاتضمن ويدل بمفهومه أنّ يدها وفمها تضمن ,به جناية البهيمة. واستدلوا بدليل آخر وهو أنّ من وضع يده على البهيمة يسهل عليه التحكم بمقدمها ومنع الجناية به ويصعب عليه التحكم بمؤخرها. إذا الآن إن شاء الله تصورنا مذهب الحنابلة ودليل الحنابلة.

القول الثاني: أنّ قائد البهيمة لايضمن مطلقاً إلاّ إذا أتلفت بسبب من القائد ,فإن أتلفت بغير سبب من القائد ولاتفريط ولاتعدّي فلاضمان. وهذا مذهب المالكية واستدلوا على هذا بأنّ القائد إذا لم يفرط وليس منه سبب في جناية البهيمة فإنه لايضمن لأنه ليس سبباً في الجناية. ونحن نقول دائما سبب الضمان , أو علة الضمان. أن يكون المتلف سبباً في الإتلاف , وهنا ليس القائد سبباً في الإتلاف القول الثالث: أنه لاضمان مطلقاً , فيما أتلفته البهيمة ولو كانت يد صاحبها عليها. لعموم قوله - صلى الله عليه وسلم - (العجماء جرحها جبار) والحديث لم يفرق بينما إذا كانت اليد على البهيمة أوليست على عليها, الراجح بإذن الله إن شاء الله في هذه المسألة المهمة القول الثاني وهو مذهب المالكية. وهو أنه يضمن إن كان بسببه, وإن لم يكن بسببه فإنه لايضمن. وجه الترجيح. أنّ قائد الدابة إذا كانت يده عليها فله نوع تصريف ومنع. فإذا صرفها ومنعها عن أن تتلف ثم أتلفت فإنه لم يفرط.

وإذا كانت يده عليها وتركها تتلف فإنه ماذا؟ مفرط. وهو في الحقيقة كلام جميل جداً من الإمام مالك ومتوافق إن شاءالله مع النصوص العامة. التي لاتكلف الإنسان ما لايدخل تحت قدرته. وكما قلنا في مسائل كثيرة أنّ مسائل البهيمة تنطبق على ماذا؟ على السيارات فالآن إذا حصل الحادث والسيارة ليس فيها أحد , فإنه لايحمل قائد المركبة شيء لأنه يده ليست على المركبة , إلاّ إذا تعدّى كما تقدم معنا في مكان الوقوف , فإذا جاء صاحب السيارة ووضع السيارة في مكان صحيح. لم يتعد فيه ثم صدمت السيارة ومات الصادم, فإنه ليس على صاحب السيارة المصدومة الواقفة, أيُّ تبعة لماذا؟ لأنه يده ليست على السيارة وليس منه لاتعّدي ولا تفريط, نبقى فيما إذا حصل الحادث وهو يقود السيارة , وهي التي نسميها ويده على السيارة ,فمقتضى كلام الحنابلة أنه لو انصدم مع الأمام يضمن. وإن صدم مع الخلف فإنه لايضمن , هذا مقتضى كلام الحنابلة , ومقتضى كلام المالكية أنه إن كان الحادث بنوع من التفريط فإنه يضمن. وإن كان ليس منه تفريط فإنه لايضمن , التفريط هذا يرجع في تقديره إلى العلماء. وأهل الإختصاص في آن واحد. فمثلاً من التفريط السرعة الزائدة. من التفريط ترك الكفرات وهي على وشك الفساد ,من التفريط المشي بالسيارة وهي كثيرة التوقف ,لأنّ هذا من أعظم الأخطار , لأنه إذا كانت السيارة كثيرة التوقف فمن المتوقع أن تتوقف في مكان يؤدي إلى الحادث من قبل اللي يمشي خلف السيارة ,صور التفريط كثيرة المهم إذا كان منه تفريط فإنه يضمن ,وإذا لم يكن منه أيّ تفريط بأيّ صورة من الصور فإنّ تضمينه في الحقيقة لاوجه له. أو بعبارة أهون فإنّ تضمينه مرجوح. لأنّ مذهب المالكية في هذا أقوى وأوجه وألصق بالأصول من التضمين المطلق. - قال - رحمه الله - (وباقي جنايتها هدر).

أفادنا المؤلف أنّ الأصل في جناية الدواب أنها هدر , هذا هو الأصل , ولايستثنى من هذا إلاّ الثلاث صور التي ذكرها المؤلف. وهي ما إذا أوقفها في طريق ضيّق , وما إذا خرجت في الليل أو في النهار؟ في الليل. وما إذا كانت يده عليها. هذه ثلاث صور تضمن فيها إتلافات البهيمة. فيما عدا هذه الصور فإنّ الأصل في البهيمة عدم الضمان لعموم قوله - صلى الله عليه وسلم - (جرح العجماء جبار) أو قال (العجماء جرحها جبار) هذا الحديث يؤصل هذه القاعدة , وهي أنّ الأصل في البهائم عدم الضمان. - قال - رحمه الله - (كقتل الصائل عليه). يعني كما أنّ من قتل الصائل عليه لايضمن , فإذا صال زيد على عمرو وقام عمرو بقتله , فإنه لايضمن سواء كان الصائل يريد النفس أو العرض أو المال , ويشترط لهذا شرط مهم جداً , وهو أن لايمكن دفعه إلاّ بالقتل , فإن أمكن دفعه بدون القتل وقتله فإنه يضمن. وأما ماذا يضمن؟ وهل نعتبره قتل خطأ أو عمد؟ فهذا يرجع للقاضي وملابسات القضية ,لكن نحن يعنينا الآن أنه يضمن. لماذا؟ لأنه إذا أمكن دفعه بدون القتل ودفعه بالقتل فهو متعدّي , ونحن نقول الضمان دائماً ملازم لقضية ماذا؟ لقضية التعدّي. بناء على هذا لايقبل في المشاجرات البسيطة , الزعم أنه دفعه دفع صائل , فليس من المقبول, إذا قال رجل لآخر انصرف عن هذا المكان وأغلظ له القول أن يقوم ويقتله , ويقول هذا من دفع الصائل , كأن يتكلم عليه بغلظة , نقول هذا يمكن دفعه أصلاً بغير الضرب أليس كذلك؟ بل الواجب أن يعرض عنه الإنسان , كذلك لوقام زيد بضرب عمرو ضرباً ليس مبرح ولاخطر , ثم يزعم أنه دفعه دفع صائل بقتله , فإنه لايقبل , أما لو إعتدى عليه في بيته أو في عرضه أو في ماله , أو شعر منه أنه يريد دمه ,فإنه حينئذ إذا دفعه بالقتل فلا حرج عليه , وهذا الحكم بالإجماع. أنّ دفع الصائل الذي لايمكن دفعه إلاّ بالقتل لايترتب عليه ضمان بالإجماع. لأنّ فيه حفظ للنفس. - قال - رحمه الله - (وكسر مزمار وصليب وآنية ذهب وفضة وآنية خمر غير محترمة). ذكر الشيخ عدة أعيان كسرها لايضمن , فإذا كسر آلة المزمار أو آنية الذهب والفضة أو آنية الخمر أوالصليب فإنه لاحرج عليه.

ولايضمن, الدليل أنه لايضمن أنّ هذه الأعيان ليس لها إعتبار في الشرع من حيث المالية , ولايجوز أن تباع ولاتشترى. وكل ما لايجوز أن يباع ولايشترى فإنه لايضمن , وهذا الأمر أشبه ما يكون بالإتفاق , أنها لاتضمن , لكن بقينا في مسألة أخرى وهي أنك تلاحظ أنّ المؤلف عبّر بقوله كسر, ولم يعبر بقوله إتلاف , والواقع أنّ المذهب يقسم هذه الأعيان إلى قسمين: القسم الأول" آلة المعازف والصليب. والقسم الثاني" آنية الذهب والفضة وآنية ماذا؟ الخمر. إذاً القسم الأول آلة المعازف , والشيخ إنما ذكر المزمار على سبيل التمثيل , ولو أنه قال آلة الطرب والمعازف لكان أولى لأنّ هذا مقصود الحنابلة. هذا هو القسم الأول. القسم الثاني" الأواني الذهب والفضة وآنية الخمر والخنزير. ففي القسم الأول يجوز عند الحنابلة الكسر والإتلاف. فلو أنه أحرقها إحراقاً بحيث تلفت لم يعد لها وجود فلا حرج عليه ولاضمان وعمله مباح , ولو أنه حطمها إلى قطع صغيرة جداً بحيث لايمكن أن ينتفع منها بشيء فلا حرج عليه ولاضمان. والقسم الثاني" آنية الذهب والفضة وآنية الخمر, فهذه لايجوز حتى عند الحنابلة. لايجوز فيها إلاّ الكسر دون ماذا؟ دون الإتلاف وعللوا ذلك بأنّ الآنية من الذهب والفضة. مادتها محترمة ويمكن أن تصاغ دراهم ودنانير وينتفع منها.

والقول الثاني: أنه لايجوز في إنكار آلة المنكر إلاّ الكسر فقط دون الإتلاف في جميع الأعيان , بشرط أن تكون هذه الأعيان مما يمكن الإنتفاع منها بعد الكسر. فإذا كانت مما يمكن الإنتفاع منها بعد الكسر, سواء كانت صليب, أو آلة معازف أو ذهب وفضة وآنية خمر فإنه لايجوز فيها إلاّ الكسر دون الإتلاف ,واستدلوا على هذا بأدلة الدليل الأول" أنّ المقصود من كسرها إنكار المنكر , وإنكار المنكر يحصل بتغيِير الصورة التي تقع فيها المنكرات , فإذا كسرنا المزمار, بحيث لايمكن أن ينتفع منه كمزمار ويمكن أن ينتفع منه كقطع خشب زال المنكر وبقيت المالية لصاحبها , واستدلوا الدليل الثاني. بما صح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - (أنّ عيسى - صلى الله عليه وسلم - ينزل في آخر الدهر حكماً عدلاً قسطاً ويكسر ماذا؟ الصليب. فعبر بقوله يكسر مع العلم أنه يكسر الصليب وهو من النوع الأول أوالثاني؟ عندالحنابلة. من النوع الأول مع ذلك عبرّ بالكسر, فدلّ هذان الدليلان على أنّ الإنسان إذا أراد أن ينكر المنكر فإنه لايجوز له أن ينكره بالإتلاف ولكن ماذا؟ بالكسر. ويرى بعض الحنابلة أنّ جواز الإنكار بالإتلاف رواية رجع عنها الإمام أحمد - رحمه الله - فإنه سئل عن هذه المسألة, فقال يتلف ولاحرج , فقال السائل فكيف بالمالية؟ كيف بماليتها التي ينتفع منها؟ فسكت الإمام أحمد , ثم سئل في مجلس آخر, وأفتى بالكسر دون الإتلاف. فقال الحنابلة سكوته في الأول ثم فتواه الثانية تدل على أنه ماذا؟ رجع ومن هنا نفهم أنّ الإمام أحمد ليس عنه نصّ صريح في الرجوع , ولكن الرجوع يفهم من ماذا؟ من مجموع الفتاوى على كل حال رجع أو لم يرجع. الراجح إن شاء الله القول الثاني وهو أنه يكتفى بالكسر إحتراماً للمالية. ولأنّ المنكر يزول بذلك. والنبي - صلى الله عليه وسلم - لما وجد الخمر أمر بماذا؟ بكسرها أمر بكسر الخمر. ولما وجد القرب أمر بماذا؟ بقطعها ومن المعلوم أنّ القربة إذا قطعت يمكن الإستفادة منها بأن تصنّع مرة أخرى, ولم يأمر - صلى الله عليه وسلم - بإحراقها. فهذا القول الثاني لعله إن شاء الله هو الأقرب وهوأحسن من تفصيل الحنابلة, وبهذا نكون إنتهينا من باب الغصب.

باب الشفعة

باب الشفعة جعل المؤلف - رحمه الله - الشفعة بعد باب الغصب والسبب في هذا أنّ بين باب الغصب وباب الشفعة مناسبة , ماهي؟ في كل من باب الغصب وباب الشفعة القاسم المشترك بينهما, أنّ في كل منهما أخذ مال الغير بغير رضاه. لكن في الغصب بالباطل وفي الشفعة بالحق , لكن بينهما هذا القدر المشترك وهو أنّ في كل منهما أخذ مال الغير بغير رضاه , وهي لفته لطيفة ممن بحث عن المناسبة بين باب الشفعة وباب الغصب. والشفعة في لغة العرب: تطلق على الضم , لأنّ الشفيع يضم المال الذي اشتراه المشتري إلى ماله. فلما كان فيها معنى الضم عبرو عنها بهذا المصطلح وهو الشفعة. - ثم عرّفها الشيخ بالإصطلاح يقول الشيخ (وهي استحقاق انتزاع حصة شريكه ممن انتقلت إليه بعوض مالي) حقيقة الشفعة. هي أن تكون العين مملوكة لاثنين سواء كانت أرض أوغيرها. فيقوم أحد الشريكين ببيع نصيبه. فإذا باع أحد الشريكين نصيبه على طرف ثالث , فإنّ لشريكه أن يشّفع , ويأخذ هذا الجزء بنفس القيمة التي اشترى بها المشتري هذه هي الصورة العامة. ولانستطيع أن نمضي في الشفعة إلاّ وأنت متصور هذه الصورة العامة. نرجع إلى التعريف يقول (هي استحقاق انتزاع حصة شريكه) يعني الذي باع. (ممن انتقلت إليه) وهو المشتري ثم قال (بعوض مالي) فالشفعة إنما تثبت إذا أخذ الطرف الثالث نصيب أحد الشريكين بعوض مالي كالبيع, وفهم من كلام المؤلف أنه إذا أخذه بغير عوض , أو بعوض لكن ليس عوضاً مالياً , فإنها لاتثبت الشفعة. إذا خرج بقوله بعوض مالي. أن تأخذ بغير عوض أو تأخذ بعوض لكنه ليس عوضاً مالياً , وسيصرح المؤلف بكل قسم من هذه الأقسام. - يقول الشيخ - رحمه الله - (بثمنه الذي استقر عليه العقد). يعني أنّ الشفعة تثبت كحق للشريك. لكنه لايأخذ هذا النصيب من المشتري إلاّ بنفس الثمن الذي استقرّ عليه العقد , لابالقيمة لماذا؟ قال الحنابلة أنه يستحقه بالثمن لابالقيمة , لأنّ المشتري إنما أخذه بعقد شراء , والشريك إنما شفّع بناء على هذا العقد وهو عقد الشراء , فيأخذه بنفس الثمن , لابالقيمة سواء كانت القيمة أقل أو أكثر. - قال - رحمه الله - (فإن انتقل بغير عوض , أو كان عوضه صداقاً أوخلعاً أو صلحاً عن دم عمد فلاشفعة).

الصورة الأولى إذا انتقل بغير عوض كأن ينتقل بهبة , أو بهدية , أو بصدقة , فإنه في هذه الحالة لاتشفيع. معنى لاتشفيع أنه لايمتلك الشريك حق الشفعة , ماهو الدليل" القياس على الميراث , فإنه لو انتقل نصيب أحد الشريكين إلى طرف ثالث بالإرث. فإنه لايملك التشفيع , أي الشريك الآخر بالإجماع. الدليل الثاني" قالوا أنّ النصوص أشارت إلى أنّ التشفيع إنما يكون بعقد البيع , كقول النبي - صلى الله عليه وسلم - (هو لك بثمنه). وهذا الحديث ضعيف. القول الثاني: أنّ الشفعة تثبت ولو انتقل الشقص أو الجزء بغير عوض مالي كالهبة والهدية , واستدلوا على هذا بأدلة: الدليل الأول" قالوا أنّ الشارع إنما شرع الشفعة لدفع الضرر عن الشريك بمشاركة طرف ثالث لا يريده , وهذا المعنى موجود سواء انتقل النصيب ببيع أو بهبة أو بصدقة , أليس كذلك؟ الدليل الثاني" قالوا نحن نقيس قياس أولوي على البيع , وجه القياس , قالوا إذا كان الشارع انتزع النصيب من المشتري وقد دفع فيه ثمناً, فلئن انتزع ممن أخذه بلا ثمن من باب أولى , لأنّ الهبة جاءت بثمن أو غير ثمن؟ بغير ثمن. فنحن ننتزع من المشتري وقد دفع فيه ثمن فكيف لاننتزعه من الموهوب وهولم يدفع فيه ثمن , وهذا القول في الحقيقة وجيه جداً كما ترى وهويتوافق إن شاء الله مع الأصل العام الذي شرعت الشفعة من أجله , فهو إن شاء الله أقرب. - قال - رحمه الله - (أوكان عوضه صداقاً , أو خلعاً , أو صلحاً عن دم عمد فلا شفعة). يعني أو كان أخذ بعوض لكنه ليس عوضاً مالياً , ففي الصورة الأولى أخذ بغير عوض وفي الصورة الثانية أخذ بعوض غير مالي كأن يدفع الشريك نصيبه من الأرض مهراً , أو يدفع نصيبه من الأرض عوضاً في الخلع , أويدفع نصيبه من الأرض مقابل الدية التي ثبتت في القتل العمد , ففي هذه الصور الثلاث , أصبح أخذ مقابل عوض لكن هذا العوض ليس عوضاً مالياً , لأنّ الوطء والخلع وما يجب بالقتل ليس عوضاً مالياً , الدليل استدل الحنابلة على هذا بالقياس على المنع من الشفعة في الهبة , يعني فيما إذا انتقل الشقص بالهبة.

القول الثاني: أنّ الشفعة تثبت فيما أخذ بعوض غير مالي واستدلوا على هذا بالقياس على البيع , وجهة القياس أنّ في كل من البيع والعوض الغير مالي أخذ للسلعة مقابل عوض , لكنه هنا مالي وهنا عوض غير مالي , لكن اشترك الأمران في أنه مقابل ماذا؟ عوض , أيهما أقوى قول الحنابلة في المسألة الثانية أوقول الحنابلة في المسألة الأولى؟ قولهم في المسألة الأولى أقوى والسبب أنّ غاية ما هنالك أنّ المسألة الثانية مقيسة على الأولى فهي أضعف من الأولى وإذا كنا نرجح في الأولى التي هي الأصل المقيس عليه خلاف المذهب, فلَئن نرجح في المسألة المقيسة عليها خلاف مذهبهم من باب أولى. فالراجح إن شاء الله تثبت فيها الشفعة. - قال - رحمه الله - (ويحرم التحيُل لإسقاطها). التحيل في إنتهاك المحرم أو الإمتناع عن الواجب محرم , والدليل على هذا قول النبي - صلى الله عليه وسلم - (قاتل الله اليهود لما حرّم الله عليهم الشحوم أذابوها ثم باعوها ثم أكلوا ثمنها). والحيلة في الشرع: هي الوصول إلى الأمر المحرم بطريقة ظاهرها الجواز , وقول المؤلف - رحمه الله - وتحرم الحيلة يعني وإن فعل فلا عبرة بها , والحيلة في كل باب محرمة , وإنما نصّ المؤلف - رحمه الله - على الحيلة في الشفعة لكثرة وقوعها , ومن الأشياء المفيدة التي ذكرها الحنابلة في هذا الباب صور كثيرة للحيل في الشفعة , من المفيد والمناسب أن تراجع هذه الصور لأنها تنمي الذهن نحن نأخذ هنا صورة واحدة , وهي الأكثر وقوعاّ, من صور التحيل في الشفعة أن يزعم البائع أنه باعها بمئة وخمسين , وهو باع في الباطن بخمسين ومقصوده من التشفيع , لأنّ الشفيع وهو الشريك إذا رأى أنّ السلعة دفع فيها أضعاف القيمة الحقيقية فسيمتنع من التشفيع لأنه إن شفّع فسيدفع القيمة أو الثمن؟ الثمن كما تقدم معنا , فإذا رأى أنها تضاعفت إمتنع عن التشفيع فهذه حيلة محرمة , وإذا تبيّن للقاضي أنه تحيّل بها , سقطت الحيلة واستحق الشريك أن يشفّع في هذا العقد. - قال - رحمه الله - (وتثبت لشريك في أرض تجب قسمتها).

المؤلف يريد أن يبيّن الأشياء التي تصح الشفعة فيها, فعند الحنابلة لاتصح الشفعة أبداً في أيّ شيء, إلاّ في شيء واحد وهو الأرض أنّ الملك على سبيل الإشتراك التي تقبل القسمة الإجبارية , عدا هذا لايوجد تشفيع. إذاً لايملك الإنسان عند الحنابلة الشفعة إلاّ في شيء واحد, وهو ماذا؟ الأرض المملوكة على سبيل الإشتراك التي تقبل التقسيم على سبيل الإجبار. أظنه واضح أليس كذلك؟ والمؤلف - رحمه الله - عبّر بقوله الأرض , وغيره من الحنابلة عبرّو بقولهم العقار , وإذا رأيت كلمة العقار فاعلم أنّ المقصود بالعقار في باب الشفعة الأرض فقط. بناء على هذا خرجت الأشجار ليس فيها شفعة , لأنها ليست أرض , وخرجت الدار التي بيعت على سبيل الإنفراد , لأنّ الدار التي بيعت على سبيل الإنفراد ليست بأرض , أليس كذلك؟ أما إذا بيعت بالإضافة إلى الأرض فهي في الحقيقة بيع للأرض , إذاً عرفنا ماذا يقصد الحنابلة بالعقار وغيرهم من الفقهاء ماذا يقصدون بالعقار في باب الشفعة إذاً الحنابلة لايرون ثبوت الشفعة إلاّ بالعقار , وخرج بهذا القيد ثلاث صور: الصورة الأولى " المنقول فكل الأعيان المنقولة لاتثبت فيها الشفعة من الأشجار والسيارات والثمار والأمتعة والكتب وكل منقول. استدلوا على هذا بأدلة: الدليل الأول" ماصح عن جابر - رضي الله عنه - أنّ النبي - صلى الله عليه وسلم - (قضى بالشفعة في كل مالم يقسم فإذا وقعت الحدود وصرفت الطرق فلا شفعة) فدل الحديث على أنّ الشفعة إنما تكون في الأراضي لأنها هي التي تصرف فيها الطرق , الدليل الثاني" قالوا أنّ الضرر اللاحق لأحد الشريكين إنما يقع إذا كان المبيع أرض , لأنها تراد للدوام , وأما عداها من المنقولات فليس فيها ضرر. والقول الثاني: ثبوت الشفعة في كل شيء من المنقولات , واستدلوا على هذا بأدلة:

الدليل الأول" عموم قول النبي - صلى الله عليه وسلم - (قضى بالشفعة في كل مالم يقسم) وهذا الحديث قاعدة الباب وعليه جملة المسائل فهو حديث مهم في الشفعة حديث جابر هو أصل الشفعة , ففي الحديث يقول (قضى بالشفعة في كل مالم يقسم) وكل من ألفاظ العموم , الدليل الثاني" أنّ الضرر يقع في الإشتراك بالمنقولات كما يقع في الإشتراك بالأراضي , والشارع عندما شرع الشفعة لدفع الضرر وهي واقعة في المنقولات , وهذا القول هو الصحيح إن شاء الله أنّ الشفعة تثبت في كل مملوك على سبيل الإشتراك. الصورة الثانية" التي خرجت في كلام المؤلف الأراضي التي لاتقبل القسمة إجباراً , والأراضي التي لاتقبل القسمة إجباراً , هي كل أرض لايمكن الإنتفاع بها مع القسمة, لصغرها أو لأيّ سبب آخر , فالأرض صغيرة جداً , إذا قسمت هل يمكن أن ينتفع بها الشريكان لأنّ كل قطعة أصبحت صغيرة لاينتفع بها , فالحنابلة يرون الشفعة فيما يقبل القسمة لافيما لايقبل القسمة , الدليل قالوا أنّ النبي - صلى الله عليه وسلم - قال (لاشفعة في الرباع) وإنما قرر ذلك لصغره. القول الثاني: أنها تثبت أي الشفعة , في الأرض التي تقبل القسمة إجباراً والتي لاتقبل إجباراً , واستدلوا على هذا , بأنّ الضرر الواقع على الشريك لبيع شريكه ودخول شريك جديد في الأراضي التي لا تقسم أكبر من الضرر الواقع في الأراضي التي تقسم , وجه ذلك. أنه في الأراضي التي لاتقسم دخول الشريك الثالث. أوالشريك الثاني الجديد يكون على سبيل الدوام, لماذا على سبيل الدوام؟ لأنها لايمكن أن تقسم , فكيف نثبت الشفعة , فيما ضرره أقل, وننفيها فيما ضرره ماذا؟ أكبر والراجح إن شاء الله القول الثاني. المسألة الثالثة" الشفعة للجار وهذه سينصّ المؤلف عليها. - قال - رحمه الله - (ويتبعها الغراس , والبناء). ((الأذان)). يعني أنّ الشفعة تثبت في الغراس والبناء , تبعاً لا استقلالاً , وكما تلاحظ أنّ الشيخ صرّح بالبناء, إذا البناء في هذا الباب ليس من العقار , وثبوت الشفعة في الغراس والبناء , بناء وتبعاً للأرض محل إجماع ممن يقول بمشروعية الشفعة.

ونحن لم نذكر في بداية الباب مسألة مشروعية الشفعة , نستدركها الآن فنقول الشفعة مشروعة بالسنة والإجماع. أما السنة /فحديث جابر الذي تقدّم معنا الآن أنّ النبي - صلى الله عليه وسلم - (قضى بالشفعة في كل مالم يقسم). وأما الإجماع /فقد حكاه أهل العلم إجماعاً , عن فقهاء أنّ الشفعة مشروعة , ولم يخالف في هذه المسألة إلاّ رجل واحد وهو الأصم وخلافه لاغي وغير معتبر , أولاً لأنّ الخلاف هذا في مقابل النصّ فلا عبرة به , وثانياً أنه خالف بعد ثبوت الإجماع , فإنّ الإجماع سابق لخلاف الأصم , فلا عبرة بخلافه في الحقيقة مطلقاً , فنستطيع أن نقول أنه يوجد إجماع صحيح. نرجع إلى مسألتنا الغراس والبناء تابع للأرض , بالإجماع ممن يقول بمشروعية الشفعة. - قال - رحمه الله - (لاالثمرة والزرع). يعني لاتثبت الشفعة في الثمرة والزرع لااستقلالاً ولاتبعاً , لاتثبت مطلقاً , واستدلوا على هذا بأن الثمر والزرع لايتبع البيع فكذلك لايثبت في الشفعة , واستدلوا على ذلك بحديث جابر لأنهم يرون أنّ الحديث وارد في الأرض فقط. والقول الثاني: أنّ الشفعة تثبت في الزرع والثمر تبعاً للأرض , لأنّ الزرع والثمر تابع للأرض , وتابع الشيء يأخذ حكمه , وهذا صحيح , وهو أنه يثبت لاسيما على القول الراجح وهو أنّ الشفعة تثبت في كل شيء منقول أوثابت. - قال - رحمه الله - (فلا شفعة لجار). لاتثبت الشفعة للجار عند الحنابلة , أولاً لحديث جابر , وثانياً لأنّ الضرر منتفي بالتقسيم فإنها إذا قمست الطرق وأخذ كل منهما أرضه لم يعد هناك ضرر يلحق الجار ببيع جاره للأرض. القول الثاني: ثبوت الشفعة للجار مطلقاً , لقول النبي - صلى الله عليه وسلم - (الجار أحق بشفعة دار جاره) ينتظر بها إذا كان غائباً إذا كان طريقهما واحد , واستدلوا أيضاً بقول النبي - صلى الله عليه وسلم - (الجار أحق بسقب جاره) وحمل الحنابلة هذا الحديث الثاني لأنّ هذا الحديث الثاني صحيح في الصحيح , حملوه على البر والإحسان لا استحقاق الشفعة.

القول الثالث والأخير: أنّ الشفعة تثبت في حال وتنتفي في حال , فتثبت إذا كان بين الجارين مصالح مشتركة تتعلّق بالعقار , كأن يكون طريقهما واحدة , وليس من الصواب أن نقول أو أن نقيّد هذا القول بأن يكون طريقهما واحد , بل نقول إذا كان بين الجيران مصالح مشتركة تتعلّق بالعقار سواء كان الطريق أوغيره , فإنها تثبت ماذا؟ الشفعة للجار, وأصحاب هذا القول أخذوا بأدلة القولين فاستعملوا دليل القول الأول ودليل القول الثاني وجمعوا بينهما , وهذا القول الثالث هو الصحيح إنشاء الله لأنّ فيه كما سمعت جمعاً بين الأدلة وأخذاً بجميعها.

الدرس: (44) من البيع قال شيخنا حفظه الله: بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين. ما يتعلق بشفعة الجار تقدم معنا بالأمس وانتهينا منه. - توقفنا على قول المؤلف - رحمه الله -: - وهي على الفور. = ذهب الحنابلة إلى الشفعة على الفور. بمعنى أنها إذا لم تطلب فوراً بطلت. واستدل الحنابلة على ذلك بأدلة: - الدليل الأول: ما يروى عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: (الشفعة كحل العقال). - الدليل الثاني: أنها شرعت لدفع الضرر ولو بقيت على التراخي لدخل الضرر على المشتري لأن ملكه لا يستقر على العين التي اشتراها. = والقول الثاني: ان الشفعة تثبت على التراخي. ومعنى ذلك: أنها لا تسقط إلا إذا صدر عن الشفيع ما يدل على الرضا والعدول عن طلب الشفعة وإلا فهي باقيه. واستدل هؤلاء: - بأن الشفعة خيار ثبت لدفع الضرر فلا يسقط كخيار العيب. واستدلوا كذلك: - بأن الشفعة لا يتضرر المشتري من تراخيها لأنه في مدة الخيار ينتفع بالعين ثم إن بنى أو زرع أو غرس فإن الشفيع سيعطيه قيمة ما بنى أو غرس. فإذاً: لا ضرر على المشتري.

والراجح إن شاء الله مذهب الحنابلة وذلك لأن الضرر واقع على المشتري ولو دفع له قيمة ما بنى أو غرس لأنه من المعلوم أنه وإن دفع له قيمة ما بنى أو غرس فإنه لن يدفع له ما يقابل جهده في البناء والغرس والمتابعة فكل هذا سيذهب عليه هدراً. ثم إن القول بأن الشفعة على التراخي يؤدي إلى اضطراب عقود الناس إذ يأتي الشفيع بعد فترة طويلة ويقول: (شفعت) بعد أن جاء المشتري إلى الأرض التي اشتراها وبنى وغرس وتعلقت مصالحه فيها يأتي بعد ذلك الشريك ويشفع. وهذا لاشك أن فيه ضرر وفيه مفاسد. فقول الحنابلة في هذه المسألة إن شتء الله هو الراجح. وهو الذي تستقر به معاملات الناس. - يقول - رحمه الله -: - وقت علمه. مرادهم: (بوقت علمه). يعني: فور علمه بالبيع. فإن أخر ولو تأخيراً يسيراً بطلت الشفعة. - لأنها على الفور. فالحنابلة في الحقيقة يتجهون إلى ضبط هذه المعاملة جداً وينص الإمام أحمد على أنه إذا علم يجب أن يطلب الشفعة فوراً فإن أخر بطلت. وذلك للتوازن بين حقوق المشتري وحقوق الشفيع. ويستثنى من ذلك: ما كان من عذر. - يقول - رحمه الله -: - فإن لم يطلبها إذاً بلا عذر: بطلت. يريد المؤلف - رحمه الله - أن يبين الأشياء التي يستثنى فيها التأخير فيجوز التأخير في صورتين. ـ الصورة الأولى: إذا كان التأخير مع بقاء المجلس. ـ والصورة الثانية: إذا كان التأخير مع وجود العذر وهي المسألة التي نص عليها المؤلف. نبدأ: بالصورة الأولى/ إذا أخر مع بقاء المجلس: فالصحيح أن هذا التأخير لا يبطل حقه في الشفعة لأن الوقت المتصل في المجلس لا يعتبر تأخيراً ولا تراخياً. بدليل أن العقود التي يشترط فيها قبض السلعة قبل التفرق يكتفى فيها بالقبض أثناء المجلس ولو طال. = والقول الثاني: أنه يجب أن يطلب الشفعة فور علمه فإن أخر ولو كان في المجلس بطلت الشفعة. وهذا القول الثاني: ضعيف جداً. والقول الأول إن شاء الله أصح. - لأن التأخير في المجلس لا يدخل الضرر لا على المشتري ولا على الشفيع ولا على أطراف العقد لأن المشتري لم يتمكن في فترة المجلس أن يعمل أي شيء في الأرض التي شفع فيها المشفع. فالصواب إن شاء الله أن له أن يؤخر.

* * المسألة الثانية/ أن يؤخر بعذر. وضرب الحنابلة لهذا العذر أمثلة يتضح من خلالها أنهم يشددون في الفورية: فيقولون مثلاً: ـ من أمثلة العذر: أن يحتاج إلى دخول الحمام - هو المكان الذي أعد للاغتسال. ـ ويمثلون بقولهم: أن يحتاج أن يأكل لشدة الجوع. ـ ويمثلون بما إذا احتاج أن يؤخر ليصلي الفريضة وسنتها. ففي مثل هذه الصور يجيز الحنابلة للشريك أن يؤخر طلب الشفعة. واستدلوا على هذا: - بأن التأخير في مثل هذه الصور لا يدل على الرضا وإسقاط الحق. وألحق الحنابلة بهذه الصور ما إذا علم بالليل وانتظر إلى الصباح. ولا شك أنك لمست من خلال الأمثلة أن عندهم تشديد في مسألة الفورية لا يسمحون بالتأخير إلا بشيء أشبه ما يكون بقريب جداً من الضرورة. - ثم قال - رحمه الله -: - وإن قال للمشتري: ((بِعْنِي)). هذه المسائل تسقط فيها الشفعة أربع مسائل أو خمس مسائل تسقط فيها الشفعة. ـ إن قال: (بعني). أو (قاسمني) سقطت الشفعة. وليس له الحق بعد ذلك أن يشفع. التعليل: - قالوا: لأنه حين طلب أن يبيعه المشتري صار هذا علامة على رضاه بالشرى وإسقاط حقه بالشفعة. إذ لو كان يريد الشفعة لشفع ولم يطلب الشراء. صورة المسألة/ - حتى تتضح -: إذا اشترك زيد وعمرو في أرض وباع زيد نصيبه من الأرض. من الذي له حق الشفعة؟ عمرو. زيد باع حقه من الأرض على خالد فإذا جاء عمرو وقال لخالد تبيع علي النصيب الذي اشتريته من شريكي فحينئذ سقط جقه في الشفعة. لأن طلبه الشراء دليل على رضاه بالعقد وإسقاط حقه من الشفعة. هكذا يقول الحنابلة. = والقول الثاني: أنه لا يسقط حقه في الشفعة. - لأنه ربما ظن أنه لاحق له في الشفعة فطلب البيع بناء على ذلك. والراجح إن شاء الله مذهب الحنابلة. إلا إذا دلت القرائن على أنه الشفيع طلب البيع جهلاً بحقوقه وإلا فإن الأصل أن الشفعة تسقط.

وربما طلب الشفيع الشراء من المشتري عمداً وقصداً ليسقط الشفعة. ويكون له بذلك غرض صحيح مثل ماذا؟ مثل أن يريد أن يشتري النصيب بثمن أقل من الذي اشترى به هذا المشتري. - نحن تقدم معنا ان الشفيع إذا شفع يأخذه بنفس الثمن الذي اشترى به المشتري. ربما هو لا يريد أن يشتري بنفس الثمن فهو يذهب ليماكس المشتري الجديد من جديد لعله أن يسقط له من الثمن. على كل حال/ نقول: مهما كان السبب الصحيح؟ إن شاء أنه إذا عرض البيع فإن حقه في الشفعة يسقط إلا إذا دلت القرائن على أنه عرض لجهله. - ثم قال - رحمه الله -: - ((أَوْ صَالِحْنِي)) إذا قال الشريك للمشتري: صالحني. بطل حقه في الشفعة - سقطت. لدليلين: - الدليل الأول: أنه بطلبه المصالحة أسقط حقه لأن الطلب دليل على الرضا - لأن هذا الطلب دليل على الرضا. - الدليل الثاني: أنه بطلبه المصالحه فوت الفورية والفورية شرط من شروط طاب الشفعة. - ثالثاً: أن شراء حق الشفعة لا يجوز عند الحنابلة. فليس لمن يملك حق الشفعة أن يبيع هذا الحق. = والقول الثاني: صحة المصالحة على الشفعة. صورة ذلك/ كما قلنا يكون لزيد وعمرو - يكونون شركاء في أرض فيقوم عمرو ببيع نصيبه من الأرض لخالد فيأتي زيد إلى خالد ويقول: أنا لي حق الشفعة صالحني عنه. يعني: ادفع لي عوضاً لأسقط حقي من الشفعة. هذه صورة المسألة التي نتحدث عنها. فالقول الثاني: أن هذا يصح. لأن شراء الشفعة صحيح. الدليل على صحته: - أن الشفعة حق ثابت فجاز الاعتياظ عنه لا سيما وأنه حق مالي. وهذا القول الثاني هو الصحيح إن شاء الله فتجوز المصالحة عن حق الشفعة. - ثم قال - رحمه الله -: - أو كذب العدل. يعني: أو كذب من يملك الحق في الشفعة من أخبره بأن شريكه باع. فإذا كذبه سقط حقه في الشفعة. الدليل: - قالوا: لأنه فوت الفورية بلا عذر معتبر. والحنابلة تقدم معنا أن لهم عناية خاصة بشرط الفورية. فإذا جاء زيد من الناس لأحد الشريكين وقال: شريكك باع نصيبه فشفع فقال له: كذبت. حينئذ يسقط حقه بشرط أن يكون المخبر: عدل. وهذا صحيح.

لأنه فوت الفورية بلا عذر وأي عذر في أن شخصاً عدلاً ثقة ينقل الأخبار على وجهها يخبرك بأن شريكك باع أرضه ثم تقول كذبت بلا مبرر. هذا يسقط حقك في الشفعة. - هذا يسقط الحق في الشفعة. فمذهب الحنابلة في هذه المسألة صحيح. - ثم قال - رحمه الله -: - أو طلب أخذ البعض: سقطت. يعني: لو طلب الشريك التشفيع في بعض الأرض التي اشتريت فإن حقه في الشفعة يسقط. - لأن تبعيض الشقص المباع لا يجوز. لما فيه من الإضرار بالمشتري. صورة المسألة/ يشترك زيد وعمرو في ملك أرض مساحتها مائة متر. باع زيد نصيبه وهو خمسين متر على خالد فجاء عمرو يريد أن يشفع ليأخذ الأرض من خالد لكنه قال: لا أريد إلا نصف الخمسين - بعض الأرض -. = الحنابلة يقولون: سقط حقه في الشفعة. لماذا؟ - قالوا لأنه يدخل الضرر على المشتري لا هو الذي انتزعها كلها ولا هو الذي تركها كلها. = القول الثاني: أن حقه من الشفعة لا يسقط وطلبه للبعض يوجب أخذه الكل. فهمنا من الخلاف شيء. ما هو؟ أن أخذ البعض عند الجميع لا يصح. لأن الذين يصححون أخذ البعض يشترطون أن يأخذ الكل. وهذا صحيح فإن أهل العلم أجمعوا على أنه لا يجوز أن يشفع في البعض. فنقول: خذ الكل أو دع الكل. - ثم قال - رحمه الله -: - والشفعة: لإثنين بقدر حقيهما. يعني: أن الحق في الشفعة يتبع القدر المملوك لكل واحد. صورة المسألة/ إذا كان ثلاثة من الناس يملكون أرضاً واحدة. ثم إن أحدهم باع نصيبه. حق التشفيع لمن؟ للاثنين. = فالحنابلة يقولون: أن الاثنين يملكون حق التشفيع بقدر الملك. بقدر ما تملك بقدر ما تشفع. الدليل: - قالوا: الدليل على هذا: أن حق الشفعة تابع ثابت بسبب الملك فالملك سبب ثبوت حق الشفعة وإذا كان كذلك فيقدر به. = والقول الثاني: أن التقسيم يكون على قدر الرؤوس ولا ينظر لقدر الملك. واستدل هؤلاء: - بأن كل واحد منهم لو استقل لشفع في الكل فإذا اجتمعوا اقتسموا التشفيع. - فإذا اجتمعوا اقتسموا بالسوية حق الشفعة. والراجح إن شاء الله مذهب الحنابلة. لأن تعليلهم أقوى. المثال الذي يوضح الفرق بين القولين: / هناك مثال ذكره ابن قدامه وغيره وأخذه عنه الحنابلة ربما ذكر من قبله لكنه هو الذي بينه.

لو افترضنا أن ثلاثة يملكون أرضاً واحدة لأحدهم النصف وللآخر السدس وللثالث الثلث. وافترضنا أن الذي باع هو صاحب السدس - من يملك سدس الأرض هو الذي باع. إذاً الذي سيشفع من؟ صاحب النصف وصاحب الثلث. فإذا أردنا أن نعرف حكم المسألة عند الحنابلة فنقول/ نقسم حق صاحب السدس على الباقين وتكون المسألة من خمسة. واحدة لصاحب السدس وخمسة تقسم على الباقين. فنصيب صاحب الثلث اثنان: ونصيب صاحب النصف ثلاثة. فيأخذ هذا ثلاثة ويأخذ هذا اثنان من الأرض المشفع فيها. هذا على قول الحنابلة. وإذا أردنا أن نقسم نفس المسألة على القول الثاني: فإذا باع صاحب السدس نصيبه كيف ستكون القسمة؟ يتناصفون الباقي بالسوية. لأن عدد رؤوسهم تثنين فيأخذ كل واحد النصف. وبهذا نعرف أن الفرق بين القولين في بعض المسائل في بعض الأراضي قد يكون شاسعاً جداً. ولذلك نحن نقول إن شاء الله الراجح مذهب الحنابلة وكلما كان ملكه أكبر كلما استحق أن يشفع أكثر ويأخذ من نصيب الشريك الذي باع أكثر مما يأخذ شريكه الآخر. - ثم قال - رحمه الله -: - فإن عفا أحدهما: أخذ الآخر الكل أو ترك. في المثال السابق إذا عفا أحد الشريكين عن حقه وقال أنا لن أشفع فإن الآخر يلزم بأخذ الجميع أو ترك الجميع. فليس له أن يقول سأشفع في نصيبي فقط. ونصيب زميلي الذي تنازل عنه لن أشفع فيه فلا يطاع في هذا. لماذا؟ - لأنه - ما هي العلة؟ - لأنه لا يمكن التشفيع في البعض. فهذه المسألة راجعة لمسألة التشفيع في البعض. - ثم قال - رحمه الله -: - وإن اشترى اثنان حق واحد أو عكسه. هذه أيضاً مسائل: تصح فيها الشفعة. / إذا اشترى اثنان حق واحد فلشريكه أن يشفع في نصيب أحدهما دون الآخر. التعليل؟ - أنه قد يتضرر من أحدهما ولا يتضرر من الآخر. صورة المسألة/ كما قلنا: زيد وعمرو يملكون هذه الأرض: عمرو باع نصيبه لكم شخص؟ لشخصين. من الذي سيشفع؟ عمرو. فلعمرو أن يشفع في نصيب الاثنين الذين اشتريا وله أن يشفع في نصيب واحد. وليس هذا من تبعيض الشفعة. هذا مقصود المؤلف - رحمه الله -. لأن كل واحد منهما عقده عقد مستقل. فإن شاء شفع في الاثنين وإن شاء شفع في واحد ورضي أن يكون الآخر شريكاً له.

فإذا شفع في واحد فالقطعة التي اشتراها الاثنان تكون مناصفة بين الشفيع وبين الشريك الذي لم يشفع عليه. - قال - رحمه الله -: أو عكسه. أو اشترى واحد حق اثنين. إذا اشترى واحد حق اثنين من الشركاء الثلاثة فللشريك الثالث أن يشفع في حق أحد شريكيه دون الآخر مع أن المشتري واحد. فإذا كان زيد وعمرو وخالد شركاء وجاء رجل رابع واشترى نصيب عمرو وخالد فلزيد أن يشفع في نصيب عمرو وخالد وله أن يشفع في نصيب عمرو دون خالد أو في نصيب خالد دون عمرو. لنفس التعليل: - لأنه قد يستضر بهذه القطعة من الأرض دون تلك. أو بنصيب دون الآخر. فهو حر. إن شفع فيهما أو شفع في أحدهما. - ثم قال - رحمه الله -: - أو اشترى واحد شقصين من أرضين صفقة واحدة: فللشفيع أخذ أحدهما. أو اشترى واحد شقصين بعقد واحد فللشريك ان يشفع في أحدهما أما التعليل فقد سبق. كما في المسائل السابقة. وأما الصورة فهو أن يشترك عمرو وخالد في ملك أرضين فيقوم عمرو ببيع نصيبه من الأرضين. فإذا باع نصيبه من الأرضين فلشريكه أن يشفع في الشقصين من الأرضين وله أن يشفع في أحد الشقصين دون الآخر. - لأنه - كما سبق - تنزل هذه العقود كأنها تمت بين رجلين ولأنه قد يستضر في صورة دون الأخرى فله الحق في التشفيع في الصورتين في صورة واحدة. إذاً: اتضحت الآن معنا هذه الصور الثلاث. وكما قلت يريد المؤلف - رحمه الله - أن يبين أنها ليست من مسائل تبعيض الشفعة. - ثم قال - رحمه الله -: - وإن باع شقصاً وسيفاً أو تلف بعض المبيع: فللشفيع أخذ الشقص بحصته من الثمن. (وإن باع شقصاً وسيفاً). قاعدة هذه المسائل: أنه إن باع ما فيه شفعة وما ليس فيه شفعة. فالحكم: أنه يأخذ ما فيه شفعه بنصيبه من الثمن. ومقصود المؤلف - رحمه الله - هنا: أن يتحدث عما إذا بيع ما فيه شفعة وما ليس فيه شفعة مما لا يتبع ما فيه شفعة. لأن ما يتبع تقدم معنا: وهو مثل: الغرس والبناء. لأن الغرس والبناء يتبع الأرض - هنا يريد أن يتحدث عما إذا باع ما فيه وما ليس فيه شفعة وفي نفس الوقت ماليس فيه شفعة لا يتبع ما فيه شفعة. فهنا السيف لا يتبع الأرض وليس بينهما أي ارتباط. إذاً: لا يتبع الأرض.

الحكم: يقول: أن له أن يشفه فيما فيه شفعة وهو الشقص بنصيبه من الثمن. فإذا باع قطعة أرض ومعها سيف بمائة ألف نقول: كم قيمة السيف مفردا؟ كم قيمة الأرض مفردة؟ قالوا: قيمة السيف عشرون وقيمة الأرض ثمانون. فنقول: إذا أردت أن تشفع في هذا الشقص فتدفع نصيبه وتصحيح التشفيع في هذه الصورة مبني على مسائل تفريق الصفقة. تقدم معنا مراراً: أن الحنابلة يصححون مسائل نفريق الصفقة. فله أن يشفع في النصيب. = القول الثاني: أن له أن يشفع فيهما. فإذا افترضنا أن زيدا وعمروا يملكان في آن واحد أرضاً وسيفاً. - يشتركان في ملك الأرض والسيف. قام زيد ببيع نصيبه من السيف والأرض فلعمرو أن يشفع في السيف وفي الأرض. الدليل: استدلوا على هذا بدليلين: - الأول: ما تقدم معنا من أدلة جواز التشفيع في المنقولات. - الثاني: أنه لو افترضنا عدم جواز الشفعة في المنقولات فالشفعة هنا متعينة لئلا يدخل الضرر على الشريك. وهذا صحيح. أنه تثبت الشفعة فيهما. (طبعاً): مثال المؤلف - رحمه الله - فيه غرابة لأنه ليس هناك أي تناسب بين قطعة أرض وسيف. فغلو مثل بشيئين بينهما تناسب مما ليس بينهما علاقة اتباع أو علاقة اقتران لكان أولى. قوله: (أو تلف بعض المبيع). إذا اشترى زيد شيئاً مملوكاً على سبيل الاشتراك فللشريك الذي لم يبع أن يشفع: أليس كذلك؟ لكن الذي اشتراه زيد تلف بعضه قبل أن يشفع الشريك. فالحكم أن له أن يشفع بالقسط من قيمة الباقي. وليس عليه أن يدفع ما فات على المشتري. فإذا اشترى زيد أرضاً عليها بناء وهذا البناء مع الأرض قيمته مليون ريال ثم قبل أن يشفع الشريك الآخر انهدم البيت برمته. فأصبحت الأرض تستحق خمسمائة ألف. فإذا شفع فسيدفع قيمة الشقص مخصوماً منه ما تلف وليس له علاقة بما تلف. ففي المثال: سيدفع كم؟ خمسمائة. لأنه ليس له علاقة بما تلف لأن التالف تلف على ملك المشتري فليس على الشفيع أن يدفع ما تلف في ملك غيره. ويظهر لي أن هذه المسألة محل إجماع. لم أر فيها خلافاً. أنه ليس عليه أن يدفع إلا نصيبه من الثمن مما تبقى بعد التلف. - ثم قال - رحمه الله -: - ولا شفعة: بشركة وقف.

بدأ المؤلف - رحمه الله - الآن - بعبارة أخرى (رجع للأشياء التي ليس فيها شفعة). فلا شفعة في شركة وقف. وقبل الكلام عن الخلاف لابد أن نتصور المسألة. / صورة المسألة/ أن يشترك عمرو وخالد في ملك بيت نصفه مملوك لعمرو وهو حر - يعني: ليس وقفاً مطلقاً ونصفه مملوك لخالد لكنه على سبيل الوقف. فإذا باع عمرو نصيبه المطلق الحر الذي لم يوقف فليس لخالد أن يشفع عند الحنابلة. لماذا؟ لأن الحنابلة يرون أن الشفعة تتبع الملك والرجل الذي وقف عليه جزء من البيت لا يملك الموقوف وإن ملكه فملكه ملكاً يعتبر ملك قاصر. ولذلك لا يملك الشفعة. إذاً: مرة أخرى/ لماذا لا يملك الشفعة؟ لأن ملكه لنصيبه على سبيل الوقف وملك الوقف قاصر. = القول الثاني: أن له أن يشفع. - أولاً: لأن الموقوف عليه يملك الوقف وإن كان ملكاً قاصراً. فهو مملوك له شرعاً. - ثانياً: أن العلة التي من أجلها شرعت الشفعة موجودة في هذه الصورة. لأن الشريك الموقوف عليه قد يتضرر من دخول شريك آخر ولذلك نقول تثبت له الشفعة. * * مسألة/ إذا صححنا تشفيع المالك على سبيل الوقف وانتزع الشقص من المشتري فهل يكون ملك أو للوقف؟ الجواب: أنه يكون ملك له - يكون ملك لهذا المالك للوقف وليس ملكاً للوقف. الدليل: - قالوا: أن الذي دفع قيمة الشقص وانتزعه من المشتري هو هذا المالك للوقف من ثمنه وماله الحر فالشقص يعتبر ملكاًَ له وليس ملكاً للوقف. - ثم قال - رحمه الله -: - ولا غير ملك سابق. اشتملت هذه المسألة على شرطين لثبوت حق الشفعة. ـ الشرط الأول: أن يكون مبنياً على الملك. فمن لا يملك لا يشفع. فخرج بذلك من يملك الانتفاع دون الرقبة وربما هذا هو المثال الوحيد للمسألة. فمن يملك الانتفاع دون الرقبة لا يملك التشفيع. مثاله/ إذا أوصى إنسان لآخر بمنفعة البيت دون رقبته ثم مات فسيكون البيت مشتركاً بين الموصى إليه والورثة. فالورثة يملكون رقبة البيت والموصى إليه يملك منفعة البيت. فإذا باع الورثة نصيبهم من البيت فإنه ليس للموصى له حق التشفيع لأنه لا يملك الرقبة وإنما يملك المنفعة. ـ الشرط الثاني: سبق الملك. يعني: لا يملك الشريك التشفيع إلا إذا كان ملكه سابق للبيع.

المثال الموضح/ إذا قام زيد وعمرو بشراء البيت في وقت واحد في آن واحد فإنه ليس لأحدهما أن يشفع على الآخر. لماذا؟ لأنهما ملكا البيت في وقت واحد. ونحن نشترط لثبوت الشفعة أن يكون الملك سابق لعقد البيع. ففي المثال/ هو شفع قبل أن يملك وهذت لا يصح. في نفس المثال/ إذا اشترى زيد البيت من عمرو وأصبح شريكاً لهم ثم بعد عشر دقائق اشترى خالد هذا البيت فهل له أن يشفع؟ (أي: عمرو). أو ليس له أن يشفع؟ له أن يشفع. لأن الملك سابق لعقد البيع. إذاً لابد أن ننتبه لهذا الشرط وإن كان في الحقيقة بدهي - لن يشفع الإنسان على شريكه الذي اشترى وإياه في وقت واحد. - ثم قال - رحمه الله -: - ولا لكافر على مسلم. يعني: وليس للكافر حق التشفيع على المسلم. استدل الحنابلة على هذا الحكم بدليلين: - الدليل الأول: ما يروى عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: (لا شفعة لنصراني). وهذا الحديث: باطل. كما أن في لفظه نوع ركاكة فهو لا يثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم -. - الدليل الثاني: قال الحنابلة: نحن نقيس الشفعة في البنيان على المنع من استعلاء الكافر في البنيان على المسلم. لأن كلاً منهما حقوق تتعلق بالعقار. = والقول الثاني: ثبون الشفعة للنصراني. واستدل أصحاب هذا القول بدليلين: - الدليل الأول: عموم النصوص. فإنها لم تفرق بين مسلم وكافر. - الثاني: أن الشفعة حق يثبت تبعاً للملك لدفع الضرر فهو يقاس على خيار العيب تماماً. وخيار العيب ثابت للذمي: بالإجماع. ـ أيهما أقوى؟ يظهر لي أن القول الثاني: أقرب وأوجه. لماذا؟ بل أن الحنابلة في الحقيقة في هذه المسألة كأنهم مالوا للتعليلات العقلية مقابل النصوص الأثرية ومقابل العلة المبنية على نص وهي مسألة القياس على خيار العيب. فتعليلاتهم الأولى الحقيقة لا تنسجم مع موقف الحنابلة دائماً من أنهم يميلون للأخذ بالنصوص أو للعلل القريبة من النصوص. أشبه ما يكون هذا القول بمذهب الأحناف. قول الحنابلة في هذه المسألة أشبه ما يكون بمذهب الأحناف لأنهم يتوسعون في التعليلات. ولذلك نقول: مال الذمي محفوظ بالشرع. والشارع العظيم حفظ لهم أموالهم ودمائهم.

ومن حفظ المال حفظ الحقوق المتعلقة بالمال. وحق الشفعة من أعظم الحقوق المتعقة بالمال وهذا من سمات الإسلام البارزة - أنه حفظ لهم حتى حقوق الارتفاق أو الحقوق المتعلقة بالمال فضلاً عن صيانة أموالهم. فصل - ثم قال - رحمه الله -: - فصل. وإن تصرف مشتريه بوقفه أو هبته أو رهنه لا بوصية: سقطت الشفعة. هذا الفصل مخصص لتص فات المشتري قبل أن يطلب الشفيع الشفعة فإذا تصرف المشتري قبل أن يطلب الشفيع الشفعة فلهذا التصرف أحكام مختلفة. ـ الحكم الأول: - يقول - رحمه الله -: - وإن تصرف مشتريه بوقفه أو هبته. أو الصدقة به ونحو هذه العقود: صح التصرف وسقط الحق في الشفعة. استدل الحنابلة على هذا: - بأن إثبات حق الشفعة فيه إلحاق بالضرر بمن أخذ هبة أو صدقة أو وقفاً. وجه الضرر: أن هذا الشقص سينتزع منه مجاناً لأن العوض سيدفع للمشتري الأول ففي التشفيع إلحاق للضرر بمن أخذ الشقص هبة أو صدقة أو وقفاً. ((الأذان)). نتم الكلام عن الوقف والهبة. عرفنا الآن دليل الحنابلة وهو أنه يلحق الضرر بمن أخذه وقفاً أو هبة أو صدقه. والنبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: (لا ضرر ولا ضرار). = القول الثاني: أن تصرف المشتري بالهبة أو الوقف أو الصدقة لا يسقط حق الشفيع. وعللو هذا القول: - بأن حق الشفيع .... (نقص في التسجيل) ...... والحق السابق مقدم. ولا نحفظ حق أحد بتضييع حق الآخر لا سيما إذا كان حقه سابق. وهذا القول هو الصحيح إن شاء الله. نرجع إلى المسألة التي أشار إليها (علي). في أول الباب ذكرنا أن الانتقال إما أن يكون بعوض مالي أو يكون بغير عوض أو بعوض لكنه ليس مالي. عند قول المؤلف - رحمه الله -: (أو كان عوضه صداقاً أو خلعاً أو صلحاً عن دم عمد). وأخذنا هذه المسألة والخلاف فيها. وأن الراجح أنه يملك الشفعة. بقينا في مسألة تترتب على هذا الترجيح لم نذكرها بالأمس: إذا قلنا بثبوت حق الشفعة في أخذه بعوض غير مالي فكيف يكون تقدير العوض؟ نحن نقول: في عقد البيع العوض هو نفس الثمن الذي اشترى به المشتري هنا لا يوجد ثمن. اختلف الفقهاء في هذه المسألة: منهم: .... (نقص في التسجيل) يؤخذ بقيمته السوقية.

ومنهم من قال: يؤخذ بمقدار مهر المثل فيما إذا كان مهراً وبمقدار خلع المثل إذا كان خلعاً .. وهكذا. ولا ننظر للقيمة السوقية. والصحيح إن شاء الله: أنه ننظر إلى القيمة السوقية فنقدر هذا الشقص في السوق ويدقع الشفيع للمشتري بقدر هذا العوض. وهذا القول اختاره ابن عقيل من الحنابلة والقاضي وهو القول الصحيح إن شاء الله. لأن انتقال هذا الشقص بالشفعة على سبيل البيع فقدر كما تقدر السلع. وبهذا عرفنا كيف نقدر قيمة الشقص إذا انتزع مقابل مهر أو مقابل خلع أو قتل عمد. نأخذ مسألة نختم بها لأنها متعلقة بمسألة الوقف نرجع إلى مسائل الفصل الأول من باب الشفعة. - يقول - رحمه الله -: - أو رهنه. إذا تصرف المشتري برهن الشقص فإنه تسقط الشفعة: عند المؤلف. الدليل: قالوا الدليل: القياس على الوقف والهبة والصدقة. = والقول الثاني: أن تصرف المشتري بالرهن لا يسقط حق الشفيع بالتشفيع. واستدلوا على هذا بدليلين: - الدليل الأول: أنه تقدم معنا أن الراجح في الوقف والهبة أنهما لا يسقطان حق التشفيع. - الدليل الثاني: أنه في مسألة الرهن بالذات القول بإسقاطه أبعد. لأن العين ما زالت تحت ملك المشتري بخلاف الوقف والهبة فإن العين خرجت عن ملك المشتري. ولهذا أشار الشيخ الحارثي إلى أن القول بسقوط الشفعة بالرهن بعيد جداً عن نصوص الإمام أحمد - رحمه الله - وليس عنه نص يدل على سقوط الشفعة بالرهن ولذلك المذهب الاصطلاحي هو عدم السقوط. والله أعلم .. وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين ...

الدرس: (45) من البيع قال شيخنا حفظه الله: بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين. فصل كان الكلام في الدرس السابق عن تصرفات المشتري وأن هذا الفصل مخصص لهذه الأحكام وأخذنا إذا تصرف المشتري بالوقف وإذا تصرف بالهبة وإذا تصرف بالرهن. وتوقفنا عند تصرف المشتري بالوصية. - يقول - رحمه الله -: - لا بوصية. أي: أنه إذا تصرف المشتري في الشقص بوصية فإن هذا التصرف لا يسقط الشفعة بل تبقة حقاً ثابتاً للشفيع. وهذا مقيد بما إذا لم يقبل الموصى له قبل أخذ الشفيع أو طلبه. يعني: وإلا سقطت. واستدل الحنابلة بهذا الشرط لا تسقط الشفعة - استدلوا: - بأن الوصية عقد جائز للموصي أن يفسخه فلما كان عقداً جائزاً لم يقو على إسقاط حق الشفيع فيققى حقه ثابتاً.

وإذا أخذ الشفيع الحق من الموصى له سقط حقه في الارض وثبت حق الشفيع. وهذا معنى قوله: (لا بوصية). فتبين بهذا أن الوصية عند الحنابلة تختلف عن الوقف والهبة والرهن. - قال - رحمه الله -: - وببيع: فله أخذه بأحد البيعين. أي: وإذا تصرف المشتري ببيع فللشفيع أن يأخذه بأحذ البيعين: البيع الأول أو البيع الثاني. وكذلك لو تصرف المشتري الثاني ببيع فللشفيع أن يأخذه بالبيع الأول أو الثاني أو الثالث أو الرابع. صورة المسألة/ أن يشتري زيد نصيب عمرو من الأرض المشتركة ثم يقوم زيد المشتري ببيع النصيب قبل أن يشفع الشفيع لطرف ثان ثم يقوم هذا الطرف ببيعها لطرف ثالث فصار البيع تكرر ثلاث مرات المشتري الأول والمشتري الثاني والمشتري الثالث. وربما الرابع والخامس لكن نكتفي بالثلاثة حتى نتصور المسألة. حينئذ للشفيع أن يأخذ الشقص بالعقد الأول أو بالعقد الثاني أو بالعقد الثالث. والسبب في ذلك: أنه شفيع في جميع العقود. أي: له حق التشفيع في جميع العقود. ومن البدهي أن الشفيع سيأخذ الشقص بأقل الأسعار التي تم البيع بها. فإذا اشتراه الأول: بعشرة آلاف. ثم اشتراه الثاني من الأول بعشرين واشتره الثالث من الثاني بثلاثين واشتراه الرابع من الثالث بأرعين. فمن المعلوم أن الشفيع سيشفع في العقد الأول أو الثاني أو الثالث؟ بالعقد الأول. لأنه أقل العقود ثمناً. ثم إذا شفع في العقد الأول في المثال فإنه سيعطي المشتري عشرة. وإذا أعطاه عشرة فإنه يجب على المشتري الأول أن يعطي المشتري الثاني: عشرين. ويجب على المشتري الثالث أن يعطي المشتري الثالث: ثلاثين. فترجع الحقوق إلى أصحابها. إذاً: الخلاصة: أن للشفيع أن يشفع في أي عقد يجرى على هذه الأرض: الأول أو الثاني أو الثالث.

والمؤلف - رحمه الله - ذكر هذا الحكم لبيان أن الحكم يبقى كما هو ولو تكررت العقود. أما مسألة أنه سيشفع على المشتري الأول هذا معلوم وسبق. هو أصل الباب. لكنه - رحمه الله - أراد أن يبين أنه وإن تكررت العقود فإن حق الشفيع باقي. - قال - رحمه الله -: - وللمشتري: الغلة والنماء المنفصل. يعني: إذا اشترى شخص شقضاً من أرض مشتركة ثم شفع الشفيع وأخذ الشقص فإن غلة هذا الشقص للمشتري. والغلة: قد تكون أجرة وقد تكون ثمرة اقتنين وقد تكون أشياء أخرى. المهم أن الغلة ثابتة للمشتري. وكذلك النماء المنفصل. هو ثابت للمشتري. فلو شفع في شيء على القول بأنه يجوز التشفيع في المنقولات لو شفع في الحيوان وولد هذا الحيوان ابناً ثم شفع الشفيع فإن المولود يكون لمن؟ للمشتري. تعليل ذلك: - التعليل هو أن هذا النماء وهذه الغلة حصلت في ملك المشتري وعلى ضمانه والقاعدة تقول: (الخراج بالضمان). فلما وجد في ملكه وتحت ضمانه صار من أملاكه. وهذا الحكم صحيح. - يقول - رحمه الله -: - والزرع والثمرة الظاهرة. والزرع: أي أنه إذا اشترى الإنسان الشقص وزرع هذا الشقص زرعاً فإنه يمكون من نصيبه يعني: له مبقىً إلى الحصاد. فيجب على الشفيع أن يسمح ببقاء الزرع إلى أوان الحصاد. - لأنه ليس في هذا البقاء ضرر على الشفيع. ليس عليه ضرر في إبقائه. لألن الضرر انتهى بالتشفيع فبقي حق المشتري ثابتاً وهو بقاء الزرع إلى أوان الحصاد. وهذا أيضاً: لا إشكال فيه. * * مسألة/ = عند الحنابلة يبقى هذا الزرع بلا أجرة - يعني يبقى في أرض الشفيع إلى أوان الجذاذ بلا أجر تؤخذ من المشتري الذي سحبت منه الأرض. وعللوا هذا: - بأنه زرع في ملكه وبإذن من الشارع. وإذا زرع في ملكه وبإذن من الشارع فإنه لا يترتب على هذا أجرة. = والقول الثاني: أن على المشتري الذي شفع في نصيبه الأجرة للشفيع من حين التشفيع إلى أوان الحصاد. وعللوا هذا: - بأنه في هذه الفترة انتفع بملك غيره فوجب عليه أن يعطي أجرة ما انتفع به من الأرض. وأجابوا عن دليل الحنابلة: بأن هذا الشخص وإن كان أذن له الشارع في الزرع إلا أنه تبين أن هذه الأرض مستحقة لغيره فأخذت منه ووجبت عليه الأجرة.

ونحن لا نأخذ عليه الأجرة في الزمن الذي كانت تحت يده ولكن نأخذ الأجرة من زمن التشفيع إلى الحصاد. وهذا القول الثاني: يبدو لي أنه أقوى فيبقى الزرع لكن يدفع أجرة بقاء الزرع إلى أوان الحصاد. - قال - رحمه الله -: - والثمرة الظاهرة. أي: والثمرة الظاهرة تكون أيضاً ملكاً للمشتري. - لأنها ظهرت في ملكه. ويلحق بالثمرة الظاهرة: الثمرة التي تؤبر وإن لم تظهر. فصار للمشتري الثمار تالظاهرة التي ليس من شأنها التأبير والثمار المؤبرة إذا أوبرت. يعني: والثمار التي من شأنها التأبير متى؟ إذا أبرت. لأنها ظهرت في ملك المشتري فصارت له. - وقياساً على قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: (من باع نخلاً بعد أن يؤبر فثمرته للبائع إلا أن يشترط المبتاع). فأثبت أن الثمرة للبائع. والمشتري في التشفيع هو بمتنزلة البائع. فثبت له هذا الحكم. - ثم قال - رحمه الله -: - فإن بنى أو غرس: فللشفيع تملكه بقيمته وقلعه ويغرم نقصه، ولربه أخذه بلا ضرر. هذا حكم يختلف عن المسائل السابقة وهي: ما إذا قام المشتري بغرس الشجر أو بناء البيوت أو الغرف أو أحواش الأغنام أو أي شيء يبنى. ظاهر عبارة المؤلف - رحمه الله - أن المخير هو الشفيع لأنه - رحمه الله - يقول هنا: (فإن بنى أو غرس) فلمن؟ (فللشفيع تملكه بقيمته وقلعه ويغرم نقصه ولربه أخذه). إذاً: المخير في ظاهر كلام المؤلف - رحمه الله - هو الشفيع. والواقع أن المخير هو المشتري. فنخير المشتري ولا نخير الشفيع. تخيير المشتري كالتالي: ـ نقول للمشتري: أنت مخير بين أن: تأخذ الغرس والبناء. وبين أن تبقيه. فإن اختار أخذ الغرس والبناء فله ذلك وليس بلزم بدفع الأضرار المترتبة على الحفر وليس عليه تسوية الأرض. بمعنى: يأخذ ملكه ويمضي سواء كانت غرساً: يعني: أشجاراً أو بناء بأن يأخذ آلات ومواد البناء. وإلا من المعلوم أنه لن يأخذ البناء كما هو. وإنما لم يلزم على المشتري دفع الأضرار المترتبة على أخذ الغرس والبناء لأنه غرس وبنى بإذن الشارع فلا سيلزمه مع ذلك أن يدفع الأضرار المترتبة على أخذ ملكه الذي بناه بإذن الشارع. وهذه الصورة واضحة.

فإن اختار المشتري أن لا يأخذ الغرس أو البناء حينئذ نخير الشفيع. نخيره بين ثلاثة أمور: ـ الأمر الأول: أن يترك التشفيع من أصله. فإن لم يختر هذا: ـ فالخيار الثاني: أن يتملك البناء والغرس بقيمته. وقيمة البناء والغرس تعرف بأن نقدر قيمة الأرض بلا غرس ولا بناء وقيمتها مع الغرس والبناء والفرق بينهما هو قيمة الغرس والبناء. ـ الخيار الثالث: أن نلزم الشفيع بنقل الغرس والبناء لأرض المشتري. مع دفع الفرق الذي يحصل إضراراً بالغرس والبناء. فنقول للشفيع: الخيار الثالث أن تقوم بنقلؤ الشجر وإذا نقلت الشجر فعليك دفع الفرق الذي يحصل ضرراً على الشجر. وليس للشفيع خيار رابع فهو مخير بين هذه الثلاثة أمور فقط. وليس له أن يقول: بل أختار أن يقوم المشتري هو بنقل الغرس والبناء هذا ليس إليه. نقول نحن: أنت مخير بين هذه الثلاثة أمور فقط. لأن المشتري لم يظلم ولم يتعد وإنما أخذ بموجب الحق الشرعي وهو الشراء. فأنت مخير بين هذه الثلاثة أمور. - يقول - رحمه الله -: - فللشفيع تملكه بقيمته وقلعه ويغرم نقصه، ولربه أخذه بلا ضرر. أي الخيارات الثلاث ترك المؤلف - رحمه الله -؟ ترك الشفعة. فقد تركه المؤلف - رحمه الله - ولعله لأنه بدهي إذا اختار الشفيع ترك الشفعة انتهى وأصبحت الأرض والبناء والغرس ملك للمشتري. - يقول - رحمه الله -: - بلا ضرر. يعني: أن له أن ينقل الشحر والبناء لكن بلا ضرر. فيشترط الحنابلة أن يكون النقل بلا ضرر. واستدلوا على هذا: - بقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: (لا ضرر ولا ضرار). - ولأن الضرر لا يزال بضرر آخر. = والقول الثاني: أن له أن يزيله ولو مع الضرر. وهذا هو المذهب الاصطلاحي. واستدل هؤلاء: - بأنا لا نراعي مصلحة المشتري على مصلحة الشفيع. والذي يظهر لي أن ما ذكره المؤلف - رحمه الله - أقرب. لأن الأصل العام أن الضرر لا يزال بمثله. والمؤلف - رحمه الله - هنا لما قال: (بلا ضرر) هل يقصد - رحمه الله - أنه يختار هذا القول مخالفاً المذهب أو أنه - رحمه الله - ظن أن هذا المذهب أو وهم في أن هذا المذهب؟ أي هذه الاحتمالات أقوى؟

لم أجد أي شيء يدل على أحد الاحتمالات فيما خالف المؤلف - رحمه الله - فيه المذهب في الكتاب كله. لكن يبدو لي أنها مجموعة من الاختيارات وفي بعض المواضع - ستأتينا - ربما اليوم يظهر جلياً أن المؤلف - رحمه الله - خالف المذهب باختياره لأنه ينفي المثبت بوضوح أوضح من (بلا ضرر) مما يشعر معه الإنشسان أنه اختيار اختاره المؤلف - رحمه الله - وليس مجرد ظن أنه هذا المذهب والواقع بخلافه. إذاً: عرفنا الآن خلاصة الحكم وهو أن المخير هو المشتري في الواقع وليس الشفيع وأن المشتري إذا اختار حمل الشجر والبيت فيشترط عن المؤلف - رحمه الله - أن يكون أخذه بلا ضرر ولايشترط عند الحنابلة أن يكون أخذه بلا ضرر وأن الأقرب أن يشترط لأخذ رب الغرس والبناء من الأرض غرسه وبنائه أن يكون بلا ضرر. وأنتم أظن تصورتم هذه المسألة. الآن: إذا غرس وبنى المشتري ثم شفع المشفع وأخذ الشقص من المخير؟ المشتري: بين: أمرين ـ الترك. ـ والأخذ. إذا أخذ فالمشترط عند المؤلف؟ أن يكون بلا ضرر. وعند الحنابلة: له أن يأخذ ولو ترتب على أخذه ضرر. يعني: إذا جاء إنسان وأخذ الأرض وبنى فيها أبنية كثيرة وغرس فيها أشجار ونخيل وأصبحت نظرة وجميلة جداًَ ثم اختار أن يهدم البناء وأن يأخذ الغرس وترتب على هذا تلف الأرض ووجود الحفر وأن مخلفات الهدم المترتبة بعد ذلك ستفسد الأرض بحيث لا تسلح لا للبناء من جديد ولا للغرس لأن مخلفات البناء دائماً يكون لها ضرر. = عند الحنابلة: يقولون: خذ مالك ولو ترتب على هذا ضرر عظيم. وأنا أقول أن هذا القول كما تقدم فيه بعد. بل نقول: إذا ترتب على أخذك ضرر تأخذ القيمة وتبقي الغرس والبناء كما هو. - ثم قال - رحمه الله -: - وإن مات الشفيع قبل الطلب: بطلت. القاعدة عند الحنابلة: أن الشفعة حق لا يتثبت إلا بالطلب فإذا مات قبل أن يطلب لم يثبت له الشفعة وإذا لم يثبت الحق لم ينتقل للورثة. فإذا مات الشفيع قبل أن يطلب التشفيع فإن الحق لا ينتقل إلى الورثة لما تقدم. = والقول الثاني: ألأن الحق ثابت ولو مات قبل أن يطلب.

- لأن هذا الحق حق ثبت لدفع الضرر فيقاس على خيار العيب. خيار العيب يثبت ولو مات المشتري قبل أن يطلب خيار البيع - يثبت للورثة ولو مات المشتري قبل أن يطلب خيار العيب. فنقيس عليه حق الشفعة ونقول هو ثابت للورثة. وهذا القول إن شاء اله هو الصواب. أن حق الشفعة حق ثابت سواء مات الشفيع قبل الطلب أو بعد الطلب. وعلى المذهب كما سمعت لا يثبت إلا بعد الطلب. بناء عليه: = عند الحنابلة: إذا مات المالك قبل أن يطلب حق الشفعة فإن المشتري يكون شريكاً إجبارياً مع من؟ مع الورثة. وهذا كما ترى يبعد أن يكون من الشرع. لأن الشارع كما يريد والله أعلم بمراده - كما يريد أن يدفع الضرر عن المالك الأصلي كذلك يريد أن يدفع الضرر عن الورثة. ولا فرق بينهما ولذلك أقول هذا هو الراجح إن شاء الله. - ثم قال - رحمه الله -: - ويأخذ بكل الثمن. تقدم معنا أن الشفيع يأخذ الشقص بكل الثمن. والمقصود هنا بكل الثمن يعني: الذي استقر عليه العقد. وأما قبل استقرار العقد فإن ما يلحق العقد من زيادة أو نقص يثبت في حق الشفيع وما يلحق العقد من زيادة أو نقص بعد استقراره فإنه لا يلحق بالشفيع. مثال ذلك/ إذا اشترى الشقص ثم في زمن الخيار زاد في الثمن أو نقص منه. فهل هذه الزيادة بعد الاستقرار وإلا قبل الاستقرار؟ هذه الزيادة قبل الاستقرار. لأن العثقد لا يستقر مع وجود الخيار. فكل زيادة أو نقص يلحق بالعقد قبل استقراره كما في زمن الخيار فإنه ثابت أيضاً في حق الشفيع. الصورة الثانية/ أن تحصل الزيادة أو النقص بعد الاستقرار يعني: بعد انتهاء زمن الخيار. فحينئذ لا يلحق الشفيع هذا الحكم. مثاله/ رجل اشترى من زيد نصف الارض المشتركة بينه وبين عمرو. بمائة ألف. عقد منتهي وبات بعد ثلاثة أيام من العقد قال البائع للمشتري نقصت عنك من الثمن ثلاثين بالمائة ثم بعد هذا كله شفع الشفيع فهل يأخذ بالثمن الأول أو مع نقص الثلاثين بالمائة؟ يأخذ بالثمن الأول ولا علاقة له بالزيادة أو النقص بعد الاستقرار. علل الحنابلة هذا الحكم: - بأن الزيادة ليست إلا هبة من المشتري والنقص إلا إبراء مبتدأً من البائع. والهبة والإبراء لا تدخل بالعقود بل تختص بالموهوب والمبرأ.

وهذه مسألة مهمة. فإذا أراد البائع أن يعفي المشتري من بض الثمن فهذا الاعفاء يختص به المشتري وليس للشفيع فيه علاقة بل عليه أن يدفع كامل الثمن للمشتري ولا ينظر لقضية أن البائع أبرأه من بعض الثمن لأن هذا أمراً خاصاً بالمشتري. - قال - رحمه الله -: - فإن عجز عن بعضه: سقطت شفعته. يعني: إن عجز الشفيع عن بعض الثمن سقطت شفعته. والدليل على هذا: - أنه لا يمكن أن نثبت الشفعة مع الضرر الداخل على المشتري. لقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: (لاضرر ولا ضرار) ومن المعلوم أن اشتراء الشفيع الشقص ببعض الثمن إدخال للنقص والضرر على المشتري. ولذلك سقط حقه في الشفعة. لكن عند الحنابلة يؤجل لمدة ثلاثة أيام. فيمهل هذه الفترة فإن استطاع تأمين الثمن فذاك وإلا سقطت شفعته. واستدلوا على هذا: - بأن خيار الغبن قرر النبي - صلى الله عليه وسلم - ثلاثة أيام. وقيل يمهل لمدة يومين فقط. وقيل يمهل لمدة يقدرها الحاكم. بحيث يتمكن الحاكم من مراعاة عم وجود الضرر في حق المشتري وعدم وجود الضرر في حق الشفيع فيوازن بين الأمرين ويحدد مدة تتناسب مع ارتفاع الضرر عن الشفيع والمشتري. وهذا القول هو الصحيح إن شاء الله. إذ قد يرى الحاكم أن ينتظر عليه أكثر من ثلاثة أيام وقد يرى أن يبادر وأنه لا نحتاج إلى الانتظار لمدة ثلاثة أيام لأنه لن يستطيع دفع الثمن. * * مسألة/ حق الشفعة يسقط إذا لم يستطع تأمين الثمن أو بعض الثمن ولو أتى بضامن أو رهن. لأن الضامن والرهن يتضمن تأجيل الثمن والتأجيل في حد ذاته ضرر على المشتري لا يملك الشفيع إلزامه به. فإذاً: حتى لو أحضر رهن أو أحضر ضامن فإنه ليس له حق التشفيع. * * مسألة/ ليس للشفيع أن يشفع إذا لم يجد الثمن نقداً ولو بذل عوضاً عنه عروض تجارة. فإذا قال: بدل أن أعطيك مائة ألف سأعطيك البيت الآخر أو الأرض الأخرى أو السيارة الفلانية. فإنه لا يلزم المشتري القبول. وعلل الحنابلة ذلك: - بأن هذه معاوضة جديدة تحتاج إلى رضا الطرفين. فإذا لم يرض المشتري فليس لأحد الحق في إلزامه. وهذه المسائل صحيحة ووجيهة وهي مسائل الرهن والضامن مسألة ابدال الثمن بعروض. المسائل صحيحة وليس للشفيع أن يلزم المشتري بشيء من ذلك.

- قال - رحمه الله -: - والمؤجل: يأخذه الملي به. يعني: وللشفيع أن يأخذ بالثمن إذا كان مؤجلاً بشرط أن يكون مليئاً فإذا باع المالك الأرض على المشتري بثمن مؤجل ثم ضفع الشريك فيأخذ الشقص أيضاً بثمن مؤجل. لكن بهذا الشرط وهو: أن يكون مليئاً. استدل الحنابلة على هذا: - بأن الشفيع يأخذ الشقص بثمنه والتأجيل صفة من صفات الثمن فصارت حقاً ثابتاً له كمقدار الثمن. وهذا صحيح أن ثبوت التأجيل بهذا الشرط حق من حقوق الشفيع وليس للبائع أن يقوق إنما وضعت الأجل لأجل المشتري أما أنت فلابد أن يكون حالاً هذا ليس له أن يطلب هذا الطلب. = القول الثاني: أن الشفيع لا يملك أن يأخذ الشقص إلى بثمن حال مطلقاً. وإن التأجيل حق من حقوق المشتري لا ينتقل للشفيع. = والقول الثالث: أن للشفيع أن يأخذ بالثمن مؤجل مطلقاً يعني: ولو لم يكن مليئاً وهذا القول لائق بمن؟ بالظاهرية. لأنهم يأخذون المسائل على ظاهرها فهو يقول هذا حق ثابت فيثبت للشفيع مليئاً كان أو ليس بمليء. فيأخذون الأمر بظاهرية وجمود. والراجح مذهب الحنابلة. - قال - رحمه الله -: - وضده: بكفيل مليء. يعني: ويثبت حق التأجيل لضده وهو غير المليء بكفيل مليء. فإذا كان العقد ثبت مؤجلاً وشفع المشفع ووجدنا المشفع ليس مليئاً فإن حق التشفيع يثبت له ولكن بشرط أن يأتي بكفيل مليء. فإن لم يأت بكفيل مليء فهو مخير بين أمرين: ـ أن يأخذ بثمن حال. ـ أو أن يترك التشفيع. وهذا كما ترى أيضاً مذهب قوي. - ثم قال - رحمه الله -: - ويقبل في الخلف مع عدم البينة: قول المشتري. يقبل في الخلف قول المشتري. يعني: إذا اختلف المشتري والشفيع في قدر الثمن فالقول قول المشتري. عللوا هذا: - لأن المشتري هو من قام بإجراء العقد مع البائع فهو أعلم بالثمن. فإذا قال المشتري: اشتريت الأرض من زيد بمائة ألف وقال الشفيع بل اشتريت الأرض منه بخمسين ألف فالقول قول المشتري. لكن مع يمينه. والتعليل: - هو ما سمعت. من أن المشتري هو من أجرى العقد مع البائع. وعللا بتعليل آخر: وهو: - أن التشفيع عبارة عن بيع من المشتري للشفيع والبيع لا يكون إلا عن تراضي فيما يتعلق بالثمن.

فإذا لم يرض المشتري بخروج هذا الشقص من ملكه إلا بهذا الثمن وجب أن لا يخرج إلا به. فإذاً الدليل الثاني يعود لمبدأ الرضا وهو مبدأ كبير في البيوع. - قال - رحمه الله -: - فإن قال: ((اشْتَرَيْتُهُ بِأَلْفٍ)) أخذ الشفيع به ولو أثبت البائع أكثر. إذا قال المشتري: اشتريت الأرض بألف وقال البائع بعت الارض بألفين واتى ببينة تثبت أنه باع على المشتري بألفين فإن الشفيع يأخذ بالثمن الذي قاله المشتري أو البائع؟ المشتري. فإن الشفيع يأخذ بالثمن الذي قاله المشتري ولا علاقة له بما قال البائع. التعليل: - قالوا علة ذلك: أن المشتري صرح بتكذيب البائع وأنه ظلمه بالألف الزائدة فلا تثبت حقاً له. ومعنى هذا: أن المشتري الآن يزعم أن البائع ظلمه بزيادة ألف لأنه هو يدعي أنه اشترى بألف والبائع يقول بعتك بألفين فهو مظلوم بألف. فإذا كان يزعم أنه مظلوم بألف فإن الشفيع لا يأخذ الشقص منه إلا بما أقر به وهو الألف دون ما يزعم أنه ظلم به وهو الألف. فالمشتري الآن يزعم أن البينة كاذبة ولو ثبتت عند القاضي. إلا أنه هو يزعم أن البينة كاذبة وأنه مظلوم بالألف الزائدة فلا تثبت حقاً. وهذا صحيح. إذ ليس من المعقول أن نلزم الشفيع بثمن المشتري نفسع ينفيه. فليس على الشفيع إلا أن يدفع ألفاً وتكون القضية منحصرة بين البائع والمشتري ينهونها بينهم وليس للشفيع علاقة بهذا العقد. ومن المعلوم أن المشتري سيقول: اشتريت بألف إذا كان رجلاً صاحب دين وورع ولا يريد أن يأكل مال غيره بغير حق. ومن هنا: أريد أن أشير إلى شيء على عجل: طالب العلم ينبغي أن يتنبه له: وهو أنه ينبغي أن نتنبه إلى مسألة أن لا يستغل بعض الناس بعض الأحكام لأكل أموال الناس بالباطل. فبعض الناس يكون من أنصاف المتعلمين عنده بعض المعلومات يستغل هذه المعلومات في أكل أموال الناس بالباطل. مثاله/ هذه المسألة. لو أن المشتري رجل لا دين عنده ولا مانع ان يأكل أموال الناس فبإمكانه أن يقول: إنما اشتريت الأرض بكم؟ ( .. ) لأنه إذا قال أني اشتريت الأرض بألفين فالشفيع ملزم بأخذها بكم؟ بألفين. فإذاً يجب على طالب العلم أن يتنبه إلى مثل هذه الأمور.

باب الوديعة

وهذا المعنى أشار إليه بتوسع: ابن القيم في إغاثة اللهفان - بذكر الحيل بشكل متوسع وأحياناً يذكر حيلاً مشروعة وأحيناً يذكر حيلاً ممنوعة وأحيناً يذكر حيل لا ندري هل هو يرى أنها مشروعة أو يرى أنها ممنوعة. ولكن مفيدجداً لطالب العلم أن يقأ الحيل التي ذكرها وهي ممنوعة حتى يتصور أن بعض الناس مكن يتلاعب بالأحكام الشرعية. - ثم قال - رحمه الله -: - وإن أقر البائع بالبيع وأنكر المشتري: وجبت. يعني: الشفعة وصار من حقوق الشفيع انتزاع الشقص من البائع وذلك: - لأن البائع يدعي أنه باع والشفيع يطلب التشفيع وهو حق له فنتج من الأمرين ثبوت الحق للشفيع. وعللوا بتعليل فقهي آخر فقالوا: - أن إقرار البائع يتضمن الإقرار بحقين: ـ حق للمشتري. ـ وحق للشفيع فإذا سقط حق المشتري فإنه لا يسقط حق الشفيع. فإذاً: إذا زعم البائع أنه باع وأنكر المشتري ولم يستطع البائع أو يثبت وجود العقد مع ذلك للشفيع أن يشفع. لأن حقه ثابت بإقرار البائع. - ثم قال - رحمه الله -: - وعهدة الشفيع: على المشتري. العهدة المراد بها: ما إذا ظهر المبيع مستحقاً أو معيباً. أو بعبارة أخرى: الضمان الذي يترتب على تبين أن العين مستحقة أو معيبة. فالضمان هنا ينقسم إلى قسمين: ـ عهدة الشفيع على المشتري. لأن الشفيع انتزع الشقص ممن؟ من المشتري. فالعقد تم بين المشتري والشفيع فإذا تبين أن في العين عيب فإن الشفيع يرجع على المشتري أو على البائع الأول؟ يرجع على المشتري لأن العقد تم بينه وبين المشتري. وعهدة المشتري على البائع. لماذا؟ لأنه تم العقد بينه وبين البائع فإذا ظهر معيباً فإنه يرجع على البائع. قوله - رحمه الله - هنا: (وعدهة الشفيع على المشتري) يستثنى منها: * * مسألة/ ما هي؟ ( ... ) نحن نقول: إذا أنكر المشتري فإنه لايلزمه شيء ومع ذلك تثبت الشفعة فسيكون الأمر دائر بين من ومن؟ الشفيع والبائع. فقول المؤلف - رحمه الله - هنا: (وعهدة الشفيع على المشتري) صحيح إلا في المسألة السابقة وهي إذا أنكر المشتري. باب الوديعة - قال - رحمه الله -: - باب الوديعة. الوديعة: في لغة العرب: مأخوذة من الودع. إذا ودع الشيء يعني إذا تركه.

ومعنى الاشتقاق واضح: لأن المودع يترك الوديعة عند المودع. وأما في الشرع فهي عقد بالتبرع بحفظ مال الغير بغير عوض ولا تصرف فيه. بعض الحنابلة لا يذكر في التعريف: (ولا تصرف فيه) وبعضهم يذكرها. وأنا ذكرتها لأنها من وجهة نظري تدخل في صميم معنى الوديعة. لأنه من صميم معناها أن لا يتصرف المودع في الوديعة بأي نوع من التصرفات إلا الحفظ كما سيأتينا. وهي: أي الوديعة: مشروعة بالكتاب والسنة والإجماع. ـ أما الكتاب: فقوله تعالى: (إن الله يأمركم أن تؤدون الأمانات إلى أهلها). ـ وأما السنة: فما يروى عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: (أد الأمانة إلى من أئتمنك ولا تخن من خانك). هذا الحديث فيه كلام في ثبوته ولكن معناه لاشك أنه صحيح والحديث من عمد شيخ الاسلام في تقرير ( ... ) من المسائل. ـ وأما الإجماع فهو محكي من أكثر من واحد من أهل العلم: أنه مشروع. * * مسألة/ الوديعة في الحقيقة يشترط لها ما يشترط في الوكالة لأنها مبنية على الوكالة. فالشروط والأركان التي تقدمت معنا في الوكالة تشترط أيضاً هنا. يقول - رحمه الله -: مبتدئأً بأحكام الوديعة مباشرة وكما قلت أحياناً يعرف تعريفاً صطلاحياً وأحياناً لا يعرف. ففي هذا الباب ترك التعريف. إما لوضوحه أو لسبب آخر. - يقول - رحمه الله -: - إذا تلفت من بين ماله ولم يتعد ولم يفرط: لم يضمن. إذا تلفت الوديعة بغير تفريط ولا تعدي فإنه لا يضمن. ولو أنها تلفت هي فقط من بين سائر ماله. استدلوا على هذا: - بأن الله تعالى وصف ما يكون عند الإنسان بأنه أمانة: (إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات). والأمانة في الشرع لا تجتمع مع الضمان لأن الضمان ينافي الأمانة فحيث وجدت الأمانة انتغى الضمان ولذلك قالوا: لاضمان. = والقول الثاني: أنه لا يضمن إذا تلفت بغير تعد ولا تفريط إلا إذا تلفت هي من وسط ماله. بمعنى: إذا تلفت الوديعة وبقي ماله سليماً حينئذ نضمنه. واستدلوا على هذا بأمرين: - الأمر الأول: وجود الشبهة. إذ لماذا لم يتسلط سبب الاتلاف إلا على الوديعة دون ماله؟ - الثاني: أن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - ضمن أنس وديعة تلفت من بين ماله.

الراجح إن شاء الله مذهب الحنابلة وهو أن الوديعة لو تفلت من بين ماله لم تضمن ما دام لم يتعد ولم يفرط. باقي علينا في الحقيقة: الجواب عن أثر عمر - رضي الله عنه -: والجواب عنه من وجهين: ـ أولاً: أن هذا الأثر يتعارض مع النصوص العامة فإن النصوص العامة تدل على عدم ضمان الوديعة مطلقاً ولم تفرق بين صورة وأخرى. وهذا الجواب هو الجواب الأضعف. ـ الجواب الثاني: أنا نحمل هذه الفتوى على شيء من التفريط ولا نقول التعدي إن شاء الله لكن نقول التفريط من أنس - رضي الله عنه - والذي يجعل الإنسان يحمل هذه الفتوى على التفريط الجمع بينها وبين النصوص العامة. - ثم قال - رحمه الله -: - ويلزمه حفظها في حرز مثلها. يلزم المودع حفظ الوديعة في حرز مثلها. فإن لم يفعل فإنه يضمن. - لأن من شروط عدم الضمان أن لا يفرط. وعدم حفظها في حرز مثلها هو نوع من التفريط وإذا فرط ضمن. كما أن عدم حفظ الوديعة في حرز مثلها يتنفاى مع الأمانة. وإذا لم يوصف بأنه أمين وجد الضمان. وهذا لا إشكال فيه: يجب أن يضع الوديعة في حرز مثلها. ومن المعلوم أن حرز مثلها لم يبينه المؤلف - رحمه الله - لا في هذا الباب ولا في ما تقدمه من أبواب. وإنما سيأتي في باب السرقة. وهي ضمان الأحراز وحرز مثل كل عين بحسبه. ولا يستغرب على الحنابلة ذلك فإنه كثيراً ما يذكرون شيئاً بيانه أو متعلقه سيأتي في باب آخر لأنه لا يعنينا الآن أن نعرف حرز المثل سياتينا إن شاء الله بيانه في بابه. - ثم قال - رحمه الله -: - فإن عينه صاحبها فأحرزها بدونه: ضمن. إن عين صاحبها الحرز الذي يريد فإنه إذا وضعها في غيره يضمن. - لأنه فرط. ووجه التفريط: أنه خالف تعيين المودع وقد أخذها أمانة على أساس أن يضعها حيث أمر المودع. وهذا هو وجه التفريط والإخلال بالأمانة. مسألة/ ويضمن إذا لم يضع الأمانة فيما عينه المودع ولو وضعها في حرز مثلها. وهذا يجب أن يتنبه إليه الإنسان لكثرة وقوعه بين الناس فيقول له: ضع هذا المبلغ في المكان الفلاني فيضعه في غيره مما هو حرز لمثل هذا المبلغ ثم يسرق حينئذ يضمن. ولو أنه وضع المال في حرز المثل إلا أنه خالف الأمانة بتغيير ما أمر به المودع. - ثم قال - رحمه الله -:

- وبمثله أو أحرز: فلا. يعني: إذا وضعها في حرز يشبه الحرز الذي عينه المودع أو في حرز أحسن منه فإنه حينئذ لا يضمن. التعليل: - عللوا ذلك: بقولهم: أنه إذا وضعها في حرز مثل الحرز الذي عينه المودع: جاز. لأن تعيين المودع إذن فيع وفيما يشبهه. ـ وأما ما هو أمثل منه فهو من باب أولى. = والقول الثاني: أنه إذا وضعه في غير ما عينه صاحب الوديعة: يضمن مطلقاً ولو وضعه في مثل ما عينه أو أمثل. وعللوا ذلك: - بأن للمودع نظرة خاصة في حفظ الوديعة ربما لم يدرك المودع السبب الحقيقي لها. فيجب عليه أن يتقيد بتعيين المودع. واستدلوا بأمر ثالث وهو: - أنه قي هذه الصورة أيضاً حصلت المخالفة. مخالفة ماذا؟ مخالفة تعيين المودع وأنتم جعلتم المخالفة هي سبب في الضمان في الصورة الأولى فكذلك فلتكن سبباً في الضمان في الصورة الثانية. لأن المخالفة موجودة. أي القولين أرجح؟ وهذا أيضاً كثير جداً. يظهر لي: أن القول الثاني أقوى من مذهب الحنابلة وأنه إذا أمرك المودع بوضعها في مكان معين فيجب أن تضع الوديعة في هذا المكان ولا تغير إلى مثله ولا إلى أحسن منه. لأن هذا تقيد بأمر المودع واتفقت أنت وهو على هذا الحرز ففي الحقيقة هي مخالفة وتغيير للأمانة. وكثيراً ما نسمع الاختلاف بين المودع والمودع في هذا الأمر فيقول: نعم أنا لم أضعها فيما حددت لي لكني وضعتها في خير منه فيقول: أنا قلت لك ضعها في هذا المكان لا في غيره ويكون بينهما نزاع. فالصواب مع القول الثاني وأنه يضمن إن تلفت. ((الأذان)). - ثم قال - رحمه الله -: - وإن قطع العلف عن الدابة بغير قول صاحبها: ضمن. إذا قطع العلف عن الدابة التي أودعها فإنه يضمن. ووجه ذلك: أنه مأمور بحفظها وقد فرط بحفظها والتفريط يلزم منه الضمان. ووجه التفريط: أن من أهم أسباب الحفظ بالنسبة للبائهم: العلف والماء. فإذا فرط فيه فقد فرط بأهم أسباب الحفظ وبناء على ذلك يضمن تلف هذه الدابة. وهذا حكم واضح. وقوله - رحمه الله -: (بغير قول صاحبها). يعني: أنه لو ترك العلف بقول صاحبها فإنه لا يضمن.

وهذا صحيح لو ترك العلف فإنه لا يضمن لكن مع ذلك يحرم عليه ولو قال صاحبها اترك العلف أن يترك العلف ويحرم عليه أن يترك العلف لكن إن تركه بأمر صاحبها لم يضمن. وسبب التحريم: أنها نفس محترمة يجب أن يقوم على حفظها بالأكل والشرب. - يقول - رحمه الله -: - وإن عين جيبه فتركها في كمه أو يده: ضمن. إذا عين له حفظ الوديعة في الجيب ولكنه وضعها في كمه أو في يده فإنه يضمن. والسبب في ذلك: أن الجيب أحفظ من اليد والكم ولأن الكم يكثر النسيان وسقوط الشيء منه بسبب تنزيل اليد إلى الأرض نسياناً. فلأجل هذا كله نقول: يضمن. ويوجد أيضاً: سبب آخر وهو: ما تقدم معنا أنه إذا عين المودع مكان الحرز ووضعه في أقلٍ منه فإنه يضمن. ففي الحقيقة هذه المسألة مندرجة ضمن تلك المسألة وتدل عليها إلا أنه خصصها بالذكر لسبب ولعل السبب كثرة وقوع هذه المسألة بالذات وهي حفظ الشيء في الجيب أو اليد أو الكم. - ثم قال - رحمه الله -: - وعكسه بعكسه. يعني: إذا عين له أن يحفظها بيده أو في كمه وهو وضعها في جيبه فإنه لا يضمن. - لأنه وضعها في حرز أمثل من الحرز الذي حدده المودع. وتقدم معنا الخلاف في هذه المسألة. ربما يريد منه أن يضع الوديعة في يده لأنه لا يناسب أن تكون في الجيب تنضر بوجودها في الجيب. المهم نقول: لو ترتب على هذا تلف فإنه لا يضمن عند الحنابلة ويضمن على القول الصحيح. - قال - رحمه الله -: - وإن دفعها إلى من يحفظ ماله ... لم يضمن. معنى هذه العبارة: يعني: إذا دفع المودع الوديعة إلى من يحفظ هو: يعني: المودع ىعادة ماله عنده فإنه لا يضمن. مثل/ أن يعطيها زوجته أو يعطيها خادمه أو يحفظها في التجوري الذي اعتاد أن يحفظ أشيائه فيها ... إلى آخره. فإنه في هذه الحالة لا يضمن - لأنه بهذا لا يعتبر مخالفاً للحفظ. فإنه جرى العرف أن الإنسان يحفظ أشيائه عند زوجته أو عند خادمه من قديم الدهر إلى يومنا هذا. = والقول الثاني: أنه يضمن. - لأنه أمره أن يحفظها بنفسه ودفعها إلى غيره وفي هذا تفريط. فعلمنا من الخلاف والتعليل أنهم يدورون دائماً على مسألة هل هناك تفريط أو ليس هنا تفريط.

الراجح فيما يظهر لي في هذه المسألة: مذهب الحنابلة وهو أن الإنسان إذا دفع الوديعة إلى من يحفظ ماله عادة فإنه لا يتعبر مفرط كما أنه بوضع ماله عند هذا الشخص لا يعتبر مفرطاً. - يقول - رحمه الله -: - أو مال ربها: لم يضمن. يعني: إذا دفع المودَع الوديعة إلى رجل في العادة يحفظ رب الوديعة ماله عنده فإنه لا يضمن. مثال هذا/ أن يعطي المودع الوديعة لزوجة رب الوديعة. لأن رب الوديعة يحفظ ماله عادة عند زوجته فهو أودع هذه الوديعة عند زوجته حينئذ أيضاً لا يضمن. والخلاف السابق يأتينا في هذه المسألة. والراجح في تلك هو الراجح في هذه المسألة. لكن أريد أن أنبه إلى مسألة: وهي: أنه إذا دفع المودَع الوديعة إلى هؤلاء الزوجة والخادم - زوجته هو أو زوجة رب المال وكان العرف أن مثل هذه الأشياء لا تدفع لهؤلاء الناس وإنما تبقى في يد المودَع فإنه في هذه الصورة يضمن. وهذا كثير. والتفريق بين ما يدفع وما لا يدفع يرجع فيه إلى العرف وهو أمر معروف من الأشياء ما يمكن أن تدفع للخادم والزوجة ومن الأشياء ما لا يصلح مطلقاً أن تدفع لا للزوجة ولا للخادم. والله أعلم وصلى الله على نبينا محمد ...

الدرس: (46) من البيع قال شيخنا حفظه الله: بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين. تقدم معنا الكلام عما إذا دفع المودع الوديعة إلى شخص آخر تحدث المؤلف - رحمه الله - عما إذا دفعها إلى من يحفظ ماله يعني: مال المودع أو مال ربها وانتهينا من هاتين المسألتين. - قال - رحمه الله -: - وعكسه الأجنبي والحاكم. أي: أنه إذا دفعها المودَع إلى رجل أجنبي عنه أو إذا دفعها إلى الحاكم فإنه يضمن. هذا هو مذهب الحنابلة. واستدلوا على هذا: - بأن المودَع بدفعه إياها للأجنبي أو الحاكم خالف ولم يحفظها بنفسه. والأصل أن المودع أودعها عنده ليحفظها بنفسه. = والقول الثاني: أنه إذا دفعها إلى رجل أجنبي فإنه لا يضمن بالتلف.

- لأن المطلوب من المودَع أن يحفظها وقد حفظها بدفعها إلى رجل يحفظها. واستدلوا على ذلك: - بأن المودع قد يدفع مال نفسه إلى هذا الأجنبي. فإذا عامل الوديعة كما يعامل ماله فلا ضمان عليه. - ثم قال - رحمه الله -: - ولا يطالبان إن جهلا. يعني: لا يطالب الأجنبي ولا الحاكم بضمان الوديعة إذا تلفت إن كان جاهلاً بالحال. يعني: إذا كان لا يعلم أن هذه الوديعة هي وديعة عند من دفعها إليه. حينئذ لا يضمن. واختلفوا هل لمالك الوديعة أن يطالب بالوديعة الأول والثاني أو ليس له إلا أن يطالب الأول فقط؟ وهذا التفصيل كله مفرع على ما إذا جهل. = فالقول الأول أن لمالك الوديعة أن يطالب أياً منهما. - لأن الوديعة تلفت عند الثاني والأول هو الذي دفعها. = والقول الثاني: أنه لا يطالب إلا الأول ولو تلفت عند الثاني. - لأن الثاني أخذها بيد أمانة فلا يطالب بأدائها. وهذا القول الثاني اختيار شيخ الإسلام وهو الصواب إن شاء الله. عرفنا حكم الوديعة إذا تلفت عند الثاني إذا كان جاهلاً بقي أن نعرف الحكم إذا كان عالماً. ـ فإذا كان عالماً فإنه يضمن ويستقر الضمان عليه. ولرب الوديعة أن يطالب أياً منهما. الأول أو الثاني. وهذا الحكم وهو: أن المطالب تنصرف إليهما وأن استقرار الضمان يكون على الثاني لا إشكال فيه فهو إن شاء الله قول صحيح. - ثم قال - رحمه الله -: - وإن حدث خوف أو سفر: ردها على ربها. معنى هذا: أنه إذا حدث في البلد الذي فيه المودع والوديعة خوف من كثرة السراق أو وجود الغرق أو الحرائق أو أي نوع من أنواع الخوف. أو عزم المودع على السفر فإنه والحالة هذه يجب وجوباً أن يدفع الوديعة إلى صاحبها. وعللوا هذا: - بأنه بهذا الدفع تبرأ ذمته ولا يلحقه درك الضمان. إلا أن الحنابلة قالوا: له أن يدفعها إلى من يحفظ مال المودَع أو إلى من يحفظ مال المودِع في حال الخوف أو في حال السفر. إذاً: عرلافنا الآن أنه إذا حصل عارض فإن المودع يجب أن يرد الوديعة إلى مالكها. والتعليل سمعتموه. - ثم قال - رحمه الله -: - فإن غاب: حملها معه إن كان أحرز، وإلاّ أودعها ثقة.

(فإن غاب) يعني: إن لم يجد المودَع المودِع بحث عنه ولم يجده فإنه في هذه الحالة يجوز أن يسافر بها لكن هذا مشروط بأمرين: ـ الأمر الأول: أن يأمن عليها في السفر. ـ والثاني: أن لا يمنع المودِع من السفر بها. فإذا تحقق الشرطان جاز للمودع أن يسافر بها. وإذا قلنا: جلز للمودَع أن يسافر بها يعني: ولا ضمان عليه إن تلفت. فهم من هذا التقرير أن ظاهر كلام المؤلف - رحمه الله - أنه لا يجوز للمودع أن يسافر بالوديعة بل يجب عليه إذا أراد أن يسافر أن يدفعها إلى ربها. وهذا هو ظاهر كلام المؤلف - رحمه الله -. = والقول الثاني وهو المذهب: أنه يجوز أن يسافر بها مطلقاً لكن بالشرطين المتقدمين وهو: ـ أن يأمن عليها في السفر. ـ وأن لا يمنع ربها من السفر بها. إذا تحقق الشرطان جاز له أن يسافر بها. - ثم قال - رحمه الله -: - وإلا أودعها ثقة. يعني: وإلا تتحقق الشروط المجيزة للسفر بها فإنه يجوز أن يودعها عند ثقة. وظاهر كلام المؤلف - رحمه الله - أنه يجوز أن يودعها عند ثقة ولو تمكن من أن يودعها عند الحاكم. والمذهب أنه لا يجوز أن يودعها عند ثقة إلا إذا لم يتمكن من إيداعها عند الحاكم. وفهم من هذا أنه يجب أولاً أن يبدأ بالحاكم. لأن الحاكم ولي من لا ولي له وهو يقوم مقام مالك الوديعة فوجب أن نبدأ به. = والقول الثاني: أن له أن يدفع إلى ثقة ولو تمكن من دفعها إلى الحاكم. ولا يشترط أن نبدأ بالحاكم. - لأن هذا المودع ثقة يحفظ المال ولا يوجد ما يمنع من دفعها إليه. = والقول الثالث: أنه مخير في دفعها إلى الحاكم أو إلى الثقة بحسب المصلحة. لا بحسب التشهي. وهذا القول الثالث اختيار الشيخ المرداوي وهو قول قوي ووجيه كما ترى. فنقول: إذا أراد أن يسافر فهو مخير إن شاء دفعها للحاكم وإن شاء دفعها إلى ثقة ويرجع في ذلك إلى المصلحة الخاصة بالوديعة. - ثم قال - رحمه الله -: - ومن أُودع دابة فركبها لغير نفعها، أو ثوباً فلبسه، أو دراهم فأخرجها من محرز ثم ردها، أو رفع الختم، أو خلطها بغير متميز فضاع الكل: ضمن تبين لكم من شرح المسألتين السابقتين: أنها استثناء من قول المؤلف - رحمه الله -: (وعكسه إلى أجنبي أو حاكم).

ففي هاتين الصورتين يجوز الدفع إلى الأجنبي وهي ما إذا حصل خوف أو سفر. فإذا تأملت تجد أن هذه المسألة مستثناة من المسألة السابقة. بدأ المؤلف - رحمه الله - الكلام عن صور فيها يضمن المودَع. ـ الصور الأولى: - يقول - رحمه الله -: - ومن أُودع دابة فركبها لغير نفعها ... فالحكم أنها إن تلفت ضمنها. ومعنى أن يركبها لغير نفعها: يعني: أن يركبها لا ليسقيها ولا ليذهب بها إلى محل العلف لها. فإذا ركب الدابة لمنفعته هو لا لمنفعة الدابة ثم تلفت فإنه يضمن. ووجه الضمان: أنه متعدي. ووجه التعدي: أنه انتفع بمال غيره بغير إذنه. فالتعدي أحياناً لا يحتاج إلى دليل لوضوحه وأحياناً يحتاج إلى تعليل أو دليل ليدل على أن هذا الشخص تعدى أو فرط. إذاً: عرفنا الآن أنه يضمن: لأنه تعدى. - يقول - رحمه الله -: - أو ثوباً فلبسه. إذا أودعه ثوباً فلبسه لا لمصلحة الثوب فإنه يضمن. وهل يتصور أن يكون لمصلحة الثوب؟ الجواب: نعم. إذ من الثياب نوع إذا بقي مطوياً فترة طويلة فسد. وأصابتع من الدواب الصغيرة ما يفسده. فمثل هذا الثوب نشره ولبسه من مصلحته. فهذا لا يضمن. فإن لبسه لا لمصلحة الثوب ثم تلف فإنه يضمن. والتعليل ذاته موجود في التعليل السابق الذي عللنا به مسألة ركوب الدابة هو نفسه يعلل به مسألة لبس الثوب. - قال - رحمه الله -: - أو دراهم فأخرجها من محرز ثم ردها. إذا قام المودَع بإخراج الدراهم من المكان الذي أحرزت فيه سواء أخرجها ليخون فيها أو أخرجها لينفقها أو أخرجها لمجرد الرؤية فقط فإنه: يضمن. هذا إذا أعطيت المودَع في حرز لها ثم قام هو بإخراجها من هذا الحرز فإنه يضمن مهما كان السبب في إخراجها. وعلة التضمين: - أنه بفعله هذا تعدى. ووجه التعدي: أنه أخرج مال غيره من حرزه بلا سبب شرعي. وهذا موجب للضمان. وظاهر كلام المؤلف - رحمه الله - أنه يضمن ولو أخرجها ثم أعادها وتلفت بعد الإعادة. - لأنه بإخراجه لها ارتفع عنه وصف الأمانة ولا يرجع إليه إلا بإذن المودع. = والقول الثاني: أنه إذا أخرجها ثم أعادها كما كانت تماماً ووضعها في حرزها ولم يتعد ولم يفرط ثم تلفت فإنه لا ضمان عليه.

والمذهب أقوى. ولهذا نقول للشخص المودَع إذا أخرجت النقود من مكانها الذي أعطاك إياها فيه المودِع ثم أعدتها إلى مكانها سواء بنية الخيانة أو بنية الإنفاق أو بنية الرؤية فإنه يجب أن تجدد العقد مع المودِع حتى تكون يدك يد أمانة ولا تضمن إن تلف المال. فتعتذر من صاحب الوديعة وتخبره أنها كما هي إن شاء أبقاها وإن شاء أخذها. فإن هذا أولى من السكوت لأنه لو سكت فعلى المذهب سيضمن لو تلفت. - يقول - رحمه الله -: - أو رفع الختم ونحوه عنها. إذا جاءت الوديعة مختوم عليها أو مربوطة أو مقفل عليها ثم أزال هذه الأشياء فإنه يضمن ولو لم يخرج منها شيئاً. بل مجرد إزالة ما ربطت به يعتبر تفريطاً وتعدياً. ولذلك إن تلفت فهو ضامن لها. - لأنه تعدى بفك ما ليس له فكه. فإن حل هذه الأربطة ليس من حقوق المودع فنقول يضمن. والخلاف فيما إذا أعادها أو فيما إذا بقيت كما هي وأعاد ربطها كما كانت ثم تلفت الخلاف في هذه المسألة كالخلاف فيما إذا أخرج النقود من محرزها - الخلاف هو نفسه والترجيح متطابق. - ثم قال - رحمه الله -: - أو خلطها بغير متميز فضاع الكل: ضمن. قصده بقوله (ضاع الكل) يعني المخلوطين. إذا خلطها بغير متميز ثم ضاع الكل فإنه يضمن الوديعة. ومقصود المؤلف - رحمه الله - يعني: إذا خلطها بتعدي أو تفريط لا إذا خلطها بعذر. فإذا خلطها بتعد وتفريط فإنه يضمن. التعليل: - قالوا: أنه بخلطه للوديعه أشبه الاتلاف لأنه مع الخلط غير المتميز لن يتمكن من إرجاع الوديعة إلى صاحبها فهو بمعنى إتلافها. ولهذا يضمن. * * / فإن خلطها بغير متميز بغير تعد ولا تفريط فلا ضمان. فإن تلف المال فهو من ماله ومن الوديعة. فيكون خسارة عليه لأن بعض هذا التالف من ماله والجزء الذي هو وديعة لا يضمنه ويكون خسارة على المودع لأن يده يد أمانة ولم يفرط ولم يتعد في الخلط. لكن غالباً ما يكون الخلط بنوع من التفريط لأنه يصعب أن يختلط الزيتان أو الطحينان إلا مع نوع من التفريط لأنه كان ينبغي عليه أن يحفظ الوديعة بحيث تكون في مكان لا تختلط مع غيره. فإذا اختلطت فإنه غالباً ما يكون بسبب التفريط.

ولعله لهذا لم يشر المؤلف - رحمه الله - إلى القسم الآخر وهو ما إذا اختلطت بغير تفريط. بقي مسألة/ يقول - رحمه الله -: (إذا اختلطت بغير متميز). * * المسألة الثانية/ إذا اختلطت بمتميز. كأن تختلط دراهم بدنانير فهنا لا ضمان. لأن هذا الاختلاط لا يمنع من أداء الوديعة إلى صاحبها لو طلبها. ولأنه لا ينسب فيه إلى تفريط ولا إلى تعدي. فلو وضعت عنده دراهم أمانة وعنده هو دنانير يملكها وخلط هذه الاشياء مع بعض وجعلها في حرز مثلها ثم تلفت فإن هذا الخلط لا يوجب الضمان. لما تقدم من أنه لا يمنع أداء الأمانة. فصل - قال - رحمه الله -: - (فصل) ويقبل قول المودع: في ردها إلى ربها أو غيره بإذنه، وتلفها وعدم التفريط. قوله - رحمه الله - (يقبل قول المودع في ردها إلى ربها) مقصوده: يعني: مع يمينه. والسبب أنه يقبل قوله في ردها إلى ربها: - أنه أمين. وقد وصفه الله يعني: وصف المودع بالأمانة. (إن الله يأمركم أ {إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها} [النساء/58]. وإذا كانت يده يد أمانة فلا ضمان. وإلى هذا ذهب الجماهير - جماهير أهل العلم يرون أن القول قوله في هذه المسألة. = والقول الثاني: وهو قول المالكية ورواية عن الإمام أحمد - رحمه الله -: أن القول قول المودِع. فإذا اختلفوا في ردها فالقول قول: المودِع. وكأنهم يستدلون: - بأن الأصل عدم الرد. وهذا القول ضعيف أو ضعيف جداً. لأنه يؤدي إلى أن يمتنع الناس عن الأمانات. فإذا أدى الأمانة إلى صاحبها فلصاحبها أن يزعم أنه لم يؤدي الأمانة ثم يضمن المودَع وهو أمين وبهذا يمتنع الناس من قبول الأمانات. ولذلك في الحقيقة هذا قول مخالف للجماهير وقول ضعيف جداً. ولولا جلالة القائلين به لاعتبر قولاً شاذاًَ. قوله - رحمه الله - (أو غيره بإذنه). يعني: ويقبل قول المودع إذا ادعى أنه أدى الوديعة إلى غير المالك. وهذا معنى قوله: (أو غيره بإذنه). والسبب: هو ما تقدم: أنه أمين فإذا ادعى أنه أدى الأمانة إلى غيره يعني: إلى غير رب المال فإنه لا يضمن. = والقول الثاني: أنه يضمن. - لأنه مأمور بأداء الأمانة إلى صاحبها.

- ولأن الأصل عدم الإذن. يعني: أن الأصل عدم إذن المالك بدفع الأمانة إلى غيره. فإذا زعم أنه دفعها إلى غيره بإذن المالك فهو خلاف الأصل. وهذا القول اختاره الحارثي وهو قول جيد جداً وهو الراجح إن شاء الله وينبغي على المودَع أن لا يدفع الوديعة أبداً إلا إلى صاحبها. إلا أن يدفعها إلى غيره ببينة أو شهود. أما أن يدفعها إلى غير صاحبها فهو في الحقيقة فرَّط. إذاً: هناك فرق بين أن يقول المودَع أنه ردها إلى ربها أو إلى غيره. قوله - رحمه الله -: (وتلفها وعدم التفريط). يعني: ويقبل قوله في أنها تلفت ويقبل قوله في أنها تلفت بلا تفريط منه يعني ولا تعدي. وهذا بالإجماع ولله الحمد أنه إذا ادعى أنها تلفت بغير تعدي فالقول قول المودع. وهذه المسألة مما يضعف قول المالكية في مسألة الرد - مما يضعفه جداً لأنهم هنا يقولون: إذا ادعى أنها تلفت يقبل قوله وإذا ادعى أنه ردها فإنه لا يقبل قوله وفي هذا التفريق ضعف فقهي. - ثم قال - رحمه الله -: - فإن قال: ((لَمْ تُوْدِعْنِي)) ثم ثبتت ببينة أو إقرار، ثم ادعى رداً أو تلفاً سابقين لجحوده: لم يقبلا ولو ببينة. مقصود المؤلف - رحمه الله - بهذه المسألة أن ينكر المودع الوديعة. يعني: يجحد الوديعة. ثم لما جحد الوديعة ثبتت الوديعة ببينة أو بإقرار. فإذا ثبتت الوديعة ببينة أو إقرار ثم زعم المودع أن الوديعة تلفت في وقت سابق للجحود فإن قوله لا يقبل. فإذا أنكر الوديعة يوم الجمعة طولب بالوديعة فأنكر الوديعة. ثم ثبتت الوديعة إما بإقراره أو ببينة يوم السبت. فلما ثبتت زعم أن الوديعة تلفت يوم الخميس. فزعم أنها تلفت في وقت سابق لجحوده. حينئذ لا يقبل - لاحظ كلام الحنابلة - ولو ببينة. حتى لو أتى ببينة صحيحة تشهد فإنه لا يقبل. عللوا ذلك: - بأنه مكذب لنفسه شاهد عليها بالخيانة إذ كيف يزعم يوم الجمعة أنه لا وديعة ثم يزعم بعد ذلك أنها تلفت يوم الخميس فهو شاهد على نفسه بالكذب والخيانة فلا يقبل. = القول الثاني: أنه إذا أثبت التلف ببينة يقبل. وهو قول للحنابلة ومال إليه الحارثي.

وهذا القول ضعيف. إلا أن تقوم قرائن تدل على أن جحوده كان بسبب النسيان حينئذ يكون هذا القول قوي لأنه جحدها ناسياً ثم تذكر أنها تلفت يوم الخميس وأقام بينة. ولا يخفى عليكم أن الحديث الآن كله فيما إذا أقام بينة. أما إذا ما أقام بينة فلا يقبل مطلقاً. ولعله: إجماع. وإن كنت ما وقفت على .. - لكني لم أقف على خلاف إلا فيما إذا أتى ببينة. - قال - رحمه الله -: - بل في قوله: ((مَا لَكَ عِنْدِي شَيْءٌ)) ونحوه. - فإن قال: ((لَمْ تُوْدِعْنِي)) ثم ثبتت ببينة أو إقرار، ثم ادعى رداً أو تلفاً سابقين لجحوده: لم يقبلا ولو ببينة. هذه مسألة واحدة انتهينا منها وهي مسألة: (إذا قال: ((لَمْ تُوْدِعْنِي)) ثم ثبتت ببينة أو إقرار، ثم ادعى رداً أو تلفاً سابقين لجحوده: لم يقبلا ولو ببينة.) هذه مسألتنا التي تحدثنا عنها. ثم قال: (بل في قوله: ((مَا لَكَ عِنْدِي شَيْءٌ)) ونحوه.) يفرق الحنابلة بين ـ أن يقول: (لم تودعني). ـ وبين أن يقول: (مالك عندي شيء) - فإذا قال: (لم تودعني) فقد حجد الوديعة من أصلها وتقدم الكلام عليه. - أما إذا قال: (مالك عندي شيء) ثم قامت البينة على وجود الوديعة إما ببينة أو بإقرار ثم أقام المودع بينة أنها تلفت فإنه يقبل قوله. لأن البينةلا تتعارض مع قول المودع. ووجه ذلك: أن المودع إذا تلفت عنده الوديعة بغير تعد ولا تفريط فإنه في هذه الحالة فعلاً ليس عنده شيء للمودع. فإذاً: كلامه لا يتعارض مع البينة. وهذا صحيح. وفي الحقيقة هذا تقرير هذه المسائل وبيان الراجح فيها لكن لو قيل في مثل هذه المسائل يرجع إلى القرائن ونظر القاضي وطبيعة الدعوى وطبيعة المودع لكان هذا القول هو الراجح في الحقيقة لأن هذه القرائن والملابسات قد تدل على الصادق من الكاذب وقد تكون بخلاف ما يقرره الفقهاء. إذاً: عرفنا الآن الأحكام والراجح من حيث تقريرات الفقهاء وأقول: أنه لو قيل بالرجوع إلى الحاكم لكان هو الأولى. - ثم قال - رحمه الله -: - أو بعده بها. مقصود المؤلف - رحمه الله - أنه يقبل قول المودَع إذا ادعى أن التلف كان بعد الجحود وأقام بينة. وهذا معنى قوله: (بها). إذا ادعى أن التلف كان بعد الجحود.

ففي المثال السابق: ذكرنا أنه أنكر يوم الجمعة وزعم أنها تلفت الخميس لكن لو زعم أنها تلفت السبت لقبل قوله. وعللوا ذلك: - بأنه لا تعارض بين قوله وبين البينة. لأن البينة أثبتت وجود الوديعة يوم الجمعة ثم أثبتت البينة الأخرى أنها تلفت يوم السبت. إذاً: ليس بين البينتين تعارض. وهذا القول صحيح. وهذه المسألة مما يؤكد المسألة السابقة وهي أنه يرجع في مثل هذه المسائل إلى حنكة القاضي ونظره في الملابسات. - ثم قال - رحمه الله -: - وإن ادعى وارثه الرد منه أو من مورثه: لم يقبل إلاّ ببينة. يعني: إذا ادعى وارث المودَع. فإذاً المسألة مفروضة فيما إذا مات المودَع. فإذا مات المودَع وادَّعى الوارث أنه هو أو مورثه أدى الأمانة فإنه لا يقبل إلا ببينة. التعليل: - قالوا: أن المودِع إنما ائتمن المودَع ولم يأتمن الورثة. فعلى الورثة إذا أرادوا إثبات ذلك أن يحضروا بينة. ومن هنا نعلم أنه ينبغي على الإنسان إذا كانت عنده ودائع أن يثبتها مكتوبة موثقة حتى لا يدخل الورثة في مشاكل مع المودِع وحتى لا يضطر الورثة إلى إنكار الوديعة. فيجب أن يكون المودَع نبيهاً وأن يضبط ما يتعلق بالوديعة لأنه إن مات وقد أداها ولم يثبت أنه أداها فيستطيع المودِع أن ينكر. وهذه المسألة تشبه المسائل السابقة التي ربما يستغلها بعض الناس في التلاعب. من هنا نقول: يجب إذا أديت الأمانة أن تثبت أنك أديت الأمانة حتى لا تعرض الورثة للمسائلة. - قال - رحمه الله - - وإن طلب أحد المودعين نصيبه من مكيل أو موزون ينقسم: أخذه. مراد المؤلف - رحمه الله - يعني: إذا أودع رجلان شيئاً مشركاً بينهما عند المودَع فإنه إذا طلب أحهما نصيبه يدفع إليه بلا رضا من الشريك الآخر. لكن هذا مشروط بأن يمكن قسمة هذا الشيء المودع بلا غبن ولا ضرر عليهما. حينئذ يجب على المودع وجوباً أن يدفع نصيب هذا الرجل إليه ولا يحتاج لا إلى رضا الشريك الآخر ولا إلى استئذان الحاكم. وقيل: أنه لا يجوز ولو كان الشيء يقبل القسمة الدفع بل يجب أخذ رضا الشريك لأنهما دفعا إليه في وقت واحد. ولأن لا يحصل الخطأ في القسمة.

باب إحياء الموات

والصحيح الأول: لأنه لا معنى من هذا الاحتراز لأن الحنابلة يقولون: أنه يجب الدفع بهذا الشرط وهو أن يمكن أن تقسم بلا ضرر على أي منهما. فهم من كلام المؤلف أن الوديعة المشتركة إذا كانت مما لا يقبل القسمة فإنه لا يجوز أن يدفع المودَع إلى أحد الشريكين نصيبه إلا برضا الشريك الآخر. وهذا صحيح. لأن قسمة الشيء الذي لا يقبل القسمة يحتاج إلى اجتهاد وتخمين وتقدير لا يؤمن معه الحيف والنقص على أحدهما. فنحتاج إما إلى رضا من الشريكين أو إلى أن يقوم الحاكم هو بنفسه بقسمة هذه الوديعة. وهذا صحيح. وإذا دفع نصيب أحدهما إلى الآخر يضمن فيما إذا كانت الوديعة لا تقبل القسمة. - ثم قال - رحمه الله -: - وللمستودع والمضارب والمرتهن والمستأجر: مطالبة غاصب العين. لو أن المؤلف - رحمه الله - قال: (وللمستودع مطالبة غاصب العين وكذا المضارب والمرتهن والمستأجر) لكان أوضح. المقصود الآن بيان: حدود صلاحيات المستودع فيما إذا غصبت العين. فهو يريد أن يبين أن: المستودع. له أن يطالب بالعين المغصوبة. وكذلك المضارب والمرتهن والمستأجر. إذاً: نقول للمودَع إذا غصبت العين أن يطالب بها عند الحنابلة. ومن حقوقه أن يطالب بها. واستدلوا على هذا: - بأن المطالبة بالعين المغصوبة من جملة الحفظ المأمور به. فإذا قام به فقد قام بما هو واجب عليه. = والقول الثاني: أنها إذا غصبت فليس له أن يطالب بل المطالبة من حق المالك فقط. وعللوا هذا: - بأن المودَع عمله حفظ العين فقط. ولم يؤمر بالمطالبة فليست من حقوقه. والراجح: المذهب. وهذا الخلاف كله ينطبق على ما ذكره المؤلف - رحمه الله - من الثلاثة أصناف وهم: المضارب والمرتهن والمستأجر. هؤلاء لهم أن يطالبوا. وبهذا انتهى باب الوديعة وننتقل إن شاء الله إلى باب إحياء الموات. باب إحياء الموات - قال - رحمه الله -: - باب إحياء الموات. الموات. مشتق من الموت. والموت: هو مفارقة الحياة. أو البقاء بلا روح. ويطلق الموات أو الموت على الأرض التي لا تملك: لغة. سيأتينا في الشرع. ولو كانت مزدهرة بالزرع الذي نبت بأمر الله لكنها ما دامت ليست مملوكة لأحد فهي موات.

ثم شرع المؤلف - رحمه الله - بتعريف الموات شرعاً وكما قلت أن المؤلف - رحمه الله - تارة يعرف وتارة لا يعرف وكأنه يعرف ما يرى أنه يحتاج إلى تعريف وإيضاح. - يقول - رحمه الله -: - وهي: الأرض المنفكة عن الإختصاصات وملك معصوم. تعتبر الأرض في الشرع مواتاً إذا اتصفت بصفتين: ـ أن لا تكون من الاختصاصات. ـ ولا تكون ملكاً لأحد خاص. والمقصود: (بالاختصاصات) المرافق التي ينتفع بها وهي تابعة للعامر. فكل ما هو حول العامر مما ينتفع به للعامر فإنه من الاختصاصات التي ليست من الموات فلا يجوز أن تحيا. مثالها/ الاماكن التي يحتطب منها الناس. أو يرعون فيها بهائمهم أو ما قرب من البئر التي يشرب منها الناس كل هذه الأمور وغيرها تعتبر من الاختصاصات. ومن الاختصاصات الأرض المعدة لصلاة الاستسقاء أو لصلاة العيدين. وهكذا من خلال هذه الأمثلة يمكن أن تكون تصورت ما هي المرافق التي تحيط بالعامر من البنيان والتي لا تدخل في الأرض الموات التي يجوز إحيائها. وأما قوله - رحمه الله -: (وملك معصوم). يعني: وأن لا تكون مملوكة لأحد معين سواء الملك بإرث أو ببيع أو بهبة أو بأي سبب من أسباب الملك الشرعية. فإذا اتصفت الأرض بهاتين الصفتين فإنها موات شرعاً. - ثم قال - رحمه الله -: - فمن أحياها: ملكها. من أحيا الأرض الموات ملكها بالإجماع. ومستند الإجماع: - قوله - صلى الله عليه وسلم -: (من أحيا أرضاً مواتاً فهي له). وهو نص. ولهذا ولله الحمد لم نجد في المسألة خلاف. - ثم قال - رحمه الله -: - من مسلم وكافر. مقصود المؤلف - رحمه الله - تقرير قاعدة وهي: (أن كل من جاز أن يملك جاز أن يحيي). ولهذا يجوز لكل مسلم ولكل كافر أن يحيوا الأراضي الموات. ولكن المقصود بقوله: (كافر) يعني: الذمي. أما الكافر الحربي فغنه لا يتملك في أرض المسلمين. إذ كيف نمكنه من التملك وماله هو مباح. فإذاً: المقصود (الكافر) الذمي. - يقول - رحمه الله -: - بإذن الإمام وعدمه. يعني: سواء استأذن الإمام أو لم يستأذن الإمام فإنه يملك. واستدلوا على هذا: - بأن الحديث عام. أن كل من أحيا أرضاً مواتاً فهي له. ولم يشترط الحديث الإذن من الإمام. واستدلوا بدليل آخر:

- وهو: أن تملك الأرض بالإحياء يشبه تملك المباحات من نوع الاحتطاب ونحوه وصيد ونحوه. وإذا كانت تشبه الاحتطاب والصيد فهو جائز بلا إذن الإمام. وهذا مذهب الجماهير من الفقهاء أنه لا يشترط إذن الإمام لتملك الأرض بالإحياء. = والقول الثاني: وهو مذهب الأحناف فقط أنه يشترط لتملك الأرض أن يأذن الإمام. واستدلوا على هذا: - بأن للإمام نظر في تحديد الأراضي التي هي من مصالح العامر والأراضي التي ليست من مصالح العامر. وإذا كان له نظر في تحديد هذه الأراضي اشترط إذنه. ةظاهر الحديث عدم الاشتراط. وأظن أن العمل الآن على الاشتراط على أنه يشترط للإحياء أخذ الإذن. - قال - رحمه الله -: - في دار الإسلام وغيرها، والعنوة كغيرها. يعني: أنه يجوز التملك: سواء أحيا الأرض التي في دار الإسلام أو أحيا الأرض التي خارج دار الإسلام أو أحيا الأرض التي فتحت عنوة أو أحيا الأرض التي فتحت صلحاً. في كل هذه الصور الإحياء صحيح. والدليل على هذا: - العموم. وأنه لا يوجد مخصص للنص. وإذا لم يوجد مخصص للنص فإن القاعدة إعمال القاعدة: (إعمال النص على عمومه). وعمومه يدل على هذا. وهو أمر واضح. - ثم قال - رحمه الله -: - ويملك بالإحياء: ما قرب من عامر، إن لم يتعلق بمصلحته. المؤلف - رحمه الله - يريد أن يتحدث عما قرب من العامر ولا يريد أن يتحدث عما بعد من العامر. ولهذا يقول - رحمه الله - هنا: (ويملك بالإحياء: ما قرب من عامر إن لم يتعلق بمصلحته). الأراضي القريبة من العامر تنقسم إلى قسمين: ـ القسم الأول: أن تتعلق بها مصالح العامر. فهذه لا يجوز لأحد أن يتملكها. لأن هذا التملك يضر بمصالح الساكنين في العامر. والأحكام الشرعية مبنية على أنه لا ضرر ولا ضرار. ولأن في تملك هذا النوع من الأراضي افتيات على ملاك ما قرب منها. ـ القسم الثاني: ما قرب من العامر لكن لم تتعلق به مصالحه. فليس مرعىً لأهل العامر ولا مكاناً للاحتطاب ولا تتعلق به اي مصلحة من مصالح العامر. فهذا يجوز إحياؤه. واستدلوا على جواز الإحياء: - بأن النص العام يتناول هذا النوع من الأراضي وإن كانت قريبة .. (الأذان).

= القول الثاني: أنه لا يجوز تملك الأراضي القريبة ولو لم تتعلق بها مصلحة العامر. واستدلوا على هذا: - بأنه وإن لم تتعلق بها الآن ربما تعلقت بها في وقت قريب. فأدى التملك إلى الإضرار. والراجح: القول الأول. إلا أن يرى ولي الأمر أن التملك في بعض الأراضي القريبة يضر في القريب العاجل بعامر البنيان فله أن يمنع من ذلك. لأن لا يدخل الضرر على أصحاب العامر. - ثم قال - رحمه الله -: - ومن أحاط مواتاً. بدأ المؤلف - رحمه الله - ببيان صفة الإحياء: يعني: كيف يحصل الإحياء؟ أو بماذا يكون الإحياء؟ - فيقول - رحمه الله -: - ومن أحاط مواتاً .. يعني: فقد أحياه. فأفادنا المؤلف - رحمه الله - أن إحاطة الأرض الموات بحائط يعتبر إحياء له. والمقصود بالحائط: يعني: الذي يمنع من دونه. وليس مقصودهم أي حائط ولو كان قصيراً بل المقصود ما يمنع الدخول إلى الأرض. وسواء أحاط الأرض ليزرعها أو ليربي فيها الماشية أو ليبني فيها أياً ما كان فالإحاطة تعتبر إحياء. واستدلوا - رحمهم الله - على ذلك: - بقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: (من أحاط أرضاً فهي له). وهذا الحديث في أسانيده ضعف لكن كثير من المعاصرين يصححونه بمجموع الطرق. فهذا الحديث نص على أن الإحاطة تعتبر إحياء. ولم يبين المؤلف - رحمه الله - بماذا تكون الإحاطة؟ أي: هل يشترط للإحاطة أن تكون من مواد معينة أو الإحاطة تكون حسب الجدر المبنية في كل زمان. هذا القول الثاني هو المراد: أن الإحاطة ربما تكون باللبن أو بالخشب أو بالسعف - حسب ما تحصل الإحاطة به وحسب غرض المحيط. ربما أحاطها ليبني وربما ليزرع وربما ليربي الماشية ولكل من هذه الأغراض ما يناسبه من الحائط. = القول الثاني - في كفيفة الإحياء أنه يرجع فيها إلى العرف. - لأن الشارع الحكيم قرر أن من أحيا أرضاً فقد ملكها ولم يبين كيفية تفصيلية للإحياء فنرجع فيه إلى العرف. فما اعتبر في العرف إحياء فهو إحياء وما لا فلا. وهذا القول الثاني هو الصحيح لأنه ليس في النصوص ما يدل على تعين الإحاطة وأما هذا الحديث فهو إن صح لا يدل على أن الإحياء لا يكون إلا بالإحاطة. لأن ذكر بعض أفراد العموم بحكم يوافق العموم لا يعني تخصيصه بالحكم. والله أعلم وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أحمعين.

الدرس: (47) من البيع قال شيخنا حفظه الله: بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين. ما زال الكلام في كيفية إحياء الموات وذكرنا في الدرس السابق التعليق على قول الماتن أن الإحياء يتم بالإحاطة. واليوم ننتقل إلى النوع الثاني من الإحياء وهو حفر البئر: - فيقول المؤلف - رحمه الله -: - أو حفر بئراً فوصل إلى الماء. إذا حفر الإنسان بئراً في الأرض الموات ووصل إلى الماء فإنه بهذا الوصول يعتبر أحيا الأرض. إذ بإخراج الماء فيها تيسرت سبل الإحياء. لكن الفقهاء يرون أن إخراج الماء هو بحد ذاته إحياء. وفهم من كلام المؤلف - رحمه الله -: (فوصل إلى الماء) أنه لو حفر فيها بئراً ولم يصل إلى الماء فليس بإحياء ولو حفر. وهذا هو المذهب. لكن إذا حفر البئر ولم يصل إلى الماء فحكمه أنه يأخذ حكم التحجير. وهو - أي: التحجير - الشروع في الإحياء قبل إتمامه. ولم يذكر المؤلف - رحمه الله - حكم التحجير والشروع في الإحياء وإن كان صاحب الأصل ذكره وهو مهم لأنه سيأتينا أنا نحتاج إلى حكمه في أكثر من مسألة. فحكم التحجير والشروع في الإحياء هو: ـ أن المتحجر يكون أحق بهذا المكان من غيره مع عدم الملك. هذا هو الحكم. ويتفرع على هذا: ـ أن المتحجر لا يجوز له أن يبيع لأنه لم يملك الأرض إلا أنه مع ذلك أحق من غيره بهذه الأرض التي حفر فيها بئراً ولم يصل إلى الماء. - ثم قال - رحمه الله -: - أو أجراه إليه من عين ونحوها، أو حبسه عنه ليزرع: فقد أحياه. إذا أجرى الماء إلى الأرض أو حبس الماء عن الارض ليزرع: فقد أحيا. فبإجراء الماء إلى الأرض تيسرت السبل لإحيائها سواء أجرى الماء من نهر أو من عين أو من أي مصدر من مصادر المياه. وكذلك إذا حبس الماء عن الأرض فيما إذا كان حبس الماء عنها من أسباب صلاحها فإن بعض الأراضي من صلاحها واستعدادها وقبولها للزراعة أن يحبس الماء عنها.

فإذا حبس الماء أو أجرى الماء فإنه يعتبر بهذا أحيا الأرض. * * مسألة/ والإحياء يكون بإجراء الماء أو بحبس الماء لا بالزرع. فقول المؤلف - رحمه الله -: (ليزرع) هذا بيان للغاية من إجراء الماء وليس بياناً لما يحصل الإحياء. الإحياء في الواقع يحصل بإجراء الماء أو حبسه لا بالزرع. فإن زرع زرعاً مجرداً عن إجراء الماء فليس بإحياء عند الحنابلة. إذاً: مجرد الزرع لا يعتبر من الإحياء غند الحنابلة. تقدم معنا في المسألة التي في الدرس السابق أن الإحياء يرجع فيه إلى العرف. وأن هذا القول هو الراجح. لكن المقصود الآن تقرير المذهب وهو أنهم لا يرون الإحياء بالزرع. وإنما بإجراء الماء أو بحبسه. فتحصل عندنا من الطرق: ـ الإحاطة. ـ وحفر البئر. ـ وإجراء الماء. ـ وحبس الماء. هذه أربع طرق للإحياء. - ثم قال - رحمه الله -: - ويملك حريم البئر العادية: خمسين ذراعاً من كل جانب، وحريم البديّة: نصفها. تقد معنا أن الإنسان إذا حفر البئر فقد أحيا الأرض. لكن المؤلف - رحمه الله - لما ذكر أن هذا من أسباب الإحياء لم يبين إلى أي حد يحيي. فإذا حفر البئر في هذه الأرض: ماذا يملك من الأرض؟ هنا أراد المؤلف أن يبين المساحة التي تملك بحفر البئر. وهي مسألة متممة جداً لمسألة الإحياء بحفر البئر. فإنه لا ينتفع بمسألة الإحيار بحفر البئر إلا بتقري هذه المسألة. = فالحنابلة يرون: التفريق بين البئر العادية والبئر الابتدائية. - فيقول - رحمه الله -: - ويملك حريم البئر العادية: خمسين ذراعاً من كل جانب، وحريم البديّة: نصفها. البئر العادية هي البئر القديمة وهي منسوبة إلى عاد ولا يقصد تخصيص النسبة بعاد وإنما أصبح كل أمر قديم ينسب إلى عاد. والمقصود بالبئر العادية: يعني التي حفرت ثم انطمرت ثم أعاد هو حفرها. ويقصد بالئر البدية التي استحدث حفرها من جديد ولم تكن محفورة من قبل. فحريم البئر العادية خمسون ذراعاً. وحريم البئر البدية: النصف. خمس وعشرون ذراعاً. الدليل: - قالوا الدليل على هذا: ان النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (حريم البئر العادية خمسون ذراعاً وحريم البئر البدية خمس وعشرون ذراعاً). وهذا الحديث نص في المسألة.

إلا أن الإشكال أن هذا الحديث مرسل والمرسِل له هو سعيد بن المسيب - رحمه الله -. والمرسل كما تعلمون من أقسام الحديث الضعيف إلا أنه مع ذلك استدل به الإمام أحمد - رحمه الله -. السبب في ذلك: أن الإمام أحمد والإمام ابن معين ربما غيرهم لكني أنا وقفت على كلام الإمام أحمد وكلام ابن معين يقولون أنه أصح المراسيل مراسيل سعيد بن المسيب. أضف إلى هذا أمر أشار إليه الحافظ الحاكم وهو قوله: إن الحفاظ المتقدمون نظروا في مراسيل سعيد بن المسيب فوجدوها صحيحة متصلة. وهذا حكم هلى جميع المراسيل والحاكم إمام حافظ وينسب الحكم للحفاظ لا إلى نفسه. من مجموع هذين الأمرين: انطلق الإمام أحمد فأخذ بهذا الحديث واستدل به واتكأ عليه. وهذا صحيح: ما دام مراسيل سعيد بن المسيب بهذه المثابة من القوة والمتانة والصحة والثبوت فإن الاستدلال بها سليم ولا غبار عليه. = القول الثاني: ان حريم البئر هوم المقدار الذي يحتاج إليه في إخراج الماء منها. وهذا اختيار القاضي أبو يعلى من الحنابلة. - يقول - رحمه الله -: هذا هو الحد. واستدل هؤلاء: - بقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: (حريم البئر قدر الرشا). يعني: أنه بقدر ما يسحب الحبل لإخراج الماء يكون حريم البئر. وهذا الحديث ضعيف. وتلاحظ الآن - أو نستطيع أن نقول قاعدة: (أن الإمام أحمد يقدم المرسل القوي على الحديث الضعيف). وما نقول هنا الحديث الضعيف خير من المرسل لأنه حديث مرفوع إلا أنه ضعيف والمرسل لم يتصل إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - بل إن الإمام أحمد - رحمه الله - يقول: المرسل القوي خير من الحديث الحديث. هو لم يقل هذه القاعدة بالتصريح لكن يفهم هذا من طريقة تفقه الإمام أحمد - رحمه الله -. لهذا نقول: الراجح إن شاء الله مذهب الحنابلة وهو أن حريم البئر هو هذا المقدار المذكور في الحديث. ومادام ليس في الباب إلا هذا المرسل إلا عن هذا التابعي الجليل فهو مكان للاستمساك والاعتبار. (الحريم) هو: ما يكون حول البئر. حريم الشيء ما يكون حوله. ولذلك نحن نقول: (حريم العامر) يعني ما يكون حول البلد العامر من الأراضي. وحريم البئر يعني: ما يكون محيطاً بالبئر من الجوانب.

* * مسألة/ هذا التحديد فيما إذا حفر البئر للسقي. أما إذا حفر البئر ليزرع فله ما حول الأرض مما يريد أن يزرعه ولو كان أكثر من خمسين ذراعاً أو خمساً وعشرين ذراعاً بالنسبة للعادية والبدية. إذاً: هذا التحديد فيما إذا كان يريد السقي. أن يأخذ هو ويسقي غيره. وأما إذا كان يريد أن يزرع فمن المعلوم أنه يأخذ من الأرض القدر الذي يريد أن يزرعه مما هو حول البئر. - قال - رحمه الله -: - وللإمام إقطاع الموات لمن يحييه ولا يملكه. فهم من كلام المؤلف - رحمه الله -: أنه ليس للإمام إقطاع العامر لأنه خص الإقطاع بالموات. = وهذا مذهب الحنابلة: وهو أنه لا يجوز للإمام أن يقطع العامر إلا لمصلحة معتبرة فإذا انتفت المصلحة فللإمام أن يسحب الأرض المقطعة ممن أعطيها. = والقول الثاني: أن للإمام أن يقطع العامر لكن قالوا: لمصلحة بيت المال. واستدلوا على هذا: - بأن الإمام يستطيع أن يعطي مالاً من بيت المال فالأراضي نوع من الأموال فكذلك يستطيع أن يعطيها من شاء. والواقع انه ليس بين القولين فرق يذكر. لأنه قيد في القولين وجود المصلحةز فإذاً بين القول الثاني والذمهب تقارب كبير جداً ويعود القولان إلى مسألة اعتبار المصلحة. - يقول - رحمه الله -: - وللإمام إقطاع الموات لمن يحييه ولا يملكه. الإقطاع: في اللغة هو التمليك والإرفاق. وفي الشرع: إعطاء الإمام أرضاً لمن ينتفع بها. والإقطاع مشروع بالسنة الصحيحة: - لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - أقطع بلال بن الحارث ووائل بن حجر - رضي الله عنهما -. فإذاً: الإقطاع مشروع. يقول - رحمه الله -: (وللإمام إقطاع موات لمن يحييه ولا يملكه). أفادنا المؤلف: أن الإمام إذا أقطع رجلاً أرضاً فإن هذا الرجل لا يملك الأرض بمجرد أن يقطعه إياها الإمام. بل يتوقف الأمر على إحيار الرجل للأرض. واستدل الحنابلة على هذا: - بأن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - لما ولي الخلافة وجد أن بلال بن الحارث أحيا بعض الأرض التي أقطعه إياها النبي - صلى الله عليه وسلم - وترك بعضها لم يحييه فسحب منه الجزء الذي لم يحييها ولو كان بلال يملك الأرض بمجرد الإقطاع لم يأخذ منه عمر - رضي الله عنه - شيئاً من الأرض.

ودليل الحنابلة واضح وقوي. = القول الثاني: أن الإنسان إذا أقطع أرضاً فإنه يملك الأرض بمجرد الإقطاع. واستدلوا على هذا: - بأن الإقطاع يفهم منه في اللعة والعرف: التمليك. فإذاً: يثبت بمجرد الإقطاع. وهذا القول وإن كان ظاهرة القوة إلا أنه ضعيف. والسبب في ضعفه: أنه مصادم لهذا الأثر الصحيح عن عمر بن الخطاب. وإذا كان عمر - رضي الله عنه - قام باسترجاع الأرض فلاشك أن هذا أمر أقره عليه الصحابة ولم ينكروا عليه هذا الأمر فهو أشبه ما يكون ثابتاً بالاستفاضة لا سيما وأن عمل الخلفاء الراشدين يكون مشهوراً بين الصحابة. على كل حال: الراجح مذهب الحنابلة. - قال - رحمه الله -: - وإقطاع الجلوس في الطرق الواسعة ما لم يضر بالناس، ويكون أحق بجلوسها. (وإقطاع الجلوس) لابد أن ننبه إلى أن الإقطاع ينقسم إلى قسمين: ـ القسم الأول: إقطاع الإحياء وهو الذي تكلمنا عنه الآن. ـ والقسم الثاني: إقطاع الإرفاق وهو الذي أشار إليه المؤلف - رحمه الله - بقوله: (وإقطاع الجلوس في الطرق الواسعة ما لم يضر بالناس، ويكون أحق بجلوسها). للإمام الحق في إقطاع الإرفاق كما أن له الحق في التمليك أو الذي يسميه بعض الفقهاء إقطاع الموات. إقطاع الموات هو إقطاع التمليك. لكن الحنابلة لا يسمونه إقطاع تمليك. لماذا؟ لأنهم لا يرون أن الملك يثبت بمجرد الإقطاع. إقطاع الإرفاق هو أن يعطي الإمام رجلاً من الناس مكاناً عاماً لينتفع به. كأن يعطيه رحبة المسجد التي خارج حدود المسجد. أو أن يعطيه مكاناً في السوق فارغاً. وما شابه هذه الأماكن التي يرتفق فيها الناس بالبيع والشراء غالباً. فإذا أعطيها صار أحق بها من غيره وصار حكمها حكم التحجر ونحن تقدم معنا حكم التحجر وهو أنه لا يملك إلا أن المتحجر أحق به من غيرها. قال الإمام أحمد - رحمه الله - من أقطعه الإمام فهو أحق ومن غيره إلى الليل. فإذاً يظل استحقاقه من الصباح حيث أفطعه الإمام إلى أن تغيب الشمس. وهذا حق من حقوق الإمام. والدليل على ذلك: - أن للإمام نظر فيمن يكون بقائه أضر على الناس وفيمن يكون بقائه أقل ضرراً على الناس. ولهذا: فله أن يقطع زيد ويمنع عمرو لأن زيداً أقل ضرراً على الناس من عمرو.

فلما كان للإمام هذا النظر صار من حقوقه أن يقطع إقطاع الإرفاق. - ثم قال - رحمه الله -: - ومن غير إقطاع: لمن سبق بالجلوس ما بقي قماشه فيها وإن طال. (ومن غير إقطاع). مقصود المؤلف - رحمه الله - أنه كما يجوز للإنسان أن يجلس في المكان الذي أقطعه إياه الإمام كذلك له أن يجلس ولو لم يقطعه الإمام في الأماكن الواسعة التي لا تضر بالناس. ويكون أحق بهذا المكان ما دام متاعه فيه. فإن رفع المتاع صار غيره له الحق في الجلوس في المكان. إذاً: هذه المسألة الأخيرة: هي أن للإنسان أن يجلس وينتفع في المكان العام ولو بلا إقطاع من الإمام بشرط أن لا يكون في جلوسه أذىً للناس. وهو أحق بهذا المكان ما لم يرفع متاعه. وقول المؤلف - رحمه الله -: (ما لم يرفع متاعه). هذا هو الفرق بين انتفاع الإنسان بالمكان بسبب إقطاع الإمام وبين انتفاع الإنسان بسبب أنه جلس بلا إقطاع. والفرق هو: أنه إذا أقطع الإمام رجلاً من الناس فإنه أحق بهذ المكان ولو قام عنه ولو رفع متاعه. فهو أحق به لأن الإمام أقطعه إياه. أما إذا جلس هو بلا إقطاع فهو أحق بالمكان لكن ما لم يرفع متاعه. ثم أشار المؤلف - رحمه الله - إلى مسألة أخيره وهي: قوله - رحمه الله -: (وإن طال). يعني: وإن طال بقائه في هذا المجلس ولو لمدة أيام فإنه يكون أحق بهذا المكان من غيره ولو طال. واستدل أصحاب هذا القول: أنه أحق بغير وإن طال: - بقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: (من سبق إلى ما لم يسبق إليه مسلم فهو أحق به). وهذا الحديث صحيح. وهذا الرجل سبق إلى هذا المكان فهو أحق به من غيره ولو طال. = والقول الثاني: وهو المذهب: فالمؤلف - رحمه الله - خالف المذهب في هذه المسألة: القول الثاني: أنه هو أحق به إلا إن طال لأن طول بقاء الإنسان في هذا المكان يؤدي إلى ما يكون أشبه شيء بالتملك والتملك لا يجوز في المرافق العامة. فإذا طال بقائه في هذا المكان صار كالمتملك والتملك لا يجوز. قلت لكم فيما سبق: أن المؤلف - رحمه الله - يخالف المذهب وأنه لمخالفته عدة احتمالات وأن الأقرب منها أن ما يذكره المؤلف - رحمه الله - أشبه ما يكون بالاختيار.

هذا الموضع يقوي جداً أن المؤلف - رحمه الله - إذا خالف أنه يكون أشبه ما يكون بالاختيار. والسبب: أن المؤلف - رحمه الله - يقول هنا: (وإن طال) فتشعر من عبارة المؤلف - رحمه الله - أنه أراد المخالفة وأنه لم يكتب هذا الكلام سبق قلم أو وهم أو نسيان ويؤكد هذا أن المؤلف - رحمه الله - في الإقناع وافق الحنابلة. يعني: في كتابه الآخر وافق الحنابلة وذكر كما يذكر كل الحنابلة أنه له المكان ما لم يطل البقاء في هذا المكان. ثم نأتي فنجد هنا أن المؤلف - رحمه الله - خالف ما ذكر هو نفسه في الإقناع مما يشير إلى أن ما يذكره في الزاد نوع من الاختيار. يعنيك هكذا يظهر لي. فأنا لم أجد أحداً تكلم عن مخالفات المؤلف - رحمه الله - وعن سبب مخالفة المؤلف للمذهب في كتابه الزاد لكن يظهر لي أنه نوع من الاختيار وودت أن أجد كلام لا سيما المتقدمين عن سبب مخالفة المؤلف - رحمه الله - للمذهب الاصطلاحي. - قال - رحمه الله -: - وإن سبق اثنان: اقترعا. يعني: وإن سبق اثنان إلى المكان الذي يباح اتخاذه من المرافق العامة فالحكم أن يقترعا. - لأنهما استويا في السبق. وإذا استويا في السبق استويا في الاستحقاق لأن سبب الاستحقاق هو السبق فلما استويا فيه لم يوجد ما يخرج بهما عن الإشكال إلا إجراء القرعة فإذا اقترعا من أصابته القرعة جلس في هذا المكان. - ثم قال - رحمه الله -: - ولمن في أعلى الماء المباح: السقي، وحبس الماء إلى أن يصل إلى كعبه، ثم يرسله إلى من يليه. مقصود المؤلف ان يتحدث عن مسألة كثيراً ما تقع في القديم وهذه المسألة هي: ( .......... ) في التشاح به. فإن الحكم إذا وقعت هذه المسألة: أن من في أعلى الماء يسقي إلى أن يبلغ الماء حد كعب الرجل ثم يترك الماء لمن بعده ومن بعده يسقي كذلك إلى أن يبلغ الماء الكعب من الرجل ثم يترك الماء لمن بعده وهكذا الثاني والثالث. ولو أدى ذلك إلى انتهاء الماء عن الثاني أو عن الثالث فالحكم يبقى كما هو ولو انتهى الماء عمن يليه. إذاً: عرفنا .... وعرفنا أن المسألة مفروضة فيما إذا كان الماء قليلاً يحصل فيه المشاحة فإذا حصلت المشاحة فالحكم هو هذا الذي سمعت. الدليل على هذا التفصيل الدقيق:

- أن هذه المسألة وقعت في عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - وأفتى فيها. وذلك أن رجلاً من الأنصار اشتكى إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - في الزبير بن العوام فقال: إن الزبير يسقي قبلي فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - اسقي يا زبير ثم دع الماء لجارك. هذه الفتوى الأولى. فقال الأنصاري: - لعله مع الغضب - أن كان ابن عمتك يارسول الله. فتلون وجه النبي - صلى الله عليه وسلم - واشتد غضبه ثم قال: اسق يازبير إلى أن تبلغ الجدر ثم دع الماء. ما معنى الحديث؟ معنى الحديث: ان النبي - صلى الله عليه وسلم - أفتاه أولاً بأن يأخذ دون حقه الواجب وهو أن يسقي السقي المعتاد ولو لم يصل الماء إلى الجدر فلما اعترض الأنصاري على هذا الحكم العدل الذي فيه مراعاة للإنصاري استوفى النبي - صلى الله عليه وسلم - حف الزبير الشرعي فأمره أن يسقي إلى أن يبلغ الماء إلى الجدر ثم يترك الماء إلى جاره. لكنا نجد المؤلف - رحمه الله - يقول: (إلى أن يصل إلى كعبه ثم يرسله إلى من يليه). فالتحديد بالوصول إلى الكعب أخذ من أنهم حبسوا مقدار ما يصل إليه الماء من الجدر فوجدوه إلى الكعب فأخذوا هذا حكماً مسلماً. فإذاًك نقول هذا هو الحكم. فمن في أعلى النهر أحق ممن دونه ممن هو أسفل منه وهكذا تتدرج القضية ولو انتهى الماء عن الأخير. وبهذا عرفنا الحكم إذا حصلت المشاحة بينهم على الماء. - ثم قال - رحمه الله -: - وللإمام دون غيره: حمى مرعى لدواب المسلمين، ما لم يضرهم. الحمى: هو أن يمنع الإمام الناس من الرعي في منطقة محددة بحيث تكون خاصة لماشية الزكاة أو خيول الجهاد. ولاشك أنهم ذكروا هذا كالتمثيل. لأن غالب مواشي بيت المال في العهد النبوي وفي ما بعده غالبها إما أن تكون صدقات أو تكون خيولاً معدة للجهاد. فإذاً: الآن الحمى هو أن يمنع الإمام الناس من الرعي في مكان معين ويخصصه لبهيمة الأنعام الزكاة ولخيول الجهاد. وكون الإمام يحمي هذا ثابت بالنص والإجماع - أو بأدق: (كون النبي - صلى الله عليه وسلم - يحمي هذا ثابت بالنص والإجماع).

باب الجعالة

ـ أما النص: فقوله - صلى الله عليه وسلم -: (لا حمى إلا لله ولرسوله) فأثبت - صلى الله عليه وسلم - الحمى له حقاً من حقوقه - صلى الله عليه وسلم -. ـ وأجمعت الأمة على ذلك. لكن اختلفوا فيما إذا حمى غير النبي - صلى الله عليه وسلم - من الأئمة الذين يأتون بعده. = فذهب الحنابلة: إلى أن الأئمة كلهم يملكون الحق في الحمى وأن الحديث جاء لتقرير مبدأ الحمى لا لحصره على النبي - صلى الله عليه وسلم - وأيضاً قالوا: الحديث جاء لتقرير حق الحمى للنبي - صلى الله عليه وسلم - كإمام فإذا جاء إمام بعده فله نفس الحق. = والقول الثاني: أن الحمى خاص بالنبي - صلى الله عليه وسلم - وأن من بعده لا يملك أن يحمي. واستدلوا كما هو معلوم: - بقوله: (لا حمى إلا لله ورسوله). فهذا الحديث خص الحمى بالله ورسوله. والراجح مذهب الحنابلة: والسبب في ذلك: أن عمر بن الخطاب وعثمان وعلي كلهم حموا. وهذا لاشك دليل قاطع أن الحمى ليس خاصاً بالنبي - صلى الله عليه وسلم - وإنما يتناول كل إمام ياتي من بعده فله الحق في أن يحمي. يقول - رحمه الله -: (وللإمام دون غيره: حمى مرعى لدواب المسلمين ما لم يضرهم). يشترط في حمى الإمام أن لا يضر بالناس. لعموم قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: (لا ضرر ولا ضرار). فإن الإمام كما أن عليه أن يراعي الأموال الزكوية من بهيمة الأنعام وخيول الجهاد كذلك عليه أن يراعي مصالح الناس. فلا يجوز أن يحمي حمىً يترتب عليه أذية وإضرار للناس. بهذا ينتهي باب إحياء الموات وننتقل إلى باب الجعالة. باب الجعالة - قال - رحمه الله -: - باب الجعالة. الجعالة: مشتقة في اللغة من الجعل. والجعل: معناه هو ما يعطاه الإنسان على أمر يفعله. فكل ما يعطاه الإنسان على أمر يفعله فيعتبر جعلاً. في لغة العرب. وأما في الاصطلاح فذكره المؤلف - رحمه الله - وسنتكلم عليه. والجعالة عقد مشروع: لقوله تعالى: (ولمن جاء به حمل بعير وأنا به زعيم). فهذه الآية نص في وضع عوض مالي لمن يعمل عملاً معلوماً أو مجهولاً كما سيأتينا.

فإذاً الجعالة عقد مشروع للآية ويدل على مشروعيتها: أن الحاجة تمس إلى هذا العقد لأن الأعمال منها ما هو معلوم ومنها ما هو مجهول ولو اكتفينا بعقد الإجارة لما أمكن للإنسان أن يعقد عقداً على عمل مجهول لأنه ليس في العقود الشرعية ما يفي بهذا فيما لو أبطلنا عقد الجعالة. = والقول الثاني: أن عقد الجعالة لا يشرع. - لما فيه من الجهالة والغرر وعدم معرفة العاقبة. وهذا قول ضعيف جداً ومخالف لجماهير الفقهاء كما أنه مخالف لظاهر القرآن. والراجح إن شاء الله أنه عقد مشروع. - قال - رحمه الله -: - وهي: أن يجعل شيئاً معلوماً لمن يعمل له عملاً معلوماً أو مجهولاً مدة معلومة أو مجهولة. هذا تعريف الجعالة: (هي: أن يجعل شيئاً معلوماً لمن يعمل له عملاً معلوماً أو مجهولاً مدة معلومة أو مجهولة). ـ قوله - رحمه الله -: (هي أن يجعل) يشترط في الجاعل: أن يكون من جائزي التصرف: بالغ - عاقل - رشيد. فإن لم يكن من جائزي التصرف فإن عقد الجعالة لا يصح منه لأنه من العقود المالية التي لا تصح إلا من جائز التصرف. ـ يقول - رحمه الله -: (شيئاً معلوماً) يشير المؤلف - رحمه الله - بهذا إلى اشتراط معلومية الجعل وأنه لا يجوز أن يكون مجهولاً. ومعلومية الجعل تكون: بما تعرف به الأجرة في عقد الإجارة. فما ذكرناه هناك من الأشياء التي يجب أن يتصف بها مبلغ الأجرة تأتي معنا في الجعل تماماً. الدليل على وجوب معرفة الجعل: - هو أن الجعل بعد إتمام العمل يكون لازماً في حق الجاعل ولا يمكن الإلزام بالمجهول. وهذا صحيح ولاشك فيه فلا يجوز للإنسان أن يقول من ر د عليَّ بعيري فله شيء. أو فله متاع - كلمة متاع - أو فله كما يقول بعض الناس - فله مبلغ مالي. هذا لا يجوز والعقد باطل. وغالباً بل يكاد يكون دائماً محل نزاع: لأن العامل يقدر عمله كثيراً والجاعل يقدر العمل قليلاً يرى أنه عمل قليل والعامل يرى أنه عمل عملاً كثيراً وينعكس هذا الاختلاف على تقدير العوض. ولذلك لاك أنه يشترط أن يكون الجعل معوماً. ـ قال - رحمه الله -: (لمن يعمل له عملا معلوماً أو مجهولاً) العمل في الجعالة ينقسم إلى قسمين:

- القسم الأول: أن يكون العمل لإيجاد معدوم. كأن يكون بناء حائط أو خياطة ثوب. - القسم الثاني: أن يكون لرد مفقود. كأن يكون لرد الآبق أو لرد الشارد. وسواء كان العمل من القسم الأول أو من القسم الثاني فإنه يجوز أن يكون مجهولاً. العلة: عللوا هذا: - بأن عقد الجعالة عقد جائز والعقد الجائز لا يلزم منه الإلزام وإذا لم يكن هناك إلزام جازت الجهالة فإن الجهالة تتنافى مع الإلزام فإذا لم يكن إلزام جازت الجهالة وإذا وجد الإلزام منعت الجهالة فعقد الجعالة عقد جائز. إذاً لا إلزام فيه. إذاً: يجوز فيه أن يكون العمل مجهولاً. واستدلوا بدليل ثان وهو أيضاً صحيح ومفيد: - وهو أنهم قالوا: غالباً ما يكون العمل في عقد الجعالة لا يمكن تقديره. فإذا قال: من رد عليَّ جملي فله كذا وكذا. لا ندري هل الجمل في مكان قريب أو في مكان بعيد؟ وهل سيتمكن العال من إحضاره بسهولة؟ أو بصعوبة؟ وهل سيخسر عليه جهداً ووقتاً كبيراً؟ أو جهداً ووقتاً قليلاً. هذا لا يمكن تقديره. لأنه جمل شارد لا يمكن تقدير وضعه. وهذا هو معنى الحاجى التي لأجلها ذهب الجماهير إلى مشروعية عقد الجعالة. ـ قوله - رحمه الله -: (مدة معلومة أو مجهولة). يعني: يجوز أن يعقد عقد الجعالة على مدة معلومة: كأن يقول: من رد إليَّ جملي في أسبوع هذا صحيح. بعد الأسبوع لو رده لا يملك شيئاً. ويجوز أن يقول: من رد عليَّ جملي في أي وقت شاء فله كذا وكذا. وهذه مدة مجهولة. والدليل على جواز جهالة المدة هو الدليل السابق تماماً. فإن جهالة المدة مساوية لجهالة العمل في الحكم والدليل. - قال - رحمه الله -: - كرد عبد ولقطة وخياطة وبناء حائط. هذه الأمثلة الأربعة هي أمثلة لعقد الجعالة. والضابط العام: هو ان نقول: (كل ما جازت الأجرة عليه جازت الجعالة عليه). (وكل ما حرمت الأجرة عليه حرمت الجعالة عليه). فلا يجوز عقد الجعالة على عمل محرم كما أن الأجرة لا تجوز على أمر محرم. ولا يجوز عقد الجعالة على قربة من القرب كما أنه لا يجوز عقد الإجارة على قربة من القرب. الخلاصة: أن كل ما جاز عقد الإجارة عليه جاز عقد الجعالة عليه. ولا فرق بينهما.

وإذا لا حظت ستجد أن المؤلف - رحمه الله - مثل لكل قسم من أقسام العمل في الجعالة بمثالين: فقوله: (كرد عبد ولقطة) هذا من القسم الأول أو من أمثلة القسم الثاني:؟ الثاني. وقوله: (وخياطة وبناء حائط) من أمثلة القسم: الأول. وهذا من حسن التأليف في الحقيقة أنه يمثل مراعياً استيفاء الأقسام. فمثل على كل قسم بمثالين. - قال - رحمه الله -: - فمن فعله بعد علمه بقوله: استحقه. أفدنا المؤلف - رحمه الله - بهذه العبارة مسألتين: * * المسألة الأولى/ أن الإنسان إذا عمل العمل وانتهى استقر حقه في الأجرة. لأنه عمل لغيره بعقد صحيح فلما انتهى العمل استحق العوض. * * المسألة الثانية/ أن هذا العمل لابد أن يكون بعد العلم. فإن عمل لغيره قبل العلم فلا شيء له. لماذا؟ استدلوا على هذا: بأنه عمل في ملك غيره بغير إذنه فهو شرعاً متبرع. إذاً: يشترط لاستحقاق الأجرة في الجعالة أن يكون العمل تم بعد العلم. فإن كان قبل العلم فلا شيء له. ولو كان تسليم العمل بعد العلم. المهم أن يكون العمل كله بعد العلم. أما التسليم فلا علاقة له. فإذا رد الجمل بلا علم بالجعالة ولما دخل المدينة عرف أن صاحب الجمل وضع عليه جعالة وسلمه إليه فلا يستحق شيئاً. وإن كان سلكه بعد العلم. لأن العمل وقع متى؟ قبل العلم. - قال - رحمه الله -: - والجماعة: يقتسمونه. يعني: إذا اشترك جماعة في إنجاز العمل فإنهم يقتسمون العوض. والتعليل: - أنهم اشتركوا في العمل فاشتركوا في العوض. وهذا مخصوص بما إذا لم يقل الجاعل إذا رد زيد الجمل فله كذا وكذا. فإن عين في العقد من يعمل فإن من عمل غيره لا يستحق شيئاً ولو عمل بعد العلم ولو أحضر المطلوب. لأن الجاعل حدد العامل فقال: (إن أحضر زيد الجمل فله كذا وكذا. أما إذا قال: من أحضر الجمل فله كذا وكذا واشترك جماعة في إحضاره فهم يشتركون في العوض. - ثم قال - رحمه الله -: - وفي أثنائه يأخذ قسط تمامه. يعني: وإذا علم في أثناء العمل بأن صاحب العمل وضع جعلاً فإنه يستحق القسط من علمه ولكن هذا مشروط بأن ينوي بعد العلم العمل مقابل هذا العوض. فإن لم ينو فهو متبرع.

وقول المؤلف: (بقسطه) لا يدل على المناصفة فإذا قال: من بنى لي هذا الجدار فله كذا وكذا وبدأ هذا الرجل بالبناء قبل العلم فلما انتصف في البناء علم ثم أتم الجدار بنية أخذ العوض فليس القسط في هذه الصورة هو النصف. لماذا؟ لأن العمل في أسفل الجدار أصعب من العمل في أعلى الجدار. وأحياناً تنقلب الصورة فيكون العمل في أعلى الجدار أصعب من العمل في أسفل الجدار لأن الأعلى يصعب الوصول إليه. إذاً: القاعدة أنا نعتبر المشقى وعدمها في تقدير استحقاق العامل وليس الأمر بالمناصفة دائماً. كذلك لو ذهب لرد البعير الشارد وكان نصف الطريق صعب جداً ونصفه اللآخر سهل جداً فإنه إذا علم بعد قطع النصف فسيأخذ أكثر أو أقل من النصف؟ أقل لأن الباقي الذي يستحق عليه العوض أسهل من الذي عمله قبل العلم. - ثم قال - رحمه الله -: - ولكل فسخها. صرح المؤلف - رحمه الله - أن العقد عقد جائز. لكن نلاحظ هنا أن اللمؤلف - رحمه الله - يقول: (ولكل فسخها). وفي مواضع أخرى من العقود الجائزة يقول: (وهو عقد جائز) ثم نشرح وهو عقد جائز: نقول: (يعني لكل فسخها) فلماذا المؤلف - رحمه الله - هنا صرح بهذا الحكم؟ لعله صرح بهذا الحكم لأن كون الجعالة جائزة من أركان عقد الجعالة. يعني من الأحكام المهمة في الجعالة أنها جائزة. بينما عقد الوكالة: عقد جائز أو لازم؟ جائز. وعقد المضاربة؟ جائز. لكن الجواز في عقد المضاربة وعقد الوكالة ليس من الأحكام المهمة في عقد المضاربة. أقول لعل المؤلف - رحمه الله - بالحكم هنا لهذا السبب. الجعالة عقد: إذاً: نقول جائز وإلى هذا ذهب الجماهير. واستدلوا على هذا: - بأن عقد الجعالة لا إلزام فيها. وما لا إلزام فيه فهو جائز. واستدلوا على هذا: - بأن العمل في الجعالة يصح أن يكون مجهولاً وهذا لا يكون إلا في العقود الجائزة. = القول الثاني: وهو قول لبعض المالكية وليس هو المذهب. أن عقد الجعالة لازم من الطرفين. - قياساً على الإجارة. وهذا القول ضعيف أنك إذا جعلت عقد الجعالة ىتقيسه على عقد الإجارة في كل شيء نتج عن هذا أنه لا يوجد عقد اسمه جعالة لأنه صار عقد الجعالة هو عقد الإجارة إذاً هذا القول ضعيف.

= القول الثالث: أنه لازم من جهة الجاعل دون العامل. واستدلوا على هذا: - بأن في هذا الحكم رفع للضرر عن العامل حتى لا يعمل ثم يلغي الجاعل العقد بعد العمل. والراجح مذهب الحنابلة. مذهب الجماهير الحنابلة وغيرهم من أهل العلم. هو أنه عقد جائز من الطرفين وهذا هو الراجح. والجواب عن دليل القول الثالث: أن الضرر كما يتصور في حق العامل يتصور في حق الجاعل. إذاً لا يمكن الاستدلال من شق واحد. - قال - رحمه الله -: - فمن العامل: لا يستحق شيئاً. يعني: فإن كان الفسخ من العامل فإنه لا يستحق شيئاً لأنه أسقط حق نفسه بنفسه. وإذا أسقط الإنسان حق نفسه بنفسه فلا شيء له. بناء على هذا: لو جاء العامل وبنى كل الجدار لم يبق إلا آخر صف من اللبن أو من البلوك ثم ترك العمل فإنه لا يستحق شيئاً مطلقاً. لأنه أسقط حقه بنفسه. واستدلوا على هذا أيضاً: - بأنه لم يوفي ما شرط عليه وهو العمل المتفق عليه. هكذا قرر الحنابلة وفي الحقيقة أنه لم أجد بعد البحث البسيط لم أجد خلافاً في المسألة. كأن هذا الأمر مذهب الجماهير لكن يظهر لي أنه لو قيل بأنه يعطى بمقدار عمله ما لم يكن فسخه إضراراً بالجاعل لكان قولاً متوجهاً. وإن بحثها بعضكم فهذا شيء جيد - إن بحث الحكم: إذا فسخ العامل العقد هل يستحق شيئاً من الأجرة أو بالإجماع كما قال الحنابلة أنه لا يستحق لو أن بعضكم بحثها لكان طيباً. - قال - رحمه الله -: - ومن الجاعل بعد الشروع: للعامل أُجرة عمله. يعني: وإذا كان الفسخ من قبل الجاعل بعد الشروع فللعامل أجرة المثل. فهم من كلام المؤلف - رحمه الله - أنه إذا كان قبل الشروع فلا شيء له. وهذا صحيح. وإنما لم ينص عليه المؤلف لأنه معلوم. فإذا فسخ الجاعل العقد قبل الشروع فلا شيء للعامل لأنه لم يبدأ العمل ولم يصدر منه ما يستحق عليه الأجرة. أما إن فسخ بعد الشروع فإنه للعامل أجرة المثل لأنه عمل عملاً تعاقد فيه مع صاحبه فاستحق العوض مقابله. ((الأذان)). فهم من كلام المؤلف - رحمه الله - أن له أجرة المثل وليس القسط من الجعل لأن عقد الجعالة بطل بفسخ الجاعل له ولم يعد له أي أثر على الأجرة.

= والقول الثاني: أن له بقسطه من الجعل ولو فسخنا عقد الجعالة لأن العامل إنما عمل مقابل اجعل المسمى لا مقابل أجرة المثل فنعتد بالجعل لا بأجرة المثل سواء كانت أجرة المثل أكثر أو أقل من الجعل. وإلى هذا القول ذهب الشيخ العلامة عبد الرحمن السعدي وهو قول قوي كما ترون وهو الراجح إن شاء الله. وعلم من قول المؤلف - رحمه الله -: (ومن الجاعل بعد الشروع). أنه يجوز للجاعل بعد الشروع في العمل أن يفسخ العقد والخلاف الذي تقدم معنا في كون العقد جائزاً أو لازماً إنما هو إذا كان قبل الشروع في العمل. نأتي إلى الخلاف إذا كان بعد الشروع: فاختلفول على قولين: = القول الأول: وهو للجماهير أيضاً: أنه يجوز فسخ العقد بعد الشروع وقبل الشروع يعني: يسوون بين المسألتين فيجوز مطلقاً. = والقول الثاني: وهو مذهب المالكية الاصطلاحي - هناك قلنا أنه ىقول للمالكية. هنا نقول هذا هو المذهب الاصطلاحي أنه بعد الشروع في العمل ليس للجاعل أن يفسخ العقد. لأن في هذا إضراراً ظاهراً بالعامل لأنه شرع الآن بالعمل. وأنا أقول أن مذهب المالكية في مسألة بعد الشروع فيه وجاهة وإن كانت المسألة تحتاج إلى مزيد تأمل لكن فيه وجاهة بأن نمنع الجاعل من فسخ العقد متى شرع العامل في العمل. - ثم قال - رحمه الله -: - ومع الإختلاف في أصله أو قدره: يقبل قول الجاعل. الاختلاف في أصله هو أن يزعم الجاعل أنه لم يشترط للعامل شيئاً ويزعم العامل أنه اشترط له شيئاً مقابل عمله. فالقول قول الجاعل. وإلى هذا ذهب الجماهير واستدلوا على هذا بأن الأصل براءة الذمة والأصل العدم فلا يمكن أن نلزم الجاعل بما لم يجعل على نفسه. واستدلوا بدليل آخر وهو أن هذا يفضي إلى أن يقوم الإنسان بعمل ويلزم غيره بالأجرة مدعياً أنه تم بينه وبين هذا - أي صاحب العمل - عقداً مسبقاً وهذا يؤدي إلى الإضرار والتلاعب. إذاً نقول هذا صحيح. إذا اختلفوا في أصله فالقول قول الجاعل. - ثم قال - رحمه الله -: - أو قدره. إذا اختلفوا في قدره أو في جنسه أو في نوعه فالقول أيضاً قول الجاعل: = عند الحنابلة. واستدلوا: - بذات الدليل/ وهو أن الأصل عدم الزيادة.

= والقول الثاني: أنهما إذا اختلفا يتحالفان ويسقط قول كل منهما ونرجع إلى أجرة المثل. والخلاف في قولهم أجرة المثل كالخلاف السابق. = والقول الثالث: أنه إن ذكر أحدهما جعلاً معلوماً معتاداً قبل بيمينه. وإن لم يذكر أحدهما جعلاً معلوماً معتاداً أو ذكر كل منهما جعلاً معلوماً معتاداً فإنهما يتحالفان ويسقط العقد ونرجع إلى أجرة المثل. وهذا الثالث من أقوال المالكية وهو الصحيح في الحقيقة قول قوي ووجيه ويتوافق مع معطيات الواقع. فإذا ادعى أحدهما شيئاً معقولاً مقبولاً قبلناه مع يمينه وإلا تساقطا وتحالفا ورجعنا إلى أجرة المثل. - ثم قال - رحمه الله -: - ومن رد لقطة أو ضالة، أو عمل لغيره عملاً بغير جعل: لم يستحق عوضاً إذا عمل لغيره بغير عقد ولا جعل فإنه لا يستحق شيئاً لأنه تقدم معنا أن من عمل لغيره بغير إذنه فهو في الشرع متبرع. فهذا الشخص لا يستحق هذا العوض لكونه عمل بلا عقد سابق. هذا والله أعلم وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه ..

الدرس: (48) من البيع قال شيخنا حفظه الله: بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين. ((نقص من أول الدرس - في التسجيل)) .... العوض ولو بلا اتفاق مسبق. ومن أمثلة هؤلاء: الملاح والحجام. فهؤلاء وضعوا أنفسهم لهذا العمل فإذا عمل لغيره ولو بلا اتفاق مسبق فإنهه يستحق أجرة المثل. هذا معنى قول المؤلف - رحمه الله - هنا: (ومن رد لقطة أو ضالة، أو عمل لغيره عملاً بغير جعل: لم يستحق عوضاً) ذكرت إذاً هذا الأمر الذي يستثنى من هذه الجملة وهي: ما إذا كان الإنسان قد أعد نفسه لهذا العمل. ويستثنى أيضاً من هذا من يخلص متاع غيره من الهلكة فهذا يستحق أيضاً أجرة المثل. والسبب: - أن في ذلك تشجيعاً للمسلم على المحافظة على مال أخيه. ولذلك استثناه الحنابلة وجعلوا له الأجر ولو أنه خلصه بلا اتفاق مسبق. فهاتان مسألتان تستثنيان من كلام المؤلف - رحمه الله -. ـ المسألة الثالثة/ نص هو على الاستثناء:

- فقال - رحمه الله -: - إلاّ ديناراً أو اثني عشر درهماً: عن رد الآبق. أي: أنه يستثنى من عدم استحقاق العوض إذا عمل لغيره بغير اتفاق ما إذا رد الآبق. فهو مستثنى ونصوا أيضاً على العوض ولم يجعلوه مفتوحاً حسب أجرة المثل فهو يقول - رحمه الله - هنا: (ديناراً أو اثني عشر درهماً) فمن رد العبد الآبق استحق الدينار ولو بلا اتفاق مسبق. واستدل الحنابلة على هذا الحكم بأمرين: - الأمر الأول: الآثار المروية عن ثلاثة من الصحابة وهم: عمر وعلي وابن مسعود رضي الله عنهم أجمعين. وهذه الآثار فيها ضعف إلا أن أجودها أثر ابن مسعود فهو إن شاء الله ثابت كما أن ضعف أثر عمر وعلي يسير. - والدليل الثاني: استدلوا: بأن هذا المعنى روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - فإنه روي عنه: (أن من رد الآبق فله ديناراً). وهذا الحديث مرسل لا يثبت مرفوعاً إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -. - والدليل الثالث: أن في رد الآبق منعاً لشرده. فإنه إذا ترك الآبق شارداً فغالباً ما يسعى في الأرض فساداً ففي رده كف لهذا الفساد. - الدليل الرابع: أن العبد الآبق إذا لم يرد فإنه يخشى أن يلتحق بالكفار. فهذه أربع أدلة استثنى بها الحنابلة ما إذا رد العبد الآبق بلا اتفاق فأوجبوا له الأجرة بلا عقد مسبق. = والقول الثاني: أنه إذا رد العبد الآبق فلا شيء له ما لم يتفق مع صاحب العبد. واستدلوا: - بأن هذا عمل بغير اتفاق مسبق ومن عمل لغيره بغير إذنه فلا أجرة له. ورأوا أن ما استدل به الحنابلة آثار ضعيفة وحديث مرسل. وقالوا: الأصل في مال المسلم الحفظ فإذا لم يكن هناك اتفاق مسبق فلا حق لراد العبد الآبق. والراجح إن شاء الله: مذهب الحنابلة. لأن الآثار التي ذكروها يقوي بعضها بعضاً كما أن الحديث المرسل الذي أفتى بموجبه الصحابة يصلح للاحتجاج كما أن الأدلة العقلية التي ذكروها قوية وتكفي للقول بهذا القول الذي تبناه الحنابلة وهو استثناء رد العبد الآبق. - ثم قال - رحمه الله -: - ويرجع بنفقته أيضاً. أي: ويرجع راد العبد الآبق بنفقته على هذا العبد. واستدل الحنابلة على ذلك:

باب اللقطة

- بأن النفقة على العبد الآبق أمر بها الشارع لأن فيها حفظاً لنفس معصومة وما فعله الإنسان بإذن الشارع فإنه لا يضمن. كما استدلوا بـ: - أن في رد العبد الآبق مصالح وهي المذكورة في المسألة السابقة: منعه من الفساد أو اللحوق بالكفار. وفي إيجاب النفقة على راد العبد الآبق تنفير عن تحقيق هذه المصالح. = والقول الثاني: أن النفقة على العامل وهو راد العبد الآبق ولو كانت أكثر من الجعل بشرط أن يكون هذا العامل ممن وضع نفسه لرد الضوال. = والقول الثالث: أن نفقة العبد الآبق على المالك لكن بشرط هو أن يأذن المالك بالنفقة أو يأذن الحاكم أو يشهد العامل شهود على النفقة. وعللوا ذلك: - بأنه لو ترك الأمر للعامل لربما أسرف في النفقة أو ادعى نفقة كبيرة. لأجل أن لا يحصل هذا المحذور اشترطوا عليه هذه الشروط. وعلم من هذا أالقول الثالث هو القول الأول لكن بشروط. وهذا القول الثالث فيما يبدو لي أقوى الأقوال حذراً من المبالغات في تقدير النفقات. وبهذا انتهى باب الجعالة وننتقل إن شاء اله إلى باب اللقطة. باب اللقطة - قال - رحمه الله -: - باب اللقطة. اللقطة: لغة اسم لما يؤخذ من الأرض. وتعريفه بأنه اسم لما يؤخذ من الأرض أحسن من تعريفه بأنه اسم لما يلقط من الأرض. حتى لا نعرف الشيء بنفسه. هذا تعريفه لغة: وأما اصطلاحاً: فاللقطة: هو المال الضائع عن ربه إذا أخذه عن غيره. فهذا تعريف اللقطة في اللغة وفي الشرع. والمؤلف - رحمه الله - عرَّف أيضاً اللقطة وإنما ذكرت التعريف الذي قلته شرعاً لأنه أوضح على في تعريف المؤلف - رحمه الله - مزية وهي: التنويه إلى بعض الأحكام الخاصة باللقطة. - يقول - رحمه الله -: - وهي: مال. المال في الشرع هو: كل عين جاز الانتفاع بها بلا حاجة. وتقدم معنا في البيوع تفصيل هذا التعريف وبيان محترزات التعريف فلسنا بحاجة إلى إعادته الآن. إذاً عرفنا ما هو المال في الشرع. - يقول - رحمه الله -: - أو مختص. المختص: أو المختصات في الشرع هي: كل عين لا يجوز أن يقع عليها عقد البيع وصاحبها أحق بها. كالكلب المعلم. فهو من أبرز أمثلة المختصات. فلابد لكي نعتبر العين لقطة أن تكون مال أو تكون مختص.

فإذا وجد الإنسان جرة خمر فإنها ليست لقطة بل يجب عليه أن يتلفها لأنها ليست مال شرعاً ولا مختص. - قال - رحمه الله -: - ضل عن ربه. معنى قوله: (ضل) يعني ضاع عن ربه. والحكم لا يختص بالضياع بل ما يشابه الضياع يأخذ حكم الضياع. مثل: أن يدفن الإنسان ماله وينسى أين دفنه ويجده غيره. فإذا وجده غيره فهو لقطة. وذلك إذا كان الدفن قريباً وطرياً فحينئذ يكون لقطة. فإذاً: عبَّر المؤلف - رحمه الله - بقوله: (الضال) لأن الغالب في اللقطة أن تكون بسبب الضياع لا بسبب الدفن ونسيان مكان الدفن. - ثم يقول - رحمه الله -: - وتتبعه همة أوساط الناس. معنى: (تتبعه همة أوساط الناس) يعني: يهتمون في طلبه. فالشيء الذي لا تهتم أنت في طلبه فليس مما تبعه همة أوساط الناس. وقوله: (تتبعه أوساط الناس يعني: دون المتساهلين منهم ودون المتشددين وإنما الوسط. فمن الناس من لا قيمة للمال الكثير في نظره. ومن الناس من يكون المال القليل جداً عظيم في نظره فلا هذا يعتبر ولا هذا يعتبر وإنما ننظر إلى أوساط الناس وعامتهم في تقدير هل هذا المال تتبعه الهمة أو لا تببعه الهمة. هذا شيء والشيء الثاني: أشار الشيخ منصور - رحمه الله - في الشرح: إلى أن هذا ليس من حقيقة اللقطة وإنما هو شرط في التعريف. فكأنه يقول: إيراده في التعريف غير مناسب. لأنه من شروط التشييد وليس من حقيقة تعريف اللقطة. وإشارته - رحمه الله - صحيحة. فإن الشيء الذي لا تتبعه همة أوساط الناس هو أيضاً لقطة. بينما يفهم من تعريف الشيخ إخراج الشيء الذي لا تتبعه همة أوساط الناس عن مدلول كلمة اللقطة. وهذا ليس بصحيح. فإذاً: يكون التعريف فقط: هي مالٌ أو مختص ضل عن ربه. هذا هو التعريف. وأما: (وتتبعه همة أوساط الناس) فهو من شروط التشييد وليس من حقيقة التعريف. اللقطة في الشرع تنقسم إلى ثلاثة أقسام. وهذا التقسيم باعتبار أمرين: ـ الأمر الأول: شرط التملك. ـ والأمر الثاني: جواز اللقطة. - أو جواز اللقط يعني: جواز الأخذ. هل يجوز أن نأخذ أو أن لا نأخذ. فالأقسام باعتبار هذين الأمرين. ـ القسم الأول: أشار إليه المؤلف - رحمه الله -: - فقال - رحمه الله -:

- فأما الرغيف والسوط ونحوهما: فيملك بلا تعريف. ـ القسم الأول: هو ما لا تتبعه همة أوساط الناس. فإذا كان المال الملقى لا تتبعه همة أوساط الناس فإنه يجوز أن يلقط: هذا الشيء الأول. ويملك بلا تعريف. وهذا الشيء الثاني. إذاً: يجوز أن يلقط. ويجوز أن يملك. وأيضاً بلا تعريف. استدل الحنابلة على جواز أخذه وعلى جواز تملكه بلا تعريف بدليلين: - الدليل الأول: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كما في الصحيح مرَّ على تمرة فقال لولا أني أخشى أنها من تمر الصدقة لأكلتها. ولم يشر النبي - صلى الله عليه وسلم - في الحديث إلى التعريف وذلك لأن التمرة مما لا تتبعه همة أوساط الناس. - الدليل الثاني: الإجماع فإن أهل العلم أجمعوا على أن المال الذي لا تتبعه همة أوساط الناس يملك بمجرد الالتقاط ولا يشترط فيه التعريف. * * مسألة/ فإذا التقطه وأكله ثم جاء صاحبه فإنه لا يضمن له لأنه إنما أخذه بموجب الشرع فلا ضمان عليه ولو جاء صاحبه بعد ذلك. أما إن جاء صاحبه قبل أن ينتفع به فإنه يجب أن يرده إليه. لأنه لا يحل مال امرئ مسلم إلا بطيب نفس منه. وهذا المال: مال هذا الذي جاء فيجب أن يدفع له. وبهذا انتهى القسم الأول من اللقطة. - ثم قال - رحمه الله -: - وما امتنع من سبع صغير كثور وجمل ونحوهما: حرم أخذه. هذا هو القسم الثاني من أقسام اللقطة وهو: القسم الذي لا يجوز أن يؤخذ أصلاً. وإذا كان لا يجوز أن يؤخذ فمن باب أولى لا يجوز أن يملك. إذاً: القسم الثاني: هو الذي لا يجوز أن يؤخذ ولا يجوز بطبيعة الحال أن يملك. وهو: ما يمتنع بنفسه من صغار السبُع. لكن في الواقع ليس هذا هو الشرط الوحيد بل يضاف إليه شرطان: ـ الشرط الأول: أن يتمكن من ورود الماء والشرب. ـ الشرط الثاني: أن يصبر عن شرب الماء مدة طويلة. فصار الشيء الذي لا يجوز أن يلقط هو الذي اتصف بثلاث صفات: 1 - أن يمتنع من صغار السبع. 2 - وأن يتمكن من ورود الماء. 3 - وأن يكون من اللاتي يصبرن عن الماء وقتاً طويلاً. وهذا النوع يتعلق بالحيوان فقط ويسمى الضوال. فالضوال عند الفقهاء مصطلح خاص بالحيوان الضائع ولا يطلق على غيره من أنواع اللقطة.

(وصغار السبع) هي: السباع الصغيرة التي لا تفترس الحيوانات الكبيرة. ومثلوا لها بثلاثة أمثلة: ـ الأول: الذئب. واعتبروه من صغار السباع. ـ والثعلب. ـ والأسد الصغير. فالأسد الصغير يعتبر من صغار السباع والثعلب والذئب ولو كان كبيراً فهو يأخذ حكم صغار السباع. ومثل المؤلف - رحمه الله - لهذه الحيوانات التي لا يجوز أن تؤخذ بقوله: (كثور وجمل). تختلف الأسباب التي من أجلها يمتنع الحيوان عن صغار السباع: ـ فقد يمتنع عن صغار السباع لكونه كبيراً. كما مثل المؤلف - رحمه الله -: (كالجمل). فالجمل يمتنع بجسمه. ـ وقد يمتنع عن صغار السباع لشدة عدوه كالظباء مثلاً. فإنه لا يمكن لصغار السبع أن يصطاد الظباء لسرعتها. ـ وقد يمتنع لكونه يطير كالطيور كلها. لأن هذه تمتنع عن صغار السباع. وألحق الحنابلة بما يمتنع بحجمه - ألحق بالجمل: الحمير. فقالوا: إنها تمتنع بحجمها كما يمتنع الجمل. = والقول الثاني: أنها لا تمتنع. - أولاً: لأن صغار السباع يتمكن من افتراس الحمار. - ثانياً: لأنه لا يصبر عن الماء. - ثالثاً: لأنه لا يحسن الوصول إلى الماء. فهو في الحقيقة أشبه بالشاة منه بالبعير. وهذا القول نصره جداً الشيخ الفقيه ابن قدامة وهو كما قال - رحمه الله -. قول وجيه وصحيح. فجنس الحمير لا يلحق بكبار الأجسام كالجمل. ويلحق بهذا القسم: الذي لا يجوز أخذه - كل ما لا يتلف ببقائه كالقدور الكبيرة والطاحون الكبير فإن هذه الأشياء لو بقيت في الصحراء فإنه لا يضرها وتبقى إلى أن يأتي صاحبها ويأخذها. فهي تشبه ما يمتنع من صغار السبع من حيث أنها لا تنظر ببقائها وقتاً طويلاً ملقاة على الأرض ولهذا لا يجوز للإنسان أن يأخذها بل تبقى في مكانها إلى أن يأتي صاحبها لأخذها.

وعلم من هذا البحث كله أنه إذا تبين للإنسان أن هذه الأشياء التي ذكرها الفقهاء في مكان تتلف لو تركت ولو كانت كبيرة أو تعدو أو تطير بأن كان في المنطقة سباع صغيرة لكنها عرفت بأكل كبار الأجسام أو كانت في مكان لا يوجد فيه ماء أصلاً أو كان القدر الكبير في مكان فيه قطاع طرق بكثرة. حينئذٍ يجوز أن تؤخذ. وذلك استنباطاً من تعليلات الفقهاء لأنهم يرون عدم جواز أخذها لا متناعها بنفسها ونحن الآن تبين لنا أنها في مثل هذه الأمثلة لا تمتنع بنفسها فجاز حينئذ أن تؤخذ. ولهذا ينبغي لطالب العلم أن يتنبه لتعليلات الفقهاء حتى يدور الحكم مع هذه العلة وجوداً وعدماً. - ثم قال - رحمه الله -: - وله إلتقاط غير ذلك. هذا هو القسم الثالث: وهو القسم الأكبر من أنواع اللقطة وحكمه أنه يجوز أن يؤخذ ولا يملك إلا بالتعريف. وهذا القسم يشمل كل ما عدا القسم الأول والثاني. فكل عين سقطت على الأرض لا تدخل في القسم الأول ولا في الثاني فهي من القسم الثاني. ولذلك نقول في تعريفه: هو كل ما لا يدخل في القسم الأول والثاني. والدليل على حكم هذا النوع من اللقطة: - حديث زيد بن خالد الجهني - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - سئل عن لقطة الذهب والفضة فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - (إعرف عفاصها ووكائها ثم عرفها سنة فإن لم تعرف فشأنك بها وهي وديعة عندك فإن جاء صاحبها يوماً من الدهر فأدها إليه). وهذا اللفظ في الصحيح. وهو من أهم أحاديث اللقطة لكونه يشتمل على مجموعة من المسائل. وستلاحظ أن مفردات المسائل التي ذكرها المؤلف - رحمه الله - تعتمد على هذا الحديث. إذاً عرفنا الآن الدليل حيث نص النبي - صلى الله عليه وسلم - على أنها تعرف لمدة سنة ثم تملك بعد ذلك. - يقول - رحمه الله -: - إن أمن نفسه على ذلك. بدأ بشروط القسم الثالث: ـ فالشرط الأول: أن يأمن نفسه على اللقطة يعني: أن لا يخون فيها. فإن لم يأمن نفسه وظن أنه لو أخذها ملكها بلا تعريف حرم عليه الأخذ أصلاً وهذا بالإجماع.

ـ الشرط الثاني: أن يقوى على التعريف. أن يتمكن من التعريف. فإن ظن من نفسه أنه لا يستطيع أن يعرف هذه اللقطة إما لضعفه أو لفقره أو لانشغاله أو لأي سبب من الأسباب فإنه لا يجوز له ولو أمن نفسه عليها أن يأخذها إذ مالفائدة من أخذ اللقطة وهو بعلم من نفسه أنه لن يتمكن من التعريف بها. فهذان شرطان لا يجوز الإلتقاط إلا بهما. ثم لما بين المؤلف - رحمه الله - شرط إلتقاط اللقطة في القسم الثالث بين ماذا يترتب على من خالف والتقط مع عدم توفر الشروط. - ثم قال - رحمه الله -: - وإلاّ فهو كغاصب. أي أن حكمه حكم الغاصب. ويندرج تحت هذا مسألتان: ـ الأولى: أنه يضمن هذه العين مطلقاً فرَّط أو لم يُفَرِّط. لأنا نعامله معاملة الغاصب وهذا حكم الغاصب. ـ المسألة الثانية: أنه لو أخذها بنية الخيانة ثم عرفها تائباً أو غير تائب. فإنها لا تملك بعد السنة. لأن يده يد غصب. إذاً: الحكم الثاني: أنه إذا أخذها ثم عرفها سواء عرفها بعد التوبة أو عرفها بدون توبة وإنما عرفها هكذا فإنها لا تملك. لأنه أخذها بغير إذن شرعي فلا يستحق التملك. = والقول الثاني: في هذه المسألة الثانية: أنه إذا أخذها وعرفها فإنه يملك هذه العين. واستدل أصحاب هذا القول على قولهم: - بأن الشارع رتب ملك العين الملتقطة على التعريف فإذا وجد السبب وجد الحكم فما دام عرفها فهي ملك له. والأقرب والله أعلم المذهب: فإذا عرفها ولم يجد صاحبها فإنه يدفعها إلى بيت المال إن تمكن وإن لم يتمكن فإنه يتصدق بها عن صاحبها ولا يملكها أبداً ما دام أخذها بنية الخيانة فإنه ليس من أهل التملك. وإن كان القول الثاني فيه قوة من حيث التعليل إلا أنه يظهر لي أن المذهب أقوى. - ثم قال - رحمه الله -: - ويعرف الجميع بالنداء. أيك أنه يجب على ملتقط اللقطة أن يبدأ بالنداء فوراً وهو التعريف. والدليل على هذا ظاهر: - لقوله - صلى الله عليه وسلم -: (عرفها). وهذا الأمر للوجوب. والأمر الذي للوجوب هو على الفور في أصح قولي الفقهاء. إذاً: إذا كان الحديث أمر فهو للوجوب وعلى الفور. فيجب عليه أن يبادر بالتعريف. وهذا معنى قول المؤلف - رحمه الله - هنا: (ويعرف الجميع بالنداء في مجامع الناس غير المساجد).

إذاً: يجب عليه أن يعرف مباشرة لحديث زيد السابق. - يقول - رحمه الله -: - في مجامع الناس. المقصود من هذه الجملة: أن يتحرى الأماكن التي يظن أن وصول الخبر إلى صاحب اللقطة فيها أكبر. وليس مقصود المؤلف - رحمه الله - هنا بقوله: (في مجامع الناس) أنه يجب دائماً أن يعرف في مجامع الناس. هذا ليس مقصوداً. لكن مقصوده أن الغالب أنه إذا عرف في مجامع الناس كالأسواق وأبواب المساجد فإن صاحب اللقطة سيعرف خبر هذه اللقطة. لكن لو افترضنا أن تعريفه اللقطة في مكان آخر وليس من مجامع الناس يظن أن وصول الخبر إلى صاحبها أكبر فيجب أن يترك مجامع الناس وأن يعرفها في هذا المكان الذي يظن أن وصول الخبر فيه إلى صاحبها أكبر. من أمثلة هذا: أن يجد معاملة سقطت تختص بدائرة حكومية معينة وهي في طور الإعداد من المعلوم أن أنسب مكان للتعريف بهذه المعاملة أين؟ في مدخل هذه الدائرة. لأنه لن يذهب صاحب هذا الشيء إلى أماكن تجمع الناس .. إلى آخره. وهكذا يجب على الإنسان أن يعلم أنه إذا التقط اللقطة فهو أمين ومحاسب فعليه أن يعرف اللقطة في المكان الذي يظن أنه في الغالب أنها ستكون فيه. فإذا كانت اللقطة يغلب على الظن أنها لشخص يعمل في سوق التمر من خلال ملابسات أو قرائن فيجب أن يعرفها في سوق التمر. وإذا كان يغلب على الظن أن صاحب هذه اللقطة من خلال ملابسات وقرائن من تجار الذهب فإنه من الخطأ أن يذهب إلى سوق التمر ليعرف لقطة يغلب على الظن أنها لتاجر من تجار الذهب. وهكذا يجتهد في معرفة المكان المناسب فإن لم توجد قرائن ولا دلائل فغنه يعرف في مجامع الناس. - يقول - رحمه الله -: - غير المساجد. يعني: فإنه لا يجوز له أن يعرف فيها. وذلك: - لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (من رأيتموه ينشد ضالة في مسجد فقولوا: لا ردها الله عليك). وهذا الحديث دليل واضح على التحريم. وذلك: لأن المساجد لم تبن لذلك وإنما بنيت لذكر الله والعبادة لا ليبحث الناس فيها عن ما سقط منهم من أمتعة. فإذاً: لا يجوز في المساجد. لكن عند أبواب المساجد لا حرج في ذلك. - يقول - رحمه الله -: - حولاً. يعني: أن مدة التعريف سنة كاملة هجرية قمرية.

تبدأ من اليوم الذي وجد فيه اللقطة وتنتهي في نفس اليوم من العام التالي. والدليل على ذلك: - الحديث السابق: فأنه قال: (عرفها سنة). - كذلك: الآثار عن أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم -: عمر وغيره - رضي الله عنه -. أفتوا بالتعريف لمدة سنة. واختلفوا: أي واختلف الفقهاء في كيفية التعريف: = فالقول الأول: أنه يعرفها في الأسبوع الأول في كل يوم. ثم بعد نهاية الأسبوع الأول يرجع إلى أعراف الناس في تعريفها. = والقول الثاني: أنه يعرفها في الأسبوع الأول في كل يوم ثم في الشهر الأول في كل أسبوع ثم باقي السنة في كل شهر مرة. والراجح إن شاء الله القول الأول. وأنتم علمتم الآن من سياق الخلاف أن جميع العلماء يرون وجوب التعريف في الأسبوع الأول في كل يوم. ثم اختلفوا إذا انتهى الأسبوع الأول وذلك لأن الأسبوع الأول مظنة بحث صاحبها عنها أكبر بكثير من الأسبوع الثاني ثم تنقص هذه المظنة كلما ذهب الوقت. على أنه في القول الثاني فيه ضعف في الحقيقة لأن الاكتفاء في ما بعد الشهر الأول بالتعريف مرةواحدة في الشهر فيه إجحاف في الحقيقة لأن هذا التعريف قليل جداً سيبقى أكثر السنة يعرف في الشهر كم؟ مرة. وإن كان عرف في الشهر الأول في الأسبوع الأول منه في كل يوم وفي باقي الأسابيع مرة في كل أسبوع لكن يداية من الشهر الثاني سيكون التعريف في كل شهر مرة. وهذا قليل جداً. ولذلك أنا أرى أن هذا القول فيه إجحاف بصاحب اللقطة لا سيما إذا كانت مهمة وضرورية ومرتفعة القيمة. كونه يعرف في كل شهر مرة متى يصادف صاحب اللقطة؟ ولذلك نقول: الراجح إن شاء الله القول الأول ويرجع في تعريفها إلى العرف بحسب الأهمية وبحسب الملابسات. - ثم قال - رحمه الله -: - ويملكه بعده حكماً. يعني: ويملك اللقطة بعد اتعريف السنوي حكماً. الدليل أنه يملكه: - الأحاديث: فالنبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (فهي لك) وفي لفظ: (فشأنك بها). والأحاديث كثيرة في ملك المعرف للقطة بعد سنة. وقوله (يملكها حكماً) يعني: قهراً من غير اختيار. كدخول الميراث في ملك صاحبه. إذاً: الحنابلة يرون أن دخول اللقطة بعد التعريف لمدة سنة في ملك الملتقط دخولاً إجبارياً.

وعللوا هذا: - بأن الأحاديث فيها إفادة الملك فهو يقول: (فهي لك). - ثم إن الشارع رتب ملك على التعريف سنة فإذا انتهى تعريف السنة حصل الملك باختياره أو بغير اختياره. ويترتب على هذا القول: أن الملتقط بعد سنة إذا تلفت اللقطة فهي مضمونة عليه مطلقاً. لماذا مضمونة عليه مطلقاً؟ - لأنها أصبحت من أملاكه. وإذا دخل الشيء في ملكك ثم تلف فهو مضمون عليك مطلقاً لا نقول فرَّط أو لم يُفَرِّط لأنها أصبحت من أملاكه. إذاً: عرفنا مذهب الحنابلة وعرفنا ماذا يترتب على هذا القول ويكاد يكون ما يترتب على القول أهم من القول. = القول الثاني: أن اللقطة لا تدخل في ملكه إلا باختياره فإن اختار أن لا يتملك فإن اللقطة تصبح وديعة لا تضمن إلا بالتعدي أو التفريط. وهذا القول اختيار أبي الخطاب من الحنابلة وقول لبعض الشافعية وقيل إنه هو المذهب الاصطلاحي. = القول الثالث: أن اللقطة بعد السنة تدخل في ملك الملتقط قهراً ولا يضمنها. ففيه الجمع بين القولين. وجه ذلك: - وجهه: أن الملتقط إنما التقطها بإذن الشارع وعرفها بإذن الشارع وملكها بإذن الشارع ولا يترتب على الإذن الضمان. فإذا أخذها والتقطها وعرفها سنة وتملكها ثم تلفت أو انتفع منها فإنه إذا جاء صاحبها لا يضمنها له. وهذا القول قوي ووجيه لولا اللفظ السابق لحديث زيد. ففي اللفظ السابق يقول: (فإذا جاء صاحبها يوماً من الدهر فأدها إليه). هذا لحديث يكاد يكون نص في المسألة. وليس في الحديث أنه إذا جاء صاحبها يوماً من الدهر فأدها إليه إلا إن كنت انتفعت بها. ليس في هذا القيد. ولذلك الراجح إن شاء الله القول الثاني. فهو إن شاء تملك وإن شاء لم يتملك. فإن لم يتملك فهي وديعة وأمانة تبقى عنده. وإن شاء إذا مرت السنة ولم يرد أن يتملك إن شاء أن يدفعها إلى الإمام تخلصاً منها فهذا أمر مشروع وذكره بعض الفقهاء. إذاً هو مخير بين أن تبقى عنده وديعة وبين أن يدفعها إلى بيت المال. - ثم قال - رحمه الله -: - لكن لا يتصرف فيها قبل معرفة صفاتها. لا يجوز له أن يتصرف في الوديعة إلا بعد أن يضبط صفات الوديعة. - لقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: (اعرف عفاصها ووكائها).

فهذا أمر من النبي - صلى الله عليه وسلم -. والوكاء هو: ما يربط به الإناء سواء كان من جلد أو من قماش. والعفاص: هو الإناء الذي يتخذ لتخزين الأشياء وأيضاً سواء كان من جلد أو من شيء آخر. فالحديث نص على أنه لا يجوز للإنسان أن يتصرف في اللقطة إلا بعد أن يضبط صفاتها. ويستحب له أن يشهد على هذه الصفات كما يستحب له أن يكتب هذه الصفات لأن لا ينسى أو يهم. - ثم قال - رحمه الله -: - فمتى جاء طالبها فوصفها: لزم دفعها إليه. - لقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: (فإذا جاء صاحبها يوماً من الدهر فأدها إليه). - ولقوله: (فعرفها سنة فإن لم تعرف فشأنك بها). فمفهوم الحديث أنها إذا عرفت فهي ليست من أملاكه بل تدفع إلى صاحبها. - ثم قال - رحمه الله -: - والسفيه والصبي يعرف لقطتهما وليهما. المؤلف - رحمه الله - يريد بهذا أن يبين من الذي يملك الإلتقاط والتملك بعد التعريف. = فالحنابلة يرون: أن كل إنسان مكلفاً كان أو غير مكلف صغيراً أو كبيراً مسلماً أو كافراً فإنه يملك بالالتقاط ولا نشترط أن يكون بالغاً عاقلاً مكلفاً. واستدلوا على هذا: - بأن الالتقاط وسيلة من وسائل التملك فهي كالاحتطاب والاصطياد. والاحتطاب والاصطياد لا يشترط له أن يكون المحتطب بالغاً يعني: مكلفاً. = والقول الثاني: أنه يشترط في الملتقط أن يكون من المكلفين. واستدلوا على هذا: - بأن الالتقاط فيها نوع ولاية على اللقطة والولايات لا تكون إلا للمكلفين. والراجح: المذهب. لأن شبه الالتقاط بالاحتطاب أكبر من شبهها فيما يحتاج إلى ولاية. بناءً على هذا: يقول - رحمه الله - إذا قررنا أن لكل واحد الإلتقاط صغيراً كان أو كبيراً: - يقول - رحمه الله -: - (والسفيه والصبي يعرف لقطتهما وليهما). أي: أن الولي يجب عليه أولاً: أن يأخذ اللقطة من السفيه والصبي. ثم إذا أخذها يجب عليه أن يعرفها نيابة عنهما. فإن لم يأخذ اللقطة وأتلفها الصبي فإن وليهما يضمن هذه اللقطة: لأنه فرط. ووجه التفريط: أنه ترك واجباً من واجباته وهو أخذ اللقطة والتعريف بها. - ثم قال - رحمه الله -: - ومن ترك حيواناً بفلاة لانقطاعه أو عجز ربه عنه: ملكه آخذه.

إذا ترك الإنسان الحيوان رغبةً عنه فإنه يملك من آخذه. استدل الحنابلة على هذا بدليلين: - الأول: أن جابر - رضي الله عنه - أراد أن يسيب جمله وهو مع النبي - صلى الله عليه وسلم - ولم ينكر عليه ذلك النبي - صلى الله عليه وسلم -. - الثاني: أنه تركه رغبة عنه فخرج عن ملكه وكأنه أجاز لغيره أن يأخذه. وهذا الحكم عند الحنابلة يختص بالحيوان. أما العبد والحجر ونحوهما فإنه لا يلتقط ولو تركه رغبة عنه. عللزا هذا: - بأن العبد يستطيع أن يصل إلى سيده فهو يحسن التصرف. - وأما الحجر فإنه يبقى بلا ضرر إلى أن يرجع إليه سيده. وهنا أيضاً نقول: أنه إذا عرفنا أن سيد العبد تركه لا يريه ولو رجع إليه وأنه ترك الحجر والقدر الكبير رغبةً عنه ولا يريده أصلاً فإنه يجوز للإنسان أن يأخذه. وإنما يترك فيما إذا علمنا أن لسيده رغبة فيه. - ثم قال - رحمه الله -: - ومن أخذ نعله ونحوه ووجد موضعه غيره: فلقطة. إذا أخذ نعل الإنسان ونحوه كثيابه ووجد مكانها غيرها فحكمها عند الحنابلة أنها كاللقطة. يعني: تعامل معاملة اللقطة. فعليه ان يعرفها سنة ثم إذا عرفها سنة فإنه يأخذ منها حقه ويتصدق بالباقي. هذا حكم هذه المسألة عند الحنابلة. في الحقيقة فيها إشكال: ووجه الإشكال: كيف يحكم الحنابلة على مثل هذه الصورة بأنها لقطة ثم يقولون أنه بعد مرور الحول يأخذ منها حقه فقط ويتصدق بالباقي؟ وقد قرروا في السابق أن اللقطة حكمها بعد التعريف أنها تملك: كلها. ولذلك كأن الحنابلة يرون أنها لقطة من وجه وليست لقطة من وجه. وإلا ففي تقريرهم نوع تعاض واختلاف. الدليل على هذا الحكم: - قالوا: أن في هذه الصورة لم يجر بين السارق الذي أخذ النعل وبين صاحب المتاع الذي أخذ متاعه معاوضة حتى نقول خذ متاع السارق مكان متاعك. إذاً: لم تجر بينهما مبايعة ولا معاوضة. - الدليل الثاني: أنه ربما أخذت من غير صاحب التي بقيت. فإذا أخذت نعلك ولم يبق في المسجد إلا نعل واحدة احتمال أنة يكون صاحب هذه النعل هو الذي أخذ نعلك وهو الاحتمال الأكبر ولكن يبقى أنه يوجد احتمال أن تكون هذه النعل لشخص آخر غير الذي أخذ نعلك.

باب اللقيط

لهذين الدليلين قالوا: لا يجوز أن يتملكها مباشرة بل عليه أن يعرفها سنة ثم بعد ذلك يأخذ حقه منها. = القول الثاني: أن لا نحتاج إلى الانتظار لمدة سنة بل مباشرة تؤخذ وتباع ويأخذ البائع حقه منها والباقي يتصدق به. واستدلوا على هذا: - بأن ظاهر الحال ودلالة القرينة على أن هذا الباقي هو متاع الذي أخذ - أن الحذاء الباقي إنما هو للشخص الذي أخذ الحذاء الذي ذهب. والشرع مبني على الأخذ بالظواهر. هذا القول الثاني وهو أنه لا يشترط أن نبقى سنة اختاره الشيخ المرداوي واختاره أيضاً الحارثي وهو كما ترى وجيه. كما عللوا ذلك: - بأن في هذا القول رفقاً بالناس. لأنه إذا أخذت نعل الإنسان وقيل له انتظر لمدة سنة ففي الغالب سيعرض عن هذا النعل الموجود ويشتري مكانه آخر. إذاً: هذا القول الثاني هو الصحيح فنقول: إذا وجدت نعلاً وغلب على ظنك أنه لمن أخذ نعلك فخذه وبعه وخذ نصيبك منه والباقي تتصدق به. والغالب: سيبقى باقي؟ أو لن يبقى باقي؟ لن يبقى باقي. لماذا؟ لأنه لو كانت نعل السارق خير من نعلك لماذا يتركها لك ويأخذ نعلك؟! فإذاً: المأخوذة غالباً ستكون خير من الموجودة. فلماذا إذاً قال الحنابلة: ويتصدق بالباقي؟ احتياطاً لإكمال الحكم وإلا في الغالب لن يتبقى شيء. / ما الحكم إذا كان ثمن المبيع أقل من نعلك؟ إذا كان أكثر عرفنا الحكم. وإذا كان أقل: .. (( .. ليس لك إلا هذا .. لأنه مسروق)) .. وبهذا انتهينا من باب اللقطة وننتقل إلى باب اللقيط. باب اللقيط - قال - رحمه الله -: - باب اللقيط. يعني: باب تبين فيه أحكام اللقيط. - وقوله هنا - رحمه الله -: - وهو: طفل. مراد الحنابلة بالطفل: أي قبل التمييز. فإذا وجد الطفل بعد التمييز فليس لقيطاً ولا تنطبق عليه الأحكام التي ستذكر. = والقول الثاني: أن اللقيط يستمر إلى البلوغ فيشمل المميز وغير المميز. وهذا القول الثاني هو الصحيح إن شاء الله. وجه الترجيح: أن الطفل المميز وغير المميز إلى أن يبلغ مرحلة البلوغ بحاجة إلا حضانة ورعاية فيدخل في أحكام اللقيط. - يقول - رحمه الله -: - لا يعرف نسبه ولا رقه. يجب أن يكون هذا الطفل مجهول النسب ومجهول الرق.

فإن كان رقيقاً لشخصٍ معين أو معروف النسب فليس بلقيط ولا يجوز للإنسان أن يحتفظ به وعليه ان يرده إلى أهله. إذاً: الشرط الحقيقة الواضح والكبير في اللقيط: أن لا يعرف نسبه ولا رقه. بلا هذا الشرط لا يصبح من اللقطاء. - يقول - رحمه الله -: - نبذ أو ضل. (نبذ) يعني: ألقي. سواء على الطريق أو في مسجد أو في كنيسة أو في بيعة أو في أي مكان أو في السوق. قوله (أو ضل) يعني: ضاع في الطريق ولم يستطع أن يهتدي إلى أهله. والحنابلة ذكروا كلمة: (أو ضل) غالبهم ذكر أو ضل وإن كان بعضهم اقتصر على كلمة نبذ ولم يذكر أوضل. وشيخنا - رحمه الله - في الممتع انتقد هذه الفظة وقال: الطفل إذا ضل فإنه لا يعتبر لقطة بل يجب أن نبحث عن أهله وليس لواجده أن يحبسه مباشرة ويعتبره لقيط ويطبق عليه أحكام اللقطة بل يجب إذا الطفل أن نبحث عن أهله. ولم أجد هذا التقرير عند غير شيخنا - رحمه الله - وهو كما ترى وجيه جداً وقوي. ولا ينبغي للإنسان إذا ضاع الطفل أن يستعجل في معاملته معاملة اللقيط وحبسه عنده بل يجب أن يبحث عن أهله ثم إذا بحث ولم يجد أهله ولا من يعرف نسبه ولا كونه رقيق أو حر فإنه حينئذ يعود إلى الحكم الأصلي وهو أنه لقيط. ((الأذان)).

هذا سؤال جيد في الحقيقة: يقول: إذا لم يبدأ بالتعريف إلا قبل نهاية الحول بزمن يسير - ترك التعريف فلما قارب الحول الانتهاء بدأ؟ الجواب: أنه يجب عليه أن يعرف كذلك ولو لم يبدأ به إلا متأخراً إلا أنه لا يملك اللقطة بهذا التعريف لأنه فرط ولم يعرف الحول الكامل فيجب عليه أن يعرف لكن لا يملك بهذا التعريف. - ثم قال - رحمه الله -: - وأخذه فرض كفاية. أخذ هذا اللقيط عند الحنابلة: فرض كفاية. - لقول تعالى: {وتعاونوا على البر والتقوى ... } [المائدة/2]. - والدليل الثاني على وجوب أخذه وأنه فرض كفاية: أن في أخذه حفاظاً على نفسه وإنقاذاً له من الهلاك. وإلى هذا ذهب الجماهير. وهو أنه فرض كفاية. = والقول الثاني: أن أخذه سنة إلا إن خاف إن تركه هلك حينئذ يصبح واجباً. وهو مذهب الأحناف. وبهذا القيد الذي ذكره الأحناف أصبح قولهم قريب جداً من قول الجماهير. فليس بينهما فرقاً يذكر الهم إلا أنه لا يجب على الإنسان أن يأخذ الطفل مادام يظن أنه لن يهلك. - ثم قال - رحمه الله -: - وهو حر.

أي: هذا القيط حر. الأصل أنه حر ولا يجوز لملتقطه أن يتعامل معه كرقيق أو أن يسترقه. وهذا الحكم بالإجماع. ودليل هذا الإجماع: - أن الأصل في الإنسان الحرية ولا يمكن أن ننتقل عن هذا الأصل إلا بناقل شرعي ولا يوجد ناقل في حق اللقيط. وقلت لكم أن هذا الحكم محل إجماع وهو محل إجماع إلا أنه خالف فقط النخعي فقال: لسيده أو لملتقطه أن يسترقه ولكن هذا القول حكم عليه الشيخ ابن قدامة بأن فيه شذوذ ومخالفة للصحابة وللعلماء. وهو كما قال. وهو قول يستغرب على النخعي. لكن على كل حال الراجح إن شاء الله مذهب الجماهير. - يقول - رحمه الله -: - وما وجد معه أو تحته، ظاهراً أو مدفوناً طرياً، أو متصلاً به كحيوان وغيره أو قريباً منه: فله. (ما وجد معه) يعني: في جيبه. (أو تحته) سواء كان تحته مباشرة أو تحت الغطاء الذي تحته. أو تحت الفراش الذي تحت الغطاء. في هذه الصور كلها يعتبر تحته. فهذا المال له. ـ النوع الثاني من الأموال: (أن يجده مدفوناً طرياً) إذا وجده مدفوناً طرياً فهو أيضاً له) فإن وجده مدفوناً منذ زمن بعيد فليس له ولا يستحق أن يتعامل معه كمال للقيط. يقول - رحمه الله -: (أو متصلاً به كحيوان وغيره) إذا وجد شيئاً متصلاً باللقيط سواء كان حيوان أو غير حيوان وسواء كان الاتصال عن طريق الربط أو عن طريق اللصق أو عن أي طريق من الطرق التي تؤدي إلى الارتباط فإن هذا المال يعتبر للقيط. إذاً: أخذنا ثلاثة أنواع من أنواع الأموال التي يحكم بها أنها للقيط. الدليل في جميع هذه الأموال: - أن الظاهر من الحال أن هذا المال ملك للقيط. ونحن متعبدون بالظاهر. وعلم من كلام المؤلف - رحمه الله - هنا: (أو قريباً منه) أن المال إذا كان بعيداً عنه فإنه لا يكون من أملاكه.

وهذا صحيح: ما دام المال بعيداً عنه فإنه لا يحكم أنه ملك لهذا اللقيط إلا في صورة واحدة وهي ما إذا دلت القرينة أن هذا المال وإن كان بعيداً فهو خاص بالطفل كان يوجد طعام خاص بالأطفال أو أداة تستعمل للأطفال فهذه وإن كانت بعيدة فإن الظاهر من الحال أنها ملك لهذا الطفل. هذا والله أعلم وصلى الله على نبينا محمد ...

الدرس: (49) من البيع قال شيخنا حفظه الله: بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين. تقدم معنا الكلام عن أحكام اللقطة وأيضاً اللقيط. لكن نسينا مسألتين من مسائل اللقطة تعتبر من المسائل المهمة نأتي عليها الآن باختصار ثم نكمل ما كنا في صدده. * * المسألة الأولى/ هي لقطة مكة: = ذهب الجماهير رحمهم الله إلى أن لقطة مكة كلقطة غيرها من حيث أنها تملك بالتعريف. واستدلوا على هذا: - بأن الأحاديث التي جاءت بالأمر بالتعريف وترتيب الملك عليه عامة لم تفرق بين أن تكون هذه اللقطة في مكة أو في غيرها. = القول الثاني: أن لقطة مكة لا تحل إلا لمن أراد أن يعرفها أبداً ولا تملك. وهو رواية عن الإمام أحمد واختيار شيخ الإسلام وغيره من المحققين. واستدلوا: - بقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: أن لقطة مكة لا تحل إلا لمنشد. واعتبروا أن قوله لا تحل إلا لمنشد يعني: أبداً لكي يكون في الحديث إضافة على الأحاديث الباقية. لأنا لو حملنا الحديث على وجوب التعريف لكان الحديث ليس فيه فائدة زائدة عن الأحاديث الأخرى الآمرة بالتعريف. هذه هي المسألة الأولى. * * المسألة الثانية/ نفقة التعريف. تقدم معنا أن التعريف يقوم به الملتقط لكن لم نأخذ على من تكون نفقة التعريف. = ذهب الجمهور إلى ان نفقة التعريف تكون على الملتقط. واستدلوا على هذا: - بأن التعريف واجب من واجبات الملتقط. وإذا كان واجباً عليه فعليه نفقته. واستدلوا أيضاً:

- بأنه يعرف لحظ نفسه فعليه نفقة ذلك التعريف ووجهه أنه يعرف لحظ نفسه أن ثمرة التعريف إذا لم يعرف صاحب اللقطة أن يملكها المعرف. = القول الثاني: أنه إن التقط اللقطة بقصد حفظها لصاحبها فنفقة التعريف على صاحبها. وإن التقط اللقطة بقصد تملكها بعد التعريف فنفقة التعريف على الملتقط. واستدلوا على هذا القول: - بأن الملتقط إذا لم ينو التملك وإنما نوى الاحتفاظ بها إلى أن يأتي صاحبها صار التعريف ونفقة التعريف ما هي إلا وسيلة لإيصال اللقطة إلى صاحبها. وإيصال العين إلى صاحبها تكون نفقته على صاحب هذه العين. = والقول الثالث: ان نفقة التعريف تؤخذ من اللقطة. وبهذا علمنا أنه لم يذهب أحد من الفقهاء إلى أن نفقة التعريف على المالك مطلقاً. لم أر أحداً من الفقهاء قال أنه على المالك مطلقاً. لكنك إذا تأملت ستجد أن القول الأخير وهو أنه من اللقطة يعود إلى تكليف المالك بنفقة التعريف لأنه إذا لم نجد المالك صارت اللقطة ملكاً للمعرف ولا يوجد أصلاً إشكال. لكن الإشكال إذا وجد المالك فإذا وجد المالك وخصمنا قيمة التعريف من اللقطة هي في الحقيقة ستكون من المالك. والأقرب والله أعلم أنها على اللاقط وما ذكره الحنابلة وجيه - الدليلان الذان ذكرهما الحنابلة أدلة وجيهه. هاتان المسألتان بقيتا من اللقطة ونرجع الآن إلى تكملة باب اللقيط وتوقفنا عند قوله: (أو قريباً منه فله). - قال - رحمه الله -: - وينفق عليه منه. لما بين المؤلف - رحمه الله - في الفقرة السابقة الأشياء التي تكون من ملك الصبي الملتقط ذكر ما يترتب على هذا وهو أن هذا المال الموجود مع الصبي ينفق عليه منه. فالنفقة التي يحتاج إليها اللقيط تكون من المال الموجود معه. وهذا الحكم محل إجماع أنه ينفق عليه من المال الموجود معه - محل إجماع ولا إشكال فيه. - ثم قال - رحمه الله -: - وإلاّ فمن بيت المال. يعني: وإلا يوجد معه شيء فننفق عليه من بيت المال. وفهم من هذا أنه لا يجب على الملتقط أن ينفق عليه. وهذا أيضاً: محل إجماع. فليس على ملتقط اللقيط أن ينفق عليه.

وذلك لأن أسباب النفقة محصورة في القرابة والزوجية والملك والولاء وهذا اللقيط ليس من هذه الأسباب بالنسبة للملتقط. فتكون النفقة على بيت المال. فإن لم يتمكن من أخذ نفقته من بيت المال أو كان بيت المال ليس فيه شيء فعلى من عرف حاله من المسلمين. فمن عرف حاجة هذا الصبي إلى النفقة فعليه أن ينفق عليه على سبيل أنه فرض كفاية إذا قام به من يكفي سقط عن الباقين. - قال - رحمه الله -: - وهو مسلم. أي: أن اللقيط نحكم عليه بالإسلام. واللقيط ينقسم إلى قسمين: ـ القسم الأول: أن يوجد في دار المسلمين. فإذا وجد في دار المسلمين فإنه مسلم ولو كان غالب أهل الدار من أهل الذمة. بل لو لم يوجد إلا مسلم واحد يصلح أن يكون هذا الطفل له فإنا نحكم على الطفل بأنه مسلم. - لأن الأصل في بني آدم الإسلام. - ولأن الأصل أن الحكم للدار وهذه الجار جار إسلام. ـ القسم الثاني: أن يوجد في دار الكفر. فإذا وجد في دار الكفر: - فإما أن يوجد في دار الكفر عدد من المسلمين كبير فيحكم بإسلامه. - أن لا يوجد في دار الكفر إلا مسلم أو اثنين - يعني: عدد يسير فإذا كان عدد المسلمين يسير جداً في دار الكفر فإن اللقيط يحكم بكفره. والسبب في ذلك: - أن الحكم للدار. وهذه الدار دار كفر فنحكم بكفره. = والقول الثاني: أن اللقيط مسلم مطلقاً دائماً وأبداً. واستدل أصحاب هذا القول: - بقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: (ما من مولود يولد إلا على الفطرة فأبواه يهودانه أو ينصرانه. فنسب النبي - صلى الله عليه وسلم - التهويد والتنصير إلى الأبوين وهذا الطفل ليس له أب ولا أم. - ثانياً: لأن الأصل في الإنسان الإسلام. وهذا القول هو الراجح. ومفهوم عبارة المؤلف - رحمه الله - أنا لا ننظر للملتقط سواء كان الملتقط كافر أو مسلم: الحكم على التفصيل السابق. وهذا صحيح. أنا لا ننظر إلى الملتقط لا يعنينا أمر ولا دين الملتقط. = والقول الثاني: أنه يحكم على اللقيط بحسب الملتقط: إن كان الملتقط مسلم فهو مسلم وإن كان كافر فهو كافر ولا ننظر للدار. والراجح من هذا الخلاف كله: أنه مسلم مطلقاً مهما كانت الدار ومهما كان الملتقط لما تقدم من أدلة. - ثم قال - رحمه الله -:

- وحضانته: لواجده الأمين. يعني: أنه أحق الناس بحضانة اللقيط هو الواجد له ولكن بقيد الأمين: يعني: بشرط أن يكون أميناً. - لأن القاعدة الفقهية تقول: (لا ولاية لفاسق) - ولأن أبا جميلة - رضي الله عنه - لما وجد اللقيط وأتى به إلى عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - سئل عمر عريفه عنه فأثنى عليه خيراً. فقال هو حر وولائه لك ونفقته على بيت المال. فأثبت الولاء له وجعل الصبي الملتقط في يده. إذاً: أحق الناس بالحضانة هو الملتقط وليس لأحد أن ينزع الصبي منه لأثر عمر ولأنه هو الذي وجده. والمقصود بالحضانة ليست مجرد إبقاء الطفل تحت يد الملتقط وإنما القيام عليه بما يصلحه ورعايته على الوجه الأكمل. هذه هي الحضانة. وسيفرد المؤلف - رحمه الله - باباً للحضانة في آخر الزاد. - ثم قال - رحمه الله -: - وينفق عليه بغير إذن حاكم. أي وينفق واجد اللقيط عليه من المال الذي موجود معه بغير إذن الحاكم. - لأنه ولي والولي ينفق بلا إذن الحاكم كولي اليتيم. فاليتيم وليه ينفق بلا إذن الحاكم. فعرفنا من هذا شيء أشبه ما يكون بالقاعدة وهو: أن الولي دائماً وأبداً ينفق بلا إذن الحاكم. لأن هذا المقصود من ولايته. ولأنه إنما ولي لينفق مع الرعاية الأخرى والحضانة العامة. لكن من أعظم أعمال الإنفاق. - قال - رحمه الله -: - وميراثه وديته لبيت المال. معنى هذا الكلام انا نعامل اللقيط كما نعامل معروف النسب الذي ليس له ذرية. فيكون ماله لبيت المال: - لأنه لا وارث له. - ولأن النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: إنما الولاء لمن أعتق. فحصر الولاء في العتق ولقط الصبي ليس من العتق. = والقول الثاني: أن إرثه لملتقطه. واستدل هؤلاء بدليلين: - الدليل الأول: أن عمر بن الخطاب قال: هو حر ولك ولائه. - الدليل الثاني: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: تحوز المرأة ثلاثة: لقيطها وعتيقها وابنها الذي لاعنت عليه. فنص على اللقيط. واستدلوا: - ثالثاً بأن مال اللقيط إذا وضع في بيت المال فإنه سينفق على سائر المسلمين واللاقط له أولى من سائر المسلمين. لكونه التقطه وحضنه. وانتصر لهذا القول شيخ الإسلام رحمه الله. وانتصر له أيضاً ابن القيم في تهذيب السنن.

والأقرب والله أعلم: المذهب. ووجه الترجيح: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: (إنما الولاء لمن أعتق) وهذا الحصر الذي جاء بلفظ النبي - صلى الله عليه وسلم - مقدم على أثر وعلى الحديث. هذا أولاً. - ثانياً: أن هذا الحديث الذي ذكروه لو صح لكان إليه الغاية في المصير إليه والاحتكام لكنه ضعيف وممن ضعفه الإمام البيهقي والإمام ابن المنذر. ولهذا ابن القيم - رحمه الله - قال: إن صح الحديث قلنا به. لكنه في آخر البحث رجع وقرر أن اللاقط أحق بمال اللقيط إذا مات وليس له وارث. الخلاصة: أن الراجح إن شاء الله مذهب الحنابلة لهذا الحديث أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نفى الولاء إلا بالعتق. ولا يخفاكم أن وقوع هذه المسألة قليل والسبب أنه غالباً ما يكون له من يرثه أي هذا اللقيط. - قال - رحمه الله -: - ووليه في العمد: الإمام يخير بين القصاص والدية. يعني: وليس اللاقط وليس الحاضن وإنما وليه الإمام. - لقول النبي - صلى الله عليه وسلم - في حديث عائشة: (السلطان ولي من لا ولي له). وقول المؤلف - رحمه الله -: (يخير بين القصاص والدية) يعني: بحسب الأصلح فيختار بين القصاص والدية ما فيه صلاح لهذا اللقيط. إذاً: ليس التخيير تخيير تشهي أو أن يصفح لمجرد العطف بل يجب عليه أن يتخير ما فيه الأصلح للمقتول. - ثم قال - رحمه الله -: - وإن أقر رجل أو امرأة ذات زوج مسلم أو كافر أنه ولده: لحق به ولو بعد موت اللقيط. (وإن أقر رجل ... أنه ولده لحق به). = ذهب الجمهور إلى أنه إذا أقر رجل بأن هذا اللقيط ولده لحق به بلا بينة بمجرد الدعوة. سواء كان الذي أقر به هو الملتقط أو رجل آخر. وسواء كان الذي أقر به حر أو عبد مطلقاً. واستدلوا على هذا: - بأن في هذا الإقرار محض مصلحة للطفل وذلك بثبوت نسبه بلا ضرر لا عليه ولا على غيره. = وذهب المالكية إلى أنه إذا أقر رجل بالطفل فإنه لا يثبت نسبه إلا ببينة. - لأن الأصل عدم انتساب هذا اللقيط إلى الرجل. والراجح مذهب الجمهور وهو أنه يثبت النسب لما فيه من المصالح العظيمة جداً للقيط ولولده ولزوجه ولكل من حوله. فهذا الخير والصلاح والنفع للجميع الأقرب أن الشرع لا يأتي بمنعه. ولهذا ذهب إليه الجمهور.

وقلنا سواء كان المقر رجل حر أو رجل عبد. فإن كان الذي أقر به رجل عبد ثبت النسب ولكنه لا يثبت الرق - فيثبت نسباً لا رقاً ويكون الطفل حر وينسب إلى هذا العبد. وفي هذا مراعاة عظيمة لمصلحة اللقيط بإثبات النسب ونفي الرق. ثم نأتي للمرأة: يقول - رحمه الله -: (وإن أقر - يعني: وإن أقرت امرأة - ذات زوج مسلم أو كافر أنه ولدها لحق بها) هذا معنى كلامه وإلا هو ذكر الضمير المذكر. = ذهب الحنابلة إلى أنه إذا أقرت المرأة بالطفل قبل مطلقاً سواء كانت متزوجة أو ليست متزوجة أو ليست متزوجة. ولكنه إذا أقرت المرأة بالطفل فإنه ينسب للمرأة دون زوجها كما أنه إذا أقر الزوج ينسب له دون زوجته. والحنابلة استدلوا: - بالدليل السابق. وهو أن في هذا محض نفع للطفل بإثبات نسبه بلا ضرر. وهذه المسألة: وهي مسألة ما إذا أقرت المرأة مسألة مشكلة ولذلك جاء عن الإمام أحمد - رحمه الله - ثلاث روايات. هذه الرواية الأولى وهي المذهب. = الرواية الثانية: أنه لا يقبل إقرار المرأة إلا إذا كانت لم تتزوج أو بعبارة أدق: إذا كانت ليست ذات زوج. لا نقول لم تتزوج ليست ذات زوج ولو كانت تزوجت ثم طلقت فيصدق عليها القول. إذاً: الرواية الثانية: أن تكون ليست ذات زوج. واستدل أصحاب هذه الرواية: - بأن في إثبات الولد مع وجود الزوج ضرر ظاهر على الزوج. وجه ذلك: أنه لا يخلو من أمرين: ـ إما أن يقر به مكرهاً حتى لا ينسب فراشه بيته إلى السوء. ـ أو أن لا يقر بالطفل وحينئذ لابد من أن تكون المرأة وطئت شبهة أو زنا لأن الولد لن يأتي إلا من الوطء. وفي الخيارين الضرر ظاهر على الزوج. = الرواية الثالثة: أن المرأة إن كان لها أهل وإخوة لهم نسب معروف ثابت فإنه لا قبل منها هذا إلا ببينة. - وذلك لأن إقرار المرأة بالطفل يدخل الضرر والضيم على أهلها كما أنه يمكن إثبات أن هذا الطفل منها إذا كانت ذات أهل بسهولة. هذه ثلاث روايات. في المسألة قول رابع لم يرو عن الإمام أحمد: هذا القول: = هو أنه لا قبل إقرار المرأة مطلقاً.

ومن الغرائب أن هذا القول الرابع حكي إجماعاً. كيف تحكي الإجماع والإمام أحمد له ثلاث روايات في نفس المسألة ليست رواية ولا روايتين ثلاث روايات وتقول محل إجماع. استدل أصحاب القول الرابع الذي حكي إجماعاً: - بأن المرأة يسهل عليها الإتيان بينة تدل على الولادة. فإذا زعمت أن الطفل هذا لها وينتسب لها فتكلف بالبينة فإن جاءت بها وإلا فلم يقبل منها. صارت الأقوال أربعة: يقبل مطلقاً - لا يقبل لمن كانت ذات زوج - لا يقبل لمن كان لها إخوة معروفي النسب - والرابع: لا يقبل مطلقاً. المسألة كما قلت لكم مشكلة والذي يظهر لي أن أرجح الأقوال الرواية الثانية عن الإمام أحمد وهو أنه إذا لم تكن ذات زوج وادعت الولد يقبل منها بلا بينة. لأن في هذا مصلحة لها وللقيط ولا يوجد إن شاء الله مضرة باعتبار أنه لا زوج لها. وعلى كل حال يكون القول الثاني هذا أقرب الأقوال. - قال - رحمه الله -: - ولو بعد موت اللقيط. يعني: ولو ادعى الرجل أو ادعت المرأة أن هذا اللقيط له بعد موت اللقيط فيصح. وذلك احتياطاً لأمر النسب ومراعاة لمصلحة أولاد اللقيط. وهذا صحيح: أي أنا نثبت نسب اللقيط ولو جاء الاعتراف بعد موته. - ثم قال - رحمه الله -: - ولا يتبع الكافر: في دينه إلاّ بينة تشهد أنه ولد على فراشه. (ولا يتبع الكافر: في دينه) معنى هذا الكلام أنه إذا ادعى الكافر هذا اللقيط فإنا نقبل من الكافر هذه الدعوى ويثبت نسب اللقيط لكن لا ينتسب إليه في الدين وإن نسب إليه في النسب. كما أن اللقيط لا يقر في يد هذا الكافر: - لأنه لا ولاية لفاسق فكيف بالكافر. - ولأنه لا يتولى الكافر على المسلم. إذاً: إذا ادعى اللقيط الكافر صححنا الدعوى وانتسب اللقيط إلى الكافر لكن لا يتبعه في الدين ولا يملك الكافر الحضانة. فهم من هذا أنه إذا كان اللقيط في يد الملتقط وادعاه مسلم وأثبتنا النسب فمن المعلوم أنه يجب على اللقيط أن يدفع الغلام إلى مدعيه يعني: إلى أبيه. لأن هذا المدعي سيكون أباً شرعاً وإنما يستثنى من ذلك إذا كان المدعي كافراً.

(إلاّ ببينة تشهد أنه ولد على فراشه): فإذا أتى ببينة تشهد أن هذا اللقيط ولد في فراشه صار ابناً له بكل الأحكام وأعطي إياه وانتسب له وصار كافراً في الحكم لأنه أثبت أنه ولده في الفراش. وهذا لا إشكال فيه. - ثم قال - رحمه الله -: - وإن اعترف بالرق مع سبق مناف .. لم يقبل منه. إذا اعترف اللقيط بالرق مع سبق مناف أو مع عدم سبق مناف على المذهب فقيد المؤلف - رحمه الله - لا مفهوم له فإنه لا يقبل منه. استدل الحنابلة على هذا بدليلين: - الدليل الأول: أن الطفل اللقيط لا يعرف رقه من حريته فكيف يزعم أنه حر فلا تقبل منه هذه الدعوى. - الدليل الثاني: أن في دعواه الرق إسقاط لحقوق الله. فإن الرقيق لا يجب عليه أن يصلي الجماعة ولا يجب عليه ما يجب على الحر من أحكام عموماً. ففي هذه الدعوى إسقاط لحق الله فلا يقبل منه. = والقول الثاني: أنه إن ادعى الرق مع سبق مناف لم يقبل منه. وإن ادعى الرق بلا سبق مناف قبل منه. وهذا قول عند الحنابلة. وسبق المنافي: هو أن يتصرف تصرف الأحرار. كأن يبيع ويشتري ويزوج .. إلى آخره. فإذا تصرف تصرف الأحرار صار هذا التصرف ينافي دعواه فلا يقبل. والراجح المذهب أنه لا يقبل منه مع سبق مناف أو بلا سبق منافي. - ثم قال - رحمه الله -: - أو قال: ((إِنَّهُ كَافِرٌ)) لم يقبل منه. إذا زعم أنه كافر لم يقبل منه. ثم إذا لم يقبل منه طلب منه التوبة فإن تاب وإلا قتل ردة. - لأن الأصل فيه الإسلام. - ولأن الأصل أن الحكم للدار وهو موجود في دار المسلمين. فلا يقبل منه الزعم أنه كافر بل نقول: إما أن تعود أو تقتل ردة. - ثم قال - رحمه الله -: - وإن ادعاه جماعة: قدم ذو البينة. يعني: إذا ادعى هذا اللقيط مجموعة من الناس فإن من يقدم بينة صحيحة معتبرة شرعاً يقدم على الباقين. ومفهوم عبارة المؤلف - رحمه الله - سواء كان هذا المقدم مسلماً أو كافراً فإنه يقدم ولو كان الذي يعارضه مسلم. = والقول الثاني: أنها تقدم البينة إذا كانوا جميعاً من المسلمين. وإذا كان بعضهم مسلماً وبعضهم كافراً فإن بينة الكافر ترد ويعطى اللقيط إلى المسلم. والراجح إن شاء الله بلا إشكال أنه تقدم بينة صاحب البينة ولو كان كافراً.

والسبب: أن البينة في الشرع وضعت لإظهار الحق وبيان المبطل من المصيب فلا يسوغ أن لا نعمل بها. هذا أولاً. ثانياًَ: لا يترتب على القول بتقديم بينة الكافر أي ضرر لأنه تقدم معنا أن الكافر إذا ادعى اللقيط فإنه يتلحق به نسباً ولا يلتحق به ديناً كما أنه لا يقر في يده. إذاً لا يترتب على هذا أي ضرر فكيف نترك صاحب البينة الذي معه بينة تبين أنه على الحق ونأخذ الآخر. فالأقرب الإطلاق الذي أشار إليه المؤلف - رحمه الله -. - ثم قال - رحمه الله -: - وإلاّ فمن ألحقته القافة به. يعني: وإن ادعاه جماعة وليس مع أحد منهم بينة فإنا نعمد إلى القافة. وفهم من كلام المؤلف - رحمه الله - أنه لا مدخل للقرعة في النسب. وهذا صحيح. فإن القاعدة عند الفقهاء أن القرعة لا تحدد النسب. أو بعبارة أخرى لا مدخل للقرعة في النسب. والدليل على اعتبار القافة من وجهين: - الوجه الأول: أنه صح عن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - بإسناد ثابت أنه حكم بالقافة. إذ ادعى اثنان صبياً فعرضه على القافة وألحقه بمن ألحقته به القافة. - ثانياً: أنه صح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه رأى أن القافة معتبرة وذلك لما جاء مجزز المدلجي ورأى أسامة وزيد - رضي الله عنهما - وحكم أنهما من بعض فسر النبي - صلى الله عليه وسلم - بشهادته. وجه الاستدلال بالحديث: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لا يمكن أن يسر إلا بما هو معتبر شرعاً ولو لم تكن هذه الشهادة معتبرة شرعاً لم يسر بها النبي - صلى الله عليه وسلم -. = القول الثاني: أنه لا عبرة بالقافة. وهو مذهب الأحناف. واستدلوا على هذا بدليل: - وهو أنهم قالوا: أنا نجد كثيراً الأقارب لا يتشابهون والأجانب يتشابهون فلما وجدنا أن الأقارب لا يتشابهون مع أنهم شرعاً قطعاً أقارب والأجانب يتشابهون وبينهم تقارب مع أنهم لا صلة بينهم في النسب علمنا أن الحكم بالشبه لا عبرة به. وهذا القول قول ضعيف ونستطيع أن نقول قول ساقط. السبب: - أنها مجرد آراء في مقابلة النصوص. هذا من جهة.

- من جهة أخرى: أن أهل القافة لا يعتمدون على الشبه الظاهر فقط وإلا أي شبه بين أسامة وزيد أحدهما أبيض والآخر أسود إنما يعتمدون على معالم خاصة بهم وأشياء هم يرونها لا يراها غيرهم تدلهم على الشبه وأن هذا ينتسب إلى هذا الرجل أو ذاك الرجل. وعلى كل حال العبرة بالنصوص والنصوص دلت على أن القافة يحكم بها لا سيما وقد حكم بها عمر - رضي الله عنه - في محضر من الصحابة ولم يعارضه أحد. بهذا ولله الحمد تم كتاب البيع ونسأل الله أن ينفع به ... انتهت المذكرة – بحمد الله – ... ويليه كتاب الوقف بإذن الله تعالى ... والحمد لله أولاً وآخراً وظاهراً وباطناً ... أبو أسامة/ محمد بن مقبل الحربي

كتاب الوقف

الدرس: (1) من الوقف كتاب الوقف قال شيخنا حفظه الله: بسم الله الرحمن الرحيم والحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين. قال - رحمه الله -: كتاب الوقف. الوقف: مصدر وقف. ومعناه في اللغة: التحبيس. وهو مشروع: بالسنة. ودل عليه أحاديث منها: - قول النبي - صلى الله عليه وسلم - (إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية أو علم ينتفع به أو ولد صالح يدعو له). فقوله: (صدقة جارية) يشير به إلى الوقف. - وأيضاً دل عليه حديث عمر - رضي الله عنه - أنه أتى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: إني ملكت أرضاً لم أملك قط أرضاً أنفس منها في خيبر فما تأمرني فيها فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: (إن شئت حبست أصلها وتصدقت بها. غير أنه لا تباع ولا توهب ولا تورث. وهذا الحديث حديث عمر - رضي الله عنه - أصلٌ عظيم في هذا الباب. سيأتينا أنا نحتاج إليه في كثير من المسائل فهو أصل عظيم نحمد الله أن وفق عمر أن يسأل النبي - صلى الله عليه وسلم - هذا السؤال حتى تأتينا هذه الفتوى المفصلة. قال - رحمه الله -: وهو تحبيس. ذكرت التعريف والمشروعية بقي مسألة علينا: = ذهب الجماهير إلى أنه مشرو، واستدلوا بهذه النصوص الصريحة الصحيحة الواضحة. = وذهب شريح وبعض الفقهاء إلى أنه لا يشرع. وهو قول لا يتلفت إليه. بل اعتبروه من الأقوال التي خالفت الإجما،. وجه ذلك: أن جابر - رضي الله عنه - قال: ما من أحد من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - وجد خيراً إلا أوقف واعتبر الحنابلة هذا الأثر الموقوف عن جابر حكاية للإجماع وهو صحيح وهو كذلك: هو حكاية للإجماع. فمخالفة شريح أو غيره لا عبرة بها مطلقاً مع توارد وتتابع أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - على الإيقاف بالإضافة إلى السنة المرفوعة الصحيحة. قال - رحمه الله -: وهو تحبيس الأصل. التحبيس: هو قطع المال عن التملكات والتصرفات. وقوله: (تحبيس الأصل)، الأصل يقصد به عند الحنابلة: كل ما ينتفع به مع بقاء عينه.

وسيذكر المؤلف - رحمه الله - هذه المسألة ونذكر ما يتعلق بها من أحكام لكن الذي يعنينا الآن أن الحنابلة يقصدون بالأصل هو هذا كل ما ينتفع به مع بقاء أصله. قال - رحمه الله -: وتسبيل المنفعة. يقصد بتسبيل المنفعة أي: صرفها في مستحقيه، إذاً هذا هو مفهوم الوقف في الإسلام. (تحبيس الأصل وتسبيل المنفعة). قال - رحمه الله -: ويصح بالقول. الوقف يصح بصيغتين: ـ القول. ... ـ والفعل. بدأ - رحمه الله - بالقول: والسبب في ذلك: أن القول صحة الوقف فيه محل إجماع، يعني: إذا قلنا محل إجماع يعني: من القائلين بمشروعية الوقف وهم جماهير أهل العلم. واستدلوا على هذا: - بأن الوقف عقد من العقود يصح باللفظ أو بالقول. وقوله: (يصح) يعني من جائز التصر، الوقف لا يصح ممن لا يجوز أن يتصرف إما لصغر أو جنون أو سفه أو حجر أو لأي سبب. قال - رحمه الله -: بالقول وبالفعل الدال عليه. ـ القول له ستة ألفاظ: ثلاثة صريحة وثلاثة كناية وسينص المؤلف عليها. ـ قال: (وبالفعل الدال عليه) يعني: أن الوقف يصح بالفعل الدال على إرادة الوقف وهذا هو مذهب الحنابلة. وهو تصحيح الوقف بالفعل بلا قول. واستدلوا على هذا بأدلة: - الدليل الأول: أن الوقف بالفعل مع ما يدل عليه هو في قوة القول في الدلالة على إرادة الوقف. - الثاني: أن العرف دل على تصحيح الوقف وإرادته بالفعل دون القول. - الثالث: أن العبرة بالمقاصد لا بالألفاظ فإذا علمنا من دلائل الأحوال والقرائن أنه أراد الوقف عملنا به. قوله - رحمه الله -: (وبالفعل الدال عليه) يعني: وينبني على هذا إذا صححنا الوقف بالفعل أنه إذا وقف بالفعل فإنه لا يجوز له أن يرجع وخرجت العين عن ملكه، فهذه هي الثمرة من تصحيح الوقف بالفعل. إذاً: يجب أن تعلم أنه إذا صححت الوقف بالفعل ثم وقفه بالفعل كما سيأتينا فإنه خرجت العين وليس له أن يرجع. ثم ذكر - رحمه الله - أمثلة على الوقف بالفعل: قال - رحمه الله -: كمن جعل أرضه مسجداً وأذن للناس في الصلاة فيه. إذا جعل أرضه مسجداً وأذن للناس أن يصلوا في هذا المسجد فقد خرجت الأرض عن ملكه وأصبحت وقفاً لله.

لكن يشترط في الإذن أن يكون إذناً عاماً، أما الإذن الخاص أو المقيد فإنه لا يدل على التوقيف لكن الذي يدل هو الإذن العام. فإذا وضعه وأذن للناس جميعاً أن يصلوا في هذه الأرض فقد أصبحت مسجداً وخرجت عن ملكه. المثال الثاني: قال - رحمه الله -: أو مقبرة وأذن في الدفن فيها. كذلك إذا أذن للناس أن يدفنوا في هذه الأرض فمن المعلوم أنه إذا كان الإذن عاماً فقد أخرج الأرض عن ملكه ووقفها في سبيل الله. وجعل الأرض مقبرة في التوقيف أظهر منه في المسجد وإن كان في الكل هو توقيف لكن في المقبرة أظهر لأن الرجوع في المقبرة أصبح أشبه ما يكون بالمتعذر لأنها أصبحت مقابر لا يستطيع أن ينتفع منها بأي شيء فخرجت من ملكه وأصبحت وقفاً لله وفي سبيله. فإذاً هذان مثالان بهذا الشرط وهو أن يأذن إذناً عاماً، ولعل مقصود الحنابلة بقولهم: (إذناً عاماً) يعني: أن تدل القرائن حقيقة على أنه أراد الوقف. ففي يومنا هذا ربما يأذن إذناً عاماً ونعلم أنه لم يرد التوقيف، كما لو أذن في المصليات التي في العماير في الدور الأول أو في الدور الثاني هو لا يريد أن تخرج عن ملكه وإن كان أذن فيها إذناً عاماً. فإذاً: الضابط ليس هو الإذن أو عدم الإذن وإنما الإذن مثال الضابط هو أن نعلم من خلال القرائن والأحوال أنه أراد إخراج هذه الأرض وتوقيفها في سبيل الله، فإذا علمنا من خلال القرائن هذا العلم فقد صارت وقفاً وخرجت عن ملكه. قال - رحمه الله -: وصريحه: وقفت وحبست وسبلت. رجع - رحمه الله - إلى الكلام عن التوقيف بالقول، ولو أنه جعل الكلام عن الوقف بالقول مجموعاً مع قوله في أوله: (ويصح بالقول)، لكان أنسب وأسهل في الترتيب. يقول - رحمه الله -: (وصريحه: وقفت وحبست وسبلت) هذه الألفاظ الثلاث: (وقفت وحبست وسبلت) ألفاظ صريحة. والألفاظ الصريحة هي التي لا تقبل إلا معنى الوقف. والدليل على أنها ألفاظ صريحة: - أن هذه الألفاظ اعتبرت ألفاظاً صريحة في الشرع وفي العرف. ولهذا نجد النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: (إن شئت حبست أصلها). فاعتبر التحبيس لفظاً صريحاً، هذه الألفاظ الثلاثة صريحة لا تحتاج إلى أي أمر إضافي في إثبات الحكم.

وأنت يجب أن تعلم أن الألفاظ الصريحة هنا وفي طلاق تدل على معنيين أو يؤخذ منها معنيان: ـ الأول: أنها تدل على الحكم بلا احتياج لأمر زائد خارج عن اللفظ. ـ الثاني: أنها يجب أن لا تدل إلا على المعنى الذي هي صريحة فيه. وهذا التقرير في صرائح الألفاظ وفي كل الأبواب في الطلاق وفي الوقف. قال - رحمه الله -: وكنايته: تصدقت وحرمت وأبدت. والكناية هي الألفاظ التي تشترك بين الوقف وغيره. يعني: تطلق على الوقف وعلى غيره. فقول الإنسان: (تصدقت) يحتمل أنه أراد الصدقة المعروفة وهي إخراج العين من ملكه إلى ملك المتصدق عليه فقط. ويحتمل أنه أراد الوقف. فلا تصير وقفاً إلا بأمر زائد وهو ما سيذكره المؤلف - رحمه الله - في عباراته القادمة وهي أحد ثلاثة أشياء. قال - رحمه الله -: فتشترط النية: مع الكناية، أو اقتران أحد الألفاظ الخمسة، أو حكم الوقف. كما قلنا في الصريح أنه لا يحتاج إلى أمر زائد ولا يحتمل إلا المعنى الذي هو صريح فيه كذلك نقول في الكناية. أنها لا تكون حكماً في الوقف إلا إذا انضاف إليها أمر زائد ويجب أن تشترك في معناها بين الوقف وبين أمر آخر. فالكناية عكس الصريح تماماً. يقول - رحمه الله -: (فتشترط النية: مع الكناية، أو اقتران أحد الألفاظ الخمسة، أو حكم الوقف). يعني: يشترط لاعتبار الكناية لفظاً دالاً على التوقيف أن تقترن بأحد ثلاثة أمور: ـ الأمر الأول: النية، فإذا صار مع الكناية نية أصبحت دالة على الوقف. والدليل على هذا: - أن الكناية مع النية يساوي الصريح، يعني: في الدلالة على المقصود. ولذلك إذا احتف أو اقترن اللفظ بالنية صار صالحاً للتوقيف. ـ الثاني: يقول: (أو اقتران أحد الألفاظ الخمسة)، إذا اقترن بالكناية أحد الألفاظ الخمسة صارت صريحة. والألفاظ الخمسة يقصد بها: الثلاثة الصريحة، واللفظان الباقيان من الكناية. - فإذا قال: تصدقت وقفاً بهذا البيت. - أو تصدقت ووقفت هذا البيت. صار وقفاً. - أو قال: تصدقت وحرمت هذا البيت، صار وقفاً. - أو قال: تصدقت وحبست هذا البيت، صار وقفاً. يعني: إذا اقترن هذا اللفظ بأحد الألفاظ الخمسة الباقية لأنه أصبح يدل على الوقف وانتفى من معناه الاشتراك.

ما الذي نفى الاشتراك؟ هو الاقتران بأحد الألفاظ الخمسة. ـ يقول - رحمه الله -: (أو حكم الوقف). يعني: إذا قرن الكناية بأحد أحكام الوقف. - كأن يقول: تصدقت بهذا البيت لا يباع. - أو تصدقت بهذا البيت لا يوهب. - أو تصدقت بهذا البيت لا يورث. صار البيت وقفاً. لأنه باقترانه بهذا اللفظ تحدد معناه ولم يعد مشتركاً. وهذا صحيح في الأمور الثلاثة. لكني أقول: ينبغي على الإنسان إذا أراد أن يوقف أن لا يشغل الناس بتتبع نيته واقتران لفظه وأن يوقف بلفظ صريح حتى يخرج هو وذريته والناظر وكل من له شأن بالوقف من الإشكال. ولذلك نقول وقف وقفاً صريحاً. ولذلك استخدم النبي - صلى الله عليه وسلم - لفظاً صريحاً في التوقيف. لكن في بعض الأماكن وفي الأوقات تكون الكنايات عند بعض الناس صرائح باعتبار العرف. فإذا كانت صريحة باعتبار العرف فلا نحتاج إلى أن ينضاف إليها شيء من الأمور الثلاثة. ((الأذان)) بدأ المؤلف - رحمه الله - بالشروط التي لا يصح الوقف إلا بها وذكر - رحمه الله - ثلاثة شروط. قال - رحمه الله -: ويشترط فيه: 1 - المنفعة دائماً من معين ينتفع به مع بقاء عينه، كعقار وحيوان. (ويشترط فيه: المنفعة دائماً من معين) يشترط في الوقف أن يكون له نفعاً وأن يكون هذا النفع له نفع دائم. ومقصود الحنابلة بالنفع هنا هو نفس مقصودهم في البيع. فيشترط أن تكون المنفعة: مباحة. ومعلومة. ومحددة ... إلى آخره. بناء عليه لا يجوز للإنسان أن يوقف ما لا يجوز أن يباع. فلا يجوز أن يوقف كلباً ولا خنزيراً ولا خمراً ولا آلات اللهو ولا يجوز أن يوقف كل ما لا يجوز أن يباع. واستثنى الحنابلة من هذا: الماء، والمصحف، فإن الماء لا يجوز أن يباع ويجوز أن يوقف، والمصحف لا يجوز أن يباع ويجوز أن يوقف. = القول الثاني - في هذه المسألة -: أنه يجوز أن يوقف الإنسان كل عين يجوز أن تعار. فالأعيان التي يجوز أن تعار يجوز أن توقف. على هذا القول: يجوز أن يوقف الإنسان الكلب المعلم، لأن الكلب المعلم يجوز أن يعيره الإنسان لغيره لأن فيه نفعاً مباحاً. وهذا القول الثاني وهو جواز وقف كل ما تجوز إعارته هو قول للحنابلة واختيار شيخ الإسلام - رحمه الله -

قال: (المنفعة دائماً من معين) يشترط في العين الموقوفة أن تكون معينة، فلا يجوز أن يوقف المجهول ولا المبهم ولا ما في الذمة. لأن هذه الأعيان ليست معينة. واستثنى الحنابلة من هذا الحكم: جواز وقف المشاع، لأن المشاع غير معين، ومع ذلك يرون جواز وقفه. = والقول الثاني: جواز وقف المبهم فإذا قال أوقفت أحد هذين البيتين جاز وصح وعين المبهم بالقرعة. وذلك: لأن في هذا الإجراء تحقيقاً لمقصد الواقف بلا مضرة، فالواقف أراد أن يوقف أحد هذين البيتين فلماذا نبطل العقد من أصله بل الأحسن أن نصحح العقد ونحدد العين الموقوفة بالقرعة. وهذا القول صحيح. يقول: (ينتفع به مع بقاء عينه) يشترط الحنابلة أن تكون العين مما يمكن أن ينتفع بها مع بقائها. والدليل على هذا: - أن موضوع الوقف هو التحبيس والتحبيس يتنافى مع الإتلاف. = والقول الثاني: جواز وقف ما يتلف، أو بعبارة أدق: جواز وقف ما لا يمكن أن ينتفع به إلا بإتلافه. كالدراهم والدنانير والرياحين والطعام والأدهان وغيرها. وإلى هذا ذهب شيخ الإسلام بن تيمية - رحمه الله - واستدل على ذلك: - بأنه لا محظور شرعي في هذا. - كما أن فيه نفعاً، ووجه النفع: أنه إذا أوقف هذا الدهن على هذا المسجد استفدنا من الوقف أن لا يصرف هذا الدهن إلا في هذا المسجد. فانتفعنا من أحكام الوقف ولو كانت العين تتلف بالانتفاع بها. وفي الحقيقة لكل من القولين وجهة نظر قوية وإذا نظرت إلى الصحابة تجد أنهم لم يوقفوا إلا ما يمكن الانتفاع به مع بقاء عينه. يعني: لا يعرف أن الصحابة أوقفوا إلا مثل هذه الأشياء. وبالمقابل ما ذكره شيخ الإسلام أيضاً وجيه ويحقق المصلحة. والله أعلم وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. ((انتهى الدرس)).

الدرس: (2) من الوقف قال شيخنا حفظه الله: بسم الله الرحمن الرحيم والحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين. تقدم في درس الأمس الكلام عن الشرط الأول من شروط الوقف، ويحسن أن نشير الآن إلى أنّ هذا الشرط في الحقيقة يشتمل على عدة شروط، هو يسمى الشرط الأول, وإن كان فيه أكثر من شرط. قال المؤلف ـ رحمه الله ـ: (كعقار وحيوان ونحوهما) يشير الشيخ المؤلف - رحمه الله - بهذه العبارة إلى أنه يجوز أن يوقف الإنسان العقار والمنقول، وإلى هذا يشير بالتمثيل, فإنه يقول كعقار وحيوان، فالمثال الأول للعقار والمثال الثاني للمنقول. نبدأ بالقسم الأول: وهو وقف العقار، صحيح بإجماع القائلين بمشروعية الوقف لأنّ أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - وقفوا عقاراً كثيراً، ولأنّ له منفعة دائمة مع بقاء العين. القسم الثاني: وقف المنقول, ووقف المنقول فيه خلاف, فالمذهب كما ترى هنا بل هو قول الجماهير والجم الغفير أنّ وقف المنقول جائز وصحيح، وأنه مشروع يتوافق مع الأصول الدالة على مشروعية الوقف. والقول الثاني: للأحناف أنه لا يشرع وقف المنقول. والراجح إن شاء الله صحة وقف المنقول لأدلة كثيرة منها: وهو الدليل الأول: أنّ عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - (جعل فرساً في سبيل الله) يعني للجهاد، والفرس من المعلوم أنه من المنقولات. الدليل الثاني: حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - أنّ النبي - صلى الله عليه وسلم - قال (من احتبس فرساً في سبيل الله إيماناً واحتساباً فإن شبعه، وريه، وروثه، وبوله، حسنات في ميزانه يوم القيامة) ومن المعلوم أنّ الفرس أيضاً من المنقولات. الدليل الثالث: أنّ خالد بن الوليد - رضي الله عنه - (احتبس أدرعه, وأعتاده, في سبيل الله) والدرع منقولة وبهذا علمنا أنّ مذهب الأحناف ضعيف جداً، لأنه يخالف النصوص الكثيرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وعن أصحابه - رضي الله عنهم - قال المؤلف ـ رحمه الله ـ: (وأن يكون على بِرّ) الشرط الثاني أن يكون على بِرّ, يعني أن يكون مصرف الوقف جهة بِرّ, وسواء كان الواقف مسلماً أو ذمياً, وأيضاً سواء كان الوقف على جهة عامة كالمساجد, أو على معين كقريب من أقربائه, في جميع هذه الأحوال يجب أن يكون على جهة بِرّ.

وهذا مذهب الجمهور, واستدلوا على هذا بأنّ الوقف إنما شرع للتقرب إلى الله بتحصيل الأجر, وهذا لا يحصل إلى إذا كان على جهة بِرّ، بناء على هذا القول لا يجوز أن نقف على الأغنياء من غير الأقارب, لأنهم ليسوا جهة بِرّ, فلا هو قريب ولا فقير، ولا يجوز أن نقف على تعليم الشعر المباح، لأنه ليس من جهات البِرّ. والقول الثاني: أنه لا يشترط أن يكون على جهة بِرّ، بل يشترط أن لا يكون على معصية, فظهور الِبِرّ والقربة فيه لا يشترط. واستدل هؤلاء: بأنّ الوقف من حيث هو عبادة، فلا ننظر إلى جهة صرفه, وعلى هذا القول يجوز أن نقف على الأغنياء وعلى من يعلمون الشعر المباح، والصحيح مذهب الجمهور, ذلك لأنّ الوقف لم يشرع إلا ليتعبد الإنسان ربهُ بِهِ ابتغاء الثواب وهذا لا يكون إلا إذا كان المصرف جهة بِرّ، ولما قرّر الشيخ - رحمه الله - الحكم ذكر أمثلته: قال المؤلف ـ رحمه الله ـ: (كالمساجد والقناطر والمساكين) بدأ المؤلف بالتمثيل بالوقف على جهة عامة, كالمساجد والقناطر والمساكين, جهات عامة وليست جهة معينة, المساجد معروفة، والمساكين تقدم معناهم في كتاب الزكاة, والقناطر جمع قنطرة، والقنطرة هي الجسر الممدود على الماء، واشترط بعضهم أن يكون مقوساً, وإلاّ لا يعتبر قنطرة, ومن خلال هذا التعريف عرفنا الفرق بين القنطرة والجسر, لأنه مادام يقول أنّ القنطرة هو جسر ممدود على الماء, فإنّ الجسر أعم، فالجسر لا يشترط أن يضرب على الماء, ولا أن يكون مقوساً ولا أن يبنى, بينما القنطرة لا تسمى قنطرة, إلاّ إذا كانت مبنية, ولابد ومقوسة ومضروبة على الماء. فإذاً عرفنا الآن الفرق بين القنطرة والجسر, ولاشك أنّ الوقف على الطرق والقناطر من أعظم القربات, لما فيه من تسهيل على المسلمين, وقضاء حاجتهم. قال المؤلف ـ رحمه الله ـ: (والأقارب من مسلم وذميّ)

هذا من باب التمثيل على الوقف على جهة خاصة, وهم الأقارب, ويجوز أن يقف على الأقارب سواء كانوا من المسلمين أو الذميّين, والسبب في ذلك أنّ الوقف على الأقارب عبادة, لأنه يعتبر من باب صلة الرحم, وصلة الرحم عبادة سواء كانت مع مسلم أو مع ذميّ, وفهم من كلام المؤلف أنّ الذميّ لا يجوز أن يوقف عليه, إذا كان من الأقارب, فإن لم يكن من الأقارب, بأن كان أجنبياً, فإنه لا يجوز أن يوقف عليه, ولو من ذميّ، وإلى هذا مال الشيخ الزركشي، وقال إنّ هذا ليس من التقرب, لأنّ القربة تكون بصلة الرحم, وهذا ليس من الأرحام. والقول الثاني: أنه يجوز أن نقف على الذميّ, ولو لم يكن من الأقارب كأن يكن صديقاً أومن المعارف, واستدل هؤلاء بأنّ الصدقة والبِرّ والإحسان للذميّ جائز, فالوقف من هذا الباب. وهذا القول الثاني هو الراجح إلاّ أنه لا ينبغي أن يقف الإنسان على ذميّ, إلاّ في حالتين: إما أن يكون من الأقارب, وقد وقف الصحابة - رضي الله عنهم - على أقاربهم من غير المسلمين ولا إشكال ولا حرج فيه. الثاني: أن يرجى إسلامه، أقول ينبغي ألاّ يوقف إلاّ على أحد هذين النوعين. قال المؤلف ـ رحمه الله ـ: (غير حربيّ) يعني فلا يجوز أن نقف على حربيّ, ومثله المرتد, والوقف عليهما باطل, والسبب في ذلك أنّ الحربيّ والمرتد, المقصود شرعاً إعدامهما, والتضييق عليهما, والوقف عليهما بعكس هذا الغرض, فإنّ في الوقف عليهما توسيع, والمطلوب شرعاً التضييق والإعدام, وهذا صحيح. والدليل الثاني: أنّ الوقف يراد للتأبيد, والحربيّ والمرتد مآله إلى القتل شرعاً, وهذا يؤول إلى انقطاع مصرف الوقف، إذاً لا يجوز أن نقف لا على الحربيّ ولا على المرتد. قال المؤلف ـ رحمه الله ـ: (وكنيسة) يعني ولا يجوز أن يوقف الإنسان وقفاً على كنيسة, سواء كان الواقف من المسلمين أومن الذميّين, وإلى هذا ذهب الجماهير, بل لكثرة الذاهبين إليه, أُعتبر إجماعاً عند بعض الفقهاء, والسبب في ذلك أنّ في الوقف على الكنيسة إعانة على الكفر والإلحاد والشرك, وهذا مناقض تماماً لمقصود الوقف, فإنّ مقصود الوقف القربة, وهذا كفر وشرك.

والقول الثاني: أنّ الوقف على الكنيسة جائز، لكنه يعتبر من الوقف الجائز, وليس من الوقف اللازم, فله أن يرجع في أيّ وقت شاء. والقول الثالث: أنّ الوقف على الكنيسة جائز مطلقاً, وهذا القول والذي قبله ضعيف جداً, إذ كيف يسوغ للإنسان أن يوقف على الكنيسة, فيها من الشرك والإلحاد ما لا يعلم به إلاّ الله, وفيها من تحريف كلام الله والتعبد لله بما لا يرضاه أنواع شتى, فلا شك أنّ القول بجوازه مطلقاً, أو بجوازه مع اعتباره جائزاً, أنها أقوال ضعيفة جداً. قال المؤلف ـ رحمه الله ـ: (ونسخ التوراة والإنجيل) يعني ولا يجوز للإنسان أن يوقف الأوقاف على نسخ التوراة والإنجيل, وذلك لأنّ التوراة والإنجيل وإن كانا من الكتب التي نزلت من السماء من الله, من الكتب السماوية, إلاّ أنه لحقها التحريف والتبديل والتغيير, فالوقف على نسخ هذه الكتب هو في الحقيقة إعانة على نشر كتب محرفة, لا يجوز أن تنشر ولا أن تقرأ, هذا من جهة, ومن جهة أخرى أنّ هذه الكتب وهي التوراة والإنجيل منسوخة, وجاء القرآن حاكماً عليها، ولهذا لما أخذ عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - شيئاً من التوراة غضب النبي - صلى الله عليه وسلم - وغضبه فيه دليل على أنّ أخذ التوراة نوع من المعصية, فكيف نوقف الأوقاف على التوراة والإنجيل بعد هذه النصوص والمعاني التي ذكرها الفقهاء. قال المؤلف ـ رحمه الله ـ: (وكتب زندقة)

يعني ولا يجوز أن يوقف الإنسان الأوقاف على كتب الزندقة, وإنما مثل الشيخ بكتب الزندقة, لكثرة وجودها في عصر المؤلف وما قبله وما بعده، ولكن هذا الحكم لا يختص بكتب الزندقة, بل يشمل كل الكتب التي فيها معاصي, سواء كانت المعاصي فكرية أو معاصي أخلاقية, فإنّ الوقف عليها لا يجوز, كذلك الوقف على كتب السحر والتنجيم والكهانة, سواء كانت للتعليم أو للإطلاع, كل هذه الأوقاف محرمة, وواقفها آثم, وهي باطلة, لأنّ كل عمل ليس عليه أمر الله ورسوله فهو ردّ، فإذاً تمثيل الشيخ بالزندقة من باب التمثيل, فكتب الغناء, وكتب القصص الماجنة, اليوم أعظم شراً من كتب الزندقة في وقتهم لأنّ كتب الزندقة انحسرت الآن إلى حد كبير, وظهر الحق وصار مكانها الكتب التي تعتني بالقصص المخلة بالآداب أو بالقصص الداعية للموسيقى والمعازف والأغاني, وهذه شرها اليوم مستطاب, فالتمثيل بها في مثل هذا المقام أولى, على كل حال القاعدة أنه لا يجوز أن يوقف اّلأوقاف على أيّ كتب تدعوا إلى معصية الله. قال المؤلف ـ رحمه الله ـ: (وكذا الوصية) وكذا الوصية يعني أنّ الوصية حكمها حكم الوقف, فيما يجوز أن يوقف عليه وفيما لا يجوز أن يوقف عليه, فلا يجوز أن يوصي بما لا يجوز أن يوقف عليه, ويجوز أن يوصي فيما يجوز أن يوقف عليه، وهذا من باب يعني كأنه الشيخ أراد تكميل الحكم, وإلاّ الوصية لها باب مستقل. قال المؤلف ـ رحمه الله ـ: (والوقف على نفسه) يعني ولا يجوز أن يوقف الإنسان على نفسه, وإلى هذا ذهب الحنابلة, واستدلوا على هذا الحكم بأنّ الوقف هو عبارة عن تمليك للرقبة أو تمليك للمنفعة, لا يخرج عند جميع أهل العلم عن هذين النوعين, إما أن يكون تمليك للرقبة أو تمليك للمنفعة, ولا يجوز للإنسان أن يملك نفسه, كما لا يجوز للإنسان أن يبيع وأن يشتري مع نفسه فإنّ هذا العقد باطل, كذلك الوقف على النفس. والقول الثاني: وهو رواية عن الإمام أحمد - رحمه الله - أنّ الوقف على النفس صحيح, ولا محظور فيه, واستدلوا على هذا بعدة أدلة:

الدليل الأول: أنّ أمير المؤمنين عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - لما أوقف نصيبه في خيبر بقي هذا النصيب في يده إلى أن مات، وهذا في معنى أن يكون الوقف على النفس, لأنه انتفع به إلى أن توفي - رضي الله عنه - هذا أولاً. ثانياً: أنّ عثمان بن عفان - رضي الله عنه - لما أوقف البئر جعل له دلواً معه إلى المسلمين, فملك منفعة شيء من البئر, وهذا في معنى الوقف على النفس. الدليل الثالث: أنه لا مانع شرعاً ولا محذور من أن يقف الإنسان على نفسه, والوقف ليس كالبيع من كل جهة, وإن كان الوقف والبيع كل منهما عقد من العقود, لكن بينهما فروق تمنع الإلحاق في كل المسائل, بدليل هذه الآثار المروية عن أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - ولذلك الراجح هو جواز الوقف على النفس. قال المؤلف ـ رحمه الله ـ: (ويشترط في غير المسجد ونحوه, أن يكون على معينٍ يملك) يشترط في غير الوقف ونحوه أن يكون على معين يملك, تقدم معنا أنّ الوقف ينقسم على قسمين: وقف على جهة عامة, ووقف على جهة خاصة. فإن كان الوقف على جهة عامة فإنه لا يشترط أن تكون هذه الجهة مما يملك, كأن يقف على المسجد، ومن المعلوم أنّ المسجد ليس له ذمة يملك بها, ومع ذلك يجوز أن يوقف الإنسان عليه, إذا الوقف على المسجد على الجهات العامة كالمسجد جائز ولا يشترط فيه أن يكون الموقوف عليه مما يملك أو ممن يملك. القسم الثاني: الوقف على جهة خاصة, بل القسم الثاني الوقف على معين, وهو أدق من قولهم الجهة الخاصة, فالوقف على معين يشترط فيه أن يكون الموقوف عليه ممن يملك, والدليل على هذا أنّ الوقف هو عبارة عن تمليك للرقبة أو للمنفعة، والتمليك لابد أن يكون لمن يصلح أن يملك, وأما من لا يصلح أن يملك فلا يجوز أن نقف عليه, بناء عليه لا يجوز التمليك أو لا يجوز الوقف على المجهول لأنه لا يملك, ولا يجوز الوقف على مبهم, كأن يقول أوقفت الدار على أحد هذين, والمجهول كأن يقول أوقفت الدار على رجل، هكذا المجهول كل هذه العقود لا تجوز.

والقول الثاني: أنه يجوز الوقف على المبهم، فإذا قال أوقفت الدار على أحد هذين, علمنا أنّ مراده أن يوقف على أحد هذين, ويعين بالقرعة, لأنّ تعيين الموقوف عليه بالقرعة أقرب إلى مقصود الواقف من إبطال الوقف برمته، وهذا القول الثاني هو الأقرب للصواب إن شاء الله لأنه أقرب إلى مقصود الشارع وهو كثرة الوقوف وإلى مقصود الواقف وهو أنه عيّن أحد هذين الشخصين، أما المجهول فالحقيقة أنّ كلام الحنابلة صحيح, وهو أنه لا يجوز أن نقف على المجهول، لأنّ هذا يؤدي إلى الاضطراب, ولأنّ فيه نوع من التلاعب والتهاون من الموقف, إذ كيف يقول أوقفت هذه الدار على رجل, هكذا مطلق بلا تعيين ولا تحديد ويندر أن تقع مثل هذه المسالة لكن لو وقعت فالوقف باطل. قال المؤلف ـ رحمه الله ـ: (لا ملك وحيوان وقبر وحمل) لما ذكر قاعدة ذكر الأمثلة يقول الشيخ كالملك, الملك هو واحد الملائكة, فلا يجوز أن نقف على الملك, والعلة هو أن الملك ليس ممن تجرى معه العقود فيملك, فلا يجوز للإنسان أو فلا يصح أن يبيع الإنسان داره على ملك على جبريل أو ميكائيل أو إسرافيل, العقد باطل وليس له أيّ واقع ولا حقيقة، كذلك لا يجوز أن يوقف على الملائكة - صلى الله عليهم وسلم - لأنهم ليس من شأنهم الملك, فإذاً هذا تمثيل للقاعدة السابقة. قال المؤلف ـ رحمه الله ـ: (وحيوان) يعني ولا يجوز أن يقف الإنسان على حيوان, لما تقدم من أنّ الحيوان لا يملك.

والقول الثاني: أنه يجوز أن يقف الإنسان على الحيوان ونصرف على هذا الحيوان من هذا الوقف, لأنه لا مانع من أن نقف عليه لتحقق الغرض, وهو أن يوقف على حيوان فينتفع الحيوان من الوقف بنفقته, ولا يخفى عليك أنك إذا رجحت جواز الوقف على الحيوان ستجمع بين هذا القول وبين الشرط الثاني: أن يكون على جهة بِرّ, فيجب أن يكون هذا الحيوان معّد لجهة بِرّ, إما جهاد، أو القيام على مساكين وأرامل وأطفال أو أيتام، المهم أن يكون معّد لجهة بِرّ, وهذا مقصود أصحاب القول الثاني وهذا القول الثاني هو الصحيح إن شاء الله، يفهم من عبارات الفقهاء وإن لم يصرحوا بذلك أنّ الوقف على الحيوان ينبغي أن تصرف غلته على الحيوان، وليس لصاحب الحيوان أن يتملك من الغلة أيّ شيء, وإنما تكون الغلة جميعاً تصرف على الحيوان وليس لصاحب الحيوان أيّ علاقة بالغلة, وهو كذلك لأنّ الوقف ليس على صاحب الحيوان, وإنما على الحيوان. قال المؤلف ـ رحمه الله ـ: (وقبر) لا يجوز أن يوقف الإنسان على القبر لا أصالة ولا تبعاً, لأمرين الأمر الأول: أنّ أصحاب القبور لا يملكون وهذه العلة الأولى. العلة الثانية: وهي المعتمدة والأقوى, أن الوقف على القبور, مضادة لمقصود الشارع, لأنّ الشارع الحكيم نهى أن يبنى على القبور وأن يجصص عليها، وأن يجعل فيها أيّ نوع من أنواع التمييز, لما في ذلك من أن يكون مدعاة للغلو ومجاوزة الحد مع القبر, ولذلك الوقف على القبور باطل، وترجع الأوقاف ملك إلى أصحابها لأنّ العقد باطل من أصله، بل إنّ الوقف على القبور إثم, فضلاً عن أن يكون باطل, لأنّ فيه إعانة على المعصية بل على الشرك أو وسائل الشرك. قال المؤلف ـ رحمه الله ـ: (وحمل) يعني لا يجوز أن نقف الأوقاف على الحمل, والسبب في ذلك أنّ الحمل لا يملك في الشرع إلا بأحد سببين: الإرث أو الوصية، وإذا كان لا يملك إلا بأحد سببين فإنه لا يجوز أن نقف عليه, لأنه يشترط في الوقف أن يكون على من يملك.

القول الثاني: أنّ الوقف على الحمل صحيح, فإذا ولد استحقه, لأنه لا مانع من هذا, ولأنّ المقصود من الوقف يتحقق في مثل الوقف على الحمل, ولأنه ليس في الأدلة الشرعية ما يمنع من هذا, ولأنّ الوقف ليس كالبيع من كل وجه، فإذاً الوقف على الحمل صحيح ولا حرج فيه. قال المؤلف ـ رحمه الله ـ: (لا قبوله) يعني لا يشترط في الوقف أن يقبل الموقوف عليه, وهنا يأتي معنا المسألة السابقة, وهي أنّ الوقف ينقسم على قسمين, على معين وعلى جهة عامة، فإن كان الوقف على جهة عامة فلا يشترط القبول بلا إشكال، وإن كان الوقف على معين فإنه لا يشترط أيضاً القبول عند الحنابلة. واستدلوا على هذا بأنّ الوقف لا يتعلق بالموقوف عليه فقط, بل يتعلق به وبمن يستحق الوقف من بعده كذريّته, وإذا كان الوقف لا يتعلق به وحده, فإنه لا يتوقف على رضاه ولا على قبوله. القول الثاني: أنّ الوقف يشترط فيه إذا كان على معين أن يقبل, واستدلوا على هذا بأنّ الوقف نوع تبرع وتمليك في الحياة، فهو كالهبة والوصية, والهبة والوصية لابد فيها من القبول, والراجح مذهب الحنابلة وذلك لأنّ بين الوقف والهبة والوصية فرق ظاهر جداً وواضح, وهذا الفرق هو ما أشار إليه أصحاب القول الأول في دليلهم, وهو أنّ الوقف لا يتعلق بالموقوف عليه فقط, بينما الهبة والوصية تتعلق بالموقوف عليهم فقط, وهذا الفرق يمنع الإلحاق فمذهب الحنابلة أجود وأقوى إن شاء الله. قال المؤلف ـ رحمه الله ـ: (ولا إخراجه عن يده) يعني ولا يشترط لصحة الوقف أن يخرجه الإنسان عن يده، بل يصح ويصبح لازماً لا يجوز الرجوع عنه ولو بقي في يد الموقف, واستدل الحنابلة على هذا بما تقدم من أنّ أمير المؤمنين عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - بقي الوقف في يده إلى أن مات, ولم يمنع هذا من صحة ولزوم الوقف. والقول الثاني: أنّ الوقف لا يصبح لازم إلا بإخراجه عن يده إقباضه الجهة الموقوف عليها, قياساً على الهبة ولاشك أنكم تعرفون الآن أنّ هذا القول الثاني ضعيف, لأنه تقدم معنا وجود الفرق بين الهبة وعقد الوقف. فصل قال المؤلف ـ رحمه الله ـ: (ويجب العمل بشرط الواقف) يجب أن يعمل الإنسان بشرط الواقف وجوباً, لأمرين:

الأمر الأول: أنّ عمر بن الخطاب لما أوقف وقفاً شرط شروطاً, وجه الاستدلال بشروط عمر من وجهين: الأول: أنّ هذه الشروط بلغت النبي - صلى الله عليه وسلم - في الغالب, ولم يعترض عليها. الوجه الثاني: أنها إن لم تبلغ النبي - صلى الله عليه وسلم - فقد انتشرت بين الصحابة ولم ينكروها. والوجه الثالث: أنّ عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - لو لم تكن هذه الشروط ملزمة لما اشترطها, لأنّ عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - هو في نفسه له سنة متبعة, فإذاً هذا الأثر صارت أوجه الدلالة منه ثلاثة, ولاشك إن شاء الله أنّ في شروط عمر ما يدل على أنه يجب على الإنسان أن يتبع شروط الواقف على تفصيل سيأتينا, لكن في الجملة والقاعدة الأصلية أنه يجب إتباع شروط الواقف. قال المؤلف ـ رحمه الله ـ: (في جمع وتقديم) لماّ قعّد القاعدة أراد أن يذكر أمثلة، لكنه انتقى الأمثلة التي يكثر وقوعها في الأوقاف, يقول في جمع، الجمع كأن يقول أوقفت هذه الدار على أبناء أخي وأبناء أختي, فإذا قال ذلك استحق الجميع الذكر والأنثى, الصغير والكبير, استحقوا غلة الوقف على درجة المساواة, لماذا؟ قالوا, لأنّ في الجمع تشريك، والتشريك يقتضي المساواة، فإذا أوقف على هذه الجهة بهذا اللفظ فإنه يعتبر جمع. مثاله الثاني: الذي قد تكون الحاجة إليه أكثر أن يقول هذا البيت على أولادي وعلى أولاد أولادي, هكذا فهذا الوقف تصرف غلته على الأولاد وعلى أولاد الأولاد بالتساوي, فلا ننتظر انتهاء البطن الأول ولا نفرق بينهم في العطية بل نعطيهم على وجه التساوي, فهذا هو الجمع. قال المؤلف ـ رحمه الله ـ: (وتقديم) يعني ويجب أن نلتزم شرط الواقف في التقديم, فإذا قال أوقفت هذا البيت على أولادي يقدم الأفقه, أو الأورع، أو الأحوج، أو الأكثر أولاداً, أو قال: (أوقفت هذا البيت على زيد وعمرو, يقدم عمرو) فالحكم أناّ نبدأ بسدّ حاجة المقدَّم فإن فضل شيء أعطيناه للمؤخر, فالحكم إذا استخدم الموقف طريقة التقديم أن نبدأ بالمقدّم فنعطيه حاجته, فإذا انتهى إن فضل من الغلة شيء أعطيناه من؟ المؤخر وإن لم يفضل شيء فليس له شيء ويسقط! إذاً عرفنا الآن ما معنى التقديم. قال المؤلف ـ رحمه الله ـ: (وضد ذلك)

ضد الجمع الإفراد, وصورته: أن يقول وقفت هذا البيت على زيد, ثم على المساكين, فالآن جمع أو أفرد؟ أفرد فالمستحق للغلة جميعاً إلى أن يموت زيد, وهذا فيه إفراد وهو ضد الجمع. وضد التقديم التأخير كأن يقول: (أوقفت على زيد وعمرو, يؤخر عمرو) فهذا فيه تأخير, فإذا أخّر الموقف أحداً أُخّر, وحكمه عكس حكم التقديم فلا نعطي المؤخّر إلا إذا أخذ المقدّم كامل حاجته. قال المؤلف ـ رحمه الله ـ: (واعتبار وصف وعدمه) يعني ويجب أن نلتزم باعتبار الوصف الذي ذكره الواقف, فلو قال أوقفت هذه الدار على الفقراء طلاب العلم, فالآن وصف المُوقِف الموقَف عليهم بوصف معين وهو طلب العلم, فلا يجوز أن نصرف غلة الوقف على جميع الفقراء, بل يجب أن نتقيد بوصف الواقف ونصرف الغلة لطلاب العلم فقط، أو لو قال أوقفت على الفقراء الأكثر أولاداً, كذلك يجب أن نعطي الفقراء الأكثر أولاداً فقط, أو كما لو قال وهو وصف جيّد أوقفت على الفقراء المرضى, فنصرف من غلة هذا الوقف على من اتصف بصفتين: الأولى أن يكون فقيراً، والثاني أن يكون مريضاً. قال المؤلف ـ رحمه الله ـ: (والترتيب) وهو من أكثر ما يستخدمه أصحاب الأوقاف, والترتيب أن يقول أوقفت داري على زيد ثم على عمرو, أو أوقفت داري على أولادي ثم على أولادهم، فإذا رتّب فالحكم أنّ صاحب المرتبة الثانية لا يستحق من غلة الوقف شيئاً ولو فضل منها فضلة إلى بعد انتهاء الطبقة الأولى بكاملها، وبهذا عرفنا الفرق بين الترتيب والتقديم, ففي التقديم يستحق المؤخر من الغلة ما فضل, فإن لم يفضل لم يستحق شيئاً, وفي الترتيب لا يستحق أصحاب الطبقة الثانية أيّ شيء من غلة الوقف, ولو فضل منها فضلة إلا بعد انتهاء جميع الطبقة الأولى. مسألة مهمة: وهي إذا قال أوقفت هذا الدار على أولادي ثم على أولادهم, فهل إذا مات أحد الأولاد من الطبقة الأولى استحق أولاده نصيبه من الوقف، أو يقّسم نصيبه على باقي الأولاد, ولا يستحق الطبقة الثانية من الأولاد إلاّ بعد انتهاء الطبقة الأولى جميعا، ً المذهب أنهم لا يستحقون, إلاّ بانتهاء جميع الطبقة الأولى.

وذهب شيخ الإسلام إلى أنه يستحق أصحاب الطبقة الثانية نصيب والدهم، في الحقيقة لم أجد لا في قول الحنابلة ولا في قول شيخ الإسلام علة مقنعة، لا للقول هذا ولا للقول هذا, لم أجد من التعليلات وإلاّ المسألة ليس فيها أدلة ولا آثار حتى ليس فيها فتاوى للصحابة فيما أعلم، لا يوجد ما يبرر الأخذ بأيّ من القولين, فالحنابلة يستدلون بأنّ ظاهر لفظ الموقف باستخدامه حرف ثم, أنّ الطبقة الثانية لا تستحق إلاّ بعد انتهاء الطبقة الأولى، وأصحاب القول الثاني، يستدلون بأنه يبعد أن يكون قصد الموقف حجب أولاد ابنه المتوفى مع أنّ حاجتهم ستكون أكثر من حاجة غيرهم بسبب موت والدهم, كل هذه ليس فيها مقنع في الحقيقة, وإذا لم يكن في هذه الأدلة كلها مقنع فالأصل أنّ ثم للترتيب, فالطبقة الثانية لا يستحقون إلاّ بعد انتهاء الطبقة الأولى, ولهذا مسألة الأوقاف حساسة, وينبغي على الإنسان ويتأكد إذا أراد أن يوقف أن يبين الوقف بالتفصيل, فيقول هذا وقف على أولادي ثم على أولادهم, فإن مات أحدهم أيّ أحد الطبقة الأولى استحق أولاده نصيبه, بهذا ينتهي النزاع. قال المؤلف ـ رحمه الله ـ: (ونظر, وغير ذلك) يعني للواقف أن يشرط شخصاً يكون هو الناظر على الوقف, سواء كان من المستحقين لغلة الوقف أومن خارج المستحقين لغلة الوقف, يعني سواء كان أجنبي أو من الموقوف عليهم، وذلك لأنّ صاحب أصل الوقف أحق بتعيين الناظر عليه هذا أولاً. ثانياً: أنّ عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - جعل الناظر على وقفه حفصة - رضي الله عنها - ثم أكابر آل عمر بعدها, فعيّن - رضي الله عنه - الناظر في الوقف, فدّل ذلك على أنّ شرط الناظر من حقوق الواقف. ثم يقول (وغير ذلك) من الشروط: يعني أنه يجب أن نتبع جميع شروط الواقف ما لم تكن إثماً, فإذا أشترط ألاّ يدخل الوقف فاسق, يجب ألاّ يدخل الوقف فاسق, وإذا أشترط كما يصنعه بعض من يوقفون ألاّ يؤجّر خشية عليه من التلف, فيجب ألاّ يؤجّر, ولا يجوز أن يؤجر مع وجود الشرط بالمنع من التأجير.

وبالجملة يجب أن نتبع شروط الواقف مهما كانت متنوعة إلاّ أن تكون معصية, ولا يشترط في إتباع شروط الواقف قناعة الناظر ولا قناعة الموقوف عليهم، بل يجب أن نتبع شروطه مطلقاً ,إلاّ أن تكون معصية. قال المؤلف ـ رحمه الله ـ: (فإن أطلق ولم يشترط استوى الغني والذكر وضدهما) إذا أطلق ولم يشترط شيئاً لا جمع ولا تقديم ولا ترتيب ولا وصف, وإنما أطلق فالحكم أنّ الجميع يستوون على درجة واحدة, فالكبير والصغير والذكر والأنثى كلهم يأخذون أنصبة متساوية, لأنّ الواقف أطلق ومع الإطلاق لا يجوز التفضيل. قال المؤلف ـ رحمه الله ـ: (والنظر للموقوف عليه) مقصود المؤلف بطبيعة الحال, هذا المقصود يفهم من كلامه المتقدم, مقصود المؤلف فيما إذا لم يشترط الواقف ناظراً معيناً, فإنّ النظر يكون للموقوف عليه، وهذا هو مذهب الحنابلة, واستدل الحنابلة على هذا أنّ الموقوف عليه هو صاحب الغلة, وهو المالك لرقبة الوقف, فهو لذلك أحق الناس بأن يكون ناظر على الوقف. والقول الثاني: أنّ الناظر على الوقف إذا لم يشترط الواقف أحداً هو الحاكم, وهذه المسألة مبنية على مسألة أخرى لم يتطرق لها المؤلف - رحمه الله - وهي هل الموقوف عليه يملك الوقف؟ أو يملك غلة الوقف؟ فإن قلنا يملك الوقف صار هو الأحق بالنظر, وإن قلنا يملك غلة الوقف فقط صار الحاكم هو الناظر في كل وقف ليس له ناظر, وهذه المسألة محل خلاف, فالحنابلة يرون أنّ الموقوف عليه يملك رقبة الوقف بلا بيع ولا هبة, وهذا من مفردات الحنابلة خالفوا فيه المذاهب الثلاثة. القول الثاني: أنّ الموقوف عليه يملك غلة الوقف دون رقبة الوقف, بل رقبة الوقف تنتقل من ملك الواقف إلى ملك الله, والمقصود بملك الله يعني أنها عين ليس لها مالك, وإلاّ من المعلوم أنّ لله ملك السموات والأرض, والراجح القول الثاني أنه لا يملك الموقوف عليه رقبة الوقف, وإنما يملك الغلة فقط, أما الرقبة فقد انتقلت في سبيل الله, قربة إلى الله, ولم تعد مملوكة لأحد. قال المؤلف ـ رحمه الله ـ: (وإن وقف على ولده ....... ثم على المساكين فهو لولده الذكور)

إذا وقف على ولده ثم على المساكين فهو لولده الذكور، لأنّ الذكور يدخلون دخولاً أولياً في الأولاد, ولأنّ الذكور يدخلون في قوله تعالى: {يوصيكم الله في أولادكم} [النساء/11] فدخول الذكور في الوصية بهذا اللفظ لا إشكال فيه بل لا خلاف فيه. قال المؤلف ـ رحمه الله ـ: (لولده الذكور) ظاهر عبارة المؤلف أنه لولده الذكور الموجودين حال الوقف, وأما الذي يحدث بعد ذلك فليس له حق في غلة الوقف, فإذا أوقف هذا البيت على أولاده ثم بعد ذلك حملت الزوجة وولدت ولداً له, فلا يدخل في الوقف، لأنه حال الوقف لم يكن موجوداً. القول الثاني: أنّ الوقف يصرف لجميع الأولاد, لجميع الذكور نحن نتكلم عن الذكور الموجودين حال الوقف والذين يحدثون بالولادة بعد ذلك، لأنّ اللفظ عام يشمل الموجود والذي سيوجد, ولا يوجد ما يدل على التخصيص. قال المؤلف ـ رحمه الله ـ: (والإناث بالسوّية) تدخل الإناث في ولده ,إذا قال هذا وقف على ولدي, لأنّ إطلاق الولد يشمل الأنثى, ولأنّ عبارة الواقف ليس فيها ما يخصص الإناث ويخرجهن من غلة الوقف. والقول الثاني: أنّ هذا اللفظ خاص بالذكور, فلا تدخل الإناث في غلة الوقف, والراجح أنّ الإناث يدخلن بلا إشكال، والقول بعدم دخولهن ضعيف جداً في هذا اللفظ. قال المؤلف ـ رحمه الله ـ: (ثم ولد بنيه دون بناته) ولد بنيه وإن سفلوا يدخلون في هذا الوقف, لأنّ ابن الابن ابن شرعاً, ولأنه يدخل في الآية {يوصيكم الله في أولادكم} [النساء/11] ولا إشكال في دخول ابن الابن. قال المؤلف ـ رحمه الله ـ: (بالسوّية) في المسألة الأولى لولده الذكور والإناث بالسوية، لأنه كما تقدم معنا أوقف على الإطلاق, والإطلاق يقتضي التشريك والتشريك يقتضي التسوية، فغلة الوقف لا تقسم حسب الميراث وإنما تقسم بالتسوية. قال المؤلف ـ رحمه الله ـ: (دون بناته) ولد بنيه تحدّثنا عنها أولاد البنات لا يدخلن في هذا اللفظ, لأنهن لم يدخلن في الآية, فإنّ أولاد البنات لا يرثون بالإجماع، ولأنّ أولاد البنات ليسو من بنيه وإنما من بني الأجانب.

والقول الثاني: أنّ أولاد البنات لهم نصيب في غلة الوقف، والراجح القول الأول، فإذا قال هذا وقف على أولادي فأولاد البنات لاحق لهم في الغلة، لأنه لاحق لهم في الميراث، ولأنهم كما قلت لم يدخلوا في الآية. قال المؤلف ـ رحمه الله ـ: (كما لو قال على ولد ولده وذريّته لصلبه) يعني كما لو أضاف كلمة لصلبه في الوقف, وإنما نظّر الشيخ بهذه المسألة لأنّ حكم هذه المسألة بالإجماع، فإنه إذا قال أوقف هذا على أولاده وأولاد أولاده لصلبه, لم يدخل أولاد البنات, ولهذا نظّر بها لأنها محل إجماع. قال المؤلف ـ رحمه الله ـ: (ولو قال على بنيه, أوبني فلان اختص بذكورهم) ((الآذان)) إذا صرّح الواقف بقوله هذا وقف على بنيه فقط, فإنّ الوقف تختص غلته بالذكور فقط, دون الإناث، لأنّ كلمة الابن تطلق حقيقة الذكر فقط, دون الأنثى, كما قال تعالى: {زين للناس حب الشهوات من النساء والبنين} [آل عمران/14] فقال من النساء والبنين فخص الذكور بأنه يسمى ابن فإذاً يختص هذا اللفظ بالابن بلا إشكال ولا تشاركه الأنثى في الحكم. قال المؤلف ـ رحمه الله ـ: (إلاّ أن يكونوا قبيلة فيدخل فيه النساء) إلاّ أن تكون قبيلة, فإذا قال هذا وقف على بني هاشم أو على بني زهرة, فإنه يدخل بالإناث والذكور, لأنّ اسم القبيلة يشمل الذكر والأنثى، فإذا قال بنو هاشم شمل ذكورهم وإناثهم, بخلاف ما إذا قال وقف على بنيّ وسكت فهنا يختص بالذكور, إذا أضاف اللفظ إلى القبيلة عّم الذكور والإناث. قال المؤلف ـ رحمه الله ـ: (دون أولادهن من غيرهم) لأنّ أولاد النساء من غير القبيلة ليسوا من القبيلة بل من القبيلة الأخرى, وعلم من هذا أنّ أولاد النساء من القبيلة يدخلون تبعاً في القبيلة، فإذا تزوجت المرأة من خارج القبيلة, فلا حق لأولادها في الوقف، وإذا تزوجت من القبيلة فلأولادها نصيبهم من الوقف. قال المؤلف ـ رحمه الله ـ: (والقرابة وأهل بيته وقومه يشمل ... ) ذكر الشيخ ثلاثة ألفاظ اللفظ الأول القرابة والثاني أهل بيته والثالث قومه.

نبدأ بالقرابة يقول الشيخ والقرابة يشمل الذكر والأنثى من أولاده, وأولاد أبيه, وجده وجد أبيه, يعني أنه إذا استخدم هذا اللفظ في الوقف فقال هذا وقف على قرابتي, فإنّ هذا اللفظ يشمل من ذكر المؤلف, فيشمل الذكور والإناث والصغير والكبير, ولكن المؤلف حدّه, أيّ حدّ الاستحقاق بمن يشترك معهم في الجد الثالث, فيقول أولاد أبيه هم ماذا؟ إخوته وأولاد جدّه هم؟ أعمامه وأولاد جد أبيه هم؟ أعمام أبيه، هؤلاء إلى الجد الثالث يدخلون في كلمة القرابة, وما عداهم لا يدخل في استحقاق غلة الوقف ولا يعتبر من القرابة، واستدل الحنابلة على هذا بأنّ النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يكن يجاوز بني هاشم في سهم ذوي القربة, ومن المعلوم أنّ هاشم هو الجد الثالث للنبي - صلى الله عليه وسلم - ومن هنا أخذ الفقهاء أنّ حدّ القرابة إلى الجد الثالث فقط, ومن عداهم لا يستحقون هذه الغلة من الوقف الذي صدر من الواقف بلفظ القرابة. قال المؤلف ـ رحمه الله ـ: (وأهل بيته) أهل بيته كذلك, يأخذون الحكم نفسه, فمن ذكر المؤلف استحق ومن لم يذكر لم يستحق, عرفنا من كلام المؤلف أنّ أقارب الأم لا يستحقون, لأنهم لا يلتقون مع الواقف في الجد الثالث, وعرفنا من كلام المؤلف أنّ الزوجات لا يستحقن شيئاً في كلمة القرابة. والقول الثاني: أنّ الزوجات يدخلن في استحقاق الوقف إذا كان بلفظ أهل بيته, ولم أر خلافاً في استحقاقهن إذا كان بلفظ القرابة, فهم ذكروا خلاف عند قول الفقهاء أهل بيته, فإن قال على أقربائي لا يدخلن الزوجات، وإن قال على أهل بيتي فعند الحنابلة لا يدخلن. والقول الثاني: أنهن يدخلن وهذا هو الصواب، وهو دخولهن في لفظ أهل بيته. ((انتهى الدرس)).

الدرس: (3) من الوقف قال شيخنا حفظه الله: بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين. وقفنا بالأمس عند الألفاظ الثلاث اللاتي جعل المؤلف - رحمه الله - لها حكماً واحداً: قال المؤلف ـ رحمه الله ـ: والقرابة وأهل بيته وقومه. وأخذنا ما يتعلق بالقرابة وما يتعلق بأهل بيته وتوقفنا عند: (قومه). قال المؤلف ـ رحمه الله ـ: وقومه: يشمل الذكر والأنثى من أولاده وأولاد أبيه وجده وجد أبيه. فاعتبر المؤلف أن لفظ الواقف بالقوم يشمل نفس ما يشمله القرابة وما يشمل أهل البيت على التفصيل الذي تقدم معنا بالدرس السابق. إلا أن القوم: قومه: وقع فيه خلاف بين أهل العلم: = فالقول الأول هو ما تقدم معنا بالأمس: أنه يشمل إلى الجد الثالث من أجداد الموقف. = والقول الثاني: أن لفظ: (قومه) عام أوسع من أهل البيت والقرابة، ولذلك لا يتقيد بالجد الثالث بل يكون أوسع. وهذا القول الثاني في الحقيقة أقرب للعرف الشرعي وأيضاً أقرب لعرف الناس، فإن استخدام كلمة القوم أوسع من استخدام كلمة القرابة وأهل البين بلا شك. فإذاً: لا نقتصر على الجد الرابع، وإنما نتجاوزه إلى الجد الذي يلتقون في مسماه سواء كان الجد الرابع أو الخامس أو السادس. وهذا قول للحنابلة أي: تقييده بالجد الذي يلتقون في مسماه وهو قول حسن وصحيح. قال المؤلف ـ رحمه الله ـ: وإن وجدت قرينة تقتضي إرادة الإناث أو حرمانهن: عمل بها. تقدم معنا أن الواقف أوقف على أولاده فقد اختلفوا: هل يدخل في هذا اللفظ أولاد البنات؟. واختلفوا أيضاً إذا أوقف على أولاده هل تدخل البنات؟ تقدم معنا هذا في الدرس السابق وأن الراجح دخولهن وأن القول بخروجهن عن هذا اللفظ ضعيف جداً. الآن: يريد المؤلف أن يبين أنه متى دلت القرينة على دخول الإناث أو على خروجهن عمل بالقرينة ولا نلفت (يعني: ومعنى كلامه) أنا لا نلتفت إلى صريح عبارة المؤلف - رحمه الله - مع وجود القرينة الدالة على صرفه إلى إرادة الإناث أو إلى عدم إرادة الإناث. مثال وجود القرينة/ أن يقول الواقف: هذا وقف على أولادي وأولاد أولادي فلما نظرنا وجدنا أن ليس له إلا بنات فعلمنا أن الواقف أراد أن هذا وقف على بناته وعلى أولاد بناته. لأنه لا يمكن تصحيح لفظ الواقف إلا بحمله على هذا إذ ليس له أبناء حتى نقول أراد بالأولاد ما يشمل الذكر والأنثى وندخل في الخلاف السابق هل تراد الأنثى أو لا تراد.

إذاً: هذه القرينة دلت على إرادة الواقف وتقدم معنا قاعدة: (أن الألفاظ مع القرائن تعتبر كالصرائح). فما دام يوجد لفظ يحتمل لكن احتف بقرائن فإنا نحمله على حكم الصريح. قال المؤلف ـ رحمه الله ـ: وإذا وقف على جماعة يمكن حصرهم: وجب تعميمهم والتساوي. يقول: إذا وقف على جماعة يمكن حصرهم فإنه: يجب في هذه الحالة أمران: ـ الأول: التسوية. ـ والثاني: التعميم. فيجب أن نعم هذه المجموعة التي يمكن أن تحصر ويجب في نفس الوقت أن نسوي بينهم في الإعطاء. مثال ذلك/ أن يقول هذا وقف على الفقراء من قرابتي، فهذا لاشك على مجموعة متساوية. فيجب أن نعطي جميع الفقراء ويجب في نفس الوقت أن يعطيهم إعطاء متساوياً. الدليل: - قالوا: أن لفظ الواقف دلَّ على هذا ومتى أمكن العمل بمقتضى لفظ الواقف وجب وهنا يمكن العمل به. فإذا وقف على مجموعة محصورة معروفة فيجب أن نسويهم وأن نعطيهم جميعاً. * * مسألة/ فإن احتف بلفظ الواقف في الوقف على جماعة محصورة ما يدل على التمييز فهل يجوز بناء على هذا التفضيل؟ (إذا اقترن بلفظ الواقف على مجموعة محصورة ما يدل على التمييز فهل يجوز بناء على هذا الوصف التفضيل بينهم أولا؟). قبل الخلاف المثال: المثال/ أن يقول هذا وقف على فقهاء المدرسة الفلانية. الفقهاء: جماعة محصورة في المثال أو غير محصورة؟ محصورة. والواقف علق الوقف على وصف وهو الفقهاء فهل يجوز أن نفضل فنعطي الأفقه أكثر ممن دونه؟ أو لا يجوز؟ فيه خلاف: = الصحيح أنه يجوز أن نفضل بينهم بمقتضى الوصف الذي ميز به الواقف المجموعة المحصورة فنعطي الأفقه أكثر ممن دونه. كذلك لو قال: (هذا وقف على الفقراء من قرابتي هل يجوز أن نعطي الأشد فقراً أكثر ممن هو أحسن حالاً منه؟ نعم يجوز. ولو قال: هذا وقف على طلبة العلم في هذا المكان: فيجوز أن نفضل بينهم بناء على الوصف في حال طلبة العلم. سنفضل بناء على الاجتهاد لا بناء على الأفقه أو الأذكى لأنه علقه على طلب العلم فكلما كان الإنسان أكثر اجتهاداً في طلب العلم بغض النظر عن مستواه العلمي فهو يستحق من الوقف أكثر ممن هو أقل منه اجتهاداً ولو كان أكثر منه مقدرة. إذاً الراجح: جواز التفضيل بهذه الصورة الثالثة.

قال المؤلف ـ رحمه الله ـ: وإلاّ جاز التفضيل والاقتصار على أحدهم. يعني: وإلا يمكن حصرهم فالحكم: كذا وكذا. ـ أولاً: أفادنا المؤلف - رحمه الله - بهذه العبارة أنه يجوز الوقف على جماعة لا يمكن حصرهم. لأنه بين الحكم وهذا فرع عن الصحة. وإلى هذا ذهب الجماهير وهو جواز الوقف على جماع لا يمكن حصرهم: كأن يقول: هذا وقف على الفقراء. هل يمكن حصر الفقهاء؟ لا يمكن. أو يقول هذا وقف على المساكين؟ لا يمكن حصرهم. ... إلى آخره. والجمهور استدلوا: - بأن هذا الوقف وقف صحيح استوفى شروطه الشرعية ولا يوجد دليل على إبطاله. = وذهب الشافعية إلى أنه لا يصح أن يوقف على جامعة لا يمكن حصرهم. - لأنه لا يمكن إعطاء الجميع من الوقف. والراجح مذهب الجمهور ومذهب الشافعية ضعيف وما زال المسلمون يوقفون على جهة لا يمكن حصرها. بل قد نقول: الوقف على جهة لا يمكن أن تحصر أولى من الوقف على مجموعة معينة محصورة. لأن الوقف على جهة لا يمكن حصرها يستمر ومصرفه يستمر لأنه معلق بالوصف لا بالعين. بينما على مجموعة معينة إذا انقرضت هذه المجموعة صرنا نقول كيف نتصرف بغلة الوقف بعد انقراض المجموعة التي وقف عليها الوقف. قال المؤلف ـ رحمه الله ـ: (وإلاّ جاز التفضيل والاقتصار على أحدهم) إذا وقف على مجموعة لا يمكن حصرهم فإنه لا يجب تعميم غلة الوقف بالإجماع عند القائلين بجواز الوقف على مجموعة لا تحصر. دليل الإجماع: - أن هذا لا يمكن ولا يمكن القيام به - (أن هذا غير مقدور عليه ولا يمكن القيام به لأن المجموعة غير المحصورة كيف يمكن أن تعمهم بغلة الوقف وهم ألوف أحياناً. إذاً: الحكم الأول: أنه لا يجب التعميم. الحكم الثاني: أنه يجوز التفضيل ويجوز الحرمان لبعضهم ويجوز أن نعطيها أحدهم، فيجوز أن نصرف الغلة الموقوفة على جماعة غير محصورة على واحد فقط. ويجوز أن ننقص من نصيب أحدهم وأن نفاضل وأن نعطي كيف نشاء. لكن يجب أن يراعي الأحق فالأحق. الدليل على جواز التفضيل والمنع وإعطاء الواحد:

- القياس على الزكاة فإن الله تعالى جعل مصرف الزكاة ثمانية أصناف ومع هذا لا يجب تعميم الأصناف الثمانية بل يجوز أن نعطي صنف بل يجوز أن نعطي رجلاً واحداً من صنف واحد فقاسوها على الزكاة. = القول الثاني: أنه إذا وقف على مجموعة لا تحصر لا يجوز الاقتصار على أقل من ثلاثة. - لأن الثلاثة أقل الجماع وقد وقف على جمع لا يمكن حصرهم فلا أقل من ثلاثة. والراجح المذهب: ويرجع في كيفية الصرف إلى الناظر، الراجح المذهب وله أن يعطي واحداً فقط ويركع فيه إلى الناظر لاسيما وقد اشترطنا في الناظر أن يكون ثقة وأمين - أن يكون من الثقات الأمناء. (فصل) قال المؤلف ـ رحمه الله ـ: (فصل) والوقف: عقد لازم لا يجوز فسخه، ولا يباع. الوقف عقد لازم عند الجماهير. لا يجوز أن يباع ولا يوهب وأيضاً في نفس الوقت لا يجوز أن يفسخ. استدل الجماهير على هذا بأمرين: - الأول: قوله - صلى الله عليه وسلم -: (إن شئت حبست أصلها) والتحبيس يعني اللزوم كما أنه - صلى الله عليه وسلم - أكد هذا اللفظ بقوله: (لا يباع ولا يوهب). - الدليل الثاني: أن المقصود والغرض من الوقف التأبيد والتأبيد يتنافى مع جواز العقد. = والقول الثاني: أن الوقف عقد جائز متى شاء صاحبه فسخه. واستدل هؤلاء: - بأن عبد الله بن زيد أوقف وقفاً فاشتكى أبواه إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - الحاجة والفاقة فرد النبي - صلى الله عليه وسلم - الوقف. - الدليل الثاني: القياس على الصدقة فإن الصدقة للإنسان أن يرجع عنها ما لم يقبضها. والراجح مذهب الجماهير والقول الثاني ضعيف جداً لأمرين: ـ الأمر الأول: أن الحديث ضعيف. ـ الثاني: أن قياس الوقف على الصدقة قياس مع الفارق إذ بينهما فروق كثيرة. ـ الأمر الثالث: أن هذه الأقيسة والتعليلات في مقابل النصوص والقياس إذا قوبل به النص صار فاسداً. ومقصود المؤلف - رحمه الله - والجماهير بقولهم: (الوقف عقد لازم) يعني: بمجرد القول. وهذا أمر مهم، أن الوقف لازم بمجرد القول. قال المؤلف ـ رحمه الله ـ: إلاّ أن تتعطل منافعه. إذا تعطلت منافع الوقف فإنه يباع. ولم يبين المؤلف - رحمه الله - حكم بيع الوقف إذا تعطلت منافعه بعد أن قرر الجواز لا أنه لم يبين الحكم.

الحكم فيه خلاف: = من الفقهاء من قال أنه جائز. = ومن الفقهاء من قال: أنه واجب. والصحيح أن بيع الوقف إذا تعطلت منافعه واجب والناظر آثم إذا لم يبع الوقف الذي تعطلت منافعه. والمقصود بالوقف الذي تعطلت منافعه أي الذي لا يمكن أن يرمم بغلته ولا ببيع بعضه فهذا الوقف يجب وجوباً عند المحققين أن يباع لأن بقاء الوقف مع تعطل منافعه فيه إهدار لفائدة الوقف وتضييع لمصلحة الواقف. فهم من كلام المؤلف - رحمه الله - أن الوقف لا يجوز أن يباع أبداً إلا في حال واحدة وهي إذا تعطلت منافعه فدل مفهوم كلام المؤلف - رحمه الله - على أن بيع الوقف إذا كان لمصلحة ولو كانت راجحة فإنه لا يجوز أن يباع، وإلى هذا ذهب الجماهير. واستدلوا: - بعموم النصوص بأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (لا يباع) وما دام الوقف ينتفع به فإنه لا يباع وقوفاً مع ظاهر النص. = والقول الثاني: أن الوقف إذا كان في بيعه مصلحة راجحه ولو مع بقاء فإنه يجوز أن يباع. وإلى هذا ذهب بعض الفقهاء ونصره شيخ الإسلام بن تيمية. واستدلوا بأدلة: - الدليل الأول: أن رجلاً نذر أن يصلي في بيت المقدس فقال له النبي - صلى الله عليه وسلم - صل هاهنا - يعني في الحرم -، وفي هذا نقل للنذر بسبب المصلحة والمصلحة هي أن الصلاة في المسجد الحرام أفضل من الصلاة في الأقصى. والنذر من باب الوقف، فبينهما تشابه في اللزوم. - واستدلوا أيضاً: بأن عائشة - رضي الله عنها - أمرت عثمان بن شيبة أن يقوم ببيع أستار الكعبة القديمة وصرف ثمنها في المساكين. وفي هذا نقل للوقف فإن الأستار وقفت على الكعبة وهي الآن ستصرف في المساكين. واستدلوا بأدلة أخرى تعليقي عليها أن الدلالة فيها ضعيفة وليست واضحة، وهذه الأدلة التي ذكرت من أقوى الأدلة. واستدلوا أيضاً: - بأن عمر - رضي الله عنه - كتب إلى سعد لما نقب بيت المال بالكوفة أن انقل بيت المال إلى قبلة المسجد الذي في التمارين فإنه لن يزال في المسجد مصلي. وفي هذا أيضاً نقل للوقف. وإن كان الحنابلة يستدلون بهذا الحديث على جواز البيع في حال تعطل المنافع.

وجه ذلك: أن بيت المال إذا نقب نقصت منافعه لبقاء البنيان أو تعطلت؟ تعطلت تماماً لماذا؟ لأن بيت المال المقصود الأساسي منه حفظ المال فإذا نقب انتهى الغرض الأساسي الموضوع له المبنى وباقي البنيان لا فائدة منها مطلقاً. وقول الحنابلة إن في هذا دليل على جواز نقل الوقف في حال تعطل المنافع لا في حال نقصان المنافع صحيح فهذا لا دليل فيه لأصحاب القول الثاني. لكن أوضح دليل حديث النذر مع فتوى عائشة. ولذلك نقول الأقرب إن شاء الله جواز بيع الوقف وصرفه في غيره إذا وجدت مصلحة راجحة. لكن ينبغي التنبه إلى أن القيام ببيع الوقف لمجرد وجود مصلحة راجحة ينبغي أن يتحرز فيه الناظر والحاكم أشد التحرز وأن لا يقدم عليه إلا بعد وضوح الأمر واستشارة أهل الخبرة واستكتاب الشهود ويكون الأمر واضحاً حتى لا يكون هناك تلاعب في الأوقاف وتباع باسم المصالح. قال المؤلف ـ رحمه الله ـ: ويصرف ثمنه في مثله. يعني: إذا بيع صرف في مثله. وذلك: - لأن في هذا تحصيل لمقصد الواقف والشارع حرص على تحصيل مقصد الواقف تماماً متى أمكن ولم يتعارض مقصده مع الشرع فإن لم يمكن تحصيل مثله فلا أقل من تحصيل البعض من مثله. فإما أن نحصل مثله تماماً أو أن نحصل بعض مثله. مثاله/ إذا كان المهدوم مسجد فينبغي أن نأخذ قيمة الأرض والبناء ونضعها في مسجد كامل، فإن لم نستطع أن نضعها في مسجد كامل وضعناها في بعض مسجد. قال المؤلف ـ رحمه الله ـ: ولو أنه مسجد. يعني: ولو كان الوقف الذي تعطلت منافعه: مسجد فأيضاً يباع ويشترى بثمنه مسجداً آخر. من أمثلة تعطل منافع المسجد أن لا يصبح فيه مصل بأن يكون على طريق عام وهذا الطريق العام وجد طريق بديل له خير منه وأصبح الناس لا يسيرون مع الأول مطلقاً ولا توجد حول المسجد قرى ولا مزارع فهجر تماماً فالواجب حينئذ أن يباع، لأنه تعطلت منافعه تماماً. قال المؤلف ـ رحمه الله ـ: وآلته. وآلته أيضاً تباع وتوضع في مسجد أو في مسجد آخر. والدليل على ذلك: - أنه إذا جاز أن نبيع المسجد كله فبيع بعضه من باب أولى. فإذا تعطلت منافع الآلة كالخشب ومواد البناء فإنها تباع وتوضع في المسجد إن احتاج أو في مسجد آخر. ثم قال - رحمه الله -:

وما فضل عن حاجته: جاز صرفه إلى مسجد آخر، والصدقة به على فقراء المسلمين. ما فضل عن حاجة المسجد فإنه يباع ثم يوضع إما في مسجد آخر أو في المساكين. ـ ما فضل عن حاجته: كأن يكون فيه بسط زائدة أو فيه مصاحف زائدة أو فيه آلات للتبريد مكيفات زائدة أو أبواب زائدة أو في القديم زيت للإنارة زائد أي شيء يكون في المسجد زائد عن الحاجة فإنه يباع ويصرف قال المؤلف ـ رحمه الله ـ: (إما جاز صرفه إلى مسجد آخر، والصدقة به على فقراء المسلمين). يعني: يباع هذا الشيء الزائد ويوضع في مسجد آخر أو يوضع في فقراء المسلمين. أما إذا بيع ووضع في مسجد آخر أو وضع مباشرة في مسجد آخر بلا بيع فلا شك في مشروعيته لأنه وضع في جنس ما أوقفه الواقف عليه فنقل من مسجد إلى مسجد. وأما إذا بيع ووضع في مسجد آخر ففيه خلاف: = فالحنابلة يرون الجواز، يقولون: يجوز أن يباع ويصرف للمساكين. - لأنه من مصارف القربات. - ولأن عائشة أمرت ببيع أستار الكعبة ووضع الثمن في المساكين. وهذا دليل قوي للحنابلة التخلص منه صعب. = القول الثاني: أنه لا يجوز إذا بيعت الأشياء الزائدة في المسجد أن يصرف ثمنها إلا في مسجد آخر فقط ولا يجوز في المساكين. لأمرين: - الأمر الأول: بين وضع المال في مسجد ووضعه عند المساكين فرق كبير جداً لأن وضع المال عند المساكين ينقطع مباشرة ووضع المال في المسجد يستمر وهذا فارق أساسي كبير جداً. - الثاني: أن الواقف إنما وضع هذا الأمر الزائد في مسجد ومراعاة غرض الواقف مقصود شرعاً، وإذا أردنا أن نراعي غرض الواقف فنضعه في مسجد. وهذا القول كما ترى قوي جداً لكن يشكل عليه أثر عائشة فكيف نجيب عليه؟ - أنه لا يمكن أن ينتفع بأستار الكعبة في كعبة أخرى لأنه لا يوجد إلا كعبة واحدة. [وهذا جواب ممتاز لكن ترد عليه مناقشة]. - قد يقال: بلى يمكن بأن تباع الأستار ويؤخذ الثمن ويوضع في المسجد الحرام. عثمان بن شيبة ماذا صنع؟ أرسل بالأستار القديمة إلى اليمن وبيعت فيها وأخذ القيمة ووضعها في مساكين الحرم، كان بإمكانه أن يضع القيمة في المسجد. إذاً هذا الجواب قد لا يستقيم وإن كان له وجه من النظر.

باب الهبة والعطية

- ممكن أن نجيب بجواب آخر: وهو أن المسجد الحرام لم يكن بحاجة في ذلك الوقت إلى شيء يصرف عليه ففيه أستار جديدة باعتبار أن هذه قديمة وفيه المصالح الأخرى التي يحتاج إليها المسجد لاسيما وأن المساجد في القديم لا تحتاج إلى نفقات كثيرة كمساجدنا اليوم لأنها مساجد بسيطة حصر وقناديل توقد بالزيت فإذا وجد الزيت للسنة كاملة ربما لا يحتاج أهل المجد إلى مصاريف أخرى ولا نفقات فلعل هذا هو الجواب وإن كان دليلاً قوياً في الحقيقة للحنابلة لكن نقول ما دام أمكن الجواب عنه فلعل الراجح وهو من مصلحة الواقف أن لا نصرف الوقف إلا في المسجد. وينبغي أن نتقيد بهذا لأنه يوجد في الحقيقة فرق كبير بين الصدقة المجردة وبين الوقف بدليل: أن الأوقاف تستمر مدد طويلة بل رصد بعضهم استمرار أوقاف الصحابة إلى قرون قريبة من وقتنا هذا. والأوقاف الموجودة الآن في البلدان الإسلامية القديمة ما زالت موجودة ومعروفة إلى الآن مثلاً: أوقاف المدارس الموجودة في دمشق كثير منها موجود إلى الآن باسمها - الظاهرية - الصالحية - دار الحديث .. والسبب أنه صدقة أو أنه وقف؟ أنه وقف وهذه الأوقاف خرجت عددا كبير من العلماء جداً بسبب هذا الاستمرار والمدارس الموجودة مثلاً في دمشق خرجت أعلام الأمة كالنووي مثلاً. [ذكر شيخنا شيئاً من سيرة النووي رحمه الله] وكان من أعظم أسباب استمرارية الشيخ وطلبه العلم هو هذا الوقف. فالأوقاف عظيمة في الإسلام وهي من محاسن الدين وهي التي تستمر ولهذا نجد أنه كما قلت لكم في أول الباب أن جابر يقول: ليس أحد من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - يجد القدرة إلا أوقف. إذاً هذا كله يؤيد ما تقدم من أنه يجب أن نخرج المال من الوقف إلى الوقف ولا نخرجه إلى جنس آخر كالصدقة. وبهذا انتهى ولله الحمد ما يتعلق بالوقف وننتقل إلى الباب الذي بعده. باب الهبة والعطية قال المؤلف ـ رحمه الله ـ: باب الهبة والعطية. الهبة والعطية والصدقة والهدية ألفاظ متقاربة إلا أنه بين الهبة والعطية والصدقة والهدية فرق. والفرق هو: أن الهبة والعطية أوسع مدلولاً من الصدقة والهدية. هذا من جهة.

من جهة أخرى: بين الصدقة والهدية فرق والدليل على وجود الفرق بينهما: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يقبل الهدية ولا يقبل الصدقة، وكان يقبل الهدية ولو كان أصلها صدقة كما قال في بريرة: هو عليها صدقة ولنا هدية. والفرق بين الصدقة والهدية: ـ أن الصدقة هو ما أخرجه الإنسان لآخر محتاج تقرباً إلى الله. ـ وأما الهدية فهي ما أخرجه الإنسان لآخر تقرباً إليه، فلا نحتاج أن نشترط التقرب إلى الله ولا أن يكون محتاجاً. ولكن هذا التعريف للهدية لا يعني أن الهدية ليست مشروعة أو مستحبة بل هي مستحبة مع ذلك لقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: (تهادوا تحابوا). ولأنها من جملة حسن الخلق: أي التهادي فهو مطلوب شرعاً ومستحب. ولو كان مقصوده تألف أخيه والتقرب إليه فإن هذه النية لا تتعارض مع الإخلاص لأن تقرب الإنسان إلى أخيه هو أيضاً عبادة. إذاً: عرفنا الفرق الآن بين هذه المصطلحات الأربع. بقينا في أن العطية في الواقع من حيث اللغة والمدلول حتى الشرعي العام تعتبر شاملة لجميع الألفاظ الأربع إلا أن الفقهاء خصوها لاسيما الحنابلة بالعطية في مرض الموت، أو بالهبة في مرض الموت ((حتى لا نعرف العطية بالعطية. فنقول: العطية هي الهبة في مرض الموت. فهي مخصوصة بهذا الحال. ومناسبة ذكر هذه المصطلحات: الهدية والهبة والصدقة والعطية في كتاب الوقف لا في كتاب البيوع: هو أنه لا يوجد معاوضة فهي أشبه بالوقف منها بالمعاوصات المذكورة في كتاب البيوع. فذكرها هنا أنسب من ذكرها في كتاب البيوع وإن كان فيها تمليك وإعطاء للمال إلا أنها مع ذلك لما خليت من معنى المعاوضة صارت تناسب كتاب الوقف. قال المؤلف ـ رحمه الله ـ: وهي: التبرع بتمليك ماله المعلوم الموجود في حياته غيره. (وهي التبرع بتمليك) هذا التعريف مليء بالمحترزات. يقول: (وهي التبرع) فيجب لكي تعتبر العطية هبة أو عطية أو صدقة أن تكون خالية من العوض هذا معنى قوله: (وهي التبرع). فإن وجدت فبها المعاوضة خرجت عن هذا الباب. وقوله (بتمليك ماله) المال المقصود هنا: هو المقصود في كتاب البيوع، إلا أنهم في باب الهبة أجازوا أن يهب الإنسان ما لا يجوز بيعه إذا كان فيه منفعة مباحة.

إذاً المقصود بالمال هنا هو نفس المقصود بالمال في كتاب البيوع إلا أنهم هنا أجازوا أن يهب الإنسان ما لا يجوز أن يباع مما فيه نفعاً مباحاً. فلا يجوز أن نبيع الكلب المعلم لكن يجوز أن نهدي وأن نهب الكلب المعلم. والسبب في التفريق: أنه لا يوجد معاوضة ولا بيع والمنع في الكلب المعلم إنما هو من البيع والمعاوضة لا من الهبة والإعطاء. يقول: (المعلوم الموجود) أخرج به: المجهول المعدوم. فإن الإنسان لا يصلح أن يهب المجهول ولا يصلح أن يهب المعدوم. وسيأتينا حكم هبة المجهول. أما المعدوم فصحيح، ما الفائدة من هبة المعدوم؟ لا يوجد أي فائدة. ولا يوجد هبة في الحقيقة مادام أنه يهب معدوماً. فلو قال الإنسان: أنا أهديك السيارات التي تصنع في عام 1450هـ معدوم أو موجود؟ لا فائدة من هذه الهبة المعدومة. أو أن يهبه شيئاً احترق. المحترق معدوم فإذاً لا يجوز أن يوهب. قال المؤلف ـ رحمه الله ـ: (في حياته) أخرج الوصية لأن الوصية تمليك لكن بعد الموت وليست في الحياة. هذا التعريف الطويل اختاره المؤلف أما ابن قدامة فيقول: الهبة: تمليك في الحياة بغير عوض. وفي الحقيقة تعريف الشيخ ابن قدامة ممتاز وسهل وبسيط وخالي من الشروط الإضافية التي تعتبر إلى التفصيل أقرب منها إلى التعريف. فقوله: (تمليك في الحياة بغير عوض) جميل جداً وهذا تعريف الشيخ في المقنع، معناه أن الشيخ موسى عدل عن هذا التعريف واختار التعريف الذي ذكره عندنا هنا كأنه يرى أنه أوفى وأضبط في تحديد الهبة. قال المؤلف ـ رحمه الله ـ: وإن شرط فيها عوضاً معلوماً: فبيع. يعني: فحكمها حكم البيع. والسبب في ذلك: - أنه تمليك بعوض وهذه هي حقيقة البيع. علم من كلام المؤلف - رحمه الله - أنه يصحح الهبة التي شرط فيها العوض وهذا مذهب الجمهور. واستدلوا على هذا: - بأن العبرة بالمقاصد لا بالألفاظ فحقيقة هذا اللفظ أنه بيع وليس هبة وما دام نستطيع تصحيح عقود المكلفين فهو أولى من إبطالها. هذا كله مذهب الجمهور وهذا دليلهم. = القول الثاني: وهو مذهب الشافعي أن الهبة التي شرط فيها عوض باطلة. - لأنه اشترط فيها ما ينافي مقصودها، فإنه من المعلوم أن الركن الأساسي في الهبة هو خلوها من العوض.

فهذا الشرط ينافي المقصود الأساسي من الهبة. والشرط المنافي للعقد يبطل العقد. وهذا القول يتناسب مع مبدأ عام ذكرته للشافعي وهو: أنه يأخذ بالظواهر، فظاهر هذا العقد أنه هبة فيها عوض والهبة لا يمكن أن يكون فيها عوض. نحن نقول: هذا الظاهر غير مقصود والمقصود هو أن يكون عقد معاوضة. والراجح: مذهب الجماهير. فهم من كلام المؤلف - رحمه الله - أيضاً أن الهبة التي يقصد منها الثواب بلا شرط لا يستحق صاحبها الثواب - عوضاً. يعني: واحد وهب آخر وهو يريد بهذه الهبة ثواباً يعني: عوضاً لكنه لم يشترط في العقد فعند الحنابلة الواهب لا يستحق ثواباً وإنما الذي يستحق هو المشترط، ولهذا المؤلف - رحمه الله - يقول: فإن شرط فيها عوضاً. = والقول الثاني: أنه إذا أهدى إلى من هو أعلى منه رتبة وقصد الثواب فهو على قصده ويلزم الموهوب إما أن يعطيه ما يرضيه أو أن يرد الهبة. واستدلوا على هذا: - بالأثر الصحيح الذي أخرجه الإمام مالك في الموطأ عن عمر - رضي الله عنه - أنه قال: (من وهب هبة يريد ثوابها فهو على هبته إن أرضي وإلا رجع فيها). وبقوله - رضي الله عنه -: (أراد) التصريح بالحكم ... ((الأذان)). والراجح إن شاء الله القول الثاني لوجود هذا الأثر عن أمير المؤمنين عمر - رضي الله عنه -. قال المؤلف ـ رحمه الله ـ: ولا يصح: مجهولاً إلاّ ما تعذر علمه. (ولا يصح مجهولاً) في الحقيقة يحتمل أن المؤلف - رحمه الله - يقصد بقوله: (ولا يصح مجهولاً) يعني: الثواب في هبة الثواب ........... (نقص يسير)) ..... أن مقصوده ولا يصح مجهولاً عني: ولا تصح الهبة المجهولة. يرجح الاحتمال الأول: أن المؤلف - رحمه الله - إذا أراد أن يتكلم عن الهبة استخدم الضمير المؤنث ولاحظ بعد ذلك يقول: (وهي) (وتنعقد) (وتلزم) وهنا استخدم الضمير المذكر. ويرجح الاحتمال الثاني وهو أنه يتكلم عن الهبة المجهولة أنه قال: (إلا ما تعذر علمه) وهذا القيد يتعلق بالهبة المجهولة لا بالثواب في هبة المعاوضة. ولذلك لعل الأقرب أنه أراد الهبة المجهولة. كما أنه يؤيد هذا الاحتمال أنه يبعد جداً أن يخلي الشيخ الباب من الكلام عن هبة المجهول لأنها مسألة مهمة.

ولو حملنا هذا على الجهالة في ثواب هبة الثواب لخلي الباب من حكم الهبة المجهولة. إذاً: إذا حملناه على هذا المحمل نقول: (ولا يصح مجهولاً) يعني: لا يصح ....... كأن يهب الحمل الذي في البطن واللبن الذي في الضرع. وتعليل المنع: - أن المجهول لا يمكن تسليمه ........ لا يمكن تسليمه لا فائدة في هبته. = والقول الثاني: أنه يجوز أن نهب أحداً شيئاً مجهولاً. - لأن لا الجهالة هنا لا تضر فإن الموهوب يدور بين السلامة والغنيمة. فالغرر لا يؤثر هنا. وإلى هذا ذهب ............. قال شيخ الإسلام: فإذا قال: خذ من مالي ما شئت: صح. أو قال: ما أخذت من مالي فهو لك: صح ..... وبعد التأمل في هذه المسألة مراراً وتكراراً تبين لي أن اختيار الشيخ - رحمه الله - .... ضعيف أو ضعيف جداً ... والسبب في ذلك: أن وقوع النزاع أشبه ما يكون بالمقطوع به لاسيما المثال الذي ذكره المؤلف - رحمه الله -: (ما أخذت من مالي فهو لك) ................ فيقول: إنما أردت الشيء الذي عادة يتواهبه الناس ما أردا هذا ....... فيقول أنت قلت ما أخذت من مالي فهو لك وما هذه من ألفاظ العموم فأنا أتعجب من تصحيح هبة المجهول يعني قول من وجهة نظري بعيد جداً ولابد أن يؤدي إلى النزاع لتفاوت الأموال .... قال المؤلف ـ رحمه الله ـ: إلا ما تعذر علمه. فإنه يجوز ... تعذر العلم أن يختلط اختلاطاً غير متميز حينئذ له أن يهبه وإن كان مجهولاً ........... لا حرج فيها ... (((في التسجيل الصوتي تقطيع كثير لما بعد الأذان فأرجو ممن لديه التسجيل أن يعيننا على إكماله ليتم تنزيله فيما بعد كاملاً في المذكرة))). ((انتهى الدرس)).

الدرس: (4) من الوقف قال شيخنا حفظه الله: بسم الله الرحمن الرحيم والحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين. قال المؤلف ـ رحمه الله ـ: (وتنعقد بالإيجاب والقبول والمعاطاة الدالة عليها) الأمر الأول: أنّ الهبة تنعقد بصيغتين قولية وفعلية, أما القولية فبالإجماع تنعقد بها الهبة ولا إشكال فيها، وأما القولية تنعقد بها أيضاً الهبة عند جمهور أهل العلم, واستدلوا على هذا بأنّ - صلى الله عليه وسلم - كان يهدي ويهدى، وكان يرسل السعاة فيأخذوا الصدقات ويقبضوها وكل ذلك يتم بلا قول, فهذا دليل على أنّ الهبة تنعقد بالصيغة العملية بلا قول. قال المؤلف ـ رحمه الله ـ: (وتنعقد) هذه الجملة أفادت الفائدة الثانية, وهي أنّ الهبة تملك بمجرد العقد ولو قبل القبض, ولا تحتاج إلى قبض, ولكنها كما سيأتينا لا تلزم إلاّ بالقبض. والقول الثاني: أنّ الهبة لا تملك إلاّ بالقبض. والقول الثالث: أنّ الهبة تملك بالعقد قبل القبض, ولكنه ملكاً مراعى, فإن قبض تبيّن أنه ملكه وإلاّ فلا, وينبني على هذه المسألة فروع كثيرة جداً, ذكرها الشيخ ابن رجب في القواعد, من أهم هذه الفروع فرعان: الفرع الأول: ينبني على الخلاف في هذه المسألة جواز التصرف أو عدمه، فإن قلنا أنها تملك بالعقد قبل القبض جاز التصرف قبل القبض, لأنها من أملاكه وللإنسان أن يتصرف في ملكه كيف يشاء. الفرع الثاني: الذي ينبني على هذه المسألة, هو أنها تكون مملوكة من حين العقد, ويترتب على هذا أنّ له النماء المتصل والمنفصل وهذه ثمرة مهمة للخلاف في هذه المسألة, الحنابلة يرون أنها تملك بمجرد العقد كما تقدم معنا. في الحقيقة ليس في المسألة أدلة واضحة, يمكن أن يرجح الإنسان بناء عليها, ولهذا نقول نبقى مع مذهب الحنابلة وهو مذهب الإمام أحمد أنها تملك بالعقد, ويكون التفريع على هذا القول. قال المؤلف ـ رحمه الله ـ: (وتلزم بالقبض بإذن واهب) أي أنّ الهبة وإن كانت تملك بالعقد إلا أنها لا تلزم إلا بالقبض, وإلى هذا ذهب الحنابلة، أنّ الهبة لا تملك إلا بالقبض واستدلوا بدليلين:

الدليل الأول: ما روي عن أبي بكر الصديق وعمر بن الخطاب وعثمان وعلي - رضي الله عنهم أجمعين - أنهم كانوا يرون أنّ الهبة لا تلزم إلاّ بالقبض, وهذا الأثر واستخدامه كلمة لا تلزم إلا بالقبض يرجح في المسألة السابقة مذهب الحنابلة, إذا كانت لا تلزم إلا بالقبض فاللزوم أمر زائد عن الملك, فكأنها تملك بالقول ولكن لا تلزم إلا بماذا؟ إلا بالقبض، فهذا الأثر من الأشياء التي تقوي مذهب الحنابلة, نرجع إلى مسألة اللزوم إذاً هذا هو الدليل الأول في مسألة اللزوم أنّ الهبة لا تلزم إلا بالقبض. الدليل الثاني: أنّ أبا بكر الصديق - رضي الله عنه - أعطى عائشة جذاذ عشرين وسقاً من ماله بالغابة, فلما أشرف وقرب موته - رضي الله عنه - قال لها إني كنت نحلتك جذاذ عشرين وسقاً, ولو كنت حزتيه لكان لك, وأما الآن فهو مال الورثة, فدّل الحديث على أنها لماّ تقبضه لم يلزم في حق أبي بكر وصار من جملة مال الورثة. والقول الثاني: أنّ الهبة تلزم بمجرد القول, بشرط أن تتميز، يعني أن تكون متميزة عن غيرها, وهذا قول الحنابلة واختيار الظاهرية، واستدلوا على هذا بقوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود} [المائدة/1] فعقد الهبة من العقود التي تدخل في الآية. والقول الثالث: أنّ الهبة تلزم مطلقاً، ولو لم تكن متميزة، لعموم قول النبي - صلى الله عليه وسلم - (العائد في هبته كالكلب يقيء ثم يعود في قيئه)، والراجح في مسألة اللزوم بلا إشكال مذهب الحنابلة, لصراحة الآثار عن أبي بكر وعمر وعثمان وعلي, يعني عن الخلفاء الأربعة ـ رضي الله عنهم - فالأدلة التي ذكروها عامة, وهذه الأدلة التي استدّل بها الحنابلة خاصة. قال المؤلف ـ رحمه الله ـ: (وتلزم بالقبض بإذن واهب) معنى أنها تلزم يعني لا يجوز الرجوع فيها, ودخلت بشكل نهائي في ملك الموهوب, وأشترط الشيخ - رحمه الله - الماتن للقبض أن يكون القبض بإذن الواهب, واستدل الحنابلة على هذا بأنّ الإقباض ليس أمراً مستحقاً على الواهب, فلا يصح إلا بإذنه, وجه ذلك أنّ له أن يقبض وله أن يمتنع, فلما صار الإقباض ليس أمراً مستحقاً عليه, اشترطنا إذنه ورضاه.

والقول الثاني: أنّ القبض يصح مطلقاً ولو بغير إذنه ولا علمه، مادام وهب, وهذا القول الثاني من وجهة نظري ضعيف جداً, لأنّ الإقباض في الهبة حق من حقوق الواهب, ففي القبض بغير إذنه نوع إفتيات عليه, كما أنّ تملك المال لابد أن يكون برضى نفس ومادام لم يعطه هو المال ينبغي أن ينتظر إلى يعطه المال أو يأذن في القبض. قال المؤلف ـ رحمه الله ـ: (إلاّ ما كان في يد متهب) يعني إذا كانت العين الموهوبة في يد الموهوب ثم وهبها إياه المالك, فحينئذ لسنا بحاجة إلى القبض, وعللوا هذا بأنّ استدامة القبض تغني عن ابتدائه, فالعين الآن في يده, فلسنا بحاجة إلى قبض جديد, بل تصبح المسألة مسألة استدامة للقبض, والاستدامة لا تحتاج إلى إذن، وهذا صحيح بالنسبة لما إذا كانت العين في يد الموهوب. قال المؤلف ـ رحمه الله ـ: (ووارث الواهب يقوم مقامه) يعني فالإذن بالقبض أو الرجوع عن الهبة, وأفادنا المؤلف بهذه العبارة أنّ الهبة لا تنفسخ بالموت, بل للوارث أن يأذن ويمضي الهبة وله أن يرجع ويقبض الهبة, وذلك لأنّ الهبة ,أو لأنّ كونه يهب هذا حق من حقوقه، فيبقى للورثة إن شاءوا أمضوا وإن شاءوا ردّوا. قال المؤلف ـ رحمه الله ـ: (ومن أبرأ غريمه من دينه بلفظ الإحلال ,أو الصدقة ,أو الهبة ... ) برئت ذمته ولو لم يقبل, هذا الإبراء يتعلق بالديون ولا يتعلق بالعين, فإذا أبرأه من الدين فإنّ الإبراء صحيح ولو لم يقبل المبرأ واستدّل الحنابلة على هذا بأنّ الإبراء مما في الذمة لا يعدوا أن يكون إسقاط, والإسقاط لا يحتاج إلى رضى المسقط عنه, كما في الشفعة وكما في القصاص, ففي الشفعة مثلاً لو أسقط المشفع حقه لا نحتاج إلى إذن المشتري, بل يسقط حقه أذن أو لم يأذن، وفي القصاص لو أسقط ولي الدم حقه في القصاص وأختار الدية لا نحتاج إلى رضى الجاني, إذن الإسقاطات لا تحتاج إلى إذن. والقول الثاني: أنه في مثل هذه الصورة لابد من الإذن, لأنّ هذا الإسقاط في معنى الهبة, والهبة تحتاج إلى قبول, إذن لابد من القبول لأنّ هذا الإسقاط في معنى الهبة, والهبة تحتاج إلى قبول, كما أنّ الإسقاط من الدين فيه مِنّة, ويحتاج إلى قبول.

أجاب الحنابلة عن دليل أصحاب القول الثاني بأنّ هناك فرقاً بين الهبة والإبراء, لأنّ الهبة تمليك للأعيان, بينما الإبراء إسقاط، وبين التمليك والإسقاط فرق ظاهر, والصواب مع أصحاب القول الثاني, والمذهب من وجهة نظري في هذه المسألة مرجوح، والسبب في ذلك أنّ التمليك وإن كان يختلف عن الإسقاط إلا أنه مع ذلك في هذا الإبراء شبه عظيم بالهبة, بدليل أنها تستخدم فيه، فيقول الإنسان وهبت لك ما في ذمتك لي, فاستخدام الهبة في الإسقاط دليل على أنّ معناهما متقارب جداً, كما أنّ قول أصحاب القول الثاني أنّ فيه مِنّة صحيح, أنّ فيه مِنّة ظاهرة, إذ قد يصبح المبرِأ كل ما رأى المُبرأ, قال قد أبرأتك عن كذا من الدين, وكل مارآه ذكّره بأنه أبرأه من هذا الدين, وفي هذا مِنّة ظاهرة واضحة, على كل حال الراجح إن شاء القول الثاني. ظاهر كلام المؤلف, أنه يجوز الإبراء من المجهول, فإذا كان الدائن نسي الدين, لا يعرف كم مقدار الدين, فقال أبرأتك من الدين الذي في ذمتك لي, فإنّ الإبراء عند الحنابلة صحيح, لأنه إسقاط فجاز في المجهول.

والقول الثاني: أنّ الإبراء من المجهول يجوز, بشرط أن يضع له حداً أعلى, فيقول إن كان الدين ألف فأقل فقد أبرأتك منه، يعني في المسألة إشكال, لكن الأقرب مذهب الحنابلة, لأنّ الإبراء وإن كان فيه شبه من الهبة, إلاّ أنه يبقى مع ذلك أخف منها، كما أنّ فيه إبراء لذمة مشغولة, والشارع الكريم يتشوف إلى إبراء الذمم المشغولة, ولهذا نقول إذا أبرأه من الدين وإن كان مجهولاً فلا بأس به, وإن كان القول الثاني في الحقيقة جميل جداً وينهي النزاع, فلو تبّين فيما بعد أنّ الدين مبلغه كبير جداً ربما ندم المبرأ، لكن لو قال إذا كان الدين ألف فأقلّ فقد أبرأتك, فينتهي الإشكال, فيكون الألف فأقلّ مبرأ وما هو زيادة على هذا باقي في ذمتّه لكن على كل حال نقول إن شاء الله, مذهب الحنابلة أحسن لمسألة رغبة الشارع في إبراء الذمم, والمقصود بالدين هنا يشمل أن يكون دين بسبب القرض أو دين بسبب ثمن المبيع الذي لم يؤديه, أو أن يكون دين بسبب جناية, أو أن يكون دين بأيّ سبب من الأسباب التي يترتب عليها انشغال الذمم, وتقدم معنا في كتاب القرض أنّ بين الدين والقرض فرق, وأنّ الدين أعّم من القرض وأنّ القرض أحد أسباب الدين, فالمؤلف يستخدم كلمة الدين ليشمل انشغال الذمة بأيّ سبب من الأسباب. قال المؤلف ـ رحمه الله ـ: (ويجوز هبة كل عين تباع , وكلب يقتنى) عند الحنابلة الأصل العام أنه يجوز هبة كل عين تباع, فما جاز بيعه جازت هبته, والدليل على هذا أنّ الهبة تمليك للأعيان في الحياة فهي تشبه البيع, تقدم معنا أنّ هذا الشبه شبه جزئي وليس شبهاً كلياً, وأنّ بين البيع والهبة فارق أساسي وهو؟ العِوض لكن مع ذلك مادام في كل من البيع والهبة تمليك في الحياة, فهما من هذه الجهة يتشابهان فكل ما جاز بيعه جاز هبته, أضف إلى هذا أنّ البيع أضيق من الهبة, فإذا كانت هذه العين تباع فمن باب أولى أنها توهب.

الأمر الثاني: يقول الشيخ - رحمه الله - وكلب يقتنى، يعني وما يجوز أن يقتنى من الكلاب، ومقصود المؤلف بقوله وكلب يقتنى يعني وكل عين فيها نفع مباح, وإن كان لا يجوز أن تباع ولا أن تشترى, فالأعيان التي توصف بهذا الوصف يجوز أن توهب, وإنما ذكر الشيخ الكلب لأنه أبرز أمثلة الأعيان التي يجوز الانتفاع بها, ولا يجوز أن تباع, والمقصود بالكلب هنا كما صرّح الشيخ الكلب الذي يجوز أن يقتنى, فعرفنا من هذه العبارة أنّ الهبة أوسع من البيع, وأنّ أمرها أرحب، فإذا وهب الإنسان ما يجوز أن يباع أو ما يجوز أن ينتفع به وإن لم يجز أن يباع فهو صحيح. . فصل قال المؤلف ـ رحمه الله ـ: (يجب التعديل في عطية أولاده بقدر إرثهم) هذا فصل خصصه المؤلف لمسألة مهمة مفيدة, وهي وجوب التعديل في العطية بين الأولاد, ولذلك صدّر الشيخ الفصل بحكم هذه المسألة فقال يجب التعديل في عطية أولاده, يجب التعديل في عطية الأولاد, وإلى هذا ذهب الحنابلة وذهب أيضاً الإمام البخاري وذهب إليه الإمام ابن حزم, وأضاف أنّ هذا القول ينسب لجمهور السلف, هكذا يقول, أو يقول وهذا قول عامة السلف, استدل هؤلاء - رحمهم الله وغفر لهم - بأدلة: الدليل الأول: وهو عمدة الباب أنّ النعمان بن بشير - رضي الله عنه - وهب ابنه هبة فجاء إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - ليشهد على هبته فقال له النبي - صلى الله عليه وسلم - (أكُل ولدك أعطيته مثله)، فقال: لا، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: (فلا إذاً)، وقال في لفظ آخر (أني لا أشهد على جور)، وقال في لفظ آخر (أطلب الشهادة من غيري)، أو (أشهد على هذا غيري)، وقال في لفظ (لا أشهد على غير الحق)، وهذا الحديث له ألفاظ من أكثر الأحاديث ألفاظ، إلاّ أنّ جميع الألفاظ تدل على المعنى المقصود, والحديث في الصحيحين. وجه الاستدلال أنّ النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يشهد وأنه سمّاه جور، وأنه سمّاه خلاف الحق, ومن المعلوم أنّ الجور, ظلم, والظلم محرم.

الدليل الثاني: أنّ الشارع الحكيم, ينهى عن كل ما فيه بغضاء وتشاحن بين المسلمين, فضلاً عن الأخوة وتفضيل بعضهم على بعض في الأعطيات من أكبر أسباب التشاحن والفساد كما مشهور ومنظور, ويدل على هذا الأصل العظيم, أنّ الشارع حرّم أن ينكح الرجل عمة المرأة عليها، أو خالة المرأة عليها, وأجمع الفقهاء أنّ العلة في المنع من أن يجمع بين المرأة وعمتها أو بين المرأة وخالتها أن لا يقع بينهما تنافر وتباغض وتشاحن, وهما قريبتان, فهذا الأصل دّل على المنع من التفضيل في الأعطيات التي يعطى الأولاد. والدليل الثالث والأخير: أنه صح عن أبي بكر وعمر وعثمان وعلي - رضي الله عنهم - النهي عن التفضيل وإيجاب المساواة. القول الثاني: وهو مذهب الجمهور من المتأخرين الأئمة الثلاثة - رحمهم الله وغفر لهم وجمعنا وإياهم في جناته - ذهبوا إلى أنّ التسوية بين الأولاد مستحبة, وأنّ التفضيل مكروه ولا يحرم, واستدلوا على هذا بأدلة: الدليل الأول: أنّ النبي - صلى الله عليه وسلم - قال (أشهد على هذا غيري)، وفي هذا التصريح بصحة العقد, لأنه إذا طلب منه أن يشهد عليه غيره, فيه التصريح بصحة العقد. والجواب عن هذا الاستدلال أنه كما قال ابن حزم عن استدلال قريب من هذا الاستدلال في مسألة العطية, أنّ هذا من عجائب الدنيا، وهذا صحيح, الاستدلال بهذا الحديث الذي يعتبر من أقوى الأدلة على التحريم, الاستدلال به على الجواز من عجائب الدنيا، وجه ذلك أنّ قول النبي - صلى الله عليه وسلم - (أشهد على هذا غيري) لا يؤخذ منه مطلقاً الجواز, والسبب في ذلك أنّ هذا الأسلوب من الأساليب العربية المعروفة التي لا تستخدم لبيان الجواز, كما جاء في الأثر أنهم قالوا (إذا لم تستحي فافعل ما تشاء) فهل هذا الأمر حقيقي أو يراد منه التوبيخ؟ وكما جاء في الأثر أو صح عن علي - رضي الله عنه - أنه قال للدنيا غُري غيري، فهل مقصود علي - رضي الله عنه - فعلاً أنه يريد أنّ الدنيا تغّر غيره, أو يريد الابتعاد عن الدنيا, فكذلك قول النبي - صلى الله عليه وسلم - للنعمان (أشهد على هذا غيري) ما هو إلاّ من التوبيخ, وبيان أنّ هذا العمل محرم, وهو في الحقيقة استدلال غاية في البعد.

الدليل الثاني: للجمهور أنّ أبا بكر الصديق - رضي الله عنه - نحل عائشة - رضي الله عنها - عشرين وسقاً ولم يعطي غيرها بدليل أنه ردّ الهبة لما قرب من الوفاة, وهذا أقوى دليل لهم, لكن الجواب على هذا من أوجه: الوجه الأول: أنه يحمل على أنّ باقي الورثة رضُوا وسمحوا بأن يعطي عائشة لكونها أم المؤمنين أو لأيّ سبب آخر. الأمر الثاني: أنّ أبا بكر الصديق أعطاها لمعنى يوجب التفضيل, والإعطاء لمعنى يوجب التفضيل جائز, كأن يكون أشدّ فقراً, أو أشدّ حاجة، وأما بالنسبة لعائشة - رضي الله عنها - فلا نعرف ما هو المعنى الذي يوجب التفضيل، والذي يجعل الإنسان يحمل هذا الأثر على هذه المحامل, وإن كان فيها شيء من البعد, الذي يجعلنا نجزم بأنّ أحد هذه المحامل هو المراد أنه صح عن أبي بكر المنع من التفضيل، وإذا صح عن أبي بكر المنع من التفضيل, علمنا أنه لماّ فضلّ إنما فضل لسبب مبيح شرعاً. الدليل الثاني: أنّ عمر بن الخطاب وأيضاً عبد الرحمن بن عوف, فضلوا بعض أبنائهم, والجواب على هذا, هو الجواب على أثر أبي بكر - رضي الله عنه - تماماً. واستدل الجمهور بدليل آخر وهو أنّ النبي - صلى الله عليه وسلم - قال (هل تحب أن يكونوا لك في البِرّ سواء) فقال - رضي الله عنه – نعم، فهذا إشارة إلى المعنى الذي من أجله منع من التفضيل وهو أنه لكي يكونوا في البِرّ سواء، إذاً لم يكونوا في البر سواء فله أن يفضل، وهذا أيضاً استدلال بالأقيسة البعيدة عن روح النص, فإنّ النص واضح جداً في المنع من ماذا؟ في المنع من التفريق وهو صريح جداً في تحريمه, والراجح إن شاء الله مذهب الحنابلة, ولو لم يكن من أسباب الترجيح إلا أنه مذهب عامة السلف, يعني من الصحابة والتابعين لكان كافياً في الترجيح, فضلا عن الحديث نص في المقصود, ولذلك ألّف عدد من الأئمة رسائل خاصة في نصرة قول السلف، منهم ابن القيم ومنهم الأمير الصنعاني - رحم الله الجميع - ألّفوا رسائل خاصة في نصرة القول الأول الدال على التحريم. قال المؤلف ـ رحمه الله ـ: (بقدر إرثهم (

لما قرر الشيخ وجوب التسوية انتقل إلى كيفية التسوية, الحنابلة يرون أنّ كيفية التسوية تكون بقدر الإرث, فللذكر مثل حظ الأنثيين واستدلوا على هذا بأدلة: الدليل الأول: أنّ النبي - صلى الله عليه وسلم - قال في حديث النعمان (اتقوا الله واعدلوا بين أولادكم)، وإذا كان المطلوب العدل, فإنه لا أعدل من قسمة الله, فإنه لا يوجد قسمة أعدل من قسمة الله, هذا أولاً. ثانياً: وهو دليل قوي جداً أنّ عطاء بن أبي رباح - رضي الله عنه - قال ما كانوا يعطون إلا على كتاب الله, أو ما كانوا يقسمون إلا على كتاب الله، ومثل عطاء من كبار التابعين إذا قال ما كانوا فهو يشير إلى أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - القول الثاني: أنّ التعديل يكون بالتسوية, فيعطى الذكر كما تعطى الأنثى تماماً, واستدلوا على هذا أيضاً بأدلة: الدليل الأول: أنه في لفظ من ألفاظ حديث النعمان, أنه قال (سوي بينهم)، والجواب على هذا أنّ اللفظ الذي فيه سوي بينهم ليس في الصحيحين، وأنه ليس في الصحيحين إلا الأمر بالتعديل, اتقوا الله واعدلوا, والتعديل يفارق التسوية تماماً, هذا دليل أول مع جوابه. الدليل الثاني: أنه روي من حديث ابن عباس - رضي الله عنه - أنّ النبي - صلى الله عليه وسلم - قال (سووا بين أولادكم بالعطية فلو كنت مفضلاً لفضلت النساء) وهذا الحديث حديث منكر لا يثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - الدليل الثالث لهم: وهو دليل وجيه، وهو من وجهة نظري أقوى دليل للجمهور الذين يرون أنّ التعديل يكون بالتسوية, قالوا إنّ المقصود في الإرث الإعطاء على وجه التعصيب, ونفع الميّت, ولذا فضّل بينهم بحسب قربهم وبعدهم.

أما المقصود من العطية في الحياة فهي المواساة وصلة الرحم, وإذا كان المقصود صلة الرحم فالذكر كالأنثى في ذلك، وإلى هذا يشير قوله - صلى الله عليه وسلم - (أتحب أن يكونوا لك في البر سواء)، وكونهم في البر سواء يستوي فيه الأنثى والذكر، هذا الدليل الأخير وجيه, ولولا أثر عطاء لكان قول الجمهور وجيه, أنّ التعديل يكون بالتسوية, لكن مع وجود أثر عطاء ومع المعاني التي ذكروها من أنّ قسمة الله هي أعدل القسم يكون الراجح إن شاء الله مذهب الحنابلة, وهو أنّ التعديل يكون بقسمتها على حسب ما جاء في الميراث للذكر مثل حظ الأنثيين. قال المؤلف ـ رحمه الله ـ: (فإن فضّل بعضهم سوّى برجوع, أو زيادة) فإن فضّل بعضهم, يعني فإن خالف الأمر الشرعي وفضّل بعضهم فإنه يسوي إما برجوع بأن يأخذ العطية, أو بزيادة أي بأن يزيد الناقص إلى أن يستووا, وقوله (سوّى) يعني وجوباً، والدليل على وجوب الرجوع ما جاء في الصحيح أنّ النبي - صلى الله عليه وسلم - قال للنعمان (فأرجعه) أو (فأعده) وهذا نص صريح في وجوب الرجوع عن العطية أو الهبة التي فيها تفضيل. قال المؤلف ـ رحمه الله ـ: (فإن مات قبله ثبتت) فإن مات الواهب قبل الرجوع والتسوية ثبتت العطية، ومعنى ثبوت العطية أنه لا يجوز لباقي الورثة أن يطالبوا المعطى, وليس لهم حق عنده, استدل الحنابلة على هذا بأنّ أبا بكر الصديق - رضي الله عنه - قال كنت نحلتك جذاذ عشرين وسقاً ولو كنت حزتيه لكان لك، فدّل اللفظ على أنّ عائشة لو كانت حازته لم يملك الورثة الرجوع. والقول الثاني: أنه يجب الرجوع ولو بعد الموت, واستدلوا على هذا بأنّ هذه العطية, حكم النبي - صلى الله عليه وسلم - عليها بأنها جور، والجور هو الظلم, والظلم لا يقرّ مهما كان الأمر، وبأن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمر بالرجوع في هذه العطية مطلقاً.

واستدلوا بدليل قوي أصحاب القول الثاني, وهو أنّ أبا بكر الصديق وعمر بن الخطاب أمروا قيس بن سعد أن يعود في الهبة التي أعطاهم إياها والده لماّ ولد له ولد لا يعلم به, يعني أنّ والد قيس سعد - رضي الله عنه - أعطى أولاده هبة وقسّم أولاده, ولم يعلم أنّ إحدى النساء حامل, ثم توفيّ, فلما ولد هذا الولد, أمر أبو بكر الصديق وعمر بن الخطاب ابنه قيس أن يرجع في الهبة, بمعنى أن يعطي هذا الابن المولود نصيبه, وفي هذا رجوع بعد الموت, والراجح إن شاء الله هو وجوب الرجوع بعد الموت، مذهب الحنابلة ضعيف وأثر أبي بكر الصديق, تقدم الجواب عنه وهو أنه عطية صحيحة لها ما يبررها شرعاً. قال المؤلف ـ رحمه الله ـ: (ولا يجوز لواهب أن يرجع في هبته اللازمة إلاّ الأب) ولا يجوز لواهب أن يرجع في هبته اللازمة, لا يجوز الرجوع في الهبة لقول النبي - صلى الله عليه وسلم - (ليس لنا مثل السوء, لا يجوز الرجوع في الهبة, والعائد في هبته كالكلب يقيء ثم يعود في قيئه) ولقول النبي - صلى الله عليه وسلم - (لا يحل للرجل أن يهب ثم يعود في هبته) وهذا أمر واضح. قال المؤلف ـ رحمه الله ـ: (إلاّ الأب) أي فله الرجوع, للأب الرجوع خاصة في الهبة لقول النبي - صلى الله عليه وسلم - (لا يحل لرجل أن يهب ثم يرجع في هبته إلاّ الأب فيما يعطي ولده)، وهذا الحديث صححه عامة المتأخرين, ولم أرى للمتقدمين فيه كلام بعد مراجعة يسيرة, ربما نجد لهم كلام, لكن بعد مراجعة يسيرة, لم أجد لهم كلام في هل هذا الحديث أو الاستثناء صحيح أو معلول, على كل حال عامة المتأخرين يصححون إسناد هذا الحديث فظاهره الصحة، وهو دليل على استثناء الأب. مسألة: رجوع الأب لابد أن يكون بالقول الصريح, وهناك فرق بين رجوع الأب في هبته التي أعطاها ابنه, وبين تملك الأب من مال ابنه, ففي التملك يكفي القبض مع النية أو القول, أما في الرجوع فلابد من الرجوع الصريح بالقول, فإذا أعطى الأب ابنه شيء ثم أخذه, ولم يصرّح بالرجوع فلا يعتبر رجوع, وتبقى العين ملك للابن, إذاً الخلاصة أنه لابد من التصريح في الرجوع بالنسبة للأب إذا أراد أن يعود في هبته. قال المؤلف ـ رحمه الله ـ:

(وله أن يأخذ ويتملك من مال ولده ما لا يضرّه ولا يحتاجه) للأب أن يأخذ وأن يتملك من مال ابنه, وقبل أن نأتي لمسألة تملك الأب من مال الابن, في مسألة الرجوع ذكرنا حكم رجوع الأب أليس كذلك؟ نقول مسألة: الأم اختلفوا فيها هل لها أن ترجع أو ليس لها أن ترجع؟ على قولين: الراجح إن شاء الله أنّ لها أن ترجع, وإلى هذا مال الشيخ الحارثي لعموم قول النبي - صلى الله عليه وسلم - في الحديث المتقدم (إلاّ الوالد فيما يعطي ولده)، فالأم تدخل دخولاً أولوياً في هذا اللفظ, كما أنّ ما يثبت من الحقوق للأب فإنه يثبت للأم, لأنها أعظم حقاً من الأب. نأتي إلى مسألة تملك الأب من مال الابن, ذهب الفقهاء إلى أنه يجوز للأب أن يتملك من مال ابنه ما شاء, بشروط ستأتينا. واستدلوا على هذا بقول النبي - صلى الله عليه وسلم - (إنّ أطيب ما أكلتم ما كسبتم, وإنّ أولادكم من كسبكم) فصرّح النبي ـ صلى الله عليه وسلم - أنّ الولد من جملة كسب الأب, فيجوز له أن يتملك من ماله ما شاء, بالشرط الذي سيأتينا، واستدلوا بقول النبي - صلى الله عليه وسلم - (أنت ومالك لأبيك) مسألة: وهل الأم مثل الأب في جواز التملك من مال الابن؟ فيه خلاف، فمن الفقهاء من قال أنه لا يجوز التملك إلاّ للأب، وعن الإمام أحمد روايات صريحة في هذا، واستدل الإمام أحمد بقول النبي - صلى الله عليه وسلم - (أنت ومالك لأبيك) قال والأب ليس كالأم, واستدل بأنّ الأب منوط به النفقة دون الأم, واستدل بلفظ للحديث السابق (إنّ أطيب كسب الرجل) فخص الرجل. والقول الثاني: أنّ الأم كالأب, يجوز لها أن تتملك من مال الابن لعموم (وإنّ أولادكم من كسبكم)، ولأنّ حق الأم أعظم من حق الأب، ولأنّ الأم لا يجوز لها على الصحيح, أن تفضّل في الأعطية بين أولادها, كما لا يجوز للأب تماماً، فإذا منعناها من التفضيل فلها حق التملك، وهذا القول إن شاء الله هو الصحيح, أنّ للأم أن تتملك من مال الابن, كما أنّ للأب أن يتملك من مال الابن، وبهذا علمنا أنه على القول الصحيح, الأم تساوي الأب في جميع المسائل السابقة, ما هي المسائل؟ المسألة الأولى: تحريم التفضيل. المسألة الثانية: جواز الرجوع في الهبة.

المسألة الثالثة: جواز تملك الأب من مال الابن. فبهذا تنضبط إن شاء الله معنا المسألة, لأنّ بعض الفقهاء قد يرّجح أنّ الأم كالأب في بعض هذه المسائل دون بعض، لكن الأقرب إن شاء الله, أنها كالأب في جميع المسائل، وبهذا تنضبط وتتضح معنا مسائل الهبة. قال المؤلف ـ رحمه الله ـ: (من مال ولده مالا يضره ولا يحتاجه) ظاهر عبارة المؤلف أنّ مالا يضره غير مالا يحتاجه, أنّ مالا يحتاجه شيء ومالا يضره شيء آخر, وفي الحقيقة أنّ عبارة الفقهاء ومنهم الحنابلة تدّل على أنّ الشرط هو واحد, وهذا الشرط هو أن لا يتملك من مال ابنه ما يضره, ومن أمثلة الضرر أن يتملك ما يحتاجه. إذاً الواقع أنّ الشرط هو واحد, ولو قال الشيخ أن لا يتملك ما يضره كالمال الذي يحتاجه لكان أوضح، من أمثلة ما يضره أن يتملك الأب رأس مال الابن الذي أعدّه للتجارة, إذا لم يكن عند هذا الابن إلاّ رأس المال هذا ليتاجر به لنفقته، فإنه لا يجوز للأب أن يتملك مثل هذا المال, كذلك لا يجوز له أن يتملك ما تعلّق به حقوق للابن, كالرهن, والديون التي في الذمم، مثل هذه الأمور لا يجوز للأب أن يتعرض لها, الرهون ونحوها. والقاعدة العامة التي تضبط معنا المسألة, والأمثلة كثيرة, هي أن لا يتملك من مال ابنه ما يضر الابن, من ذلك مثلاً لا يجوز أن يتملك الأمة التي تسرّاها الابن, وإن كانت الأمة ليست زوجة, لكن مع ذلك لاشك أنّ تملك الأب لهذه الأمة يضّر بالابن, إذاً الأمثلة كثيرة لكن الضابط هو أن لا يتملك ما يضرّ الابن. قال المؤلف ـ رحمه الله ـ: (فإن تصّرف في ماله ولو فيما وهبه له ببيع, أو عتق ,أو إبراء, أو أراد أخذه قبل رجوعه, أو تملكِهِ بقول, أو نيةٍ وقبض معتبرٍ لم يصح بل بعده) خلاصة هذا البحث أنه لا يجوز للأب أن يتصرف في مال الابن, ولو فيما وهبه إياه إلاّ بعد القبض, ويشترط في هذا القبض, أن يكون مع نية أو قول, أما قبل القبض فإنه لا يجوز للأب أن يتصرف في مال الابن، التعليل: قالوا أنّ مال الابن قبل القبض, مال مملوك للابن ملكاً تاماً, فلا يتسلط الأب على التصرف في مال ابنه, وهذا صحيح فإذاً نقول للأب يشترط لتتصرف في مال الابن, ماذا؟ أن تقبضه. قال المؤلف ـ رحمه الله ـ:

(وقبض معتبر) القبض المعتبر هو القبض الذي تقدم معنا في البيوع, قبض كل شيء بحسبه, المنقول والعقار والمكيل والموزون, حسب ما تقدم معنا في الخلاف يتأتى هنا, فإذا أراد أن يقبض عقار من مال الابن فبالتخلية, منقول فبنقله, مكيل فبكيله, على حسب ما تقدم معنا في القبض الذي مرّ في كتاب البيوع. قال المؤلف ـ رحمه الله ـ: (ببيع, أو عتق) واضح. (أو إبراء) يعني أو إبراء غريم الولد, أو إبراء الأب من دين الابن, كلاهما لا يجوز, لأنّ هذا الإبراء وقع قبل أن يتملك الابن المال, ولا يجوز للأب أن يتملك مال الابن, إلاّ بعد أن يتملك الابن هذا المال, ومادام المال في ذمة الغريم فإنه لم يتملكه التملك التام, فلا يجوز للأب أن يصدقه لا عن نفسه ولاعن غريمه. قال المؤلف ـ رحمه الله ـ: (وليس للولد مطالبة أبيه بدين ونحوه) لا يجوز للولد أن يطالب أباه بدين, سواء كان كما تقدم سبب الدين ثمن مبيع أو كان سبب الدين قرضاً اقترضه الأب. (ونحوه) مثل قيم المتلفات, وأروش الجنايات, فإذا أتلف الأب على الابن عيناً محترماً بتعدّ أو تفريط, فإنّ قيمة المتلف تثبت في ذمة الأب، لكن لا يجوز للابن أن يطالبه بها, الدليل على هذا أنّ رجلاً جاء إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - بأبيه يطالبه ديناً, فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - (أنت ومال لأبيك)، فإذاً حديث (أنت ومالك لأبيك) جاء بسبب وهو ماذا؟ مطالبة الابن لأبيه بالدين، فأفتاه النبي - صلى الله عليه وسلم - أنّ ليس له ذلك لأنه هو وماله للأب. الدليل الثاني: أنّ هذا قد يكون من العقوق, وأنا أقول قد يكون, لأنه قد لا يكون من العقوق، لكن قد يكون من العقوق, وذلك فيما إذا لم يكن للابن حاجة, أو كان الأب فقيراً. ((الآذان)) القول الثاني: أنه إذا كان في الابن حاجة للمال, والأب في غنى تجوز المطالبة.

والقول الثالث: أنّ المطالبة تجوز مطلقاً, لأنّ الأب مدين, والابن دائن, وللدائن أن يطلب المدين, والراجح مذهب الحنابلة للحديث, لأنه ليس في الحديث تفصيل, وإلاّ فإنّ القول الثاني وجيه جداً, وفيه تفصيل طيّب, فمادام الابن بحاجة, والأب غني فلماذا لا يسدد ما عليه لابنه, على كل حال مادام الحديث عام فالراجح إن شاء الله هو مذهب الحنابلة, لأنّ الحديث يقوي مذهبهم. قال المؤلف ـ رحمه الله ـ: (إلاّ بنفقته الواجبة عليه, فإنّ له مطالبته بها, وحبسه عليها) النفقة الواجبة, تجوز المطالبة بها، لأنّ في هذا حفاظاً على النفس المعصومة, فله أن يطالب أباه بالنفقة، كما أنّ الأب مقصّر وظالم لمنع النفقة. وقبل أن ننهي هذا الفصل نرجع إلى قول المؤلف (وليس للولد مطالبة أبيه بدين) فقوله بدين, مفهوم العبارة أنّ للولد أن يطالب أبيه بعين, فإذا كانت العين موجودة فله أن يطالب أباه بهذه العين, بعد البحث لم أر للحنابلة دليل في التفريق بين العين والدين, لم يذكروا دليلاً, ولعلهم يستدلون بأنّ في قصة الرجل الذي جاء بأبيه إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه كان مديناً, وفي الحقيقة التفريق بين العين والدين في مطالبة الأب ضعيف, لأنّ المقصد الأول هو عظم حق الأب مما يمتنع معه المطالبة بالحقوق والإلزام بها, سواء كان دين أوعين, ونحن نقول إذا كان دليل الحنابلة الحديث, فالحديث قصة عين, وليس فيها ما يدل على أنه لو كان يطالبه بعين, لأذن له النبي - صلى الله عليه وسلم - بالمطالبة , بل الظاهر من تعليل النبي بالمنع وهو قوله (أنت ومالك لأبيك) أنه يشمل ما إذا كانت المطالبة بدين أو ما إذا كانت بعين. فصل في تصرفات المريض المقصود بالتصرفات هنا التبرعات لا المعاوضات فقوله التصرفات لفظ عام يقصد به فقط التبرعات، أما المعاوضات كأن يبيع وأن يشتري أو أن يرهن أو أن يجري أي عقد من عقود المعاوضات فتصرفه صحيح كالسليم, إذاً الكلام في هذا الفصل عن تصرفات المريض مرض الموت المخوف فيما إذا تصرّف تصرفاً فيه تبرع. وبدأ المؤلف بالمريض الذي مرضه غير مخوف. قال المؤلف ـ رحمه الله ـ: (من مرضه غير مخوف, كوجع ضرس, وعين, وصداع يسير فتصرفه لازم كالصحيح)

تصرف المريض مرضاً غير مخوف، كتصرف الصحيح تماماً, لأنّ الغالب عدم الهلاك بمثل هذا المرض, هذا من جهة من جهة أخرى، لأنّ الأصل في تصرفات المسلم العاقل الذي تصح تصرفاته, الأصل فيها الصحة، ولهذا نقول تصرفات هذا المريض صحيحة، مادام مرضه ليس مخوفاً, والمؤلف مثّل بأمثلة كوجع ضرس وعين وصداع يسير, هذه أمثلة للأمراض غير المخوفة, والمرض غير المخوف يتضح تماماً, إذا أخذنا المرض المخوف, ووضعنا له ضابطاً ينضبط به. ((انتهى الدرس)).

الدرس: (5) من الوقف قال شيخنا حفظه الله: بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين. كنت تحدثت في الدرس السابق عن المرض غير المخوف وبينت الحكم الذي ذكره المؤلف عن المرض غير المخوف وتوقفنا على المرض لمخوف. قال - رحمه الله -: وإن كان مخوفاً كبرسام ..... المرض المخوف عرفه المؤلف بالمثال فذكر مجموعة من الأمثلة للأمراض المخوفة. وحده شيخ الإسلام بقوله: (المرض المخوف هو ما يكثر الموت منه) فيكون ضابط المرض المخوف هو كل مرض يغلب أن يموت المريض منه. هذا الضابط يغني عن كثرة الأمثلة لاسيما مع اختلاف مستويات العلاج من زمن إلى آخر. فكثير من الأمثلة التي ذكرها المؤلف قد لا تكون اليوم من الأمراض التي تقتل صاحبها غالباً لكن نقف مع الأمراض التي ذكرها المؤلف - رحمه الله -: يقول - رحمه الله -: كبرسام. البرسام مرض يصيب الدماغ. وربما أفقده الوعي أو أفقده الفهم والإدراك وله تأثيرات مختلفة لكن الغالب على من يصاب به الموت ولهذا مثل به - رحمه الله -. يقول - رحمه الله -: وذات الجنب. ذات الجنب هي القرحة التي تصيب الجنب من الداخل فإذا انفجرت أدت إلى الوفاة. ولهذا جعلها من جملة الأمراض التي تسبب الموت. يقول - رحمه الله -: ووجع قلب. يعني: إذا مرض القلب بوجع فإنه غالباً ما يسبب الموت. وبالنسبة لوقتنا هذا وجع القلب قد يكون بسبب كبير كالجلطة فهو خطير. وقد يكون بسبب نوع من الإرهاق فلا يكون خطيراً.

ومع ذلك اليوم إذا كان الإنسان مريض بالقلب بالصمامات أو بجلطات أو بضعف العضلة في جميع الأحوال اليوم يعامل مريض القلب كالصحيح ولا يعامل كمن هو في مرض الموت لأنه ليس الغالب الموت ففي الحقيقة وجع القلب ينقسم إلى قسمين: ـ أن يكون وجعاً طبيعياً يعالج ويبقى المريض يتصرف في حياته كتصرف الأصحاء مع أخذ العلاج فهذا تصرفاته معتبرة وصحيحة وليست كتصرفات المريض مرضاً مخوفاً. ـ والثاني: أن يصاب بجلطة تفقده الوعي أو تدخله العناية المركزة ويصبح في حالة حرجة فلاشك أنه لو أفاق وتكلم فإن تصرفاته تعتبر من تصرفات المريض التي سيبين لنا المؤلف - رحمه الله - ما هو حكمها؟. يقول - رحمه الله -: ودوام قيام. يعني: دوام الإسهال. فالإنسان إذا دام معه الإسهال أهلكه لأن الإسهال يعني عدم استمساك ما في المعدة وعدم انتفاع الجسم مما يأكله الإنسان وبهذا يهلك مع الاستمرار. فإذا استمر الإسهال لاشك أنه مرض قاتل. لكن اليوم ولله الحمد أمكن التحكم بمثل هذا وإيقافه. لكن لو فرضنا أن إنسان أصيب بإسهال ولم يتمكن الأطباء من إيقافه وأشرف على الهلاك فإن تصرفاته تصرفات المريض المخوف. يقول - رحمه الله -: ورعاف. مقصوده: يعني: ودوام رعاف. ولاشك أن النزيف - الرعاف إذا دام فهو من أخطر الأمراض. أي: نزيف أي طريقة من طرق خروج الدم إذا لم يتمكن الأطباء من إيقافه فهو من أخطر الأمراض سواء كان النزيف داخلي وهو الأخطر أو كان خارجي كالرعاف والجرح. وعلى كل حال إذا دام ولم يتمكنوا من إيقافه ووصل إلى مرحلة حرجة من المرض فهو يعتبر مريضاً مرضاً مخوفاً. يقول - رحمه الله -: وأول فالج. الفالج هو مرض يصيب إما الشق الأيمن أو الأيسر من الجسد أو الشق الأعلى أو الأسفل من الجسد أو يصيب كل الجسد. فإذا أصاب الجسم أدى إلى تخدره وشلله. فالفالج: عندهم يعتبر من الأمراض المخوفة لكن قيده المؤلف بقوله: (أول فالج). من أشبه ما يكون من أمراضنا بأمراض الفالج الجلطات التي تؤدي إلى شلل في جسم الإنسان لاسيما إذا كانت الجلطة في الدماغ فإنها غالباً ما تؤثر على أعصاب الإنسان.

وما ذكره المؤلف من أن الفالج في أوله خطير صحيح إلى الآن إذا أصيب الإنسان بجلطة دماغية فإنه في أول الإصابة تعتبر حالته خطره ثم كل ما يتقدم الوقت يعتبر من صالح المريض وهو علامة على خروجه من مرحلة الخطورة وكل ما يتقدم الوقت يكون إشارة إلى خروجه من حالة المرض الشديد. فقوله: (أول) صحيح. أول ما يصاب الإنسان بالجلطة ويرقد فإن تصرفاته تعتبر تصرفات مريض يحكم عليها بما سيأتي ثم إذا عتق وتعدى مرحلة الخطورة فإن تصرفاته تصرفات صحيحة. يقول - رحمه الله -: وآخر سِل. السل مرض يصيب الرئة فيعطل عملها على الوجه المطلوب وقد يؤدي إلى تعطليه كلياً. والسل: آخره خطير. وأوله ليس بخطير. بمعنى: أنه إن استمر ولم يعالج ووصل إلى مراحله الأخيرة فإنه يصبح حينئذ مرضاً خطيراً مؤدياً إلى الوفاة. أما إذا أصيب الإنسان بهذا المرض ثم أمكن العلاج في وقت مبكر فتصرفاته حين كان مريضاً في أوله صحيحة وليست كتصرفات المريض مرضاً مخوفاً. يقول - رحمه الله -: والحمى المطبقة. يعني: الحمى الدائمة التي تستمر ولا ترتفع عن بدن الإنسان. وهذا المرض خطير بإجماع العقلاء، استمرار الحرارة خطير بإجماع العقلاء سواء كانوا من الأطباء أو من غيرهم لأن استمرار ارتفاع حرارة الإنسان دليل واضح على وجود الخلل الكبير في البدن. فإن أمكن التحكم بالحرارة بتنزيلها كما هو المشهور الآن أية طريقة إما بالتبريد أو بعلاج كيمائي فلا يعتبر من المرض المخوف. وأما إذا حاولوا في المريض أن تنزل حرارته ولم يتمكنوا لأي سبب واستمر فإنه كما قال الحنابلة يعتبر دخل مرحلة الخطر وتكون تصرفاته كتصرفات المريض المخوف. يقول - رحمه الله -: والربع. الربع هي الحرارة التي تأتي كل أربعة أيام وهي في الحقيقة نوع من دوام الحرارة، إلا أنها ترتفع ثم ترجع ترتفع ثم ترجع في اليوم الرابع. وهذه بالتجربة عند المتقدمين تؤدي إلى الهلاك إذا استمرت. ثم لما انتهى من تعداد الأمراض المخوفة رجع إلى شيء أعم من تعداد الأمراض المخوفة: فقال - رحمه الله -: وما قال طبيبان مسلمان عدلان. اليوم لو أنا نقول: أن الضابط في اعتبار المرض مخوف أو غير مخوف هو حكم الأطباء.

ولسنا بحاجة إلى تعداد الأمراض ولا يمكن أن يستقل الإنسان باعتبار تصرفات هذا المريض من تصرفات المريض مرضاً مخوفاً بمجرد معرفة اسم المرض بل يجب أن نرجع في وقتنا هذا بالذات إلى حاجة الأطباء ونصدر عن قولهم هل هو: يعتبر مرضاً يؤدي إلى الوفاة أو مرض يمكن أن عالج. وذلك بسبب التقدم المهول للطب الحديث بما يكفي في كف صفة أو حالة المريض بدقة وهل هو يعتبر في مرحلة حرجة وخطرة أو ليس كذلك. فهذا السطر الأخير من كلام المؤلف - رحمه الله - ينبغي في وقتنا أن يعتمد وأن لا ننظر إلى التسميات وإنما ننظر إلى شهادة الأطباء في كل [الأمراض] بلا استثناء. لكن نأتي إلى مناقشة كلام المؤلف يقول - رحمه الله -: وما قال طبيبان. يعني: = أن الحنابلة يرون أنه يشترط أن يشهد بذلك طبيبان فإن شهد طبيب فإنه لا عبرة بشهادته. وعللوا هذا: - بأن هذه الشهادة تتعلق بحق الموصي والورثة وهو حق مالي فاحتجنا إلى شهادة اثنين. = والقول الثاني في المسألة: أنه يكتفى بشهادة الطبيب الواحد الثقة. واستدلوا على هذا: - بأن عمر - رضي الله عنه - لما طعن شهد له الطبيب بأنه لا أمل للبرء في جرحه فأوصى عمر بناء على شهادة هذا الطبيب وقبل الصحابة وصية عمر المبنية على شهادة الطبيب واعتبروها صحيحة ونافذة وهذا كالإجماع على أن شهادة الطبيب الواحد تكفي. فيما يظهر أن الراجح هو القول الثاني. لكن لو قيل أن هذا يختلف باختلاف الأمراض فمثل جرح عمر - رضي الله عنه - لما شرب اللبن وخرج مع العرق هذا لا يحتاج إلى دقة في الطب أنه مهلكة. كذلك بعض الأمراض المعاصرة إذا وصلت إلى مراحلها الأخيرة لا تحتاج إلى طبيب حاذق فاهم حتى يحكم أن هذا مريض مرض الموت. لكن في بعض الأمراض تلمس اختلافاً بين الأطباء اختلافاً كبيراً جداً. وأعرف حالة لأحد المرضى أخبره الطبيب أنه لا مجال للعلاج ولا يوجد أي أمل في الشفاء وأن عليه أن يوصي وأن أيامه تتراوح بين عشرة أيام إلى أربعة عشر يوماً. ثم ذهب من هذا الطبيب إلى طبيب آخر وأعطاه دواء مركز صار من ثمار هذا الدواء توازن بعض الأشياء .. المهم أن الرجل حي وإلى الآن موجود.

وهذا المثال الذي وقفت عليه بنفسي ينبئك عن أنه في بعض الأمراض أنه يشترط أن يشهد اثنان من الأطباء أو ثلاثة حتى نتأكد أن تصرفات هذا المريض فعلاً تحمل على تصرفات المريض مرضاً مخوفاً، ولا أظن أن هذا المثال الذي ذكرت وحيد بل له أشباه ونظائر كثيرة. لذلك نقول إذا كان المرض من الأمراض التي تختلف فيها وجهات النظر أو من الأمراض التي يسارع الأطباء بالبحث عن علاج لها وقد يكتشف في مكان لا يعلمه الطبيب الآخر حينئذ لابد من استشارة أكثر من طبيب حتى نحكم على تصرفاته المالية بأنها تصرفات مريض مريضاً مخوفاً. يقول - رحمه الله -: مسلمان. يعني: يشترط في الطبيب أن يكون من المسلمين ليكون عدلاً تقبل هذه الشهادة منه. = والقول الثاني: أنه لا يشترط إلا أن يكون ثقة عدلاً حاذقاً ولو لم يكن من المسلمين. بدليل: - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - اتخذ في الهجرة دليلاً من غير المسلمين، فهذا يدل على جواز الاعتماد على قول الكافر الثقة. وأظن أن هذا الخلاف اليوم محسوم عملياً فإن اليوم الاعتماد على خبر الطبيب غير المسلم هو عمل الناس. لاسيما وأنه يوجد عدداً من الأطباء غير المسلمين يكون عنده من الحذق والمعرفة والخبرة ما لا يوجد عند بعض المسلمين، فلذلك استقر العمل الآن على قبول شهادته وقوله وهذا هو الأقرب إن شاء الله. يقول - رحمه الله -: ومن وقع الطاعون ببلده، ومن أخذها الطلق ... انتقل المؤلف - رحمه الله - إلى نوع آخر من الأشخاص الذين يحكم على تصرفاتهم بأنها تصرفات المريض مرضاً مخوفاً، إلا أنهم ليسوا بمرضى. فهم في حكم المريض مرضاً مخوفاً، ولو لاحظت فستجد أن من وقع في بلده الطاعون ومن أخذها الطلق ليست مريضة وليس مريضاً هو بحد ذاته ليس مريضاً. وألحقوا بهذين المثالين: ـ من حكم عليه بالقصاص، فإنه ليس مريضاً ولكنه يشبه المريض مرضاً مخوفاً. ـ وألحقوا به: المقاتل عند التحام الصفين مع التساوي. ـ وألحقوا به: من سقط من شاهق يموت منه غالباً. وإذا تأملت فستجد أمثلة كثيرة لهذه الأشياء التي ذكرها الحنابلة. دليل الحنابلة في إلحاق هذه الأشياء بمرض الموت:

- قالوا: أن الموت والعطب بهذه الأشياء أكثر منه في المريض مرضاً مخوفاً فهي أولى بالحكم. هذا الدليل لجملة الأشياء التي ذكرت وهي أمثلة ثلاثة أو أربعة. لكن في المسألة خلاف نأخذ المسائل التي ذكرها المؤلف - رحمه الله -: الأولى: قال - رحمه الله -: ومن وقع الطاعون ببلده. ذكرنا أن مذهب الحنابلة أن حكمه حكم المريض مرضاً مخوفاً وذكرنا تعليلهم. = والقول الثاني: أن تصرفاته كتصرفات الصحيح. - لأنه ليس بمريض بل صحيح معافى. - ولأن الطاعون أصاب الشام في عهد الصحابة ولم ينقل أنهم أمروا من في الشام بأن لا يتصرفوا إلا كما يتصرف المريض مرضاً مخوفاً. والراجح بلا إشكال إن شاء الله الثاني. المسألة الثانية: قال - رحمه الله -: ومن أخذها الطلق. إذا أخذ المرأة الطلق فعرفنا مذهب الحنابلة ودليلهم. = القول الثاني: أن تصرفاتها كتصرفات الصحيح، فلو تبرعت وهي تلد فتبرعها صحيح. والسبب في ذلك: - أن الغالب على من أخذها الطلق السلامة وليس الموت فإلحاقها بالمريض مرضاً مخوفاً فيه نظر ظاهر. وهذا القول الثاني هو الصحيح إن شاء الله. يبقى بعض المسائل في الحقيقة من الأمثلة التي ذكرت قد تكون أقوى من الأمثلة التي ذكرها المؤلف - رحمه الله -. ـ فالإنسان إذا قدم للقصاص: = فمن الفقهاء كالحنابلة من ألحقه بالمريض مرضاً مخوفاً. = ومنهم من قال: بل ربما عفا من له الحق في العفو قبل تنفيذ القصاص ولهذا فنعتبر تصرفاته تصرفات الصحيح. وفي الحقيقة المسألة هذه محتملة [ويغلب - ويقرب] عندي أنه إذا قدم للقصاص فتصرفاته كتصرفات المريض، أما وهو في الحبس وينتظر القصاص فهذا تصرفاته تصرفات الصحيح لأن الأمل في العفو كبير. ـ بالنسبة لمن سقط من شاهق يغلب على الظن أنه يموت فتصرفاته وهو ساقط كتصرفات المريض مرضاً مخوفاً. بل هو أولى من المريض مرضاً مخوفاً لأن نسبة الموت من السقوط من شاهق مرتفع جداً تقرب من التسع وتسعين بالمائة، ولا ينجو إلا شيء مخالف للعادة. إذاً: الأمثلة التي ذكرها الفقهاء تختلف قوة وضعفاً. فالأمثلة التي ذكرها المؤلف - رحمه الله - ضعيفة وبعد الأمثلة التي ذكرت القول بأنها تلحق بمرض الموت قول وجيه وقوي.

ما ذكر المؤلف - رحمه الله - حدود مرض الخوف وأمثلته وضوابطه ذكر الحكم: فقال - رحمه الله -: لا يلزم تبرعه لوارث بشيء ولا بما فوق الثلث: إلاّ بإجازة الورثة لها إن مات منه. هذا الخلاصة والأهم. وهي أن صرفات المريض مرضاً مخوفاً حكمها حكم الوصية فلا تنفذ للوارث ولا بأكثر من الثلث للأجنبي. فنعامل تصرفات المريض مرضاً مخوفاً كما نعامل وصيته تماماً حكمها حكم الوصية. وهذا كمعنى قول المؤلف - رحمه الله -: (لا يلزم تبرعه لوارث بشيء). وقوله: (ولا بما فوق الثلث: إلاّ بإجازة الورثة لها) أي: أن حكمها حكم الوصية. وسيأتي في الوصية تفصيل هذين الحكمين. والذي يعنينا الآن أن تصرفات المريض حكمها حكم الوصية. وهذا في الحقيقة يحتاج إلى دليل لأن هذا الرجل مسلم عاقل حي كيف نحكم على تصرفاته بأنها ملغاة وأنها كتصرفاته في الوصية. والجواب على هذا الإشكال: أن هناك في الشرع أدلة واضحة وقوية تدل على هذا الحكم. - الدليل الأول: والأقوى: أن رجلاً في عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - يملك ستة أعبد فأعتقهم في مرضه المخوف فاستدعاهم النبي - صلى الله عليه وسلم - وجزأهم فأعتق اثنين وأرق أربعه، وذلك بالقرعة. فالنبي - صلى الله عليه وسلم - تعامل مع تصرف هذا المريض كما يتعامل مع الوصية أنفذ الثلث ورد الباقي. وهذا الدليل في الصحيح وهو في الحقيقة عمدة المسألة. - الدليل الثاني: الذي يذكره الفقهاء كثيراً هو قوله - صلى الله عليه وسلم -: (إن الله تصدق عليكم عند موتكم بثلث أموالكم زيادة لكم في أعمالكم) هذا الحديث فيه ضعف لكن له شواهد كثيرة. ويقوى بالحديث السابق فهو إن شاء الله صالح للاستدلال فهذان دليلان واضحان على هذا الحكم المهم الذي يتعلق بتصرفات المريض مرضاً مخوفاً. يقول - رحمه الله -: إذا مات منه وإن عوفي فكصحيح. يعني أن هذا الحكم إنما هو إذا استمر به المرض إلى أن مات فحكمه حكم الوصية. أما إذا عوفي ولو كان أصيب بمرض مخوفٍ بالإجماع ثم عوفي فإن تصرفاته تكون صحيحة وتكون من رأس المال لا من الثلث. وذلك: - لأن تصرفه لم يصادف مانعاً شرعياً فصح ولزم.

فإذا قال الأب في مرضه المخوف لزوجتي العمارة الفلانية فحكم تصرفه الآن وهو في مرض الموت المخوف حكم الوصية. والوصية لوارث لا تجوز إلا بإجازة الورثة لكن لو عوفي بعد هذا المرض وشفاه الله برحمته فإن هذا البيت يكون ملك للزوجة. لأن هذا التصرف تصرف صحيح. وهذا واضح. مسألة أخرى: لو تصرف الإنسان تصرفاً مالياً في مرض غير مخوف ثم مات من هذا المرض فإن تصرفه صحيح من رأس المال ولا يعامل كما تعامل الوصية. إذاً: ينحصر الحكم في شخص واحد وهو من أصيب بمرض مخوف واستمر معه إلى أن مات، لابد من هذين الشرطين: ـ أن يصاب بمرض مخوف ـ وأن يستمر المرض إلى الموت، وهذا معنى قول المؤلف - رحمه الله - إذا مات منه)، يعني إذا استمر إلى الموت. ثم انتقل المؤلف - رحمه الله - إلى نوع آخر من الأمراض. فقال - رحمه الله -: ومن امتد مرضه بجذام أو سل أو فالج ولم يقطعه بفراش: فمن كل ماله والعكس بالعكس .. المؤلف - رحمه الله - يريد أن يتكلم عن الأمراض الممتدة فالأمراض الممتدة يعني: التي تطول مع صاحبها وتبقى معه زمناً طويلاً. حكمها: = عند الحنابلة: أنها إن ألزمته الفراش فتصرفاته كتصرفات المريض مرضاً مخوفاً. وإن لم تلزمه الفراش فتصرفاته كتصرفات الصحيح. هذا هو التفصيل عند الحنابلة. الدليل: - قالوا: الدليل على هذا أن المرض الممتد إذا ألزم صاحبه الفراش فإن الغالب منه الموت فأخذ حكم المريض مرضاً مخوفاً. ومثل الحنابلة على هذا: بالأمراض التي ذكر. (كالجذام)، لو ألزم صاحبه الفراش، فإن الجذام من حيث الأصل لا يعتبر مرضاً مخوفاً لكن لما ألزم صاحبه الفراش عاملناه كما نعامل المرض المخوف. (أو سل) في ابتدائه لأنه في انتهائه يعتبر مخوفاً. (أو فالج) في آخره لا في ابتدائه لأنه في ابتدائه يعتبر مرضاً مخوفاً ولو لم يلزم الفراش. إذاً هذه الأمثلة التي مثل بها المؤلف - رحمه الله - كأنه يقول: إذا أصيب الإنسان بمرض غير مخوف وامتد وألزمه الفراش بهذه الضوابط الثلاثة: فإنه يعامل معاملة المريض مرضاً مخوفاً. وتقدم دليلهم. = القول الثاني: أن المرض الممتد إذا ألزم صاحبه الفراش فإنه لا يعتبر حكمه حكم المريض مرضاً مخوفاً.

- أنه لا يغلب في مثل حالتهم الهلاك، هذا أولاً. - ثانياً: أنا نجد الرجل الهرم الكبير يلزم الفراش ويبقى سنين في الفراش ولا نعتبره مرضاً مخوفاً. وهذا القول الثاني هو الصواب وعليه العمل. فإن الناس لا يتعاملون مع المريض الذي لزم الفراش بسبب شدة المرض أن تصرفاته تصرفات المريض مرضاً مخوفاً. فالإنسان إذا أصيب بشلل مثلاً ولزم الفراش مع أن تصوره ومعرفته وعبادته كاملة، إنما أصيب بشلل بالأعضاء وألزمه الفراش عند الحنابلة يجب أن نعامله معاملة المريض مرضاً مخوفاً وعلى القول الثاني وهو الصواب أنه يعامل معاملة الأصحاء من حيث التصرفات المالية. ثم قال - رحمه الله -: ويعتبر الثلث عند موته. يعني: أن المعتبر في كون العطية الثلث أو أقل أو أكثر هو عند الموت. فإن أوصى بمال هو النصف حين الوصية ثم أصبح الثلث عند الموت فيعتبر الثلث. وإن أوصى بوصية هي الثلث عند الوصية ثم أصبحت النصف عند الموت فهي النصف وترد إلى الثلث. إذاً المعتبر حال الموت. إذاً: لا نعتبر لا حال التبرع ولا الحال التي قبل الموت وإنما نعتبر حال الموت. وذلك لأنه في هذه الحال - حال الموت - ينتقل المال إلى الورثة أو المعطى. قال - رحمه الله -: ويسوى بين المتقدم والمتأخر في الوصية، ويبدأ بالأول فالأول في العطية ... لما بين المؤلف - رحمه الله - أن العطية في مرض الموت حكمها حكم الوصية أراد أن يبين الآن الفروق التي بين الوصية والعطية في مرض الموت. وكأنه يقول: إن العطية في مرض الموت وإن شابهت الوصية في كثير من الأحكام إلا أنها تختلف عنها في باقي الأحكام فليست تتساوى معها تماماًَ بل تشبهها في شيء وتفارقها في شيء. يقول - رحمه الله – مبيناً الفرق الأول: ويسوى بين المتقدم والمتأخر في الوصية، ويبدأ بالأول فالأول في العطية. هذا هو الفرق الأول: في العطية نبدأ بالأول فالأول وفي الوصية نساوي بين الجميع المتقدم والمتأخر. والسبب في ذلك: - أن العطية تلزم حين صدورها فتصبح لازمه، أما الوصية فهي تبرع مضاف لما بعد الموت فيقع جملة واحدة فيتساوى أصحابه.

مثال هذا: إذا أوصى لزيد ألف ولعمرو بألف ولخالد بألف ثم مات. الوصية الأولى في السنة الأولى والوصية الثانية في السنة العاشرة والوصية الثالثة في السنة العشرين من حياته فالآن هل نعامل هؤلاء الثلاثة معاملة واحدة ويتحاصون أو نقدم الأول فالذي يليه.؟ معامله واحدة. المثال الآخر: إذا أعطى في مرضه المخوف زيد ألف ثم بعد يوم أعطى خالداً ألف ثم بعد يوم أعطى زيدا ألفاً ثم مات كم الآن مجموع العطايا؟ ثلاثة آلاف. لما بحثنا في تركته وجدنا أن الثلث ألف فهل نقسم الألف بين الثلاثة أو نعطيها الأول؟ نعطيه الأول. والثاني والثالث؟ يسقطان. وهذا فارق جوهري وكبير بين العطية التي في حكم الوصية والوصية. ولهذا بدأ به المؤلف - رحمه الله -. ثم قال - رحمه الله -: في الفرق الثاني: ولا يملك الرجوع فيها. يعني: لا يملك الرجوع في العطية بينما يملك الرجوع في الوصية. ـ أما العطية فلأنها لازمة كما تقدم معنا، فلا يملك الرجوع فيها. ـ وأما الوصية فسيأتينا أنه يجوز الرجوع فيها قولاً واحداً، وهذا فارق أساسي بينهما. يقول - رحمه الله -: ويعتبر القبول لها عند وجودها. يعني: يعتبر القبول للعطية عند وجودها بينما يعتبر القبول للوصية بعد الموت. فقبوله أو رده أي الموصى إليه قبل الموت لا عبرة به بينما في العطية وإن كانت حكمها حكم الوصية إلا أن القبول يعتبر قبل الموت وذلك لأن العطية تمليك في الحياة والوصية تمليك بعد الممات. فهذا هو الفرق بينهما فقبول هذه يكون في الحياة وقبول تلك يكون بعد الممات. يقول - رحمه الله – في الفارق الأخير: ويثبت الملك إذاً. يعني: يثبت الملك في العطية من حين القبول وهو في أثناء الحياة ويثبت الملك في الوصية بالقبول بعد الموت. ولهذا نقول: إذا أعطى عطية في مرض الموت المخوف وقبل المعطى فإن العطية وما يترتب عليها من نماء منفصل أو متصل كله للمعطى من حين القبول في الحياة لأنه تملكها من ذلك الحين بشرط أن تخرج من الثلث. لأن العطية في مرض الموت المخوف حكمها حكم الوصية والوصية لا تخرج إلا من الثلث. فهذه أربعة أشياء تختلف فيها العطية مرض الموت عن الوصية وهي فروق مهمة جداً ومؤثرة.

وبهذا ولله الحمد نكون انتهينا من كتاب الوقف وننتقل إلى كتاب الوصايا.

كتاب الوصايا

الدرس: (1) من الوصايا كتاب الوصايا قال شيخنا حفظه الله: بسم الله الرحمن الرحيم والحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين. قال - رحمه الله -: كتاب الوصايا. الوصايا: جمع وصية. وهي اسم بمعنى المصدر ويراد بها غالباً الموصى به. والوصية في الاصطلاح الشرعي: هي التبرع بمال أو تصرف بعد الموت. وهي مشروعة في الكتاب والسنة والإجماع. فلم يختلف الفقهاء في مشروعية الوصية. - أما الكتاب فعدة آيات منها: ـ {من بعد وصية توصون بها أو دين} [النساء/12]. وذكر أحكام الوصية دليل على مشروعيتها. - وأما من السنة فقوله - صلى الله عليه وسلم -: (ما حق امرئ مسلم له شيء يوصي به يبيت ليلتين إلا ووصيته مكتوبة عنده). - وأما الإجماع فكما قلت: أجمع الفقهاء على مشروعية الوصية. وسيأتينا حكمها. نريد أن نضيف إضافة تتعلق بالتعريف. التعريف: التبرع لكن الأدق أن نقول الأمر بالتصرف لأن التصرف ليس بتبرع. أو بالتبرع بالمال بعد الموت. فإذا أمر بأحد هذين الأمرين: إما التصرف أو التبرع فقد أوصى. والمقصود بالتصرف في التعريف نحو قضاء الدين أو تقسيم التركة أو العناية بالأيتام الصغار ونحو ذلك من التصرفات التي ينيطها الموصي بالموصى إليه. وسيخصص لها المؤلف - رحمه الله - باباً. قال - رحمه الله -: يسن لمن ترك خيراً. أفادنا المؤلف - رحمه الله - أن الوصية سنة. والوصية تنقسم إلى قسمين: ـ القسم الأول: أن يوصي بدين واجب عليه أو بودائع واجبة ليس عليها شهود يؤدون الحق فهذا واجب بالإجماع. وهو خارج محل الخلاف. ـ القسم الثاني: الوصية بما سوى ذلك: = فذهب الجماهير من علماء المسلمين والصحابة إلى أنها سنة. واستدلوا على أنها سنة بأدلة من الكتاب والسنة: - أما من الكتاب فقوله تعالى: {كتب عليكم إذا حضر أحدكم الموت إن ترك خيرا الوصية} [البقرة/180]. وقالوا: المنسوخ في هذه الآية الوجوب دون الاستحباب، كما أن المنسوخ أن تكون لوارث دون الأقرباء غير الوارثين.

- الدليل الثاني: الحديث الذي تقدم معنا: (ما حق امرئ مسلم له شيء يوصي به يبيت ليلتين إلا ووصيته مكتوبة عنده). فهذان دليلان على السنية. - وأما الدليل على عدم الوجوب فهو: - أن غالب أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يوصوا. وعلى هذا جماهير الفقهاء. = والقول الثاني: أن الوصية للأقرباء غير الوارثين واجبة. واستدلوا على هذا: - بأن الآية أمرت بالوصية وعبرت عن ذلك بكتب والمنسوخ في الآية ليس الوجوب وإنما الوصية للوارثين فيبقى ما عداهم على أصل الوجوب. ورجحوا هذا بأن النسخ لا يصار إليه مع إمكانية الجمع كما درستم في أصول الفقه. لا يمكن أن نصير إلى النسخ مع إمكانية الجمع. وهنا نستطيع أن نجمع بين النصوص التي فيها الحث على الوصية والأمر بها وبين الآية بأن المنسوخ ما يكون في حق الورثة لاسيما مع قوله - صلى الله عليه وسلم -: (لا وصية لوارث). والراجح: أن الوصية سنة بلا إشكال ولا تردد وذلك أنه ما كان لنا أن نقول الوصية واجبة وغالب أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يوصوا كأنهم تركوا واجباً ومهما قيل من اعتذار عن هذا الدليل فليس بقوي ما دام أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - سادت الخلق وأتقاهم وأورعهم وأفضلهم وأقربهم وأعرفهم بكتاب الله وسنة رسوله غالبهم لم يوصوا فلا مجال للقول بالوجوب. ممن رجح القول بالوجوب: ابن عباس وابن جرير الطبري وهما ممن لا تخفى منزلتهما في العلم لكن مع ذلك نقول إن الراجح إن شاء الله مذهب الجماهير من أئمة المسلمين أخذاً بهذا الدليل. يقول - رحمه الله -: يسن لمن ترك خيراً وهو المال الكثير. ذهب المؤلف - رحمه الله - إلى أنه لا تسن الوصية إلا لمن ترك مالاً كثيراً وهو مذهب الجماهير. = والقول الثاني: أن الوصية تسن لمن ترك قليلاً أو كثيراً. يعني: مطلقاً. وفسروا إن ترك خيراً يعني قالوا: مالاً. والراجح مذهب الجماهير، وهو أنه تسن لمن ترك خيراً يعني: مالاً كثيراً. لكن من قال بهذا القول من الفقهاء اختلفوا في حد الكثير. ما هو الكثير؟ على أقوال كثيرة: الراجح منها: أن الكثير هو ما يعتبر كثيراً عرفاً.

فنرجع إلى العرف في تحديد القليل والكثير أن الآية لم تبين ولا في السنة ما يبين حد الكثير من القليل. وقال ابن قدامة: أن من ترك ما لا يكون معه الورثة أغنياء لا يشرع له الوصية. يعني: بعبارة أخرى: إن كانت الوصية لن تجعل الورثة أغنياء فإنها لا تشرع: إن تسببت في النقص من هذا. والراجح أنه إذا كان عنده مال كثير عرفاً فالمشروع أن يوصي. يقول - رحمه الله -: أن يوصي بالخمس. أفادنا المؤلف - رحمه الله - بهذه العبارة حكم مسألتين: ـ المسألة الأولى: أنه يسن وينبغي أن لا يصل الإنسان بالوصية إلى الثلث بل ينبغي ويسن أن ينقص عنها. وإلى هذا ذهب الجمهور. = والقول الثاني: أن الوصية ينبغي أن تنقص عن الثلث إذا لم يكن غنياً فإن كان غنياً وصاحب ثروة فلا يشرع أن ينقص عن الثلث. والراجح مذهب الجمهور لأن سعد بن أبي وقاص - رضي الله عنه - لما استفتى النبي - صلى الله عليه وسلم - كما سيأتينا في الحديث أمره أن يوصي بالثلث فقال الثلث كثير وسعد من الأغنياء ومع ذلك أمره النبي - صلى الله عليه وسلم - أن ينقص عن الثلث بقوله: (الثلث والثلث كثير). إذاً الراجح من حيث الأصل: أنه ينبغي للإنسان أن نقص عن الثلث. لكن بقينا في: ـ المسألة الثانية: إذا نقص فكم يكون؟ المؤلف - رحمه الله - وهو المذهب: يرون أنه ينقص إلى الخمس. فيقول هنا: (أن يوصي بالخمس). استدلوا على هذا: - بأنه مروي عن أبي بكر الصديق وعلي بن أبي طالب - رضي الله عنهما - أنهما كانا يوصيان بالخمس. ولكن في أسانيد هذه الآثار شيء من الضعف. = القول الثاني: الربع. وهو مروي عن بعض الصحابة. = القول الثالث: العشر. وهو مروي عن بعض الصحابة. والراجح المذهب: والسبب في الترجيح: أن الشعبي - رحمه الله - يقول: كانوا يستحبون النقص إلى الخمس. وتقدم معنا مراراً أن كبار التابعين إذا قال كانوا فهم يشيرون إلى الصحابة. وهذا الأثر يؤيد ويقوي مذهب الحنابلة أنه ينقص إلى الخمس. ثم قال - رحمه الله -: ولا تجوز: بأكثر من الثلث لأجنبي. لا يجوز للإنسان أن يوصي بأكثر من الثلث: وذلك:

- لأن سعد بن أبي وقاص - رضي الله عنه - استفتى النبي - صلى الله عليه وسلم - في مرضه وذكر أن له مالاً كثيراً وليس له إلا ابنة ترثه فأراد أن يوصي فقال للنبي - صلى الله عليه وسلم - ....... ((الأذان)). فسأل النبي - صلى الله عليه وسلم - عن أن يتصدق بثلثي ماله فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -:لا. قال - رضي الله عنه - (( ..... )) فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -:لا. فقال فالثلث. فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: الثلث والثلث كثير. فأخذ الفقهاء من هذا الحديث أنه لا يجوز للإنسان أن يوصي بأكثر من الثلث. وسيأتينا الحكم إذا أوصى بأكثر من الثلث ماذا يكون حكم هذه الوصية؟ ثم قال - رحمه الله -: ولا لوارث بشيء. لا يجوز أن يوصي لوارث بشيء من التركة. - لقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: (لا وصية لوارث). هذا الحديث فيه ضعف مع شهرته لكن الاحتجاج به صحيح لأمور: ـ الأمر الأول: أنه صح أن ابن عباس أفتى به. ـ الثاني: أن الأمة تلقته بالقبول والعمل على وفقه، وهذا من أقوى ما يشد من أزر الأحاديث الضعيفة. ولهذا نقول العمل به إن شاء الله صحيح فلا وصية لوارث بنص هذا الحديث. يقول - رحمه الله -: إلاّ بإجازة الورثة. هذا راجع إلى الأمرين: الوصية بأكثر من الثلث. والوصية لوارث. والسبب: - أن المنع إنما هو لحق الورثة فإذا أجازوا فقد أسقطوا حقهم وثبتت الوصية سواء كانت بأكثر من الثلث أو لوارث. فإن أجازوا ملكها وصحت. هذا والله أعلم ولى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .. ((انتهى الدرس)).

الدرس: (2) من الوصايا قال شيخنا حفظه الله: بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين. بالأمس توقفنا عند قوله: (ولا لوارث بشيء). ثم قال - رحمه الله -: إلاّ بإجازة الورثة. يعني: أنه يجوز أن يوصي لوارث أو لأجنبي بأكثر من الثلث وذلك إذا أجاز الورثة. وعلة الجواز عند إجازة الورثة: - أن المنع كان لحقهم فإذا أجازوا فلا يوجد مانع من أن يوصي لوارث أو بأكثر من الثلث لأجنبي. وهذا الحكم لا إشكال فيه. ثم قال - رحمه الله -: لهما بعد الموت.

قوله: (بعد الموت) فيه إشارة إلى أن القبول أو الرد من الورثة لا يعتبر إلا بعد الموت فإن أجازوا أو ردوا قبل الموت فليس بشيء. وهذا هو مذهب الحنابلة. والعلة في ذلك: - أنه قبل الموت لم يثبت لهم حق حتى يجيزوا أو يردوا، فلا عبرة بإجازتهم ولا بردهم، كما أن المرأة لو أسقطت حقها من المهر قبل العقد فإنه لا عبرة بإسقاطها لأن الحق لم يثبت لها. = القول الثاني: أن إسقاطهم قبل الموت معتبر وصحيح. - لأن هذا الحق لهم فإذا أسقطوه سقط. = والقول الثالث: وسط بين القولين: وهو أنهم إن أسقطوه في حياته لكن في مرض الموت وإن أسقطوه في حياته في غير مرض الموت لم يصح ولم يعتبر. وهذا القول ظاهر القوة وهو اختيار شيخ الإسلام وهو الأقرب إن شاء الله، ففيه الجمع بين القولين، فنقول: لا تصح إلا بعد الموت إلا إن كانت في مرض الموت المخوف. ثم قال - رحمه الله -: فتصح تنفيذاً. يعني: ولا تعتبر هبة مبتدأة بل تعتبر من التنفيذ. والسبب في ذلك: - أن وصية الموصي صحيحة معتبرة إلا أنها متوقفة على إجازة الورثة فإذا أجازوا فقد أنفذوا تلك الوصية الصحيحة الموقوفة على إجازتهم. وهذا هو مذهب الحنابلة. ونحن نتكلم الآن عما إذا أوصى لوارث أو بأكثر من الثلث لأجنبي. = القول الثاني: أنهم إذا أجازوا تعتبر هبة مبتدأة يشترط لها شروط الهبة وتأخذ حكم الهبة. والراجح مذهب الحنابلة وهو أنها تعتبر إجازة وليست عطية مبتدأة. ثم قال - رحمه الله -: وتكره: وصية فقير وارثه محتاج. يعني: ويكره أن يوصي إذا كان وارثه محتاج. - لقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: (إنك إن تذر ورثتك أغنياء خير من أن تتركهم عالة يتكففون الناس). - كما أن هذا الحكم ربما يفهم من قوله: (إن ترك خيراً). وتقدم معنا أن الصواب يعني: ترك مالاً كثيراً على اختلافهم في حد المال الكثير. فإذاً يكره ولا يحرم أن يوصي إذا كان الورثة فقراء. ثم قال - رحمه الله -: وتجوز بالكل: لمن لا وارث له.

يعني: ويجوز أن يوصي الإنسان بجميع ماله إذا لم يكن له ورثه. استدل الحنابلة على هذا بأمرين: - الأمر الأول: أن الجواز صح عن ابن مسعود. - الثاني: أن النهي عن الزيادة عن الثلث إنما هو لحق الورثة وهذا صريح تعليل النبي - صلى الله عليه وسلم - فإنه منعه عن الزيادة عن الثلث وعلل ذلك بقوله: (إنك إن تذر ورثتك أغنياء .. ). فإذاً المنع لحق الورثة وهنا لا ورثة فجاز أن يوصي بجميع ماله. = والقول الثاني: أنه لا يجوز أن يزيد عن الثلث ولو لم يكن وارث. - لعموم قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: (الثلث والثلث كثير) ويكون الباقي لبيت المال. وهذا القول الثاني ضعيف فيما يبدو لي والأقرب إن شاء القول الأول وهو المذهب. وذلك لأثر ابن مسعود ولأن التعليل في النص واضح وجلي. ثم قال - رحمه الله -: وإن لم يف الثلث بالوصايا: فالنقص بالقسط. يعني: وإن أوصى إلى أكثر من شخص ثم مات ووجدنا أن مجموع الوصايا يفوق الثلث الحقيقي للمال فإنه ينقص من نصيب كل واحد منهم بالقسط. وطريقة التنقيص بالقسط هو أن ننسب الثلث الحقيقي إلى مجموع الوصايا التي أوصى بها ونعطي كل واحد من أصحاب الوصايا بقدر هذه النسبة مما أوصي إليه به. مثاله/ إذا أوصى بمائة ألف لشخص ولآخر بخمسين ألف ولثالث بخمسين ألف كم مجموع الوصايا؟ مائتي ألف. ثم نظرنا فإذا ماله كله ثلاثمائة ألف فالثلث: مائة ألف. ننسب الثلث الحقيقي وهو في المثال مائة إلى مجموع الوصايا وهو مائتين. والنسبة بين المائة والمائتين كم؟ النصف. فكل واحد من أصحاب الوصايا الثلاث يأخذ نصف ما أوصي له به: فصاحب المائة يأخذ خمسين وصاحب الخمسين يأخذ نصفها. هذه على طريقة التنقيص بالقسط وهذه الطريقة فيها من العدل والإنصاف وإعطاء كل ذي حق حقه من أصحاب الوصايا. ثم قال - رحمه الله -: وإن أوصى لوارث فصار عند الموت غير وارث: صحت والعكس بالعكس. أفاد المؤلف - رحمه الله - أن المعتبر في كونه وارثاً أو ليس بوارث هو: عند الموت. فإذا أوصى لشخص وارث ثم عند الموت أصبح ليس من الوارثين صحت. والعكس: إذا أوصى لشخص لا يرث ثم أصبح عند موت الموصي يرث فإن الوصية تبطل. الدليل على هذا من وجهين:

- الوجه الأول: الإجماع. فإنهم أجمعوا على أن الاعتبار بحال الموت. - الثاني: أن حال الموت هو حال الأخذ من الورثة والأوصياء فهو المعتبر. وهذا المسألة كما قلت لكم محل إجماع. ثم قال - رحمه الله -: ويعتبر قبول الموصى له بعد الموت. أفادنا المؤلف مسألتين: ـ المسألة الأولى: أن الموصى به لا يملك للموصى له إلا بقبوله، فإن لم يقبل فلا تدخل في ملكه. ـ المسألة الثانية: أن هذا القبول المشترط للملك يجب أن يكون بعد الموت. أما الأولى: فلا إشكال فيها ولا أظن فيها خلاف وهي أنه لا يدخل في ملكه إلا بعد القبول. وأما الثانية: فعلتها: أنه في حال الموت تنتقل إليه الوصية فحينئذ يصح أن يقبل أو أن يرد. إذاً: القبول والرد من الموصى إليه لا يعتبر إلا بعد الموت. ثم قال - رحمه الله -: وإن طال لا قبله. أفادنا المؤلف - رحمه الله - بقوله: (وإن طال)، أن القبول يصح على التراخي لا على الفور فله أن يقبل بعد الموت مباشرة وله أن ينتظر ثم يقبل بعد ذلك. وقوله هنا: (لا قبله)، يعني: تصريح بمفهوم قوله (بعد الموت). ولو أن المؤلف - رحمه الله - تركها لكانت المسألة واضحة. لأنه يقول: (ويعتبر قبول الموصى له بعد الموت) يعني: لا قبله. ثم قال - رحمه الله -: ويثبت الملك به عقب الموت. معنى هذا: أنه إذا مات الميت في اليوم الأول من شهر محرم وقد أوصى لزيد بوصية ثم لم يقبل زيد إلا في آخر شهر محرم فإنه إذا قبل تبينا أن الوصية ملك له من بعد الموت مباشرة. فكل نماء متصل أو منفصل طيلة هذه المدة يكون للموصى له. الدليل: - قالوا: الدليل أن الورثة لاحق لهم إلا بعد الوصية بقوله: (من بعد وصية). فالورثة لا يرثون إلا بعد إيفاء الموصى إليهم حقهم. فإذاً: إذا قبل تبينا أنه له يعني: الوصية بزيادتها المتصلة والمنفصلة. = القول الثاني: أنه إذا قبل متراخياً فإن الموصى به لا يدخل في ملكه إلا حين القبول فالنماء المتصل والمنفصل السابق للورثة وإنما تكون له العين الموصى بها من حين القبول فقط. واستدل هؤلاء: - بأن القبول سبب في الملك والملك هو الحكم في هذه المسألة والحكم لا يتقدم سببه.

إذاً مرة أخرى: القبول سبب الملك والحكم لا يتقدم سببه يعني لا يمكن أن يوجد الحكم قبل أن يوجد سبب الحكم وهنا لم يوجد سبب الحكم وهو القبول فإذاً لا يوجد الحكم وهو الملك. وعلى هذا القول تكون العين الموصى بها من الموت إلى القبول ملك للورثة. = القول الثالث: أنها ليست ملكاً لا للورثة ولا للموصى إليه وإنما تعتبر ما زالت من أملاك الميت فهي من حملة التركة. فالزيادة المتصلة والمنفصلة تكون للتركة والتركة تعلمون فيها الثلث وفيها الإرث وفيها كل شيء. إذاً التركة إذا زادت أيضاً يزيد تبعاً لها الثلث ويزيد نصيب الورثة ويمكن سداد الديون. المهم التركة هي التي تملك العين قبل قبول الموصى إليه وعبر بعضهم بأنها ملك للميت ومعنى أنها ملك للميت معلوم أنها تكون يعني: للتركة. ففي المسألة ثلاثة أقوال الذي يظهر لي والله أعلم أن مذهب الحنابلة أرجح لأنه في الحقيقة الموصى إليه تعتبر العين له من حين الوصية إلا أنها معلقة بالقبول كما أن الورثة أبعد عن الموصى به من الموصى إليه لأن الورثه لا يتحقق ملكهم أبداً إلا بعد الوصية بينما الموصى إليه يتحقق ملكه بالقبول فقط. وعلى كل حال لاشك أن المسألة مشكلة فإنها ليست من المسائل التي يسهل فيها الترجيح لكن مع ذلك يظهر لي والله أعلم أنها تكون ملك للموصى إليه إذا قبل من حين الموت. ثم قال - رحمه الله -: ومن قبلها ثم ردها: لم يصح الرد. يعني: إذا قبل الوصية ولو لم يقبض الوصية ثم ردها فإن الرد مردود وتعتبر العين في ملكه شاء أو أبى. التعليل: - أنه بمجرد القبول استقر ملكه عليها وإذا استقر ملك العين لشخص فإنه لا يمكن أن يرد الملك عن نفسه لهذه العين. = والقول الثاني: أن الرد إذا كان بعد القبول وقبل القبض صح. وإن كان بعد القبض والقبول لم يصح. وعلل هؤلاء: - بأن القبض شرط في الملك. = القول الثالث: جواز الرد مطلقاً بعد القبول والرد. عكس مذهب الحنابلة تماماً. والمسألة كما ظهر لكم مبنية على مسألة أخرى إذا تحررت تلك المسألة تحررت هذه المسألة وهي: ـ هل يشترط في ملك الوصية القبول مع القبض أو القبول فقط؟ - فإن قلنا القبول فقط فمذهب الحنابلة هو الراجح.

- وإن قلنا القبول مع القبض فالمذهب الثاني هو الراجح. وبهذا تبين أن المذهب الثالث ضعيف - الذي يقول يجوز الرد مطلقاً حتى بعد القبض فهذا ضعيف جداً ليس لهم فيما أعلم دليل واضح. الراجح فيما يبدو لي أن الملك يتم بالقبول ولا يشترط القبض. لماذا؟ لأن الشارع اشترط استقرار الملك بالقبض في عقود معينة ليس منها الوصية لاسيما وأن الوصية في حقيقتها نبرع من الموصي إلى الموصى إليه. فلا يوجد في الأدلة ما يدل على اشتراط القبض ومن اشترط القبض فعليه بالدليل الدال على ذلك. في الهبة توجد أدلة تدل على أنها لا تلزم إلا بالقبض يعني: لا يستقر الملك إلا بالقبض. توجد أدلة صريحة هنا لا توجد أدلة فلا نستطيع أن نوقف الملك على القبض. بناءً على هذا الترجيح الراجح مذهب الحنابلة أنه بالقبول لا يمكن الرد. ثم قال - رحمه الله -: ويجوز الرجوع في الوصية. الرجوع في الوصية ينقسم إلى قسمين: ـ الرجوع في غير العتق، وهذا جائز بالإجماع، وقد اشتهر عن الصحابة تغيير الوصايا، وتغيير الوصايا رجوع. ـ القسم الثاني: العتق = فالجماهير ذهبوا إلى أنه يصح الرجوع في العتق أيضاً. = القول الثاني: أن العتق لا يصح في الرجوع فإذا أوصى بعتق عبده لا يرجع. - وذلك لأن الشارع متشوف للعتق ولتحرير الرقاب. والراجح أن الرجوع يجوز مطلقاً وأنه لا يوجد دليل يدل على التفريق بين العتق وغيره والعتق نوع من الصدقة والتبرع بالمال نوع من الصدقة فالراجح إن شاء الله أنه يجوز الرجوع عن جميع أنواع الوصايا. ومما يدل على قوة هذا القول أن الصحابة المروي عنهم الرجوع كثيراً لم يرو عنهم التفريق بين العتق وغيره من أنواع العبادات والقربات. فالراجح إن شاء الله جواز الرجوع عن جميع أنواع الوصايا. ثم قال - رحمه الله -: وإن قال: ((إِنْ قَدِمَ زَيْدٌ فَلَهُ مَا وَصَّيْتُ بِهِ لِعَمْرو)) فقدم في حياته: فله. هذه الصورة الأولى: إن قال قدم زيد فله ما وصيت به لعمرو ثم قدم قبل وفاة الموصي فالوصية لزيد. - لأن الشرط تحقق فيه وإذا تحقق في الشرط ملك الوصية. ثم قال - رحمه الله -: مصرحاً بمفهوم هذا الكلام. وبعدها: لعمرو. يعني: وإن قدم زيد بعد وفاة الموصي فالوصية لعمرو. والسبب:

- أنه بموت الموصي استقرت لعمرو فقدوم زيد بعد ذلك لا يقدم ولا يؤخر لأنه لم يتحقق الشرط في حقه وهو أن يقدم قبل موت الموصي. وهذا لا إشكال فيه وهو واضح جداً. ثم قال - رحمه الله -: ويخرج الواجب كله: من دين وحج وغيره من كل ماله بعد موته وإن لم يوص به. مقصود المؤلف: أن الواجبات الشرعية الواجبة لله أو للآدمي كالحج والزكاة لله والدين لآدمي يجب أن تقضى من رأس المال أوصى أو لم يوص. واستدلوا على هذا بأمرين: - الأمر الأول: أن علي بن أبي طالب ذكر أن السنة تقديم الدين على الوصية وإذا كان الميراث مؤخر عن الوصية إجماعاً والدين مقدم على الوصية فصار الترتيب: الدين ثم الوصية ثم الميراث. - الدليل الثاني: أن هذه من الحقوق الواجبة فتقدم على غيرها. والآية صريحة: (من بعد وصية يوصي بها أو دين) صريحة في تقدم الدين على الوصية إلا أن أثر علي أفادنا تقديم الدين على الوصية. إذاً: قضاء الواجبات يمون من رأس المال سواء كانت واجبات لله أو واجبات لآدمي. ثم قال - رحمه الله -: فإن قال: ((أَدُوْا الْوَاجِبَ مِنْ ثُلُثِي)) بدئ به فإن بقي منه شيء: أخذه صاحب التبرع وإلاّ سقط. في هذه الصورة وهي: إن قال: أدوا الواجب من ثلثي بدئ به: الموصي أمر بأن يبدأ بالثلث في قضاء الدين والواجبات الأخرى. فحصر القضاء فيه. والواجب أن نتبع وصية الموصي. بناء على هذا نبدأ بقضاء الواجبات بتسديد الديون وأروش الجنايات والحج إذا لم يحج ثم إذا انتهينا من تسديد الواجبات نظرنا فإن بقي من الثلث شيء استحقه الموصى له وإلا فلا. وهذا معنى قوله: (وإلا سقط) وسبب السقوط: أن الواجبات استغرقت الثلث وقد حصر الموصي أداء الواجب في الثلث فوجب أن نصير إلى قوله. * * مسألة/ فإن حصر قضاء الواجبات في الثلث وقضينا بعض الواجبات وانتهى الثلث ولم تنته الواجبات ولم تقض جميع الواجبات فالواجب: أن نكمل قضاء الواجبات من رأس المال. ولو كان الموصي قال اقضوا ما وجب علي من ثلثي ولو قال هذه العبارة إذا انتهى الثلث قبل أن تنتهي الواجبات فإننا ننتقل إلى رأس المال وذلك للأدلة السابقة لأن قضاء الدين واجب وصى به أو لم يوصِّي.

باب الموصى له

وبهذا انتهينا من الباب الأول وننتقل إلى الباب الثاني. باب الموصى له قال - رحمه الله -: باب الموصى له. يعني: باب يذكر فيه أحكام الموصى له. يقول - رحمه الله -: تصح: لمن يصح تملكه. فكل من يصح أن يتملك من رجل أو امرأة مسلم أو كافر يجوز أن نوصي له. إلا أنه إذا كان من المسلمين فيجوز أن نوصي له معيناً كأن نقول أوصيت لزيد وغير معين كأن أقول أوصيت لفقراء المسلمين. وإن كان من الكافرين فلا يجوز إلا أن أوصي إليه معيناً ولا يجوز أن أوصي إليه غير معين فلا يجوز أن أقول أوصيت للمساكين من النصارى أو للفقراء من اليهود أو أوصيت لليهود والنصارى فهذه الوصايا باطلة ولا تجوز. الدليل على جواز الوصية للكافر المعين: - قوله تعالى: { ... إلا أن تفعلوا إلى أوليائكم معروفا .. } [الأحزاب/6] والسلف رحمهم الله فسروا الآية بأن يوصي المسلم لليهودي. وظاهر كلام الحنابلة أنه يجوز أن يوصي للكافر المعين ولو كان حربياً أو مناوئاً. هذا ظاهر كلام الحنابلة والصواب المقطوع به إن شاء الله أنه لا يجوز أن يوصي لكل كافر مناوئ سواء كان حربي أو مناوئ فقط أو معاون لأن في الوصية له إعانه على المنكر وتقوية لجانبه على المسلمين. فإذاً يجوز أن نوصي للكافر غير الحربي والمناوئ كالذمي والمستأمن وكل كافر كعين لم يناوئ ولم يحارب المسلمين. يقول - رحمه الله -: ولعبده بمشاع كثلثه. ويعتق منه بقدره ويأخذ الفاضل. يجوز للإنسان أن يوص لعبده لكن يشترط لصحة الوصية أن يوصي لعبده بمشاع لا بمعين. فإذا قال: أوصيت لعبدي بثلثي أو بربعي أو بخمسي صحت الوصية للعبد. ويعتق العبد من هذه الوصية. وحينئذ إما أن يكون ثلث المال بمقدار قيمة العبد فيعتق كله أو أن يكون ثلث المال أقل من قيمة العبد فيعتق بمقداره هذا معنى قوله: (ويعتق بمقداره). أو تكون قيمة الثلث أكثر من قيمة العبد فيعتق والفاضل له وهذا معنى قوله: (والفاضل له). إذاً: الثلث الموصى به للعبد كله للعبد عتق منه ما يعتق وهو ما يقابل القيمة والباقي للعبد وإن نقصت صار رقاً بقدر هذا النقص. والدليل على هذا: - أن العبد هو جزء من ثلث المال الموصى به فهو داخل في الثلث فيعتق.

ولهذا ذكر الفقهاء أنه لو قال أوصيت لعبدي برقبته عتق أو لو قال: أوصيت لعبدي بنفسه لعتق فكذلك إذا أوصى لعيده بالثلث فالعبد يدخل في هذا الثلث ويعتق. وهذا بخلاف المسألة التي ستأتينا. ثم قال - رحمه الله -: وبمائة أو معين: لا يصح له. يعني: وإن أوصى للعبد بمائة أو بشيء معين: كأن يقول أوصيت له بهذا البيت فإن الوصية لا تصح. لأمرين: - الأمر الأول: أن العبد لا يملك والمؤلف يقول: (يصح لكل من يملك). من يصح تملكه وهذا لا يملك، هذا أولاً. - ثانياً: أن الوصية للعبد هي في الحقيقة وصية للوارث لأن ما يوصى به للعبد سيكون للعبد والعبد وما أوصي به إليه سيكون لمن؟ لأحد الورثة. فهو في الحقيقة أوصى لوارث. فإذاً: لا يجوز أن يوصي للعبد بشيء معين. بقينا في المسألة: بينما إذا أوصى بمشاع وما إذا أوصى بمعين. الفرق بينهما: ـ أنه إذا أوصى بمشاع دخل اعبد في هذا المشاع بينما إذا أوصى بمعين لا يمكن أن يدخل العبد في هذا المعين لأن المعين معين لا يدخل معه شيء. بينما المشاع من مال الميت مشاع يدخل أول ما يدخل فيه هذا العبد الذي أوصي له به. لم أقف على خلاف في هذه المسألة ما رأيت فيها خلاف لو كان فيها خلاف ولو قيل: أنه إذا أوصى بمائة ألف وقيمة العبد مائة ألف أنه يعتق وأنه إذا أوصى له بمبلغ معين يعتق منه بمقداره والباقي له والنقص عليه كما نقول بالشيء المشاع لو قيل بهذا لكان وجيهاً في الحقيقة. لأنه معلوم أن مقصود الميت لما قال أوصيت لعبدي بمائة ألف معلوم أن مقصوده: العتق، لأنه يعلم أن المائة ألف التي ستكون للعبد لو لم يعتق فستكون لمن؟ للورثة فصنعه تحصيل حاصل فبقاء المائة مع التركة أو عند العبد واحد لا فرق بينهما لأنه عند تقسيم التركة سيعتبر العبد ومائة فإذا كان العبد قيمته مائة فسيكون العبد وما معه يقدر بكم؟ بمائتين وتقسم التركة على هذا الأساس. فيظهر واضح من قول الميت أنه أنا أوصيت بمائة ألف للعبد أنه يريد العتق والشارع - وهذه قاعدة مهمة - متشوف لتصحيح الوصية وتطبيق مراد الموصي بها. لكني لم أجد أحداً - يعني: لم أجد أحداً نص على صحة الوصية لعبد معين ولو قيل به لكان وجيهاً في الحقيقة. ثم قال - رحمه الله -:

وتصح بحمل. في الحقيقة قوله: (وتصح بحمل) ليس هذا موضعها. أن هذا هو في الحقيقة كلام عن الموصى به والباب مخصص لأي شيء؟ للموصى له. فإذاً: لا يناسب أن يقول: (تصح بحمل)، ولكن لعل المؤلف أتى بقوله: (تصح بحمل) ليعطف عليها ويقول: (ولحمل تحقق وجوده قبلها) ومع ذلك في الحقيقة لو أن المؤلف أخر قوله: (وتصح بحمل) إلى الباب التالي لكان هو الأولى. يقول - رحمه الله -: (وتصح بحمل) يعني: يصح أن يوصي بحمل معين كأن يقول حمل هذه الناقة أو حمل هذه الأمة بشرط أن نتحقق من وجود الحمل حين الوصية. فإن أوصى بحمل علمنا أنه وجد بعد الوصية فالوصية باطلة لأنها لم تصادف محلاً صحيحاً. وهذا بخلاف ما لو أوصى بما تحمل هذه الناقة، فإن هذه الوصية صحيحة لأنها وصية بمعدوم والوصية بمعدوم كما سيأتينا صحيحة والفرق بينهما ظاهر جداً لأنه في الصورة الأولى عين حملاً موجوداً وتبين أنه ليس بموجود فبطلت الوصية وفي الصورة الثانية علق الوصية على وجود الحمل والوصية بمعدوم صحيحة. ولهذا لو قال: أوصيت بهذا البيت والبيت ليس من أملاكه لم تصح الوصية. ولو قال: إن اشتريت هذا البيت فهو وصية صحت لأنه علق الوصية بشرط صحيح. ثم قال - رحمه الله -: ولحمل تحقق وجوده قبلها. يعني: ويصح أن يوصي لحمل بشرط أن نتحقق وجود الحمل حين الوصية. وعلة ذلك: - قاعدة مشهورة وهي: (أن كل من يصح أن يرث يصح أن يوصى إليه) فالوصية تجري مجرى الميراث والحمل يرث بالإجماع فإذاً يصح أن يوصى إليه. والفقهاء قالوا: نتحقق من وجوده حين الوصية بأن يولد لستة أشهر فأقل من الوصية. فإذا ولد لستة أشهر فأقل علمنا أنه حين الوصية أنه موجود. وهذا قد يكون طريقة متقدمة يلجأ إليها الفقهاء لمعرفة وجود الحمل أما اليوم فيستطيع الطبيب أن يحدد متى نشأ الحمل؟ بدقة إلى حد كبير. فإذا استطاع الموصى إليه وهو الصبي أن يثبت من المستشفى أنه موجود حال الوصية فالوصية صحيحة سواء ستة أشهر أو أقل أو أكثر. مادام موجوداً حين الوصية فالوصية صحيحة. ثم قال - رحمه الله -: وإذا أوصى من لا حج عليه أن يحج عنه بألف: صرف من ثلثه مؤنة حجة بعد أُخرى حتى تنفذ.

إذا قال: الموصي هذا اللفظ: وهو: أن يحج عنه بألف. فحينئذ يجب أن يحج عنه إلى أن تنتهي الألف لأنه لم يحدد عدد الحجج المطلوبة من الألف بل أمر أن يحج إلى أن تنتهي الألف. فإن حجينا عنه هذه السنة بخمسمائة والسنة القادمة بثلاث مائة والسنة الثالثة اكتشفنا أن الباقي من المبلغ لا يكفي لإتمام حجة كاملة. فماذا نصنع؟ الحل الأول: أن يعين بالحج. يعني: يعطي إضافة إلى غيره من يحج. = والقول الثاني: أنه لا يحتاج أن يعين من يحج وإنما يتصدق به. وفي الحقيقة لو قيل: أنه إذا ما كفى لحج يعتمر منه لكان له وجه لأن العمرة حج أصغر. وأن يؤخذ عنه عمرة كاملة في رمضان تعادل حجة خير من أن يعان. لكن الفقهاء على كل حال اختلفوا على قولين: لم أر العمرة وإن كان وجيهاً وهو أنه يحج عنه من مكة أو يعان في الحج أو يتصدق به عنه. والتصدق به هو أضعف الأقوال. ما دام الرجل أوصى بالحج يجب أن نتقيد بالحج ونقول إما أن يحج عنه من قريب أو يعان في الحج. فهمنا من كلام المؤلف - رحمه الله - أنه لو قال: حجوا عني حجة بألف لاختلف الحكم. وهو كذلك. فلو قال حجوا عني حجة بألف فإنا نعطي الألف من يحج عنه يأخذ منها نفقته والباقي له. والدليل على هذا: - أن الظاهر من صنيع (المؤلف) أنه أراد أن يبر الموصى إليه لاسيما إذا علم الموصي حين الوصية أن الحج لا يكلف ألف ريال حينئذ علمنا أنه أراد أن يبر الموصى إليه. = والقول الثاني: أن الزائد حتى في قوله: حجوا عني حجه يؤخذ ويفعل فيه ما يفعل بالزائد من الألف السابقة. = والقول الثالث: أن الزائد عن الألف في حجة يرد إلى التركة إلى الورثة. وهذا غريب أن يقال به ضعيف جداً. رجل أوصى وصية أخرجها لله كيف يرجع باقي المبلغ إلى الورثة. الذي يظهر لي أن أرجح الأقوال القول الأول: وهو أن الباقي يكون من نصيب الموصى إليه وذلك لأن قصد الموصي نفع الموصى إليه ظاهر جداً فهو أراد أن يحج حجة والباقي له. ثم قال - رحمه الله -: ولا تصح: لملك. لا تصح الوصية لملك لأنه لا يملك. والمؤلف - رحمه الله - وضع هذه القاعدة الجميلة في أول الباب: (صح لمن يصح تملكه) هذا ضابط. إذاً الملك لا يجوز أن يوصى إليه لأنه لا يملك. يقول - رحمه الله -:

وبهيمة. عني: ولا يجوز أن يوصي لبهيمة. لأنها لا تملك. وهذا واضح. = القول الثاني: أنه لا يجوز أن يوصي لبهيمة إلا البهائم المسبلة لجهاد فقط ما عداها لا يجوز ولا يصح. = القول الثالث: أنه يجوز أن يوصي للحيوان مطلقاً.،ويصرف في مصالحه. والراجح إن شاء الله القول الثالث الجواز مطلقاً وقصد الموصي ظاهر. يعني: لماذا يوصي للحيوان؟ ظاهر. إن كان الحيوان من المستخدمة في الجهاد فأمره واضح جداً لأنه أراد تقوية الجهاد في سبيل الله، وإن أوصى لحيوان لا يستخدم في الجهاد فقصده أيضاً واضح وهو أن يحافظ على الحيوان لمصلحة المالك. وجه ذلك: أن بعض الناس قد يفرط في نفقة حيوانه وهذا الحيوان قد يكون مصدر رزقه وقد يكون المصدر الوحيد فإذا أوصى بهذه النفقة تكون للحيوان صار هذا من أعظم أسباب استمرار الحيوان بوجود هذه النفقة. وينتفع في الأخير المالك ولذلك نحن نقول وإن قال الفقهاء أنه لا يجوز أن يصرف على مالك الحيوان إلا أنه بلا شك أن مقصود الموصي إذا لم يكن الخيل مربوطة للجهاد أن مقصود الموصي إذا أوقف على حيوان أن ينتفع مالك الحيوان لكنه أراد أن يضبط مالك الحيوان لئلا يتصرف بما لا مصلحة له فيه. وهذا مقصد صحيح. قال - رحمه الله -: وميت. لا يجوز أن يوصي لميت أن الميت لا يملك ولا يجوز أن تجرى معه العقود. = والقول الثاني: أنه تصح الوصية لميت. وتصرف في نفعه الأخروي. فيشترى بهذا المال أوقاف ويتبرع بتبرعات وصدقات ونحو هذه التصرفات التي ينتفع فيها الميت وهو رهين قبره. الراجح إن شاء الله القول الثاني، والسبب: أن الوصية تبرع أراد منها المتبرع نفع المتبرع له والميت قد يكون أحوج من الحي ولا يوجد في النصوص مانع ظاهر يمنع من الوصية للميت لاسيما وأنه بالإمكان إيصال نفع هذه الوصية للميت كما قلت في الأمثلة المذكورة. والمؤلف - رحمه الله - يقصد: لميت يعلم الموصي أنه ميت أو يجهل أنه ميت؟ يعني: يقصد لو أوصى لحي ثم مات؟ يعلم ولا مجال لأنه يقصد لو أوصى لميت يجهل أنه ميت والسبب: أنه ستأتينا مسائل الميت المجهول في اللاحق. والسبب الثاني: أنه إذا قال أوصى لميت يعني يعلم أنه ميت هذا هو المتبادر للذهن من كلام المؤلف - رحمه الله -.

ثم قال - رحمه الله -: فإن وصى لحي وميت يعلم موته: فالكل للحي. هذا اختيار المؤلف. لأنه إذا أوصى لميت وحي وهو يعلم أن الميت ميت علمنا أن مقصوده أن تكون الوصية للحي لأن الميت لا يملك. وهذه المسألة مبنية على الأولى وهي أن الميت لا تصح الوصية له. = والقول الثاني: أنه ليس للحي إلا النصف وهو المذهب. - لأنه أوصى لحي وميت فصحت في الحي وبطلت في نصيب الميت. الراجح: ـ إن قلنا أن الميت لا يوصى إليه فالراجح المذهب وهو القول الثاني، لأنه من العلوم أن مقصود الموصي أن تكون الوصية نصفها للميت ونصفها للحي. فالآن لما بطلت في الميت بقيت الوصية صحيحة بالنسبة للميت. وهذا القول مرجوح لأنه تقدم معنا أن الراجح صحة الوصية للميت وهذا اللفظ يؤيد أن كثيراً من الناس يوصي للميت يقول: أوصيت للميت وحي فهو يريد نفع الميت لا يريد نفع الحي. ثم قال - رحمه الله -: وإن جهل: فالنصف. يعني: وإن أوصى لحي وميت جهل أنه ميت فليس للحي إلا النصف لأنه قطعاً هنا مراد الموصي أن يكون له النصف لأنه كان يظن أن هذا الميت حي. إذا أوصى رجل لاثنين وتبين أن أحدهما مات فهل نمضي الوصية في حق الميت؟ أو نقول إن الموصي أوصى له لما كان حياً هو يظن أنه حي لم يوص لخص ميت وربما لو علم أنه ميت لرأى أن الأحياء أولى. ويحتمل أن نقول أوصى له وهو حي فبالتأكيد سيوصي إليه وهو ميت لأنه ما دام مشفقاً عليه في الحياة فسيشفق عليه في الممات أكثر يحتمل هذا وهذا. والراجح: الثاني. وهو أن نمضي الوصية لأن ظهور الشفقة في حال الموت أقوى منه في حال الحياة وهذا كله مبني على تصحيح الوصية للميت. ثم قال - رحمه الله -: وإن أوصى بماله لابنيه وأجنبي فردّا وصيته: فله التسع. إذا وصى بماله لابنيه وأجنبي فمقتضى الوصية أنه لكل واحد منهم الثلث. فلما ردوا - أي رد الابنان الوصية عادت الوصية إلى الثلث فصار للموصى إليه الأجنبي ثلث الثلث وثلث الثلث: تسع. وهذا معنى قوله - رحمه الله -: (فله التسع). إذاً التعليل: - لأنه برد الوصية عادت إلى الثلث وثلث الثلث: التسع. وعلى هذا الجمهور. = القول الثاني: أن للأجنبي الثلث. وجه ذلك:

باب الموصى به

- أن الميت أوصى بالثلث لابن والثلث الآخر لابن والثلث الثالث لأجنبي فرد الابنان الوصية فبطلت في حقهما وبقيت الوصية في حق الأجنبي لعدم وجود المزاحم. وهذا القول مال إليه أبو الخطاب. وهو قول في الحقيقة وجيه. لماذا؟ لأنا نعلم الآن قطعاً أن الموصي أراد إيصال ثلث ماله للأجنبي. فلما قال: أوصيت بمالي لابني والأجنبي كأنه قال: أوصيت للأجنبي بالثلث. ربما هو فهم أنه إذا أوصى للأجنبي بالثلث فهذا معناه وهو له ابنين معنى هذا: أن المال سيقسم أثلاثاً بين الابنين والأجنبي. وهذا ظاهر من مقصود الموصي. ففي الوصية تصريح في إيصال الثلث للأجنبي. فاختيار أبي الخطاب من وجهة نظري جيد في الحقيقة ويتوافق مع الظاهر من مراد الموصي. وبهذا انتهينا من الموصى له وننتقل إلى الموصى به. ((الأذان)) ممكن أن نعلق على المسألة السابقة إذا أوصى لابنيه أنه نحن نقول الوصية للورثة لا تصح إلا (( .. )) والورثة من هم؟ ..... ) إذاً صحت الوصية بهذا السبب ممكن أن نقول هذا. مع أنه أنا يبدو لي أن هذه الصيغة من الموصي لا يريد منها الوصية وإنما يريد إيصال الثلث للأجنبي. باب الموصى به ثم قال - رحمه الله -: باب الموصى به. يعني: الأحكام المتعلقة بالعين التي يوصي بها. ما هي الأشياء التي يجوز أن يوصي بها والأشياء التي لا يجوز؟ قال - رحمه الله -: تصح بما يعجز عن تسليمه: كآبق وطير في هواء. تصح بهذه الأعيان. لماذا؟ للقاعدة السابقة وهي أن كل ما يورث يجوز أن يوصى به فالوصية تجري مجرى الإرث. فهذه الأعيان يجوز أن تورث فيجوز أن يوصي بها. الدليل الثاني: أن الوصية بالمعدوم جائزة فبهذه من باب أولى. ثم قال - رحمه الله -: وبالمعدوم. في الحقيقة كان ينبغي أن يبدأ أول ما يبدأ بالمعدوم لأن مسائل هذا الباب كلها مقيسة على المعدوم. سيأتينا الآن كل شيء يقاس على المعدوم فينبغي أن يبدأ به لأنه أصل الباب. يجوز أن يوصي بالمعدوم. واستدلوا على هذا بدليلين: - الأول: أن المعدوم يملك بالسلم والمساقاة وهي من عقود المعاوضات فبالوصية أولى لأنها من عقود التبرعات. وعقود المعاوضات أضيق من عقود التبرعات فما يجوز فيها يجوز في التبرعات. هذا أولاً.

ثانياً: أن الوصية كلها شرعت رفقاً بالناس ومن الرفق بهم أن نجيز الوصية بمعدوم. ومن هنا علمنا أنه يوجد فرق بين الوصية بالمعدوم والوصية إلى المعدوم، الوصية بالمعدوم صحيحة والوصية إلى المعدوم غير صحيحة. يقول - رحمه الله -: كبما يحمل حيوانه وشجرته، أبداً أو مدة معينة. يجوز أن يوصي بما يحمل الحيوان أو الشجر إما مدة معينة كأن يقول ما تحمل به هذه النخل لمدة سنتين أو أبداً يقول كل ما تحمل هذه النخل من ثمر فهو لفلان. إذاً يجوز هذا وهذا، وهذا معنى قوله: (أبداً أو مدة معينة). ثم قال - رحمه الله -: فإن لم يحصل منه شيء: بطلت الوصية. يعني: فإن لم تحمل الشجرة أو الحيوان بطلت الوصية. - لأنه تبين أنه أوصى بمعدوم فصادفت محلاً معدوماً فبطلت. وهذا البطلان لا لبطلان الوصية بالمعدوم ولكن لأنه لم تصادف محلاً أصلاً فبطلت لهذا السبب. ثم قال - رحمه الله -: وتصح: بكلب صيد ونحوه. يعني: لو أن المؤلف - رحمه الله - وضع قاعدة وقال: وتصح بكل ما يجوز أن ينتفع به ولو لم يكن مالاً شرعاً لكان أنفع. إذاً تصح بكل ما ينتفع به أي: بما نفعه مباح ولو لم يكن من الأموال الشرعية: كالكلب المعلم والدهن المتنجس وجلد الميتة وغيرها من الأعيان التي يعتبرها الحنابلة من الأعيان التي يجوز الانتفاع بها وإن لم يجز بيعها ولا شراؤها فيجوز الوصية بها لأن الوصية تبرع وأمرها أهون من المعاوضات فجازت بكل ما يصح الانتفاع به. هذا والله أعلم وصلى الله على نبينا محمد .... ((انتهى الدرس)).

الدرس: (3) من الوصايا قال شيخنا حفظه الله: بسم الله الرحمن الرحيم والحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين. قال المؤلف ـ رحمه الله ـ: (وتصح بكلب صيد ونحوه, وبزيت متنجس, وله ثلثهما ولو كثر المال إن لم تجز الورثة) آخر مسألة تكلمت عنها في الدرس السابق, هي جواز الوصية بالأموال, أو جواز الوصية بالأعيان, ولا نقول الأموال لأنها ليست أموال جواز الوصية بالأعيان التي يباح الانتفاع منها, وإن كان لا يجوز البيع والشراء بها, وذكرنا الدليل على ذلك وهو أنّ الوصية نوع من التبرعات, وليست من عقود المعاوضات, فدخلها التخفيف, ثم ذكر المؤلف - رحمه الله - ما يتعلّق بتفصيل الوصية, فبيّن أنّ الإنسان إذا أوصى بهذه الأشياء فإنه لا يملك الموصى إليه إلاّ ثلث الموصى به إذا كانت من جنس هذه الأعيان. قال المؤلف ـ رحمه الله ـ: (وله ثلثهما ولو كثر المال إن لم تجز الورثة) له يعني للموصى إليه, ثلث الكلب أو الزيت المتنجس فقط, والباقي للورثة, ليس له إلاّ ثلث هذه الوصية, إلاّ إن أجازت الورثة فله جميع الموصى به, فإذا أوصى له بكلب فله ثلث الكلب, وإذا أوصى له بزيت متنجس فله ثلث هذا الزيت المتنجس فقط. واستدل الحنابلة على هذا الحكم, بأنه لا يوجد في المال من هذا الجنس إلاّ هذا الموصى به, فليس له إلاّ الثلث، ومعنى قوله لا يوجد في المال من هذا الجنس, السبب في ذلك ومعناه أنّ مال الميّت إذا كان فيه نحو كلب, وأموال أخرى, فهو ينقسم إلى جنسين: الجنس الأول: الأموال الشرعية. والجنس الثاني: المختصات: وهي التي يجوز أن ينتفع بها وليست من الأموال الشرعية. فالمؤلف والحنابلة يقولون ليس في تركته من هذا الجنس إلاّ هذا الكلب, فليس له من هذا الجنس إلاّ الثلث واضح. بناء عليه إذا أوصى بكلب, وعنده ثلاثة كلاب, فهل الحكم أنه له الثلث؟ أو له الكلب كاملاً؟ لماذا؟ الجواب لأنّ هذا الجنس فيه أكثر من هذا الكلب, وهذا الكلب يشّكل ثلث الجنس في المثال الذي ذكّرت هذا مذهب الحنابلة وعرفت الآن دليلهم. والقول الثاني: أنّ له جميع الكلب بلا استثناء، لأنه أوصى له بالكلب فله الكلب تمشيّاً مع وصية الميّت. القول الثالث: أنّ الكلب ونحوه يقدّر, فإن كانت القيمة المقدرة تبلغ ثلث المال أخذ الكلب كاملاً وإن كانت أقل أخذ الكلب كاملاً وإن كانت أكثر أخذ بمقدار الثلث من الكلب, وهذا القول اختاره الحارثي وفيه قوة وفيه إنصاف للورثة والموصى إليه فيكون إن شاء الله هو القول الراجح.

قال المؤلف ـ رحمه الله ـ: (ولو كثر المال إن لم تجز الورثة) قوله ولو كثر المال، يعني لا ننظر إلى جنس المال الشرعي, مادامت الوصية في جنس المختصات فقط, لا ننظر إلى كثرة المال أو قلة المال إذا كانت الوصية في جنس المختصات, بل على المذهب ليس له ولو كثر المال إلاّ ثلث الموصى به. قال المؤلف ـ رحمه الله ـ: (وتصح بمجهول ,كعبد وشاة) واستدل الحنابلة على صحة الوصية بالمجهول بدليلين: الأول: الإجماع، فهي محل إجماع أنه يجوز أن يوصي بشيء مجهول, يعني مسمى ومجهول الصفة والواقع والحال. الدليل الثاني: أنّ الوصية من باب التبرعات فيدخلها التسهيل. الدليل الثالث: القياس قياس أولوي على المعدوم, فإذا كان يجوز أن يوصي بمعدوم فالمجهول أحسن حالاً من المعدوم, إذاً لا إشكال إن شاء الله في جواز الوصية بالمجهول, لكن لماّ ذكر المؤلف هذه المسألة, أراد أن يبيّن كيفية تحديد هذا المجهول. قال المؤلف ـ رحمه الله ـ: (ويعطى ما يقع عليه الاسم العرفيّ) يعني أنّنا نحدد هذه العين المجهولة بحسب العرف, فالحاكم في تحديدها هو العرف, واستدل الحنابلة على هذا بأنّ الغالب من مقصود الموصي إرادة العرف, لأنه عرف بلده فيغلب على الظنّ أنه مقصوده. القول الثاني: أنّ الضابط في تحديد المراد بهذه العين المجهولة اللغة, فنرجع إلى مدلول اللفظ في اللغة ونحمله عليه, واستدل هؤلاء بأنّ كلام الله ورسوله, يحمل على المعاني اللغوية, لا على العرفية فكذلك لفظ الموصي, وبين القولين فرق شاسع جداً جداً, في ثمرة الخلاف، المثال الموّضح لو قال كما قال هو المؤلف نفسه (كعبد وشاة) لو أوصى بشاة, الشاة معناها في العرف يختص بنوع الضأن الكبيرة، ما تطلق شاة إلاّ على ما كان من الضأن, لا من الماعز وبشرط أن يكون كبيرة

أما في لغة العرب, فالشاة تطلق على الماعز والضأن, الكبير والصغير, الذكر والأنثى, وهذا فارق عظيم جداً، فعند الحنابلة إذا قال أوصيت بشاة, فلهم أن يعطوه سخلة صغيرة من الماعز الصغير, وعلى القول اللي مشى عليه المؤلف لا يجوز أن يعطوه إلاّ من نوع الضأن وأنثى وكبيرة, وهذا فارق عظيم جداً, بينهما في السعر فرق كبير جداً, الراجح إن شاء الله ما مشى عليه المؤلف, وهو قول الاسم العرفي, ولاحظ أنّ الشيخ هنا خالف المذهب, فالمذهب أنّا نمشي على العرف اللغوي لا المعنى العرفي، وهذا مما يؤكد إن شاء الله ما تقدم, أنّ هذه المخالفات عبارة عن اختيارات, إذاً الراجح إن شاء الله كما قلت أنه يرجع إلى الاسم العرفي كما قال الشيخ - رحمه الله - قال المؤلف ـ رحمه الله ـ: (وإذا أوصى بثلثه فاستحدث مالاً ولو دية دخل في الوصية) إذا أوصى بمال, إذا أوصى بالثلث ثم بعد الوصية حدث له مال, ولو كان هذا الحادث هو الدية, فإنّ الثلث يؤخذ من مجموع المال القديم والحديث, وإلى هذا ذهب الجماهير, واستدلوا على هذا بأنه أوصى بثلثه من ماله وهذا من ماله, وكونه حدث بعد الوصية لا يؤثر في دخوله فيها. القول الثاني: أنّ الحادث لا يدخل في الثلث إلاّ إذا علمه الموصي, أو قال في وصيته ثلثي عند الموت, أوصيت بثلثي عند الموت، وإلاّ فإنه لا يدخل, والراجح أنّ الثلث يأخذ من رأس المال الحادث والقديم مطلقاً, ما لم ينصّ الموصي على أنّ هذا الثلث يؤخذ من ثلث ماله الموجود الآن, دون ما سيحدث, إذا لم ينصّ على هذا فالثلث من مجموع رأس المال القديم والجديد, لأنّ الأصل أنه أراد الثلث من المال كله, ولا نخرج عن هذا الظاهر إلاّ بدليل من لفظ الموصي, فالراجح إن شاء الله مذهب الحنابلة. قال المؤلف ـ رحمه الله ـ: (ومن أوصي له بمعيّن فتلف بطلت) لأنّ الوصية تعلّقت بهذه العين, فلما ذهبت العين بطلت الوصية, وهذا واضح، يعني ولا يؤخذ بدلها من التركة, بل تبقى متعلّقة بهذه العين. قال المؤلف ـ رحمه الله ـ: (وإن تلف المال غيره فهو للموصى له إن خرج من ثلث المال الحاصل للورثة)

[باب الوصية بالأنصباء والأجزاء]

يعني إذا أوصى بعين, ثم بعد موت الموصي, ونحن لابد أن نحمل هذا الحكم من المؤلف على ما يكون بعد موت الموصي, ثم بعد الموصي تلف جميع المال إلاّ هذه العين, فإنها تكون من نصيب الموصى له, لأنّ حقه بعد موت الموصي تعلّق بهذه العين واستقرّ, ولاحق للورثة فيه, وهذا لا إشكال فيه, كما أنه إذا تلفت العين سقط حقه, كذلك إذا لم يبقى إلاّ هي بعد موت الموصي بقي حقه لأنه متعلّق بهذه العين, وليس للورثة مطلقاً أن يعترضوا على هذا الحكم, ولو تلف جميع المال, فهذه العين أصبحت من جملة أملاك الموصى له, بهذا انتهى باب الموصى به. [باب الوصية بالأنصباء والأجزاء] قال المؤلف ـ رحمه الله ـ: (إذا أوصى بمثل نصيب وارث معيّن) قوله باب الوصية بالأنصباء والأجزاء, يعني في الحقيقة, أنه فائدة هذا الباب قليلة, كما أنه لا ينبغي أبداً أن يوصي الموصي بهذه الطريقة التي ستأتينا تفصيلها وكيفيتها, بل عليه أن يوصي, كما أوصى السلف بالثلث أو الخمس أو الربع حسب الخلاف المتقدم, لكن لو أوصى بهذه الطريقة التي ستأتينا فالعمل على وفق ما سيأتي الآن. يقول الشيخ باب الوصية بالأنصباء والأجزاء، الأنصباء: جمع نصيب وهو الحصة, والمقصود هنا في هذا الباب يعني نصيب الوارث. وقوله والأجزاء: الأجزاء أيضاً جمع جزء , والجزء يقصد به الطائفة من الشيء, سواء كان هذا الشيء حسي أو معنوي، والمقصود بهذا الباب, بيان نصيب الموصى إليه إذا نسبه الموصي إلى مجموع التركة, يعني كيف نعرف نصيب الموصى إليه إذا جعله الموصي منسوباً إلى أنصباء التركة, أو إلى نصيب واحد مِن مَن يرثون من التركة على التفصيل الذي سيأتينا، والحنابلة قعّدوا قاعدة واضحة جداً تنهي الإشكال في الباب, بحيث إذا عرف الإنسان القاعدة، أمكنه أن يعرف نصيب الموصى إليه في أي مسألة نسبت إليها من مسائل الفرائض.

يقول (إذا أوصى بمثل نصيب وارث معيّن فله مثل نصيبه مضموماً إلى المسألة (هذه قاعدة الباب, كل الباب سينبني على هذه القاعدة, يقول له مثل نصيب وارث معيّن, لكن مضموماً إلى المسألة, فنجعل الموصى له كأنه أحد الوارثين, ويأخذ مثل نصيب الشخص الذي عيّنه الموصي, إذاً هذا معنى قول الشيخ مضموماً إلى المسألة, يعني بالنسبة إلى المسألة, والأمثلة ستوضح هذه القاعدة أتم توضيح، لكن قبل أن ندخل في الأمثلة عرفنا الآن كيفية التقسيم عند الحنابلة, وهو أن نعطي الموصى له حظه ونصيبه مضموماً إلى المسألة, كأنه أحد الورثة, وهذا مذهب الجمهور. القول الثاني: وهو مذهب الإمام مالك، أنّ الطريقة ليست كذلك وإنما نقوم بإعطاء الموصى له مثل نصيب الوارث المعيّن من رأس المال ثم نقسم الباقي على باقي الورثة, ولا نجعل الموصى له يشترك مع الورثة, بل نعطيه النصيب ثم نقسم الباقي.

مثال يوضح هذه الأمور, إذا كان إنسان له ثلاثة أبناء, ويملك ثلاثمائة ألف, وقال الموصي أوصيت لزيد بمثل نصيب ابني, يعني أحد أبنائي, التركة كم؟ ثلاثمائة ألف, والأبناء كم؟ ثلاثة, إذا أردنا أن نقسم التركة على الأبناء, فسيكون أصل المسألة من مجموع الرؤوس أليس كذلك؟ لكل واحد كم؟ مائة ألف، إذا أردنا أن نطبق مذهب الإمام مالك, فنقول للموصى إليه خذ أنت مثل نصيب أحد الأبناء وهو كم؟ مائة ألف كم يبقى؟ يبقى مائتي ألف, نقسم المائتين ألف على الورثة وهم الثلاثة، هذا على طريقة الإمام مالك، على طريقة الحنابلة نقول يدخل الموصى له معهم, فبدل أن تكون المسألة من ثلاثة, وله مثل نصيب أحدهم, ستكون من أربعة، وفي هذه الحالة سنقسم الثلاثمائة ألف على كم؟ على أربعة, انظر الفرق بين قول الحنابلة والمالكية, عند المالكية سيأخذ مائة ألف, وعند الحنابلة سنقسم الثلاثمائة ألف على أربعة, وكل ما كبر المبلغ كبر الفرق, هذا المذهب الذي ذهب إليه الإمام مالك, مال إليه المرداوي في الإنصاف, وأيضاً مال إليه الشيخ الحارثي في شرحه على المقنع, والخلاف راجع إلى معرفة مقصود من؟ الموصي فبعضهم يقول هذا مقصود الموصي, والآخر يقول بل مقصود الموصي أن يشترك الموصى له مع باقي الورثة, في المسألة إشكال, يعني لا يظهر للإنسان المعنى لكن يبدو لي أنه عند تساوي الأمور وعدم وجود أيّ مرّجح في إرادة الموصي, فإنّ مذهب الحنابلة أقرب وهو أنه أراد أن يدخل الموصى له مع الورثة, ويشاركهم في نصيبهم, هكذا يبدو أنّ مقصود الموصي, وليس مقصوده تفضيل الموصى له على أبناءه, هذا القصد قد يكون بعيد, على كل حال هذه المسألة تدلنا بوضوح, أنه يجب أن يكون الموصي واضح إذا أراد أن يوصي, وأن يكتب مراده في الوصية بدقة, نأتي للأمثلة التي ذكرها المؤلف قال المؤلف ـ رحمه الله ـ: (فإذا أوصى بمثل نصيب ابنه وله ابنان فله الثلث) أي فللموصى له الثلث, لماذا؟ لأنه ستكون المسألة من اثنين, فإذا أعطينا الموصى له مثل أحدهم صارت المسألة من ثلاثة, فله الثلث من مجموع هذه المسألة. قال المؤلف ـ رحمه الله ـ: (وإن كانوا ثلاثة فله الربع) واضح كالمسألة السابقة تماماً. قال المؤلف ـ رحمه الله ـ:

(وإن كان معهم بنت فله التسعان) معهم الضمير يعود إلى الثلاثة, فإذا كانوا ثلاثة وبنت, فإنّ المسألة تكون من كم؟ من سبعة لأنّ كل ذكر عن اثنين والأنثى عن واحد ستة زائد واحد صارت المسألة من كم؟ من سبعة, والموصي يقول أنّ له مثل نصيب أحد الأبناء, نصيب أحد الأبناء اثنان الآن, فإذا أخذ هو اثنان, صارت المسألة من كم؟ من تسعة, وله التسعان كما أنّ لأحد الأبناء بعد دخول الموصى له اثنان يعني التسعان فيستوي الموصى له مع باقي الأبناء, ويأخذ أكثر من البنت, لأن الأب نصّ أنه مثل الأبناء وليس مثل البنات، فإن قال أنّ له وإن كان معهم بنت, فقال الموصى له مثل البنت, كم تكون المسألة؟ هي في الأصل من سبعة, ثمانية لأنه بدل أن يكون اثنان سيكون واحد, وهذا الذي ينبغي أن لا يفضل الموصى له على ابنته, لأنّ الشارع يتشوف إلى أن يكون نصيب الوارث أكبر من نصيب الموصى له. قال المؤلف ـ رحمه الله ـ: (وإن وصى له بمثل نصيب أحد ورثته ولم يبيّن, كان له مثل ما لأقلهم نصيباً) كان له مثل ما لأقلهم نصيباً, إذا قال له مثل نصيب أحد الورثة, فله مثل أقلهم, الدليل على هذا أنّ هذا هو اليقين وما زاد فهو مشكوك فيه, والأصل عدم استحقاقه, فيعطى الأقل, على أنّ هذه مسألة مفروضة, ومن الخطأ البيّن أن يكون له مثل نصيب أحد الورثة, بل عليه أن يبيّن كما تقدم معنا, ثم ذكر أمثلة هذه القاعدة. قال المؤلف ـ رحمه الله ـ: (فمع ابن وبنت ربع) مع ابن وبنت له الربع, لأنّ أصل المسألة قبل دخول الموصى له من ثلاثة, أليس كذلك؟ فإذا دخل سيأخذ مثل نصيب البنت أو مثل نصيب الابن؟ البنت لأنه له الأقل عند الحنابلة فسيكون نصيبه واحد, واحد مع ثلاثة صارت المسألة من أربعة فله الربع. قال المؤلف ـ رحمه الله ـ: (ومع زوجة وبن تسع) لأنّ المسألة من ثمانية, ثمن للزوجة والباقي للابن, فإذا أعطيناه مثل نصيب الأقل, فالأقل في هذه المسألة هو من؟ الزوجة, فسنضيف إلى أصل المسألة واحد, وتكون بدل ثمانية, تسعة ,فيكون له هو والزوجة التسع. قال المؤلف ـ رحمه الله ـ: (وبسهم من ماله فله سدس) إذا قال أوصيت له بسهم من مالي, فله السدس, استدل الحنابلة على هذا بدليلين:

[باب الموصى إليه]

الأول: أنّ هذا الحكم مروي عن الصحابي الجليل ابن مسعود - رضي الله عنه - الثاني: أن هذه اللفظة عند العرب تحمل على السدس, فقول الشيخ هنا بسهم من ماله فله السدس يعني أنّ العرب كانوا إذا قيل أعطيت فلان سهم فهو ينصرف إلى ماذا؟ إلى السدس. والقول الثاني: أنّ له مثل أقل الورثة, لأنّ السهم مجهول فيعطى الأقل احتياطاً, والراجح مذهب الحنابلة إلاّ إذا كان السهم في وقت من الأوقات عرفاً يطلق على مقدار معيّن, يجب أن نحمله على هذا العرف, وإذا لم يكن هناك عرف فإنّا نحمل السهم على السدس، ولو لم يكن في الباب إلاّ أثر ابن مسعود لكفانا ولله الحمد. قال المؤلف ـ رحمه الله ـ: (وبشيء أو جزء أو حظ أعطاه الوارث ما شاء) إذا أوصى بشيء, أو بجزء, أو بحظ, فإنّ الورثة يعطونه ما شاءوا قلّ أو كثر, والدليل على هذا من وجهين: الأول: الإجماع، فإنهم أجمعوا أنه إذا قال أوصيت له بشيء, أو بحظ ,أو بنصيب, فإنه إذا أعطي أي شيء, وأيّ حظ أجزء. الثاني: أنه إذا أوصى له بجزء, وأعطوه أيّ شيء, صدق عليه أنه أخذ جزءًا, وبهذا نكون نفذّنا وصيت الموصي, والواجب على الورثة لا يتعدى أن ينفّذوا وصية الموصي, وهذا الحكم كما سمعتم إجماع وهو صحيح, لكن ينبغي إذا أوصى بشيء أو بجزء, أن يعطى من وجهة نظري أنه ينبغي إذا بشيء أو بجزء أن يعطى السدس، لأنه إذا كان العرب يحملون السهم على هذا, فكلمة شيء أو جزء من المعلوم أنه ما أراد أن يعطوه أتفه الأمور, وإنما أراد أن يعطوه شيئا ولو لم يكن كثيراً, وأقرب ما يكون هذا الشيء الذي ليس بكثير السدس حملاً على فتاوى الصحابة, لو قيل أيضاً بهذا كان متوجه, يعني أنه ينبغي, أما الحكم فهو محل إجماع, أنه يجوز أن يعطى أيّ شيء. [باب الموصى إليه] قال المؤلف ـ رحمه الله ـ: (تصح وصية المسلم إلى كل مسلم, مكلف, عدل, رشيد, ولو عبداً) تقدم معنا في أول الوصايا أنّ الوصايا تنقسم إلى قسمين: أمر بتبرع وأمر بتصرف, أليس كذلك؟ فالأمر الذي بالتبرع هو ما تقدم معنا من الوصية له, وأما الأمر بالتصرف فهو الوصية إليه، وهو هذا الباب الذي معنا.

واختلف الفقهاء - رحمهم الله - هل الأولى للإنسان أن يقبل الوصية إليه أو أن يرد، فذهب الحنابلة إلى أنّ الأولى والمستحب والأحب إلى الله أن يقبل بشرط أن يكون قوياً وعارفاً, أن يكون قويا على تطبيق الوصية, وعارفا بكيفية التطبيق, فإذا تحققت الشروط فالأولى والأحسن والأفضل أن يدخل فيها, وأن يمتثل بأداء ما أوصي إليه من الأعمال. القول الثاني: أنّ الأفضل الترك, والاحتياط, وذلك خوفاً على النفس من الخيانة أو التقصير, والراجح إن شاء الله القول الأول وهو المذهب والسبب في ذلك, أنّ عدداً من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - أوصي إليهم فقبلوا وهم سادة الخلق, وأكثرهم طاعة وورع وتقوى هذا أولا. ثانياً: أنّ قبول الوصية إليه يدخل في قوله تعالى {وتعاونوا على البر والتقوى}، فإنه من الغالب أنّ الموصي ما أوصى إليه إلاّ لظنه أنه سيقوم بالواجب, ولحرص الموصي على موضوع الوصية أيّا كانت وصية مالية أو تصرفات أخرى، فإذا إن شاء الله الأقرب هو هذا أن يقبل إذا قوي وكان عالماً بأداء الواجب. قال المؤلف ـ رحمه الله ـ: (تصح وصية المسلم إلى كل مسلم) قوله تصح الوصية إلى كل مسلم, أفادنا مسألتين: المسألة الأولى: جواز الوصية إلى المرأة, فيجوز أن يوصي إلى امرأة, سواء كان موضوع الوصية تربية, أو موضوع الوصية مالية أو أيّا كان موضوع الوصية، وإلى هذا ذهب الجماهير, بل إنّ هذا الحكم حكي إجماعاً في أكثر من كتاب, فهو في الحقيقة مذهب أكثر أهل العلم واستدلوا على هذا بأنّ الوصية نوع من التوكيل والمرأة يجوز أن توكل. القول الثاني: أنه لا يجوز أن نوصي إلى امرأة, ولم أرى أحداً ذهب إلى هذا القول إلاّ شخص واحد, من كبار وأئمة التابعين وهو الإمام عطاء - رحمه الله - فإنه ذهب إلى عدم صحة الوصية إلى المرأة, وقوله مرجوح, بل لو قيل إنه قوله شاذ لكان لهذا القول وجه, والسبب في ذلك أنّ أمير المؤمنين عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - أوصى إلى حفصة ولم ينقل عن أحد من الصحابة إنكار ذلك. فالقول بعدم صحة الوصية إلى المرأة يخالف الجماهير والإجماع, ويخالف الآثار, وهذا يقّربه من الشذوذ, وعلى كل حال استقّر الأمر على الجواز.

المسألة الثانية: التي أفادنا المؤلف بها أنه لا يجوز أن نوصي إلى كافر, لأنّ الكافر ليس له ولاية على المسلم وإطلاق كلام الحنابلة على يفيد أنه سواء كان الكافر ذميّ أو مستأمن أو غير ذلك، لا يجوز مطلقاً وهذا صحيح أنه لا يجوز الوصية إلى الكافر لأنه ليس أهلاً للأمانة ولأنه لم يجعل الله له ولاية على المسلم. قال المؤلف ـ رحمه الله ـ: (مكلف, عدل, رشيد, ولو عبداً) مكلف، المكلف: هو البالغ العاقل، بناء على هذا لا يجوز أن نوصي إلى مجنون, ولا يجوز أن نوصي إلى صغير, والسبب في ذلك أنّ الوصية تتضمن الولاية, وهؤلاء لا يملكون الولاية على غيرهم, لأنهم لا يملكون الولاية على أنفسهم, فكيف بغيرهم, وهذا لا إشكال فيه, أنّ المجنون لا يجوز أن نوصي إليه، يبقى الإشكال في الصبيّ الذي نهز البلوغ وقرب منه ولم يبلغ, فالحنابلة يرون أنه لا يجوز أن نوصي إليه, لأنه لم يبلغ ومازال صغيراً على تحمّل الولاية، ومن الفقهاء من قال إذا كان يحسن التصرف وقد قارب البلوغ وهو كبير فإنه لا بأس بالوصية إليه، والراجح مذهب الحنابلة مادام لم يبلغ وصغيراً فإنه لا يوصى إليه. قال المؤلف ـ رحمه الله ـ: (وعدل, رشيد) قوله وعدل يعني فلا يجوز أن نوصي إلى فاسق, لأنّ موضوع الوصية الولاية، والولاية تقتضي الأمانة, والفسق يتنافى مع الأمانة. والقول الثاني: أنه يجوز أن نوصي إلى الفاسق, لكن يضم إليه عدل. والقول الثالث: أنه يجوز أن نوصي إلى الفاسق مطلقاً، وذكر هذا القول رواية عن الإمام أحمد, قال الشيخ المرداوي وهو بعيد جداً، وهو كما قال الجواز بالإطلاق بعيد جداً. القول الرابع: وهو مذهب المالكية والأحناف، أنه يجوز أن نوصي إلى الفاسق إذا أمِنا الخيانة وكان قوياً على العمل، وهذا القول هو الراجح لأنه قد يكون في الفاسق مع أمانته غِناء لا يكون في غيره, لمعرفته في موضوع الوصية, وإحسانه التصرف فيها, فحينئذ المنع من الوصية إليه فيه إضرار بموضوع الوصية, على كل حال إذا تحقق الشرطان, فالأقرب ما ذهب إليه المالكية وهو الجواز والصحة. قال المؤلف ـ رحمه الله ـ: (رشيد)

الرشيد يشترط بناءاً عليه لا يصح أن نوصي إلى من لا يحسن التصرف, لأنّ الإيصاء إليه مناقض للمراد من الوصية فإنّ المراد من الوصية أن يقوم عليها بالإصلاح والعناية والحفظ, وهذا لا يحسن التصرف فكيف سيقوم عليها بالعناية والحفظ والإصلاح. قال المؤلف ـ رحمه الله ـ: (ولو عبداً) يجوز أن يوصي إلى العبد, وظاهر كلام المؤلف سواء كان عبد نفسه أو عبد غيره, إلاّ أنه إذا كان عبداً لغيره فاشترط المؤلف قال ويقبل بإذن سيده، يشترط إذا كان عبد غيره أن يكون بإذن السيد, والسبب في اشتراط الإذن, أنّ منافع العبد مستحقة لسيده، فلا يقبل إلا بإذنه لأنّ الحق له في المنافع. والقول الثاني: أنه لا يصح الوصية للعبد مطلقاً. والقول الثالث: أنه لا يصح الوصية لعبد غيره ويصح لعبد نفسه, والأقرب مذهب الحنابلة أنه يجوز مطلقاً إلاّ إذا كان العبد لغيره فإنه يشترط رضا السيد، وهذا القول هو الراجح وقد يكون في العبد من الغناء وجودة التصرف وإحسان التعامل ما ليس في غيره, والمقصود من الوصية هو هذا. قال المؤلف ـ رحمه الله ـ: (وإذا أوصى إلى زيد وبعده إلى عمرو ولم يعزل زيداً اشتركا) إذا أوصى إلى رجل ثم بعد سنة, أوصى إلى غيره ولم ينصّ في الوصية الثانية لا على عزل الأول ولا على إبقائه, فإنّ الحنابلة يرون أنه يبقى, لأنه ليس في الوصية الثانية ما يدل على عزل الموصى إليه الأول, فإنّ لفظ الوصية للثاني لا يتضمن عزل الأول. القول الثاني: أنّ الوصية للثاني تلغي الوصية للأول, لأنّ الظاهر أنه إذا أوصى للثاني, أنه تراجع عن الوصية للأول, والأقرب الثاني إلاّ إذا دلت القرائن على أنه لم يرد أن يعزل الأول, حينئذ يشتركان, فيما عدا هذا فإنّ الظاهر أنه أراد أن يكون الوصي هو الثاني. ولا يخفاكم إن شاء الله أنّ هذا الترجيح ليس بترجيح بيّن, مسألة ليست واضحة بدرجة كافية لكن يميل الإنسان إلى أن يكون الثاني هو المراد بالوصية دون الأول، لأنه الظاهر من صنيع الموصي أنه عدل عن الأول. قال المؤلف ـ رحمه الله ـ: (ولا ينفرد أحدهما بتصرف لم يجعله له) إذا أوصى الإنسان إلى اثنين, فهو أقسام:

القسم الأول: أن ينصّ على أنّ لكل واحد منهم أن يتصرف منفرداً، فحينئذ لكل واحد أن يتصرف منفرداً. القسم الثاني: أن ينصّ على أنه لا يتصرف الاثنان إلاّ بالاشتراك حينئذ ليس لهما التصرف إلاّ بالاشتراك، يعني معنى الاشتراك، يتخذا القرار جميعاً، لا ينفرد أحدهما باتخاذ القرارات الخاصة بالوصية, والصورة الأولى والثانية التي ذكرت محل إجماع. الصورة الثالثة: إذا أوصى إلى اثنين وأطلق, لم يبيّن هل هو على سبيل الاشتراك, أو على سبيل الإنفراد, حينئذ فيه خلاف فالمذهب أنه إذا أوصى إلى اثنين وأطلق فحكمه حكم الاشتراك، فلا يتصرفان إلاّ سوّياً. والقول الثاني: أنّ لكل منهما أن يتصرف على إنفراد لأنه لم ينصّ على الاشتراك, والراجح رجحاناً بيّناً مذهب الحنابلة, لأنه من الظاهر جداً أنّ الموصي لماّ نصّ على اثنين أنه أراد أن يشتركا في اتخاذ القرار المناسب الذي هو في صالح الوصية، وهذا يحصل كثيراً والسبب في ذلك أن يكون أحد الوصيّين يحسن جانب, والآخر يحسن جانب آخر, أو يكون أحد الوصيّين متعجل جداً والآخر متأني جداً، فباجتماعهما يحصل الوسط، المهم قد يكون للموصي غرض بالجمع بين الاثنين, ومن الخطأ البيّن أن يوصي إلى اثنين ويجعل لهما التصرف على انفراد، لأنّ هذا يؤدي إلى الاضطراب، والتناقض وتضارب القرارات, لكنه لو صنع لصح. قال المؤلف ـ رحمه الله ـ: (ولا ينفرد أحدهما بتصرف لم يجعله له) إذا جعل بعض التصرفات خاصة له, فقال مثلاً أوصيت إلى زيد بأن يتصرف في المزارع, وأوصيت إلى عمرو بأن يتصرف في العمائر, صار كل واحد منهما يتصرف بما أوصي إليه فيه فقط, فزيد لا يتصرف في العمائر وعمرو لا يتصرف في المزارع, لأنّ الموصي خصص العمل لكل واحد في جهة معيّنة. قال المؤلف ـ رحمه الله ـ: (ولا تصح وصية إلاّ في تصرف معلوم) لأنه لن يتمكن من أداء ما أوصي إليه فيه, إلاّ إذا كان العمل معلوم, ولأنّ الوصية هي عبارة عن إذن في التصرف, والإذن في التصرف بدون بيان مجال التصرف لا قيمة له ولا فائدة, فإذاً لاشك بأنه لابد أن يكون التصرف معلوم. قال المؤلف ـ رحمه الله ـ: (يملكه الموصي)

يعني أنه يشترط في التصرف أن يكون مملوكا للموصي حال الحياة, لأنّ الموصى إليه إنما يتصرف بإذن الموصي, والموصي نفسه لا يتمكن من التصرف إلاّ فيما يملك, فكذا فيما يأذن فيه, وهذا أمر واضح، فلو قال أوصيت إلى عمرو أن يبيع ويشتري, بأملاك زيد والموصي اسمه خالد، هذه وصية باطلة لأنه أوصى في مالا يملك. قال المؤلف ـ رحمه الله ـ: (كقضاء دينه, وتفرقة ثلثه, والنظر لصغاره) كقضاء دينه وتفرقة ثلثه, هذان مثالان لأمور يملكها الموصي, فالموصي يملك أن يقضي دينه ويملك أن يحدد مصارف الثلث، فلما ملك التصرف ملك الإذن, وملك أن يوصي، وقول الشيخ هنا - رحمه الله - (والنظر لصغاره) هذا من باب التمثيل وإلاّ فإنّ الحكم لا يقتصر على الصغار, بل يشمل كل من للموصي ولاية عليهم حال الحياة كالمجانين كأن يكون ولياً على المجانين، وكأن يكون ولياً على قُصر, وكأن يكون ولياً على من لا يحسن التصرف, كل من له ولاية عليهم في حال الحياة له أن يوصي بالولاية عليهم بعد الممات، فالمؤلف ذكر الصغار مجرد تمثيل وإنما مثّل بهم لأنهم الغالب. قال المؤلف ـ رحمه الله ـ: (ولا تصح بما لا يملكه الموصي كوصية المرأة بالنظر في حق أولادها الأصاغر ونحو ذلك)

هنا أراد الشيخ أن يمثّل بما لا يملك, وبناء عليه لا يوصى به, فقول الشيخ ولا تصح بما لا يملكه الموصي, هو تكرار لقوله ولا تصح وصية إلاّ فيما يملكه الموصي أليس كذلك؟ إنما أعاده ليمثّل, والمثال هو كوصية المرأة في حق أولادها الأصاغر ونحو ذلك، معنى هذه العبارة أنه ليس للمرأة أن توصي بأولادها الأصاغر إلى زيد أو عمرو، بل تكون الولاية, للقاضي يصرفها إلى من شاء لماذا؟ لأنّ الحنابلة يرون أنّ المرأة لا تملك الولاية على أولادها الصغار، فعرفنا الآن أنّ هذه المسألة مبنية على مسألة أخرى, وهي هل تملك المرأة الولاية على أولادها الصغار أو لا، وهذه المسألة الثانية مهمة وهي محل خلاف بين الفقهاء، فذهب الحنابلة إلى أنّ المرأة لا تملك الولاية على أولادها الصغار، ومعنى هذا أنّ الولاية تنحصر في الأب والجد ووصيهما، فإذا مات الأب، فوصي الأب مقدم على الأم، لأنّ الأم لا تملك الولاية، دليل الحنابلة دليلهم هو القياس على ولاية النكاح, فقالوا لماّ كانت المرأة لا تملك ولاية النكاح كذا لا تملك الولاية الأخرى. القول الثاني: أنّ المرأة تملك الولاية وهي مقدمة على وصي الأب، وعلى وصي الجد، واستدلوا على هذا بأنّ المرأة أكثر شفقة وأحرص على نفع الأولاد من وصي الأب والجد , بل من الأب والجد.

الدليل الثاني: أنّا وجدنا أنّ بعض النساء تحسن التصرف ما لا يحسنه الرجال, وهذا القول الثاني أظهر إن شاء الله. كيف نجمع بين هذه المسألة وبين المسألة السابقة التي فيها أنه يجوز أن يوصي إلى المرأة بالإجماع؟ الجمع بينهما أنه يجوز أن نوصي إلى المرأة فتكتسب المرأة الولاية, من خلال الوصية لأنّ الموصي للمرأة يملك الوصية ويملك الولاية، لكن المرأة نفسها لا تملك الولاية فلا تملك أن توصي بها إذاً لاحظت الآن الفرق بين المسألتين, ومن هنا يمكن للأب الفطن الحكيم، إذا رأى أنّ زوجته خير من يقوم بأمر الأولاد أن يصنع ماذا؟ أن يوصي إليها لأنه لو مات بلا وصية فإنها لا تستحق عند الحنابلة، لكن لو أوصى لها استحقت عند جميع الفقهاء، إذاً الآن هذا العلم قد يسهّل للإنسان الاستفادة ممن يحسن الاستفادة مِنه الذين يرى الميّت أنهم أحق بولاية الأطفال، هذه المسألة مبنية على المسألة السابقة, فعلى القول أنها تملك الولاية لا تملك أن توصي, وعلى القول أنها تملك الولاية تملك أن توصي. قال المؤلف ـ رحمه الله ـ: (ومن وصي في شيء لم يصر وصياً في غيره) صحيح لأنه استفاد الوصاية بالإذن, والإذن قيّده في هذا الشيء فلا يتعداه إلى غيره, فإذا أوصى إليه في جزء من المال أو في نوع من الأراضي, أو في نوع من التصرفات فقط، فإنه يختص بهذا النوع ولا يتعداه إلى غيره. قال المؤلف ـ رحمه الله ـ: (وإن ظهر على الميّت دين يستغرق تركته بعد تفرقة الوصي لم يضمن) المقصود بهذه العبارة, إذا قام الوصي بتفرقة الثلث, ثم لماّ فرّقه ظهر أنّ على الميّت دين يستغرق التركة, فإنّ الوصي لا يضمن, لأنه تصرف بإذن الشارع, ومن تصرف تصرفاً مأذوناً له فيه لم يضمن، إلاّ أنه إذا كانت العين المفرّقة لازالت موجودة, فإنه يجب على من أخذها أن يردها, لأنّ حق الدائن مقدم على حق الوصي، وفي كل حال الوصي لا يضمن، لأنه ليس منه تفريط وليس منه تعدّي. قال المؤلف ـ رحمه الله ـ: (وإن قال ضع ثلثي حيث شئت لم يحل له ولا لولده) إذا قال ضع ثلثي حيث شئت لم يحل له ولا لولده وإنما يجب أن يعطيه إلى جهة خارجية, واستدل الحنابلة على هذا بأمرين:

الأمر الأول: أنّ الوصي مأمور بتنفيذه وإخراجه, أي الموصى به، وإذا أعطى نفسه أو أحداً من أبنائه فإنه لم يخرجه. الدليل الثاني: أنّ تصرفه هذا محل تهمة، فقد يراعي ويحابي نفسه أو أقربائه. القول الثاني: أنه يجوز أن يعطي نفسه وأن يعطي أبنائه, واستدلوا بأنّ لفظ الموصي عام يتناول الموصى إليه وأبناء الموصى إليه وغيرهم من الأجانب. القول الثالث: أنه ليس له أن يعطي نفسه, وله أن يعطي أبنائه، والراجح المذهب أنه لا يجوز أن يعطي لا نفسه ولا أبنائه، إلاّ في صورة واحدة وهو إذا علمنا من الموصي أنه أراد أن يدخل الموصى إليه في الوصية, أو دلّت القرائن. ((الآذان))

قال المؤلف ـ رحمه الله ـ: (ومن مات بمكان لاحاكم فيه ولا وصي, حاز بعض من حضره من المسلمين تركته, وعمل الأصلح حينئذ فيها من بيع وغيره) قوله (حاز) هو على سبيل الفرضية يعني يجب لكنه فرض كفاية, فإذا مات الإنسان في مكان ليس عنده إلاّ الجماعة المرافقين له, فإنه يجب على أحدهم أن يحوز المال, وذلك صيانة للمال عن الضياع, وقوله (وعمل الأصلح فيها من بيع وغيره). الدليل على أنه يحوز وأنه يعمل الأصلح, أنّ هذا موضع ضرورة, لأنّ المال لو ترك لفسد, فعليه أن يحوز المال وعليه أيضاً أن يعمل فيه الأصلح، فإن كان الأصلح البيع باع, وإن كان الأصلح الإمساك أمسك, وينظر في صالح هذا المال ويعمل على وفقه وجوباً. وقول الشيخ هنا (حاز) في هذه النسخة يوجد من وجهة نظري خطأ يقول هنا (حاز بعض من حضر من المسلمين تولي تركته) في النسخة الأخرى التي أشار إليها (جاز لبعض من حضر من المسلمين تولي تركته) الصواب إن قلنا حاز أن نحذف توّلي, وتكون المسألة (حاز بعض من حضر تركته) والنسخ التي فيها حاز كلها المخطوطة ليس فيها تولّي, وإن اخترنا نسخة جاز أضفنا كلمة تولّي, أما أن نختار حاز ونضيف تولّي فهذا خطأ, إما أن نقول حاز بلا تولّي أو جاز مع التولّي حتى يستقيم الكلام, وبهذا ولله الحمد تم الباب. وهذا تيسير من الرب سبحانه وتعالى. (كتاب الفرائض) و (كتاب العتق) ذكر شيخنا أنه سيؤخر شرحهما وذكر في الدرس الأسباب.

(كتاب النكاح)

الدرس: (1) من النكاح قال شيخنا حفظه الله: بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين. ذكر شيخنا كلاما في الدرس السابق في شرح أول النكاح نقلناه هنا ليجتمع الكلام عن النكاح في مكان واحد وهو كما يلي: (كتاب النكاح) قال المؤلف ـ رحمه الله ـ: كتاب النكاح النكاح في لغة العرب الضم الجمع، وقال بعضهم بل النكاح الضم والتداخل، والصواب أن النكاح الضم والجمع والتداخل، قد يكون فيه ضم بلا جمع، وقد يكون فيه ضم وجمع، وقد يكون فيه ضم وجمع وتداخل، فالصواب أنه في لغة العرب يطلق على المعاني الثلاثة، لكن اختلف الفقهاء اختلافاً مبنياً على اختلاف أهل اللغة، وهو هل النكاح حقيقة في الوطء مجاز في العقد أو مجاز في الوطء وحقيقة في العقد؟ وهذا الاختلاف كما قلت مبني على اختلاف أهل اللغة. القول الأول: أنه حقيقة في العقد مجاز في الوطء، وإلى هذا ذهب الجماهير أكثر أهل العلم يرون أنه حقيقة في العقد مجاز في الوطء، واستدلوا على هذا بأمور: الأمر الأول: أنه يصح أن ننفي عن الوطء النكاح، فنقول هذا الوطء سفاح وليس بنكاح، واللفظ الذي هو حقيقة في شيء لا يصح أن ننفيه عنه وهنا وجدنا أنا ننفيه عنه. هذا والله أعلم. ثم بدأ شيخنا في درس هذا اليوم فقال: تقدم معنا بالأمس تعريف النكاح في اللغة وأن الفقهاء اختلفوا في النكاح هل هو حقيقة في العقد أو في الوطء وأن هذا الاختلاف مبني على اختلاف أئمة اللغة وكنت شرعت في ذكر الخلاف ثم حان وقت الإقامة. فأقول: = ذهب الجماهير من أهل العلم إلى أن النكاح حقيقي في العقد ومجاز في الوطء. وذكرت بالأمس الدليل الأول: وهو أنه يصح نفي النكاح عن الوطء إذا كان سفاحاً فيقال هذا سفاح وليس بنكاح، ففي هذا المثال نفي النكاح عن الوطء وقلت: أن نفي الحقيقة لا يتأتى فلما تأتى النفي علمنا أنه ليس بحقيقة.

- الدليل الثاني: أن الله تعالى إنما استعمل النكاح في القرآن في جميع موارده بمعنى: العقد. لا بمعنى الوطء. إلا في آية واحدة حتى تنكح وهي قوله تعالى: {حتى تنكح زوجا غيره ... } [البقرة/230] ففي هذه الآية ذهب جماهير المفسرين إلى أن المعنى بالنكاح في هذه الآية هو الوطء فلما وجدنا أن القرآن يستخدم النكاح في العقد في كل المواضع إلا في موضع واحد علمنا أنه حقيقة فيه مجاز في الوطء. - الدليل الثالث: قوله تعالى: {الزاني لا ينكح إلا زانية ... } [النور/2] يعني لا يعقد إلا على زانية ويبعد أن يكون المعنى لا يطأ إلا زانية. = القول الثاني: أنه حقيقة في الوطء مجاز في العقد. وإلى هذا ذهب الأحناف. وذهب إليه من أئمة اللغة ممن لقولهم أثر بالغ: الإمام الزمخشري. وأيضاً: الأزهري. وكأن الأكثر من أهل اللغة يميلون إلى هذا القول. واستدل الأحناف على هذا: - بأن العرب يستخدمون كلمة النكاح في الوطء. - واستدلوا بقوله تعالى: {حتى تنكح زوجا غيره ... } [البقرة/230] وقالوا: الآية صريحة في استخدام النكاح في الوطء. = القول الثالث: أنه مجاز فيهما. وهو أضعف الأقوال. وقول غريب في الحقيقة. = القول الرابع: أنه حقيقة فيهما. واستدل أصحاب القول الرابع: - بأنه لما جاء اللفظ مستخدماً في الوطء والعقد في الكتاب والسنة ولغة العرب علمنا أنه حقيقة مشتركة بين الأمرين: ـ العقد. ـ والوطء. ونصر هذا القول من أئمة اللغة: الزجاج ومن أئمة الحنابلة: القاضي أبو يعلى ومن أئمة أهل العلم المحققين شيخ الإسلام بن تيمية، وهذا القول هو الصحيح إن شاء الله. لأن به تجتمع الأدلة. وهذه المسألة أطال فيها أهل العلم وذكروا أدلة وأجوبة طويلة جداً وذلك والله أعلم لأن الأقرب للصواب أنه حقيقة فيهما ولذلك صار كل واحد يأتي بأدلة كثيرة صحيحة. فمن أتى بأدلة على أنه حقيقة في الوطء فكلامه صحيح، ومن أتى بأدلة على أنه حقيقة في العقد فكلامه صحيح، ولهذا يظهر لمن يطالع كلام الفقهاء وتشعب الأدلة والأجوبة نوع اضطراب بسبب أنهم يريدون ترجيح أحد القولين: والصواب أن كلاً منهما صحيح.

الأثر الفقهي لهذا الخلاف: الأثر الفقهي يتبين في مسألة - في عدة مسائل لكن المسألة التي سأذكرها من أوضح المسائل وهي: ـ ما إذا زنى الرجل بامرأة فإذا زنى بامرأة فالوطء عند أبي حنيفة نكاح. بناء عليه تحرم هذه المرأة على ابن ووالد الزاني. وأما عند الجمهور فلا تحرم لأن الوطء الذي هو زنى مجرد عن العقد ليس بنكاح. وهذه ثمرة واضحة جداً تفرق بين القولين. ثم انتقل المؤلف - رحمه الله - عن الكلام عن الأحكام التفصيلية للنكاح. قال المؤلف ـ رحمه الله ـ: وهو سنة، وفعله مع الشهوة: أفضل من نفل العبادة، ويجب: على من يخاف زنا بتركه. = الحنابلة يقسمون الناس في النكاح إلى ثلاثة أقسام: ـ القسم الأول: من له شهوة ويتوق إلى النكاح ولا يخاف على نفسه من ترك النكاح الزنا فالحكم في حقه أنه: مستحب وهو أفضل من التخلي للعبادة. ـ القسم الثاني: من لا يجد في نفسه أي رغبة للنكاح أو للشهوة كالعنين والمريض والرجل كبير السن: فهذا حكمه عند الحنابلة على الصواب من المذهب أنه: مباح. وعللوا: أنه مباح وليس بسنة: - بأن المقصود من النكاح قضاء الوطر وتحصيل الولد وإعفاف الزوجة وهذه المقاصد لا توجد في حق هذا الشخص فإذاً لا يسن. وعللوا أنه مباح: - بأنه إذا انتفت هذه الأغراض الشرعية فإنه أيضاً لا يوجد مانع شرعي من نكاحه فبقي بمرتبة المباح. = والقول الثاني: أنه سنة. وهو قول عند الحنابلة. - أخذاً بالعمومات. = والقول الثالث: أنه مكروه. وهذا قول للشافعية. وعللوا الكراهة: - بأن هذا الزواج لا يتحقق منه كثير من مصالح النكاح. كما أنه لا يعف المرأة وقد يعرضها للمحرمات. وهذا القول هو الصحيح. والقول بأنه سنة هو أضعف الأقوال. * * مسألة/ وهذا القسم الثاني عند الحنابلة/ الذي هو المباح: التفرغ للعبادة فيه أفضل من الزواج. ـ القسم الثالث: من يتوق إلى النكاح وتغلب عليه الشهوة ويخشى أو يغلب على ظنه الوقوع في الزنا. فهذا النكاح في حقه واجب. وعلل الحنابلة الوجوب: - بأن النكاح هو الطريقة التي يتقي فيها هذا الشخص الوقوع في المحرم. وما يتقى به المحرم واجب.

هذا التقسيم في الجملة هو مذهب الجمهور - الأئمة الأربعة. يختلفون في بعض التقسيمات شيئاً يسيراً لكن التقسيم من حيث العموم موجود عند الأئمة الأربعة وعلمنا من هذا التقسيم عند الأئمة الأربعة أنهم لا يقولون بأن النكاح واجب وإنما يرون أنه مشروع ومسنون حسب التفصيل السابق. = القول الثاني في أصل المسألة: أن النكاح واجب لمن يقدر على مئونته وعليه. وهذا القول رواية عن الإمام أحمد ومذهب ابن حزم: إلا أنه قال: النكاح أو التسري. واستدل أصحاب هذا القول بأدلة: - الدليل الأول: قوله - رحمه الله -: (يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج فإنه أغض للبصر وأحفظ للفرج فإن لم يستطع فعليه بالصيام فإنه له وجاء). - واستدلوا بقوله تعالى: {فانكحوا ما طاب لكم من النساء} [النساء/3]. - واستدلوا بقوله تعالى: {وانكحوا الأيامى منكم والصالحين من عبادكم .. } [النور/32]. والأيم هي المرأة التي لا زوج لها، وهذه النصوص فيها أوامر صريحة: فليتزوج - وانكحوا - فانكحوا. وأجاب الجمهور عن هذه الأدلة بأجوبة فقال: ـ أن الله تعالى يقول: {فانكحوا ما طاب لكم من النساء}. فعلق النكاح بالاستطابة والاستطابة ليست بواجبة بالإجماع والقاعدة تقول: (أنه إذا خير الإنسان بين الواجب وغيره فهو دليل على أنه ليس بواجب). فجعلوا هذا من الصوارف عن الوجوب. ـ واستدلوا أيضاً: بأن عدداً من السلف لم يتزوج - من التابعين. والأقرب إن شاء الله أنه ليس بواجب وإنما مستحب ولكنه استحباب شديد جداً. ولهذا يقول الإمام أحمد - رحمه الله -: ليست العزوبة من أمر الإسلام في شيء. ولو كان بشر تزوج لكان أتم لأمره. الإمام أحمد مع إعجابه الشديد ببشر ومحبة بالغة - إذا رجعت إلى ترجمة أو أحمد تلاحظ هذا الشيء. مع ذلك لاحظ أن الإمام أحمد رجل يتتبع الشرع ولا يتتبع هواه وإنما نص على بشر لأنه رجل يقتدي به فأراد أن يبين أن بشر وإن كان ممن يقتدي به إلا أخل بقانون الشرع في قضية ترك الزواج - رحمه الله وغفر له وجمع وإياه في جنته. إذاً: إن شاء الله الراجح أن النكاح سنة وليس بواجب إلا أنه متأكد جداً. قال المؤلف ـ رحمه الله ـ: وفعله مع الشهوة أفضل من نفل العبادة.

هذا صحيح. والدليل على هذا من وجهين: - الوجه الأول: النصوص الآمرة بالنكاح عامة لم تفرق بين حال وآخر. - الدليل الثاني: وهو الأقوى: أن سيد الخلق - صلى الله عليه وسلم - وإمام المتقين كان من الذين يعتنون بالزواج وتزوج عدداً من النسوة وكذلك أصحابه - رضي الله عنهم - تزوجوا وحرصوا على الزواج فدل هذا على أن الزواج خير من التفرغ للعبادة. ومعلوم إن شاء الله على تقدير التعارض بينهما وإلا فإن العبادة لا تتعارض مطلقاًَ مع الزواج. لكن هم يقصدون التفرغ التام للعبادة مثل حال بشر رجل تفرغ تماماً للعبادة فحال غيره أكمل منه. قال المؤلف ـ رحمه الله ـ: ويجب: على من يخاف زنا بتركه. إذا خاف الزنا بترك النكاح فإنه يجب عليه أن يتزوج وجوباً. - لما تقدم من أن هذا الزواج هو الطريقة الوحيدة للخروج من مغبة الوقوع في المحرم. إلا أن ما قاله ابن حزم في الحقيقة وجيه وهو أن نقول هو أحد أمرين: ـ إما الزواج. ـ وإما التسري. لأنه أيضاً في التسري يحصل الخروج من مغبة الوقوع في المحرم. قال المؤلف ـ رحمه الله ـ: ويسن: نكاح واحدة. الأفضل: = عند الحنابلة أن يتزوج واحدة وأن لا يعدد. واستدلوا على هذا: - بأن الاقتصار على واحدة أقرب إلى عدم الوقوع في المحرم المشار إليه بقوله: {ولن تستطيعوا أن تعدلوا بين النساء ولو حرصتم .. } [النساء/129]. فهذه الآية نص على أنه لن يعدل والعدل واجب بالإجماع والطريقة لعدم الوقوع في هذه المخالفة أن يقتصر على واحدة. والجواب عن هذه الآية أن تفسيرها الصحيح: أنه لن تستطيعوا أن تعدلوا يعني: في المحبة والميل القلبي لا في الحقوق الواجبة إذ يمتنع أن يأمر الله أو رسوله - صلى الله عليه وسلم - بأمر لا يستطاع. إذاً: المنفي في الآية هو ما يتعلق بالمحبة. = القول الثاني: أن الأفضل أن يتزوج باثنتين. وهو قول عند الحنابلة. = والقول الثالث: أن الأفضل أن يعدد مطلقاً. كلما زاد فهو أفضل. واستدل هؤلاء: - بأن النبي - صلى الله عليه وسلم - عدد والخلفاء الراشدون وعامة الصحابة. - وأن ابن عباس - رضي الله عنه - يقول في صحيح البخاري: خير هذه الأمة أكثرها نساء.

فقالوا: إن حال السلف دليل على أن الأفضل في حق الإنسان التعدد. والأقرب للصواب إن شاء الله أن الأفضل من حيث الأصل التعدد وليس لنا أن نقول أن الأفضل غير التعدد مع أن التعدد حال النبي - صلى الله عليه وسلم - والسلف إلا أن هذه الأفضلية تختلف من شخص لآخر فإن كان هذا الشخص إن عدد صار التعدد من أسباب تقصيره في واجب آخر صار الأفضل في حق هذا الشخص المعين أن يفرد. وإن كان الأمر بالنسبة له سيَّان ويستطيع القيام بواجباته الأخرى مع التعدد فالأصل في النكاح والأفضلية التعدد. والإمام أحمد - رحمه الله - لم يعدد وليس هو قدوة في هذه القضية بل القدوة النبي - صلى الله عليه وسلم - لكن أقول لكم من باب الإخبار أن الإمام أحمد - رحمه الله - لم يعدد فكان تزوج بأم صالح - ابنه الكبير - فلما بلغ الأربعين بقيت معه نحو ثلاثين سنة - فلما مضى على الزواج سبع سنوات قالت يا أبا عبد الله هل رأيت من شيء تكرهه؟ فقال الإمام أحمد: بارك الله فيك لم أر شيئاً إلا أن النعال تصر أحياناً - يعني: يخرج لها صوت - فذهبت إلى السوق وبدلت النعال واشترت حذاء من جلد ليس له صوت. (أنا أقول: كأن الإمام أحمد يريد في البيت هدوء فكان هذا الصوت يزعجه) لما توفت أم صالح أرسل بامرأة تخطب إحدى بنات عمه قال: اذهبي واخطبيها لي. فذهبت وخطبت المرأة فوافقت مباشرة لما رجعت قال الإمام أحمد ماذا قالت: قالت: وافقت. قال لما خطبتيها كانت أختها العوراء تسمع قال: نعم. كانت بجوارها. قال: اذهبي وانقضي الخطبة الأولى واخطبي تلك العوراء. فخطبت العوراء ووافقت مباشرة وكان هذا من الإمام أحمد نوع من المداراة ومراعاة النفس - رحمه الله - حتى لا تتأثر الأخت المخطوبة وكانت الاثنتين بنات عمه: الثانية هذه أم عبد الله. وهي التي أتت بعبد الله الذي روى مسند الإمام أحمد وتسرى الإمام - رحمه الله - مرتين واحدة منهما أتت بابنين سمى الأول حسن والثاني: حسين - رحمه الله وغفر له -. إذاً: الأفضل عند الحنابلة الواحدة وأما التعدد فهو مفضول لما تقدم. والصواب إن شاء الله أن الأصل أن التعدد هو المستحب. قال المؤلف ـ رحمه الله ـ: دينة.

الأفضل أن يتحرى الإنسان المرأة الدينة. أي: التي تتصف بالدين ظاهراً. وذلك: - لقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: (تنكح المرأة لأربع: لمالها. ولحسبها. ولجمالها. ثم قال: ولدينها. فظافر بذات الدين تربت يداك). فنص الحديث على أن الصفات الأخرى مقصوده إلا أنه ينبغي على الإنسان أن يتحرى صفة الدين ومعلوم أن هذه الصفة من أكمل الصفات في الحال وفي المآل فإنها كلما زاد دينها قامت بواجبات الزوج كما ينبغي كما أنها تقوم بواجبات التربية كما ينبغي. وهذا الحديث فيه الحث الصريح على تخير الزوجات الصالحات الدينات. قال المؤلف ـ رحمه الله ـ: أجنبية. ومقصوده بأجنبية يعني: ليس بينه وبينها صلة قرابة نسب. واستدلوا - رحمهم الله - على هذا بأمرين: - الأمر الأول: أن أبناء الأجنبيات أنجب وأحسن صفات من أبناء القريبات. كما أن أبناء القريبا يكثر فيهن المرض. - الدليل الثاني: أنه لو حصل بين الزوج والزوجة خلاف وعدم توافق فقد يؤدي هذا إلى قطيعة الرحم بين العائلتين. والشارع الحكيم يتشوف إلى البعد عما فيه قطيعة رحم. = والقول الثاني: أن الإنسان إذا أراد أن يخطب ينظر إلى الأصلح فإن رأى الأصلح في القريبة فذاك وإلا أخذ الأجنبية. واستدل هؤلاء: - بأن النبي - صلى الله عليه وسلم - خطب ابنة عمته وهي زينب - رضي الله عنها -. - وأنه زوج ابنته لعلي بن أبي طالب وهو ابن عمه - رضي الله عنه -. - وزوج ابنته للعاص بن ربيع وهو من أقربائه. والراجح أن نقول: من حيث النظر في الحقيقة مذهب الحنابلة قوي جداً ونحن نرى أن الذين لا يتزوجون إلا من بعض تكثر فيهم الأمراض بشكل كبير جداً وهذا أمر ملاحظ. كما أنه يلاحظ كما قال الحنابلة كلهم أنه كلما ابتعد الإنسان كلما كان أنجب للأبناء وأقوى للبنية الجسمية والبنية العقلية. وهذا أمر مشاهد. نحن نقول من حيث المشاهدات لاشك أن كلام الحنابلة قوي.

وممكن نقول: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - زوج الأقرباء لهدف أراده - صلى الله عليه وسلم - أو لفضله مثل علي - رضي الله عنه - أو لبيان الجواز أو لحكم أرادها، أو نقول: الأصل أن يتزوج من أجنبية إلا أنه لا بأس من الخروج عن هذا الأصل لمصلحة، وإلا في الحقيقة كلام الحنابلة من حيث النظر قوي جداً. قال المؤلف ـ رحمه الله ـ: بكر. يعني: أنه يستحب أن يتخير الإنسان إذا أراد أن يتزوج بكراً. - لقول النبي - صلى الله عليه وسلم - لجابر - رضي الله عنه -: (فهلا بكراً تلاعبها وتلاعبك) لما تزوج - رضي الله عنه - ثيباً. فهذا الحديث نص أنه يستحب للإنسان أن يتخير البكر. إلا أنه يقال في حديث جابر نفسه الذي استدل به الحنابلة إقرار النبي - صلى الله عليه وسلم - لجابر على زواجه من الثيب حيث ذكر سبباً وجيهاً لهذا الزواج وهو أنه رجل صاحب عيال ويريد امرأة عاقلة كبيرة ترعى البيت والأولاد. وننطلق من هذا الحديث فنقول: أنه إذا كانت المصلحة في تزوج الثيب بأي غرض من الأغراض فحينئذ يكون الأفضل الثيب. وإذا لم توجد مصلحة زائدة فلاشك أن الحديث صريح في استحباب التزوج بالبكر. قال المؤلف ـ رحمه الله ـ: ولود. يعني: يستحب أن يتخير الولود. - لقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: (تزوجوا الودود الولود فإني مكاثر بكم الأمم يوم القيامة) وفي لفظ: (مكاثر بكم الرسل يوم القيامة). وهذا الحديث صحيح إن شاء الله على الأقل بمجموع طرقه. وهو دليل صريح على استحباب الاستكثار من الذرية، كما أن التخير للولود يدل عليه النصوص العامة الدالة على الحكمة من النكاح وهو تكثير أمة محمد - صلى الله عليه وسلم -، وذكر الحنابلة أن هذا الأمر يعرف بمقارنة المرأة بقريباتها فإذا كن معروفات بكثرة الولادة فستكون غالباً كذلك. قال المؤلف ـ رحمه الله ـ: بلا أُم. يعني: ويستحب أن يتخير المرأة التي ليس لها أم.

وعلل الحنابلة هذا: بأن الأم يكثر أن تتسبب في الخلاف بين الزوجة والزوج. فإذا أخذ امرأة ليس لها أم تجنب هذا الخلاف، وهذا غريب جداً من الشيخ موسى. والغريب في الأمر أنه هو الذي ذكر هذه القضية فقط. بحثت في كتب الحنابلة لم أجد أحداً نص على أنه يسن أن يأخذ امرأة ليس لها أم إلا الشيخ موسى - رحمه الله - وأحب أن أعرف من أين بهذه المسألة إذا لم يكن لها أصل في كتب الحنابلة ولم أجد أحداً سبقه. فهل الشيخ - رحمه الله - هو أول من قال هذه القضية؟ ربما. هل قلد أحداً لم نجد كتابه فيما بين أيدينا من المطبوع من كتب الحنابلة؟ ربما. على كل حال هذا القول مرجوح للغاية وهو من أضعف الأقوال أثراً ونظراً. ـ أثراً: - لأن أحداً من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يشر إلى استحباب هذه القضية. - كما أن النبي - صلى الله عليه وسلم - تزوج من لها أم وكانت أحب أزواجه إليه وهي عائشة - رضي الله عنها -. - كما أن الصحابة - رضي الله عنهم - تزوجوا كثيراً ولم يشيروا من قريب أو بعيد إلى استحباب هذا الأمر. - كما أن تخير المرأة التي ليس لها أم قد يكون ليس من محاسن الأخلاق لأن الشخص يحب أن تكون هذه المرأة لا أم لها إذا كانت صفاتها حميدة وهو يريدها فقد يتمنى لكي يطبق السنة أن تموت الأم. وهذا المعنى أشار إليه الإمام أحمد - رحمه الله - فالإمام كره أن يشتغل الإنسان في حفر القبور لماذا؟ قال: لأنه يفرح بموت المسلمين. فكره أن يعمل الإنسان - كأنها كراهة شخصية - نحن نقول: هذا الأمر أيضاً ينطبق هنا: كيف تقول: أنه يستحب أن يبحث الإنسان عن امرأة توفيت أمها حتى يتزوجها. الخلاصة: أن هذا قول مرجوح جداً. الصواب أنه ليس من المستحبات ولا من المسنونات. ثم انتقل المؤلف - رحمه الله - إلى الكلام عن أحكام الخطبة: قال المؤلف ـ رحمه الله ـ: وله: نظر ما يظهر غالباً مراراً بلا خلوة. قوله: (وله النظر) أفادنا مسألتين:

ـ المسألة الأولى: أنه يجوز للإنسان أن ينظر إلى من يريد أن يخطبها قبل الخطبة. = وهذا مذهب الحنابلة. بل إن شيخ الإسلام قال: ينبغي إذا عزم أن ينظر قبل أن يخطب. وهذا صحيح لأنه إذا نظر قبل أن يخطب فإنه سيتفادى بذلك كسر خاطر المرأة إذا لم يستحسنها. فنقول على كل حال: يجوز النظر قبل وبعد الخطبة إلا أنه عند الحنابلة النظر قبل مشروع وعند شيخ الإسلام هو الأولى. قوله - رحمه الله -: (وله النظر) أفادنا - رحمه الله -: أن النظر مباح فقط. وهذا مذهب الحنابلة. = والقول الثاني: أن النظر إلى المرأة التي يريد أن يتزوجها مستحب. - لقول النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا أراد أحدكم أن يتزوج المرأة فلينظر إليها. - ولقول النبي - صلى الله عليه وسلم - للأنصاري إذهب فانظر إليها فإنه أحرى أن يؤدم بينكما. فهذه النصوص فيها الأمر وأقل أحواله الاستحباب. * * مسألة/ قوله: (وله النظر) يقيد عند الحنابلة بما إذا غلب على ظنه أن يوافقوا على خطبته وقد نص على هذا الإمام ابن رجب. أنه إنما يجوز إذا غلب على ظنه أنهم سيجيبون ويوافقون على خطبته وإلا فإنه لا يجوز له أن ينظر، إذاً: عرفنا الآن متى ينظر وحكم النظر. باقي مسألة: حدود النظر. وهي التي أشار إليها بقوله: (ما يظهر غالباً). هذه المسألة: وهي حدوج ما يجوز أن ينظر الرجل من المرأة المخطوبة محل خلاف كثير بين أهل العلم. اختلفوا اختلافاً كثيراً. وهذا الاختلاف هو روايات عن الإمام أحمد - رحمه الله -. = فالمذهب: أنه يجوز أن ينظر إلى المرأة ما يظهر غالباً منها. وهو الوجه والكفين والرقبة وما يظهر غالباً. واستدلوا: - بأن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما قال هذا الحديث لجابر: إذا أراد أحدكم أن يتزوج المرأة فلينظر إليها. قال جابر: فصرت أتخبأ لها وأنظر إليها حتى رأيت منها ما يدعوني إلى نكاحها. وجه الاستدلال: أنه لما جاز للإنسان أن ينظر إلى المرأة وهي لا تعلم تبينا أنه يجوز أن ينظر إليها ما يخرج منها غالباً لأن المرأة إذا نظر إليها وهي لا تعلم فسينظر منها ما يخرج غالباً. وهذا استدلال متين وجيد جداً. = القول الثاني: أنه لا يجوز النظر إلا إلى الوجه فقط. ما عداه يجب أن يستر. حتى الكفين.

واستدلوا على هذا: - بأن المقصود من النظر معرفة صفات الوجه لأنه المقصود. - وأن الناس إذا أطلقوا النظر فقالوا: نظر إليها فإنه ينصرف إلى الوجه. = القول الثالث: أنه يجوز النظر إلى الوجه والكفين فقط. - لفوله تعالى: {ولا يبدين زينتهن إلا ما ظهر منها} [النور/31]. والسلف شبه مجمعين على أنما ظهر منها الوجه والكفين. وتمموا الاستدلال بأن هذه المرأة أجنبية فتدخل في الآية. = القول الثالث: أنه يجوز أن ينظر إليها جميعاً متجردة. وهذا مذهب داود الظاهري وقيل: - وأنا أستبعده تماماً أنه رواية عن الإمام أحمد -. واستدلوا داود: - بقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: (فلينظر إليها) ولم يخصص النبي - صلى الله عليه وسلم - شيء دون شيء. فيجوز أن ينظر إليها. واستدلوا: - بأن عمر - رضي الله عنه - لما خطب من علي - رضي الله عنه - قال علي لعمر إنها يا أمير المؤمنين صغيرة فسكت عمر فقالوا له إنما ردك - يعني: أنه رد الخطبة - فأعاد عليه. فأعاد عليه فقال علي: نبعثها إليك يا أمير المؤمنين وتنظر إليها فأرسل بها إليه فلما دخلت ونظر إليها كشف عن ساقها فقالت لولا أنك أمير المؤمنين للطمت وجهك - أو قالت: عينك. فاستدلوا بأنه نظر إلى ساقها وفي بعض الروايات إلى فخذها. والجواب عليه من وجهين: - الوجه الأول: أنه نظر إلى ساقها والساق مما يظهر غالباً. فلا دليل فيه لداود. - الثاني: أنه على رواية أنه نظر إلى الفخذ حمل على أنها أصبحت زوجته أن علي قال: فإن رضيتها فهي لك فعلق النكاح بالرضا فلما نظر إليها رضيها فاعتبرها زوجته. وبكل حال مهما يكن من أمر فإنه قول ضعيف غاية في الضعف ولا يجوز العمل به. والراجح إن شاء الله مذهب الحنابلة: أنه ينظر إليها كعادتها عند المحارم بلا زيادة ولا نقص. ويجوز لها أن تضع مما تتجمل به ما يوضع عادة بلا زيادة أيضاً ولا نقص. فيكون الراجح إن شاء الله قوله: وله النظر إلى ما يظهر غالباً. قال المؤلف ـ رحمه الله ـ: (مرارا). يعني: أنه يجوز أن يكرر النظر إلى المرأة المخطوبة في المجلس الواحد مراراً. واستدلوا على هذا: - أن المقصود من الرؤية أن ينظر منها ما يدعوه إلى نكاحها وتكرار النظر مما يحقق هذه الحكمة.

إلا أنهم اشترطوا: أن يكون النظر وتكراره بغير شهوة. فإن كان لشهوة فهو محرم. يقول - رحمه الله -: (بلا خلوة). يعني: أنه يحرم أن ينظر إليها مع الخلوة. واستدلوا على هذا: - بأن المخطوبة ما زالت أجنبية. والنبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: (لا يخلون رجل بامرأة إلا مع ذي محرم). ويقول: (ما خلا رجل بامرأة إلا كان الشيطان ثالثهما). وهذه النصوص عامة تتناول المخطوبة وغيرها من الأجنبيات. فلا يجوز للرجل أن يمكن الخاطب من الجلوس مع المخطوبة منفردين وعملهما محرم. قال المؤلف ـ رحمه الله ـ: ويحرم: التصريح بخطبة المعتدة من وفاة، والمبانة: دون التعريض. انتقل المؤلف - رحمه الله - إلى حكم خطبة المعتدة ونحن نريد أن نلخ هذا الموضوع ثم نرجع للتعليق على كلام المؤلف - رحمه الله -. أولاً: - لا يجوز التصريح بخطبة المعتدة أبداً إلا لزوجها في صورة واحدة. أما غير الزوج فإنه لا يجوز التصريح مطلقاً. فيما عدا هذه القضية نقول: المعتدة تنقسم إلى قسمين: ـ القسم الأول: الرجعية. فالرجعية لا يجوز أن تخطب تصريحاً ولا تعريضاً. - لأن الرجعية زوجه ولا يجوز للإنسان أن يخطب تصريحاً ولا تعريضاً زوجة غيره. ـ القسم الثاني: غير الرجعية: وهي تنقسم إلى قسمين: - القسم الأول: المبانة بينونة كبرى. وهي: المعدة من وفاة أو المطلقة ثلاثة أو المفسوخة بنحو رضاع. ويجمع هذا المرأة التي لا يجوز أن تعود لزوجها. فهذا القسم يجوز الخطبة تعريضاً لا تصريحاً. والدليل: - قوله تعالى: {ولا جناح عليكم فيما عرضتم به من خطبة النساء [البقرة/235] وهذه الآية في المعتدة من الوفاة. - وكذلك: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - عرض في خطبة أم سلمة لما توفي أبو سلمة. - وكذلك: أن فاطمة [بنت قيس] لما طلقت ثلاثاً عرَّض النبي - صلى الله عليه وسلم - بخطبتها فقال: لا تسبقيني بنفسك. وفي رواية: إذا انتهت العدة فآذنيني. وخطبها بعد النبي - صلى الله عليه وسلم - معاوية ثم [أبو جهم] ((في الشرح أبو جميل والصواب ما أثبت)) ثم أسامة كلهم خطبوها تعريضاً لا تصريحاً. - القسم الثاني: المبانة بينونة صغرى. وهي: المختلعة والمفسوخ نكاحها لعيب أو ترك نفقة.

فهذه أيضاً يجوز أن تخطب تعريضاً لا تصريحاً. واستدلوا: - بدخولها في عموم الآية. - وبالقياس على المبانة بينونة كبرى. = والقول الثاني: أن المبانة بينونة صغرى لا يجوز أن تخطب لا تصريحاً ولا تعريضاً. - لأن الآية في عدة الوفاة. - والأحاديث في المطلقة ثلاثاً. وهذا رأي الأحناف. والأول رأي الجمهور. والصحيح: رأي الجمهور إن شاء الله: لأن الآية عامة. إذاً: عرفنا الآن أنه في الحقيقة: الأقسام ثلاثة: ـ الرجعية. ـ والمبانة بينونة كبرى. ـ والمبانة بينونة صغرى. نرجع إلى كلام المؤلف: قال المؤلف ـ رحمه الله ـ: (ويحرم التصريح بخطبة المعتدة من وفاة والمبانة). يحرم التصريح: إجماعاً. بخطبة المعتدة من وفاة. فهو أمر مجمع عليه. قال المؤلف ـ رحمه الله ـ: (دون التعريض). فيجوز في خطبة المعتدة من وفاة وفي خطبة المبانة. أما التعريض في خطبة المعتدة من وفاة فهو أيضاً محل إجماع. لأن الآية نص فيه. وأما التعريض في المبانة فهو محل خلاف: = فالجمهور رأوا أنه يجوز. واستدلوا: بالأدلة السابقة. - حديث فاطمة. - وأم سلمة. = والقول الثاني: أنه لا يجوز التعريض في المبانة. وهو قول ضعيف. الصواب: أن حكم المبانة حكم المعتدة من وفاة. قال المؤلف ـ رحمه الله ـ: ويباحان: لمن أبانها بدون الثلاث. كرجعيته.، ويحرمان: منها على غير زوجها (يباحان) يعني: التصريح والتعريض. (لمن أبانها) يعني: لزوجها الذي أبانها. (بدون الثلاث) كالمختلعة. والمفسوخة بنحو عيب، هذه يجوز لزوجها أن يخطبها تصريحاً وتعريضاً. والدليل: - قالوا الدليل على هذا: أنه يجوز له أن يعقد عليها في زمن العدة. وإذا كان يجوز أن يخطب عليها في زمن العدة فيجوز أن يصرح أو يعرض بالخطبة. قوله - رحمه الله - (كرجعية). أي كما يجوز له أن يعقد على الرجعية. فيجوز أيضاً له أن يخطب المبانة بينونة صغرى. قال المؤلف ـ رحمه الله ـ: (ويحرمان منها) يعني: ويحرم التصريح والتعريض. (منها) أي: من الزوجة الرجعية على زوجها. (على غير زوجها) يعني: يحرم على الرجعية أن تجيب لا تصريحاً ولا تعريضاً إذا خطبها غير زوجها.

ولو أن المؤلف - رحمه الله - بدل أن يقول هذه العبارة أتى بعبارة الحنابلة الأخرى وهي: (أن حكم المرأة في الجواب كحكم الخاطب في الخطبة. ـ فإذا جاز له التعريض جاز لها التعريض. ـ وإذا جاز له التصريح جاز لها التصريح. ـ وإذا حرم التصريح والتعريض حرم عليها التصريح والتعريض. حكمها حكم الخاطب. واستخدام هذا أشمل من تخصيص الحكم بالرجعية. وبهذا عرفنا متى يجوز أن يخطب الإنسان المرأة المعتدة تصريحاً أو تعريضاً. قال المؤلف ـ رحمه الله ـ: والتعريض: ((إِنِّي فِي مِثْلِكِ لَرَاغِبٌ))، وتجيبه: ((مَا يُرْغَبُ عَنْكَ)) ونحوهما. التعريض هو: ما يفهم منه النكاح ويحتمل غيره. والتصريح: ما لا يحتمل إلا النكاح. فلما كان التصريح لا يحتمل إلا النكاح لم يذكر أمثلته لأنه واضح وإما ذكر أمثلة التعريض: فيقول: (نحو قوله: إني في مثلك لراغب). وأيضاً نحو قوله: (ما أحوجني إلى مثلك) ونحو هذه العبارات. وينبغي أن تتنبه إلى مسألة. وهي أن التعريض كما يكون بالقول يكون بالفعل. مثل: أن يهدي إليها هدية. فإنه من المعلوم أنه إذا أهدى إلى امرأة معتدة فإنه يشير إلى رغبته فيها. وبهذا أفتى ابن عباس أن الهدية تقوم مقام التعريض. نستطيع أن نأخذ من هذا قاعدة وهو أن التعريض هو أن يبدي الإنسان رغبته في الزواج من هذه المرأة بغير لفظ صريح. وهذه قاعدة تشمل أي تصرف كان يفهم منه رغبة الرجل بالزواج من هذه المعتدة. قال المؤلف ـ رحمه الله ـ: فإن أجاب ولي مجبرة، أو أجابت غير المجبرة لمسلم: حرم على غيره خطبتها. أفادنا المؤلف - رحمه الله - أن خطبة الإنسان على خطبة غيره لا تجوز. وأما قول المؤلف هنا: (فإن أجاب ولي مجبرة، أو أجابت غير المجبرة) ففيه تقسيم النساء إلى مجبرة وغير مجبرة. وهذا سيأتينا في الكلام عن أحكام الولي، الذي يعنينا الآن أنه لا يجوز للإنسان أن يخطب على خطبة أخيه. ولكن قيد الحنابلة هذا: بأن يجيبوه، ولهذا هو يقول هنا: (فإن أجاب. أو: أجابت). فإذا أجاب أو أجابت فإن خطبة الإنسان على خطبة أخيه محرمة وحكي الإجماع بعد الإجابة. - لقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: (لا يخطب أحدكم على خطبة أخيه حتى ينكح أو يدع). (الأذان).

لما ذكر المؤلف الحكم العام شرف في المستثنيات: قال المؤلف ـ رحمه الله ـ: وإن رد ... جاز. يعني: إذا خطب فردوه: جاز للثاني أن يخطب. - لأنه بالرد سقط حقه من تحريم خطبة غيره عليه. وإذا سقط حقه جاز لغيره أن يخطب. وهذا لا إشكال فيه. قال المؤلف ـ رحمه الله ـ: أو أذن. إذا أذن جاز. - لأنه صح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه نهى عن خطبة الرجل على خطبة أخيه حتى يدع أو يأذن. فإذا أذن جاز بالإجماع لأن النص صريح فيه. قال المؤلف ـ رحمه الله ـ: أو جهلت الحال: جاز. إذا لم يعلم الخاطب الثاني هل ردوا الخاطب الأول أو لم يردوه جاز للخاطب الثاني أن يخطب. للماذا؟ - قالوا: لأنه إذا لم يعلم هل أجيب أو لم يجب فإن الأصل عدم الإجابة. وهذه المسألة عند الحنابلة مبنية على مسألة أخرى هي أهم من هذه المألة وهي: * * هل قول النبي - صلى الله عليه وسلم - لا يخطب أحدكم على خطبة أخيه خاص بما إذا أجيب أو عام يشمل ما إذا أجيب وإذا لم يجب؟ الجواب: أن هذه المسألة فيها خلاف: = ذهب الجماهير من أئمة المسلمين والفقهاء إلى أن هذا الحديث مخصوص بما إذا أجيب فإذا لم يجب جاز لغيره أن يخطب. بل حكي الإجماع. حكى الإجماع غير واحد على أنه يجوز أن يخطب إذا لم يجب. = والقول الثاني: وهو فقط قول للشافعية. أنه يحرم مطلقاً. واستدلوا: بعموم الحديث. لأن الحديث: يقول: لا يخطب أحدكم على خطبة أخيه. وليس فيه قبل أو بعد. أما دليل أصحاب القول الثاني وهو قول للشافعية فواضح وهو عموم الحديث ولم يفرق بين أن يجيبوه وأن لا يجيبوه. نبقى في دليل القول [الأول] الذي حكي إجماعاً وذهب إليه علمة السلف. دليلهم: استدلوا على هذا بأدلة: - الدليل الأول: ما تقدم معنا: أن فاطمة - رضي الله عنها - خطبها النبي - صلى الله عليه وسلم - ثم خطبها معاوية ثم [أبو جميل] ثم أسامة فهؤلاء خطبوها جميعاً. وهذا دليل على أنه ما لم تجي المخطوبة يجوز للإنسان أن يخطب على خطبة أخيه. وأجاب القائلون بالوجوب أنه ربما أنهم لم يعلموا بخطبة بعضهم من بعض وربما أنهم علموا بأن فاطمة ردت ومن وجهة نظري أن هذه الأجوبة فيها تكلف.

- الدليل الثاني: أن هذا الأمر معروف عند السلف وهو أنه ما لم يوجب يجوز للآخر أن يخطب. وقد ذكر ابن عبد البر قصة طريفة وهي دليل لهذه المسألة عن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - وهي: أن امرأة من الأنصار خطبها جرير - رضي الله عنه - ثم خطبها مروان بن الحكم ثم خطبها عبد الله بن عمر فجاء عمر بن الخطاب ودخل عليها في بيتها وقال: اسمعي خطبك جرير وهو سيد أهل المشرق. وخطبك مروان وهو سيد شباب مكة وخطبك عبد الله بن عمر وهو من عرفت - رضي الله عنه لم يثن عليه لأنه ابنه - ثم قال: وهذا عمر بن الخطاب يخطب. فالمرأة فرحت فهتكت الستر وقالت: أجاد أنت يا أمير المؤمنين. قال: نعم. قالت: رضيت بأمير المؤمنين. وإذا قرأت القصة تلاحظ أن المرأة فرجت بأمير المؤمنين وحق لها. هذه القصة صريحة أن أربعة خطبوا امرأة واحدة وأن عمر كان يعلم أن هذه المرأة خطبت من ثلاثة فهذا يقطع الإجابات التي ذكرها بعض الذين يرون العموم وهي قوله لعلهم لم يعرفوا. والراجح إن شاء الله مذهب الجماهير وهو أن التحريم والمنع يتعلق بما إذا أجيب فقط. والله أعلم وصلى الله على نبينا محمد ... ((انتهى الدرس)).

الدرس: (2) من النكاح قال شيخنا حفظه الله: بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين. كان الحديث في آخر درس حول خطبة المسلم على خطبة أخيه. وتحدثت عما يتعلق بهذه المسألة من أحكام وأدلة وباقي علينا مسألتان: * * المسألة الأولى/ مما يتعلق بخطبة المسلم على خطبة أخيه - هل النهي يختص بالمسلم؟ أي: لا يجوز للإنسان أن يخطب على خطبة أخيه المسلم أو يشمل غير المسلمين؟ = ذهب الحنابلة وهو منصوص الإمام أحمد إلى أنه يختص بالمسلم. - لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - نص على ذلك فقال: (لا يخطب أحدكم على خطبة أخيه). والأخوة في الدين تقتضي المساواة يعني في الدين فلا يخطب على أخيه يعني: المسلم. واستدلوا على ذلك أيضاً:

- بأن للأخوة في الدين من الحقوق التي تراعى ما ليس لغيرها من الصلات الأخرى. فصلة الأخوة في الدين قوية ولها واجبات من كل مسلم تجاه الآخر. = والقول الآخر: أنه لا يجوز للإنسان أن يخطب على خطبة الغير سواء كان من المسلمين أو من غير المسلمين. وأجابوا عن الحديث: بأن قوله - صلى الله عليه وسلم -: (على خطبة أخيه) خرج مخرج الغالب وليست صفة مقيدة. واستدلوا على هذا: - بأن النهي في هذه المسائل لحق العقد لا لحق العاقد فلا ننظر للعاقد ودينه. - ثم إن عقد الذمة كفل للذميين حقوقاً كثيرة مالية وغير ماليه ومنها هذا الحق. - وأيضاً الاعتداء على الغير ممنوع سواء كان هذا الغير من المسلمين أو من غيرهم. وهذه المسألة محل إشكال وتردد والذي يظهر لي ويغلب على نظري أن الراجح مذهب الحنابلة وممن اختار هذا القول من المحققين الشيخ الفقيه الخطابي وأيضاً الشيخ ابن المنذر وغيرهم كلهم رأى رجحان هذا القول. واستدلوا على هذا: - بأن هذا القيد ليس قيداً أغلبياً وإنما قيداً مقصوداً لأن الأخوة في الدين معنىً خاص مقصود فإلغاؤه من الحديث واعتباره قيداً غالباً ليس بمتوجه ولا ظاهر بل الأقرب أنه مقصود. - والأصل في الصفات المذكورة في الأحاديث أنها مقصودة. - ثم اعتبار هذا اعتداءً هو باعتبار المعتدى عليه فإذا كان مسلم فخطبة الإنسان على خطبة أخيه نوع من الاعتداء لكن إذا لم يكن من المسلمين فإن الشارع لم يثبت له هذا الحق فلك أن تخطب على خطبته وولي المرأة له أن يختار بين الخاطبين حسب مصلحة موليته. على كل حال يظهر لي إن شاء الله أن الراجح مذهب الحنابلة وإن كانت المسألة فيها نوع إشكال والخلاف فيها قوي. * * المسألة الثانية/ ذكرت أنه لا يجوز للإنسان أن يخطب على خطبة أخيه وبقينا في مسألة أخرى وهي: إذا خطب على خطبة أخيه فهو مخالف وآثم ولكن بقي النظر في العقد الذي تم على هذه الخطبة الممنوعة ليكون صحيحاً أو باطلاً. في هذه المسألة أيضاً بين أهل العلم: = فالجماهير من أهل العلم ذهبوا إلى أن العقد صحيح والخاطب على خطبة أخيه ظالم وآثم إلا أن العقد صحيح. - لأن النهي لا ينصرف إلى ذات العقد وإنما إلى أمر خارج عن العقد وهي الخطبة السابقة للعقد.

- ثم إن هذا العقد - وهذا هو الدليل الثاني لهم - هذا العقد عقد مستوف لشروطه وأركانه ولا يوجد مبرر لإبطاله. = القول الثاني: وهو مذهب المالكية. أن العقد المبني على الخطبة الثانية الممنوعة عقد فاسد. واستدلوا على هذا: - بأن النهي في الشرع يقتضي الفساد. وهذه الخطبة منهي عنها ومزجور عنها وما يترتب عليها فهو فاسد لأنه مترتب على منهي عنه. = القول الثالث: أن العقد صحيح ولكن يتوقف على رضا الخاطب الأول. - لأن الخطبة على خطبة أخيه اعتداء على حق الخاطب الأول. فإذا تزوج نقول للخاطب الأول إن أمضيت النكاح أمضيناه وإن رددت النكاح رددناه ثم إذا رد الخاطب الثاني النكاح فإنه لا يلزم من هذا أن تتزوج به بل إذا رد الخاطب الأول نكاح الخاطب الثاني المعتدي صارت المرأة بعد ذلك حرة إن شاءت قبلت بالخاطب الأول وإن شاءت قبلت بالخاطب الثاني وإن شاءت قبلت بغيرهما. وليس كما يتبادر إلى الذهن أنه إذا رد الخاطب الأول النكاح فهو أحق بها هذا غير مراد. وهذا القول الثالث هو اختيار شيخ الإسلام - رحمه الله - وعند الشيخ قاعدة وهي: (أن أي نهي كان سببه حق الآدمي في النكاح والبيوع وفي أي معاملة فيها عقد فإنه يصحح العقد ويثبت الخيار للطرف المعتدى عليه). دائماً وأبداً. وأما في النواهي التي يكون فيها النهي لحق الله فهو - أي: العقد - يكون فاسداً) هذه قاعدة الشيخ - رحمه الله - قاعدة مضطردة في كل المسائل التي فيها نهي لم تنخرم قاعدة الشيخ في هذه المسألة. في بعض كلام شيخ الإسلام ما يدل على أنه يرجح قول المالكية مطلقاً وهذا ليس بمراد فإما أن يكون الشيخ له في المسألة قولان أو يكون جوابه في بعض المرات الذي يقول فيه: والراجح القول الثاني. ويطلق. يعني: لم يفصل. والصحيح أن هذا هو اختيار شيخ الإسلام ولا أدل على هذا من أنه صدر هذا القول بكلمة: والتحقيق: أنه يقال: يثبت لحق ... إلى آخره فجعل هذا هو القول الذي فيه تحقيق فلا ينظر للأقوال الأخرى التي فيها إطلاق ترجيح قول المالكية. نرجع الآن إلى المتن بعد أن أنهينا المسائل المتعلقة بخطبة المسلم على خطبة أخيه. قال المؤلف ـ رحمه الله ـ: ويسن: العقد يوم الجمعة مساء.

يسن أن يعقد الإنسان في هذا اليوم وهو يوم الجمعة. ويسن أيضاً أن يكون العقد في مساء يوم الجمعة. واستدلوا على هذا بدليلين: - الأول: أن استحباب ذلك مروي عن التابعين ولا أذكر أنه مر عليَّ أنه عن أحد من الصحابة لكن عن التابعين مروي عن عدد منهم. - الثاني: قالوا أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أثبت في الجمعة ساعة إجابة وهي عند كثير من الفقهاء آخر ساعة في الجمعة ولذا يستحبون أن يكون العقد في آخر ساعة من الجمعة لكي يوافق هذه الساعة فإذا دعي للمتزوج وافق ساعة إجابة فأجيب ووفق في هذا الزواج. إذاً استدلوا بدليلين. وأضاف الشيخ منصور في الروض: أنه أيضاً يستحب أن يكون في المسجد فيكون يوم الجمعة وفي المسجد. وفي الحقيقة ليس في النصوص الشرعية ما يدل على استحباب عقد النكاح لا في يوم الجمعة ولا في المسجد مع الاعتراف والإقرار بأن يوم الجمعة يوم فاضل وأن المسجد من البقع الفاضلة إلا أن النكاح فيه شائبة العبادة كما سيأتينا والعبادات توقيفية وما زال النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه يعقدون الأنكحة لأنفسهم ولغيرهم ولم ينقل عنهم أنهم كانوا يعقدون ذلك لا في يوم الجمعة ولا في المساجد. ولا في المساجد. فالأقرب أن الإنسان يعقد النكاح في الزمان والمكان الذي يناسب وضعه الاجتماعي أو ظروفه ولا ينظر إلى قضية إيقاع العقد في يوم الجمعة أو في المسجد. قال المؤلف ـ رحمه الله ـ: بخطبة ابن مسعود. يستحب الحنابلة أن يخطب الإنسان بخطبة ابن مسعود - رضي الله عنه -. وفي هذه الخطبة مسائل: * * المسألة الأولى/ أن عقد النكاح بخطبة ابن مسعود: سنة. ـ فإن شاء عقد العقد بها. ـ وإن شاء بدونها. ـ وإن شاء استبدلها. فإن قال: الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على رسول الله: صح وأجزأ. إذاً: استعمال هذه الخطبة سنة وبإمكانه أن يبدل هذه الخطبة باستفتاح آخر. * * المسألة الثانية/ = ذهب الحنابلة إلى أن العاقد يستحب أن يخطب بخطبة ابن مسعود: (إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره .. إلى آخره ... ولا يذكر الثلاث آيات وإنما يقتصر على الحديث. = والقول الثاني: أنه يذكر خطبة ابن مسعود مع الآيات الثلاث.

وهذا القول هو الصحيح لان الحديث فيه الثلاث آيات ولا معنى للاقتصار على أول الحديث دون آخره. فمذهب الحنابلة ضعيف وعلى الإنسان أن يأتي بالخطبة كاملة. بهذا انتهى الفصل الأول من كتاب النكاح وننتقل للفصل الثاني. فصل قال المؤلف ـ رحمه الله ـ: فصل وأركانه. بدأ المؤلف الكلام عن أركان النكاح، وبدأ به لأهميته. والأركان التي ذكرها المؤلف - رحمه الله - ثلاثة. وركن الشيء هو جزء ماهيته. يعني: ما يتركب منه الشيء. فهذا هو الجزء اصطلاحاً. سواء في المسائل الشرعية أو في غيرها. ركن الشيء لابد أن يكون من جزء ماهيته. بدأ - رحمه الله - بالركن الأول: قال المؤلف ـ رحمه الله ـ: الزوجان الخاليان من الموانع. الركن الأول: الزوجان الخاليان من الموانع. والمقصود بالموانع ما سيذكره من المحرمات في باب المحرمات من النساء. فهذه هي الموانع. وقد يكون من الموانع: اختلال بعض شروط صحة النكاح في أحد الزوجين. سيأتينا. وهذا الركن ذكره الشيخ موسى هنا وذكره في كتابه الإقناع وغيره لم يذكر هذا الشرط. فالشيخ الموفق في المقنع وأيضاً صاحب المنتهى كلهم لم يذكروا هذا الشرط. وفسَّر الشيخ منصور عدم ذكرهم لهذا الشرط لأنه أمر ظاهر لا حاجة لذكره. ومعنى هذا: أنهم لم يذكروه لوضوحه لا لأنهم لا يرونه ركناً. فإذاً على هذا التقرير يكون ركناًَ عند الحنابلة كلهم. وهو ركن: بالإجماع. - لأنه لا يمكن أن يكون عقد الزواج صحيحاً ولا تاماً إلا بوجود الزوجين. وهذا كما قال الشيخ منصور: بدهي. الركن الثاني: قال المؤلف ـ رحمه الله ـ: الإيجاب. والركن الثالث: القبول. الإيجاب والقبول هما الركن الثاني والثالث وقد يعبر عنهما بالصيغة. والإيجاب والقبول: ركن. بالإجماع بلا مخالف. والإيجاب: هو اللفظ الصادر من الولي أو من نائبه الدال على إلزام نفسه في حال رضا القابل. وأما القبول: فهو اللفظ الصادر من الزوج الدال على رضاه بالمعقود عليه. وهذان الإيجاب والقبول من أهم أركان النكاح لأنه في الحقيقة هما العقد كما سيأتينا إنما يتم العقد بالإيجاب والقبول ولهذا كما قلت صار محل إجماع. قال المؤلف ـ رحمه الله ـ:

ولا يصح ممن يحسن العربية بغير لفظ: زوجت أو أنكحت وقبلت هذا النكاح أو تزوجتها أو تزوجت أو قبلت. أفادنا المؤلف - رحمه الله - بهذه العبارة مسألتين: * * الأولى/ أن عقد النكاح لا يصح إلا باللغة العربية ممن يحسنها. * * الثانية/ أنه باللغة العربية وأيضاً لا يتم إلا باستخدام لفظين فقط: (أنكحت) و (زوجت). إذاً: لابد أن يكون بالعربية ولابد أن لا يستخدم فيه إلا أحد هذين اللفظين. فإن استخدم لفظاً ثالثاً فالعقد باطل. - لأنه اختل ركن الصيغة فاختل تبعاً له العقد برمته. وهذه المسألة وهي تحديد لفظ أنكحت وزوجت محل خلاف بين الفقهاء: = فذهب الحنابلة والشافعية إلى أن النكاح لا يصح إلا بأحد هذين اللفظين. واستدلوا على هذا بأدلة: - الدليل الأول: أنه ليس في القرآن إلا استخدام أحد هذين اللفظين في عقد النكاح ولم يستخدم القرآن أي لفظ آخر. وتتمت الاستدلال: أنه إذا مان القرآن لم يذكر إلا أحد هذين اللفظين والنكاح من الأمور التعبدية والدال على أنه من الأمور التعبدية أنه يدور بين الاستحباب والوجوب فإذا ثبتت أنه تعبدي والقرآن لم يستخدم إلا اللفظين صار لا يجوز أن يعقد إلا بهما. هذا هو عمدة الشافعية والحنابلة. - الدليل الثاني: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (استحللتم فروجهن بكلمة الله). وكلمة الله هي فقط ما جاء في القرآن من استخدام لفظ النكاح والتزويج. = القول الثاني: أنه لا يجوز استخدام أي لفظ في النكاح إلا ثلاثة: (زوجت) و (أنكحت) و (ملكت). وهذا مذهب ابن حزم. وفي المحلى يقول: لا يجوز إلا بزوجت وأنكحت وملكت. ثم قال كلمة: وبالإمكان. ولك يظهر لي مطلقاً ما معنى هذه الكلمة. ولما أراد ابن حزم يستدل لكل لفظة استدل لكل لفظة بدليل ولم يتطرق لكلمة بالإمكان فلعلها خطأ من المحقق أو قرأت خطأ عند قراءة المخطوط. المهم لم يظهر لي في الحقيقة لها معنى بعد قراءة كلام ابن حزم.

واستدل ابن حزم بتخصيص الألفاظ الثلاثة بما استدل به الحنابلة والشافعية في لفظيه: (أنكحت). و (زوجت). وأما التمليك: فاستدل بقول النبي - صلى الله عليه وسلم - للرجل الذي رغب في الزواج من المرأة التي عرضت نفسها على النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه زوجه بقوله: (ملكتكها بما معك من القرآن). فاستخدم النبي - صلى الله عليه وسلم - لفظ: التمليك. وابن حزم كما هو معلوم رجل ظاهري يجمد على النصوص فلما لم يجد إلا هذه الثلاثة ألفاظ وقف عندها. = القول الثالث: أن النكاح يتم بأي لفظ يدل على المقصود وهو مذهب الأحناف والمالكية ونصره شيخ الإسلام بن تيمية بأدلة كثيرة وأطال في تقريره. واستدل هؤلاء: - بأن القاعدة المتفق عليها في الشرع أن العبرة بالقصود والمعاني لا بالألفاظ والمباني. وإذا علمنا أن قصده أن ينكح هذه المرأة أخذنا بهذا القصد. - الدليل الثاني: أن المقصود من الإيجاب والقبول معرفة رضا كل من الزوجين بالآخر: الزوج بنفسه والزوجة عن طريق الولي. ومعرفة الرضا يحصل بهذين اللفظين وبغيرهما. - الدليل الثالث: أنه ليس في النصوص ما يدل على اشتراط استخدام اللفظين وإنما غاية ما في النصوص استخدام اللفظين. والنصوص ليس فيها نفي المشروعية عن غير هذين اللفظين. والراجح إن شاء الله المذهب الثالث وأدلتهم قوية وإن كنت لا أرى أي مبرر عند عقد النكاح للعدول عن لفظت: (أنكحت) أو (زوجت). لأنه ما دام استخدام غيرهما محل خلاف والقائلون بأن العقد لا يتم إلا بهما من الأئمة الكبار: الشافعي والإمام أحمد فلا مبرر للعدول عنهما لا من الولي ولا منى مأذون الأنكحة ولا من غيره لكن لو استخدم غيرهما فالعقد إن شاء الله صحيح. قال المؤلف ـ رحمه الله ـ: ومن جهلهما: لم يلزمه تعلمهما. إذا جهل اللغة العربية أو جهل استخدام أو لا يحسن استخدام هذين اللفظين من اللغة العربية فإنه لم يلزمه أن يتعلمهما. لأمرين: - الأمر الأول: أن النكاح على الصحيح سنة وكل ما هو سنة من الشرع فإنه لا يجب على الإنسان أن يتعلم أركانه.

- الدليل الثاني: أن القاعدة الشرعية تقول: (أنه لا وجوب مع العجز) وهذا يعجز عن أن ينطق هذين اللفظين باللغة العربية فينطقهما بلغته ولا حرج عليه. وهذا صحيح: أنه لا يلزمه أن يتعلمهما، ولما بين أنه لا يلزمه أن يتعلمهما أراد أن يبين ماذا يصنع؟ قال المؤلف ـ رحمه الله ـ: وكفاه معناهما الخاص بكل لسان. يريد المؤلف - رحمه الله - تقرير معنى معين وهو أن اللفظ الذي يريد أن يستخدمه الأعجمي الذي لا يعرف العربية يجب أن يشتمل على معنى اللفظين في العربية يعني: الإنكاح والتزويج. فليس له أن يستخدم أي لفظ بل عليه أن يستخدم لفظاً يحمل معنى التزويج والإنكاح ولهذا المؤلف - رحمه الله - نص على قوله: (وكفاه معناهما الخاص بكل لسان) وإلا فإنه من المعلوم أنه إذا أعفيناه عن النطق بأنكحت وزوجت له أن ينكح بما شاء لكنه أراد أن يبين أنه لا ينكح إلا باللفظ الذي يشتمل على معنى هذين اللفظين. * * مسألة/ مهمة: إن عقد النكاح بغير العربية مع قدرته على العربية: هذه المسألة محل خلاف. مع اتفاق الجميع أنه أساء وأنه ينبغي أن لا يصنع لكن إلى أي درجة ينبغي أن لا يصنع. هذا محل خلاف. = فالقول الأول: أن العقد صحيح ولو تجنب اللغة العربية قاصداًَ مع معرفته بها واستخدم لغة أخرى. وهذا مذهب الأحناف. = القول الثاني: أنه إن عقد النكاح بغير العربية مع قدرته على العربية فإن العقد باطل. وإلى هذا ذهب كثير من أهل العلم يكاد يكون الجمهور. - لأن الخلاف السابق بين المالكية والأحناف والشافعية والحنابلة إنما هو في استخدام لفظ أنكحت وزوجت أما استخدام اللغة العربية فهو مذهب الجماهير. = القول الثالث: أنه عمله مكروه والعقد صحيح. يعني: يصح مع الكراهة. وهذا اختيار شيخ الإسلام بن تيمية وإنما رأى أن صحيح: - لأن العقد عنده - رحمه الله - ينعقد بكل ما يدل عليه بأي لهجة وبأي لسان وإنما كان مكروهاً لأنه استخدم غير العربية بلا حاجة. من هنا نعلم أن شيخ الإسلام يرى أن استخدام غير اللغة العربية لغير حاجة مكروه - أقل أحواله أنه مكروه. ثم تزداد الكراهة إذا استخدمه في عقد اهتم به الشارع وهو عقد النكاح. قال المؤلف ـ رحمه الله ـ: فإن تقدم القبول: لم يصح.

يعني: إذا قبل قبل أن يوجب ولي المرأة فهذا القبول لا عبرة به. واستدلوا على هذا: - بأن القبول إنما هو إجابة للإيجاب فإذا كان قبل الإيجاب لم يصبح قبولاً شرعاً. ولهذا التغى وصار لا قيمة له. = القول الثاني: أنه يصح تقدم القبول إذا كان بلفظ الطلب. فإن كان باللفظ الماضي فإنه لا يصح. واستدلوا على هذا: بأن الرجل قال للنبي - صلى الله عليه وسلم - زوجنيها. فأتى بلفظ القبول قبل الإيجاب لكن بلفظ الطلب. فزوجه النبي - صلى الله عليه وسلم - وليس في الحديث أنه قبل بعد أن أوجب النبي - صلى الله عليه وسلم - له العقد. = والقول الثالث: أنه صحيح مطلقاً. عكس المذهب. وقالوا: أن الإيجاب هو اللفظ الصادر أولاً من الزوج أو من الولي. واستدلوا ثانياً: بأن القبول سواء تقدم أو تأخر فهو دال على رضا الزوج بالمعقود عليه وهذا هو المقصود من الصيغة. عني: معرفة رضا الزوج ولين المرأة بالعقد. وهذا القول الثالث هو الصحيح إن شاء الله فإذا كان الزوج مثلاً - كما يحصل - فرح بالعقد وأثناء الملكة قبل أن يتكلم المأذون قال: قبلت. عند الحنابلة أنه غير صحيح لكن على القول الصحيح أنه صحيح ولو كان المأذون ذو فطنة فإنه ينبغي عليه أن يأمره بالإعادة. لماذا؟ - هنا تأتي مسألة مهمة جداً: بعض الناس يُسَخِّر الخلاف في حفظ العقود وتحقيق مقصود الشارع. وبعض الناس يسخر العقود والخلافات فيها بالتحايل على مقصود الشارع. طالب العلم ما دام يعلم أن في مسألة تقدم القبول وتأخره خلاف وكان مثلاً هو مأذون الأنكحة ينبغي أن يسخر هذا العلم في التوصل لتصحيح عقود المسلمين فيقول له: أعد القبول. هذا من فطنة المأذون في الحقيقة واو كان يرجح الجواز لأنه لا معنى في المجال العملي ما دام بالإمكان الاحتياط فهو الواجب. قال المؤلف ـ رحمه الله ـ: وإن تأخر عن الإيجاب: صح ما داما في المجلس ولم يتشاغلا بما يقطعه. أفادنا المؤلف - رحمه الله - بأن الإيجاب يجب أن يصدر بعد القبول فالموالاة شرط في الإيجاب بعد القبول. لكن إذا كان القبول جاء متأخراً عن الإيجاب فإنه يصح عند الحنابلة بشرطين: - أن يكون هذا الإيجاب المتأخر في المجلس. - وأن لا يتشاغلا عن العقد.

فإذا تم الشرطان فالقبول صحيح ولو تأخر وهذه هي الفائدة عند الحنابلة. فإذا قال زوجتك ابنتي وجلسوا يتحدثون في شأن العقد لمدة ساعة ثم قال الزوج: قبلت. الآن تشاغلا بغير العقد؟ لا. وإنما تشاغلا بالعقد. خرج عن المجلس؟ لا. وإنما بقيا في المجلس. فالقبول: صحيح. دليل الحنابلة: - قالوا: أن حالة المجلس كحالة العقد. يعني: أنهم ما داموا في المجلس فكأنهم في العقد - في حالة انعقاد العقد. بدليل: أن العقود التي يجب فيها القبض يصح فيها القبض في المجلس ولو طال. فهذا يدل على أن حكم المجلس حكم العقد. = القول الثاني: للشافعية وهو أنه يجب أن يكون القبول بعد الإيجاب فوراً. ضيق مذهب الشافعية في هذه المسألة. يجب أن يكون فوراً. سواء بقوا في المجلس أو لم يبقوا تشاغلوا أو لم يتشاغلوا. يجب أن يكون فوراً. وفى عن التأخير اليسير فقط. وهذا المذهب غاية في الضيق لأنه كثيراً ما يتشاغل ولي المرأة مع الزوج بعد الإيجاب - للكلام حول الشروط أو حول أمور تتعلق بالنكاح فإبطال الإيجاب الصادر أولاً من الولي بسبب هذا الانقطاع لا يتوافق مع قواعد الشرع. كما أن المقصود من الإيجاب والقبول متحقق ولو تأخر بعض الشيء. إذاً: الراجح إن شاء الله مذهب الحنابلة. قال المؤلف ـ رحمه الله ـ: وإن تفرقا قبله: بطل. هذا الكلام من المؤلف - رحمه الله - يؤكد أن الموالاة شرط لصحة القبول. فإن تفرقا قبل أن يقبل بطل الإيجاب. الدليل: أنه بخروجهم عن المجلس أعرضا عن العقد وهذا الإعراض معنى الرد. وهذا الكلام جميل جداً من الحنابلة: أنه بخروجهم أعرضا عن العقد. وهذا صحح. وهذا الإعراض هو بمعنى الرد. فإذا كان بمعنى الرد إذاً يعتبر الزوج رد ولم يقبل. والمؤلف - رحمه الله - صرح بالتفرق قبله ولم يصرح بمسألة فيما لو لم يتفرقا ولكن تشاغلا فإذا تشاغلا بغيره فكذلك لأن التشاغل بغيره يدل على الإعراض الدال على الرد.

وهذا صحيح تماماً. فإذا جلسوا لعقد نكاح ثم أوجب ولي المرأة ثم صار الزوج يتكلم مع ولي المرأة حول أسعار الأراضي والسيارات والسلع والمزارع وصاروا يتكلمون عن البلدان. فهل هذا لائق أو هو دليل على إعراضهم عن العقد؟ دليل بلا شك على أنهم أعرضوا إما من قبل الزوج أو من قبل ولي المرأة. فإذاً: المؤلف لم ينص على هذه المسألة لأنها مفهومه من القيد السابق. انتهى الفصل المتعلق بالأركان وننتقل إلى الشروط. فصل قال المؤلف ـ رحمه الله ـ: فصل. وله شروط. المؤلف - رحمه الله - ذكر أربعة شروط فقط ولم يوافق الأصل وهو المقنع فإن المقنع ذكر خمسة شروط. والشرط الذي اختلفوا فيه هو الكفاءة. على أن الشيخ الموفق - رحمه الله - في المقنع ذكر أن الكفاءة على روايتين عن الإمام أحمد لكن ذكره كشرط وحكى الخلاف. هنا لم يذكره كشرط إلا أنه في آخر الفصل أشار إلى هذا الشرط إشارة وذكره ليبين موقف الحنابلة من اشتراط الكفاءة كما سيأتينا إلا أنه لم يعتبره من الشروط. والشرط هو في الاصطلاح العام الذي لا يختص بالفقه الشرط هو ما يلزم من انتفائه انتفاء الحكم ولا يلزم من وجوده وجود الحكم. ولاشك أنكم أخذتم هذا في أصول الفقه عند قراءة نظم الورقات وعرفتم ما هو الشلاط ومحترزات هذا التعريف. قال المؤلف ـ رحمه الله ـ: أحدها: تعيين الزوجين. تعيين الزوجين: شرط. أما وجود الزوجين فهو: ركن. إذاً: تعيين الزوجين: يعني: تحديد الزوجين شرط من شروط صحة عقد النكاح. الدليل على هذا: - أنه لا يمكن أن يصح في عقد فيه معقود عليه وعاقد إلا بتحديد العاقد والمعقود عليه. هذا أولاً. - ثانياً: أن الأغراض المقصودة للشارع من النكاح لا تتحقق إلا مع تعيين الزوجين. إذاً: الحكم والأغراض التي أرادها الشارع من النكاح لا تتحقق إلا بتحديد الزوجين. بناء على هذا الشرط: إذا خطب الإنسان امرأة معينة وأجابوه ووافقوا عليه ثم لما جاء العقد عقدوا له على أختها فإن العقد هنا باطل والشرط الذي اختل فيه هو تعيين الزوجة. وهذا صحيح والعقد باطل تماماً ولا يترتب عليه أي أثر من آثار عقود النكاح. لأن اشتراط تعيين الزوجة اختل في هذه المسألة. قال المؤلف ـ رحمه الله ـ:

فإن أشار الولي إلى الزوجة. مقصوده: وهي حاضرة فإن هذه الإشارة تجزئ: لأن فيها تعييناً. فإذا قال هذه وأشار إليها فهذا تعيين. ـ فإن كانت غائبة في البيت وأشار البيت إلى جهة البيت فهذه الإشارة لا قيمة لها فلابد أن تكون الإشارة والمرأة حاضرة. قال المؤلف ـ رحمه الله ـ: أو سماها. إذا سماها أيضاً هذا تعيين لها باسمها. ولكن الحنابلة يقولون يجب أن يقول: فلانة ابنة فلان. فيقول مثلاً: عائشة ابنة عبد الله ابن كذا. وعللوا هذا: - بأن من تسمى عائشة كثر. وإطلاق اسم عائشة فقط لا يكفي. والصحيح: أنه إذا كان الذي يقوم بالعقد هو الأب وليس له إلا ابنة واحدة اسمها عائشة وقال: زوجتك عائشة فإنه لا حاجة لذكر اسمها كاملاً لأنه من المعلوم أن المقصود عائشة يعني: ابنة هذا الذي أوجب. قال المؤلف ـ رحمه الله ـ: أو وصفها بما تتميز به. يعني: أو وصفها بوصف يختص بها ولا يشترك معها أحد فيه. كأن يقول: زوجتك ابنتي الكبيرة. هل يمكن ان يشترك مع الكبيرة غيرها؟ لا لا يمكن. لأنه لن يكون له كبيرة إلا ابنة واحدة. وأن يقول: زوجتك ابنتي الطويلة. لأنه إذا لم يكن في بناته طويله إلا هي فإنها تتعين. فإن قال: زوجتك ابنتي الطويلة وكل بناته هكذا؟ ... وأي شيء اختل؟ المشاركة. أنه يشاركها في الوصف غيرها. إذاً: الذي اختل هو المشاركة. إذاً: لابد أن يذكر وصف تختص به المرأة ولا يشاركها غيرها. فإذا ذكره فهو تعيين. قال المؤلف ـ رحمه الله ـ: أو قال: ((زَوَّجْتُكَ بِنْتِي)) وله واحدة لا أكثر: صح. إذا قال زوجتك بنتي وليس له إلا واحدة صح. حتى قال الحنابلة ولو سماها بغير اسمها. لو كانت ابنته الوحدة اسمها فاطمة وقال: زوجتك ابنتي عائشة: صح. لماذا؟ لأن الالتباس مأمون هنا. إذ لا يوجد له إلا ابنة واحدة. وهذا مبالغة من الحنابلة: لأنه إذا قال زوجتك ابنتي عائشة وابنته اسمها فاطمة دخل اللبس وشك الزوج وشك الشهود ودخل الارتباك على أطراف العقد جميعاً فهذا من الخطأ. ولو قيل أنه لا يصح لكان متوجهاً لأنه ربما يكون له ابنة لا تعرف. يشتهر أنه ليس إلا ابنة واحدة وربما كان له ابنة أخرى من زوجة أخرى.

على كل حال هذه مبالغة في الحقيقة نقول: إذا لم يكن له إلا ابنة واحدة فإما أن يقول زوجتك ابنتي ويسكت أو يقول زوجتك ابنتي ويسميها باسمها الصحيح. وبهذا انتهى الفصل الذي يتعلق [بالشروط]. فصل قال المؤلف ـ رحمه الله ـ: (فصل) الثاني: رضاهما. هذا الفصل أيضاً لاستكمال الشروط وأيضاً الفصل الذي يليه والفصل الذي يليه. إذاً الفصول المتتابعة القادمة كلها في الشروط. يشترط في صحة عقد النكاح: رضا الزوجين. وتعليل ذلك: - أن الزوجين طرفا العقد ولا يصح العقد إلا برضا أصحابه. وهذا الشرط من حيث هو لا خلاف فيه إنما الخلاف في الاستثناءات التي سيذكرها المؤلف - رحمه الله - فيما بعد أما من حيث فلابد من رضا كل من الزوجين. قال المؤلف ـ رحمه الله ـ: إلاّ البالغ المعتوه. قوله: (إلا). أراد المؤلف - رحمه الله - إلا الأب في تزويج البالغ المعتوه. في الحقيقة في المقنع قدم الأب وهو أوضح. عبارة الشيخ الموفق أحياناً موفقة. فهنا لاحظ أن المؤلف - رحمه الله - يقول: إلا البالغ والمجنون .. ثم قال: فإن الأب ووصيه .. إلى أخره. لو قال: إلا الأب فله تزويج البالغ المعتوه) لكان أوضح. وهذا مقصوده: أن الأب له تزويج البالغ المعتوه. (المعتوه) هو ناقص العقل ولم يصل إلى الجنون. والجنون: هو فاقد العقل تماماً. وقيل: المعتوه المجنون. واحد. لكن الأشهر التفريق بينهما وهو الأقرب. والشيخ - رحمه الله - اقتصر على المعتوه لينبه على المجنون. فالحنابلة يرون أن المعتوه والمجنون لوليهما أن يزوجهما جبراً بغير رضا. واستدلوا على هذا بأمرين: - الأول: أنه لا نظر لهما ولا يعرفان المصلحة. - الثاني: أنه إذا جاز تزوج الصغير مع أن له رأياً ونظراً فالمحنون والمعتوه من باب أولى. = القول الثاني: أنه ليس للأب أن يزوجهما. واستدلوا على هذا: - بأن تزويجهما يلزم منه مهر ونفقة على هذا المجنون والمعتوه وليس له أن يتصرف بما فيه خسارة عليهما. - بالإضافة إلى أنه لا مصلحة لهما بهذا النكاح. = القول الثالث: أنه له ولاية إجبار على المجنون والمعتوه إذا كان فيهما حاجة للنكاح. والحاجة للنكاح قد تكون حاجة شهوة وقد تكون حاجة رعاية.

والأقرب والله أعلم أن للأب أن يجبر المجنون والمعتوه على النكاح الذي فيه مصلحة لهما. والسبب في هذا: - أنه غالباً ما يكون عند تزويج هذا المجنون والمعتوه غالباً إذا رضيت الزوجة بهذا الزوج غالباً ما تكون زوجة تريد بر هذا المجنون. فإذا أرادت بره وصيانته ورعايته وربما أتت منه بأولاد وقام الأولاد بحقوق أبيهم فهذه مصالح. أو ليست مصالح؟ مصالح كبيرة جداً. أما إذا لم يكن فيه مصالح: مثل أن يكون هذا المجنون المعتوه غني وتريد المرأة أن تتزوج منه ليجب عليه النفقة عليها ولا تريد رعاية هذا الزوج وربما امتنعت عن الإنجاب منه. فهذا: فيه مصلحة أو ليس فيه مصلحة؟ ليس فيه مصلحة بل فيه مضرة على الزوج. على كل حال القول بأنه إذا كان هناك مصلحة للمجنون والمعتوه فإن لوليهما الإجبار هو الصحيح وفيه نفع عظيم للمجنون والمعتوه. قال المؤلف ـ رحمه الله ـ: والمجنونة. يعني: وللأب أن يزوج المجنونة. مقصودة: بالمجنونة يعني: البالغة. لأن الصغيرة سيأتي الكلام عنها. فالمجنونة للأب أن يزوجها. سواء وجدت منها شهوة وميل إلى الرجال أو لم يوجد. فالأب له أن يزوجها. أما إذا وجدت منها شهوة فإن الأب وغيره من الأولياء لهم أن يزوجوها. لكن إذا لم يوجد منها هوة فالشخص الذي له أن يجبرها على الزواج هو فقط: الأب. = القول الثاني: أن الأب لا يملك أن يجبر المجنونة على النكاح إلا إذا كانت مما يجبر لو كانت عاقلة. يعني: إذا كانت مما يملك إجبارها لو كانت عاقلة. والأقرب والله أعلم أن الراجح في المجنون هو الراجح في المجنونة. فإذا كان في تزويجها مصلحة والزوج سيقوم عليها بالرعاية والعطف والقيام بمصالحها م قد تنجب منه أولاداً يقوم الأولاد برعايتها والمحافظة عليها فهذه مصالح مقصودة وللأب أن يزوجها. وإذا لم تكن هناك مصالح فإنه لا يزوجها. ((الأذان)). على أن الزوجة فيها مصالح غالبة لأنه في الزواج يترتب على عقد الزواج نفقة والسكن على الزوج ونفقات العلاج عند بعض الفقهاء فالمصلحة في تزويج المرأة قد يكون أظهر منه في تزويج الرجل يعني: إذا كان مجنوناً أو مجنونة. قال المؤلف ـ رحمه الله ـ: والصغير.

الصغير أي الذي لم يبلغ لوليه أن يجبره على الزواج بغير رضاه. وحكي على ذلك الإجماع: على أن له أن يجبره. واستدل الفقهاء رحمهم الله: - بأن عبد الله بن عمر - رضي الله عنه - زوج ابناً له صغير ثم تشاكوا واختصموا إلى زيد فأمضياه يعني: زيد وابن عمر. فدل هذا على صحة إنكاح الرجل ابنه بغير رضاه. = وقال بعض الفقهاء: أنه إذا كان صبياً قارب الاحتلام والبلوغ فإنه لا يجبر. واختار هذا القول: القاضي من الحنابلة. والأثر الذي ذكرته عن ابن عمر يفيد الجواز مطلقاً. قال المؤلف ـ رحمه الله ـ: والبكر ولو مكلفة. البكر ولو مكلفة للأب أن يجبرها على الزواج بغير رضاها. والبكر: تنقسم إلى أقسام ربما لن نتمكن من ذكر جميع الأقسام الثلاثة الآن. لكن نبدأ بالقسم الأول: ـ وهو: أن تكون البكر دون تسع سنوات. فالبكر دون تسع سنوات: لأبيها أن يجبرها على النكاح عند جميع الفقهاء وحكي إجماعاً حتى شيخ الإسلام - رحمه الله - الذي من الذين يرون بقوة أخذ رأي البكر فيما عدا هذه الصورة في هذه المسألة لم يخالف. فلم يخالف أحد من الفقهاء: إلا فقيه واحد وهو ابن شبرمة واعتبر قوله شاذاً. استدل هؤلاء بأدلة كثيرة: - الدليل الأول: أن أبا بكر الصديق - رضي الله عنه - زوج عائشة وهي ابنة ست سنوات. - الدليل الثاني: أن علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - زوج أم كلثوم لعمر - رضي الله عنه - وهي صغيرة ولم يعترض أحد من الصحابة. واستدلوا بـ: - الدليل الثالث: وهو أن الله تعالى أثبت أن عدة اللائي لم يحضن ثلاثة أشهر والعدة لا تكون إلا بعد النكاح الذي يعقبه طلاق. فإذاً معناه أنه ربما تزوج وهي صغيرة ثم تطلق وتكون العدة ثلاثة اشهر. فهذه ثلاثة أدلة يضاف إليها: الإجماع. لأن خلاف ابن شبرمة لا يقدح إن شاء الله في هذا الإجماع. والله أعلم وصلى الله على نبينا محمد ... انتهى الدرس

الدرس: (3) من النكاح قال شيخنا حفظه الله: بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين. كنت بالأمس تحدثت عن البكر وذكرت أن لها أقساماً ثلاثة وتحدثن عن القسم الأول وذكرت حكمه مع الأدلة. ـ القسم الثاني: البكر التي تم لها تسع سنوات فأكثر ولكنها لم تبلغ. فهذا النوع اختلف فيه الفقهاء على قولين: = القول الأول: لجمهور الفقهاء: ذهبوا إلى أن حكم البكر قبل وبعد التسع واحد. أي: أنه لأبيها أن يجبرها على النكاح. واستدلوا: - بأن البنت بعد التسع وقبل البلوغ ما زالت غير مكلفة فنقيس ما بعد التسع على ما قبل التسع بجامع عدم التكليف والبلوغ. - الدليل الثاني: أن البنت بعد التسع ليس لإذنها عبرة في التصرفات. فيقاس عليها النكاح. وهذا القول كما قلت لكم مذهب الجماهير. = القول الثاني: أن البنت بعد التسع لا تجبر. وهو مذهب قلة من الفقهاء واختاره من المحققين الزركشي وشيخ الإسلام بن تيمية. واستدلوا: - بأثر عائشة - رضي الله عنها - أنها قالت: إذا بلغت الجارية تسع سنين فهي امرأة. ـ القسم الثالث: البكر البالغة. وهي التي ذكرها المؤلف - رضي الله عنه - وهي محل الخلاف القوي. فالبكر البالغة: = ذهب الأئمة الثلاثة أحمد ومالك والشافعي إلى أنها تجبر وتزوج بغير إذنها. واستدل الجمهور: - بقول النبي - صلى الله عليه وسلم - كما في صحيح مسلم: (الأيم أحق بنفسها من وليها. والبكر تستأمر وإذنها صماتها). وجه الاستدلال: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قسم النساء إلى قسمين: ـ البكر. ـ والثيب. وأثبت أن الثيب أحق بنفسها من وليها. وهذا يدل بمفهومه على أن البكر ليست أحق بنفسها من وليها. = والقول الثاني: وهو مذهب الأحناف واختاره ابن المنذر وغيره من المحققين كشيخ الإسلام بن تيمية:: أن البكر البالغة لا تجبر على النكاح. واستدلوا: - بأن جارية بكراً أجبرت على النكاح في عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - فرفعت أمرها إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فخيرها. وهذا الحديث اختلف فيه المتقدمون والمتأخرون. فأبو داود والبيهقي يرون أنه لا يصح ويعلونه بالإرسال وجملة المتأخرين يصححونه.

- الدليل الثاني لهم: ما أخرجه البخاري أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (لا تنكح الأيم حتى تستأمر ولا البكر حتى تستأذن. قيل ما إذنها يا رسول الله؟ قال: أن تسكت.) فالحديث نص على أن البكر لا تنكح حتى تستأذن. فهذان حديثان لأصحاب القول الثاني. والأقرب إن شاء الله من حيث الأدلة القول الثاني. والسبب في ذلك أن أصحاب القول الأول استدلوا بمفهوم الحديث بينما استدل أصحاب القول الثاني بمنطوق الحديث وتقدم معنا في كتاب الطهارة وفي غيره أن الاستدلال بالمنطوق مقدم على الاستدلال بالمفهوم. ولهذا نقول: الراجح إن شاء الله أن البكر البالغة لا تجبر على النكاح. قال المؤلف ـ رحمه الله ـ: لا الثيب. يعني: أن المرأة الثيب البالغة لا تجبر على النكاح. واستدل الحنابلة على هذا الحكم بأدلة: - الأول: الإجماع. فإنه حكي الإجماع على أن الثيب البالغة لا تجبر على النكاح ولم يخالف في هذا الإجماع إلا رجل من أعلام وسادات الأمة وأكبرهم بعد الصحابة والتابعين شأناً وهو الحسن البصري. لكن مع ذلك في الحقيقة يستغرب على الشيخ الإمام الفقيه الزاهد الورع الحسن البصري أنه يخالف في مثل هذه المسألة. ووجه الاستغراب: أن في هذه المسألة نص صريح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ثم هذا النص أخذ به كل العلماء. ولهذا نسب كثير من أهل العلم هذا القول من الشيخ الحسن البصري إلى الشذوذ لمخالفة النص الصريح الواضح وكما قلت لكم أنه مثل هذا القول يستغرب على الحسن البصري إن ثبت عنه. - الدليل الثاني: أن امرأة يقال لها الخنساء زوجها أبوها وهي ثيب بغير إرادتها فرفعت إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فرد النكاح. هذا الحديث في صحيح البخاري. لكن هذا الحديث وإن كان في صحيح البخاري إلا أنه من الأحاديث التي انتقدها الإمام الدارقطني في كتابه التتبع. وناقش العلماء قول كل من البخاري والدراقطني وممن ناقش المسألة بطبيعة الحال ابن حجر فإنه ذكر الخلاف بين البخاري والدارقطني والأقرب والله أعلم أن الصواب مع البخاري فيكون الحديث صحيح إن شاء الله. وهو نص في المسألة فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - أثبت الاختيار للمرأة الثيب.

* * مسألة/ ذكرت أن هذا الحكم إنما هو في المرأة الثيب البالغة. أما الثيب الصغيرة ففيها خلاف وليست محل إجماع. فالثيب الصغيرة اختلفوا فيها على ثلاثة أقوال - وأنت إن شاء الله - لو تأملت فستعرف الثلاثة أقوال وسبب الخلاف من خلال ما سبق. فالمرأة الثيب الصغيرة يتنازعها أصلان: ـ الأول: أنها ثيب. ـ والثاني: أنها صغيرة. فإذا الخلاف سيكون بسبب هذا التنازع. = فالقول الأول: أن الثيب الصغيرة تجبر. لماذا؟ - لأنها صغيرة. فأشكلت عليهم الأحاديث التي إثبات الخيار للثيب. فأجابوا عنها بأنها تحمل على الكبيرة. - الثاني: أن الثيب الصغيرة لا تجبر. - لأنها ثيب والأحاديث اثبتت الاختيار للمرأة الثيب. = القول الثالث: أن المرأة الثيب إن كانت جون تسع أجبرت وإن كانت فوق تسع لم تجبر. أي الأقوال أرجح؟ (مناقشة مع الطلاب ... ) المسألة فيها إشكال. لكني أنا أرى أن الأحاديث لما ذكرت الثيب وقوله - صلى الله عليه وسلم -: (الأيم) ثم قال في آخر الحديث البكر وقال الشراح أن الأيم هنا ليست المرأة التي لم تتزوج كما في اللغة وإنما الأيم هنا هي الثيب لأنها مقابلة بالبكر. فإذا ثبت هذا التقرير. أن الأيم في الأحاديث هي الثيب فعلاً كأن الشارع - وإلى هذا يميل الحنابلة - علق قضية الإجبار وعدم الإجبار لا على الكبر والصغر وإنما على الثيوبة والبكارة. والسبب معقول في الحقيقة: لأن الثيب صار عندها خبرة بالرجال ومعرفة وتستطيع أن تتخذ قرارها بشأن الزواج .. وكما قلت لكم المسألة فيها إشكال ولكن هذا قد يكون أقرب. قال المؤلف ـ رحمه الله ـ: فإن الأب ووصيه في النكاح: يزوجوهم بغير إذنهم، كالسيد: مع إمائه وعبده الصغير. تقدم معنا أن هذا الاستثناء ينصب على: الأب وأنه هو الذي يملك الإجبار فقط. لكن أضاف المؤلف هنا أن الإنسان يملك إجبار إمائه على الزواج كما يملك إجبار ابنته الصغيرة وقد حكي الإجماع على السيد يملك إجبار الأمة. وعللوا هذا: - بأن السيد يملك منافع الأمة ومن جملة المنافع البضع. فله أن يجبرها على النكاح. = والقول الثاني: المقابل لهذا القول الذي حكي فيه الإجماع. أن الأمة إذا كبيرة فإنها لا تجبر وإن كانت أمة.

والصحيح القول الأول: أن السيد يملك إجبار الأمة وإن كانت كبيرة لأنها ملك يمينه ومنافعها في يده. ـ الثاني: قال المؤلف ـ رحمه الله ـ: وعبده الصغير. يعني: ويملك أن يلزم عبده الصغير بالنكاح. وإلى هذا ذهب أيضاً الجماهير. واستدلوا على هذا: - بأن الأب إذا كان يملك أن يجبر ابنه الصغير فعبده من باب أولى. لأن سلطة وولاية السيد على العبد أكبر منها على الابن. فما يجوز ف الابن يجوز في العبد من باب أولى. وفهم من كلام المؤلف - رحمه الله - أن السيد لا يملك إجبار العبد الكبير. وذلك: لأنه مكلف وكبير ويملك الطلاق فلا يملك سيده إجباره على النكاح. = والقول الثاني: أن السيد يملك أن يجبر العبد ولو كان كبيراً لأن السيد إذا ملك رقبة العبد فمن باب أولى أن يملك تزويجه إجباراً. والصحيح: الأول. وهو المذهب. أنه لا يملك إجبار العبد الكبير. قال المؤلف ـ رحمه الله ـ: ولا يزوج باقي الأولياء: صغيرة دون تسع. (باقي الأولياء) كالعم والأخ وابن العم ونحوهم. هؤلاء لا يملكون لتزويج إجباراً. - لأنهم دون الأب في المنزلة وفي الشفقة وفي رعاية مصالح المولية. وهذا لا إشكال فيه. (صغيرة دون تسع) يعني: سواء كانت بكراً أو ثيباً. فإنهم لا يملكون التزويج مطلقاً. استدل الحنابلة على هذا: - بأن عبد الله بن مظعون زوج ابنة أخيه لعبد الله بن عمر فلما سمع المغيرة بن شعبة بذلك دخل على أمها ورغبها بالمال يعني بالمهر ورغبها فما زال بها حتى مالت إلى قول المغيرة فلما مالت إلى قوله تبعتها البنت فمالت إلى قول أمها فصارت الأم والبنت يميلون إلى المغيرة والأب يميل إلى عبد الله بن عمر فوقع خلاف بينهم وذلك بعد أن تم العقد لكن قبل الدخول. فارتفعوا إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال عبد الله يا رسول الله إني لم آل لها نصحاً زوجتها عبد الله بن عمر وهو من الأكفاء ومن خير الصحابة فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: (لا إنها يتيمة ولا تنكح إلا بإذنها). قال عبد الله بن عمر فانتزعت من يدي بعد العقد - رضي الله عنهم -. ففي هذا الحديث: النص الصريح على أن العم لا يملك سلطة الإجبار فلما رفضت البنت أبطل العقد.

= القول الثاني: أنه يملك إجبارها إن كانت أقل من تسع ولا يملك إن كانت فوق تسع. - لأن البنت تحت التسع ليس لقولها عبرة ولا لإذنها عبرة شرعاً فيملك إجبارها. والأقرب والله اعلم أنه لا يملك: لأن الحديث الذي في الباب حديث عام. قوله - رحمه الله -: (ولا يزوج باقي الأولياء: صغيرة دون تسع) ظاهر كلام المؤلف ولو بإذنها. لأنه لا يعتبر لها إذن كما قلت المرأة دون التسع إذنها غير معتبر ولا ينظر إليه. إذاً: يترتب على هذا أن البنت إذا توفي أبوها وصار لها أولياء أخ أو عم أنه لا يمكن أن تزوج إلا إما إذا بلغت أو نقول على القول الثاني بعد التسع. قبل هذا لا يمكن ان تزوج ولو أذنت لا يمكن أن يتولى أحد تزويجها لأنه لا يملك أحد سلطة الإجبار وفي المقابل هي إذنها غير معتبر فيجب أن ننتظر إلى أن يكون لها إذن معتبر إما بأن تتجاوز التسع على قول أو بأن تصل إلى البلوغ على الآخر. قال المؤلف ـ رحمه الله ـ: ولا صغيراً. يعني ولا يملك باقي الأولياء تزويج الصغير. والسبب في ذلك: - أن باقي الأولياء ليسوا كالأب في الشفقة والحرص ورعاية مصالح الإبن فلا يزوج. فإن احتاج - يعني: هذا الصغير - فإن الذي يزوجه الحاكم ولا سلطة لباقي الأولياء على صغير مطلقاً عند الحنابلة. = والقول الثاني: أن الصغير لا يزوج ولو أذن إلا إن احتاج فإن باقي الأولياء أولى من الحاكم وأكثر شفقة وأقرب لهذا الصبي. فعلى القول الثاني: باقي الأولياء مقدمون على الحاكم. وهذا هو الصحيح. فإن أخوه وعمه أعرف بمصالحه مع العدل والأمانة والشروط التي تقدمت في الولي منهم بالحاكم. إذاً: مع عدم الحاجة لا يمكن أحد أن يزوج الصغير حتى يبلغ. قال المؤلف ـ رحمه الله ـ: ولا كبيرة عاقلة. الكبيرة العاقلة سواء كانت ثيباً أو بكراً فإنه لا يجوز لأحد من الأولياء أن يزوجها إلا بإذنها كما سيأتينا في كلام المؤلف - في نص المؤلف. فإن أذنت جاز وإلا فلا. وذلك: - لأن الأحاديث الصريحة تقول: لا تنكح الأيم إلا بإذنها أو إلا أن تستأمر يعني: أن يؤخذ أمرها. وهذا الحديث صحيح بأنه لا يجوز أن يزوجوا الكبيرة إلا بإذنها إذا لم يكن لها أب فإن كان لها أب دخلنا في الخلافات السابقة.

نحن الآن نتحدث عن باقي الأولياء. فباقي الأولياء ليس لهم أن يزوجوا الكبيرة العاقلة. وهذا مذهب الجماهير ولا إشكال فيه. قال المؤلف ـ رحمه الله ـ: ولا بنت تسع، إلاّ بإذنهما. يعني: ولا يزوج باقي الأولياء بنت تسع إلا بإذنها. قوله: (إلا بإذنهما) يعود على الكبيرة وعلى بنت التسع. فبنت التسع والكبيرة يجوز أن يزوجا بإذنهما. - لأن لهما إذناً معتبر. فإذا أذنت جاز لباقي الأولياء أن يزوجوها وإلا انتظروا إلى أن تأذن. قال المؤلف ـ رحمه الله ـ: وهو صمات البكر ونطق الثيب. الإذن شرعاً: بالنسبة للزواج يختلف من البكر إلى الثيب: ـ فالبكر إذنها أن تسكت. وإلى هذا ذهب الجماهير والجم الغفير. واستدلوا: بالاحاديث الصريحة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - سئل ما إذنها فقال في الحديث الأول: (أن تسكت) وفي الحديث الثاني: (صماتها) وهذه النصوص صريحة. فإذا سكتت حياء فإنه لا بأس بتزويجها. = والقول الثاني: أنه لابد أن تأذن نطقاً وهو ضعيف مخالف للنصوص. ومن المعلوم أن المقصود بأن تأذن بالسكوت يعني: إذا لم يعلم الولي أنها رافضة فإذا سكتت ولكن الولي يعلم أنها رافضة وسكتت سكوت رفض فإن السكوت هنا لا يعتبر إذناً. ـ القسم الثاني: الثيب. والثيب لا يكون إذنها إلا بالنطق والكلام. وهذا محل إجماع. ولا يكتفي بالصمت بل يجب أن تتكلم. والدليل على هذا: - أن الأصل في اللغة والشرع والعرف أن الإنسان يعبر عن رضاه بلسانه. وهنا نقول كذلك يجب ان تتكلم برضاها وتنطق به. هذا فضلاً عن أن الأحاديث السابقة جعلت إذن البكر أن تسكت ومفهوم هذا أن إذن الثيب أن تتكلم. ولقوة أدلة هذا القول صار محل إجماع. فصل قال المؤلف ـ رحمه الله ـ: (فصل) الثالث الولي. الشرط الثالث: الولي. وهو - أي: هذا الشرط - من أهم الشروط وأولاها بالعناية والانتباه. وذلك: في القديم والآن تأكد تماماً الاعتناء بهذا الشرط وفهمه. = ذهب الجماهير من الأئمة والفقهاء أحمد والشافعي ومالك وغيرهم من أئمة المسلمين. إلى أن الولي شرط لصحة فإن لم يوجد ولي فإن العقد باطل ولا يصح ولو أذن الولي بعد ذلك. واستدلوا على هذا بأدلة: - الدليل الأول: قوله - صلى الله عليه وسلم -: (لا نكاح إلا بولي).

وهذا الحديث صححه أئمة كبار كالإمام أحمد والإمام ابن معين وغيرهم من أئمة السلف. وهو نص كما ترى. - الدليل الثاني: قوله - صلى الله عليه وسلم -: (أيما امرأة نكحت بغير إذن وليها فنكاحها باطل. باطل. باطل. وها المهر بما استحلمن فرجها فإن اشتجروا فالسلطان ولي من لا ولي له). وهذا الحديث أيضاً صححه أئمة منهم: الإمام ابن معين ومنهم الإمام ابن حبان وغيرهم. وهذان الحديثان نصوص صريحة لا معدل عنها. - الدليل الثالث: أن اشتراط الولي مروي عن الصحابة: عمر وعلي وابن مسعود وغيرهم - رضي الله عنهم ـ - الدليل الرابع: أن في تجويز المرأة في إنكاح المرأة لنفسها من المفاسد الظاهرة والمعروفة ما يكفي بعضه لتحريم وإفساد العقد. - الدليل الخامس: أن نظر الرجل في مصلحة المرأة ومعرفته بالرجال أكمل وأبلغ من نظر المرأة لنفسها مع عاطفتها وتسرعها. = القول الثاني: أن النكاح صحيح بلا ولي. أي: أن المرأة تتولى النكاح بنفسها. وإلى هذا ذهب أبو حنيفة - رحمه الله -. واستدل: أن الله تعالى أباح للمرأة أن تبيع جاريتها وبيع الجارية يتضمن بيع منفعة البضع. فإذا كانت تملك أن تبيع كل الجارية فلأن تملك أن تزوج الجارية من باب أولى. واستدل أيضاً: بأن الله تعالى أضاف النكاح إلى النساء فدل على أنه يختص بهم ولهن القيام به. = القول الثالث: أن النكاح يقع صحيحاً لكن يشترط إجازة الولي فإن أجاز وإلا بطل. والحق إن انشاء الله الذي لا مرية فيه قول الجماهير.

وما ذكره الإمام الكبير أبو حنيفة ليس إلا أدلة عقلية لا قيمة لها مطلقاً في مقابل النصوص. نعم لو لم يكن في الباب نصوص لكان لأدلته نوع وجاهة لكن الأدلة العقلية مهما كانت قوية من حيث النظر إلا أنها لا قيمة لها متى كانت في مقابل النصوص لاسيما وأن هذه النصوص مؤيده بفتاوى من الصحابة وفتاوى من التابعين لاسيما وأن الواقع د على صحة ما دلت عليه هذه النصوص وأنه متى فتح الباب للمرأة أن تتزوج من تشاء وقعت من المفاسد ما الله به عليم. ولو لم يكن من المفاسد إلا مفسدة واحدة وهي: أنه متى مسكت امرأة مع رجل قالت: كنت زوجته نفسي. فحينئذ لا يمكن الاعتراض على هذا لأن المرأة عند الاحناف تلي تزويج نفسها وغيرها لو لم يكن من مفاسد هذا القول إلا هذه المفسدة لكان حرياً به أن يضعف ويرد. لما ذكر المؤلف - رحمه الله - اشتراط الولي ذكر الشروط: قال المؤلف ـ رحمه الله ـ: وشروطه: التكليف. ـ الشرط الأول من شروط الولي أن يكون مكلفاً والمكلف هو العاقل البالغ. أما العقل فهو شرط في الولي: بالإجماع. لأن المجنون لا نظر له وهو تحت ولاية غيره فكف يلي على غيره. وأما البلوغ: = فذهب إلى اعتباره واشتراطه الجماهير. = وقيل أن ابن عشر سنوات يزوج أنه أدرك وصار يفهم. = وقيل ابن اثني عشر سنة يزوج. لأنه شارف على البلوغ. والصواب أنه لا يزوج إلا البالغ. لأن الولاية في أمر النكاح تحتاج إلى تمام كمال الحال والطفل ما لم يبلغ لم يستتم كمال النظر والبحث عن المصالح. أضف إلى هذا أن هذا الصبي قبل البلوغ تحت ولاية غيره لم يستحق ولا أن يكون منفرداً على نفسه فكيف يلي غيره. فإذاً: إن شاء الله لا يزوج أحد من الأولياء إلا إذا بلغ. قال المؤلف ـ رحمه الله ـ: والذكورية. يعني: ويشترط في الولي أن يكون ذكراً فإن زوجت المرأة أحداً نفسها أو آخر فإنه لا يصح. وهذا الشرط مستفاد من الخلاف السابق. لأن الخلاف السابق نص على اشتراط الولي ونص على أن المرأة إذا أنكحت نفسها فنكاحها باطل - ثلاثاً قاله - صلى الله عليه وسلم - - مما يدل على أن الذكورية شرط في الولاية. قال المؤلف ـ رحمه الله ـ: والحرية. يعني: ويشترط في الولي أن يكون حراً.

وإلى هذا: ذهب الجماهير وقالوا: إن العبد لا يكون ولياً على غيره. - لأنه تحت ولاية سيده. - ولأنه ناقص التصرف. = القول الثاني: أن العبد إذا استوفى الشروط الأخرى يكون ولياً على أقربائه. - لأنه لا مانع من ذلك وليس في النصوص ما يدل على اشتراط الحرية. - أضف إلى هذا كله أن من العبيد ما يكون أعقل وأعلم وأعرف بمصالح قريباته من غيره. وهذا القول الأخير هو الراجح. لكن تقدم معنا الآن أن السيد يزوج الأمة فكيف نقول الآن أن العبد يكون ولياً - مثلاً - على ابنته؟ (على المذهب العبد لا يكون ولياً على ابنته - مثلاً - على القول الثاني يكون ولياً على ابنته ويقوم بتزويجها ونحن قلنا أن الأمة الذي يزوجها إجباراً هو السيد فكيف نجمع بين هذين الأمرين؟ هذا يحمل على قريبة العبد الحرة لأن الأمة انتهينا منها أن الذي يتولى تزوجها هو السيد. فإذا قلنا العبد يلي يعني: يلي قريبته الحرة). إذاً نخرج من هذا الإشكال بهذا التفصيل أنه يلي قريبته الحرة لأنه تقدم معنا أن الأمة دائماً السيد هو المتصرف فيها. قال المؤلف ـ رحمه الله ـ: والرشد في العقد. قوله: (في العقد) إشارة إلى أن الرشد اختلف باختلاف الموضوع: ـ فإن كان في المال فالرشد شيء. ـ وإن كان في النكاح فالرشد شيء آخر. فقد يكون الإنسان راشداً تماماً في الأموال وسفيهاً في التزويج. وقد يكون العكس: راشداً في التزويج. يعرف المصالح ومبذراً في المال. هنا يجب أن يكون رشيداً في العقد ولو لم يكن رشيداً في المال. والرشد في العقد هو أن يكون الولي عارفاً بمصالح المرأة وما يصلح لها وما لا يصلح وينتقي الأكفاء لها ويسعى في كل ما يجلب لها المصلحة فيما يتعلق بالنكاح. وهذا شرط في الحقيقة كان ينبغي أن يبدأ به المؤلف لأنه من أهم شروط الولاية لأن الولي لم يوضع أصلاً إلا لهذا الأمر وهو أن يقوم برعاية ابنته أو أخته أياً كانت موليته. فإذاً هذا الشرط من أهم الشروط ولا إشكال في اشتراطه بل هو المقصود من الولاية. قال المؤلف ـ رحمه الله ـ: واتفاق الدين. اتفاق الدين: شرط بالإجماع، فلا يزوج المسلم كافرة، ولا يزوج الكافر مسلمة.

- لأن اختلاف الدين يمنع من كمال الشفقة. هذا شيء، والشيء الآخر: لأنه لم يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلاً، فليس للكافر ولاية على المؤمن، وولاية النكاح نوع من الولايات. قال المؤلف ـ رحمه الله ـ: سوى ما يذكر. يعني: إلا ما يستثنى. وذكر الشيخ منصور: أن الذي يستثنى ثلاث مسائل: ـ أم الولد تحت الكافر إذا أسلمت. ـ والأمة الصغيرة تحت المسلم. ـ والذمية إذا لم يكن لها ولي زوجها السلطان. والسلطان خالفها في الدين. قال المؤلف ـ رحمه الله ـ: والعدالة. يعني: ويشترط في الولي أن يكون عدلاً. ومقصود المؤلف بالعدالة هنا يعني الظاهرة دون الباطنة. فيشترط في الولي أن يكون عدلاً عدالة ظاهرة فإن كان فاسقاً فإنه ليس له أن يتولى تزويج ابنته أو أخته. - لأن الولاية في النكاح أمانة وهو ليس من أهل الأمانات. - ولأنه قد يخون رغبة في المال. = والقول الثاني: أن من لم يكن عدلاً - وهو الفاسق - يلي التزويج بشرط أن يتحقق فيه الرشد في العقد. يعني: أن يكون رشيداً في أحوال العقود. وهذا القول الثاني عليه العمل وهو الصواب حتى من حيث النظر فضلاً عن العمل: لأن من أولياء الأمور من يكون فاسقاً في أبواب الطاعات لكنه فيما يتعلق بالمرأة رشيد جداً وقد يسعى في مصلحتها أكثر من غيره وينظر فيما يناسبها من الرجال ويبحث عن الأكفاء أكثر من غيره. والمقصود الشرعي من الولاية هو هذا. فإذا كان الفاسق يؤدي هذا المقصود على وجع تام فإنه يصلح ولياً. وهذا القول في الحقيقة قوي جداً وكما قلت عليه العمل. = القول الثالث: وهو أصعب الأقوال - أن الولي لابد أن يكون عدلاً ظاهراً وباطناً. والراجح القول الثاني إن شاء الله. قال المؤلف ـ رحمه الله ـ: فلا تزوج امرأة: نفسها ولا غيرها. بناء على ما تقدم من أن الذكورية شرط في الولاية إذاً لن تزوج امرأة نفسها ولن تزوج غيرها. فهو تفريع على ما تقدم من أدلة. قال المؤلف ـ رحمه الله ـ: ويقدم: أبو المرأة في إنكاحها. بدأ المؤلف في ترتيب الأولياء. وبدأ بالأب. - لأنه أقوى الأولياء. ومفهوم كلام المؤلف أن الأب يقدم على الابن. فإذا كان للمرأة أب وابن فالأب مقدم.

واستدلوا على هذا: بأن الابن موهوب للأب وولاية الموهوب على الهبة أولى من ولاية الهبة على الموهوب. وهذا صحيح. - الدليل الثاني: أن الأب أكثر شفقة على ابنته من ابنها وأكثر سعياً في طلب مصالحها. - الدليل الثالث: أن الابن قد يستنف عن تزويج أمه فيدخل عليها بذلك الضرر. = القول الثاني: أن الابن مقدم على الأب. - لأن الابن أقرب إلى الأم من الأب: بدليل: أنه أقوى منه في الميراث. والراجح: أن الأب مقدم إن شاء الله بلا إشكال لأن الميراث بابه يختلف عن باب الولاية. فالميراث سببه القرب والبعد والولاية سببها الشفقة والبحث عن مصالح المولية. فبينهما فرق يمنع من إلحاق أحدهما بالآخر. قال المؤلف ـ رحمه الله ـ: ثم وصيه فيه. الضمير في: (فيه) يعود على النكاح. يعني: وصي الأب في النكاح لا في الأموال مقدم على الابن والجد والأخ. فإذا مات الأب وأوصى إلى رجل ولهذه البنت ابن فوصي الأب مقدم على الابن. استدل الحنابلة على هذا: - بأن الولاية حق من حقوق الأب فإذا أوصى به انتقل لمن بعده وهو الوصي. = القول الثاني: أن الولاية لا تستفاد بالوصاية. يعني: لا يمكن أن يكون الإنسان ولي بالوصية. واستدلوا على هذا أن الولاية من الأمور التي تستفاد بالشرع. فالشارع هو الذي تولى بيان الولي. فمن جعله الشارع ولياً فهو مقدم على الوصي. وهذا القول هو الصحيح إن شاء الله. فإذا مات الأب انتهى حقه بالولاية ولا يملك أن يوصي بل تنتقل إلى من بعده شرعاً حسب الترتيب الذي سيذكره المؤلف - رحمه الله -. قال المؤلف ـ رحمه الله ـ: ثم جدها لأب وإن علا. أي أن الجد أيضاً مقدم على الابن. وسبب التقديم: - أن الجد يوصف بأمرين: ـ الولادة ـ والتعصيب. فالبنت مولودة له: باعتبار أنها مولودة ابنه وهو يعصب. بينما الابن لا يملك إلا التعصيب فقط. ومن يتصف بمعنيين يقدم على من يتصف بمعنى واحد. = والقول الثاني: أن الابن مقدم على الجد. = والقول الثالث: أن الأخ مقدم على الجد. = والقول الرابع: أن الجد والأخ بدرجة واحدة.

والأقرب والله أعلم أن الجد مقدم على الابن: لأن الأسباب التي ذكرتها في الأب موجودة في الجد. ومن هنا يقدم على الابن وإن كان تقديم الجد على الابن ليس في القوة كتقديم الأب على الابن. في الحقيقة فها إشكال وتوقف لكن الأرجح والأظهر أن الجد يقدم على الابن. قال المؤلف ـ رحمه الله ـ: ثم ابنها. جاء الابن في المرتبة الرابعة. لابد أن لا يكون فيه: لا أب ولا وصيه ولا جد ثم يأتي الابن. مع إن النظر يقول أنه من أقرب الناس. إذاً الابن في المرتبة الرابعة. واستدلوا على هذا: - بأن أم سلمة لما خطبها النبي - صلى الله عليه وسلم - قالت: يا رسول الله ليس من أوليائي أحد حاضر فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - ليس أحد منهم حاضر أو غائب يكره ذلك. - اللهم صل على محمد. فقالت أم سلمة: يا عمر قم فزوج رسول الله فقام فزوجه. فهنا زوج الابن أمه لأنه ليس من الأولياء أحد حاضر. وهذا الحديث يقوي أي مسألة؟ تقديم الأب والجد لأن المرأة تطلبت الأولياء ولك تكتف بالابن مما يدل على قوة ماذهب إليه الحنابلة. قال المؤلف ـ رحمه الله ـ: ثم بنوه وإن نزلوا. يعني: الابن - ثم ابن الابن - وإن نزل. فجنس البنوة مقدم على الأخوة. والدليل الدال على: ولاية الابن. يدل على ولاية ابن الابن. لأن ابن الابن:: ابن. قال المؤلف ـ رحمه الله ـ: ثم أخوها لأبوين ثم لأب. الأخ يأتي بعد عدم وجود عمودي النسب. فإذا لم يوجد أحد من الآباء ولا أحد من الأبناء انتقلنا إلى الأخ. وهذا الانتقال بعد عدم وجود عمودي النسب محل إجماع لا إشكال فيه. وذلك: - لأنه الأقرب عد عمودي النسب. والولاية كما سيأتينا مدارها على القرب والشفقة. والأخ هو الأقرب. قال: (لأبوين). = ذهب الحنابلة إلى تقديم الأخ لأبوين على الأخ لأب. واستدلوا على هذا بأمرين: - الأول: أنه أقوى منه في الميراث مما يدل على قربه. - والثاني: أنه يتصل بجهتين والأخ لأب يتصل بجهة واحدة. = القول الثاني: أن الأخ لأب كالأخ الشقيق فهما في درجة واحدة لا يقدم الشقيق عليه.

واستدلوا على هذا: بأن هذه الولاية إنما هي مستفادة من الأب وأبوهما واحد ولا تأثير ولا عبرة تفرد الشقيق بالأم - يعني: أنه أخ من أم، لكن الصحيح إن شاء الله بوضوح أن الأخ الشقيق مقدم. وذلك لأن الأخ الشقيق أقرب وأكثر شفقة من الأخ لأب. فلا يستوون. قال المؤلف ـ رحمه الله ـ: ثم بنوهما كذلك. يعني: ثم أبناء الإخوة كذلك: ـ فإبن الأخ الشقيق مقدم على ابن الأخ لأب. كما أن الأخ الشقيق مقدم على الأخ لأب فابنه مقدم على ابن الأخ لأب. والسبب: هو ما تقدم: من قوة الأخ الشقيق. ... ((الأذان)). قال المؤلف ـ رحمه الله ـ: ثم عمها لأبوين ثم لأب. بعد مرحلة الأخ تترتب الولاية حسب الميراث من جهة العصبات. فمن يرث: يلي. والخلاف في قوله: (ثم عمها لأبوين ثم لأب). كالخلاف في الأخ الشقيق والأخ لأب. إذاً: الخلاف المتقدم أي معنا هنا وقد رجحنا أن الأخ الشقيق مقدم فهنا العم لأبوين مقدم على العم لأب. قال المؤلف ـ رحمه الله ـ: ثم بنوهما كذلك. يعني: ابن العم لأبوين مقدم على ابن العم لأب. وهكذا. قال المؤلف ـ رحمه الله ـ: ثم أقرب عصبة نسباً كالإرث. يعني: بعد ذلك ننظر في ترتيبهم كأقرب عصبة للمرأة كما نرتبهم في الإرث. والسبب في أنه نرتبهم على هذا الترتيب: - أن مبنى الولاية على الشفقة. والرعاية والسعي في تحصيل مصالح المرأة والشفقة أمر معنوي لا يمكن أن يدرك أيهما أشفق عليها من الآخر. فربطه الشارع بأمر ظاهر وهو القرابة فكلما كان الإنسان أقرب علمنا شرعاً أنه أشفق لأنه لا يمكن أن نعلق هذا المعنى بشيء غير محسوس والقرابة أمر محسوس. فإذاً نقول كلما كان الإنسان أقرب فهو في الغالب أشفق فهو الولي. قال المؤلف ـ رحمه الله ـ: ثم المولى المنعم. يعني: ثم إذا لم يوجد أولياء من النسب انتقلنا إلى الأولياء بالإنعام - بالعتق. فإذا لم يكن لها عصبات من النسب فوليها بالإجماع: من أعتقها. هو مولاها يقوم بتزويجها. وهذا محل إجماع. لأنه الأولى بعد عدم وجود أحد من النسب. قال المؤلف ـ رحمه الله ـ: ثم أقرب عصبته نسباً. يعني: إذا لم يوجد المعتق بنفسه فإنه أقرب الناس بهذا المعتق نسباً والذي هو يعصب يكون هو ولي لهذه المرأة الذي أعتقها الميت.

إذاً: ننتقل بعد المعتق إلى الأولياء بحسب قربهم وبعدهم من الميت. قال المؤلف ـ رحمه الله ـ: ثم ولاء. يعني: ثم مولى المولى. فإذا لم يوجد لهذه المرأة أحد من الأقرباء نسباً ولم نجد أيضاً لها ولي ووجدنا ولي مولى يعني: من أعتق الذي أعتقها فهذا له حق التزويج وهو مقدم وله الولاية لأنه لا يوجد أحد أقرب منه لهذه المرأة. وقَلَّ أن يقع مثل هذه الأشياء وهي نادرة جداً أو لا تكاد تقع. قال المؤلف ـ رحمه الله ـ: ثم السلطان. السلطان: ولي من لا ولي له بالإجماع. لقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: (والسلطان ولي من لا ولي له). فإذا لم نجد أحداً من الأقارب ولا من الأولياء فإنا ننتقل إلى السلطان ويقوم هو بتزويج هذه المرأة. هذا والله أعلم وصلى الله على نبينا محمد ... انتهى الدرس

الدرس: (4) من النكاح قال شيخنا حفظه الله: بسم الله الرحمن الرحيم والحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين. انتهينا بالأمس من الكلام عن ترتيب الأولياء عند الفقهاء وتبين أن الأحق الأب ثم الجد ثم الابن ثم الأخ ثم الأعمام، وباقي من مسائل الأولياء مسائل لم أتطرق إليها بالأمس وهي ما إذا وجد أكثر من ولي في درجة واحدة كأن يوجد عدد من الأخوة أو يوجد عدد من الأعمام فهم متساوون في القرب من الزوجة فأيهم يلي التزويج؟ ينقسم الحكم إلى قسمين: القسم الأول: أن تأذن المرأة لأحدهم، فإذا أذنت لأحدهم، فإنه هو الولي، ولا شأن للباقين في التزويج. يعني أنه يتعين هذا للمأذون له فإن لم تأذن لأحد منهم على وجه التعيين فينقسم إلى قسمين: إما أن يتراضوا على أحدهم فلا حرج أو لا يتراضوا، فإن لم يتراضوا فالأولى وليس الواجب في الترتيب كالتالي: يقدم خيرهم وأدينهم ثم بعده الأكبر سناً ثم إذا تشاحوا ولم يرضوا بهذه الأفضليه فالقرعة، يقرع بينهم ومن خرجت له القرعة صار هو ولي المرأة.

من هنا علمنا قول أن ما يراه كثير من الناس أنه يقدم الأكبر مطلقاً على سبيل الوجوب ليس بصحيح إلا أن الناس تعارفوا على هذا أن الأكبر هو الولي وهو خلاف ما قرره الفقهاء من أنه يقدم خيرهم وأدينهم ثم بعد ذلك أسنهم. انتهى ما يتعلق بالأولياء، ثم انتقل المؤلف إلى موضوع آخر وهذا الموضوع يتعلق بمسألة أن الشارع الحكيم لم خول الولي تزويج المرأة، لم يجعل هذا الحق له مطلقاً يتصرف فيه كما يشاء بل وضع لهذا الحق ضوابط وحدود حتى لا يعتدي الولي في استخدام هذا الحق الذي منحه إياه الشارع، ولهذا تحدث المؤلف عن مسائل ثلاث: المسألة الأولى: مسألة العضل. قال المؤلف ـ رحمه الله ـ: (فإن عضل الأقرب) إذا عضل الأقرب انتقلت الولاية عنه إلى غيره وسيأتينا إلى من ستنتقل، إذا عضل الولي المستحق للولاية فإنها تنتقل عنه. والدليل على هذا من وجهين: الوجه الأول: أنه بعضله تعذر تزويج الزوجة أو تعذر تزويج المرأة وإذا تعذر انتقلنا إلى من بعده. الثاني: أنه بعضله خرج من العدالة إلى الفسق، والسبب أنه ظالم والظالم فاسق فإذا خرج إلى الفسق انتفت الشروط المتقدمة بحق الولي وانتقلت الولاية إلى من بعده. إذاً إذا عضل الولي فان الولاية تنتقل إلى من بعده وسيأتينا إلى من تنتقل. والعضل هو أن يمنع الولي تزويج الكفء الذي رغبت فيه ورغب فيها هذا هو العضل. فإذا منعها على هذا الوجه فهو فاسق إذا كان بغير حق وتنتقل الولاية عنه وهذا هو النوع الأول من الأنواع التي تنتقل عنهم الولاية. النوع الثاني ذكره المؤلف بقوله: (أو لم يكن أهلاً) إذا لم يكن أهلاً فإن الولاية تنتقل عنه والولي يصبح ليس أهلاً إذا اختل شرطاً من الشروط المتقدمة كأن يكون صغيراً أو مجنوناً أو فاسقاً أو كافراً، إذا اختل أي شرط من هذه الشروط المتقدمة التي اشترطها الفقهاء الذي وضعها في الولي صار ليس أهلاً للولاية ثم تنتقل بسبب ذلك الولاية عنه إلى من بعده. النوع الثالث: أشار إليه رحمة الله تعالى بقوله: (أو غاب غيبة منقطعة)

إذا غاب غيبة منقطعة فإن الولاية تنتقل عنه لكن الفقهاء اختلفوا في ضابط الغيبة المنقطعة على أقوال: القول الأول: هو الذي ذكره الشيخ موسى هنا فيقول الشيخ لا تقطع إلى بكلفة ومشقة هذا هو التعريف الأول للغيبة المنقطعة، هي أن يسافر الولي سفراً لا يبلغ معه إلى بكلفة ومشقة، وهذا هو مذهب الحنابلة. القول الثاني: أن يكون بحيث لا يمكن أن يكاتب أو يمكن أن يكاتب لكن لا يجيب. القول الثالث: أن يسافر مسافة قصر إذاً كل ولي يسافر مسافة قصر سقطت ولايته على هذا القول. القول الرابع: أن يتغيب غيبة تُستَغب معها المرأة يعني يدخل عليها الضرر بسبب هذا الغياب. القول الأخير: أن يغيب غيبة ينصرف معها الكفء المرغوب يعني يوجد كفء راغب في الزواج لكن بسبب غيبة الولي قد ينصرف لأنه لن ينتظر حينئذ نعتبر هذه الغيبة غيبة منقطعة. ولا يشترط في الغيبة المنقطعة أن تكون مع السفر فلو استتر في البلد وترتب على استتاره إغرار بالمرأة أو ذهاب الكفء الخاطب فإنه يعتبر غاب غيبة منقطعة. أرجح الأقوال القول الرابع لأنه أشمل الأقوال إذا غاب الولي غيبة يدخل الضرر معها على المرأة انتقلت الولاية عنه إلى من بعده لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (لا ضرر ولا ضرار) وهذا الضابط كما قلت أرجح مما ذكره المؤلف رحمه الله. قال المؤلف ـ رحمه الله ـ: (زَوجّ الأبعد) هذا الحكم في الصور الثلاث إن عضل، أو فقد الأهلية، أو غاب غيبة منقطعة، انتقل إلى الأبعد ومقصود المؤلف بالأبعد هنا يعني الذي يليه مباشرة فإذا سافر الأب انتقلت الولاية إلى الأبعد وهو أبناء العم أو إلى من يليه مباشره وهو من؟ الجد عند الحنابلة والابن على القول الثاني على ما سبق تفصيله. والقول الثاني: أنه إذا وجدت أحد الأسباب الثلاثة فان الولاية تنتقل مباشرة إلى السلطان لأن النبي صلى الله عليه وسلم يقول: " السلطان ولي من لا ولي له" وهذه لا ولي لها باعتبار وجود المانع. واستدلوا أيضاً بوجود المانع يجعل الموجود كالمعدوم كأنه مات.

والراجح البين الرجحان أنه ينتقل إلى من بعده والسبب في ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم يقول: "السلطان ولي من لا ولي له" وهذه لها ولي وهو الثاني في الدرجة بعد الأب إن كان الأب هو الذي عضل إذاً نقول تنتقل لمن بعده ولا تنتقل إلى السلطان لأن هذا هو معنى الحديث فالسلطان لا يكون ولي أي امرأة لها ولي. قال المؤلف ـ رحمه الله ـ: (إذا زوج الأبعد أو زوج أجنبي بغير عذر لم يصح) إذا زوج الأبعد أو زوج أجنبي بغير عذر لم يصح إلى هذا ذهب كثير من أهل العلم أنه إذا اعتدى الأبعد وزوج فان النكاح لا يصح. واستدلوا على هذا بقول النبي صلى الله عليه وسلم: "أيما امرأة نكحت نفسها بغير إذن وليها فنكاحها باطل باطل باطل" وهو حيث صحيح فدل الحديث على أنه إذا لم يلي التزويج الولي المعين من قبل الشارع فإن العقد يكون باطلاً. والقول الثاني: أن العقد صحيح لكنه موقوف على رضا من له الحق وهو الولي الأول أو صاحب المرتبة الأولى. واستدلوا على هذا أن النبي صلى الله عليه وسلم لما جاءته البكر التي زوجها أبوها بغير رضا جعل لها الخيار. والراجح مذهب الحنابلة، والسبب في الترجيح أن الاستدلال بالحديث الثاني الذي استدل به أصحاب القول الثاني لا يستقيم لسببين: السبب الأول: أنه تقدم معنا أن هذا الحديث ضعيف وأن الأئمة أعلوه بالإفساد. والسبب الثاني: أن النبي صلى الله عليه وسلم اثبت لها الخيار لا لاختلال الولي وإنما لاختلال الرضا لأنها تقول زوجني أبي بغير رضا إذاً الشرط الذي اختل ليس عدم وجود الولي وإنما عدم وجود الرضا ولهذا الاستدلال به لا يستقيم، فالراجح إن شاء الله مذهب الحنابلة، فإذا اعتدى أحد الأولياء ظلماً وزوج المرأة بغير رضا الولي الأول فإن الحكم إعادة النكاح فيعقد من جديد سواء رضي بالزوج أم لم يرضى يجب أن يعاد النكاح لاختلال شرطه الأهم وهو وجود الولي غير الشرعي. قال المؤلف ـ رحمه الله ـ: (الرابع الشهادة)

الشرط الرابع: الشهادة ذهب الحنابلة والشافعية والأحناف إلى أن الإشهاد في النكاح شرطاً من شروط الصحة فإن لم يُشهد بطل العقد إلا أن بين الأحناف والحنابلة والشافعية خلاف بسيط وهو أن الشافعية يقولون أن الإشهاد ركن وليس بشرط، والحنابلة والأحناف يقولون أنه شرط لكن لا قيمة لهذا الخلاف لأن الجميع يرى أن العقد إذا فُقد الإشهاد باطل إذاً ليس هناك محصلة في تسميته ركن أو تسميته شرط. استدل الجمهور بأدلة: الدليل الأول: قوله صلى الله عليه وسلم: (لا نكاح إلا بولي وشاهدي عدل) وهذا الحديث ضعفه الإمام أحمد وضعفه أيضاً الإمام ابن المنذر بل ذهب عدد من المحققين إلى أنه لا يصح في الإشهاد حديث ثابت عن النبي صلى الله عليه وسلم وهذا صحيح أنه ليس في السنة يعني من الأحاديث الصحيحة ما يدل أبداً على اشتراط وجود الشهود في صحة النكاح على كل حال هذا هو الدليل الأول. الدليل الثاني: أنه روي عن عمر وابن مسعود وغيره من أصحاب النبي عليه الصلاة والسلام اشتراط الشهادة في النكاح. الدليل الثالث: أن في الإشهاد حفظاً لحق الولد لئلا يجحد الوالد نسب ابنه بأي سبب من الأسباب، فالإشهاد يثبت العقد. القول الثاني: وهو رواية عن الإمام أحمد وينسب إلى المالكية أن الإشهاد ليس بواجب، وإنما الواجب الإعلان فإذا أعلن صح العقد أشهد أو لم يُشهد. ويستدل على هذا بأدلة: الدليل الأول: أن النبي عليه الصلاة والسلام أعتق صفية رضي الله عنها وأرضاها وجعل العتق صداقها وتزوجها ولم ينقل أنه أشهد. الثاني: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال للرجل الذي طلب الزواج ملكتكها بما معك من القرآن ولم ينقل أنه أشهد. الثالث: أنه لا يوجد دليل على الإشهاد فالدليل عدم الدليل وتقدم معنا أن عدد من الأئمة يرى أنه لا يصح في الباب حديث ثابت عن النبي صلى الله عليه وسلم. القول الثالث: أن الواجب إما الإعلان أو الإشهاد، إذا وجد الإعلان أو الإشهاد كفى، وهذا القول رواية عن الإمام أحمد واختاره الشيخ الفقيه ابن حزم رحمه الله.

واستدل على هذا بأن الشارع الحكيم إنما أراد خروج العقد من السفاح إلى النكاح وهو يحصل بالإعلان الذي هو نقيض نكاح السر الذي يسمونه نكاح السر فإذا حصل الإعلان حصل مقصود الشارع والإشهاد نوع من الإعلان. والراجح إن شاء الله مذهب ابن حنبل أن الواجب إما الإعلان أو الإشهاد، إلا أنه فقط يتنبه إلى مسألة يتوقف فيها شيخ الإسلام وهي: ما إذا حصل عقد النكاح مع الإشهاد سراً فهنا الإعلان فقد والإشهاد وجد لكن الإشهاد سراً فهذا توقف فيه شيخ الإسلام وهو فعلاً محل توقف فيجب وجوباً تجنب عقد النكاح السري ولو مع الإشهاد، فإذا أراد الإنسان أن يكتم نكاحه لسبب أو لآخر فإنه لا يجعله سراً بالنظر لجميع الأطراف يمكن أن يكون سر لمن لا يريد أن يطلع عليه كزوجته أو غيرها لكن يُطلع عليه عدداً بأن يصنع وليمة ويدعوا إليها بعض الناس الذين يريد أن يدعوهم ليحصل الإعلان لأنه في الحقيقة وجود النكاح السري المتكتم عليه ولو مع وجود الإشهاد محل نظر كبير لأن الشارع لا يريد الإشهاد بقدر ما يريد الإعلان، فالإعلان أهم من الإشهاد فيتنبه الإنسان إلى هذه المسألة، لما قرر الشيخ الإشهاد انتقل إلى شروطه.

نريد أن ننبه إلى تنبيه وهو أنهم يقولون أن المالكية يرون أن الإشهاد كما ذكرت لكم حكمه أنه سنة وبالنظر في كتب المالكية نجد أن لهم تفصيل آخر هم يقولون: أن الإشهاد عند العقد سنة يعني لا يجب أن يُشهد عند العقد لكن يجب ألا يدخل بالمرأة إلا وهو أشهد إذاً عندهم سعه في تأخير الإشهاد إلى مرحلة الدخول لكن لا يجوز أن يدخل إلا بعد أن يشهد فإن دخل قبل أن يشهد فالنكاح عندهم فاسد، وعليه أن يفسخ هذا النكاح، الفرق بينهم وبين الجمهور أن العقد عند الجمهور إذا عُقد بدون إشهاد لا ينعقد أصلاً أما عند المالكية فينعقد ويصح فإن لم يشهد قبل الدخول فسخ العقد فبينهما فرق لكن في النتيجة المحصلة واحدة وهو لاشك بينهما فرق أساسي لأن المالكية يصححون العقد لكن في النتيجة يكون الأمر واحد لأنه إن لم يشهد صار النكاح باطلاً، لذلك يجب أن نتنبه إلى هذا وأنه لا يصلح أن نقول المالكية يرون أن الإشهاد سنة ونطلق، هذا غير صحيح يجب أن نعطي المذهب حقه لأنهم يرون أنه واجب قبل الدخول. يقول المؤلف ـ رحمه الله ـ في بيان الشرط: (فلا يصح إلا بشاهدين) اتفق الأئمة الأربعة على أنه لا يكتفى بواحد بل لابد من شاهدين لما في الحديث (وشاهدي عدل) فإن شهد واحد فإنه لا يجزئ ونحن نتحدث الآن عن العدد لا عن الذكورية والأنوثه وهذه مسألة أخرى نحن نتحدث عن العدد فالعدد لا يجوز أن يقل عن اثنين باتفاق الأئمة الأربعة. قال المؤلف ـ رحمه الله ـ: (عدلين) اتفق الأئمة الثلاثة مالك وأحمد والشافعي على أن العدالة شرط لصحة الشهادة. واستدلوا على هذا بأن الشهادة نوع من الولاية والولايات الشرعية يشترط فيها العدالة وأن لا يكون فاسقاً والمقصود بالعدالة هنا يعني الظاهرة. القول الثاني للأحناف: أن العدالة ليست بشرط بل تصح شهادة الفاسق. واستدلوا على هذا أن الأدلة الآمرة بالإشهاد ليس فيها اشتراط العدالة. قال المؤلف ـ رحمه الله ـ: (ذكرين) يعني أنه يشترط أن يكون الشهود من الذكور فيها احتمال نقول ذكرين، ذهب الأئمة الثلاثة لاشتراط الذكورية وهم مالك وأحمد وأبو حنيفة. واستدلوا بأمرين: الأول: أحاديث ضعيفة جداً.

الثاني: أن الزهري قال: (مضت السنة أن لا تقبل للنساء شهادة في النكاح والطلاق والحدود). القول الثاني: للأحناف نَفَسُهم في باب النكاح مع النساء جيد يعني من وجهت نظرهم جيد ولذلك هم يقولون ممكن يشهد رجل وامرأتان لأن هذه الشهادة لا تتعلق بالمال ولا يوجد مانع من شهادة النساء. ثم جاء ابن حزم صاحب القول الثالث يوسع المسألة أكثر فقال: يجوز أن تشهد أربع نسوة فتخلوا الشهادة من الذكور تماماً وأيضا لعدم وجود دليل مانع وابن حزم رجل ظاهري إذا لم يوجد دليل نص فالأصل أن الكل تُقبل شهادتهم. في الحقيقة الأقرب من حيث الأدلة مذهب ابن حزم إذ لا يوجد ما يمنع من شهادة أربع نسوة لولا الأثر المروي عن الزهري فإن صح هذا إلى الزهري فلا كلام أنه يجب أن يكون الشهود من الذكور ولا دخل للنساء لأنه يقول مضت السنة وهو إمام إذا قال هذه الكلمة فهو يعنيها مضت السنة ألا تقبل شهادة النساء في النكاح والطلاق والحدود فإن صح هذا إلى الزهري الإمام الكبير فإن الراجح مذهب الجمهور من الأئمة وإن لم يصح فالراجح مذهب ابن حزم وليس مذهب الأحناف، لا نشترط وجود ذكر لكن في الغالب راح يكون هذا الأثر صحيح باعتبار أن الأئمة الثلاثة اعتمدوا عليه فالحقيقة لم أراجع الإسناد إلى الزهري لكن يغلب على ظني أنه إن شاء الله ثابت باعتبار أن الأئمة استدلوا به. قال المؤلف ـ رحمه الله ـ: (مكلفين) ذهب الأئمة الأربعة إلى اشتراط التكليف والتكليف هو أن يكون الشاهد بالغ وعاقل أما اشتراط العقل فكما هو مذهب الأئمة الأربعة فهو مذهب بالإجماع بجميع أهل العلم لأن المجنون ليس أهلاً للشهادة ولا يتحمل تحملاً يؤدي معه الأداء الصحيح وأما البلوغ فكما قلت لكم هو مذهب الأئمة الأربعة. والقول الثاني: أن من قارب البلوغ وهو عاقل تقبل شهادته.

الجمهور استدلوا على اشتراط البلوغ بأن الإنسان قبل أن يبلغ تحت ولاية غيره ونحن قلنا أن الشهادة نوع من الولاية وإذا كان تحت ولاية غيره فكيف يتولى على غيره هذا تعليل الجمهور، في الحقيقة كلام الأئمة الأربعة وجيه لاسيما في مثل هذا العقد المهم الحساس، ينبغي أن لا يشهد عليه من لم يبلغ وإنما يكتفى بالشهادة على النكاح من قبل البالغين، لكن لما علمت هذه المسألة ليس فيها أدلة نص يعني من الكتاب أو السنة فإنه يتوجه أنه إذا تم العقد بشهادة اثنين لم يبلغا أنه لا نحكم بفساد العقد وإن رجحنا وجوب البلوغ وأن مذهب الأئمة الأربعة صحيح لكن إذا وقع الأمر حينئذ نقول العقد صحيح لأمرين: الأول: لا يوجد دليل على اشتراط البلوغ صريح. الثاني: أن أصل وجوب الشهادة ليس بقوي فإذا جمعت بين الأمرين لا تكاد تشك أنه إذا عقد الأمر النكاح وشهد عليه اثنان لم يبلغا وقاربا البلوغ فإنه يصحح العقد ومن خلال الخلاف السابق تعلم أنه لم يقل أحد من الفقهاء بتصحيح شهادة الصبي الصغير الذي لم يميز أو الذي ميز قريبا كأن يكون له سبع سنوات أو ثمان سنوات هذا لا أعلم أحد من أهل العلم صحح شهادة هذا الطفل إنما الخلاف في الرجل الذي قارب البلوغ وهو عاقل ويفهم هذا الخلاف فيه كما سمعت. قال المؤلف ـ رحمه الله ـ: (سميعين) يشترط في الشهود أن يكون لديهم حاسة السمع وهذا الشرط باتفاق الأئمة الأربعة ودليلهم ظاهر جداً لأن المشهود عليه هنا قول والقول إنما يسمع سماعاً إذا لم يكن يسمع فعلى ماذا يشهد ولهذا اتفق الأئمة الأربعة على هذا الحكم. قال المؤلف ـ رحمه الله ـ: (ناطقين) ذهب الجمهور إلى أن الأخرس لا تصح شهادته ودليلهم أيضاً ظاهر وهو عدم تمكنه من أداء الشهادة عند الحاجة إليها. وإلى هذا ذهب الشافعية والأحناف والحنابلة وهم الجمهور.

القول الثاني للمالكية: وهو قول للحنابلة أنه يصح إذا تمكن من أدائها كتابة وفي الحقيقة الحنابلة هم الذين قالوا مسألة الكتابة، والمالكية عندهم إطلاق فيما رأيت قالوا تصح شهادة الأخرس مطلقاً لكن يبدو لي أن مقصودهم يعني إذا أداها كتابةً وهذا القول الثاني صحيح إذا كان لا يتكلم ولكنه يسمع فإنه إذا كان سميع لكنه أخرس فان شهادته صحيحة لأنه إذا طُلب منه أن يؤديها سيؤديها كتابةً. ومن هنا علمنا أن الأخرس الذي لا يحسن الكتابة لا تصح شهادته عند الأئمة الأربعة وعلمنا أيضاً من خلال تعليل الحنابلة والمالكية أن الأخرس الذي يتكلم بالإشارة تصح شهادته لأنه سيؤدي الشهادة بالإشارة ومن يحسن الإشارة من الناطقين ينقل شهادته إذاً الضابط أن الأخرس إذا استطاع أن يؤدي الشهادة بالكتابة أو بلغة الإشارة فان شهادته صحيحة. انتقل المؤلف إلى موضوع آخر. قال المؤلف ـ رحمه الله ـ: (وليست الكفاءة ... ) انتهى المؤلف من شروط صحة النكاح ثم أراد أن ينبه إلى شرط الكفاءة وهو شرط عند بعض أهل العلم أراد أن ينبه إلى الأحكام المتعلقة بهذا الشرط. فالكفاءة لغة: المساواة. وشرعاً: مساواة الزوج للزوجة في الدين والنسب. وقولنا في التعريف في الدين والنسب يعني على ما مشى عليه المؤلف أما الصفات التي يطلب فيها التساوي لتحقيق المكافأة أو لتحقيق التكافؤ فهي مختلف فيها بين الفقهاء كما سيأتينا لكن نحن نريد أن نعطي تعريف عام للكفاءة. قال المؤلف ـ رحمه الله ـ: (ليست الكفاءة شرطاً) ذهب الجمهور من أهل العلم، عامة أهل العلم إلى أن الكفاءة ليست من شروط الصحة وإن كانت من شروط اللزوم فهي ليس من شروط الصحة لكنها من شروط اللزوم ويترتب على هذا أن العقد على رجل ليس مكافئ للمرأة صحيح إلا أن للأولياء الحق في الفسخ إذاً يجب أن نتصور مذهب الجمهور تماماً قبل أن ننتقل إلى الأقوال والأدلة إذاً ليس شرط صحة ولكنه شرط لزوم نحتاج أدلة لطرفي القول. الدليل الأول: على أنه ليس من شروط الصحة أن النبي صلى الله عليه وسلم (زوج قرشية وهي فاطمة بنت قيس من أسامة بن زيد وهو مولى) والحديث في الصحيح.

الدليل الثاني: أن أبا حذيفة رضي الله عنه زوج سالماً من ابنة عمه هند وهي قرشية، هند هذه ابنة الوليد بن عتبة من صميم قريش وسالم مولى لامرأة من الأنصار. الدليل الثالث: ليس في النصوص الشرعية ما يدل على اشتراط المكافأة أو أن يكون كفأً التكافؤ. الدليل الرابع: مجموعة من الأحاديث لا يصح منها شيء تدل على عدم اشتراط الكفء صراحة. القول الثاني: أن كون الزوج كفء للزوجة شرط صحة يعني أنه من حقوق الله ليس من حقوق الآدميين فلو رضي الزوج والزوجة وجميع الأولياء الأقرباء من الطرفين لا يعني شيء والعقد باطل. واستدلوا بدليلين: الأول: قوله صلى الله عليه وسلم: "العرب بعضهم أكفاء لبعض والموالي بعضهم أكفاء لبعض" فالحديث قسم إلى قسمين ودل بمفهومه أن غير العربي ليس كفء للعربي وهذا الحديث قال عنه أبو حاتم: (هذا كذب وباطل). الدليل الثاني: قالوا أن عمر بن الخطاب قال على ملأ من الناس لأمنعن تزويج الحسيبات إلا من الأكفاء وهذا الأثر ضعيف. وأنا أقول من عندي حاشا لله أن يقول أمير المؤمنين عمر هذا الكلام أبداً وهو يرى أن النبي صلى الله عليه وسلم يزوج الموالي من القرشيات حاشاه أن يقول مثل هذا. القول الثالث: كون الزوج كفؤ ليس بشرط صحة ولا لزوم ليس بشرط مطلقاً وهو مذهب ابن حزم ومذهب لبعض الفقهاء استدلوا بأن الأحاديث المذكورة في القول الأول ليس فيها أن النبي صلى الله عليه وسلم أخذ رضا باقي الأولياء فدل على أن رضاهم غير معتبر.

والراجح إن شاء الله القول الثالث لأنه لا يوجد في السنة ما يدل على الاشتراط أضف إلى هذا وجود أحاديث تدل على عدم الاشتراط لكن من الحكمة بلا شك أنه إذا كان التزويج بغير الأكفاء يدخل الشقاق على كامل العائلة والحمولة ويؤدي إلى أضرار ومفاسد كبيرة أنا أقول من الحكمة وليس من الأحكام الشرعية ألا يقدم الولي على مثل هذا التصرف صيانة لاجتماع العائلة ولعدم دخول فساد على الأب والزوجة وربما على الأبناء وربما تطور الأمر إلى أكثر من هذا نعم صحيح على طالب العلم أن يبين أن هذه عصبية جاهلية ليست من الإسلام في شيء وأن ينور الناس ويفقههم في هذا الباب لكن هذا شيء واستخدام الأولياء الحكمة في التصرف أحياناً شيء آخر. قال المؤلف ـ رحمه الله ـ: (وليست الكفاءة وهي دين ومنصب وهو النسب والحرية) الكفاءة عند الحنابلة في أمرين فقط الدين والمنصب. المنصب عرفه الشيخ بقوله النسب والحرية نبدأ بالأول وهو الدين والمقصود بالدين يعني أن يساويها ديناً فالمقصود بالدين هنا الصلاح والاستقامة وقيل المقصود بالدين فعل الأوامر واجتناب النواهي وبين القولين تشابه شديد إلا أن القول الأول كأنه يتطلب مرحلة أو درجة من الصلاح أكثر من مجرد فعل الأوامر وترك النواهي بناءً على هذا لا يجوز أن يزوج التقية للفاجر لأن ليس بينهما تساوي في الدين ولا يجوز أن يزوجها للفاسق ولو لم يصل إلى مرحلة الفجور لأنه ليس بينهما تساوي في الدين. والقول الثاني: أن الدين ليس شرطاً في التزويج وعلى القول الثاني العمل، فالآن الناس يزوجون المرأة وإن كانت صالحة لرجل وإن كان فاسقاً والعقد صحيح وهو في الحقيقة لا يوجد ما يدل بطلان العقد إذا زوج الرجل ابنته الصالحة من رجل فاسق أو فاجر بغير الزنى لا يوجد ما يدل على البطلان لكن لاشك أن تزويج الإنسان ابنته الصالحة إلى رجل فاسق ليس من أداء الأمانة وقد يكون آثم في هذا الصنع أولاً لأنه لم يراعي مصلحة المرأة وثانياً وهو الأهم أنه يعرَّض المرأة إلى خلل في دينها بسبب طول الصحبة مع هذا الفاسق ويستثنى من هذا ظروف معينه وملابسات خاصة تكون المصلحة في التزويج لكن في الأصل أنه ليس من أداء الأمانة أن يزوجها للفاسق.

قال المؤلف ـ رحمه الله ـ: (ومنصب وهو النسب) النسب تقدم معنا أنه من شروط الكفاءة والخلاف المتقدم ينصب في الحقيقة على النسب والأدلة التي ذكرت تدل على عدم اشتراط النسب ومما يدل على قوة القول بأن اشتراط النسب لا تدل عليه الأدلة مع الأحاديث التي تقدمت قوله تعالى: {إن أكرمكم عند الله اتقاكم} فجعل الكرامة والمنزلة إنما هي بالتقوى وليست بالنسب وكما أن قوله تعالى: {وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا} يدل على هذا. وجه الاستدلال أن الله تعالى ذكر في الآية أن الحكمة من جعلهم شعوب وقبائل أن يتعارفوا لا أن يتفاخروا ومنع تزويج غير النسيب هو من باب التفاخر إذاً هاتان الآيتان تدلان على قوة ما تقدم من أنه لا يشترط الكفاءة في النسب. قال المؤلف ـ رحمه الله ـ: (والحرية) الحرية شرط عند الجمهور واستدلوا بدليلين: الأول: أن النبي عليه الصلاة والسلام خير بريره لما أعتقت وبقي زوجها عبداً. الثاني: أن العبد ينقص درجة كثيرة عن الحرة ويدخل عليها الأذى بسبب أن العبد سيكون مشغولاً بمصالح سيده عن حقوق زوجته. والقول الثاني: أن الحرية لا تشترط فيجوز أن نزوج الحرة للعبد والأقرب أنه شرط لزوم لا صحة فإن حديث بريره فيه التخيير وليس فيه الفسخ ونحن نقول نبقى مع هذا الحديث النبوي ونقول هو شرط لزوم والقول بأنه شرط لزوم قوي في الحقيقة لأنه صحيح أن العبد مشغول بمنافع سيده وخدمته عن حقوق الزوجة ويدخل عليه الضرر. ((الأذان)) قال المؤلف ـ رحمه الله ـ: (شرطاً في صحته) يعني وليست الكفاءة شرطاً في صحته لكنه أراد أن يبين أنها شرط لزوم فقال يتقدم شرط أنه هل هي شرط في الصحة أو لا؟ يقول: فلو زوج الأب عفيفة بفاجر أو عربية بأعجمي فلمن لم يرضا من المرأة أو الأولياء الفسخ. إذا زوج الرجل موليته من غير الكفء صح العقد وثبت الخيار للمرأة وباقي الأولياء وأفادنا المؤلف أن جميع الأولياء وليس صاحب المرتبة الأولى في الولاية فقط بل لجميع الأولياء حق الفسخ ولو كان الولي الأول راض، فإذا زوج الأب ابنته من رجل فلأخيه وابنه ولكل الأولياء حق الفسخ إذا لم يرضوا بهذا الرجل من حيث الكفاءة.

(باب المحرمات في النكاح)

واستدل الحنابلة على هذا بأن الضرر والضيم يدخل عليهم جميعاً، ودخول ضرر يثبت الحق في الفسخ. القول الثاني: أنه ليس لكل الأولياء الحق في الفسخ إنما الحق فقط للولي الأول وهو صاحب الولاية الشرعية. واستدلوا على هذا بأن إذن الباقين غير معتبر فاعتراضهم كذلك لا يعتبر، واستدلوا بأن الله تعالى جعل الولاية لهذا الرجل وأناط به الحكم فقوله هو المعتبر. والراجح إن شاء الله القول الثاني لأن مذهب الحنابلة وهو القول الأول يؤدي إلى نوع من الفوضى فكل واحد من الأولياء لم يرض بهذا الزوج لأي سبب كان ذهب يبحث عن اختلال شرط الكفاءة في الدين أو في النسب أو في الصفات الأخرى التي ذكرها الفقهاء كالصنعة وتطلب هذا الأمر إلى أن يبطل النكاح. مادام الشارع جعل الولاية لهذا الأول فهو المفوض في الرضا وعدم الرضا. بهذا انتهى الباب الأول وننتقل إلى باب المحرمات. قال المؤلف ـ رحمه الله ـ: (باب المحرمات في النكاح) باب المحرمات في النكاح باب مهم ومفيد ليعرف الإنسان من يجوز أن يتزوج ومن لا يجوز والمحرمات تنقسم إلى قسمين: محرمات إلى الأبد ومحرمات إلى أمد. والمحرمات إلى الأبد له أقسام: بدأ المؤلف بالقسم الأول وهو المحرمات بالنسب، وبدأ الشيخ بالمحرمات بالنسب لأنهن أشد المحرمات تحريماً لشدة القرب من الرجل، والمحرمات من النسب سبع نساء ذكرن بالآية: {حرمت عليكم أمهاتكم وبناتكم وأخواتكم وعماتكم وخالاتكم وبنات الأخ وبنات الأخت}، يظهر لي من ترتيب الآية أن القرآن بدأ بالأقرب فالأقرب أليس كذلك؟ بناءً على هذا تثبت الآية أن العمة أقرب من الخالة وهذا نستفيد منه ليس في باب النكاح فقط لكن نستفيد منه في صلة الرحم إذا كانت الآية هذا ترتيبها إذاً نقول أن العمة أكثر في صلة الرحم من الخالة، والخالة لها صلة رحم بالإجماع قوية لكن نقول يلمس من الآية وتأكد هذا بأن الشارع بدأ بتحريم بنات الأخ قبل بنات الأخت مما يؤكد هذا المعنى وأن أقرباء الرجل أقرب. هذا والله أعلم وصلى اللهم وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. - ((انتهى الدرس)).

الدرس: (5) من النكاح قال شيخنا حفظه الله: بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين. بالأمس تحدثنا عن أول باب المحرمات من النساء وقبل أن أكمل أحب أن أنبه إلى مسألة تتعلق بمسألة الكفاءة وأن الحنابلة يرون أن لباقي الأولياء الفسخ إذا لم يرضوا. تحدثنا عن هذه المسألة والخلاف فيها. الشيء الذي أحب أن أضيفه هو أن هذا الخلاف في كون الأولياء لهم الحق في الفسخ أو عدمه إنما هو إذا وقع العقد والزوج ليس من الأكفاء. أما إذا تزوجت المرأة بالكفؤ ثم بعد ذلك أصبح ليس من الأكفاء فهنا عند الحنابلة وغيرهم ليس للأولياء حق الفسخ وإنما الذي له حق الفسخ في هذه الصورة فقط الزوجة. وهذا فيما إذا كان من الأكفاء ثم أصبح بعد ذلك من غير الأكفاء. وهذه المسألة ضرورية ولابد من التفريق بين الصورتين. ونعود إلى الكلام عن المحرمات من النساء ... تقدم معنا أن المحرمات على نوعين: ـ محرمات على سبيل التأبيد. ـ ومحرمات إلى أمد. وأن المؤلف - رحمه الله - بدأ بالمحرمات على سبيل التأبيد وأنهن أقسام. وبدأ المؤلف - رحمه الله - بالمحرمات نسباً لأنهن أشد أنواع النساء تحريماً وبدأ بأشد المحرمات نسباً وهي الأم. والمحرمات بالنسب تقدم أنهن في كتاب الله سبع نسوة معدودات محصورات: {حرمت عليكم أمهاتكم وبناتكم وأخواتكم وعماتكم وخالاتكم وبنات الأخ وبنات الأخت ... } [النساء/23] فهذه سبع نساء هن المحرمات. قال المؤلف ـ رحمه الله ـ: تحرم أبداً: الأُم، وكل جدة وإن علت. الأم والجدة من المحرمات في باب النكاح. ودليل هذا ظاهر وهو: قوله: {حرمت عليكم أمهاتكم}. وأم الأم: أم وإن كانت تسمى جدة إلا أنها في الشرع أيضاً: أم. والأم في الشرع واللغة والعرف هي: المرأة التي ولدتك. سواء كانت ولادة حقيقة وهي الأم المباشرة. أو ولادة مجازية وهي التي ولدت من ولدتك. إذاً: هذه هي الأم المرادة بالتحريم. ومن المعلوم إن شاء الله أن تحريم الأم محل إجماع والقرآن واضح الدلالة عليه ولا إشكال فيه. قال المؤلف ـ رحمه الله ـ: والبنت وبنت الإبن وبنتاهما.

تحرم: ـ البنت. ـ وبنت الإبن. ـ وبنتاهما: يعني: بنت البنت. وبنت بنت الابن. هؤلاء أربع نسوة. لكنه ختم هذا: قال المؤلف ـ رحمه الله ـ: وإن سفلت. إذاً: بنت البنت. وبنت ابن البنت وإن سفلت محرمات على الإنسان. ودليلها أيضاً واضح وهو: قوله تعالى: {وبناتكم}. فالبنت بالإجماع والنص فلا يجوز للإنسان أن يتزوج من ابنته. وهذا الأمر أوضح من أن ينبه عليه ولكنه أراد أن يذكر المحرمات في القرآن. قال المؤلف ـ رحمه الله ـ: من حلال وحرام. أفادنا المؤلف - رحمه الله - أن البنت وإن كانت من زنا فهي محرمة على أبيها يعني - ولابد أن نقول يعني: - الزاني. وإلى هذا ذهب الجماهير. فذهبوا إلى أن البنت من الزنا محرمة على أبيها وهو: الزاني. واستدلوا على هذا بدليلين: - الأول: أن هذه البنت مخلوقة من ماء الرجل فهي في الواقع والحقيقة ابنة له. - الثاني: القياس على مسألة أجمع عليها وهي: تحريم الأم على ابنها من الزنا. فاستدل الجمهور بهذين الدليلين وذهبوا إلى تحريم ابنة الزنا. = والقول الثاني: وهو للإمام الشافعي. فهو يرى جواز الزواج بابنته من الزنا. واستدل على هذا بدليلين: - الأول: أن هذه البنت لا تنتسب إليه شرعاً. - الثاني: أن هذه البنت التي جاءت من الزنا - والعياذ بالله - ليست من أولاده بدليل: أنها لا تدخل في آية المواريث بالإجماع. فلذلك ذهب - رحمه الله - إلى أنه لا تحرم بنت الزنا ولكن مع ذلك قال: أن الزواج بها مكروه. وهذا من الإمام الشافعي مبني على أصله الذي تقدم معنا مراراً وهو الأخذ بظاهر الحال. فالظاهر أن هذه شرعاً ليست ابنته وإذا لم تكن ابنته في ظاهر الشرع جاز له أن يتزوجها لعدم وجود المانع الشرعي. مذهب الإمام الشافعي في الحقيقة ضعيف - أو ضعيف جداً. لأنه يستقيم مطلقاً النظر للظواهر وترك الحقائق. وهذه البنت لا شك أنها من مائه فكيف يجيز له أن ينكحها. والقياس على ولد المرأة من الزنا قياس جلي إذ لا فرق بينهما كذلك ولد المرأة من الزنا ليس بابن لها ولذلك نقول إن شاء الله ما ذهب إليه الإمام أحمد والإمام مالك والإمام أبو حنيفة وغيرهم من أهل العلم هو الصواب إن شاء الله وهي محرمة ولا تجوز مطلقاً للأب.

قال المؤلف ـ رحمه الله ـ: وإن سفلت. يعني: وإن نزلت. وتقدم معنا الكلام عنه: بنت البنت - وبنت بنت الابن. قال المؤلف ـ رحمه الله ـ: وكل أُخت. يقصد بـ: (كل) يعني: سواء كانت شقيقة أو لأم أو لأب. والدليل على التحريم: الآية. فالآية نصت على تحريم الأخوات. فالأخوات لا يجوز للإنسان أن يتزوج بهن ولا أن ينظر إليهن نظر شهوة وهذا لا إشكال فيه وهو كما محل إجماع. قال المؤلف ـ رحمه الله ـ: وبنتها. يعني: بنت الأخت محرمة، لقوله تعالى: {وبنات الأخت}. فبنت الأخت محرمة على الإنسان ولا يجوز له أن ينكحها للنص الصريح في كتاب الله. قال المؤلف ـ رحمه الله ـ: وبنت ابنتها. يعني: بنت بنت الأخت. أيضاً محرمة: - لأن بنت بنت الأخت هي في الواقع: بنت الأخت. والمؤلف - رحمه الله - ترك مسألة/ ولعله يرى أنها ظاهرة وهي: بنت ابن الأخت. فهو يقول: بنت بنت الأخت باقي عليه: بنت ابن الأخت. فبنت ابن الأخت تعتبر من بنات الأخت أيضاً. ولذلك لو قال المؤلف - رحمه الله -: (وبنات أولادها) لانتهى الإشكال. إذاً بنت الأخت وبنت وبنت الأخت وبنت ابن الأخت كلهم يدخل صراحة في الآية. وهو أيضاً أمر مجمع عليه. قال المؤلف ـ رحمه الله ـ: وبنت كل أخ. أيضاً: (كل) هنا تشير إلى الأخ الشقيق ولأب ولأم. وأرى أن المؤلف - رحمه الله - لو قدم بنت الأخ على بنت الأخت لكان أوفق وأحسن. لماذا؟ ليطابق الآية. بنات الأخ: صرح القرآن بتحريمهن. وهن محرمات بالإجماع. وما يقع من وهم عند بعض العوام الذين هم بعيدين عن العلم تماماً أن بنت الأخ تجوز وهم فاحش ولا يقع فيه إلا إنسان ربما لم يقرأ القرآن مطلقاً. ولذلك هو يقع من أناس مغرقين في الجهالة والبعد عن أحكام الشرع لأن هذا الحكم موجود في القرآن. قال المؤلف ـ رحمه الله ـ: وبنتها. يقصد: (بنتها) يعني: بنت بنت الأخ. فبنت بنت الأخ هي في الواقع بنت للأخ. ولذلك فهي: أيضاً داخلة في الآية وهي محرمة بالإجماع. قال المؤلف ـ رحمه الله ـ: وبنت ابنه. يعني: بنت ابن الأخ. فبنت ابن الأخ هي في الواقع بنت للأخ وهي داخلة أيضاً في الآية وتحريمها ظاهر ومجمع عليه. قال المؤلف ـ رحمه الله ـ: وبنتها وإن سفلت.

يعني: بنت بنت ابن الأخ، فهذه من بنات الأخ. وطول السلسلة لا يمنع من نسبتها للأخ. فإذاً: كل بنت تنزل عن الأخ من بنات بناته أو بنات أبنائه فهي محرمة وهي داخلة في الآية. قال المؤلف ـ رحمه الله ـ: وكل عمة وخالة وإن علتا. العمة والخالة: محرمات: بنص الآية. وأيضاً هن محل إجماع، فالعمة والخالة محرمات. لكن نلاحظ أن المؤلف - رحمه الله - لم يقل: وبنتها وبنت بنتها وبنت بنت أخوها: لأن بنت العمة وبنت الخالة حلال. - لقوله تعالى: {وأحل لكم ما وراء ذلكم}. - ولأنه لا يوجد دليل على التحريم. ولذلك لاحظ أن المؤلف - رحمه الله - أطلق. فبنات العمة وبنات الخالة من النساء التي يجوز للإنسان أن يتزوج بهن. بهذا انتهى القسم الأول من المحرمات وننتقل إلى القسم الثاني وهي: الملاعنة. قال المؤلف ـ رحمه الله ـ: والملاعنة على الملاعن. ـ القسم الثاني: المحرمات باللعان. والمحرمة باللعان تحرم على زوجها الذي لاعنها. - لقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: (للملاعن ليس لك عليها سبيل). فالملاعنة محرمة على الزوج. * * مسألة/ فإن رجع الزوج وأكذب نفسه. فإن أكذب نفسه: = فالمذهب: أنها تظل محرمة عليه. ولا يجوز له أن يتزوجها ولو أكذب نفسه. ونقل بعض الحنابلة عن الإمام - رحمه الله - رواية أخرى أنه: من أكذب نفسه جاز له أن يعقد عليها من جديد لمن هذه الرواية اعتبرها كثير من الحنابلة رواية شاذة. لأن الحديث عام. لاسيما وأن الذي روى هذه الرواية قد ينقل في أحيان كثيرة ما يستغرب عن الإمام أحمد فإذا جمعت هذا مع هذا تبين لك أن حكم بعض الحنابلة عليها بالشذوذ صحيح. ـ القسم الثاني: إذا لم يكذب نفسه فإنه بالإجماع لا يرجع إليها. وإنما يوجد خلاف قال ابن قدامة وهو خلاف شاذ فالإجماع إن شاء الله محفوظ بالنسبة إذا لم يكذب نفسه. هذا ما يتعلق بالقسم الثاني. وهو فقط الملاعنة. ننتقل إلى القسم الثالث: قال المؤلف ـ رحمه الله ـ: ويحرم بالرضاع: ما يحرم بالنسب، إلاّ أُم أُخته وأُخت ابنه. ـ القسم الثالث: المحرمات بالرضاعة. يقول - رحمه الله -:ويحرم بالرضاع ما يحرم بالنسب.

الله سبحانه وتعالى صرح في القرآن بتحريم امرأتين بالرضاع فقط: {أمهاتكم اللاتي أرضعنكم} و {أخواتكم من الرضاعة} [النساء/23]. ولكن النص في القرآن على هاتين المرأتين لا يعني قصر الحكم عليهما. فإن أهل العلم أجمعوا على أن الحكم ليس مقصوراًَ على هاتين وإنما يمتد إلى جميع المحرمات بالرضاعة مما يقابلن المحرمات بالنسب. واستدلوا على هذا: - بالحديث الصحيح الثابت أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (يحرم من الرضاعة ما يحرم من النسب). فبالاستدلال بهذا الحديث وبالإجماع قاس العلماء باقي المحرمات من الرضاعة على المذكورات في الآية الكريمة. وبهذا عرفنا أن كل محرمة من النسب يقابلها محرمة من الرضاعة - وسيأتيتنا في كتاب الرضاعة تفصيل كثير حول هذا وما يستثنى والأشياء التي لا تستثنى والخلاف في بعض المحرمات بالرضاع سيأتينا إن شاء الله في ذلك الكتاب. إلا أن الشيخ المؤلف - رحمه الله - استثنى امرأتين وهذا الاستثناء من القاعدة هو وضع قاعدة يقول: يرم بالضراع: ما يحرم بالنسب. فاستثنى من هذا مسألتين: ـ الأولى: يقول: (إلا أم أخته). أم أخته من النسب: ـ إمام أن تكون أمه. ـ أو زوجة أبيه. إذاً: أم أخته من النسب: محرمة. لكن أم أخته من الرضاع ليست محرمة. معنى أم أخته من الرضاع لا كما يفهمه بعض الناس - معناها: يعني إذا كان لك أخت لها أم من الرضاع. وليس المعنى أم أخته من الرضاع - كما يفهمه كثير من إخواننا. إذاً: معنى أم أخته من الرضاع يعني: إذا كان لك أخت لها أم من ارضاع فهذه الأم لا تحرم عليك. وجه الاستثناء: أن أمها من النسب تحرم وأمها من الرضاع لا تحرم. إذاً: يجب أن نفهم كيف كان هذا استثناء من القاعدة العامة. ـ الثاني: أخت ابنه. أخت ابنك: ـ إما أن تكون ابنتك. ـ أو تكون ربيبتك. وفي الصورتين محرمات: ابنتك وابنة زوجة يعني ربيبتك محرمة. لكن أخت ابنك من الرضاع ليست محرمة عليك. يعني: إذا كان لابنك أخت من الرضاع فهي لا تحرم عليك. بينما ما يقابلها من النسب: محرم. ولهذا استثنى المؤلف - رحمه الله - هاتين المسألتين من القاعدة العامة.

هكذا ذكر المؤلف - رحمه الله - وغيره من الحنابلة. بينما ذهب جمهور عريض من العلماء إلا أنه لا حاجة لاستثناء هاتين المسألتين أصلاً لأنها لا تدخل في القاعدة لأن العلاقة بين هاتين المرأتين المحرمتين هي المصاهرة وليست النسب، فإذاً لا تدخل في القاعدة أصلاً. ولهذا اعتبروا استثناءها غير صحيح لأنها لم تدخل أصلاً. قال المؤلف ـ رحمه الله ـ: ويحرم بالعقد: زوجة أبيه. انتقل المؤلف - رحمه الله - إلى المحرمات بالمصاهرة. والمحرمات بالمصاهرة أربع: ـ ثلاث منهن يحرمن بمجرد العقد. ـ وواحدة لا تحرم إلا بالدخول. وجعلها المؤلف الأخيرة حتى يذكر المحرمات بمجرد العقد متسلسلات. قال المؤلف ـ رحمه الله ـ: ويحرم بالعقد: زوجة أبيه. قوله: (ويحرم بالعقد: زوجة أبيه) ظاهره: سواء كان بعد الدخول أو قبل الدخول. - لأن المرأة بعد العقد تعتبر من نساء الرجل فتدخل في الآية ولم تشترط الآية الدخول. يقول - رحمه الله - ويحرم بالعقد: زوجة أبيه.) يحرم بمجرد العقد زوجة الأب وأيضاً هذا منصوص عليه في القرآن بقوله: {ولا تنكحوا كا نكح آباؤكم من النساء إلا ما قد سلف}. فالآية نص بتحريم الزواج بمن عقد عليها الأب. ولهذا أصبحت هذه المسألة محل إجماع. قال المؤلف ـ رحمه الله ـ: وكل جد. الجد: كما تقدم معنا مراراً هو: أبو الأب وإن على، وهو في الشرع: أب. الآية التي نصت على تحريم نكاح ما نكح آباؤنا يدخل فيها الجد، والجد أيضاً: محل إجماع. قال المؤلف ـ رحمه الله ـ: وزوجة ابنه وإن نزل. زوجة الابن وإن نزل يعني: ابن الابن وابن الابن. زوجات هؤلاء جميعاً محرمات. - لقوله تعالى: {وحلائل أبنائكم الذين من أصلابكم}. فحليلة الابن محرمة بمجرد العقد على الأب. ودليل هذا القرآن ولهذا أصبحت هذه المسألة محل إجماع من الفقهاء. وكما ترى الشارع الحكيم فيما يتعلق بالنكاح تولى بيان الأمر بشكل واضح وغالب المسائل محل إجماع لأن هذه المسألة حساسة وهذا يعطي الإنسان أن عقد النكاح عقد اهتم به الشارع اهتماماً بالغاً والاحتياط له في الحقيقة واجب. قال المؤلف ـ رحمه الله ـ: دون بناتهن. يعني: دون بنت زوجة الأب. فبنت زوجة الأب حلال للإبن وهي: الربيبة.

ولهذا صرح هنا لعله لدفع التوهم صرح بعدم تحريم بنت زوجة الأب لأنها ربائب وليس بينها وبين ابنه من زوجة أخرى أي علاقة فهي تجوز ولا حرج في الزواج منها. وكما قلت هو في العمة والخالة لم يصرح بالنفي لكن هنا صرح بالنفي دفعاً للتوهم والإلتباس. قال المؤلف ـ رحمه الله ـ: وأُمهاتهن. يعني: أم زوجة الوالد وأم زوجة الولد. فأم زوجة الوالد إذا تزوج الأب بزوجة أمها حلال للإبن كما أن ابنتها حلال للابن كذلك أم زوجة الابن نفس الشيء حكمها أنها حلال للأب. - لأنه لا يوجد بينهم صلة. - ولا يوجد ما يدل على المنع، والأمر واضح وإنما صرح على حكمه دفعاً للتوهم. قال المؤلف ـ رحمه الله ـ: وتحرم: أُم زوجته وجداتها بالعقد. هذا: الثالث: مما يحرم بمجرد العقد والأخير، وهو: أم الزوجة: قال المؤلف ـ رحمه الله ـ: (وتحرم: أُم زوجته وجداتها بالعقد) يعني: بمجرد العقد. والدليل على تحريمها: - قوله: {وأمهات نسائكم}. وأم المرأة يطلق على أمها القريبة التي ولدتها وعلى من ولدت من ولدتها أو على التي ولدت من ولدتها وهي الجدة وإن علون. وتحريمهن أيضاً نص في الكتاب ومحل إجماع. قال المؤلف ـ رحمه الله ـ: وبنتها وبنات أولادها: بالدخول. هذا النوع الرابع. وهو: بنت الزوجة. وبنت ابنتها، لا تحرم إلا بالدخول. وهي: المرأة الوحيدة التي يشترط - يعني: من المحرمات بالمصاهرة - الوحيد التي يشترط لتحريمها مع العقد: الدخول. واستدلوا على هذا: - بقوله تعالى: {وربائبكم اللاتي في حجوركم من نسائكم اللاتي دخلتم بهن}. [النساء/23] فالآية نصت على اشتراط الدخول. * * مسألة/ نلاحظ أن الآية اشترطت مع الدخول: أن تكون في حجر الزوج. وهذه المسألة: نقول هي محل خلاف. - أي: في اشتراط هذا الشرط المنصوص عليه في الآية: خلاف. = فذهب الجماهير ومنهم الحنابلة - كما ترى في كلام المؤلف وغيرهم من أئمة المسلمين: إلى عدم اشتراط هذا الشرط. وقالوا: الربيبة تحرم على الزوج - يعني زوج الأم - بعد سواء كانت في حجره أو لم تكن كذلك. وأجابوا عن الآية: بأنها خرجت مخرج الغالب. لأن الغالب أن تكون ابنة الزوجة في بيت الزوج. - يعني ابنى الزوجة من غيره - في بيته. واستدلوا:

- بأن الآية فصلت في حكم الدخول فإن لم تكونوا دخلتم بهن فلا جناح عليكم ولم تفصل في اشتراط كون الربيبة في حجر الزوج. ففي هذا إشارة إلى أنه لا يشترط على سبيل الحقيقة. = القول الثاني: وهو مذهب ابن حزم. أنه يشترط. واستدل على هذا بأمرين ظاهرين: - الأول: الآية. فقال: الآية صريحة في اشتراط هذا الأمر. - والثاني: آثار عن أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم -. * * مسألة/ إذا اشترطنا أن تكون في حجر الزوج فبماذا يحصل تحقق أن تكون في حجره؟ = قال الظاهرية: يحصل بأمرين: ـ الأول: أن تكون البنت في بيته وتحت كفالته ورعايته. فهنا تسمى في حجره. ـ الثاني: أن لا تكون في بيته لكن يكون هو الذي يتولى مصالحها كأنه الولي. فإذا تحقق أحد الأمرين فهي في حجره. يتحقق الشرط عند الظاهرية. خلاصة الأمر: إذاً: أن الربيبة تحرم بشرطين: ـ أحدهما: مجمع عليه وهو الدخول. ـ والثاني: مختلف فيه وهي أن تكون في حجره. والأقرب والله أعلم: أنه لا يشترط. لأن ظاهر الآية يفيد هذا بعدم التفصيل فيه ولأن أئمة المسلمين قاطبة فهموا أن هذا القيد المذكور في الآية قيد خرج مخرج الغالب. قال المؤلف ـ رحمه الله ـ: فإن بانت الزوجة أو ماتت قبل الخلوة: أُبحن. تلاحظون أن المحقق - وفقه الله - أشار إلى نسخة أنها: (أو ما تت بعد الخلوة) وهذه النسخة لعلها هي الصواب. لأنه تحصل الفائدة من تنصيص المؤلف على الدخول وعدمه إذا كانت العبارة بعد لا إذا كانت. يقول - رحمه الله - أنه إذا بانت الزوجة أو ماتت بعد الخلوة أبحن. أبحن: إذا ماتت أو بانت: لأن المانع زال فدخلن في عموم الآية المبيحة للمحصنات من النساء. * * مسألة/ قوله: (بانت الزوجة أو ماتت قبل الزوجة: أبحن) يريد المؤلف أن يؤكد على مسألة أن التحريم يكون بعد الدخول. وأنه لا يكون قبل الدخول ولو كان بعد الخلوة. إذاً: من كلام المؤلف نشترط الخلوة أو الدخول؟ نشترط الدخول - نحن قلنا أنها لا تحرم إلا بالدخول فهو يريد أنها لا تحرم بدون الدخول ولو كان بعد الخلوة. وإلى هذا ذهب الجمهور. مستدلين: بالآية: {فإن لم تكونوا دخلتم بهن}. = القول الثاني: أن مجرد الخلوة بالمرأة يحرم البنت ولو لم يدخل بها. واستدلوا على هذا:

- بأن الشارع جعل الخلوة مقررة للمهر وموجبة للعدة فكذلك تحرم البنت. والراجح مذهب الجمهور وذلك لأن الله نص في القرآن على اشتراط الدخول وليس مع نص الله بحث أو نظر أو تعليل. فنقول: الخلوة جعلها الشارع مقررة للمهر كما سيأتينا وموجبة للعدة لكنها لا تحرم البنات إذا حصلت مع الأمهات بل لابد من الدخول يعني: لابد من الوطء. فهذا هو المراد بالدخول. فصل قال المؤلف ـ رحمه الله ـ: فصل وتحرم إلى أمد: أُخت معتدته وأُخت زوجته وبنتاهما وعمتاهما وخالتاهما. انتقل المؤلف - رحمه الله - إلى القسم الثاني من أصل التقسيم وهن: المحرمات إلى أمد. والمحرمات إلى أمد أيضاً: أقسام. بدأ: ـ بالقسم الأول وهي: المحرمة بسبب الجمع. ويجب أن تستحضر كلمة: (بسبب الجمع). لأنها تعليل لكثير من الأحكام والتفصيلات المذكورة في هذا الباب. قال المؤلف ـ رحمه الله ـ: وتحرم إلى أمد: أُخت معتدته وأُخت زوجته. تحرم أخت المعتدة وأخت الزوجة مطلقاً. يعني: يحرم أن يجمع بين أختين حرتين أو أمتين. أو إحداهما حرة والأخرى أمة. يحرم الجمع بين الأختين مطلقاً. - لقوله تعالى: {وأن تجمعوا بين الأختين}. فأخذ الفقهاء من هذا تعميم الحكم وأنه لا يجوز للإنسان أن يجمع بين أختين. وسيأتينا إن شاء الله مسألة / معتدته وماذا يقصد المؤلف بها. قال المؤلف ـ رحمه الله ـ: وبنتاهما. يعني: يحرم الجمع بين زوجته وبنت أخت زوجته زوجته. وبين معتدته وبين بنت أخت معتدته. لماذا؟ - لأنه من الجمع بين المرأة وخالتها. والجمع بين المرأة وخالتها محرم ولا يجوز كما سيأتينا وسينص عليه المؤلف. قال المؤلف ـ رحمه الله ـ: وعمتاهما وخالتاهما. لا يجوز الجمع بين الزوجة وعمتها ولا بين الزوجة وخالتها. وإلى هذا ذهب كل علماء المسلمين من أهل السنة. واستدلوا على هذا: - بالحديث الصحيح: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى أن يجمع بين المرأة وعمتها وبين المرأة وخالتها. وكما قلت: هو محل إجماع إنما خالف من لا قيمة له مطلقاً في الخلاف ولو أنهم لم يحكوا قولهم أصلاً لكان أولى: والذين خالفوا هم: الخوارج والشيعة. ولا قيمة لخلافهم مطلقاً.

إذاً: نقول: الجمع بين المرأة وعمتها والمرأة وخالتها محرم بالنص والإجماع. قال المؤلف ـ رحمه الله ـ: فإن طلقت وفرغت العدة: أُبحن. قوله: (وفرغت العدة) أفادنا أنه لا يجوز الجمع بين معتدة الإنسان وأختها مطلقاً. والمعتدات على قسمين: ـ القسم الأول: الرجعية. فالرجعية لا يجوز الجمع بينها وبين أختها أو عمتها أو خالتها بالإجماع. ـ القسم الثاني: البائن بينونة صغرى. أو بينونة كبرى. - فالبائن بينونة صغرى/ مثل/ المختلعة. - والكبرى/ مثل/ المطلقة ثلاثاً. = فالحنابلة يرون أنه لا يجوز الجمع بين البائن بينونة كبرى وأختها أو خالتها أو عمتها. واستدلوا على هذا: - بأن من كانت في العدة لها حق على الزوج ولزوجها حق عليها. = والقول الثاني: أنه يجوز الجمع بين البائن بينونة كبرى أو صغرى وبين عمتها أو خالتها. واستدلوا على هذا: - بأنه لا يمكن أن يعود الرجل لزوجته التي بان منها. فليس في زواجه من أختها أو خالتها أو عمتها جمع بينهما. وفي الحقيقة: أولاً: لم أجد من فرق - يعني: من المتقدمين - بين البائن بينونة كبرى وصغرى هم يحكون الخلاف بين الرجعية والبائن سواء كانت كبرى أو صغرى. هذا شيء. الشيء الثاني: في القول بأنه يجوز الجمع بينهما وجاهة وقوة. - القول الثاني: وجيه وقوي لأنه فعلاً إذا نظرت لروح النص والسبب الذي من أجله منع الشارع من ذلك تجده مفقود تماماً في البائن سواء بينونة كبرى أو رجعية. لكن مع ذلك لو أن الإنسان انتظر إلى أن تخرج من العدة خروجاً من الخلاف لاشك أنه أحوط. قال المؤلف ـ رحمه الله ـ: فإن تزوجهما في عقد أو عقدين معاً: بطلا. (إن تزوجهما) يعني: من لا يجوز أن يجمع بينها وبين الأخرى في عقد واحد أو في عقدين: بطلا. (في عقد واحد) صورته: أن يقول: زوجتك أختي فيقول قبلت. فالآن تزوج في عقد واحد امرأتين لا يجوز الجمع بينهما. صورة أن يجمع بينهما بعقدين: أن يحضر ولي المرأة وولي خالتها. ويقولان للزوج زوجناك جميعاً فيقول: قبلت. فهنا في عقدين وفي الأول في عقد واحد. فإذا حصل هذا بطل النكاح. تعليل البطلان: - أن العقد وقع جملة واحدة فصار في هذا العقد جمع بين من لا يجوز الجمع بينهما. والجمع علة الإبطال.

= القول الثاني: أنه إذا جمع بين امرأتين يتخير إحداهما ولا نبطل العقدين. = والقول الثالث: أنه إذا جمع بنينهما: نقرع بينهما. فمن وقعت عليها القرعة صارت هي الزوجة والأخرى بطل نكاحها. والصواب أن العقد باطل. لأنه بالعقد جمع بين الممنوعتين فعليه أن يعيد ويعقد على أي منهما. قال المؤلف ـ رحمه الله ـ: فإن تأخر أحدهما أو وقع في عدة الأُخرى وهي بائن أو رجعية: بطل. لما بين الحكم: إذا وقع العقدان دفعة واحدة بين الصورة الثاتية وهي ما إذا وقع عقد بعد عقد. وجمع بالعقد الثاني مع معقوده عليها بالعقد الأول من لا يجوز الجمع بينهما. والحكم في هذه الصورة أن العقد الثاني: باطل. التعليل: - هو ما تقدم/ أنه بالعقد الثاني جمع بين الممنوعتين لا بالعقد الأول. فالعقد الذي حصل به الجمع يبطل. كما أنه في الصورة الأولى لما حصل الجمع بين الثنتين بعقد واحد أبطلناه هنا حصل الجمع بالعقد الثاني فأبطلنا العقد الثاني وبقي العقد الأول صحيحاً. قال المؤلف ـ رحمه الله ـ: وتحرم: المعتدة والمستبرأة من غيره. انتقل إلى القسم الثاني وهن المحرمات لعارض يزول. فيقول - رحمه الله -: (وتحرم المعتدة والمستبرأة من غيره). ـ المعتدة من غيره. والمستبرأة من غيره محرمة. فلا يجوز للإنسان أن يتزوج معتدة غيره ولا من تستبرئ لغيره. - لقوله تعالى: {ولا تعزموا عقدة النكاح حتى يبلغ الكتاب أجله}. فنصت الآية على أنه لا يجوز أن يعقد الإنسان على معتدة غيره إلا إذا بلغ الكتاب أجله: يعني: انهت العدة. فإن عقد فالعقد باطل بنص القرآن. وهذا يتناول المعتدة والمستبرأة ويتناول ما إذا كانت المعتدة والمستبرأة تعتد بوطء حلال أو بوطء حرام. والمستبرأة هي التي يقصد من إمهالها معرفة براءة الرحم لا استكمال العدة الشرعية. والمعتدات والمستبرأة سيخصص المؤلف لهن باباً مستقلاً وهو من أبواب الفقه. قال المؤلف ـ رحمه الله ـ: والزانية حتى تتوب وتنقضي عدتها. لا يجوز للإنسان أن ينكح الزانية إلا إذا تحقق شرطان: ـ الشرط الأول: التوبة. ـ والشرط الثاني: انتهاء العدة. نبدأ بالشرط الأول: يشترط لجواز نكاح الزانية أن تتوب وإلى هذا ذهب الإمام أحمد وهو من مفردات الحنابلة.

واستدل على هذا: - بالآية. {الزانية لا ينكحها إلا زان أو مشرك}. قال الحنابلة: والمرأة قبل أن تتوب تسمى زانية فتدخل في الآية. = القول الثاني: وهو مذهب الأئمة الثلاثة: الشافعي ومالك وأبو حنيفة أنه لا يشترط أن تتوب بل له أن يعقد عليها ولو لم تتب. واستدلوا على هذا بأدلة: - الدليل الأول: أن الله تعالى يقول: {وأحل لكم ما وراء ذلكم}. ولم يذكر في الممنوعات الزانية. والجواب على هذا الاستدلال: أن الله تعالى أيضاً قال في سياق الممنوعات: {والمحصنات من النساء} يعني: ويجوز لكم نكاح المحصنات من النساء وهذه ليست محصنة بل زانية. ثانياً: إذا لم تذكر الزانية في الآية الأولى فقد ذكرت في الآية الثانية. - الدليل الثاني: أن عمر وابن عباس - رضي الله عنهما - نصا على الجواز جواز نكاح الزانية. وهو صحيح عنهما. الراجح: الراجح مذهب الحنابلة. إن شاء الله بلا إشكال. ولا تردد. والإمام أحمد أخذ بالآية ولم يلتفت إلى الآثار. أضف إلى هذا: أنه صح عن عمر - رضي الله عنه - فتوى أخرى أصرح من هذه الفتوى ونسينا أن نذكر هذا (فتوى ابن عباس وعمر ليس فيها التصريح على أن هذه الزانية لم تتب. لكن سئل عن نكاح الزانية فأجازه. وفي الفتوى الثانية لعمر - رضي الله عنه - جاءه رجل وقال: إني أردت أن أنكح ابنتي فزعمت أنها زنت وأنها تخشى الفضيحة والعار - نسأل الله العافية والسلامة - فقال عمر - رضي الله عنه - هل تابت؟. فقال: نعم. فقال: زوجها. ففي هذه الفتوى النص الصريح على التوبة بينما الفتوى الأولى التي استدل بها الجمهور ليس فيها التصريح. الفتوى الأولى هي كالتالي: أن عمر - رضي الله عنه - جيء بامرأة ورجل قد زنيا فضربهما ثم أراد أن يزوج المرأة بالرجل فأبى الرجل - الزاني - قال الجمهور فهذا أمير المؤمنين سيزوج قبل التوبة. في الحقيقة صحيح أن ظاهر الفتوى والأثر أن التزويج بعد الجلد يعني: كأنها إلى الآن ما تابت - كأنها - لكن هذا محتمل وربما بعد أن أوتي بها إلى أمير المؤمنين تابت ولو كانت أقيم عليها الحد بالضرب.

وهنا فائدة بسيطة وهي أن ما نسمع عنه من أن مجموعة من الناس الذين يسلكون مسك مسلك الإغواء للنساء ويوقعوهن في حبائل الزنا أو ما دون الزنا ثم يتنكبها ويقلب لها ظهر المجن موجود من عصر الصحابة فهذا الرجل يطلب منه عمر أن يتزوج بها وقد زنا بها فيأبى وهذا نجده إلى الآن تجد من يكثر من مغازلة النساء والإيقاع بهن إذا أراد أن يتزوج ذهب إلى العفائف والحرائر وفي هذا أكبر واعظ لكل من سولت لها نفسها أن تتعاطى بالهاتف مع الشباب فإن النهاية وخيمة جداً كما ترى. وتعجبت جداً لما قرأت الأثر فيا سبحان الله. * * مسألة/ ظاهر كلام المؤلف - رحمه الله - أنه يحرم على الزوج ..... (((الأذان))). أقول ظاهر كلام الحنابلة أنه يشترط لصحة النكاح توبة الزوجة الزانية فقط وأنه لا يشترط أن يتوب الزوج. = والقول الثاني: أنه يشترط أن يتوب الزوج والزوجة وأن اعقد لا يصح إذا كان الزوج زاني إلا إذا تاب. ودليل هذا القول ظاهر لأن الآية لم تفرق بين الزانية والزاني. لكن الإشكال أني ما أعرف دليل الحنابلة - ما وجدت لهم دليلاً - لماذا فرقوا مع وضوح الآية؟ يعني: لا أذكر الآن لهم دليلاً فلم يفرقوا مع وضوح الآية إلا وهم يستندون على دليل واضح بالتأكيد لكن لا أذكر أنا لهم دليلاً معيناً. * * مسألة/ كيفية التوبة/ = ذهب الحنابلة: أن المرأة تعرف توبتها بأن تراود من قبل الزاني أو من قبل غيره فإن امتنعت فهو دليل التوبة وإلا فلا. = والقول الثاني: أن توبة الزانية كتوبة غيرها تكون بالنجم والاستغفار والاقلاع. والراجح أن توبة الزانية كتوبة غيرها ولهذا يقول: ابن قدامة - رحمه الله - والصحيح أن توبة الزانية كتوبة غيرها بالندم والتوبة والاستغفار. لكن هذه الطريقة الغريبة التي سلكها الحنابلة وهي: أن ترواد. وهي منصوص الإمام أحمد - رحمه الله - اعتمدوا فيها على فتوى لابن عمر - رضي الله عنه -. لكن الراجح بلا شك إن شاء الله هو القول الثاني وهو أن توبتها بالتوبة والندم والاستغفار والإقلاع. وأما فتوى ابن عر فهي والله أعلم فتوى خاصة في مناسبة خاصة ولا أراد - رضي الله عنه - أنه دائماً نمتحن الزانية حتى نعرف هل هي تائبة أولا؟

فتعميم هذه الفتوى غير مناسب من وجهة نظري. يقول - رحمه الله -: والزانية حتى تتوب وتنقضي عدتها. ـ الشرط الثاني: أن تنقضي العدة. = وذهب الحنابلة إلى هذا: استدلالاً بقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: (لا تنكح حامل حتى تضع ولا حائل حتى تحيض). = والقول الثاني: أنه لا يشترط انقضاء العدة. - لأن هذا الماء ماء محرم ولا يثبت النسب فلا يمنع عقد النكاح. والصواب مع الحنابلة فهم أحض بالدليل. والله أعلم. وصلى الله على نبينا محمد. انتهى الدرس

الدرس: (6) من النكاح قال شيخنا حفظه الله: بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين أما بعد. كنت تحدثت في الدرس السابق عن شروط نكاح الزانية وأخذنا الشرط الأول وهو التوبة، والشرط الثاني وهو انقضاء العدة، وأخذنا الراجح في اعتبار هذين الشرطين أو عدم اعتبارهما وانتهت هذه المسألة، بقينا في مسألة تلحق بالشرط الثاني وهو انتهاء العدة، وهو بماذا تنتهي العدة. ذهب الجمهور إلى أن عدة الزانية بوضع الحمل أو بالإقراء، فإن كانت حامل فبوضع الحمل وإن كانت حائل فبالإقراء. والقول الثاني أن عدة الزانية تنقضي بحيضة واحدة يعن أنها تستبرأ فقط، وتقدم معنا أن الاستبراء يحصل بحيضة واحدة. وإلى هذا القول الثاني ذهب بعض الفقهاء وهو اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية وهو الصحيح وستأتينا هذه المسألة إن شاء الله في كتاب العدد لكن أردت أن أنبه إلى كيفية انقضاء العدة بالنسبة للزانية وهو أن الصحيح أنها تنقضي بحيضة واحدة. قال المؤلف - رحمه الله -: (ومطلقته ثلاثاً حتى يطأها زوج غيره) يعني وتحرم عليه المرأة التي طلقها ثلاث مرات حتى تنكح زوجاً غيره. ودليل هذا قوله تعالى: {فإن طلقها فلا تحل له من بعد حتى تنكح زوجاً غيره}. وقوله فإن طلقها يعني الطلقة الثالثة، وهذا الحكم دل عليه مع النص الإجماع وهو أن المرأة إذا طلقت ثلاث تطليقات صحيحات فإنها لا ترجع إلى زوجها إلا بعد نكاح زوج آخر. قال المؤلف - رحمه الله -: (والمحرمة حتى تحل)

يعني ولا يجوز أن ينكح المحرمة إلا بعد أن تحل التحلل الكامل أي الثاني. ودليل ذلك: أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى المحرم أن يَنكح أو يُنكح. وإلى هذا ذهب الجماهير وعامة علماء الأمة إلى أنه لا يجوز ولا ينعقد نكاح المحرمة. والقول الثاني وهو مذهب أبي حنيفة أن المحرمة يجوز أن يعقد عليها الإنسان ويصح العقد واستدل أبو حنيفة بأن ابن عباس أخبر أن النبي صلى الله عليه وسلم عقد على ميمونة وهي محرمة. والجواب على هذا الاستدلال: أن الصواب أن النبي صلى الله عليه وسلم عقد عليها وهي حلال لأنها رضي الله عنها أخبرت بذلك وهي أعلم بالقصة من ابن عباس رضي الله عنهما لأن العقد كان عليه وهي أعلم بملابسات القضية كما أن قولها أنه عقد عليها صلى الله عليه وسلم حلالاً يوافق الحديث المتقدم فهو مرجح لأمرين ولهذا فالصواب إن شاء الله مع الجماهير وهو أنه لا يجوز أن يعقد على المحرمة إلا بعد الإحلال الثاني. قال المؤلف - رحمه الله -: (ولا ينكح كافر مسلمة) لا يجوز أن يمكن الكافر من نكاح المسلمة والعقد إن تم فهو باطل ودل على بطلانه وتحريم إجرائه من الأصل النص والإجماع. أما النص فقوله تعالى: {ولا تنكحوا المشركين حتى يؤمنوا} فلا يجوز إنكاح المشرك إلا إذا آمن وقبل ذلك لا يجوز أن يعقد له على المسلمة. والإجماع حكاه غير واحد من أهل العلم أنه لا يجوز أن يعقد لكافر على مسلمة فإن فعلوا فالعقد باطل. قال المؤلف - رحمه الله -: (ولا مسلم ولو عبداً كافرة) أي ولا يجوز للمسلم أن ينكح الكافرة. لقوله تعالى: {ولا تنكحوا المشركات حتى يؤمن} فالمشركات كافرات لا يجوز للإنسان أن يعقد عليهن لنص هذه الآية واستثنى المؤلف جنس كافرة وهي قوله (إلا حرة كتابية) أفادنا الشيخ بقوله (إلا حرة كتابية) مسألتين: الأولى: أنه يجوز نكاح الكتابية سيأتينا الكلام عنه. الثانية: أنه لا يجوز نكاح الأمة الكتابية وأن الجواز يختص بالحرة. واستدل الجمهور على هذا بقوله تعالى: {فمما ملكت أيمانكم من فتياتكم المؤمنات} فنص على أنه يجوز للإنسان أن ينكح الأمة بشروط ستأتينا إذا كانت مؤمنة، فدلت الآية على أن الكافرة لا يجوز أن تنكح.

الدليل الثاني: أن المنع من نكاح الأمة الكافرة مروي عن عمر وابن مسعود. والدليل الثالث: أن نكاح الأمة الكافرة يؤدي إلى استرقاق الكافر لأولاد المسلم لأن زوجته الكافرة أولادها أرقاء لسيدها الكافر. فهذه ثلاث أدلة قوية جداً في المنع من التزوج بالأمة غير المسلمة ولو كانت كتابية. القول الثاني: أنه يجوز مثلاً الإنسان أن يتزوج الأمة الكتابية قياساً على جواز ملك الأمة الكتابية وملك منافعها وبضعها فإذا جاز للإنسان أن يملك ملكاً تاماً أمة كتابية ويشمل الملك الاستمتاع فالزواج وهو أقل من باب أولى وهذا مذهب أبي حنيفة وهو ـ رحمه الله ـ كثراً ما يقيس أقيسة مقابل للنصوص فهذه المسألة فيها نص من الكتاب وفتاوى عن الصحابة فكيف نترك هذا كله ونرجع إلى أقيسة عقلية مجردة. فالراجح إن شاء الله مذهب الجمهور: أنه لا يجوز للإنسان أن ينكح الأمة الكتابية وإنما الجواز يختص بحرائر أهل الكتاب. المسألة الثانية: جواز نكاح الكتابيات لقوله تعالى: {والمحصنات من المؤمنات والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب} وجواز نكاح الحرة الكتابية مذهب الجماهير ويكاد يكون استقر عليه الأمر أي على الجواز وكان يوجد خلاف عند بعض المتقدمين ولكن كأن الأمر استقر على الجواز لصراحة الآية من جهة ومن جهة أخرى أن عدد من الصحابة تزوجوا كتابيات منهم حذيفة رضي الله عنه. الأمر الثالث: المؤيد للجواز أن ما يروى من المنع عن عمر وابنه وغيره من الصحابة يحمل على الإرشاد لا على التحريم ولهذا أمر عمر بن الخطاب رضي الله عنه حذيفة أن يفارق زوجته الكتابية فأبى رضي الله عنه وأرضاه ثم لما توفي عمر فارقها وكأنه أراد بيان الجواز، وقد أشار هو إلى تعليل آخر فإن حذيفة سئل لماذا فارقتها بعد ذلك؟ فقال لئلا يرى أني صنعت ما لا ينبغي وهذا ملحظ لهذا الصحابي الجليل كأنه لو أطاع عمر وفارق زوجته صدق عليه أنه صنع ما لا ينبغي وهو رضي الله عنه لم يصنع إلا أمراً جائزاً ولعل هذا أيضاً يعود إلى قضية الجواز. مسألة: المراد بالكتابيات أهل التوراة والإنجيل فقط دون غيرهم من الكتب السماوية ومن كانت تتدين بالكتب الأخرى كتب داؤود أو إبراهيم أو غيرهما من أنبياء الله ليست من أهل الكتاب.

مسألة: مع القول بجواز نكاح الكتابيات إلا أن الجمهور من الفقهاء رأوا أن هذا الجواز مكروه يعني جائز مع الكراهة واختار الكراهة شخ الإسلام ابن تيمية وهو قول وجيه جداَ أي القول بالكراهة لأن الزواج بغير المسلمة قد يؤدي إلى فساد الأولاد ورقة دينهم وقد يتشبع الابن بدين أمه لاسيما مع كثرة غياب الأب فالقول بالكراهة هذا قول وجيه جداً. قال المؤلف - رحمه الله -: (ولا ينكح حرٌ مسلمٌ أمة مسلمة ... ) انتقل المؤلف إلى حكم نكاح الأمة المسلمة ولهذا تلاحظ أن الشيخ يقول ولا ينكح حر مسلم أمة مسلمة لماذا قال الشيخ أمة مسلمة؟ لأنه تقدم معنا أن نكاح الأمة الكافرة لا يجوز. ذهب الجماهير من أهل العلم إلى أنه يجوز أن ينكح الأمة المسلمة بشرطين: الأول: أن لا يجد طولاً لنكاح الحرائر يعني لا يجد سعة في المال. الثاني: أن يخشى العنت وسيأتينا ما هو العنت عند الفقهاء. ودليل الشرطين قوله تعالى: {ومن لم يستطع منكم طولاً أن ينكح المحصنات المؤمنات فمما ملكت أيمانكم من فتياتكم المؤمنات} إلى أن قال: {ذلك لمن خشي العنت منكم} فنصت الآية على الشرطين. القول الثاني: جواز نكاح الأمة إذا وجد العنت وإذا وجد الطول أي ولو كان مستطيعاً، فهو يشترط صاحب هذا القول فقط العنت، وممن ذهب إلى هذا القول الإمام الثوري رحمه الله وغفر له. القول الثاني: جواز نكاح الإماء ولو مع السعة والطول وإلى هذا ذهب الأحناف. واستدلوا بتعليل فقالوا إن القدرة على النكاح لا تمنع النكاح فمقصودهم بالقدرة يعني إذا كان يجد طولاً ومقدرة وسعة في المال فإن القدرة على النكاح بسبب وجود الطول لا تمنع النكاح. والراجح مذهب الجماهير لأمرين: الأول: أنه يؤيده فتاوى الصحابة. الثاني: أن التعليل الذي ذكره الأحناف لا قيمة له مطلقاً ولا عبرة به في مقابل الآية مجرد أقيسة عقلية في الحقيقة لا قيمة لها. فالآية تقول: {من لم يستطع منكم طولاً} وهو يقول: أن من استطاع الطول فإن هذا الطول لا يمنع النكاح والآية نص على أنه يمنع النكاح فأي تعليل عقلي أضعف من مثل هذا التعليل مقابل النص. بقينا في رأي الثوري: أن الإنسان إذا وجد العنت له أن يأخذ الأمة ولو وجد الطول.

نحن نقول أن هذا القول للإمام الثوري رحمه الله قوي بشرط ألا يتمكن مع هذا الطول من نكاح الحرائر اللاتي يحصل بها العفة مثاله أن يجد مالاً لكن لا يجد إلا صغيرة لا يطأ مثلها فهذا يجد طول لكن هذا الطول لا يرفع عنه العنت أو يجد طولاً ولا يجد إلا امرأة غائبة كأن يخطب امرأة فيقال له ذهبت للحج تحتاج لكي ترجع إلى سنة كما في الوقت السابق لما كان السفر يأخذ مدة طويلة فكيف سيصبر سنة. الضابط: أن يجد مالاً ولكن لا يستطيع بهذا المال أن يتزوج من تعفه إما لصغرها أو لغيبتها أو يجد مالاً ولكن لا يجد من يزوجه خطب ولم يزوجوه الناس، لسبب أو لآخر إذا هذه مجموعة من الأمثلة وقد نص الإمام أحمد نفسه على من وجد طولاً ولم يجد إلا غائبة فله أن ينكح الأمة، نحن نقول أن هذا الكلام صحيح. فيكون القول الراجح: أنه لا يجوز نكاح الأمة إلا بوجود الشرطين إلا إذا وجد طولاً لا يستطيع معه نكاح الحرائر فهو في الحقيقة القول الراجح مركب من مذهب الجماهير وقول الثوري وهذا القول إن شاء الله تجتمع به الأدلة. قال المؤلف - رحمه الله -: (إلا أن يخاف عنت العزوبة) اختلف الفقهاء ما المراد بالعنت فذهب الحنابلة إلى ما ذكره المؤلف وهو أن يحتاج إلى التمتع أو الخدمة. وإلى هذا ذهب أيضاً المجد ابن تيمية. والقول الثاني: أن العنت هو أن يخشى الزنا فلا يجوز له أن ينكح الأمة إلا إذا خشي أنه إن لم نكحها وقع في الزنا. والراجح إن شاء الله المذهب وهو اختيار كما قلت المجد لأن المشقة والعنت يحصل وإن لم يخشى على نفسه الزنا كما أن الآية مطلقة {لمن خشي العنت} والعنت يحصل بهذا المقدار وإن لم يحصل الزنا، فهم من هذا أنه لو احتاج الأمة للخدمة فإنه يجوز أن يتزوج وليست المسألة مقصورة على إرادة الاستمتاع، وأيضاً لو أراد أن يستمتع بها واحتاج إلى الجماع ولم يخشى أن يصل إلى مرحلة الزنا فيجوز له عند الحنابلة عند المعتمد على المذهب أن ينكح الإماء. قال المؤلف - رحمه الله -: (أو ثمن أمة) يعني ويشترط ألا يجد ثمن الأمة فإن وجد ثمن الأمة فلا يجوز له أن ينكح الإماء فصارت الشروط ثلاثة

لكن الشروط عند الحنابلة والجمهور اثنان فقط وهو ألا يجد طولاً وأن لا يخشى العنت، وأضاف المؤلف مخالفاً للمذهب هذا الشرط وهو أن لا يجد مالاً يشتري به أمةً علل أصحاب هذا القول قولهم بأنه إذا وجد مالاً يتمكن به من شراء الأمة ارتفع العنت والحرج يستطيع أن يشتري الأمة ويقضي حاجته منها ولا يحتاج مع ذلك إلى الزواج. الدليل الثاني: أنه تخلص بهذا من استرقاق ولده. القول الثاني وهو المذهب: أنه لا يشترط أن يجد ثمن أمة ولو وجد ثمن أمة مادام تحقق الشرطان فإنه يجوز له نكاح الإماء والأقرب والله أعلم ما اختاره المؤلف وهو أنه يُشترط ألا يجد ثمن الأمة لأنه إذا وجد ثمن الأمة فلا حاجة أن ينكح أمة لأن العنت والمشقة المشترطة في الآية تزول، فإن قيل كيف تشترطون شرطاً إضافياً والآية لم تنص إلا على شرطين فالجواب أن الشرط الثاني المذكور في الآية يتضمن الشرط الثالث لأن العنت يرتفع مع وجود ثمن الأمة، فالأقرب إن شاء الله ما اختاره المؤلف. قال المؤلف - رحمه الله -: (ولا ينكح عبد سيدته) يعني لا يجوز للعبد أن ينكح سيدته، ولا يجوز للسيدة أن ترضى وتأذن بنكاح العبد لها والسبب في هذا أنه إذا ناكح العبد سيدته اجتمع حقان متنافيان فله عليها حق الزوجية ولها عليه حق الملك وبين الحقين تنافي كبير فالزوجية تقتضي طاعة الزوج وأن ينفق عليها والملك يقتضي طاعة السيد وأن ينفق على عبده فتنافى وتعارض حقان ولهذا قالوا لا يجوز وحكي إجماعاً وهذا صحيح فماذا تصنع إذا أرادت أن تنكحه؟ تعتقه ويتزوجها لكن ربما تقول إذا أعتقته لن يرد النكاح فربما هذا مأخذ الجمهور. قال المؤلف - رحمه الله -: (ولا سيد أمته) يعني ولا يجوز للسيد أن ينكح أمته. وعللوا هذا بأن الملك أقوى من النكاح فليس السيد بحاجة إلى إدخال الأضعف على الأقوى، فإنه بالملك أي بكونه مالكاً لها يستحق المنفعة والبضع، وأما النكاح فلا يستحق معه إلا البضع فقط، وهذا القول يؤيد مسألة أخرى وهي: أنه يشترط عدم وجود ثمن الأمة مادام أن الحنابلة يرون عدم جواز نكاح السيد لأمته هذا يؤيد أنه لو كان واجد لسعر الأمة أنه لا يتزوج أنه يشتري هذه الأمة. قال المؤلف - رحمه الله -:

(وللحر نكاح أمة أبيه دون أمة ابنه) للحر نكاح أمة أبيه لأن الابن لا يملك وليس هناك شائبة ملك لممتلكات أبيه فالابن في هذه الحال يتزوج امرأة أجنبية تماماً ولا يوجد شائبة ملك له عليها إذا يجوز للابن أن يتزوج أمة أبيه لكن يقول الشيخ دون أمة ابنه فلا يجوز للإنسان أمة ابنه علل الحنابلة هذا بأن ممتلكات الابن فيها شائبة ملك للأب لقول النبي صلى الله عليه وسلم:"أنت ومالك لأبيك" وإذا كان للأب شائبة ملك لأمة ابنه فتكملة الاستدلال وقد تقدم معنا أن الإنسان ليس له أن يتزوج أمته. القول الثاني: يجوز للإنسان أن يتزوج أمة ابنه لأن ممتلكات الابن ملك خالص له قبل أن يتملكها الأب فهو في الحقيقة تزوج امرأة أجنبية. الراجح: أنه لا يجوز للإنسان أن يتزوج أمة ابنه. مأخذ الترجيح: سبب الترجيح ليس الدليل الذي ذكره الحنابلة ولكن هناك مأخذ آخر وهو أن الأب إذا كان الابن يستطيع أن يزوجه فهو يجد الطول فانتفى في حقه الشرط وإذا انتفى الشرط لم يجز للإنسان أن يتزوج الأمة. إذاً نحن نقول: لا يجوز أن تتزوج أمة ابنك لأن ابنك يجب عليه أن ينفق عليك لتتزوج وقد أشار إلى هذا المأخذ اللطيف الجميل ابن رجب الحنبلي رحمه الله وغفر له. فإذا اعتمدنا هذا المأخذ نقول لا يجوز للابن أن يزوج أباه أمته ولا أمة غيره لأن مأخذ المنع هو أنه يجب على الابن أن يزوج أباه وأن مقدرة الابن على تزويج أباه تجعل الأب له سعة وطول في التزوج من الحرائر. إذاً نقول أن هذا إن شاء الله هو الراجح لكن لابد أن نتنبه أنه لتعليل غير التعليل الذي ذكره المؤلف. قال المؤلف - رحمه الله -: (وليس للحرة نكاح عبد ولدها) ليس للمرأة أن تتزوج بعبد ولدها وهذه المسألة مبنية على المسألة اللاحقة لهذه المسألة وهي أن ملك أحد الزوجين للآخر يفسخ النكاح كما أن ملك ولد أحد الزوجين للآخر يفسخ النكاح وإذا تزوجت بعبد ابنها فقد تزوجت بمن يملكه ابنها فدخلت في المسألة اللاحقة ويمكن أن نقول لهذا المنع مأخذ آخر وهو: أن للأم أن تتملك من مال الابن إذاً ساوت الأب في قضية وجود شائبة الملك، فللمنع من زواج المرأة من عبد ابنها هذان المأخذان. قال المؤلف - رحمه الله -:

(وإن اشترى أحد الزوجين الآخر أو بعضه انفسخ نكاحهما) إذا اشترى أحد الزوجين الآخر انفسخ النكاح لدليلين: الأول: الإجماع والإجماع يتعلق بشراء أحد الزوجين فقط دون شراء ولد أحد الزوجين يبطل العقد. الثاني: ما تقدم معنا أنها إذا اشترى صار بين الحقين تعارض، فحق العبد يتعارض مع حقه كزوج. إذاً مسألة إذا اشترى أحد الزوجين ليست محل إشكال مطلقاً. ثم قال: أو ولده يعني وإن اشترى ولد أحد الزوجين الآخر أيضاً انفسخ النكاح. عللوا هذا بأن ملك الابن كملك الأب الدليل على أن ملك الابن كملك الأب أن الابن والأب يستوون في المنع من القصاص وأحكام الاستيلاد وإذا كان ملك الابن كملك الأب صارت مقيسة على المسألة السابقة كأن ملك ولد أحد الزوجين كملك أحد الزوجين للآخر. القول الثاني: أن ملك ولد أحد الزوجين لا يؤدي إلى الفسخ لأنه لا دليل على فسخ النكاح والأصل في العقد الشرعي أنه إذا انعقد مستوفياً الشروط الشرعية أنه لا يفسخ ولا يبطل إلا بدليل شرعي. قال المؤلف - رحمه الله -: (أو مكاتبه) إذا ملك مكاتب أحد الزوجين الآخر انفسخ النكاح والخلاف في هذه المسألة كالخلاف في ولد أحدهما تماماً فما قيل هناك يقال هنا. قال المؤلف - رحمه الله -: (ومن حرم وطؤها بعقد حرم وبملك يمين إلا أمة كتابيه) هذه قاعدة جميلة كل من حرم وطؤها بالعقد حرم وطؤها بملك اليمين والمؤلف يريد أن يشير إلى مسألة وهي أنه لا يجوز للإنسان أن يطأ الإماء غير الكتابيات فلو أن المسلمين غزوا مشركين أو مجوس أو ملحدين أو شيوعيين ثم سبوا نساءهم فإنه لا يجوز أن توطأ هذه المرأة لماذا؟ لأن من لا يجوز وطؤها بعقد لا يجوز وطؤها بملك. وهل يجوز للإنسان أن يتزوج من مجوسية أو المشركة أو شيوعية أو الملحدة؟ لا يجوز. إلى هذا القول ذهب الجماهير وحكي إجماعاً بل أن من حكى الإجماع نسب المخالف إلى الشذوذ. استدلوا بقوله: {إلا ما ملكت أيمانكم من فتياتكم المؤمنات} لكن الإشكال أن هذه الآية في سياق النكاح وليست في سياق الوطء بملك اليمين.

القول الثاني: وذهب إليه نفر يسر لكن هؤلاء النفر من المتقدمين وهم سعيد بن المسيب، طاؤوس، وعطاء ونصرهم شيخ الإسلام ابن تيمية وأنا نبهتكم إلى أنه من المهم جداً أن تراعي هل الخلاف نازل أو عالي فإذا كان الخلاف عالي صار الخلاف قوياً جداً، لكن لما يكون الفقهاء من القرن الأول، والثاني، والثالث، والرابع، والخامس، والسادس، على قول ثم يأتي فقيه من السابع أو الثامن أو التاسع ويخالف فإن الخلاف يكون ضعيف، هنا الخلاف في مسألتنا عالي وهو من الفقهاء السبعة من التابعين، استدل أصحاب القول الثاني بِأدلة واضحة جداً. الدليل الأول: أن النبي صلى الله عله وسلم لما غزا هوازن أذن للصحابة بوطء الإماء بعد الاستبراء وهن مشركات. الدليل الثاني: عموم الآية {إلا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم} وملك اليمين في الآية لم يقيد كما قيد في النكاح بل أن عدم تقييده في الآية إشارة إلى أنه لا يقيد باعتبار أنه قيد في النكاح دون الوطء وملك اليمين. الدليل الثالث: أن عامة السبايا اللاتي كن في عهد النبي صلى الله عليه وسلم كن من مشركي العرب وكان الصحابة يطأونهن رضي الله عنهم. لعله من الظاهر لك جلياً أن القول الثاني قوي جداً لكن يشكل عليه الإجماع وهذا الإشكال أشكل حتى على ابن قدامة فابن قدامة رحمه الله يقول: (وأدلتهم ظاهرة وقوية ويشكل عليها مخالفة سائر أهل العلم) فلولا هذه المخالفة لكان القول بالجواز هو القول لكن مع هذه المخالفة الغريبة يعني من الجماهير الأئمة الأربعة عامة الفقهاء حتى أن الإمام أحمد لما أورد عليه إماء أو سبايا هوازن قال: (لعلهن أسلمن) أجاب عن الحديث بهذا الجواب، وفي الجواب هذا ضعف فالأصل عدم الإسلام. على كل حال الراجح من الأدلة بشكل واضح القول الثاني، ولكن يشكل عليه الإجماع فقط، وهذه من وجهة نظري من المسائل الغريبة لأن الأدلة واضحة مع ذلك ذهب الفقهاء جميعاً إلا من ذكر ثلاثة أو أربعة إلى المنع، فالمسألة غريبة. قال المؤلف - رحمه الله -: (إلا أمة كتابية)

يعني تستثنى الأمة الكتابية فالأمة الكتابية ما وجه الاستثناء؟ أن الأمة الكتابية لا يجوز أن توطأ بالعقد لكن يجوز أن توطأ بملك اليمين ولهذا ذهب الجماهير وهو محل إجماع إلا أنه روي عن الحسن البصري فقط أنه كره فقط وطء الأمة الكتابية ولم ينقل عنهم المنع والتحريم فذهب الجماهير إلى أنه يجوز وطء الأمة وأدخلوه في عموم الآية {أو ما ملكت أيمانكم} فوطء الأمة الكتابية لا إشكال فيه. قال المؤلف - رحمه الله -: (ومن جمع بين محللة ومحرمة .. ) إذا جمع بين محللة ومحرمة في عقد واحد صح فيمن تحل فإذا تزوج امرأة محرمة فإن العقد يصح في الحلال ويبطل في الحرمة. والدليل على هذا أن النكاح الذي وقع على الحلال في المثال نكاح مستوفي الشروط مكتمل الأركان فهو صحيح والنكاح على المحرمة يبطل. القول الثاني: أنه إذا جمع في عقد واحد بين من يجوز نكاحها ومن لا يجوز فإن العقد كله باطل فيمن تجوز وفيمن لا تجوز وعلل أصحاب هذا القول قولهم بأن العقد واحد فإذا بطل بطل كل ما فيه، والصواب أن العقد يصح فيما يصح ويبطل فيما يبطل ولأن العقد وإن كان واحداً إلا أنه يتناول امرأتين إحداهما مستوفية للشروط والأخرى لم تستوفي فيصح في المستوفية. قال المؤلف - رحمه الله -: (ولا يصح نكاح الخنثى ... ) الخنثى هو: من له آلة الذكر وآلة الأنثى أو من ليس له آلة ذكر ولا آلة أنثى فهذا خنثى. ثم هذا الخنثى قد يكون مشكل وقد يكون غير مشكل، فالخنثى المشكل هو الذي لم تظهر عليه لا علامات الرجولة ولا علامات الأنوثة فهذا يعتبر خنثى مشكل. يقول الشيخ: (ولا يصح نكاح خنثى مشكل قبل تبين أمره)، ذهب الحنابلة إلى أن المشكل لا يجوز أن ينكح فلا يجوز له أن ينكح امرأة ولا يجوز له أن ينكح رجل. التعليل: قالوا أنه لم يوجد فيه ما يتحقق معه من الجواز. معنى التعليل: أنه ربما لو نكح امرأة يكون امرأة ولو نكح رجلاً ربما يكون رجلاً، فإذاً لم نتحقق فيه سبب الجواز، فيبقى على المنع إلى أن يتبين أمره ولو طال. والقول الثاني: أن الخنثى المشكل يرجع إلى قوله فإن قال أنه يميل إلى النساء زوج بامرأة وإن قال أنه يميل إلى الرجال تزوجه رجل.

باب الشروط والعيوب في النكاح

واستدل أصحاب هذا القول بأن هذه علامة على كونه رجل أو امرأة، وبأن هذا الأمر لا يعرف إلا من قبله. وإلى هذا ذهب القاضي أبو يعلى، وهو قول وجيه، وهو خير من حبس هذا الخنثى، مع حاجته للنكاح مدة طويلة، وربما يكون الخلاف في هذه المسألة في وقتنا هذا نادر وقليل باعتبار أن بالامكان التعرف على حقيقة الخنثى هل هو رجل أو امرأة بطرق كثيرة جداً تغني عن إبقائه معلقاً بين الأنوثة والرجولة. قال المؤلف - رحمه الله -: باب الشروط والعيوب في النكاح الشروط في النكاح تنقسم إلى قسمين: القسم الأول: شروط النكاح وقد تقدمت معنا، وشروط النكاح تسمى الشروط الشرعية وسبب تسميتها بأنها الشروط الشرعية أنها من وضع الشارع. القسم الثاني: الشروط في النكاح وتسمى الشروط الجعلية لأن العاقدان هما اللذان وضعاها وجعلاها في العقد. والشروط في النكاح تنقسم إلى قسمين: شروط صحيحة وشروط فاسدة. والشروط الصحيحة تنقسم إلى قسمين: شرط يقتضيه العقد: كأن يشترط أن تسلم إليه زوجته فهذا الشرط تحصيل حاصل لأن العقد يقتضي تسليم الزوجة. الثاني: شرط ليس من مقتضى العقد وفيه مصلحة للشارط، كأن تشترط ألا يتزوج عليها. القسم الثاني: الشروط الفاسدة وتنقسم إلى قسمين: القسم الأول: الفاسدة الغير مفسدة، فالشرط فاسد والعقد صحيح، كأن يشترط الرجل ألا مهر لها، ونحن الآن لا نريد إعطاء أحكام عن الشروط لكن نريد تصوير الأقسام فقط. القسم الثاني: الشرط الفاسد المفسد، يعني أن الشرط يفسد والعقد يفسد، وهو عند الحنابلة أربع أقسام فقط نكاح الشغار، ونكاح المتعة، ونكاح التحليل، والنكاح المعلق على شرط. إذاً الآن بصفة عامة تصورنا أقسام الشروط. مسألة: اختلف الفقهاء عموماً في الشروط في النكاح يعني في تصحيحها والإلزام بها، فذهب الجماهير الأئمة الثلاثة: مالك، والشافعي، وأبو حنيفة إلى أن الشروط لا تلزم، بل يستحب الوفاء بها فقط. واستدلوا على هذا بقول النبي صلى الله عليه وسلم:"ما كان من شرط ليس في كتاب الله فهو باطل" وهذه الشروط ليست ف كتاب الله.

القول الثاني: وهو الذي تبناه الإمام أحمد وهو مذهب الحنابلة واختيار شيخ الإسلام وغيرهم من المحققين أن الشروط صحيحة ولازمة وسيأتينا ما معنى تصحيح هذه الشروط عند الحنابلة لكن الذي يعنينا الآن أن هذه الشروط صحيحة ولازمة. واستدلوا بأدلة: الدليل الأول: قوله صلى الله عليه وسلم:" إن أحق ما وفيتم به من الشروط ما استحللتم به الفروج" والحديث نص في مسألتنا. الدليل الثاني: قوله صلى الله عليه وسلم:" المسلمون على شروطهم ". الدليل الثالث: الأدلة العامة الدالة على وجوب الوفاء بالعقود كقوله تعالى: {يأيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود}. والراجح القول الثاني إن شاء الله بلا إشكال وهذه المسألة وإن كانت من المفردات إلا أن قول الحنابلة فها قوي جداً. تنبيه: أشار شيخ الإسلام رحمه الله إلى أن مذهب المالكية في الواقع والمعنى يقرب من مذهب الحنابلة لأنهم في الأخير يلزمون بالشروط وهذا معنى تصحيحها. بعد هذا التصور العام لأحكام الشروط نرجع إلى الشروط التفصيلية. قال المؤلف - رحمه الله -: (إذا شرطت طلاق ضرتها) بدأ الشيخ بالقسم الأول من النوع الأول وهو الشروط الصحيحة التي لا يقتضيها العقد فيقول الشيخ وإذا شرطت طلاق ضرتها في آخر العبارة صح فإن خالفه فلها الفسخ. يجوز عند الحنابلة أن تشترط طلاق ضرتها فتقول: قبلت بشرط أن تطلق زوجتك الأخرى. واستدلوا على هذا بأن في هذا الشرط منفعة للزوجة منفعة ظاهرة لتكون منافع الزوج جميعها لها. ... الثانية: القياس على ما إذا اشترطت ألا يتزوج عليها بعد ذلك. القول الثاني: أن هذا الشرط باطل ولا يجوز فلا يجوز أن تشترطه المرأة وهو باطل إن اشترطته. والدليل على هذا قوله صلى الله عليه وسلم:" لا تسأل المرأة طلاق ضرتها لتكتفأ ما في صحفتها" وفي لفظ في الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى أن تسأل المرأة طلاق أختها، وهذا القول اختاره ابن قدامة، وهو نص في المسألة. قال المؤلف - رحمه الله -: (أو ألا يتسرى ولا يتزوج عليها أو ألا يخرجها من دارها أو بلدها أو شرطت نقداً معيناً أو زيادة في مهرها صح)

هذه الشروط أربعة وهذه الشروط صحيحة عند الحنابلة استدلالاً بما تقدم معنا في الخلاف العام وهو قوله: "المسلمون على شروطهم"، "وإن أحق ما وفيتم به من الشروط ما استحللتم به الفروج" والأحاديث والآيات العامة الموجبة للوفاء بالشرط والعقد. وهذا القول كما قلت وهو تصحيح هذه الشروط اختيار شيخ الإسلام رحمه الله. والقول الثاني: أن هذه الشروط لا تصح ولا تلزم فله مثلاً أن يتسرى عليها وله أن يتزوج عليها وله أن يخرجها من دارها، لقول النبي صلى الله عليه وسلم: "ما كان من شرط ليس في كتاب الله فهو باطل" وهذه الشروط ليست في كتاب الله، والصحيح أنها شروط صحيحة ولازمة للأحاديث العامة وأما قوله صلى الله عليه وسلم:"ما كان من شرط ليس في كتاب الله " أن هذه الشروط في كتاب الله بدلالة النصوص الأخرى. قال المؤلف - رحمه الله -: (فإن خالفه فلها الفسخ) هذا هو حقيقة مذهب الحنابلة أو ثمرة مذهب الحنابلة فالمقصود عندهم بتصحيح الشرط والإلزام به هذه الثمرة وهي أن للزوجة عند المخالفة الفسخ. فاستدل الحنابلة على هذا بأن رجلاً اشترطت عليه زوجته أن لا يخرجها من دارها فأراد أن يخرجها فتنازعوا وترافعوا إلى أمير المؤمنين عمر بن الخطاب فقال أمير المؤمنين: لها شرطها فقال الرجل: إذاً اأمير المؤمنين يطلقننا فقال عمر بن الخطاب: مقاطع الحقوق عند الشروط، وهذا الأثر ذكره البخاري معلقاً بصيغة الجزم وهو صحيح إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأرضاه، وقد فسخ عمر هذا النكاح بالشرط. مسألة أخيرة: حكم الإيفاء بالشرط عند الحنابلة مستحب وليس بواجب لكن إذا لم يوفي فللمرأة الفسخ، وهذه مسألة دقيقة يجب أن تفرق بين قول الحنابلة الوفاء بشرط مستحب وبين قول الجمهور الوفاء بشرط مستحب فالحنابلة يجعلونه مستحباً لكن إن لم يفي فللمرأة الفسخ. والقول الثاني: أنه يجب وجوباً فإن لم يفعل فهو آثم ولها الفسخ. واستدلوا على هذا بالنصوص الآمرة بالوفاء بالشروط.

واستدل الحنابلة بأن الوفاء بشرط المستحب بأن عمر بن الخطاب رضي الله عنه لم يلزمه في الأثر المذكور، فلما لم يلزمه تبين أن الوفاء بالشرط مستحب، ولكن الأقرب أن الوفاء بالشرط واجب وهذا الأثر يحمل على أن عمر بن الخطاب أراد الإصلاح بينهم على كل حال لا يمكن أن نترك النصوص الواضحة ونأخذ بهذا الأثر في جانبه المتشابه. هذا والله أعلم وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. - ((انتهى الدرس)).

الدرس: (7) من النكاح قال شيخنا حفظه الله: بسم الله الرحمن الرحيم والحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين. بالأمس تحدثنا عن الشروط الصحيحة عند الحنابلة، وتوقفنا على قول المؤلف وإذا زوجه وليته إلى آخره. بدأ المؤلف الكلام عن الشروط الفاسدة وتقدم معنا أن الشروط الفاسدة تنقسم إلى قسمين: فاسدة ومفسدة، مفسدة للعقد وفاسدة بنفسها مع بقاء العقد صحيح، وبدأ الشيخ بالقسم الثاني: وهي الفاسدة المفسدة. قال المؤلف - رحمه الله -: (وإذا زوجه وليته على أن يزوجه الآخر وليته ففعلا ولا مهر ... ) هذا العقد الذي ذكره المؤلف هو نكاح الشغار، ونكاح الشغار معناه في اللغة: الخلو وقيل معناه في اللغة: الرفع، والأقرب والله أعلم أن معناه في اللغة الخلو، وأما في الاصطلاح فسنذكر تعريفه عند الحنابلة: وهو الذي ذكره المؤلف، فتعريفه أن يزوج الرجل للآخر موليته على أن يزوجه موليته ولا مهر بينهما، وفهم من هذا التعريف أن الحنابلة يشترطون أن ليكون العقد من الشغار أن يجتمع فيه وصفان: الأول: أن يشترط كل منهما على الآخر أن يزوجه موليته. والثاني: أن يخو العقد من المهر. حكم الشغار: الشغار محرم، وهو محرم والعقد فاسد، لما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم في الصحيحين عن عدد من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم" نهى عن الشغار" والنهي في الحديث للتحريم، وهو يدل على فساد العقد. عرفنا الآن معنى الشغار في اللغة والاصطلاح، وحكمه في الشرع.

مسألة: تقدم معنا أن الحنابلة لا يعتبرون العقد من الشغار إلا إذا اجتمع فيه وصفان. ودليلهم على هذا حديث ابن عمر "أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن الشغار" وقال هو أن يزوج الرجل موليته على أن يزوجه الآخر موليته وليس بينهما صداق. فقالوا الحديث فسر الشغار واشترط خلوه من الصداق. والجواب عن هذا الحديث ـ قبل أن ننتقل إلى القول الثاني ـ الجواب عن الحديث أن التفسير المذكور في الحديث إنما هو من كلام الإمام نافع، وقد صرح أبو داود أن هذا الكلام إنما هو تفسير من نافع، كما أن البخاري ومسلم أخرجا الحديث ونسبا في رواية التفسير إلى نافع، وهذا هو الصحيح أن التفسير من نافع. القول الثاني: أن الشغار: هو أن يزوج الرجل موليته لآخر على أن يزوجه الآخر موليته، ولا يُشترط أن يخلو من الصداق، إذاً الممنوع على هذا القول هو مجرد الاشتراط، فإذا وجد الاشتراط بطل العقد، وإلى هذا ذهب ابن حزم، وهو قول لبعض الفقهاء وهو الصحيح إن شاء الله. والدليل على هذا من وجهين: الأول: حديث أبي هريرة وهو في الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم "نهى عن الشغار وقال: الشغار أن يزوج الرجل موليته لآخر على أن يزوجه الآخر موليته" ولم يذكر الصداق. الثاني: أن العباس بن عبد الله بن العباس تزوج أخت الحكم على أن يزوجه الحكم أخته، فقام معاوية خطيباً وأبطل النكاح وقال: هذا هو الشغار، وإبطاله لهذا النكاح كان على مرأى ومسمع من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ولم يعترض عليه أحد، وليس في الأثر اشتراط الخلو من الصداق، بل فيه أن كل منهما أصدق الأخرى صداقاً.

وهذا القول كما قلت هو الصحيح إن شاء الله، فالنكاح يعتبر من الشغار بمجرد الاشتراط، فالاشتراط هو علة المنع، ويؤيد هذا أن الظلم على المرأة غالباً لا يكون بمنع المهر، وإنما يكون بأن يفرض عليه الزواج أو يكرهها على الزواج بطريقة أو بأخرى، لأنه يريد أن يتزوج بمولية الآخر، فهذا هو الظلم في الحقيقة، وليس فقط خلو العقد من المهر، فهذا الظلم متوقع، والواقع كثيراً، هو سبب التحريم، فإن إنضاف إليه خلوه من الصداق صار ظلمات بعضها فوق بعض، وظلم للمرأة من أكثر من وجه، وصار محرماً بلا إشكال، لكن في مسألة تعريف الشغار هو هذا أي هو ما يكون فيه اشتراط ولو مع المهر. هذا هو النوع الأول من الشروط الفاسدة والمفسدة وهو الشغار، ثم انتقل الشيخ رحمه الله إلى النوع الثاني. قال المؤلف - رحمه الله - (وإن تزوجها بشرط أنه متى حللها للأول طلقها ... ) وهذا النكاح يسمى نكاح تحليل ونكاح التحليل محرم ولا ينعقد، ولا يوجب تحليل المرأة المطلقة ثلاثاً. والدليل على هذا "أن النبي صلى الله عليه وسلم لعن المحلل والمحلل له" هذا الحديث له طرق كثيرة جداً لكن لا يخلو شيء من هذه الطرق من علة، وإنما الحديث يصح بمجموع طرقه، فيكون صالح للاستدلال باجتماع الطرق وإلا في الحقيقة لا يوجد إسناد صحيح إلى النبي صلى الله عليه وسلم فيه اللعن لكن توجد أسانيد كثيرة يعضد بعضها بعضاً. الدليل الثاني: أنه نقل عن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم آثار كثيرة فيها النهي عن أن يتزوج الإنسان امرأة لمجرد التحليل. الدليل الثالث: أن النبي صلى الله عليه وسلم سمى من يتزوج ليحلل المرأة ليس إلا بالتيس المستعار وحديث التيس المستعار ضعيف ولا يثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم. مجموع هذه الأدلة لاسيما الآثار مع حديث "لعن الله المحلل والمحلل له" الذي يصح بمجموع طرقه يصلح لبيان أن نكاح التحليل محرم، بل ربما نقول تحريمه وإبطاله إجماع من الصحابة. قال المؤلف - رحمه الله -: (أنه متى حللها للأول طلقها أو نواه بلا شرط)

يعني إن اشترط في العقد فهو نكاح تحليل بلا إشكال، وكذلك لو نواه ولم يشترطه في العقد، فالعقد يعتبر نكاح تحليل، والضمير في نواه يرجع إلى الزوج، فإذاً النكاح إذا قصد به التحليل يبطل بمجرد النية عند الحنابلة لقول النبي صلى الله عليه وسلم" إنما الأعمال بالنيات" ولأن هذا لم يُرد النكاح الشرعي وإنما أراد نكاح التحليل. القول الثاني: أنه إذا نوى التحليل ولم يشترط في العقد فالعقد صحيح. واستدلوا على هذا بأن هذا العقد مستوفي بأركانه وشروطه، فهو صحيح وإن نوى التحليل، وزاد بعضهم بل إنه يؤجر على هذا العمل لأنه أراد الإحسان بإرجاع الزوجة المطلقة ثلاثاً إلى زوجها المطلق ثلاثاً. والصواب إن شاء الله بلا إشكال أن التحليل محرم بالنية، ولو بدون التصريح باشتراطه أثناء العقد، وعلى هذا تدل آثار الصحابة رضي الله عنهم وأرضاهم، وكذلك يدل عليه الاعتبار الصحيح إذ لا يوجد فرق بين أن يصرح بالنية وبين أن لا يصرح. مسألة: أفاد المؤلف أن النية التي تؤثر وتفضي إلى إفساد العقد هي نية الزوج فقط دون نية المرأة. والقول الثاني أن نية كل من الزوج والمرأة والولي إن نووها تبطل، والصواب إن شاء الله أن النية المؤثرة هي فقط نية الزوج، لقول النبي صلى الله عليه وسلم "لعن الله المحلل والمحلل له" فالحديث نص على أن المحلل والزوج، ولقول النبي صلى الله عليه وسلم لامرأة رفاعة لما أرادت أن ترجع إليه بعد تطليقها ثلاثاً:"أتريدين أن ترجعي إليه، لا حتى تذوقي عسيلته ويذوق عسيلتك" فقوله صلى الله عليه وسلم "أتريدين أن ترجعي إليه" إشارة إلى أنها نوت هذا ومع ذلك لم يبطل النبي صلى الله عليه وسلم العقد الثاني، لأن الزوج الثاني وهو عبد الرحمن بن الزبير لم يقصد التحليل. وبهذا الحديث استدل الإمام أحمد رحمه الله على أن نية المرأة ليست بشيء وهذا هو الصواب، فإذا رضيت بالزواج بنية أن تعود إلى زوجها الأول، لكن الزوج الثاني لم ينو مطلقاً هذه النية فالعقد صحيح، وهو مبيح للزوج الأول متى طلقها الزوج الثاني.

وشيخ الإسلام رحمه الله أشبع هذه المسألة بحثاً بإبطال التحليل بكلام غاية في النفاسة والقوة والجودة والمتانة والعمق، وما شئت من الصفات الحسنة، في الحقيقة أجاد إجادة قوية جداً وتحدث عن مسائل كثيرة جداً في الكتاب عن سد الذرائع، وعن الحيل والأجوبة عن أدلة الذين أجازوا الحيل، ثم أخيراً حصر الكلام في مسألة التحليل، وذكر الأدلة على تحريم التحليل في كلامٍ في الحقيقة رائع جداً، ويطرب له الإنسان لقوته ومتانته في الحقيقة، رحمه الله وجزاه عن المسلمين كل خير. ثم انتقل إلى النوع الثالث من الشروط المبطلة. قال المؤلف - رحمه الله -: (أو قال زوجتك إذا جاء رأس الشهر أو إن رضيت أمها) أو قال زوجتك إذا جاء رأس الشهر أو إن رضيت أمها فالعقد باطل لأن التعليق يتنافى مع عقود المعاوضات والنكاح من جملة عقود المعاوضات، إذاً التعليق هو الذي سبب إبطال العقد، لأنه يتعارض مع عقود المعاوضات كالبيع والنكاح من جملة عقود المعاوضات. والقول الثاني: أنه إذا علقه أو اشترطه على هذه الصفة برضا أمها أو بغيره من التعليقات فإنه يصح، والعقد المبني على هذا الشرط صحيح، لأنه لا يوجد دليل على المنع من تعليق عقود المعاوضات على الشروط، والأصل في العاملات الحل، وهذا القول الثاني اختيار شيخ الإسلام وهو أقرب إن شاء الله إلى الصواب وأشبه بأصول الشرع. قال المؤلف - رحمه الله -: (أو إذا جاء غد فطلقها) هذا هو القسم الرابع والأخير من الشروط الفاسدة المفسدة وهو نكاح المتعة. قال المؤلف - رحمه الله -: (أو إذا جاء غد فطلقها ... ) يعني إذا قال الولي للزوج زوجتك وإذا جاء غد فطلقها، أو وقّت بمدة يعني صرحوا بتأقيت مدة معينة مجهولة أو معلومة، فإن العقد حينئذ يعتبر نكاح متعة، ونكاح المتعة محرم، ولا يجوز إيقاعه، والعقد باطل.

والدليل على ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم خطب الناس في فتح مكة وقال: "أني كنت أبحت لكم المتعة فإني أحرمها إلى يوم القيامة" وفي لفظ أيضاً في الصحيح أنه صلى الله عليه وسلم "نهى عن المتعة في فتح مكة"، وعلى هذا القول استقر قول فقهاء المسلمين من أئمة المذاهب الأربعة، وغيرهم من الفقهاء المعتد بأقوالهم، وقد روي في المسألة خلاف عن ابن عباس وعن أصحابه رضي الله عنهم وأرضاهم لكن الصحيح إن شاء الله أن ابن عباس رجع عن هذه الفتوى، ولو فرضنا أن ابن عباس لم يرجع عن هذه الفتوى فقوله مرجوح بلا شك ولا إشكال، لكونه يخالف الحديث الصحيح ولكونه يخالف الآثار الأخرى عن عمر وغيره من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، ونكاح المتعة استقر الأمر على أنه نكاح محرم وباطل. مسألة: نكاح المتعة الذي تحدثنا عنه هو النكاح الذي يصرح فيه العاقد اشتراط مدة، فهذا النكاح هو الذي تحدثنا عنه، وهو الذي حرمه جملة فقهاء المسلمين أو كل فقهاء المسلمين. بقينا في مسألة: وهي ما إذا تزوج الإنسان ولم يصرح في العقد بتأقيته ولكنه نواه، وهو الذي يسمى النكاح بنية الطلاق، وهذه المسألة كانت قليلة الأهمية في السابق ولكنها أصبحت اليوم من المسائل المهمة، والتي يكثر فيها الكلام بسبب كثرة السفر، وانفتاح الناس على المفاتن والشبهات والأهواء، فكثر الكلام في هذه المسألة لهذا السبب، ونريد أن نتحدث عن هذه المسألة ولكن باختصار، ذهب الحنابلة وعلى رأسهم الإمام أحمد وقد صرح بهذا مراراً أن النكاح بنية الطلاق محرم، والعقد باطل، وإلى هذا ذهب الإمام الأوزاعي وأيضاً ابن حزم وهو الذي يفهم من تقرير العلامة ابن القيم فهؤلاء يرون أن النكاح بنية الطلاق لا يجوز واستدلوا بأدلة: الدليل الأول: أن النكاح بنية الطلاق هو نكاح متعة تماماً، إلا أنه لم يصرح فيه بشرط التوقيت، وإلا فهو تماماً كنكاح المتعة، وقرروا هذا الدليل بأن النية في عقود النكاح كافية ولا يشترط التصريح بالشرط، بدليل أنهم يبطلون نكاح التحليل بمجرد النية ولو لم يشترط، وأي فرق بين إنسان عازم على التطليق بعد شهر إلا أنه لم يصرح ولم يشترط في العقد، وبين آخر صرح واشترط.

الثاني: أن النكاح بنية الطلاق لا يتوافق مطلقاً مع مقاصد الشرع من النكاح، والشارع الحكيم إنما أمر بما أمر به لتحقيق غرضه، وهذا النكاح لا يتحقق منه الغرض. الثالث: أن هذا النكاح أصبح وسيلة من وسائل انتشار العقود الباطلة بالإجماع، لأنه إذا أجزنا النكاح بنية الطلاق صار الناس يتوسعون بوجود نكاح بنية الطلاق بلا ولي ولا شهود ولا استيفاء الشروط الباقية كما هو مشاهد، والعمل الذي أصله مباح إذا أدى إلى مفسدة محرمة صار محرماً، كيف والنكاح بنية الطلاق ليس من الأعمال المباحة، بل هو محرم عند هؤلاء. القول الثاني: ذهب إليه الإمام مالك وبطبيعة الحال الشافعي، لأن الشافعي رجل يأخذ بالظواهر والإمام أبو حنيفة، فالأئمة الثلاثة ذهبوا إلى هذا واختاره من المحققين ابن قدامة. واستدل هؤلاء بأن النكاح بنية الطلاق نكاح، وليس على الإنسان إذا أراد أن يتزوج ليس عليه أن ينوي حبس امرأته إلى الأبد، هذه النية ليست واجبة، فإذا تزوج زواج شرعي فالزواج صحيح نوى التطليق بعد مدة أو لم ينوي، هذا هو دليل الجمهور.

تأملت أنا هذه المسألة مراراً وتكراراً وأعدت فيها النظر وظهر لي بوضوح أن النكاح بنية الطلاق متعة ليس بينه وبين نكاح المتعة أي فرق، إلا فرق ليس له قيمه وهو عدم التصريح بالشرط، وأي قيمة لهذا الشرط، ومن العجيب أن نكاح المتعة في القديم كان يتخذ كثيراً في السفر، والنبي صلى الله عليه وسلم لما أباح نكاح المتعة كانوا في سفر في مكة، والآن النكاح بنية الطلاق إنما يستخدم في السفر، فبينهما تطابق من وجهة نظري كبير، ويظهر لي الآن بجلاء أنه متعة إنما خلي عن الشرط، وأتعجب في الحقيقة من ذهاب الجماهير إلى الجواز كما تعجب شيخ الإسلام من ابن قدامة حيث أشار إلى الجواز مع أن المذهب كله على المنع، وفتاوى الإمام أحمد على المنع، وسئل عن الرجل يذهب إلى خرسان ليتزوج ثم يطلق إذا أراد أن يخرج من خرسان، وقال: هذا متعة، فإذا تأمل الإنسان وهي مسألة خلاف على كل حال والخلاف فيها قوي جداً، لكن يظهر لي بوضوح أن النكاح لمن عزم على الطلاق بعد مدة عينها أنه متعة، ولا يفترق عن المتعة بأي شيء في حقيقته، وإنما يفترق عنه في ظاهره، وهو قضية التصريح بالشرط أو عدم التصريح بالشرط، وهي قضية ليس لها أي قيمة من وجهة نظري، ومما يؤيد المنع أن دائماً نقرر في المسائل كثيراً أن العبرة بالمعاني والمقاصد، وليست العبرة بالألفاظ والمباني، وإذا أردنا أن نعتبر هذا العقد اعتبار، وننظر إلى المقاصد منه، وجدنا أن المقصد منه يتوافق مع المتعة، فإذا كنا نرى أن هذه القاعدة صحيحة وطبقناها على هذه المسألة نتج عن ذلك المنع، أعود وأقول هي مسألة خلاف والخلاف فيها قوي بل الجمهور يرون الجواز ولكن هكذا ظهر لي بعد التأمل. فصل

يعني في الشروط الفاسدة في نفسها التي لا تفسد العقد، وذكر الشيخ رحمه الله تعالى أمثلة، ويلاحظ أن الشيخ رحمه الله لم يذكر ضابطاً لهذه الشروط، كما أنه لم يذكر ضابطاً للشروط الفاسدة المفسدة، أما الشروط الفاسدة المفسدة فله عذر أنه لم يذكر ضابط، لأن الحنابلة يرون أن الشروط الفاسدة المفسدة تنحصر في أربعة عقود وهي السابقة (الشغار والمتعة والتحليل والمعلق بشرط) فقط، ولذلك لم يذكر لها ضابطاً لكن من وجهة نظري وهذا عوداً للمسألة السابقة لو أن الشيخ الماتن رحمه الله صرح بأسمائها المشهورة فقال نكاح الشغار، نكاح التحليل لكان أوضح لطالب العلم وأظهر في بيان الحكم. نرجع المهم الآن إلى الشروط الفاسدة التي لا تفسد العقد، لم يذكر لها الشيخ ضابط، والسبب في ذلك والله أعلم ما أشار إليه ابن القيم وهو أن الفقهاء عندهم اضطراب شديد في شروط الصحة والشروط الفاسدة، وأنهم لم ينضبطوا في تقرير ما هو الشرط الصحيح والشرط الفاسد، وأشار إلى ضابط جميل جداً وفي الحقيقة سنلاحظ أننا إذا طبقنا هذا الشرط يصدق في الأمثلة التي ستذكر وغيرها. يقول الشيخ في الضابط: أن كل ما جاز عمله بلا شرط صار لازماً بالشرط. وستأتي الأمثلة الموضحة لهذا الضابط الجميل من الشيخ ابن القيم. قال المؤلف - رحمه الله -: (وإن شرط ألا مهر لها) إذا شرط ألا مهر لها فإن الشرط باطل والعقد صحيح. أما الدليل على بطلان الشرط فلأن هذا الشرط يتنافى مع مقتضى العقد، ويبطل ما كان واجباً في أصل العقد، وإذا كان بهذه المثابة فهو فاسد. وأما الدليل على صحة العقد مع بطلان الشرط فهو أن الشرط أمر إضافي خارج عن حقيقة العقد فإذا بطل بقي العقد صحيحاً، وهذا الدليل للحنابلة هو دليل لكل الشروط اللاحقة. يقول الشيخ: وإن شرط ألا مهر لها، عرفنا الآن أن الحنابلة إذا شرط ألا مهر لها أن الحكم بطلان الشرط وصحة العقد. نحن الآن نريد أن نذكر التفصيل في بعض الشروط. القول الثاني: أن الشرط والعقد كلاهما باطل.

واستدل هؤلاء بأن المهر من حقيقة العقد، لأن الله تعالى إنما أباح المحصنات بالمهر وقال: {وآتوهن أجورهن} فلما شرط الله للنكاح المهر عرفنا أنه من مقتضيات أصل العقد، وهذا القول رواية عن الإمام أحمد ومذهب المالكية والأحناف ووسع الدائرة شيخ الإسلام وقال المذهب أكثر السلف. وهذا القول هو الصحيح ويدل على صحته أنا لو صححنا العقد بلا مهر، لصار هذا النكاح يشبه الهبة، والهبة أي جواز أن تهب المرأة نفسها للرجل خاص بالنبي صلى الله عليه وسلم وعلى هذا القول تنتفي الخصوصية، وكل قول يؤدي إلى انتفاء الخصوصية فهو دليل على ضعفه وخطئه. إذاً الخلاصة نقول الصواب إن شاء الله أنه إذا اشترط ألا مهر فإن العقد أو الشرط فاسدان. قال المؤلف - رحمه الله -: (أو لا نفقة) يعني أو شرط الزوج ألا نفقة لها، إذا شرط الزوج ألا نفقة لها فالشرط باطل والعقد صحيح، والتعليل هو ما تقدم. والقول الثاني: أن العقد والشرط صحيحان، فإذا اشترط أنه لن ينفق فالشرط صحيح. واستدل هؤلاء بالنصوص العامة الآمرة بإيفاء الشروط واستدلوا أيضاً بأن هذا الشرط لا يتناقض مع مقتضى العقد، واستدلوا أيضاً بأن قاعدة أن الشرط إذا تنافى مع مقتضى العقد يبطل ليست بصحيحة، بدليل "أن النبي صلى الله عليه وسلم أجاز لمن اشترى نخلاً بعد أن تؤبر، أن يشترط ثمر هذه النخل"، مع أن هذا الشرط يتنافى مع مقتضى العقد، لأن مقتضى العقد أنه يبقى ملك للبائع، ومع ذلك صحح الشارع هذا الشرط، وإلى هذا أشار ابن القيم، وبهذا قدح في هذا الأصل الكبير عند الحنابلة، وهو أن الشرط الذي يتنافى مع مقتضى العقد يصبح فاسداً، وهذا القول صحيح، وهو أنه لو شرط عليها أنه لن ينفق فإنه لا يجب عليه أن ينفق، لأنه لا يوجد دليل على اشتراط النفقة لصحة العقد. قال المؤلف - رحمه الله -: (أو أن يقسم لها أقل من ضرتها أو أكثر) نأخذ الصورة الأولى، إذا شرط أن يقسم لها أقل من ضرتها فقال: أني قبلت النكاح بشرط أن يكون لك ليلة وللأخرى ليلتين، فهذا الشرط باطل عند الحنابلة والعقد صحيح، وعليه أن يقسم بالعدل ولو شرط هذا الشرط في العقد.

والقول الثاني: أن العقد والشرط صحيحان، والخلاف في هذه المسألة كالخلاف في المسألة السابقة، وهي اشتراط عدم النفقة، ولو أردنا أن نطبق الضابط الذي ذكره ابن القيم يقول: أن ما كل ما جاز بذله بلا شرط يعني في الأصل صار لازماً بالشرط، وهل يجوز للمرأة أن تتنازل عن ليلتها للأخرى ابتداءً؟ يجوز، فإذا جاز أن تتنازل يجوز أن نلزمها بهذا التنازل من خلال الشرط، وهو في الحقيقة ضابط جيد بخلاف المهر، المهر لا يجوز لها هي أن تتنازل عنه ولا ابتداءً، ولذلك لم يصح الشرط الملزم بالتنازل عنه فهو في الحقيقة ضابط إن شاء الله مطرد. يقول (أو أكثر) يعني أو أن يشترط الزوج أو أن تشترط الزوجة أن يقسم لها أكثر من ضرتها، فالشرط باطل والعقد صحيح، وهذا الحكم صحيح لأن الشرط في هذه المسألة باطل، لأن هذا الشرط يتضمن ظلم المرأة والاعتداء على حقها، ولذلك نقول هذا الشرط فاسد لأنه يتعارض مع نصوص الشرع، ولأن فيه اعتداء على حق الغير بخلاف الشرط الأول، فهو تنازل من المرأة، وإذا تنازلت عن حقها فلا حرج عليها، أما هذا الشرط فهو اعتداء على طرف ثالث، فلا يجوز إذا اشترطوا، وعليه أن يقسم بالسوية، وأيضاً إذا أردت أن تطبق ضابط ابن القيم تجده صحيح، هل يجوز للإنسان ابتداءً أن يفاضل بين نسائه؟ لا يجوز، إذاً لا يجوز أن يلزمه من خلال الشرط. قال المؤلف - رحمه الله -: (أو شرط فيه خياراً) أي شرط الزوج في النكاح خيار، فقال: تزوجت فلانة ولي الخيار لمدة شهر، فهذا الشرط باطل والعقد لازم وصحيح. التعليل: ذكروا تعليلاً جميلاً في الحقيقة قالوا: أن هذا الشرط يؤدي إلى امتهان الحرائر، ووجه ذلك أنه يكشف عن المرأة ويستمتع بها ثم إذا بدا له قال اخترت الفسخ، وبهذا تمتهن الحرائر ويدخل عليهن الضرر. واستدلوا بدليل آخر وهو ما تقدم معنا أن عقود المعاوضات لا يصلح فيها التعليق.

والقول الثاني: أن هذا الشرط صحيح وأن له هذا الخيار، وهو بمعنى الشروط، وتقدم معنا أن الشروط صحيحة، وأنه لا يوجد دليل على بطلان جنس الشروط ما لم تتعارض مع دليل شرعي، لعموم قول النبي صلى الله عليه وسلم:"المسلمون على شروطهم"، في الحقيقة هذا القول الثاني اختيار شيخ الإسلام وهو من حيث التنظير الفقهي يشبه المسائل السابقة التي نقول أن الراجح فيها أن الشروط صحيحة، لكن تعليل الحنابلة أوجب لنوع من التوقف في الحقيقية، لأن كون النكاح يعلق بخيار، وتكون المرأة عرضة للابتذال والامتهان، وأنه بعد مضي الفترة المحددة في الخيار يختار الفسخ كل هذا يجعل الإنسان في الحقيقة يقوي مذهب الحنابلة، وهو أن اشتراط خيار لمدة معينة لا يجوز في العقد، كما أني أخشى أن يتخذ هذا الحكم ذريعة للمتعة، فبدل أن يقول متعة أو بنية الطلاق يقول لي الخيار، ثم نقول هذا الخيار لا يرد على الحنابلة مطلقاً لأن الزوج إذا قال تزوجت فلانة ولي الخيار مدة شهر، إن كان ناوياً الطلاق فهو عند الحنابلة باطلاً، إذاً هذه المسألة عند الحنابلة تتنزل على زوج ناوي الطلاق، إذاً هي لا ترد على مذهب الحنابلة، لكنها ترد وبقوه على مذهب الذين يرون جواز النكاح بنية الطلاق، فيقول لي الخيار، وإذا أراد أن يرجع إلى بلده فسخ العقد وانتهى الموضوع، بل إنه هذا الحكم قد يستغل استغلال شنيع جداً لأنه سيأتينا أن من فائدة الشرط أن يكون الفراق على سبيل الفسخ لا الطلاق، وسيأتينا أن من فوائده أنه ما تحسب عليه طلقه، فهو أحياناً يتحرج لأنه كلما أراد أن يسافر لابد أن يطلق، ربما يسافر لبلد ثلاث مرات، وهو يريد هذه المرأة فتكون مطلقة ثلاثاً، فبدل ما يتزوج بنية الطلاق يتخذ الخيار، ويقول أنا لست على مذهب الحنابلة في النكاح بنية الطلاق، ولست على مذهبهم في مسألة الخيار، ويتركب من هذا أنه ممكن يتزوج الواحدة ويفارقها ولا نقول يطلقها عشرات المرات، فأقول ربما يستغل استغلال سيء، على كل حال نحن الآن يعنينا الحكم الفقهي، فهذا هو الحكم الفقهي أنه يبدو لي أن مذهب الحنابلة صحيح وقوي. قال المؤلف - رحمه الله -: (أو إن جاء بالمهر في وقت كذا ... )

إذا قال: إن جاء بالمهر في وقت كذا وإلا بطل النكاح، فإن الشرط يلتغي، والعقد صحيح، فتبقى زوجته، أتى بالمهر أو لم يأتي في الوقت المحدد، والسبب في إبطاله عند الحنابلة هو أن هذا نوع من التعليق، وتقدم معنا أن الحنابلة لا يرون صحة تعليق عقد النكاح على أي شرط. والقول الثاني: أن هذا صحيح وأنه لا ينبني على القول بهذا الشرط أي محذور، ولذلك نقول لذا قال إن أتيت بالمهر إلى مدة كذا وإلا فالنكاح باطل، صحيح، فإن لم يأت به فسخ النكاح، وفي هذا مصلحة للمرأة وللولي وللزوج وليس فيه أي مفسدة. قال المؤلف - رحمه الله -: (وإن شرطها مسلمة .. ) وإن شرطها مسلمة فبانت كتابية فله الفسخ. والتعليل أنها إذا بانت كتابية دخل عليه الضرر وعلى ولده، كما أن الكتابية أنقص في المعنى من المسلمة، وهو اشترط مسلمة فصارت كتابية، وأما العكس، إذا اشترط كتابية فبانت مسلمة فليس له الخيار ولا الفسخ، لأنه شرط شرطاً فجاءه خير من شرطه. والقول الثاني: أنه إذا شرطها كتابية فجاءت مسلمة له الخيار، وعللوا هذا بأنه ربما أراد ألا تنشغل بأداء العبادات. والراجح أن له الخيار، إلا أن هذا التعليل في الحقيقة سيء وغير مقبول، تصحيح هذا التعليل كيف يكون من مقاصد المسلم أن يحضر من لا يتعبد الله، لكن لماذا نصحح مع إبطال هذا التعليل، لأنه ربما يكون له غرض آخر صحيح، مثل أن يريد هذه المرأة لعمل فيه إهانة وامتهان، ولا يريد أن تكون مسلمة، رفعة للمسلمة حينئذ شرطه صحيح وله الخيار. قال المؤلف - رحمه الله -: (أو شرطها بكراً أو جميلة أو نسيبة أو نفي عيب لا ينفسخ به النكاح) يعني فبانت خلاف ذلك فله الفسخ، هذه الشروط الأربعة إذا اشترطها فبانت المرأة بخلاف هذه الشروط فله الفسخ. واستدل الحنابلة على هذا بأن هذه الشروط شروط مقصودة مرغوبة، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول:"المسلمون على شروطهم"، وإذا كانت هذه الشروط مقصودة ومرغوبة فإن تخلفها يعطي الزوج الحق في الفسخ.

والقول الثاني: أنه إذا شرطها جميلة أو بكراً أو نسيبة وتبين أنها ليست كذلك فلا خيار له، واستدلوا على هذا بأن فسخ النكاح إنما يكون بالعيوب التي توجب الفسخ وهي ثمانية فقط، وليست هذه منها، كما أن هذه الصفات صفات كمال وليست نقص في العيب، فإذا تخلفت لم يؤدي هذا إلى إبطال العقد. والراجح بلا شك ولا إشكال أنه إذا تخلفت هذه الشروط فإنه له حق الفسخ، لأن هذه الشروط شروط مقصودة فيها نفع ظاهر للزوج، إلا أنه ينبغي التأكيد على أن اشتراط أن تكون جميلة أنه اشتراط غير دقيق ويؤدي إلى النزاع، لأن ما معنى جميلة؟ أولاً لا يوجد جميلة إلا ويوجد من هي أجمل منها، وهذا الأمر سهل، الأمر الآخر وهو أصعب أنه قد تكون المرأة جميلة جداً في نظر شخص وفي نظر الآخر ليست بجميلة، والحل من وجهة نظري أن يجعل الضابط فلان، يقول جميلة بنظر فلانة ممن يثق هو برؤيتها، ويثق أيضاً بتقديرها للجمال، المهم أن تضبط، أما أن يشترط أن تكون جميلة هذا أمر لا يمكن ضبطه، ويستطيع أن يفسخ مهما كانت المرأة توصف بالجمال، كما أن هذا الشرط يدل على قوة القول باستحباب النظر إلى المرأة، لأنه مع النظر إلى المرأة لا نحتاج إلى أن نشترط أنها جميلة، ولا يستطيع هو أن يفسخ لأنه سبق أن رآها وعرف هل هي جميلة أو ليست بجميلة. قال المؤلف - رحمه الله -: (وإن عتقت تحت حر فلا خيار لها) المرأة إذا عتقت تحت الحر فلا خيار لها، بل هي ملزمة بالبقاء معه. واستدلوا الجمهور على هذا الحكم بدليلين: الأول: أنها بكونها حرة أصبحت مساوية له في المنزلة، يعني للزوج، ونحن الآن نتكلم عن الأمة تحت الحر، فإذا عتقت تساوت هي وإياه في المنزلة فلا تملك الفسخ. الثاني: حديث عائشة أن بريرة رضي الله عنها وأرضاها لما عتقت اختارت الفسخ، قالت عائشة: وكان زوجها عبداً ولو كان حراً لم تمكن من الفسخ. القول الثاني: أن الأمة إذا عتقت خيرت سواء كان زوجها حراً أو عبداً، واستدلوا برواية لحديث بريرة أن زوجها كان حراً، والصواب إن شاء الله أن الزوج كان عبداً وإلى هذا مال الإمام البخاري، وأن هذه الرواية أصح الروايات، وبهذا عرفنا أن دليلهم الأول ضعيف.

الدليل الثاني: أن علة تخيير المرأة أنها زوجت وهي أمة، لا تملك من أمرها شيئاً تصرف فيها سيدها، فلما ملكت رقبتها خيرت، وهذا نصره جداً ابن القيم ورأى أنه مأخذ قوي جداً ورجح هو وشيخ الإسلام هذا القول وهي أنها لها الحرية في الاختيار، سواء كان الزوج حراً أو عبداً. والراجح إن شاء الله مذهب الحنابلة ومن وجهة نظري أن اختيار الشيخ وتلميذه رحمهم الله ضعيف، السبب في ضعفه من وجهين: الأول: أن عائشة وهي أعرف الناس بقصة بريرة لأنها هي التي دفعت قيمة المكاتبة وعلى علم بأوضاعها وأحوالها، أخبرت أن زوجها لو كان حراً لم تمكن من الاختيار، هذا أولاً. ثانياً: أن التعليل الذي ذكره ابن القيم ضعيف، وجه ضعفه أن هذه الأمة زوجت قسراً في حال يبيح الشارع تزويجها عليه، كما أن الصغيرة التي يجوز لوليها أن يجبرها على النكاح إذا كبرت وذهب وصف الصغر ليس لها خيار، كذلك هذه الأمة إنما زوجت قهراً بموجب الشرع وبإذن الشارع، فإذاً لا معنى لتخييرها بعد ذلك، لهذين الدليلين أقول إن اختيار أن القول الثاني ضعيف وأن مذهب الحنابلة في هذه المسألة قوي وأنها إن عتقت وزوجها حر فليس لها الخيار بل تبقى زوجة له. قال المؤلف - رحمه الله -: (بل تحت عبد) يعني بل تخير تحت عبد، إذا عتقت تحت عبد فإنها تخير بلا إشكال بالإجماع والنص، فإن حديث بريرة فيه أنه كان عبداً، كما أن أهل العلم أجمعوا على أنها إذا عتقت صارت أعلى منه منزلة وفقد شرط المكافأة، ولابد أن تختار لنفسها البقاء مع هذا العبد أو الانفصال. قال المؤلف - رحمه الله -: (فصل ومن وجدت زوجها مجبوباً ... ) هذا الفصل أراد المؤلف أن يبين فيه العيوب التي ينبني عليها جواز الفسخ من الزوجين، وهذه العيوب عند الحنابلة وعند الأئمة الأربعة معدودة وليست مضبوطة، يعني لا تؤخذ بضبطها بقاعدة معينة وإنما هي معدودة، منهم من يقول أنها ثمانية ومنهم من يقول ستة ومنهم من يزيد أو ينقص وهذه العيوب تنقسم إلى ثلاث أقسام: عيب يختص بالرجل، وعيب يختص بالمرأة، وعيب مشترك بين الرجل والمرأة، ومفهوم عبارة الحنابلة أن ما عدا هذه العيوب الثمانية لا يجوز ولا يمكّن لأحد من الزوجين الفسخ إذا وجدت في الآخر.

والقول الثاني: أن العيوب التي تمكن أحد الزوجين من الفسخ مضبوطة وليست معدودة، يعني مضبوطة بقاعدة معينة. ((الآذان)) قلت والقول الثاني أنه مضبوطة وضبطها ابن القيم بقوله أن كل عيب يؤدي إلى نفرة أحد الزوجين من الآخر ومنع الاستمتاع على الوجه المطلوب فهو من العيوب التي يفسخ بها النكاح، وهو أيضاً ضابط جيد، ويتوافق مع مقاصد الشرع، لكن يبقى أن ننظر هل أحد وافق الشيخ على هذا التعميم، أو أن هناك إجماع على حصر العيوب بعيوب معينة، هذه القضية تحتاج تحرير فقط لا يكون هناك إجماع. بدأ المؤلف رحمه الله بالعيوب الخاصة بالرجل يعني بالزوج وهي كما قلت عيوب تؤدي إلى الفسخ. قال المؤلف - رحمه الله -: (ومن وجدت زوجها مجبوباً أو بقي له ما لا يطأ به فلها الفسخ) الجب عند الفقهاء هو: قطع الذكر أو قطع ما لا يتمكن معه من الجماع، وهو عيب في الزوج يخول المرأة الفسخ. واستدلوا على هذا بأمرين: الأمر الأول: أن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم روي عنهم آثار في العنة، والجب أعظم من العنة، لأن العنة كما سيأتينا هي عيب مع بقاء الذكر، بينما الجب هو عيب مع فقد الذكر. الدليل الثاني: أنه مع كون الزوج مجبوب لا تتحقق مقاصد النكاح من الاستمتاع والاستعفاف وحصول الولد، ولهذا اعتبره الفقهاء من العيوب التي تبيح للزوجة الفسخ. قال المؤلف - رحمه الله -: (وإن ثبتت عنته ... العيب الثاني: العنة أن يكون عنيناً والعنة هي: أن لا يتمكن الزوج من الإيلاج بسبب عدم الانتشار. ومقصود الحنابلة وغيرهم من الفقهاء إذا كان هذا عيباً ومرضاً ثابتاً، أما إذا لم يتمكن من الجماع لمرض أو لعلة عارضة فإن هذا لا يبيح الفسخ للمرأة. البحث الثاني: أن العنة تثبت الخيار للمرأة لأمرين: الأول: أنه روي عن أصحاب النبي منهم علي وعمر وابن عباس. الثاني أنه لا يحصل مع العنة مقاصد النكاح كما تقدم في المجبوب، وتأتي المباحث لاحقاً إن شاء الله. هذا والله أعلم وصلى اللهم وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. - ((انتهى الدرس)).

الدرس: (8) من النكاح قال شيخنا حفظه الله: بسم الله الرحمن الرحيم والحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين. تحدثت بالأمس عن العيب الثاني من العيوب الموجبة أو المخولة لفسخ النكاح وهي من عيوب الرجل. العيب الثاني هو: العنة، وأخذنا بالأمس تعريفه، وأنه يعتبر عيب عند جميع الأئمة إلا من شيخ، استدلالا بالآثار الثابتة عن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، واستدلالا بكونه يفقد العقد الحدث الذي من أجله أنشئ وهو الاستمتاع وتحصيل الذرية والسكن وغير ذلك مما يقصد بعقد النكاح. المسألة الثانية: بماذا يثبت؟ وهي التي أشار إليها المؤلف، تثبت العنة بأحد ثلاثة أمور: الأول الإقرار، والثاني البينة، والثالث النكول، إذا فقدت هذه الثلاثة فإنه لا قيمة لدعوى المرأة بأن الزوج عنين، لابد أن تثبت ذلك إما ببينة أو هو يقر أو يقر وتشهد على إقراره أو تتوجه إليه اليمين وينكل عنها، فبالنكول يقضى عليه، فهم من هذا كما قلت أنه لا يوجد طريقة أخرى لإثبات العنه سوى هذه الطرق التي ذكرها المؤلف. والقول الثاني: أنه إذا لم نتمكن من إثباتها بهذه الطرق، فإن القاضي يختبر الزوج اختبار مباشر عن طريق وضعهما في غرفة واحدة، وطلب من الزوج أن يريق الماء على الفراش، فإذا أراق الماء وحكم أهل الخبرة أنه ماء الرجل بطلت دعوى المرأة، والأقرب والله أعلم المذهب، وذلك لأن استخدام مثل هذه الطريقة يفضي إلى منازعة شديدة بين الزوجين، ويفضي إلى مفاسد أخرى. المسألة الثالثة: بماذا يزول أو تزول العنة؟ ذهب الحنابلة إلى أن العنة تزول بإيلاج الحشفة، رأس الذكر، ولا يشترط إيلاج سائر الذكر، وعلى هذا جمهور الحنابلة، واستدلوا على هذا بأن هذا القدر من الجماع يبيح الزوجة لزوج آخر، ويتقرر بها المهر، فكذلك تزول بها العنة. والقول الثاني: أنه لا تزول إلا بإيلاج جميع الذكر في فرج المرأة، وقالوا أنه بهذا نتحقق من الانتشار التام والوطء التام، والقول الثاني فيه ضعف، والصحيح إن شاء الله مذهب الحنابلة، لما ذكروه من تنظير بقضية استقرار المهر وحل الزوجة لزوج آخر إذا كانت مطلقة ثلاثاً. قال المؤلف ـ رحمه الله ـ:

(وإن ثبتت عنته بإقراره أو بينة على إقراره) هذه هي المسألة الرابعة: أن العنين إذا ثبتت عليه العنة يؤجل لسنة، والدليل على هذا أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه حكم بتأجيل العنين لمدة سنة بمحضر من الصحابة، ولم يعترض عليه أحد، فهو أشبه ما يكون بإجماع الصحابة، والمقصود بالسنة يعني الهلالية، ولا يحكم عليه قبل مضي السنة يعني بالفسخ. قال المؤلف ـ رحمه الله ـ: (أجل سنة منذ تحاكمه) يعني أن بداية حساب السنة يكون من التحاكم للقاضي لا من الدعوى ولا من العقد، وإنما من حين التحاكم، فإذا صدر الحكم بدأنا بحساب السنة، والدليل على هذا أيضاً أثر عمر بن الخطاب رضي الله عنه فإن ظاهره أن السنة حسبت من حين حكم عليهم، كما أن في بعض الآثار التصريح في بعض الروايات عن عمر بن الخطاب بأن السنة حسبت بعد المحاكمة. قال المؤلف ـ رحمه الله ـ: (فإن وطء فيه وإلا فلها الفسخ) يعني إذا مضت السنة ولم يطأ طيلة السنة ولا مرة واحدة فإن لها الحق في الفسخ، وهذا هو ثمرة إثبات العيوب المخولة للزوجة بالفسخ، وذهب الجمهور إلى أن هذا الحق يثبت على التراخي وليس على الفور، فإذا سكتت بعد السنة فلها أن تطالب بعد مضي شهر أو شهرين أو ثلاثة بحقها بالفسخ إذا لم يطأ، فهو أمر يثبت على التراخي لا على الفور، ربما رأت المرأة الانتظار أكثر من ذلك، وربما رأت أن تختبر نفسها هل تستطيع الصبر مع مثل هذا الزوج، أو لأي حكمة أخرى، على كل حال هو عند الجمهور على التراخي وهذا هو الصواب، والتعليل أنه على التراخي لأن التراخي في هذه المسألة لا يسقط حقها ولها أن تطالب متى شاءت بحقها في الفسخ إذا لم يطأ في أثناء هذه السنة. قال المؤلف ـ رحمه الله ـ: (وإن اعترفت أنه وطئها فليس بعنين) إذا اعترفت أنه وطئها يعني ولو مرة واحدة والسبب في ذلك يعود إلى تعليلين: التعليل الأول: أنه بوطئه ولو مرة واحدة تحققنا أنه ليس بعنين، وقد أشر بالأمس إلى أن مقصود الفقهاء بكون الزوج عنين يعني أن يكون هذا صفة له دائمة وليست عارضة، فإذا وطء ولو مرة واحدة بانتشار دل هذا على أنه ليس بعنين.

التعليل الثاني: أنه بهذا الوطء حصل مقصود المرأة وهو استقرار المهر، فإذا وطء مرة لا تملك المرأة المطالبة بعد ذلك بدعوى أنه عنين، المطالبة بالفسخ بدعوى أنه عنين. القول الثاني: وهو الذي تبناه فقيه أبو ثور أنه إذا وطء مرة ثم لم يتمكن من الوطء مرة أخرى وأصيب بالعنة بعد ذلك أن لها أن تطالب، واستدل على ذلك بأن الضرر موجود، وبأن الحكم يدور مع علته والعلة هي عدم التمكن من الوطء بسبب عدم الانتشار، وهي موجودة بهذه الصورة، والراجح إن شاء الله القول الثاني، لأن الضرر الحاصل بترك الوطء، ولو كان وطء مرة واحدة كالضرر الحاصل بترك الوطء من الأصل، فالأقرب إن شاء الله القول الثاني. قال المؤلف ـ رحمه الله ـ: (ولو قالت في وقت ... ) إذا قالت المرأة في وقت من الأوقات رضيت به عنيناً سقط حقها، وظاهر كلام المؤلف سواء رضيت به قبل هذه السنة أو بعد السنة أو في أثناء السنة، والتعليل أنها أسقطت حقها باختيارها، فلا تستطيع بعد ذلك أن تستدرك هذا الحق، وإلى هذا ذهب الجماهير. والقول الثاني: أنها إذا أسقطت حقها فلها أن ترجع فيه، وهو مذهب المالكية، وأضافوا إلى هذا أنها إذا رجعت عن إسقاط حقها فإنا لا نحتاج إلى أن نضرب له أجلاً مرة ثانية إذا كان ضرب له أجل في المرة الأولى، فالمالكية حفظوا حق المرأة بهذا القول، فهم يرون أنه لها أن تطالب ولا يشترط أن نعيد الكرة مرة أخرى ونؤجله لمدة سنة، وهذا القول الذي ذكره صحيح وقوي لما تقدم من أن هذا الحق يدوم ويطول، يعني قضية أن يكون عنيناً عيب يستمر، والعيوب التي تستمر للمرأة الرجوع عن التنازل بحقها، لما يدخل عليها من ضرر عظيم، ونحن نتحدث فيما إذا علمت بالعيب بعد العقد، أما إذا علمت بالعيب قبل العقد وعقد العقد وهي عالمة فإنها لا تملك الرجوع كما سيأتينا، إنما البحث الآن فيما إذا دخلت وعقد عليها ثم تبين لها أن فيه هذا العيب، حينئذ إذا رضيت فلها أن ترجع، أما إذا كان العقد عقد على هذا الأساس فليس لها أن ترجع، وبهذا انتهت العيوب المتعلقة بالرجل. فصل

هذا الفصل اشتمل على القسم الثاني، والقسم الثالث، ومجموعة خلطها المؤلف أحياناً تكون من القسم الثاني، وأحياناً تكون من القسم الثالث، لكنه بدأ بالقسم الثاني وهو العيوب المتعلقة بالنساء، أو العيوب الخاصة بالنساء، فهذه العيوب تثبت الفسخ كما سيأتينا. قال المؤلف ـ رحمه الله ـ: (والرتق) الرتق هو: أن يكون الفرج مسدوداً لا مسلك فيه للذكر، بمعنى أن يكون ملتصق، وإنما قالوا مسدوداً أي ملتصقاً حتى يخرجوا العيوب اللاحقة، لأن الامتداد فيها ليس بالالتصاق وإنما بأمر آخر، إذاً الرتق هو أن يكون الفرج ملتصق، ومسدود بهذا السبب، لا يوجد به مسلك للذكر. قال المؤلف ـ رحمه الله ـ: (والقرن) القرن هو لحم يحدث في الفرج يمنع من الإيلاج، وقيل أن القرن هو عظم يكون في الفرج يمنع من الإيلاج، لكن كثير من أهل العلم يقولون أنه لحم، لأنه لا يكون عظم في فرج المرأة وإنما يكون لحم، فقطعة اللحم الموجودة في الفرج حالت بين الزوج وبين الجماع وهذا العيب الثاني. قال المؤلف ـ رحمه الله ـ: (والعفل) العفل قيل أنه أيضاً لحمة تسد الفرج، وقيل أنه ورم يكون في الفرج يمنع من الإيلاج، ومن المعلوم أن هناك فرق بين الورم وبين اللحم، وقيل أنه رغوة تمنع من تمام اللذة، ففسر بأحد ثلاثة تفسيرات، وعلى كل حال على كل من التفسيرات يعني سواء فسرناه بالتفسير الأول أو الثاني أو الثالث فهو عيب، كما صرح الحنابلة بأن اختلاف تفسيره لا يرفع الحكم بإحدى التفسيرات، فإذاً هو عيب على أي تفسير فسرته إياه، لكن يقرب والله أعلم أنه ورم، حتى لا يكون نفس القرن، ومعلوم أنه تقدم معنا لغة العرب الأصل فيها كل مفردة منها تحمل معناً مغايراً، وكوننا نفسر العفل بأنه مثل القرن كما يذهب إليه بعض الحنابلة فيه بعد، ولكن نفسره بأنه ورم. قال المؤلف ـ رحمه الله ـ: (والفتق) الفتق هو: انخراق ما بين السبيلين، يعني ما بين القبل والدبر، وقيل أنه انخراق ما بين مسلك الذكر ومخرج البول، يعني أنه انخراق في القبل فقط، والأقرب أنه يشمل هذا وهذا، فإن كان هناك انخراق سمي انخراقاً في القبل فقط، أو فيما بين القبل والدبر.

معنا الآن أربعة عيوب، الرتق والقرن والعفل والفتق، هذه العيوب الأربعة جاءت فيها آثار عن اثنين من الصحابة ابن عباس وعلي رضي الله عنهم وأرضاهم، وأثبتا أن هذه من العيوب الموجبة للفسخ، فالدليل فيها الآثار عن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم. وأما الدليل الثاني: فهو الدليل المتبادر إلى الذهن والذي نعلل به سائر العيوب، وهو أن هذا العيب يمنع من الاستمتاع ويحول بين الزوج وزوجته، ولهذا أصبح عيباً يوجب الفسخ، فالاعتماد في الحقيقة على التعليل والأثر، واعتبار هذه الأربعة من العيوب أشبه ما يكون من مذهب جميع الأئمة. يتبقى معنا مسألة وهي أنها بعض هذه العيوب اليوم قد تعالج علاج تام بحيث لا يكون لها أي أثر، ولا يشعر بها الزوج، ولا يعلم بها أصلاً، فهل نقول أنه باعتبار التقدم الطبي اليوم تعتبر هذه العيوب ليست بعيوب؟ أو نقول أنه ينظر إلى رأي الطبيب، هل تكون المرأة بعد العلاج كالمرأة السوية تماماً أو لا؟ فإذا أخبر أنها كالمرأة السوية تماماً، وأن الزوج لا يلمس أي فرق، فإنه ينبغي ألا تعتبر من العيوب، والأحسن والأوفق أن يكون العلاج قبل الزواج، على يد امرأة جراحة ثقة، لكي تخرج المرأة من الفسخ بهذا العيب من قبل الزوج، فالأولى أن يكون العلاج قبل الدخول. قال المؤلف ـ رحمه الله ـ: (واستطلاق بول ونجو وقروح سيالة في فرج ... ) هذه ثلاثة استطلاق بول ونجو، وقروح سيالة في الفرج، وباسور وناسور. استطلاق البول هو أن لا تتمكن من حبسه متى أرادت، وكذلك استطلاق النجو، فإذا لم تتمكن من حبسه متى أرادت فإنه عيب. يقول وقروح سيالة في فرج، يعني أن يوجد في فرج المرأة قروح سيالة، يخرج منها إما دم أو صديد. والباسور والناسور هما داءان يصيبان المقعدة معروفان، بالنسبة لاستطلاق البول والنجو هذا مشترك بين الزوج والزوجة، وبالنسبة للقروح السيالة في الفرج صرحوا أنها خاصة بالمرأة، وبالنسبة للباسور والناسور مشترك بين المرأة والرجل، هذه الثلاثة أمراض اختلف فيها الفقهاء، فذهب الحنابلة كما ترون إلى اعتبارها من العيوب الموجبة للفسخ، واستدلوا على هذا بأمرين: الأمر الأول: أن مثل هذه العيوب تسبب تقزز الرجل وكراهيته.

الدليل الثاني لهم: أن هذه العيوب تمنع من الاستمتاع الذي يقصد بالنكاح. القول الثاني: أن هذه العيوب لا توجب الفسخ واستدلوا بأمرين: الأمر الأول: أن هذه العيوب لم تذكر في الآثار وليست محل إجماع بين أهل العلم. الثاني: أن بعض هذه العيوب لا يمنع من الاستمتاع. والراجح إن شاء الله مذهب الحنابلة، وهو اختيار ابن القيم، وقد تكون بعض هذه الأمراض أبلغ من الأمراض المتفق عليها، فمثلاً وجود الجروح البليغة في الفرج أصعب وأشق من الرتق، لأن الرتق بالإمكان فتحه وتصبح المرأة بعد فتحه كأي امرأة أخرى، بينما هذه الجروح لا يمكن الجماع معها لما تسببه كما قال الحنابلة من النفرة، كما أنها تمنع من الاستمتاع بالكامل، أضف إلى هذا أن غالباً إذا جامع الزوج زوجته، وهي كذلك أنه لا يسلم من الأمراض والعدوى، فما اختاره ابن القيم وجيه جداً في هذه الأمراض، على أن في الحقيقة هذه المباحث ضعيفة اليوم بسبب التقدم الكبير في الطب، مما يعني لا يكاد يصمد أمامه مرض ثابت، إلا الأمراض التي ليس لها علاج. قال المؤلف ـ رحمه الله ـ: (وخصى وسل ووجاء) الخصاء والسل والوجاء هذه خاصة بالرجل، فالخصاء قطع الخصيتين، والسل هو استلالهما يعني الخصيتين مع بقاء الجلد، والوجاء هو رض الخصيتين، والخلاف في هذه الثلاث أيضاً واحد، فالقول الأول: وهو مذهب الحنابلة كما ترى أنها من العيوب الموجبة للفسخ، واستدل الحنابلة على هذا بأمرين: الأمر الأول: أن الرجل إذا خصي صار ضعيفاً في الجماع، مما يمنع الاستمتاع التام من قبل المرأة. ثانياً: أن المخصي لا يمكن أن ينجب، وكذلك السل والوجاء. القول الثاني: أن هذه العيوب لا توجب الفسخ واستدلوا على هذا أيضاً بأمرين: الأمر الأول: أن الخصاء ليس في معنى الجب ولا العنة، بل هو يجامع كما يجامع أي رجل.

الدليل الثاني: وهذا أيضاً ذكره بعض الحنابلة، أن المخصي قد يكون أقوى في الجماع من غيره، ووجه ذلك عندهم أن المخصي يجامع ولا يريق الماء الذي يحصل بسببه الضعف، لأنه لا ماء عنده، فهذا الفريق وهو أيضاً بعض الحنابلة يعكس الدليل فيقول أن الخصاء من أسباب زيادة الاستمتاع، بخلاف الفريق الأول الذين يرون أن الخصاء من الأشياء التي تضعف الاستمتاع، في الحقيقة الفصل بينهما يحتاج إلى طبيب، لكن بالنسبة للترجيح الراجح مذهب الحنابلة، والسبب في هذا عدم وجود الذرية، فلو سلمنا لبعض الحنابلة وغيرهم أنه لا يقدح في الاستمتاع أو لا يضعف الاستمتاع، إلا أن عدم وجود الذرية هو بحد ذاته موجب للفسخ. الراجح إن شاء الله مذهب الحنابلة وهو أيضاً اختيار الشيخ ابن القيم. قال المؤلف ـ رحمه الله ـ: (وكون أحدهما خنثى واضحاً) إذا كانت خنثى غير مشكل وإنما واضح فهو مما يجيز للآخر الفسخ، وأما الخنثى المشكل فلا نحتاج للكلام عنه لأنه لا يصح نكاحه عند الحنابلة. الفسخ بالخنثى الواضح محل خلاف أيضاً، فالحنابلة يرون أنه يفسخ به لأنه لا يتم الاستمتاع به بسبب كونه خنثى وتردد الطرف الآخر في حقيقة المقابل. والقول الثاني: أنه إذا كان خنثى واضح وليس بمشكل ويقوم بما عليه من واجب سواء كان الرجل أو المرأة فإن الآخر لا يحق له الفسخ، لأن الاستمتاع المقصود بالعقد موجود، وفي الحقيقة الأقرب أيضاً مذهب الحنابلة، لأنه يبقى الإنسان لم يتمكن مع ما يوصف به الآخر من أنه خنثى من الاستمتاع على الوجه الكامل. انتهى الشيخ رحمه الله من القسم الثاني، ومن القسم المشترك هذا الذي المؤلف لم يرتبه بحيث يكون تبع النساء ولا المشترك، وانتقل إلى القسم الثالث وهو المشترك عند جميع أهل العلم، ولو أن الشيخ أخذ الأشياء المشتركة من القسم الثاني ووضعها مع الأشياء المشتركة من القسم الثالث لكان أولى، لكن الشيخ لعله أراد أمر آخر وهو حسن الترتيب، لأن استطلاق البول والقروح والباسور أمراض متشابهة، وإن كان بعضها مشتركاً وبعضها خاصاً، لكنه متشابه وبذلك جعلها مع بعض لكن الآن هو بدأ بالقسم الثالث: قال المؤلف ـ رحمه الله ـ: (وجنون ولو ساعة)

الجنون من العيوب المشتركة، فقد تكون الزوجة مجنونة، وقد يكون الزوج مجنوناً، وقول الشيخ الجنون ولو ساعة يعني أنه لا يشترط في الجنون يكون مطبقاً، فإذا كان ينتابه ويرتفع عنه فإنه عيب يفسخ به النكاح، واستدل الحنابلة على هذا بأن المجنون ولو أحياناً يخشى من ضرره هذا الدليل الأول. الدليل الثاني: أن النفس لا تركن إلى من هذه حالة، وهذا تعليل لطيف من الحنابلة، صحيح إذا علم أنه قد يجن فإن النفس لا تركن إلى اتخاذه زوجاً أو زوجه، وهذا لا إشكال فيه إن شاء الله، وهو ثبوت حق الفسخ بالجنون ولو كان عارضاً. قال المؤلف ـ رحمه الله ـ: (وبرص وجذام) البرص والجذام من الأمراض التي تعد عيوب مشتركة للزوج والزوجة، والدليل على هذا من عدة أوجه: الوجه الأول: أن في كل منهما ما يؤدي إلى النفرة وعدم السكون. الثاني: وهو خاص بالبرص، أن النبي صلى الله عليه وسلم تزوج امرأة ولما وضعت ثيابها رأى في كشفها بياضاً، فقال: خذي عليك ثيابك والحقي بأهلك صلى الله عليه وسلم، وهذا الحديث ضعيف لا يثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم صنع ذلك، هذا بالنسبة للبرص، بالنسبة للجذام استدلوا عليه بقول النبي صلى الله عليه وسلم: "فر من المجذوم فرارك من الأسد"، وإذا كان النبي صلى الله عليه وسلم أرشد إلى الفرار فالفسخ من باب أولى، أضف إلى هذا أن الجذام معدي بخلاف البرص، فهو علة خاصة بالجذام، أضف إلى هذا كله وهو من أهم الأدلة أن اعتبارها عيوب مروي عن عمر بن الخطاب وعن ابن عباس، فكما ترى الأدلة الدالة على ذلك كثيرة جداً، فهذه العيوب تثبت الخيار في الفسخ سواء كانت بالمرأة أو كانت بالرجل. قال المؤلف ـ رحمه الله ـ: (يثبت لكل واحد منهما الفسخ) هو عندك هنا يقول بكل واحد منهما فتعدلونها لتكون منها.

يرى الحنابلة أن الفسخ يثبت بكل واحد من هذه العيوب، ويرون أن هذا الحق محصور في هذه المعدودات لا يتعداها إلى غيرها، بناءً على هذا العمى ليس بعيب، والعرج ليس بعيب، والقرع وكل عيب لم يذكر ليس بعيب، يعني ليس بعيب يستطيع أحد الزوجين الفسخ به، وتقدم معنا الخلاف بهذه المسألة وأن اختيار ابن القيم أن العيوب محدودة وليست معدودة، وأن الضابط أن كل مرض يؤدي إلى عدم الاستمتاع والنفرة فهو موجب للفسخ، تحدثنا عن هذا إذاً كل مرض أولى من هذه الأمراض فهو أحق بالحكم، فمثلاً الأمراض الجنسية المعاصرة، الإيدز والهربس وما شاكل هذه الأمراض، بلا شك أنها أعظم من الأمراض التي ذكرها الفقهاء، فهي أمراض خطيرة جداً ومعدية مباشرة وقبيحة، كما أنها بالذات هذه الأمراض غالباً ما تكون دليل على رقة دين صاحبها، لأنها تكون بسبب الممارسات الممنوعة، فأي فقيه يرى أن مثل الإيدز ليس بعيب تستحق المرأة معه الفسخ أو الرجل إذا كان في أحد منهما، هذا لا يقوله فقيه لكنهم رحمهم الله لم يعرفوا إلا هذه الأمراض فحصروها ووجدوا أن الصحابة نصوا عليها، فهم أيضاً تمسكوا بهذه الآثار واعتبروها معدودة، وإلا لا شك أن ما ذكره ابن القيم وجيه جداً، والأمراض المعاصرة تؤكد وتجعل الأمر أشبه ما يكون بالقطعي. قال المؤلف ـ رحمه الله ـ: (ولو حدث بعد العقد) إذا حدث المرض بعد العقد، يعني رجل تزوج امرأة وهو سليم تماماً ثم أصيب بأحد الأمراض الموجبة للفسخ، فالحكم أنها تملك الفسخ عند الحنابلة، واستدلوا على هذا بأن هذا العيب عيب يوجب الفسخ وجد في أحد الزوجين فاقتضى حكمه، هذا كلام صحيح أنه عيب يوجب الفسخ وجد في أحد الزوجين فاقتضى حكمه وهو الفسخ. القول الثاني: أن العيب إذا حدث بعد العقد فإنه لا يوجب الفسخ، واستدلوا على هذا بالقياس على البيع فإن الإنسان إذا اشترى السلعة ثم حدث فيها عيب فبالإجماع لا يردها إلى صاحبها، قالوا فكذلك أحد الزوجين، لأن النكاح عندهم من عقود المعاوضات.

والقول الثالث: أن العيب إذا حدث في المرأة فإن الزوج لا يملك الفسخ، لأنه يملك الطلاق، وإن حدث في الزوج فإن المرأة تملك الفسخ، لأنه لا سبيل لها إلى المفارقة إلا بالفسخ، والراجح والله أعلم المذهب وهو أن الحق يثبت بكل منهما لأن الشارع جعل هذا العيب موجب للفسخ سواء وجد قبل أو بعد. قال المؤلف ـ رحمه الله ـ: (أو كان بالآخر عيب مثله) إذا كان في كل منهما عيب مساوي للآخر، كل منهما أبرص، أو كل منهما مجذوم، فالحكم عند الحنابلة أنه يثبت لكل منهما الحق في الفسخ، واستدلوا على هذا بأمرين: الأمر الأول: أن الإنسان قد يكره العيب في غيره ولا يكرهه في نفسه. الثاني: أن العيب الموجود في الآخر موجب للفسخ، والعيب الموجود عند أحدهما لا يمنع هذا الفسخ، أو بعبارة أوضح أن العيب الموجود في الزوجة مثلاً يوجب الفسخ، ووجود هذا العيب في الزوج لا يرفع هذا الحق. القول الثاني: في هذه المسألة أنه إذا كان كل من الزوج والزوجة مصابان بنفس العيب أنه لا يملك أحد منهما الفسخ، واستدلوا على هذا بأنهما متساويان ليس لأحدهما الحق على الآخر. والراجح المذهب لأن كون أحدهما يرضى بهذا العيب لا يرفع حق الآخر. مسألة: إذا كان في كل منهما مرض مختلف فالحكم نفسه، أن لكل منهما الفسخ فإذا كان أحدهما أبرص والآخر أجذم فلكل منهما الحق في الفسخ، ويستثنى من هذا مسألة واحدة ونستطيع أن نضع لها قاعدة، نستثني من هذا إذا كان العيب ليس هو المانع من الوطء، مثل أن تكون هي رتقاء وهو مجبوب، فلا الذي منعه من الجماع أنها رتقاء ولا الذي منعها من الجماع أنه مجبوب، فحينئذ لا يملك أحد منهما الفسخ، لأن العيب ليس هو المانع، وهذا صحيح، أنه إذا لم يكن العيب هو المانع فلا يملك الفسخ. قال المؤلف ـ رحمه الله ـ: (أو وجدت منه دلالته ... )

إذا وجدت الدلالة على الرضا بالعيب أو رضي به رضاً صريحاً فلا خيار له، لأنه أسقط حقه بنفسه، إلا أن الشيخ المجد استثنى من هذا الحكم مسألة، وهي إذا كان الزوج عنين لا بد أن تصرح المرأة بالرضا قولاً، ولا نكتفي بالدلائل والقرائن الدالة على الرضا بل لابد أن تصرح، وعلل الشيخ المجد هذا الحكم بأن العنة أمر يطول ويستمر ونحتاج إلى التأكد من رضا المرأة، قال حفيده شيخ الإسلام ابن تيمية ولم أرى أحداً نص على هذا إلا الجذب، الحنابلة كلهم لا يفرقون بين العيوب إلا الجذب لكنك إذا تأملت تجد أن ما ذكره الشيخ المجد صحيح وأن مثل هذا العيب يحتاج إلى التصريح بالرضا، لأنه أمر يدوم أما العيوب الأخرى فبالإمكان أن تعالج. قال المؤلف ـ رحمه الله ـ: (ولا يتم الفسخ أحدهما إلا بحاكم) الفسخ بالعيب لا بد أن يكون عن طريق الحاكم، والسبب في ذلك أنه يحتاج إلى اجتهاد ونظر وحكم، فلا يقوم به الزوج أو الزوجة من تلقاء نفسه. والقول الثاني: أنه لكل منهما الفسخ إلى حكم الحاكم، لأن سبب الفسخ موجود فلا نحتاج إلى حكم الحاكم. والقول الثالث: أنه إذا تم الفسخ برضا الطرفين فلا نحتاج إلى حاكم، وإذا تم الفسخ مع الاختلاف فلا بد من حكم حاكم، وهذا اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية وهو قوي جداً وهو الأقرب إن شاء الله. قال المؤلف ـ رحمه الله ـ: (فإن كان قبل الدخول فلا مهر) فإن كان الفسخ قبل الدخول فلا مهر للمرأة، سواء كان الفسخ من قبل الزوج لعيب في المرأة، أو من قبل المرأة لعيب في الزوج، وعللوا ذلك أنه إذا كان من المرأة لعيب في الزوج فهي التي فسخت، وإذا كان لعيب منها والذي فسخ الزوج فلأنه يعود في الحقيقة الفسخ لسبب منها، وهو العيب الذي في المرأة.

والقول الثاني: أنه إذا كان بسبب العيب في الزوج فإنه لا بد من دفع نصف المهر للزوجة، لأن الفسخ كان بسبب الزوج، إذ العيب منه، ولو كانت المرأة هي التي طلبت، واستدلال الجمهور غريب، لما كان الرجل قالوا ولو كان الفسخ من الزوج إلا أنه لما كان بسبب عيب الزوجة عاد الأمر للزوجة، ولم يصنعوا هذا إذا كان العيب في الرجل، وهذا غريب منهم وفيه شيء من عدم الإنصاف، فالراجح إن شاء الله القول الثاني الراجح أنه إذا كان بعيب من الزوج ولو كان بطلب من المرأة فلها نصف المهر. قال المؤلف ـ رحمه الله ـ: (وبعده لها المسمى) إذا كان الفسخ بعد الدخول والمسيس فلها المسمى، والدليل على أن لها المسمى أن هذا العقد عقد صحيح بمسمى صحيح فوجب، وهذا كلام صحيح، أنه عقد صحيح بمسمى صحيح فوجب بالدخول. والقول الثاني: أن لها مهر المثل وليس المهر المسمى، ودليلهم القياس على العقد الفاسد، قاسوا العقد المفسوخ على العقد الفاسد، وهو قياس مع الفارق، لأن العقد المفسوخ عقد صحيح إلا أنه فسخ، بينما العقد الفاسد فاسد.

والقول الثالث: أنها تعطى المهر المسمى مع تنقيص ما يقابل العيب، ونعرف قدر النقص بنسبته إلى مهر المثل، فنقول الآن أنت كم سميت لها المهر؟ فيقول مائة ألف، نقول كم مهر المثل؟ فيقول مثلاً خمسين ألف، نقول مهر المثل إذا كانت برصاء كم يكون؟ فيقول خمسة وعشرين ألف فالنسبة كم خمسين بالمئة، يعني كم ستعطى من المهر المسمى؟ خمسين ألف، إذاً نعرف نسبة التنقيص من خلال المقارنة بمهر المثل، لأن المهر المسمى لا يمكن أن نقيس عليه، لأن الناس يتفاوتون وقد يعطي الإنسان المرأة أضعاف مهر مثلها، فإذاً لا نرجع للمهر المسمى وإنما نرجع إلى مهر المثل، ثم ننقص منه بهذا المقدار، وهذا القول ذكره شيخ الإسلام وقواه المرداوي وهو قول فيه إنصاف، أما إلزام الزوج بجميع المهر مع أن الفسخ كان بسبب عيب في المرأة فيه نظر، إلا أن في الحقيقة بعيداً عن الأحكام الفقهية ليس من المروءة أبداً بعد الدخول إذا أراد الفسخ أن ينقص من المهر شيء أو أن يسترجع شيء منه، يعني أقول أنا ليس من المروءة باعتبار أن الدخول والمسيس حصل، وهذا كما قلت لكم بعيد عن الفقه والحلال والحرام، وهو فقط من باب المروءات أما إذا أرادوا الحلال والحرام فالراجح إن شاء الله هو ما ذكره شيخ الإسلام. قال المؤلف ـ رحمه الله ـ: (ويرجع به على الغار إن وجد) الغار غالباً هو الولي، لأنه كتم عيب المرأة عن الزوج، وسبب ذلك أن المعروف والمعهود أن الذي يخبر بعيوب المرأة قبل العقد هو الولي وليست المرأة، فليس من المعهود أن تأتي المرأة وتقول للرجل أن في عيب كذا وكذا، فإذا كان الزوج هو الذي كتم فعليه المهر، فيرجع الزوج على الولي بالمهر يعطيه المرأة ثم يرجع على وليها أياً كان الولي ويأخذ المهر كاملاً، الدليل على هذا أن عمر بن الخطاب قال أيما رجل تزوج مجذومة أو برصاء ثم مسها فعليه المهر بالمسيس وله ضمانه على الولي، وهذا الأثر صحيح عن عمر أنه أوجب الرجوع رضي الله عنه على الولي. ((الآذان)) القول الثاني: أنه لا يرجع بشيء من المهر واستدلوا بدليلين: الأول: أنه دفع هذا المهر مقابل عوض أخذه وهو الدخول والوطء.

الثاني: أنه لا يوجد دليل من النصوص على الرجوع، والأصل أن المهر يتقرر بالدخول كما سيأتينا في باب الصداق، وأنصف هذا القول مجموعة من الفقهاء منهم الشيخ الشوكاني. والراجح إن شاء الله هو مذهب الحنابلة بلا إشكال وهذه الفتوى من عمر هي الحجة بالباب لاسيما وأنه لم يخالفه أحد من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، وهو من الخلفاء الراشدين، هذا الأثر كافي في الباب كما أن المعنى يؤيده، لأن الفرق أو سبب الفسخ من قبل المرأة لأن العيب فيها وهذا المعنى يقتضي ألا يضيع المهر على الزوج. قال المؤلف ـ رحمه الله ـ: (والصغيرة والمجنونة والأمة ... ) يعني لا يجوز أن تزوج إحدى هذه النساء بمعيب، قال الشيخ المرداوي بلا نزاع، والسبب في ذلك أن ولي أمر هذه المرأة المجنونة أو الصغيرة عليه النظر لمصلحتها، وليس من النظر لمصلحتها أن تزوج بمعيب بأحد هذه العيوب الثلاثة، لكن إن خالف فزوجها فينقسم إلى قسمين: إن خالف فزوجها وهو يعلم فالعقد باطل، لأنه زوج وهو غير مأذون له بالتزويج شرعاً، والذي جعله ولي هو الذي نزع منه الولاية بهذه الصورة. الثانية: أن يزوجها وهو جاهل، فإذا زوجها وهو جاهل فالعقد صحيح وتملك المرأة الفسخ. والقول الثاني: أنه إذا زوجها ولو كان جاهلاً فالعقد باطل، واستدلوا على هذا بأنه زوجها بمن لا يحل أن يزوجها إياه كما لو زوجها جاهلاً بمحرم من محارمها، فهو إذا زوجها بمحرم من محارمها فالعقد باطل، ولو كان جاهلاً كذلك هنا نقول العقد باطل لهذا السبب، والأقرب والله أعلم القول الثاني وعلى هذا يكون إذا خالف فزوجها فالعقد باطل مطلقاً، لأنه اعتدى على حق هذه الصغيرة والمجنونة إلى آخره. قال المؤلف ـ رحمه الله ـ: (فإن رضيت الكبيرة مجبوباً أو عنيناً لم تمنع) أفاد المؤلف أن المرأة الكبيرة لها أن تختار الزواج بالمجبوب والعنين، وعللوا هذا بأنه حق لها رضيت بإسقاطه، وإذا كان حقاً لها فلها أن تسقطه.

والقول الثاني: أن لوليها أن يمنعها ولو رضيت، وعللوا هذا بأنه أمر يدوم ويطول، وقد تندم ولا ينفعها الندم لأنها رضيت به قبل العقد، فمن النظر لها ولمصلحتها أن يمنعها وليها، والأقرب والله أعلم أن الكبيرة العاقلة إذا اختارت الزواج بمثل هذا الشخص أنه ليس لأحد أن يمنعها، لأنه حق لها خاص تنازلت عنه. هذا والله أعلم وصلى اللهم وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. - ((انتهى الدرس)).

الدرس: (9) من النكاح قال شيخنا حفظه الله: بسم الله الرحمن الرحيم والحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين. قال المؤلف ـ رحمه الله ـ: (فإن رضيت الكبيرة مجبوباً أو عنيناً لم تمنع) أخذنا بالأمس الخلاف في هذه المسألة على قولين، وهل للولي حق في منعها أو ليس له حق في منعها، ولم أذكر أن ابن قدامة يميل إلى خلاف المذهب وهو أنه له أن يمنعها. بقينا في المسألة التالية لهذه المسألة: قال المؤلف ـ رحمه الله ـ: (بل من مجنون ومجذوم وأبرص) أي بل له أن يمنعها ولو كانت كبيرة إذا أرادت أن تتزوج من مجنون أو مجذوم أو أبرص، وعلل الحنابلة هذا بأن هذه العيوب الضرر فيها لا يقتصر على المرأة، بل يتعدى إلى الذرية، كما أنه يتعدى إلى الولي، لأنه يعير بمثل هذا الزواج، فلما صار الضرر لا يقتصر على الزوجة، منع الحنابلة من التزويج ولو برضا المرأة، ومن هنا عرفت الفرق بين أن يكون عنيناً أو مجبوباً وبين أن يكون أبرص أو مجذوم أو مجنون الفرق بينهما هو هذا، أن الضرر لا يقتصر على المرأة في العيوب الثلاثة التي ذكرها المؤلف الآن، ولهذا إذا سئلت لماذا يفرق الحنابلة بين هذه العيوب لا بد أن تعرف أنه هذا السبب.

القول الثاني: أن لها أن تتزوج وليس للولي أن يمنعها ولو كانت العيوب هي هذه الثلاثة المذكورة، لأن هذه العيوب تتعلق أولاً بالمرأة، ثم بالأولياء، فإذا رضيت هي بإسقاط حقها سقط، لأن الحق الأول لها، ولو قيل أن مثل هذه المسائل يرجع فيها للملابسات التي تحتف بها مثل طبيعة المرأة وطبيعة الأهل وحاجة المرأة وإلى آخره بالنسبة للمجنون والأبرص لكان للقول بالتفصيل هذا أنه يختلف باختلاف الأحوال قد يناسب أحياناً أن تزوج المرأة من مثل هؤلاء وقد لا يناسب بحسب وضع المرأة، هذا بالنسبة للجنون والبرص، لكن الجذام المشكلة فيه أنه مرض معدي، فإذا تمكنت من تجنب العدوى فذاك، وإلا فإنه ليس للإنسان أن يقحم نفسه في مثل هذا الأمر، وليس للولي أن يرضى أيضاً بتزويج موليته ممن سيباشرها الزوج، وتنتقل إليها هذه الأمراض لا شك أن هذا المنع فيه وجيه، أقول لو قيل بهذا التفصيل كان جيد وإلا إذا لم يقل بهذا التفصيل فالذي ذكره الحنابلة صحيح، وهذه المسائل كثير منها فتاوى صريحة عن الإمام أحمد، فمثلاً الزواج بالعنين والمجبوب نص الإمام أحمد أنه لا يعجبني، يقول ربما رضيت ثم ندمت إذا أرادت منه ما تريد المرأة من زوجها ندمت، وقد يحصل بناءً على هذا مفاسد. الخلاصة أن مذهب الحنابلة في هذه المسائل وجيه إلا أن يقال بالتفصيل الذي أشرت إليه. قال المؤلف ـ رحمه الله ـ: (ومتى علمت بالعيب أو حدث به لم يجبرها وليها على فسخه) قبل أن نتكلم على هذه المسألة، فهم من الكلام السابق في المسائل السابقة، أنه إذا رضيت المرأة والولي فالزواج صحيح، سواء كان العيوب الثلاثة أو العيبان المتقدمان، لأنه أحياناً يعلق على رضا الزوجة وأحياناً يعلق على رضا الولي، فإذا رضيت الزوجة والولي جاز التزويج بلا إشكال، ولا أظن هذه محل خلاف، إذا رضيت الزوجة ورضي الولي جاز لها أن تتزوج بمن يتصف بهذه العيوب بلا إشكال إن شاء الله لأن الحق لا يخرج عنهما. قال المؤلف ـ رحمه الله ـ: (ومتى علمت بالعيب ... )

باب نكاح الكفار حكمه كنكاح المسلمين

ومقصود المؤلف بهذا يعني بعد العقد إذا علمت به بعد العقد أو حدث العيب بعد العقد فإنه ليس للولي أن يجبر المرأة على الفسخ، بل يصبح حقاً خاصاً بالمرأة، والسبب في هذا أن القاعدة المشهورة أن الاستدامة أقوى من الابتداء، هذا من جهة ومن جهة أخرى القاعدة أيضاً أن الولي له حق في الابتداء دون الاستدامة، وهذه المسألة قال عنها الشيخ المرداوي بلا نزاع، فليس للولي إذا رضيت المرأة بعد العقد بحدوث العيب أن يجبرها على الفسخ. بهذا انتهى هذا الباب ننتقل للباب الذي يليه. قال المؤلف ـ رحمه الله ـ: باب نكاح الكفار حكمه كنكاح المسلمين يريد المؤلف أن يبين حكم الأنكحة التي تجري بين الكفار، ووضع الشيخ رحمه الله قاعدة لهذا وهي أن حكم نكاح الكفار كنكاح المسلمين، يعنى أنه صحيح وليس بفاسد، وإذا كان صحيحاً ترتبت عليه الآثار التي تترتب على النكاح الصحيح، فتجب القسمة فيه ويجب المهر ويقع الطلاق والخلع والظهار والإيلاء وإن طلقها ثلاثاً فلا تحل له إلا بعد زوج آخر، تترتب عليه الآثار التي تترتب على النكاح الصحيح، وذلك لأنا حكمنا على أنكحتهم بأنها أنكحة صحيحة، ومقصود المؤلف أن أنكحة الكفار كأنكحة المسلمين ولو كانت بالنسبة لأحكام المسلمين فاسدة، يعني إذا أجرى الكفار نكاح بلا ولي ولا شهود ولا مهر لكنهم يرونه نكاحاً صحيحاً فهو صحيح، والدليل على هذا من وجهين: الوجه الأول: أن الله تعالى نسب نساء الكفار إليهم، والنسبة تقتضي التصحيح، فقال امرأة فرعون وامرأته حمالة الحطب فنسب المرأة لهذا الكافر وهذه النسبة تقتضي تصحيح العقد. الدليل الثاني: أن النبي صلى الله عليه وسلم أقر أهل الذمة ومجوس هجر وغيرهم على أنكحتهم، ولم يفتش فيها بل أجراها على الظاهر والصحة، فدل هذا على أن أنكحة الكفار حكمها حكم أنكحة المسلمين يعني من حيث الصحة، وهذا الحكم لا إشكال فيه فعليه عمل الصحابة وعليه عمل النبي صلى الله عليه وسلم، بناءً على هذا لا يصح أن نفتش عن أنكحتهم فنأتي إلى أهل الذمة ونقول كيف عقدت على زوجتك وننظر فيه فإن كان متوافقاً مع أحكام الشرع أمضيناه وإلا أبطلناه، هذا التصرف تصرف خاطئ مخالف لسيرة النبي صلى الله عليه وسلم ولظاهر القرآن.

قال المؤلف ـ رحمه الله ـ: (ويقرون على فاسده) يعني إذا علمنا أن نكاح الكفار فاسد فيقرون على هذا النكاح الفاسد لكن بشرطين: الشرط الأول: أن يكون نكاحاً صحيحاً في دينهم، والسبب في اشتراط هذا الشرط أنا نقرهم على ما يصحح في دينهم، فإذا لم يصحح في دينهم فلسنا ملزمين بإقرار النكاح الذي يصح في غير ملتهم، بل نحن نقرهم على ما يصح في ملتهم لأن هذا هو مقتضى العقد الذي بيننا وبينهم، فإذا تزوج نصراني نصرانية على غير شريعة النصارى فليس علينا أن نقر هذا النكاح، بل نبطل النكاح ونجري عليه أحكام الإسلام، لابد أن يتزوجها على طريقة النصارى، بعبارة أخرى لابد أن يتزوجها زواجاً يرى النصارى أنه صحيح، وهكذا اليهود والمجوس والوثنيين وكل ملة لها شريعة أو طريقة، فإن كانت الملة ليس لها شريعة وثني أو ملحد ليس له دين ولا شريعة فما الحكم؟ الحكم أن هذه المجموعة من الناس الذين لا يتدينون بأي شريعة سماوية ولا أرضية هذه هي شريعتهم، أنهم لا يتدينون بأي دين فإذا عقد نكاحاً على وفق هذه العقيدة فهو يعتبر نكاح صحيح، ومن هنا نقول إذا ارتد النصراني عن دينه تماماً وأصبح ملحد لا يؤمن بالله ولا بموسى ولا بعيسى ولا بأي نبي ثم أجرى العقد على شريعة النصارى لأنه في محيط نصراني فهنا نجري عقده على أحكام المسلمين ونبطل العقد لماذا؟ لأنه لم يجري العقد على دينه، لأن دينه هو الإلحاد، وهذه قضية يجب أن يتنبه إليها، لأنهم أي الحنابلة يرون أنا نقر الكفار على دينهم إذا أجروه على وفق دينهم. قال المؤلف ـ رحمه الله ـ: (إذا اعتقدوا صحته في شرعهم ولم يرتفعوا إلينا) الشرط الثاني: أن لا يرتفعوا إلينا، يعني ألا يتحاكموا إلينا، والدليل على هذا قوله تعالى {فإن جاؤك فاحكم بينهم أو أعرض عنهم وإن تعرض عنهم فلن يضروك شيئاً} فدلت الآية على أنا نخضعهم بأحكامنا إذا جاؤونا، وقبل المجيء لا نخضعهم إلى أحكامنا، وهذا صحيح، فالآية نص في اعتبار هذا الشرط إذا تحقق الشرطان فإنه يقرون على أنكحتهم ولو كنا نرى أنها في شرعنا فاسدة. قال المؤلف ـ رحمه الله ـ: (فإن أتونا قبل عقده عقدناه على حكمنا)

إذا أتونا قبل عقده، يعني ارتفعوا إلينا، فإنا نعقد لهم وجوباً على ملة الإسلام، فلا بد من ولي وشهود ومهر وكل شروط وأركان النكاح الصحيح الشرعي لقوله تعالى {وإن حكمت فاحكم بينهم بالقسط}، والقسط هو أن يجري العقود على مقتضى الشرع، وهذا الحكم لا إشكال فيه، وهو أنهم إذا ارتفعوا إلينا نحكم على عقودهم بمقتضى الشرع. قال المؤلف ـ رحمه الله ـ: (وإن أتونا بعده أو أسلم الزوجان) إذا أتونا بعد أن أجروا العقد، أو أسلما بعد الدخول وإجراء العقد فإنا نقر النكاح كما هو ولا نخضعه إلى أحكام الشريعة، والسبب في هذا أن خلقاً عظيماً كثيراً في عهد النبي صلى الله عليه وسلم ولم ينقل أن النبي صلى الله عليه وسلم أخضع عقودهم إلى أحكام الشرع، بل أجراها على ظاهرها واعتبرها صحيحة، وهذا الدليل دليل قطعي معلوم من السيرة بالضرورة أنه صلى الله عليه وسلم لم يخضع أنكحة الذين أسلموا من القبائل والأمم التي دخلت في دين الله لم يخضع عقودهم إلى أحكام الشرع، وهذا أمر إن شاء الله ظاهر متى ارتفعوا إلينا بعد العقد أو أسلما في وقت واحد، وحكى بعضهم الإجماع على هذا الحكم وهو ظاهر إن شاء الله. قال المؤلف ـ رحمه الله ـ: (والمرأة تباح إذاً أقرا ... ) أي أن هذا الحكم الذي ذكرت مشروط بأن تكون المرأة تباح إذاً، يعني تباح حال إقرار العقد، فإذا كان هذا الكافر قد تزوج خالته أو عمته فإنه يجب أن نفرق بينهم، وإذا كان تزوج أخت زوجته يجب أن نفرق بينهم، القاعدة أنه يجب أن نفرق بينهم إذا كان لا يجوز أن يقر عليها، وذكر الحنابلة ضابط مريح في هذه القاعدة، أن كل نكاح لا يجوز ابتداؤه لا يجوز استدامته، فلا يجوز أن يبتدئ نكاح الخالة ولا العمة ولا المرأة على أختها ولا المطلقة ثلاثاً قبل زوج آخر وهكذا، واستدلوا على هذا بأن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أمر بأن يفرق بين كل من تزوج ذي رحم من المجوس، وهذا إن شاء الله صحيح، فإذا ارتفعوا إلينا أو أسلموا نبقيه إلا إذا كان مما لا يجوز ابتداؤه. قال المؤلف ـ رحمه الله ـ: (وإن وطئ حربي حربية ... )

مقصود الشيخ هنا ولو كان على سبيل القهر، بشرط أن يعتبر هذا الوطء نكاحاً في دينهم، فإذا اعتبروه نكاحاً يعني أن المرأة تصبح زوجة بمجرد السطو عليها ووطؤها قهراً فإنه يعتبر نكاح ويقر كل من الزوج والزوجة عليه، وفي الحقيقة هذه المسألة داخلة في ضمن المسألة السابقة، إلا أنه نبه عليها لأمرين: الأمر الأول: أنها تتعلق بالحربي والحربية، ولكن الصواب أن هذا لا يختص بالحربي حتى الكتابي والكتابية وأي ملة إذا اعتبروا هذا نكاحاً فهو نكاح. الأمر الثاني: نص عليه لألا يتوهم أن إقرار العقود يفتقر إلى إجراء العقد، بل لو كان الوطء عندهم نكاح يكفي، ومع ذلك هو في الحقيقة داخل في الجملة السابقة، فنحن نقول كل نكاح يعتبره الكفار نكاح إذا أسلم عليه أبقيناهم وأقريناهم على هذا النكاح، مهما كان نوعية إجراء العقد عند هذه الملة وتلك الملة، ويبقى الشرط فقط أن يكون مما يجوز استدامته عند المسلمين. قال المؤلف ـ رحمه الله ـ: (وإلا فسخ) يعني وإن لم يكن نكاحاً في دينهم فسخ، لما تقدم من أنا نقر الكفار على ما يعتبرونه ديناً لهم، أما دين غيرهم فلسنا ملزمين بإقرارهم عليه، بل يجب أن يجرى على وفق الشرع. قال المؤلف ـ رحمه الله ـ: (ومتى كان المهر أخذته) يعني إذا كان المهر في هذه الأنكحة صحيح فإنها تأخذه كاملاً، واستدلوا على ذلك بأن هذا النكاح صحيح والمسمى صحيح فوجب دفعه، لأنه إذا كان النكاح صحيحاً والمسمى صحيح فالنتيجة الطبيعية لهذه المقدمة وجوب دفع هذا المهر. قال المؤلف ـ رحمه الله ـ: (وإن كان فاسداً .. ) بين الشيخ حكم المهر إذا كان صحيحاً، ثم أراد أن يبين حكم المهر إذا كان فاسداً، فحكم المهر إذا كان فاسداً ينقسم إلى قسمين: القسم الأول: أن يكون المهر الفاسد مقبوض، فإذا كان المهر الفاسد مقبوض، ثم ارتفعوا إلينا فإنا نصحح قبض هذا المهر، ولو كان باطلاً أو سحتاً أو محرماً لا ننظر إلى طبيعة المهر ما دام قبض، والدليل على هذا من وجهين:

الأول: أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يسأل عن مهور الكفار بعد إسلامهم، وقطعاً أن بعض المهور لبعض الذين أسلموا كانت فاسدة، فإنه قد يجعل مهرها خمراً أو خنزيراً، ولم يتعرض النبي صلى الله عليه وسلم إلى مهورهم هذا أولاً. ثانياً: أن في العادة إذا كان الرجل أصدق امرأته منذ زمن أنها تصرفت فيه، وأعطته إلى غيرها بيعاً أو هبةً أو استئجاراً، وغيرها أعطاه إلى ثالث ومع تطاول المعاملات على الصداق يكون إبطاله فيه عسر ومشقة عظيمين، كما أن فيه صد عن سبيل الله، وفيه تنفير للمسلمين عن الدخول في الإسلام، ولهذا نقول أنه باعتبار هذه العلل مجتمعة يبقى المهر كما كان مادام مقبوضاً. القسم الثاني: المهر الذي لم يقبض، وكذلك نفس الحكم الذي لم يسمى، ولهذا هنا كلام الشيخ قوله في المتن وإن لم تقبضه ولم يسمى، العبارة في نسخ الزاد هكذا فيما أعلم (ولم يسمى) لكن العبارة الصحيحة (أو لم يسمى) وهذه العبارة وهي عدم التسمية ليست في المقنع إنما أتى بها الشيخ موسى زيادة، لكن في غير المقنع من كتب الحنابلة قال (أو) وهو المقصود يعني إذا (لم تقبضه) أو (لم يسمى)، إذاً نقول القسم الثاني إذا لم تقبضه أو لم يسمى أصلاً فحينئذ لها مهر المثل. والقول الثاني: أنه إذا لم يسمى فلها مهر المثل بلا إشكال، لكن إذا كان فاسداً فالقول الثاني أنه لها بمقدار قيمة المهر الفاسد، فإذا أهداها آلات طرب أو خنزير أو خمر ننظر إلى قيمة هذا المهر الفاسد ونعطي المرأة بمقدار هذه القيمة، والصحيح أن لها مهر المثل، لأن المهر الذي فيه مال فاسد لا يعتبر مالاً في الشرع ليس له قيمة ولا اعتبار، ولذلك نحن نهدر هذا المهر تماماً، ولا نعتبر فيه لا القيمة ولا غير القيمة. قال المؤلف ـ رحمه الله ـ: فصل (وإن أسلم الزوجان معاً) إذا أسلم الزوجان في وقت واحد بقي النكاح على ما هو عليه بالإجماع، والدليل هو ما تقدم من أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يفرق بين الذين أسلموا.

والدليل الثاني: الإجماع المحكي ومقصود الحنابلة بقولهم معاً يعني أن يتلفظا بالإسلام في وقت واحد، يقول الزوج والزوجة الشهادتين في وقت واحد، فإن اختلف أو تقدم أحدهما أو تأخر فله حكم آخر سيذكره المؤلف، لكن يشترط لبقاء العقد أن يتلفظا بوقت واحد. والقول الثاني: أنه لا يشترط أن يتلفظا به في وقت واحد، بل يشترط أن يكون في مجلس واحد، وعلة القول الثاني تقدمت معنا وهي تعليل يشتهر بين الفقهاء وهو قولهم أن حال المجلس حال العقد، يعني أن كل ما يكون في مجلس العقد يعتبر كأنه كان أثناء العقد، وهذا القول الثاني هو الصحيح إن شاء الله، بل القول الأول كما قال ابن القيم وغيره من الأقوال التي يتعذر وقوعها فإنه يتعذر أن ينطق الزوج والزوجة لا إله إلا الله في وقت واحد هذا لا يكاد يقع والشرع لا يعلق بأمور يندر وقوعها. قال المؤلف ـ رحمه الله ـ: (أو زوج كتابية بقي نكاحهما) يعني إذا أسلم زوج الكتابية فإن النكاح يبقى على ما هو عليه لأنه يجوز للمسلم أن ينكح الكتابية، وهذا الحكم محل إجماع يعني عند القائلين بجواز نكاح الكتابية، كما أنه مقتضى النظر لأنه إذا أسلم ما زال يجوز له أن يكون زوجاً لهذه المرأة ما دامت كتابية. قال المؤلف ـ رحمه الله ـ: (فإن أسلمت هي أو أحد الزوجين ... ) يقصد بقوله هي: يعني الكتابية سواء كانت مع كتابي أو مع غير كتابي، أما هو يعني لو أسلم الكتابي فتقدم، فإن أسلمت هي أو أحد الزوجين غير الكتابيين قبل الدخول بطل، إذا أسلمت المرأة قبل الدخول بطل النكاح، لأنه لا يجوز للمسلم أن يتزوج الكافرة، ولا يجوز للكافر أن يتزوج المسلمة، هذا الدليل الأول. الدليل الثاني: حكي الإجماع. الدليل الثالث: قوله تعالى {لا هن حل لهم ولا هم يحلون لهن} لكن الشطر الأول هو الدليل الآن، بناءً على هذا بمجرد إسلام الزوجة قبل الدخول يعتبر العقد مفسوخ، ولا نسميه طلاقاً، وتنتهي علاقة المرأة بالرجل بمجرد إسلام المرأة، كل هذا إذا كان قبل الدخول، سيأتينا تعليق على هذا في المسألة الثانية. قال المؤلف ـ رحمه الله ـ: (فإن سبقته فلا مهر ... )

إذا أسلمت هي قبله فلا مهر يعني فليس لها المهر، وعلل الحنابلة هذا بأن الفرقة جاءت من قبلها لأنها هي التي أسلمت، فبإسلامها انفسخ النكاح، والقاعدة أن الفرقة إذا كانت من جهة الزوجة فلا مهر لها. القول الثاني: أنها لها نصف المهر، والسبب في ذلك أن الفرقة في الحقيقة ليست من قبل الزوجة بل من قبل الزوج، لأنها إنما فعلت ما فرض الله عليها وهو الإسلام، وهو الذي بتركه الإسلام صارت الفرقة، واختار هذا القول أبو بكر من كبار أصحاب الإمام أحمد والمرداوي، ونصروه وقووه وقالوا الخطأ منه لا منها، فلها نصف المهر، وهذا القول هو الصحيح إن شاء الله بلا إشكال وهو مقتضى النظر والفقه لأنه ليس السبب منها السبب منه هو، لأن الفطرة والأصل الإسلام، فهو خالف الفطرة وترك الإسلام، وأما هي فلم تصنع إلا الرجوع إلى الفطرة، ولا إشكال إن شاء الله أن هذا هو الراجح. قال المؤلف ـ رحمه الله ـ: (وإن سبقها فلها نصفه) يعني إن أسلم هو فلها نصف المهر، والتعليل لأنه السبب منه هو لأنه أسلم، فالحنابلة مطردة عندهم القاعدة الذي يسلم هو السبب. والقول الثاني: أنه لا شيء لها لأن الفرقة منها حيث تركت الإسلام، نفس المسألة السابقة، لكن الغريب أن أبو بكر في المسألة الأولى قال كما سمعتم، في المسألة الثانية وافق الحنابلة ونص على هذا ولا أعلم ما وجه التفريق، أما المرداوي فاطرد وقال هذه المسألة كتلك المسألة، وكلام المرداوي هو المنطقي والمعقول والمقبول أنه لا فرق بينهما ونعتبر الزوج هو الذي تسبب في الفرقة لأنه ترك الإسلام، يعني في المسألة الثانية، وبناءً على هذا يدفع نصف المهر. قال المؤلف ـ رحمه الله ـ: (وإن أسلم أحدهما بعد الدخول ... ) إذا أسلم أحدهما بعد الدخول فهي مسألة فيها اضطراب شديد جداً، نحن نلخص الأقوال كما يلي:

القول الأول: أنه يوقف على انقضاء العدة، فإن أسلم الآخر قبل انقضاء العدة عاد إلى الزوج إلى زوجته وإلا فلا، وهذا القول وهو اعتبار الوقت بانقضاء العدة هو مذهب الأئمة الأربعة، إلا أن الأحناف والمالكية عندهم تفصيلات أخرى، لكن من حيث اعتبار العدة اتفق الأئمة الأربعة على اعتبار العدة، والإمام أحمد روي عنه اعتبار العدة من أكثر من طريق حتى بلغ مجموع الذين رووا عنه هذه الفتوى نحو خمسين رجلاً، كأنها من أكثر ما روي عن الإمام أحمد خمسون واحد رووا عن الإمام أحمد أنها تنتظر إلى العدة، فإن أسلم أحدهما وإلا فالفراق، هذا القول يتضمن أمرين: الأول: أن النكاح يبقى ولا ينقطع. والثاني: أن حدود النكاح إلى نهاية العدة. أما الدليل على الأول فأدلة كثيرة منها الأول أن صفوان بن أمية تأخر إسلامه عن زوجته لمدة نحو شهر وردها النبي صلى الله عليه وسلم بالنكاح الأول، وكذلك أبو سفيان تقدم إسلامه على إسلام زوجته هند ومع ذلك ردها النبي صلى الله عليه وسلم وأقرهم على النكاح الأول، وكذلك عكرمة فإنه أبى الإسلام وخرج إلى اليمن وخرجت زوجه في إثره إلى اليمن وأقنعته بالإسلام وأسلم وأبقاهم النبي صلى الله عليه وسلم على نكاحهما الأول. وأما الدليل على مسألة العدة فهو ما رواه شبرمة وهو أحد التابعين أنه قال كان الرجل والمرأة في عهد النبي صلى الله عليه وسلم إذا أسلم أحدهما وقف على العدة فإن أسلم الآخر قبلها وإلا انقطع النكاح، هذا الأثر ضعفه الشيخ العلامة الألباني في إرواء الغليل، لكن في الحقيقة الأثر يحتاج إلى جمع طرق، ولأن العلل التي ذكرها الشيخ لم أبحث الأثر بشكل عميق لكني لم أقتنع مع ذلك بالعلل التي ذكرها الشيخ رحمه الله فيحتاج الأمر إلى جمع طرق وتحرير حال شبرمة يحتاج إلى جهد كثير وطويل، لاسيما وأن هذا الأثر في الحقيقة مهم في المسألة جداً، وتضعيفه بأشياء بسيطة مما لا يقبل، على كل حال أنا لا أقول هو صحيح أو ضعيف، لكني أقول أنه يحتاج إلى نظر أعمق من هذا، هذه هي أدلة الجمهور، وهي فيما يتعلق ببقاء النكاح أدلة لا شك فيها، أما فيما يتعلق بتأقيته بالعدة فهي محل نظر.

القول الثاني: وهو رواية عن الإمام أحمد ونصره ابن المنذر ونصره الخلال وأيضاً تلميذه أبو بكر وأيضاً نصره ابن حزم وعدد من أهل العلم، أنه بمجرد الإسلام تنقطع العلاقة، بمجرد ما يسلم أحدهما تنقطع العلاقة بينهما، واستدلوا على هذا بأن المبطل للنكاح هو اختلاف الدين، ومبطلات النكاح لا تختلف أن تكون قبل الدخول أو بعد الدخول، كما أن قوله تعالى {ولا تمسكوا بعصم الكوافر} آية مطلقة لم تفرق بين قبل الدخول وبعد الدخول، وقوله {لا هن حل لهم} أيضاً لم تفرق بين قبل الدخول وبعد الدخول، فهم في الحقيقة تمسكوا بالأصل، فقالوا بما أن إسلام أحد الزوجين يفسخ النكاح إذاً يفسخه مباشرة، ولا يوجد هناك مدة يرجع إليها في ذلك، لأن المبطل مبطل مطلقاً. القول الثالث: وهو قول الشيخ الفقيه النخعي ونصره جداً شيخ الإسلام وابن القيم، وخلاصة هذا القول أنه إذا أسلم أحد الزوجين فالنكاح باقي مطلقاً ودائماً، إلا أنه يكون عقد جائز لا لازم، ومعنى هذا أنها إذا أسلمت المرأة فهي تبقى في عقد الزواج وعلى عصمة الزوج، لكنه بقاء غير ملزم فإن شاءت أن تتزوج فلها ذلك، واستدل هؤلاء بأدلة: الدليل الأول: وهو من أدلتهم القوية، أنه لا يوجد في كتاب ولا سنة ولا إجماع اعتبار العدة يعني اعتبار مدة العدة والانتظار إلى نهايتها لبقاء النكاح أو فسخه، فتعليق الأمر على العدة تعليق على أمر لم يعتبره الشارع مطلقاً، هذا أولاً. ثانياً: أن النبي صلى الله عليه وسلم رد ابنته زينب على زوجها أبي العاص بعد سنين اختلف فيها، وعلى كل الأقوال هي بعد العدة، لأنه ردها على قول بعد ست سنين، وعلى قول بعد ثمان عشر سنة، وعلى قول بعد أربع سنوات، والحقيقة تحرير هذا لا يعنينا لأنه على كل الأقوال بعد انتهاء العدة. الدليل الثالث: أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يشر إلى اعتبار العدة في الوقائع التي أقر النبي صلى الله عليه وسلم عليها الزواج بعد إسلام أحد الزوجين، يعني حديث عكرمة وسفيان وغيره لم يشر فيها إلى اعتبار العدة.

وهذا القول مع كونه من الأقوال التي ظاهرها القوة إلا أن اثنان من أهل العلم وهم ابن عبد البر وابن قدامة يعتبرون هذا القول شاذ، مخالف لجماعة المسلمين، ما هو الشاذ في هذا القول؟ الشاذ في هذا القول عندهم هو إرجاع الزوجة إلى زوجها بعد انتهاء العدة، هذا المفهوم هو الشذوذ، فإرجاعها بعد العدة لم يقل به أحد إلا النخعي وشيخ الإسلام وابن القيم، واعتبر أيضاً من الشذوذ، وتقدم معنا أن الأئمة الأربعة على اعتبار العدة أي على التأقيت بالعدة.

المسألة هذه في الحقيقة فيها إشكال كبير، وليست من المسائل التي ممكن أن الإنسان يرجح فيها ببساطة، فيه امرأة خرجت من الروم وقت الإمام أحمد وأسلمت، جاء عبد الله بن الإمام أحمد وقال: ههنا امرأة خرجت من الروم وأسلمت فهل ترى لها أن تتزوج فالإمام أحمد قال: اختلف الناس في هذا رحمه الله فذهب بعضهم إلى التأقيت بالعدة، وذهب بعضهم إلى الانتظار مطلقاً، وذهب بعضهم إلى فسخ النكاح، ثم قال الإمام أحمد وأما أنا فأتهيب الجواب فيها. هذا هو وهو يعني من هو رحمه الله يعني من هنا أقول أنه ما يلزم أن في كل مسألة أن الإنسان يرجح ومع ذلك أنا أعطي نقاط، لاشك أن أدلة شيخ الإسلام وابن القيم غاية في القوة والواقع أنه قوية جداً من حيث الدلالة والثبوت، حتى أنها أثبت من أدلة الجمهور، ويؤيدها أثر عن عمر وأثر عن على بإسناد صحيح، فهي أدلة قوية جداً جداً، هذا شيء الشيء الثاني أشار ابن القيم إلى شيء وهو أنه لو لم نقل بتصحيح القول الثالث الذي تبناه هو لكان القول الثاني وهو مذهب ابن حزم وابن المنذر أقوى من مذهب الجمهور لأن القاعدة أن ما يبطل يبطل قبل وبعد الدخول، فأشار إلى هذا المعنى أن القول الثاني أقوى يعني ابن القيم يرى أن القول الذي حكي هو أضعف الأقوال قول الأئمة الأربعة يعتبره أضعف الأقوال، وهذا لا يزيد المسألة إلا إشكال، فإن شاء الله تبقى كما هي وتتوقف على بحث أثر شبرمة وعلى أن الإنسان يستخير فيها مراراً ويسأل الله أن يفتح عليه، ولاسيما وأن المسألة هذه اليوم مسألة مهمة جداً والسبب أنه ولله الحمد الدخول في الإسلام أصبح بأعداد كبيرة جداً، ونسبة الدخول في الإسلام الآن في أوروبا وأمريكا هي أعلى نسبة، ولا تقارنها أي نسبة أصلاً فنسبة الدخول في الإسلام إلى نسبة عدد السكان مرتفعة جداً تصل أحياناً إلى عشرة بالمئة وهي نسبة خيالية تعتبر وتسعة بالمئة وثمانية بالمئة، كل هؤلاء يحتاجون إلى هذه المسألة لأنهم غالباً لا تريد أن تبقى على عصمة زوجها الكافر ويتقدم إلى خطبتها مسلم مباشرة لتثبيتها على الإيمان وترجع إلى مسألتنا هذه. قال المؤلف ـ رحمه الله ـ: (وإلا بان فسخه منذ أسلم الأول)

يعني إذا انتهت العدة ولم يسلم أحدهما تبينا أن العقد مفسوخ من الأول، وعللوا هذا بأن سبب الفسخ هو اختلاف الدين وهو موجود من حين أن أسلم أحدهما، إذاً إذا لم يسلم بعد انتهاء العدة نعتبر العقد مفسوخ من الأول، ويترتب على هذا أنه إذا وطءها في أثناء العدة فإنه يترتب عليه أن يدفع مهر آخر لأن المهر الذي وجب بالعقد دفع، وهذا مهر بسبب الوطء الذي كان بعد الفسخ لأنه تبين معنا أنه بعد الفسخ يفهم من هذا أنه لا يجوز للزوج أثناء التربص أن يطء امرأته، لأنه لم يتبين هل هي زوجة أو ليست بزوجة، كما أنه يفهم من هذا أن من فعل هذا بالإضافة إلى ترتب مهر آخر ينبغي أن يعزر وأن يؤدب لأنه وطء هذه التي ينتظر فيها في حال لا يجوز له أن يطأها. قال المؤلف ـ رحمه الله ـ: (وإن كفرا أو أحدهما بعد الدخول ... ) إذا كفرا، مقصود الشيخ بكفرا هنا ارتد فالبحث الآن في الردة لأن البحث في الدخول في الإسلام تقدم ولذلك لو أن الشيخ قال إن ارتد كان أوضح لأن المقصود في الحقيقة الكلام على أحكام المرتد فإذا ارتد أحد الزوجين عياذاً بالله نسأل الله العافية والسلامة، فالحكم كالحكم إذا أسلم أحد الزوجين إن ارتد قبل الدخول انفسخ النكاح مباشرة وإن ارتد بعد الدخول فننتظر مضي العدة، فإن انتهت العدة قبل أن يرجع إلى الإسلام تبينا أنه مفسوخ وإن رجعا بقيا على نكاحهما.

وهذه المسألة قلت أنها كالمسألة السابقة لكن عند التأمل تجد أنها من حيث العمل ترجح قول الجمهور، لأنه الآن مثلاً من الأشياء التي انتشرت ترك الصلاة بالكلية، لا يصلي مطلقاً وإذا لم يصلي مطلقاً فإن العلماء اختلفوا فيه على قولين: منهم من يرى أنه مرتداً خارجاً عن الدين، ومنهم ومن يرى لأنه يبقى على الإسلام وإن قتل حداً، فعلى القول بأنه يكون مرتد إذا كان مرتداً فعند شيخ الإسلام وابن القيم يعامل معاملة إذا أسلم أحدهما، هنا يكون فيه إشكال، يعني يترتب على هذا أن نقول للزوجة إذا قالت أن الزوج لا يصلي مطلقاً ماذا نقول؟ تبقين وأنت على الخيار، إلى متى؟ ليس له حد. فتقول إلى متى أبقى مع هذا الزوج الذي لا يصلي؟ ليس له حد وتبقى على هذا على شرط ألا يطأها، فإذا تبينا أنه لم يرجع، ومتى نتبين أنه لم يرجع ربما لا يصلي وربما يقول سأصلي بعد أسبوع تبقى القضية غير منضبطة في الحقيقة مطلقاً، لاسيما في مثال الردة لأن الإسلام وعدمه قد يكون تحديد الزوج لكونه سيسلم أو لا واضح، يعني بعد مضي مدة يقول سأسلم أو سأبقى على ملة الكفر التي أنا عليها، لكن بالنسبة لترك الصلاة دائماً كما هو مشاهد في الواقع تبقى ربما بعض الناس ما يرجع إلى الصلاة إلا بعد ثلاث سنوات، أو بعد خمس سنوات، ولكن بالنسبة للجمهور الأمر مضبوط جداً جداً نقول تبقين معه إلى انتهاء العدة إن صلى فهو زوجك وإن لم يصلي فقد انفسخ النكاح، وفي هذا انضباط كبير جداً وهو مما يرجح قول الجمهور، على أن شيخ الإسلام نص أن الردة كإسلام أحدهما، وأنا أقول أن هذا مما يقوي قول الجمهور، بالإضافة إلى أثر شبرمة إن صح، ومع ذلك في الحقيقة المسألة مشكلة كيف لم يأتي أي شيء عن النبي صلى الله عليه وسلم ولا عن أحد من الصحابة يعلق الأمر بالعدة، ولا إشارة من قريب أو بعيد، هذا في الحقيقة غريب ومشكل ومع هذا الأئمة الأربعة لا يختلفون في اعتبار العدة، فلا بد أن أثر شبرمة هذا له أصل إن شاء الله، وهو الذي عليه اعتمد الأئمة في تحديد الأمر في النكاح. إلى هنا نتوقف على باب الصداق. هذا والله أعلم وصلى اللهم وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. - ((انتهى الدرس))

(باب الصداق)

الدرس: (10) من النكاح قال شيخنا حفظه الله: بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين. (باب الصداق) الصداق تعريفه هو: العوض الذي يعطى للمرأة مقابل للنكاح ونحوه، والمقصود بنحوه أي وطء الشبهة والنكاح الفاسد. والصداق في النكاح مشروع بالكتاب والسنة والإجماع. أما الكتاب: فقوله تعالى: {وأحل لكم ما وراء ذلك أن تبتغوا بأموالكم} وأما السنة: فسيأتينا منها عدد كبير، ومن ذلك أن عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه وأرضاه أصدق امرأة تزوجها بنواة من ذهب، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم:" أولم ولو بشاة" فهذا إقرار من النبي صلى الله عليه وسلم له على الدخول على المرأة بالصداق. أخيراً الإجماع: والإجماع حكاه غير واحد، إذاً الصداق ذكرنا تعريفه، وأخذنا أنه مشروع بالكتاب والسنة والإجماع. قال المؤلف - رحمه الله -: (يسن تخفيفه) ذهب الفقهاء إلى أن السنة في المهر التخفيف، وأن تخفيف المهر أحب إلى الله. واستدلوا على هذا بنصوص: النص الأول: حديث عائشة: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"أكثر النساء بركة أقلهن مؤنه" هذا الحديث إسناده ضعيف لا يثبت إلى النبي صلى الله عليه وسلم، لكن في الحقيقة معناه صحيح، يدل على معناه الآثار المروية عن النبي صلى الله عليه وسلم كما سيأتينا، والآثار المروية عن الصحابة وقواعد الشرع العامة. الدليل الثاني: حديث عقبة بن عامر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"خير النساء أيسرهن مهراً"، وهذا الحديث صححه المتأخرون.

الدليل الثالث: الأثر المروي عن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال: (لا تغلوا صداق النساء فإنه لو كان مكرمة في الدنيا أو تقوى عند الله لكان أولاكم به رسول الله صلى الله عليه وسلم وما زاد رسول الله صلى الله عليه وسلم في صداق نسائه ولا بناته عن اثنتي عشرة أوقيه) وهذا الأثر ثابت إن شاء الله عن أمير المؤمنين عمر. كما ترى الآثار واضحة جداً، وإذاً نصتصحب هذا الأصل أثناء دراسة مسائل الصداق، وهو أن الأحب للشارع أن يكون يسيراً قليلاً. مسألة: فإن زاد الإنسان في المهر زيادة كثيرة مع القدرة فهو جائز بلا كراهة بشرط أن يخلو من سبب إضافي يدل على الكراهة، كالمباهاة والمنافسة الجاهلية في مقدار الصداق، وهذا اختيار شيخ الإسلام رحمه الله وهو الصحيح إن شاء الله. قال المؤلف - رحمه الله -: (يسن تخفيفه وتسميته في العقد) أفادنا المؤلف رحمه الله بهذه العبارة مسألتين: الأولى: أن تسمية النكاح يعني ذكر مقدار المهر في أثناء العقد أنه سنة. والدليل على هذا من وجهين: الأول: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يسمي المهر. الثاني: أن تسمية المهر أثناء العقد أقطع للنزاع. المسألة الثانية التي أفادها كلام المؤلف هو: جواز عدم تسمية المهر في العقد لأن تسمية وذكر المهر سنة إذاً يجوز ألا يذكر. والدليل على هذا قوله تعالى: {لا جناح عليكم إن طلقتم النساء ما لم تمسوهن أو تفرضوا لهن فريضة}، فإن مفهوم الآية أنه: يجوز أن يطلق قبل أن يفرض لها فريضة، يعني قبل أن يسمي ويذكر المهر في العقد. الدليل الثاني: ما أخرجه أصحاب السنن أن النبي صلى الله عليه وسلم زوج رجلاً ولم يذكر مهراً، فيجوز أن الإنسان يعقد العقد ولا يذكر المهر مطلقاً، ويؤجل الكلام عن المهر إلى ما بعد الدخول ولا حرج في هذا بدلالة القرآن والسنة. قال المؤلف - رحمه الله -: (وتسميته في العقد من أربعمائة درهم إلى خمسمائة درهم) يعني ويسن أن يتراوح المهر بين الأربعمائة والخمسمائة درهم. الدليل على هذا أن صداق بنات النبي صلى الله عليه وسلم أربعمائة، وصداق نسائه خمسمائة درهم صلى الله عليه وسلم.

أما الدليل على صداق البنات رضي الله عنهن وأرضاهن فهو أثر عمر السابق فإنه قال وأخبر أن صداق النبي صلى الله عليه وسلم على نسائه وبناته هذا المقدار وهو اثنتي عشرة أوقية والأوقية أربعين درهم. والدليل الثاني أن علي بن أبي طالب لما عقد على فاطمة رضي الله عنها وأرضاها أراد أن يدخل عليها فمنعه النبي صلى الله عليه وسلم وقال: أعطها شيئاً فقال: لا أملك شيئاً فقال النبي صلى الله عليه وسلم: أين درعك رضي الله عنه وأرضاه فأعطاه الدرع، درع من حديد وقدره في بعض الروايات بأنها بأربعمائة درهم، هذه الرواية لم أقف على إسنادها التي فيها التقدير أن الدرع قيمته أربعمائة درهم لم أقف على إسنادها، لكن مع أثر عمر ربما يقبل أنه هذا المقدار، أما أن صداق أزواج النبي صلى الله عليه وسلم فهذا ثابت من حديث عائشة قالت: "كان النبي صلى الله عليه وسلم يصدق نسائه اثنتا عشرة أوقية ونشاً قيل: ما النش؟ قالت: النش نصف أوقية" وكما قلت الأوقية أربعون درهم يكون المجموع خمسمائة درهم. من الظاهر أن بين أثر عمر وحديث عائشة شيء من الاختلاف، لأن عمر يخبر أنها اثني عشر أوقية، وعائشة تخبر أنها اثنتي عشرة أوقية ونصف، والجواب عن هذا الاختلاف من وجهين: الأول: أن يكون الصواب مع عائشة ويكون ما ذكره عمر رضي الله عنه مخالف للواقع، وسبب الترجيح أن حديث عائشة صحيح وهي أخبر بصداق نسائه من عمر. الجواب الثاني: وهو الصحيح أو وهو إن شاء الله الأقرب أن عمر أراد أن يخبر على سبيل الإجمال، ولم يرد أن يحدد بدقة وإنما أراد أن يخبر إخباراً مجملاً، وإلا فهو يعرف مقدار الصداق، وهذا الجواب الثاني أحسن إن شاء الله، إذاً عرفنا الآن ما هو مستند الحنابلة في تحرير المهر بين هذين المقدارين. قال المؤلف - رحمه الله -: (وكل ما صح ثمناً أو أجرة صح مهراً) أفادنا المؤلف رحمه الله أيضاً مسألتين:

المسألة الأولى: أن المهر يجوز مهما كان قليلاً أو كان كثيراً، بعبارة أخرى لا حد لأقله ولا لأكثره، أما أنه لا حد لأكثره فهذا محل إجماع أنه لا حد لأكثره ويدل عليه ظاهر الآية: {وآتيتم إحداهن قنطاراً} واختلف المفسرون في معنى القنطار، ولكن على جميع الأقوال هو المال الكثير فالاستدلال بالآية صحيح. الثاني: أنه لا يوجد في النصوص ما يدل على تحديد أكثر المهر. المسألة الثانية: أقله، لا حد لأقله عند الجمهور، واستدل الجمهور على هذا بإطلاق الآية {أن تبتغوا بأموالكم}، والمال يصدق على الكثير وعلى القليل. والقول الثاني للأحناف: أنه لا يجوز أن يقل المهر عن ما تقطع به يد السارق، واستدلوا بحديث وهو ما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"لا مهر دون عشرة دراهم"، وهذا الحديث لا أصل له يعني أقل من أن نقول ضعيف، ليس في كتب السنة، والغالب أن العلماء إذا قالوا لا أصل له يعني أنه لم يرو بإسناد. والراجح إن شاء الله مذهب الجمهور وهو أن المهر لا حد لأقله. قال المؤلف - رحمه الله -: (وكل ما صح ثمناً أو أجرة صح مهراً) هذه هي المسألة الثانية: كل ما صح ثمناً صح مهراً. والدليل على هذا: أن المهر عوض البضع، فكل ما جاز أن يكون عوضاً في البيع والأجرة يعني في الإجارة صح أن يكون مهراً، وسيذكر المؤلف مجموعة من الأشياء التي تستثنى لكن الأصل أن كل ما صح ثمناً للمبيع أو أجرة في الإجارة، فإنه يصح أن يكون مهراً. قال المؤلف - رحمه الله -: (وإن أصدقها تعليم القرآن .. )

قوله وإن أصدقها تعليم القرآن أفادنا المؤلف بهذه العبارة بل بالتي قبلها، يعني هو مستفاد من عموم العبارة السابقة، أنه يجوز أن يكون المهر قليلاً وكثيراً، حالاً ومؤجلاً، حالاً وفي الذمة، وعيناً، لأنه يقول: (كل ما صح أجرة أو ثمن صح مهراً)، وهذه الأشياء تصح، وأيضاً يجوز أن يكون منفعة، ويجوز أن يكون عيناً، وهذا الذي أقوله اتفق عليه الأئمة الأربعة في الجملة، وهو أنه يجوز مهما كان نوعه وجنسه وتأجيله وحلوله إلى آخره، إلا أن الأحناف خالفوا في المنفعة، فلم يرو أن المنفعة يصح أن تكون مهراً، واستدل الأحناف على عدم تصحيح المنفعة مهراً في أن الله سبحانه وتعالى اشترط أن يكون المهر من المال والمنفعة ليست مالاً. واستدل الجمهور الذين يرون جواز أن تكون المنفعة مهراً بأدلة: الأول: أن المنفعة وإن لم تكن مالاً فهي بمعنى المال ولذلك يعاوض عنها بالمال. الدليل الثاني قوله تعالى: {إني أريد أن أنكحك إحدى ابنتي هاتين على أن تأجرني ثمان حجج}، والإجارة للرعي منفعة وليست مالاً. لهذا نقول الراجح إن شاء الله: جواز جعل المنفعة مهراً، يستثنى من هذا مسألة واحدة فقط أشار إليها شيخ الإسلام رحمه الله، وهي أنه لا يجوز أن تكون المنفعة خدمة خاصة للزوجة، يعني أن يكون المهر هو منفعة خدمة الزوجة، واستدل على هذا بأمرين: الأمر الأول: أن في هذا إهانة وامتهاناً للزوج. الثاني: وهو من وجهة نظري الأهم أن في هذا تعارض الحقوق، بأن العقد يقتضي أن تخدم الزوجة الزوج، وهذا المهر يقتضي العكس، وما ذكره الشيخ وجيه وصحيح، فإذاً يجوز أن تكون المنفعة أي نوع من الأنواع، إلا خدمة الزوجة، فلها أن تقول مهري أن تقوم بإدارة المزارع الخاصة بي، أو المنازل الخاصة بي، أو بتأجير البيوت التابعة لي، ونحو هذه، أو بمتابعة المعاملات الخاصة بي، إلا أنه يجب أن تكون المنفعة محددة ومعلومة.

نرجع، يقول الشيخ رحمه الله تعالى: (وإن أصدقها تعليم قرآن لم يصح)، لا يصح عند الحنابلة أن يكون العوض هو تعليم القرآن، والتعليل ظاهر لما تقدم معنا في كتاب البيوع، أنه لا يجوز أخذ الأجرة على تعليم القرآن، ونحن نقول أن كل ما صح عوضاً في الأجرة والبيع صح مهراً، وهذا لا يصح عوضاً في الأجرة، فلا يصح مهراً في الحقيقة، مسألة تعليم القرآن داخلة في عموم عبارته السابقة، يعني لو لم يذكرها لأمكن طالب العلم أن يعرفها من خلال القاعدة، لأنه لا يجوز أخذ الأجرة على تعليم القرآن عند الحنابلة إنما نص عليه الشيخ لأن فيها نصاً من السنة، ولقوة الخلاف فيها، إذاً عرفنا الآن مذهب الحنابلة أنه لا يجوز أن يكون تعليم القرآن مهراً. واستدلوا على هذا بأنه ليس مما يجوز أخذ الأجرة عليه. الدليل الثاني: أن تعليم القرآن ليس مالاً. القول الثاني: أنه يجوز أن يكون تعليم القرآن مهراً، واستدل الحنابلة على هذا بحديث الواهبة، فإن الواهبة التي وهبت نفسها للنبي صلى الله عليه وسلم لما لم يرد أن ينكحها أنكحها رجلاً، ولم يكن مع الرجل أي نوع من الأموال النقدية، لا الحاضرة ولا الغائبة، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:" هل معك شيء من القرآن؟ فقال: نعم، فقال: أنكحتكها بما معك من القرآن، أو زوجتكها بما معك من القرآن". فالباء في هذا الحديث باء المعاوضة فالنبي صلى الله عليه وسلم جعل عوض البضع تعليم القرآن، وهو نص في المسألة.

الدليل الثاني: أن تعليم القرآن منفعة معلومة محددة، فجاز أن تكون مهراً، واشترط القائلون بالجواز معرفة مقدار ما سيعلم الرجل المرأة، وهل التعليم هو التحفيظ؟ أو التعليم هو حسن القراءة؟ فلا بد أن يبين هذا بالتمام حتى نخرج من الجهالة إلى العلم، إذاً يجوز أن يكون تعليم القرآن عند هؤلاء مهراً، والصحيح هو هذا إن شاء الله، ولا يستطيع أن يخرج الإنسان عن مقتضى هذا الحديث، وما أجاب به الحنابلة عن الحديث ضعيف جداً وهو أنهم قالوا: مقصود النبي صلى الله عليه وسلم زوجتكها بما معك من القرآن أي نظراً لقدرك ورفعتك بحفظ القرآن، وهذا كلام فيه تكلف ظاهر جداً، ثم إنه يجعل العقد بلا مهر، ونحن تقدم معنا أن خلو العقد من المهر يفسد النكاح. الخلاصة أن الراجح إن شاء الله: هو هذا أنه يجوز أن يكون تعليم القرآن مهراً للمرأة. قال المؤلف - رحمه الله -: (بل فقه وأدب وشعر .. )

يعني بل يجوز أن يكون تعليم الفقه والأدب والشعر المباح مهراً، وتعليل ذلك أن هذا التعليم تعليم معلوم، ومنفعة محددة، فجاز أن تكون مهراً، والشيخ هنا يقول رحمه الله: (بل فقه وأدب وشعر مباح معلوم) فذكر الفقه والأدب والشعر المباح، هل في كلام الشيخ إشكال؟ الإشكال الذي ظهر لي أنه كيف يقول الشيخ بل فقه وغيره من الحنابلة يقولون بل فقه وحديث إلى آخره، مع العلم أنهم قرروا في كتاب البيع أنه لا يجوز أخذ الأجرة على تعليم الفقه والحديث، نصوا على هذا أليس كذلك؟ الجواب عن هذا أن يقال: أن قوله بل فقه يعني على القول بجواز أخذ الأجرة هذا حتى نحمل كلام المؤلف على محمل حسن، وإلا في الحقيقة ينبغي أن لا يذكر الفقه باعتبار أنه قرر فيما سبق أنه لا يجوز أن تؤخذ الأجرة على تعليم الفقه، وهنا نقول على القول بجواز تعليم الفقه والحديث، ينبغي أيضاً أن يحدد، الفقه طويل ومتشعب والحديث كذلك والتفسير والنحو، ينبغي أن يحدد ما هو الشيء الذي سيكون محل التعليم، وإذا حدد الشيء كأن يقول تعليم كتاب الصلاة مثلاً، إذا حدد الكتاب ينبغي أن يحدد ما هو التعليم المقصود، هل تقصد أنه يفهم أو يحفظ؟ ثم إذا حدد ينبغي أن يحدد إذا افترضنا أن التعليم هو الفهم يعني أن يشرح له إلى أن يفهم، ينبغي أن يحدد مدى الشرح المتعلق بالفهم، يعني كأن يقول المهر هو شرح كتاب الصلاة إلى أن تفهم الزوجة كتاب الصلاة على ألا يتجاوز مدة الشرح شهر مثلاً، لأنه قد يكون المتعلم ذكي، وقد يكون غبي، وقد يكون بطيء الفهم، وقد يكون سريع الفهم، فإذا كان المهر هو التعليم والتفهيم، ربما يجلسون ثلاث أربع سنوات ما فهم الكتاب، فإلى أي حد يكون العمل، ومن الناس من يفهم من أول مرة ومنهم من يفهم من ثاني مرة ومنهم من يفهم من ثالث مرة ومنهم من لا يفهم أبداً، فإذاً لا بد من وضع حد معين للفهم، وهذا كله نصوا عليه الحنابلة وهو حقيقي، ولذلك إذا كان في منطقة من المناطق اعتادوا أن يكون المهر هو التعليم بسبب جودتهم وكثرة الدين فيهم ورغبتهم في الخير ينبغي تحديد هذا الشيء، حتى لا يكون مثار اختلاف. قال المؤلف - رحمه الله -: (وإن أصدقها طلاق ضرتها .. )

وإن أصدقها طلاق ضرتها لم يصح، لا يجوز أن يكون المهر طلاق الضرة الأخرى، لأمرين: الأمر الأول: أن طلاق المرأة الأخرى ليس بمال، والله تعالى شرط في المهر أن يكون مالاً. الثاني: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا تسأل المرأة طلاق أختها"، فهذا النوع من المهر محرم. القول الثاني: أنه يجوز أن يجعل طلاق الضرة مهراً، لأن للزوجة الجديدة منفعة واضحة، وهي خلو الزوج عن مشارك، وهذا القول الثاني كما ترون ضعيف جداً لأنه مصادم للنص، والقول إذا صادم النص لا عبرة به، ولو ظهر للإنسان أن ما ذكره أصحابه من تعليل وجيه، فهو قول ضعيف مصادم للنص، كيف ينهى النبي صلى الله عليه وسلم عن أمر فيجعله بعض الناس مهراً هذه مضادة للشرع. قال المؤلف - رحمه الله -: (وله مهر مثلها) له مهر مثلها: يعني إذا لم نصحح هذا المهر فللمرأة مهر المثل، واستدلوا على هذا بأن المهر إذا لم يصح فإنا نرجع إلى مهر المثل، وهي قاعدة الحنابلة وغيرهم من الفقهاء كما سيأتينا في المسألة اللاحقة. القول الثاني: أن لها مهر ضرتها، يعني نعطيها بمقدار مهر الضرة، وهذا القول اختاره شيخ الإسلام، لأن هذا المهر أقرب إلى المهر المسمى، وهذا القول هو الراجح، لاحظ الآن سيأتينا مسائل أخرى تشبه هذه المسألة، لاحظ الآن أنا رجحنا القول الذي فيه مهر المثل أو الأقرب للمسمى، وهذا اختيار شيخ الإسلام رحمه الله وسيأتينا أن هذا لو وضع قاعدة لكان مفيداً سيأتينا الآن في المسألة اللاحقة. قال المؤلف - رحمه الله -: (ومتى بطل المسمى وجب مهر المثل) إذا بطل المسمى وجب مهر المثل عند الجماهير. استدلوا على هذا بأن البضع لا يستباح إلا بعوض، فإذا بطل العوض رجعنا إلى بدله، وأقرب الأبدال مهر المثل، والمهر يبطل لعدة أسباب: إما أن يكون المهر محرماً، كأن يصدقها خمراً أو خنزيراً، أو يبطل لكونه مجهولاً، أو لا يبطل وإنما لم يسمى. هذه قاعدة الحنابلة، والحقيقة أن في المسألة تفصيل آخر وهو كالتالي:

أن نقول إذا كان المهر لم يسمى، فالواجب بدله مهر المثل، والدليل على هذا حديث صحيح وهو أن ابن مسعود رضي الله عنه وأرضاه سئل عن رجل عقد على امرأة ثم مات فأفتى رضي الله عنه وأرضاه بأن لها مهر مثلها، ثم قام أحد الصحابة وأخبر أن النبي صلى الله عليه وسلم حكم بمثل ما حكم به ابن مسعود، قال الراوي: فلما علم ابن مسعود بموافقته النبي صلى الله عليه وسلم فرح فرحاً لم يفرح مثله في الإسلام، عبارة ضخمة جداً يعني كأنه بعد إسلامه لم يفرح بشيء كفرحه بموافقته لفتوى النبي صلى الله عليه وسلم، ومن هذا الحديث أخذ بعض أهل العلم أن من ضوابط معرفة الإنسان لفهمه أن يوافق قول المحققين، وهذا الصحيح، فإذا كان الإنسان فهمه وإدراكه وفهمه للنصوص يوافق فهم المحققين وعلى رأسهم الصحابة فهذا دليل على صحة فهمه وجودة ذهنه، وإن كان العكس فالعكس، وليس المقصود أن يكون الترجيح واحد، لكن الفهم واحد أما الترجيح فيختلف فيه الناس، فهذا الحديث نص في أنه إذا لم يسمى المهر فلها مهر المثل. القسم الثاني: أن يكون المهر باطلاً، لكونه محرماً كالمغصوب والخنزير والخمر وما شابه ذلك، فهذا الحنابلة أيضاً يرون أن لها مهر المثل. والقول الثاني: أنه في هذا النوع للزوجة مثل المغصوب أو قيمته، فإذا غصب سيارة وأصدقها للمرأة ثم تبين أنها مغصوبة فالمهر عند الحنابلة مهر المثل، والمهر على القول الثاني أن يأتي بسيارة مثل هذه السيارة المغصوبة. والقول الثالث: أنه إن كان خمراً فتعطى بمقداره خلاً، وهذا القول رواية عن الإمام أحمد وهو في الحقيقة لا يختلف عن القول الثاني نفس الشيء.

على كل حال الراجح إن شاء الله القول الثاني وهو أن يأتي بمثل المغصوب أو بقيمته، إذا كان المهر مغصوباً يأتي بمثله أو قيمته، لكن إذا كان المهر خمراً كيف يأتي بمثله؟ خل هذا الذي أشارت إليه الرواية الثالثة، لكن الإشكال الآن أن بين قيمة الخمر وقيمة الخل فرق كبير، وهي مثلاً امرأة نصرانية لا تعرف أحكام الإسلام وأصدقها خمراً باهض الثمن رضيت به مهراً، ثم تبين أنه في الشرع لا يجوز، فقال: آتي لك بدله وهو الخل، الخل أرخص بكثير من الخمر، وقد يكون الفرق بينهما كبير، ولهذا نقول إن القول الثاني أرجح لأنه أضبط، تأتي ببدله، فإن لم تتمكن لعدم وجوده أو للمانع الشرعي فتأتي بالقيمة، فنقول كم قيمة هذا الخمر ويكون هو الصداق. وهذا القول في الحقيقة فيه عدل كبير جداً، متوافق مع الشرع وفيه طمأنينة في استباح البضع، لأنها إنما رضيت بهذا القدر من المهر، وكما تعلمون قد يكون بين المهرين بون شاسع جداً، فإذا أصدقها سيارة جديدة تقدر بمائة ألف ريال وصداق مثلها عشرة آلاف ريال بين المهرين تسعين ألف ريال، فدخل عليها ضرر على مذهب الحنابلة لو قلنا لها مهر المثل، أما على هذا القول الذي ذكره شيخ الإسلام ففيه عدل، وإن شاء الله أنه أقرب لقواعد الشرع. فصل وإن أصدقها ألف إن كان أبوها حياً وألفين إن كان ميتاً وجب مهر المثل، قوله وجب مهر المثل يعني فسد المهر المسمى ووجب مهر المثل، هذا مقصود المؤلف، يعني فسد المهر المسمى ووجب مهر المثل والحنابلة يرون أن هذا المهر فاسداً لأنه مجهول، فإنا لا نعلم هل الأب ميت أو حي، وأخذنا أنه لا يصح أن يكون المهر مجهولاً ويجب إذا كان مجهولاً مهر المثل، فإن كان حال الأب معلوماً يعرف هل هو ميت أو حي فإنه أيضاً لا يصح أن يكون مهراً لأن تعليق المهر على موت الأب أو حياته لا ضرر فيه صحيح لا للزوجة ولا للزوج، ولا يجوز تعليق المهر على أمر ليس فيه غرض صحيح.

القول الثاني: أنه يصح تعليق المهر على هذا الأمر لأنه قد يكون فيه غرض صحيح للزوج وفيه غرض صحيح للزوجة، أما غرض الزوجة فواضح فهي إذا قالت إن كان الأب ميتاً فلي ألفين وإن كان الأب حياً فلي ألف غرضها صحيح، لأنه بموت أبيها تكون حاجتها أكبر، وبحياته تكون حاجتها أقل، وهذا يجعل الأمر متناسباً مع مقدار المهر، وقد يكون هو أيضاً له غرض صحيح بأن يكون لا يحب أباها أو يستثقل أباها فإن كان الأب ميتاً فهي كالبشارة له ويعطيها ألفين، وإن كان حياً نقص، بالنسبة للقول الثاني وجيه في الحقيقة لاسيما إذا كان الغرض لها لكنه ليس من المروءة تعليق المهر مهما كان الغرض على موت الأب تعليقه على موت الأب أمر غير جيد لاسيما إذا كان المهر أكثر في حال موت الأب، بل ينبغي أن يعلق المهر على أمر آخر سوى موت الأب يحصل به الغرض، على كل حال إن علقه عليه فالرواية الثانية عن الإمام أحمد أرجح إن شاء الله. قال المؤلف - رحمه الله -: (وعلقه ... ) نعم إذا علقه فقال: إن كان لي زوجة بألفين، وإن كان ليس لي زوجة بألف، فيصح المسمى بلا إشكال لأن للمرأة غرض صحيح في خلوه من المشاركة، بل أن الفقهاء يقولون من أكبر أغراض المرأة خلو الزوج من مشاركة، فتعليق هذا الأمر أو المهر على هذا الأمر صحيح ولا إشكال عليه فإن تبين أن له زوجة فيعطيها ألفين وإلا فألف. قال المؤلف - رحمه الله -: (وإذا أجل الصداق .. ) إذا أجل الصداق أو بعضه صح بلا نزاع، فيجوز أن يكون مؤجلاً أو معجلاً، ولا إشكال في ذلك لأنه معاوضة، فيقاس على البيع، فلا إشكال إن شاء الله في كونه مؤجلاً. قال المؤلف - رحمه الله -: (فإن عين أجلاً ... ) إذا كان المهر مؤجلاً فهو على قسمين: إما أن يكون مؤجلاً لأجل معين، فيحل بحلول الأجل، ولا إشكال ويجب على الزوج أن يدفع المهر عند حلول الأجل. القسم الثاني: ألا يكون مؤجلاً بأجل معين، وإنما يطلق، فالحنابلة يرون أنه إذا أطلق فالتسمية صحيحة، ويحل بالفرقة، والفرقة تحصل بأحد أمرين طلاق أو موت.

استدل الحنابلة على تصحيح المسمى مع جهالة الأجل بأن العرف والعادة جرت بأن المؤجل إذا لم يحد بأجل معين فحده الفرقة، والعرف دليل معتبر في الشرع، ولهذا قعد الفقهاء أن المعروف عرفاً كالمشروط شرطاً. القول الثاني: أنه إذا أجله بأجل مجهول فسد الأجل ووجب حالاً. والقول الثالث: أنه يفسد المسمى برمته ولها مهر المثل، ولا شك أن الحنابلة قولهم أرجح وأوفق وهو الذي يدل عليه عمل الناس والأعراف السائدة، وأما إلغاء الشرط وحلول المهر ففيه مضرة ظاهرة على الزوج، ولا يأتي فيما أرى الشرع بمثله. قال المؤلف - رحمه الله -: (وإن أصدقها مالاً مغصوباً .. ) إن أصدقها مالاً مغصوباً أو خنزيراً ونحوه وجب مهر المثل، تقدم معنا أن قاعدة الحنابلة أنه متى فسد المسمى فالواجب مهر المثل، وأن من صور فساد المسمى أن يصدقها مالاً محرماً كالخنزير والخمر، وتقدم معنا أن القول الثاني وجوب مثله أو قيمته، وأن هذا إن شاء الله أرجح القولين وأقرب لقواعد الشرع. قال المؤلف - رحمه الله -: (وإن وجدت ... ) وإن وجدت المباح معيباً خيرت بين أرشه وقيمته، معنى هذه العبارة: أنه إذا أعطى الزوج زوجته مهراً معيباً فإن الزوجة تخير بين أمرين: الأول: أن تمسك المهر المعيب، وتأخذ الأرش وهو الفرق بين قيمة المهر سليماً ومعيباً. والخيار الثاني: أن ترد المهر وتأخذ قيمته إن كان قيمي أو مثله إن كان مثلي. والقول الثاني: أنه ليس لها إلا أن تمسك أو ترد فقط، وهذه المسألة تقدمت معنا بعينها في خيار العيب، فما يقال هناك هو ما يقال هنا، تماماً، الخلاف هنا كالخلاف هناك، وذكرت هناك أن الراجح: أنها تخير بين الإمساك وبين الرد فقط بظاهر حديث المصراة، كذلك هنا لأن هذا العقد فيه معاوضة، يعني النكاح والمهر فيه معاوضة، فلعله إن شاء الله الأقرب هنا هو الأقرب هناك، وإن كانت المسألة أيضاً تحتاج إلى مزيد تأمل هنا وهناك لكن الأقرب إن شاء الله الآن هذا.

يقول الشيخ هنا رحمه الله تعالى: (وإن وجدت المباح معيباً خيرت بين أرشه وقيمته)، مقصود الشيخ بهذه العبارة: أي إذا كان معيناً، إذا كان المهر معيناً فالحكم هو ما ذكرت، أما إذا كان المهر في الذمة فإنه إذا كان معيباً فلها بدله لا الأرش ولا القيمة، لأنه في الذمة، فإذا قال صداقك شاة عمرها كذا وصفتها كذا وكان ينوي أن يعطيها شاة عنده تنطبق عليها المواصفات ثم تعيبت الشاة بأي عيب، فالواجب أن يحضر لها شاة تتوافق مع الوصف المذكور في العقد، إذاً الخلاصة أن الخلاف السابق في المعين لا في ما في الذمة لأن ما في الذمة يجب بدله مطلقاً. قال المؤلف - رحمه الله -: (وإن تزوجها على ألف ... ) إذا تزوجها على ألف لها وألف لأبيها صحت التسمية، مقصود المؤلف هنا: أنه يجوز للأب أن يشترط لنفسه قدراً معيناً من المهر، ويكون ملكاً له، لكن ينبغي أن تتنبه أن المهر هو مجموع ما لها وله، مال الزوجة وللأب، المجموع هو المهر، يسمى مهراً، لأنه سيأتينا فروع تنبني على مقدار المهر، هل المهر ما تأخذه الزوجة أو ما يأخذه الأب؟ الصواب أن المهر ما تأخذه الزوجة والأب، نرجع لمسألتنا، الحنابلة يرون أنه يجوز للأب أن يشترط لنفسه قدراً معيناً من المهر، واستدل الحنابلة على هذا بدليلين: الأول: الآية السابقة {إني أريد أن أنكحك إحدى ابنتي هاتين} ففي الآية أن شعيب عليه الصلاة والسلام اشترط لنفسه أن يرعى موسى الغنم والمهر في هذه الحالة للأب كله. الدليل الثاني: الذي استدل به الحنابلة أن الأب له أن يتملك من مال ولده ما يشاء، واشتراط الأب قسماً من المهر هو بمعنى التملك. القول الثاني: أن المهر كله للمرأة. والقول الثالث: أنه إذا اشترط الولي هذا الشرط فسد المسمى ولها مهر المثل. والقول الرابع: أن ما يشترط لأحد سوى الزوجة إن كان قبل العقد فهو للزوجة، وليس لمن سمي له وإن كان بعد العقد فهو لمن سمي له.

واستدلوا أي أصحاب القول الرابع بقول النبي صلى الله عليه وسلم:"أيما امرأة نكحت على مهر أو محاباة أو حباء أو عطية فهو لها قبل العقد، ولمن سمي له بعد العقد" وهذا الحديث كما ترى نص على التفصيل المذكور في القول الرابع نص تماماً، لكن هذا الحديث فيه إشكال من حيث الثبوت، فهو أعل بعلتين: العلة الأولى: أنه رواه ابن جريج عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده، وابن جريج مدلس وأجاب أصحاب هذا القول عن هذه العلة بأن ابن جريج صرح بالتحديث عند الإمام النسائي، فانتهينا من علة التدليس. العلة الثانية: أن الإمام الكبير البخاري قال: ابن جريج لم يسمع من عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده يعني لم يسمع من عمرو، وهذه علة قادحة، ولم يذكر عنها أصحاب هذا القول جواباً مع ذلك أقول أن هذا الحديث يؤيده أمران: الأول: أنه روي هذا الحديث من طريق آخر عن مكحول مرسلاً ومراسيل مكحول جيدة. الثاني: أن هذا الحديث روي عن عائشة رضي الله عنها، وهو ضعيف لكن ضعفه يسير، فاجتمع معنا هذا الحديث، مع حديث عائشة وضعفه يسير، مع مرسل مكحول، من وجهة نظري أن اجتماع مثل هذه الأمور تعطي الحديث قوة لاسيما وأنه فيما يظهر لي أن ما في الحديث من تفصيل متوافق مع قواعد الشرع. ((الآذان)) لهذا يكون إن شاء الله الراجح القول الرابع لأن هذا الحديث يعضده ويقويه. قال المؤلف - رحمه الله -: (فلو طلق قبل الدخول .. ) إذا طلق الإنسان قبل الدخول وبعد العقد فللمرأة نصف المهر، ونص المسمى هنا ألف، وهذا معنى ما قلته أولاً، أن المهر هو مجموع ما يعطى الأب والزوجة، فإذا كان المهر يتقدر بألفين، فنصفه ألف، لقوله تعال: {فنصف ما فرضتم}، وسيأتينا كم للمرأة قبل الدخول وبعد الدخول، لكن المؤلف يريد أن يشير هنا إلى أنه يأخذ نصف مجموع ما أعطى الأب والمرأة. قال المؤلف - رحمه الله -: (ولا شيء .. ) يعني لا تملك المطلقة وهي ابنته المطالبة بالألف، ولا الزوج يملك المطالبة بالألف، لأن حقيقة ما صار أن المهر للمرأة ثم أخذه الأب، كأنه أخذه بعد قبض المرأة يعني الزوجة، وإذا أخذ الأب المهر بعد قبض الزوجة له فلا يستطيع أحد أن يطالبه به لا ابنته ولا الزوج. قال المؤلف - رحمه الله -:

(ولو شرط ذلك لغير الأب فكل مسمى لها) يعني أن جواز اشتراط الأولياء شيء من المهر خاص بالأب، أما غيره من الأولياء كالأخ والعم والابن فليس لهم أن يشترطوا، واستدل الحنابلة على هذا بأن غير الأب ليس له أن يتملك من مال ابنه فلا يساوي الأب. واستدلوا ثانياً بأن الأصل أن المهر ملك للزوجة، وإنما خرجنا عن هذا الأصل بوجود أدلة تستثني الأب. قال المؤلف - رحمه الله -: (ومن زوج بنته ولو ثيباً بدون مهر مثلها .. ) يجوز للأب أن يزوج ابنته ولو كانت كبيرة وثيبة بدون مهر مثلها ولو كرهت. واستدل الحنابلة على هذا بأمرين: الأمر الأول: جميع النصوص الدالة على استحباب تخفيف المهور. الثاني: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يأخذ صداقاً عن بناته اثنتي عشرة أوقية، وهذا بلا شك أنه ليس مهر مثلها، بل مهر مثل بنت النبي صلى الله عليه وسلم عظيم، فهذان دليلان على جواز أن يكون أقل ولا يشترط رضا المرأة. القول الثاني: وهو الذي تبناه الإمام الشافعي أنه لا يجوز للأب أن يأخذ مهراً أقل من مهر المثل. أولاً استدل بأمرين: الأمر الأول: أن في هذا تعدي على حقوق المرأة. الثاني: أنه بهذا مفرط، لأن عليه أن يعمل بما فيه صلاح المرأة، وليس من صلاحها الغض من مهر مثلها. والراجح إن شاء الله القول الأول لأن معه النصوص التي ذكر. والله أعلم وصلي اللهم على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين - ((انتهى الدرس)).

الدرس: (11) من النكاح قال شيخنا حفظه الله: بسم الله الرحمن الرحيم والحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين. قال المؤلف ـ رحمه الله ـ: (وإن زوجها به ولي غيره ... ) قوله وإن زوجها به، الضمير في قوله به يعود إلى ما دون مهر المثل، فإذا زوجها بما دون مهر المثل غير الأب ورضيت وأذنت جاز، والعلة في ذلك أن الحق لها فإذا أسقطته سقط، ولهذا جوزنا لغير الأب أن يزوجها بدون مهر المثل. قال المؤلف ـ رحمه الله ـ: (وإن لم تأذن فمهر المثل) إذا لم تأذن يعني للأولياء غير الأب، فيجب مهر المثل، لأن المهر عوض عن البضع، والعوض لابد فيه من رضا صاحبه، وصاحب العوض هي الزوجة، فإذا لم تأذن ولم ترض فإن المسمى يبطل، ولها مهر المثل، وهذا لا إشكال فيه، لكن الإشكال على من يكون تكميل المسمى الذي هو دون مهر المثل، إلى أن يبلغ إلى مهر المثل، في هذا خلاف بين الفقهاء اختلفوا على قولين:

القول الأول: أنه الزوج، فعلى الزوج أن يكمل إلى أن يبلغ مهر المثل، لأنه هو الذي أخذ العوض واستمتع بالزوجة فعليه أن يدفع مقابل هذا الاستمتاع، والمقابل هنا هو مهر المثل. والقول الثاني: أن الزوج عليه أن يدفع المسمى، وعلى الولي أن يكمل إلى مهر المثل، واستدلوا على هذا بأن الولي هو الذي فرط وهو الذي قصر بأخذ دون مهر المثل، ولعل الأقرب أنه على الولي، لأنه فرط بتزويجها بأقل من مهر المثل، ويفهم من كلام الفقهاء حين قالوا فرط، أن تصرفه هذا إذا لم يكن تفريطاً وإنما صنع ذلك لصالح الزوجة، كأن تخطب من قبل رجل مرغوب ومعروف بالصيانة والقيام على الزوجة بما ينبغي من حقوقها ولكنه لم يرض إلا بهذا المهر الذي هو دون مهر المثل فرضي مراعاة لمصلحة المرأة فإنه لا يُضمّن في مثل هذه الصورة، أما إذا لم يكن هناك مصلحة مراعاة فإن الولي يضمن. قال المؤلف ـ رحمه الله ـ: (وإن زوج ابنه الصغير بمهر المثلي أو أكثر .... ) أفادنا المؤلف أن للأب أن يزوج ابنه بأكثر من مهر المثل، ويصح ويكون لازماً ويثبت في ذمة الصبي. والدليل على هذا: أن المرأة قد لا ترضى إلا بهذا المهر، كما أن هذا الابن قد لا يزوج إلا بهذا المهر، ولهذا جاز له أن يزيد على مهر المثل.

والقول الثاني: أنه ليس للأب أن يزيد عن مهر المثل، لأنه يتصرف بمال ابنه بطريق الوكالة وعليه أن يراعي مصلحة الابن وليس من مصلحة الابن زيادة المهر عن مهر المثل، والصواب إن شاء الله أن للأب أن يزيد في مهر ابنه عن مهر المثل، لما في ذلك غالباً من المصلحة ويندر أن يدفع الأب أكثر من مهر المثل بغير مصلحة، ومن هنا عرفنا أن الشارع الحكيم يفرق بين أن يكون الولي هو الأب وبين أن يكون الولي سواه من الأولياء كالأخ والعم والابن، لأن الأب فيه زيادة شفقة وحرص على الابن والابنة ولذلك خوله الشارع أن يتصرف أكثر من غيره من الأولياء. قال المؤلف ـ رحمه الله ـ: (وإن كان معسراً لم يضمنه الأب) هذه المسألة مفروضة فيما إذا كان أهل الزوجة والزوجة يعرفون أنه معسر، فإذا كانوا يعرفون فإن الأب لا يضمن المهر، السبب في ذلك أنه ليس للأب دور سوى أن يكون وكيلاً عن ابنه، والوكيل لا يضمن الثمن كما في البيع، ولا يضمن العوض هنا في النكاح، لأنه مجرد وكيل لا يدخل ذمته شيء من الضمان. والقول الثاني: في هذه المسألة أن الأب إذا زوج ابنه المعسر فإنه يضمن، لأن لسان الحال يقول وأنا ضامن عنه، وعلى هذا يدل العرف، أن الأب إذا زوج ابنه المعسر كأنه يقول أنا أضمن ما على ابني من مهر ونفقه. وهذا القول الثاني هو الصحيح إن شاء الله أنه يضمن ما دام زوج ابنه وهو معسر فكأنه يقول ما يجب على ابني فهو علي، وفهم من هذا التفصيل أن الابن إذا كان موسراً فإن الأب لا يضمن مطلقاً، وهذا صحيح وهو رواية واحدة عن الإمام أحمد لم يختلف فيه، أنه إذا كان موسراً فإن الأب لا يضمن ما على ابنه في حالة كونه موسراً قادراً، ولو عجز بعد ذلك مادام حين العقد موسراً فإنه لا ضمان على الأب. انتهى الفصل الأول من باب الصداق ننتقل إلى الفصل الثاني. قال المؤلف ـ رحمه الله ـ: (فصل وتملك الزوجة .. ) هذا الفصل خصصه المؤلف للكلام عن ملك المهر والتصرف فيه وما يتعلق بهذه المسائل. أفادنا المؤلف أن المهر يملك بالعقد، يعني بمجرد العقد، وتعليل ذلك أن العقد موجب بذاته لملك العوض، فملكت المرأة المهر به.

والقول الثاني: أن المرأة لا تملك بالعقد إلا نصف المهر، واستدلوا على هذا بأن الزوج ربما طلق قبل الدخول فلا يكون لها إلا نصف المهر، والراجح إن شاء الله المذهب وهي أنها تملك جميع المهر بالعقد، والقول الثاني ضعيف فقهاً وتعليلاً لأمور: الأمر الأول: أن الطلاق عارض والأصل عدمه، وإنما يريد الإنسان النكاح للدوام لا للطلاق، والقاعدة الشرعية أن الحكم للغالب لا للعارض، فكيف نثبت الحكم هنا للعارض. ثانياً: ينبغي على هذا القول أن لا تملك المرأة شيء مطلقا، ً لأنه ربما أيضاً ارتدت، وإذا ارتدت لم تستحق شيئاً من المهر، فإذا كانوا يراعون أنه ربما طلق، كذلك يجب أن يراعوا أنها ربما ارتدت. وهذا كله يدل على الضعف الشديد في القول الثاني، فالراجح إن شاء الله أن المرأة تملك المهر بمجرد العقد لأن العوض في العقود يملك بها. قال المؤلف ـ رحمه الله ـ: (ولها نماء المعين قبل قبضه) بدأ الشيخ الكلام عن فروع ملك الزوجة للمهر بالعقد. الفرع الأول: أنه إذا كان المهر معنياً فإن المرأة تملك النماء المتصل والمنفصل، فهو لها، والتعليل أن هذا النماء نماء في ملكها، ونماء الإنسان في ملكه هو من ملكه، يعني أنه نمى والعين في ملكها، ونماء العين المملوكة ملك لمالك العين، وهذا صحيح ولا إشكال فيه، ومفهوم قوله المعين: أن غير المعين ليس كذلك وهذا الذي أشار إليه بقوله: (وضده بضده) ضد المعين غير المعين، فإذا كان المهر مالاً لم يعين فإن المرأة لا تملك نماء هذا المهر غير المعين، ولا تملك أن تتصرف فيه، لأنه لم يعين ولهذا لا يمكن أن يكون نماؤه تبعاً له لعدم التعيين، وهذا أيضاً لا إشكال فيه فإذا قال: صداقك شاة وصفها كذا وكذا، أو سيارة وصفها كذا وكذا، أو بيت وصفه كذا وكذا ولم يعين، فإنها لا تملك النماء. قال المؤلف ـ رحمه الله ـ: (وإن تلف فمن ضمانها ... ) هذه أيضاً من فروع ملك المهر الفرع الأول: أن لها أن تتصرف فيه. والفرع الثاني: أن ضمان المهر عليها فلها أن تتصرف والضمان عليها، واستثنى المؤلف من الضمان ما إذا منع الزوج زوجته من قبض المهر فإذا منعها فإن الضمان لا يكون عليها، وفي هذه المسألة بحث:

البحث الأول: أن الزوج إذا منع زوجته من التصرف في المهر فحكمه حكم الغاصب، عليه النقص ولها الزيادة. المسألة الثانية: أن المؤلف أفادنا أن المرأة تملك التصرف، وعليها الضمان بملك المهر بالعقد، وذلك لأن المهر دخل في ملكها وإذا دخل الشيء في ملك الإنسان ملك التصرف فيه وعليه ضمانه. القول الثاني: أن التصرف في المهر والضمان له لا يكون إلا بعد القبض، أما قبل القبض فإنها لا تملك ذلك، قياساً على ما تقدم في البيع أن الأعيان المملوكة بعقود معاوضة لا يتصرف فيها ولا تدخل الضمان إلا بعد القبض، فالخلاف الذي تقدم معنا في كتاب البيوع في التصرف في المبيع قبل قبضه وفي ضمانه يأتي معنا في التصرف في المهر قبل قبضه والتصرف فيه وضمانه قبل قبضة، فهناك ذكرنا الأقوال وهي نفسها هنا التفريق بين المكيل والموزون وغيره والقول بالتعميم، وترجيح أن الحكم عام لجميع الأعيان فكذلك هنا، الخلاصة أن البحوث التي تقدمت معنا في قبض الثمن في البيع من حيث التصرف والضمان، تأتي معنا في قبض المهر من حيث أيضاً التصرف والضمان، ولهذا نقول أن الراجح بناءً على البحوث السابقة أن المهر لا يصح التصرف فيه ولا يضمن مطلقاً إلا بعد القبض، مهما كان نوع المهر معدوداً مذروعاً مكيلاً موزوناً مهما كان نوع المهر فإنه لا يصح التصرف فيه ولا يضمن إلا بعد القبض، ولو كان من العقار أو من المنقود عموماً يشمل جميع أنواع المهور وهذا الذي تقدم معنا في البيع. قال المؤلف ـ رحمه الله ـ: (وعليها زكاته) يعني عليها زكاة المعين، لأنه دخلها في ملكها بالعقد وعلى الإنسان أن يزكي الأموال التي يملكها إذا حال عليها الحول، فعليها الزكاة بالنسبة للمعين، أما غير المعين فلا زكاة فيه على المرأة لأنه لم يعين ولم يستقر الملك عليه بعد، فإذا قال الزوج لزوجته قبل العقد أو بعد العقد سيكون المهر سيارة وصفها لها ولم يقبضها إياها إلا بعد سنة فإنها إذا قبضت هذه السيارة يبدأ الحول بعد القبض، أما إذا قال صداقك هذه السيارة التي يشار إليها الآن فإنه يحسب الحول من حين العقد. قال المؤلف ـ رحمه الله ـ: (وإن طلق قبل الدخول ... )

من الأشياء التي تستغرب على المؤلف رحمه الله أنه لم يذكر الأمور التي يستقر بها المهر، مقررات المهر مع أنه من أهم مباحث الصداق لم يذكره الشيخ، وهذا غريب في الحقيقة، والسبب في ذلك أن الأصل وهو المقنع لم يذكر مقررات المهر، أما غيرهم من الحنابلة وغيرهم من الشافعية والمالكية وسائر أهل العلم فإنه في الحقيقة يعتنون عناية خاصة بمقررات المهر، لأنها مهمة من حيث ثبوت المهر، وللخلاف القوي في بعضها، ولشدة حاجة الناس إليها، في الحقيقة أنا استغربت من الشيخ أنه ترك مقررات المهر، مع أنه ذكرها في كتابه الإقناع وذكرها في كتبه الأخرى، وذكرها الشيخ ابن قدامة في غير الأصل في غير المقنع، لكن على كل حال الأصل والمختصر الزاد لم يذكرا مقررات المهر. نقول مقررات المهر أربعة: الأول: يتقرر ويستقر المهر، ومعنى يتقرر ويستقر: أي لا يسقط مهما كان السبب بعد ذلك، يتقرر أولاً بالموت فإذا مات الزوج أو ماتت الزوجة حتف أنفها أو انتحرت أو حتف أنفه أو انتحر أو مات بأي سبب من الأسباب فإن المهر يستقر ويثبت للمرأة، واستدل الجماهير على هذا الحكم بأمرين: الأول: حكي إجماعاً. الثاني: حديث ابن مسعود رضي الله عنه فإن رجلاً تزوج امرأة ولم يسمي لها مهراً فسئل ابن مسعود فقال: لها مهر نسائها لا نقص ولا شطط وعليها العدة ولها الميراث، فأخبر أن النبي صلى الله عليه وسلم حكم في بروة بنت واشق بنفس هذا الحكم الذي حكمه ابن مسعود، فإذاً الموت من مقررات المهر ولا إشكال. الثاني: الوطء، والوطء أيضاً من مقررات المهر بالإجماع، بل هو المقرر الأول في الحقيقة للمهر، والدليل على أن الوطء من مقررات المهر من وجهين: الأول: الآية وهي قوله تعالى: {ما لم تمسوهن أو تفرضوا لهن فريضة}، فنصت الآية أنه لا يتقرر المهر إلا بالمس، والمس في الآية هو الوطء. الدليل الثاني: هو الإجماع.

الثالث من مقررات المهر: الخلوة، والمقصود بالخلوة يعني المجردة ولو بلا وطء، فإذا خلا الزوج بزوجته وانفردا فإنه يجب بذلك المهر، سواء وطء وجامع أو لم يجامع، ويستثنى من هذا إذا منعت المرأة زوجها من الوطء، أو كان ممن لا يطأ مثله، ففي هاتين الصورتين لا تكون الخلوة مقررة للمهر، فيما عدا هاتين الصورتين الخلوة مقررة للمهر، ولو خلا بها وهي حائض يعني لا يستطيع أن ينكحها، ولو خلا بها وهي محرمة، يعني ولو وجدت موانع حسية أو شرعية، والدليل على أن الخلوة من مقررات المهر من وجهين: الوجه الأول: وهو الأصل عليه الاعتماد، أنه روي عن الخلفاء الراشدين رضي الله عنهم وأرضاهم أن من أغلق باباً أو أرخى ستراً فقد وجب المهر، فجعلوا مناط استقرار المهر على الخلوة، وهذه الآثار التي رويت عن الصحابة رضي الله عنهم هي العمدة في باب ثبوت واستقرار المهر بمجرد الخلوة. الدليل الثاني: أن المرأة بتسليم نفسها للزوج أثناء الخلوة أدت ما عليها من التمكين فاستحقت بذلك المهر. والقول الثاني: أن الخلوة لا توجب المهر إذا خليت عن الوطء، لأن الآية صرحت باشتراط المس {لا جناح عليكم إن طلقتم النساء ما لم تمسوهن أو تفرضوا لهن فريضة}، والمس هو الجماع، والراجح القول الأول لورود الآثار الصحيحة عن الصحابة بل عن الخلفاء. المقرر الرابع والأخير: المباشرة أو أن يستحل منها ما لا يستحله إلا الزوج، هذا المقرر الرابع على شقين: الشق الأول: أن يباشر أو يقبل أو يمسك أو يلمس كما قال الفقهاء، ولو بلا خلوة، جعلوا هذا المباشرة وما يلحق بها من مقررات المهر، واستدلوا على هذا بأن هذا من جملة الاستمتاع فيقاس على الوطء. الشق الثاني للمقرر الرابع: أن يستحل منها ما لا يستحل غيره، كأن يراها عريانة، فإن رؤية الرجل للمرأة عريانة ليست من المباشرة، إلا أنها مما لا يستحله إلا الزوج.

والقول الثاني: أن المباشرة ونحوها لا تقرر المهر، لأن الآية والآثار دلت على أن مقررات المهر الوطء والخلوة، والمباشرة ليست وطء ولا خلوة، ولهذا نقول إنها ليست من المقررات، يعني لأنها ليست وطءً ولا خلوة، والراجح بوضوح إن شاء الله أنها ليست من المقررات، فعلى الراجح تكون المقررات ثلاثة، الموت والوطء والخلوة، فإذا حصل أحد هذه الثلاثة تقرر المهر ووجب في ذمة الزوج، ولا يمكن أن يسقط أبداً لأنه استقر. نرجع إلى كلام المؤلف. قال المؤلف ـ رحمه الله ـ: (وإن طلق قبل الدخول أو الخلوة ... ) إذا طلق الزوج قبل الدخول أو الخلوة، يعني قبل مقررات المهر، فله نصف المهر، لقوله تعالى: {وإن طلقتموهن من قبل أن تمسوهن وقد فرضتم لهن فريضة فنصف ما فرضتم}، هو الشيخ يقول له نصف المهر أو نقول لها نص المهر النتيجة واحدة، فإذاً إذا طلق قبل الدخول فله نصف المهر، وهذا الحكم منصوص عليه في الآية. قال المؤلف ـ رحمه الله ـ: (فله نصفه حكماً) معنى قوله حكماً أي قهراً، يدخل في ملكه بلا اختيار، لأن الآية أثبتت أن له النصف. قال المؤلف ـ رحمه الله ـ: (دون نمائه المنفصل) له نصف المهر دون النماء المنفصل، يعني وهو للزوجة، باعتبار ما تقدم معنا أن المهر يملك بنمائه المنفصل والمتصل بمجرد العقد، فإذا طلق قبل الدخول رجع بنصف المهر الذي سلم، وأما النماء فهو للزوجة لما تقدم معنا من ملكها إياه. قال المؤلف ـ رحمه الله ـ: (وفي المتصل له نصف قيمته بدون نمائه) يعني والمتصل أيضاً للزوجة، لكن أراد المؤلف أن يبين بماذا يرجع الزوج، إذا كان النماء متصلاً، فيقول يرجع بنصف القيمة قبل النماء، فإذا أصدقها شاة تقدر بمائة ريال مثلاً وسمنت الشاة وصحت وأصبح قيمتها ثلاثمائة ريال فهو يرجع بخمسين ريال، بالقيمة قبل النماء المتصل، والخلاصة والأسهل أن نقول يرجع بنصفه والنماء المتصل والمنفصل للزوجة، فإذا قلنا أن النماء المتصل كله للزوجة، إذاً لن يرجع الزوج إلا بنصف ما أعطاها قبل هذا النماء المتصل، وإنما نص الشيخ على المتصل لأن المنفصل أمره واضح، المنفصل سيبقى عند الزوجة لكن الإشكال في المتصل فبين الشيخ كيف يحسب. قال المؤلف ـ رحمه الله ـ:

(وإن اختلف الزوجان ... ) بدأ الشيخ بمسائل الاختلاف، وبدأ بالمسألة الأهم، وهي ما إذا اختلفا في القدر يقول: وإن اختلف الزوجان أو ورثتهما في قدر الصداق يعني فالقول قول الزوج وإلى هذا ذهب الجمهور أنهما إذا اختلفا في قدر المهر أو الصداق فالقول فيه قول الزوج، فإذا قال: الزوج قدر المهر مائة وقالت: قدر المهر ثلاثمائة، فالمهر مائة، والدليل للجمهور: أن الزوج ينكر الزيادة، والمنكر جانبه مرجح لأن الأصل براءة الذمة، فلا يجب للزوجة إلا مائة، ومن المعلوم أن هذا الاختلاف يقصد الشيخ بعد العقد أو قبل العقد؟ الاختلاف دائماً يكون بعد العقد، لأنه بعد العقد ثبتت الحقوق فأي منهما نقبل قوله. القول الثاني: أنهما إذا اختلفا في القدر نرجع إلى مهر المثل، لأنهم اختلفوا وتعذر معرفة المهر المسمى فرجعنا إلى مهر المثل. والقول الثالث: أنا نقبل قول من يشبه قوله الواقع، فإذا كان قول الزوج والزوجة كلاهما يشبه الواقع فسخ النكاح، وهذا مذهب الإمام مالك، فإذا كانت الأعراف أن متوسط العوائل يكون الصداق فيها ثلاثون ألفاً، هذا هو المتوسط، والعاقد والمعقود عليها من متوسط العوائل، فزعم الزوج أن المهر خمسة آلاف ريال، وزعمت الزوجة أن المهر ثلاثون ألف ريال، فعلى المذهب المهر خمسة آلاف، وعند المالكية المهر ثلاثون ألف ريال، إذا زعمت الزوجة في هذا المثال أن المهر ثلاث وثلاثون ألف ريال، وهو زعم أن المهر ثلاثون ألف ريال فالحكم عند المذهب القول قول الزوج وعند المالكية ينفسخ النكاح، ويستقبلون عقداً جديداً إن شاؤا، وقول المالكية ينفسخ يعني بدون طلاق، هذا ظاهر عبارة المالكية، نفسخ العقد بدون طلاق، لأنهم عبروا بكلمة يفسخ، مذهب المالكية في الحقيقة فيه اعتدال وفيه توسط وإن كان الأصل دائماً أن القول قول مُنكر وهذا قاعدة صحيحة ويدل عليها قول النبي صلى الله عليه وسلم: "البينة على المدعي واليمين على من أنكر" لكن في مثل الأمور التي فيها أعراف سائدة، جرى عليها الناس، ترجيح قول من قوله يؤيد أو يتوافق مع العرف أقرب من اعتبار القواعد العامة، فالذي يبدو أن قول المالكية أقرب إن شاء الله. قال المؤلف ـ رحمه الله ـ: (أو عينه)

إذا اختلفوا في عين الصداق فقالت المرأة الصداق هذا البيت، وقال الزوج بل الصداق هذه المزرعة، فالقول قول الزوج لما تقدم معنا أن القول قول المنكر. قال المؤلف ـ رحمه الله ـ: (أو فيم يستقر به .. ) إذا تنازعوا في حصول ما يستقربه المهر، فالقول قول الزوج بلا نزاع، لأن هذه المسألة ليس فيها أعراف، فهي تقول حصلت الخلوة، والزوج يقول لم تحصل الخلوة، أو هي تقول حصل الوطء، والزوج يقول لم يحصل الوطء، أو هي تقول مات الزوج، والزوج يقول لم يمت، إذاً الموت لا يدخل معنا في هذا الخلاف، الحنابلة يقولون أنه بلا نزاع وهذا صحيح، لأنه ينفي وقوع شيء، والأصل أن الأشياء لم تقع وليس الأصل أن الأشياء وقعت، فالقول قول الزوج إن شاء الله بلا إشكال يستثنى من هذا مسألة واحدة وهي ما إذا كانت المرأة بكر وأثبتت بعد خلوته بها صارت ثيبة، فإن استطاعت أن تثبت فالقول قولها وهذا كما لو أتت ببينة. قال المؤلف ـ رحمه الله ـ: (وقولها في قبضة) يعني والقول وقولها في قبضة، فإذا قال الزوج: قبضت المهر وقالت الزوجة: لم أقبض المهر فالقول قول الزوجة لأن الأصل عدم قبض عدم المهر. والقول الثاني: أنه إذا جرت عادة الناس أن المهر الحال يسلم قبل الدخول فالقول قول من يدل العرف والعادة على صحت قوله، وهذا القول اختيار شيخ الإسلام وهو قوي جداً وظاهر الرجحان، وهنا نكون قدمنا الأصل على الأصل أو الأصل على العادة؟ قدمنا العادة على الأصل، وسيأتينا مراراً أنه عندنا في الفقه الظاهر والأصل والعادة، أحياناً نقدم الظاهر وأحياناً نقدم الأصل وأحياناً نقدم العادة حسب قرائن المسائل، وفي هذه المسألة رسالة دكتوراة مفيدة جداً هل يقدم الأصل أو الظاهر أو يقدم الأصل على العرف أو العرف على الظاهر، فإذا تعارض الأصل والظاهر فهناك خلاف بحسب ملابسات القضية، وأيضاً الشيخ العلامة ابن رجب تحدث عن تعارض الأصل والظاهر. فصل هذا الفصل عقده المؤلف لبيان أحكام المفوضة، وأطال المؤلف في أحكام المفوضة واختصر في أحكام المهر المسمى، وهذا من وجهة نظري خلل في الحقيقة لأن غالب الناس المهر فيها مسمى، إذاً هذا الفصل في أحكام المفوضة، النساء تنقسم إلى قسمين: القسم الأول: المفوضة.

القسم الثاني: المسمى لها المهر والمؤلف انتهى عن المسمى لها المهر وانتقل إلى الكلام عن المفوضة. والمفوضة أو التفويض في لغة العرب: إحالة الأمر إلى الغير، أو إسناد الأمر إلى الغير، وهو ينقسم إلى قسمين: تفويض بضع، وتفويض مهر، وسيذكر الشيخ تفويض البضع ويبدأ به ثم ينتقل إلى تفويض المهر. قال المؤلف ـ رحمه الله ـ: (يصح تفويض البضع ... ) تفويض البضع ذكر المؤلف تعريفه الدقيق، وأما معناه العام الذي يسهل معرفة ما هو المفوضة، فتفويض البضع هو إخلاء النكاح من المهر، هذا هو تفويض البضع، وقد يكون إخلاء النكاح من المهر بالسكوت عن المهر وقد يكون بشرط نفيه، ولا توجد صورة ثالثة. فإن كان تفويض البضع بالسكوت عن المهر فهذا صحيح وجائز، وتقدم معنا أن تسمية المهر حكمه في الشرع سنة، وذكرنا الأدلة على أن تسمية المهر في العقد سنة وليس بواجب، فالسكوت عن التسمية جائز ولا حرج فيه. النوع الثاني: أن يكون التفويض بشرط نفيه، وتقدم معنا أن شرط عدم المهر عند الحنابلة شرط فاسد لا يفسد، وأن القول الثاني أنه شرط فاسد مفسد، وأن الراجح أن اشتراط عدم المهر شرط فاسد مفسد، وهذا كله تقدم معنا في الكلام عن الشروط في النكاح وليس شروط النكاح. نأتي إلى التعريف الدقيق وقد أوضحه الشيخ بعبارة جلية يقول: تفويض البضع بأن يزوج الرجل ابنته المجبرة يعني بلا مهر، أو تأذن امرأة لوليها أن يزوجها بلا مهر، فإن كان الأب فله أن يزوج المجبرة بلا مهر، وإن كان غير الأب فليس له ذلك إلا إذا أذنت. هذا ما يتعلق بتفويض البضع، وأما ما الحكم إذا فوض الولي البضع فسيذكره المؤلف لاحقاً. قال المؤلف ـ رحمه الله ـ: (وتفويض المهر .. ) كما أخذنا حقيقة تفويض البضع، نأخذ حقيقة تفويض المهر، تفويض المهر هو جعل تحديد المهر إلى الزوجين أو إلى غيرهما، ونسيت أن أنبه أن الأصل في التفويض والذي ينصرف إليه عند الإطلاق تفويض البضع لا المهر، فالأصل إذا قيل مفوضة يعني في البضع لا في المهر. إذاً نرجع ونقول تفويض المهر بأن يزوجها على ما يشاء أحدهما أي أحد الزوجين أو أجنبي، فإذا حصل ذلك فهي مفوضة تفويض مهر، ثم بدأ المؤلف بالحديث عن الحكم. قال المؤلف ـ رحمه الله ـ:

(فلها مهر المثل في العقد) أفادنا المؤلف أن عقد المفوضة صحيح، وأن للمفوضة بنوعيها البضع والمهر مهر المثل، والدليل على هذا: أن التفويض جعل المهر مجهولاً، والمهر المجهول يجب فيه مهر المثل، أو يجب بدله مهر المثل، وهذا يستوي فيه تفويض البضع وتفويض المهر، وذكر بعض الفقهاء خلافاً في تفويض المهر، وهذا الخلاف ضعيف، والصواب إن شاء الله أن حكم تفويض البضع والمهر واحد، وأن فيهما مهر المثل، والدليل على هذا حديث ابن مسعود فإن الرجل الذي مات لم يسمي المهر في النكاح فأوجب ابن مسعود مهر المثل. قال المؤلف ـ رحمه الله ـ: (ويفرضه الحاكم بقدره .. ) هذه العبارة فيها مسائل: المسألة الأولى: أنه يجوز للمرأة المطالبة بفرض المهر بالإجماع، ومعنى فرض المهر هو تحديد قدره. ثانياً: إذا امتنع الزوج من فرض المهر، فإن الحاكم يلزمه بذلك، وإلا أوجب عليه مهر المثل. قوله (بقدره): يعني أن الحاكم يجب أن يفرض المهر إذا رفض الزوج من فرضه بقدره والضمير يعود على مهر المثل، يعني يفرض مهر المثل، والسبب في ذلك أن الزيادة إجحاف على الزوج والنقص إجحاف بالزوجة، والعدل هو مهر المثل، ولذلك نقول الحاكم ليس له أن يقدر ما شاء بل يجب عليه أن يقدر قدراً يتساوى مع مهر المثل. قال المؤلف ـ رحمه الله ـ: (وإن تراضيا قبله) وإن تراضيا قبله يعني: قبل تقدير الحاكم على مفروض جاز، سواء كان قليلاً أو كثيراً، لا فرق بين كون قليل وكثير، وتعليل ذلك أن الحق لا يخرج عنهما يعني عن الزوج والزوجة، فإذا تراضيا صح ما تراضيا عليه. مسألة: ويكون المبلغ الذي تراضيا عليه حكمه حكم المسمى، يعني كأنهم سموا مهراً معيناً في العقد، ويأخذ أحكام المهر المسمى كلها. قال المؤلف ـ رحمه الله ـ: (يصح إبراؤها من مهر المثل قبل فرضه) يعني لو قالت الزوجة قبل أن يفرض الزوج، أو قبل أن يفرض الحاكم مهر المثل: أبرأته من المهر صح، وإن كان مهر المثل الآن مجهولاً، والسبب في ذلك أن الإبراء من المجهول جائز صحيح، إذاً يجوز لها أن تبرأه ولا حرج، وليس هذا من النكاح بلا مهر، لأنه الآن عقد على أساس أن لها مهر المثل، لكن هي أبرأته. قال المؤلف ـ رحمه الله ـ: (ومن مات منهما .. )

مازال الكلام عن المفوضة، يقول ومن مات منهما يعني من الزوجة أو الزوج قبل الإصابة والفرض المقصود بالإصابة الوطء والمقصود بالفرض تقدير وبيان المهر، فالحكم يقول ورثه الآخر، إذا مات أحدهما قبل التقدير والإصابة فإن الآخر يرثه بالإجماع، والسبب في ذلك أن العقد جعلها زوجة، وهو عقد كما تقدم معنا صحيح، فتدخل في النصوص الآمرة بفرض قدر من التركة للزوجة، وهذا أمر واضح لا إشكال فيه. قال المؤلف ـ رحمه الله ـ: (ولها مهر نسائها) أفادنا المؤلف بهذه العبارة قاعدة، وهي أن كل ما يتقرر به المهر المسمى يتقرر به مهر المفوضة، وتقدم معنا أن المسمى من جملة الأشياء التي يتقرر بها الموت، فموت أحد الزوجين في نكاح التفويض أيضاً يتقرر به المهر. ((الآذان)) هذا مذهب الحنابلة، واستدلوا بعموم حديث ابن مسعود رضي الله عنه حيث جعل الموت مقرراً للمهر، والنكاح الذي في حديث ابن مسعود مفوضة. القول الثاني: أنه لا مهر لها مطلقاً، لأن هذا الفراق بالموت فراق بلا مسيس ولا فرض، فيقاس على الطلاق، والله تعالى يقول: {لا جناح عليكم إن طلقتم النساء ما لم تمسوهن أو تفرضوا لهن فريضة} وهذه فورقت بلا مس ولا فريضة، فتقاس على الطلاق، فليس لها شيء، والجواب عن هذا الاستدلال أن قياس الموت على الطلاق قياس مع الفارق الكبير، لأن الطلاق يختلف عن الموت بأشياء كثيرة، منها أن الموت يقرر المهر في الحياة والطلاق لا يقرره، ومنها أن العدة تجب بالموت ولا تجب بالطلاق، فقياس أحدهما على الآخر قياس فيه نظر القول الثالث: وهو رواية عن الإمام أحمد كما أن القول الأول والثاني روايات عن الإمام أحمد، أن لها نصف مهر المثل، وهذه الرواية رويت عن الإمام أحمد، لكن شيخ الإسلام ابن تيمية شن على هذه الرواية حملة بقصد أنها لا يمكن أن تثبت عن الإمام أحمد، أي يقصد إثبات عدم صحة هذه الرواية عن الإمام أحمد، وذكر أوجه كثيرة جميلة جداً في بيان ضعف نسبة هذه الرواية إلى الإمام أحمد، منها أن هذه الرواية تخالف المشهور عن الإمام أحمد، فإن أصحاب الإمام المعروفين المشهورين رووا عنه خلاف هذه الرواية،

الثاني: أن هذه الرواية تخالف طريقة ومنهج الإمام أحمد، لأن الإمام أحمد إذا اختلف الصحابة على قولين لا يخرج إلى قول ثالث، والصحابة اختلفوا على القول الأول والثاني فقط، أنه لا شيء لها أو لها المهر الشيء الثالث: أن الإمام أحمد لا يخالف النصوص، وحديث ابن مسعود ظاهر في أن الموت يقرر المهر بالنسبة للمفوضة، وما ذكره الشيخ من تضعيف نسبة هذه الرواية للإمام أحمد صحيح وقوي، وهذا البحث الذي بحثه الشيخ في كيفية إضعاف بعض الروايات التي تنسب إلى الإمام أحمد مفيد، ويحسن ويجدر بالإنسان أن يطالعه. هذا والله أعلم وصلى اللهم وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. - ((انتهى الدرس)).

الدرس: (12) من النكاح قال شيخنا حفظه الله: بسم الله الرحمن الرحيم والحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين. ما زال البحث في المفوضة وكما قلت بالأمس المؤلف رحمه الله أطال فيها. قال المؤلف ـ رحمه الله ـ: (وإن طلقها قبل الدخول فلها المتعة) يعني وإن طلق المفوضة قبل الدخول، فلها المتعة وإلى هذا ذهب الأئمة الثلاثة، أن المتعة في هذه الحال واجبة، واستدل الجمهور هؤلاء بقوله تعالى: {لا جناح عليكم إن طلقتم النساء ما لم تمسوهن أو تفرضوا لهن فريضة ومتعوهن على الموسع قدرة وعلى المقتر قدرة متاعاً بالمعروف حقاً على المحسنين}، الآية نصت على أنه إذا خلي النكاح عن الفرض والمس، فإن الواجب حينئذ المتعة. والقول الثاني: للمالكية وهم يرون أن المتعة مشروعة، إلا أنها على سبيل الاستحباب لا الوجوب، يعني أنه تستحب ولا تجب واستدلوا على ذلك بقوله تعالى في آخر الآية السالفة {حقاً على المحسنين}، والإحسان ليس بواجب، الإحسان درجة من درجات الندب لا الوجوب. القول الثالث: أن لها نصف مهر المثل، واستدلوا على هذا بأن هذه المفوضة لو دخل بها لوجب لها مهر المثل، فإذا طلقها قبل الدخول لها نصفه قياساً على الطلاق والمهر المسمى فيه. والراجح القول الأول.

والجواب على استدلال المالكية، أن الإحسان لا يتنافى مع الوجوب، فقد يكون الشيء إحساناً وهو واجب، لاسيما والآية أمرت أمراً صريحاً {فمتعوهن} وقال الله تعالى في آخرها: {حقاً} والحق يطلق على الواجب. وأما القول الأخير فهو قياس مع الفارق، إذ كيف نقيس المفوضة على التي لها مهر مسمى، ثم هذا القياس والاستحسان قياس في مقابل النص الصريح وهي الآية، فالراجح إن شاء الله تعالى مذهب الجمهور. ثم لما قرر المؤلف وجوب المتعة انتقل إلى بيان المقدار. قال المؤلف ـ رحمه الله ـ: (بقدر يسر زوجها وعسره) أفادنا بهذه العبارة أن المتعة مقدرة بحال الزوج لا بحال الزوجة، واستدلوا على هذا بصريح الآية: {على الموسع قدرة وعلى المقتر قدرة}، يعني على الزوج. والقول الثاني: أنها مقدرة بحال المرأة، واستدل أصحاب هذا القول: بأن المهر مقدر بحال المرأة، ولهذا نحن نقول مهر المثل، يعني مهر مثل الزوجة، فإذا كان المهر مقدراً بالمرأة، فكذلك المتعة، وهو قول ضعيف. والراجح إن شاء الله القول الأول، لصراحة الآية باعتبار حال الزوج لا حال الزوجة، ومما يتفرع على هذه المسألة مسألة أخرى: وهي مقدار المتعة، ذهب الحنابلة إلى أن مقدار المتعة يقدر بأعلاه وأدناه، فأعلاه خادم، وأدناه سترة تصلح لصلاة المرأة فيها، هذا أعلاه وأدناه. والقول الثاني: أن المتعة لا تتقدر، وإنما يرجع في تقديرها عند التنازع إلى الحاكم، لأنه واجب لم يقدر في الشرع، فرجعنا فيه إلى اجتهاد الحاكم، والراجح القول الثاني: أنه لا يتقدر بقدر معين، وإنما يرجع فيه إلى اجتهاد الحاكم، وهذا كما قلت إذا وقع النزاع بين الزوجة والزوج. قال المؤلف ـ رحمه الله ـ: (ويستقر مهر المثل بالدخول) إذا دخل على المفوضة استقر مهر المثل، ومقصود الشيخ بقوله بالدخول، يعني بكل مقررات المهر، وإنما ذكر الدخول لأنه أكثر مقررات المهر وقوعاً. والدليل على ذلك: القياس على المهر المسمى، ففي المهر المسمى يستقر هذا المهر بالدخول، فكذلك بالنسبة للمفوضة وهذا لا إشكال فيه. قال المؤلف ـ رحمه الله ـ: (وإن طلقها بعده فلا متعة)

يعني وإن طلق المفوضة بعد الدخول فإنه لا متعة لها، استدل الحنابلة على أنه: لا تعطى المرأة المطلقة بعد الدخول متعة بأن الله تعالى قسم النساء إلى قسمين لا ثالث لهما، قسم لها المتعة وهي مذكورة في قوله تعالى: {لا جناح عليكم إن طلقتم النساء} وقسم لها نصف المهر وهي المذكورة في قوله تعالى: {وإن طلقتموهن من قبل أن تمسوهن ... فنصف ما فرضتم} فلما قسم الله تعالى النساء إلى قسمين علمنا أن كل قسم يختص بحكمه، فيختص المتعة بالنساء اللاتي لا دخول فيها ولا مسيس ولا فرض، ويختص المهر أو نصفه بما في الآية، نصفه إذا طلق وقد سمى أو فرض، وكله إذا دخل أو باقي مقررات المهر. القول الثاني: أن المتعة واجبة لكل مطلقة، وهي رواية عن الإمام أحمد، واختارها شيخ الإسلام رحمه الله واستدل بقوله تعالى: {وللمطلقات متاع بالمعروف حقاً على المتقين}، فالآية عامة وفيها مؤكدات كثيرة، فيها الأمر، وفيها قوله حقاً، وفيها الإشارة إلى أن دفع المتعة مطلقاً من جملة التقوى، والتقوى واجبة. القول الثالث، أن المتعة مستحبة، ودليل هذا القول هو: الجمع بين الأدلة السابقة. الراجح إن شاء الله اختيار شيخ الإسلام، وإن كانت المسألة فيها نوع إشكال، لكن الراجح إن شاء الله هو هذا، لأنه لا يوجد صارف واضح للآية، وكون الآية الأولى أثبتت المتعة في صورة، فإنها لا تنفي المتعة عن الصور الأخرى، فالأقرب إن شاء الله أنها واجبة وإن كان عمل الناس الآن أن المطلقة بعد الدخول قلّ من يعطيها متعة، وأنت كما ترى القول بالوجوب قوي وواضح، ونصر الشيخ القول بالوجوب بمعنى إضافي على الآية وهو جميل فقال: إن المهر الذي يعطى للمرأة بسبب الدخول لا يمنع المتعة، لأن المهر مقابل الوطء، وأما المتعة فهي في مقابل ما حصل للمرأة من كسر الخاطر وضيق النفس بسبب الطلاق، فهذا له سببه، وهذا له سببه، وهذه إشارة جميلة في الحقيقة. مسألة: الخلاف المذكور هو في متعة المفوضة، لأن البحث ما زال في المفوضة، وأما المطلقة بعد الدخول التي مهرها مسمى فالخلاف فيها هو هذا الخلاف نفسه، إذاً الخلاف في المفوضة والمسماة واحد لا فرق بينهما واستدلوا بذات الأدلة.

انتهى الشيخ الآن من الكلام عن المفوضة، وانتقل إلى الكلام عن النكاح الفاسد، وما يشبه النكاح الفاسد. قال المؤلف ـ رحمه الله ـ: (وإذا افترقا في الفاسد) استعمل المؤلف كلمة افترقا ليشمل الطلاق والفسخ، والنكاح على ثلاثة أنواع: النوع الأول: النكاح الصحيح وتقدم معنا. النوع الثاني: النكاح الفاسد وهو الذي نتحدث عنه النوع الثالث: النكاح الباطل ففرق العلماء بين النكاح الفاسد والنكاح الباطل، فالنكاح الفاسد هو النكاح المختلف في صحته، وهذا ظاهر كلام الفقهاء، سواء كان الخلاف قوي أو ضعيف، ما دام مختلف فيه اختلاف معتبر فهو فاسد، ولو كان أحد القولين شديد الضعف عند الآخر، ومثاله أن يتزوج بلا شهود أو بلا مهر أو بلا ولي فهذه من أمثلته. النوع الثاني: النكاح الباطل وهو النكاح المتفق على بطلانه، ومن أبرز أمثلته أن يتزوج من لا تحل له، كأن يتزوج أخته من الرضاع أو خالته أو عمته إلى آخره فهذا نكاح باطل بإجماع المسلمين. الهدف أو الفائدة من التفريق بين النكاح الفاسد والباطل: هو أنه في النكاح الفاسد يجب على الزوج وجوباً أن يطلق أو يفسخ، وجوباً عند الجماهير، ولو كان الزوج أو الزوجة أو الولي يرون أن النكاح فاسد، يجب عليه مع ذلك أن يطلق أو يفسخ، والدليل على ذلك: أن هذا النكاح الفاسد ربما رأى الزوج أنه صحيح ورأت الزوجة أنه فاسد، فتذهب الزوجة بلا طلاق وترى بأنها ليست زوجة للأول، والأول يبق يرى أنه زوجها، ثم تتزوج بآخر ويكون للمرأة زوجان، فلأجل عدم وقوع هذا المحذور الكبير أوجب الجمهور أن يقوم الزوج بالطلاق أو الفسخ. القول الثاني: للشافعي قال: إذا ثبت أن النكاح فاسد فإنه لا يجب على الزوج لا أن يطلق ولا أن يفسخ، واستدل على هذا: بأن هذا العقد الفاسد لم ينعقد أصلاً حتى نوجب عليه أن يفسخه أو أن يطلق، والراجح مذهب الجمهور وبناءً، على هذا الراجح نقول إذا لم يطلق الزوج ولم يفسخ وجب على الحاكم أن يقوم بالتفريق بينهما بالفسخ أو الطلاق، حتى لا يدخل الاشتباه في وجود زوج آخر.

هذا الفرق هو الفارق الأساسي بين النكاح الفاسد والنكاح الباطل، وهذا الفارق في الحقيقة يرجع إلى أثر العقد لا إلى حقيقة العقد، ما معنى هذا؟ معنى هذا أنه في الواقع وحقيقة الأمر عند الفقيه الذي يرى أن العقد فاسد العقد، الفاسد والباطل واحد، لأن كل منهما لم ينعقد شرعاً عند هذا الفقيه، فهو في حقيقة الأمر لا فرق بينهما، ولكن الفرق هو من جهة أثر العقد الفاسد وأثر العقد الباطل، وهذا أمر يجب أن يُعرف، وأن الفرق إنما هو في الظاهر والآثار لا في الحقيقة. الآن عرفنا الفرق بين الفاسد والباطل ننتقل الآن إلى الكلام عن الفاسد. قال المؤلف ـ رحمه الله ـ: (وإذا افترقا في الفاسد قبل الدخول والخلوة فلا مهر) إذا افترقا قبل دخول وخلوة فلا مهر، ولو كان المهر مسمى، والدليل على هذا: أن الذي يوجب المهر هو العقد، وهنا لا عقد، لأن العقد شرعاً لا حقيقة له في العقد الفاسد، إذاً هذا الحكم الأول للعقد الفاسد. الثاني: قال المؤلف ـ رحمه الله ـ: (وبعد أحدهما يجب المسمى) قوله بعد أحدهما: يرجع إلى الدخول أو الخلوة، ونحن سنأخذ كل واحد على حدة. المسألة الأولى: إذا فارقها بعد الدخول، فالواجب عند الحنابلة المهر المسمى، الدليل عند الحنابلة: أنه في حديث عائشة: "أيما امرأة نكحت بلا ولي فنكاحها باطل باطل باطل ولها المهر بما استحل من فرجها" هذا الحديث عمدة في مسائل النكاح الفاسد، عليه اعتماد الفقهاء في رواية لهذا الحديث "عليه ما أصدقها بما استحل من فرجها" وما أصدقها هو المسمى هذا مذهب الحنابلة.

القول الثاني: أن عليه مهر المثل لا المسمى، واستدل هؤلاء بذات الحديث فقالوا النبي صلى الله عليه وسلم يقول:" فلها المهر بما استحل من فرجها" فجعل النبي صلى الله عليه وسلم سبب المهر هو استحلال الفرج لا العقد، والواجب بالوطء هو مهر المثل لا المسمى، والنبي صلى الله عليه وسلم علق المهر على الوطء لا على العقد، وهذا القول اختاره ابن قدامة وهو الصحيح إن شاء الله، إذ كيف نرتب على العقد الفاسد المسمى في ترتيب مهر المسمى على العقد الفاسد تصحيح للعقد الفاسد، ونحن نرى أنه فاسد يعني لم ينعقد أصلاً، ولهذا إن شاء الله الراجح هو هذا القول وهو انه مهر المثل. المسألة الثانية: التي أشار إليها الماتن الخلوة، فالخلوة تقرر المهر المسمى عند الحنابلة، واستدلوا على هذا بالقياس على النكاح الصحيح، قالوا كما أن الخلوة تقرر المهر المسمى النكاح الصحيح، فكذلك في النكاح الفاسد، بجامع أن في كل منهما وطء ودخول. القول الثاني: أن الخلوة لا توجب على الزوج شيئاً، واستدلوا بأنه في حديث عائشة جعل النبي صلى الله عليه وسلم سبب المهر الوطء وهنا لا يوجد وطء، بناءً على هذا إذا تزوج رجل امرأة بلا ولي وخلا بها بلا وطء جلس معها ليلة الزفاف خلوة كاملة بلا وطء ولم يمسها إلى الصبح فإنه إذا جاء الصبح وأُخبر أن العقد فاسد فأنهما يفترقان ولا يترتب على هذا شيء، بينما عند الحنابلة يترتب المسمى، وهذا فرق كبير جداً بين أن يترتب المسمى وبين ألا يترتب شيء، والراجح إن شاء الله أنه لا يترتب شيء لما تقدم من حديث عائشة وهو أصل في هذا الباب. قال المؤلف ـ رحمه الله ـ: (ويجب مهر المثل لمن وطئت .. ) بدأ الكلام عما يشبه النكاح الفاسد وليس بنكاح فاسد، فإذا وطء الإنسان امرأة وطء شبهة فإنه يجب عليه أن يدفع مهر مثلها كاملاً، والدليل على هذا من وجهين: الأول: الإجماع فإنه حكي الإجماع على هذه المسألة وهي وجوب مهر المثل في وطء الشبهة. الثاني: عموم حديث عائشة فإنها تقول فلها المهر بما استحل من فرجها، فجعلت المهر بسبب استحلال الفرج وهذا استحل الفرج.

القول الثاني: وطء الشبهة لا يجب شيء واستدل هؤلاء بأن: الشارع إنما علق المهر ونحو المهر بوجود الزوج وشبهة، وهذا ليس بزوج، وهذا الثاني اختيار شيخ الإسلام رحمه الله، والراجح إن شاء الله المذهب، سبب ذلك أنه يظهر بوضوح وجلاء أن النبي صلى الله عليه وسلم علق وجوب دفع مهر المثل بالوطء، وهذا ظاهر، ولهذا يقول بما استحل يعني بسبب استحلاله الفرج، وهذا واضح، ومع وجاهة وقوة ما ذكره الشيخ إلا أنه لا يكفي في الخروج عن ظاهر هذا الحديث، هذا هو النوع الأول وهو وطء الشبهة. وقبل أن ننتقل إلى الثاني، وطء الشبهة يأخذ حكمه وطء آخر، وهو الوطء في نكاح باطل، فالوطء في نكاح باطل حكمه حكم وطء الشبهة، فإذا عرفت حكم وطء الشبهة عرفت حكم النكاح الباطل، وبالإمكان أن يضاف هذا لمساءل الفروق بين النكاح الفاسد والنكاح الباطل، وعلى هذا يكون مقتضى اختيار شيخ الإسلام أنه إذا حصل نكاح باطل فإنه لا يجب شيء ولو مع الدخول الوطء. قال المؤلف ـ رحمه الله ـ: (أو زناً كرهاً) إذا زنا بامرأة غصباً وكرهاً فلها مهر المثل، استدل الحنابلة بحديث عائشة السابق بما استحل من فرجها. القول الثاني: أن لها المهر إن كانت بكراً، وليس لها شيء إن كانت ثيبة. والقول الثالث: أنه لا شيء لها، واستدل الذين قالوا بأن لا شيء لها بأن النبي صلى الله عليه وسلم:" نهى عن ثمن الكلب ومهر البغي" فمهر البغي أبطله الشارع، وهذا القول الثالث اختيار شيخ الإسلام رحمه الله، وهو فيما يظهر لي الآن غاية في الضعف، والسبب في ذلك، أن هذه المزني بها كرهاً، كيف نعتبر الموطوءة بزناً حكمها حكم البغي، البغي رضيت بالبغاء فلا حق لها ولا مهر، وهذه وطئت غصباً، بل إنها المزني بها غصباً أولى بمهر المثل من الموطوءة بشبهة، لأن الوطء بشبهة لا يوجد إجبار منه ولا منها، وإنما محض خطأ، وهنا هذه المرأة مجبرة ومعتدى عليها فهي أحق بمهر المثل من الأولى، ولهذا في الحقيقة غريب اختيار الشيخ اللهم إلا أن يكون له مأخذ آخر لم يذكره، أما التسوية بين وطء الزنا بالرضا والموطوءة بزناً كرهاً هذا غريب، لذلك الراجح إن شاء الله مذهب الحنابلة وهو أن لها مهر المثل. قال المؤلف ـ رحمه الله ـ:

(أو زناً كرهاً) خرج بالزنا الكره الزنا بالمطاوعة، فهذه لا مهر لها وعليها الحد، فإذاً قيد معتبر قوله كرهاً. قال المؤلف ـ رحمه الله ـ: (ولا يجب معه أرش بكارة) لا يجب مع الوطء بشبهة ولا مع الزنا كرهاً أرش بكارة، والسبب في هذا يرجع إلى أمرين: الأول: أن النبي صلى الله عليه وسلم في حديث عائشة أوجب على الواطء مهر المثل فقط، ولم يتطرق إلى الأرش، فنقتصر على الموجود في الحديث. والدليل الثاني، وهو من حيث المعنى وهو قوي أيضاً، أن أرش البكارة موجود في مهر المثل لأنه حين تقدير مهر المثل نراعي أنها بكراً، فثمن البكارة متضمن في مهر المثل، وهذا كلام جيد وسديد، إذاً لا يجب عليه أن يدفع أرش البكارة، وتقدم معنا أن أرش البكارة هو الفرق بين قيمة الأمة ثيباً وقيمتها بكراً، أو الفرق بين مهر المرأة ثيباً وبين مهرها بكراً. قال المؤلف ـ رحمه الله ـ: (وللمرأة منع نفسها حتى تقبض صداقها الحال) يعني أنه يجوز للمرأة أن تمنع نفسها يعنى ألا تسلم نفسها للزوج حتى تقبض مهرها، لكن بشرط أن يكون هذا المهر حالاً، الدليل على هذا الحكم من وجهين: الأول: الإجماع، فإنه حكي الإجماع على أن للمرأة أن تمنع نفسها. الدليل الثاني: أنه ربما فض بكارتها ثم امتنع عن دفع المهر أو ماطل فيه، وحينئذ لا يمكن أن نستدرك البكارة، وهذا كما ترون أدلة قوية جداً، فللمرأة أن تقول لن أذهب إلى بيت الزوج حتى يكمل المهر الحال. عرفنا حكم هذه المسألة، مسألة ملحقة بها ظاهر كلام الحنابلة أن للمرأة أن تمنع نفسها من الزوج ولو كان مثلها لا يصلح للوطء لها أن تمتنع مطلقاً. والقول الثاني: أن للمرأة أن تمنع نفسها من الزوج، أي من تسليم نفسها لبيت الطاعة، إذا كانت تصلح للوطء، أما إذا كانت لا تصلح للوطء فيجب عليها أن تذهب، لأن المعنى الذي من أجله جوزنا لها الامتناع مفقود فيمن لا يمكن أن توطء، وهذا القول الثاني هو الصحيح، لأنه لا معنى من الامتناع مع أنه لا يمكن أن يوطأ مثلها، ومن هذا الخلاف عرفنا أن الإجماع المحكي في المسألة الأولى يتنزل على المرأة التي يمكن أن توطأ. قال المؤلف ـ رحمه الله ـ: (إن كان مؤجلاً .. ) هذه ثلاث مسائل:

الأولى: إن كان مؤجلاً، فإذا كان المهر مؤجلاً فليس لها أن تمنع نفسها من التسليم، وجه ذلك أنها برضاها بالتأجيل رضيت بتسليم نفسها، وهذا صحيح، بأنها لما رضيت بالتأجيل علمنا أنه لا مانع عندها من تسليم نفسها، ولأن القول بجواز منع نفسها مع التأجيل يفضي إلى عدم حصول المقصود من النكاح، لأن الحنابلة يرون أنه يجوز أن يكون المهر مؤجلاً بغير حد معلوم، أليس كذلك كما تقدم معنا، إذاً على هذا ربما تبقى الزوجة في بيتها أو الزوج في بيته سنين، ولا يلزم المرأة أن تذهب إلى زوجها وهذا يتنافى مع كل مقاصد النكاح. المسألة الثانية: أو حل قبل التسليم، يعني إذا كان المهر مؤجلاً ثم لم تسلم نفسها حتى حل، فحينئذ يجب أن تسلم نفسها ولو كان المهر الآن حال، والسبب في ذلك أن وجوب التسليم مستقر قبل حلول أجل المهر، بناءً على هذا إذا حل الأجل ولم يسلم فإنه يجب أن تذهب إلى بيتها، لأن وجوب التسليم سابق لموعد الحلول. المسألة الثالثة: أو سلمت نفسها تبرعاً، إذا سلمت المرأة نفسها تبرعاً يعني في صورة تستطيع أن لا تسلم نفسها، فإنها بمجرد التسليم لا يجوز لها الرجوع، ودليلهم على هذا أنه بالدخول استقر عوض المرأة فلا تتمكن من الرجوع، هذه مسألة مهمة جداً ويكثر وقوعها.

القول الثاني: أن لها الامتناع عن تسليم نفسها ولو رضيت في وقت من الأوقات، واستدل هؤلاء بأن الموجب والمسوغ لامتناع المرأة هو عدم تسليم المهر، ولا زال هذا المعنى موجوداً، وقبل الترجيح هذه المسألة من المسائل التي توقف فيها الإمام أحمد رحمه الله، وتقدم معنا أنه مثل هذا الإمام الكبير إذا توقف فهو إشارة إلى وجود بعض التعارض في أدلة المسألة، الذي يظهر لي أن المتوافق مع قواعد الشرع هو القول الثاني لأن الحقوق المتجددة لا تسقط بالإسقاط ولأن الحكم يدور مع علته وجوداً وعدماً، فإذا كان علة الامتناع هو عدم دفع الزوج للمهر فهذه العلة موجودة، فالذي يظهر والله أعلم هو هذا أن لها أن تمتنع، وفي هذا القول في الحقيقة الثاني مع أنه قرب لقواعد الشرع أحفظ لحقوق النساء، لأنها قد ترضى في وقت من الأوقات ضانة أن الزوج سيؤدي الحق الذي عليه إن عاجلاً أو آجلاً، ثم يظهر لها أنه مماطل وأنه يدفع كلما جاء الوقت أخر فلها أن تمتنع وتذهب إلى أهلها إلى أن يدفع الزوج المهر وهذا إن شاء الله أقرب. قال المؤلف ـ رحمه الله ـ: (فإن أعسر بالمهر الحال .. ) إذا أعسر بالمهر بشرط أن يكون الحال، فلها الامتناع، سواء قبل الدخول أو بعد الدخول. نأخذ كل مسألة على حده. المسألة الأولى: قبل الدخول، قبل الدخول للمرأة أن تمتنع عن تسليم نفسها إذا أعسر الزوج، لأنه بإعسار الزوج تبينّا عدم المقدرة على أداء العوض، وإذا لم يستطع أن يؤدي العوض جاز لها أن تمتنع، كما أن البائع إذا لم يؤدي المشتري الثمن جاز له الرجوع بالسلعة. القول الثاني: أنه إذا أعسر فليس لها أن تمتنع، لأن هذا الإعسار غاية ما يكون دين في ذمة الزوج لا يمنع من الطاعة، كما إذا أعسر في النفقة القديمة، فإن هذا الإعسار لا يمنع من التسليم، وهذا القول الثاني اختاره الشيخ ابن قدامة وأيضاً الشيخ ابن حامد من الحنابلة وله اختيارات أيضاً جميلة. المسألة الثانية: إذا كان بعد الدخول، وهي التي أشار إليها قوله (ولو بعد الدخول)، إذا كان بعد الدخول فالحنابلة كما ترون الحكم نفسه، أن لها الفسخ،

(باب وليمة العرس)

والقول الثاني: أنه بعد الدخول ليس لها الفسخ، وإذا كنا نرجح فيما قبل الدخول أن ليس لها الفسخ ففيما بعد الدخول من باب أولى، أنه ليس لها الفسخ، لأنه بعد الدخول تستقر الحقوق أكثر منها قبل الدخول. قال المؤلف ـ رحمه الله ـ: (ولا يفسخه إلا حاكم) أي أنه يجب أن يكون الفسخ على يد الحاكم، والدليل على هذا أن هذه المسألة محل اختلاف وتحتاج إلى اجتهاد، والحنابلة دائماً إذا كانت المسألة تحتاج إلى اجتهاد فإنه يرجع في الفسخ فيها إلى الحاكم، دفعاً للنزاع والشقاق. والقول الثاني: أن لها الفسخ بمجرد الإعسار، وهذا القول ضعيف جداً، ويؤدي في الحقيقة إلى التلاعب والفوضى، لأنه ربما تزعم المرأة أنه أعسر بالمهر وتخرج وتقول فسخت النكاح أو النكاح انفسخ، ثم إذا سئل الزوج قال المهر موجود، ثم إذا رجعنا إلى الزوجة قالت ذكر لي أنه أعسر، ودخلنا في متاهة لها أول وليس لها آخر ومما يزيد الأمر سوءً لو ذهب المرأة وتزوجت، فلا بد في الحقيقة في مثل هذه المسائل من الحاكم، فيقوم القاضي بفسخ النكاح بناءً على ثبوت إعسار الزوج بالمهر. وبهذا انتهى باب الصداق وننتقل إلى باب وليمة العرس قال المؤلف ـ رحمه الله ـ: (باب وليمة العرس) الوليمة اسم لما يصنع في النكاح خاصة، يعني اسم لدعوة النكاح خاصة. قال المؤلف ـ رحمه الله ـ: (تسن) أفادنا المؤلف أن حكم الوليمة سنة، والوليمة مشروعة بالإجماع، وهي عند الجمهور سنة، واستدلوا على سنيتها بأحاديث كثيرة منها قول النبي صلى الله عليه وسلم لعبد الرحمن بن عوف:"أولم لو بشاة"، ومنها أن النبي صلى الله عليه وسلم أولم على زينب بشاة صلى الله عليه وسلم، ومنها أنه النبي صلى الله عليه وسلم أولم على صفية بسمن وإقط، ومنها أن النبي صلى الله عليه وسلم أولم على بعض نسائه ولم تذكر في النص بمدّي شعير، وهذه الأحاديث كلها في الصحيح، ولهذا أجمع أهل العلم على أنه مشروع، وذهب الجمهور إلى أنه مسنون.

القول الثاني: أن الوليمة واجبه، لقول النبي صلى الله عليه وسلم لعبد الرحمن بن عوف:" أولم ولو بشاة فأمره" أمراً صريحاً بالوليمة، والراجح إن شاء الله أنها سنة، وسبب الترجيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:" أولم ولو بشاة" والإيلام بشاة كونه يولم بشاة لم يقل أحد بوجوبه، فدل هذا على أن الأمر كله في الحديث على سبيل الندب، ولا يمكن أن نقول قوله:" أولم ولو بشاة" نصفه للوجوب ونصفه للندب، وأما الدليل على أن صنع الإنسان وليمة بمقدار شاة لا يجب بالإجماع، هو أن النبي صلى الله عليه وسلم أولم على بعض نسائه بأقل من شاة. مسألة: مع القول بأن الوليمة سنة، نحتاج إلى تحديد الوقت اختلف الفقهاء متى يسن صنع الوليمة. فالقول الأول: أنه عند العقد ولو قبل الدخول. والقول الثاني: أنه بعد الدخول، وهذا القول اختاره شيخ الإسلام، واستدل عليه بأن النبي صلى الله عليه وسلم أولم على نسائه بعد الدخول. والقول الثالث: أن الأمر في وقته واسع، يبدأ من العقد إلى نهاية أيام الزواج، وهذا القول اختاره المرداوي وقال به تجتمع النصوص، نقول يسن من حين العقد إلى نهاية ولائم النكاح أو الزواج. ويظهر إن شاء الله أن الأمر في هذا واسع، ولو تحرى الإنسان أن لا تكون الوليمة إلا بعد الدخول لكان هذا حسناً، مع أن عمل الناس قبل الدخول، ولهذا ما انتشر الآن عند بعض الناس من وجود حفلة مصغرة تكون لدخول الزوج على زوجته، ثم تصنع وليمة بعد ذلك هذا في الحقيقة أقرب للسنة، لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يدخل بالمرأة ثم يصنع الوليمة. قال المؤلف ـ رحمه الله ـ: (تسن ولو بشاة فأقل)

أفادنا المؤلف رحمه الله أنه يجوز أن يولم بأقل من شاة، وهذا محل إجماع، لصنع النبي صلى الله عليه وسلم، لكن مع هذا استحب كثير من الفقهاء ألا ينقص الإنسان في وليمته مع القدرة عن شاة، بل استحب كثير من الفقهاء أن يزيد على الشاة لقول النبي صلى الله عليه وسلم:"أولم ولو بشاة" فجعل أقل المقدار الذي يولم به الإنسان هو شاة، وهذا صحيح، أنه ينبغي ويستحب أن يولم الإنسان بأكثر من شاة، وكلما زاد فهو أفضل، بشرطين: القدرة وعدم الإسراف، فإذا تحقق الشرطان فلا بأس، وسيأتينا أن أبّي بقي يصنع الولائم لزواجه رضي الله عنه لمدة ثمانية أيام، وكذلك ابن سيرين جلس هذا المقدار، وغيره من السلف، فإذا لم يكن هناك إسراف ومباهاة فلا بأس. قال المؤلف ـ رحمه الله ـ: (وتجب في أول مرة .. ) قوله وتجب أشار المؤلف إلى أن إجابة الدعوة الخاصة بوليمة الزواج واجبة، وإلى هذا ذهب الجماهير بل حكي إجماعاً، وممن حكى الإجماع ابن عبد البر والنووي والقاضي عياض وغيرهم فهو إجماع محكي. واستدلوا على هذا بأدلة: الدليل الأول: قوله صلى الله عليه وسلم:"إذا دعي أحدكم إلى وليمة العرس فليأتيها" وفي لفظ "فليجب". الدليل الثاني: قوله صلى الله عليه وسلم: "شر الوليمة يدعى إليها الأغنياء ويترك الفقراء ومن لم يجب فقد عصى الله ورسوله"، وهذا الحديث روي من قول أبي هريرة وروي في الصحيح أيضاً مرفوعاً إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وهذه الأحاديث صريحة في الأمر بإجابة الدعوة إذا كان الداعي للزواج. القول الثاني: أن إجابة الدعوة فرض كفاية، واستدل أصحاب هذا القول بأن المقصود من الأمر بإجابة الدعوة إدخال السرور على المسلم وتوليه وهذا يحصل إذا قام به من يكفي. القول الثالث: وهو مروي عن بعض الشافعية وأيضاً بعض المالكية وهو اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية أنه سنة. والذي تدل عليه النصوص هو القول المحكي إجماعاً، والخروج عن هذه الأحاديث في الحقيقة صعب، وهي فيها الأمر الصريح بإجابة الدعوة، والحكم عليه بأنه عصى الله وعصى رسوله إن لم يفعل، فلعل هذا هو الأقرب إن شاء الله. قال المؤلف ـ رحمه الله ـ: (وتجب في أول مرة)

يعني تجب في اليوم الأول، والمقصود بقولهم تجب في اليوم الأول يعني في الدعوة الأولى، فإذا دعاه المرة الأولى وجب عليه أن يجيب، وإذا دعاه المرة الثانية فإنه يستحب أن يجيب، وإذا دعاه الثالثة فإنه يكره كما سيأتينا عند الحنابلة أن يجيب، واستدلوا على هذا بقول النبي صلى الله عليه وسلم:"الدعوة في اليوم الأول سنة وفي اليوم الثاني إحسان وفي اليوم الثالث رياء وسمعة"، وهذا الحديث ضعيف، وأيضاً استأنسوا بالآثار فإن السلف كانوا يجيبون اليوم الأول والثاني دون الثالث، وروي أن سعيد بن المسيب جاءه رجل فدعاه اليوم الأول فذهب، ثم جاءه اليوم الثاني فدعاه فذهب، فلما جاءه اليوم الثالث ودعاه حصبه يعني رماه بالحصى رضي الله عنه، لأنه رأى أن القضية أصبحت أشبه ما تكون بالمباهاة وبضياع الوقت، على كل حال الواجب هو اليوم الأول. فهم من كلام الفقهاء أنه لا بأس بتكرار وليمة الزواج، أن يصنعها مرة ومرتين وثلاث وأربع وخمس، وذكرت لكم أن أبي صنعها ثمان مرات، وكذلك ابن سيرين نفس الشيء رضي الله عنه وأرضاه، وهذا يدل على أنه لا بأس من تكرار الوليمة بشرط عدم الدخول بالإسراف والمباهاة. هذا والله أعلم وصلى اللهم وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. - ((انتهى الدرس)).

الدرس: (13) من النكاح قال شيخنا حفظه الله: بسم الله الرحمن الرحيم والحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين. تقدم معنا بالأمس الكلام عن وجوب إجابة الدعوة، ثم كنا شرعنا في الشروط التي تشترط للوجوب، وذكرنا الشرط الأول وهو في أول مرة، وانتهينا من الكلام عنه، ثم ننتقل إلى الشرط الثاني: قال المؤلف ـ رحمه الله ـ: (إجابة مسلم) يشترط لوجوب إجابة دعوة وليمة العرس أن يكون الداعي مسلم، واستدلوا على هذا بقول النبي صلى الله عليه وسلم:"حق المسلم على المسلم خمس ثم قال وإذا دعاك فأجب"، وهذا الحديث في صحيح مسلم، وقد جعل إجابة الدعوة من حقوق المسلم على المسلم، فغير المسلم ليس له هذا الحق، وهذا صحيح، ويؤيد هذا الحديث أن المقصود أصلاً من إجابة الدعوة ما يحصل من التقارب والتآخي والموالاة وهو منفي في حق الكافر. قال المؤلف ـ رحمه الله ـ: (يحرم هجره) يشترط لوجوب إجابة الدعوة أن يكون الداعي ممن يحرم هجره، فإن كان الداعي ممن لا يحرم هجره فإن إجابة الدعوة لا تجب، لأن المطلوب فيمن لا يحرم هجره أن يهجر ويبتعد عنه، كالمبتدع والفاسق والمجاهر بالمعاصي والداعي إلى الفسق والخنى والفجور ونحوهم، فهؤلاء لا تجب إجابة الدعوة بالنسبة لهم، لكن هل يجوز أو يكره أو يحرم؟ يختلف حسب حال هذا الداعي، إن كان في إجابة الدعوة مصلحة وبيان الحق له وللحاضرين يعني للداعي وللحاضرين صارت الإجابة مستحبة، وإن كان ذهاب هذا الشخص إلى المبتدع يؤدي إلى افتتان المبتدع وظن أنه على حق أو على شيء فالذهاب حينئذ يدور بين الكراهة والتحريم، أما الوجوب فلا يجب مطلقاً. قال المؤلف ـ رحمه الله ـ: (يحرم هجره إليها إن عينه) هذا هو الشرط الرابع، الشرط الأول في أول مرة، والثاني أن يكون مسلماً، والثالث أن يحرم هجره، وهذا الشرط الرابع أن يخصه بالدعوة، أن يعينه أثناء الدعوة، استدل الحنابلة على أن هذا من الشروط بأن الداعي إذا عين شخصاً ولم يجب حصل له انكسار ووحشة من هذا الذي لم يجبه، وهذا الأمر لا يوجد فيما إذا لم يعينه وإنما دعاه دعوة عامة يدخل فيها هو وغيره، بهذا استدل الحنابلة يعني بتعليل. والقول الثاني: أنه إذا لم يعينه فإنه يجب لعموم إذا دعاك فأجب. والقول الثالث: أنه يكره وهو الذي سيذكره المؤلف في آخر الباب.

والقول الرابع: أنه مباح، وهذا القول الأخير هو الصحيح، أو نقول أنه مستحب، إما مباح أو مستحب، أما القول بأنه مكروه أو واجب فهو ضعيف، ويمكن أن يستأنس بالقول بعدم الوجوب بقول النبي صلى الله عليه وسلم:"إذا دعاك"، فإن هذا القول يشعر بتخصيص الإنسان بالدعوة لا بتعميمه، فربما نستأنس بهذا اللفظ مع التعليل الذي ذكره الحنابلة. قال المؤلف ـ رحمه الله ـ: (ولم يكن ثم منكراً) هذا هو الخامس ألا يوجد منكر، يشترط للوجوب خلو مكان الزواج من المنكرات، والمؤلف قريباً سيفصل تفصيل دقيق في قضية وجود المنكر في الدعوة، ولهذا نؤجله إلى كلامه الآتي قريباً إن شاء الله، إنما هو يشترط الوجوب ألا يكون في الدعوة منكر. قال المؤلف ـ رحمه الله ـ: (فإن دعا الجفلى) لما ذكر الشيخ الشروط ذكر محترزات الشروط في الحقيقة، الأول أن يدعوه دعوة الجفلى، ودعوة الجفلى هي أن يدعو دعوة عامة ليس فيها تخصيص، حينئذ لا يجب إجابة دعوته، بل يكره عند الحنابلة كما ترون على ما ذكره المؤلف، واستدل الحنابلة على الكراهة بأن في إجابة الدعوة إذا كانت على سبيل التعميم دناءة وحرص على حضور الولائم مما يستدعي أن تكون الإجابة مكروهة. والقول الثاني: أن الإجابة مباحة أو مسنونة، واستدل هؤلاء بأن "النبي صلى الله عليه وسلم صنع وليمة وأرسل أنس وقال ادعوا لي فلاناً وفلاناً ومن لقيت" فقوله ومن لقيت هذا هو تماماً هو دعوة الجفلى أي الدعوة عامة، ولم يكن النبي صلى الله عليه وسلم ليدعوا الناس دعوة مكروهة، وهذا القول لاشك أنه هو الصواب، والحكم عليها بأنها مكروهة غريب، غاية ما هنالك أنها ليست بواجبة وتصبح بعد ذلك تدور بين الإباحة والندب، وهي إلى الندب والاستحباب أقرب بلا شك. الثاني من المحترزات قوله ـ رحمه الله ـ: (أو في اليوم الثالث) إجابة الدعوة في اليوم الثالث مكروهة للحديث، لأنه في الحديث الذي مر معنا أمس أنه جعل إجابة الدعوة في اليوم الأول حق وفي اليوم الثاني معروف وفي اليوم الثالث رياء وسمعة، وإذا كانت إجابة الدعوة من باب الرياء والسمعة فهي مكروهة، والواقع أن الاستدلال بهذا الحديث محل نظر من وجهين:

الوجه الأول: أن الحديث ضعيف، فلا يمكن أن نحكم على إجابة الدعوة في اليوم الثالث أنها مكروهة اعتماداً على حديث ضعيف. الثاني: لو صح الحديث لدل على التحريم لأن الرياء والسمعة محرمان، فكيف نستدل به على الكراهة فقط، إذا الاستدلال بهذا الحديث استدلال في غير محله، ولذلك نقول أن الأقرب إن شاء الله أن إجابة الدعوة في اليوم الثالث تدور بين الإباحة والندب، أما الدعوة في اليوم الثاني فالحنابلة يرون أنها مسنونة، يعني إجابة دعوة اليوم الثاني مندوبة ومسنونة، إذاً النقاش معهم إنما هو في الحكم الذي أطلقوه على اليوم الثالث. قال المؤلف ـ رحمه الله ـ: (أو دعاه ذمي) إذا دعاه ذمي فقد دعاه غير مسلم، تقدم أنه لا يجب، لكن الحنابلة يرون أن إجابة الدعوة مكروهة، والسبب في ذلك أن الذمي يطلب إذلاله وهانته، وإجابة دعوته تتنافى مع ذلك. والقول الثاني: أن إجابة الدعوة للذمي أيضاً إما مباحة أو مندوبة، لأن النبي صلى الله عليه وسلم أجاب دعوة اليهودي وأجاب دعوة اليهودية، والنبي صلى الله عليه وسلم لنا فيه أسوة حسنة، فنقول إجابة الدعوة مباحة أو مستحبة، وتقدم معنا في كتاب الجهاد أنه ليس من مقاصد الشرع تقصد إذلال الذمي بالطريقة التي وصفها الفقهاء، هذا ليس من المقاصد، لكن المراد مع الذمي ألا يتولاه الإنسان في العقيدة ولا يحبه ولا يناصره ولا يؤازره، أما تقصد إذلاله فليست النصوص شيء واضح يدل عليه، وهذا ما يتنافى مع النصوص التي فيها الأمر بمخالفة اليهود والنصارى، فإن مخالفة الكفار شيء وتقصد إذلالهم بفعل زائد شيء آخر. قال المؤلف ـ رحمه الله ـ: (كرهت الإجابة) هذا يرجع للمسائل الثلاث السابقة، ففي كل واحة منهم يكره للإنسان أن يجيب وتقدمت مناقشة ذلك. قال المؤلف ـ رحمه الله ـ: (ومن صومه واجب دعا وانصرف)

إذا دعي الإنسان وهو صائم صوماً واجباً، كأن يصوم قضاء رمضان أو كفارة واجبة أن نذر أو أي صيام واجب، فإنه يجيب وجوباً، ولكن يحرم عليه أن يفطر، والسبب في هذا أن الفطر وقطع الصيام الواجب محرم، والأكل مندوب، وليس للإنسان أن يقترف محرماً ليحقق مندوباً، ويدل على هذا أيضاً قول النبي صلى الله عليه وسلم:"إذا دعي أحدكم فليجب فإن كان صائماً فليدعوا وإن كان مفطراً فليطعم" فهذا الحديث فيه النص على هذا المعنى. قال المؤلف ـ رحمه الله ـ: (والمتنفل يفطر إن جبر) لما بين الشيخ حكم الإنسان إذا دعي وهو صائم صيام واجب بيّن حكم إذا دعي وهو صائم صيام متنفل، فيقول والمتنفل يفطر انجبر يعني أن المتنفل إذا دعي فإنه يستحب له أن يفطر إذا كان في فطره جبر لخاطر الداعي، ومفهوم كلام المؤلف أن الداعي إذا لم يحصل له انجبار خاطر ولم يحصل له انكسار بعدم الأكل فإن المستحب ألا يفطر ولو كان صيامه صيام ندب، وهذا صحيح، وهذا التفصيل الذي ذكره الشيخ موسى هنا هو اختيار شيخ الإسلام رحمه الله وهو الذي إن شاء الله تدل عليه النصوص السابقة إن شاء الله، وهو الذي تدل عليه الآثار فإن ابن عمر رضي الله عنه دعي فلما مد يده ليأكل قال إني صائم، فلنا أن نقول أن ترك الطعام هذا التفصيل يتعلق بصيام النفل إذا كان ترك الطعام يدخل على الداعي انكساراً فإنه يستحب أن يفطر الإنسان وإلا فإنه يبقى صائماً.

والقول الثاني: وهو المذهب أنه يستحب أن يفطر مطلقاً، سواء حصل انكسار للداعي بعدم الأكل أو لم يحصل مطلقاً، واستدل الحنابلة بأن رجلاً دعا النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه فأمسك رجل عن الطعام فقال النبي صلى الله عليه وسلم:" أخوكم دعاكم وتكلف لكم كل وصم يوماً مكانه" هذا الحديث صححه الشيخ العلامة الألباني وعامة المتأخرين أيضاً صححوه، ولهذا استدل به المؤلف، فإذا كان الحديث على فرض ثبوت الحديث فهو في الحقيقة يدل على أنه ينبغي للإنسان أن يفطر مطلقاً، على أنه يمكن أن يناقش الحديث بأن الظاهر من حال الرجل الداعي أنه انكسر بعدم أكل هذا الرجل، فإن النبي صلى الله عليه وسلم كأنه لاحظ هذا من الداعي فأمره بأن يفطر وأن يطعم، وقد نقول أن هذا التفصيل في الحقيقة الذي هو إن حصل جبر خاطر أفطر وإلا فلا تفصيل نظري بحت لماذا؟ لأنه غالباً بل نقول دائماً إذا دعاك فهو يحب أن تأكل، ففي الواقع ليس بين القولين فرق كبير، ولهذا نقول ينبغي إذا دعيت وأنت صائم صوم نفل أن لا ترد دعوة أخيك وأن تطعم، لأنه الغالب يريد أن تأكل، بل الغريب هو ألا ينكسر إذا لم تأكل لأنه لم يدعوك إلا ليكرمك. مسألة: ذهب شيخ الإسلام رحمه الله إلى أن الإنسان إذا جاء صائماً فإنه يستحب للداعي ألا يكرر عليه الدعوة والإلحاح بأن يفطر، ورأى أن ذلك من المسألة المكروهة، فعلى الإنسان أن يضيف أخاه وأن يطلب منه أن يطعم إكراماً له ثم لا يلح بعد ذلك. قال المؤلف ـ رحمه الله ـ: (ولا يجب الأكل)

معنى هذا أن الواجب هو إجابة الدعوة لا الأكل، فالأكل مسنون فقط، والدليل على هذا أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"إذا دعي أحدكم فليجب فإن شاء فليأكل وإن شاء فليترك"، وهذا تخيير صريح، وهذا الحديث في صحيح مسلم، بناءً على هذا يكون الأكل مندوب مطلقاً، والتفصيل السابق الذي ذكرناه في الصائم صيام نفل يكون على سبيل الندب لا على سبيل الوجوب، أما الوجوب فقد حصل بإجابة الدعوة، وهذا يتوافق مع ما يصنعه بعض الناس اليوم من أنه يأتي إلى وليمة الزواج ثم إذا قدم الأكل خرج، هذا لا بأس فيه وقد أجاب الدعوة، ولو كان بعض الناس يرى أنه لم يجب الدعوة فرؤيته لا تتوافق مع الشرع، نقول إذا حضر ودعا وشارك ثم خرج قبل أن يأكل فقد أجاب الدعوة، لأن الأكل مندوب، نعم لا شك أن كونه يأكل أكمل في إجابة الدعوة وأطيب لخاطر الداعي لكن يبقى أن هذا الأمر بالنص النبوي مباح، لقوله إن شئت فكل وإن شئت فاترك. القول الثاني: أن الأكل واجب لقول النبي صلى الله عليه وسلم:"وإن كان مفطراً فليطعم"، وقوله فليطعم أمر صريح. والراجح إن شاء الله القول الأول، لأنه في الحديث الذي استدل به أصحاب القول الأول التصريح بالتخيير بين الأكل وعدمه، ولهذا نحمل حديث وإن كان مفطراً فليطعم على الندب جمعاً بين الأخبار. قال المؤلف ـ رحمه الله ـ: (وإباحته تتوقف على صريح إذن أو قرينة) معنى هذا الكلام أنه لا يجوز للإنسان أن يأكل إلا إذا أذن له أو دلت القرائن على الإذن، وتعليل ذلك أنه لا يجوز للإنسان أن يأكل مال أخيه إلا بإذنه، قال الفقهاء والدعوة إلى الوليمة إذن، لأنه لم يدعه إلا ليطعم، وقال الفقهاء أيضاً أن تقديم الطعام إذن في الأكل، لأنه لم يقدم الطعام إلا ليطعم الناس، والأقرب أن الإذن بالأكل يرجع إلى الأعراف السائدة في كل بلد، ففي بعض البلدان تقديم الطعام إذن ويشرع الناس في الأكل، وفي بعض البلدان لا يكتفون بتقديم الطعام حتى يضيفهم الداعي ويأمرهم بالأكل، بل يعتبر من أكل قبل أن يطلب منه البدء خالف الأعراف العامة، وهذا القول الأخير هو الصحيح إنه يُرجع في الإذن للأعراف، وكما قلت لكم الأعراف تختلف اختلافاً كبيراً في هذا الأمر.

مسألة لم يذكرها المؤلف: الدعوة إذن في الأكل عند الحنابلة لكنها ليست إذن في الدخول، بل يجب عليه إذا حضر ألا يدخل إلا بعد الإذن. والقول الثاني: أن الدعوة إذن في الدخول فإذا دعي جاء ودخل بلا إذن، لأن الإذن مستفاد من الدعوة السابقة. والقول الثالث: أن هذا الأمر يرجع فيه إلى القرائن، فإن دلت القرائن على أن هذه الدعوة إذن فذاك وإلا فلا، وهذا القول اختاره الشيخ المرداوي وهو القول الصواب، فلا المنع مطلقاً صحيح ولا الإذن مطلقاً صحيح، ونحن نشاهد في الواقع أنه لا يلزم من دعوة الإنسان لك أن يرضى أنه بمجرد وصول البيت تدخل البيت، أليس كذلك، لكن إن دلت القرائن ونحن لا نقول الأعراف إن دلت القرائن على أنه إذن فهو إذن، من أوضح وأبرز القرائن أن يجد الباب مفتوحاً، فإذا جاء المدعو إلى بيت الداعي ووجد الباب مفتوحاً فإن هذا إذن والقرينة دالة على أنه يريد أن كل من يأتي يدخل حينئذ لا بأس بالدخول ولو بلا إذن. ثم بدأ الشيخ بتفصيل مسألة وجود المنكرات في ولائم الزواج. قال المؤلف ـ رحمه الله ـ: (وإن علم أن ثم منكراً يقدر على تغييره حضر وغير) إذا علم أن في المكان الذي سيذهب إليه منكر، أي نوع كان من أنواع المنكرات، فإنه ينقسم إلى قسمين: الأول: أن يتمكن من إزالة هذا المنكر، فإذا تمكن من إزالة المنكر فإنه عند الحنابلة يجب عليه أن يحضر ويجب عليه أن ينكر، وليس له أن يتخلف إذا كان في مكان الوليمة منكر مادام يستطيع يغير هذا المنكر، واستدلوا على هذا بأن في إجابة الدعوة تحقيق فرضين، الفرض الأول الإجابة، والفرض الثاني تغيير المنكر. القول الثاني: أنه إذا علم أن في المكان منكراً فإنه لا يجب عليه أن يحضر، فإن حضر وجب عليه أن يغير، واستدل هؤلاء بأن في إيجاب الذهاب إلى الدعوة تكليف بتغيير المنكر، والأصل عدم التكليف.

الدليل الثاني: أن صاحب الدعوة أسقط حرمة نفسه بسبب وجود المنكر، ومعنى أسقط حرمة نفسه يعني لم تعد إجابة دعوته واجبة، يعني أسقط حقه كمسلم يجب إجابة دعوته، وهذا القول مال إليه شيخ الإسلام وقال هو أقيس على كلام الإمام أحمد، فنقول إذا دعيت إلى مكان فيه منكر فأنت مخير بين أمرين: إما أن تذهب أو أن لا تذهب، فإن ذهبت فيجب عليك تغيير المنكر، وهذا القول الذي ذكره شيخ الإسلام وجيه وصحيح، ويؤيده أن ذهاب الرجل المعروف المنظور إلى أفعاله إلى مكان فيه منكر قد يتخذ ذريعة لتسويغ المنكر ولو قام بإنكاره، فإن بعض الناس دائماً يأخذ {ويل للمصلين} ويترك باقي الآية، فيقول فلان حضر دعوة فلان وفيها منكر ولا يكمل ويقول أنه أنكر، لكن إذا امتنع من الذهاب لا شك أن هذا يؤدي إلى أن عامة الناس يتجنبون المنكرات لأن الناس يتجنبونهم بسبب وجود هذه المنكرات. قال المؤلف ـ رحمه الله ـ: (وإلا أبى) وهذا هو القسم الثاني، يعني وإن لم يتمكن من إنكار المنكر وتغييره فإنه لا يذهب، لقول النبي صلى الله عليه وسلم:"من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يجلس على مائدة يدار فيها الخمر" فالبقاء في مكان فيه منكر لا يجوز شرعاً، ولهذا نقول إذا لم تتمكن من تغيير المنكر وجب عليك ألا تذهب وجوباً، لأن إجابة الدعوة واجبة، وعدم المكوث مع المنكر أيضاً واجب، ودرء المفاسد مقدم على جلب المصالح. قال المؤلف ـ رحمه الله ـ: (وإن حضر ثم علم به أزاله)

يعني إذا لم يعلم به قبل أن يأتي مكان الدعوة ثم لما حضر وجد المنكر فإنه يسعى في إزالته فوراً لقول النبي صلى الله عليه وسلم:"من رأى منكم منكراً فليغيره بيده فإن لم يستطع فبلسانه فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان"، ولذلك نحن نقول أن النبي صلى الله عليه وسلم جعل سلطة المنكِر ثلاث اليد واللسان والقلب، لكن ينبغي أن يعلم أن تغيير المنكر باليد ليس على إطلاقه، فلا يجوز للإنسان أن يغير المنكر بيده إذا كان يترتب على تغيير المنكر باليد منكر أكبر منه، لأن الأصل في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر هو إذهاب المفاسد وتقليلها وتحصيل مصالح وتكميلها، فإذا كان إذهاب المنكر سيأتي بمنكر أكبر منه صار محرماً، وحينئذ ينتقل الإنسان إلى الثاني وهو التغيير باللسان، أما إذا لم يترتب على التغيير باليد ما هو أسوء منه وأكثر ضرراً ونكارة فإنه يغير بيده، كما أن التغيير باليد لا يتناول ما هو من صلاحيات ولي الأمر، مثل إقامة الحدود ونحوها مثل هذه الأشياء التي تناط بولي الأمر لا تدخل في هذا الحديث العام، فيما عدا هذين الأمرين وهو أن لا يترتب منكر أكبر ومفسدة أكبر أو أن تكون من اختصاصات ولي الأمر فإن الحديث يستعمل، فمثلاً إذا كان يوجد أداة موسيقى واستطاع أن يغلق هذه الأداة بدون وجود مفاسد فإنه يغلق هذا الشيء الذي يصدر الموسيقى، لأن هذا يدخل في الحديث، فمثل هذا على سبيل التمثيل، وإلا المنكرات كثيرة وإنما مثلت به لأنه غالب ما يكون من المنكرات، أما إذا ترتب على إغلاق هذا الجهاز مفاسد أخرى وأضرار أكبر من الموسيقى، فإنه لا شك أنه ينتقل إلى المرحلة الثانية وهي التوجيه باللسان، المقصود الآن أنه إذا حضر مكان الوليمة ثم علم به سعى في إزالته. قال المؤلف ـ رحمه الله ـ: (فإن دام لعجزه عنه انصرف)

الواجب إذا حضر الإنسان مكان فيه منكر الواجب ليس فقط الإنكار، الواجب أن يزيل المنكر فإن لم يتمكن من إزالة المنكر فإن الواجب أن يخرج من المكان، لأنه لا يجوز للإنسان أن يبقى في مكان فيه منكر لم يتغير، وهذه قاعدة ذكرها الحنابلة وغيرهم من الفقهاء، أنه لا يجوز للإنسان أن يبقى في مكان فيه منكر، سواء كان هذا المنكر يتعلق بالمطعوم أو المشروب أو المسموع أو المعلق، أي نوع من المنكرات لا يجوز للإنسان أن يبقى في هذا المكان إذا لم يستطع إزالة المنكر. قال المؤلف ـ رحمه الله ـ: (وإن علم به ولم يره ولم يسمعه خير) يعني إذا حضر إلى المكان وعلم بوجود منكر في ناحية من نواحي هذا المكان، إلا أنه لم يسمع ولم يرى هذا المنكر، فالحكم أنه مخير بين أمرين: إما أن ينصرف وفي هذه الحالة لا يأثم بالانصراف لأن صاحب الدعوة أسقط حرمة نفسه بإيجاد المنكر في وليمته فلم تعد إجابته واجبة، أو أن يبقى فإذا بقي فلا يجب عليه أن ينكر، لأن الحنابلة يقولون أن وجوب الإنكار يتعلق بأمرين: أن يرى أو أن يسمع، ويستدلون بقول النبي صلى الله عليه وسلم:" من رأى منكم منكراً فليغيره" وهذا لم يرى منكراً ولم يسمع وإنما علم به فقط.

والقول الثاني: أن العلم بالمنكر يوجب السعي في تغييره وإن لم يرى ولم يسمع، ونحمل قول النبي صلى الله عليه وسلم من رأى إما على رؤية العلم لا رؤية البصر، أو نقول أن الحديث وربما يكون هذا أقرب خرج مخرج الغالب وهو أن الإنسان يعلم بالمنكر من خلال الرؤية أو السماع لا من خلال نقل المنكر إليه، وهذا القول الثاني قد يكون أرجح وأقرب، لأنه على قاعدة المذهب ينبني على هذا أن كثير من المنكرات لا يجب على الإنسان أن ينكرها لأنه لم يرها ولم يسمع بها، وقد يتسبب هذا بانتشار المنكرات واستفحالها بسبب أننا لا ننكرها لأنه لم يرى ولم يسمع، فنقول إن شاء الله أن الواجب أن ينكر وإن لم يرى ولم يسمع إذا علم، مما يدل على هذا أن معاوية رضي الله عنه لما علم بنكاح الشغار قام وأنكره على المنبر وإن كان لم يرى ولم يسمع لأن عقد النكاح صار قبل أن يأتي، فممكن أن نستأنس بهذا الأثر عن معاوية، بأن الإنسان يجب حسب ما يستطيع أن يسعى في إنكار المنكر إذا علم به ولو لم يره ولم يسمعه. قال المؤلف ـ رحمه الله ـ: (ويكره النثار والتقاطه) النثار: هو إلقاء ما يراد توزيعه على الناس ليتناهبوه، سواء كان الملقى طعاماً أو نقداً، ويتعلق بالنثار والتقاط مسائل: المسألة الأولى: أن بعض الفقهاء يقول أن الخلاف في أنه مكروه أو مباح، وأما الجواز فهو محل إجماع، والغريب أن الحنابلة يحكون هذا الإجماع مع أنه عن الإمام أحمد نفسه رواية بالتحريم، وهي موجودة رواها أصحابه فكيف يحكون الإجماع مع وجود رواية عن إمامهم بالتحريم، ذهب الحنابلة إلى أن النثار والتقاطه مكروه، لأن النبي صلى الله عليه وسلم:" نهى عن الانتهاب". والقول الثاني: أن الالتقاط مباح، لأن الالتقاط هو إباحة الإنسان مال نفسه عن طريق نشره بين الناس، وللإنسان أن يبيح الناس ماله كيفما شاء، واستدلوا أيضاً "بأن النبي صلى الله عليه وسلم لما ذبح البدن التي أهداها للحرم قال من شاء أن يقتطع فليقتطع" وهذا في معنى النثار. القول الثالث: التحريم، وهو أنه لا يجوز تمليك المال بطريقة الانتثار، واستدل هؤلاء بأن: أولاً: الأصل في النهي التحريم.

ثانياً: أن في إتباع هذه الطريقة تعويد للمسلم على سفاسف الأمور وشح النفس وبعداً عن ما يرتفع به الإنسان معالي الأمور، لا شك أن التعليل الذي ذكروه لا يؤدي إلى التحريم، لكن مما يؤيد أو يقوي التحريم النص وهو النهي، وهذا القول الذي هو التحريم مال إليه شيخ الإسلام رحمه الله، بقينا في الجواب عن أن النبي صلى الله عليه وسلم أباح الناس أن يأخذوا من لحم الهدي، أجابوا عنه بأن النبي صلى الله عليه وسلم علم أن اللحم أكثر من الناس، فإذا كان اللحم أكثر من الناس لن يكون هناك انتهاب، لأن كل واحد سيأخذ نصيبه، وفي الحقيقة الجواب فيه ضعف، من أين لهم أن اللحم أكثر من الناس؟ بل الواقع أنه غالباً في ذلك الوقت سيكون الناس أكثر من اللحم بسبب الفقر، لاسيما وأن الحديث الذي فيه أنه أباحهم، فيه أن المذبوح كان ست أو سبع من البدن، وهذا العدد قد لا يكفي كل الموجودين في مكة لاسيما إن كان زمن حج، لذلك نقول الأقرب أنه مكروه ولا ينبغي أبداً أن يصنع مثل هذا الصنع، وفي الحقيقة ليس من شيم أهل المروءات، ولهذا لما نضج حسن بن أحمد بن حنبل قال أبوه الإمام أحمد لحُسُن (حُسُن هذه التي اشتراها الإمام أحمد بعد موت أم عبد الله زوجته وجاءت له بحسن) فقال الإمام أحمد: دخل عليهم لما أرادوا أن يفرحوا بالطفل وقال: لا تنثروا، نهاهم أشد النهي، قالت حُسُن فقال لي مولاي لا تنثروا، وفي هذا أنه ينبغي للعالم أن يعمل بعلمه، فهذا الإمام أحمد مع كونه فرح بهذا الطفل مع ذلك نهاهم عن هذا العمل الذي هو النثار. قال المؤلف ـ رحمه الله ـ: (ومن أخذه أو وقع في حجره)

المسألة الأولى: إذا أخذه فإنه له على الخلاف السابق في كون الأخذ مكروه أو محرم، وهذا أمر واضح، لكن يقول أو وقع في حجره، إذا وقع في حجره فالأقرب والله أعلم أنه له بلا كراهة، وهذا مذهب الحنابلة، لأنه لم ينتهب معهم، ولأنه جاءه المال من غير سعي، ويستوي في هذا ما إذا أعد حجره لالتقاط المنثور وما إذا وقع فيه من غير إعداد، والسبب في هذا أن صاحب المال بذل ماله لمن يقع في يده، وقد وقع المال في حجره فهو له، من وجهة نظري أن هذا صحيح، فهو له وبلا كراهة، لأنه لم يسعى في تحصيله ولم يدخل في صورة الانتهاك المنهي عنها، بدليل أنه بقي جالساً حتى جاء الشيء ووقع في حجره. قال المؤلف ـ رحمه الله ـ: (ويسن إعلان النكاح) إعلان النكاح مسنون بلا نزاع، وتقدم معنا أن بعض الفقهاء يرفعه من درجة السنية إلى الوجوب، وبعض الفقهاء يرفعه إلى درجة أنه شرط من شروط صحة النكاح، تقدم هذا معنا عند الكلام عن شروط النكاح، واستدلوا على هذا بقول النبي صلى الله عليه وسلم:" فصل ما بين الحلال والحرام الدف والصوت فأعلنوا النكاح" وهذا الحديث أيضاً يصححه المتأخرون، وهو دليل ظاهر على أن نكاح السر يقرب بالعقد إلى السفاح، لقوله فصل مابين الحلال والحرام، وقوله الدف والصوت أخذ منه الفقهاء أن المقصود بالصوت إعلان النكاح، وعلى كل حال هذا الحديث كما قلت لكم يصححه المتأخرون، ولو لم يصححه المتأخرون فالقواعد العامة تدل على استحباب نشر وإظهار النكاح، كما كان المهاجرون والأنصار يصنعون بإعلانه والنشيد فيه إلى آخره. قال المؤلف ـ رحمه الله ـ: (والدف للنساء) في هذه العبارة مسائل: المسألة الأولى: الدف هو الإطار المغطى بالجلد من جهة واحده. المسألة الثانية: أن الدف في النكاح مباح بالإجماع، وذهب كثير من الفقهاء ومنهم الحنابلة إلى أنه مستحب، في درجة أعلى من الإباحة، أما الإباحة فهي محل إجماع. المسألة الثالثة: أن الاستحباب والندب يتعلق بالنساء، وهو مذهب الحنابلة واختاره شيخ الإسلام وذكره في أكثر من موضع واستدل هؤلاء بأمرين: الأمر الأول: أنه لم يرو ولم ينقل عن أحد من السلف أنه ضرب بالدف، وإنما اقتصروا فيه على النساء.

الثاني: أن في ضرب الرجال للدف تشبه للنساء، ولا يجوز للرجل أن يتشبه بالمرأة. القول الثاني: أن الدف لا يختص بالنساء، بل يجوز للرجال وللنساء استخدام الدف في النكاح، واستدلوا على هذا بأمور: ((الآذان)) الأمر الأول: أن النصوص التي فيها الحث على اتخاذ الدف في وليمة الزواج عامة، لم تخصص الرجال من النساء الثاني: أن الحكمة من الأمر بالدف عند جميع أهل العلم إعلان النكاح، وإعلان النكاح باتخاذ الرجال للدف أعظم منه باتخاذ النساء، وإذا كانت الحكمة تتحقق بضرب الرجال للدف أكثر فهم أولى بالجواز. الخلاف في هذه المسألة فيه تكافؤ، وفيه قوة يعني في كلا القولين، لكن الأقرب إن شاء الله أن الدف خاص بالنساء، وسبب الترجيح: هو أنه يظهر بوضوح من خلال الآثار المروية عن الصحابة أن اللاتي كن يضربن بالدف النساء فقط، فمثلاً لما تولت عائشة تزويج امرأة من الأنصار، قال لها النبي صلى الله عليه وسلم:"هل كان معكم شيء من اللهو" ويدخل فيه الدف، ووجه هذا الكلام لعائشة ومن معها من النساء. ثانياً: الجارية التي نذرت أن تضرب على رأس رسول الله صلى الله عليه وسلم بالدف إذا رجع سالماً أيضاً كانت جارية، فمن خلال هذين الأثرين وغيرهما يظهر للإنسان أن الدف في العهد النبوي كان يضرب من قبل النساء، أما النصوص العامة فهذه عنها أحد جوابين: الجواب الأول: أنها عامة تحمل على النصوص الأخرى المبينة أن الذين كانوا يتعاطون الدف هم النساء فقط. الثاني: وليس هذا ببعيد، أن هذه النصوص عند التحقيق لا تثبت، كثير من النصوص التي فيها الأمر بالدف ضعيف جداً، هو هذا الحديث ولم أتمكن من النظر فيه بالتفصيل" فصل ما بين الحلال والحرام" هذا الحديث هو الذي ظاهر إسناده الصحة، وإلا ما عداه يغلب عليها الضعف، فنجيب عن أن النصوص التي يقول المجيزون أنها عامة بأحد هذه الجمل: بأنها تحمل على المعروف من العهد النبوي، وهو أن النساء تختص باستخدام الدف، أو أن نقول أنها لا تثبت وهذا الحكم يحتاج فقط إلى وقت للنظر في أسانيد هذا الحديث، ومع هذا أقول الأقرب إن شاء الله هو أنه الدف يختص بالنساء. هنا نكون توقفنا على باب عشرة النساء.

هذا والله أعلم وصلى اللهم وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. - ((انتهى الدرس)).

باب عشرة النساء

الدرس: (14) من النكاح قال شيخنا حفظه الله: بسم الله الرحمن الرحيم والحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين. باب عشرة النساء العشرة في لغة العرب: المصاحبة والمخالطة، فمن يعاشر شخصاً فهذا يعني أنه يخالطه ويصاحبه وأما في الاصطلاح الشرعي: المقصود بهذا الباب فهو ما يكون بين الزوجين من الألفة والوئام وحسن الصحبة. فهذا المعنى هو المقصود بالبحث في هذا الباب. قال المؤلف ـ رحمه الله ـ: (يلزم الزوجين العشرة بالمعروف) حث الشارع وأكد على أنه يجب على كل من الزوجين أن يعاشر الآخر بالمعروف، وهذه العشرة منها ما يكون واجباً, ومنها ما يكون مستحباً متأكداً كما سيأتينا في هذا الباب، وقد دلت نصوص كثيرة على وجوب العشرة بالمعروف، وسيأتينا في كلام المؤلف حدود العشرة بالمعروف, لكن الذي يعنينا الآن هو أنّ الشارع الكريم حث على العشرة بالمعروف في نصوص كثيرة في الكتاب والسنة فمن الكتاب قوله تعالى: {وعاشروهن بالمعروف} (النساء/19)، وقوله تعالى: {ولهن مثل الذي عليهن بالمعروف} (البقرة/228) وقول النبي - صلى الله عليه وسلم - في الحديث الذي أخرجه البخاري ومسلم (استوصوا بالنساء خيرا)، وقوله - صلى الله عليه وسلم - (خيركم خيركم لأهله وأنا خيركم لأهله) والنصوص في هذا الباب كثيرة جداً, ويظهر لي والله أعلم أنه متواترة المعنى أو قريبة من التواتر لكثرة النصوص الدالة على استحباب وتأكد إحسان العشرة بين كل من الزوجين. لما قرر المؤلف وجوب العِشرة بالمعروف, انتقل كما هي عادة الفقهاء إلى الضابط، يعني بماذا تحصل العِشرة بالمعروف. قال المؤلف ـ رحمه الله ـ: (ويحرم مطل كل واحد بما يلزمه للآخر والتكره لبذله) العشرة بالمعروف تحصل بأن يؤدي كل واحد منهما ما عليه للآخر بلا مطل ولا تكره, فإذا أدى ما عليه مستوفياً للشرطين، فقد عاشر صاحبه بالمعروف, وفهم من هذا التعريف أنّ صور الإخلال بالعشرة بالمعروف ثلاث:

الأولى: من لا يعاشر بالمعروف مطلقاً، يعني أن لا يبذل ما عليه مطلقاً. الثاني: أن يبذله مع التكره. الثالث: أن يبذله مع المماطلة. فهذه صور الإخلال بالعشرة الواجبة, فهذه العشرة كما تقدم في النصوص واجبة، ومما يدل على تأكد العشرة لاسيما في حق الزوج. قال المؤلف ـ رحمه الله ـ: (إذا دعى الرجل زوجته إلى فراشه , فلم تأتي باتت تلعنها الملائكة إلى الصباح) وفي لفظ (ثم بات غضبان عليها) ففي هذا الحديث في بعض الألفاظ التصريح بأنه إذا أبت وبات غضبان عليها تلعنها الملائكة إلى الصباح, وفي بعض الألفاظ, أنه بمجرد أن تأبى فإنّ الملائكة تلعنها إلى الصباح, ولا شك أنّ لعن الملائكة دليل كبير على أنّ مخالفة هذا الأمر من كبائر الذنوب، إذا عرفنا الآن بماذا يحصل المماطلة، ولهذا نحن نقول لإخواننا الأزواج وأخواتنا الزوجات أنه كثير ما يحصل الإخلال بالعشرة بالمعروف، كثيراً ما يحصل في جانب التكره. فإنّ بعض الناس يظن إذا بذل ما عليه فقد أدى الواجب ولو بتكره وهذا ليس بصحيح, بل يجب أن يبذل ما عليه بلا تكره يعني منقادة به نفسه, فإنّ التكره في أداء الحقوق يفسد أداء الحق على الآخر إلى أن تصل لدرجة بمن يؤدى إليه الحق أن لا يرغب بأخذ هذا الحق لما احتف به من التكره. فأنا أؤكد على أن يتنبه كل من الزوج والزوجة إلى أن يؤدي الحقوق بلا تكره. قال المؤلف ـ رحمه الله ـ: (وإذا تم العقد لزم تسليم الحرة) إذا تم العقد فإنه يلزم أن يسلم أهل الزوجة، الزوجة إلى زوجها, والدليل على هذا أنّ تمام العقد يقتضي تسليم العوض والمعوض، فيجب على الزوج أن يسلم المهر وعلى أهل الزوجة أن يسلموها إليه, لأنّ هذين هما العوض والمعوض. فإذاً الدليل أنّ العقود في الشرع تقتضي إذا تمت تسليم العوض والمعوض، وفي عقد النكاح العوض والمعوض المهر والزوجة، لكن لهذا التسليم ضوابط وشروط أشار إليها الشيخ الماتن - رحمه الله -. قال المؤلف ـ رحمه الله ـ: (لزم تسليم الحرة) إذا الوجوب يتعلق بالحرة, أما الأمة فلها حكم آخر سينص عليه المؤلف, وهو أنه يجب أن تسلم بالليل لا بالنهار، فتسليم الأمة جزئي, وتسليم الحرة كلي، يعني في جميع النهار والليل. وسيأتينا بحث الأمة.

قال المؤلف ـ رحمه الله ـ: (التي يوطأ مثلها) إنما يجب تسليم المرأة التي يوطأ مثلها, ويلتحق بالمرأة التي يوطأ مثلها, المرأة التي يمكن أن يستمتع بها بما دون الوطء، مثل المرأة المريضة التي لا يمكن أن توطأ لكن يمكن الاستمتاع بها بما دون الوطء, كالمباشرة والتقبيل ونحوهما، فإذا كانت المرأة يوطأ مثلها أو يمكن أن يستمتع بها بما دون الوطء, حينئذ يجب على أهل الزوجة تسليم الزوجة إلى زوجها بهذا الشرط. وإذا كانت المرأة لا توطأ, ولا يمكن أن يستمتع منها مطلقاً فإنه لا يجب على أهل الزوجة أن يسلموها إلى الزوج ولو بعد العقد. التعليل: علل الفقهاء هذا بأنّ وجوب التسليم إنما هو للتمكن من الاستمتاع, فإذا لم يمكن الاستمتاع لم يمكن التسليم واجباً وهذا واضح، إذا لم يمكن أن توطأ فإنه لا تسلم، إذا عرفنا تعليل عدم وجوب التسليم. وهناك تعليل آخر: وهو أنه لا يأمن من تسليم الزوجة التي لا يوطأ مثلها, أن يقوم الزوج بالوطء وهي لا يوطأ مثلها فتضرر الزوجة فمن باب سد الذرائع رأى الفقهاء أنه لا يجب على أهل الزوجة أن يسلموا الزوجة إلى الزوج، وهذا الحكم يستوي فيه ما إذا ادعى الزوج أنه يريد أن يأخذ الزوجة لتعليمها وتأديبها، أو أخذها للاستمتاع، يعني بعبارة أخرى أنها لا تعطى للزوج وولو زعم أنه أخذها للتعليم والتأديب لا للاستمتاع، لما تقدم وأنه وإن زعم هذا فإنّ وجود المرأة معه في نفس البيت وهو يعلم أنها زوجته مظنة عظيمة لوقوع الوطء الذي هو مضر بهذه الزوجة. مسألة / ذهب الحنابلة إلى أنّ المرأة التي يوطأ مثلها تحد بالسنين، فإذا تمت تسع سنوات, فهي امرأة يوطأ مثلها، وإن كانت أقل فهي امرأة لا يوطأ مثلها، واستدلوا على هذا بأنّ النبي - صلى الله عليه وسلم - دخل على عائشة وبنى بها - رضي الله عنها - وهي بنت تسع سنين.

والقول الثاني: في ضابط المرأة التي يوطأ مثلها, أنه أمر يختلف باختلاف النساء, فقد تكون المرأة لها تسع سنوات ولا يمكن أن توطأ بل لها عشر ولا يمكن أن توطأ، وقد تكون امرأة أخرى لها سبع سنوات ويمكن أن توطأ, فإنّ هذا الأمر يرجع إلى طبيعة المرأة وطبيعة جسد المرأة, وما يتعلق بهذه الأمور, وهذا القول الثاني وهو أنه يختلف باختلاف النساء وأنه لا يتحدد بسن هو القول الصحيح إن شاء الله، بناء على هذا إذا عقد على امرأة ولها ثمان سنوات وهذه المرأة جسدها يقبل الوطء ويمكن أن تفهم ما يقع بين الزوج والزوجة من المعاشرة، فإنه يجب على أهل الزوجة أن يسلموها إليه. وإذا عقد على امرأة لها عشر سنوات لكنها نضوة الخِلقة , يعني ضعيفة الخلقة لا تتحمل الوطء كما أنها لا تفهم ما يقع بين الزوج والزوجة فإنه والحالة هذه وإن كان لها عشر سنوات فإنه لا يجب أن تسلم إلى الزوج. قال المؤلف ـ رحمه الله ـ: (التي يوطأ مثلها في بيت الزوج إن طلبه) فالوجوب أي وجوب التسليم موقوف على طلب الزوج، وتعليل ذلك أنّ التسليم حق من حقوق الزوج, والحقوق الخاصة تتوقف على الطلب, فإذا لم يطلب ورضي ببقائها عند أهلها فلا حرج في ذلك. قال المؤلف ـ رحمه الله ـ: (ولم تشترط دارها أو بلدها) يعني وإن كانت اشترطت الدار أو البلد, فإنه لا يجب أن تسلم بل على الزوج أن يأتي إليها في دارها ويستمتع منها بما يشاء في دارها، ولا يجب على أهل الزوجة أن يخرجوها إلى بيته, لأنها شرطت البقاء في دارها أو في بلدها, ودليل هذا الشرط تقدم معنا مفصلاً ومطولاً أنّ هذا الشرط من الشروط الصحيحة اللازمة, وأنّ الشروط الصحيحة اللازمة يجب على الزوج أن يتقيد بها وإلاّ فللمرأة الحق في الفسخ وهذا الشرط من جملة الشروط الصحيحة اللازمة التي تقدمت معنا في باب الشروط في النكاح. قال المؤلف ـ رحمه الله ـ: (وإذا استمهل أحدهما أمهل العادة وجوباً)

معنى هذه العبارة يعني إذا طلبت الزوجة أو طلب الزوج المهلة في التسليم والاجتماع, فإنه يجب إجابته لهذه المهلة، على سبيل الوجوب سواء كان الطالب الزوج أو كانت الطالبة الزوجة, وفي الغالب سيكون الطالب من؟ الزوجة. لتستعد لأمر الزواج بما يتطلبه الزواج عادة، الدليل على الوجوب من وجهين: الوجه الأول: أنه جرت العادة بالإمهال اليسير لتستعد الزوجة لأمر الزواج, علماً أنّ المقصود بالاستعداد هنا في كلام الفقهاء الاستعداد المتعلق ببدن المرأة أو الزوج, لا الاستعداد المتعلق بالبيت, ولا بالملابس, إنما الاستعداد المتعلق بماذا؟ ببدن المرأة. الدليل الثاني: قوله - صلى الله عليه وسلم - في الحديث الصحيح (لا تدخلوا على النساء ليلاً حتى تمتشط الشعثى وتستحد المغيبة)، هكذا ضبطوها (المغيبة) وجه الاستدلال من الحديث أنّ النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا طلب من الزوج الإمهال مع طول الصحبة فلأنه يجب الإمهال مع بداية الصحبة من باب أولى، وهو استدلال قوي جداً، إذا طلب الزوج أو الزوجة المهلة للاستعداد فإنه يجب وجوباً إنظارهما قدر ما جرت العادة به من الاستعداد، ثم استثنى المؤلف مسألة: قال المؤلف ـ رحمه الله ـ: (لا لعمل جهاز) قوله لا لعمل جهاز, النفي هنا نفي للوجوب لا للاستحباب, يعني أنه لا يجب الإنظار لعمل الجهاز لكنه يستحب, والجهاز قد يتعلق بالرجل, بأن يستعد بتأسيس أو تأثيث أو تهيئة المنزل, وقد يتعلق بالمرأة بأن تستعد بأدوات المرأة الخاصة بالزواج الخارجية، كالألبسة وأدوات الزينة وما يتعلق بهذه الأمور، مما تحتاج إليه المرأة عادة قبيل الزواج, فالحنابلة يرون أنّ الإنظار لهذا الأمر لا يجب وإنما يستحب, لأنه لأمر خارج عن ذات الزوج والزوجة. لم أقف على قول بالوجوب لكني أقول إن كان أحد من الفقهاء قال بالوجوب في مسألة استعداد في الجهاز فهو قول وجيه جداً وقوي، وهو الراجح بوضوح إن كان قيل به, أنا لم أقف على قائل بالوجوب كما قلت لكن إن كان قيل به فهو قول قوي جداً.

السبب في ذلك: أنه إذا كنا ننظر الزوجة لبعض الأعمال البسيطة المتعلقة بالبدن, كأن يستعد من حيث الشعر ومن حيث الجسد ... إلخ، كيف لا نمكن الزوج من الاستعداد في أمر مهم وهو مثلا ً البيت الذي يريد هو وهي أن يسكنا فيه، واليوم الناس يعتبرون الاستعداد فيما يتعلق بالبيت أهم وأشق من الاستعداد الخاص بنفس الزوج، فإذا كان الحنابلة يرون أنّ الإنظار لاستعداد الخاص بالزوج واجب فهذا الإنظار واجب من باب أولى، فيما يظهر لي. كذلك ما يتعلق بالزوجة، فإنه لا تكاد المرأة تجرأ على الدخول على الزوج وتستصيغ ذلك إلاّ بعد الاستعداد الكامل بحسب الأعراف كل بلد له عرفه في الاستعداد, لكن البلدان جميعاً يتفقون على هذا المقدار المشترك وهو الاستعداد. قال المؤلف ـ رحمه الله ـ: (ويجب تسليم الأمة ليلاً فقط) تقدم معنا أنّ الحرة يجب أن تسلم في جميع الزمان, أما الأمة فإنه تسلم ليلاً فقط, ذكر الفقهاء تعليلاً لذلك, وهو أنّ السيد يملك من الأمة الخدمة والاستمتاع, فإذا انتقل الاستمتاع إلى الزوج, بقيت الخدمة حق من حقوق السيد, ولهذا نقول هي له بالنهار للخدمة فقط ولزوجها بالليل للاستمتاع، ولكن لماذا جعلوا الليل للزوج, والنهار للسيد، ولماذا لم يعكسوا لأنّ الخدمة يمكن أن تكون بالليل ويمكن أن تكون بالنهار؟ عللوا هذا بأنّ الخدمة جرت العادة بأن تكون في النهار, وطلب المعاش غالباً يكون بالنهار, وجرت العادة أنّ الاستمتاع يكون في الليل, ولهذا جعلوا حق الزوج في الليل وحق السيد في النهار، وهذا صحيح. قال المؤلف ـ رحمه الله ـ: (ويباشرها ما لم يضر أو يشغلها عن فرض) أفادنا المؤلف بهذه العبارة أنّ للزوجّ الحق في الاستمتاع بالزوجة في كل زمان وفي كل مكان وبأي كيفية شاء, إلاّ ما سيذكره المؤلف من الاستمتاع المحرم, إذا أفادنا أنّ له أن يستمتع منها كيفما شاء زماناً ومكاناً وكيفية.

واستدلوا على هذا بالحديث المتقدم أنّ النبي - صلى الله عليه وسلم - (ذكر أنّ المرأة إذا دعاها زوجها إلى فراشه ولم تأتي وبات وهو غضبان عليها لعنتها الملائكة إلى تصبح). وكذلك في الحديث الحسن إن شاء الله أنّ النبي - صلى الله عليه وسلم - (قال إذا دعى أحدكم زوجته فلتجب ولو كانت على تنور) مع أنّ ترك التنور في هذه الحالة يؤدي إلى فساد المال وفساد المال منهي عنه ومع ذلك أباح لها الشارع أن تترك الخبز الذي في التنور أو أي طعام كان ولو أدى ذلك إلى فساده, وهذا من الأدلة الواضحة على الوجوب, كذلك جاء في الحديث أنّ النبي - صلى الله عليه وسلم - (أمر الزوجة أن تجب زوجها ولو كانت على ظهر جمل)، ففي حديث التنور من جهة الزمان وفي حديث الجمل من جهة المكان, إذا يجب على الزوجة أن تستجيب لرغبة الزوج في كل الظروف والأماكن والكيفيات, إلاّ التي استثناها الشارع كما سينص عليه المؤلف. أفادنا المؤلف بعموم عبارته, أنّ للزوج أن يستمتع من زوجته بالجماع ولو تعددت المرات بلا حدّ ولا عدد, ولكن هذا الحكم والحكم السابق مشروط بشرطين: الشرط الأول: أن لا تؤدي كثرة الجماع إلى الإضرار بالزوجة. الشرط الثاني: أن لا يؤدي ذلك إلى تفويت الزوجة فرضاً من فروض الله. بشرط أن لا يضرها ولم يفوتها فرضاً من الفروض، فإنّ له أن يجامع عدد المرات التي يشاء بلا حدّ، واستنبط الحنابلة هذا الحكم من النصوص العامة, فإنّ النصوص عامة متى دعاها دخلت في الحديث ولو كثرت هذه المرات. وأما الشرطان اللذان ذكرهما المؤلف, وهو عدم الإضرار وأن لا تفوّت فرضاً, فدليلهما واضح. فالدليل الأول: قوله - صلى الله عليه وسلم - (لا ضرر ولا ضرار) والدليل الثاني: أنه لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق. القول الثاني: يتعلق بمسألة عدد المرات التي للزوج أن يجامع فيها الزوجة، القول الثاني أنّ الزوج إذا جامع بكثرة فإنّ للزوجة أن تصالحه عن عدد الجماع بما يتفق عليه, فلها أن تقول لك في اليوم كذا مرة والزائد تدفع مقابله عوضاً, فيكون صلح عن بعض عدد الجماع. الدليل استدلوا بدليلين:

الأول: أنّ امرأة في عهد ابن الزبير اشتكت كثرة الجماع من زوجها, فحكم عليها بست في النهار وست في الليل. الدليل الثاني: أنّ أنس سئل عن امرأة جامعها زوجها بكثرة فحكم بأربعة في الليل والنهار. قالوا فهذان الصحابيان قيدوا بعدد محدد، والراجح إن شاء الله مذهب الحنابلة , وهو أنه لا يتقيد بقيد ولا يحدّ بعدد. وأما الجواب عن الآثار فمن وجهين: الوجه الأول: البحث في ثبوت هذه الفتاوى، فإن ثبتت فإنّ هذه الفتاوى تحمل على وقوع الضرر من كثرة الجماع، ونحن نتفق، والجماهير يرون ذلك أنه إذا كان هناك ضرر فإنه يجب أن يحد عدد الجماع إلى العدد الذي لا يكون معه ضرر على الزوجة. إذا نجيب على الآثار بأنها تحمل هذه الآثار على وجود ضرر على الزوجة, أما في الحقيقة إذا كان الزوج يجامع بكثرة ولا يوجد ضرر على الزوجة إلاّ أنه سئمت من كثرة الجماع بلا ضرر يقع عليها, فيظهر لي أنّ مذهب الحنابلة في هذه المسألة أقوى. سبب الترجيح: أنّ النصوص التي اعتنت بهذا الأمر التي جاءت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - صريحة بأنّ هذا حق من حقوق الزوج ولم يأتي في النصوص ما يقيّد هذا الحق ونحن نفترض ونفرض المسألة مع وجود ضرر على الزوجة، حينئذ الأقرب والله أعلم مذهب الحنابلة. قال المؤلف ـ رحمه الله ـ: (وله السفر بالحرة ما لم تشترط ضده) يعني أنّ للزوج أن يسافر بزوجته, وأنه يجب عليها الطاعة إذا طلب منها أن تسافر معه, إلاّ إذا كانت اشترطت عليه ألاّ تخرج من بلدها فإن كانت اشترطت هذا الشرط, فهو شرط صحيح لازم, وإن لم تكن اشترطت فإنه يجب عليها أن تسافر مع زوجها. الدليل على هذا: أنّ الزوج له حق الاستمتاع بالزوجة في كل الأوقات ومن ذلك الأوقات في السفر, ولم يتمكن من الاستمتاع إلاّ إذا سافرت معه، وهذا صحيح وهو أنه يجب على المرأة أن تطيع الزوج إذا أراد أن يسافر, لكن يشترط لوجوب الطاعة أن يسافر إلى بلد مأمون في الطريق وبعد الوصول, فإن كان الطريق إلى البلد غير مأمون أو كانت البلد غير مأمونة فإنه لا يجب على الزوجة أن تسافر, فإذا أراد أن يصحبها إلى بلد فيه حرب أو فيه وباء أو فيه كوارث طبيعية فإنه لا يجب عليها أن تسافر معه.

كذلك إذا أراد أن يصحبها في طريق مخوف لا يأمن معه الإنسان على نفسه, فإنه لا يجب عليها أن تسافر معه. هل من ذلك إذا أراد أن يسافر في طيران يكثر سقوط الطائرات فيه؟ أو في سفن يكثر الغرق فيها؟ أو ليس من ذلك؟ إذا كانت هذه الخطوط معروفة بأنّ طائراتها كثيرة السقوط, أو هذه السفن كثيرة الغرق, فإنه لا يجب أن تسافر، لكن ما يظهر لي أنا أنه في خطوط معروفة أنها كثيرة السقوط، يعني هذا نادر, وكذلك لا يظهر لي أنه يوجد مجموعة من السفن معروفة بكثرة الغرق. فإنّ هذه الكوارث الكبيرة لا يمكن أن تتكرر بكثرة, لكن من ذلك أن يسافر بها مع سائق معروف بالتهور, حينئذ لها أن تمتنع، ولو كان هذا السائق قريب، المهم القاعدة العامة إذا كان هناك ضرر فإنه لا يجب أن تسافر معه. قال رحمه الله في بداية الكلام عن الممنوعات من الوطء بعد أن قرر القاعدة العامة أنه له أن يباشر كيفما شاء أراد أن يبيّن الممنوعات. قال المؤلف ـ رحمه الله ـ: (ويحرم وطؤها في الحيض والدبر) تحريم الوطء في الحيض دلّ عليه النص والإجماع. قال تعالى: {ويسألونك عن المحيض قل هو أذى فاعتزلوا النساء في المحيض} [البقرة/189] فوطء المرأة أثناء الحيض محرم بالإجماع والنص ولا إشكال فيه لم يختلف فيه أهل العلم ولله الحمد, ويستوي في هذا أول نزول الحيض وأوسط نزول الحيض وآخره إذا خفّ ويلتحق به الصفرة والكدرة إذا اعتبرناها حيضاً, ففي كل هذه المراحل لا يجوز للإنسان أن يطأ زوجته. وتقدم معنا هذا في كتاب الحيض. قال المؤلف ـ رحمه الله ـ: (والدبر) ولا يجوز أن يطأ في الدبر, ذهب الأئمة الأربعة والفقهاء السبعة وعامة علماء الأمة، إلى أنّ الوطء في الدبر محرم وهو من الكبائر وجاء فيه من النصوص أكثر مما جاء في الحيض عند من يصحح هذه النصوص, استدل الجماهير بأدلة: الأول: قوله تعالى {نساؤكم حرث لكم فأتوا حرثكم أنى شئتم} [البقرة/223] وقد فسر الصحابي الجليل ابن عباس - رضي الله عنه - الآية بأنّ المقصود بالحرث موضع الولد, وهو صريح جداً, وجه الاستدلال من الآية أنّ الله سبحانه وتعالى إنما أباح وطء المرأة في موضع الولد، هذا الدليل الأول.

الدليل الثاني: مجموعة كبيرة من الأحاديث الدالة على تحريم الوطء في الدبر, منها قوله - صلى الله عليه وسلم - (ملعون من أتى امرأته في دبرها) ومنها قوله - صلى الله عليه وسلم - (لا تأتوا النساء في أعجازهن) ومنها قوله - صلى الله عليه وسلم - (إنّ الله لا يستحي من الحق لا تأتوا النساء في أدبارهن)، هذه النصوص أولاً جميعا لا تخلو من ضعف، كل واحد منها في اسناده ضعف لا يسلم منها حديث، لكن كثيراً من المتأخرين يصحح هذه الأحاديث معتمداً على ثلاثة أمور: الأول: أنه جاءت من طرق متعددة. الثاني: أنها توافق ظاهر القرآن. الثالث: أنها توافق فتاوى الصحابة. لكن مع ذلك ذهب كثير من الأئمة, إلى أنه لا يثبت في هذا الباب حديث صحيح, من هؤلاء الإمام البخاري، ومن هؤلاء النسائي، ومن هؤلاء الإمام ابن المنذر، نحو خمسة من الأئمة , على رأسهم البخاري والنسائي. الأقرب والله أعلم أنه لا يثبت في الباب حديث صحيح، لأنّ هذه الأحاديث من الضعف بحيث لا يقوي بعضها بعضاً. الدليل الثالث: صح عن الصحابة تحريم وطء المرأة في الدبر. إذا الدليل الأول: الآية، والدليل الثاني: الأحاديث، وعلمتم كيف شأن هذه الأحاديث من حيث الثبوت وعدمه، والدليل الثالث: الآثار. القول الثاني: أنّ وطء المرأة في الدبر جائز, وهو مروي عن اثنين الإمام مالك وقبله ابن عمر وبعضهم يرويه وينسبه للإمام الشافعي والصحيح أنّ هذا القول لا يثبت عن مالك ولا ابن عمر ولا عن الشافعي. نبدأ بالأهم وهو ابن عمر - رضي الله عنه - روي عنه ما يوهم جواز وطء المرأة في الدبر. وعن هذه الفتوى أجوبة عن الفتوى المنقولة عن ابن عمر أجوبة: الجواب الأول: أنّ مقصود ابن عمر بجواز وطء الدبر يعني الوطء في القبل من جهة الدبر. الوطء يكون في القبل لكن أتاها من جهة الدبر، وهذا تفسير أحد كبار تلاميذ ابن عمر وهو نافع, فإنه قال أنّ مقصود ابن عمر هذا وصح عنه هذا التفسير. الجواب الثاني: أنه إن ثبت عن ابن عمر فهو وهم منه - رضي الله عنه - وممن ذهب إلى أنّ هذا وهم وصح عنه ابن عباس فإنه قال وهم ابن عمر.

الجواب الثالث: أنه صح عن ابن عمر بإسناد كالشمس أنه يرى تحريم الوطء في الدبر، بل روي عنه اللعن فقال لعن الله من أتى امرأته في دبرها، وكما ترى كل واحد من الأجوبة الثلاث كافي في إبطال الاستدلال بأثر ابن عمر. أما مالك فإنه سئل فيما ينسب إليه من جواز الوطء في الدبر فقال معاذ الله. وأما الشافعي فإنه لم يثبت عنه، ولهذا أقول إن شاء الله الراجح بلا تردد ولا إشكال بإذن الله أنّ الوطء في الدبر محرم وهو من الكبائر بل قال شيخ الإسلام - رحمه الله - الوطء في الدبر للزوجة من اللواط, وقال ابن القيم - رحمه الله - لم يبح وطء الدبر على لسان نبي من الأنبياء. كما أنه يضاف لهذه الأدلة أنّ وطء الدبر يترتب عليه آثار وخيمة جداً وأمراض تلحق بالزوج بالدرجة الأولى، وبالزوجة بالدرجة الثانية ويظهر لي والله أعلم أنّ القول بالجواز شاذ وغير معتبر، وأنه ينافي الفطرة لاسيما وأنّ الآية صريحة أنّ جواز الوطء إنما هو في محل الولد وأما ما تمسك به الذين يقولون بجواز الوطء بالدبر وهو الآيات العامة، فقالوا نسائكم حرث لكم فأتوا حرثكم أنى شئتم، هذا عام ونسوا أنّ ابن عباس فسّر الآية بمحل الولد، والاستدلال بالعمومات لا يصلح مع وجود النصوص الخاصة. وأنا أقول لو لم يكن في الباب أي نص لكانت الأضرار الطبية التي ثبتت بالتواتر والإجماع كافية في التحريم، كيف وتوجد آثار عن الصحابة صحيحة مسندة كثيرة, أنّ الوطء لا يجوز حتى روي عن ابن عمر اللعن. قال المؤلف ـ رحمه الله ـ: (وله إجبارها ولو ذمية على غسل حيض) يعني ونفاس وإنما تركوا النفاس لأنّ أحكام الحيض والنفاس واحدة المعنى, وتعليل الوجوب أنه لا يمكن أن يستمتع الإنسان من زوجته إلاّ بعد أن تغتسل, ولهذا فإنه يجب عليها أن تغتسل ليتمكن من الاستمتاع الواجب. قال المؤلف ـ رحمه الله ـ: (ونجاسة) ويجب على الزوجة أن تغسل النجاسة التي أصابت بدنها أو أصابت ثوبها, لأنّ الزوج لا يتمكن من الاستمتاع مع وجود النجاسات في بدن المرأة، وهذا أمره واضح. قال المؤلف ـ رحمه الله ـ: (وأخذ ما تعافه النفس من شعر وغيره)

يعني ويجب على الزوجة أن تأخذ ما تعافه نفس الزوج من الشعر ونحوه من الأوساخ التي يندب للزوجة أن تتخلص منها, يجب وجوبا أن تتخلص من الشعور وهذا الوجوب زائد على الوجوب المستفاد بالنصوص من حلق أو أخذ الإبط وحلق شعر العانة فإنّ النصوص دلت على هذا, وهذا وجه آخر للوجوب, وهو إذا طلب الزوج ذلك. الدليل: أنّ الاستمتاع لا يتم مع وجود ما تعافه النفس من الزوجة, لا حظ هم يقولون لا يتم, ولم يقولوا لا يوجد لكنه لا يتم بخلاف الحيض فإنّ الاستمتاع لا يوجد, لأنه لا يجوز للزوج أن يجامع زوجته قبل أن تغتسل. القول الثاني: أنه لا يجب على المرأة أن تأخذ ما تعافه نفس الزوج من شعر ونحوه, لأنّ هذه الشعور لا تمنع من الوطء. والجواب على هذا الاستدلال أنها تمنع كمال الوطء والاستمتاع للزوج واجب على زوجته, وعلى المرأة أن تؤدي الواجب على وجه الكمال لا على وجه النقص, وهذا القول الأول هو الصحيح، ومقتضى تعليل الحنابلة أنه أيضاً يجب على الزوج أن يأخذ ما تعافه الزوجة من شعر ونحوه, لأنّ الاستمتاع كما سيأتينا في آثار الصحابة حق متبادل, وإن كان هو من الحقوق الأولى للزوج بالذات لكنه أيضاً من الحقوق المتبادلة, فيجب على الزوج أن يأخذ ما تعافه نفس الزوجة. قال المؤلف ـ رحمه الله ـ: (ولا تجبر الذمية على غسل الجنابة) يعني ليس للزوج أن يجبر زوجته على غسل الجنابة إذا كانت ذمية, لأنّ الذمية لا تلزم بفروع الشرع إلاّ بعد الدخول في الإسلام، وهذه المسألة فيها خلاف كالخلاف في المسألة السابقة تماماً من حيث التعليل والدليل والأقوال والراجح. فمثلاً الزوج تعاف نفسه الزوجة التي لا تغتسل من الجنابة, ولو كانت ذمية ولهذا نحن نقول الخلاف في هذه المسألة كالخلاف في المسألة السابقة تماماً، والراجح أنه يجب على الزوجة أن تغتسل من الجنابة لا وجوباً شرعياً أصلياً، وإنما ليتمكن الزوج من استيفاء الحقوق على الوجه الكامل. فصل قال المؤلف ـ رحمه الله ـ: (ويلزمه أن يبيت عند الحرة ليلة من أربع) هذا الفصل يقول المؤلف - رحمه الله - فصل وهذا الفصل يريد المؤلف أن يتكلم فيه عن المبيت والقسم وما يتعلق بهما. قال المؤلف ـ رحمه الله ـ:

(ويلزمه أن يبيت عند الحرة ليلة من أربع) قوله عند الحرة لم يبيّن المؤلف ماذا يجب عليه عند الأمة, فلنذكر الأمة ثم نرجع لتفصيل الحرة لأنّّ المؤلف سيستمر في تفصيل الأحكام المتعلقة بالحرة. الأمة يجب على الزوج أن يبيت عندها ليلة من كل سبع ليالي, لأنّ أكثر ما يجمع الإنسان على زوجته الأمة ثلاث حرائر، لكل حرة ليلتان وللأمة كم؟ ليلة واحدة فست للحرائر وواحدة لمن؟ للأمة، فإذا لها ليلة من كل سبع، هذا ما يتعلق بالأمة نرجع إلى تفصيل الحرة. قال المؤلف ـ رحمه الله ـ: (ويلزمه ........... وينفرد إن أراد في الباقي) المؤلف يريد أن يتحدث عن قسم الابتداء، وقسم الابتداء هو القسم إذا كان له زوجة واحدة, فيجب عليه أن يبيت عندها ليلة من كل أربع وينفرد بالثلاث, هذا مذهب الحنابلة دليلهم: القصة المشهورة التي وقعت في عهد أمير المؤمنين عمر بن الخطاب أنّ امرأة جاءت إلى عمر رضي الله عنه، وأثنت على زوجها خيراً وذكرت من قيامه وصيامه، فأثنى عليها عمر خيراً، وقال لها جزاك الله خيراً فاستحت المرأة فخرجت، فقال كعب بن سوار وكان حاضراً, يا أمير المؤمنين لما لم تعدي المرأة على زوجها, قال وما ذاك؟ قال إنما أتت شاكية، فإنّ زوجها إذا كان يقوم الليل ويصوم النهار ليس لها منه شيء، فقال عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - عليَّ بزوجها فلما جاء قال لكعب احكم، فقال - رضي الله عنه - إنّ أكثر ما يجمع الحر أربع زوجات، فحكمي أنّ لها ليلة من كل أربع. فقال عمر بن الخطاب، إنّ حكمك أعجب من فهمك، ثم قال اذهب فأنت قاضي البصرة. هذا الأثر عمدة الحنابلة, فإنّ عمر بن الخطاب حكم بهذا الحكم بعد مداولات في مجلس القضاء مع حضور الصحابة وأطبقوا - رضي الله عنهم - أنّ المرأة الحرة في قسم الابتداء لها ليلة من أربع, وله أينفرد بنفسه في الثلاث الباقية. القول الثاني: أنّ هذا القسم يرجع فيه إلى العرف, وهذا القول أضعف الأقوال. القول الثالث: أنّ الحكم بما يبيت الزوج من الليالي عند زوجته يختلف باختلاف الأحوال واستدلوا على هذا بأنه ليس من حسن العشرة أن ينفرد الإنسان عن زوجته بلا سبب لمدة ثلاث ليالي، ويبقى معها لمدة ليلة واحدة، وليس له زوجات سواها.

وأجابوا عن أثر عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - بأنها فتوى خاصة وحادثة عين. وهذا القول اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - وهو أنه يختلف باختلاف الظروف والزوج والزوجة، الراجح أيُّ القولين أرجح هذه المسألة تأملت فيها كثيراً ويظهر لي أنّ الراجح بوضوح جداً مذهب الحنابلة، السبب في ذلك أنه لا يظهر مطلقاً عند تأمل الأثر أنّ هذا الأثر فتوى خاصة أو حادثة عين أو تتعلق بفتوى شخصية, لأنّ أمير المؤمنين لا يعرف المرأة ولا الرجل وهي فتوى في مجلس عام، لا يظهر مطلقاً منها أنها فتوى خاصة, ولم يذكر في الأثر أي ملابسات تختص بالمرأة أو بالرجل, ولهذا أنا أرى أنّ اختيار شيخ الإسلام في هذه المسألة فيه ضعف وأنّ هذه الفتوى التي بمحضر الصحابة وتكاد تكون إجماع لا يمكن أن ترد بمثل هذه التعليلات. نقول إن شاء الله الراجح أنه يجب على الإنسان أن يبقى ليلة من ثلاث في قسم الابتداء. قال المؤلف ـ رحمه الله ـ: (ويلزمه الوطء إن قدر كل ثلث سنة مرة) الوطء واجب على الزوج وجوباً إذا لم يكن معذوراً بمرض ونحوه, واستدلوا على هذا بأنّ المقصود من عقد النكاح إحصان المرأة، وإعطاءها الحقوق, وهذا لا يكون مع الامتناع عن الوطء. الثاني: أنّ ترك لوطء ليس من المعاشرة بالمعروف. القول الثاني: أنه لا يجب على الزوج أن يطأ، واستدلوا على هذا بأنّ الوطء حق من حقوق الزوج, فكيف نوجب على الإنسان حق من حقوقه، والراجح أنه يجب عليه أن يطأ لأنّ الوطء حق مشترك وليس حقاً خاصاً بالرجل, بل يجب عليه أن يطأ. وسيبيّن المؤلف - رحمه الله - مقدار هذا الوجوب. قال المؤلف ـ رحمه الله ـ: (ويلزمه الوطء إن قدر كل ثلث سنة مرة) كما قلت لما بيّن الوجوب بيّن مقدار هذا الوجوب, فالحنابلة يرون أنه يجب أن يطأ مرة واحدة كل أربع أشهر, واستدلوا على هذا بأدلة: بأنّ الله تعالى حدّ للمولي أربعة أشهر, فدل على أنّ هذا غاية ما ينتظر الإنسان في الوطء. القول الثاني: أنّ الوطء يرجع فيه إلى العرف، وهذا أيضاً أضعف الأقوال, لأنه لا يمكن أن نعتبر الأعراف في أمور يختلف فيها الناس.

القول الثالث: أنه يجب أن يطأ زوجته بما يحصل لها به الكفاية ولو كثر ما لم يضر ببدنه أو بطلبه المعاش، وهذا القول اختيار شيخ الإسلام، وهو قول قوي جداً, بهذين الشرطين فيجب أن يعف زوجته، وأن يطأها الوطء الذي تحصل به الكفاية بهذين الشرطين: 1 ـ أن لا يضر ببدنه. 2 - وأن لا يضر بمعاشه. ((انتهى الدرس)).

الدرس: (15) من النكاح قال شيخنا حفظه الله: بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين. قال المؤلف ـ رحمه الله ـ: (وإن سافر فوق نصفها وطلبت قدومه ... ) إذا سافر الزوج لعذر وحاجة سقط حقها من القسم والوطء، ولو طال السفر مادام لعذر. أما إذا لم يكن له عذر يمنع الرجوع ففي الحكم تفصيل كما يلي: إن كانت مدة السفر ستة أشهر فأقل فإنه لا حرج على الزوج ولا يطالب بنفقة ولا وطء، وإن كان أكثر من ستة أشهر فإنه يجب عليه أن يعود متى طلبت الزوجة ذلك. إلى هذا ذهب الإمام أحمد, إلى هذا التقسيم والتفريق ذهب الإمام أحمد واستدل على ذلك بالقصة المشهورة التي حدثت في زمن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - وهو أنّ امرأة خرج زوجها للجهاد, وأصابها الضر من طول غيابه, فدخل عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - على ابنته حفصة أم المؤمنين - رضي الله عنها - وقال كم تصبر المرأة على فراق زوجها, فقالت سبحان الله مثلك يسأل مثلي عن هذا؟! فقال أمير المؤمنين إنما أردت صالح المسلمين, فقالت - رضي الله عنها - تصبر المرأة من خمسة أشهر إلى ستة أشهر, فجعله عمر بن الخطاب حداً لغياب الرجل. إذاً عرفنا مستند الحنابلة في هذا التقسيم, ثم بيّن المؤلف الحكم فيما إذا زاد. قال المؤلف ـ رحمه الله ـ: (وإن سافر فوق نصفها) يعني فوق نصف ماذا؟ السنة. (وطلبت قدومه وقدر لزمه) إذا سافر أكثر من ستة أشهر بغير عذر ولا حاجة, فإنه إذا طلبت الزوجة قدومه لزمه وجوباً, والسبب في ذلك أنّ قدوم الزوج في هذه الحالة حق من حقوق المرأة, فلا يجب إلاّ بطلبها. قال المؤلف ـ رحمه الله ـ: (وقدر لزمه)

يعني إن طلبت المرأة قدومه , ولم يقدر أن يأتي لعدم أمن الطريق أو لعدم وجود وسيلة النقل أو لأيِّ سبب من الأسباب التي لم يتمكن معها من القدوم, فإنه لا يجب عليه والحالة هذه أن يقدم, لأنه لا يستطيع, ولا يكلف الله نفساً إلاّ وسعها. إذا عرفنا الآن الحكم فيما إذا سافر الزوج, وتفريق الحنابلة بينما إذا كان ستة أشهر فأقل وبينما إذا كان أكثر من ستة أشهر، وكما تلاحظ الشيخ المؤلف ذكر الحكم فيما إذا كان فوق ستة أشهر، ولم يذكر الحكم فيما إذا كان أقل من ستة أشهر وذكرته لك. قال المؤلف ـ رحمه الله ـ: (فإن أبى أحَدَهُما فُرّقَ بينهما بطلبها) (فإن أبى أحَدَهُما) صحح النسخة التي بين يديك, لأنه الصواب الفتحة، الضمير في أحدَهمُا يرجع إلى القدوم من السفر أو الوطء، يعني إن أبى أن يطأ الوطء الواجب, أو أبى أن يقدم في الصور التي يجب عليه أن يقدم، فإنه يلزمه الحاكم بذلك، وجعلوا الإلزام إلى الحاكم لأنّ هذا الأمر يحتاج إلى اجتهاد وتقدير, تقدم معنا مراراً أنّ كل أمر يحتاج إلى اجتهاد وتقدير فإنه يرجع فيه إلى الحاكم لئلا يقع النزاع، ولهذا عبر المؤلف بقوله (فُرِّق بينهما بطلبها) وقال فُرِّق المقصود به الحاكم، وبطلبها تقدم معنا أنّ السبب أنّ التفريق يكون بطلب الزوجة، لأنه حق من حقوقها, فلا يجب إلاّ بعد الطلب. قال المؤلف ـ رحمه الله ـ: (وتسن التسمية عند الوطء وقول الوارد) يعني يسن للإنسان إذا أراد أن يطأ أن يسمي وأن يقول الوارد, ودليل ذلك قوله - صلى الله عليه وسلم - (لو أنّ أحدكم إذا أراد أن يأتي أهله, قال بسم الله اللهم جنبنا الشيطان وجنب الشيطان ما رزقتنا فإذا قسم بينهما ولد لم يضره الشيطان)، فهذا الحديث اشتمل على التسمية واشتمل على ذكر الوارد, وهذه السنة واضحة. مسألة / هل يختص هذا الدعاء بالرجل, وقع بين الفقهاء خلاف، فمن العلماء من قال هذا الذكر خاص بالرجل عند إرادة الجماع دون المرأة لقوله - صلى الله عليه وسلم - (لو أنّ أحدكم).

القول الثاني: أنّ هذا الذكر لا يختص بالزوج بل يشمل الزوج والزوجة الرجل والمرأة, وعلل أصحاب هذا القول قولهم بأنّ الأذكار الواردة في السنة سواء كانت أذكار صباح ومساء أو طبعاً شراب أو مبيت قد تذكر بلفظ التذكير ولا يعني هذا تخصيص الرجل بها دون المرأة, فكذلك هذا الحديث, وإن خرج مخاطباً به الرجل فإنه لا يعني أنه لا يتناول المرأة, وإلى هذا القول ذهب المرداوي - رحمه الله - ورجح أنه لا يختص بالرجل وهو الصحيح إن شاء الله. قال المؤلف ـ رحمه الله ـ: (ويكره كثرة الكلام , والنزع قبل فراغها) من قول الشيخ (وتسن التسمية ..... ) بدأ بذكر آداب الجماع, والآداب تشتمل المسنونات والمكروهات، فإنّ تجنب المكروهات من جملة آداب الجماع، فأخذنا الأدب الأول وهو التسمية مع الذكر. ثم بدأ بالمكروهات فقال (ويكره كثرة الكلام ......... ) يكره للرجل وللمرأة أثناء الجماع أن يكثرا من الكلام, واستدلوا على هذا بقول النبي - صلى الله عليه وسلم - لا يتكلّمن أحدكم في الجماع فإنّ منه يكون الخرس والفأفأة) فدل هذا الحديث على كراهية الكلام أثناء الجماع, وهذا الحديث ضعيف, والمكروه عند الحنابلة كما تلاحظ في كلام المؤلف كثرة الكلام, أما الكلام بلا كثرة فليس بمكروه, والأقرب والله أعلم أنّ الكلام أثناء الجماع ينقسم إلى قسمين: القسم الأول: مباح وهو أن يتكلم بكلام ليس له علاقة بأمر الجماع. القسم الثاني: مستحب وهو أن يتكلم بكلام يحقق المقصود من الجماع, وهو كمال الاستمتاع كما قال الفقهاء، وعلم من هذا التقسيم أنّ القول بالكراهة ليس بصحيح إذ لا دليل يدل على الكراهة مطلقاً, لكن نقول إما أن يكون مباحاً أو أن يكون مستحباً على ما تقدم. قال المؤلف ـ رحمه الله ـ: (والنزع قبل فراغها) يعني ويكره للزوج إذا جامع زوجته أن ينزع قبل فراغها, والمقصود بالنزع أن ينتهي من الجماع قبل فراغ زوجته من حاجتها, فهذا العمل مكروه, والدليل على الكراهة من وجهين: الوجه الأول: قوله تعالى {وعاشروهن بالمعروف} [النساء/19] وهذا ليس من العشرة بالمعروف. الدليل الثاني: قوله - صلى الله عليه وسلم - (إذا قضى أحدكم حاجته فلا يعجل حتى تقضي حاجتها) هذا الحديث فيه ضعف.

لكن في الحقيقة هو صحيح المعنى ويتوافق مع الآية ويتوافق مع قواعد الشرع، فنقول إنّ نزع الرجل قبل أن تقضي الزوجة حاجتها من الجماع مكروه لهذه النصوص, وذهب بعض الفقهاء إلى أنه محرم, والذي ذهب إلى أنه محرم هو شيخنا - رحمه الله - فإن كان سبق بالقول إلى التحريم فهو قول وجيه جداً، وإن لم يسبق فيكون الراجح الكراهة فقط. والسبب في أنّ قول التحريم قوي إن كان قيل به, أنّ نزع الرجل قبل أن تقضي الزوجة حاجتها، مُضِر جداً بالزوجة وقد يكون له آثار سلبية أكثر من لو لم يجامع أصلاً, وهذا الأمر مضادة للمقصود الشرعي من الجماع, وإذا كان الجماع كما تقدم معنا واجباً في الشرع فإنّ ما يضاد هذا الواجب ويؤدي إلى عكس النتيجة القول بتحريمه وجيه جداً، وعلى كل حال المهم أنّ نزع الرجل قبل أن تقضي زوجته حاجتها يدور بين الكراهة والتحريم. قال المؤلف ـ رحمه الله ـ: (والوطء بمرأى أحد) يعني ويكره أن يطأ بمرأى أحد من الناس, ويلتحق بالوطء بمرأى أحد التقبيل والمباشرة والضم ونحوها, فهذه الأمور مكروهة بمرأى أحد، تعليل الكراهة: أنّ قيام الزوج بهذا العمل بمرأى أحد هو من الدناءة التي ينبغي أن يترفع عنها المسلم. ومقصود الحنابلة بمرأى أحد يعني مع ستر العورة, أما مع انكشاف العورة فمحرم كما تقدم معنا في شروط الصلاة في الشرط المتعلق بوجوب ستر العورة، فمقصود الحنابلة هنا يعني مع ستر العورة فإذا استتر الزوجان وجامعها بمرأى من الناس فإنّ هذا مكروه، كما تسمع وهو في الحقيقة كما قال الحنابلة من الدناءة. قال المؤلف ـ رحمه الله ـ: (والتحدث به) يعني ويكره أن يتحدث الزوج بما صنع مع زوجته, أو تتحدث الزوجة بما صنعت مع زوجها في الجماع.

دليل الكراهة أنّ النبي - صلى الله عليه وسلم - صلى الفجر يوماً ثم قال للرجال (لعل بعضكم يتحدث بما يكون بينه وبين أهله (، فسكت الرجال، فانصرف النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى النساء فقال: (لعل إحداكن تتحدث بما يكون بينها وبين زوجها) فسكت النساء, ثم قامت امرأة وقالت يا رسول الله إنهم ليفعلون وإنهن ليفعلن, فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - (لا تفعلوا فإنّ مثل ذلك كمثل الشيطان لقي شيطانة فجامعها في الطريق والناس ينظرون)، فهذا الدليل الصحيح دليل على كراهية أن يتحدث الزوج والزوجة بما يجري بينهم. الدليل الثاني: ما جاء في الصحيح أنّ النبي - صلى الله عليه وسلم - عدّ من يتحدث بما يكون بينه وبين أهله من شرار الخلق عند الله يوم القيامة. القول الثاني: أنّ التحدث به محرم, واستدل هؤلاء بأنّ الأدلة التي استدل بها الذين قالوا بالكراهة تدل على التحريم لا الكراهة، وهذا صحيح واضح جداً, لأنّ جماع الشيطان والشيطانة في الطريق الممثل به محرم، كما أنّّ الفعل الذي يؤدي إلى أن يكون الإنسان من شرار الخلق عند الله يوم القيامة لا شك أنّ هذا محرم, وهو مؤكد بثلاثة: الأول: أنه من شرار الخلق. ... الثاني: عند الله وهو مذكور في الحديث. ... الثالث: يوم القيامة. فهو من شرار الخلق، ويوم القيامة عند الله، على كل حال القول بالتحريم هو الصحيح وهو الذي تدل عليه هذه النصوص الصحيحة. قال المؤلف ـ رحمه الله ـ: (ويحرم جمع زوجتيه في مسكن واحد) المسكن: تعريفه هي الغرفة المسقوفة التي لها دهليز، هذا تعريفه في اللغة. وأما تعريف البيت فهو كتعريف المسكن تماماً، البيت والمسكن واحد. المصطلح الثالث الدار وهي ما تشتمل على عدة مساكن, يعني على عدة غرف, فالدار فيها عدة مساكن أو عدة بيوت. المؤلف يقول لا يجوز للإنسان أن يجمع بين زوجتيه في مسكن واحد، يعني في غرفة واحدة, ولو كانت الغرفة كبيرة جداً، والسبب في ذلك أنّ جمعهما يؤدي إلى وقوع الزوجتين في المحظور بسبب الغيرة والتنافس, كما أنّ في جمعهما في غرفة واحدة إضرار عظيم وظاهر بالزوجتين، لأنّ وجود الضرة معها في نفس الغرفة يؤدي إلى الغيرة من أيّ تصرف يكون من الزوج وهذا إضرار بهما.

وما ذكره المؤلف من أنّ هذا محرم صحيح, مع القدرة في أن يسكنهما في أكثر من غرفة. قال المؤلف ـ رحمه الله ـ: (بغير رضاهما) أما برضاهما فلا بأس، فإذا رضيت الزوجتان في السكن في غرفة واحدة فلا حرج، لأنّ الحق لهما, فإذا تنازلا عن حقهما فلا بأس، فإذا سكنت الزوجتان في غرفة واحدة, في مسكن واحد أو في بيت واحد, فهل يجوز أن يبيت هو مع الزوجتين في فراش واحد؟ الجواب: يجوز أن يبيت في فراش واحد برضاهما أيضاً، إذا رضيت الزوجتان له أن ينام بينهما في فراش واحد. وهل يجوز أن يكون اللحاف واحد. أو يشترط أن ينام بينهما وكل منهما له لحافه. الجواب: يجوز برضاهما أن يكونوا في لحاف واحد, فإذا مع رضا الزوجتين يجوز أن يسكن في غرفة واحدة وينام في فراش واحد ويتغطى بلحاف واحد. مسألة / وهل يجوز أن يجامع إحداهما بوجود الأخرى؟ الجواب: لا يجوز أن يجامع إحداهما بوجود الأخرى, ولو مع الرضا, هنا لا نقول برضاهما ولا بغير رضاهما, لا يجوز ولو مع الرضا. لأنّ هذا فيه مضرة ظاهرة على الزوجة التي لم تجامع, ولو رضيت كما أنّ في هذا دناءة في الحقيقة، لا يجوز أبداً وإن كانت زوجته أن يجامعها بوجود الزوجة الأخرى. علم من هذا التقسيم, أنّ وضع الزوج إحدى الزوجتين في طابق والأخرى في طابق آخر جائز عند الفقهاء بل وضع كل واحدة في غرفة في بيت واحد في دور واحد جائز عند الفقهاء, بشرط أن يكون هذا مسكن مثلها كما سيأتينا في باب النفقات. قال المؤلف ـ رحمه الله ـ: (وله منعها من الخروج من منزله) للزوج أن يمنع زوجته من الخروج من المنزل, فهذا حق من حقوق الزوج, بل هو من أعظم حقوق الزوج بعد حق الاستمتاع، وعموم كلام المؤلف يشمل ما لو منعها من زيارة والديها, ولو كانا مريضين, وهذا صحيح, لأنّ حق الزوج بالنسبة للمرأة مقدم على حق الوالدين، الدليل على هذا من عدة أوجه أو نصوص: النص الأول: قوله تعالى: {الرجال قوامون على النساء} [النساء/75] وقد فسر بعض السلف هذه الآية, أي أمرهم نافذ عليهم. الدليل الثاني: قوله تعالى: {وللرجال عليهن درجة} [البقرة/228] وهذه الدرجة تشمل الطاعة.

الدليل الثالث: وهو في الحقيقة نص في المسألة: قوله - صلى الله عليه وسلم - (إذا استأذنت أحدكم زوجته إلى المسجد فلا يمنعها)، فإنّ صريح مفهوم الحديث, أنها إذا استأذنت إلى غير المسجد فله أن يمنعها. الدليل الرابع: قوله - صلى الله عليه وسلم - (لو كنت آمراً أحداً أن يسجد لأحد, لأمرت الزوجة أن تسجد لزوجها)، وهذا الحديث إسناده إن شاء الله حسن، وكما ترى النصوص، وعدم الخروج إلاّ بإذن الزوج نصوص ظاهرة جداً وكثيرة، وسيأتينا في النصوص أنّ هذا من أعظم الحقوق. قال المؤلف ـ رحمه الله ـ: (ويستحب إذِنُهُ أن تُمَرِّض محرمها) ويستحب يعني للزوج أن يأذن لها في تمريض محارمها, والدليل على أنّ هذا مستحب قوله تعالى: {وعاشروهن بالمعروف} [النساء/19] فإنّ هذا من العشرة بالمعروف. والدليل الثاني: أنّ في الإذن في تمريض محارمها, إعانة على صلة الرحم، وصلة الرحم مندوبة والإعانة عليها مندوبة، إذا يستحب له ويتأكد في حقه أن يأذن بالتمريض. قال المؤلف ـ رحمه الله ـ: (وتشهد جنازته) يعني ويستحب له أن يأذن لها بأن تشهد جنازة محارمها, وفي استحباب هذا الأمر نظر, بأنّ المرأة منهي عنها إتباع الجنائز. فنقول للزوج ينبغي أن تمنعها لأنّ في منع الزوج من إتباع زوجته للجنازة تحقيق لرغبة الشارع فنقول لا ينبغي الإذن لها في إتباع الجنازة، لكن قول المؤلف - رحمه الله - (ويستحب بإذنه أن تمرض محارمها)، لا يظهر لي أنّ مقصود المؤلف حصر الاستحباب على تمريض المحارم بل حتى الزيارة التي هي من صلة الرحم، أو زيارة الوالدين، أو الأخوات التي تكون ضمن النطاق المشروع يستحب له أن يأذن لها، لأنّ هذا من صلة الرحم, ولعل المؤلف مثّل بالتمريض لأنّ الاستحباب فيه ظاهر. قال المؤلف ـ رحمه الله ـ: (وله منعها من إجارة نفسها)

وله منعها من إجارة نفسها, بلا نزاع وتعليل ذلك أنها إذا أجرت نفسها فقد منعته من الاستمتاع في زمن الإيجار, ونحن قلنا أنّ الاستمتاع حق من حقوق الزوج في كل الأوقات, فإذا أجرت نفسها فقد منعته من هذا الحق, وعموم عبارة المؤلف يشمل إجارة الأعمال وإجارة الزمان, يعني يشمل ما إذا استأجرت في عمل معيّن أو استأجرت في زمن معيّن, وهذا صحيح فإنه يشمل الأمرين، لكن ذكرنا في باب الإجارة, لما تحدث المؤلف عن هذه المسألة وهي أنه يشترط في استئجار الزوجة إذن الزوج, قلت هناك أنه إذا عملت المرأة في البيت عملاً لا يضر الزوج فإنه ليس له حق في المنع, لأن هذا العمل لا يضره, وهذا صحيح وهنا نقول صحيح أنّ العمل داخل البيت الذي لا يضر الزوج ليس له حق في المنع, لكن إذا زعم الزوج أنّ عمل المرأة في البيت يقضي عليه أوقات طويلة ويشغل الزوجة عن أن تستعد له وأن تقوم بحاجته على الوجه الكامل فله حق في المنع, إنما يتصور عدم الحق في المنع فيما إذا كانت تعمل عملا ً محدوداً داخل البيت، ولا يضر هذا بحقوق الزوج أبداً, هنا نقول ليس للزوج الحق في منع زوجته من العمل. قال المؤلف ـ رحمه الله ـ: (ومن إرضاع ولدها من غيره إلاَّ لضرورته) وله الحق في منع زوجته من إرضاع ولدها من غيره, ولو كان ولدها فله المنع من إرضاعها, والسبب في هذا أنّ زمن الإرضاع حق من حقوق الزوج وهي إذا أرضعت الطفل فإنها تمنع الزوج من حق الاستمتاع في مدة الإرضاع، وهذا صحيح لأنّ الزوج له حق الاستمتاع في كل الزمن, ومفهوم عبارة المؤلف يستثني ما إذا كان الولد لها منه, فحينئذ ليس له أن يمنعها, لعموم قوله تعالى {والوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين} [البقرة/233] وهذه الآية وإن كان لفظها خبر إلاّ أنها بمعنى الأمر يعني المقصود من الخبر الأمر، فليس له أن يمنعها من إرضاع ولدها إذا كان منه. قال المؤلف ـ رحمه الله ـ: (إلاّ لضرورته) هذا الاستثناء يرجع إلى ولدها من غيره, فإذا كان الولد من غيره بلغ إلى مرحلة الضرورة بحيث لم يقبل أن يشرب الحليب إلاّ من أمه أو لم توجد امرأة يمكن لأهل الولد أن يستأجروها له حينئذ يجوز لها أن ترضعه, وليس للزوج الحق في منعها ولا ينظر في منعه.

لأنه وصل حال الطفل إلى حدّ الضرورة, بقينا في مسألة وهي أنه وإن كان للزوج الحق في منعها من إرضاع ولدها من غيره إلاّ أن هذا مكروه, أقل أحواله أنه مكروه لأنه يتنافى تماماً مع العشرة بالمعروف, لأنّ منعه زوجته من إرضاع ابنها ولو كان من غيره ليس من المعاشرة بالمعروف، لما يعلم من رغبة الأم لابنها ورغبة الابن لأمه وحاجته إليها في مثل هذا السن وهو سن الرضاعة , فلا شك أنّ أقل أحواله الكراهة, بهذا انتهينا من فصل وننتقل لفصل متعلق بالقسم. فصل قال المؤلف ـ رحمه الله ـ: (وعليه أن يساوي بين زوجاته في القسم , لا في الوطء) المؤلف يريد من هذا الفصل أن يبيّن أحكام القسم بين الزوجات, وصدر الشيخ الباب بقوله وعليه أن يساوي بين زوجاته في القسم، المساواة بين الزوجات في القسم دلت عليه النصوص بشكل واضح وهو أصل المسائل في الباب، والدليل على وجوب القسم من وجوه: الوجه الأول: قوله تعالى: {وعاشروهن بالمعروف} [النساء/19] وهذا ليس من العشرة بالمعروف. الثاني: قوله تعالى: {فلا تميلوا كل الميل فتذروها كالمعلقة} [النساء/129] الدليل الثالث: قوله - صلى الله عليه وسلم - (من كان له زوجتان فلم يعدل بينهما جاء يوم القيامة وشِقه مائل). الدليل الرابع: الإجماع، فإنه لا يحفظ أنّ أحداً خالف في وجوب العدل في القسم, فإذا القسم من الأمور المهمة ومن الظلم البيّن الإخلال به، وهذه نصوص تشهد بالوجوب بوضوح. قال المؤلف ـ رحمه الله ـ: (لا في الوطء) يعني لا يجب عليه أن يعدل في الوطء, فهو يجب عليه أن يبيت عندها, أما الوطء فلا يجب عليه أن يعدل فيه, فله أن يطأ إحداهما أكثر من الأخرى, والدليل على هذا من وجهين: الأول: الإجماع، فإنهم أجمعوا على أنه لا يجب عليه أن يعدل في الوطء. الثاني: وهو تعليل وجيه, أنّ الوطء سببه الشهوة والميل وهذا الأمر خارج عن تصرف الرجل, فالشهوة والميل أمر نفساني لا يمكن للزوج أن يتحكم فيهما, وإذا أمرناه بالعدل في الوطء فقد ألزمناه بما لا يستطيع.

مسألة / قال الإمام أحمد - رحمه الله - لكن لا ينبغي للزوج أن يجمع نفسه لإحدى زوجتيه, معنى هذا الكلام لا ينبغي للإنسان إذا كان له زوجتان أن يوفر نفسه في الجماع إلى أن يأتي إلى من يريد ثم يجامع قصداً هذا لا ينبغي، وتلاحظ من كلام الإمام أحمد. أنّ هذا ليس بمحرم لكنه لا ينبغي, والمسألة مفروضة فيما إذا أعطى إحدى زوجتيه حقها من الجماع, فإذا أعطاها الحق الواجب العدل فيما زاد عن الواجب لا يجب, لكن يقول الإمام أحمد لا ينبغي أن يجمع نفسه لإحدى زوجتيه, لأنّ هذا ليس من مكارم الأخلاق، وليس من العشرة بالمعروف. قال المؤلف ـ رحمه الله ـ: (وعماده الليل لمن معاشه النهار) الضمير يرجع إلى القسم, وكون الليل عماد القسم بلا خلاف بين الفقهاء, والسبب في ذلك أنّ الليل هو وقت السكن والرجوع والنوم، فيجب عليه أن يعدل فيه, وأما النهار فهو وقت طلب المعاش، والمؤلف بيّن حكم الليل وأما النهار فهو تبع لليل في وجوب العدل، والدليل على أنّ النهار تبع لليل في وجوب العدل أنّ عائشة - رضي الله عنها - قالت توفي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في يومي, ومعلوم أنه - صلى الله عليه وسلم - توفي ضحى يعني في النهار مع ذلك اعتبرت وفاته في يومها - رضي الله عنها - فدل هذا على أنّ اليوم تبع لليل في القسم. مسألة / هل يجعل اليوم السابق لليل أو اليوم اللاحق لليل هو التابع للمقسوم لها؟ نحن قلنا الآن يجب أن يقسم وأنّ القسم يكون في الليل، فهل يجعل اليوم السابق أو اللاحق؟ الجواب له أن يجعل السابق أو اللاحق إن شاء جعل اليوم السابق لليل وإن شاء جعل اليوم اللاحق لليل, وتعليل ذلك أنّ له أن يتقدم أو يتأخر, أنّ العدل لا يختل بذلك هي لها ليلة ويوم, يعني ليل ونهار سواء كان هذا النهار قبل أو بعد يتحقق المقصود بهذا أو هذا. قال المؤلف ـ رحمه الله ـ: (والعكس بالعكس) لمن كان معاشه بالليل، فعماد القسم يكون بالنهار، وتنقلب الأحكام تماماً إذا كان معاشه بالليل, كمن يكون دوامه ليلاً في وقتنا هذا فعماد القسم النهار بالنسبة له لأنه وقت السكن والنوم. قال المؤلف ـ رحمه الله ـ: (ويقسم لحائض , ونفساء , ومريضة , ومعيبة , ومجنونة , مأمونة وغيرها)

يقصد بغيرها كالتي آلى منها أو ظاهر أو المحرمة بالحج أو المحرمة بالعمرة، ما هو مقصود المؤلف في هذا الكلام، مقصود المؤلف أنه يجب عليه أن يقسم للزوجة وإن كان لا يمكن أن توطأ في هذا الوقت، لأي سبب من الأسباب التي ذكرها، إذا هذا هو ضابط هذه المسائل أنه يجب عليه أن يقسم لزوجته وإن كانت لا يوطأ مثلها لعارض في هذا الوقت، تعليل وجوب القسم وإن لم يمكن الوطء أنّ المقصود من القسم بالإضافة إلى الوطء ما يحصل من الإستئناس والسكينة لوجود الزوج وقربه من زوجته وهذا يحصل بالنوم ولو لم يوجد وطء، ووجوب القسم لمن لم يمكن أن توطأ محل إجماع فيجب عليه أن يبات عندها وإن لم يتمكن من الوطء لحيض أو إحرام أو نفاس أو غيرها. قال المؤلف ـ رحمه الله ـ: (وإن سافرت بلا إذنه, أو بإذنه في حاجتها, أو أبت السفر معه, أو المبيت عنده في فراشه فلا قسم لها ولا نفقة) ذكر المؤلف أربعة مسائل: المسألة الأولى: إن سافرت بلا إذنه. ... المسألة الثانية: إن سافرت بإذنه في حاجتها. الثالثة: إذا أبت السفر معه. ... الرابعة: إذا أبت المبيت عنده في فراشه. نحن سنتكلم عن ثلاث مسائل من هذه المسائل الأربعة, وهي المسألة الأولى والثالثة والرابعة. ثم نتكلم بكلام آخر عن المسألة الثانية وهي ما إذا سافرت بإذنه في حاجتها، المؤلف جمع بين هذه المسائل والواقع أنّ الأحكام تختلف، نأتي إلى المسائل الثلاث الأولى وهي: سافرت بلا إذنه، أو أبت السفر معه، أو أبت المبيت عنده في فراشه, إذا فعلت ذلك فلا قسم لها ولا نفقة. أما من جهة القسم فلا قسم لها بالإجماع, في هذه المسائل الثلاث, لأنها بعصيانها فوتت على نفسها حق القسم, لأنها سافرت بلا إذنه أو أبت المبيت عنده. وأما النفقة ففيه خلاف, وليس محل إجماع كالقسم, والصحيح في النفقة أنه لا نفقة لها أيضاً, وهذا هو الصحيح من المذهب. وهو الصحيح من حيث الدليل, وستأتي هذه المسألة في كتاب النفقات، لكن نقول الصحيح إن شاء الله أنه لا نفقة لها في هذه المسائل الثلاث يعني إذا سافرت بلا إذنه, أو أبت السفر معه أو أبت المبيت عنده في فراشه، فلا قسم ولا نفقة, إلاّ أنّ الفرق بينهما أنّ القسم محل إجماع والنفقة محل خلاف.

قال المؤلف ـ رحمه الله ـ: (أو بإذنه في حاجتها) إذا سافرت بإذنه في حاجتها ففيه خلاف، فالمذهب كما ترون لا قسم لها ولا نفقة, لأنها سافرت لحاجتها فسقط حقها. القول الثاني: أنّ لها القسم والنفقة, والسبب في ذلك أنها وإن سافرت في حاجتها إلاّ أنها سافرت بإذنه فلما أذن لها لم يسقط حقها لا في القسم ولا في النفقة. القول الثالث: أنها إذا سافرت بإذنه في حاجتها سقط حقها في القسم وبقي حقها في النفقة. والسبب في هذا أنها لما سافرت بإذنه النفقة باقية، وأما القسم فهي التي فوتت على نفسها القسم بسفرها فأسقطت حقها بهذا السفر وإن كان بإذنه، هذا القول الثالث اختاره ابن عبوس من الحنابلة، وابن عقيل، وهو كما ترى قوي جداً ووجيه. سؤال / على القول لا قسم ولا نفقة ما معنى هذا القول وهي مسافرة؟ كيف يدخل القسم والنفقة وهي مسافرة؟ يثبت حقها إذا رجعت يقضيها. على القول بوجوب أو بثبوت القسم والنفقة بإذنه فإنّ الحكم إذا رجعت قسم لها بقدر ما غابت، فإذا غابت خمسة أيام يعطيها كم؟ خمسة أيام بقدر ما غابت يعطيها، وكما ترون أنه إذا سافرت لحاجتها كيف نقول إذا رجعت يعطيها كل الأيام التي سافرت فيها لهذا مضرة للزوجات الأخريات كم أنّ السفر كان لحاجتها هي. مسألة / ذكر المؤلف ما إذا سافرت بإذنه لحاجتها, بقينا فيما إذا سافرت لحاجته هو، فإذا سافرت لحاجته لم يسقط قسم ولا نفقة فإذا رجعت قسم لها ويستمر في الإنفاق مدة السفر, لأنّ السفر كان لقضاء حاجة الزوج. قال المؤلف ـ رحمه الله ـ: (ومن وهبت قسمها لضرتها بإذنه أو له فجعله لأخرى جاز) إذا وهبت إحدى الزوجات نصيبها لزوجة معينة أو وهبته للزوج وجعله هو لزوجة معينة جاز, تعليل ذلك من وجهين: الوجه الأول: أنّ سودة - رضي الله عنها - جعلت يومها لعائشة - رضي الله عنها - وهذا نص في المسألة. التعليل الثاني: أنّ الحق لا يخرج عنه وعنها، فإذا رضي بذلك جاز ونفذ، فإذا للزوجة أن تتنازل عن ليلتها لمعينة أو للزوج ليجعلها حيث شاء، وأيهما أفضل أن تتنازل لمعينة أو للزوج فيجعلها هو حيث شاء؟

أنا أرى أنها تهب يومها لزوجة وليس للزوج لماذا؟ التعليل هو أنه إذا وهبت للزوجة جاز بالإجماع، وفي الآخر خلاف فخروجاً من هذا الخلاف ينبغي للزوجة أن تعطيها زوجة معينة؟ وأيضاً تعليل فعل سودة جميل, لأنه هذا تأسي بسودة وليس كما فعلت أحق. قال المؤلف ـ رحمه الله ـ: (فإن رجعت قسم لها مستقبلاً) إذا رجعت فالحكم ينقسم إلى قسمين: 1 - أن يكون التنازل عن الليلة مقابل عوض وأن يكون بغير عوض، فإن رجعت بعد أن تنازلت بغير عوض جاز لها الرجوع في المستقبل بالإجماع، لأنّ هذا من الحقوق المتجددة. 2 ـ أن تكون تنازلت مقابل عوض حينئذ ليس لها الرجوع لأنّ المعاوضات لازمة، إذا هذا حكم الرجوع لكن ينبغي أن تعلم أنّ المعوضة في التنازل عن ليلة محل خلاف والحنابلة يرون أنه لا يجوز ولكن القول الصحيح أنّ للزوجة أن تتنازل عن ليلتها مقابل عوض ونحن ذكرنا التفصيل بناء على القول الصحيح. قال المؤلف ـ رحمه الله ـ: (مستقبلاً) يعني ما مضى ليس لها أن تتراجع عنه، فإذا قالت أنا تنازلت عن سبع ليالي للتجربة, والآن رجعت فاقسم لي سبع ليالي ليس لها ذلك لماذا؟ لأنّ هذا التنازل في حكم الهبة المقبوضة، والهبة المقبوضة لا يجوز الرجوع فيها. قال المؤلف ـ رحمه الله ـ: (ولا قسم لإمائه , وأمهات أولاده , بل يطأ من شاء متى شاء) الإماء وأمهات الأولاد ليس لهن قسم, والدليل على هذا أنّ النبي - صلى الله عليه وسلم - اتخذ جاريتين يطأهما ولم يقسم لهما. الدليل الثاني: قوله تعالى {فإن خفتم ألا تعدلوا فواحدة أو ما ملكت أيمانكم} [النساء/3] يعني أنّ ما ملكت اليمين لا يجب فيه العدل. الثالث: الإجماع فإنهم أجمعوا أنه لا يجب أن يقسم للأمة فلا إشكال في الأمة. قال المؤلف ـ رحمه الله ـ: (وإن تزوج بكراً أقام عندها سبعاً ثم دار , وثيباً ثلاثاً) قلنا في أول القسم كنا تحدثنا في أول الفصل عن قسم الابتداء، ما معنى قسم الابتداء؟ إذا كان له زوجة واحدة. أما هذا فالقسم إذا كان له أكثر من زوجة، إذا تزوج البكر فإنه يمكث عندها سبعاً، وإذا تزوج الثيب فإنه يمكث عندها ثلاثاً.

والدليل على هذا حديث أنس - رضي الله عنه - أنه قال من السنة إذا تزوج البكر أن يمكث عندها سبعاً وإذا تزوج الثيب أن يمكث عندها ثلاثاً، هذا نص في التقسيم الذي ذكره المؤلف. الدليل الثاني: أنّ النبي - صلى الله عليه وسلم - قال لأم سلمة (إنه ليس بك هوان على أهلك إن شئت سبعت لك وإن سبعت لك سبعت لهن) أو قال (سبعت للبواقي) فهذا الدليلان نص على مسألة أنه إذا تزوج البكر قام عندها كم؟ سبعاً وإن تزوج الثيب أقام عندها كم؟ ثلاثاً، ولا إشكال في هذه المسألة لأنّ النص صريح. قال المؤلف ـ رحمه الله ـ: (وإن أحبت سبعاً فعل وقضى مثلهن للبواقي) يعني وإن أحبت البكر أو الثيب؟ إذا الضمير يرجع على الثيب إن أحبت الثيبة بقي عندها سبعاً لكن إن بقي عندها سبعاً سبع للبواقي لقول النبي - صلى الله عليه وسلم - (إن سبعت لك وإن سبعت لك سبعت للبواقي)، هنا إشكال كيف يسبع للبواقي ولها حق في ثلاث. كان المتبادر للذهن أن يربع أليس كذلك؟ لأنّ الثلاث حق أصلي. أجاب الفقهاء على هذا الإشكال بأنّ المرأة الثيب إذا تزوجها الرجل فلها حق في الثلاث ما لم تتصل بالسبع، فإن اتصلت سقط حقها بالثلاث يعني لها حق في ثلاث غير متصلة بأربع فإن اتصلت سقط حقها, هكذا أجابوا عن الحديث. القول الثاني: أنه إذا سبع للثيب, فإنه يربع للبواقي، لأنّ الثلاث حق أصلي لها, فإذا يقسم للبواقي الزائد عن هذا الحق الأصلي، وهذا القول قول وجيه من حيث النظر لكن مع ذلك مرجوح لمخالفته السنة الصريحة لهذا الراجح المذهب. فصل قال المؤلف ـ رحمه الله ـ: (النشوز ... ) النشوز لغة: يطلق على المكان المرتفع من الأرض كأن المرأة ارتفعت عليه واستعصت وهو مشتق من نشز على وزن فلس. أما اصطلاحا فسيذكره المؤلف. قال المؤلف ـ رحمه الله ـ: (النشوز: معصيته إياه فيما يجب عليها) قصر المؤلف النشوز على الزوجة والصواب أنه يكون منهما ولهذا فالتعريف الأقرب: (امتناع الزوجين أو أحدهما عن أداء الحق الواجب عليه بلا عذر) قال المؤلف ـ رحمه الله ـ: (فإذا ظهر منها أماراته .... ) الفقهاء من أصحاب المذاهب الأربعة يعتبرون النشوز يحصل بأحد أمرين: 1) امتناعها عن الاستمتاع.

2) الخروج بلا إذن ونحوه كأن تغلق الباب دونه أو تمتنع عن السفر معه. فهذا هو المقصود بالحق الواجب إلا أن المالكية أضافوا ترك الفرائض فجعلوه من النشوز، وظاهر كلام الفقهاء أن ترك الخدمة ليس من النشوز، أما على القول بندبه فظاهر، وأما على القول بوجوبه فكذلك لم يذكروه من النشوز أي الامتناع عن الخدمة. قال المؤلف ـ رحمه الله ـ: (بأن لا تجيبه إلى الاستمتاع مطلقاً أوتجيبه متبرمة) والتبرم هو التثاقل في الاستجابة (أو متكرهة)، يعني مع كراهة الاستجابة فعلمنا من كلام المؤلف أنّ الامتناع عن الاستجابة تماماً نشوز، كما أنّ التكره والتبرم أيضاً ماذا؟ نشوز وليس من علامات النشوز. قال المؤلف ـ رحمه الله ـ: (وعظها) اتفق الجماهير على أن التأديب على الترتيب فلا ينتقل إلى الثاني إلا بعد تجربة الأول وهكذا، لكن اختلفوا متى يبدأ بأول مراحله، فالقول الأول: وهو المذهب ومذهب الشافعية يبدأ بالوعظ من حين ظهور الأمارات، ولو لم يظهر النشوز فعلاً. القول الثاني: وهو مذهب المالكية والحنفية لا يبدأ بالوعظ إلا بعد ظهور النشوز فعلاً. والأقرب الأول لقوله تعالى: {واللاتي تخافون نشوزهن ... } فعند الخوف من النشوز يبدأ بالوعظ. قال المؤلف ـ رحمه الله ـ: (وعظها) المرحلة الأولى من العلاج أن يعظ، يشمل عدة عناصر: العنصر الأول: أن يخوفها بالله، وأن يبيّن لها أنّ عملها من الآثام التي يجب أن تتوب عنها. ثانياً: يبيّن لها عظم المعصية، يعني أولاً يخوفها بالله ثم يبيّن لها أنّ المعاصي لها آثار سيئة على قلب وبدن المسلم. الثالث: أن يبيّن لها ما يترتب على النشوز من ترك النفقة والهجر والضرب, هذه ثلاث عناصر في الوعظ، ويختلف الناس في الوعظ بحسب الحال وبحسب المرأة والرجل. قال المؤلف ـ رحمه الله ـ: (فإن أصرت هجرها) قوله فإن أصرت يعني فإن أظهرت النشوز حينئذ ينتقل إلى المرحلة الثانية، وهي الهجر فإن أصرت هجرها. قال المؤلف ـ رحمه الله ـ: (فإن أصرت هجرها في المضجع ما شاء, وفي الكلام ثلاثة أيام) قسم الشيخ الهجر إلى قسمين: قسم الأول: الهجر في المضجع. القسم الثاني: في الكلام.

القسم الأول الهجر في المضجع، اختلف الفقهاء فيه فمنهم من قال الهجر في المضجع يحصل بترك الجماع، ومنهم من قال في المضجع يحصل بأن يوليها ظهره, ومنهم من قال الهجر في المضجع يحصل بأن ينام في مكان آخر. والصواب أنّ الهجر يقصد منه جميع هذه الأمور، ويستعمل الزوج من هذه الأمور ما يرى أنه الأوفق لحال الزوجة، وهذا من بلاغة وإعجاز القرآن, لأنه أمر بالهجر أو أرشد إلى الهجر وأطلق ولم يبيّن كيفية الهجر ليرجع الزوج إلى المناسب لحالته، فيستخدمه في الهجر. قال المؤلف ـ رحمه الله ـ: (في المضجع ما شاء , وفي الكلام ثلاثة أيام) للزوج أن يهجر زوجته ثلاثة أيام ولا يزيد, ولو لم ترتدع بالهجر ثلاثة أيام, فإنه لا يجوز له أن يهجر أكثر من ثلاثة أيام. لقول النبي - صلى الله عليه وسلم - (لا يحل للمرء أن يهجر أخاه أكثر من ثلاثة أيام). القول الثاني: أنّ له أن يهجر ما شاء إلى أن تتأدب، لأنّ هذا الهجر يقصد منه التأديب، ولعل الأقرب أنه لا يتجاوز ثلاثة أيام، وله أن يستخدم أساليب أخرى لم ينهى عنها الشارع في التأديب. قال المؤلف ـ رحمه الله ـ: (فإن أصرت , ضربها ضرب غير مبرح) إذا أصرت انتقل إلى المرحلة الثالثة, وهي الضرب والضرب يشترط له شروط: الأول: أن يظن نفع الضرب في حال زوجته، فإذا ظن أنّ الضرب لا ينفع فلا يجوز له أن يستخدم هذا الأسلوب. الشرط الثاني: أن يضربها ضرباً غير مبرح، ولا يجوز له أن يضرب ضرباً مبرحاً وهو إجماع ولو ظن أو جزم أنّه إن ضرب فإنها سترتدع لا يجوز له أن يضرب إلاّ ضرباً غير مبرح لأنّ هذا ليس من العشرة بالمعروف, ولأنّ النبي - صلى الله عليه وسلم - أرشد ونص على أنّ الضرب يكون غير مبرح. ((انتهى الدرس)).

باب الخلع

الدرس: (16) من النكاح قال شيخنا حفظه الله: بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين. باب الخلع قال المؤلف ـ رحمه الله ـ: (باب الخلع) هذا الباب من الأبواب المهمة , لأنّ حاجة الناس إليه كثيرة. ووضع المؤلف باب الخلع بعد النشوز من الترتيب الحسن, لأنه إذا لم ينفع العلاج القرآني في النشوز, فإن الحل سيكون إما بالطلاق أو بالخلع, وقدّم الخلع هنا لأنّ الطلاق له كتاب خاص. الخلع في لغة العرب هو: النزع والتجريد, ووجه التسمية أنّ كلاً من الرجل والمرأة إذا حصل بينهما عقد النكاح صار لباساً للآخر فإذا خالعته كأنها نزعت هذا اللباس.

وأما في الشرع: فالخلع فراق الزوج زوجته بعوض, هذا حقيقة الخلع. والخلع مشروع بالكتاب والسنة. فأما الكتاب فقوله تعالى: {فإن خفتم ألا يقيما حدود الله فلا جناح عليهما فيما افتدت به} [النساء/3] ورفع الجناح يدل على الجواز. وأما السنة فحديث ابن عباس - رضي الله عنه - وما فيه من قصة ثابت, وستأتينا لأنّ هذا الحديث هو أصل الباب. وأيضاً أجمعت الأمة على مشروعية الخلع, ولم يخالف في هذا إلاّ بكر المزني وهو تابعي مشهور - رضي الله عنه ورحمه - ولكن استقرّ الأمر على أنّ الخلع مشروع جائز. بهذا عرفنا تعريف الخلع لغة وإصطلاحاً وأنه مشروع. قال المؤلف ـ رحمه الله ـ: (من صح تبرعه من زوجة , وأجنبيّ صحّ بذله لعوضه) ذكر المؤلف هنا الضابط فيما يصح أن يبذل العوض, فالضابط أنّ كل من صح تبرعه صح أن يبذل العوض, وخرج بهذا من لايصح تبرعه, ومن أمثلته: المحجور عليه لسفه, لا يجوز له ولا يصح من أن يبذل العوض في الخلع, لأنّ الخلع فيه تبرع ولا يجوز له أن يتبرع، فإذا كانت المرأة سفيهة محجور عليها لسفهها فلا تستطيع أن تخالع. مسألة/ لا تسطيع أن تخالع ولو أذِن لها الولي, لأنّ الولي ليس له الحق فالإذن بالتبرعات. والقول الثاني: أنها إذا خالعت بإذن الولي وكان في هذا الخلع مصلحة لها جاز وإلاّ فلا, فإذا أذن لها الولي لأنّ مصلحتها في المخالعة فحينئذ يصح الخلع, ويصح بذل هذه المرأة للعوض, وهذا القول الأخير إن شاء الله أقرب وهو إختيار العلامة المر داوي - رحمه الله -. مسألة /ذكرنا حكم المحجور عليها لسفه, أما المحجور عليها لفلس فهذه يصح تصرفها في الذمة, ولهذا يصح أن تخالع, ويثبت العوض في ذمتها, لأنّ لها تصرفاً صحيحاً في الذمة. قال المؤلف ـ رحمه الله ـ: (من زوجة , وأجنبيّ (

أخذنا التفصيل في الزوجة، نأتي إلى الأجنبي يصح عند الأئمة الأربعة, أن يبذل عوض الخلع رجل أجنبي أو إمرأة أجنبية, ولو بغير رضا الزوجة, واستدل الأئمة على هذا بأنّ هذه معاضة فجازت من الأجنبي. القول الثاني: أنّ الأجنبي لا يصح أن يبذل عوض الخلع, وهذا مذهب الفقيه الكبير أبي ثور - رحمه الله -. واستدل على هذا بأنّ بذل العوض لمخالعة زوجة الغير سفه, لأنه لا فائدة للباذل من هذا البذل, إذ ماذا ينتفع الإنسان من بذله عوضاً لخلع زوجة الآخر. القول الثالث: أنه يصح للأجنبي بشرط أن يكون القصد من المخالعة تخليص الزوجة من رقّ الزوج لمصلحتها، يعني وإلاّ فلا يجوز، وهذا القول اختيار شيخ الإسلام - رحمه الله - وهو قول قوي, فإذا بذل العوض بقصد مصلحة الزوجة, فهو جائز وهو إن شاء الله مثاب على هذا العمل. قال المؤلف ـ رحمه الله ـ: (فإذا كرهت خُلُق زوجها, أو خَلقهُ , أو نقص دينه , أوخافت إثماً بترك حقِّهِ أُبيح الخل) انتقل المؤلف لبيان متى يجوز للمرأة أن تطلب الخلع، وذكر أربعة أمثلة, يجوز فيها للمرأة أن تطلب الخلع. المثال الأول: إذا كرهت خُلُق الرجل, يعني كرهت أخلاقه وتصرفه معها وفي البيت. الثاني: إذا كرهت خَلقَه, فإذا صارت تكره خلقه وترى أنه لايعجبها, فلها حينئذ أن تطالب بالخلع. الثالث: نقص دينه, إذا كرهت منه نقص دينه, بأن لا يأتي بالفرائض على وجهها, أو ألاّ يصلي مع الجماعة, أو أن يتعاطى الذنوب أياّ كان نوعها, فإن هذا من الأسباب المسوغة لطلب الخلع. الأخير: خافت إثماً بترك حقه, إذا خافت إثما بترك حقه جاز لها أن تخالع, ولو كانت لا تعيب خلَقه ولا خُلُقه ولا دينه فإنه أحياناً تكره المرأة الرجل بلا سبب, وتكون هذه الكراهة من أسباب عدم قيامها بالواجب عليها, حينئذ يجوز لها أن تخالع, الدليل على جواز الخلع في هذه الصورة الآية والحديث: أما الآية فقوله تعالى: {فإن خفتم ألا يقيما حدود الله فلا جناح عليهما فيما افتدت به} [النساء/3] فنصت على أنه إذا خافت ألاّ تقيم حدود الله أي ألاّ تؤدي الواجب عليها جاز لها أن تخالع.

وأما الحديث فهو حديث ابن عباس الذي أشارت إليه, فإنّ زوجة ثابت بن قيس أتت النبي - صلى الله عليه وسلم - وقالت يارسول الله لا أنا ولا ثابت. وفي رواية في الصحيح، قالت لا أعيب عليه في خُلُق ولا دين, ولكني أكره الكفر, ومقصودها بالكفر أي كفران العشير, والنبي - صلى الله عليه وسلم - لما سمعها تقول لا أعيب خلق ولا دين, أقرّها على أنها لو كانت تعيب عليه خلق أو دِين جاز أن تخالعه, فأخذنا من مجموع الآية والحديث, أنه إذا وجدت هذه الأسباب ونظائرها جاز للمرأة أن تطلب الخلع. قال المؤلف ـ رحمه الله ـ: (وإلاّ كره ووقع) مقصود المؤلف بقوله وإلاّ كره ووقع يعني أنه مع استقامة الحال يكره للمرأة أن تطلب الخلع, واستدلوا على الجواز بقوله تعالى: {فإن طبن لكم عن شيء منه نفسا فكلوه هنيئا مريئا} [النساء/4] فدلت الآية على أنّ المرأة إذا طابت نفسها بشيء من المهر عوضاً جاز مطلقاً, وإلى هذا ذهب الجماهير يعني ذهبوا إلى الجواز مع الكراهة. القول الثاني: وهو رواية عن الإمام أحمد - رحمه الله - ومذهب داود الظاهري واختاره من المحققين ابن المنذر - رحمه الله - أنه لا يجوز في هذه الحالة الخلع, واستدلوا بثلاثة أدلة: الدليل الأول: أنّ الآية إنما أباحت الخلع إذا خافوا ألاّ يقيموا حدود الله, ومع استقامة الحال, لا يتحقق الشرط. الدليل الثاني: قول النبي - صلى الله عليه وسلم - (أيما امرأة طلبت الطلاق من غير ما بأس لم ترح رائحة الجنة) والخلع نوع من الفراق فيقاس على الطلاق. الدليل الثالث: قول النبي - صلى الله عليه وسلم - (المختلعات والمتبرجات هنّ المنافقات)، وحملوا الحديث على المختلعات بغير سبب لأنّ النبي - صلى الله عليه وسلم - أقرّ إمرأة ثابت على طلب الخلع, لكن هذا الحديث الأخير ضعيف. والراجح والله أعلم القول الثاني, وفي ظنيّ أنّ هذه المسألة نظرية, لأنّ المرأة لماذا تطلب الخلع مع استقامة الحال, يعني يبعد أن تطلب الخلع مع استقامة الحال، لكن لو فرض أنّ إمرأة مستقيمة الحال مع زوجها وأرادت أن تخالع هكذا, فإنّ الحكم أنّ الجمهور يرون أنّ عملها مكروه , والصحيح أنّ عملها محرم. قال المؤلف ـ رحمه الله ـ: (فإن عضلها ظلماً للافتداء)

إذا عضلها ظلما للافتداء فإنّ الخلع لا يصح, لقوله تعالى: {ولا يحل لكم أن تأخذوا مما آتيتموهن شيئا إلا أن يخافا ألا يقيما حدود الله} [البقرة/229] فالآية نصّت أنه لا يحل للإنسان أن يعضل المرأة لتفتدي منه. وعضل المرأة يكون بالتضييق عليها أو بالضرب أو بمنع الحقوق أو بمنع النفقة. القول الثاني: أنه إذا عضلها لتفتدي ظلماً, فإنّ الخلع صحيح والعوض حق يكون للزوج لكن مع الإثم, وهذا مذهب الأحناف. القول الثالث: أنه إذا عضلها لتفتدي منه, فافتدت منه فإنّ الخلع صحيح ولكن مجاناً فيرد العوض, وهذا مذهب للإمام مالك - رحمه الله - معاملة له بنقيض قصده, فالإمام مالك ألزمه بالخلع يعني بالبينونة الصغرى مع عدم أخذ العوض, كأنه أراد أن يعاقبه على قصده السيئ, انظر الفرق بين مذهب مالك ومذهب أبي حنيفة, تماماً هذا في أقصى الشمال وهذا في أقصى اليمين, وتوّسط بينهما الإمام أحمد, والأقرب والله أعلم مذهب مالك, لأنه عهد في الشرع معاقبة الإنسان بنقيض قصده, فهذا الغال يحرق رحله, ومن امتنع من الزكاة أخذت شطر ماله, فإذا نرى أن الشارع قد يعاقب الإنسان بنقيض قصده, كما أنّ في هذا ردعاً للأزواج الظلمة وإغلاقاً لباب مضايقة المرأة لتفتدي منه بغير حق , فإنّ بعض الأزواج إذا كره زوجته ولم يجد عليها أي خطأ ويريد استرداد المهر صار يظلمها ويعضلها ويضايقها حتى تفتدي, ولاشك أنّ هذا ظلم, لأنه إذا أراد هو أن يطلق فليطلق وليبقى المهر عند الزوجة, لكن بعضهم يتخذ هذا الأسلوب حيلة لاسترداد المهر, وهو مردود عليه. قال المؤلف ـ رحمه الله ـ: (ولم يكن لزناها) هذه العبارة استثناء من العبارة السابقة, يعني إن عضلها لزناها صح لقوله تعالى: {ولا تعضلوهن لتذهبوا ببعض ما آتيتموهن إلا أن يأتين بفاحشة مبينة} [النساء/19] والآية نصّ في أنّ إذا أتت المرأة بفاحشة جاز للرجل أن يعضلها وأن يضايقها بمختلف التصرفات حتى تفتدي منه, لأنّ هذه المضايقات والعضل بحق, فهذه الصورة المستثنى من الأول.

المستثنى الثاني قوله (أونشوزها أو تركها فرضاً ففعلت) يعني إذا عضلها لأنها نشزت عليه بترك الطاعة أو بترك الفرائض, فإنه يجوز له أن يعضلها, وأن يضايقها لتفتدي منه, لأنّ العضل بالضرب ومنع الحقوق حينئذ بحق, وإذا كان بحق جاز له أن يأخذ العوض المترتب عليه، فاستثنى المؤلف من العضل هاتين الصورتين فقط، إذا أتت بفاحشة أوكان العضل بسبب النشوز. قال المؤلف ـ رحمه الله ـ: (أو خالعت الصغيرة , والسفيهة , والمجنونة , والأمة بغير إذن سيدها لم يصح) إذا خالعت الصغيرة والمجنونة والسفيهة لم يصح, وهذا تأكيد لما سبق لأنه تقدم معنا أنّ من لا يصح تبرعه لا يصح بذله للعوض في الخلع, وهؤلاء المجنونة والصغيرة والسفيهة لا يصح أن يتبرعوا فلا يصح أيضاً أن يبذلوا العوض في الخلع, ويأتي معنا الخلاف السابق إذا بذلوه بإذن الولي, على المذهب لا يصح وعلى القول الثاني يصح, وتقدمت هذه المسألة. قال المؤلف ـ رحمه الله ـ: (والأمة بغير إذن سيدهالم يصح) يعني ولا يصح للأمة أن تخالع بغير إذن سيدها, تعليل ذلك: أنّ التصرف في الشرع فرع عن الملك, والأمة لا تملك فلا تتصرف، لهذا نقول لا يصح تصرفها وهو باطل إلاّ في حالة واحدة إذا أذن لها السيد. القول الثاني: أنه يصح للأمة أن تخالع إذا خالعت في ذمتها, ولا يصح أن تخالع إذا خالعت بمعيّن, لأنه إذا خالعت بذمتها فإنّ هذا لايضر السيد وبإمكانها إذا عتقت أن تؤدي ما عليها لأنه في ذمتها والصواب إن شاء الله أنّ الأمة لاتخالع إلاّ بإذن السيد مطلقاً، لأنها في ملكه وتصرفها يجب أن يكون تحت إمرته وإذنه. قال المؤلف ـ رحمه الله ـ: (ووقع الطلاق رجعياً إن كان بلفظه , أو نيته)

هذا الحكم راجع لجميع المسائل التي ابتدأها بقوله (فإن عضلها ظلماً لتفتدي) بمعنى أنه لما بيّن مجموعة من المسائل لايصح فيها الخلع أراد أن يبيّن ماذا يكون حكمه إذا لم يصح الخلع , فذكر أنه إن خالع بلفظ صريح الطلاق أو بكنايته مع النية, فهو طلاق رجعي، وإن كان بغير لفظ صريح الطلاق ولابنيته فهو لاشيء، إذا عرفنا الآن فهذه المسائل التي حكمنا عليها أنّ الخلع لايصح ماذا يكون بعد ذلك؟ فعند الحنابلة أنّ هذا الخلع الذي لايصح إن كان بلفظ الطلاق الصريح أو بكنايته مع نيته فهو طلاق, وإن كان بغيرهما فهو؟ لاشيء، ولا يعتبر شيئاً, وسيأتينا مسألة هذا الطلاق، هل الخلع بلفظ الطلاق طلاقاً أو فسخاً؟ فصل قال المؤلف ـ رحمه الله ـ: (والخلع بلفظ صريح الطلاق , أو كنايته. وقصده طلاق بائن) هذه المسألة التي ابتدأ فيها المؤلف هذا الفصل من أهم المسائل, يقول المؤلف رحمه الله (والخلع بلفظ صريح الطلاق بائن ( ..... ذكر الشيخ صورتين يكون الخلع فيهما طلاق بائن ومقصوده بكلمة بائن أي بينونة صغرى الصورة الأولى: إذا كان بصريح لفظ الطلاق أو بكنايته مع النية, وإلى هذا القول ذهب الأئمة الأربعة, بل ابن قدامه هو إجماع أنّ الخلع إذا كان بهذا اللفظ فهو طلاق بائن, استدلوا على هذا الحكم الجماهير بأدلة: الدليل الأول: قول النبي - صلى الله عليه وسلم - في صحيح البخاري لثابت: خذ الحديقة وطلقها تطليقه، فقالوا النبي - صلى الله عليه وسلم - إنما يتكلم باللفظ الشرعي فقوله طلقها تطليقه, يعني أنّ هذا الفسخ يكون طلاقاً لكنه بائن بسبب وجود ماذا؟ العوض. الدليل الثاني: أنّ هذا مروي عن ثلاثة من الصحابة عثمان وعلي وابن مسعود - رضي الله عنهم -. الدليل الثالث: أنّ الفرقة التي يملكها الرجل إنما هي الطلاق فإذا فارق زوجته فقد طلقها, هذه أدلة الجماهير. نأتي الجواب على الأدلة أما الجواب عن الدليل الأول: فإنّ هذا اللفظ وإن كان في صحيح البخاري إلاّ أنه معلول ولايثبت وهو شاذ، بل من جملة من أشار إلى ضعفها الإمام البخاري في الصحيح فهذا اللفظ لا يثبت إنما اللفظ الصحيح أنه قال - صلى الله عليه وسلم - خذ الحديقة وفارقها.

الدليل الثاني: الآثار المروية عن الصحابة وقد نصّ الإمام أحمد أنه لا يثبت منها شيء، هي ضعيفة ولا تثبت عن أحد من أصحاب النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ. أما الدليل الثالث: فهو استدلال بمحل النزاع هو يقول لاتوجد فرقة إلاّ طلاق، ونحن نقول توجد فرقة هي فسخ وليست طلاق, فليس له أن يستدل بمحل النزاع. القول الثاني: ولاشك أنه لايغيب عن ذهنك أنّ القول حكي إجماعاً, القول الثاني رواية عن الإمام أحمد وهي مذهب قدماء أصحابه كما يقول شيخ الإسلام وهو إختيار ابن القيم وإختيار شيخ الإسلام - رحمهما الله - ولما رأيت أنّ شيخ الإسلام يقول أنّ هذا رواية عن الإمام أحمد واختيار قدماء أصحابه تعجبت من حكاية ابن قدامة الإجماع, لو أنّ شخصاً آخر غير ابن قدامة حكى الإجماع لكان الأمر قريب لكن ابن قدامة أحد المخالفين في الرواية, كما أنّ قدماء الأصحاب وهو يعرفهم اختاروا هذا القول فلا أدري ما وجه حكاية الإجماع هل هو لم يقف على أقوالهم أو يرى أنهم رجعوا، هو في الحقيقة محل إشكال كيف يحكي الإجماع. أدلة القول الثاني الدليل الأول: أنّ هذا ثابت بإسناد صحيح عن ابن عباس أنه يعتبر هذه الصيغة فسخاً وليست طلاقًا. الثاني: أنّ الله تعالى ذكر في القرآن الطلاق ثم الطلاق يعني ذكر التطليقتين ثم الخلع ثم الطلاق, قال ابن عباس ولو كان الخلع طلاقاً لكان الطلاق في كتاب الله أربعة, والأمة أجمعت أنّ الطلاق ثلاث مرات، الراجح إن شاء الله القول الثاني وضابط هذا القول أنّ أي فرقة تمت بعوض فهي فسخ وليست طلاق مهما كانت صيغة الفراق هذا هو الضابط للقول الثاني, إذا عرفنا الآن الحكم فيما إذا خالع بلفظ صريح الطلاق أوبكنايته مع النية. قال المؤلف ـ رحمه الله ـ: (وإن وقع بلفظ الخلع , أو الفسخ , أو الفداء ولم ينوه طلاقاً كان فسخاً لاينقص عدد الطلاق)

إذا خالع بغير اللفظين السابقين, لا بصريح الطلاق ولا بكنايته مع النية، وإنما خالع بألفاظ أخرى, كلفظ الخلع أو الفسخ فإنّ الحكم عند الحنابلة أنه فسخ وليس بطلاق, ولا ينقص به عدد الطلاق, وهذا القول من مفردات الحنابلة, والجماهير أيضاً حتى في هذه المسألة على أنه طلاق, واستدلوا بالآثار المروية عن عثمان وعلي وابن مسعود, فإنها عامة تشمل الخلع الذي يكون بلفظ الطلاق أو بلفظ الفسخ، واستدل الحنابلة بأثر ابن عباس حيث اعتبر هذا فسخاً ولم يعتبره طلاقاً, وإذا كنّا نرجح أنّ الخلع بلفظ صريح الطلاق فسخ فإذا بلفظ الفسخ أو الخلع فمن باب أولى سيكون ماذا؟ فسخاً وليس طلاقاً ولاينقص به عدد الطلاق. قال المؤلف ـ رحمه الله ـ: (ولا يقع بمعتدة من خلع طلاق ولو واجهها به) معنى ولو واجهها به يعني ولو قال لها في وجهها أنت طالق, ذهب الحنابلة إلى أنّ المختلعة في عدة الخلع لا يلحقها طلاق, واستدلوا بدليلين: الدليل الأول: أنّ هذا مروي عن ابن عباس وعن ابن الزبير - رضي الله عنهما -. الثاني: القياس على المطلقة إذا انقضت العدة, والجامع ما هو الجامع في هذا القياس؟ عدم إمكانية المراجعة في الصورتين هذا هو الجامع، وهو جامع صحيح. القول الثاني: للأحناف أنّ الطلاق يقع عليها إذا واجهها به, واستدلوا بقول النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا قال للمختلعة في عدتها أنت طالق فقد طلقت, فالحديث فيه قيد أن تكون في عدتها وفيه قيد أن يواجهها به، يعني بلفظ الطلاق والجواب: أنّ هذا الحديث لا أصل له أشد من أن يكون ضعيفاً لا أصل له, والراجح إن شاء الله أنه لايقع عليها طلاق في زمن العدة. قال المؤلف ـ رحمه الله ـ: (ولا يصح شرط الرجعة فيه) اشتمل كلام المؤلف على مسألتين: المسألة الأولى: أنه لا رجعة في الخلع سواء قلنا هو فسخ أو طلاق, لأنّ الله سبحانه وتعالى سمى العوض فداء, ولا يكون فداء إلاّ بذلك, يعني بأن لا يملك المراجعة, وهذا واضح.

المسألة الثانية: أنه لو شرط المراجعة, فلا يصح أيضاً ويكون الخلع صحيحاً والشرط فاسداً, استدلوا على هذا بأنّ هذا الشرط منافي مقتضى العقد والمقصود منه, فإنّ مقصود المرأة من بذل العوض هو ماذا؟ ألاّ ترجع إليه، ولهذا صححنا العقد وأبطلنا الشرط هذا مذهب الحنابلة وهو واضح. القول الثاني: أناّ نصحح الشرط ولكن يرد الزوج العوض ويكون طلاقاً رجعياً, واستدل هؤلاء بأنّ شرط الرجعة لا يجتمع مع العوض فيتساقطان ويبقى أصل الطلاق. القول الثالث: أنّ الشرط صحيح والعقد صحيح, فيملك الزوج العوض ويملك أن يراجع, لأنّ المرأة رضيت بالشرط بطوعها, ولأنّ الشروط في المعاوضات صحيحة، وشيخ الإسلام يميل لهذا القول, تصحيح الشرط والعقد, والصحيح إن الله المذهب، لأنّ أصل الخلع والمقصود منه أن تملك المرأة نفسها, وأن لا يتمكن الزوج من مراجعتها, فاشتراط ما يسقط هذا المقصود هو في الحقيقة اشتراط اسقاط المقصود بالخلع، والشارع الحكيم إنما شرع عقود المعيّنة لتحقيق المقاصد منها, ولهذا البيع لما كان المقصود منه تلبية حاجات بعض الناس من بعض, لما فقد هذا القصد في الربا أبطله الشارع, كذلك نقول نحن هنا المقصود الشرعي في الخلع لا يجوز شرط اشتراط ما يسقطه. قال المؤلف ـ رحمه الله ـ: (إن خالعها بغير عوض , أو بمحرم لم يصح) ذكر الشيخ مسألتين: الأولى: إذا خالعها بغير عوض، هذه المسألة أيضاً مسألة ينبني عليها عدة فروع إذا خالعها بغير عوض لم يصح الخلع والسبب في هذا أنّ الله تعالى علّق في القرآن الخلع عل وجود الفدية, فإذا لم توجد الفدية لم يصح الخلع، وهذا القول اختيار شيخ الإسلام. القول الثاني: أنّ الخلع بغير عوض صحيح, ويكون طلاقاً بائناً واستدل أصحاب هذا القول بالقياس على الطلاق بجامع أنّ في كل من الصورتين مفارقة يعني في كل من الصورتين قصد المفارقة, وهذا القول اختيار شيخ الإسلام, فيكون للشيخ في هذه المسألة قولان.

تنبيه!!! على القول الثاني إذا صححنا الخلع بغير عوض يجب أن يكون طلاقاً بائناً ولايكون فسخ, والسبب في ذلك أننا لو صححناه فسخاً لا أمكن للإنسان أن يطلق بلا عدد كما كان في الجاهلية, والطلاق بلا عدد منسوخ في الشرع, ولأجل أن نجعله مغلق نقول هو طلاق بائن ويحسب من الثلاث ولا يكون فسخاً، الأقرب والله أعلم أنّ الخلع لايصح بلا عوض. وإذا أراد أن يفارق زوجته فليكن بالطلاق، لكن أصحاب القول الثاني إنما صححوا الخلع بلا عوض لأنه قد يكون مقصود الزوج أن يقطع الطريق على نفسه في مراجعة زوجته ولا يريد أن يأخذ عوض، وهذا لا يكون إلاّ بالخلع بلا عوض واضح, بعض الناس الآن يعلم أنّ بقاء زوجته معه مضر عليه في دينه ولكن نفسه تتوق إلى هذه الزوجة, ولا يريد أن يأخذ منها مال فالطريقة لكي يتخلص من هذه الزوجة أن يطلقها طلاقاً بائناً لا رجعة فيه, ولا يريد هو أن يطلق بالثلاث لأنه لايريد أن يستنفذ الطلقات, حينئذ ليس أمامه إلاّ الخلع بشرط عدم العوض وهذا الذي جعل شيخ الإسلام في الاختيار الثاني يصحح الخلع بلا عوض. نأتي إلى المسألة الثانية وهي إذا كان الخلع محرماً, الخلع المحرم على قسمين: القسم الأول: أن يكون محرماً بعلم الزوجين يعني أن يعلم الزوجان أنه محرم, فإذا علم الزوجان أنه محرم فالخلع باطل لأنّ العوض محرم. القول الثاني: أنه صحيح وللزوج مهر المثل, وهذا القول الثاني هو الصحيح، ولو قيل أنّ للزوج قيمة هذا العوض المحرم لكان وجيهاً جداً لا نقول له مهر المثل, بل نقول له قيمة هذا العوض المحرم. القسم الثاني: إذا كانا لا يعلمان أنّ العوض محرماً, فحينئذ يصح الخلع حتى عند الحنابلة, وله بدله، له بدل هذا العوض المحرم. قال المؤلف ـ رحمه الله ـ: (ويقع الطلاق رجعياً إن كان بلفظ الطلاق أو نيته)

هذه العبارة تعود للمسألتين السابقتين, وهي الطلاق بغير عوض, والثانية بعوض محرم, فلما قرر المؤلف أنّ الطلاق بغير عوض أو على عوض محرم لا يصح, أراد كذلك أن يبيّن ماحكم هذا الخلع, والحكم عند الحنابلة أنه إن كان بلفظ صريح الطلاق أو بنيته, فله طلاق رجعي, وإن كان بغير لفظ صريح الطلاق ولا بنيته فهو لا شيء بناء على أنّ الحنابلة يرون أنّ الطلاق بغير عوض لا يصح. إذاً سيكون القول الثاني بناء على تصحيح الطلاق بغير عوض سيكون حكمه في هاتين الصورتين طلاق بائن بينونة صغرى ويحسب من عدد الطلقات, إذاً الآن نرجع لمسألتنا, الشيخ يقول هنا (ويقع الطلاق رجعياً إن كان بلفظ الطلاق أو نيته) وإن كان بغير لفظ الطلاق ولا نيته فهو عند الحنابلة لاشيء بناء على أنّّ الطلاق بغير عوض لايصح عند الحنابلة, وعلى القول بأنّ الطلاق بغير عوض يصح ويكون طلاقاً بائناً يحسب من الثلاث يكون طلاقاً بائناً يحسب من الثلاث, واضح وهذا كله مفرع على قضية أنّ الخلع بلفظ صريح الطلاق أو بنيته يكون طلاقاً. قال المؤلف ـ رحمه الله ـ: (وما صح مهرا صح الخلع به) لإطلاق الآية {فلا جناح عليهما فيما افتدت} [البقرة/229] فأيّ شيء تفتدي به فهو صحيح. قال المؤلف ـ رحمه الله ـ: (ويكره بأكثر مما أعطاها) هذه المسألة في حكم أخذ الزوج أكثر من المهر الذي بذله في العقد, فالحنابلة يرون أنه يجوز للإنسان أن يأخذ أكثر مما أعطى, لكن مع الكراهة، دليل الحنابلة على أنه يجوز مع الكراهة الجمع بين أدلة الأقوال التي ستأتي. القول الثاني: وهو مذهب الجمهور الجواز بلا كراهة, واستدل الجمهور على الجواز بلا كراهة بأمرين: الأمر الأول: إطلاق الآية فإنّ الله شرع الافتداء ولم يقيّد هذا الافتداء بشيء. الثاني: أنه صح عن الصحابة جواز الخلع بكل شيء, حتى خلعت المرأة في زمن الصحابة بكل شيء حتى ما تربط به رأسها, كل شيء، كل ما تملك ومع ذلك صححه بعض الصحابة, وهو صحيح وثابت عنهم. القول الثالث: عكس الحنابلة أو عكس الجمهور أنه لا يجوز الزيادة مطلقاً, بل لا يأخذ إلاّ ما أعطى, واستدلوا على هذا بدليلين:. الدليل الأول: أنّ هذا مقتضى العدل, فتفتدي نفسها منه بما ملكها به أليس كذلك؟

الثاني: قالوا أنّ النبي - صلى الله عليه وسلم - قال لثابت خذ الحديقة ولا تزداد, فنهاه عن الزيادة وهذا اللفظ لايصح. الراجح مذهب الجمهور وهو الجواز بلا كراهة لأنّ هذا دلّ عليه الأثر وظاهر القرآن. مع هذا المحاكم يعملون بعمل جيد في الحقيقة, سألت أنا بعض القضاة ماذا تصنعون إذا طلب الزوج مبلغاً كبيراً, فهم في الحقيقة يتوسطون وهو قول نحن انتهينا من المسألة العلمية والترجيح, لكن من حيث تأديب الناس والتعامل معهم قول ممتاز جداً, وهو أنهم يسمحون بالزيادة غير المفرطة، يعني له أن يزيد لكن بلا مبالغة, فهو قول يعني من حيث العمل جيد جداً، نقول خذ لكن بلا مبالغة لاسيما إذا كان من الزوج شيء من التفريط والخطأ وهذا من السياسة الشرعية المحمودة في الواقع. قال المؤلف ـ رحمه الله ـ: (وإن خالعت حامل بنفقة عدتها صح) الزوج إذا طلق زوجته وهي حامل, فيجب عليه أن ينفق عليها كما سيأتينا في كتاب النفقات, سواء قلنا أنّ النفقة للحمل كما هو مذهب الحنابلة, أو النفقة لها بسبب الحمل, على أي من القولين يصح أن تخالع بهذه النفقة, فتقول النفقة التي تجب عليك لزمن العدة هي عوض الخلع فيصح والمؤلف يريد أن يشير إلى مسألة, وهي أنّ هذا يصح وإن كنا لا نعلم مقدار النفقة، فقد تكون نفقة كبيرة وقد تكون قليلة, ومع ذلك يصح, وهذه المسألة في الحقيقة ترجع إلى المسألة التالية. قال المؤلف ـ رحمه الله ـ: (ويصح بالمجهول) يعني وبالمعدوم الذي ينتظر وجوده, أما المعدوم الذي لا ينتظر وجوده فلا يصح, ذهب الحنابلة إلى أنه يصح الخلع بالعوض المجهول واستدلوا على هذا بأدلة: الدليل الأول: القياس على الوصية. الدليل الثاني: أنّ الخلع هو عبارة عن إسقاط, فالزوج يسقط حقه من البضع, ونحن مرّ معنا مراراً أنّ الإسقاطات فيها تسامح، وهذا قاعدة في الفقه أنّ ما يكون من باب الإسقاطات فيه تسامح. القول الثاني: أنّ الخلع بالمجهول يصح, لكن يجب عليها مهر المثل، نحن نقول القول الثاني يصح ويجب عليها مهر المثل, والقول الأول يصح وللزوج ما أعطت, أي شيء تعطيه هو العوض لأنّا نصحح العوض المجهول.

القول الثالث: أنّ الخلع بالمجهول لا يصح, لأنّ الخلع وإن كان فيه شائبة التبرع, إلاّ أنه في الأصل معاوضة, والجهالة لا تصح في المعاوضات، يبدوا لي أنّ شيخ الإسلام يرى المذهب, والسبب في هذا أنّ الشيخ - رحمه الله - صرّح بصحة الخلع الذي فيه غرر، والغرر والجهالة شيء واحد في الفقه، هو لم يصرح فيما وقفت عليه صحة الخلع بالمجهول لكن صرّح بصحة الخلع مع وجود الغرر، فينبغي أن يصحح هذا على كل حال الراجح أنه لا يصح إلاّ أن يكون العوض معلوماً وهو القول الثالث, لأنّ تصحيح الخلع بعوض مجهول يفضي غالباً إلى الشقاق والنزاع, لاسيما وأنّ الخلع يحصل عادة مع الوفاق أو مع النزاع؟ مع النزاع فإنه يندر أن يكون الخلع مع الوفاق فغالباً ما يكون مع النزاع, فإذا زاد هذا النزاع نزاعاً آخر بسبب الجهالة استحكمت العداوة والفرقة، ولهذا نقول إن شاء الله الأصح أنه لابد أن يكون معلوماً. قال المؤلف ـ رحمه الله ـ: (فإن خالعته على حمل شجرتها , أو أمتها , أو ما في يدها , أو بيتها من دراهم أو متاع , أو على عبد صح) هذه المسائل هي تفريع على القاعدة أو على الضابط وهو تصحيح الخلع بالمجهول, لما صحح الخلع بالمجهول أراد أن يذكر مسائل تنبني على هذا الضابط, وذكر ثلاث نماذج من المسائل, المسألة الأولى: (إذا خالعته على حمل شجرتها أو أمتها) المسألة الثانية: (إذا خالعته على ما في يدها أو ما في بيتها من دراهم أو متاع) المسألة الأخيرة: (إذا خالعته على عبد وأطلقت ولم تبيّن) ففي الصور الثلاث الخلع صحيح, فإذا خالعته على حمل شجرتها أو أمتها فليس له إلاّ ما تحمل الشجرة وكذلك إذا خالعته على حمل الشاة فليس له إلاّ ما تحمل هذه الشاة, ولو حملت الشاة ومات الولد الذي في بطنها ليس له إلاّ هذا الذي في بطنها, لأنها خالعته على الذي في بطنها, كذلك إذا خالعته على ما في يدها أو ما في بيتها من الدراهم ليس له إلاّ ما في يدها وليس له إلاّ ما في بيتها, ولو كانت الدراهم أقل من ثلاث, التعليل أنها خالعته على ما في يدها وهذا ما في يدها ليس في يدها إلاّ درهم واحد, وهو رضي بأن تخالعه على ما في يدها.

القول الثاني: أنه إذا خالعها على ما في يدها أو ما في الدار من دراهم, ثم تبيّن أنه أقل من ثلاث فله ثلاث يعني دراهم, لأنّ كلمة دراهم لا تصدق على أقل من ثلاث، والراجح المذهب ليس له إلاّ ما في يدها, لأنه رضي بما في يدها وهذا ما في يدها. وأنا أقول هذا الراجح بناء على جواز الخلع بالمجهول، أو متاع إذا خالعته على ما في بيتها من متاع فله ما في البيت من متاع سواء كان المتاع قليل جداً أو كان المتاع كثير جداً له ما في البيت من متاع أيّاً كان قدره. أو على عبد إذا خالعته على عبد ليس له إلاّ عبد لكن كيف نحدد هذا العبد, بالنسبة لمتاع البيت وما في يدها واضح. لكن إذا خالعته على عبد وأطلقت فله أقل ما يصدق عليه مسمى العبد, وليس له أن يعترض لأنها خالعته على عبد وأطلقت ورضي. قال المؤلف ـ رحمه الله ـ: (وله مع عدم الحمل والمتاع والعبد أقلّ مسماه , وعدم الدراهم ثلاثة) له مع عدم الحمل يعني إذا خالعته على حمل أمتها ولم تحمل، أو خالعته على المتاع فلما دخلنا البيت لم نجد فيه متاعاً مطلقاً، أو خالعته على عبد ووجدنا أنها لا تملك أيّ عبد كان, حينئذ له أقل المسمى من الحمل والمتاع والعبد, فإذا خالعته على حمل شاة فله أقل ما يسمى حملاً سواء كان ذكر أو أنثى أو كبير أو صغير أو أي من نوع من أنواع الشياه , وكذلك العبد وكذلك الحمل, لأنّ الذمة تبرأ بأقل مسمى العوض المذكور. قال المؤلف ـ رحمه الله ـ: (ومع عدم الدراهم ثلاثة) لأنّ أقل مايسمى دراهم ثلاثة, إذاً الآن إذا خالعته على ما في يدها فإن كانت اليد فارغة كم له؟ وإن كان في اليد درهم واحد فصار أنفع له أن تكون اليد فارغة أو مليئة؟ الأنفع له أن تكون فارغة, لأنها إذا كانت واحدة فليس له على المذهب إلاّ هذا الدرهم وإذا كانت فارغة فسيكون له ثلاثة. فصل قال المؤلف ـ رحمه الله ـ: (وإذا قال: متى , أو إذا , أو إن أعطيتني ألفاً فأنت طالق طلقت بعطيته)

هذا الفصل المؤلف أراد منه بيان مسألة مهمة, عقد الفصل لتحقيق هذا المقصد وهو أنّ الطلاق على عوض كالخلع في أنّ الزوج لا يملك مراجعة زوجته, لأنّ المقصود من الطلاق على عوض أن تفتدي نفسها وأن تتخلص من ضرره وإذا مكناه من المراجعة ذهب هذا الغرض, إذاً مرة أخرى مقصود المؤلف من هذا الفصل بيان أنّ الطلاق سواء كان معلق أو منجز إذا كان على عوض فهو كالخلع في ماذا؟ في عدم جواز المراجعة, وذكرت التعليل على هذا. قال المؤلف ـ رحمه الله ـ: (وإن تراخى) أفادنا المؤلف - رحمه الله تعالى - مسألتين: المسألة الأولى: أنّ الزوج إذا استخدم هذه الألفاظ صار التعليق لازماً من جهته وليس له الرجوع فإذا قال متى أعطيتني ألفاً فأنت طالق، أصبح لازماً ولا يملك الرجوع ولا فسخ التعليق, واضح. فيبقى الأمر بيد المرأة إلى ما لا نهاية تعليل هذا قالوا أنّ هذه الصيغة اشتملت على تعليق وعوض, أليس كذلك لأنه يقول متى أعطيتني ألفاً فأنت طالق اشتملت على التعليق والعوض لأنه يقول متى أعطيتني كم؟ ألفاً قالوا والمرجح والمغلب في هذه الصيغة هو التعليق لا العوض ولهذا يكون التعليق لازما في حق الزوج , وهذا مذهب الجمهور. القول الثاني: أنّ هذا التعليق ليس بلازم بل للزوج فسخه متى شاء , واستدل أصحاب هذا القول بأنّ حقيقة هذا التعليق أنه تعليق مقابل بعوض فهو بالبيع أشبه منه بالتعليق, وهو يفارق التعليق المحض, التعليق المحض كأن يقول إذا دخل زيد فأنت طالق هذا تعليق محض, هل يوجد عوض في هذا التعليق, إذاً هو تعليق محض فالتعليق المربوط بعوض يفارق التعليق المحض لأنّ التعليق المحض هو في الواقع ايقاع للطلاق وغاية ماهنالك أنه مؤخر، بخلاف التعليق الذي معلق بعوض فالمقصود منه المعاوضة وبهذا أصبح بين الصورتين فرق، وهذا الفرق البديع في الحقيقة ذكره شيخ الإسلام وانتصر لهذا القول الثاني وقوله وجيه وقوي, وعلمنا من هذا التفريق أنّ هناك فرق بين أن يقول الرجل لزوجته إن أعطيتني ألف فأنت طالق وبين أن يقول إن خرجت من هذا الباب فأنت طالق. ففي الصورة الأولى يملك الفسخ وفي الصورة الثانية لا يملك الفسخ. انتهينا من المسألة الأولى التي دلت عليها عبارة المؤلف.

المسألة الثانية: أنّ هذا الحق يثبت على التراخي, فهو مطلق وليس على الفور بل على التراخي متى أعطته الألف في أيّ وقت طلقت. القول الثاني: أنه إن استخدم متى فهو على التراخي, وإن استخدم إذا وإن فهو على الفور, واستدلوا على هذا بأنّ متى موضوعة للتراخي فأفادت التراخي وأما إذا وإن فإنها لا تدل على التراخي والأصل في العقود والمعاوضات الفور أوالتراخي؟ الفور، وعلى هذا القول إذا قال لها إذا أعطيتني ألفاً فأنت طالق وانقضى المجلس ولم تعطيه ألفاً ثم أعطته بعد يوم فإنها لا تطلق وعلى المذهب تطلق, إذاً اشتمل هذا الكلام على مسألتين مهمتين للغاية, وقد يفعل كثير من الرجال هذا التطليق, فيقول لها إن أعطيتني المهر فأنت طالق، فعلى المذهب أشبه مايكون أنّ المرأة ملكت أمر نفسها, فتستطيع متى شاءت أن تعطيه الألف وتصبح طالق, لأنّ هذا الحق لازم وعلى التراخي, فهي مسألة مهمة وأخذنا الآن التفصيل فيها. قال المؤلف ـ رحمه الله ـ: (وإن قالت إخلعني على ألف , أو بألف , ففعل بانت واستحقها) هذه المسائل تختلف عن المسائل السابقة في أمرين: ما هي المسائل السابقة؟ إذا قال متى أعطيتني ألف فأنت طالق وما معها من المسائل، هذه المسائل تختلف عنها بأمرين: الأمر الأول أنّ هذا التعليق تعليق جائز وليس بلازم, فللمرأة الفسخ متى شاءت. ((الآذان)) الأولى: أنها تملك الفسخ متى شاءت المرأة فسخت هذا العقد لأنه معاوضة والمعاوضات تفسخ. والثانية: أنه على الفور وليس على التراخي لما تقدم وذكرته الآن, إذاً بين المسألتين فرق, الشيخ يقول هنا - رحمه الله - (وإن قالت إخلعني على ألف) وكذلك إذا قالت طلقني على ألف الحكم واحد. قال المؤلف ـ رحمه الله ـ: (واستحقها)

يعني إذا أعطاها الألف، في مسألة المرأة وإن قالت إخلعني على ألف ففعلت، يعني إذا قالت إخلعني على ألف وأعطته الألف استحقها وطلقت، ومقصود المؤلف أنها إذا قالت إخلعني على ألف وأعطته الألف فقد خلعت ولا يشترط أن يقول الزوج خالعتك أو طلقتك مقابل الألف لا يشترط، لأنّ الجواب معاد فيه السؤال، فإذا قالت طلقني على ألف وأخذ الألف. وقال أنت طالق , فكأنه قال أنت طالق على هذه الألف، إذاًً يستحق العوض بمجرد ما يأخذه ويطلق. قال المؤلف ـ رحمه الله ـ: (وطلقني واحدة بألف فطلقها ثلاثاً استحقها) إذا قالت طلقني واحدة فطلقها ثلاثاً، استحق الألف لماذا؟ لأنه أعطاها ما تريد وزيادة. القول الثاني: أنه لا يستحق العوض لأنّها طلبت واحدة ولم تطلب ثلاثة, وقد يكون للمرأة غرض في الطلقة الواحدة لا في الثلاث، لأنّ الطلقة الواحدة بالإمكان المراجعة, بينما الثلاث لا تراجع إلاّ بعد زوج آخر وفي قول ثالث وسط: بين القولين وهو قول جميل وهو أنه إن رضيت المرأة فله العوض وإن لم ترض فليس له العوض. فإذا قالت طلقني واحدة فطلقها ثلاثاً, نقول للمرأة هل ترضين في الطلاق؟ فإذا رضيت أخذ العوض وإذا لم ترضى لم يأخذ العوض. قال المؤلف ـ رحمه الله ـ: (وعكسه بعكسه) يعني إذا قالت طلقني ثلاثاً, وطلقها واحدة, فإنه لا يستحق العوض, لأنها طلبت ماذا؟ ثلاث وهو أعطاها واحدة , ولأنّ المرأة قد يكون لها قصد أن لا ترجع إليه إلاّ بعد زوج آخر. القول الثاني: أنها إذا طلبت ثلاث وطلقها واحدة فله ثلث العوض, لأنه أعطاها بعض ما طلبت فاستحق بعض العوض وهذا القول وإن كان ظاهره قوي ويتوافق مع المنطق, إلاّ أنّ الراجح المذهب, لأنّ المرأة لم تطلب الثلاث إلاّ وهي تريد الثلاث والواحدة لا تحقق لها الغرض المقصود من طلبها للخلع. ((انتهى الدرس)).

الدرس: (17) من النكاح قال شيخنا حفظه الله: بسم الله الرحمن الرحيم والحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين. قال المؤلف ـ رحمه الله ـ: (وليس للأب خلع زوجة ابنه الصغير ولا طلاقها) يعني أن الأب لا يملك أن يخالع مع زوجة ابنه الصغير ولا يملك أيضا أن يطلقها .. هذا مذهب الحنابلة .. واستدلوا بأدلة منها: 1 - قوله صلى الله عليه وسلم (إنما الطلاق لمن أخذ بالساق)، ومن أخذ بالساق هو الزوج. 2 - أن هذا مروي عن أمير المؤمنين عمر الخطاب وأمير المؤمنين علي بن أبي طالب - رضي الله عنهما ـ. 3 - أن في هذا التصرف من الأب إسقاطا لحق الابن وليس له أن يسقط حق ابنه. القول الثاني: أن الأب له أن يفعل ذلك، أي للأب أن يفعل ذلك. واستدلوا على جوازه بأن الأب إذا كان يملك أن يزوج ابنه فيملك أن يفسخ النكاح بخلع أو طلاق. والراجح إن شاء الله مذهب الحنابلة، إلا أنه يستثنى ما إذا كان الخلع في مصلحة الابن مصلحة ظاهرة واضحة لا تردد فيها حينئذ يجوز للأب أن يخالع ابنه لتحقيق هذه المصلحة وإلا فإنّ الأصل أنه لا يجوز له أن يخالع، وهذا هو الأقرب المتوافق مع فتاوى الصحابة. قبل أن ننتقل عن هذه المسألة حديث (إنما الطلاق لمن أخذ بالساق) حديث إسناده فيه ضعف وضعفه البيهقي وابن الجوزي ولكن معناه إن شاء الله صحيح. قال المؤلف ـ رحمه الله ـ: (ولا خلع ابنته الصغيرة بشيء من مالها) يعني ولا يملك الأب أن يخالع ابنته الصغيرة بشيء من مالها، وتقدمت هذه المسألة عند قول المؤلف (كل من صح تبرعه صح بذله للخلع) ذكرنا هل للأب أن يخالع عن ابنته أو لا.؟ ذكرنا الراجح أن له ذلك إذا كانت المصلحة في المخالعة .. وأن هذا اختيار الشيخ المرداوي. قبل أن ننتقل أيضا للمسالة الثالثة، بالنسبة للأب مع الابن ذكرنا أنه لا يملك أن يخالع ولا أن يطلق .. هذا الحديث يتعلق بالأب أما غيره من الأولياء فإنهم لا يخالعون ولا يطلقون .. حكي إجماعا .. لكن هذا الإجماع ليس بتام فإن بعض الحنابلة يرى أن من كان له حق التزويج فإن له حق المخالعة، لكن الصواب أن غير الأب ليس له علاقة ولا يملك أن يخالع أو يطلق. قال المؤلف ـ رحمه الله ـ: (ولا يسقط الخلع غيره من الحقوق)

يعني إذا خالعت المرأة زوجها على مال معين فإن هذا الخلع لا يسقط غيره من الحقوق كأن يكون على الزوج نفقة أو يكون على الزوج مهر مؤخر هذه الحقوق وغيرها من الحقوق تبقى لأنه لا علاقة للخلع بغيره من الحقوق الواجبة للمرأة أو للزوجة في ذمة الزوج. قال المؤلف ـ رحمه الله ـ: (وإن علق طلاقها بصفة ثم أبانها فوجدت ثم نكحها فوجدت بعده طلقت) صورة هذه المسألة: أن يقول الزوج لزوجته إن دخلت الدار فأنت طالق فهنا علق الطلاق على صفة وهي دخول الدار، ثم لما علق الطلاق على هذه الصفة أبانها بخلع أو طلاق أو بأي طريقة للإبانة، ثم لما أبانها دخلت الدار، ثم لما تزوجها مرة أخرى ودخلت الدار مرة أخرى حينئذ يقع الطلاق عند الحنابلة، وعللوا هذا بأن المرأة وجد منها الصفة المعلق عليها الطلاق في نكاح صحيح فاجتمع وجود الصفة والنكاح الصحيح فوقع الطلاق وهذا تعليل واضح. القول الثاني: وهو مذهب الجماهير وأكثر أهل العلم أنه في هذا المثال لا يقع الطلاق. واستدلوا على هذا بأن التعليق انحل بدخول الدار في المرة الأولى واليمين إذا انحلت لا تعود، فإذا دخلت الدار مرة اخرى في النكاح الثاني فإنها لا تطلق وهذا القول واضح القوة وهو الراجح بلا تردد إن شاء الله فإذا دخلت مرة أخرى لم تطلق. مسألة: إن علق الطلاق على صفة ثم أبانها ثم رجعت ولم توقع هذه الصفة حال الإبانة ثم لما ردّها في النكاح الثاني أوقعت الصفة هذه المسألة فيها خلاف أيضاً، لكن الخلاف في هذه المسألة عكس الخلاف في المسألة السابقة ففي هذه المسألة وقوع الطلاق هو مذهب الجمهور لأن اليمين لم تنحل، وقد وجدت الصفة في نكاح صحيح فوقع الطلاق. القول الثاني: أن اليمين تنحل بمجرد الطلاق، وأنها إذا فعلت الصفة لا تطلق ويبدوا والله أعلم أن مذهب الجمهور أقرب وهو وقوع الطلاق. قال المؤلف ـ رحمه الله ـ: (كعتق وإلا فلا)

الخلاف في العتق كالخلاف في الطلاق تماماً، إلا أنه يوجد بينهما فرق واحد وهو أنه في العتق عن الإمام أحمد رواية ثانية عدم الوقوع، بينما في الطلاق لا يوجد عنه رواية بعدم الوقوع، وهذا غريب يعني عن الإمام أحمد في المسألة الأولى رواية واحدة خالف فيها الجماهير، بل خالف فيها ما اعتبره بعضهم إجماعاً. وعادة الإمام أحمد في مثل هذه المسائل أن يكون له رواية أخرى لكن لم ينقل عنه - رحمه الله - وغفر له وأسكنه فسيح جناته إلا هذه الرواية. وبهذا يكون انتهى كتاب النكاح ولله الحمد وهذا بتوفيق الله وإعانته وننتقل إلى كتاب الطلاق. ((انتهى الدرس)).

(كتاب الطلاق)

الدرس: (1) من الطلاق قال شيخنا حفظه الله: بسم الله الرحمن الرحيم والحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين. قال المؤلف ـ رحمه الله ـ: (كتاب الطلاق) لا نحتاج تعليق على الترتيب فإنه من المنطق أن يكون الطلاق بعد النكاح هو من المنطقي يعني من جهة الترتيب الفقهي ولا يعني هذا؛ أنّ كل نكاح سيكون بعده طلاق , بل نادراً ما يكون طلاق لكن المقصود لما بيّن انعقاد عقد النكاح لابد أن يبيّن طريقة حلّ هذا العقد. الطلاق في لغة العرب/ مأخوذ من الإطلاق وهو الإرسال والترك. وأما في الشرع / حلّ قيد النكاح أو بعضه. والمقصود بقولهم بعضه, يعني الطلاق الرجعي والطلاق مشروع بالكتاب والسنة والإجماع والنظر الصحيح. أما الكتاب فعدة آيات, منها قوله تعالى: {الطلاق مرتان فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان} {البقرة/227} أما في السنة عدد كبير من الأحاديث منها الحديث المتفق عليه وهو أنّ ابن عمر - رضي الله عنه - طلقّ زوجته ومنها الحديث الصحيح أنّ النبي - صلى الله عليه وسلم - طلقّ حفصة ثم راجعها، والأحاديث في هذا الباب كثيرة. والإجماع منعقد بين علماء الأمة على مشروعية الطلاق. وأما النظر فهو أنّ الحال المعيشية بين الزوجين قد تصل إلى مفسدة كاملة يكون معها المضي في النكاح مفسدة لا مصلحة فيها, والشرع لا يأتي بمثل هذا. وقول الفقهاء أنّ الطلاق مشروع يعني من حيث الأصل , أما حكمه التكليفي فسيذكره المؤلف , إنما هو مشروع من حيث الأصل. قال المؤلف ـ رحمه الله ـ: (يباح للحاجة , ويكره لعدمها, ويستحب للضرر ,ويجب للإبلاء , ويحرم للبدعة) سيبيّن المؤلف أنّ الطلاق ترد عليه الأحكام الخمسة, الإباحة والجواز والتحريم .... إلى آخره , كما سيذكره المؤلف

الحكم الأول , الإباحة عند الحاجة , ويقصد بالحاجة أن يجد الزوج من زوجته سوء عشرة، سوء خُلق أو سوء خَلق أو غير ذلك من الأسباب , فإذا وجدت الحاجة صار الطلاق مباحاً عند الفقهاء مع العلم أنّ الحاجة موجودة لكن لم يرفعوه إلى الاستحباب وإنما جعلوه مباحاً فقط، وكأنهم يشيرون إلى أنّ الصبر في مثل هذه الحالة أولى وأقرب شرعاً من المبادرة بالطلاق. على كل حال الحكم الأول الإباحة عند الحاجة. وضربنا المثال على الحاجة وهذا أمر واضح. قال - رحمه الله - (ويكره لعدمها) الطلاق لعدم الحاجة يعني الطلاق مع استقامة الحال. حكمه أنه مكروه. واستدلوا على الكراهة بقول النبي - صلى الله عليه وسلم - (أبغض الحلال إلى الله الطلاق) ففي الحديث أنّ الطلاق حلال وأيضاً هو مبغوض وينتج من المقدمتين أنه مكروه , هذا الحديث فيه ضعف. التعليل الثاني أنّ في الطلاق إعدام للمصالح الشرعية التي يحبها الله والتي شرع النكاح من أجلها وإعدام هذه المصالح مكروه. القول الثاني: أنّ الطلاق مع استقامة الحال محرم, لأنّ فيه إضرار بالمرأة بلا حاجة, كما أنه من السفه إذ لا حاجة للطلاق ومع ذلك أوقعه وفيه ثالثاً وأخيراً. إعدام للمصالح الشرعية المرجوة من النكاح. والقول بالتحريم قوي إلاّ أنه يشكل عليه فقط أنّ بعض السلف كان يطلق كالحسن ولم ينقل عن الصحابة والتابعين الإنكار عليه ولو كان فعل محرماً لأنكروا عليه , يعني أقول هذا يشكل لكن القول بالتحريم بلا سبب وجيه جداً. يقول - رحمه الله - (ويستحب للضرر) يستحب الطلاق في صورتين. الصورة الأولى أشار إليها المؤلف. وهي إذا وقع الضرر على المرأة فقوله للضرر يتعيّن أن نحمله على المرأة يعني على الضرر الواقع على المرأة. فإذا كرهت المرأة الرجل لسوء عشرته أو لسوء خُلقه أو لسوء خَلقه, أو لأي سبب من الأسباب فإنه يستحب للزوج أن يطلق. تعليل الاستحباب أنّ في هذا الطلاق تخليصاً للمرأة من الضرر. وتخليص الإنسان من الضرر مستحب. النوع الثاني: الذي يستحب فيه الطلاق إذا أخلت المرأة بفرض من فروض الله أو تركت العفة حينئذ يستحب له أن يطلق.

والقول الثاني: أنّ الطلاق في هذه الحال واجب , إذا أخلت بالفروض أو لم تأمن على عرضها وعفافها وحشمتها فإنها يجب أن تطلق. واستدلوا على الوجوب بأنّ هذه المرأة لا يأمن أن تدخل على فراش الرجل من ليس منه. كما أنّ في إبقاء المرأة إقرار للخنا في أهله ولا يجوز للرجل أن يقرّ الخنا في أهله لأنّ هذا من الدياثة. حينئذ على هذا القول الثاني إذا صارت المرأة تخلّ بالصلوات أو بالصيام بأن تترك بعض الصلوات أو صيام بعض الأيام أو تترك الزكاة أو تترك أي فرض من فروض الله أو كانت ليست محتشمة أو عفيفة فالزوج مخيرّ بين أمرين , إما أن يؤدبها ويعلم أنها أقلعت عن الخلق الذميم أو يطلق لا خيار إلاّ هذين الخيارين. القول الثاني قوي وهو وجوب التطليق إذا لم تستقم المرأة فإنها تطلق. يقول - رحمه الله - (ويجب للإيلاء) الإيلاء: هو الحلف على ترك وطء زوجة وسيخصص له المؤلف كتاباً كاملاً. فإذا حلف وضربت له المدة ولم يفيء فإنّ الطلاق حينئذ واجب إن طلق وإلاّ طلق عليه الحاكم في هذه صورة لوجوب الطلاق. الصورة الثانية: أن يتخذ الزوجان حكمان ويحكم حكمان بالطلاق حينئذ يكون الطلاق واجب ,فإذا رأى الحكمان أنّ الحال لن تستقيم وحكموا بالطلاق فالطلاق يكون واجب ,فإن طلق وإلاّ طلق عليه الحاكم. فهاتان صورتان للوجوب. يقول - رحمه الله - (ويحرم للبدعة) سيتناول المؤلف طلاق البدعة ببحث طويل لكن الذي يعنينا الآن أنّ البدعة تكون بأن يطلق الإنسان في طهر جامعها فيه أو في حيض, أو يطلق أكثر من واحدة فهذا الطلاق محرم , وصاحبه آثم , وأما مسألة الوقوع وعدمه فسيذكرها في الفصل اللاحق. يقول - رحمه الله - (ويصح من زوج مكلف) الطلاق يصح من الزوج المكلف المختار بالإجماع, لأنّ هذا الذي يملك عصمة النكاح له أن يطلق فلا إشكال في مسألة طلاق المكلف. يقول الشيخ - رحمه الله - (ومميّز يعقله) هذه العبارة فيها مسائل. المسألة الأولى: أنّ غير المميز أو المميز الذي لايعقل الطلاق لا يقع طلاقه بالإجماع. المسألة الثانية: أنّ معنى يعقل الطلاق أيّ يعرف معناه ويعلم أنّ إمرأته تبين منه بذلك , هذا معنى يعقله.

المسألة الثالثة: الخلاف في هذه المسألة تفرّد الحنابلة بالقول بوقوع طلاق المميز قالوا أنّ طلاق المميز يقع واستدلوا على هذا بأدلة: الدليل الأول: الآثار المروية عن بعض أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم -. الدليل الثاني: أنّ هذا المميز عاقل يعرف معنى الطلاق فيقاس على المكلف, بجامع العقل وإن تخلف البلوغ إلاّ أنّ العقل موجود. - القول الثاني: وهو قول الجمهور أنّ طلاق المميز لايقع واستدلوا على هذا بدليلين: الأول: قول النبي - صلى الله عليه وسلم - (رفع القلم عن ثلاثة والصبي منهم وهو مرفوع عنه القلم فكيف يصح طلاقه. الثاني: أنّ الصبي المميز يقاس على غير المميز بجامع عدم البلوغ , إذاً هذا هو الجامع بينهما , الراجح مذهب الحنابلة اعتماداً على الآثار لكن ينبغي أن يكون المميز تحت ظل وليه وألا يبادر بالطلاق لأنّ المميز الصغير قد يختلف هو وزوجته عند أشياء تافهة. شاب صغير قد يبادر إلى الطلاق , فعلى وليّ الأمر أن يلاحظ ذلك. قال - رحمه الله - (ومن زال عقله معذوراً لم يقع طلاقه) كالمجنون ومن أكره على شرب المسكر بغير حق , وهو دائما بغير حق , فإنه لايقع طلاقه بالإجماع , واستدلوا على هذا بدليلين: الدليل الأول: رفع القلم عن ثلاث. قالوا المجنون حتى يفيق. الثاني: أنّ من فقد عقله لا قصد له ومن لا قصد له لا يعتد بكلامه. فمسألة من فقد عقله بعذر لا إشكال فيها. ثم قال - رحمه الله - (وعكسه الآثم) هذه المسألة هي التي فيها إشكال , يعني أنّ من شرب المسكر عمداً بغير عذر , وفقد عقله فإنّ طلاقه صحيح وواقع وهذا مذهب الحنابلة بل مذهب الأئمة الأربعة استدلوا - رحمهم الله - على وقوع طلاق السكران بأدلة: الدليل الأول: قول علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - كل طلاق جائز إلاّ المعتوه. الدليل الثاني: أن أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - جعلوا السكران كالصاحي في حد القذف , ودليل ذلك أنّ عمر بن الخطاب لما شكي إليه كثرة شرب الناس الخمر شاور الصحابة - رضي الله عنهم - فقال علي - رضي الله عنه - أنه إذا شرب فقد عقله ثم هذى ثم قذف فأرى أن يحد حد القاذف ثمانون جلدة , فنزل السكران منزلة الصاحي في حد القذف.

الدليل الثالث: أنّ هذا السكران فقد عقله بغير عذر فليس أهلاً أن يرفع عنه آثار قوله. القول الثاني: أنّ طلاق السكران لايقع وهو مذهب عدد من الفقهاء وعدد من المحققين - رحمهم الله - استدلوا على هذا بأدلة: الأول: أنه صح عن عثمان - رضي الله عنه - أنّ طلاق السكران لايقع , وأنه لم يصح عن صحابي خلاف حينئذ إذا رأينا أنهم ذكروا أنه لم يصح عن غير عثمان - رضي الله عنه - خلافه نحتاج الجواب عن أثر علي - رضي الله عنه - الجواب عنه من وجهين: أو الجمع بينه وبين زعمهم أنه لم يصح إلاّ عن عثمان - رضي الله عنه - الأول: أنه لا يصح ولا يثبت عن علي - رضي الله عنه - الثاني: وهو الأقرب أنه لا دلالة في أثر علي - رضي الله عنه - فإنه ذكر أنّ كل الطلاق جائز إلاّ المعتوه , ولم يتحدث عن السكران فلا دلالة في الأثر من الأصل. الدليل الثاني: للقائلين بعدم الوقوع أنّ الله تعالى قال {يا أيها الذين آمنوا لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى حتى تعلموا ما تقولون} [النساء/43] فدلت الآية أنّ السكران لا يعتد بقوله لأنه لا يعلم ما يقول , وإذا كان لا يعتد بقوله فإنه لا يقع طلاقه. الدليل الثالث: أنّ السكران غير مكلف لأنه فاقد العقل وإن كان فاقد العقل بغير عذر إلاّ أنه فاقد العقل , فوجد فيه وصف رفع التكليف. الراجح إن شاء الله أنه لا يقع , وذكر أنّ الإمام أحمد - رحمه الله - رجع إلى هذا القول, فهذه المسألة من المسائل التي يعرف فيها الرواية الأولى والثانية , فالثانية عدم الوقوع وهذا القول إن شاء الله أقرب. * * مسألة / حد السكر الذي لايقع معه الطلاق , هو ألاّ يعرف ما يقول ولا يفرقّ بين الأعيان فيختلط عليه مثلاً ردائه مع رداء غيره ولا يشترط أن لا يعرف السماء من الأرض , لأنّ المجنون قد يعرف السماء من الأرض ومع ذلك غير مكلف , وهذا الضابط أخذ من الآية , {حتى تعلموا ما تقولون} [النساء/43] فإذا علم ما يقول وفرق بين الأعيان وقع طلاقه وإن كان فيه نشوة السكر وإلاّ فلا. قال - رحمه الله - (ومن أكره عليه ظلماً بإيلام له أو ولد ... ) بدأ المؤلف بالكلام عن طلاق المكره والإكراه يحصل بأمرين: الأول: إيقاع الأذى مباشرة. الثاني: تهديد بالأذى

والمؤلف ذكر النوعين. النوع الأول: يقول الشيخ: ومن أكره عليه ظلماً بإيلام له أو لولده ,أو أخذ مال يضره لم يقع. إذا هدده بإيلام له أو لولده أو لوالديه أو لأقاربه لا يختصر الحكم به وبولده أو أخذ منه مالاً كثيراً أو ضربه فإنّ هذا إكراه. ذهب الجماهير الأئمة الثلاثة وجمهور الأمة إلا أنّ طلاق المكره لايقع. واستدلوا على هذا بقول النبي - صلى الله عليه وسلم - (لا طلاق في إغلاق) وفسروا الإغلاق بالإكراه. القول الثاني: أنّ الطلاق يقع , وهو مذهب أبي حنيفة. واستدل على هذا بأنّ المكره رجل مكلف طلق في نكاح صحيح فيقع. ويكون كغير المكره وهو تفقهه عجيب وبعيد كل البعد لأنّ الأحناف عمدوا للوصف الذي عليه مدار المسألة وهو الإكراه فألغوه وجعلوا المكره كغير المكره وهو غريب جداً , ولهذا لم يوافقهم أحد من أئمة الإسلام الأئمة الأربعة , وقولهم ظاهر الضعف. النوع الثاني: يقول أو هدده بأحدها قادر يظن إيقاعه به لم يقع , النوع الثاني من الإكراه أن يهدده ويشترط للتهديد شرطان: الأول: أن يكون التهديد من قادر. الثاني: أن يكون التهديد ممن يظن إيقاعه. وفهم من كلام المؤلف أنه لا يشترط أن يغلب على ظنه إيقاعه بل مجرد ما يظن فقط أنه سيوقع عليه التهديد فإنّ له أن يطلق , وهذا هو الصحيح أنه لا يشترط غلبة الظن بل يكتفى بالظن المجرد المتساوي الطرفين. فإذا تحقق الشرطان وطلق فإنّ طلاقه لايقع وإلى هذا ذهب الجماهير ما عدا الأحناف. القول الثاني: وهو رواية عن الإمام أحمد , أنّ مجرد التهديد ليس بمسوغ للطلاق, فإن طلق فهو واقع ويشترط أصحاب هذا القول أن يمسه بعذاب ولا يكتفون بمجرد التهديد. والصحيح أنّ التهديد بهذين الشرطين كافي في عدم وقوع الطلاق , ولا ننتظر إلا أن يعذب

* * مسألة / يشترط في هذا العذاب أن يكون عذاباً مؤلماً , كالضرب المبرح أو أخذ مبلغ كبير من المال أو إيذاء قريب يعنيه ألاّ يؤذى ونحو ذلك , أما إذا أخذ منه مبلغاً بسيطاً , وقال أكرهت فإنّ هذا ليس بإكراه ولو كان بخيلاً. فإنّ مثلاً المبلغ البسيط عند البخيل يساوي المبلغ الكبير عند الكريم , نحن نلغي الإكراه ونلغي وصف البخل ونقول إذا كان المبلغ يسيراً فإنه لا إكراه والطلاق واقع. يقول المؤلف - رحمه الله - (فطلق تبعاً لقوله) أفادنا المؤلف أنّ عدم وقوع الطلاق فيما إذا كان الطلاق لدفع الإكراه , أما إذا كان الطلاق لا لدفع الإكراه وإنما بقصد إيقاع الطلاق فإنه يقع , وهذا صحيح إذا تصور وقوعه , فإذا أكره الإنسان وفي تلك اللحظة طلق لا يقصد دفع الإكراه وإنما يقصد أن يطلق حينئذ الطلاق واقع , أما إذا قصد دفع الإكراه أو قصد أن يطلق فعلاً لكن بسبب الإكراه فإنه لا يقع. والتفريق بينهما عسر جداً لا يكاد الإنسان يتصور إكراه ثم طلاق بعد الإكراه ويكون قصد الإنسان ماذا؟ الطلاق لا دفع الإكراه هذا لا يكاد يتصور , إلاّ في صورة واحدة وهي ما إذا تكرر الإكراه ثم ضجر الزوج فعلاً من هذا الزوجة بسبب كثرة إكراه أولياءها له على الطلاق ثم طلق قاصداً للطلاق حينئذ الطلاق يقع , أما في الأمور والأحوال الطبيعية , فإنه لا يتصور. ثم قال - رحمه الله - (ويقع الطلاق في نكاح مختلف فيه) الطلاق يقع في النكاح المختلف فيه يعني الذي اختلف فيه الأئمة بسبب فقد شرط كالنكاح بلا ولي وبلا شهود ..... إلى آخره. أو بلا مهر. هذا الطلاق يقع ولو كان المطلق يرى عدم صحة النكاح , ومعنى أنه يقع يحسب طلاق شرعي صحيح , فلو فرضنا أنه نكح هذه المرأة نكاحاً صحيحاً يكون بقي له طلقتان. الدليل على هذا أنّ هذا النكاح المختلف فيه , يثبت النسب والعدة ولا يحد في الوطء فيه وهذه أحكام النكاح الصحيح فيقع الطلاق الدليل الثاني: أنّ هذا الطلاق يحل الزوجة لغيره , لأنه قد يرى هو أنّ النكاح غير صحيح. ولكن ترى المرأة والزوج الثاني أنّ النكاح صحيح , فلا تحل للثاني إلاّ بعد طلاق الأول.

القول الثاني: أنه لا يصح الطلاق وهو عبث , لأنّ المطلق لا يرى أنّ النكاح انعقد أصلاً فكيف يطلق , والأقرب أنّ الطلاق يقع لمجموع الدليلين. وخروجاً من الخلاف وبقاء المرأة مترددة بين بقاءها في عصمة الأول وصحة زواجها من الثاني. الأقرب إن شاء الله وقوع الطلاق وهو الأحوط , فنقول للزوج الذي تزوّج بغير وليّ طَلِّق , فإن قال أنا أرى أنّ النكاح لم ينعقد سأمضي وتمضي هي , نقول لا طَلِّق , ولو أنّ الحاكم ألزمه لكان وجيهاً , لأنه بهذا تنضبط الأمور ولا تبقى المرأة معلقة. قوله (ويقع الطلاق في نكاح مختلف فيه) يعني وأما النكاح الباطل فإنه لايقع طلاقه, وهذا لا إشكال فيه , وإن كان روي عن الإمام أحمد - رحمه الله - أنّ النكاح الباطل أيضاً يقع طلاقه , لكن الصحيح أنّ النكاح الباطل لا يقع طلاقه لأنّ النكاح الباطل لا قيمة له شرعاً مطلقاً. مثل أن يتزوّج الإنسان أحد محارمه , فهنا لا نقول طلق وليس للطلاق أي قيمة ولا عبرة. قال - رحمه الله - (ومن الغضبان) هذه المسألة تعتبر من أمهات مسائل كتاب الطلاق حقيقة , والحاجة إليها كثيرة جداً طلاق الغضبان عند الحنابلة يقع , وهو مذهب الجماهير. واستدلوا على هذا بأدلة: - الدليل الأول: أنّ الغضبان رجل مكلف عاقل يتصور ما يقول فيقع طلاقه. - الثاني: أنّ في قصة المظاهر الذي ظاهر من زوجته في عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - في بعض ألفاظه , فغضب منها وظاهر واعتد النبي - صلى الله عليه وسلم - بظهاره وإن كان غضباناً والظهار كالطلاق. القول الثاني: تقسيم ذكره وتبناه شيخ الإسلام ابن تيمية وأخذه عنه ابن القيم في إغاثة اللهفان الصغرى , وأظن أنّ هذا التقسيم أول من قاله شيخ الإسلام. وهو كالتالي يقول ينقسم الغضبان إلى ثلاثة أقسام: - القسم الأول: أن يكون في بداياته وأوائله بحيث يتصور ما يقول ويعني فهذا لا خلاف في وقوع طلاقه.

- القسم الثاني: أن يكون في أواخر الغضب بحيث انغلق عليه القصد ولم يعد يتصور ما يقول فهذا يقول ابن القيم عبارته {لا ينبغي أن يكون فيه خلاف} وهذان القسمان أمرهما واضح. لأنّ الغضبان الذي في نهاية الغضب حكمه حكم المجنون والمغمى عليه. بل كثيراً ما يغمى عليه فعلاً من شدة الغضب. - القسم الثالث: من تعدى بداياته ولم يصل إلى نهاياته , فهذا محل الخلاف , ذكر الشيخ ابن القيم وكتابه إغاثة اللهفان لعدم وقوع طلاق الغضبان. أطال في هذه المسألة جداً. ذكر أدلة: أنا أقسّم أدلة الشيخ إلى ثلاثة أقسام: القسم الأول: نصوص القسم الثاني: قواعد شرعية عامة القسم الثالث: تعليلات فقهية نبدأ بالقسم الأول: استدل بحديثين. الحديث الأول (لا طلاق في إغلاق) وذكر أنّ السلف فسروا الإغلاق بالغضب لأنه مع الغضب ينغلق عليه مقصود الكلام ويخرج بلا إرادة. الدليل الثاني: قول النبي - صلى الله عليه وسلم - (لا يقضي القاضي وهو غضبان) وجه الاستدلال أنّ الشارع إنما منع القاضي من الحكم أثناء الغضب , لأنّ الغضب يمنع تصور ما يقول وينغلق عليه فهمه , وهذا ما يقع في الغضبان. لم أرى الشيخ استدل بنصوص إلاّ بهذين النصين. القسم الثاني والثالث: القواعد والتعليلات , هذه القواعد والتعليلات مجموعة من الأدلة يلتمس فيها الشيخ عدم وقوع الطلاق. ومن وجهة نظري أنّ هذه التعليلات والقواعد ضعيفة. السبب الأول: تأملت هذه القواعد والتعليلات كثيراً فوجدت أنّ هذه التعليلات والقواعد تشترك بين القسم الثاني والثالث تستطيع أن تنزلها على القسم المتفق عليه وتستطيع أن تنزلها على القسم المختلف فيه. لم تتمحض للقسم المختلف فيه. ولا يجد الإنسان فيها بغيته من القول بعدم وقوع طلاق الغضبان. السبب الثاني: في الضعف أنّ هذه التعليلات مصادمة لفتاوى الصحابة. فقد صح عن ابن عباس - رضي الله عنه - أنه يوقع طلاق الغضبان. وصح عن عائشة - رضي الله عنها - أنها ترى انعقاد يمين الغضبان. واليمين كالطلاق عقد , إذا انعقدت من الغضبان فكذلك في الطلاق. الأمر الثالث: الذي بسببه أرى أنّ التعليلات ليست بقوية. أنه انعقد الإجماع على وقوع طلاق الغضبان.

الأمر الرابع: ويعرفه كل من يمارس فتوى طلاق الغضبان , وهو أنّ التفريق بين هذه المراتب عسر جداً لا يكاد يظهر إلاّ في صور نادرة وهي ما إذا وصل إلى غضب لا يختلف فيه اثنان. فيما عدا هذه الصورة التفريق بين المرتبة الثانية والثالثة يكاد يكون شكلي. لمجموع هذه الأمور أنا أرى لاسيما الإجماع وآثار الصحابة, أنّ اختيار الشيخين في هذه المسألة غير صحيح وأنّ الإنسان إذا طلق وهو غضبان فطلاقه واقع ما لم يصل إلى مرحلة لا يختلف فيها اثنان أنه لا يتصور ما يقول وخرج عن عقله وطوره. وهذه المرحلة لا يختلف فيها اثنان لوضوحها ما عدا هذه المرحلة وهي المرحلة الثانية فإنه يقع الطلاق , وممن رجح هذا القول وانتصر له بكلام جيد ابن رجب - رحمه الله - فإنه انتصر لهذا القول بل تعجب من هذا القول لأنه يرى أنّ الصحابة رأوا وقوع طلاق الغضبان لأنه غضبان. قال فجعل الذين لم يوقعوه الغضب الذي هو سبب في وقوعه سبب في عدم وقوعه. وهذا عكس فقه الصحابة. على كل حال بعد التأمل ظهر أنا بوضوح أنّ هذا التقسيم نظري وأنه لا يسعف في الواقع , وأنّ الراجح أنّ الغضبان إذا طلق فإنه طلاقه صحيح , ولهذا لما سمع الناس بهذه الفتوى تجد لا يكاد يطلق إلاّ ويقول أنا غضبان. طبيعي أنه غضبان هو لم يطلق إلاّ لذلك ولا واحد بالمائة سيطلق وهو بنفسية هادئة , هذا لا يوجد, إذا غالباً الناس إنما يطلقون حال الغضب ثم يأتي التفريق بين هذه المراتب وهو لا يمكن , كما قلت هذه المسألة مهمة جداً , والإنسان يحتاج أن يستخير وأن يسأل الله التوفيق فيها , لكن هكذا ظهر لي بعد التأمل ولعل بعضكم لو رجع لكلام ابن القيم سيجد مسألة أنّ المعاني التي ذكرها تشترك بين المرتبة الثانية والثالثة. قال - رحمه الله - (ووكيله كهو)

يعني أنّ وكيل المطلق كالمطلق في استحقاق الطلاق أفادنا المؤلف بهذه العبارة , أنه يجوز للإنسان أن يوكل من يطلق عنه , لأنّ الطلاق عبارة عن فسخ عقد فجاز التوكيل فيه , وأفادنا أنّ الوكيل حكمه حكم الموكل , فمن يجوز له أن يطلق هو بنفسه يجوز أن يُوكَل ومن لا يجوز أن يطلق هو بنفسه فإنه لا يصح أن يُوكَل , فالصغير دون التمييز لا يُوكَل والمجنون لا يوكل وهكذا كل من لا يستطيع هو بنفسه أن يطلق فإنه لا يصح أن نوكله بالطلاق. قال - رحمه الله - (يطلق واحدة) يعني أنّ التوكيل المطلق لا يملك فيه الموكل إلاّ واحدة , لأنّ مقتضى التوكيل المطلق أن يملك طلقة واحدة فقط , فإن طلق أكثر فإنّ الزائد باطل. يقول - رحمه الله - (ومتى شاء) دائما ما سيتحدث الفقهاء في الطلاق عن أمرين الوقت والعدد , فالموكل من حيث العدد يملك كم؟ واحدة , ومن حيث الوقت مفتوح له , فله أن يطلق متى شاء ما لم يفسخ الموكل , والسبب في هذا أنّ عقد التوكيل عقد يقتضي الدوام والتراخي وليس عقدا على الفور فله أن يطلق متى شاء ما لم يفسخ الموكل. قال - رحمه الله - (إلاّ أن يعيّن له وقتاً وعدداً) فإذا عيّن له وقتاً أو عدداً لم يجز أن يخرج عن ذلك لأنّ الحق للموكل في تعيين العدد والوقت فإذا قال له لك أن تطلق ثلاثاً لمدة أسبوع انتهت الوكالة بعد مضي الأسبوع , وإذا قال له لك أن تطلق واحدة لمدة سنة , انتهت الوكالة بسنة وانتهت الوكالة إذا طلق واحدة المهم أنّ الذي الموكل إذا أقتّ العدد والوقت يجب على الموكل أن يلتزم به. قال - رحمه الله - (وامرأته كوكيله في طلاق نفسها) يعني من حيث الزمن والعدد , وفي توكيل الزوج زوجته في الطلاق خلاف سيأتينا لا حقاً إن شاء الله الكلام في توكيل الزوج زوجته أن تطلق وفي جعل العصمة بيد الزوجة فترة مؤقته أو فترة مُطلَقًة ستأتي. (فصل) هذا الفصل في طلاق البدعة والسنة وهو أيضاً من الفصول المهمة. فطلاق البدعة: هو الطلاق الذي يكون على غير شرع الله , وطلاق السنة: هو الطلاق الموافق لشرع الله. هذا من حيث التعريف العام وسيبّين المؤلف طلاق السنة بتفصيل وطلاق البدعة بتفصيل. بدأ الشيخ - رحمه الله - بالسنة لأنه الأصل.

يقول - رحمه الله - (إذا طلقها مرة في طهر , لم يجامع فيه وتركها حتى تنقضي عدتها فهو سنة) أفادنا المؤلف أنّ طلاق السنة هو ما اشتمل على هذه الأوصاف. وهو أن يطلق مرة وأن تكون هذه المرة في طهر وأن يكون هذا الطهر لم يجامع فيه , فإذا وجدت هذه الأوصاف , فهو طلاق سنة. الدليل على هذا أنّ الله تعالى قال: {فطلقوهن لعدتهن} [الطلاق/1] وأنّ السلف فسروا هذه الآية بقولهم أي طاهرات من غير جماع وهذا تفسير مروي عن اثنين من أكبر وأفقه الصحابة. ابن مسعود وابن عباس - رضي الله عنهما - وهذا التفسير نص في المقصود فإذا كان الله سبحانه وتعالى أمر بطلاق السنة وبيّن الصحابة هذا الطلاق بهذا التفسير تعيّن المراد. الدليل الثاني: حديث ابن عمر المشهور أنه طلق زوجته وهي حائض. فجاء عمر يستفتي النبي - صلى الله عليه وسلم - فتغير عليه وقال (مره فليراجعها) وسيأتينا هذا الحديث , وجه الاستدلال من هذا الحديث أنّ النبي - صلى الله عليه وسلم - أمره أن يراجعها وأنه ثرّب عليه أنه طلق في الحيض ويمكن أن نستدل بوجه آخر وهو أنّ ابن عمر - رضي الله عنه - كأنه لم يجرأ أن يستفتي هو وطلب من أبيه أن يستفتي له , وهذا يدل على أنّ الطلاق في الحيض كأنه مستقر عندهم أنه لا يجوز. على كل حال هذا وجه من الاستدلال وإلاّ الحديث نص في المقصود. إذاً هذه هي أدلة , أنّ هذا هو طلاق السنة. يقول - رحمه الله - (وتركها حتى تنقضي عدتها فهو سنة)

قوله وتركها حتى تنقضي عدتها أراد أن يشير إلى حكم طلاق الرجعية. الرجعية إذا طلقها وأصبحت في العدة , فهل هي في طهر لم يجامعها فيه؟ أو ليست في طهر؟ يصدق عليها صحيح , ولهذا ذكرها المؤلف , لأنه لو قال طهر لم يجامعها فيه وترك المسألة لدخلت الرجعية , المرأة الرجعية في طهر لم يجامعها فيه ومع ذلك طلاقها طلاق بدعة وليس بطلاق سنة. لأنّ طلاق الرجعية في العدة حكمه حكم إيقاع أكثر من طلقة في الطهر الواحد , إذاً المخالفة في طلاق الرجعية في العدد ولا في الزمن؟ في العدد إذاً هو بدعي من هذه الجهة , وإلاّ هي زوجة في طهر لم يجامعها فيه , لكن حكم الطلاق حكم من طلق أكثر من مرة في طهر لم يجامعها فيه , وسيأتينا أنّ الطلاق. بل جاءنا. وسيأتينا أنّ الطلاق أكثر من مرة في طهر واحد محرم وبدعي. إذا الآن عرفنا وتصورنا طلاق السنة. فإن قيل ما هو الدليل على أنّ طلاق الرجعية بدعي؟ ما هو دليل هذا التفصيل. فالجواب الأدلة كثيرة: الدليل الأول: أنه إذا طلق الرجعية صدق عليه أنه طلق أكثر من مرة في طهر واحد. الدليل الثاني: أنّ النبي - صلى الله عليه وسلم قال لعمر مره فليراجعها. ولو كان التطليق للرجعية يقع لأمره أن يطلقها وهي رجعية الدليل الثالث: أنه صح عن ابن مسعود وعلي. أنّ الرجعية لا تطلق إلاّ بعد إرجاعها. هذه ثلاث أدلة واضحة جداً ولا مجال من وجهة نظري للنزاع فيها أنّ طلاق الرجعية بدعي. قال - رحمه الله - (فتحرم الثلاث إذن) الطلاق الثلاث فيه مسألتان: المسألة الأولى: حكم أن يطلق ثلاثاً؟ المسألة الثانية: إذا طلق هل يقع أو لايقع؟ وبين المسألتين فرق المسألة الأولى حكمه. ذهب الجماهير إلى أنّ طلاق الثلاث محرم , واستدلوا على هذا بأدلة: الدليل الأول: قوله - صلى الله عليه وسلم - (كل عمل ليس عليه أمرنا فهو ردّ) وطلاق السنة فيه طلقة واحدة فالطلاق الثلاث ليس عليه أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - الدليل الثاني: أنّ رجلاً في عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - طلق ثلاثاً فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - (أيلعب بكتاب الله وأنا بين أظهركم) فجعل التطليق ثلاثاً من اللعب بكتاب الله.

القول الثاني: أنّ الطلاق ثلاث جائز , ولا محظور فيه واستدلوا على هذا بأدلة: الدليل الأول: أنّ عويمر العجلاني - رضي الله عنه - لما لاعن امرأته وانتهى اللعان. قال يا رسول لقد كذبت عليها إن أبقيتها فطلقها ثلاثاً. وهذا الحديث صحيح. الثاني: أنّ فاطمة بنت قيس أخبرت أنّ زوجها طلقها ثلاث تطليقات. الدليل الثالث: حديث عائشة وهو أيضاً صحيح أنّ رجلاً طلق إمرأته فبت طلاقها. قالوا هذه ثلاث نصوص في العهد النبوي فيها الطلاق الثلاث. والراجح إن شاء الله أنّ الطلاق محرم وهو مذهب الجماهير. والجواب عن هذه الأدلة التي ذكروها. أما حديث عويمر - رضي الله عنه - فإنّ الفرقة حصلت بالملاعنة وليس بالطلاق الثلاث وأما الجواب عن حديث فاطمة وعائشة فهو أنّ المقصود أنه طلقها آخر ثلاث تطليقات كما في بعض الألفاظ. وليس المقصود أنّ هذا الصحابي جمع عليها الطلاق ثلاثاً. ثلاث طلقات في مجلس واحد أو في زمن واحد. ولهذا نقول الصحيح إن شاء الله أنّ طلاق الثلاث لا يجوز وهو كما قلت مذهب الجماهير. هذه مسألة. المسألة الثانية , مسألة هل يقع أو لا يقع وهذا يطول جداً ولا يتسع له الوقت والله أعلم.

الدرس: (2) من الطلاق قال شيخنا حفظه الله: بسم الله الرحمن الرحيم والحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين. انتهى بنا الكلام في مجلس الأمس عند حكم إيقاع الطلاق بالثلاث. وكان الكلام عن الحكم التكليفي واليوم إن شاء نتحدث عن الحكم الوضعي يعني هل هو صحيح أو فاسد. والمؤلف - رحمه الله - لم يتطرق لهذا الأمر وإنما تطرق للحكم التكليفي فقط. فقال (فتحرم الثلاث إذن) وقبل أن نتحدث عن حكم طلاق الثلاث من حيث الصحة والفساد نريد أن ننبه إلى إضافة دليلين للقائلين بتحريم طلاق الثلاث , بالأمس حكيت الخلاف وأريد أن أضيف دليلين لتقوية القول بتحريم طلاق الثلاث. الدليل الأول: الآية وهي قوله تعالى {فطلقوهن لعدتهن} ثم قال {لا تدري لعل الله يحدث بعد ذلك أمرا} [الطلاق/1]

وإذا طلق ثلاثاً فأيُّ أمر يحدث بعد الثلاث , فالآية دليل على أنّ الطلاق الشرعي لا يكون إلاّ واحدة لكي يتبيّن ويتمهل الإنسان إن أراد إرجاع زوجته , وإن أراد أتم الطلاق. الدليل الثاني: أنّ التحريم مروي عن عمر وعن أمير المؤمنين علي - رضي الله عنهما - فهذان دليلان يضافان إلى أدلة القول بتحريم الطلاق الثلاث. نأتي الآن إلى الوقوع وعدمه , اختلف العلماء - رحمهم الله - في الطلاق الثلاث هل يقع أو لا يقع؟ فذهب الحنابلة وهو المنصوص عن الإمام أحمد ومذهب الجماهير من أهل العلم. أنّ الطلاق الثلاث يقع. واستدلوا على وقوعه بالأحاديث السابقة معنا , الحديث الأول: حديث عويمر العجلاني أنه طلق امرأته ثلاثاً بعد الملاعنة. الحديث الثاني: حديث فاطمة بنت قيس وأنّ زوجها طلقها ثلاثاً. الحديث الثالث: حديث رفاعة - رضي الله عنه - فإنّ رفاعة طلقّ امرأته ثلاث طلقات ثم تزوجت بعده , عبد الرحمن بن الزبير ثم أتت النبي - صلى الله عليه وسلم - وقالت يا رسول الله , ليس معه إلاّ مثل الهدبة , تقصد هدبة الثوب , فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - أتريدين أن ترجعي إلى رفاعة , لا حتى تذوقي عسيلته ويذوق عسيلتك. سيأتينا هذا الحديث المهم لاحقاً إن شاء الله. لكن الذي يعنينا الآن. سيأتينا في باب الرجعة وهو عمدة في كتاب الرجعة. اللي يعنينا الآن أنه في هذا الحديث طلقها ثلاثاً , فهذه ثلاث أدلة. الدليل الأخير: أنه صح عن ابن عباس رضي الله عنه أنه رأى وقوع الطلاق ثلاثاً. والجواب عن الأحاديث. الثلاثة تقدم معنا بالأمس , وهو أنّ في حديث الملاعن أنّ الفرقة حصلت باللعان. لا بالطلاق الثلاث. وأما بالنسبة لفاطمة وبالنسبة لرفاعة الجواب عنهما أنّ المقصود بأنه طلقها ثلاثاً يعني منفصلات. بدليل رواية في حديث فاطمة فأرسل لها بآخر ثلاث تطليقات. وأما الأثر عن ابن عباس فالجواب عنه أنّ ابن عباس صح عنه أيضاً أنه لا يقع.

القول الثاني: أنّ الطلاق الثلاث لا يقع وإلى هذا ذهب بعض الحنابلة وبعض المالكية وطاووس تلميذ ابن عباس وابن عباس - رضي الله عنه - والظاهرية ونصره شيخ الإسلام - رحمه الله - ابن تيمية ونصره شيخ الإسلام ابن القيم - رحمه الله - واستدلوا بأدلة: الدليل الأول: حديث ابن عباس في صحيح مسلم أنه قال كان الطلاق في عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - وأبي بكر وسنتين من خلافة عمر الطلاق الثلاث واحدة. هذا الحديث في صحيح مسلم. أجاب عنه الجمهور بأجوبة الجواب الأول: أنه منسوخ. بالأحاديث السابقة وهذا الجواب هو أضعف الأجوبة. إذا كيف يستمر العمل على حديث في عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - وفي عهد أبي بكر وسنتين من خلافة عمر وهو منسوخ. هذا لا يستقم مطلقاً الجواب الثاني: أنّ هذا الحديث ضعيف. ودلّ على ضعفه أمران: الأول: أنه صح عن ابن عباس أنه أفتى بخلافه الثاني: أنه روى تلاميذ ابن عباس خلاف هذا - رضي الله عنه - وهذا الجواب أيضاً ضعيف لأنّ القاعدة التي اتفق عليها العلماء أنّ العبرة بما روى لا بما رأى وربما وهو احتمال كبير جداً , أنّ ابن عباس أخذ بفتوى عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - فإن في حديث ابن عباس السابق لما قالوا سنتين من خلافة عمر قال ابن عباس فلما رأى عمر الناس تساهلوا في أمر الطلاق. قال يعني عمر أرى الناس قد تتابعوا في أمر كانت لهم فيه أناة , فلو أمضيناه ثم أمضاه. - رضي الله عنه - وربما ابن عباس صار يفتي بقول عمر هذا وليس بغريب لأنّ ابن عباس كثير الأخذ عن عمر بن الخطاب. إذا هذا الدليل في الحقيقة سالم لا يوجد عنه جواب صحيح. الدليل الثاني: ما تقدم معنا أنه صح عن ابن عباس أنّ الطلاق الثلاث واحدة. الدليل الثالث: حديث ركانة وهو أنه طلق ثلاثاً ثم ندم فطلب منه النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يحلف أنه ما أراد إلاّ واحدة فحلف أنه ما أراد إلاّ واحدة فجعلها واحدة. وهذا الحديث ضعيف. الدليل الأخير: قوله - صلى الله عليه وسلم - (من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو ردّ) وليس طلاق الثلاث على أمر الله ورسوله لأنّ النصوص دلت على أنه ينبغي أن يطلق مرة واحدة في الطهر الذي لم يجامع فيه.

ولهذا الراجح إن شاء الله , أنّ الطلاق الثلاث لا يقع , بسبب هذا النص ولأنه من الواضح جداً من خلال تتبع التاريخي أنّ انتشار هذا القول بين الأئمة الأربعة كان بسبب أنّ عمر ألزم الناس وتبعه الخلفاء واشتهر العمل بالإلزام بالثلاث تأديباً للناس وإلاّ فإنّ النصوص واضحة , أنه كان الطلاق الثلاث واحدة في عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - حتى الإمام أحمد لما قيل له فبما تجيب عن حديث ابن عباس لم يجب إلاّ بما ذكرنا , وهو أنه روى عنه تلاميذه خلاف هذا. وهذا لا يكفي فإنه يروى عن الإنسان أشياء كثيرة وكلها صحيحة. والخلاصة أنه إن شاء الله القول بأنه لا يقع أقرب ومن باب التنبيه الخلاف في هذه المسألة أهون من الخلاف في مسألة الحيض التي ستأتينا الآن. تلك المسألة مشكلة جداً , أما هذه فهي أوضح منها , ويظهر لي أنّ القول بعدم الوقوع أقرب وبهذا نكون انتهينا من الطلاق الثلاث ونتقل إلى مسألة (في حيض) قال - رحمه الله - (وإن طلق من دخل بها في حيض , أو طهر وطء فيه , فبدعة , يقع) أفادنا المؤلف أنّ التطليق في الحيض بدعة والتطليق في الطهر الذي أصابها فيه بدعة , وأدلة هذا تقدمت معنا أثر ابن مسعود وأثر ابن عباس في تفسير الآية وأنّ ماعدا ما ذكروه - رحمهم الله - من أنه يطلق في طهر لم يجامع يكون بدعة وهذا يتناول الطلاق في الحيض والطلاق في طهر جامعها فيه , والطلاق في الحيض محرم بالإجماع , ليس فيه خلاف كما في الطلاق الثلاث , وإنما محرم بالإجماع لكن الخلاف في وقوعه , عرفنا الآن أنّ حكم الطلاق الثلاث فيه خلاف , وحكم إيقاع الطلاق الثلاث فيه خلاف. حكم الطلاق في الحيض محرم بالإجماع , وحكم إيقاع الطلاق في الحيض ادعي فيه الإجماع أيضاً , ومن هنا علمنا أنّ الخلاف في مسألة الحيض ليس كالخلاف في مسألة الطلاق الثلاث كما تقدم نأتي إلى وقوع الطلاق في الحيض. ذهب الأئمة الأربعة وجمهور الأمة وحكاه ابن قدامة وابن المنذر إجماع العلماء , بل ذكروا أنه لم يخالف فيه إلاّ أهل البدع والأهواء تأكيداً للإجماع. كل هؤلاء ذهبوا إلى أنّ الطلاق في زمن الحيض محرم ويقع. وهذه المسألة تدور على حديث ابن عمر جميع الاستدلالات من الطرفين في حديث ابن عمر.

نبدأ بأدلة الجماهير الذي حكي إجماع: استدلوا بأدلة من حديث ابن عمر. وحديث ابن عمر هو أنه - رضي الله عنه - طلق زوجته في الحيض واستفتى النبي - صلى الله عليه وسلم - عن طريق والده عمر - رضي الله عنه - فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - (مره فليراجعها ثم ليدعها حتى تحيض ثم تطهر ثم تحيض ثم تطهر ثم إن شاء أن يطلق فليفعل) هذا الحديث في الصحيحين. لكن له ألفاظ كثيرة جداً كل من الذين قالوا بوقوع الطلاق وبعدمه يأخذ ببعض ألفاظه , نرجع فنقول استدل الجماهير بقول النبي - صلى الله عليه وسلم - (مره فليراجعها) وهذا أقوى دليل لهم , وجه الاستدلال أنّ المراجعة في الشرع هي إعادة المطلقة. واستخدام النبي - صلى الله عليه وسلم - للألفاظ يكون استخدام شرعي. فقوله (مره فليراجعها) يعني أنّ الطلاق السابق واقع. أجاب القائلون بعدم الوقوع بأجوبة كلها ضعيفة غير واضحة ولا مقنعة , أقواها أنّ المراجعة هنا يقصد بها المعنى اللغوي , وذلك أنّ الطلاق غالباً يسبب فراق أبدان الزوجين , فأمر النبي - صلى الله عليه وسلم - ابن عمر أن يراجع يعني مراجعة الأبدان. وكأنّ الطلاق لم يقع وهذا غير مقنع في الحقيقة , ويبقى قوله (مره فليراجعها) محل إشكال. الدليل الثاني: رواية لهذا الحديث من طريق ابن أبي ذئب أنه قال (وهي واحدة) يعني أنه في لفظ حديث ابن عمر أنّ النبي - صلى الله عليه وسلم - قال (مره فليراجعها وهي واحدة) وهذا نص أنها لا تكون واحدة إلاّ وقد وقعت. والجواب على هذا الحديث. أنّ في هذه الرواية شذوذ , فإنّ الذين رووا هذا الحديث عن تلاميذ ابن عمر كلهم لم يذكر هذه اللفظة مع أهميتها وكونها فاصل في النزاع ,لو كانت موجودة لرواها الباقون. وهذا الاستدلال أمره سهل وتم الجواب عنه بالتضعيف. الدليل الثالث: في رواية في حديث ابن عمر علقها البخاري قال (وحسبت عليه بتطليقة) الجواب عن هذا الاستدلال أنه ليس في الروايات ما يبيّن من الذي احتسبها , هل هو ابن عمر أو عمر أو النبي - صلى الله عليه وسلم - وفي بعض الروايات ما يدل على أنّ الذي احتسبها هو ابن عمر , فإنه صرح في بعض الروايات أنه هو الذي احتسبها.

ويؤيد هذه الرواية ما جاء في الصحيح أنّ ابن عمر لما سئل عن هذه المسألة قال أفرأيت إن عجز واستحمق. فعلل حسبان الطلاق بكونه عجز واستحمق فكأنه هو الذي احتسب الطلاق ,وهذا المأخذ أشار إليه ابن القيم , وعلى كل حال يبقى هذا اللفظ مشكل ويحتمل أنّ الذي احتسبها ابن عمر أو أنّ الذي احتسبها النبي - صلى الله عليه وسلم - هذه أدلة الجماهير. وبإمكانك أن تضيف إن شئت الإجماع فإنّ بعضهم يضيف الإجماع فيقول محل إجماع. القول الثاني: أنّ الطلاق محرم ولا يقع , واستدل هؤلاء أيضاً بأدلة: الدليل الأول: ما جاء في الحديث وهو قوله عن ابن عمر (ولم يعتد بها) والجواب عنه. أنّ الروايات الصحيحة الثابتة فسرت أنّ المقصود بلم يعتد بالحيضة لا بالطلقة. الدليل الثاني: ما جاء في روايات حديث ابن عمر وهو قوله (ولم يرها شيئاً) وهذه الرواية فيها ضعف. وإن كان بعضهم يميل إلى تحسين هذه الرواية ولكن الصواب أنها لا تثبت في حديث ابن عمر. إذا استدلوا بلفظين: (لم يرها شيئاً) والثاني (لم يعتد بها) وبيّنا أنّ هذا الاستدلال باللفظين لا يستقيم. إلى هنا انتهى الاستدلال بالنصوص , ولو كانت المسألة تقف على هذه الأدلة لكان القول بالوقوع هو المتعيّن.

والسبب في ذلك: أنه لا جواب صريح عن (مره فليراجعها) في الحقيقة مشكل جداً كما أنّ (احتسبت عليه) فيه قوة لكن ليس بقوة الدليل الأول وهو (مره فليراجعها) لكن بقي دليل ذكره شيخ الإسلام - رحمه الله - من وجهة نظري أنه يقلب الموازين ويربك القائلين بوقوع الطلاق في الحيض. وهو أنه يقول أنّ النبي - صلى الله عليه وسلم - أمره بالمراجعة , ومقتضى هذا أنه أمره بأمر لا مصلحة فيه ولا فائدة , لأنه إذا راجع وقد أوقعنا الطلاق ترتب على هذا مضرة إضافية على المرأة من جهتين وقوع الطلاق الثاني وتطويل العدة , والشارع لا يأمر بما فيه مضرة للمطلقة ولا بما فيه عبث. هذا الدليل قوي جداً ولا يملك الإنسان أمامه في الحقيقة أن ينساق لظاهر الألفاظ ويترك هذا المعنى القوي , وأنا أتيت لكم بعبارات الشيخ عبارة شيخ الإسلام - رحمه الله - عبارة قوية جداً أذكرها لكم. يقول الشيخ هنا في هذه المسألة لا حظ عبارة الشيخ المسألة هذه مهمة وضرورية جداً يعني الطلاق في زمن الحيض كثير جداً الآن وسابقاً يقول الشيخ في تقرير هذا الدليل [لو كان الطلاق قد لزم لم يكن في الأمر بالرجعة , ليطلقها ثانية فائدة , بل فيه مضرة عليهما - الزوج والزوجة - ولو لزم الطلاق المحرم لحصل الفساد الذي كره الله ورسوله , ولا يرتفع ذلك الفساد برجعة يباح له الطلاق بعدها , والأمر برجعة لا فائدة فيها مما ينزه عنه الله ورسوله فليس في أمره برجعتها مع لزوم الطلاق له مصلحة شرعية بل زيادة مفسدة يجب تنزيه الله ورسوله عن الأمر بما يستلزم زيادة الفساد] هذا الذي ذكرت خلاصة يعني أتيت بالزبدة من كلامه وإن كان من لفظه , وإلاّ هو أطال في تقرير هذا وبيّن أنّ هذا لا يمكن أن تأتي به الشريعة لأنه مفسدة محضة للمرأة والرجل والأولياء وفيما يتعلق بعدد الطلاق وفيما يتعلق بتطويل العدة فكيف يأمر الله سبحانه وتعالى بمراجعة وإيقاع الطلاق الأول والثاني.

ولهذا أنا أقول إنّ هذا القول الثاني الذي يذهب إليه شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - وجيه في الحقيقة والإنسان يركن إليه وهو مطمئن وهو مروي عن ابن عباس - رحمه الله - ومروي عن طاووس ومروي عن الظاهرية. فلم يتفرد شيخ الإسلام به ومروي عن بعض المتأخرين من المحققين مثل ابن الوزير - رحمه الله - المهم أنه يوجد قائل بهذا القول في عهد الصحابة والتابعين ومن بعدهم فالإجماع غير واقع وإن شاء الله يكون هذا القول الذي ذكره الشيخ قوي ولا يخفى عليكم إن شاء الله أنّ الخلاف الذي سمعتم قوي جداً وأنه يتوجه جداً للإنسان إذا لم يتبيّن له وجه المسألة أن يمسك عنها , فإنّ هذه المسائل من المضائق ولهذا الإمام كان أحمد لا يفتي فيها وإن كانت له أقوال , لكن لا يفتي فيها لأنها محل مضيق ولو أنه النصوص فيها متعارضة والخلاف واقع فيها بين الصحابة , لكن هذا الذي يظهر بعد تأمل وتأني والله أعلم بالصواب. يقول الشيخ - رحمه الله - (وإن طلق من دخل بها في حيض , أو طهر وطىء فيه) إذا طلق في الطهر الذي وطء فيه ذكرت أنه بدعة. ذكرت في الأدلة ويستثنى من هذا ما إذا استبان حملها , فإذا وطء واستبان الحمل فليس ببدعة وسيأتينا في صريح كلام المؤلف. قال - رحمه الله - (وتسن رجعتها) هذه المسألة مفرعة على القول بالوقوع , كما أنّ بعض المسائل التي ستأتينا مفرعة على القول بالوقوع , إذا أوقعنا الطلاق فإنه يسن أن يراجع المرأة , لقول النبي - صلى الله عليه وسلم - (مره فليراجعها) والقول الثاني: أنّ المراجعة واجبة , لأنّ قوله (مره فليراجعها) أمر والأصل في الأمر للوجوب والأقرب أنّ الأمر للوجوب وهذا الخلاف في مسألة المراجعة إنما هو في الطلاق أثناء الحيض , أما إذا طلق في طهر وطئها فيه , فإنّ المراجعة سنة بالإجماع لم يقل أحد بوجوبها وكما علمتم هذا التفصيل والكلام كله إنما هو على القول بالوقوع. أما إذا لم يوقع فليس هناك مراجعة لا سنة ولا واجبة. قال - رحمه الله - (ولا سنة ولا بدعة: لصغيرة , وآيسة , وغير مدخل بها , ومن بان حملها)

قوله ولا سنة ولا بدعة ظاهره أنه لا سنة ولا بدعة في الوقت والعدد , فيجوز أن يطلق ثلاثاً , والصواب أنه لا سنة في الوقت ولكن هناك سنة وبدعة في العدد , فالصغيرة والآيسة ومن بان حملها يجوز أن نطلقها في كل وقت , لكن لا يجوز أن نطلقها أكثر من واحدة. والدليل على هذا. أنّ النصوص التي دلّت على تحريم إيقاع الثلاث شاملة للآيسة والصغيرة ونحوها , وليس مع الحنابلة دليل يدل على استثناء هذه الأعيان أو هذه النساء اللاتي لا تحيض أو لم يبدأ معها الحيض أو بان حملها, إذا الصواب أنه لا سنة ولا بدعة من جهة الوقت فقط. يقول - رحمه الله - (لصغيرة وآيسة وغير مدخل بها ومن بان حملها) لو أنّ الشيخ بدأ بمن لم يدخل بها لكان أولى , لأنّ من لم يدخل بها بالإجماع لا سنة ولا بدعة في حقها , وتعليل ذلك أنّ من لم يدخل بها لا عدة عليها ,ومن لا عدة عليها فإنه لا يقال أنه في ايقاع الطلاق زمن الحيض إطالة للعدة لأنه لا عدة أصلاً. وأما الصغيرة والآيسة فأيضاً لا بدعة ولا سنة في حقها , لأنها ستشرع في العدة من حين يقع الطلاق , ونحن نمنع طلاق البدعة بما في من تطويل العدة , وهنا لا تطويل فلا سنة ولا بدعة , وكذلك من بان حملها ينطبق عليها نفس الشيء لأنها من حين تطلق تبدأ بالعدة فليس في طلاقها سنة ولا بدعة , ومعلوم أنه ذكره من بان حملها مبني على إمكانية الحيض من الحائض وهذه مسألة تقدمت معنى في كتاب الطهارة وهي هل تحيض الحامل أو لا؟ فعلى القول بأنها تحيض لا سنة ولا بدعة فله أن يطلقها وهي حائض وطلاقه صحيح لأنّ في هذه الصورة لا يوجد تطويل للعدة. قال - رحمه الله - (وصريحه لفظ الطلاق , وما تصرف منه) أفادنا المؤلف مسألتين: المسألة الأولى: أنّ الطلاق لا يقع إلاّ باللفظ لا يقع بالنية المجردة. الثاني" أنّ ألفاظ الطلاق فيها صريح وفيها كناية. والصريح / ما يحتمل إلاّ طلاق كقوله أنت طالق. والكناية / ما يحتمل الطلاق وغيره كقوله اخرجي أو اعتدي وسيأتينا وأفادنا المؤلف أنّ صريح الطلاق فقط لفظ الطلاق , لا يوجد لفظ صريح للطلاق إلاّ لفظ الطلاق وما تصرف منه وما عداه من الألفاظ فهو كناية.

والقول الثاني: أنّ صريح الطلاق ثلاثة , الطلاق والفراق والتسريح. فأضافوا التسريح والفراق , واستدلوا على هذا بأنّ الفراق والتسريح جاء في كتاب الله وفي العرف مراداً به الطلاق فهو صريح فيه والصواب أنّ الفراق والتسريح ليس من الصريح لأنه يستعمل في غير الطلاق بكثرة واللفظ الذي يستعمل في غير موضوعه بكثرة فليس صريحا فيه. القول الثالث: أنّ هذا التقسيم إلى صريح وكناية صحيح من حيث أصل الوضع , إلاّ أنه يختلف باختلاف البلدان والأوقات. فما يكون صريحاً عند قوم قد يكون كناية عند آخرين وما يكون كناية عند قوم قد يكون صريحاً عند آخرين. وهذا القول تبناه العلامة ابن القيم وأنت تلاحظ أنه لا ينازع من حيث أصل الوضع في وجود صريح وكناية. لكنه يقول إنّ هذا يختلف باختلاف الأحوال والأماكن والأزمان. وقوله صحيح ووجيه , فإذا استخدم قوم لفظاً من الألفاظ للطلاق الصريح فهو صريح عندهم وإن لم يكن لا طلاق ولا فراق ولا تسريح , فإذا هذا القول إن شاء الله الأقرب. يقول الشيخ - رحمه الله - (وصريحة لفظ الطلاق وما تصرف منه) ما تصرف منه كأن يقول لها أنت مطلقة أو أنت طالق , هذا صريح في الطلاق لأنه متصرف من لفظ الطلاق. قال - رحمه الله - (غير أمر, ومضارع , ومطلقة اسم فاعل) هذه ثلاثة يقول غير أمر ومضارع ومطلقة اسم فاعل , الأمر والمضارع واسم الفاعل من الطلاق. هذه ليست صريحة. فإذا قال لها اطلقي , أو تطلقين , أو مطلقة. فإنه لا يقع الطلاق لماذا؟ قالوا لأنّ هذه الألفاظ لا تدل على إرادة إيقاع الطلاق فليست فيه إذا ماذا تكون؟ مهملة! تكون كناية فتقع بالنية , وممن اختار أنّ هذه الألفاظ إذا لم نعتبرها من الصريح فهي كناية. شيخ الإسلام رحمه الله - فإذا لا نهمل هذه الألفاظ إذا قال لها اطلقي , نقول إن أردت الطلاق فهو كناية ويقع. قال - رحمه الله - (فيقع به وإن لم ينوه جاد أو هازل)

الضمير يعود إلى الصريح , وإن لم ينوه جاد أو هازل , هذه مسألة مهمة , وهي أنّ الحنابلة يرون أنّ الطلاق باللفظ الصريح لا يحتاج إلى نية , وفي نفس الوقت يقع من الهازل , وأشار ابن القيم - رحمه الله - إلى أنّ الخلاف في مسألة طلاق الهازل والطلاق بالصريح بغير نية واحد , مسألة واحدة. وهذا ابداع منه لأنه يلخص لك المسائل ويرجع بعضها إلى البعض في حقيقة المسألة , وأنت إذا تأملت تجد أنّ حقيقة طلاق الهازل هو طلاق صريح بغير نية ,إذا الخلاف في المسألتين واحد ,نقول ذهب الحنابلة إلى أنّ إيقاع الطلاق بالصريح بلا نية أو طلاق الهازل يقع , واستدلوا بدليلين: الدليل الأول: قوله تعالى {ولا تتخذوا آيات الله هزوا} [النساء/89] ومن هزل بالطلاق أو قال أنت طالق ثم قال لم أنوي إيقاع الطلاق فهو اتخذ آيات الله هزواً , يعني أحكامه. فناسب أن نلزمه بمقتضى القول. الدليل الثاني: وهو عمدة القول قوله - صلى الله عليه وسلم - (ثلاث جدهن جد , وهزلهن جد , النكاح , والطلاق , والرجعة). قالوا هذا الحديث نص في المسألة , والجواب عن الحديث أنه مشكل جداً لو صح لكن الحديث ضعيف لا يثبت إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - وأحب أن أنبه إلى أنّ هذا الحديث لا يثبت ولا بمجموع طرقه , مهما تعددت الطرق فإنه لا يثبت فهو حديث لا يصح نسبته إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - القول الثاني: أنّ الطلاق في هذه الصورة لا يقع , واستدلوا أيضاً بأدلة: الدليل الأول: قوله - صلى الله عليه وسلم - (إنما الأعمال بالنيات) يعني إنما اعتبار الأعمال بالنيات. الدليل الثاني" قوله سبحانه وتعالى: {وإن عزموا الطلاق فإن الله سميع عليم} [البقرة/227] والهازل لا عزم له ,يعني أنّ الهازل لم يعزم فلا يقع الطلاق. والآية دلت على أنّ الطلاق يحتاج إلى عزم.

الدليل الثالث: ما رواه البخاري عن ابن عباس أنه رضي الله عنه , قال (إنما الطلاق عن وطر) ومعنى عن وطر يعني عن قصد وإرادة وهذا القول الثاني هو الصحيح إن شاء الله وهو أنّ الطلاق لا يقع فإذا قال أنت طالق لا يقصد أبداً الطلاق يقصد تخويفها يقصد استخدام هذا اللفظ , فإنه عند الحنابلة والجمهور يقع , ونقول بانت زوجتك أو كانت رجعية فيما يملك من عدد الطلاق. وكذلك لو هزل فقال أنت طالق أنا أمزح فعند الجمهور طلقت لأنّ الطلاق ليس فيه هزل , لكن الصحيح إن شاء الله أنها لا تطلق وكما أشرت مراراً وتكراراً , فائدة العلم أن يولد الورع وإلاّ ما فائدة العلم؟! فالآن علمت أنّ الجماهير يوقعون طلاق الهازل فمن الأشياء التي يتحتم التنبيه عليها أنّ الطلاق ليس من الأمور التي يهزل بها , وأنك لو هزلت فإن زوجتك طالق عند الأئمة الأربعة , فهو ليس أمراً سهلاً وإن كان الراجح هو القول الثاني. لكن العلم يولد الورع لا الاستخفاف , فبعض الناس العلم يولد عنده التهاون , فإذا علم أنّ القول الثاني هو الراجح تهاون فيه فصار ثمرة العلم عكسية عليه , وهذا خطأ تربوي. * * مسألة ضرورية / ذكر بعضهم أنه من أدلة الأئمة الأربعة. أنّ الصحابة يوقعون الطلاق , صحيح توجد آثار كثيرة عن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم - أنّ طلاق الهازل يقع. لكن لا يصح منها شيء. ليس من هذه الآثار أثر صحيح. فكلها ضعيفة. فليس عنه - صلى الله عليه وسلم - ولا عن أصحابه ما يدل على وقوع طلاق الهازل. قال - رحمه الله - (فإن نوى بطالق من وثاق , أو في نكاح سابق منه أو من غيره , أو أراد طاهراً فغلط لم يقبل حكماً) هذا أيضاً من أحكام الطلاق الصريح , فحكمه الأول" أنه يقع ولو بلا نية.

الثاني" أنه إذا قال طالق ثم قال نويت من وثاق أو في نكاح سابق منه أومن غيره أو أراد طاهراً فغلط , يعني أراد أن يقول أنت طاهر فقال أنت طالق , لم يقبل حكماً , معنى لم يقبل حكماً يعني لم يقبل إذا ترافعوا إلى القاضي , ومقابل قبول القول حكماً قبوله ديانة ومعنى قبوله ديانة , فيما بينه وبين الله , فإذا قال أردت أنت طاهر فقلت طالق , وأردت من وثاق فديانة يقبل يعني تعتبر هذه الزوجة في عصمته بينه وبين الله , وأما إن ارتفعوا إلى الحاكم , بأن ادعت المرأة أنه قال أنت طالق , فإنّ الحاكم لا يقبل منه زعمه أنه أراد من وثاق أو أراد أن يقول طاهر فقال طالق , استدل الحنابلة على عدم قبوله حكماً , بأنه يدعي خلاف ظاهر اللفظ. فلا يقبل منه. القول الثاني: أنه يقبل منه حكماً لأنه يدعي شيئاً ممكناً , فقبل منه. ولعل الأقرب أنّ هذه المسائل ترجع إلى رأي القاضي , فإذا رأى أنّ هذا الزوج متلاعب وأراد أن يستحل من زوجته ما لا يحل له أو أراد أن يوقع الطلاق ويراجع لأنه يعلم أنه يملك المراجعة أو احتال على أي شيء من هذه الأشياء فإنّ يجب على القاضي أن لا يقبل منه , وإذا كان رجل متدين معروف الصدق والأمانة لم يخبر عليه كذب وزعم أنه سبق لسان منه , وقال هذه الكلمة لم يردها فإنه ينبغي أن يقيل عثرته. قال - رحمه الله - (ولو سئل أطلقت امرأتك فقال: نعم وقع) لو سئل أطلقت امرأتك فقال نعم وقع , وإن قال فيما بعد أنا كذبت يقع , وإن كان كذب فعلاً لماذا؟ لأنّ الصريح في الجواب كالصريح في الابتداء فعادت هذه المسألة إلى الطلاق بلا نية , لأنه هنا ليس له نية , هو لم يهزل هنا , فإن قلنا أنّ الطلاق بغير نية في الصريح يقع فهنا يقع , وإن قلنا الطلاق بغير نية إذا لم يقصد لا يقع فهنا لا يقع. قال - رحمه الله - (أو ألك امرأة؟ فقال: لا, وأراد الكذب فلا) إذا قيل له ألك امرأة؟ فقال لا وأراد الكذب فإنه لا يقع , لماذا لأنّ غاية هذا اللفظ أن يكون كناية , والكنايات لا تقع إلاّ بنية , فإذا لم ينوي إيقاع الطلاق فهو لا يقع. مقتضى تقرير الحنابلة , أنه إذا قيل لرجل ألك امرأة ثم جلس يفكر وأراد أن يطلق فقال لا وأراد

أن يطلق , وأراد بلا الطلاق فإنه يقع لكن قلّ ما يقع مثل هذا الأمر. (فصل) قال - رحمه الله - (وكناياته الظاهرة: نحو أنت خلية , وبرية , وبائن) هذا الفصل مخصص في الكلام عن الكنايات , والكنايات تنقسم إلى قسمين: 1 - كناية ظاهرة ... 2 - كناية خفية فالكناية الظاهرة هي الألفاظ التي يظهر منها إرادة إيقاع الطلاق. والخفية. هي الألفاظ التي يخفى منها إرادة إيقاع الطلاق. وسيأتينا أنّ الظاهرة تختلف عن الخفية بأنّ الظاهرة تدل على البينونة الكبرى عند الحنابلة. كما سيأتينا. يقول الشيخ - رحمه الله - (وكناياته الظاهرة: نحو أنت خلية ........ ) الكناية الظاهرة تعريفها / كل لفظ يدل على الطلاق دلالة ظاهرة , ويقع به بينونة. هذا تعريف الطلاق عند الحنابلة وهذا التعريف صحيح إلاّ آخره وهو قضية أنه يدل على البينونة وستأتي مناقشة هذه المسألة. يقول الشيخ (وكناياته الظاهرة) ثم مثلّ له فقال. أنت خلية: الخلية في أصل اللغة الناقة المطلقة. فكأنه شبه زوجته بإطلاق الناقة والإطلاق هنا من قيد النكاح. وقوله (وبرية) مشتقة من البراءة , والبراءة هنا أيضاً من عقد النكاح. يعني أنت بريئة من عقد النكاح. وإذا كانت بريئة من عقد النكاح طلقت. وقوله (وبائن) مشتق من البين وهو الفراق , البين بين اثنين يعني الفراق منهما , وافتراق الزوجين يعني انقطاع النكاح. وقوله (وبتة وبتلة) البتة والبتلة مشتقة من القطع لأنّ البت هو القطع , وقطع الحبل بين الزوجين هو الطلاق. وقوله (وأنت حرة) يدل على إيقاع الطلاق لأنّ الزوجة عند الزوج بمنزلة الأمة , لقول النبي - صلى الله عليه وسلم - (فإنهن عوان عندكم) يعني رقيقات. فإذا قال لها أنت حرة من عقد النكاح فهي طالق. وقوله (وأنت الحرج) يعني الإثم وهي تكون محرمة عليه وهو آثم إذا أتاها إذا كانت مطلقة. ثم قال - رحمه الله - (والخفية: أخرجي , واذهبي , وذوقي)

الخفية: الألفاظ الخفية. هي كل لفظ دل على إرادة الطلاق دلالة خفية مع إيقاعه مرة واحدة ,هذا هو حقيقة الكنايات الخفية. مثلّ لها بقوله (اخرجي , واذهبي , وذوقي , وتجرعي) هذه الأربع واضحة إذا قال اخرجي واذهبي ....... الخ , وأراد مع ذلك الطلاق فهي طلقة واحدة رجعية , وتكون من الكنايات الخفية , لأنه أمرها بالخروج والذهاب وأن تذوق وتتجرع , فالذوق والتجرع هو لآلام الطلاق , والخروج والذهاب يعني عن بيت الزوجية والمفارقة بذلك. وقوله (واعتدي) هذا اللفظ من الكنايات وقد استعمله النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال لسودة - رضي الله عنها - (اعتدي) واعتبره الفقهاء من الكنايات الخفية لكن في الحقيقة كلمة (اعتدي) هو خفي ولا ظاهر؟ يعني العدة عادة؟ ظاهرة لماذا اعتبروه خفي؟ لأنّ من صميم تعريف الظاهرة أن تدل على البينونة , (واعتدي) لا تدل على البينونة فبنى الحنابلة التمثيل على التعريف ولا في الحقيقة (اعتدي) كناية ظاهرة جداً , بل هو أوضح من بتلة وبتة وأنت حرة , لأنها لم تعتد إلاّ بعد الطلاق. قوله (واستبرئي) يعني رحمك , والمرأة إنما يطلب منها الإستبراء إذا وقع عليها الطلاق , وما قيل في (اعتدي) يقال في (استبرئي) من حيث كونه خفي أو ظاهر. وقوله (اعتزلي) يعني كوني وحدك , فإذا قصد بقوله اعتزلي الطلاق وقع لأنه كناية عنه. وقوله (لست لي بامرأة) كناية خفية واعتبروه خفية لأنه لا يدل على عدد. وقوله (الحقي بأهلك) قاله النبي - صلى الله عليه وسلم - لابنة الجون. فإنها لما قالت أعوذ بالله منك , قال الحقي بأهلك واعتبرت هذه طلقة رجعية. ثم قال - رحمه الله - (وما أشبهه) إذا ما أشبه هذه الألفاظ التي تدل على المفارقة من غير عدد , فإنها تعتبر من الكنايات الخفية , والحاجة إلى الكنايات قليلة جداً من وجهين: الوجه الأول: أنّ استخدام هذه الكنايات قليل جداً. إذا أراد أن يطلق قال أنت طالق. الوجه الثاني: أنّ ابن القيم اختار أنّ الكناية والصريح يختلف فهذه الكنايات هي في الواقع صرائح عند قوم آخرين فلا نحتاج إلى التقسيم ولا إلى التنبيه. ثم قال - رحمه الله - (ولا يقع بكناية ولو ظاهرة طلاق إلاّ بنية مقارنة للفظ)

لا يقع بالكنايات طلاق إلاّ مع النية بلا نية لا يقع طلاق , وتعليل ذلك أنّ هذه الألفاظ تحتمل الطلاق وغيرها , واللفظ إذا احتمل معنيين فإنه لا يحدد إلاّ بالنية. القول الثاني: أنّ الظاهرة لا تحتاج إلى نية , لأنها واضحة في الطلاق ومغرقة فيه إلى درجة أنها تقتضي البينونة فكيف نحتاج مع ذلك إلى نية ووالصواب أنها تحتاج إلى نية , بل قال المرداوي رحمه الله عن هذا القول وفيه بعد ظاهر , أو عبارة نحوها فهذا القول بعيد إذا كان الخلاف قوي في صريح الطلاق فكيف سيكون الخلاف في كنايته. قال - رحمه الله - (إلاّ في حال خصومة أو غضب وجواب سؤالها) لما قرر المؤلف أنّ الكنايات لا تقع إلاّ بالنية أراد أن يبيّن صوراً تستثنى ويقع فيها الطلاق بلا نية عند الحنابلة, وهذه هي إذا كانت هذه الألفاظ قيلت في خصومة حال خصومة , أو في حال غضب , أو في جواب سؤالها يعني إذا طلبت منه الطلاق. قال - رحمه الله - (فلو لم يرده أو أراد غيره في هذه الأحوال لم يقبل حكماً) الحكم فلو لم يرده أو أراد غيره في هذه الأحوال لم يقبل حكماً. إذا طلق بالكنايات حال الخصومة أو الغضب أو بسبب الطلب فإنه يقع مطلقاً ولو زعم أنه لم يرد الطلاق , هذا حكماً فإذا قالت الزوجة أنه قال لي بعد خصومة اخرجي ثم قال الزوج ما أردت الطلاق فعند الحنابلة لا يقبل منه وتقع الطلقة , استدل الحنابلة على هذا: بأنّ قرينة الحال تغني عن النية وتقوم مقامها فلم نعد بحاجة إلى النية ثانياً: أنّ زعمه أنه لم يرد الطلاق يخالف الظاهر فإنّ الظاهر أنّ هذا اللفظ على إثر خصومة أو غضب أو طلب , إنما أراد به المفارقة. القول الثاني: أنّ هذه الألفاظ تنقسم إلى قسمين: فإن استخدم الألفاظ التي يكثر إرادة الطلاق بها فالحكم كما قال الحنابلة. وإن استخدم الألفاظ التي لا يكثر إرادة الطلاق بها فإنه يقبل منه حكماً أنه لم يرد الطلاق , فيقسمون الألفاظ إلى قسمين. القول الثالث: أنه لا يقبل إلاّ بنية في الجميع , واستدل هؤلاء بدليلين: الدليل الأول: أنّ النبي - صلى الله عليه وسلم - قال (إنما الأعمال بالنيات) ولم يستثني حال الغضب أو الخصومة أو طلب المرأة.

الثاني: أنّ اعتبار النية لا يسقط في حال لا الغضب ولا في حال الرضا , يعني أنه لا يختلف بين حال الغضب والرضا بل يعتبر في الحالين. وهذا القول الأخير هو الصواب بلا شك , رجل قال لزوجته بعد نزاع وشقاق اخرجي , نقول طلقت منك وإن لم يرد ربما أراد بقوله اخرجي تجنب وقوع الطلاق فكيف نعامله بنقيض قصده ونقول وقع الطلاق , في هذا القول بعد كبير جداً , ولهذا ابن قندس رحمه الله من كبار الحنابلة أشار إلى أنه يرى أنّ الحنابلة ما أرادوا بهذه العبارة إسقاط اعتبار النية وإنما أرادوا أنّ قرينة الحال تكفي عن النية , وهو تخريج منه جيد , فيبعد أن يكون مراد الحنابلة أنه إذا استخدم الكنايات في حال الغضب تطلق مباشرة. وإنما لعلهم أرادوا أنّ الكناية الآن أو أنّ الملابسات والقرائن تغني عن النظر لي النية ,على كل حال سواء صح ما ذكره ابن قندس أو لم يصح الراجح أنه لا بد من النية في الكنايات , لاسيما مع ترجيح اشتراط النية في الصريح. وقوله (حكماً) دليل على أنه يقبل منه في الديانة وفي بينه وبين الله , فإذا قبلت المرأة منه أنه ما أراد الطلاق ولم يترافعا إلى الحاكم فهي زوجته عند الله وعند رسوله. يعني زوجته في حقيقة الأمر , ويديّن بينه وبين الله ولا يأثم بتركها. قال - رحمه الله - (ويقع مع النية بالظاهرة ثلاث وإن نوى واحدة) الكنايات الظاهرة إذا استخدمها الزوج صارت أعظم من الصرائح أليس كذلك؟ لأنه إذا قال أنت طالق واحدة , وأما إذا استخدم كناية ظاهرة فقال أنت بتة ,أو أنت حرة , فإنها تقع ثلاث. الدليل قالوا إنّ هذه الألفاظ تحمل معنى البينونة , والبينونة لا تكون إلاّ بإيقاع الثلاث. القول الثاني: وهو رواية عن الإمام أحمد وقول لطيف جداً , وفيه فقه , قال تقع بالكنايات الظاهرة واحدة لكن بائنة , وهو جميل جداً يدل على أنه من الفقهاء - رحمه الله - لأنه جمع بين الأقوال. القول الثالث: أنه لا يقع إلاّ ما نواه إن كانت واحدة أو ثنتين أو ثلاث , ما نواه يقع. واستدل هؤلاء بأنّ الكنايات الظاهرة لا يمكن أن تكون أعظم من الصرائح , والصرائح لا يقع بها إلاّ واحدة هذا القول الأخير هو الراجح إن شاء الله.

يقول الشيخ - رحمه الله - (وبالخفية ما نواه) يعني ويقع بالخفية ما نواه , إن كان واحدة أو ثنتين أو ثلاث , وتعليل ذلك ظاهر وهو أنّ ألفاظ الكنايات الخفية لا تحمل في طياتها الإشارة إلى العدد وإنما تحمل الإشارة إلى إيقاع الطلاق فقط من دون نظر إلى العدد , وبهذا يكون انتهى ما يتعلق بالكلام عن الصريح والكناية , نختم هذا الفصل بفائدة وهي أنّ الشيخ بيّن الألفاظ الصرائح وألفاظ الكنايات. * * هل هناك قسم ثالث؟! الجواب/ نعم هناك قسم ثالث. وهو ما ليس بصريح ولا كناية , وما ليس بصريح ولا كناية لا يقع به طلاق مطلقاً. فإذا قال لها بارك الله فيك. هذا لا يقع فيه شيء ولو أردت الطلاق , لأنّ هذا اللفظ لا يدل على المفارقة بحال ولا يحمل في معناه أي دلالة على المفارقة. وإذا قال قومي اطبخي ثم قال أردت الطلاق ماذا نقول؟ لا يقع فيه شيء. إذا صارت الألفاظ كم؟ ثلاثة صريح ثم يليه كناية ثم ما ليس بصريح ولا كناية. (فصل) قال - رحمه الله - (وإن قال: أنت عليّ حرام , أو كظهر أمي فهو ظاهر ولو نوى به الطلاق) هذا الفصل أراد المؤلف أن يبيّن فيه الألفاظ التي أيضاً لا يقع بها الطلاق ولو نواه , وإن كانت تدل من حيث المعنى على الطلاق. جمع الشيخ بين مسألتين مختلفتين تماماً , الأولى" إذا قال أنت عليّ حرام , والمسألة الثانية: إذا قال أنت عليّ كظهر أمي. نبدأ بالمسألة الأولى" أنت عليّ حرام , هذه المسألة غريبة لأنه اختلف فيها الصحابة اختلاف كثير واختلف فيها العلماء حتى وصلت الأقوال إلى ثمانية عشر قولاً. في هذه المسألة فقط إذا قال الرجل لزوجته أنت عليّ حرام. نحن لا نريد أن نذكر هذه الأقوال لأنّ بعضها يدخل في بعض. وبعضها شديد الضعف. لكن نقتصر على خمسة أقوال أرى أنها أهم وأجدر هذه الأقوال: القول الأول: المذهب. وهي أنه إذا قال أنت علي حرام فهو ظهار ولا يكون يمين ولا طلاق ولو نواه. فبمجرد ما يقول أنت علي حرام فهو ظهار ولا ننظر لنيته. القول الثاني: أنه إذا قال أنت علي حرام فهو ظهار ولو نوى به طلاق إلاّ أن ينوي به يميناً.

ما الفرق بين القولين؟ في اليمين. القول الأول هو مذهب الحنابلة // والقول الثاني هو اختيار شيخ الإسلام وبهذا علمنا أنه لا فرق بين الحنابلة وشيخ الإسلام إلاّ إذا نوى أنه يمين.

الدرس: (3) من الطلاق قال شيخنا حفظه الله: بسم الله الرحمن الرحيم والحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين. في درس الأمس كنت تحدث عن مسألة أنت عليّ حرام , وجاء وقت إقامة الصلاة قبل إتمام هذه المسألة وسنعيد ما يتعلق بهذه المسألة اليوم لكن قبل ذلك تحدثنا في دروس سابقة عن صريح الطلاق وكنايته والأحكام التي يختص بها الصريح والأحكام التي تختص بها ألفاظ الكناية , وذكرت أنّ ما عدا هذه الألفاظ يعني الألفاظ التي ليست من الصرائح ولا من الكنايات أنه لا يقع بها الطلاق وكل هذا تقدم مفصلاً , ونسيت أن أتكلم عن حكم الطلاق المكتوب , فأتكلم عنه اليوم إن شاء الله. اختلف أهل العلم في الطلاق المكتوب هل يقع أو لا يقع؟ وإذا وقع فهل هو من الصرائح أو من الكنايات؟ * نبدأ بالمسألة الأولى: ذهب الحنابلة إلى أنّ الطلاق المكتوب يقع يعني إذا كتب على ورقة, أنت طالق طلقت زوجته إذا أراد الطلاق استدل الحنابلة على هذا بأنّ الكتابة كاللفظ في بيان المقصود , والدليل على أنها كاللفظ في بيان المقصود , أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمر بتبليغ الرسالة , وقد تارة باللفظ لمن راسلهم - صلى الله عليه وسلم - فكونه - صلى الله عليه وسلم - يراسل الملوك في أنحاء البلاد يدعوهم إلى الإسلام من خلال الكتابة , دليل على أنّ الكتابة تقوم مقام اللفظ. والقول الثاني: أنّ الطلاق لا يقع بالكتابة , لأنّ الأصل في الطلاق أن ينطق به , والراجح بلا إشكال أنّ الطلاق في الكتابة يقع. * نأتي إلى المسألة الثانية: وهي هل الطلاق المكتوب صريح أو كناية , أيضاً هذه المسألة محل خلاف؟

فذهب الحنابلة إلى أنّ الطلاق من الصرائح , يعني حكمه حكم لفظ الصرائح , فإذا كتب أنت طالق فقد طلقت واستدلوا على هذا بأنّ الكتابة تفيد ما يفيده اللفظ , فإذا كان أنت طالق صريح في اللفظ فهو صريح في الكتابة , إلاّ أنّ الحنابلة قالوا مع كون المكتوب صريح إلاّ أنه لو زعم أنه لم يرد الطلاق قبل منه حكماً , ففرقوا في هذا الحكم بين صريح اللفظ وصريح الكتابة , فالآن علمنا وفهمنا تفصيل الحنابلة في كونه صريح أو كناية. القول الثاني: أنّ الكتابة كناية , ولا يقع إلاّ بالنية , واستدلوا على هذا بأنّ الطلاق المكتوب يحتمل فقد يكون يريد تحسين خطه , وقد يريد تخويف المرأة وقد يريد حكاية طلاق عن غيره , وإذا كان الطلاق المكتوب يحتمل فهو كناية , لأنه تقدم معنا أنّ تعريف الكناية هو ما يحتمل الطلاق وغيره , والمكتوب يحتمل الطلاق وغيره فصار كناية , وهذا القول هو الأقرب إن شاء الله أنه كناية وليس بصريح بناء على هذا , ما سأل عنه بعض إخوانكم وفقهم الله وهي رسائل الجوال , إذا كتب رسالة جوال (أنت طالق) وأرسل لها الرسالة فما الحكم؟ الحكم أنها تطلق وعند الحنابلة وهو صريح , وعلى القول الثاني إن أراد الطلاق طلقت وإن لم يرد لم تطلق , لأنه كناية والكناية تحتاج إلى نية. إذا أرسل رسالة صوتية , ألا يوجد الآن رسائل صوتية في الجوال , سجلّ وقال (أنت طالق) وأرسلها رسالة صوتية فما الحكم؟ هل هو صريح أو كناية؟ كتابة أو نطق؟ ما الفرق بين أن يرسل رسالة فيها صوت أنت طالق وبين أن يقول لها أنت طالق؟ يعتبر طلاق لفظي , كأنه قال لها أنت طالق , لكن تطلق إذا سمعت وإلاّ إذا تكلم , متى تبدأ بالعدة؟ إذا تكلم. لا إذا سمعت ... إذا سمعت مجردا يكون الخبر (فصل) قال - رحمه الله - (وإن قال: أنت علي حرام)

تحدثت عن بدايتها وقلت أنّ هذه المسألة فيها خلاف كبير بين الصحابة ,وفيها بين أهل العلم خلاف يصل إلى ثمانية عشر قولاً. مما يدل على الاضطراب في هذه المسألة وتعارض الأدلة , أو إن شئت قل عدم وجود أدلة صريحة وإنما يوجد آثار عن أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - وقلت أني سأذكر خمسة أقوال أرى أنها الأقوال الأقوى في هذه المسألة , وبدأت بالقول الأول" فأقول الحنابلة ذهبوا: إلى أنه إذا قال أنت علي حرام فهو ظهار ولو نوى طلاقاً ولو نوى يميناً. وأنّ القول الثاني: وأنّ القول الثاني وهو اختيار شيخ الإسلام - رحمه الله - وهو مذهب لبعض الفقهاء كالقول الأول إلاّ أنه إذا أراد يميناً فهو يمين , ويكون الفرق بين المذهب وبين اختيار شيخ الإسلام فيما إذا نواه يميناً. ونحن الآن نحتاج الأدلة , بالنسبة لأدلة القول الأول والثاني واحدة , فنحتاج دليل على أنه ظهار , ونحتاج دليل على أنه ليس بطلاق , ونحتاج دليل على أنه يمين أو ليس بيمين. على الخلاف. نبدأ بالدليل الأول: أنه ظهار. أنّ هذا الرجل لما قال أنت علي حرام فقد أوقع التحريم على زوجته وهو أولى من أنت عليّ كظهر أمي لأنّ التحريم في قوله أنت عليّ كظهر أمي علمناه لأنه يلزم من هذا اللفظ. وأما أنت عليّ حرام فهو صريح في التحريم , وما كان صريحاً في التحريم فهو أولى مما يستلزم التحريم. وهو دليل قوي جداً. لأن أنت عليّ حرام أصرح وأكثر مباشرة من أنت عليّ كظهر أمي. الدليل الثاني: على أنه ليس بيمين , استدل الحنابلة وشيخ الإسلام على أنه ليس بطلاق , لأنّ الظهار كان في الجاهلية طلاقاً , فكان الرجل إذا ظاهر من امرأته فكأنه طلقها , فجاء الإسلام ونسخ أن يكون الظهار طلاقاً , فإذا نوى المكلف المسلم بلفظ الظهار الطلاق فهو باطل , لأنّه نوى ما أبطله الشارع فلم نعتد بنيته. لأنها مقابلة ومعارضة للشارع. نأتي إلى الأخير: وهو اليمين , استدل شيخ الإسلام - رحمه الله - على أنّ الإنسان إذا قال أنت علي حرام وأراد اليمين فهو يمين بتعليل قوي ,فقال أنّ من أراد اليمين لم يرد تحريم ذات زوجته , وإنما أراد منع نفسه أو حثها أو التصديق أو التكذيب , وهذا هو معنى اليمين.

الدليل الثاني: لشيخ الإسلام , أنه صح عن ابن عباس أنه جعل أنت عليّ حرام ظهاراً تارة , وجعل أنت عليّ حرام يميناً تارة أخرى , وفي هذا دليل على أنّ أنت عليّ حرام , قد يقصد به اليمين وقد يقصد به الظهار , باعتبار أنه تارة أفتى بهذا وتارة أفتى بهذا الدليل الثالث: قوله تعالى: {قد فرض الله لكم تحلة أيمانكم} [التحريم/1] وهذه الآية نزلت في تحريم النبي - صلى الله عليه وسلم - على نفسه العسل أو وطء الزوجة في بيت الأخرى , فجعل الشارع الكريم التحريم , تحريم الإنسان على نفسه شيئاً بمنزلة اليمين كما ترى اختيار شيخ الإسلام وأدلته على أنه إذا أراد يميناً فهو يمين قوي جداً. القول الثالث: أنّ أنت عليّ حرام , يمين مطلقاً واستدل هؤلاء بدليلين: الدليل الأول: أنّ هذا مروي عن أبي بكر وعمر. الدليل الثاني: أنه مروي عن ابن عباس الدليل الثالث: الآية فإنّ تحريم النبي - صلى الله عليه وسلم - جعله الله يميناً مكفرة. والأقرب أنه لا يثبت عن أبي بكر وعمر أنهم جعلوه يميناً , ففي الإسناد إليهما انقطاع. القول الرابع: أنّ أنت عليّ حرام ليس بشيء , لأنّ قوله أنت عليّ حرام كذب إذ ليست عليه بحرام. والجواب على هذا. أنّ ما قالوه صحيح لو كان مراده الإخبار , أما هو فمراده الإنشاء فهو يحكم على امرأته أنها حرام عليه. القول الخامس والأخير: وهو مذهب الشافعي أنه إن أراد بأنت عليّ حرام طلاقاً فهو طلاق , وإن أراد ظهاراً فهو ظهار , وإن أراد يميناً فهو يمين , واستدل على هذا القول بأنّ أنت عليّ حرام , إن أراد الطلاق فهي كناية , والكنايات في الطلاق تقع مع النية , وإن أراد ظهاراً فكذلك كناية , وكنايات الظهار مع النية تقع , وإن أراد يميناً فهو يمين لأنه أخرجه مخرج اليمين منعاً لنفسه أو حثاً أو تصديقاً أو تكذيباً , فصار يميناً موافقة لظاهر القرآن هذه الأقوال الخمسة هي أقوى الأقوال , وبقيت الأقوال غالباً ما تتداخل مع هذه الأقوال ولا تكاد تنفرد بشيء معيّن.

الراجح في هذه المسألة المهمة التي ما زالت تقع إلى الآن بكثرة , القول الثاني. يليه في القوة القول الخامس يليه في القوة الأول وهو المذهب. فعرفنا الآن الراجح وعرفنا الأقوال التي تليه قوة , الحقيقة قول الشافعي قوي جداً , لولا أنّ الشارع الحكيم لم يجعل الظهار طلاقاً, نسخ هذا المعنى في إرادته مضادة لمقصود الشارع , لولا هذا المعنى لكان قول الشافعي هو القول القوي على كل حال إن شاء الله , أنّ الراجح هو القول الثاني لأنه توافق مع مقاصد الشرع ولأنّ فتاوى الصحابة تنطبق عليه مهما اختلفت. قال - رحمه الله - (أو كظهر أمي فهو ظهار. ولو نوى به الطلاق) يعني إذا قال لزوجته أنت عليّ كظهر أمي , فهو ظهار ولو نوى الطلاق أو اليمين ,وهذه المسألة الأقرب أنها لا تدخل في الخلاف السابق بل هو ظهار لأنه عبّر عن زوجته أو حرّم زوجته بصريح الظهار فلا ينصرف لغيره ,ولو جعلنا أنت عليّ كظهر أمي طلاقاً لعدنا إلى حال الجاهلية الذين يجعلون الظهار طلاقاً , فهذه المسألة الأقرب أنها لا تدخل في الخلاف السابق. قال - رحمه الله - (وكذلك ما أحل الله عليّ حرام) إذا قال الإنسان لزوجته ما أحل الله عليّ حرام , يعني منها , فحكمه كحكم أنت عليّ حرام تماماً. من حيث الخلاف والأقوال والأدلة والترجيح , فهي نفس المسألة. ثم قال - رحمه الله - (وإن قال: ما أحل الله عليّ حرام أعني به الطلاق طلقت ثلاثاً وإن قال: أعني به طلاقاً فواحدة) هذه المسألة فيها عند الإمام أحمد تفصيل , إذا قال ما أحل الله عليّ حرام أعني به الطلاق فهي ثلاث. وإذا قال ما أحل الله عليّ حرام أعني به طلاقاً فهي واحدة. هذا تفصيل الإمام أحمد بين اللفظتين. الدليل. قال الإمام أحمد: أنّ الطلاق فيه الألف واللام التي للاستغراق , وإذا استغرق الطلاق فقد أوقع الثلاث. وأما إذا قال: أعني به طلاقاً , فهو واحدة لأنه لم يرد الاستغراق. القول الثاني: أنه في المسألتين واحدة رجعية , لأنّ الألف واللام التي للاستغراق , تستعمل كثيراً في بيان الجنس لغير الاستغراق فليست نصاً صريحاً في الطلاق.

القول الثالث: أنّ هذا اللفظ إذا قال ما أحل الله عليّ حرام أعني به الطلاق أو أعني به طلاقاً ظهار مطلقاً , إلاّ أن ينوي به يميناً. واستدل هؤلاء بأنّ الظهار لا يكون في الإسلام طلاقاً , ونحن تقدم معنا أنّ قوله (ما أحل الله عليّ حرام) كقوله (أنت عليّ حرام) ولا فرق بين أن ينوي وبين أن يصرح بالنية , لا يوجد فرق. فإذا قال أنت عليّ حرام أنوي به الطلاق فهو ظهار , كذلك إذا قال ما أحل الله عليّ حرام أنوي به الطلاق فهو ظهار , وأيّ فرق بين أن يصرح بنيته وبين أن لا يصرح بنيته وبين أن لا يصرح بنيته. إذا نقول تعود هذه المسألة إلى مسألة أنه ليس في الشرع إيقاع الطلاق بصيغة الظهار. ونحن قررنا أنّ أنت عليّ حرام أو ما أحل الله عليّ حرام أنه يساوي أنت عليّ كظهر أمي. إذا عادت المسألة لقضية أنه ظهار بصيغة التحريم فلا يقع طلاقاً. فالخلاصة / ما أحل الله عليّ حرام أعني به الطلاق , حكمه الصحيح أنه ظهار مطلقاً مالم ينوي اليمين. فنعود للقول الثاني في المسألة السابقة. قال - رحمه الله - (وإن قال: كالميتة , والدم , والخَنزِير وقع ما نواه من طلاق , وظهار, ويمين) إذا قال أنت عليّ كالميتة يختلف عما إذا قال عند الفقهاء أنت عليّ حرام كالميتة والخنزير , نأتي إلى لفظ المؤلف الذي ليس فيه حرام أنت عليّ كالميتة والخنزير., إذا قال أنت عليّ كالميتة والخنزير, يقول الشيخ الماتن - رحمه الله - (وقع ما نواه من طلاق وظهار ويمين) فإن نوى الطلاق فهو طلاق , وإن الظهار فهو ظهار , وإن نوى اليمين فهو يمين. الدليل على هذا: أنّّه إذا قال أنت عليّ كالميتة وأراد الطلاق فغاية ما هنالك أنه كناية , والكنايات تقع بالنية , وإذا قال أنت عليّ كالميتة والخنزير ولم يرد الطلاق فقط أراد التحريم لأنّ هذا التشبيه إنما هو تشبيه بالتحريم , فصار كأنه قال أنت عليّ حرام. وأنت عليّ حرام عند الحنابلة ظهار , وإن أراد يمين فهو يمين لأنه أراد المنع أو الحث فأخرجه مخرج اليمين. ابن القيم يقول - رحمه الله - (أنّ أنت عليّ حرام كالميتة أو الخنزير يساوي تماماً أنت عليّ حرام)

بقينا في اللفظ الثالث الذي ذكره المؤلف وهو أنت عليّ كالميتة والخنزير, والصواب أنّ أنت عليّ كالميتة والخنزير يساوي أنت عليّ حرام كالميتة والخنزير , وأنّ حكم هذه المسائل كلها تعود إلى مسألة أنت عليّ حرام , لأنه في الواقع أراد التحريم. فما ذكره الشيخ ابن القيم من التسوية بين أنت عليّ حرام وأنت عليّ حرام كالميتة والخنزير, صحيح وتساويه تماماً ولا فرق أنت عليّ كالميتة والخنزير فإنّ إسقاط كلمة حرام لا معنى له لأنه إنما أراد أنت عليّ حرام كالميتة والخنزير إذا عرفنا حكم أنت علي كالميتة والخنزير. قال - رحمه الله - (وإن لم ينوي شيئاً فظهار) إذا لم ينوي شيئاً فالأصل أنه تحريم والتحريم عند الحنابلة ظهار. القول الثاني: للشافعي أنه إذا لم يرد شيئاً فهو كقوله أنت عليّ حرام , فالشافعي يقول إذا قال أنت عليّ كالميتة والخنزير ولم يرد شيئاً فهي تساوي أنت عليّ حرام على الخلاف فيها , وأيضاً ما ذكره الشافعي في هذه المسألة صحيح وتكون حكمها حكم أنت عليّ حرام ومن هنا علمنا أنّ مسألة أنت عليّ حرام مهمة , لأنّ عشرات المسائل ترجع إلى أنت عليّ حرام. هذا من جهة ومن جهة أخرى أنّ غالب استعمال الناس هو بأنت عليّ حرام , وهذا مما يؤكد أهمية هذه المسألة. قال - رحمه الله - (وإن قال: حلفت بالطلاق وكذب لزمه حكماً) يعني إذا قال حلفت بالطلاق فلما أردنا أن نأخذه بهذه اللفظة , قال كذبت فإنهم إذا ترافعوا إلى الحاكم فإنه يلزمه العمل على الحلف بالطلاق. السبب/ قالوا أنه في هذه الصورة تعلقّ به حق الغير , وإذا تعلقّ به حق الغير لزمه مراعاة لهذا الغير. وتبيّن من كلام المؤلف أنه لا يلزمه ديانة , يعني فيما بينه وبين الله. فإذا قال حلفت بالطلاق وهو كاذب فيعتبر لم يحلف بالطلاق لأنه أخبر إخباراً كاذباً ولم يقع منه حلف بالطلاق. قال - رحمه الله - (وإن قال أمرك بيدك ملكت ثلاثاً , ولو نوى واحدة) إذا قال أمرك بيدك ملكت ثلاثاً ولو نوى واحدة , إذا قال لها هذا اللفظ فهو إما تمليك أو توكيل ولا يختلف الحكم بكونه تمليك أو توكيل. إما تمليك وهو الأصل في الحقيقة , أو توكيل , فإذا قال أمرك بيدك عند الحنابلة ملكت ثلاثاً ولو نوى واحدة.

التعليل: عللوا هذا بأمرين: الأمر الأول: أنّ هذا مروي عن بعض الصحابة. الثاني: أنّ أمرك بيدك يشبه الكنايات الظاهرة والكنايات الظاهرة تفيد ماذا؟ إيقاع الطلاق ثلاثاً أو واحدة؟ تفيد ثلاثاً. فلما كانت كالكنايات الظاهرة ملكت به الزوجة ثلاث تطليقات. ولو نوى واحدة , لأنه لو نوى واحدة لنوى ما يخالف ظاهر اللفظ فلم يقبل منه. القول الثاني: في هذه المسألة المهمة وقد وقعت في عصر الصحابة بكثرة وفي عصر التابعين بكثرة ولذلك نقل عن الصحابة فتاوى كثيرة في هذه المسألة. القول الثاني: أنها واحدة رجعية , واستدل الإمام أحمد بنفسه على هذا القول فقال عن خمسة من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - القول الثالث: أنه إذا قال لها أمرك بيدك فليس بشيء وهو لغو. ونصر هذا القول وأطال في نصره ابن حزم - رحمه الله – واستدل على هذا بأنّ الله تعالى إنما جعل الطلاق بيد الرجل فهو من خصائصه , وجعله تعالى من خصائصه لحكم أرادها من تؤدة الرجل وتأنيه ونظره في العواقب فلا يجوز أن نسند هذا الأمر للمرأة بحال من الأحوال , لأنه مناقضة لمقصود الشارع. ولما ذكر ابن القيم هذا القول علقّ عليه فقال وهذا هو القول لولا هيبة الصحابة , وإنما نحن لهم تبع وهم لنا قدوة , ونحن نقول كما قال ابن القيم تماماً لولا هيبة الصحابة لكان إسناد الطلاق للمرأة ليس بشيء , لكن مع إفتاء الصحابة بأنه شيء لا مجال لإلغائه. قال ابن القيم: ولم يحفظ عن أحد من الصحابة أنه ألغى تمليك الزوجة الطلاق , إنما اختلفوا في تملك من ذلك فمنهم من قال تملك ثلاثاً ومنهم من قال تملك واحدة. أما أصل الإيقاع فإنهم لم يختلفوا فيه. ولهذا نقول الراجح إن شاء الله هو القول الثاني الذي نصره الإمام أحمد بأنه فتوى خمسة من الصحابة , ونقول تملك واحدة ولا شك أنّ هذا القول وسط بين مذهب الحنابلة وبين مذهب الظاهرية. قال - رحمه الله - (ويتراخى ما لم يطأ أو يطلق أو يفسخ)

قوله ويتراخى يعني: نّ المرأة تملكه ملكاً متراخياً لا على الفور , واستدلوا على هذا: بأنّ هذا التمليك هو في الواقع في حكم التوكيل والتوكيلات في الشرع على التراخي لا على الفور , وهذا صحيح أنه إذا ملّك زوجته أمرها , فإنها تملك هذا الأمر على التراخي. قال - رحمه الله - (مالم يطأ ........ ) فإن فعل فإنّ التوكيل والتمليك يعتبر مفسوخ , أما الأول" فهو الوطء فإذا وطأها بعد أن ملكها أمرها فإنّ هذا الوطء بمعنى الفسخ. فلما وطأها عرفنا أنّه أراد فسخ التوكيل. الثاني: الطلاق إذا قال أمرك بيدك ثم طلقها , فهو في الحقيقة فسخ التوكيل لأنه باشر التطليق بنفسه. الثالث والأخير: الفسخ وهو أمره واضح فإذا فسخ الوكالة أو التمليك انفسخت لأنّ شأن الوكالات أنها تنفسخ بفسخ المالك. والمالك هنا هو الزوج. وكثير من الحنابلة لم يذكر تطليق وإنما ذكر الوطء والفسخ دون التطليق ,لأنّ أمر التطليق واضح ,لأنه إذا طلقها فقد فسخ ما أعطاها لكن المؤلف زاد الأمر وضوحاً بالتصريح بالتطليق. قال - رحمه الله - (ويختص اختاري نفسك بواحدة وبالمجلس المتصل) يختص اختاري نفسك بواحدة بمجلس متصل. إذا هناك فرق بين أن يقول لها اختاري نفسك وبين أن يقول لها ملكت أمر نفسك. ففي الأولى اختاري نفسك لا تملك إلاّ طلقة واحدة ولا تملكها إلاّ في المجلس يعني على الفور ولا تثبت على التراخي , ما الدليل في التفريق بين العبارتين. استدل الإمام أحمد بآثار الصحابة ,فإنّ فتاوى الصحابة فيها التفريق بين اللفظين , فإذا قال لها هذا اللفظ , وهو لفظه اختاري نفسك فإنها إن طلقت مباشرة , وإلاّ بانتهاء المجلس تفقد هذه الصلاحية وكذلك لا يمكن أن تطلق إلاّ واحدة , فإن قالت طلقت نفسي ثلاثاً فإنها لا تطلق إلاّ واحدة. قال - رحمه الله - (ما لم يزدها فيهما)

باب ما يختلف به عدد الطلاق

دائما الضمير يرجع إلى الوقت والعدد , فإذا زادها وقال لها اختاري نفسك متى شئت فهو على التراخي , وإذا قال لها اختاري نفسك بالعدد الذي تشائين فاختارت أن توقع أيّ عدد شاءت , لأنّ الحق له وإذا ملكها إياه ملكت , ونحن نقول دائما في مسائل أنها تملك الثلاث وأنّ الثلاث تقع أو لا تقع إلاّ واحدة , وهذا كله مفرع على القول بوقوع الطلاق بالثلاث. قال - رحمه الله - (فإن ردّت أو وطء أو طلق أو فسخ بطل خيارها) هذا تصريح بمفهوم العبارات السابقة ,لأنّه قال ما لم يطأ أو يطلق أو يفسخ ,ثم قال هنا فإذا ردت أو وطء أو طلق أو فسخ بطل خيارها إنما أضاف مسألة واحدة وهي أنها إذا ردت هي فقالت فسخت أو رددت التوكيل فإنها لا تملك بعد ذلك أن تطلق نفسها. * * مسألة/ إذا ملكها أمر الطلاق وصححنا هذا التمليك , فإنّ صيغة إيقاع الطلاق أن تقول طلقت نفسي منك , ولا تقول أنت طالق الدليل على هذا فتوى ابن عباس فإنّ امرأة ملكها زوجها نفسها فقالت أنت طالق - هداها الله - فقال أخطأ نوءها يعني لم تصب لو قالت طلقت نفسي لأصابت , واستخدام هذا اللفظ خطأ. وعليها إذا أرادت أن تطلق نفسها أن تقول طلقت نفسي منك. ولا تقول أنت طالق يعني أنها تملك ملكاً أصلياً , وهي لا تملك ملكاً أصلياً , وإنما تملك ملكاً فرعياً مكتسب من التوكيل السابق. بهذا انتهى الفصل المتعلق بالكنايات التي لا تقع طلاقاً عند الحنابلة. * باب ما يختلف به عدد الطلاق * يقول الشيخ في بيان ما يختلف به عدد الطلاق يعني من حيث المرأة والرجل. قال - رحمه الله - (يملك من كله حر أو بعضه ثلاثاً , والعبد اثنتين حرة كانت زوجتاهما أو أمة) أفادنا المؤلف - رحمه الله - مسألتين: المسألة الأولى: أنّ عدد الطلاق معتبر بالرجال لا بالنساء , وإلى هذا ذهب الجماهير وأفتى به عمر وعثمان - رضي الله عنهما - واستدل الجماهير. بأنّ الله تعالى أوكل الطلاق إلى الرجل وخاطبه به فهو الذي يعتبر به عدد الطلاق.

القول الثاني: أنه يعتبر بالمرأة , فإذا تزوج العبد حرة ملك كم؟ ثلاثاً , وإذا تزوج الحر أمة ملك اثنتين , واستدل هؤلاء بأنّ هذا مروي عن ابن مسعود وعليّ - رضي الله عنهما - وبأنّ الطلاق إنما يقع على المرأة فيعتبر بها , وهذا القول ضعيف في الواقع , وأظنه إن شاء الله لا يثبت عن عليّ ولا عن ابن مسعود , وأنا أقول هذا تفقهاً وإلاّ لم أراجع الإسناد. لكن لا أظنه يثبت عن عليّ أنّ الطلاق معتبر بالمرأة فإنّ هذا بعيد عن النصوص الشرعية , إذا نقول الراجح أنّ الطلاق معتبر بالرجل لا بالمرأة , فإذا كان حراً فإنه يملك ثلاثاً مهما كانت زوجته , وإذا كان عبداً فإنه يملك اثنتين مهما كانت زوجته. المسألة الثانية: التي دلت عليها عبارة المؤلف , أنّ الرقّ يؤثر على الطلاق بالتنقيص , يعني أنّ الحر يملك ثلاثاً والعبد يملك تطليقتين وإلى هذا ذهب الأئمة الأربعة , بل عامة فقهاء المسلمين على هذا القول , وهو أنّ الرقّ ينقص عدد الطلاق استدلوا بأدلة: الدليل الأول: أنّ النبي - صلى الله عليه وسلم - قال (يملك العبد تطليقتين , وقرء الأمة حيضتين) وهو نص في المسألة إلاّ أنّ إسناده ضعيف. الدليل الثاني: أنّ هذا مروي عن أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - الدليل الثالث: الإجماع وهو محكي. الدليل الرابع: القياس على الحدود , فإنهم أجمعوا على أنّ الحد ينصف على العبد كذلك الطلاق. القول الثاني: أنّ العبد يملك ثلاث طلقات كالحر , وأنّ الرقّ لا يؤثر على الطلاق بالتنقيص , واستدل هؤلاء بأنّ الله تعالى قال: {الطلاق مرتان} [البقرة/227] ولم يفرق بين حر وعبد , وهذا مذهب من؟ الظاهرية , والغريب اختاره أيضاً أو مال إليه المرداوي وهو غريب لأنه ليست له عادة خروج عن مذاهب الجماهير لاسيما مع قوة الأدلة لهم. لكن هو رأى الآية عامة فمال إليها. والراجح بلا إشكال إن شاء الله القول الأول. أولاً: لأنه محكي عن الصحابة. ثانياً: لما فيه من إجماع ثالث: لأنّ القياس الذي ذكروه صحيح إذا عرفنا الآن معنى قوله يملك من كله حر أو بعضه ثلاثاً والعبد اثنتين حرة كانت زوجتاهما أو أمة. عرفنا الآن إذا هاتين المسألتين وهو هل هو معتبر بالرجال أو لا!

قال - رحمه الله - (فإذا قال: أنت الطلاق , أو طالق , أو عَليّ , أو يلزمني , وقع ثلاثاً بنيتها , وإلاّ واحدة) * * هذه المسألة أيضاً مهمة , وسيأتينا لماذا هي مهمة! وإن كان المؤلف لم يصرح بالجزء الأهم منها كما سيأتينا. يقول الشيخ. فإذا قال أنت الطلاق أو طالق ..................... ) الخ نحن نريد أولاً أن نقرر المذهب لا حظ أنّ الشيخ - رحمه الله - المؤلف ساوى بين هذه الألفاظ , فأنت الطلاق يساوي عنده أنت طالق ويساوي عليّ الطلاق ويساوي الطلاق يلزمني , والصواب أنّ هذه الألفاظ لا تستوي فهما على مجموعتين: المجموعة الأولى: أنت الطلاق أو عليّ الطلاق أو الطلاق يلزمني. والمجموعة الثانية: أنت طالق. المجموعة الأولى أنت الطلاق أوعليّ الطلاق أوالطلاق يلزمني. تلاحظ أنه عبرّ عن الطلاق بالألف واللام يعني أضيف للطلاق الألف واللام التي تفيد الاستغراق. فإذا استخدمها وقع ثلاثاً , إلاّ أن يريد واحدة , والدليل على هذا: أنها الألف واللام للاستغراق والأصل أنها تشمل جميع الثلاث. إلاّ إذا قصد واحدة , فإنه لا يقع إلاّ واحدة , هذا ما يتعلق بأنت الطلاق. نأتي إلى قوله أنت طالق. إذا قال أنت طالق فالجمهور أنها واحدة , ولا تكون ثلاثاً لأنها لا تدل على الاستغراق. وقيل هي ثلاث بنيته إذا الحنابلة يرون أنّ قوله أنت الطلاق , أو الطلاق يلزمني يدل على أنه ثلاث إلاّ أن يريد واحدة , ويستوي عند الحنابلة ما إذا أخرج هذا اللفظ معلقاً أو منجزاً أو حلف به , * وكنت أحب أنّ الشيخ الماتن يضيف هذا لأنّ هذه الإضافة تكمل الحكم فإذا إذا قال أنت الطلاق أو الطلاق يلزمني سواء أخرجه مخرج التعليق فقال الطلاق يلزمني إن دخلت الدار هذا تعليق, أو أخرجه مخرج اليمين أو الحلف. فقال إن ذهبت إلى أهلك فالطلاق يلزمني , أوعليّ الطلاق أن تدخل أو علي الطلاق أن تخرج , فحلف به , في هذه الصور جميعا الحكم عند الحنابلة واحد , وهو إن أراد الثلاث فهو ثلاث , وإن أراد واحدة فواحدة. وعللوا هذا , أنّ استخدام صريح الطلاق لا يقع به إلاّ الطلاق , ولو نوى به يميناً أو علقّه أو نجزّه.

القول الثاني: أنه إذا استخدم هذه الألفاظ معلقّة أو أراد الحلف بها , فإنها تأخذ حكم اليمين. وإلاّ فهي طلاق وهذا القول ذهب إليه شيخ الإسلام - رحمه الله - ونصره بأدلة تبلغ نحو الثلاثين دليل , وأطال في تقريبه بما إذا قرأه الإنسان لا يكاد يخرج عنه , وذكر هذا في القواعد النورانية ببحث مفصل ورائع ومفيد لطالب العلم سواء وافقت المؤلف أولم توافقه قراءة هذا المقطع مفيد في تنمية الملكة الفقهية. أدلة شيخ الإسلام: قال شيخ الإسلام - رحمه الله -[أنّ هذه المسألة لم تقع , الحلف بالطلاق لم يقع , في عهد الصحابة وإنما وقع في عهدهم الحلف بالنذر والحلف بالعتاق , يعني استخدام النذر وعتق العبد استخدام اليمين , فلما وقع في عهدهم هذا جعلوه كاليمين] فهذا الدليل الأول له. وهو التسوية بين الطلاق والنذر والعتاق. الدليل الثاني: وهو في الحقيقة من وجهة نظري هو أقوى دليل عند الشيخ - رحمه الله - وهو أنه قال أنّ جميع الفقهاء أدخلوا الطلاق والنذر والعتاق تحت قول النبي - صلى الله عليه وسلم - (من حلف على شيء فقال إن شاء الله لم يحنث) أدخلوه من حيث الحنث وإن لم يدخلوه من حيث كونه طلاقاً أو يميناً. قال شيخ الإسلام [فإذا أدخلوا الطلاق تحت هذا الحديث فيلزمهم أن يدخلوه تحت قول النبي - صلى الله عليه وسلم - (من حلف على يمين فرأى غيرها خيراً منها فليأت الذي هو خير وليكفر عن يمينه) ثم قال شيخ الإسلام وهذا واضح لمن تأمله] يقصد أنه أمر قوي وواضح لكن بشرط أن يتأمل بتأني. إذا هذا الدليل هو من وجهة نظري أقوى دليل وما عداه من الأدلة تكاد تكون تعليلات أو فتاوى من الصحابة , لكن هذا الحديث نص في المسألة لأنه بالإجماع أدخلوا الطلاق تحت قول النبي - صلى الله عليه وسلم - (من حلف على أمر فقال إن شاء الله ..... ) الخ فأدخلوه تحت لفظ اليمين في الحديث فيجب أو يلزمهم أن يدخلوه تحت الحديث الآخر ولا فرق بينهما وكما قلت هذا القول إن شاء الله هو الصحيح بهذا الدليل بالذات من أدلة شيخ الإسلام وباعتبار هذا القول أو بتصحيح هذا القول إذا حلف الإنسان بالطلاق وهو واقع بكثرة فإنه لا يقع طلاق ولا يلزمه إلاّ أن يكفر كفارة يمين.

* * وأريد أن أنبه إلى أمر مهم جداً , وهو أناّ أخذنا الآن الخلاف في بعض الألفاظ والخلاف عميق تصوّر الفرق بين إنسان يجعل أنت عليّ حرام ظهار وبين إنسان يجعل أنت عليّ حرام يمين. أليس كذلك؟ بينهما فرق عظيم جداً. كذلك في مسألة الحلف بالطلاق , ربما تبين امرأته وتكون الطلقة الثالثة وربما يفتى بأن يكفر كفارة يمين وينتهي الأمر. من هنا أقول ينبغي للمفتي أن لا يسهّل أمور الطلاق على الناس , حتى لو كان الإنسان يرى أنّ الطلاق المعلّق أو المحلوف به حكمه حكم اليمين , لا ينبغي أبداً أن يسهّل هذا الأمر , وبمجرد ما يقول له الإنسان أنا حلفت وقلت كذا وكذا , يقول كفارة يمين , بل عليه أن يشدد في الأمر وأن يصعّب عليه لأنّ هذا من مقصود الشارع ولهذا وافق الصحابة كلهم والتابعون. * * عمر لماّ صعّب على الناس أمر الطلاق الثلاث تأديباً لهم , ولهذا نقول ينبغي للإنسان ما يأخذ العلم أخذاً مجردا وجافاً بل يعلم أنّ العلم لابد أن يسير هو والتأديب وتربية الناس في مسار واحد , ولا نقول أن تخالف الدليل لتأديب الناس لكن الإنسان يعرف كيف يؤدب الناس وإن أفتاهم بالقول الصحيح. ثم قال - رحمه الله - (ويقع بلفظ كل الطلاق , أو أكثره , أو عدد الحصى , والريح ونحو ذلك ثلاث ولو نوى واحدة) هذه الألفاظ إذا ذكرها فقال كل الطلاق أو أكثر الطلاق أو عدد الحصى ........ الخ فإنه يقع ثلاثاً ولو نوى واحدة , لأنها صريحة في العدد , وتقدم معنا أنّ الألفاظ التي صريحة في العدد لا تقبل التنزيل أو لا تقبل زعم صاحبها أنه أراد واحدة , لأنّ هذه الدعوى تخالف صريح اللفظ فهي ثلاث وإن أراد واحدة , بعبارة أنه لو رأى الإنسان أنّ الطلاق الثلاث يقع , فإنه من استخدم هذه الألفاظ فإنه يقع عليه طلاق الثلاث ولو قال نويت واحدة , لأنّ هذه النية تخالف ظاهر كلامه. قال - رحمه الله - (وإن طلق عضوا , أو جزءا مشاعاً , أو معيناً , أو مبهماً أو قال: نصف طلقة , أوجزءاً من طلقة طلقت) اشتمل كلام المؤلف على مسألتين: المسألة الأولى: إذا أوقع كل الطلاق على بعض زوجته. والمسألة الثانية: إذا أوقع بعض الطلاق على كل زوجته.

نبدأ بالمسألة الأولى: إذا أوقع كل الطلاق على بعض زوجته , فإذا قال يدك طالق أو رجلك طالق أو نحو هذا من الأعضاء فإنّها تطلق. تعليل ذلك: أنّ التحريم والتحليل لا يتجزأ ولا يتبعض في المرأة , فإما أن تكون كلها حرام أو تكون كلها حرام , فإذا أوقع الطلاق على بعضها حرم كلها , لعدم تجزأ الحلال والحرام , وأنتم أخذتم مراراً قاعدة إذا اجتمع الحلال والحرام غلّب الحرام. المسألة الثانية: يقول أو قال نصف طلقة أو جزءاً من طلقة طلقت, يعني إذا أوقع بعض الطلاق على كل المرأة فإنّ الطلاق يلزم المرأة كلها لماذا؟ لأنّ الطلاق لا يتجزأ. أسألكم أيهم أقوى في المسألتين من حيث إيقاع كل الطلاق؟ إذا أوقع الطلاق على بعض المرأة أو إذا أوقع بعض الطلاق على كل المرأة أيهما أقوى؟ الأولى: إذا أوقع الطلاق على بعض المرأة فهو أقوى من إذا أوقع بعض الطلاق على كل المرأة , والواقع أنه في المسألة الثانية محل إجماع , وفي المسألة الأولى خلاف فصار أيهم أقوى؟ الثاني. محل إجماع إذا أوقع بعض الطلاق على كل المرأة , فإنه يكون محل إجماع. وأنا لماذا سألتكم هذا السؤال لأنه فعلاً يتبادر إلى الذهن أنه في المسألة الأولى أقوى من المسألة الثانية , مع ذلك الثانية محل إجماع والأولى محل خلاف. وهذا يستدعي أنّ الإنسان دائماً ما يركن إلى نظرته وفهمه , وإنما يتأمل أكثر في المسائل. قال - رحمه الله - (وعكسه: الروح , والسن , والشعر , والظفر ونحوها) أيضاً تشتمل على مسألتين: المسألة الأولى: الروح إذا قال روحك طالق , فإنه لا تطلق عند الحنابلة لماذا؟ قالوا لأنّ الروح ليس عضوا ًيستمتع به فهو كالسمع والبصر. والقول الثاني: أنه إذا أوقع الطلاق على الروح , فإنه يقع واستدلوا على هذا بأنه لا حياة للبدن إلاّ بالروح , فإذا أوقع عليها الطلاق فقد طلقت. المجموعة الثانية: يقول والسن والشعر والظفر ونحوها. إذا أوقع الطلاق على هذه الأشياء السن والظفر ونحوها فإنه لا يقع الطلاق.

استدل الحنابلة على عدم وقوع الطلاق , بالقياس على الريق والدمع , لأنّ الريق والدمع لا يقع الطلاق فيها بالإجماع , فقاسوا عليه السن والظفر والشعر , والجامع بينهما الانفصال , أنّ كلاً منهما ينفصل. القول الثاني: أنه إذا أوقع الطلاق على السن والظفر والشعر , فإنه يقع واستدلوا على هذا بالقياس على عضوٍ من أعضاءها. والجامع , أنّ كل منهما جزء لا يستمتع به إلاّ بمقتضى عقد النكاح , فاستويا في هذا الأمر فاستويا في حكم الطلاق. إذا دائما نجد في المسائل , أنه يتجاذب الفرع أصلان. فأيهما أشبه به , الراجح يبدوا لي بعد التأمل والله أعلم , أنّ الراجح أنه إن طلق الشعر وقع وإن طلق السن والظفر لم يقع, لأنّ الشعر محل للاستمتاع وتشبيهه بالعضو تشبيه قوي, بخلاف السن والظفر فإنه ليس بمحل للاستمتاع وتشبيهه بالريق والدمع أقرب , هكذا ظهر لي والله أعلم. قال - رحمه الله - (وإذا قال لمدخول بها: أنت طالق وكرره وقع العدد إلاّ أن ينوي تأكيداً يصح أو إفهاماً) قوله وإن قال لمدخول بها. بدأ الشيخ الكلام عن المسائل التي تفارق المدخول بها غير المدخول بها في الأحكام. فيقول وإن قال لمدخول بها , أنت طالق وكرره وقع العدد إلاّ أن ينوي ...... ) إذا قال الرجل لامرأته التي دخل بها أنت طالق أنت طالق أنت طالق , فينقسم إلى ثلاثة أقسام: - القسم الأول: أن يريد إيقاع الطلاق , أيّ يريد التعدد , فإنه يقع بلا خلاف يعني في المذهب. القسم الثاني: أن يقول أنت طالق أنت طالق أنت طالق, يريد التأكيد ولا يريد الطلاق فإنه لا يقع إلاّ واحدة بلا خلاف يعني عند الحنابلة القسم الثالث: أن يقول أنت طالق أنت طالق أنت طالق , ولا ينوي شيئاً , فهذا محل الخلاف , فالمذهب يرون أنه يقع متعدداً. لأنّ الأصل في هذا اللفظ أنه أراد تعدد الطلاق.

والقول الثاني: أنه واحدة , لأنّ الأصل في الطلاق أن يقع واحدة لا أكثر. والراجح القول الثاني. وهو أنه إذا لم ينوي شيئاً فإنه واحدة لأنّ الأصل عدم وقوع الطلاق وليس الأصل وقوع الطلاق , مع إني أقول أنه يبعد جداً أن يتكلم الإنسان بقوله أنت طالق أنت طالق أنت طالق , ولا يريد لا الإيقاع ولا التأكيد , إذا ماذا يريد؟ لكن إن وقع وقال الإنسان أنا لما قلت أنت طالق أنت طالق أنت طالق , كنت غضباناً ولم أنوي تأكيداً ولا تأسيساً , إذا وقع هذا فالحكم أنها واحدة. وقوله (إلاّ أن ينوي تأكيداً يصح) أفادنا أنّ التأكيد منه ما يصح ومنه ما لا يصح , والتأكيد الذي يصح هو التأكيد المتصل وسيأتينا في ختام هذا الباب الكلام عن المتصل والمنفصل. قال - رحمه الله - (وإن كرره ببل , أو بالفاء , أو قال بعدها , أو قبلها , أومعها طلقة وقع ثنتان) هذه مجموعة من المسائل لها حكم واحد لكن في الحقيقة لكل منها تعليل خاص. وهي ثلاث مسائل: - المسألة الأولى: أن يقول أنت طالق بل طالق. المسألة الثانية: أن يقول أنت طالق ثم طالق , أو فطالق. المسألة الثالثة: أن يقول أنت طالق طلقة بعدها طلقة , أو قبلها طلقة , أو معها طلقة , هذه ثلاث مسائل لكل واحد منها مأخذ يختلف عن مأخذ المسألة الأخرى. نبدأ بالمسألة الأولى: فإذا قال لزوجته: أنت طالق بل طالق فإنها تطلق طلقتان , التعليل: أنّ بل يستخدم للإضراب , وهو العدول عن الحكم الأول إلى الحكم الثاني. والطلاق إذا وقع فإنه لا يرتفع فنتج من هذا وقوع الطلاق الأول والطلاق الثاني. وهو تعليل جميل متى كان المطلق عالماً باللغة العربية ويعلم أنّ بل يقصد منها هذا المعنى. فإنّ العوام اليوم يقصدون ببل طالق ماذا؟ التأكيد. المسألة الثانية" إذا قال أنت طالق ثم طالق , أو أنت طالق فطالق , فيقع هنا طلقتان التعليل: أنّ ثم والفاء معناهما للترتيب والتعقيب فتقع الطلقة الأولى وتقع الطلقة الثانية. وهذا واضح. المسألة الأخيرة" إذا قال أنت طالق طلقة بعدها طلقة , أو قبلها طلقة , أو معها طلقة , ففي هذه الصورة تقع طلقتان ,

والتعليل: أنّ هذا اللفظ صريح في الجمع , هو يقول أنت طالق طلقة معها طلقة فهو صريح في الجمع , أو يقول قبلها أو بعدها طلقة , فلا إشكال في وقوع طلقتين إذا استخدم هذا اللفظ , وعرفنا أنّ هذه العبارة تشتمل على ثلاث مسائل لكل واحدة منها مأخذ يختلف. ثم أراد المؤلف أن يبيّن نتيجة الفصل باختلاف المدخول بها عن غير المدخول بها. قال - رحمه الله - (وإن لم يدخل بها: بانت بالأولى , ولم يلزمه ما بعدها) فإذا قال أنت طالق بل طالق لزوجة لم يدخل بها إلى الآن , فلا تطلق إلاّ واحدة , والتعليل لهذا الحكم أنّ هذه الطلقة الأولى صارت أجنبية , والأجنبية لا يقع عليها طلاق. كذلك إذا قال أنت طالق ثم طالق فإنها لا تطلق إلاّ واحدة , لأنّ الثانية صادفت امرأة أجنبية فلم تؤثر فيها. * يستثنى من هذا مسألة. وهي إذا قال أنت طالق طلقة معها طلقة , لأنّ هذا صريح في الجمع , وكذلك إذا قال أنت طالق وطالق؛ لأنّ الواو لمطلق الجمع. إذا عرفنا أنها تستثنى هاتين المسألتين ما عداهما تكون طلقة واحدة. يقول الشيخ - رحمه الله - (والمعلق كالمنجز في هذا) يعني إذا قال إن دخلت الدار فأنت طالق بل طالق , فهذا المعلق حكمه حكم المنجز. لماذا؟ لأنّ القاعدة تقول [أنّ المعلق إذا وقع فإنه يقع كما لو كان منجزاً] هذه قاعدة عندهم , فالتفصيل السابق في بل وثم والفاء , يأتي معنا فيما إذا صار الطلاق معلقاً , وعرفنا ما معنى تعليق الطلاق وهو أن يقول إن دخلت الدار فأنت طالق , فيعلق الطلاق على دخول الدار. بهذا انتهى هذا الفصل الذي اشتمل على مسائل قليلة النفع في آخره , فإنّ استخدام بل وثم والفاء وتطليق ظفر المرأة وتطليق رجل المرأة هذه لا تكاد تقع لكن على كل حال نحن عرفنا الآن الأحكام فيما لو تحذلق بعض العوام وقال شعرك طالق مثلاً. (فصل) هذا الفصل عقده المصنف للاستثناء والاستثناء في لغة العرب هو مطلق الإخراج. وأما في الاصطلاح اللغوي وفي اصطلاح أهل الشرع , فهو إخراج ما دخل في الجملة بإلاّ أو أحد أخواتها. وهذا الفصل مفيد في الحقيقة ويقع.

قال - رحمه الله - (ويصح منه استثناء النصف فأقلّ من عدد الطلاق والمطلقات. فإذا قال: أنت طالق طلقتين إلاّ واحدة وقعت واحدة وإن قال: ثلاثاً إلاّ واحدة فطلقتان) المؤلف يريد أن يبيّن أنّ الاستثناء اللفظي يؤثر في عدد المطلقات وفي عدد الطلاق , فإذا قال أنت طالق ثلاثاً إلاّ واحدة فهي مطلقة تطلقتين. وإذا قال نسائي الأربع طوالق إلاّ واحدة فاللاتي يطلقن من النساء كم؟ ثلاث , والاستثناء اللفظي في الطلاق في العدد والمطلقات محل إجماع. لم يخالف إلاّ رجل من الحنابلة , وقال الاستثناء ليس بشيء. لأنّ الطلاق إذا وقع فإنه لا يرتفع. فإذا قال أنت طالق ثلاث إلاّ واحدة قال هذا الاستثناء لا ينفعه لأنّ الطلاق وقع بالثلاث , فلا يرتفع مرة أخرى. والجواب عن استدلاله: أولاً: أنه محجوج بالإجماع. ثانياً: أنه لم يفهم الاستثناء , لأنّ الاستثناء هو في الواقع إرادة المتكلم البيان أنّ هذا الشيء غير داخل في كلامه أصلاً , ولم يقع ثم يرفعه ولكنه أراد أنّ هذا غير مقصود أصلاً بالكلام ولهذا نحن نقول إن شاء الله الراجح أنّ الاستثناء اللفظي ينفع في عدد المطلقات وفي عدد الطلقات. يقول الشيخ هنا (ويصح منه استثناء النصف فأقلَّ) أما استثناء أكثر من النصف فإنه لا يصح , فإذا قال أنت طالق ثلاثاً إلاّ اثنتين , فهذا الاستثناء لا غي , ويكون الطلاق ثلاثاً. واستدلوا على هذا بأنّ المعروف في لغة العرب استثناء النصف فأقل , ولا يعرف عندهم استثناء الأكثر. والقول الثاني: أنّ الاستثناء صحيح ولو استثنى الأكثر , والدليل على هذا أنه لا يوجد مانع من أن الإنسان يريد استثناء الأكثر وعدم وقوع مثله في لغة العرب لا يدل على بطلانه , فإذا قال أنت طالق ثلاث إلاّ اثنتين فالواقع أنه وقعت عليها طلقة واحدة. قال - رحمه الله - (وإن استثنى بقلبه من عدد المطلقات صح دون عدد الطلقات)

لما انتهى من الاستثناء اللفظي لا معي انتقل إلى الاستثناء بالنية , والاستثناء بالنية ينفع في المطلقات ولا ينفع في عدد الطلقات , فإذا قال نسائي طوالق إلاّ واحدة في نيته صح الاستثناء , وإذا قال أنت طالق ثلاثاً ونوى في نيته واحدة إلاّ واحدة فإن الاستثناء لا ينفع دليل التفريق , قالوا إذا قال نسائي طوالق فإنّ كلمة نسائي تقبل الاستثناء , أما إذا قال أنت طالق ثلاثاً فإنّ العدد لا يقبل الاستثناء.

الدرس: (4) من الطلاق قال شيخنا حفظه الله: بسم الله الرحمن الرحيم والحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين. مازال الكلام في الفصل المتعلق بالاستثناء في الطلاق , وكنا انتهينا من القسم الأول وهو الاستثناء اللفظي وكذلك القسم الثاني وهو بقلبه يعني الاستثناء بالنية وتبيّن معنا أنه في الاستثناء القلبي يصح في المطلقات لا في عدد الطلقات , وتبيّن معنا في الدرس السابق ما هو السبب اليوم. يقول المؤلف - رحمه الله - (وإن قال: أربعتكن إلاّ فلانة طوالق صح الاستثناء) وإذا صح الاستثناء لم تطلق , بصحة استثناءها ولا فرق بين هذه العبارة وبين قوله وإن استثنى بقلبه من عدد المطلقات صح لا فرق بينهما إلاّ أنّ المؤلف أراد أن يبيّن أنه سواء تقدم الاستثناء أو تأخر فإن الحكم واحد لا يختلف , سواء قال أربعتكن طوالق إلاّ فلانة أو قال أربعتكن إلاّ فلانة طوالق , فالحكم واحد فأراد فقط أن ينبه إلى هذه المسألة وإلاّ ليس في هذه العبارة زيادة علم. ثم قال - رحمه الله - ((ولا يصح استثناء لم يتصل عادة , فلو انفصل وأمكن الكلام دونه بطل) بدأ المؤلف بشروط الاستثناء ليكون صحيحاً. فالشرط الأول" أن يتصل الكلام فلا بد ليصح الاستثناء أن يتصل الكلام. والاتصال إما أن يكون اتصال حقيقي // أو // اتصال حكمي , فالاتصال الحقيقي هو: أن لا ينقطع الكلام فيستمر في الكلام ذاكراً المستثنى منه والمستثنى فيه في سياق واحد.

وأما الاستثناء الحكمي فهو: أن يفصل بين المستثنى منه والمستثنى بنحو تنفس أو سعال بما لا يقطع في الحقيقة الاتصال. وإلى اشتراط الاتصال ذهب الأئمة الأربعة بلا خلاف ,بل إنّ بعض الفقهاء قال هو محل إجماع ,واستدل الجماهير على اشتراط الاتصال بأنّ الكلام إذا لم يكن متصلاً لم يكن كلاماً واحداً , وإذا لم يكن كلاماً واحداً فإنّ الطلاق يقع باللفظ الأول , وإذا وقع فإنه لا يرفع فهذا هو عمدتهم في اشتراط الاتصال , وهو يعود إلى مسألة أنه إذا وقع الطلاق فإنه لا يرفع لأنّ الاستثناء لم يصح , ومن هنا علمنا أنه ليس معهم دليل من الكتاب أو السنة. القول الثاني: وهو مذهب الحسن البصري , ورواية عن الإمام أحمد ونصره شيخ الإسلام وابن القيم وغيرهم من المحققين , وهذا القول هو أنه لا يشترط الاتصال , ويعبر عن هذا القول بأحد تعبيرين: التعبير الأول: أن يقولوا لا يشترط الاتصال ما دام في المجلس. والتعبير الثاني: أن يقولوا لا يشترط الاتصال مادام الكلام واحداً , وهو اختلاف عبارة إلاّ أنّ هذا الاختلاف يلقي الضوء على مقصود هؤلاء بقولهم لا يشترط الاتصال. الأدلة استدل هؤلاء بأدلة: الأول: منها أنّ النبي - صلى الله عليه وسلم - (لما خطب في حجة الوداع وبيّن منزلة مكة وحرمتها , وقال لا يختلى خلاها ولا يعضد شوكها , ثم قال ولا تحل لقطتها إلاّ لمنشد ثم قال ومن قتل له قتيل فهو بخير النظرين ثم قال العباس إلاّ الإذخر, فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلاّ الإذخر) ففي الحديث الفصل بين المستثنى والمستثنى منه بكلام أجنبي. فإنّ حكم اللقطة وحكم ولي الدم ليس له علاقة بقضية الاستثناء وهو جواز احتشاش الإذخر. وهو نص في المسألة فإذا هذا الحديث بيّن صحة الاستثناء وإن لم يتصل أيّ الاتصال الذي أراده الجمهور. الدليل الثاني: أنه صح عن ابن عباس أنه يجوز الاستثناء وإن لم يتصل , وهذا القول هو الراجح أنه مادام الكلام كلاما واحداً في مجلس واحد متصل فإنه يصح الاستثناء ولو فصل بين المستثنى منه والمستثنى بكلام أجنبي عن الموضوع. ثم - قال رحمه الله - (وشرطه النية قبل كمال ما استثنى منه)

باب الطلاق في الماضي والمستقبل

يعني والشرط الثاني للاستثناء أن يكون الاستثناء بنية سابقة , فإن تكلم بالكلام ولم ينوي الاستثناء ثم عرض له أن يستثني فإنّ الاستثناء لا يصح , وهذا مذهب الحنابلة. القول الثاني: في هذه المسألة أنّ الاستثناء يصح ولو لم يكن في ذهن المتكلم وإنما عرض له عرضاً أثناء الكلام , واستدلوا بدليلين: الدليل الأول: ما جاء في الحديث الصحيح أنّ نبي الله سليمان - صلى الله عليه وسلم - قال (لأطوفن الليلة على مائة امرأة تلد منهما مجاهداً في سبيل الله , فقال له أحدهم - وفي رواية فقال له الملَك - قل إن شاء الله , فلم يقل إن شاء الله. وجه الاستدلال بهذا الحديث أنه لما قال الملَك لسليمان عليه السلام قل إن شاء الله , دل هذا على أنه لو قال إن شاء الله لنفعه. مع العلم أنه لم يكن في ذهن سليمان أن يقول إن شاء الله , وهذا أيضاً نص في المسألة وهو نص في أنه يجوز الاستثناء وإن لم ينوي عند التحدث بالكلام. الدليل الثاني: حديث الإذخر الذي تقدم معنا , فإنه قطعاً لم يكن النبي - صلى الله عليه وسلم - في نيته أن يستثني الإذخر وإنما استثناه بطلب العباس - رضي الله عنه - ومع هذا صح الاستثناء وصار يجوز للإنسان وإن كان في مكة أن يأخذ الإذخر وينتفع منه. فهذان دليلان من السنة يدلان على أنه لا يشترط أن يكون الإنسان ناوي أن يستثني. بل الغالب أنّ الإنسان إذا استثنى لا يكون في ذهنه أن يستثني أليس كذلك؟ لأنه لو كان في ذهنه أن يستثني لاستثنى من الأصل. إذا هذا هو القول الراجح إن شاء الله وهو القول الثاني وبهذا نكون انتهينا من الفصل المتعلق بالاستثناء. * باب الطلاق في الماضي والمستقبل * معنى باب الطلاق في الماضي والمستقبل: أيّ تقييد الطلاق في الوقت الماضي أو تقييده بالوقت المستقبل. والمعنى ما حكم الطلاق إذا قيّد بوقت ماضي. أو بوقت مستقبل.

يقول الماتن - رحمه الله - (إذا قال: أنت طالق أمس) هذا في الماضي , أو (قبل أن أنكحك) أيضاً في الماضي (ولم ينوي وقوعه في الحال لم يقع) إذا قال أنت طالق بالأمس فإنّ الطلاق لا يقع وتعليل هذا أنّ الطلاق هو عبارة عن رفع الاستباحة ورفع الاستباحة في الماضي لا يمكن. وهذا واضح يعني إذا كان الشيء مباح للإنسان في الماضي فإنّ هذه الإباحة التي وقعت في الزمن الماضي لا يمكن أن ترفعه والطلاق هو في الحقيقة رفع للاستباحة , بعني لاستباحة المرأة , فهذا هو الدليل على أنّ الطلاق في الماضي لا يقع. لكن يقول الشيخ هنا - رحمه الله - (ولم ينوي وقوعه في الحال لم يقع) قبل أنّ نتعرض لقضية إذا نوى وقوعه في الحال, إذا قال أنت طالق بالأمس قلنا أنه لا يقع, لهذه المسألة أصل ترجع إليه وهو مفيد لمعرفة باقي المسائل. لكن قبل أن نذكر أصل هذه المسألة لا يتبيّن أصلها إلاّ بذكر الخلاف. ذكرنا المذهب أنه لا يقع وتعليلهم أليس كذلك؟ القول الثاني: وهو رواية أنه يقع , الدليل: أنه لما علق الطلاق على أمر لاغٍ ألغينا ما عُلقّ عليه وأثبتنا الطلاق , لأنّ هذا الوصف وصف لاغِ فألغيناه , عرفنا إذا الآن الخلاف , نأتي إلى المسألة التي أحب أن أنبه عليها , هذه المسألة ترجع إلى قاعدة وهي: إذا عُلقّ الطلاق على أمر محال , فهل يلتغي الوصف ويثبت الطلاق , أو يلتغي الطلاق لكونه عُلقّ على محال هذا الضابط هو الضابط الذي ترجع إليه حقيقة الخلاف في هذه المسألة وإذا كنا نرجح أنّ الطلاق لا يقع إذا كذلك نرجح في هذا الضابط أنّ الذي يلغى هو الطلاق وليس الوصف , لأنّ الأصل عدم وقوع الطلاق ولأنّ الأصل أنّ التعليق مراد ولا يمكن أن نلغي التعليق المراد بلا دليل. إذا انتهينا من مسألة إذا لم ينوي وقوعه في الحال وهو أنه لا يقع. يقول الشيخ (ولم ينوي وقوعه في الحال لم يقع) مفهوم العبارة أنه إذا نوى وقوعه في الحال فإنه يقع , الدليل على هذا: تعليل سيتكرر معنا وهو أنه مقر على نفسه بما هو أغلظ فأخذ به لأنّ الإنسان إذا قال أنت طالق بالأمس , وقال أردت اليوم فقد أقرّ على نفسه بما هو أغلظ لأنّ هذا الإقرار يؤدي إلى وقوع الطلاق.

والقول الثاني: أنه إذا قال أنت طالق بالأمس أعني اليوم فإنّ هذا الكلام لغو ولا يقع الطلاق , وممن نصر هذا القول الإمام الغزالي من الشافعية , فإنه تبنى هذا القول ورأى أنه قول وجيه وأقوى من القول الأول وأنّ هذا كلام لغو كيف تقول أنت طالق بالأمس ثم تقول أردت اليوم هل هذا إلاّ تلاعب ولغو من الكلام. ولا يخفى أنّ كلام الغزالي فيه وجاهة. إلاّ أنه يعكّر عليه أنّ بعض الناس يقول أنت طالق بالأمس يريد ماذا؟ يريد تحقيق الطلاق كأنها من الأمس مطلقة, ولا يريد قضية تعليق الطلاق على الوقت الماضي , في مثل هذه الصورة ممكن يقال يقع الطلاق لأنه غاية ما هنالك أن تكون كناية والكنايات تقع مع النية ونحن نقول إنّ هذا اللفظ كناية وإذن كان فيه الصريح وهو لفظ الطلاق , لكن لما ألحق به كلمة بالأمس خرج عن مقصوده ولم يصبح دليلاً على الطلاق إلاّ مع النية وهذه حقيقة الكنايات. ثم - قال رحمه الله - (وإن أراد بطلاق سبق منه , أو من زيد وأمكن قبل) يعني إذا قال أنت طالق بالأمس وقصد طلاق سابق منه , أو طلاق سابق من زيد وأمكن بأن تقدم منه طلاق قُبِل, لأنّ لفظه يحتمل وإذا تكلم بما يحتمل صح منه وقُبِل. قال - رحمه الله - (فإن مات , أو جُنَّ , أو خرس قبل بيان مرداه لم تطلق) هذه العبارة ترجع إلى قوله أنت طالق أمس, وإلى قوله أنت طالق قبل أن أنكحك, فإذا قال هذه العبارة ولم يبيّن مراده هل يريد الوقوع حالاً الآن أو يريد فعلاً أنت طالق بالأمس , ومات أو جن أو خرس فإنّ الطلاق لا يقع , واستدلوا بدليلين: الأول: أنّ الأصل بقاء النكاح. الثاني: أنّ الأصل من هذه العبارة والمتبادر منها أنه أراد بالأمس, فنحن نبقى مع الظاهر من عبارته وهذا صحيح فإذا مات أو جن فزوجته باقية في النكاح. قال - رحمه الله - (وإن قال: طالق ثلاثاً قبل قدوم زيد بشهر فقدم قبل مضيه لم تطلق) يعني وإن قال لزوجته أنت طالق ثلاثاً قبل قبل قدوم زيد بشهر فقدم قبل مضيه لم تطلق ,

السبب أنه علقّ طلاقها على وصف لم يوجد؛ وهذا الوصف هو أنها تطلق قبل قدوم زيد بشهر , والواقع أنّ زيد قدم قبل الشهر فلم توجد الصفة , فلم تطلق المرأة وهذا صحيح لأنه لا يعدو أن يكون علقّه على صفة وهذه الصفة لم توجد وأمره واضح. قال - رحمه الله - (وبعد شهر وجزء تطلق فيه يقع) معنى العبارة وإن قدم زيد بعد شهر وجزء تطلق فيه طلقت , إذا قال أنت طالق قبل قدوم زيد بشهر وقدم بعد شهر وجزء فإنها تطلق والتعليل عكس التعليل السابق. وهو أنّ الوصف الذي عُلقّ عليه الطلاق وجد. لكن لماذا يقول الشيخ وجزء؟ مراده بكلمة وجزء أنه يشترط أن يوجد جزء يمكن إيقاع الطلاق فيه , فإذا لم يوجد هذا الجزء فإنها لا تطلق. إذا عرفنا من هذه الكلمة حكم مسألة أخرى , وهي ما إذا قدم على رأس الشهر تماماً فإنها لا تطلق , لأنّ الشرط لم يتحقق بل لابد من وجود جزء يمكن أن يقع الطلاق فيه, وكما قلت لكم هذه الأبواب وما يليها قليلة الفائدة. ولا تكاد توجد أصلاً في واقع الناس إلاّ أنها من جهة أخرى مفيدة لتمرين الإنسان على فهم المسائل أما من حيث الواقع فهي قليلة الفائدة. قال - رحمه الله - (فإن خالعها بعد اليمين بيوم وقدم بعد شهر ويومين صح الخلع وبطل الطلاق) إذا خالعها بعد اليمين بيوم ثم لم يقدم زيد إلاّ بعد اليمين بشهر ويومين , فإنّ الخلع صحيح والطلاق لا يصح لماذا؟ الخلع صحيح لأنه خالعها وهي زوجة فإنه تبيّن بسبب عدم قدوم زيد في الوقت المحدد أنه أثناء الخلع هي زوجة , والخلع يقع على الزوجة. وأما أنه لا يصح أو بطل الطلاق فلأنّ الشرط وجد حال كون المرأة مخالعة , والمخالعة لا يقع عليها الطلاق. إذا هذا مقصود الشيخ بقوله (صح الخلع وبطل الطلاق) قال - رحمه الله - (وعكسهما بعد شهر وساعة)

يعني يبطل الخلع ويصح الطلاق إذا قدم بعد شهر وساعة لماذا؟ لأنّ تبيّن أنه لما خالعها بعد اليمين بيوم إنما خالع امرأة مطلقة , ولا يقع الخلع على امرأة مطلقة ولذلك نشترط في هذا الطلاق أن يكون طلاقاً بائناً لماذا؟ لأنه لو كان رجعياً فإنّ الخلع يقع على الزوجة الرجعية , فمقصود الشيخ هنا بالطلاق يعني في هذه المسألة بالذات الطلاق البائن , ويشترط لتصحيح هذه المسائل أن لا يتخذ الخلع حيلة لإبطال التعليق , فإنّ اتخذه حيلة فإنّ الخلع لا يصح والطلاق يقع بوجود الصفة. قال - رحمه الله - (وإن قال: طالق قبل موتي طلقت في الحال) طلقت في الحال لماذا؟ لأنه الآن قبل الموت ألاّ يصدق عليه الآن أنه قبل الموت, هل يوجد جزء من الحياة لا يصدق عليه أنه قبل الموت هي الآن قبل الموت , فإذا قال لها أنت طالق قبل موتي طلقت في الحال وهذا صحيح. ثم - قال رحمه الله - (وعكسه معه , أو بعده) إذا قال أنت طالق مع موتي أو قال أنت طالق بعد موتي فإنّ الطلاق لا يقع, والعلة في ذلك. أنّ الطلاق صادف المرأة بعد الموت والبينونة والطلاق لا ينفع إلاّ في امرأة منكوحة وهذه ليست منكوحة , إذا صحيح إذا قال هذه العبارة فكأنه لم يقل شيئاً لأنّ عبارته لغو ولم يصح الطلاق. (فصل) هذا الفصل في تعليق الطلاق على المستحيل , والمستحيل على نوعين: - النوع الأول: المستحيل عادة. والنوع الثاني: المستحيل لذاته. وهو الذي يسمونه المستحيل عقلاً. فأمثلة المستحيل عادة. الأمثلة التي ذكرها المؤلف. فجميع الأمثلة المذكورة إنما هي للمستحيل عادة. أما أمثلة المستحيل عقلاً أو لذاته. كأن يقول أنت طالق إن لم ترددي أمس , لأنّ المرأة لا يمكن أن تردّ أمس أليس كذلك؟ يمكن للإنسان أن يردّ أمس هذا مستحيل عقلاً , وكما إذا قال لها أنت طالق إن لم تشربي من هذا الكوب وليس فيه ماء , وكما إذا قال لها أنت طالق إن لم تجمعي في هذه العين بين اللون الأسود والأبيض. هل يمكن الجمع بينهما؟ لا إذا هذا مستحيل عقلاً كأنه أراد أن يطلق لكن أراد أن يعذّب المرأة بمثل هذه الأشياء. المهم عرفنا الآن أنه مستحيل عادة ومستحيل عقلاً وهو الذي يسمونه المستحيل لذاته.

الحكم أنه إذا علقّ الطلاق على مستحيل فإنها لا تطلق. لأنّ المستحيل لا يقع والطلاق معلقّ عليه وهو لذلك تبعاً له لا يقع. وهذا صحيح. وفي المسألة قول ثاني: وهو أنه إذا علقّ الطلاق على مستحيل عادة , فإنه لا يقع وإذا علقّه على مستحيل لذاته وعقلاً فإنه يقع لماذا؟ لأنه لما علقّه بالمستحيل لذاته علمنا أنه لا يريد التعليق لأنّ المستحيل لذاته لا يقع. والصواب أنّ المعلقّ على المستحيل لا يقع عادة أو عقلاً , فإنه لا يقع لأنّ هذا المستحيل لم يقع , وإذا لم توجد الصفة لم يوجد الحكم. لكن أنا ذكرت هذا الخلاف لأنه لفت انتباهي أن الشيخ لم يمثلّ إلاّ بالمستحيل عادة , فهل أراد الإشارة لهذا الخلاف أو أنّ المسألة يعني وجدت صدفة هكذا ولم يمثلّ إلاّ بالمستحيل عادة الله أعلم. على كل حال الآن عرفنا الخلاف وأنّ الصواب التسوية بين المستحيل عادة وعقلاً. قال - رحمه الله - (وتطلق في عكسه فوراً وهو النفي في المستحيل مثل لأقتلن الميّت أو لأصعدن السماء ونحوهما) يعني أنت طالق لأقتلن الميت ,أو أنت طالق لأصعدن السماء ونحوهما ,هنا إذا علقّه على عكسه طلقت فوراً لماذا؟ لأنه علقّ الطلاق على عدم وجود المستحيل وعدم وجوده معلوم. فإذا تطلق مباشرة, إذا عكس المسألة السابقة تماماً. إذا علقّ الطلاق على عدم وجود المستحيل فإنها تطلق فوراً , وعلمتم الآن السبب وهو أنّ عدم وجوده معلوم في الحال. قال - رحمه الله - (وأنت طالق اليوم إذا جاء غدٌ لغوٌ) فإنها يقول الشيخ لغوٌ يعني فإنها لا تطلق لماذا؟ أنا أقول أنّ فائدة هذه المسائل تمرين الذهن ولا الأحكام قليلة الوقوع ولذلك نحن نريد نناقشكم فيها لماذا إذا قال أنت طالق اليوم إذا جاء غداً فهو لغوٌ؟ لأنه اليوم لا يمكن أن يأتي غداً ,هو يقول أنت طالق اليوم إذا جاء غداً وغداً لا يمكن أن يأتي اليوم أليس كذلك؟ إذا هذا السبب في عدم الوقوع قال - رحمه الله - (وإذا قال: أنت طالق في هذا الشهر , أو اليوم طلقت في الحال) لأنه الآن هو في هذا الشهر في هذا الشهر وفي هذا اليوم , فصدق الشرط فوجد الحكم وهو الطلاق فعلقّه على أمر موجود الآن. قال - رحمه الله - (وإن قال: في غدٍ , أو السبت , أو رمضان طلقت في أوله)

إذا قال أنت طالق في غدٍ أو أنت طالق السبت , أو في رمضان , لأنها تطلق في أوله والسبب في ذلك أنه إذا جاء أوله فهي فيه. قال - رحمه الله - (وإن قال: أردت آخر الكل دُيِّن وقبل) إذا قال لما قلت أنت طالق غداً أو السبت أو رمضان, أردت آخر السبت وآخر غداً وآخر رمضان قبل منه ,والسبب في هذا أنّ العبارة تحتمل هذا المعنى لأنّ قوله في غدٍ في للظرفية وهي تصدق على كل اليوم ,كما أنّ آخر اليوم منه فلفظه محتمل له لكن إذا قال أنت طالق غداً وقال أردت آخره , فهل يصح أو لا يصح؟ الجواب أنه إذا قال أنت طالق غداً فإنه لا يصح. ما الفرق بين العبارتين؟ حرف وهو (في) في العبارة الأولى أنت طالق في غدٍ أو في السبت أو في رمضان وهنا قال أنت طالق غداً إذا قال أردت آخره فإنه لا يصح لماذا؟ لأنه لا يصدق على المرأة أن تكون طالق في كل غدٍ إلاّ إذا طلقت من أوله. ولهذا نقول عبارتك غير صحيحة ولا تحتمل ولا تقبل في الحكم , فهي تطلق بمجرد ما يدخل غداً إذا قلت أنت طالق غداً , فهناك فرق بين أنت طالق في غدٍ وأنت طالق غداً. قال - رحمه الله - (وأنت طالق إلى شهر طلقت عند انقضائه إلاّ أن ينوي في الحال فيقع) هاتان مسألتان: المسألة الأولى إذا قال أنت طالق إلى شهر طلقت عند انقضائه. المسألة الثانية: إلاّ أن ينوي في الحال فيقع. المسألة الأولى: إذا قال أنت طالق إلى شهر طلقت عند انقضائه لماذا؟ لأنّ نحمل معنى إلى شهر يعني بعد شهر , والذي جعلنا نحمل هذه العبارة هذا المحمل هو أنه مروي عن ابن عباس أنّ قول القائل , إلى غدٍ يعني بعد غد والدليل أيضاً حتى من جهة اللغة واستعمال العرف لأنه إذا قال أنا سأسافر إلى غداً يعني أنه سيخرج من البلد متى؟ بعد انقضاء غد , نحن قلنا أنّ إلى في مثل هذه العبارات بمعنى بعد. هنا يقول أنت طالق إلى شهر , يعني بعد شهر , سأخرج إلى شهر يعني بعد شهر والعمدة في الحقيقة هو أثر ابن عباس المسألة الثانية: (إلاّ أن ينوي في الحال فيقع) إذا قال أنت طالق إلى شهر مقصودي الآن فإنها تطلق في الحال, والتعليل هو ما تقدم معنا وأشرنا إلى أنه سيتكرر وهو أنه أقرّ على نفسه بما هو أغلظ.

باب تعليق الطلاق بالشروط

قال - رحمه الله - (وطالق إلى سنة تطلق باثَنَي عشر شهراً) إذا قال أنت طالق إلى سنة فمعنى هذه العبارة أنت طالق بعد سنة , والسنة في الشرع مدتها اثنا عشر شهراً , لقوله تعالى: {إن عدة الشهور عند الله اثنا عشر شهرا في كتاب الله} [التوبة/36] فإذا الكتاب دلّ على أنّ عدة الشهور عند المسلمين اثنا عشر شهراً. فإذا إذا مضى اثنا عشر شهراً من هذا التعليق فإنها تطلق , بخلاف المسألة التالية وهي " قال المؤلف - رحمه الله - (فإن عرّفها باللام طلقت بانسلاخ ذي الحجة) إذا قال أنت طالق إلى السنة , فإنها تطلق بانسلاخ ذي الحجة لأنّ الألف واللام للمعهود , والمعهود في سنة المسلمين أنها تنتهي بانسلاخ شهر ذي الحجة فبمجرد انسلاخه تطلق. ما الفرق بين المسألتين؟ الفرق بينهما أنه لو قال هذه العبارة وقد بقي على شهر ذي الحجة شهر واحد فإنه بمجرد ما ينسلخ تطلق. بينما في العبارة الأولى لا بد أن تبقى لمدة اثَنَي عشر شهراً. * باب تعليق الطلاق بالشروط * تعليق الطلاق بالشروط: أيّ ترتيب الطلاق , على أمر حاصل أو غير حاصل بأنّ أو أحد أخواتها. مثال الأمر الحاصل / أن يقول إن كنت حاملاً فأنت طالق ووجدنا في الواقع أنها حامل فهو ترتيب على أمر حاصل. مثال الذي لم يحصل / أن يقول إن دخلت الدار فأنت طالق , وهي لم تدخل الدار. * * مسألة / التعليق ينقسم إلى قسمين: - القسم الأول: أن يحلف بالتعليق وهو كاره لوقوع الطلاق فحكم هذه المسألة بالإجماع حكم الحلف بالطلاق , وما هو حكم الحلف بالطلاق؟ تقدم معنا قريباً. وبعض الناس إذا سمع هذا الإجماع تشكل عليه المسألة ويظن أنه حكاية إجماع أنه يمين. وهذا خطأ هو حكاية الإجماع إنما هي على أنّ حكم الحلف بالطلاق ثم ينظر بعد ذلك في حكم الحلف بالطلاق على الخلاف الذي سبق معنا. الصورة الثانية: أن يعلق بالشرط مريداً إيقاع الطلاق , كأن يقول إن خرجت الشمس فأنت طالق إن قدم زيد فأنت طالق فالحكم في هذه المسألة أنّ الطلاق يقع عند وجود الشرط عند الأئمة الأربعة والفقهاء جميعاً وحكي إجماعاً.

والقول الثاني: للظاهرية أنّ هذا لاغٍ ولا حكم له , لأنّ الطلاق لا يكون بالتعليق عندهم. وهو قول شاذ مخالف لفتاوى الصحابة ومخالف لأصول الشرع وكون الآيات والأحاديث ليس فيها تصحيح الطلاق إذا علق بشرط هذا لا يعني أنه لا يقع ولا يصح. ولا أدري كيف يتجرأ على مثل هذا مع وجود الفتاوى الصريحة عن عدد كبير من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم -. يقول الشيخ - رحمه الله - (لا يصح من إلاّ من زوج) لا يصح التعليق إلاّ من زوج , فغير الزوج لا قيمة لتعليقه فإذا قال الإنسان إذا تزوجتك ودخلت الدار فأنت طالق , ثم تزوجها ودخلت الدار فلا عبرة بكلامه السابق , والدليل على هذا من وجهين: - الأول: إجماع الصحابة فإنهم أجمعوا على أنّ الإنسان قبل أن يتزوج إذا علقّ فلا قيمة لتعليقه. الدليل الثاني: الحديث تقدم معنا (إنما الطلاق لمن أخذ بالساق) وقوله - صلى الله عليه وسلم - (لا طلاق لإبن آدم فيما لا يملك) فهذه النصوص كلها تدلّ على أنّ هذا الطلاق لا يصح. القول الثاني: أنه يصح فإذا تزوجها ثم دخلت الدار طلقت وعللوا هذا بأنه علق ووجد المعلقّ عليه في حال النكاح فصح , وهذا أشبه ما يكون بمذاهب التلفيق بين الأقوال ,لأنه علقّ صحيح ووجد التعليق في زمن الطلاق صحيح ,لكن تعليقه في حال لا يملك هذا التعليق ثم هذا القول من عجائب الأقوال لأنّه يخالف إجماع الصحابة , وأنا في الحقيقة اعتبر أنه أيّ قول مخالف لإجماع محكي عن الصحابة فيه جرأة كبيرة مهما كان القائل به. قال - رحمه الله - (فإذا علقه بشرط لم تطلق قبله , ولو قال عجلته) إذا علقّه بشرط فإنّ هذا التعليق يظل صحيحاً ولا يملك تعجيله , معنى التعجيل/ هو إلغاء الشرط وايقاع الطلاق حالاً ,هذا هو التعجيل فالزوج إذا علقّ لا يملك التعجيل وإلغاء الشرط , لأنه عقد خرج منه فثبت حكمه.

ثمرة المسألة / ما هي ثمرة المسألة؟ لو قال الزوج إذا لم تسمحوا لي بتعجيل الشرط أطلّق طلاقاً مبتدأً أليس كذلك؟ فهل هذا الخلاف تحصيل حاصل أو له ثمرة؟ له ثمرة ثمرته أنه لو قال هذا الكلام وطلقّ فإنه إذا وجد الشرط فإنها تطلق ثانية , لأنّ الشرط يبقى موجوداً مادام لم يَنحَلّ بحنث أو براءة منه , والصحيح أنه لا يَنحَلّ , ومن الفقهاء من قال يَنحَلّ , فإذا قال عجلت الطلاق المعلقّ وقع ولا يقع إذا وجد الشرط بعد ذلك , لكن الصواب أنه لا يقع , وهذه المسألة مبنية على مسألة أخرى وهي هل يملك الزوج أن يلغي الشرط؟ هذه المسألة التي معنا مبنية على المسألة التي ذكرت , والمسألة التي ذكرت فيها خلاف. فذهب الأئمة الأربعة والجماهير: إلى أنّ الشرط لا يمكن أن يلغى. القول الثاني: وهو مذهب لبعض الحنابلة من المتأخرين , أنه يمكن إلغاء الشرط فإنّ الإنسان يمكن أن يلغي العقد الذي عقده بنفسه ونسب هذا القول لشيخ الإسلام , وأنا أرى أنّ هذه نسبة غير صحيحة , إنما الشيخ يصحح الرجوع في الشرط المعلقّ , [وين مرّ علينا وقلنا هناك الفرق] في الخلع انتصر الشيخ للإنسان بإمكانه أن يرجع عن الشرط المعلقّ بالخلع وذكرنا هناك الفارق الدقيق الذي كره شيخ الإسلام وهو فارق جميل وذكرت هناك أنّ الشيخ يفرقّ بين هذا التعليق وبين التعليق المجرد وهو الذي معنا الآن , وأما هنا فإنه لا يقول بالرجوع كما أنه ظاهر فتاوى الصحابة أنهم لا يقولون بالرجوع لأنه لو أمكن الرجوع لحلّت المسألة برجوع الزوج وفسخ التعليق , لكنا لا نراهم يحلّون المسألة بهذه الطريق فعلمنا أنهم يرون أنّ التعليق لازم. على كل حال الراجح إن شاء الله أنه لا يستطيع فسخ الشرط. قال - رحمه الله - (وإن قال: سبق لساني بالشرط ولم أرده وقع في الحال) إذا قال أنت طالق إن دخلت الدار , ثم قال قولي إن دخلت الدار سبق لسان , وأنا أردت أن أطلّق فكلامه مقبول للتعليل السابق وهو أنه مقرّ على نفسه بما هو أغلظ عليه. فقبل في حقه لأنّ الإقرار إذا كان فيه حق زائد على المقرّ فإنه يقبل. قال - رحمه الله - (وإن قال: أنت طالق , وقال: أردت إن قمت لم يقبل حكماً)

لم يقبل حكماً إذا قال أنت طالق ثم قال أنا أردت إن قمت فإنه يقبل تديّناً ولا يقبل حكماً لأنه يدعي خلاف لفظه , ولو فتح هذا الباب لأمكن لكل إنسان إذا جاء مجلس القضاء لقال أردت بكلامي ذاك كذا , حتى لو اعترف بدين عليه لقال أردت بالاعتراف كذا وكذا فإذا في مجلس الحكم دعوى إرادة غير ظاهر اللفظ غير مقبولة , لكن تديُّناً يقبل وتقدم معنا تدينا معناه ماذا يعني فيما بينه وبين الله؟ فإذا صدقته الزوجة وبقي على نكاحهما فهو صحيح. قال - رحمه الله - (وأدوات الشرط: إن , وإذا , ومتى , وأيُّ , ومن , وكلما) يعني وأدوات الشرط سِت: فإنه ذكر سِت ومقصوده بهذه السِت يعني التي تستعمل غالباً , وإلاّ لا شك يوجد أدوات أخرى غير هذه السِت. منها ما ذكره المؤلف لأنه قال بعد ذلك (وكلها , ومهما) فأضاف واحدة هو, إذا قيل لك لماذا ذكر هذه السِت فقط؟ فالجواب لأنها هي التي تستعمل غالباً. يقول الشيخ - رحمه الله - (وكلما وهي وحدها للتكرار , وكلها , ومهما , بلا لم أو نية فور أو قرينة للترخي ومع لم للفور إلاّ إن مع عدم نية فور أو قرينة) في الحقيقة الشيخ خلط الأمور وأدخل بعضها في بعض من غير ترتيب مريح للطالب , نحن نقول في هذه المسائل الشيخ يتحدث عن ثلاث مسائل: - التكرار , والفور , والتراخي. فنقول بعبارة أسهل جميع هذه الأدوات لا تفيد التكرار إلاّ (كلما) كل هذه الأدوات لا تفيد التكرار إلاّ ماذا؟ إلاّ (كلما) وكل هذه الأدوات تفيد التراخي بلا لم أو نيته أو قرينته. الثالث. كل هذه الأدوات تفيد الفور مع لم إلاّ (إن) كل هذه الألفاظ تفيد الفور مع نيته أو قرينته. إذا أربع عناصر ترّتب هذه القضايا التي يعني ذكرها الشيخ. العنصر الأول: كلها لا تفيد التكرار إلاّ (كلما) العنصر الثاني: كلها تفيد التراخي بلا لم أو نية الفورية أو قرينته. العنصر الثالث: كلها مع لم تفيد الفور إلاّ (إن) العنصر الأخير: كلها تفيد الفور مع نيته أو قرينته. الآن عرفنا الأربع عناصر نأتي إلى كل واحد منها: - * ليس شيء من هذه الأدوات يفيد التكرار إلاّ (كلما) لأنّ كلما في لغة العرب تفيد هذا المعنى بخلاف باقي الأدوات فإنها لم تأتي في لغة العرب لإفادة التكرار.

* وكلها مع لم تفيد الفور إلاّ (إن) لماذا؟ قالوا لأنّ إن لا يفيد الوقت أصلاً. فلم وغير لم لا تؤثر عليه شيئاً. * كلها تفيد الفور مع نيته أو قرينته. هذا معلوم فإذا تكلم بهذه الأدوات ناوياً الفور أو أتى بقرينة تفيد الفور فإنها كلها تفيد الفور حتى) إن) هذا إذا معنى قول الشيخ (وكلما وهي حدها للتكرار , وكلها ومهما بلا لم أو نية فور ..................... ) الخ فقوله (وكلما وهي وحدها للتكرار) يعني أنّ كلما وحدها للتكرار , والباقي ليست للتكرار. ثم - قال رحمه الله - (وكلها) يعني مع (مهما) بلا لم أو نية الفور أو قرينته للتراخي إذا الأصل في هذه الأدوات أنها للتراخي أو للفور؟ الأصل للتراخي , ولا تفيد الفور إلاّ بأحد ثلاث قرائن. (لم) , (نية الفور) , (قرينة الفور) هذا عدا ماذا؟ عدا (إن) في لم , فإن لا تفيد الفور ولو دخلت عليها لم. سيعيد المؤلف بيان هذه الأشياء بالأمثلة , فإنّ الخمس مسائل التالية كلها تدور حول هذا المعنى. قال - رحمه الله - (فإذا قال: إن قمت , أو إذا , أو متى , أو أيُّ وقت , أو من قامت , أوكلما قمت فأنت طالق فمتى وجدت طلقت) هذا تأكيد لمعنى التراخي , كأنه يقول أنّ هذه الألفاظ تفيد التراخي من حيث الأصل , فإذا قال إن قمت فإنها متى قامت في أيِّ وقت من الأوقات فإنها ماذا؟ تعتبر طالق ولا يتقيد بوقته الذي قال فيه هذا التعليق. إذا هذا معنى أنها للتراخي ولذلك يقول الشيخ - رحمه الله - (فمتى وجدت طلقت) يعني أنها للتراخي. قال - رحمه الله - (وإن تكرر الشرط لم يتكرر الحِنثُ إلاّ في كلما) التكرار معناه وجود طلاق كلما وجدت الصفة , فالتكرار يصح في حق (كلما) ولا يصح في حق الأخريات , فإذا قال إن قمت فأنت طالق فقامت , ثم جلست وقامت تطلق الثانية؟ ولماذا؟ لأنه لا يفيد التكرار. لكن إن قال لها كلما قمت فأنت طالق , فقامت ثم قعدت , ثم قامت ثم قعدت , ثم قامت , كم طلقت؟ ثلاث. إذا عرفنا الآن معنى أنها تفيد التكرار وما معنى أنها لا تفيد. قال - رحمه الله - (وإن لم أطلقك فأنت طالق ولم ينوِ وقتا , ولم تقم قرينة بفور , ولم يطلقها طلقت في آخر حياة أوَّلِهمَا موتاً)

يريد المؤلف أن يبيّن أنّ (إن) إذا دخل عليها لم لا تفيد الفور , فيقول وإن لم أطلقك فأنت طالق ولم ينو وقتاً ................. الخ إذا قال الرجل إن لم أطلقك فأنت طالق. فإنّ هذه العبارة تفيد تعليق الطلاق على عدم الطلاق أليس كذلك؟ وعدم الطلاق لا يتحقق إلاّ إذا بقي من حياة أحدهما ما لا يتسع لإيقاع الطلاق , حينئذ تحقق أنه لم يطلق قبل هذا لم يتحقق لأنه بالإمكان أن يطلق فيما بعد. هذه العبارة تفيد أنه إذا علق الطلاق على عدم الطلاق فإنها لا تطلق إلاّ في آخر جزء من حياته , ويشترط في هذا الجزء أن يتسع ولا أن لا يتسع لوقوع الطلاق؟ أن لا يتسع. فإن اتسع لم تطلق. على هذا إذا استخدم هذه اللفظة يحتاج المرأة وأهلها إلى فقيه ليشرح لهم متى تطلق ومتى لا تطلق. وهذا الحقيقة من التلاعب , يعني لو استخدمه الإنسان لا هو ولا المسائل السابقة لأنه في الحقيقة يعتبر من التلاعب الذي ينبغي أن يؤدب , إن أراد أن يطلق فليطلق بقوله أنت طالق. قال - رحمه الله - (ومتى لم , وإذا لم , أو أيُّ وقت لم أطلقك فأنت طالق ومضى زمن يمكن إيقاعه فيه ولم يفعل طلقت) إذا قال لها متى لم أطلقك فأنت طالق , الآن دخل على أداة الشرط متى حرف (لم) ولم إذا دخلت على هذه الأدوات تفيد ماذا؟ الفور فإن لم يطلق فوراً , والمقصود بفوراً يعني بعد مضي وقت يمكن أن يطلق فيه , إن لم يطلق طلقت. لماذا؟ لأنها تفيد الفور وهو لم يطلق إذا طلقت , فقد علق الطلاق على عدم التطليق , والتطليق الصفة المعلق عليها يجب أن توجد فوراً , فإذا لم توجد فإنها تطلق. إذا قال لزوجته متى لم أطلقك طلقت , هل يستطيع أن لا يطلق؟ لا يستطيع لماذا؟ لأنه إن طلق فقد طلق أليس كذلك؟ معلوم هذا وإن لم يطلق وجد الشرط فطلقت , فإذا بمجرد ما يقول هذه العبارة نعلم أنّ الزوجة بكل حال طالق. قال - رحمه الله - (وكلما لم أطلقك فأنت طالق ومضى وما يمكن إيقاع ثلاث مرتبة فيه) إذا قال كلما لم أطلقك فأنت طالق , فإنّا أخذنا أنّ كلما تفيد ماذا؟ التكرار. كلما وجد زمن لم يطلق فهي طالق ثم إذا وجد زمن آخر لم يطلق فهي طالق , فإذا وجد زمن ثالث لم يطلق فيه فهي طالق بالثلاث , أليس كذلك؟ كلما وجد الشرط وجد التطليق.

إذا ما هو الحل لمثل هذا حتى لا تقع الثلاث على زوجته؟ هل يمكن له أن يتجنب إيقاع الثلاث؟ وهل يمكن له أن يتجنب إيقاع الواحدة؟ كيف يمكنه أن يتجنب إيقاع الثلاث؟ أن يطلق لماذا؟ لأنه يكون بَرَّ بيمينه وانتهى الشرط. لكن إذا لم يطلق طلقت الثانية ثم الثالثة ثم انتهى العدد. يقول الشيخ - رحمه الله - (طلقت المدخول بها ثلاثاً وتبين غيرها بالأولى) يعني أنّ إيقاع الثلاث في هذه العبارة كلما لم أطلقك فأنت طالق , إنما يكون في حق المدخول بها , لأنّ غير المدخول بها تبين وتصبح أجنبية بالطلقة الأولى لأنه لا عدة عليها فلا تلحقها الطلاقات الثانية والثالثة. وهذا أمر واضح. ثم - قال رحمه الله - (وإن قمت فقعدت , أو ثم قعدت , أو إن قعدت إذا قمت , أو إن قعدت إن قمت فأنت طالق لم تطلق حتى تقوم ثم تقعد) إذا قال لها إن قمت فقعدت أو قال لها إن قمت ثم قعدت , لم تطلق حتى تقوم ثم تقعد , وتعليل ذلك: أنّ الطلاق هنا معلقّ على شرطين مرتَّبَين فلا تطلق إلاّ بوجود الشرطين وأيضاً مرتَّبَين , فلو أنها قعدت ثم قامت فإنها لم تطلق , لأنه رتبّ وقال لا بد أن تقوم ثم تقعد, وهذا أمر واضح. أما ما يتعلقّ بقوله (إن قعدت إذا قمت) وقوله (إن قعدت إن قمت) فهذا يعود إلى قاعدة معروفة , وهي أنه إذا رتبّ الحكم على شرطين فالثاني لفظاً هو الأول في المعنى , لماذا؟ لأنّ الشرط الثاني شرط في الأول والشرط يتقدم المشروط وترجع المسألة إلى حكم المسألة السابقة لأنه إذا قال (إن قعدت إذا قمت) فلابد أيضاً أن تقوم ثم تقعد ثم - قال رحمه الله - (وبالواو تطلق بوجودهما ولو غير مرتّبين , وبأَو بوجود أحدهما) إذا قال إن قمت وقعدت , فلا تطلق إلاّ بوجودهما لماذا؟ لأنه رتبّ الطلاق على هذين الشرطين , لكن لا يشترط الآن الترتيب لأنّ الواو تقتضي مُطلَق الجمع لا تقتضي الترتيب. أخيراً يقول (وبأو بوجود أحدهما) إذا قال إن قمت أو قعدت فأيُّ من العملين وجد فإنّ الطلاق يوجد لأنه علقّه على وجود أحدهما فوجد الطلاق بوجود أحدهما. بهذا يكون انتهى.

الدرس: (5) من الطلاق قال شيخنا حفظه الله: بسم الله الرحمن الرحيم والحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين. (فصل) مازال المؤلف - رحمه الله - في الكلام عن التعليق , وهذا الفصل يتعلق بتعليق الطلاق على صفة الحيض. يقول الشيخ الماتن - رحمه الله - (إذا قال: إن حضت فأنت طالق , طلقت بأولّ حيض متيقَّنٍ) إذا قال إن حضت فأنت طالق فإنها بمجرد ما تحيض فإنها تطلق , لكن يجب أن تحيض حيضة نعلم أنها حيضة وذلك بخروج الدم المتيّقن أنه حيض , فإذا خرج هذا الدم فقد حاضت وإذا حاضت فقد طلقت. هذه الصورة الأولى. الثانية" يقول - رحمه الله - (وإذا حضت حيضة تطلق بأوّل الطهر من حيضة كاملة) إذا قال لها إذا حضت حيضة فإنها تطلق بحيضة كاملة , وذلك بأن تحيض حيضة كاملة ثم تطهر فإذا طهرت فإنها تطلق وعلم من هذا أنه لو قال لها إن حضت حيضة فأنت طالق قال لها هذا الكلام أثناء الحيض فإنّا ننتظر إلى أن تطهر ثم تحيض ثم تطهر ثم تطلق , لأنّ هذا الشخص قال إذا حضت حيضة , والحيضة الكاملة لا تكون إلاّ من بدأ نزول الحيض الدم إلى الطهر وجفاف المرأة. * * مسألة / وهل يشترط مع ذلك أن تغتسل؟ أو بمجرد توقف الدم وانتهاء الحيض تطلق , فيه خلاف. والأقرب والله أعلم المتوافق مع فتاوى الصحابة في مسائل أخرى أنها لا بد أن تغتسل , بناء على هذا فإذا طهرت واغتسلت طلقت وتبيّن معنا أنّ الفرق بين العبارتين أنه في الأولى قال: (إن حضت) , بينما في الثانية قال (إن حضت حيضة) الصورة الثالثة" يقول - رحمه الله - (وفي إذا حضت نصف حيضة تطلق في نصف عادتها) إذا قال لها إذا حضت نصف حيضة طلقت فإنها تطلق في نصف العادة , ويعلم نصف العادة بعد انقضاء العادة فإذا حاضت لمدة ستة أيام ثم طهرت علمنا أنها طلقت بعد مضي ثلاثة أيام وإذا حاضت لمدة أربعة أيام علمنا أنها طلقت بعد مضي أربعة أيام , ومن هنا علمنا أنه لا يمكن أن نعرف المنتصف إلاّ إذا اكتملت العادة فإذا اكتملت علمنا متى وقع الطلاق عليها. (فصل) هذا الفصل يتحدث عن تعليق الطلاق على الحمل. فيقول المؤلف - رحمه الله - (إذا علقه بالحمل فولدت لأقل من ستة أشهر طلقت منذ حلف)

إذا علقّه بالحمل يعني قال لها إن كنت حاملاً فأنت طالق , فإنها إذا ولدت لأقل من ستة أشهر علمنا أنه من حين قال هذا القول طلقت لأنّا علمنا بهذه الولادة أنها كانت حامل لمّا قال لها هذا الكلام فإذا تطلق إذا ولدت لأقل من ستة أشهر , فإذا ولدت لأكثر من ستة أشهر لم تطلق , لأنّا علمنا أنه حين علقّ الطلاق لم تكن حاملاً بل كانت حائلاً , وفي وقتنا هذا إذا علقّ الطلاق بالحمل , فإنها يجب أن تكشف لأنه لا يمكن أن تعلم هل هي حامل أو لا وتبعاً لذلك هل هي مطلقة أو لا إلاّ بالكشف , ومالا يتم الواجب إلاّ به فهو واجب وكونها تعلم هل هي مطلقة أو ليست بمطلقة هذا واجب , لما يترتب على كونها مطلقة من آثار كثيرة. ثم - قال رحمه الله - (وإن قال: إن لم تكوني حاملاً فأنت طالق حرم وطؤها قبل استبرائها بحيضة في البائن) هذه المسألة عكس المسألة السابقة , يقول لها إن لم تكوني حاملاً فأنت طالق , فالمؤلف يريد أن يبيّن حكماً قبل أن يبيّن هل تطلق أو لا وهذا الحكم هو أنه إذا قال لها إن لم تكوني حاملاً فأنت طالق فإنه يجب عليه أن يمسك عن الوطء إلى أن يتبيّن هل هي حامل أو حائل ويتبيّن ذلك باستبرائها بحيضة , وجه تحريم الوطء في هذه المدة أنها ربما تكون حامل فتطلق , والتي تطلق وهي بائن تكون أجنبية ولا يجوز له أن يطأها , ولهذا قيّد المؤلف الحكم بقوله بحيضة في البائن , يعني في المرأة التي تكون هذه الطلقة في حقها بائن , علمنا من تقييد المؤلف أنها إذا كانت رجعية لا يحرم عليه أن يطأ ولو لم يستبن الأمر لأنّ الرجعية يجوز للزوج أن يطأها. القول الثاني: أنها وإن كانت رجعية لا يجوز له أن يطأ ولو كانت رجعية , وعلل أصحاب هذا القول مذهبهم. بأنّ الوطء في هذه الحالة يفوّت العلم بكونها مطلقة أو ليست بمطلقة , فالمأخذ عند هؤلاء يختلف عن المأخذ السابق. وهو قضية هل يجوز أن يطأ أو لا يجوز أن يطأ. وهذا القول الثاني هو الصحيح , بناء عليه إذا قال لها إن لم تكوني حاملاً فأنت طالق فإنه يجب أن يعتزلها إلى أن يتبيّن هل هي حامل أو حائل. ثم - قال رحمه الله - (وهي عكس الأولى في الأحكام)

يعني أنه في الصورة الثانية في الصور التي يقع فيها الطلاق في المسألة الأولى لا يقع فيها الطلاق في المسألة الثانية , بمعنى أنها إذا ولدت لأكثر من أربع سنين فإنها تطلق , لماذا؟ لأنّا علمنا أنه لما علقّ الأمر على كونها ليست حاملاً لم تكن حاملاً فطلقت. إذا هو يقول إن لم تكوني حاملاً فأنت طالق , فعلقّ الطلاق على وجود الحمل أو على عدم وجود الحمل , يعني إذا لم يكن الحمل موجوداً فهي طالق , وإذا ولدت لأكثر من أربع سنين تبيّنا أنه حين تكلم بهذا لم تكن حاملاً , لأنّ أكثر مدة الحمل أربع سنين , فإذا تكون طالقاً في هذه الحال. قال - رحمه الله - (وإن علقّ طلقة إن كانت حاملاً بذكر , وطلقتين بأنثى فولدتهما طلقت ثلاثاً) يقول الشيخ. وإن علقّ طلقة إن كنت حاملاً بذكر وطلقتين بأنثى فولدتهما طلقت ثلاثاً , لماذا؟ لأنه تبيّن أنها كانت حاملاً بذكر وأنثى وهذا الحكم بلا نزاع عند الحنابلة , لأنّ الصفة المعلقّ عليها الطلاق وجدت , فوجد الحكم كاملاً وهو الطلاق ثلاثاً. فإن ولدت ذكرين , فهل تطلق واحدة أو طلقتين؟ هو يقو علقّ طلقة فقال إن كنت حاملاً بذكر فتطلقين طلقة وبأنثى فتطلقين طلقتين فهي الآن حامل بذكرين. تطلق طلقة واحدة , بل إنّ المرداوي يقول عن القول بأنها تطلق طلقتين أنه بعيد جداً وضعيف. وفي الحقيقة هذا الرجل بئسما كافأ زوجته به , كافأها بالطلاق إن كانت حاملاً بذكر وإن كانت حاملاً بأنثى. قال - رحمه الله - (وإن كان مكانه إن كان حملك أو ما في بطنك لم تطلق بِهِمَا) معنى قول المؤلف وإن كان مكانه إن كان حملك , يعني وإن كان بدل العبارة الأولى العبارة الثانية فتكون العبارة إن كان حملك ذكراً طلقت طلقة , وإن كان حملك أنثى طلقت طلقتين ثم تبيّن أنها حامل بذكر وأنثى , فإنها لا تطلق لا واحدة ولا ثنتين ولا يقع بهذا شيء:

التعليل: أنه قال إن كان حملك بذكر وهي الآن حملها ليس بذكر , وإنما بذكر وأنثى , وليس حملها بأنثى لأنها حامل بذكر وأنثى إذا الشرط لم يوجد , ففي هذه الحالة إذا حملت بتوأم , فإنها تتخلص من الطلاق , هذا إذا استخدم عبارة إن كان حملك , فإنه اشترط أن يكون كل الحمل ذكر أو كل الحمل أنثى , والآن ليس كل الحمل ذكر بل ذكر وأنثى. فصل قال - رحمه الله - (إذا علقّ طلقة على الولادة بذكر وطلقتين بأنثى فولدت ذكراً ثم أنثى حياً أو ميتاً طلقت بالأول وبانت بالثاني ولم تطلق به) المسائل الأولى فيها تعليق على الحمل وهنا على الولادة , يعني بغضّ النظر عن الحمل فهو الآن علقّ الحكم على الولادة. يقول لامرأته إذا ولدت ذكراً فأنت طالق طلقة وإذا ولدت أنثى فأنت طالق طلقتين , فولدت ذكراً ثم أنثى حياً أو ميتاً طلقت بالأولى وبانت بالثاني ولم تطلق به. ما معنى هذه العبارة؟ إذا قال لها إن كنت ولدت ذكر فأنت طالق طلقة , وإن ولدت أنثى فأنت طالق طلقتين , فولدت ذكر ثم أنثى حينئذ إذا ولدت الذكر الأول طلقت , لأنّ الصفة وجدت وأصبحت معتدة , لكن في بطنها الأنثى فإذا يصدق عليها أنها حامل والحامل تنتهي عدتها بأن تضع الحمل , فإذا وضعت الحمل الثاني الذي في بطنها أصبحت بائنة ولم تقع عليها الطلقة الثانية. ربما يكون بين خروج الطفل الأول وخروج الطفل الثاني دقائق , ومع ذلك تنتهي العدة , فإذا إذا استخدم هذه العبارة فإنها تقع عليها الطلقة الأولى فقط. ولا تقع عليها الثانية لأنها خرجت عن العدة. ففي المثال الذي ذكره المؤلف إذا ولدت أنثى ثم بعد ساعة ولدت ذكراً , فكم طلقت؟ طلقتين. لأنه يقول إن ولدت أنثى فأنت طالق طلقتين هي ولدت الأنثى فوقعت الطلقتان ثم لما ولدت الذكر خرجت من العدة فصارت بائنة أجنبية فلم تقع عليها طلقة الذكر , بينما إذا ولدت الذكر أولاً طلقة واحدة. هذا الكلام في الولادة الطبيعية وهي الموجودة في عصر المؤلف , في الولادة القيصرية هل يختلف الحكم بأنّ الطبيب يخرج الذكر أو يخرج الأنثى أولاً , أو لا يختلف وهذه ليست ولادة؟

الآن الناس يقولون ولدت المرأة أليس كذلك , ثم يسأل المتكلم هل ولدت ولادة طبيعية أو ولدت ولادة غير طبيعية؟ إذا الولادة غير الطبيعية أيضاً ولادة. فلذلك نقول ينبغي أن يكون الطبيب يعني نبيه وأن يخرج الذكر أو الأنثى؟ الذكر حتى تتخلص المرأة من الطلقة الثانية. وهذا صحيح إن فعل وعلقّ هذا التعليق فيجب أن ينبه الطبيب أن يخرج الذكر حتى تقع عليها طلقة واحدة. إذا لماذا لا تطلق الطلقة الثانية في مثال المؤلف؟ لأنّ الطلقة الثانية وقعت على امرأة بائن. ما وجه أنها بائن؟ لأنها خرجت عن العدة بالولادة الثانية ولا الأولى؟ بالولادة الثانية. بينما بالولادة الأولى وقعت الطلقة. إذا هذا معنى قول الشيخ (إذا علقّ طلقة على الولادة ................... الخ) ولا حظ أنّ الشيخ قال طلقت بالأول لأنه ربما يكون الأول ذكر وربما يكون الأول أنثى. وقال ثم أنثى حياً أو ميتاً لأنه إذا خرج الطفل حياً أو خرج الطفل ميتاً فإنه يصدق عليه أنها ولادة ولذلك يقولون ولدت مولوداً ميتاً. قال - رحمه الله - (وإن أشكل كيفية وضعِهِمَا فواحدة) إذا أشكل فلم نعرف هل وضعتهما معاً , أو وضعتهما متفرقين فإنه لا يقع إلاّ واحدة , والسبب أنّ الثانية مشكوك فيها , والأصل هو عدم وقوع الطلاق , لكن كيف يكون الإشكال! هم يقولون بأن لا تعلم هل وضعتهما جميعاً أو وضعتهما واحدًا بعد الآخر. هل يمكن أن تضعهما جميعاً , بأن ننسى هذه صورة. ومن أبرز الصور أن لا نعرف أيهما الأول هل هو الذكر فتكون طلقة أو الأنثى فتكون طلقتين. إذا هذا هو الإشكال , أن لا نعرف أيهما الأول أو أن ننسى. لأنه عند النسيان أيضاً يقع الإشكال. فصل قول الشيخ - رحمه الله - فصل يعني في تعليق الطلاق على الطلاق. قال - رحمه الله - (إذا علقه على الطلاق ثم علقه على القيام , أو علقه على القيام ثم على وقوع الطلاق , فقامت , طلقت طلقتين فيهما)

بأن قال , في هذه الصورة يقول إن علقه على الطلاق ثم علقه على القيام , يعني قال إن طلقتك فأنت طالق ثم قال بعد ذلك إن قمت فأنت طالق , فإذا قامت ماذا يحصل؟ يقع عليها الطلاق ثم إذا وقع عليها الطلاق صدق عليها الشرط الثاني فوقعت عليها الطلقة الثانية ولهذا يقول في ختام العبارة فقامت طلقت طلقتين فيهما. الصورة الثانية" العكس يقول أو علقه على القيام ثم على وقوع الطلاق نفس الشيء , يعني قال إن قمت فأنت طالق ثم قال ماذا؟ إن طلقتك فأنت طالق ثم قامت , فلما قامت وقع الطلاق فلما وقع الطلاق وقع الشرط الثاني فطلقت طلقتين , هو لو قال من الأول أنت طالق طلقتين انتهينا. لكن ربما أراد أن لا تقوم أو أن لا تذهب أو نحو ذلك. قال - رحمه الله - (وإن علقه على قيامها ثم على طلاقه لها فقامت فواحدة) رجل قال لزوجته إن قمت فأنت طالق , وإن طلقتك فأنت طالق ثم قامت فكم تطلق؟ واحدة. لماذا؟ لأنه أراد بالطلقة الثانية أن يوقع طلقة مرادة جديدة , يعني أن يستأنف ويبتدأ بطلقة جديدة , فهو الآن هي لما قامت طلقت , لكن هذا الطلاق ليس طلاقاً مبتدأً مستأنفاً وإنما طلاقاً معلقاً , ولهذا لا تقع به إلاّ واحدة. عرفنا إذا الفرق بين العبارتين. هو يقول إن قمت فأنت طالق وإن طلقتك فأنت طالق , ثم قامت فإنه لايقع عليها إلاّ واحدة , لماذا؟ لأنّ قوله وإن طلقتك يريد طلاقاً جديداً مبتدأً أراد إيقاعه من جديد. وهذا الطلاق الذي حصل بالقيام ليس طلاقاً جديداً مبتدأً وإنما طلاقاً بسبب التعليق. إذا متى تطلق طلقتين؟ يعني ماذا يقول إذا قامت طلقت ثم لما طلقت قال لها أنت طالق فكم صارت الآن؟ لأنّ الثاني لم يقع فإذا قال لها هذه العبارة ثم قامت طلقت ثم قال لها أنت طالق طلقت فصارت المجموع كم؟ الآن هي جالسة. قال لها إن قمت فأنت طالق وإن طلقتك فأنت طالق؟ قامت طلقت الأولى , إن سكت كم يقع بهذا , هو لم يسكت وإنما قال أنت طالق فطلقت بهذا الطلاق المبتدأ , وهو قال لها إن طلقتك فأنت طالق صارت كم؟ ثلاث.

إذا إنما يقع الطلاق المعلق الثاني إذا طلقّ طلاقاً مبتدأً مراداً جديداً , أما إذا سكت فإنه واحدة , ولذا في هذه العبارة ينبغي على الزوج أن يحذر لأنه ربما يظن أنه سيقع طلقتان والواقع أنه إذا طلق ثانية وقد استخدم هذه العبارة فسيتنفذ الثلاث فعليه أن يحذر إذا كان من الذين يرون وقوع الطلاق الثلاث. قال - رحمه الله - (وإن قال: كلما طلقتك أو كلما وقع عليك طلاقي فأنت طالق فوجدا طلقت في الأولى طلقتين وفي الثانية ثلاثاً) إذا عندنا مسألتان: - يقول وإن قال كلما طلقتك أو كلما وقع عليك طلاقي فأنت طالق فوجدا طلقت ................ الخ المسألة الأولى: أن يقول كلما طلقتك فأنت طالق , ففي هذه المسألة يقول المؤلف الشيخ أنها تقع عليها طلقتين. لأنّ الأولى ابتدائية والثانية بسبب وجود ماذا؟ الشرط فإذا قال لها أنت طالق فقد طلقت الأولى ووقع الشرط فطلقت الثانية. الثانية" يقول وفي الثانية ثلاثاً , وهي قول المؤلف كلما وقع عليك طلاقي فأنت طالق , ثم قال لها أنت طالق , حينئذ طلقت الأولى بهذا الطلاق المبتدأ ثم تطلق الثانية لأنه قال لها كلما وقع عليك طلاقي ثم تطلق الثالثة لأنّ المرأة وقع عليها الطلاق الثاني فإذا وقع عليها الطلاق الثاني تطلق للمرة الثالثة. إذا هناك فرق بين أن يقول كلما طلقتك وبين أن يقول كلما وقع عليك طلاقي. إذا انتهينا من تعليقه بالطلاق ننتقل إلى الفصل الذي بعده. فصل هذا الفصل فصل في الحلف في الطلاق والحلف بالطلاق هو / تعليق الطلاق على شرط يقصد منه الحث أو المنع أو التصديق أو التكذيب فإذا كان هذا قصده فهذا يسمى حلف بالطلاق , وتقدم معنا أنّ هذه المسألة وهو الحلف بالطلاق مسألة مهمة وتقدم معنا ذكر الخلاف فيها. يقول الشيخ - رحمه الله - (إذا قال: إذا حلفت بطلاقك فأنت طالق , ثم قال: أنت طالق إن قمت طلقت في الحال) لماذا؟ لأنه علقّ الطلاق على الحلف وقد وجد الحلف , وتطلق مرة أو مرتين؟ الآن يقول إن حلفت بطلاقك فأنت طالق ثم قال لها أنت طالق إن قمت , فتطلق مرة أو مرتين؟ الآن الطلاق مرتب على شرط ما هو الشرط؟ الحلف بالطلاق هو الآن حلف بالطلاق فقال:

أنت طالق إن قمت! يقول الشيخ وقع الطلاق في الحال بمجرد ما ينطق هذه الكلمة يقع الطلاق يقع واحدة أو ثنتين؟ واحدة إن لم تقم فإذا قال لها إن قمت فأنت طالق ولم تقم , تطلق طلقة واحدة لتحقق الشرط وهو الحلف بالطلاق , فإن قامت طلقت ثانية. إذا قول الشيخ هنا طلقت يعني واحدة , لأنه هو يتكلم عن مسألة تعليق الطلاق على الحلف بالطلاق. إذا مرة أخرى إذا قال الرجل إذا حلفت بطلاقك فأنت طالق ثم قال أنت طالق إن قمت فهو الآن حلف بطلاقها فتحقق الشرط فوقع ماذا؟ الطلاق. فإن قامت طلقت طلقة ثانية. وأنا نبهت يا إخواني مراراً على أننا نحن نتحدث هنا عن مسائل مبينة على أقوال سبقت مناقشتها , فمثلاً وقوع الطلاق على الرجعية تقدم معنا الخلاف فيه , وقوع الطلاق الثلاث تقدم معنا الخلاف فيه , وقوع الطلاق على الحائض تقدم معنا الخلاف فيه. لكن نحن نريد تقرير كلام المؤلف كل مسألة فيها طلقتين غير صحيحة , ما تطلق المرأة في الطهر الواحد إلاّ طلقة واحدة. قال - رحمه الله - (لا إن علقه بطلوع الشمس ونحوه لأنه شرط لا حلف) مقصود المؤلف. لا إن علقه على شرط مجرد فإذا علقه على شرط مجرد فإنها لا تطلق لأنه علقه على الحلف وهذا ليس بحلف , فإذا قال إن طلعت الشمس فأنت طالق فإنها لا تطلق , يعني مقصود المؤلف إذا قال إن حلفت بطلاقك فأنت طالق ثم قال إن خرجت الشمس فأنت طالق ثم خرجت الشمس , تطلق أو لا تطلق؟ لا تطلق لأنّ علقه على الحلف بالطلاق والتعليق المجرد ليس بحلف. وإن قال إن قدم زيد فأنت طالق , فهل هذا تعليق مجرد أو حلف بالطلاق؟ تعليق مجرد لأنك لا تستطيع تفهم من هذا حث ولا منع ولا تصديق ولا تكذيب. وإن قال إن ذهبت إلى أهلك فأنت طالق فهو حلف بالطلاق , وهذا الذي أراد المؤلف - رحمه الله - أن ينبه عليه وهو التفريق بين الحلف بالطلاق والتعليق المجرد. قال - رحمه الله - (وإن حلفت بطلاقك فأنت طالق أو إن كلمتك فأنت طالق وأعاده مرة أخرى طلقت واحدة ومرتين فثنتان وثلاثاً فثلاث)

إذا قال لها إن حلفت بطلاقك فأنت طالق ثم قال لها مرة أخرى إن حلفت بطلاقك فأنت طالق , طلقت لأنه بعبارته الثانية حلف بطلاقها. فإن قال إن حلفت بطلاقك فأنت طالق, إن حلفت بطلاقك فأنت طالق, إن حلفت بطلاقك فأنت طالق, فكم تطلق؟ طلقتين رجل قال لزوجته إن حلفت بطلاقك فأنت طالق , إن حلفت بطلاقك فأنت طالق , إن حلفت بطلاقك فأنت طالق , فالشرط وجد كم مرة؟ مرتين. كلما وجد الشرط وجد الحكم فتطلق مرتين , إذا يحتاج ليطلقها ثلاثاً أن يعيد العبارة كم؟ أربع مرات لأنّ الأولى لا يقع بها شيء لأنها هي التي أسست التعليق. المسألة الثانية: إذا قال إن كلمتك فأنت طالق , رجل قال لزوجته إن كلمتك فأنت طالق ثم قال لها إن كلمتك فأنت طالق ثم قال لها إن كلمتك فأنت طالق تطلق وإن قال مرة أخرى إن كلمتك فأنت طالق مرة أخرى لماذا؟ لأنه علقّ الطلاق على الكلام ووجد الكلام يستثنى في المسألتين السابقتين. ما إذا أعاد التأكيد أو للإفهام. فإنها لا تطلق. وغالب أحوال الناس أنهم يعيدون للإفهام لا للتأسيس. فصل هذه المسألة قريبة من المسألة السابقة. قال - رحمه الله - (إذا قال: إن كلمتك فأنت طالق فتحققي , أو قال: تنحي , أو اسكتي , طلقت) لماذا؟ لأنه كلّمها فهو يقول لها إن كلمتك فأنت طالق ثم قال لها تنحي , أو اخرجي , أو اذهبي , أو انصرفي , فحينئذ يقع الطلاق لأنه علق الطلاق على تكليمها وقد كلّمها , وهل يأتي معنا هنا أنه مالم ينوي الإفهام أو التأكيد؟ الحنابلة يقولون في هذه المسألة. إن كلمتك فأنت طالق اسكتي أنها تطلق مالم ينوي إفهاماً أو تأكيداً والذي يظهر لي أنّ الإفهام والتأكيد لا يتأتى في مثل هذه الصورة , لأنه كيف يؤكد إن كلمتك فأنت طالق بقوله تنحي أو اسكتي أو تحققي , لأنّ الإفهام يكون بإعادة العبارة وتأكيد معناها , فالذي يظهر لي أنه إذا قال لها إن كلمتك فأنت طالق ثم غضب وقال اسكتي أو اخرجي فإنها تطلق لأنه في الواقع كلّمها , ولو نوى التأكيد أو الإفهام لأنّ لا مجال للإفهام هنا , كيف يفهمها إن كلمتك فأنت طالق بقوله اخرجي أو اسكتي هذا ليس بإفهام , فالذي يظهر لي أنه لا يتأتى , والله أعلم.

قال - رحمه الله - (وإن بدأتك بكلام فأنت طالق , فقالت: إن بدأتك به فعبدي حر انحلت يمينه) إذا قال لزوجته إن بدأتك بكلام فأنت طالق , فقالت زوجته من الغضب إن كلمتك فعبدي حر فإنه لا يمكن أن يحنث هنا أبداً , لماذا؟ لأنها كلمته قبل أن يكلمها فلا يمكن أن يبدأ بكلامها , حينئذ لا يمكن أن يقع الطلاق في هذه الصورة ولهذا إذا قال الرجل لزوجته إن بدأتك بالكلام فأنت طالق وهي لا تحب الطلاق فالتصرف الذي تتصرفه هو ماذا؟ أن تبادر بتكليمه لأنها لو سكتت وبادر هو طلقت. قال - رحمه الله - (ما لم ينو عدم البداءة في مجلس آخر) ما لم يكن نيته بهذا الكلام أن لا يبدأ معها الكلام في أيِّ مجلس , فإن كانت هذه نيته فإنّ هذا التعليق يستمر ولابد في كل مجلس أن تبدأ هي قبله , فإن بدأ هو قبلها ماذا؟ طلقت والغالب من إرادة الناس إن بدأت بكلامك فأنت طالق هو إرادة هذا في كل مجلس ولاّ في هذا المجلس؟ الآن إذا قال الإنسان أنا لا أبدأ بكلامك يقصد الآن ولاّ دائماً؟ الذي يظهر لي أنّ مراد الناس بهذه العبارة يعني دائماً كأن يكون الشخص دائماً هو الذي يبدأ بالحديث ومقابله لا يبدأ فيلاحظ الزوج أنه هو الذي دائماً يبدأ بالحديث مع الزوجة هو الذي يثير الكلام فملّ من هذا الوضع فقال بدأتك بالكلام غير هذه المرة فأنت طالق , يريد أنها تبدأ هي بالكلام في كل مجلس , يبدوا لي أنّ هذا مقصود الناس على كل حال يرجع للنية , فإن كانت نيته في كل مجلس فإنه يجب أن تتحدث هي قبله في كل مجلس وإلاّ طلقت. فصل قال - رحمه الله - (إذا قال: إن خرجت بغير إذني , أو إلاّ بإذني أو حتى آذن لك , أو إن خرجت إلى غير الحماّم بغير إذني فأنت طالق) يقول الشيخ (فخرجت مرة بإذنه ثم خرجت مرة بغير إذنه) فإنها تطلق والسبب أنّ الشرط وجد فوجد الحكم لأنها خرجت بغير إذنه وإن خرجت قبل ذلك بإذنه فإنّ الخرجة الثانية وقعت بغير إذنه فطلقت. وهذا صحيح , ومقصود المؤلف البيان أنّ الزوج إذا قال لزوجته إن خرجت بغير إذني فأنت طالق ثم أَذِنَ لها في مرة واحدة فإنّ المرة الثانية إن خرجت بغير إذنه فهي طالق لأنّ الإذن تناول مرة واحدة وباقي خروجها يحتاج إلى إذنٍ جديد.

قال - رحمه الله - (أو أَذِنَ لها ولم تعلم) وخرجت بغير إذنه فإنها تطلق , لأنّ الإذن مع عدم العلم ليس بإذن. والقول الثاني: أنه إذا أذن لها فإنها لا تطلق ولو لم تعلم لأنّ الشرط لم يتحقق وفي الحقيقة هذه المسألة مشكلة لأنه من جهة هي خالفت الأمر أليس كذلك؟ وخرجت بغير إذن تعلمه يعني بالنسبة لها هي خرجت بغير إذن , ومن جهة أخرى هي في الواقع خرجت مع وجود الإذن. والذي يظهر لي والله أعلم بوضوح وإن كانت مشكلة لكن يظهر لي الآن بعد التأمل أنها إذا خرجت تطلق , لماذا ما السبب؟ أنّا نعلم أنّ الزوج أراد أنّ هذه المرأة متى خرجت بغير إذنه عامدة فهي تطلق وهي الآن مع نفسها خرجت بغير إذنه فوقع المحظور الذي أراد زوجها أن يتفاده , ولهذا نقول تطلق. وهذا الذي مشى عليه الحنابلة وهو في الحقيقة أفقه. قال - رحمه الله - (أو خرجت تريد الحمّام وغيره) يعني طلقت. مع العلم أنه هو قال إن خرجت إلى غير الحمّام بغير إذني طلقت , هي الآن خرجت إلى الحمّام وإلى غير الحمّام ومع ذلك تطلق السبب؟ أنه يصدق عليها أنها خرجت إلى غير الحمّام , وهذا صحيح لأنها خرجت إلى غير الحمّام وإن كانت خرجت أيضاً إلى الحمّام. قال - رحمه الله - (أو عدلت منه إلى غيره) يعني لو خرجت لا تريد إلاّ الحمّام , ثم بعد أن انتهت من الحمّام عدلت إلى غيره حينئذ تطلق , والتعليل هو نفسه السابق لأنها خرجت إلى غير الحمّام. ما الفرق بين المسألتين؟ أنها في الصورة الأولى" من حين خرجت وهي تنوي أن تذهب إلى الحمّام وإلى غيره. وفي الصورة الثانية" خرجت لا تنوي الذهاب إلاّ إلى الحمّام لكنها عدلت إلى غيره. * لماذا استثنوا الحمّام من هذه المسألة ما السبب؟ لأنه في القديم الحاجة إلى خروج المرأة إلى الحمّام لاسيما بعد نهاية الحيضة والنفاس ملحة جداً لأنّ لا تتيسر في بيوت الناس كما تتيسر منازلنا ولله الحمد الآن , فالحمّامات كانت معّدة للاغتسال وخروج المرأة إليها كان حاجة ضرورية فجرى العرف أنّ خروج المرأة إلى الحمّام لا يحتاج إلى إذن وإنما الذي يحتاج إلى إذن هو الخروج إلى غير الحمّام. قال - رحمه الله - (لا إن أَذِنَ فيه كلّما شاءت , أو قال إلاّ بإذن زيد فمات زيد ثم خرجت)

قال لا إن أذن (فيه) فيه يعود إلى الخروج كلما شاءت , فإذا أذن فيه كلما شاءت فإنه لا يحنث إذا خرجت , لأنه أذن لها في الخروج إذناً مطلقاً , فكأنه نسخ عبارته الأولى وأذن لها في الخروج مطلقاً. المسألة الثانية: إذا قال لها لا تخرجي إلاّ بإذن زيد , أو إن خرجت بغير إذن زيد فأنت طالق , ثم مات زيد فخرجت فإنها لا تطلق لماذا؟ التعليل: أنه يتعذر إذن زيد بموته. فسقط الشرط وإلاّ لو بقي لبقيت في بيتها إلى الموت ,لأنّ إذن زيد لا يمكن الوقوف عليه بعد موته وهذا لا يتأتى إذاً نعدل إلى الثاني وهو سقوط إذن زيد وجواز الخروج. فصل قال - رحمه الله - (إذا علقه بمشيئتها بـ (إن) أو غيرها من الحروف لم تطلق حتى تشاء ولو تراخى) إذا علقه بمشيئتها فقال متى شئت الطلاق فأنت طالق , فإنّ هذا التعليق يبقى أبداً لماذا؟ لأنّ ذكرنا في أول الفصل أنّ هذه الحروف تفيد التراخي أو الفور , تفيد التراخي مالم تقرن بكلمة لم , وهنا لم تقرن بكلمة لم فتفيد التراخي فيبقى هذا الحق ثابتاً لها دائماً وأبداً فمتى شاءت الطلاق في أيِّ وقت كان طلقت. * * مسألة / هل له أن يفسخ هذا التعليق فيقول لها لو شئت الطلاق لم تطلقي , وقد فسخت التعليق السابق؟ الجواب أنه ليس له أن يفسخ هذا التعليق , لأنّا أخذنا الخلاف في التعليقات وهو أنّ التعليقات لا تفسخ عند الجماهير فإذاً لا يملك الفسخ في هذه الصورة. قال - رحمه الله - (وإن قالت: قد شئت إن شئت , فشاء لم تطلق) يعني قالت المرأة لزوجها قد شئتُ إن شئتَ , قال الزوج شئتُ تطلق أو لا تطلق؟ كلام المؤلف تطلق أو لا تطلق؟ لا تطلق لماذا؟ عللوه بتعليل لطيف جداً: قالوا لأنّ الطلاق معلقّ على مشيئة المرأة , والمرأة هنا لم تشاء وإنما علّقت المشيئة على مشيئة زوجها والمشيئة شيء والتعليق شيء آخر. مع أنّ المتبادر إلى الذهن أنها تطلق أليس كذلك؟ يعني رجل قال لزوجته إن شئت فأنت طالق , فقالت قد شئتُ إن شئتَ فقال الزوج قد شئتُ , فعند الحنابلة لا تطلق مع إنّ المتبادر أنها تطلق , لكن الصحيح أنها لا تطلق وما ذكروه وجيه جداً , لأنه فرق بين التعليق وبين المشيئة. ولو استمروا هكذا لصار البيت كله شئتُ وشئتِ وانتهى الوقت.

قال - رحمه الله - (وإن قال: إن شئت وشاء أبوك) إذا قال إن شئت وشاء أبوك , طلقت فإنّ الطلاق لا يقع حتى يتحقق أمران: - واحد /أن تشاء هي. اثنان /ويشاء أبوها , لأنه عبر بالواو. وقوله (أو زيد) لعّل مراد المؤلف أنه سواء علقّ المشيئة على أحد أقاربها , أو علقّ المشيئة على رجل أجنبي , يعني هذا تخريج لكلام المؤلف وإلاّ قوله أو شاء أبوك يغني عن قوله أو شاء زيد , ما الفرق بين العبارتين؟ إلاّ أنه كما قلت لعله أراد التفريق أو بيان أنه لا فرق بين أن يعلقه على مشيئة الأب وعلى مشيئة زيد , وهذا قد يقع من بعض الأزواج أن يعلق مشيئتها ومشيئة أبيها لأنه يعلم أنّ أباها رجل حكيم وعاقل فلن يوقع الطلاق إلاّ في وقته المناسب. * * مسألة / هل تعليق الطلاق على مشيئة الزوجة يدخل في الخلاف السابق الذي أخذناه في توكيل أو تمليك الزوجة الطلاق أو لا يدخل؟ لا يدخل لماذا؟ لأنّ هذا ليس بتمليك وإنما هو تعليق , كما أنه إذا علقّ على طلوع الشمس فليس بتمليك للشمس , أليس كذلك؟ وهكذا هنا نقول أنّ هذا ليس من تلك المسألة , فإذا قال إن شئت فأنت طالق وشاءت طلقت ولا تدخل في الخلاف السابق. قال - رحمه الله - (وإن شاء أحدهما فلا) يعني إن قال إن شئت أو شاء أبوك فأنت طالق , فحينئذ إذا شاءت أو أبوها , يعني أحدهما فإنها تطلق ولا نشترط الجمع بل يكتفى بأحدهما. قال - رحمه الله - (وأنت طالق وعبدي حر إن شاء الله وقعا) إذا قال لها أنت طالق وعبدي حر إن شاء الله , فإنه يقع الطلاق في الحال ويعتق العبد في الحال , التعليل: قالوا لأنه علق الطلاق على والعتاق على أمر لا يمكن أن يعلم فسقط الشرط وبقي الطلاق. القول الثاني: أنه إذا قال لها هذه العبارة فإنها لا تطلق ولا يعتق العبد , وهذا مذهب لبعض الحنابلة واختاره شيخ الإسلام - رحمه الله - الدليل استدلوا بدليلين: - الدليل الأول: قوله - صلى الله عليه وسلم - (من حلف على يمين فقال إن شاء الله لم يحنث) الدليل الثاني: أنه علقه على صفة لا يمكن أن تعلم , والأصل بقاء النكاح. فبقي ولم تطلق ولا يخفى إن شاء الله أنّ القول الثاني هو الراجح لأنّ دليله وتعليله قوي جداً.

قال - رحمه الله - (وإن دخلت الدار فأنت طالق إن شاء الله طلقت إن دخلت) إذا قال للمرأة إن دخلت الدار فأنت طالق إن شاء الله ثم دخلت فإنها تطلق لأنّ الدخول وجد , وأما المشيئة فهو شرط يسقط لعدم العلم به فتبيّن بهذا أنّ الخلاف في هذه المسألة كالخلاف في المسألة السابقة تماماً. فإذا قال لها إن دخلت الدار فأنت طالق إن شاء الله فإنها ماذا؟ فإنها لا تطلق. * يستثنى من هذا. ما إذا قال أنت طالق إن دخلت الدار إن شاء الله, أراد تحقيقاً لا تعليقاً فحينئذ فإنها تطلق لأنه لم يرد التعليق بالمشيئة وإنما أراد تحقيق الأمر وهذه العبارة من المستحسن للأزواج أن يستخدموها إذا أرادو الحلف بالطلاق. فإذا أراد بعض الأزواج أن يمنع زوجته من أمر لا يريده فإنّ الأولى أن يقول إن ذهبت إلى السوق فأنت طالق إن شاء الله , هي ستفهم التعليق وهو ينوي ماذا؟ وهو ينوي التعليق أيضاً هي ستفهم أنها إذا خرجت إلى السوق فإنها ستطلق وهو ينوي التعليق , والتعليق على القول الراجح يقع أو لا يقع به الطلاق لا يقع به الطلاق ولهذا نقول استخدام هذه العبارة يحصل فيها منفعة منع الزوجة مما يريد أن يمنعها وفي نفس الوقت عدم إيقاع الطلاق. قال - رحمه الله - (وأنت طالق لرضى زيد أو مشيئته طلقت في الحال) إذا قال لها أنت طالق لرضى زيد أو مشيئته فإنها تطلق في الحال, لأنّ معنى العبارة أنت طالق لأنّ زيداً رضي بذلك أو لرضى زيدٍ بذلك فإن كان مقصوده التعليق يعني أنت طالق إن رضي زيد فإنها لا تطلق إلاّ إذا رضي , وإذا ادعى هذا في مجلس الحكم قبل منه لأنّ هذا اللفظ يحتمل هذا المعنى وهذا معنى قول الشيخ فيما بعد هذه العبارة. يقول - رحمه الله - (فإن قال أردت الشرط قبل حكماً) ثم المسألة الأخيرة ... يقول - رحمه الله - (وأنت طالق إن رأيت الهلال , فإن نوى رؤيتها لم تطلق حتى تراه وإلاّ طلقت بعد الغروب برؤية غيرها) إذا قال الزوج لزوجته إن رأيت الهلال فأنت طالق , فإما أن يريد إن رأيتيه بالبصر حقيقة , وإما أن يريد إذا دخل الشهر , فإذا كان مقصوده الأول فإنها لا تطلق حتى ترى الهلال , وإن كان مقصوده الثاني فإنها تطلق بأحد أمرين: -

1 - إما رؤية الهلال ... أو 2 - إكمال العدة ثلاثين يوماً لأنّ الرؤية في الشرع تعني دخول الشهر اللاحق وهو يدخل إما برؤية أو بإكمال العدة , والرؤية المعتد بها عند الحنابلة هو أن يراه شخص آخر بعد غروب الشمس لأنه حينئذ يصدق عليه أنه رآه في الشهر اللاحق , فإذا رآه قبل غروب الشمس فلا عبرة برؤيته ولا تطلق. القول الثاني: أنه بمجرد ما يراه الشخص الآخر فإنها تطلق لأنّ الطلاق معلقّ على الرؤية وقد وجدت , أيّ الرؤية الشرعية فإذا رؤي الهلال قبل مغيب الشمس بدقائق أو بأكثر أو بأقل فقد طلقت المرأة لأنه تحققت الرؤية الشرعية التي علقّ الطلاق عليها. * * مسألة أخيرة / قلت أنه ينبغي للزوج إذا أراد أن يعلقّ أن يقول إن شاء الله فهل هذه من الحيل المذمومة؟ لو قال قائل أنتم دائماً تقولون الحيل مذمومة في الشرع وهذا حيلة على عدم وقوع الطلاق المعلقّ فهل هذا من الحيل المذمومة التي نتحدث عنها مراراً أو ليست كذلك؟ الجواب أنها ليست كذلك. التعليل أنّ الضابط عند شيخ الإسلام للحيل المذمومة. هي التحيل على أمر لا يحبه الله ورسوله أما التحيل على أمر يحبه الله ورسوله فهو حيلة محمودة. هنا الزوج أراد تحقيق أمرين: - الأول: منع زوجته من أمر يحبه هو. ... الثاني: عدم وقوع الطلاق. وهذان الأمران محبوبان أو مكروهان للشرع؟ محبوبان إذا هو تحيل على أمر محبوب ولهذا صارت هذه الحيلة محمودة وليست مذمومة.

الدرس: (6) من الطلاق قال شيخنا حفظه الله: بسم الله الرحمن الرحيم والحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين. فصل قال - رحمه الله - (وإن حلف لا يدخل داراً أو لا يخرج منها فأدخل أو أخرج بعض جسده أو دخل طاق الباب , أو لا يلبس ثوباً من غزلها فلبس ثوباً فيه منه أو لا يشرب ماء هذا الإناء فشرب بعضه لم يحنث) جميع هذه المسائل ترجع إلى ضابط واحد , وهذا الضابط إذا حلف أن لا يفعل شيئاً ثم فعل بعضه فهل يحنث أو لا يحنث؟ فهذه المسألة فيها خلاف ,

فالمذهب كما ترون أنه لا يحنث إذا فعل بعض الذي حلف على تركه , فإذا حلف أن لا يخرج فخرج بعضه أو أن لا يدخل فدخل بعضه , أو أن لا يشرب من هذا الإناء فشرب بعضه فإنه لا يحنث. استدلّ الحنابلة بأدلة: - الدليل الأول: أنّ النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يعتكف ويخرج رأسه لعائشة لترجله , ولا يعتبر هذا خروجاً من المعتكف مع أنّ الخروج من المعتكف ممنوع. من مكان الاعتكاف ممنوع , ومع ذلك لم يعتبر النبي صلى الله عليه وسلم خروج رأسه خروجاً هذا أولاً. الدليل الثاني: أنّ فعل البعض لا يتحقق معه فعل الكل وهو إنما حلف أن يترك الكل. القول الثاني: أنه إذا فعل بعض ما حلف على تركه فإنه يحنث. واستدل هؤلاء على أنه يحنث أنّ حلفه على ترك الكل لا يتم إلاّ بتركه كله كالنهي , فالنهي مثلاً لا يتحقق امتثال النهي إلاّ بترك جميع المنهي. والراجح مذهب الحنابلة , لحديث عائشة فإنه نص أنّ خروج البعض ليس خروجاً للكل ولا يحنث به الإنسان. عرفنا إذا الخلاف في هذه المسائل التي ذكرها المؤلف. ونحتاج قبل أن ننتقل إلى المسألة التالية إلى تنبيهين: التنبيه الأول: أنّ محل الخلاف مالم ينو أو توجد قرينة على إرادة البعض. فإذا قال والله لا أشرب هذا الإناء وفي نيته أن لا يشرب الإناء ولا بعض الإناء حينئذ إذا شرب بعضه يحنث. هذا مثال النية مثال القرينة إذا قال والله أشرب هذا النهر فإنه إذا شرب من النهر فإنه يحنث , والقرينة هي أنّ الإنسان لن يتمكن من شرب النهر فعلمنا أنّ مراده , أشرب من النهر هذا التنبيه الأول , التنبيه الثاني: قلت أنّ جميع المسائل لا يدخل داراً لا يلبس ثوباً لا يشرب ماء هذا الإناء كلها ترجع إلى ضابط واحد وذكرت الخلاف في هذا الضابط , يستثنى من هذا قول الشيخ المؤلف (لا يلبس ثوباً من غزلها فلبس ثوباً فيه منه) فإنّ بعض الحنابلة - رحمهم الله - يرون أنّ هذه المسألة غير داخلة في الخلاف السابق , فإذا لبس ثوباً فيه من غزلها فإنه يحنث مطلقاً وإلى هذا ذهب الشيخ المجد والمرداوي فاستثنوا هذه المسألة من المسائل السابقة, والصحيح إن شاء الله أنها لا تستثنى وأنّ هذه المسألة كالمسائل السابقة والمذهب في هذا أصح

ثم - قال رحمه الله - (وإن فعل المحلوف عليه ناسياً أو جاهلاً حنث في طلاق وعتاق فقط) يقول الشيخ وإن فعل المحلوف عليه قصده بقوله وإن فعل المحلوف عليه يعني على تركه فإنه إذا فعله ناسياً أو جاهلاً حنث في طلاق وعتاق فقط. إذا فعل الإنسان المحلوف على تركه ناسياً أو جاهلاً فإما أن يكون الحلف بالطلاق أو بالعتاق أو وهو الذي لم يذكره المؤلف باليمين. والشيخ - رحمه الله - يقول (حنث في طلاق وعتاق فقط) يعني دون اليمين. فإذا فعل الإنسان ما حلف على تركه ناسياً أو جاهلاً وكان الحلف يمين لم يحنث , وإن كان الحلف بالطلاق أو العتاق حنث , ففرقوا بين اليمين وبين الطلاق والعتاق. دليل الحنابلة على هذا التفريق. قالوا إنّ الكفارة في اليمين المقصود منها رفع الإثم ومع الجهل والنسيان لا إثم فلا تشرع الكفارة ولا الحنث تبعاً لها. فكأنهم يقولون إذا فعله في اليمين لم يحنث ولم يأثم ولم يحتج إلى الكفارة. أما في الطلاق والعتاق فقالوا أنّ الطلاق والعتاق يقصد منه إيقاع الطلاق وإيقاع العتاق عند وجود الصفة فهو معلق على صفة توجد بوجودها نسي أو ذكِر , كان جاهلاً أو عالماً , لأنها من باب ربط الأحكام بأسبابها متى وجدت الصفة وجد الطلاق ووجد العتاق. والقول الثاني: أنه لا يحنث في جميع الحلف سواء حلف يمين أو طلاق أو عتاق , واستدلّ هؤلاء بقوله تعالى {ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا} [البقرة/286] وهو عام وبقول النبي - صلى الله عليه وسلم - (عفي عن أمتي الخطأ والنسيان) وهو أيضاً عام. وهذا القول الثاني اختيار شيخ الإسلام وهو الصواب أنه لا فرق بين الطلاق والعتاق واليمين , الدليل الثاني لهذا القول أنه لم يقصد المخالفة فلم يترتب على حلفه حنث ولا كفارة, والخلاصة أنّ الصواب التسوية بين هذه الأيمان الثلاثة, الحلف بالطلاق والعتاق واليمين. قال - رحمه الله - (وإن فعل بعضه لم يحنث إلاّ أن ينويه)

باب التأويل في الحلف

إن فعل بعضه لا يحنث لما تقدم معنا في القاعدة أنّ من حلف أن لا يفعل شيئاً ففعل بعضه فإنه لا يحنث , يقول الشيخ إلاّ أن ينويه فإذا نواه فإنه يحنث لأنّ المنوي الآن الكل والجزء فإذا فعل أياً منهما فقد حنث ووجبت عليه الكفارة , وهذه العبارة من الشيخ يعني يغني عنها العبارة الأولى إلاّ أنه أراد أن يضيف ماذا؟ إلاّ أن ينويه. قيد النية. وبقي عليه القيد الآخر الذي ذكرناه وهو ماذا؟ القرينة قال - رحمه الله - (وإن حلف ليفعلّنه لم يبرَّ إلاّ بفعله كله) إذا حلف أن يفعل الشيء فالحكم يختلف عن ما إذا حلف أن يترك الشيء , فإذا حلف أن يفعل الشيء فإنّ يمينه لا تكون بارّة إلاّ بفعل جميع الشيء فإن فعل بعضه وترك بعضه فإنه يحنث , والسبب في ذلك أنّ اليمين على فعل الشيء تتناول جميع الشيء, فلا يبرأ إلاّ بفعله وهذا التفريق جميل ودقيق فيجب على الإنسان أن يعرف الفرق بين أن يحلف على ترك الشيء وبين أن حلف على فعل الشيء. فإذا قال والله لا أدخلنّ البيت. ودخل برجله اليمنى فقط. برّ يمينه أو لم يبرّ؟ لا يبرّ في هذا المثال. لكن لو قال والله لا أخرج من البيت؟ وخرجت رجله. فإنه لا يحنث فلا بد أن نفرق بين الحلف على الفعل والحلف على الترك وهو يشبه نوعاً ما الأوامر والنواهي. فالأوامر علينا أن نأتي بها ما نستطيع منها , وأما النواهي فيجب أن نتركها كلها. باب التأويل في الحلف التأويل/ هو الذي نسميه التعريض. فالمؤلف يريد أن يبيّن حكم التأويلات أو التعريض في الحلف. وقول الشيخ باب التأويل في الحلف يشمل ما إذا حلف باليمين أو بالطلاق أو بالعتاق أو بالنذر أو بأيِّ حلف. وقوله باب التأويل في الحلف أمثلته كثيرة: من أمثلته أن يقول هذا أخي ويقصد أخوه في الإسلام , ومن أمثلته أن يقول هذا فراشي ويقصد الأرض. لأنّ الأرض جعلها الله فراشاً. سيذكر المؤلف أربعة أمثلة للتأويل. يقول الشيخ - رحمه الله - (ومعناه أن يريد بلفظه ما يخالف ظاهره) هذا هو تعريف التأويل أو الذي يسميه التعريض. أن يتكلم بكلام يفهم منه خلاف مقصود المتكلم لا احتمال اللفظ للمعنيين. ثم انتقل المؤلف - رحمه الله - إلى حكمه فقال (فإذا حلف وتأولّ يمينه نفعه إلاّ أن يكون ظالماً)

يريد المؤلف أن يبيّن متى ينفع التأويل ومتى لا ينفع التأويل , وقبل أن نبيّن متى ينفع ومتى لا ينفع. ما معنى ينفع؟ معنى ينفع أنه لا يحنث ولا يأثم. أيّ أنه إذا تعاطاه فإنه لا يحنث ولا يأثم. نأتي إلى الصور التي ينفع فيها والصور التي لا ينفع فيها. ينقسم التأويل إلى ثلاثة أقسام: - القسم الأول: أن يكون مظلوماً , فإذا كان مظلوماً نفعه التأويل والتعريض بالإجماع بلا مخالف ولله الحمد. وسيذكر المؤلف الأمثلة. القسم الثاني: إذا فعله وهو ظالم , فإنه لا ينفعه بالإجماع والنص. واستدلوا بقول النبي - صلى الله عليه وسلم - (يمينك على ما يصدقك به صاحبك) الحديث عام , لكن حمله الفقهاء على الظالم , واستدلوا بقول النبي - صلى الله عليه وسلم - (اليمين على نية المستحلف) الحديث الأول في مسلم والحديث الثاني في السنن فالقسم الأول والثاني أمرهما واضح إذا كان ظالما أو مظلوماً الحكم واضح القسم الثالث: إذا لم يكن ظالماً ولا مظلوماً فمن الفقهاء وهو المذهب من يرى جواز التأويل والتعريض حتى بالحلف فله أن يحلف متأولاً معرضاً ولو كان في أمر ليس فيه لا ظالم ولا مظلوم. واستدلوا بالعمومات المنقولة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في التأويل فإنّ النبي - صلى الله عليه وسلم - لما سئل في الغزو قال نحن من ماء ولما سئل أبو بكر الصديق في الهجرة من هذا الذي معك. قال رجل يهديني الطريق والنبي - صلى الله عليه وسلم - يسمع ولم ينكر. وقال النبي - صلى الله عليه وسلم - للأعرابي إنّا حاملوك على ولد الناقة. وقال للمرأة إنّ العجوز الكبيرة لا تدخل الجنة. فاستعمل النبي - صلى الله عليه وسلم - مجموعة من التأويلات والتعريضات. فاستدل بها الحنابلة على الجواز المطلق. القول الثاني: أنه لا يجوز مطلقاً واستدل هؤلاء بأنه لا حاجة للتعريض مع وجود الظلم فلا يجوز أن نعرض لاسيما في اليمين. وهذا القول هو أضعف الأقوال.

القول الثالث: وهو رواية عن الإمام أحمد وكأنّ شيخ الإسلام يميل إليه. أنه مع عدم الحاجة يجوز في الكلام دون اليمين , واستدلوا على هذا بأنه في الكلام نقل عن النبي - صلى الله عليه وسلم - التأويل والتعريض كثيراً , وأما في اليمين فإنّ الأحاديث تدل على ما يصدقك صاحبك أو على نية المستحلف , وهي عامة أخرجنا منها صورة ما إذا كان مظلوماً فبقيت الصور على أصل المنع وكما ترى القول الثالث الأخير هذا وجيه وقوي وهو إن شاء الله الراجح وهو أن نقول يجوز في الكلام دون الحلف ثم سيذكر الشيخ ثلاث أمثلة قال - رحمه الله - (فإن حلّفه ظالم ما لزيد عندك شيءٌ وله عنده وديعة بمكان فنوى غيره أو بما (الذي) يعني جاز إذا قال له ظالم هل عند لزيد مال ,وهو ظالم فله حينئذ التأويل والتعريض , وذكر المؤلف صورتين للتعريض والتأويل. الصورة الأولى: أن يقول ما عندي له شيء ويقصد في هذا المكان والمال في مكان آخر , فيقول ما عندي له شيء وفي نيته يعني في هذا البيت والمال في بيت آخر. الصورة الثانية: أن يقول ما عندي له شيء ويقصد بما الموصولة للنافية , فكأنه قال الذي عندي لزيد وهو صادق الذي عنده لزيد. بينما فهم الظالم أنه ينفي وجود المال عند زيد. فهذا جائز سواء مع اليمين أو بلا يمين لأنه ظالم. قال - رحمه الله - (أو حلف ما زيد هاهنا ونوى غير مكانه) يعني قيل له هل زيد هنا فقال زيد ليس هاهنا , ونوى سوى المكان الذي فيه زيد. تعرفون القصة المشهورة أنه جاء رجل يطلب المروذي في مجلس الإمام أحمد , وقال أثمّ المروذي , فقال الأثرم ليس هاهنا وأشار إلى كفه والإمام أحمد جالس فتبسم وضحك. فانصرف الرجل , فحملوا الحنابلة على أنّ هذا الرجل إما أنّ المروذي لا يريد أن يقابله أو أنه ظالم , وفي بعض كتب الحنابلة أنّ الذي قال ليس هاهنا الإمام أحمد وهذا ليس بصحيح , الذي قال ليس هاهنا هو الأثرم وليس الإمام أحمد وعلى كل حال أقرّه الإمام كان موجوداً وحملوه على وجود الحاجة وأنّ هذا ليس بحلف وإنما كلام.

كما أنه حصل تأويل آخر من الأثرم بالنسبة للإمام أحمد كان يريد أن يسمع جزءاً إما من المسند أو من غيره وكان الإمام أحمد كأنه يؤخر الأثرم ويقول له يعني أتلوا عليك الجزء لا حقاً فقال الأثرم للإمام أحمد يا أبا عبدالله إنما أريد أن أخرج يعني إلى بلدي فأسمعني الجزء قال الإمام مادام تريد أن تخرج أسمعك الجزء فجلس وحدّثه بالجزء كاملاً , فلما صار من غدٍ قابله في الطريق فقال أبو عبد الله ألم تقل سأخرج قال وهل قلت غداً , يعني قلت سأخرج لكن لم أقل غداً أخرج متى ما خرجت فضحك أيضاً الإمام أحمد وتبّسم ولم ينكر عليه , وهذا أيضاً ليس فيه يمين. أما التوسع في التأويل من غير حاجة قد يكون كلام الإنسان كله تأويل. بعض الناس إذا أردت أن تتحدث معه تحتاج إلى محترزات وأن تخرج جميع ما يحتمله الكلام , هذا ليس من طريقة المسلمين , كما أنّ شيخ الإسلام أشار إلى أنّ التأويل ينقسم إلى قسمين: - تأويل حقيقي. وتأويل يخالف ظاهر اللفظ. فالتأويل الحقيقي هو الذي يتوافق مع حقيقة الأمر , قال شيخ الإسلام وهو التأويل الذي استعمله النبي - صلى الله عليه وسلم - القسم الثاني: التأويل الذي يخالف الظاهر تماماً فهذا وإن جاز عند الجمهور إلاّ أنه لا ينبغي استعماله إلاّ عند الحاجة. فالنبي - صلى الله عليه وسلم - لما قال إنّا حاملوك على ولد الناقة. صحيح هو سيحمله على ولد الناقة. والتأويلات التي ذكرت جميعاً متوافقة مع الواقع. لكن تأويل الأثرم الذي عمله مع الإمام أحمد غير متوافق مع الواقع. فهذا ينبغي أن لا يفعله الإنسان إلاّ عند الحاجة الملحة. قال - رحمه الله - (أو حلف على امرأته لا سرقت مني شيئاً فخانته في وديعة ولم ينوها لم يحنث في الكل) إذا قال لزوجته والله إن سرقت مني شيئاً فأنت طالق فهذا حلف باليمين ولا بالعتاق؟

باب الشك في الطلاق

لا باليمين ولا بالعتاق وإنما بالطلاق , هو يقول والله إن سرقت مني شيئاً فأنت طالق , أو يقول إن سرقت مني شيئاً فأنت طالق. فهذا حلف بالطلاق , وإذا قال والله لا تسرقين مني شيئاً هذا حلف بأيش؟ هذا حلف باليمين , وإذا قال إن سرقت مني شيء فعبدي حر بالعتاق , وإذا قال إن سرقت مني شيئاً فا لله عليّ نذر أن أصوم سنة , هذا حلف بالنذر , وأظن الآن تَوَضَحَ الفرق بين الحلف باليمين والطلاق ولا لا والعتاق. فإذا قال لها ذلك وخانته بوديعة فإنه في هذه الحالة تطلق ولا يلزمه أن يصوم ولا يلزمه عتق العبد لماذا؟ لأنه حلف على السرقة , والخيانة في الوديعة ليست سرقة , إلاّ إن نوى أثناء اليمين أن يشمل الخيانة فحينئذ إذا خانته فإنها تطلق. باب الشك في الطلاق قوله باب الشك في الطلاق , المقصود بالشك هنا /مطلق التردد بين أمرين سواء كان راجحاً أو مرجوحاً , فمطلق التردد يعتبر شك عند الفقهاء. يقول - رحمه الله - (من شك في طلاق , أو شرطه لم يلزمه) إذا شك في الطلاق يعني أنه شك هل أوقع الطلاق أو لم يوقع الطلاق , وقوله شك في الشرط يعني شك في تحقق الشرط أو عدم تحقق الشرط , فالأصل في جميع هذه الصور عدم وقوع الطلاق وعدم وجود الشرط , ودليل هذه الأحكام كلها القاعدة المشهورة [أنّ اليقين لا يزول بالشك] ودليل هذه القاعدة قول النبي - صلى الله عليه وسلم - (إذا شك أحدكم هل خرج منه شيء فلا ينصرف حتى يسمع أو يجد ريحاً) والمقصود من الحديث حتى يتيّقن لا كما يفهم بعض الناس أنه لا ينصرف ولو تيّقن إلاّ إذا سمع صوتاً أو وجد ريحاً , هذا ليس بمقصود في الحديث , المقصود في الحديث لا ينصرف حتى يتيّقن. وهذا الحديث يستعمل عند الشك لأنه يقول إذا شك أحدكم أو إذا لم يعلم أحدكم أخرج منه شيء أو لا , أما إذا علم أنه خرج منه شيء فإنّ الحديث لا يتناوله ولا يذهب ينتظر أن يجد صوتاً أو ريحاً. قال - رحمه الله - (وإن شك في عدده فطلقة , وتباح له)

مقصوده وإن شك في عدده فطلقة وتباح له يعني إذا تيّقن الطلاق وشك في العدد , فحينئذ تعتبر طلقة واحدة , لأنّ الزائد عنها مشكوك فيه ودائماً المشكوك فيه ملغى لأنه في مقابل اليقين , فيعتبر طلقها طلقة واحدة رجعية وله أن يعود إليها إذا لم تكن الثالثة , وهذه الأحكام التي نقررها الآن تتناول الشخص العادي , أما من ابتلي بالوسواس في الطلاق فهذا له أحكام أخرى. فهذا يعذر أكثر من الشخص الطبيعي في مسألة الشك في عدد الطلاق أو الشك في وقوع الطلاق أصلاً , إذا الكلام الآن ليس عن من عنده وساوس وشكوك وإنما عن الشخص الذي لم يبتلى بالوساوس. قال - رحمه الله - (فإذا قال لامرأتيه: إحداكما طالق طلقت المنوية وإلاّ من قرعت) إذا قال رجل لامرأته إحداكما طالق ,فينقسم الحكم إلى قسمين: - القسم الأول: أن ينوي إحداهما فإذا نوى إحداهما فهي التي تطلق بلا خلاف ولا نزاع وأمرها واضح , ولو قال إحداكما لكنه بالنية عيّن المرادة. القسم الثاني: أن لا ينوي إحداهما , يقول إحداكما طالق ولم ينوي أياًّ منهما فالحكم عند الحنابلة أن تحدد المطلقة بالقرعة. واستدلوا على هذا بدليلين: - الدليل الأول: أنّ القرعة طريق شرعي لتحديد الحكم الواقع على المتساويين. الدليل الثاني: أنّ الصحابة حكموا على من طلق ومات قبل أن يعيّن أنه يقرع , فقاسوا عليها هذه المسألة ومن ظن أنّ الفتاوى المنقولة عن الصحابة هي في هذه المسألة فليس كذلك. فالفتاوى المنقولة فيمن طلق ولم يعيّن ثم مات. فهذا أفتى الصحابة بالقرعة لكن نقيس على فتاوى الصحابة صورتنا التي معنا وهي ما إذا قال إحداكما طالق ولم يعيّن. القول الثاني: أنه إذا قال إحداكما أو إحداكن ولم يعيّن , طلق الجميع وهو قول غاية في الضعف وسببه ضعفه أنّ الزوج لم يطلق إلاّ واحدة فكيف يقع الطلاق على الباقيات. القول الثالث: في هذه المسألة أنه يوكل إلى الزوج تحديد المطلقة ,وإن لم ينوي عند قوله الطلاق أياًّ منهما وعلل هؤلاء قولهم بأنّ الزوج إذا ملك إنشاء الطلاق ابتداء فأن يملك تعيينه انتهاء من باب أولى. لأنّ من ملك الأصل ملك الفرع. والتعيين فرع الطلاق.

والطلاق ملك للرجل فالتعيين أيضاً يكون ملكاً له. وهذا القول كما ترى وجيه في الحقيقة وقوي ونقول للرجل عيّن التي تريد أن يقع عليها طلاقك السابق. وهذا القول قوي ويليه في الرجحان القرعة لمجيء نظيره عن أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - قال - رحمه الله - (كمن طلق إحداهما بائناً وأنسيها) إذا طلق إحداهما بائناً وأنسيها فعند الحنابلة الحكم في هذه المسألة كالحكم تماماً في المسألة السابقة , فيكون الحكم ماذا؟ القرعة. والقول الثاني: أنّ هذه المسألة تختلف تماماً عن المسألة السابقة , ووجه الاختلاف أنّ المطلق الآن طلقّ معينة لا محالة , إنما الذي صار أنه ماذا؟ أنسيها. فالحكم عند هؤلاء أن تبقى الزوجات معلقّات إلى أن يتبيّن أيّهن وقع عليها الطلاق. وفي هذه المدة تكون النفقة على الزوج في جميع الزوجات لأنهن محبوسات بسببه ولا يجوز أن يطأ لأنه ربما يطأ ماذا؟ التي وقع عليها الطلاق وهذا القول قوي جداً لماذا؟ لأنه يوجد فرق بين أن يطلق واحدة ثم ينساها , وبين أن يقول إحداكن طالق ولم يعيّن أصلاً. ففي المسألة الأولى إذا طلق ونسي فقطعاً إحدى الزوجات وقع عليها ماذا؟ الطلاق فكيف نعيّن بالقرعة ونحن نعلم أنّ إحدى الزوجات وقع عليها الطلاق هذا القول قوي جداً كما ترى ونصره ابن قدامة - رحمه الله - لكن يشكل عليه مسألة واحدة وهي ماذا؟ صعوبة التطبيق هذا القول فيه مشقة بالتطبيق كبيرة لأنه ظاهر اختيار هؤلاء أنّا ننتظر ولو طال الوقت حتى يتبيّن أيّهما , وإذا لم يتمكن من أن يتذكر أيّهما التي وقع عليها الطلاق بقيت الزوجات كلهن معلقات , وهذا فيه مشقة في التطبيق ومشقة التطبيق أحياناً تكون سبباً في تضعيف القول. لأنّ الله سبحانه وتعالى ما جعل علينا في الدين من حرج وفي هذا القول شيء من الحرج مع قوة دليله لكن فيه حرج لذلك نقول إنشاء الله الراجح أنه يقرع حتى تأخذ الزوجة طريقها ويأخذ الزوج طريقه. قال - رحمه الله - (وإن تبيّن أنّ المطلقة غير التي ردت إليه)

إذا تبيّن بعد القرعة أنّ التي طلقت هي فلانة بأن يجد كتب المطلقة ونسي مكان المكتوب , أو يتذكر بقرينة أو بعلامة أنّ التي طلقت هي فلانة وحينئذ يتبّين أنّ التي وقعت عليها القرعة لم تطلق وأنها مازالت زوجة ,فحينئذ يقبل قوله في الحكم وترجع إليه الزوجة , لأنّ هذا الأمر أمر لا يمكن أن يعرف إلى من قبل الزوج , فإذا قال تبيّن لي أو تذكرت أنّ المطلقة هي غير التي وقعت عليها القرعة قبل منه ورجعت التي وقع عليها القرعة إلى عصمة الزوج. لأنّا تبيّنا أنها لم تطلق. يقول - رحمه الله - (ما لم تتزوج) فإن تزوجت فإنها لا ترد ولو تذكر أنّها لم تطلق لماذا؟ لأنها بعد التزوج تعلق بها حق زوج آخر ولا يملك الإنسان أن يسقط حق غيره بقوله. والغير هنا هو الزوج الأول أو الثاني؟ الثاني. وهذا صحيح لا يملك هذا وتبقى مع الزوج الثاني. قال - رحمه الله - (أو تكن القرعة بحاكم) يعني إذا صنعت القرعة عن طريق الحاكم وتولاها الحاكم فإنّ تذكره بعد ذلك لا ينفع لماذا؟ لأنّ قرعة الحاكم تعتبر حكم , وحكم الحاكم لا يمكن أن يرفع بدعوى الزوج , إذا بيّن الشيخ المستثنى والمستثنى من المستثنى. فالمستثنى من المسألة السابقة ما هو؟ الآن هو بيّن المستثنى والمستثنى من المستثنى أليس كذلك؟ فالمستثنى هو إذا تبيّن أنّ التي قرعت ليست هي. هذا مستثنى من الحكم السابق. ويستثنى من هذا الحكم ما إذا تزوجت أو قام الحاكم بأداء القرعة. قال - رحمه الله - (وإن قال إن كان هذا الطائر غراباً ففلانة طالق , وإن كان حماماً ففلانة , وجهل لم تطلقا) هذه الصورة إذا قالها الزوج إن كان هذا الطائر غراب ففلانة طالق ............. ) ثم لم يتبيّن بأن ذهب الطير ولم نتبيّن فحينئذ لا يقع الطلاق عند الحنابلة. واستدلوا على عدم وقوعه بدليلين: - الأول: الإجماع فإنه بلا خلاف لا يقع. الثاني: ما تقدم وهي القاعدة المشهورة إذا شككنا في وجود الطلاق أو في وقوع الطلاق وعدمه فالأصل عدم وقوع الطلاق ووجه الشك هنا أنّ هذا الطائر ربما لا يكون غراباً ولا حماماً حينئذ لا تطلق ولا تلك. فمع وجود هذا الشك لا يقع الطلاق وهذا صحيح ولهذا صار محل إجماع.

قال - رحمه الله - (وإن قال لزوجته وأجنبية اسمهما هند: إحداكما أو هند طالق طلقت امرأته) إذا قال رجل لهند زوجته وهند أخرى أجنبية , إحداكما طالق مباشرة تطلق زوجته ولا ننتظر منه تفسيراً ولا تأويلاً , والسبب أنه لا يملك إيقاع الطلاق إلاّ على هند التي هي زوجته دون الأخرى فإذا تطلق مباشرة لأنه يملك أن يطلق إلاّ هي. لكن أيضاً استثنى الشيخ: فقال - رحمه الله - (أردت الأجنبية لم يقبل حكماً إلاّ بقرينة) إن قال أردت الأجنبية ولم أرد زوجتي لم يقبل منه في الحكم في مجلس الحكم لا يقبل لأنه يدعي خلاف لفظه. ونحن قلنا أنّ أيّ إنسان يدعي خلاف لفظه لا يقبل في مجلس الحكم وإن كان الأمر ديانة بينه وبين زوجته فإنه يقبل لماذا؟ لأنّ هذا اللفظ يحتمل. ألا يحتمل أن يكون مقصوده الأخرى بلى! اللفظ يحتمل فإذا كان محتملاً دُيِّن وقبل فيما بينه وبين الله , وجاز لزوجته أن تبقى معه. يقول الشيخ - رحمه الله - (إلاّ بقرينة) إلاّ إن دلت القرينة فإنه يقبل ديانة وحكماً , مثال القرينة أن يجبره ظالم على التطليق فيقول هند طالق يقصد ماذا؟ الأجنبية فمع وجود هذه القرينة وهي إجبار الظالم علمنا أنه أراد الأخرى وساغ للحاكم أن يقبل قوله الذي يخالف ظاهر لفظه. وهذا صحيح. قال - رحمه الله - (وإن قال لمن ظن أنها زوجته: أنت طالق طلقت الزوجة) يعني إن قال لمن أنها زوجته وتبيّن أنها أجنبية أنت طالق طلقت زوجته , مثال هذه المسألة أن يقابل الإنسان في الشارع امرأة فيظن أنها زوجته فيقول أنت طالق فيتبيّن أنها أجنبية فالحكم أنّ زوجته التي في البيت تطلق , السبب في هذا أنه طلقّ زوجته قصداً وكون اللفظ وقع على أجنبية لا يغيّر الحكم لأنه زوج في نكاح صحيح طلقّ زوجته المعصومة فتطلق. قال - رحمه الله - (وكذا عكسها) إذا قابل في الشارع امرأة يظن أنها ليست امرأته فطلقها على أساس أنها الأجنبية ففوجأ أنها زوجته فعند الحنابلة يقع الطلاق , السبب في ذلك أنه يقع قالوا أنه طلق ماذا؟ طلق بلفظ صريح موجه مخاطب به زوجته فوقع أليس كذلك فهذا الزوج خاطب زوجته بطلاق صريح وهذا هو الطلاق الذي يقع في الشرع.

باب الرجعة

القول الثاني: أنه لا يقع الطلاق على زوجته لأنه لم يقصد تطليق زوجته وإذا لم يقصد لم يكن مريداً للطلاق فلا يقع , وهذا صحيح القول الثاني هو الصحيح أنها لا تطلق لأنه ما أراد أن يطلق زوجته وإنما أراد أن يطلق ماذا؟ الأجنبية وليس له طلاق على الأجنبية. باب الرجعة الرجعة/ مسائل الرجعة من المسائل المهمة وغير المؤلف يفرد لها كتاباً , فيقول كتاب الرجعة لأهمية الرجعة. والرجعة / هي المرة من الرجوع في لغة العرب. وهي مصدر من رجع رجوعاً. وأما في الشرع / فالرجعة هي رد الزوجة غير البائن من غير عقد في عدتها. هذا التعريف من وجهة نظري من أسلم وأسهل التعاريف فإنه يبيّن ما هي الرجعة الشرعية , والمؤلف سيبيّن هذا من خلال الشروط والأحكام. يقول الشيخ - رحمه الله - (من طلق بلا عوض زوجة مدخولاً بها أو مخلواً بها دون ماله من العدد فله رجعتها في عدتها ولو كرهت) قوله من طلق بلا عوض إلى آخره , إذا استوفى الزوج هذه الشروط الأربع فإنّ رجعته صحيحة بالإجماع وقد أشار المؤلف إلى كل شرط بعبارة. فأشار بقوله من طلق بلا عوض. الشرط الأول وهو أن يكون الطلاق بغير عوض فإن كان الطلاق بغير عوض فليس بطلاق وإنما خلع وتقدم معنا أنّ المخالعة تعتبر بائنة بينونة كبرى ولا صغرى.؟ صغرى وأشار إلى الشرط الثاني بقوله: زوجة غير مدخولاً بها أو مخلواً , فإذا طلق زوجة مدخولاً بها جاز أن يراجع وأما إذا طلق زوجة لم يدخل بها فلا يتمكن من المراجعة لأنّ غير المدخول بها ليس لها عدة وهي أيضاً بائنة بينونة كبرى أو صغرى , صغرى يقول مشيراً إلى الشرط الثالث: دون ما له من العدد يشترط للمراجعة أن يطلق طلاقاً دون ما له من العدد فإن طلق ما له من العدد يعني مستوفياً ما له من العدد وهو الطلقات الثلاث لم يتمكن من المراجعة. ثم أشار إلى الشرط الأخير بقوله: في عدتها يشترط لجواز المراجع أن تكون في العدة فإن خرجت من العدة لم يملك أن يراجعها وبانت منه أيضاً بينونة صغرى. ثم قال ولو كرهت يعني وله أن يراجعها بلا رضاها واستدلوا على هذا بدليلين الأول: قوله تعالى {وبعولتهن أحق بردهن في ذلك} [البقرة/228] فقال أحق بردهن فهم لهم الحق بالرد من غير رضا أحد.

الدليل الثاني: الإجماع فإنّ الفقهاء أجمعوا على أنّ له أن يراجع بلا رضا الزوجة ولا رضا الأولياء , فصارت الشروط معنا كم شرط؟ ذكرنا أربع شروط. والصواب أنّ الشروط خمسة. ويضاف إلى ما ذكره المؤلف. أن يكون مريدا بالرجعة إصلاحاً فإن أراد بالرجعة عنتاً أو تضيقاً على المرأة أو تعذيباً لها فإنّ الرجعة لا تصح ولا يمكن منها. ولهذا قال تعالى في ختام الآية {إن أرادوا إصلاحاً} البقرة وإن هذه كما تقدم معنا أداة شرط. قال - رحمه الله - (بلفظ: راجعت امرأتي ونحوه) بدأ المؤلف بموضوع مهم جداً , من موضوعات الرجعة , وهي بماذا تحصل الرجعة , تحصل الرجعة بأمرين: - الأمر الأول: لفظي والأمر الثاني: فعلي. والأمر اللفظي ينقسم إلى قسمين: 1 - مراجعة لفظية صحيحة. 2 - مراجعة لفظية كناية. المؤلف بدأ بالمراجعة اللفظية الصريحة. يقول بلفظ: راجعت امرأتي ونحوه لا نكحتها) يعني تكون المراجعة باللفظ لا بالنية وتكون بلفظ راجعت لأنّ راجعت من الصرائح وقوله ونحوه كقول المراجع رددت أو أمسكت. فراجعت ورددت وأمسكت من الصرائح التي تحصل الرجعة إذا استخدمها الزوج بالإجماع لأنها صرائح. ثم - قال رحمه الله - (لا نكحتها) مراده بقوله لا نكحتها ونحوه يعني مثل تزوجتها وأشار بهذه العبارة إلى الكنايات , فالرجعة لا تكون بالكنايات واستدلوا على هذا بدليلين: - الدليل الأول: قياس الرجعة على النكاح فالنكاح لا ينعقد بالكنايات فكذلك الرجعة لا تنعقد بالكنايات. والجامع أنّ في كل منهما استباحة بضع المرأة وهذا الجامع موجود في المراجعة والنكاح. الدليل الثاني: أنّ إثبات الثابت محال. فكيف يقول لمن طلقها طلاقاً رجعياً نكحتك وهي ما زالت منكوحة له , ولما كان إثبات الثابت محال صار هذا اللفظ لغواً لا حكم له. القول الثاني: أنّ المراجعة تحصل بالكنايات جميعاً لقول النبي - صلى الله عليه وسلم - (إنما الأعمال بالنيات) ولأنه أراد مراجعة زوجته فيحصل بأيّ لفظ يدل على هذا المقصود. وأما الجواب عن القياس على النكاح فهذا قياس صحيح لكن لا نسلم أنّ النكاح لا ينعقد بالكنايات بل تقدم معنا أنه ينعقد بكل لفظ يدل عليه. إذا الإنسان له أن يراجع زوجته بأيّ لفظ شاء.

قال - رحمه الله - (ويسن الإشهاد) الإشهاد سنة عند الجماهير من أصحاب المذاهب الأربعة لقوله تعالى {فإذا بلغن أجلهن فأمسكوهن بمعروف أو فارقوهن بمعروف وأشهدوا ذوي عدل منكم} البقرة , هذه الآية فيها الأمر بالإشهاد وأقل مراتب الأمر الاستحباب. القول الثاني: أنّ الإشهاد واجب وهو مذهب الظاهرية واستدلوا على هذا بأنّ الآية فيها الأمر الصريح (وأشهدوا) أجاب الجمهور بالاستدلال عن هذه الآية بأنّ الله تعالى أمر بالإشهاد في الطلاق وفي الرجعة فأمسكوهن أو سرحوهن , والطلاق لا يجب الإشهاد عليه فكذلك الرجعة. وأجاب القائلون بالوجوب بأنّ الطلاق أيضاً يجب , وقد روي الوجوب عن ابن عباس , والمسألة مشكلة ولكن يبدو لي أنّ الوجوب قوي لأنه لا جواب عن الآية كما أنّ في وجوب الإشهاد خروج من إشكالات زعم الزوج أنه راجع وهو لم يراجع فالإشهاد قطع لدابر الإشكالات التي تحصل معنا بسبب مزاعم الزوج بالمراجعة , وسيأتينا عند الحنابلة مسائل فيها إشكال بسبب زعم الزوج أنه راجع. * * مسألة / أجمع العلماء أنّ الإشهاد ليس بشرط لصحة المراجعة ولا الطلاق , ولو قلنا بوجوبه وإنما الخلاف لا في كونه شرطاً للصحة وإنما في كونه واجباً أو ليس بواجب وهذه مسألة مهمة لأنّ بعض الناس يظن أنه إذا قلنا أنه يجب فإنّ المراجعة لا تصح أو أنّ الطلاق لا يصح قال - رحمه الله - (وهي زوجة , لها وعليها حكم الزوجات أفادنا المؤلف ثلاث مسائل: - الأولى: أنها زوجة وهي أم المسائل. والثانية: أنّ لها ما للزوجات ... الثالثة: أنّ عليها ما على الزوجات. أم هذه المسائل أن نثبت أنّ الرجعية زوجة , ذهب الفقهاء إلى أنّ الرجعية زوجة واستدلوا على هذا بدليلين: - الدليل الأول: قوله تعالى {وبعولتهن أحق بردهن في ذلك} [البقرة/228] وجه الاستدلال أنه سمي المطلق بعلاً للزوجة الرجعية ولا يكون زوجاً لها إلاّ وعقد النكاح باقي. الدليل الثاني: وهو جميل جداً وهو أنّ الصحابة أجمعوا على توريث الرجعية ولن يورثوها إلاّ وهي زوجة , فإذا ثبت أنها زوجة سهل علينا أن نقول لها ما للزوجة وعليها ما على الزوجة. فلها السكنى والنفقة ولها كل ما للزوجات إلاّ ما سيأتينا من الاستثناء.

وعليها ما على الزوجات من الطاعة والبقاء في المسكن وكل ما على الزوجات إلاّ ما سيأتينا استثناؤه , أما من حيث الأصل أنها زوجة لها ما لهن , وعليها ما عليهن. قال - رحمه الله - (لا قسم لها) الرجعية زوجة في كل شيء إلاّ أنه لا يقسم لها , لأنها خرجت بالطلاق عن حق القسم وظاهر عبارة المؤلف أنه لا يستثنى إلاّ ماذا؟ القسم لأنه لم يستثني إلاّ القسم , لكن الواقع أنّ بين الرجعية والزوجة فروق تبلغ تسعة: - ذكرها الشيخ ابن رجب في القواعد أهم هذه الفروق بإمكانكم الرجوع للفروق لأنها فروع فقهية بعيدة الوقوع , لكن أهم هذه الفروق ثلاثة: - الأول: وهو العمدة أنه لا قسم لها الثاني: أنّ طلاق الرجعية في أصح الروايتين عن الإمام أحمد بدعي. ونحن لا نتحدث عن الوقوع لكن بدعي على أصح الروايتين. بينما طلاق الزوجة بدعي أو ليس ببدعي , ليس ببدعي إذا وافق الشروط. الثالث: أنه إذا توفي زوجها , فهل تنتقل إلى عدة الوفاة أو تعتد بأطول الأجلين. فهذه ثلاث فروق هي أبرز الفروق بين الرجعية والزوجة. فهمنا من كلام المؤلف باستثناء القسم أنه لا يوجد فروق أخرى وهذا يقتضي أنه يجوز للزوج أن يجامع الرجعية وأن يستمتع منها بكل ما يستمتع به الزوج من زوجته , وهذا صحيح أنه المذهب. فالحنابلة يرون جواز جماع الزوج لرجعيته وأن يستمتع منها بما شاء , واستدلوا على هذا القول بأدلة: - الدليل الأول: أنها زوجة وإذا كانت زوجة جاز له أن يستمتع منها بما يستمتع الزوج من زوجته. الدليل الثاني: أنّ أمرها بالبقاء في البيت يقصد منه طلب الرضا منه ومنها لترجع إلى عصمته وهذا يكون بتمكينه من الجماع. القول الثاني: أنه لا يجوز له أن يجامع ولا أن يطأ واستدلوا على هذا بأنّ هذه الرجعية عبر عنها في الحديث بقوله (مره فليراجعها) وفي الآية (فأمسكوهنّ) فهذه الرجعية خرجت بالطلاق فتحتاج إلى إرجاع وإمساك قبل أن يستمتع بها. وهذا القول الثاني هو الصحيح * * تنبيه مهم جداً ..... !

هذا الخلاف الذي ذكرته سواء أراد بالوطء المراجعة أو لم يرد حتى لا تتداخل هذه المسألة مع المسألة اللاحقة , يعني أنّ الحنابلة يرون أنه يجوز أن يطأ ولو لم ينوي المراجعة , عرفتوا ولا لا , وهذه مسألة دقيقة يجب أن يفرق بين مسألة المراجعة بالوطء وبين مسألة جواز الوطء بغير نية المراجعة. إذا الخلاف الذي ذكرته إنما هو فيما إذا أراد أن يراجع وإذا أراد أن لا يراجع. القول الثاني هو اختيار شيخ الإسلام وهو كما قلت أوجه القولين , كيف نمكن الزوج أن يراجع رجعيته بغير نية المراجعة كأنه يعبث لماذا؟ لأنه إذا كان لا يريد أن يراجع هذه الزوجة لماذا؟ يراجعها إلاّ غالباً وهو يريد الإضرار بها. قال - رحمه الله - (وتحصل الرجعة أيضاً بوطئها) لما بيّن المؤلف المراجعة اللفظية انتقل إلى المراجعة الفعلية العملية وذكر أنّ الزوج إذا وطئ زوجته فإنها ترجع , وهي ترجع عند الحنابلة سواء وطئ بنية المراجعة أو بغير نية المراجعة يعني ترجع مطلقاً. واستدلوا على هذا بأنّ الزوج إذا وطئ زوجته فهذا الوطء علامة على رجوعه عن الطلاق وهو أبين وأوضح من ما لو قال راجعتك. القول الثاني: أنه لا تحصل المراجعة إلاّ بماذا؟ بالوطء مع نية المراجعة واستدل هؤلاء بعموم قول النبي - صلى الله عليه وسلم - (إنما الأعمال بالنيات) وهذا ما نوى أن يراجعها فلا ترجع وهذا القول اختيار شيخ الإسلام - رحمه الله - القول الثالث: أنه لا يحصل بالوطء مراجعة نوى أو لم ينوي واستدل هؤلاء على هذا القول بأنّ الله اشترط للمراجعة الإشهاد والإشهاد يكون على الأقوال لا على الأفعال فإذا وطئ ولو بنية المراجعة فإنه لا يكون مراجعاً. والراجح إن شاء الله القول الوسط وهو أنّ الوطء مراجعة بنيته. قبل أن نتنقل للمسألة هذه تحدثنا عن الوطء وهل تحصل به رجعة أو لا باقي مسألة هل تحصل الرجعة بالمباشرة ونحوها؟ الصحيح وهو مذهب الجماهير أنّ الرجعة لا تحصل بالمباشرة ونحوها , والسبب في هذا أنّ المباشرة لا تستوي هي والوطء فلا تأخذ حكمه ولهذا نقول لا يجوز أن يعتبر المباشرة بالتقبيل ونحوه مراجعة بل عليه أن يراجع من جديد مراجعة لفظية. يقول الشيخ - رحمه الله - (ولا تصح معلقة بشرط)

لا يصح أن يعلق الرجعة بشرط فلا يصح أن يقول إذا دخل شهر الله المحرم فقد راجعتك , واستدل الحنابلة على هذا بالقياس السابق فإنهم دائماً يقيسون الرجعة على النكاح , والنكاح لا يصح معلقاً فكذلك الرجعة. والقول الثاني: أنّ تعليق الرجعة على شرط صحيح ونافذ , واستدلوا بدليلين: - الدليل الأول: عموم قول النبي - صلى الله عليه وسلم - (المسلمون على شروطهم) فإنّ هذا يتناول عقد الرجعة الثاني: أنّ الزوج قد يعلق الرجعة على شرط مقصود له , كأن يقول إن تركت المعصية الفلانية فقد راجعتك , فهذا تعليق مقصود نافع لا يأتي الشرع بإبطاله , ولهذا نقول الصحيح إن شاء الله أنه يجوز تعليق الرجعة على شرط. ثم - قال رحمه الله - (فإذا طهرت من الحيضة الثالثة ولم تغتسل فله رجعتها) يريد المؤلف أن يبيّن بهذه العبارة أنّ الزوج يملك المراجعة إلى أن تنتهي من الاغتسال وأنّ حقه في المراجعة لا ينتهي بتوقف الدم. وهذا في الحقيقة يحتاج إلى دليل وقد استدل عليه الإمام أحمد بأنّ هذا عليه جمهور أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - فإنهم أفتوا ببقاء حق الزوج في المراجعة إلى أن تغتسل. ولا يعلم بين الصحابة خلاف في هذا. القول الثاني: أنّ الزوج يفقد حقه بالمراجعة بمجرد توقف الدم لأنّ الله سبحانه وتعالى جعل العدة قروء والقرء هو الحيض فإذا توقف القرء أيّ الحيض فقد خرجت من العدة وهذا القول ضعيف جداً وإن كان قوياً في الظاهر والسبب في هذا ما نبهت إليه مراراً نعتبر أنّ أيّ قول يخالف قولاً مروياً عن الصحابة بلا خلاف أنه قول ضعيف مهما ظهر منه قوة في تعليله ولهذا نقول إن شاء الله أنّ الزوج يملك المراجعة إلى أن تنتهي من الاغتسال فإذا سمعها دخلت تغتسل وقال راجعتك فالمراجعة صحيحة فإذا انتهت من الاغتسال الشرعي حينئذ لا يملك أن يراجعها.

الدرس: (7) من الطلاق قال شيخنا حفظه الله: بسم الله الرحمن الرحيم والحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين. قال - رحمه الله - (وإن فرغت عدتها قبل رجعتها بانت وحرمت قبل عقد جديد) إذا انقضت عدة الرجعية المطلقة قبل أن يراجع الزوج فإنها بانت منه بينونة صغرى ولا يملك أن يرجع إليها إلاّ بعقد جديد ومهر وجميع الشروط اللازمة لصحة عقد النكاح ودليل هذا من وجهين: - الوجه الأول: قوله تعالى {وبعولتهن أحق بردهن في ذلك} [البقرة/228] وقال السلف أنّ في ذلك راجعة إلى العدة يعني أحق بالمراجعة ما دامت في العدة. الوجه الثاني: الإجماع فإنّ أهل أجمعوا أنها إذا انقضت عدتها ولم يرجع إليها فإنه لا يعود إلاّ بعقد جديد , فهذه المسألة لا إشكال فيها لوضوحها وإجماع أهل العلم عليها. يقول - رحمه الله - (ومن طلق دون ما يملك ثم راجع , أو تزوج , لم يملك أكثر مما بقي , وطئها زوج غيره , أو لا) هذه العبارة من المؤلف فيها بيان كم يملك الزوج بعد أن يعود إلى زوجته من عدد الطلقات ولإيضاح هذه المسألة أقول: الطلاق ينقسم إلى ثلاثة أقسام: - القسم الأول: أن يطلق دون الثلاث ثم يعود إلى زوجته فإنه يعود على ما بقي له من عدد الطلقات بالإجماع سواء راجعها أثناء العدة أو تركها إلى أن تنقضي العدة ويراجعها بعقد جديد ففي الصورتين لا يملك ما بقي من عدد الطلقات وهذه الصورة محل إجماع ولا إشكال فيها. القسم الثاني: أن يطلق ثلاثاً ثم تعود إليه بعد زوج ووطء فإنها تعود على الطلقات الثلاث فيملك الزوج الطلقات الثلاث. وهذه الصورة أيضاً محل إجماع. القسم الثالث: أن يطلقها دون الثلاث ثم ترجع إليه لكن بعد زوج آخر ووطء فهذه هي المسألة التي ذكرها المؤلف وهي محل خلاف فالمذهب يرون أنه يعود على ما بقي واستدلوا على هذا أيضاً بدليلين: - الدليل الأول" أنّ هذا الوطء لم يفد إباحة فلم يؤثر في عدد الطلقات , [يعني من الزوج الثاني لم يفد إباحة فإنها هذه المرأة مباحة له من قبل هذا الوطء ومن بعده فلما لم تفد إباحة لم تؤثر في عدد الطلقات. الدليل الثاني: وهو الأقوى أنّ هذا مروي عن أكابر الصحابة ,وإنما قيّدنا بأكابر لأنه سيأتينا في القول الثاني أنه مروي عن بعض الصحابة الآخرين على كل حال هذا مروي عن أكابر الصحابة. القول الثاني: أنها ترجع إليه ويملك الطلقات الثلاث واستدلوا بدليلين: -

الأول: أنّ الوطء يهدم الطلاق السابق ومقصودهم بالوطء يعني من زوج آخر. والدليل الثاني: أنّ هذا مروي عن بعض أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - كابن عباس وابن عمر , والراجح المذهب بلا إشكال إن شاء الله , أولاً لأنه مروي عن أكابر الصحابة ومن القواعد المقررة أنه إذا اختلفوا فمن المرجحات أن يكون أصحاب القول الراجح هم كبار الصحابة وفقهاءهم كأبي بكر وعمر وعثمان وعليّ. الثاني أنّ دليلهم أقوى وجه القوة أنّ تعليل أصحاب القول الثاني بأنّ الوطء يهدم الطلاق تعليل مجرد كأنهم يعللون الحكم بحكم كأنّا نقول لهم لماذا تعود؟ فيقولون لأنه وطئها. وإذا قلنا لهم وإذا وطئها؟ يقولون لأنّ يهدم الطلاق , فنحن وإياهم ندور في حلقة مفرغة والتعليل القوي يجب أن يخرج عن محل الخلاف على كل حال العمدة في هذا الباب أنّ أكابر الصحابة يرون أنها ترجع على ما بقي لها ولا يملك أكثر من ذلك. فصل هذا الفصل أراد المؤلف فيه بيان متى تنتهي عدة الرجعية , وذكر صورتين تنتهي فيهما العدة: يقول المؤلف - رحمه الله - (وإن ادعت انقضاء عدتها في زمن يمكن انقضاؤها فيه أو بوضع الحمل الممكن وأنكره فقولها) وإن ادعت انقضاء عدتها في زمن يمكن انقضاؤها فيه , هذه هي الصورة الأولى أن تدعي في زمن يمكن انقضاؤها فيه. الثانية أو بوضع الحمل الممكن وأنكره فقولها , هاتان صورتان لانقضاء العدة. نبدأ بالصورة الأولى" يقول في زمن يمكن انقضاؤها فيه , ما هو الزمن الذي يمكن أن تنقضي فيه؟ قال الفقهاء الزمن الذي يمكن أن تنقضي فيه يرجع إلى الخلاف في أكثر الحيض وأقله , وفي أكثر الطهر وأقله. وعلى المذهب يكون أقل زمن يمكن أن تنتهي فيه هو كما قال المؤلف تسعة وعشرون يوماً ولحظة. وسيأتينا دليل هذا القيد. فإذا ادعت في أقل من هذا فقد ادعت في زمن لا يمكن انقضاؤه فيه يعني عند الحنابلة. هذا أولاً. الثانية: يقول أن تدعي وضع الحمل الممكن , الحمل الممكن هو ما تبيّن فيه خلق إنسان , فإذا وضعت حملاً تبيّن فيه خلق إنسان فإنّ العدة تنتهي. يقول الشيخ - رحمه الله - (وأنكره فقولها)

يعني إذا ادعت في هاتين الصورتين ثم أنكر الزوج فإنّ القول قول المرأة وهذا يعود لقاعدة عند الحنابلة ستتكرر معنا في هذا الباب والكتاب الذي يليه والكتاب الذي يليه والكتاب الذي يليه , وهو أنّ المرأة إذا ادعت شيء لا يمكن أن يطلع عليه إلاّ من قبلها فإنّ القول قولها. والحيض لا يمكن أن يطلع عليه إلاّ من قبل المرأة. فإذا ادعت قبلنا دعواها. قال - رحمه الله - (وإن ادعته الحرة بالحيض في أقل من تسعة وعشرين يوماً ولحظة لم تسمع دعواها) إذا ادعت أنها طهرت في أقل من تسعة وعشرين يوماً ولحظة , فإنّ القاضي بجب عليه أن لا يسمع الدعوى أصلاً. وتعليل ذلك: أنها دعوى معلومة الكذب لأنه لا يمكن شرعاً أن تطهر في هذه المدة فتبيّن لنا أنّ ادعاء المرأة ينقسم إلى ثلاثة أقسام: - القسم الأول: أن تدعي أنه في أقل من تسعة وعشرين يوماً فإنها في هذه الحالة لا تسمع دعواها لأنها معلومة الكذب. القسم الثاني: أن تدعي انقضاء العدة في تمام تسعة وعشرين يوماً ولحظة ففي هذه الصورة الثانية تسمع وتقبل لكن بشرط أن تأتي ببيّنة ووجه طلب البيّنة أنّ انقضاء العدة في مثل هذا الزمن ممكن إلاّ أنه قليل الوقوع وإذا كان قليل الوقوع يجب أن تأتي ببيّنة , ودليل هذا حديث المشهور لماّ أفتى شريح بحضرة عليّ - رضي الله عنه - في المرأة التي زعمت أنّ عدتها انقضت في مثل هذه المدة , فقال إن أتت بشاهد من صالح أهلها قبل وإلاّ فلا. فقال عليّ - رضي الله عنه - قالون يعني جيّد. فأثنى على فقهه في هذه المسألة فهنا شريح أفتى بأنّ هذه الدعوى مقبولة لا بشرط أن تحضر بيّنة. القسم الثالث: أن تدعي انقضاء العدة في أكثر من هذا الزمن , فحينئذ نقبل هذه الدعوى بلا بيّنة. فإذا دعوى لا تقبل مطلقاً ودعوى تقبل ببيّنة ودعوى تقبل بلا بيّنة. قال - رحمه الله - (وإن بدأته فقالت: انقضت عدتي فقال: كنت راجعتك , أو بدأها به فأنكرته فقولها) يقول الشيخ وإن بدأته فقالت انقضت عدتي فقال كنت راجعتك , هذه المسألة الأولى. والثانية: أو بدأها به فأنكرته فقولها.

المسألة الأولى: يقول الشيخ إذا بدأته فقال ...... ) فقال كنت راجعتك , يعني قالت المرأة لزوجها انقضت عدتي فقال الزوج مباشرة كنت راجعتك فالقول في هذه المسألة قولها , بلا نزاع عند الحنابلة. واستدلوا بدليلين: - الدليل الأول: وهو العمدة , أنّ الأصل عدم المراجعة وإذا كان هذا هو الأصل فإنه لا يقبل ما يخالفه , الثاني" أنّ دعواه جاءت بعد الحكم بانقضاء العدة فلم تقبل لأنه تقدم معنا قاعدة أنّ الدعاوى التي تؤدي إلى إسقاط حق الغير لا تقبل إلاّ ببيّنة وهذه الصورة أمرها واضح , نأتي إلى الصورة الثانية يقول , أو بدأها به فأنكرته , بدأها به يعني قال راجعتك فقالت عدتي انتهت , ففي مثل هذه الصورة أيضاً نقبل قول الزوجة والمؤلف - رحمه الله - خالف في هذه المسألة المذهب. يعني في المسألة الثانية , فالمذهب أنه في المسألة الثانية نقبل قول من؟ الزوج , تقدم معنا التعليق هل مسألة مخالفة الشيخ المؤلف - رحمه الله - اختيارات أو ليست كذلك وأنّ الأقرب أنها فيما يظهر لي أنها اختيارات , دليل المؤلف استدل بدليل جيّد. الدليل الأول" ما تقدم معنا أنّ الأصل عدم الرجعة. الدليل الثاني: أنّ من قبل قوله سابقاً قبل مسبوقاً , مراد المؤلف بهذا الدليل أنّه إذا قبلنا قول رجل إذا تكلم هو الأول فيجب أنّ نقبل هذا القول إذا تكلم ثانياً لأنّ الكلام كونه يأتي أولاً أو ثانياً لا يغير في مجرى الأدلة والحقوق. أما الحنابلة الذين يرون أنّ القول قول الرجل فقد استدلوا بأنّ اعتراضها جاء بعد وجود المراجعة , عكسوا دليل المسألة الأولى فلا نقبل قولها ويظهر لي أنّ ما ذكره المؤلف خلاف مذهب الحنابلة أقوى وأنه في الصورتين يقبل قول الزوجة وهذه المسائل هي المسائل التي أشرت إليها حين الحديث عن ماذا؟ بالأمس قلت ستأتي مسائل تؤيّد القول بوجوب الإشهاد , لأنّه لو كان الإشهاد واجباً لن تأتي معنا هذه المسائل لأنّ نقول له أشهد أين الشهود على أنك راجعت أليس كذلك؟ ونخرج من هذا الخلاف لكن الحنابلة اضطروا إلى مناقشة هذه القضية لأنهم يرون أنّ الإشهاد ماذا؟ سنة , هم وغيرهم من الفقهاء. فصل

قال - رحمه الله - (إذا استوفى ما يملك من الطلاق حرمت حتى يطأها زوج في قبل ولو مراهقاً) إذا طلق الإنسان زوجته واستوفى الطلاق أيّ عدده وهو الثلاث فإنها لا ترجع إليه إلاّ بشرطين: - الشرط الأول: أن تنكح زوجاً غيره , فإن طلقها فلا تحل له من بعد حتى تنكح زوجاً غيره. الشرط الثاني: أن يطأ هذا الزوج الثاني. ودليل هذا الحديث الذي تقدم معنا أنّ رفاعة - رضي الله عنه - طلق زوجته ثلاثاً ثم تزوجها عبد الرحمن بن الزبير - رضي الله عنه - فجاءت زوجته تشتكي إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - وتقول يا رسول الله ليس معه إلاّ مثل هذه الهدبة فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - أتريدين أن ترجعي إلى رفاعة , لا , حتى تذوقي عسيلته ويذوق عسيلتك , هذا الحديث نص في أنّ المراجعة لا تكون إلاّ بعد الوطء. وإلى هذا ذهب الأئمة الأربعة والفقهاء السبعة جميعاً إلاّ واحد , إلى القول باشتراط الوطء ذهب جمهور الأمة الفقهاء الأربعة والسبعة إلاّ واحد من السبعة وهو سعيد بن المسيّب - رحمه الله - فإنه يرى أنّ مجرد العقد يكفي ولا يشترط الوطء. واستدل على هذا بالآية فقال حتى تنكح زوجاً غيره , وهذه نكحت زوجاً غيره , وليس في القرآن ما يدل على زيادة اشتراط الوطء. ولا شك أنّ هذا الفقيه الكبير قوله ضعيف وهو يحتاج أن نعتذر له بأن نحمل هذا القول على أنه لم يبلغه هذا الحديث الصحيح. وإلاّ لو بلغه فإنّ دلالة النص صريحة , فإنّ عقد عبد الرحمن بن الزبير على امرأة رفاعة كان صحيحاً بإقرار النبي - صلى الله عليه وسلم - ومع ذلك اشترط هو - صلى الله عليه وسلم - الوطء فلا إشكال ولهذا لم يوافق أحد من الفقهاء سعيد بن المسيب في هذه المسألة واستقر الأمر على اشتراط العقد والوطء. يقول المؤلف - رحمه الله - (ولو مراهقا)

المراهق هو / من قارب البلوغ فإذا تزوجت المطلقة ثلاثاً مراهقاً , ووطئ فإنها تحل للزوج الأول واستدلوا على هذا بأنّ وطء المراهق هو وطء من زوج في نكاح صحيح , فأشبه بهذا المكلف وهذا صحيح فإنه إذا وطئها المراهق فإنها تحل للزوج الثاني لوجود الشرط وهو الوطء والعقد. ولم يشترط الحديث الإنزال فإنّ الإنزال أمر إضافي لم اشتراطه في الحديث ولماّ قرر المؤلف - رحمه الله - اشتراط الوطء بدأ في بيان شروط هذا الوطء. فقال - رحمه الله - (ويكفي تغييب الحشفة أو قدرها مع جب في فرجها مع انتشار وإن لم ينزل) كما قلت لماّ قرر المؤلف اشتراط الوطء بيّن أنه لا يكون الوطء نافعاً إلاّ بهذه الشروط وهي ثلاثة: - الشرط الأول: تغييب الحشفة وهذا هو القدر الواجب الأقل في الوطء , وتغييب الحشفة هو الذي يعبر عنه الفقهاء في أماكن أخرى بالتقاء الختانين , فإنّ التقاء الختانين هو تغييب الحشفة لأنه بتغييب الحشفة يحصل ماذا؟ التقاء الختانين. الشرط الثاني: أن يكون الجماع في فرجها , يجب أن يكون الجماع في الفرج فإن جامع في الدبرأو فيما بين الأليتين أو في أيّ مكان دون القبل فإنها لا تحل لزوجها الأول , سيأتينا دليل الشروط الثلاثة. الشرط الأخير: أن يكون هذا الجماع مع انتشار فلو استدخل الذكر بلا انتشار فإنها لاتحل للزوج الأول. ما هو دليل هذه الشروط؟ هو قوله - صلى الله عليه وسلم - (حتى تذوقي عسيلته) لأنّ ذوق العسيلة لا يكون إلاّ بوجود هذه الثلاثة أشياء , تغييب الحشفة , وأن يكون في القبل , وأن يكون مع الانتشار , واستدلالهم بهذا اللفظ استدلال صحيح , فالوطء الذي يحل الزوجة لزوجها الأول يشترط فيه هذه الصفات. قال - رحمه الله - (ولا تحل بوطء دبر) لا تحل بوطء دبر لأمرين: - الأول أنه محرم والمحرم لا يفيد التحليل. الثاني وعليه الاعتماد أنه ليس فيه ذوق العسيلة , فإنّ هذا الذوق والشهوة والاستمتاع لا يكون إلاّ في القبل. قال ثم - قال رحمه الله - (وشبهة , وملك يمين , ونكاح فاسد) هذه ثلاثة. شبهة يعني نكاح الشبهة. وملك اليمين يعني أن يملك هذه الأمة ويطأها بموجب ملك اليمين. والثالث أن يطأ بنكاح فاسد

ففي هذه الأنواع الثلاثة لا تحل المرأة لزوجها الأول , والسبب أنّ الله قال {فلا تحل له من بعد حتى تنكح} [آل عمران/188] والنكاح الصحيح ينصرف شرعاً إلى النكاح المستوفي الشروط الخالي من الشبهات. ولهذا أخرجنا النكاح بالشبهة أو بملك اليمين أو بالنكاح الفاسد. وهذا أمره واضح أنّ الآية اشترطت نكاحاً صحيحاً , وهذه الأشياء ليست نكاحاً صحيحاً. قال - رحمه الله - (ولا في حيض , ونفاس , وإحرام , وصيام فرض) يعني ولا تحل المرأة لزوجها الأول إذا كان نكاح الثاني في حيض ونفاس وإحرام أو في صيام واجب, معنى هذا أنّ الزوج الثاني إذا جامع زوجته وهي حائض فإنّ هذا الجماع لا يؤدي إلى تحليل الزوجة , واستدلوا على هذا بأنّ هذا الجماع محرم لحق الله سبحانه وتعالى, وإذا كان محرم لحق الله فإنه لا يفيد تحليل الزوجة لأنه جماع منهي عنه فكيف يكون الجماع المنهي عنه سبباً في إحلال الزوجة لمطلقها الثلاث هذا هو المذهب. القول الثاني: في هذه المسألة أنه إذا جامعها في هذه الأحوال فإنها تحل للزوج الأول , واستدل هؤلاء بأنّ هذا الجماع جماع في نكاح صحيح فتحقق الشرطان وأما التحريم فهو لأمر خارج عن موضوع التحليل وهو أيّ الزوج الثاني آثم ولكنها تحل للزوج الأول. وهذا قد يقع فأيُّ القولين أرجح؟ الثاني وهو اختيار ابن قدامة وهو الراجح إن شاء الله. قال - رحمه الله - (ومن ادعت مطلقته المحرمة وقد غابت نكاح من أحلها وانقضاء عدتها منه فله نكاحها إن صدقها وأمكن) صورة هذه المسألة أن يطلق الزوج زوجته ثلاثاً ثم تغيب عنه أو يغيب عنها , ثم يلقاها بعد ذلك فتدعي أنها في هذه الغيبة نكحت زوجاً آخر وجامعها وطلقت وانتهت العدة من الزوج الثاني , فحينئذ يجوز لهذا الزوج الأول أن يعقد على زوجته , لكن بشرطين: - الشرط الأول: أن يصدقها. ... والشرط الثاني: أن يمكن هذا.

ويشترط عند الحنابلة شرط ثالث , وهو أن يغلب على ظنه صدقها , وهو داخل في أن يصدقها ولعل مراد المؤلف بقوله يصدقها يعني أن يغلب على ظنه فإذا وجدت هذه الشروط جاز له أن يعقد عليها وأن يصدق كلامها , فهم من هذه القيود أنّ الزوج لو لم يغلب على ظنه الصدق وإنما ظن فقط فإنه لا يجوز له أن يتزوجها عند الحنابلة , وعللوا هذا بأنّ الأصل في هذه المرأة أنها محرمة وإنما انتقلنا عن التحريم في الصورة الأولى لوجود غلبة الظن فإذا لم توجد فإنه لا يجوز أن يعقد عليها , والصحيح إن شاء الله أنه إذا غلب على ظنه أو ظن فقط صدقها فإنه يجوز له أن ينكحها أن يعقد عليها , لأنّ الأصل صحة الأقوال ولأنّ هذا الأمر لا يعلم إلاّ من قبل المرأة لأنه كما تقدم معنا أنّ انتهاء العدة لا يعلم إلاّ من قبل المرأة فصحيح إن شاء الله أنه إذا أمكن وغلب أو ظن فقط أنها صادقة جاز له أن يعقد عليها وهذه الصور كما تعلمون يعني صور قد تكون موجودة في السابق أما اليوم فإنّ هذه الأمور توّثق غالباً ودلائل صحة هذا الأمر أو عدمه معلومة. بهذا انتهى كتاب الطلاق ولله الحمد. وننتقل إلى كتاب الإيلاء.

كتاب الإيلاء

الدرس: (1) من الإيلاء قال شيخنا حفظه الله: بسم الله الرحمن الرحيم والحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين. كتاب الإيلاء الإيلاء لغة / الحلف وقال بعضهم الإيلاء في لغة العرب لا يطلق على أيّ حلف وإنما على الحلف الذي يمتنع به الإنسان عن وطء الزوجة فيكون في اللغة معناه قريب من معناه في الشرع. وأما التعريف الاصطلاحي / فقد ذكره المؤلف يقول - رحمه الله - (وهو حلف زوج بالله تعالى , أو صفته على ترك وطء زوجته في قبله أكثر من أربعة أشهر) ذكر المؤلف في هذه العبارة تعريف الإيلاء وشروط الإيلاء. فتعريف الإيلاء هو حلف الزوج بالله أو بصفته على ترك وطء زوجته أكثر من أربعة أشهر، وسيأتينا الوقوف علىكل مفردة من مفردات هذا التعريف أثناء كلام المؤلف. والإيلاء والظهار كانا عند الجاهليين طلاق ثم نسخ هذا في الإسلام كما تقدم معنا من كلام شيخ الإسلام عند الحديث عن مسألة:" أنت عليّ حرام ". حكم الإيلاء/ الإيلاء محرم لوجهين: - الأول: القياس على الظهار وسيأتينا أنّ النصوص الصريحة دلت على تحريم الظهار. الثاني: أنه حلف على ترك واجب , والحلف على ترك واجب محرم. قال المؤلف ـ رحمه الله ـ: (هو حلف زوج بالله) أفادنا المؤلف أنّ الإيلاء هو حلف الزوج لقوله تعالى: {للذين يؤلون من نسائهم} [البقرة/226] فحلف غير الزوج لا يعتبر إيلاء، فحلف السيد مثلاً لا يعتبر إيلاء يعني إذا حلف على أمته , إنما الذي يعتبر في الشرع هو الزوج فقط. وقوله (حلف) يعني أنّ الامتناع بغير حلف ليس إيلاء وسينص المؤلف في آخر مسألة من الإيلاء على مفهوم هذه العبارة. قال المؤلف ـ رحمه الله ـ: (بالله تعالى أوصفته) لا يكون الإيلاء إيلاء إلاّ إذا حلف بالله أو بصفة من صفاته , أو باسم من أسمائه , خرج من هذا العموم ما لو حلف بالطلاق أو بالنذر أو بالعتاق , فإنه لا يسمى إيلاء، واستدل الحنابلة على هذا بأمرين: الأمر الأول: قراءة ابن عباس (للذين يؤلون) قرأها (للذين يقسمون) والقسم لا يكون إلاّ بالله أو بصفة من صفاته.

الدليل الثاني: أنّ الإيلاء عند الإطلاق في الشرع واللغة ينصرف إلى الحلف بالله أو بصفة من صفاته , فإذا حلف بغيرهما لم يكن إيلاء. القول الثاني: أنّ الحلف بغير الله كالحلف بالطلاق والنذر والعتاق وغيرهما يعتبر إيلاء , واستدلوا أيضاً بدليلين: الأول: وهو غريب عجيب أثر أيضاً عن ابن عباس كما تلك قراءة عن عباس هذا أثر عن ابن عباس وهو أنه قال كل منع من الجماع فهو إيلاء. الدليل الثاني: من المعنى وهو أنّ الشارع إنما حرم الإيلاء لما فيه من الإضرار بامتناع الزوج بالحلف عن وطء الزوجة وهذا المعنى موجود إذا حلف بالطلاق أو بالنذر أو العتاق , وهذا القول الثاني اختيار شيخ الإسلام وهو القول الراجح وفي الحقيقة اختيار الحنابلة في هذه المسألة ضعيف وسبب الضعف: أولاً: لأنه يخالف صريح فتوى ابن عباس. وثانياً: أنه يفتح باب للتلاعب لأنه إذا علم الزوج أنه لن يلزم بحكم الإيلاء إذا حلف بغير اليمين والقسم فإنه يحلف بغير اليمين وبهذا يتحقق الإضرار بالزوجة ولا يتحقق المقصود الشرعي من مشروعية الإيلاء. قال المؤلف ـ رحمه الله ـ: (على ترك وطء زوجته في قبلها) يشترط أن يحلف على ترك الوطء في القبل , أما لو حلف على ترك الوطء في الدبر أو ترك الاستمتاع بأيّ مكان من زوجته فإنه لا يعتبر إيلاء , وعلل الحنابلة هذا بأنّ الضرر الذي أراد الشارع رفعه إنما هو فيما إذا حلف على ترك القبل دون غيره من الاستمتاعات. وهذا صحيح , بل الحلف على ترك وطء الدبر هذا أمر طيّب , فليس من الإيلاء بحال من الأحوال. إذا الخلاصة / أن يشترط على ترك وطء القبل قال المؤلف ـ رحمه الله ـ: (أكثر من أربعة أشهر) يشترط ليكون الحلف إيلاء أن يقسم على ترك وطئها أكثر من أربعة أشهر, علمنا من عبارة المؤلف أنه لو أقسم على أربعة أشهر أو أقل فإنه لا يعتبر إيلاء وهذا مذهب الجمهور. واستدل الجمهور بالآية فإنّ الآية جعلت مدة الإيلاء أربعة أشهر , ولو كان الإنسان يصح إيلاءه لمدة أربعة أشهر لكان الإيلاء ينتهي قبل ذلك. وهذا معلوم أنه لا يكون.

القول الثاني: أنه إذا حلف على ترك وطء زوجته أربعة أشهر يعتبر مولياً , وهؤلاء يتمسكون بالظاهر وهذا الظاهر هو أنّ هذا الزوج حلف على ترك وطء زوجته والإيلاء هو الحلف على ترك وطء الزوجة , فلما وجد منه صح أنه إيلاء , وهذا مذهب الأحناف وهو مذهب ضعيف جداً لأنه مخالف لظاهر الآية ولهذا لم يوافق مالك وأحمد والشافعي أبا حنيفة على هذا القول , والراجح مذهب الحنابلة، علمنا من هذا القول أنه إذا حلف على ترك وطء زوجته أقل من أربعة أشهر فإنه بالإجماع لا يعتبر من الإيلاء وهذا دليل على الأحناف. قال المؤلف ـ رحمه الله ـ: (ويصح من: كافر , وقن , وغضبان , وسكران , ومريض مرجو برؤه) المؤلف يريد أن يبيّن من هو الزوج الذي يصح منه الإيلاء والزوج الذي لا يصح منه الإيلاء الزوج الذي يصح منه الإيلاء ضبطه الحنابلة بضابط يسير جداً وواضح , فقالوا كل من صح طلاقه صح إيلاءه والمسائل التي أشار إليها المؤلف إنما أشار إليها لوقوع الخلاف فيها , وإلاّ لكفى أن يذكر هذا الضابط العام , وغير المؤلف من الحنابلة ذكر هذا الضابط وهو أحسن لو أنّ المؤلف ذكره لكان أحسن إنما المؤلف نص على مسائل فيها خلاف ليبيّن أنّ ما عداها كل من صح طلاقه صح إيلاءه. قوله (ويصح من كافر) يعني إذا آلى الكافر من زوجته وترافعوا إلينا فإنّا نلزمه بحكم الإيلاء لماذا؟ لأنّ الكافر يصح طلاقه فيصح إيلاءه. قوله (وقن) يعني لو أنّ العبد حلف أن لا يطأ زوجته فهو مولي وتضرب له المدة ويأخذ بأحكام الإيلاء والدليل على هذا أنّ القِنّ يدخل في عموم الآية العبد يدخل في عموم الآية. قال المؤلف ـ رحمه الله ـ: (ومميز وغضبان وسكران) تقدم معنا في كتاب الطلاق الخلاف في طلاق المميز والسكران والغضبان فعلى القول بأنّ طلاقهم يقع إيلائهم أيضاً يقع , وعلى القول بأنّ طلاقهم لا يقع , لا يقع منهم الإيلاء , فالخلاف في الطلاق يأتي معنا هنا.

قوله (ومريض مرجو برؤه) يعني المريض الذي لا يستطيع الآن أن يجامع لو أقسم على أن لا يجامع فهو إيلاء وعلل الحنابلة هذا بأنّ هذا الزوج يستطيع أن يجامع لولا العارض وهذا العارض سيزول , ولهذا قالوا مرجو برؤه فإذا المريض الذي يرجى برؤه إذا أقسم على ترك وطء زوجته بسبب غضب أو غيره فإنّا نضرب عليه المدة ونعتبره مولياً. قال المؤلف ـ رحمه الله ـ: (وممن لم يدخل بها) الإيلاء من المسائل التي لاتفترق فيها المدخول عليها أو بها عن التي لم يدخل بها , فإذا قال الزوج قبل الدخول والله لا أطأ زوجتي يقصد في قبلها فإنه مولي وإن كان لم يدخل إلى الآن , وعللوا هذا بأنه داخل في الآية وأيضاً هو زوج وكل زوج أقسم على ترك وطء زوجته فهو مولي. القول الثاني: أنه إذا آلى ممن لم يدخل بها , فإنه لا يعتبر من الإيلاء لأنه لم يدخل بها إلى الآن ولم يطأ ولم تسلم إليه الزوجة , والراجح المذهب؟ لماذا؟ لأنه يصح طلاقها ولأنّ قضية الدخول وعدمه لا أثر له في الامتناع من الوطء كما ذكرتم أحسنتم أنّ طلاقه صحيح فإيلاءه صحيح. قال المؤلف ـ رحمه الله ـ: (لا من مجنون , ومغمى عليه) المجنون والمغمى عليه لا يصح منهما الإيلاء لأنه القلم مرفوع عنهما , فإذا هذى بالإيلاء وأقسم فلا عبرة بكلامه ولا يصح منه , لأنه مرفوع عنهما القلم وليسوا بمكلفين. قال المؤلف ـ رحمه الله ـ: (وعاجز عن وطء لجب كامل أو شلل) يعني إذا كان الزوج أقسم أن لا يطأ زوجته ولكنه مجبوب أو مشلول فإنّ هذا القسم لا يعتبر إيلاء , وإن أقسم على ترك وطء زوجته قاصداً، وعلل الحنابلة هذا بأنّ المانع من الوطء ليس اليمين وإنما المرض أو العلة أو الجب أو الشلل فإذا كان المانع ليس الإيلاء ليس اليمين والقسم فليس بإيلاء في الشرع وهذا صحيح لأنّ المانع الآن ليس القسم حتى نرتبّ عليه أحكام الإيلاء. قال المؤلف ـ رحمه الله ـ: (فإذا قال: والله لا وطئتك أبداً , أو عيّن مدة تزيد على أربعة , أو حتى ينزل عيسى , أو يخرج الدجال)

فإذا قال والله لا وطئتك أبداً وعيّن مدة تزيد على أربعة أشهر ........ الخ فهو مول , والسبب في هذا أنه أقسم على ترك وطء زوجته مدة تزيد على أربعة أشهر , ولكن الشيخ كما هي عادته المؤلف - رحمه الله - أجاد وأحسن بذكر هذه الأمثلة ليدلنا على قاعدة وهذه القاعدة أو الضابط تقول [كل من أقسم على مدة يغلب على الظن أنها تزيد على الأربعة أشهر فهو مولٍ وإن لم يذكر العدد] وهذا ضابط مفيد فعيسى عليه السلام وخروج الدجال لن يكون بغلبة الظن إلاّ بعد مضي أربعة أشهر, وهذا يقاس على ما ذكره كل ما ينطبق عليه الضابط وهو أن يحلف على شيء يغلب على الظن أنه يستغرق مدة تزيد على أربعة أشهر. قال المؤلف ـ رحمه الله ـ: (أو حتى تشربي الخمر) إذا قال والله لا أطأك حتى تشربي الخمر فهو مول , لماذا؟ وهذا جنس آخر من اليمين مول لأنه علقّ أو منع نفسه من الوطء حتى تفعل المحرم والمحرم معدوم شرعاً فيقاس على المعدوم حساً فكأنه علقّ الوطء على أمر لا يمكن أن يوجد حساً لأنّ المعدوم شرعا كالمعدوم حساً، ولأنه لو فتح هذا الباب لأمكن للإنسان أن يُجَرِأ زوجته على المعاصي باستخدام الإيلاء , والشرع لا يأتي بمثل هذا. قال المؤلف ـ رحمه الله ـ: (أو تسقطي دينك أو تهبي مالك , ونحوه فمول) أيضاً في هذه الصور يعتبر مول لماذا؟ لأنه حلف عليها بما يؤدي إلى أخذ المال ظلماً , وأخذ المال ظلماً محرم , وإذا كان محرماً رجعنا إلى قاعدة الخمر وهو أنّ تعليق الأمر على فعل محرم يجعله معدوماً حساً. فيصبح مولياً وهذا صحيح فمسألة أخذ المال وشرب الخمر مسألة واحدة. والضابط لهذه المسائل ما هو؟ أن يعلق الوطء على تحقق أمر محرم فإذا الأمثلة الأولى لها ضابط والأمثلة الثانية لها ضابط مستقل. قال المؤلف ـ رحمه الله ـ: (فإذا مضى أربعة أشهر من يمينه ولو قناً) أفادنا المؤلف أنه إذا أقسم هذا القسم فهو مول , وإذا كان مول فإنّا نضرب له المدة ونبدأ بحساب المدة من حين أقسم وفي هذه العبارة مسائل:

المسألة الأولى: أنّ ابتداء المدة لا يحتاج إلى ضرب ولا إلى حكم حاكم بل نبدأ باحتساب المدة من حين يقسم ولا نحتاج إلى ضرب مدة وهو بهذا يشبه العدة. بخلاف العنين فإنّ العنين يجب أن يضرب المدة من؟ الحاكم كما تقدم معنا. المسألة الثانية: أنّ قاعدة مدة الإيلاء أن يحسب عليه عذره دون عذرها , فإذا سافر أو أحرم أو مرض فإنّا نحسب المدة عليه , لأنّ هذا الزوج هو السبب في الامتناع فلم يراعيه الشارع بإيقاف المدة حال عذره. وبالمقابل لا نحسب على الزوج عذرها , فإذا أحرمت أو نشزت أو سافرت أو مرضت مرضاً لا يمكن معه الوطء فإنّا لا نحسب عليه هذه المدة لأنه لا يد له في هذه المدة. ويستثنى من هذا الحيض فإنّ الحيض يحسب عليه , وإن كان عذراً لها إلاّ أنه يحسب عليه لماذا؟ لأنّا لو حسبنا الحيض لا يمكن أن تنتهي مدة الإيلاء , لأنه في كل شهر حيض أليس كذلك؟ معناه أنّ الأشهر لن تنتهي أبداً لأنه في كل شهر إيلاء في كل شهر حيض وبهذا لن ننتهي. * النفاس هل يحسب عليه أو لا يحسب؟ الحنابلة لم يستثنوا إلاّ الحيض ونصوا على أنّ النفاس يحسب عليه لأنه أمر عارض ليس كالحيض , الخلاصة: أنّ أعذاره كلها تحسب عليه وأعذارها كلها لا تحسب إلاّ الحيض. قال المؤلف ـ رحمه الله ـ: (ولو قناً) يعني أربعة أشهر لا تنصف بالرق , واستدلوا على هذا بعموم الآية.

والرواية الثانية عن الإمام أحمد أنّ العبد تنصف له المدة فتكون مدة الإيلاء بالنسبة له شهرين فقط هذه الرواية نقلها أبو طالب وأفادنا جزاه الله خيراً. أنّ الإمام أحمد رجع إليها وهنا علمنا أيّ الروايتين الأولى وأيّ الروايتين الثانية. السبب في رجوع الإمام أحمد لاحظ تعليل الإمام أحمد قال الإمام أحمد وجدنا أنّ كل التابعين على هذا إلاّ الزهري , يعني على تنصيف مدة الإيلاء بالنسبة للعبد إلاّ الزهري فأخذ بإجماع التابعين لأنه لم يخالف إلاّ من؟ الزهري. كما أنّ غير الزهري ولعل هذا ملحظ من ملاحظ الإمام أحمد غير الزهري قد يكون أفقه من الزهري فإذا لم يخالف إلاّ الزهري وبقية الفقهاء الكبار كلهم على التنصيف لاشك أنّ هذا يستدعي من الإنسان الوقوف عند هذا الأمر والرجوع إليه , كما أنّ هذا قد يكون من التابعين بناء على فتاوى تلقوها من الصحابة. الأمر الثاني: قياس التنصيفات الأخرى كعدد الطلاق , وإقامة الحدود, فكأنّ الشارع ينصف على العبد ما يتعلق بالمدد والأعداد وهذا القول الذي رجع إليه الإمام أحمد هو الصحيح إن شاء الله. قال المؤلف ـ رحمه الله ـ: (فإن وطئ ولو بتغييب حشفة) أفادنا المؤلف أنّ أدنى ما يكفي في فيئة , أن يغيّب الحشفة فإن وطئ دون ذلك فلم يرجع إلى الآن , ويعتبر مازال مولياً , أما إن وطئها بتغييب الحشفة فإنه يعتبر رجع عن الإيلاء. قال المؤلف ـ رحمه الله ـ: (فقد فاء) أفادنا المؤلف أنّ الفيئة هي الوطء. وهذا محل إجماع حكاه ابن المنذر وغيره من أهل العلم أنّ الفيئة هي الوطء يعني أنه لا يعتبر فاء لا بالكلام ولا بأيّ عمل سوى الوطء , فإذا وطئ اعتبرناه فاء ورجع. قال المؤلف ـ رحمه الله ـ: (وإلاّ أمر بالطلاق) أفادنا الشيخ - رحمه الله - أنه لا يقع الطلاق بمجرد انتهاء مدة الإيلاء، بل يأمره الحاكم بأحد أمرين لا ثالث لهما:

إما أن يرجع والرجوع هو الوطء , أو أن يطلق , ولا يقع الطلاق بمجرد الإيلاء أو بمجرد انتهاء المدة , وإلى هذا ذهب الجماهير وهو أنه لا تكون انتهاء المدة بمجردها طلاق وأفادنا المؤلف أنّ الزوج إذا لم يفء فليس أمامه إلاّ الطلاق ولم يبيّن الشيخ - رحمه الله - هذا الطلاق طلاق بائن أو رجعي. اختلف الفقهاء في هذا الطلاق هل طلاق بائن أو رجعي على أقوال: القول الأول: أنه طلاق رجعي، لأنه طلاق زوجته والأصل في الطلاق قبل استيفاء العدد أنه رجعي، فلما قيل لهم إذا يطلق ويرجع ولا تنتهي معاناة المرأة , فأجابوا عن هذا أنه إذا طلق ورجع فإنّا نضرب عليه المدة من جديد. القول الثاني: أنه طلاق بائن، وعللوا هذا أنّ هذا الطلاق طلاق يقصد منه رفع الضرر عن الزوجة ولا يكون هذا مع تمكين الزوج للرجوع. ولهذا حكموا عليه بأنه طلاق بائن. أيٌّ القولين أرجح؟ الواقع أنّّ الراجح قول ثالث وهو أنّ الطلاق كما قلت رجعي لكن بشرط أن يطأ بمجرد ما يراجع , فإن لم يرضى بهذا الشرط فإنه لا يراجع وهذا اختيار شيخ الإسلام وجيّد جداً أنّ الشيخ ماذا صنع؟ جمع بين القولين بطريقة فقهية متقنة جداً وهذا القول لم يتفرد به الشيخ لكنه نصره وقواه وقال تكون رجعية لأنه الأصل ولكن بشرط ماذا؟ أن يطأ بمجرد ما يراجع ولا تضرب له مدة واستدل على هذا بالآية. قال تعالى: {وبعولتهن أحق بردهن في ذلك إن أرادوا إصلاحا} [البقرة/228] والزوج الذي يؤلي من زوجته ثم يراجعها بغير نية الوطء فقد راجعها ولم يرد الإصلاح فلا تصح هذه الرجعة وهذا قول قوي جداً. قال المؤلف ـ رحمه الله ـ: (فإن أبى طلق حاكم عليه واحدة أو ثلاثاً أو فسخ) أفادنا المؤلف أنّ الحاكم يملك الطلاق إذا أبى أن يطلق ولا يرجع , أيّ الزوج وإلى هذا ذهب الجماهير وهو أنّ الحاكم يملك الطلاق. واستدلوا على هذا بالقاعدة المشهورة وهو أنّ كل واجب امتنع عنه صاحبه قام الحاكم مقامه في أدائه ولولا ذلك لتعطلت حقوق الناس.

القول الثاني: أنّ الحاكم لا يملك أن يطلق بل عليه أن يحبس المولي وأن يؤدبه ويعّزره إلى أن يطلق المولي بنفسه واستدلوا على هذا بأنّ النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول (إنما الطلاق لمن أخذ بالساق) وأنّ النصوص كلها تدل على أنّ الطلاق حق من حقوق الزوج، والراجح المذهب , والجواب عن هذه الأدلة أنّ هذه الأدلة تحمل على حال السعة والاختيار دون حال الضرورة ودفع الضرر. أفادنا المؤلف أنّ الحاكم يملك أن يطلق واحدة أو ثلاث أو يفسخ , واستدل الحنابلة على هذا بأنه لما قام مقام المولي ملك ما يملك المولي والمولي يملك أن يطلق واحدة أو اثنتين أو أن يفسخ. القول الثاني: وهو رواية عن الإمام أحمد أنّ الحاكم لا يملك إلاّ واحدة رجعية فقط، واستدل على هذا أصحاب هذا القول بأنّ المقصود دفع الضرر وهو حاصل بإيقاع الواحدة فلا يملك أكثر من ذلك وهذا القول رواية عن أحمد ونصرها أيضاً شيخ الإسلام وهي الصواب فالحاكم لا يملك إلاّ واحدة رجعية لأنّ الضرر يزول بهذا لاسيما على اختيار شيخ الإسلام أنه لا يملك المراجعة إلاّ مع إلزامه بالوطء. قال المؤلف ـ رحمه الله ـ: (وإن وطئ في الدبر أو دون الفرج فما فاء) إذا وطئ في الدبر أو فيما دون الفرج فإنه لا يعتبر فاء , لأنّ الضرر لم يزل بهذا الوطء والمقصود بالفيئة والرجوع أن يطأ وطأًً يزول معه الضرر. قال المؤلف ـ رحمه الله ـ: (وإن ادعى بقاء المدة أو أنه وطئها وهي ثيّب صدق مع يمينه) ادعى بقاء المدة فإنه يصدق مع يمينه بلا إشكال لماذا؟ لأنها ترجع إلى مسألة أخرى لأنه لا يعرف بداية اليمين إلاّ من قبله وانتهاء المدة مبني على بداية اليمين وبداية اليمين هو أعلم بها , ولهذا تقبل منه هذه الدعوى. المسألة الثانية: إذا ادعى أنه وطئها وهي ثيّب فإنه أيضا يقبل مع يمينه والسبب في هذا أنّ هذا الأمر لا يعلم إلاّ من جهته فإذا ادعى أنه وطئها فإنه يقبل قوله لكن مع يمينه. القول الثاني: أنه في مسألة ادعاء الوطء أنه لا يقبل وإنما يلزم بإحضار بيّنة والصواب مع الحنابلة. قال المؤلف ـ رحمه الله ـ: (وإن كانت بكراً وادعت البكارة وشهد بذلك امرأة عدل صدقت)

إذا ادعت أنها بكر فإنه لا يقبل قوله بالوطء لأنه لو وطئها لم تكن بكراً لكن كما قال المؤلف يجب أن تحضر بيّنة على أنها بكراً فإذا أحضرت لاشك أنه تبيّن لنا أنّ كلامه ليس بصحيح. القول الثاني: أنّ القول قوله ولو ادعت البكارة لأنّ البكارة ربما رجعت وهذا ذكره الفقهاء المتقدمون فكيف لو علموا بعمليات إرجاع البكارة المعاصرة لكان البكارة ليست دليل على شيء مطلقاً لكن على كل حال الطب الحديث يعرف هل هذه المرأة بكارتها أصلية أو رجعت. قال المؤلف ـ رحمه الله ـ: (وإن ترك وطأها إضراراً بها بلا يمين ولا عذر فمول) ذكرت في أول الفصل وهو قوله وهو حلف , أنه إذا ترك بغير الحلف امتنع بقصد الإضرار بلا حلف فليس بإيلاء عند الحنابلة. والقول الثاني: أنه إيلاء لأنّ المقصود من شرع الإيلاء هو رفع الضرر الواقع على المرأة بترك الوطء وهذا يستوي فيه ما إذا تركها بقصد الإضرار مع الحلف أو بدون الحلف وهذا القول الثاني اختيار شيخ الإسلام - رحمه الله - وهو الراجح. مسألة أخيرة: إذا تركها بغير حلف وبغير قصد الإضرار وإنما تركها لم يطأ ففيها خلاف , أما الحنابلة فمن باب أولى أنه ليس يإيلاء. وعلى القول الثاني: اختلفوا أيضاً منهم من قال إيلاء ومنهم من قال ليس بإيلاء , والصحيح إن شاء الله أنّ ترك الوطء مع اليمين أو مع قصد الإضرار بلا يمين , أو بلا يمين ولا قصد إضرار أنه يعتبر من الإيلاء ونضرب عليه المدة لأنّ الشارع الحكيم إنما شرع هذه الأحكام لدفع الضرر عن المرأة والضرر يقع عليها بترك الوطء في الأحوال الثلاثة فنضرب عليه المدة ونعامله معاملة المولي. وبهذا انتهى كتاب الإيلاء ولله الحمد.

كتاب الظهار

الدرس: (1) من الظهار قال شيخنا حفظه الله: بسم الله الرحمن الرحيم والحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين. كتاب الظهار قوله كتاب الظهار / الظهار مشتق من الظهر وخُص به لأنه موضع الركوب أي لأنه هو الجزء الذي يركب فاشتقوا الظهار من الظهر لهذا المعنى , والأصل فيه قوله تعالى: {والذين يظاهرون من نسائهم} (المجادلة/3). وكذلك حديث أوس بن الصامت ـ رضي الله عنه ـ وتقدم معنا أنّ الظهار كان في الجاهلية طلاقاً وأنّ هذا المعنى نسخ. قال المؤلف ـ رحمه الله ـ: (وهو محرم) يعني والظهار محرم. الظهار بالكتاب والسنة والإجماع. أما الكتاب: فقوله تعالى: {وإنهم ليقولون منكرا من القول وزورا} [المجادلة/2]، والمنكر والزور محرم الثاني: أنّ أوس بن الصامت - رضي الله عنه - لما ظاهر من زوجته ألزمه النبي - صلى الله عليه وسلم - بالكفارة. والكفارة في الشرع إنما تكون على المخالفات الشرعية , وهو أيضاً محل إجماع. قال المؤلف - رحمه الله -: معرفاً بالظهار (فمن شبه زوجته , أو بعضها ببعض , أو بكل من تحرم عليه أبداً بنسب أو رضاع إلى أن قال فهو مظاهر) الظهار عند الحنابلة هو أن يشبه زوجته أو بعضها بأمه أو بعضها وهذا يختصر ما ذكره الشيخ المؤلف - رحمه الله - هو أن يشبه زوجته أو بعضها بأمه أو بعضها , فإذا شبه فهو مظاهر بأن يقول أنت عليّ كظهر أمي, وهذا اللفظ هو الذي استخدمه أوس - رضي الله عنه - فقول الإنسان أنت عليّ كظهر أمي ظهار بالإجماع. قال المؤلف - رحمه الله -: (فمن شبه زوجته , أو بعضها ببعض ... إلى قال أو رضاع) أفادنا المؤلف أنّ الظهار لا يختص بتشبيه الزوجة بالأم بل يشمل تشبيه الزوجة بكل المحرمات , وهذا مذهب الحنابلة ومذهب الجمهور. واستدلوا على هذا بأنّ تشبيه الزوجة بغير الأم من المحرمات أياًّ كان سبب التحريم هو منكر من القول وزوراً فيدخل في الآية. الثاني: أنّ في هذا التشبيه التحريم، والتحريم هو أصل موضوع الظهار , يعني أنّ الظهار هو لتحريم الزوجة وهذا التشبيه ولو كان بغير الأم تحريم للزوجة فهو ظهار.

القول الثاني: أنّ الظهار يختص بالأم، يعني أنه لا يكون مظاهراً حتى يشبه زوجته بالأم فقط. فإن شبهها بالأخت أو العمة أو أم الزوجة، فإنه لا يعتبر مظاهراً , وعللوا هذا بأنّ اللفظ الشرعي الذي نزل الآية بسببه في تشبيه الأم فقط، فيختص بها كما أنّ الآية صريحة بهذا. الدليل الثاني لهم: أنّّ جميع العقول والفطر تعلم أنّ تشبيه الزوجة بالأم أقبح من تشبيهها بغيرها من المحرمات. والراجح إن شاء الله: المذهب لأنّ: دليلهم أقوى من حيث المعنى الذي شرع من أجله الظهار وهو التحريم. وهذا يقودنا إلى مسألة أخرى هل الظهار يحصل بأمرين: وهما التحريم والتشبيه، أو يحصل بالتحريم فقط؟ بعبارة أخرى هل الظهار في الشرع لا يكون إلاّ إذا جمع الزوج بين التحريم والتشبيه أو فقط بالتحريم؟ مثال الأول: إذا قال أنت عليّ كظهر أمي , معنى كلامه أنت عليّ محرمة كتحريم ظهر أمي , فجمع بين التحريم والتشبيه. أما المثال الثاني: كأن يقول أنت عليّ حرام. فهل الظهار في الشرع هو التحريم أو التشبيه؟ لماذا التحريم؟ نحن نقول أنّ الظهار في حقيقته التحريم وليس التشبيه ولهذا نحن نقول أنت عليّ حرام. الأدلة قامت على أنه ماذا؟ ظهار فهذا ابن عباس صح عنه أنّ أنت عليّ حرام ظهار فعلمنا من فقه الصحابة ومن المعنى الذي شرع من أجله الظهار أنّ المعنى الذي حرم من أجله هو التحريم , لا التحريم مع التشبيه إلاّ أنّ التشبيه يزيد الأمر ماذا؟ سوءاً وحرمة. لكن من حيث الأصل التحريم هو الذي يقصد بالنهي عنه. وهذا واضح من أيّ مسألة من مسألة أنت عليّ حرام لما ناقشنا أنت عليّ حرام يتبيّن من أدلة الذين تحدثوا حول هذه المسألة أنه التحريم. نرجع إلى كلام المؤلف يقول - رحمه الله -: (بكل من تحرم عليه أبداً بنسب أو رضاع من ظهر , أو بطن أو عضو (

أفادنا المؤلف - رحمه الله - أنّ تشبيه العضو بالعضو أو تشبيه الكل بالعضو أو تشبيه العضو بالكل , كله ظهار واستدلوا على هذا بأنّ في هذا التشبيه تحريم فإنّ يد الأم محرمة فإذا قال أنت عليّ كيد أمي فقد حرّم لأنّ يد الأم محرمة , وإذا قال يدك أو ظهرك عليّ كأمي حرّم , لأنه تقدم معنا أنّ الزوجة لا تتبعض وإذا حرّم بعضها حرمت كلها , ولهذا نحن نقول تشبيه البعض بالكل أو الكل بالكل أو الكل بالبعض كله ماذا؟ ظهار، أو البعض بالبعض، والدليل هو ما ذكرت. القول الثاني: أنه لا يكون مظاهراً حتى يشبه كل زوجته بأمه , لأنه اللفظ الذي جاء في السنة ولأنّ تشبيه البعض لا يستوي مع تشبيه الكل فلا يكون مظاهراً حتى يقول أنت يعني كلك عليّ كظهر أمي , والراجح المذهب. ثم - قال المؤلف رحمه الله -: (أو عضو آخر لا ينفصل) اشترط المؤلف في تشبيه العضو أن يكون العضو لا ينفصل , لأنّ الذي لا ينفصل لا يقع عليه الطلاق وبهذا التعليل أفادنا الحنابلة أنّ الخلاف في هذه المسألة كالخلاف في مسألة ماذا؟ هل يقع الطلاق على السن والظفر والشعر أو لا يقع؟ فما رجحناه هناك هو الراجح هنا , فإذا قال أنت عليّ كظفر أمي , حكمه ليس بظهار , وإذا قال أنت عليّ كشعر أمي؟ فهو ليس بظهار عند الحنابلة وهو ظهار على القول الأقرب إن شاء الله. فنستحضر الخلاف في السن والظفر والشعر هنا. قال - رحمه الله -: (بقوله لها / أنت عليّ , أو معي , أو مني كظهر أمي , أو كيد أختي , أو وجه حماتي ونحوه , أو أنت عليّ حرام , أو كالميتة والدم فهو مظاهر) أفادنا المؤلف أنه إذا قال أنت عليّ كظهر أمي فهو مظاهر , وإنما أعاد المؤلف هذه العبارة لقوله أو معي أو مني , ليبيّن أنّ استخدام معي أو مني هو كاستخدام عليّ ففي الجميع يكون مظاهراً , والتعليل أنه مهما استخدم من هذه الألفاظ يكون مظاهراً ما تقدم وهو أنّ حقيقة الظهار هو ماذا؟ هو التحريم والتحريم يحصل بهذه الألفاظ. قال المؤلف - رحمه الله -: (أو وجه حماتي) الحماة / هي أم الزوجة , فإذا شبه زوجته بوجه حماته فقد شبهها بمحرم فهو على الصحيح ظهار على ما تقدم معنا من الخلاف. قوله: (أو أنت عليّ حرام , أو كالميتة والدم فهو مظاهر (

تقدم معنا الخلاف والأقوال والأدلة في هذه المسألة المهمة وهي أنه أنت عليّ حرام أو كالميتة والدم عند الحنابلة ماذا يكون؟ ظهار ولو نوى طلاقاً ولو نوى يميناً وأنّ الأقرب أنه ماذا؟ ظهار ولو نوى طلاقاً إلاّ أن ينوي يميناً , وأنه يلي هذا القول في القوة ما اختاره الإمام الشافعي ونصره أنه إن نوى طلاق فطلاق , وإن نوى ظهار فظهار , وإن نوى يمين فيمين , تقدمت هذه المسألة وترجع إلى الخلاف في أنت عليّ حرام. * * باقي مسألة: لم يذكرها المؤلف ما إذا قال أنت عليّ كظهر أبي , فإذا قال أنت عليّ كظهر أبي فهو ظهار والحنابلة يسوون بين أنت عليّ حرام وأنت عليّ كالميتة والدم وبين أنت عليّ كظهر أمي , فيرون أنّ أنت عليّ كظهر أمي تحريم والسبب في ذلك أنه شبه زوجته بمن تحرم عليه , فوقعت حقيقة الظهار والتحريم فأخذ حكمه. والقول الثاني: أنّ تشبيهها بظهر الأب ليس بظهار , واستدلوا على هذا بأنّ الأب ليس بمحل للاستمتاع من الأصل فلا يجوز أن يقاس على الأم، والراجح والله أعلم المذهب والسبب في الترجيح هو أنه بهذا التشبيه حصل التحريم ولو كان الأب في الأصل ليس بمحل للاستمتاع بل نستطيع نقول , نقلب عليهم الدليل ونقول إذا كان الأب ليس بمحل للاستمتاع أصلاً فهذا أشد في التحريم , فينبغي أن يكون ظهاراً أشد من أنت عليّ كظهر أمي. المسألة الثانية: إذا قال أنت عليّ كظهر الأجنبية , وإنما أفردوا هذه المسألة بالحديث لأنّ الأجنبية تحريمها تحريماً مؤقتاً , فالمذهب أنه ظهار , قاعدة المذهب في الظهار جميلة وهي أنه وجد التحريم وجد الظهار. والقول الثاني: أنه ليس بظهار لأنّ تحريم الأجنبية تحريم مؤقت فلا يقاس على التحريم المؤبد , والراجح المذهب لأنها حين التحريم أو حين التشبيه دلت على التحريم فهي الآن محرمة ولهذا نقول إن شاء الله الراجح مذهب الحنابلة. قال المؤلف - رحمه الله -: (وإن قالته لزوجها فليس بظهار , وعليها كفارته (

وإن قالته لزوجها يعني قالت الزوجة لزوجها أنت عليّ كظهر أبي , فليس بظهار رواية واحدة عن الإمام أحمد عن القاضي من كبار أصحاب الإمام أحمد يقول ليس عن الإمام أحمد في هذه المسألة إلاّ رواية واحدة وهو أنه ليس بظهار واستدلوا على هذا بأنّ الاستمتاع حق من حقوق الزوج فلا تملك المرأة أن تمتنع عنه. والقول الثاني: أنّ المرأة إذا قالت أنت عليّ ظهر أبي فهو ظهار , ويمتنع الزوج إلى أن تكفر , ويزعم بعض الحنابلة أنها رواية, والقاضي ينكر هذا والأقرب والله أعلم أنه ليس بظهار. لكن مع هذا يقول الحنابلة فليس بظهار وعليها كفارته , مع كونهم يرون أنّ هذه العبارة ليست ظهاراً في الشرع إلاّ أنهم يوجبون عليها ماذا؟ الكفارة. واستدلوا على هذا بأنّ عائشة بنت طلحة خطبها رجل من الصحابة فقالت أنت عليّ كظهر أبي , كأنها - رضي الله عنها - غضبت ثم أرادت أن تمتنع عنه فقالت أنت عليّ كظهر أبي ثم بدا لها بعد حين أن تتزوجه فسألت أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - فقالوا عليك الكفارة اعتقي رقبة , فقالوا وجدنا أنّ الصحابة أفتوها بعتق رقبة فدل على أنها عليها كفارة ظهار. والقول الثاني: أنّ عليها كفارة يمين فقط. دون كفارة الظهار قال بعض الحنابلة وهذا أكثر موافقة لأصول أحمد السبب كيف كان هذا أكثر موافقة لأصول أحمد , لأنّ أحمد يرى أنّ أنت عليّ كظهر أبي ليس بظهار والموافق لهذا الأصل أن لا تجب عليها كفارة ظهار وهذا صحيح , واستدل أصحاب هذا القول بأنّه إذا لم نحكم على هذا اللفظ بأنه ظهار فلا يجوز أن نرتب عليه الكفارة لأنّ الشارع إنما رتب كفارة الظهار على الظهار. وأجابوا عن الآثار المروية عن أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - بأنّ مرادهم بالعتق كفارة يمين

لأنّ كفارة اليمين فيها عتق رقبة وربما اختاروا لها العتق ترجيحاً لا إلزاماً لبشاعة قولها أنت عليّ كظهر أبي. والراجح أنّ عليها كفارة يمين وفي المسألة قول ثالث لا بأس من الإشارة إليه وهو أنّ هذا الكلام هذر لا قيمة له لغو لا قيمة له فلا يوجب تحريماً ولا كفارة وليس له أيُّ قيمة لأنّ الظهار وألفاظ الظهار يختص بها الزوج وليس للمرأة فيها علاقة , وهذا القول الأخير ضعيف سبب الضعف فتاوى الصحابة. نحن نقول لا نخالف الصحابة , الصحابة أفتوا عائشة بنت طلحة بأنّ عليها كفارة إذا هم اعتبروها تحريم كما أنه من حيث المعنى كأنّ المرأة أقسمت أن لا تتزوج هذا الرجل وإذا أقسمت فعليها كفارة يمين والخلاصة أنّ الراجح أنّ عليها كفارة يمين وليس بظهار. قال المؤلف - رحمه الله -: (ويصح من كل زوجة) صغيرة أو كبيرة مسلمة أو ذمية يمكن أن توطأ أو لا يمكن أن توطأ , في الكل يصح الظهار حتى في المرأة التي لا يمكن أن توطأ. لأنّ الظهار هو التحريم وإذا حرم على نفسه وطء هذه الزوجة ولو كان مثلها لا يوطأ فقد تحققت حقيقة الظهار , ولم يبيّن الشيخ المؤلف رحمه الله - ما يتعلق بالزوج , متى يصح أو من أيّ زوج يصح الظهار. وقاعدة الحنابلة: [أنّ من صح طلاقه صح ظهاره] كقاعدتهم في الإيلاء ولكن لو أنّ الشيخ رحمه الله. أشار إليه لكان أولى من الإشارة إلى الزوجة لأنّ الظهار يكون من الزوج أو من الزوجة؟ من الزوج. كما أنهم يرون أنّ الزوجة مهما كانت فإنّ الظهار يقع عليها , إذا نحن نحتاج لبيان الزوج لا لبيان الزوجة , لكن هكذا الشيخ المؤلف رحمه الله. رأى واختصر على الزوجة دون الزوج. فصل قال المؤلف - رحمه الله -: فصل (ويصح الظهار معجلاً ومعلقاً بشرط) يصح الظهار معجلاً وهذا هو الأصل وهو محل إجماع , معجلاً كأن يقول أنت علّي كظهر أمي. ومعلقاً بشرط , كأن يقول لزوجته إن دخلت الدار فأنت عليّ كظهر أمي. فإذا دخلت الدار فقد وجدت الصفة وإذا وجدت الصفة وجد الحكم فأصبحت عليه كظهر أمه لا يقربها حتى يكفر. ولهذا قال المؤلف - رحمه الله -: (فإذا وجد صار مظاهراً) فإذا وجد. يعني الشرط , صار مظاهراً. يعني لوجود المعلق عليه وهي الصفة. ثم - قال المؤلف رحمه الله -:

(ومطلقاً , ومؤقتا) يعني يجوز في الظهار أن يكون مطلقاً وأن يكون مؤقتاً , أما المطلق فهو الأصل كأن يقول أنت عليّ كظهر أمي يعني دائماً وأبداً. وأما المؤقت فكأن يقول أنت عليّ كظهر أمي إلى أن ينسلخ شهر رمضان , فهذا مؤقت بكم؟ بشهر. فالحنابلة يرون أنّ المؤقت بشهر يجوز واستدلوا على هذا بدليلين: الأول: هو القياس على الإيلاء فإنّ الإيلاء مؤقت وهو امتناع عن وطء الزوجة. الثاني: أنّ سلمة بن صخر - رضي الله عنه - ظاهر من امرأته إلى أن ينسلخ شهر رمضان لأنه كان رجلاً قوياً في الجماع فلما دخل شهر رمضان خشي أن يقع منه شيء في الجماع , ومقصوده أن يقع منه شيء كما قال الشراح خشي أن يجامع في الليل ثم لا ينفك إذا خرج النهار , ونحن ننزهه - رضي الله عنه - أن يكون خشي أن يجامع في النهار , وهذا الحمل حمل طيّب. لأنّ فيه تنزيهاً للصحابي وعلى كل حال هو أراد التقوى فظاهر من امرأته في رمضان حتى لا يقع منه شيء. وهذا الحديث صحيح أنه معلول بالإرسال لكن ليس في الباب إلاّ هذا الحديث المرسل ,وأنتم تعلمون كما تقدم معنا أنّ من أصول الإمام أحمد قبول المرسلات إذا لم يكن في الباب شيء يدفعها ولم تكن عن أناس لا يرسلون إلاّ عن الضعفاء. القول الثاني: أنّ الظهار والتأقيت كلاهما يبطل , فلا ظهار ولا تأقيت واستدلوا على هذا بأنّ الظهار في الشرع جاء مطلقاً فإذا أقّته فقد أخرجه عن موضوعه فبطل هو والتأقيت. القول الثالث: أنّ التأقيت يبطل ويكون مظاهراً على الإطلاق , لماذا؟ لأنّ الشرط باطل وأصل العقد صحيح , والراجح المذهب: أولاً لقوة قياسهم على الإيلاء وثانياً لوجود الحديث المرسل. قال المؤلف - رحمه الله -: (فإن وطئ فيه كفّر , فإذا فرغ الوقت زال الظهار) وهذا هو ثمرة التوقيت أنه إن وطئ في الوقت المحدد فعليه الكفارة وإذا زال الوقت وانتهى زال معه حكم الظهار , وكما قلت هذه ثمرة التوقيت. قال المؤلف - رحمه الله -: (ويحرم قبل أن يكفّر / وطء ودواعيه ممن ظاهر منها (

يقول المؤلف ويحرم قبل أن يكفر ...... الخ , نبدأ بالمسألة الأولى/ وهي الوطء يحرم على المظاهر أن يطأ زوجته حتى يكفر, وظاهر عبارة المؤلف سواء كفر بالعتق أو بالصيام أو بالإطعام , والتكفير من حيث تعلق الوطء به ينقسم إلى قسمين: القسم الأول: أن يكفر بالعتق أو بالصيام فإذا كفر بالعتق أو بالصيام فإنه يحرم عليه بالإجماع أن يطأ قبل أن ينتهي من التكفير لقوله تعالى: {من قبل أن يتماسا} [المجادلة/3]، في العتق وفي الصيام , إذا التكفير بالعتق والصيام لا إشكال فيه. القسم الثاني: أن يكفر بالإطعام , فإذا كفّر بالإطعام فالمذهب أنه أيضاً لا يجوز له أن يطأ حتى ينتهي من الإطعام , وسيأتينا دليلهم في الجواب عن دليل القول الثاني. القول الثاني: أنه كفّر بالإطعام فله أن يطأ مباشرة ولو قبل أن يكفّر لأنّ الله لما ذكر العتق والصيام قيّده بمن قبل أن يتماسا , ولما ذكر الإطعام لم يقيّده بأن يكون ذلك قبل التَمَاس. ودليلهم واضح. الجواب عن هذا الاستدلال أنّ التقييد بالمساس معلوم من الآية , وإنما كرر في الصيام دون الإطعام لأنه لما كان الصيام طويل وقد يظن المكفّر أنه بسبب طول مدة التكفير لا يلزمه الامتناع عن الوطء صار من المناسب أن تقيّد الآية بعدم المماسة. وأما الإطعام فإنه معلوم مما سبقه ووجه ذلك أنه إذا شرط في الكفارة الفاضلة عدم الوطء ففي المفضولة من باب أولى. بل ذهب شيخ الإسلام - رحمه الله - إلى أنّ ذكر المماسة في الآية ليس من البلاغة التي تنسجم مع طريقة القرآن وليس من الفصاحة , فتركه هو مقتضى الفصاحة والبلاغة لأنه معلوم مما سبق ووجه أنه معلوم مما سبق أنه إذا قيّد الفاضل فالمفضول من باب أولى , فحصل بهذا الكلام الجواب عن قولهم لماذا قيّد الصيام دون الإطعام , إذا كنتم تكتفون بتقييد الأول أكتفوا بتقييد العتاق فقط , واتركوا الصيام والإطعام , فبيّن الشيخ أنه إنما قيّد الصيام دون الإطعام بسبب ماذا؟ طول مدة الصيام مما يظن معه الظان أنه يجوز له أن يطأ , وما ذكره الشيخ قوي في الحقيقة نقول لا يجوز للإنسان كما هو مذهب الحنابلة أن يأتي زوجته إلاّ بعد أن يكفّر. لاسيما وأنّ الكفارة موضوعة للتأديب وهذا من التأديب.

المسألة الثانية: يقول ودواعيه يعني ولا يجوز له أن يأتي من زوجته دواعي الوطء يعني المباشرة والتقبيل والضم ونحو هذه الأمور, لا يجوز للمظاهر أن يباشر زوجته قبل أن يكفرّ. الدليل على هذا أنه في الشرع كل ما حرم فيه الوطء حرمت دواعيه لئلا تؤدي الدواعي إلى ماذا؟ إلى الوطء مثل ماذا؟ الصيام الحج وهو أوضح الأمثلة , فالحج لما حرم فيه الوطء حرمت فيه أيضاً الدواعي فقاسوا هذا على هذا. الدليل الثاني: أنّ المباشرة ونحوها هي نوع من المماسة , والآية تقول من قبل أن يتماسا. القول الثاني: أنه يجوز له أن يباشر ويقبل وأن يأتي من زوجته ما شاء دون الوطء , واستدلوا على هذا بدليلين: الدليل الأول: أنّ المماسة في الآية هي الجماع لقوله تعالى {وإن طلقتموهن من قبل أن تمسوهن} [البقرة/237] والمماسة في هذه الآية هي الجماع. الدليل الثاني: أنّ المنع من الوطء في الظهار كالمنع من الوطء في الحيض قاسوا قياس آخر كالمنع من الوطء في الحيض والمنع من الوطء في الحيض لا يمتنع معه المباشرة ومقدمات الجماع. والراجح المنع لأنه إذا حرم شيء حرم وسائله. هذا هو محرم في الحيض ولم تحرم وسائله. أما ابن القيم فكأنه متوقف , حكى الخلاف ولم يرجح , وأما الإمام أحمد فعامة الروايات عنه والظاهر من مذهبه والمنقول عنه الجواز وأما الراجح ففيه إشكال والذي يظهر لي أنّ الراجح المذهب كما قال الشيخ محمد الراجح المنع. لماذا؟ لأنّ قياس الوطء على المنع منه في الإحرام أقرب منه على المنع منه في الحيض , وجه القياس لماذا أقرب؟ لأنّ المنع من الوطء في الإحرام ونحوه منع عارض والمنع من الوطء في الحيض منع متكرر وليس بعارض , فتشبيه هذا بهذا أقرب منه من الحيض كما أشرت أنّ هذا بالاختيار وهذا خارج عن يد الزوج والزوجة فهو في الحقيقة أشبه مع هذا الإمام أحمد يميل للجواز لأنه يقول الله سبحانه وتعالى منع الجماع لأنّ المماسة في الآية الجماع ولا يوجد دليل يدل على المنع من الأمور الأخرى فلماذا نمنع الزوج كل هذه المدة إلى أن يكفر عن الوطء , فوجهة نظر الإمام أحمد قوية كما ترون والمسألة مشكلة ولهذا توقف فيها ابن القيم. ولا أقول صرح بالتوقف إلاّ أنه حكى الخلاف ولم يرجح.

قال المؤلف - رحمه الله -: (ولا تثبت الكفارة في الذمة إلاّ بالوطء وهو العود) ولا تثبت الكفارة في الذمة إلاّ بالوطء وهو العود في الحقيقة عبارة المؤلف محل نظر كبير لماذا؟ لأنه كان ينبغي أن يعبر كما عبّر ابن قدامة ويقول وتثبت الكفارة بالعود وهو الوطء لماذا؟ ليفسر العود بأنه الوطء. وأنّ ثبوت الكفارة بالعود محل إجماع لكنهم اختلفوا في أيّ شيء يكون العود. واضح ولا لا ولهذا ابن قدامة قال وتثبت الكفارة بالعود وهو الوطء وهذه هي العبارة الصحيحة. نأتي إلى المسألة الحنابلة يرون أنّ الكفارة تثبت بالوطء ويفسرون العود بالوطء بل إنّ الإمام أحمد ينكر على الإمام مالك بتفسيره العود بالعزم , يعني بغير الوطء , إذا القول الأول وهو مذهب الحنابلة أنّ العود هو الوطء واستدلوا على هذا بأدلة: الدليل الأول: أنّ الوطء هو المحلوف على تركه فلا يكون العود إلاّ بفعل المحلوف على تركه يعني الظهار الدليل الثاني: أنّ النبي - صلى الله عليه وسلم - قال (عفي لأمتي عما حدثت به أنفسها ما لم تعمل أو تتكلم) والعزم لا يخرج عن أن يكون تحديث للنفس. الدليل الثالث: أنّ من عزم على العود لم يعد بعد أليس كذلك؟ إذا هذه ثلاثة أدلة للإمام أحمد وهي أدلة قوية. القول الثاني: وهو الذي تبناه الإمام مالك وغيره من الفقهاء أنّ العود هو العزم واستدل على هذا بأنّ الله تعالى أمر بالكفارة قبل العود فكيف ترون أنّ العود هو سبب الوجوب والله أوجب الكفارة قبل العود وهو دليل قوي. الجواب عنه: أجاب عنه الحنابلة وغيرهم ممن يرجح القول الأول وهم الجمهور بأنّ الكفارة لها حالين: الحال الأول: الإخراج عند العزم , وأما استقرار الوجوب فلا يكون إلاّ بالحنث يعني بالوطء , إذا هم يقولون الآية دلت على أنه يجب أن يكفر قبل أن يعود وهذا صحيح لأنّ الكفارة شرط للعود لكن استقرار الوجوب لا يكون إلاّ بالوطء وهذا كلام لا يتضح تماماً إلاّ بالمثال. المثال: لو أنّ شخصا ظاهر من زوجته ثم عزم على الوطء , عزم جازم ثم مات قبل أن يعود فعند المالكية يجب أن تخرج الكفارة من تركته لأنّ العود عندهم هو الذي يقرر الوجوب ويقرر الكفارة.

وعند الحنابلة: إذا مات قبل أن يعود فلا شيء عليه ومع هذا الحنابلة يقولون يجب أن تكفر قبل أن تطأ وهذا لأنّ شرط الوطء هو الكفارة ولكن استقرار الوجوب يكون بالوطء وكلامهم جميل وهو الراجح إن شاء الله وممن نصر هذا القول أيضاً شيخ الإسلام رحمه الله وقال أنّ عامة السلف غير الإمام مالك على مذهب الإمام أحمد , عامة سلف الأمة سوى الإمام مالك فهم على هذا القول الذي اختاره الإمام أحمد - رحمه الله -. قال المؤلف - رحمه الله -: (ويلزم إخراجها قبله عند العزم عليه) لقوله تعالى: {من قبل أن يتماسا} [المجادلة/1]، صحيح فإنّ الله أوجب الكفارة قبل التَمَاس , وهذا الذي أشرنا إليه في الجواب عن الآية، أنّ الآية أوجبت الإخراج وهو يختلف عن استقرار الوجوب. قال المؤلف - رحمه الله -: (وتلزمه كفارة واحدة لتكريره قبل التكفير من واحدة) إذا كرر الظهار من امرأة واحدة فإنه لا يلزمه إلاّ كفارة واحدة , لاحظ قال الحنابلة ولو في مجالس ولو أراد الاستئناف , يعني لو قال لزوجته أنت عليّ كظهر أمي ثم من غدٍ أغضبته وأراد أن يظاهر مظاهرة جديدة وقال أنت عليّ كظهر أمي لكنه لم يكفر عن ظهار أمس فحينئذ لا تجب عليه إلاّ كفارة واحدة , واستدلوا على هذا بالقياس باليمين فإنّ الإنسان إذا أقسم أيمان متتابعة في أوقات متفرقة على شيء واحد ولم يكفر فإنه تغني عنه كفارة واحدة , واستدلوا بدليل آخر جميل فقهياً وهو أنّ الظهار الثاني لم يزد التحريم وجوداً يعني أنّ التحريم موجود من الظهار الأول ولذلك ليس عليه إلاّ كفارة واحدة. قال المؤلف - رحمه الله -: (ولظهاره من نسائه بكلمة واحدة) يعني إذا كان للرجل أربعة زوجات وحصل شقاق بين الزوجات الأربع واختلاف بين يديه وغضب وقال أنتن عليّ كظهر أمي , يعني ظهار بالجملة فإنّ عليه عند الحنابلة كم؟ كفارة واحدة. التعليل قالوا أنه ظاهر بلفظ واحد من عدة نسوة وإذا كان بلفظ واحد فلا يلزمه إلاّ كفارة واحدة.

القول الثاني: أنّ عليه في كل زوجة كفارة , واستدلوا على هذا بأنّ هذا اللفظ وإن كان واحداً إلاّ أنه ظاهر به من أربع في المثال , وكل واحدة تستقل بالمظاهرة , أيّ القولين أوجه. قد يكون فيما يبدوا للإنسان أنّ الثاني أوجه لماذا؟ لأنه ظاهر من نسوة أربعة فهو في الحقيقة حرّم كم تحريمة؟ أربع جعل أربعة نسوة كلهن حرام عليه. لكن أنا تركت دليل للقول الأول لم أذكره حتى أسألكم أول أيهما الراجح ثم أذكره وهو أنّ الذي ذهب إليه الإمام أحمد مروي عن عليّ وابن مسعود. إذا أحيانا قد يخالف فقهنا فقه الصحابة فعليك أن تتثبت , والراجح بناء على فتاوى الصحابة أنها كفارة واحدة ,كما أنه قد يقول قائل بل الراجح بناء على فتاوى الصحابة وبناء على التعليل والرأي أنه القول الأول أوجه لوجود لفظ واحد. قال المؤلف - رحمه الله -: (وإن ظاهر منهن بكلمات فكفارات) إذا ظاهر منهن بكلمات فكفارات , لأنّ كل واحدة منهن تستقل بكفارة واحدة , واستدلوا بدليل آخر وهو أن إذا خالف في إحداهن إنه لا يحنث في الأخرى فهذا يدل على أنّ كل واحدة منهن مستقلة بظهار خاص وهذا يقوي القول الثاني أو الأول في المسألة السابقة يقوي القول الثاني , ولهذا أنا أؤكد على أنّ الإنسان أحياناً قد يظهر له قول ويكون فقه الصحابة أعمق منه. فصل هذا الفصل مخصص لبيان أحكام الكفارة. فيقول - رحمه الله -: (وكفارته / عتق رقبة , فإن لم يجد صام شهرين متتابعين , فإن لم يستطع أطعم ستين مسكيناً) هذا ترتيب الكفارة وهو واجب على الترتيب لا على التخيير فيجب عليه أن يعتق فإن لم يجد فإنه يصوم شهرين متتابعين فإن لم يستطع فإنه يطعم ستين مسكيناً. وسيبيّن المؤلف متى ينتقل الإنسان من الخصلة الأولى إلى الخصلة الثانية ومن الثانية إلى الثالثة , ولهذا نرجأ الكلام عن هذا إلى أن يتحدث المؤلف عنه وإنما الذي يهمنا الآن مسألة أخرى وهي متى نعتبر حال الوجوب , متى يجب عليه أن يكفر الخصلة الأولى ثم ينتقل إلى الثانية إلى آخره. في هذه المسألة خلاف بين الفقهاء.

القول الأولّ: الاعتبار بحال الوجوب فإذا كان حال الوجوب يستطيع أن يعتق فهذا الواجب عليه وإذا كان لا يستطيع فالواجب أن ينتقل إلى الخصلة الثانية وهذا مذهب الإمام أحمد. واستدل على هذا بأنّ هذه الكفارة شرعت للتطهير وإذا شرعت للتطهير فإنها تقاس على الحد , والحدود المعتبر فيها وقت الوجوب. القول الثاني: أنّ المعتبر فيها حال الأداء لا حال الوجوب, وأيضاً قاسوا قياس فقالوا المعتبر حال الأداء لأنّ هذه الكفارات لكل واحدة منها بدل من غير جنسها فأشبهت الوضوء لأنّ الوضوء له بدل من جنسه ولا من غير جنسه , من غير جنسه والاعتبار في الوضوء بحال الأداء ولا بحال الوجوب؟ بحال الأداء. وهذا الخلاف ينبني عليه فروع كبيرة جداً نذكر بعض الأمثلة التي تبيّن الفرق بين القولين: * إذا ظاهر العبد من زوجته ثم أعتقه سيده فالواجب عليه على القول الأول الصيام , لأنه حال الوجوب الواجب عليه الصيام لأنه يملك حتى يعتق. مثال ثاني: إذا ظاهر من امرأته وهو موسر ثم لما أراد أن يكفر فإذا هو معسر فالواجب عليه على القول الأول؟ عليه عتق رقبة ولا يجزئه وإن كان هو الآن معسر لا يستطيع أن يشتري رقبة لكن لا يجزئه تبقى في ذمته إلاّ أن يعتق رقبة , وهذه الأمثلة تعكسها في القول الثاني , إذا تبيّن أنه هذه المسألة ينبني خلاف كبير , الراجح أيّ القياسين أقوى؟ لكن أنا من وجهة نظري أنّ الراجح والأقرب القياس الأول وهو المذهب وجه ذلك أيهما أشبه الظهار أشبه بالحدود ولا أشبه بالوضوء؟ يعني هل الكفارة هذه للردع والتأديب أو مثل الوضوء بدل تخفيف , إذا قياس الإمام أحمد أقوى لما ذكرته وهذا وجه تقوية , والمسألة محل إشكال تحتاج إلى تأمل لكن يبدوا لي أنّ كلام الإمام أحمد أقوى وأوجه. قال المؤلف - رحمه الله -: (وتلزم الرقبة إلاّ لمن ملكها , أو أمكنه ذلك , بثمن مثلها)

أشار المؤلف بما أشرت إليه وهو بيان متى يجوز للإنسان أن ينتقل من العتق إلى الصيام فيقول (وتلزم الرقبة إلاّ لمن ملكها أو أمكنه ذلك بثمن مثلها) إذا ملكها فالأمر واضح، الثاني: إذا أمكنه أن يشتري هذه الرقبة بثمن مثلها فالأمر أيضاً واضح وهو محل إجماع، بقينا فيما إذا لم يتمكن من الشراء إلاّ بأكثر من ثمن المثل حينئذ ينقسم الأمر إلى قسمين: القسم الأول: من ثمن المثل بزيادة تجحف المال فحينئذ لا يلزمه بلا إشكال. القسم الثاني: أن تكون بزيادة على ثمن المثل لكنها لا تجحف بالمال وحينئذ ففيه خلاف , فالمذهب أنه لا يلزمه ولهذا يقول أو أمكنه ذلك بثمن مثلها وعللوا هذا بأنّ في ثمن هذه الرقبة زيادة والزيادة لا يكلف بها. والقول الثاني: أنه يلزمه لأنه الآن مستطيع لشراء الرقبة والآية نصت أنه لا ينتقل إلى إذا كان لا يستطيع وهو مستطيع وهذه الزيادة لا تجحف بماله , وهذا القول هو الصحيح إن شاء الله تعالى. قال المؤلف - رحمه الله -: (فاضلاً عن كفايته دائماً , وكفاية من يمونه) كفاية الرجل وكفاية من يمونه والمقصود بمن يمونه يعني من ينفق عليه , تشترط زائدة على ثمن الرقبة. والدليل على هذا أيضاً ضابط جميل ذكره الفقهاء وهو أنّ كل مال استغرقته حاجة الإنسان فهو في حكم المعدوم. لأنه معدوم بانشغاله بحاجة الإنسان وهذا من رحمة الله وهذا إن شاء الله لا خلاف فيه. ثم - قال المؤلف رحمه الله -: (وكفاية من يمونه وعما يحتاجه) مقصوده بكلمة وعما يحتاجه يعني هو ومن يمونه بخلاف ظاهر عبارته أنه هو فقط بل كفايته وكفاية من يمونه ثم مثّل بما يحتاجه. قال المؤلف - رحمه الله -: (من مسكن وخادم ومركوب وعرض بذلة وثياب تجمل ومال يقوم كسبه بمؤنته وكتب علم ووفاء دين) المقصود بمسكن وخادم إلى آخره المراد بهذا أدنى مسكن يصلح لمثله. وليس المقصود المسكن الفاره لكن أدنى مسكن يصلح لمثله وأيضاً ليس المقصود أدنى مسكن مطلقاً وإنما أدنى مسكن يصلح لمثله فإذا كان مثله يأخذ خادم أخذ الخادم وما بقي اشترى به الرقبة وكذلك قال في المسكن , وعرض البذله كاللباس وآلة الطبخ والفرش ونحو هذه الأمور.

وقوله ثياب التجمل والمال الذي يقوم كسبه بمؤنته , أمرها واضح فإذا كان مثله يتجمل في المناسبات فيستثني ثياب التجمل وكذلك إذا كان له مال يتجر به أو مكان يكتسب منه فإنه لا يلزم ببيعه. وكتب علم هذه لفتة طيبة من المؤلف لأنّ المقصود بكتب العلم لمن يحتاج إليها , أما العامي وأشباه العوام فإنه يجب عليه وجوبا أن يبيع الكتب ويعتق رقبة فإذا الكتب تتعلق بطالب العلم الذي يتعاطى الكتب أما الشخص الذي أحضر الكتب ليجمل بها المنزل يضعها كجمال لأنّ بعض الناس يحضر الكتب ليجمل بها المجلس أو طالب العلم الذي كان طالب علم وأصبح لا يتعاطى الكتب بحال فهؤلاء لا يدخلون في عبارة المؤلف بل عليه أن يبيع إنما يدخل في عبارة المؤلف من يستفيد من الكتب بالقراءة والإطلاع والمراجعة. يقول المؤلف: ووفاء دين , يعني ولو كان مؤجلاً إذا كان الإنسان عليه دين فإنه يخصم مقدار الدين ثم إن بقي شيء اشترى به رقبة. * نريد أن ننبه إلى شيء قول المؤلف ولا تلزم الرقبة إلاّ لمن ملكها , من قوله إلاّ لمن ملكها إلى وفاء الدين, مقصود المؤلف أنه متى تحققت هذه الشروط فإنه لا يجوز له أن ينتقل من العتق إلى الصيام بالإجماع , ومتى اختل شرط من هذه الشروط فإنه يجوز أن ينتقل من العتق إلى الصيام. قال المؤلف ـ رحمه الله ـ: (ولا يجزئ في الكفارات كلها إلاّ رقبة مؤمنة) يقصد المؤلف أن يبيّن شروط الرقبة التي تعتق في جميع الكفارات , في كفارة الظهار في كفارة وطء رمضان في كفارة القتل خطأ في جميع الكفارات يشترط في الرقبة الشروط التي سيذكرها الشيخ الماتن - رحمه الله -: الشرط الأول: أن تكون مؤمنة يشترط في الرقبة أن تكون مؤمنة لقوله تعالى: {فتحرير رقبة مؤمنة} [النساء/92] في قتل الخطأ. وجه الاستدلال بهذه الآية أنّ جمهور الأصوليين يرون أنه إذا اتحد الحكم واختلف السبب وجب أن نحمل المطلق على المقيّد فإعتاق الرقبة في آية الظهار مطلقة وبينما نجد أن عتق الرقبة في آية القتل الخطأ مقيّد بالإيمان, الحكم واحد وهو الكفارة بعتق الرقبة والسبب يختلف فتلك القتل خطأ وفي هذه الظهار , والقاعدة أنه إذا اتحد الحكم واختلف السبب فإنّا نحمل المطلق على المقيّد.

الدليل الثاني: أنّ صحابياً جاء إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - وقال هذه أمة لي أريد أن اعتقها فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - لها أين الله قالت في السماء , فقال لها من أنا قالت رسول الله, فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - اعتقها فإنها مؤمنة. هذا اللفظ في مسلم وليس فيه تقييد بأنّ رجلاً ضرب أمته فأراد أن يعتقها, هذا اللفظ بدون تقييد في مسلم وهو صريح في أنّ عتق الرقبة يشترط فيه ماذا؟ الإيمان. القول الثاني: أنه لا يشترط لأنّ الآية مطلقة , ولو أراد الله سبحانه وتعالى أن يقيّد هذه الآية لقيّدها وما كان ربك نسياً , والراجح والله أعلم المذهب وسبب الترجيح هو الحديث فإنّ الحديث دال على أنّ الإنسان إذا أراد أن يعتق كفارة عن عمل من الأعمال فإنه ينبغي أن تكون ماذا؟ أن تكون الرقبة مؤمنة ومما يؤيد هذا القول وهو من الأدلة التي تقوي ولا يعتمد عليها أنّه إذا اعتق رقبة مؤمنة فقد خرج عن العهدة بالإجماع بخلاف ما إذا أخرج رقبة ليست مؤمنة. قال المؤلف ـ رحمه الله ـ: (سليمة من عيب يضر بالعمل ضرراً بيّنا) يشترط في الرقبة أن تكون سليمة من العيوب لكن المقصود بالعيوب هنا عيوب خاصة وهي العيوب التي تمنع من العمل فقط , أما العيوب التي لا تمنع من العمل فهي لا تؤثر في عتق الرقبة واستدل الحنابلة على هذا الشرط بأنّ المقصود من العتق تمليك العبد نفسه ليعمل في تحصيل معاشه وإذا اعتق وهو لا يتمكن من العمل لم يحصل هذا المقصود. القول الثاني: الذي تبناه ابن حزم - رحمه الله - أنه لا يشترط أن تكون سليمة من العيوب لأنه إذا اعتق رقبة معيبة فقد اعتق رقبة أليس كذلك؟ فيصدق عليه عتق الرقبة وأنه أتى بالكفارة , ويبدوا لي وإن كانت المسألة تحتاج إلى جمع فتاوى الصحابة وتأمل يبدوا لي الآن أنّ مذهب ابن حزم أقوى لإطلاق الآية. ثم مثّل المؤلف على العيوب التي تمنع من العمل. فقال المؤلف - رحمه الله -: (كالعمى) العمى يمنع من العمل ووجه ذلك أنّ جملة عظيمة من الأعمال لا يمكن أن يقوم بها الأعمى فلهذا نصوا عليه. قال المؤلف ـ رحمه الله ـ: (والشلل ليد أو رجل أو أقطعهما)

إذا كان مشلول اليد مشلول الرجل فإنه لا يجوز أن يعتق لانّ اليد تتخذ للبطش والعمل والإنتاج , والرجل تتخذ للتنقل وتحصيل المصالح بها فإذا كان مشلول اليد والرجل , أو مقطوع اليد أو الرجل فإنه لا يجوز أن يعتق. قال المؤلف ـ رحمه الله ـ: (أو أقطع الرجل الإصبع الوسطى, أو السبابة, أو الإبهام , أو الأنملة من الإبهام أو أقطع الخنصر والبنصر من يد واحدة) مقصوده إذا كان مقطوع هذه الأصابع من يد واحدة فإنه لا يجزئ , التعليل أنّ اليد مع قطع هذه الأصابع لا ينتفع بها , فيعود التعليل إلى مسألة العمل. قال المؤلف - رحمه الله -: (ولا يجزئ مريض مأيوس منه ونحوه) ذهب الأئمة الأربعة إلى أنّ المريض المأيوس منه لا يجزئ , واستدلوا على هذا بأمرين: - 1 ـ أن المريض الميؤس منه وجوده كعدمه , لأنه هذا مريض ميؤس منه. 2ـ أنّا نشترط أن يكون صالحاً للعمل والمريض الميؤس منه ليس بصالح للعمل. لماذا ذكر المؤلف هذه المسألة , ألا يكتفي بقوله سليمة من عيب يضر بالعمل وهل هناك عيب أعظم من أن يكون مريضاً مرضاً مأيوساً منه؟ لأنه بالنسبة للمريض الميؤس منه لا يجزئ بالإجماع سواء قلنا باشتراط العمل أو لم نقل , يعني غير داخل في الخلاف السابق. وأنا أرى أن المؤلف بدقته وحذقه إنما ذكرها لهذا المعنى يعني أنها غير داخلة فحتى ابن حزم الذي يرى عدم اشتراط صلاحية الرقبة للعمل لا يرى جواز اعتاق الميؤس منه لأنّ هذا منتهي وجوده كعدمه. قال المؤلف - رحمه الله -: (ولا أم ولد) لا يجوز أن يعتق الإنسان أم الولد , لأنها عتقها مستحق بسبب آخر وهو عليه أن يعتق إعتاقاً جديداً ولهذا نقول لا تذهب تعتق امرأة قد اعتقت من الأصل بسبب ماذا؟ أنها أم ولد لك , وهذا صحيح ولا تجزئه مطلقاً وعليه أن يعتق رقبة جديدة. قال المؤلف - رحمه الله -: (ويجزئ المدبر) المدبر هو العبد الذي علق سيده عتقه على موته هذا يجزئ لماذا؟ يجزئ لأنه داخل في عموم الآية ,فإن قيل وما الفرق بين المدبر وأم الولد فإن أم الولد تعتق بموت السيد والمدبر يعتق بموت السيد؟

الفرق ببينهما هو أنّ المدبر يملك أن يبيعه ويقطع التدبير ولهذا جاز أن يعتقه في كفارة الظهار , لكن مع هذا ينبغي أن لا يعتق المدبر لأنّ المدبر سبق وأن جعله حراً بعد الموت. قال المؤلف - رحمه الله -: (وولد الزنا) يجوز أن يعتق ولد الزنا يعني إذا كان له عبد, وهذا العبد جاء من زنا فإنه يجوز أن يعتق هذا العبد ولو كان من ولد الزنا. الدليل قالوا إنّ العبد إذا كان من الزنا فإنه عبد وهو داخل في عموم الآية وإعتاقه اعتاق لعبد. إذا دليل الحنابلة واضح. القول الثاني: أنّ اعتاق ولد الزنا لا يصح ولا يجزئ واستدلوا على هذا بحديث أبي هريرة - رضي الله عنه - قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: (ولد الزنى شر الثلاثة) وإذا كان شر الثلاثة فإنه لا يجزئ في العتق هذا الحديث مشكل. الجواب عنه من أوجه: - الوجه الأول: أنّ معنى ولد الزنى شر الثلاثة يعني إذا عمل بعمل والديه. وممن فسر الحديث بهذا التفسير راويه الإمام الكبير الثوري. كما أنّ هذا الحديث رواية عند الإمام أحمد أنه قال (ولد الزنى شر الثلاثة إذا عمل بعمل والديه) لكن هذه الزيادة إما موضوعة أو ضعيفة جداً. فالعبرة بتفسير الإمام الثوري. الجواب الثاني: وهو جواب أم المؤمنين عائشة - رضي الله عنها - كانت تنكر على أبي هريرة تحديثه بهذا الحديث وكانت تقول ماله ومالأبويه , ولا تزر وازرة وزر أخرى. وكانت تجيب عن هذا الحديث فتقول إنما [لاحظ فقه أم المؤمنين] إنما قاله النبي - صلى الله عليه وسلم - في شخص معين هو هذاك الشخص قال عنه النبي - صلى الله عليه وسلم - شر الثلاثة. فكانت تقول إطلاق الحديث خطأ وتنكر على أبي هريرة , وهذا أيضاً جواب قوي.

الجواب الثالث: أنّ رواة هذا الحديث في الحقيقة ثقات وهو متصل وفيه شروط الصحة إلاّ أنّ الذهبي قال عدوا هذا الحديث مما استغرب على أبي صالح صهيب فهذا الرواي أحد رواته اعتبروا هذا الحديث من غرائبه وممن نص على أنّ هذا الحديث من غرائبه الإمام الذهبي فإنه قال استغرب عليه. الحقيقة الأجوبة الثلاثة قوية وأرجح الثلاثة فيما يبدوا لي جواب عائشة - رضي الله عنها - لأنها عاصرت الحديث وعلمت أنه خرج مخرج خاصاً وعليه يحمل هذا الحديث ولا نتطرق إلى توهيم الرواة بغير دليل. قال المؤلف - رحمه الله -: (والأحمق) يجوز أن نعتق العبد الأحمق لماذا؟ لأنّ الحمق لا يمنع من العمل هكذا قال الحنابلة , والواقع أنّ الحمق قد يكون وبال على صاحبه يعمل ويفسد أكثر من المريض , ولذلك لو قيل أنّ حمق هذا الشخص إذا كان في العمل وسوء التصريف والتدبير فإنه لا يعتق وإذا كان حمقه في أمور أخرى في أمور غير التجارة فإنه يعتق , لأن بعض الناس أحمق جداً إذا جاء يتصرف مع الناس وإذا جاء يتصرف مع زوجته وإذا جاء يتصرف مع زملائه أحمق وأرعن , وإذا جاء يتاجر انقلب إلى رجل حكيم أليس كذلك؟ وصار يحسن التجارة هذا يعتق والعكس لا يعتق. قال المؤلف - رحمه الله -: (والمرهون) يجوز أن يعتق العبد المرهون وهذه المسألة مبنية على حكم عتق العبد المرهون وأخذنا في باب الرهن أنّ عتق العبد المرهون عند الحنابلة جائز وأنّ الصواب أنه يجوز لتعلق الحق الدائم فيه وذكرنا تلك المسألة , الذي يعنينا الآن أنّ جواز عتق العبد المرهون مبني على جواز عتقه في الكفارة مطلقاً. يقول المؤلف - رحمه الله -: (والجاني) يجوز أن يعتق ولو كانت جنايته توجب القصاص لأنّ هذه الجناية لا تمنع من العمل , ولأنه ربما سمح ولي الدم في آخر لحظة.

القول الثاني: أنّ المحكوم عليه بالقصاص إذا كانت جنايته توجب قصاصاً فإنه لا يجوز أن نعتقه في الكفارة لأنه في معنى المريض الميؤس منه , والراجح نحن ذكرنا الخلاف هناك فرق بين المريض الميؤس منه والجاني ما هو الفرق؟ الفرق أنّ المريض الميؤس منه نحن نتحدث عن الأسباب الطبيعية في الأصل أنّ المريض الميؤس منه لا يشفى. وإن كان الشفاء بيد الله , بينما المحكوم عليه في القصاص يكثر أن يعفوا المجني عليه. هذا فرق بين هذا وتلك. مع ذلك أنا أرى أنه لا يجوز أن يعتق من حكم عليه بالقصاص مع وجود هذا الفرق وهو فرق فقهي لكن مع ذلك المحكوم عليه بالقصاص شخص انتهى أمره وهو في حكم المعدوم في الأصل , والأصل أنّ القصاص سيقام فكيف نذهب نصحح اعتاقه لعبد سيقتل بعد يوم أو يومين ربما المريض الميؤس منه يبقى سنة أو شهر ثم يموت وهذا يقتل بعد يوم أو يومين. مع قوة القولين إلاّ أني أرى خلاف المذهب. ثم المسألة الأخيرة. قال المؤلف - رحمه الله -: (والأمة الحامل ولو استثني حملها) يجوز أن يعتق الأمة الحامل لأنّ الحمل دائماً التعليل واحد عند الحنابلة لأنّ الحمل لا يضر بالعمل ولا يمنع. ولو كانت حامل فإنها تستطيع أن تعمل وأن تنتج فله أن يعتقها ولو أنه استثنى الحمل فإنّ هذا الاستثناء لا ينقص من قيمة الأمة التي اعتقت ولا يخرجها عن مسمى الرقبة.

الدرس: (2) من الظهار قال شيخنا حفظه الله: بسم الله الرحمن الرحيم والحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين. فصل المؤلف - رحمه الله - سيتحدث في هذا الفصل عن أحكام التكفير والصيام وأحكام التكفير بالإطعام حيث انتهى عن أحكام التكفير بعتق الرقبة في الفصل السابق وهذا الفصل سيختم به المؤلف كتاب الظهار. قال المؤلف - رحمه الله -: (يجب التتابع في الصوم) يعني يجب أن يتابع الصيام إذا كفّر به لقوله تعالى: {فصيام شهرين متتابعين} (المجادلة/1) ولأنه في حديث سلمة بن صخر وأوس بن الصامت - رضي الله عنهما - أنّ الصيام يجب أن يكون متتابعاً.

ومعنى التتابع هنا أن لا يفصل في الصيام بين أيام الشهرين وأن لا يصوم غير صيام الكفارة , فإذا فعل فقد تابع بينهما. فعرفنا الآن معنى التتابع ودليل الوجوب. ووجوب التتابع في صيام الكفارة محل إجماع فدل عليه إذا الكتاب والسنة والإجماع. يقول المؤلف - رحمه الله -: (فإن تخلله رمضان , أو فطر يجب , كعيد , وأيام تشريق) لم ينقطع أي إذا تخلل صيام شهرين متتابعين فطر واجب أو صيام واجب فإنه لا ينقطع مثال الصيام الواجب رمضان ومثال الفطر الواجب أيام العيد والتشريق حينئذ لا ينقطع التتابع إذا فصل بين الشهرين بصيام رمضان أو بفطر العيد , واستدل الحنابلة على هذا بأنّ هذا الصيام صيام واجب من جهة الشارع والفطر فطر واجب من جهة الشارع فلا يقطع التتابع لأنّ الشارع أذن به. سبحانه وتعالى هذا مذهب الحنابلة والقول الثاني: أنه إذا تخلل صيام شهرين متتابعين صيام رمضان أو فطر عيد فإنّ التتابع ينقطع , واستدل هؤلاء الذين رأوا انقطاع التتابع بأنّ من أراد أن يكفرّ بالصيام بإمكانه أن يجتنب الصيام الذي يتخلله رمضان أو عيد فإذا لم يتجنب ذلك صار قاطعاً للتتابع بإراداته. وهذا مذهب الإمام الشافعي. القول الثالث: التفريق فإن صام شهرين متتابعين ولم يتقصد أن يكون في وسطها صيام رمضان وإنما جاء هكذا مصادفة بلا قصد فإنّ صيام رمضان وفطر العيد لا يقطع التتابع , وإن صام قاصداً أن يكون رمضان أو العيد يتخلل صيامه فإنّ هذا الفطر يقطع التتابع وهذا القول الثالث: هو قول للمالكية وليس المذهب وهو وجيه جداً فإذا تقصد أن يوقع الأعياد وأيام التشريق في مدة صيام الشهرين المتتابعين فإنه ينقطع التتابع وإذا كان هذا مصادفة أو إنما صامه لأنه إجازة يقصد أنه يتمكن في الإجازة أن يصوم ولا يتمكن في غير الإجازة أن يصوم ووقع العيد ورمضان في الإجازة مثلاً فهذا كله لا يقطع التتابع , والراجح إن شاء الله كما قلت القول الثالث. قال المؤلف - رحمه الله -: (وحيض)

يعني وإن تخلل الصيام المتتابع حيض فإنّ التتابع لا ينقطع , وعدم انقطاع صيام الشهرين المتتابعين في الحيض محل إجماع. لا إشكال فيه لأنّ المرأة لا تستطيع أن تصوم شهرين متتابعين إلاّ بماذا؟ إلاّ بوجود حيض فتكليفها أن تصوم شهرين متتابعين بلا حيض تكليف بمحال ولهذا صار محل إجماع. لم يذكر المؤلف حكم النفاس إذا تخلل صيام شهرين متتابعين. النفاس فيه خلاف كالخلاف السابق فيما إذا تخلل الصيام المتتابع عيد أو رمضان كالخلاف السابق تماماً , والأدلة هي الأدلة المذكورة في الخلاف السابق فلسنا بحاجة إلى إعادة القول في حكم النفاس إذا تخلل صيام شهرين متتابعين وهذه المسألة تلحق بالفروق بين الحيض والنفاس فبالأمس أخذنا مسألة وهذه مسألة ولا يشترط في الفروق أن يكون الراجح هو إثبات الفرق بينهما بل يكون فرقاً ولو لم نثبت الراجح فرقاً بمعنى أن نقول أنّ الحيض محل إجماع والنفاس محل خلاف هذا فرق بينهما , إذا عرفنا الآن حكم الحيض والنفاس. قال المؤلف - رحمه الله -: (وجنون , ومرض مخوف , ونحوه) إذا انقطع التتابع بجنون أو بمرض مخوف فإنّ التتابع لا ينقطع , فإذا صام الرجل الكفارة للظهار شهر ثم جُنَّ لمدة شهر ثم عوفي ورفع عنه الجنون فإنه يبقى عليه كم؟ شهر واحد. وكذلك إذا صام شهر ثم مرض غير مرجو ثم عوفي وشفي ثم استطاع الصيام فإنه يصوم ويتمم الصيام الأول ولا يحتاج إلى استئناف الصيام , الدليل على هاتين المسألتين من وجهين: - الأول: القياس على الحيض. والجامع بينهما ما هو؟ أنه أمر خارج عن إرادته. الدليل الثاني: أنّ هذا مروي عن ابن عباس وغيره من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - فاجتمع دليلان قويان يؤيدان القول بعدم الانقطاع في الجنون والمرض غير المرجو. قال المؤلف - رحمه الله -: (أو أفطر ناسياً أو مكرهاً) إذا أفطر ناسياً أو مكرهاً فإنّ التتابع لا ينقطع لأنه لم يفطر في الحقيقة إذ أنّ الإنسان إذا أكل أو شرب ناسياً أو جاهلاً فإنّ صيامه صحيح وإذا كان الصيام صحيحاً فإنه لم ينقطع أصلاً , فما معنى قول الشيخ أفطر ونحن نقول إذا أكل ناسياً أو جاهلاً لم يفطر أصلاً؟

يحتمل أن نقول معنى قوله أفطر أو أن نعلق على قوله أفطر , أنّ هذه العبارة غير دقيقة وأنها غير محررة من المؤلف وإلى هذا ذهب شيخنا - رحمه الله - فعلق على هذه العبارة بأنها غير محررة. وبالإمكان أن نعلق على العبارة بأمر آخر فنقول معنى قوله أفطر يعني أكل أو شرب , وهذا لعله أقرب فكأن المؤلف عبرّ عن الأكل والشرب بالفطر وهذا أقرب إلى تصحيح عبارة المؤلف بدل أن نوهمه. قال المؤلف - رحمه الله -: (أو لعذر يبيح الفطر لم ينقطع) إذا أفطر لعذر يبيح الفطر ومن أمثلة الأعذار التي تبيح الفطر السفر والمرض أي المرجو. لأنّ غير المرجو تحدثنا عنه إذا من أمثلته السفر والمرض المرجو. فإذا أفطر فيهما فإنه لا ينقطع التتابع عند الحنابلة وصيامه صحيح وإذا زال العذر أتم صيامه ولا نلزمه بالاستئناف. والدليل على هذا: القياس على الحيض لأنه في الحيض عذر جاز له أن يفطر فلم يقطع التتابع كذلك السفر عذر جاز له أن يفطر به فلم يقطع التتابع. القول الثاني: أنه إن أفطر بسبب السفر أو بسبب المرض الذي يبيح الفطر فإنه ينقطع التتابع لأنه قطع التتابع بإرادته مع إمكان الصيام. والقول الثالث: التفصيل أنّ التتابع ينقطع إن أفطر بالسفر ولا ينقطع إن أفطر بالمرض لأنّ السفر وقع بإرادته والمرض وقع بغير إرادته، والصحيح إن شاء الله أنه لا ينقطع التتابع لا بالسفر ولا بالمرض , وهو المذهب لأنه إذا لم يقطع التتابع في صيام رمضان فمن باب أولى في صيام الكفارة ولهذا قال الإمام أحمد - رحمه الله - "لا ينبغي أن يكون أوكد من رمضان ".يعني صيام الكفارة وهي عبارة محررة جداً. ولهذا فالراجح إن شاء الله أنه لا يقطع التتابع. ويستثنى من هذا ما إذا سافر حيلة ليفطر فإذا سافر حيلة ليفطر فإنّ التتابع ينقطع, لأنّ الحيل لا تذهب الواجبات ولا تحل المحرمات. وبهذا انتهى الشيخ من أحكام الصيام في الكفارة وانتقل إلى أحكام التكفير في الإطعام. ثم - قال المؤلف رحمه الله -: (ويجزئ التكفير بما يجزئ في فطرة فقط (

معنى هذه العبارة أنّ التكفير لا يجزئ من حيث جنس الطعام إلاّ في ما يجزئ في الفطرة فقط. فكل طعام لا يجزئ في زكاة الفطرة فإنه لا يجزئ في كفارة الظهار إلى هذا ذهب الحنابلة ودليلهم القياس على زكاة الفطرة ووجه القياس أنّ زكاة الفطرة والإطعام في الكفارة كل منهما شرع طهرة، ذاك طهرة للصائم وهذا طهرة للمظاهر. وإذا كان كل منهما شرع طهرة فيأخذ الحكم نفسه. والقول الثاني: أنّ له أن يطعم بما شاء من الطعام سواء كان يجزئ في زكاة الفطرة أو لا يجزئ في زكاة الفطرة , واستدل أصحاب هذا القول على قولهم بأنّ الله أمر بالإطعام مطلقاً في الآية وليس فيها تقييد , وليس في حديث أوس بن الصامت - رضي الله عنه - ما يدل على هذا القيد والأصل الإطلاق لا التقييد بناء عليه يجوز أن يكفر بما شاء من الطعام ولو لم يجزئ في زكاة الفطرة وهذا القول اختاره شيخ الإسلام وابن القيم أخذاً بإطلاق الآية وهو قول كما ترى قوي ووجيه. قال المؤلف - رحمه الله -: (ولا يجزئ من البر أقل من مد , ولا من غيره أقل من مدين) لما انتهى من جنس المطعم به انتقل - رحمه الله - إلى مقدار ما يكفر به , فالمذهب أنه لا ينقص عن مد في القمح وعن مدين فيما سواه فإذا أراد أن يكفر بالبر أو القمح يجزئه مد وبغيره من الأطعمة لا يجزئ إلاّ أن يخرج مدين واستدل الحنابلة على هذا بدليلين: - الدليل الأول: الآثار المروية عن أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - فإنهم أفتوا بذلك. الدليل الثاني: روايات متعددة في حديث أوس بن الصامت وغيره من أحاديث كفارة الظهار تفيد هذا التفصيل.

والقول الثاني: أنّ الإنسان له أن يطعم كفارة عن ظهاره بالمقدار الذي يشاء , وليس هناك حد لما يخرج واستدلوا بأنّ الآية أمرت بالإطعام مطلقاً وأما الروايات في حديث أوس وسلمة بن صخر - رضي الله عنهما - فهي ضعيفة كلها، وأما الآثار عن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم - فهي مختلفة، الراجح إن شاء الله المذهب، سبب الترجيح أنّ الآثار عن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وإن كانت مختلفة إلاّ أنّ جمهور الصحابة على هذا التفصيل كما أنّ معاوية - رضي الله عنه - خطب في الناس في المدينة وذكر لهم هذا المقدار من زكاة الفطر ومن هنا نقول مادام أنّ جمهور أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - على هذا القول فهو القول الراجح، كما أنّ القول بعدم التحديد مطلقاً خروج عن فتاوى الصحابة , فإنّ الصحابة اتفقوا على التحديد واختلفوا في مقداره، فنحن نقول لا بد من التحديد ونختار هذا التحديد الذي ذكره الحنابلة لموافقته ما خطب به معاوية رضي الله عنه بين الصحابة. قال المؤلف - رحمه الله -: (لكل واحد , ممن يجوز دفع الزكاة إليهم) انتقل الشيخ إلى بيان من يجوز أن يعطى من كفارة الظهار فيجوز أن يعطى من يعطى من الزكاة , ولهذا هو يقول - رحمه الله - لكل واحد ممن يجوز دفع الزكاة إليهم، وعبارته في الحقيقة فيها خلل لأنّ الحنابلة يرون أنه يجوز لكن بقيد وهو من يأخذ لحاجته وهذا القيد أساسي كان ينبغي على المؤلف أن يقيّد العبارة به , فالحنابلة يرون أنه يجوز أن نعطي كل من يجوز أن يأخذ من الزكاة لحاجته ولا يجوز أن نعطي من يأخذ لغير حاجته , فمن أمثلة من يأخذ لحاجته الفقير والمسكين والمدين ونحوهم. ومن أمثلة من يأخذ لا لحاجته العاملون عليها , هؤلاء يأخذون لا لحاجتهم. ودليل الحنابلة على هذا الضابط أنّ الله تعالى نص على المساكين في كفارة الظهار {فإطعام ستين مسكينا} [المجادلة/1] فنص على المساكين، فقاسوا - رحمهم الله - غير المساكين عليهم بجامع وجود الحاجة في الصنفين فقالوا إنما نص الله على المساكين لأنّ له حاجة فكذا غيره من أصناف أهل الزكاة ممن يأخذ لحاجة.

والقول الثاني: لا يجوز أن نعطي إلاّ المسكين فقط لأنّ الله تعالى إنما نص على المسكين فقط فلا نخرج عنه وإلى هذا القول مال ابن القيم - رحمه الله - تمسكاً بالآية ونحن نلاحظ أن شيخ الإسلام وابن القيم يأخذون بإطلاق الآية ..... فلا يزيدون ولا ينقصون وهذا تمسكاً منهم بظاهر الآية وهو استدلال صحيح فيما إذا لم تخالف الآثار الأخرى هذا النص. قال المؤلف - رحمه الله -: (وإن غدَّى المساكين أو عشاهم لم يجزئه) وعلل الحنابلة ذلك بأنّ النبي - صلى الله عليه وسلم - في كفارة فدية الأذى أمر بالتمليك لقوله - صلى الله عليه وسلم - لكعب أو إطعام ستة مساكين لكل مسكين نصف صاع، واللام في لكل للتمليك، ومن غدا أو عشا فلم يملك والواجب التمليك وعرفتم الآن أنّ الاستدلال بالقياس على فدية الأذى. القول الثاني: له أن يغديهم أو يعشيهم لأنّ الله تعالى أمر في الآية بماذا؟ الإطعام، فإذا غداهم أو عشاهم فقد أطعمهم. فهو امتثل الأمر بذلك، وهذا القول هو الراجح إن شاء الله لأنه يعتبر أطعم بمجرد الغداء والعشاء، وهذا هو القول الصحيح فيخرج من العهدة بأن يغدي أو يعشي ستين مسكيناً. * * مسألة: علم من إطلاق الآية أنه لا يجوز أن يعطي الطعام الكافي لستين مسكيناً أن يعطيه لمسكين واحد أو لمسكينين بل لابد أن يفرق هذا الطعام بين ستين مسكيناً لأنّ الله أمر أن يطعم ستين مسكيناً فلو غدى أو عشى ثلاثين مسكينا مرتين فإنه لا يجزئ لأنه يجب أن يتعدد المساكين ليبلغوا ستين مسكيناً. قال المؤلف - رحمه الله -: (وتجب النية في التكفير من صوم وغيره) أي يجب عليه أن ينوي أنها كفارة الظهار سواء كفر بالعتق أو بالصيام أو بالإطعام فإن لم يفعل فإنها لا تجزئ. لدليلين: عموم قول النبي - صلى الله عليه وسلم - (إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرأ ما نوى) فيجب أن ينوي أنه يخرج هذا الشيء كفارة عن ظهاره. الدليل الثاني: أنّ إخراج الكفارة يحتمل أنه عن كفارة يمين أو نذر أو غيرهما ولا يحدد كونها عن كفارة الظهار إلا النية ولا ينبغي أن يكون في هذا خلاف لأنّ هذه الكفارة عبادة وبلا نية تحدد لا تجزئ عن صاحبها قال المؤلف - رحمه الله -: (وإن أصاب المظاهر منها ليلاً أو نهاراً انقطع التتابع)

إن أصاب المظاهر منها ليلا أو نهاراً انقطع التتابع يلاحظ على المؤلف - رحمه الله - أنه رجع لأحكام الصيام مع أنه انتهى من أحكام الصيام وانتقل إلى أحكام الإطعام فكان ينبغي أن يجعل هاتين المسألتين مع أحكام الصيام. يقول المؤلف أنه إن جامع ليلاً أو نهاراً انقطع التتابع , أما إن جامع نهاراً فإنه يأثم والتتابع ينقطع بالإجماع لقوله تعالى: {من قبل أن يتماسا} [المجادلة/1] فالجماع في النهار أمره ظاهر. وأما إن جامع زوجته التي ظاهر منها في الليل فإنه عند الحنابلة يأثم وينقطع التتابع , أما الإثم فهو محل إجماع وإن جامع بالليل لأنه محرم أما انقطاع التتابع ففيه خلاف فالمذهب كما سمعت عن المؤلف يرون التتابع ينقطع، لأنّ الله تعالى أمر بأمر مركب فلا نخرج من العهدة إلاّ بأداء الأمرين معاً: الأمر الأول: فصيام شهرين متتابعين. الأمر الثاني: من قبل أن يتماسا. فالتكفير يحصل بامتثال الأمرين معاً قبل المسيس أدى وبعد المسيس لم يمتثل الأمر الذي في الآية. وإليه يميل الشيخ ابن القيم - رحمه الله -. القول الثاني: أنه إن جامع في الليل فهو آثم لكن التتابع لا ينقطع , لأنه صام شهرين متتابعين لأنه يصدق عليه ذلك ولم يقطع التتابع ..... الراجح إن شاء الله المذهب لأنّ هذا الشخص يصدق عليه أنه صام شهرين متتابعين لكن لا يصدق عليه أنه "من قبل أن يتماسا" , فإذا لم يؤدي الأمر فإنه لم يكفر وهذا القول هو الراجح وإن كانت المسألة محل تأمل ودليل كل قول من الأقوال وجيه وقوي لكن يبدوا لي أنّ القول الأرجح هو القول الأول لظاهر الآية. قال المؤلف - رحمه الله -: (وإن أصاب غيرها ليلاً لم ينقطع) المقصود بغيرها يعني غير المظاهر منها فإذا أصاب غير المظاهر منها لم ينقطع التتابع لأنّ المحرمة عليه قبل التكفير هي المظاهر منها وما عداها فهي على أصل الجواز كما أنّ جماعها له في الليل لا يؤدي إلى انقطاع التتابع. وبهذا انتهى كتاب الظهار ولله الحمد

كتاب اللعان

الدرس: (1) من اللعان قال شيخنا حفظه الله: بسم الله الرحمن الرحيم والحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين. قال المؤلف ـ رحمه الله ـ: كتاب اللعان اللعان مشتق من اللعن وهو: الطرد والإبعاد من رحمة الله. في الاصطلاح: اسم لما يجري بين الزوجين من الشهادات التي تكون بألفاظ مخصوصة , وهو مشروع بالكتاب والسنة. وأما الكتاب فقوله تعالى: {والذين يرمون أزواجهم ولم يكن لهم شهداء إلا أنفسهم فشهادة أحدهم أربع شهادات بالله إنه لمن الصادقين} (النور/4)، وأما السنة فما ثبت في الحديث الصحيح أنّ عويمر العجلاني - رضي الله عنه - لاعن زوجته بحضرة النبي - صلى الله عليه وسلم - وقصة عويمر ثابتة في صحيح البخاري ومسلم فعرفنا الآن التعريف وأصل المشروعية. مسألة: اللعان شرع في الإسلام لأمرين: - الأول: إسقاط الحد عن الزوج. الأمر الثاني: نفي الولد وهو المقصود من اللعان. إما تخليص الزوج من الحد إذا قذف زوجته أو نفي الولد. وسيأتي تفصيل ذلك لاحقا. قال المؤلف ـ رحمه الله ـ: (يشترط في صحته: أن يكون بين زوجين إلى آخره) يلاحظ على المؤلف - رحمه الله - أنه شوش الترتيب جداً حيث بدأ بالشروط ثم انتقل بعد ذلك إلى حقيقة اللعان وليس من العادة البدء بالشروط، بل بالحقيقة الشرعية أولاً ليحصل التصور للمسألة ثم تذكر بعد ذالك الشروط، أضف إلى هذا أن المؤلف لم يذكر الشروط كلها مجتمعة في مكان واحد بل فرقها وقد خالف المؤلف رحمه الله أصل الكتاب وهو المقنع، فإن ابن قدامة لم يصنع كصنيع المؤلف وإنما بدأ بحقيقة اللعان ثم انتقل إلى الشروط فأتى بها مرتبة مبسطة سهلة المنال. أما المؤلف - رحمه الله - يقول (يشترط في صحته: أن يكون لصحة اللعان أربعة شروط سيذكرها المؤلف مشوشة كما قلت. الشرط الأول: أن يكون بين زوجين , فإنه في الشرع لا يوجد لعان إلاّ بين زوجين فإذا قام الشخص بقذف امرأة ليست زوجته فلا لعان وإنما يحد لأنه قذفها إن كانت محصنة أو يعزّر إن كانت غير محصنة.

إذا اللعان خاص بما يكون بين الزوج وزوجته فقط لظاهر الآية السابقة. لأنها خصت اللعان بقذف الزوجة فقال تعالى "والذين يرمون أزواجهم "فنصت عليهم، ولأنه في حديث أوس وسلمة كان اللعان مع الزوجة. يقول الشيخ يشترط أن يكون بين زوجين، لم يبيّن هل يشترط التكليف أو لا يشترط والواقع أنه يشترط في الزوجين التكليف فقط فلا يشترط الإسلام بل يشترط التكليف فإذا كان كل من الزوجين مكلفاً فإنّ اللعان يصح، وأما إذا لم يكن أحدهما مكلفاً فسيذكر المؤلف حكم ذلك، الذي يعنينا الآن أنّ الشرط الأول أن يكون اللعان بين زوجين وأن يكون الزوجان مكلفان. قال المؤلف ـ رحمه الله ـ: (ومن عرف بالعربية لم يصح لعانه بغيرها) يعني أن يكون اللعان باللغة العربية , فمن كان عارفاً باللغة العربية ولاعن بغيره فلا يصح ولا تترتب عليه آثاره لأنّ الله تعالى أمر باللعان بألفاظ عربية لا يقوم غيرها مقامها كما في أذكار الصلاة. القول الثاني: له أن يلاعن بغير العربية ولو عرفها وهذا أصح الوجهين عند الشافعية لأن المقصود المعاني لا الألفاظ. قال المؤلف ـ رحمه الله ـ: فإذا أقذف امرأته لم يبين المؤلف حكم القذف ابتداءً وله أقسام: القسم الأول: أن تكون عفيفة فقذفها حينئذ محرم وهو من الكبائر. القسم الثاني: أن يراها تزني أو تعترف بذلك ولا يترتب على ذلك حمل فهنا يجوز أن يقذف ويلاعن ويجوز أن يستر عليها وهو أولى للنصوص العامة في الستر ويطلق إن كرهها. القسم الثالث: كالسابق لكن مع الحمل ويتيقن أو يغلب على ظنه أنه ليس منه فهنا يجب أن يلاعن لنفي الولد لأنه لو لم يفعل لورثه ونظر إلى بناته وقريباته وهذا لا يجوز. القسم الرابع: كالسابق لكن لا يدري هل الولد منه أو من الزاني وفي هذا القسم خلاف: القول الأول: يجوز أن يلاعن. القول الثاني: يحرم لأن الأصل أن الولد للفراش ولو لاعن لكان في هذا تعيير للولد وبإمكانه أن يطلق. القول الثالث: يجب إذا كان الولد شبيهاً بالزاني وإلا فلا يجوز لأن الأصل أن الولد للفراش. قلت الراجح أنه يتأكد من نسب الولد بالرجوع للأطباء ويحكم بناء على النتيجة. قال المؤلف ـ رحمه الله ـ: فإذا قذف امرأته بالزنا فله إسقاط الحد باللعان

أي إذا قذفها فعليه الحد ولا تقبل له شهادة ويحكم بفسقه إلا أن يأتي ببينة أو يلاعن أو تصدقه فيسقط الحد بأحد هذه الأمور. ثم بدأ المؤلف - رحمه الله - ببيان صفة اللعان مفصلاً. قال المؤلف ـ رحمه الله ـ: (فيقول قبلها أربع مرات: اشهد بالله) تقدم معنا أنه إذا قذف امرأته بالزنا فيجب عليه الحد ولا تقبل له شهادة ويحكم بفسقه إلاّ إن أتى ببيّنة أو لاعن, أمر القذف أمر عظيم في الإسلام إذا قذف زوجته فتترتب عليه أحكام القذف ولا يخرج منها إلاّ بأحد أمرين البيّنة أو اللعان فإذا امتنع عن اللعان ولم يتمكن من إقامة البيّنة أربع شهود يرون الزنا صراحة فإنه يحد حد القذف، ولهذا قال المؤلف فإذا قذف امرأته بالزنا فله إسقاط الحد باللعان، فلا يمكن أن يسقط عنه الحد إلاّ باللعان أو بالبيّنة وإنما لم يذكر المؤلف البيّنة لآنّ هذا الكتاب خاص باللعان فذكر إسقاط الحد باللعان فقط. قال المؤلف ـ رحمه الله ـ: (فيقول قبلها أربع مرات أشهد بالله لقد زنت زوجتي هذه , ويشير إليها ومع غيبتها يسميها وينسبها وفي الخامسة وأنّ لعنة الله عليه إن كان من الكاذبين) أفادنا المؤلف في صفة اللعان أنّ الذي يبدأ باللعان هو الزوج ويقول هذه العبارة التي ذكرها المؤلف ويجوز أن يقول:" أشهد بالله أني فيما رميتها به لمن الصادقين" بل هذا اللفظ هو الموافق لظاهر القرآن ففيه: "فشاهدة أحدهم أربع شهادات بالله إنه لمن الصادقين ". وعلم مما تقدم أنه على المذهب لا يلزم القاذف وهو الزوج أن يقول ـ إذا أراد أن يلاعن زوجته ـ: " فيما رميتها به من الزنا" أي لا يشترط أن يصرح بقوله فيما رميتها به من الزنا. والقول الثاني: أنّ اللعان لا يصح إلاّ إذا قال فيما رميتها به من الزنا يشير إلى ما رماها به من الزنا وجعله في الإنصاف المذهب, والصحيح أنه لا يشترط أخذاً بظاهر لفظ القرآن. قال المؤلف ـ رحمه الله ـ: (ثم تقول هي أربع مرات: أشهد بالله لقد كذب فيما رماني به من الزنا ثم تقول الخامسة: وأنّ غضب الله عليها إن كان من الصادقين)

أي ثم تقول الزوجة أربع مرات:" أشهد بالله لقد كذب فيما رماني به من الزنا" ونقول في هذه العبارة ما قلنا في عبارة الزوج من أن لها أن تستبدل هذه العبارة بالعبارة التي جاءت في الآية فتقول:"أشهد بالله إنه لمن الكاذبين" ثم تقول في الخامسة:" وأنّ غضب الله عليها إن كان من الصادقين" , ويلاحظ أنّ الله تعالى أمره بأن يلعن نفسه , وأمرها بأن تدعو على نفسها بالغضب , ومن المعلوم أنّ الغضب أشد من اللعن , فلماذا جعل الله سبحانه وتعالى الأشد في حق الزوجة لا في حق الزوج؟ أجاب عن هذا الفقهاء بأنّ الغالب أن يكون الزوج صادقاً وأن تكون الزوجة كاذبة , لأنه يبعد جداً أن يقدم الإنسان على ملاعنة زوجته وتلويث فراشه وسمعته وسمعت أبناءه إلاّ وهو صادق، كما أنّ المرأة أعلم بالزوج من وقوع الزنا من عدمه لأنها هي التي باشرت فشددت العبارة في حقها , وهذه حكمة صحيحة. ولما ذكر المؤلف كيفية اللعان بدأ بذكر المحترزات. قال المؤلف ـ رحمه الله ـ: (فإن بدأت باللعان قبله) لم يعتد بهذا اللعان لأنه خلاف ما أمر الله به , وإذا عمل الإنسان عملاً هو خلاف ما أمر الله به فهو لا يعتد به وباطل. قال المؤلف ـ رحمه الله ـ: (أو نقص أحدهما شيئاً من الألفاظ الخمسة) إذا نقص لفظاً من الألفاظ الخمسة فإنّ اللعان لا يصح ولا يعتد به لماذا؟ لأنّ الله تعالى علق اللعان وصحته على هذه الألفاظ الخمسة فإذا نقص منها شيئاً فلم يأتي بما علق الله عليه الحكم فلم يصح اللعان وهذا صحيح والأمر أمر عظيم أشد من ألفاظ الأذكار , لابد أن يأتي بالألفاظ القرآنية كاملة كما هي , فإنّ أخل بشيء لم يصح اللعان. قال المؤلف ـ رحمه الله ـ: (أو لم يحضرهما حاكم أو نائبه) إذا لم يحضر الحاكم أو نائبه فإنّ اللعان لا يصح , التعليل قاعدة: [أنّ جميع الأيمان التي بسبب الدعاوى لا تصح إلاّ بحضرة الحاكم] وهو صحيح لأنها يمين بسبب دعوى ففيها خصومة فلا تصح إلاّ بحضرة الحاكم، فلو قال رجل من أقارب الزوجين تلاعنوا في البيت حتى لا ينتشر أمركما فإنّ هذا اللعان لا تنبني عليه الأحكام ولا يصح. قال المؤلف ـ رحمه الله ـ:

(أو أبدل لفظة أشهد بأقسم أو أحلِفُ , أو لفظة اللعنة بالإبعاد , أو الغضب بالسخط لم يصح) إذا أبدل لفظة الشهادة بأقسم أو أحلف أو أبدل لفظة اللعن بالطرد أو الإبعاد فإنّ اللعان لا يصح لأنّ لفظ الإشهاد واللعن أعظم وأكثر زجراً وتخويفاً في النفس , فلا يقوم غيره مقامه من الألفاظ. والقول الثاني: أنه إذا أبدل هذه الألفاظ بما ذكره المؤلف فاللعان صحيح لأنّ العبرة بالمعنى وليس باللفظ. والراجح المذهب لوجهين: - الوجه الأول: أنّا نقول صحيح أن العبرة بالمعنى وليس لفظ القسم، واليمين مساوياً للفظ الشهادة ولا لفظ الإبعاد والطرد مساوياً للفظ اللعن من كل وجه , فإذا انتفى المعنى ولو سلمنا أنّ المعنى متحد فإنّ هذه الألفاظ خاصة أراد الشارع أن يتم التلاعن بها كما في أذكار الصلاة وكما في أذكار الصباح والمساء فلا يقوم غيرها مكانها، ولهذا نقول إن شاء الله لا يجزئ غير هذه الألفاظ من الألفاظ وإن تساوت معها في المعاني إذا افترضنا صحة تساويها معها في المعاني. فصل قال المؤلف ـ رحمه الله ـ: (وإن قذف زوجته الصغيرة أو المجنونة عزّر , ولا لعان) ذكر المؤلف مسألتين: المسألة الأولى: إذا قذف زوجته الصغيرة. والمسألة الثانية: إذا قذف زوجته المجنونة. نبدأ بالمسألة الأولى: إذا قذف زوجته الصغيرة فالحكم أنه لا لعان وإنما يعزّر. ومقصود الحنابلة بالصغيرة هنا يعني التي لا يوطأ مثلها وليس المقصود مسألة البلوغ أو عدمه , فإذا قذف زوجته التي لا يوطأ مثلها فلا لعان وإنما يعزر , السبب أنه لا لعان لأنّ قوله معلوم الكذب لأنّ هذه المرأة لا يوطأ مثلها فكيف يرميها بالزنا وهي لا يوطأ مثلها فلما كان كلامه معلوم الكذب فإنه لا لعان وإنما يعزر كما أنه لا يلحقها عار بهذا القذف هكذا قالوا وفي تعليلهم الثاني نظر. أما إن كانت يوطأ مثلها كابنة تسع فإنها لا تطالب بحقها إلا بعد البلوغ وله إسقاطه باللعانـ أي الحد ـ إذا طالبت بعد البلوغ.

المسألة الثانية: المجنونة إذا قذف زوجته المجنونة فإنه لا لعان وإنما يعزر وعلل الحنابلة هذا بأنّ اللعان هو عبارة عن أيمان ويشترط لصحة الأيمان التكليف وهذه مجنونة وليست بمكلفة فلا يصح حلفها وأيمانها فلا يصح معه اللعان لأنّ اللعان لا يصح إلاّ بين زوجين فإذا بطل في أحد الزوجين بطل في الآخر , وهذا الكلام من المؤلف عام يشمل ما إذا أراد الزوج أن يلاعن ليتخلص من الحد أو أن يلاعن لينفي الولد. بناء على مذهب الحنابلة لا يستطيع الزوج أن ينفي الولد من زوجته المجنونة مطلقاً لأن نفي الولد لا يكون إلاّ باللعان واللعان مع المجنونة لا يصح وهذه مشكلة لأنه قد يعلم علم اليقين أنه زوجته زُنيَ بها وأنّ هذا الولد ليس بولد له ومع ذلك لا يستطيع أن ينفي الولد لأنّ اللعان باطل. القول الثاني: في هذه المسألة أنّ الزوج إذا أراد أن يلاعن بقصد نفي الولد فقط صح ويكون اللعان في هذه الصورة من قبل الزوج فقط. هذا القول قول العلامة القاضي أبي يعلى من الحنابلة وهو قول وجيه لأنه جمع بين الأدلة فنحن نقول للزوجة لا تلاعن لأنها غير مكلفة وإنما يلاعن الرجل لأنه أراد نفي الولد لا درأ الحد عن نفسه، وهذا القول إن شاء الله هو الصحيح. قوله: (عزر ولا لعان) التعزير هنا مقابل السب لا القذف لأن كلامه هنا يعتبر سباً لا قذفاً. قال المؤلف ـ رحمه الله ـ: (ومن شرطه: قذفها بالزنا لفظاً كزنيت , أو يا زانية , أو رأيتك تزنين في قبل أو دبر) أي فلا يشترط أن يقول رأيتها تزني أو أن الحمل ليس مني لعموم الآية. والقول الثاني: لا بد من أن يصرح بالرؤية أو بإنكار الحمل ولا يكتفي بزنيتي وهو مذهب مالك لأنه في حديث هلال قال: "رأيت بعيني وسمعت بأذني"، والراجح الأول لأن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب والآية عامة. قال المؤلف ـ رحمه الله ـ: (في قبل أودبر) يعني أنه لا يشترط في القذف أن يخصص بالقبل بل لو قذفها في الدبر صح , لأنه وطء في فرج فصح القذف به ولأنّ الوطء في الدبر يلحقها به العار كما في القبل , ففي هذه المسألة لا نفرق بين القبل والدبر. قال المؤلف ـ رحمه الله ـ: (فإن قال وطئت بشبهة أو مكرهة أو نائمة)

أي فلا لعان لأنه لم يقذفها بما يوجب الحد. وظاهره لا لعان ولو كان ثم ولد وهو المذهب ويلحقه نسبه الحديث "الولد للفراش". والقول الثاني: يلاعن الرجل وحده لنفي الولد لأنه محتاج إلى ذلك اختاره المجد والقاضي وهو أقرب. قال المؤلف ـ رحمه الله ـ: (أو قال: لم تزن ولكن ليس هذا الولد مني) إذا قال الزوج , زوجتي لم تزني لكن هذا الولد ليس مني , لحقه نسبه ولا لعان فصارت كمسألة الوطء بشبهة, والزوج إذا قال لم تزني لكن هذا الولد ليس مني ففي هذا القول إشكال لأنه إذا كانت زوجتك لم تزني كيف يكون هذا الولد ليس منك، وقد أجاب الحنابلة أنه ربما يقول أن زوجته وطئت بشبهة فإذا قال الزوج هذا الكلام نقول لا لعان ويثبت النسب , والخلاف في هذه المسألة كالخلاف في المسألة السابقة تماماً , من حيث أدلة الحنابلة واختيار الشيخ المجد واختيار الشيخ القاضي أبو يعلى، والصحيح إن شاء الله في هذه المسألة هو الصحيح في المسألة السابقة، فنقول أنه يلاعن بمفرده ليتمكن من نفي الولد ولا تلاعن المرأة لأنّ لعان المرأة يترتب على القذف ولا قذف في هذه الصورة. قال المؤلف ـ رحمه الله ـ: (فشهدت امرأة ثقة أنه ولد على فراشه) المؤلف - رحمه الله - خلط بين مسألتين: المسألة الأولى: هي المسألة السابقة وقد تقدم توضيحها. المسألة الثانية: أن يقول لم تزن ولكن هذا الولد ليس مني لكن قال هذا الكلام بعد أن أبانها فالحكم في هذه المسألة أنه لا يلحقه النسب إلا إذا شهدت به امرأة بخلاف المسألة السابقة فيلحقه النسب ولو بلا شهادة لأنها فراشه، وفي المسألة الثانية نكتفي بشهادة امرأة واحدة لقصة التي شهدت بالرضاع. والقول الثاني: لا بد من شهادة امرأتين وهو رواية عن أحمد. أما إذا لم يشهد به أحد فالقول قول الزوج ولا يلحقه نسبه. قال المؤلف ـ رحمه الله ـ: (ومن شرطه: أن تكذبه الزوجة) هذا هو الشرط الأخير وهو الرابع أن تكذب الزوجة الزوج. وإتماماً لهذا الشرط نقول ويجب أن يستمر هذا التكذيب إلى نهاية اللعان فإن لم تكذب الزوجة الزوج فلا لعان وإنما يقام عليها الحد ولا نحتاج إلى لعان لأنها اعترفت بجريمة الزنا فيقام عليها الحد. قال المؤلف ـ رحمه الله ـ:

(وإذا تّم سقط عنه الحد) إذا تّم اللعان بالشروط السابقة ترتب عليه أربعة أحكام: الحكم الأول: أشار إليه الشيخ بقوله سقط عنه الحد والتعزير، فإذا تّم اللعان فإنّ الحد يسقط عن الزوج أو التعزير إذا كانت الزوجة ليست محصنة , إذا كانت محصنة سقط عنه الحد وإن كانت ليست محصنة سقط عنه التعزير، والدليل على هذا أنّ النبي - صلى الله عليه وسلم - درأ الحد عن أوس وسلمة بن صخر بالملاعنة. ولأن الشهادة أقيمت مقام البينة، والبينة تسقط الحد وكذا لو قذفها برجل بعينه سقط الحد عنه لهما لأن هلال بن أمية قذف زوجته بشريك بن سحماء فلم يحده ولم يعزره له. قال المؤلف ـ رحمه الله ـ: (وتثبت الفرقة بينهما بتحريم مؤبد) الحكم الثاني: أنّ الفرقة تثبت بينهما , وظاهر كلام المؤلف أنّ الفرقة تثبت بمجرد اللعان ولا نحتاج إلى حكم الحاكم بالتفريق بينهما ويدل على أنّ الفرقة تثبت بمجرد اللعان أنّ الفرقة لو توقفت على حكم الحاكم لجاز إذا رضيا بالبقاء كالتفريق بالعيب وقياساً على التفريق بالرضاع بجامع أن كلاً منهما يقتضي التفريق المؤبد. القول الثاني: أنّ الفرقة لا تثبت إلاّ بتفريق الحاكم لأنّ النبي - صلى الله عليه وسلم - لما لاعن بينهما قال ابن عباس "وفرّق بينهما رسول الله صلى الله عليه وسلم". أجاب الحنابلة عن قول ابن عباس وفرّق بينهما يعني أعلمهما بالفرقة , وليس إنشاء للتفريق منه - صلى الله عليه وسلم -. والذي يظهر أنّ الأقوى المذهب مذهب الحنابلة. مسألة: الفرقة في اللعان تعتبر فسخاً وليست طلاقاً , عند جماهير أهل العلم ولا تعتبر من الطلقات قياساً على التفريق بالرضاع فإنّ التفريق بالرضاع كان سببه معنى يمنع استمرار الزوجين واعتبرناها فسخاً كذلك اللعان. قال المؤلف ـ رحمه الله ـ: (بتحريم مؤبد) هذا هو الحكم الثالث أنّ التحريم مؤبد وليس مؤقتاً والتحريم ينقسم إلى قسمين: - أن يكون التحريم مع عدم إكذاب الزوج نفسه ,يعني إذا استمر الزوج ولم يكذب الزوج نفسه فالتحريم مؤبد في هذه الصورة بالإجماع , لقول النبي - صلى الله عليه وسلم - ولا رجعة لك عليها , وهذا اللفظ أنه لا رجعة له عليها إسناده صحيح وإن كان خارج الصحيح.

القسم الثاني: أن يكذب بعد ذلك نفسه فالجمهور أيضاً أنه لا رجعة له عليها أبداً استدلوا بعموم الحديث السابق. والقول الثاني: وهو رواية اعتبرها الحنابلة شاذة عن الإمام أحمد أنه له أن يرجع وهو اختيار سعيد بن المسيب , فإذا أكذب نفسه فهو خاطب من الخطاب له أن يرجع. ترك المؤلف حكماً غاية في الأهمية وهو الحكم الرابع: انتفاء الولد. والولد ينتفي من الملاعن بلا إشكال لكن اختلف الفقهاء هل ينتفي الولد ولو لم ينفه أثناء اللعان أو لا ينتفي إلاّ بشرط أن ينفيه أثناء اللعان؟.فيه خلاف: القول الأول: أنّ الولد لا ينتفي إلاّ بماذا؟ إلاّ بتصريح الزوج بأنّ هذا الولد ليس بولده فيرميها بالزنا ويصرح أنّ الولد ليس بولده واستدل هؤلاء بأنّ اللعان غاية ما فيه أن يثبت أنّ هذه المرأة زنت وهذا لا يوجب نفي الولد. القول الثاني: أن الولد ينتفي بمجرد اللعان ولو لم يذكر النفي أثناء اللعان. واستدل هؤلاء بأنّ الذين لاعنوا في عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يذكر في لعانهم انتفاء الولد أو الانتفاء من الولد بل في صحيح مسلم أنّ النبي - صلى الله عليه وسلم - لاعن بينهم وألحق الولد بأمه وليس في الحديث أنه أي الزوج ذكر أثناء اللعان أنّ هذا الولد ليس منه وهذا القول الثاني هو الصحيح بل إنّ الغالب من الملاعنين هو إرادة نفي الولد لا مجرد إثبات زنا الزوجة.

الدرس: (2) من اللعان قال شيخنا حفظه الله: بسم الله الرحمن الرحيم والحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين. فصل قال المؤلف ـ رحمه الله ـ: (من ولدت له زوجته من أمكن أنه منه لحقه) هذه قاعدة الباب أنه إذا ولدت زوجة الرجل ولداً يمكن أن يكون منه فإنه يلحق الزوج لعموم قول النبي - صلى الله عليه وسلم - (الولد للفراش)، وعند الحنابلة الشرط يمكن أن يكون هذا الولد منه أي ولو لم يثبت وطء ولا دخول فإذا أمكن أن يكون منه فإنه ينسب إليه , ومثلوا لما لا يمكن أن يعقد الزوج على زوجته في المجلس بحضرة الحاكم ثم يطلق بحضرة الحاكم وهم جلوس حينئذ لا يمكن أن يكون منه وكذلك إذا تزوج وهو في بلد وهي في بلد ولا يتمكن أن يسافر إلى بلدها في أقل مدة الحمل حينئذ نقطع أنه ليس منه فإذاً الحنابلة لا يشترطون الوطء ولا الدخول وإنما يشترطون إمكان أن يكون هذا الولد من هذا الزوج واستدلوا بعموم الحديث السابق وبأنه يمكن أن يكون منه. القول الثاني: أنه يشترط لتكون الزوجة فراشاً ويلحق الولد بالزوج أن يحصل الدخول وإلا فلا يلحق بالزوج وهذا القول الثاني اختيار شيخ الإسلام واختيار والده. قال المؤلف ـ رحمه الله ـ: (بأن تلده بعد نصف سنة منذ أمكن وطؤه , أو دون أربع سنين منذ أبانها وهو ممن يولد لمثله) ذكر المؤلف شرطين لصحة حقوق النسب: الشرط الأول: أن تلده بعد نصف سنة. والشرط الثاني: أن يكون ممن يولد لمثله ـ وسيأتي الكلام عنه ـ. نبدأ بالشرط الأول إذا ولدته بعد نصف سنة أو قبل مضي أربعة أشهر فإنّ هذا الولد ولده لأنّ ستة أشهر هي أقل مدة الحمل كما أن أكثر مدة الحمل أربع سنين، فإذا أتت به لأقل من ستة أشهر أو لأكثر من أربع سنين بعد الإبانة علمنا أنّ الولد ليس له قطعاً ولا يحتاج الزوج لنفي هذا الولد أن يلاعن وتقدم الكلام عن قوله "منذ أمكن وطؤه". قال المؤلف ـ رحمه الله ـ: (وهو ممن يولد لمثله كابنة عشر) هذا هو الشرط الثاني وهو أن يكون الزوج ممن يولد له ومن يولد لمثله محل خلاف بين الفقهاء فالحنابلة يرون أنه ابن العشر وفهم من هذا أن ابن تسع لا يلحق به الولد لحديث "اضربوهم عليها لعشر وفرقوا بينهم في المضاجع" والأمر بالتفريق دليل على إمكان الوطء الذي هو سبب الولادة.

القول الثاني: أنّ من يمكن أن ينسب إليه ولد هو من بلغ بالإنزال ولا ننظر للسن لأنه قبل أن ينزل لا يمكن أن يكون الولد منه لأن الولد إنما يكون من الماء. القول الثالث: أنّ من يمكن أن يولد لمثله هو ابن الاثني عشر سنة. والخلاف السابق يفيد أن ابن تسع ليس ممن يولد لمثله بالاتفاق وهو محكي ـ أي الاتفاق ـ لكن الصحيح أن ابن التسع فيه خلاف لكن تركناه لضعفه والقول الثاني ذهب إليه شيخ الإسلام ابن تيمية ـ رحمه الله ـ ومن حين وقفت على هذا القول وقع في ذهني أنه أرجح الأقوال لأنه كيف ننسب الولد لشخص لم يثبت أنه بلغ بالإنزال مع العلم أنّ الناس العلماء وغير العلماء أجمعوا أنّ الولد لا يكون إلاّ بالإنزال وهذه المعلومة أنّ الولد لا يكون إلاّ بالإنزال لا تخفى على الحنابلة أليس كذلك لا تخفى على أحد لكن ذهبوا إلى تقييده بابن العشر مراعاة وحفظاً للأنساب لأنّا نرى أنه في القصة التي ستأتينا لما تنازع سعد بن أبي وقاص مع عبد بن زمعة. سيأتينا أنّ الولد يشبه عقبة ولا يشبه زمعة ونكاد نقطع أنّ هذا الولد ليس لزمعة ومع هذا جعله النبي لزمعة وعلل ذلك بقوله: (الولد للفراش) فنرى أنّ الشارع يثبت النسب مع علمه أنّ هذا الولد ليس لهذا الأب فمنطلق الحنابلة منطلق قوي مع هذا أنا أقول أنّ القول الثاني هو الراجح لأنه في هذه المسألة لا يوجد هنا نزاع حتى نلحقه بصاحب الفراش وإنما ابتداء نقول هل يمكن أن ينسب الولد لمن لم ينزل أصلاً أو لا يمكن , فنحن نقول إن شاء الله الراجح أنه لابد من ثبوت الإنزال وإنما أردنا بهذا التطويل أن تعلم أنّ مذهب الحنابلة قوي وليس مصادماً لا للعقل ولا للشرع. قال المؤلف ـ رحمه الله ـ: (ولا يحكم ببلوغه إن شك فيه) لا يحكم ببلوغ هذا الذي نسبنا إليه الولد إن شك ببلوغه لماذا؟ لأنّ الأصل عدم البلوغ ولأن البلوغ يترتب عليه أحكام كالتكليف ووجوب الغرامات وإنما أثبتنا النسب احتياطا للأنساب فقط وأيضاً نقول في هذه المسألة لا تظن أنّ في هذا التقرير تعارضاً , كيف تقول لم يبلغ وتنسب إليه الولد؟ لما تقدم معنا أن المراد الاحتياط للأنساب. قال المؤلف ـ رحمه الله ـ: (ومن اعترف بوطء أمته في الفرج أو دونه فولدت لنصف سنة , أو أزيد لحقه ولدها)

إذا اعترف أنه وطء الأمة وولدت لأقل من نصف سنة فإنه ينسب إليه الولد , والاعتبار بالمدة من الشراء أو من الوطء؟ بالنسبة للزوجة الاعتبار في المدة من العقد أما بالنسبة للأمة فهل هو من الشراء أو الوطء؟ مذهب الحنابلة أنه من الوطء , فنحسب المدة من الوطء فبهذا الاعتراف صارت فراشاً له وصار الولد ولداً له لحديث اختصام سعد بن أبي وقاص وعبد بن زمعة أخو سودة بنت زمعة فإن أمة زَمْعَة أتت بولد فادعى سعد أنه ابن أخيه عتبة لأنه ألم بها وادعى عبد بن زمعة أنه له لأنه ولد على فراش أبيه فحكم به صلى الله عليه وسلم لعبد بن زمعة وأمر سودة أن تحتجب عنه لوجود الشبه البين بعتبة. قال المؤلف ـ رحمه الله ـ: (إلاّ أن يدعي الإستبراء ويحلف علي) أي إلاّ أن يدعي السيد الإستبراء فإذا ادعى أنه أستبرء الأمة بحيضة فإنّا نقبل منه هذا الإدعاء بشرط أن يحلف , فإنّ البيّنة على المدعي واليمين على من أنكر فهذا منكر للحوق النسب , فقيل قوله مع اليمين. قال المؤلف ـ رحمه الله ـ: (وإن قال وطأتها دون الفرج , أو فيه ولم أنزل , أو عزلت لحقه) ذكر المؤلف مسألتين: المسألة الأولى: إذا قال وطئتها دون الفرج. والمسألة الثانية: إذا قال وطئتها ولم أنزل أو عزلت. بالنسبة للمسألة الأولى: لو قال وطئتها لكن دون الفرج فإنّ الولد يلحق به لأنّ الماء قد يسبق ويدخل في فرج المرأة. والقول الثاني: إذا زعم أنه وطئها في غير الفرج فإنّ الولد لا يلحق به لأنه لم يطأ ونحن نثبت الفراش بالوطء. والمسألة الثانية: إذا قال أنا وطئت الأمة لكني لم أنزل وعزلت فإنه في هذه الصورة لا يسمع لدعواه ويلحقه الولد لدليلين: الدليل الأول: أنّ أناسا من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - استفتوه في العزل فقال:" اعزل عنها إن شئت فإنّ ما قدر الله سيكون". والدليل الثاني: ما روي عن عمر ـ رضي الله عنه ـ أنه رأى الناس يزعمون أنهم عزلوا عن الإماء وينتفون من الأولاد فقال - رضي الله عنه - من وطء أمته فهو ولده عزل أو لم يعزل فأغلق الباب فقال مادامت هذه الأمة توطأ من السيد فهي فراش له والولد ولد له. قال المؤلف ـ رحمه الله ـ:

(وإن أعتقها , أو باعها بعد اعترافه بوطئها فأتت بولد لدون نصف سنة لحقه والبيع باطل) لأنّ علمنا قطعا أنّ هذا الولد منه فقد حملت به وهي فراشه فالحمل كان قبل البيع لأن أقل الحمل ستة أشهر. قال الشيخ (والبيع باطل) لأنّ الأمة صارت أم ولد وأمهات الأولاد لا يجوز أن يباعن. وبهذا انتهى كتاب اللعان ولله الحمد

كتاب العدد

الدرس: (1) من العدد قال شيخنا حفظه الله: بسم الله الرحمن الرحيم والحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين. أرحب بإخواني مع بداية الفصل الخامس وأسأل الله - سبحانه وتعالى - أن ينفعنا بالعلم النافع والعمل الصالح وأن يعيننا بفضله ومنه وكرمه على إتمام الجزء المتبقي من متن زاد المسقنع وتعلمون توقفنا على كتاب العدد بعد أن أنهينا كاب اللعان فنبدأ مستعينين بالله بهذا الكتاب الذي توقفنا عنده. قال المؤلف ـ رحمه الله ـ: كتاب العدد العدد جمع مفرده عدة وهو مشتق من العدد ووجه الاشتقاق أن العدة إنما تعرف وتحصى بالعدد سواء كانت العدة بالحيض أو كانت بالأشهر في الحالتين إنما تحصى وتعرف بالعدد ولهذا اشتقت من العدد والعدد في لغة العرب هو الإحصاء والضبط. وأما في الشرع: فالعدة هي المدة الزمنية التي تتربصها المرأة المطلقة لتعلم براءة الرحم. إذا العدة في الشرع تكون مدة والغرض منها معرفة براءة الرحم, فاشتمل التعريف على معرفة ماهية العدة والحكمة منها ثم - قال رحمه الله - (تلزم العدة كل امرأة فارقت زوجا خلا بها) قوله تلزم العدة .. أفادنا المؤلف بهذه العبارة أن العدة واجبة ووجوب العدة محل إجماع في الجملة , والعدة مشروعة من حيث الأصل بالكتاب والسنة والإجماع. أما الكتاب فعدد من الآيات منها قوله تعالى {والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء} البقرة/228 فهذه الآية نص في عدة المطلقة وأما الأحاديث فكثيرة كما سيأتينا في أنواع المعتدات كما في حديث فاطمة بنت قيس وغيره من الأحاديث وقد أجمع أهل العلم على أن العدة مشروعة بل سمعتم أنها واجبة , فهذا معنى قول المؤلف تلزم العدة كل امرأة فارقت زوجا خلا بها. بدأ المؤلف في بيان ما هي أو من هن الزوجات الآتي تلزمهن العدة وبدأ بالأولى فقال تلزم العدة كل امرأة فارقت زوجا خلا بها

إذا الأولى هي المرأة التي فارقها زوجها بعد الخلوة فإذا خلا بها فإن العدة تجب , ومعنى قول المؤلف خلا بها يعني ولو بلا وطء , وهذه المسألة وهي وجوب العدة بمجرد الخلوة محل خلاف. فالقول الأول: هو ما سمعت هو مذهب الحنابلة بل هو مذهب الجمهور من السلف والخلف أن العدة تجب بمجرد الخلوة واستدل الجماهير على هذا الحكم بالآثار الثابتة عن أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - فقد روي عن التابعين أن الخلفاء الراشدين قضوا وحكموا أن من أرخى سترا أو أغلق بابا فقد وجب المهر والعدة. فهذا الأثر مروي عن الخلفاء الراشدين - رضي الله عنهم - إلا أن هذا الأثر في إسناده شي من الضعف فهو معلول بالإرسال. الدليل الثاني: أنه صح عن عمر - رضي الله عنه - أنه أوجب العدة بالخلوة. الدليل الثالث: صح عن ابن عمر , الدليل الرابع: صح عن علي. الدليل الخامس: صح عن زيد بن ثابت. فهو مروي عن الصحابة. والأثر المروي عن الخلفاء الراشدين وإن كان في إسناده ضعفا إلا انه يتقوى بالآثار الأخرى المروية عن عمر وعلي - رضي الله عنه -. القول الثاني: وهو مذهب الشافعي القديم: أن العدة لا تجب بمجرد الخلوة. واستدل الشافعي ثم - رحمه الله - بقوله تعالى {يا أيها الذين آمنوا إذا نكحتم المؤمنات ثم طلقتموهن من قبل أن تمسوهن فما لكم عليهن من عدة تعتدونها فمتعوهن وسرحوهن سراحا جميلا} [الأحزاب/49]. وقد صرحت الآية أن العدة إنما تجب بالمسيس ونفى العدة عند انتفاء المسيس والخلوة المجردة عن الوطء ليس فيها مسيس. والمس في الاية هو الجماع. والدليل الثاني لأصحاب القول الثاني أن عدم وجوب العدة مروي عن ابن عباس وابن مسعود. وأثر ابن عباس وابن مسعود ضعيف , ضعفه الامام أحمد وضعفه البيهقي وابن المنذر وأعله الإمام أحمد بأنه مخالف لما روي عن الصحابة وقال أنه لم يصح عن الصحابة إلا وجوب العدة , الراجح المذهب بلا إشكال وهو مروي عن الصحابة , وليس للإنسان أن يخرج عن ما أفتى به أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - ولا يحفظ عنهم فيه خلاف صحيح. فمجرد الخلوة توجب العدة. ثم - قال رحمه الله - (مطاوعة مع علمه بها وقدرته على وطئها ّ)

هذه شروط قال المؤلف خلا بها مطاوعة .. يشترط لوجوب العدة بمجرد الخلوة ان تكون المرأة مطاوعة يعني ليست مكرهة. فإن كانت مكرهة فإن مجرد الخلوة لا يوجب العدة. والدليل الذي استدل به الجنابة على اشتراط أن تكون مطاوعة قالوا أن الخوة إنما اوجبت العدة لانها أقيمت مقام الوطء لأنها مظنة له , والمكرهة لا تمكن من نفسها. والقول الثاني: أن الخلوة ولو مع الإكراه توجب العدة لأن الزوج قد يتمكن من وطء الزوجة ولو بالإكراه , والأقرب عندي والله أعلم المذهب. لأنه جرى العرف والعادة أن الزوج لا يتمكن من الوطء مع امتناع الزوجة عن الوطء. فهذا الشرط إن شاء الله شرط صحيح. ثم - قال رحمه الله - (مع علمه بها) يعني يشترط أن يعلم الزوج بوجود الزوجة في الغرفة التي حصلت فيها الخلوة , فإن وجدت الزوجة والزوجة بلا علم من الزوج كأن يكون الزوج أعمى لم يشعر بها , أو لم يكن هناك ضوء فلم يشعر بها, أو لأي سبب فإن العدة لا تثبت ولا تجب. والدليل على اشتراط هذا الشرط التعليل السابق أن الخلوة إنما اعتبرناها مقررة للعدة لأنها مظنة الوطء ومع عدم علم الزوج لا يمكن أن يكون هناك وطء مطلقا. ثم - قال رحمه الله - (وقدرته على وطئها) يشترط في الخلوة أن يتمكن الزوج وان يقدر على وطء الزوجة ,فإن لم يتمكن فإن العدة لا تجب وقد انتقد كثير من الشراح انتقدوا المؤلف على هذه العبارة وهي قوله (وقدرته على وطئها) لأن ظاهر هذه العبارة يتعارض مع العبارة التالية وهي قوله (ولو مع ما يمنعه) فرأوا أن بين العبارتين تعارض فانتقدوا المؤلف بإيراده لهذه العبارة , والذي يظهر لي أن عبارة المؤلف سليمة وأنه يقصد بقوله (وقدرته على وطئها) أن يكون الزوج ممن يطأ مثله. وقد تقدم معنا في اللعان أن الأزواج على قسمين: زوج يطأ مثله وهو ابن عشر وزوج لا يطأ مثله وهو دون العشر. فالمؤلف يشير إلى هذا الشرط أن يكون مثله يطأ. وبها نخلص العبارة من الانتقاد. قال - رحمه الله - (ولو مع ما يمنعه منهما أو من أحدهما حسا أو شرعا (

مقصود المؤلف بهذه العبارة أنّ الخلوة توجب العدة ولو مع وجود ما يمنع الوطء سواء في الزوجين أو في أحدهما وسواء كان المانع مانعا حسيا أو مانعا شرعيا. فالمانع الحسي كأن يكون الزوج مجبوبا أو عنينا , والمانع الشرعي كأن يكون الزوج أو الزوجة محرم أو محرمة أو تكون الزوجة حائض فهذه موانع شرعية وليست حسية فالخلوة توجب العدة ولو كان الزوج أو الزوجة فيهما أو في أحدهما ما يمنع الوطء حسا أو شرعا , وهذا مذهب الجماهير أنّ الخلوة تقرر العدة ولو مع وجود ما يمنع الوطء قال - رحمه الله - (أو وطئها) انتقل إلى النوع الثاني وهي المرأة أو الزوجة الموطوءة. فقول المؤلف أو وطئها معطوف على قوله خلا بها يعني تكون العبارة تلزم العدة كل امرأة فارقت زوجا خلا بها أو وطئها. إذا وطء الزوج زوجته فإنّ العدة تجب بالإجماع بلا خلاف , من مفهوم الآية السابقة فقوله من قبل أن تمسوهن. معنى أو مفهوم الآية يعني بعد المسيس تجب العدة فوجوب العدة في الوطء محل إجماع وهل نشترط في الوطء الخلوة أو لو جامعها بحضرة الناس؟ لا يشترط في الوطء الخلوة بل الوطء بمجرده يوجب العدة بالإجماع. قال - رحمه الله - (أو مات عنها حتى في نكاح فاسد فيه خلاف) وهو النوع الثالث الموت , فإذا الأول الخلوة والثاني الوطء والثالث الموت. فموت الزوج يوجب العدة على المرأة سواء قبل الدخول أو بعد الدخول وهذا محل إجماع أنّ الموت يوجب العدة. يقول المؤلف - رحمه الله - (حتى في نكاح فاسد فيه خلاف) إذا مات الزوج ولو كان العقد فاسدا وقد عرف المؤلف العقد الفاسد بالعقد الذي فيه خلاف يعني في صحته خلاف فإنّ العدة كذلك تجب واستدل الجمهور على وجوب العدة في النكاح الفاسد بأنّ النكاح الفاسد يوجب أمرين: - الأول: ثبوت النسب ... والثاني: وجوب الطلاق. وقد أخذنا في كتاب الطلاق أنه يجب على الزوج في النكاح الفاسد أن يطلق وأخذنا الخلاف في هذه المسألة وأنّ الراجح أنه يجب أن يطلق فإذا كان النكاح الفاسد يوجب الطلاق ويثبت معه النسب فنقيس عليهما ماذا؟ العدة وهذا صحيح أنّ نكاح الفاسد تجب معه العدة. قال - رحمه الله - (وإن كان باطلا وفاقا لم تعتد للوفاة)

المؤلف عرّف النكاح الباطل بأنه النكاح الذي فسد بالإجماع فهذا يسمى نكاحا باطلا. قال المؤلف - رحمه الله - (لم تعتد للوفاة) إذا كان النكاح نكاحا باطلا فإذا مات هذا الزوج فإنه ليس على الزوجة أن تعتد بالإجماع , وتعليل ذلك: أن النكاح الباطل وجوده كعدمه , لأنه لا حقيقة له شرعية. وهذا محل إجماع. ولما قرر المؤلف الأسباب الثلاثة وهي الخلوة والوطء والموت التي تجب معها العدة انتقل لبيان أنواع لا تجب فيها العدة يعني في الحياة. ثم - قال رحمه الله - (ومن فارقها حيا قبل وطء وخلوة) قوله ومن فارقها حيا .. أخرج ما لو مات , فإن الزوج إذا مات كما تقدم معنا تجب العدة , فالأحوال التي سيذكرها المؤلف التي لا تجب فيها العدة تتعلق بحال الحياة أما في الموت فإنه مطلقا تجب العدة سواء بعد الدخول أو قبل الدخول بالوطء وغير الوطء في كل الأحوال تجب العدة بالوفاة , إذا البحث الآن فيمن فارقها حيا. ثم - قال رحمه الله - (من فارقها حيا قبل وطء وخلوة) يعني فلا عدة .. وهذا محل إجماع .. إذا فارقها وهو حي بلا وطء ولا خلوة فإنه لا يوجد سبب شرعي يوجب العدة .. ولهذا أجمعوا على أنه لا عدة. ثم - قال رحمه الله - (أو بعدهما أو أحدهما وهو ممن لا يولد لمثله) إذا فارق الزوج الحي زوجته بعد الوطء والخلوة أو بعد الوطء أو بعد الخلوة لكنه ممن لا يولد لمثله فإنه لا تجب العدة. معنى هذه العبارة أن الزوج إذا كان لا يوطأ لمثله وهو من كان سنه دون العشر. والزوجة كانت دون التسع فإنه في هذه الأحوال لا تجب العدة. لاحظ كلام المؤلف (ولو بعد الدخول أو الخلوة) بناء على هذا لو تزوج صبي عمره تسع بامرأة وجامعها دخل بها وجامعها ثم طلقها فإنه عند الحنابلة لا تجب لأن هذا الزوج لا يولد لمثله واستدل الحنابلة على هذا أن المقصود من العدة التأكد من براءة الرحم وهي معلومة في الزوج الذي لا يولد لمثله. القول الثاني: أن الصبي إذا وطء الزوجة ثم فارقها فإن العدة تجب واستدلوا بدليلين: الدليل الأول: العمومات فإن العمومات لم تستثني الطفل الذي لا يولد لمثله.

الدليل الثاني: أن الإنزال أمر خفي يختلف باختلاف الأشخاص والأحوال , والشارع إنما علق العدة بالوطء أو الخلوة لأن الإنزال أمر خفي فلم يجعل علة للحكم , كما أن في السفر لا نجعل علة القصر والترخص هي المشقة. إنما العلة هي السفر بحد ذاته. والحكمة هي المشقة. وهذا القول وجيه جدا وقوي لاسيما مع الوطء. فمن حق هذا الزوج الصبي إذا وطء زوجته أن تعتد خشية أن يكون أنزل ومذهب الحنابلة لا أقول أنا ضعيف لكن مرجوح. ثم - قال رحمه الله - (أو تحملت ماء الزوج أو قبلها أو لمسها بلا خلوة فلا عدة) يقول المؤلف أو تحملت ماء الزوج: مقصود المؤلف بقوله أو تحملت ماء الزوج يعني بلا وطء. فلو تحملت الزوجة ماء الزوج بلا وطء فلا عدة , ولو وصل الماء إلى الرحم. واستدل الحنابلة على هذا بأن الآية اشترطت لوجوب العدة المسيس , وإذا تحملت الماء بلا وطء فلا مسيس .. بناء عليه فلا عدة. والمؤلف - رحمه الله - خالف في هذه المسألة المذهب الاصطلاحي. فالمذهب وجوب العدة إذا تحملت الزوجة بماء الزوج يعني ولو بلا وطء. استدل أصحاب القول الثاني وهو المذهب: بأن الصحابة جعلوا الخلوة سببا في وجوب العدة لأنها مظنة الوطء وانشغال الرحم , وانشغال الرحم بتحمل ماء الزوج أقرب وأعظم , فوجوب العدة به أولى. وهذا القول الثاني لا شك أنه هو الراجح , وأن أصحاب القول الأول لم يتأملوا في قولهم وإلا لعلموا انه قولا ضعيفا .. إذ كيف يجعل الصحابة مجرد الخلوة توجب العدة لأنه قد يكون الرحم انشغل ولا نجعل إدخال ماء الزوج موجبا للعدة مع أن انشغال الرحم به أقرب. بناء على هذا لو وضعت الزوجة ماء الزوج بأي وسيلة في فرجها فإنه تب العدة ولو بلا وطء. ثم - قال رحمه الله - (أو قبلها أو لمسها بلا خلوة فلا عدة) إذا قبل أو لمس الزوج لكن بلا خلوة فإن العدة لا تجب .. فما يحصل بين الأزواج في مكان لم يغلق بباب ولو كان داخل المنزل فإنه لا يوجب العدة. لأنه في هذه الحالة لا يوجد لا وطء ولا خلوة. بناءا على هذا المباشرة لا توجب العدة , إنما الذي يوجب العدة الخلوة والوطء والموت فقط.

مسألة: إذا خلا الزوج بزوجته في السيارة فهل هذه خلوة.؟.؟ الصحابة يقولون إذا أرخى سترا أو أغلق بابا .. وهنا أغلق بابا .. السيارات على قسمين: سيارات مسترة أو مظللة: هذه لا شك أنها خلوة لأنها تشبه الدار والغرفة. سيارات غير مسترة: فيها تردد كبير. لأنا نجعل السيارة بالنسبة لوجود المرأة والرجل الأجنبي خلوة او ليست خلوة.؟ نجعلها خلوة ولا شك في هذا أن وجود المرأة والرجل الأجنبيان يعتبر خلوة وهو محرم. إذا اعتبرناها في هذا الباب خلوة فهي كذلك خلوة في باب تقرير العدة .. ففيها تردد يعني .. يتردد فيها الإنسان. لأن مقصود الصحابة بالخلوة هي التي يمكن معها الوطء أو يتصور معها الوطء. في السيارة يعني يبعد عادة وعرفا أن يطأ الزوج زوجته في السيارة. فيها تردد .. لم يظهر لي فيها بعد التأمل شيء. فصل - قال رحمه الله - (والمعتدات ست) حصر المعتدات بأنهن ست جاء عن طريق السبر والتقسيم والاستقراء والتأمل في النصوص وكلام الفقهاء وإلا ليس في النصوص النص أن عدد المعتدات ست لكن هذا من تقريب الفقهاء الذي يحمدون عليه لأن في هذا تسهيلا للعلم. الأولى: الحامل ثم - قال رحمه الله - (وعدتها من موت وغيره) الحامل عدتها من الموت ومن غيره كالطلاق والخلع وأنواع المفارقات. عدتها أن تضع الحمل. ولو وضعت الحمل بعد الموت أو المفارقة بساعة فإنها تحل للأزواج عقدا , وأما الوطء فيجب على الزوج الجديد أن ينتظر إلى أن تطهر من النفاس. والدليل على أن الحامل تنتهي عدتها من الموت وغيره عموم النصوص فالنص عام {وأولات الأحمال أجلهن أن يضعن حملهن ومن يتق الله يجعل له من أمره يسرا}} الطلاق/4 {وليس في الآية تحديد أو التقييد بكونه من وفاة أو من طلاق. الدليل الثاني: حديث سبيعة الأسلمية أنه أفتاها النبي - صلى الله عليه وسلم - بعد موت زوجها أن عدتها تنتهي بوضع الحمل. وهذا الحديث في البخاري ومسلم. وهو نص على أن عدة الحامل من وفاة تنتهي بالوضع. الدليل الثالث: أنه في هذه المسألة حكي الإجماع.

القول الثاني: أنها تعتد بأطول الأجلين. وهو مروي عن ابن عباس. وهذا القول ضعيف. وقد روي أن ابن عباس - رضي الله عنه - رجع عنه لما بلغه حديث سبيعة - رضي الله عنها - والراجح هو مذهب الجماهير هذا الذي حكي إجماعا , وأظن أن رجوع ابن عباس صحيح لأن حديث سبيعة صريح في المسألة. ثم - قال رحمه الله - (إلى وضع كل الحمل) يشترط لانتهاء العدة أن تضع كل الحمل. يعني كل ما في بطنها. واستدلوا على هذا بقوله {وأولات الأحمال أجلهن أن يضعن حملهن} [الطلاق/4] والآية تشمل جميع ما في البطن. فإذا حملت بتوأم اثنين او ثلاثة فإنها لا تنقضي العدة إلا بوضع جميع ما في البطن لعموم الآية. ثم - قال رحمه الله - (بما تصير به أمة أم ولد) هذه العبارة يريد أن يبين فيها ما هو الحمل الذي إذا وضعته المرأة انتهت عدتها به. فقال أنه التي تصير به الأمة أم ولد. والتي تصير به الأمة أم ولد: هو ما تبين فيه خلق الإنسان. وهذه المسألة ما ضابط الحمل الذي تنتهي به العدة مسألة مهمة جدا فنقول في تفصيلها الحمل يمر بثلاثة مراحل نطفة وعلقة ومضغة. نأتي إلى القسم الأول إذا ألقت نطفة. إذا ألقت الزوجة نطفة فإنها لا تخرج من العدة بهذا الحمل لأنّ النطفة ليس إلاّ ماء فلا تنقضي العدة به. الثاني: المرحلة الثانية للجنين: العلقة فإذا ألقت علقة ففي حكم انتهاء العدة خلاف بين الفقهاء. الجمهور يرون أنّ العدة لا تنتهي بالعلقة لأنّ حقيقة العلقة دم وهذا الدم مشكوك فيه هل هو قطعة دم أم حمل؟ ومع الشك لا تنقضي العدة لأنّ العلقة ليست إلاّ دما وهذا الدم مشكوك فيه هل هو مبدأ حمل أو مجرد دم ومع الشك لا تنقضي العدة. القول الثاني: أنّ العدة تنقضي إذا وضعت المرأة علقة , واستدلوا على هذا بأنّ العلقة هو المرحلة الأولى من مراحل تبيّن إنشاء الجنين فتنقضي العدة به. والراجح القول الأول وهو مذهب الجمهور ويستثنى من هذا ما إذا أثبت الطب الحديث أنّ هذا الشيء الذي وضعته المرأة هو مبدأ خلق إنسان حينئذ تنتهي العدة بالعلقة. نأتي إلى المضغة وهي المرحلة الأخيرة. والمضغة تنقسم إلى قسمين: مخلقة , وغير مخلقة. أما المخلقة فبالإجماع تنقضي بها العدة.

القسم الثاني: غير المخلقة وغير المخلقة فيه خلاف بين الفقهاء كثير متشعب نختصره على الأقوال التالية: - القول الأول: أنّ المضغة غير المخلقة إن شهدت النساء القوابل الثقات العارفات بأنه مبدأ خلق إنسان وفيه صورة الإنسان فإنّ العدة تنقضي به وإلاّ فلا. القول الثاني: أن العدة لا تنقضي بالمضغة غير المخلقة مطلقا يعني ولو شهدت القوابل بأنّ فيه صورة إنسان , واستدلوا على هذا بوجود فيه هل هو حمل أو دم أو قطعة لحم. القول الثالث: أنّ المضغة غير المخلقة تنقضي به العدة ولو لم يكن فيه صورة إنسان إذا شهدت القوابل والنساء الثقات أنّ فيه مبدأ خلق إنسان. إذا تلخيص المذاهب القول الأول يشترطون أن يشهد النساء أنّ فيه صورة لابد يكون فيه صورة. القول الثاني لا يعتدون بالمضغة مطلقا التي لم تخلق. القول الثالث: وهو أو سع الأقوال يشترطون فقط أن تشهد القوابل أنه مبدأ خلق إنسان ولو لم يكن فيه صورة. والراجح هو هذا الثالث, لأنّ المقصود أنّ الرحم انشغل بهذا الولد فإذا علمنا أنه مبدأ خلق إنسان فتنقضي العدة به ولو لم توجد فيه صورة , هذا البحث عند الفقهاء المتقدمين وعرفتم الآن الراجح من هذه الأقوال , أما الآن فبإمكان المرأة أن تتأكد من خلال الطبيب هل هذا الذي ألقته جنين أو قطعة لحم. فإذا أخبرها بهذا الأمر فإنها تنقضي عدتها بحسب إفادة الطبيب. قال - رحمه الله - (فإن لم يلحقه لصغره أو لكونه ممسوحا) يعني إذا حكمنا على هذا الجنين الذي سقط بأنه لا يلحق لأبيه لأحد سببين: أن يكون الأب صغيرا والصغير عند الفقهاء في هذا الباب هو من لا يولد لمثله أو يكون ممسوحا يعني مقطوع الذكر والخصيتين فإذا كان الزوج صغيرا لا يولد لمثله أو ممسوحا فإنّ العدة لا تنقضي بوضع هذه المرأة , والتعليل: أناّ نعلم قطعا أنّ هذا الولد ليس من هذا الزوج فلا تنقضي عدة الزوج بهذا الولد الذي ليس منه فتعتد عدة الحيض ولا تعتد بوضع هذا الحمل للسبب الذي سمعته. قال - رحمه الله - (أو ولدت لدون ستة أشهر منذ نكحها)

يعني فإنّ العدة لا تنقضي فإذا تزوج الإنسان بامرأة وأتت بولد لدون ستة أشهر فإنّ العدة لا تنقضي بهذا , والسبب أنّ أقل مدة الحمل ستة أشهر فإذا أتت بولد قبل مضي ستة أشهر علمنا أنّ هذا الولد حملت به المرأة قبل عقد النكاح يعني وليس من هذا الزوج فإذا لم يكن من هذا الزوج فإنّ عدة الزوج لا تنقضي بوضعه وإنما يحتاج إلى عدة أخرى. والسبب كما سمعت أناّ نجزم أنّ هذا الولد ليس من هذا الزوج. يقول - رحمه الله - (ونحوه) يعني إذا وضعته لأكثر من أربعة سنين , فإذا طلق الزوج زوجته ووضعت طفلا بعد أكثر من أربعة سنوات فإنّ هذا الطفل لا ينسب للزوج ولا تنقضي العدة به لأنّ أكثر مدة الحمل أربع سنوات فعلمنا قطعا أنّ هذه المرأة حملت بهذا الطفل بعد الطلاق فلا يكون ولدا له ولا تنقضي العدة بوضعه. يقول - رحمه الله - (وعاش) يقصد المؤلف - رحمه الله - بقوله وعاش يعني الطفل الذي وضعته لدون ستة أشهر , إذا وضعت المرأة الطفل لدون ستة أشهر فإنّ العدة لا تنقضي بشرط أن يعيش فإن مات انقضت العدة لأنه إذا مات فإنه يحتمل أنّ هذا الطفل حملت به ووضعته قبل أن يتخلق وهو حمل من الزوج بينما إذا ولدته وعاش علمنا أنه حملت به قبل النكاح , إذن إذا وضعت المرأة الطفل لدون ستة أشهر ومات هل تنقضي العدة أو لا تنقضي؟ تنقضي. وإن عاش ولم يمت لم تنقضي العدة. ومن قول المؤلف فإن لم يلحقه لصغره إلى آخره أراد أن ينبه إلى المسائل التي لا يكون وضع الحمل فيها نهاية للعدة. قال - رحمه الله - (وأكثر مدة الحمل أربع سنين) استدلوا على هذا بأمرين: الأول: أنّ عمر - رضي الله عنه - ضرب للمفقود أربع سنوات كما تقدم معنا وقالوا إنما ضربه أو ضرب هذه المدة للمفقود لأنّ أكثر مدة الحمل أربع سنوات. الثاني: قالوا أنه لا يعرف أكثر من هذه السنوات. القول الثاني: أنّ أكثره خمس سنوات. والقول الثالث: أنّ أكثره سبع سنوات.

والقول الرابع: أنه لا حد لأكثره. واختار هذا القول من المحققين الشيخ الحافظ أبو عبيد واستدلوا على هذا القول بأنه لا يوجد في النصوص ما يدل على أنّ أكثر مدة الحمل أربع سنوات , فتحديده به تحكم بلا دليل , ولعل الأقرب هو هذا القول الأخير أنه لا حد لأكثره ما لم يثبت الطب الحديث أنّ هذا لا يمكن أن يقع فإن لم يتعارض هذا القول مع الطب الحديث فهو الراجح. قال - رحمه الله - (وأقلها ستة أشهر) استدل الحنابلة وغيرهم من الفقهاء على هذا بالجمع بين آيتين: الأولى قوله تعالى {وحمله وفصاله ثلاثون شهرا} [الأحقاف/15] والفصال هو انقضاء الرضاع. الآية الثانية قوله تعالى {والوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين} [البقرة/233] فإذا نقصنا الحولين من الثلاثين شهرا بقي كم؟ ستة أشهر فقالوا هذه أقصى مدة الحمل وهذا صحيح فإنّ ظاهر هاتين الآيتين هذا التحديد وهو أنّ أقل مدة الحمل ستة أشهر. قال - رحمه الله - (وغالبها تسعة أشهر) دليله النظر في حال غالب الناس وهذا بالإجماع ولا إشكال فيه أنّ غالب الحمل تسعة أشهر بل يندر ويشذ أن يزيد ويقل جدا أن ينقص أيهما أكثر أن ينقص أو أن يزيد؟ أن ينقص أكثر من أن يزيد. الزيادة قليلة جدا ولو زادت فهي أيام لا تزيد أشهر يعني قليل جدا. قال - رحمه الله - (ويباح إلقاء النطفة قبل أربعين يوما بدواء مباح) يريد المؤلف أن يبيّن حكم الإسقاط. إسقاط الجنين هل يجوز أن يسقط الزوج أو الزوجة أو أن يأمر الزوج زوجته بالإسقاط أو لا؟ هذه المسألة فيها خلاف متشعب جدا وكثير , والسبب في وجود هذا الخلاف أنه ليس في المسألة نص. وتقدم معنا مرارا أنّ المسألة إذا لم يكن فيها نصوص من الكتاب والسنة فإنّ أقوال العلماء تتشعب فيها وتتداخل. والحنابلة كما تسمع يقول المؤلف (ويباح إلقاء نطفة قبل أربعين يوما بدواء مباح) في الأربعين يوم الأولى من مدة الحمل يعني في مرحلة النطفة يجوز عند الحنابلة إلقاء الحمل ولو بلا حاجة يجوز مطلقا بشرط أن يكون بدواء مباح وفي مدة الأربعين يوما الأولى. هذا مذهب الحنابلة. نحن نقول سنتكلم عن المسألة من حيث هي. إسقاط الجنين ينقسم إلى قسمين: - القسم الأول: بعد نفخ الروح. والقسم الثاني قبل نفخ الروح.

أما القسم الأول: إسقاط الجنين بعد نفخ الروح فهو محرم بالإجماع ولم يختلف أهل العلم ولله الحمد في هذه المسألة. لأنه بعد نفخ الروح أصبح نفسا معصومة لا يجوز الاعتداء عليها. القسم الثاني: قبل نفخ الروح. وقبل نفخ الروح ينقسم الجنين كما تقدم معنا إلى ثلاث مراحل. نطفة وعلقة ومضغة. قبل أن ندخل في التفصيل مما يساعد على معرفة الحكم الشرعي أن نتصور معنى النطفة والعلقة والمضغة. النطفة في لغة العرب/ هي الماء الصافي. وأما في الاصطلاح/ فالنطفة هي ماء الرجل أو ماء المرأة إلى أن يصل إلى مرحلة العلقة. أما العلقة فهي في اللغة/ الدم المتجمد. وأما في الاصطلاح/ فهي الدم الذي انعقد جنينا. وأما المضغة فهي قطعة اللحم سميت بذلك لأنها تشبه القطعة التي يمضغها الإنسان في فمه. من حيث الشكل. الآن تصورنا أنّ النطفة ليست إلاّ ماء الرجل أو ماء المرأة , وتصورنا أنّ العلقة ليست إلاّ دم , وتصورنا أنّ المضغة ليست إلاّ قطعة لحم. ونحن نتكلم قبل النفخ أو بعد النفخ؟ قبل النفخ لأنّ بعد النفخ الأمر واضح. نأتي إلى خلاف الفقهاء اختلف الفقهاء: القول الأول: هو مذهب الحنابلة وهو أنّ الجنين يجوز إسقاطه في مرحلة النطفة فقط. إلاّ أنّ بعض الفقهاء أضاف قيدا وهو أن يكون لحاجة أو ضرورة. واستدل الحنابلة على هذا بأنّ الجنين في مرحلة النطفة ليس إلاّ ماء يشبه أن يكون لا فرق بين أن يكون في رحم المرأة أو في صلب الرجل الآن علتم أنّ القول الأول الجواز في مرحلة النطفة. معنى هذا التحريم فيما عداه. القول الثاني: الجواز مطلقا ما لم ينفخ الروح. وهذا القول اختاره ابن عقيل واختاره ابن عبد الهادي واستدلوا بأنه لا يوجد نص صحيح يدل على تحريم إسقاط الجنين. والحمل قبل نفخ الروح ليس إلاّ قطعة لحم أوقطعة دم. القول الثالث: التحريم مطلقا , لا يجوز الإسقاط مطلقاً في أي مرحلة من مراحل الجنين واستدلوا على هذا بدليلين: الدليل الأول: القياس على وأد البنات. قالوا أنّ إسقاط الجنين يشبه الوأد بجامع أنّ في كل منهما قتل للطفل.

والجواب أنّ الوأد يسمى قتل , والقتل لا يطلق إلاّ على من نفخ فيه الروح نحن نتحدث عن الجنين قبل نفخ الروح فإسقاطه لا يسمى قتلاً لأنّ لا يطلق إلاّ على ما فيه روح. الدليل الثاني: لهم أنّ هذا الجنين في أي مرحلة من مراحله قد استعد وهيئ ليكون نفساَ معصومة. والجواب عليه أن نقول إنما هيئ ليكون نفساً معصومة , لكنه الآن ليس معصوماً. وهذا القول اختاره ابن رجب ونسب لشيخ الإسلام لكن لم أجد في الحقيقة كلام لشيخ الإسلام في كتبه صريح في المنع لكن الذين يحكون الخلاف ينسبون القول له أنه يرى التحريم مطلقاً. الراجح إن شاء الله المذهب مع إضافة قيد أن يكون الإسقاط لحاجة أو ضرورة. ولا شك عندي في جواز إسقاط النطفة في مرحلة الأربعين الأولى عند الحاجة كأن تكون الأم مريضة أو يتوقع أن يكون الطفل مشوهاً أو ناقصا شيئاً من الأعضاء إلى آخره. بل إني أقول الراجح القول الأول مع ذلك أقول أنّ القول الثاني وجيه جداً لأنه لا يوجد دليل على التحريم. والتحريم حكم شرعي يحتاج إلى دليل , فهذا القول وجيه لولا أنّ موضوع الإسقاط موضوع حساس وقد يستغله بعض الناس استغلالا سيئاً لكان هذا القول فيه وجاهة لأنه لا يوجد دليل على المنع صريح ونصوص واضحة تمنع من إسقاط الجنين ,وأيضا لم أجد آثار لو وجد في الباب آثار عن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم لكان الأمر أوضح بهذا نكون انتهينا من هذه المسألة المهمة. فصل قال - رحمه الله (الثانية: المتوفى عنها زوجها بلا حمل , قبل الدخول أو بعده) النوع الثاني من المعتدات المتوفى عنها زوجها بلا حمل , لأنّ الحامل تقدم معنا أنّ عدتها تنقضي بوضع الحمل ولهذا يقول بلا حمل منه. المتوفى عنها زوجها تعتد سواء توفي الزوج قبل الدخول أو بعد الدخول , لأنّ الوفاة كما تقدم معنا من أسباب وجوب العدة. يقول الشيخ رحمه الله (للحرة أربعة أشهر وعشرة) دليل هذا النوع قوله تعالى {والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجا يتربصن بأنفسهن أربعة أشهر وعشرا} [البقرة/234] والدليل الآخر عليه الإجماع فإنّ عدة المتوفى عنها عند جميع العلماء أربعة أشهر وعشرة أيام فهذا النوع من المعتدات واضح. ولا إشكال فيه إن شاء الله.

قال - رحمه الله - (وللأمة نصفها) فتكون عدة الأمة شهرين وخمسة أيام , وذهب إلى هذا مع الحنابلة الجماهير وعامة التابعين بل لم يحفظ فيه خلاف عن أحد من التابعين إلاّ عن رجل واحد وهو ابن سيرين رحمه الله. إذا على هذا القول عامة التابعين وجماهير الفقهاء وهذا القول أنّ عدة الأمة على النصف من عدة الحرة هو الراجح ويدل على رجحانه ما تقدم معنا من أنه جاء عن الصحابة فتاوى صريحة أنّ عدة الطلاق بالنسبة للأمة نصف عدة الحرة فكذلك عدة الوفاة. وأيضا تقدم معنا عن الصحابة فتاوى صريحة أنّ العبد يملك نصف ما يملك الحر من عدد الطلاق فكل هذه الفتاوى تدل على أنّ الأمة على النصف من الحرة في هذا الباب. معنى هذا الكلام أنّ الزوج إذا طلق زوجته طلاقا رجعياً ثم في أثناء اعتداد الزوجة من هذا الطلاق الرجعي مات الزوج فالحكم حينئذ أن تستأنف المرأة عدة وفاة وأن تترك العدة الأولى التي كانت فيها وهي عدة الطلاق الرجعي , الدليل على أنّ المرأة تترك العدة الأولى وتبدأ بالعدة الثانية , الدليل على هذا أنّ الرجعية زوجة تقدم معنا أنّ الرجعية زوجة في كل الأحكام إلاّ أحكام يسيرة خمسة أحكام أو ستة أحكام مستثاة وأما ما عدا هذه الأحكام فالمطلقة الرجعية تشبه الزوجة في جميع الأحكام وإذا كانت زوجة إذا مات زوجها اعتدت عدة وفاة ولهذا نأمر هذه الرجعية بأن تترك العدة الأولى وتنتقل للعدة الثانية. قال - رحمه الله - (وإن مات في عدة من أبانها في الصحة لم تنتقل) إذا طلق الزوج زوجته طلاقاً بائنا , أو فارقها أي فرقة بائنة وبدأت بعدة هذا الفراق ثم مات الزوج فإنها لا تنتقل لعدة الوفاة وتبقى على العدة كانت فيها. والسبب في هذا أنّ المبانة ليست زوجة ولا تأخذ أحكام الزوجات وإذا لم تكن زوجة لم يلزمها أن ترجع إلى عدة الوفاة لأنه مات وهي ليست زوجته هذا صحيح وواضح. قال - رحمه الله - (وتعتد من أبانها في مرض موته ......... )

لا حظ أنّ المؤلف قال في المسألة الأولى في عدة من أبانها في الصحة , ثم قال في المسألة الثانية وتعتد من أبانها في مرض موته الأطول من عدة وفاة وطلاق. إذا أبان الزوج زوجته في مرضه هو ثم مات فإنّ الزوجة تعتد بالأطول من الأجلين عدة الوفاة أو عدة الطلاق. قلنا أنّ الزوج إذا أبان زوجته ثم توفي فإنها تعتد بالأطول من الأجلين أيّ عدة الوفاة أو الطلاق تعليل هذا عدة الحنابلة قالوا أنّ الزوجة إذا طلقها الزوج في مرضه فإنها تشبه البائن والرجعية , فتشبه الرجعية بأنها ترث , وتشبه البائن بانقطاع علاقتها بالزوج وإذا كانت تشبه هذه وهذه فإنّا نحطاط ونأمرها أن تعتد بأطول الأجلين لوجود الشبه بالرجعية والبائن. ولا نقول نحطاط بل يجب لأنّ فيها شبها من الرجعية والبائن. والقول الثاني: أنها تعتد عدة بائن وإذا قلنا تعتد عدة بائن فهل تستمر في عدتها أو تنتقل إلى عدة الوفاة؟ تستمر في عدتها , دليل القول الثاني أنّ المطلقة طلاقاً بائن تشبه البائن في كل الأحكام إلاّ في حكم واحد وهو ماذا؟ وهو الإرث ولا تشبه الرجعية في شيء من الأحكام إلاّ في حكم واحد وهو الإرث فلئن نلحقها بمن تشبهه في جميع الأحكام أولى أن نلحقها بمن تشبهه في حكم واحد , ولهذا نقول الراجح إن شاء الله هو القول الثاني وهو أنها تبقى على عدتها ولا تنتقل إلى العدة الثانية لأنّ هذه في الحقيقة بائن. وهذا القول كما قلت إن شاء الله هو الراجح. قال - رحمه الله (ما لم تكن أمة ........ ) إذا كانت هذه المطلقة أمة أو ذمية أو كان الطلاق بسببها فإنها تعتد لطلاق لا غير لماذا؟ لأنها في هذه الأحوال لا ترث. وإذا كانت لا ترث فإنها لا تشبه الرجعية في شيء فتأخذ حكم البائن ولا تنتقل إلى عدة الوفاة بل تبقى على عدتها. قال - رحمه الله (وإن طلق بعض نسائه مبهمة أو معينة ثم نسيها, ثم مات ......... إلى آخره) أولا اعلم الآن أنّ المؤلف يتحدث عن الطلاق البائن ولا يتحدث عن الطلاق الرجعي ولو أنّ المؤلف قال وإن طلق بعض نسائه طلاقاً بائنا لكان أوضح وغيره من الحنابلة ذكر صرح بهذا فقال طلاقاً بائناً لأنه الطلاق الرجعي تقدم معنا حكمه.

يقول إذا طلق بعض نسائه. يعني طلاقاً بائناً. مبهمة أو معينة ثم نسيها ثم ماتت قبل قرعة يعني قبل أن يحدد من هي المطلقة , فالحكم أنّ كل واحدة منهن سوى الحامل تعتد الأطول من الأجلين. علة هذا الحكم أنّ كل واحدة منهن يحتمل أنّ القرعة وقعت عليها وتكون بائن ويحتمل أنّ القرعة لم تقع عليها فتكون زوجة لهذا نأمر كل واحدة منهن أن تعتد ماذا؟ أطول الأجلين لوجود هذا الاحتمال إلاّ الحامل لأنّ الحامل ستنتهي العدة بالنسبة لها بالوضع سواء كانت بائنة أو زوجة. وهذا هو تعليل ما ذكره المؤلف وهذا التعليل صحيح ومن هنا نقول كما تقدم معنا في كتاب الطلاق أنّ الإنسان أو الزوج يحرم عليه أن يطلق طلاقاً مبهماً لأنه يدخل زوجاته في إشكال وضيق وهنا نكون انتهينا من النوع الثاني من المعتدات. انتهى الدرس

الدرس: (2) من العدد قال شيخنا حفظه الله: بسم الله الرحمن الرحيم والحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين. قال المؤلف - رحمه الله - (الثالثة: الحائل ذات الأقراء وهي الحيض) الثالثة من المعتدات هي المرأة الحائل أي التي لم تحمل جنينا في بطنها فعدتها بالأقراء يقول الشيخ - رحمه الله - ذات الأقراء وهي الحيض , كون الحائض تعتد بالأقراء هذا محل إجماع لكن الخلاف وقع في تفسير الأقراء وهي مسالة اختلف فيها السلف والخلف. والمؤلف - رحمه الله - يقول (وهي الحيض) وهذا هو القول الأول أنّ الأقراء هي الحيض. وإلى هذا القول ذهب كثير من السلف والخلف وذهب إليه كثير من الصحابة وهو القول الذي رجع إليه الإمام أحمد - رحمه الله -.واستدل اصحاب هذا القول بأدلة: الأول منها: أنّ هذا القول مروي عن أكابر الصحابة - رضي الله عنهم - الدليل الثاني: أنه جاء في الشرع تسمية الحيض بالأقراء كما في قول النبي - صلى الله عليه وسلم - دع الصلاة أيام أقراءك. يعني أيام حيضك. الدليل الثالث: أنّ النبي - صلى الله عليه وسلم - أمر امرأة ثابت بن قيس أن تعتد بحيضة.

القول الثاني: أنّ الأقراء هي الطهر , الأطهار واستدل أصحاب هذا القول بأدلة الأول منها: أن هذا مروي عن عائشة - رضي الله عنها - وهذه المسالة تتعلق بالنساء لأنّ العدة تتعلق بالنساء فستكون أضبط أي نساء الصحابة أضبط لأحكامها من الرجال. الدليل الثاني: قالوا إنّ هذا ظاهر القرآن ففي القرآن يقول الله سبحانه وتعالى {يا أيها النبي إذا طلقتم النساء فطلقوهن لعدتهن} [النساء/1] قال أصحاب هذا القول فاللام في قوله عدتهن بمعنى في يعني في عدتهن والدليل على أنّ هذا هو معناها في الآية أنّ ابن عمر - رضي الله عنه - لما طلق أمره النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يراجع وان يطلق في الطهر , فإذا جمعنا بين الآية والحديث تبيّن أنّ الله سبحانه وتعالى أمر بالطلاق في الطهر وأنه هو العدة. والراجح القول الأول إن شاء الله بلا إشكال لأنه مروي عن الصحابة. وأما الجواب عن الآية فإنّ اللام في الآية تحمل على الاستقبال , لأنّ الأصل في معنى اللام الاستقبال كما أنّ الأصل في الحروف عدم تبادل المعاني يعني أنه ليس الأصل في الحروف أن ياتي الحرف بمعنى حرف آخر بل الأصل عدمه وهم يحملون اللام هنا على في وكما قلت الأصل عدم تبادل الحروف للمعاني فيكون معنى الآية لعدتهن يعني مستقبلات للعدة. والزوج إذا طلق زوجته في الطهر فقد استقبلت العدة لأنها تستقبل الحيض وكما قلت هذا القول إن شاء الله هو الراجح أي المذهب وأنّ الأقراء هي الحيض. يقول - رحمه الله - (المفارقة في الحياة) قوله - رحمه الله - المفارقة في الحياة يشمل ثلاثة أنواع من المفارقات , أي من النساء المفارقات. الأول: المطلقة الرجعية فالمطلقة الرجعية إذا كانت حائل تعتد بالأقراء وهذا محل إجماع أنّ الحائل المطلقة الرجعية تعتد بالأقراء. القسم الثاني: مما يشمله كلام المؤلف , المختلعة من خولعت فهذه عند الحنابلة أيضا تعتد بثلاثة قروء , واستدلوا على هذا بأمرين: الأول: أنّ الخلع طلاق عند الحنابلة , وإذا كان طلاقا فعدته عدة الطلاق. الثاني: أنّ كون التي اختلعت من زوجها تعتد بثلاثة قروء مروي عن ابن عمر.

القول الثاني: أنّ عدة المختلعة حيضة واحدة واستدلوا بأدلة: الأول ما تقدم معنا من أنّ النبي - صلى الله عليه وسلم - أمر زوجة ثابت بن قيس - رضي الله عنه - أن تعتد لما خالعها بحيضة واحدة وهو صحيح إن شاء الله. الدليل الثاني: أنّ اعتداعها بحيضة مروي صحيح عن عثمان - رضي الله عنه - الدليل الثالث: كما تقدم معنا ليس بطلاق على الصحيح بل هو فسخ. وهذا القول الثاني هو الراجح. والمروي عن ابن عمر الجواب عنه أنّ ابن عمر - رضي الله عنه - رجع إلى قول عثمان بن عفان - رضي الله عنه - فتبيّن معنا أنّ الراجح هو هذا وهو أنها تعتد بحيضة واحدة. الثالثة: مما يدخل في عموم قول المؤلف المفارقة في الحياة. النوع الثالث. المطلقة آخر ثلاث تطليقات فهذه عند الجماهير بل حكي إجماعا أنها تعتد بثلاثة قروء. والقول الثاني: أنها تعتد بحيضة واحدة وهو قول اختاره شيخ الإسلام وعلق القول به على وجود مخالف , وقد وجد المخالف وهو ابن اللبان - رحمه الله - فإنه خالف الجماهير ورأى أنها تعتد بحيضة واحدة , فشيخ الإسلام يقول إنّ هذا القول هو الراجح بشرط أن لا تكون المسالة إجماع بأن يوجد مخالف , ووجد المخالف ودليل أصحاب هذا القول أنّ الاعتداد بثلاثة قروء إنما شرعه الله ليتمكن الزوج من المراجعة في خلال هذه المدة والمطلقة آخر ثلاث تطليقات ليس لزوجها أن يراجعها أصلا. من حيث الدليل القول الثاني قوي ولكني أقول لا ينبغي أبدا أن تعتد المطلقة آخر ثلاث تطليقات بحيضة واحدة , أولا لأنّ الإجماع محكي ولم يوجد بعد البحث إلاّ مخالف واحد ولهذا ليس من المستساغ أبدا أن تعتد بحيضة وتتزوج بعد ذلك لأنّ الخلاف في هذه المسالة قوي والاحتياط فيه متوجه. قال - رحمه الله - (فعدتها إن كانت حرة أو مبعضة ثلاثة قروء كاملة) لقوله تعالى {والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء} [البقرة/228] وهذا الحكم محل إجماع فيما عدا الخلاف الذي أشرت إليه في المختلعة والمطلقة آخر ثلاث تطليقات , والآية صريحة في أنّ التي لها حيض أنها تعتد بثلاثة قروء إذا كانت حائلاً. وقول المؤلف - رحمه الله - إن كانت حرة أو مبعضة , المبعضة هي من بعضها حر وبعضها رقيق , فهذه أيضا تعتد بثلاثة حيض.

وتعليل ذلك أنّ الحيضة لا تتبعض وإذا كانت لا تتبعض فإنها يجب أن تعتد بثلاثة قروء. ثم - قال رحمه الله - (وإلاّّ قرآن) يعني وإلاّ بأن كانت المطلقة أمة فإنها تعتد بقرآن يعني بحيضتين وإلى هذا ذهب الجماهير والجم الغفير من أهل العلم واستدلوا على ذلك بأنه مروي عن الصحابة منهم عمر وابنه وعلي - رضي الله عنهم - أجمعين. والقول الثاني: أنّ الأمة تعتد بثلاثة قروء كالحرة وهو مذهب ابن سيرين وحده من التابعين , والراجح إن شاء الله القول الأول المروي عن أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - قال - رحمه الله - (الرابعة: من فارقها حياً ولم تحض لصغر, أو إياس) الرابعة من المعتدات هي من فارقها زوجها حيا ولكنها لم تحض إما لأنها صغيرة أو لأنها آيسة بلغت سنا لا تحيض معه , فهذه تعتد كما قال المؤلف ثلاثة أشهر لقوله تعالى {واللائي يئسن من المحيض من نسائكم إن ارتبتم فعدتهن ثلاثة أشهر واللائي لم يحضن} [النساء/15] فنصت الآية على أنّ عدة الآيسة والصغيرة ثلاثة أشهر وهذا محل إجماع وهو ظاهر لدلالة القرآن الصريحة عليه. مسألة / إذا طلقت في أثناء الشهر في وسط الشهر فإنها تعتد كالتالي: تحسب بقية أيام الشهر ثم تحسب الشهرين التي بعد هذا الشهر بالأهلة ثم تأخذ من الشهر الثالث ما يتمم الثلاثين يوماً بالنسبة للشهر الذي بدأت به. مثاله إذا طلقت في اليوم العاشر من الشهر التاسع , فإنها ستبقى من هذا الشهر كم يوم؟ ستبقى لمدة عشرين يوم ثم تأخذ الشهر العاشر والشهر الحادي عشر ثم تأخذ من الشهر الثاني عشر كم يوم؟ عشرة أيام لتتم ماذا؟ لتتم الشهر الذي طلقت في أثناءه ولكن يشترط أن تتمه ثلاثين يوما ولو كان ذلك الشهر لم يتم من حيث الأهلة , فلو كان الشهر التاسع لم يكمل وإنما بلغ تسعة وعشرين يوما فقط فعند هؤلاء تتم من الشهر الثالث كم؟ ثلاثين يوما.

والقول الثاني: أنها تتم من الشهر الثالث بحسب الشهر الذي بدأت به , فإن كان الشهر الذي بدأت به تاما أتمت ثلاثين , وإن كان ناقصا أتمت تسعة وعشرين. وبهذا تكون اعتدت الثلاثة أشهر بالأهلة , وهذا القول الثاني اختيار شيخ الإسلام واستدل على هذا بأنّ الشهر في الشرع هو الشهر الهلالي , والفرق بين الجمهور ورأي شيخ الإسلام سيكون دائما كم؟ يوم واحد فقط. فإذا أرادات المرأة أن تحتاط لا شك أنها ستتم هذا اليوم ولكن كلام شيخ الإسلام في هذه المسالة قوي لأنّ الأشهر في الشرع تحسب باعتبار الأهلة. قال - رحمه الله - (فتعتد: حرة ثلاثة أشهر وأمة شهران) يعني وتعتد الأمة الآيسة أو الصغيرة لمدة شهرين فقط , واستدلوا على هذا بأنّ: عدة الأمة إذا كانت تحيض حيضتان , فيقابل كل حيضة كم؟ شهر واحد فبذلك تكون عدتها شهرين كل شهر يقابل حيضة. والقول الثاني: أنّ الأمة تعتد لمدة شهر ونصف فقط. واستدل هؤلاء بأنّ الأمة إنما أمرت بأن تعتد لمدة حيضتين لأنّ الحيضة لا تتبعض وأما الأشهر فإنها تتبعض , ولذلك تعتد الأمة نصف عدة الحرة فتأخذ شهر ونصف فقط. والقول الثالث: أنّ الأمة تعتد لمدة ثلاثة أشهر كالحرة واستدل أصحاب هذا القول بأنّ الغرض من العدة معرفة براءة الرحم وبالنسبة للتي لا تحيض لا يمكن أن تعرف برآءة الرحم إلاّ بمرور ثلاثة أشهر لأنه بمرور الثلاثة أشهر يبلغ الجنين المرحلة الثالثة وهي التي يظهر فيها الحمل بخلاف الحيض فإنّ برآءة الرحم تعرف من حيضة واحدة , والحكمة من العدة معرفة براءة الرحم وهذا لا يحصل إلاّ بثلاثة أشهر وتستوي في هذا الأمة والحرة , وهذا القول مال إليه الحافظ الشيخ ابن القيم وهو قول كما ترى وجيه , إلاّ أنه في وقتنا هذا لا نحتاج إلى هذا القول لأنه بالإمكان معرفة براءة الرحم بطرق أخرى , ولهذا أنا أرى أنّ الراجح هو القول الثاني. أنها تعتد بشهر ونصف لأنه عرفنا من طريقة الصحابة أنهم يجعلون الأمة تعتد على النصف من عدة الحرة فإذا كانت الحرة ثلاثة أشهر فالأمة شهر ونصف. وأما براءة الرحم فتعلم بطرق أخرى وإذا لم نتمكن من معرفة براءة الرحم بالطرق الطبية المعاصرة فإنه نرجع إلى قول من؟ ابن القيم وهو القول الثالث.

قال - رحمه الله - (ومبعضة بالحساب ويجبر بالكسر) المبعضة كما تقدم هي من بعضها حر وبعضها رقيق , فهذه تعامل بالحساب ومعنى أنها تعامل بالحساب أي أنها تتم من الشهر الثالث بقدر ما فيها من الحرية , فإذا كانت ربعها حرا فإنها تأخذ الشهر الأول والشهر الثاني وربع الشهر الثالث , وإذا كان نصفها حرا فإنها تأخذ الشهر الأول والثاني ونصف الشهر الثالث وإذا كانت كلها حرة لم تصبح مبعضة وخرجت عن مسألتنا ورجعت إلى الحرة. قال - رحمه الله - (الخامسة: من ارتفع حيضها ولم تدر سببه) إذا ارتفع الحيض من المرأة ولم تعرف السبب في ارتفاع هذا الحيض , فإنها تعتد عند الإمام احمد والجماهير لمدة سنة , تسعة أشهر للحمل وثلاثة عدة التي لا تحيض , والمجموع سنة الدليل استدل الإمام احمد بأنّ هذا صح عن عمر - رضي الله عنه - أنه أمر من ارتفع حيضها ولم تدري سبب ارتفاعه أن تعتد لمدة سنة وهذا القول الذي ذهب إليه الإمام احمد والجماهير اختاره شيخ الإسلام ابن تيمية. القول الثاني: أنها تبقى في عدة إلى أن يرجع الحيض أو تبلغ سن الإياس فتعتد عدة الآيسات , وهذا مذهب الإمام الشافعي - رحمه الله - وقال شيخ الإسلام معلقا على هذا القول وهو قول ضعيف جدا. صدق رحمه الله لأنّ فيه من الحرج والعنت والضيق على المرأة ما لا يعلمه إلاّ الله , لأنه إذا ارتفع حيضها وهي تبلغ من السن عشرين سنة فإناّ نأمرها أن تبقى في عدة إلى أن تبلغ كم؟ إلى أن تبلغ سن الإياس خمسين سنة , فتبقى طيلة هذه المدة في عدة لا تتزوج وإنما تبقى في عدة الأول ومعلوم أنّ الشرع لا يأتي بمثل هذا مطلقا لما فيه من الحرج والعنت الشديد فالراجح إن شاء الله مذهب الأول الذي أفتى به أمير المؤمنين عمر بن الخطاب - رضي الله عنه. - قال - رحمه الله - (وتنقص الأمة شهرا) هذا مبني على ما تقدم من أنّ الأمة عدتها إذا كانت آيسة أو صغيرة شهران فننقص من السنة ماذا؟ شهر واحد , وعلى القول بأنّ عدة الأمة كعدة الحرة في الأشهر فإنها لا تنقص شيئا , وعلى القول الثاني الذي يقول أنها شهر ونصف تنقص كم؟ شهر ونصف. فهذه المسالة مبنية على المسالة السابقة قال - رحمه الله - (وعدة من بلغت ولم تحض)

أي كعدة الآيسة لأنها لما بلغت ولم تحض دخلت في عموم قوله سبحانه وتعالى {واللائي لم يحضن} [النساء/15] فهذه لم تحض وإن بلغت بالسن أو بغيره فإذا بلغت المرأة ولم تحض حكمها حكم الصغيرة التي لم تحض وحكم الآيسة تعتد ثلاثة أشهر. قال - رحمه الله - (والمستحاضة الناسية والمستحاضة المبتدأة ثلاثة أشهر) المستحاضة الناسية هي المستحاضة التي نسيت وقت الحيض فلم تعد تعرف هل هو في أول الشهر أو في وسطه أو في آخره. وأما المستحاضة المبتدأة. فهي المستحاضة التي ابتدأ معها الدم لأول مرة واستمر إلى أن أصبح استحاضة. فالمستحاضة الناسية والمبتدأة عدتها ثلاثة أشهر , لكن في هذه المسالة تفصيل على النحو التالي: المستحاضة تنقسم إلى قسمين: - القسم الأول: المستحاضة التي يحكم لها بحيض صحيح وهي المعتادة أو المميزة , فهذه المستحاضة تعتد بالأقراء. القسم الثاني: المستحاضة التي ليس لها حيض محكوم به , وهي المستحاضة التي ليس لها تمييز ولا عادة فهذه تعتد ثلاثة أشهر لأنها حكمها حكم اللائي لم يحضن , إذ لا يوجد لها حيض محكوم به. والقول الثاني: أنّ حكمها حكم من ارتفع حيضها ولم تدري سببه فتبقى لمدة سنة , والراجح المذهب. قال - رحمه الله - (والأمة شهران) على ما تقدم الأمة شهران كلما اعتدت الحرة ثلاثة أشهر فتعتد الأمة بشهرين والخلاف السابق يأتي معنا هنا. قال - رحمه الله - (وإن علمت ما رفعه من مرض أو رضاع أو غيرهما , فلا تزال في عدة حتى يعود الحيض فتعتد به أو تبلغ سن الإياس فتعتد عدته) إذا ارتفع حيض المرأة وهي تعلم السبب الذي رفعه بأن يرتفع بسبب المرض أو يرتفع بسبب أنها ترضع أو يرتفع بأي سبب لكنها تعرف هذا السبب فالحكم أنها تبقى في عدة إلى أن يرجع الحيض أو تبلغ سن الإياس , إلى هذا ذهب الحنابلة - رحمهم الله - استدلوا على هذا بأنّ حبان ابن المنقذ - رضي الله عنه - طلق زوجته وهي ترضع فتطاولت بها العدة لأنها ترضع فمرض - رضي الله عنه - فقيل له إنك إن مت ورثتك , فسأل - رضي الله عنه - عثمان فسأل عثمان الصحابة فأفتوه بأنه إن مات ورثته وإن تطاولت العدة.

وجه الاستدلال واضح لأنّ زوجة حبان - رضي الله عنه - ارتفع حيضها بسبب تعلمه وهو الإرضاع, وحكم الصحابة بأنها تبقى في العدة وإن تطاولت. القول الثاني: أنّ من ارتفع حيضها وهي تعلم سبب ارتفاعه ينقسم إلى قسمين: - القسم الأول: أن لا ترجو عوده , يعني تعلم أنه لن يعود وإن كانت تعلم السبب في الارتفاع لكنها تعلم أنه لن يعود فهذه تعتد عدة الآيسة ثلاثة أشهر. القسم الثاني: أن لا تعلم هل سيعود أو لن يعود مترددة فهذه تعتد بسنة , فمثلا إذا كما هو في وقتنا المعاصر يحصل أحيانا إذا قامت المرأة بإجراء عملية جراحية واستأصلت الرحم من أصله فالآن هل تحيض أو لا تحيض؟ لا تحيض. وتعلم السبب أو لا تعلم السبب؟ تعلم السبب. ترجو أن يعود أو لا ترجو أن يعود؟ لا ترجو أن يعود. فمثل هذه المرأة تعتد بثلاثة أشهر لأنّها كالآيسة تماما. بل وجود الحيض في حقها أبعد من وجوده في حق الصغيرة ومن بلغت سن الإياس فإن من بلغت سن الإياس قد تحيض وإن كان خلاف العادة أما هذه لا يمكن أن تحيض. قال - رحمه الله - (السادسة: امرأة المفقود تتربص ما تقدم في ميراثه ثم تعتد للوفاة) المفقود هو من انقطع خبره ولم تعلم حياته من مماته , هذا هو المفقود يقول المؤلف - رحمه الله - تتربص ما تقدم من ميراثه ثم تعتد للوفاة إذا امرأة المفقود عليها أن تبقى مدتين. فالمدة الأولى التربص. والمدة الثانية هي عدة الوفاة. أما التربص فالمؤلف يقول تتربص كما تقدم في الميراث وما تقدم في الميراث هو أنها تتربص أربع سنين إذا كانت غيبته الغالب عليها الهلاك وتسعين سنة من الولادة إذا كانت غيبته الغالب عليها السلامة. فإما أن تتربص لمدة أربع سنين إذا كان الغالب عليه الهلاك أو أن تتربص لمدة تسعين سنة إذا كان الغالب عليه السلامة. الدليل على مدة هذا التربص أنّ عمر ابن الخطاب بأنها تتربص لمدة أربع سنوات فحملوا الأثر على من كان غالب حاله الهلاك. واضح إذاً الآن إما أتبقى أربع سنوات أو تبقى لمدة تسعين سنة. ثم بعد التسعين سنة تعتد للوفاة.

القول الثاني: أنّ مدة التربص لزوجة المفقود يرجع في تحديدها إلى الحاكم لأنها تختلف باختلاف الأشخاص وباختلاف الملابسات والأحوال فمن فقد في معركة يختلف عمن فقد في رحلة استجمام. يختلف عمن فقد داخل البلد ولكل حاله وملابساته التي تستدعي من الحاكم أن يأمر بمدة تتناسب مع وضع المفقود. وحمل أصحاب هذا القول أثر عمر على أنه فتوى معينة خاصة وليست فتوى عامة ظاهر كلام شيخ الإسلام اختيار القول الأول إلاّ أنه لا يفرق بين من غالبه الهلاك أو السلامة , بل في الكل أربع سنوات. ولهذا يقول والقول الصواب في مدة التربص زوجة المفقود ما روي عن عمر - رضي الله عنه - والمروي عن عمر هو أربع سنوات. الراجح أن نقول أما التفريق بين من غالبه السلامة أو الهلاك فهو تفريق ضعيف وليس في أثر عمر التفريق مطلقا. بقينا في الترجيح بين القولين أن تتربص لمدة أربع سنوات أو أن يرجع في تحديده إلى الحاكم وكل من القولين قوي وجيه ولعل الأقرب أنه يرجع في تحديده إلى الحاكم لأنه أحيانا يكاد يجزم الإنسان بالهلاك فإبقاء المرأة لأربع سنوات فيه مضرة بلا فائدة فلعل الراجح هو هذا القول الثاني. قال - رحمه الله - (وأمة كحرة في التربص) يعني أنّ الأمة لا تتخلف عن الحرة في مدة التربص وإن اختلفت عنها في العدة والسبب في هذا أنّ الغرض من التربص هو معرفة حال الزوج وهذا لا يختلف بكون الزوجة حرة أو أمة وهذا أمر واضح. قال - رحمه الله - (وفي العدة نصف عدة الحرة) لما تقدم معنا مرارا من أنّ الأمة تعتد نصف عدة الحرة دائما سواء كانت بالأقراء أو بالأشهر إلاّ أن تكون العدة مما لا يتنصف كالحيض فإنها تكون حيضتان فقط لكن القاعدة العامة أنّ الأمة على النصف من الحرة في مدة العدة. قال - رحمه الله - (ولا تفتقر إلى حكم حاكم بضرب المدة وعدة الوفاة) يعني أنّ مدة التربص وعدة الوفاة تبدأ بهما المرأة من حين فقد الزوج ولا نحتاج إلى حكم حاكم بأن يحكم بأن تبدأ أو لا تبدأ لا نحتاج إلى هذا , واستدلوا على هذا الحكم بأمرين الأول: أنه لا يوجد دليل على اشتراط حكم الحاكم في مدة التربص أو الوفاء. الثاني: القياس على من ارتفع حيضها ولم تدر سببه فإنها تعتد لمدة سنة بدون حكم حاكم.

القول الثاني: أنّ مدة التربص وعدة الوفاة تحتاج إلى حكم حاكم ولا تبدأ إلاّ بحكم حاكم واستدلوا على هذا بأمرين: الأول: أنّ كل مدة فيها خلاف فإناّ نحتاج إلى حكم الحاكم ليرفع هذا الخلاف كما أنّ كل مدة تحتاج إلى نظر نحتاج فيها إلى رأي الحاكم. الدليل الثاني: أنّ فتح هذا الباب يؤدي إلى التلاعب , فبإمكان المرأة أن تزعم أنّ زوجها مفقود وتتربص مدة يراها الحاكم ثم تعتد عدة الوفاة وتتزوج ويكون في هذا نوع من التلاعب أليس كذلك؟ أي القولين أرجح؟ الثاني لأنه أضبط يعني العمدة في ترجيحه أنه أضبط ويتأكد اختيار القول الثاني في وقتنا هذا لأنه في وقتنا هذا كثير من العمال يذهب لمدة طويلة للعمل وقد لا تتمكن زوجته من الاتصال به فتزعم أنه مفقود , وتبدأ بالتربص من حين ترى هي أنه مفقود وتبقى مدة التربص ثم العدة وبهذا تستطيع أن تتزوج بزوج آخر وهذا يفتح باب شر لا شك في ذلك فالراجح إن شاء الله أنه لا بد أن يستشار الحاكم وتضرب المدة برأي الحاكم. ثم لما ذكر حكم زوجة المفقود من حيث التربص والعدة انتقل إلى ما يترتب على ما لو تزوجت بزوج ثاني. قال - رحمه الله - (وإن تزوجت فقدم الأول قبل وطء الثاني فهي للأول) قوله وإن تزوجت الحنابلة يرون أنّ هذا الزواج بالثاني زواج صحيح في الظاهر بمعنى أنه إذا ضربنا المدة للتربص وانتهت مدة التربص ثم اعتدت للوفاة وخرجت من العدة وتزوجت بالزوج الثاني فإنّ هذا الزواج صحيح في الظاهر فقط. واختار شيخ الإسلام أنّ هذا الزواج الثاني صحيح في الظاهر والباطن. وسيأتينا في مفردات المسائل ما يدل على رجحان اختيار شيخ الإسلام - رحمه الله - يقول المؤلف وإن تزوجت فقدم الأول قبل وطء الثاني فهي للأول. إذا تزوجت بعد مدة التربص وعدة الوفاة فهي للأول ثم بعد الزواج بالثاني قدم الأول يقول المؤلف فهي للأول ومعنى قوله فهي للأول يعني بلا اختيار وإنما تكون للأول مباشرة, الدليل على هذا أنه بقدوم الزوج الأول تبيّنا بطلان عقد الزوج الثاني , وإذا بطل العقد الثاني صارت زوجة للأول.

والقول الثاني: أنّ الزوج الأول إذا قدم قبل الدخول أو بعد الدخول فهو مخير ولا يلزم بزوجته بل يخير بين زوجته وبين المهر , فإن اختار المهر صارت زوجة للثاني وإن اختار زوجته رجعت زوجته إليه واستدل أصحاب هذا القول على قولهم بأنه ليس في الآثار المروية عن عمر ابن الخطاب - رضي الله عنه - التفريق بين أن يكون قدوم الزوج الأول قبل الدخول أو بعد الدخول. بل فيه التخيير مطلقا. واستنبط شيخ الإسلام من هذه القصة قاعدة وهي أنه كل عقد يتوقف على رضا أحد الأطراف فإنه يكون على التخيير وذكر أنّ هذه القاعدة تدل عليها نصوص كثيرة منها فتوى عمر هذه أنه خير الزوج الأول. ومنها أحاديث تلقي الركبان وأنّ النبي - صلى الله عليه وسلم - قال فإنّ صاحب السلعة بالخيار إذا أتى السوق , فجعل له الخيار فدلت هذه النصوص على صحة القاعدة التي قررها رحمه الله. يقول - رحمه الله - (وبعده له أخذها زوجة بالعقد الأول) إذا جاء الزوج الأول بعد دخول الزوج الثاني فهو مخير وهذا بالإجماع بل إنّ هذا الإجماع حكي عن الصحابة هذا إذا أتى الزوج بعد دخول الزوج الثاني. يقول (وبعده له أخذها زوجة بالعقد الأول ولو لم يطلق الثاني) له أخذها بالعقد الأول يعني للزوج الأول أن يأخذها بالعقد الأول ولا يحتاج إلى تجديد عقد واستدل الحنابلة على هذا بأنه بمجيء الزوج الأول تبيّنا بطلان عقد الزوج الثاني , وصحة بقاء عقد الأول فلا يحتاج إلى تجديد. القول الثاني: أنه يجب أن يجدد العقد الأول إذا اختار زوجته , وهذا القول الثاني مبني على مسالة أخرى وهي أنه إذا أرادتا المرأة أن تتزوج فإنّ على الحاكم أن يأمر ولي الزوج الأول أن يطلق , لأنّ عمر بن الخطاب لما أراد أن يزوج المرأة استدعى ولي الزوج الأول وأمره أن يطلق نيابة عن الزوج الأول , وإذا طلق لم تصبح زوجة له لأنه طلق بأمر الشارع فنلزمه بتجديد العقد وهذا القول الثاني أرجح وأحوط ولا يضر الزوج الأول أن يعيد العقد. يقول - رحمه الله - (ولو لم يطلق الثاني) هنا نأتي إلى مسألتنا السابقة وهي أنّ الحنابلة يرون أنّ الزواج الذي تم من قبل الزوج الثاني صحيح في الظاهر دون الباطن ولهذا لا يحتاج أن يطلق لأنه زواجه ليس بصحيح في الباطن.

والقول الأول: أنه لابد أن يطلق الزوج الثاني لأنّ زواجه صحيح في الظاهر والباطن لأنه إنما تزوج بأمر الشرع فزواجه صحيح ظاهرا وباطنا فنقول للزوج الثاني طلق ونقول هنا أيضا كما قلنا في المسالة السابقة لا يضر الزوج الثاني أن يطلق لأنه إذا طلق حلت للزوج الأول بلا خلاف. قال - رحمه الله - (ولا يطأ قبل فراغ عدة الثاني) يعني إذا اختار الزوج الأول زوجته فإنه لا يجوز أن يطأ إلاّ بعد فراغ عدة الزوج الثاني , ومقصود الحنابلة في هذه المسالة عدة كاملة لمدة ثلاثة قروء أو ثلاثة أشهر حسب وضع المرأة المهم أنها عدة كاملة وتقرير الحنابلة أنّ العدة من الزوج الثاني يجب أن تكون كاملة يتوافق مع القول بأنّ الزواج صحيح ظاهرا وباطنا , أو ظاهرا فقط؟ ظاهرا وباطنا , ولو أراد الحنابلة أن يعتبروها ظاهرا فقط فيجب أن يلزموها بالإستبراء فقط لأنها زوجة في الظاهر دون الباطن وهذا مما يقوي اختيار شيخ الإسلام وأنها زوجة في الظاهر والباطن ولذلك تعتد عدة كاملة ولا تستبرأ فقط. قال - رحمه الله - (وله تركها معه من غير تجديد عقد) يعني وللزوج الأول أن يترك زوجته مع الزوج الثاني بلا تجديد للعقد واستدل الحنابلة على هذا بأنّ الصحابة لما رجع المفقود واختار المهر بقيت الزوجة مع الثاني ولم ينقل عنهم الأمر بتجديد العقد وهذا يدل أيضا على أنّ زواج الثاني صحيح في الظاهر والباطن. قال - رحمه الله - (ويأخذ قدر الصداق الذي أعطاها من الثاني) يعني يأخذ الزوج الأول قدر الصداق من الزوج الثاني , وهل يأخذ قدر الصداق الذي أعطاها أو الذي أعطاها الزوج الثاني؟ يأخذ قدر الصداق الذي أعطاها هو فإذا افترضنا أنه أعطاها مهرا يساوي مئة ألف , وأنّ الثاني أعطاها مهرا يساوي خمسين ألف , فإنّ على الزوج الثاني أن يعطي الزوج الأول كم؟ مئة ألف وإلى هذا يشير الشيخ بقوله الذي أعطاها. قال - رحمه الله - (ويرجع الثاني عليها بما أخذه منه -)

يعني إذا أخذ الزوج الأول مهره من الزوج الثاني فإنّ الزوج الثاني يعود بالمهر على من؟ على الزوجة واستدل الحنابلة على هذا بأنّ لو لم نأمره أو لو لم نجز له أن يعود بالمهر على الزوجة لصار دافعا لمهرين في عقد واحد والشارع لا يلزم الإنسان أن يدفع مهرين في عقد واحد ولهذا نأمره أن يأخذ المهر من الزوجة هذا اختيار العلامة المرداوي وأيضا الزركشي. القول الثاني: أنه لا يعود على المرأة لآنّ السبب في دفع المهر هو أنه أخذ المرأة وليس من المرأة سبب يستدعي أن تدفع هذا المهر إذ لم يصدر منها تفريط ولا خطأ وإنما تزوجت بأمر الشارع. أي القولين أرجح؟ هل يرجع على الزوجة أو لا يرجع؟ في الحقيقة فيها إشكال؟ في الحقيقة فيه تردد لم يظهر لي بعد التأمل هل يرجع على الزوجة الثانية أو لا يرجع أحيانا تقول يرجع فتظلم المرأة وأحيانا تقول لا يرجع فينظلم الزوج الأول أو الثاني؟ الزوج الثاني في المسألة تردد تحتاج إلى مزيد تأمل. فصل قال - رحمه الله - (ومن مات زوجها الغائب أو طلقها اعتدت منذ الفرقة وإن لم تحد) معنى هذه العبارة أنّ الزوجة من حين يطلق الزوج أو يموت تبدأ في العدة ولو لم تعلم بالطلاق أو الموت واستدلوا على هذا بأدلة: الأول " أنه لا يشترط في العدة القصد والنية بدليل صحة العدة من الصغيرة والمجنونة. الدليل الثاني: أنّ المرأة إذا طلقت وهي حامل ولم تعلم بالطلاق أو مات زوجها وهي حامل ولم تعلم بموته فإنها بمجرد الوضع تخرج من العدة ولو لم تعلم. القول الثاني: أنه يشترط العلم ولا تبدأ في العدة إلاّ بعد العلم بالموت أو الطلاق واستدلوا على هذا بأنّ العدة تشتمل على محذورات تتركها الزوجة ومن لم تعلم لم تترك هذه الأشياء. والراجح مذهب الحنابلة لأنّ ترك هذه المحذورات واجب في العدة وليس شرطا لصحتها. بناء على هذا إذا طلق الرجل زوجته وهي آيسة ولم تعلم إلاّ بعد مرور ثلاثة أشهر فإنها تعتبر خرجت من العدة. قال - رحمه الله - (وعدة موطوءة بشبهة , أو زنا , أو بعقد فاسد كمطلقة) ذكر المؤلف ثلاثة مسائل: - المسالة الأولى: الموطوءة بشبهة , والثانية: المزني بها , والثالثة: الموطوءة بعقد فاسد.

نبدأ بمسألتين متشابهتين. وهي المرأة الموطوءة بشبهة أو بعقد فاسد فهذه عند الحنابلة عدتها كعدة المطلقة تماما واستدلوا على هذا بالقياس فقالوا إنّ الموطوءة بشبهة أو بعقد فاسد تشبه المطلقة من حيث لحوق النسب ومن حيث طلب براءة الرحم فتعتد كعدة المطلقة وأما المزني بها. وهي المسألة الثانية فتقاس على الموطوءة بشبهة. القول الثاني: أنّ المزني بها والموطوءة بشبهة أو بعقد فاسد تعتد بحيضة واحدة , واستدل أصحاب هذا القول على قولهم بأنّ المقصود بالنسبة للمطلقة حين أمرت أن تعتد بثلاث حيض تحقيق حكمتين: - الأولى: العلم ببراءة الرحم. والثانية: مراعاة حق الزوج فيما لو أراد المراجعة. فأما براءة الرحم فتحصل بحيضة واحدة وأما المراجعة فلا سبيل إليها لأنها ليست بزوجة وهذا القول الثاني هو الصحيح إن شاء الله أنها تعتد بحيضة واحدة فقط لنعلم براءة الرحم. تنبيه!! مسألة اعتداد الموطوءة بشبهة أو بعقد فاسد هذه لم يروى فيها عن الإمام احمد قول ثاني بل حكي فيها الإجماع بخلاف مسالة عدة المزني بها ففيها حتى عن الإمام احمد عنه رواية أخرى فيها ومن هنا تعلم أنّ الخلاف أقوى في الموطوءة بشبهة منه في المزني بها. قال - رحمه الله - (وإن وطئت معتدة بشبهة أو نكاح فاسد فرق بينهما وأتمت عدة الأول) إذا كانت المرأة مطلقة وهي معتدة ثم وطئت بشبهة أو بنكاح أو بعقد فاسد يقول الشيخ المؤلف فرق بينهما وأتمت عدة الأول. الحكم الأول أنه يفرق بينهما مباشرة لأناّ علمنا أنّ العقد فاسد. الثاني: أنها تتم عدة الأول وجه ذلك أنّ حقه سابق فنتم عدة الأول ثم كما سيأتينا نرجع لعدة الواطئ بشبهة ويستثنى من هذا مسالة واحدة وهي ما إذا كانت حملت من الوطء بشبهة أو بعقد فاسد فإنه لابد حينئذ أن نتم عدة الأول أو الثاني؟ الثاني. لأنها حملت منه فإذا وضعت رجعت ماذا؟ عدة الزوج الأول فيما عدا هذه الصورة فإنها تعتد بعد التفريق عدة الأول لأنّ حقه سابق. قال - رحمه الله - (ولا يحتسب منها مقامها عند الثاني)

لا يحتسب من عدة الأول المدة التي أقامتها عند الثاني. التعليل أنها في مدة الإقامة عند الثاني هي فراش له وإذا كانت فراش للثاني فإنّ عدة الأول لا تبقى فإذا افترضنا أنها تعتد بالأشهر واعتدت من الأول لمدة شهر ثم نكحت نكاحا فاسدا لمدة شهر ثم فرق بينهما كم بقي عليها من عدة الأول؟ شهرين. ولو احتسبنا مدة بقائها عند الثاني لكان بقي عليها شهر واحد ولكنا لا نحسب هذه المدة لما تقدم من أنها أصبحت فراشا للثاني. قال - رحمه الله - (ثم اعتدت للثاني) يريد المؤلف أن يبيّن أن عدة الأول والثاني لا تتداخل ليس بين العدد تداخل بل لكل واحد منهما الحق بعدة مستقلة. يقول المؤلف ثم اعتدت للثاني تقدم معنا أنّ هذا الكلام أنّ معناه أنّ العدتين من رجلين لا يتداخلان بل لكل واحد منهما عدة مستقلة قال - رحمه الله - (وتحل له بعقد بعد انقضاء العدتين) تحل له للوطئ بشبهة أو بعقد فاسد ولكن بعد انقضاء العدتين فإذا انقضت عدتها من الأول ثم انقضت عدتها من الثاني جاز للثاني أن يتقدم إلى خطبتها وأن يتزوجها بعقد جديد واستدلوا على هذا بأنّ هذا مروي عن علي - رضي الله عنه - أنه أفتى بأنّ الثاني له أن يتزوجها بعد انتهاء عدة الأول والثاني. القول الثاني: أنها لا تحل لثاني أبدا مطلقا يعني للوطئ بشبهة أو بعقد فاسد فقالوا أنّ هذا مروي عن عمر رضي الله عنه أنه أمر الثاني الذي نكح المعتدة في عدتها أن لا يتزوج بها أبد الدهر. وهذا الأثر المروي عن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - فيه انقطاع ولا يصح. القول الثالث: أنّ للثاني أن يتزوجها في مدة عدته , ألم نقل أنها تعتد للأول ثم تعتد لمن للثاني فإذا بدأت بعدة الثاني فله أن يتزوجها في عدته لماذا؟ لأنّ العدة عدته والماء ماءه وهذا القول الثالث فيه وجاهة لأنها إذا انتهت من عدة الأول وبدأت بعدة الثاني فله أن يتزوجها لأنها في عدته ولا نقول له أن يراجعها لأنه لم يتزوج فالعقد فاسد بل نقول له أن يتزوجها. مسالة / وللأول أن يراجع زوجته في عدته لأنها زوجة رجعية فله أن يراجعها في مدة عدته إذا عرفنا الآن الخلاف في تزوج الزوج الثاني بالمرأة بعد انتهاء العدتين.

ثم - قال رحمه الله - (وإن تزوجت في عدتها لم تنقطع حتى يدخل بها) مقصود المؤلف أنّ المعتدة إذا تزوجت بزوج ثاني وتم العقد فإنّ عدة الأول لا تنقطع إلاّ بدخول الزوج الثاني أي أنها لا تنقطع بمجرد العقد بل ننتظر إلى الدخول فإن لم يدخل فهي باقية على عدتها من الأول , فالدخول هو الذي يقطع عدة الأول لا مجرد العقد. ثم - قال رحمه الله - (فإذا فارقها) أي الثاني بنت على عدتها من الأول ثم استأنفت العدة من الثاني. هذه المسالة كالمسالة السابقة تماماً. وهي أنها تبدأ بعدة الأول لأنه حقه سابق ثم إذا انتهت بدأت بعدة الثاني , وفي هذه العبارة من المؤلف نوع تكرار والحكم في هذه المسالة كالحكم في المسالة السابق. انتهى الدرس

الدرس: (3) من العدد قال شيخنا حفظه الله: بسم الله الرحمن الرحيم والحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين. قال المؤلف - رحمه الله - (وإن أتت بولد من أحدهما انقضت منه عدتها به ثم اعتدت للآخر) مازال المؤلف في الكلام عن ما إذا وجد في العدة أكثر من رجل. إذا أتت المرأة بولد من الزوج الأول أو من الزوج الثاني فهو ينقسم إلى قسمين: أن تأتي بولد من الزوج الأول فإذا أتت بولد من الزوج الأول انتهت عدتها منه واستأنفت عدة يعني بدأت عدة جديدة للزوج الثاني. القسم الثاني: أن تأتي بولد من الثاني فإذا أتت بولد من الثاني فإنها تنقضي عدتها من هذا الزوج الثاني ثم إذا انقضت عدتها من الزوج الثاني فإنها لا تستأنف عدة للأول وإنما تتم عدة الأول وتعليل ذلك أنّ عدة الأول لم يوجد ما يبطلها شرعا , ولذلك نأمرها أن تتم العدة ولا يشترط ولا يجب عليها أن تستأنف عدة جديدة. وبهذا علمنا أنّ قول المؤلف (ثم اعتدت للآخر) ظاهره أنه حتى لو كان الولد للثاني وليس الأمر كذلك بل إذا كان الولد للثاني فإنها تتم عدة الأول ولا تستأنفها من جديد. ثم - قال رحمه الله - (ومن وطئ معتدته البائن بشبهة استأنفت العدة بوطئه ودخلت فيها بقية الأولى)

إذا وطئ الرجل زوجته التي تعتد منه بشبهة , فإنّ الحكم أنها تستأنف العدة للوطء الثاني وتدخل العدة من الوطء الأول في ضمن العدة الثانية , أي ولا نقول تتم العدة الأولى ثم تستأنف عدة ثانية للوطء بشبهة بل تتداخل العدتان , إذا وطئ الإنسان معتدته بشبهة فحينئذ تستأنف عدة للوطء بشبهة وتدخل العدة الأولى في العدة الثانية التي هي بسبب الوطء لشبهة ولا نقول تتم العدة الأولى فإذا انتهت بدأت بعدة جديدة للوطء بشبهة بل تتداخل العدتان. التعليل عللوا ذلك بأنّ هذا الوطء من شخص واحد يلحق فيه النسب لحوقا واحدا فتداخلت فيه العدتان وهذا صحيح , فتعتد من الوطء بشبهة وتكتفي بذلك. ولهذا يقول (استأنفت العدة بوطئه) يعني بدأت عدة جديدة للوطء بشبهة ودخلت فيها بقية الأولى , يعني دخلت بقية العدة الأولى في العدة الثانية ولا نحتاج أن نجعل للوطئين عدتان. قال - رحمه الله - (وإن نكح من أبانها في عدتها ثم طلقها قبل الدخول بنت) البحث الآن في التي أبانها بغير الثلاث والبينونة بغير الثلاث تكون بماذا؟ بفسخ أو خلع. معنى هذه العبارة أنّ الإنسان إذا بانت منه زوجته بفسخ أو خلع فإنه إذا أراد أن يتزوجها في أثناء العدة جاز له ذلك , فإذا تزوجها في عدتها منه ثم طلقها قبل الدخول فإنها لا تستأنف عدة جديدة وإنما تبني على العدة الأولى , إذا خالع الإنسان زوجته فإنها تعتد منه أليس كذلك؟ يجوز للإنسان إذا خالع زوجته أن يتزوجها في أثناء العدة فإذا تزوجها في أثناء العدة ثم طلقها قبل الدخول فإنها تكمل العدة الأولى ولا تستأنف عدة لهذا الزواج الثاني التعليل عللوا ذلك بأنّ الزواج الثاني ليس فيه مسيس ولا خلوة. فلم يوجب عدة وهذا صحيح تقدم معنا في أول الباب أنّ أسباب وجوب العدة كم؟ ثلاث وهي الخلوة والموت والمسيس أو الوطء أو الجماع , كلها مسميات لمسمى واحد. إذا في هذه الصورة لا يوجد شيء من مقررات أو من موجبات العدة ولذلك تستأنف عدتها الأولى ولا تكمل بخلاف ما يظنه بعض الناس أنه إذا تزوجها فإنه إذا طلقها قبل الدخول تعتد عدة جديدة.

مسألة / مفهوم كلام المؤلف أنه إذا تزوج من معتدته البائن ثم طلقها بعد الدخول فإنها تستأنف عدة جديدة وتدخل العدة الأولى في العدة الثانية لأنهما من رجل واحد. فصل هذا الفصل مهم جدا وعقده المؤلف لبيان أحكام الإحداد. والإحداد لغة / المنع. وأما شرعا فسيذكره المؤلف - رحمه الله - في ما يلي وهو اجتناب المرأة ما يدعو إلى جماعها أو النظر إليها. وسيذكره المؤلف. يقول الشيخ - رحمه الله - (يلزم الإحداد مدة العدة) الإحداد تابع للعدة فالإحداد حكم من أحكام العدة سواء اعتدت المرأة بوضع الحمل أو اعتدت بالأشهر فالإحداد إنما هو حكم من أحكام العدة وهذا معنى قول الشيخ - رحمه الله - (مدة العدة) فلا يوجد إحداد منفصل عن العدة بل الإحداد حكم من أحكام العدة وقد قرر هذا الشيخ العلامة ابن القيم - رحمه الله - يقول - رحمه الله - (يلزم الإحداد مدة العدة كل متوفى زوجها عنها) وجوب الإحداد محل إجماع في الجملة بين العلماء لم يخالف فيه أحد وذلك لصراحة النصوص فيه كما سيأتينا من قوله - صلى الله عليه وسلم - لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تحد على ميت فوق ثلاث إلاّ على زوج أربعة أشهر وعشرا. كما سيأتينا هذا الحديث الذي يعتبر عمدة في باب الإحداد فإذا وجوب الإحداد محل إجماع ولم يخالف فيه إلاّ رجل واحد من التابعين وهو الحسن - رضي الله عنه - الحسن البصري ولكن هذا الخلاف في الحقيقة نقول عنه كما قال ابن قدامة هو خلاف شاذ لا يأبه به لمصادمته لصريح السنة ولعل - رضي الله عنه - الحسن سيد التابعين لعله لم يبلغه النص أو لم يبلغه من طريق صحيح ومثله لا يخالف النصوص بهذا الشكل إلا بسبب. يقول - رحمه الله - (في نكاح صحيح) يعني أنّ الإحداد يلزم في النكاح الصحيح دون الفاسد وسيفصل المؤلف فيما يختلف عن النكاح الصحيح بذكر جميع أمثلته وحكم كل مثال منه إنما الذي يعنينا الآن أنّ النكاح الصحيح هو الذي تتعلق به أحكام الإحداد. قال - رحمه الله - (ولو ذمية) معنى قول المؤلف ولو ذمية يعني أنه لا يشترط التكليف لوجوب أحكام الإحداد بل يجب ولو على غير المكلف كغير المسلم واستدل هؤلاء بأمرين: الأمر الأول" أنّ هذا تدل عليه عموم النصوص.

الثاني: أنّ الإحداد لحق الزوج فلا يشترط فيه ماذا؟ أن تكون مسلمة من أهل العبادات. القول الثاني: أنّ الذمية لا يلزمها أحكام الإحداد ولا يجب عليها , وأنّ هذا خاص بالمسلمين واستدل هؤلاء بدليلين: الأول: قوله - صلى الله عليه وسلم - لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر .... ) فعلق الحكم بالإيمان بالله واليوم الآخر. الثاني: أنّ الإحداد ليس حقا للزوج بل حق لله بدليل أنّ أهل الميت والميت لو أوصى واتفقوا جميعا على إبراء المرأة من أحكام الإحداد وإسقاطها عنها لم يجز للمرأة أن تترك أحكام الإحداد وهذا يدل على أنه من حقوق الله وليس من حقوق الآدميين إذ لو كان من حقوق الآدميين لسقط بإسقاطه. وإلى هذا القول يميل العلامة ابن القيم وهو قول ظاهر الوجاهة والقوة. قال - رحمه الله - (أو أمة أو غير مكلفة) يلزم الإحداد الأمة وغير المكلفة , لأنّ الأمة وغير المكلفة يدخلان في عموم قوله - صلى الله عليه وسلم - لا يحل لامرأة تؤمن بالله .... هذا دليل. والدليل الثاني: أنّ ابنة أم سلمة توفي عنها زوجها وأمرها النبي - صلى الله عليه وسلم - بأحكام الإحداد ولم يسأل عن سنها. عن عمرها مما يدل على أنّ أحكام الإحداد تلزم المرأة ولو كانت صغيرة ولهذا يقول أمة أو غير مكلفة. قال - رحمه الله - (ويباح لبائن من حيّ) حكم الإحداد للزوجة البائنة من حي أنه مباح عند الحنابلة لكن لا يسن , وحكي وهو غريب نوعا ما حكي الإجماع على إباحته. والقول الثاني: أنّ الإحداد واجب على الزوجة البائن , قياسا على الزوجة المتوفى عنها زوجها وهذا القول الثاني غاية في الضعف لقول النبي - صلى الله عليه وسلم - لا يحل لامرأة تؤمن بالله .......... أن تحد على ميت. فأحكام الإحداد تتعلق بالموت ولو هذا الإجماع المحكي على الجواز لكان الإنسان يميل تماما إلى أنّ إحداد البائن بدعة , لا أصل له في الشرع لكن يحول بين أن يقول هذا الإجماع المحكي ولهذا أنا أقول أنه غريب. والحنابلة كما ترون توسطوا فقالوا يباح ولا يسن. قال - رحمه الله - (ولا يجب على رجعية)

لا تجب أحكام الإحداد أو لا يجب الإحداد على الزوجة الرجعية , والدليل على هذا أنّ الزوجة الرجعية مطلوب منها عكس المطلوب من الزوجة المحدة. لأنّ الزوجة الرجعية يطلب منها أن تتزين وتتشرف لزوجها لعله أن يراجع فالمطلوب منها عكس المطلوب من المحدة وهذا الحكم وهو عدم الوجوب محل إجماع لم يختلف فيه الفقهاء. قال - رحمه الله - (وموطوءة بشبهة , أو زنا , أو في نكاح فاسد. أو باطل , أو ملك يمين) هذه ثلاث الأولى: موطوءة بشبهة , والثانية: موطوءة بزنا , والثالثة: بنكاح فاسد أو باطل , والرابعة: موطوءة بملك اليمين. هؤلاء النساء لا يجب عليهن الإحداد والتعليل ظاهر وهو أنّ الإحداد إنما يجب على الزوجة وهؤلاء لسن من الزوجات فهذه النساء لسن زوجات فلا يجب عليهن الإحداد ولا تتعلق بهن أحكام الإحداد وهو أمر واضح. قال - رحمه الله - (والإحداد: اجتناب ما يدعو إلى جماعها ويرغب في النظر إليها ( ..... الإحداد هو كما ذكر المؤلف أن تجتنب المرأة كل ما يدعو إلى النظر إليها أو جماعها أو الرغبة فيها , وهناك عناصر أربعة تكاد تشمل جميع المحظورات. الأول: الطيب وهو على رأس المحظورات. الثاني: الزينة في البدن كالحناء. الثالث" الزينة في الثياب كالثوب المصبوغ والرابع" الحلي. هذه الأربع عناصر تشمل تقريبا جميع ما يجب على الزوجة المحدة أن تجتنه. الدليل على هذا التفصيل قول النبي - صلى الله عليه وسلم - لا يحل لامرأة تؤمن بالله ................ إلاّ على زوج أربعة أشهر وعشرا ولا تلبس ثوبا مصبوغا , ولا تكتحل ولا تمس طيبا) فهذا نص في اجتناب زينة البدن وزينة الثياب وهذا الحديث كما قلت لك هو أصل في هذا الباب وما لم يذكر في الحديث مما يجب على المرأة أن تجتنبه زمن الإحداد يقاس على المذكور في الحديث وما ذكره المؤلف من مفردات المسائل كله مأخوذ ومستفاد من هذا الحديث نصا أو قياسا. يقول - رحمه الله - (اجتناب ما يدعو إلى جماعها ويرغب في النظر إليها من الزينة والطيب)

الطيب محل إجماع كما قلت لك. قوله (والتحسين) المقصود بالتحسين كالمواد التي تسبب تبييض الوجه , قوله (والحناء) الحناء معروف ويتخذ للزينة لتجميل البدن في اليد أو في الرجل , قوله (وما صبغ بالزينة) يعني من الثياب. هذه المذكورات مستفادة من الحديث. ثم - قال رحمه الله - (وحلي) الحلي كذلك من الأشياء التي يجب على المرأة أن تجتنبها , وذهب إلى هذا الحنابلة والأئمة الأربعة بل حكي إجماعا , واستدلوا على هذا بدليلين: الأول" أنّ في حديث أم سلمة - رضي الله عنها - أنه أمر المحد أن تجتنب الحلي) وزيادة الحلي محل خلاف بين العلماء تصحيحا وتضعيفا. فممن ضعفها ابن حزم وصححها عدد من المحققين. والذي يظهر لي أنّ هذا اللفظ صحيح وثابت. الدليل الثاني: أنّ الحلي من الزينة وقد أشار حديث أم سلمة أنّ جنس الزينة تمنع عنه المحدة. القول الثاني: أنّ الحلي مباح وإلى هذا ذهب ابن حزم - رحمه الله - واستدل على أنه ليس في الكتاب ولا في السنة ما يمنع المحدة من أن تلبس الحلي وقوله فيه ظاهرية وجمود , والحلي من أعظم ما تتزين به المرأة وإذا منعت من الكحل والطيب والثوب المصبوغ وهي أقل من الحلي فلئن تمنع من الحلي من باب أولى ولهذا نقول أنّ هذا القول الأول الذي حكي إجماعا هو الراجح إن شاء الله. ثم - قال رحمه الله - (وكحل أسود) الكحل لم يختلفوا في المنع منه لقول النبي - صلى الله عليه وسلم - ولا تكتحل. فأمره ظاهر إنما وقع الخلاف بين الفقهاء فيما إذا احتاجت المحدة إلى الكحل ضرورة , اختلفوا في هذه المسألة على قولين القول الأول: وهو المذهب بل هو مذهب الأئمة الأربعة أنه يجوز للمرأة أن تكتحل عند الضرورة. واستدلوا على هذا بأمرين: الأول: أنّ أم سلمة رضي الله عنها كانت تفتي بهذا يعني بجواز الكحل للضرورة مع أنها هي التي روت حديث أحكام الإحداد. الثاني: حديث لأم سلمة آخر فيه أنّ النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى عن الكحل وأذن به في الليل للضرورة , والأقرب والله أعلم أنّ هذا الحديث ضعيف.

القول الثاني: أنّ لا يجوز للمرأة أن تضع كحلا ولو للضرورة ولو خشيت على عينيها من الذهاب , لما روي أنّ امرأة مات زوجها فأصيبت في عينيها واشتد عليها فسألوا النبي - صلى الله عليه وسلم - أن تضع الكحل فقال لا. قال الراوي مرتين أو ثلاث يعني إما قال لا لا أو قال لا لا لا. وهذا معناه أنه أكد المنع - صلى الله عليه وسلم - الراجح والله أعلم الجواز. سبب الترجيح: أنّ وضع الكحل في حال الضرورة إنما هو من باب التداوي لا من باب التزين وهي إنما تمنع من التزين لا من التداوي لا بد من الجواب عن الحديث فهو نص في المسألة. أجاب الفقهاء عنه بأحد جوابين: الجواب الأول: أنّ المرأة لم تبلغ حال الضرورة وأنّ النبي - صلى الله عليه وسلم - علم هذا وإن أفادت السائلة أنها بلغت لأنه هو - صلى الله عليه وسلم - علم أنها لم تبلغ حال الضرورة. الثاني: أنّ في حال السائلة وجد ما يغني عن الكحل من الأدوية الأخرى , ولهذا لم يجز لها النبي - صلى الله عليه وسلم - أن تضعه. أجابوا بأحد هذين الجوابين: وكما قلت الراجح إن شاء الله مذهب الجماهير وهو الجواز عند الضرورة ونحن في يومنا هذا في عصرنا في هذا لا نحتاج إلى هذا المسألة مطلقا وأنا أرى أنه لا يجوز أبدا أن تضع الكحل أبدا في وقتنا هذا لأنه يوجد من الأدوية ما يغني عنه بل يوجد من الأدوية ما مفعوله أبلغ وأقوى من الكحل فلا حاجة للكحل وإنما ذكرنا المسألة ليعلم فيها الراجح من حيث الأدلة أما في وقتنا هذا فلا شك أنه لا يجوز لوجود ما يغني عنه فلا يجوز مطلقا في أي حال ولو مهما بلغت المرأة لأنها تستطيع أن تستغني عنه بالأدوية الحديثة. قال - رحمه الله - (لا توتيا ونحوه) التوتيا معدن أبيض أو أخضر يوضع في العين وإنما استثنى المؤلف التوتيا من الكحل لأنه يكتحل به والتوتيا جائز لأنه ليس من الزينة وإنما من العلاج بل ذكر الشيخ الفقيه رحمه الله ابن قدامة أنه يسبب سوء منظر العين فهو جائز بلا إشكال. قال - رحمه الله - (ولا نقاب)

يعني ولا يحرم النقاب لأنّ النقاب ليس من الزينة وليس في النصوص ما يمنع منه على حد كلام الفقهاء أنّ النقاب ليس في النصوص ما يمنع منه وهو أيضا ليس من الزينة وهذا البحث إنما هو في باب الإحداد ولا يعني تقرير هذا جواز النقاب المعاصر أو الكلام عن حكم النقاب لأنّ النقاب أرى أنه لا يجوز مطلقا في وقتنا هذا لما يؤدي إليه من مفاسد ولأنه ثبت بالتجارب العديدة أنه يجر إلى الفاحشة أو إلى سوء الأخلاق على كل حال نحن لا نتكلم عن النقاب وحكم النقاب وأنا أقول أنا أرى أنه محرم , لكن الفقهاء يقولون النقاب ليس من الزينة وليس في النصوص ما يدل على أنّ المحدة تمنع منه ولهذا لو أرادت أن تلبس نقابا عند النساء لجاز لأنه لا يتعلق بأحكام الإحداد. يقول - رحمه الله - (وأبيض) يعني ولا تمنع المحدة من لبس الثوب الأبيض , وعللوا هذا بأنّ الثوب الأبيض زينته أصلية وليست مكتسبة فجاز للمرأة وإن كانت في زمن الإحداد أن تلبس هذا الثوب. القول الثاني: أنّ الثوب الأبيض يجوز إلاّ إذا اتخذ للزينة , إلاّ إذا تزينت به المرأة حينئذ لا يجوز فمن المعلوم أنّ المرأة المحدة قد تلبس ثوبا أبيض ليس للزينة ثوبا أبيض لمهنة البيت فهذا يجوز وأما إن لبست ثوبا أبيضا وضع وأعد للزينة فهو محرم وإلى هذا القول مال الشيخ الفقيه المرداوي ولا شك في رجحانه وهو أقرب الأقوال أنه يجوز ما لم يتخذ للزينة. يقول - رحمه الله - (ولو كان حسنا) يعني ولو كان جميلا من حيث الأصل. فصل لما انتهى المؤلف من بيان أحكام الإحداد انتقل إلى مكان الإحداد فيقول - رحمه الله - (وتجب عدة الوفاة في المنزل حيث وجبت) ذهب الجماهير الأربعة وغيرهم من فقهاء المسلمين إلى أنه يجب على المرأة أن تعتد في البيت الذي مات الزوج وهي فيه سواء كان هذا البيت مملوكا أو مستأجرا أو معارا , يجب عليها أن تعتد في هذا البيت واستدلوا على هذا بأدلة:

الدليل الأول: أنّ أخت أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - لما توفي زوجها - رضي الله عنهم - أمرها النبي - صلى الله عليه وسلم ـ أن تمكث في البيت إلى أن يبلغ الكتاب أجله وهذا الحديث في تصحيحه وتضعيفه خلاف بين الفقهاء وبين المحدثين , فممن صححه الإمام الترمذي والإمام الذهلي وضعفه ابن حزم - رحمه الله - والذي يبدوا أنه مقبول وحسن. الدليل الثاني: أنه ذهب عدد من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى وجوب بقاء المعتدة في بيتها الذي توفي الزوج وهي فيه. ممن ذهب إلى هذا من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - عمر وابنه وابن مسعود وزيد بن ثابت - رضي الله عنهم - أجمعين القول الثاني: وهو مذهب الظاهرية أنه لا يجب على المرأة أن تبقى في بيتها واستدلوا على هذا بأمرين الأول: أنه ليس في النصوص في الصحيحة المرفوعة إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - ما يدل على وجوب ذلك. الأمر الثاني: أنه روي عن أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - عدم وجوب ذلك منهم ابن عباس وعائشة - رضي الله عنهم ـ الأمر الثالث: وهو من وجهة نظري من أقوى أدلتهم أنه توفي في زمن النبي - صلى الله عليه وسلم - عدد كبير من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - في الحروب التي حصلت في الزمن النبوي ولو كانت نساء هؤلاء الذين ماتوا في العهد النبوي كلهم تبقى في البيت مدة الإحداد لم يخفى هذا على ابن عباس وعائشة مما يدل على أنّ هذا الأمر لم يكن موجودا في زمن النبي - صلى الله عليه وسلم. تنبيه!! هذه المسألة اختلف فيها الصحابة , وتقدم معنا مرارا أنّ المسألة التي اختلف فيها الصحابة يكون الإشكال فيها أكبر , الراجح والله أعلم مذهب الجمهور لأنّ الحديث قابل للتحسين هذا أولا.

ثانيا" أنّ بعض السنن قد تخفى على بعض الصحابة , فكما يقول الظاهرية أنّ هذا لا يخفى على عائشة وابن عباس كذلك نقول عدم الوجوب لو كان متقرراً في الزمن النبوي لم يخفى على عمر وابن عمر وابن مسعود وزيد بن ثابت أليس كذلك؟ فنقول إن شاء الله أنه الواجب على المرأة أن تبقى في بيتها إلى أن تنتهي العدة على أنّ الخلاف في هذه المسألة قوي ومن المسائل التي استغربت أنه لا يوجد خلاف إلاّ مع الظاهرية أو مع عدد قليل من أهل العلم والجماهير على من الأئمة كلهم يرون الوجوب مع أنّ الأدلة متكافئة وفيها قوة والله سبحانه وتعالى في القرآن أمر الزوجة المطلقة الرجعية أن لا تخرج من البيت أليس كذلك بينما لما ذكر عدة الوفاة وأمرها أن تبقى أربعة أشهر وعشرة أيام لم يأمر بماذا؟ بالبقاء في البيت وهذا الدليل ذكره ابن عباس واعتمد عليه استدل به وفي الحقيقة دليل قوي لكن نقول مادام في المسألة حديث وإليه ذهب جماهير الأئمة والفقهاء السبعة والأئمة الأربعة وغيرهم فهذا يقوي القول بالوجوب. قال - رحمه الله - (فإن تحولت) انتقال المرأة من بيت الإحداد ينقسم إلى قسمين: انتقال دائم بأن تنتقل للسكن في بيت آخر. القسم الثاني: انتقال مؤقت بأن تخرج لغرض ثم ترجع إلى بيتها بدأ المؤلف بالقسم الأول وهي الخروج الدائم. يقول (فإن تحولت) يقصد بقوله تحولت يعني انتقلت انتقالا دائما إلى بيت آخر والمؤلف بيّن الحكم إذا تحولت أنها تذهب إلى أي بيت شاءت ولم يبيّن ماذا؟ ولم يبيّن حكم التحول ولعله لأنه استقر عنده أنّ التحول لا يجوز. حكم التحول أنه لا يجوز إلاّ للضرورة أو للحاجة الماسة. وإنما قلنا أنه لا يجوز إلاّ للضرورة أو الحاجة الماسة لأنّ بعض الفقهاء قال ولا تتحول إلاّ ضرورة. وبعضهم قال ولا تتحول إلاّ لحاجة , فمقصودهم والله أعلم أنها لا تتحول إلاّ لحاجة ماسة أو لضرورة. يقول - رحمه الله - (فإن تحولت خوفا) معنى قول المؤلف خوفا يعني على نفسها أو مالها , فإذا خافت على نفسها أو مالها فإنها تتحول جوازا لأنّ هذا من باب الضرورة. قوله - رحمه الله - (أو قهرا)

يعني إذا تحولت بغير إرادتها قهرا بأن أجبرت على الخروج من المنزل , وهذا أيضا من صور الجواز فلو أراد الورثة إخراجها من البيت جاز لهم لأنه لا يجب على الورثة تمكينها من السفر وإنما ينبغي. قوله - رحمه الله - (أو لحق) يعني إذا أخرجت المرأة لحق يعني بحق بأن كانت مؤذية وتعتدي على من بجوارها فإنه يجوز إخراجها. وإخراجها حينئذ بحق. إذا ذكر المؤلف ثلاث صور لجواز التحول وكأنه يقول فيما عداها لا يجوز أن تتحول. ثم - قال رحمه الله - (انتقلت حيث شاءت) إذا أجبرت الظروف المرأة على الخروج من البيت الذي مكثت فيه للإحداد فإنها تنتقل إلى أي بيت شاءت وتعليل ذلك أنّ محل الوجوب هو البيت فإذا سقط لم يلزمها بعد ذلك أن تبقى في بيت آخر. والقول الثاني: أنها إذا تحولت فإنه يجب عليها أن تذهب إلى أقرب منزل لمنزلها الذي تحولت منه. واستدل أصحاب هذا القول بالقياس على الحج فإنه إذا لم يتمكن الإنسان من البقاء في منى فعليه أن يبقى في أقرب مكان من منى. والراجح أنّ لها أن تنتقل إلى بيت شاءت لأنّ هذا القياس قياس مع الفارق لأنّ الحكم يتعلق في الإحداد بالبيت الذي مات الزوج وهي فيه فقط فإذا لم تتمكن فأي فائدة من البقاء بجواره. ثم انتقل المؤلف لبيان الخروج العارض بأن تخرج لقضاء حاجتها ثم تعود. فيقول الشيخ - رحمه الله - (ولها الخروج لحاجتها نهارا لا ليلا) يجوز أن تخرج لحاجتها في النهار لا في الليل , وقد ذكر شيخ الإسلام قاعدة مفيدة في هذا الباب , فيقول يجوز الخروج في النهار لحاجة وفي الليل لضرورة , وعلل الفقهاء ذلك بأنّ النهار زمن لقضاء الحاجات وإنهاء المصالح بينما الليل زمن للسكينة والبقاء في البيت كما أنه عرضة لتأذي المرأة بالفساق ولهذا قالوا لا تخرج إلاّ في النهار لحاجة وأما في الليل فلا تخرج إلاّ للضرورة. والقول الثاني: أنه يجوز في الليل ولو لحاجة بلا ضرورة. قال - رحمه الله - (وإن تركت الإحداد أثمت , وتمت عدتها بمضي زمانها)

باب الإستبراء

إذا تركت المرأة أحكام الإحداد سواء الأحكام التي تتعلق بالزينة وما يجب اجتنابه أو الأحكام التي تتعلق بالمكان فإنّ العدة تنقضي بمضي الزمان ولو تركت أحكام الإحداد ودليل ذلك أنّ الإحداد واجب في العدة وليس شرطا لصحتها فهي آثمة والعدة تنقضي بمضي الزمن. باب الإستبراء ختم المؤلف كتاب العدد بباب الإستبراء لأنه نوع من العدة , والإستبراء في لغة العرب / القطع والحد , يقال استبرأ اللحم من العظم يعني فصله. وأما في الشرع / فهو تربص يقصد منه العلم ببراءة رحم الأمة. وخصوه بالأمة لأنّ الإستبراء عندهم فقط للأمة يقول - رحمه الله - (من ملك أمة يوطأ مثلها) قوله - رحمه الله - من ملك عام سواء كان الملك بإرث أو هبة أو شراء , بأي نوع من أنواع التملكات الشرعية. يقول - رحمه الله - (أمة يوطأ مثلها) اشترط المؤلف لوجوب الإستبراء أن تكون الأمة يوطأ مثلها , فإن كانت الأمة صغيرة لا يوطأ مثلها فإنه لا يجب على المشتري أن يستبرأ لأنّ الغرض من الإستبراء العلم ببراءة الرحم وهو معلوم في حال الأمة التي لا يوطأ مثلها ,وهذا شرط صحيح لوجوب الإستبراء ثم - قال رحمه الله - (من صغير وذكر وضدهما) يعني أنه لا يشترط في الإستبراء أن يكون البائع من لا يطأ مثله فلو كان البائع صبي لا يطأ مثله أو كان البائع امرأة فإنه يجب على المشتري أن يستبرأ. والقول الثاني: أنّ البائع إذا كان لا يطأ مثله أو كان إمرأة فإنه يجب على المشتري أن يستبرأ , لأنّ الغرض من الإستبراء معرفة براءة الرحم ......... هنا انقطاع. فإذا يشترط لوجوب الإستبراء بالنسبة للبائع أن تكون الأمة ممن يوطأ مثلها , وأن يكون البائع أيضا ممن يطأ مثله وأن لا تكون امرأة. قال - رحمه الله - (حرم عليه وطؤها ومقدماته قبل استبرائها) يحرم على المشتري أن يطأ قبل أن يستبرأ , لقول النبي - صلى الله عليه وسلم - لا يحل للرجل أن يسقي زرع غيره. كما أن هذا الحكم محل إجماع فلا يجوز للمشتري أن يطأ إلاّ بعد أن يستبرأ ولا إشكال في هذا, لكن يقول المؤلف رحمه الله (ومقدماته قبل استبرائها) فعلى المذهب لا يجوز الوطء ولا مقدمات الوطء.

والقول الثاني: أنّ مقدمات الوطء من التقبيل والمباشرة ونحوهما تجوز واستدلوا على هذا بدليلين: الدليل الأول: أنّ النبي - صلى الله عليه وسلم - إنما نهى عن الوطء خاصة. الدليل الثاني: أنّ ابن عمر - رضي الله عنه - كان يقبل قبل الإستبراء , فإنّ النبي - صلى الله عليه وسلم - قسم غنيمة وكان من نصيب ابن عمر امرأة جارية جميلة قال ابن عمر فلم أملك أن قبلتها والناس ينظرون. وهذا التقبيل كان متى بعد القسمة مباشرة وقبل الإستبراء فإنه ملك هذه الجارية بالقسمة من الغنائم وقبل الإستبراء قبّل مما يدل على أنّ التقبيل والمباشرة قبل الإستبراء جائز كما أنّ التقبيل والمباشرة لا يتعارضان مع التأكد من براءة الرحم , فالراجح إن شاء الله هو القول الثاني وهو الجواز. قال - رحمه الله - (واستبراء الحامل بوضعها , ومن تحيض بحيضة) استبراء الحامل بأن تضع والحائل بأن تحيض حيضة واحدة , لأنّ النبي - صلى الله عليه وسلم - لما جاء السبي في عام أوطاس نهى أن توطأ حامل حتى تضع ولا حائل حتى تحيض , فجمع الحديث حكم المسألتين أن الأمة الحامل لا يجوز أن توطأ ولو طالت المدة إلاّ بعد الوضع والحائل لا توطأ إذا كانت تحيض إلاّ بعد الحيض. قال - رحمه الله - (والآيسة والصغيرة بمضي شهر) الأمة الآيسة أو الصغيرة لا توطأ إلاّ بعد مضي شهر , عللوا هذا بأنّ الحائض تعتد بحيضة ويقابل هذه الحيضة كم؟ شهر واحد فإذا كانت لا تحيض فإناّ نجعل عدتها أو استبراءها بشهر واحد وهذا يتناول الآيسة والصغيرة. والقول الثاني: أنه يجب أن تعتد ثلاثة أشهر وليس شهرا واحدا واستدل أصحاب هذا القول بأنّ الغرض من الإستبراء العلم ببراءة الرحم ولا يكون إلاّ بثلاثة أشهر لأنّ الحمل لا يظهر في أقل من ثلاثة أشهر وهذا القول الثاني هو الراجح إن شاء الله , إلاّ أنه في وقتنا هذا إذا أمكن أن يعلم براءة رحم الأمة بالوسائل الطبية الحديثة فإنا نرجع إلى المذهب ونقول عدة الأمة التي لا تحيض هو شهر واحد وبهذا انتهى كتاب العدد ولله الحمد

كتاب الرضاع

الدرس: (1) من الرضاع قال شيخنا حفظه الله: بسم الله الرحمن الرحيم والحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين. كتاب الرضاع المقصود بهذا الكتاب الكلام عن أحكام التحريم بالرضاع , ولا يقصد الكلام عن أحكام إرضاع الزوجة لولدها بل الكلام عن التحريم بالرضاع. والرضاع في لغة العرب / هو مص الثدي واستخراج اللبن منه. وأما في الشرع / فالرضاع هو حصول اللبن في معدة الطفل. فإذا أيهما أخص وأيهما أعم؟ اللغة أخص والشرع أعم لأنّه في اللغة لا يسمى رضاع إلاّ في صورة واحدة وهي دخول اللبن عن طريق المص , بينما في الشرع يعتبر رضاع إذا وصل اللبن إلى المعدة بأي طريق عرفنا إذا الآن معنى الرضاع في اللغة والشرع. والأصل في التحريم بالرضاع الكتاب والسنة والإجماع. أما الكتاب فقوله {وأمهاتكم اللاتي أرضعنكم} [النساء/23] وأما السنة فقوله - صلى الله عليه وسلم - يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب. وفي السنة أحاديث كثيرة تتعلق بالرضاع. والتحريم بالرضاع محل إجماع. مسألة / التحريم في الشرع يكون بأحد ثلاثة أسباب: - السبب الأول بالنسب كالأم والأخت. السبب الثاني "للتحريم المصاهرة كأم الزوجة وبنت الزوجة المدخول بها ونحوهما. السبب الثالث هو ما نحن بصدده وهو الرضاع. التحريم لا يكون إلاّ بأحد هذه الثلاث أسباب. قال - رحمه الله - (والمحرم خمس رضعات) هذه المسألة كبيرة ومهمة جدا وهي عدد الرضعات المحرمات فالمذهب أنّ المحرم خمس رضعات واختار هذا القول مع الحنابلة أيضا الشيخ الفقيه ابن حزم واستدل هؤلاء بقول عائشة. كان فيما يتلى أنه عشر رضعات معلومات محرمات , فنسخن بخمس رضعات محرمات. وهذا الحديث صحيح وهو نص بأنّ التحريم يكون بكم رضعة؟ بخمس رضعات. الدليل الثاني: أنّ النبي - صلى الله عليه وسلم - أمر المرأة أن ترضع من أرادت إرضاعه خمس رضعات. وهو صحيح إن شاء الله أمرها أن ترضعه بخمس رضعات فقال أرضعيه خمس رضعات تحرمي عليه. وهو سالم مولى أبي حذيفة - رضي الله عنه -

القول الثاني: أنّ عدد الرضعات المحرمة ثلاث فقط وإلى هذا ذهب داود الظاهري فتكون هذه المسألة من المسائل التي اختلف من داود مع ابن حزم استدل داود - رحمه الله - بقول النبي - صلى الله عليه وسلم - لا تحرم المصة ولا المصتان ولا الإملاجة ولا الإملاجتان. مفهوم الحديث أنّ الثلاث يحرمن. القول الثالث: وهو منسوب للجمهور أنّ قليل الرضاع وكثيره يحرم. ولو رضعة واحدة واستدل هؤلاء بأنّ النصوص الدالة على مشروعية الرضاع عامة [وأمهاتكم اللاتي أرضعنكم] ولم يذكر عددا. [يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب] ولم يذكر عددا. والراجح المذهب لصحة الدليل الدال على اشتراط خمس رضعات , يليه في القوة الجمهور وهو أنه لا عدد والسبب في قوة القول الثالث وضعف القول الثاني أنه تقدم معنا مرارا أنّ دلالة المفهوم تضعف إذا كانت في مقابلة المنطوق, فدلالة لا تحرم المصة ولا المصتان تتعارض مع أدلة القول الأول ومع أدلة القول الثالث , مما يدل على أنّ مفهوم هذا الحديث غير مراد فالراجح إن شاء الله والأحوط هو القول الأول ولا أقول الأحوط أنّ أرجح احتياطا بل أنا أرجحه استلالا لقوة أدلته. لكن هو مع ذلك أحوط الأقوال. مسألة / ذكر المؤلف عدد الرضعات ولم يذكر حد الرضعة , وهي أيضا مسألة مهمة اختلف الفقهاء في حد الرضعة. فذهب الحنابلة إلى أنّ حد الرضعة هو أن يمسك الطفل بالثدي ويمصه ثم يتركه باختياره وهذا قيد مهم سواء كان تركه لينتقل إلى ثدي آخر أو ليتنفس أو لأي سبب فإنّ هذه تعتبر رضعة. وإلى هذا القول كما قلت ذهب الحنابلة واختاره شيخ الإسلام واختاره أيضا ابن حزم. الدليل استدل هؤلاء بأدلة: الدليل الأول: قوله - صلى الله عليه وسلم - لا تحرم المصة ولا المصتان. وجه الاستلال من الحديث أنّ المصة في لغة العرب هو أخذ الشيء اليسير. الدليل الثاني: أنّ الوجور والسعوط يحرم. وقد تكون كميته يسيرة ستأتينا هذه المسألة لكن المقصود الآن الاستدلال بها.

القول الثاني: أنّ الرضعة هي الرضعة الكاملة إلى أن ينتهي في مجلس واحد. وبعبارة أخرى يشترط في الخمس رضعات أن تعدد المجالس بأن ترضعه في مجالس مختلفة خمس مرات. واستدل هؤلاء على قولهم بأنّ الرضعة في العرف لا تكون إلاّ الرضعة المشبعة كالأكلة فلو قال الإنسان وهو يأكل والله لا آكل أكلة أخرى ثم أكل واستمر في أكله الذي هو عليه لم يعد حانثا , لأنّ هذه الأكلة ليست أكلة أخرى أليس كذلك وإلى هذا ذهب العلامة ابن القيم أنه يشترط تعدد المجالس استنادا إلى العرف. أي القولين أرجح. مسألة غاية في الأهمية ينبني عليها أن يكون الطفل ابن من الرضاع في مجلس واحد أو في خمس مجالس؟ المسألة فيها إشكال لكن الراجح إن شاء الله المذهب وهو القول الأول وإن كانت المسألة فيها إشكال. لكن أولا يعضد هذا القول حديث. ثانيا: يعضده وبقوة القياس على السعوط والوجور لأنّ أصحاب القول الثاني يقولون بتحريم السعوط والوجور وهو كمية قليلة لذلك نقول إن شاء الله الراجح هو القول الأول. قال - رحمه الله - (في الحولين) لما بيّن المؤلف عدد الرضعات المحرمات انتقل إلى الزمن , فقال (في الحولين) يعني أنه يشترط في تأثير الرضاع أن يكون في الحولين , فإذا استمر الطفل في الرضاع بعد الحولين فإنه إذا رضع بعدهما فإنّ هذا الرضاع لا يؤثر واستدل هؤلاء بقوله تعالى {والوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين لمن أراد أن يتم الرضاعة} [البقرة/233] فدلت الآية على أنه بمضي السنتين تتم الرضاعة فالرضاعة بعد السنتين بعد تمام الرضاعة وإذا جاء الشيء بعد تمامه فإنه لا ينفع. الدليل الثاني: لهذا القول قوله - صلى الله عليه وسلم - في حديث عائشة إنما الرضاعة من المجاعة. يعني أنها تؤثر في وقت المجاعة إذا الطفل يعتمد في غذائه على لبن الأم وهو في الحولين. الدليل الثالث: أنه صح عن ابن عباس أنه أفتى بهذا.

القول الثاني: أنّ مناط تأثير اللبن الفطام وعدمه , فإذا فطم ولو في الحولين فإنّ اللبن لا يؤثر , ومعنى أن يفطم أي يعتمد في الغذاء على غير اللبن وهذا اختيار شيخ الإسلام - رحمه الله - ومذهب لبعض الفقهاء واستدل - رحمه الله - بقول النبي - صلى الله عليه وسلم - {إنما الرضاعة ما فتق الأمعاء وكان في الثدي قبل الفطام] ومعنى قوله - صلى الله عليه وسلم - وكان في الثدي يعني في الحولين لأنّ معنى في الثدي يعني في مدة الإرضاع والمدة الشرعية هي الحولين. ومن هنا نستطيع أن نستنبط من الحديث أنه يشترط لتأثير اللبن شرطان. الشرط الأول" أن يكون في الثدي يعني كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم - في الثدي يعني في الحولين. الثاني: أن يكون قبل الفطام. وهذا القول الثاني هو الصحيح لدلالة الحديث عليه ولأنّ الطفل إذا فطم ولو قبل مضي الحولين لم يعد يعتمد على اللبن فلا ينشأ اللحم ولا ينشز العظم بناء على هذا الحليب لأنه يعتمد على الطعام الآخر. مسألة / أخيرة رضاع الكبير. أولا المقصود بالكبير عند الفقهاء هو من تجاوز السنتين , اختلف الفقهاء في تأثير رضاع الكبير على ثلاثة أقوال: - القول الأول" وهو مذهب الجماهير وحكي إجماعاً أنه لا يؤثر مهما كانت الظروف. والقول الثاني: أنّ رضاع الكبير يؤثر مطلقا. والقول الثالث: أنّ رضاع الكبير يؤثر عند الحاجة الماسة وإذا دعت إليه الضرورة , وهو مذهب شيخ الإسلام - رحمه الله - واستدل على هذا بالقصة المشهورة أنّ سالم مولى أبي حذيفة لما كبر شق على أبي حذيفة أن يدخل بيته فاستفتوا النبي - صلى الله عليه وسلم - وزوجة أبي حذيفة سألته فقال لها النبي - صلى الله عليه وسلم -[أرضعيه تحرمي عليه] فدل هذا الحديث على أنه إذا دعت الحاجة كما في حديث سالم إلى هذا الحكم فإنه يجوز أن نرضع الكبير ويؤثر , وأما دليل ابن حزم الذي يرى أنّ تأثير الرضاع مطلقا في أي كبير في جميع الأحوال فهو يستدل بهذا الحديث ويقول هذا الحديث دليل على تأثير رضاع الكبير ولا يأخذ بملابسات الحديث والأحوط مذهب الجماهير وهو أنّ رضاع الكبير لا يؤثر مطلقا انتهى الدرس

الدرس: (2) من الرضاع قال شيخنا حفظه الله: بسم الله الرحمن الرحيم والحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين. قال المؤلف - رحمه الله - (والسعوط والوجور) أي والسعوط والوجور يحرم فإذا وصل اللبن إلى معدة الطفل عن طريق السعوط أو الوجور فإنه يحرم. والسعوط: هو أن يصب اللبن في أنف الصبي فيصل إلى حلقه. ولا بد من هذا القيد وهو أن يصل إلى حلقه. والوجور: هو أن يوضع اللبن في الفم وضعا بدون رضاع فيبتلعه الصبي. ذهب الجماهير من أهل العلم إلاّ أنّ السعوط والوجور يحرم لأنه ينبت العظم واللحم. ولأنّ الجسم ينتفع به كما ينتفع بوصوله عن طريق الرضاع. والقول الثاني: للظاهرية هو أنّ السعوط والوجور لا يؤثر تحريما يعني لا يحرم إذا كان عن طريق السعوط والوجور واستدل الظاهرية على هذا بأنّ الله علق أحكام الرضاع على الرضاع ولم يوجد رضاع هنا , والصحيح مع الجمهور وما ذكره الظاهرية نوع من الجمود والوقوف مع ظاهر اللفظ دون تجاوزه إلى المعنى الذي شرع الحكم من أجله. يقول - رحمه الله - (ولبن الميتة) يعني ويحرم لبن الميتة وإلى هذا ذهب الجمهور واستدلوا على هذا بأنّ لبن الميتة يدخل في عموم النصوص. فلو رضع الطفل من امرأة ميتة واستوفى الشروط فإنه يؤثر تحريما. والقول الثاني: أنّ لبن الميتة لا يؤثر لأنه نجس , وأجاب الجمهور عن هذا الدليل بأنّ الآدمية الميتة طاهرة , والقاعدة الفقهية تقول بعض الطاهر طاهر , واللبن بعض من هذه الميتة فإذا كانت طاهرة فهو طاهر وقول الجمهور هو الصواب. ثم - قال رحمه الله - (والموطوءة بشبهة , أو بعقد فاسد) يعني إذا وطئت المرأة بشبهة أو بعقد فاسد وثاب عن هذا لبن ورضع الطفل فإنه يحرم , والقاعدة التي تندرج تحتها هاتان المسألتان هو أنه أي لبن وجد بسبب حمل ينسب إلى الأب فهو محرم , والحمل الذي ينشأ عن الوطء بشبهة أو بعقد فاسد يصح نسبه إلى أبيه فيكون اللبن الناشئ عنه محرما. ثم - قال رحمه الله - (أو باطل أو زنا محرم)

اللبن الذي وجد بسبب الزنا أو بسبب العقد الباطل محرم لكنه يثبت الأمومة دون الأبوة فيكون الطفل ابن للمرأة والواطئ ليس أبا له يعني من الرضاع , استدل الجمهور على هذا بأنّ النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول يثبت من الرضاع ما يثبت من النسب , أو يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب. وهذا الطفل لا يثبت نسبه للواطئ فلا يثبت تحريمه بلبنه. القول الثاني: أنّ اللبن الذي ثاب عن زنا أو عقد باطل يثبت في الأمومة والأبوة في الرضاع واستدلوا على هذا بأنه وطء ثاب عنه حمل ولبن فيقاس على الوطء الصحيح وهو قياس ضعيف جداً لأنه قاسوا في الشكل الظاهر فقط بينما حقيقة المعنى أنّ هذا عقد محرم أي الباطل أو الزنا , وهذا عقد مشروع ولا يقاس مشروع على الممنوع ولهذا نقول الراجح مذهب الحنابلة وهو ثبوت الأمومة دون الأبوة. قال - رحمه الله - (وعكسه البهيمة) لما انتهى من الأنواع التي يثبت فيها التحريم انتقل إلى بيان الأنواع التي لا يثبت فيها التحريم فقال (وعكسه البهيمة) مقصود المؤلف بقوله (وعكسه البهيمة) يعني أنّ التحريم لا يكون إلاّ بلبن المرأة ويخرج بهذا لبن البهيمة والخنثى والرجل. ولهذا لو أنّ المؤلف عبر بتعبير آخر فقال (ولا يثبت إلاّ بلبن المرأة) لكان أجود ليخرج كل ما عداه البهيمة وغير البهيمة التعليل عللوا هذا بأنّ أحكام الرضاع إنما تثبت أصالة في الأم ويتبعها الآخرون فإذا لم يثبت في الأم لم يثبت فيما عداه. ولهذا لو أنّ البهيمة أرضعت طفلا فلا تسمى أمه من الرضاع أو تسمى؟ لا تسمى لأنّ لفظ الأمومة يتعلق ببني آدم كذلك لو أرضع رجل طفلا إذا قدرنا وجود اللبن في الرجل فإنه هل يكون أمه من الرضاع لأنّ الأمومة تتعلق بجنس الإناث من بني آدم. ثم - قال رحمه الله - (وغير حبلى , ولا موطوءة) ذهب الحنابلة إلى أنّ اللبن المؤثر لا يكون مؤثرا إلاّ إذا كان بسبب الحمل , وظاهر عبارة المؤلف أنه يكون بسبب الحمل أو الوطء بلا حمل وقد خالف بذلك المذهب , والمذهب أنه لا يكون إلاّ بحمل فإذا وجد لبن في المرأة من غير حمل فإنه لا يؤثر واستدلوا على هذا بأنه خلاف المعتاد.

والقول الثاني: أنّ المرأة البالغة إذا وجد فيها اللبن وأرضعت صار محرما , ولا يشترط أن يكون من حمل , وابن المنذر يحكي الإجماع هذا القول الثاني مع أنّ مذهب الحنابلة الاصطلاحي على خلافه مع ذلك يحكي الإجماع على هذا القول الثاني ودليله ظاهر وهو أنّ الله علق أحكام الرضاع على أن يرضع الطفل لبن المرأة بغض النظر عن سبب وجود اللبن هل هو من حمل أو بغير سبب. وهذا القول الثاني هو الصحيح إن شاء الله لأنّ النص الدال على تحريم الرضاع عام. قال - رحمه الله - (فمتى أرضعت امرأة طفلا صار ولدها في النكاح والنظر والخلوة والمحرمية) يريد المؤلف أن يبيّن أنّه إذا وجد الرضاع الصحيح المكتمل الشروط. فإنه يكتسب هذه الأحكام من أحكام النسب دون بقية الأحكام فلا يثبت الإرث ولا يثبت وجوب النفقة ولا يثبت أي حكم من أحكام النسب إلاّ هذه الأحكام الأربعة. الحكم الأول: في النكاح يعني تحريم النكاح. والحكم الثاني: النظر يعني جواز نظر المرتضع لمن أرضعته ومن يجوز ممن سيبيّن المؤلف جواز النظر إليهم. (والخلوة والمحرمية) الخلوة يعني يبقى هو وهي بلا ثالث. والمحرمية يعني في السفر. فهذه أربعة أحكام تترب على الرضاع الصحيح دون بقية أحكام النسب. والدليل على هذا الحديث [يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب] قال - رحمه الله - (وولد من نسب لبنها إليه بحمل أو وطء) قوله وولد هذا عطف على قوله في الأول (صار ولدها) يعني صار ولدها وولد من نسب لبنها إليه بحمل أو وطء هذه المسألة تسمى لبن الفحل , يعني أنّ المحرمية لا تقتصر على المرضعة بل تتعداه إلى صاحب اللبن أي الشخص الذي وجد الحمل والحليب بسببه وهو من ينسب إليه الحمل والدليل على أنّ الرجل أيضا يصبح أبا للرضيع أو للمرتضع ما ثبت أنّ عائشة - رضي الله عنها - رضعت من امرأة فجاء أخو زوجها ليدخل فمنعته فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - دعيه يدخل فإنه عمك. وصار عماً باعتبار أنه أخ لمن؟ لأبيها من الرضاع - رضي الله عنها - فهذا الحديث نص في المقصود ..... انتقل المؤلف لبيان من يحرم بسبب الرضاع قال - رحمه الله - (ومحارمه في النكاح محارمها ومحارمها محارمه)

المحقق اختار نسخة محارمها , والنسخة الأخرى كما يشير هو في الهامش (محارمه) وهي أجود فتكون العبارة (ومحارمه في النكاح محارمه ومحارمها محارمه) ومعنى العبارة ومحارمه في النكاح محارمه أي محارم الواطئ اللاحق به النسب محارم لهذا الرضيع ولذلك لا معنى للهاء معنى لمحارمها , فتكون العبارة ومحارمه يعني محارم الواطئ يعني محارم الأب من الرضاع محارمه يعني محارم للرضيع أو المرتضع. ثم قال ومحارمها محارمه. يعني ومحارم المرضعة محارم لمن؟ للمرتضع محارمها ومحارمه يعني الأب والأم تقدم ذكرهم مفصلا في النكاح وهم الآباء والأمهات والأبناء والأعمام والعمات والإخوة والخوال والخالات , الحواشي والأصول والفروع. هؤلاء هم محارمها ومحارمه وهم أيضا محارم لمن؟ لهذا الرضيع. إذا عرفنا الآن انتشار المحرمية من قبل الأب والأم وأنها تشمل جميع المحارم من النسب. ثم لما ذكر انتشار المحرمية من جهة الأب والأم من الرضاع. أراد أن ينبه إلى أنّ هذا الانتشار لا يوجد من جهة المرتضع. فيقول - رحمه الله - (دون أبويه وأصولهما وفروعهما) يعني أنّ المحرمية بالنسبة للمرتضع لا تنتشر في الأصول ولا في الحواشي وإنما فقط في الفروع ولهذا يقول هنا الشيخ - رحمه الله - دون أبويه وأصولهما وفروعهما. أصول الأبوين الأجداد وفروع الأبوين , الحواشي وهم الأعمام والخوال ,هؤلاء لا تنتشر المحرمية معنى هذا الكلام وسيذكر المؤلف أمثلته. إذا ارتضع زيد من خديجة فإنّ آباء زيد وإخوان زيد وأعمام زيد لا علاقة لهم بأمه من الرضاع إنما الذين لهم علاقة هم أبناءه فقط , ولما قرر المؤلف هذا الحكم أراد أن يبيّنه بالتمثيل والتوضيح. فقال - رحمه الله - (فتباح المرضعة لأبي المرتضع وأخيه من النسب) يعني أخو المرتضع من النسب وأبو المرتضع من النسب تباح لهم أمه من الرضاعة لماذا؟ لما تقدم معنا أنّ المحرمية لا تنتشر في أصول الرضيع إذا تباح لهم ما لم يمنع منه بسبب آخر إذا منع منه بسبب آخر هذا حكم آخر لكن من حيث الرضاع يجوز لأبي المرتضع من النسب أن يتزوج بأمه من الرضاع. قال - رحمه الله - (وأمه وأخته من النسب لأبيه وأخيه)

يعني من الرضاع فيجوز لأبيه من الرضاع أن يتزوج بأمه وأن يتزوج بأخته من النسب هذا الحكم محل إجماع أي عدم انتشار المحرمية في أصول الرضيع محل إجماع لم يختلفوا فيه ولله الحمد لأنّ الحديث نص المحرمية على الرضيع فقط. قال - رحمه الله - (ومن حرمت عليه بنتها فأرضعت طفلة حرمتها عليه) هذه المسألة تشير إلى قاعدة وهي أنّ كل امرأة يحرم عليك ابنتها فإنها إذا أرضعت طفلة صارت هذه الطفلة أيضا محرمة عليك. مثال المرأة التي تحرم عليك بنتها من أمثلة هذه المرأة أمك لأنّ بنت أمك تعتبر أختك , مثالها أيضا أختك لأنّ بنت الأخت محرمة باعتبار أنها بنت أختك. الأم والأخت إذا أرضعنا فإنها هذه الطفلة تعتبر أيضا محرمة عليك لأنها أختك إذا كانت المرضعة أمك أو تكون بنت أختك يعني أنت خالها إذا كانت المرضعة أختك. وهذا ظاهر لكن يريد الحنابلة أن يبينوا الحكم بالتفصيل. قال - رحمه الله - (وفسخت نكاحها منه إن كانت زوجته) يعني إذا أرضعت هذه الأم أو الأخت طفلة صغيرة وهذه الطفلة هي ماذا؟ زوجتك فإنّ النكاح ينفسخ في هذه الصورة لماذا؟ لأنها أصبحت محرمة عليك إما أن تكون أختك أو أن تكون أنت خالها إلى آخره فإذا بسبب هذا الرضاع انفسخ لأنها أصبحت من المحرمات لكن بقينا في مسألة وهي أنّ هذه الطفلة الصغيرة إذا انفسخ نكاحها بسبب الإرضاع بقي عليك أن تعطيها نصف المهر لأنه انفسخ النكاح قبل الدخول ولماذا نفترض أنّ انفساخ النكاح كان قبل الدخول. لأنها صغيرة لا يوطأ مثلها ولا يوجد رجل يدخل على زوجته وعمرها أقل من سنتين. ولذلك نفترض دائما في هذه الصورة أنّ لها نصف المهر بناء على أنه لم يدخل بها. قال - رحمه الله - (وكل امرأة أفسدت نكاح نفسها برضاع قبل الدخول فلا مهر لها) صورة المسألة. أن تتزوج بامرأة كبيرة وقبل أن تدخل بها ترضع هذه المرأة الكبيرة زوجة لك صغيرة , حينئذ صارت هذه الزوجة الكبيرة تسببت في فسخ نكاحها لأنها أصبحت أم زوجتك. وبهذا انفسخ نكاحها. ما هو الحكم يقول الشيخ - رحمه الله - (فلا مهر لها)

لماذا لأنها تسببت في فسخ النكاح , وإذا انفسخ النكاح بسبب من الزوجة قبل الدخول فلا مهر لها وقد تقدمت معنا هذه القاعدة في باب الصداق أنه إذا انفسخ النكاح بسبب من المرأة قبل الدخول فلا مهر لها إنما تقدم معنا الخلاف فاعتبار هل هذا سبب من الزوجة أو ليس بسبب من الزوجة في مسألتنا هذه إذا أرضعت هو بسبب من الزوجة , ولذلك فلا مهر لها. قال - رحمه الله - (وكذا إن كانت طفلة فدبت فرضعت من نائمة) يعني إذا تزوج الإنسان بطفلة فدبت هذه الطفلة ورضعت من أمك أصبحت حينئذ أختك فإنّ النكاح ينفسخ ولا مهر لها لماذا؟ لأنّ النكاح انفسخ بسبب من هذه الطفلة الصغيرة ولا عمل للزوج مطلقا فلا مهر عليه. وهذا صحيح. فإذا حصلت هذه الصورة فالعقد ينفسخ ولا مهر لها. في المسألة السابقة إذا أرضعت الزوجة الكبيرة قبل الدخول زوجة صغيرة انفسخ نكاحها أليس كذلك؟ انتهينا من الكبيرة لكن ما حكم الصغيرة؟ التي ارتضعت من الزوجة الكبيرة. هل تبقى زوجة أو أيضا ينفسخ نكاحها.؟ الجواب تبقى زوجة لماذا؟ لأنّ أمها حرمت لكن قبل الدخول , وبنات الأمهات لا يحرمن إلاّ بعد الدخول وهنا لا يوجد دخول فتبقى الصغيرة زوجة. قال - رحمه الله - (وبعد الدخول مهرها بحاله) يعني إذا تزوج الإنسان بامرأة ودخل بها ثم ارضعت زوجة صغيرة له فإنّ النكاح ينفسخ ولا يرجع الزوج على زوجته بالمهر لأنها أي الزوجة الكبيرة استحقت المهر بالدخول وتقدم معنا في باب الصداق أنّ من مقررات المهر الدخول. إلى هذا ذهب الجماهير وحكي إجماعا لأنّ الدخول من مقررات المهر. والقول الثاني: أنه يرجع عليها بمهره. لأنها تسببت في إفساد النكاح. وإلى هذا القول ذهب شيخ الإسلام وأثبت وجود الخلاف.

شيخ الإسلام رحمه الله عنده قاعدة في هذا الباب وهي [أنّ البضع متقوم على الزوج مطلقا ولو بسبب خارجي أو بسبب من المرأة] ما معنى هذه القاعدة. يعني أنه إذا تسبب أجنبي أو تسببت المرأة في فسخ النكاح فإن للزوج الحق في قيمة البضع , الأدلة استدل بأدلة قوية. الدليل الأول: تقدم معنا أنّ الصحابة في امرأة المفقود حكموا أنه إذا رجع ولم يختر الزوجة فله المهر وفي هذه الصورة سيرجع المهر إلى الزوج بعد الدخول ولا قبل الدخول؟ بعد الدخول لأنّ هذه الزوجة زوجة المفقود إنما فقد بعد الدخول. فأثبت الصحابة إرجاع المهر بعد الدخول وهو دليل قوي جدا لشيخ الإسلام. دليله الثاني: أنّ المهر إنما هو دفع على سبيل المعاوضة , فاستحق الزوج إرجاعه إذا خرج البضع بسبب من غيره وكلام شيخ الإسلام قوي جدا ولا يعكر عليه إلاّ حكاية الإجماع التي لم يثبتها هو - رحمه الله وذكر أنّ في المسألة خلافا بين الفقهاء على كل حال من حيث الدليل أرجح الأقوال قول شيخ الإسلام - رحمه الله -. قال - رحمه الله - (وإن أفسده غيرها فلها على الزوج نصف المسمى قبله وجميعه بعده ويرجع الزوج به على المفسد) يعني إذا أفسد النكاح غير الزوجة فإنّ النكاح يفسد ولها نصف المهر قبل الدخول والمهر كاملا بعد الدخول لأنّ الإفساد ليس من قبل الزوجة فيجب أن تأخذ حقها كاملا لكن يرجع الزوج على من أفسد النكاح. صورة المسألة أن يتزوج الإنسان بزوجة كبيرة وزوجة صغيرة فتدب الزوجة الصغيرة فترضع من الزوجة الكبيرة , وبهذا الرضاع صارت الزوجة الكبيرة أم زوجة بالنسبة للزوج فينفسخ النكاح فهنا انفسخ النكاح بسبب ليس من المرأة يعني الزوجة الكبيرة فاستحقت كامل المهر بعد الدخول والنصف قبل الدخول , وهذا صحيح ويرجع الزوج على من أفسد عليه زوجته. قال - رحمه الله - (ومن قال لزوجته أنت أختي لرضاع بطل النكاح)

بلا نزاع عند الحنابلة لأنه أقر بما يوجب فساد العقد وهذا الإقرار إقرار عليه , وإقرار الإنسان على نفسه مقبول فإن كان صادقا فيما يقول فهي ليست زوجة له في الظاهر والباطن , وإن كان كاذبا فيما يقول فهي ليست زوجة له في الظاهر وهي زوجته في الباطن ,فإن تزوجت فإثم الزواج الثاني عليه يحاسب به يوم القيامة لأنّا نتكلم الآن عن أحكام الباطن فهي في الظاهر ليست زوجة له. قال - رحمه الله - (فإن كان قبل الدخول فصدقته فلا مهر) أيضا بلا نزاع عند الحنابلة لأنها أقرت واتفقا على بطلان النكاح من أصله , فلا تستحق شيء قبل الدخول. قال - رحمه الله - (وإن أكذبته فلها نصفه) إذا كذبته فإنّ النكاح يفسد وينفسخ العقد لكن لها نصف المهر لماذا؟ لأنّ إقراره عليها لا يجوز أن يسقط حقا من حقوقها فيقبل إقراره على نفسه ويرد على غيره فهو مقبول على نفسه لأنّا نفسد النكاح ومردود على غيره لأنّا نثبت الحق للزوجة في المهر لئلا يؤدي إقراره إلى إسقاط حق غيره وهذا صحيح. قال - رحمه الله - (ويجب كله بعده) إذا كذبته أو إذا صدقته. لأنّ المهر يتقرر بالدخول ويصبح حقا من حقوق الزوجة سوء صدقته أو كذبته. قال - رحمه الله - (وإن قالت هي كذلك وأكذبها فهي زوجته حكما) إذا قالت هي أنت أخي من الرضاع وكذبته فهي زوجته حكما , لأنّ القاعدة تقول [لا يقبل إقرار الشخص فيما يسقط حق غيره] فإقرارها بأنه أخوها فيه إسقاط لحقه وهو حق الزوجية , لكن إن طلقها بعد هذا الإقرار فإن كانت قبضت المهر فهو لها , وإن كانت لم تقبض المهر فليس لها شيء لأنها تقر أنه لا حق لها هذا كله إذا كان قبل الدخول , أما إذا طلقها بعد الدخول فإن أقرت على نفسها بأنها أخته وأنها عالمة بذلك قبل الدخول فلا مهر لها لماذا؟ لأنها زانية. فإنها أطاعت زوجها أن يطأها وهي تعلم أنه أخته. وأما إن كانت علمت بعد الدخول فلها المهر لأنّ المهر يتقرر بالدخول.

قوله (حكما) يعني في الظاهر فهي زوجته في الظاهر ومع ذلك نأمر المرأة التي ترى أنّ زوجها أخ لها بأن تسعى بالتخلص منه بكل ما تستطيع نثبت الحق ولكن في نفس الوقت نقول للمرأة إذا كنت تعلمين حقاً أنه أخ لك في الرضاع فيجب أن تسعي في التخلص منه بكل ممكن لماذا؟ لأنها تعلم أنها لا تحل له في الباطن وتشبه هذه المسألة مسألة أخرى وهي ما إذا طلق الرجل زوجته ثلاثا ثم أنكر وهي تعلم أنه طلق ثلاثا تعلم علم اليقين أنه طلق ثلاثا. كذلك هي في الظاهر والحكم زوجة له لأنه لا نستطيع أن نثبت أن الزوج طلق ثلاثا ولكن نأمر هذه المرأة أن تفتدي منه وأن تتخلص بكل ممكن. والجامع بين الحكمين جمع صحيح ولا حرج فيه لأنه من جهة العقد صحيح ومن جهتها العقد باطل. قال - رحمه الله - (وإذا شك في الرضاع أو كماله أو شكت المرضعة ولا بيّنة فلا تحريم) إذا حصل الشك في أي شرط من شروط الرضاع , شكوا في عدد الرضاع شكوا في وقت الرضاع شكت المرضعة هل أرضعت أو لم ترضع فإنّ لا تحريم والدليل أنّ الأصل عدم التحريم فنبقى مع هذا الأصل إلى أن يأتي ما يدل على خلافه. بهذا تكون انتهت مباحث الرضاع باقي مسألة. لم يتطرق لها المؤلف وهي هل [يحرم من الرضاع ما يحرم من المصاهرة أو من النسب فقط] المحرمات بالمصاهرة الرضاعية أربعة: أم الزوجة , وبنت الزوجة , وأب الزوج , وابن الزوج من الرضاع. يعني أب الزوج من الرضاع , وأم الزوجة من الرضاع , وبنت الزوجة من الرضاع. هذه الأربع نساء هن فقط المحرمات بالمصاهرة. فهل يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب والمصاهرة أو ما يحرم من النسب فقط؟ المسألة فيها خلاف. صورة المسألة أو مثال للمسألة. هل يحرم على أب الإنسان من الرضاع زوجته , أو هل تحرم زوجة الإنسان على أبيه من الرضاع. أو لا تحرم , يعني إذا أنت رضعت من امرأة سيكون لك أب من الرضاع أليس كذلك هذا الأب هل هو من محارم زوجتك وهل يجوز له بأن يتزوج بزوجتك فيما لو طلقت أو مت هذا محل خلاف: ذهب الأئمة الأربعة والجماهير وحكي إجماعا أنه يحرم. واستدلوا بالعمومات كقوله تعالى {وأمهات نسائكم} [النساء/23] فإنّ أم الزوجة من الرضاع أم , فتدخل في التحريم.

وذهب شيخ الإسلام وابن القيم ونصراه بأدلة إلى أنها لا تحرم واستدلوا على هذا بأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب ونحن أخذنا أنّ المحرمات في الشرع ثلاثة أقسام أليس كذلك؟ في بداية كتاب الرضاع. 1ـ محرمات بالنسب 2 - محرمات بالمصاهرة 3 - محرمات بالرضاع. فتلاحظ أنّ الرضاع قسيم للنسب وأنّ النسب قسيم للرضاع الحديث تحدث عن أمرين فقط النسب والرضاع فبيّن أنه يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب يعني فقط كما ترى استدلال شيخ الإسلام وجيه نستطيع أن نقول منطوق الحديث يؤيد ما ذهب إليه شيخ الإسلام - رحمه الله - كما مرّ معنا مرارا أنه مثل هذه المسائل التي يخالف فيها شيخ الإسلام الجماهير أو ما حكي إجماعا الإحتياط فيها متعين فلو احتاط الإنسان وأخذ بمذهب الجمهور لكان هذا شيئا حسنا. وبهذا انتهى كتاب الرضاع ولله الحمد

كتاب النفقات

كتاب النفقات الدرس (1) من النفقات قوله كتاب النفقات جمع نفقة , والنفقة اسم بمعنى الإنفاق وإنفاق المال في لغة العرب / يعني صرفه وصرفه يعني إهلاكه فيما يراد الانتفاع به وسميت النفقة نفقة لأنها مشتقة من النفوق وهو الهلاك. وجه التسمية أنّ الإنسان أنفق ماله فقد أهلكه. وأما في الشرع / فإنّ النفقة كفاية من يمونه كسوة وسكنا وأكلا وشربا. هذه أصول النفقة وسيأتينا أشياء أخرى قد تخرج عن مسمى السكن والكسوة والطعام والشراب لكن أصول النفقة ترجع إلى هذه الأشياء. والنفقة مشروعة بالكتاب والسنة والإجماع ولم يختلفوا فيها ولله الحمد. فمن الكتاب قوله تعالى {لينفق ذو سعة من سعته ومن قدر عليه رزقه فلينفق مما آتاه الله} [الطلاق/7] وأما من السنة فأحاديث منها حديث جابر - رضي الله عنه - فعليكم نفقتهن وكسوتهن بالمعروف. وأما الإجماع فهو محكي ولم يختلف الفقهاء في وجوبه في الجملة سيأتينا خلاف في بعض المفردات لكن في الجملة هو محل إجماع. يقول المؤلف - رحمه الله - (يلزم الزوج نفقة زوجته)

بدأ المؤلف بنفقة الزوجة لأنها آكد أنواع النفقات ونفقة الزوجة تختص بأنها لا تسقط بالتقادم , يعني لو أنّ الإنسان لم ينفق على زوجته لمدة يوم وشهر وسنة فإنّ النفقة لا تسقط بل تبقى في ذمته بخلاف نفقة الأقارب فإنها تسقط بالتقادم فلو أنّ الإنسان لم ينفق على قريب من أقاربه الذين يلزمهم أن ينفق عليهم لمدة سنة فبعد هذه السنة لا يجب عليه أن يدفع له ما لم ينفقه ولا يبقى هذا أو هذه النفقة في ذمته. دليل التفريق أنّ النفقة على الزوجة من باب المعاوضة , بينما النفقة على الأقارب من باب الصلة والإحسان ومن هنا افترقا , وهذا يدل على تأكد نفقة الزوجة. يقول المؤلف - رحمه الله - (يلزم الزوج نفقة زوجته) وجوب نفقة الزوجة محل إجماع يدل عليه قوله - صلى الله عليه وسلم - خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف ... وحديث جابر السابق عليكم نفقتهن وكسوتهن بالمعروف ... فلا شك أنه يجب على الزوج أن ينفق على زوجته لاشك في هذا وهو محل إجماع وتدل عليه النصوص. يقول - رحمه الله - (قوتا وكسوة وسكناها بما يصلح لمثلها) قوله قوتاً إلى آخره في هذه العبارة دليل على أنّ الحنابلة يرون أنّ النفقة تقدر بالمعروف يعني يجب عليه أن ينفق عليها كفايتها بالمعروف واستدلوا على ذلك بالحديث السابق وهو قوله - صلى الله عليه وسلم - خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف ... فدل على أنه يجب على الزوج يدفع كفاية الزوجة بالمعروف يدفع ما يكفيها بالمعروف. والقول الثاني: أنّ نفقة الزوجة مقدرة تقديرا وليست كفاية بالمعروف. وقدّروها بتقديرات منها ثلاثة أرطال من الخبز واستدلوا على هذا بأن هذا القدر مذكور في الكفارات فنقيس عليها النفقة , والراجح المذهب الأول بلا إشكال إن شاء الله وهو أنه مقدرة بالكفاية وليست مقدرة بقدر محدد إذا ليس في النصوص أبدا ما يدل على أنّ نفقة الزوجة مقدرة بشيء محدد. وكل حديث فيه تقدير نفقة الزوجة بقدر محدد فهو ضعيف. قال - رحمه الله - (ويعتبر الحاكم ذلك بحالهما عند التنازع فيفرض للموسرة تحت الموسر قدر كفايتها ..... إلى آخره)

لما قرر المؤلف أنّ الواجب على الزوج أن ينفق على زوجته قد كفايتها بالمعروف انتقل إلى بيان هل المعتبر بقدر الكفاية بالمعروف حال الزوج أو حال الزوجة؟ وقبل أن ذكر الخلاف في هذه المسألة نذكر تحرير محل النزاع. إذا كان كل من الزوجين موسرا أو كان كل من الزوجين معسرا , فلا خلاف أنه في الحالة الأولى نفقة موسر وفي الحالة الثانية نفقة معسر لأنه لا يختلف حال الزوجة عن حال الزوج. لكن الخلاف إذا كان أحد الزوجين موسرا والآخر معسرا!! في هذا خلاف اختلفوا في هذه المسألة على أقوال: القول الأول: وهو المذهب أنّ المعتبر حال الزوجين معا فإذا كان أحدهما موسرا والآخر معسرا فنأخذ بالوسط واستدل الحنابلة على هذا الحكم بالجمع بين أدلة القول الثاني والثالث التي ستأتينا. القول الثاني: أنّ المعتبر حال المرأة بناء عليه إذا كانت المرأة موسرة والزوج فقير فيجب عليه أن ينفق عليها النفقة التي تصلح للموسرين لأنّ الاعتبار بحال الزوجة واستدلوا على هذا بقول النبي - صلى الله عليه وسلم - خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف ... فعلق الكفاية بالمرأة. والقول الثالث: أنّ المعتبر حال الزوج واستدلوا على هذا القول بالآية الكريمة السابقة {لينفق ذو سعة من سعته ومن قدر عليه رزقه فلينفق مما آتاه الله} [الطلاق/7] الآية كأنها نص في أنّ المعتبر حال ماذا؟ فهو يقول انفق إن كنت موسرا من إيسارك وإن كنت فقيرا بحسب مقدرتك لا يكلف الله نفسا إلاّ ما أتاها. ولهذا الراجح والله أعلم القول الأخير , وهو أنّ المعتبر حال الزوج لأنه هو المنفق , ويليه في القوة المذهب , وأضعف الأقوال القول الثاني. لما قرر المؤلف قاعدة وهو أنه للموسرة تحت الموسر قدر كفايتها وتقدم معنا أنّ هذا محل إجماع أنّ للموسرة تحت الموسر قدر كفايتها أراد أن يذكر أحكاما هي في الواقع من باب التمثيل. فيقول - رحمه الله - (لها من أرفع خبز البلد وأدمه ولحما عادة الموسرين بمحلهما)

يعني أنها تأكل من أرفع ما يأكل أهل البلد فمثلا اليوم الخبز ليس من أرفع ما يأكل أهل البلد , وإن كان اللحم الذي يسمونه سيد الطعام يعتبر من أرفع الأطعمة في كل زمان ومكان لكن الخبز قد يعتبر من أرفع الأطعمة في زمان دون زمان. والمقصود الآن أنّ الموسرة تطعم بما يتناسب وضعها من الإيسار وبما يتناسب مع وضع الزوج. طيب إذا كانت الزوجة موسرة والزوج موسر لكنها أغنى منه بكثير فسينفق باعتبار حال من؟ حال الزوج إذا نستطيع أن نقول على القول الراجح دائما المعتبر حال الزوج. وظاهر كلام الفقهاء أنه إذا كان الزوج موسر والزوجة موسرة فإنه لا يجوز للزوج أن ينفق نفقة فقير وهذا صحيح ويظهر لي أنه محل إجماع فإذا وجد زوج عنده مال وهو موسر وأنفق نفقة فقير فهو آثم ولها أن تطالبه بالفرق بين النفقتين في المحاكم الشرعية لأنّ الواجب عليه أن ينفق نفقة موس. (ما يلبس مثلها من حرير وغيره) لأنّ الحرير يعتبر من أفخر الثياب وأغلاها ثمنا. (للنوم فراش ولحاف وإزار ومخدة) لأنها كذلك تعتبر في وقتهم من أفخر أنواع الفرش التي تتخذ للجلوس والنوم وهذه الأمور أمثلة تختلف اختلافا بيّنا كثيرا جدا من إلى زمان ومن مكان إلى مكان. ويقول (وللجلوس حصير جيد وزلي) الفرق بين الحصير والزل , من جهة المادة والحجم فكل منهما سجاد إلاّ أنّ الحصير صغير ومنخوس أو من مادة صلبة نباتية. وأما الزل فإنه كبير ويكون من القطن ونحوه وإلاّ كل منهما يعتبر بساط. ثم - قال رحمه الله - (وللفقيرة تحت الفقير من أدنى خبز البلد وأدم يلائمه) ما يناسب حال الزوج من الفقر فلها من أدنى خبز البلد وأدم يلائمه يعني تجمع بين الخبز الذي يعتبر من أدنى أنواع الخبز في البلد وأيضا الإدام الذي يؤتدم به هذا الخبز يكون مما يلائم هذا الخبز. وإذا كان الخبز من أدنى أنواع الخبز في البلد فسيكون الإدام أيضا من أدنى أنواع الأدم في البلد. (ما يلبس مثلها ويجلس عليه)

تقدم معنا أنّ الاعتبار دائما بحال الزوج فهو يقول وما يلبس مثلها وما يجلس عليه فإذا كانت هي فقيرة جدا وهو فقير فقط فعليه أن يلبسها لباس الفقير لا لباس الفقير جدا , ففي الحقيقة لو قال (وما يُلبس مثله) لكان أقرب إلى القول الراجح. ثم - قال رحمه الله - (وللمتوسطة مع المتوسط ... ما بين ذلك) وهذا صحيح ثم - قال رحمه الله - (والغنية مع الفقير وعكسها .. ما بين ذلك) وهي محل النزاع والاختلاف كذلك هي عند الحنابلة لها ما بين ذلك وتقدم معنا أنّ مذهب الحنابلة إذا اختلف الزوج عن الزوجة في الفقر والغنى فيرون أنه يطعمها الوسط , فإذا كان هو فقير وهي غنية فسيطعمها الوسط وكلما كانت هي غنية كلما كان الوسط شاق على من؟ الزوج وبهذا نكون كلفنا الزوج ما لا طاقة به , هو فقير فكيف نلزمه أن ينفق عليها نفقة متوسط الأغنياء , لأنه المتوسط سيكون بينها إذا كانت غنية جدا وهو فقير المتوسط سيكون متوسط الأغنياء , وأيضا في المقابل إذا كانت هي فقيرة جدا وهو غني جدا فله أن يسكنها وأن يطعمها وأن يكسوها في المتوسط فسينفق عليها نفقة لا تتناسب مع وضعه المادي وفي هذا نوع من الظلم لها. وهذا كله يبيّن أنّ هذا القول فيه ضعف. قال - رحمه الله - (وعليه مؤنة نظافة زوجته) فعليه أن يأتي بكل أداة تساعد على النظافة من صابون أو أدوات للتنظيف والدلك أو ما يغسل به الرأس أو الجسد إلى آخره ,تعليل ذلك أنّ أدوات النظافة من النفقة بالمعروف فعليه أن يجلب لها هذا الذي هو من نفقة المعروف. قال - رحمه الله - (دون خادمها) أي لا يلزمه نفقة نظافة الخادم لأنّ الخادم لا يراد للزينة والنظافة وإنما يراد للعمل بخلاف الزوجة فإنها تتخذ للزينة والنظافة. تحدث المؤلف عن نفقة نظافة الخادم لكنه لم يتحدث عن نفقة الخادم. فالحنابلة يرون أنه يجب على الزوج أن ينفق على خادم الزوجة وهذه مسألة تختلف عن مسألة هل يجب على الزوج أن يحضر خادم للزوجة لكن إذا وجد الخادم فإنّ على الزوج أن ينفق عليها.

نأتي إلى مسألة تأمين الخادم للزوجة. ذهب الحنابلة بلا نزاع إلى أنه إذا كانت الزوجة مثلها يخدم فإنه يجب على الزوج أن يحضر خادما للزوجة واستدلوا على هذا بأنّ هذا من جملة النفقة بالمعروف لأنّ مثلها يخدم والزوج قادر فعليه أن يخدمها. والقول الثاني: أنه لا يجب عليه أن يخدمها , وأنتم تعلمون أن هذه المسألة مفروضة فيما إذا كانت الزوجة مثلها يخدم والزوج قادر على إحضار الخادم أي القولين أرجح؟ هل يجب عليه أن يخدمها؟ في الحقيقة يبدو لي أنه يجب عليه أن يحضر بهذين الشرطين. لاحظ يعني لا تكون الزوجة في بيتها ولا يخدم مثلها وإنما تشتغل طيلة النهار ثم إذا جاءت إلى الزوج قالت أريد خادمة لكن إذا كان مثلها يخدم عادة من بنات الأشراف التي يخدم مثلها وهو يتمكن من إحضار الخادم فالقول وجوبه ليس ببعيد عن نصوص النفقة بالمعروف. وجوب إحضار الخادم يقول عنه المرداوي ليس فيه خلاف أعلمه , أو لا أعلم فيه خلافا. وعادة يعبر بقوله بلا نزاع يعني في المذهب في هذه المسألة عبر بهذا التعبير لا أعلم فيه خلافا فلعله يقصد الخلاف العالي لأنه بدل عبارته المعتادة لعله يقصد هذا الأمر. يقول المؤلف - رحمه الله - (لا دواء وأجرة طبيب) يعني أنه لا يجب على الزوج أن يدفع أجرة الطبيب ولا قيمة الدواء وإلى هذا ذهب الجمهور واختاره شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله واستدلوا بدليلين: الأول" أنّ هذه النفقة ليست نفقة معتادة فلا تدخل في النفقة بالمعروف. الثاني: وهو دليل شيخ الإسلام أنّ التداوي ليس واجبا بل غاية ما هنالك أنه مباح. القول الثاني: أنه يجب على الزوج أن ينفق في علاج زوجته وقيمة الدواء ما كان يسيرا معتادا دون ما كان كثيرا خارجا عن العادة وإلى هذا القول ذهب شيخنا محمد العثيمين - رحمه الله - ولا أدري هل سبق أو لا لم أقف على أحد سبقه إلى هذا القول ولعله يريد أن يجمع بين الأقوال. القول الثالث: وهو لبعض المعاصرين أيضا أنه يجب على الزوج نفقة العلاج والدواء إذا كان غنيا وهي فقيرة. واستدل على هذا بأنّ تركها وهي فقيرة لا تستطيع أن تنفق على نفسها ليس من العشرة بالمعروف.

الإشكال في هذه المسألة أنّ عامة المتقدمين على عدم الوجوب ولذلك تلاحظ أنّ الإنسان يحكي خلاف عن المعاصرين والمتأخرين لا يكاد يجد خلافا عند المتقدمين ومن هنا صار في هذه المسألة إشكال كبير في الحقيقة ولو أردنا أن نرجح فسنجد إذا أردنا أن نتجاوز قضية عدم وجود خلاف عند المتقدمين ونرجح بين الأقوال فسنجد أنّ أقرب الأقوال ما اختاره شيخنا وهو قول وجيه جدا وقوي وسديد يتوافق مع أصول الشرع. إذا كان مبلغ العلاج كبير خرج عن المعروف ولم يلزم به الزوج وإذا كان يسيرا فليس من العشرة بالمعروف أن يتركها تتألم وهو يستطيع لزهادة ثمن الدواء أو أجرة الطبيب لو أردنا أن نرجح لكان هذا القول أرجح الأقوال لكن يشكل على المسألة برمتها عدم وجود الخلاف فإذا وجد خلاف فهذا هو الراجح وإذا كانت المسألة إجماع ولا يوجد خلاف بين المتقدمين فالراجح ما ذهبوا إليه وهو عدم وجوب النفقة مطلقا.

الدرس: (2) من النفقات قال شيخنا حفظه الله: بسم الله الرحمن الرحيم والحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين. قال المؤلف - رحمه الله -: فصل لما قرر المؤلف وجوب نفقة الزوجة عقد هذا الفصل ليبيّن أنواع خاصة من الزوجات وهي الرجعية والبائن والمتوفى عنها. كما أنه عقد هذا الفصل ليبيّن مسقطات النفقة فهو فصل في الحقيقة مفيد ومهم في باب النفقات. يقول المؤلف - رحمه الله - (ونفقة المطلقة الرجعية , وكسوتها , وسكناها كالزوجة , ولا قسم لها) الرجعية هي الزوجة التي يملك الزوج أن يردها إلى النكاح بلا رضا ولا عقد جديدين فهذه الرجعية لها النفقة كاملة كما في الزوجة يعني كنفقت الزوجة والدليل على ذلك قوله تعالى {وبعولتهن أحق بردهن في ذلك} [البقرة/228] ووجه الاستدلال أنه تعالى سماه بعلا وإذا سماه بعلا فهي زوجة , والزوجة في الشرع لها النفقة. ثم - قال رحمه الله - (ولا قسم لها)

تقدم لنا في باب الرجعة أنّ الرجعية زوجة في كل شيء إلاّ أنه لا قسم لها والسبب في ذلك أنها مطلقة وإذا طلقت سقط حقها فالمبيت وقد تقدم معنا هذا في كتاب النكاح. قال - رحمه الله - (والبائن بفسخ , أو طلاق لها ذلك إن كانت حاملا) قوله والبائن يشمل البينونة الكبرى والبينونة الصغرى فإذا كانت بائنة بينونة كبرى كمن طلق ثلاثا , أو صغرى كالمخالعة فإنها كما قال المؤلف - رحمه الله - لها ذلك إن كانت حاملا. البائن بفسخ أو طلاق مثلنا على الفسخ ومثلنا على الطلاق الثلاث والفسخ كالمخالعة على القول بأنّ الخلع فسخ أو المخالعة بسبب عيب ونحوه. هذه الزوجة لها النفقة إن كانت حاملا بالإجماع لقوله تعالى {وإن كن أولات حمل فأنفقوا عليهن حتى يضعن حملهن} [الطلاق/6] والآية صريحة في وجوب النفقة على الحامل. مسألة / فإن كانت البائن حائلا وليست حاملا فمفهوم عبارة المؤلف أنه لا نفقة لها ولا سكنى وهذا مذهب الحنابلة وهو القول الأول في المسألة أنه لا نفقة لها ولا سكنى فإذا كانت بائنة من غير حمل , واستدل الحنابلة بدليلين: الأول: حديث فاطمة بنت قيس فإنّ النبي - صلى الله عليه وسلم - أفتاها لما طلقت ثلاثا أنه لا نفقة لها ولا سكنى. الدليل الثاني: أنها بعد الطلاق أصبحت أجنبية عنه والأجنبية لا نفقة لها. القول الثاني: أنّ لها النفقة والسكنى , واستدل هؤلاء أيضا بدليلين: الأول: قوله تعالى {لا تخرجوهن من بيوتهن ولا يخرجن إلا أن يأتين بفاحشة مبينة} [الطلاق/1] الثاني: صح عن عمر - رضي الله عنه - أنه كان يرى وجوب النفقة والسكنى للمطلقة البائن ولم يقبل من فاطمة ما حدثت به وقال - رضي الله عنه - لا نترك ظاهر كتاب ربنا لقول امرأة لا ندري أحفظت أم نسيت. القول الثالث: أنّ لها السكنى دون النفقة. ودليل هؤلاء واضح وهو الجمع بين أدلة القولين. والراجح بلا إشكال إن شاء الله المذهب لأنّ حديث فاطمة في مسلم وليس للإنسان أن يترك هذا الحديث مهما كان ولو نقل خلافه عن عمر فالمطلقة البائن بناء على هذا لا نفقة لها ولا سكنى. ثم - قال رحمه الله - (والنفقة للحمل لا لها من أجله)

لما قرر المؤلف - رحمه الله - أنّ البائن لها النفقة إذا كانت حاملا بيّن مسألة أخرى وهي هل هذه النفقة للحمل أو لها من أجل الحمل فالمذهب كما ترى أنه للحمل. واستدلوا على هذا بأنّ النفقة تثبت بوجود الحمل وتنتفي بعدمه فدل ذلك على أنّ النفقة له. القول الثاني: أنّ النفقة لها من أجله واستدلوا بدليلين: الأول: الآية {وإن كن أولات حمل فأنفقوا عليهن} [الطلاق/6] فأضاف النفقة إلى المرأة. الثاني: أنّّ هذه النفقة تثبت في الإعسار والإيسار , فدل ذلك على أنّ النفقة لها من أجله لا له. القول الثالث: أنّ النفقة له ولها من أجله وهذا القول اختاره شيخ الإسلام ولم أقف على دليله يغلب على الظن أنه أراد أن يجمع بين أدلة القولين. لهذا الخلاف فروع وثمار كثيرة تنبني على الراجح في هذه المسألة نذكر مثالا واحدا يدل على أهمية المسألة. إذا حملت المرأة الموطوءة بشبهة أو بعقد فاسد من الرجل فإنه إذا كانت النفقة للحمل فيجب أن ينفق عليها وإذا كانت النفقة للمرأة فإنه لا يجب أن ينفق عليها لأنها ليست زوجة وإنما موطوءة بشبهة إذا هذه المسألة تبيّن أنه يترتب على هذا الخلاف الفقهي آثار كثيرة. الراجح المذهب وشيخ الإسلام قوله - رحمه الله - من حيث التفريع يتوافق مع المذهب فنستطيع أن نقول أنه في الحقيقة لا فرق كبير بين اختيار شيخ الإسلام وبين المذهب من حيث الثمرة لأنّ الشيخ - رحمه الله - ابن تيمية لما أراد أن يمثل فإذا هو يمثل كما مثل الحنابلة فيقول في الموطوءة بشبهة أنه تجب النفقة للحمل لا للموطوءة بشبهة بناء على هذا نستطيع أن نقرر قاعدة وهي [أن نفقة الرجل على البائن الحامل هي من باب نفقة الرجل على ابنه وليست من باب نفقة الرجل على زوجته] وإذا قررت هذه القاعدة استطعت أن تعرف جميع الفروع التي تنبني على هذه المسألة المهمة. ثم - قال رحمه الله - (ومن حبست ولو ظلما) بدأ المؤلف في بيان الأسباب التي تسقط النفقة بها , وقد وضع شيخ الإسلام ابن تيمية ضابطا عاما مفيدا لطالب العلم. وهو يقول [كل أمر تجب طاعة الزوج فيه إذا عصته الزوجة سقطت نفقتها] وسيأتينا أنّ الأمثلة تقرر وتبيّن وتوضح هذا الضابط الذي ذكره شيخ الإسلام - رحمه الله -

يقول المؤلف - رحمه الله - ومن حبست ولو ظلما) حبست المرأة فإما أن تحبس ظلما أو تحبس بحق , فإن حبست بحق سقطت النفقة بالإجماع. لأنّ سبب النفقة التمكين من الاستمتاع وقد فات بحبسها. ثانيا" إذا حبست ظلما على المذهب كذلك , تسقط النفقة لأنه وإن حبست ظلما إلاّ أنّ الزوج لا علاقة له بفوات الاستمتاع ولا سبب منه في سقوطه. والقول الثاني: أنه إذا حبست ظلما فإنّ النفقة تبقى ولا تسقط , لأنّ المرأة لم تتمكن من تقديم حق الزوج الواجب بعذر خارج عن قدرتها كما لو أنها مرضت فإنها إذا مرضت فإنّ الأئمة الأربعة يتفقون على أنّ النفقة لا تسقط بالمرض مع أنّ المريضة لا يتمكن الزوج من الاستمتاع بها فكذلك إذا حبست ظلما وهذا القول الثاني أقرب إن شاء الله. ثم - قال رحمه الله - (أو نشزت) تقدم معنا في آخر كتاب النكاح قبل باب الخلع الفصل المتعلق بالنشوز والكلام عن حد النشوز وبماذا تصبح المرأة ناشز الذي يعنينا الآن أنّ المرأة إذا حكمنا عليها شرعا أنها ناشز سقطت النفقة لأنها امتنعت عن تقديم الحق الواجب فسقطت نفقتها. والقول الثاني: أنّ الناشز تبقى نفقتها ولو نشزت , وهو مذهب الظاهرية واستدلوا على هذا القول بالعمومات فقالوا إنّ النصوص عامة لم تفرق بين الناشز وغيرها. وهو نوع من الجمود الذي لا يوافق عليه عامة الفقهاء ابن حزم فالراجح إن شاء الله مذهب الجماهير وهو سقوط النفقة إذا نشزت الزوجة. ثم - قال رحمه الله - (أو تطوعت بلا إذنه بصوم أو حج) إذا تطوعت الزوجة بصوم أو حج فإما أن يكون بإذن الزوج أو بغير إذنه. فإن كان بغير إذنه سقطت النفقة بلا إشكال لأنها بصيامها وحجها فوتت على الزوج حقه في الاستمتاع , وإن كان بإذنه سقطت النفقة عند الحنابلة لأنّ الاستمتاع فات وإن كان بإذن الزوج فهو محسن بالإذن ولكنه لم ينل حقه الشرعي. والراجح أنه إذا كان بإذنه فإنّ النفقة لا تسقط لأنه أسقط حقه باختياره. ثم - قال رحمه الله - (أو أحرمت بنذر حج أو صوم (

إذا أحرمت المرأة للوفاء بنذر حج أو صوم فإنّ النفقة تسقط سواء أذن الزوج بالنذر أو لم يأذن والخلاف في هذه المسألة قريب من الخلاف في المسألة السابقة. والراجح فيها كالراجح في المسألة السابقة , وهو التفريق بين أن يكون بإذن الزوج أو بغير إذنه. قال - رحمه الله - (أو صامت عن كفارة) إذا صامت المرأة عن كفارة فإنّ حقها في النفقة يسقط لأنّ وجوب الكفارة إنما كان بسبب من الزوجة فصارت هي المتسببة في فوات حق الزوج من الاستمتاع فسقطت النفقة لذلك على هذا عامة أهل العلم. والقول الثاني: أنه لا تسقط نفقة الزوجة بأداء الكفارة لأنه من المعتاد أن يقع الإنسان في الخطأ ويحتاج إلى أن يكفر وهي حال التكفير تؤدي حقا واجبا لله , وهذا القول ذهب إليه شيخنا - رحمه الله - ولا أدري هل سبق إلى هذا القول أو لم يسبق لأني بحثت عن سابق له بحثا غير مطول ولم أجد فإن كان سبق الشيخ فهو قول محرر وكل ابن آدم خطاء وإنما انشغلت بأداء كفارة أداء للواجب فهو قول وجيه وإن كان لم يسبق فمعلوم أنه إذا كانت المسألة محل اتفاق فإنه يتعيّن أن تسقط النفقة بسبب أداء الكفارة. ثم - قال رحمه الله - (أو قضاء رمضان مع سعة وقته) إذا أرادت المرأة أن تقضي رمضان مع وجود سعة في الوقت بحيث تتمكن من قضاء هذا اليوم في يوم آخر ومع ذلك أقدمت على قضائه فإنّ النفقة تسقط. لما تقدم من فوات حق الزوج بالاستمتاع مع تمكن المرأة من قضاء الواجب عليها في يوم آخر.

والقول الثاني: أنّ المرأة إذا صامت صياما واجبا كقضاء رمضان فإنّ النفقة لا تسقط ولو مع سعة الوقت لأنّ المسلم مأمور بالمبادرة بإبراء ذمته , والراجح ...... الذي يظهر لي أنه تسقط النفقة إذا قال الزوج لزوجته أو إذا أمرها أن تقضي يوما من رمضان في يوم آخر غير الذي أرادت هي أن تقضيه وأبت وصامت فإنّ النفقة تسقط. يعني في ذلك اليوم لأنّ حق الزوج واجب ومقدم والمبادرة في قضاء صيام رمضان نفل يعني المبادرة به نفل وقد وسع الله الأمر بأن تقضي في أي وقت آخر ولذلك كانت عائشة يكون عليها القضاء ولا تقضيه إلاّ قريب من رمضان الآخر وعللت ذلك بقولها لمكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وعائشة امرأة فقيهة وتعرف تتعامل مع النصوص تعاملا صحيحاً ولهذا عرفت أنّ حق الزوج مقدم على القضاء مادام فيه سعة. قال - رحمه الله - (أو سافرت لحاجتها ولو بإذنه سقطت) إذا سافرت المرأة لحاجتها فإنّ النفقة تسقط ولو كان السفر بإذن الزوج لأنها لما سافرت فوتت على الزوج حقه من الاستمتاع. والقول الثاني: أنه إذا كان بإذنه فإنّ النفقة لا تسقط لأنه رضي هو بإسقاط حقه وهذه المسألة تشبه المسائل السابقة التي نفرق فيها بين إذن الزوج وعدمه والراجح فيها هو أنّ النفقة تسقط مادام بإذنه. فهم من كلام المؤلف أنها إذا سافرت لحاجة الزوج لا لحاجتها فإنّ النفقة لا تسقط مطلقا لأنها سافرت في حاجته ففوات الاستمتاع كان بسببه فتبقى النفقة كما هي ولا تسقط. قال - رحمه الله - (ولا نفقة ولا سكنى لمتوفى عنها) المتوفى عنها لا نفقة لها ولا سكنى إذا كانت حائلا بالإجماع , لأمرين: - الأمر الأول" أنه بالموت سقط سبب وجوب النفقة وهو الاستمتاع. الأمر الثاني: أنه بموت الزوج انتقل المال إلى الورثة , والورثة لا يجب عليهم أن ينفقوا على الزوجة المتوفى عنها. إذا مات الزوج والزوجة حائل لا إشكال في سقوط النفقة والسكنى.

مسألة/ إذا مات الزوج والزوجة حامل فترجع المسألة إلى لمسألة السابقة هل النفقة على الحمل لها من أجله أو له؟ فإذا قررنا أن النفقة له فإنّ النفقة تسقط لماذا؟ لأنه بموت الأب صار لهذا الجنين مال ينفق عليه منه ولا يجب أن ننفق من التركة لأنّ التركة أصبحت مالا موروثا للورثة. والورثة لا يجب عليهم أن ينفقوا على الحمل ولهذا مذهب الحنابلة أنه لا نفقة لها لأنه يرون أنّ النفقة للحمل لا لها من أجله وهذا القول الثاني أنه لها من أجله تجب النفقة وهؤلاء قاسوا المتوفى عنها على الزوجة المفارقة في الحياة وتقدم معنا أنّ الزوجة المفارقة في الحياة تجب لها النفقة أليس كذلك؟ والراجح المذهب وهو أنه لا يجب النفقة ولو كانت حاملا , فإذا توفي الزوج والزوجة حامل وليس للزوج مال فنفقة الحمل على من؟ فنفقة الحمل على من تجب عليه نفقته بعد الولادة أليس كذلك؟ فننظر أي الأقارب عليه نفقة هذا الحمل فنلزمه بالنفقة أثناء مدة الحمل وسيأتينا من الأقارب يجب عليه أن ينفق. قال - رحمه الله - (ولها أخذ نفقة كل يوم من أوله) للزوجة أن تأخذ نفقة كل يوم من أوله يعني من أول اليوم والمقصود بأول اليوم عند الحنابلة ليس طلوع الفجر وإنما طلوع الشمس لأنه بطلوع الشمس تحتاج المرأة إلى النفقة , وطلوع الشمس هو أول وقت الوجوب فيجب على الزوج أن يعطي زوجته نفقة كل يوم بطلوع شمسه. قال - رحمه الله - (ليس لها قيمتها ولا عليها أخذها) يعني أنه لا يجب على المرأة أن تقبل القيمة إذا بذلها الزوج وليس على الزوج أن يبذل القيمة إذا طلبتها الزوجة. يعني بعبارة أخرى لا يجب على كل من الزوجين أخذ القيمة أو بذل القيمة بالنسبة للزوجة والزوج عند طلب أحدهما لأنّ بذل القيمة إنما هو من أو المعاوضات لا تكون إلاّ بالرضا , فإذا قالت الزوج أن تنفق علي طعاما وكسوة في كل يوم مائة ريال فأعطني مائة ريال نقدا فهل يجب على الزوج أن يعطيها؟ لا يجب كذلك العكس. إذا قال هو أنا أنفق عليك كل يوم مائة فسأعطيك المائة فإنه لا يجب عليها أن تقبلها لما تقدم من أنّ المعاوضات يشترط فيها الرضا. قال - رحمه الله - (فإن اتفقا عليه , أو على تأخيرها , أو تعجيلها مدة طويلة أو قليلة جاز)

إذا اتفقا على أخذ القيمة أو على تأجيل النفقة أو على تقسيطها أو على أي صفة فيها جاز. لأنّ الحق لا يخرج عنهما فإذا رضي بشيء جاز فعله والنفقات إنما هي من باب المعاوضات وكل شيء من باب المعاوضات فإنه يصح برضا الطرفين , ولهذا يقول فإن اتفقا عليه أي على أخذ القيمة أو على التأخير أو على التأجيل سواء كان التأجيل مدة قليلة أو قصيرة جاز مادام برضا الطرفين. قال - رحمه الله - (ولها الكسوة كل عام مرة في أوله) لها الكسوة في كل عام ثم بيّن وقت الوجوب وهو في أوله , فللزوجة أن تأخذ الكسوة في أول كل عام علمنا من هذا أنّ المؤلف حين تحدث عن وجوب النفقة في أول كل يوم فهو يتحدث عن ماذا؟ الطعام. والسكن أنه معلوم أنه من أول السنة. أما الكسوة فليست في كل يوم لن يأتي لها بكسوة كل يوم وإنما في السنة مرة واحدة ,استدل الحنابلة على هذا بأنه جرى العرف بوجوب النفقة في كل سنة مرة واحدة وإنما عيّن الحنابلة أول السنة لأنه وقت والوجوب. والقول الثاني: أنه يجب عليه أن يعطيها كسوة الشتاء في أوله وكسوة الصيف في أوله , ويظهر لي أنه لا فرق بين القولين لأنّ الذين يرون أنه يعطي الكسوة في أول السنة يعني كسوة تصلح لكل السنة ولا يظهر أنّ مقصودهم أن يعطيها كسوة تكفي للستة الأشهر الأولى التي تتسم مثلا ببرودة الجو دون الستة الأشهر الأخيرة التي تتسم بحرارة الجو. فليس بين القولين فرق. والخلاصة من هذا أنه يجب أن يعطيها كسوة الشتاء وكسوة الصيف. قال - رحمه الله - (وإذا غاب ولم ينفق لزمته نفقة ما مضى) يشير المؤلف بهذه العبارة وهي قوله وإذا غاب إلى آخره يشير إلى مسألة تحدثت عنها الدرس السابق وهي أنّ نفقة الزوجة لا تسقط بالتقادم وأخذنا علة عدم سقوط النفقة بالتقادم وهي أنّ سبب وجوب نفقة الزوجة هو المعاوضة. وإذا وجب الشيء على سبيل المعاوضة فإنه لا يسقط بالتقادم بينما نفقة الأقارب إنما وجبت على سبيل المواساة والصلة فهي تسقط بالتقادم تقدمت معنا هذه المسألة فهو يشير المؤلف - رحمه الله - إليها بقوله (وإذا غاب ولم ينفق لزمته نفقة ما مضى) قال - رحمه الله - (وإن أنفقت في غيبته من ماله فبان ميتا غرمها الوارث ما أنفقته بعد موته)

إذا غاب الزوج وأنفقت الزوج من ماله سواء استطاعت أن تأخذ من ماله مباشرة أو اقترضت عليه فإنه إذا تبيّن أنّ الزوج مات في مدة هذه النفقة فإنّ الورثة يرجعون على الزوجة ويأخذون ما أخذت من مال زوجها الذي تبيّن أنه مات وعلة ذلك أنه بموته تبيّن أنها أخذت مالا لا تستحقه لماذا؟ لأنه تقدم معنا أنه بموت الزوج تسقط النفقة فإذا تبيّن أنّ الزوج مات فإنّ الورثة يرجعون على الزوجة بما أخذت من مال هذا الميت. فصل قال - رحمه الله - (ومن تسلم زوجته , أو بذلت نفسها ومثلها يوطأ وجبت نفقتها) بيّن المؤلف أنّ النفقة تجب بشرطين. أي نفقة الزوجة: - الشرط الأول: أن تبذل نفسها. الشرط الثاني: أن تكون هذه الزوجة مثلها يوطأ. نبدأ بالشرط بالأول: الزوجة لا تستحق النفقة إلاّ إذا تسلمها الزوج تسلما حقيقيا أو حكميا. والتسلم الحقيقي أن تذهب إلى بيته. والحكمي أن تبذل نفسها فإذا بذلت نفسها استحقت النفقة سواء أخذها حقيقة أو بقيت في بيت أهلها مادامت الزوجة بذلت نفسها فإنها تستحق النفقة بالشروط التي ستأتينا. وهذا أمر واضح وهو أن يتسلم الزوج زوجته. الثاني: أن تكون هذه الزوجة مما يوطأ مثلها , والزوجة التي يوطأ مثلها هي بنت تسع. والقول الثاني: أنّ الزوجة التي يوطأ مثلها تختلف باختلاف النساء فمن النساء من يوطأ مثلها وإن كانت دون التسع ومنهن من لا يوطأ مثلها وإن كانت بنت تسع وهذا يختلف بوضع المرأة وجسمها وملابسات أخرى وهذا القول الثاني أنّ المرأة التي يوطأ مثلها يرجع في تحديدها إلى العرف ويرجع إلى طبيعة المرأة اختيار العلامة المرداوي وهو الصحيح ولا نحدد هذا بسن معيّن بل نقول ينظر إلى المرأة بحيث تنظر النساء التي لهن خبرة هل مثل هذه المرأة توطأ أو لا توطأ. عرفنا الآن أنه يشترط لوجوب النفقة أن تكون الزوجة ما يوطأ مثلها , في هذه المسألة يعني في اشتراط هذا الشرط خلاف.

فذهب الأئمة الأربعة إلى أنّ الزوجة وإن استلمها الزوج إذا كان مثلها لا يوطأ فإنه لا يجب عليه النفقة. ولو كانت مما يمكن أن يستأنس بها بالحديث أو تقوم بخدمته. يعني الأئمة الأربعة يشترطون لوجوب النفقة أن يوطأ مثلها ولو كانت امرأة كبيرة يمكن أن يستأنس بها الزوج بوجودها في البيت ويمكن أن تقوم بخدمته بإعداد الطعام وغسل الثياب وتنظيف البيت وغيره من الأشياء ولو كانت هذه صفتها لا تجب لها النفقة مادام مثلها لا يوطأ. القول الثاني: أنه إذا كانت المرأة يمكن للزوج أن يستأنس بها بالحديث أو بالخدمة فإنه يجب عليه أن ينفق عليها وإن كان لا يوطأ مثلها إذا سلمت نفسها له. واختار هذا القول أبو يوسف من الأحناف. والقول الثالث: أنّ المرأة إذا سلمت نفسها للزوج وتسلمها فإنه يجب أن ينفق عليها مطلقا بلا شرط ولا قيد. والراجح مذهب أبي يوسف فإنّ كلامه في هذه المسألة وجيه مادام الزوج أخذ زوجته إلى بيته وأمكن الانتفاع بها بالاستئناس والخدمة فإنه ينفق عليها نظير الاستئناس والخدمة. قال - رحمه الله - (ولو مع صغر زوج ومرضه وجبه وعنته) يقول المؤلف ولو مع صغر زوج ..... إلى آخره إذا تحقق الشرطان سلمت الزوجة للزوج وأمكن أن يطأها فإنه يجب عليه أن ينفق ولو لم يتمكن من الجماع لسبب فيه , سواء كان هذا السبب مرض أو كان عنينا أو لأي سبب من الأسباب لأنّ المرأة بذلت نفسها البذل الواجب وترك الاستمتاع بسبب الزوج فلا تسقط النفقة. مسألة / إذا تسلم الزوج زوجته بالشرطين السابقين فيجب أن ينفق ولو كانت لا يمكن أن توطأ الآن لكونها حائض أو مريضة لأنّ البذل الواجب حصل وهذا السبب سبب عارض وتقدم معنا أن الزوجة المريضة عند الأئمة الأربعة يجب على الزوج أن ينفق عليها وإن لم يتمكن من الاستمتاع بها. قال - رحمه الله - (ولها منع نفسها حتى تقبض صداقها الحال)

للمرأة أن تمتنع من الانتقال إلى بيت الزوج حتى تقبض الصداق الحال يعني وتجب لها النفقة في هذه الحال لأنّ المؤلف لا يتحدث عن مسألة استلام الزوجة أو تمكين الزوجة من نفسها أو عدمه إنما يتكلم عن ماذا؟ عن النفقات أما مسألة تمكين الزوجة نفسها للزوج وانتقاله البيت فتحدث عنها في موضع سابق بالتفصيل أين؟ تحدث في باب الصداق تحدث متى يجب أن تسلم نفسها ومتى يجوز لها أن تمتنع هو لا يتحدث عن هذه المسألة هو يتحدث عن النفقات. فالمرأة إذا جاز لها أن تمتنع من تسليم نفسها بسبب شرعي فإنّ النفقة تجب في هذه الحال فهنا نقول إذا امتنع الزوج من تسليم الصداق الحال فلها أن تمتنع ولها النفقة , السبب قالوا أنّ عدم الاستمتاع في هذه الصورة هو في الحقيقة بسبب الزوج لأنه امتنع عن تسليم الصداق وليس بسبب الزوجة لأنها امتنعت من الانتقال إلى بيت الزوج لأنها امتنعت بسبب امتناعه عن أداء الواجب وهذا صحيح. قال - رحمه الله - (فإن سلمت نفسها طوعا ثم أرادت المنع لم تملكه)

إذا سلمت المرأة نفسها طوعا يعني قبل أن تقبض الصداق الحال فإنها بعد التسليم ليس لها أن تمتنع من تسليم نفسها للزوج , وليس لها أن تمتنع من الوطء بل يجب عليها أن تبقى وأن تمكنه فإنّ امتنعت سقط حقها في النفقة لماذا؟ لأنها امتنعت عن تسليم نفسها امتناعا غير شرعي قدرنا أو وضعنا ضابط في الأول أنها إذا امتنعت من تسليم نفسها امتناعا شرعيا لم تسقط النفقة عكسه إذا امتنعت امتناعا غير شرعي فإنها تسقط نفقتها , لكن تقدم معنا في باب الصداق أنّ المرأة إذا سلمت نفسها للزوج قبل أن يسلم الصداق ضانة أنه سيبذل الصداق ثم امتنع عن بذل الصداق فإنّ لها أن تمتنع من الوطء ولها أن ترجع إلى بيتها فعلى هذا القول الراجح إذا سلمت نفسها ثم تبيّن لها أنه لن يبذل الصداق فلها أن ترجع والنفقة تسقط أو لا تسقط؟ على هذا القول الثاني لا تسقط لأنه رجحنا هناك أنّ لها أن تمتنع مادام امتنع عن أداء الصداق إذا هذه المسألة مبنية على هل الامتناع شرعي أو ليس بشرعي؟ إذا قررت وقدرت أنه شرعي فلها النفقة وإلاّ فليس لها النفقة. ومما يقوي وجوب النفقة إذا امتنعت أنّ المرأة إذا سلمت نفسها ومكنت الزوج من الوطء فإنه بعد الوطء لن تتمكن من استرجاع ما بذلته أليس كذلك؟ ما هو الذي بذلته؟ البكارة والبضع. وليس الذي بذلته التمكين من الوطء حتى نقول ترجع ولا تمكنه من الوطء الذي بذلته هو البكارة وهذا لا يمكن أن ترجع به ولهذا لها أن تمتنع حتى لا تفقد أمرا لا يمكن الرجوع فيه ولهذا الراجح إن شاء الله كما تقدم لها أن تمتنع وتجب عليه النفقة قال - رحمه الله - (وإذا أعسر بنفقة القوت , أو الكسوة , أو بعضها , أو المسكن , فلها فسخ النكاح) الزوج المعسر هو الزوج العاجز عن بذل الواجب عليه من نفقة الزوجة إذا صار عاجزا حكمنا عليه أنه من المعسرين وترتبت عليه الأحكام التي ذكرها المؤلف. يقول (وإذا أعسر بنفقة القوت والكسوة أو بعضها ...... إلى آخره إذا أعسر الزوج فللمرأة الخيار بين الفسخ أو الصبر فلها الحق أن تفسخ ولها الحق أن تصبر , واستدل الحنابلة على هذا بأمرين: - الأول: أنّ المرأة إنما سلمت نفسها وبذلت المنفعة مقابل النفقة فإذا لم يتمكن استحقت الفسخ.

الثاني: وهو الأقوى كان ينبغي أن نبدأ به , هو أنه صح عن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - أنه أرسل لأمراء الأجناد أنّ من كان من الجند له زوجة فإما أن يرسل بالنفقة أو يرسل بالطلاق , قال رضي الله عنه وإذا أرسل بالطلاق فليرسل بنفقة ما مضى] فهذه الفتوى من عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - فيها أنّ الزوجة لها حق الطلاق إذا لم يتمكن من النفقة. الدليل الثالث: حديث أبي هريرة أنّ النبي - صلى الله عليه وسلم - قال أنفق أو فارق - والصواب في هذا الحديث أنه موقوف ولا يصح مرفوعا إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - وإذا كان موقوفا فقد صح عن عمر وعن أبي هريرة ولا يعلم لهما مخالف. القول الثاني: أنّ المرأة لا تملك الفسخ بل تملك أن تستدين على الزوج أو يرسلها لتكتسب ولا تملك الفسخ بل عليها أن تنظر الزوج واستدل هؤلاء بقوله تعال {وإن كان ذو عسرة فنظرة إلى ميسرة} [البقرة/280] وهذه الآية في الديون والنفقات من جملة الديون. القول الثالث: فيه تفصيل إذا دخلت الزوجة على الزوج وهي عالمة بعسره أو كان موسرا فأعسر فإنها لا تملك الفسخ. وإن كان الزوج غرّها بإيهامه إياها أنه موسر ثم تبيّن أنه معسر أو كان موسرا وامتنع عن النفقة فلها الفسخ استدل أصحاب هذا القول بأنه إذا كانت الزوجة تعلم بإعساره فقد دخلت على بصيرة فلا حق لها بالفسخ , وإذا كان موسرا ثم أعسر فإنه مازال الصحابة الواحد منهم يصيبه العسر وقلة ذات اليد ولم ينقل أنّ زوجات الصحابة كن يطالبن بالفسخ. كما أنّ عائشة - رضي الله عنها - وحفصة لما طلبا من النبي - صلى الله عليه وسلم - النفقة همّ أبو بكر وعمر بضربهما مما يدل على أنّ المطالبة كانت غير شرعية وأنه يجب على حفصة وعائشة الصبر وهذا القول اختاره العلامة ابن القيم وهذا القول صحيح إلاّ أني لا أراه صحيحا في نقطة واحدة وهي إذا كان الزوج موسرا ثم أعسر هذه النقطة الراجح فيها أنها تملك الفسخ وقول ابن القيم أنه لم يعهد في الصحابة بل عهد فهذه فتوى عن عمر وعن أبي هريرة.

باب نفقة الأقارب والمماليك والبهائم

وأيضا ثبت في مراسيل ابن المسيب جواز فسخ المرأة بالإعسار , ومراسيل سعيد من أقوى المراسيل ففي هذا الباب توجد آثار عن أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - فنحن لا نوافق ابن القيم على مسألة إذا كان موسرا ثم أعسر أما باقي الذي ذكره فهو سديد وقوي وفيه من التحرير والمتانة ما لا يخفى. فهو الراجح باستثناء مسألة إذا كان موسرا ثم أعسر. قال - رحمه الله - (لا في الماضي) هذه العبارة وهي قوله [لا في الماضي] ليست في كل النسخ وإنما في بعضها ومعنى هذه العبارة أنّ الزوج إذا أعسر في وقت من الأوقات ثم زال عسره وأصبح موسرا وأنفق فإنّ الزوجة لا تملك المطالبة بالفسخ باعتبار أنه أعسر في وقت من الأوقات وهذا واضح ولهذا لعل هذه العبارة لم توجد في كل النسخ لأنّ هذا الحكم واضح أنها لا تملك الفسخ إلاّ بإعسار حاضر. قال - رحمه الله - (فإن غاب ولم يدع لها نفقة وتعذر أخذها من ماله واستدانتها عليه فلها الفسخ بإذن الحاكم) إذا غاب الزوج فإنّ حكم الزوج الغائب كحكم المعسر وذلك بالقياس على المعسر بل الغائب أعظم من المعسر لأنّ المعسر قد يجد وينفق والغائب لا يمكن أن ينفق لأنه ليس موجودا أصلا فإذا غاب الزوج فإنّ المرأة تملك الفسخ عن طريق الحاكم لكن اشترط المؤلف شروطا: الشرط الأول: أن لا يدع لها نفقة. الشرط الثاني: أن يتعذر عليها الأخذ من ماله. يعني الموجود في البلد. الثالث: أن يتعذر عليها أن تستدين عليه. إذا وجد الشروط الثلاث فللمرأة أن تطلب الفسخ من الحاكم قياسا على المعسر بل هو أولى لما سبق. وإذا تمكنت من أخذ ماله والاستدانة عليه أو ترك لها نفقة فليس لها ولا للحاكم أن يفسخ. باب نفقة الأقارب والمماليك والبهائم لما انتهى المؤلف في الكلام عن نفقة الزوجة انتقل إلى الكلام عن نفقات الأقارب والمماليك والبهائم وبدأ بنفقة الأقارب. يقول المؤلف - رحمه الله - (تجب أو تتمتها لأبويه وإن علوا , ولولده وإن سفل)

يجب على الإنسان أن ينفق على أبويه وأن ينفق على ولده وإن علوا وإن سفل ووجوب نفقة الوالدين والأولاد محل إجماع بلا خلاف لشدة القرب ولظهور النصوص فيه كقوله تعالى {وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه وبالوالدين إحسانا} [الإسراء/23] والنفقة من الإحسان وكقول النبي - صلى الله عليه وسلم - خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف. وكقوله - صلى الله عليه وسلم - إنّ أطيب ما أكل الرجل من كسبه وإنّ ابنه من كسبه. وهذا محل إجماع أنه يجب عليه أن ينفق على والديه وأبنائه. * مسألة / / فإذا كان للإنسان أم وليس له أب. أو كان له أم غنية والأب فقير فإنه يجب على الأم أن تنفق لأنه يصدق على الابن أنه ابن لها وهذا واضح أنه يجب على الأم أن تنفق واضح. لكن هل يجب على الأم أن ترجع إلى الأب إذا أيسر أو لا ترجع؟ فيه خلاف الراجح في ما يبدوا لي أنها لا ترجع إذا أنفقت حال إعسار الأب فإنها لا ترجع إذا أيسر وعلة ذلك ما تقدم معنا أنّ نفقة الأقارب من باب ماذا؟ المواساة والصلة فإذا لا ترجع بها ثم سيذكر المؤلف التفصيل المتعلق بنفقة الوالدين والأبناء. قال - رحمه الله - (حتى ذوي الأرحام منهم حجبه معسر أو لا) مقصود المؤلف بقوله (حتى ذوي الأرحام منهم .... إلخ) أنه لا يشترط في نفقة عمودي النسب أن يكون المنفق وارثا لهما. بل يجب عليه أن ينفق ولو لم يرث. وذكر المؤلف صورتين لعدم الإرث الأولى" ذوي الأرحام. والثانية" المحجوب. فإذا كان للإنسان ابن من ذوي الأرحام أو أب من ذوي الأرحام فإنه يجب عليه أن ينفق على هذا الأب والابن وإن لم يرث. مثاله. مثل أب الأم. ومثل ابن البنت. فهؤلاء من ذوي الأرحام يعني لا يرثهم هو ومع ذلك يجب عليه أن ينفق عليهم. المثال الثاني: الحجب أن يكون للشخص أب فقير وجدّ فقير فهذا الابن محجوب بالأب فإنه لا يرث هذا الجد ومع ذلك يجب عليه أن ينفق عليه ونحن نقول أب فقير لماذا؟ لأنه لو كان غني لأنفق هو على أبيه. إذا صلة الإنسان بعمودي النسب قوية جدا ولذلك لا يشترط أن يرث. قال (وكل من يرثه بفرض , أو تعصيب لا برحم ....

قوله وكل يعني ويجب أن ينفق على كل من يقول يرثه بفرض أو تعصيب لا برحم يجب على الإنسان أن ينفق على كل شخص يرثه بفرض أو تعصيب وإلى هذا ذهب الجمهور واستدلوا على هذا بقوله تعالى {وعلى المولود له رزقهن وكسوتهن بالمعروف لا تكلف نفس إلا وسعها لا تضار والدة بولدها ولا مولود له بولده وعلى الوارث مثل ذلك} [البقرة/233] فأوجب النفقة على المولود له ثم عطف عليه قوله وعلى الوارث مثل ذلك. الدليل الثاني: أنّ صلة القرابة بينهما قوية. بسبب الإرث يعني علامة قوة القرابة أنه يرث. القول الثاني: أنه لا يجب على الإنسان أن ينفق إلاّ على الوالدين والأولاد فقط. دون بقية الأقارب ولو كان يرثهم استدل هؤلاء بأنّ رجلا قال للنبي - صلى الله عليه وسلم - عندي دينار. فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - أنفقه على نفسك. قال عندي آخر قال أنفقه ولدك. قال عندي آخر. قال أنفقه على زوجك. قال عندي آخر قال أنفقه خادمك. قال عندي آخر. قال أنت أبصر به. وفي لفظ تقديم الزوجة على الولد. استدل أصحاب هذا القول بأنّ النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يذكر الأقارب في الحديث. والجواب عليه أنه صح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه سئل من أولى بصحابتي. فقال أمك. ثم أمك. ثم أمك. ثم أبيك. ثم أدناك أدناك وهذا اللفظ في مسلم يعني إلى أبيك في الصحيحين وزيادة ثم أدناك في مسلم فدل الحديث على وجوب النفقة على الأقارب. القول الثالث: أنه تجب النفقة على كل ذي رحم من محرم مسلم في غير عامودي النسب , يعني لا يشترط الإسلام في عامودي النسب ولو لم يكن بينهما توارث. واستدل أصحاب هذا القول بأنّ الله سبحانه وتعالى أمر بالإحسان إلى الوالدين ثم عطف عليه بقوله وبذي القربى. واستدلوا بعموم الحديث السابق الذي في مسلم ثم أدناك أدناك. فهو عام وحقيقة هذا القول أنهم يرون أنّ النفقة تجب بسببين: السبب الأول: الإرث وهو المذكور في القرآن. السبب الثاني: الرحم وهو المذكور في السنة.

وذهب إلى هذا القول ابن القيم وانتصر له بقوة وأطال في تقريره , وبعد التأمل في المسألة كثيرا في الحقيقة وينبني على مسألة وجوب النفقة مسائل كثيرة وهي مسألة مهمة. بعد التأمل ظهر لي أنّ قول الجمهور أرجح لأنه وإن ودلت السنة على وجوب النفقة على ذوي الأرحام إلاّ أنه مفسر بالكتاب بأنه لمن يرث. والجمع بين النصوص وحمل بعضها على بعض طريقة الأئمة أضف إلى هذا لأدري هل سبق ابن القيم أو لا هل يوجد أحد أنا لا يحضرني الآن هل هو سبق أو لا. لا شك أنّ الجماهير على القول الأول الأئمة الأربعة والفقهاء السبعة وغيرهم من فقهاء المسلمين على هذا القول الأول ولكن يبقى هل قيل به من غير ابن القيم أو لا ومع أنّ الإنسان يرجح القول الأول إلاّ أني أقول مسألة فيها تردد وتحتاج إلى تأمل لكن هذا الذي يظهر الآن يعني بعد التأمل وإن كانت تحتاج إلى مزيد تأمل وأيضا مزيد طلب أدلة إذا في المسألة أدلة غير ما ذكر. قال - رحمه الله - (لا برحم سوى عمودي النسب) إذا كنت ترث الإنسان برحم فلا يجب عليك أن تنفق عليه مثل الخال والخالة. فهم من ذوي الأرحام. إذا كان الإنسان يرث هذا الخال أو الخالة بالرحم فإنه لا يجب عليه أن ينفق عليه. لأنه ليس من العصبات ولا من الأقارب الذين يرثهم إرثا مباشرا وإنما الخال والخالة يورث إذا لم يوجد معصب ولا صاحب فرض. القول الثاني: أنّ ذوي الأرحام إذا كان الإنسان يرثهم فإنه يجب أن ينفق عليهم وهذا القول اختيار شيخ الإسلام - رحمه الله - وهذا القول وجيه لأنّ الله سبحانه وتعالى مادام ربط الأمر بالإرث فإنه إذا كان الإنسان يرث أحدا من ذوي أرحامه فإنه يجب عليه أن ينفق على هذا الذي يرثه. ثم - قال رحمه الله - (سوى عمودي النسب) عمودي النسب لا يشترط فيهم الإرث كما تقدم معنا لا يشترط أن يكون المنفق وارثاً واستدلوا على هذا بأنّ الوالد والولد يدخل في مطلق اسم الوالد والولد فتجب نفقته. الثاني: أنّ هذه قرابة توجب العتق فيستوي فيها إذا كان وارثا أو لم يكن وارثا. القول الثاني: أنه يشترط حتى في عمودي النسب الإرث. فمن كان من عمودي نسبه لا يرثه فإنه لا يجب عليه أن ينفق عليه والراجح الأول انه لا يشترط في عمودي النسب الإرث.

ثم - قال رحمه الله - (سواء ورثه الآخر كأخ أو لا كعمة وعتيق) مراد المؤلف بهذا انه لا يشترط أن يكون الإرث من الطرفين بل يشترط أن يكون الإرث من طرف واحد وهو طرف المنفق إذا كان المنفق وارثا يجب عليه أن ينفق ولو كان المنفق عليه لا يرث من المنفق. وذكر المؤلف المثال بقوله كعمة. فالعمة يرثها المنفق لأنه يعتبر ابن أخ بينما هي لا ترثه لأنّ العمة من الأرحام فلا ترث. إذا في العمة الإرث من جهة واحدة وهي من جهة المنفق ولا المنفق عليه؟ من جهة المنفِق. يعني أنّ المنفِق هو الوارث فيجب عليه أن ينفق. وكذلك العتيق لا يرث معتقه بينما معتقه يرثه. ثم قال - رحمه الله - (بمعروف) قوله بمعروف يعني النفقة تجب بالمعروف وليس لها حدا وقدرا معيّنا بل يرجع في تحديدها إلى المعروف لقوله تعالى {وعلى المولود له رزقهن وكسوتهن بالمعروف} [البقرة/233] ولقوله في حديث جابر الذي تقدم معنا [فلهن عليكم كسوتهن ونفقتهن بالمعروف] فإذا لا شك أنّ النفقة بالمعروف. ثم - قال رحمه الله - (مع فقر من تجب له وعجزه عن كسبه) بدأ المؤلف بذكر شروط النفقة فالشرط الأول: تقدم معنا وهو أن يكون المنفق وارثا. الشرط الثاني: أشار إليه بقوله [مع فقر من تجب له وعجزه عن كسبه] يشترط لوجوب النفقة أن يكون القريب المنفق عليه فقيرا عاجزا عن التكسب فإن كان غنيا أو فقيرا لكن يستطيع أن يتكسب فإنه لا يجب على المنفق أن ينفق عليه. الدليل قالوا إنّ النفقة إنما وجبت على سبيل البر والصلة. وإذا كان غنيا أو ممتنعا عن التكسب فليس محلا للبر والصلة. وهذا الشرط صحيح أنه يشترط لوجوب النفقة أن يكون فقيرا وعاجزا عن التكسب. يقول - رحمه الله - (إذا فضل عن قوت نفسه وزوجته ورقيقه يومه وليلته وكسوة وسكنى) هذا هو الشرط الثالث أن يكون مع المنفق قوتا فاضلا عن قوت نفسه وزوجته وعن الكسوة وعن السكن فإذا فضل عند شيء وجب عليه حينئذ أن ينفق وإذا لم يفضل فإنه لا يجب عليه أن ينفق بل يبدأ بنفسه ثم بزوجه ثم بولده ووالده. ثم - قال رحمه الله - (من حاصل أو متحصل)

يعني يجب عليه أن ينفق سواء كان المال حاصل وهو الموجود بيده الآن أو متحصل وهو الذي يحصل عليه بصنعة أو براتب يأتي مقدرا كل شهر سواء كان المتحصل يأتي بصنعة وتجارة أو براتب مقرر من وظيفة ونحوها فيجب عليه إذا وجد الحاصل أو المتحصل أن ينفق. إذا لا يشترط في وجوب النفقة أن يوجد المال الآن بل إذا كان متحصل فيجب عليه أن ينفق منه.

الدرس: (3) من النفقات قال شيخنا حفظه الله: بسم الله الرحمن الرحيم والحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين. ثم قال - رحمه الله -: (لا من رأس مال) معنى قول المؤلف يعني لا يجب على المنفق إذا لم يجد إلا رأس ماله أن ينفقه على من تلزمه نفقته من الأقارب لأن رأس المال إذا هلك لم يكن له مصدر للرزق كما أن رأس المال إذا نقص نقص الربح فدخل النقص على الزوجة والنفس والأولاد وحقهم مقدم على الأقارب ولهذا فإنه لا نوجب على المنفق أن ينفق على أقاربه من نفس المال. ثم قال - رحمه الله -: (وثمن ملك وآلة صنعة) لا يجب على المنفق إذا لم يجد نقدا أن يبيع الملك سواء كان هذا الملك بيتا أو أرض أو مزرعة أو سيارة فإنه لا يلزم ببيع هذه الأعيان لأنه أمره بالبيع فيه ضرر وفيه مشقة وكذلك لا نلزمه ببيع الآلة للسبب نفسه وتحصل من هذا أنه ينفق مما يجد لا يُلزم ببيع ملكه والته التي يعمل بها ولا بالإنفاق من رأس مال. ثم قال - رحمه الله -: (ومن له وارث غير أب فنفقته عليهم على قدر إرثهم) إذا كان للإنسان أكثر من وارث سوى الأب فإن النفقة تجب على هؤلاء الوارثين على قدر إرثهم لأن سبب وجوب النفقة هو الإرث وإذا كان هو السبب فإنه تقسم النفقة عليهم على قدر إرثهم مراعاة لسبب الوجوب ولما قرر المؤلف القاعدة ذكر مثالين. ثم قال - رحمه الله -: (وعلى الأم الثلث والثلثان على الجد)

إذا كان للإنسان أم موسرة وجد موسر فالنفقة عليهما على قدر إرثهما ولهذا يقول المؤلف (فعلى الأم الثلث والثلثان على الجد) لأنه لو مات لورثت الأم الثلث والجد الباقي وهو الثلثان , فثلث النفقة على الأم وثلثي النفقة على الجد , كما تقسم المواريث تقسم النفقة تماما , يعني والمسألة مفروضة على أساس انه لا يوجد من يرثه إلا الأم والجد. ثم قال - رحمه الله -: (وعلى الجدة السدس والباقي على الأخ) لو مات ميت عن جدة وأخ فللجدة السدس والباقي للأخ , كذلك نفقته عليهم هكذا ,فعلى الجدة أن تنفق سدس النفقة والباقي على الأخ. ثم قال - رحمه الله -: (والأب ينفرد بنفقة ولده) إذا كان يرث الإنسان عدد من أقاربه منهم الأب فإن النفقة على الأب وينفرد بتحمل النفقة. وهذه المسألة تنقسم إلى قسمين: القسم الأول: ألا يكون مع الأب ابن , والقسم الثاني: أن يكون مع الأب ابن .. بالنسبة للقسم الأول إذا لم يكن مع الأب ابن فإنه يجب عليه النفقة بالإجماع لقوله تعالى {وعلى المولود له رزقهن وكسوتهن بالمعروف} [البقرة/233] وإذا كان مع الأب ابن فقد اختلف الفقهاء فمنهم من قال النفقة على الأب ولا شي على الابن لظاهر الآية. ومنهم من قال بل النفقة عليهما على قدر الإرث. ومنهم من قال بل النفقة على الابن لأن حق الأب على الابن أعظم من حق الابن على الأب , وحملوا الآية على أن المولود له هذا الابن لن يكون له ابن لأنه يفترض أنه صغير. ثم قال - رحمه الله -: (ومن له ابن فقير وأخ موسر فلا نفقة له عليهما)

إذا لم يكن للإنسان إلا ابن فقير وأخ موسر فإنه لا يجب عليهما أن ينفقا عليه .. أما الابن فلأنه فقير , وتقدم معنا من شروط وجوب النفقة القدرة , وأما الأخ الموسر فلأنه لا يرث , وتقدم معنا أن من شروط وجوب النفقة على الأقارب من غير عامودي النسبة أن يكونوا وارثين , وفي هذه الصورة الأخ لا يرث لأنه محجوب بالابن , ويبقى هذا الشخص فقيرا معدما لأن ابنه فقير وأخوه غني لكنه محجوب بالابن. هذه المسألة التي جعلت ابن القيم - رحمه الله - ينتصر للقول الثالث في ضابط وجوب النفقة لأنه يقول لا يُعقل أن هذا الشخص يبقى جائعا عريانا فقيرا معدما وأخوه من أغنى الأغنياء لمجرد أنه لا يرث , فهو يقول في مثل هذه الصورة ينكشف ضعف قول الجمهور في مثل هذه الصورة , فيستأنس بمثل هذه الأمثلة على ضعف قول الجمهور. وتقدمت معنا هذه المسألة لكن احببت أن أشير إلى ما يتعلق بها في هذا المثال. ثم قال - رحمه الله -: (ومن أمه فقيرة وجدته موسرة فنفقته على جدته) لأنه في عامودي النسب لا يشترط الإرث. نرجع فنقول ومن أمه فقيرة وجدته موسرة فنفقته على جدته وان كانت محجوبة بالأم لأنه لا يشترط في عامودي النسب أن يكون وارثا , بل يجب عليه أن ينفق ولو لم يكن وارثا. ثم قال - رحمه الله -: (ومن عليه نفقة زيد عليه نفقة زوجته) مقصود المؤلف الإشارة إلى قاعدة وهي (كل من وجبت عليه نفقته فيجب عليه إعفافه) يعني كل شخص يجب على الإنسان أن ينفق عليه يجب عليه أن يعفه, ولا يتمكن من الإعفاف بدون أن ينفق على زوجته ولهذا أوجبنا عليه أن ينفق على زوجته. ثم قال - رحمه الله -: (كظئر لحولين) معنى عبارة المؤلف إذا وجب على الإنسان أن ينفق على طفل فإنه يجب عليه أن ينفق على ظئر هذا الطفل وهي المرضع لمدة حولين لأن نفقة الطفل تستلزم النفقة على الظئر لتتمكن من إرضاعه فإذا زاد الأمر على الحولين فإنه لا يجب عليه أن ينفق على الظئر ولو كان الطفل بحاجة إلى الحليب. والقول الثاني أن الوجوب لا يتحدد بالحولين بل بالحاجة فمادام الطفل محتاجا للحليب فإنه يجب على من ينفق عليه أي الطفل أن ينفق عليها أي الظئر ثم قال - رحمه الله -: (ولا نفقة مع اختلاف دين)

هذه قاعدة عن المؤلف إذا اختلف الدين فلا نفقة , فإذا كان للإنسان ابن كافر فلا يجب عليه أن ينفق عليه وكذا أخ وأخت وابن وابنة , وهذا الضابط كما تعلمون يتعلق بنفقة الأقارب لا بنفقة الزوجة لأنه ذكر هذا الحكم في باب نفقة الأقارب , إذا .. إذا اختلف الدين فلا نفقة. السبب: أنا نقرر انه من شروط النفقة التوارث ولا توارث بين الكافر والمسلم ,فإذا لم يتوارثا فلا نفقة , القول الثاني: أن اختلاف الدين لا يمنع من وجوب النفقة. واستدل هؤلاء بالعمومات فإن الأدلة العامة الدالة على وجوب النفقة لم تفرق بين أن يكون المنفق عليه يتحد مع المنفق في الدين أو يختلف , القول الثالث: أنه يشترط اتحاد الدين إلا عامودي النسب. واستدل هؤلاء بأن صلة القرابة في عامودي النسب قوية يُتجاوز معها اختلاف الدين , أما القول الثاني فهو أضعف الأقوال , والإنسان يتردد بين القول الأول وهو المذهب وبين القول الثالث الذي يجعل للوالدين خصوصية في اختلاف الدين .. في الحقيقة فيه تردد , لا يظهر أيهما أرجح. ثم قال - رحمه الله -: (إلا بالولاء) فلا يشترط اتفاق الدين بل يجب النفقة على الوارث وان اختلف الدين , لأن سبب الوجوب هو الولاء فلا يشترط معه اتفاق الدين. ثم قال - رحمه الله -: (وعلى الأب أن يسترضع لولده ويؤدي الأجرة) هذه المسألة مفروضة فيما إذا لم يكن للطفل أم أو كان له أم وامتنعت عن الإرضاع , فيجب على ولي الطفل على أبيه أن يسترضع يعني أن يطلب له امرأة ترضعه بأجرة لأن هذا من النفقة الواجبة ولأن الله - سبحانه وتعالى - يقول: {وعلى المولود له رزقهن وكسوتهن بالمعروف} [البقرة/233] فيجب عليه أن يسترضع لأن هذا من النفقة الواجبة ولأن الطفل لو لم يسترضع له لمات فتعين الوجوب على الأب وهو أمر واضح. ثم قال - رحمه الله -: (ولا يمنع الأم من الإرضاع) إذا طلبت الأم أن ترضع الطفل فهي الأحق به سواء كانت متزوجة بأبيه أو مطلقة منه وسواء طلبت الإرضاع بأجرة أو مجانا فالأم أحق بإرضاع الطفل مطلقا. واستدل الحنابلة على هذا بقوله - تعالى - {والوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين لمن أراد أن يتم الرضاعة} [البقرة/233]

واستدلوا أن من مصلحة الطفل العظمية أن يرضع من أمه فإنها احن عليه وأكثر شفقة وهذا لا إشكال فيه أن الام أحق بالإرضاع , لكن سيأتينا بعد قليل مسألة إذا كانت الأم طلبت الأجرة سيأتينا حكم هذه المسألة. لكن الذي يعنينا الآن أن الأم أحق بالطفل من غيرها وتُقدم على الأخريات ولو بأجرة. ثم قال - رحمه الله -: (ولا يلزمها) قوله ولا يلزمها: أي لا يلزم الأم أن ترضع الطفل. وهذه المسألة تنقسم إلى قسمين: القسم الأول: أن تكون الأم مع الأب ولم تطلق , والمسألة الثانية: أن تكون الأم ليست مع الأب. فإذا كانت الأم ليست مع الأب فلا يلزمها الإرضاع بالإجماع , وإذا كانت مع الأب فذهب الجماهير إلى أنه لا يلزمها أن ترضع واستدلوا على هذا بقوله {وإن تعاسرتم فسترضع له أخرى} [الطلاق/6]. ومعنى فسترضع: أي فاسترضعوا له أخرى. وإذا اختلفت الزوجة مع الزوج فقد تعاسرا وإذا تعاسرا فسترضع له أخرى. والدليل الثاني: أن الرضاع إما أن يكون حق للزوج أو للزوجة أو للابن , ولا يمكن أن يكون حقا للزوج ولا يمكن حقا للابن لأنه لا يلزم الزوجة أن ترضع الابن إذا كانت مطلقة بالإجماع. ولو كان حقا له للزمها أن ترضعه ولو كانت مطلقة. فلم يبقى إلا أن يكون حقا للزوجة وإذا كان حقا لها فلها أن ترضع ولها أن تترك. والقول الثاني: أنه إذا كانت المرأة مع الزوج فإنه يلزمها أن ترضع وجوبا وليس لها أن تمتنع. لقوله تعالى {والوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين} [البقرة/233]. ولأن الطفل يتضرر بترك أمه إرضاعه. والنبي - صلى الله عليه وسلم - يقول (لا ضرر ولا ضرار). ولأن امتناع الزوجة عن الإرضاع ليس من العشرة بالمعروف إذا طلبها الزوج. ولعل الأقرب الوجوب وإن كان قول الجمهور فيه وجاهة. لكن الأقرب إن شاء الله الثاني وهو المتوافق مع قواعد الشرع من حيث أن من أعظم مهام الأم أن ترضع ابنها. ثم قال - رحمه الله -: (إلا ضرورة كخوف تلفه) إذا خيف على الابن التلف بأن لا يقبل إلا من أمه حينئذ تعين عليها ووجب أن ترضعه لا نزاع لأنه انتقلت المسألة إلى حال الضرورة. ثم قال - رحمه الله -: (ولها طلب أجرة المثل)

يعني وللزوجة وإن كانت في عهدة الزوج ألا ترضع إلا بأجرة. واستدلوا بقوله تعالى {فإن أرضعن لكم فآتوهن أجورهن} [الطلاق/6]. والآية نص في أن للمرأة أن تطلب الأجرة إذا أرضعت للزوج. القول الثاني: أنه ليس للمرأة أجرة إذا كانت مع الزوج إذا أرضعت الطفل. واستدل هؤلاء بقوله تعالى {وعلى المولود له رزقهن وكسوتهن بالمعروف} [البقرة/233]. فأوجب على الأب إذا أرضعت الزوجة فقط الرزق والكسوة بالمعروف. ولم تذكر الآية الأجرة فدل هذا على انه لا يجب على الأب إلا النفقة المعتادة. فإن زادت النفقة بسبب الإرضاع فهو داخل في الآية وليس من الأجرة. ويجب على الزوج أن يبذله. لكن لا يجب عليه أن يبذل أجرة زائدة منفصلة. والآية التي استدل بها الحنابلة تحمل على المطلقة. لأن الآية الثانية {وعلى المولود له رزقهن وكسوتهن بالمعروف} [البقرة/233]. صريحة في عدم وجوب الأجر وأنه لا يجب لها إلا الرزق والنفقة بالمعروف الذي يتناسب مع مصاريف إرضاع الطفل ومصاريف الزوجة. ثم قال - رحمه الله (ولو أرضعه غيرها مجانا بائنا كانت أو تحته) هذه المسألة تكملة للمسألة السابقة يعني أنه للمرأة أن تطلب الأجرة ولو وجد من يرضع الطفل مجانا ولو كانت بائنة أو مع الزوج. بعبارة أخرى: لها أن تطلب الأجرة مطلقا. ولو وجد - لا حظ – ولو وجد من يرضع الطفل مجانا. فإذا وجد من يرضع الطفل مجانا وقالت الأم أنا سأرضعه ولن أرضعه إلا بأجرة فهي أحق من المرأة التي طلبت إرضاعه مجانا. وتقدم معنا أن كون الأم أحق بالإرضاع هذا لا إشكال فيه وهو الراجح. لكن كون الأم تطلب الأجرة هذا محل نظر والراجح أنه ليس لها أن تطلب الأجرة. بناءا على هذا يكون القول الراجح أن للزوج أن يلزمها بالإرضاع بلا أجرة. لكن عرفنا أن مذهب الحنابلة أن للأم أن تطلب الأجرة مقابل الإرضاع وإن وجد من يرضع الطفل مجانا. ثم قال - رحمه الله -: (وإن تزوجت آخر فله منعها من إرضاع ولد الأول)

إذا تزوجت آخر فله: أي فلهذا الآخر أن يمنع الزوجة من الإرضاع أي من إرضاع الولد من الزوج الأول. والعلة في ذلك: أن الزوج الثاني له الحق في الاستمتاع بالزوجة في كل الأوقات. وإرضاع الزوجة ولدها يحول بين الزوج وبين حقه في الاستمتاع يعني في مدة الإرضاع , وحق الزوج الثاني مقدم على حق الولد. يقول الشيخ (ما لم يضطر إليها) وجب على الزوج الثاني أن يمكنها من الإرضاع , لأنه صارت من مسائل الضروريات. وهذا أمر واضح ولا أظن أن فيه خلاف. فصل هذا الفصل مخصص لنفقة الرقيق وما يتعلق بتكليفهم ما لا يطيقون. ثم قال - رحمه الله -: (وعليه نفقة رقيقه) نفقة المملوك واجبة بالسنة والإجماع. أما السنة فأحاديث منها قوله - صلى الله عليه وسلم - (وللملوك نفقته ورزقه وكسوته بالمعروف وألا يكلف ما لا يطيق) ومنها قوله - صلى الله عليه وسلم - (من كان أخوه تحت يده فلينفق عليه مما ينفق وليكسه مما يكسوا وليطعمه مما يطعم ولا يكلفه ما لا يطيق فإن كلفه فليعينه) فدلت الأحاديث على أن السيد يجب عليه أن ينفق على سيده. وهذا كما قلت أمر لم يختلف فيه العلماء ولله الحمد. ثم قال - رحمه الله -: (طعاما وكسوة وسكنى) المقصود بالطعام والكسوة والسكنى يعني ما يكفيه من هذه الأمور. والنفقة على الرقيق على قسمين: النفقة التامة والنفقة الواجبة. النفقة التامة: أن ينفق عليه من جنس ما ينفق على نفسه في المطعم والملبس والمسكن. والنفقة الواجبة - القدر الواجب منها -: أن ينفق عليه ما يكفيه وإن كان دون ما يأكل هو ويلبس ويسكن. الدليل على هذا التفصيل: الأحاديث السابقة .. ففي الحديث الأول: أوجب على السيد مطلق نفقة المملوك. وفي الحديث الثاني: أمره أن يطعمه مما يطعم ويكسوه مما يسكوا. فالجمع بين الأحاديث: أن الأكمل ما في الحديث الثاني والواجب ما في الحديث الأول. ثم قال - رحمه الله -: (وألا يكلفه مشقا كثيرا)

عليه ألا يكلفه مشقا كثيرا لما تقدم من الأحاديث ولا يكلفه مالا يطيق. وذكر الفقهاء أن ضابط المشقة: أن يعجز عن العمل , ويبدو لي أن هذا الضابط فيه نوع إجحاف لأنه لا يجب أن ننتظر إلى أن يعجز العبد عن العمل. بل تعرف المشقة بالعرف وسؤال أهل الخبرة فإذا بلغ هذا العمل أن يوصف بأنه مشقة فإنه لا يجوز على السيد أن يكلفه إياه وإن لم يعجز عنه. فربما يتمكن الإنسان من أداء بعض الأعمال بالمشقة والعسر وإن كانت توصف بالمشقة والضرر ولكنه لا يعجز عنها , يتمكن بالقيام بها. ولهذا الأولى أن نرجع في مسالة التكليف بما لا يطاق إلى العرف وسؤال أهل الخبرة. ثم قال - رحمه الله -: (وإن اتفقا على المخارجة جاز) المخارجة: هي أن يتفق السيد والعبد على أن يؤدي العبد للسيد قدرا معلوما في وقت معلوم وما زاد من الكسب فهو له أي للعبد. المخارجة جائزة بالنص والقياس. أما القياس فتقاس على المكاتبة بجامع أن في كل منهما عقد بين السيد والعبد. وأما النص: فثبت أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما احتجم طلب من موالي الحجام أن يضعوا عنه من خراجه. وفي هذا إقرار للمخارجة. كما انه ثبت أن عددا من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - عاملوا عبيدهم بالمخارجة. فلا شك في مشروعية المخارجة. ثم قال - رحمه الله -: (ويريحه وقت القائلة والنوم والصلاة) أي في هذه الأوقات الثلاثة: وقت القائلة والنوم والصلاة. والدليل على انه يريحه في هذه الأوقات أن العرف جرى بهذا. كما أن ترك الإراحة في هذه الأوقات يدخل على العبد المشقة والضرر , والشارع نفى الضرر عن المسلمين. فيجب عليه أن يريحه في الأوقات الثلاثة. ومن المعلوم أن الإراحة في هذه الأوقات الثلاثة يرجع فيها للعرف فقد يطلب من السيد أن يريحه في وقت آخر يكون العرف أنه هو وقت الإراحة المهم يرجع في تحديد ما عدا الصلاة إلى العرف في البدن. ثم قال - رحمه الله -: (ويركبه في السفر عقبى)

يعني تارة يركب السيد وتارة يركب العبد أثناء السفر , والدليل على هذا: أنه لو لم يفعل لوصف بأنه كلفه ما لا يطيق. لأن تكليف العبد أن يسير المسافة كاملة في السفر بين البلدان من التكليف بما لا يطاق , وتقدم معنا أن الأحاديث نهت عن تكليف العبد ما لا يطيق , فيجب عليه وجوبا أن يركبه عقبى. ثم قال - رحمه الله -: (وإن طلب نكاحا زوجه او باعه) يعني وجوبا. لقوله تعالى {وانكحوا الأيامى منكم والصالحين من عبادكم وإمائكم إن يكونوا فقراء يغنهم الله من فضله والله واسع عليم} [النور/32] فالآية نصت على وجوب الإنكاح وتمكين العبد من قضاء الوطر. ويضاف إلى الآية دليل آخر: أن ترك العبد بلا زواج مع حاجته ورغبته إليه من إدخال الضرر عليه وتكليفه بالمشقة. فلا شك إنه يجب عليه إما أن يزوجه أو يبيعه. ثم قال - رحمه الله -: (وإن طلبته الأمة وطئها أو زوجها أو باعها) إذا طلبته الأمة فالسيد مخير بين هذه الثلاثة أمور: إما أن يطأ أو يزوج أو يبيع. لأن الواجب على السيد أن يرفع المشقة الحاصلة بالرغبة في النكاح , ورفع هذه المشقة يكون بأحد هذه الأمور إما الوطء أو التزويج أو البيع , وكذلك هذا على سبيل الوجوب. بهذا انتهى الفصل المتعلق بالمماليك وانتقل إلى نفقة البهائم. فصل (وعليه علف بهائمه وسقيها وما يصلحها) على مالك البهيمة وجوبا أن ينفق عليها وليس له أن يتركها عنده بلا نفقة فإن فعل فهو آثم. والدليل على هذا حديث ابن عمر أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال (دخلت امرأة النار في هرة حبستها حتى ماتت جوعا , فلاهي أطعمتها ولا هي تركتها تأكل من خشاش الأرض) فهذه المرأة جمعت بين حبس هذا الحيوان وتركه يموت جوعا وعدم إطعامه مع أن هذا الحيوان ليس بمأكول اللحم فهو أقل حرمة من أكول اللحم ومع هذا دخلت هذه المرأة النار بهذا السبب مما يدل على انه يجب على الإنسان إذا امتلك الحيوان أن ينفق عليه فإن تركه بلا نفقة وأجاعه فهو آثم.

يقول: وعليه علف بهائمه وسقيها وما يصلحها .. ذكر ثلاثة أشياء: العلف والسقي: وهي الأكل والشرب. وما يصلحها: مثل إكنانها عن المطر وعن الحر الشديد وعن البرد الشديد. ومثل علاجها. فإنه ليس من الرأفة بالحيوان أن يترك مريضا حتى يهلك مع إمكانية معالجته. لكن هل يجب عليه وجوبا مداواة الحيوان.؟ ذكرنا في مسألة تداوي الزوجة أن شيخ الإسلام يقول (أن التداوي ليس بواجب) إذا كان التداوي ليس بواجب في الآدمي ففي الحيوان من باب أولى. إذا ما يصلحها يستثنى منه مسألة المداواة وإنما ما يقصد بما يصلحها ما ذكرت من إكنانها وتجنيبها المطر والحر الشديد والبرد الشديد. ثم قال - رحمه الله -: (وألا يحملها ما تعجز عنه) لا يجوز على مالك البهيمة تحميلها ما لا تطيق , والسبب في ذلك أنه في الشرع للبهيمة حرمة. فيجب أن يراعي حرمة البهيمة بأن لا يؤذيها أو يحملها ما لا تطيق. مسألة: وليس من تحميل البهيمة ما لا تطيق أن يكلفها عملا لا تُستخدم في مثله عادة. هذا ليس من المشقة. وأما حديث (أن رجلا هم بركوب بقرة فقالت ما خلقنا لهذا) فالجواب عليه أنه ما خلقنا لهذا عادة. ولا يدل على المنع. فإذا أراد الإنسان أن يستخدم الخيل للحرث أو البقر للركوب فإنه لا حرج عليه في هذا , لكن إذا كان استخدامه في غير ما خلق له يؤدي إلى المشقة عليه وتحميله ما لا يستطيع فهم ممنوع من هذه الجهة لا من جهة انه استخدمه في غير ما خلق له. بناءا على هذا ما حكم المسابقة إجراء المسابقة بين ذكور الغنم أو بين الديكة.؟ لا شك أن هذا سفه وأنه محرم .. جعل التيوس يضرب بعضها بعض والديكة ينقر بعضها بعض يدخل دخولا أولويا في قول المؤلف (ألا يحملها ما تعجز عنه) أيهم أشق على البهيمة أن تحمل عليها ما تعجز عنه أو أن تجعلها في معركة مع ند لها. ويزداد الأمر سوءا إذا وضعوا الضعيف مع القوي. ما عندي شك أنه محرم وأنه نوع من السفه وأنه جرأة وجريمة في حق الحيوان وهو يدخل في كلام الفقهاء. ثم قال - رحمه الله -: (ولا يحلب من لبنها ما يضر ولدها) تعليل هذا الحكم: أن على مالك الولد كفايته من النفقة - ولد البهيمة - وإذا حلب الأم بما يضر بالولد فقد قصر بالنفقة الواجبة للولد , أليس كذلك.؟

باب الحضانة

ومن هنا نقول لا يجوز له أن يحلبها بما يضر بولدها من هذا الباب انه يجب عليه هو نفقة الولد ونفقة الولد تتعين بأن يرضع من أمه. فإن حلب من لبنها ما لا يضر ولدها بأن تمكن من إرضاع ولدها من بهيمة أخرى فهو جائز .. إذ الواجب على مالك الولد أن يكفله وان يطعمه. ثم قال - رحمه الله -: (فإن عجز عن نفقتها اجبر على بيعها أو إجارتها أو ذبحها إن أكلت) إذا عجز عن النفقة فإنه يجبر بأحد هذه الثلاثة أمور. وتعليل ذلك: أنه لو تركها بلا نفقة فإن في هذا هلاك البهيمة وهو محرم. فنخيره بين أن يبيع أو يؤجر أو يذبح إن كان الحيوان مما يؤكل , وإن كان مما لا يؤكل تعين إما البيع أو الإجارة. بهذا انتهى الباب المتعلق بالنفقات وننتقل إلى باب الحضانة. باب الحضانة قوله باب الحضانة. الحضانة مشتق في لغة العرب من الحضن وهو الجنب. وأما في الشرع: فهو رعاية الطفل وحفظه والقيام عليه بما يصلحه. والحضانة واجبة إجماعا وممن حكى الإجماع ابن رشد. ووجه الوجوب: أنه إذا كان يجب على الإنسان أن ينفق على من تحت يده فلأن يقوم بالحضانة والحفظ والرعاية من باب أولى. ثم قال - رحمه الله -: (تجب لحفظ صغير ومعتوه ومجنون) الحضانة تجب لهؤلاء وهم الصغير والمعتوه والمجنون لأن هؤلاء لا يتمكنون من رعاية أنفسهم. وفي تركهم بلا حضانة ورعاية هلاك لهم وضياع لمصالحهم. وكما قلت إذا وجب على الولي أن ينفق فمن باب أولى أن يجب عليه الحضانة أي الرعاية والقيام على الطفل بما يصلحه. وقد ثبت بالتجربة أن ترك الطفل بلا حضانة مؤد في الغالب إلى ضياعه وهلاكه إما في بدنه أو في دينه. فلا شك في الوجوب إن شاء الله. ثم قال - رحمه الله -: (والأحق بها أم) لما قرر المؤلف وجوب الحضانة انتقل إلى الأحق بالحضانة عند التنازع , وترتيب الأحق بالحضانة فيه أقوال بين الفقهاء وصفها شيخ الإسلام بقوله (وفي الأقوال في ترتيب الحضانة من التناقض والتعارض ما لا يوجد في غير باب الحضانة من جنسه) فالأقوال في ترتيب من يجب له ومن يؤخر فيها من التعارض والتناقض والتداخل وعسر الترتيب وفهم التعليل ما جعل الشيخ يصفها بهذا الوصف وهو يعتبر أنها من أعظم الأبواب تعارضا يعني من جنسها.

سنأخذ مذهب الحنابلة إلى نهاية ترتيب الحنابلة ثم نرجع إلى اختيار شيخ الإسلام. وهو يخالف مذهب الحنابلة تماما , ويضع ثلاث ضوابط تضبط للإنسان من يقدم ومن يؤخر من أقارب المحضون لكن نبقى الآن مع ترتيب وأدلة الحنابلة. يقول رحمه الله (والأحق بها أم) الأم هي الأحق بالحضانة بالإجماع. لا يقدم على الأم أحد يعني ما دامت لم تتزوج. وسيذكر المؤلف الحكم إذا تزوجت. الدليل على هذا من وجوه الوجه الأول: قوله صلى الله عليه وسلم: (أنتِ أحق به ما لم تنكحي) الدليل الثاني: أن عمر بن الخطاب تنازع مع زوجته في عاصم ابنه وارتفعوا إلى أبي بكر - رضي الله عنه - فحكم أبو بكر الصديق بعاصم لأمه وقال لعمر ريحها وشمها ولطفها خير له منك) فهذه السنة وفتاوى الصحابة .. ونستطيع أن نقول اتفق على هذا أبو بكر وعمر لأن عمر لم يعترض. وتقديم الأم أمر ظاهر لمزيد عناية وشفقة الأم. ثم قال - رحمه الله -: (ثم أمهاتها القربى فالقربى) علمنا من هذا أن أم الأم مقدمة على الأب لأنه لم يذكر الأب إلى الآن. عند الحنابلة. التعليل: قالوا أن أم الأم لها ولادة حقيقية وللأب ولادة حكمية .. ما الفرق بين الولادة الحقيقية والولادة الحكمية .. ؟ الولادة الحقيقية: هي أن تلد المرأة الابن ولادة حقيقية .. الولادة الظاهرة: هي ولادة الأب .. لأنه لم يلد حقيقة ولكنه والد .. ولهذا نحن نسمي الأب والد .. ونقصد بكلمة والد ولادة ظاهرة .. قالوا أن أم الأم لها ولادة حقيقية لأنها ولدت الأم والأم ولدت الابن .. بينما الأب له ولادة ظاهرة فنقدم الأم على الأب. ثم قال - رحمه الله -: (ثم أب ثم أمهاته كذلك) يعني بعد الأم وأمهاتها يأتي الأب .. التعليل لهذا أن الأب هو الأصل في النسب كما أنه له ولاية مقدمة في المال. فلأجل هذين السببين جعلوا الأب يأتي في المرحلة الثالثة بعد أمهات الأم. ثم قال - رحمه الله -: (ثم أمهاته كذلك) علمنا من هذا أن أم الأب مقدمة على أب الأب .. واستدلوا على هذا بأمرين: الأول: أنها تدلي بالعصبات .. والعصبة: هو كل من ليس بينه وبين الميت أنثى .. وفيها وصف آخر مع كونها تدلي بالعصبة أنها أنثى .. والنساء في باب الحضانة مقدمات على الرجال.

ثم قال - رحمه الله -: (ثم جد ثم أمهاته كذلك) الجد: لأنه في معنى الأب .. ثم أمهاته: لنفس السبب في تقديم أمهات الأب .. وكل شخص يأتي بعد قوله ثم تفترض أنت في المسألة أن السابقين غير موجودين .. فإذا قال ثم جد .. إذا نفترض أن هذا الطفل ليس له أب ولا أمهات أب ولا أم ولا أمهات أم. وهكذا كل شخص يأتي تفترض أن السابقين غير موجودين. ثم قال - رحمه الله -: (ثم لأخت لأبوين) يعني إذا انتفت الأصول انتقلنا إلى الأخوات .. فنقدم الأخت لأبوين ثم نقدم الأخت لأم ثم الأخت لأب , وقدمنا الأخت لأم على الأخت لأب لأنها تدلي بالأم والأم لها ولادة حقيقية. ثم قال - رحمه الله -: (ثم الخالة) إذا الخالة مقدمة على العمة. لقول النبي - صلى الله عليه وسلم - كما في الصحيحين (الخالة بمنزلة الأم) فالخالة مقدمة على العمة لهذا الحديث ثم قال - رحمه الله -: (ثم عمات كذلك) يعني لأبوين ثم لأم ثم لأب ثم قال - رحمه الله -: (ثم خالات أمه ثم خالات أبيه) قدم خالات الأم على خالات الأب لأن خالات الأب يديلين بالأم والأم لها ولادة حقيقية يعني نفس السبب الذي نقدم فيه الأخت لأم على الأخت لأب. ثم قال - رحمه الله -: (ثم عمات أبيه ثم بنات إخوته وأخواته) بعد خالات أبيه عمات أبيه ثم بنات إخوته وأخواته ثم بنات أعمامه وعماته ثم بنات أعمام أبيه وبنات عمات أبيه .. وفي هؤلاء جميعا نقول تقدم من لأبوين ثم من لأم ثم من لأب. ثم قال - رحمه الله -: (ثم لباقي العصبة الأقرب فالأقرب) إذا المذكورات في السابق كلهن إناث ولا يأتي دور الذكور إلا بعد ألا يوجد جميع هذه الإناث. يقول - رحمه الله -: (ثم لباقي العصبة) باقي العصبة يأتون بعد هؤلاء فنبدأ بالابن ثم الأخ ثم العم وهكذا كما نقدمهم في الميراث فالعصبات تقديمهم هنا كتقديمهم في الميراث ولكن لا يأتون معنا إلا بعد ألا يوجد إناث. ثم قال - رحمه الله -: (فإن كانت أنثى فمن محارمها)

هذا القيد متعلق بقوله (ثم لباقي العصبة) يعني أن المحضونة إذا كانت بنت فإنه يشترط في الحاضن من العصبات أن يكون من المحارم فإذا وجد من العصبات قريب ليس من المحارم وبعيد من المحارم فمن يكون من محارمها مقدم على من لا يكون من محارمها. فإن لم يوجد من العصبات إلا من ليس من محارمها فماذا نصنع.؟. قال الفقهاء - رحمهم الله -: إذا لم يوجد إلا هذا فإنا ندفع المحضونة إلى امرأة ثقة تجاه هذا القريب , أو وهو أحسن ندفع المرأة إلى امرأة قريبة من هذا العاصب الذي ليس من محارمها فتعطى إلى زوجته أو إلى أخته أو إلى ابنته. ثم قال - رحمه الله -: (ثم لذوي ارحامه ثم للحاكم) ثم لذوي أرحامه بعد ألا يوجد أي نوع من النساء القريبات ولا من العصبات ننتقل إلى ذوي المحارم كأبي الأم ويكون له الحق في الولاية بعد ألا يوجد أحد من الأقارب ثم الحاكم لأن لو تركنا الطفل بلا رعاية لأدى هذا إلى هلاكه فيجب على الحاكم وجوبا أن يتولى حضانة هذا الطفل وسيتولى كما هو معلوم بإسناد هذا الأمر إلى الثقات ولن يتولى هو بنفسه حضانة أولاد المسلمين الذين ليس لهم أقارب وإنما يقوم بحضانتهم عن طريق تكليف من يثق بهم. الآن انتهى تفصيل الحنابلة وشيخ الإسلام له تفصيل آخر بينه من خلال ثلاث ضوابط. الضابط الأول: إذا اتفقت الجهة والدرجة فإنا نقدم النساء على الرجال فإذا اجتمع أب وأم فالحضانة للأم. وإذا اجتمع خال وخالة فالحضانة للخالة وإذا اجتمع عم وعمة فالحضانة للعمة. الضابط الثاني: إذا اتفقت الجهة واختلفت الدرجة. فإنا نعطيه للأقرب: كأن يكون للمحضون أخت وبنت أخت. الضابط الثالث: إذا اختلفت الجهة كأقارب الأم وأقارب الأب فالقاعدة عند شيخ الإسلام (أن نقدم أقارب الأب ما لم تكن أقارب الأم أقرب) فإذا اجتمعت أم الأم وأم أبي الأب من نقدم.؟ .. نقدم أم الأم .. وإذا اجتمعت أم الأم وأم الأب. القاعدة تقول (أنه إذا اجتمعوا من جهتين فالمقدم الأصل أقارب الأب)

فأم الأم وأم الأب نعطي الطفل لأم الأب. هكذا قرر الشيخ - رحمه الله - وهذه القواعد أو الضوابط الثلاث أرجح من الضوابط التي ذكرها الحنابلة لا سيما فيما يتعلق بالأب فإن الأب عند الحنابلة مؤخر , فيكون الراجح ماذكره شيخ الإسلام على ان المسألة ليس فيها دليل واضح ولهذا نقول أنه ينبغي للقاضي إذا اراد أن يحكم ألا يتمسك كثيرا بالترتيب الذي ذكره الفقهاء , وأن يرجع إلى المصلحة التي تكمل للطفل , فينظر في واقع أهل الأم وينظر في واقع أهل الأب وأيهما أصلح للطفل ويعمل بموجبه , ومن هنا نرى في واقعنا المعاصر أنه أحيانا تكون الأم أنفع للطفل بكثير وأحيانا يكون الأب أنفع للطفل بكثير. فقول الحنابلة والفقهاء جميعا أن تقدم الأم دائما ليس بصحيح , لأن نرى في الواقع أن أحيانا إسناد الطفل للأم يؤدي إلى هلاكه لاسيما ما يتعلق بأخلاقه ودينه فضلا عن النفقة فإن النفقة أمرها سهل لكن الإشكال بما يتعلق بدينه كذلك ..

الدرس: (4) من النفقات قال شيخنا حفظه الله: بسم الله الرحمن الرحيم والحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين. قال - رحمه الله - (وإن امتنع من له الحضانة) يعني انتقلت إلى من بعده إذا امتنع من له الحضانة صار وجوده كعدمه فانتقلت الحضانة إلى من بعده بحسب الترتيب الذي ذكره المؤلف وهذا مبني على أصل آخر وهو أنّ الحضانة عند الحنابلة حق للشخص وليس عليه. والقول الثاني: أنّ الحضانة حق عليه , فيجب أن يقوم بما عليه من الحقوق وليس له أن يمتنع. والقول الثالث: أنه حق له وعليه ومعنى هذا القول أنه لا يجوز أن يمتنع إلاّ إذا وجد البديل فإذا وجد من يريد الحضانة جاز لمن الحق أن يتنازل لتكون الحضانة لمن بعده. وهذا القول الثالث هو الراجح مسألة / إذا تنازل الإنسان عن حقه في الحضانة ثم أراد أن يعود إليه فله ذلك لأنّ الحضانة حق متجدد وكل حق متجدد يجوز للإنسان أن يرجع إليه كما قلنا في الزوجة إذا تنازلت عن حقها في المبيت فلها أن ترجع وتطلب أن يقسم لها في المبيت.

يقول المؤلف - رحمه الله - (أو كان غير أهل انتقلت إلى من بعده) إذا كان من له الحق ليس بأهل للحضانة انتقلت إلى من بعده لأنّ من ليس بأهل وجوده كعدمه , ومن ليس بأهل عند الحنابلة هم الرقيق والكافر والزوجة إذا أسلمت والفاسق , هؤلاء الأربع هم من ليس أهلا. وسيذكرهم المؤلف - رحمه الله -. قال - رحمه الله - (ولا حضانة لمن فيه رق) الرقيق ليس له حق في الحضانة لأنّ الحضانة نوع ولاية كولاية النكاح فليس للعبد حق فيها كما أنه مشغول بخدمة سيده عن أداء واجبات الحضانة. والقول الثاني: أنّ الرقيق له حق في الحضانة كما في الحر لأنه ليس في النصوص ما يدل على منع الرقيق من اخذ حقه بالحضانة وإلى هذا القول يميل العلامة ابن القيم وهو القول الراجح إن شاء الله لأنّ الحضانة مبناها على الشفقة والقرب وهي تتحقق في الحر والعبد. قوله - رحمه الله - (ولا لفاسق) الفاسق ليس له حق في الحضانة لأنه لا يأمن على المحضون وقد يعلمه ما يكره الله ورسوله فليس له الحق في الحضانة لهذه الأسباب وتقدم معنا من هو الفاسق عند الفقهاء. قوله - رحمه الله - (ولا لكافر على مسلم) ليس للكافر حق في الحضانة على مسلم واستدل الحنابلة على هذا بأنّ الكافر أبعد من الفاسق وأشد أذى وضررا. ثانيا: أنّ الكافر قد يعلم المحضون الكفر ولهذا فهو ليس أهلا للحضانة. القول الثاني: أنّه له الحق في الحضانة واستدل أصحاب هذا القول بأنّ رجلا من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - طلق زوجته وهو مسلم وهي كافرة , وتنازعوا في ولدهما فخيره النبي - صلى الله عليه وسلم - فهم بالذهاب إلى أمه يعني الكافرة. فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - اللهم أهده. فذهب إلى أبيه وانصرف به أبوه. فهذا الحديث دليل على جواز ولاية الحضانة للكافر لأنّ النبي - صلى الله عليه وسلم - خيره , ولو كانت الأم ليست أهلا للحضانة لم يخيره وإنما صرفه إلى أبيه من الأصل. هذا الحديث فيه خلاف في تصحيحه وتضعيفه. فالمتأخرون من المحدثين يصححونه. وذهب ابن المنذر إلى أنه لا يثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ولم يتسنى لي دراسة الحديث دراسة مفصلة للوقوف على أي القولين أصح فإن كان الحديث ضعيفا فالراجح مذهب الحنابلة.

قال - رحمه الله - (ولمزوجة بأجنبي من محضون من حين عقد) الرابع ممن تسقط حضانتهم الأم إذا تزوجت من أجنبي واستدل الحنابلة بقول النبي - صلى الله عليه وسلم - أنت أحق به ما لم تنكحي. والقول الثاني: أنّ المحضون إذا تزوجت أمه إن كان ذكرا سقط حقها في الحضانة وإن كانت أنثى ثبت حقها للحضانة واستدل هؤلاء بالجمع بين الأخبار. فقالوا إنّ النبي - صلى الله عليه وسلم - أنت أحق به ما لم تنكحي. وقال في مسألة التنازع في ابنة حمزة لما أخذها جعفر قضى النبي - صلى الله عليه وسلم - لجعفر بها لأنّ زوجة جعفر خالة لهذه البنت فدل الحديث على أنّ حضانة الأم لا تسقط إذا كانت المحضونة أنثى وتسقط إذا كان ذكرا جمعا بين النصوص. والراجح مذهب الحنابلة. والجواب عن حديث ابنة حمزة أنّ جعفر - رضي الله عنه - ليس بأجنبي عن البنت فهو ابن عمها , والحنابلة يشترطون في سقوط الحضانة أن يكون أجنبيا ولهذا لاحظ معي أن المؤلف يقول ولا لمزوجة بأجنبي من محضون فإذا الجواب عن حديث ابنة حمزة - رضي الله عنه - أن جعفر ليس بأجنبي ولهذا لم تسقط حضانة خالة ابنة حمزة وصارت إليها. وقوله (بأجنبي من محضون) تقدم معنا أنه من شط سقوط حق الحضانة أن يكون زوج الأم أجنبي فإن كان زوج الأم ليس بأجنبي فإنه لا يسقط حق الأم في الحضانة لأن الأجنبي يكمل الرعاية والتأديب لهذا المحضون. في مسألة (ولا لمزوجة) ذكرنا قولين .. أنها تسقط مطلقا والقول الثاني أنها تسقط إذا كان المحضون ذكرا وتبقى إذا كانت أنثى. وبقي قول ثالث وهو انه لا تسقط إذا رضي الزوج وتسقط إذا لم يرض. سواء كان الزوج أجنبيا او من قرابتها. واستدل أصحاب هذا القول: أن الحق للزوج فإذا رضي بقي الحق للأم في الحضانة اختاره الشيخ العلامة ابن القيم. ويظهر لي أن الراجح القول الأول. ثم - قال رحمه الله - (من حين عقد) أي ولو قبل الدخول واستدل الحنابلة على هذا بقول النبي - صلى الله عليه وسلم - (أنتِ أحق به ما لم تنكحي) وإذا عقدت فقد نكحت , فيصدق عليها الحديث ويسقط حقها في الحضانة. ثم - قال رحمه الله - (وإذا زال المانع رجع إلى حقه)

إذا زال المانع بان أسلم الكافر وعتق العبد وصار الفاسق عدلا رجع حقهم في الحضانة لأن سبب الحق موجود فإذا زال المانع وجد الحكم لبقاء سببه وهذا لا إشكال فيه. وهذا يرجع إلى مسألة سابقة وهي أن الحضانة حق متجدد وأن الحقوق المتجددة تبقى لأصحابها. ثم - قال رحمه الله - (وإن أراد أحد أبويه سفرا طويلا إلى بلد بعيد ليسكنه وهو وطريقه امنان فحضانته لأبيه) إذا أراد أحد أبويه سواء كان الأم أو الأب السفر ويشترط في هذا السفر أن يكون سفرا طويلا وأن يكون القصد من السفر الانتقال النهائي فإنه في هذا الحال إذا توفر أيضا شرط الأمن في الطريق والبلد ينتقل الحق للأب سواء كان هو المسافر أو الأم. إذا ينتقل الحق للأب إذا أراد أحدهما أن ينتقل إلى بلد على سبيل السكنى فيه وليس سفرا عارضا. والقول الثاني: أن الحق للأم. والقول الثالث: أن الحق للأصلح منهما .. وهذا القول اختاره ابن القيم وهو الراجح إن شاء الله. وقوله الأصلح: لأنا نفترض أن كل منهما صالح لأن لو كان أحدهما ليس بصالح لكان له الحق ابتداء لكن لما كان كل منهما صالحا وأراد أحدهما أن يسافر صار الحق للأصلح منهما يعني الأكثر قياما بحق الحضانة. ثم - قال رحمه الله - (وإن بعد السفر لحاجة أو قرب لها , أو للسكنى فلأمه) يعني إذا سافر لحاجة سفرا طويلا أو قصيرا فالحق عند المؤلف للأم , وقد خالف المؤلف هذه المسألة المذهب فإنه على المذهب الحق للمقيم منهما. والفرق بين المسألتين أن السفر في المسألة الأولى يراد منه الانتقال والإقامة , بينما السفر في المسألة الثانية سفر عارض لقضاء حاجة. عند الحنابلة الحق للمقيم منهما. وعند المؤلف الحق للأم. والراجح أن الحق للمقيم منهما لأن السفر متعب ويسبب تشتيتا للمحضون وقلقا وتعبا , فيبقى عند المقيم منهما ويسافر المسافر ويرجع فيكون له الحق بعد الرجوع. ثم - قال رحمه الله - (أو للسكنى فلأمه)

إذا سافر سفرا قريبا للسكنى فالحق للأم عند المؤلف والمذهب. فالمؤلف خالف المذهب في مسألتين فقط: إذا سافر سفرا قصيرا لحاجة أو سافر سفرا طويلا لحاجة. أما إذا سافر سفرا قصيرا للسكنى فكما قال المؤلف أن الحق للأم , لأنه إذا كان الأب من الابن استطاع أن يرعاه وأن يقوم على حوائجه وأن ينتبه له لأن السفر قصير بإمكانه الاستمرار في مراعاته فيبقى الحق للأم. انتهى هذا الفصل وينتقل المؤلف للفصل الأخير الذي يريد أن يبين فيه متى تنتهي ولاية الحضانة. فصل - قال رحمه الله - (وإذا بلغ الغلام سبع سنين عقلا خير بين أبويه فكان مع من اختار منهما) إذا بلغ الغلام سبع سنين فالحكم عند الحنابلة انه يخير بين أبويه , واستدل الحنابلة على هذا بثلاث أدلة: الدليل الأول: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - (خير غلاما بين أبويه) الدليل الثاني: أن هذا قضى به اثنان من الخلفاء الراشدين عمر وعلي - رضي الله عنهما - الدليل الثالث: أن هذا مروي عن أبي هريرة. فتكون الآثار ثلاثة وينتج عندنا الدليل الذي يستعمله ابن قدامة وهو انه نقل عن الصحابة ولم يعلم لهم مخالف فصار إجماعا. القول الثاني للأحناف: أن يكون مع الأب ولا يخير. القول الثالث للمالكية: أن يكون مع الأم ولا يخير. وعلمنا من سياق الخلاف أن الأحناف والمالكية يتفقون على قضية وهي عدم التخيير. واستدلوا على هذا: بأن الصبي الذي بلغ تسع سنين إذا خير فسيختار من أبويه الأسهل الذي يمكنه من اللعب وترك الأمر الجاد فإذا لا تخيير عندهم. وكما ترون دليلهم قوي في الحقيقة ووجيه. لكن يجاب عنه بأمرين: الأمر الأول: أن الحنابلة الذين قالوا بالتخيير قالوا أن الصبي لا يقر في يد من لا يصلحه , فإذا تبين أن هذا الذي اختاره الصبي اختاره ليلعب عنده ويترك الأمر الجاد من التعليم والتربية نزعت منه. الأمر الثاني: أن الحنابلة يستدلون على آثار صحيحة بعضها عن النبي - صلى الله عليه وبعضها عن الصحابة لا يمكن العدول عنها لمجرد دليل عقلي ولو كان قويا. بهذا القول - إن شاء الله - الراجح مذهب الحنابلة. ثم - قال رحمه الله - (ولا يقر بيد من لا يصونه ويصلحه)

يعني ولو كان هو الاحق. لأن من لا يصونه وجوده كعدمه إذا المقصود من الحضانة التربية والرعاية والصيانة وهي مفقودة في حق من لا يصونه. فتنتقل الولاية إلى من بعده. ثم - قال رحمه الله - (وأبو الأنثى أحق بها بعد السبع) وهذا من مفردات الحنابلة. فإذا بلغت السابعة صارت عند أبيها ليقوم عليها بالحفظ والصيانة. القول الثاني: أنها تبقى عند الأم. لأنها أشكل لها وأقرب إلى تربيتها. القول الثالث: أنها تبقى عند الأم إلى أن تحيض. قال ابن القيم معلقا على هذا القول (وهو الأشهر عن احمد والأقوى دليل) وما ذكره ابن القيم لعله أقرب الأقوال لأنه بعد الحيض أصبحت امرأة وتحسن نفع نفسها. فتنتقل إلى الأب قبل ذلك تبقى عند الأم هذا إذا افترضنا أنّ الجميع يقوم بما عليه سواء كانت عند الأب أو الأم أما إذا كان أحدهما يفرط فالقاعدة عند الحنابلة [أنه لا يبقى في يد من لا يصونه] قال - رحمه الله - (ويكون الذكر بعد رشده حيث شاء) إذا رشد الذكر وبلغ وأصبح يعرف ما فيه نفع له فيعمله وما فيه مضرة فيتركه فإنه يكون حيث يشاء , إن شاء استقل وإن شاء صار عند الأم وإن شاء صار عند الأب , إلاّ أن الحنابلة قالوا لا ينبغي له أن يستقل بنفسه ليتمكن من بر أبويه فليس من البر أن يترك الإنسان أباه ويترك أمه وحدها بلا خدمة ويستقل ببيت. قال - رحمه الله - (والأنثى عند أبيها حتى يتسلمها زوجها) هذا بناء على ما تقدم من أنها إذا بلغت السابعة انتقلت إلى الأب وإذا انتقلت إلى الأب فإنّ الولاية له تبقى إلى أن يتسلمها الزوج فتنتقل الولاية إلى الزوج فهذه المسألة مبنية على المسألة السابقة وهي متى تنتقل الأنثى إلى الأب.

كتاب الجنايات

الدرس: (1) من الجنايات قال شيخنا حفظه الله: بسم الله الرحمن الرحيم والحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين. كتاب الجنايات الجناية في لغة العرب: هي الذنب الذي يؤاخذ عليه الإنسان بين قومه أو عند الله , فلا تطلق الجناية في اللغة على أي ذنب , وإنما على الذنب الذي إذا ارتكبه الإنسان صار محط لوم وتعنيف من قومه. والأصل في الجناية أنها تطلق على كل اعتداء وإضرار في النفس أو غيرها كالأموال , لكن الفقهاء اصطلحوا على قصر تسمية الجنايات على الاعتداء على النفس فقط وصاروا يسمون الاعتداء على الأموال سرقة وغصبا ونحو ذلك. فالجناية يختص بالاعتداء على النفس في عرف الفقهاء. ولا يعمم عند الفقهاء فلا يطلق على الجناية على الأموال وبهذا عرفنا معنى الجناية في اللغة وفي الشرع. ثم - قال رحمه الله - (وهي عمد يختص القود به بشرط القصد) بدأ المؤلف بالكلام عن أنواع القتل ولم يتطرق إلى حكم القتل لأن حكم القتل معلوم من الدين بالضرورة فالقتل محرم بالكتاب والسنة والإجماع ولم يختلف فيه أحد بل هو محرم في جميع الشرائع , ولعله لهذا لم يتطرق إليه المؤلف - رحمه الله -. والأدلة على تحرينه كثيرة كقوله تعالى {ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق} [النساء/29] وكقول النبي - صلى الله عليه وسلم - (لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث الثيب الزان والنفس بالنفس والتارك لدينه المفارق للجماعة) وأما الإجماع فهو معلوم بالضرورة من كلام أهل العلم قاطبة انه محرم. وقول الشيخ رحمه الله (وهي) أي والجناية على النفس تنقسم إلى ثلاثة أقسام سيذكرها إجمالا ثم يذكرها رحمه الله تعالى تفصيلا. ثم - قال رحمه الله - (وهي عمد يختص القود به بشرط القصد وشبه عمد وخطأ) إذا الجناية على النفس ثلاثة أنواع عمد وشبه عمد وخطأ. إلى هذا التقسيم ذهب الجماهير فاعتبروا القتل ينقسم إلى هذه الثلاثة أنواع في الجملة. واستدل الجمهور بقول النبي - صلى الله عليه وسلم - (ألا إن دية القتل الخطأ شبه العمد مائة من الإبل في بطونها أولادها) وقال في الحديث قتيل العصا والسوط. فدل هذا الحديث على قسم ثالث وهو شبه العمد. والقول الثاني: أنه لا يوجد إلا عمد وخطأ. ولا يوجد شيء اسمه شبه عمد وهو مذهب المالكية. واستدل المالكية على هذا أن الله سبحانه وتعالى ذكر في كتابه نوعين من الجناية على النفس الخطأ والعمد الجواب على هذا: أن القران ذكر قسمين وأضافت السنة قسما ثالثا ..

مسألة: إذا لم يكن عند المالكية شيء اسمه شبه عمد ,فالجنايات التي تعتبر شبه عمد عن الجمهور تعتبر عمد إذا هم يعتبرونها عمد ويجرون عليها أحكام العمد. ولهذا كلما جاءنا خلاف يتعلق بالقتل شبه العمد لن تجد للمالكية قول لأنه لا يوجد عندهم شي اسمه شبه عمد. وقول المؤلف (وعمد يختص القود) قوله القود يعني القصاص وسمي بذلك لأن القاتل يقاد إلى أولياء المقتول ليقتصوا منه فسمي نفس القصاص قود وإلا أصله أنه يقاد إلى أولياء المقتول ثم لما ذكر المؤلف أنواع الجنايات على النفس بدا بها مفصلة واحدا واحدا فبدأ بالعمد. ثم - قال رحمه الله - (فالعمد أن يقصد من يعلمه ادميا معصوما فيقتله بما يغلب على الظن موته به) اشتمل التعريف على ركنين إذا توفرا فالقتل عمد: الركن الأول: أن يقصد المجني عليه , الركن الثاني: أن يقصده يما يقتل غالبا. فإذا قصد الجاني المجني عليه بما يقتل غالبا صارت الجناية تسمى عمدا , وكيف نعرف أن الجاني يقصد القتل.؟ أجاب الفقهاء عن هذا بأنه يُعرف الجاني قصد القتل من خلال الآلة ولا ننظر إلى القصد الداخلي لأنه مجهول فإذا صارت الآلة تقتل غالبا حكمنا على الجاني أن قصده كان القتل. فإذا جاء إنسان معه سيف وضرب شخصا وقتله وقال لم أقصد قتله مطلقا إنما أردت أن أمزح معه فوقع السيف في بطنه .. نقول هذه الدعوة مردودة ونحن نعتبر أن قصدك القتل بدلالة الآلة إذا عرفنا الآن أن يقصده وهو أن القصد يعرف من خلال الآلة لأن القصد الداخلي لا يمكن الوقوف عليه ولو فتح هذا الباب لكان كل يقتل ويقول لم أقصد القتل. ثم لما ذكر حقيقة القتل العمد انتقل إلى الصور وسيذكر المؤلف تسع صور لا يكاد يخرج عنها صورة من صور القتل العمد 1ـ ثم - قال رحمه الله - (مثل أن يجرحه بما له مور في البدن) هذه الصورة الأولى: أن يجرحه بما له مور في البدن .. المور: الدخول والتردد داخل البدن. فإذا جرحه بما له تردد ودخول داخل البدن فإنا نعتبر الجناية عمدا من أمثلة هذا: أن يطعنه بالسكين أو بالسيف أو بالخنجر أو بكل ماله مور.

واشترط الأحناف للقتل العمد أن يكون بمدبب أو بمحدد .. فهذه الصورة الأولى تدخل عند الجمهور والأحناف لأنهم يشترطون في القتل لكي يكون عمدا أن يستعمل الجاني آلة حادة أو مدببة لأنها الذي يظهر منها قصد القتل بوضوح وأما الجمهور فإنهم لا يشترطون. في آلة القتل أن تكون محددة بل كل آلة يغلب على الظن القتل بها فيعتبر استعمالها قتلا عمدا واستدل الجمهور بالحديث المشهور بقصة اليهودي الذي قتل الجارية بجحر حتى قتلها فهذا اليهودي استعمل محدد أو مدبب أو ماله ثقل؟ ماله ثقل ويقتل غالبا وأقاده النبي - صلى الله عليه وسلم - بالجارية فدل الحديث على ضعف قول الأحناف وصحة قول الجمهور. 2 - قال - رحمه الله - (أو يضربه بجحر كبير ونحوه أو يلقي عليه حائطا أو يلقيه من شاهق) الصورة الثانية ذكر المؤلف لها ثلاث أمثلة أن يضربه بجحر أو يلقي عليه حائطا أو يلقيه من شاهق. والضابط الذي يجمع هذه الصور أنّ نقول [أن يقتله مثقل] وما هو المثقل هو الآلة أو الأداة التي تقتل بثقلها. فإذا قتله بمثقل فإنه يعتبر عمدا كالأمثلة التي ذكرها المؤلف أن يضربه بحجر كبير أو يلقي عليه حائطا أو يلقيه من شاهق , ومن تلك الصور أيضا أن يضربه بعمود كبير فإذا ضربه بعمود كبير فقد قتله بمثقل , ومن تلك الصور أن يضربه بعصا صغير لكن بشرط أن يكون الضرب في موضع يقتل غالبا , فأما إن ضربه بعصا صغير في موضع لا يقتل غالبا ومات فهو كما سيأتينا شبه عمد. 3 - قال - رحمه الله - (أو في نار , أو ماء يغرقه ولا يمكنه التخلص منهما) الصورة الثالثة أو في نار أو ماء يغرقه ولا يمكنه التخلص منهما , إذا ألقاه في النار وأغلق عليه الباب أو في الماء ولم يمكنه من الخروج فهو قتل عمد ولا يوجد فيما وقفت عليه يجمع هذه الصور إنما هو قتل بالإغراق أو الإحراق ويشترط في هذا القتل ليكون عمدا أن لا يتمكن المجني عليه من الخروج فإن تمكن من الخروج وتساهل فإنه لا يعتبر من القتل العمد لأنه جنا على نفسه. 4 - قال - رحمه الله - (أو يخنقه) وهذه هي الصورة الرابعة وضابطها القتل بقطع النفس سواء بالخنق أو بالشنق أو بلف رأسه بوسادة أو بأي طريقة تمنع من خروج النفس فهذا يعتبر من القتل العمد الذي يقاد به.

5 - قال - رحمه الله - (أو يحبسه ويمنعه الطعام أو الشراب فيموت من ذلك في مدة يموت فيها غالبا) الخامسة القتل بالمنع عن الطعام والشراب فإذا منعه من الطعام والشراب حتى مات فإنه يعتبر قتلا عمدا ويشترط في هذه الصورة أن يمنعه في مدة مثلها تقتل عادة أما إذا منعه لساعة ثم مات فإنه لا يعتبر قتل عمد بل يجب أن يمنعه لمدة في مثلها يموت الإنسان فإذا منعه فيقاد به. 6 - قال - رحمه الله - (أو يقتله بسحر) القتل بالسحر قتل عمد ولو زعم الساحر أنه ظن أن لن يموت بمثل هذا العمل , نقتله ونعتبر هذا القتل عمد لكن إذا قتلنا الساحر فهل نقتله حدا أو قصاصا فيه خلاف بين الفقهاء يأتينا في كتاب الحدود الذي يعنينا هنا أنه إذا قتلناه على أساس أنه حد فإنه يجب أن نعطي أهل المجني عليه دية لأنه لم يقتل قصاصا وإن قتلناه على أساس أنه قصاص فليس لأهل المقتول دية , وهذا صحيح بقي الترجيح هل يقتل حدا أو قصاصا وهذا سيأتينا في كتاب الحدود. 7 - قال - رحمه الله - (أو سُم) الصورة السابعة أن يقتله بالسُم ومقصود الحنابلة سواء كان هذا السم مخلوطا بغيره أو صرفا أعطاه المقتول وسواء جعله يأكل من حيث لا يشعر أو أجبره على الأكل في كل الصور يعتبر من القتل العمد. 8 - قال - رحمه الله - (أو شهدت عليه بيّنة بما يوجب قتله ثم رجعوا وقالوا عمدنا قتله ونحو ذلك) الصورة الثامنة أن تشهد عليه بيّنة بما يوجب قتله ثم يرجع ويقول عمدنا , فصارت الشروط ثلاثة. أن يشهدوا بما يوجب القتل. الثاني: أن يرجعوا. الثالث: أن يعترفوا أنهم صنعوا هذا عمدا. إذا توفرت الشروط الثلاثة فإنهم يقادون به ويجب عليهم القصاص لأنّ هذا من القتل العمد. والدليل على هذا أنه روي عن علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - أنه حكم بهذا وأنه رأى أن من شهد على شخص بقطع أو قتل عمدا فإنه يقاد به. قال - رحمه الله - (وشبه العمد: أن يقصد جناية لا تقتل غالبا) شبه العمد يقول المؤلف - رحمه الله - أن يقصد جناية لا تقتل غالبا ولم يجرحه بها. عناصر شبه العمد هو أن يقصد ضربه لكن بما لا يقتل غالبا فقصد الضرب موجود ولكن الآلة لا تصلح للقتل العمد فإذا توفر الشرطان أصبح هذا من شبه العمد من أمثلته المشهورة

أن يضرب ابنه تأديبا أو تلميذه تأديبا. بما لا يقتل غالبا فهنا يعتبر شبه عمد أما إذا ضربه بما يقتل غالبا صار عمد والفرق بين شبه العمد والعمد في الآلة. فالآلة هي التي تحدد هل هو عمد أو شبه عمد أما قصد الضرب فهو موجود في الصورتين وهذا الذي جعل المالكية يقولون أنه عمد فهم يقولون هذا الرجل قصد أن يضرب هذا الرجل ومات بسبب الضرب المقصود فهو قتل عمد ولم ينظروا لمسألة الآلة لكن الجمهور كما تقدم أحظ بالدليل وأحظ بالنظر لأنه هذا وإن قصد الضرب إلاّ انه لم يقصد القتل وعلمنا أنه لم يقصد القتل من خلال الآلة. ثم - قال رحمه الله - (ولم يجرحه بها) في الحقيقة هذه العبارة لم يذكرها ابن قدامة في الأصل يعني المقنع وإنما ذكرها صاحب الإقناع والمنتهى فقط وعندي فيها نظر ظاهر أرى أنها لا تصح فقها لأنه قد يضربه بما يجرح إلاّ انه لا يقتل غالبا فصح الحد عليه وإن جرحه فالجرح ربما يوجد مع آلة لا تقتل غالبا كأن يضربه بعصا مكسور فإنّ العصا الصغير المكسور يسبب جرحا ومع هذا نعتبره شبه عمد ولهذا نقول لو أنّ المؤلف تابع ابن قدامة وترك ما أضافه صاحب الإقناع والمنتهى لكان أدق. قال - رحمه الله - (كمن ضربه في غير مقتل بسوط , أو عصا صغيرة , أو لكزه ونحوه) إذا ضربه بعصا أو سوط فإنه يعتبر شبه عمد ولكن لاحظ أنّ المؤلف اشترط لهذا أن لا يكون في غير مقتل , فإن كان في مقتل فإنه يعتبر من العمد. وتلاحظ في الأمثلة توفر الشروط وهي قصد الضرب بغير آلة تقتل غالبا. قال - رحمه الله - (والخطأ) الخطأ ينقسم إلى قسمين: - وهو مهم لكثرة وقوعه. 1 - خطأ في القصد. 2 - وخطأ في الفعل. القسم الأول: خطأ في القصد وينقسم إلى قسمين: - القسم الأول: أن يرمي مايظنه صيدا أو حربيا فيبين مسلما. رجل رمى شيئا يظنه صيدا فتبيّن انه مسلما معصوم الدم فهذا خطأ بالقصد. القسم الثاني: أن يرمي رجلا في دار الحرب يظنه كافرا وهو أسلم خفية هذه أنواع الخطأ في القصد سيأتينا كيف نفرق بين هذه.

الثاني: الخطأ في الفعل وهو نوع واحد كأن ينقلب النائم على الطفل فيقتله أو أن يرمي صيدا فيصيب معصوما. الآن عرفنا أنّ الخطأ على نوعين خطأ في القصد وخطأ في الفعل. الفرق بينهما الخطأ في القصد الأول هو رمى ما يظنه صيد فأصبح معصوما. في الصورة الأولى هل يوجد أصلا صيد , لا يوجد صيد أصلا وإنما ظن أنه صيد فتبيّن أنه إنسان في الخطأ في الفعل لما نقول أراد أن يقتل صيدا فأصاب إنسانا يوجد صيد حقيقة لكنه أراد أن يرميه فأخطأ فأصاب إنسانا. في القسم الثاني من الخطأ في القصد. أن يرمي كافرا في دار الحرب فيتبيّن أنه مسلم هنا الخطأ في القصد لا في الفعل لأنّ هذا الشخص زيد لما رمى عمرو هو يريد عمرو لكنه لم يعلم أنّ عمرو أصبح مسلما. وهذا التقسيم للتقريب والمعنى واضح وهو أن يخطأ في القصد أو في الفعل طبعا النائم إذا انقلب على الطفل لا يوجد منه قصد حتى نقول خطأ في القصد وإنما هو خطأ في الفعل. يقول - رحمه الله - (أن يفعل ماله فعله) قوله أن يفعل ماله فعله تبيّن من كلام المؤلف أنه لو فعل ما ليس له فعله فإنه يكون عمدا وهذا منصوص عن الإمام أحمد مثاله / لو أراد الإنسان أن يرمي شاة ملك لرجل فأخطأ وأصاب إنسان هل فعل ماله فعله أو ما ليس له فعله؟ ما ليس له فعله. بخلاف من أراد أن يصيد فإنه فعله وهو الصيد أما هنا فأراد أن يعتدي على مال الآخرين فهنا نص الإمام أحمد على أنّ هذا عمد يعني إذا أراد الإنسان أن يصيد شاة في ملك إنسان عامدا ثم أصاب إنسان فإنّا نعتبر هذا عمد لأنّا نشترط في الخطأ أن يفعل ماله فعله وهنا فعل ما ليس له فعله. القول الثاني: أنه يعتبر خطأ وإن فعل ما ليس له فعله لأنه أخطأ في القصد فهو يقصد الشاة في المثال لا الرجل المعصوم وإلى هذا القول ذهب ابن قدامة - رحمه الله -

القول الثالث: أنه إن قصد معصوما فأصاب معصوما آخر فإنه يعتبر عمد , وإن قصد ما هو أقل من المعصوم كالحيوانات فأصاب معصوما فإنه يعتبر خطأ وإلى هذا ذهب شيخنا - رحمه الله - والراجح إن شاء الله بلا إشكال مذهب ابن قدامة بلا إشكال لماذا؟ لأنه هذا الرجل لا يقصد القتل مطلقا والخطأ في قصده ظاهر ولو قصد معصوما فإذا أراد أن يرمي زيد فأصاب عمرو فهو الآن أخطأ أو لم يخطأ هل أراد قتل عمرو؟ لم يرد لكن بقي عليه أن يبيّن وأن يأتي بدليل على أنه لم يرد عمرو وإنما أراد زيد مثلا فإذا استطاع أن يثبت هذا فإنه لا حرج عليه. قال - رحمه الله - (مثل أن يرمي صيدا أو غرضا , أو شخصا فيصيب آدميا لم يقصده) يقصد بقوله شخصا يعني مباح الدم. هذه ثلاثة أمثلة أن يرمي صيد أو يرمي غرض أو يرمي آدميا غير معصوم الدم هذه من الخطأ في القصد أو في الفعل؟ من الخطأ في الفعل. هذه الأمثلة كلها من الخطأ في الفعل ولهذا لو أنّ المؤلف شكل فمثل لخطأ القصد وخطأ الفعل لكان أولى. قال - رحمه الله - (وعمد الصبي والمجنون) خطأ بلا نزاع عند الحنابلة لأنه لا قصد لهما أصلا فعملهما يشبه عمل النائم. بهذا انتهى هذا الفصل نختمه

بمسألة / الذي يظهر من أمثلة الفقهاء وما ذكروه في القتل الخطأ أنه يشترط ليترتب على الجناية الضمان أن يكون من الجاني شيء من التفريط أو من التعدي أو من التقصير أو من مخالفة النظام فإن لم يكن شيء من ذلك فليس من الخطأ. يعني نشترط في القتل الخطأ لنرتب عليه أحكام القتل الخطأ أن يكون من القاتل شيء من التقصير أو التفريط أو مخالفة النظام أو عدم الاحتياط فإذا كان مع الإنسان بيده خشبة وضرب بها وسقطت على إنسان فهذا من القتل الخطأ لماذا؟ لأنه لم يحتط الاحتياط الكافي. أما لو كان يركب الدابة ثم تجاوز الإنسان وهو متحكم بالدابة فرفست الدابة إنسان فمات فليس من الخطأ لأنّ الإنسان يتمكن بمقدمة الدابة مالا يتمكن من التحكم بمؤخرة الدابة. فما قتلته بالمقدمة يعتبر فيه تفريط ولو كان بغير قصد إذ كان عليه أن يحتاط وأن يحذر بخلاف ما قتلته بمؤخرتها فإنه لا يعتبر من التفريط من هنا نقول حوادث السيارات تتنزل على هذا المعنى فإن كان من السائق تفريط في تفقد السيارة أو في السرعة أو في تنبه الطريق أو في أي شيء من الأشياء التي كان ينبغي عليه أن يحتاط فيها فهو قتل خطأ , وإن لم يكن منه أي تفريط وليس منه أي سبب كأن يمشي مشيا صحيحا ثم يخرج رجل راجل فجأة بما لا يتمكن معه السائق من الوقوف فإنّ هذا لا يعتبر من القتل الخطأ لأنه لا تفريط من السائق مطلقا هذا القول لعله هو أحسن الأقوال في مسألة القتل الخطأ وتنزيل حوادث السيارات عليه. فصل قال - رحمه الله - (تقتل الجماعة بالواحد) ذهب الحنابلة إلى أنّ الجماع تقتل بالواحد واستدلوا على هذا بأدلة: - الدليل الأول: قوله تعالى {ولكم في القصاص حياة يا أولي الألباب لعلكم تتقون} [البقرة/179] والقصاص هو قتل من قتل واحدا كان أو أكثر. الثاني: أنّ هذا ثبت عن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - إفتاء وقضاء , فإنه أفتى بهذا وأنّ الجماعة يقتلون بالواحد. وحكم فيمن قتل بصنعاء من قبل عدد أن يقتلوا به , وقال لو تمالأ عليه أهل صنعاء لقتلتهم به. الثالث: أنه لو لم نقل بقتل الواحد بالجماعة لصار سببا إلى الاحتيال على الحدود بأن يجتمع العدد ليقتلوا شخصا وبهذا يسلموا من القصاص.

القول الثاني: أنه لا يقتل العدد بالواحد لقوله تعالى {النفس بالنفس} [المائدة/45] فتأخذ منهم الدية لعدم التساوي فالمقتول واحد والقتلة جماعة. القول الثالث: أنه يقتل من الجماعة واحد وتقسم الدية على الباقين لأنّ النفس تأخذ بالنفس والباقين لم يقتلوا لمعنى ولوجود مانع فبقيت في ذمتهم الدية. والراجح المذهب بلا إشكال فتقتل الجماعة بالواحد. قال - رحمه الله - (وإن سقط القود أدوا دية واحدة) إذا سقط القود إما لعفو الأولياء أو لأي سبب من الأسباب فإنّ على الجماعة أن يؤدوا الدية. ولا نقول على كل واحد دية لأنّ النفس الواحدة فيها دية واحدة فتقسم الدية عليهم وإنما صار القصاص منهم كلهم لأنه لا يمكن أن نقتص إلاّ بقتلهم جميعا , ففرق بين القصاص وبين دفع الدية. قال - رحمه الله - (ومن أكره مكلفا على قتل مكافئه فقتله فالقتل أو الدية عليهما) هذه مسألة الإكراه إذا أكره شخص آخر على قتل الثالث , فالقتل أو الدية عليهما يعني على المُكره والمكرَه وهذا هو مذهب الحنابلة واستدل الحنابلة على هذا بأنّ المُكره عمل ما يؤدي إلى الموت غالبا وهو إكراه القاتل. وأما القاتل فأمره واضح فقد باشر القتل. القول الثاني: لأبي يوسف أنه لا قتل عليهما. أما المباشر فلأنه مكرَه. وأما المُكره فلأنه لم يباشر. والقول الثالث: أنه يقتل المُكره فقط دون المباشر. واستدلوا على هذا بأنّ المُكره هو القاتل في الحقيقة وأما المباشر فهو كالآلة لأنه قتل بسبب الإكراه. والقول الرابع: أنه يقتل المباشر فقط دون المُكره لأنه هو المباشر والراجح مذهب الحنابلة. وأضعف الأقوال الذي يقول لا قتل عليهما ولا ينتهي عجب الإنسان من هذا القول بناء عليه إذا أراد الإنسان أن يقتل آخر فما عليه إلاّ أن يجبر غيره وبهذا ينجوا هو والمجبر المُكره من القتل يعني أتعجب من صدور هذا الرأي من فقيه مثل أبي يوسف - رحمه الله - فهو بعيد كل البعد عن الفقه وعن قواعد الشرع ولكن هكذا ظهر له - رحمه الله - قال - رحمه الله - (وإن أمر بالقتل غير مكلف أو مكلفا يجهل تحريمه أو أمر به السلطان ظلما من لا يعرف ظلمه فيه فقتل فالقود أو الدية على الآمر) هذه ثلاث صور تستثنى من الصور السابقة.

إذا أمر غير مكلف كصغير ومجنون. أو أمر مكلفا إلاّ أنه يجهل التحريم بأن ظن يجوز أن يقتل هذا الشخص أو كان الآمر به السلطان ظلما والمأمور لا يعرف ظلمه. في هذه الصور القود أو الدية على الآمر لماذا؟ لأنه في الصورة الأولى والثانية. لا قصد لهما ونحن أخذنا أنه مع عدم القصد يكون القتل خطأ وإذا لم يجب عليهما القصاص هؤلاء صار القصاص على الآمر لأنّ نفس المؤمن لا تذهب هدرا فإذا لم يمكن تحميل الضمان عليهم صار على الآمر لأنه هؤلاء أصبحوا كالآلة والآلة لا تضمن. قال - رحمه الله - (وإن قتل المأمور المكلف عالما بتحريم القتل فالضمان عليه دون الآمر) إذا أمر شخص شخصا بلا إكراه أن يقتل غيره فقتله فالضمان على المباشر لأنّ الآمر لم يكره والمباشر باشر القتل حفاظا على نفسه فيكون الضمان عليه وبهذا تختلف هذه المسألة وهي مسألة إذا أُمر بغير إكراه عما إذا أُمر بإكراه. إذا تقرر معنا أنه إذا أمر شخص شخصا بالقتل فالضمان على المأمور لأنه الظالم المباشر للقتل. يبقى علينا ماذا على الآمر؟ على الآمر التعزير فقط. يعزر على هذا الأمر تعزيرا بالغا يردع أمثاله عن مثل هذا الأمر. قال - رحمه الله - (وإن اشترك فيه اثنان لا يجب القود على أحدهما منفردا لأبوة أو غيرها فالقود على الشريك) رجع المؤلف لمسائل الاشتراك في القتل فيقول المؤلف فإنّ اشترك فيه اثنان ..... الخ إذا اشترك في القتل اثنان أحدهما عليه القود والآخر يوجد مانع من أن يقع عليه القصاص كأن يقتل رجل وآخر ابنه , فالأبوة تمنع من القصاص وكأن يقتل حر وعبد عبدا. فالعبد سيقتل بالعبد والحر لا يقتل بالعبد إذا يوجد الآن مانع , ذكر المؤلف الحكم انه يقتل الشريك الذي ليس فيه مانع واستدل الحنابلة على هذا بأنّ كلا منهما يستحق القود والقصاص فرفعناه عن أحدهما لوجود المانع فبقي في حق الآخر بلا مانع فأمضيناه لأنّ الموجب موجود بلا مانع. والقول الثاني: أنه لا قصاص عليهما لأناّ لا نعلم جرح أيهما قتل ربما الذي أدى إلى الوفاة جرح الأب في المثال الاول أو الحر في المثال الثاني.

والقول الثالث: التفريق فإذا كان المانع من قتل الشريك يختص به كالأبوة فإنا نقتل الآخر وإذا كان المانع لا يختص به كنقص السبب والمكافأة فإناّ لا نقتص منه. وهذا الثالث هو المذهب والراجح ما ذكره المؤلف لأنه لا يوجد في الشريك مانع فيجب أن نجري عليه القصاص. ثم - قال رحمه الله - (فإن عدل إلى طلب المال لزمه نصف الدية) أي إن عدل الأولياء عن القصاص إلى الدية فإنّ هذا الذي كنا سنقتله لا يجب عليه إلاّ نصف الدية لأنه كان سيقتل ويرفع القتل عن الآخر لوجود المانع فإذا صرنا إلى الدية فهما مشتركان في القتل فعليهما الدية إذ لا يوجد فأي منهما مانع يمنع من إلزامه بالدية. والقول الثاني: أنّ على المقتول الدية كاملة لأنه كان سيقتل وهذا القول الثاني ضعيف جدا. ويكون الراجح إن شاء الله القول الأول إذا عدل الأولياء إلى الدية فإنها تكون على المشترك.

الدرس: (2) من الجنايات قال شيخنا حفظه الله: بسم الله الرحمن الرحيم والحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين. قال المؤلف - رحمه الله - باب شروط القصاص. لما ذكر المؤلف - رحمه الله - أحكام القصاص وما يتعلق به وأنواع الجناية على النفس انتقل إلى الشروط التي تشترط ليتم القصاص من الجاني فقال - رحمه الله - (وهي أربعة الأول عصمة المقتول فلو قتل مسلم أو ذمي حربيا أو مرتدا لم يضمنه) الشرط الأول للقصاص من الجاني: أن يكون المقتول معصوم النفس , فإن قتل حربيا أو مرتدا فلا قصاص ويلحق بهم الزاني المحصن إذا ثبت زناه سواء ثبت قبل القتل أو بعد القتل , المهم أن يثبت زناه. فإذا قتل الجاني شخصا غير معصوم الدم فلا قصاص. استدل الحنابلة على هذا: أنه قتل من يستحق القتل وأما أنه افتات على الإمام فيعزر لهذا الافتيات. القول الثاني: أنه إذا قتل الزاني المحصن أو غيره فإنه يقتاد منه لأن القتل من خصائص الإمام , فإذا قتل فقد فعل ما لم يؤذن له فيه , وكل فعل لم يؤذن فيه فعليه ضمانه.

هذا الخلاف بطبيعة الحال كما قلت في ما إذا قتل الزاني المحصن ونحوه أما إذا قتل الحربي فلا ضمان بالإجماع. ثم - قال رحمه الله - (الثاني التكليف فلا قصاص على صغير ولا مجنون) لا قصاص لا على الصغير ولا المجنون إجماعا. حكي الإجماع لقول النبي - صلى الله عليه وسلم - (رفع القلم عن ثلاث عن الصغير حتى يبلغ والنائم حتى يستيقظ والمجنون حتى يفيق) وإذا كان القلم مرفوع عنه فإنه لا يؤاخذ لأن التكليف مرفوع أيضا عنه. وهذه المسألة كما قلت محل إجماع. مسألة: لم يتطرق إليها المؤلف: السكران: فيه عن الإمام أحمد روايتان. الرواية الأولى أنه يقتل والراوية الثانية انه لا يقتل. والصحيح أنه يقتل لدليلين: الأول: أن الصحابة أقاموه مقام القاذف في حد الخمر. فقالوا إنه إذا سكر قذف فاجلدوه ثمانين جلدة. فقاسوا على حد القذف مما يعني أن الصحابة يؤاخذونه بأفعاله. الدليل الثاني: انه لو قيل بأن السكر يرفع الضمان عن القاتل فلا يقتل بمن قتل لصار هذا بابا يستغله من أراد أن يقتل غيره , فلسد هذا الباب نقول من قتل يقتل ولو كان سكرانا. ثم - قال رحمه الله - (الثالث: المكافأة بان يساويه في الدين والحرية والرق) الشرط الثالث: المكافأة والمقصود بالمكافأة: ألا يفضل القاتل المقتول في دين ولا في حرية ولا في رق. والفرق بين الحرية والرق أنهم يقصدون بالرق أن يكون أن يكون المقتول مملوكا للقاتل. فإذا كان مملوكا للقتل فإنه ليس بينهما تكافؤ من جهتين: الأول: تفاوت الحرية. والثاني: أنه مملوك له. مسألة: ووقت المكافأة المعتبر هو حال الجناية , فإذا قتل عبد عبدا ثم أعتق القاتل فإنه يقتل وإن كان حال تنفيذ القصاص حرا, لكن المعتبر في المكافأة حال أداء عمل الجناية. ثم لما ذكر الشيخ المكافأة فصل فيها. ثم - قال رحمه الله - (فلا يقتل مسلم بكافر ولا حر بعبد) لا يقتل مسلم بكافر ولو كان هذا الكافر ذميا. وقد حكي الإجماع على هذا لقول النبي - صلى الله عليه وسلم - في الحديث الذي أخرجه البخاري (لا يقتل مسلم بكافر) والقول الثاني: أن المسلم يقتل بالكافر ومقصودهم إذا كان ذميا أو مستأمنا أي إذا كان معصوم الدم.

واستدل أصحاب هذا القول: لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - (قتل مسلما بكافر) وهذا الحديث ضعيف لا يثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - والراجح المذهب. قد شدد الإمام احمد وأنكر إنكارا شديدا على من ذهب إلى القول الثاني لكونه خالف الحديث الصريح الذي في صحيح البخاري , ولهذا أنكر عليه إنكارا شديدا , وهذا الإنكار من الإمام احمد إشارة إلى ما ذكره شيخ الإسلام: أن مسائل الخلاف تنقسم إلى قسمين: مسائل خلاف ومسائل اجتهاد , وأن المسائل التي يسوغ فيها الاختلاف هي مسائل الاجتهاد لا مسائل الخلاف, والفرق بينهما أن مسائل الاجتهاد: هي المسائل التي تبني على أدلة صحيحة ولها وجهة صحيحة من النظر , أما مسائل الخلاف فتشمل هذه وتشمل المسائل التي لم تبن على دليل صحيح كخلاف الحنفية في الطمأنينة وعدة مسائل يعتبر الخلاف فيها شاذا وينكر على من خالف فيها فهذا الإنكار من الإمام احمد يشير إلى أن هذا التقسيم صحيح. ثم - قال رحمه الله - (ولا حر بعبد) لا يقتل الحر بالعبد لعدم مكافأة , فإذا قتل حر عبدا صرنا إلى الدية لعدم المكافأة , واستدل الحنابلة على هذا بأمرين: الأول: انه مروي عن عمر وعلي. الثاني: حديث (لا يقتل حر بعبد) أما الحديث فهو ضعيف وأما الآثار فلم أقف على أسانيدها. القول الثاني: أن الحر يقتل بالعبد. واستدلوا بدليلين: الأول: قوله - صلى الله عليه وسلم - (المؤمنون تتكافأ دمائهم) والعبد مؤمن. الدليل الثاني: العمومات فإنها عامة تشمل ما إذا كان المقتول حرا أو عبدا. واختار هذا القول شيخ الإسلام وقال ليس في استثناء العبد حديث صحيح صريح. وأيد شيخ الإسلام قوله بقول النبي - صلى الله عليه وسلم - (من قتل عبده قتلناه) لكن أيضا هذا الحديث فيه ضعف. والراجح ما ذهب إليه شيخ الإسلام. ثم - قال رحمه الله - (وعكسه يقتل) إجماعا .. لأنه إذا أخذ بالأدنى فيؤخذ بالأعلى فإذا قتلنا الحر بالحر فلأن نقتل العبد بالحر من باب أولى. لأن الحر أرفع درجة في باب المكافأة من العبد عن الحنابلة. ثم - قال رحمه الله - (ويقتل الذكر بالأنثى والأنثى بالذكر)

أما قتل الأنثى بالذكر فهو إجماع وتدل عليه العمومات. إلا أن بعض الفقهاء وروي عن علي ولا أظنه يثبت أنه قال (إذا قتلت المرأة الرجل فإنا نقتل المرأة ونعطي أهل المقتول نصف الدية) لكونها أقل مرتبة. فقتلها مع نصف الدية يوازي الرجل. ولكن المجد ابن تيمية أنكر هذا القول جدا وقال إنه قول ضعيف ولذلك أنا أقول إن هذا القول لا أظنه يثبت عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب. المسألة الثانية: أن الرجل يقتل بالمرأة , والدليل على هذا ما في حديث عمرو بن حزم أنه قال (وأن الرجل يقتل بالمرأة) واستدلوا على هذا بالعمومات (النفس بالنفس) وقوله (الحر بالحر). والقول الثاني: أن الرجل لا يقتل بالمرأة لأنها أقل منه بل نصير إلى الدية. وهذا القول الثاني ضعيف. والراجح بلا إشكال إن شاء الله أن الرجل يقتل بالمرأة , ومما يدل على تعين القول بهذا المذهب حديث اليهودي الذي قتل الجارية فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - أقاده بها. وهو نص في قتل الرجل بالمرأة. ثم - قال رحمه الله - (الرابع: عدم الولادة) يشترط لتنفيذ القصاص ألا يكون القاتل أبا للمقتول وإلا فإنه لا يقاد به. واستدل الجمهور على هذا بقول النبي - صلى الله عليه وسلم - (لا يقتل والد بولده) وهذا الحديث فيه خلاف شديد في ثوبته أو عدم ثبوته والأقرب والله أعلم أنه صحيح. والقول الثاني: انه يقتل به. وهو اختيار ابن المنذر واستدل على ذلك بالعمومات. وكأنه يضعف الحديث. والقول الثالث: اختيار الإمام مالك: أنه إن قتله قتلة لا يشك فيها بالعمد كان أضجعه وذبح فإنه يقاد به وإلا فلا. والراجح الأول مادمنا نصحح الحديث. والحديث يجب المصير إليه فإنه يقول لا يقاد والد بولده. ثم - قال رحمه الله - (فلا يقتل أحد الأبوين وإن علا بالولد وإن سفل) فلا يقتل احد الأبوين الأب أو الأم سواء علا أو سفل بناء على هذا لا يقتل أبو الأب ولا أبو الأم بحفيدهما. واستدلوا على هذا بأمرين: الأول: قوله - صلى الله عليه وسلم - (إن ابني هذا سيد) وهو يقصد ابن بنته فسماه ابن فيدخل في الحديث. الثاني: أنه يطلق على الجد أنه والد.

باب استيفاء القصاص

القول الثاني: أن الحديث لا يتناول الجد فإذا قتل الجد حفيده أقدناه به. وذهب إلى هذا القول الحسن بن حيي واختاره شيخ الإسلام ابن تيمية. وكأنه خص الحديث بالوالد المباشر فقط. يعني كأن اختيار شيخ الإسلام قوي والسبب في هذا أن النصوص الدالة على وجوب القصاص محكمة وواضحة الدلالة فالاستثناء منها ينبغي على مورد النص فقط كما أن العلاقة بين الأب والابن ليست كالعلاقة بين الأب والجد. والحقوق والواجبات تختلف من الأب إلى الجد. ولهذا نقول استثنائه جيد ثم - قال رحمه الله - (ويقتل الولد بكل منهما) يعني بالأب أو بالأم .. وهذا إجماع. بل قتل الولد لأبيه أشنع من قتله لأجنبي. كما أن حق الأب على الابن أكبر من حقه على أجنبي القول الثاني: أن الابن لا يقتل بالأب وهو قول نستطيع أن نقول عنه أنه ساقط مخالف للنصوص حتى انه مخالف لقول النبي - صلى الله عليه وسلم - (لا يقتل والد بولده) وجه المخالفة: أن الحديث نص على الوالد فكأنه يؤكد الوجوب في الولد لأن استثناء البعض يبقي الباقي على الحكم الأول فيتوافق حديث (لا يقتل والد بولده) مع العمومات على وجوب قل الولد بوالده كما انه شنيع وغاية في العقوق فكيف يستثنى من القتل ولهذا كله أقول يمكن أن نقول أنه قول ساقط. باب استيفاء القصاص لما ذكر في الباب السابق شروط استحقاق القصاص أراد أن يبين هنا أنه إذا ثبتت الشروط وصار الجاني مستحقا للقتل فلابد أيضا للقيام باستيفاء هذا القصاص من تحقق شروط أخرى. وقبل أن نذكر باب استيفاء القصاص نسينا أن نذكر تعريف القصاص وهو ملحق بباب شروط القصاص. القصاص في لغة العرب: تتبع الأثر مأخوذ من القص. وأما في الاصطلاح: أن يُفعل في الجاني مثل ما فعل. نأتي إلى باب استيفاء القصاص. - قال رحمه الله - (يشترط له ثلاثة شروط أحدهما: كون مستحقه مكلفا فإن كان صبيا أو مجنونا لم يستوف)

الشرط الأول: أن يكون المستحق للقصاص مكلف فإن كان غير مكلف فإنه ينتظر به إلى أن يبلغ الصغير أو يفيق المجنون. ولا يجوز للولي ولو كان الأب أن يستوفي القصاص , واستدل الحنابلة على هذا بان الغرض من القصاص الردع وأن يحصل التشفي من أولياء الدم. وهذه الحكمة لا تحصل إذا قتل وولي الدم صغيرا أو مجنونا بل ينتظر به إلى أن يبلغ ليحصل له التشفي ودرك الغيظ. والقول الثاني: أن للأب أن يقتص وأن يستوفي وإن لم يبلغ الصغير أو يفيق المجنون. لأن له ولاية تخوله أن يستوفي القصاص. الراجح المذهب. لكن لو قيل بقول ثالث لكان قولا حسنا جدا لكني لم أقف عليه لو قيل إذا كان مستحق القصاص مجنون فلوليه أن يستوفيه وإذا كان صغير فليس له أن يستوفيه وإنما ينتظر به إلى أن يبلغ لو قيل بهذا القول لكان قولا متجها جدا لأنّ الصغير يكبر ويستوفي بنفسه وربما صفح. أما المجنون فإنه قد يستمر مجنون وقلما يبرأ المجنون أليس كذلك؟ قلما يبرأ المجنون الذي فقد عقله. لو قيل بهذا القول كان قولا متجها لكني بحثت لم أجد من قال به المهم إذا كان قيل به فهو قول جيد. قال - رحمه الله - (فإن كان صبيا أو مجنونا لم يستوف وحبس الجاني إلى البلوغ والإفاقة) إذا انتظرنا الصبي والمجنون فإنه في حال الانتظار يجب أن نحبس الجاني إلى أن يبلغ الصبي أو يفيق المجنون والدليل على هذا من وجهين: - الأول: أنه مروي عن معاوية - رضي الله عنه - الثاني: خشية أن يهرب فلا يتمكن منه عند بلوغ الصبي وإفاقة المجنون. مسألة / هل لولي من له الحق في الاستيفاء هل له أن يعفو إلى الدية. الجواب ليس له أن يعفو إلى الدية إلاّ في حال واحدة فقط إذا كان ولي الدم مجنونا فقيرا أما إن كان صغيرا فقيرا فلا يعدل إلى الدية لأنه إذا كان مجنونا وفقيرا فالعدول إلى الدية في هذه الحال يعني مصلحة ولي الدم فيها ظاهرة لأنه مجنون فلا يشعر باستيفاء حقه ولا يشعر بالتشفي كما انه فقير فهو بحاجة إلى الدية. ففرقوا هنا بين ماذا وماذا؟ ففرقوا بين الصغير والمجنون. وهذا القول جيد إذا رأى ولي الدم أنّ المصلحة في هذا وصنع ذلك فتصرفه حسن وهو مذهب الحنابلة وصحيح.

قال - رحمه الله - (اتفاق الأولياء المشتركين فيه على استيفائه وليس لبعضهم أن ينفرد به) الشرط الثاني: أن يتفق الأولياء المشتركين فيه على استيفائه ولا يجوز أن ينفرد به أحدهم وهذا يرجع إلى قاعدة أخرى وهي [أنّ حق الاستيفاء موزع على جميع الورثة] فكل من يرث الميت له الحق في الاستيفاء فإذا صفح أحدهم سقط القصاص والدليل على هذا من وجهين الأول" قوله - صلى الله عليه وسلم - من قتل له قتيل فهو بخير النظرين. إما أن يقتل أو يعفو - وفي رواية صحيحة فأهله بخير النظرين. وكلمة أهله تشمل جميع الورثة فالحديث أسند الحق إلى جميع الورثة. الوجه الثاني: أنّ هذا مروي عن الصحابة أي أنه إذا عفي واحد من مستحقي الدم سقط القصاص. القول الثاني: أنّ حق الاستيفاء خاص بالعصبة دون النساء لأنّ المقصود من القصاص التشفي ورد العار وهو يتعلق بالرجال يعني رد العار وإلى هذا القول ذهب شيخ الإسلام. القول الثالث: عكس المذهب أنه إذا اختار أي واحد من ورثة الدم القصاص فإنه يقتص من الجاني ولو عفي سائر الباقين عكس المذهب واستدل أصحاب هذا القول بأنّ لكل واحد من الورثة الحق في القصاص فإذا أسقط بعضهم حقه بقي حق الباقين بدليل أنّ النفس تأخذ ببعض النفس كما في قتل الجماعة بالواحد فهذا أخذ للنفس ببعض النفس. الراجح المذهب يليه في القوة اختيار شيخ الإسلام والذي يجعل الإنسان لا يقول باختيار شيخ الإسلام أنه صح عن عمر - رضي الله عنه - أنه درأ القصاص بعفو امرأة وهي أخت المقتول فلما عفت درأ القصاص فأخذ عمر بمحضر من الصحابة بعفو امرأة لولا هذا الأثر لكان اختيار شيخ الإسلام وجيه لكن مع هذا الأثر وعموم الحديث من قتل له قتيل يكون قول الحنابلة هو أرجح هذه الأقوال. قال - رحمه الله - (وإن كان من بقي غائبا , أو صبيا , أو مجنونا , انتظر القدوم والبلوغ والعقل) يقول المؤلف تفريعا على الشرط الثاني وإن كان من بقي غائبا أو صبيا أو مجنونا , انتظر القدوم والبلوغ والعقل. إذا كان بعض الورثة غائب أو بعضهم صغير أو بعضهم مجنون فيجب أن ننتظر الغائب والصغير ليبلغ والمجنون ليفيق فهذه مسألتان:

المسألة الأولى: انتظار قدوم الغائب وهي محل إجماع إذا كان أحد أولياء الدم فننتظره بالإجماع. المسألة الثانية: انتظار بلوغ الصبي أو إفاقة المجنون فالمذهب أنه ينتظر فننتظر إفاقة المجنون وبلوغ الصبي واستدل الحنابلة على هذا بأنه لو عفي عن القصاص إلى الدية لكان لهم حق في الدية فدل هذا على أنّ لهم حقا في القصاص ينتظرون. الثاني: أنّ هذا الصبي والمجنون لو كان منفردا لانتظرناه أليس كذلك؟ في المسألة السابقة أخذنا إذا كان منفردا ننتظره فكذلك إذا كان مع غيره من أولياء الدم. القول الثاني: أنه إذا كان الباقون من أولياء الدم كبار بالغون فإنّ لهم الحق في الاستيفاء قبل بلوغ الصبي وإفاقة المجنون واستدلوا على هذا بأنّ أمير المؤمنين علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - لما قتل كان في ذريته الكبار والصغار , إلاّ أنّ الحسن - رضي الله عنه - بادر بقتله قبل بلوغ الصغار ولم ينتظر فدل هذا على أنه لا يجب أن ننتظر الصغار والراجح المذهب والجواب عن حديث الحسن أنه - رضي الله عنه لما قتل علي أصبح الحسن هو الإمام فقتله على سبيل الحرابة لا على سبيل القصاص ولهذا لم ينتظر وهذا القول الثاني هو الراجح قال - رحمه الله - (الثالث: أن يؤمن في الاستيفاء أن يتعدى الجاني) يعني أن يتعدى الجاني إلى غيره ويكاد هذا ينحصر في الحامل ولهذا قال بعدها (فإذا وجب على حامل أو حائل فحملت لم تقتل حتى تضع الولد) يجب أن نأمن من أن نتعدى الجاني إلى غيره لأنه عند التعدي ندخل في قوله تعالى {فلا يسرف في القتل} [الإسراء/33] وإذا قتل الحامل وما في بطنها فقد أسرف لأنه أخذ نفسين بنفس واحدة وهذا هو الإسراف ولهذا صارت هذه المسألة محل إجماع لم يختلفوا في أنه يجب أن ننتظر الحامل إلى أن تضع. قال - رحمه الله - (وتسقيه اللبأ) يجب أيضا أن ننتظر بعد الولادة إلى أن تسقيه هذا الحليب اللبأ وهو أول ما يخرج من المرأة وعلل الحنابلة هذا بأنّ فقدان الطفل لأول حليب يخرج من أمه يلحق به ضررا بالغا كبيرا والنبي - صلى الله عليه وسلم - يقول (لا ضرر ولا ضرار) فإذا يجب أن ننتظر إلى أن تسقيه هذا اللبأ ولا نقتلها بعج الولادة مباشرة.

ثم - قال رحمه الله - (ثم إن وجد من يرضعه وإلا تركت حتى تفطمه) مقصود الحنابلة في المسألة السابقة بقوله (تسقيه اللبأ) يعني ويُنتظر إلى أن ينتهي النفاس وليس المقصود فقط أن تسقيه هذا اللبن بل تسقيه هذا اللبن وننتظر إلى أن ينتهي النفاس لأنه إن لم نفعل ذلك أيضا تضرر الطفل لأنه بحاجة ماسة إلى أمه في مدة النفاس. إذا وضعته وسقته اللبن وانتظرنا إلى أن ينتهي النفاس نظرنا فإن وجد من يكفل الصبي فذاك وإلا فإنه ينتظر لمدة حولين. استدل الحنابلة على هذا بأنه إذا كان الشرع يراعي الجنين وهو في بطن أمه فلأن يراعيه بعد أن يولد من باب أولى لأن الإنسان بعد الولادة يكون في الشرع محترما أكثر منه بعد الولادة بدليل أمرين: الأمر الأول: اختلفوا في إسقاطه قبل نفخ الروح. الدليل الثاني: أن فطرة الجنين لا تجب بينما إذا وُلد فإن فطرته تجب. وفي هذا كله ما يدل على انه بعد الولادة تعظم حرمة الإنسان. بناء على هذا نقول يجب أن يُنتظر إذا لم يوجد من يكفل هذا لصغير. ثم - قال رحمه الله - (ولا يقتص منها في الطرف حتى تضع) المؤلف يريد أن يبين أنه كما ننتظر في الجناية على النفس كذلك ننتظر في الجناية فيما دون النفس. في الحالين ننتظر فننتظر المرأة الحامل إلى أن تضع. والدليل: أن الاقتصاص من المرأة في الأطراف وهي حامل يؤثر على الجنين وربما أسقطه , بناءا عليه ينتظرونه إلى أن يولد. وظاهر كلام المؤلف أن الاقتصاص في الأطراف يكون بعد الولادة مباشرة ولا ننتظر كما ننتظر في القصاص في النفس. والصواب أنه كذلك في القصاص في الأطراف ننتظر إلى أن تسقيه هذا الحليب لكي لا يتضرر من تركه. فننتظر مدة النفاس. ثم نقتص منها في الطرف. ثم - قال رحمه الله - (والحد في ذلك كالقصاص) يعني حكم الانتظار في الحدود كحكمه في القصاص , فإن كان الحد يؤدي إلى إتلاف النفس كالرجم فحكمه حكم الاقتصاص من النفس , وإن كان الحد لا يؤدي إلى إتلاف النفس كحد الجلد فحكمه حكم الاقتصاص في الطرف ونحن أخذنا أن الحنابلة يرون انه بعد الولادة مباشرة يُقتص منها في الطرف كذلك هنا يرون أنه بعد الولادة مباشرة يُقام إليها الحد الذي لا يؤدي إلى إتلاف النفس كالجلد.

والراجح في تلك المسألة هو الراجح في هذه المسألة وهو انه يُنتظر أيضا في إقامة الحد ولو كان بغير متلف للنفس كالجلد ننتظر إلى أن ترضع هذا الطفل لكي لا يتضرر من ذلك. فصل - قال رحمه الله - (ولا يستوفى القصاص إلا بحضرة سلطان أو نائبه) يشترط لاستيفاء القصاص أن يحضر السلطان أو يحضر نائب السلطان أي ولا يمكن أهل المجني عليه من إقامة القصاص منفردين. وعلة ذلك انه لا يؤمن إذا انفردوا به من أن يتعدوا عليه أو يعتدوا عليه في كيفية القصاص أو في غير ذلك. ولذلك اشترطوا وجود السلطان أو نائبه. القول الثاني: أنه لا يُشترط بل إذا أذن السلطان أو الحاكم أو الإمام أذن في القصاص فإن ولي الدم يقتص من الجاني ولو بغير حضرة السلطان. واستدل أصحاب هذا القول: بأن رجلا في عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - قتل آخر فأعطى النبي - صلى الله عليه وسلم - إخوة المقتول وقال لهم اذهبوا به فاقتلوه) وهذا الحديث صحيح. ولهذا اختار هذا القول الثاني شيخ الإسلام ابن تيمية. والراجح والله أعلم: أن يقال إذا امن السلطان من أي يحيف أولياء الدم على المقتول ويعتدوا عليه فلهم أن يقتلوه وله أن يمكنهم من ذلك , وإذا لم يأمن فإنه لا يجوز. السبب في هذا: أن أولياء الدم يملكون من الجاني إقامة القصاص فقط. يعني يملكون القصاص فقط فلا يملكون توبيخه ولا شتمه ولا لطمه ولا ركله ولا يملكون أن يؤذوه بأي طريقه إنما يملكون شيء واحد فقط وهو القصاص. ملكهم الشارع هذا الحق. فإذا أعطينا القاتل لأولياء المقتول ربما قبل القتل اعتدوا عليه قبل أن يقتلوه تشفيا وهذا لا يجوز لأن الشارع لم يبح لأولياء لدم أن يتشفوا إلى بالقتل الذي هو القصاص. ولهذا نقول قول الحنابلة قوي ووجيه ولولا هذا الحديث الصحيح لكان حسم الباب هو المتعين لكن نقول هذا القول وسط: إذا أُمن من زيادتهم بأن كانوا أخيار وأمانتهم واضحة فإنه يدفع إليهم وإلا فلا. ثم - قال رحمه الله - (وآلة ماضية) ويشترط في تنفيذ القصاص أن تكون الآلة ماضية فلا يجوز أن يقتل بسيف كال لقول النبي - صلى الله عليه وسلم - (إن الله كتب الإحسان على كل شيء فإذا قتلتم فأحسنوا القتلة)

باب العفو عن القصاص

والدليل الثاني: أن الواجب هو القصاص لا التعذيب بتطويل مدة قطع الرقبة. وهذا لا خلاف فيه إن شاء الله. ثم - قال رحمه الله - (ولا يستوفى في النفس إلا بضرب العنق بسيف ولو كان الجاني قتله بغيره) لا يجوز استيفاء القصاص إلا بالسيف ولا يجوز بغير السيف ولو كان الجاني استخدم طريقة بشعة في قتل المجني عليه. واستدل الحنابلة على هذا بقول النبي - صلى الله عليه وسلم - (لا قود إلا بالسيف) وهذا حديث ضعيف. وهذا من مفردات الحنابلة. القول الثاني: وهو للأئمة الثلاثة: أن يُفعل بالجاني كما فعل. واستدلوا بدليلين: الأول: قوله تعالى {وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به} [النحل/126]. والآية نص في المقصود. الدليل الثاني: أن اليهودي لما قتل الجارية برض رأسها بين حجرين أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - بقتله بنفس الطريقة. وهذا القول الثاني هو الراجح بلا إشكال إن شاء الله فيُقتل كما قتل. إلا انه يستثنى من هذا إذا قتل بطريقة محرمة كأن يقتله بتجريعه الخمر فإن الجاني لا يُقتل بهذه الطريقة لأن شرب الخمر محرم , أو قتله باللواط فإن الجاني لا يقتل بهذه الطريقة. والضابط: أنه لا يُقتل بطريقة محرمة. باب العفو عن القصاص قال - رحمه الله - (يجب بالعمد: القود أو الدية فيخير الولي بينهما) هذه المسألة مسألة مهمة يقول - رحمه الله - باب العفو عن القصاص وبدأ في هذا الباب بمسألة مهمة وهي موجب القتل العمد يعني ما هو الشيء الذي يجب لأولياء الدم إذا قتل وليهم عمدا في هذه المسألة ثلاث أقوال للفقهاء هي ثلاث روايات عن الإمام أحمد. القول الأول: وهو المذهب أنه مخير بين القتل والعفو إلى الدية. واستدلوا على هذا بالحديث السابق من قتل له قتيل فهو بخير النظرين فأسند الاختيار إلى أولياء الدم. القول الثاني: أنّ موجَبه القود فقط , ولا ننتقل إلى الدية إلاّ برضا الجاني لأنّ حق أولياء الدم هو في القتل فقط. واستدلوا بقول النبي - صلى الله عليه وسلم - من قتل عمدا فهو قود. وهذا الحديث إسناده حسن. القول الثالث: أنّ موجب القتل العمد هو القود فقط إلاّ أنّ أولياء الدم لهم أن يختاروا الدية وليس للجاني أن يرفض واستدلوا بدليلين:

أما أنّ موجبه القود فدليلهم هو دليل القول الثاني. وأما أنه لا يشترط رضا الجاني إذا أرادوا الانتقال إلى الدية فلقوله تعالى {ولا تقتلوا أنفسكم} [النساء/29] وإذا لم يرض بالدية فقد قتل نفسه والراجح المذهب. والقول الثالث من حيث الخلاصة والثمرة كالقول الأول تماما لكن تفقهم في المسألة يختلف ولا النتيجة أنّ أولياء الدم لهم الحق بين القتل أو أخذ الدية. قال - رحمه الله - (وعفوه مجانا أفضل) بلا نزاع كونه يعفو إلى غير شيء أفضل لقوله تعالى {فمن عفا وأصلح فأجره على الله} [الشورى/40] وذهب شيخ الإسلام إلى أنّ العفو أفضل إذا كان في العفو مصلحة وإلا فإنّ الاستيفاء أفضل واستدل على هذا بأنّ الله سبحانه وتعالى قال {فمن عفا وأصلح فأجره على الله} [الشورى/40] فقرن العفو بالإصلاح فليس من الإصلاح أن يعفى عن مفسد في الأرض لم يظهر توبة هذا ليس من الإصلاح في شيء بل الإصلاح أن يستوفى منه ليكون عبرة لغيره. قال - رحمه الله - (فإن اختار القود , أو عفى عن الدية فقط فله أخذها) إذا عفى عن القود يعني إلى الدية أو عفى عن الدية فقط يعني دون القصاص فله أن يأخذ الدية وإذا أخذ الدية في هذه الحال فهذه الدية دية جديدة مقابل القصاص وليست هي الدية التي نقول هو مخير بين أمرين وهذا الفرق بين قول المؤلف هنا له أن يختار بين الأمرين وبين هذه المسألة التي نتكلم عليها. بعبارة أخرى إذا قيل لولي الدم أنت مخير بين القصاص والدية فهو إما أن يختار الدية حينئذ يكون له الدية والأمر واضح. أو يختار العفو عن الدية دون القصاص فحينئذ يكون حقه في القصاص فله أن يتنازل عن هذا القصاص الذي اختاره إلى الدية وهذه الدية ليست هي الدية التي للتخيير وإنما بديل عن القصاص الذي اختاره ولولا هذا لكان كلام المؤلف ليس له معنى لأنّ التخيير سبق. وهو يقول في أول الباب [يجب بالعمد القود أو الدية] إذا هذا ليس هو من باب التخيير ولكن ليبيّن أنّ الإنسان له أن ينتقل من القصاص إلى الدية وهذا معنى قوله [فله أخذها] قال - رحمه الله - (والصلح على أكثر منها)

هذا الاختيار الثالث وهو أن يختار الدية أو القصاص أو أن يختار أكثر من الدية ذهب الحنابلة إلى أنّ لأولياء المقتول أن يختاروا أكثر من الدية واستدلوا على هذا بقول النبي - صلى الله عليه وسلم - إن شاءوا قتلوا وإن شاءوا أخذوا الدية وما اصطلحوا عليه فهو لهم. وهو حديث صحيح. الدليل الثاني: أنّ الشارع متشوف لحقن الدماء والعفو. الثالث: أنّ هذا مروي عن أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - يعني الأخذ أكثر من الدية. والقول الثاني: أنه ليس له إلاّ أن يقتص أو يأخذ الدية فقط واستدل أصحاب هذا القول بقول النبي - صلى الله عليه وسلم - ليس له إلاّ أن يقتص أو يعفو أو يأخذ الدية فإنّ اختار الرابعة فخذوا على يده. [أي ولي الدم] ماذا بقي؟ أن يأخذ أكثر من الدية وهذا الحديث ضعيف. من وجهين: الوجه الأول: أنه ضعيف لضعف إسناده. الوجه الثاني: أنه يخالف متن الحديث السابق وهو أصح منه وهذا يشعر بالنكارة في المتن لمخالفته الأحاديث التي هي أصح منها وربما نضيف وجها ثالثا: وهو مخالفته لعمل الصحابة. ولهذا نقول إن شاء الله الراجح كما هو عليه العمل الآن أنه لهم أن يأخذوا أكثر من الدية ولو بأضعاف مضاعفة. قال - رحمه الله - (وإن اختارها) يعني فليس له غيرها إذا اختار الدية فإنه لا يتمكن من الرجوع إلى القصاص لأنه يكون رجع من الأدنى إلى الأعلى وإنما أجزنا له أن يرجع من القصاص إلى الدية لأنه رجوع من الأعلى إلى الأدنى فإذا اختار الدية انتهى الأمر وليس له أن يرجع بل يلزم بأخذ الدية مهما كان الأمر. قال - رحمه الله - (أو عفا مطلقا) يقول الشيخ فليس له غيرها يعني إذا عفا مطلقا فله الدية فإذا قال ولي الدم عفوت عنك ما نقول قوله عفوت عنك يعني عن القصاص والدية. بل نقول عليك الدية لماذا؟ لأنّ العفو المطلق ينصرف إلى القصاص لأنه المقصود الأعظم وعلى هذا عمل الناس فإذا قال عفوت يقصد عن القصاص وإذا أراد أن يعفو عن القصاص والدية فهو يؤكد هذا ويقول عفوت مجانا أو عفوت بلا مقابل ويؤكد هذا المعنى أما كلمة عفوت فبلا إشكال أنها لا تتناول الدية لأنّ المقصود الأعظم هو العفو عن القصاص. قال - رحمه الله - (أو هلك الجاني فليس له غيرها)

إذا هلك الجاني ليس له إلاّ الدية لأنّ الجاني هلك فإن كان الجاني لا مال له سقط ليس له شيء. والقول الثاني: أنه بمجرد موت الجاني لا شيء لأولياء الدم وهذا القول اختاره شيخ الإسلام والراجح إن شاء الله المذهب أنه إذا مات الجاني فإنه ننتقل إلى الدية تكون في ماله. قال - رحمه الله - (وإذا قطع أصبعا عمدا) المؤلف مقصوده بقوله إذا قطع أصبعا عمدا التمثيل والضابط هو [أن يحصل جرح في الطرف دون النفس مما فيه قصاص] مقصود المؤلف أن يتكلم عن الجروح التي في الأطراف التي فيها قصاص دون التي ليس فيها قصاص إذا يريد المؤلف أن يتكلم عن هذه المسألة ولهذا لو أنه - رحمه الله - بيّن أنه يريد التمثيل فقط باستخدام حرف الكاف أو كلمة مثل لكان أوضح. نأتي إلى الحكم. قال - رحمه الله - (وإذا قطع أصبعا عمدا فعفا عنها ثم سرت إلى الكف أو النفس وكان العفو على غير شيء فهدر وإن كان العفو على مال فله تمام الدية) هذه مسألة واحدة إذا قطعت أصبع شخص فعفا ثم سرت الجناية إلى النفس فإما أن يعفو على غير شيء أو يعفو على مال , فإن عفا على غير شيء فهدر نفسه كلها هدر , وإن عفا على مال استحق بقية الدية أو بتعبير المؤلف تمام الدية ما المقصود بتمام الدية؟ المقصود بتمام الدية أن يأخذ الدية كاملة محذوفة منها قدر دية الأصبع أو العضو المعفو عنه. فمثلا في المثال الذي ذكره المؤلف كم سيأخذ؟ دية الأصبع عشرة من الإبل سيأخذ تسعين من الإبل. هذا مقصود المؤلف بقوله تمام الدية. والمؤلف - رحمه الله - في هذه المسألة خالف المذهب ولكنه تابع الأصل أي المقنع يعني تابع ما ذكره ابن قدامة - رحمه الله - القول الثاني: أنه إذا عفى على مال أو على غير مال وسرت الجناية فإنّ له تمام الدية في الحالين وهذا هو المذهب لا يفرقون بين أن يكون عفا على مال أو عفا مجانا.

والقول الثالث: أنه إذا عفا على مال أو على غير مال ثم سرت الجناية إلى النفس فله كمال الدية كلها. لأنّ هذه الجناية أصبحت جناية على النفس وهو إنما عفا عن جناية الأصبع فهذه الجناية الجديدة لم يعفو عنها وهذا القول في الحقيقة وجيه وجيد. لأنه هو عفا عن شيء والجناية أصبحت شيئا آخر إذ سرت إلى النفس كلها. إذا عرفتا الآن حكم هذه المسألة في المذهب وعند المؤلف وعلى القول الصحيح. قال - رحمه الله - (وإن وكل من يقتص ثم عفا فاقتص وكيله ولم يعلم فلا شيء عليهما) إذا وكل من يقتص ثم عفا ولم يعلم الموكل فاقتص فلا شيء عليهما أما الموكل فلأنه لا تفريط منه فهو يعمل بأمر الموكِل. وأما الموكِل فلأنه عفا والقاعدة [أنّ الإحسان لا يوجب الضمان] فهو محسن ولا نوجب عليه الضمان. والقول الثاني: أنه على الموكِل الضمان لأنه فرط في المبادرة بإعلام الموكَل والراجح المذهب لأنه في الحقيقة ما على المحسنين من سبيل. قال - رحمه الله - (وإن وجب لرقيق قود أو تعزير قذف فطلبه وإسقاطه إليه) إذا وجب الحق للرقيق سواء جناية عليه أو قذف فإنّ الحق هو لنفس الرقيق سواء أراد أن يطالب أو يعفو واستدلوا على هذا بأنّ المقصود من إقامة الحدود والقصاص هو أخذ حق المجني عليه وأن يتشفى من الجاني وهذا المعنى يختص ويتعلق بالنفس. والقول الثاني: أنّ العبد له أن يقتص أو يعفو إلى المال وليس له أن يعفو مجانا لأنه إذا عفا مجانا فقد أدخل الضرر على سيده أليس كذلك؟ لأنّ المال إذا جاء سيكون لمن للسيد فهو مخير بين أمرين إما أن يقتص وليس للسيد أن يلزمه أن يعفو , أو يعفو إلى المال وهذا القول اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية.

باب ما يوجب القصاص فيما دون النفس

ولو قيل بقول ثالث أنه ليس للعبد إلاّ أن يقتص أو يعفو على مال إلاّ إذا كان العفو على مال يدخل الضرر على السيد فحينئذ ليس له أن يأخذ حقه. صورة هذه المسألة أن يكون العبد باهظ الثمن جدا ثم يقذف فإذا قذف إذا عفا العبد على مال ربما تتطرق إليه الشك وهذا الشك ينقص من قيمته كثيرا وربما كان النقص من قيمته أكثر بكثير من الدية التي عفا عنها وحينئذ دخل ضرر عظيم على السيد فمن مصلحة السيد أن يقتص وأن يأخذ حقه وأن نجلد القاذف ليتبيّن للناس أنه كاذب فتبقى قيمة العبد كما هي وهذا القول يتوافق مع اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية من حيث حفظ حق السيد. قال - رحمه الله - (فإن مات فلسيده) أي إذا مات العبد فإن الحق ينتقل إلى سيده والسبب في هذا أنّ حقوق العبد تنتقل بموته إلى السيد المادية والمعنوية كحق القذف ينتقل إلى سيده فله أن يأخذ حقه أو يعفو مجانا أو إلى عوض. باب ما يوجب القصاص فيما دون النفس قوله باب ما يوجب القصاص فيما دون النفس المؤلف يريد بهذا التبويب أن يبّن أنّ القصاص كما يكون في الجناية على النفس يكون كذلك في الجناية على مادون النفس القصاص فيهما يكون على ما في النفس وما دون النفس وهذا مراده والتفصيل القادم كله يدور حول هذا المعنى. قال - رحمه الله - (من أقيد بأحد في النفس أقيد به في الطرف والجراح ومن لا فلا) القاعدة [أنه من لا يجري بينهما قصاص في النفس لا يجري بينهما قصاص فيما دون النفس] فإذا قطع مسلم يد كافر فإناّ لا نقطع يد المسلم لأنه لا قصاص بينهما في النفس فلا قصاص بينهما فيما دون النفس فهذا الكلام من المؤلف يقرر هذه القاعدة. قال - رحمه الله - (ولا يجب إلا بما يوجب القود في النفس) يريد المؤلف الإشارة إلى أنّ التفصيل السابق معنا في العمد والخطأ وشبه العمد كذلك يأتي فيما دون النفس فمثلا الاعتداء على ما دون النفس خطأ لا يوجب القصاص كما أنه لا يوجبه في النفس ويأتي معنا الخلاف بين الجمهور والمالكية في إثبات شبه العمد أو نفيه فما قيل من التقسيم هناك نفسه هنا إلاّ أنه هناك في النفس وهنا فيما دون النفس.

الدرس: (3) من الجنايات قال شيخنا حفظه الله: بسم الله الرحمن الرحيم والحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين. كنا في الدرس السابق تحدثنا عن أول باب ما يوجب القصاص فيما دون النفس ثم توقفنا على انواعه قال المؤلف - رحمه الله - تعالى:" وهو نوعان" أي أن القصاص فيما دون النفس ينقسم إلى قسمين: الأول: الأطراف والثاني: الجروح وسيخصص المؤلف كل واحد من النوعين بكلام يتعلق به , كما أنه توجد أشياء مشتركة كما سيأتينا أثناء الشرح قال المؤلف - رحمه الله - تعالى:" أحدهما في الطرف" يعني أنه يجب القصاص في الطرف ولهذا قال فتؤخذ العين والأنف والأذن والسن وهذه الأربعة معروفة ثم قال والجفن, والجفن هو غطاء العين, ثم قال والشفة ويقصد المؤلف بالشفة العليا والسفلى ثم قال واليد يعني سواء كان من الكتف أو من المرفق ثم قال الرجل والأصبع والكف والمرفق والذكر والخصية والألية وهذه معروفة ثم قال: والشفر , والشفر هو أحد اللحمين المحيطين بفرج المرأة , ثم ذكر الحكم فقال: كل واحد من ذلك بمثله يعني العين بالعين والأنف بالأنف والأذن بالأذن إلى آخره فأفادنا المؤلف انه يجب القصاص في الأطراف والدليل على هذا من وجهين الأول: قوله تعالى: {وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس والعين بالعين والأنف بالأنف والأذن بالأذن والسن بالسن والجروح قصاص} [المائدة/45] , الوجه الثاني: ما صح أن عمة أنس بن النظر رضي الله عنهما وأرضاهما كسرت ثنية جارية في المدينة فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - لأنس كتاب الله القصاص , فدل الكتاب والسنة والإجماع على انه يجب القصاص بالأطراف بشرطه الذي سيأتينا فإذاً يجب أن يقتص بالأطراف بهذه الأدلة الصحيحة الثابتة وقد ذكر المؤلف أمثلة ما يقتص بالأطراف وهو ما تقدم من قوله العين بالعين والأنف بالأنف إلى آخره , فإذاً عرفنا الآن وجوب القصاص في الأطراف والدليل عليه من الكتاب والسنة والإجماع. ثم انتقل الشيخ رحمه الله تعالى إلى الشروط. يقول ـ رحمه الله ـ وللقصاص في الطرف شروط

الواقع أن هذه الشروط ليست خاصة بالطرف بل تشمل الجروح فهي شروط في الطرف وفي الجرح, وهذه الشروط هي شروط جواز الاستيفاء أما شروط الوجوب فهي الأربعة التي تقدمت معنا في الدرس السابق, فإذا تبين معنا أن للقصاص شروط وجوب وشروط جواز , وهو الآن سيشرع في شروط الجواز. الشرط الأول: الأمن من الحيف , والدليل على هذا الشرط أن القصاص مع عدم الأمن من الحيف فيه ظلم وجور , والظلم والجور لا يجوز , إذا يشترط الأمن من الحيف لجواز القصاص , ثم سيذكر المؤلف الفروع المترتبة على هذا الشرط. القصاص لا يكون إلا إذا كانت الجناية بقطع من المفصل فإن كان القطع من وسط الساق مثلاً أو من وسط الساعد مثلاً فإنه لا قصاص لأنه ليس من المفصل , وتعليل هذا أن ما ليس من المفصل لا يمكن أمن الحيف فيه , إذ التقدير أصبح صعباً لا يمكن أن نعرف الحد الذي يؤخذ ليستوي القصاص مع أصل الجنية , وسيضيف المؤلف موضع آخر يجوز الاقتصاص منه. إذا يجوز القصاص في صورتين فقط , إذا كانت الجناية من مفصل أو في شيء له حد , ومثل بما له حد بالأنف , فإن الأنف ينقسم إلى قسمين: القسم الأول: وهو أوله العظم الجامد في أوله ثم ينتهي بمارن وهو ما فيه المنخرين, فإذا كانت الجناية من حد المارن جاز الاقتصاص , وإذا كانت الجناية في العظم الذي قبل المارن فإنه لا قصاص, لأن المارن له حد وأما وسط العظم قبل المارن فليس له حد فهو يشبه قطع وسط الساق أو وسط الساعد ,إلى هذا ذهب الجمهور وهو أنه مالا يمكن القصاص فيه مع أمن الحيف فإنه لا يجوز أن تقتص , وتقدم دليلهم.

القول الثاني: أنه يقتص ولو في غير ماله حد ولو في غير المفصل , وطريقة القصاص أن نأتي بطبيب من أهل البصيرة أو المعرفة ويجتهد ما أمكنه في عدم الحيف والزيادة, وتتم عملية القصاص ولو من غير مفصل أو عظم له حد, وهذا القول الثاني هو الصحيح أن شاء الله , وهو مذهب المالكية , واختيار ابن المنذر لأن النصوص عامة وبالإمكان التحرز من الحيف بالاستعانة بمن له بصيرة من أهل الخبرة من الأطباء , هذا التقرير كله يتعلق بالوقت السابق الذي لم يتطور فيه الطب , أما اليوم فبالإمكان أن يقتص الطبيب من الجناية اقتصاصاً لا زيادة فيه ولا نقص عن الجناية , لأنه أمكن معرفة قدر الجناية بالآلات الحديثة وإيقاع نظيرها على الجاني بلا زيادة , فلا شك اليوم أنه يمكن أن يقوم ولي الأمر بالاقتصاص من غير حيف ولا زيادة. مسألة/ المماثلة تكون بالمساحة لا بالقدر , بمعنى لو قطع الجاني من المجني عليه مثلاً سته صانتي من قدمه , فإن المماثلة تكون بأن ننظر هذه السته صانتي ماذا تمثل من قدم المجني عليه فإن كانت تمثل النصف قطعنا نصف قدم الجاني , وإن كانت تشكل الربع قطعنا ربع قدم الجاني, إذا تعرف بالنسبة لا بالمقدار فننظر إلى نسبة ما جمناه الجاني ونفعل فيه كما فعل. الشرط الثاني: المماثلة في الاسم والموضع , يشترط لجواز الاقتصاص أن يستوي العضو المجني عليه مع عضو الجاني في الاسم والمكان , واستدل الحنابلة على هذا بأن الأعضاء إذا اختلفت أماكنها اختلفت منافعها فلم تتحقق المساوات , واستدلوا بدليل ثاني وهو أنه لا يجوز أن تقتص من العين بالأنف ولا بالأنف من الأذن فكذلك إذا اختلف الاسم والمكان , وسيذكر المؤلف ما المقصود بالاسم والمكان , عرفنا الآن حقيقة الشرط الثاني, ثم ذكر الأمثلة.

لا تؤخذ يمين بيسار ولا يسار بيمين , هناك قاعدة تريح طالب العلم (كل ما كان في الجسم منه يمين ويسار أو كان فيه أعلى وأسفل فإنه لا يؤخذ أحدهما بالآخر) , فإذا قطع يده اليمنى فلا نقطع يده اليسرى , يعني إذا جنا جناية على يده اليمنى , فإنا لا نقتص من الجاني بأخذ يده اليسرى , لماذا؟ لاختلاف المكان والاسم , فإن هذه اسمها اليد اليمنى , وهي في اليمين وهذه اسمها اليد اليسرى وهي في اليسار , تقدم معنا دليلهم أن المنافع تختلف باختلاف الاسم والمكان ,وهذا صحيح. ثم - قال رحمه الله - ولا خنصر ببنصر الخنصر والبنصر كلاهما يمين وكلاهما في يد واحدة لكن لا يجوز أن نأخذ أحدهما بالآخر لاختلاف المنفعة وأيضاً لاختلاف المكان بالنظر إلى اليد. لا يجوز أن نأخذ أصلي بزائد ولا العكس بأن نأخذ زائد بأصلي لعدم المساواة , فإن الأصلي أنفس وأعلى درجة من الزائد , ولا نأخذ الأعلى بالأدنى كما أنا لا نؤخذ الأدنى بالأعلى. ولو تراضيا , دليل هذا أن الدماء لا تستباح بالإباحة. وقول المؤلف رحمه الله تعالى (ولو تراضيا لم يجز) هذا يرجع إلى المسائل السابقة كلها وليس خاص بالأصل في الزائد وإنما يشمل المسائل السابقة كلها , فإذا حصل التراضي فإن هذا التراضي لا أثر له في باب القصاص ويجب أن يستوي. الشرط الثالث: استوائهما في الصحة والكمال , وهذا الشرط يرجع إلى الاستواء في الصفة , ودليلهم أن قاعدة القصاص تعتمد المساواة والمماثلة , وكما تكون المساواة والمماثلة في الاسم والموضع كذلك في الصفة , فالأدلة الدالة على الشرط السابق تدل على هذا الشرط الذي اعتبره المؤلف الشرط الثالث, ثم أيضاً بدأ بذكر الأمثلة.

لا تؤخذ صحيحة بشلاء ,فإذا كان الجاني له يد يمنى صحيحة وجنا على يد يمنى لشخص آخر شلاء فإنه لا يجوز أن نقتص منه لأن يد الجاني هنا أعلى مرتبة من يد المجني عليه فلا يجوز أن نقتص هنا , لماذا؟ لما تقدم من أنه يشترط المساواة , والدليل الثاني أنه لو أخذنا يد الجاني الصحيحة بالشلاء لكنا أخذنا حق الجني عليه وزيادة , والزيادة هي في الصفة ,تقدم معنا أن هذا ظلم وجور , ولشارع لا يقر الظلم والجور ول في باب القصاص , وما قيل في الصحيحة بشلاء كذلك ينطبق على كاملة الأصابع بناقصة ,فإذا جنا من له خمسة أصابع على من له أقل من ذلك فإنه لا قصاص , وكذلك ولا عين صحيحة بعين قائمة , والعين القائمة هي العين التي موجودة على حالها إلا أنه لا يبصر بها. والقول الثاني وهو مذهب داود الظاهري أنه تؤخذ الصحيحة بالشلاء وكاملة الأصابع بناقصتها واستدل على هذا بأن الله تعالى قال: (العين بالعين) , (والسن بالسن) , ولم بفرق بين عين وأخرى وسن وأخرى , وهذا قول ضعيف مخالف لمذهب جماهير الفقهاء ومخالف لقاعدة الشرع في العدل والبعد عن الظلم والجور , فإن اليد الشلاء لا يمكن أبداً أن تستوي مع اليد الصحيحة وكيف نأخذ كاملة بمعيبة فنقول إن شاء الله الراجح مذهب الجمهور , ومذهب داود فيه ضعف. إذا قطع الأشل يد الصحيح, وهذا هو العكس ولهذا يقول ويؤخذ عكسه ولا أرش , إذا قطع الأشل يد الصحيح فالمجني عليه مخير بين أمرين: الأمر الأول: أن يأخذ الدية وهذا جائز بالإجماع , وله أن يفعل بالإجماع , لأن القصاص على وجه الكمال متعذر فله أن يصير إلى الدية. القسم الثاني: أن يختار القصاص , فإذا اختار القصاص فعلى الذهب له ذلك لكن لا يعطى أرش النقص , لأنها يد أخذت بيد باختيار المجني عليه , والقول الثاني أنه إذا اختار القصاص فله الحق في الأرش , لأنه باختياره القصا لم يؤخذ حقه كاملاً فقد أخذ معيبة بصحيحة , فصار له الحق بأخذ الفرق ,وإذا كنا نقول أن قاعدة الباب المساواة والعدل فالراجح القول الثاني ولأنه إذا اخذ صحيحة بمعيبة فهو لم يأخذ حقه في الواقع , يعني كاملاً في الواقع.

قوله فصل النوع الثالث في الجراح , تقدم معنا في أول الدرس وفي آخر الدرس السابق الأدلة على وجوب القصاص في الجراح وأنه أمر تفق عليه إلا في مسائل معدودة اختلفوا في القصاص فيها بالنسبة للجراح , لكن من حيث هو وجملة هو محل إجماع. لا يجوز الاقتصاص في الجروح إلا في الجروح التي تنتهي إلى عظم , فإن كان الجرح لا ينتهي إلى عظم فلا يجوز القصاص فيه , ستدل الحنابلة على هذا أن الجرح الذي لم ينتهي إلى عظم لا يمكن القصاص فيه بلا حيف , وإذا لم يمكن القصاص فيه بلا حيف لم يجز القصاص لأن الظلم محرم. والقول الثاني أنه يجوز القصاص في الجروح وإن لم تنتهي إلى عظم وطريقة ذلك أن ننظر إلى مقدار الجرح في الطول والعرض والعمق ثم نحدث في الجاني نظيره , والخلاف في هذه المسألة قريب من الخلاف في مسألة القصاص في الأطراف والراجح إن شاء الله هو هذا , أنه يقتص في الجروح ولو لم تكن إلى العظم ولو لم تنتهي إلى عظم , لكن المؤلف سيفرع في المسائل التالية بناء على هذه القاعدة. ثم - قال رحمه الله - (كالموضحة وجرح العضد والساق والفخذ والقدم) هذه أمثلة لما يمكن قيها الاقتصاص وليست أمثلة لما لا يمكن فيه الاقتصاص. فالمثال الأول هو الموضحة والموضحة هي: كل جرح ينتهي إلى العظم إذا كان في الرأس أو الوجه فالموضحة فيها القصاص. والتعليل ظاهر: لأنها تنتهي إلى عظم. وفيها القصاص بالإجماع لأنها تنتهي إلى عظم. وجرح العضد والساق والفخذ والقدم لأن هذه الأعضاء إذا جرح الإنسان فيها وصل الجرح إلى العظم لقرب العظم من الجلد , إذا لا إشكال فيها أيضا أنها تعتبر فيها قصاص. لماذا قال المؤلف جرح العضد والساق ونحن نقول إن الموضحة كل جرح يوصل إلى العظم.؟ إذا هذه تعتبر موضحات .. لأن الموضحة تختص بالرأس والوجه ولهذا أراد أن يبين حكم باقي الأعضاء , وهو جميل جدا من المؤلف. ثم - قال رحمه الله - (فلا يقتص في غير ذلك من الشجاج والجروح)

أي لا يقتص من كل جرح لا ينتهي إلى عظم. من أمثلتها الجائفة: الجرح الذي يصل إلى الجوف , يعني ولا ينتهي إلى عظم. فهذا الجرح لا قصاص فيه لأنه لا ينتهي إلى عظم بناءا على هذا لا يمكن أمن الحيف فيه بناءا على هذا لا يجوز الاقتصاص فيه , وهذا كما تقدم بناءا على ما اختار الحنابلة - رحمهم الله - وأخذنا القول الراجح وهو انه يمكن الاقتصاص في الجائفة وفي غيرها مما لا ينتهي إلى عظم. ثم أراد المؤلف إن يستثني. ثم - قال رحمه الله - (غير كسر سن) يعني ففيه القصاص وهذا الاستثناء سببه أن السن عبارة عن عظم , ونحن أخذنا أن كسر العظم ليس فيه قصاص إلا إذا كان من مفصل او من حد ينتهي إليه كمارن الأنف فالسن ليس من مفصل وليس من حد يصل إليه ومع ذلك فيه القصاص. الدليل الأول: قال تعالى {والسن بالسن} [المائدة/45] الدليل الثاني: حديث أنس ابن النضر السابق. الدليل الثالث: الإجماع , فإنهم أجمعوا أن السن فيه قصاص. لوضوح وظهور الأدلة من الكتاب والسنة. قوله رحمه الله (غير كسر سن) فهم من كلام المؤلف أن كسر العظام سوى السن ليس فيه قصاص. والتعليل: لا يمكن أمن الحيف فيه. قال الإمام الشافعي - رحمه الله - عبارة جميلة جدا (لا يمكن أن يكون كسر ككسر) مقصوده: أنه لا يمكن أن يستوي كسران فإذا كسر الجاني رجل رجُل لا يمكن أن نكسره كسر يساوي الكسر الأول لأنه لا يمكن أن يكون كسر ككسر لاختلاف الموضع وعدم معرفة مكانه بدقة. تقدم معنا الخلاف في هذا لما تحدثنا عن الأطراف فالأطراف والعظام الخلاف فيها واحد ولهذا نقول الراجح أنه يمكن الاقتصاص في كسر العظام إما بالطريقة التي ذكرها الفقهاء وهي أن نأتي بمختص دقيق حاذق يحسب لنا مساحة الكسر فيكسر يد أو رجل الجاني ككسره من المجني عليه , وإما على طريقة الأطباء المعاصرين وهذا ممكن بلا إشكال , والحديث الدال جواز القصاص في السن دليل على جواز القصاص فيما سواه من العظام , لأنه حتى في السن لا يمكن من الأمن من الحيف وإنما على المنفذ أن يتحرى الدقة قدر الإمكان ثم لا يكلف الله بعد ذلك نفسا إلا وسعها. ثم - قال رحمه الله - (إلا أن يكون أعظم من الموضحة)

معنى هذه العبارة: انه لا يجوز القصاص في الجروح إلا في جرح بلغ الموضحة وتعداه وهو أن يصل إلى العظم ويتعدى العظم , فإذا وصل إلى العظم وتعداه فغنه يجوز القصاص الآن ,ولكن القصاص - كما سيذكر المؤلف - بالجرح الذي إلى العظم. ثم - قال رحمه الله - (كالهاشمة والمنقلة والمامومة) الهاشمة: هي الجراح التي توح العظم وتكسره , والمنقلة: هي التي توضح العظم وتكسره وتنقله من موضعه إلى موضع آخر. والمأمومة: هي الجناية التي تصل إلى أم الدماغ , والمقصود بأم الدماغ: جلدة فيها الدماغ او جلدة تحتوي على الدماغ. عرفنا الآن من كلام المؤلف أن الجناية الزائدة على الموضحة فيها قصاص لكن القصاص يكون بقدر الموضحة فقط ويأخذ أرش الباقي. والمقصود بالأرش هنا: الفرق بين دية الموضحة والجناية التي هي أكثر منها كالهاشمة مثلا , فالفرق بين الديتين هو الأرش الواجب على الجاني , فإذا جن ى رجل على رجل هاشمة فالحكم كالتالي: نقتص من الجاني بقدر الموضحة ثم نعطي المجني الفرق بين دية الجنايتين. فدية الموضحة كما سيأتينا في كتاب الديات خمس من الإبل ودية الهاشمة عشر من الإبل , الفرق بينهما خمس .. فله خمس من الإبل. وهذا غاية في العدل في الحقيقة , فقد أخذنا للمجني عليه كامل حقه. مسألة: الجنايات فوق الموضحة لا يُقتص منها بالإجماع , لأنه يخشى على الجاني في القصاص الهلاك. فالهاشمة والمنقلة والمامومة لا قصاص فيها. ثم - قال رحمه الله - (إذا قطع جماعة طرفا) انتقل المؤلف إلى بيان حكم ما إذا اجتمع جماعة في جناية سواء كانت الجناية في طرف أو في جرح. فالحكم على كلام المؤلف أن القود يكون منهم جميعا. فإذا اشترك خمسة في قطع يد رجل قطعت أيديهم فأخذنا باليد الواحدة خمس أيادي. التعليل: أن الجناية كانت بفعلهم جميعا ولهذا وجب القصاص عليهم جميعا. الدليل الثاني: قاسوا القصاص في الأطراف على القصاص في النفس , فإذا كانت النفس الواحدة يُقتص لأجلها من خمسة أنفس كذلك في القصاص.

القول الثاني: أنا لا نأخذ بالأيدي بيد واحدة. لأن قاعدة القصاص المساواة ولا مساواة .. ولأن الله - تعالى - يقول {والعين بالعين} [آل عمران/13]. فواحد بإزاء واحد. والراجح مذهب الجمهور وهو القول الأول لأن العدل هنا يقتضي أن نأخذ الأيدي باليد لأنهم اشتركوا في الجناية. ولأن القياس على النفس - من وجهة نظري - قياس جلي. مسألة: يشترط عند الحنابلة لأخذ الأيدي باليد أن تكون جناية المجموعة غير متميزة وحصل القطع بمجموعها. مثاله الذي يوضحه: لو استخدم الجناة فوضعوا السكين على يد المجني عليه ثم اتكئوا عليها جميعا حتى انفصلت اليد. الآن الجناية من مجموعة .. هل أفعالهم متميزة أو غير متميزة.؟ غير متميزة .. وهل وقعت بفعلهم جميعا أو بفعل بعضهم.؟ بفعلهم جميعا .. إذا تحقق الشرط فيجب أن نقتص. علمنا من هذا أن الجناية من المجموعة لو اختلفت وتمايزت بأن قطع كل منهم من جانب ولم يتفقوا على جانب واحد فلا قصاص , لأن الجناية لم تقع من مجموع الفعل ولأن أفعالهم متمايزة وربما كان بعضها أعمق وأكثر تأثيرا من بعض ويستثنى من هذا الشرط ما إذا حصل تمالؤا وتواطؤ على هذا الفعل ليتجنبوا القصاص حينئذ يجب القصاص على مجموعهم. ثم - قال رحمه الله - (وسراية الجناية مضمونة) سراية الجناية مضمونة , التعليل: لأن السراية أثر الجناية وإذا كانت الجناية مضمونة فأثرها مضمون كذلك. إذا السراية مضمونة سواء كانت السراية في العضو أو في النفس. مثاله: إذا قطع الجاني أصبع المجني عليه فإما أن تسري الجناية إلى اليد بأن يلزم من هذا قطع اليد أو أن تسري الجناية إلى النفس بان يستمر في النزف إلى أن يموت. والسراية مضمونة في النفس وما دون النفس. والتعليل: هو ما تقدم معنا إلا أنه يشترط لهذا شرط سيذكره المؤلف. ثم - قال رحمه الله - (سراية القواد مهدورة)

سراية القودة هدر لا فقيمة لها. والمقصود بالقود القصاص: فإذا تم القصاص على الجاني وأدى القصاص إلى سراية أودت بالعضو كاملا أو بالنفس فإنه تعتبر هذه السراية هدر لأن القصاص مأذون فيه شرعا والقاعدة المشهورة أن ما ترتب على المشروع غير مضمون فما دام العمل مشروع فما يترتب عليه فإنه لا ضمان فيه. ثم انتقل المؤلف للشرط الذي أشرت إليه سابقا. ثم - قال رحمه الله - (ولا يُقتص من عضو وجرح قبل برئه كما لا تطلب له الدية) مذهب الحنابلة أنه لا يجوز ويحرم الاقتصاص من العضو وأخذ الدية عليه قبل برئه. أنه لا يجوز ويحرم أن نقتص قبل برئه. واستدلوا على هذا أن رجلا جنا على ركبة صحابي فجاء إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - وقال أقدني من فلان فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - (حتى تبرأ) ثم جاء أخرى وقال اقدني فاقتص له النبي - صلى الله عليه وسلم - ثم لما برئ الجرح جاء المجني عليه أصبت بالعرج. فهذه سراية لأن الجرح أصبح يشكل عاهة مستديمة وهي العرج فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - (قد نهيتك أبعدك الله) ثم نهى النبي - صلى الله عليه وسلم - عن الاقتصاص قبل البرء. فاستدل الحنابلة بهذا الحديث على التحريم ورتبوا على هذا فرعا فقهيا آخر وهو أنه إذا أبى إلا الاقتصاص فإن السراية التي تكون بعد ذلك تكون هدر ولا يُقتص للمجني عليه منها لأنه ضيع حقه بنفسه. والقول الثاني: أن الصبر إلى البرء مستحب يعني طلب الاقتصاص مكروه فقط وليس محرما. والدليل: أنه أذن - صلى الله عليه وسلم - في الحديث واقتص منه. والراجح انه يحرم لأمرين: الأول: الاقتصاص قبل البرء دائما يفضل إلى النزاع فيما إذا قعت السراية. الثاني: أنه في آخر الحديث قال ثم نهى النبي - صلى الله عليه وسلم - عن الاقتصاص قبل البرء. بناءا على هذا لا يجوز لقاضي أن يقتص في الجناية قبل البرء بهذا انتهى هذا الفصل. بهذا انتهى كتاب الجنايات ولله الحمد

كتاب الديات

كتاب الديات الدرس: (1) من الديات الديات: جمع دية ومعنى وداه يعني دفع ديته. وأما في الشرع: هو المال المدفوع للمجني عليه أو لوليه مقابل الجناية. للمجني عليه: في الأطراف والجروح , ولوليه: يعني في النفس والدية مشروعة بالكتاب والسنة والإجماع. ولم يختلف الفقهاء في وجوب الديات لصراحة الأدلة فيها كقوله {فدية مسلمة إلى أهله} [النساء/92] وكما سيأتينا في قصة الهذليتين فإنّ النبي - صلى الله عليه وسلم - أمر بالدية على العاقلة. وأما الإجماع فهو محكي من أكثر من واحد أنه أجمعوا على وجوب الديات إنما الخلاف في التفاصيل. قال - رحمه الله - (كل من أتلف إنسانا) مقصود المؤلف بالإنسان هنا يعني معصوم الدم كالمسلم والذمي والمعاهد والمستأمن. ولا يدخل فيه الحربي ومقصود المؤلف كل من أتلف نفسا يعني أو بعض نفس ولو صرح به لكان أوضح يعني أو بعض نفس فإنّ الدية كما تجب في النفس تجب في بعضها. قال - رحمه الله - (بمباشرة أو سبب) أفادنا المؤلف أنّ الجناية قد تكون بمباشرة وقد تكون بسبب فمن أمثلة المباشرة أن يطعنه بسكين أو يقطع طرفه بسيف وأما السبب فكأن يحفر له حفرة فيها حية أو فيها أسد. فالقتل إذا كان بمباشرة أو بتسبب فعلى القاتل الضمان.

مسألة / فإذا اجتمع مباشر ومتسبب فالقاعدة العامة ويستثنى منها صور ستأتينا [أنه إذا اجتمع مباشر ومتسبب فالضمان على المباشر] فإذا حفر زيد حفرة ودفع عمرو خالدا فالضمان على عمرو لأنه المباشر. إذا القاعدة العامة أنه إذا اجتمع مباشر ومتسبب فالضمان على من على المباشر دون المتسبب ويستثنى من هذا صورة هي قاعدة [أنه إذا لم يمكن تضمين المباشر] وقول بعض الفقهاء إذا لم يمكن تضمين المباشر خير من التفصيلات التي تشتت الذهن وإذا تأملت في هذه التفصيلات تجد أنّ جميع هذه التفصيلات ترجع إلى هذه القاعدة لا يمكن أن تخرج عن هذه القاعدة وهي أنه لا يمكن تضمين المباشر. ذكر الشيخ الحافظ العلامة الفقيه الكبير ابن رجب. في القواعد هذه القاعدة إذا اجتمع مباشر ومتسبب وذكر أيضا الاستثناء وهي الصور التي لا نضمن فيها المباشر وذكر بحث طويل فيها خلاصة هذا البحث أنه لا يمكن أنه يستثنى من هذه القاعدة الصور التي لا يمكن فيها تضمين المباشر. من أمثلة عدم التضمين أن يدفع شخص شخصا في حفرة أسد فالمباشر للإهلاك هو الأسد , لكن لا يمكن تضمين الأسد لأنه بهيمة وكأن يربط الإنسان شخصا ويلقيه في البحر فالموت الآن كان بسبب الغرق ولا يمكن تضمينه من البحر لأنه جماد , وهكذا كل مسألة لا يمكن فيها تضمين المباشر فالضمان على ماذا؟ على المتسبب. قال - رحمه الله - (لزمته ديته) للأدلة السابقة فإنّ الأدلة السابقة دالة على وجوب الدية وهي عامة تشمل المباشر والمتسبب. قال - رحمه الله - (فإن كانت عمدا محضا) إذا كانت الجناية عمدا محضاً يعني وعفا المجني عليه أو وليه فالواجب حينئذ الدية. يقول الشيخ - رحمه الله - (ففي مال الجاني) إذا كانت الدية عن جناية عمد فهي في مال الجاني لأمرين: الأمر الأول: أنّ الأصل في الإتلافات أنّ الضمان فيها على المباشر. الثاني: أنّ الدية إنّما كانت على العاقلة في الخطأ وشبه العمد لمناسبة التخفيف لعدم وجود القصد وهذا المعنى مفقود في العمد ولهذا صارت الدية في مال الجاني. يقول الشيخ - رحمه الله - (حالة)

الدية حالة في مال الجاني ولا تؤجل كما في العمد فكما في الخطأ وشبه العمد وسيأتينا الكلام عنها. تكون حالة لما تقدم أنّ التأجيل في الخطأ وشبه العمد كان لمعنى المراعاة للعاقلة حيث أنّ العاقلة هذا إحسان منهم وصلة كما أنّ فيه مراعاة للجاني لأنه لا قصد له في الجناية وهذان المعنيان مفقودان في العمد لأنّ الذي يدفع هو الجاني وليس العاقلة ولأنه قصد إيقاع الجناية ولم تقع منه خطأ ولهذا تكون حالة. قال - رحمه الله - (وشبه العمد) شبه العمد تكون الدية على العاقلة وإلى هذا ذهب الحنابلة والمالكية والشافعية. واختاره أيضا ابن المنذر وهو مذهب الجمهور واختيار بعض المحققين. واستدلوا على هذا بأنّ في قصة الهذليتين أنّ إحداهما رمت بحجر على بطن الأخرى فقتلت الأخرى وما في بطنها فقضى النبي - صلى الله عليه وسلم - بالدية على العاقلة وهذا الحديث صحيح وإشكال فيه. فالقتل الذي في هذا الحديث هو من باب شبه العمد لماذا؟ لأنه لا قصد وأن يكون بآلة لا تقتل غالباً , فالحجر هل يقتل غالبا؟ لا يقتل غالبا فإذا تبيّن أن الجناية في الحديث شبه عمد ومع ذلك جعل النبي - صلى الله عليه وسلم - الدية على العاقلة. والقول الثاني: للأحناف ومال إليه ابن القيم أنّ الدية في مال الجاني في شبه العمد واستدل على هذا بأنّ شبه العمد يشترك مع العمد في ماذا؟ في القصد فناسب أن تكون الدية على الجاني لا على العاقلة, وكلامه وجيه لولا النص الصحيح الذي جعل الدية على العاقلة ولهذا نقول الراجح إن شاء الله مذهب الجمهور. قال - رحمه الله - (والخطأ) أيضا الدية فيه على العاقلة وهذا محل إجماع لم يختلفوا فيه ولله الحمد إنما الاختلاف في شبه العمد. يقول - رحمه الله - (على عاقلته) سيخصص المؤلف باب كامل للعاقلة سيأتينا من هم العاقلة ولماذا سموا بهذا؟ وكيف تجعل عليهم الدية لكن الذي يعنينا الآن أنّ الدية على العاقلة مؤجلة إجماعاً والتأجيل لمدة ثلاث سنوات , والدليل على هذا أنهم حكم به أمير المؤمنين عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - وأيضا علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - فالدية مؤجلة بالنسبة للقتل الخطأ وشبه العمد. قال - رحمه الله - (فإن غصب حرا صغيرا)

قوله فإن غصب حرا صغيرا خرج به العبد والحر الكبير , أما العبد فهو خارج لأنه مضمون على كل حال صغيرا كان أو كبيرا لأنّ العبد هو مال والمال مضمون بالغصب مطلقا. أما الكبير فإنه لا يضمن لأنّ الكبير يتمكن من تخليص نفسه ويتمكن من الفرار ولهذا انحصر الحكم في الحر الصغير. يقول - رحمه الله - (فإن غصب حرا صغيرا) المقصود بالغصب هنا أن يأخذه إلى منزله ولو بغير قيد , فإذا أخذ صغيرا ووضعه في غرفة فهو حينئذ غصبه يعني أخذه غصبا ولو تركه بغير قيد في البيت فإذا هذا مقصود الحنابلة لأنه سيأتينا إذا قيّد الرِجل أو اليد له حكم آخر. يقول الشيخ - رحمه الله - (فنهشته حية أو أصابته صاعقة) إذا نهشته حية أو أصابته صاعقة فإنّ الضمان هنا على الغاصب لماذا؟ لأنّ الوفاة كانت بسببه ونحن نقول أنّ الجناية إذا كانت بمباشرة أو تسبب فإنّ الضمان يكون على المتسبب وهنا كان سببا لأنّ الصغير لا يتمكن من الفرار عن الحية أو تفادي الصاعقة وحينئذ نقول الضمان على المتسبب. ووضع شيخ الإسلام - رحمه الله - قاعدة وهي [أنه إذا مات الإنسان بسبب يتعلق بالبقعة فالضمان على من حبسه فيها] فإذا حبسه في هذه البقعة وأصابه حية كما قال المؤلف - رحمه الله - أو صاعقة أو كان هذا المكان معروفا بوباء فتاك يقتل بني آدم وأصيب به فإنه يضمنه أيضا. قال - رحمه الله - (أو مات بمرض)

يقول الشيخ إذا مات بمرض فهذه البقعة المغصوب بها فإنّ الضمان على الغاصب وعللوا هذا بأنه مات تحت يده العادية يعني مات بسببه فكان الضمان عليه والمؤلف خالف المذهب في هذه المسألة فالمذهب أنه لا ضمان عليه لماذا؟ لأنّ الموت بسبب المرض لا يتعلق بالبقعة فقد يموت في هذه البقعة أو في غيرها ويستثنى من هذا ما تقدم معنا وهو إذا كان المرض خاص بهذه البقعة وهذا القول الثاني هو الراجح وبهذه المناسبة المحقق وفقه الله استدرك على الشيخ علي الهندي والشيخ علي الهندي له نسخة حقق فيها الزاد وذكر فيها أنّ هذه المسألة من المسائل التي خالف فيها المؤلف المذهب وتعقبه المحقق وفقه الله بأنه لم يخالف والواقع أنّ الصواب مع الشيخ علي الهندي فيما يظهر لي لأنّ الشيخ علي يقصد أنّ المؤلف خالف المذهب في مسألة مات بمرض صحيح هذا خالف فيه المذهب وهذه المسألة خالف فيها المذهب ولو رجع الإنسان إلى المنتهى والإقناع والإنصاف والمبدع وغيرها من كتب الحنابلة لعلم أنّ الصواب مع الشيخ علي وهو أنّ المؤلف خالف المذهب ولا يريد أنه خالف المذهب في مسألة (غلّ حرا مكلفا وقيّده) هذه ليست هي المقصودة المقصود إذا مات بمرض وفعلا المؤلف خالف المذهب وهذا يؤيد أنّ الشيخ المؤلف له اختيارات لكن هنا في الحقيقة لم يوفق فالمذهب في هذه المسألة أصح وهي أنه إذا مات بمرض لا يختص بالبقعة فلا ضمان. قال - رحمه الله - (أو غلّ حرا مكلفاً وقيّده) القيد ما وضع في الرجِل , والغّل ما وضع في اليد. يقول الشيخ إذا غل حرا مكلفا وقيّده فمات بالصاعقة أو الحية وجبت الدية فيهما. فهم من كلام المؤلف أنه يجب ليكون الضمان على الجاني أن يربط يده ورجله فإن ربط إحداهما فلا ضمان وهذا في مسألة الحية والصاعقة والتعليل أنه بربطه يدي ورجلي المجني عليه صار سببا في موته لأنه مع الربط لن يتمكن من تفادي الحية ولا الصاعقة وقول الشيخ - رحمه الله - فيهما أي دون المرض فالمرض لا يجب ضمانه , لأنه إذا ربط يده ورجله وأصيب بمرض فإنه مات لا بسبب الربط ولو أنّ الحنابلة ذكروا قاعدة أسهل من هذا فقالوا إذا مات بسببه فإنّ الضمان عليه وهذا يتناول المرض والحية وغيرها مثال هذا.

من أصيب بربو مزمن والدواء على الطاولة وهو مربوط إلى الجدار بيده ورجله ثم مات بسبب الأزمة فهل مات بحية أو صاعقة أو مرض مقتضى كلام الحنابلة لا ضمان والواقع أنّ الضمان واضح لأنّ الموت كان بسبب الربط لا بسبب المرض مجردا. أي قضية أنه يشترط ربط اليد والرجل أيضا منازعة فيها إذ قد يموت بسبب ربط اليد فقط وقد يموت بسبب ربط الرجل فقط , فإذا جاءت الحية فتفادي الحية باليد وبالرجل؟ باليد والرجل لكن الغالب في تفاديها يعتمد على الرجل لأنه يهرب عنها أنت تهرب بأي وسيلة. الحريق إذا شبّ في الغرفة فتفادي الحريق غالبا باليد أو بالرجل؟ باليد لأنه يستطيع أن يفتح الباب بينما لو ترك رجليه بغير قيد وقيّد يديه فإنه لا يستطيع أن يفتح الباب مهما كان حاذقا برجله. إذا لو قال المؤلف قاعدة أنه إذا مات بسببه يعني بسبب حجزه في هذه البقعة صغيرا كان أو كبيرا فعليه الضمان ولسنا بحاجة إلى هذا التفصيل أليس كذلك؟ وهذا ما جنح إليه شيخ الإسلام في المسألة الأولى وهي أنه وضع ضابط [أنه الموت إذا كان بسبب البقعة فالضمان على الحابس] الصور لا تنتهي. فصل هذا الفصل خصصه المؤلف للكلام عن مجموعة من المسائل الأخرى تتعلق غالبا بأفعال مؤذون فيها. في بعضها تجب الدية وفي بعضها لا تجب الدية يعني الضمان حسب ملابسات القضية. قال - رحمه الله - (وإذا أدب الرجل ولده , أو سلطان رعيته أو معلم صبيَّه ولم يسرف لم يضمن ما تلف به) القاعدة أنه إذا مارس من له الحق في التأديب حقه في التأديب وترتب على هذا التأديب تلف فإنّ المؤدب لا يضمن. يقول المؤلف - رحمه الله - (ولم يسرف لم يضمن) إذا لا يضمن لأنّ له الحق في ممارسة هذا التأديب إلاّ إذا أسرف والإسراف يكون بأحد أمرين: 1 - إما أن يزيد عن الحد المعقول في طريقة التأديب من حيث العدد والآلة.

2 - أو أن يستمر في التأديب مع حصول المطلوب بدونه. مثال هذا وهذا المثال للتوضيح , إذا كان هذا الصبي يحتاج في التأديب إلاّ أن يضرب ثلاث مرات فالإسراف يكون بأحد أمور. إما أن يستخدم آلة عنيفة في للضرب أو أن يضربه كم؟ أكثر من ثلاث أو أن يستخدم آلة مناسبة إلاّ أنه يشدد في الضرب فالخلل يكون بأحد هذه الثلاثة أمور فإذا حصل منه خلل فإنه يضمن لأنه جاوز حقه إلى ما لا يجوز له فيه فضمن وإنما الشارع أباح له قدرا معينّا فقط. قال - رحمه الله - (ولو كان التأديب لحامل فأسقطت جنينا ضمنه المؤدب) إذا كان التأديب لحامل وأسقطت فإنّ المؤدب يضمن وظاهر كلام المؤلف يضمن مطلقا ولو لم يتعدى لأنّ التأديب تجاوز الأم إلى الولد وهذا من الإسراف ولأنّ عمر بن الخطاب دعا بامرأة فلما بلغها أنّه يريدها عمر بن الخطاب أسقطت فاستشار عمر - رضي الله عنه - الصحابة فأفتوه بأنّ عليه الدية فدل على وجوب الضمان في مسألة الحامل. الأثر والتعليل فالحقيقة لم أرى في هذه المسألة خلاف لكن لو قيل أنه إذا أدبّها تأديبا يتناسب مع الحامل من غير زيادة فإنه لا ضمان كان هذا القول هو المتناسب مع تقريرات الفقهاء الباقية ونحن نشترط أن يكون التأديب يتناسب مع الحامل فإذا أدبّها مثله لا تسقط معه الحامل فأي جناية من المؤدب لكن كأنّ الفقهاء يرون أنه إذا تجاوزت الجناية إلى غير المؤدَب فهنا حصل إسراف هكذا يرون لكن إن قيل بهذا القول فهو القول الراجح إن شاء الله.

الدرس: (2) من الديات قال شيخنا حفظه الله: بسم الله الرحمن الرحيم والحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين. قال المؤلف - رحمه الله - في مسائل الفصل الذي عقده في بعض التصرفات التي تكون في بعض الصور المضمونة والتي في بعضها لا تضمن يقول (ولو كان التأديب لحامل فأسقطت جنينا ضمنه المؤدب) هذه انتهينا منها. ثم - قال رحمه الله - (وإن طلب السلطان امرأة لكشف حق الله) أي فأسقطت فإنه يضمن إذا طلب السلطان المرأة لحق الله أو لحق آدمي ثم أسقطت فإنه يضمن هذا الجنين وعلة التضمين الأثر المروي عن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - أنه استدعى امرأة فأسقطت فسأل أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - واتفقوا على التضمين , فهذا الدليل يدل على تضمين السلطان ويستوي في هذا ما إذا كانت المرأة ظالمة أو مظلومة.

ثم - قال رحمه الله - (أو استعدى عليها رجل بالشُرط في دعوى له فأسقطت) إذا استعدى رجل على امرأة ورفع عليها دعوى وطلبت في مجلس الحكم فإنها إذا أسقطت بسبب هذه الدعوى فإنّ المدعي يضمن واشترط المؤلف شرطا وهو أن يصاحب الدعوى من القرائن ما يدخل خوف على المرأة وهذا الذي عبر عنه بقوله بالشُرط. وهذا القيد ذكره الشيخ المجد ابن تيمية وعنه نقل المؤلف وغيره من الحنابلة لم يذكر هذا القيد بل بمجرد أن تدعى إلى مجلس الحكم بسبب دعوى فإنّ مقيم الدعوى يضمن والذي يظهر أنّ ماذكره الشيخ المجد أولى لأنّ مجرد الدعوى عادة لا تسبب الإسقاط. لكن إذا كان مع هذه الدعوى شُرط وهيئة تدخل الخوف على نفس المرأة ثم أسقطت بسبب هذا فإنه يضمن. يقول - رحمه الله - (ضمنه السلطان والمستعدي) ضمنه السلطان يعني في الصورة الأولى والمستعدي يعني في الصورة الثانية هذا هو الحكم وقد ذكرناه أنه عند الحنابلة يضمن لأنّ الإسقاط صار بسبب هذه الدعوى. ثم - قال رحمه الله - (ولو ماتت فزعا لم يضمنا) لما بيّن المؤلف أنها إذا أسقطت فإن الجنين يضمن أراد أن يبّين أنها لو ماتت هي بنفسها فإنها لا تضمن واستدل الحنابلة على هذا بأنّ مثل هذه الدعوى لا تقتل عادة والمؤلف - رحمه الله - خالف المذهب في هذه المسألة والمذهب وهو القول الثاني: أنها تضمن لأنها ماتت بسبب الدعوى فصار الداعي سواء كان الحاكم أو المستعدي سببا في الموت فضمن. والقول الثالث: أنّ هذه المرأة تضمن إذا كانت مظلومة إذا دعيت وهي مظلومة , ولا تضمن إذا دعيت وهي ظالمة. واستحسن هذا القول بعض محققي الحنابلة كالشيخ ابن قدامة وهو قول قوي ووجيه تفريق بين أن تكون ظالمة أو مظلومة. قال - رحمه الله - (ومن أمر مكلفا أن ينزل بئرا , أو يصعد شجرة فهلك به لم يضمنه)

إذا أمر شخص آخر وكان المأمور مكلفا بأن يصعد إلى الشجرة أو فوق الشجرة أو ينزل في البئر فإنه إذا صار الصعود أو النزول سببا في هلاكه فإنّ الآمر لا يضمن والسبب في هذا من وجهين: الأول: القياس على الاستئجار فإنه إذا استأجر شخص شخصا وهلك المستأجر فإنه لا ضمان على المستأجِر. الدليل الثاني: أنه ليس من الآمر جناية ولا تعدي غاية ما هنالك أنه أمره أن يصعد الشجرة وهو مكلف بالغ عاقل يعرف ما يضره فيجتنبه فلم يحصل منه تعدي فهم من كلام المؤلف انه لو كان المأمور غير مكلف صغير فإنّ الآمر يضمن لأنه بأمره للصغير في صعود الشجرة عرضه للهلاك فصار سببا في الجناية. صحيح لأنّ هذا نوع من التغرير بالصغير , ويستثنى من هذا الأوامر التي تعورف عليها اعتاد الناس عليها عرفا فإنه إذا أمر الطفل بشيء جرى العرف بأمره به فإنه إذا هلك الطفل فإنه لا يضمن أي الآمر. وإلاّ فالأصل الضمان. قال - رحمه الله - (ولو أنّ الآمر سلطان) حتى لو كان الآمر هو السلطان يعني الحاكم بسلطته فإنه لا يضمن والسبب في هذا هو التعليل الأول: أنه ليس من السلطان جناية ولا تعدي وإنما أمره فأطاع وهو كبير ومكلف. والقول الثاني: أنه إذا كان الآمر هو السلطان أي الحاكم فإنّ المأمور إذا أصيب بجناية فعلى الحاكم الضمان واختار هذا القول من الحنابلة الشيخ الكبير الفقيه القاضي أبو يعلى وتعليل ذلك أنّ في أمر السلطان من حيث هو نوع من الإجبار , إذ جرت العادة أنّ السلطان لا يخالف أمره هيبة أو رغبة فصار في هذا الأمر نوع من الإجبار فضمن. والقول الثالث: أنه يضمن أي الحاكم إن أجبره ولا يضمن إن لم يجبره , وفي الحقيقة أقرب الأقوال والله أعلم اختيار القاضي أبي يعلى والسبب في هذا أنّ الأصل في أمر الحاكم أنه غالبا ما يكون على سبيل الإلزام ويندر ويبعد ويكاد لا يوجد أن يأمر السلطان أحدا ثم لا يستمع لهذا الأمر أو ينقاد فصار في هذا نوع من الإجبار فيكون عليه الضمان , لكن هل الضمان في مال الحاكم أو في بيت المال. الصواب أنه إن كان الأمر لقضية تتعلق بمصالح المسلمين فالضمان في بيت المال وإذا كان الأمر لشيء شخصي فالضمان في مال الحاكم

باب مقادير ديات النفس

قال - رحمه الله - (كما لو استأجره سلطان أو غيره) هذا التعليل لعدم ضمان السلطان وهو القياس على ما لو استأجره السلطان فإنّ السلطان لو استأجر شخصا لبناء أو ليصعد شجرة أو لينزل إلى بئر ثم مات فإنه لا ضمان لأنّ الأصل كما تقدم معنا أنّ المستأجِر لا يضمن الجناية على المستأجَر التي بسبب العمل التي استأجره من أجلها. فهذا هو دليل الحنابلة وتقدم معنا أنّ هذا صحيح لولا شبهة الإلزام. باب مقادير ديات النفس قال رحمه الله باب مقادير ديات النفس يعني باب لبيان مقادير ديات النفس وسيخصص المؤلف بابا آخر مستقل لديات ما دون النفس وقوله باب مقادير / مقادير جمع مقدار والمقدار هو مبلغ الشيء وقدره مقدار الشيء هو مبلغه وقدره بدأ المؤلف كما هو المنطقي بدية الحر المسلم فقال - رحمه الله - (دية الحر المسلم مائة بعير , أو ألف مثقال ذهبا أو اثنا عشر ألف درهم أو مائتا بقرة أو ألفا شاة) اعتبر المؤلف أنّ هذه الأجناس الخمس هي مقادير الديات هنا نحتاج الدليل على كل واحد من هذه الأجناس فنبدأ بالإبل. الإبل من أجناس الدية بالنص والإجماع لا إشكال فيها ولله الحمد. أما النص ففي حديث عمرو بن حزم يقول - صلى الله عليه وسلم - ودية النفس المؤمنة مائة من الإبل. وفي حديث جابر قال قضى النبي - صلى الله عليه وسلم - الدية أنّ فيها مائة من الإبل أو مائتي حلة أو مائتي من البقر أو ألفين من الغنم فهذا الحديث ذكر البقر والغنم والحلل والإبل. لكن هذا الحديث فيه ضعف. أما البقر والغنم فالدليل عليها حديث جابر هذا , لكن البقر والغنم من مفردات الحنابلة لم يوافق الحنابلة أحد على إدخال البقر والغنم ضمن أجناس الدية. بقينا في الذهب. الذهب صحيح ثبت في حديث عمرو بن حزم أنه ذكر أنّ الدية من الذهب ألف مثقال.

بقينا في الفضة. الفضة جاءت في حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده وجاءت أيضا في رواية لحديث جابر. الآن اكتملت الخمس أجناس في الديات سيذكر المؤلف مسألة مهمة جدا سنتحدث عنها وهي الأصل في الدية هل الأصل الإبل أو الأصل الخمس لكن قبل أن ننتقل لهذا أحب أن نتدارس في قضية أخرى وهي مسألة قيمة مائة من الإبل. مجلس القضاء الأعلى في السعودية نظر مرتين في قيمة الإبل. المرة الثانية المعتمدة أنا سأذكر لكم الآن ماذا خلص المجلس؟ المرة الثانية كانت في سنة 1401 هـ نحن الآن في صدد بيان قيمة المائة من الإبل باعتبار أنه في وقتنا هذا الديات لا تدفع من الإبل وإنما تدفع قيمة الإبل في سنة 1401هـ نظر مجلس القضاء الأعلى في دية شبه العمد والعمد , وبعد المدارسة وسؤال أهل الخبرة قضى إلى أنّ دية شبه العمد مائة وعشرة آلاف , ودية الخطأ مائة ألف وهذا التقدير مازال يعمل به إلى وقتنا هذا لكن في الحقيقة لما قرأت بيان مجلس القضاء الأعلى الصادر في هذه السنة 1401هـ أشكل عليّ جدا اختلاف الأسعار فلما سألت وجدت أنه هناك فارق كبير نحن الآن سنذكر مقادير هي من باب المدارسة وأما في باب القضاء فهم يحكمون بما يرون أنه مناسب لكن نحن الآن في باب المدارسة وتقرير الفقه فقط. الناس الذين يتعاملون بالإبل أربعة أجناس الجنس الأول: القصابين. الذين يبيعون اللحم. الثاني: قالوا الشريطية اللي يبيعون ويشترون في الإبل. الجنس الثالث: الدلالين. الدلال هذا هو ما يملك ولكنه يسعى في بيعها , الأخير جنس يسمونهم المربية. كم صار أجناس الناس أربعة سألت أنا هؤلاء جميعا يعني نأخذ المتوسط من أسعار هؤلاء جميعا حتى إذا قلت مثلا قيمة الواحدة من الإبل كذا ما تقول هي قيمته عند أصحاب اللحوم ولا قيمته عند المربين الجواب أنه قيمته المتوسط هذا واحد. اثنين: السؤال سألت بعد ارتفاع الأعلاف في سنة 1427هـ 1428هـ ارتفعت الأعلاف بشكل ملحوظ وأنا سألت سنة 1428هـ بعد ارتفاع الأسعار. هذا اثنين.

ثلاثة: سألت عن قيم الإبل المتوسطة لا قيم الإبل المرتفعة الثمن ولا الإبل منخفضة الثمن يعني تجنبنا تماما هذه اللي يسمونه المزايين لأنّ هذا غير شيء آخر إنما أخذنا الذي يتعامل به الناس والوسط من أيضا طيب النتيجة تبيّن لي أنه قيمة بنت المخاض ألفين ومائتين وبنت اللبون ثلاثة آلاف وخمسمئة والحقة أربعة آلاف والجذعة أربعة آلاف وخمسمائة. فإذا أردنا أن نأخذ قيمة المائة من كل واحد عشرين كما سيأتينا الآن سيكون مبلغ كبير جدا , ثلاثمائة وثمان عشرين ألف هذا يقابل التقدير المعمول به مائة ألف وهذا فارق كبير على أنه في الحقيقة أنا سعيت قدر المستطاع أني آخذ الوسط وأتحرى قدر الإمكان وكانت النتيجة هو هذا ما سمعت فأنا أرى أنه ينبغي إعادة النظر في القضية المائة ألف هذه فهي إجحاف بالجاني ولا المجني عليه؟ المجني عليه فأنت تعطيه ثلث حقه في الواقع. لاسيما على القول كما سيأتينا على قول بعض الفقهاء الذين يجعلون هي الأصل في الديات على هذا القول يكون في إجحاف واضح جدا فأنتم الآن سمعتم كيفية هذا التقدير والأجناس التي أخذت منها إلى آخره. بنت المخاض ألفين ومائتين. وبنت لبون ثلاثة آلاف وخمسمائة. والحقة أربعة آلاف والجذعة أربعة آلاف وخمسمائة. وهذه الأسعار يجزم كثير من أصحاب الصنعة أنها أقل أيضا من الواقع يجزم بعضهم أنها أقل من الواقع فنحن أخذنا المتوسط وعند بعض الناس نعتبر أخذنا أقل من المتوسط. قال - رحمه الله - (هذه هي أصول الدية) هذه مسألة مهمة. ما هو الأصل في الدية؟ فالحنابلة يرون أنّ الأصناف الخمسة أصول في الدية. الإبل والبقر والغنم والذهب والفضة. استدلوا على هذه أصول بحديث جابر السابق فإنه ذكر هذه الأصناف واستدلوا بحديث عمرو بن حزم فإنه ذكر نحوا مما ذكر في هذا الحديث. والقول الثاني: أنّ أصول الديات الخمسة المذكورة عند الحنابلة مع إضافة الحلل واستدلوا بحديث جابر ففيه ذكر الحلل واستدلوا بأن عمر بن الخطاب قضى بالدية بالحلل هذا هو القول الثاني. القول الثالث: أنّ الأصل في الدية الإبل والفضة والذهب فقط. لأنها المذكورة في الأحاديث المشهورة ولأنّ حديث البقر والغنم والحلل ضعيف.

القول الرابع والأخير: أنّ الأصل في الدية الإبل فقط. واستدل هؤلاء بدليلين: الدليل الأول: حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أنّ النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يقوّم الديات على أهل البوادي بالإبل. فإن غلت رفعها وإن رخصت نقصها. ففي الحديث الدلالة الصريحة على أنّ القيمة تعرف بقيمة الإبل. الدليل الثاني: أنّ النبي - صلى الله عليه وسلم - لما خطب في مكة ذكر أنّ دية الخطأ مائة من الإبل. حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده. حديث فيه اختلاف لكن يظهر لي الآن أنه إسناده حسن والراجح القول الأخير وإن كنت أقول إنّ هذه المسألة فيها إشكال وفي الأقوال قوة لاسيما القول قبل الأخير وهو اعتبار البقر والغنم والذهب والفضة ففيه قوة واضحة جدا. أما الغنم والبقر والحلي ففي القول بها ضعف لكن الخلاف في الحقيقة يدور بين الأصناف الثلاثة. فأقول مع كون الراجح القول الأخير إلاّ أنّ المسألة قوية وفيها احتمال وليست من الوسائل التي يكون فيها الراجح واضحا ظاهرا. ثم - قال رحمه الله - (فأيها أحضر من تلزمه لزم الولي قبوله) إذا أحضر الجاني الدية من أي صنف من الأصناف الخمس فإنه يلزم الولي أن يقبل لأنها أصول وليس له أن يرفض ويشترط الإبل أو الغنم أو البقر ولو كان الجاني من أهل صنف يختلف عن الصنف الذي أعطاه ولو كان المجني عليه من أهل صنف يختلف عن الصنف الذي أخذه. يعني إذا كان الجاني رجل يملك الإبل ودفع الدية من الفضة فيلزم ولي المجني عليه القبول أو لا يلزمه؟ يلزمه.

لو كان المجني عليه رجل راعي بقر يعني ماله من البقر ودفع الجاني الدية من الإبل فإنه يلزمه أيضا أن يقبل لماذا؟ كل هذا يعود إلى مسألة أنّ الأصول هي هذه الخمسة كلها. وعلى القول بأنّ الأصل الإبل فإنه لا يلزمه أن يقبل وله أن يقول بل أريد مائة من الإبل لأنّ الإبل هي الأصل في الدية وليس له أي للجاني أن يلزم الولي بأن يقبل بدل هذا الأصل لأنّ هذا البدل يعتبر معاوضة ونحن قلنا أنّ المعاوضات لا تتم إلاّ بالرضا وهنا لا رضا. إذا على القول الراجح إذا أحضر له مائة ألف ريال له أن يقول أريد مائة من الإبل وإذا أحضر له من الفضة أو من الذهب أو من البقر أو من الغنم فالأمر كذلك له أن يرفض وأن يقول لا أريد إلاّ مائة من الإبل. قال - رحمه الله - (ففي قتل العمد وشبهه: خمس وعشرون بنت مخاض) بدأ المؤلف ببيان أسنان الإبل في الديات. والدية تارة تكون مغلظة وتارة تكون مخففة وبدأ الشيخ بالدية المغلظة وهي دية العمد وشبهه. فقال أنّ دية العمد وشبهه مائة من الإبل هذا متفق عليه لكن كيف نقسم هذه المائة يقول خمس وعشرون بنت مخاض وخمس وعشرون بنت لبون ... الخ. أي أنها تقسم أرباعا بهذه الأسنان. الدليل على هذا أنّ السائب بن يزيد حدّث أنّ النبي - صلى الله عليه وسلم - جعل الدية في العمد وشبهه على هذه الأصناف فذكر التربيع. - رضي الله عنه - لكن هذا الحديث فيه ضعف. القول الثاني: أنّ الدية المغلظة أثلاثا , ثلاثين حقة. وثلاثين جذعة. وأربعون في بطونها أولادها. وهذا أغلظ بكثير من التقسيم الرباعي أليس كذلك؟ أولا جعل عدد الجذعة والحقة أكبر ثم ألزمه بأربعين في كل واحدة منها ولد. الدليل على هذا أنه جاء في حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده , وعمرو بن حزم , وحديث ثالث , في ثلاثة أحاديث جاء التنصيص على أنها أثلاث وهذه الأحاديث أصح بكثير من أدلة المذهب. ولهذا اختار هذا القول اثنان من محققي الحنابلة الأول الزركشي. والثاني أبو الخطاب. وهذا القول الثاني أصح إن شاء الله وهو التثليث لأنّ أحاديثه أصح وأثبت. انتقل المؤلف إلى الدية المخففة وهي دية الخطأ. فذكر أنها تجب أخماسا.

قال - رحمه الله - (وفي الخطأ: تجب أخماسا, ثمانون من الأربعة المذكورة , وعشرون من بني مخاض) يعني تكون الدية عشرون بنت مخاض. وعشرين بنت لبون. وعشرين حقة. وعشرين جذعة. وعشرين بني مخاض. من كل واحد عشرين. الدليل أولا إلى هذا ذهب الأئمة الأربعة التخميس مذهب الأئمة الأربعة. واستدلوا على هذا بحديث ابن مسعود - رضي الله عنه - مرفوعا أنه ذكر عن النبي - صلى الله عليه وسلم - هذا التخميس. وحديث ابن مسعود روي أيضا موقوف والموقوف أصح. القول الثاني: أنها أرباع كدية العمد وهو قول ضعيف يخالف النصوص. نحن قلنا أنّ تقسيم دية الخطأ أخماس مذهب الأئمة الأربعة أليس كذلك؟ إلاّ أنّ المالكية والشافعية. يجعلون بدل عشرين بني مخاض. عشرين بنت لبون. وهذا أصعب كأن يرون أنه أصعب سبب الخلاف بين الحنابلة والحنفية , والمالكية والشافعية. أنه في حديث ابن مسعود الموقوف في بعض ألفاظه عشرين بنت لبون. وفي بعض ألفاظه عشرين بني مخاض. إذا الترجيح بين القولين سيعود إلى الترجيح بين اللفظين. والناظر في اللفظين يرجح أنّ الثابت عن ابن مسعود عشرين بني مخاض فالحنابلة والحنفية أصح إذا التقسيم الرباعي من حيث هو متفق عليه لكن اختلفوا هل هي بني مخاض أو بنت لبون. قال - رحمه الله - (ولا تعتبر القيمة في ذلك) يعني لا تعتبر القيمة عند اختيار جنس من الأجناس الخمسة فمثلا إذا جاء بمائة من الإبل لا يشترط فيها أن تكون أقيامها ألف مثقال من الذهب ولا اثني عشر ألف من الفضة لا يشترط ولو كانت أقل أو أكثر لماذا؟ لأنهم يرون أنّ كل جنس من هذه الأشياء هو أصل بنفسه فلا يشترط المساواة كذلك لو أتى بألف مثقال من الذهب لا يشترط أن تساوي قيمة مائة من الإبل. وهذا صحيح إذا قررنا أنّ الأصول الخمسة كل واحد منها أصل بنفسه. وعلى القول بأنّ الأصل الإبل حينئذ يشترط إذا جاء بأي جنس من الأجناس أن تكون قيمته مساوية لمائة من الإبل. ثم - قال رحمه الله - (بل السلامة)

بل تشترط السلامة يعني من العيوب فلا نشترط القيمة بل نشترط السلامة , والدليل على هذا أنّ الأصل في إطلاق النصوص السلامة من العيوب فإذا أمر بإعتاق عبد أو دفع دية من الإبل فالأصل في هذه الأشياء أن تكون سالمة من العيوب لأنه مقتضى الإطلاق. قال - رحمه الله - (ودية الكتابي: نصف دية المسلم) في المقنع بعد أن ذكر دية المسلم الحر ذكر بعده دية المرأة المسلمة. والشيخ هنا في الحقيقة خالف ولم يحسن. كان ينبغي أن يبدأ بدية المسلمين ثم يتكلم عن دية غير المسلمين لكنه خالف الأصل ولو لم يخالف الأصل لكان أحسن. دية الكتابي على النصف من دية المسلم عند الجماهير والدليل على هذا أنه في حديث عمرو بن حزم أنّ النبي صلى الله عليه وسلم قال ودية الكتابي على النصف من دية المسلم والقول الثاني: أنّ دية الكتابي الذمي أو المستأمن أو المعاهد كدية المسلم لأنه معصوم الدم كالمسلم والراجح الأول لأنّ النص فيه ظاهر قبل أن ننتقل استدل الذين قالوا أنّ دية الكتابي كدية المسلم بدليل أيضا آخر قد يكون أقوى من الدليل الذي ذكرت وهو أن الله تعالى قال {فدية مسلمة إلى أهله} [النساء/92] وأنه ذكر هذا الحكم حين ذكر المسلم وحين ذكر الكتابي فدل على أنّ الدية فيهما واحد وهذا استدلال بالمفهوم ونحن أخذنا مرارا وأخذنا أنّ القاعدة أنّ المنطوق مقدم على المفهوم. وحديث عمرو بن حزم نص في أنّ دية الكتابي على النصف من دية المسلم فلا يمكن العدول عنه لظاهر نص ولو كان هذا النص من الكتاب. قال - رحمه الله - (ودية المجوسي والوثني: ثمان مائة درهم) يعني دية غير الكتابي. يقول الشيخ ديتهما ثمان مائة درهم. يعني كم من الدية يعني ثلثا عُشر الدية الدليل قالوا أنه روي عن الصحابة - رضي الله عنهم - أنّ هذا هو دية المجوسي كما أنّ الإمام أحمد يقول لا يكاد أن يختلفون في دية المجوسي.

القول الثاني: أنّ ديته كدية الكتابي سواء لأنّ في حديث عمرو بن حزم لما قال ودية الكتابي على النصف من دية المسلم. في لفظ آخر للحديث ودية الكافر على النصف من دية المسلم. فقالوا ودية الكافر هذا عام يشمل الكتابي وغيره من أصناف الكفار. والراجح القول الأول بل في القول الثاني نوع شذوذ لمخالفته المروي عن الصحابة فالصحابة بيّنوا أنّ المقصود بالكافر في حديث عمروبن حزم هو الكتابي. قال - رحمه الله - (ونساؤهم على النصف كالمسلمين) الآن ذكر دية المرأة يقول ونساؤهم على النصف كالمسلمين. يقول أنّ نساء أهل الكتاب على النصف كنساء المسلمين. نبدأ بالأصل المقيس عليه وهو دية الحرة المسلمة. دية الحرة المسلمة على النصف من دية المسلم عند الجماهير بل حكي إجماعا ولم يخالف إلاّ من شذ واستدل الجماهير بقول النبي - صلى الله عليه وسلم - ودية المرأة على النصف من دية الرجل. القول الثاني: المنسوب إلى الشذوذ , أنها كدية المسلم لقول النبي - صلى الله عليه وسلم - وفي النفس المؤمنة مائة من الإبل والمرأة نفس مؤمنة. والجواب عن هذا الدليل أنّ هذا اللفظ في حديث عمرو بن حزم وفي آخره ودية المرأة على النصف من دية الرجل ففي حديث واحد جاء دية النفس المؤمنة مائة من الإبل , ودية المرأة على النصف من دية الرجل , فدل هذا على أنّ المراد بالنفس المؤمنة هنا الرجل كما أنّ القول الثاني شاذ والشذوذ من أدلة الضعف ففي هذا علامة على ضعفه. فالراجح إذا إن شاء الله أنها على النصف. أما دية المرأة الكافرة فهي على النصف بلا إشكال من أهل دينه. ولعله ليس في هذه المسألة خلاف لأنّ الخلاف كان بسبب دية النفس المؤمنة وهذه ليست مؤمنة فهي على النصف من دية الرجل من دينها إذا لا إشكال في المرأة الكافرة وإنما الخلاف وإن كان خلافا شاذا إنما هو في دية المسلمة. ثم - قال رحمه الله - (ودية الرقيق قيمته) دية الرقيق قيمته ودية الرقيق تنقسم إلى قسمين: القسم الأول: إما أن تكون قيمته أقل من دية الحر. فإذا كانت قيمته أقل من دية الحر فديته قيمته بالإجماع.

القسم الثاني: أن تكون قيمته أكثر من دية الرجل الحر كأن يقتل عبد قيمته ألفي مثقال من الذهب أو عشرين ألف درهم , المهم أكثر من دية الرجل الحر المسلم فديته قيمته على المذهب ولو زادت عن دية الحر. لأنّ النظر في العبد إلى قيمته كسائر الأموال. والقول الثاني: أنه لا يزاد في ديته عن دية الحر لأنّ الحر أشرف فكيف تكون دية العبد أكثر والراجح القول الأول بلا إشكال. قال - رحمه الله - (وفي جراحه ما نقصه بعد البرء) يعني إذا أصيب العبد بجراح فدية الجراح بحسب ما نقص من قيمته بعد البرء , فإذا كانت قيمته قبل الإصابة مائة ألف وقيمته بعد الإصابة والبرء خمسون ألف فدية هذا الجرح خمسون ألف وهذا لا إشكال فيه إلاّ إذا كانت الجراح في جزء له دية خاصة من الحر مثلا العين من الحر فيها نصف الدية أليس كذلك كما سيأتينا. فإذا أصيب العبد بجزء له دية مقدرة من الحر ففيه خلاف. القول الأول كالطريقة الأولى مهما أصيب بأي جزء.

والقول الثاني: أن نعطيه بمقداره من الدية فإذا أصيب في جزء من الحر فيه نصف الدية أعطيناه القيمة نصف القيمة وإذا أصيب في جزء فيه ربع الدية أعطيناه ربع القيمة. فإذا أصيب العبد في عينه وقيمته مائة ألف كم دية الجرح؟ خمسون ألف. القول الأول اختيار عدد من المحققين أنه ينظر إلى قيمته قبل وبعد البرء مطلقا اختيار شيخ الإسلام وغيره من المحققين. وهو فيه عدل وإنصاف وقوة لكن يشكل عليه شيء لم أر هم تطرقوا إليه في الحقيقة ولا أدري لماذا؟ هذا الإشكال هو أنّ العبد أحيانا يصاب بجرح ويبرأ الجرح ثم نجد أنّ العبد بعد الجرح قيمته كقيمته قبلها أليس كذلك؟ وهذا كثير جدا. مثلا إذا صار العبد إنما صار ثمينا لكونه كاتبا أصيب بجرح في بطنه وبرء هل يؤثر هذا على صنعة الكتابة سيبقى سعره كما هو صحيح لو أصيب في يده وهو حمال فسيؤثر هذا على سعره لكن أحيانا لا يؤثر هذه النقطة لم أجد أحدا يعني أنّ الفقهاء تطرقوا إليها وهو في حال ما إذا كان سعره قبل البرء وبعد البرء واحد. إذا كم سنعطيه هنا يكون التقدير الثاني ملجأ الحقيقة للإنسان وينضبط ولا يختلف باختلاف ما إذا زادت أو نقصت قيمة الجناية وفي الحقيقة الجناية أحيانا كثيرة ما تؤثر على السعر أليس كذلك؟ في أحيان كثيرة ما تؤثر وإن أثرت فتأثيرها قليل لا يقاس بالجناية على الحر والدية الواجبة بنفس الجرح لو كان حرا أليس كذلك؟ المهم لهذا كله القول الثاني فيه وجاهة. إلاّ أن يأتي أحد يجيب عن هذا الإشكال فيكون نبقى مع القول الأول ورجحانه. أما بدون إجابة القول الثاني لهذا السبب فيه وجاهة. قال - رحمه الله - (ويجب في الجنين ذكرا كان أو أنثى عشر دية أمه غرة)

دية أمه إذا كانت حرة ومسلمة كم؟ خمسون من الإبل. العشر؟ خمس من الإبل إذا دية الجنين إذا سقط هو خمس من الإبل تأتي هنا عندنا الإشكال في التقدير السابق فمثلا إذا أردنا أن نأخذ التقدير الذي عليه العمل الآن ستكون قيمة الجناية خمسة آلاف لأنّ خمس من الإبل قيمتها كم؟ خمسة آلاف. بينما إذا أردنا أنّ نأخذ بالتقدير الذي ذكرت فيما إذا جنا شخص على جنين وسقط ستكون المبلغ ستة عشر ألف وأربعمائة ريال. الفرق يأتي دائما هنا أوهنا. متى قدرت سيكون هناك فرق. والدليل على هذا أنّ النبي - صلى الله عليه وسلم - لما اقتلت الهذليتين ورمت إحداهما الأخرى بحجر فسقط ما في بطنها حكم النبي - صلى الله عليه وسلم - في الجنين بدية غرة عبد أو أمة إلى هنا انتهى الحديث من أتى الفقهاء بقضية عشر أمه وجدوا أنّ العبد أو الأمة في العهد النبوي تقدر قيمتهما بخمس من الإبل فعرفوا أنّ دية الجنين عشر دية أمه وأخذوا هذه قاعدة للتبسيط وإلاّ الحديث فيه أنه غرة عبد أو أمة. يقول الشيخ - رحمه الله - (وعشر قيمتها إن كان مملوكا) إذا كان الطفل مملوك فإنّ الواجب في ديته عشر قيمة أمه فإن كانت أمه أمة فالأمر واضح. وإن كانت حرة. يقول الشيخ - رحمه الله - (وتقدر الحرة أمة) فنقول أمه هذه وإن كانت حرة لو كانت أمة كم تساوي؟ ثم نخرج عشر القيمة وهي دية هذا الجنين الذي سقط بالجناية إذا عرفنا الآن الدليل على اعتبار العشر وماذا نصنع إذا كان الجنين عبدا , أما إذا كان حرا فكما قال المؤلف فيه عشر دية أمه. قال - رحمه الله - (وإن جنا رقيق خطأ أو عمدا لا قود فيه أو فيه قود واختير فيه المال أو أتلف مالا بغير إذن سيده تعلق ذلك برقبته)

لو أنه ذكر ضابط وقال إذا جنا جناية توجب المال لانتهينا من هذا التمثيل فالحكم أنه يتعلق هذا المال برقبته. فقوله إذا جنا رقيق خطأ الخطأ يوجب القود أو الدية؟ الدية. إذا يوجب مالا. أو عمدا لا قود فيه. كما تقدم معنا أنّ الجروح فيها ما فيه دية وفيه ما فيه قصاص فالجروح التي ليس فيها قصاص كالمأمومة والجائفة وكسر الساق كما تقدم معنا في الدرس السابق هذه فيها دية فإذا جنا جناية لا قود فيها فسيكون الواجب في ذمته مال , أو فيها قود لكن اختار من له الصلاحية المال , أو أتلف مالا بغير إذن سيده تعلق ذلك برقبته. الدليل قالوا أنه إذا جنا العبد جناية توجب المال فإما أن يتعلق قيمة هذه الجناية بالسيد وهذا لا يمكن لماذا؟ لأنّ السيد لم يجني أو أن تتعلق بذمة العبد وهذا لا يمكن لماذا؟ لأنّ هذا يؤدي إلى ضياع الحق أو أن تكون هدر ولا يأتي الشارع بالهدر في الجنايات لم يبقى إلاّ أن تتعلق برقبته وهذا صحيح لا مناص من تعلقها برقبته. فإذا تعلقت برقبته سيبيّن المؤلف الحكم. قال - رحمه الله - (فيخير سيده بين أن يفديه بأرش جنايته) الأرش اسم للمال الواجب بسبب الجروح والجنايات هذا المال يسمى أرش. فيخير سيده بين أن يفديه بأرش جنايته. السيد مخير بين أمرين إما أن يفديه بأرش جنايته. ما معنى أن يفديه بأرش جنايته؟ أن يدفع. لأنه قلنا الأرش هي دية الجناية على الأطراف وما دون النفس فنقول أنت مخير إما أن تدفع هذه الجناية أو أن تبيع لكن الحنابلة يرون أنه لا يلزم السيد أن يدفع أرش الجناية إذا كانت أكثر من ثمنه. لأنّ الجناية إنما تتعلق برقبة العبد فيكف نلزم السيد أن يدفع أكثر من قيمته هذا هو المذهب.

والقول الثاني: الذي يشير إليه المؤلف أنه يجب على السيد أن يدفع الأرش ولو كان أكثر من القيمة أو يبيع العبد فنلزم السيد بأحد أمرين إما أن يبيع أو يدفع الأرش. على المذهب لا يلزمونه بالبيع إذا أراد أن يدفع الأرش الذي هو يساوي قيمة البيع لا يلزمونه أن يبيع وعلى هذا القول نقول إما أن تبيع أو أن تدفع الأرش ولو كان أكثر من القيمة قد يظهر للإنسان أنّ الخلاف لا طائل تحته لأنه إذا ألزمناه وكان السعر بمقدار الأرش أو أكثر فإنّ السيد سيبعه ولن يدفع الأكثر أليس كذلك؟ لكن في الحقيقة الخلاف له أثر لأنّ السيد قد يرغب في ابقاء العبد أليس كذلك؟ وإن كانت قيمته في السوق تساوي أو أكثر من الأرش فنحن نقول أنت مخير بين أمرين على القول الراجح إما أن تبيع أو تدفع كامل الأرش ولو كان أكثر من قيمته وأنتم تعلمون الآن أنه يوجد كثير من السلع هي في لواقع أنفع من سعرها أليس كذلك؟ لو أراد الإنسان أن يبيعها لن تأتي له في السوق بسعر لكن هي مفيدة أليس كذلك؟ كذلك العبد ربما يكون مفيد لكن ليس له سعر في السوق. يبدوا لي أنّ ما ذهب إليه المؤلف وهو أنّ السيد مخير بين البيع ودفع الأرش ولو كان أكثر من القيمة هو القول الراجح. بخلاف المذهب. يقول - رحمه الله - (أو يسلمه إلى ولي الجناية فيملكه) إذا سلمه إلى ولي الجناية يعني سلم العبد وملكه لولي الجناية فقد برئت ذمة السيد لأنه أعطاه ما تعلق الحق برقبته فإن قال ولي الجناية لا أريد العبد بل تولى بيعه وأعطني الثمن فإنه لا يلزم السيد أن يبيع ويعطيه الثمن بل له أن يدفع العبد إلى ولي الجناية وتبرأ ذمته بذلك. والقول الثاني: أنه ملزم أن يبيع ويعطيه الثمن. وهذا القول ضعيف في الحقيقة لأنّ السيد لم يجني وليس منه خطأ فكيف نلزمه بأن يتولى البيع ومشقة ذلك ليعطي ولي الجناية الثمن مع أنّ الحق متعلق برقبة العبد وهو دفع العبد برمته. فالراجح أنه لا يلزمه. قال - رحمه الله - (أو يبيعه ويدفع ثمنه)

باب ديات الأعضاء ومنافعها

إذا باعه ودفع الثمن فقد برئت ذمته لأنه باع العين التي تعلق بها الحق فبرئت ذمته بذلك لأنه كما تقدم فعل ما عليه ببيع العين التي تعلقت به الجناية. إذا السيد مخير بين ثلاثة أمور دفع الأرش أو بعبارة أسهل دفع الدية. الثاني: تسليم العبد للمجني عليه. الثالث: أن يبيع والخيار في ظاهر كلام المؤلف لمن للسيد فهو مخير بين أي من هذه الأمور. مسألة / لو سلم العبد وكانت قيمة العبد أكثر من الجناية كأن تكون الجناية تقدر بألف ريال وقيمة العبد ألف وخمسمائة ريال فإنه لا يلزم ولي الجناية أن يعطي السيد الفرق لماذا؟ لأنّ الجناية تعلقت بكامل الرقبة. والقول الثاني: أنه يجب عليه أن يدفع الفرق لأنّ الجناية إنما تعلقت بالرقبة لأداء الدية ليس إلاّ فإذا أمكن أداء الدية ببعض قيمة العبد وجب أن يرد الباقي للسيد لأنه ملك للسيد. لكن في الحقيقة أنا أرى أنه لا يجب عليه لأنه لو شاء السيد لتولى هو البيع فنقول تولى أنت البيع وخذ ما تشاء وادفع قيمة الدية. باب ديات الأعضاء ومنافعها قال - رحمه الله - باب ديات الأعضاء ومنافعها لما ذكر دية النفس انتقل إلى دية ما دون النفس. يقول الشيخ - رحمه الله - (ومن أتلف ما في الإنسان: منه شيء واحد كالأنف واللسان والذكر ففيه دية النفس)

الإنسان إما أن يتلف ما في الإنسان منه شيء واحد أو ما في الإنسان منه شيئان أو ثلاثة أو أربعة أو عشرة. بدأ المؤلف بالأول فإذا أتلف ما في الإنسان منه شيء واحد كالأنف واللسان والذكر ففيه دية النفس وعلى هذا دل النص والإجماع. إذا ما في الإنسان منه شيء واحد ففيه الدية وهذا دل عليه النص والإجماع والمؤلف ذكر ثلاثة الأول الأنف واللسان والذكر. والأنف واللسان والذكر مذكور في حديث عمرو بن حزم وأجمع عليه الفقهاء وتعليله أنه أذهب منفعة الجنس. فإذا قطع لسانه فليس في البدن من جنس اللسان عضو آخر يأتي بهذه المهمة أليس كذلك؟ فبقطعه أذهب منفعة الجنس جملة وتفصيلا ولهذا جعل الشارع الحكيم فيه دية كاملة قياسا على النفس لأنه أزهق النفس فقد أذهب كل النفس. وهذا كما قلت دل عليه النص والإجماع فلسنا بحاجة إلى مزيد تأكيد عليه ومن هنا ممكن أن يدفع الإنسان في شخص ثلاث ديات أليس كذلك؟ بأن يقطع لسانه وذكره وأنفه. فيدفع ثلاث ديات مع بقاء النفس. ثم - قال رحمه الله - (وما فيه منه شيئان: كالعينين) ما فيه منه شيئان كالعين هذا في الدية يعني إذا أذهب الشيئين ولا حظ معي أنّ المؤلف سيقول بعد هذا البحث وفي أحدهما نصفها إذا في العينين الدية وفي أحدهما نصفها وهذا أيضا دل عليه النص والإجماع فذكر دية العينين مذكور موجود في حديث عمرو بن حزم وكذلك أجمع عليه الفقهاء وكذلك أجمعوا على أن في النصف الدية كاملة. فدية العينين ودية النصف محل إجماع , لأنه سيأتينا في بعض هذه الأشياء خلاف في النصف لكن في العينين لا يوجد خلاف لا فيهما ولا في النصف منهما ويجب أن تستحضروا هذا لأنه إذا قال وفي أحدهما نصفها سنكون شرحنا النصف عند كل واحدة منهما. ثم - قال رحمه الله - (والأذنين) الأذنان فيهما الدية كاملة والتعليل أنه بإذهاب الأذنين أذهب جنس المنفعة ولأنه لا يوجد في البدن ما يقوم مقام الأذنين. القول الثاني: أنّ في الأذنين حكومة ومعنى الحكومة سيأتينا سيصرح المؤلف بتعريفها في آخر هذا الفصل واستدل الذين قالوا في الأذنين

حكومة أنه ليس فيها نص من الشارع ولا قياس في الديات والراجح أنّ فيهما الدية ,لأنه لا فرق لأبدا بين العينين والأذنين لا من حيث المنفعة ولكن من حيث إذهاب شيء ليس في البدن منه إلاّ اثنين. نأتي إلى النصف. النصف يعني نصف الدية في الأذنين محل إجماع عند الذين قالوا أنه في الأذنين الدية. النصف يعني إذهاب أذن واحدة فيها نصف الدية بالإجماع لكن عند الذين قالوا أنّ في الأذنين الدية أما الذين قالوا أنّ فيها حكومة فهذا لايوجد عندهم نصف أصلا لأنهم لا يوجبون الدية.

الدرس: (3) من الديات قال شيخنا حفظه الله: بسم الله الرحمن الرحيم والحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين. قال المصنف - رحمه الله -: (والشفتين) الشفتين فيهما الدية وفي أحدهما نصفها. أما أنّ فيهما الدية فهذا دل عليه النص والإجماع فإنّ الفقهاء أجمعوا على أنّّ في الشفتين الدية كاملة وهو أي هذا الحكم مذكور في حديث عمرو بن حزم - رضي الله عنه - المسألة أنّ في إحداهما نصف الدية إلى هذا ذهب الجمهور. والقول الثاني: أنّ في السفلى الثلثين والعليا الثلث. لأنّ منفعة الشفة السلفى أكبر من منفعة العليا والراجح القول الأول لأنّ النص جعل فيهما الدية ففي أحدهما نصفها , وأيضا يعني في الجواب نحن نجعل في اليدين الدية وفي إحداهما نصف الدية مع أنّ منفعة اليمنى أعظم من منفعة اليسرى مع ذلك لم يراعي الشارع هذا الفرق فكذلك في الشفتين. ثم - قال رحمه الله - (واللحيين) اللحيين هما العظمان اللذان ينبت عليهما أو تنبت عليهما الأسنان السفلية. ففيهما الدية لأنه ليس في البدن من جنسهما شيء يعني ليس في البدن إلاّ هذان العظمان. وفي أحدهما نصف الدية إلى هذا ذهب الجمهور. والقول الثاني: أنّ في اللحيين حكومة وكما قلت سيأتي معنى الحكومة مصرحا به في كلام المصنف استدل أصحاب القول الثاني بأنه ليس في النصوص ما يدل على أنّ اللحيين الدية والأصل في التقدير أن يأتي عن الشارع فلما لم يأتي عرفنا أنّ فيهما حكومة. ثم - قال رحمه الله - (وثديي المرأة)

ثدي المرأة فيه نصف الدية وفي الثديين الدية كاملة , وهذا محل إجماع لأنّ في الثدي منفعة عظيمة جدا في إرضاع الولد واستمتاع الزوج كما أنه ليس في البدن من جنسهما شيء آخر ولهذا أجمع الفقهاء على أنّ فيهما الدية. المسألة الثانية / في أحدهما نصف الدية وهو أيضا محل إجماع. ثم - قال رحمه الله - (وثندؤتي الرجل) ثندؤتي الرجل فيهما الدية عند الجمهور في أحدهما وفي إحداهما النصف والدليل للجمهور أنه ليس في البدن منهما إلاّ اثنان وقد دلت النصوص على أنهما ليس في البدن منه إلاّ واحد أو اثنان فيه الدية. والقول الثاني: أنّ فيهما حكومة لأنهما لا نفع فيهما إنما فيهما جمال فقط ففيهما حكومة. والمسألة محل تأمل وتردد ولكن مع ذلك الأقرب إن شاء الله مذهب الجمهور لأنه يبدوا أنّ الشارع يجعل في كل ما ليس في البدن منه إلاّ اثنان الدية. ثم - قال رحمه الله - (واليدين والرجلين) اليدان والرجلان فيهما الدية يعني في كل من اليدين والرجلين الدية كاملة بالإجماع وهما من أنفع أعضاء الجسم وقد دل على وجوب الدية فيهما مع الإجماع النص ففي حديث عمرو بن حزم أنه جعل في اليدين الدية وفي الرجلين الدية وأمرهما واضح ولله الحمد أنّ فيهما الدية وفي أحدهما نصف الدية يعني في كل منهما ففي اليد والواحدة نصف الدية وفي الرجل الواحدة نصف الدية. ثم - قال رحمه الله - (والإليتين) ذهب الجماهير إلى أنّ في الإليتين الدية وفي إحداهما نصف الدية لأنّ فيهما نفعا لا يقوم غيرهما فيه مقامهما. ولأنه ليس في البدن منهما إلاّ اثنان وهذا القول هو الراجح بالنسبة للإليتين الأمر فيهما واضح إن شاء الله. وهو رجحان مذهب الجمهور لعظم نفعهما. ثم - قال رحمه الله - (والأنثيين) الأنثيين يعني الخصيتين فيهما الدية وفي إحداهما نصف الدية وهذا أيضا دل عليه النص والإجماع فإنّ النبي - صلى الله عليه وسلم - جعل فيهما في حديث عمرو بن حزم الدية وقد أجمع على ذلك الفقهاء وأهمية الخصيتين لا تخفى إذ منهما ينتج الحيوانات المنوية وهي سبب حصول على الذرية فلا شك أنّ نفعهما جدير يإيجاب الدية في إتلافهما مع أنّ المسألة محل إجماع وفيها نص. ثم - قال رحمه الله - (وإسكتي المرأة)

إسكتي المراة هما اللحمان المحيطان بالفرج إحاطة الشفتين بالفم. بالنسبة للمرأة وفيهما الدية وإلى هذا ذهب الأئمة الأربعة لما فيهما من نفع ولما فيهما من جمال ولما فيهما من وقاية وما ذهب إليه الأئمة الأربعة هو الراجح إن شاء الله والأمر فيهما واضح لنفعهما. قال المؤلف - رحمه الله - (ففيهما الدية) يعني في ما ليس في الإنسان منه إلاّ شيئان الدية. (وفي أحدهما نصفها) تقدم معنا الحديث عن كل واحدة على حدة من جهة أنّ فيها النصف. ثم انتقل إلى قسم آخر. قال - رحمه الله - (وفي المنخرين ثلثا الدية وفي الحاجز بينهما ثلثها) انتقل المؤلف إلى الكلام عن ما في البدن منه ثلاثة. وهو الأنف. فإنّ الأنف يشتمل على ثلاثة أشياء على المنخرين والحاجز بينهما فإذا أتلف الأنف ففيه الدية وهذا حكم إذا أتلف الأنف ما الحكم من أي قسم؟ ما فيه شيء واحد. قال الفقهاء إذا كان الأنف فيه الدية كاملة وهو ينقسم إلى ثلاثة أشياء علمنا أنّ كل واحد من هذه الثلاثة أشياء فيه ثلث الدية وقاسوا هذا على الأصابع وعلى كل ما فيه تعدد في البدن كالعينين والشفتين وما تقدم معنا مما فيه أكثر من واحد وهذا صحيح أنّ في كل من أجزاء الأنف الثلاثة ثلث الدية. قال - رحمه الله - (وفي الأجفان الأربعة الدية) في الأجفان الأربعة الدية عند الجماهير الأئمة الأربعة وغيرهم سواء كان الذي جني عليه أعمى أو بصير. ففي الأجفان الأربعة الدية لأنه لا يوجد منها في الجسم إلاّ أربعة وهذا هو القسم الرابع ما لا يوجد في الجسم منه إلاّ أربعة وهي هذه الأجفان وإنما ذهب الجماهير إلاّ أنّ فيها الدية لنفعهما العظيم في وقاية العين وتجميلها وهذا أمره واضح. قال - رحمه الله - (وفي كل جفن ربعها) الدليل على هذا هو الدليل السابق وهو أنه لما رأينا الشارع جعل فيها الدية علمنا أنّ في كل واحد منها ربع الدية.

والقول الثاني: أنّ في الجفن الأعلى ثلثي الدية والأسفل ثلث الدية لأنّ نفع الأعلى أعظم من نفع الأسفل عكس الشفتين والراجح مذهب الجمهور والجواب على هذا الدليل هو الجواب على الدليل السابق في الشفتين وهو أنّا نجد أنّ الشارع في اليدين لم يفرق بين اليمنى واليسرى كذلك في القدمين لم يفرق بين اليمنى واليسرى. قال - رحمه الله - (وفي أصابع اليدين الدية كأصابع الرجلين , وفي كل أصبع عشر الدية) انتقل المؤلف إلى ما في الجسم منه عشرة ولهذا يقول وفي أصابع اليدين الدية كأصابع الرجلين في كل أصبع من أصابع اليدين والرجلين عشر الدية ولهذا نجد في حديث عمرو بن حزم. وفي كل أصبع من الأصابع عشر من الإبل وهذا ينسجم مع القاعدة العامة وهي أنّ الشارع إذا جعل على جزء دية كاملة فإنّ هذه الدية تنقسم على أجزاء هذا العضو وهذا الذي ذهب إليه الحنابلة وما ذهب إليه الحنابلة هو مذهب الجماهير والجم الغفير من أهل العلم. والقول الثاني: أنّ دية الأصابع ليست على حد سواء بل تتفاوت فدية الإبهام أعظم مما يليه ودية السبابة أعظم من الوسطى وهكذا الخنصر والبنصر فتنقص كلما ذهبنا إلى الأصغر لأنّ نفع الإبهام أعظم نفع مما يليه ونفع ما يليه أعظم مما يليه وهكذا. وهذا القول قول ضعيف لأنه مصادم للنص فإنّ النبي - صلى الله عليه وسلم - جعل في كل أصبع عشر الدية كما أنه تقدم معنا أنّ الشارع لا ينظر دائما إلى المفاضلة بين منافع العضو الواحد بل تكاد تكون القاعدة أنّ الشارع لا يفاضل بين منافع العضو الواحد وإنما يفاضل بين منافع العضوين. قال - رحمه الله - (وفي كل أنملة ثلث عشر الدية) لما كان كل أصبع عدا الإبهام فيه ثلاث مفاصل قسمنا العشر من الإبل على كل مفصل من مفاصل الأصبع فستكون دية المفصل الواحد ثلاث من الإبل وربع لكل واحد يعني نقسم العشر من الإبل على مفاصل الأصبع باعتبار أنّ قاعدة الشرع تقسيم دية العضو على أجزائه وهذا صحيح. قال - رحمه الله - (والإبهام مفصلان , وفي كل مفصل نصف عشر الدية)

الفقهاء يرون أنّ الإبهام فيه مفصلان فقط. ويجعلون الثالث في ما يبدوا للإنسان تابع للراحة وكف اليد إذا كان الإبهام ليس فيه إلاّ مفصلان فستقسم العشر على قسمين لكل مفصل كم؟ خمس من الإبل وهذا واضح وعند الذين يرون أنّ الإبهام ثلاث كباقي الأصابع تقسم العشر على ثلاث ويكون لكل مفصل ثلاث من الإبل وربع. وكان ينبغي في الحقيقة أن نسأل الأطباء هل يعتبر الإبهام فيه ثلاث مفاصل ولا فيه مفصلان فقط مع أنّ الظاهر أنه فيه مفصلان فقط. ما في الوسط وما في الأسفل كما قال الحنابلة. يقول الشيخ - رحمه الله - (كدية السن) الشارع جعل في السن نصف العشر لقوله في حديث عمرو بن حزم وفي السن خمس من الإبل فالسن فيه نصف العشر كما أنّ المفصل الواحد من الإبهام فيه أيضا نصف العشر وهي خمس من الإبل. بهذا نكون انتهينا من الباب الثاني وهو المتعلق بديات الأعضاء ننتقل إلى الفصل الثاني منه وهي دية المنافع. فصل يقول المؤلف - رحمه الله - فصل (وفي كل حاسة دية كاملة: وهي السمع والبصر) في كل حاسة في الجسم إذا أذهبها الجاني الدية كاملة لأنه ليس في الجسم منها إلاّ شيء واحد وقد ذكر المؤلف الحواس جميعا فقال في السمع والبصر. السمع والبصر يجب في كل واحد منهما الدية بالإجماع وفيه حديث أنّ النبي - صلى الله عليه وسلم - جعل في السمع والبصر الدية لكنه ضعيف. لكن عندنا الإجماع وأيضا روي عن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - أنّ رجلا ضرب رجلا بحجر على رأسه فذهب منه العقل والنكاح والبصر واللسان فأوجب عليه عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - أربعة ديات قال الراوي وما يزال الرجل حيا فأوجب فيه عمر أربع ورأينا أنه أوجب هذه الأربع في البصر واللسان يعني الكلام فإذا السمع والبصر محل إجماع. مسألة / إذا ضربه ضربة واحدة ذهبت بالأذنين والسمع فعليه ديتان دية للأذنين ودية لحاسة السمع. قال - رحمه الله - (الشم) الشم الدية كاملة وإلى هذا ذهب الجماهير بل حكي إجماعا وروي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال وفي الشم الدية.

والقول الثاني: أنّ في الشم الحكومة وليس فيها دية وعللوا هذا بأنّ منفعة الشم ضعيفة لأنه إنما تراد منفعة الشم ليشم بها والأرواح الكريهة في بعض الأماكن قد تكون أكثر من الأرواح الزكية فإذا قالوا بناء على هذا منفعة الشم ضعيفة. أليس كذلك؟ ماذا ترون بهذا الكلام هذا ذكره فقهاء كبار وجه الضعف من حيث التعليل إذا كنا سنعلل بالحواس أنها قد تلتقط ما يكره إذا قد يسمع ما يكره أليس كذلك؟ وقد يرى ما يكره من الحوادث المؤلمة والمفجعة ومن المناظر التي لا يحب أن يراها إذا التعليل بهذه العلة عليل في الواقع والشارع وهب الإنسان وأنعم عليه بالشم فإذا هو يستحق مقابل هذه النعمة إذا فقدها أن يأخذ العوض وهي الدية كاملة فالتعليل في الحقيقة ضعيف جدا. ثم - قال رحمه الله - (والذوق) الذوق الخلاف فيه كالخلاف في الشم فذهب الجماهير إلاّ أنّ فيه الدية لمنفعته. والقول الثاني: أنّ فيه حكومة لأنه لا دليل عليه ولأنّ منفعته أقل من منفعة السمع والبصر والراجح والله أعلم أنّ فيه الدية لأنه حاسة قائمة بنفسها كاملة ولهذا فيها الدية انسجاما مع تقرير الشارع الدية في الحواس الأخرى. قال - رحمه الله - (وكذا في الكلام) وقوله وكذا في الكلام يعني إذا جنا عليه جناية منعته من الكلام وأصبح لا يستطيع أن ينطق ففيه الدية وهذا الحكم محل إجماع فإن تسببت الدية بذهاب بعض النطق فإنّ الدية تقسم على الحروف الهجائية وما نقص أخذ ديته. قال - رحمه الله - (والعقل) إذا جنا عليه جناية ذهبت بالعقل فإنه يعطى الدية كاملة ودل على هذا النص والإجماع ففي حديث عمرو بن حزم وفي العقل الدية وأيضا أجمع الفقهاء على هذا والعقل لا شك من أهم ما منّ الله به على الإنسان بل به فضل على البهائم فإذهابه فيه الدية كاملة بلا إشكال فإن صارت الجناية سببا في إذهاب بعض العقل فما الحكم؟ يمكن هذا؟ ممكن إما بما ذكر أنه يفيق أحيانا أو يكون بعد الحادث

تصوره للأشياء ضعيف وإدراكه للحقائق ضعيف وهذا موجود كثير بعد الجناية يكون عقله وإدراكه وتصوره أضعف منه قبل الجناية فالحكم أنه يعطى من الدية بقدر النقص فإن كان عقله من الأصل قليل قبل الجناية ماذا نصنع؟ أو لا يوجد هذا إنسان يكون عقله ضعيف من الأصل فما الحكم؟ كون المجني عليه من الأصل عقله ضعيف في باب الدية. وهذا من باب التمرين ولا نسأل الله سبحانه وتعالى الشفاء وعدم إصابة أي إنسان , في باب الدية هل هو أنفع له أو أضر له. لماذا؟ لأنه هو أصلا ناقص فالنقص لن يؤثر عليه فسيأخذ الدية كاملة بينما عند التفاوت قد ينقص عنه من الدية إذا العقل لا إشكال أنّ فيه الدية وفي نقصه مقداره من الدية لأنه من أهم ما منّ الله به على بني آدم. قال - رحمه الله - (ومنفعة المشي) منفعة المشي فيها الدية كاملة لأنها منفعة مقصودة ولا يقوم غيرها مقامها وبعد البحث لم أر فيه خلاف في أنّ فيه الدية ربما يوجد لكن بعد البحث لم أر خلافا فيه ومع ذلك لم أر حكاية إجماع ولكن يتوجه أنّ فيه إجماع لأنّ منفعة المشي منفعة عظيمة ومقصودة ومنفعة المشي أعظم أحيانا من بعض الأجزاء التي فيها الدية كاملة. قال - رحمه الله - (والأكل) بأن تسبب الجناية بعدم مقدرته على الأكل أي أن يصبح بعد الجناية لا يستطيع يأكل لماذا؟ لأي سبب إما بأن يفقد الشهوة أو أن لا يستطيع البلع المهم أن لا يستطيع الأكل بعد الجناية فحينئذ فيه الدية لأنه أذهب عليه منفعة كاملة. قال - رحمه الله - (والنكاح) إذهاب النكاح المراد به إذهاب القدرة على الجماع وفيه الدية كاملة عند الأئمة الأربعة أولا لأنها بمعنى إذهاب الخصيتين. وثانياً: لأنه أتلف عليه منفعة لا يوجد لها نظير في الجسد. وثالثا: لعظم منفعة القدرة على الإنجاب ويقاس على إذهاب القدرة على الجماع ما لو سقاه دواء يجعله عقيما ففيه الدية ولو كان هذا الرجل يستطيع أن يجامع ولهذا عبر الفقهاء بالنكاح تمشيا مع أثر عمر - رضي الله عنه - فإنّ الرجل الذي رمى رجلا كما تقدم معنا قال وذهب نكاحه. فإذا إذا ذهب النكاح وذهب ما يحصل به الإنجاب ولو بقي الجماع ففيه الدية. قال - رحمه الله - (وعدم استمساك البول , أو الغائط)

عدم استمساك البول أو الغائط فيه الدية بلا إشكال وهي محل إجماع والدليل على هذا المنفعة العظيمة في القدرة على التحكم بخروج البول والغائط فإذا ضربه ضربة أفقدته التحكم فإنّ فيه الدية وهذا لا إشكال فيه لعظم منفعة هذه الحاسة ولهذا صارت محل إجماع. قال - رحمه الله - وفي كل واحد من الشعور الأربعة الدية وهي شعر الرأس , واللحية , والحاجبين , وأهداب العينين) في كل واحد منها الدية لأنّ فيها جمالا مقصودا. والقول الثاني: أنّ فيها حكومة لأنه لم يدل على وجوب الدية فيها نص وليس فيها إلاّ جمال بلا منفعة. والراجح القول الأول لأمرين الأمر الأول: أنّ الشارع يوجب الدية في إتلاف الأذنين من الأصم مع أنّ الأذنين في الأصم ليست إلاّ زينة. ثانياً: أنه قولهم ليس فيها نفعا بل هي للجمال ليس بصحيح بل جميع هذه الشعور فيها نفع عظيم للعينين والرأس وجلدة الرأس بالحماية والوقاية من الشوائب التي تدخل العين أو من البرد الذي يصيب الرأس صحيح أنّ نفعها قليل ولا يقارن ببعض الأعضاء لكن نفي النفع منها جملة وتفصيلا ليس بصحيح. قال - رحمه الله - (فإن عاد فنبت سقط موجبه) دل كلام المؤلف على أنّه ينبغي إذا جني على الإنسان في شعره أن ننتظر ولا نبادر بالدية ولا بالقصاص لأنه ربما عاد الشعر وقدر الفقهاء مدة الانتظار بسنة وقالوا أنه إذا لم يخرج بعد السنة ففي الغالب لن يخرج فإن انتظرنا سنة وخرج فسقطت الدية. والصحيح أنّ مدة الانتظار يرجع فيها إلى أهل الخبرة وفي وقتنا هذا يرجع فيها إلى الطبيب فإن قال لا يمكن أن يخرج مرة أخرى فإناّ لا ننتظر وإن قال يخرج أو يمكن أن يخرج فإناّ ننتظر. قال - رحمه الله - (وفي عين الأعور الدية كاملة) المقصود بهذه المسألة إذا جنا إنسان على عين أعور. والأعور هو الذي لا يبصر إلاّ بعين واحدة فإذا جنا عليه جناية أذهبت هذه العين التي يبصر بها ففيه الدية كاملة الدليل استدلوا بدليلين: الأول: أنّ هذا مروي عمر وعلي وعثمان ولا يعلم لهم مخالف من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - الثاني: أنه بإذهاب العين والواحدة هو في الحقيقة أذهب حاسة كاملة وهي البصر.

القول الثاني: أنّ في إذهاب عين الأعور نصف الدية فقط. لقول النبي - صلى الله عليه وسلم - وفي العين نصف الدية وهذه عين وإن كانت في أعور وهذا القول الثاني هو نوع من الجمود على النص ولهذا لم يرتضه أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - واتفقوا على وجوب الدية كاملة وهذا هو الراجح إن شاء الله. قال - رحمه الله - (وإن قلع الأعور عين الصحيح المماثلة لعينه الصحيحة عمدا فعليه دية كاملة ولا قصاص) هذا هو الحكم إذا قلع الأعور عين الصحيح فلا قصاص وهذا هو الأهم وعليه الدية كاملة يعني لا نصف الدية. الدليل قالوا أو لا قصاص لأنّ الصحابة حكموا بهذا. ثانياً: لأنّ لو حصل القصاص لأخذ المجني عليه أكثر من حقه فإنه أتلف حاسة كاملة من الجاني بقي علينا دليل على مسألة وهي لماذا عليه الدية كاملة وهو لم يتلف إلاّ عين واحدة أليس كذلك؟ قالوا عليه الدية كاملة لأنه أفتدى بذلك من نفسه حاسة كاملة وهي الإبصار. القول الثاني: أنّ المجني عليه مخير بين نصف الدية أو القصاص لقوله تعالى {والعين بالعين} [المائدة/45] ولقوله - صلى الله عليه وسلم - وفي العين نصف الدية. فهؤلاء بقوا مع النصوص على ظاهرها نقول للمجني عليه إما أن تقتص أو تأخذ نصف الدية كما في النصوص. القول الثالث: انه ليس للمجني عليه إلاّ نصف الدية وتلاحظ أنّ الأقوال فيها طرفا وسط وأنّ الوسط هو مذهب الحنابلة فلا نقتص ولا نكتفي بمجرد نصف الدية وإنما نعفيه من القصاص لئلا تذهب حاسة البصر ومع ذلك نأخذ منه كامل الدية في الحقيقة هذا قول فيه العدل للطرفين. كما أنه مقتضى فتاوى الصحابة. وقول الشيخ - رحمه الله - وإن قلع الأعور عين الصحيح المماثلة لعينه الصحيحة. أفادنا أنّ الأعور لو قلع عين الصحيح غير المماثلة لعينه بأن كانت عين الصحيح أقل من عينه بأن تكون عين الصحيح مريضة أو معيبة وهو يبصر بها لكنها معيبة وعين الأعور صحيحة وقوية حينئذ ليس بينهما مماثلة وحينئذ لا قصاص وله نصف الدية. يقول الشيخ - رحمه الله - (لعينه الصحيحة عمدا)

باب الشجاج وكسر العظام

أفادنا أنه لو جنا الأعور على عين الصحيح خطأ فإنّ الحكم أنه لا قصاص لأنه في الخطأ لا يوجد قصاص وليس له إلاّ نصف الدية لأنه في الخطأ لا يملك الإنسان إلاّ نصف الدية وإنما أوجبنا عليه في العمد الدية كاملة ليفتدي نفسه منها. قال - رحمه الله - (وفي قطع يد الأقطع نصف الدية كغيره) الأقطع هو من ليس له إلاّ يد واحدة فإذا جنا إنسان على أقطع وقطع يده فهو بقطع اليد أذهب منفعة اليدين لأنّ الأولى مقطوعة وهو قطع الثانية. قال المؤلف ليس فيها إلاّ نصف الدية يعني ولا تقاس على عين الأعور واستدلوا على هذا بأنّ العين الواحدة من الأعور تقوم مقام العينين بينما اليد الواحدة من الأقطع لا تقوم مقام اليدين فلا قياس. القول الثاني: وهو رواية عن الإمام أحمد أنّ يد الإقطع الأولى إن كانت قطعت في سبيل الله في الجهاد أو قطعت ظلما ففي الثانية الدية كاملة وإلاّ فلا لأنّ فقده لليد إذا لم تكن في سبيل الله ولا ظلما بحق. الرواية الثالثة عن الإمام أحمد أنّ في يد الأقطع الدية كاملة والمسألة فيها احتمال والراجح القول الثالث لأنه في الحقيقة تقوم في كثير من الأمور مقام اليدين بدليل الفارق العظيم بين أقطع اليدين وأقطع اليد الواحدة. أقطع اليد الواحدة يكاد يكون كالأسوياء. يذهب ويأتي ويكتب ويقود السيارة وربما دافع عن نفسه بخلاف مقطوع اليدين صحيح أنّ العين الواحدة تقوم مقام العينين بالكامل أليس كذلك بخلاف يد الأقطع لا تقوم مقام اليدين بالكامل لكنها تقوم قيام جزئي أو قيام كبير مقام اليدين , خلاصة أنه إذا اعتدى على يد الأقطع ففيه الدية كاملة. لما بيّن الشيخ - رحمه الله - دية النفس ثم دية الأعضاء ثم دية المنافع انتقل إلى آخر شيء في الباب وهو الشجاج وكسر العظام. باب الشجاج وكسر العظام الشج في لغة العرب / القطع. وأما في الاصطلاح فبيّنها المؤلف بيانا واضحا فقال - رحمه الله - (الشجة: الجرح في الرأس والوجه خاصة)

يعني وأما في باقي الجسم فتسمى جراح فإن كان الجرح في الوجه والرأس فيسمى شجة , وإن كان في باقي الجسد جراح لكن أشار بعض الفقهاء أنّ كثيرا من الفقهاء قد يسمي الجرح في غير الوجه والرأس قد يسميه أيضا شجة لكن الغالب المصطلح عليه هو أنها خاصة بالوجه والرأس. ثم - قال رحمه الله - (وهي عشر) خمس لا تقدير فيها وخمس فيها تقدير. وبدأ بالتي ليس فيها تقدير لأنّ المؤلف سينتقل من الأدنى إلى الأعلى. قال - رحمه الله - (الحارصة التي تحرص الجلد أي تشقه ولا تدميه) هي التي تشق الجسم ولا تدميه. فهي جرح سطحي بسيط إذا هي تشق الجلد لكنها لا تدميه وأنت تلاحظ التدرج الدقيق بين الشجاج وهذه الأسماء نبه كثير من الشراح إلاّ أنها مأخوذة عن العرب فقبل الإسلام كانت هذه الشجاج تسمى بالاسم وتعرف بهذا الضابط إذا عرفنا الآن الحارصة. قال - رحمه الله - (ثم البازلة الدامية الدامعة: وهي التي يسيل منها الدم) أفادنا المؤلف أنّ البازلة تنقسم إلى قسمين: الدامية والدامعة. فالدامية. هي الجناية التي تجرح الجلد وتظهر الدم لكن من غير سيلان. والدامعة. هي التي تجرح الجلد تشقه ويظهر الدم ويسيل. فإذا الحارصة والدامية والدامعة هي إما أن تكون تشق الجلد بلا دم أو معه بلا سيلان أو معه مع السيلان. قال - رحمه الله - (ثم الباضعة: وهي التي تبضع اللحم) الباضعة هي التي تشق الجلد ثم تشق اللحم أيضا فهي تتجاوز الجلد. تجاوزنا الثلاث الأولى ودخلنا في اللحم فإذا تجاوزت الجلد ووصلت إلى اللحم هل معها سيلان؟ بالطبع إذا كانت الدامعة فيها سيلان فهذه تجاوزت الدامعة ووصلت إلى اللحم. قال - رحمه الله - (ثم المتلاحمة: وهي الغائصة في اللحم) يعني هي التي دخلت في اللحم دخولا كثيرا لأنّ الباضعة دخلت في اللحم إلاّ أنّ دخولها دخولا يسيرا وأما المتلاحمة فهي دخلت دخولا كثيرا فوق الباضعة ودون السمحاق. قال - رحمه الله - (ثم السمحاق: وهي ما بينها وبين العظم قشرة رقيقة) يعني أنها الجرح الذي يشق الجلد واللحم ويصل إلى السمحاق وهو القشرة المغطي للعظم إذا وقفنا على العظم ما باقي إلاّ العظم إذا السمحاق وصل إلى القشرة التي تغطي العظام وتلاحظ أنّ التدرج دقيق جدا.

قال - رحمه الله - (فهذه الخمس لا مقدر فيها بل حكومة) هذه الخمس جراحات أو الشجاج ليس فيها دية وإنما فيها حكومة استدل الجماهير على هذا بأنّ النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يجعل فيما دون الموضحة دية واستدلوا بأنه ليس في النصوص ما يدل على وجوب الدية في هذه الشجاج وإذا لم يجب فيها دية مقدرة انتقلنا إلى الحكومة. والقول الثاني: أنّ فيها دية خاصة ففي الأولى: بعير وفي الثانية: بعيرين والثالثة: ثلاثة. والرابعة: أربعة. ففي السمحاق كم وهي آخر المراحل أربع لأنها آخر المراحل عرفنا من هذا أنّ الأولى وهي الحارصة ليس فيها شيء إنما نبدأ من الثانية فإذا البازلة والباضعة والمتلاحمة والسمحاق هذه الأربع فيها كل واحد في الأولى: بعير. وفي الثانية: اثنين. والثالثة: ثلاث. والرابعة: أربع. والراجح الأول لأنه ليس على هذا التحديد دليل فالراجح مذهب الجماهير. قال - رحمه الله - (وفي الموضحة: وهي ما توضح العظم وتبرزه خمسة أبعرة) الموضحة هي التي تبدي بياض العظم سواء بدا من هذا البياض قدر كبير أو قدر يسير بالكاد يرى مادام رؤي بياض العظم فهي موضحة ديتها خمس من الإبل بالإجماع لقول النبي - صلى الله عليه وسلم - في الموضحة خمس من الإبل. إذا الموضحة محل إجماع وليست محل إشكال وهذا في الحقيقة لو تأمل الإنسان وتأنى لوجد في هذا من عظمة التشريع شيء عظيم يعني أن يصل الشرع إلى درجة بيان مقدار الجرح كم دية الجرح الموضحة عبارة عن جرح كم دية هذا الجرح لا يوجد هذا في أي تشريع لكن هذا من دقة الله سبحانه وتعالى وعدله. قال - رحمه الله - (ثم الهاشمة: وهي التي توضح العظم وتهشمه وفيها عشرة أبعرة) فيها عشرة أبعرة قال وهي التي توضح العظم وتهشمه. الهشم هو الكسر فهي تصل إلى العظم وتوضحه وتكسره فيها عشر من الإبل الدليل القياس على المنقلة فإنّ المنقلة فيها عشر من الإبل بالنص فجعلوا الهاشمة مثلها. والقول الثاني: أنّ فيها حكومة لعدم دليل خاص بها يدل على هذا التقدير وفي الحقيقة الهاشمة فيها تردد لأنها ليست كالمنقلة. المنقلة أعظم فكيف نساويها بها وهي أعظم من الموضحة فيعني الإنسان يتردد في الهاشمة وإن كان المذهب كما ترى يرون أنّ فيها عشر من الإبل.

قال - رحمه الله - (ثم المنقلة: وهي ما توضح العظم وتهشمه وتنقل عظامها وفيها خمس عشرة من الإبل) المنقلة هي التي تتجاوز التكسير إلى النقل ,والنقل معناه نقل العظم من مكانه إلى مكان آخر وفيه عشر من الإبل بالنص والإجماع وأمره واضح لقول النبي - صلى الله عليه وسلم - وفي المنقلة خمس عشر من الإبل وهذا أمر واضح. قال - رحمه الله - (وفي كل واحدة من المأمومة والدامغة ثلث الدية) يلاحظ أنّ المؤلف لم يبيّن تعريف المأمومة والدامغة مع أنه بيّن معاني السابقات كلها. فالمأمومة هي الجرح الذي يصل إلى أم الدماغ وهي الجلد الذي يغطي ويحوي الدماغ. وأما الدامغة فهي التي تصل إلى الدماغ. فيقول الشيخ وفي كل واحدة من المأمومة والدامغة ثلث الدية. المأمومة فيها ثلث الدية بالنص والإجماع لقول النبي - صلى الله عليه وسلم - وفي المأمومة ثلث الدية. والدامغة: فيها عند الجمهور ما في المأمومة قياسا عليها. والقول الثاني: أنّ في الدامغة الثلث وحكومة فالثلث لمقدار المأمومة منها والباقي لما زاد. والقول الثالث: أنّ في الدامغة الدية كاملة واعلم أنّ كثير من الفقهاء لم يذكر الدامغة أصلا لماذا؟ لأنه لن ينجوا غالبا من الهلاك فسيكون فيه الدية كاملة لكن إن أصيب وصلت الجناية إلى الدماغ ولم يفقد العقل ولم يمت فالراجح أنّ فيه الثلث وحكومة إذا افترضنا أن يقع مثل هذا ففيه الثلث وحكومة وهذا أعدل الأقوال. نريد أن نعيد الخلاف في الهاشمة. الهاشمة يقول المؤلف فيها عشر من الإبل إلى هذا ذهب الجمهور واستدلوا على هذا بآثار عن أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - وهي ضعيفة نحن قبل قليل قلنا فيها عشر لكن الآن نعيد الخلاف إذا القول الأول أنّ فيها عشر من الإبل اعتمادا على آثار الصحابة القول الثاني: أنّ فيها خمس عشر من الإبل كالمنقلة قياسا عليها. القول الثالث: أنه ليس فيها دية بل فيها حكومة لأنه ليس في النصوص ما يدل على تقدير دية الهاشمة. والراجح بالنسبة للهاشمة في يظهر لي الآن أنّ فيها حكومة وفي هذا مراعاة في الحقيقة للمجني عليه لأنه ربما يأخذ أكثر من المنقلة. وأيضا أكثر من الموضحة. قال - رحمه الله - (وفي الجائفة: ثلث الدية: وهي التي تصل إلى باطن الجوف)

الجائفة هي التي تصل إلى مجوف في البدن وليس الجوف عند الفقهاء فقط البطن بل الجوف كل مجوف فيشمل الصدر والبطن والحلق والمثانة وكل مجوف في البدن فإذا وصلت الجناية إلى هذا المجوف فيقول المؤلف وفي الجائفة ثلث الدية هذا محل إجماع لم يخالف إلاّ واحد من السلف وهو مكحول - رضي الله عنه - فقال إن كانت عمدا ففيها ثلثي الدية وإن كانت خطأ ففيها الثلث. والراجح مع الجمهور أنّ في الجائفة الثلث. ودليل الرجحان أنه مذكورة في حديث عمرو بن حزم أنه قال في الجائفة الثلث وعلمنا من هذا أنّ الجائفة والمأمومة ديتهما واحدة. قال - رحمه الله - (في الضلع وفي كل واحدة من الترقوتين بعير) والترقوة العظم الفاصل بين المنكب والرقبة أو الواصل بينهما في كل واحد منهما يقول الشيخ بعير. الدليل أنّ هذا روي عن اثنين من الصحابة عمر وزيد. أما عمر فصح عنه. - رضي الله عنه - وأما زيد فلم أقف على إسناده. والقول الثاني: أنّ في الترقوتين في كل واحد منهما والضلع حكومة لأنه ليس في النصوص ما يدل على التقدير وحملوا فتوى عمر - رضي الله عنه - على أنها حكومة والظاهر والله أعلم كما فهم الإمام أحمد وغيره أنها ليست حكومة وإنما حكم ثابت ولهذا نقول الراجح إن شاء الله أنّ فيها بعير. قال - رحمه الله - (وفي كسر الذراع وهو الساعد الجامع لعظمي الزند والعضد. والفخذ والساق إذا جبر ذلك مستقيما بعيران) ذكر الشيخ أربعة من العظام. العظم الأول" الذراع. يقول وهو الساعد الجمع لعظمي الزند. والعظم الثاني العضد ولهذا فإنّ علامة الترقيم الذي ذكرها المحقق ليست في مكانها بل يجب أن يجعل - شرطة - بعد كلمة الزند لأنّ الواو عاطفة على الذراع. إذا الأول الذراع والثاني العضد والثالث الفخذ والرابع الساق. ففي كل واحد من هذه العظام بعيران الدليل روي عن عمر - رضي الله عنه - أنه أفتى في الزند بهذا وقيس على الزند باقي العظام.

والقول الثاني: أنها فيها حكومة لعدم وجود الدليل الدال على هذا التقدير الدقيق. وهذه المسألة ليست كالمسألة السابقة لأنه لم يروى عن عمر إلاّ في الزند فإثبات باقي العظام إنما هو من باب القياس لا من باب النص. والقياس على أثر قد لا يكون فيه قوة التنصيص ولهذا الأقرب في العظام الأربع أنّ فيها حكومة. قال - رحمه الله - (وما عدى ذلك من الجراح وكسر العظام ففيه حكومة) ما عدى هذه الجراح العشر والعظام المذكورة وهي أربع مع الأول ست ما عدى كسر هذه العظام والجروح فيها حكومة وهذا إجماع فقد أجمع الفقهاء على أنّ ما عدى هذه الأمور فيها حكومة لعدم الدليل على تقدير شيء معيّن فيها. قال - رحمه الله - (والحكومة: أن يقوّم المجني عليه كأنه عبد لا جناية به ثم يقوّم وهي به قد برئت فما نقص من القيمة فله مثل نسبته من الدية. كأن قيمته عبدا سليما ستون وقيمته بالجناية خمسون ففيه سدس ديته الحكومة كما ذكر المؤلف فالحقيقة عبارته جيدة وموضحة أنّ نقوم المجني عليه كعبد وننظر النقص في قيمته قبل وبعد الجناية فبمقدار النقص نعطيه من الدية فإن نقصت نصف قيمته نعطيه نصف الدية. وإن نقص الربع فالربع وهكذا. هذه هي الحكومة فإذا كانت قيمته كما قال المؤلف عبدا سليما ستون وقيمته بالجناية خمسون ففيه السدس , وإذا كانت قيمته مائة قبل الجناية وبعدها خمسين فله نصف بالنسبة لا بالقدر. وإذا كانت قيمته مائة قبل وبعد ثلاثون. الثلث. وهكذا وأمرها ظاهر لكن في الحقيقة نحن نحتاج الآن إلى أمر آخر حتى نقدر الحكومة وهو لم أر من تعرض إليه وهو أنه ما نملك كم قيمة العبد أليس كذلك. فكيف سنحدد الحكومة لم أجدهم تطرقوا إليها وينبغي في الحقيقة على المعاصرين من الفقهاء بحث مثل هذه المسألة لأنه لا يمكن أن تقول كم قيمته ونقدره عبد لأنه لا نعرف كم قيمة العبد فتحتاج إلى تأمل وهي خطرت في بالي الآن فلعلي أتأمل فيها لا حقا ونرى طريقة للتقدير سوى أن ننظر إلى القيمة قبل وبعد بالنسبة للعبد. قال - رحمه الله - (إلا أن تكون الحكومة في محل له مقدر فلا يبلغ بها المقدر (

باب العاقلة وما تحمل

إذا كانت الحكومة له في محل له مقدر لا نبلغ بها المقدر. فالسمحاق الآن فيها دية أو حكومة؟ حكومة لأنها من الخمس التي ليس فيها دية فإذا جاء إنسان وقدر السمحاق بخمس من الإبل الآن بلغت السمحاق دية الموضحة هو يقول أنه إذا بلغت دية إحدى الجراحات في جنسها فإنه لا تبلغ ولا يعطى بقدرها إذا ماذا نصنع؟ قال الفقهاء ينظر الحاكم وينقص منها بحسب رأيه ولا يوجد لهذا ضابط إنما نقول للحاكم نقصّ من هذا التقدير عن الموضحة بما ترى أنت أنه مناسب للجرح. بهذا يكون انتهى الباب ونأخذ إن شاء الله باب العاقلة. باب العاقلة وما تحمل قال - رحمه الله - (عاقلة الإنسان عصابته) العاقلة مأخوذة في اللغة من العقل والعقل هو الدية سمي بذلك لأنه جرى العرف أنّ أولياء القاتل عاقلته يأتون بالإبل ويعقلونها ويربطونها في فناء أولياء المقتول. وبهذا سميت الدية وإن لم تكن من الإبل من العقل وسمي الذين يدفعونها بناء على هذا عاقلة. هذا من جهة اللغة. أما من جهة الشرع فبيّنها المؤلف فقال - رحمه الله - (عاقلة الإنسان عصباته كلهم من النسب والولاء قريبهم وبعيدهم حاضرهم وغائبهم حتى عمودي النسب) قوله قريبهم وبعيدهم يعني وإن لم يرث بعضهم. ولم يبّن المؤلف كيف نقسم الدية على هؤلاء العاقلة وذكر الفقهاء أنها تقسم بحسب رأي الحاكم فيفرض على كل واحد من العاقلة القدر الذي يتناسب مع قربه وبعده ومع حاله المادية فهو أمر يرجع إلى الحاكم. نأتي أخيرا إلى العاقلة وهو الموضوع المهم من هم العاقلة؟ الحنابلة وغيرهم يرون أنّ العاقلة هم العصبة ويستدلون على هذا بقول النبي - صلى الله عليه وسلم - في حديث الهذليتين في آخر قال وقضى بالدية على عصبتها وهذا في الصحيحين. القول الثاني: أنّ العاقلة هم العصبة سوى الأب والابن فليس على الأب والابن أن يدفعا من الدية شيئا. القول الثالث: أنّ العاقلة هم العصبة كلهم إلاّ الابن فقط واستدل أصحاب هذا القول على قولهم بأنّ النبي - صلى الله عليه وسلم - لما حكم بالدية على العاقلة برء زوجها وابنها وهذا الحديث الذي فيه التنصيص على التبريء فيه ضعف.

واستدلوا بدليل ثاني. وهو ما أخرجه البخاري في صحيحه أنّ النبي - صلى الله عليه وسلم - ورّث ابنها يعني من الدية هذا اللفظ صحيح وهو في البخاري لكن دلالته ليست صريحة وإنما يستشف منها أنّ الابن ليس من العصبة ولا يلزمه أن يدفع لأنّ النبي - صلى الله عليه وسلم - ورّثه. وهذا القول الثالث اختاره ابن القيم ونصره. أنّ العاقلة هم جميع العصبة إلاّ الابن فقط. والإنسان يتردد بين القول الأول وهو مذهب الجمهور والقول الأخير لأنّ دلالة لفظ البخاري ليس بصريح فالإنسان يتردد بينهما في الحقيقة وإن كان مذهب الحنابلة فيه قوة لتنصيص النبي - صلى الله عليه وسلم - على العصبة لكن يبقى أنّ الإنسان يتردد في أي القولين أما استثناء الأب فقول ضعيف ودليل الذين استثنوا الأب القياس على الابن قالوا إذا كان الشارع برأ الابن من دفع الدية فالأب من باب أولى وهذا القول ضعيف لأنّ القياس في مثل هذه الأمور غير وارد والمقصود بالعصبة كما سيأتينا في كلام المؤلف أي الذكور.

الدرس: (4) من الديات قال شيخنا حفظه الله: بسم الله الرحمن الرحيم والحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين. تقدم معنا في درس الأمس الكلام على من هم العاقلة في الشرع وذكرنا الخلاف على ثلاثة أقوال والراجح منها توقفنا على قول المؤلف - رحمه الله - (ولا عقل على رقيق) لما بيّن المؤلف أنّ العاقلة هم العصبات أراد أن يبّين من يخرج ولا يكون من العاقلة فقال (لا عقل على رقيق) الرقيق لا عقل عليه يعني لا يتحمل من الدية شيء لأنه لا يملك فهو أسوأ حالا من الفقير فإنّ الفقير لا يجد شيئا يدفعه وأما العبد فهو لا يملك أصلا المال الذي بيديه ولهذا فهو لا يكلف بدفع الدية وهذا لا إشكال فيه. ثم - قال رحمه الله - (وغير مكلف) كالصغير والمجنون لا يحمل من الدية والعقل شيء حكي إجماعا وعللوا هذا بأنّ العاقلة تحمل نظرا لكونهم من أهل النصرة والتأييد , والمجنون والصغير ليس من أهل النصرة فلا يدخل في تحمل العقل. يقول - رحمه الله - (ولا فقير)

الفقير هو من لا يجد نصابا إذا حال الحول زائد عن نفقته الأصلية , والفقير لا يتحمل من العقل شيء عند الجماهير وحكي إجماعا واستدلوا على هذا بأمرين الأول" أنّ العاقلة يحملون من العقل لأمرين: التناصر وهو موجود في الفقير. والثاني المواساة وهي مفقودة في الفقير لأنه كيف يواسي غيره وهو لا يجد ما يكفيه هو بنفسه. هذا الدليل الأول. الدليل الثاني: القياس على الزكاة فإنها لا تجب على الفقير الذي لا يملك نصابا كذلك لا تجب عليه الدية. والقول الثاني: أنها تجب على الفقير للعمومات لكونه داخلا في العصبة ولأنه من أهل النصرة والتأييد وهي المعنى الذي من أجله شرعت الدية على العاقلة. والراجح المذهب إن شاء الله. قال - رحمه الله - (ولا أنثى) المرأة لا تدخل في تحمل العقل بالإجماع لأنها ليست من أهل التناصر فلا علاقة لها بالدية. ثم - قال رحمه الله - (ولا مخالف لدين الجاني) إذا كان أحد من عصبات الجاني ليس على دينه فإنه لا يتحمل من العقل شيئا لأنّ المخالف في الدين ليس من أهل النصرة وإذا كان السبب في إيجابها على العاقلة هو التناصر فهذا السبب مفقود فيمن يختلف في الدين مع الجاني وهذا صحيح. قال - رحمه الله - (ولا تحمل العاقلة: عمدا محضا) لعلكم تذكرون أنه في بداية كتاب الديات نص المؤلف على أنّ الدية إنما هي في الخطأ وشبه العمد وأنها هي التي يتحملها العاقلة وأنّ القتل العمد في مال الجاني وهذا تقدم معنا ولعل المؤلف أراد أن يؤكد هذا المعنى. ثم - قال رحمه الله - (ولا عبدا) المقصود هنا أنّ الجاني إذا قتل عبدا من العبيد فديته وهي قيمته كاملة في مال الجاني ولا تتحمل العاقلة منها شيئا. إذن إذا قتل الجاني عبدا فديته وديته تقدم معنا أنها قيمته في مال الجاني ولا تتحمل العاقلة شيئا واستدل أصحاب هذا القول وهم الجمهور بأثر عن ابن عباس - رضي الله عنه - أنه قال وهو صحيح إليه لا تحمل العاقلة عمدا ولا عبدا ولأنّ قتل العبد هو من باب إتلاف الأموال والقاعدة في إتلاف الأموال وجوبها في مال المتلف.

والقول الثاني: أنها تجب على العاقلة كقتل غير العمد لأنه قتل يجب فيه القصاص وتجب فيه الكفارة فيقاس على قتل الحر. والراجح الأول لاسيما وقد صح عن ابن عباس ولا يعلم له مخالف. ثم - قال رحمه الله - (ولا صلحا) قوله ولا صلحا يعني ولا تتحمل العاقلة الصلح. وصورة ذلك. ما إذا ادعي على شخص أنه قتل خطأ أو شبه عمد وأنكر ثم إنّ هذا المنكر صالح أهل الدعوة صالحهم على مال معيّن فإنّ هذا المال لا تحمله العاقلة. واستدلوا بدليلين: الأول: الأثر السابق عن ابن عباس فيه أيضا ولا صلحا , لا تحمل عمدا ولا عبدا ولا صلحا. الدليل الثاني: أنّ هذا المال وجب عليه برضاه فإذا رضي هو به فيكون في ماله ولا تتحمل العاقلة منه شيء وصحيح أنّ هذا برضاه لأنه لو شاء لا استمر في الإنكار ولم يلزمه دية لكن لما صالحهم صار برضاه. ثم - قال رحمه الله - (ولا اعترافا) يعني أنّ العاقلة لا تحمل الدية إذا اعترف الجاني بأنه قتل شخصا خطأ أو شبه عمد , والسبب في هذا من وجهين: الأول: أيضا أثر ابن عباس فيه. ولا اعتراف. وهو كما تقدم صحيح. الثاني: أنه لو ألزمنا العاقلة بتحمل الاعترافات لصار هذا بابا لفتح المواطئة بأن يواطئ أناسا على الاعتراف بالقتل الخطأ ثم يحمل العاقلة ويتقاسم بعد ذلك هو وأهل المجني عليه الدية. الدليل الثالث: أنه حكي إجماعا وبهذا عرفنا أنّ قول المؤلف ولا تحمل عمدا ولا عبدا ولا صلحا ولا اعترافا. هو نص أثر عن ابن عباس بهذا الترتيب لا تحمل عمدا ولا عبدا ولا صلحا ولا اعترافا. يقول - رحمه الله - (لم تصدقه به) يعني أنه إذا اعترف وأقرّ بأنه قاتل خطأ أو شبه عمد وصدقته العاقلة بأنه قتل فإنه تلزم العاقلة حينئذ بدفع الدية لأنّ الشبهة ارتفعت وكأنهم يرون أنّ أثر ابن عباس ليس على إطلاقه وإنما يحمل على ما إذا لم توافق أو تقّر العاقلة اعتراف الجاني. وهذا صحيح لأنها إذا أقرّت وصدقت انتفت الشبهة وصار قتلا خطأ كسائر القتل الخطأ. قال - رحمه الله - (ولا ما دن ثلث الدية التامة)

يعني أنّ العاقلة لا يحملون من الدية أقل من الثلث وإنما يحملون الثلث فأكثر أما ما دون الثلث فإنهم لا يحملونه , الدليل استدل الحنابلة بدليلين: الأول: أنه جاء في الحديث ليس على العاقلة ما دون الثلث الثاني: أنّ تحميل العاقلة إنما كان مواساة للجاني لئلا تجحف الدية بماله وما دون الثلث لا يجحف ولا يضر بناء على هذا القول دية كثير من الشجاج ستخرج معنا أليس كذلك؟ لأنها ما يحمل إلاّ الثلث فأعلى إذن كل شجة ليس فيها الثلث فإنها لا تحمل لأنهم ما يحملون إلاّ الثلث فأكثر فالموضحة وما بعدها والجائفة وما تقدم معنا مما فيه دون الثلث كله لا تحمله العاقلة إنما تحمل من الثلث أو الدية كاملة. والقول الثاني: للإمام الشافعي أنّ العاقلة تحمل ما قلّ وكثر من الدية. ودليله - رحمه الله - العموم فإنّ النبي - صلى الله عليه وسلم - حمل العصبة الدية ولم يفرق ما بين دون الثلث والثلث فما فوق. والراجح المذهب إن شاء الله. فصل قبل أن ننتقل لهذا الفصل قلنا أنّ الراجح لا تحمل إلاّ ما دون الثلث ومن أوجه الترجيح حتى يتبيّن لماذا مذهب الجمهور أقوى من مذهب الشافعي أنّ هذا قضى به عمر - رضي الله عنه - وهذا يؤيد قول الجمهور مادام قضى به عمر خليفة وأقرّه الصحابة - رضي الله عنه وعنهم - فهذا يقوي مذهب الجمهور. ثم قال - رحمه الله - فصل هذا الفصل في الكفارة والمقصود بيان كفارة الخطأ وشبه العمد , والكفارة في اللغة مأخوذة من الكَفَر وهي الستر والتغطية لأنها تغطي أثر الذنب وتغطي الذنب نفسه. وأما في الشرع / فالكفارة هي ما يجب في المال لقتل خطأ أو ظهار أو يمين أو نحوها مما يوجب الكفارات. والكفارة من حيث هي كفارة القتل الخطأ وغيره مشروعة بإجماع الفقهاء لم يخالف في هذا أحد فيه خلاف في بعض الأعمال هل فيها كفارة أو لا كما سيأتينا الآن ولكن في الجملة مشروعية الكفارة مجمعة عليها بين علماء المسلمين - رحمهم الله - قال - رحمه الله - (من قتل نفسا محرمة)

قوله من قتل نفسا محرمة يشمل إذا كان القاتل من المكلفين أو من غير المكلفين. كأن يكون صغيرا أو مجنونا وإيجاب الكفارة على غير المكلف هو مذهب الحنابلة بل هو مذهب الجمهور من الفقهاء فهم يرون وجوب الكفارة في مال الصغير واستدلوا على هذا بالقياس على الزكاة فإنهم قالوا كما أنّ الزكاة واجبة في مال الصغير فكذلك تجب عليه الكفارة. والقول الثاني: أنّ الكفارة لا تجب في مال الصغير وإلى هذا ذهب الإمام أبو حنيفة - رحمه الله - واستدل على هذا بالقياس على كفارة اليمين فإنها لا تجب على الصغير واستدل عليه أيضا بأنها عبادة والعبادات لا تطلب من الصغير وفي هذه المسألة إشكال كبير بعد التأمل لم يظهر لي أي قول من القولين ولم يترجح لاسيما رجحانا بيّنا. ثم - قال رحمه الله - (من قتل نفسا محرمة) النفس المحرمة إما أن تكون نفس المسلم أو نفس الذمي والمستأمن والمعاهد , أما نفس المسلم ففيها الكفارة بإجماع العلماء بلا مخالف وأما الذمي فذهب الحنابلة إلى أنّ فيه الكفارة لأنّ الله تعالى لما ذكر من بيننا وبينهم ميثاق جعل فيه كفارة. والقول الثاني: أنه لا كفارة في قتل الذمي فإذا صدم الإنسان كافرا معاهدا أو ذمياً من أي ديانة كانت فلا كفارة لقوله تعالى {ومن قتل مؤمنا} [النساء/92] وهذا ليس بمؤمن. والراجح والله أعلم مذهب الجمهور وهو الأول وجوب الكفارة لأنّ الله رتبّ الكفارة على قتل غير المسلم في الآية وهذا القول أرجح كما أنه أحوط. ثم - قال رحمه الله - (من قتل نفسا محرمة خطأ) تقدم معنا أنّ القتل إما أن يكون عمدا أو خطأ أو شبه عمد. أما القتل الخطأ ففيه الكفارة بالإجماع وهو المقصود الأصلي بالكفارة. القسم الثاني: قتل شبه العمد فالقتل شبه العمد فيه خلاف فالحنابلة يرون وجوب الكفارة فيها لأنّ شبه القتل شبه العمد بالقتل الخطأ أكبر من شبهه بالعمد يدل على هذا أنه لا قصاص فيه والدية فيها على العاقلة أليس كذلك؟ فشابه بهذا القتل الخطأ.

والقول الثاني: أنّ القتل شبه العمد لا كفارة فيه لأنه يشبه القتل العمد في أنّ في كل منهما القصد إلى الفعل. والراجح أنّ فيه الكفارة لأنه تقدم معنا مرارا أنّ القتل شبه العمد يشبه القتل الخطأ أكثر من شبهه بالقتل العمد في مواضع كثيرة تقدمت معنا وكذا في هذا الموضع ففيه الكفارة. القسم الأخير: القتل العمد فذهب الجماهير وحكي إجماعا أنه لا كفارة فيه واستدلوا بدليلين: الأول: أنّ الآية نصت على أنّ الكفارة خطأ {ومن قتل مؤمنا خطأ} [النساء /92] الدليل الثاني: أنّ ذنب القتل العمد أعظم من أن تكفّره الكفارة. والقول الثاني: أنّ فيه كفارة قياسا على القتل الخطأ وشبه العمد والراجح الأول وهو كما قلت مذهب الجماهير. ثم - قال رحمه الله - (مباشرة أو تسببا بغير حق) يعني سواء كان القتل خطأ قتلا مباشرا كأن يريد أن يقتل صيدا فيقتل معصوم الدم أو تسببا كأن يغرز سكينا يقع عليها مكلف أو يحفر بئرا يسقط فيه مكلف ونحو هذه الأشياء التي تكون سببا في قتل المعصوم سواء كان القتل بالمباشرة أو بالتسبب ففيه الكفارة. ثم - قال رحمه الله - (فعليه الكفارة) إذا قتل قتلا خطأ فعليه الكفارة والكفارة هي: 1 - عتق رقبة. فمن لم يجد 2 - فصيام شهرين متتابعين ولو أنّ المؤلف - رحمه الله - نص على الكفارة لكان أولى في الحقيقة لأنّ هذا الفصل موضوع لبيان الكفارة صحيح أنّ الكفارة مذكورة في كتاب الله بشكل واضح ولكن مع ذلك لو نص عليها لكان أولى عرفنا الآن أنّ الكفارة هي عتق أو صيام. تقدم معنا في كفارة الظهار بحوث كثيرة تتعلق بالعتق وشروط الرقبة وبحوث كثيرة تتعلق بالصيام والمتابعة فيه وحكم الإخلال بالمتابعة فكل البحوث التي تقدمت معنا في كفارة الظهار تنطبق في كفارة القتل الخطأ تماما فهي هي أدلة وترجيح ومسائل فهي تتشابه تشابها تاما. مسألة/ بقي معنا إطعام ستين مسكينا فالجمهور يرون أنه ليس في كفارة القتل إطعام ستين مسكينا واستدلوا على هذا بأنّ الله ذكر عتق الرقبة فقال {ومن قتل مؤمنا خطأ فتحرير رقبة مؤمنة} [النساء/92] ثم قال {فمن لم يجد فصيام شهرين متتابعين} [النساء/92] ولم يذكر إطعام ستين مسكينا ولو كان الإطعام واجبا لذكرته الآية مع خصال الكفارة.

باب القسامة

والقول الثاني: أنّ من لم يجد عتق الرقبة ولم يستطع أن يصوم شهرين متتابعين فإنه يطعم ستين مسكينا قياسا على الكفارات الأخرى كالظهار والوطء في نهار رمضان والراجح والله أعلم أنه ليس في خصال كفارة القتل الخطأ الإطعام لأنه لم يذكر في الآية وفي هذا شبه دلالة على أنه ليس من الخصال. باب القسامة قوله باب القسامة القسامة مصدر أقسم ومعنى أقسم أي حلف والقسامة مشروعة بالسنة فقط. فليس فيها إجماع ولم تذكر في القرآن وأما دليلها من السنة فهو أنّ محيصة بن مسعود وعبد الله بن سهل خرجوا إلى يهود خيبر فلما وصلوا إلى النخيل تفرقا فجاء محيصة بن مسعود ووجد عبد الله بن سهل مقتول بين النخل فذهب عبد الرحمن بن سهل أخو عبد الله بن سهل وابنا عمه محيصة وحويصة إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - واتهموا يهود بأنهم قتلوه فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - تقسمون خمسين يمينا على رجل منهم فندفعه إليكم فقالوا يا رسول الله كيف نقسم ولم نشهد ولم نرى. فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - تقسم يهود لكم خمسين يمينا وليس لكم عليهم شيء فقالوا يا رسول الله قوم كفار ضلال. يعني أنهم لن يتورعوا عن القسم فواده النبي - صلى الله عليه وسلم - من عنده من بيت المال. هذا الحديث جعله الجنابلة أصل في القسامة أما مشروعية القسامة بين الفقهاء ففيه خلاف. القول الأول هو ما سمعتم أنه مشروع وهذا دليله. والقول الثاني: أنّ القسامة لا تشرع واستدلوا على هذا بأنّ القسامة على خلاف قواعد الشرع فإنّ قواعد الشرع تدل على أنّ البيّنة على المدعي واليمين على من أنكر وفي هذه الصورة وهي القسامة جعلت اليمين على المدعي وهذا خلاف قاعدة الشرع. والراجح أنّ القسامة مشروعة بلا إشكال إن شاء الله وأنّ القاعدة أنّ اليمين في حق أقوى المتداعيين وليست دائما في حق المدعى عليه وإنما خرج الحديث مخرج الغالب لأنّ المنكر غالبا أقوى من المدعي فجعلت اليمين في الحديث عليه وقد استوفى ابن القيم الكلام عن هذه المسألة وأطال جدا وبيّن أنّ القسامة مشروعة وأنها لا تنافي أصول الشرع وأنها بالعكس من هذا تؤدي مقاصد الشرع وذكر كلاما طويلا في ترجيح هذا القول وهو مشروعية القسامة.

قال - رحمه الله - معرفا لها (وهي: أيمان مكررة في دعوى قتل معصوم) المؤلف يريد أن يعرف القسامة فقال هي أيمان مكررة في دعوى قتل معصوم في الحقيقة المؤلف أغفل في التعريف أمرا ضروريا وجعله شرطا للقسامة وهو اللوث. والواقع أنّ القسامة من حقيقتها الشرعية وجود اللوث ولهذا لو أخذنا هذا التعريف أيمان مكررة في دعوى قتل معصوم لم يتضح المراد لأنّ هذه الأيمان المكررة في دعوى معصوم لا تقبل ولا ينظر إليها إلاّ مع وجود اللوث ولهذا فإنّ الفقهاء - رحمهم الله - قالوا يشترط للقسامة ثلاثة شروط وذكروا تكرار الأيمان والدعوى وقتل المعصوم واللوث. فجعلوا اللوث من حقيقة القسامة. نأتي إلى كلام المؤلف وهي أيمان مكررة في دعوى قتل معصوم. بيّن المؤلف الشروط. الشرط الأول والثاني. الشرط الأول: أن تكون أيمان مكررة في دعوى فلا بد من تكرير الأيمان ولا بد أن يكون هذا التكرير في سياق الدعوى أما إذا كرر بدون دعوى فليست من القسامة إذا يجب أن يدعي أولا أنّ موليه قتل من الفئة الفلانية ثم إذا ادعى أقسم أيمانا مكررة. هذا هو الشرط الأول. الشرط الثاني: في قتل معصوم فإذا القسامة لا دخل لها في الشجاج والجروح إنما هي في القتل فقط ولم يبيّن المؤلف هل قوله في قتل معصوم عمدا أو خطأ أو شبه عمد وهذه المسألة فيها خلاف فمن الفقهاء من قال القسامة تختص بالقتل العمد ففي شبه العمد والخطأ لا قسامة ومن الفقهاء من قال بل القسامة تشمل جميع أنواع القتل وهي وإن جاءت في الحديث بسبب القتل العمد إلاّ أنّ هذا لا يجعلها تختص به فإنّ العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب. والراجح أنّ القسامة لا تختص بالقتل العمد بل تشمل القتل العمد وأيضا شبه العمد والخطأ. ثم بدأ المؤلف ببيان الشرط الثالث وهو في الحقيقة كما قلت عمدة من عمد فقه القسامة وهي اللوث. فقال - رحمه الله - (ومن شرطها اللوث)

اللوث هي القرينة الحالية أو القولية التي توجب الظن وإن لم توجد بيّنة تامة , هذا التعريف بعد البحث وجدت أنه خير التعريف في الحقيقة وأقربها لبيان حقيقة اللوث إذا هي قرينة وليست بيّنة ولكن هذه القرينة توجب الظن ويجب أن لا يعتمد على هذه القرينة إلاّ عند عدم وجود بيّنة تامة أما إذا وجدت البيّنة التامة فليس للوث أي قيمة لأنه يكتفى بالبيّنة التامة إذا عرفنا الآن ما هو اللوث. ثم - قال رحمه الله - (وهي: العداوة الظاهرة كالقبائل التي يطلب بعضها بعضا بالثأر) ذهب الحنابلة إلى أنّ اللوث هو العداوة أي يشترط لوجود اللوث وجود العداوة واستدلوا على هذا بأنّ النبي - صلى الله عليه وسلم - أثبتها في قصة الأنصاري لوجود العداوة بين الأنصار ويهود خيبر ولهذا فهم يرون أنّ اللوث يكون بوجود العداوة فقط. القول الثاني: أنّ اللوث أمر أعم من هذا فهو يشمل كل قرينة توجب التهمة وتدل على وقوع الجناية سواء كانت عداوة أو سواها ومثلوا على هذا بأن يجتمع النفر على شخص ويتفرقوا عنه وهو ميت أو أن نجد شخصا مقتولا وبجواره من يحمل السيف وفيه الدم ومثال ثالث هو أوضح وأقوى الأمثلة في الحقيقة وهو أن يشهد على أنّ فلان قتل فلان من لا تقبل شهادته في باب الجنايات كالمرأة والصبي والعبد فهؤلاء إذا شهدوا شهادتهم لا تكفي لإقامة الحد والقصاص أليس كذلك؟ لكنها توجب قرينة وتهمة أنّ من شهد عليه قام بالقتل حقيقة. وهذا المثال في الحقيقة يبيّن قوة القول الثاني وهذا القول الثاني اختيار شيخ الإسلام وغيره من المحققين وهو الصواب أنه يقصد باللوث كل ما أوجب تهمة. مسألة / مشروعية القسامة تكون عند وجود قتيل لا يعلم قاتله بشرطه , وهي الشروط المذكورة في هذا الباب فإذا توفرت الشروط وهذا المعنى جاز حينئذ القسامة. قال - رحمه الله - (فمن ادعي عليه القتل من غير لوث حلف يمينا واحدة وبرىء)

إذا ادعي على شخص أنه قاتل ولم يستطع المدعي أن يثبت وجود اللوث فليس على المدعى عليه إلاّ أن يقسم قسما واحدا ويبرأ لأنّ هذا الحكم في سائر الدعاوى ولأنّ عدم وجود اللوث يرفع وجوب تكرار الأيمان وهذا معلوم ولكن المؤلف أراد أن يقرر هذا الشيء ويبيّن أنّ التكرار يتعلق بوجود اللوث. قال - رحمه الله - (ويبدأ بأيمان الرجال من ورثة الدم , فيحلفون خمسين يمينا فإن نكل الورثة أو كانوا نساء حلف المدعى عليه خمسين يمينا وبرىء) ذكر المؤلف في هذين السطرين جملة من المسائل فقوله ويبدأ بأيمان الرجال. المسألة الأولى: أنّ الذي يبدأ باليمين المدعي ثم ينقل إلى المدعى عليهم واستدل الحنابلة على هذا بأنّ النبي - صلى الله عليه وسلم - طلب من المدعين بدم عبد الله بن سهل أن يحلفوا. والقول الثاني: أنه يبدأ بالمدعى عليهم لأنه في هذا الحديث في لفظ منه أنّ النبي - صلى الله عليه وسلم - أمر اليهود أن يقسموا قبل أن يطلب من أهل الميت. وهذا اللفظ ضعيف ولهذا الراجح كما ذهب الحنابلة أنّ الذين يبدؤون باليمين هم أهل الميت الذين ادعوا. قال - رحمه الله - (بأيمان الرجال) في هذه العبارة دليل أو إشارة مسألة وهي أنّ الذي يحلف هم الرجال فقط لقول النبي - صلى الله عليه وسلم - يقسم خمسون رجلا منكم فالنساء لا دخل لهم في اليمين إذا يقسم خمسون رجلا منكم. ثم - قال رحمه الله - (من ورثة الدم) في هذا دليل على أنّ الذين يقسمون هم الورثة فقط. ومن لا يرث لا يقسم ولا يطلب منه ولا ينفعه أن يقسم وتقسم الأيمان على الورثة بحسب ورثهم فمن يرث النصف فعليه نصف الأيمان ومن يرث السدس فعليه سدس الأيمان ومن لا يرث إلاّ هو فيقسم كل الخمسين إذا للورثة ويقسم حسب ميراثهم. ثم - قال رحمه الله - (فيحلفون خمسين يمينا) وفي هذا دلالة على أنّ عدد الأيمان خمسون وهذا محل إجماع أجمعوا على أنّ عدد الأيمان خمسون يمينا لقول النبي يقسم خمسون رجلا فهذه المسألة لا إشكال فيها. قال - رحمه الله - (فإن نكل الورثة أو كانوا نساء حلف المدعى عليه خمسين يمينا وبرىء)

في هذا ما تقدم أنّ اليمين لا تنصرف إلى المدعى عليه إلاّ إذا نكل المدعي أما إذا أقسم فإنه لا يطلب من المدعى عليه يمين بل يدفع إلى أهل القتيل من أقسموا عليه ليقتلوه لكن إنما ترد اليمين إذا أبى أو نكل المدعون عن القسم وهذا صحيح وأفادنا المؤلف أنه إذا أقسم المدعى عليهم فإنهم يبرأون ولا شيء عليهم لا كفارة ولا دية ولا قصاص لأنه لم يثبت في حقهم أو لم تثبت الجناية من الأصل لعدم وجود الدليل الكافي شرعاً فإذا أفادنا المؤلف أنها ترد إليهم وأنهم إذا حلفوا يبرأون والدليل على هذا أنّ النبي - صلى الله عليه وسلم - لما نكل أهل محيصة - رضي الله عنه - رد اليمين إلى اليهود ولم يلزمهم بشيء. بهذا انتهى كتاب الديات

كتاب الحدود

الدرس: (1) من الحدود قال شيخنا حفظه الله: بسم الله الرحمن الرحيم والحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين. كتاب الحدود الحد في لغة العرب/ المنع. وأما في الاصطلاح / فله معنى عام ومعنى خاص. أما معناه العام فحدود الله محارمه لقوله تعالى {تلك حدود الله فلا تقربوها} [النساء/13] أي محارم الله فهذا هو المعنى العام. أما المعنى الخاص. فالحدود الممنوعات الشرعية التي رتب عليها الشارع عقوبة محددة. فالزنا من الحدود لأنّ الله رتب عليه عقوبة محددة وهي الجلد أو الرجم كما سيأتينا بينما التقبيل من المحرمات إلاّ أنّ الشارع لم يرتب عليه عقوبة محددة شرعا فليس من الحدود إذا الحدود هي الأشياء التي منعها الشارع وأوجب على من فعلها حدا معيّنا أو عقوبة مقدرة معيّنة من قبل الشارع فجميع المحذورات أو المحرمات التي فيها التعزيرات ليست من الحدود. ثم - قال رحمه الله - (لا يجب الحد) الحدود مشروعة بالإجماع فإنّ السنة جاء فيها ما يشبه التواتر بإقامة الحدود من قِبل النبي - صلى الله عليه وسلم - وعن خلفاءه الراشدين وستأتينا الأدلة في كل باب من أبواب الحدود اللاحقة. كما أنّ إقامة الحدود محل إجماع من الفقهاء لم يخالف فيه أحد فهي واجبة وفريضة متعيّنة دل عليها النص المتواتر وإجماع الأمة. ثم - قال رحمه الله - (لا يجب الحد إلاّ على بالغ عاقل) لا يجب الحد على غير البالغ العاقل بالإجماع لقول النبي - صلى الله عليه وسلم - رفع القلم عن ثلاثة. إذا لا يجب إقامة الحد على غير مكلف وهذا محل إجماع والمؤلف - رحمه الله - سيبيّن في هذا الفصل قبل أن يبدأ بالحدود بمسائل سيذكر مسائل تشترك مع جميع الحدود مسائل عامة تشترك فيها جميع الحدود ثم إذا انتهى من هذه المسائل العامة سيعود إلى كل حد ويعقد له بابا خاصا. يقول - رحمه الله - (ملتزم)

الملتزم يقصد به من التزم الأحكام الشرعية. وهو المسلم والذمي والدليل على أنّ الذمي يحكم فيه قوله تعالى {وأن احكم بينهم بما أنزل الله} [المائدة/49] فالذمي تجب إقامة الحد عليه فيما يرى هو أنه محرم والنبي - صلى الله عليه وسلم - أقام حد الرجم على اليهودي واليهودية. أما إقامة الحدود على المسلم فهو محل إجماع باقي الحربي والمستأمن هؤلاء لا تقام عليهم الحدود التي هي لحق الله. وتقام عليهم الحدود التي هي لحق الآدمي كالقذف. إذا صاروا ثلاثة أقسام. المسلم والذمي والحربي والمستأمن كل واحد له حكمه في إقامة الحدود. قال - رحمه الله - (عالم بالتحريم) يشترط لإقامة الحد أن يكون من اقترف الذنب عالما بالتحريم لا بالعقوبة والدليل على هذا من وجهين: الأول: أنّ الصحابة رفعوا الحد عمن ادعى الجهل بتحريم الفعل. الثاني: أنّ قاعدة الشرع كما يقول شيخ الإسلام أنه لا تكليف إلاّ بعد العلم فهذا الشخص الذي لا يعلم يعتبر غير مكلف بهذا الأمر ويشترط لقبول دعوى عدم العلم أن يتصور منه عدم العلم كأن يكون في البوادي أو في قرية نائية أما من يعيش بين المسلمين فلا يقبل منه أن يقول لا أعلم أنّ شرب الخمر محرم أو أنّ الزنا محرم ولو ادعى لم يقبل منه ويقام عليه الحد. ثم - قال رحمه الله - (فيقيمه الإمام أو نائبه في غير مسجد) أفادنا المؤلف أنّ المعني بإقامة الحدود هو الإمام فقط , وليس لغيره كائنا من كان أن يقيم الحدود والدليل على هذا أن الذي كان يقيم الحدود هو النبي - صلى الله عليه وسلم - فقط وخلفائه الراشدون وعلى هذا جرت الأمة إلى وقتنا هذا فهو إجماع محفوظ يستثنى من هذا أنه يجوز للسيد أن يقيم الحد على عبده ويختص هذا بحد واحد وهو الجلد وليس له أن يقيم حد القتل أو القطع. والدليل على هذا قوله - صلى الله عليه وسلم - إذا زنت أمة أحدكم فليقم عليها الحد ولا يثرب. فدل هذا على أنه للسيد أن يجلد الأمة وأن يقيم عليها الحد إذا زنت. وأما الحدود التي تقتضي القتل أو القطع فإنه لا يجوز له أن يقيمه , ولا يستثنى من إقامة الحدود إلاّ هذه المسألة ونحن نقول لا يقيم الحد إلاّ الحاكم لما تقدم من أنّ النبي - صلى الله عليه وسلم - هو الذي تولاه.

والدليل الآخر: أنّ إقامة الحدود تحتاج إلى اجتهاد في إثباتها والنظر في البيّنات وهذا موكول إلى الحاكم ولأجل أن لا يحصل فيه تلاعب في الإثبات أو في النفي. ثم - قال رحمه الله - (في غير مسجد) لا يجوز إقامة الحد في المسجد لأنّ النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى عن إقامة الحدود في المساجد وهذا الحديث يعني حسنه المتأخرون. وأنا قلت لكم مرارا أنّ تحسين المتأخرين يحتاج إلى إعادة نظر لكن على كل حال أنا أقول لكم أنه حسنه المتأخرون ولم أجد وقتا للبحث في إسناده بدقة لكن حسنه المعاصرون. الدليل الثاني: أنّ الله سبحانه وتعالى أمر بإيجاد المساجد لإقامة ذكر الله لا لإقامة الحدود. الأمر الثالث: أنه لم يحفظ أنّ النبي - صلى الله عليه وسلم - أقام أيّ حد في مسجده. مسألة / فإن أقيم الحد في المسجد فإنه لا يجب إعادته بل يعتبر مجزأ. ثم - قال رحمه الله - (ويضرب الرجل في الحد: قائما) يعني أنّ الرجل لا يضرب جالسا وإنما يضرب وهو قائم والدليل على هذا من وجهين: الأول" أنّ ضرب المجلود قائما مروي عن علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - إلاّ أنّ هذا الأثر فيه ضعف. الدليل الثاني: أنّ ضربه قائما يؤدي إلى توزيع الضرب على كامل الجسد. والقول الثاني/ أنه يضرب جالسا لا قائما لأنه ليس في النصوص الشرعية ما يدل على أنه لا بد أن يكون قائما فيجزئ إقامة الحد عليه ولو كان جالسا. والراجح إن شاء الله أنّ هذا الأمر فيه سعة ويرجع إلى الإمام. والأحسن أن لا يضرب إلاّ قائما. ثم - قال رحمه الله - (بسوط) يعني أنّ الجلد يكون بهذه الأداة وهي السوط واستدلوا على هذا بأمرين: الأمر الأول: أنّ المتبادر إلى الذهن في لغة العرب عند إطلاق كلمة الجلد أنه يكون بالسوط. الثاني: أنه نقل أنّ النبي - صلى الله عليه وسلم - جلد بالسوط. القول الثاني/ أنّ الجلد يكون في شرب الخمر بالنعال والأيدي وأطراف الثياب واستدلوا على هذا بأنّ رجلا شرب الخمر في عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - فجلد بأطراف الثياب والأيدي والنعال. والراجح القول الأول. والجواب عن هذا الحديث من وجهين: الوجه الأول: أنّ الجلد بهذه الطريقة كان في أول الإسلام ثم نسخ.

والوجه الثاني: من الجواب أن يقال أنه يرجع في كيفية الضرب إلى رأي الإمام بحسب اختلاف الشارب والراجح والله أعلم أنه لا يضرب إلا بالسوط. لأنّ العبرة والنكاية والتأديب لا يكون إلاّ بهذا وإن ضرب بعض الصحابة بمثل هذا الضرب فهذا لكون الخير عندهم منتشر فاكتفوا بمثل هذا أما في وقتنا بل في وقت عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - أسرف الناس في شرب الخمر فكيف في الأوقات التي تليه ولهذا نقول الراجح أنه لا يجوز الضرب إلاّ بالسوط. ثم - قال رحمه الله - (لا جديد ولا خلق) يعني أنه لا يضرب بسوط جديد ولا يضرب بسوط خلق , والدليل على هذا من وجهين: الوجه الأول: أنّ النبي - صلى الله عليه وسلم - أوتي بسوط جديد فرده ثم أوتي بسوط خلق فرده ثم قال النبي - صلى الله عليه وسلم - بين هذين. الدليل الثاني: أنّ الجلد بالسوط الجديد يجرح الجلد والجلد بالسوط القديم لا يحصل منه التأديب المرجو فصار الأمر إلى السوط المتوسط. ثم - قال رحمه الله - (ولا يمد , ولا يربط , ولا يجرد) استدل الحنابلة على عدم المد والربط والتجريد بما روي عن ابن عباس أنه قال ليس في ديننا مد ولا ربط ولا تجريد , وهذا الأثر أيضا فيه ضعف. والقول الثاني: أنه لا بد في الجلد من التجريد ومعنى التجريد أن يقع السوط على الجلد واستدلوا على هذا بأنّ الأصل إذا قيل الجلد أن يجلد الإنسان يعني على جلده والراجح أنه لا مد ولا ربط ولا تجريد في الدين لأمرين: الأول: أنّ من جلد وعليه ثيابه يصدق عليه أنه مجلود. الثاني: أنّ هذه الطريقة لم تنقل عن أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - وقد كانت هذه الطريقة معمول بها عندنا فكان يمد على الأرض مدا لا يربط وإنما يمسك مسكا قويا ويجلد جلدا قويا وربما أغمي عليه لكن هذا الأمر ترك وصار الآن الجلد على مقتضى كلام الفقهاء يجلد قائما ولا يجرد ولا يربط. لكنهم أحيانا يربطونه إذا أبى الوقوف أو اشتد عليه الألم ثم أبى الوقوف يربطونه ولا يربطونه ابتداء. ثم قال ـ رحمه الله - (بل يكون عليه قميص أو قميصان)

يعني يجوز أن يلبس قميصا أو يلبس قميصين لأنّ هذا اللبس لا يمنع من الشعور بالألم ويحصل مع الغرض أفادنا المؤلف أنّ ما عدى ذلك من الألبسة الثخينة لا يجوز أن تلبس كما لو لبس الفرو أو لبس ثياب الشتاء المتينة أو لبس أكثر من قميصين كأن يلبس ثلاثة أو أربعة كل هذا لا يجوز لأنّ المقصود من الجلد لا يحصل مع وجود هذه الأشياء فنجعل الإنسان يلبس ثوبه المعتاد لا زيادة ولا نقص. قال - رحمه الله - (ولا يبالغ بضربه بحيث يشق الجلد) لا يجوز أن يبالغ في الضرب إلاّ أن يصل إلى مرحلة شق الجلد وتعليل هذا أنّ المقصود من الجلد التأديب لا الإهلاك فلا يصل بالجالد أن يدميه ويشق جلده وإنما يضربه ليؤدبه ويشعره بالألم فقط. قال - رحمه الله - (ويفرق الضرب على بدنه) ندبا لا وجوبا يعني ينبغي للجالد أن يفرق الضرب وأن لا يجعل الضرب يقع على موضع واحد علل الحنابلة هذا بأنه إذا فرقه فقد وزع الألم على جميع الجسد. والقول الثاني / أنّ تفريق الضرب واجب ولا يجوز له أن يضرب في موضع واحد لا يتعداه وهذا القول اختاره القاضي من الحنابلة وهو القول الراجح بلا إشكال إن شاء الله , لأنّ الضرب في موضع واحد يؤدي إلى شق الجلد وهم يقولون أنه لا يشق الجلد فكيف يجعل توزيع الضرب مندوبا فقط بل هو واجب لأنه لو ضربه مائة جلدة في موضع واحد فلا شك أنه سينشق الجلد ويخرج الدم بكثرة. قال - رحمه الله - (ويتقى الرأس , والوجه , والفرج , والمقاتل) يعني وجوبا وقول الشيخ والمقاتل المقاتل عند الحنابلة هي الأعضاء المذكورة مع أنّ عبارة المؤلف توهم أنّ المقاتل شيء آخر أليس كذلك؟ بينما الحنابلة يرون أنّ المقاتل هي الرأس والوجه والفرج فيجب عليه وجوبا أن يجتنب وقوع السوط على الرأس أو الوجه أو الفرج واستدلوا على هذا بأمرين: أنّ ضرب الرأس والوجه والفرج قد يؤدي إلى فقد أحد الحواس. والمقصود هو التأديب لا إفقاده الحواس. الثاني: أنّ النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى بالحديث الصحيح عن ضرب الوجه , وهذا يشمل ما لو كان إقامة الحدود أو غيره ولهذا لا يجوز له مطلقا أن يضربه مع الرأس أو الوجه أو الفرج لأنه مقتل. قال - رحمه الله - (والمرأة كالرجل فيه)

يقصد بفيه يعني صفة الجلد فهي كالرجل في الصفات المذكورة إلاّ ما سيستثنيه المؤلف إذن المرأة كالرجل تماما يسمح لها بلبس الثياب وهذا واجب تضرب بسوط وسط ولا تضرب في موضع واحد وجميع الصفات المتقدمة تنطبق على الرجل والمرأة إلاّ أنّ المرأة لها حكم واحد يختص بها. قال - رحمه الله - (إلاّ أنها تضرب جالسة وتشد عليها ثيابها وتمسك يداها لئلا تنكشف) تختص المرأة بهذه الأمور تضرب جالسة وتشد عليها الثياب وتمسك مع يديها الدليل على هذا أولا ذهب إلى هذا الاستثناء الجماهير جماهير العلماء على هذا الاستثناء وهي أنها تضرب جالسة وتشد عليها الثياب وتمسك مع يديها استدلوا على هذا بأمرين: الأول: أنه مروي عن الصحابة. الثاني: أنّ المطلوب في المرأة الستر والصيانة وربما لو ضربت قائمة لأنكشف منها شيء. القول الثاني/ مذهب أبي يوسف - رحمه الله - أنها تضرب قائمة كالرجل واستدل على هذا بأنها تلاعن قائمة فكذلك تضرب قائمة وهذا القول من الشيخ الفقيه أبي يوسف ضعيف جدا حتى أنّ الإنسان لا يستبعد صدوره منه مع فقهه ومعرفته وأي شبه بين الملاعنة وإقامة الحد حتى تقاس على كونها تلاعن قائمة بل كونها تلاعن قائمة فيه معنى معقول وهو تعظيم أمر الملاعنة لأنّ الإنسان إذا أقسم قائما فهو أعظم منه إذا أقسم جالسا بينما في الجلد لا يقصد التعظيم وإنما يقصد وجود الألم والتأديب وهذا يحصل للقائم والجالس. فهو في الحقيقة قول ضعيف والراجح مذهب الجماهير. قال - رحمه الله - (وأشد الجلد جلد الزنا , ثم القذف , ثم الشرب , ثم التعزير) أشد الحدود حد الزنا لأنّ الله قال فيه {ولا تأخذكم بهما رأفة في دين الله} [النور/2] فنص على أنه يجب إذا أراد أن يجلد أن لا تأخذه بهم رأفة وإنما يجلد جلدا قويا يوجع ويؤلم حتى يحصل التأديب. الدليل الثاني: أنّ الداعي إلى الزنا من نفس الإنسان أقوى من إلى غيره من المحرمات. والقول الثاني: أنّ الحدود على حد سواء فلا يوجد فيها شيء أغلظ من الآخر , والراجح أنّ الزنا أغلظ من غيره لنص الآية على عدم الرأفة في المجلود. ثم - قال رحمه الله - (ومن مات في حد فالحق قتله)

الحدود تنقسم إلى قسمين: القسم الأول" جميع الحدود عدى حد الشرب فهذه الحدود إذا مات فيها الإنسان فلا يضمن لأنه ضرب بأمر الشارع ولا إشكال فيها. القسم الثاني: حد الخمر فهذا ذهب الجماهير أيضا إلى أنه لا ضمان فيه. والقول الثاني: في حد الخمر أنه إذا جلده أكثر من أربعين جلدة فإنه يضمن لأنّ الزائد على الأربعين ليس فيه سنة وهو من باب التعزير فيضمن صاحبه يعني يضمن المجلود. والراجح القول الأول أنه لا ضمان ولو زاد على الأربعين. والجواب من وجهين: الأول لا نسلم أنّ ما زاد على الأربعين تعزير بل هو حد سيأتينا الكلام عن هذه المسألة. الثاني: أنه لو سلمنا أنه تعزير فمن يحكم عليه الحاكم بجلد تعزيرا ويموت أيضا لا يضمن لأنّ التعزير أذن به الشارع ولهذا نقول الراجح إن شاء الله أنه لا ضمان حتى في حد الخمر ولو زاد عن الأربعين. ثم - قال رحمه الله - (ولا يحفر للمرجوم في الزنا) يعني لا يشرع أن يحفر للمرجوم في الزنا والدليل على هذا أنّ النبي - صلى الله عليه وسلم - رجم امرأة ورجلا. وامرأة ورجلا. وفي الجميع لم يحفر فهو رجم اليهودي واليهودية. ولم يحفر. ورجم ماعزا - رضي الله عنه - ولم يحفر , ورجم امرأة الرجل الذي زنى بها خادمه وهو حديث العسيف كما سيأتينا ولم يحفر , فجاءت السنة في رجم الرجل والمرأة. والرجل والمرأة جميعا بلا حفر فدل هذا على أنّ الحفر لا يشرع. القول الثاني: أنه يشرع الحفر إذا ثبت ببيّنة ولا يشرع إذا كان بإقرارها وهذا خاص بالمرأة. القول الثالث: يشرع الحفر للمرأة مطلقا سواء ثبت ببيّنة أو بإقرارها واستدل أصحاب القول الثالث على قولهم بما ثبت في صحيح مسلم أنّ النبي - صلى الله عليه وسلم - حفر للغامدية وهذه المسألة فيها إشكال السنة فيها جاءت على جميع هذه الوجوه فلو قيل يرجع إلى رأي الإمام في الحفر وعدمه وينظر هو الأنسب لكان هذا جيدا لأنّ السنة فيها الحفر وفيها عدم الحفر.

باب حد الزنا

الدرس: (2) من الحدود قال شيخنا حفظه الله: بسم الله الرحمن الرحيم والحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين. باب حد الزنا في الدرس السابق تكلمنا عن باب العاقلة وما تحمله وبقي علينا مسألة نتحدث عنها وهي مسألة إذا لم يكن له عصبة إذا كان القاتل خطأ لم يكن له عصبة وهذه المسألة يعبر عنها بالترتيب فيمن يدفع الدية فالآن إذا قتل الإنسان شخصا قتلا خطأ فقلنا أنّ الدية تكون على العاقلة حسب التفصيل السابق. فإذا لم يكن له عاقلة يعني لم يكن له عصبة فينتقل بعد ذلك الوجوب إلى بيت المال فإذا لم يؤدي بيت المال الدية فاختلف حينئذ الفقهاء هل تجب على القاتل أو لا تجب. فمن الفقهاء من قال تجب القاتل لأنه إنما اسقط عنه لأنّ العاقلة سيحملون الدية مواساة فإذا لم يحملوها بقي الأصل وهو وجوب الضمان على الجاني ومن الفقهاء من قال بل لا يحمله القاتل لأنّ الشارع جعل الدية واجبة على العاقلة والراجح أنه يجب على القاتل إذا لم تحمل العاقلة أو لم توجد أن يؤدي الدية فصار الترتيب حينئذ العاقلة. بيت المال. القاتل. العاقلة فإن لم يمكن أو لم يدفعوا أو لم يوجدوا , فبيت المال فإن لم يدفع , انتقل حينئذ إلى القاتل. نعود إلى درس اليوم الذي توقفنا عنده وهو قوله باب حد الزنا. قال المؤلف - رحمه الله - باب حد الزنا. الزنا هو الوطء في القبل أو في الدبر بغير نكاح ولا ملك ولا شبهة. وهذا التعريف عند الجماهير واشترط الأحناف أن يكون الوطء في القبل ليسمى زنا. والأقرب إن شاء الله مع الجمهور وهو أنه يطلق على الوطء في القبل والدبر زنا. هذا أولاً. ثانيا" الزنا بهذا التعريف المتقدم محرم بإجماع الأمة وهو من كبائر الذنوب كما قال تعالى {ولا تقربوا الزنى إنه كان فاحشة وساء سبيلا} [الإسراء/32] واعتبره النبي - صلى الله عليه وسلم - من الكبائر وهو أمر مجمع عليه بين الأمة. قال - رحمه الله - باب حد الزنا. (إذا زنى المحصن رجم حتى يموت)

إذا زنى المحصن وسيأتي في كلام المؤلف من هو المحصن , فإنّ حكمه الرجم حتى الموت فتبيّن بهذا أنّ مقصود الفقهاء بكلمة الرجم أن يستمر إلى الموت وليس المقصود مجرد رميه بالحجارة. واعتبار عقوبة الزاني المحصن الرجم محل إجماع بين الأمة لم يختلفوا فيه قط وإنما خالف فيه الخوارج فقط ولا عبرة بقولهم وخالفوا أي الخوارج مستدلين بأنّ الله لم يذكر الرجم فيي القرآن. والصواب ولا نحتاج نقول الصواب وقول الإجماع هو الحق إن شاء الله والرجم جاء عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قولا وفعلا بما يشبه أن يكون متواترا فلا شك في ثبوته وأنّ قول الخوارج شاذ لا عبرة به وستأتي الأدلة التفصيلية في مسائل الباب. لما قرر المؤلف أنّ حد المحصن الرجم أراد أن يبيّن من هو المحصن فقال - رحمه الله - (والمحصن: من وطئ امرأته المسلمة) المحصن له شروط لا يكون الإنسان محصنا إلاّ بها ذكرها المؤلف في هذه العبارة وما يليها سنأتي عليها واحدا واحدا. الأول: الوطء فيشترط لثبوت الإحصان في حق المسلم أن يطأ والمقصود بالوطء هنا يعني في القبل فقط والدليل على هذا قول النبي - صلى الله عليه وسلم - الثيب بالثيب جلد مائة والرجم. وجه الاستدلال أنّ النبي - صلى الله عليه وسلم - قال الثيب. والثيب في لغة العرب لا تكون إلاّ على الوطء في القبل , فالوطء في غير القبل لا يعتبر وطأ يحصل به الإحصان وهذا القدر لا خلاف فيه ولله الحمد إذا لا إحصان بلا وطء. * مسألة / يشترط في هذا الوطء أن لا يقل عن تغييب الحشفة أو تغييب قدرها لمن لم تكن له حشفة , وما دون ذلك لا يعتبر وطء لأنّ الشارع الحكيم علقّ الأحكام على تغييب الحشفة في باب الغسل وغيره وكذلك هنا لا يعتبر وطأ يحصل به الإحصان إلاّ إذا غيّب الحشفة فهذا هو الشرط الأول. إذا الشرط الأول من وطء امرأته المسلمة أو الذمية. ثم انتقل إلى الشرط الثاني فقال رحمه الله - (في نكاح)

يشترط في الوطء أن يكون في نكاح فإن كان الوطء في شبهة أو في زنا يعني وطأ يحكم عليه بأنه زنا أو بسبب الشبهة فإنه لا يحصل به الإحصان وهذا أيضا محل إجماع إذا لا بد أن يكون الوطء في نكاح. أما كون صحيح أو غير صحيح فسيتطرق لها المؤلف المهم الآن الذي يعنينا أنه لابد أن يكون في نكاح , أما في الزنا ووطء الشبهة فلا. ثم - قال رحمه الله - (صحيح) الشرط الثالث. يشترط في النكاح أن يكون صحيحا , فإن كان نكاحا فاسدا أو باطلا أو وطء شبهة فإنه لا يعتبر وطأ يحصل به الإحصان. وقبل أن ننتقل للقول الثاني دليل القول الأول القياس على وطء الشبهة وتقدم معنا أنّ وطء الشبهة هذا لا يعتبر وطأ يحصل به الإحصان. والقول الثاني: أنّ الوطء في العقد الفاسد يحصل به الإحصان واستدل أصحاب هذا القول بأنه وطء في نكاح يصح عن بعض العلماء. ويثبت به النسب فصار سببا في الإحصان وفي الحقيقة المسألة هذه فيها تردد يحتمل أن نقول يشترط أن يكون وطأ صحيحا بالإجماع لأنّ الشارع الحكيم كما سيأتينا يتشوف إلى درء الحدود بالشبهات وهذه شبهة ويحتمل أن نقول نحن نعامل العقد الفاسد معاملة الصحيح في أشياء كثيرة منها مر معنا الطلاق ومر معنا إثبات النسب كما أنّ العاقد في العقد الفاسد يعتقد صحة العقد وهذا يجعله قريب من العقد الصحيح وفي المسألة تردد وإن كان الإنسان يميل نوعا ما إلى أنه يحصل الإحصان بالعقد الفاسد لأنه يطأ وهو يرى أنه يطأ زوجته. ثم - قال رحمه الله - (وهما بالغان عاقلان) يشترط للإحصان أن يكون الوطء من مكلف فإن كان الواطئ ليس مكلفا فلا يعتبر هذا الوطء محصنا وإلى هذا ذهب الجماهير عامة الأمة على هذا القول أنه يشترط في الإحصان أن يكون الواطئ مكلفا لأنّ غير المكلف وطئه لا يساوي وطء المكلف ولأنّ غير المكلف مرفوع عنه القلم والمؤاخذة فلا يعتبر وطئه حينئذ وطأ يحصل به الإحصان. ثم - قال رحمه الله - (حُرَان)

اشترط الفقهاء جميعا ولم يخالف إلاّ أبو ثور فقط اشترطوا أن يكون الواطئ حرا ليحصل الإحصان فإن كان الواطئ عبدا فوطئه لا يثمر الإحصان واستدلوا على هذا بقوله تعالى {فعليهن نصف ما على المحصنات من العذاب} [النساء/25] والرجم لا يتجزأ إذاً بناء على هذا الأمة لا تدخل في الرجم وهذا القول هو الصحيح إن شاء الله وقول أبي ثور ضعيف أو ضعيف جدا لأنه من بداية الفقه ونحن نرى أنّ قاعدة الشارع تنصيف العبد في العدد والطلاق وأشياء كثيرة فعلمنا أنّ الشارع الحكيم جعل العبد على النصف من الحر. ثم - قال رحمه الله - (فإن اختل شرط في أحدهما فلا إحصان لواحد منهما) لما أنهى المؤلف شروط الإحصان أراد أن يبّن أنّ هذه الشروط تشترط في كل واحد من الزوجين حال الوطء. بناء على هذا إذا وطئ من لم تكتمل فيها الشروط فلا إحصان , وإذا وطئت أي المرأة وقد اكتملت فيها الشروط لكن الواطئ لم تكتمل فيه الشروط فلا إحصان وعللوا هذا بأنّ الوطء الكامل إنما يكون إذا استوفى الزوجان الشروط. والقول الثاني: أنّ هذه الشروط تشترط في أحدهما لا في كليهما , فمن اكتملت فيه الشروط فهو محصن بغض النظر عن الموطوء. ثم - قال رحمه الله - (وإذا زنا الحر غير المحصن جلد مائة جلدة) أنهى المؤلف الكلام عن زنا المحصن وانتقل إلى الكلام عن زنا غير المحصن وبيّن أنّ حده هو الجلد مائة جلدة وكون الزاني غير المحصن يجلد مائة جلدة محل إجماع لقوله تعالى {الزانية والزاني فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة} [النور/2] فدل على هذا الحكم النص والإجماع وهو أمر ظاهر في غير المحصن. ثم - قال رحمه الله - (وغرّب عاما) يعني أنه يجب في غير المحصن مع الرجم التغريب وإلى هذا ذهب الجمهور وأنّ التغريب جزء مكمل للحد واستدلوا على هذا بالأحاديث الصحيحة المشتهرة أنّ النبي - صلى الله عليه وسلم - أمر بذلك. ففي حديث العسيف قال [وعلى الغلام مائة جلدة وتغريب عام] وفي حديث البكر بالبكر. قال [جلد مائة وتغريب سنة] وفي حديث أبي هريرة وفي البخاري ومسلم قال عليه أي المحصن [الجلد والتغريب] هذه الأحاديث كلها في الصحيح وهي ثابتة ثبوتا قطعيا ولهذا ذهب الجمهور إلى أنّ التغريب جزء من الحد.

والقول الثاني: أنّ التغريب عقوبة تعزيرية وأنّ الحد هو الجلد فقط. واستدل هؤلاء بأنّ الصحابة غربوا تعزيرا , واستدلوا بدليل آخر وهو أنّ الآية لم يذكر فيها التغريب أنّ الآية فيها الجلد دون التغريب. وهذا القول ضعيف والأحاديث ظاهرة جدا ولا يمكن العدول عنها مطلقا ولو لم يذكر في الآية فإنّ السنة جاءت مكملة للقرآن ومبيّنة له ومفصلة لأحكامه. مسألة / نص عبارة المؤلف أنّ المرأة كذلك ولذلك قال - رحمه الله - (ولو امرأة) يعني تغرّب ولو كانت امرأة وإلى هذا أيضا ذهب الجمهور لعموم الأدلة وهو أمر واضح. والقول الثاني: أنه لا تغريب على المرأة لأنّ المرأة إذا غرّبت خشي أن تقع في الزنا مرة أخرى لاسيما مع البعد عن عصبتها ومحارمها. والقول الثالث: أنها تغرّب كالرجل إلاّ إن خيف عليها الفتنة , والراجح إن شاء الله القول الأخير إلاّ أنه ينبغي أن تحمل المرأة جميع النفقات التي ترتب على ما يستدعي الأمن عليها فمثلا نفقة المحرم الذي يصونها وما يتعلق به من نفقات السفر والسكن والأكل كلها تحمل على هذه الزانية ولا تحمل على بيت المال على الصحيح من قولي الفقهاء. فإذا نغرّبها كما في النصوص ونلزمها بما يترتب على الأمن من فتنتها في مالها. فإذا لم نتمكن من ذلك لعدم وجود المحارم أو لرفض المحارم السفر معها وغلب على الظن أنها إن سافرت ستقع في الفتنة فالشرع جاء بتحصيل المصالح ودفع المفاسد فلا تغرّب. ثم - قال رحمه الله - (والرقيق خمسين جلدة) الرقيق عليه نصف ما على الحر فيجلد خمسين جلدة لقوله تعالى {فعليهن نصف ما على المحصنات من العذاب} [النساء/25] ولأنّ الصحابة أفتوا في أبواب كثيرة بأنّ العبد على النصف من الحر. ثم - قال رحمه الله - (ولا يغرّب) العبد لا يغرّب وإنما يكتفى فيه بحد الجلد واستدلوا على هذا بدليلين: الأول" أنّ تغريبه يضر بسيده ويمنع عنه منافعه. الثاني: ما جاء في حديث أبي هريرة أنّ النبي - صلى الله عليه وسلم - قال إذا زنت أمة أحدكم فاجلدوها , ثم إذا زنت فاجلدوها , ثم قال في الثالثة أو في الرابعة شك الراوي فإن زنت فبيعوها ولو بضفير. ففي الحديث لم يذكر التغريب وإنما ذكر الحد وهو الجلد فقط.

وأنها في الرابعة أو في الثالثة تباع. والقول الثاني: أنها تغرب ستة أشهر. ثم - قال رحمه الله - (وحد لوطي كَزَان) قوله وحد لوطي فهم من كلام المؤلف أنّ العقوبة التي نوقعها على اللوطي حد وليس تعزيرا , وإلى هذا ذهب الجمهور أنها حد وإنْ اختلفوا في حده إلاّ أنه حد. لأنّ اللواط فاحشة فهو يستوي في هذا مع الزنا. والقول الثاني: أنّ اللواط عقوبته التعزير بحسب ما يرى الإمام لأنه ليس في النصوص الدلالة الواضحة على حد اللواط. والأقرب والله أعلم أنه حد. واللواط: هو أن يأتي الرجل الرجل. ثم - قال رحمه الله - (كزان) لما قرر أنّ اللواط عقوبته على سبيل الحد يعني أنها من الحدود أراد أن يبيّن ما هو الحد فقال كزان يعني أنّ عقوبة اللوطي كعقوبة الزاني إن كان محصنا رجم , وإن كان غير محصن جلد , واستدلوا أي أصحاب هذا القول وهم الحنابلة على قولهم بقول النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا أتى الرجل الرجل فهما زانيان. وهذا الحديث ضعيف. واستدلوا بدليل آخر أنّ الصحابة حكموا بهذا. والجواب عليه: أنّ الصحابة لم يحكموا بهذا عينا وإنما اختلفوا كما سيأتينا. القول الثاني: أنّ حد اللوطي القتل مطلقا , محصنا كان أوغير محصن. واستدل أصحاب هذا القول بأدلة: الأول: قوله - صلى الله عليه وسلم -:" من وجدتموه يعمل عمل قوم لوط فاقتلوا الفاعل والمفعول به". هذا الحديث ضعفه الأئمة ولكن احتج به أحمد تقدم معنا هذا مرارا أنّ الإمام أحمد قد يحتج بحديث ولا يعني هذا أنه يصحح الحديث. الدليل الثاني: إجماع الصحابة على قتله وإنما اختلفوا في كيفية القتل حكى هذا الإجماع ابن القيم - رحمه الله - وغيره لكن في حكاية الإجماع هذا إشكال وهو أنه روي عن بعض الصحابة كعبد الله بن الزبير أنه قال حد اللوطي حد الزاني. فكأنه ألحقه به. لكن جمهور الصحابة على أنه يقتل. والراجح القول الثاني أنه يقتل وترجيح هذا القول ظاهر جدا لأنه عليه أبو بكر وعمر وعلي وعثمان ولا مجال للخروج عن فتوى الأئمة الأربعة إذن الراجح أنه ليس كزان وإنما يقتل مطلقا.

مسألة/ اختلف الصحابة في كيفية القتل فمن الصحابة من قال يحرق. وعلى رأسهم أبو بكر الصديق - رضي الله عنه - ومنهم من قال يرجم يعني ولو لم يكن محصنا وهذا معلوم من الخلاف السابق وعلى رأس هؤلاء عمر - رضي الله عنه - ومنهم من قال يلقى من أعلى بناية في البلد ويتبع بالحجارة. ومنهم من قال - رضي الله عنهم - يوضع تحت الحائط ويهدم عليه وممن قال بهذه الطريقة علي - رضي الله عنه - وقال بها عمر أيضا. والراجح أنّ كيفية القتل يرجع فيها إلى رأي الإمام والدليل على هذا أنّ الواحد من الخلفاء - رضي الله عنهم - كأبي بكر وعمر روي عنه القتل بأكثر من طريقة ما يدل على أنها تخضع لرأيه ونظره بحسب الظروف وأنه ليس شيئا محددا أو طريقة معيّنة للقتل ويلاحظ أنّ أحكام الصحابة جميعا قاسية وفيها شدة لا تخفى وهذا يتناسب مع الجرم لأنّ هذه الجريمة أيضا جريمة شنيعة فلهذا جعل الصحابة فيها القتل بطريقة غير طبيعية كما أنّ الجاني هنا أتى جريمة تخرج عن الفطرة والطبيعة. ثم - قال رحمه الله - (ولا يجب الحد إلاّ بثلاثة شروط) بدأ المؤلف بشروط وجوب حد الزنا وسيبيّن هذه الشروط بتفصيل الشرط الأول قال - رحمه الله - (أحدها: تغييب حشفته الأصلية كلها في قبل أو دبر) الشرط الأول لوجوب حد الزنا أن يقع الوطء. سواء كان الوطء في قبل أو في دبر فبمجرد حصول الوطء يتحقق الشرط وهذا بخلاف الإحصان. لذلك كثير من الناس يخلط بين شروط الإحصان وشروط وقوع الحد العقوبة. بينهما فرق نحن نتحدث الآن عن شروط وقوع العقوبة. كذلك هنا لا يكتفى بالوطء بما دون تغييب الحشفة فلا بد من تغييب الحشفة وأشار المؤلف إلى أنّ الوطء سواء كان في القبل أو في الدبر , أما في القبل فهو إجماع وأما في الدبر فذهب الحنابلة كما ترون إلى أنه وطء يوجب العقوبة واستدلوا على هذا بأنه وطء في فرج أصلي فأوجب العقوبة.

والقول الثاني: أنّ الوطء في الدبر يأخذ حكم اللواط لا حكم الزنا فإذا جامع امرأة في دبرها فإنّا نعتبره لوطي نقيم عليه الحد المذكور في الخلاف السابق وهذه مسألة مهمة جدا لأنه ينقل الإنسان من حد الزنا إلى حد اللواط. وهذه المسألة أيضا فيها نوع من الإشكال لكن الأقرب والله أعلم أنه زنا لأنه وطء لإمرأة يختلف عن اللواط. مسألة / علم من كلام المؤلف أنّ السحاق وهو إتيان المرأة المرأة , وأنّ الجماع بين الفخذين , وأنواع الاستمتاعات ليست من الزنا الذي يوجب الحد لماذا؟ لتخلف شرط الوطء لأنه لا يوجد في هذه الأشياء وطء وهذا صحيح وإنما من فعل ذلك يعزر تعزيرا ولا يقام عليه حد الزنا. قال المؤلف - رحمه الله - (تغييب حشفته الأصلية كلها في قبل أو دبر أصليين) أخرج المؤلف بهذا الحشفة والقبل والدبر أو الزوائد. فالوطء في القبل أو الدبر الزائد لا يعتبر زنا وإنما اشترط أن يكون في الأصلي لأنّ الوطء عند الإطلاق ينصرف إلى هذا أي الأصلي ولأنّ الاستمتاع لا يكمل إلاّ به. ثم - قال رحمه الله - (حراما محضا) هذا القيد لا حاجة إليه لأنه يشير به إلى انتفاء الشبهة وهو الشرط الثاني وهو شرط مستقل برأسه. ثم - قال رحمه الله - (انتفاء الشبهة) ذهب الجماهير إلى أنه يشترط لإقامة الحد انتفاء الشبهة واستدلوا على هذا بأمرين: الأول" أنّ هذا حكي إجماعا حكاه ابن المنذر. الثاني: قوله - صلى الله عليه وسلم -:" ادرءوا الحدود بالشبهات". وهذا الحديث ضعيف , لكن درء الحدود بالشبهات في الحقيقة لا شك فيه أولا للآثار المتكاثرة عن أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - الدالة بمجموعها على أنهم يحبون درء الحد ما أمكن. الثالث: هذا الإجماع المحكي. وإذا كنا نقول أنه يشترط لإقامة الحد عدم وجود الشبهات فهذا لا يعني أن نقبل بكل شبهة ولهذا سيأتينا أنّ ابن المنذر وهو ممن حكى الإجماع على درء الحدود بالشبهات ينازع في بعض المسائل التي ستأتينا ويرى وجوب إقامة الحد مع وجود هذه الشبهة التي يعتبرها الحنابلة من الشبهات. قال - رحمه الله - (فلا يحد بوطء أمة له فيها شرك أو لولده)

لا يحد إذا وطئ أمة له فيها شرك , لأنه بشركه في هذه الأمة يعتبر مالكا لبعض الفرج. وهذا هو وجه الشبهة ونحن نقول في تعريف الزنا من غير نكاح ولا ملك ولا شبهة وهذا يملك بعض الفرج فصار في هذا شبهة. (أو لولده) أي أو كان لولده شرك في هذه الأمة، فلو كان ابنه يملك بعض هذه الأمة ووطئ الأب الأمة فإنه لا حد لقول النبي - صلى الله عليه وسلم - أنت ومالك لأبيك. وإلى هذا ذهب الجمهور. والقول الثاني: وإليه ذهب أبو ثور وابن المنذر أنه يحد وأنّ هذا لا يعتبر شبهة والراجح مذهب الجماهير. ثم - قال رحمه الله - (أو وطئ امرأة ظنها زوجته أو سريته) إذا وطئ امرأة ظنها أنها زوجته إما لوجود ظلمة أو لكونه أعمى أو لأي سبب من الأسباب وكذلك إذا وطئ أمة يظن أنها من سرياته فإنه لا حد عليه وهذا قد يكون قليل الوقوع لكن المثال الكثير الوقوع أو الذي قد يقع أكثر من مثال المؤلف أن تقدم له المرأة على أنها زوجة له وهي ليست بزوجة له كأن يحصل خطأ في تعيين الزوجة وهذا يحصل كثير إذا تزوج اثنان أختين في ليلة واحدة فقد تدخل عليه من ليست بزوجته وهذا الوطء وطء شبهة ولا يحد به لأنه يظن أنّ هذه المرأة زوجته. ثم - قال رحمه الله - (أو في نكاح باطل اعتقد صحته) إذا وطئ في نكاح باطل كأن يتزوج امرأة في عدتها وهو يظن أنّ هذا النكاح صحيح , ويوجد شرط آخر ومثله يجهل هذا الأمر إذا اجتمعت هذه الأمور درءنا عنه الحد لأمرين: الأول" لوجود شبهة وهي الجهل ونحن نشترط أن يكون مثله يجهل هذا الأمر. الثاني: أنّ رجلا تزوج امرأة في عدتها فدرء عمر - رضي الله عنه - الحد عنه. وهذا لا إشكال فيه إذا تحققنا وعلمنا أنّ مثله يجهل مثل هذا الحكم. ثم - قال رحمه الله - (أو نكاح او ملك مختلف فيه ونحوه) إذا وطئ في نكاح مختلف فيه فإنه لا يحد سواء كان يرى هو صحة النكاح أو لا يرى صحة النكاح فإذا تزوج بلا ولي وهو يرى أنّ النكاح بلا ولي لا يصح فإناّ لا نقيم عليه الحد لوجود الشبهة وهو الإختلاف في هذا العقد.

والقول الثاني: أنّّ النكاح الفاسد أي المختلف فيه يكون شبهة إذا كان الزوج يظن صحة هذا النكاح وإذا كان لا يظن الصحة وإنما يرى الفساد فإنه يحد لأنه في الواقع لا عذر له. وهذا القول الثاني هو الصحيح. المسألة الثانية: في ملك مختلف فيه يعني أن يشتري أمة بعقد مختلف في تصحيحه فحينئذ لا يحد لوجود الشبهة والشبهة هي الاختلاف في تصحيح العقد وفساده. وهذه الشبهة شبهة صحيحة بل إنّ الجهل ببعض الشروط المتعلقة بالبيع أكثر منه في بعض أحكام النكاح فإنّ أحكام النكاح معلومة لغالب الناس لكن أحكام البيوع مجهولة لكثير من الناس. قال - رحمه الله - (أو أكرهت على الزنا) إذا أكرهت المرأة على الزنا فإنها لا تحد وهذا لا إشكال فيه لقول النبي صلى الله عليه وسلم عفي لأمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه , فالزنا الواقع عليها هي معفو عنها فيه بسبب الإكراه وفهم من كلام المؤلف أنّ الرجل ليس كذلك وهو مذهب الحنابلة أنّ الإكراه ليس بعذر ولا شبهة في حق الرجل واستدلوا على هذا بأنّ الإكراه ينافي الانتشار فإذا تمكن من الوطء علمنا أنه لا يوجد إكراه لأنّ الانتشار والإكراه لا يجتمعان. والقول الثاني: أنّ الإكراه يتصور في حق الرجل وهو متصور في صورتين أو في حالين: الحال الأولى: لا إشكال فيه وذلك بأن يكره بأمر خارج عن الجسد كأن يمنع عنه الطعام فإذا منع عنه الطعام فهذا إكراه أليس كذلك؟ فيقول إما أن تطأ أو تبقى بلا طعام فهذا إكراه يتصور معه الانتشار. الحال الثانية: أن يكون إكراه مع الإيذاء الجسدي وهذا قد يتصور إذا قيل له إما أن تطأ أو تضرب أو ضرب فعلا أو مس بعذاب فإنه قد يتمكن من الانتشار والجماع ليتفادى هذا الضرر الواقع عليه. والراجح هو القول الثاني وهو أنه يتصور وقوع الزنا مع الإكراه في حق الرجل. قال - رحمه الله - (الثالث: ثبوت الزنا ولا يثبت إلاّ بأحد أمرين) الشرط الثالث أن يثبت الزنا وعبر عنه الشيخ بقوله الثالث. ثبوت الزنا ولا يثبت إلاّ بأحد أمرين إلى آخره ....

الزنا لا يثبت إلاّ بأحد أمرين: إما الإقرار أو الشهادة وبدأ بالإقرار لأنه أقوى فإذا أقّر الإنسان على نفسه بأنه زنى ثبت الحكم في حقه وأقيم عليه الحد لكن ذكر المؤلف - رحمه الله - ثلاثة شروط لهذا الإقرار: الشرط الأول: (أن يقر به أربع مرات في مجلس أو مجالس). فالشرط الأول أن يقر أربع مرات فإن أقر مرة أو مرتين أو ثلاث فإنه لا يقام عليه الحد واستدلوا على هذا بأنّ النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يقم الحد على ماعز إلاّ لما اعترف أربع مرات. وروي أنه ردد المرأة التي اعترفت أربعا لكن حديث ماعز في التكرار أصح. واستدلوا على هذا بأنّ الحدود تدرأ بالشبهات وفي تكرار الاعتراف أربع مرات ما ينفي الشبهة. القول الثاني: أنه لا يشترط أربع مرات بل لو اعترف مرة واحدة قبل منه وأقيم عليه الحد واستدلوا على هذا بأنّ زوجة الرجل الذي زنى بها العسيف أقيم عليه الحد باعتراف مرة لأنّ النبي - صلى الله عليه وسلم - قال واغدوا يا أنيس إلى امرأة هذا فإن اعترفت فارجمها ولم يطلب منه أن يعترف أكثر من أربع مرات. والقول الثالث: أنّ هذا يرجع فيه إلى الإمام فإن رأى أنه لابد من التكرار في حق رجل فيكرر وله أن لا يقيم الحد بعد الاعتراف الأول وإن رأى أنه يكتفي بمرة فله ذلك وله أن يقيم الحد بعد الاعتراف الأول وهذا القول تجتمع به الأدلة وهو القول الراجح إن شاء الله. ثم - قال رحمه الله - (في مجلس أو مجالس) الاعتراف لا يشترط أن يكون في مجلس واحد بل يمكن أن يكون في مجلس ويمكن أن يكون في مجالس واستدلوا على هذا أنّ ماعزا - رضي الله عنه - اعترف في مجلس والمرأة الغامدية في مجالس ولكن الإمام أحمد روي عنه أنه يشترط في الاعتراف أن يكون في مجلس واحد وأشار إلى تضعيف الأحاديث التي فيها الاعتراف في أكثر من مجلس. ثم - قال رحمه الله - (ويصرح بذكر حقيقة الوطء) يشترط في الاعتراف بعد أن يصدر أربع مرات أن يكون في الاعتراف التصريح بحقيقة الوطء واستدلوا على هذا بأنّ اسم الزنا قد يطلقه بعض الناس على ما ليس بزنا فيظن هو أنه زنا وليس كذلك فلا نكتفي منه بكلمة زنيت بل لابد من التصريح.

الثاني: أنّ النبي - صلى الله عليه وسلم - قال لماعز: لعلك قبلت أو غمزت قال - رضي الله عنه - لا يا رسول الله فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: أفنكتها , لا يكني قال ماعز - رضي الله عنه - نعم , وهذا اللفظ في صحيح البخاري وهو ثابت لا شك فيه إن شاء الله. فإذا لا بد أن يصرح بحقيقة الوطء ولو قيل أنّ هذا يختلف باختلاف المعترف والألفاظ عند الناس فاليوم الزنا أصبح يطلق على الزنا الذي هو الوطء لا ينصرف إلى شيء سواه فإذا كان هذه الحقيقة العرفية موجودة في زمن فلو قيل يكتفى بكلمة زنيت عن التصريح بحقيقة الوطء لكان هذا القول له وجه من القوة. ثم - قال رحمه الله - (ولا ينزع عن إقراره حتى يتم عليه الحد) هذا هو الشرط الأخير وهو الثالث في الإقرار أن يقر وأن تكون أربع في مجالس وأن يصرح بحقيقة الوطء وأن لا يرجع والدليل على هذا أنّ ماعزا لما هرب - رضي الله عنه - قال النبي - صلى الله عليه وسلم - أفلا تركتموه يتوب فيتوب الله عليه. وفي قوله أفلا تركتموه يتوب دليل على أنّ رجوعه مقبول. والقول الثاني: أنه لا يشترط الرجوع ولا يقبل منه لأنه لما هرب - رضي الله عنه - لحقه الصحابة وأجهزوا عليه. وجه الاستدلال أنّ رجوعه لو كان صحيحا للزم الصحابة الدية لأنه يعتبر قتل بالخطأ ولكن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يلزمهم بالدية والراجح الأول وهو المذهب فإذا رجع يقبل منه. ثم - قال رحمه الله - (الثاني: أن يشهد عليه في مجلس واحد) الطريقة الثاني ة لإثبات جريمة الزنا الشهود أن يشهد عليه أربعة كما قال تعالى [النور/35] {لولا جاؤوا عليه بأربعة شهداء} [النور 13] وهذا الأمر وهو إثباته بشهادة أربعة مجمع عليه. ثم - قال رحمه الله - (في مجلس واحد) يشترط أن تكون الشهادة في مجلس واحد فإن شهدوا في مجلسين لم يقبل منهم وأقيم عليهم حد القذف. والدليل على هذا أنّ ثلاثة شهدوا على المغيرة - رضي الله عنه - وتطلبوا الرابع فلم يشهد فأقام عمر - رضي الله عنه - عليهم الحد. وجه الاستدلال. نحن نتكلم أن يكون الشهادة في مجلس واحد , أنّ عمر - رضي الله عنه - لم ينتظر إكمال الرابع ففي هذا دليل على أنّ شهادته في غير هذا المجلس لا عبرة بها.

والقول الثاني: أنه لا يشترط أن تكون الشهادة في مجلس واحد لعموم الآية فإذا شهد عليه أربعة أقيم عليه الحد. والجواب عن أثر عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - أنّ عمر علم أنه لا يوجد شاهد رابع أو أنهم هم لم يقولوا لدينا شاهد رابع والجواب عليه ظاهر لهذا لو شهد عليه أربعة ولو في مجالس قبل منهم. يقول - رحمه الله - (بزنا واحد) يعني يجب أن يشهدوا على المجرم بزنا واحد , والزنا الواحد يتحقق أنه زنا واحد إذا شهدوا عليه في زمان ومكان واحد فإن شهد عليه بعضهم في يوم والآخرون في يوم آخر أو بعضهم في مكان والآخرون في مكان آخر فإنّ الشهادة لم تكتمل إذا يجب أن يجتمع الأربعة على زنا واحد ولا يجوز أن يجتمعوا على أكثر من زنا ولو كان الواقع أنهم شهدوا عليه أربعة أنه زنا لكن الشارع متشوف لدرء الحدود ولهذا اشترطوا أن يكون بزنا واحد. ثم - قال رحمه الله - (يصفونه أربعة) معنى يصفونه أي يصرحون بالوطء فيقولون رأينا ذكره في فرجها , ولا يكتفى أن يقولوا رأيناه يزني بل يجب أن يقولوا ذكره في فرجها كالرشاء في البئر , وهل يجب أن يقولوا كالرشاء في البئر بعبارة أخرى هل يجب أن يمثلوا يضربوا مثال أو لا يجب. الصواب أنه لا يجب وأنّ هذا من باب التأكيد فإن ذكروا المثل فذاك وإلاّ فالواجب أن يصرحوا بالوطء فيقولوا رأينا ذكره في فرجها هذا هو الواجب فقط الدليل استدل الحنابلة على هذا بأنه إذا كان المعترف يطلب منه أن يصرح بحقيقة الوطء فالشهود من باب أولى وهذا صحيح. ثم - قال رحمه الله - (ممن تقبل شهادتهم) ومن تقبل شهادته هو المسلم العدل الحر الذكر , فمن اتصف بهذه الصفات قبل منه وإلاّ فلا وسيأتينا باب خاص بالشهادات في آخر كتاب القضاء. ثم - قال رحمه الله - (سواء أتوا الحاكم جملة أو متفرقين)

باب حد القذف

يريد المؤلف أن يبيّن أنّ الحنابلة يشترطون أن يكون الاعتراف في مجلس واحد لكن لا يشترط أن يأتوا إلى هذا المجلس دفعة واحدة بل لو جاءوا متفرقين بأن جاء الأول ثم جاء بعد مدة الثاني , ثم جاء بعد مدة الباقون فهم الآن شهدوا في مجلس واحد فلا يشترط المجيء دفعة واحدة إلى مجلس الحكم والدليل على هذا أنه لا يوجد دليل من السنة يشترط أن يأتوا إليه أي إلى مجلس الحكم دفعة واحدة. قال - رحمه الله - (وإن حملت امرأة لا زوج لها ولا سيد لم تحد بمجرد ذلك) أراد المؤلف أن يشير إلى أنّ إثبات جريمة الزنا لا تكون إلاّ بطريقين , الإقرار أو الشهادة وأنّ مجرد الحمل لا يدل على وقوع الزنا واستدل الحنابلة على هذا بأدلة: الدليل الأول" أنّ امرأة زنت وحملت في عهد علي - رضي الله عنه - ولم يقم عليها الحد حتى اعترفت. وفي هذا دليل على أنّ علي - رضي الله عنه - لم يعتبر الحمل بيّنة بحد ذاته. الثاني: أنّ امرأة عابدة صالحة حملت فلما جيء بها إلى عمر - رضي الله عنه - قالت إنما كنت ساجدة فتغشاني البعير وأكرهني. يعني أنها مكرهة فلم يقم عليها الحد. القول الثاني: أنّ الحمل قرينة وعلامة على الزنا وأنّ الحامل التي لا زوج لها يقام عليها الحد واستدلوا على هذا بما صح عن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - الرجم حق ثابت على المحصن إذا زنا إذا قامت البيّنة أو كان الحبل أو الاعتراف. الدليل الثاني: أنها لن تحمل إلاّ بعد الزنا لأنّا نفترض أن لا زوج لها. القول الثالث: أنّ الحامل إذا ادعت شبهة لم يقم عليها الحد وإذا لم تدعي شبهة أقيم عليها الحد واستدل أصحاب هذا القول بالجمع بين الآثار المروية عن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - فإنه تارة يرى إقامة الحد وتارة لم يقم الحد فالجمع بين هذه الآثار هو هذا القول الثالث والراجح إن شاء الله هو القول الثالث. لكن لا يخفاكم أنّ القول الثالث من حيث الحصيلة والنتيجة يشبه أي الأقوال؟ الأول لماذا؟ لأنها لو كانت تدرأ عن نفسها حد الحمل لا اعترفت. لما لم تعترف وأنكرت فإنه بدهي أنها ستأتي بشبهة بلا شك على كل حال هذا القول الثالث هو الراجح إن شاء الله. باب حد القذف قال - رحمه الله - باب حد القذف

القذف في أصل اللغة / الرمي بقوة لبعد فإذا رمى الإنسان حجرا رمية ضعيفة فإنه لا يعتبر رمى في لغة العرب , وأما في الاصطلاح / فالقذف هو وصف الآخرين بالزنا أو اللواط. والقذف محرم بالكتاب والسنة والإجماع. قال المؤلف - رحمه الله - (إذا قذف المكلف) يشترط لإقامة حد القذف أن يكون القاذف مكلفا فإن لم يكن مكلفا فلا يقام عليه الحد لقول النبي - صلى الله عليه وسلم - رفع القلم عن ثلاثة. والمرفوع عنه القلم لا يؤاخذ بما يقول. ثم - قال رحمه الله - (إذا قذف المكلف بالزنا محصنا) قوله بالزنا يعني أو باللواط كما سيأتينا. ثم قال (محصنا) يشترط في المقذوف أن يكون محصنا فإن لم يكن محصنا فلا يعتبر رميه قذفا وأما من هو المحصن فسيذكره المؤلف بدقة وتفصيل. قال - رحمه الله - (جلد ثمانين جلدة) نحن قلنا جلد الحر ثمانين بالإجماع ولا إشكال فيه لكن العبد جلده على النصف واستدلوا بما تقدم معنا بأنّ الحر دائما ضعف العبد وأنّ العبد في فقه الصحابة على النصف من الحر في أبواب كثيرة. والقول الثاني: أنه يجلد الحد كاملا لئلا تشيع الفاحشة في الذين أمنوا. والدليل الثاني: العمومات ويشكل على هذا القول شيء واحد وهو القول الثاني أنه مروي عن الخلفاء الراشدون أنه أي العبد على النصف في هذا الباب من الحر وهذا في الحقيقة إذا جاء عن الخلفاء الراشدين لا مناص عنه وإلاّ القول بالذات في حد القذف بأنه يقام عليه الحد كاملا وجيه حتى ينكف الناس عن الترامي بمثل هذه الفاحشة. ثم - قال رحمه الله - (والمعتق بعضه بحسابه) يعني إذا كان بعضه حرا وبعضه عبدا فإنه يحسب بحسابه من عدد الجلدات فإذا كان نصفه حر ونصفه عبد فسنأخذ نصف الحد بالنسبة للحر أربعين ونصف الحد بالنسبة للعبد عشرين. فيكون حده كم؟ ستون. ثم - قال رحمه الله - (وقذف غير المحصن يوجب التعزير) إذا قذف غير المحصن فالواجب على القاذف التعزير فقط ردعا له ولكن لا يقام عليه الحد لأنّ الحد يتعلق بقذف المحصنين فقط. ثم - قال رحمه الله - (وهو حق للمقذوف) أي أنّ حد القذف حد للمقذوف ويترتب على هذا أنّ المقذوف إذا أسقط حقه سقط الحد ولو بعد بلوغ الحاكم.

والقول الثاني: أنّ القذف من الحدود التي لا تسقط بإسقاط صاحب الحق لحقه فيها. والقول الثاني أحوط وأمنع من انتشار هذا السباب والفسوق. ثم - قال رحمه الله - (والمحصن هنا: الحر المسلم) بدأ المؤلف هنا ببيان من هو الذي إذا رمي بهذه الفاحشة استحق راميه بالعقوبة فبدأ بشروط المحصن: الشرط الأول" يقول الشيخ أن يكون حرا مسلما والدليل على أنه لا بد من أن يكون حرا مسلما أنّ العبد والكافر حرمتهما أقل من حرمة المسلم والله سبحانه وتعالى إنما ذكر المحصنات الغافلات فنص على المسلمة الحرة وغيرها لا يساويها في هذه وهذا الشرط صحيح. ثم - قال رحمه الله - (العاقل) يعني أنّ قذف المجنون لا يوجب الحد لأنّ المجنون لا يلحقه العار بقذفه بالزنا وفي الحقيقة لم أقف على خلاف في مسألة قذف المجنون ولو قيل أنّ قذف المجنون. الجمهور يرون أنّ قذف المجنون لا يوجب الحد.

الدرس: (3) من الحدود قال شيخنا حفظه الله: بسم الله الرحمن الرحيم والحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين. مازال المؤلف في بيان شروط من هو المحصن الذي إذا قذف استحق على قاذفه الحد ومنا تحدثنا بالأمس عن الحر والمسلم والعاقل عن هؤلاء الثلاثة تحدثنا وقلنا أنّ في بعض المسائل خلاف ونذكره اليوم فقوله - رحمه الله - (الحر المسلم) اشترط الحنابلة والجمهور أن يكون المقذوف حرا فإن كان عبدا فإنّ قاذفه لا يحد حد القذف تقدم معنا دليل الجمهور وهو أنّ حرمة العبد أقل من حرمة الحر. القول الثاني: أنّ قاذف العبد يستحق العقوبة. وأن يحد حد القذف لأنّ العبد المسلم العدل خير وأولى من الحر الفاسق بغير الزنا , وهذا القول هو الراجح إن شاء الله أنه إذا قذف شخص عبدا فإنه يستحق أن يحد.

الصورة الثانية: أن تكون الأمة زوجة لحر وله منها ولد فهذه الزوجة ذهب بعض الفقهاء أيضا إلى أنّ قاذفها يحد وإن كانت أمة لتكميل حق الزوج لأنّ قذف الزوجة هنا يؤذي الزوج والزوج حر وإذا كنا نقول أنّ قذف العبد عموما يستحق من فعله العقوبة والحد ففي هذه الصورة من باب أولى لأنه اعتدى على حق الأمة وعلى حق الزوج الحر. ثانيا: قول المؤلف - رحمه الله - (المسلم) ذهب الجماهير إلى أنّ قذف الكافر لا يوجب حد القذف واستثنى بعض الفقهاء الذمية إذا كانت تحت مسلم وزاد بعضهم قيدا وله منها ولد فإنّ قذفها في هذه الحال يؤدي إلى الضرر والعيب والشين والعار على الزوج ولهذا أوجبوا عليه الحد وهذا القول له وجهة من النظر قوية وحفظا لحق الأزواج المسلمين نحد من قذف زوجاتهم وإن كن من أهل الكتاب. ثم - قال رحمه الله - (العفيف) يشترط في المقذوف أو فيمن يوصف بالزنا أن يكون عفيفا والمقصود بالعفيف هنا هو من لم يقارف الزنا ولا اللواط. ومن الفقهاء من قال يشترط أن يكون عفيفا في الظاهر فقط ومنهم من قال يشترط أن يكون عفيفا في الظاهر والباطن , والفرق بين القولين أنه إذا قذف وهو عفيف في الظاهر يجب أن نبحث عن باطنه بالسؤال والمعرفة حتى نتيقن أنه عفيف في الظاهر والباطن والراجح أنه يكتفى بكونه عفيفا في الظاهر ولا يشترط البحث عن عفته في الباطن فإذا قذف وجب الحد على قاذفه. ثم - قال رحمه الله - (الملتزم) الملتزم هو من ينقاد لشرائع الإسلام وأحكامه ويشمل المسلم والكتابي الذمي المستأمن والمعاهد , ولكن لا يخفى عليكم أنّ بين قول الشيخ الملتزم وبين قوله المسلم تعارض لأنّ المسلم يخرج ما دل عليه الملتزم إذا الملتزم يدل على الذمي والمسلم ينفي الذمي ولهذا ذهب بعض الحنابلة إلى أنّ هذه العبارة من المؤلف خطأ وسبقت قلم. وما ذهب إليه هؤلاء صحيح لأنه لا يمكن أن نجمع بين أن يكون مسلما وبين أن يكون ملتزما لأنّ مدلول الالتزام أعم أو أخص من الإسلام؟ أعم فكيف تخصص بالمسلم ثم تقول الملتزم ولهذا لعلها سبقت قلم. ثم - قال رحمه الله - (الذي يجامع مثله)

يشترط في المقذوف أن يكون ممن يجامع مثله وتقدم معنا مرارا من هو الذي يجامع مثله في المرأة وفي الرجل والخلاف في حده في الرجل وفي حده في المرأة فهنا يشترط أن يكون المقذوف ممن يجامع مثله فإن لم يكن كذلك فلا قاذفه الحد والسبب في هذا أنّ قذف من لا يجامع مثله لا يترتب عليه عيب ولا شين للمقذوف للعلم قطعا بكذبه إذا يرميه بما لا يتصور وقوعه منه فعلم كذبه فارتفع الشين والعيب للمقذوف إلاّ أنّ من فعل هذا فإنه يجب أن يعزر ليرتدع عن إطلاق مثل هذه الألفاظ وإن لم يجب عليه حد القذف. ثم - قال رحمه الله - (ولا يشترط بلوغه) يعني لا يشترط في المقذوف لكي نحد قاذفه أن يكون بالغا واستدل الحنابلة على هذا بأنّ المقذوف غير البالغ حر له وصف يعيبه إذا أطلق عليه الزنا واللواط فوجب في قاذفه الحد. واستدلوا أيضا بأنّ القذف يشين البالغ وغير البالغ يعيب البالغ ويعيب غير البالغ لأنه يتصور منه الوطء فإذا قال يا زاني فربما ظن فيه أنه زاني حقيقة. والقول الثاني: أنه يشترط في المقذوف أن يكون بالغا لأنّ غير البالغ يشبه الكيف في كليهما ولهذا فلا يجب على قاذفه الحد والراجح إن شاء الله بلا إشكال القول الأول كيف وقد تقدم معنا في الدرس السابق أنّ المجنون لو كان فيه خلاف لرجحنا وجوب القذف المقيس عليه وهو المجنون لو كان فيه خلاف لرجحنا وجوب القذف فكيف نقيس على من هو حكمه لم يثبت تماما فلذلك نقول الراجح إن شاء الله بلا إشكال وجوب الحد وإن كان المقذوف لم يبلغ. ثم انتقل المؤلف إلى صريح القذف وكنايته. يقول - رحمه الله - (وصريح القذف) تنقسم ألفاظ القذف إلى صريحة وكناية وتقدم معنا في الطلاق الكلام عن الصريح والكناية فاللفظ الصريح في الشيء هو ما لا يقبل إلاّ معناه هذا من حيث المعنى وأيضا يتعلق بهذا حكم آخر مهم وهو أنه في اللفظ الصريح لا يقبل من قائله تفسيره بغير مدلوله إلاّ ببيّنة. فالصريح عند المؤلف يقول - رحمه الله - وصريح القذف يا زاني يا لوطي ونحوه , الصريح عند الحنابلة هو أحد ثلاثة ألفاظ:

اللفظ الأول: يا زاني اللفظ الثاني: يا لوطي. اللفظ الثالث: لفظ الصريح في الوطء كا يا نايك أو يا منيوكة. وألحق الحنابلة باللفظ الصريح بالوطء يا عاهر فصارت الألفاظ كم؟ أربعة يا زاني يا لوطي يا عاهر أو استخدام اللفظ الصريح في الوطء. فهذه أربعة ألفاظ صريحة لا تقبل التأويل وإن ادعى قائلها أنه أراد غير هذا المعنى لم يقبل منه ويقام عليه إذا استوفى الشروط الحد هذا بالنسبة للصريح قال - رحمه الله - (وكنايته: يا قحبة) انتقل المؤلف إلى الكنايات تقدم معنا أنّ الحكم الذي يميز الكناية عن الصريح هو أنّ الكناية إذا فسره بغير لفظه الظاهر منه قبل من هذا التفسير لا احتمال اللفظ للمعنيين فهذا هو الفرق المهم بين الصريح والكناية فالمؤلف يقول أنّ الكنايات هي أن يقول - رحمه الله - (يا قحبة ويا فاجرة ويا خبيثة وفضحت زوجك أو نكست رأسه أو جعلت له قرونا ونحوه) المؤلف يعتبر هذه الألفاظ كنايات ويعتبر أنّ لها أكثر من معنى فمعنى قوله مثلا ياقحبة ويا فاجرة. تحتمل أنه يريد يا من تستعدين لتكوني قحبة أو فاجرة , فإذا هي الآن ليست كذلك. والقول الثاني: في هذه الألفاظ أنها صرائح إلاّ بقرينة فنعتبر أنّ هذه الألفاظ صرائح مع دلالة الحال وإلى هذا القول ذهب ابن عقيل والقاضي وغيرهم من محققي الحنابلة. والقول الثالث: أناّ نقبل منه تفسيرها بغير الظاهر منها إذا دلت القرينة وإلاّ فلا وبين القول الثاني والثالث تقارب والراجح أنّ اعتبار اللفظ صريح أو كناية يرجع فيه للعرف فبعض الألفاظ تعتبر صرائح عند قوم وإن كانت في اللغة كناية , وتعتبر بعض الألفاظ كنايات وإن كانت في اللغة صرائح فنرجع في تفسيرها إلى العرف وهو الذي يبيّن مقصود القائل ويليه في القوة القول الثاني أنها صرائح إذا دلت قرينة الحال وأضعف الأقوال المذهب لأنّ كلمة يا قحبة ويا فاجرة ويا خبيثة دلالتها على وقوع الزنا ظاهرة جدا فصرفها إلى معنى آخر بعيد ولهذا نقول إما نقول أنّ الراجح رجوع العرف أو أنها صرائح مع دلالة الحال.

تنبيه!! بعض هذه الألفاظ يختلف عن بعض في القوة فمثلا قول المؤلف (فضحت زوجك أو نكست رأسه أو جعلت له قرونا) هذه قد تكون كنايات , لأنّ نكست رأسه قد يقال فيما إذا ألمت المرأة بعمل يعتبر عيب في العرف وإلاّ لم يتعلق بالعرض كاللؤم مع الضيف أو القسوة مع أهل الزوج ونحو هذه الأشياء التي تعتبر خطأ عرفي يستوجب تنكيس رأس الزوج فهذا المعنى قريب جدا. وكذلك فضحت زوجك قد تقال لهذه المعاني التي ذكرت وقد تقال لما إذا اشتكت الزوجة الزوج في المحاكم يطلق عليها أو يسميها بعض الناس فضحت زوجك لكونها أخرجته إلى المحكمة. وأيضا الأخير جعلت له قرونا يحتمل احتمالا بيّنا أن يكون المقصود أنه أصبح طوع أمرك بشكل كامل فهذه الألفاظ الثلاث تحتمل أن تكون كنايات لكن الخلاف الذي ذكرت هو في يا قحبة ويا فاجرة ويا خبيثة. وإن كان بعض الفقهاء يحكي الخلاف في الألفاظ جميعا لكن الأقرب أنّ الخلاف الذي ذكرت في يا قحبة ويا فاجرة ويا خبيثة وأما الألفاظ الثلاثة الأخيرة فما قالها المؤلف من أنها كنايات صحيح ومتوجه. قال - رحمه الله - (وإن فسره بغير القذف قبل) هذه ثمرة كون هذه الألفاظ كنايات ولكن المؤلف لم يبيّن هل يقبل مع اليمين أو بلا يمين وهو موضع خلاف بين الفقهاء فمن الفقهاء من يرى أنه لا يقبل منه إلاّ باليمين , ومن الفقهاء من قال يقبل منه بغير اليمين لأنّ هذه اليمين لا يقضى على صاحبها بالنكول. والأقرب أنه لا بد من اليمين سدا لباب انتشار مثل هذه الألفاظ بين المجتمع ولأنّ اليمين إن لم توجب الحكم بالنكول فقد توجب التعزير فيما لو نكل عنها. لما انتهى المؤلف من قذف الواحد انتقل إلى قذف المجموعة. قال - رحمه الله - (وإن قذف أهل بلد أو جماعة) إذا قذف الإنسان أهل بلد أو جماعة كثيرة لا يتصور عادة وقوع الزنا منهم فإنه لا يحد , السبب تقدم معنا السبب هو في الغالب من أسباب منع الحد لأنه معلوم أنه كذب فإنّ السامع يقطع بكذب من اتهم جماعة كبيرة أو أهل بلد بأسرهم ولكن مع ذلك ينبغي أن يعزر تعزيرا بالغا لئلا تنتشر ألفاظ السوء بين المسلمين.

باب حد المسكر

مسألة / لم يذكر المؤلف ما إذا قذف جماعة إلاّ أنه يتصور وقوع الزنا منهم فإذا قذف جماعة يتصور وقوع الزنا منهم فإنه يحد لأنه يلحقهم العار بهذا القذف وهذه المسألة أولى من المسألة التي ذكرها المؤلف لأنه في المسألة الثانية إثبات حد القذف ونحن في باب حد القذف لكن يبقى النظر هل يحد بعدد أهل المجلس أو يحد مرة واحدة وهذا يختلف باختلاف القذف فإن قذف بألفاظ متعددة كل واحد من أهل المجلس فإنه يحد بعدد أهل المجلس لأنّ لكل واحد منهم حقا فله أن يستوفيه وإن قذف أهل المجلس بكلمة واحدة بأن قال أنتم زناة أو أنتم لوطية أو نحو هذه الألفاظ فإنه يحد حدا واحد. والدليل على هذا أنّ هذا اللفظ أوجب قذفا واحدا والله تعالى رتب على القذف الواحد حد واحد ولهذا يحد على هذه اللفظة مرة واحدة. إذا عرفنا الآن الحكم إذا قذف من يتصور منهم وإذا قذف من لا يتصور منهم ولكن هل يتصور الزنا من جماعة؟ جدا بأن تكون مجموعة معروفة بالفسق والفجور ومزاولة الأعمال المخلة بالآداب بكثرة فإذا قذفهم صار هذا متصور في حقهم ويرجع إلى رأي القاضي في مسألة هل يتصور وقوع الزنا من هذه المجموعة أو لا يتصور وقوع الزنا من هذه المجموعة. قال - رحمه الله - (ويسقط حد القذف بالعفو ولا يستوفى بدون الطلب) هذه المسألة تقدمت معنا وهي مسألة أنّ القذف حق من حقوق المقذوف لا يستوفى إلاّ بطلبه ويسقط بعفوه ولو وصل إلى الحاكم وكل هذه المسائل المترتبة على أنّ حد القذف حق للمقذوف وتقدمت معنا هذه المسألة وذكر الخلاف فيها وأنّ القول الثاني أنه حق لله لا يسقط إذا وصل الحاكم لأنه حد والحدود لا تسقط إذا وصلت إلى الحاكم. باب حد المسكر قوله باب حد المسكر: المسكر هو الشراب الذي ينشأ منه السكر. والسكر هو لذة ونشوة يغيب معها العقل المدرك حتى يصبح لا يعلم ما يقول وظاهر هذا التعريف من الفقهاء ليس خاصا بالحنابلة. ظاهر هذا التعريف أنّ السكر لا بد أن يشتمل على معنيين لذة ونشوة وطرب. والمعنى الثاني فقد للعقل , وهو كذلك إذ ليس في المسكرات شيء إلاّ وفيه المعنيان. ثم - قال رحمه الله - (كل شراب أسكر كثيره فقليله حرام)

هذا ضابط للأشربة ودليله قول النبي - صلى الله عليه وسلم - ما أسكر كثيره فقليله حرام. وفي هذا الحديث دليل للقاعدة المشهورة أنّ ما أدى إلى الحرام فهو حرام لأنّ المسكر القليل الذي لا يسكر يؤدي إلى الحرام وإن لم ينتج عنه هو بنفسه حرام والحرام هو ماذا.؟ السكر فإنّ الإنسان إذا شرب كمية قليلة لن يسكر والمحرم هو السكر ومع ذلك النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول ما أسكر كثيره فقليله حرام فدل هذا دلالة واضحة جدا لهذه القاعدة العظيمة التي نحن في مثل هذه الأوقات أحوج ما نكون إليها في تقرير كثير من المسائل لاسيما ما يتعلق بالمعاملات المعاصرة وما يتعلق بأشياء كثيرة ما يتعلق بزينة المرأة وكل شيء يتوسع فيه الناس نحتاج إلى هذه القاعدة فهذا الحديث دليل لهذه القاعدة. وفي الحديث دليل على أنّ جميع أنواع الخمر محرمة ففيه رد على الأحناف الذين يرون أنّ القليل الذي لا يسكر يكون محرما إذا كان من العنب فقط وإذا كان من غير العنب فلا يحرم إلاّ الكثير منه في هذا الحديث رد عليهم لأنه عام كل ما أسكر كثيره فقليله حرام سواء كان من العنب أو من غيره. قال - رحمه الله - (وهو خمر من أي شيء كان) يعني شراب كل شراب يسكر فهو خمر شرعا من أي شيء كان لقول النبي - صلى الله عليه وسلم - كل مسكر خمر وكل خمر حرام ولحديث أنس في الصحيح أنّ تحريم الخمر نزل والخمر يومئذ من البسر والتمر أي وليس من العنب إذا الحديث دال على أنّ كل أنواع الأشربة التي تسكر تسمى شرعا خمرا ويدل على هذا الاشتقاق اللغوي ما يشتق من التغطية وزوال العقل وهذا تشترك فيه الأشربة التي أصلها من العنب والتي أصلها من غيره مما يصنع منه الخمر كالشعير والتمر والبسر والزبيب وغيره إذا دل الحديث والمعنى على صحة مذاهب الجماهير أنّ الخمر هو الشراب المسكر من أي نوع كان.

والقول الثاني: أنّ الخمر لا يسمى خمرا إلاّ إذا كان من العنب وما عداه لا يحرم إلاّ كثيره المسكر والصواب مع الجماهير لم سمعت من أدلة صحيحة وصريحة في الموضوع وهذه لمسألة من المسائل التي ثرب على الأحناف فيها والأئمة شنو عليهم حملة بسبب مخالفة صرائح النصوص ومن المعلوم أنّ هذه المسألة هي إلى باب الأشربة والأطعمة أقرب منها إلى باب حد المسكر إنما ذكرها المؤلف هنا ليتبيّن الشراب الذي إذا شربه الإنسان استوجب حد السكر. قال - رحمه الله - (ولا يباح شربه للذة) شربه يعني المسكر وقوله للذة يحتمل أنّ معنى كلام المؤلف أنه يحرم ولو كان قصد الشارب من الشرب اللذة والسكر ويحتمل أنّ قصد المؤلف أنّ شرب الخمر محرم ولو شربه للذة لا للسكر ودليل هذا المعنى الثاني قوله - صلى الله عليه وسلم -:"ما أسكر كثيره فقليله حرام". فإذا شرب الإنسان الخمر للذة لا ليسكر فهو أيضا محرم للحديث ويظهر لي أنا أنّ المعنى الثاني أقرب. لأنّ المعنى الأول موجود بقول الشيخ كل شراب أسكر كثيره فقليله حرام. كأنه يقول كل شرب المسكر حرام فإذا عرفنا هذا المعنى وقلنا لا يباح شربه للذة يعني إذا شربه ليلتذ بالسكر صار إعادة للمعنى الأول هكذا يبدوا لي أنّ المعنى الثاني أحسن. ثم - قال رحمه الله - (ولا لتداو) لا يجوز شرب الخمر ولو كان قصد الشارب التدواي لا السكر لقول النبي - صلى الله عليه وسلم - إنها ليست دواء بل هي داء , ولقول ابن مسعود - رضي الله عنه - إنّ الله لم يجعل شفاء الأمة في ما حرم عليها. وهذا الأثر أيضا ثابت في الصحيح فهذان دليلان على أنّ الخمر ليس بدواء بل داء. قال - رحمه الله - (ولا عطش) لا يجوز للإنسان أن يشرب الخمر ولو كان في ضرورة لدفع العطش لأنّ الخمر لا يحصل منه ري بل فيه حرارة تزيد من إحساس الشارب بالعطش وإذا كان شربه لا يرفع الضرورة صار محرما ولو في الضرورة والكلام الآن عن حال العطش وهذا صحيح. قال - رحمه الله - (ولا غيره إلاّ لدفع لقمة غص بها ولم يحضره غيره)

إذا غص الإنسان بلقمة ولم يحضره إلاّ الخمر جاز له بالإجماع شرب الخمر لدفع هذه الغصة لأنه حينئذ في حال ضرورة ونفع الخمر فيها متعيّن ومعلوم لأنه من المعلوم أنّ الخمر إذا شرب سيدفع اللقمة ويزيل الغصة ولهذا لم يختلفوا لقوله تعالى {إلا ما اضطررتم إليه} [الأنعام/119] وهذا مما اضطر إليه الإنسان ووجه الضرورة أنه لا يوجد غير هذا الشراب وقد غص بالطعام. قال - رحمه الله - (وإذا شربه) ظاهر كلام المؤلف أنّ شرب الخمر يوجب الحد ولو لم يسكر لأنه رتب العقوبة على الشرب ولا على السكر؟ على الشرب فبمجرد ما يشرب الإنسان الخمر فقد استوجب حد الشرب ولو لم يسكر وإلى هذا ذهب الجماهير واختاره الحافظ الفقيه ابن القيم ودليله ظاهر وواضح لقول النبي - صلى الله عليه وسلم - ما أسكر كثيره فقليله حرام. فدل هذا الحديث على أنّ الذنب هو شرب الخمر لا السكر وهذا صحيح وهو أنّ الإنسان يحد بمجرد شرب الخمر ولا يشترط أن يسكر بل بمجرد الشرب يحد حد الشرب. ولهذا لو أنّ المؤلف قال باب حد شرب الخمر كما عبر غيره من الفقهاء باب حد شرب الخمر لكان أدق من قوله حد المسكر فكأنّ الحد يتعلق بالقدر المسكر بينما الحد يتعلق بالشرب. قال - رحمه الله - (المسلم مختارا عالما أنّ كثيره يسكر) يشترط لإقامة الحد أن يكون مسلما مكلفا مختارا عالما وتقدمت معنا أدلة هذه الشروط مرارا تكرارا كما تقدم معنا ذكر هذه الشروط في بداية كتاب الحدود وهو أنه لا تقام الحدود مع الإكراه أو الجهل أو عدم التكليف. ثم - قال رحمه الله - (فعليه الحد ثمانون جلدة مع الحرية) حد شرب الخمر مما اختلف فيه الفقهاء اختلافا كثيرا على أقوال: القول الأول: أنّ الحد الواجب الذي لا يجوز النقص عنه ثمانون جلدة واستدلوا على هذا بأنّ عمر - رضي الله عنه - استشار الصحابة وأشاروا عليه وأصبح هذا إجماع منهم على أنّ الحد ثمانون. القول الثاني: أنّ الحد أربعون وإلى الثمانين تعزير واستدلوا على هذا بأنّ النبي - صلى الله عليه وسلم - وأبو بكر وأول خلافة عمر كانوا يجلدون أربعين جلدة ثم زاد الحد في عهد عمر فدل على أنّ هذه الزيادة من اجتهادات الإمام.

باب التعزير

الدليل الثاني: أنّ عمر - رضي الله عنه - كان إذا أوتي بالرجل وقع الشرب منه زلة جلده أربعين , وإذا أوتي بالرجل المنهمك جلده ثمانين ولو كان حدا لم يختلف من شخص لآخر وهذا القول اختاره ابن القيم. القول الثالث: أنّ شرب الخمر لا حد فيه وأنه تعزير كله يرجع فيه إلى رأي الإمام واستدلوا على هذا بأمرين: الأول: روي عن ابن عباس أنه قال لم يجعل النبي - صلى الله عليه وسلم - في الخمر حدا. الثاني: أنه جاء في الحديث الصحيح أنّ رجلا شرب الخمر في عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - فجلدوه بالنعال والجريد وأطراف الثياب والأيدي وهذا ليس حدا وإنما تعزيرا. والجواب عليه: أنّ في هذا الحديث الذي فيه الجلد بالنعال والأيدي وأطراف الثياب أنه ضربوه أربعين ضربة , فأثبت في الحديث العدد والراجح القول الثاني وإن كان العمل على المذهب. أنّ الحد ثمانون جلدة لا ينقص منها وفي الواقع لا فرق من حيث الواقع وبين القول الثاني والراجح لماذا؟ لأنّ عمر إنما زاده لانهماك الناس والناس ما زالوا منهمكين فإذا سيستمر الحد ثمانون جلدة وإنما يتضح الخلاف فيما إذا صار شرب الخمر قليلا يقع في النادر حينئذ يكون للخلاف ثمرة في الواقع. ثم - قال رحمه الله - (وأربعون مع الرق) لما تقدم في الزنا والقذف وإذا كان ينصف في الزنا والقذف وهي أعظم من الشرب ففي الشرب من باب أولى. باب التعزير قوله - رحمه الله - باب التعزير التعزير في اللغة هو الرد والمنع. وقيل إنّ التعزير من الأضداد فهو يطلق على النصرة ويطلق في نفس الوقت على التأديب أي أنّ معنى النصرة ومعنى التأديب معان أصلية في لغة العرب لهذا اللفظ. وأما في الاصطلاح / فذكره المؤلف بقوله وهو التأديب , قوله وهو التأديب فيه نقص ولو قال وهو التأديب في المعصية لا حد فيها ولا كفارة لكان تعريفا أوضح وهذا التعريف الثاني اختاره الشيخ المجد في المحرر وهو تعريف محرر إذا التعزير هو التأديب في كل معصية لا حد فيها ولا كفارة , والمؤلف جعل تعريف الشيخ ابن مفلح كأنه من الأحكام ولهذا يقول وهو واجب في كل معصية لا حد فيها ولا كفارة والواقع أنّ هذا هو التعريف. قوله - رحمه الله - (وهو واجب)

أشار المؤلف إلى أنّ قيام الإمام بالتعزير في المعاصي التي ليس فيها حدود واجب ومتعيّن فكل معصية يجب أن يؤدب فيها. والقول الثاني: أنّ التعزير أمر مندوب وليس بواجب فإن شاء الإمام صنعه وإن شاء تركه. والقول الثالث: أنّ التأديب يرجع فيه إلى المصلحة لا إلى التشهي فإذا رأى الإمام أنّ المصلحة في التأديب والزجر على معصية معيّنة فعليه أن يفعل وإن رأى أن لا يفعل فذاك إليه. لأنه ثبت في السنة في أحاديث كثيرة أنّ بعض الصحابة ألمّ بذنب لا يوجب العقوبة ولم يصدر عن النبي - صلى الله عليه وسلم - تعزير له ولا تأديب فعلمنا أنه أمر يرجع فيه إلى رأي الإمام بحسب المصلحة لا حسب التشهي قال - رحمه الله - (وهو واجب في كل معصية) ظاهره أنه واجب في كل معصية يعني فعل محرم ومرادهم - رحمهم الله - في كل معصية سواء كان فعل محرم أو ترك واجب وإلى هذا ذهب شيخ الإسلام أنه في فعل المحرم وترك الواجب. ثم - قال رحمه الله - (لا حد فيها ولا كفارة) يعني أنه لا يشرع الجمع بين الحد والتعزير وهذا أمر مسلم فيه ويستثنى من هذا صور يسيرة جاء في الشرع الجمع فيها بين الحد والتعزير منها المسكر منها الزيادة على الأربعين فيها جمع بين الحد والتعزير وما عدى الصور المستثناة فإنه لا يجوز الجمع بين الحد والتعزير لأنّ الحد يكفي عن التعزير وهو العقوبة التي اختاره الله. يقول - رحمه الله - (لا حد فيها ولا كفارة) إذا كان العمل المحرم فيه كفارة فإنه لا يجوز أن نجمع مع الكفارة تعزير مثال ذلك الظهار فالظهار ذنب ومعصية لا حد فيها لكن فيها كفارة فلا يجوز أن نؤدب المظاهر بغير الكفارة كذلك القتل شبه العمد نفس الشيء فيه كفارة فإذا قتل الإنسان شبه عمد فإنه لا يجوز أن نؤدبه وإنما نكتفي فيه بالكفارة وأيضا هل نقول قتل الخطأ؟ نعم لأنه ليس فيه ذنب , فيه كفارة لكنه ليس بذنب ولا معصية لأنه خطأ لا يؤاخذ عليه الإنسان. يفهم من كلام المؤلف أنه يجوز أن نجمع بين الدية والتأديب لأنه استثنى الحد والكفارة فقط. إذا يجوز أن نجمع بين التأديب الدية وهو كذلك وتمثيل الحنابلة يدل على هذا فإنهم مثلوا بشبه العمد وشبه العمد فيه دية فإذا وجود الدية لا يمنع من وجوب التأديب.

قال - رحمه الله - (كاستمتاع لا حد فيه) الاستمتاع الذي لم يصل إلى ما يوجب حد الزنى فإنه فيه التأديب والتعزير ونحن تقدم معنا أنّ حد الزنا لا يكون إلاّ بماذا؟ بالوطء فكل استمتاع من الرجل بالمرأة لم يصل إلى الوطء ففيه التعزير فقط. يقول - رحمه الله - (وسرقة لا قطع فيها) سيأتينا أنواع كثيرة للسرقات التي ليس فيها قطع كالسرقة من غير حرز وسرقة الأب من مال أبنه والشبه التي ستأتينا كثيرة في باب حد قطع السرقة فكل ما يمنع من القطع فإنه يجب أن نؤدب وأن نعزر هذا السارق. قال - رحمه الله - (وجناية لا قود فيها) تقدم معنا جملة من الجنايات لا قود فيها وهي الجنايات الخمس الأولى فهذه الجنايات التي تقدمت معنا ليس فيها قصاص إلاّ أنه فيها تأديب وتعزير وإذا كانت الجناية لا قصاص فيها وفيها دية فهل فيها تعزير؟ نعم كما تقدم معنا أنّ الدية لا تمنع التعزير وإنما الذي يمنعه الحد أو الكفارة. ثم - قال رحمه الله - (وإتيان المرأة المرأة) هو السحاق تقدم معنا أنه فقد شرطا من شروط إقامة حد الزنا وهو الوطء ولذلك فيه التأديب فقط. ثم - قال رحمه الله - (والقذف بغير الزنا ونحوه) إذا قذف بغير الزنا كأن يقول يا فاسق يعني بغير الزنا لكونه يشرب الخمر أو لأي موجب من موجبات الفسق أو الشتم الدارج بين الناس فإنّ هذا لا يستوجب حد القذف فكل لفظ فيه عيب وشتم لم يصل إلى حد القذف فإنّ فيه التعزير. قال - رحمه الله - (ولا يزاد في التعزير على عشر جلدات) المؤلف يريد أن يبيّن الحد الأعلى للتعزير لكنه لم يتحدث عن الحد الأدنى والسبب في هذا أنّ الجماهير يرون أنه لا يوجد حد أدنى للتعزير لهذا لم يذكره. والقول الثاني: أنّ الحد الأدنى للتعزير ثلاث جلدات. لأنّ الأقل من هذا المقدار لا يحصل فيه ردع ولا زجر ولا له أثر. والراجح القول الأول والجلد ولو كان جلدة واحدة أحيانا يكون له أثر وهو العيب والتشهير وإن لم يصب بالألم إلاّ أنه يصاب بماذا؟ بالعيب والتشهير مجرد أن يقال فلان جلد هذا فيه تأديب وتعزير وإن لم يشعر بالألم ولهذا نقول الراجح مذهب الجماهير. وأما أكثره فيقول الشيخ - رحمه الله - (ولا يزاد في التعزير على عشر جلدات)

لا يجوز الزيادة على عشر جلدات مطلقا في أي تعزير لقول النبي - صلى الله عليه وسلم -:" لا يجلد أحد فوق عشر جلدات إلاّ في حد من حدود الله". القول الثاني: أنه لا حد لأكثره إلاّ أنه لا يتجاوز في الجنس الواحد الحد المشروع مثال هذا إذا سرق سرقة لا توجب القطع لا يجوز أن نصل به إلى القطع. وإذا قذف قذفا لا يوجب إقامة الحد لتخلف شرط من الشروط فإنه لا يجوز أن نصل به إلى حد القذف. وإذا باشر امرأة وقبلها وضمها ومكث معها ساعات فإنه لا يجوز أن نصل به إلى حد الزنا وهكذا. القول الأخير: أنه لا حد لأكثره مطلقا. لأنه جاء في الشرع التعزير ولم يأتي له حد فالنبي - صلى الله عليه وسلم - أخذ من مانع الزكاة شطر ماله. وهم بتحريق التاركين للصلاة. وغرم من أخذ من الحائط بغير إذن صاحبه مثلي قيمته إلى غير هذا من أنواع التعزيرات وحرق رحل الغال إذا صح. وفي هذا كله إقرار لمبدأ التعزير ولا يوجد دليل على التحديد. وأجاب أصحاب القول الثالث عن الحديث بأنّ المقصود بقول النبي - صلى الله عليه وسلم - في حد من حدود الله , يعني لا يجوز الزيادة في الأمور المحرمة لحق الله فخرج بهذا تأديب الرجل ولده فلا يجوز أن يزاد فيه عن عشر وتأديب الرجل لزوجته فلا يجوز أن يزاد فيه عن عشر. والراجح القول الثاني لأنه وسط بين القولين. ولأنّ تجاوز الحد الشرعي في معصية فيها يعني في جنسها حد ظلم للجاني وجه الظلم أنّ الشارع يرى أنّ جناية هذا الشخص لم تصل لأن يقام عليه الحد ونحن أوصلناها الحد وزيادة وهذا فيه ظلم وبعد عن العدل لهذا نقول الراجح إن شاء الله أنه لا حد فيه إلاّ أنه لا يتجاوز فيه الحد في الجنس. قال - رحمه الله - (ومن استمنى بيده بغير حاجة عزر) الاستمناء ينقسم إلى ثلاثة أقسام: القسم الأول: أن يستمني بيد زوجته وهذا جائز بالإجماع. القسم الثاني: أن يستمني بيد أجنبية وهذا محرم بالإجماع. القسم الثالث: أن يستمني بيده وهذا هو محل الخلاف.

باب القطع في السرقة

فالحنابلة يرون أنّ الاستمناء محرم إلاّ لحاجة واستدلوا بالآية {والذين هم لفروجهم حافظون} [المؤمنون/5] {إلا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم فإنهم غير ملومين} [المؤمنون/6] {فمن ابتغى وراء ذلك فأولئك هم العادون} [المؤمنون/7] واستخراج المني باليد خارج عن ذلك فصاحبه من العادين. القول الثاني: أنه يجوز مطلقا لأنه ليس في الأدلة الشرعية ما يدل على منعه. القول الثالث: أنه يكره. والقول الرابع: أنه يجوز للضرورة لأنّ ممارسته خير من الوقوع في الزنا وهذا الأخير هو الراجح وهو قريب من المذهب إلاّ أنّ المذهب عبارتهم يعني بغير حاجة خفيفة. والنص دل على المنع لذلك نقول أنّه الراجح محرم إلاّ للضرورة. ويلحق بالضرورة الحاجة الماسة التي تقرب من الضرورة لأنّ كثيرا من الفقهاء يلحق الحاجة الماسة جدا بالضرورة. على كل حال أنه لا يجوز إلاّ للضرورة. والدليل على ذلك أما المنع فالآية. وأما الجواز لأنه خير من الوقوع في الزنا. والضرورة هنا الوقوع في الزنا أو الضرورة القسم الثاني احتباس المني بما يتحقق معه مضرة الجسم مضرة بالغة. باب القطع في السرقة بيّن المؤلف في العدوان أنّ السرقة فيها القطع , وقطع السارق من حيث هو دل عليه الشارع الكتاب والسنة والإجماع. أما الكتاب فقوله: {والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما} [المائدة/38] وأما السنة فقول النبي - صلى الله عليه وسلم -:" لا تقطع يد في أقل من ربع دينار". وأحاديث كثيرة ستأتي معنا. وأما الإجماع فلم يختلفوا ولله الحمد أنّ على السارق القطع إذا استكمل الشروط. والمؤلف - رحمه الله - (إذا أخذ الملتزم) يعني أنّ الحد إنّما يقام على الملتزم وهو المنقاد لأحكام الشرع وهو المسلم والذمي والمستأمن والمعاهد. ثم - قال رحمه الله - (نصابا من حرز مثله من مال معصوم) خالف الشيخ المؤلف الأصل , فهنا ذكر الشروط التي إذا تحققت وجب القطع ثم سيرجع في الصفحة القادمة ويذكر الشروط مرتبة وفي صنعه هذا ماذا؟ تكرار. الشيخ ابن قدامة صاحب الأصل لم يصنع هذا وإنما بدأ بتعريف السرقة ثم انتقل إلى الشروط بلا تكرار وهذا هو المنهج الصحيح. ولهذا سنمر بسرعة على هذه الشروط التي ذكرها لأنه سيرجع ويذكرها واحدا واحدا.

(نصابا) والنصاب هنا ثلاثة دراهم أو ربع دينار وسيأتي ما يتعلق فيه من خلاف. (من حرز مثله) الحرز هو ما يحفظ فيه المال وهو من شروط القطع (من مال معصوم) وتقدم معنا من هو المعصوم (لا شبهة فيه) كسرقة الإنسان من مال ابنه وأيضا ستأتينا. ثم - قال رحمه الله - (على وجه الاختفاء قطع) هنا عرّف الشيخ السرقة. فالسرقة هي أخذ المال على وجه الاختفاء بغير علم المسروق. وهذا التعريف ضروري جدا لأنه يخرج أعمال كثيرة لا قطع فيها لأنها لا يصدق عليها التعريف. قال - رحمه الله - (فلا قطع على منتهب) المنتهب هو الذي يأخذ المال على وجه القهر والغلبة اعتمادا على قوته. فهذا الأخذ يسمى نهب. ثم - قال رحمه الله - (ولا مختلس) الاختلاس هو خطف الشيء اعتمادا على أمرين: السرعة والغفلة. ثم - قال رحمه الله - (ولا غاصب) الغصب هو أخذ المال قهرا وبهذا يكون قريب من النهب ولهذا يقولون النهب والغصب كأنّ معناهما واحد أو متقارب ولاشك أنه في لغة العرب يوجد فرق بين النهب والسرقة لأنّ القول الصحيح أنه لا يوجد في لغة العرب لفظان لهما نفس المعنى تماما لكن أنا لم أقف على معنى واضح للتفريق وهو يوجد يحتاج فقط إلى بحث. ثم - قال رحمه الله - (ولا خائن) الخائن هو المفرط بالأمانة على أي وجه كان فإذا فرط في الأمانة فهو خائن. ثم - قال رحمه الله - (ولا خائن في وديعة) جاحد الوديعة لا قطع عليه بالإجماع لأنّ جحد الوديعة وما تقدمه من النهب والغصب والاختلاس لا يصدق عليه حد السرقة. ثم - قال رحمه الله - (أو عارية أو غيرها) كذلك لا قطع في العارية ولا قطع في غيرها والمقصود بغيرها يعني جميع الأمانات , والمؤلف خالف في هذه المسألة المذهب فالمذهب يرون وجوب القطع في العارية. أولا نبقى مع المؤلف فالمؤلف يرى أنه لا قطع في العارية ويستدل على هذا بالقياس على الأمانات فإنّ الوديعة لا قطع فيها إجماعا والتعليل أنها من الأمانات فالعارية كذلك من الأمانات. والقول الثاني: أنّ جحد العارية يوجب القطع , واستدل أصحاب هذا القول بأنّ امرأة في زمن النبي - صلى الله عليه وسلم - كانت تستعير المتاع ثم تجحده فقطعها النبي - صلى الله عليه وسلم -.

وأجاب القائلون بعدم القطع عن هذا الحديث بأنّ هذه المرأة قطعت لأنها سرقت وأما وصفه إياها في الحديث بأنها تجحد المتاع فهو وصف تعريفي يعني المرأة التي من شأنها أنها كانت تجحد العارية. والراجح أنه يجب فيها القطع لأنّ النص لا يمكن الخروج عنه فإنه ذكر أنّ المرأة كانت تجحد وتقطع يعني لذلك والفرق بين العارية والوديعة. أنّ العارية لا يمكن التحرز منها بخلاف الوديعة فإنها تكون بإرادة المودع فهو الذي بإرادته وضع المتاع عند الشخص الآخر فهو يستطيع أن يمتنع بخلاف العارية لأنّ الناس تعارفوا على عيب وذم من يمتنع عن إعارة جيرانه. إذا هذا هو الفرق بين العارية والوديعة والراجح كما قلت المذهب وهو وجوب القطع بجحد العارية. قال - رحمه الله - (ويقطع الطرار الذي يبط الجيب أوغيره ويأخذ منه) عرّف الشيخ - رحمه الله - الطرار بأنه الذي يبط , والبط في لغة العرب/ هو الشق فإذا شق جيبه وأخذ ما فيه فإنه يقطع وعللوا هذا بأنها سرقة من حرز فإنه جرى العرف أن يضع الإنسان ماله في جيبه. والقول الثاني: أنه لا قطع على الطرار لأنه أشبه بالمختلس منه بالسارق والراجح؟ لأنه شبهه بالسارق من البيوت أكبر من المختلس لأنّ المختلس يعتمد على الغفلة والسرعة. وهذا لا يسرع وإنما ببطء يأخذ ما يريد ويذهب خفية ومع هذا تبقى المسألة مترددة ليست بذاك الوضوح لكن الأقرب أنه سارق تقطع يده لذلك واليوم أصبحت هذه الصنعة حرفة مما يتأكد معها القول بالقطع حتى يرتدع الناس فإنّ غالب السرقات لا سيما في الحرمين تكون عن طريق إما شق الشنط أو شق الجيوب والقطع الذي يحصل أحيانا يكون من أكبر الأسباب في ردع مثل هؤلاء. قال - رحمه الله - (ويشترط أن يكون المسروق مالا محترما) بدأ المؤلف بالشروط بدأ بالشرط الأول: وهو أن يكون المال المسروق محترما شرعا , فإذا لم يكن محترما فإنه لا يقطع بسرقته وهذا من حيث هو في الجملة محل إجماع. فإنهم أجمعوا لوجوب القطع أن يكون المال المسروق محترما لكن اختلفوا في مسألة أخرى وهي هل يشترط في المال المحترم أن لا يكون من الأموال التي يسرع إليها الفساد أو لا يشترط؟ على قولين:

فالجمهور لم يشترطوا هذا الشرط فسرقة أي مال محترم ولو كان مما يسرع إليه الفساد يوجب القطع واستدلوا على هذا بعموم الأدلة. وذهب الأحناف إلى أنه إذا سرق مالا يسرع إليه الفساد فلا قطع واستدلوا على هذا بقول النبي - صلى الله عليه وسلم - من أخذ من ثمر الحائط بفيه من غير أن يأخذ خبنة فلا حرج عليه ومن أخذ فإنه عليه قيمته مثلين ومن أخذ المال بعد وضع الثمر في الجرين فعليه القطع. فالنبي - صلى الله عليه وسلم - قسم الثمار إلى ثلاثة , إن أخذ من الشجرة ولم يتزود فلا شيء عليه. وإن تزود وأخذ وخرج بلا إذن فعليه ضعفي قيمة ما أخذ , وإن أخذ بعد أن وضع في الجرين وهو مخزن الطعام للتيبيس فعليه القطع. فالأحناف فهموا من هذا الحديث أنه لم يقطع في الصورة الأولى والثانية بسبب أنّ الثمرة كانت رطبة يسرع إليها الفساد وقطع في الصورة الثالثة لما كان في الجرين لأنه يبس وصار لا يسرع إليه الفساد هكذا هم فهموا الحديث. والجمهور لم يفهموا الحديث كهذا الفهم وإنما قالوا إنما لم يقطع النبي - صلى الله عليه وسلم - في الصورة الأولى لأنه ليس من حرز وقطع في الصورة الثالثة لأنه من حرز فالمناط هو كونه في حرز أو ليس في حرز وليس المناط أن يكون يابسا أو رطبا والراجح إن شاء الله مذهب الجمهور وأنه لا يشترط في المال أن يسرع إليه الفساد بل من سرق أي مال محترم بشرطه فإنه يقطع. ثم - قال رحمه الله - (فلا قطع بسرقة آلة لهو) آلة اللهو من الأعيان التي لا قيمة لها شرعا فلا يقطع بسرقتها. مسألة ولو إذا كسرت صارت قيمتها تبلغ نصابا فكذلك لا قطع في سرقتها. ثم - قال رحمه الله - (ولا محرم كالخمر) الخمر يقاس على الخنزير عين لا قيمة لها شرعا فلا يقطع بسرقتها وإنما يعزر كما تقدم معنا. ثم - قال رحمه الله - (ويشترط أن يكون نصابا) ذهب الجماهير من الأئمة إلى أنه يشترط في المال المسروق أن يبلغ نصابا واستدلوا بالأدلة التي ستأتينا في تحديد النصاب وهي أدلة صريحة وواضحة. والقول الثاني: أنه يقطع في القليل والكثير لعموم الآية والراجح مذهب الجماهير من الأئمة بلا إشكال لوضوح النصوص في تحديد نصاب معيّن لا يقطع في أقل منها.

ثم - قال رحمه الله - مبيّنا النصاب (وهو ثلاثة دراهم أو ربع دينار أو عرض قيمته كأحدهما) ذهب الحنابلة إلى أنّ النصاب مقدر بأصلين الفضة والذهب وأنه إذا بلغت قيمة العرض أيّا منهما فإنه يقطع بأخذه ولهذا يقول - رحمه الله - وهو ثلاثة دراهم أو ربع دينار واستدل الحنابلة على هذا بأنّ رجلا سرق مجن والمجن هو الترس في عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - فقطعت يده لأنه قوّم المجن فبلغ ثلاثة دراهم. والدليل الثاني لهم: أنّ النبي - صلى الله عليه وسلم - قال لا قطع في أقل من ربع دينار فجاءت النصوص باعتبار الذهب والفضة. القول الثاني: أنّ الأصل في النصاب هو الفضة ويقدر به الذهب والمتاع لأنّ النبي - صلى الله عليه وسلم - لما سرق الرجل المجن قدره بالفضة ولم يقدره بالذهب. القول الثالث: أنّ الذهب أصل بنفسه لنفسه فقط , والفضة أصل لنفسها وتقوّم بها الأعيان. والقول الأخير: أنّ الأصل هو الذهب فقط وما عداه يقوّم به. والراجح المذهب لأنّ النصوص اعتبرت الذهب والفضة فنقدر المتاع بهما فإذا صار قيمة المتاع إذا اعتبرناه بالدراهم نصابا وإذا اعتبرناه بالذهب ليس بنصاب يقطع أو لا يقطع؟ يقطع عند الحنابلة ولا يقطع عند القائلين بأنّ الأصل في التقويم هو الذهب فهذه المسألة ينبني عليها الحكم بشكل واضح بأنّا نقدر الأعيان المروقة إما بالذهب أو بالفضة والراجح كما قلت إن شاء الله المذهب. ثم - قال رحمه الله - (وإن نقصت قيمة المسروق أو ملكها السارق لم يسقط القطع) معنى هذا الكلام أنّ السارق إذا سرق المتاع ثم لما سرقه نقصت قيمته فإنه لا يسقط القطع , لأنّ الشرط هو أن يخرج المسروق بقيمته من حرزه ثم نقصه بعد ذلك لا قيمة له بدليل أنه لو أخرجه ثم استعمله فإنّ القيمة ستنقص بهذا الاستعمال والقطع لابد منه. ثم - قال رحمه الله - (أو ملكها السارق)

إذا ملكها السارق بهبة أو ببيع أو بإرث فإنّ القطع لا يسقط مقصود المؤلف يعني إذا وصلت إلى الحاكم فإنه إذا ملكها بعد وصولها إلى الحاكم فإنّ القطع لا يسقط فإذا قال السارق للمسروق سأشتري منك السلعة بعد أن وصلت إلى الحاكم فإنه لو اشترى لا يسقط القطع أما إذا اشتراها قبل أن تصل القضية إلى الحاكم وترفع إليه فإنّ القطع يسقط حينئذ. ثم - قال رحمه الله - (وتعتبر قيمتها وقت إخراجها من الحرز) تعتبر القيمة وقت الإخراج من الحرز لأنه وقت السرقة والسرقة هي سبب القطع فلما كانت السرقة هي سبب القطع اعتبرنا وقتها ففي الوقت الذي يخرج فيه المتاع من الحرز نعتبر القيمة في ذلك الوقت لا قبل ولا بعد فإذا أخرج السلعة من الحرز فلما أخرجها وصارت خارج الحرز ارتفعت وبلغت نصابا فلا قطع ولو أخرجها ثم نزلت وصارت أقل من النصاب فيجب القطع.

الدرس: (4) من الحدود قال شيخنا حفظه الله: بسم الله الرحمن الرحيم والحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين. قال - رحمه الله - (وتعتبر قيمتها وقت إخراجها من الحرز) هذا تقدم معنا وأنّ سببه أنّ الإخراج هو سبب وجوب القطع فاعتبرنا وقته وتقدم في الدرس السابق. ثم - قال رحمه الله - مفرعا على هذا القيد (فلو ذبح فيه كبشا أو شق فيه ثوبا فنقصت قيمته عن نصاب ثم أخرجه) هذه المسائل مفرعة أنّ الوقت الذي يعتبر فيه القيمة هو الإخراج من الحرز فإذا ذبح الكبش قبل أن يخرجه من الحرز فإنّ هذا الكبش بذبحه تنزل قيمته فإذا نزلت قيمته عن النصاب فإنه لا قطع فيه فإذا ذبحه ثم أخرجه فلا قطع قيمة الكبش بسبب الذبح قبل إخراجه كذلك إذا شق فيه ثوبا يعني في الحرز قبل أن يخرجه ونقصت قيمته عن النصاب ثم أخرجه فلا قطع للسبب ذاته وهو أنه نقصت قيمته عن النصاب ويستوي في هذا ما إذا صار النقص أو وقع النقص بفعل السارق أو بغير فعله مثل أن يسقط الشيء بلا سبب من السارق ثم تنقص قيمته ومثل أن يقوم هو بتكسير الشيء وتنقص قيمته فالصورتين لهما نفس الحكم. يستثنى من هذا ما إذا صنع هذا الصنع حيلة لأنّ الحيل لا تسقط الواجبات ولا تبيح المحرمات فإذا فعل هذا حيلة ليتخلص من القطع فإنه لا تنفعه هذه الحيلة ويقطع. ثم انتقل الشيخ - رحمه الله - إلى الشرط الثالث من شروط وجوب إقامة حد السرقة. فقال - رحمه الله - (وأن يخرجه من الحرز) ذهب الحنابلة بل الأئمة الأربعة إلى أنّ الحرز شرط فإذا سرق من غير حرز فلا قطع والأئمة الأربعة بل الجماهير استدلوا على هذا بالحديث السابق فيمن أخذ من ثمر الحائط وفي آخر الحديث فإذا أواه الجرين ثم أخذ فإنه يقطع فجعل النبي - صلى الله عليه وسلم - القطع في صورة واحدة وهي ما إذا وصلت الثمرة إلى الجرين لأنه حرز ولم يجعل القطع فيما دون ذلك لما إذا أخذ من الشجرة وأخرجه خارج البستان أو أكل منه داخل البستان فلا قطع لعدم تحقق شرط الحرز. والقول الثاني: أنّ السارق يقطع وإن أخرجه من غير حرز لأنه أخذ المال بغير حق والصواب مع القول الأول. بل القول الثاني فيه شذوذ والعمل على خلافه بين قضاة المسلمين على مدار الأعصار فهو شاذ في الحقيقة. ثم - قال رحمه الله - مبيّنا الحرز (وحرز المال ما العادة حفظه فيه) لما بيّن أنّ الحرز شرط لوجوب القطع انتقل إلى بيان ماهية الحرز. والحرز هو ما يحفظ فيه الشيء وتحديد كون المكان المأخوذ منه حرزا أو لا يرجع فيه إلى العرف والسبب في هذا أنّ الشارع لما بيّن وجوب اعتبار الحرز ولم يبيّن حد الحرز رجعنا فيه إلى العرف.

يقول الشيخ - رحمه الله - (ويختلف باختلاف الأموال والبلدان وعدل السلطان وجوره) فذكر عدة اعتبارات يختلف فيها اعتبار الشيء حرزا أو لا. الأول" طبيعة المال فمن الأموال ما يوضع في صندوق ومنها ما يوضع في البيت بلا صندوق ومنها ما يوضع في الدكان ومنها ما يوضع في الشارع فهو يختلف باختلاف طبيعة المال ويختلف باختلاف طبيعة البلدان وطبيعة البلدان تختلف باعتبارين , باعتبار طبيعة الناس وخفة الدين وكثرة السرقة أو باعتبار السلطان وهو الذي أشار إليه في قوله وعدل السلطان وجوره فكلما كان السلطان عادلا مقيما للحدود انتشر الأمن وخفت السرقة وكلما كان العكس حصل عكسه. ثم - قال رحمه الله - (وقوته وضعفه) هناك بين عدل السلطان وجوره وبين قوته وضعفه فقد يكون عادلا ضعيفا وقد يكون صاحب جور وقوي والحقيقة المؤثر في الحكم هنا المؤثر الأول القوة , والضعف أكثر منه في العدل والجور فإنّ السارق يخشى السلطان القوي أكثر من خشيته للسلطان العادل لكن بطبيعة الحال أنّ غالب السلاطين إذا كانوا أهل عدل فإنهم سيقومون بما أوجب الله عليهم من حفظ الأموال والأنفس والأعراض ويكون في هذا كف للسارق على كل حال الأموال تختلف بهذا الاعتبار ولهذا قال كأنه مبيّنا للقيد الأول كأنه يشرح قوله باختلاف الأموال. ولهذا يقول - رحمه الله - (فحرز الأموال والجواهر والقماش في الدور والدكاكين والعمران وراء الأبواب والأغلاق الوثيقة)

هذا النوع من الأموال وهي الجواهر والنقود والأقمشة يكون حفظها بأمرين: أن تكون خلف الأبواب وخلف الأغلاق فيشترط أن تكون الأبواب مغلقة وأن تكون أيضا محكمة بالأقفال بلا هذين القيدين يكون المال ليس في حرز مثله , وفهم من كلام المؤلف أنّ المال إذا كان داخل بيت والباب مقفل ومغلق لا يشترط مع هذا أن نضع المال في صندوق بل صرح الحنابلة بما يدل على أنهم لا يرون هذا صراحة في مسألة أخرى وهي قولهم فإذا كان الباب مفتوحا فإن كانت الأموال في الصناديق فهي حرز وإلاّ فلا , فهم من مجموع هذه المسائل أنّ الحنابلة يرون أنّ الباب المغلق والمقفل بقفل أنّ هذا حرز ولا يشترط أن يكون في صندوق وما دام المؤلف أرجع أو أحال على العرف فعندنا الأعراف لا تكتفي في النقود بوضعها داخل المنازل ولو أغلقت الأبواب بل جرت العادة أن تحفظ داخل المنزل في وعاء خاص إما في صندوق أو تجوري أو دولاب المهم أن توضع في مكان خاص وليست توضع في البيت هكذا بدون حفظ ربما في القديم كانت العادة أن توضع الأشياء في البيوت بلا حفظ ربما ولكن العرف الآن أنه لا بد أن توضع في صندوق. فمثلا لو كان صاحب البيت تاجر مجوهرات فليس من المنطق أبدا أن يأتي بكراتين من المجوهرات ويضعها في مجلس الرجال كمستودع للمجوهرات ثم إذا سرقت يقول أنها سرقت من حرز لأنّ وضعها في هذا المكان ليس وضعا لها في الحرز بل لا بد أن تكون في مكان آمن يأمن معه عليها من السراق.

المهم أنّ هذا يرجع إلى الأعراف وقضية حساسة وتستحق في الحقيقة تطويل وتوضيح لأنه غالب الشروط التي تختل هو الحرز فمثلا السيارات هي إذا وضعت بجوار البيت حرز؟ أو لا بد تدخل في البيت هذه مسألة؟ من المعاصرين من يقول وضعها في الشارع أي مال في الشارع ليس في حرز في أردت أن تحفظ السيارة لابد أن تدخلها في داخل البيت فهذه المسألة ترجع إلى قضيتنا وهي هل هذا حرز أو ليس بحرز فمثلا في السيارات يبدوا لي أنا بوضوح وجلاء بدون خفاء أنّ وضعها في الشارع بجوار البيت حرز وأنّ هذه السيارة إنما تحفظ في مثل هذا والناس إنما اعتادوا إدخال السيارات في البيوت في وقت قريب قبل مثلا عشر سنوات أو قبل عشرين سنة كان الناس لا يعرفون أو غالب الناس لا يعرفون إدخال السيارة إلى داخل المنزل فوضع السيارة في الشارع مع إقفال السيارة وإحكام قفلها يعتبر حرز فإذا سرق يجب أن يقطع هذه مسألة على سبيل التمثيل لتعرف أهمية معرفة الحرز وما يعتبر حرزا تقطع به اليد وما لا يعتبر. ثم انتقل المؤلف إلى الأموال الأخرى. فقال - رحمه الله - (وحرز البقل) البقل يقول الخليل هو كل نبات ليس من الشجر , أي نبات لا يعتبر شجرة فهو من البقل وقيل أنّ البقل هو ما تخضر به الأرض ومفهوم هذا يعني سواء كان يأكل أو لا يأكل وقيل إنّ البقل هو كل نبات لا ساق له وهذه الأقوال كما لا يخفى متقاربة ومعناها واحد من أمثلة البقل الخس والبصل والجرجير ونحوها. يقول - رحمه الله - (وقدور الباقلاء) الباقلاء اختلفوا فيه , فالقول الأول: أنه الفول الأخضر. والقول الثاني: أنّ الباقلاء شيء والفول بنوعيه شيء آخر وأما الراجح فلم أستطع أن أرجح لأني ما أعرف الباقلاء يعني شكله ولا طريقته وأما الكتب فهم مختلفون ويبدوا لي أنّ الباقلاء قريب من الفول وإن كان يختلف عنه. على كل حال لو قال الشيخ والفول لكان أشهر لكن ربما كان الباقلاء أشهر في زمنهم والفول أشهر في زماننا. ثم - قال رحمه الله - (ونحوهما) يعني نحو هذه البقول والشجر. قال - رحمه الله - (وراء الشرائج) هي أعواد إما أن تكون من القصب أو من الخشب ويشترط أن تصف بجوار بعضها وتربط وبهذا تكون حرزا لما ورائها.

يقول الشيخ - رحمه الله - (إذا كان في السوق حارس) فتبيّن معنا أنها لا تكون حرز إلاّ بأمرين: وجود الشرائج , ووجود الحارس. وهذا عرف في زمنهم أنها لا تحفظ إلاّ بمثل هذا في زمننا لا يشترط وجود لا الشرائج ولا الحارس بل وجود في مكانها في السوق الذي تباع به عادة يعتبر حرز تحفظ الأموال في مثله ولا يعتبر التاجر مفرط إذا وضعها فيه فإن سرقت قطع السارق متى بلغ قيمة المسروق النصاب. قال - رحمه الله - (وحرز الحطب والخشب الحظائر) الحظائر هي الأماكن التي تعد لبهيمة الأنعام ويشترط الحنابلة مع وضع الخشب في الحظائر أن يكون الخشب مربوط بعضه إلى بعض فإذا ربط المالك الخشب بعضه إلى بعض ووضعه في حظيرة فهذا يعتبر حرز فإن ألقى الحطب في الحظيرة بلا ربط بعضه إلى بعض فليس بحرز لأنه مع الربط يصعب مع السارق إخراجه وبلا ربط يسهل على السارق إخراجه هكذا قرر المؤلف وكأنهم كانوا يضعون الخشب في أحواش البهائم وأما الآن فإنّ الحطب لا توضع في أحواش البهائم وإنما لها أماكن خاصة وهذا يعود بنا إلى قضية العرف. ثم - قال رحمه الله - (وحرز المواشي الصير) الصير هي حظائر الغنم معنى هذا أنّ وضع البهائم في الحظائر المعتادة يعتبر حرز وإذا لا يشترط في المزارع لكي نقطع السارق أن يكون على المزرعة جدار مبني وأن يكون لها باب مغلق. إنما إذا وضعنا الأغنام في حظائر معتادة فإنّ السرقة منها تعتبر سرقة يقطع بمثلها. حرز البهائم إذا خرجت من الحظائر لترعى يحصل بأمرين: أن يوجد الراعي وأن يكون الراعي غالبا وليس دائما ينظر إليها فإذا عرف عن الراعي الإهمال وأنه نصف الوقت ينظر إليها ونصفه لا ينظر إليها فإنّ السارق منها لا يقطع وإذا عرف أنّ الراعي ينظر إليها غالبا ويحرص على حمايتها مع وجوده في الوقت كله فإنّ هذا يعتبر حرز ويقطع السارق بسرقة ما يوازي النصاب وكما قلت مرارا أنّ هذا يرجع إلى العرف واليوم مثلا يكثر من بعض الشباب الفارغ سرقة الأغنام لبيعها والانتفاع بثمنها فهل يشترط أنا نقول لصاحب المزرعة أغلق بابك وأحكم جدارك ولا تكتفي بوضع مثل هذه الأغنام في الحظائر أو لا يقال مثل هذا. من وجهة نظري أنه في وقتنا هذا تنقسم الأغنام إلى قسمين:

القسم الأول: الأغنام مرتفعة الثمن يعني يوجد من الأغنام ما قيمته خمسمائة ألف ستمائة ألف الواحدة بغض النظر عن مشروعية هذه الأسعار نحن نتحدث عن السرقة ولسنا نتحدث عن البيع والشراء بأسعار مرتفعة مثل هذه الأغنام ومثل هذه الإبل المرتفعة في الحقيقة حرزها لا يكون بوضعها في الحظيرة فقط بل يجب أن يحترز المالك وأن يضعها خلف جدار مغلق باب مغلق لارتفاع ثمنها لأنها أصبحت الآن بمعنى الأثمان التي الحنابلة يشترطون أن تكون خلف الأبواب المغلقة الآن أصبحت بمعناها بل أكثر أحيانا قيمتها ما يمكن أن يخزن في البيت من الأثمان والأموال. أما سائر الأغنام التي تباع في الأسواق واعتاد الناس على وضعها في الحظائر سواء حظائر خاصة أو الحظائر العامة التي توجد في المبيعة العامة هذه تعتبر حرز ويقطع بها. قال - رحمه الله - (وأن تنتفي الشبهة) ثم انتقل الرابع من الشروط. الشبهة مرت معنا كثيرا والشبهة عبارة عن نقص في الجناية يوجب منع إقامة الحد وهذا النقص قد يكون له أسباب كثيرة والشبهة تدرأ الحدود وأخذنا الخلاف فيما سبق على قولين وأنهم استدلوا بآثار الصحابة وبقول النبي - صلى الله عليه وسلم - ادرءوا الحدود بالشبهات. وأنّ القول الثاني أنّ الحد لا يدرأ بالشبهة لأنّ النصوص الآمرة بإقامة الحدود عامة وأنّ الراجح بلا إشكال إن شاء الله الدرء الشبهات حسب نظر القاضي لورود ذلك عن أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم -. قال - رحمه الله - (فلا يقطع بالسرقة من مال أبيه وإن علا) إذا سرق الابن من مال أبيه فإنه لا يقطع التعليل من هذا أنّ النفقة واجبة على الأب للابن ولهذا إذا سرق فقد سرق من مال له فيه حق فصارت هذه شبهة تمنع القطع. والقول الثاني: أنه إذا سرق تقطع وأصحاب هذا القول استدلوا بالعمومات على المذهب إذا قتل الابن الأب يقتل. لكن إن سرقه لا يقطع ففرقوا بين القصاص والسرقة وهو في الحقيقة تفريق وجيه وهو الراجح والقول الثاني فيه ضعف. لأنّ سرقة الابن من مال أبيه فيها شبهة كبيرة. قال - رحمه الله - (ولا من مال ابنه وإن سفل)

السرقة من مال الابن لا توجب القطع لقول النبي - صلى الله عليه وسلم - أنت ومالك لأبيك. والشبهة فيها واضحة وهي أقوى بكثير من المسألة السابقة فإذا سرق فإنه لا يقطع لكونه سرق مالا جعل له فيه الشارع حظا وحقا. طبعا في قول ثاني أنه يقطع والغريب أنه هذا القول الثاني اختاره ابن المنذر مع أنّ ابن المنذر مع الذين يرون دفع الحدود بالشبهات ودرءها بها لكن في مثل هذه المسألة الواضحة وهي أخذ الأب من مال الابن يرى القطع وهو عجيب كيف نقطع الأب وهو له أن يتملك من مال ابنه ابتداء فربما قال الأب لم أسرق وإنما نويت التملك قبل أن آخذ أليس كذلك؟ فقطع الأب في الحقيقة فيه بعد ولولا أنّ ابن المنذر من المحققين المتأنيين في اختياراتهم لقلنا أنّ هذا قول منكر أو ضعيف جدا لأنه يخالف قواعد الشرع. قال - رحمه الله - (والأب والأم في هذا سواء) يريد المؤلف أن يبيّن أنّ الأم لا تنقص عن الأب في هذا الباب والسبب في هذا أنّ حق الأم على الابن أكبر من حق الأب على الابن فلا أقل من أن تساويه في درء العقوبة بالشبهة وهذا صحيح فالأم في هذا الباب كالأب ولا ينبغي أن يختلف في هذه المسألة كما اختلف في مسألة هل لها أن تتملك في مال ابنها أو لا فإنّ في هذه المسألة بر الأم يقتضي أن لا تقطع. وهذا الابن الذي يضيق على أمه إلاّ أن تسرق هو يحتاج من يعزره ويعاقبه لأنّ الأم لم تسرق إلاّ بعد أن ضيق عليها الابن. قال - رحمه الله - (ويقطع الأخ وكل قريب بسرقة مال قريبه) يعني أنّ سائر الأقارب بما فيهم الأخ لا يساوي الأب ولا يساوي الأم لأنّ هذه القرابة قرابة لا تمنع الشهادة فلا تقاس على قرابة الأب الدليل الثاني: العمومات. والقول الثاني: أنه لا يقطع لأنّ نفقة الأقارب قد تجب على المسروق منه وهذه شبهة تؤدي إلى درء الحدود. والراجح القول الأول لأنّ هذه الشبهة في الحقيقة ضعيفة. قال - رحمه الله - (ولا يقطع أحد من الزوجين بسرقته من مال الآخر) إلى هذا ذهب الحنابلة واستدلوا بدليلين: الدليل الأول" أنه جرت العادة أنّ كل من الزوجين يتبسط بمال الآخر وهذه العادة تؤدي إلى شبهة تمنع إقامة الحد.

الدليل الثاني: أنّ عبدا سرق مال زوجة سيده فرفعه إلى عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - فلم يقم عليه الحد. وإذا كان عمر لم يقم الحد على عبد الزوج فكيف بالزوج. والقول الثاني: إقامة الحدود بين الزوجين يعني في السرقة , وهؤلاء يستدلون بالعمومات. والقول الثالث: إقامة الحد على الزوج دون الزوجة , لأنّ للزوجة حق في مال الزوج وليس للزوج حق في مال الزوجة. والقول الثالث فيه قوة لأنه في الحقيقة إذا أخذ هذا الزوج من مال زوجته فلا شبهة , ويليه في القوة المذهب. قال - رحمه الله - (ولو كان محرزا عنه) ولو كان محرزا عنه , أما إذا لم يكن محرزا عنه فلا قطع بالإجماع لتخلف شرط الحرز سواء كان زوج وزوجة أو غيرهما وإنما ذكر المؤلف هذا القيد لعله لوجود الزوج والزوجة في بيت واحد دائما مما يتعذر معه وجود المال في الحرز وإلاّ لنا أن نقول لماذا لم يقل ولو كان محرزا عن الأم ولو كان محرزا عن الأب ولو كان محرزا عن الأخ , يعني المسائل هذه من باب واحد , خص الزوجين بلو كان محرزا عنه لعله لهذا السبب. قال - رحمه الله - (وإذا سرق عبد من مال سيده) إذا سرق العبد من مال سيده لم يقطع بالإجماع وهو مروي عن عمر وابن مسعود , ولما أقل لم يقطع بالإجماع يعني الإجماع المحكي. والقول الثاني: أنه يقطع وهو مذهب الظاهرية وهذا القول نوع من الشذوذ وتمسك بالعمومات مع وجود الآثار عن أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - واجتماع العلماء على عدم القول بالقطع. ثم - قال رحمه الله - (أو سيد من مال مكاتبه) إذا سرق السيد من مال المكاتب فلا قطع لأمرين: الأمر الأول" أنّ المكاتب عبد ما بقي عليه درهم. الثاني: أنّ السيد يتمكن. وأبطل العقد الذي بين العبد والسيد. ولهذا لا قطع بينهما. قال - رحمه الله - (أو حر مسلم من بيت المال) فلا قطع لأنّ لكل مسلم حق في بيت المال فإذا سرق فقد سرق من مال له فيه حق وهذا شبهة وفهم من كلام المؤلف أنّ العبد لو سرق فإنه يقطع لأنّ العبد ليس له حق في بيت المال وإنما حقه على السيد يعني من جهة النفقة.

والقول الثاني: أنّ العبد المملوك لسيد مسلم لا يقطع لأنّ لسيده حق في بيت المال , ستأتينا قاعدة أنّ من سرق من مال من لو سرق من مال من يملك منه من لو سرق منه لم يقطع لم يقطع كما سيأتينا قاعدة في آخر هذا الباب. والعبد لو سرق من مال السيد لم يقطع فإذا سرق من مال لسيده فيه حق أيضا لم يقطع وهذا صحيح ولا معنى للتفريق بين العبد والحر لأنّ لكل منهم حق في بيت المال هذا حق مباشر وهذا حق من طريق سيده. قال - رحمه الله - (أو غنيمة لم تخمس) إذا سرق الإنسان سواء اشترك في المعركة أو لم يشترك من الغينمة قبل التخميس فلا قطع. والخمس هو المال الذي يكون لله ولرسوله يعني لبيت المال من مجموع الغنيمة فإذا سرق من الغنيمة قبل أن تخمس فقد سرق من مال له فيه حق باعتبار أنّ له حق في بيت المال فلا يقطع وفي الحقيقة الشبهة درء الحدود بالشبهات الشبهات أحيانا تكون قوية , يعني مثل هذه الشبهة فيها ضعف لأنّ الغنيمة الذي يكون لبيت المال وسيصرف من بيت المال على جميع المسلمين عن طريق. يعني الشبهة هذه فيها ضعف كما أنّ فيها .... الذين جاهدوا تحت راية الإمام لأنّ الغنيمة ..... وتقدم معنا مرارا أنه يوجد في الأعيان ما يكون له نفس القيمة وخير من بعضه أليس كذلك هنا في هذه المسألة تداخل ..... قال - رحمه الله - (أو فقير من غلة وقف على الفقراء) إذا سرق من غلة جاءت من وقف موقوف على الفقراء وهو فقير فلا قطع لأنه يستحق بالوصف من هذه الغلة وهذا الاستحقاق هو الشبهة التي دُرِء بها عنه الحد. قال - رحمه الله - (أو شخص من مال فيه شركة له) يعني إذا سرق أحد الشركاء من مال الشركة فلا قطع وإن كان الملك فيه على سبيل الشيوع أو بعبارة أدق إن كان الملك فيه على سبيل الشيوع لأنّ له حق في هذا المال فلا قطع. قال - رحمه الله - (أو لأحد ممن لا يقطع بالسرقة منه لم يقطع)

إذا سرق من مال لأحد ممن لا يقطع من السرقة منه حق فيه لم يقطع , فإذا سرق من مال أبوه شريك فيه لم يقطع لأنّ السرقة من مال الأب لا توجب القطع , وإن سرق من مال لسيده فيه شركة لم يقطع وهكذا وهي قاعدة عند المؤلف. أو لأحد مما لا يقطع بالسرقة منه , يعني أو سرق من مال مشترك لأحد لا يقطع بالسرقة منه. بهذا انتهى الشرط الرابع وتلاحظ أنه أطال الشيخ في الشرط الرابع في الشبهات وأنواعها وتفصيلها لأنه ليس لها ضابط معين فأراد أن يبيّن المسألة بكثرة الأمثلة. قال - رحمه الله - (ولا يقطع) فيه دليل على أنّ السرقة لا تثبت إلاّ بأحد أمرين: الشهادة أو الإقرار. ولا يوجد سبيل ثالث لإثبات أنّ فلانا سرق هذه العين تبيّن من كلام المؤلف أنّ وجود العين المسروقة في بيت شخص من الأشخاص لا يعني أنه السارق ولا يقام عليه الحد بهذا السبب مهما كانت الملابسات لأنه يحتمل أن يوضع فيه هذه العين ليتهم ويحتمل أن تسقط من صاحبها ويوجد احتمالات كثيرة فلا يتعيّن أن يكون سارقا فلا يقطع. يقول الشيخ - رحمه الله - (إلاّ بشهادة عدلين) أي أنه لا يمكن أن نقيم الحد إلاّ بشهادة عدلين فلا يقام بشهادة امرأتين ولا بشهادة رجل وامرأة ويشترط في هذين الرجلين ما يشترط في باب الزنا أن يكون مسلم حر عدل وإلاّ لم تقبل شهادته. قال - رحمه الله - (أو إقرار مرتين) يشترط في الإقرار أن يكون مرتين استدل الحنابلة على هذا بأنّّ النبي - صلى الله عليه وسلم - اعترف عنده رجل بسرقة فأعاد عليه مرتين فدل هذا على اشتراط التكرار في إثبات حد السرقة وهذا الحديث ضعيف. والقول الثاني: أنه لا يشترط أن يعترف مرتين بل إذا اعترف مرة واحدة كفى وأقيم عليه الحد وهذا هو القول الراجح لعدم وجود أي دليل يدل على أنه ينبغي تكرار الاعتراف. قال - رحمه الله - (ولا ينزع عن إقراره حتى يقطع) هذا هو الشرط الثاني في الإقرار وهو أن يستمر على إقراره إلى أن يقطع فإن رجع في أي مرحلة من المراحل قبل أن يتم القطع فإنّ الحد يدرأ بذلك تقدمت معنا هذه المسألة في الزنا وقلنا إنّ الإقرار يقبل الرجوع عنه لدليلين: الأول قوله - صلى الله عليه وسلم -:" ادرؤوا الحدود بالشبهات".

والثاني: القياس على الزنا عند من يرون أنّ ماعز أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - بقبول رجوعه. والقول الثاني: أنّ الإقرار لا يمكن الرجوع فيه ولا يقبل من صاحبه الرجوع لأنه ليس في الأدلة ما يدل على قبول الرجوع ممن اعترف ولأنّ هذا قد يؤدي إلى تعطيل الحدود لأنه كلما اعترف إنسان لقن الرجوع ثم يرجع ولا يقام الحد والمسألة فيها احتمال كبير والقول الذي عليه الجمهور كما قلت لكم في الزنا قول قوي وهو أنه الرجوع عن الإقرار يعتبر ويدرأ به الحد وذلك لوجود عدد كبير من الآثار عن علي وعثمان وبعضها مرفوعة إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - لكن المرفوع قد لا يصح لكن الآثار كثيرة جدا ولم أتمكن من الوقوف على أسانيدها لكنها كثيرة بشكل ملفت للانتباه وهو أنهم رأوا - رضي الله عنهم - أنّ الحد يدرأ بالشبهة وأحيانا يكتفون بشبهة بسيطة جدا وروي عن بعضهم تلقين الرجوع عن الإقرار لكن كما قلت لم أقف على صحة هذا الإسناد. فروي عن علي أنه أوتي بسارق. فقال له أسرقت؟ قل لا. وروي عن عثمان أنه جيء بزاني فقال له أزنيت؟ قل لا. فمثل هذه الآثار والمطلع على مجموع الآثار يقوم عنده ظن قوي أنّ هذا موجود بين الصحابة وهو درء الحدود بالشبهات ولو قيل أنه يختلف باختلاف المجرم أو من أتى بجناية فأحيانا ينبغي أن يقبل منه وأحيانا أن لا يقبل لكان هذا أيضا له وجه. قال - رحمه الله - (وأن يطالب المسروق منه بماله) الشرط السادس لإقامة الحد أن يطالب المسروق منه بماله بأن يأتي إلى القاضي ويطلب استرداد المال فإن اعترف السارق أو شهد عليه شاهدان ولم يطلب المسروق منه ماله فلا يقام الحد لأنّ الحد أقيم لحق الله ومراعاة للمسروق منه ولأنّ النبي - صلى الله عليه وسلم - قطع رجلا بطلب المسروق منه. والقول الثاني: أنه لا يشترط أن يطالب بماله بل إذا ثبت بالأدلة الشرعية أنه سرق أقيم عليه الحد وإلى هذا ذهب عدد من المحققين منهم ابن المنذر ومنهم شيخ الإسلام وغيرهم - رحمهم الله - أنه لا يشترط أن يطالب المسروق منه بماله بل متى ثبتت السرقة أقيم الحد وهذا القول هو الراجح. قال - رحمه الله - (وإذا وجب القطع قطعت يده اليمنى من مفصل الكف وحسمت)

إذا استوفت الجناية الشروط السابقة فإنّ السارق تقطع يده اليمنى من مفصل الكف ولا خلاف في هذا وهو أنه يبدأ باليمنى وتقطع من مفصل الكف وقد اتفقوا على البداية باليمنى. ثم إذا سرق مرة أخرى وهذا لم يذكره المؤلف ولعله تركه لندرته وإلاّ فهو مهم في الحقيقة ثم إذا سرق مرة أخرى فإنها تقطع رجله اليسرى روي هذا عن الصحابة وفيه حديث عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال تقطع اليد اليمنى ثم الرجل اليسرى. وهذا الحديث لا يسلم إسناد من أسانيده من ضعف إلاّ أنه يتقوى بمجموع الطرق فيما يبدوا لي ويصل إلى الحسن. القول الثاني: أنه إذا قطعت يده اليمنى ثم سرق مرة أخرى تقطع يده اليسرى لقوله تعالى {فاقطعوا أيديهما} [المائدة/38] وهذا القول ضعيف جدا أولا مخالف للآثار وثانيا مخالف للحديث الذي يمكن تحسينه. وثالثا لا ينسجم بطبيعة الشرع بأنه يقيم الحدود بما لا يخل بالمقاصد الأساسية. والإنسان إذا قطعت منه اليدين أصبح عاجز عن أداء مهامه. مسألة / إذا سرق الثالثة عند الحنابلة لا يقطع منه شيء وإنما يحبس حتى يتوب. ودليل الحنابلة أنه روي عن علي أنه أوتي بالثالثة يعني بسارق سرق المرة الثالثة فحبسه ولم يقطع منه شيئا. والقول الثاني: وهو مذهب الجمهور أنه إذا قطعت في المرة الثانية الرجل اليسرى تقطع في الثالثة اليد اليسرى وبالرابعة الرجل اليمنى. واستدل الجمهور على أنّ هذا صح عن أبي بكر وعمر - رضي الله عنهما - واستدلوا أيضا بحديث أبي هريرة أنّ النبي - صلى الله عليه وسلم - أمر بقطعه على هذا التوالي وهذا الحديث أيضا يمكن تحسينه والراجح إن شاء الله مذهب الجمهور وهو الذي جنى على نفسه بتكرار السرقة وإذا قطعت منه الأربع في الغالب لن يسرق. ولا لا لأنه ما يستطيع أن يسرق لأنه انتهى الجوارح فإن سرق قتل لأنه تبيّن أنّ هذا فاسد الطبع لا يمكن كف شره إلاّ بالقتل ويقتل تعزيرا في المرة الخامسة. يقول - رحمه الله - (وحسمت) ظاهر عبارة المؤلف أنّ الحسم واجب والحسم هو أن تغمس اليد في الزيت الحار لتمتلئ العروق من الزيت فينحبس الدم.

والقول الثاني: أنّ الحسم سنة وليس بواجب وربما كانت هذه الطريقة في السابق وأما اليوم فالطبيب يتمكن من إيقاف الدم بغير الحسم ولا أدري اليوم كيف هل في الساحة بعد القطع يوقفون الدم. ما عندي علم بهذا أما في القديم فكانوا يحضرون إقامة الحد ثم بمجرد ما يقطع تغمس يده في هذا الزيت الحار وفي الحقيقة غمس اليد ربما يكون أصعب بلحظة وإذا كان السيف حاد وسحبت اليد بقوة وبان المفصل بشكل واضح سيكون القطع سهل بخلاف الغمس اليد في الزيت الحار لأنه إذا غمسها في الزيت الحار ينبغي أن ينتظر قليلا إلى أن يعمل الزيت عمله يعني ما يغمسها ويخرجها بسرعة وفيه ألم واضح في الحقيقة المهم أنه غمس اليد في الزيت إذا لم يتمكنوا من إيقاف الدم إلاّ به فقول الحنابلة أنه واجب صحيح لأنه به تنحفظ النفس وإذا تمكنوا من إيقاف الدم بغيره فهو سنة وعليهم أن يوقفوا الدم بطريقة أخرى. قال - رحمه الله - (ومن سرق شيئا من غير حرز ثمرا كان أو كثرا أو غيرهما أضعفت عليه القيمة ولا قطع) الكثر هو جمار النخل , المؤلف يريد أن يبيّن أمرين: الأمر الأول أنّ السرقة من غير الحرز لا يوجب القطع وهذا تقدم معنا شرط مستقل. المسألة الثانية التي يريد المؤلف أن يبيّنها أنّ من سرق ثمرا أو نحو الثمر فإنه تضاعف عليه القيمة فيدفع القيمة ومثلها , والحنابلة ذهبوا إلى أنه تضاعف القيمة في نوعين من المال فقط الثمر والماشية فقط واستدلوا على هذا بأنّ الثمر فيه الحديث المتقدم من أخذ ثمرا من حائط فإن أكل منه بفيه فلا حرج عليه وإن أخذ منه فعليه القيمة مضاعفة واستدلوا على الماشية أنّ النبي - صلى الله عليه وسلم - قال من أخذ شاة من غير مراحها فعليه القيمة ومثلها فقال الحنابلة جاء النص في هذين النوعين فمن سرق شيئا من هذين النوعين من غير حرزه فعقوبته أن تضاعف عليه القيمة وإن سرق من غيره فلا يعاقب بمثل هذا وإنما يعزر بأمر آخر. والقول الثاني: أنّ من أخذ أي مال من غير حرز فإنّه يعقب بمثل هذا وأنّ هذا الحكم لا يختص بالثمر والماشية بل هي قاعدة عند هؤلاء أنّ من سرق من غير حرز يعاقب بمثل هذا وهذا القول الثاني أحسن وأقوى وهو أنّ هذا الحكم عام لا يختص بالثمر ولا بالماشية.

باب حد قطاع الطريق

باب حد قطاع الطريق قطاع الطريق في الاصطلاح هم من يخرجون على المارة لسرقة المال بالقهر والغلبة هؤلاء هم قطاع الطريق الأصل فيهم قوله تعالى {إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فسادا أن يقتلوا أو يصلبوا أو تقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف أو ينفوا من الأرض} [المائدة/33] فهذه الآية نص في عقوبة قاطع الطريق , قال ابن عباس معلقا على الآية نزلت في المسلمين فهذه الآية أصل في هذا الباب. يقول الشيخ - رحمه الله - (وهم الذين يعرضون للناس بالسلاح .... إلى آخره) يشترط لمن خرج على الناس ليعتبر من المفسدين ومن قطاع الطرق أن يتحقق فيه ثلاثة شروط ذكرها المؤلف بقوله الذين يعرضون للناس بالسلاح , هذا الشرط الأول أن يخرجوا بالسلاح واشتراط خروجهم في السلاح محل إجماع من حيث الأصل يعني في الجملة لكن اختلفوا فيما لو خرجوا بالعصي والحجارة ونحوها فهل يعتبر هذا خروج وقطع للطريق أو لا على قولين: القول الأول: أنه يعتبر خروج لأنّ العصا أداة للقتل والقطع وهي من جملة السلاح. والقول الثاني: أنهم إذا خرجوا بمجرد العصي والحجارة فإنهم ليسوا قطاع طريق لأنّ السلاح عند الإطلاق يطلق على السيف ونحوه من المحددات التي تقطع والراجح القول الأول أنهم متى خرجوا وأخافوا الناس ولو بغير سلاح حاد فإنهم من قطاع الطريق. ثم - قال رحمه الله - (في الصحراء أو البنيان) هذا الشرط الثاني أن يخرجوا في الصحراء أو البنيان أما إذا خرجوا في الصحراء فهو موضع إجماع يعتبرون من قطاع الطرق وأما إذا خرجوا في البنيان فالمذهب كما ترى أنهم قطاع طريق لأنّ الخروج في البنيان أعظم لأنّ المدن اعتيد فيها الأمن والاطمئنان وقطع الطريق فيها مما يوجب الفوضى.

الدرس: (5) من الحدود قال شيخنا حفظه الله: بسم الله الرحمن الرحيم والحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين. بدأ المؤلف في الكلام عن أحكام الصيال فقال - رحمه الله - (ومن صال على نفسه , أو حرمته , أو ماله آدمي أو بهيمة) الصيال في لغة العرب / الإقدام بقوة. وأما في الاصطلاح/ فهو الاستطالة على الغير بغير حق وعرفنا بذلك تعريف الصيال لغة واصطلاحا. والصيال محرم لأنه من أذية المسلم ومن الاعتداء عليه وهو محرم بأدلة الشرع العامة. يقول المؤلف - رحمه الله - (ومن صال على نفسه أو حرمته أو ماله) هذه الثلاثة أصناف هي التي يصال عليها عادة إما النفس أو المال أو العرض وسيبيّن المؤلف لا حقا حكم دفع الصائل بكل واحدة من هذه الثلاثة. يقول المؤلف - رحمه الله - (فله الدفع عن ذلك بأسهل ما يغلب على ظنه دفعه به) قوله فله الدفع عبارة تدل على أنّ الدفع جائز لكن المؤلف لا يريد هذا فإنه سيبيّن ما حكم الدفع بعبارة خاصة بهذه المسألة لكنه يريد أن يبيّن أنه من حيث الأصل له أن يدفع الصائل واشترط المؤلف في دفع الصائل أن يبدأ بالأخف فالأخف , فلا يجوز له أن يدفعه بشيء مع قدرته على أن يدفعه بأخف منه والدليل على هذا أنّ دفع الصائل إنما جاز ضرورة والضرورة تقدر بقدرها فلا يجوز له أن يزيد عن ما يحصل به دفع الضرورة. والدليل الثاني: أنّ الأصل في أموال وأنفس المسلم الحرمة والعصمة وإنما جاز لكونه صائلا فلا يستباح منها إلاّ ما يدفع صياله واستثنى الفقهاء من هذا الحكم العام وهو أنه لا بد أن يبدأ بالأخف فالأخف صورا. فالصورة الأولى" إذا ظن أنه لن يدفع إلاّ بالقتل فله أن يبدأ به فإذا غلب على ظنه أنّ هذا الصائل لن يندفع بالأخف فالأخف بل لن يندفع إلاّ بالقتل فله أن يقتله.

الصورة الثانية" أن يخشى المعتدى عليه أن يبادر الصائل بقتله فله أيضا أن يبادر هو بقتل الصائل. والذي يظهر لي أنّ هذه الاستثناءات لا نحتاج إليها وإن كان جملة الفقهاء ذكروها والسبب في ذلك أنه عند التأمل في الأمور التي استثناها الفقهاء ستجد أنه ينطبق عليها أنه لا يمكن دفعه بالأخف فالأخف فإذا ينطبق عليها الشرط ولسنا بحاجة إلى استثناءها لكن الفقهاء - رحمهم الله - لما رأوها خارجة عن صورة الدفع بالأسهل فالأسهل جعلوها مستثناة وإلاّ هي عند التأمل لا تستثنى فمثلا الذي يخشى أن يبادر الصائل بقتله هل يستطيع أن يدفع بالأخف فالأخف لو دفع بالأخف فالأخف ذهبت نفسه فإذا هو لا يستطيع في الواقع وهكذا جميع الأمثلة التي ذكروها كمستثنيات من هذه القاعدة. ثم يقول المؤلف - رحمه الله - (فإن لم يندفع إلاّ بالقتل فله ذلك ولا ضمان عليه) إذا لم يمكن أن يندفع الصائل إلاّ بقتله فله أن يقتله ولا ضمان عليه ونفي الضمان يشمل القصاص والكفارة والدية , والسبب في نفي الضمان أنه فعل فعلا مأذونا له فيه شرعا وما أذن به الشارع فإنه لا يترتب عليه ضمان , وهذا صحيح بل سينتقل المؤلف إلى مرتبة أعلى فيقول - رحمه الله - (فإن قتل فهو شهيد) والدليل على هذا قوله - صلى الله عليه وسلم -[من قتل دون ماله فهو شهيد] هذا الحديث في البخاري لكن الحديث المشهور من قتل دون ماله فهو شهيد ومن قتل دون عرضه فهو شهيد ومن قتل دون نفسه فهو شهيد. خارج الصحيح إنما الذي في الصحيح المال فقط لكنه يدل على الدفع عن النفس وعن العرض وأنّ من قتل في سبيل الدفع عنهما فهو شهيد. ثم - قال رحمه الله - (ويلزمه الدفع عن نفسه وحرمته دون ماله)

انتقل المؤلف إلى حكم دفع الصائل إذا صال على النفس أو المال أو العرض , نبدأ بالنفس إذا صال على النفس فاختلف الفقهاء في حكم دفعه على أقوال: القول الأول: وهو المذهب أنه إذا صال عليه في فتنة فإنه لا يدفع يعني لا يجب عليه وإن صال في غير فتنة فإنه يجب عليه أن يدفع واستدلوا على هذا التفصيل بالجمع بين الأدلة. فقالوا لا يجب الدفع حال الفتنة لأنّ عثمان - رضي الله عنه - منع عبيده أن يدفعوا ومنع أبناء الصحابة أن يدفعوا حتى قتل , ولو كان منعه محرم لأنكر عليه الصحابة فلما لم ينكروا علمنا أنّ الدفع ليس بواجب. الدليل الثاني: أمير المؤمنين عثمان اشتهرت عنه العبارة [من ألقى سيفه فهو حر] قال لعبيده من ألقى سيفه فهو حر يعني كالملزم لهم بعدم الدفع. والدليل الثالث: قول النبي - صلى الله عليه وسلم - فإن خشيت أن يبهرك شعاع السيف فغطي رأسك. فدل الحديث على أنّ له أن يستسلم إذا هدده بالسلاح الصائل وأن يغطي رأسه حتى لا ينظر أثناء قتله وهو مبالغة في جواز ترك الدفع وأما الدليل على وجوب الدفع في غير الفتنة فقوله تعالى {ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة} [البقرة/195] فإنّ ترك الدفع يؤدي إلى الهلاك. والقول الثاني: أنّ الدفع واجب مطلقا واستدلوا بالآية السابقة. والقول الثالث: أنّ الدفع واجب مطلقا إذا كان الصائل كافر ولا يجب مطلقا إذا كان الصائل مسلم واستدلوا بالأدلة الأولى للحنابلة والراجح إن شاء الله مذهب الحنابلة ففيه الجمع بين النصوص. المسألة الثانية / حكم الدفع إذا كان الصيال على العرض. إذا كان الصيال على العرض فجب الدفع بالإجماع وتعليل ذلك أنه ليس من سبيل شرعا لإباحة الأبضاع فليس للإنسان أن يبيح عرضه لأحد ولهذا وجب عليه أن يدفع فمسألة الدفع عن العرض أيضا واضحة وهي محل إجماع. المسألة الثالثة والأخيرة: الدفع عن المال وفيه خلاف فذهب الجماهير من الفقهاء والأئمة الثلاثة مالك والشافعي وأحمد إلى أنّ الدفع عن المال سنة وليس بواجب واستدلوا على هذا بأنّ بذل المال مجانا جائز فترك الدفع عنه من باب أولى.

باب قتال أهل البغي

والقول الثاني: وهو للأحناف وجوب الدفع عن المال واستدلوا بقول النبي - صلى الله عليه وسلم - من قتل دون ماله فهو شهيد. وهذا اللفظ في البخاري كما تقدم معنا. واستدلوا أيضا بقول النبي - صلى الله عليه وسلم - قاتل من أراد أن يأخذ مالك. والراجح مذهب الجمهور والحديث الذي فيه من قتل دون ماله فهو شهيد. لا يدل على وجوب الدفع وإنما يدل على جوازه وأنّ صاحبه إذا قتل فهو شهيد فعرفنا الآن حكم الدفع في الأحوال الثلاثة إذا صال الإنسان على نفسه أو ماله أو عرضه. قال - رحمه الله - (ومن دخل منزل رجل متلصصا فحكمه كذلك) التلصص هو الدخول بغرض السرقة , ودفعه يكون كذلك يشير إلى أنه يجب أن يدفع بالأخف فالأخف , وهذا الحكم لا يختص بمن دخل الدار طلبا للسرقة بل يعم كل شخص دخل الدار بغير إذن ولو للفرجة ولو للتلقط الأخبار كل شخص دخل دار المسلم بغير إذنه فإنّ له أن يدفعه بالأخف فالأخف إلى أن يصل إلى القتل. فلو دخل الإنسان هكذا بيتك لا يريد شيء إنما يريد الإطلاع على البيت فلك أن تقول أخرج فإن لم يخرج فلك أن تخرجه باليد فإن حصل قتال وقتلته فهو هدر. لأنه معتد على حرمة المنزل فيدفع دفع الصائل الأخف فالأخف ولهذا لو أنّ المؤلف - رحمه الله - عمم العبارة فقال [ومن دخل الدار بغير إذن فكذلك] لكان أولى ليشمل جميع الصور. باب قتال أهل البغي قوله باب قتال أهل البغي. البغي في لغة العرب / هو الظلم والعدوان. وأما في الشرع فذكره المؤلف وسنقف مع تعريف المؤلف وهو يتكون من ثلاث جمل. والبغي والظلم محرم في جميع الشرائع. والدليل على هذا الباب وهو قتال أهل البغي قوله تعالى {وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما فإن بغت إحداهما على الأخرى فقاتلوا التي تبغي} [الحجرات/9] وجه الاستدلال عند الفقهاء أنّ الآية أجازت قتال كل من امتنع عن الحق فاستدلوا بها على قتال أهل البغي , وإلاّ اقتتال طائفتان من المسلمين ليس هو البغي المقصود في تعريف الفقهاء ولكن استدلوا به من حيث أنّ الله أجاز قتال الفئة الباغية بكونها خرجت عن الطاعة ولم تستجب للأوامر فكذلك الباغية وهي التي تخرج عن الإمام. يقول الشيخ - رحمه الله - معرفا لأهل البغي من يكونوا أهل البغي.

يقول - رحمه الله - (اذا خرج قوم لهم شوكة ومنعة على الإمام بتأويل سائغ فهم بغاة) الفقهاء - رحمهم الله - يرون أنه لا يمكن أن نسمي الخارجين بغاة إلاّ إذا توفر فيهم ثلاثة شروط فإن تخلف أي شرط انتقلوا من كونهم من البغاة فأصبحوا قطاع طرق. نبدأ مع شروط المؤلف يقول - رحمه الله - (اذا خرج قوم لهم شوكة ومنعة) الشرط الأول" أن يخرجوا فإذا اجتمع نفر لهم شوكة ومنعة وعندهم شبهة لها تأويل سائغ لكنهم لم يخرجوا فقط اجتمعوا فإنهم ليسوا بغاة ويجب أن تعرف أنّ هناك فرقا كبيرا بين أن نحكم على مجموعة أنهم بغاة وبين أن نحكم عليهم قطاع طريق وسيأتينا أنّ لهذا الخلاف ثمرات في كيفية التعامل معهم كبيرة جدا فيجب أن نعرف متى نطلق على هذه المجموعة أنهم بغاة لنطبق عليهم الأحكام التي سيذكرها المؤلف إذا الشرط الأول الخروج. الثاني: لهم شوكة ومنعة. فإذا اجتمعوا وخرجوا واعترضوا وأبدوا شبهه لكن لا شوكة لهم ولا منعة فلا يجوز للإمام أن يعاملهم معاملة البغاة لأنهم ليس لهم شوكة وقوة ومنعة وشيء يرجعون إليه في الدفاع عن أنفسهم. الشرط الثالث: قوله شوكة ومنعة على الإمام بتأويل سائغ. يجب أن يكون سبب الخروج تأويل ويجب أن يكون التأويل سائغ فإن لم يكن لهم تأويل فهم قطاع طرق وإن كان لهم تأويل ليس بسائغ فهم أيضا قطاع طرق وسيأتينا الأدلة على هذه الشروط من آثار الصحابة لكن الذي يعنينا الآن أنه يشترط في الفئة الخارجة لكي تسمى بغاة أن توجد فيهم هذه الشروط الثلاثة. الخروج والقوة والتأويل. مسألة/ الخارجون عن الإمام لا يخرجون عن ثلاث أصناف: الصنف الأول: الذين يخرجون بقوة ومنعة بلا تأويل فهؤلاء قطاع طرق. القسم الثاني: الخوارج وهم الذين يخرجون عن الإمام ويكفرون المسلمين ويستحلون دماءهم فهؤلاء خوارج.

القسم الثالث: قوم من أهل العدل لهم شبهه وتأويلات سائغة خرجوا على الإمام بشوكة وقوة فهؤلاء هم المقصودون بهذا الباب وهم البغاة. قال شيخ الإسلام [والفرق بين الخوارج والبغاة من وجهين: الوجه الأول: أنّ الخوارج يقاتلون ابتداء ويفرح بقتالهم فإنّ أمير المؤمنين علي بن أبي طالب فرح واستبشر بأنه هو الذي تولى قتال الخوارج بحث النبي - صلى الله عليه وسلم - على قتلهم. بينما البغاة سيأتينا أنهم لا يبدأون بالقتال إلاّ بعد أحكام معينة. الفرق الثاني" أنّ البغاة من المسلمين بالإجماع , بينما الخواج اختلف السلف والخلف في تكفيرهم فمنهم من رأى أنهم خرجوا عن الدين ومنهم من رأى أنهم من المسلمين وهذا فرق كبير بينهم وبين البغاة. فإنّ البغاة لم يختلفوا فيهم أهل العلم أنهم من المسلمين] ولهذا فإنّ الخلط بين البغاة والخوارج خطأ وإن كان البغاة والخوارج يجب أن يقاتلوا لكن يجب أن يعرف الإنسان الفرق بين البغاة والخوارج كما ذكرها الشيخ - رحمه الله - قال - رحمه الله - (وعليه أن يراسلهم فيسألهم ما ينقمون منه فإن ذكروا مظلمة أزالها وإن ادعوا شبهة كشفها) يجب على الإمام قبل أن يقاتل البغاة أن يسأل عن الشبهة التي أوجبت خروجهم والمظلمة التي يدعون ويجب عليه إذا بينت له أن يسعى في رفع الظلم وكشف الشبهة. والدليل على هذا أنّ أمير المؤمنين علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - راسل أهل البصرة مرارا وراسل الخوارج مرارا قبل أن يقاتلهم فدل هذا على وجوب المراسلة قبل البدء بالقتال. والدليل الثاني: قوله تعالى {فأصلحوا بينهما} [الحجرات/9] فإنّ الإصلاح يستدعي المراسلة قبل البدء بالقتال وهذا صحيح لا يجوز للإمام أن يقاتلهم حتى يعرف الشبهة التي عندهم فإن أمكنه كشف الشبهة وبيان الحق واقتنعوا فبها ونعمت وإلاّ فإنه كما سيذكر المؤلف يقاتلهم. قال - رحمه الله - (فإن فاءوا وإلاّ قاتلهم)

يعني فإن رجعوا بعد أن بيّن لهم وكشف المظالم وإلاّ قاتلهم وجوبا فإنّ الإمام إذا لم يقاتل الفئة الباغية فهو آثم لما يدخلونه على الناس من الشبهات وإخلال بالأمن فيجب عند الحنابلة على الإمام أن يقاتلهم واستدلوا على هذا بقوله تعالى {فقاتلوا التي تبغي} [الحجرات/9] فأمر بقتال الفئة الباغية إذا لم ترجع إلى الحق بعد أن بيّن لها الحق بنصوص الكتاب والسنة. المؤلف - رحمه الله - وعفا عنه ترك بعض المسائل المذكورة في الأصل وهي في الحقيقة من أهم مسائل الباب فترك ثمرة الحكم على قوم بأنهم بغاة يعني ما يترتب على هذا الحكم من فروع فقهية في الحقيقة تركه لهذا يعتبر من وجهة نظري نقص ظاهر ومخل بالباب لأنه يجب أن ترتب الأحكام بعد أن تعرف حقيقة البغاة. فنقول إذا قاتل الإمام البغاة فإما أن يرجعوا ويتوبوا ويعرفوا الحق أثناء القتال أو يهزموا بأن يتمكن الإمام من هزيمتهم. فإذا حصل أي من الأمرين: ترتب على هذا ثلاثة أحكام: الحكم الأول: أنه لا يجوز الإجهاز على جريحهم ولا إتباع مدبرهم. فلا يتبع المدبر ولا يجهز على الجريح. وإنما يتوقف القتال. والدليل على هذا أنّ أمير المؤمنين علي - رضي الله عنه - أمر أصحابه بذلك في معاركه مع الخوارج ومع أهل الشام. الحكم الثاني: أنه لا يجوز للإمام أن يسبي نسائهم ولا أن يصطفي أموالهم وهذا الحكم أيضا مستفاد من سيرة أمير المؤمنين علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - التي وافقه عليها الصحابة فإنه لما هزم أهل الشام في بعض المعارك لم يسبي نسائهم ولم يصطفي أموالهم وكانت هذه النقطة من النقاط التي اعترض فيها الخوارج على أمير المؤمنين علي بن أبي طالب وقالوا إذا قاتلتهم أن تسبي نسائهم وأموالهم. أو أن تكف عن قتالهم. فما استطاعت عقولهم أن تجمع بين القتال لتوحيد الأمر وبين الكف عنهم لأنهم إخوان لنا. ولكن أمير المؤمنين ومن معه من الصحابة استوعبوا هذا الحكم الشرعي فنهى علي بن أبي طالب أحدا من أفراد الجيش أن يسبي امرأة منهم أو أن يأخذ مالا لهم بل إنه لما انتهت المعركة أمر بإرجاع الأعيان الموجودة إلى أصحابها من البغاة.

باب حكم المرتد

الحكم الثالث: أنّ ما أتلفه أهل العدل على أهل الظلم فإنه لا يضمن بالإجماع من الأموال والأنفس. وما كان باقيا بعينه لشخص معلوم فإنه يرد. ولهذا لما انتهت المعركة قال أمير المؤمنين علي لأهل الظلم الذين خرجوا عليه من وجد ماله فليأخذه وكان أحد أصحاب علي - رضي الله عنه - يطبخ في قدر لهذا الرجل فجاء ليأخذها , فقال لو تنتظر إلى أن ينضج الطعام فقط فضرب القدر وسكب ما فيه وأخذ القدر وذهب , وإنما كان ذلك بحزم أمير المؤمنين علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - أنّ كل من وجد ماله بعينه فإنه يأخذه. المسألة الثالثة: ما أفسده أهل البغي على المسلمين فهو لا يضمن على الصحيح. والدليل على هذا أنه لما وقعت الفتنة بين أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - - ورضي الله عنهم - لم ينقل قط أنّ أحدا من الذين دخلوا في القتال ضمن شيئا من المال أو من الدم والقول الثاني: أنّ أهل الظلم يضمنون لأهل العدل ما أفسدوه عليهم ويضمنون الأنفس كذلك لأنهم ظالمون والأصل وجوب الضمان على من أتلف مال المسلم أو نفسه , والصحيح كما قلت إن شاء الله الأول لأنّ هذا مروي عن الصحابة فهذه الأحكام الثلاثة أو الأربعة هي التي أسقطها المؤلف وهي كما ترون هي ثمرة الحكم على قوم أنهم من البغاة أو من قطاع الطرق أو إلى آخره. تقدم معنا في قطاع الطرق أنهم يضمنون أو لا يضمنون؟ وإذا تابوا هل يضمنون؟ تقدم معنا أنّ ضمانهم دائما وأبدا ثابت. تابوا قبل القدرة أو لم يتوبوا قبل القدرة. وهذا فرق كبير بين قطاع الطرق وأهل البغي. قال - رحمه الله - (وإن اقتتلت طائفتان لعصبية أو رياسة فهما ظالمتان وتضمن كل واحدة ما أتلفت على الأخرى) إذا حصل قتال بين طائفتين ليس مع أحدهما الإمام وكان سبب القتال كما قال المؤلف عصبية أو رياسة فإنه لا تأتي معنا الأحكام السابقة من عدم الضمان من قبل الجهتين بل يجب الضمان على الجهتين وعلل الحنابلة هذا بأنّ هذا القتال لم يأذن فيه الشارع بل هو معصية وإذا كان الشارع لم يأذن به فإنّ الأصل فيمن أتلف مالا أو نفسا أن يضمنها ولهذا جعلوا الضمان عليهم وهذا صحيح إذا اقتتلت طائفتان. باب حكم المرتد قال - رحمه الله - باب حكم المرتد الردة لغة / الرجوع.

وأما في الاصطلاح / فهو الإتيان بما يخرج عن الملة. وهذا تعريف الردة. أما تعريف المرتد / فذكره المؤلف - رحمه الله - بقوله (وهو الذي يكفر بعد إسلامه) المرتد هو الذي يكفر بعد إسلامه , والكفر قد يكون بالقول أو بالفعل أو بالاعتقاد أو بالشك. ولا يخرج عن هذه الأنواع. فالقول بالكفر. بأن يسب الله أو يسب رسوله أو يسب الدين من حيث هو دينه. وأما بالاعتقاد. فكأن يعتقد أنّ لله شريكا يدبر الكون معه. وأما بالفعل. فكأن يسجد للصنم أو يهين القرآن إهانة لا تصدر عن مسلم. وأما الشك فكأن يشك بخبر الله الذي جاء في القرآن أو أن يشك بكفر من أجمعت الأمة على كفره كالمشرك العابد للوثن واليهودي والنصراني. فهذه أجناس الكفر لا تخرج عنها وإنما تتعدد الأمثلة. المؤلف سيذكر جملة من الأمثلة هي تعتبر كالأصول في المكفرات. يقول - رحمه الله - (فمن أشرك بالله) يعني فهو مرتد والدليل على هذا أدلة كثيرة منها قوله تعالى {إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء} [النساء/116] وعدم المغفرة تكون مع الخروج عن دين المسلمين وما عداه فيغفر إما من الله أو بالتوبة. والشرك مناقض لأصل الدين الذي أرسلت من أجله الرسل ولهذا لا شك في كفر من أتى بخصلة من خصال الشرك الأكبر. ثم - قال رحمه الله - (أو جحد ربوبيته) إذا جحد أنّ الله هو الخالق البارئ المصور المدبر لهذا الكون فهو كافر , ودليل كفره أنه مكذب لما تواتر في كتاب الله وسنة رسوله وأجمع عليه المسلمون من أنّ الله سبحانه وتعالى هو الرب المدبر. ثم - قال رحمه الله - (أو وحدانيته) كلمة الوحدانية أحيانا نجد أنّ العلماء يطلقونها على الربوبية فيقولون الوحدانية التفرد بالربوبية , وأحيانا يطلقونها على الإلوهية وإن كان كأنه يعني يبدوا لي أنّ استعمالها في الربوبية أكثر منه في الإلوهية لكنهم يستعملونها في الإلوهية ولهذا نقول الوحدانية هي التفرد بالربوبية والإلوهية. فكأنه جمع بين الأول والثاني لأنّ الأول يتعلق بالإلوهية والثاني يتعلق بالربوبية. ثم - قال رحمه الله - (أو صفة من صفاته)

إذا جحد وأنكر صفة من صفات الله فهو كافر لكن يشترط لهذا أن لا ينكرها بتأويل سائغ أو ينكرها ومثله يجهل هذه الصفة يعني بتأويل أو جهل يقبل من مثله إذا أنكرها بغير تأويل ولا جهل فهو كافر فإذا جاء شخص وقال الله سبحانه وتعالى ليس بصيرا ولا سميعا ولا يتكلم ولا ينزل وليس له يد ولا عين ولا قدم فإنكاره لهذه الصفة إن كان جهلا ومثله يجهل هذه الصفة فلا يكفر لحديث الذي أنكر صفة القدرة حين أمر أولاده أن يحرقوه ثم ينثروه في الريح. وأما إن كان يعلم هذه الصفة ومثله لا يجهلها فإن كان بتأويل سائغ مقبول له وجه من اللغة فإنه لا يكفر وإلاّ فإنه يكفر وهذه الشروط تقلص ولا توسع التكفير بإنكار الصفات؟ يصعب أن تكفر بإنكار صفة لأنّ غالب الذين ينكرون الصفات عندهم تأويل سائغ إما من اللغة او من ظواهر النصوص فإن جاء أحد ينكر صفة بغير تأويل سائغ ففي الغالب ستجد أنّ فيه من المكفرات سوى إنكار الصفات شيء كثير مثل الصوفية الحلولية أو الملحدة أو المستهزئين بالكتاب الذين ينكرونه على صفة الاستهزاء فلا تجد إنسان لا يُكَفر إلاّ بمجرد إنكار الصفة إلاّ بنطاق ضيق جدا في الحقيقة. ثم - قال رحمه الله - (أو اتخذ لله صاحبة أو ولدا) إذا زعم أنّ الله اتخذ صاحبة أو ولدا فإنه يكفر لأنّ القرآن مليء بنفي الصاحبة والولد {ما اتخذ الله من ولد وما كان معه من إله} [المؤمنون/91] وإذا أثبت هو أنه لله ولد أو له صاحبة فإنه يكفر ولا نقول هنا بتأويل أو بغير تأويل لأنه لا يوجد تأويل سائغ في إثبات الولد لله ولا في إثبات الصاحبة. فبمجرد ما يعتقد أنّ لله ولدا فهو كافر أو له زوجة فهو كافر. ثم - قال رحمه الله - (أو جحد بعض كتبه أو رسله) إذا جحد بعض الكتب أو بعض كتاب أو جحد أحدا من الرسل فإنه يكفر , أولا لأنه مكذب لما جاء في الكتاب والسنة. وثانيا: لقوله تعالى {أفتؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعض} [البقرة/85] فالكفر ببعض الحق كفر بكل الحق. المكفر هذا والذي قبله لا يكاد يوجد بين المسلمين. لا زعم أنّ لله صاحبة ولا إنكار صفة بغير تأويل وبغير جهل. ثم - قال رحمه الله - (أو سب الله أو رسوله فقد كفر)

سواء سبهما على سبيل الاستحلال أو ليس على سبيل الاستحلال، والسب في اللغة/هو التنقص والشتم. وأما في الاصطلاح فالسب يرجع فيه إلى العرف فما اعتبر سبا فهو سب وإلى هذا ذهب شيخ الإسلام - رحمه الله - وهو ضابط وتعريف متقن جدا لأنّ السب يختلف جدا باختلاف الأوقات والأعراف والأزمان فما اعتبر في عرف من الأعراف سبا فهو سب , وسب الله وسب رسوله من المكفرات بل هو أعظم وأشنع مكفر على الإطلاق , يعني المكفرات القولية , والدليل على كفر صاحبه مع ظهوره وجلائه من وجهين: الأول: أنه لا يسب الله سبحانه وتعالى أو رسوله إلاّ وقد خرج من قبله التعظيم الواجب. وإذا لم يعظم الله ولم يعظم رسوله فهو كافر. الدليل الثاني: قوله تعالى {قل أبالله وآياته ورسوله كنتم تستهزئون} [التوبة/65] {لا تعتذروا قد كفرتم بعد إيمانكم} [البقرة/190] وجه الاستدلال أنّ الآية دلت على كفر المستهزئ والساب أشنع منه بمراحل فمن سب الله أو سب رسوله نسأل الله السلامة والعافية فهو كافر خارج عن الملة. قال - رحمه الله - (ومن جحد تحريم الزنا أو شيئا) جحد المحرمات الظاهرة كفر والجحد هو الإنكار , والمحرمات الظاهرة هي المحرمات المعلومة من دين الإسلام بالضرورة سواء أنكر تحريم شيء محرم أو أنكر وجوب شيء واجب , ويلتحق بما علم من الدين بالضرورة كل ما أجمع عليه العلماء إجماعا عاما لا إجماعا خاصا فما أجمع عليه إجماعا عاما يعني معلوم للعامة فإنكاره كفر كتحريم الخمر ووجوب الصلاة والزكاة ووجوب بر الوالدين وتحريم الشرك هذه إجماعات عامة. أما الإجماعات الخاصة كتحريم جواز الجمع بين المرأة وعمتها أو المرأة وخالتها ونظائر هذه المسائل التي هي إجماعات خاصة يعلمها الفقهاء فإنكارها ليس بكفر لأنه يتصور ممن أنكرها الجهل. يقول المؤلف - رحمه الله - (ومن جحد تحريم الزنا أو شيئا من المحرمات الظاهرة المجمع عليها بجهل عرف ذلك وإن كان مثله لا يجهله كفر)

إذن إذا أنكر شيئا من المحرمات الظاهرة إما أن يكون جاهلا فيعرف فإنّ أقر فذاك وإلاّ فهو كافر أو يكون عالما فيكفر مباشرة من دون تعريف وهذا صحيح إذا أنكر الإنسان شيئا معلوما من الدين بالضرورة فهو كفر لأنه تكذيب للكتاب وتكذيب للسنة فيعرف فإن رجع وإلاّ أتممنا عليه الكفر إلاّ إذا كان عالما فيكفر ابتداء بلا تعريف. ثم عقد المؤلف فصلا لبيان حكم المرتد. ... فصل يقول المؤلف - رحمه الله - (فمن ارتد عن الإسلام وهو مكلف) سيأتينا أنّ الحكم أنّ من ارتد عن الإسلام فهو كافر لكن اشترط المؤلف بعض الشروط. فيقول وهو مكلف فبيّن المؤلف أنّ غير المكلف ارتداده لا يعتبر فإذا ارتد فلا نقيم عليه الحد ولا نعتبره في أحكام الدنيا ولا في أحكام الآخرة مرتدا وهذا أمره واضح بالنسبة للصغير دون التمييز وبالنسبة للمجنون. مسألة / داخل هذا الشرط المميز. المميز هل تعتبر ردته أو لا تعتبر؟ فيه خلاف بين الفقهاء. القول الأول: أنها لا تعتبر ردته لقول النبي - صلى الله عليه وسلم - رفع القلم عن ثلاثة. وإقامة حد الردة من جملة العقوبات وهي مرفوعة عن من لم يكلف. القول الثاني: أنّ إسلامه معتبر وردته معتبرة , فإن ارتد قتل واستدل هؤلاء بأنّ علي - رضي الله عنه - والزبير بن العوام - رضي الله عنه - اسلموا ولهم ثمان سنين. عقول كبيرة في الحقيقة طفل عمره ثمان سنوات دين جديد في قريش مع الأهوال الموجودة في أول البعثة يسلم عقل كبير بمعنى الكلمة لا ينتهي عجب الإنسان من طفل يكون بهذا التفكير والمستوى ولهذا لم يسلم إلاّ طفلان علي والزبير لأنه بعض الكبار ما أسلموا إللي عقولهم كبيرة ما أسلموا فكيف. دليل على انه - رضي الله عنهم - لهم عقول راجحة فاستدل الحنابلة وهو وجه عند الحنابلة أنه إذا دلت النصوص على اعتبار إسلامه فنعتبر ردته فنصحح الإسلام والردة. والقول الثالث: أنّ إسلامه صحيح وردته لا تعتبر , جمعا بين النصوص وهذا القول اختاره ابن مفلح ومال إليه ابن قدامة ولا شك أنه أقوى الأقوال المذكورة وهو إن شاء الله الراجح.

تنبيه!! وعلى جميع الأقوال إذا ارتد المميز فإنه لا يقتل ولو اعتبرنا ردته صحيحة وإنما ينتظر به إلى أن يكلف وننتظره بعد التكليف لمدة ثلاثة أيام على المذهب ثم إذا لم يرجع أقيم عليه حد الردة وهذا بلا خلاف واستدلوا على هذا بأنّ الصبي ليس من أهل العقوبات فلا نقيم عليه الحد إلاّ بعد أن يبلغ. ثم - قال رحمه الله - (مختارا) يشترط للردة أن يأتي بهذه الردة قولا أو عملا أو اعتقادا مختارا فإن كان مكرها فإنه لا يكفر لقوله تعالى {إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان} [النحل/106] ولقول النبي - صلى الله عليه وسلم - عفي عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه. وهذا محل إجماع أنه إذا أكره على الكفر فإنه لا يكفر. ثم - قال رحمه الله - (رجل أو امرأة) إذا ارتد الرجل فحكمه إذا استوفى الشروط القتل بالإجماع , وإذا ارتدت المرأة ففيها خلاف. فالمذهب وهو مذهب الجماهير أنّها تقتل لعموم قول النبي - صلى الله عليه وسلم - من بدل دينه فاقتلوه. ولأن امرأة في عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - ارتدت فقتلها. والحديث الأول في الصحيح والحديث الثاني ضعيف. القول الثاني: أنّ المرأة إذا ارتدت فإنها تسبى وتكون أمة واستدلوا على هذا بأنّ أمير المؤمنين أبا بكر الصديق - رضي الله عنه - لما ارتدت بنو حنيفة وقاتلهم سبى النساء وعاملهم معاملة الإماء. وأهدى علي - رضي الله عنه - إحدى نساء بنو حنيفة وهي أم محمد بن الحنفية , وجه الاستدلال أنّ الصحابة أقرّوه على هذا العمل ولم ينقل إنكار فهو إجماع من الصحابة على طريقة ابن قدامة.

القول الثالث: أنها تحبس أبدا حتى تسلم أو تتوب وتضرب لترجع واستدل هؤلاء بأنّ النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى عن قتل النساء فقال ولا تقتل امرأة. والجواب أنّ هذا الحديث في الكافرة الأصلية أما المرتدة فليست كذلك والراجح المذهب لكن لم أجد جوابا عن عمل أبي بكر الصديق , الراجح المذهب لعموم الأدلة ووضوحها ليس في ذهني ولم أجد جوابا كيف يخرج أهل العلم صنيع أبي بكر الصديق , ربما تحتاج مراجعة أكثر المهم أنا لم أجد وليس في ذهني بعد التأمل ما يجاب به عن مثل هذا العمل إلاّ أن يقال هناك فرق بين الردة الجماعية والردة الفردية ولكن هذا لم أرى أحدا أشار إليه وإلاّ لو قيل هناك فرق بين الردة الجماعية والفردية لكان وجيه لأنه كما سيأتينا حصلت ردة كثيرة في زمن الصحابة في زمن عمر وعثمان ما نقل أنه سبيت النساء إلاّ أنّ الردة التي حصلت في زمن الصحابة هي من قبل الرجال على كل حال الراجح المذهب ولكن نلتمس لاحقا الجواب عن أثر أبي بكر الصديق - رضي الله عنه - ثم - قال رحمه الله - (دعي إليه ثلاثة أيام) يشترط قبل قتل المرتد أن يدعى إلى الدين لمدة ثلاثة أيام , والدليل على هذا أنّ رجلا قدم إلى عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - وسأله كعادته عمر - رضي الله عنه - عن أخبار القوم الذين جاء منهم فقال حصل وحصل وارتد رجل وقتلناه , فقال عمر بن الخطاب أفلا حبستموه وأطعمتموه كل يوم رغيفا ثلاثة أيام ثم قتلتموه اللهم إني لم أشهد ولم أحضر ولم أرضى فدل هذا الأثر أنّ عمر - رضي الله عنه - يرى أنّ صنيعهم منكر وأنه كان يجب عليهم وجوبا الانتظار. الدليل الثاني: روي نحوه عن علي - رضي الله عنه - وفيه ضعف. الدليل الثالث: روي نحوه عن عثمان. الدليل الرابع: روي في الحديث المرفوع إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال ينتظر بالمرتد ثلاثة أيام وهذا الحديث معلول بالإرسال فقط مرسل وأنتم تعرفون أنّ المراسيل ليست في الضعف كغيرها وأنها تصلح للاستئناس والاحتجاج متى احتفت بفتاوى وقد احتفت الآن بفتاوى عمر - رضي الله عنه - وغيره من الصحابة.

القول الثاني: أنه يستحب ولا يجب الانتظار ثلاثة أيام فلولي الأمر أن يقتله بمجرد ما يرتد واستدلوا على هذا بأنّ أبا موسى الأشعري - رضي الله عنه - لما ذهب إلى اليمن أرسل له النبي - صلى الله عليه وسلم - معاذ فلما قدم ودخل المجلس ثنى له أبو موسى الوسادة فرأى رجلا مربوطا فقال ما بال هذا قال إنه ارتد قال لا أجلس حتى يقتل فلم يجلس حتى قطعت رقبته فقالوا في هذا الحديث أنه لم ينتظر به لمدة ثلاثة أيام وإنما قتل في المجلس. والجواب على هذا الحديث. أولا أنّ سنة عمر المؤيدة بفتاوى غيره من الصحابة وبالحديث المرسل أولى من فتوى معاذ وفتوى أبي موسى الأشعري. ثانيا: أنه يحتمل وليس احتمالا بعيدا أنّ هذا المرتد بقي عند أبي موسى الأشعري لمدة ثلاثة أيام. الدليل الثاني لأصحاب القول الثاني: عموم قول النبي - صلى الله عليه وسلم - من بدل دينه فاقتلوه. ولم يقل استتيبوه ثلاثة أيام. والراجح الأول إن شاء الله لأنّ القاعدة عند الفقهاء تقول لأن يخطئ الوالي بترك العقوبة خير من أن يخطئ بظلم المعاقب. لا نقول ينتظر ثلاثة أيام لاسيما مع هذا الأثر الصحيح الصريح من أمير المؤمنين عمر - رضي الله عنه - ثم - قال رحمه الله - (وضييق عليه) يعني أنه يجب في أثناء الثلاثة أيام أن يضييق عليه إما في المكان أو المطعم أو في المشرب أو في الجميع لقول عمر - رضي الله عنه - أطعمتموه كل يوم رغيفا. فهذا دليل على أنه يجب أن يضييق عليه ولا ينتظر بالمرتد لمدة ثلاثة أيام ويوضع في المكان المريح وإنما يوضع في مكان يحصل عليه فيه ضيق ليراجع نفسه. ثم - قال رحمه الله - (فإن لم يسلم قتل) لعموم النصوص السابقة لقوله - صلى الله عليه وسلم - من بدل دينه فاقتلوه ولقتل معاذ ولقتل الصحابة الذين نقلوا إلى عمر فإنّ عمر لم ينكر القتل وإنما أنكر عدم الانتظار ثلاثة أيام فقتل المرتد يشبه أن يكون متواتر. ثم - قال رحمه الله - (بالسيف)

يعني أنه يجب أن يقتل بالسيف لا بغيره لأنّ النبي - صلى الله عليه وسلم - قال من بدل دينه فاقتلوه ولا تعذبوه بعذاب الله. وفسروا العلماء جميعا عذاب الله النار. ولقول النبي - صلى الله عليه وسلم - إنّ الله كتب الإحسان على كل شيء فإذا قتلتم فأحسنوا القتلة والقتل بالسيف من الإحسان فلا يجوز أن يقتل إلاّ بالسيف. ثم - قال رحمه الله - (ولا تقبل توبة من سب الله ..... ألخ) بدأ المؤلف ببيان من لا تقبل منهم التوبة فإذا ارتد فلا نقبل منه الرجوع ومقصود المؤلف بقوله لا تقبل منه التوبة يعني في أحكام الدنيا، أما في أحكام الآخرة فإن صدقت توبته فهي مقبولة بالإجماع إنما نحن نتحدث عن أحكام الدنيا أما في بينه وبين الله فهي مقبولة وهذا بلا خلاف. قال - رحمه الله - (من سب الله) من سب الله ثم قال تبت فإناّ نقول التوبة غير مقبولة لأنّ الذنب الذي اقترفته عظيم يدل على أنّ فيك من الخبث والفساد ما لا يتصور الرجوع عنه فلا نقبل منه ونقتله ولو زعم أنه تاب توبة نصوح. القول الثاني: أنّ من سب الله تقبل توبته ويقبل منه ويرفع عنه الحد أولا لعموم النصوص الدالة على قبول توبة التائب. الثاني: أنّ الذين استهزءوا بالله وبرسوله قبلت توبة بعضهم لقوله تعالى {إن نعف عن طائفة منكم نعذب طائفة} [التوبة/66] وقوله إن نعف عن طائفة منكم هذا العفو بالتوبة لأنّ الكافر لا يعفى عنه والمسلم لا يعفى عنه بالكبائر إلاّ بالتوبة فدل على قبول توبته. الدليل الثاني: أنه جاء في بعض النصوص أنّ فريقا من الذين استهزءوا قبل منهم النبي - صلى الله عليه وسلم - التوبة لكن لم يظهر لي صحة هذا الأثر وهي مروية ذكرها الحنابلة لكن يغلب على ظني أنها ليست بصحيحة يعني أنه لم يثبت أنه رضي النبي - صلى الله عليه وسلم - وقبل توبة أحد من الذين استهزءوا لكن هو مروي أنه قبل والآية واضحة في تقوية هذا الأثر لكنه من حيث الإسناد لا أظن أنه يصح يحتاج إلى مراجعة لم أرجع إسناده لكن لا أظنه يصح. والراجح أنّ التوبة مقبولة. قال - رحمه الله - (أو رسوله)

لا تقبل توبة من سب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لنفس الدليل السابق أنّ توبة الرسول وهو سيد الخلق ونبي الله دليل على أنه فسد قلبه بما لا يصلح بعده أضف إلى هذا أنّ في سب الرسول حقا للرسول ولا نعلم هل صفح عنه أو لا. والقول الثاني: أنّ ساب الرسول - صلى الله عليه وسلم - تقبل توبته ويرفع عنه الحد. والقول الثالث: أنّ ساب الرسول - صلى الله عليه وسلم - تقبل توبته ويعتبر من المسلمين يرث ويورث ويغسل ويكفن ويدفن مع المسلمين إلاّ أنه مع ذلك يقتل لحق رسول - صلى الله عليه وسلم - لأنه سب الرسول ولا نعلم هل صفح عنه الرسول أو لا فصارت الأقوال ثلاثة , أنها لا تقبل توبته مطلقا. أنها تقبل مطلقا. أنها تقبل لكن مع ذلك يقتل. هذا القول الثالث نصره شيخ الإسلام بأدلة كثيرة جدا متنوعة بطرق مختلفة في الصارم المسلول حتى قال البعلي وهو اختصر الصارم المسلول كما تعلمون في الكتاب اختصره وقال أتى بأنواع وأصناف من الأدلة لا يمكن للمنصف إذا رآها إلاّ أن يقرّ بصحتها وهو كذلك استدل بأدلة كثيرة - رحمه الله - وأثبت أنه سب الرسول فلا مناص من قتله لكن إن تاب قبلت توبته ودفن مع المسلمين وإن لم يتب قتل ردة وصار مع الكافرين. ثم - قال رحمه الله - (ولا من تكررت ردته) من تكررت ردته ولو لمرة واحدة كما هو ظاهر كلام المؤلف أنها لا تقبل توبته لقوله تعالى {إن الذين آمنوا ثم كفروا ثم آمنوا ثم كفروا ثم ازدادوا كفرا لم يكن الله ليغفر لهم ولا ليهديهم سبيلا} [النساء/137] فقالوا الآية حكمت عليه بالمرة الثانية أنه لن تقبل توبته. القول الثاني: أنه إذا ارتد مرة تقبل وإذا ارتد الثانية لم تقبل واستدل هؤلاء بالآية واستدلوا أيضا بأنّ ابن مسعود - رضي الله عنه - أوتي برجل ارتد فعفا عنه فلما أوتي به المرة الثانية مع جماعة عفا عمن معه وقتله وقال قد جئت قبل هذه مرة. لكن هذا الأثر عن ابن مسعود فيه ضعف.

القول الثالث: أنّ من تكررت ردته فإنه تقبل توبته لكن ينبغي بالنسبة لمن تكررت ردته أن يستقسي الإمام وأن يعاقبه عقوبة بليغة حتى يتبيّن له أنه تائب وليس متلاعب لكنه إذا تبيّن أنه تاب فإنه يقبل منه لاسيما إذا كانت الردة سببها الشهوة وليست الشبهة فإنّ من ردته بسبب الشهوة قد تتكرر لكن يتوب توبة نصوح ,أما من كانت ردته بسبب الشبهة فهذا الذي ينبغي أن يتثبت في حاله الإمام ثم - قال رحمه الله - (بل يقتل بكل حال) هذه ثمرة عدم قبول التوبة أنّ مصيره القتل بكل حال مهما أظهر من الرجوع والتوبة. قال - رحمه الله - (وتوبة المرتد وكل كافر إسلامه بأن يشهد أن لا إله إلاّ الله وأنّ محمدا رسول الله) توبة كل مرتد مهما كان نوع الردة إسلامه ثم بيّن بماذا يكون الإسلام فقال بأن يشهد أن لا إله إلاّ الله وأنّ محمدا رسول الله. الدليل على هذا أنّ النبي - صلى الله عليه وسلم - قال أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأنّ محمدا رسول الله ومفهوم كلام المؤلف أنه إذا ارتد ثم شهد أن لا إله إلاّ الله وأنّ محمدا رسول الله فإنه لا ينبغي الكشف عن حقيقة سبب الردة وهل رجع عنها وهل تاب وأقلع وإنما نكتفي منه بالتوبة فإذا أشرك صار يسجد للأصنام ثم تاب فإنّا نقبل منه ولا نقول هل ترى الآن أنّ السجود للصنم شرك أو لا وإنما نقبل منه ونكل باطنه إلى الله. ثم لما بيّن المؤلف - رحمه الله - أنّ التوبة تقبل بمجرد الشهادتين أراد أن ينبه إلى مسألة وهي قسم من المرتدين لا تقبل توبتهم بمجرد الشهادتين. يقول - رحمه الله - (ومن كان كفره بجحد فرض ونحوه) إذا جحد فرض بأن قال الصلاة ليست بواجبة أو الحج ليس بواجب أو جحد نحو الفرض كأن يجحد أنّ النبي - صلى الله عليه وسلم - رسالته عامة للثقلين فهذا له توبة خاصة. يقول فيها - رحمه الله - (فتوبته مع الشهادتين إقراره بالمجحود به)

توبة الجاحد لا تحصل إلاّ بأن يأتي بأمرين: الشهادتين وأن يقر بالذي جحد لأنه إذا لم يقر بالمجحود فإناّ لا نعلم هل رجع عنه أو لم يرجع ولهذا يجب أن يشهد ويجب أن ينطق ويقول رجعت عن جحد وجوب كذا وكذا وأنا أرى الآن أنه واجب أو رجعت عن تحريم كذا وكذا وأنا أرى الآن أنه محرم تصريحا ولا نكتفي منه أنه يقول تبت وأشهد أن لا إله إلاّ الله وأن محمدا رسول الله بل يجب مع الشهادتين أن يقر بما جحد أو بطريقة أخرى. قال - رحمه الله - (أو قوله: أنا بريء من كل دين يخالف الإسلام) يعني مع الشهادتين فالشهادتان ثابتتان لكن إما أن يقر بالمجحود أو يقول أنا بريء من كل دين يخالف دين الإسلام إلى هذا ذهب الحنابلة. والقول الثاني أنّ الجاحد لا تقبل توبته إلاّ بالشهادتين وأن يقر ولا تقبل توبته بمجرد أن يقول أنا بريء من كل دين يخالف دين الإسلام. والقول الثالث: أنه إن كان كفره بإنكار أصل من أصول الإسلام ظاهر فإنه يكتفى من أن يقول أنا بريء من دين يخالف دين الإسلام وإلاّ فإنه يجب أن يقر بما جحد وإلى هذا القول مال الشيخ العلامة ابن قدامة وعلل هذا بأنه يوجد من المبتدعة من الذين يكفرون ببدعتهم من يرى أنّ الإسلام هو الملة التي هو عليها فلا ينفعه أن يقول أنا بريء من كل دين يخالف دين الإسلام لأنّ دين الإسلام عنده هو ما هو عليه ولا شك أنّ هذا التنبيه من ابن قدامة جيد وأنا ما نقبل من المنكر إذا كان لم ينكر شيئا ظاهرا من الإسلام إلاّ إذا أقر واعترف بما جحده من دين الإسلام وغالب الكفر بالجحود غالبا يكون من القسم الثاني وهو إنكار شيء غير معلوم من الدين بالضرورة ولهذا الأقرب والأحسن أن يقال أنّ الكافر جحودا لا يقبل منه إلاّ بالشهادتين وأن يقر بما جحد مطلقا فنقول أقرّ بما جحدت واشهد الشهادتين ويكون هذا مقبولا منك.

كتاب الأطعمة

كتاب الأطعمة الدرس: (1) من الأطعمة قال شيخنا حفظه الله: بسم الله الرحمن الرحيم والحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين. الأطعمة جمع طعام وطعام اسم لكل ما يأكل ويشرب , أما أنه اسم لكل ما يأكل فهو أمر ظاهر لا يحتاج إلى استدلال وفيه قوله تعالى {وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم وطعامكم حل لهم} [المائدة/5] أي ذبائحهم وأما أنّ الشراب يطلق عليه طعام فأيضاً جاء في الكتاب والسنة ففي قوله {فمن شرب منه فليس مني ومن لم يطعمه فإنه مني} [البقرة/249] فعبر عن الشرب بالطعام. ومن السنة قوله - صلى الله عليه وسلم - عن ماء زمزم إنها طعام طعم وشفاء سقم. فعبر عن الماء بأنه طعام طعم وقد يعبر الفقهاء أحيانا بقولهم الأطعمة والأشربة فإذا عبروا بهذا فمن الظاهر أنّ مقصودهم بالأطعمة. أي ما يأكل وبالأشربة أي ما يشرب. يقول الشيخ - رحمه الله - (الأصل فيها الحل , فيباح كل طاهر , لا مضرة فيه , من حب وثمر وغيرهما) الأصل العام في المطعومات الحل لقوله تعالى {هو الذي خلق لكم ما في الأرض جميعا} [البقرة/29] ولقوله تعالى {ويحل لهم الطيبات} [الأعراف/157] ويستدل أيضا على أنّ الأصل في المطعومات الحل أنّ النصوص الخاصة جاءت بمنع أشياء معينة فدل على أنّ ما عداها فهو حلال وكون المطعومات الأصل فيها الحل كما دل عليه الكتاب فهو أيضا محل إجماع من الفقهاء وذهب شيخ الإسلام - رحمه الله - إلى أنها حلال خالصة للمؤمنين فقط {قل هي للذين آمنوا في الحياة الدنيا خالصة يوم القيامة} [الأعراف/32] فدلت الآية على أنها حل للمؤمنين فقط دون الكافرين وفي الواقع أنّ هذا الخلاف لا يترتب عليه أثر من حيث الأحكام الفقهية التفريعية. والفقهاء - رحمهم الله - انقسموا في الأطعمة والأشربة إلى ثلاثة أقسام أو ثلاث مذاهب عموما: المذهب الأول: مذهب أهل الكوفة وعندهم اتساق مع النصوص في المطعومات ومخالفة للنصوص في المشروبات. المذهب الثاني: مذهب أهل المدينة والحجاز وعندهم اتفاق وانسجام مع النصوص في المشروبات واختلاف معها في الجملة في المطعومات

المذهب الثالث: مذهب أهل الحديث الذين أخذوا بالآثار وجمعوا بينها وعلى رأسهم الإمام الكبير الإمام أحمد بن حنبل - رحمه الله - فهو أخذ بالنصوص في المطعومات والمشروبات. وشيخ الإسلام - رحمه الله - في الفتاوى الكبرى وفي مجموع الفتاوى تكلم عن هذه الاتجاهات بكلام كثير مفيد لطالب العلم. يقول - رحمه الله - (ولا يحل نجس كالميتة والدم) لما بيّن أنّ الأصل في المطعومات الحل انتقل إلى بيان ما يحرم من المطعومات والآية تقول {ويحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث} [لأعراف/157] فالأصل أنّ كل طيب حلال وكل خبيث حرام هذا هو الأصل العام والخبائث تنقسم إلى قسمين: القسم الأول: الخبائث العينية يعني ما خبث بعينه كالدم والميتة والخنزير. القسم الثاني: ما خبث لكسبه , كالربا والميسر والمكاسب المحرمة. وهذا الباب كما هو معلوم يتحدث عن القسم الأول. يقول - رحمه الله - (ولا يحل نجس كالميتة والدم) أشار المؤلف إلى ضابطين من ضوابط التحريم في جملة واحدة. الضابط الأول" أنّ كل ما نص عليه الشارع أنه محرم فهو محرم يعني الأعيان المنصوصة عليها. وهذا يتناول الميتة والدم والخنزير , ولهذا كان يحسن بالمؤلف جدا أن يضيف إلى الميتة والدم هنا الخنزير لكنه أخره أن ذكره مع محرمات أخرى فخالف الصواب في موضعان كان ينبغي أن يذكره هنا وكان ينبغي أن لا يذكره كما سيأتينا مع القسم الثالث من المحرمات فالميتة والدم محرم بالنص والإجماع كما قال تعالى {قل لا أجد فيما أوحي إلي محرما على طاعم يطعمه إلا أن يكون ميتة أو دما مسفوحا أو لحم خنزير فإنه رجس أو فسقا أهل لغير الله به} [الأنعام/145] وقوله في الآية فإنه رجس الأقرب إن شاء الله أنّ الضمير يعود إلى الثلاثة فصارت الآية دلت على الحكم وعلى التعليل فالحكم أنها محرمة والعلة أو السبب أنها نجسة. وبهذا نكون عرفنا أنّ الضابط الأول من المحرمات الأشياء التي نص الشارع على تحريمها بأسمائها وأعيانها والأصل الثاني أو الضابط الثاني في المحرمات الأعيان النجسة فكل الأعيان النجسة محرمة لهذه الآية فإنه يقول فإنها رجس ويلحق بالأعيان النجسة الأعيان المتنجسة.

والأعيان المتنجسة هي الأعيان التي في أصلها حلال طاهرة ثم طرأت عليها النجاسة لاختلاط أو غيره والدليل على تحريم الأعيان المتنجسة من وجهين: الوجه الأول: أنّ الشارع حرم الجلالة وسيأتينا أنها التي تأكل النجاسات. الثاني: أنّ الأعيان المتنجسة فيها نجاسة وإذا كانت النجسات محرمة للنجاسة فالمعنى الموجود في النجسات موجود في المتنجسات. ثم - قال رحمه الله - (ولا ما فيه مضرة كالسم ونحوه) الثالث مما يحرم على الإنسان كل ما فيه مضرة فجميع الأطعمة والأشربة التي فيها مضرة فهي محرمة ومثل عليه بالسم والدليل على تحريمها قوله تعالى {ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة} [البقرة/195] والقاعدة العامة أنّ بدن الإنسان أمانة عنده لا يجوز له أن يتصرف فيه بما يضره. وقول الشيخ (كالسم) يشير المؤلف إلى أنّ تحريم السم سببه أنه مضر وهو على المذهب محرم لأمرين لأنه مضر ولأنه عندهم نجس , والصواب أنّ السم ليس بنجس وإنما طاهر وحرم لمضرته. والمضرات تنقسم إلى قسمين: القسم الأول: ما الأصل فيها الضرر في أي حال أخذت. فهذه محرمة وهي كالسم والمخدرات وكل المواد الضارة. القسم الثاني: ما هو مضر ضرر عارض كأن يكون هذا الطعام لا يناسب الإنسان من أمثلته المشهورة المعاصرة والأمثلة التي تتنافى الأطعمة التي تتنافى مع مرض الحساسية فهذه دلت النصوص على أنّها محرمة فإذا كان الإنسان إذا تناول طعاما معينا سبب له حساسية ضارة فإنه محرم لا من حيث أصل الطعام ولكن من حيث أنه مضر ببدنه هذا الضرر العارض. وكذلك من ابتلوا بمرض السكري أو الكولسترول أو الضغط أو جميع الأمراض المعروفة التي غالبا ما تكون بأسباب الأطعمة. ثم - قال رحمه الله - (وحيوانات البر مباحة إلاّ)

قوله وحيوانات البر مباحة إنما ذكره ليعطف عليه بما بعده وإلاّ فإنّ قوله في أول الكتاب أنّ الأصل الحل يشمل الحيوانات والمطعومات إلاّ أنّ تصرف المؤلف كأنه يشعر وإن كان ليس بذاك الوضوح كأنه يشعر أنه في المقدمة الأولى يتحدث عن غير الحيوانات يعني عن الحبوب والثمار. ثم الآن انتقل إلى ما يأكل من اللحوم وهذا منسجم تماما مع تصرف المؤلف إلاّ أنه يشكل عليه شيء واحد أنه تطرق لتحريم الميتة والدم. وإلاّ لكان القسم الأول عن الحبوب والثمار ثم الآن ينتقل إلى الكلام عن الحيوانات البرية. بيّن المؤلف أنّ الأصل فيها الحل وكما قلت دلت عليها النصوص السابقة. ثم - قال رحمه الله - (إلاّ الحمر الإنسية) الحمر الإنسية محرمة عند الجماهير من السلف والخلف. واستدلوا على هذا بآثار واضحة وصريحة فاستدلوا بحديث ابن عمر في الصحيحين أنّ النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى عن لحوم الحمر الأهلية يوم خيبر. واستدلوا أيضا بحديث أنس وهو أيضا في الصحيح قريب من حديث ابن عمر وفيه أنّ الله ورسوله ينهيانكم عن لحوم الحمر الأهلية فإنها رجس. وهذه النصوص صريحة جدا. القول الثاني: وهو إحدى الروايات عن الإمام مالك ومذهب ابن عباس أنها حلال واستدلوا على هذا بالآية فإنّ الآية لم تذكر الحمر مع أنّ فيها نفيا وإثباتا {قل لا أجد فيما أوحي إلي محرما على طاعم يطعمه إلا أن يكون ميتة أو دما مسفوحا أو لحم خنزير فإنه رجس أو فسقا أهل لغير الله به} [الأنعام/145] ففيها النفي والإثبات والنفي والإثبات علامة الحصر وأشرت في أول الباب إلى أنّ المالكية عندهم إشكال في الأطعمة وهذا من شواهد هذا الإشكال فإنه يستكثر على إمام مثل الإمام مالك أن يذهب إلى مثل هذا القول وإن كان إحدى الروايات عنه. أما ابن عباس فروي أنّ علي بن أبي طالب ناظره وذكر له الأحاديث فلما بلغته رجع. ولهذا ذهب كثير من الأئمة إلى أنّ عذر الإمام مالك وعذر ابن عباس - رضي الله عنهما - عدم بلوغهما الخبر والراجح كما هو ظاهر إن شاء الله أنّ الحمر محرمة. وقوله (الحمر الإنسية) أخرج الحمر الوحشية وسيأتي نصوصا عليها في كلام الماتن - رحمه الله -. ثم - قال رحمه الله - (وما له ناب يفترس به)

الناب هو السن الذي يقع خلف الرباعية ومقصود الفقهاء بما له ناب يفترس به بتحريم كل ذي ناب مقصود الفقهاء كل حيوان اتصف بصفتين. الصفة الأولى أنّ له نابا , والصفة الثانية أنه يفترس بهذا الناب. والدليل على هذا أنّ النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى عن كل ذي ناب من السباع وأخذنا الضوابط من الحديث. أما الضابط الأول فمن قوله كل ذي ناب , فإذن لابد أن يكون له ناب. وأما أنه يفترس به فلقوله من السباع فإنّ طبع السباع الإفتراس فكل حيوان له ناب يفترس به فإنه محرم بنص هذا الحديث الصحيح. ثم ذكر الشيخ - رحمه الله - أمثلته: فقال - رحمه الله - (وما له ناب يفترس به غير الضبع) قبل أن يذكر الأمثلة ذكر المستثنيات والضبع محل خلاف بين الفقهاء فذهب الحنابلة إلى أنه حلال واستدلوا على هذا بما صح عن جابر بن عبد الله - رضي الله عنه - أنّ النبي - صلى الله عليه وسلم - جعل الضبع صيدا. وكون الضبع صيد هذا القدر من الحديث صححه البخاري وإطلاق وصف الصيد يدل على أنه مأكول. القول الثاني: أنه محرم لأنه يدخل في عموم حديث النهي. والقول الثالث: أنه مكروه لما فيه من خبث والراجح القول الأول وهذا مثال يضاف إلى الأمثلة السابقة أنّ أهل الحديث وسط والوسطية تعني إتباع الآثار. ثم - قال رحمه الله - (كالأسد , والنمر , والذئب , والفيل , والفهد , والكلب , والخنزير , وابن آوى , وابن عرس , والسنور , والنمس , والقرد , والدب) هذه الحيوانات معروفة. وابن عرس نوع من الفأر , والسنور هو القط بريا كان أو أهليا. والنمس نوع من القطط لكنه كبير. وباقي المذكورات معروفة هذه الأمثلة أمرها ظاهر لأنها من السباع التي لها ناب فهي محرمة لكن في بعضها خلاف قوي نعرض للحيوانات التي فيها خلاف والباقي فأمرها ظاهر واندراجها تحت الحديث واضح: الأول قال ـرحمه الله -:"والفيل " الفيل اختلف فيه الفقهاء فذهب الحنابلة إلى أنه محرم لأنّ له ناب بل ناب كبير. والقول الثاني: أنه مباح لأنّ له نابا لكنه لا يفترس به. والقول الثالث: أنه مكروه لإستقذاره وكراهيته ومن حيث القواعد لا يوجد دليل على التحريم ما دام الأصل الحل ولا يوجد دليل واضح ناقل فإنّ الأصل الحل.

قال - رحمه الله - (والخنزير) ذكر الخنزير مع ما له ناب يفرس به خطأ , لأنّ الخنزير ليس له ناب يفرس به وإنما الخنزير حرم لقاعدة أخرى يندرج تحت قاعدتين أنه منصوص عليه وأنه رجس. إذن إيراده هنا أقرب ما يكون وهم. ثم - قال رحمه الله - (والدب) الدب أيضا فيه خلاف فالحنابلة يرون أنه محرم لأنّ له نابا يفترس به. والقول الثاني: أنّ الدب ينقسم إلى قسمين: القسم الأول ما له ناب. فهذا محرم. والقسم الثاني: ما ليس له ناب ويقصدون بما ليس له ناب يعني من أصل الخلقة ولا يقصدون بطبيعة الحال الصغير فهذا مباح. وهذا التفصيل روي عن الإمام أحمد نصا - رحمه الله - ولا يظهر لي أنّ هذا التفصيل صحيح والسبب أنه لا أعلم أنه يوجد دب لا يفترس فيما أعلم أنّ جميع الدببة تفترس فإن وجد دب لا يأكل إلاّ العشب فالخلاف في هذا النوع من الدب كالخلاف تماما في الفيل إذا وجد ويبدوا أنه يوجد لكنه غير معروف نوع نادر جدا من أنواع الدببة التي أو شكت على الانقراض هي التي توصف بأنها لا تأكل اللحوم وإلاّ الأصل في الدب أنه يأكل اللحم إذن هذا هو الخلاف والراجح أنّ الدب له ناب يفترس به فهو محرم إلاّ إن وجد نوع لا يأكل إلاّ العشب فالخلاف فيه كالخلاف في الفيل. ثم - قال رحمه الله - (وماله مخلب من الطير يصيد به) ماله مخلب من الطير محرم ويشترط فيه أن يكون له مخلب وأن يكون يصيد به. أما اشتراط أنه أن يكون له مخلب فلقوله نهى عن كل ذي مخلب من الطير , وأما أنه يصيد فمن أين؟ لأنه يقول من الطير. أخذنا هذا القيد من فائدة جميلة جدا لابن حزم وهو أنه يقول [العرب لا تسمي الطير بذي مخلب إلاّ وهو يصيد] ما تسمي باقي الطيور أنها ذي مخلب وإن كان لها مخلب لكن العرب لا تطلق هذا الاسم إلاّ على ما يصيد من الطيور وهذه فائدة جليلة فيها الدليل على الشرط الثاني , فكل ذي مخلب من الطيور فإنه لا يحل أكله. ثم - قال رحمه الله - (كالعقاب , والبازي , والصقر , والشاهين , والباشق , والحدأة , والبومة) هذه الحيوانات لها مخالب تصيد بها وهي محرمة بنص الحديث ولا أعلم في الأمثلة الأولى خلاف فهي محرمة بنص الحديث. ثم - قال رحمه الله - (وما يأكل الجيف)

ذكرت في أول الكتاب أنّ قاعدة المحرمات أنها {ويحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث} [الأعراف/157] فكل خبيث في الشرع فهو محرم ويبقى علينا أن نثبت أنه خبيث فما يأكل الجيف اعتبره الفقهاء يأكل الخبائث وإذا كان يأكل الخبائث فهو محرم بالإضافة إلى أنّ هذه الطيور لها مخالب تصيد بها وقد ذكر الشيخ الأمثلة. فقال - رحمه الله - (كالنسر , والرخم , واللقلق ,والعقعق , والغراب الأبقع , والغداف - وهو أسود صغير أغبر - والغراب الأسود الكبير) النسر والرخم واللقلق والعقعق. هذه أمرها واضح وهي تأكل الجيف فهي أولى بالتحريم من الجلالة كما أنّ لها مخالب تصيد بها , أما الغراب فقسم المؤلف الغراب إلى ثلاثة أقسام: القسم الأول: الغراب الأبقع وهو الذي يسمى غراب البين فهذا محرم بالإجماع. الثاني: الغداف وهو أسود صغير أغبر , الغراب الأسود الصغير هو الذي يسمى غراب الزرع فالحنابلة يرون أنه محرم لأنّ النبي - صلى الله عليه وسلم - أمر بقتل الغراب وما أمر بقتله كما سيأتينا فهو محرم فأخذوا منه العموم. والقول الثاني: أنّ الغراب الصغير غراب الزرع جائز لأنه يأكل ما تأكل الحمامة ولا يأكل من الجيف والراجح إن شاء الله أنّ الصغير جائز وحلال ليس بحرام. الثالث: الغراب الأسود الكبير هذا محرم وهو مقيس على غراب البين ويأكل الجيف ولا إشكال في تحريمه إذا صارت الأنواع ثلاثة للغراب وعرفنا حكم كل واحد منها. ثم - قال رحمه الله - (وما يستخبث كالقنفذ , والنيص , والفأرة , والحية , والحشرات كلها , والوطواط) من القواعد المتقررة عند الحنابلة أنّ كل ما يستخبث فهو حرام وضبطوا ما يستخبث بأهل الغنى والمروءة من أهل الأمصار دون الفقراء من أهل القرى. وعللوا هذا بأنّ الفقراء من أهل القرى لا يستخبثون إلاّ الأشياء القليلة لفقرهم. والقول الثاني: أنّ الضابط في ما يستخبث ما تستخبثه العرب من قريش , واستدلوا على هذا بأنّ قريش نزل عليها الوحي ونزل القرآن بلسانها وهم أولى الناس بضبط الخبائث على أعرافهم لأنه لو لم تضبط بذلك لصار الحلال والحرام يتفاوت من بلد لآخر.

والقول الثالث: أنّ هذا الضابط وهو ما يستخبث ليس بصحيح وأنّ الشارع لا يحرم ما يستخبثه أحد وإنما يحرم ما دل النص على تحريمه صراحة فقط واستدل أصحاب هذا القول بأنّ قريش وهم أرفع من قيل يرجع إلى طبائعهم في استخباث الأطعمة كانوا يستطيبون الخبائث فهم يأكلون الميتة والدم , ويستخبثون الطيبات فهم لا يأكلون الضب فدل هذا على أنّ الشرع لم يجعل استخباثهم معتبرا. وهذا القول الأخير هو الراجح بلا شك إن شاء الله , وأنه لا يحرم شيء من الأطعمة بناء على مجرد الاستخباث الذي لا يسنده دليل من النص. قال - رحمه الله - (كالقنفذ) القنفذ محرم وهو من أمثلة ما يستخبث عند الحنابلة ودليل التحريم عندهم أنه يستخبث. والقول الثاني: للجمهور أنّ القنفذ حلال ولا بأس بأكله واستدل الجمهور بالعمومات والراجح مذهب الجمهور إلاّ إن صح ما ذكره بعض الفقهاء أنّ القنفذ يأكل الخبائث إن صح أنه يأكل الحشرات الخبائث وما يستقذره الناس مما في الشوارع فيلحق بما يأكل الخبائث وهو القسم السابق كالنسر إن صح هذا لأنه لم يذكره إلاّ عدد قليل من الفقهاء إن صح هذا فهو محرم لكونه يأكل الخبائث. ثم - قال رحمه الله - (والنيص) النيص هو القنفذ إلاّ أنه كبير ويدافع عن نفسه بإطلاق الشوك بخلاف القنفذ فهو يدافع عن نفسه بالتكور على نفسه. ثم - قال رحمه الله - (والفأرة والحية) الفأرة والحية محرمات , أما الفأرة فلأنها نجسة ولأنّ النبي - صلى الله عليه وسلم - أمر بقتلها. وكل ما أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - بقتله فهو ليس مطعوما لأنّ في الحديث قتلها في الحل والحرم ولو كانت صيدا لم يجز أن تقتل في الحرم. وأما الحية فكذلك لما تقدم من أنها تستخبث وأمر بقتلها إلاّ أنه في الحية يوجد خلاف فذهب بعض الفقهاء وهو القول الثاني: في المسألة إلى أنّ الحية يجوز أن تأكل لأنه لا دليل على تحريمها والأمر بقتلها لا يمنع من أكلها والراجح بلا إشكال أنها تحرم إن شاء الله أولاً لأنه أمر بقتلها وقاعدة أنّ كل ما أمر بقتله فهو حرام صحيحة.

ثانيا: أنها تأكل كما تأكل السباع فهي تصيد الحيوانات الصغيرة كالأرنب الصغير والفأر واليربوع ونحوها وتأكله كما تأكل السباع الحيوانات الكبيرة فشأنها شأن السباع ليست من السباع لكنها تقاس على السباع فإن شاء الله لا إشكال عندي في أنها محرمة. ثم - قال رحمه الله - (والحشرات كلها) الحشرات محرمة عند الجمهور لاستخباثها وقذارتها ولأنها تأكل الخبائث ومن أمثلتها الجعل والخنافس والصراصير ونحوها. القول الثاني: أنها جائزة وهو مذهب منسوب للمالكية لأنه لا دليل على التحريم والراجح التحريم والمنع فهي أولى بالمنع من بعض ما يأكل الخبائث فهي أخبث منه أخبث من القنفذ لو افترضنا أنه يأكل الخبائث. ثم - قال رحمه الله - (والوطواط) الوطواط سئل عنه الإمام أحمد فقال ومن يأكل الخفاش والوطواط محرم لأمرين: الأمر الأول" أنه مستخبث. الأمر الثاني: أنه جاء في الحديث النهي عن قتله وروي ذلك مرفوعا وموقوفا. والصحيح الموقوف وهو جاء عن أكثر من صاحبي موقوفا النهي عن قتله وإذا كان منهيا عن قتله فكل ما نُهي عن قتله أيضا فهو لا يجوز أكله والسبب في ذلك أنّ الحيوان لا يأكل إلاّ بعد القتل فإذا نهي عن قتله صار هذا إشارة إلى أنه لا يأكل إذ كيف يجمع الشارع بين إجازة أكله والمنع من قتله فإذا هذه القاعدة الخامسة وهي [أنّ كل ما نهي عن قتله فإنه لا يجوز أن يأكل] ويظهر علة ثالثة في المنع من الخفاش الوطواط وهو أنه يأكل أو يشرب الدماء فهو معروف بمص الدماء من الحيوانات فهو يأكل الخبائث وإن كانت هذه العلة لم أر أحدا من الفقهاء ذكرها لكن لعلهم استغنوا عنها بأنه من الخبائث فإنه جعلوه من قسم الخبائث. ثم - قال رحمه الله - (وما تولد من مأكول وغيره كالبغل) ما تولد من المأكول وغير المأكول فإنه يحرم وعلة ذلك أنّ كل عين اجتمع فيها مبيح وحاضر فإنه يغلب الحاضر والمقصود بالبغل هنا المتولد من الخيل والحمار الأهلي , أما البغل المتولد من الخيل والحمار الوحشي فهو جائز لكن غالب البغال من القسم الأول. فصل لما بيّن المحرمات أراد أن يبّين الأشياء المباحة أو الحلال: فقال - رحمه الله - (وما عدا ذلك فحلال)

أشار المؤلف بهذا إلى أنّ المحصورات هي المحرمات وما عداها فهو حلال وعلى هذا دلت النصوص المتقدمة أنّ الأصل في الأعيان الحل. يقول - رحمه الله - (كالخيل) الخيل اسم جنس لا واحد له من لفظه ويقصد بالخيل جماعة الأفراس , والخيل مباح عند الجمهور واستدلوا على هذا بأدلة صحيحة الدليل الأول: أنّ النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى عن الحمر الأهلية يوم خيبر وأباح الخيل. وهذا في الصحيح والدليل الثاني: أنهم نحروا في عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - فرسا فأكلوه وهذا في الصحيح. والقول الثاني: الخيل يكره أن تأكل وعللوا في هذا بأنّ في أكلها إضرار بالجهاد فإنها وسيلة الجهاد الأعظم تأثيرا فلم يجعلوها محرمة للنصوص وإنما اكتفوا بالكراهة للتعليل. والقول الثالث: أنها محرمة وهذا من الغرائب مذهب الإمام مالك فهو يمنع الحلال ويجيز الحرام. ما أقول يجيز الحرام أقصد أنّ الإمام مالك في الحيوانات التي النصوص فيها دالة على الجواز بوضوح يخالف وفي الحيوانات التي النصوص دالة على المنع يخالف. استدل الإمام مالك بقوله تعالى {والخيل والبغال والحمير لتركبوها وزينة ويخلق ما لا تعلمون} [آل عمران/14] فقال امتن الله علينا بالخيل بأنها للركوب والزينة ولو كانت ينتفع بها في الأكل لذكر في الآية لأنها في مساق الامتنان وهذا القول ضعيف جدا وأخذنا قاعدة مرارا وتكرارا أنه لا يمكن أن نقابل المنطوق بالمفهوم لاسيما إذا كان المنطوق مباشر في القضية وهي جواز الأكل كيف نقدم عليه مفهوم آية أخرى ولكن كما سبق لعل الإمام الكبير مالك بن أنس - رضي الله عنه - وجعل مثواه الجنة لعله لم تبلغه النصوص. ثم - قال رحمه الله - (وبهيمة الأنعام) البقر والإبل والغنم. حلال بالإجماع بلا مخالف من أمة محمد وتحليلها يكاد يكون من المعلوم من الدين بالضرورة. ثم - قال رحمه الله - (والدجاج) الدجاج مباح وقد ثبت في الحديث الصحيح أنّ النبي - صلى الله عليه وسلم - أكل الدجاج كما أنّ النصوص العامة دالة على حلها. ثم - قال رحمه الله - (والوحشي من الحمر)

الوحشي من الحمر جائز لأمرين: الأمر الأول أنّ النص جاء بتحريم الحمر الأهلية بالنص على كلمة الأهلية فدل على أنّ ما عداها ليس بمحرم. الثاني: أنّ الصحابة أكلوا لحوم الحمر الوحشية. والشيء الثالث" أنّ الأحاديث دلت على أنها صيد يعني في باب الإحرام فهي حلال بلا إشكال إن شاء الله. ثم - قال رحمه الله - (والبقر والظباء والنعامة) هذه مباحات وحلال من النصوص العامة وبخصوص النعامة جعل النبي - صلى الله عليه وسلم فيها بعير فدل على أنها صيد حلال أكلها ثم - قال رحمه الله - (والأرنب) الأرنب مباح بالإجماع وجاء فيما أخرجه البخاري ومسلم أنّ النبي - صلى الله عليه وسلم - تناول الأرنب وأكلها ويوجد خلاف قديم بين الصحابة فروي عن عمرو بن العاص أنه منعها لكن هذا الخلاف انتهى واستقر الأمر على الجواز وكأنه - رضي الله عنه لم يبلغه النص. ثم - قال رحمه الله - (وسائر الوحش) جميع الوحوش التي لا تندرج تحت القواعد والضوابط المذكورة في الفصل الأول فالأصل فيها أنها حلال ويجوز أن تأكل وقوله سائر الوحوش استغنى بهذا عن السرد والتعداد لأنّ الحيوانات البرية المأكولة الخارجة عن الضوابط الخمس السابقة كثيرة جدا. ثم انتقل المؤلف إلى البحر. قال - رحمه الله - (ويباح حيوان البحر كله) الأصل في حيوان البحر أنه مباح كله سواء منه الجميع حلال وسيذكر المؤلف الميت إلاّ أنه استثنى أشياء سيأتينا الكلام عنها. يقول - رحمه الله - (ويباح حيوان البحر كله إلاّ الضفدع , والتمساح والحية) حيوان البحر الأصل فيه الحلال بدليل أنّ المؤلف استثنى حيوانات ثلاثة والله تعالى يقول {أحل لكم صيد البحر وطعامه متاعا لكم وللسيارة} [المائدة/96] ولهذا لما صار الأصل في البحر أنه حلال استثنى أشياء منه وترك أشياء أيضا محل خلاف لكن نبقى مع ما ذكره المؤلف - رحمه الله - يقول الضفدع. لا يجوز لأنه نهي عن قتله وتقدم معنا أنّ كل ما نهي عن قتله فإنه لا يجوز أن يأكل للتعارض بين إباحة أكله والنهي عن قتله وأمر الضفدع واضح. ثم - قال رحمه الله - (والتمساح)

لا يجوز أن يأكل وعللوا ذلك بأنّ له نابا يفترس به فيقاس على السباع ولا يمكن أن نسميه سباع لأنّ السباع تختص بحيوانات البر لكنه يقاس على السباع فهو محرم. والقول الثاني: أنّ التمساح من حيوانات البحر التي تعيش فيه والأصل في كل حيوانات البحر الإباحة والراجح إن شاء الله أنه محرم بل هو أخبث وأشنع من بعض حيوانات البر المحرمة فإنه يفترس بطريقة وحشية ويبتلع الحيوان كاملا فطبائعه خبيثة فهو أولى بالتحريم من بعض سباع البر. ثم - قال رحمه الله - (والحية) المقصود بالحية هنا حية البحر فإنّ حية البر تقدم الكلام عنها حية البحر محرمة واستدلوا على تحريمها بأنها خبيثة. والقول الثاني: أنها حلال لأنّ جميع حيوانات البحر حلال. والأقرب أنّ حية البحر التي لا تخرج إلى البر مطلقا حلال والذي يظهر لي أنّ حية البحر لا تدخل في الحديث الآمر بقتل الحيات لأنّ الحديث يتناول حيات البر دون حيات البحر هكذا يبدوا لي وهي مسألة محل خلاف. مسألة / علم من عموم كلام المؤلف أنّ ماله اسم نظير في البر أنه أيضا مباح مثل كلب البحر وخنزير البحر وإنسان البحر فهذه الأصل فيها الإباحة لأنها من حيوانات البحر. والقول الثاني: أنها محرمة لأنّ خنزير البحر خنزير وكلب البحر كلب والنص جاء بتحريم الخنزير والكلب فتخص من عمومات جواز أكل حيوانات البحر والراجح؟ أنّ هذه الأسماء ما هي إلاّ أسماء أحدثوها فليس بكلب وليس بخنزير وإنما لما رأوا الشبه ألحقوه والقاعدة أنّ مجرد التسمية التي ليست شرعية ولا من لغة العرب لا توجب التحريم وهذا صحيح بناء على هذا يكون كلب البحر وخنزير البحر جائز لأنه من حيوانات البحر. قال - رحمه الله - (ومن اضطر إلى محرم - غير السم - حل له منه ما يسد رمقه)

أما استثناء السم فلئن تناول المضطر له لا ينفعه شيء بل يزيده عطبا وهلاكا , وأما إباحة المحرمات عند الضرورة فللنصوص المتكاثرة الدالة على جواز الأكل من المحرمات عند الضرورة كقوله {فمن اضطر غير باغ ولا عاد فلا إثم عليه} [البقرة/173] وكقوله {إلا ما اضطررتم إليه} [الأنعام/119] لكن المؤلف قيد هذا بأن لا يشبع منه وإنما يأكل ما يسد الرمق فقط وهذه المسألة محل خلاف أما أكل ما يسد الرمق فهو مباح بالإجماع فهو خارج محل الإجماع. وأما أكل أكثر من هذا وهو إلى الشبع فهو محل الخلاف. فالحنابلة يرون انه لا يجوز أن يأكل أكثر مما يسد الرمق واستدلوا على هذا بأنّ هذه الأعيان إنما جازت للضرورة والضرورة تقدر بقدرها والضرورة تندفع بأكل ما يسد الرمق. والقول الثاني: أنه يجوز أن يأكل إلى أن يشبع واستدلوا على هذا بأنّ رجلا من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - نفق فرسه فاستفتى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال كل حتى تشبع. والقول الثالث: أنّ الأكل من الميتة ينقسم إلى قسمين: - القسم الأول: إن ظن أنّ ضرورته ستستمر فله أن يأكل إلى أن يشبع. وإن ظن أنّ ضرورته تنجلي وتنكشف عن قرب فلا يجوز له أن يأكل إلاّ ما يسد الضرورة وإلى هذا القول مال الشيخ الفقيه ابن قدامة وهو قول محرر وصحيح. ثم - قال رحمه الله - (ومن اضطر إلى نفع مال الغير مع بقاء عينه لدفع برد أو استسقاء ماء ونحوه , وجب بذله له مجانا) إذا اضطر الإنسان إلى مال غيره لينتفع به مع بقاء عينه كأن يأخذ ثوبا عن البرد أو حبلا ودلوا ليستسقي أو ليسقي به الماء فإنه إذا كان مضطرا وجب على المالك وجوبا أن يبذله ويجب أن يبذله مجانا. والدليل على هذا أنّ الله سبحانه وتعالى ذم الذين يمنعون الماعون وإذا ذم الشارع على منع شيء دل على أنه يجب أن يبذل مجانا.

والقول الثاني: أنه يجب أن يبذل لكن ليس مجانا لأنّ المنافع كالأعيان متقومة فيجب أن يبذل ثمنا لهذه المنفعة والراجح فيما يبدوا لي القول الثاني إذ لا معنى لإخراج المال من صاحبه من غير رضاه لأنّ الضرورة تندفع بالشراء ولهذا نقول فإن كان مضطرا لهذه العين ولا يملك ثمنها وجب بذلها مجانا. المؤلف - رحمه الله - يقول (ومن اضطر إلى نفع مال الغير مع بقاء عينه) ولم يبيّن الحكم فيما إذا اضطر إلى مال الغير الذي لا تبقى عينه مع الانتفاع كالطعام والشراب مع أنه أولى بالبيان من هذه المسألة لأنّ الضرورة إلى الأعيان غالبا ما تكون أعظم من الضرورة إلى المنافع فالحنابلة يرون أنه إذا اضطر الإنسان إلى طعام الغير اضطرارا وكان هذا الغير لا يحتاج إليه فإنه يجب وجوبا أن يبذله فإن منعه المالك منع المضطر فللمضطر أن يقاتله مقاتلة دفع الصائل لكن ليأخذ قدر ما يسد الرمق فقط وهذا صحيح بدليل أنّ الفقهاء أوجبوا على الإنسان المستطيع أن ينقذ الغريق وهذا أولى من إنقاذ الغريق وبذله أسهل من بذل المنفعة الحاصلة بإنقاذ الغريق. ثم - قال رحمه الله - (ومن مر بثمر بستان في شجرة أو متساقط عنه ولا حائط عليه ولا ناظر فله الأكل منه مجانا من غير حمل) المؤلف - رحمه الله - يقول من مر بثمر بستان. أفادنا المؤلف أنه يجوز للإنسان أن يأخذ من الثمار التي يمر عليها لكن بهذه الشروط التي ذكرها المؤلف. الشرط الأول" يقول في شجرة أو متساقط عنه. يعني يأخذ من الشجر أو من المتساقط دون الذي جمعه صاحب البستان أو حازه إلى مخزنه فإنّ هذا لا يجوز. الشرط الثاني: ولا حائط عليه يشترط أن لا يكون على البستان حائط فإن كان عليه حائط فلا يجوز أن يأخذ. الثالث: لا ناظر عليه يشترط أن لا يوجد ناظر يقف للحماية. الشرط الرابع: أن يأكل منه من غير حمل. الدليل استدلوا على هذا بقول النبي - صلى الله عليه وسلم - في حديث ابن عمر من مر على حائط فلا حرج أن يأكل غير متخذ لخبنة. وهذا الحديث إسناده ضعيف. الدليل الثاني: أنّ أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - كانوا إذا مروا بالبساتين أكلوا بأفواههم ومعلوم أنهم يأكلون بأفواههم ولكن معنى الحديث أنهم لا يأخذون شيئا.

القول الثاني: أنه لا يجوز للإنسان أن يأخذ شيئا من البستان لا قليل ولا كثير لقول النبي - صلى الله عليه وسلم - إنّ دمائكم وأموالكم وأعراضكم حرام عليكم. والقول الثالث: الجواز مطلقا ولا يشترط أن يكون حائط ولا يشترط أن لا يوجد ناظر الجواز بالأكل أن يأكل منه بدون أخذ فصارت الأقوال ثلاثة. الجواز بشروط. المنع مطلقا. الجواز مطلقا بالنسبة للأكل دون الحمل. والراجح القول الأخير إن صحت الآثار فإنّ هذه الآثار من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - مع ما عرف عنهم من ورع وتقوى وزهد واحتياط دليل على أنّ الأكل من البستان مستثنى من النصوص العامة فإن لم تصح الأحاديث ولا الآثار فلا إشكال بالقول بأنه يحرم ولا يجوز أن يأكل لأنّ النصوص العامة واضحة. ثم - قال رحمه الله - (وتجب ضيافة المسلم المجتاز به في القرى يوما وليلة) يجب على الإنسان أن يضيف الضيف بشروط: الشرط الأول: أن يكون مسافرا. الشرط الثاني: مدة يوم وليلة. الشرط الثالث: في القرى دون الأمصار. وعللوا هذا أنه في القرى لا يكاد يجد المسافر ما يأكل منه أو يبيت فيه بخلاف الأمصار فإنّ المطاعم والفنادق فيها كثيرة فيستطيع أن يجد ما يسكن فيه أو يبيت فيه واستدل الحنابلة على هذا بقول النبي - صلى الله عليه وسلم - من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه. ثم قال في الحديث الآخر فليكرم ضيفه جائزته ثلاثة أيام ولا يحل له أن يبقى بعد الثلاثة حتى يؤثم أخيه. وفي لفظ ذكره الحنابلة انه قال بعد الثلاثة قال وما بعده فهو بالخيار أو وما بعده فهو سنة. الحنابلة يرون أنّ الوجوب هو اليوم الأول وما عداه من أيام ليس بواجب وعللوا هذا بأنّ الإمام أحمد قال معنى قوله جائزته يعني كالمؤكد لهذا اليوم بالنسبة للأيام الأخرى. والقول الثاني: أنه يجب عليه أن يضيفه ثلاثة أيام لأنه في الحديث على المسلم أن يضيف ضيفه ثلاثة أيام.

باب الذكاة

والقول الثالث: أنه لا يجب إضافة الضيف مطلقا وإنما يستحب وفي الحقيقة الحديث الصحيح يدل على الوجوب ثلاثة أيام وليس للحنابلة دليل على التفريق بين اليوم والليلة والثلاثة أيام فإنّ النبي - صلى الله عليه وسلم - نص على الثلاثة أيام ثم أمره أن يغادر حتى لا يؤثم صاحبه بعد الثلاثة أيام فإذا قلنا بوجوب الضيافة فالقول بأنه لمدة ثلاثة أيام هو الأقرب المتوافق مع ظاهر الحديث. باب الذكاة الذكاة من التذكية والتذكية هي الذبح فإذا قالوا ذكاه أي ذبحه. يقول - رحمه الله - (لا يباح شيء من الحيوان المقدور عليه بغير ذكاة) أجمع الفقهاء أنّ الحيوان المقدور عليه لا يباح إلاّ بالتذكية لقوله تعالى {إلا ما ذكيتم} [المائدة/3] وأجمعوا على أنّ مكان الذبح هو الحلق أو النحر بالنسبة للإبل هذا محل إجماع إنما اختلفوا فيما يجب أن يقطع لتحل الذبيحة وهذه مسألة أخرى بناء على هذا الإجماع لو طعن الإنسان الذبيحة مع فخذها أو مع معدتها أو مع الرأس في غير الحلق فإنها ميتة ولا تحل. يقول المؤلف - رحمه الله - (إلاّ الجراد والسمك) الجراد والسمك تحل ميتتهما بإجماع العلماء لقول النبي - صلى الله عليه وسلم - أحلت لنا ميتتان السمك والجراد ولأنّ أصحاب أبي عبيدة رضي الله عنه ورضي الله عنهم أكلوا من الحوت الذي لقوه على ساحل البحر وهو ميت فميتة السمك والجراد مباحة بالإجماع. ثم - قال رحمه الله - (وكل ما لا يعيش إلاّ في الماء) كل ما لا يعيش إلاّ في الماء يعني ولو لم يكن من السمك فإنه مباح ولا يشترط له التذكية واستدلوا على هذا بالقياس على السمك وبالآية {أحل لكم صيد البحر} [المائدة/96] والقول الثاني: أنّ ما يعيش تارة في الماء وتارة في البر كالسلحفاة لا تحل إلاّ بالتذكية لأنها ليست من صيد البحر فهي تعيش تارة في البحر وتارة في البر والراجح أنّ ما يعيش تارة هنا وتارة هنا يشترط له التذكية كالسلحفاة ثم - قال رحمه الله - (ويشترط للذكاة أربعة شروط: الأول أهلية المذكي بأن يكون عاقلا مسلما أو كتابيا , ولو مراهقا , أو امرأة أو أقلف أو أعمى)

بدأ بالشروط الخاصة بالمذكي. فالشرط الأول أن يكون أهلا للذكاة وذكر الشروط التي يكون بها الإنسان أهلا للذكاة. الشرط الأول أن يكون عاقلا فلا تصح ذبيحة المجنون ولا الصغير دون التمييز ولا السكران وإلى هذا ذهب الجماهير من أهل العلم واستدلوا على هذا بقوله تعالى {إلا ما ذكيتم} [المائدة/3] فدلت الآية أنه يشترط للذكاة وجود القصد والقصد معدوم في هؤلاء. والقول الثاني: أنّ تذكية السكران والمجنون صحيحة لأنّ لهم قصدا في الجملة وهذا المذهب ضعيف جدا الصحيح أنّ ذبيحتهم لا تحل لأنه ليس لهم قصد ولا نية. الشرط الثاني: (مسلما أو كتابيا) ذبيحة المسلم والكتابي تحل بالإجماع لقوله تعالى {وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم وطعامكم حل لهم} [المائدة/5] وهي نص في جواز أو حل ذبيحة الكتابي. والكتابي هو من يتدين بدين اليهود أو النصارى واشترط الحنابلة أن يكون من أبوين ذميين فإن كانت أمه ذمية وأبوه مجوسي فإنّ ذبيحته لا تحل ولو كان هو كتابي واستدلوا على هذا بأنه اجتمع فيه مبيح وحاضر فأمه كتابية وأبوه مجوسي مثلا فاجتمع فيه مبيح وحاضر. والقول الثاني: أنّ الكتابي تحل ذبيحته ولا ينظر لأبيه ولأمه لأنّ الشارع الحكيم أجاز ذبيحة الكتابي مطلقا ولم يشترط لها النظر إلى أبويه. قال - رحمه الله - (ولو مراهقا) المراهق هو من قارب البلوغ مفهوم عبارة المؤلف أنّ المميز لا تحل ذبيحته وخالف المؤلف بهذا المذهب فإنّ الحنابلة يرون صحة ذبيحة المميز ولو قال ولو مميزا لدخل المراهق فيه واستغنينا عن عبارة ولو مراهقا فالمميز تصح ذبيحته واستدلوا على هذا بأمرين: الأول: أنّ المميز له قصد معلوم وتصح منه العبادات الصلاة والصيام والحج والعبادات يشترط لها قصد فدل هذا على صحة قصده. الدليل الثاني: أنه جاء في مجموعة من الآثار أنّ النبي - صلى الله عليه وسلم - أجاز ذبيحة الغلام. ثم - قال رحمه الله - (أو امرأة)

ذبيحة المرأة جائزة بالاتفاق ولو كانت حائض والدليل على هذا من وجهين الأول للعموم فإنّ المرأة مسلمة والشارع أجاز ذبيحة كل مسلمة. الثاني: أنّ جارية كانت ترعى فعدى الذئب على الشاة فلما قاربت الموت أخذت حجرا حادا وذبحتها فبلغ النبي - صلى الله عليه وسلم - فأمر بأكلها وهو نص في المسألة. ثم - قال رحمه الله - (أو أقلف أو أعمى) الأقلف هو من لم يختن. وذبيحة الأقلف والأعمى جائزة بلا إشكال لدخولهما في عمومات النصوص. ثم - قال رحمه الله - (ولا تباح ذكاة سكران ومجنون ووثني ومجوسي , ومرتد) السكران والمجنون والوثني والمجوسي. تقدم الكلام عليهم. أما السكران والمجنون فتقدم. وأما الوثني والمجوسي فلا تجوز ذبيحتهما بالإجماع بلا خلاف لأنه ليس بمسلم ولا كتابي. ثم - قال رحمه الله - (ومرتد) المرتد ينقسم إلى قسمين: أن يخرج من دين الإسلام إلى غير اليهودية والنصرانية. فهذا لا تباح ذبيحته بالإجماع. إذا خرج من الإسلام إلى غير دين اليهودية والنصرانية فلا تباح ذبيحته بالإجماع لفقد شرط الإسلام وكونه ليس من أهل الكتاب. القسم الثاني: أن ينتقل من الإسلام إلى اليهودية أو النصرانية فهذا فيه خلاف: القول الأول: أنّ ذبيحته ميتة ولا تحل لأنه انتقل إلى دين لا يقر عليه فهو يجب أن يقتل يستتاب فإن تاب وإلاّ قتل ولا تقبل منه الجزية فدل على أن أحكام أهل الكتاب لا تنطبق عليه. القول الثاني: انه إذا انتقل إلى دين أهل الكتاب جازت ذبيحته لقوله تعالى {ومن يتولهم منكم فإنه منهم} [المائدة/51] فقوله فإنه منهم يدخل في هذا من جملته أحكام الذبح. والراجح بلا إشكال أنّ ذبيحته ميتة وأما الآية فإنه منهم أي في الولاء والبراء والنصرة والكفر لا في الأحكام المتعلقة بحل الذبائح وكيف نقبل ذبيحته ولا نأخذ منه جزية لا إشكال إن شاء الله أنّ ذبيحته ميتة. ثم - قال رحمه الله - (الثاني: الآلة: فتباح الذكاة بكل محدد)

الشرط الثاني لحل الذبيحة الآلة يشترط وجود الآلة بصفات مخصوصة سيذكرها المؤلف ومقصود المؤلف بقوله محدد أنه لا تحل الذبائح إلاّ إذا استخدمت الآلات التي من شأنها إنهار الدم فإن استخدم آلة لقرض ودق العروق وماتت بسبب ذلك فلا تباح فإذا يشترط في الآلة أن تكون محددة تقتل بالقطع وإنهار الدم فهذا مقصود المؤلف - رحمه الله - بقوله تعالى فتباح الذكاة بكل محدد. والدليل على هذا النص الذي هو في الحقيقة عمدة في هذا الباب وهو قوله - صلى الله عليه وسلم - ما أنهر الدم وذكر فيه اسم الله فكل ليس السن والظفر فهذا الحديث سيأتينا أنه مدار مباحث هذا الباب عليه فقوله ما أنهر الدم دليل على أنّ الآلة يجب أن تنهر الدم وإلاّ فإنه لا يجوز أن نأكل الذبيحة التي ذبحت بها. ثم - قال رحمه الله - (ولو مغصوبا) يجوز أن نأكل الذبيحة المذبوحة بآلة مغصوبة لأنها تدخل تحت قول النبي - صلى الله عليه وسلم - ما أنهر الدم وقياسا على ما لو ذبح الذبيحة الحلال في أرض مغصوبة وقياسا على ما لو ذبح الذبيحة المغصوبة. والقول الثاني: أنّ ما ذبح بآلة مغصوبة فهو ميتة لقول النبي - صلى الله عليه وسلم - من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد وذبحه بهذه الآلة ليس عليه أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - والصحيح أنّ ذبيحته حلال لأنّ الذي ليس عليه أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - هو استخدام هذه الآلة الغير المملوكة أما أنها قطعت وأنهرت الدم فهذا عليه أمر الله وأمر رسوله.

الدرس: (2) من الأطعمة قال شيخنا حفظه الله: بسم الله الرحمن الرحيم والحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين. قال المؤلف ـ رحمه الله ـ: (من حديد وحجر وقصب .. ) مقصود المؤلف أنّ الشرط في الآلة أن تنهر الدم من أي مادة كانت وأنه لا يشترط أن تكون من الحديد لا من الألمنيوم بل من أي مادة كانت واستدل الحنابلة على هذا بدليلين: الأول" قوله - صلى الله عليه وسلم - ما أنهر الدم وذكر اسم الله فكل. وإنهار الدم يحصل بأي مادة الدليل الثاني: أنه في حديث الجارية التي تقدمت معنا لما عدا الذئب على الشاة فأدركتها وبها الحياة فذبحتها بحجر حاد. فدل على أنه يجوز أن يذبح الإنسان بالمحدد الذي ينهر الدم من أي مادة كانت. ثم - قال رحمه الله - (إلاّ السن والظفر)

لا يجوز للإنسان أن يذبح بالسن ولا بالظفر ولو أنهر الدم فإنه في الحديث ما أنهر الدم وذكر اسم الله فكل ليس السن والظفر. والحديث نص على السن والظفر فدل على أنه لا يجزئ أن يذبح بهما وعلل النبي - صلى الله عليه وسلم - ذلك بقوله , أما السن فهو عظم وأما الظفر فمدى أهل الحبشة. وإلى هذا ذهب الجماهير أنه لا يجوز الذبح بالسن والظفر مطلقا واستدلوا بما سمعت. والقول الثاني: أنّ السن والظفر إذا كانا منفصلين جاز الذبح بهما وأنّ الممنوع منه هو المتصل فقط واستدلوا على هذا بأنّ الظفر والسن المنفصل ينهر الدم كما تنهره الآلات الأخرى والحديث عام ما أنهر الدم فيتناولهما إذا كانا منفصلين وهذا القول ضعيف جدا مخالف للنص وليس في النص ما يفرق بين اتصال وانفصال السن والظفر. مسألة/ ما حكم الذبح بالعظام سوى السن؟ فإنّ النبي - صلى الله عليه وسلم - قال أما السن فعظم , اختلف الفقهاء في هذا فذهب الجمهور إلى أنه يجوز للإنسان أن يذبح بكل عظم إلاّ الظفر واستدلوا على هذا بأنّ النبي - صلى الله عليه وسلم - قال ما أنهر الدم وهذا الحديث منطوقه يدل على جواز الذبح بكل آلة إلاّ السن فقط وأما حديث ليس السن فمفهومه لأنه علل المنع من السن بأنه عظم مفهومه أنه لا يجوز الذبح بكل عظم والمنطوق مقدم على المفهوم.

القول الثاني: أنه لا يجوز الذبح بأي عظم واستدلوا على هذا بأنّ النبي - صلى الله عليه وسلم - قال أما السن فعظم فعلل المنع من الذبح بالسن بأنه عظم يتناول هذا كل عظم ومال إلى الحافظ ابن القيم وأيضا رجحه ابن عبدوس من كبار الحنابلة والراجح إن شاء الله المذهب الأول وهو جواز الذبح بأي عظم ووجه الترجيح أنّ النبي - صلى الله عليه وسلم - كما قال أنّ السن عظم قال أيضا أنّ الظفر مدى الحبشة. ومن المعلوم أنّ لو أهل الحبشة لو اتخذوا سكاكين خاصة بهم وأصبحت مدى خاصة بهم لم يدل هذا على المنع من الذبح بها مما يدل أنّ الحديث خرج مخرج الخصوص وهو أنه لا يجوز الذبح بخصوص هذين الآلتين وهو السن والظفر كما أنّ القاعدة التي تقدمت معنا مرارا وهي تقديم المنطوق على المفهوم تأتي معنا في هذه المسألة وتدل على رجحان قول الجمهور ولو أراد الإنسان أن يحتاط بأن لا يذبح بالعظم فباب الاحتياط واسع وهو أمر آخر يختلف عن مناقشة المسائل والترجيح والمدارسة فلو احتاط فالاحتياط في هذه المسألة متوجه ولكن الراجح إن شاء الله الجواز. ثم - قال رحمه الله -: (الثالث قطع الحلقوم والمريء). أي الشرط الثالث من شروط جواز الذبيحة قطع الحلقوم والمريء وتفصيل هذا الشرط كما يلي:

الذبيحة تحل بأحد ثلاثة أمور إما ذبح أو نحر أو عقر , فأما الذبح فهو ما يكون في الحلق وأما النحر فهو ما يكون في الوهدة التي في أصل العنق بين العنق والصدر وهي تكون في الإبل , وأما العقر فهو يتناول ما لا يمكن ذبحه من الحيوانات البرية إذا توحشت أو من الحيوانات المتوحشة أصلا وسيأتينا الحديث عن هذه الأمور. وتقدم معنا أنّ الفقهاء أجمعوا على أنّ الذبح لا يحل إلاّ في هذا الموضع وهو الحلق أو الوهدة وأنه لو ذبح من البطن والرأس والفخذ فإنّ الذبيحة ميتة ولا تحل وإنما اختلف الفقهاء في أمر آخر وهو القدر الذي يجب قطعه لتحل الذبيحة فذهب الحنابلة كما ترون إلى أنه قطع الحلقوم والمريء فالحلقوم مجرى النفس والمريء مجرى الطعام والشراب ذهب الحنابلة إلى أنه لا تحل الذبيحة إلاّ بقطع الحلقوم والمريء فإذا قطعهما فإنّ الذبيحة حلال ولو لم يقطع الودجين. والودجان عرقان غليظان محيطان بالحلقوم واستدلوا على هذا بأنه إذا قطع المريء والحلقوم فقد قطع من الذبيحة ما لا تبقى معه الحياة فأجزأ. والقول الثاني: أنه يشترط أن يقطع الحلقوم والمريء والودجين. والقول الثالث: أنه يجزء إذا قطع الودجين ولو لم يقطع الحلقوم والمريء. والقول الرابع: أنّّ المجزئ قطع الحلقوم والمريء مع أحد الودجين. وهو رواية عن الإمام أحمد واختاره شيخ الإسلام ابن تيمية واستدل أصحاب هذا القول بأنّ النبي - صلى الله عليه وسلم - قال ما أنهر الدم فاشترط إنهار الدم وهذا لا يكون بالقطع المريء فقط ولا الحلقوم فقط بل لا بد من قطع أحد الودجين أو قطع الودجين جميعا لكي ينهر الدم من هذا العرق المحيط بالحلقوم وهذا القول الرابع الذي هو قطع الحلقوم والمريء مع أحد الودجين هو الراجح إن شاء الله فإذا قطع الحلقوم فقط ولم يقطع أيا منهما فهي ميتة وإن كان تصور هذا في الذبح بعيد جدا لأنه إذا قطع الحلقوم فبمجرد ما يجري السكين إجراء بسيطا سيأتي على العرقان المحيطان بالحلقوم المقطوع لكن لو فرضنا أنه تعنت وتنطع وقطع الحلقوم بلا قطع الودجين فإنّ ذبيحته ميتة فلا بد من قطع أحدهما. ثم - قال رحمه الله - (فإن أبان الرأس بالذبح لم يحرم المذبوح)

مقصود الشيخ إذا أبان الرأس جملة واحدة سواء أبانه من الأمام أو أبانه من الخلف , فإنّ الذبيحة حلال واستدلوا على هذا بأمرين: الأمر الأول: هو أنه إذا قطع الرأس فقد قطع ما يجب أن يقطع وزيادة. الثاني: أنّ الجواز مروي عن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - لكن ينبغي أن يتنبه الذابح من الخلف إلى قيد أشار إليه الفقهاء وهو أنه إذا ذبحت الذبيحة من القفا فالذبيحة حلال بشرط أن لا تموت قبل أن تصل إلى الودجين فإن ماتت قبل أن تصل إلى الودجين فهي ميتة لأنها ماتت قبل أن تقطع ما يجب أن يقطع شرعا وهذا قد يتصور متى؟ إذا تأخر في القطع أو تلاعب أو عبث فإنها قد تزهق روحها بسبب قطع أعلى الرقبة قبل أن يصل إلى الودجين المهم هذا القيد ينتبه إليه ومن الخطأ الفادح أن يقطع الإنسان من مخالفة السنة وتعريض الذبيحة للفساد أن يقطعها من الخلف لكن الحكم الشرعي هو ما سمعت. ثم - قال رحمه الله - (وذكاة ما عجز عنه من الصيد والنعم المتوحشة , والواقعة في بئر ونحوها , بجرحه في أي موضع كان من بدنه) القاعدة أنّ أي حيوان يتوحش وينفر من الناس فإنّ حكمه حكم الصيد أيّ أنه يجوز أن يذبح في أي موضع من جسده واستدلوا على هذا بأنّ أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - هموا بناقة ليذبحوها فهربت وأعيتهم وكانت الأفراس معهم قليلة فعمد إليها أحدهم فحبسها بسهم - رضي الله عنه - فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - إنّ لهذه الأنعام أوابد كأوابد الوحوش فإذا أعجزتكم فاصنعوا هكذا وفي هذا دليل على أنه إذا هرب وتوحش ولم يمكن منه فإنه يقتل في أي موضع لأنّ حكمه صار كحكم الهارب. وفي هذه المسألة عن الإمام مالك الإمام مالك في هذا الباب كأنه لم تبلغه النصوص فإنه قال إذا هربت الذبيحة المستأنسة فإنه لا يجوز أن تذبح إلاّ كما تذبح باقي البهائم. فإن قتلت كما يقتل الصيد فهي ميتة وهو غريب جدا لأنّ الحديث الذي معنا حديث أبي واقد صريح في المسألة ولهذا احتاج الإمام أحمد أن يعتذر عن الإمام مالك فقال لعل مالكا لم يبلغه حديث أبي واقد وهذا أحسن ما يحمل عليه قوله لأنه فيه مخالفة صريحة للنص الصحيح ثم قال - رحمه الله - (إلاّ أن يكون رأسه في الماء ونحوه فلا يباح)

أي إذا كان هذا الحيوان الهارب رأسه في الماء فإنه لا يباح واستدل الحنابلة على هذا بدليلين: الأول: أنه إذا هرب وكان رأسه أثناء الهرب في الماء كما إذا سقط في البئر فإنه يكون مات بسببين بسبب الطعن وبسبب الماء ونحن نقول أنه في كتاب الأطعمة إذا اجتمع مبيح وحاضر فإناّ نغلب الحاضر. الدليل الثاني: أنّ النبي - صلى الله عليه وسلم - قال إذا وجدت صيدك في الماء فلا تأكل فإنك لا تدري اسهمك قتله أو الماء. فهذان دليلان صريحان فإنه إذا هربت ووجدنا رأسها في الماء بعد الطعن فإنها لا تأكل. والقول الثاني: أنه إذا كان الجرح موحيا قاتلا مميتا فإنها تجوز ولو كان رأسها في الماء لأناّ علمنا حينئذ أنّ الذي قتلها هو الجرح لا الماء وربما يستأنس بهذا القول بأنّ بعيرا ند عن أهله وسقط في البئر وطعنوه في فخذه وقتلوه واستخرجوه فأكلوا وأكل ابن عمر معهم وجه الإستئناس بهذا الحديث أنه في الغالب الحديث ليس فيه أنّ البعير لما سقط في الماء كان رأسه في الماء هذا لم أجده في رواية لكن يستأنس أنه ربما لما سقط لكان رأسه في الماء لأنّ غالبا سيسقط على رأسه فيكون رأسه هو الذي في الماء فربما يستأنس بهذا الأثر والراجح إن شاء الله هو هذا القول الثاني. متى علمنا أنّ الجرح قاتل وموحي فإنه حلال إن شاء الله لأنه الآن تبيّن لنا أنّ الذي قتله الجرح وليس الماء. ثم - قال رحمه الله - (الرابع: أن يقول عند الذبح بسم الله) ذهب الجماهير الأئمة الثلاثة مالك وأحمد وأبو حنيفة. إلى أنه لا يجوز أكل الذبيحة إلاّ إذا سمي عليها واستدلوا على هذا بقوله تعالى {ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه وإنه لفسق} [النساء/2] واستدلوا بقول النبي - صلى الله عليه وسلم - ما أنهر الدم وذكر اسم الله عليه فكل. وهي أدلة صريحة جدا في اشتراط التسمية على الذبيحة لتكون حلالا. القول الثاني: للإمام الشافعي فالإمام الشافعي يرى أنّ التسمية سنة واستدل على هذا بدليلين: الأول: أنّ النبي - صلى الله عليه وسلم - قال ذبيحة المسلم حلال وإن لم يسم إذا لم يتعمد. وهذا الحديث الصواب فيه أنه مرسل.

الدليل الثاني: استدل بحديث عائشة - رضي الله عنها - أنها قالت للنبي - صلى الله عليه وسلم - يا رسول الله يأتينا اللحم من قوم لا ندري أذكروا اسم الله عليه أو لا فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - سموا أنتم وكلوا وهو حديث صحيح فأجاز النبي - صلى الله عليه وسلم - الأكل من الذبيحة مع عدم العلم بالتسمية. والجواب عن هذا الحديث الثاني أنّ النبي - صلى الله عليه وسلم - اعتبر ما ذكرته عائشة مجرد شك والأصل في ذبيحة المسلم أنها حلال بدليل قوله سموا أنتم وكلوا ولو كانت الذبيحة لم يسم عليها لم يحل أن تُأكل , وإن كان هذا عكس استدلال الشافعي لكن نقول أنه النبي - صلى الله عليه وسلم - إنما أمر بذلك لأنّ الأصل في ذبيحة المسلم أنها حلال وانه سمى , الدليل على حمل الحديث هذا المحمل هو النصوص المحكمة الأخرى ولهذا يعتبر هذا القول للإمام الشافعي ضعيف جدا في الحقيقة مخالف للنصوص والراجح أنّ الذبيحة إذا تركت التسمية عليها فإنها ميتة. ثم - قال رحمه الله - (لا يجزيه غيرها) يعني أنه لا جزء فالتسمية إلاّ أن يقول بسم الله فإن قال الله أكبر أو سبحان الله فهي ميتة واستدلوا على هذا بأنّ التسمية عند الإطلاق تنصرف إلى بسم الله. والقول الثاني: أنه إذا ذكر الله على الذبيحة بأي اسم من أسمائه فهي حلال واستدلوا على هذا بالنصوص فإنّ فيها إذا ذكرت اسم الله {ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله} [النساء/2] ومن قال الله أكبر أو سبحان الله فقد ذكر اسم الله والراجح هو القول الثاني والمذهب هنا في هذه المسألة ليس بقوي وإن كان الاحتياط في مثل هذه المسائل متوجه جدا. ثم - قال رحمه الله - (فإن تركها سهوا أبيحت لا عمدا) إذا ترك الذابح التسمية على الذبيحة سهوا فإنها تحل وإذا تركها عمدا فهي ميتة.

بقي قسم ثالث لم يتطرق إليه المؤلف وهو إذا تركها جهلا فالحنابلة يعذرونه في صورة واحدة وهو إذا تركها سهوا فإن تركها عمدا أو جهلا فإنهم لا يعذرونه وفي هذا يفرقون بين مسائل النسيان ومسائل الجهل وهي من المواضع القليلة جدا في الفقه الذي يفرق فيها بين الجهل والنسيان لأنّ النصوص لم تفرق بينهما , ووجه التفريق عند الحنابلة أنّ النبي - صلى الله عليه وسلم - قال ذبيحة المسلم حلال وإن لم يذكر اسم الله إذا لم يتعمد والجاهل تعمد لكنه جاهل بخلاف الناسي فإنه لم يتعمد والصواب إن شاء الله أنّ الجهل والنسيان حكمهما واحد نأتي إلى النسيان وهو مسألة الباب إذا نسي أن يبسمل فذهب الأئمة الأربعة أنه ذبيحته حلال ونحن نقول الأئمة الأربعة لأنّ الشافعي يرى أنها أصلا سنة , واستدلوا على هذا بالنصوص العامة فإنّ الله سبحانه وتعالى رفع المؤاخذة عنه {ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا} [البقرة/286] عفي عن أمتي الخطأ والنسيان. واستدلوا بالنصوص العامة هذا الدليل الأول. الدليل الثاني: صح عن ابن عباس أنه أجاز ذبيحة المسلم إذا نسي بسم الله هذا بإسناد صحيح. الثالث: الحديث السابق ذبيحة المسلم حلال وإن لم يذكر اسم الله إذا لم يتعمد قلنا أنه حديث ماذا؟ مرسل. والحديث المرسل يستأنس به بقوة ولاسيما إذا دعمته وقَوَتهُ آثار الصحابة وقد صح عن ابن عباس ما يوافقه. القول الثاني: وهو مذهب الظاهرية ورواية عن الإمام أحمد واختيار شيخ الإسلام أنه إذا نسي فهي ميتة واستدل على هذا بدليلين: الدليل الأول: أنّ النبي - صلى الله عليه وسلم - قال ما أنهر الدم وذكر اسم الله فجعل لجواز الذبيحة شرطين. إنهار الدم وذكر اسم الله ولو نسي أن ينهر الدم لكانت ميتة فكذلك البسملة.

الثاني: القياس فقالوا البسملة هي من شروط صحة الذبح وجواز أكل الذبيحة والشروط في الفقه لا تسقط بالنسيان كما لو صلى بلا وضوء وهذه المسألة تحتاج في الحقيقة إلى استقصاء للآثار فإن وجدنا أنّ أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - يعذرون بالبسملة فالقول قولهم يعني ولا نكتفي بأثر ابن عباس لأنّ النصوص واضحة في اشتراط البسملة واختيار شيخ الإسلام في هذه المسألة قوي فنحتاج أن يكون هذا يصل إلى مستوى أن يكون عمل عند الصحابة أو عرف عند الصحابة بأن نجد أكثر من أثر أثرين ثلاثة أو نجد وهو يفيد جدا تعبير عام عن واحد من كبار التابعين مثل الزهري وسعيد بن المسيب أنّ عمل الصحابة على الجواز , إن وجدنا مثل هذا مع الحديث المرسل فلا شك أنه هو الراجح وإن لم يوجد فاختيار شيخ الإسلام وجيه ولا يمكن الحقيقة عن أدلته بسهولة فيبقى أنّ قوله أرجح من قول الأئمة الأربعة في مثل هذه المسألة ولكن طالب العلم إذا عرف أنّ جماهير أهل العلم الأئمة الأربعة أئمة المسلمين يرون أنّ ترك التسمية لا يفسد الذبيحة لا ينبغي عليه الإنكار في هذه المسائل إنما يكتفي بالبيان وأنه يرى أنّ الراجح أنّ هذه الذبيحة ميتة لكن بعض الناس ينطلق من المسائل الخلافية ليجعلها مسائل إنكار فيقول للذابح أنت تأكل ميتة وتطعم أهلك ميتة وهي مسألة خلافية والأئمة الأربعة فإذا كان هو استفتى من يرى أنّ البسملة تسقط نسيانا فيكتفى بمثل هذا وليست المسائل على درجة واحدة حتى الإنسان ينكر على المخالف فيها المسألة تحتمل وفيها آثار عن الصحابة بخلاف مثلا مسألة تارك الصلاة فإنّ الآثار متفقة على أنه كافر فمثل هذه المسألة ينبغي تبيينها بخلاف مثل ما قلت مثل هذه المسألة التي فيها الآثار متعارضة. ثم - قال رحمه الله - (ويكره أن يذبح بآلة كالة) يكره للإنسان أن يذبح بآلة كالة لأمرين الأمر الأول: أنه جاء عن عمر - رضي الله عنه - النهي عن الذبح بآلة كالة. الأمر الثاني: أنّ الذبح بها تعذيب للبهيمة ولهذا جعلها الحنابلة مكروهة.

والقول الثاني: أنّ الذبح بآلة كالة محرم والذبيحة حلال أما أنه محرم فلأنّ فيه تعذيبا للذبيحة بلا حاجة وأما أنّ الذبيحة حلال فلوجود الشروط فإنه أنهر بها الدم وهذا القول الثاني هو الصحيح أنه آثم إن ذبح بآلة كالة. ثم - قال رحمه الله - (وأن يحدها والحيوان يبصره) وعللوا هذا بأمرين: الأول: أنّ النبي - صلى الله عليه وسلم - قال أميطوا أو أخفوا شفاركم عن الذبائح. وهذا حديث ضعيف. الثاني: أنّ في هذا تعذيبا للبهيمة ووجد في الواقع العملي أنّ الحيوانات إذا رأت الدماء وإذا رأت الذابح يسن السكاكين فإنها تثور بقوة لاسيما الإبل ما يعني أنها تأثرت وأنها تألمت في هذا المرأى ولهذا نقول أنه إن قيل بأنه أيضا محرم لكني لم أجد أحدا أو لا أذكر أنّ أحدا قال أنه محرم فإن قيل به فهو تماما يشبه الذبح بآلة كالة وقد يكون أحيانا أشد إيلاما للذبيحة. ثم - قال رحمه الله - (وأن يوجهه إلى غير القبلة) يسن للإنسان إذا أراد أن يذبح أن يذبح إلى القبلة واستدلوا على هذا بأمرين الأول: أنّ النبي - صلى الله عليه وسلم - لما أراد أن يضحي وجهها إلى القبلة. الثاني: أنه صح عن أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - أنهم كانوا يوجهون الذبائح إلى القبلة. فهذا دليل على أنه سنة وهذا صحيح. الأمر الآخر يكره. واستدلوا على أنّه يكره أنّ التوجيه إلى القبلة سنة وتقدم معنا مرارا أنّ الاستدلال على الكراهة بمخالفة السنة ليس بصحيح لأنّ مخالف السنة لا يزيد على أنه ترك السنة وترك السنة شيء والوقوع في المكروه شيء آخر ولهذا نقول أنه ليس بمكروه. ثم - قال رحمه الله - (وأن يكسر عنقه أو يسلخه قبل أن يبرد)

باب الصيد

مقصود المؤلف بقوله قبل أن يبرد يعني قبل أن تزهق روحه تماما والسلخ وكسر العنق قبل أن تخرج الروح تماما فيه تعذيب للبهيمة فعليه أن ينتظر إلى أن تخرج الروح ثم إن شاء سلخ وكسر الرقبة ومن هنا نعلم أنّ كسر الرقبة بالتعجيل بموت الذبيحة أيضا مكروه فإنّ كسر الرقبة مكروه لأي غرض سواء كان للاستعجال أو لغيره وهو مكروه لأنّ فيه تعذيبا للبهيمة وقول الفقهاء كسر الرقبة معلوم أنّ مقصودهم كسر الرقبة وهي حية أما كسر الرقبة بعد الموت لا إشكال فيه لكنهم يقولون كسر الرقبة ويقصدون يعني قبل أن تموت. باب الصيد الصيد في اللغة /يأتي على معنيين: المعنى الأول: نفس المصيد يعني الحيوان والمعنى الثاني: الفعل يعني الإصطياد فهذه الكلمة تطلق على المعنيين في آن واحد. وأما تعريف الصيد في الاصطلاح / فهو جرح حيوان مباح غير مقدور عليه. هذا التعريف جيد في الحقيقة وشامل جرح حيوان مباح غير مقدور عليه هذا تعريف للمالكية من وجهة نظري أنه من أسلم التعاريف وأوضحها وأدلها على المقصود وأشملها للحيوان المتوحش والحيوان الأهلي إذا ند وتوحش. ثم - قال رحمه الله - (لايحل الصيد المقتول في الاصطياد إلى بأربعة شروط: أحدها: أن يكون الصائد من أهل الذكاة) الشرط الأول أن يكون الصائد الذي صاد هذا الحيوان من أهل الذكاة وتقدم معنا في الباب السابق من هم أهل الذكاة فمن يجوز له ومن تحل ذبيحته هو الذي يحل منه الصيد ولهذا لو جاء المجوسي وصاد أو الوثني وصاد فإنه صيده ميتة وإن جاء الكتابي فصاد أو جاء المسلم فصاد فصيده حلال إذا من تحل ذبيحته هو من تقدم في باب الذكاة. ثم - قال رحمه الله - (الثاني: الآلة: وهي نوعان محدد:) الشرط الثاني أن يستعمل في الصيد آلة وآلة الصيد في الشرع تنقسم إلى قسمين: المحدد والجوارح. بدأ الشيخ بالمحدد. الصيد بمحدد جائز بإجماع الفقهاء واستدلوا على هذا بقوله تعالى {يا أيها الذين آمنوا ليبلونكم الله بشيء من الصيد تناله أيديكم ورماحكم} المائدة/94] فدل هذا على أنّ قتل الصيد بالرمح صيد يعني اصطياد فدل عليه النص والإجماع لكن هذا المحدد له شروط. يقول المؤلف - رحمه الله - (يشترط فيه ما يشترط في آلة الذبح)

وخلاصة ما يشترط في آلة الذبح أمران: الأول" أن ينهر الدم بالقطع لا بثقله. والثاني: أن لا يكون بالسن ولا بالظفر. هذا خلاصة شروط الآلة السابقة هذه الشروط تشترط أيضا في آلة الصيد فيجب أن يقتل بجرحه وقطعه وإسالته للدماء لا بثقله وسيؤكد المؤلف الشرط الثاني ولهذا هو يقول وأن يجرح يعني ويشترط في الآلة أن يجرح وفي الحقيقة هذا الشرط مستفاد من الشرط السابق لأنه من شروط الآلة السابقة أن تجرح وبيّنها المؤلف تماما وهي أن تنهر الدم وألاّ تقتل بدق العروق وإن خرج بعد ذلك الدم بل يجب أن يخرج الدم نتيجة الجرح لا نتيجة الثقل والدق. ثم - قال رحمه الله - (فإن قتله بثقله لم يبح وما ليس بمحدد .... الخ) قوله فإن قتله بثقله لم يبح وما ليس بمحدد مسألة واحدة هاتان المسألتان مسألة واحدة لأنّ الذي يقتل بثقله هو ما ليس بمحدد وإذا أردنا أن نقول العلة في ما ليس بمحدد البندق والشبكة والعصا أيضا سنعلل هذا أنه يقتل بثقله إذن نقول فإن قتله بثقله لم يبح وما ليس بمحدد كالبندق والعصا والشبكة والفخ لا يحل ما قتل به وهذا شيء واحد وهو أنّ الصائد إذا قتل بآلة تقتل بثقلها فإنّ الصيد لا يجوز والدليل على هذا أنّ النبي - صلى الله عليه وسلم - سئل عن المعراض فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - إن قتل بجرحه فكل وإن قتل بعرضه فلا تأكل. وهو حديث صريح بأنه إذا قتل المعراض بعرضه يعني بثقله فإنّ الصيد لا يجوز وهو نص يؤيد ما ذهب إليه الحنابلة من أنّ القتل بآلة الصيد يشترط فيه القطع والخزق. والقول الثاني: أنه لا يشترط وأنّ الإنسان إذا رمى صيدا بأي آلة ولو لم تجرح فإنه يجوز أن يأكل واستدلوا على هذا بالعمومات. وأنها لم تذكر الخزق والراجح الأول لأنّ الحديث صريح في اشتراط القطع ومما يؤكد صراحة الحديث أنه قسم القتل إلى قسمين شيء بعرضه وشيء بجرحه وهذا يؤكد أنّ القتل بالثقل لا يبيح الصيد. ولهذا نقول إن شاء الله الراجح هو مذهب الجمهور وهو القول الأول. قوله - رحمه الله - (كالبندق) البندق طينة مدورة إذا يبست استعملوها في الرمي فهذه تقتل بالثقل ولا تخرق جسم الطائر وإنما تضربه مع الرأس أو مع الجسد ضربة قوية فيسقط بدون أن تسيل منه الدماء.

ثم - قال رحمه الله - (والنوع الثاني الجارحة , فيباح ما قتله إذا كانت معلمة) النوع الثاني من آلات القتل الجارحة والجوارح تنقسم إلى قسمين: ما يصيد بنابه وما يصيد بمخلبه. والجوارح يجوز الصيد بها بالإجماع واستدلوا على هذا بقول النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا أرسلت كلبك المعلم وذكرت اسم الله فكل. وبقوله تعالى {وما علمتم من الجوارح مكلبين} [المائدة/4] ومعنى مكلبين يعني مغرين , والجارحة في لغة العرب أو الجارح هو الكاسب فهل الأصل أنّ الجارح هو الحيوان واشتق منه إلى كل كاسب , أو الأصل أنه الكاسب واشتق منه للجارح؟ الجواب يحتاج إلى بحث قرأت في كتب اللغة لكن ما ظهر لي من عبارتهم أيهما الأصل أيهما الاشتقاق فتحتاج توسع في البحث اشترط الفقهاء لصحة الصيد بالجوارح ثلاث شروط: الشرط الأول" أنه إذا أرسله ذهب. الثاني" أنه إذا زجره وقف. الثالث" أنه إذا صاد لم يأكل. واستدلوا على هذه الشروط بقول النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا أرسلت كلبك المعلم. وإذا كان الكلب إذا أرسل لم يذهب فليس بمعلم واستدلوا على هذا بأنّ الحديث والآية نصت على اشتراط التعليم والتعليم يكون عند أهل الصنعة بذلك. القول الثاني: أنه يرجع في حد التعليم وضبطه إلى العرف فما اعتبروه معلما من الجوارح فهو معلم وما لا فلا ولا نتقيد بالإرسال والزجر والأكل فالفهد مثلا إذا زجر لم يزجر عنيد لكنه يعلم على أن لا يأكل فلا يأكل فدل هذا على أنه ينبغي الرجوع بحسب كل حيوان إلى أهل الخبرة والمعرفة وهذه الشروط التي ذكرت هي الشروط التي تتعلق بما يصيد بنابه. القسم الثاني: ما يصيد بمخلبه والشروط هي هي تماما والبحث هو هو تماما إلاّ أنه يستثنى أنه لا يشترط أن تأكل وهذا خاص بالطيور. وعللوا هذا بأنّ الطير يصعب تعليمه على ترك الأكل ولا يمكن أن يضرب كما تضرب السباع معلوم أنه لن يضرب أليس كذلك؟ يمكن أن تضرب الصقر؟ لا يمكن ليس فيه مكان للضرب بخلاف الكلب والفهد والنمر فإنها تضرب وتتعلم بالضرب وهذا صحيح أنه لا يشترط في الطير أن لا يأكل فتحصل معنا الآن أنه يشترط هذه الشروط وهي أن يكون معلم وأنّ التعليم يحصل بما ذكرت.

مسألة / ذهب بعض الفقهاء إلى أنه لا يشترط في جميع الجوارح أن لا تأكل وأنها إذا أكلت جاز واستدلوا على هذا بالعمومات فإنه كلب معلم صاد فيدخل في العمومات. والقول الثاني: أنّ هذا الشرط صحيح وأنه يشترط أن لا يأكل واستدلوا على هذا بقول النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا أكل كلبك فلا تأكل فإنك لا تدري أمسك عليك أو عليه لأنّ أكل الكلب يجعل الأمر مختلط هل الكلب أمسك لك أو أمسك لنفسه وهذا القول الثاني مهما يكن من أمر هو الراجح لوجود الدليل الصريح ويجب المصير إلى مثله. ثم - قال رحمه الله - (الثالث: إرسال الآلة قاصدا) الشرط الثالث أن يكون إرسال الآلة أيّا كانت قصدا يعني بقصد من المرسل فإن ذهب الكلب وانطلق بغير إرسال من الصائد فإنه لا يحل يعني ما يصيد وإن أطلق النار على هدف لا على صيد فأصاب صيدا فإنه لا يحل واستدلوا على اشتراط القصد بقول النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا أرسلت كلبك المعلم. فاشترط الإرسال واستدلوا بدليل ثاني وهو أنّ إرسال الآلة يقوم مقام الذبح بالسكين والذبح بالسكين يشترط له القصد قصد التذكية. مسألة / فإن انطلق الكلب ثم سميت عليه فإنه على الصحيح لا يجوز يعني ما يصيد به لأنّ شرط التسمية وجد ولكن شرط القصد مفقود. يشترط من هذا المسألة التي ذكرها المؤلف يقول الشيخ - رحمه الله - (فإن استرسل الكلب أو غيره بنفسه لم يبح إلاّ أن يزجره فيزيد في عدوه في طلبه فيحل) إذا انطلق الكلب بغير أمر السيد ثم زجره فزاد في عدوه فإنّ الصيد حينئذ حلال واستدلوا على هذا بأنّ الكلب لما زاد عدوه بسبب الزجر الجديد تبيّن أنه يصيد على صاحبه وهذا صحيح. يقول المؤلف - رحمه الله - (فإن استرسل الكلب أو غيره) أشار المؤلف بقوله أو غيره إلى أنّ الفقهاء - رحمهم الله - اختلفوا في الطائر هل يشترط فيه القصد أيضا كالكلب أو لا يشترط ولو انطلق الطائر بغير إرسال صاحبه لجاز فمن الفقهاء من قال هذا شرط في السباع دون الطيور والصحيح أنه شرط في الطيور والسباع لأنّ الدليل والتعليل يعم الجميع. ثم - قال رحمه الله - (الرابع: التسمية عند إرسال السهم أو الجارحة)

يشرط عند إرسال السهم أو الجارحة مثلا أن يسمي واستدلوا على هذا بقول النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا أرسلت كلبك المعلم وذكرت اسم الله فكل. وإذا صاد كلبك الذي ليس بمعلم فأدركت ذكاته فكل. والاستدلال بالشطر الأول فا شترط التسمية وهذا أمر واضح. قول المؤلف (عند إرسال) لا يقصد أنه يشترط في ذات اللحظة فلو تقدمت التسمية قليلا أو تأخرت قليلا جاز أما إن تقدمت كثيرا أو تأخرت كثيرا فإنه لا يجوز. مسألة / فإن أرسل كلبه ونسي التسمية ثم سمى والكلب يجري ففيه خلاف والصحيح أنه صيد علمنا من هنا أنّ شرط قصد الإرسال أهم أو أدق من شرط؟ لأنه يمكن أن تدرك التسمية ولا يمكن أن تدرك قصد الإرسال إلاّ بالزجر وهذا ممكن في الآلات القديمة أما في الآلات الحديثة فإنه لا أظن هل يتصور أنه يسمي بعد أن يرمي ممكن؟ من وجهة نظري لا يوجد وقت فبمجرد ما يضغط على الزناد وهو لم يسم يعتبر الأمر انتهى هل يمكن أن يقول مباشرة بسم الله , أيهم أسرع قوله بسم الله أو وصول؟ يبدوا أنّ وصول الرصاصة أسرع المهم أنه في الحقيقة بالنسبة للآلات الحديثة إذا لم يسم قبل أن يطلق فهي ليست ذبيحة فهي ليست صيد. أما في الآلات القديمة ومن يستخدم الآن الطيور والجوارح فهذا ممكن. ثم - قال رحمه الله - (فإن تركها عمدا أو سهوا لم يبح) إذا ترك التسمية في الصيد عمدا أو سهوا لم يبح وبهذا اختلف قول الحنابلة بين الذبح والصيد ففي الذبح يعذرون بالبسملة أي يعذرون بنسيانها وفي الصيد لا يعذرون وفرقوا أو ذكروا وجه التفريق بقولهم أنه في الذبح وقع الذبح في مكانه الذي حدده الشارع فتسوهل في التسمية وأما في الصيد فإنه خرج عن القياس وجاز الذبح في غير المنحر ولهذا تشددنا في التسمية هذا دليلهم - رحمهم الله - القول الثاني: وهو للجمهور يجوز الصيد وهو صيد حلال إذا نسي التسمية.

والقول الثالث: التفريق بين أن يصيد بالجوارح أو أن يصيد بالمحدد أيهما الذي يعفى فيه؟ في وجه فقهي لو تأملتموه. قالوا أنّ الكلب له قصد بخلاف الآلة فليس لها قصد مطلقا وإذا كان الكلب له قصد فيشترط التسمية بخلاف الآلة فهي آلة فيعفى عن نسيان التسمية والخلاف في هذه المسألة كالخلاف في المسألة السابقة , إما أن نقول يعفى أو لا يعفى والتفريق ليس له وجه التفريق ضعيف لأنّ الكلب وإن كان له نوع قصد إلاّ أنه يبقى كالآلة والقصد الذي عنده غير معتبر مطلقا فنبقى أنه إذا عذرنا في الذبيحة فمن باب أولى في الصيد لأنّ النسيان فيه والسرعة توجب العذر وإن لم نعذر هناك لم نعذر هنا من هذا الخلاف عرفنا أنه لا يوجد من الفقهاء من عكس مذهب الحنابلة أليس كذلك لا يوجد من قال يعفى حسب ما أوقفت عليه في الصيد ولا في الذبح مع أنّ هذا هو المتبادر للذهن لمشقة تذكر البسملة أو التسمية عند إرسال الصيد وسهولته عند الذبح لكن مع ذلك لم نجد من عكس مع أنّ الحنابلة عكسوا هذا المتصور والمتبادر للذهن. ثم - قال رحمه الله - (ويسن أن يقول معها: الله أكبر كالذكاة) يسن ذلك لما ثبت في الصحيحين من حديث أنس أنّ النبي - صلى الله عليه وسلم - لما أراد أن يضحي قال بسم الله والله أكبر وذبح بيده فيسن أن يجمع بين البسملة والتكبير.

كتاب الأيمان

كتاب الأيمان الدرس (1) من الأيمان الأيمان جمع يمين وهي في اللغة تطلق على عدة معان منها اليد اليمنى ومنها العهد ومنها القوة ومنها وهو المراد الحلف والقسم وكأنهم يفهم من عبارات أهل اللغة أنها تطلق على هذه الأشياء وليس لها أصل ترجع إليه هكذا يفهم من عباراتهم وإن كان لو قيل أنّ أصلها أي هذه المعاني أصلح؟ القوة لماذا؟ لأنك تستطيع أن تبرر التسمية الأخرى يد اليمنى لأنها أقوى من اليسرى واليمين لأنّك تقوي كلامك والعهد لأنك تقوي ما بذلته أليس كذلك؟ لو قيل بهذا كان متوجه. وأما شرعا فهو توكيد الحكم بذكر معظم على وجه مخصوص. يقول - رحمه الله - (واليمين التي تجب بها الكفارة إذا حنث هي اليمين بالله .... الخ)

اليمين مشروعة يعني من حيث الأصل مشروعة بالكتاب والسنة والإجماع. وسيأتينا الأدلة التفصيلية في مباحث الكتاب وكان أكثر قسم النبي - صلى الله عليه وسلم - ومقلب القلوب ومصرف القلوب. ومصرف هو الذي في الصحيح ومقلب أيضا صحيح كان هذا غالب قسمه وكونه هذا غالب القسم دليل على مشروعية القسم من حيث الأصل. قال - رحمه الله - (هي اليمين بالله تعالى أو صفة من صفاته) أجمع الفقهاء على أنّ من حلف بالله أو باسم من أسماء الله أو بصفة من صفات الله فهو يمين شرعية منعقدة بلا خلاف. ثم - قال رحمه الله - (أو بالقرآن أو بالمصحف) ذهب الجماهير الأئمة الثلاثة مالك وأحمد والشافعي. إلى أنّ اليمين بالقرآن أو بالمصحف يمين شرعية منعقدة بشرط أن لا ينوي المداد والورق واستدلوا على هذا بأنّ القرآن والمصحف هو كلام الله وكلام الله صفة من صفاته وهم أجمعوا على أنّ اليمين بصفة من صفات الله أنه يمين شرعية. القول الثاني: أنّ الحلف بالمصحف والقرآن لا يجوز ولا ينعقد واستدلوا على هذا بأمرين: الأمر الأول" أنّ القرآن مخلوق. والدليل الثاني: لهم أنه لم يعهد الحلف بالمصحف والقرآن ولم يقولوا لم يعهد عند من؟ لكن من الواضح أنّ مقصودهم عند السلف وهذا القول الثاني مذهب الحنفية أو لبعض الحنفية وهو ضعيف جدا وأدلته أضعف منه , أما الدليل الأول أنه مخلوق فهو قول باطل والقرآن كلام الله منه بدأ وإليه يعود وليس بمخلوق بل صفة من صفات الله. وأما أنه ليس بمعهود فلا يشترط في اليمين لتكون شرعية أن تكون معهودة فالراجح أنه قسم مشروع ومنعقد ويحنث إذا خالفه. ثم - قال رحمه الله - (والحلف بغير الله محرم) الحلف بغير الله هو توكيد الأمر بذكر مخلوق معظم. يقول - رحمه الله - وهو محرم الحلف بغير الله محرم عند الجماهير واستدلوا على هذا بنصوص صريحة , الأول قوله - صلى الله عليه وسلم - ألا لا تحلفوا بآبائكم من كان حالفا فليحلف بالله أو ليصمت. الثاني قوله - صلى الله عليه وسلم - من حلف بغير الله فقد أشرك. وهي نصوص واضحة.

القول الثاني: أنّ الحلف بغير الله مكروه وليس بمحرم واستدلوا على هذا بقول النبي - صلى الله عليه وسلم - للرجل الذي سأله عن شرائع الإسلام فلما خرج قال أفلح وأبيه إن صدق. فقال هذا فهذا النبي - صلى الله عليه وسلم - حلف بأبي الرجل مما يدل دلالة واضحة على أنه ليس بشرك ولا بمحرم. والجواب على هذا الحديث. الحديث صحيح والجواب عليه بأحد جوابين أجابوا عليه بسبعة أوجه فيها ضعف وأحسن الأجوبة أن يجاب بأحد أمرين: الأول" أنّ هذا مما يجري على الألسن وما يجري على الألسن فهو من اللغو واللغو ليست من الأيمان المنعقدة. يعني من لغو اليمين. الثاني: أنه منسوخ وأنّ النبي - صلى الله عليه وسلم - قال هذا في أول التشريع ثم نسخ بالأحاديث الدالة على تحريم الحلف بغير الله. والثالث: الجواب الثالث وهو كالسابقين في القوة محكم وترك المتشابهه وتلك النصوص محكمة جدا فالنهي عن الحلف بغير الله وهذا متشابهه فاحتمل أنه قبل المنع ويحتمل أنه من لغو اليمين ويحتمل أنه أمر جاء على لسان النبي - صلى الله عليه وسلم - وورود مثل هذه الاحتمالات تضعف الاستدلال به وبكل حال الحلف بغير الله محرم بل نوع من الشرك وقد يكون شرك أكبر وقد يكون شرك أصغر بحسب ما يقوم بقلب الحالف. ثم - قال رحمه الله - (ولا يجب به كفارة) لا يجب بالحلف بغير الله كفارة لأنّ هذا الحلف لم ينعقد والحلف الذي يوجب الكفارة هو المنعقد وهذا بطبيعة الحال مذهب الجماهير الذين يرون أنه محرم , أما من يرى أنه منعقد فاليمين عند كل العلماء إذا انعقدت فيها كفارة. قال - رحمه الله - (ويشترط لوجوب الكفارة ثلاثة شروط: الأول" أن تكون اليمين منعقدة) الأيمان إلى ثلاثة أقسام: القسم الأول: اليمين المنعقدة. والقسم الثاني: اليمين الغموس. والقسم الثالث: لغو اليمين. وسيتحدث المؤلف - رحمه الله - عن كل واحدة على حدة من حيث الانعقاد ومن حيث الكفارة. يقول - رحمه الله - (ويشترط لوجوب الكفارة ثلاثة شروط أن تكون اليمين منعقدة وهي التي قصد عقدها مستقبل ممكن).

ذهب الجمهور إلى أنّ اليمين لا تنعقد إلاّ إذا اتصفت بصفتين. الأول أن يقصد عقد اليمين. الثاني: أن تكون على مستقبل. واستدلوا على الشرط الأول بقوله تعالى {ولكن يؤاخذكم بما عقدتم الأيمان} [المائدة/89] وفي الآية الأخرى {لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم ولكن يؤاخذكم بما كسبت قلوبكم والله غفور حليم} [البقرة/74] ومفهوم الآيتين. أنّ اليمين لا ينعقد إلاّ إذا قصد عقد قلبه عليه. أما الشرط الثاني فهو أن يكون على مستقبل واستدلوا على قوله تعالى {ذلك كفارة أيمانكم إذا حلفتم} [المائدة/89] وجه الاستدلال أنه قوله إذا حلفتم يعني إذا حلفتم فحنثتم في المستقبل واليمين المنعقدة فيها الكفارة بالإجماع ولهذا سيخصص المؤلف لكفارة اليمين المنعقدة كلاما مستقلا. ثم - قال رحمه الله - (على مستقبل ممكن) اشترط المؤلف أن يكون على مستقبل ممكن. وقوله ممكن يخرج المستحيل والمستحيل ينقسم إلى قسمين: القسم الأول: أن يحلف على ترك على المستحيل كقوله والله لا أصعد السماء , حلف على فعل أو ترك المستحيل؟ على ترك المستحيل فإذا حلف على ترك المستحيل فإنّ اليمين لا تنعقد ولا كفارة فيها بالإجماع لأنّ هذا اليمين عبث وعدم حصول مقتضى اليمين معلوم. القسم الثاني: أن يحلف على فعل المستحيل ليس على ترك المستحيل كأن يقول والله لأصعدن السماء , وفي الأول قلنا والله لا أصعد إلى السماء فهذا الثاني ذهب الجماهير إلى أنه منعقد وفيه الكفارة واستدلوا على هذا بأنّ الحلف على مستحيل يدخل في عموم الأدلة فهو حلف على أمر مستقبل. والقول الثاني: أنه لا ينعقد لأنه حلف على أمر يتعذر البر به وقياسا ما لو حلف على ترك المستحيل والأقرب مذهب الجمهور وإن كانت المسألة تحتاج إلى مزيد تأمل. ثم - قال رحمه الله - (فإن حلف على أمر ماض كاذبا عالما فهي الغموس)

اليمين الغموس هي أن يحلف على أمر في الماضي كاذبا. فهم من كلام المؤلف أنه لا يشترط أن يكون الحلف يقتطع مال أمر مسلم بل يشمل ما لو أراد ذلك وغيره وهو كذلك وهو الراجح أنه لا يشترط أن يكون المقصود من اليمين الغموس أن يقتطع مال امرئ مسلم واليمين الغموس من الكبائر التي تحتاج إلى توبة والدليل على هذا أنّ النبي - صلى الله عليه وسلم - جعلها كما في صحيح البخاري من الكبائر والدليل الثاني: أنّ النبي - صلى الله عليه وسلم - قال من حلف ليقتطع مال امرئ مسلم لقي الله وهو عليه عضبان فدلت النصوص على أنه من الكبائر وهو محرم. مسألة / بعد التقرر أنه محرم هل فيه كفارة اختلف الفقهاء , فذهب الجمهور إلى أنه لا كفارة فيه واستدلوا على هذا بأمرين: الأمر الأول أنّ الأحاديث التي فيها تحريم اليمين الغموس لم يأتي فيها ذكر الكفارة. الدليل الثاني: أنّ الأدلة الدالة على اشتراط الاستقبال دالة على عدم وجود الكفارة في اليمين الغموس لأنّها تتعلق بالأمر الماضي وهذا القول هو الراجح واليمين الغموس أعظم من أن تكفرها كفارة اليمين. القول الثاني: أنها فيها كفارة واستدلوا بالعمومات وعلمنا أنّ هذه العمومات مخصوصة بأدلة اشتراط الاستقبال. ثم - قال رحمه الله - (ولغو اليمين الذي يجري على لسانه بغير قصد كقوله لا والله وبلى والله وكذا يمين عقدها يظن صدق نفسه فبان بخلافه) القسم الثاني لغو اليمين وهي تصدق على أمرين: عند الحنابلة الأمر الأول: ما يجري على لسانه من غير قصد. الثاني: إذا حلف يظن صدق نفسه فهذا يعتبر من لغو اليمين فإذا تصدق على صورتين: أما الدليل على الصورة الأولى فمن وجهين الوجه الأول: أنه تقدم معنا أنه يشترط في اليمين المنعقدة أن تكون مقصودة من كسب القلب وعقده وما يجري على اللسان ليس كذلك. الدليل الثاني: ما جاء في حديث عائشة أنّ النبي - صلى الله عليه وسلم - قال قول الرجل لا والله وبلى والله من لغو اليمين وكفارة فيه وهذا الحديث منهم من جعله مرفوعا إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - ومنهم من أوقفه على عائشة والمتأخرون يرفعونه كما هي عادة كثير من المتأخرين يرفعون الموقوفات.

والقول الثاني: للدار قطني وهو يرى أنه حديث موقوف وهذا هو الصحيح أنه موقوف على عائشة ولكن وإن كان موقوفا على عائشة فيصلح الاستدلال به لأنه يتوافق مع النصوص العامة. القسم الثاني: إذا حلف يظن صدق نفسه والدليل على أنّ هذا من لغو اليمين أيضا من وجهين الوجه الأول: أنّ الرجل الذي طلب منه النبي - صلى الله عليه وسلم - كفارة الجماع في نهار رمضان قال في آخر الحديث فلا والله ليس بين لابتيها أفقر مني! وهذا ظن لأنه لم يقف على كل بيت حتى يعلم من هو أفقر منه أو لا مع ذلك أقسم وأقّره النبي - صلى الله عليه وسلم -. الدليل الثاني: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - طلب من أولياء المقتول في حديث القسامة التي تقدم معنا أن يحلفوا وهو حلف على الظن وذهب الجماهير إلى أنّ لغو اليمين لا كفارة فيه واستدلوا على هذا بأنه يمين ليس بمنعقدة لعدم وجود القصد واليمين المكفرة هي اليمين المنعقدة فقط.

الدرس: (2) من الأيمان قال شيخنا حفظه الله: بسم الله الرحمن الرحيم والحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين. كنا تحدثنا عن قول المؤلف - رحمه الله - (ولغو اليمين الذي يجري على لسانه بغير قصد كقوله: لا والله , وبلى بالله وكذا يمين عقدها يظن صدق نفسه فبان بخلافه) وذكرت حد لغو اليمين وحكمه من حيث الكفارة وأحب أن أنبه أنّ قوله تعالى {لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم} [البقرة/225] يفيد عدم الكفارة لكن لا دخل له في تحديد اللغو فإنّ الآية أثبتت عدم المؤاخذة ولكنها لم تبيّن ما هو لغو اليمين فهو يكتسب من أدلة أخرى وهو ما شرحناه في الدرس السابق. ثم قال مبيّنا الشرط الثالث. من شروط وجوب الكفارة قال - رحمه الله - (الثاني: أن يحلف مختارا فإن حلف مكرها لم تنعقد يمينه)

الشرط الثاني لوجوب الكفارة أن يحلف مختارا فإن حلف مكرها لم تنعقد اليمين وإلى هذا ذهب الجمهور عدم انعقاد اليمين إذا أكره عليها وعدم وجوب الكفارة تبعا لذلك إذا حنث فيها واستدلوا بالأدلة العامة الدالة على رفع المؤاخذة إذا تم العمل إكراها. تقدمت معنا مرارا من الكتاب والسنة. والقول الثاني: أنها تنعقد ويؤاخذ بها نظرا لأنه أتى باليمين فتترتب على اللفظ أحكامه والراجح إن شاء الله أنها لا تنعقد. بيّن المؤلف ما هو الحنث أو كيف يحصل الحنث قبل هذا أريد أن أنبه إلى أنّ بعض الذين ذهبوا إلى انعقاد اليمين كرها استدلوا بحديث من باب التنبيه وهو أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال ثلاث جدهن جد وهزلهن جد. اليمين والطلاق والنكاح. فوضعوا اليمين في هذا الحديث وهذا الحديث لا أصل له ولذلك أعرضنا عنه لأنه لا أصل له أصلا وليس بحديث ضعيف لكن أحببت أن أنبه إلى أنّ بعضهم استدل به وأنه ليس له أصل نرجع إلى الشرط الثالث. الشرط الثالث شرحه المؤلف ثم - قال رحمه الله - (الحنث في يمينه بأن يفعل ما حلف على تركه أو يترك ما حلف على فعله مختارا ذاكرا) بيّن المؤلف كيف يحصل الحنث. الحنث يحصل بمخالفة مقتضى اليمين فإن حلف أن لا يفعل ففعل أو أن يفعل فلم يفعل فقد حنث أي فقد خالف ما عقد اليمين عليه والحنث من شروط وجوب الكفارة لأنه إذا لم يحنث فإنه لم يهتك حرمة اليمين وإذا لم يهتك حرمة اليمين فلا كفارة وهذا مجمع عليه. ثم - قال رحمه الله - (فإن فعل مكرها أو ناسيا فلا كفارة)

الإكراه في الشرط الثاني إكراه على. ما الفرق بين هذا وبين الشرط الثاني.؟ الشرط الثاني إكراه على نفس اليمين. وهذا الشرط إكراه على الحنث في اليمين. إذا أكره على الحنث في اليمين فإنه لا يعتبر حنث ولا تعتبر يمينه انتهكت والإكراه على اليمين ينقسم إلى قسمين: القسم الأول" أن يلجأ إلى مخالفة اليمين إلجأً كأن يحلف أن لا يدخل البيت فيحمل ويدخل به البيت فهذا لا حنث عليه بلا إشكال. القسم الثاني: أن يكره إكراها على فعل اليمين بلا إلجاء يعني أن يكره بالضرب والتهديد والإيذاء فهذا ذهب الأئمة الثلاثة وهو اختيار شيخ الإسلام وابن القيم وغيرهم إلى أنه لا يحنث. واستدلوا بالعمومات. والقول الثاني: أنه يحنث واستدلوا بعموم قوله تعالى {ولكن يؤاخذكم بما عقدتم الأيمان} [البقرة/225] وهذه الأيمان معقودة وقد خالفها والراجح مع الجمهور وهو انه لا يحنث. ثم - قال رحمه الله - (أو ناسيا) الخلاف في الناسي كالخلاف في المكره تماما من حيث القائلين والأدلة. مسألة / الجاهل ما حلف على تركه جهلا أو ترك ما حلف على فعله جهلا فالخلاف فيه كالخلاف في السابق تماما أيضا والراجح فيه هو الراجح فيه فإذا الآن عرفنا حكم من فعلها مكرها أو ناسيا أو جاهلا. ثم - قال رحمه الله - (ومن قال في يمين مكفرة إن شاء الله لم يحنث) إذا حلف الإنسان واستثنى بقوله إن شاء الله فإنه إذا خالف ما حلف عليه لم يحنث والدليل على هذا من ثلاثة أوجه: الأول: ما جاء عن ابن عمر - رضي الله عنه - أنّ النبي - صلى الله عليه وسلم - قال من حلف على يمين فقال إن شاء الله لم يحنث وهذا الحديث اختلفوا في رفعه ووقفه فذهب الأئمة إلى وقفه وذهب كثير من المعاصرين إلى رفعه والصواب إن شاء الله أنه موقوف لكن مثله يصلح للاستدلال. الدليل الثاني: قصة سليمان وفيها النبي - صلى الله عليه وسلم - قال في آخرها ولو قال إن شاء الله لم يحنث وهو نص في رفع الحنث والمؤاخذة إذا اقترن اليمين بأن شاء الله. الدليل الثالث: الإجماع فإنهم أجمعوا على أنّ الاستثناء من حيث الجملة يرفع الحنث ووجوب الكفارة.

مسألة / وقول إن شاء الله مع اليمين لا يشترط له أي شرط فلا يشترط الاتصال ولا أن ينوي أن يقولها قبل أن يبدأ باليمين ولا يشترط له أي شرط فإذا حلف وقال إن شاء الله فإنه لا يحنث مطلقا. ثم - قال رحمه الله - (ويسن الحنث في اليمين إذا كان خيرا) إذا حلف الإنسان على شيء وكان ترك الحلف خير من الالتزام به فإنه يسن ولا يجب أن يحنث في يمينه والدليل على هذا من وجهين: الأول: أنّ النبي - صلى الله عليه وسلم - قال إني إن شاء الله لا أحلف على يمين فأجد غيرها خيرا منها إلاّ أتيت الذي هو خير وكفرت عن يميني. وهو نص في المطلوب. الدليل الثاني: أنهم لم يختلفوا في أنّ هذا مستحب وهو أولى وأفضل من الاستمرار في اليمين. ثم - قال رحمه الله - (ومن حرم حلالا سوى زوجته أو أمة أو طعام , أو لباس أو غيره لم يحرم) إذا حرم الإنسان على نفسه شيئا مباحا فإنّ الجماهير من الأئمة الثلاثة ذهبوا إلى أنه لا يحرم مطلقا كفر أو لم يكفر واستدلوا على هذا بقوله تعالى {ولا تقولوا لما تصف ألسنتكم الكذب هذا حلال وهذا حرام لتفتروا على الله الكذب} [النساء/171] واستدلوا أيضا بدليل آخر وهو أنّ التحليل والتحريم إلى الله. والقول الثاني: أنه يحرم إلى أن يكفر فإذا حرم على نفسه شيئا فإنه يحرم إلى أن يكفر وهذا مذهب الأحناف واستدلوا بقصة تحريم النبي - صلى الله عليه وسلم - العسل وأنّ الله تعالى قال {يا أيها النبي لم تحرم ما أحل الله لك تبتغي مرضات أزواجك والله غفور رحيم} [التحريم/1] {قد فرض الله لكم تحلت أيمانكم} [التحريم/1] فهم فهموا من قد فرض الله لكم تحلت أيمانكم يعني إحلال أيمانكم. والجواب على الاستدلال بهذا الآية. أنّ المقصود بالآية بتحلت هنا ليس التحليل وإنما إحلال اليمين يعني فك اليمين وحلها فهو من الحَلْ وليس من الحِل [يعني من فك العقدة وليس من الحِل الذي هو ضد التحريم] والراجح مذهب الأئمة الثلاثة إن شاء الله. ثم - قال رحمه الله - (وتلزمه كفارة يمين إن فعله)

لإشكال في وجوب كفارة اليمين فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما حرم على نفسه كفّر كفارة يمين ونحن حملنا الآية على حلها وحل اليمين يكون بالكفارة فلا إشكال في وجوب الكفارة إذا حرم على نفسه شيئا. فصل هذا الفصل في كفارة اليمين وكفارة اليمين فيها تخيير وترتيب وبدأ المؤلف بالتخيير فهو يقول - رحمه الله - (يخير من لزمته كفارة يمين بين إطعام عشرة مساكين أو كسوتهم أو عتق رقبة) فالتخيير بين الإطعام والكسوة والعتق , فإن شاء أطعم وإن شاء كسا وإن شاء أعتق والتخيير تخيير تشهي وليس تخيير مصلحي فيختر ما يناسبه ويكون أسهل عليه. وهل ينبغي للمفتي أن يبيّن أو أن يرشد السائل إلى الأسهل أو يخيره فقط يظهر لي بعد التأمل ينبغي للمفتي أن يبيّن للسائل الأسهل السبب في هذا أنه يظهر والله أعلم من تخيير الله في هذه الأجناس أنه أراد التوسعة على المكفر ولهذا خيره بين عدة أشياء وتعلمون أنّ هذه الأصناف أحيانا ترتفع وأحيانا تنخفض فقد يكون الشيء بعضه أغلى من بعض ففي الحج مثلا الإطعام أرخص بكثير من الذبيحة مهما رخصت الذبيحة فكون المفتي يبيّن للسائل أنه مخير في كفارة الأذى وأنّ الإطعام هو أسهل الخصال الثلاث هذا جيد هنا في اليمين غالبا الأسهل من الخصال الثلاث هو كذلك الإطعام. يقول المؤلف - رحمه الله - (إطعام عشرة مساكين) لم يبيّن المؤلف الجنس ولا المقدار والسبب في هذا أنّ الجنس والمقدار تقدم معنا في ثلاثة أبواب في كتاب الصيام وفي كتاب الحج وفي كتاب الظهار وهو أنهم يرون أنه مد من بر أو نصف صاع من غيره من الأطعمة. والمد تقريبا 600 غرام فنصف الصاع ألف ومائتين غرام من الحبوب من الأرز أو القمح وما شاكلها مما يطعم الناس فإذا عرفنا الآن المقدار والنوع حسب المذهب. القول الثاني: أنه لا حد لمقداره ولا نوعه وأنه من أوسط ما تطعمون أهليكم فالإنسان يطعم بحسب الطعام الموجود والذي يأكل من أهله ثمينا كان أو رخيصا أو وسطا وهذا الثاني هو المتوافق مع ظاهر الآية والأول هو الأسهل تطبيقا والأضبط بين الناس فلا شك أنّ صدقة من أوسط ما تطعمون أهليكم يستمر في السؤال ماذا يعني هذا؟ وكيف أطعم أوسط أهلي ومرة نأكل كذا ومرة نأكل كذا

فتدخل أنت وأياهم في برنامجهم العائلي وتكون مشكلة يعني بينما على المذهب نصف صاع وانتهت المشكلة وهو في الحقيقة أضبط للمفتي وأضبط المستفتي. مسألة / هل يجب إذا أخرج مد من البر أو نصف صاع من غيره أن يخرج معه الإدام في هذه المسألة ثلاثة أقوال: القول الأول: أنه يجب وجوبا أن يخرج مع ما يخرجه في كفارة اليمين إداما. واستدلوا على هذا بأنّ العادة جرت بأنّ الطعام لا يخلو من الإدام. القول الثاني: أنه لا يجب وهو ظاهر المذهب واستدلوا على هذا بأنّ من أطعم نصف صاع أو مد بر فإنه يسمى مطعم ولو لم يخرج إدام. والقول الثالث: التفصيل إن كان يطعم أهله مع الإدام فيكفر مع الإدام , وإلاّ فلا. وهذا اختيار شيخ الإسلام - رحمه الله - والإدام يطلق على كل ما اعتاد الناس أكله مع الخبز تناولا أو تغميسا وعلى رأسه اللحمة فاللحمة من أشرف أنواع الإدامات في عرف اللغة والشرع فإذا كان يطعم أهله مثل هذا الشيء فإنهم ينبغي إذا أراد أن يخرج مثلا ستمائة غرام من الأرز أن يجعل معه ماذا؟ لحم سواء كان لحم حيوان أو من الدجاج. ثم - قال رحمه الله - (أو كسوتهم) كذلك لم يبيّن المؤلف قدر الكسوة والمذهب أنّ قدر الكسوة هو ما يجزئ في الصلاة بحسب المعطى فقد يكون امرأة وقد يكون رجلا. القول الثاني: أنه يكسى ما يصدق عليه اسم الكسوة ولو كانت أقل مما يلبسه المسلم في الصلاة وإلى هذا ذهب ابن حزم. والقول الثالث: أنّ الكسوة يرجع في تحديدها إلى العرف فما اعتبر عرفا كسوة فهو الواجب ولو لم يجزئ في الصلاة وهذا القول الثالث هو المتوافق مع ظاهر الآية. ثم - قال رحمه الله - (أو عتق رقبة) تقدمت معنا في كتاب الظهار مباحث كثيرة في عتق الرقبة فجميع المباحث بدون استثناء التي تقدمت في عتق الرقبة في الظهار تأتي معنا هنا في عتق الرقبة في كفارة اليمين وعلى رأس هذه المسائل قضية هل يشترط أن يكون مؤمنا أو لا تقدم معنا أنّ الجماهير والجم الغفير يرون اشتراط هذا الشرط وأنه هو الأقرب. وأنّ القول الثاني أنه لا يشترط وهو مرجوح. ثم - قال رحمه الله - (فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام متتابعة)

انتقل من التخيير إلى الترتيب فإذا لم يتمكن من الإطعام والكسوة وعتق الرقبة حينئذ ينتقل إذا لم يستطع إلى الصيام ويشترط في الصيام أن يكون متتابعا واستدلوا على هذا بقراءة ابن مسعود فصيام ثلاثة أيام متتابعة وهو بإسناد صحيح واستدلوا أيضا بأنّ أبي بن كعب قرء مثل قراءة ابن مسعود تماما. والقول الثاني: أنه لا يشترط التتابع فإنّ الله أمر بالصيام فأطلق ولا يمكن أن نقيّد بغير القرآن والراجح إن شاء الله وجوب التتابع في صيام كفارة اليمين فإنّ قراءة ابن مسعود إما أن تكون قراءة من القرآن فهي حجة وإلاّ فلا تنزل عن أن تكون خبر آحاد وخبر الآحاد حجة ولو فرضنا وليس كذلك أنه موقوف على حكمه حكم الموقوف على ابن مسعود فكذلك له حكم الرفع لأنه مما لا مجال للرأي فيه لكنه ليس بموقوف لأنّ ابن مسعود ذكره كقراءة فلا ينزل عن مرتبة المنسوب للنبي - صلى الله عليه وسلم -. ثم - قال رحمه الله - (ومن لزمته أيمان قبل التكفير موجبها واحد فعليه كفارة واحدة) من حلف على أكثر من يمين لكن موجبها والمقصود بموجبها يعني ما توجبه يعني الكفارة فإذا حلف على أيمان كفارتها واحدة هذا معنى كلام المؤلف ولم يكفر فتجزؤه كفارة واحدة. مثاله كأن يقول والله لا أكلم عمروا والله لا آكل خبزا فهاتان يمينان كفارتهما واحدة لأنها يمين كفارة اليمين واحدة. أفادنا المؤلف أنه يكفر كفارة واحدة إذا لم يكفر فالمسألة الأولى أنه إذا كفر فإنه يلزمه كفارة أخرى بلا خلاف فإذا قال والله لا أكلم زيدا والله لا أكلم عمروا ثم كلم زيدا وكفر ثم كلم عمروا فإنه يجب أن يكفر كفارة أخرى بلا خلاف نأتي إلى مسألة ما إذا لم يكفر فالمذهب على أنه كفارة واحدة. لأنها أيمان لها كفارة من جنس واحد فتتداخل قياسا على الحدود. فلو زنا ثم زنا فإنه يقام عليه حد واحد. والقول الثاني: أنه يجب عليه كفارة لكل يمين كفر عن التي قبلها أو لم يكفر واستدل هؤلاء بأنّ هذه أيمان مختلفة مخرجها مختلف والآية أو جبت في كل عقد يمين كفارة والراجح بوضوح القول الثاني. فيجب عليه كفارات لأنّ هذه أيمان مختلفة. ثم - قال رحمه الله - (وإن اختلف موجبها كظهار ويمين بالله لزماه ولم يتداخلا)

باب جامع الأيمان

إذا كان موجب هذه الأيمان مختلف كفارات مختلفة كأن يظاهر من زوجته ويقتل خطأ ويحلف يمينا فكل واحد من هذه الأمور أوجبت كفارة مختلفة فلا تتداخل. قال الشيخ المرداوي بلا نزاع لأنها أجناس مختلفة فلم تتداخل وهذا صحيح ولا أظن أنّه هناك خلافا خارج المذهب. بهذا انتهى هذا الفصل. ولله الحمد. باب جامع الأيمان هذا الباب باب مهم جدا لأنه يعين المحلوف عليه والترتيب عند الحنابلة ترتيب رباعي نرجع إلى النية ثم إلى السبب ثم إلى التعيين ثم إلى الاسم سيأتينا خلاف في هذا الترتيب لكن الحنابلة هكذا يرتبون الأولويات في حمل اليمين على المقصود ولما كانت النية هي الأولى وهي مجمع على البدء بها بدأ بها المؤلف. يقول - رحمه الله - (يرجع في الأيمان إلى نية الحالف إذا احتملها اللفظ) يرجع في الأيمان إلى نية الحالف بشرطين: الشرط الأول" أن يحتملها اللفظ فإذا قال والله لا آكل لحما ثم رأيناه يأكل فقال نويت أي خبزا لفظ اللحم يتحمل الخبز؟ لا يحتمل. فإذا نقول هذا لا يحتمل وأنت حانث. إذا يجب أن يحتمل اللفظ فأخذنا مثال عدم الاحتمال أما أمثلة الاحتمال فكثيرة مثل أن يقول والله لا آكل لحما ونراه يأكل دجاجا يحتمل أو لا يحتمل؟ ومثل أن يقول والله لا آكل لحما ونراه يأكل من أجزاء الذبيحة الأخرى من الكبد أو من الرئة فهذا يحتمل أو لا يحتمل؟ يحتمل. الشرط الثاني: أن يكون محقا لا ظالما فإن كان ظالما فإنه يأخذ بلفظه ولا تعتبر نيته فإذا اكتملت الشروط فإناّ نبدأ ونأخذ بالنية لقول النبي - صلى الله عليه وسلم - إنما الأعمال بالنيات. وإلى هذا ذهب الجماهير من أهل العلم أنّ المعتبر والضابط الأول في معرفة مقصود الحالف النية إذا وجدت لهذا الحديث. والقول الثاني: أنا لا ننظر إلى النية لأنّ اليمين مرتبطة باللفظ فنآخذه بلفظه. وهذا القول فيه بعد وضعف ظاهر جدا وقاعدة الشرع انه إنما الأعمال بالنيات. ثم - قال رحمه الله - (فإن عدمت النية رجع إلى سبب اليمين وما هيجها)

المرتبة الثانية السبب وغالبا ما يكون السبب مخصص لا معمم فإذا عرفنا من السبب أنّ مقصوده أخص من لفظه حملنا اليمين على هذا الخاص فإذا قال والله لا أدخل دار فلان وعلمنا قطعا أنّ ما سبب اليمين وهيجها أنّ في الدار منكرات فإنّ الدار إذا خليت من المنكرات ودخلها فإنه لا يحنث. بالنظر إلى أي شيء إلى سبب اليمين وفي الحقيقة السبب إذا تأملت تجده يرجع إلى النية فإنه نوى لما حلف أن لا يدخل الدار نوى أي لوجود المنكرات على كل حال المرتبة الثانية هي السبب وقد تكون من حيث التقسيم أوضح. والخلاف في السبب كالخلاف في النية. ثم - قال رحمه الله - (فإن عدم ذلك رجع إلى التعيين) إذا لم تكن هناك نية ولا سبب فإنّا نرجع إلى التعيين والتعيين أن يعين ويستخدم لفظ الإشارة هذا كأن يقول والله لا آكل هذا الجدية والله لا آكل هذه الجبنة , فإنّ اليمين تتعين إذا لم توجد نية ولا سبب. مسألة / فإن تغيرت صفة المعين واسمه كأن حلف على بيضة فصارت دجاجة فالمذهب أنه يحنث إذا أكل الدجاجة لأنه أكل ما عينه واختار ابن قدامة أنه لا يحنث لأنّ اسم المعين وصفته اختلفتا. القسم الثاني: أن تختلف صفة المعين واسمه وتذهب أجزاءه كأن يحلف أن يكلم صبيا فيصبح الصبي شيخا أو أن لا يأكل تمرا فيصبح دبسا فالمذهب وابن قدامة يرون أنه يحنث لأنه لما عدمنا النية والسبب رجعنا إلى التعين والمعين موجود وإن اختلفت صفته. والقول الثاني: أنه لا يحنث فإذا حلف أن لا يكلم صبيا فصار شيخا وكلمه فإنه لا يحنث لأنّ صفة المحلوف عليه واسمه وحقيقته اختلفت والراجح؟ أيهم أقرب؟ لا يحنث لأنه المحلوف عليه اختلف واختلاف الصفات نحن وجدنا من خلال دراسة الفقه أنّ اختلاف الصفات يؤثر أو لا يؤثر على الأحكام؟ يؤثر تأثيرا بيّنا فالخل إذا انقلب خمرا والخمر إذا انقلب خلا بغير قصد ولا فعل أبيح والذي تغير أجزاء الشيء أو صفته؟ صفته أما أجزاءه موجودة نفس الأجزاء موجودة لكن صفته تغيرت فلما وجدنا الشرع دائما تختلف الأحكام عنده إذا اختلفت الصفات والأسماء عرفنا أنه أيضا في هذا الباب يجب أن نأتي بالقاعدة فلا يحنث بذلك. ثم - قال رحمه الله - ممثلا على التعين الأمثلة القادمة كلها على التعين.

قال - رحمه الله - (فإذا حلف لا لبست هذا القميص فجعله سراويل , أو رداء أو عمامة , ولبسه) فإنه يحنث إذا حلف لا لبست هذا القميص فجعله سراويل أو رداء أو عمامة ولبسه فإنه يحنث لماذا؟ لأنّ الحنابلة يقدمون التعين على الاسم والقميص إذا صار سراويل إنما اختلف فيه اسمه ووجه تقديم التعين على الاسم عند الحنابلة أنّ التعين أبلغ في ذهاب الإبهام ورفع الإبهام يعني أنه إذا عينت لم يعد هناك إشكال أنّ المقصود هذا الشيء لكن إذا سميت هل يحتمل أن تقصد شيئا آخرا؟ نعم فرأوا أنّ التعين من هذا الوجه أقوى من الاسم. مثال الثاني: قال - رحمه الله - (أو لا كلمت هذا الصبي فصار شيخا أو زوجة فلان هذه أو صديقه فلانا أو مملوكه سعيدا فزالت الزوجية والملك والصداقة ثم كلمهم) إذا قال والله لا كلمت صديق فلان أو زوجة فلان أو هذا الصبي فصار شيخا فالذي زال الآن ثم صار ليس بصديق وطلقت الزوجة وصار الصبي شيخا فالذي زال هو الإضافة والقاعدة عند الفقهاء أنّ الإضافة أضعف من الاسم فإذا كنا نقدم التعين على الاسم فتقديمه على الإضافة من باب أولى وكل هذا يرجع إلى نفس القاعدة وهي أنّ التعين مقدم على الاسم. قال - رحمه الله - (أو لا أكلت لحم هذا الحمل فصار كبشا ......... ) المجموعة الثالثة. لا أكلت لحم هذا الحمل فصار كبشا وهذا الرطب فصار تمرا أو دبسا أو خلا وهذا اللبن فصار جبنا أو كشكا ونحوه ثم أكل المجموعة الثالثة هي ما تحدثنا عنه وهي إذا اختلفت اسمه وصفته. أما المجموعة الثانية فاختلفت الإضافة. وأما المجموعة الأولى فاختلف الاسم فقط. فإنّ القماش إذا فصلته قميصا أو فصلته سراويل أو رداء إنما اختلف الاسم أما حقيقة القماش موجودة ويجمع الأمثلة أو المجموعات الثلاثة أنّ التعين مقدم على الاسم ففي الأمثلة الأخيرة اختلف الاسم لاختلاف الحقيقة فإنّ الحمل إذا صار كبشا فقد اختلفت حقيقته وانتقل إلى سن آخر وكذا التمر واللبن وما مثل به. قال - رحمه الله - (إلاّ أن ينوي ما دام على تلك الصفة)

لأنه تقدم معنا أنه إذا وجد في الحلف نية فالنية مقدمة على التعين فإذا قال قصدت ما دامت هذه الصفة موجودة قدمت النية طبعا هذه المباحث قد تكون قليلة النفع في أحيان كثيرة لأنه يندر أن تخلوا اليمين من النية لأنّ اليمين إنما تخرج من الإنسان بناء على معطيات في الواقع توجب عنده نية وعزم على اليمين فإذا لا بد من وجود نية تحدد لكن لو افترضنا وجود يمين بدون نية فعلى هذا الترتيب. فصل قال - رحمه الله - (فإن عدم ذلك رجع إلى ما يتناوله الاسم) قوله فإن عدم ذلك يعني عدمت النية والسبب والتعين حينئذ نرجع إلى الاسم وهو آخر المراحل عند الحنابلة فهو أضعف المدلولات. والقول الثاني: أنّ الاسم يقدم على التعين لأنّ العرف غالبا ما يتطابق مع الاسم لا مع التعين. قال - رحمه الله - (وهو ثلاثة: شرعي وحقيقي وعرفي) سيبيّن المؤلف تعريف كل واحد من هذه الثلاثة وهي أقسام للاسم لكن يؤخذ على المؤلف أنه - رحمه الله - لم يرتب الحقائق الثلاثة للاسم شرعي وعرفي وحقيقي. لم يرتب بشكل واضح بماذا نبدأ وماذا نؤخر؟ وخالف بهذا لا أقول الأصل حتى الأصل عنده نوع من عدم الوضوح في الترتيب وهو خلل من وجهة نظري غير مقبول ولهذا لو رجعت إلى المنتهى وإلى الإقناع وإلى غيرهما من كتب الحنابلة ستجد أنهم أول ما يبدءون يبيّنون الترتيب وأناّ نأخذ بهذا أولا ثم يليه كذا ثم يليه كذا لأنّ هذا الباب معقود لهذه القضية بماذا نبدأ ولهذا لما جاء في الفصل السابق باب جامع الأيمان مباشرة بدأ بالترتيب فقال يرجع إلى كذا فإن لم يمكن فإلى كذا فإن لم يمكن فإلى كذا هنا لو قرأت أنت هذا الفصل كاملا ربما لا يتبيّن لك كيف ترتب الحقائق وأيها أولى بالتقديم بينما في المنتهى في الحقيقة كانت عبارته محررة جدا وقال يبدأ بكذا ثم بكذا ثم بكذا وكذلك في الإقناع. بدأ المؤلف بالشرعي: فقال - رحمه الله - (فالشرعي ماله موضوع في الشرع وموضوع في اللغة)

اللفظ أو الاسم الشرعي هو كل اسم له معنى في الشرع ومعنى في اللغة فإذا كان له معنى في الشرع ومعنى في اللغة فهو اسم شرعي ويقصد بهذا بطبيعة الحال وله معنى في اللغة يختلف عن معناه في الشرع مثل الصلاة والزكاة والحج والصيام , فالصلاة في اللغة الدعاء وفي الشرع أقوال وأفعال مبتدأه بالتكبير مختتمة بالتسليم. الصيام هو الإمساك وعرفتم معناه في الشرع الحج في اللغة هو القصد وعرفتم معناه في الشرع وهكذا إذن هذه الألفاظ أو هذه بعبارة أدق هذه الأسماء لها معنى شرعي ولها معنى لغوي فكل اسم له معنى شرعي ولغوي فهو من الأسماء الشرعية. قال - رحمه الله - (فالمطلق ينصرف إلى الموضوع الشرعي الصحيح) الاسم إذا أطلق فإنه ينصرف إلى الموضوع الشرعي , والدليل على هذا من وجهين: الأول: أنّ تقديم المعنى الشرعي محل إجماع فقد أجمعوا على أنه إذا كان للاسم معنى شرعي فإناّ نبدأ به. الثاني: أنّ الأصل في إطلاق الأسماء بين المسلمين إرادة المعنى الشرعي فإذا قال والله لا أصومن يوم الخميس هل يمكن أن نحمل هذا على الإمساك عن الكلام؟ وإذا نوى ويقول والله لا أصومن يوم الخميس قلنا الصيام هو الصيام الإمساك عن المفطرات من طلوع الفجر إلى غروب الشمس فقال أنا أريد الإمساك عن الطعام؟ يقبل منه أو لا يقبل؟ ينبغي أن تقولوا يقبل ألم نجعل النية هو رقم واحد أليس كذلك؟ ثم في المرتبة الأخيرة الاسم فإذا قال أنا أريد أن أمسك عن الكلام ما أردت الصيام ولا نويت الصيام نقول إنك لا تحنث إذا تركت الصيام وتحنث إذا تكلمت. ثم - قال رحمه الله - (فالمطلق ينصرف إلى الموضوع الشرعي الصحيح) يشترط أن نحمله على المعنى الشرعي أيضا الصحيح فإذا قال والله لا أبيعن هذه السيارة ثم باعها بيعا فاسدا فإنه لا يحنث والدليل على هذا أنّ الله تعالى قال {وأحل الله البيع} [البقرة/275] وجه الاستدلال؟ أنّ الآية سمت البيع الصحيح فقط هو البيع فإذا باع بيعا فاسدا فإنه لا يحنث. والقول الثاني: أنه يحنث لأنه أتى بصورة المحلوف عليه والصواب الأول لأنّ مادمنا نحمله على المسمى الشرعي فأيضاً لا بد أن نحمله على التصحيح الشرعي.

ثم - قال رحمه الله - (فإذا حلف لا يبيع أو لا ينكح فعقد عقدا فاسدا لم يحنث) تقدم معنا أنه إذا عقد عقدا فاسدا لم يحنث إلاّ أنّ بعض الفقهاء فرق بين البيع والنكاح فقال إنه يحنث في البيع ولا يحنث في النكاح فإذا نكح نكاحا فاسدا بعد أن أقسم أن لا يفعل فإنه لا يحنث وإن باع بيعا فاسدا بعد أن أقسم أن لا يفعل فإنه يحنث يعني فرقوا بين البيع والنكاح والصواب أنه لا تفريق بين العقود الشرعية. وأنّ الجميع لا يحصل به الحنث. ثم - قال رحمه الله - (وإن قيّد يمينه بما يمنع الصحة كأن حلف لا يبيع الخمر أو الحرحنث بصورة العقد) إذا أنشأ اليمين على عقد فاسد فإنه إذا خالف يمينه فإنه يحنث وعللوا هذا بأنه لا يتصور البر بهذه اليمين إلاّ بذلك ولا يتصور الحنث بها إلاّ بمخالفته. والقول الثاني: أنه لا يحنث حتى في هذه الصورة لأنّ أيمان المسلمين تحمل على العقود الصحيحة ولو حلف على عقد فاسد بناء على هذا إذا قال والله لا أبيعن هذه الجارية والجارية أم ولد فهو حلف على بيع فاسد او صحيح؟ بيع فاسد على القول بتحريم بيع أمهات الأولاد فحينئذ عند الحنابلة يحنث إذا باعها وعلى القول الثاني متى يحنث؟ لا يحنث لأنه لا يمكن أن يبيعها بيعا صحيحا أليس كذلك؟ يمكن للإنسان أن يبيع البيع الفاسد بيعا صحيحا لا يمكن لو قال والله لا أبيعن الخمر كيف يحنث على القول الثاني؟ لا يحنث لأنهم يقولون انه لا يحنث لأنّ هذه اليمين لا يمكن أن يحنث بها إلاّ ببيع صحيح ولا يمكن البيع الصحيح والراجح المذهب وأنه لو باع فإنه آثم والبيع باطل ولكن عليه كفارة يمين. وانتقل إلى الحقيقي. قال - رحمه الله - (والحقيقي: هو الذي لم يغلب مجازه على حقيقته كاللحم) هنا ننبه لشيء أولا الحقيقي يعني اللغوي والتعبير باللغوي أوضح. ثانيا صنيع المؤلف يوهم أنّ الحقيقي يأتي في المرتبة الثانية بعد الشرعي أليس كذلك؟ والواقع أنّ الحنابلة يرون أنّ العرفي مقدم على الحقيقي وهذا مما أشرت إليه آنفا أنّ الشيخ في الحقيقة المؤلف - رحمه الله - لم يرتبها على المطلوب.

اللفظ الحقيقي هو اللفظ المستعمل في حقيقته اللغوية المؤلف يقول كاللحم. فاللحم إذا قال والله لا آكل لحما فقد حلف على مسمى لغوي صحيح فإنّ اللحم ليس له مجاز فإذا أكل شحما فإنه لا يحنث لأنه حلف على أكل اللحم وهو لم يأكل الآن لحما وإنما أكل شحما والقول الثاني: أنه إذا حلف على ترك اللحم وأكل شحما يحنث. وقالوا لأنّ الشحم مع بقية أجزاء الجسد تسمى لحما والصحيح المذهب وهذه الأجزاء وإن سميت لحما فإنما تسمى على سبيل الإجمال لا التفصيل. قال - رحمه الله - (فإن حلف لا يأكل اللحم فأكل شحما أو مخا أو كبدا ونحوه لم يحنث, وإن حلف لا يأكل أدما حنث بأكل البيض والتمر والملح والزيتون ونحوه) إن حلف لا يأكل أدما حنث بأكل البيض والتمر والملح والزيتون قلنا أنّ الإدام في العرف وفي مقاصد الشرع هو كل ما يأكل بالخبز وما يأكل بالخبز على نوعين: إما أن يأخذ به أخذا. أو أن يغمس فيه غمسا. هو بدأ بالقسم الأول وهو ما يأخذ فيقول حنث بأكل البيض والتمر والملح والزيتون ونحوه. إذ هذه الأشياء تأكل عادة بالخبز ومثلها اللحم وفي الحديث سيد الأدم اللحم؟ وفي الحديث الآخر نعم الإدام الخل إذا هذه الأشياء ونحوها تأكل بالخبز فتعتبر إدام فإذا على أن لا يأكل أدما وأكلها حنث. القسم الثاني: ما يصطبغ به. قال - رحمه الله - (وكل ما يصطبغ به) يعني ما يغمس مثل ماذا؟ مثل العسل وزيت الزيتون والسمن فإنه هذه تأكل بالخبز عن طريق الغمس الذي هو الاصطباغ فأيضاً يحنث. قال - رحمه الله - (ولا يلبس شيئا فلبس ثوبا أو درعا أو جوشنا أو نعلا حنث) إذا حلف أن لا يلبس شيئا وأطلق فإنه يتناول كل ما يلبس في اليد والرجل والبدن والرأس لأنّ ما يوضع على هذه الأجزاء يسمى لبسا في الشرع وفي اللغة وفي العرف فإذا إذا لبس أي شيء فإنه يعتبر حانثا فإذا لبس ما يلبس على الرأس في قدمه أو لبس ما يلبس في اليد في قدمه فإنه لا يحنث لماذا؟ لأنّ هذا لا يسمى في العرف ولا في اللغة لبسا ولو لبسه إلاّ أنه لا يسمى لبسا. قال - رحمه الله - (وإن حلف لا يكلم إنسانا حنث بكلام كل إنسان)

إذا حلف لا يكلم إنسانا حنث بكلام أي إنسان لماذا؟ لأنه فعل ما حلف على تركه وإذا فعل ما حلف على تركه فهو حانث. قال - رحمه الله - (ولا يفعل شيئا فوكل من فعله حنث) إذا حلف أن لا يفعل شيء فوكل شخصا آخر ليفعله حنث والسبب في هذا أنّ حقيقة الفعل تنسب للموكِل لا للموكَل ولهذا في الآية {يا هامان ابن لي صرحا} [طه/92] اعتبرت دليل على أنّ الفعل ينسب الموكِل لا الموكَل وجه الاستدلال؟ لأنه اعتبر البناء بأمره أيضا وجه آخر اللي بيبني هو هامان من؟ وهو نسب البناء لمن؟ لهامان مع أنه لن يبني إذا ممكن نقول وجه الاستدلال فيها من جهة هامان ومن جهة فرعون. فإذا قال والله لا أبني بيتا وبنا أو وكل أحدا فهو حانث. قال - رحمه الله - (إلاّ أن ينوي مباشرته بنفسه) إذا نوى بقوله والله لا أفعل كذا يعني أن لا أباشره ثم وكل غيره فإنه لا يحنث وهذا معلوم من اشتراط أن لا توجد في القضية نية. مسألة / إذا حلف أن لا يفعل شيئا فوكل في فعله. يعني قال والله لا أقود السيارة فوكل في قيادتها أو قال والله لا أبني فوكل في بناءه أو قال والله لا أبيع فوكل في البيع؟ لأنه كما نقول في العكس أنّ الفعل بنسب للآمر به كذلك إذا وكل فالفعل هذا ينسب للموكِل لا لمن حلف فإذن لا يحنث. قال - رحمه الله - (والعرفي: ما اشتهر مجازه فغلب على الحقيقة) العرفي ما غلب مجازه على حقيقته كما أنّ الحقيقي ما غلبت حقيقته على مجازه. إذن العرفي هو ما اشتهر مجازه يعني ما غلب على حقيقته. يقول - رحمه الله - (كالراوية والغائط) الراوية في لغة العرب / يطلق على الجمل لكن بشكل خاص وهو الذي يستسقى عليه وفي العرف يطلق على المزادة. يقول - رحمه الله - (والغائط) فالغائط في لغة العرب / هو المنخض من الأرض وفي العرف يطلق على ماذا؟ على الفضلات الخارجة من الإنسان. من أمثلته أيضا. العيش. فالعيش في اللغة يطلق على الحياة الهنيئة أو الحياة الدنيا. وفي العرف يطلق على ما يأكل من خبز ونحوه إذن يوجد كثير من الألفاظ لها معنى في العرف ولها معنى في اللغة العربية , أحيانا يغلب المعنى العربي وأحيانا يغلب المعنى العرفي. قال - رحمه الله - (فتتعلق اليمين بالعرف)

اليمين تقدم في العرف على اللغة واستدلوا على هذا بأنّ مقاصد عامة الناس في حديثهم إرادة المعنى العرفي لا اللغوي. وإلى هذا تقديم العرفي على اللغوي ذهب الأئمة الثلاثة والجماهير. والقول الثاني: أنّ المعنى الحقيقي يعني اللغوي يقدم على العرفي واستدلوا على هذا بأنّ المعنى الحقيقي هو الأصل واعتبار الأصل أولى من اعتبار الفرع والراجح القول الأول وهو المذهب لأنّ القاعدة في الأيمان الرجوع لمقصود الحالف وإذا كان غالبا سيقصد المعنى العرفي فاعتباره أولى. قال - رحمه الله - (فإذا حلف على وطء زوجته) فقوله والله لا أطأن زوجتي له معنى لغوي وله معنى عرفي فالمعنى اللغوي هو أن يطأ عليها بقدمه هذا الوطء في اللغة والمعنى العرفي هو أن يجامعها فإن جامعها حنث لأنّ المعنى العرفي مقدم على المعنى اللغوي. المثال الثاني يقول - رحمه الله - (أو وطء دار تعلقت يمينه بجماعها وبدخول الدار) فقال إذا قال والله لا وطئت هذه الدار فالمعنى اللغوي أن يطأ الدار بقدمه والمعنى العرفي أن يمتنع عن دخول الدار بأي شكل من الأشكال ولو محمولا ولو راكبا ولو على يديه ولو على أربع أليس كذلك؟ فإذا حملنا لفظه على المعنى اللغوي نقول إذا حمل ثم دخل به الدار لم يحنث لأنه حلف أن لا يطأ وهو لم يطأ وعلى المعنى العرفي إذا دخل الدار بأي طريقة فإنه يحنث ومن المعلوم أنّ الإنسان إذا قال والله لا أطأ دار فلان فهو يريد الامتناع عن أصل الدخول لا عن صفته. قال - رحمه الله - (وإن حلف لا يأكل شيئا فأكله مستهلكا في غيره) لم يحنث إذا حلف لا يأكل شيئا فأكله مستهلكا المؤلف يشير إلى قاعدة [وهي أنّ م حلف على ترك أكل شيء فإنه إذا استهلك في غيره بحيث لم يبقى له طعم ولا رائحة ولا لون فإنه لا يحنث بأكل هذا الغير] واستدل الحنابلة على هذه القاعدة بأنّ المستهلك في غيره كالمعدوم. والدليل الثاني: أنه إذا أكل المستهلك فهو لم يأكل المحلوف على تركه وهذه المسألة تقترب من مسائل التعيين إلى حد كبير. يقول الشيخ - رحمه الله - (كمن حلف لا يأكل سمنا فأكل خبيصا فيه سمن)

الخبيص هو عبارة عن حلوى تصنع من التمر والسمن واشتهر أنّ أول من صنع هذه الحلوى هو عثمان بن عفان - رضي الله عنه - لقصد إكرام النبي - صلى الله عليه وسلم - فإذا حلف لا يأكل سمنا فأكل خبيصا فيه سمن بشرط لا يظهر فيه طعمه فإنه لا يحنث لأنه أكل السمن مستهلكا في الخبيص إذن المثال واضح لكن أنا أقول أني أستغرب أن يوجد خبيص لا يظهر فيه أثر السمن أليس كذلك؟ هم تواترت عباراتهم على التمثيل بهذا فلا أدري هل يوجد مثلا أكلة عندهم يوضع فيها مواد تذهب بطعم السمن لأنّ السمن أقوى من التمر فأين يذهب أليس كذلك؟ لكن المثال واضح من حيث هو واضح. يقول - رحمه الله - (أو لا يأكل بيضا فأكل ناطفا لم يحنث) الناطف: أيضا حلوى يصنع من البيض فإذا صنع البيض ناطفا فإنّ طعمه ورائحته ولونه يذهب , أما الناطف فلا أعرفه. أماالخبيص موجود عندنا خلطة سمن بالتمر موجود معروف لكن الناطف لا أعرفه لا أتصوره حتى أتمكن من تبيّين كيف ذهب طعم ولون ورائحة البيض لكن المثال واضح إذا ذهب لونه وطعمه ورائحة البيض فقد استهلك في هذه الحلوى فإذا أكلها لا يعتبر آكلا للبيض فلا يحنث. قال - رحمه الله - (وإن ظهر طعم شيء من المحلوف عليه حنث) أيضا يشير إلى قاعدة أخرى جميلة جدا [وهي أنّ أكل المحلوف عليه يحصل به الحنث مستقلا أو تبعا] لأنه إذا أكل المحلوف على تركه مع غيره فهو كما لو أكله منفردا وأي فرق بين أن يأكل المحلوف عليه مع غيره أو أن يأكله منفردا لا فرق أبدا ولذلك فإنه يحنث. فصل يقول المؤلف - رحمه الله - (وإن حلف لا يفعل شيئا ككلام زيد ودخول دار ونحوه ففعله مكرها لم يحنث) تقدمت هذه المسألة معنا وذكرنا الخلاف فيها وتعليل الحنابلة. قال - رحمه الله - (وإن حلف على نفسه أو غيره ممن يقصد منعه كالزوجة والولد ألاّ يفعل شيئا ففعله ناسيا أو جاهلا حنث في الطلاق والعتاق فقط)

يقول إذا حلف على نفسه أو على غيره يقول ممن يقصد منعه ويشترط في هذا الغير أن يكون ممن يمتنع بيمينه كالزوجة والولد فالحكم كالتالي إذا حلف على نفسه أو على غيره ممن يمتنع بيمينه أنه إن فعله ناسيا أو جاهلا فلا حنث عليه ولا إثم ولا كفارة إلاّ في الطلاق والعتاق فإذا حلف بالله أو نذر نذرا أخرجه مخرج اليمين فإنه إذا حنث ناسيا أو جاهلا فلا كفارة. الدليل أنّ الكفارة إنما يراد منها رفع الإثم ومع النسيان والجهل لا إثم. ثم - قال رحمه الله - (حنث في الطلاق والعتاق فقط) أفادنا المؤلف أنه في اليمين والنذر كما تقدم معنا أنه لا يحنث لكنه يحنث في الطلاق والعتاق فإذا حلف بالطلاق والعتاق على نفسه أو على غيره ثم وقع المحلوف عليه فإنه يقع الحنث استدلوا بدليلين: الدليل الأول: أنّ الحلف بالطلاق كالتعليق والتعليق لا يشترط فيه القصد بدليل لو قال أنت طالق إذا قدم فلان فإنه إذا قدم فلان لا قصد من المعلق ومع ذلك تطلق المرأة إذا الدليل الأول أنّ الحلف بالطلاق إنما هو تعليق والتعليق لا يحتاج إلى قصد. الدليل الثاني: أنه إذا حلف بالطلاق والعتاق فإنه اشتمل على حق غيره وهو المعتق والمطلق فنفذ الحكم كالإتلافات فإنه إذا أتلف مال غيره فإنه يضمن ولو جاهلا أو ناسيا لماذا يضمن؟ لأنه يتعلق به حق للغير كذلك هنا يحنث لأنه يتعلق به حق للغير. والقول الثاني: أنه لا يحنث في كل الأنواع بلا فرق لأنّ النصوص المستثنية للجاهل والناسي عامة تشمل أن يحلف بالطلاق أو العتاق أو بغيرهما وهذا هو الصحيح. ثم المسألة الأخيرة قال - رحمه الله - (أو على من لا يمتنع بيمنه من سلطان وغيره ففعله حنث مطلقا) إذا حلف على من لا يمتنع بيمينه ففعله هذا الذي لا يمتنع بيمينه فإنه يحنث مطلقا وقوله مطلقا يعني ولو ناسيا أو جاهلا لأنه حلف على من لا يمتنع بيمينه. ثم - قال رحمه الله - (وإن فعل هو أو غيره ممن قصد منعه بعض ما حلف على كله لم يحنث , ما لم تكن له نية) إذا فعل بعض المحلوف على تركه لم يحنث لأمرين: الأول" أنه في حقيقة الأمر لم يفعل المحلوف عليه وإنما فعل بعضه.

الدليل الثاني: أنّ النبي - صلى الله عليه وسلم - كان وهو معتكف يخرج رأسه إلى عائشة فدل هذا على أنّ إخراج البعض ليس كإخراج الكل. والقول الثاني: أنه إذا فعل بعض المحلوف على تركه فإنه يحنث لأنّ مقصود الحالف الامتناع عن أصل هذا الفعل بجزئه وكله فإذا قال والله لا أخرج من البيت وأخرج رجله فعلى المذهب لا يحنث وعلى القول الثاني يحنث. والراجح المذهب. ثم - قال رحمه الله - (ما لم تكن له نية) إذا كان ينوي أثناء الحلف ألاّ يفعل كل المحلوف على تركه وبعضه فإنه إذا فعل البعض حنث ويضاف مسألة أخرى تستثنى وهي إذا ما دلت القرائن على أنه أراد البعض كما إذا قال والله لا أشرب هذا النهر فمن المعلوم أنّ القرينة دلت على أنه أراد من هذا النهر لأنه لا يمكن أن يشرب كل النهر فبمجرد ما يشرب أي جزء من هذا النهر فإنه يحنث لدلالة القرينة لا النية.

باب النذر

الدرس: (3) من الأيمان قال شيخنا حفظه الله: بسم الله الرحمن الرحيم والحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين. باب النذر النذر هو إلزام النفس نفسه عبادة لله. قال المؤلف - رحمه الله - (لا يصح إلاّ من بالغ عاقل ولو كافر) قوله لا يصح بيان للحكم الوضعي ولم يتطرق المؤلف للحكم التكليفي وغيره من الحنابلة تطرقوا وكان ينبغي أن يتطرق لأنّ بيان حكم التكليفي أهم من بيان الحكم الوضعي واختلف الفقهاء في حكم النذر على أقوال: الأول" وهو المذهب وإليه ذهب الجماهير أنه مكروه وصحيح واستدل الجمهور بأنّ النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى النذر وقال إنه لا يأتي بخير وإنما يستخرج به من البخيل. وجه الاستدلال من وجهين: الأول: أنه نهى والأصل في النهي التحريم. الثاني: أنه إذا كان لا يأتي بخير فبذل المال ففيه من بذله في غير فائدة شرعية فهو إسراف وتبذير والإسراف والتبذير محرم.

القول الثاني: وهو مذهب بعض السلف واختاره الصنعاني ومال إليه شيخ الإسلام أنه محرم وإن كان صحيحا لكن يحرم على الإنسان أن يعقد النذر واستدل بالدليل السابق وقال دلالته على التحريم لأنّ النهي الأصل فيه التحريم والأصل في الإسراف والتبذير أيضا التحريم. القول الثالث: أنه يستحب لأنّ الله تعالى مدح الذين يوفون بالنذر وجه الاستدلال أنّ الإيفاء بالنذر ممدوح ولو كان النذر محرما لم يمدح لأنّ سيئة التحريم تفوق الوفاء بالنذر. وأجابوا عن الأحاديث الناهية عن النذر أنّ المقصود بها تأكيد الوفاء بالنذر وليس النهي عنه. والقول الرابع: أنه مباح جمعا بين النصوص. والراجح أنه مكروه لصريح النهي عنه. ثم - قال رحمه الله - (لا يصح إلاّ من بالغ عاقل) قوله لا يصح إلاّ من بالغ عاقل يعني لا يصح إلاّ من المكلف وفهم من كلام المؤلف أنه لا يجب على المميز ولا على المراهق وإنما يجب على المكلف فقط وهذا صحيح وهو محل وفاق بين الفقهاء لقول النبي - صلى الله عليه وسلم - رفع القلم عن ثلاثة. والإنسان قبل التكليف لا يجب عليه شيء من الواجبات في أصل الشرع ولا بفرعه. ثم - قال رحمه الله - (ولو كافرا) يعني ويصح ويلزم ولو من كافر لأنّ عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - استفتى النبي - صلى الله عليه وسلم - بأنه نذر أن يعتكف يوما في المسجد الحرام فقال له النبي - صلى الله عليه وسلم - أوف بنذرك. والمقصود بقوله بنذرك يعني الذي كان حال الكفر. فدل هذا الحديث على أنه يصح من الكافر. ثم - قال رحمه الله - (والصحيح منه خمسة أقسام) النذر لا ينعقد بمجرد النية بل يحتاج إلى قول فلا يصح إلاّ بقول وإلى هذا ذهب الجماهير وإذا ثبت أنه لا يصح إلاّ بقول فهل له ألفاظ مخصوصة أو يصح بكل قول فيه خلاف فمن الفقهاء من قال له ألفاظ مخصوصة أو له لفظ مخصوص وهو أن يقول لله علي كذا وكذا. أو يقول علي كذا وكذا. ولو بلا لله وإذا لم يستخدم هذا اللفظ فإنه لا يصح. القول الثاني: أنه ليس لفظ محدد بل ينعقد بكل ما دل عليه.

والقول الثالث: أنه لا ينعقد إلاّ بلفظه الخاص إلاّ إذا دل عليه قرينة أو حال المتكلم فإنه ينعقد بكل لفظ. والراجح القول الثالث إن شاء الله ويختص بلفظ معين ما لم تدل القرائن على أنه ينعقد بكل لفظ وهذا القول الثالث الخلاف أو الفرق بينه وبين القول الثاني محدود جدا في مسائل قليلة. قال - رحمه الله - (المطلق: مثل أن يقول لله علي نذر , ولم يسم شيئا فليزمه كفارة يمين) المطلق يعني القسم الأول النذر المطلق هو كما قال المؤلف أن يقول لله علي نذر ولم يقيد هذا النذر بعمل معين فحكمه على كلام المؤلف أنه صحيح وفيه كفارة وإلى هذا ذهب الجمهور جماهير العلماء على هذا واستدلوا بأمرين: الأول: قول النبي - صلى الله عليه وسلم - كفارة النذر إذا لم يسم كفارة اليمين وهذا الحديث فيه ضعف. الثاني: أنه صح عن ابن عباس وغيره من الصحابة أنهم أفتوا بذلك. والقول الثاني: أنه يعني النذر الذي لم يسم لا ينعقد وليس فيه كفارة واستدلوا بقول النبي - صلى الله عليه وسلم - إنما النذر ما ابتغي به وجه الله. وهذا لم يقيد الفعل أصلا والراجح الأول لأنه مروي عن الصحابة وليس في الباب ما يدفعه بل فيه حديث ضعفه يسير. قال - رحمه الله - (الثاني: نذر اللجاج والغضب وهو تعليق نذره بشرط يقصد المنع منه أو الحمل عليه أو التصديق أو التكذيب) المقصود بنذر اللجاج والغضب هو النذر الذي خرج مخرج اليمين ولم يقصد صاحبه الطاعة والتبرك وإنما قصد أمرا من أربعة إما الحث أو المنع أو التصديق أو التكذيب. فإذا خرج هذا المخرج فهو نذر لجاج وغضب وحكمه قال فيه المؤلف حكمه أنه يخير بين أن يفعل النذر أو يكفر كفارة يمين وإلى هذا ذهب الجمهور ومقصودهم إذا حصل الشرط فإذا قال لله علي نذر أن أصوم إن خرجت أو إن دخلت ثم خرجت أو دخلت فإنه مخير بين أن يصوم وبين أن يكفر كفارة يمين واستدل الجمهور بقول النبي - صلى الله عليه وسلم - لا نذر في غضب وكفارته كفارة يمين. وهذا الحديث أيضا في البخاري. الدليل الثاني: أنّ هذا مروي عن أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - الدليل الثالث: أنّ نذر اللجاج والغضب فيه معنى النذر وفيه معنى اليمين فيبرأ من العهدة بأداء أي منهما.

القول الثاني: أنّ فيه كفارة يمين فقط يعني تلزمه كفارة اليمين ولو أدى المنذور ولو صام في المثال السابق واستدلوا بأنّ الحديث يقول لا نذر في غضب وكفارته كفارة يمين. والقول الثالث: أنه لا يبرأ إلاّ بالوفاء بالنذر للعمومات الآمرة بالوفاء بالنذر ولا يخفاكم أنّ الراجح المذهب إن شاء الله. لقوة أدلتهم ولأنّ معهم الآثار. قال - رحمه الله - (الثالث: نذر المباح كلبس ثوبه , وركوب دابته) معنى النذر المباح أي التزام المكلف فعلا مباحا فإذا التزم فعلا مباحا لا يوصف بأنه معصية ولا بأنه طاعة فهو من هذا القسم الثالث وهو النذر المباح. يقول - رحمه الله - (فحكمه كالثاني) يعني حكمه حكم نذر اللجاج فيكون مخير بين أن يفعل وبين أن يكفر ولا يجب عليه أن يفعل واستدلوا بأدلة الدليل الأول: أنّ جارية نذرت إن قدم النبي - صلى الله عليه وسلم - سالما أن تضرب على رأسه بالدف فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - أوف بنذرك. الثاني: القياس على القسم السابق. القول الثاني: أنّ النذر المباح لا ينعقد وليس فيه كفارة يمين واستدلوا هؤلاء بدليلين: الأول قول النبي - صلى الله عليه وسلم - إنما النذر ما ابتغي به وجه الله , هذا الحديث صححه ابن الملقن وتقريبا جميع المعاصرين. والدليل الثاني: أنّ النبي - صلى الله عليه وسلم - صعد على المنبر ليخطب فرأى رجلا واقفا فقال ما بال هذا فقالوا إنه نذر أن يقوم فلا يقعد ولا يستظل ولا يتكلم وأن يصوم. فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - مروه فليجلس وليستظل وليتكلم وليتم صومه. وجه الاستدلال أنّ النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يأمره بكفارة مع أنه نذر أن يقوم , هذا القول الثاني مال إليه ابن عبدوس وهو قول في الحقيقة يعني الآثار تقويه لكن يشكل عليه ما سيأتينا بعد قليل في مسألة نذر المعصية. والقول اللي هو المذهب رجحه شيخ الإسلام - رحمه الله - وقال [من نذر أن يفعل مباحا فقد حلف على فعله أو كأنه حلف على فعله] ثم - قال رحمه الله - (وإن نذر مكروها من طلاق أو غيره استحب أن يكفر ولا يفعله)

قوله نذر مكروها إن نذر فعلا مباحا لكنه مكروه ففي هذه الحال أيضا يخير لكن يستحب أن لا يفعل المكروه. والدليل على هذا القياس على اليمين وتقدمت معنا قياس على لو حلف على أمر غير مستحب. والثاني: أنّ فعل المكروه لا يستحب ولذلك استحببنا له أن يكفر وأن لا يفعل. قال - رحمه الله - (الرابع: نذر المعصية كشرب خمر , وصوم يوم الحيض , والنحر) نذر المعصية أن يلتزم بالنذر فعل محرما كأن يقول لله علي نذر أن أشرب الخمر وأن أصوم يوم الحيض أو النحر. وهذه المسائل التي ذكرها المؤلف نادرا أو لا تكاد تقع لكن من أشهر صور نذر المعصية أن ينذر نذرا يشتمل على قطيعة الرحم المحرمة هذا موجود كثير. يقول الشيخ - رحمه الله - (فلا يجوز الوفاء به) نذر المعصية لا يجوز الوفاء به إجماع لقول النبي صلى الله عليه وسلم من نذر أن يعصي الله فلا يعصه. فلا إشكال في أنه لا يجوز الوفاء به ثم - قال رحمه الله - (ويكفر) إذا نذر نذر المعصية صار ملزما بكفارة اليمين بخلاف الأنواع السابقة التي يخير فيها هنا لا تخيير بل هو ملزم بالكفارة واستدلوا بأدلة الدليل الأول: أنّ النبي - صلى الله عليه وسلم - قال لا نذر في معصية وكفارته كفارة يمين. هذا صححه المتأخرون وضعفه جمهور الأئمة والراجح أنه لا يصح لكن مع ذلك الإمام أحمد احتج به وتقدم معنا أنّ احتجاج الإمام أحمد بنص لا يلزم منه التصحيح. الدليل الثاني: أنّ النبي - صلى الله عليه وسلم - قال النذر يمين وكفارته كفارة اليمين. الدليل الثالث: أنه صح عن ابن عباس أنه قال من نذر نذر معصية فعليه كفارة اليمين. والقول الثاني: أنّ من نذر نذر معصية فإنه لا شيء عليه وهو لغو باطل لقول النبي - صلى الله عليه وسلم - لا نذر إلاّ فيما ابتغي به وجه الله. ولعموم قوله - صلى الله عليه وسلم - لا نذر في معصية. والأصل في النفي أنه نفي للحقيقة الشرعية. يعني أنه لم ينعقد وإذا لم ينعقد فهو عبث ولغو. مسألة نذر المعصية ونذر المباح يعني مسألتان قريبتان من بعض. الراجح فيهما اعتمادا على الآثار وجوب الكفارة وإلاّ في الحقيقة من حيث النظر القول بأنه لا ينعقد وجيه جدا لولا الآثار ومال إليه أي إلى هذا الأمر كثير من المحققين

وهو مذهب الشافعي الذي نصره ونصره تبعا لنصره البيهقي فهو مذهب قوي وحديث الجارية التي نذرت أن تضرب على رأسه - صلى الله عليه وسلم - لا يدل على تصحيح نذر المباح لأنّ الضرب على رأس النبي فرحا بقدومه نوع من العبادة فلا يصدق عليه أنه نذر مباح صحيح الأصل في ضرب الدف أنه مباح في الأحوال التي يجوز فيها لكن في هذه الصورة هو يعتبر طاعة وقربة مقصودي أنه لا يوجد دليل واضح على تصحيح نذر المباح ونذر المعصية وإيجاب الكفارة سوى الآثار. الآثار هي التي جعلت الإنسان يتوقف ويرجح مذهب الجمهور الذين قالوا بوجوب الكفارة. ثم - قال رحمه الله - (الخامس: نذر التبرر) نذر التبرر هو كل نذر قصد به الإنسان التقرب إلى الله بعبادة مشروعة فإذا قصد بالنذر التقرب إلى الله فهو نذر تبرر. ثم - قال رحمه الله - (مطلقا أو معلقا) يعني سواء كان النذر نذر الطاعة طاعة مطلقا أو معلقا , فالمطلق وهو أفضل النوعين أن يبتدئ النذر من غير مقابلة نعمة كأن يقول ابتداء لله علي نذر أن أصوم يوما في سبيل الله. والنذر المعلق هو كل نذر نذره الإنسان في مقابل نعمة أو اندفاع نقمة , كأن يقول لله علي نذر إن حفظت بلوغ المرام أن أصوم لله أو أن أتصدق أو أن أذبح وكان يقول هذا بالنسبة للنعمة , وكأن يقول بالنسبة للنقمة لله علي نذر إن شفيت أو إن شفي مريضي أن أفعل كذا وكذا من العبادات فالنذر بنوعيه صحيح ومنعقد. ثم بيّن حكمه ومثّل فقال - رحمه الله - (كفعل الصلاة والصيام والحج ونحوه) نذر الطاعة ينقسم إلى قسمين: القسم الأول أن ينذر واجبا له نظير في أصل الشرع يعني من حيث الوجوب. القسم الثاني: أن ينذر نذرا ليس له نظير في أصل الوجوب من حيث الشرع فإذا قال لله على نذر أن أصلي فالصلاة تجب بأصل الشرع وإذا قال لله علي نذر أن أزور المريض أو أن أعتكف فقد نذر نذرا ليس له أصل في الوجوب شرعا. المؤلف مثل على القسم الأول ولم يمثل على القسم الثاني ولو أنه شكل ونوّع على كل قسم لكان أوفى. يقول - رحمه الله - (كقوله إن شفى الله مريضي أو سلم مالي الغائب فلله علي كذا)

كذلك مثّل دفع نقمة ولم يمثلّ على جلب نعمة , ولو أنه مثلّ على النوعين لكان أوفى فقوله إن شفى الله مريضي هذا نذر تبرر مطلق ولا معلق؟ معلق. وكذلك إن سلم مالي الغائب فلله علي كذا نفس الشيء. يقول المؤلف - رحمه الله - في بيان الحكم (فوجد الشرط لزمه الوفاء به) عرفنا من هذا أنّ بعض أنواع النذر يخير وبعض أنواع النذر يلزم بالكفارة وبعض أنواع النذر يلزم بالوفاء ولزوم الوفاء بنذر التبرر ينقسم إلى قسمين: إن كان في طاعة أصلها واجب في الشرع فهو واجب إجماعا لقول النبي - صلى الله عليه وسلم - من نذر أن يطيع فليطعه. وإن كان التزاما لأمر لم يجب لأصل الشرع كالاعتكاف وزيارة المريض والصدقة ونحوها فإنه والحالة هذه يجب عند الجماهير لكن ذهب بعض الفقهاء إلى أنه لا يجب لأنه لم يجب بأصل الشرع فلا يجب بالنذر وهذا القول الثاني ضعيف جدا لأنه مخالف لنص الحديث بلا مبرر فإنّ النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول من نذر أن يطيع الله فليطعه. ولم يفرق بين أنواع النذر والوجوب في النذر مستفاد من النذر لا من الأدلة الدالة على وجوب العبادات في أصل الشرع. ثم - قال رحمه الله - (إلا إذا نذر الصدقة بماله كله) لما قرر وجوب الوفاء بالنذر أراد أن يبيّن المستثنيات , المستثنى الأول: أن ينذر التبرع بماله كله هذه المسألة اختلف فيها الفقهاء على نحو عشرة مذاهب: يعني الإنسان لا يتصور أن يكون في هذه المسألة هذه المذاهب. لكنهم اختلفوا على القدر نحن نذكر الأقوال القوية من هذه العشر: القول الأول: أنه لا يجب عليه أن يوفي بنذره , وإنما يحب عليه أن يخرج الثلث واستدلوا بأنّ أبا لبابة - رضي الله عنه - نذر أن يتصدق بماله كله فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - يجزيك الثلث. الدليل الثاني: أنّ كعب - رضي الله عنه - لما جاءت توبته قال لله علي نذر أن أتصدق بمالي فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - أبق عليك بعض مالك. وهذا في الصحيحين والأول ضعيف. القول الثاني: أنه يجب عليه أن يوفي بما نذر وأن يتصدق بجميع ماله لعموم من نذر أن يطيع الله فليطعه. وعلى هذا يتصدق بالنقد والأعيان والبيوت وجميع أنواع الأموال.

القول الثالث: أنه يتصدق بكل المال ويبقي عليه ما يكفيه وولده بالمعروف بلا تحديد قدر معين من المبقى وإلى هذا ذهب عدد من السلف من المتقدمين واختاره ابن حزم واختاره ابن القيم واستدل هؤلاء بالحديث حديث كعب فإنه أمره بأن يبقي بعض المال وهذا القول الأخير وجيه وفيه جمع بين الأدلة إلاّ أنه يشكل عليه شيء واحد وهو أنّ حديث كعب ليس فيه لفظ النذر مطلقا وإنما فيه الصدقة فالاستدلال له قاصر نوعا ما لكن مع ذلك الاستئناس به إلى أنه يجب أن يخرج جميع المال ويبقي ما يكفيه وولده جيد وفيه نوع من الجمع بين الأدلة. يليه في القوة القول أنه يجب أن يخرج جميع ماله لأنه لا يوجد مقيد للحديث من نذر أن يطيع الله فليطعه. فبأي شيء نخرج عن هذا الحديث إذا كان حديث أبي لبابة ضعيف والحديث الآخر ليس في النذر بأي نخرج عن هذا الحديث. هناك قول رابع جيد ما أقول راجح لكن فيه وجهة نظر. أنه عليه أن يخرج جميع ماله النقدي دون ما سواه من الأعيان ودليل هؤلاء أنّ أبا بكر الصديق - رضي الله عنه - لما أخرج ماله سمي بأنه تبرع بكل ماله مع أنّ بيته الذي يسكن فيه بقي له وهذا القول أيضا جيد المهم الراجح القول الثالث يليه القول الثاني. ثم - قال رحمه الله - (أو بمسمى منه يزيد على ثلث الكل) يعني كذلك إذا نذر أن يتبرع بقدر من المال يزيد هذا القدر على ثلث المال فكذلك لا يجب عليه إلاّ الثلث قياسا على المسألة السابقة فقاسوا ما إذا زاد القدر المتبرع به على أكثر المال ما إذا تبرع بكل المال والراجح أنه يجب عليه أن يتبرع بكل ما نذره إذا كان أقل من كل المال يعني إذا لم يكن من كل المال يعني إذا لم يكن كل المال والمؤلف خالف المذهب في هذه المسألة إذا هو يقول أو بمسمى منه يزيد على ثلث الكل ويجعل ما زاد على الثلث حكمه حكم الكل مع العلم إنما زاد على الثلث قد يكون زيادة قليلة وحينئذ يكون الباقي أكثر من أيش؟ يبقى الثلثان إلاّ قليلا. ففي هذا القول ضعف ظاهر جدا لو كان القول أنه إذا زاد على الثلثين يعني إذا نذر أن يتبرع بثلثي ماله لكان هذا القول وجيه لكن هم يقولون منه ما يزيد على ثلث الكل فقط. ثلث الكل يسير ولا يوجد أي مبرر للخروج عن الحديث.

ثم - قال رحمه الله - (فإنه يجزيه قدر الثلث) يعني في المسألة الأولى وفي المسألة الثانية. ومفهوم عبارة المؤلف أنه يجزيه قدر الثلث بلا كفارة وهو كذلك لأنه إنما نقص عن كل المال بالأدلة الشرعية فلا يجب عليه مع ذلك أن يكفر. ثم - قال رحمه الله - (وفيما عداها يلزمه المسمى) فإذا تصدق بالثلث فأقل فليزمه أن يخرج ما سمى بلا نزاع لعموم من نذر أن يطيع الله فليطعه فهذا القدر لا إشكال في وجوبه فيجب عليه أن يخرجه طاعة لله. ثم - قال رحمه الله - (ومن نذر صوم شهر لزمه التتابع) إذا قال الإنسان لله علي نذر أن أصوم شهرا فيجب عليه بمجرد اللفظ أن يصومه متتابعا واستدلوا على هذا بأنّ المتبادر لإطلاق كلمة الشهر التتابع فليزمه أن يصومه متتابعا. والقول الثاني: أنّ له أن يصومه ولو بغير تتابع واستدلوا على هذا بأنّ الشهر يطلق على معنيين في الشرع على ما بين الهلالين وعلى الثلاثين يوما ولو نذر أن يصوم ثلاثين يوما فإنه لا يلزمه التتابع فكذلك إن نذر شهرا لأنه أحد معنييه وهذا صحيح وعرفنا الآن الفرق بين أن يقول الإنسان لله علي نذر أن أصوم ثلاثين يوما وبين أن يقول لله علي نذر أن أصوم شهرا بينهما فرق لأنه بالعبارة الثانية يلزمه على المذهب التتابع. ثم - قال رحمه الله - (وإن نذر أياما معدودة لم يلزمه إلاّ بشرط ونية) إذا نذر أياما معدودة يعني سواء كانت أقل من الشهر أو أكثر من الشهر أو بعدد أيام الشهر فإنه لا يلزمه إلاّ أن يصومها ولو بغير تتابع كأن يقول لله علي نذر أن أصوم ستة أيام فله أن يصوم متتابعة وله أن يصومها متقطعة والدليل على هذا أنّ هذه الصيغة لا توجب التتابع فإنه نذر صيام أيام فلا يلزمه التتابع. واستدلوا أيضا بقوله تعالى فعدة من أيام أخر وقضاء صوم رمضان لا يجب فيه التتابع بالإجماع فكذلك الأيام المنذورة لأنها أيام هنا وأيام هناك. قال - رحمه الله - (إلاّ بشرط أو نية)

قوله إلاّ بشرط أو نية يعني إلاّ أن ينوي التتابع في الأيام أو يشرط على نفسه التتابع في الصيام , والفرق بين الشرط والنية أنّ النية بلا نطق والشرط بالنطق فإذا شرط أو نوى لزمه التتابع. وقبل أن نختم من خلال النظر في أحوال الناس تجد أنّ كثير من الناس يسارع في النذر وغالبا ما يجعل على نفسه نذرا صعبا جدا لأنه يتحمس عند النذر طالبا تحقيق مراد أو دفع فساد فيذكر نذرا فيه تصعيب سواء كان في العبادات او في التبرعات والواجب على الإنسان أن يتأنى كما أنّ الواجب على طالب العلم أن ينبه الناس على أنّ النذر مكروه ولا يحبه الله وأنه إذا أراد الإنسان أن ينذر فينبغي أن يقصد النذر المطلق لا المعلق. الثاني أن يتأنى وأن لا يلزم نفسه بشيء يشق عليه في الحال أو المآل. توجد امرأة نذرت أن تصوم يوما وتفطر يوما وحال النذر كانت امرأة قد جاوزت الخمسين سنة لماذا؟ لأنّ ابنها كان مريضا مرضا شديدا وكانت نفسها رقيقة ومتعلقة به فنذرت أن تصوم يوم وتفطر يوم فلما شفي وقعت في إشكال عظيم والإشكال بالنسبة للناذر لاسيما إذا كان شخصا صالحا وتقيا أنه حتى إذا أفتي بالكفارة لعجزه تبقى القضية في نفسه حرجة ويستمر متردد وحرج من هذا الأمر وتعلمون أنّ حتى عائشة - رضي الله عنها - دخلت في إشكال بسبب النذر أليس كذلك لأنها نذرت أن تكلم عبد الله بن الزبير - رضي الله عنه - فلما دخل عليها وقبلها يدها ورجلها. وقالت إنما النذر أمر شديد يعني كأنها تقول إشكال ولكن النذر أمره شديد فما زالوا بها حتى كلمته فصارت تعتق تقريبا إلى أن توفيت وهي تعتق عن هذا النذر لأنها دخلت في حرج شرعي بسبب النذر.

كتاب القضاء

كتاب القضاء الدرس (1) من القضاء قال - رحمه الله - كتاب القضاء. القضاء في اللغة إحكام الأمر وإنفاذه. فيطلق على الإحكام ويطلق الإنفاذ كل على حدة. وأما في الشرع / القضاء هو تبيّين الحكم الشرعي والإلزام به وفصل الخصومات. والتعريف لخص الحقيقة عمل القاضي. ثم - قال رحمه الله - (وهو فرض كفاية) القضاء مشروع بالكتاب والسنة والإجماع. من حيث الأصل أما الكتاب فقوله تعالى. {فاحكم بينهم بما أنزل الله} [المائدة/49] وأما السنة فقوله - صلى الله عليه وسلم - إذا حكم الحاكم فاجتهد فأصاب فله أجران , وإذا أخطأ فله أجر. وأما الإجماع فقد حكاه عدد من أهل العلم أنه مشروع من حيث الأصل. والمؤلف يقول أنه فرض كفاية يعني إذا قام به من يكفي سقط الإثم عن الباقين وإلاّ أثموا جميعا. واستدلوا على كونه فرض كفاية بأمور:

الأمر الأول: أنه لو لم يوجد القضاء لأدى ذلك إلى ضياع الحقوق ووقوع الظلم وهذا محرم. الثاني: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نصب القضاء وأرسلهم. والقول الثاني: أنه سنة وليس بفرض. والقول الثالث: أنّ المستحب تركه فرق بين فرض الكفاية والمستحب والترك. واستدل الذين قالوا أنه مستحب تركه. أما الذين قالوا أنه سنة فاستدلوا بأدلة الذين قالوا أنه فرض كفاية. وأما الذين قالوا أنه سنة فقالوا ليخلص نفسه من تبعات تولية القضاء ولئلا يعرض نفسه للفتنة في الدين أو في الدنيا. والراجح الأول أنه فرض كفاية. ثم - قال رحمه الله - (يلزم الإمام أن ينصب في كل إقليم قاضيا) الحكم الأول: لحكم تولي القضاء. الحكم الثاني " جعل الإمام قاضيا. الإمام يجب عليه وجوبا أن ينصب قاضيا والدليل على هذا وجوه: الوجه الأول: أنّ النبي - صلى الله عليه وسلم - أرسل عليا قاضيا وأرسل معاذا قاضيا. وعمر أرسل شريحا قاضيا في الكوفة ومازال النبي - صلى الله عليه وسلم - وخلفائه ينصبون القضاة. الثاني: القياس على وجوب الجهاد والخراج ودفع الجباه إرسال الجباه ونحوها من أعمال ولي الأمر الواجبة عليه. الأمر الثالث: أنّ تولي القضاء فرض كفاية فيجب على ولي الأمر أن يسد هذا الفرض ولا شك أبدا طرفة عين أنه يجب على الولي أن ينصب القضاة وهذا أمر تتفق عليه جميع الشرائع والعقول والأنظمة والقوانين. ولذلك لا تجد بلدا من البلدان إلاّ وفيه قضاة مهما كانت شريعة البلد ودينهم لأنّ أمر الناس لا يستقيم إلاّ بهذا. ثم - قال رحمه الله - (ويختار أفضل من يجده علما وورعا)

يجب على ولي الأمر إذا أراد أن يختار القاضي أن يراعي هذين الأمرين. الورع والعلم لأنّ العلم يعينه على تحقيق الصواب والورع يحجزه في الوقوع عن في المحرم , والدليل على الوجوب أنه إذا كان تعيين القاضي واجب فهذا مما يحقق المطلوب من تعيين القاضي وهو إقامة العدل ولا شك أنّ هذا واجب وينبغي عليه أن يحرص على البحث عن العالم الورع فإن عرفه بنفسه فذاك وإلاّ سأل والسؤال حينئذ أيضا واجب لأنه يحقق الوجوب الأول. ثم - قال رحمه الله - (ويأمره بتقوى الله وأن يتحرى العدل ويجتهد في إقامته) يجب على ولي الأمر أن يأمر القاضي بأمرين الأول: أن يتقي الله. والثاني: أن يتحرى العدل. والدليل على الوجوب أنّ الغرض من القاضي إيصال الحق إلى أصحابه ولا يكون إلاّ بذلك ولا يكون إلاّ بأن يتقي الله ثم يتحرى العدل. وفي الحقيقة التقوى تثمر أن يتحرى. يعني لو كان تقيا فإنه سيتحرى العدل وإنما نص عليه وأكد عليه لأهميته في باب القضاء. ثم - قال رحمه الله - (فيقول وليتك الحكم أو قلدتك ونحوه) لا يكون القاضي قاضيا إلاّ بتولية ولي الأمر وتولية القاضي لها ألفاظ صريحة وألفاظ كناية. المؤلف ذكر الألفاظ الصريحة فاللفظ الصريح أن يقول ولي الأمر للقاضي وليتك ولا تنعقد الولاية إلاّ إذا قال القاضي قبلت. فإذا قال قبلت فقد أصبح واليا إما ولاية عامة أو خاصة حسب الولاية التي ولاه إياها الحاكم. القسم الثاني: الألفاظ غير الصريحة الكناية. من أمثلتها أن يقول اعتمدت عليك , أو أن يقول عولت عليك. حكم هذه الألفاظ أنه لا يكون بها وليا ولا حاكما إلاّ إذا دلت القرينة. وإلاّ فهو ليس بقاضي والتعليل أنّ هذه الألفاظ تحتمل أن يريد تعيينه قاضيا وتحتمل أن يريد استشارته في قضية معينة فقط ولهذا نقول يجب أن توجد هناك قرينة تدل على إرادة توليته القضاء. ثم - قال رحمه الله - (ويكاتبه في البعد) مراد المؤلف بهذا أنّ التوليه كما تحصل باللفظ للقريب تحصل بالكتابة للبعيد وأنّ الكتابة مجزئة ويحصل بها التولية ولو لم يشافهه بها والدليل على هذا أنّ النبي - صلى الله عليه وسلم - أرسل كتابا مع عمرو بن حزم.

والدليل الثاني: أنّ عمر لما ولى شريحا أرسل بالكتاب ليقرأ على الناس في المسجد. والدليل الثالث: أنّ النبي - صلى الله عليه وسلم - مازال يرسل الكتب لتبليغ الرسالة ولا يشترط في كل ذلك المشافهة. مسألة هل يشترط أن يشهد؟ فيه خلاف من الفقهاء من قال لابد أن يشهد وأن يجعل شاهدين على هذا الكتاب يذهبان يشهدان أنّ هذا الكتاب صحيح وهو من الحاكم. القول الثاني: أنه يشترط إلاّ أن يستفاض الأمر فإن استفاض فنكتفي بالاستفاضة. القول الثالث: أنه لا يشترط مطلقا لأنّا لا نعلم أنّ النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يرسل الشهود مع كتبه والأقرب الأخير. ثم - قال رحمه الله - (وتفيد ولاية الحكم العامة) المؤلف يريد أن يبيّن أنه إذا ثبتت للقاضي ولاية عامة فإنها تفيد الصلاحيات المذكورة وهي العشر هذا إذا ثبتت الولاية العامة. والقول الثاني: أنّ ما يستفاد بالولاية ليس له حد شرعي بل يرجع في معرفته إلى الأعراف وما جرت العادة به فقد تكون أكثر من هذه العشر وقد تكون أقل من هذه العشر. وهذا القول الثاني اختيار شيخ الإسلام - رحمه الله - وهو الصحيح إن شاء الله. قال - رحمه الله - (الفصل بين الخصوم) الولاية العامة أول ما تفيد من الصلاحيات الفصل بين الخصوم وتعليل ذلك أنّ القاضي إنما وضع لهذا الغرض ولهذا بدأ به المؤلف. والفصل بين الخصوم يثمر الصلاحية الثانية وهي قوله - رحمه الله - (وأخذ الحق لبعضهم من بعض) لأنّ ثمرة الفصل بين الخصوم هي أخذ الحق من بعضهم لبعض. ثم - قال رحمه الله - (والنظر في أموال غير المرشدين) يعني النظر في نحو صغير أو يتيم أو مجنون أو معتوه وسبب وجوب ذلك على القاضي من وجهين: الوجه الأول: إما أن لا يوجد ولي على هؤلاء فهذا يؤدي إلى ضياع أموالهم. الثاني: أن يوجد ولي على هؤلاء من قبل الحاكم أو من قبل الحاكم السابق فإذا لم يلاحظ هذا القاضي عمل الوالي أدى هذا إلى أن يجترئ على سرقة أموالهم فإذا عليه أن يراعي أموال اليتامى سواء كان يوجد والي عليهم أو لا يوجد والي عليهم وسواء كان هو المنصب لهذا الوالي أو المنصب القاضي السابق له. ثم - قال رحمه الله - والحجر على من يستوجبه لسفه أو فلس)

يعني ويجب على القاضي ومن صلاحياته أن يحجر على من يستحق الحجر سواء كان لفلس أو لسفه وتعليل هذا من وجهين: الأول: حرصا على نفع المحجور عليه لئلا يتصرف تصرفا يضر بنفسه لاسيما السفيه. الثاني: حرصا على عدم وقوع الضرر على المتعاملين مع السفيه أو المفلس. ثم - قال رحمه الله - (والنظر في وقوف عمله ليعمل بشرطها) معنا قوله في وقوف عمله يعني المنطقة التي يعمل فيها والقاضي يجب أن ينظر في أوقاف العمل ولو كان عليها ناظرا يعني وجود الناظر لا يعفي القاضي من التحقق من جريان الوقف حسب الشرط لئلا تضيع حقوق الموقوف عليهم أو حقوق الواقف من حيث ترتب الأجر على الوقف. ثم - قال رحمه الله - (وتنفيذ الوصايا) لأنّ حاجة الميت إلى ذلك قد أعظم من حاجة الحي في الأعمال السابقة لأنّ الميت لا يوجد من يقوم له بتنفذ وصيته وهذا في الحقيقة من أوجب واجبات القاضي لأنّه دائما ما يقوم الورثة لاسيما إذا كانوا قليلي الدين بتضييع الوصية لأنها تنقص المال عليهم. ثم - قال رحمه الله - (وتزويج من لا ولي لها) إذا كانت المرأة لا ولي لها فإنّ القاضي يجب عليه أن يزوجها لإعفافها والقيام على مصالحها وذلك لقول النبي - صلى الله عليه وسلم - فان اشتجروا فالسلطان ولي من ولي له. ثم - قال رحمه الله - (وإقامة الحدود) إقامة الحدود تقدم معنا بكتاب الحدود أنّ المنوط بإقامة الحدود هو الحاكم أو الوالي فإذا قلنا لا يقيم الحدود إلاّ الحاكم والحاكم صار ليس من مهامه إقامة الحدود صار الأمر ضائعا بين هؤلاء وهؤلاء ولم تقم الحدود ولهذا نقول الواجب على القاضي أن يقيم الحدود لأنه المنوط به هذا العمل. ثم - قال رحمه الله - (وإمامة الجمعة والعيد) لأنّ النبي - صلى الله عليه وسلم - كان هو والخلفاء الراشدين - رضي الله عنهم - يقيمون الجمع والأعياد والمقصود بإقامة الجمعة والعيد أن يكون إماما فيها وأشار الفقهاء إلى أنّ هذا من عمل القاضي ما لم ينيب غيره فإذا أناب غيره صار هذا المناب هو الذي يقوم بالإمامة في العيد والجمعة والإنابة هي عمل المسلمين من قرون متطاولة. ثم - قال رحمه الله - (والنظر في مصالح عمله)

لكف الأذى عن الطرقات وأفنيتها ونحوه. النظر في مصالح المسلمين ومثل عليه بكف الأذى عن الطرقات وكف الأذى عن الأفنية والأفنية هي الأماكن الواسعة أمام الدور لأنّ مصالح الناس تتعلق بهذه الأفنية التي هي أمام الدور ومن المعلوم أنّ هذا انتقل اليوم من القضاة إلى البلديات ومن هنا تعلم أنّ صلاحيات القاضي كانت واسعة جدا والمقصود بالقاضي يعني القاضي الذي له ولاية عامة فالقاضي الذي له ولاية عامة في القديم كان واسع الصلاحيات جدا بشكل كبير به يناط تقريبا جميع الأعمال الشرعية لكن اليوم مع كثرة أصبح لا يمكن أن يناط بالقاضي إلاّ فصل الخصومات وفصل الخصومات أيضا أعمال كثيرة لا يتمكن للقاضي من إنهائها في وقت وجيز ولهذا ناسب جدا إخراج بعض الصلاحيات وإسنادها إلى مرافق أخرى ليتم العمل الوجه المطلوب. ثم - قال رحمه الله - (ويجوز أن يولى في عموم العمل) لما بيّن الشيخ الولاية العامة أراد أن يبيّن أنه يجوز أن يولى ولاية خاصة أو بعض ولاية وأنه لا يلزم أن يولى ولاية بل له أن يوليه ولاية خاصة فقال ويجوز أن يولى عموم النظر في العمل وهذا هو الولاية العامة التي تقدمت وذلك بأن يوليه سائر الأحكام في كل البلدان وهذا لأظنه وقع إلاّ اللهم أن يريد مثلا قضية قاضي القضاة وهو أنه مسئول عن جميع القضاة في البلدان أما من حيث مباشرة العمل لا يمكن أن يتولى جميع الأعمال في كل البلدان إلاّ بالإنابة. ثم - قال رحمه الله - (وأن يولى خاصا فيهما) كأن يوليه النظر في الحدود في بلد معين فإذا ولاه النظر في الحدود فقط دون الأنكحة والبيوع فقد ولاه ولاية خاصة ثم إما أن يوليه الحدود في كل البلدان فقد ولاه ولاية خاصة في مكان عام أو يوليه الحدود في بلد معين فيكون ولاه عملا خاصا في بلد خاص ولهذا. قال المؤلف - رحمه الله - (أو في أحدهما)

يعني إما أن يكون عموم النظر في عموم العمل , أو عموم النظر في خصوص العمل. أو خصوص النظر في عموم العمل. وهذا كله وقع في القديم وأما في الحديث فالعمل على توليته عموم النظر في خصوص العمل فكل إنسان مسئول عن القضايا جميعا ولكن في بلد معين إلاّ أنه يبدوا جرى العرف أنه كثير من القضاة يتخصص مثلا في شيء معين فقاضي من القضاة تحال إليه قضايا المعاملات وقاضي من القضاة تحال إليه قضايا الحدود وقاضي آخر قضايا الأحوال الشخصية لإتقانه مثلا لهذا التخصص. قال - رحمه الله - (يشترط في القاضي عشر صفات) يعني أنه لا يجوز أن يولى القاضي إلاّ إذا اتصف بهذه العشر صفات. وإلاّ فإنها لا تنعقد له الولاية فهي شروط صحة وأشار شيخ الإسلام - رحمه الله - إلى أنّ هذه الشروط شروط في القاضي العام لا فيما يحكم تحكيما خاصا بين شخصين وإن كان ظاهر عبارات الفقهاء أنّ هذه الشروط شروط في الحاكم العام وفي المحكم تحكيما خاصا. قال - رحمه الله - (بالغا عاقلا) كونه بالغا عاقلا مسلما ولو جعل الشيخ المؤلف الإسلام بعد البلوغ والعقل لكان هو المناسب هذه الشروط محل إجماع وذلك لأمرين: الأول: أنّ شروط في العدالة ومنصب القضاء أرفع من العدالة. الثاني: أنّ غير المسلم لا يؤتمن وغير العاقل لا يفهم. مسألة / نحن نقول يشترط أن يكون بالغا عاقلا أليس كذلك؟ فإذا كان عاقلا جاز أن يولى القضاء قال بعض الفقهاء وهذا ليس على إطلاقه بل المشترط قدر خاص من العقل وهو ما يوجب الفطنة والتنبه. وهذا القول الذي يقول أنّ المشترط ليس مجرد العقل بل قدر زائد يفيد الفطنة والتنبه صحيح وهو أنه يشترط فيه أن يكون ذا فطنة وليس الشرط أن يكون ذكيا بقدر مرتفع لكن الشرط أن لا يكون مغفلا أوساذجا وهذا الذي أشار إليه بعضهم وجيه في الحقيقة. ثم - قال رحمه الله - (ذكرا) يشترط أن يكون من يتولى القضاء ذكرا والدليل على هذا من وجوه: الوجه الأول: حكي إجماعا. فقد حكي الإجماع على هذا الشرط. الثاني: قول النبي - صلى الله عليه وسلم - لا يفلح قوم ولوا أمرهم امرأة. وسواء كان خبر أو دعاء.

القول الثاني: أنه يجوز أن تولى المرأة مطلقا وإلى هذا ذهب اثنان فقط ابن حزم وابن جرير. أما ابن جرير فقد ذهب بعض الفقهاء إلى أنّ هذا لا يثبت عنه وممن ذكر ذلك وجزم به ابن العربي وهو عالم محقق ومال إليه أيضا الشيخ العلامة الشنقيطي أنّ مثل هذا القول لا يثبت عن ابن جرير ولا يتصور من مثله مخالفة النص , أما ابن حزم فهو ثابت عنه واستدل ابن حزم بأمرين: الأول: أنّ الأصل الحل فيجوز أن تولى. الثاني: أنّ النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول والمرأة راعية في بيت زوجها وهي مسئولة عن رعيتها قال ابن حزم فأفاد الحديث أنّ من أهل الولايات فهي والية في بيتها. القول الثالث: أنه يجوز في غير الحدود وهو هذا القول منسوب إلى الأحناف إلاّ أنّ كثيرا من الأحناف أنكر أن يكون هذا مذهبا لهم وقالوا مقصود الأحناف بهذا أنّ المرأة إذا وليت فإنّ أحكامها تنفذ وإن كان المولي لها آثم ولهذا نجد في بعض كتب الأحناف حكاية الإجماع على عدم جواز تولية المرأة وفي الحقيقة الجزم بأنّ هذا مذهب الأحناف أوليس بمذهب للأحناف والصواب أنهم يقصدون نفوذ الأحكام وإلاّ إن ولاها فهو آثم الجزم بتحديد القولين غير واضح وكتب الأحناف فيها التصريح بهذا والتصريح بهذا. ولكن حكاية هذا الخلاف تنبئك عن أنّ هذا القول الثالث ضعيف بل في ثبوته ضعف يوجد تشكيك في ثبوته من قبل بعض الأحناف أنفسهم والراجح القول الأول بل محكي إجماعا والنص دل عليه. والله أعلم - وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين -

الدرس: (2) من القضاء قال شيخنا حفظه الله: بسم الله الرحمن الرحيم والحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين. مازال الحديث في الصفات التي تشترط في القاضي وتوقفنا على شرط أن يكون حرا. ذهب الجماهير إلى اشتراط حرية القاضي وأنه لا يصح تنصيب العبد قاضيا واستدلوا على هذا بأمور: الأمر الأول: أنه حكي إجماعا الثاني: أنّ العبد لا يقبل في بعض المواضع كشاهد فلئلا يقبل كقاضي كم باب أولى الأمر الثالث: أنه مشغول بخدمة سيده فكيف يجلس للناس قاضيا. والقول الثاني: أنّ الحرية ليست بشرط لأنه ليس في النصوص ما يدل على اشتراطها فلو نصب الإمام قاضيا ليس حرا صح ونفذت أحكامه وإلى هذا ذهب بعض محققي الحنابلة واختاره شيخ الإسلام وهو صحيح إن شاء الله إذ لا يوجد ما يمنع أبدا أن يكون العبد قاضيا مادام أعلم وأفقه وأعرف بالأحكام. ثم - قال رحمه الله - (مسلما) وتقدم معنا الكلام عن اشتراط الإسلام عند الكلام عن الشرط الأول والثاني في قوله بالغا عاقلا. ثم - قال رحمه الله - (عدلا) يشترط أن يكون القاضي عدل لقوله تعالى {يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا} [الحجرات/1] وإذا اشترطنا التبيّن في كلام القاضي صار القاضي غير مقبول الأحكام لأنّ كلامه غير مقبول وهذا لا يصح ولا يجوز هذا هو الدليل الأول. الدليل الثاني: أنّ العدالة شرط في الشاهد فكيف بالقاضي ولا شك أنه يشترط أن يكون عدلا وأنّ الفاسق لا تصح توليته. ثم - قال رحمه الله - (سميعا بصيرا متكلما) يشترط أن يتمتع القاضي بحواسه السمع والبصر والكلام لأنه إذا لم يكن يسمع فكيف يفهم الدعوى ثم يفهم الحجج بعد ذلك فإنه لم يفهم الدعوى ولا الحجج لأنه لا يسمع يشترط أن يكون بصيرا ليفرق بين المدعي والمدعى عليه. ويشترط أن يكون متكلما ليتمكن من بيان الحكم إذ كيف يتصور بيان الحكم للخصوم وهو لا يتكلم. والقول الثاني: أنه يشترط سميعا متكلما ولا يشترط أن يكون بصيرا لأنّ الأعمى يتمكن من معرفة الشهود إما بسمعه وتفريقه أو بتعريفه كما يعرف الأدلة إذا كانت بغير اللغة العربية فكذلك يعرف الخصوم بقول من حضر عنده من الثقات هذا فلان وهذا فلان واستقر الأمر على رجحان القول الثاني ومازال قضاة المسلمين منهم الأعمى ومنهم البصير وقد يكون الأعمى أفقه وأقدر في إيصال الحق أحيانا إلى مستحقه لكون سمعه مرهفا يعرف الحجج ولحن القول وهذا هو الراجح. ثم - قال رحمه الله - (مجتهدا)

يشترط أن يكون القاضي مجتهدا ومقصود المؤلف بقوله مجتهدا يعني الاجتهاد المطلق وحكي الإجماع على أن يكون القاضي مجتهدا واستدلوا على هذا بقوله تعالى {فاحكم بينهم بما أنزل الله} [ص/26] وقوله تعالى {فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول} [النساء/59] والرد إلى غير المجتهد لا فائدة فيه لأنه لن يتمكن من التفقه في النصوص فعلى هذا القول يشترط أن يكون مجتهدا اجتهادا مطلقا وهو الذي يتمكن من استنباط الأحكام من النصوص مباشرة والنظر فيها واستكمال آلة ذلك. ثم - قال رحمه الله - (ولو في مذهبه) قوله ولو في مذهبه المؤلف خالف المذهب لأنّ المذهب يجوزن أن يكون القاضي أن يكون مجتهدا في مذهبه بشرط الضرورة فلا بد أن يقيّد بأنه ضرورة والمجتهد في المذهب هو الذي يعرف أصول الإمام ومتقدم قوله ومتأخره ويتمكن من الترجيح بين الأقوال من هذا عرفنا أنّ الاجتهاد ينقسم إلى أقسام: ذكر المؤلف بعضها. فالقسم الأول: المجتهد المطلق وهو ما تقدم معنا الذي لا يتقيد بأصول إمام من الأئمة بل يتفقه في نصوص الكتاب والسنة مباشرة. الثاني: مجتهد المذهب وهو من يتفقه في نصوص الكتاب والسنة لكن على أصول إمامه. القسم الثالث: مجتهد المذهب ويسمى أيضا وهو من يعرف أقوال الإمام المتقدم والمتأخر ويستطيع أن يخرّج أقوال الإمام ويستطيع يرجح بين الأوجه داخل المذهب.

القسم الأخير: هو المقلد فالمقلد هو من يأخذ أقوال إمامه بلا استدلال والمطلع على تقسيمات العلماء للمجتهدين يعرف أنّ هذه التقسيمات متداخلة وأنه لا يوجد حد فاصل بين المجتهد المطلق وبين مجتهد المذهب ويضيف بعضهم مجتهد الباب كالذي يجتهد في الفرائض فقط أو في الحدود فقط وبعضهم يقول مجتهد المسألة وهو من يتمكن من الاجتهاد في مسألة واحدة هذه الأقسام تتداخل مع عدا المجتهد المطلق فهو قسم مستقل واضح المعالم لا يكاد يوجد إلاّ في الرجل بعد الرجل في القرن بعد القرن أما المجتهد داخل المذهب والمجتهد المجزئ فيوجد في كل الأعصار. عرفنا الآن أنه يشترط في الأصل إما أن يكون مجتهدا ويجوز أن يكون مجتهد مذهب لكن عند الضرورة يعني إذا لم يوجد سواه. نبّه شيخ الإسلام إلى مسألة وهي أنه في هذه الشروط وفي اشتراط الاجتهاد ينبغي أن يأخذ الأمثل فالأمثل من الموجود بل إنّ المرداوي في الإنصاف يقول استقر الأمر على تقليد أو تنصيب من يقلد من أزمنة ولو اشترطنا الاجتهاد لأنغلق باب القضاء فمن فترة طويلة وكثير من القضاء يعتبرون من قسم التقليد لعدم وجود المجتهد المطلق أو مجتهد المذهب والخلاصة أنّ اشتراط الاجتهاد إلاّ أنه ينبغي أن يأخذ الأمثل فالأمثل من الموجود من أهل العلم في حال تطلّب الإمام أحدا للقضاء وأنه على هذا أي أخذ الأمثل فالأمثل والتجاوز عن بعض الشروط عليه العمل من قرون كثيرة ولو وقفنا مع هذه الشروط لا تكاد تجد قاضيا يصلح للتنصيب. ثم - قال رحمه الله - (وإذا حكم اثنان بينهما رجلا ... الخ)

أفادنا المؤلف أنه يجوز للإنسان مع خصمه أن يحتكم إلى من يرون الاحتكام إليه ولو لم يكن هذا الرجل منّصباً من الإمام فيجوز أن يحتكم الخصوم إلى رجل لم ينصّبه الإمام واستدلوا على هذا بأنّ أبا الحكم أو من كان يكنى بأبي الحكم جاء إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - الحكم هو الله فلما سميت أبا الحكم فقال إنّ قومي كانوا إذا اختلفوا جاءوا إليّ فقضيت بينهم فرضوا بما قضيت فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - ما أحسن هذا فأقرّ أن يحكم رجل لم ينصب من قبل الإمام بين الناس كما أنّ عمر بن الخطاب وعثمان وعلي كلهم احتكموا إلى غير القاضي فدل النص والأثر عن أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - على جواز الاحتكام لغير القاضي المنّصب. ثم - قال رحمه الله - (يصلح للقضاء) أفادنا المؤلف أنّ هذا الرجل المنصّب يجب أن يصلح للقضاء ومن يصلح للقضاء هو من توفرت فيه الشروط العشرة السابقة فلا يصلح أن نجعل حكما بين خصمين إلاّ وهو مستوفي الشروط السابقة. والقول الثاني: أنّ الحكم المنّصب من قبل شخصين لا يشترط أن يستوفي هذه الشروط بل هذه الشروط خاصة فيمن يوليه الإمام فقط وهذا القول الثاني هو الراجح وعليه العمل وإذا كنا نقول القاضي نفسه العمل من قرون على عدم استيفاء الشروط فكيف بالمحكم. ثم - قال رحمه الله - (نفذ حكمه في المال) إذا حكم خصمان رجلا بينهما فإنّ حكمه نافذ كنفوذ القاضي المحكم وليس لغيره من القضاة حتى الرسميين أن ينقض أحكامه إلاّ في ما يجوز نقض الحكم فيه لأنه حكم أو قاضي شرعي أجاز الشرع تنصيبه ويستثنى من هذا ما إذا رجع الخصوم قبل أن يبّت بالحكم حينئذ لهم أن يرجعوا أما إذا ذكر وبيّن الحكم فإنّ الحكم حينئذ يصبح ملزما للطرفين.

باب آداب القاضي

والقول الثاني: أنّ الحكم حكمه يرجع إلى رضا الخصمين فإن حكم ورضوا صار ملزما وإن لم يرضوا انتقلوا إلى من نصبه الإمام والراجح القول الأول لأنّ هذا حكما دل الشرع على اعتباره ومن هنا نقول ينبغي للرجل إذا حكّم أن يتجاوز هذه المسألة الخلافية وأن يشترط على الخصمين أن يقبلا بقوله وأن يوقعا على القبول بقوله. لأمرين: الأول: خروجا من هذه المسألة الخلافية حتى يصبح حكمه لازما لهما. الثاني" حتى لا يصبح هذا المجلس الذي عقد للقضاء مجلس عبث أنهم يجلسون ويحتكمون ويتناقشون ثم يصدر المحكّم حكمه ثم تجد أنّ المحكوم عليه لا يرضى فتكون المسألة عبث وضياع للوقت للخصمين والمحكم فينبغي عليه أن يراعي إلزامهما لهذين الأمرين. ثم - قال رحمه الله - (والحدود واللعان وغيرها) أي أنه حكمه نافذ في جميع الأشياء واستدلوا بالعمومات فإنّ النصوص الدالة على تجويز تحكيم غير الحكم المنّصب عامة ليس فيها تخصيص موضوع دون موضوع من القضايا. والقول الثاني: أنه لا ينفذ إلاّ في الأموال لأنّ الحدود والأنكحة وغيرها أمور حساسة وفتح الباب فيها لغير القاضي الرسمي يؤدي نوعا ما إلى التلاعب والتساهل والراجح إن شاء الله أنّ له أن يحكم بالأموال والأنكحة والمقصود بالأنكحة توابع الأنكحة كالطلاق والخلع والرجعة وليس له أن يحكم في القصاص والحدود ونحوها وبهذا تجتمع إن شاء الله الأدلة. باب آداب القاضي قوله باب آداب القاضي. المقصود بآداب القاضي يعني أخلاقه التي ينبغي أن يكون عليها والخلق هو صورة النفس الداخلية لأنّ الإنسان له صورة خارجية وداخلية فالصورة الداخلية هي الأخلاق. لأنك تجد الإنسان جميل الشكل حسن الهندام ثم لا تكاد تعامله معاملة خلطة وصحبة أو معاملة مالية إلاّ وتجد عنده من سوء الخلق وعسر التعامل ما لا يخطر على بالك وهذه الآداب منها آداب واجبة ومنها آداب مستحبة وسيأتي التنبيه على كل واحد منها. يقول - رحمه الله - (ينبغي أن يكون قويا من غير عنف ليّنا من غير ضعف)

ينبغي أن يجمع بين القوة وعدم العنف لأنه إذا كان عنيفا امتنع صاحب الحق الضعيف , وإذا كان ليّنا اجترأ المبطل القوي فعليه أن يتوازن بين هذين الخلقين ليتمكن الضعيف من أخذ حقه ويرتدع الغشيم القوي من الاعتداء سواء الاعتداء في مجلس القضاء أو الاعتداء على خصمه. والقول الثاني: أنّ هذا واجب وليس بسنة فيجب عليه أن يتوازن بين الرفق والعنف لأنّ الإخلال بهذين الخلقين يؤدي إلى الإخلال بإيصال العدل إلى مستحقه وإيصال العدل إلى مستحقه واجب فما يخل به محرم وهذا القول وجيه جدا. للعنف يناسب ولا الضعف يناسب بل عليه أن يتوسط بينهما. ثم - قال رحمه الله - (حليما ذا أناة وفطنة) ذكر ثلاثة أوصاف أن يكون متأنيا حليما فطنا , فشرط الحلم سببه أنه إذا كان القاضي لا حلم عنده يستطيع أي من الخصمين استفزازه بأي كلمة صار سريع الغضب وإذا غضب أصبح لا يتمكن من تصور القضية على الوجه المطلوب فصار الحلم مهما للحكم الصحيح. ذا أناة: يعني يجب أن يكون متأنيا لأنّ الطيش والسرعة والعجلة مظنة الخطأ في كل شيء لاسيما في باب الأحكام والقضاء وهذا خلق ضروري جدا هو أهم من الحلم الاستعجال يمنع من التصور الكامل. ذا فطنة: ينبغي أن يكون القاضي ذا فطنة لئلا يتمكن الخصم من خداعه وغتره وذهب بعض الفقهاء ومنهم المرداوي إلى أنّ البليد الغبي لا يجوز أن يعيّن قاضيا لأنّ ذهاب الفطنة منه مدعاة لضياع الحقوق وتقدم معنا نظير هذا في شروط القاضي حين الكلام عن شرط العقل وأنّ بعض الفقهاء يقول ليس مجرد العقل وإنما ما هو أكثر من هذا فهذا الكلام يلتقي مع هذا الخلق من أخلاق القاضي وهو أن يكون فطنا وهذا صحيح ومن المعلوم لكل إنسان أنه إذا قيل أن يكون فطنا لا يعني هذا أن يكون من أذكى الناس ولكن يعني أن لا يوصف بالبلادة فإذا وصف بها من خلال التجربة فإنه لا يجوز أن يعيّن قاضيا. ثم - قال رحمه الله - (وليكن مجلسه في وسط البلد)

يستحب أن يكون مجلس القاضي في وسط البلد سواء اتخذ مكانا خاصا للقضاء أو كان يقضي في بيته لأنّ وجود المجلس في وسط البلد يؤدي إلى سهولة الوصول إلى مجلس القضاء وسهولة رفع القضايا. وهذا قد يكون في زمن الأزمان مهم ولكن الآن الأمر يختلف وسهولة الوصول إلى مجلس القضاء تحقق أينما كان القاضي اليوم لو أردنا نشترط شرطا آخر أو نقول ينبغي تحقيق أمر آخر وهو أن لا تكون المحكمة في مكان فيه زحام هذا الذي يعيق وصول الإنسان إلى مراده من المحكمة لا بعد ولا قرب وإنما مكان الزحام فينبغي أن تكون المحكمة ليست بجوار أي دائرة حكومية ليسهل على الإنسان الوصول إليها هذا هو الذي يعني اليوم ينبغي أن يكون من الآداب. ثم - قال رحمه الله - (فسيحا) لأنّ المجلس الضيّق يؤذي القاضي والخصوم وربما استعجل القاضي أو استعجل الخصوم بالخلاص من هذا الضيق مما يؤدي إلى الإخلال بالقضية من حيث الحجج والبراهين وأيضا من حيث تصور القضية والحكم فينبغي أن يكون فسيحا رحبا سهل الجلوس لا يتأذى من فيه ثم - قال رحمه الله - (ويعدل بين الخصمين في لحظه ولفظه) هذا الخلق واجب فإن تركه فهو آثم والدليل على وجوبه من وجهين: الأول" أنّ هذا محل إجماع فإنهم أجمعوا أنه يجب أن يعدل في لحظه وفي لفظه يعني في نظره إلى الخصوم وفي طريقة الكلام معهم. الدليل الثاني: أنّ النبي - صلى الله عليه وسلم - قال من ولي أمر القضاء للمسلمين فليعدل بينهم في لحظه ولفظه. وهذا الحديث إسناده كما قال البيهقي ضعيف لكن معناه لا شك في صحته والنصوص العامة تشهد له.

الدليل الثالث: أنه لو لم يعدل لأدى هذا إلى انكسار الضعيف الذي جار عليه القاضي وعدم القيام بحجته وهذا يؤدي إلى ضياع الحقوق وهذا مما اتفق عليه المسلمون أنّ القاضي يجب أن يكون عادلا في لفظه ولحظه فلو فرضنا أنّ بعض القضاة إذا تكلم أحد الخصمين توجه إليه بوجهه واستقبله وأرعاه سمعه واستعاد الألفاظ منه ليفهمها وإذا تكلم الخصم الآخر صار ينظر في الأوراق أو يلتفت إلى النافذة فلا شك أنه وقع في محرم وأنه آثم ويحتاج إلى التوبة كذلك طريقة الكلام فكونه إذا تكلم مع أحدهما تكلم برفق وعناية وابتعد عن النهر والتشديد واختيار الألفاظ وإذا تكلم مع الآخر زجره واستعجله وأمره أن يلقي بحججه فورا مما يربك الخصم فأيضا لا شك أنه وقع في محظور يعني يجب أن يتوب منه يستثنى من هذا إذا كان أحد الخصمين لجوجا ليس بمؤدب فلا حرج على القاضي أن يغلظ عليه القول وأن يؤدبه لأنّ هذا الإغلاظ ليس بسبيل الحكومة أو المسألة المعروضة وإنما للتأديب فلا شك وأحيانا ينبغي ويتحتم على القاضي أن لا يدع أحد الخصمين لجوجا غضوبا يعتدي على القاضي تارة وعلى الخصم الآخر في مجلس الحكم تارة ويطلق من الألفاظ ما لا يحسب له حسابه ينبغي أن يضبط مجلس الحكم. ثم - قال رحمه الله - (ومجلسه , ودخولهما عليه) أيضا يجب عليه أن يسوي بينهما في مجلسه وفي دخولهما عليه ولو قال في دخولهما عليه وفي مجلسه لكان أولى بالتضليل فإنهم يدخلون ثم يجلسون ففي دخولهم لا يقدم أحدا على أحد فلا يأمر بدخول فلان قبل فلان بل يدخلون عليه جملة واحدة فإن كان الباب لا يكفي لأثنين فإنه لا يأمر أحدا بالدخول فإن تقدم أحدهما فتقدمه ليس بأمر القاضي فلا حرج عليه. الأمر الثاني: أن يجلسهما أمامه متساويين فلا يفضل أحدهما على الآخر وهذا القدر أيضا مجمع عليه إلاّ في مسألة واحدة إذا كان أحد الخصمين كافرا فإنّ الحنابلة يرون أنه يجوز أن يقدم في الدخول وأن يفضل في الجلوس لأنه لا يستوي المسلم والكافر ولأنه لا يمكن أن نسوي بين من أطاع الله وبين من عصى الله.

والقول الثاني: أنه يجب أن يسوي بينهما ولو كان أحدهما كافرا لأنّ الشأن الآن تحقيق العدل ولا يكون إلاّ بذلك فإنّ هذا المجلس مجلس الحكم وليس مجلس تفضيل وهذا القول الثاني يؤيده ظواهر الآثار فإنّ الصحابة احتكموا إلى أهل الذمة في وقائع عديدة ولم ينقل أنّ أحدا من القضاء فضل أحدا منهم على الكافر وهذا القول هو الراجح. ثم - قال رحمه الله - (وينبغي أن يحضر مجلسه فقهاء المذاهب ويشاورهم فيما أشكل عليه) قال الإمام أحمد ما أحسن أن يفعل القاضي هذا اشتمل كلام المؤلف على أمرين: الأمر الأول: أن يحضرهم مجلسه , والأمر الثاني" أن يشاورهم. نبدأ بالمشاورة. المشاورة حكي الإجماع على استحبابها ومستند الإجماع أنّ النبي - صلى الله عليه وسلم - شاور في وقائع عديدة شاور في أحد وشاور في بدر وشاور في حجة الوداع وشاور الرجال وشاور النساء وشاور أبو بكر - رضي الله عنه - وشاور عمر - رضي الله عنه - في ميراث الجدة وعمر شاور في جلد شارب الخمر وشاور في وقائع عديدة فهذه النصوص تدل بمجموعها مع الإجماع على أنه لا شك أنه يستحب أن يشاور. مسألة الثانية / أن يحضرهم المجلس استدل الحنابلة على هذا بأنّ قاضي المدينة كان يجلس القاسم عن يمينه وسالم عن يساره يعني يحضر الفقهاء بجواره , وكان قاضي الكوفة يحضر اثنين من سادة التابعين أحدهم عن يمينه وأحدهم عن يساره. الدليل الثاني: أنّ وجود المشاور في مجلس الحكم يؤدي إلى أمرين: الأول: التسريع في البّت في القضية. الثاني: أنّ المشاور يكون ملما بالقضية سامعا من الخصوم مما يجعل كلامه أتقن لأنه سمع. والقول الثاني: أنه لا ينبغي إحضارهم عند القاضي لأنّ هذا يشعر لاسيما عند العوام بنقص علمه ولأنّ هذا يربك القاضي والخصوم ولأنهم قد يعترضوا على حكمه. أي القولين أرجح؟ يظهر لي أنا أنه يستحب إحضارهم لأمرين: الأول: الآثار عن التابعين وهؤلاء ناس لهم عقول ينبغي عدم تخطيها إلاّ بتأني.

الثاني: اليوم أثبتت التجارب أنّ في بعض التجارب في المحاكم اللي يكون من شأن الحكم فيها أن يكون جماعيا بعد المشاورة كما يحصل في بعض الأنظمة أنّ هذا صار سببا في إتقان الحقيقة الحكم والتسريع. بل يكاد القاضي إذا مال إلى قول ثم أيدّه جميع أهل المشورة هل سيتوقف في هذا لن يتوقف طرفة عين وإذا خالفوه كلهم عن قول واحد فسيرجع في الغالب إلى قولهم والمحاذير المذكورة تفاديها سهل جدا بأن تضبط في مجلس الحكم بأن يكون القاضي يتقدم إلى من سيشاورهم بأنه وظيفتهم المشاورة لا الاعتراض وأنّ المداولات تكون سرية وضبط هذه القضية سهل جدا. ثم - قال رحمه الله - (ويحرم القضاء وهو غضبان) لا يجوز للقاضي وهو آثم إذا حكم وهو غضبان لقول النبي - صلى الله عليه وسلم - لا يقضي الحاكم بين اثنين وهو غضبان. وهذا الحديث في الصحيحين ولا إشكال في صحته. الأمر الثاني: أنّ الغضب يحول بين وبين تصور الكلام العادي فضلا عن الحجج والبراهين والمؤلف يقول - رحمه الله - (وهو غضبان كثيرا) أفادنا المؤلف أنّ الغضب اليسير لا بأس معه أن يحكم وهذا صحيح لأنّ الغضب اليسير لا يمنع القاضي من أن يتأمل في القضية وأن يتأنى ثم إنّ المداولات أثناء الجلسة يصعب معها أن نشترط على القاضي أن لا يغضب ولا غضب يسير هذا قد يكون فيه صعوبة مع الأخذ والعطاء وتناقل الحجج والاعتراض على القاضي قد يكون اشتراط أن لا يغضب ولا غضبا يسيرا هذا صعب ولهذا نقول هي عبارة جيدة من المؤلف والغضب اليسير لا يمنع القضاء. ثم - قال رحمه الله - (أو حاقن) الحاقن هو المحصور بالبول والحاقن هو المحصور بالغائط وإنما ذكر الحاقن لأنه أعظم تشويشا على الذهن فإنّ الحاقن لا يكاد يتصور ما يسمع مطلقا حتى يقضي حاجته وهو من أعظم ما يتأذى به الإنسان ولهذا تعرفون أنّ الفضيل بن عياض أصابه الحصر حتى صار إلى مرحلة عظيمة جدا من الألم وكان لا يطلب الله سبحانه وتعالى إلاّ أمر الآخرة - رحمه الله - ولكنه وصل إلى مرحلة جدا حرجة فقال اللهم بحبي إليك أطلقه. قال فثار كأن لم يكن به شيء - رحمه الله - فدعا لما وصل إلى هذه المرحلة مما ينبئك أنّّ انحصار البول ألمه شديد ويمنع تماما التصور.

ثم - قال رحمه الله - (أو في شدة جوع) إذا كان القاضي جائع فإنه لا يجوز أن يحكم لكن يشترط أن يكون في شدة جوع , أما الجوع الطبيعي الذي لا يمنعه من التصور ولا يشتت ذهنه فله أن يحكم وهو جائع والحكم وهو جائع لا ينبغي لكن إذا كان في شدة جوع صار محرما وأمره واضح وإذا جاع يأكل قبل أن يحكم والأمر سهل. بخلاف الغضب لأنّه لا نستطيع أن نقول لأنّ بعض الناس لا يتمكن من تهدئة غضبه أليس كذلك؟ ربما يجلس ساعة غضبان ويجلس ساعة ونصف غضبان ولا يستمع لأي كلام لكن الجائع نقول كُلْ وتنتهي المشكلة. ثم - قال رحمه الله - (أو عطش) مقصود المؤلف في كل القادم يعني في شدة عطش , شدة همّ , شدة ملل , ولا يقصد أنه مجرد العطش اليسير والملل اليسير والهم اليسير فقوله العطش إذا كان عطشان فإنه لاشك أنه لن يتصور كلام الخصوم فيجب أن ينهي هذا العطش والظمأ بأن يشرب. (أو همّ) إذا حمل هما بأي سبب من الأسباب بسبب دنيوي أو بسبب أخروي يعني بعض الناس يشيل هم لأنه لا يجد من ينفق على أولاده أو لا يجد من ينفق على نفسه وبعض الناس يشيل هم أو يحمل الهم لكثرة ذنوبه وعدم قيامه بحقوق الله على الوجه الكامل فسواء كان حمل الهم بسبب الأول الدنيوي , أو الأخروي فإنه يحرم عليه أن يحكم بهذا الشرط أن يكون شدة هم. ثم - قال رحمه الله - (أو ملل أو كسل) إذا كان في شدة ملل وشدة كسل , فإنه أيضا لا يجوز له أن يحكم لأنّ الملل والكسل ينعكس على نشاط الذهن مما يمنع صاحبه أيضا من تصور القضية وعدم الاستعجال وغالبا من عمل أي عمل مع ملل أو كسل فإنّ طبيعة العمل تكون باستعجال وعدم إتقان لأنه يريد أن ينتهي منها بأي طريقة لأنه ملّ في القضاء لا يجوز هذا لأنه لا يتعلق العمل بك شخصيا وإنما يتعلق بالخصوم. ثم - قال رحمه الله - (أو نعاس) إذا كان في شدة نعاس فإنه لا يحكم لأنه لن يتصور ما يقول فيذهب ويستريح ثم يستأنف بعد ذلك الحكم. ثم - قال رحمه الله - (أو برد مؤلم أو حر مزعج)

هنا لا نقول أو شدة برد مؤلم أو شدة حر مزعج لا فقط مجرد البرد المؤلم والحر المزعج , إذا كان البرد مؤلما والحر مزعجا فإنه لا يحكم لأنه انشغل بالبرودة وانشغل بالحرارة بما لا يتمكن معه من الحكم على الوجه المطلوب , هذه المسائل الست مقيسة على الغضب وإنما ذكر النبي - صلى الله عليه وسلم - الغضب لأنه الأكثر وقوعا والأكثر ضررا في مجريات القضية فنص عليه وأخذ الفقهاء منه ما عداه قال - رحمه الله - (وإن خالف فأصاب الحق نفذ) وإن خالف ما سبق من تحريم الحكم حال الغضب والجوع والألم والهم إلى آخره. فإنّ حكمه ينفذ بشرط أن يصيب. والدليل على هذا أنّ النبي - صلى الله عليه وسلم - لما حكم بين الأنصاري والزبير بن العوام - رضي الله عنهم - قال الراوي فغضب النبي - صلى الله عليه وسلم - وقال اسقي يا زبير حتى يبلغ الماء الجدر ثم دعه فالنبي - صلى الله عليه وسلم - غضب قطعا لأنّ الصحابي نقل أنه غضب ولأنّ الأنصاري استثاره بقوله أن كان ابن عمتك يا رسول الله فدل هذا على أنّ القضاء حال الغضب ينفذ والجواب على هذا الحديث من وجهين: الوجه الأول: أنّ القاضي إذا غضب بعد أن بان له وجه القضية فإنه يجوز أن يحكم. لأنّ هذا الغضب لا يؤثر في القضية فإنّ القضية اتضحت له وهذا ما كان مع النبي - صلى الله عليه وسلم -. الجواب الثاني: أنّ هذا خاص بالنبي - صلى الله عليه وسلم - لأنه إذا حكم فإنه لا يقر على الخطأ ولو كان حكم وهو غضبان - صلى الله عليه وسلم - والجواب الصحيح الأول.

الدليل الثاني: أنه وإن حكم مخالفا للسنة إلاّ أنه أصاب الحق فدل هذا على نفوذه إذ ليس المقصود من الحكومة والقضاء إلاّ إصابة الحق. والقول الثاني: أنه لا ينفذ لأنه حكم في حال منهي فيها عن الحكم والنهي يقتضي الفساد. والقول بأنّ القاضي يجب عليه أن يعيد الحكم إذا حكم وهو غضبان هو الصحيح وعلمنا الجواب عن أثر أو حديث الزبير أنّ النبي - صلى الله عليه وسلم - إنما حكم بعد أن تبيّنت له القضية ولهذا نقول إذا غضب القاضي من حين بدأت القضية واستثير من قبل أحد الخصوم وغضب فإنه يجب عليه وجوبا أن يؤجل إصدار الحكم إلى مجلس آخر بعد أن يعيد النظر في القضية والأدلة , وإذا استثير من قبل أحد الخصوم بعد أن تمكن من القضية وفهمها في آخر المجلس فإنه لا حرج عليه أن يحكم والحالة هذه. ثم - قال رحمه الله - (ويحرم قبوله رشوة) يحرم على القاضي أن يقبل الرشوة لأنّ النبي - صلى الله عليه وسلم - لعن الراشي والمرتشي. هذا من وجه من وجه آخر أنّ الرشوة تتناقض تماما مع مقصود الشارع من القضاء فإنّ القصد من الرشوة إحقاق الباطل وإبطال الحق بينما القاضي إنما نصب ليحق الحق ويبطل الباطل وتحريم الرشوة محل إجماع والرشوة هي كل ما يدفعه الإنسان لإعاقة الحق أو لتمرير الباطل سواء في مجلس القضاء أو في غيره. ثم - قال رحمه الله - (وكذا هدية) يعني كما أنه يحرم عليه قبول الرشوة يحرم عليه قبول الهدية والفرق بينهما أنّ الرشوة تعطى في سياق القضية والهدية تعطى خارج سياق القضية بأنها هدية منفصلة بينما الرشوة مرتبطة بالقضية الهدية محرمة لثلاثة أدلة: الدليل الأول: قوله - صلى الله عليه وسلم - هدايا العمال غلول. الثاني: أنّ الهدية كما قال شيخ الإسلام نوع من الرشوة فكل حديث دل على تحريم الرشوة دال على تحريم الهدية. الثالث: حديث ابن اللتبية الذي بعثه النبي - صلى الله عليه وسلم - ساعيا فلما جاء هذا لكم وهذا أهدوه لي فغضب النبي - صلى الله عليه وسلم - وخطب وقال أفلا جلس في بيت أمه وأبيه فلينظر أيهدى له أو لا.

ثم لما بيّن الشيخ المؤلف تحريم الرشوة والهدية انتقل إلى مواضع جواز الهدية قبل هذا ذكر شيخ الإسلام ضابطا جميلا جدا لهدايا العمال من القضاة والموظفين فقال هدايا العمال هي كل ما لو نزع عن منصبه لم يهدى إليه. ضابط جميل جدا فإذا كان سبب الهدية من بعيد أو قريب المنصب فهي من هدايا العمال ولهذا إذا كان شخص لا يهديك مطلقا فلما عيّنت في مكان أهداك فقطعا سبب الهدية أنك عينت في هذا المكان كذلك الهدايا التي تجري بين الطلاب والمدرسين في المدارس النظامية باعتبار أنّ المدرس في المدارس النظامية موظف هذه الهدايا سببها أنه مدرس لولا أنه يدرس لم يعطى أما الهدايا التي تكون بين المدرسين والمدير والمدرسات والمديرة فتختلف إن كان لم يهدوها إلاّ لأنها مديرة أو لم يهدوه إلاّ لأنه مدير أو بعد أن أصبح مديرا فلا شك أنها من هدايا العمال وإذا كانت الهدية تجري بينهم عادة ثم وجدت مناسبة لو وجدت وهذا المدير مدرس لأعطوه لم تصبح من هدايا العمال من أبرز الأمثلة أنه جرى العرف بين المدرسات أنه كل من أتى بمولود يعطى هدية فهم يعطون هذه وهذه سواء كانت مديرة أو مدرسة أليس كذلك؟ فهذا ما يظهر لي أنا أنّ إهداء المديرة إذا أتت بولد من هدايا العمال لأنه موجود سواء كانت مديرة أو ليست بمديرة إنما المحرم أنه إذا صارت مديرة بالغوا في الهدية فلا شك أنّ هذا سحت وأنه من هدايا العمال أما إذا أهدوها كما يهدون غيرها وهو أمر جار بينهم وعرف جروا عليه من قديم فليس من هدايا العمال. ثم - قال رحمه الله - (إلاّ ممن كان يهاديه قبل ولايته) إذا كان يهاديه قبل الولاية فهذا دليل وقرينة على أنّ الهدية ليست بسبب الولاية وإذا كانت الهدية ليست بسبب الولاية فلا حرج لأنّ الأصل أنّ التهادي بين المسلمين مستحب. ثم - قال رحمه الله - (إذا لم تكن له حكومة)

يعني أنه يشترط لجواز الهدية أمران: الأول: أن يكون هذا جرى بينهما قبل الولاية. الثاني: أن لا تكون بينهما حكومة. الثالث: أن لا يعلم أنها ستكون بينهما حكومة. فإذا تحققت الشروط جازت الهدية بعد هذا نقول إذا فهم الإنسان المأخذ الشرعي عرف الحكم مباشرة فالمأخذ الشرعي أنّ كل هدية بسبب المنصب فهي من هدايا العمال هذا هو الضابط وما ذكره الفقهاء إنما هو تقريب ولهذا من الخطأ البيّن أن يأخذ طالب العلم القواعد ثم يطبقها بجفاف وعدم فهم لها. مثال يوضح المقصود. رجل مازال بينه وبين أخيه تهادي بينهما تهادي كتب وطيب وأشياء كثيرة , لما عيّن أحدهما أتى له بخمسين رأس شاة هل بينهما تهادي من قبل؟ هل يشك الإنسان أنه هذا بسبب المنصب؟ لو أخذنا القاعدة بلفظها لقلنا يجوز لكن لما تفهم المقصود تعرف أنّ هذه الهدية محرمة عرفت كيف! وأنا بالغت في الهدية حتى يتضح الحكم وإلاّ قد لا يقع هذا. ثم - قال رحمه الله - (ويستحب أن لا يحكم إلاّ بحضرة الشهود) يستحب للقاضي أن لا يشرع في الحكم ولا يبدأ بالنظر في القضية إلاّ بحضرة الشهود لأنهم سبب القضية ولكي يشهدوا على الحكم فيما لو قيل وليشهدوا على الإقرار لو حصل في مجلس القضاء وقوله يستحب يدل على أنه لا يجب فلو أراد أن ينظر في القضية ويناقش ويبدأ ثم يأتي الشهود في مجلس آخر ثم يحكم في مجلس ثالث لا يوجد فيه شهود فهذا جائز ولا حرج فيه. قال - رحمه الله - (لا ينفذ حكمه لنفسه) وهذا معلوم لأمرين: الأول: أنّ شهادة الإنسان لنفسه لا تصح فمن باب أولى أن نمنع أن يحكم لنفسه. الثاني: أنه تقع التهمة بهذا بدرجة كبيرة. الثالث: وهو الأول في الحقيقة أنّ عمر بن الخطاب لما أراد أن يحاكم أبيّا تحاكموا إلى زيد فلم يحاكمه إلى نفسه فلا شك أنه لا يجوز للإنسان أن يجعل نفسه حكما في قضية هو أحد الأطراف فيها. قال - رحمه الله - (ولا لمن لا تقبل شهادته له) لا يجوز أن يكون حكم وأحد الخصمين ممن لا تقبل شهادته له كأبيه أو أبنه وسيعقد المؤلف فصلا خاصا فيمن لا تقبل شهادته له فلا يجوز للإنسان أن يحكم لكل شخص لا تقبل شهادته له وعللوا هذا بأنه في حكمه تهمة ومظنة الحيف والميلان وقياسا على الشهادة.

والقول الثاني: أنّ له أن يحكم بين أي خصمين من الأقارب الأدنين أو الأبعدين أو من الأجانب واستدل هؤلاء بأمرين: الأول: العمومات. فإنها لم تفرق بين القريب والبعيد. الثاني: قياس القريب على الأجنبي وهو قياس غريب في الحقيقة كيف تقيس قريب على الأجنبي ونحن ننازعك في حكم القريب أنه ليس كالأجنبي وأنت تقول القريب كالأجنبي لأنه كالأجنبي أليس كذلك؟ فبعيد هذا القياس. القول الثالث: أنه لا يجوز أن يحكم لمن لا يجوز أن يشهد له إلاّ إذا حكم بينهما كأن يحكم بين أبويه وبين ولديه وهذا هو الراجح إن شاء الله لأنه حينئذ تتنتفي التهمة لأنّ طرفي الخصومة من أقاربه فلا تهمة في هذا. ثم - قال رحمه الله - (ومن ادعى على غير برزة لم تحضر) البرزة هي المرأة التي تخرج بنفسها لقضاء حاجاتها وينبغي أن تعرف أنّ البرزة هي التي تخرج لقضاء حاجاتها وليست المرأة التي تخرج وإنما المرأة التي تخرج لقضاء حاجاتها فإذا كانت تقضي حاجاتها بنفسها فإنها برزة , فإذا لم تكن برزة فإنه يشرع للقاضي أن لا يستدعيها إلى مجلس الحكم واستدلوا على هذا بأمرين: الأمر الأول: أنّ في استدعائها ضرر بها لأنها لم تعتد الخروج فضلا عن حضور مجلس الحكم. الثاني: أنّ فيه إذهابا لحشمتها وهتكا لتصونها. والقول الثاني: أنه على القاضي أن لا يحكم بل يرسل إليها من يحكم لها في قضيتها واستدلوا على هذا بأنّ النبي - صلى الله عليه وسلم - واغد يا أنيس إلى امرأة هذا فإن اعترفت فارجمها. القول الثالث: أنه يأتي بها إلى مجلس الحكم واستدلوا على هذا بأنّ هذا الخروج خروج يسير لا يضر فتأتي إلى مجلس الحكم , والراجح المذهب بلا إشكال. ثم - قال رحمه الله - (وأمرت بالتوكيل) يعني أنها لا تحضر وتؤمر بالتوكيل لأنّ القضية لا يمكن أن تتم وتستمر إلاّ إذا وكّلت ليستطيع القاضي المضي في الحكومة والحكم فيها. سؤال / هو يقول إذا كانت برزة لا تحضر وتوكل؟ كل الناس يستطيعون أن يوكّلون! ما هو الجديد؟ ما هو الفرق الآن هي لا تحضر وتوكل؟ كل إنسان يستطيع أن لا يحضر ويوكّل؟ فما هو الجديد؟ الجديد أنه في غير البرزة لا يشرع أن يأتي بها إلى مجلس الحكم لا ينبغي بخلاف سائر الناس فإنه إن شاء وكلّ هو.

باب طريق الحكم وصفته

ثم - قال رحمه الله - (وإن لزمها يمين أرسل من يحلفها) وجه ذلك أنه إذا توجهت اليمين فلا بد منها أي لا بد من اليمين وهي لم تحضر الحكم فلن يكون هناك سبيل لليمين إلاّ أن يرسل من تحلف له وينبغي أن يرسل مع من سيأخذ منها اليمين يرسل معه شاهدين يشهدا على اليمين. ثم - قال رحمه الله - (وكذا المريض) قوله وكذا المريض لو أنّ المؤلف جعل لهذا قاعدة فقال [وكل من لا يستطيع الحضور إلى مجلس الحكم فهو يوكل ويرسل إليه القاضي من يأخذ اليمين منه إذا توجهت عليه] لكان هذا أضبط من ذكر مثالين المرأة والمريض وإنما ذكر المؤلف المرأة والمريض فقط لأنه الغالب في الأعذار أن تكون امرأة أو أن يكون مريضا فلما كان هذا هو الغالب ذكره واستغنى عن الضابط. باب طريق الحكم وصفته قوله باب طريق الحكم وصفته المقصود بهذا الباب بيان كيفية دفع الخصومات والفصل بينها , أو بيان كيفية الفصل بين الخصومات. يقول الشيخ - رحمه الله - (إذا حضر إليه خصمان قال أيّكما المدعي) إذا حضر الخصمان فإنه يقول أيّكما المدعي ,أفاد المؤلف أنه لا حرج على القاضي أن يسأل الخصمين أيّهما المدعي لأنه إذا سأل أيكما المدعي فإنه لم يوجه الخطاب إلى أيّ منهما فلم يحصل حيف على أحد من الخصمين فيسأل أيّكما لأنّ القضية لا يمكن أن تبدأ إلاّ إذا قال أيّكما المدعي؟ ثم - قال رحمه الله - (فإن سكت حتى يبدأ جاز) يعني يجوز أن يدخل خصمان ويجلسوا ويجلس القاضي ويسكت القاضي إلى أن يبدأ , فسؤال القاضي للخصمين أيّهما المدعي ليس بواجب بل أن يسكت لكن من المعلوم أنه ينبغي أن لا يطيل بالسكوت وليس من المقبول أن يسكت الخصمان ويسكت القاضي ويجلسون في مجلس الحكم وهم سكوت لمدة ساعة فإنّ هذا من العبث أليس كذلك ولو قيل أنّ هذا يتنافى مع آداب القاضي أن يطول السكوت لكان هذا وجيه وربما يكون من الآداب الواجبة أو المستحبة وهذا بحث نظري أما اليوم فلا يكاد الخصمان إلاّ وبسرعة تبدأ القضية. ثم - قال رحمه الله - (فمن سبق بالدعوى قدّمه)

إذا سبق أحدهما بالدعوى صار هو المدعي ولو لم يسأل القاضي أيّكما المدعي وإذا صار هو المدعي فإنه إذا اعترض الآخر وقال أنّ المدعي لم ينظر القاضي إلى كلامه , فإذا الذي يحدد أيّهما المدعي الذي يبدأ منهما فإن بدأو في وقت واحد أقرع بينهما وتحديد أيّهما المدعي وأيّهما المدعى عليه أمر مهم وضروري لأنه ينبني على هذا أحكام كثيرة كما سيأتينا. ثم - قال رحمه الله - (وإن أقرّ له حكم له عليه) يعني إذا تبيّن أيّهما المدعي وادعى بمال أو بغيره ثم أقّر المدعى عليه فإنه يجب على القاضي بالإجماع أن يحكم بهذا الإقرار لأنّ الإقرار حجة ملزمة وهو أقوى من البيّنات لأنّ البيّنات تحتمل إحتمالات والإقرار لا يحتمل فيجب عليه أن يحكم بمقتضى الإقرار مباشرة وهذه الصورة نادرة في الوقوع لكن ذكرها المؤلف للترتيب المنطقي بما سيكون في مجلس الحكم ولماذا هي نادرة الوقوع؟ لأنه لو كان سيقر ما احتجنا إلى مجلس القضاء. قال - رحمه الله - (وإن أنكر قال للمدعي إن كان لك بيّنة فأحضرها إن شئت) إذا ذكر المدعي دعواه ولم يقر المدعى عليه فإنّ القاضي يقول للمدعي ألك بيّنة ويقول أحضرها إن شئت. أيّ أنّ القاضي ليس له أن يلزم المدعي بإحضار البيّنة فإن أبى المدعي أن يحضر البيّنة وأراد الانتقال إلى يمين المدعى عليه كما سيأتي فله ذلك إنما يعرض عليه القاضي عرض أنه ألك بيّنة؟ أولا. علمنا من هذا أنه لا يلزمه وعلمنا أيضا أنه لا حرج على القاضي أن يقول للمدعي ألك بيّنة وليس هذا من الجور على المدعي عليه , والدليل على هذا ما جاء في الصحيح أنّ النبي - صلى الله عليه وسلم - لما اختصم الحضرمي وخصمه قال له النبي - صلى الله عليه وسلم - ألك بيّنة؟ فدل هذا على أنّ طلب البيّنة لا حرج فيه ولأنّ في طلب البيّنة الإسراع في الحسم في القضية وإعطاء كل ذي حق حقه. ثم - قال رحمه الله - (فإن أحضرها سمعها وحكم بها)

يعني إذا أحضر المدعي بيّنته سمعها القاضي ثم حكم بها يعني بعد أن يقول للمدعى عليه أتقدح في هذه البيّنة بقادح فإذا لم يكن عنده قوادح صارت البيّنة سالمة من القوادح وحينئذ يجب عليه أن يحكم بها كما يجب عليه أن يحكم بالإقرار لأنها أصبحت بيّنة سالمة من القوادح فوجب عليه أن يحكم بها وهو أمر بدهي. ثم - قال رحمه الله - (ولا يحكم بعلمه) لا يجوز للقاضي أن يحكم بعلمه سواء علم هذا العلم قبل أن يتولى القضاء أو بعد أن يتولى القضاء , وسواء علم به قبل أن تعرض عليه القضية أو بعد أن تعرض عليه القضية يعني مطلقا لا يجوز له أن يحكم بعلمه مطلقا واستدلوا على هذا بأمرين: الأمر الأول: أنّ النبي - صلى الله عليه وسلم - لما شكى إليه الأعرابي اعتداء من أخذ النصاب الزكوي عليهم بجراح وأعطاهم النبي - صلى الله عليه وسلم - مقابل الجراح قال لهم إني خاطب بالناس ومخبرهم أنكم رضيتم قالوا نعم. فقام النبي - صلى الله عليه وسلم - وخطب وقال أنهم اعتدوا على بني فلان وأني أعطيتهم حتى رضوا أكذالك؟ قالوا لا. فَهّم بهم الأنصار يعني ليضربوهم أو يقتلوهم. فكفّهم النبي - صلى الله عليه وسلم - ونزل وأعطاهم حتى رضوا. قال أرضيتم؟ قالوا نعم. قال فإني خاطب الناس ومبلغهم قالوا نعم؟ فخطب الناس وقال إني أعطيت بني فلان حتى رضوا كذلك قالوا نعم. في المرة الثانية. وجه الاستدلال أنّ النبي - صلى الله عليه وسلم - أعطاهم في المرة الأخرى مع أنه يعلم أنهم رضوا في المرة الأولى فدل هذا على أنّ القاضي لا يحكم بعلمه. الدليل الثاني: وعليه المعتمد أنّ فتح باب حكم القاضي بحكمه يؤدي إلى التلاعب والتهمة ويستطيع من خلاله القاضي أن يحكم على من يشاء بما يشاء ويدعي أنه حكم بناء على علمه المسبق. والقول الثاني: أنه يجوز للقاضي أن يحكم بعلمه مطلقا واستدلوا على هذا بأنّ النبي - صلى الله عليه وسلم - قال لهند خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف فحكم النبي - صلى الله عليه وسلم - من غير نظر ولا استدعاء للمدعى عليه لأنه يعلم أنه كان بخيلا - رضي الله عنه - فحكم بعلمه. والجواب أنّ هذا الحديث فتيا وليس بحكم بدليل أنه لم يطلب المدعى عليه إلى مجلس الحكم ولم يسمع منه.

القول الثالث: أنه يجوز أن يحكم بما استفاض وانتشر وعلمه القاضي وغيره لأنه إذا حكم بما علم واشتهر فإنه لا ينسب إلى تهمة. والقول الرابع: أنه يجوز أن يحكم بعلمه في حقوق الله دون حقوق الآدمي. والراجح الثالث. ثم - قال رحمه الله - (وإن قال المدعي: مالي بيّنة أعلمه الحاكم أنّ له اليمين على خصمه) إذا ادعى المدعي وبيّن ماله من حقوق وطلبت منه البيّنة ولم تكن له بيّنة أعلمه القاضي أنّ له اليمين على خصمه لأنّ النبي - صلى الله عليه وسلم - قال للحضرمي شاهداك أو يمينه. فقال يا رسول الله إنه لا يتورع عن شيء فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - ليس لك إلاّ ذلك وهذا في مسلم. ثم - قال رحمه الله - (على صفة جوابه) يعني أنّ له للمدعي يمين المدعى عليه على صفة جواب المدعى عليه. لا على صفة دعوى المدعي. صورة هذا أن يقول المدعي أطلبه ألف ريال ثمن سيارة. ويقول المدعى عليه ليس له عندي شيء فاختلف الجواب عن الدعوى , فاليمين تكون على الجواب لا على الدعوى فيقول والله ليس له عندي شيء ولا يلزم المدعى عليه أن يقول والله إنه لا يطلبني ألف ريال ثمن سيارة. والقول الثاني: أنّ اليمين على صفة الدعوى على صفة جوابه بل إنّ اعتراضه أو رفضه اليمين على صفة الدعوى قرينة على كونه ليس بمحق والراجح أنها على صفة الدعوى. ثم - قال رحمه الله - (فإن سأل إحلافه أحلفه وأخلى سبيله) أفاد المؤلف أمرين: الأمر الأول: أنّ القاضي بعد أن يعرف المدعي حقه في اليمين فإنه لا يطلب اليمين من المدعى عليه إلاّ إذا طلبها المدعي قبل ذلك فإنه لا يطلب اليمين. الثاني: أنه إن طلب اليمين وحلف المدعى عليه فإنه يخلي سبيله أي برئ المدعى عليه ولا يطلبه المدعي شيء لقول النبي - صلى الله عليه وسلم - في الحديث السابق ليس لك إلاّ ذلك. فإذا ليس له إلاّ اليمين. ثم - قال رحمه الله - (ولا يعتد بيمينه قبل مسألة المدعي)

يعني أنه إذا بادر بالقسم فإنّ هذا القسم قسم ليس بشرعي ولا نفع له في مجلس القضاء لأنه جاء في غير وقته بل يجب أن لا يقسم أو أن لا يحلف إلاّ بعد طلب المدعي فإن أقسم قبل ذلك وطلب المدعي أن يحلف مرة أخرى فإنه يجب أن يحلف مرة أخرى لأنّ اليمين الأولى ليست يمينا شرعية يعتد بها في مجلس القضاء. ثم - قال رحمه الله - (وإن نكل قضى عليه. فيقول إن حلفت وإلاّ قضيت عليك فإن لم يحلف قضى عليه) أفادنا المؤلف - رحمه الله - إذا توجهت اليمين على المدعى عليه ونكل فإنه يحكم عليه وتكون العين محل الدعوى للمدعي يعني بمجرد النكول ولا نحتاج إلى رد يمين على المدعي واستدلوا على هذا بأنّ ابن عمر - رضي الله عنه - وزيد اختصموا إلى عثمان - رضي الله عنه - في عبد اشتراه زيد من ابن عمر - رضي الله عنهما - وزعم أنّ به عيبا يعلمه ابن عمر - رضي الله عنه - فقال عثمان - رضي الله عنه - احلف أنه ليس فيه عيب تعلمه فأبى أن يحلف فقضى عليه عثمان - رضي الله عنه - ومعنى قضى عليه أنه رد العبد إلى ابن عمر وأخذ زيد المال وفي هذه المسألة خلاف طويل نذكره إن شاء الله الدرس القادم.

الدرس: (3) من القضاء قال شيخنا حفظه الله: بسم الله الرحمن الرحيم والحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين. توقفنا بالأمس عند حكم نكول المدعى عليه عن اليمين وذلك عند قول الشيخ (وإن نكل قضى عليه. فيقول إن حلفت وإلاّ قضيت عليك فإن لم يحلف قضى عليه) إذا توجهت اليمين على المدعى عليه ثم نكل. والنكول هو / أن يأبى أن يحلف فإنه يقضى عليه وتقدم معنا بالأمس القول الأول: وهو المذهب أنه يقضى عليه بمجرد النكول من غير رد لليمين كنا توقفنا على استكمال هذه المسألة. القول الثاني: أنه لا يقضى عليه بمجرد النكول بل لا بد من رد اليمين لأنّ النبي - صلى الله عليه وسلم - رد اليمين على المدعي. وهذا الحديث ضعيف. الدليل الثاني: أنه روي عن عمر - رضي الله عنه - أنه رد اليمين ولم يقضي بمجرد النكول.

القول الثالث: إذا كان الأمر وحقيقة القضية لا تعلم إلاّ من قبل المدعى عليه فإنها لا ترد اليمين , مثاله قصة ابن عمر مع زيد القصة السابقة , فإنّ ابن عمر المدعى عليه هو الذي يعلم هل في العبد عيب أو لا. لأنّ المشتري لا يعلم عن العبد شيئا قبل العقد فهنا لا ترد اليمين وإن كان الذي يعلم القضية هو المدعي وحده ردت اليمين. مثاله أن يدعي زيد على رجل ميت فالآن المدعي يتفرد بمعرفة القضية لأنّ المدعى عليه ميت فهنا نرد اليمين ولا نكتفي بمجرد النكول لأنّ الورثة قد يأبون اليمين لعدم معرفتهم بالقضية فنرد اليمين ولا نحكم بمجرد النكول وهذا القول الأخير فيه تفصيل جيد تجتمع فيه الآثار المروية عن أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - وإذا لم يختص أيّ منهما بالمعرفة لا المدعي ينفرد بالمعرفة ولا المدعى عليه ينفرد بالمعرفة فهنا فيه خلاف والراجح أنه لا ترد اليمين. ثم - قال رحمه الله - (فإن حلف المنكر ثم أحضر المدعي بيّنته حكم بها ولم تكن اليمين مزيلة للحق) القاعدة أنّ اليمين مزيلة للخصومة لا للحق فإذا قال المدعي أنه لا بيّنة له ثم أحضرها بعد ذلك فإنها تسمع واستدل الحنابلة على هذا بأنه قد ينسى وقد لا يعلم ببيّنته أصلا ثم يعرف بأنّ له بيّنة بأن يأتي شاهد يشهد في القضية لم يعرفه المدعي فلأجل أنّ المدعي ربما لا يعرف البيّنة يقبل منه أن يحضرها بعد أن لم يأتي ببيّنة. مسألة / فإن قال المدعي ليس لي بيّنة فإنه إذا أتى بها بعد ذلك لا تقبل لأنه أكذب نفسه. والقول الثاني: أنها تقبل لأنه حين قال ليس لي بيّنة إنما قال ذلك بناء على أنه لا يعرف لنفسه بيّنة ثم عرفها بعد ذلك فأتى بها فليس في هذا تكذيبا للنفس بل ربما ظهر له ما لم يكن ظهر من قبل وهذا القول الثاني هو الراجح ويتحصل من ذكر المسألتين والخلاف أنه تقبل البيّنة مطلقا سواء لم يأتي بها ابتداء أو قال ليس لي بيّنة فتقبل مطلقا. فصل قال - رحمه الله - فصل (ولا تصح الدعوى إلاّ محررة معلومة المدعى به)

ظاهرة عبارة المؤلف أنه يشترط لتصحيح الدعوى أن تكون محررة وأن تكون معلومة المدعى به والواقع أنّ هذا شيء واحد ولهذا عبارة الشيخ في المقنع يقول في المقنع [ولا تصح الدعوى إلاّ محررة تحريرا يعلم به المدعى] فصار هذا الشرط شرطا واحدا وهذا هو الصواب أنه شرط واحد ومعنى هذا الشرط أنّ الدعوى لا تقبل إلاّ وقد بيّن المدعي كل ما يتعلق بالدعوى من حيث قدر المال وصفته وجنسه وسبب وجوبه عند بعض الفقهاء إذا لا تقبل إلاّ وهي محررة أي كاملة مذكور فيها كل ما يتعلق بالحق المدعى واستدل الحنابلة على أنها لا تسمع إلاّ محررة بأنّ الدعوى يترتب عليها أن يحكم القاضي من جهة وأن يلزم المحكوم عليه بدفع الحق من جهة أخرى ولا يتمكن من الحكم ولا بالإلزام من الدفع إلاّ بعد تحرير الدعوى وهذا لا شك وهو بدهي أنّ القاضي لم يحكم إلاّ بعد أن يعرف بماذا يدعي بالضبط المدعي. والقول الثاني: أنه لا يشترط وأنّ له أن يقول ادعي حقا على فلان فإذا قبل القاضي الدعوى أمره بعد الإجمال بالتفصيل وهذا القول الثاني ليس إلاّ تضيعا للوقت ورجوعا للقول الأول والصواب أنّا نلزم المدعي بأن يبيّن ويحرر الدعوى من الأول ولا نقول نسمع الدعوى ثم نطلب تحريرها بعد ذلك فإنّ هذا تطويل ليس له معنى. ثم - قال رحمه الله - (إلاّ ما نصححه مجهولا كالوصية وعبدا من عبيده مهراً ونحوه) القاعدة أنّ كل ما صح مجهولا صحت الدعوى به وما ذكره المؤلف لا يعدوا أن يكون أمثلة , فكل ما صح مجهولا صحت الدعوى به. ذكر الشيخ ثلاثة أمثلة. المثال الأول: يقول إلاّ ما نصححه مجهولا كالوصية. الوصية تصح بالمجهول كما تقدم معنا فلو قال أوصيت لفلان بشيء أو أوصيت لفلان بأرض أو بسهم فهي مجهولة ومع ذلك نصحح هذه الوصية لأنها ليست من قبيل المعاوضات فإذا ادعى بوصية فله أن يدعي بدعوى غير محررة فيقول فلان أوصى لي وليس بملزم أن يبيّن بماذا أوصى له. المثال الثاني: وعبد من عبيده مهرا. إذا قالت الزوجة مدعية على الزوج أنه أمهرها أو أصدقها عبدا من عبيده صحت الدعوى وإن كانت مبهمة لأنّ المهر يصح أن يكون مبهما ويبيّن بعد ذلك فإذا ترجع إلى القضية السابقة. يقول - رحمه الله - (ونحوه)

من أكثر الأمثلة وقوعا أن يعترف أو يقّر بمجهول مثل أن يقول زيد لعمرو عندي لك شيء هذا إقرار بحق مجهول هذا الإقرار صحيح فلعمرو أن يدعي على زيد بقوله أنّ له عنده شيء لأنه أقرّ بمجهول لماذا نصحح هذه الدعوى لأنه لا يمكن أن يدعي إلاّ بمجهول لأنه هو لا يعرف الحق ولو لم نصحح الدعوى بمجهول في هذه الصور لأغلقنا الباب على المدعي أن يدعي أصلا لأنه لا يعرف حقه من الأساس إذا تصح الدعوى بكل ما يصح مجهولا. ثم - قال رحمه الله - (وإن ادعى عقد نكاح أو بيع أو غيرهما فلا بد من ذكر شروطه) إذا ادعى عقدا من العقود سواء في قسم المعاملات أو في قسم الأحوال الشخصية أو الأنكحة أو توابعها فإنه لا بد أن يبيّن شروط العقد واستدل الحنابلة على هذا بأنّ المدعي قد يدعي بعقد يرى هو صحته والقاضي لا يرى أنه صحيح ولأجل هذا لا بد أنّ يبيّن شروط العقد. القول الثاني: أنه لا يشترط وأنه ليس عليه إلاّ أن يدعي بالعقد مجردا بلا بيان لشروطه واستدل هؤلاء بأنّ الأصل في معاملات المسلمين الصحة وحملها على الجواز وهذا يقتضي عدم وجوب السؤال عن الشروط وانتفاء الموانع. والقول الثالث: أنه يجب أن يبيّن الشروط إذا ادعى بعقد النكاح ولا يجب إذا ادعى بعقد البيع وفرقوا بين العقدين مستدلين بأنّ عقد النكاح من العقود التي يجب التحوط لها والاحتراز لما ينبني عليها من الأنساب واستباحة الأبضاع فناسب أن يشترط هذا الشرط والصحيح القول الثاني إن شاء الله. ثم - قال رحمه الله - (وإن ادعت امرأة نكاح رجل لطلب نفقة أو مهر أو نحوها سمعت) إذا ادعت المرأة بحق من حقوق النكاح لا بالنكاح فإنّ الدعوى صحيحة ودل على هذا أمران: الأمر الأول" الإجماع فإنهم أجمعوا على أنها إذا ادعت بعقد نكاح لإثبات النفقة أنّ الدعوى صحيحة وتسمع. الثاني: أنها دعوى مستوفية الشروط فإنها تدعي بحق مع بيان سببه كما لو قالت هذه السيارة لي اشتريتها من فلان فهي كذلك تقول النفقة واجبة لأنّ فلان زوجي فهي تثبت الحق مع شفعه بسببه وهذه دعوى مستكملة الأركان فتسمع وكما سمعتم هي محل إجماع فلا إشكال فيها. ثم - قال رحمه الله - (فإن لم تدعي سوى النكاح لم تقبل)

إذا ادعت المرأة على الزوج مجرد النكاح فقط , فقالت فلان زوجي ولم تضف شيئا على هذا لا طلب نفقة ولا سكنى ولا غيره فإنّ الدعوى لا تسمع أصلا ولا تقبل علل الحنابلة هذا بأنّ النكاح من حقوق الزوج لا من حقوق الزوجة وليس للإنسان أن يدعي بحق لغيره بل الدعوى تكون بحق لنفسه. والقول الثاني: أنّ دعواها صحيحة لأنّ إثبات النكاح يقتضي إثبات الحقوق المترتبة عليه من النفقة والسكنى والمهر وكل ما يترتب على العقد من حقوق للزوجة. الدليل الثاني: أنّ هذا تماما كما لو ادعت عقد النكاح كعقد البيع فإنّ الإنسان يدعي عقدا للبيع راجيا الحصول على ما يترتب على عقد البيع سواء ادعى أنه مشتري ليأخذ السلعة. أو بائع ليأخذ الثمن. ولا شك أنّ هذا القول الثاني هو الصحيح وأنّ المذهب في هذه المسألة ضعيف وأنّ النكاح لا يتمحض حقا للرجل نعم حقه فيه غالب لكن النكاح فيه حقوق للزوج وفيه حقوق للزوجة. ثم - قال رحمه الله - (وإن ادعى الإرث ذكر سببه) إذا ادعى انه يرث من فلان فلا بد أن يبيّن السبب الذي استحق به الإرث لأنّ الشهادة ستكون على وفق هذا السبب وإذا لم يبيّن السبب فإنه لم نتمكن من معرفة صحة الشهادة وهذا صحيح فإذا ادعى أنه وارث فلا بد أن يقول لأنه ابن أو مولى أو والد أو يبيّن سبب الإرث مع اختلاف أسباب الإرث. وهذا بدهي لأنه لا يمكن أن يقول أحد في المحكمة أنا أرث فلان بدون أن يبيّن سبب الإرث وصلة القرابة التي بينهما. ثم - قال رحمه الله - (وتعتبر عدالة البيّنة ظاهرا وباطنا) أفاد المؤلف حكم مسألتين: المسألة الأولى" أنه لا بد من العدالة في البيّنة. المسألة الثانية " أنه تشترط في هذه العدالة أن تكون عدالة ظاهرة وباطنة , أما اشتراط العدالة سيأتينا في كتاب الشهادات ما يتعلق بهذا الشرط مفصلا ودليله العام قوله تعالى {وأشهدوا ذوي عدل منكم} [البقرة/282] فلا بد من العدالة في الشاهد. لكن المؤلف هو في الحقيقة يريد أن يتكلم عن كون البيّنة توصف بالعدالة الظاهرة والباطنة فالعدالة الظاهرة معروفة وهي أن يكون ظاهر الإنسان الابتعاد عن المحرمات وأداء الواجبات , وأما العدالة الباطنة فهي التي لا تتحقق إلاّ بأمرين: أن يكون المعدل صاحبه صحبة طويلة.

الأمر الثاني: أن يكون المعدل عامله معاملة ماليه بهذين الأمرين يمكن الوقوف على العدالة الباطنة استدل الحنابلة على اشتراط العدالة الظاهرة والباطنة أنّ شاهدا أتى عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - فطلب من صاحب الشهادة مزكي فجيء بالمزكي فسأله عمر أسافرت معه أعاملته أصحبته فدلت هذه الأسئلة على أنه لا يكتفى بالتعديل المعرفة الظاهرة ولابد من المعرفة الباطنة وهي مقتضى أسئلة عمر - رضي الله عنه - القول الثاني: أنّ المشترط العدالة الظاهرة فقط دون الباطنة , واستدلوا على هذا بأمرين: الأول" أنّ الأصل في المسلم العدالة ولسنا بحاجة عن السؤال عن باطنه. الثاني: أنّ عمر نفسه - رضي الله عنه - قال المسلمون عدول بعضهم على بعض , والراجح القول الثاني أنّ العدالة الظاهرة يكتفى بها وعليه العمل واشتراط العدالة الباطنة قد يفضي في صور كثيرة إلى تعطيل الشهادة وإذا صح الأثران عن عمر الأول والثاني فالجمع بينهما أنّ لولي الأمر إذا شك أن يتثبت بما شاء إلى الوصول العدالة الظاهرة أو الباطنة أو الاستقصاء أكثر من ذلك فإنّ القاضي قد يقع في ذهنه أو يخطر في باله كذب الشاهد مع عدالة ظاهره فيحتاج إلى نوع من التثبت. ثم - قال رحمه الله - (ومن جهلت عدالته سأل عنه وإن علم عدالته عمل بها) إذا جاء الشاهد إلى القاضي فلا يخلوا الحال من ثلاث. الأول" أن يعلم عدالته حينئذ يجب عليه وجوبا أن يعمل بعلمه بعدالة الشاهد وأن يحكم بمقتضى الشهادة ما لم يوجد مانع. الثاني" أن يعلم فسقه فإنه لا يجوز والحالة هذه أن يحكم بشهادة هذا الشاهد مطلقا ويجب عليه أن يكتفي بعلمه بعدالة الشاهد وبعلمه بفسق الشاهد وعمل القاضي بعلمه في معرفة الشهود ليس من الحكم بعلمه فإنّ الحكم أو العمل بعلمه في عدالة الشهود جائز أما في العدالة فهو محل إجماع وأما في الفسق فلم أقف على خلاف. القسم الثالث: أن لا يعلم هل هو عدل أو ليس بعدل فحينئذ يسأل عنه كما صنع عمر - رضي الله عنه - فإنه سأل عن هذا الشاهد وطلب مزكي. ثم - قال رحمه الله - (وإن جرح الخصم الشهود كلف البيّنة به)

إذا جرح الخصم الشهود فإناّ لا نقبل منه بالجرح إلاّ إذا أتى ببيّنة تثبت هذا الجرح لوجهين: الأول" أنّ الناس يختلفون في الجارح فمن الناس من يعتبر الأمور السهلة من الجوارح ومن الناس من لا يعتبر الأمور الكبيرة من الجوارح فلاختلاف الناس في مقدار ما يجرح به الشاهد صار حتما على القاضي أن يسأل عن سبب وبيّنة الجرح. الثاني: أنّا لو جعلنا كل خصم يجرح بما شاء لم يبقى للمدعين شهود وبهذا تبطل فائدة الشهادة ولا إشكال أنه إذا جرح سيطالب ببيّنة هذا الجرح. ثم - قال رحمه الله - (وأنظر له ثلاثا إن طلبه) يعني أنه إذا جرح الشهود ثم طلب من القاضي أن يمهله ثلاثة أيام ليتمكن من إحضار البيّنة الدالة على جرح الشهود فإنه يجاب إلى هذا الطلب والدليل من وجهين: الأول" أنّ في إلزامه بالبيّنة بأقل من ثلاثة أيام حرج وعسر فإنه قد لا يتمكن من تجميع بيّناته الدالة على جرح الشهود بأقل من ثلاثة أيام. الثاني" أنّ هذا مروي عن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - وهذا صحيح وثلاثة أيام فترة قصيرة لا تخل بمجريات القضية يستثنى من هذا إذا غلب على القاضي أنّ الخصم أراد تطويل الوقت ليس إلاّ وأنه لا يملك البيّنات على الجرح وأنه مجرد افتراء فإنه لا يمهله لا فائدة من الإمهال. ثم - قال رحمه الله - (وللمدعي ملازمته) يعني إذا طلب الإمهال ليجرح البيّنة فإنه يجوز للمدعي أن يلازم المدعى عليه وعللوا هذا بأنّ في الملازمة ضمان في عدم ضياع حق المدعي , والملازمة هي أن يذهب معه حيث ذهب فيصلي معه ويذهب معه إلى السوق ولا يتركه إلاّ إذا دخل بيته. طبيعي أنه إذا دخل بيته لن يدخل معه لكن من حين يخرج إلى أن يرجع فهم من كلام المؤلف أنه لا يحبس وإنما يملك فقط الملازمة وهذا صحيح فإنّ المدعى عليه لا يحبس في الفترة التي طولب فيها الإمهال لأنه لم يثبت عليه حق حتى يحبس ولكن له أن يلازمه. ثم - قال رحمه الله - (فإن لم يأتي ببيّنة حكم عليه)

يعني إذا لم يتمكن من جرح الشهود فإنه يحكم عليه لأنه بعجزه عن جرح الشهود تبيّن أنّ البيّنة تامة وتقدم معنا في أول صفة الحكم أنه إذا تمت البيّنة فإنّ الواجب على القاضي أن يحكم بها فلذلك نقول إذا عجز فإناّ نحكم عليه ونسلم العين إلى المدعي. ثم - قال رحمه الله - (وإن جهل حال البيّنة طلب من المدعي تزكيتهم) إذا جهل حال البيّنة وكأنّ مراد المؤلف ولم يتمكن من السؤال فإنه يكلف المدعي بإحضار مزكي يزكي الشهود وتقدم معنا أنّ القاضي لا يحتاج المزكي إلاّ في حال واحدة. ولا يحتاجهم في حالين: فإذا علم أنهم عدول لا يحتاج المزكين , وإذا علم أنهم فساق لا يحتاج إلى المزكين وإذا لم يعلم احتاج إما أن يسأل أو أن يكلف المدعي بالمزكين. والدليل على تكليف المدعي بالمزكين قصة عمر - رضي الله عنه - فإنه طلب من المدعي أن يأتي بمن يعرف الشهود. مسألة / فإن عرف القاضي فسقهم وأتى المدعي بمعدلين , فإنه يجب على القاضي أن يعمل بعلمه. لأنه الآن يعلم أنهم فساق وأنتم تعلمون أيهم الذي معه زيادة علم؟ الجارح ولا المعدل؟ الجارح وجه أنّ معه زيادة علم أنّ الأصل العدالة إذا يجب عليه أن يعمل في هذه الصورة بعلمه أنّ الشهود فساق ولا يعمل بتعديل من أتى بهم المدعي إلاّ في صورة واحدة إذا تبيّن له أنّ المزكين يتحدثون عن علم حادث من توبة أو صلاح عمل فحينئذ يجب عليه أن يقبل أما إذا لم يتبيّن له أنّ معهم زيادة علم جاءت بعد علمهم بالفسق فإنه يعمل بعلمه هو. ثم - قال رحمه الله - (ويكفي فيها عدلان يشهدان بعدالته) قوله يكفي فيها يعني في التزكية أن يأتي باثنين يشهدان بعدالة هذا الشاهد واستدل الحنابلة على هذا بالآية {وأشهدوا ذوي عدل منكم} [البقرة] والتزكية نوع من الشهادة. والقول الثاني: أنه يكتفى في المزكي بواحد لأنّ المزكي في الحقيقة يخبر وليس بشاهد فنكتفي بمزكي واحد لكن المزكي الواحد لا بد أن يكون عدلا لأنّ المزكي الذي ليس بعدل يحتاج إلى مزكي طالت القضية فإذا لا بد أن يكون المزكي عدلا أما العدد فإنه لا يشترط في المزكي. ثم - قال رحمه الله - (ولا يقبل في الترجمة والتزكية والجرح والتعريف والرسالة إلاّ قول عدلين)

لا يقبل في هذه الأمور إلاّ قول عدلين سواء كان تعريف أو ترجمة أو جرح أو رسالة أو تزكية. الترجمة والتزكية والجرح والرسالة أمرها ظاهر والمقصود منها واضح. والتعريف هو على أصح أقوال العلماء تعريف الحاكم بالمدعي والمدعى عليه والمدعى به والشهود يعني تعريف القاضي بأطراف القضية. ذهب المؤلف إلى أنه يشترط في الترجمة وما بعدها التزكية والجرح أن يشهد بها اثنان واستدل بالآية السابقة. والمؤلف - رحمه الله - خالف في هذه المسألة المذهب فالمذهب وهو: القول الثاني: أنه يشترط العدد المشترط في المترجم والمزكى إلى آخره فإذا كان سيترجم قضية زنا فإناّ نحتاج إلى أربعة مترجمين لأنه في الزنا لا بد من أربعة شهود وهكذا بحسب القضية نشترط على المزكي ومن بعده العدد. والقول الثالث: أنه يكتفى في الجميع بواحد واستدل أصحاب هذا القول بأنّ النبي - صلى الله عليه وسلم - اتخذ مترجما واحدا أمره بتعلم لغة اليهود وهو واحد وسينقل للنبي - صلى الله عليه وسلم - الأخبار والقضايا وكل ما يتعلق بشؤون الحكم. والراجح إن شاء الله هو الأخير. لأنّ المترجم والمزكي إلى آخره مجرد ناقل ومخبر وليس بشاهد إلاّ أنه يحسن بالتجربة عدم الاكتفاء بمترجم واحد لأنّ المترجمين غالبا ما يختلفون لأنّ الترجمة تنبني على أمرين أن يكون جيد في اللغة وأن يكون فاهم للقضية فقد يترجم كلاما خطأ لأنه ما فهم موضوع الحكم وقد يترجم ترجمة خطأ لأنه غير جيد في اللغة وهذا موجود كثير ولهذا أنت لو جربت نسخة من الورقة لأثنين من كبار المترجمين ما يتطابقون نعم قد يتفقون ثمانين بالمئة لكن يحصل بينهم خلاف ففي مجال القضاء مع دقته والحساسية التي فيها ينبغي للقاضي أن لا يكتفي بمترجم واحد. ثم - قال رحمه الله - (ويحكم على الغائب إذا ثبت عليه الحق)

المقصود بالغائب هنا المسافر مسافة القصر والواقع أنّ المؤلف يريد بالغائب هنا كل من أبى الحضور إلى مجلس الحكم فهذا الحكم يتناول كل شخص أبى الحضور إلى مجلس الحكم سواء كان مسافر مسافة قصر أو موجود في البلد ومختفي أو موجود في البلد ولم يختفي لكنه من القوة بحيث يأبى الحضور إلى مجلس الحكم المهم الضابط هو أنه كل من لم يحضر إلى مجلس الحكم معاندة أو سفرا فالحنابلة يرون أنه يحكم عليه واستدلوا على هذا بأمور: الأمر الأول" قصة هند بنت عتبة فإنّ النبي - صلى الله عليه وسلم - حكم لها غيابيا فإنّ الزوج لم يحضر - رضي الله عنه - الثاني: أنّ الامتناع عن الحكم في مثل هذه الصور يؤدي إلى ضياع الحقوق وتقدم معنا الجواب عن حديث هند وأنه فتوى وليس بحكم قضائي. القول الثاني: أنه لا يحكم على غائب واستدل هؤلاء بأنّ الغائب ربما ملك قادحا في بيّنة المدعي فلا يستقيم مع هذا الحكم عليه مع غيابه يعني والترجيح في هذه المسألة محل إشكال ولكن الأقرب أنه يرجع إلى القاضي فإذا علم أنّ الإنسان مسافر سفرا بعيدا لا بقصد التهرب عن مجلس الحكم فإنه لا يسوغ أبدا أن يحكم عليه غيابيا. وإذا عرف أنه متلاعب ويتأخر فإنّ الحكم الغيابي من أعظم الأمور ردعا للمتلاعبين لأنه يستطيع أنه يغيب عن مجلس الحكم وهذا الغياب يكلف المدعي ما يزيد على أربعة أشهر أو خمسة أشهر بالنظر إلى المواعيد إذا هذا نوع من التلاعب وتأجيل الحقوق فالقول بالحكم مطلقا أو عدمه مطلقا محل نظر والواجب أنه يرجع إلى رأي القاضي. مسألة / على القول بأنه يحكم له هل نسلم المدعي العين أو تبقى العين إلى حضور المدعى عليه فيه خلاف من الفقهاء من قال تسلم له ومنهم من قال لا تسلم له والصواب أنها تسلم له ولكن بكفيل يضمن إرجاع العين في حال تبيّن عدم صحة ما قاله المدعي وهذا اختيار المرداوي وهو لا شك قول قوي لأنّ المنع من تسليم العين يجعل الحكم غيابيا لا فائدة منه لأنه إذا قلت له احكم ولكن العين لم نسلمك ما صار في الحكم فائدة وتسليمها إياه مع عدم سماع بيّنة المدعى عليه فيه نوع من الاستعجال. فالوسط أن يسلمها له ولكن نطلب منه كفيل بإحضار العين.

باب كتاب القاضي إلى القاضي

مسألة / إذا حضر الغائب فهو على حججه وبيّناته وقوادحه ولا تعتبر القضية منتهية فإذا حضر وجاء مجلس الحكم وبيّن قوادح وحجج توهن دعوى المدعي فإنّه يأخذ بها ولا يعني الحكم غيابيا أنّ القضية انتهت. ثم - قال رحمه الله - (وإن ادعى على حاضر بالبلد غائب عن مجلس الحكم وأتى ببيّنة لم تسمع الدعوى ولا البيّنة) إذا ادعى على من يمكن أن يأتي إلى مجلس الحكم فإنّ الدعوى لا تسمع وأيضا لا تسمع البيّنة فلا تسمع الدعوى ولا البيّنة وهذا واضح جدا ودليلهم أنّ المدعى عليه موجود ويمكن أن يسمع منه فلا يسوغ مطلقا على من يتمكن من القاضي من السماع منه واستدلوا أيضا بقول النبي - صلى الله عليه وسلم - لعلي لا تحكم حتى تسمع من الآخر. وهذا الأثر سواء كان صحيح أو ضعيف فلا إشكال مطلقا في صحته وأنّ جميع أصول الشرع تدل عليه فمثل هذا الأثر يسوغ في الحقيقة الاستدلال به أو بأصله صح أو لم يصح. باب كتاب القاضي إلى القاضي الأصل في مشروعية كتاب القاضي إلى القاضي , الكتاب والسنة والإجماع. فالكتاب قوله تعالى {إنه من سليمان وإنه بسم الله الرحمن الرحيم} [النمل/30] وأما السنة فأكثر من أن يحصر فإنّ النبي - صلى الله عليه وسلم - كاتب كسرى وقيصر والنجاشي وملوك العرب والعجم وأرسل الولاة بكتبه مما لا يجعل مجال للشك في مشروعية كتاب القاضي إلى القاضي فإن قيل هذا كتاب والي إلى ملك وليس كتاب قاضي إلى قاضي. فالجواب أنّ الشرع إذا أجاز كتابة الوالي إلى الوالي وهي أعظم فكتابة القاضي إلى القاضي من باب أولى وهذا صحيح بلا إشكال واستدلوا على مشروعيتها بأنّ الحاجة ماسة إليها فإنه دائما ما يحتاج القاضي أن يكتب ببيّنة أو بالحكم إلى قاض آخر. قال - رحمه الله - مبيّنا نطاق كتاب القاضي إلى القاضي. قال - رحمه الله - (يقبل كتاب القاضي إلى القاضي في كل حق حتى القذف لا في حدود الله كحد الزنا ونحوه) الدعوى أو المدعى به ينقسم إلى ثلاثة أقسام: - القسم الأول: أن يكون أموال. فإذا كان أموالا فإنه يصح فيه كتاب القاضي إلى القاضي بالإجماع.

القسم الثاني: الحدود فالحدود محل خلاف. القول الأول: أنه لا يشرع كتاب القاضي إلى القاضي في الحدود واستدل هؤلاء بأنّ الحدود مبناها على الدرء بالشبهات وكتاب القاضي إلى قاضي فيه شبهات كثيرة من حيث أنه فيه فرع وأصل ومن حيث وجود الوهم في الكتابة. والقول الثاني: أنها تصح بالحدود قياسا على الشهادة على الشهادة , وقياسا على الأموال هذا القسم الثاني. القسم الثالث: ما عدا الحدود مثل القصاص والنكاح والطلاق والخلع ونحو هذه الأشياء ففيه خلاف المذهب صحة كتابة القاضي إلى القاضي لأنّ أحكام هذه الأشياء ليست مبنية على الدرء بالشبهات بل على الإثبات. والقول الثاني: أنه لا يصح أن يكتب فيها من القاضي إلى القاضي قياسا على الحدود. والراجح أنّ كتاب القاضي إلى القاضي يصح في كل الأشياء بلا استثناء فله أن يكتب إلى القاضي الآخر بجميع أنواع القضايا بلا استثناء لأنه لا يوجد دليل صحيح على الاستثناء إلاّ التوهمات وعلل لا تكفي للمنع. ثم - قال رحمه الله - (ويقبل فيما حكم به لينفذه وإن كان في بلد واحد) إذا حكم القاضي بشيء وأرسل بالحكم لقاض آخر لينفذه فقط فإنّ القاضي الثاني ملزم بتنفيذ الحكم مطلقا ومعنى مطلقا أي سواء كان القاضي المكتوب إليه قريب أو بعيد والقريب والبعيد في عرف الفقهاء هو مسافة القصر واستدلوا على هذا بأنّ حكم القاضي ملزم واجب التنفيذ فعلى من وصله من الحكام أن يعمل به مقصودهم بهذا الكلام أنّ حكم القاضي أعطاه الشارع قوة للتنفيذ فهو يحمل في طياته بيانا وإلزاما كما تقدم معنا في أول كتاب القضاء فهذه القوة التي جعلها الله في حكم القاضي إذا وصلت إلى القاضي الآخر أصبح ملزما بها وهذا لا إشكال فيه. ثم - قال رحمه الله - (ولا يقبل فيما ثبت عنده ليحكم به إلاّ أن يكون بينهما مسافة قصر) إذا كتب له بما ثبت عنده ليحكم القاضي الثاني به فحينئذ لا يجوز إلاّ إذا كان بينهما مسافة قصر فإن كان بينهما دون مسافة القصر فإنه لا يجوز وعللوا هذا بأنّ هذا الكتاب لا حاجة إليه لأنّ القاضي القريب بإمكانه أن يباشر القضية بنفسه.

والقول الثاني: أنه يعمل بما ثبت عند القاضي إذا أرسل به إلى قاض آخر ليحكم به لأنّ الحاجة قد تدعوا إلى هذا والحاجات كثيرة منها على سبيل المثال في وقتنا هذا أن ينظر القاضي في قضية إلى أن تستوي القضية استوفى الشهود والقضية لم يبقى شيء لم يبقى إلاّ مشكلة واحدة وهو أنه بدء في إجازة القاضي الناظر في القضية. وهو لا يريد أن يحكم باستعجال فحينئذ من المصلحة أن نقول اكتب بما ثبت عندك ليحكم به القاضي الآخر بدل أن تعطل القضية لمدة شهر أو لمدة شهرين. فهذه من الأمثلة المعاصرة وهي توجد بكثرة. من أمثلة ما يسوغ ذلك أن يكون المحكوم عليه من أقرباء أو أصدقاء القاضي مما يستحي معه النطق بالحكم فيرسل به إلى قاض آخر ليحكم به , من أمثلة القضية. وهو مثال مهم أن يكون القاضي المكتوب إليه يجيد هذه القضايا أكثر من القاضي الذي باشر القضية أول مرة فالقاضي الأول أراد أن يجمع كل ما يتعلق بالقضية فإذا لم يبقى إلاّ النظر والحكم أسنده إلى قاض يحسن مثلا هذا النوع من المعاملات فهو في الحقيقة لا شك أنّ القول بصحته مقتضى قواعد الشرع وهو القول الراجح إن شاء الله. ثم - قال رحمه الله - (ويجوز أن يكتب إلى قاض معيّن وإلى كل من يصل إليه كتابه من قضاة المسلمين) معنى هذه العبارة أنّ القاضي لا يشترط أن يكتب معيّن بل له أن يكتب إلى معيّن وله أن يكتب إلى من يراه من قضاة المسلمين لأنه لا يوجد دليل على اشتراط أن يكون الكتاب موجه إلى قاض معيّن ولأنّ حكم القاضي ملزم سواء كان لهذا القاضي أو لذاك فلا معنى للتعيين ألسنا اتفقنا أنّ حكم القاضي ملزم إذا لسنا بحاجة إلى التعيين. والقول الثاني: وهو للأحناف أنه يشترط في كتاب القاضي إلى القاضي أن يعيّن وأن يكتب أنه من فلان إلى فلان لأنّ هذا أضبط للقضية وأدعى لتطبيقها ولئلا يتدافعها القضاة المكتوب إليهم ومذهب الأحناف لا شك أنه هو الراجح إن شاء الله وهو مذهب قوي وكتابة كتاب فيه حكم في قضية من قضايا بين المسلمين إلى غير معيّن فيه نوع من عدم الاهتمام بل يجب أن يكتب إلى قاض معيّن ومن حيث العمل لا يوجد إلاّ الكتابة من قاض معيّن إلى قاضي معيّن.

باب القسمة

ثم - قال رحمه الله - (ولا يقبل إلاّ أن يشهد به القاضي الكاتب شاهدين يحضرهما فيقرأ عليهما .... الخ) يشترط في كتاب القاضي إلى القاضي أن يشهد عليه اثنان من العدول فيقول اشهدوا أنّ هذا الكتاب كتبته أنا لفلان فيبيّن للشهود الكاتب والمكتوب إليه والمكتوب. والقول الثاني: أنه لا يشترط بل يكفي أن يرسل الكتاب مع واحد واستدل هؤلاء أنّ عمل المسلمين والخلفاء الراشدين والنبي - صلى الله عليه وسلم - على هذا فإنه يرسل كتبه مع رجل واحد. والأمر كما قال ابن القيم جرى عمل المسلمين على الاكتفاء بواحد. اليوم بطبيعة الحال لا يذهب مع واحد ولا مع اثنين. وإنما يذهب بطريقة آلية ولا يقال إنّ من يحمله هو الواحد لأنّ هذا الواحد لا يعرف شيء عن هذا الخطاب ولأنه سيسلمه لثان وربما انتقل آليا. هل يجوز كتابة القاضي إلى القاضي بالإيميل؟ يبدوا لي أنا الإيميل إذا كان باسم القاضي الصريح وليس باسم مستعار وأخبر المرسل المرسل إليه بعنوان البريد أنّ هذا جائز بل هو أوثق أحيانا وأسرع من اليدوي. الفاكس؟ إذا توفرت الضمانات بأن عرف رقم المرسِل والمرسل إليه وكان بينهما تنسيق فكذلك ما يوجد مانع مدام توجد توثقات. باب القسمة باب القسمة. القسمة اسم مصدر ومأخوذة من قسمت الشيء بمعنى جعلته أقساما. وأما في الاصطلاح / فهي تمييز بعض الأنصباء عن بعض. ما هي مناسبة باب القسمة في كتاب القضاء كما سيأتينا أنها تشبه أبواب المعاملات؟ أنه يوجد في القسمة إلزام. والإلزام من شأن القضاء ونحن نقول الآن كما سيأتينا قسمة إجبار وقسمة تراضي مع ذلك بالنسبة لي أنا شخصيا لا أرى أيّ مبرر لوضع القسمة هذه في كتاب القضاء لم أقتنع منذ زمن بترتيب الفقهاء بوضع هذا الباب هنا وهو كما سيأتينا أنسب ما يكون في كتاب إما الشركة أو كتاب البيوع لكن هم روأ هذه القضية أنه فيه إلزام وهذا ليس بمسوغ في الحقيقة من وجهة نظري. ثم - قال رحمه الله - (لا تجوز قسمة الأملاك التي لا تنقسم إلاّ بضرر أو رد عوض إلاّ برضا الشركاء) تنقسم القسمة إلى قسمين: 1 - قسمة تراضي. 2 - قسمة إجبار.

بدأ المؤلف بقسمة التراضي وقسمة التراضي هي القسمة التي لا يجوز أن تفعل إلاّ برضا الطرفين بدأ بها معرّفا فقال [لا تجوز قسمة الأملاك التي لا تنقسم إلاّ بضرر أو رد عوض إلاّ برضا الشركاء] إذا ترّتب على القسمة أحد أمرين: الضرر أو العوض. فإنه لا يجوز القسمة إلاّ برضا الطرفين واستدل الحنابلة على هذا بأمرين: أما إذا ترّتب عليها ضرر فالدليل قوله - صلى الله عليه وسلم - لا ضرر ولا ضرار فإذا كانت القسمة تقتضي ضررا على أحدهما فإنها لا تجوز. وأما إذا كانت تقتضي بذل العوض فإنها تصبح من البيع وأخذنا في كتاب البيوع أنّ اشتراط الرضا محل إجماع ولهذا لا يجوز أن يجبر أي منهما على إجراء القسمة إذا كان فيها رد عوض إذن قسمة التراضي هي كل قسمة يترتب عليها ضرر أو دفع عوض وهذا الذي أراد الشيخ بيانه. يقول الشيخ. لا تجوز قسمة الأملاك التي لا تنقسم إلاّ بضرر أو رد عوض. لم يبيّن المؤلف ما هو الضرر والضرر محل خلاف. فالقول الأول: أنّ الضرر هو كل قسمة تنقص من قيمة العين سواء أمكن الانتفاع بالجزء المقسوم أو لم يمكن وهذا هو المذهب القول الثاني: أنّ الضرر هو أن لا يمكن الإنتفاع بالنصيب بعد القسمة فإن أمكن الانتفاع فليس بضرر وهذا القول الثاني اختيار الشيخ ابن قدامة ويبدوا لي أنّ أرجح الأقوال أنّ الضرر يحصل بنقص القيمة وبعدم الانتفاع. مثال إذا كان زيد وعمرو مشتركين في بيت قيمة البيت قبل القسمة عشرة ملايين وقيمته بعد القسمة خمسة ملايين هل هذا ضرر أو ليس بضرر؟ ضرر واضح كبير لا شك فيه المثال الذي يتعلق بالقول الثاني: أن يشترك زيد وعمرو في متجر لو قسم هذا المتجر لم يتمكن أيٌ منهما أن يعرض بضاعته فالآن بعد القسمة هل ينتفع بقسمه أو لا ينتفع هل هذا ضرر أو ليس بضرر لا شك أنه ضرر ولهذا أنا أقول الراجح إن كان قيل به أنّ الضرر يشمل الأمرين. ثم - قال رحمه الله - ممثلا (كالدور الصغار , والحمام والطاحون الصغيرين)

بدأ الشيخ بأمثلة الضرر وذكر له ثلاثة أمثلة: المثال الأول: أن تكون الدار صغيرة. لو قسمت لم يستمتع بها أحد منهما لصغرها وعدم كفايتها. الثاني: أن يكون الحمام والحمام هو موضع الاغتسال لا موضع قضاء الحاجة أن يكون هذا الحمام صغيرا إذا قسم لم يقوم بالمهمة المنوطة به من دخول الناس والتنظف. الثالث: الطاحون الصغير وهو كذلك إذا قسم لم يتمكن من طحن متاع الناس وطعامهم ولهذا نقول لما ترّتب على القسمة الضرر صارت قسمة رضا وليست قسمت إجبار. ثم بدأ بأمثلة رد العوض فقال - رحمه الله - (والأرض التي لا تتعدل بأجزاء , ولا قيمة كبناء أو بئر في بعضها) الأرض لا يمكن أن تتعدل إلاّ بالأجزاء أو بالقيمة فإذا لم يمكن أن تتعدل لا بالأجزاء ولا بالقيمة صارت قسمة هذه الأرض من قسمة التراضي أمثلة التعدل بالأجزاء أن يملك زيد وعمرو أرض مساحتها خمسة آلاف أو ستة آلاف وهي أرض لا يوجد فيها بناء ولا أي شيء فهذه الأرض يمكن أن تقسم بالأجزاء بأن يأخذ أحدهما النصف والآخر يأخذ النصف الآخر هذه يمكن أولا يمكن؟ يمكن. القسم الثاني: التعديل بالقيمة والتعديل بالقيمة أن يملك زيد وعمرو أرضا إلاّ أنّ عليها بناء أو بئر وهذا البناء أو البئر يوجد في جزء من الأرض فإذا قسمنا فالقسم الذي فيه البئر أو البناء لا شك أنه أرفع ثمنا من القسم الذي ليس فيه بئر ولا بناء ويكون التعديل بأن نعطي صاحب الأرض الفارغة من الأمتار ما يرفع قيمتها إلى أن تصبح مساوية للأرض أو للقسم الذي فيه بئر أو بناء. إذا لم يمكن التعديل إلاّ بهذه الطريقة فهي قسمة تراضي ولهذا نقول أنّ النسخة اللي أشار إليها المحقق وهي قوله لبناء النسخة هي الصحيحة هو المعنى المراد فيكون المعنى والأرض التي لا تتعدل بأجزاء ولا قيمة لبناء فيها أو بئر في بعضها. هذه النسخة في الحقيقة جيدة والذين أثبتوا نسخة الكاف اضطروا إلى تأويلها ونحن لا نحتاج إلى تأويل مادام توجد نسخة موافقة للمعنى الصحيح. ثم - قال رحمه الله - (فهذه القسمة في حكم البيع)

يعني أنّ قسمة التراضي المذكورة والمشروحة سابقا حكمها حكم البيع في جميع الأحكام فيشترط لها شروط البيع وفيها خيار مجلس وفيها خيار عيب وفيها خيار شرط وكل الأحكام التي تنبني على وجود عقد البيع تنبني معنا هنا وله أن يرجع مادام في المجلس وهذه من أعظم حقوق قسمة التراضي والسبب أنهم جعلوا هذه القسمة حكمها حكم البيع أنه يشترط في هذه القسمة التراضي ونحن نقول البيع هو مبادلة مال بمال بعد الرضا وهذا التعريف ينطبق معنا في هذه القسمة فإذا صارت بيعا وهذا صحيح. ثم - قال رحمه الله - (ولا يجبر من امتنع من قسمتها) هذا تفريع على تقرير أنها قسمت تراضي فإذا قررنا أنها قسمة تراضي فينبني على هذا أنه لا يجبر أحد منهما وتعليل هذا الحكم أنّ في إجبار أي منهما إدخال الضرر عليه , إما بالقسمة المضرة أو بإلزامه بقبول عوض هو لا يريده وذلك نقول التعليل الأقرب بدل تعليل الحنابلة انه إدخال الضرر أنّ نقول هو إما إدخال الضرر أو إدخال الظلم لأنه في صورة العوض ظلم وفي صورة الضرر ضرر. بقينا في مسألة إذا كان الشرع لا يجيز القسمة إلاّ بالتراضي فما هو السبيل لخلوص أيّ من الشريكين من الشركة كيف يخرج من الشركة إذا كان لا يستطيع القسمة فكيف يخرج من الشركة الفقهاء يرون أنه يخرج بأن يلزم بالبيع فنقول أنتم ملزمون بالبيع ويأخذ الثمن يقسّم على الشريكين فإن أراد أحدهما أن يمتلك العين فنقول أدخل أنت كأي مشتر واشتري فإن أبى أحد منهم البيع أجبره القاضي لأنه لا يمكن رفع الضرر عن الشريك الذي أراد الخروج إلاّ بالإلزام بالبيع هل يوجد طريقة أخرى للخروج من الضرر غير البيع؟ لا توجد طريقة لكن أنا حبيت أشوف واختبركم. ثم - قال رحمه الله - بادئا بالقسم الثاني (وأما ما لا ضرر , ولا رد عوض في قسمته .... الخ) القسم الثاني: هو ما لا ضرر فيه ولا رد عوض فهو قسمة إجبار ومعنى قسمة إجبار أنه إذا طلب أحد من الشريكين القسمة أجبر الآخر إجبار عليها لأنه لا ضرر. يقول - رحمه الله - (كالقرية , والبستان , والدار الكبيرة والأرض والدكاكين الواسعة)

القرية والبستان لفظ لا يطلق إلاّ على كبير ولهذا لم يقل كالقرية الكبيرة ولم يقل كالبستان الكبير لأنّ القرية لا تكون قرية إلاّ وهي كبيرة والبستان كذلك. ثم قال كالقرية والبستان وقلنا أنّ هذه الأعيان كبيرة يمكن أن تقسم بلا ضرر وعلى أيّ منهما. ثم - قال رحمه الله - (المكيل والموزون) المكيل يختص بأشياء والموزون بأشياء فالحبوب والثمار والمائعات كلها مكيلة , والذهب والفضة والمعادن كلها موزونة , لكن اشترط شرطا فقال - رحمه الله - (من جنس واحد كالأدهان , والألبان ونحوها) يشترط في المكيل والموزون أن يكون من جنس واحد لأنه لو كان من جنسين لكانت مبادلة نوع بنوع وهو نوع من البيوع ونحن نقول أنّ البيوع تحتاج إلى الرضا. ثم - قال رحمه الله - (إذا طلب الشريك قسمتها أجبر الآخر عليها) يجبر الشريك في قسمة الإجبار على أن يقسم مع شريكه وعللوا هذا بأنّ في هذا الإجبار رفع للضرر عن الشريك الآخر ووجه ذلك أنّ الإنسان إذا تفرد بنصيبه استطاع أن يفعل فيه ما لا يتمكن منه مع شريكه فبإمكانه أن يبني أو أن يغرس ومثلوا بهذين المثالين لأنهما من الأشياء النافعة للشريك متى استقل بقسمها. ثم - قال رحمه الله - (وهذه القسم إفراز لا بيع) هذه القسمة ليست بيع ولا يشترط لها شروط البيع وإلاّ لم تكن قسمة إجبار بل هي إفراز يعني مجرد تمييز نصيب أحدهما عن نصيب الآخر. والقول الثاني: أنها بيع لأنّ كل واحد منهما يشتري نصيب شريكه المشاع والصحيح أنها إفراز وليست ببيع ولو كان في ظاهر العقد يوجد مبادلة لكنها مبادلة صورية وليست مبادلة على سبيل العوض. ثم - قال رحمه الله - (ويجوز للشركاء أن يتقاسموا بأنفسهم وبقاسم ينصبونه أو يسألوا الحاكم نصبه) بيّن أنّ القسمة على ثلاثة أنواع: 1 - إما أن يتقاسموا بأنفسهم. 2 - أو أن ينصبوا هم رجلا يقسم بينهم. 3 - أو أن يذهبوا إلى الحاكم.

والجميع جائز بلا خلاف لأنّ الحق بينهما لا يخرج عنهما فلهما أن يستوفياه بماشاءا من الطرق لكن يشترط أن يكون القاسم أمينا عارفا بالقسمة فإن وضعا هما رجلا جاهلا أو فاسقا , فإنّ القسمة ليست بملزمة إلاّ بعد الرضا الثاني. فإذا أتيا برجل متدين وفيه خير وأمانة إلاّ أنه لا يحسن كيفية القسمة فإنّ قسمته ليست بملزمة للطرفين فإن شاء بعد ذلك قبلا وإن شاء ردا. ثم - قال رحمه الله - (وأجرته على قدر الأملاك) أجرة القاسم على قدر الأملاك لا على حسب ما اتفقوا عليه فإذا كان أحدهما يملك ثلاثة أرباع العين والآخر يملك ربع العين وأتوا بشخص عارف أمين ليقسم بينهما بأجرة فإنّ على من يملك ثلاثة أرباع العين ثلاثة أرباع الأجرة وعلى من يملك الربع ربع الأجرة. والقول الثاني: أنه بحسب ما اتفقوا عليه فإذا اتفقوا أن يدفع صاحب الربع نصف الأجرة وصاحب ثلاثة أرباع نصفها صح لعموم قول النبي - صلى الله عليه وسلم - المسلمون على شروطهم وهذا القول الثاني هو الصحيح إن شاء الله. يقول الشيخ - رحمه الله - (فإذا اقتسموا أو اقترعوا لزمت القسمة , وكيف اقترعوا جاز) إذا اقتسموا وانتهت القسمة فليس لأحد الرجوع سواء اقتسموا هم أو بقاسم أتوا به هم أو حكم بينهما القاضي إذا انتهت القسمة فإنه لا يجوز لهم الرجوع ويعتبر إلزام لأنّ قسمة القاسم كحكم القاضي فهي ملزمة ويستثنى من هذا إذا رجعوا قبل أن يبدأ بالقسمة فلهم ذلك أما بعد القسمة فإنه لا يجوز الرجوع لأنّ هذا يؤدي إلى أنه لا فائدة من القسمة. يقول الشيخ - رحمه الله - أخيرا (وكيف اقترعوا جاز) يعني أنّ الشارع الحكيم لم يبيّن طريقة معيّنة محددة لإجراء القرعة بل لهم أن يقترعوا حسب ما يرونه مناسبا بالطريقة التي يرونها مناسبة

باب الدعاوى والبينات

الدرس: (4) من القضاء قال شيخنا حفظه الله: بسم الله الرحمن الرحيم والحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين. باب الدعاوى والبيّنات قال - رحمه الله - باب الدعاوى والبيّنات. الدعوى في لغة العرب / هي الطلب وأما في الاصطلاح فهي إضافة الإنسان لنفسه استحقاق ما في يد غيره أو ذمته. وأما البيّنات فهي جمع بيّنة والبيّنة في الأصل هي الدلالة الواضحة أو الحجة الواضحة. وأما في الاصطلاح / فهي عند الفقهاء عبارة عن الشاهدين , أو الشاهد مع اليمين والأربعة شهود ونحو هؤلاء فهذه هي البيّنات عند الفقهاء. والقول الثاني: أنّ البيّنة هو كل ما أبان الحق سواء كان بالشهود والأيمان أو بغيرها مما يدل على المصيب من المتخاصمين وهذا الثاني هو الذي اختاره ابن القيم وهو الأقرب. قال - رحمه الله - (المدعي من إذا سكت ترك) المدعي هو كل من إذا سكت ترك لأنه هو الطالب والطالب إذا سكت ترك وقيل أنّ المدعي هو من يطالب غيره بحق في يده أو ذمته يعني في يد المطلوب أو ذمته. وهذا في الواقع هو الصحيح وهذا هو التعريف. لأنّ قولهم من إذا سكت ترك أخذنا أنه إذا تقدم المدعي إلى مجلس الحكم فإنّ القاضي ينبغي أن لا يستمر في السكوت إلى أن يتكلم أحدهما بل ينبغي أن يبادر فيقول أيّكما المدعي فالتعريف الثاني هذا هو الصواب. ثم - قال رحمه الله - (والمدعى عليه من سكت لم يترك) لأنه مطلوب والمطلوب لا بد أن يجيب إما بالإقرار أو بالإجابة عن بيّنة المدعي , وقيل أنّ المدعى عليه هو من يطالب بحق ومن يطالب بحق لغيره وهذا أيضا هو التعريف الأقرب إن شاء الله. ثم - قال رحمه الله - (ولا تصح الدعوى والإنكار إلاّ من جائز التصرف) جائز التصرف هو من جمع ثلاث خصال البلوغ والعقل والرشد. يعني التكليف مع الرشد فهذا شرط لصحة الدعوى لأنّ من لا يصح قوله لا يصح تصرفه في الأموال فإذا كنا لا نصح تصرفه فلا نصحح قوله وإذا لم نصحح قوله لم نصحح تصرفه. ثم - قال رحمه الله - (وإذا تداعيا عينا بيد أحدهما فهي له مع يمينه)

إذا تداعيا عينا هي في يد أحدهما فهي لمن العين بيده لكن مع يمينه ودل على هذا الحكم قول النبي - صلى الله عليه وسلم - لو يعطى الناس بدعواهم لا ادعى قوم دماء ناس وأموالهم. ولكن اليمين على المدعى عليه. فهذا الحديث يعتبر قاعدة هذا الباب وهو أنّ الإنسان لا يعطى بمجرد الدعوى ولهذا تجد المؤلف - رحمه الله - (إذا تدعيا عينا بيد أحدهما فهي له لكن مع يمينه يعني فإنها تبقى معه لأنّ الآخر لم يأتي ببيّنة. ثم - قال رحمه الله - (إلاّ أن تكون له بيّنة فلا يحلف) إذا تداعيا عينا بيد أحدهما وأيضا من العين بيده معه بيّنة على أنها له فإنّ العين تبقى بيده بلا يمين إلى هذا ذهب جماهير السلف والخلف من التابعين والأئمة وجماهير السلف والخلف واستدلوا على هذا بأنّ البيّنة إنما وضعت شرعا لتبيّن مع من الحق فإذا بيّنت أنّ الحق مع صاحب اليد لم نعد بحاجة إلى اليمين. والقول الثاني: مذهب شريح فإنه ألزم مع البيّنة باليمين يعني لم يكتفي بمجرد بالبيّنة بل أضاف إلى هذا اليمين ولما قيل له ما هذا الذي أحدثت قال أحدث الناس فأحدثت. وهذه العبارة تدل على أنه - رحمه الله - كان متفرد بهذا القول في زمن التابعين لأنّ السائل وصفه بأنه أحدث القول وأيضا شريح لم ينكر ولم يقل بل لي سلف والصحيح إن شاء الله أنّ طلب اليمين مع البيّنة يعود إلى القاضي فإنه إذا شك في بيّنته ورأى أن يلزمه مع ذلك باليمين فله ذلك لاسيما مع فساد الزمان وضعف الذمم وضعف التدين. ثم - قال رحمه الله - (فإن أقام كل واحد بيّنة أنها له قضي للخارج ببيّنته ولغت بيّنة الداخل) الداخل هو من العين بيده , والخارج هو من العين ليست بيده فالمذهب إذا تداعى رجلان كل منهما له بيّنة والعين بيد أحدهما فالحكم أنها تعطى لبيّنة الخارج يعني لمن لم تكن العين بيده واستدلوا على هذا بأدلة: الدليل الأول" أنّ النبي - صلى الله عليه وسلم - قال البيّنة على المدعي واليمين على من أنكر. فحصر النبي - صلى الله عليه وسلم - البيّنة في جانب المدعي فبيّنة المدعي هي المعتبرة.

الثاني" أنّ بيّنة المدعي فيها زيادة والقاعدة أنّ من معه زيادة يقبل. وجه الزيادة يقرره الدليل الثالث وهو أنّ بيّنة من بيده العين قد تكون استفيدت من كون العين بيده فشهد معه لأنه يرى العين بيده وهي أدلة كما ترى وجيهة وترفع الاستغراب الذي قد يقع للناظر في هذه المسألة. القول الثاني: وهو للجمهور أنها تكون لمن بيده العين لأنّ من بيده العين معه اليد والبيّنة وهذا القول الذي ذهب إليه الجمهور هو القول المتبادر إلى الذهن إذا اجتمع رجلان مع كل منهما بيّنة إلاّ أنّ إحدهما معه أيضا اليد فإنه يرجح باليد وهذا هو الراجح إن شاء الله بقينا في مسألتين إذا كانت العين ليست في يد أيِّ منهما , وإذا كانت العين في يد كل منهما! فالحكم أنهما يتحالفان ويتناصفان العين لأنه ليس لأحد منهما ما يدل على رجحان جانبه. وهذه المسائل وإن كانت تقرر بهذا الشكل إلاّ أنه لا يخفى على الإنسان أنّ القاضي إذا عرضت عليه القضية لا يجمد على مثل هذه الأقوال بل يتحرر ويلتمس الحق حيث كان ويتأمل في البيّنات وأوضاع المتكلم وأوضاع المتداعيين وطبيعة العين يعني أنا أخشى ما أخشاه أنّ الإنسان يفهم الأقوال قوالب أنّ القاضي إذا جاءه مثل هذه المسائل يحكم بهذه الطريقة أنّ العين بيد فلان إلى آخره هذا هو الأصل ولكن القاضي عليه أن يتحرى وأن يكون مقصوده وهمّه هو إيصال الحق إلى صاحبه بأيّ طريقة كانت. بهذا انتهى الكتاب وننتقل إلى الشهادات.

كتاب الشهادات

كتاب الشهادات الدرس (1) من الشهادات قال - رحمه الله - كتاب الشهادات. مناسبة الإتيان بكتاب الشهادات بعد القضاء من وجهين: الوجه الأول: أنّ الشهادة لا تقبل إلاّ في مجلس القضاء فشابهت القضاء الذي لا يكون إلاّ في مجلسه. الثاني: أنّ في كل بين الشهادة والقضاء قاسم مشترك وهو أنه ينتفع بها أحدهما ويتضرر الآخر وهذا قاسم مشترك بين القضاء والشهادة ولهذين السببين ناسب أن يذكر الفقهاء كتاب الشهادات بعد كتاب القضاء. والشهادات جمع شهادة. والشهادة في لغة العرب / هي الإخبار بصحة الشيء عن مشاهدة لا عن ظنّ وتخمين وأما في الشرع فهي قريبة من هذا المعنى فالشهادة في الشرع: هي الإخبار بصدق أحدهما في مجلس القضاء بلفظ الشهادة.

والشهادة مشروعة بالكتاب والسنة والإجماع. وستأتي إن شاء الله الأدلة. قال - رحمه الله - (تحمّل الشهادة في غير حق الله فرض كفاية) تحمل الشهادة فرض كفاية إذا قام به من يكفي سقط الباقين. والدليل على هذا قوله تعالى {ولا يأب الشهداء إذا ما دعوا} [البقرة/282] ومعنى الآية عند الحنابلة إذا ما دعوا ليتحملوا الشهادة واعترض على هذا القول بأنّ الآية إنما هي في الأداء وليست في التحمل ولا يستقيم أن نستدل بها على التحمّل. والجواب على هذا أنّ الصحيح من أقوال المفسرين الذي ذهب إليه الحسن وغيره أنها في التحمل والأداء فيصلح أن يستدل بها الحنابلة فإذن تحمل الشهادة فرض كفاية إذا لم يقم به من يكفي فإنّ الجميع آثمون فإذا دعي الإنسان إلى أن يشهد واستطاع أن يشهد وعلم أنه لن يشهد معه أحد أو سيتخلف الناس فهو آثم إن لم يشهد مع أخيه. يقول الشيخ - رحمه الله - (في غير حق الله) أفادنا المؤلف أنه في حقوق الله فإنّ الشهادة لا تعتبر فرض كفاية وهي عند الحنابلة مباحة أو يستحب تركها واستدلوا على هذا بأنّ الحدود مبنية على الستر والدرء بالشبهات والنبي - صلى الله عليه وسلم - يقول من ستر مؤمنا في الدنيا ستره الله في الآخرة. فدلت هذه النصوص على أنّ تحمل الشهادة في باب الحدود مباح أو يستحب تركه. والأقرب والله أعلم أنه يستحب تركه لأنّ النصوص المروية عن الصحابة تميل إلى هذا المعنى في باب الحدود. مسألة / هو يستحب تركه إذا لم يكن من أتى الحدود معروفا بالفساد والشر والإيذاء فإن كان معروفا بذلك فإنّ التحمل في حقه يعني في الشهادة عليه يدور بين الاستحباب والوجوب فكل ما كان شره أكبر صار واجبا. وكل ما كان شره أقل صار مستحباً. ثم - قال رحمه الله - (وأداؤها فرض عين على من تحملها)

إذا تحمل الإنسان الشهادة فالأداء فرض عين. لقوله تعالى {ولا تكتموا الشهادة ومن يكتمها فإنه آثم قلبه} [آل عمران/187] وهذا صريح في أنّ أداء الشهادة فرض عين ومن المعلوم أنّ أداء الشهادة فرض عين على من تحملها. والقول الثاني: أنّ أداء الشهادة أيضا فرض كفاية. والمسألة تتصور فيما إذا تحمل أكثر من واحد فإذا لم يتحمل إلاّ واحد فإنّ الخلاف يلتغي لأنه إذا كان فرض كفاية ولم يتحمل إلاّ هو أصبح فرض عين عليه إنما يتصور فيما إذا كانوا أكثر من واحد والصواب مذهب الحنابلة وهو انه فرض عين. لأنّ القول بأنه فرض كفاية يؤدي إلى تدافع الشهادة وهي تؤدي بدورها إلى ضياع الحقوق الأقرب إن شاء الله أنه بالنسبة للأداء فرض كفاية ونحن نشاهد في الواقع ونسمع من كثير من الناس أنّ الإشكال في الأداء قد يكون أكبر من الإشكال في التحمل أليس كذلك؟ التحمل ممكن يأتي وينظر في القضية ويتحمل ويشهد. ثم متى طلب منه الأداء حصل التردد والتلكأ والتباطؤ وكثيرا ما يكون هذا التردد سببا في ضياع الحقوق ولذلك نقول أجاد الحنابلة كل إجادة في اعتبار الأداء فرض عين. قال - رحمه الله - (متى دعي إليها) يعني أنه يشترط للوجوب أن يدعى إليها فإن لم يدعى إليها فإنه لا يجب عليه. والدليل على هذا أنّ النبي - صلى الله عليه وسلم - ذمّ قوما من الناس يأتون آخر الزمان يشهدون ولا يستشهدون. فدل الحديث على أنّ من بذل الشهادة بلا طلب منه فهو مذموم ولهذا اشترط الحنابلة للوجوب أن تطلب منه.

والقول الثاني: أنّ الشهادة إذا لم تكن معلومة للمشهود له فإنّ بذلها واجب ولا ينتظر بها الطلب لأنّ المشهود له لا يعرف أصلا بهذه الشهادة وإذا لم يعرف بها فإنّ بذلها يصبح واجبا لئلا يضيع الحق على أصحابه وهذا القول إن شاء الله هو الراجح ولا يخفى أنّ هذا القول هو الراجح لأنه المشهود له نفترض فيه أنه لا يعرف الشهادة ولا يدري أنّ زيد أنّ زيد يشهد له أو يمتلك معلومة تفيده في القضية حينئذ نقول إذا علمت بهذا فإنه يجب أن تبذل الشهادة وهذا القول هو المتعيّن ويستوي في هذا ما إذا كان الشاهد يعلم أنّ المشهود له لا يعرف عن شهادته شيئا أو إذا كان يجهل هل يعلم أو لا يعلم. فأيضا في هذه الصورة يجب أن يبذل الشهادة لماذا؟ لأنه قلنا نحن أنّ كتاب القضاء كله في الشرع إنما شرعه الله لإيصال الحق إلى أصحابه فكل ما من شأنه أن يؤدي إلى إيصال الحق إلى أصحابه فهو واجب. الشرط الثاني قال - رحمه الله - (وقدِر بلا ضرر في بدنه أو عرضه أو ماله أو أهله وكذا التحمل) يشترط للتحمل والأداء أن لا يترتب على أيّ منهما ضرر فإن ترتب عليه ضرر فإنه لا يكلف لا أن يتحمل ولا أن يشهد لقول النبي - صلى الله عليه وسلم - لا ضرر ولا ضرار. واستدل الحنابلة أيضا بتعليل جميل وهو أنه لا يجب على الإنسان أن ينفع غيره بما يضر به نفسه هذه كالقاعدة. ولهذا نحن نقول يجب على المسلم أن ينقذ الغريق إذا كان يحسن السباحة فإذا كان لا يحسن فإنه لا يجب عليه وهذه ترجع لهذه القاعدة المذكورة. ثم - قال رحمه الله - (ولا يحل كتمانها) كأنّ المؤلف ذكر هذا ليرتب عليه ما بعده. وأما تحريم الكتمان فهو مستفاد من ماذا؟ كونها فرض عين فنحن نقول دليل تحريم الكتمان أنّ الأداء فرض عين لكن لعل الشيخ - رحمه الله - ذكرها ليرتب عليها ما بعدها. قال - رحمه الله - (ولا أن يشهد إلاّ بما يعلمه)

يشترط للشهادة أن يكون الشاهد عالما بما يشهد لقوله تعالى {ولا تقف ما ليس لك به علم} [الإسراء/36] ولقوله {إلا من شهد بالحق وهم يعلمون} [الزخرف/86] ولما يروى عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال أترى الشمس على مثلها فاشهد. وهذا الحديث ضعيف أو ضعيف جدا ولكن لا إشكال في صحة معناه وهو معنى صحيح محفوظ في الشرع. والشهادة بغير علم من شهادة الزور والظلم وصاحبها آثم لأنّ من شروط الأداء وهو شرط صحة لا شرط وجوب أن يشهد بما يعلم. ثم - قال رحمه الله - مرتبا على هذا (برؤية أو سماع) لما قرر الشيخ أنّ العلم واجب أراد أن يبيّن طريقة العلم. فبيّن أنه لا يمكن أن نعلم عن شيء إلاّ من خلال ثلاثة أمور السمع والبصر والاستفاضة , لا يمكن للإنسان أن يعرف خبر إلاّ بالسمع أو البصر أو الاستفاضة. بدأ الشيخ بالأصل وهو السمع والبصر والغالب على البصر أن يعلم به الأفعال والغالب على السمع أن يعلم به العقود والأقوال. أليس كذلك؟ والسمع والبصر من أدوات العلم التي أجمع عليها الفقهاء والعلماء والعقلاء لأنّ الإنسان إنما يعرف الأشياء بسمعه أو ببصره. ثم - قال رحمه الله - (أو الاستفاضة) الاستفاضة في اللغة وفي الاصطلاح / هي ذيوع الشيء وانتشاره. فإذا ذاع وانتشر فهو استفاض هذا في اللغة وفي الاصطلاح. يقول - رحمه الله - (أو استفاضة فيما يتعذر علمه بدونها) إنما تعتبر الاستفاضة بهذا الضابط أو القيد أن يتعذر العلم بالمشهود به بدونها والمقصود بقوله بدونها يعني الضمير يعود إلى الاستفاضة لكن متى يكون متعذرا العلم بدونها إذا تعذر السمع أو البصر لأنّ أقسام الإدراك تنقسم إلى ثلاثة فقط. السمع والبصر والاستفاضة.

الدليل ذهب الحنابلة والجمهور إلى اعتبار الاستفاضة من أدوات الإدراك التي يجوز الاعتماد عليه في الشهادة لأنه إذا لم يمكن إدراك الشيء بالسمع ولا بالبصر فإذا أغلقنا الشهادة عليه بالاستفاضة فقد أدينا إلى الإضرار بالمشهود له. وذلك أنه لن يشهد له باعتبار أنه تعذر السمع والبصر فإذا أغلقنا باب الاستفاضة أيضا أدى هذا إلى عدم الشهادة له. وهذا صحيح ولا إشكال فيه وهو أنه إذا تعذر العلم بالسمع والبصر جاز أن نشهد عليه بالاستفاضة , ومع كونه وضع ضابطا ذكر أشياء معيّنة يجوز الشهادة بها بالاستفاضة. يقول الشيخ - رحمه الله - (كنسب) النسب ومثله الولادة يجوز الشهادة بالاستفاضة عليها بالإجماع لأنّ العلم بالنسب والولادة مما يتعذر ولأننا لو منعنا الشهادة عليه بالاستفاضة لأدى هذا إلى ضياع الأنساب. فالنسبة للنسب والولادة أمر مفروغ منه وأجمع عليه الفقهاء. ثم - قال رحمه الله - (وموت وملك مطلق , ونكاح ووقف) هذه الأشياء محل خلاف فالحنابلة يرون أنّ الشهادة عليها بالاستفاضة صحيح لأنه يتعذر غالبا وليس دائما العلم بها بدون استفاضة. القول الثاني: أنه لا يجوز الشهادة بالاستفاضة إلاّ على أمرين فقط النكاح والموت. والقول الثالث: أنّ الشهادة بالاستفاضة تجوز في كل ما لم يطلع عليه إلاّ خواص الناس مما يتعذر معه العلم بالسمع أو البصر وهذا القول الثالث هو الصحيح. مثلا الموت الآن محل خلاف ولا إجماع؟ محل إجماع لأنّ القول الثاني يقول النكاح والموت إذا هو محل إجماع لكن نذكره من باب التمثيل لتقريب الضابط عادة إذا احتضر الإنسان يحضره كل الناس ولا أقربائه؟ أقربائه العامة أو خاصتهم.

الخاصة. خاصة الخاصة. ولهذا نقول الموت من الأمور التي لا يمكن أن يشهد عليها بالسمع والبصر لأنه لا يحضره عادة إلاّ خواص الناس كذلك عقد النكاح من الأمور التي يحضرها عامة الناس ولا الخاصة؟ بل جرى العرف عندنا أنهم يجلسون في مجلس عام فإذا أرادوا عقد القران انتقلوا إلى مجلس خاص إذن كل أمر لا يمكن أن يطلع عليه إلاّ خواص الناس فيجوز الشهادة عليه بالاستفاضة. تقدير هذا الأمر يرجع إلى القاضي. طبعا المالكية هم أكثر الناس توسعا في الشهادة بالاستفاضة توسعوا وذكروا صورا كثيرة في إثبات الشهادة بالاستفاضة وهذا من وجهة نظري من محاسن مذهب المالكية. قال - رحمه الله - (ومن شهد بنكاح أو غيره من العقود فلا بد من ذكر شروطه) في هذه المسألة خلاف يشبه تماما الخلاف في مسألة سابقة وهي أنهم رأوا أنّ من ادعى بشيء من العقود فعليه أن يذكر شروطه فالخلاف في تلك المسألة كالخلاف في هذه المسألة تماما. قال - رحمه الله - (وإن شهد برضاع , أو سرقة , أو شرب , أو قذف , فإنه يصفه ويصف الزنا ..... ثم قال ويذكر ما يعتبر للحكم ويختلف به في الكل) أفادنا المؤلف مسألتين: المسألة الأولى أنه إذا شهد برضاع أو سرقة إلى آخره. فإنه يجب أن يصف هذا الرضاع أو السرقة وأفادنا أيضا أنّ الوصف يجب أن يشتمل على ما ذكره في الأخير وهو أن يشتمل على كل ما يعتبر للحكم ويختلف الحكم باختلافه فإذا شهد بالرضاع يجب أنّ يبيّن عدد الرضعات وكيفية الرضعة وسن الرضيع وكل ما يختلف الحكم به وإذا شهد بالسرقة فيجب أن يذكر الحرز وأنه حرز شرعا والمال وأنه بلغ نصابا ويجب أن يذكر كل ما يتعلق بالحكم لأنه قد يرى هو سرقة ما ليس بسرقة في الشرع. الدليل على وجوب ذكر هذه الأشياء هو أنّ اعتبار هذا العمل سرقة واعتبار أخذ الطفل رضاع مما يختلف فيه العلماء فعليه أن يبيّن ليتبيّن للقاضي هل ما يشهد به يعتبر صحيح أو ليس بصحيح. وهذا صحيح ولا تشبه هذه المسألة المسألة السابقة وهي أن يذكر شروط العقد بل هنا ما يتعلق بالرضاع والسرقة ونحوها أمور حساسة ويترتب عليها أمور كبيرة فيجب عليه أن يبيّن بالضبط ويصف كل ما يشهد به لكن المؤلف يقول - رحمه الله - (ويصف الزنا بذكر الزمان والمكان)

وهذا تقدم معنا في حد الزنا. ثم - قال رحمه الله - (والمزني بها) يعني ويجب أيضا أن يبيّن في جملة ما يبيّن المرأة المزني بها وعللوا هذا بأنّ المرأة المزني بها ربما تكون ممن يحل للزاني أن يطأها فعلى الشاهد أن يبيّن من هي المرأة لتزول هذه التهمة أو ليزول هذا الاحتمال. والقول الثاني: أنه لا يجب عليه أن يبيّن من هي المزني بها وأنّ الشهادة تامة وكافية بذكر ما يتعلق بالزنا دون هذا الأمر واستدلوا على هذا بأمرين: الأمر الأول" أنّ النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يسأل ماعزا عن المزني بها. الثاني: أنه لا تعلق لهذا بحد الزنا فإنّا الزنا معلوم عند الناس أنه أن يطأ أجنبية. الثالث: أنّ في هذه فضحا للمرأة وهتكاً لسترها والشارع يتشوف إلى عدم ذلك ولا إشكال أنّ هذا هو الراجح وما ذكره الحنابلة ضعيف جدا وغريب وهو أنه يلزم الشاهد من هي المرأة إذا كان النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يلزم الزاني بذكر المرأة فكيف نلزم الشاهد بذكر المرأة وعلى هذا جرى عمل المسلمين فيما أعلم من شهد بزنا فإنه لا يكلف باسم المرأة وكذلك من زنى لا يكلف بذكر اسم المزني بها يستثنى من هذا مسألة وهي ما إذا علم القاضي او مباشر القضية أنّ المزني بها مشتهرة بالفساد وداعية له فمثل هذه المرأة ينبغي على القاضي ومن تولى القضية أن يهتك سترها وأن يوقفها عند حدها لأنّ مشهورة بالفساد والجلب للناس من نساء المسلمين ليزنى بهن هذه شرّها لم يتوقف عليها وإنما تعداها إلى غيرها فمثل هذه لا يحسن أبدا أن يستر عليها. فصل قال المؤلف ـ رحمه الله - (شروط من تقبل شهادته ستة: البلوغ فلا تقبل شهادة الصبيان) الشرط الأول: في الشاهد أن يكون بالغا فإن لم يكن بالغا ولو كان مراهقا من أعقل الناس فإنها لا تقبل له شهادة واستدلوا على هذا بقوله تعالى {ممن ترضون من الشهداء أ} [البقرة/282] والصبي لا يرضى وقوله تعالى {واستشهدوا شهيدين من رجالكم} [البقرة/282] فنص على من رجالكم. والقول الثاني: أنه تقبل شهادة ابن العشر في غير الحدود لأنه مميز ويعقل ويعرف ما يقول أشبه بذلك البالغ. القول الثالث: أنها تقبل من الصبيان مطلقا فيما يقع بينهم.

القول الرابع: أنها تقبل من الصبيان مطلقا فيما يقع بينهم بشرطين: أن يكون في الجراح , وقبل أن يتفرقوا. واستدل أصحاب القول الرابع بأنّ هذا هو المروي عن علي أبي طالب فإنه قبل شهادة الصبيان بينهم قبل أن يتفرقوا في الجراح ولأنهم قبل أن يتفرقوا يوثق بكلامهم وبعد أن يتفرقوا لا يوثق من جهتين. الأولى " قد يهموا وينسوا لصغرهم. والثانية وهي التي قد تقع قد يلقنوا. فلأجل هذا نشترط أن يكون قبل التفرق. والقول الراجح إن شاء الله هو الأخير وفهم من ترجيح هذا القول أنّ الصبي في غير ما يقع بين الصبيان لا تقبل شهادته مطلقا لكن تقدم معنا أنّ القاضي له أن يعزر إذا نقصت الشهادة عن الحكم الشرعي مثل أن تشهد المرأة فيما لا يقبل به إلاّ الرجال أو أن يشهد الصبي فيما لا يقبل به إلاّ الكبار فمثل هذا القاضي وإن لم يعتبر الشهادة إلاّ أنه ينبغي أن يعزر تعزيرا بليغا وإن لم يصل إلى إقامة الحد. ثم - قال رحمه الله - (الثاني: العقل فلا تقبل شهادة مجنون ولا معتوه) شهادة المجنون لا تقبل بالإجماع لأنه لا يفقه ما يقول ولا يعي ولا يضبط فشهادته ملغاة ولا قيمة لها شرعا وهو أمر محل إجماع وبدهي. ثم - قال رحمه الله - (وتقبل ممن يخنق أحيانا في حال إفاقته) الشهادة تقبل ممن يغيب عقله ويحضر ونشترط لهذا أن يشهد حال إفاقته لأنه حال إفاقته عاقل شهد بما يعلم فاستوفى الشروط وهل مقصودهم أن يشهد حال إفاقته أو أن يتحمل حال إفاقته؟ يعني إذا جاءنا رجل يجّن ويصحوا جاءنا حال الصحوا والإفاقة وعقله على أكمل ما يكون فهل نقول له هل تحملت وأنت في حال الجنون أو نقبل شهادته؟ نقبل شهادته وهذا كلام المؤلف دقيق يقول أن يشهد حال إفاقته فإذا شهد قال اشهد أنّ فلان باع على فلان شهادته ولا نسأل كان حاضر أثناء العقد. لماذا لا نسأل هذا السؤال؟ لماذا نفترض لن يشهد إلاّ وهو عالم؟ لأنّا نفترض أنه عدل والعدل لن يكذب مادام هو الآن عاقل سيأتينا الآن أناّ نفترض أنه عدل أليس كذلك؟ فهذا هو السبب فقط ما عداه ليس بسبب ولا نفترض أنه لن يتحمل إلاّ وهو عاقل لأنه قد يتحمل وهو مجنون ويكذب أليس كذلك؟ ثم - قال رحمه الله - (الثالث: الكلام فلا تقبل شهادة الأخرس)

الأخرس الذي لا يتكلم ولا تفهم إشارته لا تقبل شهادته عند الأئمة الأربعة لأنّ مثله لا يتمكن من الأداء بحال فليست له إشارة تفهم ولا يتمكن من الكلام وهذا واضح. ثم - قال رحمه الله - (ولو فهمت إشارته) يعني أناّ لا نقبل منه ولو فهمنا إشارته إلى هذا ذهب الحنابلة واستدلوا على هذا بأنّ الأخرس وإن فهمت الإشارة إلاّ أنّ يبقى واردا فلا نقبل منه الشهادة. والقول الثاني: أنّ شهادة الأخرس المفهوم الإشارة مقبولة لأنّا تمكنّا من فهم ما يريد فحصل الأداء بهذا وهذا اختيار ابن المنذر وهذا هو الراجح إن شاء الله ولاشك ويتحقق هذا جدا في وقتنا فإنّ إشارة الأخرس اليوم أصبحت كالنطق فيؤدي بها جميع المعاني ولو كانت دقيقة فلا مجال اليوم للقول بأنّ من يستطيع أن يتفاهم مع غيره بالإشارة لا تقبل شهادته فالحقيقة يكاد يكون قول شاذ وضعيف لأنّ اليوم الأخرس بالإشارة يصل إلى ما يصل به المتحدث تماما ولو دقت المعاني لأنه أصبح علم يدرس بدقة وتوضع لكل معنى دقيق عند المتكلم ما يقابله إشارة. ثم - قال رحمه الله - (إلاّ إذا أداها بخطه) فإذا أداها بخطه قبلت لأنّ التوهم والإشكال زال تماما فإنه سيكتب ما في نفسه. والقول الثاني: التوقف وإلى هذا ذهب الإمام أحمد فإنه توقف في كتابة الأخرس وهي غريبة من الإمام - رحمه الله - فإنه إذا كتب لا أدري ما معنى أو ما هو سبب التوقف إذا كتب فإنه لن يكتب إلاّ ما شاهد وأصبحت الكتابة تقوم مقام النطق تماما لاسيما والحنابلة يرون أنّ الكتابة في الطلاق من الصرائح , الحنابلة لا حرج عليهم. لكن الإمام أحمد لا أدري لماذا توقف! في مثل هذه المسألة إذا كتب فكتابته واضحة. قال - رحمه الله - (الرابع: الإسلام) يشترط في الشاهد أن يكون مسلما فإن كان كافرا فلا تقبل شهادته على مسلم ولا على كافر لأنّ الكافر أبعد ما يكون عن العدالة والعدالة شرط كما سيأتينا والفقهاء يقولون الكافر أفسق الفساق فلا تقبل منه الشهادة مطلقا.

القول الثاني: أنّ شهادة الكافر على الكافر تقبل ولا تقبل على المسلم واستدلوا على هذا بأنّ النبي - صلى الله عليه وسلم - قبل شهادة الذميين بعضهم على بعض. وهذا الحديث ضعيف والراجح أنّ القاضي المسلم لا يقبل شهادة الكافر على كافر ولا على مسلم وهذه المسألة تحتاج في الحقيقة إلى مزيد تأمل لكن اللي يظهر لي الآن هو أنها لا تقبل لأنها تنافي تماما العدالة والكافر يكذب على الله أليس كذلك؟ فكيف نستجيز كلامه وهو يكذب على الله فعلى خلقه من باب أولى. لكن مع ذلك المسألة تحتاج إلى أكثر ربما بحث. يستثنى من شهادة الكافر على الكافر شهادة الذمي على المسلم في الوصية في السفر وتقدمت معنا في الوصية وهذه من مفردات الحنابلة والأئمة الثلاثة لا يقبلونه في الوصية ولا في غيرها واستدلوا على هذا بأنّ من لا يقبل في الوصية لا يقبل في غيرها وأما الإمام أحمد فهو ذهب إلى قبولها قال شيخ الإسلام - رحمه الله - ومذهب أحمد نص القرآن. صدق - رحمه الله - قال - رحمه الله - (الخامس: الحفظ)

الحفظ هو أن لا يكثر منه السهو والغلط فإن كثر منه أحد هذه الثلاثة لم يقبل واستدلوا على هذا بأنه لا يأمن مع كثرة غلطه أن يخطأ في أداء الشهادة وهذا صحيح وشهادة المغفل غير مقبولة بل لكونه ضعيف الذاكرة ومن الناس من يكون قوي الذاكرة ولكنه مغفل يعني لا يفهم فلا يقبل لأنه مغفل , بعض الناس يضبط ولكنه مغفل لا يفهم مجريات القضية فمثل هذا ينبغي للقاضي أن لا يقبله والإنسان إذا تحدث مع أيّ شخص عرف مستوى تفكيره لاسيما القاضي الذي مارس الشهود والقضايا والخصوم فبمجرد ما يأخذ ويعطي مع الشاهد يعرف أنّ هذا الشاهد مغفل وربما ضحك عليه من المشهود له. ولهذا قال الحنابلة وغيرهم من الفقهاء أنه على القاضي إذا لم يقبل شهادة الشاهد لكونه مغفلا أو لكونه فاسقا عليه أن يقول نريد مع هذا الشاهد شاهد ولا يقول لم نقبل شهادة الشاهد وهذا من حسن الخلق ومن الابتعاد عن جرح مشاعر الشاهد فيقول نريد مع شهادة هذا الشاهد شاهد , وبإمكانه أن يقول قبلنا شهادة الشاهد لكن مع شاهد , وشهادة هذا الشاهد مع شاهد تكون مقبوله لماذا؟ لأنّّ الشاهد الثاني يؤكد شهادة هذا الشاهد وينفي عنه الوهم والغلط أليس كذلك؟ فبإمكانه أن يستخدم إحدى العبارتين ولا يقول يا أخي أنت مغفل لا نقبل شهادتك هذا غير مقبول مطلقا ولا يتناسب مع أخلاق المسلم. ثم - قال رحمه الله - (السادس: العدالة) العدالة شرط بالإجماع من حيث الجملة. لقوله تعالى {ممن ترضون من الشهداء} [البقرة / 282] والفاسق غير مرضي ونحن نقول في الجملة لأنه سيأتينا الآن عند بيان حد العدالة والخلاف بين أهل العلم. والعدالة في لغة العرب / هي الاستقامة. وأما في الشرع / فقد أطال المؤلف في بيانها. قال - رحمه الله - (الصلاح في الدين وهو أداء الفرائض بسننها) العدالة عند الفقهاء تحصل بأمرين: اجتناب المحرمات وفعل الأوامر والالتزام بالمروءة سيأتينا. يقول الشيخ - رحمه الله - (ويعتبر لها شيئان: الأول الصلاح في الدين)

الصلاح في الدين يعتبر للشهادة وذلك بأن يأتي بالواجبات ويبتعد عن المحرمات لكن الشيخ يقول - رحمه الله - (أداء الفرائض بسننها الراتبة) اشتراط أداء الفرائض ليتصف الشاهد بالعدالة عليه الجماهير ولم أقف فيه على خلاف لأنه إذا ترك الفرائض فهو على قسمين: إما أن يترك تركا مطلقا. فانتقل من الإسلام إلى الكفر , أو أن يترك تركا مقيدا فصار بترك الفرائض فاسقا. يقول الشيخ - رحمه الله - (بسننها الرواتب) يشترط أن يلتزم بالرواتب مع النوافل وإلاّ لا يعتبر مستقيما واستدل الحنابلة على هذا بأنّ المداومة على ترك الرواتب تشعر بضعف الدين ورقته. مما لا يوثق مع بكلام الشاهد ومقصود الحنابلة بالرواتب هو أن لا يداوم على ترك الرواتب وليس مقصودهم انه بترك أي نوع من الرواتب يعتبر خرج من العدالة هذا ليس بمقصود لهم. القول الثاني: أنّ المحافظة على الرواتب لا تشترط جملة وتفصيلا لأنّ الرواتب ليست بواجبة وترك غير الواجب لا يخل بالعدالة وهذا القول هو الصحيح إن شاء الله. ثم - قال رحمه الله - (واجتناب المحارم بأن لا يأتي كبيرة ولا يدمن على صغيرة) المؤلف قال اجتناب المحارم ثم فسّر اجتناب المحارم بأن لا يأتي كبيرة ولا يداوم على صغيرة والكبائر في عرف الشرع هو كل عمل توعد عليه بالنار أو بالعذاب أو ترتب عليه حد في الدنيا. فهم من كلام المؤلف أنّ الإلمام أحيانا بالصغائر لا يخل بالعدالة لأنه اشترط الكبائر أو المداومة على الصغائر فإن دوام على الصغائر أو أتى شيئا من الكبائر فإنها لا تقبل شهادته بناء على هذا في وقتنا المعاصر كل من يشرب الخمر لا تقبل شهادته كل من يزني لا تقبل شهادته كل من يداوم على مشاهدة القنوات لا تقبل شهادته كل من يداوم على حلق اللحية لا تقبل شهادته كل من يداوم على الإسبال لا تقبل شهادته أليس هذا هو مقتضى؟ كل من لا يطيع والديه لا تقبل شهادته كل امرأة لا تتستر ولا تتحجب لا تقبل شهادتها , وبهذا صار تسعين بالمئة من الناس لا تقبل شهادتهم لهذا

القول الثاني في هذه المسألة / أنّ العدالة في كل وقت بحسبها فما اعتبر عند أهل العصر من أهل العدالة فهو عدل وما لا فلا وهذا القول فيه غرابة , وجه الغرابة أنه جعل مناط العدالة مرتبط بالعرف وهذا غريب لأنّ العدالة وصف شرعي اسم شرعي يحتاج لتطبيقه إلى أدلة شرعية لكن هذا القول دليله الوحيد من وجهة نظري الضرورة لأنه لو لم نقل بهذا القول لأدى إلى ضياع حقوق الناس جملة وتفصيلا لأنّ اشتراط مثل هذا الشاهد يندر وإذا منعنا شهادة غيره صار هذا سببا في ضياع الحقوق وأنا أقول أنّه هذا في الحقيقة القول مع وجاهته وقوته إلاّ أنّ دليله الوحيد الضرورة لولا الضرورة لقلنا أنه مادام الشارع دلت النصوص على اعتبار هذا الشخص فاسق فإنها لا تقبل شهادته لكن الضرورة دلت على صحة هذا القول يستثنى من هذا على جميع الأقوال وعلى جميع التفريعات من فسقه بالكذب فمن فسقه بالكذب فإنا لا نقبل منه الشهادة لأنها تخل بالمقصود الأساسي من الحكم. ثم - قال رحمه الله - (فلا تقبل شهادة فاسق) سواء كان فسقه بالعمل أو بالاعتقاد , ويخرج من هذا أن يرتكب محرما يعتبر من محل الخلاف يعني من الأشياء التي اختلف فيها فإنّ ارتكابه لهذا المحرم لا يجعله فاسقا وإن ارتكب محرما فإذا الأشياء المختلف فيها لا تدخل ضمن الأشياء التي يفسق بها الإنسان. قال - رحمه الله - (الثاني: استعمال المروءة , وهو فعل ما يجمله ويزينه , واجتناب ما يدنسه ويشينه) يشترط لصحة الشهادة أن يستعمل المروءة , فإن لم يستعمل المروءة فإنّ شهادته لا تقبل والدليل على هذا أنّ المروءة تمنع صاحبها من الدناءة والكذب نوع من الدناءة فصارت المروءة تمنع الكذب والمروءة في عرف الفقهاء هي ترك كل ما يذم فاعله عرفا وفعل كل ما يذم تاركه عرفا فهي أفعال وتروك. يقول المؤلف - رحمه الله - (استعمال المروءة وهو فعل ما يجمله ويزينه واجتناب ما يدنسه ويشينه)

المروءة تسقط بأمرين: الأول: أفعال. والثاني: صنائع. فالأفعال هو أن يفعل كل ما من شأنه أن يشينه عند الناس. طبعا لا يوجد ضابط غير هذا الضابط ولهذا تجد جميع الفقهاء يذهبون إلى التمثيل فإذا أكل في مكان لا يعهد الأكل فيه أو كشف شيئا من جسده لم يعهد كشفه في هذا المقام , أو تحدث وهذا يحصل من بعض الناس تحدث مع زوجته بما لا يناسب أن يتحدث معها فيه في مثل هذا المكان سقطت مروءته ولهذا نقول ما يفعله بعض الناس من إذا اتصلت عليه زوجته وهو بين أصحابه تكلم معها بما لا ينبغي أن يتكلم به الرجل مع زوجته إلاّ إذا انفردا سقطت مروءته بهذا حتى في وقتنا. كذلك لو وجدنا شخص أخرج سفرة الطعام على الرصيف وجعل هو وأولاده يأكلون وجبة كاملة فإنّ هذا يسقط المروءة كذلك يقولون كشف الرأس في مكان لا يكشف فيه الرأس أو كشف الظهر في مكان لا يكشف فيه الظهر أو كشف البطن في مكان لا يكشف فيه البطن يعتبر من مسقطات المروءة ونحن نقول في تعريف المروءة [أنه فعل كل ما يذم صاحبه عرفا] إذا كان لا يذم صاحبه عرفا فإنه لا حرج عليه فأشياء كثيرة بناء على هذا تختلف باختلاف الأعراف. الثاني: الصناعات: الصناعات الدنيئة تنقسم إلى قسمين: القسم الأول: الصناعات الدنيئة المحرمة شرعا فهذه الصناعات تسقط المروءة بالإجماع. القسم الثاني " الصناعات الدنيئة الجائزة شرعا المذمومة عرفا , مثل الحجام والكناس فهذا القسم الثاني فيه خلاف فالحنابلة يرون أنه لا يسقط المروءة واستدلوا على هذا بأمرين: الأمر الأول" أنه إذا أسقطنا مروءة الكناسين والحجامين فمن يشهد على ما يقع بينهم. الأمر الثاني: أنّ هذه الصنائع بالمسلمين حاجة إليها فإسقاط المروءة بها يؤدي إلى الإضرار به. القول الثاني: أنّ هذه الأعمال المذمومة عرفا الجائزة شرعا تسقط المروءة بها لأنّ صاحبها مذموم عرفا وأنتم تقولون أنّ كل عمل يذم صاحبه عرفا فإنه يسقط المروءة. والراجح؟ أنّ الحاجة ما الناس إليه بحاجة يسقط اعتبار العرف.

باب موانع الشهادة وعدد الشهود

الثاني: أنّ القاعدة التي اتفق عليها الفقهاء كلهم أنّه لكل قاعدة شواذ واستثناءات فالحجام والكناس مستثنى من هذا وهذا وجهة نظر الحنابلة أنه مستثنى والحقيقة القول بأنه ساقط المروءة قول من وجهة نظري ساقط والنبي - صلى الله عليه وسلم - كان في عهده الحلاق والحجام والكناس ولم يشر لا من قريب ولا من بعيد إلاّ أنّ شهادة مثل هؤلاء غير مقبوله ثم في هذا إزراء بهؤلاء الناس وهم يؤدون خدمة جليلة للمسلمين فكيف نسقط مروءتهم بهذا الشكل ونتبع إسقاط المروءة إسقاط الشهادة. يقول - رحمه الله - (ومتى زالت الموانع فبلغ الصبي وعقل المجنون وأسلم الكافر وتاب الفاسق قبلت شهادتهم) تاب الفاسق نؤخرها. هؤلاء إذا زالت الموانع قبلت الشهادة لأنّ القاعدة أنّ المقتضي إذا وجد بلا مانع فعلى ما أدى فعله أو أدى نتيجته فمادام المقتضي موجود والمانع زال فإنّ نعمل بهذا المقتضي وهذا أمر واضح ولعل الشيخ ذكره ليرتب عليه قضية وتاب الفاسق إذ تاب الفاسق فإنه تقبل شهادته وهذا لا إشكال فيه والتوبة تحصل بشروط: الأول: الإقلاع عن الذنب. الثاني: الندم على وقوع الذنب , الثالث: العزم على عدم العود. الرابع: أداء الحقوق إذا كانت موجودة. وقبول توبة الفاسق لا إشكال فيها لكن اختلف الفقهاء هل يشترط لقبول توبة الفاسق أن يمضي وقت تعلم به توبته أو يقبل مباشرة فيه خلاف. القول الأول: أنه يقبل مباشرة واستدلوا بأمرين: الأمر الأول: أنّ التوبة يمحى معها الذنب مباشرة يعني التوبة الصحيحة. الثاني: أنّ النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول التائب من الذنب كمن لا ذنب له. القول الثاني: أنه يشترط مضي مدة تعلم بها توبته واستدلوا على هذا بأنّ عمر - رضي الله عنه - لما ضرب صبيغا انتظر به سنة ثم كُلِم. والراجح إن شاء الله أنّ هذا يختلف باختلاف التائب فإن كان مما ينبغي الانتظار به انتظر وإن كان ما يغلب على ظن الحاكم توبته قبل. باب موانع الشهادة وعدد الشهود لما بيّن الشروط انتقل إلى الموانع فقال - رحمه الله - (لا تقبل شهادة عمودي النسب بعضهم لبعض)

لا تقبل شهادة عمودي النسب فلا يشهد الأب للابن , والابن للأب لأنّ النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى عن قبول شهادة الظنين بالقرابة يعني المتهم بسبب القرابة فلا تقبل شهادة أحدهما للآخر للتهمة. والقول الثاني: أنها تقبل شهادة الابن للأب دون العكس لأنّ الأب له أن يتملك من مال ابنه فهو متهم. القول الثالث: أنها تقبل فيما لا يجر نفعا كعقود النكاح والطلاق ونحوها ولا تقبل فيما يجر نفعا كعقود الأموال. والقول الرابع: أنها تقبل مطلقا لعموم الأدلة. والقول الخامس: وهو الصحيح. أنّ مناط الرد والقبول هو التهمة فإذا اتهمنا هذا الأب وظننا به أنه لم يصدق لم نقبل منه وإذا ظننا أنه صادق قبلنا سواء شهد الأب للابن أو الابن للأب وإلى هذا ذهب الشيخ العلامة ابن القيم وهو الصواب لأنه لا يوجد في النصوص شيء صحيح يدل على منع شهادة الأب لإبنه أو العكس ولكن يوجد في النصوص ما يدل على منع الشهادة مع وجود التهمة. ثم - قال رحمه الله - (ولا شهادة أحد الزوجين لصاحبه) لا يجوز أن يشهد أحد منهما لصاحبه لأنه جرت العادة بتوسع كل منهما بمال الآخر فهو متهم لذلك. القول الثاني: تقبل شهادة الزوج لزوجته ولا تقبل شهادة الزوجة لزوجها لأنها إذا شهدت له فهي تجر نفعا لنفسها لأنه المنفق عليها. القول الثالث: أنها تقبل الشهادة مطلقا لعدم وجود الدليل. والراجح في هذه المسألة هو الراجح في المسألة السابقة أنه متى وجدت تهمة ردت الشهادة من الزوج أو الزوجة أو الأب أو الابن وإلاّ فلا. ثم - قال رحمه الله - (وتقبل عليهم) يعني تقبل شهادة هؤلاء بعضهم على بعض إنما ترد شهادة بعضهم لبعض أما شهادة بعضهم على بعض فتقبل لأنّ التهمة منتفية تماما. قال - رحمه الله - (ولا من يجر على نفسه نفعا) لا تقبل شهادة من يجر بهذه الشهادة لنفسه نفعا. مثال هذا من يشهد لشريكه فإنه إذا شهد لشريكه فما يأتي شريكه من المال فهو له فكأنه يشهد لنفسه ومن أمثلة هذا أن يشهد بمال لغريمه لأنّ هذا المال إذا جاء الغريم استفاد هو سداد الدين. ثم - قال رحمه الله - (أو يدفع عنها ضررا)

لا تقبل شهادته إذا شهد شهادة تدفع الضرر عن نفسه وهذه عكس المسألة الأولى كأن يشهد شهادة تدفع الضرر عن شريكه أو يشهد شهادة تدفع الضرر عن أخيه أو عن أبيه أو عن زوجته أو عن أمه. أو يشهد تدفع الضرر عن غريمه أو يشهد شهادة تدفع الدين أن يثبت على غريمه إذن الضابط [أن يشهد شهادة تدفع عنه ضررا] ثم - قال رحمه الله - (ولا عدو على عدوه كمن شهد على من قذفه أو قطع الطريق عليه) ذهب الأئمة الثلاثة والجماهير إلى أنّ شهادة العدو على عدوه غير مقبولة لأنه متهم والغالب عليه الحيف. القول الثاني: لأبي حنيفة أنها تقبل وإن كان عدوا له قال أبو حنيفة لأنّا نفترض في الشاهد أن يكون عدلا والعدل لن يشهد إلاّ بالحق ولو على عدوه والراجح إن شاء الله مذهب الثلاثة لأنّ العدل قد يطرأ عليه ما يمنع من صدقه.

الدرس: (2) من الشهادات قال شيخنا حفظه الله: بسم الله الرحمن الرحيم والحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين. قال - رحمه الله - (ولا عدو على عدوه كمن شهد على من قذفه أو قطع الطريق عليه) تقدمت معنا هذه المسألة وقلنا أنّ الجماهير على أنّ شهادة العدو على عدوه لا تقبل لأنه متهم بالحيف عليه وأنّ المقصود بالعداوة هنا العدواة الدنيوية وليست العداوة الدينية. وأنّ القول الثاني: القبول وهو مذهب الأحناف فقط من أصحاب المذاهب الأربعة واستدلوا على هذا بأنّ العدل لا يمكن أن يحيف ولو مع وجود العداوة لأنّا نفترض فيه العدالة وأنّ الأقرب إن شاء الله أنها لا تقبل وفي ظني أنّ هذا تقدم. لما بيّن المؤلف - رحمه الله - أنّ شهادة الشخص على عدوه لا تقبل انتقل إلى بيان ضابط العدو فقال - رحمه الله - (ومن سره مساءة شخص , أو غمه فرحه فهو عدوه)

هذا الضابط يعرّفنا بالعدو من غير العدو فكل إنسان يفرح بمضرة شخص ويغتم بفرحه فهو عدو له ومقصودهم إذا كان يظهر هذا الفرح ويرتب عليه آثاره. أما ما يشعر به الإنسان أحيانا من الفرح أو الحزن فهو مرض إذا أصيب أخوه بشيء مفرح اغتم وإذا أصيب بشيء فيه إصابة فرح هذا مرض من أمراض القلوب ولا يعتبر مانع من الشهادة لأنه هذا من الحسد وغالبا لا يظهر على تصرف الإنسان لكن إذا كان يظهر هذا في المجالس وإذا أصيب هذا الشخص بحادث فرح واستبشر وأظهر السرور فهذا عدو بلا شك لأنه لم يفرح بما أصيب به أخوه إلاّ وهو عدوه. فصل هذا الفصل مخصص للكلام عن العدد المشترط بحسب كل قضية. قال - رحمه الله - (ولا يقبل في الزنا والإقرار به إلاّ أربعة) لا يقبل في الشهادة المثبتة للزنا إلاّ شهادة أربعة من الرجال العدول الأحرار والدليل على هذا نص القرآن فإنّ الله قال {لولا جاؤوا عليه بأربعة شهداء فإذ لم يأتوا بالشهداء فأولئك عند الله هم الكاذبون} [النور/13] قال الشيخ العلامة ابن سعدي - رحمه الله - قوله فأولئك عند الله , ولم يقل فأولئك هم الكاذبون. لأنهم عند الله يعني في حكم الله والسبب أنهم كاذبون في حكم الله أنّ الشارع حرّم الكلام بالزنا عن المسلم إلاّ بعد استيفاء العدد فأي كلام قبل استيفاء العدد فهو كذب شرعا وإن وافق الواقع وهذا منه - رحمه الله - استنباط جيد وسبق لكن عبارته كانت محررة. قال - رحمه الله - (ويكفي على من أتى بهيمة رجلان) هذه المسألة ترجع إلى ضابط وهو أنّ كل ذنب لا يوجب حدا بل يوجب تعزيرا فإنه يكتفى فيه برجلين مثل المثال الذي ذكره المؤلف إتيان البهيمة ومثلوا له أيضا بوطء الجارية المشتركة فهذا الضابط في الحقيقة مريح وتدخل تحته المسائل المشابهة ولو كانت عبارة المؤلف عن ضابط لكان أتقن منه مثالا. ثم - قال رحمه الله - (ويقبل في بقية الحدود والقصاص)

يعني ويقبل في بقية الحدود والقصاص رجلان. لا يقبل في بقية الحدود عدا الزنا والقصاص إلاّ شهادة رجلين يعني ولا تقبل شهادة رجل وامرأة واستدلوا على هذا بأنّ الحدود مبنية على الدرء بالشبهات ومجرد شهادة المرأة تعتبر شبهة لأنّ المرأة معرضة للخطأ والنسيان كما قال تعالى {أن تضل إحداهما فتذكر إحداهما الأخرى} [البقرة/282] فكأنّ الآية تشير إلى أنه من شأن المرأة النسيان والوهم والغلط ولأجل هذا صارت شهادة المرأة غير مقبولة في الحدود لوجود هذه الشبهة. والقول الثاني: أنّ شهادة امرأتين مع رجل تكفي في الحدود والقصاص واستدل أصحاب هذا القول بالقياس على الأموال وقالوا أنّ ما يعرض للمرأة من وهم نسيان يجبر بالمرأة الأخرى والراجح إن شاء الله المذهب. لأنه فعلا مهما يكن الأمر لما اشترط الشارع في بعض المواضع أن يكون الشاهد من الرجال دل هذا على أنّ المرأة وإن شفعت بامرأة أخرى إلاّ أنها تبقى عرضة للخطأ والنسيان وتحكم العواطف على كل حال إن شاء الله هذا هو الراجح. ثم - قال رحمه الله - (وما ليس بعقوبة ولا مال ولا يقصد به المال ... الخ) هذه الأشياء التي تتسم بأنها ليست عقوبة ولا مال ولا يقصد بها المال حكمها حكم الشهادة على الحدود والقصاص فالحنابلة يرون أنه أيضا لا يقبل فيها إلاّ رجلان ولا يقبل رجل وامرأة. الدليل ليس عندهم دليل إلاّ القياس على الحدود والقصاص بجامع أنه يطلع عليه الرجال ولا يقصد به المال وهذا صحيح يجمع بين هذه الأمور والحدود والقصاص أنه يطلع عليه الرجال ولا يقصد بها المال.

القول الثاني: أنّ ما لا يقصد به المال ويطلع الرجال وليس بعقوبة يكتفى فيه برجل وامرأتان يعني تجوز الشهادة برجل وبامرأتين واستدل هؤلاء بالقياس على الأموال أيهما الراجح؟ القول الثاني لأنه يوجد فارق كبير بين الحدود والقصاص وبين هذه الأمور وهو أنها لا تدرأ بالشبهات , في وجه آخر للترجيح وهو أنهم قاسوا هذه الأمور على الحدود والقصاص. والحدود والقصاص فيه خلاف فهذا يضعف القياس لأنك تقيس على أصل متفق عليه أقوى من أن تقيس على أصل مختلف فيه ولهذا لا إشكال إن شاء الله أنه في الطلاق والنكاح يجزئ شهادة رجل وامرأتين لأنه لا يقصد به مال لأنها أور لا يتطلب إسقاطها بالشبهات فهذا هو الراجح إن شاء الله ورجحانه بيّن. يقول الشيخ في القسم الثالث. القسم الأول: الزنا , القسم الثاني: الحدود والقصاص. القسم الثالث: ما ليس بعقوبة ولا مال ولا يقصد به المال. القسم الرابع: ما هو مال أو يقصد به المال. أما قول الشيخ ويقبل في المال. المال مثل القرض والرهن وسائر الديون هذه من الأموال. وقوله - رحمه الله - (وما يقصد به كالبيع .. إلى آخره) ما يقصد به المال كالبيع والإجارة ونحوها ممكن نضبط ما يقصد به المال بأنّ نقول هو جميع العقود المالية فالحقيقة ما يقصد به المال هي العقود لأنه لا يمكن تحصيل المال من خلال عمل إلاّ من خلال العقود التي يقصد بها المال. يقول الشيخ - رحمه الله - (رجلان ورجل وامرأتان) كونه يجزئ رجلان ورجل وامرأتان محل إجماع في الجملة لقوله تعالى {واستشهدوا شهيدين من رجالكم فإن لم يكونا رجلين فرجل وامرأتان ممن ترضون من الشهداء} [البقرة/282] وهذه الآية نص في الاكتفاء بالمال وما يقصد به المال بشهادة رجل وامرأتين أو بشهادة رجلين. وهذا كما قلت محل إجماع. ثم - قال رحمه الله - (أو رجل ويمين المدعي)

أيّ أنّ الحنابلة يكتفون برجل ويمين وإلى هذا ذهب الخلفاء الأربعة والفقهاء السبعة والأئمة الثلاثة وليس بعد هؤلاء أحد واستدل هؤلاء بحديث أبي هريرة أنّ النبي - صلى الله عليه وسلم - قضى بالشاهد ويمين المدعي. واستدلوا بحديث ابن عباس أنّ النبي - صلى الله عليه وسلم - قضى بالشاهد يمين المدعي وحديث ابن عباس بالذات صححه الإمام النسائي فلا إشكال إن شاء الله أنّ هذا المعنى محفوظ عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو كما ترى نص في المسألة. القول الثاني: وهو للأحناف أنه ليس من البيّنات الشهادة مع يمين المدعي واستدلوا بأمرين: الأمر الأول: أنّ الآية الكريمة حصرت البيّنات في رجلين أو رجل وامرأتين ولم تذكر الشاهد واليمين. الدليل الثاني: أنّ النبي - صلى الله عليه وسلم - قال البيّنة على المدعي واليمين على من أنكر. وفي اللفظ الثاني. واليمين على المدعى عليه فحصر اليمين على المدعى عليه فلا تكون في جانب المدعي والراجح إن شاء الله بلا إشكال مذهب الجماهير والأئمة ورجحان هذه المسألة مما يقرر القاعدة التي أشرنا إليها مرارا وهي أنّ اليمين تكون في جانب أقوى المتداعيين وهنا قوي جانب المدعي بوجود الشاهد فلما قوي صارت اليمين في جانبه وهذا إن شاء الله كما قلت هو الراجح. قال - رحمه الله - (وما لا يطلع عليه الرجال. كعيوب النساء تحت الثياب والبكارة والثيوبة والحيض والولادة والرضاع والإستهلال) فكل ما لا يطلع عليه إلاّ النساء فإنه يقبل فيه امرأة واحدة عدل واستدل الحنابلة على هذا. أولا هذا محل إجماع في الجملة لم يخالف فيه أحد من الفقهاء. ثانيا الدليل الذي استدلوا به هو حديث عقبة بن الحارث - رضي الله عنه - أنه تزوج بامرأة فأتت أمة سوداء فقالت قد أرضعتكما. فجاء إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال يا رسول الله إنّ فلانة وهي أمة سوداء تزعم أنها أرضعتنا فأعرض عنه النبي - صلى الله عليه وسلم - ثم جاء بعد وقال يا رسول الله إنّ فلانة تزعم أنها أرضعتنا. وأردف هذه المرة قائلا ولا أظنها صادقة.

فالتفت إليه النبي - صلى الله عليه وسلم - وقال كيف وقد زعمت. وهذا الحديث في البخاري ومسلم. واستدلوا أيضا بأنّ الحاجة ماسة للاكتفاء بشهادة المرأة العدل لأنه لا يطلع عليه غالبا إلاّ النساء وأحيانا لا يطلع عليه إلاّ امرأة واحدة وهذا صحيح لأنّ الحديث ظاهر بأنّ النبي - صلى الله عليه وسلم - اكتفى بالرضاع لأنه لا يطلع عليه غالبا إلاّ من النساء بل إلاّ من امرأة واحدة. القول الثاني: مع أنه محكي الإجماع في الأول لكن القول الثاني أنه لا يجزئ إلاّ شهادة امرأتين قياسا على شهادة الرجلين وهو قول ضعيف لأمرين مخالفة الإجماع المحكي. ومخالفة النص الصريح الصحيح. ثم - قال رحمه الله - (والرجل فيه كالمرأة) يعني وشهادة الرجل في هذه الأمور كشهادة المرأة لأنه إذا اكتفينا بالمرأة فالرجل من باب أولى فلو افترضنا أنّ الرجل شهد بما لا يطلع عليه إلاّ النساء لأنه اطلع فشهادته مقبولة مادام تحققت الشروط الأولى للعدالة والصدق مع الشروط الأخرى. ثم - قال رحمه الله - (ومن أتى برجل وامرأتين , أو شاهد ويمين , فيما يوجب القود لم يثبت به قود ولا مال) إذا أتى بالبيّنة الشرعية , ومعنى قول الشيخ - رحمه الله - ومن أتى برجل وامرأتين أو شاهد ويمين. في دعوى إثبات قود يعني قصاص فإنه لا يقبل لأنّ القود تقدم معنا أنه يشترط له أن لا يثبت إلاّ بشهادة رجلين ولا يثبت أيضا به المال وجه ذلك أنّ الشهادة تثبت القصاص والمال فرع عن القصاص فإذا لم يثبت الأصل لم يثبت الفرع. وهذا صحيح باعتبار أنّ المال إنما يكون بدل عن القصاص فإذا لم يثبت القصاص لم يثبت بدله. يقول الشيخ - رحمه الله - (ومن أتى برجل وامرأتين أو شاهد ويمين فيما يوجب القود لم يثبت به قود ولا مال) إذا ما يثبت به شيء فرجل أتى بشاهد عدل قوي الذاكرة ومعه امرأتين كذلك عدول ضابطات يشهدن بقود أو جراح لا يثبت به في الشرع شيء أبدا وإنما يتمكن الحاكم فقط من التعزير لأنه مرّ معنا مرارا أنّ البيّنة إذا كانت ناقصة فهي توجب التعزير دون الحد. ثم - قال رحمه الله - (وإن أتى بذلك في سرقة ثبت المال دون القطع)

إذا أتى بذلك يعني برجل وامرأتين أو بشاهد ويمين لكن في مسألة سرقة فإنه يثبت المال دون القطع وجه ذلك أنّ الشهادة على السرقة تثبت القطع وتوجب ضمان المال فإذا قصرت عن القطع لم تقصر عن ضمان المال بخلاف القود فإنه لا يثبت إلاّ شيء واحد. الشهادة لا تثبت إلاّ شيء واحد وهو القصاص وله بدل. أما هنا فمجرد الشهادة تثبت القصاص والضمان في آن واحد فإذا قصرت عن القصاص وإقامة حد القطع فإنها لا تقصر عن الضمان وهذا واضح وهو صحيح. قال - رحمه الله - (وإن أتى بذلك رجل في خلع ثبت له العوض) والإشارة كما مرّ علينا لشهادة رجل وامرأتين أو شاهد ويمين في خلع ثبت له العوض. إذا أتى بهذا في خلع ثبت له العوض لأنه أصبح يطالب بحق مالي وتقدم معنا في كلام المؤلف أنّ الحقوق المالية يكتفى فيها بشهادة رجل وامرأتين إجماعا أو بشهادة رجل واحد ويمين عند الجمهور ولهذا ثبت به الحق المالي وهو الخلع. قال - رحمه الله - (وتثبت البينونة بمجرد دعواه) يعني وليس بالشهادة لماذا؟ لأنه تقدم معنا أنّ الخلع من الأشياء التي يشترط فيها شهادة رجلين فإذا اشترطنا شهادة رجلين فإنه إذا أتى برجل وامرأتين أو برجل ويمين فإنه لا تثبت أحكام الخلع والنكاح وما تعلق به وإنما تثبت الحقوق المالية لكن لماذا يقول الشيخ وتثبت البينونة بمجرد دعواه؟ يقصد بهذا أنّ البينونة تثبت بإقراره لا بهذه الشهادة لأنه إذا طالب بعوض الخلع فقد أقرّ بوقوع الخلع. إذا نحن نثبت البينونة لا بالشهادة ولكن بإقراره وهذا قد يقع فيه بعض الناس اللي يظنون أنه يستطيع أن يطالب بعوض الخلع بدون إثبات الخلع وهو الواقع أنه بمجرد ما يطالب بعوض الخلع سيثبت الخلع مباشرة لأنه أقرّ بوقوعه. مسألة قبل أن نتجاوز هذا وإن ادعت المرأة هي الخلع وأتت برجل وامرأتين أو برجل ويمين فهل يثبت شيء؟ لا يثبت لماذا؟ لأنها لا تطالب بحق مالي وإنما تطالب بالخلع والخلع لا يثبت عند الحنابلة إلاّ بشهادة رجلين تقدم معنا أنّ الراجح أنّ المرأة وهي اليوم لمثل هذا كثير لو أتت برجل وامرأتين فإنه يكتفى بذلك. فصل

قال - رحمه الله - فصل هذا الفصل في بيان أحكام الشهادة على الشهادة , والشهادة على الشهادة مشروعة بالإجماع لم يخالف في هذا أحد من الفقهاء ودل على مشروعيتها أنّ الحاجة داعية إليها لأنّ شاهد الأصل قد لا يتمكن من أداء شهادته فنكون بحاجة إلى شاهد الفرع ولهذا دل النص والاعتبار على مشروعيتها ومازال الناس يحتاجون إلى شاهد الفرع مع شاهد الأصل. يقول - رحمه الله - (لا تقبل الشهادة على الشهادة إلاّ في حق يقبل فيه كتاب القاضي إلى القاضي) كتاب القاضي إلى القاضي يقبل في الأموال وما تقصد به الأموال دون الحدود كما تقدم معنا , وتقدم الخلاف وأنه قلنا أنّ الراجح أنّ كتاب القاضي إلى القاضي مقبول مطلقا فكذلك الشهادة على الشهادة مقيسة عليها وهي مقبولة مطلقا بل ربما نقول إنّ الشهادة على الشهادة أوثق نوعا ما من الكتابة لأنّ الشهادة يشهد بها مكلف عاقل يستحضر بينما الكتابة قد يعتريها ما يعتري الكتابات من الخطأ والسهو والنسيان وعلى كل حال هي مقيسة عليها فهي مقبولة في كل شيء. قال - رحمه الله - (ولا يحكم بها إلاّ أن تتعذر شهادة الأصل) يشترط لقبول الشهادة على الشهادة أن تتعذر شهادة الأصل فإن لم تتعذر شهادة الأصل فشهادة الفرع باطلة واستدلوا على هذا بأنّ شهادة الفرع يعتريها احتمالان: احتمال الخطأ من شاهد الأصل , واحتمال الخطأ من شاهد الفرع وإذا اعتراها احتمالان صارت لا تقبل إلاّ عند الحاجة. والقول الثاني: أنّ الشهادة عل الشهادة مقبولة مطلقا تعذر أو لم يتعذر واستدلوا على هذا بالقياس على حال التعذر قالوا فإذا كنتم تقبلون حال التعذر فاقبلوها بلا تعذر وعلقنا مرارا على الاستدلال بمثل هذا أنه استدلال بمحل النزاع وأنه استدلال خطأ في الحقيقة من وجهة نظري كيف تستدل بمحل النزاع نحن ننازعك أنّ غير محل الحاجة لا يستوي مع محل الحاجة وأنت تقول أقيس محل غير الحاجة على محل الحاجة وهذا فيه إخلال بالمنطق الفقهي والراجح إن شاء الله أنها لا تقبل إلاّ عند الحاجة. ثم بيّن الحاجة لما فصلها. قال - رحمه الله - (إلاّ أن تتعذر شهادة الأصل بموت , أو مرض , أو غيبة مسافة قصر) ذكر المؤلف ثلاث مسائل: الموت والمرض والغيبة.

أما الموت فهو محل إجماع فيجوز بالإجماع الشهادة إذا تعذرت شهادة الأصل بناء على أنه مات أو لموته فهذا لا إشكال فيه. الثاني: المرض ومسافة القصر فالجماهير ذهبوا إلى أنها عذر لأنّ المرض ومسافة القصر توجب العذر وتمنع مجيء شاهد الأصل والله تعالى {ولا يضار كاتب ولا شهيد} [البقرة/282] وإلزام المريض ومن يسافر مسافة قصر بالمجيء مضارة بلا إشكال ومن هنا علمنا أنه إذا كان في مسافة دون القصر فإنّ الحنابلة لا يصححون الشهادة على الشهادة لعدم وجود العذر وعلمنا من البحث السابق أنّ الضابط في مشروعية الشهادة على الشهادة هو تعذر مجيء شاهد الأصل لأيّ سبب مرض أو سفر أو كونه يمرض غيره او اشتغل بأمر عاجل يفوت بذهابه إلى المحكمة أو مثل ما يحصل الآن كثيرا أن يكون في وقت امتحانات ما يستطيع يذهب لأنه مشغول بالامتحانات سواء كان في مراحل دنيا أو في مراحل عليا. هذا في الحقيقة عذر لأنه لو ذهب لذهب عليه الأمر أو يكون مشغول بأداء الامتحان ونحن نعلم أنّ كثير من الناس يؤجل أداء الشهادة في أيام الامتحانات لأنه مشغول بالاختبار بل هو يؤجل عمله إذا توجد ملابسات كثيرة تمنع من أداء الأصل للشهادة فإذا وجدت ملابسات صحيحة جاز له أن ينيب عنه آخر. ثم - قال رحمه الله - (ولا يجوز لشاهد الفرع أن يشهد إلاّ أن يسترعيه شاهد الأصل فيقول اشهد على شهادتي بكذا) من شروط صحة الشهادة على الشهادة الاسترعاء وقد بيّن المؤلف - رحمه الله - ما هو معنى الاسترعاء فيقول أن يقول اشهد على شهادتي بكذا فلا بد أن يقول شاهد الأصل لشاهد الفرع اشهد أني اشهد أنّ فلان باع فلان كذا وكذا فإن كان شاهد الأصل يتكلم مع زميل له ويقول أنّ فلان باع على فلان ولم يوجه الكلام إلى شاهد الفرع فإنّ الشهادة لا تصح واستدلوا بأمرين: الأمر الأول: أنه إذا لم يسترعيه ويوجه الخطاب إليه وقع الاحتمال أنه يتكلم بشيء دقيق أو يتكلم بأمر عام ووقع الاحتمال أنه يتكلم عن علم أو عن سماع. الثاني: أنّ الشهادة على الشهادة هي نيابة ويشترط في النيابة إذن المنيب. والمنيب الآن لم يشهد ولم يأذن

القول الثاني: أنه لا يشترط الاسترعاء بل لو سمع شاهد الفرع شاهد الأصل يتكلم عن عقد من العقود أو عن شيء يشهد به فله أن يشهد واستدلوا على هذا بشهادة المستخفي فإنّ الحنابلة يصححون شهادة المستخفي وشهادة المستخفي هي أن يوجد رجل يقّر في السر ويرفض في العلانية فلصاحب الحق أن يشهد عليه سرا واستخفاء إذا أقرّ في مجالسه الخاصة وهي شهادة صحيحة فقاسوا هذه على هذه ويبدوا لي أنّ الراجح أنه لابد من الاسترعاء لأنّ الاحتمال الذي أشار إليه الحنابلة موجود وفي شهادة الاستخفاء لا يوجد احتمال لأنّ نفترض أنّ هذا الرجل يقّر في السر ويرفض في العلانية فنحن نشهد عليه في السر لنتمكن من الشهادة عليه في العلانية أما أن يسمع رجل يتكلم مع صاحبه بشيء ثم يقول اشهد كثير من الناس إذا كان يتكلم مع غيره لا في سياق الشهادة يتوسع في العبارة وربما أثبت أشياء لو حقق معه فيها لم يثبتها وهذا كثير بل أنت الآن إذا تكلمت مع أحد الناس وقال لك معلومة لو تتثبت منه وتحاصره وجدت أنها غير دقيقة أليس كذلك؟ فالناس يتوسعون في الكلام أنا أقول مذهب الحنابلة في مثل هذا أنه يجب أن يسترعيه وأن يقول اشهد أني أشهد أنّ فلان باع على فلان وإلاّ فإنه لا يجوز له أن يشهد. قال - رحمه الله - (أو يسمعه يقّر بها عند الحاكم أو يعزوها إلى سبب , من قرض , أو بيع , أو نحوه)

لما ذكر اشتراط الاسترعاء ذكر ما يستثنى منه وما يستثنى هو في صورتين. أن يسمعه يقّر أو يشهد عند الحاكم أو أن يسمعه ينسب الحكم إلى سببه أو الحق إلى سببه. ففي هاتين الصورتين لا يشترط حتى الحنابلة الاسترعاء وجه عدم اشتراطهم هو أنّ الاحتمال انتفى في هذه الصورة أما في مجلس القضاء فهو لن يتكلم إلاّ بما علم وأما إذا ذكر السبب فعلم أنه ضابط وأنه يعزو الأمر إلى سببه. هكذا قال الحنابلة وكلامهم وجيه فيما إذا سمعه في مجلس الحكم وليس بوجيه فيما إذا سمعه بدون استرعاء ولو مع إضافة الحكم إلى سببه لأنّ كثير من الناس أيضا يضيف الحكم إلى السبب فيقول أنّ فلان يطلب فلان لأنه اشترى منه من غير أن يتثبت ففي الحقيقة في باب القضاء ينبغي على الشاهد أن يتثبت ولا يشهد بمجرد أنه سمع فلان يقول أنّ فلان قال باع عليه بإمكان القاضي أن يتجاوز هذه المسألة وأن يطلب من الشاهد أن يتكلم بحسب ما سمع وأن لا يشهد وأن لا يقول أشهد أنّ فلان باع على فلان وإنما يقول ماذا سمعت فلان يتحدث مع فلان ويقول كذا وكذا بهذه الطريقة خرج من أن يكون شاهد شهادة أصلية وفي نفس الوقت نقل ما سمع ليتثبت منه القاضي. قال - رحمه الله - (وإذا رجع شهود المال بعد الحكم لم ينقض) ولا تأخذ العين من المحكوم له السبب في هذا أنه بعد صدور الحكم أصبحت العين المحكوم بها من أملاك المحكوم له وإذا كانت من أملاكه فإنها لا تخرج بمجرد الدعوى بل تحتاج لأحد أمرين: إما بيّنة أو إقرار. والرجوع عن الشهادة ليس بإقرار ولا بيّنة. ولهذا لا يملك أن يأمر أو ان يطلب بنزع العين من صاحبها بعد صدور الحكم ولو رجع وأكذب نفسه.

والقول الثاني: أنه إذا أكذب نفسه فإنّ الحاكم ينزع العين من المعاطاة إليه ويعطيها صاحب الحق واستدل هؤلاء بأنّ العين إنما أعطيت لصاحبها بناء على الشهادة فإذا بطلت الشهادة يبطل ما بني عليها وهو دفع العين إلى المشهود له. ولما يتبيّن أيهما الراجح ولعله يرجع إلى القاضي يعني في تحديد مثل هذه الأمور لأنه في الحقيقة أحيانا تجزم في بعض الصور بنزع العين وأحيانا تجزم بعدم نزع العين من صور الجزم بعدم نزع العين أنه يوجد كثير بعد صدور الحكم تلمس أنه مورست ضغوط على الشاهد وهذا يعرفه القاضي ويسمع من الناس أنها مورست ضغوط على الشاهد وطولب منه الرجوع مرارا وتكرارا وضغط عليه ثم بناء على هذا الضغط يرجع إلى القاضي وينقض شهادته فمثل هذه الصورة تجزم أنه لا تنزع العين. صورة أخرى إذا رجع شاهد فيه أمارات العدل وبيّن لك لماذا رجع أنه كان واهما وأنه ظنّ أنّ القضية وقعت على الصفة الفلانية وهي لم تقع فمثل هذه الصورة تجزم بالرجوع وأنّ القضية كانت خطأ فالحكم العام في مثل هذه المسألة لا يظهر لي أنه دقيق. قال - رحمه الله - (ويلزمهم الضمان دون من زكاهم) يعني الشهود مع كونهم لا يقبل رجوعهم إلاّ أنه مع ذلك يلزمهم ضمان المال للمشهود عليه وجه ذلك أنّ شهادتهم صارت سببا في نزع العين بغير حق فصار الضمان عليهم. والقول الثاني: أنهم لا يضمنون شيئا لأنه ليس منهم مباشرة للإتلاف وليست لهم يد متعدية والراجح إن شاء الله أنهم يضمنون لأنّ خسارة المشهود عليه لا شك أنها بسببهم. ثم - قال رحمه الله - (دون من زكاهم) من زكاهم لا يضمن لأنّ من زكاهم إنما زكاهم بحسب الظاهر وأما الباطن فعلمه إلى الله ولا يملك المزكي ولا غير المزكي أن يعرف حقيقة باطن الشاهد ولهذا فهو يعفى عنه ولا يلزم بشيء وإنما الذي يضمن هم الشهود.

باب اليمين في الدعاوى

مسألة / كل هذا في إذا رجع الشاهد أما إذا رجع المزكي فإنه يضمن إذا كان متعديا قاصدا ولا يضمن إذا أخطأ بلا قصد ولا تعدي إذا عرفنا الآن الحكم إذا رجع الشهود وكذلك إذا رجع المزكي يجب أن لا تخلط بين رجوع الشهود والكلام عن ضمان المزكي وبين رجوع المزكي والضمان المفترض عليه إذا كان منه تعدي أو تفريط. طيب إذا رجع المزكي ولم يرجع الشهود؟ قال أنا زكيت هؤلاء وهم ليسوا بعدول ويعرف عنهم الكذب؟ وقال الشاهد بل أنا صادق فيما قلت ولم يرجع من يضمن؟ مسألتنا هذه اللي أنا قلتها الأخيرة مفروضة في أي صورة؟ إذا رجع المزكي هي نفس مسألتنا نحن تكلمنا عن رجوع المزكي دون الشهود فإذا رجع المزكي دون الشهود فالشهود على وضعهم وهم يزعمون أنهم صدقوا فيما قالوا ويضمن المزكي. قال - رحمه الله - (وإن حكم بشاهد يمين ثم رجع الشاهد غرم المال كله) إذا حكم بشاهد ويمين ورجع الشاهد فإنه يغرم المال كله هذا من مفردات الحنابلة واستدلوا على هذا بأنه اعتمد في الحكم في الحقيقة على الشاهد وقوته اليمين فالاعتماد الأصلي على الشاهد ولهذا ضمنوه جميع المال. والقول الثاني: أنّ الشاهد يضمن النصف فقط لأنّ الشاهد أحد شقي الحجة فلا يضمن الكل والراجح قول الجمهور والمذهب فيه ضعف وليس بصحيح أنّ العمدة على الشاهد بل القاضي لم يحكم إلاّ بالشاهد واليمين بدليل أنه لو نكل عن اليمين لم يحكم له فقولهم فيه ضعف. باب اليمين في الدعاوى قوله - رحمه الله - (لا يستحلف في العبادات) يعني لا يستحلف في كل ما هو عبادة ولو كانت تستلزم حقا للعباد مثل الزكاة وكفارة اليمين فإذا زعم الساعي أنّ النصاب كامل والحول قد حال وزعم رب المال أنّ النصاب ناقص والحول لم يحول فالقول قول المالك بلا يمين ولو ادعى شخص على شخص أنّ عليه كفارة يمين أو كفارة ظهار أو كفارة قتل خطأ وأنكر المدعى عليه فالقول قوله بلا يمين. القول الثاني: أنه يشترط مع إنكاره اليمين فيما يلزم فيه حقوق للآدمي مثل الزكاة وكفارة اليمين لأنّ كفارة اليمين تصرف في الفقراء

وكذلك سائر الكفارات والراجح إن شاء الله المذهب لأنّ العبادات المنظور فيها للعبادة لا لنفع الآدميين وإن كان من الحكم نفع الآدميين لكن الأصل فيها العبادة بدليل أنها لا تصح بلا نية فالأقرب إن شاء الله أنه لا يلزم باليمين. ثم - قال رحمه الله - (ولا في حدود الله) لا تطلب اليمين في حدود الله لأنّ مبناها على الستر ولأنّ المقر بالحدود لو رجع لقبل إقراره فكيف نلزمه باليمين ولو رجع عن الإقرار لقبل رجوعه وهذا هو الراجح إن شاء الله لا يقال للإنسان في الحدود احلف أنك لم تفعل كذا أو احلف أنك كذا لأنه الشارع يتشوف إلى أصلا الستر عليه ودرأ الحد. قال - رحمه الله - (ويستحلف المنكر في كل حق لآدمي) لما بيّن المسائل التي لا استحلاف فيها انتقل إلى المسائل التي فيها استحلاف. يقول ويستحلف المنكر في كل حق لآدمي يقصد مما يطلب فيه المال أو ما يقصد به المال لعموم قول النبي - صلى الله عليه وسلم - لو يعطى الناس بدعواهم لا ادعى أناس أموال قوم ودمائهم. ولكن اليمين على المدعى عليه. فهذا النص صريح في أنه في حقوق الآدميين المالية تتوجه اليمين. ثم - قال رحمه الله - (إلاّ النكاح , والطلاق , والرجعة , والإيلاء , وأصل الرق والولاء والإستيلاد والنسب والقود والقذف) هذه المسائل يجمعها ضابط واحد [وهي أنّ اليمين في حقوق الآدميين لا تقبل فيما يشترط له شاهدان] فكل ما يشترط له شاهدان لا يقبل فيها اليمين هكذا قرر الحنابلة ودليلهم واضح القياس على الحدود. والقول الثاني: أنّ اليمين تشرع حتى في النكاح والطلاق إلى آخره , ويستحلف وإلى هذا ذهب الشيخ العلامة ابن قدامة واستدلوا بعموم الحديث فإنّ الحديث لم يفرق بين المال وما يقصد به المال وغيره من العقود , وإذا كنا نرجح الاكتفاء بشهادة رجل وامرأتين كذلك يتوجه هنا أن يستحلف حتى في العقود الأخرى كالنكاح والطلاق وغيره. قال - رحمه الله - (واليمين المشروعة: اليمين بالله)

يعني اليمين المشروعة الواجبة هي أن يقول والله ولا يجب عليه أن يغلظ فيقول والله الذي لا إله إلاّ هو واستدلوا على هذا بأنّ اليمين عند الإطلاق تنصرف إلى القسم بالله بناء عليه لا يستطيع القاضي أن يجبر المدعي على أن يقسم , أن يجبر من توجهت إليه اليمين على أن يغلظ لا باللفظ ولا بالمكان وسيشير المؤلف إليه. قال - رحمه الله - (ولا تغلظ إلاّ فيما له خطر) مقصود المؤلف أنه يشرع ويجوز أن يطلب القاضي بالتغليظ في اليمين لكنها لا تلزم المدعي فلو نكل عن اليمين المغلظة إلاّ اليمين بالله فقط فهو جائز واستدلوا على هذا بأنّ الواجب هو اليمين بالله فلا يطالب بأكثر من الواجب والله تعالى يقول {فيقسمان بالله لشهادتنا} [المائدة/106] والآية تكاد تكون نص بالقسم بالله والقول الثاني: أنّ التغليظ مستحب فقط عند الحاجة. والقول الثالث: أنّ التغليظ إذا رآه الإمام فهو واجب فإن نكل عن التغليظ قضي عليه وهذا القول اختاره العلامة المرداوي واختاره شيخ الإسلام وغيرهم من محققي الحنابلة. وهذا القول الأخير لا شك في رجحانه لأنّ نكول المدعي عن تغليظ اليمين لا يظهر له سبب إلاّ أنه مبطل والإنسان قد يجترأ على اليمين المجردة ولا يجترأ على اليمين المغلظة فنكوله عنها دليل على أنه مبطل ولا يقال لعله نكل عنها لتدينه كما فعل ابن عمر - رضي الله عنه - لماذا؟ لأنّ الدين يمنع عن اليمين المجردة واليمين المغلظة ولو منعه دينه عن اليمين المغلظ لمنعه عن اليمين المجردة ولهذا نقول إن شاء الله لا شك أنّ هذا هو الراجح.

كتاب الإقرار

كتاب الإقرار الدرس (1) من الإقرار قوله - رحمه الله - كتاب الإقرار الإقرار في لغة العرب / هو ثبوت الشيء بعد أن كان متزلزلا. ويقصد به الاعتراف. وأما في الشرع/ فهو الاعتراف بحق للغير في مجلس القضاء والإقرار مشروع بالكتاب والسنة والإجماع. ثم - قال رحمه الله - (يصح من مكلف) يعني يشترط له التكليف. والتكليف كما تعلمون هو البلوغ والعقل , أما العقل فهو شرط بالإجماع وأما التمييز فهو شرط عند الجماهير واستثنى الحنابلة منه ما إذا أقرّ بما سمح وأذن له بالتعامل فيه أيّ المميز الذي أذن له بما يأذن له عادة من أنواع التجارات فإذا أقرّ بهذا الذي أذن له فيه صح. والقول الثاني: أنّ المميز لا يقبل إقراره مطلقا لا فيما أذن له ولا فيما لم يأذن له لعموم قول النبي - صلى الله عليه وسلم - رفع القلم عن ثلاثة , والراجح أنّ إقراره إن شاء الله مقبول فيما أذن له لأنّ الشارع إذا دلت أدلته على أنه يأذن له أن يتصرف فكذلك ينبغي أن يقبل منه الإقرار. ثم - قال رحمه الله - (مختار) الاختيار شرط بالإجماع لقول النبي - صلى الله عليه وسلم - عفي عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه. فهو لا شك شرط صحيح بل إنّ الإكراه مناقض تماما للإقرار لأنّ الإقرار هو أن يقرّ من نفسه ومن دوافع شرعية داخلية بحق الآخرين فهو يناقض تماما الإكراه ولهذا صار محل إجماع. ثم - قال رحمه الله - (غير محجور عليه) المحجور عليه إما أن يحجر عليه لسفه , أو أن يحجر عليه لفلس كما تقدم معنا والمحجور عليه لا يقبل منه الإقرار مطلقا عند الحنابلة وتقدم معنا أنّ المحجور عليه لفلس الراجح أنه يقبل منه إذا أقرّ بدين بشرط أن يأتي ببيّنة أو أن تدل القرائن ولو لم توجد بيّنة وكذلك المحجور عليه لسفه يقبل إقراره ولكن لا يؤاخذ إلاّ بعد فك الحجر فالصحيح أنّ المنع مطلقا ضعيف والجواز مطلقا ضعيف والصواب هو هذا التفصيل. ثم - قال رحمه الله - (ولا يصح من مكره) يعني أحيانا الحنابلة يكررون وأي فرق بين قوله مختار ومكره. لكن غالبا إنما يأتون بالشيء المكرر ليبني عليه ما بعده ولكن مع ذلك في الحقيقة هو غير مقبول لأنه تكرار ليس له فائدة واضحة. إذن قوله ولا يصح من مكره تقدم وهو محل إجماع. قال - رحمه الله - (وإن اكره على وزن مال فباع ملكه لذلك صح)

إذا أكره على وزن مال يعني اكره على أن يسلم مال ثم ذهب ليبيع بيته ليسلم هذا المال فالبيع الثاني صحيح لأنه لم يكره عليه وإنما أكره على دفع المال. ولكن الحنابلة مع هذا يرون أنّ الشراء منه مكروه وإن صح لأنه من الشراء من المضطر ولأنّ فيه تقوية للمكره واستدلوا بدليل ثالث وهو الخلاف في صحة بيعه. والقول الثاني: أنه لا يكره لأنّ في القول بكراهيته إدخال المشقة والضيق والعنت على المكره إذ كيف سيوفر المال وقد امتنع الناس من الشراء منه والراجح. الآن صحة الشراء محل إجماع؟ الخلاف هل يكره أو لا؟ هل يجوز الشراء من المضطر؟ هل نقول للناس لا تشتروا منه حتى يرتدع الغاصب أو نقول اشتروا منه؟ أنه نفرق ودائما قاعدة في باب القضاء والمعاملات لو تأملت في مسائل كثيرة التعميم غير دقيق كونك تقول نحكم بكذا ونحكم بكذا والمعمم نفسه من قال أنه ينبغي الشراء سيأتي في بعض الصور ويقول لا تشتروا منه أليس كذلك؟ إذن التعميم دائما وما ذكره هو من وجهة نظري الراجح واليوم توجد صور لما امتنع من السراق أو من الشراء منهم تركوا هذا الجانب لأنه رأوا أنّ الناس لا يشترون منهم. ثم - قال رحمه الله - (وإن أقرّ في مرضه بشيء فكإقراره في صحته إلاّ في إقراره بالمال لوارث فلا يقبل) الإقرار ينقسم إلى قسمين: إما أن يقر بمال أو بغير مال. فإنّ أقرّ بغير المال ولو في مرض موته المخوف صح بالإجماع , وإن أقرّ بمال فينقسم إلى قسمين: إما أن يقر بمال لوارث أو لغير وارث فإنّ أقرّ بمال لغير وارث صح عند جماهير الأمة وحكي إجماعا واستدلوا على هذا بعدم التهمة وإن أقرّ في مرض موته المخوف لوارث وهي مسألة الكتاب فالجماهير يرون أنه لا يصح إقراره لأنه متهم بمحاباة هذا الوارث. والقول الثاني: أنّ إقراره في مرض موته المخوف ولو لوارث صحيح قياسا على حال على الصحة.

والقول الثالث والأخير: أنه إذا أقرّ لوارث صح إذا لم توجد تهمة وبطل إذا وجدت تهمة وهذا مذهب الإمام مالك - رحمه الله - وهو غاية في الجودة والإتقان وتحصيل المصالح للمقر له وللمقِر ومن أكثر صور انتفاء التهمة أن يشفع المقِر إقراره بسبب الإقرار كأن يقول له عليّ كذا ثمن هذه السيارة ونحن نعلم أنّ هذه السيارة ملك للمُقر له أو كانت ملك للمقر له , أو أن يكون سبب لهذا البيت أو سبب لهذه السلعة المهم أن يبيّن السبب إذا بيّن السبب انتفت التهمة ومن صور انتفاء التهمة أن لا يظنّ بهذا الرجل أبدا أنه يريد محاباة هذا الوارث ومن صور إثبات التهمة أن يقرّ لوارث صغير مريض هنا يتهم أو لا يتهم؟ يتهم لأنه يغلب على الظنّ أنه أراد أن يحابيه فهذا القول الراجح إن شاء الله. قال - رحمه الله - (وإن أقرّ لامرأته بالصداق فلها مهر المثل بالزوجية لا بالإقرار) إذا أقرّ لها بالصداق فلها مهر المثل بالزوجية لا بإقراره يعني أننا إنما استفدنا من إقراره أنه زوج والزوجية تقتضي المهر ولهذا لم نعطيها إلاّ ماذا؟ مهر المثل لأنّا استفدنا من الإقرار أنها زوجية فلا نأخذ قيمة الإقرار وإنما نأخذ مقتضى الزوجية. ومقتضى الزوجية هو ماذا؟ مهر المثل. والقول الثاني: أنه لا يقبل مطلقا لأنّ هذا من الإقرار لوارث. والقول الثالث: أنه يقبل وأنها تأخذ الصداق بالإقرار لا بالزوجية والراجح المذهب. والقول بعدم قبول الإقرار جملة وتفصيلا أيضا قوي لأنه يغلب على الذهن أنّ الإنسان إذا أقر لزوجته في مرض موته المخوف غالبا أنه فيه تهمة ومراعاة لها وعطف عليها وأنه يخشى بعد أن يموت أن تهمل إلى آخره. لكن نقول قول الحنابلة أنه يعطى بهذا المقدار مهر المثل لأنه تبيّن أنه لم يعطيها المهر بمقتضى الزوجية فهذا وسط إن شاء الله. قال - رحمه الله - (وإن أقرّ أنه كان أبانها في صحته لم يسقط إرثها)

إذا أقرّ في مرض موته المخوف أنه أبانها في صحته لم يسقط الإرث بلا إشكال لأنه متهم أنه أراد منعها من الإرث بشكل واضح بدليل أنه أخر الإقرار إلى مرض موته المخوف وظاهر كلام الحنابلة أنه ولو دلت القرائن على أنه أبانها فإنه ربما تدل القرائن على ذلك بأن يكون كل من الزوجين انفصل لمدة طويلة لسنين ثم أراد أن يخبر في مرض موته أنها ليست بزوجة , يعني إن دلت القرائن فيحتمل أن يقبل قوله. وهل يقبل في مرض موته المخوف إذا أتى ببيّنة ولا نقول أنت متهم؟ أنتم يا إخوان أخذتم في أول باب القضاء أنه يجب على القاضي أن يحكم بالبيّنة مطلقا إذا وجدت البيّنة في أي صورة من الصور فإنه يحكم بها مادام بيّنة ونحن إذا قلنا بيّنة يعني أنها مكتملة الشروط فلا يأتي في ذهنك أنه ربما يكذب الشاهد ربما لا يكون دقيق نحن نقول بيّنة والبيّنة الشرعية هي المكتملة الشروط فإذا سئلت عن قضية البيّنة لا تردد في أنّ القاضي يحكم بمقتضى البيّنة. قال - رحمه الله - (وإن أقرّ لوارث فصار عند الموت أجنبيا لم يلزم إقراره لأنه باطل) إذن العبرة في الإقرار بوقت الإقرار لا بوقت الموت عكس الوصية. العبرة في الوصية بالموت لا بوقت صدور الوصية. هنا العبرة بوقت الإقرار لماذا؟ لأنّ تعليل إبطال أو تصحيح الإقرار يقوم على التهمة والتهمة إنما تعرف في وقت الإقرار لا في وقت الموت فإذا أقر له وهو وارث ثم صار حين الموت أجنبيا فلا يستحق شيء لماذا؟ لأناّ تبيّنا أنّ هذا الإقرار شرعا باطل وقد يتوهم كثير من الناس أنه مستحق للإقرار باعتباره أنه الآن أجنبي وهذا خطأ لأنّ الإقرار عقد من العقود الشرعية يصح تارة ويبطل تارة أخرى نحن نقول أنّ الإقرار هنا باطل فلا يترتب عليه أثر. إذن تقرر معنا الآن أنّ الاعتبار بحال الإقرار لا بحال الموت لما قرر هذا المبدأ فرع عليه أيضا بعكس الصورة. قال - رحمه الله - (وإن أقرّ لغير وارث أو أعطاه صح وإن صار عند الموت وراثا) إذن إذا أقرّ لغير وارث ثم صار عند الموت وارثا فإنّ الإقرار صحيح لأنه حال صدوره صح شرعا واستوفى الشروط وهذا ينبني على القاعدة الأولى أنّ الاعتبار بحال الإقرار لا بحال الموت. يقول - رحمه الله - (أو أعطاه)

أفادنا المؤلف أنّ العطية أيضا كالإقرار والاعتبار فيها بحال الإعطاء لا بحال الموت. والقول الثاني: أنّ العطية كالوصية الاعتبار فيها بحال الموت. وهذه المسألة الراجح فيها أنّ العطية كالوصية وليست كالإقرار لأنه هنا لا يأتي معنا مسألة التهمة. التهمة في الإقرار لأنّ الإقرار عقد ملزم بخلاف العطية فسيعطى المعطى بحسب الشروط فإذا كانت حكمها حكم الوصية فلا وصية لوارث وتأخذ الشروط المذكورة للوصية ولهذا هي في الحقيقة أقرب للوصية منها للإقرار لأنّ طبيعة الإقرار أمر ملزم فهو حق أصلي للمقر له بخلاف العطية فيجب أن لا يعطى من أعطيها إلاّ إذا استوفى الشروط ولهذا الأقرب أنه تحلق بالوصية كما أنّ ذكرها هنا غير مناسب بل المناسب أن تذكر في باب العطية مادام أنّ المؤلف خصص باب كامل للعطية فكان الواجب أن يبيّن هل العطية الضابط فيها حال الإعطاء أو حال الموت والغريب أنه بيّنه هنا ولم يبيّنه في بابه الخاص.

الدرس: (2) من الإقرار قال شيخنا حفظه الله: بسم الله الرحمن الرحيم والحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين. قال المؤلف - رحمه الله - (وإن أقرّت امرأة على نفسها بنكاح ولم يدعه اثنان قبُل) إذا أقرّت المرأة على نفسها بأنها زوجة لفلان قبل لأنها تقر بحق عليها باعتبار أنّ النكاح عند الحنابلة من حقوق الزوج فيكون اعترافها بالنكاح كاعترافها بالمال فيقبل لهذا الأمر. والقول الثاني: أنه لا يقبل لأنّ اعترافها بالنكاح يتضمن الدعوى بالنفقة والميراث فيتضمن بناء على هذا حقا لها فلا يقبل. ثم - قال رحمه الله - (ولم يدعه اثنان قُبل)

مفهوم عبارة المؤلف أنه إذا ادعاه اثنان فإنه لا يقبل واعترض الشارح الشيخ منصور - رحمه الله - على الماتن بأنه خالف المذهب لأنّ المذهب أنه يقبل واعتمد في هذا على ما في المنتهى وشرحه. والصواب أنّ ما في المنتهى وشرحه يختلف عن مسألتنا لأنّ الذي في المنتهى إذا ادعاه اثنان فقبلت وأقرّت لهما هذه هي مسألة المنتهى أما مسألتنا فهي أن يدعي لواحد وتقرّ لواحد. وفرق بين أن يدعيه واحد وأن يدعيه اثنان ولهذا نقول أنّ الأقرب أنّ المؤلف هنا مسألته غير مسألة المنتهى التي أشار إليها الشيخ منصور. يبقى إذا كانت مسألة المنتهى غير مسألة الزاد بقينا في مسألة أخرى هل يعتبر المؤلف خالف المذهب في هذه المسألة. المذهب ليس فيه نص صريح على هذه المسألة لكن يفهم منه من عموم إطلاق الحنابلة الجواز مطلقا خلاف لما ذكره المؤلف وهذا كما قلت يفهم من إطلاقات الحنابلة ولا يوجد منصوص بخلاف ما أشار إليه الشيخ منصور أنّ كلام المؤلف يخالف منصوص ما في المنتهى وشرحه هذا ليس بصحيح. ثم - قال رحمه الله - (وإن أقرّ وليها المجبر بالنكاح صح) صح إقراره لأنّ المرأة في حال الإجبار لقول لها , وإذا لم يكن لها قول صار قول وليها هو المعتمد فصار إقراره كإقرارها. ثم - قال رحمه الله - (أو الذي أذنت له) إذا أذنت المرأة للزوج بأن يزوجها فلما أذنت أقرّ أنه زوجها صح إقراره لأنه مبني على إذنها واستدل الحنابلة على هذا بأنه يملك أصل التزويج فيملك الإقرار به وهذا صحيح وفهم من كلام المؤلف أنها إذا لم تقرّ أنها أذنت له فإقراره ليس بصحيح وهو كذلك إقراره بدون إذن لا عبرة ولا قيمة له شرعا إنما يكون له قيمة إذا كانت أذنت له فتبيّن معنا أنّ إقرار الولي يكون صحيحا ومعتبرا في صورتين. الأولى: أن تكون المرأة مجبرة. وهو مجبرا. الصورة الثانية: إذا أذنت له في النكاح بمجرد الإذن بالنكاح يصح الإقرار. ثم - قال رحمه الله - (وإن أقرّ بنسب صغير أو مجنون مجهول النسب وأنه ابنه ثبت نسبه منه ...... إلى آخره) إذا أقرّ الإنسان بنسب شخص آخر فإنّ الإقرار صحيح والمقر به أي الولد ينسب إلى المُقِر بشروط:

الشرط الأول: أن يكون مجهول النسب. فإن كان معلوم النسب فإنّ الإقرار باطل لأنّ النبي - صلى الله عليه وسلم - لعن من انتسب إلى غير أبيه. الشرط الثاني: أن يمكن نسبة هذا الولد إلى المقُِر يعني من حيث السن والأصل أنّ الشرط عام أن يمكن نسبة هذا الولد للأب من حيث السن أو من حيث غيره مثل أن يقّر شخص بولد وبينهما آلاف الكيلوات ولم يلتقيا يوما من الزمن فإنّ مثل هذا لا يقر بإقراره لأنه لا يمكن أن يكون ابنه لعدم التلاقي. الشرط الثالث: أن لا يكون مكلفا فإن كان مكلفا فلا نقول الإقرار باطل بل يشترط صحة ورضا المقر به فإذا أقرّ بمن له خمسة عشر سنة؟ لا نقول صحيح ولا غير صحيح وإنما نقول موقوف فإن رضي المقر به وإلاّ صار باطلا إذا اكتملت هذه الشروط الثلاث صحت نسبة الولد لهذا المقر لأنّ الشارع يتشوف إلى إثبات النسب وإلحاق الأولاد بآبائهم. ثم - قال رحمه الله - (فإن كان ميتا ورثه) نص المؤلف على هذه المسألة لأنها محل خلاف وإلاّ فالأصل أنه بمجرد ما تقول يصح النسبة يتبعها هذا الإرث ذهب الحنابلة إلى صحة الإقرار وأنه يستحق الإرث واستدلوا على هذا بأنّ الإرث فرع لثبوت النسب فإذا ثبت الأصل ثبت الفرع إذ يمتنع عقلا أن تثبت الأصل وتنفي الفرع. القول الثاني: أنّ النسب يثبت والإرث لا يثبت لأنّ من أقرّ بميت فالتهمة في حقه كبيرة وإلى هذا مال المرداوي. القول الثالث: أنّ النسب لا يثبت ولا الإرث لأنه لما أقرّ به بعد الموت صارت أيضا كبيرة فلم نثبت بهذا الإقرار شيء والراجح إن شاء الله بلا إشكال ما اختاره المرداوي. وهو القول الثاني أناّ نثبت النسب ولا نثبت الإرث. ثم - قال رحمه الله - (وإذا ادعى على شخص بشيء فصدقه صح) في المقنع قبل هذه المسألة بوّب الشيخ ابن قدامة باب ما يحصل به الإقرار وهو تبويب مفيد جدا ولو أنّ المؤلف ذكره لكان أنفع لأنه يبيّن بماذا يكون الإقرار لكن لعله رأى أنه مسألة واحدة لا تستحق لا التبويب ولا أن يوضع لها فصل خاص. الإقرار يصح بأن يصدقه فإذا صدقه فقد صح الإقرار وهذا معنى قول الشيخ (وإذا ادعى على شخص بشيء فصدقه صح) فإذا قال أنا أطلب زيد مئة ألف. فقال زيد صدق فإنه صح الإقرار بهذا اللفظ.

الصورة الثانية: الإنكار أن يقول أنا أطلب زيد مئة ألف فيقول كذب. أو يقول لا يطلبني شيء. الصورة الثالثة: العبارات التي لا تفيد هذا ولا هذا كأن ينكر فإذا قال زيد أنا أطلب عمرو مئة ألف وقال عمرو أنا أنكر هذا هذه العبارة لا تعتبر رفض ولا قبول وإنما وسط واستدل الفقهاء على هذا بأنه يوجد مرحلة بين الإنكار والقبول هي السكوت. واستدلوا بأمر آخر أقوى من هذا وهو أنه يصح أن تقول أنا لا أنكر ولا أقرّ أليس كذلك؟ ألاّ يصح أن تقول هذه العبارة إذن معناه إذا قلت أنت أنا لا أنكر ولا أقرّ إذا أنت تسكت في الوسط. فصح نفي القبول ونفي الإنكار في لفظ واحد فدل على أن الإنكار مرحلة بين القبول والرفض. والقول الثاني: أنّ الإنكار رفض وهو أنه إذا قال أنا أنكر فإنه لا يثبت عليه شيء والأقرب والله أعلم أنه يرجع إلى العرف. واليوم الإنكار في العرف أقوى من قوله لا يطلبني شيء أليس كذلك؟ إذا قال أنا أنكر فهذا اللفظ أقوى من قوله لا يطلبني شيء فإذا أردنا في عرفنا اليوم نعتبر الإنكار رفض وليس بتوسط. فصل قال المؤلف - رحمه الله - فصل إذا وصل هذا الفصل لبيان حكم ما يوصل بالإقرار مما يغيره هل يعتبر أو لا يعتبر ففي صور يعتبر وفي صور لا يعتبر وبدأ الشيخ بالصور التي لا يعتبر فيها. يقول - رحمه الله - (إذا وصل بإقراره ما يسقطه مثل أن يقول له: عليّ ألف لا تلزمني ونحوه لزمه الألف) إذا قال له عليّ ألف لا يلزمني فإناّ نقبل الجزء الأول من كلامه ونرد الجزء الثاني من كلامه واستدلوا على هذا بأمرين: الأمر الأول: أنّ الجزء الثاني يتضمن نفي الجزء الأول فبينهما تنافي وتعارض فلا نقبل الجزء الثاني لمنافته للجزء الأول. الدليل الثاني: القياس على ما لو استثنى الكل فلو قال هو يطلبني ألف إلاّ ألف فإنه تقدم معنا أنّ استثناء الكل باطل. الدليل الثالث: أنّ فحوى هذا الكلام وجود إقرار ودعوى فالإقرار يقبل والدعوى ترد إلى أن يقيم عليها بيّنة استدلوا بهذه الثلاث أدلة وقول الشيخ لا يلزمني ونحوه مثل أن يقول له عليّ ألف ولكنها قيمة خمر أو قيمة كلب أو قيمة ميتة أو دم. الكل يرد لأنّ في إقراره ونفيه الثاني بينهما تعارض.

القول الثاني: التفصيل وهو أنه إن قال له عليّ ألف قيمة خمر قبل وإن قال له عليّ ألف لا يلزمني لم يقبل لأنه في الصورة الأولى لا يوجد تنافي له عليه ألف لكن سببها أنها قيمة خمر وفي الصورة الثانية يوجد تنافي حيث أقرّ ثم نفى. والإقرار والنفي لا يجتمعان هكذا وجدت الأقوال في هذه المسألة ولو قيل بقول ثالث. أنه لا يلزمه مطلقا لأنه إنما أقرّ بألف لا تلزمه هو لم يقرّ بألف مطلقا وإنما أقرّ بألف من صفتها أنها تلزمه لو قيل بهذا لكان وجيه وبدل أن يتحايل كثير من الناس على الإقرار ثم النفي إذا عرف أنه إذا أقرّ لم يقبل منه النفي بأن ينفي وينكر الدعوى من أصلها ويتأول أنه لا يطلبه بسبب القضاء بدل هذا لوقيل يقبل منه هذا لكان وجيها. لكن جمهور الفقهاء أنّ عبارة عليّ ألف لا يلزمني تقتضي وجوب الألف والمطالبة بالبيّنة على قوله لا يلزمني. قال - رحمه الله - (وإن قال: كان له عليّ وقضيته فقوله بيمينه) إذا قال الإنسان كان له عليّ فقضيته صح الإقرار والنفي لأنه ليس بين الإقرار والنفي تعارض ولا تنافي وجه ذلك أنه يقول كان ولم يقل له عليّ ومعلوم أنه إذا أخبر بأنه قد كان عليه ثم قضي فإنه لا يوجد تعارض بين الأمرين. والقول الثاني: أنه في هذه الصورة لا يقبل أيضا ويلزم بالبيّنة أو يثبت الألف في ذمته لأنّ بين الإقرار والنفي تعارض فلا يقبل. والراجح هنا بلا إشكال المذهب كيف ونحن نميل في المسألة الأولى أنه لا يلزمه فهم من كلام المؤلف أنه لو قال له عليّ وقضيته لا يقبل إن أسقط كان ومن هنا تعلم أنّ النسخة التي ليس فيها كان لا يعتبر من اختلاف النسخ وإنما يعتبر خطأ فإثبات كان مع اختلاف النسخ يتحتم وتركها مهما كانت النسخة التي ليست فيها كان هي الأصل تركها خطأ لأنّ المعنى ينتقض من أصله. ثم - قال رحمه الله - (ما لم تكن بيّنة) يعني إذا كانت عليه بيّنة بهذه الألف فإنه لا ينفعه أن يقول كان له عليّ ألف فقضيته مادام الدين ثبت ببيّنة فإنه لا يرتفع بقول المدعي فقضيته وتقدم معنا أنّ البيّنة تقضي على كل شيء صاحب البيّنة الصحيح أنه مقدم على غيره. ثم - قال رحمه الله - (أو يعترف بسبب الحق)

إذا اعترف بسبب الحق فقال كان له عليّ ألف ثمن سيارة فقضيته أو قال كان له عليّ ألف قرض فقضيته الآن بيّن الحق وسبب الحق والقاعدة عند الحنابلة أنه إذا بيّن الحق وسببه فإنه لا يقبل منه دعوى القضاء والراجح أنه يقبل منه ولو بيّن السبب وسبب الترجيح أنه من المعلوم أنّ أي حق لا يثبت إلاّ بسبب فكونه يصرح بالسبب أو لا يصرح لا يخرج القضية ولا يغيرها عن حقيقتها فنحن نقول صرح أو لم يصرح فإنه إذا قال كان ثم زعم أنه قضى فإنه يعتبر قضى. قال - رحمه الله - (وإن قال له عليّ مائة ثم سكت سكوتا يمكنه الكلام فيه ثم قال زيوفا أو مؤجلة لزمه مائة جيدة حالة) السبب في هذا أنّ الأصل في إطلاق الاسم الحلول والكمال فلما أطلق علمنا أنها ثبتت في ذمته حالة كاملة جيدة غير معيبة. وأما قوله بعد ذلك زيوفا أو مؤجلة فإنه لا يعتبر شيئا لأنه لم يتصل وإذا لم يتصل فهو ملغى. والفصل يكون بأحد أمرين: إما أن يسكت سكوتا يمكنه فيه الكلام أو أن يتكلم بموضوع آخر. وقولهم يمكنه فيه الكلام. يعني أنه لو سكت سكوتا لا يمكنه فيه الكلام مثل أن يسكت ليشرب أو يسكت ليكح أو يسكت ليوجه أمر ضروري في بيته إلى آخره إذا كان سكوتا لا يتمكن معه من الكلام فإنه لا يعتبر كلاما منفصلا. أما إذا فصل الكلام فإنه لا يعتبر فإذا جلس وقال له علي ألف فلما مضت ساعة قال زيوفا مؤجلة فإنه لا يقبل منه لأنّ هذا الاستثناء ملغي. قال - رحمه الله - (وإن أقرّ بدين مؤجل فأنكر المقر له الأجل فقول المقر مع يمينه) يعني بكلام متصل فإنه لا يلزمه إلاّ مؤجلا واستدلوا على هذا بأنه إنما اعترف بدين من صفته أنه مؤجل والفرق بين هذه المسألة وبين قوله له عليّ ألف لا تلزمني. أنّ التأجيل لا يتنافى مع الدين أليس كذلك. بينما زعم القضاء يتنافى تماما مع وجوب الدين في ذمة المقر ولهذا رأوا أنه لا يلزمه ويكون القول قول المقر لكن مع يمينه.

والقول الثاني: أنها تلزمه حالة واستدلوا على هذا بأنّ التأجيل يمنع من استيفاء الحق حالا وهذا الدليل من جنس الأدلة التي تقدمت معنا والتي قلنا فيها أنها استدلال بمحل النزاع. نحن نقول هل يملك التأجيل وهم يقولون لا يملك التأجيل لأنها لا بد أن تكون حالة كيف لا بد أن تكون حالة نحن ننازع في هذه القضية ونقول هو أقرّ بها مؤجلة هذا شيء والشيء الثاني أنّ تعليل الحنابلة في هذه المسألة وإن كنت قلت ونبهت إلى أنّ له عليّ ألف مؤجلة تختلف عن له عليّ ألف لا تلزمني من حيث التعارض إلاّ أنها تشبهها من حيث أنه اعترف بها بصفة معينة وقبلنا الاعتراض بصفة بحسب ما ورد في لفظ المقر يعني بالصفة التي قيد بها المقر المبلغ اللازم له في ذمته وهذا يؤيد القول الذي أشرت إليه إن كان قيل به أنه لا يلزمه إذا قال له عليّ ألف لا تلزمني لأنه أقر بألف وصفها بكونها لا تلزمه. قال - رحمه الله - (وإن أقرّ أنه وهب أو رهن وأقبض , أو أقرّ بقبض ثمن أو غيره ثم أنكر القبض ولم يجحد الإقرار وسأل إحلاف خصمه فله ذلك) هذه ثلاثة مسائل ثم أنكر القبض يعني ولم ينكر أصل العقد ولم يجحد الإقرار أيضا بأنه أقرّ بأصل العقد وأقرّ أنه قبض وسأل إحلاف خصمه فله ذلك. صورة المسألة: أن يقر فيما سبق أو في مجلس الحكم أو عند الناس أنه قبض الرهن والمن والهبة يقر ثم بعد ذلك ينكر ويقول أنا أقررت فهنا أقرّ بإقراره أنا أقررت أني قبضت الثمن لكن في الواقع لم أقبض الثمن هنا جعل له الحنابلة الحق في شيء واحد وهو أنه يملك طلب اليمين من المدعى عليه فيقول اطلب يمينه أنه أقبضني قيمة السلعة أو الرهن أو الهبة إلى آخره. له الحق في المطالبة باليمين واستدلوا على هذا بأنه جرى العرف كثيرا أن يتقدم إقرار على قبض وإذا كان هذا عرف جاري صار ما قاله المدعي محتمل وإذا كان محتملا مقبولا صدقناه في طلب اليمين من المدعى عليه.

والقول الثاني: أن قوله أنه أقرّ أنه قبض وإنكاره القبض بعد هذا إقرار ودعوى فنقبل الإقرار ونرد الدعوى إلاّ ببيّنة والراجح بلا إشكال المذهب وهو اختيار العلامة ابن قدامة وشيخ الإسلام بن تيمية وغيرهم من المحققين. ويتأكد هذا في زمننا هذا يتأكد جدا ومن لم يحكم به فقد خالف العرف في الحقيقة اليوم مثلا كُتَاب العدل لا يكتبون المبايعة إلاّ بعد الإقرار بقبض الثمن فتسعين بالمئة من المبايعات التي تتم بدون قبض ثمن تثبت في صك كُتَاب العدل مقبوضة الثمن لا يرضى أصلا أن يتمم الكتابة إلاّ إذا أقرّيت أنك فعوام الناس وكثير منهم في المجلس حتى لا يضيع عليه الوقت يقرّ أنه قبض وهو في الواقع لم يقبض فيتوجه جدا أن يحسن القاضي أنّ هذا أمر واقع وأنّ كثيرا من الناس يقر بالقبض وهو لم يقبض فأقلّ ما يستحق هو طلب اليمين من المدعى عليه على أنّ القاضي الفطن لأظنه أنه يكتفي بطلب اليمين مع علمه المتعين أنّ هذا الشخص لم يقبض وأنه جرى كثيرا أن يقر بالقبض بدون أن يقبض. ولهذا نقول لا شك في رجحان المذهب وهو أقّل حقوق المقر في هذه الصورة نحن نتكلم عن صورة معيّنة. قال - رحمه الله - (وإن باع أو وهبه , أو أعتقه ثم أقرّ أنّ ذلك كان لغيره لم يقبل قوله ولم ينفسخ البيع ولا غيره) أي يترتب على هذا حكمان: لم يقبل قوله ولم ينفسخ البيع وهذه المسألة ترجع لقاعدة مرت معنا مرارا في كتاب البيوع والقضاء وهو أنه لا يقبل إقرار الشخص على غيره. صورة أنّ هذا الإقرار هو أنه إقرار على غيره أنه بمجرد ما تم العقد فإنّ السلعة تعتبر ملك من أملاك المشتري فإذا أقرّ هذا الإقرار فهو يقرّ على غيره فلا نقبل هذا الإقرار وتبقى السلعة في ملك المشتري ولا يفسخ العقد ولكن مع ذلك حفظ الحنابلة صاحب السلعة كما يلي: قال - رحمه الله - (ولزمته غرامته)

للمقر له. المقر له تلزمه الغرامة دون السلعة فنقول أنت أقررت أنّ هذه السلعة لفلان بعد ما بعتها فتبقى السلعة في يد المشتري وعليك أن تدفع ثمن السلعة إلى المقر له الذي تزعم أنت أنّ السلعة ملك له في هذا في الحقيقة عدل وإنصاف ولكن يشكل عليه شيء واحد وهو أنه دائما ما تكون السلعة أهم بكثير من قيمة السلعة وربما كانت السلعة لا يمكن تعويضها بالثمن الذي أعطي للمقر له فمن هذا في الحقيقة يدخل خلل على مثل هذا الحكم وهي مشكلة ولم أجد فيها أقوال بحيث أنّ الإنسان يتفقه فيها ويختار قولا يحصل فيه العدل لكن لو قيل أنّ القاضي أيضا له نظر في مثل هذه المسائل وله تصرف فإذا رأى وعلم أنّ من شأن هذا البائع أن يسرق ويختلس ويغتصب وأنّ هذه السلعة تناسب المقر له فلا يوجد من وجهة نظري مانع من قبض العين من المشتري وإرجاعها إلى المالك الأصلي وتعويض المشتري لا البائع. لأنه تبيّن معنا الآن أنّ العقد ورد على سلعة غير مملوكة للبائع والنبي - صلى الله عليه وسلم - نهى عن بيع ما لم يملك. وأصبح العقد باطل فما دمنا نصدق هذا الإقرار ونرى أنه إقرار صحيح فيبدوا لي أنّ هذا التصرف أقرب للعدل بكثير من أن نقر السلعة في يد المشتري ونبذل العوض للمقر له هذا في مثل هذه الصورة يوجد صور أخرى يتحتم أن نفعل كما قال المؤلف وذلك إذا تبيّن للقاضي أنّ هذا كله حيلة لاسترداد السلعة فبعض الناس بعد أن يبيع السلعة يندم ولا يجد طريقة لاسترداد السلعة إلاّ أن يزعم لفلان حتى ينتقض العقد. ففي مثل هذه الصورة يتوجه ما قال المؤلف ونقول السلعة تبقى عند المشتري وأنت أيها المقر عوّض المقر له عن قيمة هذه السلعة. وهذا يؤكد ما تقدم معنا مرارا أنّ الأحكام الفقهية بالنسبة للقاضي ليست قوالب يحكم بها دائما على ما جاءته وإنما يحتاج أن يكون عنده نوع من النظر والتصرف. قال - رحمه الله - (وإن قال: لم يكن ملكي ثم ملكته بعد وأقام بيّنة قبلت) يقصد بعد بالبيع أو الهبة أو العتق ثم إذا أقام بيّنة على هذا الزعم قبلت لما تقدم معنا أنّ البيّنة مقبولة دائما وأنها إنما وضعها الشارع لإثبات الحق لأصحابه فإذا أتى ببيّنة قبلت وهذا واضح.

قال - رحمه الله - (إلاّ أن يكون قد أقرّ أنه ملكه أو أنه قبض ثمن ملكه لم يقبل) يستثنى مما سبق إذا أقرّ في ضمن الإقرار الأول أنها ملكه يعني إذا باعها وقال وهي ملكي بعت عليك ملكي أو قال قبضت ثمن ملكي حينئذ أقرّ أنها ملكه فصار الإقرار الأول متعارض مع البيّنة الثانية. فلا تقبل البيّنة هنا لأنها تتعارض مع إقراره فإقراره يكذب بيّنته وهذا من المواضع القليلة التي لا تقبل فيها البيّنة ولا أذكر الآن أنه مرّ علينا عدم قبول البيّنة إلاّ في موضعنا هذا الموضع وموضع سابق فقط فيما عدا هذين الموضعين فإنه لا ترد البيّنة الصحيحة. فصل قوله - رحمه الله - فصل الفصل هذا معقود للإقرار بالمجمل. والمجمل هو كل لفظ لا يدل على معناه بمجرد لفظه. قوله - رحمه الله - (إذا قال: له عليّ شيء أو كذا قيل فسّره) تضمنت كلمة المؤلف بيان حكمين: الحكم الأول أنّ الإقرار بالمجمل صحيح ومشروع وهذا محل إجماع فالإقرار بالمجمل صحيح وصحته مجمع عليها واستدل الحنابلة وغيرهم من الفقهاء على هذا الدليل بأنّ الإقرار اعتراف على النفس فيقبل ولو كان مجهولا لأنه يعترف على نفسه. الحكم الثاني: أنه إذا أقرّ بمجمل طولب بتفسيره ومطالبة المقر بالمجمل بالتفسير أيضا محل إجماع فإنهم أجمعوا على أنه يجب أن يفسر واستدلوا على هذا بأنه إذا أقرّ بمجمل فإنه لا يمكن أن يأخذ الحكم مجراه ولا أن تسلم العين المدعاه إلى صاحبها إلاّ بعد التفسير فنلزمه إلزاما بالتفسير لهذا السبب وللإجماع. ثم سيبيّن المؤلف فيما لو رفض أن يفسر. قال - رحمه الله - (فإن أبى حبس حتى يفسر) إذا أبى حبس حتى يفسر يعني حتى يفسر هذا المجمل الذي أقرّ به والسبب في هذا ما تقدم معنا قاعدة أيضا مرارا وهو أنّ كل من امتنع عن حق متوجه عليه فللقاضي أن يحبسه , هذا امتنع عن حق وهو بيان المجمل الذي أقرّ به وإذا امتنع عن هذا الحق ألزمناه به وحبسناه حتى يقرّ.

القول الثاني: أنه إذا أبى أن يفسر اعتبرناه ناكلا فإذا اعتبرناه ناكلا أسند التفسير إلى المقر له فنقول هو يقر لك ولم يبيّن فبماذا؟ فإذا فسر المقر له المقر به رجعنا إلى المقر فإنّ استمر رافضا للبيان ألزمناه بالعين التي فسرها المقر له. وهذا القول هو الصحيح واختاره القاضي من الحنابلة وهذا الحكم فيه من فصل ونزعات وإرجاع الحقوق لأهلها وتوفير الأوقات ما ليس في القول بحبسه فإنّ كثيرا من الناس لا يمتنع من الحبس حتى يذهب مدة طويلة وهو يتمتع بالعين التي أقرّ بها أو بالديون ثم يخرج بعد فترة ويسدد أهل الديون أو يؤدي المقر به إلى أصحابه بعد فترة من الانتفاع بها. لذلك نحن نقول يعتبر ناكلا ونقول له إما أن تبيّن أو أن تعتبر ناكلا ونقبل قول المقر له. والشخص الذي يصر على أن لا يبيّن الشيء المجمل أو الذي أقرّ به في هذا أكبر دليل على أنه شيء عظيم امتنع عن أدائه ولهذا نقبل تفسير المقر له ولو ارتفع أليس كذلك؟ من المعلوم أنّ المقر له إذا أسندنا إليه الأمر ماذا سيصنع؟ سيقر بشيء رفيع جدا لأناّ أعطيناه الفرصة أن يبيّن المقر به المجمل وهذا لا غبار عليه نظرا لأنّ المقر رفض وهذا بحث نظري ولا عملي؟ لو في شيء أكثر من نظري لوصفانه بهذا الوصف. لأنه يأتي ويقرّ ثم نتوقف عند التفسير يعني لا يمكن هذا أو لا يقع إلاّ نادرا. قال - رحمه الله - (فإن فسره بحق شفعة أو بأقّل مال قبل) مقصود المؤلف أنه إذا فسره بأي شيء يتمول ولو قّل نقبله لأنه إنما أوجبنا عليه الحق باعترافه فإذا فسر الاعتراف ولو بمال قليل قُبل. قال - رحمه الله - (وإن فسره بميتة أو خمر أو قشر جوزة لم يقبل) إذا فسره بميتة أو خمر لم يقبل لأنه اعترف بحق والحقوق مالية والخمر والميتة ليس بمال في الشرع فإذا اعترف بحق وفسره بأنه ميتة أو دم كان تماما كمن قال له عليّ ألف وقضيته لأنّ آخر الكلام ينفي أول الكلام لأنه اعترف بما ليس بحق ونحن نقول هو اعترف في الأصل بحق ثم فسره بغير حق فصار فيها تناقض وتنافي. ثم - قال رحمه الله - (أو قشر جوزة)

إذا فسره بقشر جوزة أيضا لا يقبل لأنه لا يثبت في الذمة وكل ما لا يثبت في الذمة لا يتمول وكل ما لا يتمول لا يصح تفسير الإقرار المجمل به لأنّ هذا الأمر لا يعبأ به ولا ينظر إليه. قوله - رحمه الله - (لم يقبل) لو وضع الشيخ قاعدة فقال [إذا فسره بما لا يتمول لم يقبل] لكان هذا الضابط يكفينا عن جميع الأمثلة إذا فسره بما لا يتمول عادة لم يقبل ولابد من إضافة عادة لماذا؟ لأنّ من الأعيان مالا يتمول عادة في بلد ولكنه يتمول عادة في بلد آخر. فلا يستقيم أن تقول بما لا يتمول لأنّ هذا يختلف من بلد إلى بلد. قال - رحمه الله - (ويقبل بكلب مباح نفعه) الكلب المباح النفع تقدم معنا في كتاب الغصب أنه يجب رده ولا يضمن أليس كذلك؟ والقاعدة عند الحنابلة [أنّ أي عين يجب أن ترد فإنه يصح تفسير الإقرار المجمل بها] فلما كان الكلب يجب رده جاز تفسير المجمل به. والقول الثاني: أنه لا يصح تفسيره بكلب ولو كان مباحا لأنّ الكلب لا يضمن ولو مباحا فلا يصح تفسير الإقرار المجمل به والحنابلة يقولون أنه لا يثبت في الذمة يعللون الرد بالشيء اليسير أنه لا يثبت في الذمة كذلك الكلب لا يثبت في الذمة لأنه لا يضمن لهذا يبدوا لي الأقرب إن شاء الله القول الثاني أنه لا يفسره بكلب ولو مباحا. قال - رحمه الله - (أو حد قذف) إذا فسره بحد قذف يقبل لأنه حق فلما كان حقا صح تفسير الإقرار المجمل به. والقول الثاني: أنه لا يقبل لأنّ موضوع الإقرارات المال وهو الآن لم يقر بمال وإنما أقرّ بحق والصحيح إن شاء الله بلا إشكال أنه يقبل. قال - رحمه الله - (وإن قال: له عليّ ألف رجع في تفسير جنسه إليه , فإن فسره بجنس أو أجناس قبل منه)

إذا قال له عليّ ألف فهو أقرّ ولم يبيّن فنرجع في بيان هذا الألف إليه وعللوا هذا بأنّ كلامه محتمل لعدة أجناس وهو المستحق لتفسير العين المقر بها كما أننا نلزمه بتفسير المجمل نقبل منه إذا فسر وهذا صحيح وسواء فسر الإقرار بنقد أو بأعيان وسواء فسر الإقرار بنقد حال أو بمؤجل لأنّنا نقبل تفسيره للألف مطلقا. وإن كان العرف اليوم إذا قال له عليّ ألف يقصد من النقود لكن الفقهاء لا يلزمونه بالنقود فيقولون له أن يفسر الألف بما شاء يستثنى من هذا إذا فسر الألف بما لا يتمول أو فسره بما ليس بمال في الشرع كأن يفسره بألف كلب ولو مباح النفع إذن لا بد أن يفسره بما يتمول عادة أو يفسره على الصحيح بحق ولو لم يكن حقا ماليا. قال - رحمه الله - (فإن فسره بجنس أو أجناس) له أن يقول له عليّ ألف ربعها دنانير والباقي دراهم , أو ربعها أراضي والباقي بيوت , أو ربعها كتب والباقي أقلام. المهم أنه له أن يفسر بأكثر من جنس لما تقدم أنّ له الحق في تفسير ما اعترف أو أقرّ به. قال - رحمه الله - (وإن قال: له عليّ ما بين درهم وعشرة لزمه ثمانية) لأنّ الثمانية هي التي بين الواحد والعشرة فإذا اسقطت الواحد وأسقطت العشرة كم باقي؟ ثمانية , فهي التي بينهما. لكن إذا قال مثل هذا ينبغي إذا لم يكن لقوله سبب أن يؤدب لأنه لماذا يتكلف ويقول له علي ّ ما بين درهم وعشرة. لماذا لم يقل له عليّ ثمانية؟ قوله له عليّ ما بين درهم وعشرة يصلح في درس حساب يصلح في درس فقه. أما عند القاضي في مجلس الحكم يعتبر هذا نوع من التنطع. قال - رحمه الله - (وإن قال: ما بين درهم إلى عشرة أو من درهم إلى عشرة لزمه تسعة) إذا قال ما بين درهم إلى عشرة فعليه تسعة لأنّ الحنابلة يرون أنّ الغاية غير داخلة فإذا أسقطنا الأخير وهو العشرة بقي ما تحته وهي التسعة القول الثاني: أنّ ما بين درهم إلى عشرة ثمانية لأن قوله (ما بين) يخرج الدرهم وإذا أسقطنا الأول والأخير بقي عليه ثمانية. أما قوله:" من درهم إلى عشرة" فعليه تسعة لأنّ ما بعد (من) داخل وما بعد (إلى) غير داخل فتكون النتيجة أن عليه تسعة. قال - رحمه الله - (وإن قال: له عليّ درهم أو دينار لزمه أحدهما)

مقصود المؤلف أنه لا يلزمه الجميع وإنما يلزمه إما درهم أو دينار وعللوا هذا بأنّ أو تقتضي وجوب أحد الشيئين لا وجوب الشيئين وهذه العبارة ليست كالسابقات وإنما يحتاج إليها لأنّ الإنسان قد يتردد وينسى هل له على زيد درهم أو دينار فله أن يقول له عليّ درهم أو دينار لأنه ناسي. لكن يقول ويعيّنه. والتعيين هنا يكون كما تقدم معنا في التفسير تماما نقول عيّن وعلى المذهب إما أن تعيّن حتى يستطيع الحاكم أن يحكم أو تحبس , وعلى القول الثاني: إما أن تعيّن أو نعتبرك ناكلا ونحيل الأمر إلى المقر له. على ما تقدم في تفسير الإقرار المجمل. قال - رحمه الله - (وإن قال له عليّ تمر في جراب أو سكين في قراب أو فص في خاتم ونحوه فهو مقر للأول) إذا قال له عليّ تمر في جراب إلى آخره. فهو مقر بالأول لا بالثاني لأنّ القاعدة عند الحنابلة أنّ الاعتراف بشيء يعني الاعتراف بالمظروف دون الظرف. والقول الثاني: أنه اعتراف بالأول والثاني لأنه اعترف بهما في سياق واحد وبكلام واحد فلزماه جميعا. والراجح إذا لم نقل أناّ نحيل الأمر إلى القاضي الثاني هذا إذا لم نقل نحيل الأمر إلى القاضي والعرف لأنه لا يفهم من قول القائل له تمر في جراب إلاّ الجميع ولو أراد التمر فقط لقال له عندي تمر لهذا أنا أقول أنّ الراجح هو القول الثاني إن شاء الله ما لم نقول أنه يرجع للعرف ونظر القاضي وهل يعتبر هذه الصيغة في هذا البلد تعني الجميع أو تعني أحدهما إذا لم نقل بهذا فالراجح إن شاء الله هو القول الثاني. بهذا تم المتن ولله الحمد والنعمة والشكر ولولا أنّ الله سبحانه وتعالى لطف ويسر لما انتهى هذا المتن وبقي فيه الفرائض والعتق لعله تيسر له فرصة أخرى أما في هذا الأسبوع فلا أظن سنكمله لكن فيما عداه لولا أنّ الله سبحانه وتعالى يسر لنا أن ننهي هذا المتن ووفق وأعان وسهل لما تمكن الإنسان من إتمام هذا المتن بالنسبة للشارح وبالنسبة للمتلقي. ولهذا نحن نسأل الله أن يتقبل منا أن هو السميع العليم. ونسأله أن يقبل منا الشكر والحمد على مثل هذا التوفيق.

§1/1