شرح زاد المستقنع للحمد

حمد بن عبد الله الحمد

كتاب الطهارة من الزاد

بسم الله الرحمن الرحيم وبه نستعين [شرح زاد المستقنع] لفضيلة الشيخ/ حمد بن عبد الله الحمد كتاب الطهارة كانت البداية في هذا الدرس المبارك يوم الأحد بعد صلاة المغرب الموافق 8/10/1414هـ وكانت الدروس كل ليلة ما عدا ليلتيّ الجمعة والسبت*. نسأل الله الإعانة على ما بدأنا به، كما نسأله التوفيق والسداد إنه ولي ذلك والقادر عليه ولا حول ولا قوة إلا بالله، وهو حسبنا ونعم الوكيل. والحمد لله. كتبه: أبو حافظ عبد العزيز الغسلان غفر الله له.

_ * هذا في البداية لكن تغيّر هذا ـ كما ستلاحظه في تاريخ الدروس ووقتها ـ وهذا التغيير هو أنّ الدروس أصبحت كل ليلة سوى ليلتي الخميس والجمعة.

وهذا الدفتر الأول، ويشتمل على شيء من كتاب الطهارة من أول الكتاب إلى: (باب: المسح على الخفين) الدرس الأول (الأحد: 8 / 10 / 1414 هـ) المقدمة: إن الحمدَ للهِ نحمَدُهُ وَنستَعينُهُ ونَتُوبُ إَلَيهِ، ونعوذُ باللهِ من شُرورِ أنفُسِنَا ومن سيئاتِ أعمالِنَا من يهدِهِ اللهُ، فلا مُضِلَّ لَه، وَمَن يُضلِلْ، فَلا هَادِيَ لَه. وأشهدُ أَن لا إِلهَ إِلاَّ الله وحدهُ لا شريكَ له وأشهدُ أنَّ مُحمَّداً عبدهُ ورسولُه. ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إَلا وَأَنتُم مُّسْلِمُون)) آل عمران آية (102) . ((يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَّاحِدَةٍ وَّخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مَنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَّنِسَاءاً وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأرْحَام إِنَّ اللهَ كَانَ عَلَيْكُم رقِيبَا)) النساء آية (1) .

((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَقُولُوا قَولاً سَدِيداً، يُصْلِح لَكُم أَعْمَالَكُم وَيَغْفِر لَكُمْ ذُنُوبَكُم وَمَن يُّطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً)) الأحزاب آية (70، 71) . أما بعد: فإن أصدقَ الحديثِ كتابُ الله، وخير الهدي، هدي محمدٍ صَلَّى اللهُ عليهِ وَسلَّمَ، وشرَّ الأمورِ مُحدَثاتُهَا، وَكُلَّ مُحدثةٍ بِدْعَة، وكُلَّ بدعةٍ ضلالة، وَكُلَّ ضَلالَةٍ في النَّار. هذه المجالس نتدارس فيها الفقه وهو من أعظم العلوم ومن أفضلها، فإن هذا العلم يتعرف به المسلم على كيفية عبادته لربه سبحانه، ويعبد الله على بصيرة من أمره. إذ العمل لا يتقبل مع الإخلاص إلاّ بأن يكون على السنة صواباً فوجب على المسلم أن يعبد الله على بصيرة من أمره بالتفقه في دين الله تعالى، وبه يعرف المسلم ما أحله الله وما حرمه من البيوع والأنكحة وغير ذلك، وبه يتعلم الحدود والجنايات، ونحو ذلك من الأحكام الشرعية التكليفية التي كلف الله بها عباده وقننها لهم سبحانه وتعالى. فعلم الفقه من أهم العلوم الشرعية فليس يفضل عنه إلا علم التوحيد الذي هو متعلق بالله سبحانه وتعالى في أسمائه وصفاته عز وجل. وإن من الطرق التي يتدارس بها الفقه أن يتعلم من خلال أحد الكتب الفقهية المذهبية فإن ذلك من الطرق الصحيحة السليمة في تعلم الفقه، وليس المقصود من ذلك أن يتلقى ما فيها من صواب وخطأ. بل أن يتدارس وأن يتحاكم إلى كتاب الله وسنة نبيه عليه الصلاة والسلام فيما وقع بين أهل العلم من الخلاف. فإن ما يذكره صاحب المؤلَّف الذي نتدارسه أو غيره من المؤلفين بالفقه ليس كله صواباً، وليس كله مجمعاً عليه. بل قد وقع كثير من الخلاف بين أهل العلم. إلا أن هذه الطريقة في التدارس وهي التلقي عن بعض الكتب الفقهية المذهبية أن هذا في الحقيقة فيه فوائد كثيرة: من ذلك:

ـ أنه أسهل ترتيباً من التلقي عن طريق الكتب التي جمع فيها مؤلفها الأحاديث النبوية المشتملة على المسائل الشرعية، فإن هذا بلا شك أسهل ترتيباً وأوضح. بل إن أصحاب الكتب المؤلفة الحديثية، كصاحب بلوغ المرام، والمنتقى من أخبار المصطفى وغير ذلك من الكتب إنما استفادوا ذلك الترتيب من هذه الكتب الفقهية. ـ الأمر الثاني: أنه أبعد عن تشتت ذهن الطالب، فإنه من المعلوم أن الكتب التي جمعت الأحاديث النبوية في الأحكام ليست جامعة للأحكام كلها، إذ الأحكام الشرعية مستفادة من الأحاديث النبوية ومن غيرها؛ فإنها تستفاد من الآيات القرآنية والأحاديث النبوية والإجماعات، والقياسات الصحيحة وأقوال الصحابة. وكتب الحديث الفقهية إنما تجمع الأحاديث التي قالها النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ في مسائل الأحكام التكليفية فلا شك أنه ـ حينئذ ـ يكون أبعد للتشتيت فإن الطالب عندما يقرأ الكتاب الفقهي يجد فيه جميع المسائل العلمية التي استفادها العلماء من القرآن والسنة والإجماع والقياس وغيرها من الأحكام الشرعية. فيكون أبعد لأَنْ يتشتت ذهنه بأن تجمع له المسائل من مصادر أخرى، بل يجد هذه المسائل موجودة في الكتاب الذي يتدارسه. فإن التدارس من الكتب الفقهية ليس منكراً ـ كما ينكره بعض طلبة العلم ـ هذا أمر ليس بصحيح، بل تدارس ذلك من الطرق السليمة التي مازال يبينها أهل العلم، فإن شيخ الإسلام ابن تيمية وكذلك ابن القيم وغيرهم من أهل العلم قد تلقوا الفقه من مثل هذه الطريقة. لكنهم لم يكتفوا ـ كما اكتفى كثير من الناس المقلدين، اكتفوا بها فتلقوا العلم من هذه الكتب ثم اكتفوا بذلك ولم يحرروا ولم يبحثوا عن الحق، بل اكتفوا بما فيها، فهذا أمر ليس بصحيح، وليس مشروعاً وهذا هو التقليد المذموم.

لكن كون المسلم يتعلم منها ويتفقه ويتفهم ثم يبحث عن الحق بدليله؛ فإن هذا أمر سائغ جائز، مازال عليه أهل العلم، والذّم إنما يقع في الصورة المتقدمة بأن يتلقى منها تلقي العلم مجرداً عن دليله، فيأخذ المسائل مقلداً هؤلاء من غير أن يبحث عن الحق بدليله، بل لو عرض له الحق بدليله أباه ورفضه. أو هو قادر على أن يجد الحق بدليله لكنه يعرض عن ذلك، ويكتفي بما تقدم. بخلاف العاجز عن البحث والنظر فإنه يجوز له التقليد، فإن العاجز الذي لا نظر له في المسائل العلمية يسوغ له أن يقلد أحداً من أهل العلم من غير أن يحدد ذلك بصاحب مذهب ولا غيره، بل كل أهل العلم يقلدون كما قال تعالى: {فاسْأَلُوا أهلَ الذّكرِ إنْ كنتُم لا تعلَمُون} (¬1) . * قوله: ((بسم الله الرحمن الرحيم)) : ومؤلف الكتاب هو شرف الدين أبو النجا موسى بن أحمد المقدسي، المتوفى سنة 960هـ، وهو حنبلي المذهب، وله مؤلفات نافعة في المذهب الحنبلي منها هذا الكتاب (زاد المستقنع) ، ومنها كذلك كتاب: (الإقناع) . وقام بشرحهما البهوتي، المتوفى سنة 1046هـ شرح (زاد المستقنع) بكتاب أسماه: (الروضُ المُرْبِع) ، وشرح الإقناع بكتاب أسماه: (كشاف القناع عن متن الإقناع) . وهما كتابان نافعان. والمؤلف مشهور من مشايخ المذهب الحنبلي، وقد شرع المؤلف بالبسملة اقتداءً بالكتاب العزيز. ¬

_ (¬1) سورة النحل (43)

واقتداء بالنبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ في رسائله وكتبه فإنه كان يفتتحها بالبسملة، كما ثبت ذلك في الصحيحين من كتاب رسول الله عليه الصلاة والسلام إلى هرقل عظيم الروم، فإنه كتب فيه: (بسم الله الرحمن الرحيم: من مُحمَّد عبد الله ورسوله إلى هرقل عظيم الروم) (¬1) ، فشرع النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ بالبسملة فيه. وقد قال تعالى عن ملكة سبأ: {قالت يا أيها الملأُ إني أُلقي إلى كتاب كريم، إنه من سليمان وإنه بسم الله الرحمن الرحيم} (¬2) . فهي من سنن أنبياء الله عليهم الصلاة والسلام. وأما ما رواه الخطيب، والحافظ الرهاوي في أربعينه: أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال: (كل أمر ذي بال لا يبدأ فيه ببسم الله الرحمن الرحيم فهو أقطع) (¬3) فهذا الحديث فيه ابن الجندي، وهو متهم، فالحديث، ضعيف جداً، لا يثبت عن النبي ـ صلى الله عليه وسلم. (بسم الله) هنا الباء للاستعانة، و (اسم) مجرور بحرف الجر و (الله) مضاف إليه، مضاف إلى اسم، وهما متعلقان بمحذوف فعلي متأخر مناسب، تقديره هنا: (بسم الله أُؤَلِّف) ، وعندما نتوضأ تقديره: (بسم الله أَتَوَضَّأ) ، وعندما نقرأ تقديره: (بسم الله أقرأ) ؛ فهو فعل متأخر عن الجار والمجرور يناسب المقام. (بسم الله) : أي أستعين بالله في قراءتي وأستعين به في وضوئي، وأتبرك بالبداءة باسمه سبحانه وتعالى في تأليفي وفي وضوئي أو في قراءتي ونحو ذلك. ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري: في كتاب بدء الوحي، رقم 7، وأخرجه كذلك برقم 51، 2681، 2804، 2940، 2978، 3174، 4553، 5980، 6260، 7196. وأخرجه مسلم في كتاب الجهاد والسير باب كتاب النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى هرقل (1773) . (¬2) سورة النمل (30) . (¬3) قال في الإرواء [1 / 29] رقم (1) : " ضعيف جداً، وقد رواه السبكي في طبقات الشافعية الكبرى (1 / 6) " وقال: " وهذا سند ضعيف جداً آفته ابن عمران هذا، ويعرف بابن الجندي ".

و (الله) : هو العَلَم الأعظم لله عز وجل؛ فهو اسم الله سبحانه وتعالى الذي هو عَلَم من أعلامِهِ. وأصله من الإله: وهو المعبود، وهو يطلق على المعبود سواء كانت عبادته حقاً أو كانت باطلاً، كما قال تعالى: {أنه لا إله إلا أنا} (¬1) ، وقوله {واتخذوا من دونه آلهة} (¬2) : فهي آلهة لكنها باطلة. لذا يقال: لا إله إلا الله أي لا معبود بحق إلا الله سبحانه وتعالى. فإذاً (الله) : مشتق من الإله: وهو المعبود، والله هو الاسم الأعظم لله، وهو علمٌ له. (الرحمن) : أيضا اسم من أسمائه وتعالى متضمن لصفته الرحمة التي هي صفة من صفاته تعالى. و (الرحيم) كذلك اسم من أسمائه متضمن لصفة الرحمة أيضا إلا أن الرحمة في الرحمن صفة متعلقة بذاته سبحانه، أي ذو الرحمة الواسعة الشاملة. وأما الرحيم فهي صفة متعلقة بفعله سبحانه: أي ذو الرحمة الواصلة أي إلى من يشاء من خلقه سبحانه. والرحمن: نظراً إلى صفتة الذاتية. والرحيم: نظراً إلى صفته سبحانه وتعالى الفعلية. * قوله: ((الحمد لله حمداً لا ينفد)) . هنا شرع المؤلف بالحمد لما ورد في سنن أبي داود وابن ماجه أن النبي عليه الصلاة والسلام قال: (كل أمر ذي بال لا يبدأ بالحمد لله فهو أقطع) (¬3) أي ذاهب البركة، فلا بركة فيه. وهذا الحديث رواه الحفاظ عن الزهري مرسلاً. ¬

_ (¬1) سورة النحل (2) ، سورة الأنبياء (25) . (¬2) سورة الفرقان (3) . (¬3) أخرجه أبو داود في كتاب الأدب، باب الهدي في الكلام (4840) بلفظ: (كل كلام لا يبدأ فيه بالحمد لله فهو أجذم) ، أخرجه ابن ماجه في كتاب النكاح باب خطبة النكاح (1894) " حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة ومحمد بن يحيى ومحمد بن خلف العسقلاني قالوا: حدثنا عبيد الله بن موسى عن الأوزاعي عن قرة عن الزهري عن أبي سلمة عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (كل أمر ذي بال لا يبدأ فيه بالحمد أقطع ".

ورواه قرة بن عبد الرحمن وهو ضعيف، رواه عنه موصولاً بذكر أبي هريرة، والصواب ترجيح رواية من أرسله، فهم الحفاظ ولذلك قال الدارقطني: " فالحديث الصواب أنه مرسل " وعليه فالحديث ضعيف. وقد كان النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ يفتتح كلامه بالحمد والثناء على الله. وكذلك اقتداء بالكتاب العزيز، فإن فيه {بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين} . فالحمد يشرع للمسلم أن يفتتح كلامه به. أما هذا الحديث الوارد فهو حديث ضعيف مرسل لا يثبت عن النبي ـ صلى الله عليه وسلم، وقد حسنه بعض العلماء كالنووي، وابن الصلاح وغيرهما. والصواب أنه ضعيف مرسل من مراسيل الزهري وهي من ضعاف المراسيل. والحمد: هو ذكر محاسن المحمود محبة له وإجلالاً. " ذكر محاسن المحمود " أي فضائله، خيراته، ما عنده من الصفات الحميدة والأفعال الطيبة، هذا كله يسمى حمداً. " محبة وإجلالاً ": فليس مقابل النعمة فحسب، بخلاف الشكر، فإن الشكر أخص منه من هذه الحيثية، فإنه إنما يكون ـ أي الشكر ـ مقابل النعمة، أما الحمد فإنه سواء كان من هذا المحمود نعمة قد أسديت إليك أو لم يكن منه ذلك، فإنك تحمد فلاناً على شجاعته وقوله الحق وصلاحه ونحو ذلك، وإن كان هذا كله لا يصل إليك منه شيء. وكذلك إن أسدى إليك معروفاً فكذلك يسمَّى حمداً. أما الشكر فهو أخص منه، فالشكر: لا يكون إلا مقابل النعمة، والله عز وجل يحمد على كل حال، ولا يحمد على كل حال سواه سبحانه وتعالى.

وقد ثبت في سنن ابن ماجه بإسناد صحيح أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ: (كان إذا رأى ما يحب قال: الحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات، وإذا رأى ما يكره قال: الحمد لله على كل حال) (¬1) . إذاً الحمد: هو ذكر محاسن المحمود سواء كان مقابل النعمة أو لم يكن مقابلها. فالله يحمد على كل صفاته سواء التي يصل إلينا منها شيء من النعم، أو كانت الصفات اللازمة منه سبحانه كحياته سبحانه. فالله يحمد على حياته، ويحمد على غيرها من صفاته سواء كانت الصفات اللازمة أو الصفات المتعدية. إذن: الحمد هو ذكر محاسن المحمود تحية له وإجلالاً. (حمداً لا ينفد) : أي نفس الحمد لا ينفد. أما قول الحامد فإنه سينفد بنفاده وموته، فإنه ينقطع حمده لكن هذه المحاسن وهذه الفضائل، هذه الصفات التي يتصف الله بها لا تنفد، فهي صفات لا تنفد، فالله عز وجل لا يزال متصفاً بصفات الكمال ولن يزال على ذلك. كما أنه سبحانه لا يزال محموداً من خلقه: {وإن من شيء إلا يسبح بحمده} (¬2) أما من حيث الأفراد فإن من مات منهم أو شغل بأمر من الأمور فإن حمده يقف وينقطع. لكن الله عز وجل لا يزال محموداً من خلقه من حيث العموم. كما أنه سبحانه لا يزال متصفاً بصفات الحمد. (لا ينفد) : أي لا ينقطع. * قوله: ((أفضل ما ينبغي أن يحمد)) . فهو أهل الثناء والمجد ـ سبحانه ـ ولا يحصى الثناء عليه، فيثنى عليه سبحانه بما ينبغي له سبحانه. ¬

_ (¬1) أخرجه ابن ماجه في كتاب الأدب، باب فضل الحامدين (3803) قال: " حدثنا هشام بن خالد الأزرق أبو مروان حدثنا الوليد بن مسلم حدثنا زهير بن محمد عن منصور بن عبد الرحمن عن أمه صفية بنت شيبة عن عائشة قالت: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا رأى ما يحب قال: (الحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات، وإذا رأى ما يكره قال: (الحمد لله على كل حال) . (¬2) سورة الإسراء 44.

* قوله: ((وصلى الله وسلم على أفضل المصطفين محمد)) . (صلى الله) : أي أثنى. فالصلاة من الله عز وجل هي الثناء؛ كما قال ذلك أبو العالية. وقيل: هي الرحمة، وهو ضعيف. والصواب أن الصلاة من الله هي الثناء؛ لأن الله عز وجل قد عطف أحدهُما على الآخر. {عليهم صلوات من ربهم ورحمة} (¬1) فدل على أنهما متغايران إذ الأصل في التعاطف هو التغاير؛ كما أن الرحمة عامة، وأما الصلاة فهي خاصة فناسب ألا تفسر الصلاة بها. إذن الصلاة من الله عز وجل هي الثناء فعندما تقول: " اللهم صل على محمد " أي بمعنى: اللهم اثن على محمد واثن عليه عند ملئك المقربين. وعندما يدعو الإنسان بالصلاة؛ فالمراد من ذلك أنه يدعو له بأن يثني الله عز وجل عليه. إذن الصلاة من الله هي: الثناء. (وسلم) : السلام من السلامة؛ وهي البراءة من النقائص والعيوب والآفات: أي يدعو الله بأن يسلمه من كل نقص وعيب لا يليق به ـ أي الآدمي، ومن كل آفة. فإذن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ مجمع له بين الصلاة والسلام. الصلاة: بأن يثني الله عليه وهذا جلب خير. والسلام: أن يدعي الله بأن يسلم عليه: أي يلقي عليه السلامة من الآفات والعيوب فهذا دفع ضر، فيجتمع له بين جلب الخير ودفع الضر. * (على أفضل المصطفين) : المصطفين: جمع مصطفى وهو المختار من الصفوة: وهي خلاصة الشيء. فالمصطفون هم المختارون من الله سبحانه، الذين اختارهم الله على خلقه؛ لأنهم خلاصة خلقه. ¬

_ (¬1) البقرة 157.

وهم الأنبياء والرسل، وهو عليه الصلاة والسلام أفضل هؤلاء، فهو أفضل رسل الله عليهم صلاة الله وسلامه جميعاً. ويدخل في ذلك أولو العزم، كإبراهيم عليه السلام وموسى وعيسى عليهم السلام، وغيرهم من أنبياء الله فكلهم مفضولون بالنسبة إلى النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ فهو سيدهم وأفضلهم، فهو سيد البشر ولا فخر؛ كما صح ذلك عنه في الحديث المتفق عليه (¬1) . * قوله: ((وعلى آله وصحبه ومن تبعهم)) . (آله) : من آل يؤول إذا رجع. وقيل بمعنى أهل وهو ضعيف، ضعّفه ابن القيم في كتابه في الصلاة [على] النبي - صلى الله عليه وسلم - من عدة أوجه، ليس هذا موضع ذكرها. فـ: (آله) : أصلها من آل يؤول، إذا رجع. فآل الرجل: هم الراجعون إليه المضافون إليه المنتسبون إليه. هم آل الرجل. وآل النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ لهم إطلاقان: 1ـ إطلاق خاص، 2ـ إطلاق عام. * أما الإطلاق الخاص: فهم قرابته وزوجاته. فزوجاته وذريته وسائر قرابته هم آله، وقد قال صلى الله عليه وسلم كما في الصحيحين: (أما علمت أن آل محمد لا تحل لهم الصدقة) (¬2) : فالمراد من (آل محمد) : هم أقاربه من بني هاشم، وذريته عليه الصلاة والسلام من فاطمة رضي الله عنها وزوجاته على قول قاله بعض أهل العلم تقدم البحث فيه. ¬

_ (¬1) قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (أنا سيد ولد آدم يوم القيامة ... ) أخرجه مسلم في كتاب الفضائل، باب فضل نسب النبي - صلى الله عليه وسلم - (2278) ، وفي لفظ: (أنا سيد الناس يوم القيامة) برقم (194) . وأخرجه البخاري (4712) ، (3340) . (¬2) أخرجه البخاري بلفظ (أما علمت أن آل محمد لا يأكلون الصدقة) في كتاب الزكاة، باب أخذ صدقة التمر عند صرام النخل، وأخرجه أيضاً في مواضع أخرى دون ذكر (الآل) ، وأخرجه مسلم كذلك (1069) .

وقوله عليه الصلاة والسلام أيضاً: (اللهم اجعل رزق آل محمد قوتاً) (¬1) : فهنا زوجاته وأهل بيته خاصة فهم آله هنا. وهذا أخص من الإطلاق السابق أيضا. * أما الإطلاق العام: فهم أتباعه عامة من قرابته المؤمنين، ومن ذريته ومن زوجاته ومن سائر أتباعه من الصحابة والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين، وقد قال تعالى: {أدْخلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدّ العَذَاب} (¬2) ، فهنا لا شك أن آل فرعون ليس أهله خاصة، وإنما أهله ومن اتبعه على باطِلِهِ فَهُم آلُ فِرعَوْن. كما أنه يدخل فيه - وهذا أخص إطلاقات آل، يدخل فيه - الشخص نفسه. فالشخص نفسه عندما يقال آل فلان، يدخل فيه الشخص نفسه، ما لم تكن هناك قرينة تمنع من دخوله، ومنه قول النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ: (اللهم صل على آل أبي أوفى) ، فإن هذا المتصدق المزكي، وهو أبو أوفى أحق الناس بالدخول في هذه الجملة (اللهم صل على آل أبي أوفى) (¬3) : أي عليه وعلى آله ـ كما أن قوله تعالى {أدخلوا آل فرعون أشدّ العَذاب} (¬4) ، يدخل فيهم فرعون ولا شك. ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري في كتاب الرقاق، نهاية باب كيف كان عيش النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه وتخليهم من الدنيا (6260) بلفظ (اللهم ارزق آل محمد قوتاً) . وأخرجه مسلم في كتاب الزكاة، باب في الكفاف والقناعة (1055) وفي كتاب الزهد والرقاق باب ما بين بعد (2969) . وابن ماجه في كتاب الزهد، باب معيشة آل محمد - صلى الله عليه وسلم - (4139) (¬2) سورة غافر (46) . (¬3) أخرجه البخاري في كتاب الزكاة، باب صلاة الإمام ودعائه لصاحب الصدقة (1497) ، وأخرجه كذلك برقم (4166) ، (6332) ، 6359) ، وأخرجه مسلم في كتاب الزكاة، باب الدعاء لمن أتى بصدقة (1077) ، وأخرجه ابن ماجه في كتاب الزكاة، باب ما يقال عند إخراج الزكاة (1796) . (¬4) سورة غافر (46) .

إذن تبين من هذا أن (آل) يدخل فيها الشخص نفسه وتدخل فيها زوجاته وذريته، ويدخل فيها سائر قرابته، ويدخل فيها على وجه العموم أتباعه والسياق يحكم، فالسياق هو [الـ]ـحاكم. فمثلاً: قوله صلى الله عليه وسلم: (اللهم اجعل رزق آل محمد قوتاً) (¬1) ، هنا: النبي صلى الله عليه وسلم، إنما يدعو بهذا الدعاء لأهله خاصة بأن لا يكون عندهم غنى زائد، وإنما يكون عندهم ما يتقوتون به كفاية، ومثل هذا الدعاء اللائق أن يكون للشخص نفسه وأهله خاصة دون أن يتعدى هذا إلى سائر قرابته ممن قد لا يكون متحملاً لمثل هذه المعيشة بأن يكون قوتاً، وممن قد يكون محباً للغنى، ونحو ذلك. لذا كان أزواج النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ عليهن رضوان الله، كُنَّ قد أجيبت لهنّ هذه الدعوة، فكُنَّ حتى بعد وفاة النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ معيشتهنّ قوتاً وما فَضَلَ فإنهنّ يتصدقن به. وأما آله من قرابته من بني هاشم فإنه كان فيهم الأغنياء وكان فيهم الفقراء. إذن لفظة (آل) : من آل يؤول، إذا رجع، ومعناها الحاكم فيه السياق، فإنه قد يراد بها العموم وقد يراد بها القرابة والذرية والزوجات، وقد يدخل فيها الشخص نفسه، وحكم ذلك كما تقدم إلى السياق. (مُحمد) : هو اسمه الذي هو أعظم أسمائه ـ عليه الصلاة والسلام ـ وهو اسم مفعول على وزن: مُفَعَّل، نحو مُعَظَّم، ومُقَدّس، ومُبجَّل، ونحو ذلك. وهذا الوزن يراد منه تكرار حدوث الفعل الذي اشتق منه هذا الاسم، فيكون المعنى: من لا يزال يحمد، فهو لا يزال يُحمَد حَمْداً بعد حمد من الله عز وجل وملائكته: أي لا يزال يثنى عليه ويذكر بمحاسن أفعاله وفضائله عليه الصلاة والسلام من الله والملائكة ومن المؤمنين. بل يحمد من الناس عامة؛ كما يكون هذا يوم يكون له المقام المحمود. ¬

_ (¬1) سبق قريباً.

حتى مَن كَذَّبَ بِهِ، وأنكر نُبُوَّته؛ فإنه يحمد على ما فيه عليه السلام من الصفات الحميدة، فهو محمود، قد تكرر فيه الحمد فلا يزال يحمد. وهذا الاسم " محمد ": هذا اسمه في التوراة. ومن أسمائه (أحمد) : وهو اسمه في الإنجيل، كما قال تعالى: {ومبشراً برسُولٍ يأتي من بعدي اسمُهُ أحمد} (¬1) . واسم " أحمد": فيه مزيد معنى على المعنى المتقدم؛ وهو أنه أحمد لله عز وجل من غيره: أي أكثر حمداً لله سبحانه وتعالى. ومنه (¬2) معنى آخر؛ أنه أفضل حمداً من غيره يعني: كما أن له الكمية في كونه محمداً: أي حمده كثير لا يزال متكرراً من الله: أي ليس لله إنما من الله فهو كذلك أحمد أي أحمد من غيره عند الله وعند ملائكته. فهو محمود حمداً أفضل وأكثر، أكثر كمية، وأفضل كيفية من غيره، فهو محمد أي لا يزال يحمد وحمده عليه الصلاة والسلام فاضل عن حمد غيره، فحمده أي ثناء الله عليه، وثناء غيره عليه، أعظم وأبجل من ثنائهم على غيره صلوات الله وسلامه عليه. كما أنه أحمد لله سبحانه من غيره، محمد عليه الصلاة والسلام، أفضل كيفية وأكثر كمية من حمد غيره؛ فهو أكثر الناس حمداً وأعظم الحامدين لله عز وجل. (وآله) : وآله هنا: هم قرابته وزوجاته وذريته، للعطف، فإنه عطف الصحابة عليهم. فيكون حينئذ: نقول بالمعنى الخاص لدخول أتباعه بالمعنى العام. (وأصحابه) : جمع صحب، وصحب جمع صاحب وهو من لقي النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ مؤمنا به، ومات على ذلك، فعلى ذلك لو أن رجلاً لقي النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ مؤمناً ونظر إليه، لكنه ارتد ثم رجع إلى الإسلام فهو صحابي؛ لأن هذا الوصف ثابت فيه، فقد لقي النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ وهو مؤمن به، وإن طرأ على ذلك ردة. ¬

_ (¬1) سورة الصف (6) . (¬2) لعل الأقرب: وفيه.

وعليه أيضا، من لقي النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ وجالسه لكنه لم يكن مؤمناً به ثم آمن بعد ذلك لكنه لم يسعد برؤيته؛ فإنه لا يكون صحابياً وإنما يكون تابعياً. فإذن الصحابي هو من رأى النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ وكان في تلك الحال مؤمناً بالله عز وجل. ومثل ذلك من منعت رؤيته مانع كأن يكون أعمى لا يبصر فهو صحابي لأن الذي منع من الرؤية إنما هو كونه أعمى وليس المقصود هو مجرد الرؤية فحسب بل اللُّقيا ثابتة له فيكون صحابياً أيضاً. (ومن تعبد) : أي تعبد لله وتذلل له وأطاعه، والعبادة ـ كما قال شيخ الإسلام: اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه من الأقوال والأفعال الظاهرة والباطنة. * قوله: ((أما بعد)) . (أمّا) : أي مهما يكن من شيء، فأما هنا تنوب عن أداة الشرط وعن فعله، و (أما) بمعنى (مهما يكن من شيء) . (بعدُ) : هنا ظرف زمان، مبني على الضمة في محل نصب، لكون المضاف إليه محذوف، والأصل "بعد ذلك"، والمعنى: (مهما يكن من شيء بعد ذلك) . * قوله: ((فهذا مختصر في الفقه)) . المختصر: اسم مفعول من الاختصار. والاختصار في الكلام: هو أن تقل الألفاظ وتكثر المعاني. وهذا ممدوح ـ حقيقة ـ؛ لأنه أسهل للحفظ وأجمع للأحكام ولكن بشرط ألاّ يكون ذلك فيه غموض بحيث يحتاج إلى مشقة وتعب لتفهمه وتفهيمه، يعني تعلمه وتعليمه يحتاج إلى مشقة؛ لأن ألفاظه غامضة فهذا مذموم. (الفقه) : الفقه لغة: الفهم ومنه قوله تعالى: {واحْلُل عقدة من لساني يفقَهُوا قولي} (¬1) : أي يفهموه. اصطلاحاً: معرفة الأحكام الشرعية التكليفية العملية من أدلتها التفصيلية. ¬

_ (¬1) سورة طه (28) .

(معرفة) : سواء كان هذا علماً يقينياً جازماً أو كان ظناً غالباً يغلب على الظن، لأن العلم لا يدرك باليقين كله، بل منه ما يكون ظناً غالباً ليس من الظن المذموم الظن المرجوح أو الظن السيئ، وإنما المراد به أن يغلب على ظنه، فيكون احتمال الصواب أكثر من احتمال الخطأ، فإنه ليست المسائل الشرعية كلها - بل ولا أكثرها - يدرك باليقين، بل الكثير أو الأكثر إنما يدرك بالظن الغالب، لذا يقال: " الراجح " أي من القولين المحتملين للصواب أي هذا هو القول الراجح الذي احتمال الصواب فيه أكثر من احتمال الخطأ. (الأحكام الشرعية) : ليست أحكاماً عقلية ولا عادية، وإنما هي أحكام شرعية أي منسوبة إلى الشرع. (التكليفية) : التي يكلف بها العباد. (العملية) : تخرج بذلك الاعتقادية، فهي ليست داخله فيها، فليس البحث هنا في باب التوحيد ولا الأسماء والصفات ولا اليوم الآخر. هذا محل بحثه كتب العقائد وكتب التوحيد، إنما هنا في الأحكام العملية من صلاة وصوم وطلاق وبيوع ونحو ذلك. (بأدلتها التفصيلية) : لابد أن يكون ذلك مع الدليل وإلا لم يكن فقها، فإن الرجل إذا عرف مسألة من المسائلِ الشرعيةِ لكنه لا يعرف دليلها فليس بفقيهٍ فيها. وكذلك لو كان عالماً بكتاب من كتب الفقهاء مطلعاً عليهِ عارفاً بمعانيه، لكن ليس عنده أدلة شرعية تدل على هذه المسائل فهو ليس بفقيه. فالفقيه من جمع بين فهم المسألة ومعرفة دليلها، لابد من فهم المسألة مع معرفة دليلها. فليس بعالم من فهم المسائل وأحاط بمعانيها لكنه جاهل بأدلتها الشرعية بإجماع العلماء، لذا أجمع العلماء - كما حكى ذلك ابن عبد البر - على أن المقلد ليس بعالم.

و (التفصيلية) : ضد الإجمالية، فالإجمالية: هي الأصول العامة كالقياس والإجماع والسنة والكتاب هذه تسمى أدلة إجمالية لكنَّ الأدلة التفصيلية هي: ما تضمنه باب القياس من القياس في مسألة معينة، والأحاديث النبوية بأفرادها، يسمى أدلة تفصيلية، لكن السنة من حيث العموم تسمى أدلة إجمالية وقد تقدم البحث في هذا في شرح الأصول. * قوله: ((من مقنع الإمام الموفق أبي محمد)) . المقنع: هو كتاب ألَّفَهُ الشيخ: موفق الدين أبو محمد عبد الله بن أحمد بن محمد المقدسي ثم الدمشقي الحنبلي ـ رحمه الله تعالى ـ المتوفى سنة 620هـ. وهو شيخ المذهب وإمام الحنابلة ـ رحمهم الله تعالى ـ مع علمه بالسنة والعقيدة فهو من أهل العلم المشهورين. وله هذا المُؤلف وهو المقنع، هذا المؤلف: جمع فيه المسائل الفقهية في المذهب الحنبلي لكنه لم يكتف بقول واحد في المسألة بل يذكر في المسألة روايتين أو وجهين أو احتمالين. ـ والفرق بين الرواية والوجه والاحتمال: (وهذه كلها داخله في المذهب يعني: المذهب الحنبلي فيه مسائل خلافية، وكذلك المذهب الشافعي في (¬1) مسائل خلافية في المذهب نفسه) . فالرواية هي: ما قاله الإمام نفسه. فإذا قيل: " وفي هذه المسألة عن الإمام أحمد روايتان " أي قولان منسوبان إليه نفسه. بمعنى: أفتى بقول ثم أفتى بقول آخر لكنهم لا يعرفونه التاريخ حتى يرجحوا أو أنهم عرفوا التاريخ فرجحوا وبقيت تلك الرواية. ومعلوم أن الإمام مهما علا قدره وكثر علمه فإنه يتغير قوله فيبدو له من الترجيحات ما لم يبدُ له سابقاً فيقول قولاً وبعد فترة من الزمن يقول قولاً آخراً؛ لأنه تبين له أن ذاك الدليل الذي استدل به مثلاً ضعيف أو لا وجه أو نحو ذلك أو أنه منسوخ أو غير ذلك فينتقل إلى قول آخر أو يبلغه دليل لم يكن قد بلغه، فحينئذ ينتقل إلى قول آخر. ¬

_ (¬1) لعل الصواب: فيه.

أما ما أضيف إلى أصحابه ـ أي أصحاب الإمام أحمد ـ أي العلماء الذين تقعدوا بقواعده وتأصلوا بأصوله فخرّجوا على مذهبه وفرعوا المسائل؛ لأن ما نقل عن الإمام أحمد لا يحيط بالمسائل الفقهية كلها. لكن العلماء الذي اقتدوا به أو أخذوا هذه الأصول والقواعد فجعلوها أصولاً وفرعوا منها مسائل، فجمع لنا هذا الفقه. فليست كل مسألة من المسائل في الفقه الحنبلي أو المالكي أو الشافعي أو الحنبلي مضافة إلى الإمام نفسه الذي ينتسب إليه، ليس كذلك. وإنما هي مضافة إما إليه نفسه وإما إلى أصحابه الذين تقعدوا بقواعده، وهذا تخريج على نفس القواعد، فليست خارجة عن قواعد الإمام لكنهم اختلفوا فبعضهم رأى هذا القول وبعضهم رأى القول الآخر فيقال في المسألة وجهان. ـ أما الاحتمال: فهو ما يصح أن يكون وجهاً في المذهب. إذن ليس بوجه لكن يأتي عالم بعد ذلك فيقول: " هذا احتمال" ينفي أن يكون وجهاً فينفى أن تخرج على قواعد الإمام رحمه الله. وحينئذٍ تبين لنا: أن العارف بقواعد أحمد وأصوله يمكنه أن يختار القول الراجح من هذين القولين. لذا المذهب فيه راجح ومرجوح، فمثلاً: ألّف صاحب الإنصاف كتابه في الراجح من مسائل الخلاف أي في مذهب أحمد. وكذلك صاحب الفروع يرجح، وكذلك الموفق وغيره. وعندما يقال (ظاهر المذهب) : أي الراجح منه. (والمشهور في المذهب) : أي الراجح في المذهب. فالمتفقه في مذهب الحنابلة يمكنه أن يرجح الحق من مسائل الخلاف فيه. كما أن العارف بالأدلة الشرعية والمتمرس فيها يمكنه أن يرجح فيما يختلف فيه أهل العلم عامة من الحنابلة وغيرهم. إذن المقنع: ليس فيه قول واحد عن الإمام أحمد أو أصحابه، وإنما يذكر احتمالات. فأتى هذا المؤلف واختار من الروايتين رواية واختار من كل وجهين وجها هو الظاهر والمذهب والمشهور فيه عنده، وإلا فقد يقع خطأ منه فيختار ما ليس بمشهور في المذهب ويكون المشهور في المذهب بخلاف ما اختاره.

ـ والمقنع: لم يذكر فيه الأدلة أو التعليلات للاختصار، والموفق له أربع مؤلفات في الفقه جعلها مرتبة. 1ـ كتاب العمدة وهذا المؤلف لا يذكر فيه الخلافات في المذهب وإنما يكتفي بقول واحد وربما ذكر الدليل أحياناً ليتمرس الطالب على معرفة الأدلة الشرعية. 2ـ ثم يترقى معه إلى كتاب المقنع وقد تقدمت صفته. 3ـ ثم يترقى إلى كتاب الكافي: وهو على طريقة المقنع، لكن فيه زيادة أدلة وتعليلات فيضيف الأدلة والتعليلات التي تركها في كتاب المقنع. 4ـ ثم يأتي بعد ذلك كتاب (المغني) في الفقه المقارن يذكر أقوال الحنابلة ويذكر أقوال الشافعية وغير ذلك من أقوال أهل العلم فهو في الفقه المقارن، ويذكر أدلة هؤلاء وهؤلاء ويستدل للحنابلة فهو كتاب واسع. قال بعضهم جامعاً كتبه: كفى الخلق بالكافي وأقنع طالباً ... بمقنع فقه عن كتاب مطول وأغني بمغني الفقه من كان باحثاً ... وعمدته من يعتمدها يحصل. ولا شك أن كتبه واختياراته ومؤلفاته ـ رحمه الله ـ من أنفع المؤلفات في الفقه الحنبلي وأكثرها بركة ونفعاً فرحمه الله تعالى. * قوله: ((وربما حذفت فيه مسائل نادرة الوقوع وزدت على ما مثله يعتمد، إذ الهمم قد قصرت 000)) : ففيه مسائل قد حذفها من المقنع لا لشيء إلا لندرة وقوعها، فهي مسائل يقل وقوعها فلم يحتج إلى ذكرها؛ لأن الحاجة إليها ضعيفة. (وزدت على ما مثله يعتمد) : فهو قد زاد على المقنع زيادات رأى أنها مهمة فزادها. قال: (إذ الهمم قد قصرت والأسباب المثبطة عن نيل المراد قد كثرت) : هذا تعليل للاختصار ولحذف المسائل النادرة الوقوع. (والأسباب المثبطة عن نيل المراد) : ومن أعظمها المعاصي. * قوله: ((ومع صغر حجمه حوى - جمع - ما يغني عن التطويل)) : فهو كتاب مع صغر حجمه كما قال، قد حوى مسائل كثيرة تغني عن التطويل الموجود في غيره من الكتب. * قوله: ((ولا حول ولا قوة إلا بالله)) :

لا حول: أي لا تحول لنا من حال إلى حال لا يمكننا أن نتحول من شدة إلى خفة من فقر إلى غنى من جهل إلى علم من شرك إلى توحيد من معصية إلى طاعة لا حول لنا إلا بالله سبحانه وتعالى. أي لا تحول لأحد من حال إلى حال من حال سيئة إلى حسنة إلا بالله سبحانه وتعالى. (ولا قوة) : كذلك لا قوة يستعان بها إلا قوة الله عز وجل. * قوله: ((وهو حسبنا)) : حسبنا: أي كافينا، فالحسب هو الكافي {يا أيها النبي حَسْبُكَ الله} (¬1) أي كافيك الله. * قوله: ((ونعم الوكيل)) : أي نعم الوكيل الله سبحانه وتعالى. أي نعم المتوكل عليه الذي تفوض الأمور إليه فيدفع الضر ويجلب النفع الله سبحانه، فهو المتوكل عليه سبحانه وتعالى. والحمد لله رب العالمين. الدرس الثاني (يوم الاثنين 9/10/1414هـ) * قوله: ((كتاب الطهارة)) الكتاب: مصدر كتب يكتب كتبا وكتاباً وكتابة، وهو بمعنى مكتوب. والكتب في اللغة: الجمع، يقال: (تكتب بنو فلان) إذا اجتمعوا. ومنه سميت الكتيبة " وهي جماعة الخيل " سميت كتيبة لاجتماعها. فيكون المعنى هنا: الجامع لأحكام الطهارة. فهذا المكتوب هنا قد جمع فيه المؤلف ما يحتاج إليه في مسائل الطهارة. ـ أما الطهارة في اللغة: فهي النظافة والنزاهة عن الأقذار سواء كانت هذه الأقذار حسية أو معنوية. فإذا أزال القذر الثابت على بدنه أو على ثوبه أو على بقعته فإن هذا طهارة. وإذا أزال القذر المعنوي كالشرك بالله والمعاصي فهذه طهارة أيضاً. ومنه سمي المشركون نجس؛ لكونهم قد وقع فيهم القذر المعنوي، وإن كانوا طاهرين طهارة حسية وأن الكافر إذا صوفح أو جلس على بقعة فلا تتنجس اليد ولا البقعة؛ لأن نجاسته نجاسة معنوية. فالنجاسة الحسية والمعنوية: التنزه عنهما يسمى طهارة، هذا هو تعريف الطهارة لغة. والذي يهمنا تعريفها اصطلاحاً، وقد عرفها المؤلف بقوله: ¬

_ (¬1) سورة الأنفال 64.

* قوله: ((وهي ارتفاع الحدث وما في معناه وزوال الخبث)) : (ارتفاع الحدث) الحدث هو: وصف " أي معنى من المعاني فهو ليس حسياً " يقوم بالبدن يمنع من الصلاة ونحوها مما يشترط فيه الطهارة كمس المصحف والطواف عند جمهور أهل العلم ونحوه مما تشترط فيه الطهارة. فهو إذن ـ أي الحدث ـ ليس شيئاً محسوساً يرى بالأبصار أو يمس بالأيدي وإنما هو شيء معنوي. إذن الطهارة: هي ارتفاع الحدث: فلا يبقى قائماً في الجسد بل يزول عنه ويرتفع. فإذا توضأ المسلم الوضوء الشرعي وكان قد أحدث قبل ذلك، فإن هذا الوضوء يرفع الحدث الذي قام به، فهو طهارة. والغسل كذلك، فالجنب مثلاً قد قام به وصف - فليس شيئاً محسوساً قام به - يمنعه من الصلاة، وإنما هو شيء معنوي، فإذا اغتسل ذهب منه هذا الشيء المعنوي فبقي ليس بمحدث بل طاهر. (وما في معناه) : كذلك ما في معنى ارتفاع الحدث يسمى طهارة كما أن ارتفاع الحدث بالغسل أو الوضوء يسمى طهارة فكذلك ما يكون في معنى ارتفاع الحدث يسمى طهارة. وفي هذه الصورة إما أن يكون الحدث موجوداً أو لا يكون موجودا، وهو إن كان موجوداً فإن هذا الفعل الذي يسمى طهارة لم يزله بل هو باق، لذا قلنا (ما في معناه) ؛ لأنه لو كان ارتفاعاً لما قلنا (في معنى ارتفاع الحدث) . إذاً: يدخل في لفظة (وما في معناه) صورتان: 1ـ الصورة الأولى: أن يكون الحدث ليس بمرتفع بل هو باق، ومع ذلك يسمى طهارة. 2ـ ألا يكون محدثاً لكنه فَعَلَ فِعْل الطهارة. أما الصورة الأولى: فمثالها من لديه سلس بول والمرأة المستحاضة ونحو ذلك، فإنهم عندما يتوضؤون الوضوء الشرعي حدثهم باقٍ غير ذاهب؛ لأن الحدث عندهم متجدد ولكنهم قد تطهروا طهارة شرعية صحيحة، فهي على صورة الوضوء الشرعي الصحيح، ولكن مع ذلك الحدث باقٍ، فهذه تسمى طهارة شرعية لكنها ليست ارتفاعاً للحدث. فالحدث باق وإنما هي في معنى ارتفاع الحدث.

ـ وأما إذا كان الحدث غير موجود، فمثال ذلك: الوضوء المستحب أو الغسل المستحب كغسل الجمعة؛ فإنه يسمى طهارة، والشخص عندما يغتسل غسل الجمعة ليس عليه حدث، فهو في معنى ارتفاع الحدث؛ لأنه شابهه في الصورة فغسل الجمعة كغسل الجنابة تماماً. وكذلك: الوضوء المستحب: وهو ما يسمى بتجديد الوضوء، فعندما يجدد وضوءه فإنه عليه طهارة وليس بمحدث ومع هذا فإن الفعل يسمى تطهراً وما فعله فهو طهارة. كذلك الغسلات التي بعد الغسلة الأولى؛ فإن الشخص عندما يتوضأ، الواجب عليه أن يغسل كل عضو مرة مرة، فالتكرار لا يرد على الحدث؛ لأن الوارد على الحدث إنما هو غسل واحد، فعندما يغسل يديه ثلاثاً فالغسلة الأولى تزيل الحدث المتعلق بيديه، وأما الغسلتان الأخريان فإنهما لا تردان على حدث فهما في معنى ارتفاع الحدث. إذن: ما يكون في معنى ارتفاع الحدث يسمى طهارة، فمن به سلس بول أو نحوه من الأحداث المتجددة، فوضوءه أو غسله يسمى طهارة. والغسل المستحب كغسل الجمعة - أو على القول بوجوبه أيضاً - فهو لا يرد على حدث حتى على القول بوجوبه ويسمى طهارة. وكذلك غسل الميت يسمى طهارة، وكذلك الوضوء المستحب يسمى طهارة، وسائر الأغسال المستحبة تسمى كذلك طهارة ونحو ذلك. (وزوال الخبث) : الخبث: المراد به هنا: النجاسة الحسية؛ لأن الفقهاء ليس مبحثهم في الخبث المعنوي كالشرك، وإنما مبحثهم في الخبث الحسي: وهي النجاسة التي حكم الشارع بنجاستها. وسيأتي البحث في هذا؛ فإن المؤلف قد بوَّب باباً كاملاً في النجاسة وإزالتها، والذي يهمنا هنا هو تعريف الطهارة. فالنجاسة الحسية كالبول والعذرة ونحو ذلك زوالها عن البدن أو البقعة أو الثوب يسمى طهارة، فعندما يزول الخبث الواقع الطارئ على الثوب فينظَّف بالماء أو يزول بغير ذلك؛ فإن هذا يسمى طهارة. وقال هنا (زوال الخبث) ، ولم يقل: (إزالة الخبث) ؛ لأن النية لا تشترط في إزالة النجاسة.

فلو أن رجلاً علق ثوباً فنزل عليه مطر وفيه نجاسة؛ فإنه لم يفعل المكلف هنا التطهير، والثوب قد طهر بزوال نجاسته بسبب نزول المطر عليه. ولو غسل ثيابه وفيها نجاسة وهو لا يعلم بوجود هذه النجاسة وغسل ثيابه لإزالة ما فيها من الأوساخ الأخرى ولا يعلم أن فيها نجاسة، فهو لم ينو إزالة النجاسة ومع ذلك تزول؛ لأن النجاسة من باب التروك وليس من باب الأفعال، فالمقصود هو إزالتها سواء زالت بفعل المكلف ونيته أو بفعله بدون نية أو زالت بفعل غير واقع عليه التكليف كماء السماء أو نحو ذلك، فإن النجاسة تزول وعلى هذا فلو أن المؤلف قال: (رفع الحدث) : لكان الأولى؛ لأن الحدث لابد في رفعه من نية. فلو أن رجلاً اغتسل بغير نية وتبيّن أن عليه جنابة، فإن هذا الغسل لا يجزئه؛ لأنه لم ينو إزالة الجنابة الواقعة عليه، وسيأتي الكلام على هذا في بابه إن شاء الله. * قوله: ((المياة ثلاثة)) : المياه: جمع كثرة لماء، وأصله موه، لذا جمع القلة منه (أمواه) ، وجمع الكثرة منه (مياه) . (ثلاثة) : أي شرعاً، وإلا فإنها في الواقع قد تنقسم إلى أكثر من هذه الأقسام، لكن المقصود هنا أقسامها من حيث حكم الشارع فيها. فذكر هنا أن المياه تنقسم إلى ثلاثة وهي: 1ـ الطهور أي المطهر 2ـ والطاهر وهو الطاهر بنفسه غير المطهر لغيره. 3ـ والنجس. هكذا قسمه فقهاء الحنابلة وغيرهم فهو مذهب الجمهور، وأن المياه تنقسم إلى ثلاثة. والمؤلف هنا سيذكر القسم الأول وما يتعلق به من مسائل ثم يذكر القسم الثاني وما يتعلق به من مسائل ثم يذكر القسم الثالث وما يتعلق به من مسائل، هذا هو المشهور في مذهب الحنابلة وغيرهم من أن المياه تنقسم إلى ثلاثة. والراجح ما ذهب إليه المالكية وهو اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية من أن المياه تنقسم إلى قسمين اثنين: ماء طاهر، وماء نجس، فالطاهر هو الطهور المطهر، والقسم الثاني هو الماء النجس.

قال شيخ الإسلام ـ رحمه الله ـ: " وإثبات ماء طاهر غير مطهر لا أصل له في الكتاب والسنة " (1) . وسيأتي البحث في هذا عند الكلام في القسم الثاني من أقسام المياه. ـ إذن: قوله: (ثلاثة) : فيه نظر، فالصواب والصحيح ـ وسيأتي الاستدلال له ـ أن المياه إنما تنقسم إلى قسمين: مياه طاهرة يصح للمسلم أن يتطهر بها، ومياه نجسة. وأما أن يكون هناك ماء يسمى ماءً وهو مع ذلك لا يطهر فهذا ليس بصحيح وسيأتي مزيد بحث فيه في موضعه – إن شاء الله -. قوله: ((طهور لا يرفع الحدث ولا يزيل النجس الطارئ غيره)) : هذا القسم الأول: هو الطهور: فهو طاهر بنفسه مطهر لغيره، بل لا يرفع الحدث ولا يزيل النجس الطارئ غيره. (النجس الطارئ) : لأن هناك نجس ليس بطارئ، بل هو نجس نجاسة عينيّة. النجس الطارئ: هو الموضع أو المحل الذي وردت عليه النجاسة، فهو في أصله طاهر لكن وردت عليه نجاسة، فهذا يسمى النجس حكماً، والنجاسة هنا طارئة عليه، ليست بأصلية، فهذا هو الذي قابل لإزالة النجاسة فيعود طاهراً كما كان. وأما النجس عيناً: فهو الذي قد خلقه الله نجساً فهذا لا يُزال بأي شيء كان. مثال ذلك: البول أو العذرة أو الكلب أو الخنزير ونحو ذلك، فهذه نجاستها نجاسة عينية، بمعنى: أنها لا يمكن أبداً أن تزول عنها هذه النجاسة التي خلقها الله عز وجل عليها مهما فعل فيها من أدوات التطهير. إذن الكلام إنما هو على المحل الذي ترد عليه النجاسة، فهذا هو النجس حكماً؛ لأنه طاهر في الأصل فالنجاسة طرأت عليه فأصبح في حكم الشيء النجس. فإذا أزيلت هذه النجاسة فإنه حينئذ يعود طاهراً. (ولا يزيل النجس الطارئ غيره) : إذن يقرر المؤلف أن هذا النوع من المياه أولاً يرفع الحدث، وهو كذلك يزيل النجس، بل لا يرفع الحدث ولا يزيل النجس الطارئ غيره. أما كونه لا يرفع الحدث غيره فسيأتي البحث في باب التيمم، عن التيمم أهو رافع أو مبيح؟

وفقهاء الحنابلة يرون أنه مبيح، لذا هذا التعريف يجري على قاعدتهم، وسيأتي البحث في هذا. * وقوله هنا كذلك: ((لا يزيل النجس الطارئ غيره)) : يدل على أنه لو كانت هناك نجاسة فصب عليها شيء آخر من المواد كالكيميائية مثلا، أو أزيل بتراب أو نحو ذلك فإن النجاسة تبقى ولا تزول. بمعنى: ثوب أزيلت نجاسته بغير الماء أو زالت نجاسته بغير الماء، هل يزول ذلك أم لا؟ قالوا: لا يزول إلا بالماء، هذا هو مذهب الحنابلة. فعلى ذلك إذا أزيل بحكة مثلاً وكان مما يقبل الحك، أو أزيل بأي طريق آخر، بمواد كيميائية أو نحو ذلك أو بتراب فإنه عندهم لا يزول واستدلوا بقول النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ: في دم الحيض يصيب الثوب: (تحته ثم تقرصه بالماء ثم تنضحه ثم تصلي فيه) (¬1) متفق عليه. ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري في كتاب الوضوء، باب غسل الدم (227) : عن أسماء قالت: جاءت امرأةٌ النبي - صلى الله عليه وسلم - فقالت: أرأيت إحدانا تحيض في الثوب، كيف تصنع؟ قال: (تحته ثم تقرصه بالماء وتنضحه وتصلي فيه) ، وانظر (307) . وأخرجه مسلم (291) كتاب الطهارة، باب نجاسة الدم وكيفية غسله عن أسماء قالت: جاءت امرأة إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقالت: إحدانا يصيب ثوبها من دم الحيض كيف تصنع به؟ قال: (تحته ثم تقرصه بالماء ثم تنضحه ثم تصلي فيه) .

قالوا: فقد خصص النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ الماء بالذكر، واستدلوا كذلك بالحديث المتفق عليه في أمر النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ أن يهراق على بول الأعرابي ذنوباً من ماء) (¬1) متفق عليه. قالوا: فخصص النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ كذلك الماء بالذكر. ـ وذهب فقهاء الأحناف: إلى أن الماء ليس فقط هو المزيل للنجاسة، بل أي شيء تزول به النجاسة؛ فإن المحل يطهر، كأن يزول بالتراب أو بمرور الزمن ونحو ذلك مما تزول به النجاسة بالشمس وغير ذلك، فمتى زالت النجاسة ولم يبق لها أثر يمكن إزالته فإنها حينئذ تطهر، وهذا هو القول الراجح. ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري في كتاب الوضوء، باب صب الماء على البول في المسجد (220) : أن أبا هريرة قال: قام أعرابي فبال في المسجد فتناوله الناس، فقال لهم النبي - صلى الله عليه وسلم -: (دعوه وهريقوا على بوله سجلاً من ماء أو ذنوباً من ماء، فإنما بعثتم ميسرين ولم تبعثوا معسرين) وانظر 219، 221، 6128. وأخرجه مسلم في كتاب الطهارة، باب وجوب غسل البول وغيره من النجاسات إذا حصلت في المسجد (284) ، (285) عن أنس: أن أعرابياً بال في المسجد فقام إليه بعض القوم، فقال رسولا لله - صلى الله عليه وسلم -: (دعوه ولا تزرموه) قال: فلما فرغ دعا بدلو من ماء فصبه عليه ".

ودليله قول النبي - صلى الله عليه وسلم - الثابت في سنن أبي داود: (إذا وطئ أحدكم الأذى في نعله فإن التراب لها طهور) (¬1) . فجعل النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ التراب طهوراً للنعل إذا أصابها الأذى. ¬

_ (¬1) أخرجه أبو داود في كتاب الطهارة، باب في الأذى يصيب النعل (385) قال: " حدثنا أحمد بن حنبل حدثنا أبو المغيرة ح وحدثنا عباس بن الوليد بن مزيد أخبرني أبي، ح، وحدثنا محمود بن خالد، حدثنا عمر - يعني بن عبد الواحد - عن الأوزاعي، المعنى، قال: أُنبئت أن سعيد بن أبي سعيد المقبري حدث عن أبيه عن أبي هريرة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: (إذا وطئ أحدكم بنعله الأذى فإن التراب له طهور) . وأخرجه برقم (386) من طريق سعيد بن أبي سعيد عن أبيه عن أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - بمعناه قال: (إذا وطئ الأذى بخفيه فطهورهما التراب) . وبرقم (387) قال: " حدثنا محمود بن خالد حدثنا محمد يعني ابن عائذ، حدثني يحيى - يعني ابن حمزة - عن الأوزاعي عن محمد بن الوليد أخبرني أيضاً سعيد بن أبي سعيد عن القعقاع بن حكيم عن عائشة عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بمعناه.

ومثل ذلك ما ثبت في سنن أبي داود، أنه عليه الصلاة والسلام، قال: (إذا جاء أحدكم إلى المسجد فلينظر فإذا رأى في نعليه قذراً أو أذى فليمسحه ثم يصل فيهما) (¬1) فهذا الحديث يدل على أن المسح كاف في إزالة الأذى الواقع في النعلين. ـ ثم إن النجاسة هي علة التنجس، فإذا زالت هذه النجاسة بأي طريق فإنه لا مبرر لانتفاء الحكم عليه. وقد قعّد الفقهاء القاعدة المشهورة: الحكم يدور مع علته وجوداً وعدماً. فإذا ثبتت العلة ثبت الحكم، وإذا انتفت العلة انتفى الحكم. إذن الراجح: أنه ليس الماء الطهور فقط هو المزيل للنجاسة. بل كل طريق تزول به النجاسة فإنه يكون الشيء طاهراً. فمثلاً: رجل وضع ثوبه في محل تشرق فيه الشمس فزالت النجاسة عنه، ولم يبق لها أثر مطلقاً فإنه حينئذ يكون الشيء طاهراً وهكذا. * قوله: ((وهو الباقي على خلقته)) : هذا هو الماء الطاهر، وهو الباقي على خلقته التي خلقه الله عليها من مياه الأنهار ومياه البحار ومياه الآبار ومياه الأمطار ونحو ذلك. فالباقي على خلقته هو الطهور، ويدخل في ذلك البرد، والثلج ونحو ذلك كل هذا داخل في ذلك الباب. ¬

_ (¬1) أخرجه أبو داود في كتاب الصلاة باب الصلاة في النعل (650) قال: " حدثنا موسى بن إسماعيل حدثنا حماد بن زيد عن أبي نُعامة السعدي عن أبي نضرة عن أبي سعيد الخدري قال: بينما رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصلي بأصحابه إذ خلع نعليه، فوضعهما عن يساره، فلما رأى ذلك القوم ألقوا نعالهم، فلما قضى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صلاته قال: (ما حملكم على إلقاء نعالكم؟) قالوا: رأيناك ألقيت نعليك فألقينا نعالنا، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (إن جبريل - صلى الله عليه وسلم - أتاني فأخبرني أن فيهما قذراً) أو قال: أذى، وقال: (إذا جاء أحدكم إلى المسجد فلينظر، فإن رأى في نعليه قذراً أو أذى فليمسحه وليصل فيهما) .

وقد ثبت في الصحيحين أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال: (اللهم طهرني بالماء والثلج والبرد) (¬1) . لكن يجب أن يعلم أن الثلج والبرد لا يثبت به - مع كونه طهوراً لا يثبت به - الغسل حتى يجري على الأعضاء؛ لأن حقيقة الغسل جريان الماء على أعضاء المغسل أو المتوضئ. فغسل الأعضاء حقيقته جريان الماء عليها. فإذا كان البرد أو الثلج خفيفاً يجري الماء عند إدراته (¬2) على الأعضاء - يجري عليها - فإنه يثبت غسلاً ويصح الوضوء به أو الغسل. وأما إذا كان لا يجري كأن يكون ثخيناً ثقيلاً فإنه حينئذ لا يجزئ، فإذا ماع فتوضأ أو اغتسل فإنه حينئذ يجزئه ذلك. ـ وهل يستثنى من الماء شيء؟ (أ) ذهب بعض الفقهاء المتقدمون (¬3) كما يروى ذلك عن ابن عمرو، من أن مياه البحار ليست بطهورة، وخالف في ذلك جماهير الفقهاء من الصحابة والتابعين فمن بعدهم وقالوا بطهوريتها وأنها مياه طهورة. ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري في كتاب الأذان، باب ما يقول بعد التكبير (744) بلفظ " اللهم اغسل خطاياي بالماء والثلج والبرد ". وفي كتاب الدعوات، باب الاستعاذة من أرذل العمر (6375) بلفظ: (اللهم اغسل خطاياي بماء الثلج والبرد.. ". وأخرجه مسلم في كتاب في كتاب الذكر والدعاء، باب التعوذ من شر الفتن (بعد (2705) بلفظ " اللهم اغسل خطاياي بماء الثلج والبرد " وفي كتاب المساجد، باب ما يقال بين تكبيرة الإحرام والقراءة (598) بلفظ: (اللهم اغسلني من خطاياي بالثلج والماء والبرد) . (¬2) كذا في الأصل، ولعل الصواب: إدارته. (¬3) لعل الصواب: المتقدمين.

وهذا هو الحق وقد دل عليه الحديث الذي رواه الأربعة وغيرهم وصححه البخاري أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قيل له: يا رسول الله: إنا نركب البحر ونحمل معنا القليل من الماء، فإن توضأنا به عطشنا، أفنتوضأ بماء البحر، قال: (هو الطهور ماؤه الحِلّ ميتته) (¬1) . فالبحر هو الطهور ماؤه، فمياه البحار يجوز للمسلم أن يتوضأ منها وأن يغتسل ولا حرج في شيء من ذلك. (ب) واستثني بالنصوص الصحيحة عن النبي ـ عليه الصلاة والسلام، آبار ثمود سوى بئر الناقة. ¬

_ (¬1) أخرجه أبو داود في كتاب الظهارة، اب الوضوء بماء البحر (83) : " أن المغيرة بن أبي بُردة - وهو من بني عبد الدار - أخبره أنه سمع أبا هريرة يقول: سأل رجل النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: يا رسول الله، إنا نركب البحر ونحمل معنا القليل من الماء، فإن توضأنا به عطشنا، أفنتوضأ بماء البحر؟ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (هو الظهور ماؤه الحل ميتته) ، وأخرجه الترمذي في الطهارة (69) وقال: هذا حديث حسن صحيح، والنسائي في الطهارة (59) و (333) وفي الصيد (4355) وابن ماجه (386) . سنن أبي داود مع المعالم (1 / 64) .

فقد ثبت في الصحيحين من حديث ابن عمر قال: (نزل الناس مع النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ على الحجر أرض ثمود فاستقوا من آبارها وعجنوا به العجين فأمرهم النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ أن يهريقوا ما استقوا ويعلفوا الإبل العجين وأمرهم أن يستقوا من البئر التي كانت تردها الناقة) (1) . فهذا يدل على أنه لا يجوز للمسلم أن يتطهر بمياه آبار ثمود سوى بئر الناقة فإنه يجوز له أن يتطهر به. (ج) الثانية: بئر برهوت: فقد كره الفقهاء أن يتوضأ منها أو يغتسل وهي بئر بحضرموت. وقد روى الطبراني في "الكبير"، وقد رواه الضياء في "المختارة" من طريق الطبراني في "الكبير" أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال: (خير ماء على وجه الأرض ماء زمزم) إلى أن قال: (وشر ماء على وجه الأرض ماء بوادي برهوت) (2) وهو حديث حسن. وهي بئر معروفة في حضرموت. فهذا الحديث يدل على كراهية الغسل أو الوضوء فيها كما قال ذلك الفقهاء. * مسألة: (ماء زمزم) : هل يكره أن يتوضأ وأن يغتسل وأن يزيل الخبث منه أم لا يكره؟؟

_ (1) أخرجه البخاري في كتاب أحاديث الأنبياء، باب قول الله تعالى: {وإلى ثمود..} (3379) : " أن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أخبره: أن الناس نزلوا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أرض ثمود، الحِجْر، فاستقوا من بئرها واعتجنوا به، فأمرهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يُهَريقوا ما استقوا من بئرها وأن يعلقوا الإبل العجين، وأمرهم أن يستقوا من البئر التي كانت تردها الناقة "، وراجع (3378) . وأخرجه مسلم (2981) في كتاب الزهد والرقائق، باب لا تدخلوا مساكن الذين ظلموا أنفسهم إلا

ـ أما الوضوء منه، فقد ذهب جمهور الفقهاء إلى أن ذلك جائز، واستدلوا بما رواه الإمام عبد الله بن الإمام أحمد في زوائده على مسند أبيه، من حديث علي بن أبي طالب: أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ دعا بسجل من ماء زمزم فشرب منه وتوضأ (1) . هذا الحديث يدل على جواز الوضوء من ماء زمزم وأنه لا حرج في ذلك ولا بأس. ـ وعند الإمام أحمد خلاف المشهور في المذهب عنه كراهية ذلك. وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: بكراهية الاغتسال دون الوضوء وأن الغسل مكروه دون الوضوء. ـ أما القول بأن الوضوء مكروه فإنه لا دليل عليه والحديث النبوي الذي تقدم ذكره يرده. وأما الغسل منه فليس في الحديث أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ اغتسل. وهل هناك ما يمنع من الاغتسال أم يقال إن الاغتسال مثل الوضوء؟؟ روى الفاكهي في "أخبار مكة" وهو من علماء القرن الثالث، بإسناد صحيح عن العباس بن عبد المطلب وابنه "والعباس هو ساقي الناس من ماء زمزم فكان على سقاية زمزم ـ رضي الله عنه" قالا: (لا أحله لمغتسل وهو لمتوضئ وشارب حل وبِلّ) (2) أي برؤ من الأمراض. فهنا قال هذان الصحابيان من أصحاب النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ورضي الله عنهما. قالا: (لا أحله لمغتسل) فكل واحد منهما قال هذه المقالة. ولم يصب النووي عندما قال فيه: أنه لم يصح ما ذكروه عن العباس، بل قد صح ذلك بإسنادين أحدهما إسناد حسن والآخر إسناد صحيح، وقد احتج بهذا الأثر الإمام أحمد ـ رحمه الله تعالى. وهذا الأثر عن العباس وابنه يدل على النهي عن الاغتسال من ماء زمزم وأن ذلك منهي عنه. وقد كرهه ـ كما تقدم شيخ الإسلام ابن تيمية وحكى ذلك عن طائفة من العلماء. ولم أر أحداً من أهل العلم صرّح بتحريمه. ـ ثم إن هناك شيء من الفارق بين الغسل والوضوء فإن إزالة الجنابة أشد من إزالة الحدث الأصغر.

فإن إزالة الحدث الأكبر أشد من إزالة الحدث الأصغر. لذا لا تزال إلا بتعميم الماء في البدن كله، بخلاف الحدث الأصغر فإنه يزول بغسل بعض الأعضاء التي أمر الله عز وجل بغسلها. فما ذهب إليه شيخ الإسلام ـ رحمه الله ـ قوي في النظر، وهو كراهية الاغتسال من ماء زمزم. وأما الوضوء فلا حرج فيه. ـ وأعظم من الاغتسال أن يزيل به النجس فإن كراهيته أشد؛ لأن هذا الماء ماء مبارك وقد قال فيه النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ كما في مسلم: (هو طعام طعم) ، وزاد الطيالسي بإسناد صحيح: (وشفاء سقم) (1) . وقال عليه الصلاة والسلام: (ماء زمزم لما شرب له) (2) . فهو ماء مبارك فلا ينبغي أن يزيل الخبث به، فإزالة الخبث مكروهة وقد نص على ذلك فقهاء الحنابلة وغيرهم. والحمد لله رب العالمين. قال المصنف رحمه الله: ((فإن تغيّر بغير ممازج كقطع كافور أو دهن أو بملح مائي أو سُخِّن بِنَجِس كره، وإن تغيّر بمكثه أو بما يشق صون الماء عنه من نابت فيه وورق شجر أو بمجاورة ميتة أو سخن بالشمس أو بطاهر لم يكره، وإن استعمل في طهارة مستحبة كتجديد وضوء وغسل جمعة وغسلة ثانية وثالثة كره)) : قوله: (فإن تغير بغير ممازج كقطع كافور أو دهن أو بملح مائي) : (فإن تغير) : أي هذا الماء الطهور الذي تقدم أنه هو الباقي على خلقته التي خلقه الله عليها. وهو الذي يرفع به الأحداث وتزال به الأنجاس كما تقدم تقريره في المذهب. (بغير ممازج) : بأن يحدث في هذا الماء تغير في لونه أو رائحته أو طعمه، ويكون سبب هذا التغير وقوع شيء غير ممازج، يعني: لا يمازجه ولا يخالطه بل يحدث التغير بغير ممازجة. يعني: يقع في الماء هذا الشيء ولا يخالطه مخالطة الممازج، وإنما خالطه مخالطة غير الممازج، فهذا المخالط ما يزال باقياً على حالته ومع ذلك أحدث ذلك التأثير.

مثال ذلك: (كقطع كافور) : والكافور طيب معروف، وإنما ذكر القطع؛ لأنه إذا دُقَّ فإنه يمازج ويخالط، لكنه وهو على هيئة القطع إذا وقع في الماء فإنها تبقى قطع غير متحللة تحللاً واضحا في الماء لكنها تقع فيه وتؤثر فيه من غير ممازجة. (أو دهن) : دهن من الأدهان سواء كان من الأدهان الحيوانية أو النباتية، فإذا وقع هذا الدهن في الماء أو قطع الكافور أو عود الغماري ومثله الشمع أو القطران والزفت، فكل هذه الأشياء إذا وقع شيء منها في الماء فإنه يؤثر فيه لكنه ليس عن ممازجة وإنما بمجرد المجاورة. فهنا ما حكمه؟؟ هل يكون ليس بطهور أو نقول: هو طهور لكنه يكره التطهر به، أو يقال: إنه ليس بمسلوب الطهورية بل هو طهور وليس بمكروه شرعاً؟؟ ـ ثلاثة أقوال في مذهب الحنابلة: (1) القول الأول: ما ذكره المؤلف هنا، حيث قال بعد ذلك: " كره ". إذن هو طهور تصح الطهارة به، فيصح أن يتوضأ به أو يغتسل به وتزال به النجاسة لكنه مكروه. قالوا: هو طهور؛ لأن هذا التغير لم يكن عن ممازجة وإنما كان عن مجاورة. ـ وهو مكروه قالوا: للخلاف فيه، فقد وقع الخلاف فيه، هل هو طهور أو طاهر (وقد تقدم الكلام أن تقسيم الماء إلى طهور وطاهر ونجس ليس بصحيح على هذه القسمة الثلاثية، وإنما الراجح أنه ينقسم إلى قسمين طهور ونجس) ، هم يعتقدون أن الماء ينقسم إلى طهور وطاهر ونجس. قالوا: فبعض العلماء قد نازعنا فقال: هو ليس بطهور، بل هو طاهر فلأجل هذه المنازعة قلنا بكراهيته خروجاً من الخلاف، هذا هو المشهور في المذهب. (2) القول الثاني: قالوا: هو طاهر مسلوب الطهورية فهو طاهر بنفسه لكنه لا يطهر. قالوا: لأن التأثر قد وقع فيه والتغيّر قد وقع فيه، وما ذكرتموه من التفريق بين المجاورة والممازجة فارق ليس بمؤثر، فما دام قد حدث التغيير والتأثير فهذا فارق ليس بمؤثر.

وهذا القول أصح من القول السابق؛ لأن ذلك ليس بمؤثر يعني: هذا التفريق ليس بمؤثر إذ الماء قد تغير سواء كان هذا التغير بممازجة أو بغير ممازجة. (3) القول الثالث - وهو القول الراجح، وهو قول الجمهور -، قالوا: الماء طهور وليس بمكروه. أما كونه طهور فنحن نستدل عليه بما سنستدل عليه على صحة القول بأن الماء ينقسم إلى طاهر ونجس. فنقول: هذا يسمى ماء وكونه قد تغيّر أو تأثر فإن هذا لا يخرجه عن مسمى الماء، وقد قال تعالى: {فلم تجدوا ماءً فتيمموا صعيداً طيباً} (1) هذه هو دليلنا. ـ أما الجمهور فاستدلوا بالدليل الذي تقدم تضعيفه وهو التفريق بين المجاورة وبين الممازجة. ونحن نقول بهذا القول لكن بغير هذا الدليل. ولكن بدليل آخر، وهو أن هذا طهور وقع فيه شيء، هذا الشيء طاهر ولم ينقله عن مسمى الماء، بل مازال يسمى ماءً، فلم ينتقل عن مسماه. ـ فلو أن رجلاً غسل كأساً - قد وقع فيها شيء من الشاي أو القهوة - في إناء فإن هذا الإناء الذي فيه ماء سيتأثر ويتغير شيئاً قليلاً لكنه مع ذلك يبقى يسمى ماء. بخلاف ما إذا وضع فيه ما يغيره فأصبح شاياً أو قهوة أو غير ذلك، فإنه حينئذ لا يسمى ماءً. وقد قال تعالى {فلم تجدوا ماءً فتيمموا} ، وهذا ماء، وسيأتي مزيد بحث عن هذا وذكر من قال به من أهل العلم. ـ والذي يهمنا هنا: هو ترجيح هذا القول وأن الماء إذا وقع فيه شيء لا يمازجه فإنه يبقى طهوراً.

_ (1) سورة المائدة (6) ، وسورة النساء (43) .

ـ وهو كذلك ليس بمكروه؛ لأن التعليل الذي عللوه ليس بقوي من أجل أن نحكم على هذا الماء بأنه ماء مكروه الاستعمال؛ ذلك لأن التعليل بالخلاف ضعيف، فكثير من المسائل العلمية وقع فيها الخلاف بين أهل العلم، فهل نقول بكراهية هذه المسائل التي وجدنا الأدلة الشرعية أو القواعد العامة الشرعية – أيضا، التي (1) - تدل على جوازها وإباحتها لوجود هذا الخلاف، هذا ليس بصحيح. نعم: إذا كان الخلاف معتبراً قوياً فإننا نجتنب ما وقع فيه الخلاف بين أهل العلم إن أمكننا اجتناب ذلك من باب قول النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ: (دع ما يريبك إلى ما لا يريبك) (2)

_ (1) كذا في الأصل. (2) أخرجه أحمد في المسند من حديث الحسن بن علي [1 / 200] برقم (1723) ، (1727) ، ومن حديث أبي سعيد الخدري [3 / 112] برقم (12123) ، [3 / 153] برقم (12578) ، وأخرجه الترمذي في كتاب صفة القيامة (2518) قال: " حدثنا أبو موسى الأنصاري حدثنا عبد الله بن إدريس حدثنا شعبة عن بُريد بن أبي مريم عن أبي الحوراء السعدي قال: قلت للحسن بن علي: ما حفظت من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: حفظت من رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (دع ما يريبك إلى ما لا يريبك، فإن الصدق طمأنينة وإن الكذب ريبة) وفي الحديث قصة. قال: وأبو الحوراء السعدي اسمه ربيعة بن شيبان. قال: وهذا حديث حسن صحيح ". وأخرجه النسائي في كتاب الأشربة (5711) قال رحمه الله: " أخبرنا محمد بن أبان قال حدثنا عبد الله بن إدريس قال أنبأنا شعبة عن بُريد بن أبي مريم عن أبي الحوراء السعدي قال: قلت للحسن ما حفظت من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: حفظت منه.. "

رواه أحمد النسائي وغيرهما، من غير أن نكره ذلك، فإن الكراهية حكم شرعي، فإن الأحكام الشرعية أحدها الكراهية، فلا يحل لمسلم أن يحكم على شيء بكراهية ولا تحريم ولا تحليل ولا إيجاب ولا استحباب إلا بدليل شرعي. إذن الصحيح: أن الماء ـ كما ذهب [إليه] الجمهور - الذي خالطه شيء قد أثّر به من غير ممازجة، فإن هذا الماء طهور، وهذا الماء ليس بمكروه الاستعمال. قوله: ((أو بملح مائي)) : هنا أعاد حرف الجر؛ لأن الملح المائي ليس من المخالِط غير الممازج بل هو مخالط ممازج. الملح المائي هو الملح المنعقد عن الماء، وهو الملح الذي يوضع في الأطعمة وهو المستخرج من المياه. ـ وقيده بالمائي: احترازاً من الملح المعدني، وهو ما يستخرج من باطن الأرض فهذا يسمى ملحاً معدنياً، والملح المعدني في المذهب إذا خالط الماء فإنه ينتقل الماء إلى الطاهرية، فيكون مسلوب الطهورية، وسيأتي الكلام عليه. أما الملح المائي، فإنه منعقد عن الماء وأصله من الماء وهو مستخرج من الماء وهو شبيه بماء البحر، فإذا خالط الماء فغيّره وأوجد فيه ملوحة يغير عذوبه، فإن الماء يبقى طهوراً، لكنه قال: يكره؛ لأن بعض أهل العلم من الحنابلة ذهب إلى أن الماء يكون طاهراً. وهذا تعليل بالخلاف وهو ضعيف كما تقدم بل هو ماء طهور ولا كراهية في استعماله. إذن: إذا وضع في الماء ملح فغيّره وأوجد فيه طعم الملوحة فإنه حينئذ يكون شبيها بماء البحر الذي قال فيه النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ: (هو الطهور ماؤه الحل ميتته) (1) . ثم إن هذا المغيِّر أصله من الماء فليس بمؤثر. إذن: الماء الذي خالطه الملح المائي أو البحري هو طهور لا كراهية في استعماله، وهو قول في مذهب أحمد ـ رحمه الله. قوله: (أو سخن بنجس) : إذا سخن الماء بنجس، قال: (كره) . ـ رجل أتى بإناء فيه ماء فسخنه بنجاسة، فقال هنا: يكره. هكذا على الإطلاق.

ـ والواجب أن يفصل، فيقال: لا يخلو هذا من ثلاثة أحوال: 1ـ الحال الأول: أن تسري النجاسة إلى الماء، فحينئذ: إما أن تغيّره وإما أن لا تغيّره.، فإن غيّرته فهو حينئذ نجس. وإن لم تغيّره فلا يخلو، إما أن يكون يسيراً أو كثيراً. ـ فإن كان يسيراً فهو على المذهب نجس، والصحيح أنه ليس بنجس، كما سيأتي تقريره إن شاء الله. ـ إذن على القول الراجح: إذا سرت النجاسة على الماء فإن غيرته فهو نجس، وإن لم تغيره فليس بنجس سواء كان كثيراً أو قليلاً. 2ـ الحالة الثانية: أن يكون الإناء محكماً، وتحقق أن النجاسة لم تصل إليه فحينئذ: لا معنى للقول بكراهيته، وهما قولان في المذهب. القول الأول: أنه مكروه، والقول الثاني: أنه ليس بمكروه، وأصحهما أنه ليس بمكروه إذ لا معنى لكراهيته. ذلك فإننا قد تحققنا وتيقنا من عدم وصول النجاسة؛ لأن هذا الإناء محكم قد أحكم تمام الإحكام فليس للنجاسة إليه نفوذ، فحينئذ لا معنى لكراهيته. 3ـ الحالة الثالثة: ألا نتحقق أن النجاسة لم تصل ولا نتحقق وصولها، فوصولها محتمل فهنا: المشهور في المذهب أنه مكروه حينئذ: وعليه قول المؤلف هنا: (كره) . وذهب الجمهور إلى أنه لا يكره، وهذا هو الراجح. ـ أما حجة المذهب في كراهية ذلك فقالوا: لأنه لا يؤمن أن تصل إليه هذه النجاسة فحينئذ قلنا بكراهيته. ـ والراجح: أنه ليس بمكروه؛ لأن هذا مجرد احتمال والأصل في الماء أنه طهور ووصول هذه النجاسة إليه مجرد احتمال فلا يكون ذلك مؤثراً. إذن: الراجح أنه إذا سخن بنجس فاحتمل أن تصل النجاسة إلى الماء؛ فإنه لا يقال بكراهيته كما أنه لا يقال بأنه طاهر أو بأنه نجس، بل هو طهور وليس بمكروه الاستعمال. إذن: إذا سُخّن الماء بنجاسة فلا يخلو من أحوال ثلاثة على الراجح. 1ـ الحال الأولى: أن تصل إليه شيء من النجاسة، فإذا وصل إليه شيء من النجاسة نظرنا: فإذا تغيّر الماء فهو نجس. وإذا لم يتغيّر فهو طهور.

2ـ الحال الثانية: أن نتحقق عدم وصول النجاسة إليه تحققا تاماً لإحكام الإناء، فحينئذ: لا مجال للقول بكراهيته. 3ـ الحال الثالثة: أن يكون الأمر محتملاً فكذلك لا يقال بكراهيته على القول الراجح. قوله: ((وإن تغيّر بمكثه 0000 لم يكره)) : إن تغيّر بمكثه: بمعنى: ماء نزل من السماء ثم أقام في أرض زمناً فحدث له شيء من التغير بسبب طول الإقامة فإن الأرض تؤثر في الماء بسبب طول الإقامة لكنه مازال يسمى ماءً ولم يغير هذا المكث مسماه، بل ما زال يسمى ماءً. فحينئذ: هو طهور وليس بمكروه أيضا، وهذا مما اتفق عليه أهل العلم. إذن الماء إذا تغير بسبب طول مكثه فهو ماء طهور وليس بمكروه وهو ما يسمى بالماء الآجن أي المتغيّر بسبب طول المكث. قوله: (أو بما يشق صون الماء عنه من نابت فيه وورق شجر) : كذلك قد يتغير الماء في بِرْكَةٍ أو موضع يجتمع فيه الماء فحدث فيه تغير وكان هذا التغير يشق الاحتراز من سببه، كأن يتغير بسبب تساقط أوراق الأشجار التي تحفه أو بسبب هبوب الرياح فتأتي بشيء من الأوراق أو نحو ذلك فتقع فيه أو بسبب ما ينبت فيه أو الطحالب أو نحو ذلك، فإن الماء قد تغير لكن هذا التغير ليس بأمر يسهل الاحتراز منه بل هو بأمر يشق علينا الاحتراز منه. فهو باتفاق العلماء طهور وليس بمكروه لمشقة الاحتراز منه. قوله: (أو بمجاورة ميتة) : الميتة عندهم نجسة. فإذا سقطت شاة ميتة حول بركة ماء وبسبب تحرك الرياح أحدثت في هذا الماء رائحة كريهة بسبب مجاورة هذه الميتة لهذه المياه فتغيرت المياه أي تغيرت رائحتها بسبب مجاورة الميتة. قال هنا (هو طهور ليس بمكروه) : قال في المبدع: (بغير خلاف تعلمه) (1) ، وكذلك قال غيره، فهي إذن مسألة اتفاقية بل هي مسألة تقرب أن تكون إجماعية ولم أر في هذه المسألة خلافاً وقد قال صاحب المبدع وغيره بما تقدم.

وهذا مشكل، وهو على قاعدتهم المتقدمة من أن المجاورة تفرق عن الممازجة، فما يتغير بالمجاورة لا يؤثر وما يتغير بالممازجة فإنه يؤثر. وهذا تفريق في الحقيقة ليس بمؤثر فإن الماء الذي جاورته أشياء نجسة فتغيرت رائحته فتُشم النجاسة منه، هو ماء متغير بالنجاسة، فإن لم يكن هناك إجماع في هذه المسألة فالأقوى أن يقال بنجاسته؛ لأنه قد تغير بالنجاسة ونحن لا يهمنا إلا التغير سواء كان هذا التغير بمخالطة أو كان ذلك بمجاورة؛ لأن الماء قد تغيّر وهو مادة التطهر، وهو ماء متغير بالنجاسة. فإذن: الجمهور بل لم يذكر فيه نزاع أن الماء الذي جاورته ميتة ونحوها فتغيرت بها رائحته، فهو ماء طهور بل لا يكره التطهر به. قوله: (أو سخن بالشمس) : إذا سخن الماء بالشمس قال: (لم يكره) ، وهذا كذلك مذهب الجمهور. وأما ما رواه الدارقطني من أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال لعائشة وقد سخنت الماء بالشمس فقال لها: (ياحميراء ـ وهو تصغير حمراء ـ لا تفعلي فإنه يورث البرص) (1) ، فهذا حديث ضعيف جداً لا يصح نسبته إلى النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ. ورُوي عن عمر ـ رضي الله عنه ـ كما عند الدارقطني (2) ، وفي إسناده جهالة. وهذا مذهب جمهور الفقهاء وأن الماء إذا سخن بالشمس فإنه لا حرج فيه ـ إلا أن يثبت طبياً أن فيه ضرراً. فإذا ثبت طبياً أنه فيه ضرر فإنه ينهى عنه كما قال الإمام الشافعي: (لا أكره الماء المشمس إلا أن يكره من جهة الطب) (3) .

_ (2) وأخرجه الشافعي في الأم [1 / 3] (3) الأم للشافعي [1 / 3] بلفظ: " ولا أكره الماء المشمس إلا من جهة الطب ".

فإذا ثبت طبياً أن له أثراً على البدن فإنه ينهى عنه لحديث: (لا ضرر ولا ضرار) (1)

_ (1) قال النووي في الأربعين: " حديث حسن رواه ابن ماجه والدارقطني وغيرهما مسنداً، ورواه مالك في الموطأ مرسلاً عن عمرو بن يحيى عن أبيه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - فأسقط أبا سعيد، وله طرق يقوي بعضها بعضاً ". وأخرجه ابن ماجه في كتاب الأحكام (2341) قال رحمه الله: " حدثنا محمد بن يحيى حدثنا عبد الرزاق أنبأنا معمر عن جابر الجعفي عن عكرمة عن ابن عباس قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (لا ضرر ولا ضرار) . (2340) حدثنا عبدُ ربه بن خالد النُّميري أبو المُغلِّس حدثنا فُضيل بن سليمان حدثنا موسى بن عقبة حدثنا إسحاق بن يحيى بن الوليد عن عبادة بن الصامت أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قضى أن لا ضرر ولا ضرار ". وأخرجه الدارقطني في سننه (4 / 227) قال: " نا محمد بن عمرو بن البختري نا أحمد بن الخليل نا الواقدي نا خارجة بن عبد الله بن سليمان بن زيد بن ثابت عن أبي الرجال عن عمرة عن عائشة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (لا ضرر ولا ضرار) . نا أحمد بن محمد بن أبي شيبة نا محمد بن عثمان بن كرامة نا عبيد الله بن موسى عن إبراهيم بن إسماعيل عن داود بن الحصين عن عكرمة عن ابن عباس أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (للجار أن يضع خشبته على جداره وإن كره، والطريق الميتاء سبع أذرع، ولا ضرر ولا إضرار) . نا إسماعيل بن محمد الصفار نا عباس بن محمد نا عثمان بن محمد بن عثمان بن ربيعة بن أبي عبد الرحمن نا عبد العزيز بن محمد عن عمرو بن يحيى عن أبيه عن أبي سعيد الخدري أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (لا ضرر ولا إضرار) . نا أحمد بن محمد بن زياد نا أبو إسماعيل الترمذي نا أحمد بن يونس نا أبو بكر بن عياش قال: أراه قال عن عطاء عن أبيه عن أبي هريرة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (لا ضرر ولا ضرورة، ولا يمنعن أحدكم جاره أن يضع خشبه على حائطه) ".

ولم يثبت عندي أن ذلك فيه أثر طبي، فيبقى ذلك على الخيار. فإذا نقل من طريق الثقات عن الأطباء، أو أثبته الأطباء في كتبهم فإنه ينهى عنه لضرره. قوله: (أو بطاهر لم يكره) : كذلك إذا سخن بطاهر قال (لم يكره) . ـ قد يستغرب البعض فيقول: هذا طاهر وسخن، فكيف يذكر، فإن مثل هذا أمر معلوم لا يحتاج إلى ذكر؟؟ والجواب على ذلك: ـ أن مراده كون الماء ساخناً حاراً، أي هل يكره للمسلم أن يستخدم الماء الحار الساخن أم لا يكره له ذلك؟؟ فليست المسألة في كونه سخن بطاهر وإنما المسألة بكونه ماءً ساخناً، فهل يكره ذلك أم لا؟؟ قال: (هو طهور ولا يكره) : ولا شك في طهوريته لكن قد يقع في القلب شيء من اعتقاد كراهيته؛ ذلك لإخراجه عن أصل الماء وطبيعته وهو ليس بمكروه بل قد ثبت عن بعض الصحابة رضي الله عنهم، الاغتسال به. ـ من ذلك: ما رواه الدارقطني أن عمر ـ رضي الله عنه ـ (كان يسخن له ماءً في قمقم "الجرة" فيغتسل منه) (1) . وثبت عند ابن أبي شيبة بإسناد صحيح أن ابن عمر كان يغتسل بالحميم) (2) . ـ وإنما ينهى عنه وضوءاً أو غسلاً إذا كان مانعاً لإكمال الطهارة، ومثله البارد برداً شديداً، فإنه إذا كان مؤثراً في إتمام الطهارة فإنه ينهى عنه. إذا كان بسبب شدة حرارته أو شدة برودته يؤثر في كمال الطهارة فإنه ينهى عنه لذلك أما إذا كان ساخناً سخونة أو بارداً برودة لا تؤثر في تمام الطهارة، فإنه حينئذ لا يقال بكراهيته مطلقاً. قوله: (وإن استعمل في طهارة مستحبة كتجديد وضوء، وغسل جمعة، وغسلة ثانية وثالثة كره) : ما هو الماء المستعمل؟ الجواب: الماء المستعمل هو الماء المتساقط من الأعضاء بمعنى: عندما يجري الماء على الأعضاء ويتساقط منها قد يجتمع فهذا المجتمع هو الماء المستعمل الذي يبحث فيه الفقهاء. ـ هذا الماء المستعمل وهو المتساقط من أعضاء المتوضئ أو المغتسل له ثلاثة أحوال:

1ـ الحال الأولى: أن يكون متساقطاً عن حدث سواء كان حدثاً أصغر أو حدثاً أكبر وسيأتي الكلام عليه. والحنابلة يرون أن الماء يكون طاهراً، فلا يصح التطهر به. 2ـ الحال الثانية: وهي المذكورة هنا: وهي ألا يكون عن حدث لكنه عن طهارة مستحبة كتجديد وضوء أو غسل جمعة أو غسل عيد أو غسل يوم عرفة أو غسلة ثانية وثالثة، فإن المتساقط عن غسلة ثانية وثالثة ليس عن حدث، ومثل ذلك ما يكون عن غسل جمعة أو وضوء مستحب، فإن ذلك كله ليس عن حدث. فما حكم هذا الماء؟ الجواب: هنا قال: (كره) ، إذن هو مكروه عندهم. قالوا: للخلاف فيه، فقد اختلف فيه هل هو طهور أم لا، فلما كان الأمر كذلك قلنا بكراهيته خروجاً من الخلاف. وقد تقدم أن هذا تعليل ضعيف. ـ فإن قيل: هل فيه خلاف؟؟ فالجواب: أنه قد ذهب بعض الحنابلة إلى أن الماء المتساقط من الوضوء المستحب أو الغسل المستحب هو كالمتساقط من الغسل الواجب أو الوضوء الواجب لا فرق قالوا: كلاهما طهارة. والصواب: أن بينهما فرقاً، فإن ذاك غسل أو وضوء عن حدث. وهذا وضوء أو غسل عن غير حدث ففرق بين الأمرين، وسيأتي أن الصحيح أن كليهما طهور لا شيء فيه. إذن: الحنابلة في المشهور عنهم كرهوه لوجود الخلاف فيه، فإذا توضأ الرجل وضوءاً مستحباً فصار الماء يقع على الإناء فيكره أن نستعمله في طهارة. فإذا تساقط عن حدث فإنه لا يحل له. 3ـ وهناك صورة ثالثة: اتفق العلماء على أن الماء المتساقط فيها أنه ليس بمكروه بل هو طهور لا كراهية فيه وهو: ما إذا تساقط فيه عن غير حدث وعن غير طهارة مستحبة بل عن تبريد ونحوه. مثلاً: رجل اغتسل للتبريد ونحوه فتساقط الماء فهو ليس عن حدث ولا عن طهارة مستحبة بل للتبريد، فإن الماء يكون طهوراً لا كراهية فيه باتفاق العلماء. إذن أصبح عندنا ثلاث صور، الراجح فيها كلها أن الماء طهور لا كراهية فيه. أما على المذهب: فالأولى (1) : الماء يكون طاهراً وليس بطهور.

_ (1) ما كان عن حدث.

والثانية (1) : الماء يكون فيها طهوراً مكروهاً. والثالثة (2) : الماء فيها طهور وليس بمكروه. والله أعلم. والحمد لله رب العالمين. قوله: ((وإن بلغ قلتين وهو الكثير، وهما خمسمئة رطل عراقي تقريباً، فخالطته نجاسة غير بول آدمي أو عذرته المائعة فلم تغيره، أو خالطه البول أو العذرة، ويشق نزحه كمصانع طريق مكة فطهور)) : قلتين: تثنية قلة، وهي مقدار معروف مشهور عند العرب، ويسمى بالقلة الهجرية نسبة إلى هجر التي شبّه النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ نبق سدرة المنتهى بقلالها وهذه القلة ذكر المؤلف أنها تسع (500 رطل) عراقي وهذه ليست من المقاييس المشهورة عندنا. وهي تساوي في المقاييس المشهورة ثلاثة وتسعون صاعاً نبوياً وثلاثة أرباع الصاع النبوي، (¾ 93 صاع نبوي) . وهو ما يساوي في المقاييس الحاضرة مئتان وسبعون لتراً (270 لتراً) . وهما ـ أي القلتان ـ تساويان خمس قرب. ـ هذه المسألة ذات شطرين. 1ـ الشطر الأول: أن هناك تقسيم للماء من حيث الكثرة والقلة، وأن الماء ينقسم إلى قليل وكثير، وأن ضابط الكثير هو ما بلغ القلتين، فما بلغ قلتين فأكثر فهو الكثير، وما نقص عن ذلك فهو القليل هذا هو أصل المسألة. 2ـ الشطر الثاني: أن الماء الكثير البالغ قلتين إذا وقعت فيه نجاسة ولم يكن بول آدمي أو عذرته فإن الماء إذا لم يتغير فهو طهور. أما إن خالطه البول أو العذرة من الآدمي فهو نجس وإن كان كثيراً لم يتغير. 3ـ وهناك شطر ثالث وهو تبع للشطر الثاني: وهو: أنه إذا كان هذا الكثير الذي وقع فيه البول أو العذرة من الآدمي ولم يتغير إذا كان ما وقع فيه يشق نزحه عنه فإنه طهور. ـ إذن أصبح ينقسم الماء إلى قليل وكثير: أما القليل: فإنه ينجس عندهم بمجرد الملاقاة سواء تغير أو لم يتغير.

_ (1) ما كان عن طهارة مستحبة. (2) ما كان عن تبريد.

فإذا وقعت نجاسة، أياً كانت هذه النجاسة سواء في قربة أو قربتين أو ثلاث دون القلتين فإن الماء ينجس وإن لم تغير رائحته أو طعمه أو لونه. ـ فإن كان الماء كثيراً فإنه لا ينجس إلا بالتغير سوى بول الآدمي وعذرته فإنهما ينجسان الماء كما لو كان قليلاً بمجرد الملاقاة، لكن يستثنى من ذلك إن شق نزحه بأن شق إخراج الماء من هذه البئر أو البركة لكثرته فإنه إن شق نزحه أي استخراجه حتى يتغير ويوضع مكانه ماء آخر فإنه حينئذ يكون طهوراً لمشقة ذلك والمشقة تجلب التيسير. هذا هو تقرير المذهب. ـ وذهب بعض فقهاء الحنابلة وهو المشهور عند المتأخرين منهم، فهذا القول قد اختاره أكثر المتأخرين: إلى أنه لا فرق بين النجاسات، فلا فرق بين بول الآدمي وعذرته، وبين سائر النجاسات. إذن: المشهور في المذهب وهو مذهب المتقدمين أن بول الآدمي وعذرته إذا وقعت في ماء كثير فإنه يتنجس. إلا إذا كان ذا كمية كثيرة شق نزحها، فإنه لا ينجس لا لشيء إلا لمشقة ذلك والمشقة تجلب التيسير. ودليلهم على التفريق بين بول الآدمي وعذرته وبين غيرها من النجاسات، دليل ذلك: ما ثبت في الصحيحين أن النبي عليه الصلاة والسلام قال: (لا يبولن أحدكم في الماء الدائم الذي لا يجري ثم يغتسل فيه) (1) . وفي رواية: (منه) .

_ (1) أخرجه البخاري في كتاب الوضوء، باب البول في الماء الدائم (239) بلفظ (لا يبولن أحدكم في الماء الدائم الذي لا يجري ثم يغتسل فيه) . وأخرجه مسلم في كتاب الطهارة، باب النهي عن البول في الماء الراكد (282) بلفظ عن أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (لا يبولن أحدكم في الماء الدائم ثم يغتسل منه) ، وفي لفظ له: (لا تبل في الماء الدائم الذي لا يجري ثم تغتسل منه) .

قالوا: فهنا أطلق في الماء الذي لا يجري، فيدخل في ذلك الماء الكثير والماء القليل، فدل ذلك على أن البول إذا وقع على الماء الدائم الذي لا يجري سواء كان كثيراً أو قليلاً فإنه ينجس، ولا فرق بين أن يتغير أو لا يتغير بل قد أطلق النبي ـ صلى الله عليه وسلم ذلك. ـ أما الذين ذهبوا إلى أنه لا فرق بين وقوع البول والعذرة وبين وقوع سائر النجاسات، فقالوا: إن هذا الحديث لا يدل على ما قلتموه، فإن الحديث ليس فيه أن الماء ينجس بذلك بل قد نهى النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ عن هذا لأمرين اثنين: 1ـ الأمر الأول: أن ذلك ذريعة لتنجيسه، فإن الماء الدائم الذي لا يجري، إذا وقعت فيه النجاسة اليسيرة التي لا تغيره ثم أهمل ذلك ولم ينه عنه فتكرر ذلك فإن ذلك سوف يؤول إلى تنجيس هذا الماء وهو ماء دائم لا يجري ليس كالأنهار أو كالبحار التي تجري وهي كثيرة بحيث أن مثل ذلك لا يؤثر فيه.

2ـ أما الأمر الآخر: قُبْح الجمع بين الأمرين، بين أن يبول فيه وبين أن يغتسل منه أو فيه، وذلك كقول النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ في المتفق عليه: (لا يجلد أحدكم امرأته جلد العبد ثم بجامعها) (1) ، فالجمع بين الأمرين قبيح وليس فيه أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ حكم على هذا الماء بالتنجس، فحينئذ لا فرق بين بول الآدمي وعذرته وبين غيرهما من النجاسات. ـ ثم إن قولهم يلزم منه أن يكون بول الكلب والخنزير أو نحو ذلك أنه ليس له هذا الحكم، وبول الآدمي له هذا الحكم وهذا لا شك باطل. فإذن الراجح أنه لا فرق بين الأمرين وهذا هو المشهور عند المتأخرين. إذن الماء إذا وقعت فيه النجاسة فلم تغيره وهو كثير فالأصح من قولي المذهب أنه لا فرق بين بول الآدمي وعذرته وبين غيرهما من النجاسات. ـ تقدم التفريق بين القليل والكثير وأن ضابطه أن الكثير ما بلغ قلتين فأكثر، والقليل ما دون ذلك، والدليل على هذا:

_ (1) أخرجه البخاري في كتاب النكاح، باب ما يكره من ضرب النساء (5204) بلفظ (لا يجلد أحدكم امرأته جلد العبد ثم يجامعها في آخر اليوم) . وأخرجه مسلم في كتاب الجنة، باب النار يدخلها الجبارون (2855) بلفظ: " عن عبد الله بن زمعة قال: خطب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فذكر الناقة وذكر الذي عقرها، فقال: (إذ انبعث أشقاها، انبعث بها رجلٌ عزيز عارم منيع في رهطه، مثل أبي زمعة، ثم ذكر النساء فوعظ فيهن ثم قال: (إلام يجلد أحدكم امرأته - وفي رواية أبي بكر: جلد الأمة، وفي رواية أبي كريب: جلد العبد - ولعله يضاجعها من آخر يومه) ثم وعظهم في ضحكهم من الضرطة، فقال: (إلام يضحك أحدكم مما يفعل) .

ما رواه الخمسة بإسناد صحيح أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال: (إذا كان الماء قلتين لم يحمل الخبث) (1) . وهذا الحديث صحيح، صححه جماهير العلماء منهم يحيى بن معين والدارقطني والنووي وابن حجر وابن منده وغيرهم من أهل العلم. ـ وذهب بعض الحفاظ إلى تضعيفه كابن عبد البر وأعله المزي وابن تيمية بالوقف، وأعله ابن القيم بعدم شهرته عند أهل العلم.

_ (1) أخرجه أبو داود في كتاب الطهارة، باب ما ينجس الماء (63) قال: حدثنا محمد بن العلاء وعثمان بن أبي شيبة والحسن بن علي وغيرهم قالوا: حدثنا أبو أسامة عن الوليد بن كثير عن محمد بن جعفر بن الزبير عن عبد الله – كذا في النسخة التي بين يدي، ولعل الصواب: عبيد الله - بن عبد الله بن عمر عن أبيه قال: سئل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن الماء وما ينوبه من الدواب والسباع فقال - صلى الله عليه وسلم -: (إذا كان الماء قلتين لم يحمل الخبث) قال أبو داود: وهذا لفظ بن العلاء، وقال عثمان والحسن بن علي: عن محمد بن عباد بن جعفر، قال أبو داود: وهو الصواب. وقال (64) : حدثنا موسى بن إسماعيل حدثنا حماد ح وحدثنا أبو كامل حدثنا يزيد يعني ابن زريع، عن محمد بن إسحاق عن محمد بن جعفر قال أبو كامل: ابن الزبير عن عبيد الله بن عبد الله بن عمر عن أبيه: أن رسو ل الله سئل عن الماء يكون في الفلاة، فذكر معناه. وقال في (65) : حدثنا موسى بن إسماعيل، حدثنا حماد، أخبرنا عاصم بن المنذر عن عبيد الله بن عبد الله بن عمر قال: حدثني أبي أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: (إذا كان الماء قلتين فإنه لا ينجس) .وأخرجه الترمذي في الطهارة برقم (329) ، (67) ، والنسائي برقم (52) وابن ماجه في الطهارة برقم (517) ، (518) . سنن أبي داود مع المعالم [1 / 51] .

ـ إذن هم استدلوا بهذا الحديث ورأوا صحته، وقد صححه ـ كما تقدم ـ جماهير أهل العلم، وهو الراجح فإنه صحيح، والطعن فيه ضعيف. فهذا الحديث يدل على أن الماء إذا بلغ قلتين فإنه لا يحمل الخبث، قالوا: ومفهومه أنه إذا كان دون القلتين فإنه يحمل النجاسات والأخباث فيكون حينئذ نجساً خبيثاً. هذا هو مذهب الحنابلة والشافعية. ـ القول الثاني: هو مذهب مالك واختاره شيخ الإسلام ابن تيمية وابن القيم وغيرهما من المحققين: وهو مذهب بعض الحنابلة كابن عقيل (1) ، قالوا:

لا فرق بين قليل الماء وكثيره، بمعنى: أن الماء لا ينجس إلا بالتغيير قليلاً كان أو كثيراً، فإذا وقعت النجاسة في الماء فإننا ننظر فإن حملها وتنجس بها وظهرت رائحة النجاسة فيه أو طعمها أو لونها، فإن الماء يكون نجساً وإلا فهو طاهر لا فرق بين قليل أو كثير بلغ القلتين أو لم يبلغهما واستدلوا بالحديث الذي رواه الثلاثة (أبو داود والترمذي والنسائي) ، وصححه الإمام أحمد وهو كما قال، أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ سئل عن بئر بضاعة، وهي بئر تلقى فيها الحيض ولحوم الكلاب والنتن، فقال النبي ـ صلى الله عليه وسلم: (إن الماء طهور لا ينجسه شيء) (1) .

_ (1) أخرجه أبو داود في كتاب الطهارة، باب ما جاء في بئر بضاعة (66) قال: " حدثنا محمد بن العلاء والحسن بن علي ومحمد بن سليمان الأنباري قالوا: حدثنا أبو أسامة عن الوليد بن كثير عن محمد بن كعب عن عبيد الله بن عبد الله بن رافع بن خديج عن أبي سعيد الخدري أنه قيل لرسول الله: أنتوضأ من بئر بُضاعة، وهي بئر يطرح فيها الحيض ولحم الكلاب والنتن، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (الماء طهور لا ينجسه شيء) قال أبو داود: وقال بعضهم: عبد الرحمن بن رافع. (67) : حدثنا أحمد بن أبي شعيب وعبد العزيز بن يحيى الحرانيان قالا: حدثنا محمد بن سلمة عن محمد بن إسحاق عن سليط بن أيوب عن عبيد الله بن عبد الرحمن بن رافع الأنصاري ثم العدوي عن أبي سعيد الخدري قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو يقال له: إنه يُستقى لك من بئر بُضاعة، وهي بئر يلقى فيها لحوم الكلاب والمحايض وعِذَرُ الناس فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (إن الماء طهور لا ينجسه شيء) ". وأخرجه النسائي برقم 327، 328. والترمذي 66، قال الإمام أحمد: حديث بئر بضاعة صحيح " سنن الترمذي مع المعالم [1 / 54] .

فهنا النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قد أثبت للماء الطهورية وأنه لا ينجسه شيء أي (1) إلا ما غيره وبدله، فعلَّق النبي عليه الصلاة والسلام الحكم بالطهورية وجعل الماء متصفاً بهذه الصفة ملازماً لها لا ينجسه شيء ولم يربط ذلك بتحديد بقلتين ولا بغيرهما. قالوا: والحديث الذي استدللتم به حديث ضعيف، فقد رواه مجاهد عن ابن عمر موقوفاً من قوله (2) ، وهذا الحديث لم يشتهر عن غير ابن عمر وهو أمر عظيم فيه تحديد في المياه، فينبغي أن يشتهر كالتحديد في الزكاة ونحوها. ـ ولكن الراجح أن هذا الحديث صحيح، وأما تعليلهم بالوقف له فهو ضعيف؛ لأنه قد رواه عنه ليث بن أبي سليم، وليث ضعيف. ثم إنه هنا لا يعلل رفعه بوقفه، فلو صح موقوفاً لصحّ أن يكون أيضا مرفوعاً إذ الإسنادان كلاهما صحيح لا مرجح لأحدهما على الآخر. ومادام أنه لا مرجح لأحدهما على الآخر فإننا نقبله مرفوعاً وموقوفاً. ـ أما التعليل بعدم الشهرة، فنقول: هذا حديث ثابت صحيح رواه كثير من الأئمة في كتبهم وصححه جماعات كثيرة من أهل العلم، فلا يشترط فيه الشهرة المقصودة المطلوبة، ثم إنه سيأتي تأويل له يدل على أنه ليس كتحديد الزكوات ولا غيرها، وهو الوجه الثاني لإثبات هذا القول. ـ وهو أن يقال: إن هذا الحديث ليس فيه أن الماء إذا كان دون القلتين فإنه ينجس. وإنما فيه إثبات أن الماء إذا بلغ القلتين فإنه لا يحمل الخبث لكثرته وقوته. وأنه إذا كان دون القلتين فإنه قد يحمل الخبث لضعفه. إذن هذا الحديث فيه إخبار من النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ أن الماء الكثير لكثرته لا يحمل الخبث، فليس فيه أن الماء القليل يحمل الخبث بل فيه إلفات النظر والانتباه إلى هذا الماء، فإنه لقلته قد يحمل الخبث فعليك أن تنظر فيه وأن تتحرز من تغيير النجاسة له.

_ (1) كذا في الأصل، ولعل الصواب: أي شيء. (2) لم أر الموقوف في السنن الأربعة ولا في المسند.

إذن هذا الحديث ليس فيه أن الماء إذا كان دون القلتين فإنه يحمل الخبث، ثم إنه لو كان فيه ذلك فإنه مفهومه، ودلالة المنطوق مقدمة على دلالة المفهوم؛ لأن قوله (إن الماء طهور لا ينجسه شيء) (1) ، منطوقه أنه سواء كان قليلاً أو كثيراً فإنه لا ينجس إلا بالتغير، فهذه دلالة منطوق. وأما الحديث فإنه دلالة مفهومه على القول تدل على أنه إذا كان دون القلتين فإنه يحمل الخبث ويتنجس بذلك فهذه دلالة مفهوم، ودلالة المنطوق مقدمة عليها. ـ ثم إن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ في هذا الحديث قد علّق الأمر وأناطه بالحمل فقال: (لم يحمل الخبث) ، فدل على أن مناط الحكم هو حمل الخبث، وهذا يدل على القاعدة الشرعية التي تقول: (الحكم يدور مع علته وجوداً وعدماً) ، فهنا النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال: (لم يحمل الخبث) ، فدل على أن مناط الحكم هو حمل الخبث. فعلى ذلك إذا استُهلك الخبث في القليل فإنه حينئذ لا ينجس وإذا حمله القليل فإنه ينجس. إذن القول الراجح عدم التفريق بين قليل الماء وكثيره. فالماء إذا كان قليلاً أو كان كثيراً فوقعت فيه نجاسة فإننا ـ حينئذ ـ ننظر هل غيرته أم لا؟؟ فإن غيرته فهو نجس، وإن لم تغيره فهو طهور، هذا هو الراجح. وهو مذهب مالك واختيار شيخ الإسلام وتلميذه ابن القيم، فلا فرق بين قليل الماء وكثيره.

وقد روى ابن ماجه من حديث رشدين بن سعد وهو ضعيف أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال: (إن الماء لا ينجسه شيء إلا ما غلب على ريحه أو طعمه أو لونه) (1) ، والحديث ضعفه أبو حاتم لكن الإجماع عليه. فالإجماع على أن الماء إذا تغير طعمه أو لونه أو ريحه بالنجاسة فهو ماء نجس. أما إذا لم يتغير فسيأتي الخلاف الذي تقدم والراجح أنه إذا لم يتغير فإنه لا ينجس سواء كان قليلاً أو كثيراً. * قوله: ((ومصانع مكة)) : جمع مصنع والمراد بها أحواض المياه التي كانت موضوعة في طريق مكة من العراق، كانت هناك مصانع أي مجابي للمياه، وأحواض للمياه يردها الحجاج وهي مياه كثيرة يشق نزحها. * قوله: ((ولا يرفع حدث رجل طهورٌ يسيرٌ خلتْ به امرأةٌ لطهارةٍ كاملة عن حدث)) : هذه مسألة ذات قيود كثيرة: (ولا يرفع حدث رجل) : إذن يرفع نجسه وخبثه ويطهره الطهارة المستحبة لغسل جمعة وتجديد وضوء لكنه لا يرفع حدثه الأكبر أو الأصغر. (رجل) : قالوا ويلحق به الخنثى، فحكمه حكم الرجل هنا. ويخرج من ذلك المرأة والصبي، فإنه يرفع حدثهما. (طهور يسير) : فلا بد أن يكون يسيراً، فإن كان كثيراً فإنه لا يدخل في هذه المسألة. (خلت به امرأة) : خلت به امرأة عن المشاهد فلا يشاهدها أحد من الناس. ـ وهل يشترط في المشاهد أن يكون مكلفاً مسلماً أو لا يشترط ذلك فلو كان صبياً أو امرأة أو كافراً صح؟؟ قولان في المذهب.

_ (1) أخرجه ابن ماجه في سننه باب الحياض من كتاب الطهارة وسننها (521) قال: حدثنا محمود بن خالد والعباس بن الوليد الدمشقيان قالا حدثنا مروان بن محمد حدثنا رشدين أنبأنا معاوية بن صالح عن راشد بن سعد عن أبي أمامة الباهلي قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (إن الماء طهور لا ينجسه شيء إلا ما غلب على ريحه وطعمه ولونه ".

(لطهارة كاملة) : كذلك أن يكون هذا لطهارة كاملة فلو كان لبعض طهارة كأن تكون غسلت وجهها ويديها وبقي غسل الرجلين فإنه حينئذ لا يدخل في هذه المسألة. (عن حدث) : فلو خلت به عن غسل نجاسة أو لغسل جمعة أو غيره من الأغسال المستحبة فإنه لا يدخل في ذلك. ـ فهذه مسألة ذات قيود كثيرة. وإيضاحها: أن الماء الذي تخلو به المرأة المكلفة سواء كانت مسلمة أو ذمية تخلو به هذه المرأة - وهكذا قالوا: ذمية، وهو مشكل لكن هذا على أن يكون هناك قول بإيجاب طهارة الجنابة عليهم -. إذن: إذا خلت امرأة مكلفة بماء يسير، وهو ما دون القلتين لتزيل حدثاً أكبر وأصغر وقد خلت به عن المشاهدة فلا يشهدها مكلف مسلم على قول. وعلى قول آخر امرأة أو صبي أو كافر. فخلت بهذا الماء عن طهارة كاملة فإنه لا يحل للرجل أن يتطهر به. ـ هل يحل لها هي أن تتطهر به؟ الجواب: نعم. وهل يحل لامرأة أخرى أن تطهر به؟ الجواب: نعم. وإنما هو محرم على الرجل بالخصوص. ودليلهم: ماثبت في سنن أبي داود والنسائي بإسناد صحيح عن رجل من أصحاب النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ: (نهى أن تغتسل المرأة بفضل الرجل أو الرجل بفضل المرأة وليغترفا جميعاً) (1) .

_ (1) أخرجه أبو داود في كتاب الطهارة، باب النهي عن ذلك قال: حدثنا أحمد بن يونس حدثنا زهير عن داود بن عبد الله ح وحدثنا مسدد حدثنا أبو عوانة عن داود بن عبد الله عن حميد المحيري قال: لقيت رجلاً صحب النبي - صلى الله عليه وسلم - أربع سنين كما صحبه أبو هريرة قال: نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن تغتسل المرأة بفضل الرجل أو يغتسل الرجل بفضل المرأة، زاد مسدد: وليغترفا جميعاً ". وأخرجه النسائي برقم 239. سنن أبي داود مع المعالم [1 / 63] .

وعند الخمسة بإسناد صحيح من حديث الحكم بن عمرو أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ (نهى أن يتوضأ الرجل بفضل طهور المرأة) (1) . ونعود إلى القيود مرة أخرى: هذا الحديث فيه النهي أن يغتسل الرجل، أو أن يتطهر من فضل المرأة. إذن ليست المرأة منتهية عن هذا الحكم فالحكم مختص بالرجل، فلا يحل لرجل أن يتوضأ أو يغتسل بفضل طهور المرأة. إذن هو مختص بالرجل لدلالة هذا الحديث أولاً، والثاني: قوله في الحديث: (بفضل المرأة) : يطلق على المرأة المكلفة. الأمر الآخر: أنه قال بعد ذلك (وليغترفا جميعاً) فدل على أن المرأة قد خلت به. لكن هذا الإستدلال ضعيف. لذا الراجح من قولي المذهب ـ فهو قول في المذهب ـ أن خلوّ المرأة فيه، معناه أن تخلو عن الرجل فتتوضأ به أو بمفردها أو تغتسل بمفردها وإن كانت مشاهده من الرجل أو غيره، ولكن الخلوة المراد بها أن تكون مشتركة مع الرجل؛ لأن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال هنا (وليغترفا جميعاً) . أما قولهم: أنه من طهارة كاملة، فلفظة (طهور) فالأصل أن تكون طهارة كاملة، والأصل كذلك أن تكون عن حدث. إذن قول المذهب: أن الرجل لا يحل له أن يغتسل بفضل المرأة الذي قد خلت به لطهارة كاملة عن حدث، هذا هو قول المذهب. ـ وذهب جمهور الفقهاء إلى أن ذلك جائز لا حرج فيه واستدلوا بحديثين صحيحين.

_ (1) أخرجه أبو داود في كتاب الطهارة، باب النهي عن ذلك قال: حدثنا ابن بشار حدثنا أبو داود يعني الطيالسي حدثنا شعبة عن عاصم بن أبي حاجب عن الحكم بن عمرو وهو الأقرع أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى أن يتوضأ الرجل بفضل طهور المرأة ". وأخرجه ابن ماجه بلفظ قريب منه (374) .

1ـ ما ثبت في مسلم أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ كان يغتسل بفضل ميمونة (1) . 2ـ وما ثبت عند الأربعة بإسناد صحيح عن ابن عباس قال: (اغتسلت بعض أزواج النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ في حفنة فجاء يغتسل منها، فقالت: إني كنت جنباً فقال: إن الماء لا يَجْنُب) (2) . فهذان الحديثان يدلان على أن الرجل يغتسل بفضل المرأة. ثم إن الحديث الذي استدللتم به يدل كذلك على النهي عن اغتسال المرأة من فضل الرجل فلم لم تقولوا به.

_ (1) أخرجه مسلم في كتاب الحيض، باب القدر المستحب من الماء في غسل الجنابة.. (323) بلفظ: " أن ابن عباس أخبره: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يغتسل بفضل ميمونة ". (2) أخرجه أبو داود في كتاب الطهارة، باب الماء لا يجنب (68) قال: حدثنا مسدد، حدثنا أبو الأحوص حدثنا سماك عن عكرمة عن ابن عباس قال: اغتسل بعض أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - في جفنة، فجاء النبي - صلى الله عليه وسلم - ليتوضأ منها أو يغتسل، فقالت له: يا رسول الله: إني كنت جنباً، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (إن الماء لا يجنب) وأخرجه النسائي في الطهارة برقم 326، بلفظ: (لا ينجسه شيء) ، والترمذي برقم 65، وقال: حديث حسن صحيح، وابن ماجه في الطهارة برقم 370، 371.

قالوا: لوجود الإجماع عليه، فقد أجمع أهل العلم على أن الرجل إذا خلا بالماء فإن المرأة تغتسل به ولا حرج وهذا هو شطر الحديث، فإن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ كما نهى الرجل أن يغتسل بفضل المرأة فقد نهى المرأة أن تغتسل بفضل الرجل، وقال: (وليغترفا جميعاً) ، وهذا الإجماع المذكور يقوي ما ذهب إليه الجمهور من أن النهي في هذا الحديث لا يدل على التحريم، وإنما يدل على الأولوية أو الإرشاد فهو نهي إرشاد أي: الأولَى للرجل أن يغتسل بماء جديد غير فضل المرأة، والأولى للمرأة أن تغتسل بماء جديد غير فضل الرجل وإن احتاجا إلى شيء من ذلك فليغترفا جميعاً. إذن: هذا الحديث لا يدل على التحريم بدلالة فعل النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ وبدلالة شطره الآخر فإن فيه نهياً للمرأة أن تغتسل بفضل الرجل. ـ وقول الحنابلة فيه شيء من النظر القوي؛ ذلك، لأن نهي النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ الرجل أن يغتسل بفضل المرأة ورد في السُّنة ما يعارضه وهو ما تقدم من حديث ابن عباس ـ رضي الله عنه. وأما نهي النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ عن اغتسال المرأة بفضل الرجل فلم يرد في السنة ما يدل على جوازه فهو أعظم إحكاماً من ذلك، ولولا الإجماع الوارد فيه لكان القول به قوياً، ولكن تقدم ذكر الإجماع ومع ذلك فقد قالوا بما وردت السنة بخلافه ولم يقولوا بما لم ترد السنة بخلافه. فإذن: الصحيح الراجح وهو مذهب الجمهور واختيار غير واحد من المحققين كشيخ الإسلام ابن تيمية وغيره: أن الماء إذا خلت به المرأة لطهارة كاملة أو غير ذلك فإن الرجل يجوز له أن يتطهر به ولا حرج مع أن الأولى له أن يتطهر بماء غير فضلها. وكذلك المرأة فالمستحب لها والمشروع أن تتوضأ وتغتسل بغير فضل الرجل ولكن إن اغتسلت به فلا حرج ولا بأس والله أعلم. والحمد لله رب العالمين. الدرس الخامس (السبت: 14 / 11 / 1414 هـ) * قال المصنف رحمه الله:

((فإن تغيّر لونه أو طعمه أو ريحه بطبخ أو ساقط فيه 0000 فطاهر)) : (وإن تغيّر) : الضمير يعود إلى الماء الطهور. (بطبخ) : كأن توضع فيه ورق شاي أو حب قهوة أو نحو ذلك. (أو ساقط فيه) : كأن تسقط فيه ثمرة أو يسقط فيه ورق أو نحو ذلك أو يسقط فيه زعفران وغيره مما قد يسقط في الماء. فهو إذن ماء طهور في الأصل لكنه قد تغير وتكدر بشيء ليس بنجس بل هو طاهر سقط فيه فغيّر طعمه أو لونه أو ريحه، فما حكمه؟ قال المصنف: (00 فطاهر) : أي طاهر غير مطهر، فهو طاهر في نفسه ليس بنجس لكنه ليس بمطهر، وهذا هو المذهب وهو مذهب جمهور أهل العلم. وأن الماء إذا وقع فيه شيء من الطاهرات فغيّر رائحته أو طعمه أو لونه فإن الماء طاهر وليس بطهور، فهو طاهر في نفسه وليس بمطهر لغيره، فعلى ذلك على المذهب لا يزيل النجس ولا يرفع الحدث. قالوا: لأن الماء ليس بماء مطلق بل هو ماء أضيف إليه شيء فهو ليس ماء مطلقاً بل ماء مضاف إليه مادة أخرى، هذا هو قول المذهب وهو مذهب الجمهور ـ كما تقدم. ـ والقول الثاني: وهو مذهب أبي حنيفة وأحد الروايتين عن الإمام أحمد بل قال شيخ الإسلام: " إن أكثر نصوص أحمد على هذا " أي على القول: بأنه طهور. وهذا هو اختيار شيخ الإسلام وابن القيم ومحمد بن عبد الوهاب وغيرهم من المحققين. قالوا: الماء طهور، فكما أنه طاهر في نفسه فهو مطهر لغيره ما دام باقياً على مسماه. ويتضح قولنا: (ما دام باقياً على مسماه) بضرب مثالين: 1ـ المثال الأول: وهو ما كان فيه الماء باقياً على مسماه، كأن يوضع في إناء شيء من أوراق الشاي أو شيء من الطعام فيتغير لونه فيأخذ من لون هذا الشيء الواقع فيه. 2ـ المثال الثاني: وهو ما تغير فيه مسمى الماء، كأن يوضع في إناء أوراق شاي ثم يطبخ على النار، فإنه يسمى شاياً فهو لم يبق على مسماه بل تغيّر.

أما هذه الحال الثانية: فالراجح أنه ليس بماء فلا يحل لأحد أن يتطهر به، ومثله لا ينبغي الخلاف فيه لأنه ليس بماء، والشارع إنما خصص الماء بالطهارة عند وجوده، فإذا ثبت ذلك وهو أنه ليس بماء فلا يحل لأحد أن يتطهر به. ـ أما الحال الأولى: فهو المختلف فيها وهي ما إذا كان الماء قد تغير بهذا الشيء الطاهر لكنه لم يتغير مسماه بل بقي ماءً على مسماه. فحينئذ: ذهب من تقدم إلى أنه طهور، وهذا هو الراجح، والأدلة على ذلك ما يلي: 1ـ قوله تعالى: {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءاً فَتَيَمَّمُوا} (1) ولفظه (ماء) نكره في سياق النفي، والقاعدة الأصولية أن النكرة في سياق النفي تفيد العموم، فهذا يعم كل ماء. فكل ماء يتطهر به قبل اللجوء إلى التراب "أي إلى التيمم"، فإذا وقع فيه شيئ من الورق أو شيئ من الثمر أو غير ذلك فتغيرت رائحته أو طعمه أو لونه مع بقائه على مسماه فهو ماء فيدخل في عموم الآية (فلم تجدوا ماء) . 2ـ الدليل الثاني: ما ثبت في الصحيحين أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال للنساء المغسلات لابنته: (إغسليها بماء وسدر) (2) ، وقال صلى الله عليه وسلم: في المتفق عليه، فيمن وقصته راحلته فمات (اغسلوه بماء وسدر) (3) . ومعلوم أن السدر يؤثر في الماء ويغير منه، ومع ذلك فإنه يتطهر به هنا. فالشريعة قد دلت على التطهر به كما في هذا الحديث. 3ـ الدليل الثالث: ما روى الإمام أحمد والنسائي وابن ماجة بإسناد صحيح أن أم هانيء، قالت: (إغتسل النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ وميمونة من إناء واحد في قصعة فيها أثر عجين) (4) . والشاهد قوله: (في قصعة فيها أثر عجين) : ومعلوم أن العجين يغيِّر الماء ويؤثر فيه ومع ذلك اغتسل النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ به وميمونة.

4ـ الدليل الرابع: الأصل، فالأصل في الماء أنه طهور، وقد أنزل الله من السماء ماءاً طهوراً لنتطهر به، فالأصل في الماء الطهورية ما لم يدل دليل على نقله إلى الطاهرية أو غيرها، وليس هناك دليل يدل على ذلك بل الشريعة تدل على أن الماء يتطهر به. إذن الراجح مذهب أبي حنيفة وأحد الروايتين عند الإمام أحمد، وهي ليست المشهورة عن أصحابه لكن عليها أكثر نصوصه، وهو إختيار شيخ الإسلام وتلميذه ابن القيم. * قوله: ((أو رفع بقليله حدث 00000 فطاهر)) : تقدم تعريف القليل عندهم وهو ما دون القلتين. (أو رفع بقليله حدث) :أي استعمل في رفع حدث أكبر أو أصغر فتساقط الماء من أعضائه فاجتمع في إناء، فهذا هو الماء المستعمل في رفع حدث سواء كان الحدث أصغر أو أكبر، فهل هو طهور أم طاهر؟؟ قال المصنف: (فطاهر) : فهو لا يرفع الحدث، بل طاهر وليس بطهور. واستدلوا: بما ثبت في مسلم أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال: (لا يغتسل أحدكم في الماء الدائم وهو جنب) (1) . قالوا: فهذا يدل على أنه لا يجوز للمسلم أن يغتسل في الماء الدائم وهو جنب ليرفع حدثه، وذلك لكون الماء المغتسل فيه عن حدث يتأثر بهذا الغسل فيه وينتقل من الطهورية إلى غيرها. قالوا: ولا ينتقل إلى النجاسة لما ثبت في الصحيحين أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ (صبّ على جابر من وضوئه) (2) ، ولو كان نجساً لما صبّ عليه منه، قالوا: فهو ماء طاهر. فلما نهى النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ عن الاغتسال بالماء الطهور وليس ذلك إنتقالاً إلى النجاسة بل إلى الطاهرية لحديث جابر المتقدم. ـ إذن الماء المستعمل المتساقط من الأعضاء لا يحل للمسلم أن يتطهر به. فلوا أن أحداً مسح رأسه بفضل يديه فهل يجزئ أم لا؟؟ فالجواب: لا يجزئ ذلك؛ لأن الماء طاهر وليس بطهور هذا هو مذهب الحنابلة.

ـ وذهب الإمام أحمد في إحدى الروايتين عنه، وهو أشهر إحدى الروايتين عن الإمام مالك، وأحد قولي الشافعي، وهو قول ابن المنذر واختيار شيخ الإسلام ابن تيمية وغيره من المحققين، أن الماء طهور وليس بطاهر. 1ـ واستدلوا: بما روى أبو داود وأحمد بإسناد جيد أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ (مسح رأسه بفضل ماء في يديه) (1) ، فهنا الماء الذي في يديه ماء مستعمل، وقد مسح به رأسه. 2ـ واستدلوا: بالأصل، فالأصل أن هذا الماء طهور يتطهر به وهو ماء داخل في عموم قوله تعالى: {فلم تجدوا ماء} . ـ وأما الحديث الذي استدل به أهل القول الأول، فأجابوا عليه بجواب صحيح وهو: أن الحديث إنما فيه نهي المسلم أن يغتسل في الماء الدائم وهو جنب وليس فيه أن الماء ينتقل إلى الطاهرية فهذه مسألة أخرى. ـ بل العلة الصحيحة في ذلك ـ للأدلة المتقدمة ـ العلة الصحيحة أن يقال: إن ذلك ذريعة إلى تقذيره وإفساده فإن الماء إذا اغتسل فيه من الجنابة ومن الأحداث ونحوها فإن ذلك يودي إلى تقذيره، فهو ماء دائم ثابت فإذا تكرر الغسل فيه من الأحداث الكبرى أو الصغري فإن ذلك يؤدي إلى تقذيره. وسواء قلنا إن ذلك يؤدي إلى تقذيره حساً أو يؤدي إلى تقذيره معنى. وأما أن نحكم على الماء بأنه ينتقل عن الطهورية، فليس في الحديث ما يدل على ذلك، بل الأدلة تدل على خلاف ذلك. ـ كما أن الماء عنما يوضع على المرفق وهو يجري على بقية اليد فإنه يرفع حدث الجزء الأعلى حتى يصل إلى أطراف الأصابع، فعندما ينتقل من جهة إلى جهة إلى أسفل اليد فإنه يكون في نزوله بآخر اليد فهو في الحقيقة ماء قد استعمل في أعلى اليد ثم نزل إلى أسفلها.

لذا الاستعمال عندهم أن ينتقل من عضو إلى عضو آخر ولم يرو ذلك استعمالا؛ لأنه لو كان استعمالاً لأدى ذلك إلى أن يكون هذا الفعل غير جائز، وقد دلت الأدلة الشرعية المعلومة ضرورة أن مثل هذا لا ينهى عنه أي انتقال الماء من جهة إلى أخرى في العضو نفسه. فالراجح: هو القول الثاني وهو أحد الروايتين عن الإمام أحمد، وهو أن الماء المستعمل في الحدث أنه طهور. ونحن باقون على الأصل حتى يأتينا الدليل الواضح اليقيني الذي ينقلنا عن ذلك. وما ذكروه في الحديث المتقدم إنما هو مجرد نظر ومثل هذا النظر لا يترك بسببه المحكم بل يحكم الذي تقدم على غيره من الأحاديث. * قوله: ((أو غمس فيه يد قائم من نوم ليل ناقض لوضوء000 فطاهر)) : أي إذا أدخل من هو مستيقظ من نوم ليل ناقضٍ للوضوء إذا أدخل يده في الإناء فإن هذا الماء ينتقل من الطهورية إلى الطاهرية. ـ واستدلوا: بما ثبت في الصحيحين من حديث أبي هريرة: أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم قال: (إذا استيقظ أحدكم من نومه فلا يغمس يده في الإناء حتى يغسلها ثلاثاً فإنه لا يدري أين باتت يده) (1) . قالوا: هذا يدل على أن المستيقظ من نوم الليل إذا غمس يده في الإناء فإن الماء ـ حينئذ ـ ينتقل إلى الطاهرية. * وهذا الحديث فيه مسائل: 1ـ المسألة الأولى: أن هذه الحديث يدل على وجوب غسل اليدين لمن استيقظ من نوم الليل وهذا هو مذهب الحنابلة. ـ والجمهور على سنيته. ـ واستدل الحنابلة على وجوب ذلك بأمر النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ والأمر يدل على الوجوب. ـ وأما الجمهور فقالوا: إنه للاستحباب بقوله: (فإنه لا يدري أين باتت يده) ، وهذا شك فلهذا الشك ليس لنا أن نقول بوجوب ذلك بل نقول بمشروعيته، فليس لنا أن نقول بالوجوب بل نقول بالاستحباب. ـ وهذا فيه نظر، فإن هذا الشك إنما هو من المكلف فإنه لا يدري أين وقعت يده، وأما الشارع فإن الحكم المنطلق منه هو إيجاب ذلك.

ـ وأما كونه لا يدري، فهذا تردد واقع على المكلف. وأما الشارع فقد أمر بغسل يديه إذا أستيقظ من نومه. ـ فالأرجح: مذهب الحنابلة وهو وجوب ذلك أي وجوب غسل اليدين ثلاثاً لمن استيقظ من النوم وأراد أن يغمس يده في الإناء. 2ـ المسألة الثانية: هل هذا خاص بنوم الليل، أم فيه وفي نوم النهار؟؟ ـ المذهب أنه إنما هو خاص في نوم الليل، ولم أر أحداً من المذاهب المتبوعة يخالف ذلك ودليل هذا وجهين: 1ـ الوجه الأول: ما في رواية أبي داود: (إذا استيقظ أحدكم من نوم الليل) محل قوله: (من نومه) التي تفيد العموم. 2ـ الوجه الثاني: قوله (باتت) : والأصل في البيتوتة أن تكون ليلاً. ـ وذهب الحسن البصري إلى أنه عام في نوم الليل والنهار وأن حكمهما واحد. ويستدل له بعموم: قوله: (من نومه) . ولكن هذا الإستدلال فيه ضعف لما تقدم من الوجهين السابقين. ـ فإن قيل: ألا يقاس نوم الليل على نوم النهار؟ فالجواب: أن القياس ضعيف من وجهين: أـ الوجه الأول: أن إلحاق نوم النهار بنوم الليل إلحاق مع الفارق. فإن الليل هو محل النوم، الأصل فيه أن يستغرق في نومه وتطول مدة النوم، بخلاف نوم النهار، فليس في الأصل محلاً للنوم والأصل فيه ألا يكون طويل المدة. ب ـ الوجه الثاني: أن العلة تعبدية، فقوله: (أين باتت يده) فلا تدري ما العلة من ذلك. لذا قال أهل العلم لو أن رجلا وضع يده في قفازين أو نحو ذلك فإنه مع ذلك يجب عليه أن يغسل يديه قبل أن يدخلهما في الإناء؛ لأن العلة تعبدية، وقد قال صلى الله عليه وسلم: (إذا استيقظ أحدكم من نومه، فليستنثر ثلاثاً فإن الشيطان يبيت على خيشومه) (1) . فإذن هي أمور معنوية، وهو لا يدري أين باتت يده، فقد يكون هذا في أمر مشاهد أو أمر غائب، فالمسألة تعبدية. وعندما يثبت ذلك، أي أن العلة تعبدية غير معقولة المعنى، فلا قياس حينئذ. فالقياس لا بد منه أن تكون العلة معنوية فالراجح أن نوم النهار ليس كنوم الليل.

قوله: (ناقض للوضوء) : لقوله: (من نومه) والأصل في النوم أن يكون ناقضاً للوضوء. ـ وعلى القول الراجح أنه نوم مستغرق لقوله: (لا يدري أين باتت يده) ؛ لأن من ليس بمستغرق يدري أين باتت يده، فهو لايزال في الشاهد ولم يغب. فإذن: هو نوم الليل وهو ناقض للوضوء. ـ إذا تبين هذا فهل في الحديث المتقدم أن الماء ينتقل إلى الطاهرية؟؟ الجواب: أن الحديث ليس فيه ذلك، بل النهي منه صلى الله عليه وسلم، ألا يغمسها في الإناء حتى يغسلها ثلاثاً، وليس فيه أن الماء ينتقل من الطهورية إلى غيرها. والأصل في الماء أن يكون طهوراً، ونقله إلى غير الطهورية يحتاج إلى دليل ولا دليل على ذلك. ـ وهناك قول ثالث في المذهب واختاره شيخ الإسلام ابن تيمية، أن الماء طهور وهو الراجح؛ لأنه ماء لم يتغيّر بالنجاسة، وهو ماء كذلك باق على أصله في الطهورية، فأي دليل ينقله عن الطهور إلى الطاهر، فهو ماء قد تحلل عن محل يراد تطهيره، ولم يتغيّر بالنجاسة فحينئذ لا معنى للقول بطاهريته ولا بنجاسته بل هو طهور وهو الراجح. ـ وننتهي ـ حينئذ ـ من مسائل القسم الثاني من أقسام المياه، وهو الطاهر وتبين لنا أنها كلها مسائل مرجوحة، وليس هناك ماء طاهر. ـ والأصل أن الماء قسمان طهور، ونجس وليس هناك ماء طاهر، وهذا هو الأصل أن الماء طهور يحل التطهر به ما لم ينتقل عن مسماه فيكون شيئاً آخر أو يتغير بالنجاسة فيكون حينئذ ماء نجساً وقد تقدمت الأدلة الدالة على ذلك والله أعلم. والحمد لله رب العالمين. (الدرس السادس) * قال المصنف رحمه الله: ((والنجس: ما تغيّر بنجاسة أو لاقاها وهو يسير أو انفصل عن محل نجاسة قبل زوالها)) : هذا هو القسم الثالث من أقسام المياه.

وهو: (ما تغير بنجاسة) : أي سقط فيه شيئ من الأشياء النجسة من بول أو عذرة أو نحوهما، فتغير بهذه النجاسة ريحه أو طعمه أو لونه، فهو في الأصل طهور رائحته وطعمه ولونه، لكن قد تدنست هذه الأوصاف كلها أو بعضها، تدنست بهذه النجاسة. فحكمه: أنه ماء نجس، وهذا بإجماع أهل العلم، فقد أجمع أهل العلم على أن الماء المتغير بالنجاسة أنه نجس سواء كان قليلاً أو كثيراً فهو ماء نجس لا يحل التطهر به. قوله: (أو لاقاها وهو يسير) : هذا هو النوع الثاني من أنواع الماء النجس. "وهو يسير": اليسير وعندهم ـ هو ما دون ـ القلتين. فمثلاً: عندنا ماء يبلغ قلة أو قربتين أو مائة لتر، فهو ماء قليل فوقعت فيه نجاسة، وهذه النجاسة لم تغيره فأوصافه كلها لم تتغير بالنجاسة فطعمه ولونه وريحه نقيات من هذه النجاسة الواقعة فيه، قالوا: فهذا ماء نجس، وهذا هو مذهب فقهاء الحنابلة وهو مذهب الجمهور. ـ وذهب الإمام مالك كما تقدم إلى أن الماء طهور وهو قول في المذهب ـ أي أنه طهور ـ واختاره المجد ابن تيمية، وكذلك شيخ الإسلام ابن تيمية وهو الراجح. فالماء الذي غمس فيه يد من قائم من نوم الليل، أن هذا الفعل محرم، والماء يبقى طهوراً مطهراً، وليس بطاهر فقط كما هو في المذهب. ـ والمشهور في المذهب أن الغمس يكون من مسلم مكلف لقوله صلى الله عليه وسلم (فإن أحدكم) وهو خطاب للمسلمين، وقوله: (فلا يغمس) وهو خطاب للمكلف. ـ وهناك قول في المذهب أنه عام في المكلف وغيره. ولا شك أن هذا أقوى، فإنه إذا ثبت هذا الحكم الذي ذكروه من إنتقاله إلى الطاهرية، إذا ثبت بغمس المسلم المكلف، فأولى من ذلك أن يثبت بغمس الكافر والصبي. ولأن العلة المذكورة (فإنه لا يدري أين باتت يده) تنطبق على الكافر والصبي. ـ وأما الخطاب فإنه موجه إلى من يجيب، فهو إلى المسلم إلى من يجب عليه وهو على المكلف وهذا قول في المذهب.

ـ لكن الراجح ـ ما تقدم ـ أنه لا ينتقل إلى الطاهرية بل هو طهور مطهر. * قوله: ((أو كان آخر غسلة زالت النجاسة بها فطاهر)) . هذا المشهور في المذهب وسيأتي بيانه ـ أن النجاسة يجب أن تغسل سبع مرات. فإذا وقع على الثوب نجاسة فيجب أن تغسل هذه النجاسة سبع مرات بالماء. وعندهم أن الغسلات الست بالماء المتحلل منها ماء نجس؛ لأنه ماء لاقى النجاسة، وما لاقى النجاسة فهو نجس. وأما الغسلة السابقة التي زالت بها النجاسة فقالوا: هذا الماء طاهر وليس بطهور وليس نجس. ـ أما كونه ليس بنجس فقالوا: لأنه قد انفصل عن محل طاهر. وأما الست فقد انفصلت عن محل نجس، فكلما غسلناه في مرة فهو مازال نجساً وأما المرة السابقة فقد انفصل عن محل طاهر. ـ وهناك قول في المذهب أنه نجس، وهو أصحّ وأقيس بالنسبة للمذهب؛ لأنه إنما طهر المحل بانفصال الماء في آخره، وأما في ابتداء ذلك فالمحل لايزال نجساً. وهذا القول هو الراجح وهو رواية عن الإمام أحمد وهو إختيار شيخ الإسلام وتلميذه ابن القيم، كما تقدم. وقد تقدم الاستدلال بحديث: (إن الماء طهور لا ينجسه شيء) (1) ، فهذا ماء طهور باق على أصله وقد وقعت فيه النجاسة فلم تغيره بل استهللت فيه سواء كان قليلاً أو كثيراً فإن الماء لا ينجس بل الماء طهور. إذن: هذا القول فيه نظر كما تقدم، فقوله: (أو لاقاها وهو يسير) : هذا قول ضعيف. بل النجاسة إذا لاقت الماء اليسير فلم تغيره فهو ماء طهور؛ لأن الحكم يدور مع علته وجوداً وعدماً. إذن: لا يصح تقسيم الماء إلى ثلاثة أقسام (طهور وطاهر ونجس) ، ولا يصح كذلك تقسيم الماء إلى قليل وكثير؛ لأن هذا التقسيم يترتب عليه عندهم أن الماء الكثير لا ينجس إلا بالتغير، أما القليل فإنه ينجس بمجرد الملاقاة. * قوله: ((أو انفصل عن محل نجاسة قبل زوالها)) : إذا انفصل عن محل النجاسة قبل أن تزول.

بمعنى: مازالت النجاسة باقية والماء يزال به النجاسة والمحل يتنظف ويتطهر به، فالماء المنفصل عنها ماء نجس؛ لأنه ماء قليل، وهذا هو الأصل، فهو ماء قليل قد لاقى نجاسة فيكون نجساً. ـ وكذلك الغسلات الست، فقد تقدم أن الغسلة السابعة للماء المستعمل منها ماء طاهر. أما الغسلات الست الأولى، فإن الماء فيها نجس. إذن: مالاقي النجاسة أثناء الغسل والتنظيف فعندهم أنه ماء نجس. ـ أما على القول الراجح: فنحن باقون على القاعدة المتقدمة وهي: أنه إن تغيّر بالنجاسة فهو نجس وإلا فهو طهور. * قوله: ((فإن أضيف إلى الماء النجس طهور كثير غير تراب ونحوه أو زال تغير النجس الكثير بنفسه أو نزح منه فبقي بعده كثير غير متغير طهر)) : هذه مسألة: في طريقة إزالة النجاسة في الماء وتحويل الماء من نجس إلى طهور. وقد ذكر المؤلف هنا ثلاث طرق بذلك: 1ـ الطريقة الأولى: أن يضاف إلى الماء النجس طهور كثير والكثير عندهم ـ قلتان ـ فما فوق. فمثلاً: تأتي إلى الماء النجس سواء كان قليلاً أو كثيراً، فتضيف إليه ماء كثيراً فيصبح طهوراً. وقالوا: (كثير) : لأن الذي يريد أن يطهره بنجس، فإذا أضيف ماء قليل فإنه ينجس أي هذا الماء بمجرد الملاقاة؛ لأنه ماء قليل. فلابد حينئذ من أن يضيف إليه قلتين فأكثر؛ لأنه إذا كان المضاف دون القلتين فإنه ينجس بملاقاة الماء الذي يراد تطهيره. فإذن: يضاف إلى الماء المتنجس سواء كان قليلاً أو كثيراً فيضاف إليه ماء كثير فحينئذ ينتقل إلى طهور. إن كان قليلاً فأصبح مع الكثير والنجاسة أصبحت لا تؤثر فيه. وإن كان الماء من الأصل فتغير فإن مثل هذه الإضافة لا بد وأن تنظر فيها هل غيرت ريحه وطعمه ولونه، فإن غيرته فإن الماء تطهر، وإن لم تغيره فإننا نضيف حتى يذهب هذا التغير. وهنا مثالان:

1ـ المثال الأول: فيه ماء قليل وقعت فيه نجاسة فهو ماء لم يتغير بالنجاسة لكنه، على المذهب ماء نجس فإذا أضيف إليه قلتان فأصبح بعد ذلك قطعاً طهوراً؛ لأن الماء أصبح كثيراً والنجاسة لم تغير فيه. 2ـ المثال الثاني: إذا كان الماء قد تغير وقد أضفنا إليه قلتين فما زال متغيراً فإنه لا يطهر بذلك. ـ فإذا أضفنا قلة أو قلتين فزال التأثر فحينئذ يصبح الماء طهوراً. قوله: (غير تراب أو نحوه) : التراب إنما نص عليه؛ لأنه يعتبر عند بعض المذاهب مطهراً. والمذاهب كلها على أن الماء رافع للحدث ـ كما سيأتي بيانه في باب التيمم. قالوا: فإذا أضيف إلى الماء تراب فزالت النجاسة بعد إضافته فهذا لا يؤثر بل يبقى نجساً أو أضيف إليه نحو التراب كأن يضاف إليه صابون أو نحو ذلك. فإذا أضيف إليه تراب أو نحو ذلك فهذا ليست طريقة ـ عندهم ـ للتطهير ولا يتطهر الماء بذلك. ـ وذهب بعض الحنابلة إلى أنه يطهر بذلك. وهذا هو القول الراجح؛ لأن المقصود إزالة النجاسة وقد زالت فإن الحكم يدور مع علته وجوداً وعدماً. فبأي طريقة زالت النجاسة فإن الماء يصبح طهوراً؛ لأن الخبث الذي نقل الماء من الطهورية إلى النجاسة قد زال فلا معنى ـ حينئذ ـ لأن يجعله من النجس وقد زال المؤثر والمفسر له، وأي طريق فصلناه، فإنه يكون صحيحاً. ـ إذن التراب أو غيره ـ على القول الراجح ـ يعتبر مطهراً بل لو أضيف إليه شيء من المواد الكيميائية أو بعض الطرق الحديثة فزالت النجاسة فإنه يصبح ماء طهوراً. 2ـ الطريقة الثانية: قوله: (أو زال تغير النجس الكثير بنفسه) فالطريقة الأولى: طريقة لتطهير الماء القليل والماء الكثير جميعاً. ـ لكن هذه الطريقة لتطهير الماء الكثير فقط. فإذا مكث ماء كثير مدة فزالت عنه النجاسة من غير مؤثر، فهو قد طهر نفسه فإنه يصبح طهوراً.

ـ ولو كان قليلاً لم نقل به ـ على المذهب ـ؛ لأن الماء القليل نجس بمجرد الملاقاة أصلا فضلاً عن أن نقول أن النجاسة ذهبت منه. فإذن: الماء الكثير إذا تغير بالنجاسة ثم ذهبت عنه بنفسه فإنه ماء طهور، قالوا: لأنه مطهر لغيره فهو كذلك مطهر لنفسه. ـ وعلى القول الراجح كذلك الماء القليل المتغير بالنجاسة إذا زالت عنه النجاسة بنفسه فإنه يطهر ويصبح طهوراً؛ لأن الماء متى زالت عنه النجاسة فإنه طهور، بل كل عين تنجست ثم زالت عنها النجاسة فهي عين طاهرة. 3ـ الطريقة الثالثة: (أو نزح منه فبقى بعده كثير غير متغير) : ما تقدم طريقة إضافة، وهذه طريقة أخذ. صورة ذلك: ماء كثير تغيّر بالنجاسة فأخذنا ننزح منه ونخرج حتى ذهبت النجاسة. مثال ذلك: رجل عنده بركة فيها ماء فوقع في طرقها نجاسه فأخذ لينزح من الماء ويخرج حتى لم يبق أثر للنجاسة في هذه البركة، فحينئذ يصبح الماء طهوراً؛ لأنه بهذا النزح أصبح الماء المتبقي طهوراً غير متغير. ـ فإن كان الماء قليلاً فما الحكم؟؟ فالجواب: ما تقدم من أنه ينجس بمجرد الملاقاة على المذهب. ـ وعلى القول الراجح لاحاجة إلى هذه الطرق بل القاعدة: أنه متى ما زالت النجاسة فإن الماء يطهر فيصبح طهوراً على أصله، قال تعالى: ((وأنزلنا من السماء ماءاً طهوراً)) (1) فمتى زالت النجاسة فإن الماء يعود إلى أصله من الطهورية. ـ وعلى تقرير مذهب فقهاء الحنابلة: هنا صاحب الزاد لم يستثن ما استثناه في مسألة سابقة وهي بول الآدمي وعذرته، فإن البول إذا أصاب الماء ثم أضيف إليه ماء كثير فإنه ـ حينئذ ـ لا يطهر، إلا أن يكون قد شق نزحه، كما تقدم.

ـ إذن لابد وأن يبقى بعد عملية التطهير؛ لابد وأن يبقى ماء تتوفر فيه الشروط السابقة ومن الشروط السابقة: أن العذرة والبول في الآدمي إذا وقعا في الماء فإنه يبقى نجساً مطلقاً سواء كان قليلاً أو كثيراً ما لم يكن قد سبق نزحه؛ فإنه حينئذ يكون طهوراً لمشقة النزح. * قوله: ((وإن شك في نجاسة ماء أو طهارته بنى على اليقين)) : هذا داخل في القاعدة الشرعية العامة التي تقول: (اليقين لايزول بالشك) . وقد ثبت في الصحيحين عن عبد الله بن زيد أنه شكى إلى رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ الرجل يجد الشيئ في الصلاة أو يُخيّل إليه الشيئ، فقال: (لا ينصرف حتى يسمع صوتاً أو يجد ريحاً) (1) . ـ فإذا تيقنا أن الماء طهور ثم شككنا فيه هل وقعت فيها نجاسة أو لا؟؟ ـ أو وقع فيه شيء ونحن لا ندري، هل هذا الشيئ نجس أم لا؟؟ ـ أو هو ماء كثير فوقعت فيه نجاسة ثم شككنا هل غيرته أم لا؟؟ ـ وعلى الراجح إذا كان ماء قليلاً فوقعت فيه نجاسة ثم شككنا هل غيرته أم لا؟؟ فحينئذ: حكم الماء أنه يبقى على أصله وهو أنه ماء طهور، فاليقين لا يزال بالشك. فاليقين ـ هنا، أنه ماء طهور ونحن عندما نشك في تنجسه في هذا الشيئ فهذا شك وأما ذاك فهو يقين. والعكس كذلك: فإذا كان الماء نجساً وقد تغيّر شيئ من أوصافه بالنجاسة ثم شككنا هل زال هذا التغير أو لا؟؟ فاليقين أنه نجس، واليقين لا يزول بالشك. ـ أما أن نرى في أحد أوصافه تغيراً. ـ أو بأن يخبره مسلم مكلف مستور الحال كما قال تعالى: (يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبأٍ فتبينوا أن تصيبوا قوماً بجهالة) (2) ، فإذا أتى خبر من مسلم ذكر أو أنثى مكلف بالغ عاقل مستور الحال ـ كما هو المشهور في المذهب ـ فإنه حينئذ يقبل قوله. ـ أو رأى هو أن الماء قد تغير فزالت عنه النجاسة فإن الماء حينئذ ينتقل من النجاسة إلى الطهورية. فإذا: اليقين لا يزول بالشك.

فالماء طهور ما لم تثبت لنا نجاسته، والماء النجس نجس ما لم تثبت لنا طهوريته. والحمد لله رب العالمين. الدرس السابع ـ تقدم الكلام على ما إذا شك في نجاسة ماء أو طهارته وأنه يبني على اليقين؛ لأن الأصل بقاء ما كان على ما كان. ـ وتقدم أنه يقبل خبر المسلم المكلف المستور في إثبات النجاسة. ـ واعلم أن الخبر يشترط فيه في الأظهر من قولي العلماء، وهما قولان في المذهب، يشترط فيه أن يبين سبب النجاسة وذلك لاختلاف أهل العلم في النجاسة. مثال ذلك: أن يقول له: هذا ماء نجس والسبب عنده أنه لاقى النجاسة وهو ماء قليل وهذا المخبر لا يعتقد أن اليسير ينجس بمجرد الملاقاة، كأن يخبر شافعي مالكاً أو حنفي مالكياً بذلك. فإذا تبين السبب علم ذلك المخبر أن الماء ليس بنجس. إذن: لابد أن يبين له سبب النجاسة لاختلاف الناس في النجاسة طهارة ونجاسة. ـ واعلم أن السؤال عن النجاسة ـ أي الإستخبار ـ عن طهارة الماء ونجاسته، ليس بمشروع وأنه من التكلف وقد كرهه الإمام أحمد وغيره، وقد نصّ على ذلك شيخ الإسلام. فإذن: ليس من المشروع أن يسأل المسلم هل هذا الماء وقعت فيه نجاسة أم لا؟؟. وذلك؛ لأن الأصل أن الماء طهور ويتطهر به، ومثل هذا السؤال تكلف وتعنت. ـ ما لم تقيم أمارة تقوى القول بنجاسته، فإذا حدثت قرينة توقع الشك بالماء فإنه ـ حينئذ ـ يجوز له أن يسأل لوجود هذه القرينة. ـ ومثل ذلك الأطعمة من اللحوم ونحوها، فإنه إذا قام في قلبه قرينه على أن صاحب المنزل يأتي باللحوم المذبوحة على غير الطريقة الإسلامية، فإنه يسأل. أما إذا لم يقم في قلبه شيئ فإنه لا يشرع له ذلك. فإذن: إنما يشرع له أن يسأل إذا قامت القرينة التي تجعل السؤال له محله فإذا لم تكن هناك قرينة فإن ذلك ليس بمشروع. * قوله ـ رحمه الله ـ: ((وإن اشتبه طهور بنجس حرم استعمالهما ولم يتحر ولا يشترط للتيمم إراقتهما ولا خلطهما)) .

إشتبه على المسلم مائين أحدهما طهور والآخر نجس، وهو يريد أن يتطهر فما الحكم؟؟ فهو لا يدري الطاهر من النجس. الحكم: قال هنا: (حرم استعمالهما) : فيحرم عليه أن يستعمل أياً من المائين. قالوا: لأن استعمال الماء النجس محرم، واستعماله لهما كليهما متضمن لاستعمال الماء النجس، هذا إذا استعملهما كلهما. ـ أما إذا كان الإستعمال لأحدهما فقد يكون هو الماء النجس، والواجب عليه أن يتحرز من استعمال النجس وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب. فإذن: لا يحل له أن يستعمل أحدهما ولا كليهما؛ لأن ذلك إما أن يكون يقينا يستعمل فيه الماء النجس وذلك إذا استعمل الماء من كليهما، وأما إن استعمل أحدهما فإن ذلك ذريعة إلى استعمال الماء النجس، والواجب التحرز منه وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب. ـ وهل يتحرى أم لا؟؟ قال هنا (ولم يتحر) : أي ليس له أن يتحرى، بمعنى: ليس له أن ينظر إلى القرائن التي تقوي أن يكون أحدهما هو الطهور فيستعمله ويدع الآخر؟؟ فلا يجوز له إلا أن يدع الإثنين كليهما، ولو كان في قلبه قرينة تقوي أن هذا الماء هو الطهور وأن الآخر هو النجس. إذن: لا يجوز له أن يتحرى مطلقاً سواء كان هناك مرجح ـ أي قرينة تقوي أحد الجانبين ـ أو لم يكن. ـ أما إذا لم تكن هناك قرينة فلا إشكال في هذا، ولكن إذا كان هناك قرينة: فقد ذهب بعض أهل العلم وهو مذهب الشافعية إلى أنه يتحرى الطهور منهما فيستعمله. قالوا: لأن ما يعجز عن اليقين فيه فإنه يلجأ إلى الظن الغالب، ونحن قد عجزنا أن نتيقن أن هذا الماء الذي نستعمله طهور فحينئذ: يلجأ إلى الظن الغالب فنرجح أحدهما. كما أن الرجل إذا استبهت عليه القبلة وغلب على ظنه إحدى الجهتين فإنه يرجح إحداهما. هذا هو مذهب الشافعية.

وأما الحنابلة، فقالوا: يكون الترجيح حيث كانت الضرورة؛ لأنه إذا رجح فقد يقع في الأمر المحرم من استعمال النجس، فقد يقع فيه وإن كان يظن أنه لم يقع فيه وإعمال الظن إنما يكون عند الضرورة، وأما هنا فلا ضرورة فإنه بحكم غير الواجدين للماء فحينئذ يلجأ إلى التيمم، ولا حاجة إلى أن يتحرى وإنما يلجأ إلى التيمم. ـ كما أنه إذا اشتبه ماء مباح وماء محرم وليس مضطراً إلى أحدهما فإنه يدع الجميع، ولا يمكن أن يتورع إلا بمثل ذلك ـ فإنه ـ حينئذ ـ يدع الجميع ويلجأ إلى شيء آخر سواهما. أما إذا كان مضطراً كأن يكون إنسان عنده ماءان به أحدهما طهور والآخر نجس وهو مضطر؛ لأن يشرب أحدهما فإنه ـ حينئذ ـ يتحرى فما غلب على ظنه أنه ماء طهور فإنه يشرب منه للضرورة. وقد ذكر شيخ الإسلام القولين ولم يرجح بينهما. ـ والأقوى فيما يظهر، ما ذهب إليه الحنابلة للأمر الذي تقدم وهو أن الأمر ليس فيه ضرورة داعية إلى التحري، واستعمال أحد الماءين مع إحتمال قوي أن يكون هذا المستعمل هو الماء النجس المحرم استعماله، فلا ضرورة تدعو إلى ذلك فحينئذ يلجأ إلى التيمم. لذا قال المؤلف: ((ولا يشترط للتيمم إراقتهما ولا خلطهما)) : فإنهم يرون أنه ـ حينئذ ـ يتيمم. ـ إذا كان عنده ماءان أحدهما طهور والآخر نجس ويمكنه أن يضيف أحدهما إلى الآخر فيطهران بذلك، فلا يجوز له أن يلجأ إلى التيمم؛ لأنه يمكنه أن يحول هذين الماءين إلى ماء طهور. ـ مثال: إذا كان عندهما ماءان أحدهما قليل والآخر كثير، والقليل قد نجس بالملاقاة أو كلا الماءين كثير وقد تنجس لكنه يشق وليس عنده استطاعة على تمييز الطهور من النجس كأن يكون أعمى أو نحو ذلك. فحينئذ: يضيف أحدهما إلى الآخر ويطهران بذلك ولا يجوز له أن يتيمم.

ـ لكن هنا إذا كان لا يستطيع ذلك بمعنى: لا يمكنه أن يحول الماءين إلى ماء طهور يتيقن عند استعماله أنه استعمل ماءاً طهوراً فحينئذ: يدع الجميع ويحرم عليه استعمالهما ويلجأ إلى التيمم. ـ وهل يشترط للتيمم إراقتهما أو خلطهما ليكون غير واجد للماء، فقد قال تعالى: (فلم تجدوا ماءاً) (1) فهل يشترط ذلك أم لا؟؟. قال: (ولا يشترط للتيمم إراقتهما ولا خلطهما) . ـ وهناك قول آخر في المذهب أنه يشترط ذلك لكي يكون عادماً للماء حقيقة فإنه إذا خلطهما فأصبحا كليهما نجساً أو كان منه أن إراقهما فإنه لا يكون واجداً للماء. ـ والقول الثاني وهو الأصح أن ذلك ليس بشرط؛ لأن العاجز عن استعمال الماء كعادمه، فهذا الرجل عاجز عن الماء أو جاهل، أيهما الطهور من النجس فهو كالعادم للماء وقد قال تعالى: (فلم تجدوا ماءاً فتيمَّمُوا صعيداً طيباً) ، وهذا غير واجد للماء حكماً لا حقيقة، ولا يشترط أن يكون عادماً للماء حقيقة. لذا نفي المؤلف للإشتراط إنما هو دفع للقول الضعيف الذي يقول بإشتراط ذلك. * قوله: ((وإن اشتبه بطاهر توضأ منهما وضوءاً واحداً من هذا غرفة ومن هذا غرفة، وصلى صلاةً واحدة)) : إذا اشتبه عليه ماءان أحدهما طاهر والآخر طهور. ولا يدري أيهما الطاهر من الطهور. ـ هذه المسألة مبنية على القول المرجوح الذي تقدم وهو تقسيم الماء إلى طاهر وطهور ونجس، وعلى هذا القول تتفرع هذه المسألة. ونحن عندما نرجح ذلك القول الذي تقدم ترجيحه لا نحتاج إلى هذه المسألة فهي لا تكون واقعة على ذلك المترجح، وإنما هذا مبني على المذهب ومن وافقه في أن الماء ينقسم إلى طاهر وطهور ونجس. ـ فالمسألة: إذا اشتبه عليه ماءان أحدهما طاهر والآخر طهور ولا يدري أيهما الطاهر من الطهور؟؟ فالحكم قال: (يتوضأ منهما وضوءاً واحدة من هذه غرفة ومن هذا غرفة ومع صلاة واحدة) .

فإذن: يتوضأ منهما وضوءاً واحداً، ولكم بغسل العضو مرتين مرة بالماء الطهور ومرة بالماء الطاهر. ـ وهو لا يدري أيهما الطاهر من الطهور ولكن الأمر يقع هكذا فيكون مرة بماء طهور ومرة بماء طاهر فحينئذ يتيقن أن العضو قد وقع عليه ماء طهور، ويكون وضوؤه وضوءاً واحداً فيغسل العضو مرتين. مرة بهذا الماء ومرة بالماء الآخر لكي يتيقن أنه قد تطهر بالماء الطهور. فإذن: تغسل الأعضاء مرتين وله ثلاثاً بتكرار أحدهما، ولكن الواجب أن يكون مرتين مرتين من هذا مرة ومن هذا مرة، فيكون حينئذ قد تيقن من وصول الماء الطهور إلى أعضائه. ـ فإن توضأ من هذا وضوءاً ومن هذا وضوءاً؟ فالمصرّح به في المغني وغيره أن هذه هي الصورة. ـ وشيخ الإسلام ابن تيمية ذكر في العمدة التي شرحها على طريقة الحنابلة ذكر أنه أن شاء توضأ وضوءين. ـ وينبغي أن يكونا وجهين في المذهب. فبعض الحنابلة قال: إنه يتوضأ وضوءاً واحداً كما تقدمت صورته. ـ وبعضهم قال: يتوضأ وضوءين وضوء بهذا الماء ووضوء بالماء الآخر. ـ ولكن القول الأول أصحّ؛ لأنه إذا فعل الطريقة الأخرى فإنه يكون في نيته غير جازم، فإنه في كلا الوضوءين غير جازم أنه يستخدم ما تصح به الطهارة. والواجب أن تكون النية في الوضوء جازمة وهو ـ حينئذ ـ لا يكون جازماً بارتفاع حدثه في كلا الغسلين أو الوضوءين بخلاف ما إذا كان الوضوء واحداً. إذن: هذه الطريقة هي الطريقة السالمة من هذا الإعتراض الذي تقدم ذكره، فيتوضأ وضوءاً واحداً بغسل كل عضو مرتين مرة بالماء الطهور ومرة بالماء الطاهر. قال: (وصلى صلاة واحدة) : فإذا توضأ بالماءين حينئذ يصلي صلاة واحدة. ـ فإذا احتاج لأحد الماءين للشرب فما الحكم؟ قالوا: يتحرى فيبقى الماء الطاهر لشربه ويتوضأ بالماء الطهور. وليس هذا بيقين. لذا قالوا: فيحتاج حينئذ أن يتيمم مع ذلك.

وفي هذا نظر بل الأظهر أنه إذا احتاج إلى الماء للشرب فإنه ليس له أن يتوضأ من الآخر بل يكتفي بالتيمم. ـ ولكن هذه المسألة كلها ـ كما تقدم ـ مبنية على القول بتقسيم الماء إلى طاهر وطهور ونجس والصحيح خلاف ذلك. * قوله: ((وإن اشتبهت ثياب طاهرة ينجسه أو بمحرمه صلى في كل ثوب صلاة بعدد النجس وزاد صلاة)) : ـ رجل عنده ثياب قد أصابت بعضها نجاسة وهو لا يعرف الثياب النجسة بعينها ولا يمكنه أن يأخذ ثوباً فيغسله ويتأكد من تطهره فما الحكم؟؟ قالوا: يصلي بعدد الثياب النجسة ويزيد واحدة. مثال: رجل عنده عشرة ثياب يعرف أن ثمان (8) منها نجسه ولكن لا أدري ما هي بعينها، فيقال له: صلّ ثمان صلوات ثم زد صلاة تاسعة فيكون قد صلى تسع صلوات ويكون بذلك قد تيقن أنه صلى بثوب طاهر؛ لأنه قد أنفذ ثمان صلوات بثمان ثياب، ولنفرض أنها هي الثياب النجسة. فتبقى هذه الصلاة الأخيرة يُتأكد من كونه قد صلى بثوب طهور. فعلى ذلك: لو أن رجلاً عنده مائة ثوب نجس وثوب طاهر فإنه يصلي مائة صلاة ويزيد صلاة واحدة. هذا هو مذهب الحنابلة. قالوا: هذا إذا علم عدد ثيابه النجسة. ـ أما إذا لم يعلم، قالوا: يصلي حتى يتيقن ولا يمكن أن يتيقن حتى يصلي فيها كلها، هذا إذا كان يقول: غالبها أو نصفها نجسه لكنه لا يدري عددها. ـ أما إذا كانت كلها نجسه فإنه لا يحل له أن يصلي بشيء منها، هذا هو المشهور في المذهب حتى في المسألة الأخرى. ـ وذهب بعض الحنابلة في المسألة الأخرى، أنه يتحرى لمشقة ذلك كما قال ذلك ابن عقيل وغيره. ـ وذهب الشافعية والأحناف إلى القول بالتحري وهو اختيار شيخ الإسلام وتلميذه ابن القيم وهذا هو القول الراجح؛ لأن الله عز وجل قال: (فاتقوا الله ما استطعتم) (1) .

ولأن الله رفع الحرج عن هذه الأمة وفي فعل ذلك حرج، فكونه يضع هذه الصلوات الكثيرة منه حرج، كما أن الصلاة لا تصلى في أكثر من مرة إلا إذا ثبت فيها خلل فإنها تعاد، أما إذا لم يثبت فيها خلل فإنه ليس له أن يعيدها كما نهى عن ذلك النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ. إذن: الصواب: أنه إذا اختلطت عليه الثياب الطاهر والنجسة فلا يدري أين الطاهرة من النجسة. فإنه يتحرى سواء علم عدد الثياب أو لم يعلم ذلك، فإنه يتحرى ويجتهد ثم يصلي وتجزئ صلاته، هذا هو القول الراجح. ـ ومثل ذلك إذا كانت الثياب منها ثياب محرمة عنده وثياب مباحة ومنها ثياب محرمة لا يعلمها بعينها كأن يكون ثوباً أو مغصوباً ولم يتميز هذا الثوب المغصوب منها فإنه حينئذ يصلي بعدد الثياب المغصوبة ويزيد صلاة. أو يصلي حتى يتيقن إن لم يعلم عدد الثياب النجسة، هذا هو المذهب. ـ والراجح أنه يتحري (ما جعل عليكم في الدين من حرج) (1) . والحمد لله رب العالمين. الدرس الثامن: الثلاثاء 17/10/1414هـ (باب الآنية) الباب: هو ما يدخل منه إلى المقصود سواء كان حسياً كأبواب الدور أو معنوياً كأبواب العلم. والآنية: جمع إناء، ويجمع على "أواني": فهي جمع لها، فالإناء جمعه آنية، والآنية جمعها أواني. ومثل ذلك: سقاء، وإسقية، وأساقي. والإناء: هو الوعاء. ـ واعلم أن المؤلف بدأ بباب المياه؛ لأن المياه هي مادة التطهر، والطهور هو مفتاح الصلاة التي هي أعظم أركان الإسلام بعد الشهادتين، وقد روى الإمام أحمد وغيره أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال: (مفتاح الصلاة الطهور) . وهنا شرع المؤلف بعد باب المياه بباب الآنية؛ لأن الماء بطبيعته سيّال: يحتاج إلى طرق يحفظه، فشرع بذكر حكمها بعد باب المياه. * قوله: ((كل إناء طاهر ولو ثميناً يباح اتخاذه واستعماله)) : كل إناء: من خشب أو صفر أو نحاس.

والإتخاذ المراد به: اتخاذه في المحل من غير استعمال وما دام الإستعمال مباحاً فأولى منه أن يباح الإتخاذ. فكل إناء من الأواني من خشب أو صفر أو جلد ونحو ذلك يباح إستعماله كما يباح كذلك إتخاذه، وقوله: (ولو ثميناً) : لفظة: (لو) إشارة إلى خلاف. ومثلها لفظة: (حتى) و: (إنْ) . قال الشيخ محمد بن إبراهيم ـ رحمه الله ـ: (لو) : للخلاف القوي و (حتى) : للخلاف المتوسط و (إنْ) للخلاف الضعيف. وقد قال: هنا: (لو) فهي للخلاف القوي، لكن ليس الأمر في الحقيقة على هذا، فإن الأمر من حيث القائل ضعيف، فإن ذلك هو قول الشافعي في أحد قوليه والشافعية اختاروا إتفاقاً قوله الثاني وهو جواز ذلك ـ أي جواز استعمالها ـ وهذا مذهب جمهور الفقهاء. إذن: جمهور الفقهاء وهو أحد قولي الشافعي الذي اختاره أصحابه أن الأوعية الثمينة من الجواهر والزمرد أنها مباحة لا حرج فيها. ـ وذهب الشافعي في أحد قوليه إلى أنها محرمة ـ أي إستعمالها ـ. ـ أما حجة أهل القول الأول: فهي الأصل، فالأصل في الأشياء الإباحة كما قال تعالى: (هو الذي خلق لكم ما في الأرض جميعاً) فكل ما في الأرض فهو مباح ما لم يثبت تحريمه، والأواني التي من الجواهر الثمينة مباحة ما لم يأت دليل يدل على تحريمها وليس هناك دليل على ذلك. أما حجة الإمام الشافعي في قوله الآخر فهي: أن الأواني الثمينة فيها من الخيلاء والإسراف والكبر وكسر قلوب الفقراء. وهذا القول قوي؛ لأن الشارع حرم الخيلاء والكبر والإسراف وكل ما هو ذريعة إلى المحرم فهو محرم. ـ ثم إن الشارع حرم الإسراف، وفي الحديث (كلوا واشربوا والبسوا في غير اسراف ولا مخيلة) ، وهذا فيه إسراف وكسر لقلوب الفقراء. فهذا قول قوي، والجمهور على خلافه وأن الأواني الثمينة استعمالها جائز. والقول بتحريمها قول قوي لما في إستعمالها من الكبر والخيلاء والإسراف وكسر قلوب الفقراء. وأجاب الجمهور ـ عن ذلك ـ بأن إستعمال الجواهر نادر.

ولكن هذا الجواب ضعيف؛ لأن الحكم تبع للوجود فمتى ما وجد هذا فإنه محرم ولو كان هذا على هيئة الندرة، نعم النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ لم ينص على ذلك لندرته، فهذا يصح أن يكون دليلاً على عدم تنصيص النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ على تحريم ذلك؛ لأن الغالب الكثير إنما هو استخدام الأواني من الذهب والفضة، وأما استخدامها من الجواهر ونحوها فإن ذلك نادر قليل. فيصبح أن يكون ذلك سبباً لعدم ذكر النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ تحريم استخدام الجواهر الثمينة في المطاعم والمشارب ونحوها. وأما أن يكون ذلك دليلاً على الجواز فلا؛ فإن هذا الشيء وإن وقع نادراً فإن فيه علة الكبر والخيلاء ونحو ذلك من العلل فهو حرام. فهذا القول قول قوي. * قوله: ((إلا آنية ذهب وفضة)) : فآنية الذهب والفضة من سائر الأواني قد نصّ النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ على تحريمها، يدل على ذلك ما ثبت في الصحيحين من حديث حذيفة بن اليمان أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال: (لا تشربوا في آنية الذهب والفضة ولا تأكلوا في صحافها، فإنها لهم في الدنيا، ولكم في الآخرة) . (صحافها) : جمع صحفة وهي ما يشبع الخمسة، ومثل ذلك غيرها من الأواني، وهذا إنما هو للغالب، فالغالب في الأواني أن يكون كذلك، وغيرها من الأواني لها نفس الحكم فالقصعة وهي ما تكفي العشرة، والمئكلة وهي ما يشبع الأثنين والثلاثة لها نفس الحكم. (فإنها لهم في الدينا) : أي للكفار. وقد ثبت في الصحيحين من حديث أم سلمة ـ رضي الله عنها ـ أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال: (الذي يشرب في آنية الفضة إنما يجرجر في بطنه نار جهنم) . ـ قوله: (الذي يشرب في آنية الفضة) : وأولى منها آنية الذهب فإنها أعظم وأشد وأقبح من الفضة في هذا الحكم: بل ثبت في مسلم في هذا الحديث نفسه: (من شرب في إناء ذهب وفضة) .

وقوله: (إنما يجرجر في بطنه نار جهنم) : أي إنما يصب في جوفه نار جهنم، والجرجرة: هي صوت الشراب الواقع في الجوف أو المتحرك في الحلق. فهذا يدل على أن هذا الفعل من كبائر الذنوب. فهذه عقوبة عظيمة لا يثبت مثلها، إلا لفاعل كبيرة. فإذن: الأكل والشرب في آنية الذهب والفضة من كبائر الذنوب وهذا مجمع عليه إلا ما روى عن داود الظاهري من إباحته للأكل ولعل ذلك لعدم بلوغ الحديث إليه. * قوله: ((أو مضبباً بهما)) : المضبب هو الإناء ينكسر فيوضع فيه صحفة من حديد أو نحاس أو ذهب أو فضة فتصل بعضه ببعض وتضم بعضه إلى بعض. فهو إذن أن يكون في الإناء شعبة أو كسر ثم يؤتي بصحفة أو سلسلة من معدن من المعادن فيصل الطرفين بعضهما ببعض فهذه الضبة وهذا هو الإناء المضبب. وقوله: (أو مضبباً بهما) أي كذلك ما كان مضبباً بالذهب والفضة. وظاهره سواء كان قليلاً أو كثيراً فأي ضبه من فضة أو ذهب فإنها تحرم الأكل والشرب في الإناء وهذا هو مذهب جمهور الفقهاء من أن الضبة سواء كانت يسيرة أو كبيرة فإنها محرمة سواء كانت من ذهب أو فضة وسيأتي الكلام على الفضة إن شاء الله. فإذن: الضبة محرمة وذلك لأن الشارع إذا نهى عن الشيء فإنه يدخل في النهي أجزاء ذلك الشيء. فإذا حرم الشرب في آنية الذهب والفضة فكذلك الذي تتخلله فضة أو ذهب فهو محرم كذلك. فإذن: الإناء الذي فيه ضبة من ذهب أو فضة محرم. ـ ومثل ذلك المموه والمطلي بالذهب والفضة فهو محرم كذلك. صورة المموه: بأن يؤتي بالإناء ثم يوضع في إناء قد صهر فيه ذهب أو فضة فتتموه ويأخذ من لون الذهب والفضة، فهذا محرم كذلك لوجود الذهب أو الفضة. ـ وصورة المطلي: أن يجعل الذهب والفضة كهيئة الورق ثم بعد ذلك يلصقها بالإناء.

ـ ومثله ـ كذلك: المكفت: وصورته: أن يبرد الإناء حتى يخرج هذا البرد كهيئة المجاري الصغيرة ثم يلصق بها قطع ذهب أو قطع فضة، فهذا ونحوه كله محرم للتعليل المتقدم، وهو وجود الذهب والفضة فيه، والشارع إذا نهى عن شيء فهذا نهي عن أبعاضه وأجزائه. * قوله: ((فإنه يحرم إتخاذها واستعمالها)) : أما الإستعمال فهذه اللفظة شاملة للإستعمال في الأكل والشرب وغيرهما. فنبدأ بهذه اللفظة ثم نعود إلى لفظة الإتخاذ فهي مترتبة عليها. أما الإستعمال: فأما الأكل والشرب فقد نصّ النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ على النهي عن الأكل والشرب فيهما، فالأكل والشرب فيهما لا شك في تحريمه. ـ وما هي العلة؟؟ العلة عند جماهير أهل العلم هي ما فيها من الكبر والخيلاء والإسراف وكسر قلوب الفقراء، فحرمه الشارع لما فيه من الإستطالة على عباد الله ولما فيه من الإسراف والكبر والخيلاء. ولذلك فإنه من تعاطاه في الدنيا فإنه لا يتعاطاه في الآخرة، كما في الحديث: ((فإنها لهم في الدنيا ولكم في الآخرة)) . وفي سنن النسائي بإسناد قوي: (آنية الذهب والفضة آنية أهل الجنة) . وقال ـ صلى الله عليه وسلم ـ كما في مسلم: (فإن من شرب فيها في الدنيا لم يشرب فيها في الآخرة) . فإذن: هي آنية أهل الجنة ومن شرب فيها في الدنيا فإنه لا يشرب فيها في الآخرة. ـ لكن هذا ـ أي كونها آنية أهل الجنة ـ في الحقيقة ليس هو التعليل، كما أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ حرم الخمر وأخبر أنها شراب أهل الجنة، وأنه من شرب منها في الدنيا لم يشرب منها في الآخرة، ولكن العلة فيها أضرارها الواقعة على العقول فحرمها الشارع لذلك، فلذلك هنا ـ في آنية الذهب، والفضة فإنها آنية أهل الجنة في الجنة وهي آنية أهل الكبر والخيلاء والمستطيلين على عباد الله في الدنيا فليست من آنية المؤمنين بل هي من آنية الكفار في الدنيا، وأما المؤمنون فهي آنيتهم في الآخرة.

فالعلة هي ما فيها من الكبر والإسراف والخيلاء وكسر قلوب الفقراء. لذا ذهب عامة أهل العلم على أن المحرم ليس الأكل والشرب فحسب بل ذلك يشمل الأكل والشرب وغيرهما من الإستعمالات، بل حكاه النووي وغيره إجماعاً. ـ ولكن ذهب أهل الظاهر، وممن ذهب إليه الشوكاني والصنعاني إلى أن المحرم الأكل والشرب فحسب؛ لأن النص وارد فيها فحسب. الراجح هو القول الأول: وكون النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ نص عليها فحسب لا يعني أنهما المحرمان فقط، فإن الشارع يذكر الشيء في الحكم ثم يلحق به ما شابهها من باب القياس. فالله ـ عز وجل ـ قال في كتابه: ((وربائبكم اللاتي في حجوركم)) . ومعلوم أن الربيبة محرمة مطلقاً سواء كانت في حجر زوج أمها أم لا. فيكون نص النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ على الأكل والشرب في آنية الذهب والفضة بناءاً على الغالب، فالغالب في استعمال الذهب والفضة إنما هو في الشرب ولكن يلحق بالأكل والشرب ما شابههما من الإستعمالات كأن يتوضأ أو يغتسل أو يتطيب أو نحو ذلك من الإستعمالات. ـ فإذن: كل استعمال لأواني الذهب والفضة فإنه محرم. ـ فإن قيل: قد ثبتت أدلة تدل على جواز إستعمال الفضة؟؟ من ذلك ما ثبت في البخاري: أن أم سلمة كان عندها جلجل فيه شعر من شعرات النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ تستشفي بهن أي إذا أتاها أحد من المرضى فإنها تضع في هذا الجلجل ماءاً ثم تحركه ثم يشرب منه فيشفى بإذن الله. قالوا: فهذا يدل على جواز إستعمال الفضة. واستدلوا بما ثبت في مسند أحمد وسنن أبي داود بإسناد جيد أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال: (ولكن عليكم بالفضة فالعبوا بها) أي تصرفوا بها كيف شئتم. ـ وقد ذكر شيخ الإسلام أن الأصل في الفضة الإباحة ما لم يثبت دليل يدل على التحريم. ـ لذا الذي يتبين ـ والعلم عند الله ـ أن استعمال الفضة في غير الأكل والشرب أن ذلك مباح، فإذا استعملها في قلم ومكحلة ومدخنة ونحو ذلك فإنه مباح.

ـ أما الذهب فهو محرم على الإطلاق لا يحل منه إلا حلي النساء، وما اضطر المسلم إليه. أما الفضة: فالأكل والشرب فيها محرم. أما في غير الأكل والشرب فإن ذلك جائز. ـ ولا يخفى أن الأثر عن أم سلمة أثر راو، فإنها هي التي روت قول النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ في الفضة ومع ذلك فإنها كان عندها جلجل وكانت تضع فيه شعرات النبي ـ صلى الله عليه وسلم. فعلى ذلك الذي يتبين: أن استعمال الفضة في غير الأكل والشرب مباح أما الذهب فإنه محرم على الإطلاق. إلا ما تقدم من حلي النساء وما أضطر إليه المسلم، وسيأتي مزيد بحث عن هذا إن شاء الله. * وقوله ((فإنه يحرم إتخاذها)) : يحرم الإتخاذ؛ لأن الإتخاذ وسيلة الإستعمال والشارع قد يسد الذرائع الموصلة إلى المحرمات. ـ فلو كان هناك إناء يمكن أن يشرب فيه أو يؤكل فيه وهو من ذهب أو فضة فإذا وضعه صاحب المنزل وإن قال إنه لا يأكل به ولا يشرب فإن ذلك محرم؛ لأنه قد إتخذه والإتخاذ وسيلة الإستعمال وهذا هو مذهب جمهور أهل العلم. ـ كما أنه يحرم إتخاذ آلات اللهو والطرب ونحوها من الآلات؛ لأن التي تبث المنكرات فيحرم إتخاذها؛ لأن ذلك ذريعة إلى إستعمالها. فالإتخاذ محرم للشيء الذي يحرم إستعماله وهذا مذهب جمهور الفقهاء. * قوله: ((ولو على أنثى)) : فإن الإنثى إنما يباح لها الحلي ـ وسيأتي إن شاء الله ـ. * قوله: ((وتصح الطهارة فيه)) : أي من آنية الذهب والفضة. إذن: لا يحل لها أن تتوضأ في إناء ذهب أو فضة أو يغتسل لكنه لو فعل ذلك فإن وضوءه صحيح. ـ هذا هو مذهب جمهور الفقهاء. وذلك لأن هذا الفعل فيه لم يقع على شرط العبادة ولا ركنها. بل هو أجنبي عن العبادة فإنه قد توضأ وضوءاً صحيحاً قد توفرت فيه شروطه والماء كذلك ليس بمغصوب ـ بخلاف الماء المغصوب فسيأتي الكلام عليه. إذن الطهارة صحيحة، مع تحريم الفعل، وهذا مذهب جمهور الفقهاء. * قوله: ((إلا ضبة يسيرة من فضة لحاجة)) :

هذا إستثناء من التحريم، فإن الضبة اليسيرة التي تكون من الفضة لحاجة فإن ذلك جائز في المشهور من المذهب. إذن: المشهور من المذهب أن الضبة اليسيرة من الفضة للحاجة في الإناء إن ذلك جائز. والحاجة هي ألا يكون ذلك للزينة وإن كان يمكنه أن يسوي هذا إلاناء بغير الفضة بأن يسويه بحديد أو نحاس أو نحو ذلك. ـ إذن ليست المسألة ضرورة بحيث أن الفضة تعينت، بل المسألة حاجة، فالفضة لم تتعين بل يمكنه أن يستعمل غير الفضة. قالوا: فذلك جائز. ـ فالضبة اليسيرة من الذهب محرمة فتبقى في العموم المتقدم، والضبة الكثيرة من الفضة محرمة فتبقى في العموم المتقدم. والضبة اليسيرة لغير حاجة كزينه ونحوها فإن ذلك محرم. وإنما المباح الضبة اليسيرة عند الحاجة هذا هو مذهب الحنابلة. ـ وذهب بعض الحنابلة إلى أنه مباح للحاجة وغيرها. وهذا هو قول شيخ الإسلام ابن تيمية. وهذا أصح، إذ الحاجة لا تبيح محرماً، ونحن إذا قلنا بجوازه فلا فرق بين أن يكون ذلك للحاجة أو غيرها. ـ واستدل الحنابلة وهو مذهب الجمهور على قولهم، بما ثبت في البخاري من حديث أنس بن مالك: ((أنه كان عنده قدح النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ فأنكسر فاتخذ مكان الشَّعب سلسلة من فضة)) . قالوا: لفظة (فاتخذ) تدل على أن المتخذ هو النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ فالمتخذ ـ عندهم ـ هو النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ أي إتخذ مكان الشعب ـ أي هذا الشق اتخذ مكانه سلسلة من فضة، فالمتخذ ـ على هذا القول هو: النبي ـ صلى الله عليه وسلم. ـ وذهب الإمام مالك ـ رحمه الله ـ وهو مذهب الليث وهو مذهب طائفة من الصحابة والتابعين إلى أن الضبة اليسيرة كذلك لا تجوز. وقالوا: المتخذ هنا إنما هو أنس بن مالك ويدل على ذلك ما في البخاري من رواية عاصم الأحول قال: رأيت قدح النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ عند أنس بن مالك، وقد انصدع فسلسلة سلسلة من فضة) فالمسلسل هنا إنما هو أنس.

وأصرح منه رواية محمد بن سيرين قال: إنه كان فيه ـ أي في هذا القدح ـ حلقة من حديد فأراد أنس بن مالك أن يجعل مكانها حلقة من ذهب أو فضة فقال له أبو طلحة: ((لا تغيرن شيئاً صنعه النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ فتركه)) . إذن: كان هذا الإناء الذي هو قدح النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ كان فيه حلقة من حديد، فأراد أنس أن يغيرها فنهاه أبو طلحة الإنصاري ـ زوج أمه ـ ثم بعد ذلك غيَّره أنس وجعل ذلك فضة على الإختيار. إذن: فاعل ذلك ليس هو النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ وإنما هو أنس. ـ وأنس ـ رضي الله عنه ـ صحابي وقوله حجة لكن إذا لم يعلم له مخالف. وهنا له مخالف وهو ابن عمر، فقد ثبت في سنن البيهقي بإسناد صحيح: أنه كان لا يشرب من إناء فيه حلقة فضة، أو ضبة فضة) . إذن: قد خالفه ابن عمر، فلم يبق قوله حجة. فالقول الراجح: هو ما ذهب إليه الإمام مالك من النهي عن ذلك مطلقاً فالضبة محرمة مطلقا كثيرة كانت أو يسيره من فضة أو غيرها لحاجة أو وغير حاجة كما هو مذهب الإمام مالك ـ رحمه الله ـ. ـ واعلم أن مما استدل به أهل العلم على تحريم الضبة على الإطلاق: مارواه الدارقطني وقال: إن إسناده حسن: من حديث ابن عمر: (أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ: (نهى أن يشرب من إناء ذهب أو إناء فضة أو إناء فيه شيء منهما فمن فعل ذلك فإنما بجرجر في بطنه نار جهنم) ، لكن الحديث من حديث زكريا بن إبراهيم بن عبد الله بن مطيع عن أبيه عن ابن عمر. وزكريا مجهول وكذلك أبوه فالحديث ضعيف، وقول الدارقطني: "إسناده حسن" ليس بحسن بل الحديث ضعيف وقد ضعفه ابن القطان وابن تيمية والذهبي وابن حجر، فالحديث ضعيف لا يحتج به، ومع ذلك فإن الضبة محرمة للتعليل المتقدم. * قوله: ((وتكره مباشرتها لغير حاجة)) : إذن: هي جائزة أولاً، ولكن مباشرتها مكروهة لغير حاجة.

فكونه يستعملها فيشرب مباشرة من هذه الضبة فَتُمَس بَشْرَتُه ذلك مكروه إلا إذا احتاج إلى ذلك، فإذا احتاج إلى ذلك فإن الكراهية تزول. وعللوا ذلك: بأن مباشرتها إستعمال لها، ومقتضى هذه العلة التحريم؛ لأن الإستعمال محرم. والظاهر أن ذلك لا حرج فيه مادام أن هذه الضبة جائزة، وأبيح فعلها في الإناء فإنه ـ حينئذ ـ لا حرج في مباشرتها، والكراهية حكم شرعي لابد له من دليل. والحمد لله رب العالمين. * قوله: ((وتباح آنية الكفاية ولو لم تحل ذبائحهم، وثيابهم إن جهل حالها)) . ـ (تباح آنية الكفار) : من المشركين، وأهل الكتاب. (ولو لم تحل ذبائحهم) : أي وإن كانوا غير كتابيين. فالمشركون إو كفار وإن كانوا غير كتابيين فإن آنيتهم طاهرة يحل للمسلم أن يتطهر فيها ويحل له أن يأكل فيها ويشرب، وهذا هو الأصل؛ فإن الأصل في الأشياء الإباحة. قال تعالى: ((هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُم مَّا فِي الأرْضِ جَمِيعاً)) ـ ولكن إن ثبت أن فيها نجاسة أو عين محرمة فإنه لا يحل له أن يتسعملها حتى يغسلها. ـ والأدلة الدالة على هذه المسألة ـ أي مسألة حل آنيتهم وأنها لا تحل إن علمت النجاسة فيها ـ. ـ ما ثبت في مسند أحمد بإسناد صحيح أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ: (أضافه يهوديّ على إهالة ـ وهي الودك المذاب (سنخه) أي متغيرة) فهذه آنية يهودي وهو من أهل الكتاب. ـ أما أواني المشركين: فقد ثبت في الصحيحين من حديث عِمران بن الحصين وهو حديث طويل: أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ (توضأ من مزادة امرأة مشركة) ، فهذان الحديثان تدلان على طهارة آنية الكفار.

ـ أما إذا ثبت أن فيها نجاسة، فإنه لا يحل له أن يأكل أو يشرب أو نحو ذلك من الإستعمالات ـ لا يحل له ذلك، فقد ثبت في الصحيحين من حديث أبي ثعلبه الخشني قال: (قلت يا رسول الله: إنا بأرض قوم أهل كتاب "وفي رواية لأبي داود: وإنهم يطبخون في قدورهم الخنزير ويشربون في آنيتهم الخمر"، فنأكل في آنيتهم فقال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ: (لا، إلا أن لا تجدوا غيرها، فاغسلوها وكلوا فيها) .، وقد تقدم في رواية أبي داود أن هؤلاء النصارى كانوا بطبخون في قدورهم الخنازير ويشربون في أوانيهم الخمر. ـ وقد ثبت في مسند أحمد بإسناد حسن عن ابي ثعلبة الخشني أنه قال: للنبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ (أفتنا في آنية المجوس إذا اضطررنا إليها "وآنية المجوس الغالب فيها أنها تستعمل في الطعام المحرم فإنه لا تحل ذبائحهم وهم يأكلون الميتة" فقال النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ: " إذا اضطررتم إليها فاغسلوها واطبخوا فيها". ـ إذن: هذه الأدلة تدل على أن آنية الكفار طاهرة ما لم يثبت أن فيها نجاسة فإنه لا يحل للمسلم أن يأكل فيها حتى يغسلها. ـ مما يدل على طهارة أواني الكفار ـ أيضاً ـ ما ثبت في مسند أحمد وسننن أبي داود بإسناد صحيح عن جابر قال: كنا نغزو مع رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم فنصيب من آنية المشركين وأسقيتهم، فنستمتع بها فلم يعب ذلك علينا) . ـ ومثل ذلك ثيابهم التي يستعملونها في اللبس فإنها كذلك حلال لبسها وهي طاهرة إن جهل حالها. إذن: إذا علمت طهارتها فلا شك في جواز لبسها وفي طهارتها. ـ وإذا جهل حالها ـ أي لم تعلم نجاستها فإنها كذلك. أما إذا ثبتت نجاستها فلا تحل حتى تُغسل. ـ أما أوانيهم أو ثيابهم التي صنعوها أو نسجوها للمسلمين فهذه لا يشك في حلها. وقد ذكر الموفق وابن القيم، وهو أمر لا يحتاج إلى استدلال بدليل خاص، أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم وأصحابه كانوا يلبسون من ثياب الكفار التي صنعوها) .

فإن هذا لا شك في حله، وإنما البحث في الثياب التي استعملت أو الأواني التي استعملت. ـ وثياب الصبيان لبسها ـ كذلك ـ لا يؤثر،وإذا كان شيء من ثيابهم التي لم تعلم نجاستها ـ إذا وقع على ثوب فصلي أو كان على شيء من ثيابه، فإن ذلك لا حرج فيه، وقد ثبت في الصحيحين، أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ: (صلى وهو حامل أمامة بنت زينب، وهو لا يعلم ـ ولا شك ـ وجود نجاسة فالأصل هو عدم النجاسة) . * قوله: ((ولا يطهر جلد ميتة بدباغ، ويباح إستعماله بعد الدبغ في يابسي إذا كان من حيوان طاهر في الحياة)) . (ولا يطهر جلد ميتة بدباغ) : هذا هو المشهور في المذهب، وهو إحدى الراويتين عن الإمام أحمد ـ وهو كذلك المشهور في مذهب المالكية ـ وهو أن جلد الميتة مطلقاً لا يطهر بدباغه سواء كان مأكول اللحم كالشاة ونحوها، أو لم يكن مأكوله. ـ أما قبل الدباغ فاتفق أهل العلم على أن الجلد لا يحل الإنتفاع به ـ إلا ما روى عن الزهري ـ رحمه الله ـ من أباحته ذلك، وهو محجوج بالسنة كما سيأتي. ـ إذن: اتفق أهل العلم على أن جلد الميتة قبل الدباغ لا يحل الإنتفاع به. وإنما الخلاف فيه بعد الدباغ. فالمشهور في مذهب أحمد ومالك أن جلد الميتة إذا دبغ فإنه لا يطهر بذلك. لكن يباح أن يستعمل مع يابس إن كان يابساً لأن الجلد نجس، وإذا ماس شيئاً يابساً فإن النجاسة التي فيه لا تنتقل؛ لأن النجاسة لا تنتقل من يابس إلى مثله. قوله: (ويباح إستعماله بعد الدبغ في يابس، إذا كان هذا الجلد من حيوان طاهر في الحياة) . واستدلوا على القضية الأولى، أي أنه لا يطهر الجلد بدباغة بما روى الإمام أحمد ـ والحديث صحيح ـ وقد ضعفه بعض أهل العلم، والأظهر هو تصحيحه، عن عبد الله بن عكيم، قال: (قُرأ علينا كتاب رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ في أرض جهينة، وأنا غلام شاب ألا تنتفعوا من الميتة بإهاب ولا عصب) .

قالوا: فهذا الحديث يدل على أن الإهاب لا يحل الإنتفاع به. قالوا: والإهاب هو الجلد. ـ واستدلوا بما رواه ابن وهب بإسناده ـ وقال غير واحد كالموفق إسناده حسن، أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال: (لا تنتفعوا من الميتة بشيء) ، وقال الموفق إسناده حسن. ـ لكن الصحيح أن الحديث ضعيف فيه زمعة بن صالح، وهو ضعيف. ـ فإن قيل: فما هو الدليل على جواز إستعماله بعد الدبغ؟؟ قالوا: الأحاديث التي ورد ذكر الدبغ فيها، فنحن نستدل به على جواز إستعماله، ونجاسته عندنا، فنحن نشترط أن يكون في يابس، هذا هو القول الأول. ـ والقول الثاني، وهو مذهب جمهور أهل العلم وهي الرواية الأخرى عن الإمام أحمد وهي الرواية المتأخرة التي رجع إليها واختارها بعض أصحابه أن جلد الميتة إن دبغ فإنه يطهر. وهذا القول هو مذهب الجمهور ـ في الجملة ـ أي أن هناك لكل مذهب تفاصيل. فمذهب الظاهرية إلى أن كل جلد يطهر بالدباغ أي ولو كان جلد خنزير أو كلب. ـ وقال الشافعية يطهر ـ بالدباغ ـ كل جلد سوى جلد الخنزير والكلب. ـ واستثنى الأحناف جلد الخنزير. ـ وأما الحنابلة في الرواية الأخرى فإنهم قالوا: يطهر جلد كل طاهر في الحياة. ـ وهناك قول آخر (ثالث) : أنه يطهر جلد مأكول اللحم، وسيأتي. واستدل ـ أهل القول الثاني ـ وهو الجمهور، بأدلة كثيرة منها: ـ ما ثبت في الصحيحين من حديث ابن عباس: قال تصدق على مولاة لميمونة بشاة فماتت فمر عليها النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ فقال: هلا أخذتم أهابها، فدبغتموه) هكذا في مسلم، وليست هذه اللفظه في البخاري (فانتفعتم به، فقالوا يا رسول الله أنها ميتة، فقال: إنما حرم أكلها) . وهذه في المسند بلفظ: (إنما حرم لحمها) . فهذا الحديث فيه أن جلد هذه الشاة قد أمر النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ بدبغها، وأخبر أن الميتة إنما يحرم أكلها وأما غيره فليس بمحرم.

ـ واستدلوا: بما رواه مسلم من حديث ابن عباس أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال: (إذا دبغ الأديم فقد طهر) . وهو عند الأربعة بلفظ: (أيما إهاب دبغ فقد طهر) . وفي صحيح ابن حبان عن عائشة قالت: (أمر النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ أن نستمتع بجلود الميتة إذا دبغت) . وثبت ـ عنده ـ أي ابن حبان ـ بإسناد صحيح أنه قال: (دباغ جلود الميتة طهورها) . فهذه أحاديث تدل على أن الميتة جلدها إذا دبغ فإنه يطهر. ـ أما الجواب على دليل أهل القول الأول. فالجواب أن يقال: أما على القول يتضعيف الحديث فلا إشكال. ـ أما على القول بتصحيحه ـ وهو الراجح ـ فالجواب: أن يقال إن الإهاب كما ذكر غير واحد من اللغويين كالخليل وغيره إن الإهاب إنما يطلق على الجلد قبل أن يدبغ، أما إذا دبغ فإنه لا يسمى إهاباً. فعلى ذلك، حديث عبد الله بن عكيم (ألا تنتفعوا من الميتة بإهاب ولا عصب) معناه: أي لا تنتفعوا من جلود الميتة قبل أن تدبغوها ـ وهذا ما اتفق عليه أهل العلم. ـ والجواب الآخر: أن يقال: إن هذه الأحاديث التي استدللنا بها أصح من هذا الحديث الذي لم يروه أحد من أهل الصحيحين، وهو كذلك مختلف في صحته كما تقدم ـ وليس صريحا ـ كذلك ـ في تحريمه. ـ أما أهل القول الأول: فقد أجابوا على أهل القول الثاني: بأن قالوا: إن حديث عبد الله بن عكيم ناسخ للأحاديث، فإن في بعض رواياته: (قبل موته بشهر أو شهرين) . والجواب على هذا: أن يقال: وما المانع أن تكون الأحاديث الأخرى قد وردت قبل شهرين دون ذلك فإنها ليس فيها التصريح بأنها كانت قبل هذه المدة التي قرأ فيها كتاب رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ في أرض جهينة. إذن: الراجح ما ذهب إليه أهل القول الثاني من القول بأن جلود الميتة تطهر بالدباغ. ـ فإذا ثبت لنا هذا، فاعلم أن الأصحّ أن هناك مذهبان هما أصح المذاهب فيمن قال بطهارة جلود الميتة بعد دباغها:

1ـ القول الأول: أن جلد ما كان طاهر في الحياة فإنه يطهر بالدباغ سواء كان مأكول اللحم أم لم يكن مأكول اللحم. فكل جلد لحيوان طاهر في الحياة سواء أكل لحمه كالأنعام أم لم يكن مأكول اللحم كالهر فإنه يطهر إذا دبغ وهذا القول رواية عن الإمام أحمد وقد اختارها بعض أصحابه. وحكى صاحب الإنصاف أن شيخ الإسلام ابن تيمية اختار هذا القول أن جلد الميتة التي هي طاهرة مأكولة اللحم أم لم تكن مأكولة، وقد اختاره الشيخ محمد بن إبراهيم ـ وسيأتي بحث أهل العلم فيما يكون نجساً في الحياة. 2ـ القول الثاني: أن الحيوانات التي يطهر جلدها إنما هي مأكولة اللحم فحسب. فإذا كان الحيوان يؤكل لحمه فإن الدبغ يؤثر في جلده فيكون طاهراً، وهذا مذهب الليث وإسحاق والأوزاعي، وهو ما اختاره شيخ الإسلام كما في الفتاوي وكما في شرح العمدة، فعلى ذلك يكون ما ذكره صاحب الإنصاف من اختيار شيخ الاسلام للقول الأول فيه نظر، أو أن يكون المشهور عن شيخ الإسلام ابن تيمية هو هذا القول؛ لأن شيخ الاسلام شرح العمدة على طريقة المذهب وقد شرحه قبل أن يشتهر بالترجيح والاجتهاد وأما الفتاوى فهي بهد أن اشتهر بالإجتهاد. فهذا إذن: هو قول شيخ الاسلام ابن تيمية، واختاره من المتأخرين الشيخ عبد الرحمن بن سعدي وطائفة من المعاصرين. إذن عندنا قولان هما أصح الأقوال عند القائلين بطهارة الجلد بعد دباغها. أما القول الأول: فهو أن الحيوان الطاهر في الحياة سواء أكل لحمه أم لم يؤكل فإنه يطهر. واستدلوا: بعموم قوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ: (إذا دبغ الإهاب فقد طهر) ، وأصرح منه عموماً: (أيما إهاب دبغ فقد طهر) . وكذلك بقوله صلى الله عليه وسلم: (دباغ جلود الميتة طهورها) وقد أمر النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ أن نستمتع بجلود الميتة إذا دبغت. فهذه كلها عمومات تدل على أن كل حيوان يدبغ جلده فإن الجلد يطهر.

وإنما استثينا ما كان نجساً في الحياة؛ لأنه نجس عين، لذا هو نجس حياً ميتاً فلم يكن الدبغ مؤثراً فيه: (وهذا فيه لمن عم الحيوانات النجسة في الحياة) . ـ أما أهل القول الثاني: فالذين قالوا: لا يطهر إلا جلد مأكول اللحم: فاستدلوا: بما رواه أحمد وأبي داود والنسائي بإسناد صحيح أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال: (دباغ الأديم ذكاته) . فقالوا: قد ذكر النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ أن دباغ الأديم الذكاة له، فلم يكن ذلك مؤثراً ـ أي الدباغ ـ إلا فيما تؤثر فيه الزكاة من الحيوانات. ـ وفي هذا الدليل نظر: فإن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال: (دباغ الأديم ذكاته) فنسب إضافة الذكاة إلى الإهاب أو الأديم، ومعلوم أن الذكاة التي جعلوها دليلاً على هذه المسألة إنما تنسب إلى الحيوان نفسه ولا تنسب إلى أديمه. فيكون المعنى هنا: (دباغ الأديم طهوره) أي ذكاته أي كما أن الذكاة تؤثر فيه طهارة وحلاً، فإن دباغ الجلود كذلك يؤثر فيه طهارة وحلاً. وحديث ابن عباس في بعض ألفاظه: (دباغة طهوره) وقد تقدم حديث سلمة بن المحبق (دباغ جلود الميتة طهورها) على ذلك: الذكاة هي نفسها الطهور. ـ ولذا: لا يقال بحله طعاما وهو مذهب جمهور الفقهاء يقول تعالى: (حرمت عليكم الميتة) ، وقوله: (إنما حرم أكلها) . خلافا لما ذهب إليه بعض الشافعية وبعض الحنابلة إستدلالاً بهذه اللفظة. فإن قول النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ: (إنما حرم أكلها) صريح بتحريم كل شيء وأن الجلد إنما ينتفع به في غير الأكل. فالأرجح: هو هذا القول وهو ما ذهب إليه الإمام أحمد في الرواية المتأخرة عنه: وأن الجلد الذي يطهر إنما هو جلد الحيوان الطاهر في الحياة فهذا هو الذي يؤثر فيه الدباغ وأما غيره فإنه لا يؤثر فيه. ـ وقريب منه في القوة المذهب الذي هو أضيق منه وهو القائل: بأنه لا يطهر من جلود الميتة إلا جلد ما كان مأكول اللحم.

ـ ومن أدلة أهل القول الثاني: ما ثبت في سنن أبي داود والنسائي أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ: (نهى عن جلود السباع) وفي الترمذي: (أن تفترش) . قالوا: فهذا دليل ـ وقد استدل به شيخ الاسلام ـ على هذا القول. ـ ولكن هذا الإستدلال فيه نظر، فنعم الحديث إسناده صحيح لكن الاستدلال به فيه نظر فإن الحديث إنما فيه تحريم الإفتراش ونحوه الذي بجلود السباع وليس فيه أنها نجسه. كما حرم الشارع الذهب والحرير على الرجال وليس ذلك لنجاستها. وإنما حرم الشارع الجلوس والإفتراش على جلود السباع لما فيها من الخيلاء والاستطالة ونحو ذلك فليس في الحديث أن ذلك لنجاستها ـ على أنه لا يحل دباغها؛ لأن في دباغها إستعمالاً لها ـ ولكن لا يعني ذلك أنه إذا فعل ذلك فإنها تكون نجسة بحيث أنها إذا أصابت ماءاً أو نحوه فإنها تنجسه فإن الحديث ليس فيه شيء من ذلك وإنما فيه النهي فحسب وليس فيه ذكر نجاسها. ـ كما كان من شيخ الإسلام ـ رحمه الله ـ كما تقدم في مسألة النهي عن البول في الماء الراكد ـ وذكر أن ذلك ليس لنجاسته وإنما فيه مجرد النهي وهذا نظير له. فالأرجح إذن: طهارة الجلود أولاً: من حيث الجملة، ثانياً: أن الجلد الذي يؤثر فيه الدبغ إنما هو جلد ما كان طاهراً في الحياة. ـ واعلم أن الدبغ: يشترط أن يكون فيما يذهب خبثه ونجاسته ورجسه من القرظ ونحوه وقد ثبت في سنن أبي داود والنسائي أن النبي عليه الصلاة والسلام: (مرّ بشاة يجرونها، فقال: لو أخذتم أهابها، فقالوا: إنها ميتة، فقال النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ: يطهرها الماء والقرْظ) والقرظ: مادة مطهرة معروفة. ـ وإذا طهر كذلك بعدها فلا بأس، والواجب أن تكون هذه المادة مطهرة تزيل النجس، والخبث الموجود في هذا الجلد.

وقد ثبت في مستدرك الحاكم وصححه ووافقه الذهبي، ورواه البيهقي وقال: إسناده صحيح أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ أتى إلى سقاءٍ يتوضأ منه، فقيل: إنه ميته ـ أي هذا الجلد من ميته ـ فقال النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ: (دباغه يذهب خبثه أو نجسه أو رجسه) . فالدباغ لابد وأن يذهب الخبث أو النجس أو الرجس. ـ وهل يشترط أن يكون مع هذا المزيل ماء أو لا يشترط ذلك؟؟ قولان في مذهب الحنابلة. 1ـ أنه يشترط 2ـ أنه لا يشترط ذلك. والأظهر: عدم إشتراط ذلك للقاعدة التي تقدم ذكرها، وإنما ذكره النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ؛ لأنه من أفضل المطهرات، فقال: (يطهرها الماء والقرظ) . لذا نحن لا نشترط القرظ بعينه بل نجيزه كذلك بغيره فكل شيء أزال خبثه ونجسه من قرظ أو غيره مع ماء أو دون ماء، فإن ذلك يزيله، فإذا أزال الخبث الذي فيه فإنه لا يشترط أن يكون ماءً ولا قرظاً. والحمد لله رب العالمين. الدرس العاشر: * قال المصنف: رحمه الله: ((ولبنها وكل أجزائها نجسة غير شعر ونحوه)) : ـ تقدم البحث في جلد الميتة، وأن الراجح من أقوال أهل العلم: أن جلد الميتة يطهر بدباغه إن كان طاهراً في الحياة. أما هنا: ففي قصة أجزاء الميتة. ـ أما لبن الميتة فالمشهور في المذهب أنه نجس، وكذلك أنفحتها، والإنفحة هي سائل أبيض صفراوي يوجد في وعاء في بطن الجدي ونحوه، فيجبن اللبن ويسمى (المخبّنة: فهي التي تجعل اللبن ـ عندما توضع فيه ـ وتجعله جبنا. فهذه ومثلها اللبن في المشهور من المذهب وهو مذهب الجمهور: هي نجسة واستدلوا: بالأثر والنظر. أما الأثر: فاستدلوا بأثار عن الصحابة منها:

ما روى الطبراني ورجاله ثقات: كما قال الهيثمي، وقد رواه البيهقي عن ابن مسعود قال: (لا تأكلوا الجبن إلا ما صنع المسلمون وأهل الكتاب) ، وذلك لأنه يستخرج من ذبائحهم وذبائحهم حلال، كما قال البيهقي وقد ذكره البيهقي عن ابن عباس وأنس ابن مالك ـ رضي الله عنه ـ وقال: وكل استدل بآثار ينقلها عن الصحابة. قالوا: ـ أي الجمهور ـ فهذه آثار عن الصحابة ولم يتبين لنا مخالف لهم فحينئذ: تكون حجة على نجاسة الإنفحَّة، ومثلها اللبن. ـ أما النظر: فقالوا: هذا وعاء نجس، وقد لاقى ـ أي اللبن أو الإنفحة ـ نجاسة فينجس بها، فهذه الميتة نجسه وهذه الإنفحة أو هذا اللبن قد لاقاها فيكون نجساً، وهذا على القول بأن المائعات تنجس بملاقاة النجاسة ولو لم تتغير وهذا قول ضعيف. بل الراجح أن المائعات لا تنجس إلا بالتغير كالماء. قالوا: وهي جزء من الميتة، فالأنفحة جزء من الميتة وكذلك اللبن قبل أن يستخرج منها فما هو إلا جزء فيها، فعلى ذلك هو ميتة، وقد قال تعالى (حرمت عليكم الميتة) . 2ـ وذهب الأحناف إلى أن الإنفحة ليست بنجسه ومثلها اللبن وهو إحدى الروايتين عن أحمد إختارها صاحب الفائق، وقال الشافعية إن كانت السخلة لا تشرب إلا اللبن دون غيره فهي طاهرة وهو قول الأكثرين واختاره النووي. واستدلوا: بأن الصحابة لما أتوا المدائن كانوا يأكلون الجبن، مع أن أهل المدائن كانوا مجوساً وذبائحهم لا تحل ومع ذلك أكل الصحابة هذا الجبن المصنوع. أما النظر: فقالوا: اللبن والإنفحة منفصل عن الميتة فهي ليست من الميتة فعلى ذلك هي طاهرة. ـ والأظهر هو القول الأول وهو مذهب جمهور أهل العلم. ـ واختار قول الأحناف شيخ الإسلام ابن تيمية كما في الفتاوي وغيرها. والراجح القول الأول لصحة الآثار الثابتة عن الصحابة في ذلك. ـ أما ما ذكره الأحناف وذكره شيخ الإسلام فإنهم لم يسندوه إلى كتاب فينظر في صحته هذا أولاً.

وثانياً: وهو أضعف من الجواب المتقدم ـ قيل أن الجزارين الذين كانوا يذبحون ذبائحهم كانوا من اليهود والنصارى وذبيحة اليهود والنصارى حلال، فهي دولة ذات ملك عظيم وكان الذابحون لهم من اليهود والنصارى فإذا ذبحوا فذبيحتهم حلال. ـ لكن الوجه الأول أقوى، وهو أن يقال: إن الآثار لم تسند إلى كتاب فينظر في صحتها، وعندنا آثار عن الصحابة لا نعلم لها مخالف. والثاني: أنها جزء من الميتة وقد قال ـ صلى الله عليه وسلم ـ: (إنما حرم أكلها) وقال تعالى: ((قل لا أجد فيما أوحي إليّ محرماً على طاعم يطعمه إلا أن يكون ميتة)) . والجبن مطعوم وهو متضمن للأنفحة، وكذلك اللبن مطعوم وهو يستخرج من الميتة، كما أنه لا يؤمن أن يتسرب إليه أشياء من تعفنات الميتة، فعلى ذلك لا تحل الأجبان المصنوعة من الأنفحة التي تؤخذ من ذبائح غير شرعية تكون نجسة، لأنها من الميتة وقد قال تعالى: (حرمت عليكم الميتة) وقبل ذلك الألبان التي يستخرج منها فإنها نجسة وهذا مذهب جمهور الفقهاء، وهو مذهب من تقدم ذكرهم من الصحابة ولا يعلم لهم مخالف. ـ أما البيضة التي في الميتة: فالمشهور في المذهب: أنها إذا كانت ذات قشر فإنها تكون طاهرة وذلك لأنها قد تم تخلقها وهي ـ حينئذ ـ منفصلة عن الميتة فأشبهت الولد الذي يكون في بطن الميتة فإنه إذا استخرج منها فإنه له حكم الأحياء. فإذن: إذا كان فيها قشر فهي كالولد. وإن لم يكن بها قشر فهي كالأنفحة واللبن. هذا هو المشهور في المذهب وهو مذهب بعض الأحناف وبعض الشافعية. ـ وأما مذهب أبي حنيفة فإنه كمذهبه في اللبن والأنفحة فقد رأى أنها مطلقاً تكون طاهرة وهذا هو المشهور في مذهب المالكية. ـ وذهب بعض الشافعية إلى نجاستها مطلقاً.

والراجح هو القول الأول للتعليل السابق: فهي إذا كانت ذات قشر فإنها كالولد في الميتة منفصل وهي ذات أجزاء منفصلة إنفصالاً تاماً لا مماسة إلا من خارجه، ولا يكون مؤثراً فيه ولا يمكن أن يتسرب إلى البيضة شيء من ذلك فهي طاهرة. أما إن لم تكن ذات قشر فهي كاللبن والأنفحة. وهذا هو المشهور في المذهب وهو مذهب بعض الأحناف وبعض الشافعية وهو الراجح. أما عظم الميتة وظفرها أو حافرها ونحوه هل هو نجس أم لا؟؟ 1ـ فذهب جمهور أهل العلم إلى القول بنجاسته؛ لأنه داخل في الميتة وقد قال تعالى: ((حرمت عليكم الميتة)) . قالوا: وقد كان العظم أو نحوه يتألم ويتحرك وهذه هي الحياة، فما كان قابلاً للحياة فهو قابل للموت فيدخل في قوله تعالى: ((حرمت عليكم الميتة)) . 2ـ وذهب الأحناف وهذا اختيار شيخ الإسلام وتلميذه ابن القيم إلى أن العظم والظفر ونحوهما ليس بنجس. وهذا القول أصح من القول الأول، ويدل عليه قوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ: (إنما حرم أكلها) وفي رواية أحمد: (إنما حرم لحمها) . ـ أما كون العظم: يتحرك ويتألم ونحو ذلك فهذه ليست صفة ثابتة فيه بنفسه وإنما ثابتة له تبعاً لوجوده في هذا الكائن الحي، فهي صفة ليست ثابتة فيه بإرادته فهو يتحرك بلا إرادة وإنما هو تبع هذا الكائن الحي ـ هذا هو الرد على تعليلهم. وأما الدليل على ذلك: فهو أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قد حكم على الماء الذي يقع فيه الذباب بأنه لا ينجس وقاس عليه أهل العلم، باتفاقهم كل ما ليس له دم من الكائنات. فالكائنات التي لا دم لها فلا تنجس بالموت كالجراد، ونحوه، فإذا ثبت هذا فأولى منه في هذا الحكم العظم فإنه لا دم فيه. وكذلك الحركة فيه أضعف من الحركة فيها، فالحركة فيها بإرادتها فهي حركة تامة في حيوان تام، أما هو فحركته تبعاً وليست بإرادية وهذا هو الأرجح وإنه ليس بنجس. فإن قيل: قلنا بنجاسة الجلد؟؟

قالوا: لأن الجلد يتسرب إليه النجاسات بخلاف العظم. فإن الجلد يتسرب إليه الدم الذي يكون محبوساً في هذا الحيوان وهذا القول ـ في الحقيقة ـ راجح. إلا أنه قد يضعف فيما إذا تبين رقة العظم وأنه يتسرب إليه النجاسات ويمكن إنتقالها إليه فإنه ـ حينئذ ـ يقوى القول بنجاسته. ـ هذا على القول بأن سبب نجاسة الميتة هذا الدم المحبوس فيها وهذا هو مذهب جماهير العلماء ـ أي أن سبب ـ نجاسة الميتة هو الدم المحبوس فيها. إذن: عظم الميتة، وظفرها ونحوه ليس بنجس كما هو مذهب الأحناف واختيار شيخ الإسلام. ـ أما ريش الميتة وشعرها ووبرها وصوفها، فقد اختلف فيه أهل العلم: 1ـ فذهب جمهور أهل العلم إلى أنه طاهر. ـ وذهب الشافعية إلى أنه نجس، فدليلهم هو نفس الدليل المتقدم، وهو قوله تعالى: ((حرمت عليكم الميتة)) ، والميتة شامل لكل ذي روح قد فارقته روحه، وما يتصل به، والشعر متصل به فعلى ذلك هو مُحَرَّم. ـ وأما الجمهور فقالوا إنا بالإجماع نقول: إن الحيوان إذا جُزّ شعره وهو حي فإن هذا الشعر طاهر فدل على المفارقة بين اللحم والشعر، فإن اللحم إذا فارق الحي فإنه نجس وهو ميتة. أما الشعر فإنه طاهر بالإجماع وهو حلال، فدل على أن هناك فرقاً بين الشعر وبين اللحم. فالشعر ينجس بجزه من الحي، ويكون طاهراً بإجماع أهل العلم كما حكاه ابن حجر. وأما اللحم فإنه بالإجماع إذا قطع من الحية فإنه ميتة نجس محرم. فدل على أن الشارع فرق بين الأمرين. ـ على أن الشعر لا يحل فيه الحياة مطلقاً، فهو ليس موضعاً للحياة على الإطلاق وعلى قولنا بأن العظم ليس بنجس وهذا الراجح فأولى منه الشعر وقد قال صلى الله عليه وسلم: (إنما حرم لحمها) . فإذن: الميتة شعرها ووبرها وريشها وصوفها: كل ذلك طاهر سواء جُزّ منها ميتة أو حية ـ وسيأتي بيان هذا إن شاء الله عند الكلام على القضية الأخرى.

ـ ومما استدل به أهل العلم على أن هذه الأشياء ـ أي الصوف ـ أنها طاهرة وليست بنجسه، قوله تعالى: ((ومن أصوافها وأوبارها وأشعارها أثاثاً ومتاعاً إلى حين)) ، فذكر الله ـ عز وجل ـ أن مِنْ مِنَنِهِ على عباده أنه منّ عليهم بالأصواف والأوبار والشعور يتمتعون بها في هذه الحياة، وما كان في سياق الإمتنان فإنه يدل على العموم ـ كما هو معروف عند أهل العلم ـ فتكون هذه الأصواف وغيرها طاهره في كل حال لأن الآية تدل على العموم. وهي ـ عند جمهور العلماء طاهرة، وقالوا: يشترط أن تكون من طاهر في الحياة. إذن: إذا جُزّت من بهيمة الأنعام ونحوها مما هو طاهر في الحياة سواء كان مأكول اللحم أو غير مأكول فإنها طاهرة. ـ أما إذا جُزّت من كلب ونحوه مما هو نجس في الحياة فمذهب جمهور أهل العلم أنها لا تكون طاهرة. ـ وذهب شيخ الإسلام إلى أنها طاهرة ـ وهذا على مذهبه ـ في أن المستحيل من النجس ليس بنجس، فإذا استحال شيء من النجاسات إلى شيء آخر فليس بنجس، فالشعر الخارج من الحيوانات النجسة ليس بنجس وهذا القول هو الراجح ـ وسيأتي تقريره في باب إزالة النجاسة. إذن شيخ الإسلام يرى أن كل صوف أو شعر طاهر سواء كان من طاهر أو نجس. أما الطاهر فلا إشكال، وأما النجس فلأنه طهر باستحالته. * قوله: ((وما أبين من حي فهو كميتته)) : أي ما قطع من البهيمة فإن حكم هذا المقطوع كحكم ميتته أي كما لو أنك قطعتها وهي ميته. ـ فإذا قطعت منها رِجْلاً مثلاً وهي حية، فكما أنه قطعتها منها وهي ميته فتكون محرمة نجسة وإن كان هذا الحيوان طاهراً لأنه حي، وهذه القطعة التي قطعت منه بها حكم الميتة. ـ ويدل على ذلك ما ثبت في سنن أبي داود والترمذي وابن ماجة بإسناد حسن، والحديث حسنه التّرمذي أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال: (ما قطع من البهيمة وهي حية فهو ميت) .

وفي الترمذي: أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قدم المدينة وهم يحبون أسنمة الإبل وبقطعون أليات الغنم فقال: (ما قطع من البهيمة وهي حية فهو كميتته) . فالسمك ميتته حلال فما قطع منها وهي حية فهو طاهر حلال، وكذلك الجراد ونحوها. أما بهيمة الأنعام فميتتها محرمة كذلك ما قطع منها وهي حية فهو نجس. ـ وهل مثل ذاك المسك والطريدة؟؟ المسك: هو ما يستخرج من غزلان المسك، وذلك بأن يشد عليه حتى تجري جرياً سريعاً، حتى يخرج عند سرته شيء يتعلق كأنه دم، ثم تربط في أعلاها بعد أن تخرج ثم بعد فترة تقع) . ـ فهل هذا داخل في ذلك؟؟ الجواب: ليس داخل في ذلك بل هي أشبه بالمولود وهي أشبه بالبيض وأشبه باللبن ونحو ذلك وليست من الدم في شيء بل هي مستحيلة إلى مادة أخرى وهي المسك لذا باتفاق أهل العلم هي طاهرة لا شيء فيها. ـ وأما الطريدة: فهو بعض الصيد الذي لا يمكن أن يدرك صيداً فإنه يجري خلفه بالسيف ونحوه ثم يقطع منه فهذه القطع كذلك مباحة؛ لأنه لا يمكن ذبحه وسمي بالطريدة وسيأتي بيان حكمها في باب الصيد. إذن: (ما قطع من البهيمة وهي حية فهو ميت) كما قال ذلك النبي ـ صلى الله عليه وسلم. والحمد لله رب العالمين. انتهى باب: الآنية) بحمد الله. باب: [الاستنجاء] الاستنجاء: استفعال من نجوْت الشيء: أي قطعته، يقال: نجوْت الشجرة أي قطعتها. فكأنه قطع الأذي الخارج من السبيلين. ـ وقيل هو من النَّجْو: وهو المحل المرتفع، كما قال ذلك ابن قتيبة، وذلك لأن القاضي حاجته يقضيها عند محل مرتفع فسمي بذلك. ـ وقيل غير ذلك. وأما الاستنجاء في الإصطلاح الفقهي فهو: (إزالة الخارج من السبيلين بالماء أو حكمه بحجر أو نحوه) . قوله: (أو حكمه) : لأنه لا يزول تماماً بل يبقى شيء من أثره الذي لا يضر وهو معفو عنه، لذا قلنا (أو حكمه) أي حكم النجاسة. * قال المصنف ـ رحمه الله ـ: ((يستحب)) :

ما سيذكره المصنف من المسائل التي في هذا الدرس يثبت فيها حكم الاستحباب، فمنها ما هو ثابت صراحة في السُّنَّة، فيكون استحبابه عن الشارع بالنص. ومنها ما يكون تعليلاً وقياساً فيكون استحبابه للتعليل أي ليس للدليل الوارد عن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ وإنما يكون بالقياس ونحوه. * قوله: ((يُسْتحَبّ عند دخولِ الخلاء قول: بسم الله أعُوذُ باللهِ من الخُبُثِ والخبائثِ وعند الخروج منه: غُفرَانَك، الحمد لله الذي أذهب عني الأذى وعافاني)) : الخلاء: هو موضع قضاء الحاجة، وسمي خلاءً: لأنه يُخلي به وينفرد به ويسمى: بالمرفق والمرحاض والكنيف والمذهب والبراز، فكل هذه من أسماء الخلاء وهذه أسماء للمبني لقضاء الحاجة، وقد يكون في الصحراء. ((بسم الله)) : يستحب لمن أراد أن يدخل هذا البيت أن يقول: (بسم الله) . ويقولها ـ إذا كان في صحراء ـ قبيل أن يشرع في قضاء الحاجة، فهذا ـ أي الذكر ـ ليس للكنيف ونحوه فحسب بل حتى إذا كان في الصحراء فالحكم كذلك، ويكون ذلك عند أول تشمره لثيابه. ويدل على ذلك ما روى الترمذي وأبي داود والحديث صحيح لشواهده، وإلا فقد ضعفه الترمذي لكنه صحيح لا لطريقه الذي رواه الترمذي بل لشواهده أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال: (سَتْرُ ما بين أعين الجن وعورات بني آدم إذا دخلوا الكنيف أن يقولوا: بسم الله) أي إذا أرادوا أن يدخلوا. وكذلك يقول: (اللهم إني أعوذ بك من الخُبُث والخبائث) ، لذا قال المؤلف هنا: (أعوذ بك من الخبث والخبائث) وهي رواية. وفي المتفق عليه: (اللهم إني أعوذ بك من الخُبُث والخبائث) ، فقد ثبت في الصحيحين من حديث أنس بن مالك أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ كان إذا دخل الخلاء قال: (اللهم إني أعوذ بك من الخُبُث والخبائث) .

ويقول ذلك إذا أراد أن يدخل الخلاء، كما صرحت بذلك رواية البخاري في الأدب المفرد أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ: (كان إذا أراد أن يدخل الخلاء قال..) . الخُبُْث: تسكين الباء وضمها. أما بالتسكين: الخُبْث: فهي الشر والقبح، فتكون الخبائث بمعنى النفوس الشريرة. فيكون المعنى: اللهم إني أعوذ بك من الشر وأهله. أما بالضم: الخُبُث: فهي جمع خبيث فيكون المعنى: أعوذ بك من ذكران الشياطين وإناثهم. ـ وعند خروجه من الخلاء: (غفرانك) ، كما ثبت ذلك عن عائشة قالت: كان رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ إذا أراد أن يخرج من الخلاء قال: (غفرانك) : أي أسألك غفرانك، والحديث رواه الخمسة إلا النسائي وإسناده صحيح. غفرانك: أي أسألك غفرانك، من المغفرة وهي الستر عن الذنب والتجاوز عنه. ـ وقد بحث العلماء عن الحكمة من قولها عند الخروج من الخلاء ـ أما قول: (بسم الله اللهم إني أعوذ بك من الخبث والخبائث) عند الدخول فواضح مناسبتها. أما المناسبة من قول (غفرانك) : فقد استشكل على بعض العلماء. فقال بعضهم: لانقطاعه عن ذكر الله فإنه يستغفر الله؛ لأن هذا ليس محلاً للذكر، لكن هذا ضعيف. إذن: مقتضى ذلك أن يستغفر الله من كل حال لم يذكر الله فيها والشريعة لم تدل على ذلك. ـ والراجح: أنه تقول هذا؛ لأنه لما ذهب عنه ثقل الأذي تذكر ثقل الذنب الذي يؤذيه ويثقل عليه. فهذا أشد من ثقل الأذي الدنيوي، فلما تذكر ذلك دعا الله أن يغفر له ذنبه. وقوله: (الحمد لله الذي أذهب عني الأذى وعافاني) : هذا حديث آخر رواه ابن ماجة وغيره، لكن إسناده ضعيف. ومثله: الحم لله الذي أذاقني لذته ـ أي الطعام ـ وأبقى فيّ قوته، وأذهب عني الأذى) فقد رواه ابن السُّنِّي بإسناد ضعيف. ومثله: (الحمد لله على ما أحسن في الأولى والأخرى) .

ومثل ذلك ـ أي في الضعف ـ الحديث المشهور عند دخول الخلاء من قول: (اللهم إني أعوذ بك من الرجس النجس الخبيث المخبث الشيطان الرجيم) ، فقد رواه ابن ماجة بإسناد ضعيف، فهذه أحاديث ضعيفه لا تثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم. ـ فإذا قالها لا على أنها تثبت عن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ولم يكن ذلك على أنها سنة فلا بأس بذلك ولا حرج. وقوله: (المخبث) : أي المفسد خبثاً الموقع وغيره في الخبث. وكما تقدم فإنه يقول غفرانك إذا خرج من الخلاء. أما إذا كان في صحراء فإنه يقولها إذا قام من حاجته، فإذا قام من حاجتة وتحول عن موضعه فإنه يقول ذلك: ـ ومثل هذا ـ في تقديم الرجل اليسرى دخولاً، واليمنى خروجاً ـ كما سيأتي دليله. فكذلك إذا كانت الصحراء فإنه إلى الموضع الذي يقضي فيه حاجته قدم رجله اليسرى، وإذا قام قدّم اليمنى. * قوله: ((وتقديم رجله اليسرى دخولاً واليمنى خروجاً عكس مسجد ونعل)) : ولما لم يكن هناك دليل للنبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ منصوص عليه فإنه ـ حينئذ ـ يلجأ إلى القياس لإثبات هذه المسألة، فقال: (عكس مسجد ونعل) . وهذا هو قياس العكس، فإن المسجد يستحب ذلك أن تبدأ برجلك اليمنى دخولاً واليسرى خروجاً كما روى ذلك الحاكم في "المستدرك" من حديث أنس بن مالك، وأما النعل فقد ثبت في الصحيحين أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال: (إذا انتعل أحدكم فليبدأ برجله اليمنى، وإذا نزع فليبدأ برجله اليسرى) . وعكس ذلك بيت الخلاء ونحوه قال النووي: (وهو متفق عليه) أي بين أهل العلم. فقد اتفق أهل العلم على أنه إذا دخل بيت الخلاء فإنه يقدم الرجل اليسرى دخولاً واليمنى خروجا. ـ وهذا في كل ما هو ضد ما يكون من باب التكريم مما يكون من أذي ونحوه فإنه يقدم رجله اليسرى. * قوله: ((واعتماده على رجله اليسرى)) : هنا: استحباب في المذهب أن يكون حال قضائه للحاجة قد إعتمد على رجله اليسرى.

وصورة ذلك: أن يكون قد وضع رجله اليمنى في الأرض كأنه جالس للتشهد في الصلاة، فيجعل اليمنى بمنزلة اليسرى في التشهد في الصلاة، فإنك إذا تشهدت في الصلاة تنصب قدمك اليمنى، وكذلك ينصب قدمه اليمنى، وينصب ساقه اليسرى ويتورك عليها. ـ واستدلوا بما رواه الطبراني في "الكبير" عن سراقة بن مالك،قال: (أمرنا النبي صلى الله عليه وسلم ـ أن نتوكأ على رجلنا اليسرى وأن ننصب اليمنى) أي عند قضاء الحاجة. وقالوا: لأنه أسهل للخارج وأكرم لليمين. ـ أما الحديث الذي استدلوا به فهو حديث ضعيف فيه راو متهم. ـ وأما العلة التي ذكروها فإن فيها شيئاً من النظر، وأما قولهم: أكرم لليمين: فإنه قد يكون الأيسر خلاف ذلك. فالأظهر أنه يفعل ما يكون أيسر له. * قوله: ((وبعده في قضاء واستتارة)) : يستحب لمن أراد أن يقضي حاجته إذا كان في فضاء أن يستتر ويبعد، يدل على ذلك ما ثبت في الصحيحين عن المغيرة بن شعبة، وفيه: (فانطلق، أي النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ حتى توارى عني فقضى حاجته) . وروى أهل السنن بإسناد صحيح أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ (كان إذا ذهب المذهب أبعد) . وفي سنن أبي داود بإسناد ضعيف ـ لكن الأحاديث المتقدمة تشهد له، أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ (كان إذا أراد البراز أبعد حتى لا يراه أحد) . ـ أما استتارة: فالمراد به إستتار بدنه كلية، ذلك لأن ستر العورة ليس من باب المستحبات، وإنما من باب الواجبات، يدل على ذلك ما ثبت في المسند وسنن أبي داود والترمذي أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال: (إحفظ عورتك إلا من زوجك أو ما ملكت يمينك) . أما إستتاره بالبدن فهو المستحب، وقد ثبت في مسلم أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ (كان أحب ما يستتر به هدف أو حائش نخل) . أما الهدف: فهو المكان المرتفع الذي يستتر به.

أما حائش النخل: فهو مجمع النخل الذي يستتر به ومثله حائش الشجر، فهذا هو المستحب وهو أن يكون في موضع يستتر فيه بدنه كله. أما ستر العورة فهو واجب كما تقدم. * قوله: ((وارتياده لبوله موضعاً رخواً)) : رَُِخواً: بتثليث الراء: وهو المكان السهل اللين، وذلك لئلا يعود عليه رشاش البول فيدخل في قلبه شيء من الوسواس أو يصيبه شيء من النجاسة. والدليل على ذلك: ما رواه أبو داود عن أبي موسى الأشعري أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ (إرتاد لبوله محلاً دَمِثاً ـ أي سهلاً ليناً، فقال: (إذا أراد أحدكم أن يبول فليرتد لبوله) لكن الحديث في إسناده جهالة فالحديث ضعيف. لكن معناه صحيح فإن ذلك يورث الوسوسة وقد يقع عليه شيء من النجاسة، فعليه أن يأتي إلى محل دمث أو نحوه مما لا يبعد إليه رشاش بوله فيقضي حاجته فيه. * قوله: ((ومسحه بيده اليسرى إذا فرغ من بوله من أصل ذكره إلى رأسه ثلاثاً ونتره ثلاثاً)) : معنى هذا: قالوا، يمسح ذكره من أصله ـ أي من دون الأنثيين إلى أعلاه، يفعل ذلك ثلاثاً، وينتره من جوفه ثلاثاً فإن ذهب وإلا فليمش خطوات قيل: أكثرها سبعون خطوة، فإن لم يذهب فليتنحنح، وإلا فليتعلق بحبل ويرتفع ثم يجلس حتى يقضي حاجته من البول لئلا يخرج ذلك بعد الوضوء، هذا هو مذهب الحنابلة. ـ ومثل هذا: يبعد أن ينسب إلى الإمام أحمد ـ رحمه الله ـ وقد سأله بعضهم: عما يكون من البلل بعد الوضوء، فقال: (إذا بلت فاتضح على ذكرك ولا تجعل ذلك همك واله عنه) هذا هو قول الإمام أحمد ـ رحمه الله. لذا قال شيخ الإسلام: (بدعة ـ أي هذا الفعل ـ ولم يقل بوجوبه ولا باستحبابه أحد من أئمة المسلمين والحديث الوارد فيه ضعيف لا أصل له. وكل ذلك بدعة، فكل ما تقدم من الأوصاف التي تقدم ذكرها كل ذلك يدعه لا أصل له في الشريعة بل لا أصل له في قول أحد من أئمة الإسلام.

ـ وهذا في الحقيقة يورث الوسوسة ويورث سلس البول، وكما قال شيخ الإسلام ـ رحمه الله ـ (بل يترك بطبيعته ويخرج بطبيعته ويقف بطبيعته، قال: وكما قيل هو كالضرع إن حلبته درّ وإن تركته قر) فرحمه الله وهذا هو الذي يقتضيه النظر الصحيح. ـ فإن قيل: فما رواه أحمد وغيره أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال: (إذا بال أحدكم فلينتر ذكره ثلاثاً) فنقول: هذا الحديث فيه علتان: الأولى: أن روايه عن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ هو يزداد اليماني ولا تصح له صحبه، فالحديث مرسل. الثانية: أن فيه زَمْعة بن صالح، وهو ضعيف، فالحديث لا يثبت عن النبي ـ صلى الله عليه وسلم. إذن: عندهم أنه يمسح بذكره ثلاثاً وينتر من الداخل ثلاثاً، والحديث الوارد في ذلك ضعيف وما ذكره من الأوصاف كل ذلك لا أصل له، بل يورث الوسوسة وغيرها من الأمراض. ـ فإن كان أصيب بشيء من الوسوسة وغيرها فيستحب له أن ينضح على ثوبه شيء من الماء. ـ ويستحب له مطلقاً ـ أي سواء كان فيه وسوسة أم لا ـ أن ينضح على ذكره بعد بوله ماءً، فقد صح عن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ كما في أبي داود بإسناد صحيح أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ (بال ثم نضح على ذكره) . وأما الثوب: فلكي يدفع بذلك الوسوسة، وقد قال الموفق: (يستحب له أن ينضح على ذكره وعلى ثيابه ليرفع عن نفسه الوسوسة) . * قوله: ((وتحوله من موضعه ليستنجي في غيره إن خاف تلوثاً)) : يستحب له أن يتحول من موضعه الذي قضى منه حاجته إلى مكان غيره ليستنجي فيه. فإذا أراد أن يستنجي ويزيل الخبث فعليه أن ينتقل إلى موضع آخر لئلا يتنجس بهذه النجاسة أو يقع شيء من الماء على النجاسة فيصيبه شيء من رشاش الماء المختلط بالنجاسة. ـ وقد روى أهل السنن الأربعة أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال: (لا يبولن أحدكم في مستحمه ـ أي مغتسله ـ ثم يغتسل فيه) وفي رواية: (فإن عامة الوسواس من ذلك) . فإن ذان يورث الوسواس.

وكذلك هنا: فإنه إذا قضى حاجته انتقل للوضوء أو الغسل إلى موضع آخر لئلا بصيبه شيء من رشاش نجاسته. ـ واعلم أن مما يستحب له أن يغطي رأسه وهي سنة بكرية ثابتة عن أبي بكر رضي الله عنه. وروى ذلك البيهقي عن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ: (أنه كان إذا جامع أهله غطى رأسه وإذا دخل الخلاء غطى رأسه) . واستنكره البيهقي، وهو كما قال. لكن قال: "وروى عن أبي بكر وهو صحيح عنه) وهو ثابت عن أبي بكر ـ رضي الله عنه ـ أي من كونه مغطي رأسه عند قضاء الحاجة، وقد نص على استحبابه الموفق والنووي رحمهما الله. فهذه من المستحبات والآداب التي يستحب للمسلم أن يتأدب بها. والحمد لله رب العالمين. الدرس الثاني عشر. * قال المصنف ـ رحمه الله ـ: ((ويكره دخوله بشيء فيه ذكر الله تعالى إلا لحاجة)) : يكره لقاضي الحاجة أن يدخل إلى موضع الحاجة بشيء من الأوراق أو شيء من الخواتيم أو بشيء من الدراهم أو الدنانير مما فيه ذكر الله تعالى ـ أي فيه ذكر اسمه ـ سبحانه وتعالى. قال: ((إلا لحاجة)) : لأن الحاجة تزيل الكراهية. وأولى من ذلك أن يدخل بشيء فيه ذكر الله تعالى أصلاً كأن يدخل بأوراق فيها ـ إذا كان نحو ـ (سبحان الله والحمد لله، ولا إله إلا الله والله أكبر) أو شيء من كتب العلم. وأولى من ذلك أن يكون دخوله إلى الخلاء بمصحف، بل قال صاحب الأنصاف من الحنابلة: " لا شك في تحريمه ـ أي الدخول بالمصحف إلى الخلاء ـ ولا يتوقف فيه عاقل ". وتقييده بالحاجة فيه نظر، فإن ظاهره أنه لو أن هناك رجلاً غنياً ومعه مصحف ويخشى عليه السرقة فإنه يجوز له أن يدخل المصحف معه في بيت الخلاء مع أنه يمكنه أن يشتري غيره ـ للحاجة الثابتة هنا، فليس هنا ضرورة وإنما حاجة، فظاهر قوله أن ذلك جائز. وفيه نظر، فالأظهر أنه لا يجوز ذلك مطلقاً إكراماً للقرآن وإبعاداً له عن مواضع القاذورات.

ـ أما إذا كانت أوراق فيها ذكر الله أصلاً، كأن تكون أوراق فيها الأذكار الصباحية والمسائية نحو ذلك من ذكر الله فيكره دخوله بها. ويدل على ذلك ـ وسيأتي من الإستدلال على كراهيته أن يتلفظ في الخلاء بشيء من ذكر الله ـ وأولى منه ما كان مكتوباً لثبوته ولزوقه، فإن ما كان مكتوباً ثابت مستقر بخلاف التلفظ بذكر الله فإنه غالباً ما ينقطع. ومما يدل على أن المكتوب أولى بالكراهية من المنطوق أن الشارع نهى المحدث حدثاً أصغر أو أكبر أن يمس المصحف ولم ينهه عن تلاوته بلسانه، وقد اتفق العلماء على هاتين المسألتين كليهما. فكونه يكره أن يتلفظ بشيء من ذكر الله أولى منه أن يكون حاملا لشيء فيه ذكر الله. ـ أما ما ذكره المؤلف فمراده: أن يدخل إلى الخلاء ومعه شيء فيه ذكر اسم الله ـ عز وجل ـ كأن يدخل بورقة فيها إسم (عبد الله) أو نحو ذلك، من الأوراق التي ليس فيها أذكار وإنما تضمنت إسم الله ـ عز وجل. فإن المذهب كراهية ذلك. واستدلوا: بما رواه أهل السنن الأربعة من حديث همام عن ابن جريج عن الزهري عن أنس بن مالك أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم: (كان إذا دخل الخلاء وضع خاتمه) . وفي المتفق عليه من حديث أنس بن مالك: (أن نقش خاتمه صلى الله عليه وسلم، محمد رسول الله) . لكن الحديث ـ أي حديث همام ـ ضعيف، فقد تفرد به هكذا همام، وفي حفظه شيء من الضعف. وقد رواه الثقات عن الزهري عن زياد بن سعيد عن أنس ابن مالك أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ (اتخذ خاتماً من ورق ثم ألقاه) لذلك أعله أبو داود والنسائي والدارقطني وغيرهم. ـ وصححه الترمذي واستغربه، فلعل استغرابه لهذه العلة المتقدمة، وصححه المنذري وابن دقيق العيد. والصواب تضعيفه للعلة المتقدمة، لذلك ضعفه ابن القيم في تهذيب السنن. فالحديث معلول.

فالثقات لم يأتوا لهذه اللفظة التي ذكرها همام، وإنما ذكروا أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ إتخذ خاتما من ورق ثم ألقاه، وليس في شيء من روايات حديث أنس، مطلقاً، أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ كان يضعه إذا دخل الخلاء، هذا هو دليل الحنابلة على الكراهية. ـ وهناك رواية عن الإمام أحمد: أن ذلك لا يكره، وهو الراجح. ودليله: ما ثبت لنا عن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ (أنه كان له خاتم ونقشه محمد رسول الله) ، ولم يثبت لنا في حديث صحيح مطلقاً أنه كان يضعه إذا دخل الخلاء، ولو كان ثابتاً لنقل ذلك فعلى ذلك لا كراهية في ذلك. ـ ومثل ذلك الدراهم التي فيها ذكر اسم من أسماء البشر فيها ذكر الله. ـ أما إذا كان فيه لفظه: (لا إله إلا الله) فإنه يدخل في الباب المتقدم. وعن الإمام أحمد، في كراهية الدراهم التي فيها ذكر الله، عنه قولان: الكراهية، وعدمها. والأظهر: الكراهية، إذا كانت فيها لفظة: (لا إله إلا الله) و (سبحان الله) ونحو ذلك من الألفاظ التي هي ذكر الله عز وجل. ـ أما إذا كان فيها لفظة: (عبد الله) ونحو ذلك؛ فإنه لا يكره لمجرد هذا اللفظ الذي لا يقصد منه ذكر الله، فليس المقصود منه إلا التسمية لهذا الشخص. ـ ومع ذلك فإن الحاجة في الدخول بالدراهم إلى بيوت الخلاء ترفع كراهية ذلك. فإذن: ـ أما المصحف فيحرم أن يدخل به. ـ وأما الأوراق التي فيها ذكر الله عز وجل ويكون الذكر فيها مقصوداً فإنه يكون مكروها. ـ وأما إذا كان ذكر الله عز وجل قد أتى عرضا ولم يكن مقصوداً بالذكر فإنه لا حرج في ذلك. * قوله: ((ورفع ثوبه قبل دنوه من الأرض)) : يكره له أن يرفع ثوبه قبل دنوه من الأرض هذا إذا أراد أن يبول قاعداً، والدليل على ذلك: ما روى ابن عمر أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ (كان إذا أراد الحاجة لم يرفع ثوبه حتى يدنو من الأرض) رواه أبو داود، والترمذي من حديث الأعمش عن رجل عن ابن عمر، وهذا الرجل مبهم.

وفي البيهقي أنه القاسم بن محمد، فعلى ذلك الحديث صحيح. ـ وهذا متفق عليه أي استحباب ذلك؛ لأن كشف العورة مكروه فقد قال صلى الله عليه وسلم: (إحفظ عورتك إلا من زوجك وما ملكت يمينك) ، فقيل يا رسول الله: (أرأيت الرجل يكون في الخلاء فقال النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ: (الله أحق أن يستحي منه) . أما ما رواه الترمذي أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ، قال: (إياكم والتعري فإن معكم من لا يفارقكم إلا عند الغائط وعندما يفضي الرجل إلى أهله فاستحيوهم وأكرموهم) فإن الحديث فيه ليث بن أبي سُليم وهو ضعيف فالحديث ضعيف. ما تقدم من كراهية رفع الثوب حتى يدنو من الأرض، هذا إذا كان يبول قاعداً. مسألة: حكم البول قائماً: ثبت في الصحيحين عن حذيفة أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ (أتى سُباطة ـ أي زبالة ـ قوم فبالَ قائماً) . وثبت في سنن النسائي من حديث عبد الرحمن بن حسنة أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ: (بال قاعداً فقال بعض القوم انظروا يبول كما تبول النساء) ، ولعل القائلين كفار أو لعلهم مسلمين لم يذكروه على سبيل السخرية بل أرادوا الأخبار. فهذه الأحاديث تدل على جواز ذلك. ـ وقال بعض أهل العلم أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ بال قائماً لجرحٍ كان في مأبضه ـ أي باطن ركبته ـ، وقد روى ذلك الحاكم أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ: (بال قائماً لجرحٍ كان في مأبضه) لكن إسناده ضعيف. فعلى ذلك لا بأس به ولا حرج ولا كراهية في ذلك. ـ فإن قيل: قد ثبت عن عائشة ـ كما روى ذلك الترمذي والنسائي وابن ماجة والحاكم ـ أنها قالت: (من حدثكم أن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ كان يبول قائما فلا تصدقوه، ما كان يبول إلا قاعداً) . فالجواب: أنها حدثت بما علمت ورأت، وأخبر حذيفة بما رأى وعلم. ومن حديث عائشة يُستفاد أن الأغلب في حاله أنه كان يبول قاعداً، لذا استنكرت ذلك أم المؤمنين عائشة وكانت من أعلم الناس بحاله ـ صلى الله عليه وسلم ـ.

ـ فإن قيل: قد روى ابن ماجة أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال لعمر: (يا عمر لا تبل قائماً) (1) ، وقد روى ابن ماجة من حديث جابر (أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم نهى أن يبول الرجل قائماً) . فالجواب: هذان حديثان ضعيفان لا يثبتان عن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ وقد قال ابن القيم: (لم يثبت عن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ حديث) أي في النهي عن ذلك. وهذا هو المذهب أي عدم كراهية ذلك، إلا إذا خاف تلوثاً أو خاف ناظراً فإنه يكره لذلك. ـ كما أنه يُستدل على جواز البول قائماً بالأصل؛ فإن الأصل في الأشياء الإباحة فالأصل في العادات الإباحة ما لم يأت دليل على التحريم أو الكراهية. * قوله: ((وكلامه فيه)) : أي يكره أن يتكلم في الخلاء، والكلام: منه ما يكون كلاماً فيه ذكر الله عز وجل ومنه ما ليسن كذلك. ـ أما إذا كان الكلام ذكراً لله فإنه مكروه كما ذكره المؤلف يدل على ذلك ما ثبت في مسلم من حديث ابن عمر: (أن رجلاً سلم على النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ وهو يبول فلم يردّ عليه) ، وفي ابن ماجة بإسناد ضعيف: (فتيمم ثم ردّ عليه) (2) . وقد ثبت في سنن أبي داود وغيره بإسناد صحيح من حديث المهاجر ابن قُنفُذة ـ رضي الله عنه ـ (أنه أتى النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ وهو يبول فسلم عليه فلم يردّ عليه حتى توضأ ثم اعتذر إليه وقال: (إني كرهت أن أذكر الله على غير طهر) (3) . فهذه الأحاديث تدل على كراهية ذكر الله، والسلام من ذكر الله. فإذن: يكره أن يذكر الله ومن ذلك السلام، فإن الله هو السلام ومنه السلام. ـ فإن قيل: فإذا عطس أو سمع الأذان فماذا يفعل؟؟ فالجواب: أن في ذلك قولين لأهل العلم ـ هما روايتان عن الإمام أحمد. 1ـ القول الأول: أنه يذكر الله في قلبه وهو ضعيف، فإن الذكر القلبي فاقد للذكر اللساني، وإنما يحمد العاطس الله، ويجيب المؤذن بلسانه والقلب وهذا لم يذكر الله بلسانه.

2ـ القول الثاني: أنه يذكر الله مخافته، كقراءته في الصلاة، بمعنى: يذكر الله بقلبه وبلسانه لكنه لا يرفع صوته بالذكر. وهذا هو إختيار شيخ الإسلام ابن تيمية وهذا قول قوي. ـ وأقوى منه أن يقال: له أن يذكر الله بعد خروجه من الخلاء، فإذا خرج حمد الله وأجاب المؤذن ويدل عليه حديث أبي داود المتقدم فإنه: أتى النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ وهو يبول فسلم عليه فلم يرد عليه حتى توضأ ثم اعتذر إليه) (1) . إذن: ردّ عليه النبي عليه السلام بعد أن توضأ، فدل ذلك على أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ لم يجبه لا في قلبه ولا مخافتة، وإنما أجابه بعد ذلك. فكذلك إجابة المؤذن وحمد العاطس الله مثل رد السلام: بل ردّ السلام أعظم من ذلك فإنه واجب بخلاف حمد العاطس الله، وإجابة المؤذن فإنهما سنتان، فهذا القول هو الظاهر. ـ أما الكلام بشيء آخر غير ذكر الله عز وجل فلا يثبت حديث عن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ينهي عنه. وأما ما روى أبو داود من حديث عكرمة بن عمار عن يحيى بن أبي كثير إلى أبي سعيد الخدري أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال: (لا يخرج الرجلان يضربان الغائط كاشفين عن عورتهما يتحدثان فإن الله يمقت على ذلك) (2) . فالحديث رواه عكرمة بن عمار عن يحيى بن أبي كثير موصولاً ورواه الأوزاعي وغيره عن يحيى بن أبي كثير مرسلاً، وهو الراجح كما قال ذلك أبو حاتم. ورواية عكرمة بن عمار عن يحيى بن أبي كثير فيها ضعف. وقد رواه مرسلاً بغير ذكر الصحابي، فعلى ذلك الحديث ضعيف لا يثبت عن النبي ـ صلى الله عليه وسلم. وفيه ذكر كشف العورة وهي محرمة، فالحديث لا يدل على كراهية الحديث أبداً. ولكن مع ذلك فإنه غير لائق من غير أن يكون ذلك مكروها في الشريعة. أما إذا احتاج إليه فلا شك أنه لا يكون فيه كراهية. إذن: مجرد الكلام الذي ليس فيه ذكر الله لا حرج فيه مطلقاً إلا أن تركه أولى مروءة لا شرعاً.

ولكن مع ذلك لا يكره ـ وإذا احتاج إليه فيزول المنع منه مطلقاً. * قوله: ((وبوله في شق ونحوه)) : الشق: هو المستدير. وقوله: (ونحوه) : كأن يكون ذلك من سرب وهو ما يكون منه الدواب وهو المستطيل. وذكر بعض أهل التاريخ أن سعد بن عبادة بال في جحر فخرّ ميتاً فسمعوا قائلاً يقول: نحن قتلنا سيد ال ... خزرج سعد بن عبادة رميناه بسهمين ... فلم يخطىء فؤاده وهؤلاء ـ على هذه الرواية ـ الجِنّ. لكن هذه الرواية ضعيفة لا تصح. ـ مستنده من كره ذلك، حديث رواه أبو داود والنسائي وأحمد بإسناد صحيح ـ كما قال ذلك النووي من حديث قتادة عن عبد الله بن سَرْجِس أن النبيّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ: (نهى أن يبول الرجل في الجحر) (1) فقيل لعبادة: ما يكره من البول في الجحر، فقال: أنها مساكن الجن. وقد ذكر حرب عن أحمد أن قتادة لم يسمع من عبد الله بن سرجس، فعلى ذلك يكون الحديث منقطع الإسناد. وقد أثبت سماع قتادة من عبد الله بن سرجس، علي ابن المديني، ومن علم حجة على من لم يعلم. فعلى ذلك قد ثبت سماعه كما ذكر ذلك ابن المديني وإنكار الإمام أحمد لذلك، يكون بناءاً على علمه وقد صححه ابن خزيمة وابن السكن، فالحديث إسناده صحيح. وكراهية ذلك متفق عليها عند أهل العلم ـ كما حكى ذلك النووي. * قوله: ((وَمَسّ فرجه بيمينه)) : هذا كذلك من المكروهات باتفاق العلماء، يدل على ذلك ما ثبت في الصحيحين أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال: (لا يمسَّنَّ أحدكم ذكره بيمينه وهو يبول، ولا يتمسَّح من الخَلاء بيمينه ولا يتنفَّس في الإناء) (2) . والشاهد قوله: (لا يمسَّن أحدكم ذكره بيمينه وهو يبول) . ـ لكن المؤلف هنا قد أطلق فذكر أنه يكره أن يمس فرجه بيمينه، فظاهره أنه يكره له ذلك مطلقاً سواء كان في حال بوله أو بعدها أو قبلها، وإلى ذلك ذهب بعض أهل العلم.

قالوا: إذا كان النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قد نهى عن مس الذكر في حال البول مع كونه يحتاج إلى ذلك، فأولى من ذلك إذا كان بعد البول مع عدم الحاجة. ـ والأظهر أن يقال: إنما يكره ذلك ـ أي مس الفرج باليمين ـ عند البول فقط للتقييد الذي تقدم. ـ وقد ذكر شارح "المقنع" (إبن مفلح) ذكر أن هذا هو ظاهر الحديث، وحكى عن بعض أهل العلم أن صاحب "المقنع" إنما ترك ذلك ـ أي إنما ترك التقييد بقوله (وهو يبول) ، إنما ترك ذلك لوضوحه ـ وهكذا يقال في مختصره مؤلف الكتاب فإنه ترك ذلك لوضوحه. ـ والذي يدل على صحة ذلك أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال: (إنما هو بضعة منك) (1) ، كما في حديث طلق بن علي وهو حديث حسن. فعلى ذلك مس الذكر باليمين لا كراهية فيه إلا إذا كان في حال البول. ـ وذهب الظاهرية إلى تحريمه، وجمهور الفقهاء على كراهيته. إذن: يكره له أن يمس ذكره بيمينه وهو يبول، أما إن لم يكن في حال البول فإنه لا حرج في ذلك لقول النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ: (إنما هو بضعة منك) . * قوله: ((واستجازه واستجماره بها)) : أي باليمين. فيكره له أن يستنجى أو يستجمر بيمينه، ويدل عليه الحديث المتقدم من حديث أبي قتادة: (ولا يتمسح من الخلاء بيمينه) وبذلك قال جمهور الفقهاء، فكرهوا أن يستنجى بيمينه. فإذن: يكره أن يمس ذكره بيمينه وهو يبول، وكذلك يكره أن يستنجى بيمينه. ـ وفي قوله: (ومس فرجه) عموم، فيدخل فيه القبل والدبر فكل ذلك مكروه. * قوله: ((واستقبال النيرين)) : وهما الشمس والقمر ـ أي يكره إستقبال الشمس أو القمر عند قضاء الحاجة. والدليل على ذلك: قالوا: أن فيهما نور الله الذي يستضيء به الخلق. فنقول: لازمه أيضاً أن ينهى كذلك عن استقبال النجوم، فحينئذ: لا يجوز له أن يقضي حاجته إلا في بين خلاء، أو ما هو أضيق من ذلك في الليل، لكونها فيها نور الله الذي تستهدي به العباد، وهي علة ضعيفة.

ـ وقالوا: فيها أسماء الله مكتوبة عليها. والجواب: أنه لا دليل على ذلك، كيف والنبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال لأهل المدينة: (لا تستقبلوا القبلة بغائط ولا بول، ولا تستدبروها ولكن شرقوا أو غربوا) (1) قال ابن القيم: (ليس لهذه المسألة أصل) . أما ما رواه الحكيم الترمذي أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ: (نهى عن ذلك) فقال فيه النووي: باطل لا أصل له، وهو كما قال، فلا يثبت عن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ في هذا الباب شيء. والحمد لله رب العالمين. الدرس الثالث عشر: الثلاثاء 24/10/1414هـ. قال المؤلف ـ رحمه الله ـ: ((ويحرم إستقبال القبلة واستدبارها في غير بنيان)) : يحرم على المسلم أن يستقبل القبلة أو يستدبرها بغائط أو بول ويستثنى من ذلك: البنيان، فإذا كان في كنيف أو مرحاض أو نحو ذلك من البيوت المبنية فإنه لا يحرم ذلك هذا هو مذهب جمهور الفقهاء. واستدلوا ـ أولاً ـ على تحريم استقبال القبلة واستدبارها عند الغائط والبول ـ بحديث أبي أيوب الأنصاري أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال: (إذا أتيتم الغائط فلا تستقبلوا القبلة ولا تستدبروها، ولكن شرقوا أو غربوا)) . وبما ثبت في مسلم عن سلمان الفارسي قال: (نهانا النبي ـ صلى الله عليه وسلم أن نستقبل القبلة بغائط أو بول) (2) ونحوه من حديث أبي هريرة في مسلم. فهذه الأحاديث تدل على تحريم إستقبال القبلة أو استدبارها بغائط أو بول. ـ أما استثناء البنيان: فدليله ما ثبت في الصحيحين عن ابن عمر قال: (رقيت على بيت حفصة فرأيت النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ على حاجته يبول مستقبل الشام مستدبر الكعبة) (3) .

وقد كان في بنيان، كما في رواية ابن خزيمة (محجوباً بلبن) (1) وروى الحكيم الترمذي وقال الحافظ إسناده صحيح: أنه كان في كنيف، وهذا هو المعهود عن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ بإنه كان يستتر غاية الإستتار، فكان ما وقع من رواية ابن عمر كان ذلك في بنيان. ـ وقد ثبت عند الخمسة إلا النسائي بإسناد جيد، وهو من حديث محمد بن إسحاق وهو مدلس لكنه صرح بالتحديث في بعض روايات هذا الحديث، عن جابر قال: (نهانا النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ أن نستقبل القبلة أو نستدبرها بفروجنا إذا نحن أهرقنا الماء ثم رأيته قبل موته بعام يبول مستقبل القبلة) (2) ، والحديث اسناده جيد، وقد حسنه الترمذي، وصححه البخاري وابن خزيمة والحاكم وابن السكن فالحديث حسن وهو حجة. قالوا: فهذان الحديثان يدلان على أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قد قضى حاجته مستقبل القبلة ومستدبرها وذلك إنما كان في البنيان. ـ وقد روى مروان بن الأصفر عن ابن عمر: (أنه أناخ راحلته قِبَل الكعبة فجعل يبول، فقيل له: أليس قد نُهِيَ عن ذلك؟ فقال: إنما نهي عن ذلك إذا كنت في فضاء أما إذا كان بينك وبين القبلة شيء فلا بأس) (3) رواه أبو داود. فهذه أدلة الجمهور في أن قضاء الحاجة قِبَل القبلة أو استدبارها محرم في غير البنيان أي في الفضاء، أما في البنيان أو إذا كان بينه وبين القبلة شيء ساتر كراحلة أو مركبة، فإنه لا حرج في ذلك ولا بأس، وهذا هو إختيار الإمام البخاري كما في صحيحه. ـ وعن الإمام أحمد رواية أخرى ـ وذهب إليها بعض الفقهاء أن ذلك جائز مطلقاً في البنيان وغير البنيان. ودليل ذلك حديث ابن عمر وأنه يدل على النسخ. لكن هذا القول قول ضعيف؛ لأن القول بالنسخ صعب فلا يقال بالنسخ إلا مع عدم إمكان الجمع.

وقد تقدم كيف أن الجمهور قد جمعوا، وسيأتي كذلك موقف أهل القول الآخر من هذا الحديث فهذا القول هو أضعف الأقوال، وهو مروي عن الإمام أحمد وذهب إليه داود الظاهري. ـ والقول الآخر: وهو كذلك رواية عن الإمام أحمد وذهب إليه بعض الفقهاء جواز استدبار الكعبة دون استقبالها. وهؤلاء قد أخذوا بحديث ابن عمر في رؤيته النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ وهو مستدبر الكعبة، ولم يأخذوا بحديث جابر لكونهم يضعفونه، ولكن تقدم تصحيح هذا الحديث. ـ والقول الرابع: ذهب إليه أبو حنيفة وهو رواية عن الإمام أحمد ذهبوا إلى أن ذلك محرم على الإطلاق ـ أي في البنيان وغيره ـ. واستدلوا: بعمومات الأحاديث التي تقدم ذكرها كحديث أبي أيوب وأبي هريرة وسلمان رضي الله عنهم، فهي أحاديث عامة في البنيان وغيره. وهذا هو قول أبي أيوب الأنصاري، فقد قال بعد ما روى الحديث: (فقدمنا الشام فوجدنا مراحيض قد بنيت قبل الكعبة فننحرف ونستغفر الله) (1) . فهذا هو مذهب أبي أيوب الأنصاري، فعلى ذلك مذهب ابن عمر مخالف لقول أبي أيوب. ـ وما هو جوابهم على الأحاديث الفعلية المتقدمة؟؟ قالوا: أما فعل النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ في رؤية ابن عمر له ورؤية جابر فإن هذا الفعل الذي فعله النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ إنما يحكي حاله تلك فإن الفعل لا عموم له ولا صفة له وإنما هو حكاية حال فقط. لذا يحتمل فيه الخصوصية والنسيان وغير ذلك.

وإن كان على القول الصحيح أن احتمال الخصوصية هنا ضعيف؛ لأن الأصل عدمها وكذلك النسيان فإن الأصل عدمه، هذا في معارضة الفعل القول، فإنه: يجب الجمع بين أفعال النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ وأقواله ـ هذا في الأصل ـ أما هنا ـ في هذه المسألة ـ فإن أفعال النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـالتي تقدم ذكرها قد حدثت منه في غير محل التشريع وليست أفعالاً ظاهرة أمام أصحابه وإنما فعلها في محل لا يظن أنه يرى فيه، فهو ليس محل تشريع والنبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ يجوز عليه النسيان في غير الشريعة وكذلك يجوز عليه الخطأ في غير الشريعة. فهو إنما يقضي حاجته مختفياً عن الناس حتى لا يراه أحد وكون هديه الصحابيين أطلعا عليه ـ صلى الله عليه وسلم ـ فإن ذلك في غير محل التشريع، بخلاف الفعل الذي يكون ظاهراً، وقد قال تعالى: ((لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة)) (1) . أما هذا الفعل فليس في محل التشريع لعدم ظهوره، ولما عرف من حاله من قضائه حاجته في غاية الإستتار والبعد عن الناس. ـ ويدل على صحة هذا القول وأن هذه أفعال من النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ في غير محل التشريع وأنها قد حدثت منه نسياناً، أن الفارق بين البنيان وغيره ـ في هذه المسألة ـ غير معتبر ذلك لأن النهي إنما هو لإكرام القبلة، ومعلوم أن الرجل عندما يقضي حاجته في فضاء، فإن بينه وبين القبلة جبالاً وأشجاراً وغيرها مما تكون حائلة بينه وبين القبلة، وكونه يقضي حاجته مستقبلاً القبلة في البنيان لا فرق ـ في الحقيقة ـ بين ذلك وبين قضائه في الفضاء الواسع، ولكن بينه وبين القبلة ولابد حوائل تمنع عيانه للكعبة.

ـ وقد قال النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ كما روى ذلك أبو داود وابن خزيمة وصححه والحديث صحيح أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال: (من تفل تجاه القبلة جاء يوم القيامة تفله بين عينيه) (1) ، فإذا كان هذا في التفل تجاه القبلة فأولى منه في الغائط والبول، ولم يفرق النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ بين بنيان وغيره بل أطلق ذلك في هذا الحديث. وفي حديث: (إذا أتيتم الغائط فلا تستقبلوا القبلة ولا تستدبروها ولكن شرقوا أو غربوا) (2) . فهذا القول هو القول الراجح، وهو إختيار شيخ الإسلام وتلميذه ابن القيم، وهو قول ابن العربي من المالكية وأبي ثور من الشافعية وذهب إليه من الحنابلة أبو بكر ابن عبد العزيز وذهب إليه الشيخ محمد بن إبراهيم من المتأخرين وهذا هو القول الراجح فإن فعل النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ المتقدم، فعل ليس في محل التشريع. والتفريق بين البنيان وغيره غير منظور إليه هنا؛ لأن المقصود إنما هو إكرام القبلة والبول في البنيان يترتب عليه عدم إكرامها كترتبه في غير بنيان. فإنه إذا قضى حاجته في الفضاء فإنه لابد أن يكون بينه وبين القبلة حوائل كثيرة من جبال ونحوها، فحينئذ لا فرق بين ذلك وبين البنيان. ـ وفي قوله النبي ـ صلى الله عليه وسلم: (ولكن شرقوا أو غربوا) دليل لما ذهب إليه بعض الحنابلة وهو اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية إلى أنه لا يكفي الإنحراف اليسير خلافاً للمشهور عند الحنابلة من أنه يكفي الإنحراف اليسير. والراجح عدم الإعتبار به، وأنه لابد وأن يشرق أو يغرب، فلا يكفي أن ينحرف يسيراً. ويقاس كذلك على الصلاة فإن الرجل إذا انحرف عن القبلة شيئاً يسيراً فذلك لا يبطل صلاته، أما إذا كان كثيراً فإنه يبطلها، فإذا انحرف عن القبلة شيئاً يسيراً فذلك لا بأس به كما سيأتي وقد قال النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ: (ما بين المشرق والمغرب قبلة) (3) .

والواجب أن يشرق أو يغرب ولا يكفي أن ننحرف شيئاً يسيراً. ـ وظاهر المذهب: في مسألة جواز البول والغائط مستقبلاً القبلة أو مستدبرها في البنيان ـ ظاهر المذهب أنه لا فرق بين أن يدنوا من السترة أو يبعد عنها. وهذا على القول المرجوح، وإلا فالراجح ما تقدم من عدم الجواز مطلقاً. ـ وهل يجوز الاستنجاء أو الإستجمار إلى القبلة؟؟ 1ـ المشهور في مذهب الحنابلة أن ذلك مكروه، فيكره له أن يستنجي أو يستجمر قبل القبلة. 2ـ وقيل ـ أي في المذهب ـ أنه لا يكره. 3ـ وقال في "الإنصاف" ـ وهو من الحنابلة ـ: (ويتوجه التحريم) . وهذا أظهر، فإن في إستنجائه واستجماره فيهما أعظم مما في التفل الذي تقدم تحريمه كما أنه قد يخرج منه شيء في حال إستنجائه أو استجماره، فالأظهر أن ذلك محرم لا يجوز. * قوله: ((ولبثه فوق حاجته)) : أي لا يحل له أن يلبث فوق حاجته، ودليل ذلك ما تقدم من النهي عن كشف العورة إلا لحاجة وأن ذلك محرم. وقد تقدم ترجيح كراهية ذلك وأنه مكروه ليس بمحرم. وقد قال صلى الله عليه وسلم: (الله أحق أن يستحي منه) (1) . فالأرجح أنه لا يحرم له كشف عورته ولكنه يكره إلا إذا كان هناك ناظر فإنه يحرم عليه كما تقدم. وقالوا: إنه يورث بعض المرض. والجواب على هذا: أنه إن ثبت ذلك فنعم، فقد قال صلى الله عليه وسلم: (لا ضرر ولا ضرار) ، ومرجع ذلك إلى الطب، فإن ثبت في ذلك ضرر فإنه يحرم. إذن: الراجح في هذه المسألة الكراهية لكونه كشف عورته من غير حاجة، وأما التحريم فلا، إلا إن ثبت ضرر طبي في ذلك فإنه يحرم لذلك. * قوله: ((وبوله في ظل نافع وتحت شجرة عليها ثمرة)) : لقوله صلى الله عليه وسلم ـ كما في مسلم: (اتقوا اللاعنين، قالوا: وما اللاعنان، قال: الذي يتخلى في طريق الناس أو ظلهم) (2) .

فهذا الحديث يدل على تحريم التخلي في طريق الناس أو ظلهم والمراد بالطريق: قارعة الطريق التي يطرقها الناس ويطؤونها بأقدامهم، أما الطرق المهجورة فليس لها ذلك الحكم. ـ كما أن المراد بالظل، الظل الذي ينتفع به في الإستظلال وإلا فقد ثبت أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ يقضي حاجته في جانبي النخل وهو ذو ظل، ولكنه ظل لا يحتاج إليه ولا ينتفع به. إذن: المحرم إنما هو الظل الذي ننتفع به، ومثل ذلك المجلس المشمس فكل مجلس ينتفع به لا يحل قضاء الحاجة فيه. ـ وقد روى أبو داود ـ والحديث حسن ـ أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال: (اتقوا الملاعن الثلاث: البراز في الموارد ـ أي التي يرد إليها الناس للشرب والسقي ـ وقارعة الطريق والظل) (1) والحديث حسن لشواهده. وأما قوله: (وتحت شجرة عليها ثمرة) : فذلك لاحتياج الناس إلى هذه الثمرة فقد يحتاج الرجل إلى صعودها، وقد تسقط الثمرة فتتنجس بالنجاسة فيحرم ذلك. فإذن: هذا من باب المعنى، وفي الحديث (لا ضرر ولا ضرار) وقال تعالى ((والذين يؤذون المؤمنين والمؤمنات بغير ما اكتسبوا فقد احتملوا بهتانا وإثما مبينا)) (2) . وقد ورد هذا عند الطبراني أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ: (نهى عن قضاء الحاجة تحت شجرة فيها ثمرة) (3) لكن الحديث إسناده ضعيف جداً، ولكن دليله ما تقدم من ثبوت الضرر في ذلك والأذية. وقد ثبت عند الطبراني في "الكبير" بإسناد حسن أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم قال: (من آذى المسلمين في طرقهم فقد وجبت عليه لعنتهم) (4) . فالملاعن لكونها تسبب لعنة من الناس ولكونها تسبب قبول الله اللعنة من الناس. (مسألة) : حكم إستقبال بيت المقدس واستدباره في البول أو الغائط. هل يحرم ذلك أم لا؟؟

روى أبو داود في سننه أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ: (نهى عن إستقبال بيت المقدس بغائط أو بول) ، فالحديث فيه راو مجهول، فعلى ذلك الحديث ضعيف، فلا يكره ولا يحرم فعل ذلك وهو أحد القولين، وهو مذهب المالكية، وقال الشافعية يكره. والحمد لله رب العالمين. الدرس الرابع عشر: السبت 28/10/1414هـ قال المصنف ـ رحمه الله ـ: ((ويستجمر بحجر ثم يستنجى بالماء)) : أي يجمع بين الإستجمار بالحجارة ونحوها وبين الاستنجاء بالماء وهذه إحدى صور إزالة الخبث وهي أفضلها بإجماع أهل العلم كما حكى ذلك العيني. فقد اتفق أهل العلم بل أجمعوا على أن هذه الصفة هي أفضل الصفات؛ وذلك لأنها تجمع بين إزالة النجس عيناً بالحجارة وبين إزالته أثراً بالماء، فإن الحجارة إنما تزيل عين النجاسة ولا تزيل أثرها. أما الاستنجاء بالماء فإنه يزيل النجاسة عيناً وأثراً، لكن ذلك يكون بإصابة اليد للخبث، فإذا اجتمعا ـ أي الإستجمار بالحجارة والاستنجاء بالماء، كانت هي الصفة الفضلى. وهناك أدلة يستدل بها الفقهاء على هذه الصورة سوى الدليل المتقدم وهو تعليل. ـ منها ما روى عن سعيد بن منصور ـ كما في المغني ـ عن عائشة قالت: (مُرْن أزواجكن أن يتبعوا الحجارة بالماء من أثر الغائط والبول، فإني أستحييتهم، كان النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ يفعله) (1) واحتج به الإمام أحمد. ولكن سُنَنْ سعيد بن منصور ليست كلها مطبوعة، بل ولا كلها موجودة، فمنها ما هو مفقود، ومما هو مفقود جزء الطهارة، وهذا الحديث ثابت في سنن الترمذي والنسائي ومسند أحمد بإسناد صحيح من غير ذكر الحجارة، إنما فيه: (مُرْن أزواجكن أن سيتطيبوا ـ أي يستنجوا ـ بالماء، فإن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ كان يفعله) (2) . فهذا الحديث ليس فيه ذكر الجمع بينهما، وإنما ذكر الاستنجاء بالماء دون ذكر الإستجمار بالحجارة.

ـ ومنها: ما رواه البزار بإسناد ضعيف جداً، نزلت: ((فيه رجال يحبون أن يتطهروا والله يحب المطهرين)) ، نزلت في طائفة من الأنصار كانوا يتبعون الحجارة بالماء) . والحديث إسناده ضعيف جداً. ـ وفي الخمسة إلا النسائي من حديث أبي هريرة مرفوعاً: (أنها نزلت ـ أي آية ((فيه رجال يحبون أن يتطهروا)) في أهل قباء كانوا يستنجون بالماء) (1) إسناده صحيح. فإذن: نزلت في أهل قباء لكونهم يتطهرون بالاستنجاء بالماء وليس فيه إضافة الإستجمار بالحجارة. وهذا الحديث إسناده صحيح. إذن: عندنا الإجماع لذلك المعنى المتقدم، وهو أنه يجمع بين ألا تمس يده القذر وبين أن يزول أثر النجاسة فلا يبقى للنجاسة عين ولا أثر، هذه هي الصورة الفضلى باتفاق أهل العلم بل حكى إجماعاً. ـ ثم بعد ذلك الصورة الثانية: وهي الاستنجاء بالماء وهي أفضل من الإستجمار بالحجارة باتفاق أهل العلم. ـ وقد كرهه ـ أي الإستجمار بالماء ـ طائفة من الصحابة والتابعين لكن السنة حجة عليهم. فقد ثبت في الصحيحين من حديث أنس بن مالك قال: (كان النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ يدخل الخلاء فأحمل أنا وغلام نحوي إداوة من ماء وعنزة فيستنجى بالماء) (2) . وقد تقدم حديث عائشة وحديث أبي هريرة في نزول الآية: (فيه رجال يحبون أن يتطهروا) وهذه الصورة فيها إزالة الأثر والعين جميعاً. وقد قال الترمذي: (والعمل على هذا عند أهل العلم يختارون الاستنجاء بالماء وإن كان الإستجمار يجزئ، واستحبوا الاستنجاء بالماء ورأوه أفضل) . إذن: هذه الصورة العمل عليها عند أهل العلم على جوازها وعلى استحبابها بل على تفضيلها على الإستجمار بالحجارة. ـ الصورة الثالثة: هي الإكتفاء بالحجارة ونحوها، وهذه الصورة ثابته صحيحه من فعل النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ وقوله، وسيأتي أدلة ذلك عند ذكر بعض المسائل ـ إن شاء الله ـ. وقد أجمع أهل العلم على جوازها.

إذن: هذه الصورة كلها جائزة، وأفضلها أن تجمع بين الإستجمار بالحجارة والاستنجاء بالماء ثم بعد ذلك الإستجمار بالحجارة، وهذه الصور كلها جائزة وإن كان الإستجمار بالحجارة لا يزيل أثر النجاسة وإنما يزيل عينها، وهذا معفو عنه في الشريعة، أي بقاء أثرها معفو عنه في الشريعة. * قوله: ((ويجزئه الإستجمار إن لم يتعد موضع العادة)) : إذن: تقدم أن الإستجمار يجزئ لكن بقيد، وهو ألا يتعدى ـ أي لا يتجاوز ذلك موضع العادة. فإذا تجاوز موضع العادة ـ أي موضع الأذى ـ فإنه لا يجزئه أن يكتفي بالإستجمار بالحجارة، بل لا بد أن يغسل هذا الزائد بالماء؛ لأن هذا الزائد قد تعدى موضع العادة، كأن يصيب ما حول قبله أو دبره شيئاً من النجاسة، فلا يجزئه الإستجمار بل لابد أنه يستنجى بالماء، وذلك: لأن الشارع إنما عفى عن بقاء الأثر ما دام في موضع العادة. فإذا تعدى موضع العادة فإنه لابد من الاستنجاء بالماء إذ لا مشقة في ذلك، هذا هو المشهور في المذهب. ـ وذهب بعض أهل العلم من الحنابلة ـ وهو اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية ـ إلى أنه يجزئه الإستجمار بالحجارة وإن تعدى ذلك موضع العادة؛ لأن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ في إجازته الإستجمار بالحجارة لم يقيد ذلك. والأظهر القول الأول لقوة دليله. أما كون النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ لم يقيد ذلك، فإن ذلك بناءاً على الأصل فإن الأصل بقاؤه في موضع العادة، وأما كونه يتعدى ذلك فله حكم آخر وهو اشتراط إزالته إزالة تامة حقيقية ـ أي عينه وأثره ـ وهذا هو الراجح. * قوله: ((ويشترط للإستجمار بأحجار ونحوها أن يكون طاهراً منقياً غير عظم وروث وطعام ومحترم ومتصل بحيوان، ويشترط ثلاث مسحات منقية فأكثر ولو بحجر ذي شعب)) : هذه شروط ما يستنجى به.

إذن: يجوز أن يستنجى بغير الحجارة، فليس الإستجمار خاصاً بالأحجار، فلوا استجمر بما يزيل الأذى عيناً أي جرماً وإن لم يزله أثراً كالأوراق في الجريد ونحوها فإنه يجوز ذلك، وظاهر المذهب أنه يجزئ، وهذا هو المشهور في مذهب الحنابلة، بل هو مذهب أكثر أهل العلم. ـ وذهب الإمام أحمد في رواية عنه إلى أنه لا يجزئ إلا الحجارة؛ لأن الشارع خصص الحكم بذلك فلم تجزئ غيرها. والراجح هو مذهب جمهور أهل العلم؛ لأن هذا من باب القياس، بل الأدلة الشرعية فيها إشارة إلى جوازه، فمن ذلك ما ثبت في مسلم أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ: (نهى أن يستنجى برجيع أو عظم) (1) . فإذا: استثنى ذلك النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ فإن ذلك يدل على أن سواه جائز ولو لم يكن سوى الحجر جائزاً لما احتاج النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ إلى أن يستثنيه، ونحوه ما ثبت في سنن أبي داود أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ: (سئل عن الإستطابة ـ أي الاستنجاء، وسميت بذلك؛ لأنها تطيب البدن بإزالة الخبث عنه ـ فقال: بثلاثة أحجار ليس فيها رجيع) (2) . فهنا استثنى النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ الرجيع، وذلك لأن غيره جائز. فإذن: الراجح هو ما ذهب إليه أكثر العلماء وهو الذي يدل عليه المعنى، فإن الشريعة قد أتت بالقياس الصحيح من إلحاق الشيء بنظيره، فإذا ثبت في شيء من الأشياء ما ثبت في الحجر من إزالة النجاسة عيناً وجرماً فإنه يصح ذلك وهذا هو مذهب جمهور العلماء.

قوله: ((أن يكون طاهراً)) : إذن: النجس لا يحل أن يستنجى به ويدل على ذلك ما ثبت في الصحيحين ـ وهو دليل على جواز الإستجمار ـ عن ابن مسعود قال: (أتى النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ الغائط فأخبرني أن آتيه بثلاثة أحجار فوجدت حجرين والتمست الثالث فلم أجده، فوجدت روثة فأتيته بها فأخذ الحجرين وألقى الروثة، وقال: هذا ركس) ، وفي رواية ابن ماجة: (هذا رجس) وفي الترمذي: (يعنى نجساً) (1) . وقال النسائي: (ركس أي طعام الجنّ) واستغربه الحافظ ابن حجر وهو كما قال: فإن لفظة: (ركس) معناها نجس، والأصل النجس أن يكون نجساً حسياً، ما لم يدل دليل على نقله عن ذلك. وهذا يدل على أنه لابد أن يكون طاهراً ليس بنجس. وقوله: ((منقية)) : فإن كان فيه رطوبة أو كان أملساً أو نحو ذلك كالزجاج أو حجر أملس أو أن يكون منه رطوبة لا يزيل الخبث فإنه لا يجزئه أن يستجمر به. وقوله: ((غير عظم وروث)) : فالعظم والروث لا يجوز له أن يستجمر بهما. ودليل ذلك ما ثبت في صحيح مسلم عن سلمان قال: (لقد نهانا النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ أن نستنجى باليمين أو أن نستجمر بأقل من ثلاثة أحجار أو أن نستجمر برجيع أو عظم) (2) . وثبت في مسلم أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال للجنّ: (لكم كل عظم ذكر إسم الله عليه يقع في أيديكم أوفر ما يكون لحماً، وكل بعرة ـ أي روثه ـ علفت لدوابكم، ثم قال النبي ـ صلى الله عليه وسلم: فلا تستنجوا بهما فإنهما طعام إخوانكم) . وفي حديث رُوَيْفَع أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال له: (أخبر الناس) الحديث، وفيه: (وأن من استنجى برجيع دابة أو عظم فإن محمداً برئ منه) (3) والحديث رواه أبو داود وغيره. فهذه الأحاديث تدل على تحريم الاستنجاء بالعظم والروث. ـ فإذا استجمر بعظم أو روث فهل يجزئه ذلك؟؟ المشهور في مذهب الحنابلة أنه لا يجزئه ذلك.

واستدلوا بما روى الدارقطني، وقال: إسناده صحيح أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ: نهى عن الإستجمار بالرجيع أو العظم، وقال: (إنهما لا يطهران) (1) وأعله ابن عدي. ـ وذهب شيخ الإسلام إلى ثبوت الإجزاء لهذا الفعل وإن كان الفعل محرماً؛ لأن الخبث قد زال، والمقصود من النجاسة إزالتها فبأي طريق زالت فإن حكمها يذهب والحكم يدور مع علته وجوداً وعدماً، فمادام أن النجاسة قد ذهبت وإن كان باستعمال ما يحرم عليه استعماله فإنه يجزئه ذلك وهذا قول قوي. قال الزركشي: (وهذا جيد لولا حديث الدارقطني) . والذي يظهر قول شيخ الإسلام. وأما الحديث فإنه يحمل على الغالب في العظم والروث. فالغالب فيهما أنهما لا يطهران، فقال النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ذلك بناءاً على الغالب بينهما (هذا على التسليم بصحة إسناده) . وأما إذا ثبت أنهما يطهران ويزيلان النجس فلا موجب لعدم الإجزاء. فإذن: يحرم عليه ذلك لكنه يجزئه إن فعله على الإثم، أما إذا فعله ناسياً أو جاهلاً فإنه يرفع عنه الإثم مع ثبوت الأجزاء له. وقوله: ((وطعام)) : وهذا من باب القياس، قالوا: فإذا كان طعام الجنّ ودوابهم يحرم الاستنجاء به، فأولى منه طعام الإنس، وطعام دوابهم فهو أولى منه بهذا الحكم. وقوله: ((ومحترم)) : مثل كتب العلم، فإذا كان الشيء محترماً فلا يجوز الاستنجاء به، وهذا من تعظيم شعائر الله: ((ومن يعظم شعائر الله فإنها من تقوى القلوب)) (2) والإستجمار بها إهانة لها، وهذه الإهانة محرمة، فلا يجوز إهانة ما يجب إحترامه. وقوله: ((ومتصل بحيوان)) : قالوا: لو أن رجلا استنجى بصوف أو شيء من بدن حيوان، قالوا: فإن ذلك محرم، هذا هو المشهور في المذهب، وأن الإستجمار بشيء متصل بالحيوان محرم، وهذا هو مذهب الشافعية. ـ وذهب بعض أهل العلم إلى أنه لا بأس في ذلك. ولم يتبين لي دليل على تحريم ذلك.

فالأقوى هو القول بحله، كيف والرجل يستنجى بيده اليسرى وهي عضو متصل به فأولى منه أن يستنجى بمتصل بحيوان، والله أعلم. وقوله: ((ويشترط ثلاث مسحات منقية فأكثر ولو بحجر ذي شعب)) : يشترط أن يكون استنجاؤه بثلاث مسحات فإن كان بمسحتين أو يمسحه فلا يجزئه. ـ ويشترط أن يكون بثلاثة أحجار، لما تقدم من حديث سلمان وفيه: (وأن يستنجى بأقل من ثلاث أحجار) : وهذا هو مذهب الحنابلة وهو مذهب الشافعية، وهذا الذي يدل عليه هذا الحديث. وكذلك يدل عليه ما ثبت في سنن أبي داود أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال: (من ذهب إلى الغائط فليذهب معه بثلاثة أحجار فإنها تجزئه) (1) ، ومفهومه أنها إن قلت فإنها لا تجزئه. ـ وذهب المالكية إلى جواز ذلك ـ أي أن تقل عن ثلاثة أحجار ـ إذا أنقت ـ فإذا أنقت ولو كان ذلك حجراً واحداً فإنها تجزئه. واستدلوا: بما ثبت في الصحيحين أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال: (من استجمر فليوتر) (2) ، والوتر يطلق على الواحد. وكذلك بما ثبت في البخاري من حديث ابن مسعود في اتيانه النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ بحجرين وليس فيه إعادته ليأتيه حجر آخر. ـ والإستدلال بهذين الحديثين على هذه المسألة ضعيف. أما الحديث الأول: فإن لفظة الوتر مطلقة هنا، وقد أتانا حديث سلمان فقيده بإيجاب ثلاثة أحجار فموجب أن نقيده بثلاث. ـ وأما حديث ابن مسعود، فهو وإن لم يأته بحجر ثالث لكن الأمر مازال متعلقاً بذمته، فقد أمره أن يأتيه بثلاثة أحجار فمازال الأمر متعلقاً بذمته. وكونه لم يأت بها فهو لايزال مطالباً بإحضار ثالثة ثم إن قوله: (فالتمست الثالث فلم أجده) : فيه أنه لم يجد ذلك، فهو إن لم يجد ذلك، فإنه يكون معذوراً والراجح هو القول بوجوب الإستجمار ثلاثة أحجار فأكثر وهو مذهب الشافعية والحنابلة. ـ وهل يشترط أن يكون كل حجر يعم المحل كله؟؟

ظاهر الحديث أنه لا يشترط ذلك مطلقاً، بل يستنجى بثلاثة أحجار لكل حجر جزءاً من المحل، فظاهر الحديث أنه لا يشترط أن يعمم المحل لكل حجر وهو قول في مذهب الحنابلة. ـ والمشهور في المذهب أنه يشترط أن يعمم المحل بكل حجر وقد تقدم أن ظاهر الحديث إطلاق ذلك. وقد روى الدارقطني، وقال: إسناده حسن أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال: (أولا يجد أحدكم ثلاثة أحجار حجرين للصفحتين وحجرة للمَسْرَبَة) وهي محل الأذى. لكن الحديث فيه أُبيِّ (1) بن العباس وهو ضعيف، فالأرجح: أنه لا يشترط ذلك. وقوله: ((ولو بحجر ذي شعب)) : بمعنى: أتى بحجر ذي ثلاث شعب فإنه بجزئه ذلك، فكل شعبة تقوم مقام حجرة وهذا قياس واضح صحيح. وقال هنا: (ولو) إشارة إلى خلاف في المذهب فهناك رواية عن الإمام أحمد أنه لا يجزئ ذلك بل لابد من ثلاثة أحجار لظاهر الحديث المتقدم. والأظهر هو القول الأول لأن هذه الحجارة التي هي ذات ثلاث شعب بمقام ثلاثة أحجار فإنها تجزئه على الراجح. * قوله: ((ويسن قطعه على وتر)) : لقوله صلى الله عليه وسلم ـ في الحديث المتقدم: (ومن استجمر فليوتر) . * قوله: ((ويجب الاستنجاء لكل خارج إلا الريح)) : يجب الاستنجاء لكل خارج عيني إلا الريح، قال الإمام أحمد: (الاستنجاء من الريح ليس له أصل في الكتاب ولا في السنة وإنما فيه الوضوء) . فليس من الريح إستنجاء، وإنما الاستنجاء من البول أو الغائط أو نحوهما مما قد يخرج من أحد السبيلين، وأما الريح فليس فيه استنجاء، وليس للإستنجاء به أصل في الكتاب والسنة. وأما ما رواه الطبراني أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال: (من استنجى من الريح فليس منا) (2) ، فالحديث اسناده ضعيف جداً. * قوله: ((ولا يصح قبله وضوء ولا تيمم)) : هذه المسألة: فيها أنه لا يصح للشخص أن يتوضأ أو يتيمم ثم يستنجى.

_ (1) بفتح الهمزة وتشديد الباء مع الكسرة: ((أَبِّي)) .

ـ فإن قيل: هذه مسألة متكررة، فَلِمَا ذَكَرَهَا المؤلف؟؟ فالجواب: أنه يقع مثل هذا، بل قد ذهب بعض أهل العلم إلى صحته مع وجوده. ـ فلوا أن رجلاً توضأ أو تيمم ثم بعد ذلك استنجى وأزال الخبث، فهل تجزئه ذلك؟؟ المشهور في المذهب أنه لا يجزئه، واستدلوا بقول النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ حين أصابه المذي: (يغسل ذكره ويتوضأ) (1) رواه مسلم. وفي رواية النسائي: (ثم يتوضأ) لكن هذه اللفظة اسنادها ضعيف منقطع. ـ فإن قيل: ألا يستدل بالرواية المتقدمة. فالجواب: لا يستدل بها، لأن لفظة (الواو) لا تفيد إلا الإشتراك: (يغسل ذكره ويتوضأ) . بل قد ثبت في الصحيحين أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال: (توضأ وانضح فرجك) فقدم الوضوء هنا. ـ فإن قيل: المشهور من فعله صلى الله عليه وسلم، أنه كان يستنجى ثم يتوضأ؟ فالجواب: قالوا: هذا فعل، والفعل لا يدل على الوجوب. ـ وهذا القول رواية عن الإمام أحمد وهو الراجح، فلو أنه استنجى بعد وضوئه أو تيممه لكان وضوؤه صحيحاً وعلى ذلك: إن هذا الفعل منه لا يعدو، إلا أن يكون إزالة للخبث، وإزالة الخبث ليست من شروط صحة الوضوء، فلو أن رجلا أصاب شيء من بدنه نجاسة في غير محل الأذى فتوضأ ثم قام بإزالته فوضوؤه صحيح. فالمسألة لا تعدو إلا أن تكون إزالة أذى أما كونه يمس ذكره أولا، فهذه مسألة أخرى سيأتي تكريرها في بابها إن شاء الله؛ لأنه لا يشترط أن يكون مس ذكره فقد يكون استنجى بحجر أو خرقة أو نحوها. وهذا القول هو الراجح لعدم الدليل المانع منه، وقد قال ـ صلى الله عليه وسلم ـ فيمن أصابه المذي: (توضأ واغسل ذكرك) (2) . والحمد لله رب العالمين. الدرس الخامس عشر (الأحد) التاريخ 29/10/1414هـ. باب: السواك وسنن الوضوء:

السواك: هو العود الذي يدلك في الفم ويحرك فيه ليطهره ويطلق أيضاً على الفعل أي الدَّلك والتحريك ويسمى سواكاً فيطلق على الأداة التي يستاك بها، ويطلق على التسوك فكلاهما سواك. وهو من التحرك والاضطراب، يقال: جاءت الإبل بساوك هزلاً: إذا اضطربت أعناقها من هزالها أي من ضعفها. ـ أما الوُضوء: فهو بالضم، الفعل، وبالفتح: الماء المتوضىء به وهذا في لغة العرب: النظافة والحسن، يقال: وجه وضيء: أي حسن نظيف. أما اصطلاحاً: فهو غسل الأعضاء الأربعة على صفة مخصوصة. ـ قال المصنف ـ رحمه الله ـ: ((السواك بعود لين منق غير مضرٍ لا يتفتت لا بأصبع أو خرقة، مسنون)) : فالسواك مسنون بما يكون متصفاً بالشروط التي ذكرها المؤلف فهو مسنون باتفاق العلماء. وهو أن يسوك بعود لين غير خشن يضر بلثته، وليس كذلك بمضر، ولا يتفتت وهو منقٍ مطهر منظف فما كان على هذه الصفة فإنه يسن أن يستاك به. كعود الأراك والعرجون وعود الزيتون ونحو ذلك. ـ قد ثبت في البخاري معلقاً مجزوماً به ووصله أحمد والنسائي وابن حبان بإسناد صحيح أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال: (السواك مطهرة للفم مرضاة للرب) . ـ وأفضله كما نص على ذلك غير واحد من أهل العلم من بعض الحنابلة وبعض الشافعية وبعض المالكية، أفضلة الأراك، ويدل على ذلك: ما ثبت في مسند أحمد بإسناد جيد من حديث ابن مسعود قال: (كنت أجتبي للنبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ سواكاً من أراك) . وثبت عند الطبراني وقال الهيثمي اسناده حسن في حديث وفد عبد القيس قال الراوي: فزودنا رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ بالأراك نستاك به) فهذا أفضل أنواع الأعواد التي يستاك بها. فإذن: السواك في كل عود منق لا يتفتت ولا يضر، مشروع مستحب. ـ أما إذا كان من الأعواد الضارة كعود الريحان ونحوه فإنه ليس بمشروع لكونه مضراً وفي الحديث (لا ضرر ولا ضرار) .

قوله: ((لا بأصبع أو خرقه)) : هذا هو المشهور في المذهب وهو مذهب الشافعية وأن السواك بالأصابع والخرق والمناديل ونحوها لا يجزئه؛ لأن الثابت إنما هو السواك بعود ونحوه؛ لأنه لا يحصل في السواك بالأصابع ما يحصل بالسواك بالأعواد من الإنقاء. ـ وذهب أبو حنيفة وهو رواية عن الإمام أحمد ـ إلى أنه يجزئ ذلك، واستدلوا: بما روى البييهقي أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال: (يجزئ من الساك الأصابع) لكن الحديث إسناده ضعيف وقد ضعفه البيهقي، فالحديث ضعيف. واستدلوا: بما رواه أحمد أن علي بن أبي طالب توضأ وفيه: أنه تمضمض وأدخل بعض أصابعه في فيه، إلى أن قال: (رأيت النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ يفعل ذلك) . وفيه أنه أدخل أصابعه في فيه أي يستاك. لكن الحديث فيه مختار بن نافع الكوفي وهو ضعيف. فعلى ذلك الحديث ضعيف. ـ وصحح الموفق ـ رحمه الله ـ أنه يحصل له من الفضيلة والسنة بقدر ما يحصل له من الأنقاء وهذا قوي. ـ وقال بعض الحنابلة: إنما يجزئ عنه إن لم يجد عوداً وهذا قوي. فإن لم يجد عوداً فإن مالا يدرك كله لا يترك كله. فإنه إن لم يجد سواكا فإنه يستاك بأصبع أو نحوها ويحصل له من الثواب بقدر ما يحصل له من الإنقاء. قوله: ((كل وقت)) : لعمومات الأدلة كما تقدم في قوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ (السواك مطهرة للفم مرضاة للرب) ، وهذا عام في كل وقت، وقد ثبت في البخاري أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال: (أكثرت عليكم بالسواك) أي أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ أكثر على أصحابه من الحث والترغيب في فعل السواك وهذا يدل على تأكيد استحبابه. قوله: ((لغير صائم بعد الزوال)) : هذا هو المشهور في المذهب وأن السواك مكروه للصائم بعد الزوال فإنه لا يكره، وهذا هو مذهب الشافعية. واستدلوا:

ـ بما روى البيهقي أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال: (إذا صمتم فاستاكوا بالغداة ولا تستاكوا بالعشي) (1) قالوا: والعشي يكون من بعد زوال الشمس، والحديث اسناده ضعيف. ـ وأصح منه ثبوتاً ما في الصحيحين أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـقال: (لخلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك) (2) . قالوا: فإذا استاك بالعشي ـ وغالباً ما تطهر هذه الرائحة التي هي أطيب عند الله من ريح المسك، غالباً ما تطهر بعد زوال الشمس، فيكره السواك بعد الزوال لأنه سبب لإزالتها. ـ وذهب أكثر أهل العلم وهو مذهب الأحناف والمالكية ورواية عن الإمام أحمد واختاره كثير من الحنابلة وهو اختيار شيخ الإسلام وتلميذه ابن القيم، واستظهره في الفروع، وقواه صاحب الشرح الكبير. ورأوا أنه ليس بمكروه بل هو مستحب مشروع في كل وقت. واستدلوا: بما روى أبو داود والترمذي وقال الحافظ إسناده صحيح عن عامر بن ربيعة قال: (رأيت النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ مالا أحصي يستاك وهو صائم) (3) . لكن الحديث ليس إسناده بصحيح خلافاً لما قال الحافظ فإن فيه عاصم بن عبيد الله وهو ضعيف فالحديث إسناده ضعيف. وأصح منه استدلالاً: استدلالهم بالعمومات الدالة على عموم فضل السواك من غير أن يستثنى من ذلك شيء، كما تقدم في قوله صلى الله عليه وسلم: (السواك مطهرة للفم مرضاة للرب) (4) . أما الجواب على أدلة أهل القول الأول: ـ أما حديث: (إذا صمتم فاستاكوا بالغداة ولا تستاكوا بالعشي) فقد تقدم أن الحديث ضعيف. ـ أما حديث: (لخلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك) . فالجواب عنه: أن الحديث ليس فيه أنه لا يستاك وأنه يدع هذه الرائحة الكريهة، وإنما فيه الترغيب بالصوم وأن هذه الرائحة الكريهة التي يكرهها المسلم أطيب عند الله من ريح المسك.

وقد روى الطبراني بإسناد جيد عن عبد الرحمن بن غنم قال: قلت لمعاذ بن جبل: أستاك وأنا صائم قال: نعم، فقلت أي النهار، فقال: غدوة وعشياً، فقلت: إن الناس يكروهون الإستياك في العشي، ويقولون: قال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ: (لخلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك) فقال: سبحان الله ((وهي هنا للعجب)) إنما أَمَرَهُم بالسواك وليس بالذي يأمرهم أن ينتنوا أفواههم عمداً، ليس في هذا من الخير شيء إنما إنما هو شيء) . ـ ثم إن هذه الرائحة إنما تخرج من المعدة، وغاية السواك أن يطهر الفم، فهو مطهر للفم، وأما هذه الرائحة فإنها مخرجها من الجوف على أن هذا ليس فيه إلا استحباب الصوم والترغيب فيه وأن الرائحة التي تخرج أطيب عند الله من ريح المسك وليس في الحديث الترغيب في تركها، هذا هو القول الراجح. قوله: ((متأكد عند صلاة وانتباه وتغير فم)) : والسواك مستحب مشروع لكنه يتأكد في مواضع فيكون السواك منها آكد استحباباً فمن ذلك: (عند الصلاة) : كما في الصحيحين أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال: (لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم بالسواك عند كل صلاة) وفي الحديث الحسن لشواهده، وقد جوده غير واحد من أهل العلم، وقد رواه الحاكم وابن خزيمة أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال: (صلاة بسواك خير من سبعين صلاة بغير سواك) (1) . وظاهر هذه الأحاديث أنه يتأكد استحبابه صلاة الفرض والنفل. قوله: (وانتباه) : أي الإنتباه من النوم سواء كان نوم ليل أو نوم نهار. ودليل ذلك ما ثبت في الصحيحين من حديث حذيفة أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم: كان إذا قام من الليل "أي من النوم" يشوص "أي يدلك" فاه بالسواك) (2) . قوله: (وتغير فم) : أي تغير رائحة الفم إلى الكراهية سواء كان بسبب سكوت أو من طعام أو من شراب أو جوع ونحو ذلك لقوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ: (السواك مطهرة للفم مرضاة للرب) .

فهذا الفم الذي أصيب بشيء من كراهية الرائحة بسبب جوع أو أكل أو نحوه يستحب له أن يدلكه بالسواك ليطهره. ـ ويستحب ـ ولم يذكره المؤلف ـ عند دخول المنزل لما ثبت في مسلم عن عائشة: أنها سئلت بأي شيء كان النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ يبدأ إذا دخل المنزل قالت: بالسواك (1) . ـ وهل يقاس عليه دخول المسجد؟. صرح بذلك بعض الحنابلة ـ وأنه يستحب له ـ من باب القياس أن يستاك عند دخول المسجد. وعللوا ذلك: بأن علة استحبابه عند دخول المنزل كون النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ يصلي النافلة فيه، فكذلك في المسجد فإنه سيدخل ويصلي فيه النافلة أو تحية المسجد أو الفريضة وفي هذا نظر، فإن عائشة لم تستثن حالة عن حالة ولم يكن كل دخول النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ بعد صلاة يصلي نفلها ـ ثم إن هناك علة قوية ـ أقوى من هذه العلة فيما يظهر أو تنازعها في القوة ـ وهي أن يكون ذلك من حسن معاشرته عليه الصلاة والسلام لأهله كالتطيب ونحوه فيكون هذا من تطهير الفم، وهي علة قوية. فحينئذ لا يصح هذا القياس. ولم يصح عن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ولا فيما أعلم عن أحد من أصحابه الإستياك عند دخول المسجد. ولكنه إذا استاك للصلاة فنعم، فإنه حينئذ يدخل في عموم الحديث المتقدم (عند كل صلاة) . ـ وسيأتي تأكد استحبابه عند الوضوء. ـ ويتأكد السواك عند قراءة القرآن، لما روى البزار بإسناد جيد أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال: (طهروا أفواهكم للقرآن) (2) ، فيستحب له أن يطهر فمه لقراءة القرآن. ـ وإن قيل: إنه يستحب لذكر الله والدعاء فهو حسن، لقوله صلى الله عليه وسلم ـ (إني كرهت أن أذكر الله على غير طهر) ومن الطهارة السواك، كما قال صلى الله عليه وسلم: (السواك مطهرة للفم) . قوله: ((ويستاك عرضاً مبتدئاً بجانبه الأيمن)) : هذه صفة الإستياك وكيفيته. وهي أن يستاك عرضاً

ودليل ذلك، ما رواه الطبراني أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ: (كان يستاك عرضا) (1) لكن الحديث إسناده ضعيف. ـ وله شاهد من مراسيل عطاء، وهو مرسل، وفيه راوٍ مجهول فيكون ضعيفاً جداً فلا يصلح شاهداً. ـ إذن لم يثبت ذلك في السُّنَّة الصحيحة، وقد ضعف هذا الحديث النووي وابن الصلاح والضياء. ـ وقال بعض أهل العلم: أنه يستاك طولا ـ هكذا قال بعض الحنابلة. ـ وذكر بعضهم أن أهل الطب يستحبون ذلك ـ أي السواك طولاً. والقائلون عرضاً ذكروا أن الإستياك طولاً أضر على اللثة وعللوا استحباب الإستياك عرضاً بأنه أبعد عن مضرة اللثة وأبعد عن فساد الأسنان. فعلى ذلك لا يثبت شيء من السنة لا في الإستياك عرضاً ولا في الأستياك طولاً ومرجع ذلك إلى الطب أو إلى الإختيار، فإذا ثبت أن الأبعد له عن الضرر أن يستاك طولاً أو عرضاً فإنه يفضل ذلك. قوله: ((مبتدأ بجانب فمه الأيمن)) : وذلك لما ثبت في الصحيحين عن عائشة قالت: (كان النبي ـ عليه الصلاة والسلام ـ يعجبه التيمن أو التيامن في تنعله وترجله وطهوره وشأنه كله) (2) ، وفي أبي داود (وسواكه) ، فهذا الحديث صريح في مشروعية البداءة بالجانب الأيمن قبل الأيسر عند الإستياك. ـ وهل المستحب أن يكون الإستياك باليد اليمنى أم باليسرى؟ نص الإمام أحمد على استحباب ذلك باليد اليسرى، وقال شيخ الإسلام: (ولا أعلم أحداً من الأئمة خالف في ذلك إلا المجد) يعني المجد ابن تيمية هو جده وهو من كبار الحنابلة وهو صاحب المنتقى وهو كبار الفقهاء، وكان يستحب أن يستاك بيده اليمنى، ويستدل: بحديث عائشة المتقدم. والإستدلال بحديث عائشة فيه نظر، فإنما هو دليل على البداءة بالجهة اليمنى. وأما هنا فإن الباب آخر والبحث هنا آخر، فالبحث في الأداة التي يتطهر بها.

وعليه ما ذهب إليه عامة أهل العلم: أن السواك من باب التطهر لقوله (مطهرة للفم) هذا هو الغالب فيه وإلا فقد يكون لمجرد مرضاة الرب سبحانه وتعالى. لكن الأصل فيه أن يكون مطهرة للفم، وما كان هذا بابه فإنه مستحب باليد اليسرى، كما أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ كان يستنشق باليد اليسرى كما ثبت في النسائي بإسناد صحيح، وكذلك هنا فإنه يستحب أن يستاك باليداليسرى؛ لأن ذلك من باب التطهر أو من باب إزالة الأذى وإماطته. أما حديث التيامن فإنما ذلك دليل على استحباب البداءة بالجهة اليمنى قبل الجهة اليسرى. روى ابن أبي شيبة ـ ولم أقف على اسناده ـ أن عبادة بن الصامت وأصحاب النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ كانوا يروحون والسواك على آذانهم) (1) . وفيه حديث ضعيف عن البيهقي أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ كان يضعه على أذنه كما يوضع القلم) (2) . والحمد لله رب العالمين. الدرس السادس عشر ... …الإثنين…30/10/1414هـ قال المصنف ـ رحمه الله ـ: ((ويدهن غباً ويكتحل وتراً)) : غباً: أي يوماً يدهن، ويوماً لا يدهن. ودليل ذلك ما ثبت في مسند أحمد وسنن النسائي والترمذي وأبي داود بإسناد صحيح أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ: (نهى عن الترجل إلا غباً) (3) . والترجل هو: تسريح الشعر مع دهنه، فهو منهي عنه إلا يوماً بعد يوم. ـ وهل ذلك مستحب أم لا؟ ظاهر هذه اللفظه من المؤلف: أن ذلك مستحب، ويدل على استحبابه ما ثبت في سنن أبي داود بإسناد حسن أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال: (من كان له شعر فليكرمه) (4) ، وهذا عام في شعر الرأس وشعر اللحية. ولكنه لا يستحب إلا غباً للحديث المتقدم. ـ فإن قيل: أو ليس المقصود إزالة شعث الرأس، وإذا كان الأمر كذلك فلو أنه ترجل بماء ونحوه غير الدهن فهل يكون مستحباً كذلك أو لا؟.

الجواب: الصحيح أنه يكون مستحباً كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية، وقد ذكر شيخ الإسلام أنه يفعل ما هو الأصلح لبدنه، وذلك أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ إذا فعل فعلاً معيناً لمعنى مقصود، وكان هذا المعنى المقصود يثبت بهذا الفعل وغيره، فإن كل فعل يثبت فيه هذا المعنى الخاص فإنه مستحب. وهنا: الادهان، هل المقصود الادهان ذاته أم المقصود إكرام الرأس؟ الجواب: أن المقصود إكرام الرأس، فإذا ثبت إكرامه بغير الادهان بإنه يكون مستحباً كالادهان تماماً. وقد ثبت من حديث رجل من الصحابة قال: (نهى النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ أن يمتشط أحدنا في كل يوم) (1) فهذا أمر مكروه، وذلك لأن الشارع ينهى عن كثير من الأرفاه وكثير من التنعم. وقد روى أبو داود بإسناد صحيح أن رجلاً من أصحاب النبي ـ صلى الله عليه وسلم رحل إلى فضالة بن عبيد بمصر ثم قال له: (أما إني لم آتك زائراً ولكني سمعت أنا وأنت حديثاً من النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ فرجوت أن يكون عندك منه علم، فقال له: ما هو، قال: (كذا وكذا) "إذن أخبره بهذا الحديث" قال: فمالي أراك شعثاً وأنت أمير الأرض فقال: إن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ كان ينهانا عن كثير من الإرفاه "أي كثير من التنعم" قال: فما لي لا أرى عليك حذاء، فقال: كان النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ يأمرنا أن نحتفي أحيانا) (2) . ـ إذن هذا الحديث يدل على كراهية كثير الإرفاه وفي أبي داود أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال: (إن البذاذة من الإيمان) (3) : أي ترك كثير من التنعم في الثوب والبدن وهو البذاذة أنه من الإيمان.

فإذن: يستحب له أن يدهن غباً، ويكره له أن يدهن كل يوم، ولكن إذا كان كثير الشعر بحيث يكون فيه شعث كثير جداً، فحينئذ تزول الكراهية، وقد روى النسائي بإسناد صحيح أن أبا قتادة الإنصاري: كان له جُمَّة "أي شعر كثير يضرب على كتفه" فأمره النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ أن يحسن إليه) (1) . ـ وهنا عند هذه الفقرة التي ذكرها المؤلف مباحث: [المبحث الأول] : هل السنة إتخاذ الشعر أم حلقه؟ قال الإمام أحمد: (إتخاذ الشعر سنة ولو قدرنا عليه لفعلنا، ولكن له كلفة ومؤؤنه) أي يحتاج إلى كلفة من مشط وترجيل ودهان ونحو ذلك. وأما الدليل على سنيته: فهو أنه فعل النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ فقد ثبت في الصحيحين أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـكان له شعر يضرب على منكبه) (2) . وثبت في مسلم أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ كان له شعر إلى شحمة أذنه) (3) يعني: كان أحياناً إلى منكبه، وأحياناً إلى شحمة أذنه، إذا أخذ منه في حج أو عمره. ـ ومن أبقاه فعليه أن يكرمه فيكون له كلفة ومؤونة كما قال الإمام أحمد. ـ أما حلق الرأس فقد أجمع العلماء على إباحته، كما قال ذلك: ابن عبد البر رحمه الله ـ لكن هل يكره له حلقه أم لا؟. نص الإمام أحمد على كراهية حلقه، وقال: (كانوا يكرهونه) أي كان السلف. وفي رواية عنه أن تركه أفضل، فيكون حلقه غير مكروه. وقد ذكر النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ في صفة الخوارج أن سيماهم التحليق، وهذا لا يقتضي التحريم؛ لأن ليس كل تشبه محرم. فالأظهر: أن تركه أولى إلا في حج أو عمرة. [المبحث الثاني] : إذا اتخذ شَعْراً فهل يسدله سدلاً أم يفرقه فرقاً؟ السدل هو أن ترسل الشعر من غير أن تفرقه، والفرق: هو أن تجعل الشعر على صفقتين، صفقه بيمينه وصفقه شماله، فيظهر أصل الرأس. والجواب:

أن كلا الفعلين فعله النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ أي السدل والفرق، لكن الأول وهو السدل قد تركه لكونه قد نسخ فعله، فقد ثبت في الصحيحين: (كان أهل الكتاب يسدلون أشعارهم ـ أي يرسلونها ـ وكان المشركون ـ أي من العرب ـ يفرقون رؤوسهم وكان النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ يحب أن يوافق أهل الكتاب فيما لم يؤمر به، فسدل النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ناصيته ثم فرق بعدُ) (1) . وفي رواية: (ثم أمر بالفرق ففرق) . وقد اتفق أهل العلم على استحباب ذلك. فإذا: فرقه فهل يجعله دؤابتين أو عقيصتين؟ قال الإمام أحمد: (وأبو عبيدة له عقيصتان وعثمان له عقيصتان) أي يجعله عقيصين وهذا كان فعل العرب. إذن: والمستحب أن يفرق رأسه لفعل النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ وأنه أمر بذلك. ـ ولكن اتخاذ الشعر إن كان فيه فتنة فإنه لا يجوز ذلك سداً للذريعة. ـ هذا في شعر الرأس وإدهانه ومثل ذلك شعر اللحية، وقد أمر النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ بإعفاء اللحية، فقد ثبت في الصحيحين أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال: (أحفوا الشوارب وأعفوا اللحى) (2) . وفي الصحيحين أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال: (خالفوا المشركين وفِّروا الحى وأحفوا الشوارب) (3) . وفي مسلم: (أرخوا اللحى) . واللحية: الشعر النابت على الخدين والذقن) . كما ذكر ذلك صاحب لسان العرب وغيره. ـ الأحاديث المتقدمة تدل على وجوب إعفائها، وقد صرح بتحريم حلقها شيخ الإسلام ابن تيمية وغيره، ويدل على ذلك الأحاديث السابقة، وقد قال صلى الله عليه وسلم:: (من تشبه بقوم فهو منهم) ، والأصل في التشبه التحريم، وقد قال صلى الله عليه وسلم: (خالفوا المشركين) . ـ وهل يجوز له أن يأخذ منها ما فوق القبضة؟ ثبت ذلك من فعل ابن عمر في الحج والعمرة، فقد روى البخاري أن ابن عمر: (كان إذا حج أو اعتمر قبض لحيته، فما فضل أخذه) (4) .

ونص الإمام أحمد على جواز ذلك، وكذلك نص عليه الشافعي إذا كان في حج أو عمره. ـ وكره ذلك الحسن وقتادة. فإذن: ذهب بعض أهل العلم إلى النهي عن ذلك، وبعضهم ذهب إلى جوازه. ـ أما القائلون بجوازه، فقد استدلوا بفعل ابن عمر. ـ وأما القائلون بالنهي عنه فاستدلوا بعمومات النصوص المتقدمة: (أرخوا اللحى) (واعفوا اللحى) وغيرها. وكونه يأخذ شيئاً منها وإن كان فاضلاً عن القبضة، فإن ظاهر الحديث وجوب إعفائها وهو فعل النبي عليه الصلاة والسلام، فقد ثبت في البخاري أن خباب بن الأرتّ سئل فقيل له: (أكان النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ يقرأ في الظهر والعصر، فقال: نعم، فقيل له: بم كنتم تعرفون ذلك، فقال: باضطراب لحيته. فالنبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ لم يثبت أنه يأخذ من لحيته شيء بل كان يدعها عرضاً وطولاً. أما ما روى الترمذي أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ كان يأخذ من لحيته عرضاً وطولاً) (1) فالحديث منكر لا يصح، قد استنكره البخاري وغيره. ـ والأظهر من القول بالمنع منه، وذلك لأن النبي عليه الصلاة والسلام، أمر بإعفائها وإرجائها وأخذ شيء منها ينافي ذلك. والعمل برواية الصحابي لا برأيه إذا خالف رأيه روايته. فابن عمر وإن كان من رواة الأحاديث في إعفاء اللحية لكن رأيه خالف روايته، لأن النبي عليه الصلاة والسلام أمر بإعفائها وتركها مطلقاً وهذا ينافي ذلك. فالأظهر هو القول بالمنع. ـ أما الشوارب فيجب ـ على الراجح ـ قص شيء منها بإحفائها وجزها وإنهاكها، وقد ثبت في الصحيحين أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال: (أحفوا الشوارب) (2) وفي رواية: (جزوا الشوارب) وفي رواية: (أنهكوا الشوارب) وهو أن يبالغ في قصها. ـ وجمهور أهل العلم على سنيته، وقد قال النووي: (متفق على استحبابه) . وقد صرح الحنابلة بتأكد سنيته. ـ والأظهر التحريم؛ لأن الأمر للوجوب.

ـ وأصرح منه ما في الترمذي وصححه وهو كما قال أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال: (من لم يأخذ من شاربه فليس منا) (1) . وقد قال صاحب الفروع: (وهذه الصفة تقتضي ـ عند أصحابنا ـ التحريم) ؛ لأنه قال: (ليس منا) . وهذا هو مذهب الظاهرية ـ وهو الراجح ـ وهو أن قص الشارب وإحفاءه واجب، ومن لم يفعله فليس منا: أي ليس على هدينا وطريقتنا. ويقتضي ذلك تحريمه وهو مذهب الظاهرية، والأدلة الشرعية عليه. قوله: ((ويكتحل وتَراً)) : أي يسن له أن يكتحل وتراً. ويسن أن يكون ذلك بالإثمد، والإثمد: نوع من أنواع الكحل، وقد ثبت في ابن ماجة بإسناد جيد أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال: (عليكم بالإثمد فإنه يجلو البصر وينبت الشعر) (2) أي شعر العينين. وأما الإكتحال بغيره مما هو من باب الزينة، فإن كان للنساء فذلك جائز. وأما للرجال فهو محل توقف، وقد توقف فيه شيخ الإسلام. وذكر أنه يقوي جوازه فيمن كان كبير السن يبعد ذلك عن الفتنة، بخلاف الشاب، ومثل ذلك محل توقف؛ لأنه زينة وهو مختص بالنساء. ومن لم يكن كبير السن وهو ليس محل فتنة فهو محل توقف. والذي ينبغي أن يكون التوقف كذلك في كبار السن، لأن التوقف عام. إلا أن التحريم يقوي في الشاب لما في ذلك من الفتنة، والعلم عند الله. وقوله: ((وتراً)) : استدلوا عليه بما رواه أحمد وأبو داود أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم قال: (من اكتحل فليوتر من فعل فقد أحسن ومن لا فلا حرج) (3) لكن الحديث فيه جهالة، فهو ضعيف. فعلى ذلك يكتحل بما يكون مناسباً لعينه بالإثمد من غير أن يكون ذلك محدداً بوتر، إلا أن يكون مناسباً. قوله: ((وتجب التسمية في الوضوء مع الذكر)) : أي: يجب على من أراد أن يتوضأ وكذلك من أراد الغسل أو التيمم يجب عليه أن يقول: (بسم الله) ولكن ذلك ـ أي الوجوب ـ مع الذكر، أما إن نسي فلا حرج عليه.

ـ أما الدليل على وجوب التسمية: فهو ما رواه أحمد وأبو داود والترمذي وابن ماجة أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال: (لا صلاة لمن لا وضوء له، ولا وضوء لمن لم يذكر اسم الله عليه) (1) . وهذا الحديث في إسناده ضعف، لكن له شواهد كثيرة يرتقي إلى درجة الحسن. وقد قال العيني: (روى هذا الحديث من طريق أحد عشر صحابياً) وقال ابن أبي شيبة: (ثبت لنا أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قاله) أي من كثرة طرقه. وقد حسنه العراقي وابن الصلاح وابن كثير وابن حجر والمنذري، ومن المحدثين المعاصرين الشيخ الألباني ـ رحمه الله ـ فالحديث حسن. ـ أما سقوط التسمية بالنسيان: فاستدلوا بقول النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ: (إن الله تجاوز لي عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه) (2) . 1ـ هذا هو مذهب الحنابلة في المشهور عندهم: أن التسمية واجبة عند الوضوء ونحوه من الغسل والتيمم مع الذكر، فلو ترك التسمية عمداً بطل وضوؤه. 2ـ وذهب جمهور الفقهاء وهو رواية عن الإمام أحمد، واختارها بعض أصحابه أن التسمية سنة. وأجابوا: عن الحديث بأنه ضعيف لا يثبت، قال الإمام أحمد: (لا أعلم فيها إسناداً جيداً) أي التسمية. وكلامه ـ رحمه الله ـ إنما هو في الأسانيد بمفردها، أي في كل إسناد بمفرده، أما الأسانيد بمجموعها فإنها ترتقي إلى درجة الحسن. قالوا: وإن ثبت الحديث فإن قوله: (لا وضوء) يؤول بأن (لا وضوء كامل) ، فليس وضوءاً باطلاً، بل هو صحيح لكنه ليس بكامل بل هو ناقص لتركه السنة. وهذا القول ضعيف؛ لأن الأصل حمل الكلام على حقيقته، فيقال: (لا وضوء موجود) ثم (لا وضوء صحيح) وهي المرتبة الثانية ثم (لا وضوء كامل) وهي المرتبة الثالثة.

و (لا وضوء موجود) : هذا لا يمكن أن يقال به؛ لأن الوضوء قد وجد دون التسمية، فننتقل إلى المرتبة الثانية (لا وضوء صحيح) ثم (لا وضوء كامل) ولا يجوز أن ننصرف عن مرتبة إلا إذا امتنعت المرتبة التي قبلها فنقول ـ حينئذ ـ (لا وضوء صحيح) كما هو ظاهر اللفظة أي لا وضوء صحيح شرعي. 3ـ وذهب الإمام أحمد في رواية عنه واختارها أبو الخطاب من الحنابلة والمجد بن تيمية وابن عبد القوي إلى أن التسمية فرض عند الذكر والنسيان. فلو تركها ناسياً فإن وضوءه باطل ـ وهذا هو أصح الأقوال ـ وذلك لصحة الحديث الوارد في ذلك، وظاهره أنه لا وضوء صحيح مطلقاً سواء كان ذاكراً أو ناسياً. ـ أما حديث: (إن الله تجاوز لي عن أمتي 0000) الحديث، فإن ذلك لا يكون في ترك الواجبات، فإن من ترك واجباً فإنه لايزال مطالباً بفعله، فإذا فعله برأت ذمته. ويكون ـ حينئذ ـ مغفوراً له غير آثم بسبب نسيانه، أما كونه لا يجب عليه أن يفعل فلا. فلوا أن رجلاً صلى بلا وضوء ناسياً، فإنه لا يأثم لكنه يجب عليه أن يعيد الصلاة، وهو معذور لنسيانه، فلا تبرأ ذمته حتى يفعله. وهذا القول هو أرجح الأقوال، وأن من ترك التسمية ذاكراً أو ناسياً فوضوءه باطل. فإن كان فعل ذلك في مرات سابقة فإنه لا يجب عليه الإعادة للمشقة. لكن إذا كان الوقت مازال حاضراً فإنه يعيد الوضوء والصلاة وكذلك التيمم والغسل ـ وهذا هو مذهب الظاهرية، (ثم رجح الشيخ وفقه الله قول الجمهور بالاستحباب) . ـ قال الإمام مالك: (حلق الشارب بدعه) ، وهذا إذا كان على وجه العبادة ـ أما إذا كان على غير وجه العبادة فإنه محرم للأمر بإحفائه؛ ولأنه من التشبه بالأعاجم. ـ ذهب بعض الحنابلة إلى أنه إن كانت اللحية على صورة قبيحة قد يستهزأ به من أجلها فإنه يجوز تسويتها وهذا حسن لا بأس به، لأنه نادر، أما إذا كان تهذيباً فإن ذلك لا يجوز. والحمد لله رب العالمين. الدرس السابع عشر ... يوم الثلاثاء: 1/11/1414هـ

قال المؤلف ـ رحمه الله ـ: ((ويجب الختان ما لم يخف على نفسه)) : الختان: من أمور الفطرة، وقد ثبت في الصحيحين من حديث أبي هريرة: أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال: (الفطرة خمس: الختان والاستحداد وقص الشارب وتقليم الأظافر ونتف الإبط) (1) . وهذه اللفظة: (من الفطرة) لا تفيد وجوباً ولا استحباباً أي بالتنصيص. وإنما تفيد أن هذا مشروع فقد يكون من الواجب وقد يكون من المستحب. الختان: هو فعل الخاتن، وهو ما يسمى عندنا بـ: (الطهارة) : وهو قطع الجلدة فوق الحشفه. ما حكمه؟. قال المؤلف: (ويجب الختان) : وظاهره مطلقاً للذكر والأنثى وهذا مذهب جمهور أهل العلم. فجمهور أهل العلم قالو: إن الختان واجب للذكر والأنثى واستدلوا: بما ثبت في مسند الإمام أحمد، وسنن أبي داود، أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال لمن أسلم: (ألق عنك شعر الكفر ثم اختتن) (2) فهذا أمر والأمر ظاهره الوجوب. ـ ولأن في ذلك كشف عورة، ولا يجوز كشفها إلا إذا كان الفعل واجباً. ـ وعن الإمام أحمد رواية: أنه واجب في الرجال دون النساء. ـ ومذهب أبي حنيفة وهو رواية عن الإمام أحمد: أنه سنة مطلقاً للرجال والنساء، ودليل من قال بسنيته مطلقاً، وهو كذلك دليل من قال بوجوبه على الرجال دون النساء: ما رواه أحمد في مسنده أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال: (الختان سنة للرجال مكرمة للنساء) (3) . أما من قال بأنه سنة مطلقاً ـ أي لرجال والنساء ـ فإنه رأى أن لفظة (سُنَّة) ترادف الاستحباب. ـ وأما من استثنى النساء عن السنية وأثبت الحكم للرجال، فإنه رأى أن لفظة: (سُنَّه) لا تفيد الاستحباب،وأن لفظة (مكرمة) تفيد الاستحباب.

لكن الحديث ضعيف فيه الحجاج بن أرطأة وهو ضعيف، على أن لفظة (سُنّة) لا تفيد الوجوب ولا تفيد الاستحباب بعينه، وإنما تدل على أن هذه طريقة النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ وإنما نريد بالاستحباب بعينه ما ينافي الوجوب فلا شك أن الأمر الذي يحكم بأنه سنة محبوب إلى صاحب الشريعة لكن هل هو واجب أم مستحب ـ يستحب من دليل آخر ـ وإلا فقد قال صلى الله عليه وسلم ـ في الصحيحين: (فمن رغب عن سنتي فليس مني) (1) فالسُّنَّة هي الطريقة. بخلاف السُّنَّة عند الأصوليين فإنها: ما أمر به الشارع لا على وجه الإلزام، وهي ما ترادف المستحب والمندوب. والقول الأول أرجحها وهو وجوب الختان مطلقاً على الرجال والنساء. وهو ميزة المسلمين عن النصاري، فإن النصارى لا يختتنون، بخلاف اليهود فإنهم يختتنون، فالختان يتميز به المسلم وهو من شعار المسلمين،كما في حديث البخاري في قول هرقل: "إني أجد ملك الختان قد ظهر) . قوله: ((ما لم يخف على نفسه)) : كأن يكون رجلاً كبيراً شيخاً هرماً، فدخل في الإسلام فحينئذ: لا يجب عليه الختان إذا خشي على نفسه التلف، لأن الواجب يسقط عند العجز. وعند خوف التلف، وقد قال تعالى: (فاتقوا الله ما استطعتم) ، وقال عليه الصلاة والسلام: (لا ضرر ولا ضرار) . ـ فإن قيل: متى يكون الختان؟ فالجواب: أما وقت وجوبه فهو البلوغ، فلا يجوز له أن يبلغ إلا وقد اختتن. يدل على ذلك ما رواه البخاري عن ابن عباس: أنه سئل، مثل من أنت حين قبض النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ فقال: (أنا يومئذ مختون، وكانوا لا يختنون الرجل حتى يدرك) (2) أي حتى يناهز البلوغ. فهذه سنة العرب، وهو أنهم لا يختنون حتى يدرك. ـ فإن اختتن قبل ذلك فما الحكم؟. الجواب: سئل الإمام أحمد عن ذلك فقال: (لا أدري لم أسمع فيه شيئاً) أي لم أسمع فيه سُنَّة صحيحه فحينئذ: يبقى على الأصل، فالأصل في الأشياء الحل ما لم يثبت دليل يمنع من ذلك.

ـ أما حكم الإختتان في اليوم السابع للمولود، ففيه روايتان عن الإمام أحمد: الرواية الأولى: الكراهية وهو قول الحسن البصري. قالوا: لأنه فعل اليهود، فإنهم يختنون في اليوم السابع. الرواية الثانية: أنه لا يكره وهو قول ابن المنذر، وقد قال ابن المنذر: (وليس مع من منع من الختان في اليوم السابع حجة) . ـ وقد ذكر شيخ الإسلام أن إبراهيم عليه السلام خَتَنَ إسحاق في يوم سابعه فكانت سنة في بنيه أي في بني إسحاق ومنهم اليهود. وختن إسماعيل عند بلوغه فكانت سنة في بنيه. فإذا ثبت هذا، فإن فعل اليهود يكون سنة إبراهيمية عن إبراهيم عليه السلام. ـ والأظهر: أنه لا مانع من ذلك. فإذن: لا تحديد لذلك، فلو اختتن في اليوم الأول أو الثاني أو السابع أو العاشر أو عند ذلك فلا بأس لكن لا يجوز أن يبلغ إلا وقد اختتن؛ لأنه حينئذ يكون مكلفاً، والختان واجب عليه، فلا يجوز له أن يبلغ ولم يختتن. كما أن له أثراً في الطهارة ـ فحينئذ ـ: لا يحل له أن يبلغ إلا وقد اختتن أما قبل ذلك فلا بأس ولا حرج. ـ الثاني: من أمور الفطرة: (الإستحداد) : وهو حلق العانة، وهذا مستحب بالإتفاق كما قال ذلك النووي. ـ الثالث: من أمور الفطرة: (قص الشارب) وقد تقدم البحث فيه. ـ الرابع: من أمور الفطرة: (تقليم الأظافر) ، وتقليم الأظاهر مستحب بالإتفاق. ـ وهنا مسائل في تقليم الأظاهر: 1ـ المسألة الأولى: في كيفية تقليم الأظاهر: ذكر الحنابلة في المشهور عندهم أن طريقة تقليم الأظافر أن يبدأ بخنصر اليمنى ثم الوسطى ثم الإبهام ثم يأتي بعد ذلك البنصر ثم السبابة ثم يأتي إلى اليسرى: فيشرع بالإبهام ثم الوسطى ثم الخنصر ثم يعود إلى السبابة ثم إلى البنصر، وهذه صفة المخالفة. ـ فإن قيل: فما الفائدة؟. قالوا: الفائدة من ذلك أنه لا يصاب بالرَّمَد، فإذا فعل ذلك فإنه لا ترمد عيناه. ـ فإن قيل: فما الدليل على ذلك؟

فالجواب: ما ينسب إلى النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ أو وضع عليه أو اختلق أنه قال: (من قلم أظفاره مخالفاً لم ير رمداً) (1) لكن الحديث لا أصل له، بل قال ابن القيم: (هذا من أقبح الموضوعات. ـ فإن قيل: فما السنة في ذلك؟ فالجواب: أن السنة: التيامن فيبدأ بيده اليمنى ثم اليسرى، فقد كان النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ يعجبه التيمن في تنعله وترجله وطهوره وفي شأنه كله) (2) ، كما ذكر ذلك الشيخ عبد الرحمن بن سعدي. 2ـ المسألة الثانية: أنهم قالوا: يستحب أن يدفن قلامة أظفاره أو ما يأخذه من شعر. وفي ذلك حديث رواه الطبراني بإسناد ضعيف جداً أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ: (كان يدفن أظفاره) (3) . ونص على استحبابه ذلك ـ أي دفن الأظافر وما يأخذ من شعره ـ الإمام أحمد، وقال: كان ابن عمر يفعله، وقد أسنده إلى ابن عمر، وفي بعض أسانيده العمري وهو ضعيف فإن ثبت ذلك عن ابن عمر كما ذكر ذلك الإمام أحمد واحتج به فإنه يكون مستحباً لفعل ابن عمر. وقد وردت أحاديث صريحة عن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ لكنها ضعيفه لا تثبت. 3ـ المسألة الثالثة: في اليوم الذي نُقَلِّمُ فيه الأظفار، روى البغوي أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ (كان يأخذ أظفاره وشاربه في كل جمعة) (4) ، لكن الحديث إسناده ضعيف جداً، لا يثبت عن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ. الخامس: من أمور الفطرة: (نتف الإبط) . والسنة أن ينتفه نتفاً، فإن قدر على ذلك فإنه المتسحب، وإن لم يقدر على ذلك فحلقه فلا حرج في ذلك ونتف الإبط مستحب باتفاق أهل العلم. إذن: أمور الفطرة كلها مستحبه عند أهل العلم سوى الختان فإنه واجب، وخالف في ذلك أبو حنيفة وكذلك على الراجح قص الشارب فإنه واجب خلافاً لجمهور العلماء.

ـ وقد ورد حديث في مسلم عن أنس بن مالك، قال: (وُقِّت لنا في قص الشارب وتقليم الأظافر ونتف الإبط وحلق العانة ألاّ نترك ذلك أكثر من أربعين يوماً) (1) . قال النووي ـ في بيان هذا الحديث ـ ومعناه: ((أنهم إذا لم يفعلوها في وقتها ـ أي مع كونها تحتاج إلى قص أو حلق أو نحوه ـ فإنهم لا يؤخرونها أكثر من أربعين يوماً، وليس معنى ذلك الإذن في التأخير مطلقاً، وهذا تأويل لكنه تأويل صحيح، لذا قال بعد ذلك: (وإنما الإعتبار بطولها وهذا يختلف باختلاف الأشخاص والأحوال)) . لأنه من المعلوم أن الحكم يدور مع علته وجوداً وعدماً، فلو أنها طالت بعد عشرة أيام، فهل نقول إنه يتركها أربعين يوماً مع أنها تحمل الأوساخ. لكن المراد: أنه إذا تركها فلا ينبغي أن يتعدى أربعين. اهـ قوله: ((ويكره القَزَع)) : القَزَع: جمع قَزْعة، والقزعة هي: القطعة من السحاب، فإذا كان في السماء قطع من السحاب فيجمع على قزع. والمراد به هنا: أن يحلق بعض رأسه ويترك بعضه الأخر سواء كان ما يحلقه مقدم رأسه أو مؤخره أو كان مبقياً لأعلاه آخذاً لجوانبه كما يفعله الأوباش والسفل ـ كما قال ابن القيم. ـ والدليل على النهي: ما ثبت في الصحيحين أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ (نهى عن القزع) قيل لنافع: ما القزع؟ قال: (أن يحلق بعض رأس الصبي ويُترك بعضه) (2) . ـ وفي مسند أحمد وسنن أبي داود والنسائي بإسناد صحيح أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم: (رأى صبياً قد حلق بعض شعره وترك بعضه فنهاهم النبي ـ صلى الله عليه وسلم عن ذلك وقال: (إحلقوه كله أو اتركوه كله) (3) . ـ وجماهير أهل العلم على أنه مكروه. ولم أر أحداً صرح بتحريمه، وظواهر الأدلة تحريمه. لا سيما إذا كان فيه تشبه، فإنه يكون واضح التحريم، وفي الحديث: (من تشبه بقوم فهو منهم) . مسألة: لو أن رجلاً لم يختن حتى مات، فهل يختن بعد موته أم لا؟

الجواب: أنه لا يختن باتفاق أهل العلم؛ لأن الفائدة منه في الحياة وهذا قد مات. ـ مناسبة ذكر النهي عن القزع في هذا الباب: أنه ذكر السواك ومناسبة أنه سُنة من سُنَن الوَضوء فذكر المسائل التي تشابهه، فهذا من باب ذكر المسألة مع ما يناسبها، فقد ذكر السواك وهو من أمور الفطرة كما ورد في مسلم ومسند أحمد، فذكر ما يشابهه من أمور الفطرة. ـ ومن المعلوم أن هناك مسائل قد لا تنضبط في باب معين، فحينئذ تذكر في أبواب مختلفة عندما يذكر شيء يشابهها في الحكم معه. والحمد لله رب العالمين. الدرس الثامن عشر ... …الأربعاء: 2/11/1414هـ قال المصنف ـ رحمه الله تعالى ـ: ((ومن سنن الوضوء السواك)) : يدل على ذلك ما ثبت في مسند أحمد وسنن النسائي بإسناد صحيح أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال: (لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم بالسواك عند كل وضوء (1)) ، فهذا الحديث يدل على مشروعية السواك، وأنه ليس بواجب بدليل قوله: (لولا أن أشق على أمتي) . ـ فإن قيل: فهل يستحب له السواك قبل الوضوء أم أثنائه؟ فالجواب: صرح بعض الحنابلة ـ كما في كشاف القناع ـ أن المستحب أن يكون ذلك مع المضمضة، ودليل ذلك ما تقدم من حديث علي رضي الله عنه: وفيه أنه تمضمض وأدخل بعض أصابعه في فيه) أي يستاك ورفع ذلك إلى النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ وقد تقدم تضعيف هذا الحديث وأنه لا يثبت عن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ.

ـ ولو قيل: إنه يستاك قبل الوضوء لكان قوياً، ودليل ذلك ما ثبت في مسلم عن ابن عباس، والحديث أصله في الصحيحين أنه بات عند النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال: فقام نبي الله من آخر الليل فخرج ثم نظر إلى السماء ثم قرأ هذه: (إن في خلق السموات والأرض.. إلى قوله: (فقنا عذاب النار) قال: ثم رجع إلى البيت فتسوك وتوضأ ثم قام يصلي، ثم اضطجع ثم قام فخرج ونظر إلى السماء فقرأ الآية، إي قوله: (إن في خلق السموات والأرض..، ثم رجع فتسوك فتوضأ، ثم قام يصلي) ، فلفظة: (فتسوك فتوضأ) ، ولفظة: (فتسوك وتوضأ) ظاهرهما أنه فعل التسوك قبل وضوئه. فالأظهر: أنه يتسوك قبل وضوئه كما هو ظاهر حديث ابن عباس المتقدم. قوله: ((وغسل الكفين ثلاثاً)) : وذلك مستحب باتفاق أهل العلم، قال الموفق: (بغير خلاف نعلمه) على أن المستحب أن يغسل كفيه ثلاثاً فهو مستحب باتفاق العلماء. وهو ثابت في حديث عثمان ـ كما ثبت في الصحيحن: أنه دعا بوضوء فغسل كفيه ثلاثاً ثم تمضمض واستنشق واستنثر ثم غسل وجهه ثلاثاً ثم غسل يديه إلى المرفقين ثلاثاً ثم غسل رجليه ثلاثاً ثم قال: (هكذا رأيت رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ يتوضأ وقال: من توضأ نحو وضوئي هذا ثم صلى ركعتين لا يُحَدِّث فيهما نفسه غفر له ما تقدم من ذنبه) ، والمراد بغسل الكفين: أن يغسل يديه من أطراف الأصابع إلى الرُّسْغِ. قوله: ((ويجب من نوم ليل ناقض للوضوء)) : تقدم هذا، وأنه هو مذهب الحنابلة وأنه هو الراجح وهو وجوب غسل الكفين لمن استيقظ من النوم خلافاً للجمهور. قلت: مراد شيخنا بوجوبه ـ أي لمن أراد أن يغمس بده في الإناء وليس مطلقاً (أبو حافظ) . قوله: ((والبداءة بمضمضة واستنشاق والمبالغة فيهما لغير صائم)) : ((البداءة بالمضمضة والاستنشاق)) : أي المستحب أن يبدأ بالمضمضة ثم الاستنشاق وأن يكون ذلك قبل غسل الوجه.

ودليل ذلك ما ثبت في مسلم أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم (تمضمض ثم استنشق) فأتى بلفظة (ثم) التي تفيد الترتيب. ـ وهل هذا الترتيب بين المضمضة والاستنشاق والترتيب بينهما وبين الوجه، هل هو واجب أم لا؟. سيأتي الكلام على هذه المسألة، وأن مذهب الحنابلة الاستحباب. ـ والمتسحب له أن يكونا ـ أي المضمضة والاستنشاق ـ من غرفه واحدة، لما ثبت في المتفق عليه من حديث عبد الله بن زيد أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم: (تمضمض واستنشق ثلاثاً بثلاث غرفات) فهو قد تمضمض واستنشق ثلاثاً، وكان ذلك بثلاث غرفات فكل مرة بغرفة واحدة. ـ والمتسحب أن يكون استنثاره بيده اليسرى، كما صح ذلك في سنن النسائي بإسناد صحيح. والمضمضة هي: تحريك الماء في الفم. والاستنشاق هو: إدخاله إلى الإنف. والإستنثار هو: طرحه منه. والأظهر أن المضمضة والاستنشاق تكون باليد اليمنى؛ لأنهما من التعبد لله، بخلاف الإستنثار فإنه إزالة أذى وإخراجه، فاستحب أن يكون ذلك بيده اليسرى. ـ وقد روى أبو داود في سننه أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ كان يفصل بين المضمضة والاستنشاق) (1) أي يتمضمض بكف ثم يستنشق بكف آخر. لكن الحديث فيه ليث بن أبي سليم وهو ضعيف، وقد قال ابن القيم: (لم يجىء في الفصل بين المضمضة والاستنشاق حديث صحيح البتة) . وقد ذكر صاحب الفتح حديثاً رواه ابن السكن من حديث عثمان وعلي وفيه أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ فصل بين المضمضة والإشتنشاق) ولم يذكر سنده، وسكت عنه الحافظ والقاعدة: أن ما سكت عنه الحافظ فإنه حسن عنده. ولكن مع ذلك نكون متوقفين في هذا الحديث الذي سكت عنه، ولم يسق سنده لا سيما وأن ابن القيم ذكر أنه لم يجىء فيه حديث صحيح، ولا سيما أنه ثبت لنا أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ كان يتمضمض ويستنشق من كف واحدة.

قوله: ((والمبالغة فيهما لغير صائم)) : فالمستحب له أن يبالغ فيهما ـ أي المضمضة والاستنشاق ـ إن لم يكن صائماً لما روى الأربعة وأحمد من حديث لقيط بن صبرة أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال له: (أسبغ الوضوء وخلل بين الأصابع وبالغ في الاستنشاق إلا أن تكون صائماً) وقوله: (بالغ في الاستنشاق) : فيه أن السنة في الاستنشاق ومثله المضمضة المبالغة إن لم يكن صائماً. والمبالغة في الاستنشاق ليست مجرد إدخال إلى الأنف بل هي أشد من ذلك بأن يجذب الماء بنفسه حتى يصل إلى أقصى أنفه. ـ وأما المبالغة في المضمضة فهي أن يحرك الماء في أقاصي فمه، وقد يستدل عليها بقوله: (أسبغ الوضوء) . إذن: يستحب له أن يبالغ في المضمضة والاستنشاق ما لم يكن صائماً. ـ وفي قوله: (أسبغ الوضوء) : فيه أن المشروع إسباغ الوضوء، وهو إتمامه وتوفيته وتكميله، فإن كان في الواجبات فهو واجب، وإن كان في المستحبات فهو مستحب. ـ وهل من المشروع أن يزيد على المفروض بأن يغسل اليدين إلى العضدين أو المنكبين ويغسل الرجلين إلى الساقين، هل يستحب هذا أم لا؟ ـ قولان لأهل العلم: 1ـ فمذهب جمهور أهل العلم إلى أن ذلك مستحب واستدلوا: بما ثبت في الصحيحين أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال: (إن أمتي يأتون يوم القيامة غراً محجلين فمن آثار الوضوء من استطاع منكم أن يطيل غرته فليفعل) . وراوي هذا الحديث وهو أبو هريرة ثبت عنه ـ كما في مسلم ـ أنه غسل يديه حتى كاد أن يبلغ المنكبين وغسل رجليه حتى ارتفع في الساقين) فمذهبهم أنه يستحب أن يزيد على المفروض. 2ـ وذهب المالكية وهو روايه عن أحمد وهو اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه ابن القيم وغيرهما من المحققين ـ ذهبوا إلى أن المستحب عدم الزيادة على المفروض بل يبقى على ما رود عن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ. ـ وأجابوا عن هذا الحديث بأن لفظة: (من استطاع منكن أن يطيل غرته فليفعل) بأن هذه مدرجة من كلام أبي هريرة.

وقد ذكر الحافظ: أن هذا الحديث ورد عن عشرة من أصحاب النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ليس في حديث واحد منهم ذكر هذه الجملة. ـ وأن هذه الجملة لم يذكرها أحد من الرواة عن أبي هريرة إلا نعيم بن عبد الله المجمر، فثبت لنا أن هذا موقوف على أبي هريرة، فليس مرفوعاً. فإذا ثبت هذا، فإنه قد خالف السنة، وقول الصحابي إذا خالفته السنة فليس بحجة، وقد ثبت في مسند أحمد وسنن أبي داود والنسائي ـ وهذا لفظ أبي داود ـ أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ توضأ ثلاثاً ثلاثاً ثم قال: (هكذا الوضوء فمن زاد أو نقص ـ وقوله نقص ـ في أبي داود دون غيره ـ فقد أساء وظلم) . وتكلم الإمام مسلم في لفظة: (أو نقص) ، وتأولها البيهقي بأن المراد أن ينقص عن القيام بغسل شيء من الأعضاء، وذلك لأن غسل الأعضاء مرة مرة أو مرتين مرتين ليس فيه حرج ولا بأس. ـ وهذا القول ـ أي عدم الاستحباب ـ هو الراجح، ولم يثبت عن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ أنه كان يزيد على المرفوع. ـ أما ما ثبت في مسلم أن أبا هريرة كان يغسل يديه حتى يشرع في العضد، ويغسل رجليه حتى يشرع في الساق ويقول: (هكذا رأيت النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ يتوضأ) . فالجواب: أن هذا نحن نقول به، ولا ننكر ذلك، وذلك بأن يغسل يديه حتى يشرع في العضد أن بداية العضد؛ لأنه يكون قد تيقن من غسل المرفقين. ومثل ذلك عندما يغسل رجليه فيدير الماء على الكعبين فإنه يكون قد شرع في الساق، وَغُسل الكعبين واجب وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب. ـ وقوله صلى الله عليه وسلم، في حديث لقيط بن صبرة: (وخلل بين الأصابع) . فيه أن المشروع أن يخلل بين أصابعه. والتخليل: إدخال الشيء في خلل شيء آخر. قال تعالى: (لأوضعوا خلالكم يبغونكم الفتنة) (1) أي لأسرعوا فيما بينكم في إبقاء الفتنة وبثها فيما بينكم. فهذا فيه مشروعية تخليل الأصابع، ولفظه (الأصابع) عام في أصابع اليدين والرجلين.

وقد ورد هذا مصرحاً به فيما رواه الترمذي بإسناد حسن أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم قال: (إذا توضأت فخلل بين أصابعك) (1) . أما تخليل أصابع اليدين فهو بأن يدخل أصابع كل يد في الآخر بمعنى يشبك بين أصابعه. ـ وأما تخليل أصابع الرجلين، فقد ورد في الترمذي وابن ماجة بإسناد حسن أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ: (كان يخلل أصابع ـ وفي روايه يُدَلِّك ـ رجليه بخنصره) (2) . والأظهر: أن هذه الخنصر هي خنصر اليد اليسرى؛ لأن ذلك في الغالب يكون موضع قذر وأذى فاستحب أن يكون باليد اليسرى. ـ إذن: يشرع له أن يخلل أصابعه. فإذن ثبت له أن الماء لم يصل فإنه يجب عليه أن يفعل ذلك ـ أي التخليل. ولكن هذا التخليل لمزيد الطهارة ولكمالها. أما إذا ثبت له أن شيئاً من ذلك لم يصل إليه الماء، فإنه يجب عليه التخليل فيوصل الماء إلى هذا الموضع الذي لم يصل إليه الماء. قوله: ((وتخليل اللحية الكثيفة والأصابع)) : تقدم الكلام على تخليل الأصابع. أما تخليل اللحية، فقوله (الكثيفة) : قيد يُخْرِج اللحية الخفيفة وضابط الخفيفة: التي تتضح منها البشرة، فإذا كانت البشرة تتضح منها فيجب عليه تخليلها؛ لأنها ظاهرة من الوجه، والوجه يجب أن يغسل، كما قال تعالى: (فاغسلوا وجوهكم) (3) . ـ أما اللحية الكثيفة: فهي التي لا تتضح منها البشرة. فأما ظاهرها فيجب غسله؛ لأنها ظاهرة من الوجه، وقد قال تعالى: (فاغسلوا وجوهكم) . ـ وأما باطنها فيستحب تخليله. يدل على ذلك ما رواه الترمذي وغيره من حديث عثمان أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم: (كان يخلل لحيته) وهذا الحديث له طرق كثيرة، حتى ذكر ابن القيم أنه قد ورد عن ثلاثة عشرة صحابياً، فالحديث ثابت وقد قال الإمام أحمد: (لم يثبت في تخليل اللحية شيء) . ـ لكن هذه الطرق الكثيرة تتظافر على إثباته.

ـ ولما لم ينقل نقلاً بيناً ظاهراً فإنه يستدل به على أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ لم يكن يديم ذلك. لذا قال ابن القيم: (وكان النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ يفعله ولم يكن يداوم عليه) (1) . لأن أكثر الأحاديث في صفة وضوء النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ لم تنقل تخليل لحيته: (أنظر شرح البلوغ للشيخ ـ حفظه الله ـ فإن فيه حديثاً عن ابن عباس يدل على ذلك) . لذا ذهب جماهير العلماء إلى أن ذلك ليس بواجب ـ أي التخليل. ـ وذهب طائفة من العلماء إلى أن ذلك واجب. ـ والأظهر ما تقدم وهو مذهب جماهير أهل العلم (المالكية والأحناف والشافعية والحنابلة) ـ إلى أنه ليس بواجب. ودليل استحبابه حديث عثمان المتقدم. ـ وصفة التخليل: ما ورد في أبي داود بإسناد حسن أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ: (كان يأخذ كفاً من الماء فيدخله تحت حنكه ثم يخلل لحيته، ويقول: (هكذا أمرني ربي عز وجل) (2) . والحديث: إسناده حسن. فإذن: تخليل اللحية الخفيفة واجب. أما الكثيفة فهو مستحب تخليلها، أما غسل ظاهرها فهو واجب؛ لأنه من الوجه الذي يواجه به. ـ وينبغي أن يكون هذا لما هو ظاهر منها في الوجه. أما ما يكون على الحلق فإن إيجاب غسله موضع نظر ومع ذلك فالإحتياط أن يعمم ذلك. قوله: ((والتيامن)) : لما ثبت في الصحيحين من حديث عائشة قالت: (كان النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ يعجبه التيامن في تنعله وترجله وطهوره وفي شأنه كله) (3) . وثبت في مسند أحمد وسنن الترمذي وابن ماجة وأبي داود بإسناد صحيح أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال: (إذا توضأتم فابدؤا بميامنكم) (4) . فهذا يدل على أن المشروع أن يبدأ بميامنه، وهو مستحب باتفاق أهل العلم. ـ وليس هناك أحد من أهل العلم أوجب الإعادة في المخالفة. فإذا غسل يده اليسرى قبل اليمنى فوضوؤه صحيح لكنه ترك المستحب والسنة. قوله: ((وأخذ ماء جديد لأذنيه)) :

هذا هو المشهور في مذهب الحنابلة وهو أن المستحب أن يأخذ لأذهيه ماء غير الذي أخذه لرأسه. وهذا هو مذهب جمهور أهل العلم، واستدلوا: بما رواه البيهقي بإسناد صحيح أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ أخذ لأذنيه ماء غير الماء الذي مسح به رأسه) (1) . لكن الحديث شاذ، فقد رواه مسلم بسنده نفسه: (أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ مسح رأسه بغير فضل يديه) (2) . فالرأس عضو واليدان عضو آخر، وقد مسح النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـالرأس بغير فضل يديه، أما الأذنان فإنهما من الرأس، كما قال صلى الله عليه وسلم: (الأذنان من الرأس) (3) رواه أحمد وغيره، وسيأتي الكلام عليه إن شاء الله. وقد روى أبو داود من حديث الرُّبيِّع بنت عفراء أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ مسح رأسه ما أقبل منه وما أدبر وصدغيه وأذنيه مرة واحدة) (4) وإسناده حسن. وهذا القول رواية عن الإمام أحمد ـ أي أنه يمسح أذنيه بالماء الذي مسح به رأسه ـ وهو اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه ابن القيم ـ وقد ضَعَّف ابن القيم الحديث واختار هذا القول طائفة من أصحاب أحمد كالمجد ابن تيمية والقاضي. إذن: المستحب له أن يمسح أذنيه بماء رأسه فيأخذ ماء واحدا فيمسح به رأسه وأذنيه ـ هذا هو الراجح. قوله: ((والغسلة الثانية والثالثة)) : هذه سنة من سنن الوضوء وهي الغسلة الثانية والثالثة فغسل اليدين المرة الثانية والثالثة مستحب، وأما الغسلة الأولى فهي فرض. وغسل الوجه ثلاثاً، الغسلة الأولى فرض، أما الثانية والثالثة بهما فمستحبان. وقد ثبت في البخاري عن ابن عباس: (أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ توضأ مرة مرة) (5) . وثبت في البخاري من حديث عبد الله بن زيد: (أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ توضأ مرتين مرتين) (6) .

وثبت في البخاري من حديث عثمان بن عفان: (أن ـ صلى الله عليه وسلم ـ: توضأ ثلاثاً ثلاثاً (1)) ورواه أيضاً أبو داود الذي تقدم ذكره أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ توضأ ثلاثاً ثلاثاً. ـ وقد ثبت أنه توضأ فخالف، فقد ثبت في الصحيحين عن عبد الله ابن زيد أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم: غسل يديه ثلاثاً وتمضمض واستنشق ثلاثاً ثم غسل وجهه ثلاثاً، ثم غسل يديه مرتين ثم مسح برأسه ثم غسل رجليه) . فهنا غَسَل الرجلين مرة وَغَسَلَ يديه مرتين وغَسَلَ بقية الأعضاء ثلاثاً ثلاثاً. وكل ذلك سنة، على أن الأكثر في حاله هو أن يتوضأ ثلاثاً ثلاثاً. والفرض إنما هو الغسلة الأولى، وما سواها فهو سنة. ـ والذي ينبغي له أن يفعل هذا تارة وهذا تارة، وأن يكون غالب حاله الوضوء ثلاثاً ثلاثاً. لأن ما ورد عن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـفعله في صور مختلفة، فالسنة أن يفعل هكذا تارة وهكذا تارة. فإذن السنة: أن يتوضأ مرة مرة، وكذلك مرتين مرتين وكذلك ثلاثاً ثلاثاً وكذلك أن يخالف. فهذه من سنن الوضوء. والحمد لله رب العالمين. انتهى: (باب: السواك وسنن والوضوء) بحمد لله. الدرس التاسع عشر ... السبت: 5 / 11/1414هـ باب: ((فروض الوضوء وصفته)) : (فروض) : الفروض جمع فرض وهو في اللغة: القطع والحز. أما اصطلاحاً: فهو ما أمر به الشارع على وجه الإلزام. فإذن هو مرادف للواجب وهذا هو المشهور في مذهب الحنابلة وغيرهم بل هو مذهب جمهور الفقهاء والأصوليين. ـ وذهب الإمام أحمد في رواية وهو مذهب أبي حنيفة إلى أن الفرض أكثر من الواجب، فالفرض عندهم: ما ثبت بدليل قطعي. ـ فعلى القول الأول ـ وهو قول الجمهور ـ تسمى الصلاة فرضاً وكذلك الزكاة، وكذلك إعفاء اللحية يسمى فرضاً: أي سواء ثبت بدليل قطعي كالصلاة أو ثبت بدليل ظني كإعفاء اللحية ونحوها من الواجبات. ـ أما على القول الثاني: فالصلاة تسمى فرضاً، لكن مثل إعفاء اللحية ونحوه يقال: واجب.

ـ وهذا في الحقيقة أولى؛ لأن هذا الإصطلاح ـ ولا مشاحة في الإصطلاح ـ فيه تمييز بين الواجبات نفسها. فالأظهر هو القول بالتفريق بين الواجب والفرض، وهو رواية عن الإمام أحمد ومذهب أبي حنيفة. قال المصنف ـ رحمه الله ـ: (فروضه ستة) : يريد بالفروض هنا: أركان الوضوء، وذلك لأن ما ذكره المؤلف من هذه الست كلها جزء من ماهية الوضوء، وجزء الشيء ركنه. قوله: ((غسل الوجه)) : هذا هو الفرض الأول، ودليله قوله تعالى: (فاغسلوا وجوهكم) وهذا بالإجماع وسيأتي مزيد تفصيل له عند الكلام على صفة الوضوء. قوله: ((والفم والأنف منه)) : أي المضمضة والاستنشاق، فعلى ذلك المضمضة والاستنشاق فرض؛ لأنهما من الوجه، فالوجه ما يواجه به وهذه الأعضاء تتم بها المواجهة كما تتم المواجهة ببقية أجزاء الوجه. ـ وهذا الكلام فيه نظر، فالأظهر: أن الفم والأنف ليسا من الوجه حقيقة، وذلك لأنهما وإن كانا في الظاهر من الوجه لكن الذي يتم تغسيله إنما هو باطنهما ولا شك أن الباطن ليس مما يواجه به. كما أنهم لم يوجبوا تخليل اللحية الكثيفة وأوجبوا غسل ظاهرها، مع أن اللحية مما يواجه به، فأوجبوا غسل ظاهرها؛ لأنه من الوجه ولم يوجبوا غسل باطنها وكذلك هنا: فالأنف والفم غسل ظاهرهما يجب بالإجماع. ـ أما باطنهما، فالراجح هو ما ذهب إليه الحنابلة من وجوب المضمضة والاستنشاق لكن ليس للتعليل الذي ذكره وإنما للأدلة الشرعية الدالة على ذلك منها: ـ ما ثبت في الصحيحين أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال: (إذا توضأ أحدكم فليجعل في أنفه ماء ثم لينتثر) (1) فهو فيه إيجاب الاستنشاق لأمر النبي ـ صلى الله عليه وسلم والأصل في الأمر الوجوب. ـ وأما المضمضة فدليلها: ما ثبت في سنن أبي داود بإسناد صحيح أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـقال: (إذا توضأت فمضمض) (2) فهذا أمر والأمر للوجوب.

ـ ولم يصح عن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ حديث البته ـ كما ذكر ذلك غير واحد من أهل العلم ـ أنه ترك المضمضة والاستنشاق. ـ وذهب جمهور أهل العلم إلى أن المضمضة والاستنشاق ليسا بواجبين وإنما سنتان. قالوا: لأن الله ـ عز وجل ـ في الآية إنما أمر بغسل الوجه ولم يأمر بالمضمضة والاستنشاق، وقد قال صلى الله عليه وسلم: ـ كما في سنن أبي داود بإسناد صحيح: (توضأ كما أمرك الله) (1) ، وليس مما أمر الله به المضمضة والاستنشاق. وفي هذا الإستدلال نظر، وذلك لأن ما يأمر به النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ إنما هو مثل ما يأمر به الله، كما أن ما يحرمه النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ مثل ما يحرمه الله ـ كما صح في الحديث، فقد أمرنا النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ بالمضمضة والاستنشاق، وداوم على ذلك ولم يصح عنه أنه ترك ذلك البتة، وقد أمرنا الله بمتابعته وسماع أمره، فعلى ذلك قوله: (توضأ كما أمرك الله) وقد أمرنا الله بطاعة رسوله، وقد أمر رسوله بالمضمضة والاستنشاق. فالراجح: هو ما ذهب إليه الحنابلة من فرضية المضمضة والاستنشاق. قوله: ((وغسل اليدين)) : وهذا هو الفرض الثاني ودليله قوله تعالى: (فاغسلوا وجوهكم وأيديكم إلى المرافق) (2) . وسيأتي تفصيل الكلام على ذلك عند صفة الوضوء. قوله: ((ومسح الرأس)) : هذا الفرض الثالث وهو مجمع عليه وأنه من أركان الوضوء. قوله: ((وفيه الأذنان)) : 1ـ أي أن الأذنين من الرأس، فيجب مسحهما كما يجب مسح الرأس، وهذا هو مذهب الحنابلة. 2ـ وذهب جمهور أهل العلم إلى عدم إيجاب ذلك، ورأوا أن مسح الأذنين من المستحبات المشروعات وليس من المفترضات الواجبات. ودليل الحنابلة: ما روى عن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ أنه قال: (الأذنان من الرأس) رواه أحمد وأبو داود من حديث أبي أمامة. ورواه ابن ماجة من حديث أبي هريرة.

ورواه غيرهم من أصحاب النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ، وأصحها إسناداً ما رواه الطبراني عن ابن عباس بإسناد جيد وهذه الطرق الكثيرة ترتقي بالحديث إلى درجة الصحة، لذا ذهب إليه الإمام أحمد فقال: (إن الأذنين من الرأس) ، فيجب مسحهما كما يجب مسح الرأس. أما الجمهور: فقالوا: لم يصح هذا الحديث، فعلى ذلك الأذنان ليسا من الرأس فلا يجب مسحهما وإنما يستحب. ـ وإذا ثبت لنا الحديث فإننا نقول بإيجاب ذلك، وهذا القول هو الراجح وهو مذهب الحنابلة من وجوب مسح الأذنين وإنهما من الرأس. قوله: ((وغسل الرجلين)) : وهذا هو الفرض الرابع، وهو فرض بالإجماع، وقد قال تعالى: (فاغسلوا وجوهكم 000 وأرجلكم) . قوله: ((والترتيب)) : الترتيب فرض عند الحنابلة والشافعية. ودليلهم: أن الله عز وجل في كتابه الكريم قد أدخل الممسوح بين المغسولات، فقال تعالى: (يا أيها الذين آمنوا إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم وأيديكم إلى المرافق وامسحوا برؤوسكم وأرجلكم إلى الكعبين) فأدخل الله الممسوح بين المغسولات، فحينئذ: فصل النظير عن نظيره، وهذا لا فائدة منه إلا الترتيب وفرضيته لأن الآية في ذكر فرائض الوضوء. ولو أن رجلا قال: (أكرمت زيداً، وأهنت عمراً، وأكرمت بكراً) فهذا الكلام من العِيِّ لا من البيان. وأنه فصل النظير عن نظيره والواجب ألا يفعل، وأما أن يفصل فهذا من العي. والله عز وجل ينزه عن ذلك فلا بد من فائده. لذا استدل به أهل العلم على إيجاب الترتيب، لأن الله أدخل الممسوح من المغسولات. ولا يقال: إن الترتيب مستحب؛ لأن الآية قررته في سياق الفرض وليس في سياق الاستحباب. ـ كما أن الله ـ عز وجل ـ لم يرتب الأعضاء الأعلى فالأعلى أو الأقرب فالأقرب بل رتبه هكذا مختلفة، وذلك لا فائدة منه إلا إيجاب الترتيب. ـ ثم إن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ لم يصح عنه أنه توضأ غير مرتب أبداً، كما قرر هذا ابن تيمية وابن القيم والنووي وغيرهم.

فالراجح: هو إيجاب الترتيب. فلو أن رجلاً توضأ غير مرتب كأن يمسح الرأس قبل غسل اليدين فإن وضوءه باطل فيجب عليه أن يعيد الوضوء إن كان هناك فاضل. أما إن لم يكن هناك فاصل فإنه يصح منه غسل اليدين، فيجب عليه أن يمسح الرأس مرة أخرى. فإن توضأ منكساً أربع مرات فهل يصح وضوءه أم لا؟ بمعنى: غسل رجليه ثم مسح رأسه ثم غسل يديه ثم غسل وجهه وفعل ذلك أربع مرات. قالوا: يصح وضوؤه؛ لأن كل وضوء من هذه الوضوءات المنكسة يصح منها عضو واحد. فعلى الوضوء الأول يصح غسل الوجه، وفي الوضوء الثاني يصح غسل اليدين وفي الوضوء الثالث يصح مسح الرأس وفي الوضوء الرابع يصح غسل الرجلين. وهي صفة غريبة ولكن ذكرناها للفائدة. ـ وذهب المالكية والأحناف إلى عدم وجوب الترتيب. قوله: ((والموالاة وهي أَلاَّ يؤخر غسل عضو حتى ينشف الذي قبله)) : هذا الفرض السادس من فروض الوضوء. وهنا: ذكر فرضية الموالاة وذكر ضابطها، فيه مبحثان: ـ المبحث الأول: في فرضيتها. (1) ـ مذهب الحنابلة هو فرضية الموالاة، وأن الموالاة بين الأعضاء فرض وهذا مذهب المالكية. واستدلوا: بما ثبت في المسند بإسناد جيد كما قال الإمام أحمد وصححه ابن كثير، وغيره أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ: رأى رجلاً يصلي وعلى قدمه لمعة قدر درهم لم يصبها الماء فأمره أن يعيد الوضوء والصلاة) (1) . ووجه ذلك: أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ لم يأمره أن يكتفي بغسل هذه البقعة التي لم يصبها الماء بل أمره أن يعيد الوضوء كله، فلو لم تكن الموالاة واجبة لاكتفى أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ بأن يغسل هذا المأمور البقعة التي لم يصبها الماء. ـ وقد ثبت في مسلم: أن رجلاً توضأ فترك موضع ظفر على قدمه فأبصره النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ فقال: (إرجع فأحسن وضوءك فرجع ثم صلى (2)) .

فهنا قوله: (فأحسن وضوءك) يفسره بالرواية المتقدمة وفي رواية لأحمد بإسناد فيه ابن لهيعة وهو ضعيف لكن ذلك التفسير يقوي هذه اللفظة: (ثم رجع فتوضأ ثم صلى) . قالوا: إن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ هو المفسر للقرآن بفعله، لم يثبت عنه أنه توضأ غير موال بل كل وضوئه على الموالاة. (2) ـ وذهب الشافعية والأحناف إلى أن الموالاة غير واجبة بل هي مستحبة. ودليلهم: أنه لم يثبت في الآية المتقدمة، وقد قال تعالى: (فاغسلوا وجوهكم وأيديكم إلى المرافق 00) الآية. والواو لا تفيد التعقيب، بل لو تَرَاخَى فإنه لا حرج. ـ لكن تقدم الدليل الدال على ذلك من السنة، ثم إن القرآن قد فسره النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ بفعله، وقد تقرر عند الأصوليين أن فعل النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ لمجمل القرآن يعطي حكم ذلك المجمل. مثاله: النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ صلى المغرب ثلاثاً والعشاء أربعاً والفجر ركعتين والظهر والعصر أربعاً، فهذا فعل وهو بيان لمجمل في القرآن، فيكون فرضاً كما أن قوله تعالى: (وأقيموا الصلاة) (1) فرض. ـ المبحث الثاني: في ضابط الموالاة: قال المؤلف: ((وهي ألا يؤخر غسل عضو حتى ينشف الذي قبله)) : لو أن رجلا غسل وجهه ثم جلس زمناً فغسل يديه هذا الزمن قد جف فيه الماء الذي على وجهه، فحينئذ لا يكون وضوؤه صحيحاً بل يبطل لانتفاء الموالاة. ـ فإن قيل لهم: لكن الزمان يختلف، ففي الشتاء يتأخر الجفاف وفي الصيف يكون سريعاً. قالوا: نقيد ذلك بالزمان المعتدل. فمثلاً: الزمان المعتدل خمس دقائق لأن يجف الماء عن الوجه فلو لم يجف الماء فجلس خمس دقائق فإنه يكون قد قطع الموالاة، وفي الصيف ذهب الماء بدقيقة بسبب حرارة الشمس. فنقول: ينتظر خمس دقائق؛ لأنه هو الزمان المعتدل. هذا هو ضابط الحنابلة، وهو ضابط الشافعية أيضا القائلين باستحباب الموالاة فإنهم يستحبونها وهو ضابطها عندهم.

ـ وهذا الضابط أولاً: لا دليل عليه، ثانياً: يشق ضبطه فإن عامة الناس لا يمكنهم أن يضبطوا فعل ذلك. فإيقاع هذا الضابط في الواقع فيه مشقة وعسر. ـ وذكر بعض أهل العلم ضابطاً آخر وهو أصح منه وهو رواية عن الإمام أحمد، وقال الخلال فيها: (وهو الأشبه بقوله والعمل عليه) ، والضباط هو: إرجاع ذلك إلى العرف. فإذا كان هناك فاصل عرفي ثبت عرفاً أنه طويل فإنه تنتفي الموالاة، وإن كان قصيراً فإن الموالاة لا تنتفي. مثال: رجل توضأ فلم يغسل عقبيه، ثم ذهب إلى المسجد فلما دخله أخبره بعض المصلين، بهذا الموضع الذي لم يصله الماء، فهذا فاصل طويل عرفاً. لكن لو أن رجلاً توضأ وبمجرد ما انتهى من الوضوء أخبر أن موضعاً من يديه لم يصبه الماء فإنه فاصل قصير عرفاً فلا يعيد. فهذا القول هو الأرجح وهو أن ذلك راجع إلى العرف وهو رواية عن الإمام أحمد واختارها بعض أصحابه. ـ ومثل ذلك: كل ما لم يثبت في الشرع ولا في اللغة تحديد له فإنه يقيد بالعرف. فإذن: الموالاة فرض من فروض الوضوء وضابطها: ألا يفصل بنهما بفاصل طويل عرفاً. ـ فإن قيل: لو أن رجلاً توضأ فغسل وجهه ويديه ثم انقطع عنه الماء بأي سبب من الأسباب ثم بعد ذلك حضر الماء، بعد فاصل طويل عرفاً ـ فهل يمسح رأسه ويغسل رجليه أم أنه يستأنف؟ قولان لأهل العلم: 1ـ فالمشهور في مذهب الحنابلة أنه يعيد الوضوء؛ لأن الموالاة شرط فوجب أن يأتي بها ولا يسقط بالعذر. 2ـ وذهب المالكية وهو اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية إلى أن العذر مسقط للموالاة، لقوله تعالى: (فاتقوا الله ما استطعتم) (1) ولقوله صلى الله عليه وسلم: (إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم) (2) . ـ وأوضح منه في الاستدلال،ما في الصحيح ـ وسيأتي ذكره إن شاء الله ـ من العمل الكثير في الصلاة، فإنه يقتل الحية والعقرب، ونحو ذلك ثم يعود إلى الصلاة.

فهذا قاطع عن الصلاة وهو معذور فيه ومع ذلك فإنه لا يعيد الصلاة بل يبني عليها. ـ وهذا القول فيه قوة. ـ والقول الأول: فيه أيضا: فإنه يمكن أن يجاب عما استدلوا به: بأن قوله تعالى: (فاتقوا الله ما استطعتم) وقوله صلى الله عليه وسلم: (إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم) ، أن يقولوا: أنه لا مشقة في إعادة الوضوء، فإنه لا مشقة في أن يوافق أمر الله عز وجل بالإتيان بالوضوء موالياً، فليس في ذلك شيء به المشقة. ـ وأما الإستدلال بقتل الحية ونحوها أثناء الصلاة فيمكن أن يقال: أنه مازال في الصلاة، فهو يصلي لله وهو مازال في نيته لم يقطع صلاته، ومازال يتعبد لله بالصلاة وأجيز له أن يتحرك بهذه الحركة التي هي في الظاهر منافية للصلاة لكنها أجيزت من قبل الشارع للضرورة. ـ ولا شك أن كلا القولين فيه قوة إلا أن الأحوط ما ذهب إليه الحنابلة من أنه لا يسقط بالعذر. ـ وقيل ذلك النسيان والجهل والإكراه، فإنه لا يسقط بها. بل الذي يسقط إنما هو الإثم. ـ فلو أن رجلاً ترك الموالاة جاهلاً أو ناسياً فإنه لا إثم عليه ولكن يجب عليه أن يعيد الوضوء. ودليل ذلك ما تقدم من الحديث، فإن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ لما رأى الرجل الذي في قدمه لمعة قدر الدرهم لم يصبها الماء أمره أن يعيد الوضوء ولم يستفصل النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ منه أهو ناسي أم لا، أهو جاهلٌ أم لا؟ ونحو ذلك: وترك الإستفصال في مقام الإحتمال ينزل منزلة العموم في المقال كما هو مقعد عند الأصوليين فهذه من العمومات. إذن: الراجح أن المولاة لا تسقط بالإكراه ولا بالنسيان ولا بالجهل. ـ وهل تسقط بالعذر أم لا؟ تقدم البحث في هذا وتقوية كلا القولين وأن الإحتياط ما ذهب إليه أهل القول الأول. مسألة:

إذا ثبت وجوب الترتيب بين الأعضاء الأربعة، فهل يجب عليه أن يرتب بين المضمضة والاستنشاق، وبين المضمضة والاستنشاق والوجه، وبين المضمضة والاستنشاق وبقية الأعضاء؟ هل يجب ألا يرتب بين المضمضة والاستنشاق أم لا؟ فلو أنه استنشق قبل أن يتمضمض فهل يكون فعله جائزاً أم لا؟. 1ـ قال الحنابلة: فعله جائز؛ لأنهما من الوجه. فلو أن رجلاً غسل أعلى الوجه قبل أسفله أو أسفله قبل أعلاه فإنه لا حرج عليه في ذلك. 2ـ ووجه صاحب الفروع وهو مذهب لبعض أهل العلم وجوب ذلك، وهو أظهر، فإن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قد أمر بهما، لم يثبت عنه تقديم الاستنشاق على المضمضة بل كان يتمضمض ثم يستنشق. فالأظهر: هو إيجاب ذلك كما هو فعل النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ وقد أمر بهما وكان على هذه الطريقة في تقديم المضمضة على الاستنشاق. ـ فإن قدم الوجه على المضمضة والاستنشاق. قال الحنابلة: لا حرج لأنهما من الوجه. ـ فإن قدم غيرهما عليهما، فكان منه أن غسل وجهه ثم غسل يديه ثم مسح رأسه ثم تمضمض واستنشق فهل يكون صحيحاً أم لا؟ روايتان عن الإمام أحمد وهما قولان في المذهب: 1ـ الأول: أن المضمضة والاستنشاق يجب أن يكونا مع غسل الوجه فحينئذ يجب أن يقدما على غسل اليدين؛ لأنهما من أجزاء الوجه. قالوا: وهذا المحفوظ من فعل النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ كما في الصحيح من حديث عثمان، وفي الصحيحين من حديث عبد الله بن زيد، وفي السنن من حديث علي بن أبي طالب. بأن المحفوظ هو تقديم المضمضة والاستنشاق مع الوجه على بقية الأعضاء. 2ـ الثاني: وهو رواية عن الإمام أحمد أن ذلك جائز وهو مذهب بعض أصحابه.

ودليل ذلك: ما صح في سنن أبي داود من حديث المقدام بن معد يكرب الكندي أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ (غسل كفيه ثلاثاً وغسل وجهه ثلاثاً ثم غسل ذراعيه ثلاثاً ثم تمضمض واستنشق ثم مسح برأسه وأذنيه ظاهرهما وباطنهما) رواه الإمام أحمد وزاد: (ثم غسل رجليه) (1) . ورواه الضياء في (المختارة) ، وقد اشترط فيها أن تكون كل الأحاديث التي فيها صحيحة ثابتة، وقد أورد فيها هذا الحديث. فهذا الحديث يدل على صحة الرواية الثانية فالحديث إسناده صحيح وهو ثابت. وهذا يقوي القول المتقدم وأن المضمضة والاستنشاق ليسا من الوجه بل هي عضوان منفردان عنه. فعلى ذلك إذا قدم غسل اليدين على المضمضة والاستنشاق فإنه يجوز ذلك مادام أنه قد فعلهما لأن الترتيب بين المضمضة والاستنشاق وبقية الأعضاء ليس بمفترض. وهذا مذهب أحمد في رواية واختاره طائفة من أصحاب أحمد. إذن: المضمضة والاستنشاق لها باب آخر في باب الترتيب. أما تقديم الاستنشاق على المضمضة فالمشهور في المذهب جوازه، وقد تقدم أن الراجح هو وجوب تقديم المضمضة على الاستنشاق. وتقديمهما على الوجه وعلى بقية الأعضاء تقدم أن الراجح جواز تقديم بقية الأعضاء على المضمضة والاستنشاق وكذلك يجوز تقديم الوجه على المضمضة والاستنشاق. والحمد لله رب العالمين. الدرس العشرون ... …الأحد: 6 /11/1414هـ قال المؤلف ـ رحمه الله ـ: ((النية شرط لطهارة الأحداث كلها)) : النية: هي القصد والعزم على الفعل، ومحلها القلب ولا يشرع التلفظ بها إلا في الحج لثبوت ذلك عن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ وإلا فالنية محلها القلب وليس للسان فيها مدخل أصلاً. ـ وأعلم أن الجهر بالنية قد اتفق بالعلماء على بدعيته حتى ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية أن صاحبه يستحق التعزيز لأنه من البدع المحدثة في الدين. ـ فإن أسرَّ به ولم يجهر، ويزيد بالاسرار به أن يتلفظ بلسانه من غير أن يجهر به مثل قراءة القرآن في الصلاة فهل يشرع؟

ـ المشهور في المذهب مشرعية ذلك، قالوا: ليواطىء اللسان القلب. ـ أما الإمام أحمد فإن نصَّه الذي بقي عليه وهو مذهب مالك أن ذلك ليس بمشروع وهو اختيار شيخ الإسلام وتلميذه وهو الصواب؛ لأن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ لم يثبت عنه ذلك ولم يثبت عن أصحابه، وما كان كذلك فإنه بدعه، وقد قال صلى الله عليه وسلم: (من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد) . فالجهر أو الإسرار بالنية بدعة، فالنية محلها القلب. ـ والأصل في النية قوله صلى الله عليه وسلم: (إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى) (1) متفق عليه من حديث عمر بن الخطاب وهو حديث عظيم وهو ثلث الإسلام كما قال غير واحد من أهل العلم، فإن العبادات كلها مبناها على هذا الحديث العظيم. لذا قال المؤلف: (النية شرط لطهارة الأحداث كلها) . والشرط: هو ما تنعدم العبادة بانعدامه وتبطل بفقدانه ولكن الشرط إذا وجد فلا يلزم وجودها. فمثلاً: الوضوء شرط من شروط الصلاة، فإذا فقد أو اختل شرط من شروطه فإن العبادة تكون باطلة، ولكن إذا وجد الوضوء فليس شرطاً أن توجد الصلاة، هذا توضيحه. أما تعريفه فهو: ما يلزم من عدمه العدم، ولا يلزم من وجوده وجود ولا عدم. فالنية شرط في العبادات كلها وهي شرط من شروط الطهارة للأحداث كلها. فإذا توضأ بلا نية كأن يتوضأ للتبريد ونحوه فإن هذا الوضوء باطل؛ لأنه فقد شرطاً وهو النية، فهو لم ينو بوضوئه التعبد لله، وإنما نوى التبريد ونحوه. قوله: ((فينوي رفع الحدث أو الطهارة لما لا يباح إلا بها)) : بمعنى: رجل يريد أن يتوضأ فماذا ينوي؟ قال: (ينوي رفع الحدث 0000) . وقد تقدم تعريف الحديث وأنه: الوصف القائم في البدن الذي يمنع من الصلاة ونحوها. ـ فإذا فعل ناقضا من تواقض الوضوء فإنه يكون متصفاً بهذا الوصف، فإذا توضأ وهو ينوي رفع الحديث فإن حدثه يرتفع ويكون مجزئاً عنه، وهذا مذهب جماهير العلماء.

قوله: ((أو الطهارة لما لا يباح إلا بها)) : هناك أشياء لا تباح إلا بالطهارة، مثل الصلاة ومس المصحف، والطواف على قول، ونحو ذلك فهذه العبادات لا تصح إلا بالطهارة، فإذا فعل الطهارة كأن يتوضأ ليصلي أو ليطوف بالبيت أو ليمس المصحف فإن ذلك يجزئ عنه عند جمهور العلماء لأن هذا الفعل منه متضمن لرفع الحدث؛ لأن هذه الأفعال لا تصح إلا بالطهارة ورفع الحدث. ـ فلو أن رجلاً تطهر ليمس المصحف، فيجوز له أن يصلي وغير ذلك من العبادات التي لا تصح إلا بالطهارة؛ لأنه قد تطهر لما لا يباح إلا بالطهارة. فإذن: إذا توضأ لما لا تباح العبادات إلا به، فإن وضوءه صحيح وله أن يصلي فيه وأن يتعبد لله فيه بسائر العبادات. قوله: ((فإن نَوَى ما تسن له الطهارة كقراءة أو تجديداً مسنوناً ناسياً حَدَثه ارتفع)) : فإذا نوى ما تسن له الطهارة كقراءة القرآن من غير مسٍ للمصحف أو نية ذكر الله عز وجل أو لغيرها من النيات التي تكون لأعمال لا تشترط فيها الطهارة فهل له أن يصلي فيه الصلاة المفروضة وغير ذلك؟ قال المؤلف: ((نعم يصح أن يصلي فيه الصلاة المفروضة)) ـ وفي قول في المذهب أنه لا يجزئ عنه. ـ والأصح هو المشهور في المذهب؛ لأن هذا الفعل متضمن لرفع الحدث. فإن هذا الوضوء فيه متضمن لرفع الحدث؛ لأن هذا الوصف القائم بالبدن وهو الحدث يكره له أن يقرأ القرآن وهو عليه فتوضأ بنية قراءة القرآن فيكون متضمناً لرفع الحدث القائم به. فعلى ذلك: إذا توضأ لما يسن له الطهارة، فالراجح وهو المشهور في المذهب أنه يجزئ ذلك. قوله: ((أو تجديداً مسنوناً ناسياً حدثه ارتفع)) : فهنا قيَّد التجديد بقيدين: 1ـ القيد الأول: أن يكون مستوناً 2ـ القيد الثاني: أن يكون ناسياً لحدثه. والمراد بالتجديد: الرجل يكون عليه الوضوء الشرعي الذي يمكنه أن يصلي فيه ونحو ذلك لكنه مع ذلك يستحب له أن يتوضأ وضوءاً آخر وهو التجديد.

وفي البخاري أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ (كان يتوضأ لكل صلاة) (1) . فتجديد الوضوء سنة. وأما ما روى الأربعة إلا النسائي أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال: (من توضأ على طهر كتب له عشر حسنات) (2) فهو ضعيف. فالتجديد في الأصل سنة فلماذا قيده هنا بقوله: (مسنوناً) . قالوا: المسنون هو الوضوء الذي فعل بعد وضوء قد صلي فيه. فعلى ذلك: لو أن رجلاً توضأ لصلاة الظهر ثم توضأ مرة أخرى لها قبل أن يصليها فهذا ليس بمشروع، فالمسنون إذن هو: التجديد الطارئ على وضوءٍ قد صُلِّيَ فيه. ـ وقيْده بفيد آخر وهو قوله: (ناسياً حدثه) . فلو أن رجلاً نوى التجديد وهو ذاكر للحدث فإنه لا يجزئ عنه لأنه متلاعب بالشرع، فكيف ينوي هذه النية وهو ليس على طهارة شرعية؛ لأنه ذاكر لحدثه فحينئذ لا يكون فعل التجديد الشرعي، لأن التجديد الشرعي إنما يكون مع ثبوت الوضوء السابق وهذا لا وضوء عليه فحينئذ لا يجزئ عنه. ـ إذن: إذا ثبت التجديد بهذين الشرطين وهما: أن يكون مسنوناً، وأن يكون ناسياً لحدثه، فإنه يرتفع الحدث بمعنى: رجل عليه حدث، فلما أراد أن يصلي الظهر ظن أنه مازال على وضوئه فتوضأ وهو ناسٍ لحدثه، فهذا الوضوء منه سنة؛ لأنه طارئ على وضوئه لصلاة الفجر مثلاً فتَذَكَّر بعد أن انتهى من الوضوء أو بعد الصلاة، تذكر أنه لا وضوء له سابق فيكون وضوؤه صحيحاً. هذا هو المشهور في المذهب. ـ وذهب بعض الحنابلة وهو اختيار أبي الخطاب والقاضي، ولعله مذهب جمهور الفقهاء إلى أن ذلك لا يجزئ عنه. ـ أما أهل القول الأول: فقالوا: هي طهارة شرعية؛ لأنه إنما جدد وضوءه وهو ناسٍ لحدثه فحينئذ تكون طهارته طهارة شرعية فمادام كذلك فإنها تجزئ عنه برفع حدثه. ـ أما أهل القول الثاني: فقالوا: وإن نوى الطهارة الشرعية لكنه لم ينو طهارة ترتفع بها الأحداث، وقد قال صلى الله عليه وسلم: (إنما الأعمال بالنيات) . وهذا القول أصح.

فالأصح أنه لا يجزئ عنه ـ كما لو تصدق بصدقة بنية أنها صدقة فإنها لا تجزئ عن الزكاة. فإن النية: تمييز العبادة عن العبادة، فالنية تمييز غسل العبادة عن غسل التبريد، وكذلك تميز الطهارة المستحبة عن الطهارة الواجبة. فهذا قد نوى طهارة شرعية لكنها ليست متضمنه لرفع الحدث (إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى) . قوله: ((وإن نوى غسلاً مسنوناً أجزأ عن واجب وكذا عكسه)) : فإذا نوى غسلاً مسنوناً كغسل الجمعة على مذهب جمهور الفقهاء (أجزأ عن واجب) كغسل الجنابة. مثال: رجل أصبح يوم الجمعة وعليه جنابة فاغتسل ناوياً غسل الجمعة، فهل يجزئ عن غسل الجنابة؟. قالوا: نعم، وقيده بعضهم: مع نسيان الحدث الأكبر. إذن: هذا هو المشهور في المذهب وأنه إذا اغتسل بنية الغسل المسنونة كغسل الجمعة أو غسل العيد ولم ينو رفع الجنابة فإن ذلك يجزئ عنه. والعلة هي: ما تقدم لأنها طهارة شرعية. ـ وفي هذا ضعف كما تقدم. ـ فالأرجح: وهو قول للحنابلة أنها لا تجزئ لحديث (إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى) وهذا قد تطهر طهارة لا ترفع بمثلها الأحداث وإنما تطهر طهارة مستحبه لا تطرأ على الأحداث فترفعها فهي طهارة مسنونة. فالراجح: أنها لا تجزئ عنه. وقد روى ابن حبان بإسناد حسن: (أن أبا قتادة رأى إبنه وهو يغتسل يوم الجمعة، فقال: (إن كنت على جنابة فأعد غسلاً آخر) (1) . قوله: ((وكذا عكسه)) : رجل عليه جنابة وهو في يوم جمعة فاغتسل عن الجنابة فهل يجزئ عنه في غسل الجمعة أم لا؟ قالوا: نعم يجزئ عنه. واعلم أن العلماء قد اتفقوا على أنه إذا نواهما معاً فإنه يجزئ عنه. أما هذه المسألة فتبحث فيما إذا انفرد بأحد النيتين، ففي المسألة السابقة إذا انفرد بنية غسل الجمعة. وفي هذه المسألة إذا انفرد بنية رفع الجنابة فهل يجزئ عنه؟ قالوا: نعم يجزئ عنه.

وفي هذا نظر؛ لأن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال: (إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى) وهذا لم ينو غسل الجمعة فلا يجزئ عنه، وهو قول في المذهب. فلا تصح العبادة إلا بالنية وغسل الجمعة عبادة ولم ينوه فلا يجزئ عنه. قوله: ((وإن اجتمعت أحداث توجب وضوءاً أو غسلاً فنوى بطهارته أحدهما ارتفع سائرها)) : مثاله: رجل عليه ناقضان، ناقض بخارج من السبيلين، وناقض بالنوم. فتوضأ بنية رفع الحدث الناتج عن الخارج من السبيلين، فهل يرتفع حدثه مطلقاً أم يبقى الحدث المترتب على النوم؟ قال المؤلف: ((إرتفعت سائرها)) قالوا: لأنها ذات حكم واحد، وهي متداخلة في هذا الباب فإذا ارتفع أحدها ارتفع سائرها فأصبح طاهراً مطلقاً. ـ ولكن قيده بعض الحنابلة بقيد غريب وهو: (بشرط إلا ينوي عدم ارتفاع غيره) . بمعنى: رجل توضأ وقال: هذا عن حدث النوم وليس عن حدث الخارج عن السبيلين. ـ وهذا في الحقيقة الذي ينوي هذه النية ليس محلاً للبحث؛ لأنه ليس أهلاً للتكليف، فمثل هذا الفعل لا يصدر في الحقيقة عن مكلف فضلاً أن تكون مسألة ولكنها في الحقيقة من غرائب العلم. ولو قيل بمثلها وتوقع وقوعها في المكلف فالأصح أنه يرتفع حدثه وإن نوى عدم ارتفاع غيره. لأن الحكم ليس إليه في رفع الأحداث، وإنما إلى الله ـ عز وجل ـ فمادام أنه توضأ الوضوء الشرعي عن الحدث وإن نوى عدم ارتفاع بعضها فترتفع سائرها. قوله: ((ويجب الإتيان بها عند أول واجبات الطهارة وهو التسمية)) : تقدم أن النية واجبة وشرط، فإذا ثبت هذا فيجب أن يشمل النية سائر فرائض الوضوء. وأول فرائضه التسمية، فيجب أن تكون النية سابقة للتسمية. ـ فإذا قلنا بفرضية التسمية، ثم سمَّى ولم ينو بعد ثم نوى فإنه لا تجزئ عنه؛ لأن هذا الفرض وهو التسمية الذي يختل الوضوء باختلاله لم تثبت فيه النية فيكون حينئذ باطلاً. وهذه المسألة يدل عليها حديث: (إنما الأعمال بالنيات) .

فإذن: يجب أن تشمل النية سائر فرائض الوضوء. كما لو أنه كبَّر تكبيرة الإحرام ثم نوى الصلاة بعد، فإنها لا تجزئ عنه، فكذلك هنا. إذن: يجب عليه أن ينوي قبل البداءة بفرائض الوضوء. ـ وإذا قلنا إنهما ـ أي المضمضة والاستنشاق ـ ليسا بواجبين فيجب عليه أن ينوي قبل غسل الوجه. ـ فأول الفرائض عند الجمهور خلافاً للحنابلة هو غسل الوجه. فيجب عليه ـ حينئذ ـ أن ينوي قبل غسل الوجه. إذن: يجب أن تشمل النية فرائض الوضوء كلها. ـ فإن قدمها بزمن يسير عرفاً فلا يضر ما لم يقطعها بمعنى: لا تشترط في النية أن تكون ذلك بمجرد بدئه بل لو قدمها بزمن يسير فلا حرج ما لم يقطع النية. ـ وذهب بعض فقهاء الحنابلة كالقاضي ـ إلى أنه لو قدمها بزمن كثير فإن ذلك لا يضر ما لم يقطعها، وهذا قول قوي. قوله: ((وتسن عند أول مسنوناتها إن وجد قبل واجب)) : تقدم أنه يجب عليه ذلك قبل فرائضها. ويسن له عند أول مسنوناتها إن وجد قبله واجب كغسل الكفين قبل المضمضة والاستنشاق، فإن قلنا إن التسمية ليست بواجبه فإنه يسن له أن ينوي قبل التسمية لتدخل التسمية وهي مسنونة في النية. ـ وإن قلنا إنها واجبة فإن غسل الكفين قبل التسمية فيستحب له أن ينوي. إذن: إذا كانت السنة في أول الوضوء قبل الواجبات فيسن له أن ينوي قبلها لتدخل السنن والمستحبات في السنة، لأنها عبادات ولا تصح العبادة إلا بالنية. فمثلاً: لو أن رجلاً غسل كفيه ثم سمَّى ثم تمضمض أو استنشق، وهكذا لكنه قبل غسل الكفين لم ينو فإنه لا يثاب على ذلك، فالمشروع له أن ينوي. ـ هذا على تقدير وجود السنة قبل الواجب. وإلا فالواجب أن يبدأ أولاً بالتسمية حتى يثبت له غسل الكفين. لأن غسل الكفين قبل التسمية لا حكم له في الأظهر (بناء على ترجيح وجوب التسمية وقد سبق خلافه) . ـ فإذن: إذا قدر وجود سنة قبل فرائض الوضوء فإنه يسن أن ينوي قبلها لتدخل هذه السنة في النية، فيثاب عليها.

قوله: ((واستصحاب ذكرها في جميعها، ويجب استصحاب حكمها)) : قوله: ((واستصحاب ذكرها في جميعها)) : المراد بالذكر التذكر. فهنا: يسن له أن يستصحب التذكر بمعنى: يكون قلبه متذكراً أنه إنما يتوضأ لله ولإقامة الصلاة. هذا هو السنة لتكون أفعاله كلها متعلقة بالنية لله عز وجل. ـ هذا مستحب وليس بواجب، فلو غفل عن تذكر النية فإنه لا يضره. ـ بمعنى: رجل نوى الوضوء ثم غفل عن النية واستمر في الوضوء فإنه لا يضره ذلك باتفاق العلماء، إذ لا يشترط تذكر النية بل هو مستحب لتكون أفعاله متعلقة بنيته. ولكن قال: ((ويجب استصحاب حكمها)) : هذا هو الواجب أن يستصحب حكمها، والمراد بحكمها نية إبقائها وعدم قطعها، فينوي الوضوء ويستمر فيه حتى ينتهي منه من غير أن ينوي أن يقطعه. ـ رجل لمَّا غَسَّل وجهه وغسل يديه نوى أن يقطع الوضوء فقطع النية، فإنه ـ حينئذ ـ يبطل وضوؤه؛ لأنه قطع النية بقطع حكمها. وأما إذا لم ينو قطع ذلك فإن وضوءه صحيح. إذن: لا يشترط تذكر النية وإنما يشترط استصحاب حكمها. إذن: يشترط في النية أن يبقى مستصحباً لحكمها وهو نية عدم قطعها والبقاء عليها. فإن خالف فإن وضوءه يَبطُل بذلك. وأما تذكر النية فإنه مشروع لتبقى أفعاله متعلقة بنيته. ـ فإن نوى قطع العبادة بعد فعلها فإنه لا يضره باتفاق العلماء، فإن قطع النية بعد إنتهاء العبادة لا أثر له إجماعاً. ومثل ذلك الشك فإن الشك بعد العبادة لا يؤثر. فإذا توضأ ثم شك هل سَمَّى أم لا؟ فإن هذا الشك بعد العبادة لا يؤثر. ـ فالشك بعد العبادة وقطع النية ليس لهما أثر باتفاق العلماء. إذ العبادة أولا صحت فقطع النية لا أثر له بعد رفعها إلى الله وثبوتها. وأما الشك فإنه طرأ على يقين فإن العبادة إذا انتهت فقد تيقن قبولها فليس له بعد ذلك أن يشك فيها والشك يكون طارئاً على يقين فلا أثر له. والحمد لله رب العالمين. الفهرس: كتاب الطهارة إلى من الموضوع 21 1 المقدمة 73 22

أنواع المياه 98 74 الآنية 134 99 الاستنجاء 167 135 السواك وسنن الوضوء 188 168 فروض الوضوء إذا جاء أحدكم إلى المسجد فلينظر فإذا رأى في نعليه قذراً أو أذى................. 21 إذا كان الماء قلتين لم يحمل الخبث............................................. 34 إذا وطئ أحدكم الأذى في نعله فإن التراب لها طهور............................. 21 اللهم اجعل رزق آل محمد قوتاً............................................... 10 اللهم صل على آل أبي أوفى................................................. 10 اللهم طهرني بالماء والثلج والبرد............................................... 22 أما علمت أن آل محمد لا تحل لهم الصدقة...................................... 10 أمر النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ أن يهراق على بول الأعرابي ذنوباً............. 21 أن ابن عمر كان يغتسل بالحميم.............................................. 31 إن الماء طهور لا ينجسه شيء.............................................. 35 إن الماء لا ينجسه شيء إلا ما غلب على ريحه أو طعمه أو لونه................. 36 أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ دعا بسجل من ماء زمزم فشرب منه وتوضأ ... 23 بسم الله الرحمن الرحيم: من مُحمَّد عبد الله ورسوله إلى هرقل عظيم الروم.......... 6 تحته ثم تقرصه بالماء ثم تنضحه ثم تصلي فيه...................................... 21 خير ماء على وجه الأرض ماء زمزم........................................... 23 دعا بسجل من ماء زمزم فشرب منه وتوضأ.................................... 23 دع ما يريبك إلى ما لا يريبك............................................... 26 فأمرهم النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ أن يهريقوا ما استقوا ويعلفوا الإبل......... 23

كان إذا رأى ما يحب قال: الحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات، وإذا رأى ما يكره.. 8 كان يسخن له ماءً في قمقم "الجرة" فيغتسل منه................................. 31 كل أمر ذي بال لا يبدأ فيه ببسم الله الرحمن الرحيم فهو أقطع..................... 6 كل أمر ذي بال لا يبدأ بالحمد لله فهو أقطع.................................... 7 لا أحله لمغتسل وهو لمتوضئ وشارب حل وبِلّ................................. 24 لا ضرر ولا ضرار....................................................... 30 لا يبولن أحدكم في الماء الدائم الذي لا يجري ثم يغتسل فيه................. 33 لا يجلد أحدكم امرأته جلد العبد ثم بجامعها................................ 34 ماء زمزم لما شرب له...................................................... 24 نزل الناس مع النبي ـ - صلى الله عليه وسلم - ـ على الحجر أرض ثمود فاستقوا من آبارها............. 23 هو طعام طعم............................................................ 24 هو الطهور ماؤه الحِلّ ميتته................................................. 22، 27 وشر ماء على وجه الأرض ماء بوادي برهوت................................ 23 وشفاء سقم........................................................... 24 ياحميراء ـ وهو تصغير حمراء ـ لا تفعلي فإنه يورث البرص............... 30

كتاب الطهارة من باب المسح على الخفين إلى النهاية

الدرس الثالث والعشرون (يوم السبت: 12 / 11 / 1414 هـ) باب مسح الخفين المسح هو إمرار اليد على المحل. والمراد به هنا مسحهما: أي الخفان بإمرار اليد بالماء، فعلى ذلك يكون المعنى: إمرار اليد بالماء مبتلة على الخفين من غير إسالة للماء، فلا يكون فيه إسالة وإنما مجرد بلُّ العضو بالماء. الخفان: هنا: ما يلبس علي الرجل من الجلد الرقيق وهو ما يسمى عندنا بـ" الكنادر " بخلاف الجوارب وهي ما تكون من صوف ونحوه فسيأتي الكلام عليها. إذن: هذا الملبوس الذي يغطي القدمين ويباشر الأرض لأنه يمشى عليه ويصنع من الجلد ونحوه يسمى الخف. والمسح على الخفين دل عليه الكتاب والسنة والإجماع: أما الكتاب: فهي آية المائدة: {يا أيها الذين آمنوا إذا قمتم إلى الصلاة ... } (1) في قراءة سبعية، فقد قرأ بعض السبعة {وأرجلِكم} بالكسر، فتكون الرجل ممسوحة، وذلك لأنه سبحان وتعالى قال {فاغسلوا وجوهكم وأيديكم إلي المرافق وامسحوا برؤوسكم وأرجلِكم} (2) هذا على توجيه من توجيهات اللغة في هذه الآية، وهو ما اختاره بعض أهل العلم. وقد بينه النبي صلى الله عليه وسلم بفعله بإثبات المسح على الخفين. وأما السنة: فقد تواترت في الدلالة علي جواز المسح على الخفين، حتى ذكره الإمام أحمد عن سبعة وثلاثين صحابياً (37) فقال رحمه الله: " سبعة وثلاثون نفساً يروون المسح على الخفين " وذكره ابن مندة عن أكثر من ثمانين صحابيـ[ـاً] ، منهم العشرة المبشرون بالجنة. ولعل ذكر الإمام أحمد لذلك العدد إنما هو في الأحاديث الصحيحة، وما ذكره ابن مندة في الأحاديث الصحيحة وغيرها.وقد ذكر صاحب " نصب الراية " عن ثمانية وأربعين حديث (3) (48) في المسح على الخفين.

_ (1) سورة المائدة. (2) سورة المائدة. (3) وكذا، ولعل الصواب: صحابياً، أو حديثاً دون " عن ". فليراجع نصب الراية.

وقد جزم كثير من أهل العلم بأن الأحاديث في هذا الباب متواترة، وممن جزم بذلك شيخ الإسلام والحافظ ابن حجر وغيرهما من أهل العلم. وقد أنكر المسح على الخفين طوائف من المبتدعة كالرافضة والخوارج، ومن هنا أدخل أهل العلم هذا الباب في باب العقائد فيشيرون إلي هذه المسألة لخلاف المبتدعة في هذا الباب. ومن أنكر المسح علي الخفين فهو مبتدع؛ لأن الأحاديث فيه متواترة، ومن أنكر شيئاً مما ثبت بالتواتر فهو مبتدع كما ذكر ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية فمن أنكر شيئاً مما ثبت بالتواتر كأحاديث الحوض ونحوها فهو مبتدع. أما الإجماع: فقد أجمع العلماء علي جواز المسح علي الخفين وممن ذكره: ابن المبارك وابن المنذر. فإذن: المسح علي الخفين ثابت بالكتاب والسنة والإجماع. لذا قال المؤلف: (يجوز ….) . فالمسح على الخفين جائز ولا ينكر جوازه عالم بالسنة إذ السنة قد تواترت بجوازه. لكن إذا ثبت لنا جوازه فهل الأفضل غسل القدمين أم الأفضل المسح على الخفين؟ قولان لأهل العلم: 1- فذهب جمهور الفقهاء إلى: أن غسل القدمين أفضل من المسح وهو راوية عن الإمام أحمد. قالوا: لأن هذا هو الأصل، فالأصل هو الغسل. 2- وذهب الحنابلة في المشهور عندهم إلى: أن الأفضل هو المسح. واستدلوا:

بما رواه الخمسة إلا أبا داود من حديث صفوان بن عسَّال قال: (كان النبي صلى الله عليه وسلم يأمرنا إذا كنا سَفْراً ألا ننزع خفافنا ثلاثة أيام ولياليهن إلا من جنابة ولكن من غائط وبول ونوم) (1) والحديث إسناده صحيح لكن في رواية للنسائي: (رخص لنا النبي صلى الله عليه وسلم) . فعلي ذلك يكون الأمر الوارد في حديث صفوان إنما هو أمر لبيان الإباحة والرخصة كما في قوله تعالى {وإذا حللتم فاصطادوا} (2) . واستدلوا: بما روى أبو داود إن النبي صلى الله عليه وسلم (مسح على خفه وقال: بهذا أمرني ربي) (3) لكن الحديث إسناده ضعيف.

_ (1) أخرجه الترمذي في كتاب الطهارة، باب المسح على الخفين للمسافر والمقيم (95) باللفظ نفسه، وأخرجه النسائي في كتاب الطهارة، باب التوقيت في المسح على الخفين للمسافر (126) قال: أخبرنا قتيبة قال حدثنا سفيان عن عاصم بن زر عن صفوان بن عسال قال: رخص لنا النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا كنا مسافرين أن لا ننزع خفافنا ثلاثة أيام ولياليهن ". وابن ماجه في كتاب الطهارة، باب الوضوء من النوم (478) . (2) سورة المائدة. (3) أخرجه أبو داود في كتاب الطهارة، آخر حديث في باب المسح على الخفين (156) قال: " حدثنا أحمد بن يونس حدثنا بن حَيٍ هو الحسن بن صالح عن بكير بن عامر البَجَلي عن عبد الرحمن بن أبي نُعْم عن المغيرة بن شُعبة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مسح على الخفين فقلت: يا رسول الله أنسيت؟ قال: (بل أنت نسيت، بهذا أمرني ربي عز وجل) .

وأصح ما استدلوا به " ثبوتاً واستدلالاً " ما رواه الإمام أحمد وهو حديث صحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن الله يحب أن تؤتى رخصه كما يحب أن تؤتى عزائمه) (1) . - واختار شيخ الإسلام وتلميذه ابن القيم: أن الأفضل هو الموافق لحال الماسح أو الغاسل فإذا كان لابساً لخفيه والأفضل له أن يمسح عليها. وإذا كان خالعاً لهما كاشفاً قدميه فالأفضل له الغسل ولا يشرع له تكلف لبس الخفين بل يفعل ما يوافق حاله. وهذا هو الظاهر من فعل النبي صلى الله عليه وسلم وأنه إذا كان لابساً خفيه فإنه يمسح عليه، وإن كان خالعاً لهما فإنه يغسل قدميه، وقد ثبت في الصحيحين إن النبي صلى الله عليه وسلم (ما خير بين أمرين إلا اختار أيسرهما) (2) . فعلي ذلك: يفعل الموافق لحاله، فلا يتكلف حالاً بل يفعل ما يوافقه، وبذلك يكون قد فعل ما كان يفعله النبي صلى الله عليه وسلم، فإنه لم يثبت عنه أنه كان يتكلف شيئاً من الحالين بل كان يفعل الموافق لحاله. قوله: (يجوز للمقيم يوماً وليلة وللمسافر ثلاثة أيام بلياليها) يجوز للمقيم أن يمسح يوماً وليله أي أربعاً وعشرون ساعة، وأما للمسافر فثلاثة أيام بلياليها أي اثنتان وسبعون ساعة، ولا يحسب ذلك بالصلوات، بل يحسب باليوم والليلة وهما أربع وعشرون ساعة.

_ (1) أخرجه الإمام أحمد في المسند، مسند المكثرين ي، مسند عبد الله بن مسعود (5866) (5873) بلفظ: " إن الله يحب أن تؤتى رخصه كما يكره أن تؤتى معصيته ". (2) أخرجه البخاري كتاب الحدود، باب إقامة الحدود والانتقام لحرمات الله (6786) ، وأخرجه في كتاب المناقب،باب صفة النبي - صلى الله عليه وسلم - (3560) . وفي كتاب الأدب، باب قول النبي - صلى الله عليه وسلم - يسروا ولا تعسروا (6126) . وأخرجه مسلم (2327) .

ودليل ذلك: ما ثبت في صحيح مسلم عن علي بن أبي طالب قال: (جعل النبي صلى الله عليه وسلم للمسافر ثلاثة أيام ولياليهن وللمقيم يوماً وليلة) (1) . - وهذا مذهب جمهور أهل العلم: وأن مدة المسح للمسافر ثلاثة أيام بلياليها، وللمقيم يوم وليلة. - وذهب المالكية في المشهور عندهم: أنها لا وقت لها بل تفعل مطلقاً من غير مدة محددة واستدلوا بأحاديث: الحديث الأول: ما رواه أبو داود من حديث أبي بن عمارة أنه سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن مسح الخفين فقال: (أمسح على الخفين؟ قال: نعم، قال: يوماً؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم (يوماً) فقال: ويومين؟ فقال: (ويومين) فقال: وثلاثة؟ قال: نعم وما شئت) (2) لكن الحديث إسناده ضعيف فلا يثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم.

_ (1) أخرجه مسلم في كتاب الطهارة، باب التوقيت في المسح على الخفين (276) بلفظ: عن شُريح بن هانئ قال: أتيت عائشة أسألها عن المسح على الخفين فقالت: عليك بابن أبي طالب فسله، فإنه كان يسافر مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فسألناه فقال: " جعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثلاثة أيام ولياليهن للمسافر، ويوماً وليلة للمقيم ". (2) أخرجه أبو داود في باب التوقيت في المسح من كتاب الطهارة (158) قال: " حدثنا يحيى بن معين حدثنا عمرو بن الربيع بن طارق، أخبرنا يحيى بن أيوب، عن عبد الرحمن بن رَزين عن محمد بن يزيد عن أيوب بن قَطن عن أُبيّ بن عمارة - قال يحيى بن أيوب: وكان قد صلى مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - القبلتين - أنه قال: يا رسول الله أمسح على الخفين؟ قال: (نعم) قال: يوماً؟ قال: (يوماً) قال: ويومين؟ قال: (ويومين) قال: وثلاثة؟ قال: (نعم، وما شئت) . وأخرجه ابن ماجه في الطهارة 557، سنن أبي داود مع المعالم [1 / 109] .

الحديث الثاني: ما رواه خزيمة بن ثابت – كما في أبي داود وغيره – أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (المسح على الخفين للمسافر ثلاثة أيام وللمقيم يوم وليلة، قال (ولو استزدناه لزادنا) (1) . والحديث فيه انقطاع، وقد ضعفه البخاري ثم إن قول الصحابي لو صح فليس فيه دليل على أن المدة مطلقة، كيف وقد قيدها النبي صلى الله عليه وسلم بما تقدم بل فيه أن الصحابي قد ظن وتوقع أنهم لو طلبوا منه الزيادة لزاد ولم يطلبوا منه فلا يحكم بالظن ولا يحكم بأمر لا يعلم. فهذا الحديث لو صح فلا يدل علي أن المدة مطلقة.

_ (1) أخرجه أبو داود في نفس الباب السابق (157) قال: " حدثنا حفص بن عمر حدثنا شعبة عن الحكم وحماد عن إبراهيم عن أبي عبد الله الجَدَلي عن خزيمة بن ثابت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (المسح على الخفين للمسافر ثلاثة أيام، وللمقيم يوم وليلة) قال أبو داود: رواه منصور بن المعتمر عن إبراهيم التيمي بإسناده، قال فيه: " ولو استزدناه لزادنا) . وأخرجه الترمذي في الطهارة 95، وقال: هذا حديث حسن صحيح، وابن ماجه في الطهارة 553. سنن أبي داود مع المعالم [1 / 109] .

الحديث الثالث: ما رواه البيهقي وصححه شيخ الإسلام ورواه الحاكم وصححه: أن عقبة بن عامر خرج من الشام إلي المدينة من الجمعة إلي الجمعة فقال له عمر: (متي أولجت الخفين في رجليك) فقال (يوم الجمعة) فقال: (فهل نزعتها) فقال: لا، فقال (أصبت السنة) (1)

_ (1) أخرجه البيهقي في السنن الكبرى برقم (1332) ، في كتاب الطهارة، باب ما ورد في ترك التوقيت قال رحمه الله: " أخبرنا أبو عبد الله الحافظ، ثنا أبو العباس محمد بن يعقوب، ثنا بحر بن نصر بن سابق الخرلاني – كذا -، ثنا بشر بن بكر، ثنا موسى بن علي بن رباح، عن أبيه عن عقبة بن عامر الجهني قال: خرجت من الشام إلى المدينة يوم الجمعة فدخلت على عمر بن الخطاب، فقال: متى أولجت خفيك في رجليك؟ قلت: يوم الجمعة، قال: فهل نزعتهما؟ قلت: لا، قال: أصبت السنة ". قال (1333) : وأخبرنا أبو زكريا بن أبي إسحاق وأبو بكر بن الحسن، قالا: ثنا أبو العباس محمد بن يعقوب ثنا محمد بن عبد الله بن عبد الحكم، أنبأ ابن وهب، قال: وثنا بحر بن نصر، قال: قرئ على ابن وهب أخبرنا ابن لهيعة وعمرو بن الحارث اولليث بن سعد عن يزيد بن أبي حبيب عن عبد الله بن الحكم البلوي أنه سمع علي بن رباح اللخمي يخبر أن عقبة بن عامر الاجهني – كذا، ولعل الصواب: الجهني - قال: قدمت على عمر بن الخطاب بفتح من الشام وعلي خفان لي جرمقانيان غليظان، فنظر إليهما عمر فقال: كم ذلك منذ لم تنزعهما؟ قال: قلت: لبستهما يوم الجمعة واليوم يوم الجمعة ثمان، قال: أصبت. ورواه مفضل بن فضالة عن يزيد بن أبي حبيب وقال فيه: أصبت السنة ". وقال أيضاً (1334) أخبرنا علي بن أحمد بن عبدان، ثنا أحمد بن عبيد، ثنا عبيد بن شريك، نا يحيى بن بكير، ثنا مفضل بن فضالة، عن يزيد بن أبي حبيب عن عبد الله بن الحكم البلوي، عن علي بن رباح عن عقبة بن عامر عن عمر مثله، وقال: أصبت السنة ".

والحديث صحيح. لا شك أن هذا الحديث يشكل على مذهب الجمهور، ولكن ليس فيه ما يدل علي تمام قولهم بل فيه دليل على ما اختاره شيخ الإسلام من أن المسافر إذا كان يشق عليه خلع الخفين ولبسهما، كأن يكون بريداً في مصلحة المسلمين وشق عليه لئلا يؤخر الخير على المسلمين ويشق عليه أن ينزل فيخلع الخفين، فإنه يجوز له أن يمسح ما شاء – هذا هو الذي يدل عليه الحديث المتقدم، وهو حديث لأنه قال (أصبت السنة) ففيه رفع إلي النبي صلى الله عليه وسلم. وهذا القول هو الراجح – أي أنه لا يجوز أن يزيد علي الوقت المحدود إلا إذا كان في حال السفر وكان يشق عليه أن يخلع ويلبس فإنه يجوز له ذلك. ويصح أن تكون هذه المسألة من باب القياس علي الجبيرة فإنها لا تؤقت وهي ما توضع علي الكسر، فإنه يمسح عليها مطلقاً من غير تحديد بوقت. إذن الراجح: ما اختاره شيخ الإسلام من استثناء من يشق عليه أن يخلع ويلبس كأن يكون بريداً في مصلحة المسلمين. قوله: (من حدث بعد لبس) : صورة ذلك: رجل لبس خفه ثم أحدث، كأن يكون توضأ الفجر ولبس خفيه ثم نام بعد الفجر في حوالي الساعة العاشرة، فإنه حينئذ: يكون قد انتقض وضوؤه بمجرد نومه، ففي أول النوم يكون قد انتقض وضوؤه، وهو نام في الساعة العاشرة فيستمر وقت المسح إلي الساعة العاشرة من الغد فيتم له أربعاً وعشرين ساعة. إذن: الحساب يكون – من الحدث بعد اللبس – وهذا هو مذهب جمهور أهل العلم. وحجتهم: قالوا: إنه إذا أحدث فإنه – حينئذ – يكون قد جاز له أن يمسح علي الخفين وينقلهما بها الطهارة وسواء فعل الطهارة أم لم يفعلها، فالمقصود أنه جاز له أن يمسح. لكن هذا فيه نظر فإننا في المثال السابق: إن قلنا إنه نام في الساعة العاشرة واستيقظ في الثانية عشر فهل يمكنه أن يتوضأ في الساعة الحادية عشرة أو الحادية عشرة ونصف وهو غير مكلف وهو نائم، فهذا القول فيه نظر ظاهر.

- لذا ذهب الإمام أحمد في رواية عنه وهو اختيار ابن المنذر، ومن الشافعية النووي وهو اختيار الشيخ عبد الرحمن السعدي: وأنه يكون التوقيت من المسح، ودليل ذلك ظواهر الأدلة الشرعية، فإن الأدلة الشرعية إنما صرحت بالمسح. وهو قبل أن يمسح لم يشرع به بعد فكيف يكون محسوباً من وقته، فعلى ذلك يكون الحساب من المسح إلى أن تتم المدة. ففي المثال السابق إذا نام في الساعة العاشرة ثم استيقظ في الساعة الثانية عشر فتوضأ ومسح علي خفيه فإنه يبدأ التوقيت من الساعة الثانية عشر ويستمر إلي الثانية عشرة من الغد. فعلي ذلك يكون من المسح لا من الحدث، هذا هو الراجح. قوله: (على طاهر مباح ساتر للمفروض يثبت بنفسه) . قوله " طاهر " قيده الشرَّاح بأن يكون طاهر العين، وقد تقدم أن جلد الميتة نجس، فلو كان الخف من جلد ميتة فإن ذلك لا يجوز أن يمسح عليه ما لم يبت فيه الدباغ. وأظهر منه في التمثيل أن يضرب ذلك بجلد الكلب فهو نجس ولو دبغ، فإذا كان الخف من جلد كلب قالوا فلا يصح المسح عليه؛ لأن ذلك منهي عنه، والمسح رخصة فكيف يستباح بها المحرم، فإن هذا محرم، وهذه رخصة فكيف تجيز الرخصة فعل أمر محرم. وظاهر قولهم (طاهر العين) : أنه لو كان نجس الحكم وليس بنجس العين أنه لا شيء فيه فيجوز المسح عليه. إذن: نجس العين فهذا لا يجوز المسح عليه كجلد الكلب ونحوه. أما ما كان نجس الحكم وهو طاهر العين، كأن يكون من جلد حيوان طاهر في الحياة فهو طاهر لكن في أسفله نجاسة فهل يجوز المسح عليه؟ الجواب: يجوز ذلك وإن كانت الصلاة لا تجوز فيه في أصح الوجهين في مذهب الحنابلة، لأن إزالة النجاسة من شروط الصلاة، وأما الوضوء فإنه يصح وإن كان على بعض أعضاء الجسم نجاسة. فإذن عندنا حالتان: الحالة الأولي: ما كان نجس العين، فلا يمكن أن يطهر مطلقاً كجلد الكلب ونحوه – فهذا لا يصح أن يمسح عليه.

وعللوا ذلك: بأن الشارع قد نهى عنه فكيف يستباح من أجل رخصة. الحالة الثانية: ما كان نجساً حكماً فهو في الأصل طاهر لكن وقعت عليه النجاسة، فيصح أن يمسح على الخف. لأن إزالة النجاسة شرط في الصلاة وليس شرطاً في الوضوء وقد تقدم البحث في هذا في مسألة هل يجوز الوضوء قبل الاستنجاء. إذن: إن كان نجس العين فلا يصح، وأما إذا كان نجس الحكم فإنه يصح المسح عليه. وهناك تعليل آخر – في مسألة ما كان نجس العين – وهي أنه عندما يمس الماء فإن الماء ينجس بذلك فتكون الطهارة بماء نجس. فإن كان جلداً رقيقاً عليه مادة أخرى بحيث إن الماء لا يتغير بالنجاسة ففي عدم إجزاء المسح عليه نظر، نعم هو محرم لكن في عدم الإجزاء نظر. إذن: إذا مسح علي خف من جلد نجس العين فقد حرمه الحنابلة وقالوا: هو لا يجزئ. ونحن نوافقهم علي التحريم. وأما الإجزاء فإننا نقول: إن كان الماء ينجس بالملاقاة فما قالوه قوي؛ لأن التطهر حينئذ يكون بماء نجس. وأما إذا كان لا يتغير كأن يكون مطلياً بمادة أخرى فإن في عدم الإجزاء نظر، بل الأظهر أن ذلك يجزئ مع التحريم. ومثل ذلك: فيما إذا كان محرماً، فإنه قيده بقوله (مباح) أي على أن يكون الخف مباحاً أي حلالاً، فإذا كان الخف مما يحرم أن يستخدمه كأن يكون مغصوباً فلا يجوز المسح عليه. لكن هل يجزئ المسح عليه؟ قالوا: لا يجزئ لأن هذا الخف منهي عن لبسه فلا تستباح بمثله رخصة. والأظهر ما تقدم: وأنه يجزئ، وهو قول في المذهب مع أنه يكون آثماً للبسه هذا الخف المحرم. فإذا كانت هناك ضرورة فلبس خفاً محرماً فحينئذ يزول التحريم؛ لأن المحرمات تباح عند الضرورة. إذن: إذا لبس خفاً محرماً فالمشهور في المذهب أنه لا يجزئ لأنه منهي عنه فلا تباح الرخصة. وذهب بعض الحنابلة إلي أنه يجزئ عنه وهو أرجح فإن الرخصة في المسح، أما ما فعله فإنه يكون آثماً عليه، والعلم عند الله تعالى.

قوله: (ساتراً للمفروض) . أن يكون ساتراً للمفروض فلا يظهر منه شيء من القدمين من أطراف الأصابع إلي الكعبين. فعلي ذلك: لو ظهرت الكعبان أو أطراف الأصابع فلا يجزئ ولو كان ساتراً من أطراف الأصابع إلي الكعبين ولكن اللون يظهر منه أي لون البشرة فكذلك لا يجزئ. وظاهر ذلك: ولو كان فيه خرق يسير جداً فإنه لا يجزئ المسح عليه. إذن: يشترط أن يكون ساتراً للمفروض ستراً كاملاً فلا يظهر منه (1) البشرة شيء. فإذا كان واسعاً أو مخروقاً أو كان صافياً أو لا يغطي الكعبين فإن ذلك كله لا يجزئ، واستدلوا بتعليل: وهو قولهم: إن الأمر إذا كان على خلاف ما تقدم فإنه يجب غسل الظاهر ومسح المغطى فحينئذ: يجمع بين الغسل والمسح وهذا أمر لا يشرع، فلا يشرع الجمع بين الغسل والمسح. لكن هذا التعليل ضعيف، ذلك لأن المسح إنما يكون لظاهر القدم ولا يعمم العضو كله بالمسح، فليس المسح للمغطى كله بل إنما يكون لظاهر القدم. والصواب: أن هذه المسائل المتقدمة كلها يجوز المسح. ونقف عليها واحدة واحدة: أما إذا كان الخف صافياً: - فمذهب الشافعية: جواز المسح عليه؛ لأنه يسمى في الحقيقة خفاً، وهو كذلك – على قاعدتهم - مغط للكعبين وساتر للمفروض وكونه صافياً لا يمنع من المسح عليه. ثم إن النبي صلى الله عليه وسلم قد أجاز المسح علي التساخين؛ لأنها تسخن القدم، والخف الساتر الذي يكون صافياً يثبت فيه التسخين، فمذهب الشافعية جواز المسح عليه وهو الراجح. أما الخف المخرقة: فلا يخلو هذا الخرق أن يكون يسيراً أو كبير. أما إذا كان يسيراً: فذهب المالكية والأحناف خلافاً للشافعية والحنابلة: إلى جواز المسح عليه. وعلل المالكية والأحناف جواز ذلك: بأن خفاف الصحابة مع فقرهم لا تخلو من أمثال هذه الخروق ولم يثبت النهي عن ذلك وتأخير البيان عن وقت الحاجة لا يجوز.

_ (1) كذا في الأصل، ولعل الصواب: من.

أما إن كانت خروقاً كثيرة: فالأحناف والمالكية فيها كمذهب الحنابلة والشافعية. - وذهب شيخ الإسلام ابن تيمية: إلى أن الخرق وإن كان واسعاً فيجوز أن يمسح على الخف ما دام يسمى خفاً. فما دام هذا الجلد الملبوس للقدمين يسمى خفاً فإنه يجوز المسح عليه، لأن الشارع أجاز المسح على الخفين مطلقاً ولم يقيده بقيد ولا حدده بحد، فما دام يسمى خفاً فإنه يجوز المسح عليه – وهذا هو الراجح -. فالراجح: أنه وإن كانت خروقاً كثيرة فيجوز المسح عليه ما دام يسمى خفاً، فما دام يسمى خفاً فما هو الدليل الذي يمنع من المسح عليه وهو ما زال خفاً يدخل في إطلاقات النصوص المتقدمة. أما إذا كان الخف غير ساتر للكعبين: - فالجماهير على أنه لا يجوز المسح عليه. - وذهب الأوزاعي وهو اختيار ابن حزم وشيخ الإسلام ابن تيمية: إلى أنه يجوز المسح عليه، والعلة هي العلة المتقدمة قالوا: لأنه يسمى خفاً فيدخل حينئذ في إطلاقات النصوص الشرعية، فما هو الدليل على المنع منه. فعلى ذلك: ما يلبس على الأقدام – في هذا الزمان – من الأحذية التي الغالب فيها أن تكون دون الكعبين فإنها على هذا المذهب وهو الراجح يجوز المسح عليها، فهي وإن كانت غير ساترة للكعبين، فما هو الدليل الذي يدل على المنع من ذلك! فإن إطلاقات النصوص تدل علي دخول ذلك. وهذا القول مع قوته فإن في النفس منه شيء؛ وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم لما ذكر الخفين في الحج أمر بتقطيعهما حتى يكونا كهيئة النعلين أي دون الكعبين، فظاهر هذا أن خفافهم – المعتادة – كانت فوق الكعبين، ولكن لقائل أن يقول: إن خفافهم التي حكم عليها النبي صلى الله عليه وسلم بذلك هي المعتادة عندهم.

وأما إطلاقات النصوص فهي شاملة للمعتادة عندهم وغيرها، والنبي صلى الله عليه وسلم عندما ذكر قطعها وأن يكون أسفل من الكعبين – ذكر ذلك؛ لأن المعتاد عندهم أن يكون ذلك دون الكعبين، وأما خفاف غيرهم فلا يمنع أن تكون دون الكعبين وهي داخلة في عمومات النصوص الشرعية – والعلم عند الله تعالى -. قوله: (يثبت بنفسه) أي لابد وأن يثبت الخف بنفسه من غير أن يكون مشدوداً أو مربوطاً أو غير ذلك. فلو كان الخف لا يثبت على القدم إلا بربطه بحبل ونحو ذلك فإنه لا يجزئ المسح عليه، فلابد أن يكون ثابتاً بنفسه بصنعته، وأن تكون الصنعة بمجرد ما يلبس الخف يكون ثابتاً بنفسه. أما إذا كان يحتاج إلى ربط أو نحو ذلك فإنه لا يجوز المسح عليه – وهذا القول ضعيف. – لذا ذهب بعض الحنابلة وهو وجه عندهم وهو اختيار شيخ الإسلام: إلى أنه تجزئ عنه إذا كان ثابتاً بنفسه أو كان ثابتاً بغيره؛ وذلك أنه إذا كان ثابتاً بغيره فهو في معنى ما كان ثابتاً بنفسه، فلا فرق بين أن يكون ثابتاً في الصفة (1) أو يكون ثابتاً بغيره بربط أو شد ونحوه. وعلل الحنابلة عدم جواز ذلك بأن المعتاد من الخفاف على عهد النبي صلى الله عليه وسلم الخفاف الثابتة بنفسها. والجواب على ذلك: أن يقال: هي وإن كانت العادة على عهد النبي صلى الله عليه وسلم لكن القياس يدخل ما كان ثابتاً بغيره فيها. فما كان ثابتاً بغيره فإنه يقاس على ما كان ثابتاً بنفسه. إذاً: المشهور عند الحنابلة أنه لابد أن يكون الخف ثابتاً بنفسه، وإن كان ثابتاً بغيره بربط أو شد أو نحوه فإنه لا يجزئ وهذا قول ضعيف. وهناك وجه عند الحنابلة وهو اختيار شيخ الإسلام أن ذلك لا يشترط والله أعلم. والحمد لله رب العالمين. الدرس الرابع والعشرون (يوم الأحد: 13 / 11 / 1414 هـ) قال المؤلف رحمه الله: (من خف وجورب صفيق ونحوهما) : شرع المؤلف في بيان ما يجوز مسحه فقال:

_ (1) لعلها: الصنعة

(من خف) : وقد تقدم تعريف الخفاف وأنها ما يصنع من الجلود، ويتمكن بسبب صنعتها من الجلود من المشي عليها. ولا شك أن ما يصنع من بعض المواد التي هي شبيهة بالجلود كأن يصنع من البلاستيك ونحو ذلك، فحكمه حكمها أي حكم الجلود وقد تقدم اتفاق أهل العلم على جواز مسح الخفاف. قوله: (وجورب صفيق) : الجورب: هو ما يصنع على القدمين من الصوف ونحوه من الخرق ونحوها وهو ما يسمى عندنا (بالشرابات) . وهي لا يمكن أن تباشر الأرض بها علي سبيل الدوام وإنما يمكنه أن يمشي بها، ولكن إذا أكثر فيها من المشي فإنها تفسد وتتقطع. فهذه الجوارب يجوز المسح عليها وهو مذهب الحنابلة خلافاً لمذهب جمهور الفقهاء، وذهب إلى جواز المسح إسحاق وأبو يوسف. وما ذهب إليه الحنابلة هو مذهب جمهور السلف بل هو مذهب الصحابة فقد ذكر ابن المنذر عن تسعة من الصحابة، وزاد عليه أبو داود أربعة من الصحابة فثبت عن ثلاثة عشر صحابياً، ولم يثبت لهم مخالف. والقاعدة: أن الصحابي إذا قال قولاً ولم يعرف له مخالف فإن قوله حجة. فهذه الآثار عن الصحابة دلت على جواز المسح علي الجوارب. وهناك أدلة على جواز المسح علي الجوربين. منها ما رواه أبو داود في سننه والحديث صحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم: (بعث سرية فأصابهم البرد فلما قدموا على النبي صلى الله عليه وسلم أمرهم أن يمسحوا علي العصائب " العمائم" والتساخين) (1) وهي ما يسخن القدم من الخفاف، ومثلها الجوارب فإنها كذلك تسخن القدم.

_ (1) أخرجه أبو داود في كتاب الطهارة، باب المسح على العمامة (146) قال: " حدثنا أحمد بن محمد بن حنبل، حدثنا يحيى بن سعيد عن ثور عن راشد بن سعد عن ثوبان قال: بعث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سرية فأصابهم البرد، فلما قدموا على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أمرهم أن يمسحوا على العصائب والتساخين ".

واستدلوا: بما رواه الترمذي من حديث هُزيل بن شرحبيل عن المغيرة بن شعبة أن النبي صلى الله عليه وسلم: (مسح على الجوربين والنعلين) (1) . والحديث حسنه الترمذي، ولكن هذا التحسين منه مخالف بعامة أهل الحديث، فإن عامة أهل الحديث خالفوا الترمذي في ذلك، ومن هؤلاء عبد الرحمن بن مهدي وابن معين وسفيان الثوري والإمام أحمد وكذلك ضعفه النسائي وغيرهم، وتضعيفهم ليس لسنده فإن سنده صحيح وإنما التعليل لأن عامة الرواة عن المغيرة سوى هزيل بن شرحبيل قد رووه بلفظ المسح على الخفين لا المسح على الجوربين، فخالف عامتهم فرواه بلفظ المسح علي الجوربين، فكان الحديث بذلك شاذاً، فالحديث إذن: معلل عند عامه أهل العلم. واستدلوا: بالقياس الصحيح، فإن الجوربين كالخفين ولا فارق مؤثر بينهما فالخفان وإن كان يمكن المشي بهما على الأرض فإن هذا السبب ليس مما يغير من الحكم شيئاً، فإن الجوارب تلبس معها النعال فتكون كهيئة الخفاف تماماً.

_ (1) أخرجه الترمذيفيكتاب الطهارة، باب ما جاء في المسح على الجوربين والنعلين (99) قال: " حدثنا هنَّاد ومحمود بن غيلان قالا حدثنا وكيع عن سفيان عن أبي قيس عن هُزيل بن شُرحبيل عن المغيرة بن شعبة قال: توضأ النبي - صلى الله عليه وسلم - ومسح على الجوربين والنعلين " قال أبو عيسى: هذا حديث حسن صحيح، وهو قول غير واحد من أهل العلم وبه يقول سفيان الثوري وابن المبارك والشافعي وأحمد وإسحاق، قالوا: يمسح على الجوربين وإن لم تكن نعلين إذا كان ثخينين. وقال وفي الباب عن أبي موسى. قال أبو عيسى: سمعت صالح بن محمد الترمذي قال: سمعت أبا مقاتل السمرقندي يقول: دخلت على أبي حنيفة في مرضه الذي مات فيه فدعا بماء فتوضأ وعليه جوربان فسمح عليهما ثم قال: فعلت اليوم شيئاً لم أكن أفعله، مسحت على الجوربين وهما غير منعَّلين ".

ثم إن المشي بالخفاف ليس هو العلة الحقيقية في جواز المسح عليها، وإنما العلة الحقيقية لها هي مشقة نزعها، فلما ثبتت المشقة في نزعها والحرج، والشريعة قد أتت برفع الحرج كان هذا الحكم، فحينئذ لا فرق في ذلك بين الجوارب والخفاف. إذن: ما ذهب إليه الحنابلة وهو مذهب جمهور السلف وهو مذهب الصحابة وهو اختيار شيخ الإسلام وتلميذه وغيرهما من المحققين أن الجوارب يجوز المسح عليها هو الراجح. وقوله: (صفيقين) : الصفيق هو الكثيف أي الذي لا يظهر منه الجلد، فلون الجلد لا يظهر منه. فعلى ذلك الشرابات التي لا تستر الجلد بل تظهره لا يجوز المسح عليها في المشهور من المذهب، وقد تقدم البحث في مسألة شبيهة لها في الكلام على الخفاف، ومثلها هذه كذلك، فقد ذهب بعض أهل العلم وهو مذهب إسحاق وأبي يوسف إلى: أنه لا حرج في المسح علي الصافية التي لا تستر الجلد بل تظهره، فلا يشترط أن يكون الجورب صفيقاً كما لا يشترط أن يكون الخف صفيقاً بل لو كان غير ساتر فلا بأس؛ لأن العلة ثابتة فيه أي في الجورب غير الصفيق – كما هي ثابتة في الصفيق، فإن مشقة النزع والحاجة إليه ثابتة له كما هي ثابتة في الصفيق، والشريعة لا تفرق بين المتماثلات. كذلك إذا كان فيه خروق وهو باق علي مسماه فيجوز المسح عليه خلافاً للمشهور كما تقدم. قوله: (ونحوهما) : كأن يكون من مادة أخرى غير الصوف أو غير الجلد فإنه يجوز المسح عليها. أما اللفائف، فسيأتي الكلام عليها، وأن المشهور في المذهب عدم جواز المسح عليها، وأن الراجح خلاف ذلك. قوله: (وعلى عمامة رجل محنكة أو ذات ذؤابة) العمامة: معروفة وقوله (محنكة) : أي مدارة تحت حنكه. (ذات ذؤابة) : الذؤابة هي الطرف المرخى من العمامة خلف الرأس. إذن هنا مسألتان: المسألة الأولي: جواز المسح على العمامة. المسألة الثانية: أن هذا مخصوص بالمحنكة وذات الذؤابة.

أما المسألة الأولي: فهذا هو المشهور في المذهب، وأن المسح على العمامة جائز. واستدلوا: بما روى البخاري عن عمرو بن أمية قال (رأيت النبي صلى الله عليه وسلم مسح على عمامته وخفيه) (1) . قال الإمام أحمد: " هذا من خمسة أوجه عن النبي صلى الله عليه وسلم " أي ورد عن خمسة من الصحابة لكل واحد منهم طريق منفرد وأن النبي صلى الله عليه وسلم مسح على عمامته. قال ابن المنذر: (ومسح على العمامة أبو بكر، وبه قال عمر وأبو أمامة وأنس) وهولاء الصحابة الذين جزم ابن المنذر بمسحهم على العمامة لا يعلم لهم مخالف. - وذهب الجمهور: إلى أن المسح على العمامة لا يجوز؛ قالوا: وإنما مسح النبي صلى الله عليه وسلم عمامته مع ناصيته، فلم يكتف بالعمامة، بل مسح معها الناصية، كما ثبت ذلك في مسلم من حديث المغيرة بن شعبة. واستدلوا: بقوله تعالى {امسحوا برؤوسكم} (2) والمسح على العمامة ليس مسحاً علي الرأس. والراجح هو القول الأول. أما الجواب على أهل القول الثاني: أما قولهم: إن النبي صلى الله عليه وسلم مسح على ناصيته، فهذا إنما هو في حديث المغيرة. وأما الأحاديث الأخرى فمخرجها يختلف. نعم يستحب له أن يمسح على ما يخرج من رأسه عادة مع العمامة كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم في حديث المغيرة، وأما الأحاديث الأخرى كحديث عمرو بن أمية فإنما فيها مجرد المسح علي العمامة فقط، والفعل لا عموم له، ففعله في حديث المغيرة لا يقيد به غيره من الأحاديث.

_ (1) أخرجه البخاري في باب الوضوء، كتاب المسح على الخفين (204) بلفظ: عن جعفر بن عمرو بن أمية الضمري أن أباه أخبره: أنه رأى النبي - صلى الله عليه وسلم - يمسح على الخفين. وبلفظ (205) : رأيت النبي - صلى الله عليه وسلم - يمسح على عمامته ". (2) سورة المائدة.

قالوا: وقد أمر الله بغسل الرجلين، ومع ذلك مسح النبي صلى الله عليه وسلم على الخفين، كما أننا أجزنا المسح على الخفين فكذلك نجيز المسح على العمامة. قالوا: والقياس الصحيح يدل على ذلك، فإن الرأس يسقط مسحه في التيمم كما أن الرجلين يسقط مسحهما في التيمم، فيقاس هذا على هذا. إذن: الصواب مذهب الحنابلة وهو اختيار شيخ الإسلام من جواز المسح على العمامة – وسيأتي البحث في المسائل المتفرعة على القول بمسح العمامة وشروط ذلك. ولكن من باب ربط المسائل بعضها ببعض: فإن حكم العمامة كحكم الخف تماماً، فعلى ذلك – على المذهب – لابد أن يكون طاهر العين مباحاً ونحو ذلك مما تقدم من أحكام الخف وما سيأتي كذلك. أما المسألة الثانية: وهي قوله: (محنكة أو ذات ذؤابة) . إذن لابد أن تكون محنكة أو ذات ذؤابة. قالوا: لأنها هي عمائم العرب وهي المعتادة في عهد النبي صلى الله عليه وسلم فعلى ذلك لا يمسح إلا عليها. فعلى ذلك: العمامة الصماء - وهي ما ليست بمحنكة ولا ذات ذؤابة - لا يجوز المسح عليها عندهم. واختار شيخ الإسلام جواز المسح عليها من باب القياس الصحيح من إلحاق النظير بنظيره، فإنه لا فرق مؤثر بين العمامة الصماء وبين ذات الذؤابة والمحنكة. هل يجوز المسح على القلنسوة؟ القلنسوة: هي شبيهة بالطاقية التي نلبسها لكنها كبيرة تشبه العمامة ويشق نزعها. صح المسح علي القلنسوة عن صحابيين من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم. الأول: أنس بن مالك كما في مصنف عبد الرزاق (1) . والثاني: أبو موسى الأشعري كما عند ابن المنذر.

_ (1) مصنف عبد الرزاق ج: 1 ص: 190 باب المسح على القلنسوة 745 عبد الرزاق عن الثوري عن الأعمش عن سعيد بن عبد الله بن ضرار قال: رأيت أنس بن مالك أتى الخلاء ثم خرج وعليه قلنسوة بيضاء مزرورة فمسح على القلنسوة وعلى جوربين له مِرعزاً أسودين ثم صلى، قال الثوري والقلنسوة بمنزلة العمامة ".

وهذا القول رواية عن الإمام أحمد واختاره بعض أصحابه. والمشهور عند فقهاء الحنابلة وغيرهم: عدم جواز المسح عليها. والصحيح جواز ذلك؛ لثبوت ذلك عن هذين الصحابيين ولا يعلم لهما مخالف. ولأن النظير يلحق بنظيره والقلنسوة كالعمامة تماماً. أما الطاقية فليست العلة الثابتة في العمامة ثابتة فيها فعلى ذلك لا يجوز المسح عليها، قال الموفق: " لا نعلم في ذلك خلافاً " إذن: كل ما يوضع على الرأس من العمائم وما يشابهها فإنه يجوز المسح عليه. قوله: (وخمر نساء مدارة تحت حلوقهن) هذه المسألة ذات شقين: الشق الأول: جواز المسح علي خمر النساء، وواحده خمار وهو ما تضعه المرأة على رأسها. والشق الثاني: وفيه أنه يكون مداراً تحت حلوقهن. ودليل هذه المسألة ما رواه ابن المنذر وهو ثابت عن أم سلمة أنها كانت تمسح على خمارها. أما دليل إدارته تحت الحلق: فلأنه إن لم يكن مداراً على الحلق فإنه لا مشقة في نزعه مطلقاً فحينئذ لا يجوز أن يمسح عليه بخلاف ما إذا كان مداراً على الحلق. فإن المشقة تكون ثابتة في نزعه. - وهذا خلاف ما ذهب إليه جمهور أهل العلم من عدم جواز المسح على الخمار. والصحيح هو القول بجواز المسح كما تقدم عن أم سلمة. ولقياس النظير على النظير، فهذا شبيه بالعمامة وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (النساء شقائق الرجال) (1) أما إن لم يكن مداراً على الحلق بل كان مرخى مطلق فهل يجوز المسح عليه؟ الجواب: لا يجوز المسح عليه لأنه لا مشقة في نزعه فلم يكن في حكم العمامة. فإن قيل: فهل يجوز للرجل أن يمسح على شماغه (2) ونحو ذلك؟ فنقول: إذا أداره على حلقه جاز له المسح عليه وإن لم يدره فإنه لا يجوز أن يمسح عليه.

_ (1) أخرجه الإمام أحمد في المسند برقم (24999) ، باقي مسند الأنصار، باقي المسند السابق، وبرقم (25869) نحوه في مسند أم سليم. انترنت، موقع الإسلام. (2) أي الغترة.

فإن قيل: فهل له أن يديره مطلقاً أم ليس له ذلك إلا لحاجة؟ فالجواب: ليس له ذلك إلا لحاجة كأن يكون في برد شديد فأداره على حلقه وخشي إذا كشفه أن يحدث له شيء من المشقة من البرد ونحوه فإنه – حينئذ – لا فرق بينه وبين ما تقدم من المسائل. وهذه من المسائل التي هي مسائل بحث. إذن: لا بأس أن يقال كذلك بما نلبسه من شماغ ونحوه إذا فعله في برد ونحوه فإنه يجوز له أن يمسحه فإنه شبيه بالخمر وبالعمائم ونحوها لمشقة نزعه. قوله: (في حدث أصغر) هذا في الخفاف والجوارب والعمامة والخمر، فحل ذلك إنما يكون من حدث أصغر. لحديث صفوان بن عسال وفيه: (إلا من جنابة لكن من غائط وبول ونوم) (1) فعلي ذلك: إذا أراد أن يغتسل فلا يجوز له أن يمسح على خفيه ولا عمامته ولا جوربه، ولا المرأة على خمارها، وإنما يجب أن يباشر العضو بالغسل. إذن: الخفاف وما يلحق بها من العمائم ونحوها إنما يجوز المسح عليها إذا كان ذلك في حدث أصغر، وأما الحدث الأكبر فلا يجوز المسح عليها. قوله: (وجبيرة لم تتجاوز قدر الحاجة) الجبيرة هي ما يشد به الكسر أو الجرح من خشب أو خرق أو نحوها. ما حكم المسح عليها؟ قال هنا: (وجبيرة) أي يمسح عليها.

_ (1) رواه الخمسة إلا أبا داود كما تقدم صْ 2.

ولم يصح عن النبي صلى الله عليه وسلم حديث في المسح على الجبيرة، لكن صح ذلك عن ابن عمر كما في سنن البيهقي بإسناد صحيح وذكره ابن المنذر عن ابن عباس ولا يعرف لهما مخالف، وبه قال جماهير أهل العلم من جواز المسح علي الجبائر وهو موضع ضرورة وقد قال تعالى: {فاتقوا الله ما استطعتم} (1) وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم) (2)

_ (1) سورة التغابن 16. (2) متفق عليه، وقد تقدم. أخرجه البخاري في كتاب الاعتصام بالكتاب والسنة (7288) فقال رحمه الله تعالى: " حدثنا إسماعيل حدثني مالك عن أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (دعوني ما تركتكم، فإنما أهلك من كان قبلكم سؤالهم واختلافهم على أنبيائهم، فإذا نهيتكم عن شيء فاجتنبوه، وإذا أمرتكم بشيء فأتوا منه ما استطعتم) " وأخرجه مسلم في كتاب الحج (1337) [صحيح مسلم بشرح النووي (9 / 100) ] فقال: " وحدثني زهير بن حرب حدثنا يزيد بن هارون أخبرنا الربيع بن مسلم القرشي عن محمد بن زياد عن أبي هريرة قال: خطبنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: (أيها الناس قد فرض الله عليكم الحج فحجوا) فقال رجلٌ: أكل عام يا رسول الله؟ فسكت حتى قالها ثلاثاً، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (لو قلت نعم لوجبت ولما استطعتم) ثم قال: (ذروني ما تركتكم فإنما هلك من كان قبلكم بكثرة سؤالهم واختلافهم على أنبيائهم، فإذا أمرتكم بشيء فأتوا منه ما استطعتم، وإذا نهيتكم عن شيء فدعوه) ". وأخرجه أيضاً في كتاب الفضائل بعد حديث (2357) [صحيح مسلم بشرح النووي (15 / 109) ] فقال: " حدثني حرملة بن يحيى التُّجيبي أخبرنا ابن وهب أخبرني يونس عن ابن شهاب أخبرني أبو سلمة بن عبد الرحمن وسعيد بن المسيَّب قالا: كان أبو هريرة يحدث أنه سمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: (ما نهيتكم عنه فاجتنبوه، وما أمرتكم به فافعلوا منه ما استطعتم، فإنما أهلك الذين من قبلكم كثرة مسائلهم واختلافهم على أنبيائهم) . وحدثني محمد بن أحمد بن أبي خلف حدثنا أبو سلمة وهو منصور بن سلمة الخزاعي أخبرنا ليث عن يزيد بن الهاد عن ابن شهاب بهذا الإسناد مثله سواء. حدثنا أبو بكر ابن أبي شيبة وأبو كريب قالا حدثنا أبو معاوية ح وحدثنا ابن نمير حدثنا أبي كلاهما عن الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة ح وحدثنا قتيبة بن سعيد حدثنا المغيرة - يعني الحِزامي - ح وحدثنا ابن أبي عمر حدثنا سفيان كلاهما عن أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة ح وحدثناه عبيد الله بن معاذ حدثنا أبي حدثنا شعبة عن محمد بن زياد سمع أبا هريرة ح وحدثنا محمد بن رافع حدثنا عبد الرزاق أخبرنا معمر عن همام بن منبه عن أبي هريرة، كلهم قال عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ذروني ما تركتكم، وفي حديث همام: ما تركتكم، فإنما هلك من كان قبلكم ثم ذكروا نحو حديث الزهري عن سعيد وأبي سلمة عن أبي هريرة ".

أما ما روى أبو داود وغيره من قوله صلى الله عليه وسلم (قتلوه قتلهم الله ألا سألوا إذا لم يعلموا فإنما شفاء العي السؤال إنما كان يكفيه أن يتيمم ويعصب علي جرحه خرقة ثم يمسح عليها ثم يغسل سائر جسده) (1) فالحديث إسناده ضعيف. فلا يثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم في الجبيرة حديث وإنما ثبت ذلك عن بعض الصحابة كما تقدم. لكن قيده بقوله: (لم يتجاوز قدر الحاجة) وذلك بأن تكون في موضع الجرح وما يكون حوله مما يحتاج إليه في وضع الجبيرة. فإن الجبيرة: إذا كانت في كسر عظم ونحوه فإنها تكون على طرفي الصحيح من أجل أن يستقيم الكسر. فوضعها على طرفي الصحيح إذا كان بقدر الحاجة لها فذلك جائز. فإن وضعها زائدة فإنه لا يجوز أن يمسح على هذا القدر الزائد لأنه لا حاجة إليه. إذن: لابد أن تكون على قدر الحاجة، فتوضع على الكسر وما قارب الكسر مما لا يتم الجبر إلا به، أما إذا زاد على ذلك فإنه لا يجوز.

_ (1) أخرجه أبو داود في كتاب الطهارة، باب في المجروح يتيمم (336) قال: حدثنا موسى بن عبد الرحمن الأنطاكي حدثنا محمد بن سلمة عن الزبير بن خُريق عن عطاء عن جابر قال: خرجنا في سفر فأصاب رجلاً منا حجَرٌ فشجه في رأسه ثم احتلم فسأل أصحابه فقال: هل تجدون لي رخصة في التيمم؟ فقالوا: ما نجد لك رخصة وأنت تقدر على الماء، فاغتسل فمات، فلما قدمنا على النبي - صلى الله عليه وسلم - أُخبر بذلك فقال: (قتلوه قتلهم الله ألا سألوا إذ لم يعلموا، فإنما شفاء العي السؤال، إنما كان يكفيه أن يتيمم ويعصر أو يعصب - شك موسى – على جرحه خرقة ثم يسمح عليها ويغسل سائر جسده) .

ولا يجوز كذلك المسح عليه بل يجب عليه أن يزيله ويغسل موضعه – هذا إذا كان هذا الزائد في موضع الغسل – لكن مثلا كان الكسر في المرفق فكان منه أن جبر المرفق ورفقه إلى العضد مع أنه يكفي أن يكون إلى منتصف العضد وكانت الطهارة طهارة صغرى فهذا لا يغيره لأن الموضع ليس موضع غسل. أما في الطهارة الكبرى فلا يجوز له أن يترك هذا الموضع من غير غسل فهو مغطى من غير حاجة إلى تغطيته. قال: (إلى حَلِّها) : فهي ليست مؤقتة بوقت لأنها ضرورة، فليست مقيدة بيوم وليلة ولا ثلاثة أيام بلياليها لأنها ضرورة. وقوله: (ولو في أكبر) : لأنها ضرورة فليست كالخف أو نحوه يمكنه أن ينزعه ويغسل جسده فليس الأمر في الجبيرة كذلك فإنه يتضرر بنزعها ويتأخر برؤه بل ربما زاد ذلك في مرضه، فحينئذ المسألة مسألة ضرورة فيجوز له أن يمسح عليها سواء كان ذلك في حدث أصغر أو أكبر. والحمد لله رب العالمين. الدرس الخامس والعشرون (يوم الثلاثاء: 15 / 11 / 1414 هـ) تقدم اختيار شيخ الإسلام في أن الخفين لا يشترط في جواز المسح عليهما أن يبلغا الكعبين. ورأيت اختياراً له ذكره تلميذه ابن مفلح: " وهو أنه يجوز له أن يمسح على النعلين والقدمين إن كانا " أي النعلان " يشق نزعهما بيد أو رجل كما جاءت به الآثار " فالحجة في ما وردت به السنة، وذلك نحو النعال السبتية التي يشق نزعها فيحتاج في نزعها إلى اليد أو الرجل ونحو ذلك فإنها في حكم الخفين.

وهذا كما يدل عليه القياس على الخفين، تدل عليه كذلك الآثار فقد روى أبو داود – والحديث صحيح – من حديث أوس بن أوس (1) الثقفي أن النبي صلى الله عليه وسلم: (مسح على نعليه وقدميه) (2) وصح أيضاً المسح على النعلين في ابن خزيمة والبزار من حديث ابن عمر بإسناد صحيح. ونحوه من حديث ابن عمر من طريق آخر في سنن البيهقي، فعلى ذلك، يجوز أن يمسح على النعلين إن ثبت فيهما ما ثبت في الخف من مشقة النزع، ويمسح معهما القدمين أي ظاهر القدمين. قال المؤلف رحمه الله: (إذا لبس ذلك بعد كمال الطهارة) قوله " ذلك ": إشارة إلى ما تقدم ذكره من الخفاف والعمائم والجبائر، أنها لا يجوز المسح عليها إلا إذا لبست بعد كمال الطهارة. أما الخف والجورب فإن دليلهما، ما ثبت في الصحيحين من حديث المغيرة بن شعبة قال: (كنت مع النبي صلى الله عليه وسلم في سفر فأهويت لأنزع خفيه فقال: دعهما فإني أدخلتهما طاهرين) (3) أي أدخلتهما القدمين وهما أي القدمان طاهرتان.

_ (1) كذا في الأصل، والصواب: أوس بن أبي أوس الثقفي كما في سنن أبي داود. (2) أخرجه أبو داود في كتاب الطهارة، بعدبابالمسح على الجوربين (160) قال: " حدثنا مسدد وعباد بن موسى، قالا: حدثنا هُشيم عن يعلى بن عطاء عن أبيه قال عباد: قال أخبرني أوس بن أبي أوس الثقفي أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - توضأ ومسح على نعليه وقدميه،وقال عباد: رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أتى كظامة قوم - يعني الميضأة – ولم يذكر مسدد الميضأة والكظامة، ثم اتفقا: " فتوضأ ومسح على نعليه وقدميه ". (3) أخرجه البخاري في كتاب الوضوء، باب إذا أدخل رجليه وهما طاهرتان (206) ، ولفظه: " كنت مع النبي - صلى الله عليه وسلم - في سفر، فأهويت لأنزع خفيه، فقال: (دعهما فإني أدخلتهما طاهرتين) فمسح عليهما. وأخرجه مسلم برقم (274) .

والجورب مثل الخف في الحكم تماماً فإنه لا فارق بينهما. وأما العمائم فقالوا: قياساً على الخفاف والجوارب. ووجَّه شيخ الإسلام عدم شرطية ذلك في العمائم، وأنه لا يشترط أن يكون لبسها على طهارة ومثل ذلك: ما تقدم من خمر النساء والقلانس ونحوه مما يلبس على الرأس. فقد وجه شيخ الإسلام القول بعدم شرطية لبس العمائم على طهارة. وما قاله قوي، وعلة ذلك: الفرق الواضح بين العمائم وبين الخفين، فإن العمائم يكثر خلعها ونزعها فلم يكن القياس له وجه. فإذن: العمائم يكثر نزعها بخلاف الخفاف، لذا تقدم أنه يمسح على الخفاف في السفر ثلاثة أيام بلياليهن، وللمقيم يوماً وليله، بخلاف العمائم فإنها يكثر خلعها لذا وجه شيخ الإسلام عدم شرطية ذلك فيها. ويدخل في قولهم: الجبائر، فعلى ذلك يشترط في الجبيرة أن يلبسها على طهارة كاملة. فمثلاً: رجل أصيب بكسر أو جرح فعلى هذا القول: ينتظر به حتى يتطهر. لكن هذا القول ضعيف وذلك لأن الجبيرة إنما تلبس للضرورة، وإذا ثبت هذا فإن تكليف المكلف الطهارة قبلها فيه حرج ومشقة. لذا ذهب بعض فقهاء الحنابلة وهو الوجه الثاني عندهم: إلى عدم اشتراط ذلك، وهو الراجح. فالراجح أنه لا يشترط أن يشدها على بدنه على طهارة لأن الجبيرة موضع ضرورة ويلحق المكلف الحرج في اشتراط ذلك. فإذن: لا يجوز المسح على الخف والجورب إلا إذا لبس على طهارة. أما العمائم فالأقوى أنه لا يشترط لبسها على طهارة ومثل ذلك الجبائر. وفي قوله: (بعد كمال الطهارة) مسألة وهي: أنه لابد أن يكون هذا اللبس للخفين بعد أن تمت طهارته، فلو لبسهما وقد بعَّض (1) الطهارة ولم يتمها فإن هذا لا يجزؤه. ومن صور هذه المسألة: لو أن رجلاً توضأ فلما غسل رجله اليمنى لبس الخف الأيمن ثم لما غسل رجله اليسرى لبس الخف الأيسر. فإن هذا لا يجزؤه وهذا هو مذهب الشافعية.

_ (1) بتشديد العين.

واستدلوا: بما رواه ابن خزيمة وحسنه البخاري من حديث أبي بكرة الثقفي: أن النبي صلى الله عليه وسلم رخَّص للمسافر بثلاثة أيام ولياليهن وللمقيم يوماً وليلة إذا تطهر فلبس خفيه أن يمسح عليهما) . والشاهد قوله: (إذا تطهر فلبس خفيه) فجعل لبس الخفين بعد التطهر، وهو قبل أن يغسل قدمه اليسرى لم تتم له الطهارة بعد. ومثله الحديث المتفق عليه (دعهما فإني أدخلتهما طاهرين) (1) أي أنه أدخل الخفين القدمين وهما – أي القدمان – طاهرتان. وذهب أبو حنيفة وهو رواية عن الإمام أحمد واختار هذا القول شيخ الإسلام ابن تيمية –: إلى أنه لا يشترط ذلك. قالوا: لأنه يصدق عليه أنه لبس الخفين على طهارة. وفيما يظهر القول الأول فيه قوة، فإن الطهارة لا تتم إلا بعد أن يغسل قدميه، والمسألة محل بحث ونظر. إذن فهنا قولان: الجمهور قالوا: إنه يشترط أن يتم الطهارة كلها. والقول الثاني: إنه لا يشترط ذلك، بل لو لبس الخف الأيمن ثم غسل الرجل اليسرى ثم لبس الخف الأيسر فإنه يجوز له بعد ذلك أن يمسح عليها. وعلة هذا القول: أنه يصدق عليه أنه لبس الخفين طاهراً، لكن ظاهر الحديث المتقدم أن اللبس يكون بعد التطهر. فإن قيل: إذا فعل ذلك بمعنى: غسل رجله اليمنى ثم لبس الخف الأيمن ثم غسل رجله اليسرى ثم لبس الخف فما المخرج؟ الجواب: يخلع الخف الأول ثم يلبسه، لأنه لا يشترط الترتيب في لبس الخفين فلو أن رجلاً مثلاً: غسل رجليه ثم لبس الخف الأيسر قبل الأيمن فلا بأس ولا حرج. فإن قيل: فما الفائدة من هذا الخلع فإنه لا فرق بين الأمرين؟ فالجواب: أنه ثمت فرق بينهما، فإن الفرق أنه لبسه في المرة الأولى وهو لم يثبت طاهراً بعد، فإنه لا يثبت طاهراً من الحدث الأصغر أو الأكبر إلا إذا تمت له الطهارة أما لبسه الثاني فإنه قد فعله بعد تمام طهارته.

_ (1) تقدم قريباً.

قوله: (ومن مسح في سفر ثم أقام أو عكس أو شك في ابتدائه فمسح مقيم) هنا ثلاث مسائل: المسألة الأولى: (من مسح في سفر ثم أقام) إذا مسح وهو مسافر بأن لبس خفه في سفر ومسح عليها لكنه قبل أن يتم المدة انتقل إلى الإقامة، فحينئذ يتم مسح مقيم، فينظر ما بقي له من مدة المقيم وهذا بإجماع أهل العلم كما حكاه ابن المنذر رحمه الله. المسألة الثانية: عكس ذلك وهي أن يمسح في حال الإقامة ثم يسافر. قالوا: يتم مسح مقيم، إذن: يتم ما كان قد بدأه فإذا مضى يوم وليلة فإنه يجب عليه أن يغسل قدمه هذا هو مذهب الحنابلة. وتعليلهم: أنه قد اجتمع عندنا مانع ومبيح فرجحنا المانع على المبيح. فالمبيح أن يمسح ثلاثة أيام ولياليهن هو السفر، والمانع هو كونه ابتدأه بالحضر، فيرجح الجانب المانع على المبيح تغليباً له، وهذا من باب الاحتياط وذهب أبو حنيفة وهو رواية عن الإمام أحمد، وذكر الخلال أن الإمام أحمد رجع إلى هذا القول: وأنه يمسح مسح مسافر. وهذا هو الراجح، لأنه أصبح مسافراً فحينئذ جاز له أن يرخص برخص المسافرين ومن ذلك تمام المدة. ثم أن العلة وهي رفع المشقة والحرج في المسافر ثابتة لمن ابتدأه في حال الإقامة كثبوتها فيمن ابتدأه في حال السفر، وهذا هو الراجح لأنه أصبح مسافراً ولا نظر إلى ابتدائه. نعم يبني عليه ابتداء الوقت لكنه لا يمنع من أن يكون قد أتم المدة العليا وهي ثلاثة أيام بلياليها. فالراجح أن المسافر إذا كان قد مسح وهو مقيم ثم سافر فإنه يتم مسح مسافر لأن الوصف الذي علق الشارع به هذا الحكم ثابت به وهو السفر وكذلك العلة ثابتة فيه وهي رفع الحرج المسألة الثالثة: (أوشك في ابتدائه فمسح مقيم) مثال: رجل مسافر قال: لا أدري هل ابتدأت المسح وأنا مسافر أو مقيم؟ قالوا: يمسح مسح مقيم تغليباً لجانب الحظر.

والراجح أنه يتم مسح مسافر لأن هذه المسألة أولى من المسألة السابقة، فإن المسألة السابقة التي تقدم ترجيحها قد تيقن أنه ابتدأه مقيماً ومع ذلك جاز له مسح مسافر، فهذه المسألة أولى لأنه يجهل هل ابتدأه مسافراً أم مقيماً، فإذا رجحنا في المسألة السابقة أنه يمسح مسح مسافر فأولى من ذلك إذا شككنا فيه. فالراجح: بناءً على القول الراجح، أنه إذا شك في المسح وهو مسافر هل ابتدأه وهو مسافر أم مقيم فإنه يتم مسح مسافر. مسألة: إذا شك في المدة يعني مدة المسح هل ما زالت باقية أم إنها انتهت فما الحكم؟ مثال: رجل مسافر وقال: لا أدري هل بقي من مدة المسح شيء أم لا؟ فإنه يبني على الأصل، والأصل هو الغسل، فالأصل أن القدمين يغسلان، والمسح إنما هو رخصة. فعلى ذلك: تبني على الأصل وهو غسل القدمين – وهذا قد اتفق أهل العلم عليه – كما أنه هو الاحتياط في هذا الباب العظيم الذي هو مرتبط بهذا الباب العظيم وهو الصلاة. قوله: (وإن أحدث ثم سافر قبل مسحه فمسح مسافر) هذا استثناء لما تقدم في المسألة السابقة. تقدم أن المذهب أنه لو مسح مقيماً ثم سافر فإنه يتم مسح مقيم. لكن إذا لبس رجل خفيه وأحدث ثم سافر ومسح عليهما وهو مسافر: قالوا: يتم مسح مسافر وهذا مما اتفق عليه أهل العلم حتى حكي إجماعاً وذلك لأنه مسافر، فالوصف الذي علق فيه الشارع الحكم ثابت فيه، والعلة وهي رفع الحرج ثابتة فيه. وهذا مشكل على المذهب، فإنه قد تقدم أن مدة المسح تبدأ – عندهم – من الحدث وهو مذهب الجمهور، وهو هنا قد أحدث في حال الإقامة، وقد مضى من ذلك مدة ثم سافر، فهذا مشكل على المذهب وعلى غيره ممن قال بهذا القول. - لذا ذهب الإمام أحمد في رواية: إلى أنه يتم مسح مقيم، وهذه الرواية أصح بناء على القول المتقدم.

وهذا مما يدل على ضعف القول المتقدم الذي فيه أن الوقت يبدأ من الحدث، وقد قال الموفق في هذه المسألة – أي مسألة من لبس خفيه ثم أحدث ثم سافر ومسح وهو مسافر قال: (لا نعلم في ذلك خلافاً) حتى حكي ذلك إجماعاً، وإن كان فيه رواية عن الإمام أحمد بخلاف ذلك لكن المشهور عنه هو أنه يتم مسح مسافر وهذا من الاضطراب والاختلاف، فإن مما يدل على ضعف القول أن يضطرب فيه أو أن يختلف فيه. فإذا رأيت القول يختلف فيه في الفروع أو المسائل فإن ذلك يدل على ضعفه. فإذن على المذهب: رجل لبس خفيه ثم أحدث ثم سافر ومسح فإنه يمسح مسح مسافر. ولو أنه لبس خفيه ثم أحدث ثم مسح مقيماً ثم سافر فإنه يتم مسح مقيم، فخالفوا بين أمرين لا فارق مؤثر بينهما، بل الواجب عليهم أن يتقيدوا بقولهم المتقدم فتكون المدة مبتدأة من الحدث. فالراجح: أنه من سافر وقد بقيت مدة من مسحه وهو مقيم فإنه يمسح مسح مسافر لأن الوصف وهو السفر ثابت به، والعلة هي رفع الحرج ثابت فيه. قوله: (ولا يمسح قلانس ولا لفافة ولا ما يسقط من القدم أو يرى فيه بعضه) قوله: (ولا يمسح قلانس) هذا هو المذهب وقد تقدم أن الراجح وهو رواية لأحمد جواز المسح عليها. قوله: (ولا لفافة) اللفافة هي: ما يلف على الرجل حتى يكون كهيئة الخف أو الجورب. والعلة أنها لم تثبت بنفسها بل تثبت بالربط والشد. لكن هذا القول تقدم ضعفه وأنه لا يشترط في الخف والجورب أن يثبت بنفسه، بل لو ثبت بربط أو شد فإنه يثبت له الحكم كما يثبت له لو ثبت بنفسه. بل – في الحقيقة – أن مسح اللفافة أولى من مسح الجورب أو الخف وذلك لأن مشقة النزع في اللفافة أشد منها في الخف والجورب، فإن خلع الخف والجورب أهون من خلع اللفافة، فهي أولى بهذا الحكم. لذا اختار شيخ الإسلام وهو قول في المذهب: إن اللفافة يصح المسح عليها وهو اختيار كثير من المحققين كالشيخ السعدي – خلافاً للمشهور في المذهب –

قوله: (ولا ما يسقط من القدم) فالذي يسقط من القدم كذلك لا يجوز المسح عليه. قالوا: لأنه لا يثبت بنفسه. وقد تقدم تضعيف هذا التعليل وأنه إذا كان يسقط من القدم ثم شد بشيء أو ربط فيه بشيء فإنه يجوز المسح عليه. ومثل ذلك: قوله: (أو يرى منه بعضه) : إذا كان فيه خرق بحيث أنه يرى من خلاله شيء من القدم، فإن المذهب أنه لا يجوز المسح عليه سواء كان الخرق يسيراً أو كثيراً. وسواء كان ذلك لخرق أو كان لشفافيته وصفائه، فلو ظهر من القدم شيئاً لصفاء الخف فلا يجوز المسح عليه. وتقدم ترجيح جواز المسح على الخف الصافي وكذلك المخروق. والحمد لله رب العالمين. الدرس السادس والعشرون (يوم الأربعاء: 16 / 11 / 1414 هـ) تقدم شرح قول المؤلف: (إذا لبس ذلك بعد طهارة كاملة) واعلم أن مما يستثنى من الطهارة التيمم، فإن من تيمم ولبس خفيه فليس له أن يمسح عليهما لقول النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح – وسيأتي تخريجه في موضعه – (فليتق الله وليمسه بشرته) أي عليه إذا وجد الماء أن يتقي الله وأن يمس الماء بشرته. وهذا يدل على أن طهارة التيمم لا يجوز أن يبنى عليها مسح الخفين – وهذا هو المشهور في المذهب – واعلم أن لفظة (بعد كمال الطهارة) يدخل فيها من فيه حدث متجدد كسلس البول والاستحاضة ذلك لأن هذه الطهارة كمال في حقه. فلو أن من به حدث متجدد وهو يجب عليه الوضوء لكل صلاة فلو توضأ فلبس خفيه فيجوز له أن يمسح عليهما لأن هذه هي الطهارة الكاملة في حقه. واعلم أنه لا يشترط – كما هو والمشهور في المذهب – لا يشترط أن يبني المسح على الخفين علي طهارة خالية من المسح خلافاً لبعض الحنابلة. فمثلاً: رجل توضأ فمسح على عمامته، فهذا الوضوء مستحل فيه مسح، ثم لبس خفيه، فهل يجوز أن يمسح عليهما؟

الجواب: نعم لأن هذا المسح منه في طهارة كاملة فهو قد بني هذا على طهارة ذات مسح، فإنه قد استبدل مسح رأسه بمسح عمامته ولكن هذا الوضوء مع ذلك وضوء كامل لأن هذا البدل قام مقام المبدل منه. قال المؤلف رحمه الله: (فإن لبس خفاً على خف قبل الحدث فالحكم للفوقاني) رجل لبس خفاً على خف في كل رجل، أو جمع بين جوربين في كل رجل، فحينئذ ما حكم المسح على الفوقاني؟ هنا ثلاث صور: الصورة الأولى: وهي ما ذكره المؤلف: رجل توضأ فلبس خفيه ثم مباشرة وقبل أن يحدث لبس خفين آخرين. إذن: ما زال عليه وضوؤه الأصلي فما زال وضوؤه ذا غسل للرجلين. فالحكم: إنه يمسح على الفوقاني. ولا شك أن له أن يمسح على التحتاني أيضاً؛ لأن التحتاني لم تثبت بدليته بعد عن القدم فإنه لم يمسح عليه بعد وهذا هو مذهب جمهور أهل العلم. وحينئذ: يكون الخفاف كالخف الواحد – أي في الحكم – إذن: إذا لبس خفين ثم لبس فوقهما خفين فإنه يمسح على الفوقاني لأن هذا خف ساتر وقد لبسه على خف لم يمسح بعد ولم يثبت الحدث بعد. الصورة الثانية: وهي مقابلة لهذه الصورة وهي: أن يلبس الخف الثاني بعد الحدث. مثال: رجل لبس الخفين ثم أحدث ثم لبس خفين آخرين فهذا اللبس ليس مما يبنى عليه المسح؛ ذلك لأنه لبسه على غير طهارة بل على حدث. ومعلوم أن اللبس على الحدث لا يجيز المسح على الخفين؛ لأنه ولابد أن يكون لبسه على طهارة، وهنا قد لبس الخفين على حدث ويخرج على قول شيخ الإسلام العمامة المسح عليه لكثرة نزعه. الصورة الثالثة: أن يلبس الخفين ثم يحدث ثم يمسح عليهما ثم يلبس خفين آخرين. فهل يجوز له أن يمسح على الخفين الآخرين أم لا يجوز بل يمسح على الخفين الأولين؟ قولان لأهل العلم: فالمشهور في المذهب: أنه لا يجوز أن يمسح على الفوقانين بل الحكم للتحتانين.

وعللوا ذلك: بأن الخفين الأوليين بدلان عن القدم فهما يمسحان مكان غسل القدم، والبدل لا يجوز أن يوضع عنه بدل، فهو بدل فكيف يكون له بدل آخر. هذا هو المشهور في المذهب وهو أنه لا يجوز المسح على الفوقاني، لأن الخفين الأوليين بدل عن غسل القدم والبدل لا بدل له. 2- والقول الثاني، وهو مذهب ذهب إليه بعض الشافعية قالوا: بل يجوز أن يمسح عليهما – أي الفوقانيين؛ لأنه قد أدخل هذين الخفين على طهارة، وهذان الخفان يكون لهما حكم واحد فهما كالخف الواحد فكلاهما غطاء للقدم، فيكون حكمهما كالخف الواحد الذي له ظهارة (1) وبطانة، فهذا ظهارته وهذا بطانته. فقالوا: يجوز المسح عليهما لأن الخفين في حكم واحد. وهذا القول أظهر من القول الأول. نعود إلى الصورة الأولى وهي: ما إذا لبس خفيه بعد الخفين الأولين مباشرة وليس بعد حدث، فقد تقدم أنه يجوز المسح على الخف الفوقاني – فإذا مسح عليه فالمشهور في المذهب أنه يثبت الحكم له دون التحتاني ويكون التحتاني كأنه جزء من القدم. صورة ذلك: رجل لبس خفين وقبل أن يحدث فما زالت طهارته طهارة غسل القدمين، لبس خفين آخرين فمسح عليهما، فهذا المسح جائز له عند جمهور أهل العلم، فإذا ثبت هذا المسح فإنه – حينئذ – يكون للفوقاني. فلو خلع الفوقاني فإنه يثبت ذلك الحكم للتحتاني فيكون كأنه قد خُلع – أي التحتاني – وحينئذ يجب عليه أن يغسل قدميه. إذن: لو لبس الفوقاني فمسح عليه ثم أراد أن يخلع الفوقاني فيجب عليه أن يخلع التحتاني. قالوا: لأن المسح ثابت له – أي الفوقاني – فإذا انكشف فقد انكشف محل المسح وبقي الغسل، وهو إنما ثبت للقدمين.

_ (1) كذا في الأصل.

والقول الثاني، وهو رواية عن الإمام أحمد واختاره جماعة من أصحابه كالمجد وهو مذهب الجمهور: أنه لا يثبت الخلع للتحتاني بخلع الفوقاني قالوا: لأنه إذا خلع الفوقاني فإن القدم ما زالت مغطاة بخف قد لبس على طهارة وهي كخف واحد، وقد تقدم هذا التعليل – فكأن أحدهما ظهارته والآخر بطانته. وهذا القول أظهر، وأنه إذا لبس الخفين الآخرين ومسح عليهما ثم نزعهما فإنه لا يجب عليه أن ينزع التحتاني ويغسل القدمين بل له أن يمسح على التحتاني ويبقى على المدة الأصلية للخفين أو الأربع خفاف. واعلم أن الخفين - ونريد بالخفين الخف الأعلى والخف الأسفل - لهما أربع أحوال: الحالة الأولى: أن يكونا صحيحين، فهنا لا إشكال في المسألة المتقدمة؛ لأن كليهما يصح أن يمسح عليه منفرداً. الحالة الثانية: أن يكونا كلاهما منخرقاً، فكلاهما فيه خرق: فالمشهور في المذهب: أنه لا يجوز له أن يمسح عليهما جميعاً؛ لأن القدم لم يثبت عليها خف صحيح. والقول الثاني في المذهب: أنه يجوز أن يمسح عليهما لأنهما بمجموعهما يستران القدم. وهذا أصح لأن القدم قد ثبت ساتر لها فجاز أن يمسح عليه. الحالة الثالثة: أن يكون الأسفل منخرقاً والأعلى صحيحاً، فلا يجوز له أن ينفرد بمسح الأسفل دون الأعلى لأن الأسفل المباشر للرجل منخرق غير ساتر لها – وهذا على القول المرجوح –، خلافاً للراجح الذي تقدم. وأما الأعلى فإنه يمسح عليه؛ لأنه إذا مسح عليه فيقع المسح على ساتر للقدم. الحالة الرابعة: أن يكون الأسفل صحيحاً والأعلى منخرقاً فهل يجوز أن يمسح الأعلى أم لابد أن يمسح الأسفل؟ قولان في المذهب. القول الأول: إنه لا يجوز له أن يمسح على الأعلى لأنه بمسحه على الأعلى يباشر المسح بما لا يجوز المسح عليه، وأما الأسفل فإنه خف صحيح فإذا مسح عليه فإنه يمسح على ساتر صحيح فوجب عليه أن يمسح على الأسفل دون الأعلى.

وهذا من حيث القواعد المذهبية أصح، وأما من حيث القول الراجح الذي تقدم - وأن المسح على الخفين – يجعلهما كالخف الواحد، فإنه يترجح القول الذي يقول بجواز المسح على الخف الأعلى وإن كان منخرقاً. وكذلك من باب أولى على القول بأن الخف يجوز المسح عليه وإن كان منخرقاً فإنه لا أشكال في ترجيح هذا القول. إذا كان أحدهما منخرقاً والآخر صحيحاً فيجوز على القول الراجح أن يمسح على الأعلى – في الصورتين كليهما –. وأما إذا تقيدنا بقاعدة المذهب من عدم جواز المسح على المنخرق إذا كان هو الأسفل فلا يجوز المسح عليه وإن كان هو الأعلى فكذلك لا يجوز المسح عليه بل يجب أن يباشر المسح بساتر صحيح. قوله: (ويمسح أكثر العمامة) قياساً على الخف، فلا يجب عليه أن يمسح العمامة كلها، بل يجوز له قياساً على الخف – أن يمسح أكثرها فكلاهما بدل عن عضو، فهذا بدل عن القدمين، والخف يمسح ظاهره – كما سيأتي – فكذلك العمامة يكتفي بمسح أكثرها ولا يجب أن يستوفيها بالمسح. وذكر الحنابلة أنه يختص المسح بدوائرها أي بكوْر العمامة دون وسطها، ولم أر دليلاً يدل على ذلك. بل الأظهر أنه يمسح على الإطلاق عمامته، وأن يكتفي بمسح أكثرها من غير أن يحدد ذلك بكورها دون وسطها. قوله: (وظاهر قدم الخف من أصابعه إلى ساقه دون أسفله وعقبه) (وظاهر قدم الخف) : أي فلا يمسح أسفله وإنما يمسح أعلاه أي أعلى الخف.

ودليل ذلك: ما روى أبو داود والترمذي من حديث علي قال: (لو كان الدين بالرأي لكان أسفل الخف أولى من أعلاه ولقد رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يمسح على ظاهر خفيه) (1) ويدل عليه ما رواه أبو داود والترمذي من حديث المغيرة بن شعبة قال: (رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يمسح على الخفين على ظاهرهما) (2) ولم يصح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه مسح على أسفل الخف.

_ (1) أخرجه أبو داود في كتاب الطهارة، باب كيف المسح (162) قال: " حدثنا محمد بن العلاء حدثنا حفص - يعني ابن غياث - عن الأعمش عن أبي إسحاق عن عبد خير، عن علي رضي الله عنه قال: لو كان الدين بالرأي لكان أسفل الخف أولى بالمسح من أعلاه، وقد رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يمسح على ظاهر خفيه ". ولم أجده في الترمذي، بل قال في حاشية أبي داود: " تفرد به أبو داود ". (2) أخرجه الترمذي في كتاب الطهارة، باب ما جاء في المسح على الخفين ظاهرهما (98) ، وأخرج أبو داود في كتاب الطهارة، باب كيف المسح عن المغيرة (161) : أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يسمح على الخفين " وقال غير محمد: على ظهر الخفين ".

وأما ما رواه أبو داود والترمذي وابن ماجه من أن النبي صلى الله عليه وسلم: (مسح أعلى الخف وأسفله) (1) فالحديث إسناده منقطع، وقد ضعفه أحمد والبخاري وأبو زرعة وغيرهم من أئمة الحديث، فالحديث لا يثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم. إذن: المشروع له أن يمسح ظاهر خفيه. فإن مسح أسفله دون ظاهره فلا يجزئه ذلك؛ لأن كل عمل ليس عليه أمر النبي صلى الله عليه وسلم فهو رد، وأمره إنما هو مسح ظاهر الخف دون أسفله. فإذن: يجب أن يمسح ظاهر الخف دون أسفله ولا يشرع له أن يمسح أسفله، فإذا اكتفى بأسفله فإن المسح باطل؛ لأن ذلك خلاف أمر النبي صلى الله عليه وسلم. وقوله: (من أصابعه إلى ساقه) :

_ (1) أخرجه الترمذي في كتاب الطهارة، باب ما جاء في المسح على الخفين أعلاه وأسفله (97) . وأخرجه أبو داود في كتاب الطهارة، باب كيف المسح (165) قال: " حدثنا موسى بن مروان ومحمود بن خالد الدمشقي، المعنى، قالا: حدثنا الوليد، قال محمود: أخبرنا ثور بن يزيد عن رجاء بن حَيْوَة عن كاتب المغيرة بن شعبة عن المغيرة بن شعبة قال: وضَّأت النبي - صلى الله عليه وسلم - في غزوة تبوك فمسح أعلى الخفين وأسفلهما ". وأخرجه ابن ماجه في الطهارة برقم 550، سنن أبي داود مع المعالم [1 / 116] .

لما روى البيهقي من حديث الحسن عن المغيرة بن شعبة أن النبي صلى الله عليه وسلم: (مسح على خفيه فوضع اليمنى على خفه الأيمن واليسرى على خفه الأيسر ثم ذهب منهما إلى أعلاه مسحة واحدة) (1) لكن الحديث إسناده منقطع، فإن الحسن لم يسمع من المغيرة. قال الإمام أحمد: (كيفما فعل أجزأه باليد الواحدة أو باليدين) سواء بدأ من الأسفل إلى الأعلى، أو من الأعلى إلي الأسفل، وسواء مسح ذلك على الصورة المتقدمة في الحديث: اليمنى على الأيمن واليسرى على الأيسر أو اليمنى على الأيسر، واليسرى على اليمنى، أو مسح باليمنى كليهما أو باليسرى كليهما، فكل ذلك جائز لا حرج فيه، والحديث الذي تقدم ذكره إسناده ضعيف قوله: (وعلى جميع الجبيرة) هذا هو مذهب جمهور أهل العلم وأنه يجب المسح على الجبيرة كلها، فلا يكتفي بمسح بعضها، ولو كان ذلك الممسوح أكثرها، بل يجب أن يعمها بالمسح؛ وذلك لأنها بدل عن العضو الواجب غسله وهي يجب مسحها من باب قوله تعالى: {فاتقوا الله ما استطعتم} (2) . فإن قيل: ألا تقاس على الخفين؟ فالجواب: لا تقاس على الخفين للفوارق بينهما وقد تقدم ذكر بعضها. منها إنها لا ترتبط بالمدة. ومنها إنها لا يشترط فيها الطهارة. ومنها أنها لا تختص بعضو من الأعضاء وإنما عامة في أي عضو – وغير ذلك من الفوارق الثابتة بينهما. وكذلك، أنها يمسح عليها من الحدث الأكبر بخلاف الخف.

_ (1) أخرجه البيهقي في السنن الكبرى برقم [1385] قال: " وأخبرنا أبو عبد الله الحافظ ثنا أبو الوليد الفقيه ثنا الحسن بن سفيان ثنا أبو بكر بن أبي شيبة ثناأبوأسامة عن أشعث عن الحسن عن المغيرة بن شعبة قال: " رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بال ثم جاء حتى توضأ ثم مسح على خفيه ووضع يده اليمنىعلىخفه الأيمن ويده اليسرى على خفه الأيسرثم مسح أعلاهما مسحة واحدة حتى كأني أنظر إلى أصابع رسول الله على الخفين"

والفرق الخامس كونها تمسح جميعها. فإذا ثبت الفارق فإنه لا يجوز القياس بل نبقى على الأصل، وهو أن البدل له حكم المبدل، والمبدل: يجب أن يعمم بالغسل ولكن الغسل غير ممكن فحينئذ ينتقل إلى المسح، ولا شك أن غسل الجبيرة يؤثر فيها إفساداً فناب المسح عنه. قوله: (ومتى ظهر بعض محل الفرض بعد الحدث أو تمت مدته استأنف الطهارة) إذا طهر بعض محل الفرض فإنه يبطل وضوؤه. صورة ذلك: رجل عليه خفان وكان منه مسح عليهما فخلعهما فإن الوضوء يبطل – وهذا هو مذهب جمهور الفقهاء –؛ قالوا: لأنه بخلع خفه قد أزال محل المسح ولأن النبي صلى الله عليه وسلم – وهذا في تمام المدة – قد وضع مدة محددة فمتى انتهت هذه المدة يبطل المسح. إذن: إذا خلع أحد الخفين أو انكشف بعض القدم فإنه يبطل وضوؤه؛ ذلك لأن محل المسح قد زال فما دام قد زال فإنه يبطل الوضوء في القدم، وإذا بطل الوضوء في القدم فإنه يبطل الوضوء في سائر الأعضاء. وكذلك تمام المدة، فإذا تمت المدة التي حدد النبي صلى الله عليه وسلم فيبطل هذا المسح وببطلان المسح تبطل طهارة القدم، وببطلان طهارة القدم تبطل الطهارة كلها. - وذهب الحسن وقتادة في المسألتين كلتيهما وهو – اختيار شيخ الإسلام ومذهب ابن حزم – ذهبوا: إلى أن الخلع وتمام المدة لا يبطلان الوضوء فإذا خلع خفيه فإن وضوءه باق وكذلك إذا تمت المدة فإن وضوءه باق. أما الخلع: فقالوا هو نظير حلق الرأس، فمن حلق رأسه فإن وضوءه يبقى. ثم إن خلع الخفين ليس من نواقض الوضوء فليس بحدث ينقض الوضوء، والأصل بقاء الطهارة وثبوتها ولا يمكن أن ينقض إلا بدليل، فما هو الدليل على النقض. وزوال الممسوح لا يدل على انتقاض الطهارة بدليل أن حلق الرأس لا ينقض الطهارة بالاتفاق.

وأما تمام المدة فقالوا إنما وضع النبي صلى الله عليه وسلم المدة لبيان الوقت الذي يجوز فيه المسح وقد تقدمت الأدلة التي ظاهرها هذا القول وأن هذه المدة إنما للمسح وليس في الأدلة أنه لا يجوز له أن يصلي بوضوء ثبت في وقت المسح. فلو أنه مسح قبل ساعة من انتهاء مدة المسح فإذا تمت المدة فلا يجوز له أن يمسح، هذا هو ظاهر الأدلة، وليس في الأدلة أنه لا يجوز له أن يصلي بهذا الوضوء الذي قد انبنى على هذا المسح، والأصل بقاء الطهارة ولا دليل يدل على نقضها. إذن: الراجح: ما ذهب إليه الحسن البصري وهو اختيار شيخ الإسلام من أن خلع الخفين وانتهاء مدة المسح لا ينقض الوضوء. والحمد لله رب العالمين. انتهى باب مسح الخفين باب: نواقض الوضوء الدرس السابع والعشرون (يوم السبت: 19 / 11 / 1414 هـ) نواقض: جمع ناقض وهو فاعل النقض. والنقض: هو النكث وإفساد الشيء بعد إحكامه. يقال: " نقض الشيء " أي أفسده بعد إحكامه فيكون المعنى: مفسدات الوضوء أو مبطلاته. فعندما يقع النقض، فإن ذلك الوضوء الذي ثبت تصحيحه شرعاً يبطل. والوضوء: تقدم تعريفه لغة واصطلاحاً، وهو هنا بالضم (الوُضوء) ؛ لأن المراد فعل الوضوء لا ماؤه. قال المؤلف رحمه الله: (ينقض ما خرج من سبيل) السبيل في اللغة: الطريق، وهو هنا: مخرج البول والغائط. (ما خرج من السبيل) : من بول أو غائط أو مذي أو ودي فكله يخرج من السبيل. المذي: هو سائل لزج (1) يخرج بسبب تحرك الشهوة – وسيأتي الحكم عليه من حيث النجاسة وعدمها -. أما الودي: فهو سائل أبيض ثخين يخرج بعد البول. والبول والغائط والمذي والودي والريح كلها مما يخرج من السبيل – وقد أجمع العلماء على نقضها للوضوء -. أما الودي فدليله الإجماع.

_ (1) في الأصل – المذكرة -: زلج.

وأما المذي فدليله: ما تقدم مما ثبت في الصحيحين من قول النبي صلى الله عليه وسلم: (يغسل ذكره ويتوضأ) (1) . وأما الريح فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا ينصرف حتى يسمع صوتاً أو يجد ريحاً) (2) متفق عليه. وأما البول أو الغائط فدليله ما تقدم من حديث صفوان بن عسال وفيه: (ولكن من غائط وبول) (3) فهذه أشياء معتادة يثبت النقض بها إجماعاً. * فإن خرج منه شيء غير معتاد كالحيض والدم ونحو ذلك مم قد يخرج من السبيلين مما ليس بمعتاد، فهل ينقض الوضوء أم لا؟ قال الحنابلة - وهو مذهب جمهور أهل العلم –: ينقض الوضوء بخروجه، فلو خرج من السبيلين حيض أو نحوه مما ليس بمعتاد فإنه ينقض الوضوء به عند جمهور الفقهاء.

_ (1) أخرجه مسلم بهذا اللفظ في باب المذي من كتاب الحيض (303) . وأخرجه البخاري بلفظ (توضأ واغسل ذكرك) في باب غسل المذي والوضوء منه (269) ، وبلفظ (132) : " فيه الوضوء ". (2) أخرجه البخاري في كتاب الوضوء، باب من لا يتوضأ من الشك حتى يستيقن (137) ، (177) عن عباد بن تميم عن عمه: أنه شكا إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الرجل الذي يخيل إليه أنه يجد الشيء في الصلاة، فقال: (لا ينفتل أو لا ينصرف حتى يسمع صوتاً أو يجد ريحاً) ، وأخرجه مسلم في كتاب الحيض، باب الدليل على أن من تيقن الطهارة ثم شك في الحدث فله أن يصلي بطهارته تلك (361) . (3) أخرجه الترمذي في كتاب الطهارة، باب المسح على الخفين للمسافر والمقيم (95) باللفظ نفسه، وأخرجه النسائي في كتاب الطهارة، باب التوقيت في المسح على الخفين للمسافر (126) قال: أخبرنا قتيبة قال حدثنا سفيان عن عاصم بن زر عن صفوان بن عسال قال: رخص لنا النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا كنا مسافرين أن لا ننزع خفافنا ثلاثة أيام ولياليهن ". وابن ماجه في كتاب الطهارة، باب الوضوء من النوم (478) . وقد تقدم صْ 2.

وخالف الإمام مالك فقال: بأن الوضوء لا ينتقض، لأن الشارع ذكر نواقضه كما في قوله (ولكن من غائط وبول ونوم) وغير ذلك من الأحاديث. والراجح: ما ذهب إليه جمهور أهل العلم، وذلك لدليل من السنة وهو ما رواه أبو داود في سننه من حديث فاطمة بنت أبي حبيش رضي الله عنها – وكانت مستحاضة، فقال النبي صلى الله عليه وسلم لها: (إذا كان دم الحيضة وهو دم أسود يعرف، فإذا كان ذلك فأمسكي عن الصلاة، وإذا كان الآخر فتوضئ فإنما هو عرق) (1) أي دم عرق قد خرج من السبيلين فوجب فيه الوضوء، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم – من حديثها – كما في البخاري: (توضئي لكل صلاة) (2) قالوا: والدم هنا ليس بمعتاد وقد أوجب الشارع فيه الوضوء. ثم أيضاً: الإجماع (3) على الودي، والودي ليس بمعتاد ومع ذلك يجب الوضوء عند خروجه – وهما غير معتادين – فغيرهما – مما قد يخرج وليس بمعتاد – مثل ذلك.

_ (1) أخرجه أبوداود في كتاب الطهارة، باب من قال إذا أقبلت الحيضة تدع الصلاة (286) قال: " حدثنا محمد بن المثنى، حدثنا محمد بن أبي عدي عن محمد يعني ابن عمرو قال: حدثني ابن شهاب عن عروة بن الزبير عن فاطمة بنت أبي حبيش أنها كانت تستحاض، فقال لها النبي - صلى الله عليه وسلم -: (إذا كان دم الحيضة، فإنه دم أسود يعرف، فإذا كان ذلك أمسكي عن الصلاة، فإذا كان الآخر فتوضئي وصلي، فإنما هو عرق) . وأخرجه النسائي برقم 201، سنن أبي داود مع المعالم [1 / 197] . (2) أخرجه البخاري في كتاب الوضوء، باب غسل الدم، (228) بلفظ: عن عائشة قالت: جاءت فاطمة بنت أبي حبيش إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: يا رسول الله إني امرأة أستحاض فلا أظهر، أفأدع الصلاة؟ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (لا، إنما ذلك عرق..) قال: وقال أبي: (ثم توضئي لكل صلاة حتى يجيء ذلك الوقت) . (3) كذا في الأصل، ولعل الأقرب: القياس.

ثم إن هذا الغير معتاد يحمل – إلا في أحوال نادرة جداً، يحمل – شيئاً من البلل أي من بلَّة السبيلين وخروج هذه البلة ينقض الوضوء. لذا لا يشترط أن يكون الخارج منه خرج هكذا بطبيعته بل لو أدخل شيئاً من الدهن ونحوه كأن يتطيب به فيخرج فإن ذلك ناقض للوضوء أيضاً. ولو وضعت المرأة خرقة أو نحو ذلك فخروجها ناقض للوضوء؛ لأن هذا خارج من سبيل يحمل بلته فينتقض الوضوء منه. وأطلق الحنابلة في كل خارج سواء كان فيه بلة أو لم يكن فيه بلة. وذهب بعض فقهاء الحنابلة: إلى إنه إن لم يكن الخارج فيه بلة فلا ينتقض به الوضوء. لذا قالوا في مسألة غريبة ذكرها الموفق وذكر أنها لا توجد أصلاً، ولكن هذا الذكر منه إنما هو لما بلغه من العلم وإلا فقد يبلغ غيره من العلم ما لم يبلغه –: وهو خروج الريح من القبل فإذا خرجت فعلى القول الأول ينتقض الوضوء. وعلى القول الثاني لا ينتقض. وهذه الريح لا تحمل بلة فعلى ذلك لا ينقض الوضوء على هذا القول، ولكن القول الأول أحوط، وأما الثاني ففيه – في الحقيقة – قوة، ولكن على القياس المتقدم مع الاحتياط المذكور يتقوى ما هو مشهور عند الحنابلة من وجوب الوضوء من ذلك. قوله: (وخارج من بقية البدن إن كان بولاً أو غائطاً) إذا خرج من بقية البدن، كأن يكون في معدته خرق أو فتح فيخرج منه بول أو غائط، فإذا خرج منه بول أو غائط فإنه ينتقض وضوؤه؛ لأنه بول وغائط، وفي الحديث: (ولكن من غائط وبول) وهذا بول أو غائط، فينتقض الوضوء. وظاهره سواء كان الخرق فوق المعدة أو تحتها. وذهب بعض فقهاء الحنابلة والشافعية: إلى إن ذلك إذا كان تحت المعدة. أما إذا كان من المعدة فأعلى فلا ينقض الوضوء. قالوا: ودليلنا على ذلك: القيء فإنه لا ينقض الوضوء فإذا ثبت أنه لا ينقض الوضوء فمثله غيره، فالحكم عندهم منوط بما تحت المعدة.

لكن القول الأول أقوى؛ لأن هذا بول وغائط وقد خرج ولو كان من غير السبيلين فيثبت به الحكم المتقدم. * وهنا لم يذكروا الريح، فلو خرجت الريح من موضع غير السبيلين فظاهره أن الوضوء لا ينتقض وقد يقال: إن في هذا شيئاً من الاضطراب فكيف الريح إذا خرجت من القبل فإنها تنقض أما إذا خرجت من غير السبيلين فإنها لا تنقض؟ لذا ذهب بعض الحنابلة: إلى إنها تنقض إذا خرجت من غير السبيلين. فإذن: إذا خرجت الريح من موضع غير السبيلين فهل تنقض أم لا؟ قالوا: لا تنقض الوضوء، وهناك – أي عند خروجها من الدبر أو القبل – تنقض فما الفارق؟ الفارق: أنها عند خروجها من السبيلين هي رائحة ثبتت في مخرج طبيعي لها أو قريب من الطبيعي، وأما إذا خرجت من قريب من المعدة فهي أشبه بالجشاء وهو متفق أو مجمع على أنه ليس بناقض للوضوء. لذا يتوجه أن الريح إذا خرجت من المعدة إنها لا تنقض الوضوء (1) . قوله: (أو كثيراً نجساً غيرهما) إذن: لا ينقض إلا البول أو الغائط أو الكثير النجس كالدم فالدم نجس، وكالقيء فإن القيء عندهم نجس، أو الصديد أو ماء الدم أو القيح ونحو ذلك، كل هذا إذا خرج منه شيء من البدن فإنه ينقض الوضوء. إذن: إذا خرج النجس من شيء من البدن سواء كان من الفم أو الأنف وهو الرعاف أو أي موضع فإنه ناقض للوضوء من دم أو قيء وهو ما يخرج من المعدة ثم يخرج من الفم، ومثله القلس وهو أقل منه، ومقداره ملء الفم فما دون مما يخرج من المعدة، وأما القيء فهو ما زاد (2) على ذلك، فهذه كلها أشياء نجسة إذا خرجت من شيء من البدن فإن الوضوء ينتقض. وهنا احترازان ذكرهما المؤلف:

_ (1) وهنا عبارة بخط آخر نصه: " فيترجح أن لها حكم الغائط والبول، فإن خرجت من تحت المعدة نقضت وإلا فهي كالجشاء". (2) كذا في الأصل، ولعل الصواب: ما زاد.

الأول قوله: (كثيراً) فعلى ذلك إذا كان يسيراً من دم أو قيء فإنه لا ينقض الوضوء، فالكثير هو الناقض. والمشهور في المذهب: أن الكثير لكل أحد بحسبه، فكل مكلف ينظر في الدم الذي خرج منه أهو قليل أم كثير. ولكن هذا القول – في الحقيقة – لا ينضبط؛ لأن الناس يختلفون في النظر إلى القليل والكثير. - وذهب ابن عقيل من الحنابلة: إلى أن الكثير إنما ينظر فيه إلى أوساط الناس أي غير المتبذلين ولا الموسوسين. فالموسوسون قد يرون القليل كثيراً، والمتبذلون قد يرون الكثير قليلاً، فيكون النظر إلى أوساط الناس، فما كان كثيراً بالنظر إلى أوساط الناس فهو كثير، وما كان قليلاً فهو قليل. فعلي ذلك القطرات التي تخرج، هذه لا تنقض الوضوء. ومثلاً: رجل أدخل منديلاً في أنفه فخرج فيه شيء من الدم فإنه لا ينتقض وضوؤه في المذهب. أما إذا خرج كثير رعافاً فإنه ينتقض الوضوء. ومثلاً: خرج شيء يسير من معدته فلا ينتقض الوضوء، أما إذا كان يملأ الفم أو نحو ذلك فإنه ينتقض. وهذا القول أصح؛ لأن الضابط الأول – في الحقيقة – ليس بمنضبط؛ لأن الناس يتفاوتون في هذا الباب. الثاني: قوله: (نجساً) فلو كان هذا الخارج من البدن ليس نجساً بل هو طاهر فلا ينقض الوضوء، فلو خرج منه كالبصاق أو ماء العين أو نحو ذلك – هذه أشياء تخرج من البدن طاهرة وليست بنجسة فلا تنقض الوضوء. إذن: الناقض للوضوء هو النجس الكثير الخارج من البدن سواء من السبيلين أو غيرهما ينتقض به الوضوء. أما السبيلان فلا يشترط أن يكون قليلاً أو كثير، بل القليل ينقض الوضوء لإطلاقات الأحاديث، فإن البول أو الغائط أو نحو ذلك ليس فيه هذا التفريق المذكور في الدم ونحوه.

1- هذا هو المشهور في مذهب الحنابلة واستدلوا بأدلة منها: ما رواه ابن ماجه من حديث عائشة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من أصابه قيء أو رعاف أو قلس أو مذي فلينصرف فليتوضأ ثم ليبن على صلاته وهو في ذلك لا يتكلم) (1) وبما رواه الترمذي بإسناد صحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم: (قاء فتوضأ) (2) . 2- وذهب الشافعية والمالكية: إلى إن هذه لا ينتقض بها الوضوء، فلا ينتقض الوضوء بالدم والقيء قليلاً كان أو كثيراً واستدلوا:

_ (1) أخرجه ابن ماجه في كتاب إقامة الصلاة، باب ما جاء في البناء على الصلاة (1221) قال: " حدثنا محمد بن يحيى حدثنا الهيثم بن خارجة حدثنا إسماعيل بن عياش عن ابن جريج عن ابن أبي مُليكة عن عائشة قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من أصابه قيء أو رُعاف أو قلس أو مذي فلينصرف فليتوضأ ثم ليبن على صلاته وهو في ذلك لا يتكلم ". (2) أخرجه الترمذي في باب ما جاء في الوضوء من القيء والرعاف من كتاب الطهارة (87) عن أبي الدرداء أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قاء فتوضأ.. "

بما رواه أحمد وأبو داود وذكره البخاري معلقاً: أن النبي صلى الله عليه وسلم: (كان في غزوة ذات الرقاع فأصيب رجل من أصحابه (وهو من حراسه) فنزفه الدم فمضى في صلاته) (1)

_ (1) أخرجه الإمام أحمد برقم (14760) وبرقم (14926) ، وأخرجه أبو داود في كتاب الطهارة، باب الوضوء من الدم (198) قال: " حدثنا أبو توبة الربيع بن نافع، حدثنا ابن المبارك، عن محمد ابن إسحاق، حدثني صدَقة بن يسار، عن عقيل بن جابر، عن جابر قال: خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم يعني في غزوة ذات الرقاع – فأصاب رجل امرأة رجل من المشركين، فحلف أن لا أنتهي حتى أهريق دماً في أصحاب محمد، فخرج يتبع أثر النبي صلى الله عليه وسلم، فنزل النبي صلى الله وعليه وسلم منزلاً، فقال: (من رجل يكلؤنا؟) فانتدب رجل من المهاجرين ورجل من الأنصار، فقال (كونا بفم الشِّعْب) قال: فلما خرج الرجلان إلى فم الشعب اضطجع المهاجري، وقام الأنصاري يصلي، وأتى الرجل، فلما رأى شخصه عرف أنه ربيئة للقوم، فرماه بسهم فوضعه فيه، فنزعه حتى رماه بثلاثة أسهم، ثم ركع وسجد، ثم انتبه صاحبه، فلما عرف أنهم قد نَذِروا به هرب، ولما رأى المهاجري ما بالأنصاري من الدم قال: سبحان الله! ألا أنبهتني أول ما رمى، قال: كنت في سورة أقرأها فلم أحب أن أقطعها ". وذكره البخاري بلفظ: " ويُذكر عن جابر: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان في غزوة ذات الرقاع، فرُمي رجلٌ بسهم فنزفه الدم، فركع وسجد ومضى في صلاته " في كتاب الوضوء باب من لم ير الوضوء إلا من المخرجين من القبل والدبر.

فهنا هذا الصحابي مع النبي صلى الله عليه وسلم في غزوة ذات الرقاع وهو من حراسه – وهو كما في البيهقي عباد بن بشر وهو من عباد الصحابة وعلمائهم. ومثل هذا يبعد أن يخفى على النبي صلى الله عليه وسلم – وهذا الأثر إسناده صحيح – فهو متضمن لإقرار النبي صلى الله عليه وسلم إذ يبعد أن يخفى على النبي صلى الله عليه وسلم مثل ذلك وهو من حراسه في غزوة قد خرج فيها النبي صلى الله عليه وسلم. وبما رواه مالك في موطئه أن عمر رضي الله عنه: (صلى وجرحه يثعب دماً) (1) وقال الحسن – كما في البخاري – معلقاً ووصله سعيد بن منصور -: (ما زال المسلمون يصلون في جراحاتهم) (2) قالوا: إن هذه مسألة تعم بها البلوى ولم يصح عن النبي صلى الله عليه وسلم فيها حديث. أما الحديث الأول الذي استدل به أهل القول الأول: (من أصابه قيء ... ..) إلى آخره. قالوا: فهذا الحديث من حديث إسماعيل بن عياش عن ابن جريج وإسماعيل روايته عن الحجازيين ضعيفة، وابن جريج حجازي. ورواه الحفاظ غير ابن جريج مرسلاً، فعلى ذلك الحديث ضعيف. أما حديث الترمذي أن النبي صلى الله عليه وسلم: (قاء فتوضأ) ، فالحديث صحيح لكنه فعل منه صلى الله عليه وسلم، ونحن نقول بمشروعية الوضوء من القيء – ولكنا لا نقول بوجوب ذلك – فإن الحديث ليس فيه ما يدل على الوجوب فهو فعل، والفعل لا يدل على الوجوب.

_ (1) أخرجه مالك في الموطأ في كتاب الطهارة، باب العمل فيمن غلبه الدم من جرح أو رعاف (79) : " عن هشام عن عروة عن أبيه أن المسور بن مخرمة أخبره أنه دخل على عمر بن الخطاب من الليلة التي طُعن فيها، فأيقظ عمر لصلاة الصبح، فقال عمر: نعم، ولا حظ في الإسلام لمن ترك الصلاة، فصلى عمر وجرحه يثعب دماً ". (2) ذكره البخاري في كتاب الوضوء، باب من لم ير الوضوء إلا من المخرجين بلفظ: " وقال الحسن: ما زال المسلمون يصلون في جراحاتهم ".

قالوا: ومعنا الأصل، فإن الأصل أن الوضوء ثابت لا نتزحزح إلى بطلانه إلا بدليل، وليس ثمت دليل صحيح صريح يدل على ذلك. واختار هذا القول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله وهو الراجح. فالراجح: أن الدم والقيء والصديد ونحوها كل ذلك لا ينتقض الوضوء بخروجها خلافاً للمشهور في مذهب الحنابلة. إذن: الخارج من بقية البدن غير السبيلين: إن كان بولاً أو غائطاً فإنه ينقض الوضوء. - أما غير ذلك فالراجح أنه لا ينتقض الوضوء به - لعدم الدليل الدال على ذلك. والحمد لله رب العالمين الدرس الثامن والعشرون (يوم الأحد: 20 / 11 / 1414 هـ) قال المؤلف رحمه الله: (وزوال العقل إلا يسير نوم من قاعد أو قائم) " وزوال العقل " أي ناقض للوضوء. فزوال العقل بالجنون أو سكر أو إغماء أو نحو ذلك كله ناقض للوضوء بإجماع العلماء. ومثل السكر – الأدوية التي يتعاطاها المتداوي فتزيل عقله فإنها في الحكم وما تقدم سواء، فهي ناقضة للوضوء بالإجماع قياساً على الأدلة الدالة على نقض الوضوء بالنوم ونقض الوضوء بما تقدم أولى. قوله: " إلا يسير نوم من قاعد أو قائم " إذن: النوم ناقض للوضوء لأنه يثبت به زوال العقل فيدخل – حينئذ – فيما ذكره من قوله: (وزوال عقل) لكنه استثنى يسير النوم من قاعد وقائم. إذن: نوم المضطجع والساجد والراكع نوم ناقض للوضوء مطلقاً لا فرق بين يسيره وكثيره. وأما نوم القاعد المتمكن بخلاف المستند أو المتكئ أو المحتبئ، فنوم القاعد إن كان يسيراً فلا ينتقض به الوضوء ومثله القائم. إذن: هناك من النوم ما ينقض الوضوء، ومنه ما لا ينقض. أما نوم المضطجع وما شابهه فإنه ينتقض به الوضوء مطلقاً لا فرق بين يسيره وكثيره. وأما نوم القاعد أو القائم فإنه لا ينتقض به الوضوء إلا إن كان كثيراً أما إن كان يسيراً فلا ينتقض به الوضوء.

واستدلوا: على ثبوت النقض بالنوم بحديث صفوان بن عسال وفيه: (ولكن من غائط وبول ونوم) (1) فدل على أن النوم ناقض للوضوء. وأما كونهم فرقوا بين نوم القاعد والقائم وبين غيرهما، فجعلوا يسير نوم القاعد والقائم ليس بناقض، وأما يسير نوم المضطجع فإنه ناقض: استدلوا: بما رواه مسلم في صحيحه عن أنس بن مالك قال: (كان أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ينامون ثم يصلون ولا يتوضئون) (2) وفي رواية لأبي داود: (حتى تخفق رؤوسهم) (3) أي حتى تضرب أذقانهم على صدورهم. قالوا: هذا نوم قاعدين، فهم كانوا فيما يرى الحنابلة - ومن وافقهم – أنهم كانوا قاعدين، ولا شك أن رواية أبي داود تشير إلى هذا. وأما القائم فيما ثبت في الصحيحين من حديث ابن عباس قال: (فجعلت كلما أغفيت يأخذ النبي صلى الله عليه وسلم بشحمة أذني يفتلها) (4)

_ (1) أخرجه الخمسة إلا أبا داود كما تقدم ص 2. (2) أخرجه مسلم في آخر كتاب الطهارة، (376) . وأخرج الترمذي نحوه برقم 78، سنن أبي داود مع المعالم [1 / 138] (3) أخرجه أبو داود في كتاب الطهارة، باب في الوضوء من النوم (200) قال: " حدثنا شاذُّ بن فيَّاض، حدثنا هشام الدستوائي عن قتادة عن أنس قال: كان أصحاب رسول الله صلى الله وعليه وسلم ينتظرون العشاء الآخرة حتى تخفق رؤوسهم ثم يصلون ولا يتوضؤون ". (4) أخرجه مسلم في كتاب صلاة المسافرين، باب الدعاء في صلاة الليل (1277) [انترنت / موقع الإسلام / بواسط ردادي] قال: وحدثنا محمد بن رافع حدثنا ابن أبي فديك أخبرنا الضحاك عن مخرمة بن سليمان عن كريب مولى ابن عباس عن ابن عباس قال: بت ليلة عند خالتي ميمونة بنت الحارث فقلت لها إذا قام رسول الله صلى الله عليه وسلم فأيقظيني فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم فقمت إلى جنبه الأيسر فأخذ بيدي فجعلني من شقه الأيمن فجعلت إذا أغفيت يأخذ بشحمة أذني قال فصلى إحدى عشرة ركعة ثم احتبى حتى إني لأسمع نفسه راقدا فلما تبين له الفجر صلى ركعتين خفيفتين " وأخرجه البخاري في مواضع من صحيحه بألفاظ مختلفة لكن دون قوله " أغفيت "، انظر الأحاديث (7452) (117) (6215) .

وهنا قد وقع منه الإغفاء ومع ذلك لم ينتقض وضوؤه. كما أنه يقاس على نوم القاعد، فنوم القائم كنوم القاعد. وأما غيرها فيبقونه على النقض بأصل النوم. وقد روى أبو داود أن النبي صلى الله عليه وسلم [قال] : (إنما الوضوء على من نام مضطجعاً) (1) لكن الحديث إسناده ضعيف. إذن: هذا هو تقرير مذهب الحنابلة وهو مذهب أكثر الفقهاء وأن النوم ينقض مطلقاً يسيره وكثيره إلا نوم القاعد والقائم فلا ينتقض بيسيره وإنما ينتقض بكثيره. فإن قيل: فما هو ضابط اليسير؟ قالوا: ضابطه: العرف، فما كان يسيراً عرفاً فإنه لا ينقض الوضوء. فعندما ينام الرجل قاعداً أو قائماً ويسمع كلام الناس حوله وإن لم يفهمه فهذا في العرف يسير، بينما إذا سقط من قيامه، أو قعوده أو رأى رؤيا فهو في عرف الناس قد نام نوماً كثيراً فينتقض وضوؤه بذلك. ولا شك إن هذا الضابط حسن، لأن مرجعه إلى العرف وبعبارة أخرى لك أن تقول: النوم المستغرق وغير المستغرق. فالنوم المستغرق: هو الكثير الناقض للوضوء. وأما غير المستغرق فهو الذي يحس الإنسان به في نفسه فلا ينتقض به الوضوء. فإن قيل: فإن شك لا يدري أهو نوم يسير أم نوم كثير؟ فحينئذ: يبني على اليقين واليقين هو بقاء وضوئه فلا يزول هذا اليقين بشك.

_ (1) أخرجه أبو داود في كتاب الطهارة،باب في الوضوء من النوم (202) قال: " حدثنا يحيى بن معين وهنّاد بن السري وعثمان بن أبي شيبة عن عبد السلام بن حرب، وهذا لفظ حديث يحيى، عن أبي خالد الدَّالاني عن قتادة عن أبي العالية عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم: " كان يسجد وينام وينفخ ثم يقوم فيصلي ولا يتوضأ " قال: فقلت له: صليت ولم تتوضأ وقد نمت؟ فقال: (إنما الوضوء على من نام مضطجعاً) زاد عثمان وهناد: (فإنه إذا اضطجع استرخت مفاصله) . وأخرجه الترمذي في الطهارة برقم (77) ، سنن أبي داود [1 / 139] .

وفي قوله: (إلا نوم) يخرج النعاس والسنة. والنعاس: يكون في الرأس من غير أن يكون في القلب والعقل فهذا لا ينتقض به الوضوء، وقد قال تعالى: {لا تأخذه سنة ولا نوم} (1) ففارق بينهما (2) ، فالناقض للوضوء هو النوم، وأما النعاس وهو ما يكون في الرأس فهذا لا ينقض الوضوء. هذا هو تقرير مذهب الحنابلة. أما ما ذهبوا إليه من أن نوم القاعد والقائم اليسير لا ينقض الوضوء فهو قول قوي. وأما قولهم إن نوم المضطجع ونحوه ينقض يسيره، فهذا قول ضعيف؛ ذلك لأنا إذا قلنا: [إنْ] كان مناط الأمر ومتعلقه هو النوم الكثير أو اليسير، أو النوم المستغرق أو غير المستغرق فإنه لا فرق بين مضطجع وغيره. وفي رواية للبزار – من حديث أنس المتقدم – بإسناد صحيح: (يضعون جنوبهم) (3) أي أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، فعلى ذلك منهم من يخفق رأسه ومنهم من وضع جنبه على الأرض، وكلهم لم يثبت بهذا النوم نقض وضوئهم بإقرار النبي صلى الله عليه وسلم. وهذا القول رواية عن الإمام أحمد وهو مذهب الأوزاعي وربيعة واختيار شيخ الإسلام – وهذا القول هو الراجح لما تقدم – فعلى ذلك: النوم المستغرق وهو النوم الكثير ناقض للوضوء. أما غير المستغرق فإنه لا ينتقض به الوضوء.

_ (1) سورة البقرة (254) . (2) في الأصل: ففارق بين بينهما.

ومما يدل على هذا أن النوم مظنة الحدث، لذا ثبت في الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم (نام حتى نفخ ثم صلي ولم يتوضأ) فقيل له في ذلك فقال: (إن عيناي تنامان ولا ينام قلبي) (1) .

_ (1) أخرجه البخاري في باب قيام النبي صلى الله عليه وسلم بالليل في رمضان من كتاب التهجد (1147) عن عائشة بلفظ: " ما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يزيد في رمضان … قالت عائشة: فقلت: يا رسول الله أتنام قبل أن توتر؟ قال: يا عائشة إن عيني تنامان ولا ينام قلبي "، وفي باب كان النبي صلى الله عليه وسلم تنام عينه ولا ينام قلبه من كتاب المناقب (3569) وأخرجه كذلك في باب فضل من قام الليل من كتاب صلاة التراويح (2013) بلفظ عائشة رضي الله عنها، وأخرجه أيضاً في باب التخفيف في الوضوء من كتاب الوضوء (138) عن ابن عباس قال: بت عند خالتي.. ثم اضطجع فنام حتى نفخ، ثم أتاه المنادي فآذنه بالصلاة، فقام معه إلى الصلاة، فصلى ولم يتوضأ، قلنا لعمرو: إن ناساً يقولون: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم تنام عينه ولا ينام قلبه؟ قال عمرو: سمعت عبيد بن عمير يقول: رؤيا الأنبيا وحي.. " وأخرجه مسلم (738) بلفظ عائشة رضي الله عنها، باب صلاة الليل وعدد ركعات النبي صلى الله عليه وسلم من كتاب الصلاة.

وفي رواية أبي داود – والحديث حسن – أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (العين وكاء - أي باط (1) - السه - أي الدبر - فمن نام فليتوضأ) (2) . فهو مظنة للحدث، وإذا كان النوم يسيراً فإن هذه المظنة تكون يسيرة لأنه يشعر بنفسه ويحس بها، بخلاف ما إذا تمكن منه النوم فإن المظنة تكون قوية فيتعلق الحكم بها وينتقض الوضوء. إذن: الراجح التفريق بين النوم المستغرق وغيره وهو ما اختاره الشيخ محمد بن إبراهيم رحمه الله. قوله: (ومس ذكر متصل أو قبل بظهر كفه أو بطنه، ولمسهما من خنثى مشكل ولمس ذكر ذكره أو أنثى قبلها لشهوة فيها) . قوله: " ذكره " المراد به عضو الرجل، والقبل: المراد به عضو المرأة. (متصل) هنا قيد فيه غرابة، كيف يكون متصلاً؟ قالوا: ليخرج الذكر المقطوع، كأن يقطع لعلاج ونحوه فإنه لا يدخل في هذا الحكم لأنه ليس بمعنى الذكر المتصل. قوله: (ومس ذكر) لم يقل (ذكره) لتعميم ذكره وذكر غيره، أو القبل من المرأة نفسها أو من غيرها فإذا لمست المرأة ذكر زوجها أو لمس الرجل قبل امرأته فإنه ينتقض الوضوء بذلك.

_ (1) كذا في الأصل، ولعل الصواب: رباط. (2) أخرجه أبو داود في كتاب الطهارة، باب في الوضوء من النوم (203) قال: " حدثنا حيوة بن شريح الحمصي في آخرين قالوا: حدثنا بقية عن الوضين بن عطاء عن محفوظ بن علقمة عن عبد الرحمن بن عائذ عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (وكاء السه العينان، فمن نام فليتوضأ) " وأخرجه ابن ماجه في الطهارة برقم 477، سنن أبي داود [1 / 140] .

ودليل ذلك هذه المسألة: ما ثبت في الخمسة بإسناد صحيح من حديث بسرة بنت صفوان أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من مس ذكره فليتوضأ) (1) وثبت في مسند أحمد – والحديث حسن – أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا أفضى أحدكم بيده إلى ذكره ليس دونها ستر فقد وجب عليه الوضوء) (2)

_ (1) رواه أبو داود في كتاب الطاهرة، باب الوضوء من مس الذكر (181) ، والترمذي في الطهارة، باب الوضوء من مس الذكر (82 – 83 – 84) ، والنسائي في الطهارة،باب الوضوء من مس الذكر، وابن ماجه في الطهارة باب (63) الوضوء من مس الذكر (479) ، ومالك في الطهارة، الوضوء من مس الفرج، قال ابن حجر في البلوغ: " أخرجه الخمسة وصححه الترمذي وابن حبان، وقال البخاري: " هو أصح شيء في هذا الباب " سبل السلام [1 / 139] . (2) أخرجه النسائي في كتاب الغسل، باب الوضوء من مس الذكر (441) [انترنت / موقع الإسلام / بواسط ردادي] قال: أخبرنا عمران بن موسى قال حدثنا محمد بن سواء عن شعبة عن معمر عن الزهري عن عروة بن الزبير عن بسرة بنت صفوان أن النبي صلى الله عليه وسلم قال إذا أفضى أحدكم بيده إلى فرجه فليتوضأ وهو في مسند الإمام الشافعي بحاشية الأم [6 / 12] وترتيب مسند الإمام الشافعي للسندي [1 / 35] ، وليس فيهما: (فقد وجب عليه الوضوء، وفيهما: فليتوضأ "، حاشية المغني [1 / 243] . ولم أجده في فهرس المسند طبعة بيت الأفكار، ولا في الانترنت.

وفي صحيح ابن حبان وصححه أحمد وأبو زرعة – وإسناده صحيح – أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من مس فرجه فليتوضأ) (1) وفي مسند أحمد أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أيما رجل مس فرجه فليتوضأ وأيما امرأة مست فرجها فلتتوضأ) (2) بل قد ثبت ذلك من حديث بضعة عشر صحابياً من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أي في أن مس الذكر ناقض للوضوء وهذا هو مذهب جمهور الفقهاء، أن من مس ذكره فيجب عليه الوضوء. - وذهب الأحناف وهو رواية عن الإمام أحمد: إلى أن مس الذكر لا ينقض الوضوء واستدلوا: بما رواه طلق بن علي من حديث ابنه قيس عن أبيه طلق أن النبي صلى الله عليه وسلم قيل له في الرجل يمس ذكره في الصلاة أعليه الوضوء قال: (لا، إنما هو بضعة منك) (3) وقد صححه ابن حبان وابن حزم. قالوا: فهذا يدل على أن مس الذكر لا ينقض الوضوء. ومن أجوبة الجمهور على هذا الحديث ما يلي: أن الحديث ضعيف، فقد ضعفه الشافعي والدارقطني والبيهقي وغيرهم، بل قال النووي: " ضعيف باتفاق الحفاظ ".

_ (1) أخرجه أحمد في المسند (27837) قال: " حدثنا سفيان عن عبد الله بن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم أنه سمعه من عروة بن الزبير وهو مع أبيه يحدث أن مروان أخبره عن بسرة بنت صفوان أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (من مس فرجه فليتوضأ) قال: فأرسل إليها رسولاً وأنا حاضر فقالت: نعم، فجاء من عندها بذاك ". (2) أخرجه الإمام أحمد في المسند 2 / 22، كما في حاشية المغني [1 / 244] ، ولكن بلفظ (أيما امرأة مست فرجها فلتتوضأ) . (3) أخرجه أبو داود في باب الرخصة في مس الذكر من كتاب الطهارة، والنسائي في باب ترك الوضوء من مس الذكر من كتاب الطهارة، والترمذي في باب ترك الوضوء من مس الذكر من أبواب الطهارة، وابن ماجه في باب الرخصة في مس الذكر من كتاب الطهارة، وأحمد في المسند: 4 / 22، 23، المغني [1 / 241] .

وقيس بن طلق، قال فيه ابن معين وأبو حاتم وهما إمامان في الجرح والتعديل وقد قالا فيه: " لا يحتج بحديثه ". وقال البخاري: " سألنا عن قيس فلم نجد من يعرفه " أي هو مجهول. وقد وثقه ابن حبان والعجلي، وكذلك ينبغي أن يكون موثقاً عند كل من صحح هذا الحديث، لكن تقدم أن الحديث ضعيف كما قال ذلك النووي. قالوا: ولو قلنا بتحسينه فإنه لا يخالف به هذه الكثرة الكاثرة من الأحاديث الثابتة في هذا الباب فغايته – أي قيس بن طلق – أن يقبل حديثه ما لم يخالف، لذا قال الإمام أحمد في حديثه: " غيره أثبت منه ". كيف وقد روى النقض بمس الذكر – رواه عن النبي صلى الله عليه وسلم - بضعة عشر صحابياً، هذا الوجه الأول. والوجه الثاني: قالوا: كيف يكون المس في الصلاة، فإنه يستبعد أن يمس الرجل ذكره في الصلاة، فعلى ذلك المس هنا يخالف الظاهر، نعم الظاهر في لفظة المس أن تكون بلا حائل لكن هنا بحائل؛ لأنه يستبعد أن يكون ذلك في الصلاة. وقالوا: أيضاً حديث طلق بن علي مبق على الأصل بينما حديث بسرة وغيرها ناقلة عن الأصل، والأحاديث الناقلة عن الأصل مقدمة على المبقية على الأصل. قالوا: حديث طلق بن علي، وكان ممن أسلم والنبي صلى الله عليه وسلم يؤسس مسجده، بينما بسرة قد آمنت في عام الفتح وكذلك أبو هريرة قبل أن يتوفى النبي صلى الله عليه وسلم بأربع سنين قالوا: فهذه قرينة قوية تقوي القول بالنسخ، وإن كانت ليست نصاً على النسخ، كما أن كون حديثها ناقل عن الأصل كذلك يقوي القول بالنسخ بخلاف حديث طلق بن علي، ويقوي هذا ما رواه الطبراني لكن الحديث إسناده ضعيف فهو يتقوى لو صح لكن الحديث إسناده ضعيف خلافاً لتصحيح الطبراني له وهو من القائلين بالنسخ لحديث طلق بن علي – أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من مس ذكره فليتوضأ) فعلى ذلك يكون قد روى كما روى غيره النقض بمس الذكر.

وأما حديثه الأول فهو حديث يوم إسلامه ثم بعد ذلك روى أحاديث النسخ كغيره. وهذه الأوجه كلها تقوي ما ذهب إليه الجمهور من أن الراجح في هذه المسألة أن مس الذكر ناقض للوضوء. - واختار شيخ الإسلام الجمع بين الحديثين، أي بين حديث بسرة وغيرها وبين حديث طلق فحمل حديث بسرة وبقية الأحاديث على الاستحباب وحمل حديث طلق على نفي الوجوب. فعلى ذلك يكون المعنى في حديث طلق: الرجل يمس ذكره في الصلاة أعليه الوضوء " أي أيجب عليه الوضوء "، فقال: (لا، إنما هو بضعة منك) أي لا يجب عليك الوضوء، ولم ينف الاستحباب. بخلاف حديث بسرة فلفظه: (من مس ذكره فليتوضأ) فهذا يمكن أن يحمل على الاستحباب. لكن هذا القول فيه ضعف، لما تقدم من قوة الأحاديث الواردة في مسألة نقض الوضوء بمس الذكر، بخلاف حديث طلق وما تقدم من كلام أهل العلم فيه، فلا تترك ظواهر الأحاديث المتاكثرة لهذا الحديث الذي تقدم ذكر الأوجه في تضعيفه سنداً أو تضعيفه رواية. إذن: الراجح: أن مس الذكر ينتقض به الوضوء لكن الفقهاء انطلقوا من هذا الحديث الصحيح ففرعوا فروعاً كثيرة جداً وهي هذه القيود التي ذكرها المؤلف. فهنا قوله: (ومس) لفظة مس أي بلا حائل فإن كان من حائل فإنه لا يثبت به هذا الحكم، وهذا هو الذي تفيده لفظة (مس) وقد ورد مصرحاً في حديث الإمام أحمد الذي تقدم ذكره: (إذا أفضي أحدكم بيده إلى ذكره ليس دونها حجاب فقد وجب الوضوء) (1) فعلى ذلك إذا كان دونها حجاب فلا وضوء، وهذا باتفاق العلماء. قال: (ومس ذكر) : هنا أطلق سواء كان ذكر نفسه أو غيره قالوا: إذا ثبت هذا في ذكر نفسه مع الحاجة إلى لمسه فأولى منه غيره وهذا هو مذهب الجمهور. فإذا مست المرأة ذكر زوجها انتقض وضوؤها. وفي قوله: (مس ذكر) يشمل كذلك الصغير والكبير فالمرأة تغسل طفلها، فمست ذكره فينتقض الوضوء بذلك لأنه ذكر متصل – وهذا هو مذهب الجمهور -.

_ (1) تقدم.

- وذهب الأوزعي وهو رواية عن الإمام أحمد: إلى أن مس ذكر الصغير لا ينقض الوضوء – وهذا هو الراجح –؛ لأن ذكر الصبي ليس بمعنى ذكر الكبير المنصوص عليه، فإنه ليس محلاً للشهوة بمسه فبينهما فارق، ففرق بين مس الذكر [من] البالغ ومس ذكر الطفل الصغير. - وقيَّد المالكية مس فرج الصبية بألا تشتهى فالتي لا تشتهى – لاينقض الوضوء. فكذلك ينبغي أن يقيد به الصبي، فإذا مست المرأة أو الرجل فرج صبي أو صبية مما لا يشتهون أو مما لا يكونوا (1) محلاً للشهوة، كالأم تمس فرج طفلها فإن ذلك لا ينقض الوضوء، هذا مذهب الأوزعي ورواية عن الإمام أحمد وهو القول الراجح. وفي قوله: (ذكر) ينبغي أن يقيده لتتم هذه الفروع، بقوله: (ومس ذكر آدمي) لأنهم اتفقوا على أن مس ذكر الحيوان لا ينقض الوضوء. وفي قوله: (متصل) يخرج من ذلك المنقطع وهذا لا شك فيه، فلا ينقض بمسه الوضوء. قالوا: لأن المنقطع ليس في حكم المتصل. وفي قوله: (ذكر متصل) ظاهره ولو كان من ميت، وهذا هو مذهبهم. فلو أن امرأة مست ذكر زوجها الميت لتغسيله فإنه ينقض بذلك وضوؤه (2) – وهذا غريب – فإن ذكر الميت ليس بمعنى ذكر الحي بل هو شبيه بالمنقطع فكيف ينتقض الوضوء بمسه. إذن: الراجح وهو قول في المذهب أن الميت لا ينقض الوضوء بمس ذكره. قال: (أو قبل) أي قبل امرأة، للحديث المتقدم: (وأيما امرأة مست فرجها فلتتوضأ) (3) . فالمرأة كذلك إذا مست فرجها أو مس أحد فرجها فإنه ينقض، وعلى الماس الوضوء. واعلم أن الوضوء إنما يجب على الماس دون الممسوس؛ لظواهر الأدلة المتقدمة، وهذا باتفاقهم. قال: (بظهر كفه أو بطنه) : الكف: من أطراف الأصابع إلى الرسغ، فإذا كان المس في شيء من اليد فإنه ينتقض به الوضوء.

_ (1) كذا في الأصل، ولعل الصواب: يكونون، لأن " لا " هنا نافية وليست ناهية. (2) كذا في الأصل، ولعل الصواب: وضوؤها.

قالوا: لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (إذا أفضى أحدكم بيده) قالوا: واليد إذا اطلقها الشارع فإنما يطلق الحكم بها إلى الرسغ، كما قال تعالى {والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما} (1) وإنما تقطع أيديهم من الرسغ لا من المرفق ولا من المنكب. قالوا: وظاهر الحديث يدخل ذلك أي ظاهر الكف وباطنها. وقال الجمهور (2) : بل إذا مس الذكر بظاهر الكف فإنه لا ينتقض بذلك الوضوء. قالوا: لأن اليد إنما خصصت لأنها آلة اللمس وإنما موضع اللمس فيها باطنها بخلاف ظاهرها فإنه ليس آلة للمس.

_ (1) سورة المائدة. (2) مغني المحتاج ج: 1 ص: 35: " والمراد بالمس مس جزء من الفرج بجزء من بطن الكف وبطن الكف الراحة مع بطون الأصابع والأصبع الزائدة إن كانت على سنن الأصابع انتقض بالمس بها وإلا فلا، خلافا لما نقله في المجموع عن الجمهور من بها ". الاسطوانة. القوانين الفقهية لابن جزي في المذهب المالكي ج: 1 ص: 22: " ومنها مس الذكر والمراعى فيه باطن الكف والأصابع وقيل اللذة ". الثمر الداني شرح رسالة القيرواني ج: 1 ص: 30: "ويعتبر المس إذا كان بباطن الكف أو بباطن الأصابع أو بجنبيهما ". الثمر الداني شرح رسالة القيرواني ج: 1 ص: 66: " ظاهره أنه لا يجب الوضوء من مس الذكر إلا إن كان المس بباطن الكف وهو للإمام أشهب ومذهب ابن القاسم يجب الوضوء من مس الذكر بباطن الكف أو بباطن الأصابع وفي المختصر للشيخ خليل أو بجنبيهما ". وأما الأحناف فإنهم لا يرون النقض بمس الذكر كما تقدم.

وهذا هو القول الراجح؛ لأنه في الحقيقة لا يكون من فرق بين الذراع وبين ظاهر الكف، والشارع لا يفرق بين المتماثلات، لأنهم قد اتفقوا على أن من مس ذكره بذراعه (1) أو بعضده أو بفخذه أو نحو ذلك فإنه لا ينتقض بذلك الوضوء، ولا فارق بين هذه المواضع وظاهر الكف، أما باطن الكف فنعم لأنها آلة اللمس. إذن الراجح: ما ذهب إليه الجمهور من أن باطن الكف هو المُعيَّن بالحكم دون ظاهره. وهل يدخل في ذلك الظفر؟ قولان في المذهب: والمشهور أن الظفر لا يدخل قالوا: بل هو في حكم المنفصل. ولا حاجة لنا وقد رجحنا أن الباطن هو الذي يثبت به الحكم – لا حاجة لنا للكلام في الظفر؛ لأن الظفر من ظاهر الكف وليس من باطنها. وإن كان الأرجح بالنظر إلى المذهب دخول الظفر؛ لأنها داخلة في عموم اليد، فاليد من أطراف الأصابع إلى الرسغ ويدخل في ذلك الأظفار. إذن: الراجح أن الحكم إنما يثبت للمس بباطن الكف؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قد حدد اليد بذلك، واليد في باطنها لها من المعنى ما ليس لغيرها لأنها هي آلة اللمس. وظواهر الأدلة المتقدمة أنه لا فرق عامد وغيره فسواء مس ذكره عامداً أو ساهياً – وهذا هو مذهب الجمهور – وظواهر الأدلة تدل على ذلك. - وذهب الإمام أحمد في رواية عنه وهو مذهب طائفة من التابعين: إلى أنه إن مسه غير عامد فإن الوضوء لا ينتقض بذلك. قالوا: لأنه إذا مسه بغير عمد فإن الفعل منه يكون غير مقصود فحينئذ ليس له معنى مطلقاً. ولكن الراجح: دخول السهو وغيره في هذا الباب؛ لأنه وإن كان بغير قصد فقد يحصل القصد عند المس فيثبت حينئذ الحكم، أو يترتب المعنى بمجرد المس سواء كان بقصد أو لم يكن بقصد مع أن ظواهر الأدلة تدل على أنه لا فرق بين عامد وغيره. قال: (ولمسها من خنثى مشكل)

_ (1) المغني ج: 1 ص: 117: " فصل ولا ينقض مسه بذراعه، وعن أحمد أنه ينقض؛ لأنه من يده وهو قول عطاء والأوزاعي والصحيح الأول "

الخنثى المشكل: هو من له آلة ذكر وآلة أنثى ولم يتميز أهو ذكر أم أنثى لوجود آلتي التناسل فيه فلا يدرى أذكر هو أم أنثى ولم يتبين بعد. أما إذا تبين فإنه يزول الإشكال. وهي مسألة – حقيقة – في غاية الندرة وإذا وقعت ففي غاية الندرة أن تقع المسائل التي يفرع عليها الفقهاء. وهنا قال: (ولمسها من خنثى مشكل) : أي هو ناقض. " لمسهما " أي العضوان جميعاً. أذن: إذا مس من الخنثى المشكل أحد العضوين فلا ينتقض الوضوء بذلك؛ لأنه لا يدرى هل هذا الممسوس أصلي أم زائد ومع الشك نبقى على اليقين المتقدم وهو ثبوت الوضوء. فإذا لمسهما جميعاً فحينئذ يزول الشك ويتيقن إنه مس فرجاً أصلياً. إذن: إذا لمسهما من خنثى مشكل فإنه ينتقض وضوؤه أما إذا مس أحدهما فلا ينتقض بذلك الوضوء. قال: (ولمس ذكر ذكره أو أنثى قبلها لشهوة فيهما) " لمس الذكر " الماس ذكر. " ذكره " الآلة المذكرة من الخنثى المشكل ولم يمس الآلة المؤنثة، بل مس الذكر ذكره ثم قال: (لشهوة) . إذا مس الرجل الآلة المذكرة للخنثى المشكل فحينئذ يثبت النقض، لأنه إذا كان ذكراً فقد مس عضوه الأصلي، وإذا كان أنثى فقد مس أنثى لكن لشهوة، لأن الأنثى – عندهم – لا ينتقض الوضوء بمسها إلا إذا كان بشهوة. فإذن: هذا مفرع على القول بأن مس المرأة بشهوة ينقض الوضوء. قال: (أو أنثى قبله بشهوة) أتت أنثى ومست قبله بشهوة وهذا غريب أنثى تمس أنثى ويكون ذلك للقبل ويكون بشهوة وهذا من غرائب العلم. قالوا: ينقض الوضوء لأنها إن كانت أنثى حقيقة فقد مست قبلها وهو قبل أنثى أصلي فينتقض به الوضوء. وإن كانت ذكراً فقد مست جزء رجل، ومس جزء الرجل ينتقض به الوضوء إن كان بشهوة فإذن: إذا مس عضوي الخنثى المشكل انتقض الوضوء. وإذا مس الذكر ذكر الخنثى المشكل بشهوة انتقض أيضاً. وإذا مست الأنثى قبل الخنثى المشكل بشهوة انتقض الوضوء بذلك.

وهل يقاس على مس الذكر مس الدبر أي حلقة الدبر؟ قال الحنابلة: نعم – وسيأتي ذكرها – والدليل قوله صلي الله عليه وسلم: (من مس فرجه) ، والفرج يدخل فيه القبل والدبر خلافاً لمذهب مالك ورواية عن الإمام أحمد لعموم الحديث المتقدم. والحمد لله رب العالمين. الدرس التاسع والعشرون (يوم الاثنين: 21 / 11 / 1414 هـ) قال المؤلف رحمه الله: (ومسه امرأة بشهوة أو تمسه بها) هذا هو المشهور في مذهب الحنابلة وأن من مس امرأة بشهوة فإن وضوءه ينتقض بذلك. واستدلوا: بقوله تعالى: {أو لامستم النساء فلم تجدوا ماء فتيمموا صعيداً طيباً} (1) الآية. قالوا: والملامسة هنا هي حقيقة المس، فإذا مس المرأة بشهوة فإنه ينتقض وضوؤه. وقد دلت السنة على أن مطلق المس غير المصحوب بشهوة أنه لا ينقض الوضوء، دل على ذلك ما ثبت في الصحيحين عن عائشة قالت: (كنت أنام بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم وكانت رجلاي في قبلته فإذا سجد غمزني فقبضتها) (2) وفي رواية للنسائي: (مسني برجله) (3)

_ (1) سورة النساء. (2) أخرجه البخاري في كتاب الصلاة، باب التطوع خلف المرأة (513) عن عائشة زوج النبي - صلى الله عليه وسلم - أنها قالت: " كنت أنام بين يدي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ورجلاي في قبلته، فإذا سجد غمزني، فقبضت رجلي، فإذا قام بسطتهما، قالت: والبيوت يومئذ ليس فيها مصابيح "،وأخرجه أيضاً برقم (382) ، وأخرجه مسلم (512) . (3) أخرجه النسائي في كتاب الطهارة، باب ترك الوضوء من مس الرجل امرأته من غير شهوة (166) قال: " أخبرنا محمد بن عبد الله بن الحكم عن شعيب عن الليث قال أنبأنا ابن الهاد عن عبد الرحمن بن القاسم عن القاسم عن عائشة قالت: " إن كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ليصلي وإني لمعترضة بين يديه اعتراض الجنازة حتى إذا أراد أن يوتر مسني برجله ".

قالوا: فهذا الحديث فيه أن النبي صلى الله عليه وسلم قد مس عائشة برجله فلم ينتقض وضوؤه بل ثبت في صلاته ومضى فيها فهذا يدل على أن مطلق المس للمرأة، وهو المس غير المصحوب بالشهوة أنه لا ينقض الوضوء، والآية الكريمة دلت على أن المس ينقض الوضوء، فعلى ذلك تقيد الآية بمس الشهوة للحديث المتفق عليه – هذا هو مذهب الحنابلة -. - وذهب الشافعية - استدلالاً بالآية الكريمة –: إلى أن مس المرأة ناقض للوضوء مطلقاً بشهوة أو بغير شهوة. وأجابوا – عن الحديث المتفق عليه -: بأن هذا المس يحتمل أن يكون فيه بين النبي صلى الله عليه وسلم وبينها حائل، وإذا ثبت الحائل أو الحجاب فإنه لا يثبت الحكم، فحينئذ يبقى الحكم على ما هو عليه؛ لأن هذا هو المس الذي يتعلق به الحكم، فإن المس الذي يتعلق به الحكم الشرعي هو المس المباشر الذي لا يقع فيه الحجاب بين الماس والممسوس. لكن هذا الاحتمال ضعيف، لأن حقيقة المس أن يكون من غير حجاب، بدليل رواية النسائي فإن لفظة: (مسني برجله) . قال شيخ الإسلام – في هذا القول -: " وهذا أضعف الأقوال وليس له أصل في كتاب الله ولا سنة نبيه صلى الله عليه وسلم "، وهذا مما تعم به البلوى – أي مجرد مس المرأة – ولم يصح عن النبي صلى الله عليه وسلم حديث عن وجوب الوضوء عند مس المرأة مطلقاً. ولكن القول بأن مس المرأة بشهوة ينقض الوضوء مع ما سيأتي من تضعيفه فإنه أقوى من القول بأنه ناقض مطلقاً. وذهب أبو حنيفة وهو رواية عن الإمام أحمد اختارها بعض أصحابه كالآجرى – وهو اختيار شيخ الإسلام –: إلى أن مس المرأة لا ينقض مطلقاً لا بشهوة ولا بغيرها. وأجابوا – عن استدلالهم بالآية – بأن المس في الآية إنما هو الجماع. فقوله تعالى: {أو لامستم النساء} أي واقعتموهن جماعاً وليس المراد مطلق المس، وهذا هو قول ابن عباس وعلي بن أبي طالب في تفسير هذه الآية وهو اختيار ابن جرير.

بينما تفسيرها على القول المتقدم هو قول ابن مسعود. قالوا: وسياق الآية يقرر هذا – أي أنه الجماع – فإن الله عز وجل ذكر الوضوء في قوله: {يا أيها الذين آمنوا إذا قمتم إلي الصلاة} (1) إلى أن قال: {وأن كنتم جنباً فاطهروا} فذكر الطهارتين طهارة الوضوء وطهارة الغسل، ثم قال – سبحانه –: {وإن كنتم مرضى أو على سفر أو جاء أحد منكم من الغائط أو لامستم النساء فلم تجدوا ماء فتيمموا صعيداً طيباً} وهذا التيمم بدل عن الطهارتين، عن طهارة الغسل وطهارة الوضوء وذكر الله السبب الأول، في قوله: {أو جاء أحد منكم من الغائط} فهذا حدث أصغر، فإذا فسرنا قوله تعالى {أو لامستم النساء} بالمس الموجب للوضوء فإنه يتعدد السبب لطهارة واحدة، أما الطهارة الأخرى فلا يذكر لها سبباً، والأليق ببلاغة القرآن أن يذكر لكل طهارة سبباً لبيان أن التيمم بدل عن طهارة الوضوء وطهارة الغسل كما دلت علي ذلك السنة. وابن مسعود رضي الله عنه قد فسر الآية بالحدث الأصغر وهو مس المرأة الموجب للوضوء، وهو لم يكن يرى أن التيمم بدل عن الغسل، وإنما كان يرى أنه بدل عن الوضوء فحسب كما ذكر ذلك شيخ الإسلام، لذا فسر الآية بحدث أصغر ولم يفسره بحدث أكبر لأنه لا يعتقد أن الحدث الأكبر يجزئ فيه التيمم. إذن: الراجح في تفسير هذه الآية وهو أصح قولي العلماء كما قال شيخ الإسلام وهو اختيار ابن جرير وقول ابن عباس أن قوله تعالى: {أو لامستم النساء} المراد به الجماع والقرآن يكني عن الجماع بالمس، كما في قوله تعالى {وإن طلقتموهن من قبل أن تمسوهن} (2) وليس المراد إجماعاً مجرد المس، وإنما مراده الجماع الحقيقي.

_ (1) سورة المائدة. (2) سورة البقرة.

وكني عنه بالمباشرة مع أن حقيقة المباشرة ما دون الجماع لكن قد كني بها في القرآن عن الجماع، كما قال تعالى في سورة البقرة: {ولا تباشروهن وأنتم عاكفون في المساجد} (1) أي لا تجامعوهن والمباشرة قد دلت السنة على جوازها (2) ، إذن المراد بالمس في الآية: الجماع.

_ (1) سورة البقرة. (2) لعل المراد المباشرة للصائم، وأما المعتكف فقد قال ابن كثير رحمه الله في تفسيره [1 / 213] : " المراد بالمباشرة إنما هو الجماع ودواعيه من تقبيل ومعانقة ونحو ذلك، فأما معطاهة الشيء ونحره فلا بأس ".

وقد روى أحمد وأبو داود والترمذي وابن ماجه من حديث حبيب بن أبي ثابت (1) عن عروة عن عائشة قالت: (كان النبي صلى الله عليه وسلم يقبل بعض نسائه ثم يصلي ولا يتوضأ) (2)

_ (1) قال في التقريب: " حبيب بن أبي ثابت: قيس، ويقال: هند بن دينار الأسدي، مولاهم، أبو يحيى الكوفي ثقة فقيه جليل، وكان كثير الإرسال والتدليس، من الثالثة، مات سنة تسع عشرة مئة / ع " (2) أخرجه أبو داود في باب الوضوء من القبل من كتاب الطهارة (179) قال: " حدثنا عثمان بن أبي شيبة حدثنا وكيع، حدثنا الأعمش عن حبيب عن عروة عن عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم قبّل امرأة من نسائه ثم خرج إلى الصلاة ولم يتوضأ " قال عروة فقلت لها: منهي إلا أنت؟ فضحكت ". قال أبو داود: ورُوي عن الثوري قال: ما حدثنا حبيب إلا عن عروة المزني، يعني لم يحدثهم عن عروة بن الزبير بشيء " وقال أبو داود: " وقد روى حمزة الزيات عن حبيب عن عروة بن الزبير عن عائشة حدثاً صحيحاً ". سنن أبي داود [1 / 124] . وأخرجه الترمذي في باب ما جاء في ترك الوضوء من القبلة من كتاب الطهارة (86) قال: حدثنا قتيبة وهنّاد وأبو كريب وأحمد بن منيع ومحمود بن غَيلان وأبو عمّار الحسين بن حُريث قالوا: حدثنا وكيع عن الأعمش عن حبيب بن أبي ثابت عن عروة عن عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم قبّل.. " قال أبو عيسى: " وقد رُوي نحو هذا عن غير واحد من أهل العلم من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم والتابعين، وهو قول سفيان الثوري وأهل الكوفة، قالوا: ليس في القبلة وضوء، وقال مالك بن أنس والأوزاعي والشافعي وأحمد وإسحاق: في القبلة وضوء، وهو قول غير واحد من أهل العلم من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم والتابعين، وإنما ترك أصحابنا حديث عائشة عن النبي صلى الله عليه وسلم في هذا؛ لأنه لا يصح عندهم لحال الإسناد، قال: وسمعت أبا بكر العطّار البصري يذكر عن علي بن المديني قال: ضعّف يحيى بن سعيد القطان هذا الحديث جداً، وقال: هو شبه لا شيء، قال: وسمعت محمد بن إسماعيل يضعّف هذا الحديث وقال: حبيب بن أبي ثابت لم يسمع من عروة. وقد رُويَ عن إبراهيم التيمي عن عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم قبّلها ولم يتوضأ، وهذا لا يصح أيضاً ولا نعرف لإبراهيم التيمي سماعاً من عائشة، وليس يصح عن النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الباب شيء ". وأخرج النسائي في كتاب الطهارة، باب ترك الوضوء من القبلة (170) قال: " أخبرنا محمد بن المثنى عن يحيى بن سعيد عن سفيان قال أخبرني أبو رَوْق عن إبراهيم التيمي عن عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقبل بعض أزواجه ثم يصلي ولا يتوضأ "، لكن قال أبو داود [1 / 124] : " إبراهيم التيمي لم يسمع من عائشة شيئاً ". فالله أعلم. وأخرجه ابن ماجه في كتاب الطهارة، باب الوضوء من القبلة (502) . ولم أجده في المسند - طبعة بيت الأفكار - بعد البحث في فهرس الأحاديث والرواة.

قال الراوي ما أظنها إلا أنت فضحكت ". وهذا الحديث قد استدل به من يرى أن مس المرأة لا ينقض الوضوء مطلقاً، لأن القبلة لا تكون في الغالب إلا بشهوة من الزوج. والحديث صححه ابن عبد البر وابن جرير، لكن أكثر الحفاظ قد ضعفوه، وقد ضعفوه بعلتين: 1 - العلة الأولى: أنه من حديث حبيب بن أبي ثابت عن عروة قالوا: ولم يسمع من عروة، كما قال البخاري. وأجيب عن ذلك: بأن حبيباً قد روى عن طبقة الصحابة كأنس بن مالك وغيره ممن هو أكبر من عروة وأقدم منه موتاً، وقد قال ابن عبد البر: (لا شك أنه لقي عروة) فإذا ثبت أنه لقي أنس بن مالك وهو أقدم منه موتاً فأولى أن يكون قد لقي عروة. 2 - العلة الثانية: قالوا: ليس هو عروة بن الزبير وإنما هو عروة المزني وهو مجهول، لكن الجواب واضح، فيقال: كيف يتجرأ عروة المزني وهو مجهول ليس من الثقات لذا ضعف به هذا الحديث، لا يمكن أن يتجرأ على أم المؤمنين عائشة. بخلاف عروة بن الزبير فإنه ابن أسماء بنت أبي بكر أخت عائشة فعائشة خالته. فعلى ذلك تضعيف هذا السند غير وارد، فالصحيح أن هذا الحديث إسناده صحيح. ومع ذلك فقد ورد من حديثها من عشرة طرق عن عائشة وله شواهد. فعلى ذلك: لو سلم بتضعيف هذا السند فإن له عشرة أوجه عن عائشة، وله شواهد، فالحديث صحيح. وهو مبق على الأصل – فإن الأصل أن المس غير ناقض للوضوء – والآية الكريمة قد تقدم ترجيح أن المراد بالمس الجماع وليس مجرد مس المرأة. والراجح أن مس المرأة لا ينقض الوضوء. ولكن: إذا كان إذا كان بشهوة فيستحب له أن يتوضأ كما قرر هذا شيخ الإسلام قياساً على الوضوء عند الغضب بجامع أن الغضب والشهوة من الشيطان، فيستحب له أن يتوضأ من الشهوة كما يستحب له أن يتوضأ من الغضب. وعلى القول بأن مس المرأة ناقض للوضوء إن كان بشهوة تتفرع هذه المسائل: منها: قوله: (أو تمسه بها) :

إذا مست المرأة الرجل بشهوة فإن الوضوء ينتقض؛ لأن النساء شقائق الرجال، فما ثبت للرجال فهو ثابت للنساء إلا أن يدل دليل على تخصيص الرجال به. فعلى ذلك: المرأة إذا مست الرجل وقلنا: بأن مس المرأة ناقض للوضوء - كما هو مذهب الحنابلة - فإنه ينتقض وضوؤها. أما إذا قلنا: بأن مس المرأة غير ناقض فكذلك إذا مست المرأة رجلاً. وقوله: (ومس حلقة دبر) تقدم الكلام على هذا في الدرس السابق. وقوله: (لا مس شعر وظفر) الشعر والظفر ومثل ذلك السن في حكم المنفصل، فإذا مس من المرأة شعرها أو ظفرها أو سنها بشهوة فإن الوضوء لا ينتقض بذلك. وهذا في الحقيقة على إطلاقه محل نظر، فإنا لو قلنا بأن مس المرأة ناقض للوضوء إن كان بشهوة فإنه إذا مس شيئاً من أجزائها المذكورة مما يورث الشهوة وإن كان في حكم المنفصل فإن الحكم باق. فإذا مس شعرها أو شيئاً من بدنها بشهوة فإنه ينتقض وضوؤه. إذن الحنابلة وهم القائلون بأن مس المرأة بشهوة ناقض للوضوء استثنوا ما هو في حكم المنفصل كظفرها وشعرها. وعلى الترجيح المتقدم نقول: إن مس المرأة كلها ليس بناقض. ولكن على تسليم ما ذهب إليه الحنابلة فإن إطلاق ذلك فيه نظر، فإن مس الشعر قوي مؤثر فهو قريب من مس شيء من بدنها، فإذا قلنا بنقض الوضوء إذا مسها بشهوة فينبغي أن نقول بنقض مس الشعر بشهوة، لكن الراجح أن مس المرأة غير ناقض مطلقاً. قوله: (وأمرد) الأمرد: هو من اخضرَّ أو طرَّ - أي اخضرَّ - شاربه ولم تنبت لحيته، فإذا مس الأمرد فإنه لا ينتقض وضوؤه. قالوا: لأنه ليس محلاً للشهوة.

وهذا التعليل ضعيف، فإن الله قد ذكر أنه من أعظم المعاصي وأن طائفة من الناس قد ابتلوا بشهوة المعصية وحب التشهي بمثل ذلك كما قال تعالى: {أتأتون الذكران من العالمين وتذرون ما خلق لكم ربكم من أزواجكم} (1) فعلى ذلك متى أورث مسه شهوة، وقلنا إن مس المرأة بشهوة ناقض للوضوء – فمثله كذلك مس الأمرد – ولكن الصحيح أن مس المرأة لا ينقض مطلقاً فكذلك مس الأمرد. ولا شك أن مسه محرم إذا كان بشهوة وهذا بإجماع العلماء. كما أن النظر إليه بشهوة محرم أيضاً. أما النظر بغير شهوة فإنه مباح. فإ ن كان النظر يخشى منه أن يورث شهوة فحينئذ قولان في مذهب الحنابلة: القول الأول: إنه ليس بمحرم. القول الثاني: إنه محرم، وهو أصح واختاره شيخ الإسلام؛ لأنه ذريعة إلى محرم، والشريعة قد أتت بسد الذرائع. قوله: (ولا مع حائل) إذا كان هناك حجاب أو حائل بينه وبين المرأة التي قد مسها فإنه لا ينتقض الوضوء، بل لا ينتقض إلا بمسها مباشرة من غير حائل. وهذا على القول بأن مس المرأة ناقض، والراجح خلافه كما تقدم. قوله: (ولا ملموس بدنه ولو وجد منه شهوة) الملموس بدنه قالوا: لا ينتقض وضوؤه بذلك، لأن اللامس الشهوة فيه أشد، فعلى ذلك لا يقاس الملموس بدنه باللامس لأن الشهوة في اللامس أشد. وهذا فيه نظر، فإنها وإن سلم أنها أشد لكن الشهوة قد ثبتت ووقعت باللمس، فالقياس الصحيح أن يقال: بأن الملموس كذلك إذا لمس وثارت شهوته باللمس فإنه بذلك ينتقض وضوؤه، فإذا مس الرجل امرأة بشهوة – وقلنا بانتقاض الوضوء بمس المرأة – فكذلك ينتقض وضوء المرأة إن أحدث بها ذلك شهوة. ولكن كما تقدم الراجح خلاف هذا كله ولكن هذا الترجيح لبيان ضعف هذه العلة المذكورة. وأنّا متى قلنا بأن مس المرأة ناقض للوضوء فإن علينا ألا نفرق بين لامس وملموس. قال: (ولو وجد منه شهوة)

هنا (لو) إشارة إلى وجود خلاف، فقد ذهب الإمام أحمد في إحدى الروايتين عنه، والإمام الشافعي في أحد قوليه: إلى أن الملموس بدنه إذا ترتب على هذا المس شهوة فإنه ينتقض وضوؤه، وهو الراجح كما تقدم تعليله، فلا فرق بين لامس وملموس فقد ثبت المس وثبتت الشهوة والقياس يقتضي ذلك. ولا فرق بين مس امرأة أجنبية أو ذات محرم، فإذا مس ذات المحرم بشهوة وقلنا بأن المس بشهوة ينقض الوضوء فلا فرق بين أن تكون أجنبية أو غير أجنبية، ولا فرق بين صغيرة وكبيرة ولا فرق بين حية وميتة؛ لأن الأمر معلق بالشهوة، لأن الحكم يدور مع علته وجوداً وعدماً. لكن – كما تقدم – كل هذه التفريعات على القول بأن مس المرأة ناقض للوضوء إذا كان بشهوة. والحمد لله رب العالمين. الدرس الثلاثون (يوم الثلاثاء: 22 / 11 / 1414 هـ) قال المؤلف رحمه الله: (وينقض غسل ميت) هذا من مفردات المذهب وقال بهذا القول إسحاق بن راهويه: وأن من غسل ميتاً أي باشر غسله سواء كان ذلك من حائل أو لم يكن من حائل ولكنه هو الذي يقلبه بالتغسيل فإنه ينتقض وضوؤه، بخلاف من يصب الماء فإنه لا يتوفر فيه ذلك فلا ينتقض وضوؤه. إذن المراد من باشر الغسل ولو كان ذلك عن قميص فإن الوضوء ينتقض بذلك. واستدلوا: بما رواه البيهقي عن ابن عباس أنه سُئل هل على من غسل ميتاً غسل فقال: (أنجستم ميتكم يكفي فيه الوضوء) (1) ، ونحوه عن ابن عمر في البيهقي. قالوا: ولا يعلم لهما مخالف فيكون قولهم حجة. - وذهب الجمهور: إلى أن غسل الميت ليس بناقض للوضوء، واختار هذا الموفق وشيخ الإسلام.

_ (1) السنن الكبرى للبيهقي [1 / 456] بلفظ: " أنجستم صاحبكم يكفي منه الوضوء ".

واستدلوا: بما رواه الحاكم في مستدركه بإسناد حسن وقد حسنه الحافظ ابن حجر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ليس عليكم في غَسْل ميتكم غُسْل [إذا غسلتموه] ، فإن ميتكم ليس بنجس فحسبكم أن تغسلوا أيديكم) (1) . قالوا: والأصل ثبوت الطهارة وبقاؤها، وما ورد عن ابن عباس وابن عمر لا يتعين أن يكون ذلك للوجوب حتى نبقى على هذا الأصل، ويقوي هذا الأصل الحديث المتقدم وفيه: (فحسبكم أن تغسلوا أيديكم) (2) . وهذا القول هو الراجح. ومع ذلك فإنه يستحب أن يتوضأ لما تقدم من الآثار قال شيخ الإسلام: " وأما الاستحباب فمتوجه ظاهر ". ومثل ذلك الغسل من غسل الميت، فكذلك لا يجب وإنما يستحب، وقد روى الخمسة من حديث أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من غَسل ميتاً فليغتسل ومن حمله فليتوضأ) (3) والحديث صحيح، وقد أعله بعض الحفاظ بالوقف لكن الحديث له طرق كثيرة حتى ذكر ابن القيم أن له أحد عشر طريقاً عن النبي صلى الله عليه وسلم وقال: " وهذه الطرق تدل على أنه محفوظ ". قال الخطابي: " ولا أعلم أحداً من الفقهاء قال بوجوب الغُسل من غَسل الميت ولا بالوضوء من حمله ويشبه أن يكون ذلك للاستحباب ".

_ (1) أخرجه الحاكم في مستدركه في كتاب الجنائز [1 / 386] وقال: " صحيح على شرط البخاري، ولم يخرجاه " ورواه البيهقي [1 / 457] موقوفاً على ابن عباس وقال: " وروي مرفوعاً ولا يصح رفعه ". (3) أخرجه أبو داود في كتاب الجنائز، باب في الغسل من غسل الميت (3161) ، والترمذي في كتاب الجنائز، باب ما جاء في الغسل من غسل الميت (993) ، وابن ماجه في كتاب الجنائز باب (8) ما جاء في غسل الميت (1463) ، وأحمد: 2 / 280، 433، 454، 472، و 4 / 346، سبل السلام [1 / 144] .

وما قاله هو الذي تدل عليه آثار الصحابة: فقد روى الدارقطني بإسناد صحيح عن ابن عمر قال: " كنا نغسل الميت فمنا من يغتسل ومنا من لا يغتسل " (1) . وروى مالك في موطئه بإسناد صحيح: " أن أسماء بنت عميس لما غسلت أبا بكر سألت الصحابة وفيهم المهاجرون والأنصار هل عليَّ من غسل؟ فقالوا: لا " (2) . وقد تقدم الحديث الذي فيه: (ليس عليكم في غسل ميتكم غسل [إذا غسلتموه] فإن ميتكم ليس بنجس، فحسبكم أن تغسلوا أيديكم) . إذن: لا يجب بغسل الميت الغسل ولا الوضوء، وإنما يستحب، فيستحب لمن غسل الميت أو أعان في غسله بالمباشرة أن يغتسل أو يتوضأ ولا يجب عليه ذلك، وهذا هو مذهب جمهور أهل العلم. قوله: (وأكل اللحم خاصة من الجزور) الجزور هو: الأنثى أو الذكر من الإبل جمعه جُزُر، وهذا القول هو المشهور في المذهب وأن أكل لحم الجزور ينقض الوضوء، وهو مذهب أهل الحديث، وهو مذهب عامة الصحابة كما روى ابن أبي شيبة بإسناد صحيح عن جابر بن سمرة قال: (كنا نتوضأ من لحوم الإبل ولا نتوضأ من لحوم الغنم) (3) ولا يصح نسبة خلاف ذلك إلى الخلفاء الراشدين - كما ذكر ذلك النووي وغيره -، وإنما روي عنهم عدم الوضوء مما مست النار، وهذا عام في الإبل وغيرها، فالآثار إن صحت عنهم – فهي أنهم كانوا لا يتوضئون مما مست النار - وهذا مذهب عامة الصحابة كما تقدم، وهو مذهب أحمد وإسحاق، وذهب إليه بعض الشافعية كالنووي والبيهقي والإمام ابن خزيمة، ومن المالكية ابن العربي ويحيى بن يحيى، بل قال الشافعي: " إن صح الحديث قلت به ".

_ (2) أخرجه مالك في الموطأ، كتاب الجنائز، باب غسل الميت (521) بلفظ: " عن عبد الله بن أبي بكر أن أسماء بنت عُميس غسّلت أبا بكر الصديق حين تُوفي، ثم خرجتْ فسألت من حضرها من المهاجرين فقالت: إني صائمة، وإن هذا يومٌ شديد البرد، فهل عليّ من غُسْل؟ فقالوا: لا ".

واستدلوا: بحديثين صحيحين – صححهما أحمد وإسحاق وغيرهما -: الحديث الأول: ما رواه مسلم في صحيحه: (أن رجلاً سأل النبي صلى الله عليه وسلم: أأتوضأ من لحوم الغنم، قال: إن شئت فتوضأ وإن شئت فلا تتوضأ، قال: أتوضأ من لحوم الإبل؟ قال: نعم فتوضأ من لحوم الإبل، قال: أصلي في مرابض الغنم قال: نعم قال: أصلي في مبارك الإبل؟ قال: لا) (1) الحديث الثاني: ما رواه أحمد وأبو داود والترمذي – والحديث تقدم تصحيح أحمد وإسحاق وغيرهما له –عن البراء بن عازب أن النبي صلى الله عليه وسلم: (سُئل عن الوضوء من لحوم الإبل فقال: (توضؤوا منها) وسُئل عن الوضوء من لحوم الغنم، فقال: (لا تتوضئوا منها) (2) . فهذان الحديثان يدلان على وجوب الوضوء من لحوم الإبل. فإن قيل: أولا يحمل الأمر على الاستحباب؟ فالجواب: أن الأصل في الأمر الوجوب، لكن قد يكون هذا أنه أتى جواباً لسؤال، ولكن مع ذلك هناك قرينة في الحديث تدل على أن الأمر للوجوب، وهي: أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى الله عليه وسلم (سئل عن الوضوء من لحوم الغنم فقال: (إن شئت فتوضأ وإن شئت فلا تتوضأ) ، والوضوء من لحوم الغنم مستحب.

_ (1) أخرجه مسلم بنفس اللفظ في كتاب الحيض، صحيح مسلم بشرح النووي [4 / 48] . (2) أخرجه أبو داود في كتاب الطهارة، باب الوضوء من لحوم الإبل (184) قال: " حدثنا عثمان بن أبي شيبة، حدثنا أبو معاوية، حدثنا الأعمش عن عبد الله بن عبد الله الرازي، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى عن البراء بن عازب قال: سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الوضوء من لحوم الإبل، فقال: (توضؤوا منها) وسئل عن لحوم الغنم فقال: (لا توضؤوا منها) ، وسئل عن الصلاة في مبارك الإبل.. " وأخرجه الترمذي برقم 58 مختصراً، وابن ماجه برقم 494 مختصراً. سنن أبي داود [1 / 128] .

فقد ثبت في مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (توضؤا مما مست النار) (1) وهذا الحديث ظاهره وجوب الوضوء من لحوم الغنم ونحوه مما مست النار.

_ (1) أخرجه مسلم في كتاب الحيض، باب الوضوء مما مست النار (351) : أن خارجة بن زيد الأنصاري أخبره أن أباه زيد بن ثابت قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (الوضوء مما مست النار) . وبلفظ (352) : أن عبد الله بن إبراهيم بن قارظ أخبره أنه وجد أبا هريرة يتوضأ على المسجد، فقال: إنما أتوضأ من أثوار أقط أكلتها، لأني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (توضؤوا مما مست النار) ، وبلفظ (353) : فقال عروة: سمعت عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم تقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (توضؤوا مما مست النار) .

لكن ثبت في الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم: (أكل من كتف شاة ولم يتوضأ) (1) وهذا يدل على أن الوضوء مما مست النار من لحوم الغنم ونحوها ليس بواجب، لذا قال جابر كما في سنن أبي داود والنسائي: (كان آخر الأمرين من النبي صلى الله عليه وسلم ترك الوضوء مما مست النار) (2) أي عدم الإلزام به والإيجاب، بحيث أنه كان يتوضأ ويأمر أصحابه بذلك ثم لم يتوضأ أي بالفعل وإلا فقد بقي استحباب ذلك كما هو اختيار شيخ الإسلام.

_ (1) أخرجه البخاري في كتاب الوضوء، باب من لم يتوضأ من لحم الشاة والسويق (207) ، ومسلم في كتاب الحيض، باب نسخ الوضوء مما مست النار بلفظ: " عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أكل كتف شاة ثم صلى ولم يتوضأ ". (2) أخرجه أبو داود في كتاب الطهارة، باب ترك الوضوء مما مست النار (192) قال: " حدثنا موسى بن سهل أبو عمران الرملي، حدثنا علي بن عياش حدثنا شعيب بن أبي حمزة، عن محمد بن المنكدر، عن جابر قال: " كان آخر الأمرين من رسول الله صلى الله عليه وسلم ترك الوضوء مما غيّرت النار "، والنسائي في كتاب الطهارة، باب ترك الوضوء مما غيرت النار (185) . وأخرج البخاري في كتاب الأطعمة، باب المنديل (5457) : عن سعيد بن الحارث عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما: أنه سأله عن الوضوء مما مست النار؟ فقال: لا، قد كنا زمان النبي صلى الله عليه وسلم لا نجد مثل ذلك من الطعام إلا قليلاً، فإذا نحن وجدناه لم يكن لنا مناديل إلا أكفنا وسواعدنا وأقدامنا، ثم نصلي ولا نتوضأ ".

إذن: الوضوء من لحوم الغنم مستحب، والنبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن شئت فتوضأ وإن شئت فلا تتوضأ) أي هذا ليس بواجب عليك، وأما لحوم الإبل فقال: (نعم فتوضأ من لحوم الإبل) ولم يكتف النبي صلى الله عليه وسلم بأن قال: (نعم) كما قال ذلك في قوله: (أصلي في مرابض الغنم) ، أما هنا فقال: (نعم فتوضأ من لحوم الإبل) فأجابه ثم أن أنشأ أمراً بالوضوء من لحوم الإبل. وقد تقدم قول الشافعي وأنه إن صح الحديث فهو مذهبه ولم يكن منه – رحمه الله – التوقف في دلالته، وكذلك غيره من الأئمة. وإنما من قال بخلافه من الأئمة، فإنما قال بالنسخ وأما التوقف في دلالته فليس هناك أي أحد من الأئمة. - وذهب جمهور أهل العلم: إلى أنه لا يجب الوضوء من لحوم الإبل. واستدلوا: بحديث جابر قال: (كان آخر الأمرين من النبي صلى الله عليه وسلم ترك الوضوء مما مست النار) . قالوا: ولحوم الإبل مما مست النار، فآخر الأمرين ترك الوضوء مما مست النار وهي منها ولكن هذا ضعيف، لأن هذا عام، فآخر الأمرين ترك الوضوء مما مست النار، مطلق في لحوم الغنم والبقر وغيرها. وأما الحديث الذي نستدل به فهو حديث خاص فحينئذ: يخصص به هذا العموم المتقدم. ثم إن جابراً إنما يحكي فعل النبي صلى الله عليه وسلم المتقدم من أكله من لحم ولم يتوضأ، وهو لحم شاة كما تقدم. والراجح: هو القول الأول وأن لحم الجزور ناقض للوضوء، وهذا هو أصل المسألة. وقوله: (وأكل اللحم خاصة) هذا هو المشهور في المذهب وأن اللحم خاصة وهو الأحمر أو الأبيض هو الناقض للوضوء، أما ما يكون على الرأس والطحال والكبد وغيرها فهذا ليس من اللحم فلا ينقض الوضوء.

فاللحم وهو الأحمر من الإبل والبقر والغنم ونحوها، والأبيض من الطير ونحوه، وهو ما يسمى بالهبر (1) ، فدخول اللحم في النقض هذا لا شك فهو داخل قطعاً. أما غير اللحم كالكبد والطحال والكرش والمصران والمرق ونحوه ففيه قولان: القول الأول: أنه ليس بناقض، لأن النص ورد في اللحم خاصة وأما غيره فلا يدخل فيه. القول الثاني: أنه ليس خاصاً باللحم، بل عام فيه وفي غيره مما يؤكل من الإبل، فيدخل في ذلك المرق والدهن وغيره. واستدلوا: بأن الشارع لما حرم لحم الخنزير دخل في ذلك كل أجزائه من شحم ونحوه، كما ورد في الأحاديث الصحيحة وكما قام على ذلك الإجماع، وإنما نص النبي صلى الله عليه وسلم على اللحم؛ لأن هذا أكثره وأغلبه فعلى ذلك: يكون جملة ناقض ثم إنه يتغذى بدم واحد، وهذا هو القول الراجح، وهو اختيار الشيخ عبد الرحمن السعدي. إذن: كله ناقض للوضوء، فكل ما يطعم من الإبل فهو ناقض للوضوء. * أما ألبان الإبل: فيها قولان في المذهب: القول الأول: وهو المشهور في المذهب إنها لا تنقض الوضوء.

_ (1) قال في اللسان [5 / 247] : " الهَبْرُ: قطع اللحم، والهَبْرَة: بضعة من اللحم أو نَحْضَة لا عظم فيها، وقيل: هي القطعة من اللحم إذا كانت مجتمعة.. "

القول الثاني: إنها تنقض، واستدلوا بما رواه ابن ماجة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا توضؤا من ألبان الغنم وتوضؤا من ألبان الإبل) (1) لكن الحديث إسناده ضعيف لا يثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم. وأما أهل القول الأول: فقالوا: إنما نص النبي صلى الله عليه وسلم على اللحم وأما اللبن فليس في معناه، ونحن نقول في معناه الكبد ونحوه ولكن اللبن ليس بمعناه. كما أن النبي صلى الله عليه وسلم لما أمر العرنيين أن يشربوا من ألبان الإبل لم يأمرهم أن يتوضؤوا، ولا يجوز تأخير البيان عن وقت الحاجة. وهذا القول هو الراجح، وأن من شرب لبن الإبل فإنه لا يجب عليه الوضوء. وهل يقاس على الإبل غيرها أم لا؟ هذا ينبني على العلة، فما هي العلة التي جعلت الوضوء ينتقض بأكل لحم الإبل؟ المشهور في المذهب: أنها تعبدية، بمعنى: لا يدرى معناها.

_ (1) أخرجه ابن ماجه في كتاب الطهارة، باب ما جاء في الوضوء من لحوم الإبل (496) قال: " حدثنا أبو إسحاق الهروي إبراهيم بن عبد الله بن حاتم، حدثنا عبّاد بن العوّام عن حجاج عن عبد الله بن عبد الله مولى بني هاشم وكان ثقة وكان الحكم يأخذ عنه، حدثنا عبد الرحمن بن أبي ليلى عن أسيد بن حضير قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا تتوضؤوا من ألبان الغنم، وتوضؤوا من ألبان الإبل ". والحجاج هو ابن أرطاة وهو ضعيف.

وذهب بعض أهل العلم إلى أن العلة: أن أكل لحم الإبل يورث قوة شيطانية فيطفأ بالماء، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم – كما في مسند أحمد وسنن أبي داود – والحديث لا بأس به: (إن الغضب من الشيطان، وإن الشيطان خلق من نار وإنما تطفأ النار بالماء فإذا غضب أحدكم فليتوضأ) (1) فقد شرع النبي صلى الله عليه وسلم الوضوء من الغضب، وهنا لحم الإبل يورث قوة شيطانية لأنها خلقت من شياطين، فقد ثبت في المسند وأبي داود والترمذي والحديث صحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا تصلوا في مبارك الإبل فإنها من الشياطين) (2) أي خلقت منها، وهو ثابت مصرح به كما في سنن ابن ماجة بإسناد صحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إنها خلقت من شياطين) (3)

_ (1) أخرجه أبو داود، باب ما يقال عند الغضب من كتاب الأدب (4784) قال: " حدثنا بكر بن خلف والحسن بن علي، المعنيّ، قالا: حدثنا إبراهيم بن خالد، حدثنا أبو وائل القاص، قال: دخلنا على عروة بن محمد السعدي، فكلمه رجل فأغضبه، فقام فتوضأ،ثم رجع وقد توضأ، فقال: حدثني أبيعن جدي عطية قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن الغضب من الشيطان، وإن الشطان خُلق من النار، وإنما تطفأ النار بالماء، فإذا غضب أحدكم فليتوضأ) . (2) أخرجه أبو داود في كتاب الصلاة، باب النهي عن الصلاة في مبارك الإبل (493) ، وفي باب الوضوء من لحوم الإبل من كتاب الطهارة (184) . وأخرجه الترمذي في باب ما جاء في الصلاة في مرابض الغنم وأعطان الإبل (348) مختصراً بلفظ: عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (صلوا في مرابض الغنم ولا تصلوا في أعطان الإبل) . (3) أخرجه ابن ماجه في كتاب المساجد، باب الصلاة في أعطان الإبل ومُرَاح الغنم (768) قال: " حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة حدثنا هُشيم عن يونس عن الحسن عن عبد الله بن مغفل المُزني قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (صلوا في مرابض الغنم ولا تصلوا في أعطان الإبل فإنها خلفت من الشياطين) .

فعلى ذلك أمر الشارع بالوضوء من لحمها لما يورث من قوة شيطانية فعلى ذلك يقاس عليها ما كان فيه هذا الوصف كالسباع ونحوها، كما قال شيخ الإسلام، فما كان فيه هذه القوة الشيطانية كما يكون في السباع ونحوها فإنه يقاس عليه في هذا الحكم، فمن أكله مضطراً فإنه يجب عليه الوضوء. قوله: (وكل ما أوجب غسلاً أوجب وضوءاً إلا الموت) هذه قاعدة، فكل ما أوجب غسلاً أوجب وضوءاً. [فـ]ـالحيض والنفاس وخروج المني والكافر أو المرتد إذا أسلم، فهذه توجب الغسل، وهي كذلك توجب الوضوء، لأنها لما أوجبت الطهارة الكبرى فيلزم من ذلك أن توجب الطهارة الصغرى، فعلى ذلك: إذا أرادت المرأة أن تغسل عن الحيض مثلاً، فلا يكفي لها لكي تصلي بهذا الغسل، لا يكفي أن تنوي رفع الحدث الأكبر المتمثل بالحيض، بل يجب عليها أن تنوي رفع الحدث الأصغر – إذا أرادت أن تصلي بعد الغسل –. ومثلاً: رجل دخل في الإسلام، فاغتسل ولم ينو رفع الحدث الأصغر، فإن هذا الغسل لا يجزئه فلا يستطيع أن يصلي به؛ لأنه لم ينو رفع الحدث الأصغر، لكنه يسقط عنه وجوب الغسل عند الدخول في الإسلام. ولو أن جنباً اغتسل بنية رفع الحدث الأكبر ولم ينو رفع الحدث الأصغر فإنه لا يحل له أن يصلي بهذا الغسل. فالقاعدة عندهم: أن كل ما أوجب غسلاً فإنه يوجب وضوءاً ومن ذلك الردة – فهي عندهم من نواقض الوضوء – واستدلوا بقوله تعالى: {لئن أشركت ليحبطن عملك} (1) - وجمهور أهل العلم: على أن من ارتد عن الإسلام ثم عاد إليه فإنه لا ينتقض وضوؤه بذلك، لأن الوضوء عمل، والعمل لا يحبط إلا بالموت على الكفر كما قال تعالى: {ومن يرتدد منكم عن دينه فيمت وهو كافر فأولئك حبطت أعمالهم} (2) فالأعمال الصالحة لا تحبط إلا بالموت على الكفر فالمرتد يبقى عمله فإذا مات على الكفر حبطت وبطلت.

_ (1) سورة الزمر (65) (2) سورة البقرة (217) .

فإذا حج ثم ارتد، ثم عاد فإن حجه يجزئ عنه. وهذا القيد تقيد به الآية المتقدمة: {لئن أشركت ليحبطن عملك} ، وهذا القول هو الراجح فالردة لا تبطل الوضوء فلو أن رجلاً تلفظ بلفظ يكفر به ثم استتيب فتاب وهو متوضئ قبل ذلك فوضوؤه لا ينتقض بذلك. فالقاعدة: عند الحنابلة أن كل ما يوجب غسلاً فإنه يوجب وضوءاً إلا الموت، فإنه يوجب الغسل أما الوضوء فلا يجب أن يتوضأ بل يكفي تغسيله. ولعل ذلك: إما لكون النية منتفية في حق الميت فلا يمكن أن ينوي – ولم أر لهم تعليلاً –. ولعل ذلك – وهذا أظهر – لكون الغسل للميت ليس عن رفع حدث، فليس عليه حدث، بل وجب عليه الوضوء بسبب الموت، وإنما هو غسل واجب ليس عن حدث، لعل هذه العلة لاستثناء ذلك. إذن: الموت لا يشترطون فيه ذلك. فإن قلنا: إن نية الغاسل تكفي، فإنه لا يشترط أن ينوي توضيئه؛ لأن ذلك ليس عن حدث. والراجح في هذه المسألة كلها أن الوضوء لا يجب، فإن من وجب عليه الغسل فلا يجب عليه الوضوء. ذلك: لأن الشارع قال سبحانه وتعالى: {وإن كنتم جنباً فاطهروا} (1) أي الطهارة الكبرى، ولم يأمرنا بالوضوء ولم يثبت دليل صحيح يوجب ذلك. فعلى ذلك: الصحيح أن من اغتسل من الجنابة مثلاً فإن ذلك يجزئ عنه في رفع الحدث الأصغر وإن لم ينوه؛ لأن الحدث الأصغر داخل في الحدث الأكبر فإذا ارتفع الحدث الأكبر فقد ارتفع الحدث الأصغر – هذا من حيث المعنى –. وأما من حيث الدليل: فإن الشارع لم يوجب الوضوء على من وجب عليه الغسل، وإيجاب ذلك يحتاج إلى دليل صحيح. إذن القاعدة المتقدمة فيها نظر، والأظهر أن الغسل هو الواجب فقط، فمن نوى رفع الحدث الأكبر فذلك يجزئ عنه. والحمد لله رب العالمين الدرس الحادي والثلاثون (يوم الأربعاء: 23 / 11 / 1414 هـ)

قال المؤلف رحمه الله: (ومن تيقن للطهارة وشك في الحدث أو بالعكس بنى على اليقين، فإن تيقنهما وجهل السابق فهو بضد حاله قبلهما) فإذا تيقن أنه على وضوء ثم شك هل انتقض وضوؤه أم لا؟ إذن الوضوء متيقن منه، والحدث مشكوك فيه أو العكس بأن يتيقن الحدث ثم شك هل توضأ أم لا لم يتوضأ؟ فهنا الحدث متيقن، والوضوء مشكوك فيه، ومثل ذلك في الغسل. وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (فلا ينصرف حتى يسمع صوتاً أو يجد ريحاً) (1) وهذا دليل على القاعدة المشهورة عند أهل العلم وهي: (أن اليقين لا يزول بالشك) . إذن: يجب عليه أن يبني على اليقين فإذا كان المتيقن أنه متوضئ، والمشكوك فيه أنه محدث فهو متوضئ، وإن كان العكس فهو محدث. وقوله: (فإن تيقنهما وجهل السابق فهو بضد حاله قبلهما) : أي تيقن أنه توضأ وتيقن أنه أحدث، ولكن جهل السابق منهما، لأنه إذا علم السابق من المتأخر فلا إشكال، فإذا علم أن الحدث هو المتأخر فهو محدث وإن علم أن الوضوء هو المتأخر فهو متوضئ. ولكنه قد جهل السابق أو الآخر، فلا يدري أيهما السابق، وهنا قد علم حاله قبلهما. مثال: رجل صلى الفجر ثم جلس يذكر الله وهو على طهارة ثم بعد طلوع الشمس تيقن حدثاً وتيقن وضوءاً فما الحكم؟ قالوا: بضد حاله قبلهما بمعنى: ننظر على أي حال كنت سابقاً، هؤلاء – أي اليقين واليقين – قد تعارضا فتساقطا، فما هي حالك قبل ذلك؟

_ (1) أخرجه البخاري في كتاب الوضوء، باب من لا يتوضأ من الشك حتى يستيقن (137) ، (177) عن عباد بن تميم عن عمه: أنه شكا إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الرجل الذي يخيل إليه أنه يجد الشيء في الصلاة، فقال: (لا ينفتل أو لا ينصرف حتى يسمع صوتاً أو يجد ريحاً) ، وأخرجه مسلم في كتاب الحيض، باب الدليل على أن من تيقن الطهارة ثم شك في الحدث فله أن يصلي بطهارته تلك (361) .

فإن كان متوضئـ[ـاً] فهو بضد ذلك، فيكون في حكم المحدث، ويجب عليك الوضوء؛ لأنه هذه الحالة قد تيقن زوالها، لأنه قد طرأ عليها حدث. أو العكس: بأن كان قبلهما محدثـ[ـاً] فيكون متطهراً؛ لأن هذه الحالة السابقة قد تيقن زوالها. إذن: المشهور في المذهب أنه إذا تيقن الطهارة وتيقن الحدث وجهل السابق وله حال سابقة من وضوء أو حدث فيكون حكمه بضد ذلك، أما هذه فقد تعارضت فتساقطت فحكمنا بما يكون بضد حاله قبلها. وذهب بعض الحنابلة إلى: أنه يجب عليه الوضوء، وهذا هو الراجح، لأن اليقينَيْن قد تعارضا فتساقطا والصلاة لابد لها من وضوء متيقن أو وضوء مستصحب - المراد به ما تقدم –. فعندما يقول: اليقين أني متوضئ فهذا هو الاستصحاب بمعنى: طرأ عليك شيء من الشك والاحتمال لكنه احتمال قد عارض الأصل فلا يؤثر فيه. وهنا ليس عندنا لا تيقن ولا استصحاب حال أي ليست حاله السابقة على وضوء فنستصحبها ونقول: هذا شك، فيكون عندنا استصحاب الحال، وليس عندنا تيقن أنه متوضئ. وهذا القول هو الراجح، وأنه يجب عليه أن يتطهر، فإذا تيقن الحدث والوضوء فلا نقول هو بضد حاله قبلهما بل يجب عليه الوضوء؛ لأنه في هذه الحالة لم يثبت – في الحقيقة – وضوؤه لا يقيناً ولا ظناً وقد قال صلى الله عليه وسلم: (لا يقبل الله صلاة أحدكم إذا أحدث حتى يتوضأ) (1) والطهارة المتقدمة لو قلنا: أنه كان طاهراً سابقاً فقد أتاها الحدث، وإذا كان محدثاً سابقاً فإن الطهارة الأخرى لم يتيقن أنها المتأخرة. إذن: إن تيقن الاثنين فيجب عليه أن يتطهر. ومثل ذلك - وهو مذهب الحنابلة وهو واضح راجح- أنه إذا كان لا يعلم حاله قبلهما؟ بمعنى: تيقن الوضوء وتيقن الحدث لكنه لا يدري ما حاله قبلهما. فحينئذ: يحكم عليه بفرضية الوضوء؛ لأن الصلاة لا تصح إلا بوضوء متيقن أو مستصحب كما تقدم.

_ (1) متفق عليه من حديث أبي هريرة.

قوله: (ويحرم على المحدث " أي حدثاً أصغر " مس المصحف والصلاة والطواف) : قوله: " مس المصحف ": المصحف يصح بفتح الميم وكسرها وضمها فيحرم عليه أن يمس المصحف. والمصحف يصدق على الورق التي كتبت عليها الآيات القرآنية، ويصدق على الحواشي، وهي ما يكون أعلى الصفحة وأسفلها ويمينها وشمالها، ويصدق على الغلاف الذي يتصل به، فكل ذلك مصحف فكما يقع عليه التبع، تقع عليه بقية الأحكام، ودليل ذلك ما رواه النسائي والترمذي من حديث عمرو بن حزم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (وأن لا يمس القرآن إلا طاهر) (1) . قالوا: هذا الحديث وإن كان مرسلاً من حيث السند لكن له شهرة عظيمة في الأمة من عصور التابعين فمن بعدهم، حتى قال الشافعي: " يثبت عندهم – أي أهل الحديث – أنه كتاب النبي صلى الله عليه وسلم "، وقال الإمام أحمد: " لا شك أن النبي صلى الله عليه وسلم كتبه ". والحديث قد تلقته الأمة بالقبول مما يغني عن النظر في إسناده ومع ذلك فإن هذه القطعة ثبت لها شاهدان شاهد رواه الدارقطني من حديث ابن عمر وشاهد آخر عند الطبراني في الكبير من حديث عثمان بن أبي العاص. فهذه القطعة صحيحة ثابتة، من غير النظر إلى المعاني المتقدمة من تلقي الأمة لها بالقبول، بل هي كذلك على موازين الاصطلاح المجردة عن تلقي الأمة، هو صحيح بشاهديه. فإذن: (وأن لا يمس القرآن إلا طاهر) قاله: النبي صلى الله عليه وسلم.

_ (1) قال في بلوغ المرام: " رواه مالك مرسلاً، ووصله النسائي وابن حبان، وهو معلول ". وقال محققا المغني [1 / 203] : " أخرجه الدارمي في باب لا طلاق قبل نكاح من كتاب الطلاق (2166) ، والإمام مالك في باب الأمر بالوضوء لمن مسّ القرآن، من كتاب القرآن ". أخرجه مالك في كتاب الصلاة، باب الأمر بالوضوء لمن مس القرآن (469)

وقوله: (طاهر) لفظ مشترك أي التي تحمل معان، فيحتمل أن يكون معناها (إلا طاهر) أي: (إلا مؤمن) لذا ثبت في الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم: (نهى أن يسافر بالقرآن إلى أرض العدو) (1) . ويحتمل أن يكون المعنى: أن لا يمس القرآن إلا طاهر من الحدث الأكبر لقوله تعالى: {فإن كنتم جنباً فاطهروا} (2) ويحتمل أن يكون المعنى: (لا يمس القرآن إلا طاهر من الحدث الأصغر ودليل تسمية المتطهر من الحدث الأصغر طاهر قول النبي صلى الله عليه وسلم: (فإني أدخلتهما طاهرتين) (3) ، فمن تطهر من الحدث الأصغر فهو طاهر، ومن تطهر من الحدث الأكبر فهو طاهر، ومن تطهر من الشرك والكفر فهو طاهر. فإذن: لفظة: (طاهر) لفظ مشترك. والراجح عند الأصوليين أن اللفظ المشترك يحمل على كل ما يدل عليه من المعاني، إن لم توجد قرينة تدل على أن المراد به أحد المعاني بعينه، لا سيما في هذه اللفظة النبوية فإنها أي لفظة (طاهر) قد وقعت في سياق النفي فتفيد العموم. أي: لا يمس القرآن إلا مؤمن ولا يمس القرآن إلا طاهر من الحدث الأكبر، بل لا يمس القرآن إلا متوضئ. وهذا المذهب هو مذهب جماهير الفقهاء، وهو مذهب سعد بن أبي وقاص كما في الموطأ بإسناد صحيح (4) ، وحكاه شيخ الإسلام عن سلمان الفارسي وعن ابن عمر، وقال الموفق: " ولا نعلم لهم مخالفـ[ـاً] ". فإذن: هو مذهب أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم. وقد حكاه - أي هذا القول – ابن هبيرة في الإفصاح – إجماعاً. - وخالفت الظاهرية: فقالوا يجوز أن يمس القرآن وإن كان محدثاً.

_ (1) أخرجه البخاري في كتاب الجهاد والسير، باب السفر بالمصاحف إلى أرض العدو (2768) ، ومسلم كتاب الإمارة، باب النهي أن يسافر بالمصحف إلى أرض الكفار (3474) . (3) تقدم. (4) لم أجده في باب الأمر بالوضوء لمن مس القرآن من كتاب الصلاة، في الموطأ.

واستدلوا: بما ثبت في الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم (كتب رسالته إلى هرقل وفيها: (بسم الله من محمد عبد الله إلى هرقل عظيم الروم – الرسالة – وفيها آية {يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء …} ) (1) . قالوا: وقد وقعت في أيدي كفار ووقوعها في أيديهم أعظم من وقوع المصاحف في أيدي المحدثين من المؤمنين. ولكن هذا الاستدلال ضعيف، ذلك لأن هذه الرسالة ليست بمصحف بل هي كتاب كتب فيه آيات من القرآن. لذا قال الفقهاء إذا كانت الكتب كتب تفسير أو كتب فقه أو نحو ذلك، أو فيها آيات قرآنية فإنه لا يجب على من أراد أن يمسها أن يتوضأ، بل للمسلم أن يمس كتب التفسير وهو محدث حدثاً أصغر، مع كونها متضمنة للقرآن كله؛ لأنها ليست بمصحف ولا يطلق عليها قرآن. لكن إذا كانت التفاسير كهيئة المصحف تماماً، كما يوجد في مثل تفسير الجلالين بأن يكون كهيئة المصحف إلا أن الحواشي قد علقت عليها بعض التفسيرات فهذا في حكم المصحف، لأنه كالمصحف تماماً إلا أن حواشيه لم يخل من كتابات بل كتب فيها تفسير هذه الآيات، أما الكتب العلمية ككتب الفقهاء وكتب المفسرين وغيرها وإن تضمنت القرآن كله أو تضمنت آيات كثيرة منه فإنها ليست بمصاحف. إذن الراجح مذهب الجمهور من أن مس المصحف يشترط فيه أن يتوضأ ماسه.

_ (1) أخرجه البخاري: في كتاب بدء الوحي، رقم 7، وأخرجه كذلك برقم 51، 2681، 2804، 2940، 2978، 3174،4553، 5980، 6260، 7196. وأخرجه مسلم في كتاب الجهاد والسير باب كتاب النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى هرقل (1773) .

واعلم أن المس يصدق على أي موضع من مواضع اليدين فليس مختصاً بباطن اليد ولا بظاهرها ولا نحو ذلك؛ لأن المس يصدق على كل مباشرة من غير حائل فمتى باشر المصحف من غير أن يكون بينه وبينه حجاب سواء كان ذلك بيديه أو بأي موضع من مواضعه كأن أن يضعه على وجهه أو نحو ذلك، كل هذا محرم وهو من مس القرآن، لأن لفظة المس تصدق على ذلك. وهل يؤذن للصبيان أن يمسوا المصاحف بلا وضوء كما يكون هذا في الكتاتيب وغيرها؟ قولان لأهل العلم: فالمشهور في مذهب الحنابلة: أنه لا يجوز لهم مسه إلا بوضوء. وذهب المالكية وهو وجه عند الحنابلة: إلى أنه يجوز لهم ذلك. والقول الثاني هو الراجح؛ لأنهم غير مكلفين ثم إن في تكليفهم ذلك مشقة وحرج، فلما كان الأمر كذلك لم يشترط أن يتوضؤوا ولكن على وليهم أن يرشدهم إلى الوضوء عند إرادة المصحف من غير أن يجب ذلك عليهم. وقوله: (والصلاة) فالصلاة تحرم على المحدث وهذا بالإجماع، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا يقبل الله صلاة أحدكم إذا أحدث حتى يتوضأ) (1) متفق عليه. وفي مسلم: (لا يقبل الله صلاة بغير طهور) (2) فقد أجمع أهل العلم علي أن الصلاة لا تجوز بغير وضوء ولا فإن فعل فإنه قد فعل معصية من المعاصي وارتكب خطيئة لا يكفر بها خلافاً لأبي حنيفة لعدم الدليل الدال علي تكفيره لكن إن فعل ذلك مستهزءاً بالصلاة أو مستحلاً لهذا الفعل المحرم، فهو كافر لإجماع العلماء علي شرطية ذلك. إذن: لا يكفر بذلك إلا إذا كان هذا مستهزءاً أو مستحلاً وهذا هو مذهب جماهير أهل العلم.

_ (1) أخرجه البخاري في كتاب الحيل، باب في الصلاة (6954) ، وفي باب لا تقبل صلاة بغير طهور من كتاب الوضوء (135) ، وأخرجه مسلم في باب وجوب الطهارة للصلاة من كتاب الطهارة (225) . (2) أخرجه مسلم في باب وجوب الطاهرة للصلاة من كتاب الطهارة (224) بلفظ: (لا تُقبل صلاةٌ بغير طُهُور ولا صدقة من غُلُول) .

قوله: (والطواف) أي يشترط للطواف بالبيت أن يتوضأ، وهذا مذهب جمهور الفقهاء. واستدلوا: بما ثبت في الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم: (لما قدم مكة كان أول ما بدأ أن توضأ ثم طاف بالبيت) وقد قال صلى الله عليه وسلم: (لتأخذوا عني مناسككم) (1) قالوا: فقد فعله وقال: (لتأخذوا عني مناسككم) واستدلوا: بما رواه الترمذي والنسائي وغيرهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (الطواف في البيت صلاة إلا أن الله قد أحل به النطق فمن نطق فلينطق بخير) (2) وفي رواية: (فأقلوا فيه الكلام) (3) والحديث صحيح مرفوعاً، وموقوفاً " على ابن عباس ".

_ (2) أخرجه الترمذي في كتاب الحج، باب ما جاء في الكلام في الطواف (960) قال: " حدثنا قتيبة حدثنا جرير عن عطاء بن السائب عن طاوس عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (الطواف حول البيت مثل الصلاة إلا أنكم تتكلمون فيه، فمن تكلم فيه فلا يتكلمن إلا بخير) قال أبو عيسى: وقد روي هذا الحديث عن ابن طاوس وغيره عن طاوس عن ابن عباس موقوفاً، ولا نعرفه مرفوعاً إلا من حديث عطاء بن السائب ". وأخرجه النسائي في كتاب مناسك الحج، باب إباحة الكلام في الطواف (2922) بلفظ: عن رجل أدرك النبي صلى الله عليه وسلم قال: " الطواف بالبيت صلاة فأقلوا من الكلام "،وفيه أن: عبد الله بن عمر قال: " أقلوا الكلام في الطواف فإنما أنتم في الصلاة " قال فيه الألباني " صحيح الإسناد موقوف " وليس فيه لفظ الترمذي. (3) هذا لفظ النسائي كما تقدم (فأقلوا من الكلام) .

قالوا: وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (الطواف بالبيت صلاة) ومن شروط الصلاة الطهارة، وقد قال صلى الله عليه وسلم: (مفتاح الصلاة الطهور) (1) . - وذهب الإمام أحمد في رواية عنه وهو اختيار شيخ الإسلام وتلميذه ابن القيم، وهو مذهب طائفة من السلف: أن الوضوء ليس بشرط للطواف. قالوا: لأن الله لم يوجب ذلك ولا رسوله ولا إجماع في هذه المسألة. قال ابن القيم: " ولا نص ولا إجماع لاشتراط الطهارة – أي في الطواف – بل قد وقع فيه النزاع قديماً وحديثاً " وذكر شيخ الإسلام أنه قد وقع النزاع فيه بين السلف. قالوا: وهذا هو الأصل فإنا لا نوجب إلا ما أوجبه الله ورسوله أو ما أجمعت عليه الأمة. قالوا: والنبي صلى الله عليه وسلم لم تثبت عنه في حججه ولا عمره أنه أمر الناس بالوضوء. وما ذكرتموه من الأدلة فإنها لا تدل على المطلوب وهو فرضية الوضوء، وإنما تدل على مجرد استحبابه فإن وضوء النبي صلى الله عليه وسلم قبل طوافه هذا فعل والفعل لا يدل على الوجوب. وأما كونكم تستدلون بقوله: (لتأخذوا عني مناسككم) (2) ، فإنكم لم تستدلوا بهذا الدليل على مسائل هي أعظم من الوضوء، فإن المسائل المتصلة بالطواف نفسه كالاضطباع والرمل ونحو ذلك من مسائل الطواف، هذه مسائل متصلة بالطواف نفسه ومع ذلك لم توجبوها، بل جعلتموها من السنن والمستحبات باتفاقكم فأولى منها ما هو خارج عنه وهو الوضوء وغاية الأمر أن يدل ذلك على استحباب الوضوء.

_ (1) أخرجه أحمد في المسند برقم (1006) ، (1072) من حديث علي بن أبي طالب ولفظه (مفتاح الصلاة الطهور، وتحريمها التكبير، وتحليلها التسليم) ، وبرقم (14717) من حديث جابر بن عبد الله بلفظ: (مفتاح الجنة الصلاة، ومفتاح االصلاة الطهور) . وأخرجه الترمذي في كتاب الطهارة، باب ما جاء أن مفتاح الصلاة الطهور (3) . (2) أخرجه مسلم [4 / 79] ، وغيره، الإرواء 1074.

فإذن: لا يستدل مطلقاً على إيجاب كل فعله (1) - النبي صلى الله عليه وسلم - بقوله: (لتأخذوا عني مناسككم) . وأما الحديث: فإنه لا يصح الاستدلال به على هذا المطلوب بدليل: أن هذا الحديث قد ذكر فيه النبي صلى الله عليه وسلم أن الله قد أحل النطق، وقال هو موضع استدلالهم: (الطواف بالبيت صلاة) ، فظاهر اللفظ غير الواقع، فإن ظاهره أن كل ما في الصلاة ثابت بالطواف، وهذا ليس بصحيح، فإن غالب مسائل الصلاة لا تثبت مسائل بالطواف كالأكل والشرب والحركة الكثيرة والالتفات الكثير ونحو ذلك مما حرم بالصلاة بالإجماع، وهو جائز في الطواف بالإجماع، فغالب مسائل الصلاة ليست ثابتة بالطواف. وأعظم من ذلك أن الطواف لو كان صلاة حقيقة لافتتح بالتكبير واختتم بالتسليم، كما قال صلى الله عليه وسلم: (مفتاح الصلاة الطهور وتحريمها التكبير وتحليلها التسليم) (2) وليس في الطواف بالاتفاق تكبير مفترض ولا تسليم مطلقاً. فإذن: يكون قول النبي صلى الله عليه وسلم: (الطواف بالبيت صلاة) ليس مراده أنه صلاة له أحكام الصلاة، وإنما المراد أنه عبادة يتقرب بها إلى الله، وهي عبادة متصلة بالبيت كاتصال الصلاة وأنه مأجور عليها بنية ما يؤجر عليه في الصلاة.

_ (1) كذا في الأصل. (2) أخرجه أحمد في المسند برقم (1006) ، (1072) من حديث علي بن أبي طالب ولفظه (مفتاح الصلاة الطهور، وتحريمها التكبير، وتحليلها التسليم) ، وبرقم (14717) من حديث جابر بن عبد الله بلفظ: (مفتاح الجنة الصلاة، ومفتاح االصلاة الطهور) . وأخرجه الترمذي في كتاب الطهارة، باب ما جاء أن مفتاح الصلاة الطهور (3) .

فيكون نظير قوله صلى الله عليه وسلم: (فإن أحدكم في صلاة ما كانت الصلاة تحبسه) (1) ، فإن الرجل الذي ينتظر الصلاة قد نص الشارع أنه في صلاة مع أنه ليس في الصلاة حقيقة لكنه في عبادة هي انتظار للصلاة، ومع ذلك بالإجماع لا يشترط فيه ما يشرط في المصلي، وكذلك إذا غدا إلى المسجد أو راح فإنه في صلاة كما ثبت في أبي داود – ومع ذلك فإنه لا يجب عليه ما يجب على المصلى. إذن: يقال: حديث: (الطواف بالبيت صلاة) لم لا تستدلون به على تحريم الأكل والشرب أو غير ذلك من المسائل، فعلى ذلك: ليس المراد أنه في حكم الصلاة، وإنما المراد نظير قوله: (فإن أحدكم في صلاة) أي عليه أن يكون في سكينة ووقار وانضباط، فكما أنه إذا ذهب إلى المسجد فيجوز له ما يحرم على المصلي من الأحكام، لكنه عليه أن يكون في سكينة ووقار فكذلك هنا، عليه أن يكون كهيئة مشيته إلى الصلاة بسكينة ووقار، فيقلّ من الكلام والحركة ونحو ذلك، لكن ذلك كله جائز لا حرج فيه إلا ما دل دليل على تحريمه والنهي عنه. وهذا – كما تقدم – هو اختيار شيخ الإسلام وتلميذه ابن القيم وهو الراجح. فالراجح أن الطواف بالبيت لا يشترط فيه الوضوء. وهل يجوز له أن يطوف وهو محدث حدثاً أكبر وهل تطوف الحائض؟ محل هذا في غير هذا الباب، فسيأتي الكلام على هذا في باب الحج، والمسألة الأولى في باب الغسل إن شاء الله تعالى. والحمد لله رب العالمين. انتهى باب نواقض الوضوء الدرس الثاني والثلاثون (يوم الجمعة: 25 / 11 / 1414 هـ) باب الغسل الغُسل: لغة هو فعل الاغتسال، ويصح أيضاً بالفتح (الغَسل) والأول أشهر.

_ (1) أخرجه البخاري في كتاب الصلاة، باب الصلاة في مسجد السوق (457) ، ومسلم في كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب فضل صلاة الجماعة وانتظار الصلاة (1059) (1060) ، انترنت / موقع الإسلام / بواسطة ردادي.

إلا أن الفتح أشهر في الماء الذي يغتسل به، فإنه يطلق عليه غَسلاً (1) بالفتح على الأشهر، ويطلق عليه غُسلاً بالضم، ويسمى مُغتسلاً وغسولاً، وأما الغِسل بالكسر: فهو ما يغسل به الرأس من خطمي أو أشنان ونحوهما. قال المؤلف رحمه الله: (موجبه خروج المني دفقاً بلذة، لا بدونها من غير نائم) (موجبه) : أي موجب الغسل وستأتي صفته الواجبة وصفته المستحبة. (خروج المني دفقاً بلذة لا بدونها) : هذا موجبه الأول وهو خروج المني دفقاً لقوله تعالى: {من ماء دافق} (2) بلذة لقوله صلى الله عليه وسلم – كما في مسلم -: (إنما الماء من الماء) (3) وفي أبي داود: (إذا فضخت فاغتسل) (4) ، وفي المسند بإسناد حسن: (إذا حذفت فاغتسل وإن لم تكن حاذفاً فلا تغتسل) (5) فلا يجب الغسل إلا بخروجه بلذة.

_ (1) كذا في الأصل، ولعل الصواب: غَسلٌ؛ لأنه نائب فاعل. (2) سورة الطارق. (3) أخرجه مسلم في كتاب الحيض، باب إنما الماء من الماء (343) . (4) أخرجه أبو داود في كتاب الطهارة، باب في المني (206) قال: " حدثنا قتيبة بن سعيد، حدثنا عبيدة بن حميد الحذاء عن الركين بن الربيع، عن حصين بن قبيصة، عن علي رضي الله عنه قال: كنت رجلاً مذاءً فجعلت أغتسل حتى تشقق ظهري فذكرت ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم أو ذُكر له، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا تفعل، إذا رأيت المَذْي فاغسل ذكرك وتوضأ وضوءك للصلاة، فإذا فضخت الماء فاغتسل) . قال في لسان العرب: " فضْخُ الماء: دَفْعُه ". (5) أخرجه الإمام أحمد في المسند (847) قال: " حدثنا أبو محمد، حدثنا رِزَام بن سعيد التيمي، عن جوَّاب التيمي عن يزيد بن شريك، يعني التيمي، عن علي، قال: كنت رجلاً مذاء، فسألت النبي صلى الله عليه وسلم فقال: (إذا حذفْتَ فاغتسل من الجنابة، وإذا لم تكن حاذفاً فلا تغتسل) .

فإن خرج بغير لذة كأن يخرج مرضاً أو نحوه من برد وغيره فإنه لا يثبت به نقض الطهارة الكبرى. (لا بدونهما) : أي لا بدون الدفق بلذة. (من غير نائم) : ونحوه كسكران ونحوه ممن زال عقله أو مغمى عليه، فإن هؤلاء متى خرج المني منهم فإنه يثبت به النقض أي نقض الطهارة الكبرى سواء كان ذلك بلذة أم لا، لأنه قد زال عقله فلا يمكن أن يحكم هل ثبتت اللذة أم لا. يدل على ذلك ما ثبت في الصحيحين أن امرأة قالت يا رسول الله: (إن الله لا يستحي من الحق فهل على المرأة من غسل إذا هي احتلمت؟) فقال: (نعم إذا رأت الماء) (1) فعلق النبي صلى الله عليه وسلم الحكم بالاحتلام، وغيره مثله علق برؤية الماء، فبمجرد رؤية الماء يثبت نقض الطهارة الكبرى. إذن: الناقض الأول هو خروج المني دفقاً بلذة، لا بدونها من غير نائم. قوله: (وإن انتقل ولم يخرج اغتسل له) رجل جامع ولكنه لم ينزل لكن المني قد جانب موضعه الأصلي ولم يخرج بعد، قالوا: فينقض بذلك الطهارة الكبرى. وعللوا ذلك: بأن الجنابة هي مجانبة الماء " أي المني " لموضعه، فإذا جانب الماء موضعه أي باعد فهذه جنابة، وقد قال تعالى: {وإن كنتم جنباً فاطهروا} . وذهب عامة أهل العلم وهو اختيار بعض كبار الحنابلة كالموفق وهو اختيار شيخ الإسلام: إلى أن النقض لا يثبت بمثل هذا، بل لا يثبت إلا بخروجه، واستدلوا: بحديث: (إنما الماء من الماء) وحديث: (نعم إذا رأت الماء) ، والماء لم يثبت خروجه بعد. وأما من حيث الاستعمال اللغوي فإن الجنابة لا تسمى جنابة إلا إذا فارقت البدن كله وجانبته. أما وقد فارق موضعه إلى موضع آخر من البدن نفسه فليس بجنب: {وإن كنتم جنباً فاطهروا} وهذا ليس بجنب حتى يفارق ويباعد الماء البدن كله.

_ (1) أخرجه البخاري في كتاب العلم، باب الحياء في العلم (130) ، وفي باب إذا احتلمت المرأة من كتاب الغسل (282) ، وأخرجه مسلم (313) .

فإذن الراجح وهو مذهب جماهير العلماء – خلافاً للمشهور من المذهب – أن الماء إذا فارق موضعه فإنه لا يثبت به النقض، بل لا يثبت النقض إلا بخروجه على الصفة المتقدمة. كما أن تحرك الريح في المعدة لا يعتبر ناقضاً إلا بخروجها وهذا بإجماع أهل العلم – فكذلك هنا في هذه المسألة فيصح قياسها عليها. قوله: (فإن خرج بعده لم يعده) رجل خرج منه المني دفقاً بلذة فاغتسل ثم خرجت منه قطرات بعد اغتساله – فلا يجب عليه الغسل. وعلة ذلك: لأنه لم يخرج بلذة، ولأنه قد اغتسل بعد خروجه وهذا تبع للمتقدم الذي قد ثبت الاغتسال له وإنما هما فعل واحد. إذن: إذا خرج شيء من المني بعد الاغتسال فإنه لا يجب فيه الغسل مرة أخرى؛ لأنه قد اغتسل لأصله، ولأنه كذلك لا تتوفر فيه الشروط المتوفرة في الماء الناقض للطهارة الكبرى وهي كونه دفقاً بلذة. * فإذا احتلم ولم ير ماءً أي بللاً بمعني: يذكر احتلاماً ولا يجد بللاً فلا يجب عليه إجماعاً الغسل. والعكس بالعكس: فإذا رأى بللاً وعلم أنه مني ولم يذكر احتلاماً، فإنه يجب عليه الغسل؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: (نعم إذا رأت الماء) (1) . إذن: إذا رأى بللاً وعلم أنه ماء الرجل فإنه يجب عليه الغسل وإن لم يذكر احتلاماً. والعكس بالعكس فلو ذكر احتلاماً ولم يجد بللاً فإنه لا يجب عليه – إجماعاً – الغسل. فإذا رأى بللاً وشك أهو مني أم مذي فما الحكم؟ فالحكم أن يقال: إذا سبق نومه دواعي خروج المذي كفكر أو نظر وغيرها – فإنه يحكم بأنه مذي. أما إذا لم تكن هذه الدواعي موجودة: - فالمشهور في المذهب: أنه يثبت له حكم المني فيجب الغسل. قالوا: لأن الغالب فيما يخرج بعد المنام أن يكون منياً، فما دام هذا هو الغالب ولم يسبقه ما يغير هذا الأصل الذي أصلناه – من عدم وجود سبب المذي من فكر ونظر – نحكم عليه بأنه مني

_ (1) متفق عليه، وقد تقدم.

إذن: إذا رأى ماءً فلم يدري (1) أمذي هو أم مني، فيقال له: إن سبق نومك دواعي المذي من فكر ونظر فهو في حكم المذي فيجب عليه الوضوء. أما إن لم تكن هذه الدواعي موجودة فهو مني. وعن الإمام أحمد – رواية – وهو أقوى من المذهب المتقدم –: أنه يجب عليه الغسل إن ذكر احتلاماً. بمعني: رجل رأى احتلاماً، ووجد ماءً لا يدري أهو مني أم مذي، فإنه يجب عليه الغسل – على هذا القول –. فإن لم يذكر احتلاماً فلا. وهناك قول ثالث – اختاره الشيخ محمد بن إبراهيم وهو رواية – عن الإمام أحمد، قالوا: لا يجب عليه الغسل مطلقاً؛ لأن الطهارة الكبرى متيقنة فلا تزول بمجرد الشك. فهنا يشك هل هو مذي أم مني ولم يتيقن فلا نتزحزح عن اليقين المتقدم إلا بيقين. وأقواها فيما يظهر لي القول الوسط (2) ، والذي جعلنا نتزحزح عن الأصل هو وجود قرائن قوية منها: عدم دواعي المذي، ومنها أيضاً: كونها في منام، ومنها - وهو أقواها -: أنه يذكر احتلاماً. مع أن القول الثالث فيه قوة لقوله: (نعم إذا رأت الماء) فعلق الحكم برؤية الماء، وهنا لا يمكن أن يقال إنه قد رأى الماء - مع كونه قد احتلم - لكونه قد شك فيه، ولا يعد الشاك رائياً. إذن هناك ثلاثة أقوال: الأول: أنه تنتقض بذلك الطهارة الكبرى. الثاني: أنها لا تنتقض إلا إذا كان هناك احتلاماً. الثالث: أنها لا تنتقض مطلقاً. قوله: (وتغيب حشفة أصلية في فرج أصلي قبلاً كان أو دبراً ولو من بهيمة أو ميت) (حشفة) : هي ما يكون أعلى الذكر أو أعلى الفرج. (تغيب) : أي إخفاء.

_ (1) كذا في الأصل، ولعل الصواب: يدرِ. (2) في حاشية الأصل - المذكرة - ما نصه: " تراجع الشيخ عن ذلك واختار القول الأخير، وذلك بقاءً على الأصل، وأما كونه يذكر احتلاماً، فإنها لا تعتبر قرينة؛ لأنه قد يحتلم ولا ينزل ".

(حشفة أصلية) (1) : ليخرج حشفة الخنثى المشكل فإنها تستثنى؛ لأنها ليست بأصلية – وهذه فروع على نادر جداً. (في فرج أصلي) : كذلك لابد أن يكون الفرج ليس فرج خنثى مشكل؛ لأنه ليس أصلياً. (ولو من بهيمة وميت) : وكذلك (غير إنسي) كأن يكون جنياً، على القول بثبوت هذا أي إمكان جماع الإنسي للجنية أو الجني للإنسية، فإذا وقع هذا فإنه يجب الغسل. فإذن: تغييب الحشفة الأصلية في فرج أصلي قبلاً كان أو دبراً (ولو من بهيمة وميت) يوجب الغسل وليس البحث هنا في تحريم ذلك بل البحث في فرضية الغسل. ودليل هذا – أي أنه إذا التقى الختانان وثبت الإيلاج فيجب الغسل، ما ثبت في الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا قعد على شعبها الأربع ثم جهدها فقد وجب الغسل) وفي رواية: (وإن لم ينزل) (2)

_ (1) في الأصل: " فرج أصلي " (2) أخرجه البخاري في كتاب الغسل، باب (28) إذا التقى الختانان / رقم (291) عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا جلس بين شعبها الأربع ثم جهدها فقد وجب الغسل) ، وقوله (وإن لم ينزل) عند مسلم في كتاب الحيض، باب نسخ الماء من الماء ووجوب الغسل.. (348) . قال الحافظ في الفتح [1 / 470] : " ثم جهدها بفتح الجيم والهاء، يقال جهد وأجهد أي بلغ المشقة، قيل: كدها بحركته أو بلغ جهده في العمل بها ".

، وقد قال صلى الله عليه وسلم: (إذا جاوز الختان الختان فقد وجب الغسل) (1) رواه أحمد وأبو داود والنسائي بإسناد صحيح. فإن قيل: فما الجواب علي ما ثبت في الصحيحين: أن النبي صلى الله عليه وسلم (أمر من أكسل أن يغسل ما مس من امرأته ويتوضأ) (2)

_ (1) أخرجه بهذا اللفظ الترمذي [سنن الترمذي ج: 1 ص: 182 رقم 109] والنسائي في السنن الكبرى، ولم أجده بهذا اللفظ في أبي داود، وإنما رواه أبو داود في كتاب الطهارة، باب في الإكسال (216) قال: " حدثنا مسلم بن إبراهيم الفراهيدي، حدثنا هشام وشعبة وقتادة، عن الحسن، عن أبي رافع، عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا قعد بين شُعبها الأربع، وألزق الختان بالختان فقد وجب الغسل) ،. وأخرجه مسلم في كتاب الحيض، باب نسخ الماء من الماء ووجوب الغسل بالتقاء الختانين (349) بلفظ: " إذا جلس بين شعبها الأربع ومس الختان الختان فقد وجب الغسل) . ولم أره في النسائي " المجتبى " باب وجوب الغسل إذا التقى الختانان من كتاب الطهارة. وإنما هو في السنن الكبرى للنسائي ج: 1 ص: 108 باب وجوب الغسل إذا التقى الختانان رقم (196) ، وج: 5 ص: 352 رقم 9127. من اسطوانة مكتبة الفقه وأصوله. (2) أخرجه البخاري في باب غسل ما يصيب من فرج المرأة من كتاب الغسل (293) أن أبي بن كعب قال: يا رسول الله، إذا جامع الرجل المرأة فلم ينزل؟ قال: (يغسل ما مس المرأة منه، ثم يتوضأ ويصلي) ، وأخرجه مسلم (346) باب إنما الماء من الماء من كتاب الحيض بلفظ: " عن أبي بن كعب قال: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الرجل يصيب من المرأة ثم يُكسل؟ فقال: (يغسل ما أصابه من المرأة ثم يتوضأ ويصلي) .

فالجواب: أن هذا الحديث منسوخ، فقد ثبت في أبي داود والنسائي والترمذي بإسناد صحيح عن أبي بن كعب قال: (كانت الفتيا التي يقولون (الماء من الماء) رخصةً رخص الله بها ثم أمر بالاغتسال بعد) (1)

_ (1) أخرجه أبو داود في كتاب الطهارة، باب في الإكسال (214) قال: " حدثنا أحمد بن صالح، حدثنا ابن وهب، أخبرني عمرو، يعني ابن الحارث عن ابن شهاب، حدثني بعض من أرضى أن سهل بن سعد الساعدي أخبره أن أبي بن كعب أخبره أن رسول الله صلى الله عليه وسلم إنما جعل ذلك رخصة للناس في أول الإسلام لقلة الثياب، ثم أمر بالغسل ونهى عن ذلك، قال أبو داود: " يعني الماء من الماء ". وقال (215) : " حدثنا حمد بن مهران البزاز الرازي، حدثنا مبشر الحلبي عن محمد أبي غسان، عن أبي حازم، عن سهل بن سعد، حدثني أبي بن كعب أن الفتيا التي كانوا يفتون أن الماء من الماء كانت رخصة رخصها رسول الله صلى الله عليه وسلم في بدء الإسلام ثم أمر بالاغتسال بعد "، وأخرجه الإمام أحمد في المسند: 5 / 115، 116، وابن ماجه في باب ما جاغء في وجوب الغسل إذا التقى الختانان من كتاب الطهارة، والترمذي في باب ما جاء في أن الماء من الماء من أبواب الطهارة. المغني [1 / 272] . ولم أره في فهرس النسائي طبعة بيت الأفكار، ولم يعزه محققا المغني إليه. نصب الراية ج: 1 ص: 82 قال الشيخ تقي الدين في الامام وأعل هذا الحديث بأن فيه انقطاعا بين الزهري وسهل يدل عليه رواية بن ماجة قال قال سهل بن سعد الساعدي فلم يذكر الاخبار وعند أبي داود وقال بن وهب أخبرني عمرو بن الحارث عن بن شهاب قال حدثني بعض من ارضى ان سهل بن سعد الساعدي أخبره ان أبي بن كعب أخبره ان رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكره وهذا يقتضى ان الزهري لم يسمعه من سهل وقد جزم بذلك البيهقي فقال وهذا الحديث لم يسمعه الزهري من سهل انما سمعه من بعض اصحابه عن سهل قال بن خزيمة وهذا الرجل الذي لم يسمعه عمرو بن الحارث يشبه ان يكون أبا حازم بن سلمة بن دينار لان مبشر بن إسماعيل روى هذا الخبر عن أبي غسان محمد بن مطرف عن أبي حازم عن سهل بن سعد عن أبي بن كعب قال الشيخ قلت قد رواه بهذا السند أبو داود في سننه وابن حبان في صحيحه عن أبي جعفر الجمال عن مبشر بن إسماعيل بالسند المذكور ولفظه عن أبي بن كعب ان الفتيا التي كانوا يفتون ان الماء من الماء كانت رخصة رخصها رسول الله صلى الله عليه وسلم في بدء الإسلام ثم أمر بالاغتسال بعد انتهى وأخرجه البيهقي في سننه من طريق أبي داود وقال قبل إخراجه وقد رويناه بإسناد آخر صحيح موصول عن سهل بن سعد ثم ذكره وقال بن حاتم سألت أبي عن أحاديث الماء من الماء فقال كلها منسوخة بحديث سهل بن سعد عن أبي بن كعب قال الشيخ وقد وقع لي رواية عن محمد بن جعفر من جهة أبي موسى عنه عن معمر عن الزهري وفيها قال أخبرني سهل بن سعد فعليك بالبحث عنها فانها مخالفة لما ذكره عمرو بن الحارث والله اعلم انتهى تلخيص الحبير ج: 1 ص: 135 لكن وقع في أبي داود ما يقتضي انقطاعه فقال عن عمرو بن الحارث عن بن شهاب حدثني بعض من أرضى أن سهل بن سعد أخبره أن أبي بن كعب أخبره وفي رواية بن ماجة من طريق يونس عن الزهري قال قال سهل وجزم موسى بن هارون والدارقطني بأن الزهري لم يسمعه من سهل وقال بن خزيمة هذا الرجل الذي لم يسمه الزهري هو أبو حازم ثم ساقه من طريق أبي حازم عن سهل عن أبي أن الفتيا التي كانوا يفتون أن الماء من الماء كانت رخصة رخصها رسول الله صلى الله عليه وسلم في بدء الإسلام ثم أمر بالاغتسال بعد وقد وقع في رواية لابن خزيمة من طريق معمر عن الزهري أخبرني سهل فهذا يدفع قول بن حزم بأنه لم يسمعه منه لكن قال بن خزيمة أهاب أن تكون هذه اللفظة غلطا من محمد بن جعفر الراوي له عن معمر قلت أحاديث أهل البصرة عن معمر يقع فيها الوهم لكن في كتاب بن شاهين من طريق معلى بن منصور عن بن المبارك عن يونس عن الزهري حدثني سهل وكذا أخرجه بقي بن مخلد في مسنده عن أبي كريب عن بن المبارك وقال بن حبان يحتمل أن يكون الزهري سمعه من رجل عن سهل ثم لقي سهلا فحدثه أو سمعه من سهل ثم ثبته فيه أبو حازم ورواه بن أبي شيبة من طريق شعبة عن سيف بن وهب عن أبي حرب بن أبي الأسود عن عميرة بن يثربي عن أبي بن كعب نحوه وروى مالك في الموطأ عن الزهري عن سعيد بن المسيب أن عمر وعثمان وعائشة كانوا يقولون إذا مس الختان الختان فقد وجب الغسل وفي الباب عدة أحاديث في عدم الإيجاب لكن انعقد الإجماع أخيرا على إيجاب الغسل قاله القاضي بن العربي وغيره "

وهذا مذهب جماهير أهل العلم، أما إذا مس الختان الختان من غير إيلاج فلا يجب الغسل إجماعاً، وإنما يثبت الغسل بالإيلاج. قوله: (وإسلام كافر) إذا أسلم الكافر فيجب عليه أن يغتسل سواء كان (1) قد وقع في الجنابة في حال كفره أو لم يكن، وسواء كان كافراً أصلياً ثم أسلم أو كان مرتداً، فيجب عليه الغسل؛ لما ثبت عند الخمسة إلا ابن ماجه بإسناد جيد عن قيس بن عاصم أنه أسلم: (فأمره النبي صلى الله عليه وسلم أن يغتسل بماء وسدر) (2) ، وثبت في مسند أحمد بإسناد صحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لما أسلم ثمامة بن أثال: (اذهبوا به إلى حائط بني فلان فمروه أن يغتسل) (3)

_ (1) في الأصل: كانت. (2) أخرجه أبو داود في باب في الرجل يسلم فيؤمر بالغسل من كتاب الطهارة (355) قال: " حدثنا محمد بن كثير العبدي، أخبرنا سفيان، حدثنا الأغر، عن خليفة بن حُصين، عن جده قيس بن عاصم قال: " أتيت النبي صلى الله عليه وسلم أريد الإسلام، فأمرني أن أغتسل بماء وسدر "، والنسائي في باب ذكر ما يوجب الغسل ومالا يوجبه غسل الكفار إذا أسلم، من كتاب الطهارة، كما أخرجه الترمذي في باب ما ذكر في الاغتسال عندما يسلم الرجل من أبواب الجمعة، والإمام أحمد في المسند 5 / 61. المغني [1 / 275] . (3) أخرجه أحمد 2 / 246، 452، 483، في طبعة بيت الأفكار برقم (8024) قال: " حدثنا عبد الرحمن حدثنا عبدا لله بن عمر، عن سعيد بن أبي سعيد عن أبي هريرة أن ثمامة بن أثال – أو أثالة – أسلم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (اذهبوا به إلى حائط بني فلان، فمروه أن يغتسل) وبرقم (9832) بسند ولفظ آخر، وبرقم (10273) . وقال الحافظ: " رواه عبد الرزاق وأصله متفق عليه " سبل السلام [1 / 179] ، أخرجه البخاري في كتاب المغازي، باب وفد بني حنيفة وحديث ثمامة بن أثال (4372) لكن بلفظ: " أنه سمع أبا هريرة قال: بعث النبي صلى الله عليه وسلم خيلاً قبل نجد …، وفيه: " أطلقوا ثمامة، فانطلق إلى نجْل – كذا في طبعة بيت الأفكار، ولعلها نخل كما في صحيح مسلم - قريب من المسجد، فاغتسل ثم دخل المسجد.. ". وأخرجه مسلم بلفظ البخاري في كتاب الجهاد والسير، باب ربط الأسير وحبسه وجواز المن عليه (1764) . وأبو داود في كتاب الجهاد (2679) وفيه: " فاغتسل فيه ثم دخل المسجد "، فليس في رواية الصحيحين وأبي داود أمر الرسول صلى الله عليه وسلم له بالاغتسال، وإنما فيه فعله فقط رضي الله عنه.

فهذان الحديثان حجة للحنابلة والمالكية خلافاً للشافعية والأحناف – في وجوب الاغتسال لمن أسلم سواء كان كافراً أصلياً أو مرتداً أو سواء ثبتت عليه الجنابة قبل إسلامه أو لم تثبت. وحجة أهل القول الثاني: أن مثل هذه المسألة يجب أن تنتشر انتشاراً واضحاً فيثبت بأحاديث متواترة أو ظاهرة مشهورة؛ لأن الذين أسلموا في عهد النبي صلى الله عليه وسلم لا حصر لهم فهم كثرة كاثرة ومع ذلك لم يثبت إلا هذين الحديثين. لكن هذا التعليل لا يرد بمثله الأحاديث الصحيحة؛ لأنه ليس من شروط الحديث الصحيح أن يكون متواتراً أو مشهوراً بل متى ثبت وصح فإنه يجب الاحتجاج والعمل به. قال الأحناف: لا يجب عليه الغسل مطلقاً. وقال الشافعية: يجب عليه إن أجنب في حال كفره وإن اغتسل في حال كفره، وإلا فلا يجب عليه الغسل. لكن القول الأول هو الراجح وهو وجوبه مطلقاً. قوله: (وموت) كذلك الموت فيجب فيه الغسل وليس ذلك لكونه حدثاً أي لرفع الحدث، لكن هذا الحكم يتعدى، وقد قال صلى الله عليه وسلم – فيمن وقصة راحلته فمات -: (اغسلوه بماء وسدر وكفنوه في ثوبيه) (1) ، وقال صلى الله عليه وسلم في ابنته: (اغسلنها بماء وسدر) (2) والحديثان متفق عليهما، وفيهما وجوب غسل الميت. قوله: (وحيض ونفاس)

_ (1) أخرجه البخاري [1 / 47، …] ومسلم [4 / 2] وغيرهما، الإرواء [1012] . (2) أخرجه البخاري في كتاب الجنائز، باب غسل الميت ووضوئه بالاء والسدر (1253) بلفظ: (اغسلنها ثلاثاً أو خمساً أو أكثر من ذلك إن رأيتن ذلك، بماء وسدر، واجعلن في الآخرة كافوراً أو شيئاً من كافور..) وانظر (1254) ، (1255) ، (1258) ، (1261) ، (167) . وأخرجه مسلم (939) في كتاب الجنائز، باب في غسل الميت.

إجماعاً، فيجب الغسل فيها وقد ثبت في الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم: قال: (إذا أقبلت الحيضة فدعي الصلاة، وإذا أدبرت فاغتسلي وصلي) (1) فالحائض يجب عليها أن تغتسل ومثلها النفاس، والنفاس حكمه حكم الحيض، فإنما هو دم يخرج من الرحم. وما هو إلا الدم المتجمع في الرحم عند توقف الحيض عن الحامل، فهو دم خارج من الرحم بل في الظاهر أنه نفس الدم الذي يخرج من المرأة في أيام عادتها، وقد منع خروجه الحمل، وقد خرج بعد ذلك من رحمها فيجب عليها الغسل. لكن يستثنى من ذلك قوله: (لا ولادة عارية من الدم) وهذا قد يكون في غاية الندرة، فلا يجب عليها أن تغتسل لعدم وجود الدم، والحكم يدور مع علته وجوداً وعدماً، ولم يكن بمعنى المنصوص عليه أو المجمع عليه. فإذا ثبت مثل هذا فلا يجب عليها الغسل. والحمد لله رب العالمين. الدرس الثالث والثلاثون (يوم السبت: 26 / 11 / 1414 هـ) قال المؤلف رحمه الله: (ومن لزمه الغسل حرم عليه قراءة القرآن) (من لزمه الغسل) : أي وجب عليه الغسل، فانتقضت طهارته الكبرى فيحرم عليه أن يقرأ القرآن. وقد تقدم أن الجنب ينهى عن مس المصحف لحديث: (وأن لا يمس القرآن إلا طاهر) (2) ، أما هنا فهو حكم قراءة القرآن للجنب، فقال المؤلف: (ومن لزمه الغسل حرم عليه قراءة القرآن) فيدخل في ذلك الحائض والنفساء فإنه يجب عليهن الغسل. فيحرم على من لزمه الغسل – قراءة القرآن آية فصاعداً بقصد القراءة.

_ (1) أخرجه البخاري في كتاب الحيض، باب إقبال المحيض وإدباره (320) بلفظ: عن عائشة أن فاطمة بنت أبي حبيش كانت تستحاض فسألت النبي صلى الله عليه وسلم فقال: (ذلك عرق وليست بالحيضة، فإذا أقبلت الحيضة فدعي الصلاة، وإذا أدبرت فاغتسلي وصلي) ، وأخرجه مسلم (333) . (2) تقدم صْ 63

أما لو دعا أو ذكر الله بآيات قرآنية فلا يثبت عليه هذا الحكم، فلو دعا بقول: (ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار) (1) أو قال دعاء الركوب وفيه: (سبحان الذي سخر لنا هذا) (2) ، أو قال: (إنا لله وإنا إليه راجعون) (3) أو: (الحمد لله رب العالمين) أو: (بسم الله الرحمن الرحيم) فهي آيات قرآنية لكنه لم يقصد بها القرآن، فإذا لم يقصد بها القرآن فلا بأس. وما ذكره - من أنه يحرم على من لزمه الغسل قراءة القرآن - وهو مذهب الجمهور، وأنه يحرم على الحائض والجنب قراءة القرآن، واستدلوا:

_ (1) سورة البقرة. (2) سورة الزخرف. (3) سورة البقرة.

بما رواه الخمسة عن علي بن أبي طالب قال: (كان النبي صلى الله عليه وسلم يقرئنا القرآن ما لم يكن جنباً) (1) .

_ (1) أخرجه أبو داود في كتاب الطهارة،باب في الجنب يقرأ القرآن (229) قال: " حدثنا حفص بن عمر، حدثنا شعبة، عن عمرو بن مرة، عن عبد الله بن سلمة، قال: دخلت على علي رضي الله عنه أنا ورجلان، رجل منا ورجل من بني أسد أحْسَبُ، فبعثهما علي رضي الله عنه وجهاً وقال: إنكما عِلْجان فعالجا عن دينكما، ثم قام فدخل المَخْرج ثم خرج فدعا بماء فأخذ منه حفنة فتمسَّح بها ثم جعل يقرأ القرآن، فأنكروا ذلك فقال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يخرج من الخلاء فيقرئنا القرآن،ويأكل معنا اللحم، ولم يكن يحجبُه أو قال يحجزه عن القرآن شيء ليس الجنابة "، وأخرجه الترمذي مختصراً برقم 146، والنسائي برقم 266، 267، وابن ماجه برقم 594. وأخرجه الإمام أحمد برقم (840) قال: " حدثنا محمد بن جعفر حدثنا شعبة عن عمرو بن مرة عن عبد الله بن سلمة، قال: دخلت على علي بن أبي طالب، فذكره بطوله. وأخرجه مختصراً برقم (627) قال: " حدثنا أبو معاوية، حدثنا شعبة، عن عمرو بن مرة، عن عبد الله بن سلمة، عن علي قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرئنا القرآن ما لم يكن جنباً) ، وأخرجه برقم (639) و (1011) و (1123) .

وبما رواه الترمذي وابن ماجه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا تقرأ الحائض ولا الجنب شيئاً من القرآن) (1) . قالوا: فهذه أدلة تدل على أنه لا يجوز له أن يقرأ القرآن. قالوا: وهو مذهب علي بن أبي طالب، فقد ثبت عنه عند الدارقطني وعبد الرزاق وابن أبي شيبة (2) بإسناد صحيح أنه قال: (اقرؤوا القرآن ما لم يكن أحدكم جنباً، فأما إن كان أحدكم جنباً فلا ولا آية) . إذن هذا هو مذهب جماهير العلماء. وذهب بعض الفقهاء: إلى أن قراءة القرآن للجنب جائزة وأن الجنب لا يمنع من قراءة القرآن.

_ (1) أخرجه الترمذي في كتاب الطهارة، باب ما جاء في الجنب والحائض أنهما لا يقرآن القرآن (131) قال: " حدثنا علي بن حُجْر والحسن بن عَرَفَة قالا حدثنا إسماعيل بن عيّاش عن موسى بن عقبة عن نافع عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا تقرأ الحائض ولا الجنب شيئاً من القرآن) قال: وفي الباب عن علي، قال أبو عيسى: حديث ابن عمر حديث لا نعرفه إلا من حديث إسماعيل بن عياش عن موسى بن عقبة عن نافع عن ابن عمر … قال: وسمعت محمد بن إسماعيل يقول: إن إسماعيل بن عياش يروي عن أهل الحجاز وأهل العراق أحاديث مناكير، كأنه ضعّف روايته عنهمه فيما ينفرد به، وقال: إنما حديث إسماعيل بن عياش عن أهل الشام، وقال أحمد بن حنبل: إسماعيل بن عياش أصلح من بقية، ولبقية أحاديث مناكير عن الثقات، قال أبو عيسى: حدثني أحمد بن الحسن قال: سمعت أحمد بن حنبل يقول ذلك ". وأنكره الألباني رحمه الله تعالى. وأخرجه ابن ماجه في كتاب الطهارة، باب ما جاء في قراءة القرآن على غير طهارة (596) من طريق إسماعيل بن عياش حدثنا موسى.. "

قالوا: كما ثبت في مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم: (كان يذكر الله على كل أحيانه) (1) قالوا: وقراءة القرآن من ذكر الله. قالوا: والأصل جواز ذلك ما لم يدل دليل صحيح على المنع منه. قالوا: ولا دليل صحيح يدل على ذلك. أما الحديثان اللذان استدللتم بهما فهما ضعيفان: أما الحديث الأول: فإن فيه: عبد الله بن سلمة وهو ضعيف، وقد قال فيه الشافعي: " كان أهل الحديث يوهنونه "، وممن ضعفه الإمام أحمد. أما الحديث الثاني: فإن فيه: إسماعيل بن عياش وقد رواه عن الحجازيين، وروايته عنهم ضعيفة، لذا اتفق الحفاظ على تضعيف هذا الحديث وممن نص على تضعيفه شيخ الإسلام ابن تيمية. فإذن: هذان الحديثان ضعيفان. قالوا: والأصل معنا، فإن الأصل هو الجواز حتى يرد الدليل الدال على تحريم ذلك، ولا دليل صحيح يدل عليه. نعم: يستحب له ذلك فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال - كما في أبي داود بإسناد صحيح -: (فإني كرهت أن أذكر الله على غير طهر) (2) أما أن يذكر الله أو يقرأ القرآن على غير طهر فذلك جائز، ولكن مع ذلك يستحب له أن يتطهر لذلك من غير إيجاب.

_ (1) أخرجه مسلم في صحيحه في كتاب الحيض، باب ذكر الله تعالى في حال الجنابة وغيرها (373) عن عائشة قالت: " كان النبي صلى الله عليه وسلم يذكر الله على كل أحيانه ". (2) أخرجه أبو داود في كتاب الطهارة، باب أيرد السلام وهو يبول (17) قال: " حدثنا محمد بن المثنى، حدثنا عبد الأعلى، حدثنا سعيد، عن قتادة، عن الحسن، عن حُضين بن المنذر أبي ساسان، عن المهاجر بن قُنْفذ أنه أتى النبي صلى الله عليه وسلم وهو يبول، فسلم عليه، فلم يرد عليه حتى توضأ ثم اعتذر إليه فقال: (إني كرهتُ أن أذكر الله عز وجل إلا على طهر) أو قال: (على طهارة) . قال في حاشية سنن أبي داود [1 / 23] : " أخرجه النسائي في الطهارة برقم 38، وابن ماجه برقم 350 ".

فيستحب له إذا أراد القراءة أن يتطهر، ولكن من غير إيجاب. وهذا المذهب هو مذهب ابن عباس، كما صح ذلك عنه في البخاري معلقاً، فقد قال البخاري: " ولم ير ابن عباس بالقراءة للجنب بأساً " (1) وقد وصله ابن المنذر. فعلى ذلك: هذا يعارض ما ثبت عن علي، والصحابة إنما تكون أقوالهم حجة إذا لما تتعارض. فإذن القول بجواز القراءة هو قول ابن عباس وهو قول البخاري وابن المنذر والطبري وهو مذهب الظاهرية، وهو الراجح، لكن يستحب له أن يغتسل لذلك، وكذلك هو – أي القول بالجواز- مذهب طائفة من التابعين كسعيد بن جبير وسعيد بن المسيب وعكرمة وهو مذهب ذهب إليه أئمة كالبخاري وابن المنذر والطبري، وهو الراجح. وأولى منه الحائض، فإذا ثبت الحكم للجنب فأولى منه أن يثبت للحائض خلافاً للجمهور أيضاً. إلا أن الإمام مالك أجازه إذا خشيت أن تنسى المرأة حفظها للقرآن فيجوز لها – وهو اختيار شيخ الإسلام –. والقول بالتعميم هو الراجح لما تقدم، فإن الحائض أولى من الجنب لأمرين: 1 – الأمر الأول: أن الحائض ما عليها من الحدث بغير اختيارها ولا يمكنها أن تزيله إلا أن يذهبه الله عنها، وأما الجنب فليس أمره كذلك بل يمكنه أن يغتسل بمجرد أن يؤمر بذلك. وأما الحائض فليس لها ذلك بل هو أمر قد كتبه الله على بنات آدم – كما قال النبي صلى الله عليه وسلم (2) -. 2- الأمر الثاني: أن الحائض قد تطول مدتها، فقد يبلغ سبعة أيام أو دون ذلك أو أكثر من ذلك فتحتاج أن تقرأ القرآن.

_ (1) ذكره البخاري معلقاً في باب تقضي الحائض المناسك كلها إلا الطواف بالبيت من كتاب الحيض بلفظ: " ولم ير ابن عباس بالقراءة للجنب بأساً ". (2) ذكره البخاري تعليقاً في باب كيف كان بدء الحيض من كتاب الحيض فقال: " وقول النبي صلى الله عليه وسلم: هذا شيء كتبه الله على بنات آدم ".

بخلاف الجنب فإن مدته تقصر، لأنه مطالب بالصلاة، وألا يصلي إلا بطهارة كبرى وصغرى، فيجب أن يتطهر، فمدته قصيرة غالباً. فإذا ثبت لنا جوازه في الجنب فأولى منه أن يثبت للحائض، وهذا اختيار شيخ الإسلام وتلميذه ابن القيم وغيرهما. قوله: (ويعبر المسجد لحاجة) فإن لم يكن هناك حاجة فلا يجوز له أن يعبر المسجد. ولو قيل: (ولا يعبر المسجد إلا لحاجة) لتبين الحكم ووضحت العبارة، بخلاف: (ويعبر المسجد إلا لحاجة) (1) وإن كان يفهم منها أنه لا يجوز له ذلك لكن لو قال: (ولا يعبر إلا لحاجة) لكان أصرح في الحكم. هذا هو المشهور في المذهب وأنه لا يجوز للجنب العبور في المسجد إلا لحاجة. إذن: مكثه في المسجد ولبثه فيه محرم، فلا يجوز للجنب أن يلبث في المسجد، أما المرور فيجوز إن كانت هناك حاجة. واستدلوا: بقوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا لا تقربوا الصلاة} (2) قالوا: أي مواضع الصلاة وهي المساجد: {وأنتم سكارى حتى تعلموا ما تقولون ولا جنباً} أي لا تقربوا المساجد وأنتم جنب: {إلا عابري سبيل} فإذا كنتم عابري سبيل فيجوز لكم أن تعبروا المساجد.

_ (1) كذا في الأصل، ولعل الصواب: ويعبر المسجد لحاجة. (2) سورة النساء.

وبما رواه أبو داود والترمذي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا أحل المسجد لحائض ولا جنب) (1) وهو مذهب الشافعية كذلك وأن اللبث في المسجد محرم إلا إذا كان على هيئة العابر المار فإنه يجوز له ذلك. لكنه يكره له ذلك إن لم يكن هناك حاجة؛ لأن اتخاذ المساجد طرقاً مكروه، فلا يجوز للمسلم سواء كان جنباً أو غير جنب أن يعبر المساجد إلا إذا كانت هناك حاجة، لأن المساجد يكره أن تتخذ طرقاً كما ورد النهي عن ذلك في الطبراني في الكبير وغيره – وسيأتي في باب المساجد – لذا قال: (إلا لحاجة) ؛ لأن مروره من غير حاجة مكروه سواء كان جنباً أو غير جنب. إذن: الحنابلة والشافعية: قالوا: لا يجوز المكث في المسجد للجنب إلا إذا كان عابراً للسبيل فإنه يجوز له ذلك. ويكره له أن يعبر لغير حاجة سواء كان جنباً أو لم يكن جنباً. ووافقهم بقية المذاهب الأربعة بأن اللبث محرم استدلالاً بحديث: (لا أحل المسجد لحائض ولا جنب) . ولكنهم لم يوافقوهم في جواز العبور، بل ذهبت المالكية والأحناف: إلى أنه لا يجوز العبور.

_ (1) أخرجه أبو داود في باب في الجنب يدخل المسجد من كتاب الطهارة (232) قال: " حدثنا مسدد حدثن عبد الواحد بن زياد، حدثنا الأفلت بن خليفة، قال: حدثتني جَسْرة بنت دجاجة، قالت: سمعت عائشة رضي الله عنها تقول: جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم ووجوه بيوت أصحابه شارعة في المسجد، فقال: (وجّهوا هذه البيوت عن المسجد) ثم دخل النبي صلى الله عليه وسلم ولم يصنع القوم شيئاً رجاء أن تنزل فيهم رخصة، فخرج إليهم بعد، فقال: (وجهوا هذه البيوت عن المسجد، فإني لا أحل المسجد لحائض ولا جنب) ، وأخرجه ابن ماجه في الطهارة عن أم سلمة عن النبي صلى الله عليه وسلم نادى بأعلى صوته (إن المسجد لا يحل لجنب ولا لحائض) ،سنن أبي داود [1 / 159] .

وأجابوا عن الاستدلال بالآية، وقالوا: معنى: {لا تقربوا الصلاة} أي لا تصلوا: {وأنتم سكارى …. ولا جنباً} أي ولا تصلوا وأنتم جنباً فإن الصلاة لا تحل للجنب {إلا عابري سبيل} أي إلا مسافرين، فإذا كنتم مسافرين فيجوز لكم أن تصلوا وأنتم جنب إذا تيممتم، ثم ذكر الله بعد ذلك التيمم. وهذا التعبير أصح، ذلك لأن هذا التعبير لا يحتاج فيه إلى تقدير محذوف، قوله: {لا تقربوا} أي لا تصلوا فإن المعنى هو الظاهر. وأما إذا قلنا: (لا تقربوا مواضع الصلاة) فقد احتجنا إلى أن نقدر محذوفاً، والأصل ألا يكون هناك تقدير محذوف وهذا هو الراجح في تفسيرها (1)

_ (1) قال الشيخ في شرح أخصر المختصرات الذي شرح في رأس الخيمة عام 1419 هـ ما نصه: " ودليل منع الجنب من اللبث في المسجد قوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى حتى تعلموا ما تقولون ولا جنبا إلا عابري سبيل} يعني إلا مجتازين، ولا يصح أن يكون المراد بعابري سبيل: المسافرين، لأنهم يقال لهم: بنو سبيل، ولا يقال: عابري سبيل. فالجنب يمنع من دخول المسجد إلا مجتازا، يعني يدخل من باب ويخرج من باب إن احتاج إلى ذلك. ويدل على ذلك – كما يدل على جواز مكثه إن توضأ – ما رواه سعيد بن منصور عن عطاء بن يسار قال: كان أصحاب النبي- صلى الله عليه وسلم - يجلسون في المسجد وهم مجنبون إذا توضؤوا وضوء الصلاة. مفهومه: أنهم إذا لم يتوضؤوا وضوء الصلاة فإنهم لا يجلسون في المسجد، وفيه أيضا أنهم إذا توضؤوا فإنهم يجلسون، وكما هو معلوم أن الوضوء يخفف الجنابة. إذا الجنب إذا توضأ فلا بأس أن يجلس في المسجد، وأما قبل ذلك فلا يجوز له المكث فيه، ويستثنى من ذلك أن يكون عابرا للسبيل. والمالكية يمنعون من ذلك مطلقا، يقولون: لا يجوز له مطلقا الدخول إلى المسجد ولو كان عابرا للسبيل. والجمهور أيضا: لا يجيزون له المكث في المسجد ولو توضأ. لكن الصواب كما تقدم، وهو المشهور في مذهب أحمد، وتدل عليه الآثار – منها الأثر المتقدم -. إذاً المكث لا يجوز في المسجد للجنب إلا إذا توضأ، وأما الاجتياز فهو جائز عند الحاجة إلى ذلك "

إذن: مذهب المالكية والأحناف في تفسير هذه الآية أصح. لكن ما ذهبوا إليه من تحريم اللبث والمكث في المسجد قد خالفهم فيه بعض العلماء فقالوا: يجوز المكث للجنب في المسجد. وهو مذهب ابن المنذر والمزني، وهو رواية عن الإمام أحمد وهو مذهب الظاهرية. قالوا: يجوز للجنب أن يمكث في المسجد. قالوا: والحديث ضعيف، وقد ضعفه البيهقي وعبد الحق الأشبيلي وابن حزم. وفيه جَسْرة وقد ذكر البخاري أن في أحاديثها مناكير، فإذا ثبت ذلك فإنه يجب التوقف في حديثها، فإن في بعض أحاديثها مناكير فوجب أن يتوقف في حديثها، ولم يوثقها إمام معتبر بل وثقها ابن حبان والعجلي فلم يكن من الحق اعتماد حديثها في مسألة من المسائل الشرعية والأمر كذلك. فإذن: الحديث ضعيف لا يثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم للتوقف في حال جسرة، فإن ثبت التوقف كان العمل كذلك، والحديث المتوقف فيه – كما ذكر ابن حجر في النزهة – كالحديث المردود تماماً. إذن: الحديث لم يثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم وعلى ذلك فيجوز مطلقاً كما هو رواية عن الإمام أحمد وهو مذهب المزني من كبار أئمة الشافعية، وهو مذهب ابن المنذر وهو إمام مجتهد مشهور، فهذا هو مذهبهم؛ لضعف الحديث، ولأن الآية الكريمة الصحيح في تفسيرها ما ذهب إليه المالكية والأحناف، وأن المراد بقوله: {لا تقربوا الصلاة} أي لا تصلوا، فعلى ذلك لا تصلوا وأنتم جنب، إلا إذا كنتم مسافرين فلم تجدوا ماءً فتيمموا وصلوا – وإنما استثنى في الجنب المسافر؛ لأن الغالب فيمن يفقد الماء إنما هو المسافر. بخلاف الحاضر فإنه يقل فقده للماء فلم يحتج إلى التنبيه عليه. إذن: الراجح مذهب بعض العلماء وهو مذهب الظاهرية وأن المكث في المسجد – للجنب – جائز مطلقاً.

أما الحائض فلا يجوز لها كما ثبت في الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم: (أمر الحيض أن يعتزلن المصلى) (1) وثبت في مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لعائشة: (ناوليني الخمرة من المسجد فقالت: إني حائض فقال: إن حيضتك ليست بيدك) (2) فهذا يدل على أنه قد تقرر عندها – وقد أقرها النبي صلى الله عليه وسلم على ذلك – أن الحائض لا تدخل المسجد ولا يجوز لها ذلك. ومن ثمَّ نهيت عن الطواف بالبيت، فقد قال صلى الله عليه وسلم لعائشة: (غير ألا تطوفي بالبيت حتى تطهري) (3) متفق عليه. فإذن: الراجح أنه يجوز المكث واللبث في المسجد للجنب، أما الحائض فلا يجوز لها مطلقاً المكث في المسجد واللبث فيه. وقبل ذلك: مرورها إلا عند الضرورة، لأن المرور نوع مكث، فلا يجوز لها المرور إلا للضرورة. قوله: (ولا يلبث فيه بغير وضوء) هذه هي مسألة اللبث، فيكون هذا تصريح منه بأن اللبث ينهى عنه الجنب، والحائض ممن يلزمه الغسل فلا يجوز له اللبث إلا بوضوء. وهذا من مفردات المذهب وأن الجنب – وهذا على القول بتحريم مكثه في المسجد – لا يجوز له أن يلبث في المسجد إلا إذا توضأ فيجوز له اللبث.

_ (1) أخرجه البخاري في كتاب الحيض، باب شهود الحائض العيدين.. (324) عن أيوب عن حفصة قالت: كنا نمنع عواتقنا أن يخرجن في العيدين، فقدمت امرأة.. فلما قدمت أم عطية.. سمعته يقول: (يخرج العواتق وذوات الخدور … ويعتزل الحيض المصلى) وفي باب وجوب الصلاة في الثياب من كتاب الصلاة (351) بلفظ: عن أم عطية قالت: أمرنا أن نخرج الحيض … ويعتزل الحُيّض عن مصلاهن..) ، وأخرجه مسلم (890) (2) أخرجه مسلم في كتاب الحيض، باب جواز غسل الحائض رأس زوجها.. (298) . (3) رواه البخاري [1 / 83 …] ومسلم [4 / 30] وأبو داود والنسائي والترمذي، الإرواء رقم 191.

وحجتهم: ثبوت ذلك عن الصحابة، كما روى سعيد بن منصور بإسناد صحيح عن عطاء بن يسار قال: (كان رجال من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يجلسون في المسجد وهم مجنبون إذا توضؤوا وضوء الصلاة) (1) وسيأتي الكلام على أن الوضوء مخفف للجنابة عند الكلام على استحباب الوضوء عند النوم. فإذن: مذهب الحنابلة – ولو قلنا بتحريم المكث واللبث لقلنا به - لأن هذا فعل أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فلو احتلم رجل في المسجد ثم قام فتوضأ ثم عاد فنام فإنه قد فعل أمراً جائزاً، فيجوز له أن يمكث إذا توضأ. ومثله – كما ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية – النفساء والحائض إذا توقف عنهما الدم، فإنهما في حكم الجنب، فإذا توضآ جاز لهما المكث، فإذا قلنا أنه لا يجوز للجنب المكث في المسجد إلا إذا توضأ، فكذلك الحائض والنفساء إذا انقطع عنهما الدم. وما ذكره شيخ الإسلام قد يقال فيه شيء من النظر وهو أن الحُيَّض في الغالب، فيهن من يتصف بهذا الوصف وهو الانقطاع عن الدم، ولم يستثن النبي صلى الله عليه وسلم عند أمرهن باعتزال المصلى، لا سيما النفساء – على القول بأن النفساء لا تطهر بانقطاع دمها – فهذا فيها أوضح. فأمرهن باعتزال المصلى ولم يستثن النساء اللاتي انقطع عنهن، وهن في الغالب يكن كثيرات. وقد يقال: لم يستثن النبي صلى الله عليه وسلم ذلك؛ لأن الغالب أن من انقطع دمها فإنها تغتسل وتحضر الصلاة فيذهب هذا التنظير. فعلى ذلك قول شيخ الإسلام لا يحمل على انقطاعه أثناء مدة الحيض أو النفاس وإنما يحمل على انقطاعه الذي يجب منه الغسل، ومتى كان كذلك فلها أن تتوضأ وتلبث أو تمكث في المسجد. إذن: ما ذكره شيخ الإسلام – وهو على المذهب – وجيه واضح. فالحائض لا يجوز لها المكث في المسجد فإن انقطع دمها فيجوز لها المكث بعد الوضوء، وهو اختيار شيخ الإسلام وهو قياس واضح بيِّن.

قوله: (ومن غسل ميتاً أو أفاق من جنون أو إغماء بلا حلم سن له الغسل) (ومن غسل ميتاً) : تقدم استحباب الغسل من غسل الميت للحديث: (من غسل ميتاً فليغتسل) (1) وقد تقدم تصحيحه. وفيه استحباب الغسل من غسل الميت، وأن من باشر غسل الميت سواء باشره كله أو بعضه فإنه يستحب له الغسل. (أو أفاق من جنون أو إغماء بغير حلم) : لأنه إذا ثبت الاحتلام فقد وجب الغسل، وقد ثبت في الصحيحين (2) أن النبي صلى الله عليه وسلم: (لما أغمي عليه في مرض موته اغتسل بعد أن أفاق) فهذا يدل على استحبابه في المغمى عليه. ومثله من أفاق من جنون من باب أولى، وقد قال الموفق: " ولا أعلم فيه خلافاً ".

_ (1) أخرجه أبو داود في كتاب الجنائز، باب في الغسل من غسل الميت (3161) ، والترمذي في كتاب الجنائز، باب ما جاء في الغسل من غسل الميت (993) ، وابن ماجه في كتاب الجنائز باب (8) ما جاء في غسل الميت (1463) ، وأحمد: 2 / 280، 433، 454، 472، و 4 / 346، سبل السلام [1 / 144] . وقد تقدم صْ 54. (2) أخرجه البخاري في كتاب الوضوء، باب الغسل والوضوء في المخضب والقدح والخشب والحجارة (198) بلفظ: أن عائشة قالت: لما ثَقُل النبي واشتد به وجعه … أن النبي صلى الله عليه وسلم قال بعدما دخل بيته واشتد وجعه: (هريقوا عليّ من سبع قرب، لم تُحْلَل أَوْكِيَتُهُنّ، لعلِّي أعهد إلى الناس) وأُجْلِس في مخْضَب لحفصة زوج النبي صلى الله عليه وسلم ثم طفقنا نصب عليه تلك، حتى طفق يشير إلينا أن قد فعلتنّ، ثم خرج إلى الناس) ، وأخرجه في كتاب المغازي، باب مرض النبي صلى الله عليه وسلم (4442) وفي آخره: قالت: ثم خرج إلى الناس فصلى بهم وخطبهم ". وأخرجه مسلم (418)

قوله: (بلا حلم) : أما إذا وقع احتلام في الإغماء أو نحوه فإنه يجب عليه أن يغتسل؛لأن ذلك موجب من موجبات الغسل كما تقدم لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (نعم إذا رأت الماء) (1) . والحمد لله رب العالمين الدرس الرابع والثلاثون (يوم الأحد: 27 / 11 / 1414 هـ) قال المؤلف رحمه الله: (والغسل الكامل أن ينوي ثم يسمي ويغسل كفيه ثلاثاً …..) قوله: " والغسل الكامل " أي الغسل الجامع بين ما يفترض وما يسن. قوله: " أن ينوي " لقوله صلى الله عليه وسلم: (إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى) (2)

_ (1) أخرجه البخاري في كتاب العلم، باب الحياء في العلم (130) ، وفي باب إذا احتلمت المرأة من كتاب الغسل (282) ، وأخرجه مسلم (313) ، وقد تقدم صْ 70. (2) أخرجه البخاري في كتاب الإيمان برقم (54) فقال: " حدثنا عبد الله بن مسلمة قال أخبرنا مالك عن يحيى بن سعيد عن محمد بن إبراهيم عن علقمة بن وقاص عن عمر أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: (الأعمال بالنية، ولكل امرئ ما نوى ... ) الحديث. في كتاب بدء الوحي (1) فقال رحمه الله: " حدثنا الحميدي عبد الله بن الزبير، قال حدثنا سفيان، قال حدثنا يحيى بن سعيد الأنصاري، قال أخبرني محمد بن إبراهيم التيمي أنه سمع عَلْقَمَةَ بن وقاص الليثي يقول: سمعت عمر بن الخطاب رضي الله عنه على المنبر قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: (إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى، فمن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها أو إلى امرأة ينكحها فهجرته إلى ما هاجر إليه) . ومسلم في كتاب الإمارة (1907) - شرح النووي المجلد الخامس [13 / 53] – قال: " حدثنا عبد الله بن مسلمة بن قَعْنَب حدثنا مالك عن يحيى بن سعيد عن محمد بن إبراهيم عن علقمة بن وقاص عن عمر بن الخطاب قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (إنما الأعمال بالنية وإنما لامرئ ما نوى، فما كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله، ومن كانت هجرته لدنيا يصيبها أو امرأة يتزوجها فهجرته إلى ما هاجر إليه) . حدثنا محمد بن رُمْح بن المهاجر أخبرنا الليث ح وحدثنا أبو الربيع العَتَكي حدثنا حماد بن زيد ح وحدثنا محمد بن المثنى حدثنا عبد الوهاب يعني الثقفي ح وحدثنا إسحق بن إبراهيم أخبرنا أبو خالد الأحمر سليمان بن حيان ح وحدثنا محمد بن عبد الله بن نمير حدثنا حفص يعني ابن غياث ويزيد بن هارون ح وحدثنا محمد بن العلاء الهَمْدَاني حدثنا ابن المبارك ح وحدثنا ابن أبي عُمر حدثنا سفيان، كلهم عن يحيى بن سعيد بإسناد مالك، ومعنى حديثه وفي حديث سفيان سمعت عمر بن الخطاب على المنبر يُخبر عن النبي - صلى الله عليه وسلم -.

قوله: " ثم يسمي " قياساً على الوضوء، فإن الغسل إحدى الطهارتين. قوله: " ويغسل كفيه ثلاثاً " ثبت في الصحيحين عن عائشة قالت: (كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا اغتسل من الجنابة يبدأ فيغسل يديه (وهنا قال المؤلف: ويغسل كفيه ثلاثاً) ثم يفرغ بيمينه على شماله فيغسل فرجه ثم يتوضأ ثم يأخذ الماء فيُبلغ أصول الشعر، ثم حثى على رأسه ثلاث حثيات ثم غسل سائر جسده) (1) . فهذا الحديث فيه صفة الغسل وأنه: يبدأ أولاً بغسل يديه ثم يفرغ بيمينه على شماله فيغسل فرجه ثم يتوضأ وضوءه للصلاة ثم يأخذ الماء فيخلل به أصول شعره ثم يحثي علي رأسه ثلاث حثيات ثم يغسل سائر جسده، أي بقية جسده، فإن سائر الشيء بقيته. وهنا عند قوله: (ويعم بدنه غسلاً ثلاثاً) هذا هو المذهب وأنه يستحب أن يعم بدنه غسلاً ثلاثاً قياساً على الوضوء.

_ (1) أخرجه البخاري في كتاب الغسل، باب الوضوء قبل الغسل (248) بلفظ: " كان إذا اغتسل من الجنابة بدأ فغسل يديه ثم يتوضأ كما يتوضأ للصلاة، ثم يدخل أصابعه في الماء، فيخلل بها أصول شعره، ثم يصب على رأسه ثلاث غرف بيديه، ثم يفيض الماء على جلده كله) (262) . وأخرجه مسلم في كتاب الحيض، باب صفة غسل الجنابة بلفظ: " كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا اغتسل من الجنابة يبدأ فيغسل يديه، ثم يفرغ بيمينه على شماله فيغسل فرجه، ثم يتوضأ وضوءه للصلاة، ثم يأخذ الماء فيدخل أصابعه في أصول الشعر حتى إذا رأى أنه قد استبرأ حفن على رأسه ثلاث حفنات، ثم أفاض على سائر جسده ثم غسل رجليه.

لكن هذا القياس قياس ليس صحيحاً لمخالفته لظواهر الأدلة الشرعية كحديث عائشة وحديث ميمونة وليس في ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم غسل جسده ثلاثاً، فظواهر الأدلة الواردة في غسل النبي صلى الله عليه وسلم ظاهرها أن النبي صلى الله عليه وسلم إنما اكتفى بغسل يديه مرة واحدة. وقد بوب عليه البخاري باباً بهذا المعنى وهو اختيار شيخ الإسلام وذهب إليه بعض الحنابلة. إذن: ذهب بعض الحنابلة وهو اختيار شيخ الإسلام أنه لا يشرع له أن يعم بدنه ثلاثاً وأنه ليس بمستحب بل إنما يعم بدنه بالغسل مرة واحدة. أما استحباب الثلاث فلا دليل عليه بل ظواهر الأدلة تدل على أنه يغسل بدنه مرة واحدة وبذلك بوب البخاري. وقوله: (ويحثي على رأسه ثلاثاً يرويه) : عليه أن يروي رأسه ويتأكد من وصول الماء إلى أصول الشعر. وعلى الرجل أن ينشر رأسه إن كان غير منشور لما ثبت في أبي داود أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (وأما الرجل فلينشر شعره فليغسله حتى يبلغ أصول الشعر) (1)

_ (1) أخرجه أبو داود في كتاب الطهارة، باب في الوضوء بعد الغسل (255) قال: " حدثنا محمد بن عوف قال: قرأت في أصل إسماعيل بن عيّاش قال ابن عوف: وحدثنا محمد بن إسماعيل عن أبيه، حدثني ضمضم بن زرعة، عن شريح بن عبيد قال: أفتاني جُبير بن نفير عن الغسل من الجنابة أن ثوبان حدثهم أنهم استفتوا النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك، فقال: (أما الرجل فلينشر رأسه فليغسله حتى يبلغ أصول الشعر، وأما المرأة فلا عليها أن لا تنقضه، لتغرف على رأسها ثلاث غرفات بكفيّها) .

وأما المرأة سواء كانت حائضاً أو جنباً – وقد ضفرت شعرها - فلا يجب عليها أن تنقضه، لما ثبت في مسلم أن أم سلمة سألت النبي صلى الله عليه وسلم فقالت يا رسول الله: إني امرأة أشد ضفر شعر رأسي أفأنقضه لغسل الجنابة والحيضة؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا إنما يكفيك أن تحثي علي رأسك ثلاث حثيات ثم تفيضين عليك الماء فتطهرين) (1) . أما الجنب فهو باتفاق العلماء. وأما الحائض فهل يجب أن تنقض شعر رأسها عند الغسل أم لا؟ قولان في مذهب أحمد وغيره: أصحهما أنه لا يجب عليها ذلك للحديث المتقدم (2)

_ (1) أخرجه مسلم في كتاب الحيض، باب حكم ضفائر المغتسلة (330) بلفظ: " عن أم سلمة قالت: قلت: يا رسول الله، إني امرأة أشد ضفر رأسي، فأنقضه لغسل الجنابة؟ قال: (لا إنما يكفيك أن تحثي علي رأسك ثلاث حثيات ثم تفيضين عليك الماء فتطهرين) .. وفي حديث عبد الرزاق: فأنقضه للحيضة والجنابة؟ فقال (لا) ... (2) قال الشيخ في شرحه لأخصر المختصرات الذي شرحه في رأس الخيمة أواخر عام 1419 وبداية 1420 هـ ما نصه: " المرأة إذا اغتسلت للجنابة فلا يجب عليها أن تنقض شعر رأسها، بل تكتفي بصب الماء على الشعر حتى تروي أصوله، يدل عليه ما ثبت في مسلم أن النبي- صلى الله عليه وسلم - سئل عن نقض الشعر للجنابة، فقالت أم سلمة رضي الله عنها: أنا امرأة – يا رسول الله – أشد ظفر شعر رأسي أفأنقضه لغسل الجنابة. فقال النبي- صلى الله عليه وسلم -: (لا إنما يكفيك أن تحثي على رأسك ثلاث حثيات ثم تفيضي الماء فتطهرين) . إذا دل هذا الحديث أن غسل الجنابة في حق المرأة لا يجب معه نقض الشعر. وأما الرجل فإنه يجب عليه إن كان شعره ملبدا أن ينقضه، لما ثبت في أبي داود أن النبي- صلى الله عليه وسلم - قال: (وأما الرجل فلينشر شعر رأسه وليغسله حتى يبلغ أصول شعره) . إذا المرأة لا تنقض شعر رأسها من الجنابة، وهذا باتفاق العلماء. وأما الحيض فقال المؤلف هنا: وتنقض المرأة شعرها لحيض. لما ثبت في ابن ماجه بإسناد صحيح أن النبي- صلى الله عليه وسلم - قال: (انقضي شعرك واغتسلي) قال ذلك للحائض، ولأن غسل الحائض آكد من غسل الجنابة، فإن النبي- صلى الله عليه وسلم - لما سألته أسماء – كما في مسلم – عن غسل الحائض، ذكر لها الماء والسدر، ولما سألته عن غسل الجنابة ذكر لها الماء فقط. ولما ذكر الشعر قال- صلى الله عليه وسلم -: (وتصب الماء على شعرها وتدلكه دلكا شديدا) قاله في شعر الحيض، وأما في الجنابة فقال- صلى الله عليه وسلم -: (فتدلكه دلكا) ولم يقل: شديدا. فغسل الحيض آكد من غسل الجنابة وأبلغ. وغسل الجنابة يتكرر، وشق مع ذلك أن تنقض كلما اغتسلت المرأة للجنابة، وأما الحيض فإنه لا يتكرر. هذا هو الشهور في مذهب الإمام أحمد وعليه نصوصه، وهو من مفردات المذهب. وأما الجمهور فقالوا: يستحب، فلو لم تنقضه فلا بأس. -واستدلوا: برواية في مسلم من حديث أم سلمة – في بعض الروايات – أنها قالت: أفأنقضه لغسل الجنابة والحيضة، فقال النبي- صلى الله عليه وسلم -: (لا) . -والجواب: ما ذكره ابن القيم رحمه الله في تهذيب السنن: أن هذه اللفظة غير محفوظة، فقد تفرد به عبد الرزاق عن الثوري، وعامة الرواة لم يذكروا هذه اللفظة، وكذلك قال ابن رجب في الفتح: ولعلها غير محفوظة. وقد ورد هذا الحديث من طريقين، وفي أحد الطريقين قد تفرد عبد الرزاق عن غيره من الرواة، وأما الطريق الثاني فقد اتفق الرواة فيه على ذكر الجنابة دون الحيضة. فالمقصود أن هذه اللفظة معلولة، وعلى ذلك فإن الحائض تنقض شعرها، ولأن هذا هو الأصل، ولذلك قلنا في الرجل أن ينشر شعر رأسه.

وأما ما روي ابن ماجه في غسل الجنابة وفيه قال: (انقضي شعرك واغتسلي) فهذا يحمل على الاستحباب لحديث أم سلمة المتقدم وفيه: (إنما يكفيك أن تحثي على رأسك ثلاث حثيات) ، فعلى ذلك قوله – في غسل الحائض -: (انقضي شعرك واغتسلي) يكون للاستحباب. إذاً: أصح قولي العلماء أنه لا يجب على المرأة إذا كانت حائضاً أن تنقض شعر رأسها إذا ضفرته بل تحثي عليه ثلاث حثيات، وأما الرجل فيجب أن ينقض شعر رأسه وأن يصل الماء إلى أصول الشعر. قوله: (ويدلكه) فيستحب له أن يدلك بدنه ليتأكد من وصول الماء إلى أجزاء البدن، ليتأكد من ذلك أو ليغلب على ظنه، ولا يجب عليه ذلك – أي الدلك – متى تيقن وصول الماء إلى أجزاء البدن أو غلب على ظنه. إذن: لا يجب أن يدلك بدنه متى تيقن وصول الماء أو غلب على ظنه. وإنما يشرع له ذلك ليتيقن. أما إذا علم أن بعض أجزاء بدنه لم يصلها الماء فإنه يجب عليه أن يتأكد من وصول الماء إلى هذه الأجزاء. قوله: (وتيامن) استحباباً، لحديث عائشة: (كان النبي صلى الله عليه وسلم يعجبه التيامن في تنعله وترجله وطهوره وفي شأنه كله) (1) والغسل من الطهور، فيستحب له أن يتيامن فيه بأن يبدأ بشقه الأيمن ثم شقه الأيسر. قوله: (ويغسل قدميه مكاناً آخراً)

_ (1) أخرجه البخاري في باب التيمن في الوضوء والغسل من كتاب الوضوء، وفي باب التيمن في دخول المسجد وغيره من كتاب الصلاة، وفي باب التيمن في الأكل وغيره من كتاب الأطعمة، وفي باب يبدأ النعل باليمنى، وباب الترجيل من كتاب اللباس، ومسلم في باب التيمن في الطهور وغيره من كتاب الطهارة، وأبو داود في باب الانتعال من كتاب اللباس وبقية الخمسة، المغني [1 / 136] . أخرجه أبو داود (4140) بلفظ: " كان رسول الله يحب التيمن ما استطاع في شأنه كله، في طهوره وترجله ونعله، قال مسلم: وسواكه، ولم يذكر في شأنه كله "

فيستحب له إذا انتهى من الغسل على بدنه أن يغسل رجليه مكاناً آخر. ودليل ذلك، حديث ميمونة وفيه: (ثم تنحى من مكانه فغسل قدميه) . فعلى ذلك يستحب له أن يتنحى عن موضعه الذي اغتسل فيه ثم يغسل قدميه. وذهب بعض الحنابلة: إلى أنه لا يستحب مطلقاً بل عند الحاجة وهي ما إذا كان موضعه الذي اغتسل فيه قد حدث فيه الطين ونحوه، فينتقل إلى موضع آخر، وهذا القول أولى؛ لأن حديث عائشة ليس فيه غسل القدمين بعد غسله. وأما ما رواه مسلم – من ذكر ذلك أي غسل القدمين بعد الغسل – فهي رواية معلومة، فهي من رواية أبي معاوية عن هشام، وروايته عن هشام فيها مقال، وقد تفرد بها عن أصحاب هشام، فلا يثبت هذا في حديث عائشة. وإنما الأظهر أنه غسل قدميه لما قالت: (ويتوضأ) وفي ذلك غسل القدمين. وما ذكره هؤلاء أولى؛ لأن مثل ذلك لا يتعلق بمثله استحباب، ولعدم ثبوته في حديث عائشة؛ ولأنهم كانوا يغتسلون في أراضي ترابية، فإذا اغتسل فإن الماء ينزل على موضعه فيتطين بذلك فيبقى على قدميه طين، فإذا انتقل إلى موضع آخر فغسل قدميه يكون أكمل لطهارته. فإذن: الأظهر أنه لا يستحب ذلك مطلقاً، وإنما عند الحاجة كأن تكون الأرض قد أصيبت بالطين بسبب تنازل الماء من جسده. قوله: (والمجزئ أن ينوي ثم يسمي ويعمم بدنه بالغسل مرة) . (أن ينوي) : إذن النية لا يجزئ الغسل بدونها، فهي شرط من شروطه لحديث: (إنما الأعمال بالنيات) (1) فلابد للغسل لأن يكون مجزءاً أن ينويه، فلو اغتسل لتبريد ونحوه فلا يجزئه ذلك. لكن إذا اغتسل لرفع الحدث الأكبر عنه أو اغتسل لما لا يصح فعله إلا بالغسل بنية ذلك: فإنه يرتفع حدثه. وما قيل في النية من مسائل في الوضوء، فهو كذلك في الغسل.

_ (1) متفق عليه، وقد تقدم.

إذن: النية شرط من شروط الغسل، فإذا نوى رفع الحدث الأكبر أجزأه. وإذا نوى أن يمس المصحف أو يقرأ القرآن – على القول باشتراط الطهارة من الجنابة –. أو اغتسل بنية دخول المسجد – على القول بعدم جواز دخول الجنب – فإن هذه النية تجزئ عنه. أما إذا اغتسل بنية غسل الجمعة أو غسل عرفات أو غير ذلك من الاغتسال المستحبة فلا يجزئ عنه على الصحيح، ويجزئ على المذهب كما تقدم في الوضوء. إذن: ما تقدم من نية الحدث الأصغر كذلك هي نفس الأحكام المترتبة على النية بالحدث الأصغر (1) . قوله: (ثم يسمي) : إذن التسمية ركن فيه قياساً – كما تقدم على الوضوء – (تراجع الشيخ عن ركنية التسمية في الوضوء إلى استحبابها، فكذلك الغسل) (2) . (ويعم بدنه بالغسل مرة) لما ثبت في الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم قال - من حديث عمران بن حصين – لمن أجنب: (اذهب فأفرغه عليك) (3) فهذا الحديث يدل على أن الواجب عليه في الغسل أن يعم بدنه أي يعم بشرته وأصول الشعر ونحو ذلك وكل أعضاء بدنه أن يعمها بالغسل. وهل يدخل في ذلك المضمضة والاستنشاق أم لا؟ قولان لأهل العلم: فذهب الحنابلة والأحناف: إلى فرضية المضمضة والاستنشاق، فلو غسل بدنه ولم يتمضمض ولم يستنشق فإن غسله ليس بمجزئ. وذهب الشافعية والمالكية: إلى أجزائه دون المضمضة والاستنشاق.

_ (1) كذا في الأصل، ولعل الصواب: الأكبر. (2) راجع الجزء الأول من الطهارة صْ 121. (3) سيأتي قريباً.

أما أهل القول الأول: فاستدلوا بحديث ميمونة في الغسل وفيه: (ثم تمضمض واستنشق وغسل وجهه وذراعيه ثم أفاض على رأسه الماء ثم غسل جسده) (1) . قالوا: فقد ثبت هنا أن النبي صلى الله عليه وسلم قد تمضمض واستنشق والنبي صلى الله عليه وسلم إذا فعل فعلاً فيه بيان لمجمل القرآن فإنه يجب، فإن الله قال: {وإن كنتم جنباً فاطهروا} فتمضمض النبي صلى الله عليه وسلم واستنشق في غسله فعلى ذلك يجب؛ لأنه بيان لمجمل القرآن.

_ (1) أخرجه البخاري في كتاب الغسل، باب المضمضة والاستنشاق في الجنابة (259) بلفظ " حدثتنا ميمونة قالت: صببت للنبي صلى الله عليه وسلم غسلاً.. . ثم تمضمض واستنشق، ثم غسل وجهه وأفاض على رأسه ثم تنحى، فغسل قدميه ثم أتي بمنديل فلم ينفض بها "، وأخرجه مسلم (317) ، وأخرجه مسلم في كتاب الحيض، باب صفة غسل الجنابة (317) بلفظ: " قالت: أدنيت لرسول الله صلى الله عليه وسلم غسله من الجنابة فغسل كفيه مرتين أو ثلاثاً، ثم أدخل يده في الإناء، ثم أفرغ به على فرجه وغسله بشماله، ثم ضرب بشماله الأرض، فدلكها دلكاً شديداً، ثم توضأ وضوءه للصلاة، ثم أفرغ على رأسه ثلاث حفنات ملء كفه، ثم غسل سائر جسده، ثم تنحى عن مقامه ذلك، فغسل رجليه ثم أتيته بالمنديل فرده " قال مسلم بعد ذلك: " وفي حديث وكيع وصف الوضوء كله يذرك المضمضة والاستنشاق فيه ".

واستدل أهل القول الثاني: بالحديث المتقدم وهو حديث عمران بن حصين وفيه (اذهب فأفرغه عليك) (1)

_ (1) أخرجه البخاري في كتاب التيمم، باب الصعيد الطيب وضوء المسلم (344) قال: حدثنا مسدد قال: حدثني يحيى بن سعيد قال: حدثنا عوف قال: حدثنا أبو رجاء عن عمران قال: كنا في سفر مع النبي - صلى الله عليه وسلم -، وإنا أسرينا حتى كنا في آخر الليل، وقعنا وقعة، ولا وقعة أحلى عند المسافر منها، فما أيقظنا إلا حر الشمس، وكان أول من استيقظ فلانٌ ثم فلانٌ ثم فلان – يسميهم أبو رجاء فنسي عوف - ثم عمر بن الخطاب الرابع، وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا نام لم يوقظ حتى يكون هو يستيقظ؛ لأنا لا ندري ما يحدث له في نومه. فلما استيقظ عمر ورأى ما أصاب الناس، وكان رجلاً جليداً، فكبّر ورفع صوته بالتكبير، فما زال يكبر ويرفع صوته بالتكبير حتى استيقظ بصوته النبي - صلى الله عليه وسلم -، فلما استيقظ شكوا إليه الذي أصابهم قال: (لا ضير أو لا يضير، ارتحلوا) فارتحل فسار غير بعيد، ثم نزل فدعا بالوضوء، فتوضأ ونودي بالصلاة فصلى بالناس. فلما انفتل من صلاته، إذا هو برجل معتزل لم يصل مع القوم، قال: (ما منعك يا فلان أن تصلي مع القوم؟) قال: أصابتني جنابة ولا ماء، قال: (عليك بالصعيد، فإنه يكفيك) . ثم سار النبي - صلى الله عليه وسلم - فاشتكى إليه الناس من العطش، فنزل فدعا فلاناً - كان يسميه أبو رجاء نسيه عوف - ودعا علياً فقال: (اذهبا فابتغيا الماء) ، فانطلقا فتلقيا امرأة بين مزادتين أو سطيحتين من ماء على بعير لها، فقالا لها: أين الماء؟ قالت: عهدي بالماء أمسِ هذه الساعة، ونفَرُنا خُلُوف، قالا لها: انطلقي إذاً، قالت: إلى أين؟ قالا: إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، قالت: الذي يقال له الصابئ؟ قالا: هو الذي تعنين، فانطلقي، فجاءا بها إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وحدثاه الحديث، قال: فاستنزلوها عن بعيرها، ودعا النبي - صلى الله عليه وسلم - بإناء، ففرّغ فيه من أفواه المزادتين أو سطيحتين، وأوكأ أفواههما، وأطلق العزاليَ ونودي في الناس: اسقوا واستقوا. فسقى من شاء واستقى من شاء، وكان آخر ذاك أن أعطى الذي أصابته الجنابة إناء من ماء قال: (اذهب فأفرغه عليك) وهي قائمة تنظر إلى ما يفعل بمائها، وأيم الله لقد أُقلع عنها وإنه ليخيّل إلينا أنها أشد ملأة منها حين ابتدأ فيها. فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - (اجمعوا لها) فجمعوا لها من بين عجوة ودقيقة وسويقة، حتى جمعوا لها طعاماً، فجعلوها في ثوب، وحملوها على بعيرها، ووضعوا الثوب بين يديها، قال لها: (تعلمين، ما رَزِئْنا من مائك شيئاً، ولكن الله هو الذي أسقانا) فأتت أهلها وقد احتبست عنهم، قالوا: ما حبسك يا فلانة؟ قالت: العجب، لقيني رجلان، فذهبا بي إلى هذا الذي يقال له الصابئ، ففعل كذا وكذا، فوالله إنه لأسحر الناس من بين هذه وهذه، وقالت بإصبعيها الوسطى والسبابة، فرفعتهما إلى السماء – تعني: السماء والأرض - أو أنه لرسول الله حقاً، فكان المسلمون بعد ذلك يغيرون على من حولها من المشركين ولا يُصيبون الصِّرْم الذي هي منه، فقالت يوماً لقومها: ما أرى أن هؤلاء القوم يدعونكم عمداً، فهل لكم في الإسلام؟ فأطاعوها فدخلوا في الإسلام ". وأخرجه في كتاب المناقب، باب علامات النبوة في الإسلام (3571) . وأخرجه مسلم في كتاب المساجد، باب قضاء الصلاة الفائتة واستحباب تعجيل فضائها (682) بلفظ: عن عمران بن حصين قال: كنت مع نبي الله - صلى الله عليه وسلم - في مسير له، فأدلجنا ليلتنا..) الحديث، وهو طويل.

وليس فيه ذكر المضمضة والاستنشاق وتأخير البيان عن وقت الحاجة لا يجوز. وكذلك في حديث أم سلمة: (إنما يكفيك أن تحثي على رأسك ثلاث حثيات ثم تفيضين عليك الماء فتطهرين) (1) . وهذا القول - فيما يظهر لي – أصح؛ ذلك لأن هذه الأحاديث ليس فيها ذكر المضمضة والاستنشاق. وأما حديث ميمونة المتقدم فإن المضمضة والاستنشاق فيه ليس صريحاً أنها من الواجبات؛ لأنهم لم يوجبوا ما تضمنه هذا الحديث مما فيه سوى المضمضة والاستنشاق، من وضوئه قبل ذلك وفيما ذلك المضمضة والاستنشاق، فإن الوضوء ومنه المضمضة والاستنشاق وغسل الوجه وغسل اليدين وبقية الوضوء الذي يكون قبل الغسل بالاتفاق ليس بواجب، ومنه المضمضة والاستنشاق. والأحاديث التي استدلوا بها ظاهرة في عدم وجوب المضمضة والاستنشاق لاسيما في قول النبي صلى الله عليه وسلم لأم سلمه: (إنما يكفيك أن تحثي على رأسك ثلاث حثيات ثم تفيضين عليك الماء فتطهرين) ، والعلم عند الله تعالى (2)

_ (1) أخرجه مسلم في كتاب الحيض، باب حكم ضفائر المغتسلة (330) بلفظ: " عن أم سلمة قالت: قلت: يا رسول الله، إني امرأة أشد ضفر رأسي، فأنقضه لغسل الجنابة؟ قال: (لا إنما يكفيك أن تحثي علي رأسك ثلاث حثيات ثم تفيضين عليك الماء فتطهرين) .. وفي حديث عبد الرزاق: فأنقضه للحيضة والجنابة؟ فقال (لا) … وقد تقدم صْ 86. (2) قال الشيخ في شرحه لأخصر المختصرات ما نصه: " وهل تدخل في ذلك المضمضة والاستنشاق أم لا؟ قال الحنابلة والأحناف: أنه تدخل فيجب عليه أن يتمضمض ويستنشق 0 وقال الشافعية: لا يجب عليه أن يستنشق ويتمضمض 0 الشافعية والمالكية: لا يوجبون المضمضة والاستنشاق لا في الوضوء ولا في الغسل 0 والحنابلة: يوجبونه في الغسل والوضوء 0 والأحناف: فلا يوجبونهما في الوضوء ويوجبونهما في الغسل 0 وأنكر هذا أحمد والشافعي وقد تقدم لنا من الأدلة على وجوب المضمضة والاستنشاق، هذا القول هو أقرب القولين وكذلك الغسل وذلك أن الطهارة الصغرى تدخل في الطهارة الكبرى. فما ثبت في الطهارة الصغرى يثبت في الطهارة الكبرى ولذا تقدم أن من اغتسل فإن ذلك يجزئه عن الطهارة الصغرى. فما وجب في الطهارة الصغرى يجب في الطهارة الكبرى وإذا كان يجب أن يغسل أسفل شعره مع أنه مغطى بالشعر فكذلك يجب أن يغسل باطن الأنف والفم. وفي حديث ميمونة أن النبي- صلى الله عليه وسلم - تمضمض واستنشق، كما في الصحيحين. وهذا القول هو أقرب القولين والأحوط. والله أعلم.

إذن: المسألة فيها قولان: وجوب المضمضة والاستنشاق، وهذا مذهب الحنابلة والأحناف. عدم وجوبهما، وهو مذهب المالكية والشافعية. قوله: (ويتوضأ بمد ويغتسل بصاع) لما ثبت في الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم: (كان يتوضأ بمد - وهو ربع الصاع – ويغتسل بالصاع إلى خمسة أمداد) (1) ، هذا هو المستحب وهو فعل النبي صلى الله عليه وسلم. فإن غسل بدنه بأقل من الصاع أو توضأ بأقل من المد، لذا قال: (فأن أسبغ بأقل ... أجزأ) فإذا أسبغ بأقل من الصاع فإنه يجزئ عنه، ولكن عليه أن يتيقن الغسل أي غسل الأعضاء. أما إذا كان مسحاً فإنه لا يجزئ عنه فلابد وأن يجري الماء على أعضائه. قوله: (أو نوى بغسله الحدثين أجزأه) رجل اغتسل – وسواء قلنا أن المضمضة والاستنشاق من فرائض الغسل أو لم نقل ذلك – رجل اغتسل ونوى رفع الحدثين، الحدث الأكبر والحدث الأصغر، قال: (أجزأ عنه) . إذن لا يشترط أن يتوضأ، بل يجزئ عنه إذا نوى رفع الحدث الأصغر والأكبر. - وعن الإمام أحمد وهو قول للشافعي: أنه لا يجزئ عنه حتى يتوضأ؛ لأن الله قال: {يا أيها الذين آمنوا إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا …} (2) فيجب على من قام إلى الصلاة أن يتوضأ. واستدل الجمهور: بقوله تعالى: {وإن كنتم جنباً فاطهروا} (3) فلم يوجب سوى الطهارة، ولم يوجب وضوءاً، والطهارة من الجنابة الغسل، فإذا اغتسل فقد طهر، وقد قال صلى الله عليه وسلم: (ثم تفيضين عليك الماء فتطهرين) (4) ، وهذا هو الراجح – وهو مذهب جماهير العلماء - وأنه لا يشترط أن يتوضأ.

_ (1) أخرجه البخاري في كتاب الوضوء، باب الوضوء بالمد (201) بلفظ: " كان النبي صلى الله عليه وسلم يَغْسِلُ أو كان يغتسل بالصاع إلى خمسة أمداد، ويتوضأ بالمد "، وأخرجه مسلم (325) . (2) سورة المائدة. (4) وأخرجه مسلم وقد تقدم.

لكنه إن أحدث أثناء غسله كأن يمس ذكره فحينئذ لا يجزئ عنه الوضوء؛ لأنه قد انتقض أثناء الغسل. أما إذا لم يحدث أثناء غسله فإن هذا الغسل يجزئ عنه إذا نوى رفع الحدثين. إذن: لو أنه رفع الحدث الأكبر فحسب فإنه لا يجزئ عنه عن الوضوء، بل يجب عليه أن يتوضأ لحديث: (إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوي) (1) . - وذهب بعض الفقهاء، وهو رواية عن الإمام أحمد وهو اختيار شيخ الإسلام وتلميذه ابن القيم واختيار الشيخ عبد الرحمن السعدي: إلى أنه يجزئ عنه إذا نوى رفع الحدث الأكبر، ويدخل في ذلك الحدث الأصغر تبعاً له. واستدلوا بالآية المتقدمة وهي قوله: {وإن كنتم جنباً فاطهروا} قالوا: فلم يوجب الله عز وجل وضوءاً ولا نيته بل أوجب علينا الطهارة، فمن طهر فإنه يرتفع بذلك حدثه الأكبر والأصغر. وهذا القول هو القول الراجح، وأنه متى اغتسل عن الحدث الأكبر فإنه يرتفع عنه الحدث الأصغر تبعاً؛ لأنه عز وجل قال: {وإن كنتم جنباً فاطهروا} ، والطهارة هي الغسل كما تقدم في الأحاديث المتقدمة، ولم يشترط الله عز وجل سوى ذلك فلم يشترط وضوءاً ولا نيته، فعلى ذلك: متى نوى رفع الحدث الأكبر بغسله فإنه يرتفع الحدث الأصغر تبعاً له، والعلم عند الله. قوله: (ويسن لجنب غسل فرجه، والوضوء لأكل ونوم ومعاودة وطء)

_ (1) متفق عليه وقد تقدم.

أما الأكل: فلِما ثبت في مسلم عن عائشة قالت: " كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا كان جنباً فأراد أن ينام أو يأكل توضأ وضوءه للصلاة " (1) ، وفي الصحيحين عن عمر أنه قال: (يا رسول الله أيرقد أحدنا وهو جنب فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (نعم إذا توضأ فليرقد) وفي رواية: (اغسل ذكرك وتوضأ ثم نم) (2) ، فهذه الأحاديث واضحة في استحباب الوضوء للأكل والشرب وكذلك النوم. وهي واضحة أيضاً في استحباب غسل الفرج عند النوم.

_ (1) أخرجه مسلم في كتاب الحيض، باب جواز نوم الجنب واستحباب الوضوء له وغسل الفرج.. (305) عن عائشة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا أراد أن ينام وهو جنب، توضأ وضوءه للصلاة قبل أن ينام "، وبلفظ: " كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا كان جنباً فأراد أن يأكل أو ينام توضأ وضوءه للصلاة ". (2) أخرجه البخاري في كتاب الغسل، باب نوم الجنب (287) بلفظ: أن عمر بن الخطاب سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم أيرقد أحدنا وهو جنب؟ قال: (نعم إذا توضأ أحدكم فليرقد وهو جنب) ، وفي باب الجنب يتوضأ ثم ينام (290) بلفظ: ذكر عمر بن الخطاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم أنه تصيبه الجنابة من الليل، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: (توضأ واغسل ذكرك ثم نم) ، وأخرجه مسلم في كتاب الحيض، باب جواز نوم الجنب.. (306) بلفظ: عن ابن عمر أن عمر قال: يا رسول الله! أيرقد أحدثنا وهو جنب؟ قال: (نعم إذا توضأ) ، وبلفظ: أن عمر استفتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: هل ينام أحدنا وهو جنب؟ قال: (نعم، ليتوضأ ثم لينم، حتى يغتسل إذا شاء) ، وبلفظ: " ذكر عمر بن الخطاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم أنه تصيبه جنابة من الليل، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: (توضأ واغسل ذكرك ثم نم) .

وأما استحباب غسل الفرج عند الأكل والشرب كما هو ظاهر قول المؤلف فليس هذا بواضح، ولم أر دليلاً يدل عليه. وإنما يستحب له إذا أراد أن يأكل ويشرب أن يتوضأ وأما غسل فرجه فلم أر دليلاً من الأدلة الشرعية يدل على ذلك ولم أرهم استدلوا بدليل لهذه المسألة. ولا يضره حدث؛ لأن هذا الوضوء ليس لرفع الحدث، لأنه محدث حدثاً أكبر وليس في هذا الوضوء إزالة حدث عنه وإنما فيه تخفيف الجنابة. فعلي ذلك لو أحدث فيكفيه ما فعله من الوضوء السابق فلو أنه توضأ ثم أكل وشرب ثم أحدث وأراد أن يأكل ويشرب فلا يقال باستحباب الوضوء مرة أخرى؛ لأن هذا الوضوء إنما يراد بها (1) التخفيف للجنابة فلا يؤثر الحدث فيه. قوله: (ومعاودة وطء) . لقوله صلى الله عليه وسلم: (إذا أتى أحدكم أهله ثم أراد أن يعاود فليتوضأ بينهما وضوءاً) (2) ، وللحاكم بإسناد صحيح: (فإنه أنشط للعود) (3) . فالحكمة إذن هي التنشيط، وعليه فإنه إذا أحدث فلا يضره أيضاً؛ لأنه ليس المقصود من ذلك رفع حدث. * وما ذكرناه في الجنب مستحب أيضاً في الحائض والنفساء اللتين قد انقطع عنهما الدم، فإذا انقطع الدم عن الحائض والنفساء فيستحب لهما أن يفعلا ما يفعله الجنب، فهما في حكم الجنب تماماً. والحمد لله رب العالمين. انتهي باب الغسل بحمد الله. الدرس الخامس والثلاثون (يوم السبت: 17 / 12 / 1414 هـ) باب التيمم التيمم لغة: القصد، يقال: تيممت الشيء أي قصدته.

_ (1) كذا في الأصل. (2) أخرجه مسلم في كتاب الحيض، باب جواز نوم الجنب واستحباب الوضوء له وغسل الفرج إذا أراد أني أكل أو يشرب أو ينام أو يجامع (308) . بلفظ: " عن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ك (إذا أتى أحدكم أهله ثم أراد أن يعود فليتوضأ) زاد أبو بكر في حديثه: بينهما وضوءاً، وقال: ثم أراد أن يعاود ".

اصطلاحاً: هو التعبد لله عز وجل بمسح الوجه واليدين على وجه مخصوص. وسيأتي ذكر صفته. وهو مشروع بالكتاب والسنة والإجماع. أما الكتاب، فقوله تعالى: {وإن كنتم مرضى أو على سفر أو جاء أحدكم من الغائط أو لامستم النساء فلم تجدوا ماء فتيمموا صعيداً طيباً} (1) . ومن السنة ما ثبت في الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أعطيت خمساً لم يعطهن أحد قبلي – وذكر منها – وجعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً) (2) أي بالتيمم. وقد أجمع العلماء على مشروعيته. قال المؤلف رحمه الله: (وهو بدل طهارة الماء) فالتيمم بدل طهارة الماء، والبدل له حكم المبدل. فالبدل له حكم المبدل ما لم يثبت دليل يدل على اختصاص المبدل بحكم من الأحكام الشرعية – هذه قاعدة شرعية – وإلا فالأصل أن البدل له حكم المبدل منه، فكل حكم يثبت للبدل فهو ثابت للمبدل. فعلى ذلك: كل حكم يثبت للغسل والوضوء فإنه يثبت للتيمم إلا إذا دل دليل على أن الوضوء والغسل لهما حكم مختص بهما. فعلى ذلك يثبت التيمم للصلاة والطواف ومس المصحف وغير ذلك من الأحكام الشرعية. فإذن كل حكم يثبت للغسل والوضوء فهو ثابت للتيمم؛ لأنه بدل عنهما. فإذا قلنا – مثلاً – إن الطواف من شروطه الوضوء فلم يجد الماء فيجب عليه التيمم. وإن قلنا إنه سنة – كما هو الراجح – فإنه يستحب له التيمم إذا لم يجد الماء، وكذلك غيره من الأحكام. مسألة:

_ (1) سورة النساء والمائدة. (2) أخرجه البخاري في بداية كتاب التيمم (335) من حديث جابر بن عبد الله بلفظ: " أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أعطيت خمساً لم يعطهن أحد قبلي: نصرت بالرعب مسيرة شهرة وجعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً، فأيما رجل من أمتي أدركته الصلاة فليصل، وأحلت لي المغانم ولم تحل لأحد قبلي، وأعطيت الشفاعة، وكان النبي يبعث إلى قومه خاصة،وبعثت إلى الناس عامة) ، وانظر (3122) ،وأخرجه مسلم (521) .

رجل ليس بجنب بل الطهارة الكبرى ثابتة له وهو في خلاء ولا ماء عنده فهل يجوز له أن يطأ زوجته فتنتقض بذلك طهارته الكبرى أم يكره أم ما الحكم؟ روايتان عن الإمام أحمد: الرواية الأولى: أنه يكره له ذلك ما لم يخف العنت؛ لأنه يبطل بذلك الطهارة الأصلية. الرواية الأخرى – وهي المشهورة في المذهب، واختار هذا القول شيخ الإسلام ابن تيمية –: أنه لا يكره له ذلك؛ لأن التيمم طهارة وهو عادم للماء، وكونه قد انتقضت طهارته باختياره فإن هذا لا يضر. فعلى ذلك: لو وطئ من يعلم أنه عادم للماء وإنه متي أجنب فلا يمكنه الغسل بالماء إنما التيمم فإنه يجوز له ذلك ولا يكره له ذلك. قوله: (إذا دخل وقت فريضة أو أبيحت النافلة) هذا هو الشرط الأول. وقوله: (إذا دخل وقت فريضة) فمثلاً صلاة الظهر وقتها إذا زالت الشمس، فإذا زالت الشمس فيجوز له أن يتيمم لها – إن كان عادماً للماء وتوفرت فيه الشروط الأخرى –. وكذلك في النافلة، فلا يتيمم إلا إذا أبيحت له. فمثلاً: رجل أراد أن يتطوع تطوعاً مطلقاً، فليس له أن يتيمم في وقت النهي؛ لأنها لم تبح له النافلة، بل لا يتيمم إلا إذا خرج وقت النهي. مثاله: رجل أراد أن يصلي تطوعاً مطلقاً بعد طلوع الشمس، فليس له أن يتيمم قبل طلوعها، بل لا يتيمم إلا بعد طلوعها. ومثل ذلك: إذا ذكر صلاة فائتة، فإن الفائتة وقتها عند ذكرها. فليس له أن يتيمم إلا إذا أراد أن يصليها. أما إذا قال أريد أن أؤخرها ساعة أو ساعتين فليس التيمم. ومثل ذلك: إذا اجتمع الناس للاستقاء فإنه لا يتيمم إلا عند اجتماعهم، أما قبل ذلك فلا يتيمم. ومثل ذلك إذا كسفت الشمس فإنه يتيمم لكسوفها. - هذا هو مذهب الحنابلة وهو مذهب جمهور الفقهاء. ودليل ذلك – عندهم -: هو أن التيمم مبيح للصلاة ونحوها وليس رافعاً للحدث.

بمعنى: أن الصلاة تكون مباحة لكن الحدث باق، فإن من أحدث حدثاً أصغر أو أكبر فتيمم فإن الحدث ما زال باقياً، لكن الشارع أباح له هذه العبادة التي تشرط لها الطهارة. فإذن: عندهم أن التيمم مبيح، يعني يبيح الصلاة ونحوها، لكن الحدث باق غير مرتفع، وعلى ذلك: فيكون كمن به حدث متجدد – كالمستحاضة - فإنها تتوضأ إذا دخل وقت الصلاة، ووضوء المستحاضة لا يرفع حدثها بل يبيح لها الصلاة ونحوها وإلا فالحدث باق عليها. واستدلوا: على أن التيمم مبيح لا رافع: بما ثبت في سنن الترمذي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن الصعيد طهور المسلم وإن لم يجد الماء عشر سنين فإذا وجد الماء فليمسه بشرته فإن في ذلك خيراً) (1) . قالوا: فالشاهد قوله: (فليمسه بشرته) .

_ (1) أخرجه الترمذي في كتاب الطهارة، باب ما جاء في التيمم للجنب إذا لم يجد الماء (124) قال: " حدثنا محمد بن بشار ومحمود بن غيلان قالا حدثنا أبو أحمد الزبيري حدثنا سفيان عن خالد الحذاء عن أبي قلابة عن عمرو بن بُجْدان عن أبي ذر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إن الصعيد الطيب طهور المسلم وإن لم يجد الماء عشر سنين فإذا وجد الماء فليمسه بشرته فإن ذلك خير) ، وقال محمود في حديثه: إن الصعيد الطيب وضوء المسلم " قال: وفي الباب عن أبي هريرة وعبد الله بن عمرو وعمران بن حصين " قال أبو عيسى: وهكذا روى غير واحد عن خالد الحذاء عن أبي قلابة عن عمرو بن بُجدان عن أبي ذر. وقد روى هذا الحديث أيوب عن أبي قلابة عن رجل من بني عامر عن أبي ذر ولم يسمه. قال: وهذا حديث حسن صحيح، وهو قول عامة الفقهاء أن الجنب والحائض إذا لم يجدا الماء تيمما وصليا. ويروى عن ابن مسعود أنه كان يرى التيمم للجنب، وإن لم يجد الماء، ويروى عنه أنه رجع عن قوله فقال: يتيمم إذا لم يجد الماء، وبه يقول سفيان الثوري ومالك والشافعي وأحمد وإسحاق ".

وبما ثبت في الصحيحين – في قصة سفرٍ للنبي صلى الله عليه وسلم – من حديث طويل رواه عمران بن حصين، وفيه أن رجلاً قال للنبي صلى الله عليه وسلم: أصابتني جنابة ولا ماء فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: (عليك بالصعيد فإنه يكفيك) (1) فلما أتى النبي صلى الله عليه وسلم بالماء أعطاه إناء من ماء وقال له: (اذهب فأفرغه عليك) . قالوا: فقد أمره النبي صلى الله عليه وسلم أن يفرغه عليه ولو كان رافعاً للحدث لما أمره بذلك. وقد أجمع أهل العلم على أن المتيمم إذا وجد الماء فعليه أن يمسه بشرته. وإنما اختلفوا في هل هو في هذه المدة التي يجوز له التيمم، هل التيمم يرفع حدثه أم لا؟ فذهب جمهور أهل العلم: إلى أنه مبيح. وذهب أبو حنيفة وهو رواية عن الإمام أحمد واختاره جماعة من محققي العلماء كشيخ الإسلام وتلميذه، ذهبوا: إلى أن التيمم رافع للحدث. واستدلوا: بقوله تعالى: {ولكن يريد ليطهركم} وقوله صلى الله عليه وسلم في الحديث المتقدم: (إن الصعيد الطيب طهور المسلم) وقوله: (وجعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً) (2) . قالوا: فهذه الأدلة مصرحة بأن التيمم طهور، والطهور هو المطهر فاعل الطهارة. فعلى ذلك إذا تيمم فإنه تثبت له الطهارة وهي رفع الحدث، فإن حقيقة الطهور هو المطهر أي المثبت وصف الطهارة في فاعل التطهر. فحينئذٍ: يكون طاهراً، والطاهر من ارتفع حدثه، فالطاهر في الأصل من ارتفع حدثه كذا لما قال صلى الله عليه وسلم: (لا يمس القرآن إلا طاهر) (3) فهم من ذلك وجوب الوضوء والغسل أي فعل التطهر. أما أدلة أهل القول الأول: فإن غايتها أن تدل على أنه مؤقت، وأن هذا الرفع مؤقت إلى أن يأتي الماء؛ لأنه بدل عنه، فمتى ما وجد الماء فإنه يبطل، فهو ما قائم مقامه ما لم ينب المبدل. فما دام قد ثبت المبدل، فإن البدل يبطل، فيعود غير طاهر.

_ (1) متفق عليه، وقد تقدم صْ 89. (2) متفق عليه، وقد تقدم.

ومن الأدلة على القول الثاني: قالوا: إن الأصل أن البدل يقوم مقام المبدل منه، فالأصل أن التيمم يقوم مقام الوضوء والغسل، فما دام غير واجد للماء فمقتضى ذلك أن يرتفع الحدث. وهذا هو القول الراجح. وعليه: فلا يشترط أن يتيمم بعد زوال الشمس في صلاة الظهر – مثلاً –. وله أن يتيمم قيل أن تباح له النافلة ما لم يجد الماء، فإذا وجد الماء فيجب عليه أن يمسه بشرته. وعليه كذلك: لا يبطل تيممه بخروج الوقت، بل إذا تيمم لصلاة الظهر فله أن يصلي فيه صلاة العصر والمغرب ونحو ذلك ما لم ينتقض بحدث. ولم يثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يتيمم لكل صلاة ولا أمر بذلك، والأدلة الشرعية مطلقة ليس فيها تحديد بشيء من ذلك، فأين بيان الشارع؟! فالشارع قد أطلق التيمم ومقتضى هذا الإطلاق أن يرفع الحدث وأن له أن يتيمم قبل دخول الوقت وأن يبقى بعد خروج الوقت. وهذا هو الراجح وهو أن التيمم رافع للحدث. قوله: (وعدم الماء) هذا هو الشرط الثاني وهو أن يعدم الماء فلا يكون واجداً له، أي ليس ثمت ماء بعد تطلب الماء، فمتى عدم الماء وقد تطلبه بالطريق التي ستأتي ذكرها ثم لم يجده فهو عادم له. فإذاً: الشرط الثاني أن يكون عادماً للماء. فعلى ذلك: إذا كان واجداً للماء فلا يجوز له أن يتيمم إلا فيما سيأتي من المسائل، وهذا قد أجمع عليه أهل العلم. وهذا الشرط دل عليه قوله تعالى: {فلم تجدوا ماء فتيمموا} (1) . فإذا نسي الماء؟ بمعني: رجل تيمم وصلى ثم تذكر أن عنده ماء فيجب عليه أن يعيد الصلاة ويكون معذوراً لنسيانه، كما لو صلى بلا وضوء فإنه يجب أن يعيد؛ لأن هذا من باب الأفعال، والأفعال لابد من فعلها وإنما يعذر الشخص بجهلها أو نسيانها وأما أن يسقط فلا. قوله: (أو زاد على ثمنه كثيراً أو ثمن يعجزه) رجل غير واجد للماء لكن هذا الماء مملوك لغيره ولم يبذله إلا بثمن فهل يجب عليه أن يشتريه أم لا؟

لا تخلو هذه المسألة من ثلاثة أحوال: ا- الحالة الأولى: أن يبذله له بثمن مثله أي ثمنه العادي، فإنه يجب عليه أن يشتريه؛ لأنه في حكم الواجد للماء، لأنه مالك للثمن الذي يمكنه أن يشتري به الماء فكان في حكم الواجد للماء، وهذا بإجماع أهل العلم. * فإن كان المال ليس حاضراً عنده لكنه يمكنه أن يقترض وهو قادر على الوفاء في الحكم؟ قولان في المذهب: أظهرهما - وهو اختيار شيخ الإسلام – أنه يجب عليه أن يشتريه؛ لأنه في حكم من معه المال. فإن كان المال ليس حاضراً عنده ويمكنه الاقتراض لكن لا يمكنه الوفاء، فلا يجب عليه أن يشتريه. * فإذا وُهب الماء إليه: فالمشهور في المذهب أنه لا يجب عليه قبوله للحرج الواقع بسبب المنة. فإن لم تكن هناك مِنَّة فيزول ذلك ويجب عليه أن يقبل الماء. إذاً هذه الحالة الأولى وهي أن يكون الماء بثمن المثل. 2- الحالة الثانية: أن يزيد على ثمن المثل يسيراً، كأن يكون ثمنه درهماً فيبيعه بدرهمين - والمرجع في ذلك إلى العرف – فيجب عليه أن يشتريه؛ لأن هذه الزيادة لا تلحقه حرجاً. 3 – الحالة الثالثة: أن يكون ثمنه كثيراً. ففيه قولان في المذهب: القول الأول: أنه يجب عليه ما لم يجحف بماله – وهو رواية عن الإمام أحمد –. فمثلاً: رجل عنده مال كثير جداً ولا يجحف بماله مئة ألف، فوجد ماء قليلاً يكفيه للوضوء فأرُيد بيعه بمائة ألف فيجب عليه أن يشتريه. القول الثاني: أنه لا يجب عليه وإن كان لا يجحف بماله، وهذا هو الراجح؛ لأن الله عز وجل شرع التيمم لرفع الحرج وكونه كثيراً فيه حرج وإن لم يجحف بالمال – هذا هو المشهور في المذهب –، لذا قال المؤلف: (أو زاد على ثمنه كثيراً) أي كثيراً لم يجحف بالمال. أما إذا كان كثيراً يجحف بالمال فلا يجب عليه قولاً واحداً؛ لأن في ذلك ضرراً. فعلى ذلك:

إذا كان الثمن مثلياً أو زاد يسيراً فإنه يجب عليه أن يشتريه. أما إذا كان كثيراً يجحف بماله أو لا يجحف لكنه كثير في إنفاقه حرج، فلا يجب عليه الشراء – هذا هو المشهور في المذهب – وهو الراجح. ومثل ذلك في الحكم: ما يمكنه إخراج الماء به من حبل ودلو فإن كان بثمن المثل أو زاد زيادة يسيرة فيجب عليه أن يشتريه. أما إذا زاد على ثمن مثله زيادة كثيرة فلا يجب عليه شراؤه. ومثل ذلك استئجار من يخرج له الماء، فإنه إذا كان مثلياً أو زائداً زيادة يسيرة فيجب عليه أن يستأجر لأنه بحكم الواجد للماء. قوله: (أو ثمن يعجزه) : ولو كان يسيراً، ولو كان أقل من ثمن المثل لكنه يعجزه فلا يجب عليه؛ لأن العاجز بحكم العادم. بمعنى: رجل لا يملك قيمة الماء والمراد قيمته الأصلية وثمنه العادي فإنه يتيمم لأنه بحكم العادم للماء فالعاجز في حكم العادم للماء. قوله: (أو خاف باستعماله أو طلبه ضرر بدنه أو رفيقه أو حرمته أو ماله بعطش أو مرض أو هلاك ونحوه شرع التيمم) قوله: (أو خاف باستعماله ضرر بدنه ... ... .إلى أن قال (بعطش) : فإذا خاف باستعمال الماء الضرر بالعطش، يعني معه ماء إن توضأ به فإنه يخاف على نفسه العطش فإنه يتيمم ولا يتوضأ ولا يغتسل، لأن في وضوئه منه أو غسله إلحاق لنفسه بالضرر، وقد قال تعالى: {فاتقوا الله ما استطعتم} (1) وقال صلى الله عليه وسلم: (لا ضرر ولا ضرار) (2)

_ (2) قال في الأربعين النووية: " حديث حسن رواه ابن ماجه والدارقطني وغيرهما مسنداً ". أخرجه ابن ماجه في كتاب الأحكام (2341) قال رحمه الله: " حدثنا محمد بن يحيى حدثنا عبد الرزاق أنبأنا معمر عن جابر الجعفي عن عكرمة عن ابن عباس قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (لا ضرر ولا ضرار) . (2340) حدثنا عبدُ ربه بن خالد النُّميري أبو المُغلِّس حدثنا فُضيل بن سليمان حدثنا موسى بن عقبة حدثنا إسحاق بن يحيى بن الوليد عن عبادة بن الصامت أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قضى أن لا ضرر ولا ضرار ". وأخرجه الدارقطني في سننه (4 / 227) قال: " نا محمد بن عمرو بن البختري نا أحمد بن الخليل نا الواقدي نا خارجة بن عبد الله بن سليمان بن زيد بن ثابت عن أبي الرجال عن عمرة عن عائشة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (لا ضرر ولا ضرار) . نا أحمد بن محمد بن أبي شيبة نا محمد بن عثمان بن كرامة نا عبيد الله بن موسى عن إبراهيم بن إسماعيل عن داود بن الحصين عن عكرمة عن ابن عباس أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (للجار أن يضع خشبته على جداره وإن كره، والطريق الميتاء سبع أذرع، ولا ضرر ولا إضرار) . نا إسماعيل بن محمد الصفار نا عباس بن محمد نا عثمان بن محمد بن عثمان بن ربيعة بن أبي عبد الرحمن نا عبد العزيز بن محمد عن عمرو بن يحيى عن أبيه عن أبي سعيد الخدري أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (لا ضرر ولا إضرار) . نا أحمد بن محمد بن زياد نا أبو إسماعيل الترمذي نا أحمد بن يونس نا أبو بكر بن عياش قال: أراه قال عن عطاء عن أبيه عن أبي هريرة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (لا ضرر ولا ضرورة، ولا يمنعن أحدكم جاره أن يضع خشبه على حائطه) ".

، وثبت في مسند أحمد وسنن أبي داود بإسناد صحيح عن عمرو بن العاص قال: (بعثني النبي صلى الله عليه وسلم في غزوة ذات السلاسل قال: فاحتلمت وكانت ليلة شديدة فخشيت على نفسي فتيممت فصليت بأصحابي فذكر ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فقال: (يا عمرو صليت بأصحابك وأنت جنب، فأخبرته بما منعني من الاغتسال قلت: قد سمعت الله يقول: {ولا تقتلوا أنفسكم إن الله كان بكم رحيماً} (1) قال: فضحك النبي صلى الله عليه وسلم ولم يقل شيئاً) (2) أي أقره ولم ينكر فعله. فإذا خشي على نفسه الضرر أو استعمل الماء بعطش أو مرض، فإن المرض مبيح للتيمم كما قال تعالى: {وإن كنتم مرضى أو على سفر أو جاء أحد منكم من الغائط أو لامستم النساء فلم تجدوا ماءً فتيمموا صعيداً طيباً} (3) .

_ (1) سورة النساء 29. (2) أخرجه أبو داود في كتاب الطهارة، باب إذا خاف الجنب البرد، أيتيمم؟ (334) قال: " حدثنا ابن المثنى، أخبرنا وهب بن جرير، أخبرنا أبي، قال: سمعت يحيى بن أيوب يحدث عن يزيد بن أبي حبيب عن عمران بن أبي أنس عن عبد الرحمن بن جُبير المصري عن عمرو بن العاص قال: احتلمت في ليلة باردة في غزوة ذات السلاسل، فأشفقت إن اغتسلت أن أهلك، فتيممت، ثم صليت بأصحابي الصبح، فذكروا ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم، فقال: (يا عمرو، صليت بأصحابك وأنت جنب؟) فأخبرته بالذي منعني من الاغتسال، وقلت: إني سمعت الله يقول: (ولا تقتلوا أنفسكم إن الله كان بكم رحيماً) فضحك رسول الله صلى الله صلى الله عليه وسلم ولم يقل شيئاً ".

فإذا كان استعمال الماء يزيد مرضه أو يؤخر برؤه فيشرع له التيمم، وكذلك من خاف على نفسه المرض لقوله تعالى: {فاتقوا الله ما استطعتم} ولحديث: (لا ضرر ولا ضرار) ولأن في ذلك حرجاً وقد قال تعالى: {ما يريد الله ليجعل عليكم في الدين من حرج} (1) وإيجاب شيء يظن ثبوت المرض به ممنوع شرعاً، فلا يوجب الشارع أمراً يثبت به غالباً المرض، فما دام أن هذا الرجل متى توضأ خاف على نفسه فيجوز له التيمم. ولا شك أن هذا الخوف مع توفر الأسباب، أما إذا كان خوفاً من غير وجود أسبابه فإن هذا الخوف ليس معتبراً. وإنما كأن يكون في ليلة باردة وخشي المرض أو نحو ذلك من الأسباب. أما إن تيمم بمجرد توهم فإنه لا يجوز ذلك، وكل الخوف المذكور إنما هنا مع توفر الأسباب التي هي مظنة وقوع الأمر الذي يخاف منه. قال: (أو هلاك) : كذلك إذا خشي على نفسه الهلاك باستعمال الماء فكذلك كما تقدم في حديث عمرو بن العاص، كأن يكون ذلك في ليلة شديدة البرد ولا يمكنه أن يسخن الماء أو كان في مكان مكشوف ويخشى أن يصيبه الهواء فيضر بدنه فيلحقه موتاً أو – كما تقدم – مرضاً أو نحو ذلك. قال: (أو رفيقه) : خشي العطش على رفقائه. أو على (حرمته) : أي امرأة أو أخت أو نحو ذلك مما معه فإنه يتيمم. بمعنى: رجل لا يخشى على نفسه العطش لكنه يخشى على رفيقه والمراد به رفيقه المحترم وهو من له حرمة كالمسلم والذمي. وأما الحربي فليس له ذلك؛ لأنه حربي دمه هدر ومثل ذلك الزاني المحصن أو نحو ذلك فإن هؤلاء لا حرمة لهم. (أو ماله) بأن يكون معه دواب ونحو ذلك من ماشية ونحوها فخشي عليها العطش فكذلك يجوز له التيمم مع وجود الماء. إذن: متى خاف باستعمال الماء أو طلبه ضرر بدنه أو رفيقه أو حرمته أو ماله بعطش أو مرض أو هلاك ونحوه من الضرر فإنه يشرع له التيمم.

_ (1) سورة الحج، الآية الأخيرة.

أو – كذلك خاف هذه المخاوف على بدنه أو رفيقه أو حرمته أو ماله – خاف ذلك بطلبه وليس باستعماله. يعني: الماء قريب منه يمكنه أن يأتي به لكنه يخشى على نفسه كأن يكون بينه وبينه لص أو سبع أو امرأة وبينها وبينه فساق ويخشى على عرضها أو نحو ذلك فيجوز لهؤلاء أن يتيمموا. فهم في الأصل واجدون للماء لأن الماء قريب منهم ويمكنهم استعماله ولكن المانع إنما هو وجود ما يلحقه الضرر، فيوجد بينه وبين هذا الماء القريب لص أو سبع أو نحو ذلك يخشون الضرر على أبدانهم وأموالهم أو تخاف المرأة على عرضها فإنهم يتيممون ويصلون بهذا التيمم. إذن: القاعدة: (أنه إذا لم يجد الماء أو وجده لكنه خشي الضرر باستعماله أو بطلبه فيجوز له التيمم) سواء كان الضرر به أو برفقته أو حرمته أو بماله أو بمن معه من الناس. ومثل ذلك من أتاه رجل فطلب منه الماء فإنه في مثل الرفيق وكان له حرمة ومتى منعه الماء فإنه يموت عطشاً فيلحق هذا الطالب الضرر، فإنه يجب عليه أن يدفع لهذا الطالب الماء ويتيمم للخوف من الضرر، ولهذا حرمة كما أن لنفسه حرمة. والحمد لله رب العالمين الدرس السادس والثلاثون (يوم الأحد: 18 / 12 / 1414هـ) قال المؤلف رحمه الله: (ومن وجد ماءً يكفي بعض طهره يتيمم بعد استعماله) . صورة هذه المسألة: فيمن وجد ماء يكفي لبعض غسله أو بعض وضوئه، فلفظة (طهره) شاملة للغسل والوضوء. كأن يجد رجل ماءً يكفي غسل وجهه ويديه ومسح رأسه دون غسل رجليه فما الحكم؟

قال هنا: (تيمم بعد استعماله) إذن: يجب عليه أن يستعمله لقوله: (بعد استعماله) فيجب عليه أن يستعمل هذا الماء فيغسل ما أمكنه من بدنه أو ما أمكنه من أعضاء وضوئه، لقوله تعالى: {فاتقوا الله ما استطعتم} ولحديث: (إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم) (1)

_ (1) أخرجه البخاري في كتاب الاعتصام بالكتاب والسنة (7288) فقال رحمه الله تعالى: " حدثنا إسماعيل حدثني مالك عن أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (دعوني ما تركتكم، فإنما أهلك من كان قبلكم سؤالهم واختلافهم على أنبيائهم، فإذا نهيتكم عن شيء فاجتنبوه، وإذا أمرتكم بشيء فأتوا منه ما استطعتم) " وأخرجه مسلم في كتاب الحج (1337) [صحيح مسلم بشرح النووي (9 / 100) ] فقال: " وحدثني زهير بن حرب حدثنا يزيد بن هارون أخبرنا الربيع بن مسلم القرشي عن محمد بن زياد عن أبي هريرة قال: خطبنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: (أيها الناس قد فرض الله عليكم الحج فحجوا) فقال رجلٌ: أكل عام يا رسول الله؟ فسكت حتى قالها ثلاثاً، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (لو قلت نعم لوجبت ولما استطعتم) ثم قال: (ذروني ما تركتكم فإنما هلك من كان قبلكم بكثرة سؤالهم واختلافهم على أنبيائهم، فإذا أمرتكم بشيء فأتوا منه ما استطعتم، وإذا نهيتكم عن شيء فدعوه) ". وأخرجه أيضاً في كتاب الفضائل بعد حديث (2357) [صحيح مسلم بشرح النووي (15 / 109) ] فقال: " حدثني حرملة بن يحيى التُّجيبي أخبرنا ابن وهب أخبرني يونس عن ابن شهاب أخبرني أبو سلمة بن عبد الرحمن وسعيد بن المسيَّب قالا: كان أبو هريرة يحدث أنه سمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: (ما نهيتكم عنه فاجتنبوه، وما أمرتكم به فافعلوا منه ما استطعتم، فإنما أهلك الذين من قبلكم كثرة مسائلهم واختلافهم على أنبيائهم) . وحدثني محمد بن أحمد بن أبي خلف حدثنا أبو سلمة وهو منصور بن سلمة الخزاعي أخبرنا ليث عن يزيد بن الهاد عن ابن شهاب بهذا الإسناد مثله سواء. حدثنا أبو بكر ابن أبي شيبة وأبو كريب قالا حدثنا أبو معاوية ح وحدثنا ابن نمير حدثنا أبي كلاهما عن الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة ح وحدثنا قتيبة بن سعيد حدثنا المغيرة - يعني الحِزامي - ح وحدثنا ابن أبي عمر حدثنا سفيان كلاهما عن أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة ح وحدثناه عبيد الله بن معاذ حدثنا أبي حدثنا شعبة عن محمد بن زياد سمع أبا هريرة ح وحدثنا محمد بن رافع حدثنا عبد الرزاق أخبرنا معمر عن همام بن منبه عن أبي هريرة، كلهم قال عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ذروني ما تركتكم، وفي حديث همام: ما تركتكم، فإنما هلك من كان قبلكم ثم ذكروا نحو حديث الزهري عن سعيد وأبي سلمة عن أبي هريرة ". وقد تقدم صْ 16.

ويجب عليه أن يتيمم لقوله: (يتيمم) ؛ وذلك لأن هذا الماء الذي غسل به بعض بدنه أو بعض أعضاء وضوئه ليس متماً لطهارة البدن فوجب عليه أن يتيمم ليتم طهارته. والواجب أن يكون هذا التيمم بعد الاستعمال، فلو تيمم قبل الاستعمال أو معه لم يجزئه، بل يجب أن يكون التيمم بعد استعماله للماء. وعلة ذلك: أن العذر هو عدم الماء، فلو تيمم قبل أن يستعمل هذا الماء فإنه تيمم مع وجود الماء والواجب أن يكون التيمم عند عدم الماء، فإن عذره ليس لمرض أو حرج وإنما هو لعدم الماء، ولو تيمم قبل استعماله الماء فهو ليس عادماً له، بل الماء موجود فوجب أن يكون التيمم بعد استعماله، هذا هو تقرير مذهب الحنابلة وهو مذهب الشافعية. إذن: من وجد ماءً يكفي لبعض طهره فإنه يجب عليه أن يغسل ما يمكنه غسله بهذا الماء ثم بعد ذلك يتيمم، فيجمع بين غسل ما أمكنه لقوله تعالى: {فاتقوا الله ما استطعتم} وبين التيمم للتعليل المتقدم. - وذهب المالكية والأحناف: إلى أنه يكتفي بالتيمم وأنه لا يغسل جسده، وعللوا ذلك بعلتين: العلة الأولى: أن التيمم بدل عن الغسل والوضوء، ولا يجمع بين البدل والمبدل منه. وأجيب عن هذا من أهل القول الأول: بأن التيمم هنا إنما هو بدل عن الأعضاء التي لم تغسل. ففي المثال المتقدم: التيمم إنما هو بدل عن غسل الرجلين فحسب، وليس بدلاً عما تم غسله من أعضاء البدن، بل هو بدل عما لم يغسل دون ما تم غسله. وأوضح من ذلك أن يقال: إنما هو هنا متمم للطهارة فلما غسل بعض بدنه وبقيت أعضاء لم يمسها الماء وعدم الماء فإنه يتيمم عن الباقي، فيكون التيمم هنا متمماً للطهارة. ولنا أن نضرب على هذا نظيراً، وهو قوله تعالى: {فتحرير رقبة من قبل أن يتماسا فمن لم يجد فإطعام ستين مسكينا} (1)

_ (1) سورة المجادلة.

قالوا: فلو أمكنه أن يعتق بعض الرقبة فإنه لا يفعل ذلك بل يعدل – بالاتفاق – إلى صيام شهرين متتابعين، لأن الله إنما أمر بعتق رقبة كاملة وكذلك قوله: {فلم تجدوا ماء فتيمموا} (1) والمراد فلم تجدوا ماء تتطهرون به الطهارة الكاملة، فإنه – حينئذ – تعدلون إلى التيمم. والعلة الثانية: أن غسل بعض البدن ليس هو الطهارة وإنما الطهارة غسل البدن كله، أي أن هذا الفعل منه لا تتم به الطهارة وإنما تثبت الطهارة بالماء بغسل البدن كله في الغسل، وبغسل الأعضاء الأربعة كلها في الوضوء، وأما غسل بعض الأعضاء أو غسل بعض البدن فليس طهارة. وهذا هو قول أكثر أهل العلم كما قال ذلك البغوي وهو قول قوي إلا أن الاحتياط هو ما ذهب إليه الحنابلة من الجمع بين التيمم وغسل بعض البدن أو بعض الأعضاء فيغسل بعض بدنه أو بعض أعضاء وضوئه ثم يتيمم عن الباقي بعد استعمال الماء. قوله: (ومن جرح تيمم له وغسل الباقي) إذا أصيب بجرح في بدنه وكان – مثلاً – جنباً وإذا مس الماء هذا الجرح فإنه يضر به أو يخشى الضرر وقد يكون هذا ليس خاصاً بمحل الجرح بل قد يكون فيما حوله ويعلم أنه متي غسل ما حوله فإن الماء يتساقط على هذا الجرح فيتضرر. فالحكم هنا أنه: يغسل ما ليس مجروحاً من بدنه أو أعضاء وضوئه ويتمم عن الجرح. ولو مسحه فكذلك حتى لو كان عليه جبيرة فمسح عليها فإنه يتيمم كذلك، لأن الواجب إنما هو الغسل، وهذا إذا مسح فإنما ذلك لأن ذلك استطاعته ويبقى واجب الغسل فيجبره بالتيمم. وهنا لم يوجب أن يكون التيمم بعد الوضوء أو الغسل كما أوجبه في المسألة السابقة. وعليه: فلو تيمم أثناء الوضوء، أو الغسل أو قبله أو بعده فإنه يجزئ عنه، فإنه قال هنا: (ومن جرح تيمم له وغسل الباقي) ولم يقل: (تيمم له بعد غسل الباقي) كما تقدم في المسألة السابقة. * واعلم أن من كان مجروحاً فإنه لا يخلو حكمه من حالتين:

الحالة الأولى: أن يكون الواجب عليه هو الغسل كأن يكون جنباً وجرح فإذا تيمم قبله أو معه أو بعده فإنه يجزئ عنه؛ لأن التيمم بدل غسل هذا الجرح، ومعلوم أن الترتيب في الغسل ليس بواجب فلو غسل أسفل بدنه قبل أعلاه أو أيسره قبل أيمنه فإنه يجزئ عنه فالغسل لا يجب فيه الترتيب، والتيمم بدل عن غسل هذا الجرح الذي أصابه. فلو تيمم ثم اغتسل وترك موضع الجرح فإنه يجزئ عنه. ولو غسل بعض بدنه ثم تيمم ثم أتم الباقي دون موضع الجرح فإنه يجزئ عنه. ولو تيمم بعد الغسل فإنه يجزئ عنه. الحالة الثانية: أن يكون الواجب عليه وضوءاً، والوضوء الترتيب فيه واجب، وعليه: فإنه يجب عليه أن يتيمم في موضع غسل هذا العضو. فإذا كان مثلاً الجرح في يده فإنه يغسل وجهه ثم يتيمم ثم يمسح رأسه ثم يغسل رجليه. وإن كان الجرح ليس عاماً في اليد كلها فإنه يغسل ما أمكنه من اليدين ويتيمم أو يتيمم ثم يغسل ما أمكنه من اليدين ثم يمسح رأسه ثم يغسل رجليه؛ لأن التيمم هنا بدل عن غسل هذا الجرح، فإذا كان بدلاً عنه فإنه يجب أن يكون في موضعه لأن الترتيب واجب في الوضوء. إذن: على ذلك يجب على من أصيب بجرح أن يغسل بدنه الذي لم يصبه الأذى، وما أصابه الأذى فإنه يتيمم عنه، وإن كانت عليه جبيرة مسح عليها مع التيمم. وعليه - إن كان وضوءاً - أن يتيمم مرتباً التيمم مع الوضوء، فيجعل التيمم في موضع العضو الذي سقط غسله بسبب هذا الجرح. وأما إن كان غسلاً فلا يجب فيه الترتيب هذا هو المذهب. - وذهب بعض الحنابلة وهو اختيار المجد ابن تيمية وحفيده شيخ الإسلام ابن تيمية: إلى أن الترتيب ليس بواجب فلا يجب أن يجعل التيمم موضع العضو المجروح. قال: - أي شيخ الإسلام -: لأن إدخال التيمم بين أعضاء الوضوء بدعة، فالمشروع أن يتوضأ ما أمكنه ثم بعد ذلك يتيمم أو يتيمم قبل ذلك.

أما أن يدخل التيمم أثناء الوضوء فإن إدخال شيء من الطهارة بين أعضاء الوضوء بدعة، وما دام بدعة فإنه لا يكون مشروعاً. ولكن إن فعل ذلك فإنه يجزئ عنه لكونه قد فعل ما وجب عليه، وإنما الابتداع في كونه قد فعله أثناء الوضوء. فشيخ الإسلام – إذن – يقول: الأصل في الوضوء الوارد عن الشارع أن يتوضأ الوضوء بقدر ما استطاع من غير أن يدخل بينه التيمم. والعلة الأخرى: أن التيمم طهارة أخرى، والوضوء طهارة، فكل طهارة متباينة عن الطهارة الأخرى، فهذه طهارة بالماء، وهذه طهارة بالتراب، والأصل في مثل ذلك أن يفرق بينهما. إذن الراجح - هو ما ذهب إليه شيخ الإسلام من - أنه لا يجب عليه الترتيب بوضع التيمم في موضع العضو الواجب عليه التيمم عنه لوجود جرح أو نحوه. بل له أن يتيمم قبل الوضوء وله أن يتيمم بعده؛ لأن الشارع قد ثبت عنه الوضوء من غير أن يثبت في خلاله التيمم، ولأن التيمم طهارة أخرى. وقال الحنابلة أيضاً – يجب الموالاة – فعلى ذلك يكون التيمم كأنه غسل للعضو تماماً. فعلى ذلك إذا قلنا إن التيمم مبيح – كما هو مذهب الحنابلة – فإذا خرج الوقت فإنه يبطل التيمم، فما حكم الغسل؟ بمعنى: رجل غسل بدنه كاملاً أو رجل توضأ وضوءاً تاماً سوى موضع جرح تيمم له فخرج الوقت، فإنه يبطل التيمم ويبطل الغسل أيضاً، فيجب إعادة الغسل لوجوب الموالاة. وقد تقدم ترجيح: أن التيمم أولاً طهارة منفردة، وتقدم أن الصواب أن التيمم رافع لا مبيح. فعلى ذلك: الصحيح أنه إذا حدث فيه ذلك وخرج الوقت فإن التيمم يبقى صحيحاً ولا يبطل بخروج الوقت. ولو قلنا إنه مبيح فإنه لا يجب عليه أن يعيد ما غسله من الأعضاء بل يكفيه التيمم لأن التيمم طهارة منفردة. إذاً: يجب على من كان في شيء من بدنه جرح أن يغسل بدنه ويتيمم للباقي. وذهب – من ذهب من أهل القول المخالف في المسألة السابقة – إلى خلاف هذه المسألة فقالوا: يكتفي بالتيمم.

وهذا فيه شيء من النظر، لأن الله عز وجل قال: {فاتقوا الله ما استطعتم} ، وقال صلى الله عليه وسلم: (إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم) (1) وهنا ليس عادماً للماء كما في المسألة السابقة – بل الماء موجود لكنه عجز عن استعمال الماء في موضع من المواضع فناب عنه التيمم. ويستأنس له بالحديث الضعيف الذي تقدم ذكره، وهو ما رواه أبو داود أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (قتلوه قتلهم الله ألا سئلوا إذا لم يعلموا فإنما شفاء العي السؤال إنما يكفيه أن يتيمم ويعصب على جرحه خرقة ثم يمسح عليها) (2) . فجمع بين المسح والتيمم – وهو الاحتياط -. فعلى ذلك: إذا أصاب شيء من جسده جرح فإنه يغسل سائر جسده ويتيمم لجرحه. والمشروع أن يكون ذلك التيمم قبل الغسل أو بعده، ولا يشرع أن يكون أثناءه خلافاً لما ذهب إليه الحنابلة في الوضوء وجوباً، وما ذهبوا إليه في الغسل جوازاً، بل المستحب والسنة ألا يفعل ذلك أثناء الوضوء والغسل وإنما يفعله قبلهما أو بعدهما. قوله: (ويجب طلب الماء في رحله وقربه) فيجب عليه أن يتطلب الماء.

_ (1) متفق عليه، وقد تقدم صْ 16. (2) أخرجه أبو داود في كتاب الطهارة، باب في المجروح يتيمم (336) قال: حدثنا موسى بن عبد الرحمن الأنطاكي حدثنا محمد بن سلمة عن الزبير بن خُريق عن عطاء عن جابر قال: خرجنا في سفر فأصاب رجلاً منا حجَرٌ فشجه في رأسه ثم احتلم فسأل أصحابه فقال: هل تجدون لي رخصة في التيمم؟ فقالوا: ما نجد لك رخصة وأنت تقدر على الماء، فاغتسل فمات، فلما قدمنا على النبي - صلى الله عليه وسلم - أُخبر بذلك فقال: (قتلوه قتلهم الله ألا سألوا إذ لم يعلموا، فإنما شفاء العي السؤال، إنما كان يكفيه أن يتيمم ويعصر أو يعصب - شك موسى – على جرحه خرقة ثم يسمح عليها ويغسل سائر جسده) . وقد تقدم صْ 16.

بمعني: رجل ليس الماء حاضر عنده فإنه لا يكتفي بمجرد ذلك من غير أن يتطلبه ويبحث عنه، بل يجب عليه أن يتطلبه عن يمينه وشماله وأمامه ووراءه، وإذا كان هناك محلاً خضراً أو ربوة أو مكاناً مرتفعاً يحتمل أن يكون فيه الماء وهو قريب إليه فعليه أن يبحث فيه. إذن: عليه أن يتطلب الماء في الأماكن القريبة منه وإذا كان هناك أهل خبرة - ممن معه – بمواضع الماء فإنه يسأله، فإن كان قريباً عرفاً فيجب عليه أن يذهب إليه، وإن كان بعيداً فلا يجب عليه ذلك؛ لأنه لا يمكن أن يحكم عليه بأنه غير واجد للماء إلا بفعل ذلك. كما أنه لا يحكم عليه بأنه غير واجد للرقبة فينتقل إلى صيام شهرين إلا بمثل هذا من التطلب. فلابد من تطلب الماء والبحث عنه في المواضع القريبة وسؤال أهل الخبرة وسؤال من معه من الرفقة، فإذا لم يجد ماءً فإنه يتيمم ولا شيء عليه في ذلك وهو في حكم غير واجد للماء. لذا قال: (ويجب طلب الماء) للدليل المتقدم وهو قوله تعالى: {فلم تجدوا ماء فتيمموا} ولا يحكم عليه بأنه غير واجد للماء إلا بتطلبه والبحث عنه بحيث لا يلحقه الحرج في ذلك، لذا قلنا إنه إذا كان يعلم أن هناك ماء لكنه بعيد يلحقه الحرج والمشقة في الذهاب إليه فإنه لا يجب عليه أن يتطلبه ويذهب إليه، بخلاف ما إذا كان قريباً فإنه يجب أن يذهب إليه. قوله: (في رحله) : الرحل هو المنزل. (وقربه) : أي ما قرب من منزله، والقرب هنا قرب عرفي. أما إذا كان بعيداً في العرف – وهذا يختلف من زمن إلى زمن باختلاف وسائل النقل – فإنه لا يجب عليه أن يذهب إليه. قوله: (فإن نسي قدرته عليه وتيمم أعاد) نسي أنه قادر على وجود الماء ليس الماء بعيداً عنه بل هو قريب إليه وهو يعلم قربه إليه ونسي ذلك فتيمم فإنه يجب عليه أن يعيد – تقدمت هذه المسألة في الدرس السابق.

إذن: من ترك الوضوء وهو قادر على أن يتوضأ فالماء قريب إليه لكنه نسي ذلك وتيمم فإنه يجب عليه أن يعيد كما لو نسي الوضوء فيجب عليه أن يعيد. قوله: (وإن نوى بتيممه أحداثاً) أي نوى بتيممه أحداثاً كأن ينوي إباحة الصلاة – على القول بأنه مبيح – وحدث النوم وحدث أكل لحم الجزور وغيرها فينوي عدة من الأحداث فإنه يجزئ عنه. أو نوى حدثاً واحداً منها كأن يتيمم عن أكل لحم الجزور أو النوم ولم ينو دخول شيء من الأحداث، فكذلك يجزئ عنه؛ لأن حكمها واحد وهو إيجاب الوضوء أو الغسل. فلو أن رجلاً تيمم عن أكل لحم الجزور فكما لو توضأ عنه، وقد تقدم أنه إذا توضأ عن حدث من الأحداث ولم ينو غيره ولم ينفيه (1) فإنه يثبت له ما يثبت للمتوضئ عن الأحداث كلها، ولأن التيمم بدل عن الوضوء والبدل له حكم المبدل. قوله: (أو نجاسة على بدنه تضره إزالتها أو عدم ما يزيلها) بمعنى: عليه نجاسة لا يمكنه أن يزيلها أو عجز أن يزيلها فما الحكم؟ كأن يكون عليه دم على بدنه – وقلنا إن الدم نجس – ولا يمكنه أن يزيله، أو أن عليه نجاسة يمكنه أن يزيلها ولا ضرر عليه في إزالتها لكنه عادم للماء الذي تزول به النجاسة، فما الحكم حينئذ؟ قال: تيمم، وقيَّد ذلك بالبدن، أما التيمم عن النجاسات الواقعة على الثياب أو البقاع فإنه لا يجزئ التيمم فيها وهذا من مفردات مذهب أحمد. فمذهب الحنابلة: إذا كان على بدنه نجاسة لا يمكنه أن يزيلها إما لعدم الماء أو للضرر بإزالتها فإنه يتيمم ما دامت النجاسة على البدن. أما إذا كانت على الثوب أو البقعة فإنه لا يتيمم عنها. قياساً على التيمم عن الحدث الأصغر والحدث الأكبر الواقعين على البدن. لكن هذا القياس ضعيف؛ للفارق بين الأصل والفرع؛ ذلك: لأن الحدث الأكبر والحدث الأصغر معنويان، وأما الخبث أو النجاسة فهي حسية.

_ (1) كذا، ولعل الصواب: ينفه.

فكون الشارع أجاز لنا أن نتيمم عن الجنابة وهي حدث أكبر أو عن أكل لحم الجزور – مثلاً – وهو حدث أصغر، فإن هذا الحدث معنوي، وأما النجاسة فهي خبث حسي. الأمر الآخر: أن إزالة النجاسة لا تشترط فيها النية، وأما رفع الحدث فيشترط فيه النية. فعلى ذلك ثبت لنا فوارق بينهما، وإذا ثبتـ[ـت] الفوارق، فلا قياس صحيح. وهذا هو المذهب الصحيح وهو اختيار شيخ الإسلام وغيره من المحققين. فالراجح: أن التيمم عن النجاسة لا يجزئ، بل إذا كان على بدنه نجاسة ولم يمكنه أن يزيلها فإنه يصلي على حسب حاله ولا بدل عن إزالتها، فالتيمم ليس بدلاً عن إزالة النجاسة، وإنما هو بدل عن رفع الحدث الأصغر أو الأكبر. إذا ثبت لنا هذا: فإذا وقع على رجل نجاسة وهو محدث حدثاً أصغر وعنده ماء يكفي لإحدى الطهارتين، إما أن يغسل هذه النجاسة وإما أن يتوضأ، ولا يكفي الطهارتين كلتيهما فما الحكم؟ الجواب: أنه يزيل النجاسة بالماء، ويتيمم عن الحدث؛ ذلك: لأن إزالة النجاسة لا بدل لها، وأما رفع الحدث بالوضوء أو الغسل فإن بدله التيمم. قوله: (أو خاف برداً) خاف برداً فتيمم سواء كان في حضر أو سفر، فخشي على نفسه فإنه حينئذٍ يتيمم. قوله: (أو حبس في مصر) أي: في (1) حصر في مدينة من المدن الحاضرة فحبس فيها فيتيمم لعدم الماء، فهو حاضر وليس بمسافر ويتيمم لعدم وجود الماء بسبب هذا الحبس فقد حبس عنه الماء. قوله: (أو عدم الماء والتراب) بمعنى: كان في موضع من المواضع لا يمكنه أن يتوضأ ولا أن يتيمم، لا يمكنه أن يغتسل ولا أن يتيمم، وهو عادم للماء والتراب كليهما فإنه يصلي. قال: (ولم يعد) في هذه المسائل كلها. يعني: رجل نوى بتيممه أحداثاً أو نجاسة على بدنه يضره إزالتها أو عدم ما يزيلها فإنه يصلي ولا يعيد.

_ (1) كذا في الأصل، والأولى حذف " في ".

أو خاف برداً فإنه يتيمم ويصلي ولا يعيد أو حبس في مصر فتيمم أو عدم الماء والتراب فإنه يصلي ولا يعيد ودليل هذه المسائل كلها: قوله تعالى: {فاتقوا الله ما استطعتم} (1) وحديث: (إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم) (2) . وما دام أنه فعل ما أمر به فإنه يخرج من عهدته ويحتاج إيجاب القضاء إلى دليل آخر ولا دليل على ذلك. وما دام أنه فعله فالأصل أنه يجزئ عنه إلا أن يأتي دليل يدل على خلاف ذلك ولا دليل. إذن: القاعدة: أن من تيمم أو ترك الوضوء والتيمم جميعاً سواء كانت الحال التي تيمم بها أو الحال التي ترك فيها الوضوء والتيمم جميعاً، سواء كانت هذه الحال حالاً نادرة أو حالاً كثيرة، فإنه يجزئ عنه تيممه أو تجزئ عنه صلاته التي ترك فيها الوضوء والتيمم ولا يجب عليه الإعادة. فإن قيل: إن الله عز وجل قال: {وإن كنتم مرضى أو على سفر ... ….} الآية. فهنا قوله تعالى: {على سفر} أليس يخرج الحضر. فالجواب على ذلك: أن هذا التقييد إنما هو تقييد للحال الغالبة. لأن الحال الغالبة لإعواز الماء وفقده إنما يكون في السفر دون الحضر فإنه يندر أن يفقد فيه الماء. لقوله تعالى: {وربائبكم اللاتي في حجوركم} (3) الآية. وهذا مذهب جمهور أهل العلم. والحمد لله رب العالمين الدرس السابع والثلاثون (يوم الاثنين: 19 / 12 / 1414 هـ) قال المؤلف - رحمه الله تعالى: (ويجب التيمم بتراب طهور غير محترق له غبار)

_ (3) سورة النساء.

" ويجب التيمم بتراب ": لقوله صلى الله عليه وسلم – فيما رواه مسلم -: (وجعلت تربتها لنا طهوراً) وقد قال صلى الله عليه وسلم: (وجعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً) (1) وهنا في رواية لمسلم:: (وجعلت تربتها لنا طهوراً) (2) . قالوا: فدل هذا على أن التيمم إنما يشرع بالتراب من الأرض دون غير التراب الرمل، والسبخة – وهي الأرض المالحة التي لا تنبت – أو الأرض الطينية ونحو ذلك فإنه لا يصح التيمم بها. وأما التراب فإنه هو الذي يتيمم به أما غيره كالرمل والسبخة وغيرها مما هو على وجه الأرض – فإنه لا يصح التيمم به – لقوله صلى الله عليه وسلم: (وجعلت تربتها لنا طهوراً) . قوله: (له غبار) : بمعنى: يكون تراباً ليس تراباً ندياً وهو التراب الذي ليس فيه غبار بل لابد أن يكون التراب ذا غبار، فإن لم يكن فيه غبار فلا يجوز التيمم به. واستدلوا - على ذلك -: بقوله تعالى: {فامسحوا بوجهكم وأيديكم منه} (3) وقالوا: " من " تبعيضة أي لابد وأن يعلق بعض التراب وهو غباره، لابد وأن يصيب وجوهكم وأيديكم، وإذا كان التراب لا غبار له فإنه لا يعلق منه شيء في الوجه ولا اليدين. هذا تقرير مذهب الحنابلة. - وذهب بعض أهل العلم إلى: أنه يجزئ بكل ما صعد على وجه الأرض من تراب ورمل وسبخة ونحو ذلك مما يصعد على الأرض مما هو من جنس الأرض أما ما لم يكن من جنسها كعشب أو جبل أو نحو ذلك فلا.

_ (1) أخرجه البخاري في بداية كتاب التيمم (335) من حديث جابر بن عبد الله بلفظ: " أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أعطيت خمساً لم يعطهن أحد قبلي: نصرت بالرعب مسيرة شهرة وجعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً، فأيما رجل من أمتي أدركته الصلاة فليصل، وأحلت لي المغانم ولم تحل لأحد قبلي، وأعطيت الشفاعة، وكان النبي يبعث إلى قومه خاصة،وبعثت إلى الناس عامة) ، وانظر (3122) ،وأخرجه مسلم (521) . وقد تقدم صْ 95. (3) سورة المائدة.

أما ما كان من جنس الأرض فإنه يجزئ التيمم به، وهذا هو اختيار شيخ الإسلام وتلميذه ابن القيم وغيرهما من المحققين. واستدلوا: بقوله تعالى: {فتيمموا صعيداً طيباً} (1) . قالوا: والصعيد هو ما صعد على وجه الأرض وقال صلى الله عليه وسلم: (وجعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً) وفي رواية لأحمد: (وجعلت لي الأرض كلها مسجداً وطهوراً) (2) . قالوا: والنبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه كانوا في سفراتهم وغزواتهم لم ينقل عنهم أنهم كانوا يحملون التراب وكانوا يمرون بالأراضي الطويلة من الرمال والسبخة ونحو ذلك ولم يكونوا يحملون من الماء ما يكفيهم ولم ينقل عنهم أنهم كانوا يحملون التراب، فهذا ظاهر في أنهم كانوا يتيممون بما يمرون عليه من الأراضي. وقد قال صلى الله عليه وسلم: (أيما رجل من أمتي أدركته الصلاة فعنده مسجده وطهوره) (3) وهذا – كذلك – ظاهر أن من بالأراضي السبخة أو الطينية أو الرملية أو غيرها فإنه يدخل في عموم هذا الحديث وهذه الأرض طهور له.

_ (2) أخرجه الإمام أحمد في المسند (14314) من حديث جابر وفيه: (وجعلت لي الأرض طهوراً ومسجداً..) ، ومن حديث ابن عباس (2742) وفيه: (وجعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً) . ومن حديث أبي موسى (19973) وفيه: (وجعلت لي الأرض طهوراً ومسجداً) . ومن حديث علي (1362) و (763) وفيه: (وجعل التراب لي طهوراً) . ومن حديث أبي هريرة (10524) و (7397) وفيه: (وجعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً..) (3) متفق عليه.

وأجابوا - على الحنابلة في استدلالهم بقوله: (وجعلت تربتها لنا طهوراً) –: بأن ذكر فرد من أفراد العموم بحكمه لا يفيد تخصيصاً، وهذه قاعدة ذكرها جمهور الأصوليين من أن ذكر فرد من أفراد العام لا يعد تخصيصاً، وهنا قد ذكر التراب، والتراب فرد من أفراد ما يكون على وجه الأرض من الصعيد، فذكره لا يفيد التخصيص، وإنما ذكر لكونه هو الغالب كما أن قوله: (وجعلت تربتها لنا طهوراً) : هنا قد سيق في مساق الامتنان، وما كان كذلك فإنه لا يفهم منه مفهوم مخالفة فلا يفهم منه أن ما سوى التراب لا يتيمم به. إذاً: الصحيح أن كل ما كان على وجه الأرض مما هو من جنس الأرض، فإنه يتيمم به. وأما الجواب: على الاستدلال بالآية: {فامسحوا بوجهكم وأيديكم منه} (1) فالجواب: أن (مِنْ) هنا لابتداء الغاية وليست تبعيضية، أي: ابتدؤا فعل التيمم من الصعيد بأن تضرب بيديك على الأرض، كما يقال: سافر من البلدة الفلانية إلى الأخرى، فإن (من) هنا ابتدائية، ومنه قوله تعالى: {وروح منه} (2) أي روح مبتدأة من الله عز وجل. والظاهر أن (من) هنا ابتدائية لا تبعيضية؛ لأن الله عز وجل قال بعد ذلك: {ما يريد ليجعل عليكم في الدين من حرج} (3) . فهنا نفى الحرج، وقدمه بـ"من" التي تفيد التنصيص على العموم، فلفظة (حرج) وقعت نكرة في سياق النفي فتفيد العموم، وقدم عليها لفظة (من) التي تفيد التنصيص على العموم. أي: أن الله إنما شرع التيمم على الصعيد الطيب لئلا يجعل عليكم أي حرج كان، ولا شك أن إيجاء التراب دون غيره فيه حرج؛ لأن كثيراً من الأراضي تكون سبخة أو رملية أو طينية، فإيجاب التراب يكون فيه حرج ومشقة لذا الراجح أن (من) هنا ابتدائية. - وذكر الحنابلة: أنه إذا كان على الثوب والفراش ونحوهما إذا ضربتهما فخرج منهما غبار فإنه يجزئ التيمم فيهما.

وكما قال الشيخ عبد الرحمن بن سعدي: " في النفس من هذا شيء "؛ ذلك لأن هذا ليس من الصعيد الطيب، فإن هذا ثوب أو فراش أو حصر أو نحو ذلك وليس من الصعيد الطيب الذي أمرنا الله بالتيمم به. قوله: (طهور) : لا نجس، لقوله تعالى: {صعيداً طيباً} ، أما الصعيد النجس فلا يجوز التيمم به، فيشترط أن يكون الصعيد طيباً أي طهوراً ليس بنجس. قوله: (غير محترق) فإن كان محترقاً كما يكون في الخزف ونحوه من إحراق التراب، فإنه لا يجزئ التيمم به، ذلك لأن هذا التراب قد تغير بسبب إحراقه بالنار، فلم يبق كهيئته السابق. وقيل بجوازه – كما ذكر ذلك صاحب الإنصاف –. والأظهر ما ذكره الحنابلة من أنه لا يجزئ أن يتيمم به لتغير مسماه، فقد تغير مسماه من تراب إلى خزف أو نحو ذلك، إلا إذا كان قد احترق احتراقاً لا يغير مسماه فإنه يجزئ أن يتيمم به. قوله: (وفروضه: مسح وجهه ويديه إلى كوعيه وكذا الترتيب والموالاة بينهما في حدث أصغر) قوله: " كوعيه " هو العظم الناتئ المقابل للإبهام أي إلى الرسغ. فعليه أن يمسح كفيه، ولا يشرع له أن يمسح العضد أو الذراع، وإنما يكتفي بمسح اليدين إلى الرسغ (الكوع) . قوله: (مسح وجهه) : أي كل وجهه، ويستثنى من ذلك الفم والأنف. وقد تقدم أن الراجح أن الفم والأنف ليسا من الوجه. وأما الحنابلة فذكروا دليل استثنائهم: تقذر الفم والأنف بذلك. والدليل الواضح أن الفم والأنف - أي داخل الفم والأنف - ليس من الوجه، أما الظاهر فيجب أن يمسحه.

إذن: يمسح وجهه ويديه إلى كوعيه لقوله تعالى: {فامسحوا بوجوهكم وأيديكم منه} (1) واليد إذا أطلقت في كتاب الله فإنها تقيد إلى الرسغ، كما قال تعالى في السارق والسارقة: {فاقطعوا أيديهما} (2) وكان ذلك إلى الرسغ وهذه هي القاعدة الشرعية وأن اليد إذا أطلقت في الأدلة الشرعية فإنها تقيد إلى الرسغ كما قرر هذا أهل العلم. وهنا كذلك، وقد ورد في السنة ما يدل عليه وهو ما ثبت في الصحيحين من حديث عمار بن ياسر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إنما يكفيك أن تفعل هكذا وضرب بيديه الأرض ضربة واحدة ومسح الشمال باليمين وظاهر كفيه ووجهه) (3) فعلى ذلك إنما يمسح في التيمم اليدين إلى الرسغ دون بقية اليد. ومن فروضه – أيضاً – التسمية عند فقهاء الحنابلة – كما تقدم عند الكلام على فرضية التسمية عند الوضوء. قوله: (وكذا الترتيب والموالاة في حدث أصغر) أما الحدث الأكبر فلا يجب فيه هذا. إذن: يجب الترتيب والموالاة في الحدث الأصغر، أما التيمم عن الحدث الأكبر فلا يشترط فيه الترتيب ولا الموالاة. أما عدم وجوب الترتيب: فقالوا: لأن التيمم فرع عن الغسل ولا يجب في الغسل الترتيب.

_ (3) أخرجه البخاري في كتاب التيمم، باب التيمم ضربة (347) عن شقيق قال: كنت جالساً مع عبد الله وأبي موسى الأشعري فقال له أبو موسى: لو أن رجلاً أجنب فلم يجد الماء شهراً … وفيه: فقال أبو موسى: ألم تسمع قول عمار لعمر: بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم في حاجة فأجنبت فلم أجد ماء فتمرغت في الصعيد كما تمرغ الدابة، فذكرت ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فقال: (إنما يكفيك أن تصنع هكذا) فضرب بكفه ضربة على الأرض ثم نفضها ثم مسح بهما ظهر كفه بشماله، أو ظهر شماله بكفه، ثم مسح بهما وجهه.. ". وأخرجه أيضاً في أبواب أخرى من كتاب التيمم مختصراً بألفاظ مختلفة، وأخرجه مسلم (368) .

فإذا: ثبت أنه لا يجب في الغسل الترتيب فكذلك لا يجب في التيمم الذي هو فرعه. وأما الموالاة: فالظاهر وجوبها لأن النبي صلى الله عليه وسلم لما وُصف لنا غسله فإنه كان فيه الموالاة، وهذا بيان مجمل في القرآن. فيجب الموالاة في الغسل وهو الحكم الأصلي، وكذلك يجب في التيمم عن الحدث الأكبر القائم مقام الغسل. أما وجوب الترتيب والموالاة في الحدث الأصغر؛ فقالوا: لأن الترتيب والموالاة واجبان في الوضوء وهو أصل التيمم هنا فوجب كذلك في فرعه وهو التيمم. والتفريق بين التيممين محل نظر، فالظاهر أن التيمم عن الغسل وعن الوضوء أن حكمهما واحد لأن صفته واحدة وهي طهارة كاملة تنوب عن الاثنين ولها صفتها المنفردة عنهما. فالأظهر أن ما يجب من الأحكام في التيمم من الحدث الأصغر (1) واجب كذلك في الحدث الأصغر، فالأظهر أن حكمهما واحد. ومع ذلك: فالراجح أن التيمم لا يجب فيه الترتيب كما هو اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية سواء كان التيمم عن الحدث الأكبر أو الحدث الأصغر فإنه لا يجب فيه الترتيب. وأما الموالاة فإنها واجبة لأن النبي صلى الله عليه وسلم لما تيمم وفسر بفعله مجمل القرآن تيمم موالياً فكان الواجب أن يكون التيمم على هيئة الموالاة، والموالاة تقدم الخلاف في ضابطها وهنا: لو تأخر عن مسح العضو الآخر فإن الغبار ليس فيه جفاف فإنه يقيد بالماء أي لو أن ذلك كان بماء فجف الماء بزمن معتدل، أما إذا لم يجف فلا تبطل الموالاة. وتقدم أن الراجح في ضابط الموالاة وهو ألا يكون بين غسل الأعضاء فاصل طويل عرفاً، فالأمر في التيمم كذلك، فإذا مسح وجهه بالتراب ثم مكث زمناً طويلاً عرفاً ثم مسح يديه فإن التيمم يبطل وأما إن كان يسيراً فإن التيمم لا يبطل.

_ (1) كذا ولعل الصواب: الأكبر.

وأما الترتيب فالراجح عدم وجوبه وهو اختيار شيخ الإسلام ذلك، لأن الله قال: {فامسحوا بوجوهكم وأيديكم منه} وقد قال صلى الله عليه وسلم: (ابدؤا بما بدأ الله به) (1) معنى ذلك أن التيمم يمسح الوجه أولاً ثم يمسح اليدين. وثبت في السنة الصحيحة أن النبي صلى الله عليه وسلم مسح يديه أولاً ثم مسح وجهه مما يدل على أن هذا الترتيب ليس بواجب، وذلك فيما رواه البخاري وأبو داود وغيرهما، وفيه أن النبي صلى الله عليه وسلم: (ضرب بكفيه الأرض ومسح شماله بيمينه ويمينه بشماله ثم مسح وجهه) (2) و (ثم) تفيد الترتيب. فعلى ذلك الترتيب ليس بواجب وهذا مذهب شيخ الإسلام وهو الحق وهو مذهب المالكية والأحناف. فعلى ذلك: التيمم تجب فيه الموالاة سواء كان من حدث أكبر أو أصغر، وأما الترتيب فلا يجب على الراجح. قوله: (وتشترط النية) لقوله صلى الله عليه وسلم: (إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى) (3) وهذا مما اتفق عليه أهل العلم. (وتشترط النية لما تيمم له من حدث أو غيره) المراد بقوله: (أو غيره) النجاسة. وقد تقدم تقيده بالنجاسة البدنية. فعلى ذلك ينوي استباحة الصلاة أو نحو ذلك من العبادات فينوي استباحتها بالتيمم عن الحدث الفلاني أو عن الأحداث الفلانية أو عن النجاسة البدنية على القول بها. وما يذكره المؤلف هنا: بناءً على ما ذهب إليه الحنابلة من أن التيمم مبيح لا رافع. وإذا قلنا بأن التيمم رافع وهو الراجح، فإن المسائل التي تقدم في النية في باب الوضوء تثبت للتيمم؛ لأنه بدل عنه، فكل ما تقدم من المسائل في النية في الوضوء هي ثابتة للتيمم لأنه فرع عنه.

_ (1) أخرجه النسائي باب القول بعد ركعتي الطواف رقم 2962، من كتاب المناسك. (2) أخرجه البخاري في كتاب التيمم، باب التيمم ضربة من كتاب التيمم (347) ، وأخرجه أبو داود في كتاب الطهارة، باب التيمم (321) . (3) متفق عليه، وقد تقدم.

أما إذا قلنا إنه مبيح فهنا: هذه المسائل عليه أولاً: ألا ينوي رفع الحدث؛ لأنه متى نوى رفع الحدث فإنه لا يجزئ عنه لأنه ليس رافع بل هو مبيح. وعلى الراجح إذا نوى رفع الحدث فإنه يجزئ عنه. قوله: (فإن نوى أحدهما لم يجزئه عن الآخر) . إذا تيمم عن الحدث الأصغر فهل يجزئ عنه عن الحدث الأكبر؟ الجواب: لا يجزئ عنه؛ لأن الأعمال بالنيات ولكل امرئ ما نوى، فمتى نوى أن يرتفع حدثه الأصغر وكانت عليه جنابة نسيها فإن هذه الجنابة لا ترتفع بهذه النية، كما تقدم فيمن توضأ وعليه جنابة فإنه لا يجزئ عنه عن الغسل. والعكس كذلك – عند الحنابلة – فلو نوى أن هذا التيمم للحدث الأكبر ولم ينوه عن الحدث الأصغر فإنه لا يجزئ عنه، وقد تقدم ترجيح أن من اغتسل ولم ينو رفع الحدث الأصغر فإنه يرتفع عنه على القول الراجح. فإذن: لو أن رجلاً عليه جنابة فتيمم عنها فإنه يجزئ عن الحدث الأصغر من غير أن ينويه لقوله تعالى: {وإن كنتم جنباً فاطهروا} وقد تقدم أن الغسل طهارة وقد أمر الله المجنبين بالغسل للصلاة فمتى اغتسلوا حلت لهم الصلاة وإن لم يتوضؤوا وأن لم ينووا الوضوء فكذلك هنا. أما إذا تيمم بنية رفع الحدثين الأصغر والأكبر فإنه يجزئ قولاً واحداً. إذن: إذا نوى رفع الحدث الأصغر دون الحدث الأكبر فإنه لا يجزئ عنه، وأما إذا نوى رفع الحدث الأكبر " وهذه الألفاظ على القول الراجح " فإنه يجزئ عنه عن الحدث الأصغر على القول الراجح. وعلى قولي العلماء: يجزئ عنه إذا نوى الحدثين بلا استباحة. قوله: (وإن نوى نفلاً أو أطلق لم يصل به فرضاً) بمعنى: رجل تيمم للسنة القبلية للظهر أو لسنة الضحى أو نحو ذلك، فتيممه لنفل لا لفرض. أو أطلق: بأن قال: أتيمم لاستباحة الصلاة هكذا أطلق من غير أن يعين بقلبه أن تكون الصلاة فريضة، والواجب عندهم التعين لأن التيمم مبيح فوجب التعين.

(لم يصل فرضاً) : رجل تيمم لسنة الضحى فتذكر صلاة فائتة من الفرائض فهل يجوز له أن يصلي هذه الصلاة بهذا التيمم؟ الجواب: لا يجوز له ذلك. ذلك لأن ما نواه نفل أو صلاة لم تعين، فإذا كان كذلك فلا يجزئ عنه أن يصلي ما هو أعلى منها لأنها لا تتضمن ما هو أعلى منها. والقاعدة عند المذهب في هذه المسألة وما يأتي بعدها: " أنه إذا نوى استباحة شيء مما تشترط الطهارة له سواء كان نفلاً أو فرضاً إذا نواه فإنه يفعله ويفعل ما يساويه وما هو دونه ولا يفعل ما هو أعلى منه " … فإذا نوى استباحة صلاة تطوع فإنه لا يصلي به صلاة فرض وله أن يفعل ما هو تطوع كأن يمس المصحف أو ما هو دون ذلك كدخول المسجد ونحوه. وعليه: إذا تيمم لصلاة فرض فإنه يصلي بها الفائتة ويصلي ما دونها كالنفل وله أن يمس المصحف ونحو ذلك وهذا كله على أن التيمم مبيح، والراجح أنه رافع – كما تقدم –. فعلى الراجح: متى نوى ما لا تصح العبادة إلا به فإنه يجزئ كما تقدم هذا في الوضوء. فمثلاً: رجل نوى بتيممه مس المصحف، فالرجل لا يجوز له مس المصحف إلا بوضوء، فله أن يتطوع ما شاء ويصلي ما شاء من الفرائض؛ ذلك لأن هذا وضوء شرعي مفترض لمن أراد أن يفعل هذه العبادة. بخلاف الوضوء المستحب، فلو أنه تيمم استحباباً كأن يكون أراد أن ينام فلم يجد ماء فتيمم فهذا التيمم مستحب للنوم وليس مفترضاً فعلى ذلك لا يجوز أن يصلي في هذا التيمم. إذن على الراجح: جميع ما تقدم من المسائل في نية الوضوء هي ثابتة في نية التيمم لا فرق في ذلك؛ لأن التيمم بدل عنه والبدل له حكم المبدل إلا أن يدل دليل على خروج شيء من مسائله ولا دليل على خروج شيء من ذلك. قوله: (وإن نواه صلى كل وقته فروضاً ونفلاً (1)) (إن نواه) : أي نوى الفرض، فيفعل الفرض وما يساويه من الفرائض وما هو دونه.

_ (1) كذا في الأصل، وفي نسخة بين يدي: " ونوافل ".

وهنا على المذهب: لو أن رجلاً تيمم لتطوع فهل يجزئه أن يطوف به في البيت؟ الجواب: يجزئ عنه على المذهب. قالوا: لأن الطواف بالبيت شرط الطهارة فيه مختلف فيه، فلما اختلف فيها أصبح كقوة ذلك في التطوع. مسألة: الإمام أحمد استحب حمل التراب في الأراضي التي لا يكون فيها تراب. واختار شيخ الإسلام خلاف ذلك وأن هذا مكروه، وهذا هو الراجح، واستظهره صاحب الفروع وصوبه في الإنصاف؛ إذ لم ينقل عن النبي صلى الله عليه وسلم ولا عن أصحابه ولا عن أحد من السلف فعل ذلك وهذا هو الراجح. فإذا كانت أرض ليس فيها تراب، كأن يكون في أرض فيها فرش أو غير ذلك مما تتبلط به الأرض فأدركته الصلاة وليس معه ماء ولا يمكنه أن يخرج من هذا الموضع ليتيمم في غيره، كأن يكون مريضاً لا يمكنه الخروج ولا يمكنه إحضار التراب وليس هناك من يحضره له فإنه يصلي على حسب حاله لقوله تعالى: {فاتقوا الله ما استطعتم} . وعند الحنابلة لو كان في أرض رملية أو سبخة فإنه يصلي بلا وضوء ولا تيمم؛ لأن هذه هي قدرته ولا يجزئ إلا التراب وتقدم ذكر الراجح. والحمد لله رب العالمين. الدرس الثامن والثلاثون (يوم الثلاثاء: 2 / 12 / 1414 هـ) قال المؤلف رحمه الله: (ويبطل التيمم بخروج الوقت) هذا شروع من المؤلف بمبطلات التيمم أي نواقضه. (ويبطل التيمم بخروج الوقت) : للتعليل المتقدم وهو أن التيمم مبيح لا رافع، وما دام مبيحاً فإن الطهارة طهارة ضرورة، وطهارة الضرورة تنتهي بخروج الوقت كطهارة من به حدث متجدد كاستحاضة ونحوها، وقد قال صلى الله عليه وسلم: (توضئي لكل صلاة) (1) . لكن الراجح أن التيمم لا يبطل بخروج الوقت؛ لأن التيمم رافع لا مبيح كما هو الصحيح من قولي العلماء، فهو رافع وما دام رافعاً فإن له حكم الوضوء أو حكم الغسل فلا يبطل بمبطلات الوضوء أو الغسل أو بوجود الماء.

_ (1) أخرجه البخاري كما في البلوغ. وقد تقدم صْ 32.

إذن: لا يبطل التيمم على الراجح بخروج الوقت وهذا مذهب أبي حنيفة واختيار شيخ الإسلام وتلميذه ابن القيم وهو رواية عن الإمام أحمد. قال: (وبوجود الماء) لقوله صلى الله عليه وسلم: (فإذا وجد الماء فليمسه بشرته) (1) وهذا بإجماع العلماء، وأن التيمم في الجملة ينتقض بوجود الماء. ومثل ذلك: ذهاب العذر المبيح للتيمم، فإذا تيمم لمرض فبرأ فيجب عليه أن يمس الماء بشرته كما لو كان عادماً للماء. إذن: يبطل التيمم بوجود الماء أو بزوال العذر المبيح للتيمم، كأن يتيمم عن الجنابة في ليلة باردة فيجب عليه أن يغتسل إذا ذهب العذر. … قال: (وبمبطلات الوضوء) وكذا الغسل، فمبطلات الوضوء أو الغسل تبطل التيمم؛ ذلك لأن التيمم بدل عنهما والبدل له حكم المبدل، فهذه نواقض تبطل المبدل فكذلك تبطل بدله. قال: (أو بوجود الماء ولو في الصلاة) لذا تقدم في التقرير السابق أن هذا – أي بطلان التيمم بوجود الماء – أن هذا في الجملة. وهذا له صور: الصورة الأولى: أن يوجد الماء قبل الصلاة. مثال: رجل أذن الظهر وهو عادم للماء فتيمم ولم يصل بعد ثم وجد الماء قبل الصلاة، فتيممه ينتقض وعليه أن يتوضأ لهذه الصلاة. الصورة الثانية: أن يوجد الماء بعد الصلاة، فلا يخلو من حالتين: - الحالة الأولى: أن يكون هذا بعد خروج الوقت. مثال: رجل تيمم لصلاة الظهر وصلاها ثم وجد الماء بعد خروج الوقت. - الحالة الثانية: أن يوجد قبل خروج الوقت. ففي هاتين الصورتين الصلاة صحيحة باتفاق العلماء، وأما التيمم فهو باطل، ويجب عليه أن يمس الماء بشرته بغسل أو وضوء ولكن الصلاة صحيحة باتفاق العلماء. الصورة الثالثة: أن يوجد الماء أثناء الصلاة. قال المؤلف: (ولو في الصلاة) ولفظة (ولو) إشارة إلى خلاف:

_ (1) أخرجه الترمذي، وقد تقدم صْ 97.

1- فمذهب الحنابلة: أن الصلاة تبطل ويجب عليه أن يتوضأ؛ قالوا: لأنه بمجرد حضور الماء يبطل التيمم وهو في الصلاة فحينئذ إذا بطل التيمم تبطل الصلاة أيضاً – فحينئذ – يجب عليه أن يتوضأ ويستأنف الصلاة. إذن: دليلهم ظاهر قوله صلى الله عليه وسلم: (فإذا وجد الماء فليمسه بشرته) وهذا في الصلاة وفي غيرها. وقالوا: من التناقض أن يجعله مبطلاً في خارج الصلاة وليس مبطلاً فيها. 2- وذهب المالكية والشافعية: إلى أن التيمم لا ينتقض إذا وجد الماء في الصلاة. واستدلوا: بدليل وتعليل: أما الدليل: فهو قوله تعالى: {ولا تبطلوا أعمالكم} (1) قالوا: وفي ذلك إبطال للعمل. ولكن هذا الاستدلال بها ضعيف؛ ذلك لأن المبطل هو الله أي الشارع، فالتيمم عند وجود الماء يبطل، والذي أبطله ليس المكلف بل هو الله عز وجل. وأما الآية: {ولا تبطلوا أعمالكم} أي بسوء تصرف منكم إما برياء أو بمنٍّ في الصدقات أو نحو ذلك مما يبطل العمل ويحبطه، وهذا من فعل المكلف فإن النهي هنا موجه للمكلف. أما كون الصلاة تبطل بوجدان الماء فإن هذا ليس من حكم المكلف ولا من تصرفه بل هو حكم الله. وبهذا يتبين ضعف الاستدلال بهذه الآية. وأما التعليل: فإنهم قالوا: إن من لم يجد رقبة في كفارة القتل فإنه يفعل بدلها وهو صيام شهرين متتابعين، فإذا شرع في هذا الصيام ثم أمكنه أن يعتق الرقبة فإنه لا يجب عليه أن يعتقها بل يستمر في صيامه، قالوا: فكذلك هنا. وهذا التعليل ضعيف؛ ذلك لأن التيمم هو بدل الوضوء أو الغسل وليست الصلاة، ونحن وإياكم متفقون على أنه لو وجد الماء وهو يتيمم أو بعد أن تيمم وقبل أن يصلي فإن تيممه بطل وهنا قد شرع بالبدل بل قد انتهى منه.

_ (1) سورة محمد 33.

ثم إن الشارع لم يأمر من شرع بالصيام بعتق الرقبة مع تجدد الغنى وإمكان العتق لما في ذلك من المشقة وقد شرع في الصيام وفي ذلك مشقة فلم يوجب عليه الشارع أن يعود إلى الرقبة فيعتقها وقد شرع في صوم شاق عليه. إذن: الراجح: مذهب الحنابلة من إنه إذا وجدا الماء في الصلاة فإن التيمم يبطل بذلك وعليه أن يتوضأ ويستأنف الصلاة. إذن: تبقي عندنا قاعدة واضحة وهي: " أنه متى ما وجد الماء بطل التيمم ". فإذا كان لم يصل بعد فيجب أن يعد تيممه فيصلي. وأما إذا كان قد صلى فإن صلاته صحيحة فإنه أداها على ما أمره الله عز وجل به، وسواء كان ذلك في الوقت أو بعده، وكذلك إذا وجده في الصلاة. فعلى ذلك تكون القاعدة منضبطة وأنه متى وجد الماء فإن التيمم يبطل. ومعلوم أن بطلان التيمم بعد العبادة كبطلان الوضوء بعد فعلها، فتبقى العبادة صحيحة ويكون الوضوء منتقضاً. قال: (والتيمم آخر الوقت لراجي الماء أولى) التيمم آخر الوقت أولى إذا كان يرجو وجود الماء. بمعنى: رجل أدركته صلاة الظهر ولم يجد ماءً يتوضأ به، ويقول: أنا أرجو أن أجد الماء بعد حين من الزمن قبل خروج الوقت، فنقول له: الأولى لك أن تؤخر صلاتك إلى أن يحضر الماء فتوضأ به أو تغتسل. وأولى من ذلك إذا كان يتيقن وجود الماء مثال ذلك: رجل أذن الظهر وهو دون المدينة بمسافة قصيرة يعلم أنه يصل إلى المدينة ويتوضأ بها قبل خروج الوقت فحينئذ الأولى له أن ينتظر فيدخل المدينة ويتوضأ. وكذلك – صورة ثالثة –: وهو ما إذا كان قد استوى عنده الأمران، يقول: يحتمل أن يوجد الماء ويحتمل ألا يوجد، وهذه أضعف من رجاء وجود الماء. إذن: عندنا ثلاث صور: الصورة الأولى - وهي أضعفها –: أن يقول أنا لا أدري هل أجد الماء أم لا أجده، ولكن يحتمل أن يوجد الماء قبل خروج الوقت كما أنه يحتمل ألا يوجد ففي ذلك شيء من الرجاء. أعلى من ذلك: أن يكون كفة وجود الماء هي الراجحة.

وأعلى من ذلك أن تكون هي المتيقنة. فهذه الصور، قالوا: المستحب له أن يؤخر الصلاة إلى آخر الوقت. قالوا: لأن الصلاة بالطهارة الأصلية فريضة، والصلاة في أول الوقت فضيلة، فيترجح الشق الأول وهو كونه يصلي في آخر الوقت بفريضة الطهارة الأصلية. وحقيقة هذا التعليل مقتضاه وجوب ذلك؛ لأن ترجيح الفريضة على الفضيلة واجب ومفترض. لذا ذهب الإمام أحمد في رواية عنه: أنه متى كان يرجو الماء فيجب عليه أن يؤخر الصلاة إلى آخر الوقت. وذهب الشافعية وهو اختيار شيخ الإسلام: إلى أنه يصلي عند دخول الوقت استحباباً مطلقاً إلا إذا تيقن وجود الماء، فإذا تيقن وجود الماء، فإنه ينتظر آخر الوقت. فإذا كان يرجو وجود الماء فحسب أو استوى عنده الأمران أو يغلب على ظنه عدم وجود الماء أو يئس من وجود الماء فإنه في هذه الصورة الخمس كلها يصلي في أول الوقت. إلا الصورة السادسة وهي ما إذا تيقن وجود الماء كمن أدركته الفريضة وهو قريب من المدينة وتيقن أنه سيصل قبل أن يخرج الوقت. وهذه صورة التيقن؛ لأن اليقين في الحقيقة ممتنع؛ لأنه قد يحدث له ما قد يقدره الله عز وجل من الأمور التي تعوقه ولكن المقصود من ذلك مع بقاء الأمور على السلامة، وأما احتمال أن يحدث شيء فهذا أمر موجود. لا شك أن مذهب الشافعية واختيار شيخ الإسلام أصح من مذهب الحنابلة. ولكن الأظهر أنه يصلي مطلقاً في أول الوقت، وهذا مذهب ابن عمر فقد ثبت عنه عند ابن المنذر: " أنه تيمم قبل المدينة بميل أو ميلين ثم دخل والشمس مرتفعة فلم يعد " (1) . " والشمس مرتفعة ": أي في وقت العصر والشمس مازالت مرتفعة، وهذا في أوائل وقت صلاة العصر، ومعلوم أن من بعد ميل أو ميلين عن المدينة فإنه يتيقن أنه سيصل إلى المدينة قبل خروج الوقت، ومع ذلك فإن ابن عمر قد صلى الصلاة في أول وقتها.

وهو الذي يفيده قوله صلى الله عليه وسلم: (فأيما رجل من أمتي أدركته الصلاة فليصل) وفي رواية: (فعنده مسجده وطهوره) (1) ، وهذا حديث عام فيمن أدركته الصلاة وهو عادم للماء غير واجد له، سواء كان يرجو الماء أو يتيقن وجوده قبل خروج الوقت مادام أن الماء ليس حاضراً عنده. ومع ذلك فإن الاحتياط له أن يؤخر الصلاة إلى آخر وقتها إذا كان قد تيقن وجود الماء. إذن: الراجح إذا حضرت الصلاة وليس ثمت ماء موجود وليس الماء قريباً – فإنه – وقد حكمنا له بأنه غير واجد للماء وأذنا له بالتيمم فإن التيمم بدل الوضوء، فإنه – حينئذ – يكون قد صلى بالفريضة، فإن الطهارة بالتراب تنوب تماماً عن الطهارة بالماء، فما دام قد أذن له بالتيمم فلا مانع حينئذ أنه يقال باستحباب تعجيل الصلاة والحديث المتقدم ظاهر في العموم. قال: (أن ينوي ثم يسمي ويضرب التراب بيديه مفرجتي الأصابع ويمسح وجهه بباطنهما وكفيه براحتيه ويخلل أصابعه) قوله: (أن ينوي) تقدم الكلام في النية. قوله: (ثم يسمي) وقد ذكرنا أن الحنابلة يوجبون ذلك، فإن التيمم يقاس على الوضوء فمتى قلنا بوجوب التسمية في الوضوء فكذلك في التيمم. (ويضرب بيديه) أي ضربة واحدة – هذا هو المستحب – وقد تقدم حديث عمار أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له: (إنما يكفيك أن تفعل بيديك هكذا) وضرب بيديه الأرض ضربة واحدة ومسح الشمال باليمين وظاهر كفيه ووجهه " (2) . وفي قوله: (مفرجتي الأصابع) نظر؛ فإن الأحاديث لم تدل على ذلك، وإنما فيها مجرد ضرب التراب بيديه، وليس في شيء من الروايات أن اليدين مفرجتا الأصابع، فإن هذا فعل يحتاج إلى دليل عن النبي صلى الله عليه وسلم ومثله بل أضعف قوله: (يمسح وجهه بباطنهما وكفيه براحتيه) . قوله: (بباطنهما) أي باطن الأصابع. و (راحتيه) أي راحتي كفيه.

_ (1) تقدم. (2) متفق عليه وقد تقدم.

وهذا عندهم بناءً على أن الماء المستعمل لا يرفع الحدث، فكذلك التيمم قياساً. وقد تقدم تضعيف هذا في الماء فأولى أن يضعف في التراب فإنه فرع عنه. فهم إذن قالوا: يمسح وجهه بباطن الأصابع، والكفين بالراحة؛ ليكون لكل عضو تراب طهور لم يستعمل. ولكن هذا ضعيف بل هو بدعة – كما قال شيخ الإسلام – ولا أصل له في الشريعة. وقال شيخ الإسلام أيضاً: " ولا أصل له في كلام أحمد رحمه الله وظواهر الأحاديث تدل على خلافه ". فإن ظواهر الأحاديث تدل على أنه يمس بيديه هكذا عامة بباطن الأصابع وراحتيه، ويمسح كفيه كذلك. وقد تقدم حديث عمار وفيه: (أنه يمسح شماله بيمينه وظاهر كفيه ووجهه) (1) وظاهر هذه الأحاديث أنه مسح ذلك بباطن اليدين من غير تجزئة، فإنها بدعة لا أصل لها في الدين، ولا أصل لها في كلام الأئمة كأحمد رحمه الله تعالى. قال: (ويخلل أصابعه) وهذه كذلك قياساً على الوضوء، ولكن هذا القياس يصادم ظواهر الأدلة الشرعية فإن ظواهر الأحاديث الواردة عن النبي صلى الله عليه وسلم ليس فيها أنه كان يخلل أصابعه. فإذن: ليس هذا بمشروع لعدم دلالة الأدلة الشرعية عليه. ونختم هذا الباب بمسألتين: المسألة الأولى: فيما إذا كانت الصلاة مما يخاف فوتها كصلاة الجمعة فإنها إذا فاتت فإنها تصلى ظهراً ومثل ذلك صلاة العيد وصلاة الجنازة وسجود التلاوة، فإن هذه الصلوات وهذا السجود متى لم يفعلها في الوقت فإنها تفوت بأن يخرج عن هيئتها وصفتها وتكون لها هيئة مختلفة عن الهيئة السابقة. فذهب شيخ الإسلام ابن تيمية وهو مذهب أبي حنيفة: إلى أن [من] لم يجد الماء بحيث يمكنه أن يصليها على صفتها الأولى فإن له أن يتيمم، وإن كان الماء حاضراً، لكنه يعلم أنه متى توضأ فإن هذه الصلاة تفوت عليه.

_ (1) متفق عليه، وقد تقدم.

كأن يذكر حدثاً في صلاة الجمعة ويعلم أنه متى توضأ أو اغتسل فإن صلاة الجمعة تفوت عليه أو صلاة الجنازة مع الإمام أو نحو ذلك فإن له أن يصليها بالتيمم. والمشهور في مذهب الحنابلة: أنه لا يجوز ذلك؛ لأن هذه الصلوات تشترط فيها الطهارة المائية. والراجح ما ذهب إليه شيخ الإسلام، لأن حضور هذه الصلوات بالتيمم أولى من فوتها ولا يمكنه حضورها على وجهها إلا بالتيمم، فلما كان ذلك جاز له [هذا] الحكم. فإن الشارع لما شرع لنا التيمم كان من الممكن لنا أصلاً أن نؤمر بقضاء هذه الصلاة التي لم نجد فيها الماء، فنقضيها إذا حضر الماء، ومع ذلك فإن الشارع أمرنا بالتيمم لمصلحة حضور الصلاة في وقتها وخشية فواتها. المسألة الثانية: فيما إذا خاف فوات الفريضة، كأن يقول: متى اغتسلت أو توضأت فإن الفريضة تفوتني. وهذه له صورتان: الصورة الأولى: أن يكون مستيقظاً من أول وقت الصلاة، ويقول: الماء قريب وأنا متى طلبت الماء وأحضرته فتوضأت أو اغتسلت فإن الوقت يخرج أو يكون الماء في بئر ويعلم أنه متى عالج الماء بإحضاره من البئر ونحو ذلك مما يحتاج إليه في إخراجه، فإن الصلاة تفوت عليه. وهنا ذكر شيخ الإسلام على أن جمهور أهل العلم: على أن التيمم يجوز له في هذه الحالة، وأن المشروع في حقه هو التيمم، فله أن يصلي بالتيمم. وذكر الموفق رحمه الله: أنه لا يصلي بالتيمم، وإنما ينتظر الماء حتى يأتي به من البئر أو حتى يأتي به من المكان الذي بقربه ولو خرج الوقت فيصلي به. لأن الله إنما أجاز التيمم مع عدم الماء، فإن الله قال: {فلم تجدوا ماء فتيمموا} وهذا واجد للماء.

والراجح: ما ذكره شيخ الإسلام عن الجمهور واختاره رحمه الله؛ ذلك – لما تقدم – وأن التيمم إنما شرع لإدراك الصلاة في وقتها، وهذا متى ذهب إلى الماء ليتوضأ به أو يغتسل أو متى عالجه بتسخين أو إحضار من بئر فإن الوقت يخرج، ومصلحة الصلاة في وقتها بالتيمم أولى من فوات وقتها بالوضوء. فالراجح: مذهب الجمهور وهو اختيار شيخ الإسلام من أنه إذا كان مستيقظاً في الوقت وعلم أنه متى يطلب الماء أو اشتغل بتسخينه أو إحضاره أو نحو ذلك فإن الصلاة تفوته، فإنه يجوز له أن يتيمم ويصلي بل المشروع له أن يتيمم ويصلي في الوقت. الصورة الثانية: أن يكون نائماً فيستيقظ في آخر الوقت: كأن يستيقظ قبل أن يخرج وقت صلاة الفجر مثلاً بدقائق يسيرة، ويعلم أنه متى استعمل الماء في الوضوء أو الاغتسال من الجنابة فإن الوقت يخرج. ففي هذه المسألة: ذهب الجمهور: إلى أنه لا يتيمم بل يصلي بعد الوقت. فإن هذه الصورة مفارقة للأولى فإنه لم يستيقظ إلا قبل خروج الوقت بوقت يسير وعلم أنه متى توضأ أو اغتسل فإن الوقت يخرج. وعلة هذا – أي إنه يجب الوضوء ولا يجوز التيمم – وهذا مذهب الجمهور –: أن من استيقظ من النوم فإن وقت الصلاة له عند استيقاظه، فإنه إنما يخاطب بالصلاة عند استيقاظه، وقد قال صلى الله عليه وسلم: (من نام عن صلاة أو نسيها فليصلها إذا ذكرها لا كفارة لها إلا ذلك) (1) فالنائم إنما يكون وقت الصلاة له من استيقاظه. - وذهب المالكية في المشهور عندهم: إلى أنه كالمسألة السابقة وأنه يتيمم ويصلي في الوقت ولا ينتظر حتى يجد الماء.

_ (1) أخرجه البخاري (1 / 157) ومسلم (2 / 142) ، وأبو داود (442) ، وكذا أبو عوانة (2 / 260، 261) والنسائي (1 /100) والترمذي (1 / 335) وغيرهم، الإرواء [1 / 291] رقم 263.

وعللوا قولهم هذا: بأنه إذا صلى في الوقت فإنه يكون في ذلك مصلحة الصلاة في وقتها قبل خروج الوقت، وهذا مرجح على أن يصلي بعد خروج الوقت بالطهارة المائية. إذن قالوا: كونه يصلي بالتيمم في الوقت، أولى من كونه يصلي بعد خروج الوقت بالوضوء أو بالغسل. وهذا القول - فيما يظهر لي – راجح قوي. ذلك: لأن الشارع – كما تقدم – إنما أباح التيمم لمصلحة الصلاة في وقتها وإلا لكانت الصلاة إنما تشرع قضاءً، فلو كان المرجح أن تصلى الصلاة بالوضوء أو الغسل لكان ذلك سبباً في عدم شرعية التيمم. فلو كان المحبوب عند الشارع أن يصلي الصلاة خارج وقتها بالوضوء لأَمَر من لم يجد الماء أن ينتظر حتى يجد الماء فيصلي الصلاة المكتوبة خارج وقتها بالطهارة المائية. فلما لم يكن ذلك علمنا أن مراد الشارع ومطلوبه هو أن يصلي الصلاة بالوقت بالتيمم. فعلى ذلك: الراجح أنه يصلي بالتيمم في الوقت. وكون الصلاة – إنما يكون وقتها في حقه - من استيقاظه، هذا لكونه معذوراً، وهكذا من كان الماء قريباً إليه كأن يكون في البئر أو بارداً ويعلم أنه إذا سخنه فإنه يخرج الوقت، فإنه لا فارق في الحقيقة بينه وبين النائم لأن كليهما معذور. فهذا معذور لعدم استيقاظه، وهذا معذور لأن الماء يحتاج إلى معالجة، فلا فرق بين الاثنين. فلو كان من حكم في المسألة الثانية فيما ذكره الجمهور لكان في المسألة الأولى ولقلنا: أنت معذور في معالجتك الماء وتسخينه وتصلي بالوضوء ولو كان ذلك خارج الوقت، وهذا هو أول وقتك لكونك معذور. فالراجح: في هاتين المسألتين كليهما: أنه متى خشي فوات الوقت سواء كان مستيقظاً في أول الوقت أو في آخره أنه متى علم أنه إذا استعمل الوضوء في (1) الغسل وكان الماء يحتاج إلى معالجة أو تسخين، وعلم أنه لا يمكنه فعل ذلك إلا وقد خرج الوقت فإنه يتيمم ويصلي الصلاة في وقتها. والحمد لله رب العالمين

_ (1) كذا في الأصل، ولعل الصواب: أو.

الدرس التاسع والثلاثون (يوم الأحد: 25 / 12 / 1414 هـ) بابُ: إزالةُ النجاسةِ " إزالة ": الإزالة هي التنحية، أزال الشيء أي نحَّاه وأقصاه. " النجاسة ": هي الشيء المستقذر شرعاً. فهذا الباب بوبه المؤلف لبيان الطريقة الشرعية في إزالة النجاسات. قال المؤلف رحمه الله تعالى: (يجزئ في غسل النجاسات كلها ... ..) هذه المسألة في القدر المجزئ في غسل النجاسات كلها سواء كانت هذه النجاسة نجاسة آدمي أو كلب أو خنزيراً ونحو ذلك فما حكمها؟ قال: (غسلة واحدة تذهب بعين النجاسة) أي وأثرها فيذهب رائحتها ولونها. فهذه المسألة في حكم النجاسات الواقعة على الأرض. حكمها: أنها تغسل غسلة واحدة أياً كانت هذه النجاسة فما دامت النجاسة على الأرض فطريقة إزالتها أن تغسل غسلة واحدة، بأن يغسل الموضع الذي وقعت فيه النجاسة تغسل غسلة واحدة تذهب بالنجاسة. وعليه إن لم تذهب النجاسة فيجب عليه تكرار الغسل مرة أخرى حتى تزول النجاسة؛ لأن الحكم يدور مع علته وجوداً وعدماً. فإن قيل: ما الدليل على أن الكلاب – التي سيأتي حكمها في غسل الإناء عند ولوغها سبعاً إحداهما بالتراب – ما الدليل على إدخالها في هذا الحكم؟

فالجواب: الدليل ما ثبت في أحمد والبخاري وأبي داود وهذا لفظه عن ابن عمر قال: (كنت أنام في المسجد في عهد النبي صلى الله عليه وسلم صلى الله عليه وسلم وكنت فتى شاباً، وكانت الكلاب تبول وتقبل وتدبر فلم يكونوا يرشون من ذلك شيئاً) (1) فهنا اكتفى بزوال النجاسة بالشمس أو نحوها – ولم يكونوا يرشون على هذه النجاسة شيئاً؛ لأن مثلها يزيله الشمس. وسيأتي أن الراجح أن النجاسة متى زالت فإن حكمها يزول. فما دامت النجاسة واقعة على الأرض فإنه يزول حكمها بزوالها – يدل عليه ما ثبت في الصحيحين عن أنس قال: (أتى أعرابي فبال في طائفة المسجد فزجره الناس فنهاهم النبي صلى الله عليه وسلم فلما قضى بوله أمر النبي صلى الله عليه وسلم بذنوب من ماء فأهريق عليه) (2) .

_ (1) أخرجه أبو داود في كتاب الطهارة، باب في طهور الأرض إذا يبست (382) قال: " حدثنا أحمد بن صالح، حدثنا عبد الله بن وهب، أخبرني يونس، عن ابن شهاب، حدثني حمزة بن عبدا لله بن عمر، قال: قال ابن عمر: كنت أبيت في المسجد في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وكنت فتى شاباً عزباً، وكانت الكلاب تبول وتقبل وتدبر في المسجد فلم يكونوا يرشون شيئاً من ذلك " قال الخطابي: " يتأول على أنها كانت تبول خارج المسجد في مواطنها وتقبل وتدبر في المسجد عابرة … " سنن أبي داود مع المعالم: [1 / 265] . وأخرجه البخاري في الطهارة في كتاب الوضوء، باب الماء الذي يغسل به شعر الإنسان.. وممر الكلاب في المسجد (174) [باب إذا شرب الكلب في إناء أحدكم فليغسله سبعاً] . سنن أبي داود [1 / 265] . (2) أخرجه البخاري في كتاب الوضوء، باب يهريق الماء على البول (221) وباب صب الماء على البول في المسجد (220) ، وباب ترك النبي صلى الله عليه وسلم والناس الأعرابي حتى فرغ من بوله في المسجد (219) . وأخرجه مسلم 285) (284) .

وليس في ذلك ذكر للعدد، بل ظاهره أن الماء وضع على موضع النجاسة مكاثرة ومغامرة، فمتى ذهبت فقد ذهب حكمها. فنصب الماء على الأرض التي وقعت عليها النجاسة حتى يغمر الماء النجاسة، فإذا ذهبت فقد ذهب حكمها. أما إذا كان لا يمكن زوالها بمثل ذلك ولو كثر الماء بحيث أنه لا يمكن أن تزول إلا بأن يزال التراب فإنه يفعل به ذلك؛ لأن الحكم يدور مع علته وجوداً وعدماً. إذن: يصب الماء على موضع النجاسة ولا يشترط تكرار غسل ولا إزالة موضع إلا إذا كان لا يمكن إزالة النجاسة إلا بمثل ذلك. قال: (وعلى غيرها سبع) قوله: " وعلى غيرها " غير الأرض كثوب أو حائط أو نحو ذلك. اعلم أن جمهور أهل العلم أن الكلب والخنزير نجسان، أما الكلب فدليله قوله صلى الله عليه وسلم – فيما رواه مسلم وأصله في الصحيحين قال: (طهور إناء أحدكم إذا ولغ فيه الكلب أن يغسله سبعاً أولاهن بالتراب) (1) والشاهد قوله: (طهور) وهذا دليل على ثبوت النجاسة في المحل، فدل هذا الحديث على أن ولوغه نجاسة في المحل وهذا هو طهورها. قالوا: ويقاس على ذلك الخنزير؛ لأنه أخبث منه وأشد تحريماً وأشد استقذاراً فيقاس عليه. وقد حكى ابن المنذر إجماع أهل العلم على نجاسة الكلب والخنزير. إلا أن هذا الإجماع منتقض بمخالفة الإمام مالك فإنه خالف في ذلك ورأى أن الخنزير ليس بنجس والكلب ليس بنجس.

_ (1) أخرجه مسلم في كتاب الطهارة، باب حكم ولوغ الكلب (279) من حديث أبي هريرة بلفظ: (طهور إناء أحدكم إذا ولغ فيه الكلب أن يغسله سبع مرات أولاهن بالتراب) ، وبلفظ: (إذا ولغ الكلب في إناء أحدكم فليرقه ثم ليغسله سبع مرارٍ) ، وبلفظ (إذا شرب الكلب في إناء أحدكم فليغسله سبع مرات) . وأخرجه البخاري 172، في كتاب الوضوء، باب إذا شرب الكلب في إناء أحدكم فليغسله سبعاً بلفظ: (إذا شرب الكلب في إناء أحدكم فليغسله سبعاً) .

واستدلوا على ذلك: بقوله تعالى: {فكلوا مما أمسكن عليكم} (1) قال: فلو كان ذلك نجساً لأمر الشارع بغسله. * واعلم أن أهل العلم في غسل أثر الكلب المعلم في الصيد على قولين: أظهرهما كما ذكر ذلك شيخ الإسلام وهو إحدى الروايتين عن الإمام أحمد وهو مذهب مالك أنه لا يجب ذلك؛ لأن الشارع لم يأمر به وتأخير البيان عن وقت الحاجة لا يجوز فإذا ثبت هذا فإن هذا يدل على أن ريقه ليس بنجس، فدل على أن الكلب ليس بنجس. ولكن هذا الاستدلال فيه نظر، فإن الشارع من قواعده رفع الحرج فيما تلحق الأمة به المشقة، ومن المشقة أن يؤمر صاحب الصيد بغسل ما أصابه الكلب، فلما كان الأمر كذلك لم يأمر الشارع بغسله وكان من النجاسات المعفو عنها، كما أن الدم الذي يكون بين اللحم معفو عنه، بخلاف الدم المسفوح فإن الشارع قد نهى أن يطعم – كل ذلك – لرفع الحرج عن الأمة. وما دام أن الإمام مالك استدل بهذا الدليل على الكلب فكذلك عنده الخنزير. والأظهر ما ذهب إليه الجمهور من نجاسة الكلب وقياس الخنزير عليه، والعلم عند الله تعالى … قال: (سبع أحدها بالتراب في نجاسة كلب وخنزير) الحديث إنما فيه ذكر الولوغ وهو أن يدخل الكلب لسانه بالإناء ويحركه، فيدخل من ريقه في هذا الإناء، فأمر الشارع بغسله تطهيراً له، وهذا فيه إثبات نجاسة ريقه – ومثله غيره من بول وروث وغير ذلك فإنها في الحكم سواء – فما دام ريقه نجس فبوله وروثه من باب أولى. لذا ذهب جمهور الفقهاء إلى أن نجاسة الكلب وهي ما تخرج منه وما يتولد منه كل ذلك نجس من ريق أو بول أو نحو ذلك. وذهب شيخ الإسلام: إلى أن الرطوبة (العرق) التي تكون على شعر الكلب أنها معفو عنها، وأن شعر الكلب طاهر. وقد تقدم ترجيح هذا المذهب في الحكم على شعر الميتة وحكم الكلب كذلك هنا.

_ (1) سورة المائدة.

ثم إن القول بالتنجيس بالرطوبة التي تكون على الكلب محل حرج ومشقة، فإن الشارع قد أباح من الكلاب ما أباح فعندما تتنجس الأيدي أو الثياب بالرطوبة فهذا فيه مشقة. بخلاف ما يكون من الريق - والرطوبة المراد بها العرق - ونحوه الذي يكون في الأواني فإن هذا لا يلحق به المشقة، ويمكن أن يكون له إناء خاص به. وأما ما يكون رطباً على شعره فقد يصيب اليد وقد يصيب الثوب ففيه مشقة فكان الأولى ألا يقال بالتنجيس به، وهذا هو اختيار شيخ الإسلام رحمه الله. وهذا كما أن الشارع قد أباح لنا الصيد الذي يقع في فمه رفعاً للحرج لاحتياج الناس إلى ذلك فكانت الرطوبة الواقعة على شعره كذلك. إذن: الراجح أن شعره طاهر كما تقدم في باب الآنية وكذلك الرطوبة التي تكون على شعره لا يثبت التنجيس بها؛ لكون ذلك فيه حرج ومشقة فيكون – حينئذ – من النجاسة المعفو عنها قوله: (إحداها بالتراب) : ولا يشترط أن تكون الأولى ولا الثانية ولا السابعة، فالمشروط أن تكون إحدى هذه الغسلات بالتراب، يدل على ذلك حديث مسلم المتقدم وفيه: (أولاهن بالتراب) ولكن في الترمذي: (أولاهن أو أخراهن) (1) فدل ذلك على أن الموضع من الغسل ليس مشترط إنما المشترط أن يغسل الموضع بالتراب ولا يشترط أن يكون ذلك في الأولى ولا في السابعة، وأن كان الأولى أن تكون الأولى؛ ليزيل الماء الوارد بعد ذلك على التراب - ليزيل - التراب وما يحمله من النجاسة.

_ (1) أخرجه الترمذي في كتاب الطهارة، باب ما جاء في الوضوء بالنبيذ (91) قال: " حدثنا سوَّار بن عبد الله العنبري، حدثنا المعتمر بن سليمان، قال سمعت أيوب يحدث عن محمد بن سيرين عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (يغسل الإناء إذا ولغ فيه الكلب سبع مرات، أولاهن أو أخراهن بالتراب، وإذا ولغتْ فيه الهرة غُسل مرة) . قال أبو عيسى: هذا حديث حسن صحيح، وهو قول الشافعي وأحمد وإسحاق ".

قوله: (في نجاسة كلب وخنزير) …أما الكلب فقد تقدم الحديث الدال عليه، وأما الخنزير فقالوا: هذا من باب القياس، لكن هذا القياس ضعيف؛ ذلك لأن العلة من أمر الشارع بهذا الحكم في نجاسة الكلاب تعبدي لا تظهر لنا علته، والقياس واقع إذا كانت علة الأصل معقولة كما هو مقرر في علم الأصول، فلابد أن يكون الأصل معقول المعنى، وهذا الأصل ليس بمعقول المعنى – هذا إذا قررنا ما يقرره الفقهاء المتقدمون وأن العلة تعبدية. وأما إذا قررنا ما يقرره المتأخرين وأن العلة في ذلك وجود دودة شريطية في الكلب لا يزيلها إلا التراب فإن هذا الحكم لا يمكن أن يثبت في الخنزير إلا إذا ثبت وجود هذه الدودة الشريطية، فما دام أنه لم يذكر ثبوته فحينئذ لا يمكن القياس. فالراجح: ما ذهب إليه جمهور الفقهاء من أن الخنزير لا يلحق بالكلب في هذا الحكم وإنما نجاسته كنجاسة غيره من النجاسات. … قوله: (ويجزئ عن التراب أشنان ونحوه) كصابون ونحوه. قالوا: لأن هذه في معنى التراب، فعلى ذلك تقاس على التراب فتعطى حكمه، فيقاس النظير على نظيره. لكن في هذا القياس نظر أيضاً؛ ذلك لأن الشارع قد خصص التراب والعلة تعبدية، فما دامت العلة تعبدية فالقياس غير صحيح. وإذا قلنا ما ذكره المتأخرون مما نقلوه من الاكتشافات العلمية من وجود مادة في التراب تزيل هذه الدودة الشريطية لا يزيلها سواه، فإن إلحاق غير التراب به واضح البطلان وأن الحكم مخصوص به. إذن: الراجح أنه لا يجزئ سوى التراب وهذا أصح الوجهين في مذهب الإمام أحمد. …إذن: في هذه المسألة في المذهب وجهان: الوجه الأول: – وهو المشهور – أنه يجزئ ما سوى التراب من المنظفات. الوجه الثاني: أنه لا يجزئ إلا التراب، وهذا هو الراجح؛ لأن القياس يشترط أن يكون فيه معقول المعنى، فإن لم يكن معقول المعنى فإن القياس يكون باطلاً. قال: (وفي نجاسة غيرهما سبع بلا تراب)

أي نجاسة غيرهما: أي غير الكلب والخنزير. والراجح: - في غير الكلب – فالخنزير له هذا الحكم. (سبع بلا تراب) : قالوا: لما روى ابن عمر قال: (أمرنا النبي صلى الله عليه وسلم أن نغسل الأنجاس سبعاً) (1) وقد ذكر الموفق في المغني ولم يعزه. وقد ذكر الشيخ الألباني أنه لم يجده بهذا اللفظ، وهو كما قال، فإن هذا الحديث في الحقيقة لا أصل له.

_ (1) راجع الإرواء [1 / 186] برقم (163) حيث قال رحمه الله تعالى: " لم أجده بهذا اللفظ ".

لكن روى أبو داود بإسناد ضعيف – وسبب ضعفه أيوب بن جابر وهو ضعيف – أن ابن عمر قال: (كانت الصلاة خمسين وكان الغسل من الجنابة سبع مرار، وكان غسل الثوب من البول سبع مرار فلم يزل النبي صلى الله عليه وسلم يسأل حتى جعلت الصلاة خمساً وغسل الجنابة مرة وغسل الثوب من البول مرة واحدة) (1) . هذا هو الحديث الوارد عن ابن عمر ولو صح فإن فيه النسخ وأن الأمر بغسل النجاسة سبعاً قد نسخ. وأما أن يكون محكماً فلا، على أن الحديث الدال على الناسخ والمنسوخ حديث لا يصح. - لذا ذهب الإمام أحمد في إحدى الروايتين عنه وهو اختيار الموفق من الحنابلة، واختيار شيخ الإسلام: أن النجاسات كلها سوى نجاسة الكلب – والخنزير على الخلاف المتقدم – أنها يجزئها غسلة واحدة تذهب النجاسة، فمتى غسلت غسلة واحدة تذهب النجاسة فإن ذلك يجزئ.

_ (1) أخرجه أبو داود في كتاب الطهارة في الغسل من الجنابة (247) قال: " حدثنا قتيبة بن سعيد، حدثنا أيوب بن جابر، عن عبد الله بن عُصْم عن عبد الله بن عمر قال: " كانت الصلاة خمسين، والغسل من الجنابة سبع مرارٍ، وغسل البول من الثوب سبع مرارٍ، فلم يزل رسول الله صلى الله عليه وسلم يسأل حتى جُعلت الصلاة خمساً، والغسل من الجنابة مرة، وغسل البول من الثوب مرة "، وضعفه الألباني في الإرواء (163) فقال: " وهذا إسناد ضعيف، أيوب هذا ضعفه الجمهور، وشيخه ابن عُصم مختلف فيه " وقال أبو داود في سننه برقم (246) : " حدثنا حسين بن عيسى الخراساني، حدثنا ابن أبي فديك، عن ابن أبي ذئب، عن شعبة، قال: إن ابن عباس كان إذا اغتسل من الجنابة يفرغ بيده اليمنى على يده اليسرى سبع مرار، ثم يغسل فرجه، فنسي مرة كم أفرغ، فسألني كما أفرغت؟ فقلت: لا أدري، فقال: لا أمّ لك، وما يمنعك أن تدري؟ ثم يتوضأ وضو [ء] هـ للصلاة، ثم يفيض على جلده الماء، ثم يقول: هكذا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتطهر ".

واستدلوا: بما تقدم من حديث الأعرابي (1) فإنه فيه أنه قد غسل مرة واحدة ولا فرق بين النجاسة في الأرض ولا في غيرها. وأصرح منه – وهو ما يكون في غير الأرض – ما ثبت في الصحيحين من حديث أسماء بنت أبي بكر – وقد سألت النبي صلى الله عليه وسلم عن دم الحيض يصيب الثوب فقال صلى الله عليه وسلم: (تحته ثم تقرصه بالماء ثم تنضحه وتصلي فيه) (2) ولم يشترط النبي صلى الله عليه وسلم عدداً. والحكم يدور مع علته وجوداً وعدماً، فقد حكمنا على هذا الثوب بأنه نجس لوجود هذه النجاسة، فإذا زالت بغسلة واحدة وذهب أثرها فإن المحل يكون طاهراً؛ لأن هذا الثوب إنما حكم عليه بالتنجيس وهو ما تسمى بالنجاسة الحكمية –إنما حكم عليه بذلك لوجود هذه النجاسة – فما دام أنها ذهبت بغسلة واحدة فإن المحل يطهر. فإن لم تذهب بواحدة – فحينئذ – يكرر حتى تزول النجاسة.

_ (1) أي لما بال في المسجد، فأهريق عليه ذنوباً من ماء، وهو في الصحيحين. (2) أخرجه البخاري في كتاب الوضوء، باب غسل الدم (227) بلفظ: " جاءت امرأةٌ النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: أرأيت إحدانا تحيض في الثوب، كيف تصنع؟ قال: (تحته، ثم تقرصه بالماء، وتنضحه وتصلي فيه) ، وأخرجه مسلم (291) في كتاب الطهارة، باب نجاسة الدم وكيفية غسله بلفظ: جاءت امرأة إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: إحدانا يصيب ثوبها من دم الحيضة، كيف تصنع به؟ قال: (تحته ثم تقرصه بالماء، ثم تنضحه، ثم تصلي فيه) .

فإن بقي ما لا يمكن إزالته كرائحة أو لون ونحو ذلك فلا حرج في ذلك لما ثبت في الترمذي – والحديث حسن – فإنه من حديث ابن لهيعة وقد رواه عنه بعض العبادلة، وروايتهم عنه حسنه وله شواهد من الشرع تدل عليه أن خولة قالت للنبي صلى الله عليه وسلم: فإن لم يذهب الدم؟ أي دم الحيض، فقال صلى الله عليه وسلم: (يكفيك الماء ولا يضرك أثره) (1) . فإذا عجز المكلف عن إزالة أثر النجاسة فإن الحرج مرفوع، فيكفيه ما فعل من الغسل ولا يضره هذا الأثر. إذن: مذهب الحنابلة أن الموضع إذا وقعت عليه نجاسة سوى النجاسة المتقدمة فإنه يغسل سبع مرات. والمراد بسبع مرات: هكذا على الحقيقة وليس المراد بعد التطهير، فلو كانت السادسة وقعت على النجاسة، والنجاسة ما زالت ثم أزالته السابعة فإن هذه سبع غسلات. إذن: يغسله الغسلة الأولى وإن كانت النجاسة لم تذهب بها ثم الثانية كذلك ثم الثالثة كذلك، المقصود أن تذهب بالسابعة، فإن لم تذهب بالسابعة فيغسله ثامنة أو تاسعة حتى تزول النجاسة. والحمد لله رب العالمين الدرس الأربعون (يوم الاثنين: 26 / 12 / 1414هـ) قال المؤلف رحمه الله: (ولا يطهر متنجس بشمس ولا ريح ولا دلك) إذا وقع على ثوب نجاسة فأصابتها الشمس فزالت ولم يبق لها أثر لا طعم ولا ريح، أو ذهبت تلك النجاسة بالريح، كأن تذهب بسبب ريح شديدة، والمقصود من ذلك: ذهاب تام بحيث لم يبق لها أثر في المحل. أو كان المحل نحو مرآة أو سيف أو سكين فوقعت عليه نجاسة كالدم – على قول من قال بنجاسته – فدُلك فزالت نجاسته، فهل يحكم بنجاسة المحل أم لا – في كل هذه المسائل؟ قال هنا: (ولا يطهر متنجس بشمس ولا ريح ولا دلك)

_ (1) لم أجده في فهرس الترمذي طبعة بيت الأفكار، ولا في باب ما جاء في غسل دم الحيض من الثوب من كتاب الطهارة في سنن الترمذي.

وقد تقدم الكلام في هذا في باب المياه، وأن الماء الطهور هو ما لا يزيل النجس الطارئ غيره، وقد تقدم دليل المذهب. وتقدم رجحان ما ذهب إليه أبو حنيفة وهو اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية: من أن هذا المحل طاهر. ودليل ذلك: ما روى البخاري وأبو داود من حديث ابن عمر من أن الكلاب كانت تبول وتقبل وتدبر في المسجد ولم تكن تغسل محالها (1) . ولو كانت باقية، لوجب تغسليها، فتبين أنها كانت تذهب بنحو شمس أو ريح إذ لو كانت باقية لوجب تغسيلها. وبما ثبت في أبي داود أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا جاء أحدكم إلى المسجد فلينظر ماذا رأى في نعليه قذراً أو أذى فليمسحه وليصل فيهما) (2) فأمر بالمسح وهو الدلك – الذي تثبت فيه إزالة النجاسة. فالراجح: أن النجاسة متى زالت بأي مزيل من المزيلات بحيث إنه لم يبق للنجاسة أثر سواء كان ذلك بدلك أو ريح أو شمس فإن المحل يطهر، ومحل هذا حيث تذهب النجاسة فلا تبقى لها أثر. قال: (ولا استحالة) يقال: استحال الشيء عما كان عليه: أي زال، وذلك بأن يتحول من صورة إلى أخرى أو من مادة إلى مادة أخرى.

_ (1) تقدم صْ 126. (2) أخرجه أبو داود في كتاب الصلاة، باب الصلاة في النعل (650) قال: " حدثنا موسى بن إسماعيل، حدثنا حماد بن زيد، عن أبي نُعامة السعدي، عن أبي نضرة، عن أبي سعيد الخدري قال: بينما رسول الله صلى الله عليه وسلم يُصلي بأصحابه إذ خلع نعليه، فوضعهما عن يساره، فلما رأى ذلك القول ألقوا نعالهم، فلما قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاته قال: (ما حملكم على إلقاء نعالكم؟) قالوا: رأيناك ألقيت نعليْك فألقينا نعالنا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن جبريل أتاني فأخبرني أنفيها قذراً) أو قال: أذى، وقال: (إذا جاء أحدكم إلى المسجد فلينظر، فإن رأى في نعليه قذراً أو أذى فليمسحه وليصلّ فيهما) .

كتحول الدم والصديد واللحم في الميتة إلى تراب وكتحول الروث النجس إلى رماد ونحو ذلك فهل هذه المتحول إليها طاهرة أم نجسة؟ هنا: المذهب يقول: إنها نجسة وإنها لا تطهر. فعلى ذلك: التراب الذي دفن فيه الإنسان فتطاول الزمن عليه فتحول بما فيه من صديد ودم – وهذا على القول بأن الصديد نجس – أو كانت ميتة أخرى من التي يحكم بنجاستها، فتحولت إلى تراب أو إلى ملح أو تحول هذا الروث إلى رماد أو الدخان المتحلل من الشيء النجس كأن يحرق شيء نجس فيخرج منه غبار: - فذهب الحنابلة إلى إنها نجسة واستدلوا: بما رواه أبو داود والترمذي وغيرهما أن النبي صلي الله عليه وسلم: (نهى عن الجلالة) (1)

_ (1) أخرجه أبو داود في كتاب الأطعمة، باب النهي عن أكل الجلالة وألبانها (3785) قال: " حدثنا عثمان بن أبي شيبة حدثنا عبدة عن محمد بن إسحاق عن ابن أبي نجيح عن مجاهد ع ابن عمر قال: نهى رسول الله عن أكل الجلالة وألبانها " وقال (3787) : حدثنا أحمد بن أبي سريج أخبرني عبد الله بن جهم حدثنا عمرو بن أبي قيس، عن أيوب السختياني عن نافع عن ابن عمر قال: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الجلالة في الإبل: أن يركب عليها، أو يشرب من ألبانها " وقال (3786) " حدثنا ابن المثنى، حدثني أبو عامر، حدثنا هشام، عن قتادة عن عكرمة عن ابن عباس أن النبي صى صلى الله عليه وسلم نهى عن لبن الجلالة " أخرجه النسائي في البيوع حديث 4453، باب النهي عن لبن الجلالة. أخرجه الترمذي في كتاب الأطعمة، باب ما جاء في أكل لحوم الجلالة وألبانها قال: " حدثنا هنَّاد حدثنا عَبْدَة عن محمد بن إسحاق عن ابن أبي نجيح عن مجاهد عن ابن عمر قال: " نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أكل الجلالة وألبانها " قال: وفي الباب عن عبد الله بن عباس. قال أبو عيسى: هذا حديث حسن غريب،وروى الثوري عن ابن أبي نجيح عن مجاهد عن النبي صلى الله عليه وسلم مرسلاً. وقال (1825) : " حدثنا محمد بن بشّار حدثنا معاذ بن هشام حدثني أبي عن قتادة عن عكرمة عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن المُجَثَّمة ولبن الجلالة وعن الشرب من في السقاء " وصححهما الألباني. وأخرجه ابن ماجه في في الذبائح حديث 3189، باب النهي عن لحوم الجلالة، سنن أبي داود [4 / 149] .

وسيأتي الكلام على هذا الحديث في بابه – إن شاء الله -. قالوا: إنما هذا النهي لنجاستها، لكون هذه النجاسات ثابتة فيها باقية، ومعلوم أن هذه النجاسات قد تحولت إلى دم ونحوه فإنها ليست كهيئتها السابقة بل تحولت في هذا الحيوان إلى مادة أخرى، ومع ذلك فإن الشارع نهى عنها. لكن هذا الاستدلال ضعيف، إذ ليس في الحديث أن ذلك لنجاستها ولكن لقاعدة الشريعة في تحريم ما خبث طعمه كما حرم ما يأكل الجيف، وسيأتي الكلام عليه في باب الأطعمة. والحنابلة – وهم القائلون هنا بأن الاستحالة لا تحول الشيء إلى شيء ظاهر، مستدلين كذلك بالجلالة – هم أنفسهم يقولون إنها متى حبست – أي الجلالة – ثلاثة أيام كما هو مذهب ابن عمر فمتى حبست فإنها تطهر. ومعلوم أن هذا الدم قد نبت منه بعض اللحم، ومجرد الحبس لا يغير الحكم، فإنه متى نبت لحمها وحبست بعد ذلك أياماً يسيرة فإن هذا لا يغير من الحكم شيـ[ـئاً] . إذن: يدل على حرمتها بجريان هذا الدم الذي ما زال قريباً بالنجاسة فمتى منعت من الطعام زمناً وتؤكد بعد هذا الزمن من أن هذا الخبث قد ذهب وإن كان قد تحول إلى مادة أخرى فإنها تحل. - وذهب أبو حنيفة وهو اختيار شيخ الإسلام وتلميذه ابن القيم: إلى أن الاستحالة تطهر بها الأعيان. ولكن مع ذلك ينبغي ألا يقال إنها تطهر بالاستحالة؛ ذلك: لأن ليس مجرد الاستحالة هو سبب الطهارة، بل سببها إنها انتقلت إلى عين أخرى هذه العين عين طاهر. واستدلوا: بأن الشارع وقد حكم بتنجيس هذه العين التي قد استحالت إلى مادة أخرى قد حكم بنجاستها لما فيها من الخبث، وأما وقد تحولت إلى مادة أخرى وهي مادة حكم الشارع بطهارتها كتراب أو ملح أو رماد أو نحو ذلك، فهذه مادة طيبة قد حكم الشارع بطهارتها ولم يبق اسم ولا معنى مما حكم الشارع بنجاستها.

فما حكم الشارع بنجاسته كالروث مثلاً: قد تحول إلى رماد فلم يبق فيه ما في الروث من المعنى، وكذلك لم يبق فيه التسمية فهي مادة طاهرة، وكذلك الملح والتراب. والنبي صلى الله عليه وسلم لما بنى مسجده أمر بنبش ما فيه من قبور المشركين ولم يأمر النبي صلى الله عليه وسلم بحمل التراب الذي حوله ومن المعلوم أن من الدم والصديد ما تحول إلى تراب – وهذا على القول بأن الدم والصديد نجس فيكون رد على المذهب ومن قال بقوله -. فالراجح: مذهب أهل القول الثاني وأنه متى استحال إلى مادة أخرى فإن هذه العين تكون طاهرة فلا معنى للحكم بنجاستها وهي مادة أخرى، مادة لها نظير آخر قد حكم الشارع بطيبه ولم يبق للنجاسة اسم ولا معنى وهذا حيث زالت النجاسة تماماً فلم يبق لا لون ولا طعم ولا ريح. قوله: (غير الخمرة) أي الخمر فالخمر إذا تحول إلى مادة طيبة من الطيبات فإنه – حينئذ – يكون طاهراً. واعلم أن الخمر فيه خلاف بين أهل العلم هل هو نجس أم طاهر؟ فذهب جمهور أهل العلم: إلى أن الخمر نجس واستدلوا بقوله تعالى: {إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان} (1) . قالوا: والرجس هو النجس، كما قال تعالى: {قل لا أجد فيما أوحى إليّ محرماً على طاعم يطعمه إلا أن يكون ميتا أو دماً مسفوحاً أو لحم خنزير فإنه رجس} (2) قالوا: أي نجس فالآية الأولى نظير الآية الثانية. قالوا: فيدل هذا على نجاسة الخمر. فإن قيل: فلم لم تحكموا على الأزلام والميسر والأنصاب – بالنجاسة فهي ليست نجسة حساً عندكم؟ قالوا: هذه أخرجها الإجماع، فقد أجمع العلماء على أن نجاستها ليست حسية بل معنوية. وهذا هو اختيار شيخ الإسلام وغيره من أهل العلم وقد حكى هذا القول إجماعاً، لكن هذا الإجماع ليس بصحيح لوجود المخالف.

- وقد ذهب بعض أهل العلم وهو قول داود والمزني والليث بن سعد وربيعة وذهب إليه بعض المتأخرين وممن اختاره الصنعاني وغيره: أن الخمرة طاهرة وليست بنجسة. واستدلوا: بالأصل وأن الأصل في الأشياء الطهارة وكون الشيء يحرم لا يعني تنجسه،فإن الشارع قد حرم الأنصاب والأزلام وهي ليست نجسة بالأصل فليس كل محرم نجس، فالأصل في الأشياء الطهارة وهذه منها. قالوا: وقد ثبت في البخاري عن أنس بن مالك قال: (لما حرم الخمر خرج الناس وأراقوها في الطرقات) (1) . قالوا: والاستدلال بهذا الحديث من وجهين: الوجه الأول: إيقاع النجاسات في طرق الناس محرم فلو كانت الخمر نجسة لما جاز أن تراق في طرقات الناس كما تقدم من تحريم التبرز ونحوه في الطريق فهذا محرم وكذلك غيره من النجاسات، فلو كانت الخمر نجسة لما جاز أن تراق في الطرقات. والوجه الثاني: أنه لابد وأن يصيب الماشي وهو ذاهب إلى الصلاة شيء منها، ومع ذلك فإن النبي صلى الله عليه وسلم لم يأمرهم أن يغسلوا ما تقع عليه الخمرة في أبدانهم، وتأخير البيان عن وقت الحاجة لا يجوز. لكن في الاستدلال بهذا الدليل من هذين الوجهين نظر: أما الوجه الأول: وهو قولهم: أن في إراقتها في الطرقات تنجيس لها وهو محرم.

_ (1) أخرجه البخاري في كتاب المظالم، باب صب الخمر في الطريق (2464) عن أنس رضي الله عنه قال: كنتُ ساقي القوم في منزل أبي طلحة، وكان خمرهم يومئذ الفضيخَ، فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم منادياً يُنادي: ألا إنّ الخمر قد حُرّمتْ قال: فقال لي أبو طلحة: اخرج فأهْرقْهَا، فخرجتُ فهرقتُها، فجرتْ في سكك المدينة، فقال بعض القوم: قد قتل قوم وهي في بطونهم، فأنزل الله {ليس على الذين آمنوا وعملوا الصالحات جناح فيما طعموا} ، وأخرجه مسلم (1980) . في كتاب الأشربة، باب تحريم الخمر.. .

فلأهل القول الأول أن يقولوا: إن فعل ذلك لمصلحة شرعية راجحة وهي إظهار ترك هذا المحرم الذي قد اعتاد عليه العرب وألِفوه، وفي ذلك تشجيع للناس على تركه فلهذه المصلحة العظيمة جاز أن يراق وإن كان نجساً ولا شك أنه سيذهب بعد زمن يسير بالشمس أو الريح أو نحو ذلك، وبقاؤه على هذه الصورة فيه مصلحة عظيمة للتعاون على ترك هذا المنكر وإظهار حرمته. وأما الوجه الثانية: وهو قولهم: أنه لو كان نجساً لأمر النبي صلى الله عليه وسلم من يأتي إلى المسجد أن يغسل ما يصيبه منه، وهو كثيراً ما يصيب المشاة إلى المسجد. فهذا فيه نظر – على قول الجمهور – وهو أن يقولوا: إن الله قال {رجس من عمل الشيطان} فما دام أن الله قال ذلك فلا يحتاج إلى أن يبين النبي صلى الله عليه وسلم ذلك. ومع ذلك: فإن الراجح القول الثاني وذلك لصحة الدليل الأول وهو الأصل فإن الأصل في الأشياء الإباحة. وأما الاستدلال بالآية: {إنما الخمر والميسر ….} فإن الرجس في لغة العرب هو القذر ولا يلزم في ذلك أن يكون نجساً حسياً فلا يلزم من القذارة النجاسة الحسية فكم من شيء قذر ومع ذلك ليس بنجس فليس كل شيء مستقذر يستقذره الناس ويحكمون عليه بالقذارة ليس كل ذلك نجساً، فإذا ثبت هذا فإن الآية لا تدل إلا على أنه قذر. والأظهر فيها أن المراد بالنجاسة هنا: المعنوية وليس الحسية وذلك لقرينتين اثنتين: القرينة الأولى: قوله تعالى عاطفاً الثلاث على أن نجاستها نجاسة معنوية وهي قوله: {إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام} فهذه الثلاثة بالإجماع طاهرة العين نجسة المعنى، فكذلك الخمر فهذه القرينة تقوي أن الخمر نجاستها نجاسة معنوية. القرينة الثانية: قوله: {رجس من عمل الشيطان} فحكم عليها بالنجاسة مرتبطاً ذلك بكونه من عمل الشيطان.

وأما النجاسة التي يخلقها الله طبيعة فإنها نجاسة لا يقال فيها إنها من عمل الشيطان فإنها نجاسة طبيعية أصلية حقيقة في هذا الشيء. فدل على أن قوله: {من عمل الشيطان} أي نجاسة عملية معنوية، أي هذا من عمل الشيطان في الناس من النجاسة التي يزرعها الشيطان في الناس لما في الخمر من إلقاء العداوة والبغضاء وترك ذكر الله والصلاة ونحو ذلك مما هو من عمل الشيطان. فعلى ذلك: الراجح أن الرجس هنا: هو الرجس المعنوي. إذن: الخمر طاهرة وليست بنجسة، فإذا أصاب البدن منها شيء – ومن ذلك هذه الأطياب التي يتطيب بها فإنها من الخمر – فإنها ليست بنجسة على الراجح من قول أهل العلم. والمسألة المرتبطة بالمسائل السابقة: هي أن الخمر إذا تحولت بنفسها فتحولت إلى خل بعد أن كانت خمراً فحينئذ يحكم بطاهرتها. وقد قالوا بطهارتها: لأن الخل عين أخرى فليست خمراً وإنما خل، والخل طاهر. لكنهم: قالوا: هي في الأصل أشياء طاهرة فحولت إلى خمر ثم رجعت إلى أصلها. والجواب على ذلك: أن يقال: كذلك النجاسات فقد كانت في الأصل أطعمة ثم تحولت إلى قذر ثم تحولت بالاستحالة إلى مواد أخرى، فالدم مثلاً – إذا حكمنا بنجاسته – أصله طعام وشراب طاهر فتحول إلى شيء نجس وهو الدم ثم عاد بعد ذلك إلى عين أخرى طاهرة. * واعلم أن الخمر إذا تخللت بنفسها من غير عمل فإن ذلك جائز بإجماع العلماء، فلا حرمة في ذلك، فبالإجماع هي طاهرة، فهذا هو فعل الله عز وجل فيها وهذا قول عمر كما في البيهقي (1) ولا يعلم في هذه المسألة خلافاً.

أما إذا خللت الخمر ووضعت إليها مواد فرجعت إلى خل، فهذا الفعل اتفاقاً محرم لا يجوز؛ لما ثبت في مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم: سئل عن الخمر تتخذ خلاً قال: (لا) (1) أي لا يجوز ذلك، فلا يجوز تحويل الخمر إلى خل بل يراق. * لكنها إن خللت فهل تكون طاهرة أم نجسة؟ قولان لأهل العلم هما قولان في مذهب أحمد وغيره. والراجح: أنها طاهرة كما تقدم، وهو مذهب مالك وأبي حنيفة،وقول في مذهب الإمام أحمد، وأنها إذا خللت فهذا الفعل محرم ولا يجوز أن تطعم لكنها مع ذلك طاهرة فهي طاهرة، لكن هذا التخليل منه هو آثم لمخالفة النبي صلى الله عليه وسلم. لذا قال: (فإن خللت – إلى أن قال - لم تطهر) هذا هو المذهب، فالمشهور في المذهب أنها إذا خللت فإنها لا تطهر. والراجح وهو قول في المذهب أنها تطهر كما تقدم. قوله: (أو تنجس دهن مائع لم يطهر) إذا كان عندنا دهن مائع يبلغ الشيء الكثير جداً، فوقعت فيه نجاسة، ولو كانت هذه النجاسة يسيرة – وهو مائع – فإنه نجس ولا يحل أن يطعم، ولا يطهر. وقيَّد ذلك بمائع، لأنه لابد أن يكون مائعاً لترتب هذا الحكم. أما إذا كان جامداً فإنه تزال النجاسة وما حولها ويطعم الباقي. وأما المائع فإنه يراق مطلقاً قليلاً كان أو كثيراً – إذا وقعت فيه نجاسة – ولا يطهر. وهذا هو المشهور في مذهب الحنابلة.

_ (1) أخرجه مسلم في كتاب الأشربة، باب تحريم تخليل الخمر (1983) . وأخرجه الترمذي في كتاب البيوع، باب النهي أن يتخذ الخمر خلا (1294) .

واستدلوا: بما رواه أبو داود والترمذي والنسائي من حديث معمر عن الزهري عن سعيد بن المسيب عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل عن فأرة وقعت في سمن فقال: (إن كان جامداً فألقوها وما حولها، وإن كان مائعاً فلا تقربوه) (1)

_ (1) أخرجه أبو داود في كتاب الأطعمة، باب في الفأرة تقع في السمن (3842) قال: " حدثنا أحمد بن صالح والحسن بن علي، واللفظ للحسن، قالا: حدثنا عبد الرزاق، أخبرنا معمر، عن الزهري، عن سعيد بن المسيب، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إذا وقعت الفأرة في السمن: فإن كان جامداً فألقوه وما حولها، وإن كان مائعاً فلا تقربوه) ، وأخرجه الترمذي في كتاب الأطعمة، باب ما جاء في الفأرة تموت في السمن (1798) قال بعد أن ذكر حديث ميمونة (ألقوها وما حولها وكلوه) قال: " وقد رُويَ هذا الحديث عن الزهري عن عبيد الله بن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل، ولم يذكروا فيه عن ميمونة، وحديث ابن عباس عن ميمونة أصح. وروى معمرٌ عن الزهري عن سعيد بن المسيَّب عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم نحوه، وهو حديثٌ غير محفوظ. قال: وسمعت محمد بن إسماعيل يقول: وحديث معمر عن الزهري عن سعيد بن المسيَّب عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم، وذَكَرَ فيه أنه سئل عنه فقال: (إذا كان جامداً فألقوها، وما حولها، وإن كان مائعاً فلا تقربوه) هذا خطأٌ، أخطأ فيه معمر،قال: والصحيح حديث الزهري عن عبيد الله عن ابن عباس عن ميمونة ". اهـ سنن الترمذي،طبعة بيت الأفكار صْ 307. وحديث ميمونة أخرجه أبو داود أيضاً. وأخرجه النسائي في الفرع والعتيرة، باب الفأرة تقع في السمن حديث (4263) .

- وذهب أبو حنيفة وهو اختيار شيخ الإسلام: إلى أنه لا يتنجس إلا بالتغير كحكم الماء تماماً، ويمكن أن تزال النجاسة بأي طريقة من طرق الإزالة كما تقدم في الماء تماماً. فإذا وقع شيء يسير من النجاسة في زيت كثير ولم يغيره فهو طاهر، وإذا غيره فأضيف إليه شيء من الزيت فذهب التغير وزال أثر النجاسة فهو طاهر. واستدلوا: بما روى البخاري من حديث سفيان عن الزهري إلى ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (في فأرة سقطت في سمن فماتت: (ألقوها وما حولها وكلوه) (1) ولم يفرّق النبي صلى الله عليه وسلم بين أن يكون مائعاً أو جامداً. وهذا مذهب ابن عباس وابن مسعود – كما رواه عنهما الإمام أحمد في مسائله، وهو مذهب طائفة من السلف وهو اختيار شيخ الإسلام – وأنه لا فرق بين جامد ومائع بل تلقى النجاسة وما حولها ثم ينظر في المتبقي، فإن كان هذا الزيت - مثلاً – المتبقي متغير بالنجاسة فهو نجس وإن لم يتغير بالنجاسة لا طعماً ولا لوناً ولا ريحاً فإنه طاهر. وأجابوا عن الحديث الأول بأنه معلول، فإن معمراً باتفاق علماء الرجال – كما قال شيخ الإسلام – كثير الغلط على الزهري، وهذا من غلطه عليه، فإن الرواة عن الزهري كما رووه بهذا اللفظ المتقدم، وغلط معمر فرواه بسند آخر إلى أبي هريرة فأخطأ في الإسناد ثم أخطأ في المتن بذكر الجامد، فهو وهم وغلط منه كما قرر ذلك البخاري والترمذي وأبو حاتم والدارقطني وكذلك ابن تيمية وابن القيم وغيرهم من أهل العلم، فعلى ذلك الحديث ضعيف لأنه معلول.

_ (1) أخرجه البخاري في كتاب الذبائح (7 / 126) باب إذا وقعت الفأرة في سمن، سنن أبي داود [4 / 180] .

وعلى ذلك الراجح ما ذهب إليه أهل القول الثاني: وأن النجاسة إذا وقعت في المائعات من دهن أو غير ذلك أو وقعت في بعض الأطعمة ونحوها، فإننا نزيل النجاسة وما حولها مما تنجس، وإن كان الزيت أو غيره طاهراً لم يتغير بالنجاسة فهو على ظاهره طاهر، وأما إن كان متغيراً بالنجاسة وأمكن إزالة النجاسة عنه بأي طريقة فأزيلت فإنه يطهر أيضاً، كحكم الماء تماماً. ولا شك أن هذا أولى من الماء؛ لما فيه من إفساد المال بوقوع أدنى نجاسة فيه. قوله: (وإن خفي موضع نجاسة غسل حتى يُجزم بزواله) إذا خفي موضع نجاسة وكان الموضع ضيقاً لا مشقة في تغسيله كله كأن تقع نجاسة على ثوب أو على موضع صلاة صغير أو نحو ذلك يمكن أن ينظف كله ولا مشقة في ذلك فوقعت النجاسة ولا يدرى موضعها فإننا نغسل كل الموضع حتى نتيقن من زوال النجاسة. أما إذا كان واسعاً كأن يكون بقعة من الأرض في فضاء أو نحو ذلك فإنه – حينئذ – لا يجب عليه ذلك بل يتحرى في أي موضع النجاسة ثم يغسله لمشقة غسل الموضع كله، بل يغسل ما يتوقع فيه النجاسة أو يتحرى فيغسل هذا الموضع الذي يظن أن النجاسة واقعة فيه. فإذا لم يكن هناك ظن فإنه يصلي حيث شاء من المواضع ولا شيء عليه في ذلك. أما إذا يمكن أن يغسله كله ولا مشقة في ذلك فيجب عليه أن يغسله كله. والحمد لله رب العالمين. الدرس الحادي والأربعون (يوم الثلاثاء: 27 / 12 / 1414 هـ) قال المؤلف رحمه الله تعالى: (ويطهر بول غلام لم يأكل الطعام بنضحه) " بول " دون غائطه. " غلام " وهو الصبي الذي لم يبلغ، ويقابله الجارية وهي الصبية التي لم تبلغ. " لم يأكل الطعام " فطعامه لبن أمه أو غيره، ولا يكون الطعام أي ليس الطعام المأكول من خبز أو نحوه فليس هو مطعمه بخلاف ما قد يوضع فيه مما لا يكون عن اختيار منه فإن هذا لا يعتبر أكلاً يثبت تغير الحكم عليه، كأن يوضع في فيه شيء من التمر أو يلعق عسلاً أو نحو ذلك.

" بنضحه " النضح هو الرش أي الغمر والمكاثرة بالماء من غير أن يجري الماء كما يجري في الغسل، بل مجرد ما يريق الماء على موضع النجاسة مكاثرة وغمراً لها به غير أن يكون بإزالته واستخراجه، فهذا هو النصح. ودليل ذلك: ما ثبت في مسند أحمد وسنن أبي داود والترمذي وغيرهم بإسناد صحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ينضح من بول الغلام ويغسل من بول الجارية) (1) .

_ (1) أخرجه أبو داود في كتاب الطهارة، باب بول الصبي يصيب الثوب (375) قال: " حدثنا مسدد بن مسرهد والربيع بن نافع أبو توبة، المعنى قالا: حدثنا أبو الأحوص، عن سماك، عن قابوس، عن لبابة بنت الحارث قالت: كان الحسين بن علي رضي الله عنه في حجر رسول الله صلى الله عليه وسلم فبال عليه، فقلت: البس ثوباً وأعطني إزارك حتى أغسله، قال: (إنما يُغسل من بول الأنثى،وينضح من بول الذكر) ، وفي لفظ من وجه آخر (يغسل من بول الجارية، ويرش من بول الغلام) ، وفي لفظ من وجه آخر موقوفاً على علي رضي الله عنه: (يغسل من بول الجارية وينضح من بول الغلام ما لم يطعم) . وأخرجه ابن ماجه برقم 525، والترمذي في آخر الصلاة برقم 610، وقال: " حديث حسن "، سنن أبي داود [1 / 263] . وأخرج البخاري في كتاب الوضوء، باب بول الصبيان حديث عائشة (222) قالت: أتي رسول الله صلى الله عليه وسلم بصبي، فبال على ثوبه، فدعا بماء فأتبعه إياه ".

وثبت في الصحيحين من حديث أم قيس رضي الله عنها قالت: (جئت النبي صلى الله عليه وسلم بابن لي لم يأكل الطعام فأجلسه النبي صلى الله عليه وسلم في حجره فبال عليه فدعا بماء ونضحه ولم يغسله) (1) فإذن وهذا مختص بالغلام الذي لم يأكل الطعام أما غيره والجارية فإنه يجب فيه الغسل. وهل يقاس عليه القيء أم لا؟ قالوا: ويقاس عليه القيء إذا كان من غلام لم يأكل الطعام، وهذا مبني على ما ذهب إليه جمهور العلماء من أن القيء نجس، والقيء هو: ما يخرج من الطعام من المعدة. وجمهور العلماء على أنه نجس، فعلى ذلك يجب غسل ما يصيب من الثياب. وهذا من باب القياس، فقاسوه على البول والغائط، فكما أن هذا مستخرج من الطعام فكذلك هذا فهذا من باب القياس. وهذا قد حدث به من النتن والفساد كما حدث في البول والغائط ولما روى الدارقطني والبيهقي عن عمار بن ياسر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له: (إنما تغسل ثوبك من البول والغائط والمني والمذي والدم والقيء) (2) . لكن الحديث ضعيف وقد ضعفه البيهقي والدارقطني.

_ (1) أخرجه البخاري في كتاب الوضوء،باب بول الصبيان (223) بلفظ: " عن أم قيس بن محصن: أنها أتت بابن لها صغير، لم يأكل الطعام إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأجلسه رسول الله صلى الله عليه وسلم في حِجْرِه، فبال على ثوبه، فدعا بماء فنَضَحَه ولم يغسله " وأخرجه مسلم (287) .

* وذهب بعض أهل العلم وهو مذهب الظاهرية: إلى أن القيء ليس بنجس واختاره الشوكاني؛ لأن الأصل في الأشياء الطهارة، وقياسه على البول والغائط ليس أولى من قياسه على المخاط والعرق فإنها – كذلك – يخرج من البدن وقد ظهر فيها نتن وفساد وهي متحللة من طعام، وقد دلت الأدلة الشرعية – وهو مذهب الحنابلة – على أن المخاط والعرق طاهر، ومما يدل على ذلك ما ثبت في الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (فإذا تنخع أحدكم فليتنخع عن يساره أو تحت قدمه فإن لم يجد فليفعل هكذا فتفل في ثوبه فمسح ببعضه بعض) (1) وهذا في الصلاة، فإذا ثبت فمعلوم أن الصلاة لا يحل أن يقع في ضمنها شيء من النجاسة فهذا يدل على أن النخامة (2) ليست بنجسة. وقياس القيء به أولى من قياسه بالغائط والبول، وحقيقة القيء إنما هو هذا الطعام الذي دخل إلى المعدة فخرج بسبب المرض متغيراً بشيء من الفساد والنتن فمثل هذا لا يقال بنجاسته، فإن نقل هذا الطعام إلى النجاسة بسبب تغيره في المعدة لا يدل على نجاسته. فالراجح: أن القيء ليس بنجس. وإذا قلنا بنجاسته فإن ما يقع من الصبي الغلام الذي لم يأكل الطعام فإنه يكفي في قيئه النضح، ويجب الغسل فيما يكون من الجارية والغلام الذي يأكل الطعام كما يكون ذلك في البول.

_ (1) أخرجه البخاري في كتاب الصلاة، باب حك البزاق باليد من المسجد (405) عن أنس بلفظ: أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى نخامة في القبلة، فشق ذلك عليه حتى رؤي في وجهه، فقام فحكّه بيده، فقال: (إن أحدكم إذا قام في صلاته، فإنه يناجي ربه، أو: إن ربه بينه وبين القبلة، فلا يبزقن أحدكم قِبل قبلته، ولكن عن يساره أو تحت قدمه) ثم أخذ طرف ردائه فبصق فيه، ثم رد بعضه على بعض، فقال: (أو يفعل هكذا) ، ورواه في أبواب أخرى بألفاظ متخلفة، وأخرجه مسلم (493) و (551) . (2) كذا في المطبوع، وفي الأصل: النخاعة.

قوله: (ويعفى في غير مائع ومطعوم عن يسير دم نجس من حيوان طاهر) " ويعفى ": فهذا في النجاسة المعفو عنها. " في غير مائع ": من ماء أو زيت ونحوهما. " ومطعوم ": كالخبز أو نحو ذلك. " عن يسير ": عرفاً. " دم نجس ": لا دم طاهر، فإن الدم الطاهر معفو عنه كله، فكله عفو. ومثلوا للدم الطاهر بدم الشهداء فإنه طاهر؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يأمر بغسله. ومثل ذلك: دم مأكول البحر، فما يخرج من مأكول البحر من الدم فهو طاهر. إذن: إذا وقع دم نجس كالدم الذي يخرج من البهيمة، أو من الآدمي على المذهب فإذا وقع شيء من هذه الدماء - الدماء خاصة ليس سائر النجاسات – إذا وقع على ثوب أو بقعة – لا على ماء أو زيت وكان ذلك على (1) حيوان طاهر ليس من حيوان نجس ككلب أو خنزير فإنه لا تعفى منه. إذن: يعفى من النجاسات عن الدم النجس اليسير إذا كان من حيوان طاهر وكان وقوعه على ثوب أو نحوه. وهذه التفاصيل في الحقيقة لا دليل عليها. - لذا ذهب شيخ الإسلام رحمه الله وهو مذهب أبي حنيفة: إلى أنه يعفى عن يسير النجاسات مطلقاً سواء كانت في مائع أو غيره ولكن بقيد: وهو أن يكون يشق التحرز منها. قياساً على النجاسة المعفو عنها في موضع الاستجمار، فإن الاستجمار لا يذهب أثر النجاسة كما هو معلوم، وما يبقي بعد الأثر معفو عنه، فقد عفي عنه لمشقة التحرز منه فكذلك عامة النجاسات التي يشق التحرز عنها فإنه يعفى عن يسيرها. والمراد باليسير: اليسير عرفاً. مثال ذلك: رجل يشتغل بالجزارة فإنه قد يتساقط على ثوبه قطرات من الدم يشق عليه أن يتحرز منها ليصلي – دائماً – بثوب خال من ذلك، فإنه عندما يصلي وعليه شيء من القطرات اليسيرة فلا بأس بذلك.

_ (1) كذا في الأصل، ولعل الصواب: من.

ومثاله أيضاً: في المجروح، فإنه إذا توقف عنه الدم فإنه يبقى في موضع الدم قطرات – وقلنا: على المذهب بأن الدم من الآدمي نجس – فإن هذه القطرات التي تكون في موضع الجرح معفو عنها. قال: (وعن أثر استجمار بمحله) كما تقدم. " بمحله ": أي موضع الاستجمار. وأما إذا خرج بسبب عرق أو نحوه إلى الثوب فإنه لا يعفى عنه. وهذا ضعيف، فإنه من المعلوم أن مثل هذا يقع غالباً كما يكون هذا في الاستجمار، فإذا وقع على الثوب المقابل لموضع الاستجمار فإنه لا حرج فيه، فإن النبي صلى الله عليه وسلم لم يأمر بغسله وهذه رواية عن الإمام أحمد اختارها ابن القيم والشيخ عبد الرحمن السعدي وغيرهما. * وعند لفظة الدم: اعلم أن جماهير العلماء على أن الدماء الأصل فيها النجاسة سوى ما دلت الأدلة الشرعية على استثنائه كدم الشهداء، وكدم مأكول اللحم البحري وكالدم الذي يكون في اللحم المذبوح وما يكون في العروق فإن هذا كله معفو عنه وأما سواه من الدم فإنه نجس – هذا مذهب جمهور الفقهاء -. فعلى ذلك: دم الآدمي نجس، ودم مأكول اللحم البري كالشاة ونحوها نجس، وكذلك غيرها من الدماء. واستدلوا: بقوله تعالى {قل لا أجد فيما أوحى إلي محرماً على طاعم يطعمه إلا أن يكون ميتة أو دماً مسفوحاً أو لحم خنزير فإنه رجس " أي نجس " أو فسقاً أهل لغير الله به} أي لا أجد فيما أوحى إلى محرماً من الأطعمة إلا هذه الأربع وهي: الميتة والدم المسفوح ولحم الخنزير فإنها رجس، والرابع هو الفسق الذي أهل به لغير الله وهو ما خرج به عن طاعة الله وأمره وشرعه ولو حيدة بأن ذبح لغير الله، فهذه الأربعة هي المحرمة وقد دلت الأدلة الشرعية على عدم الاكتفاء بها، فقد ورد بعد ذلك آيات وأحاديث مدنية تدل على مزيد من المحرمات وسيأتي ذلك – في باب الأطعمة إن شاء الله –.

- وذهب الظاهرية وهو اختيار الشوكاني: إلى نقيض القول المتقدم، وهو أن الدماء كلها طاهرة إلا (1) ما استثني بالنجاسة فدم الحيض قد دلت الأدلة الشرعية على نجاسته كقوله صلى الله عليه وسلم: (تحته ثم تقرصه بالماء ثم تنضحه وتصلي فيه) (2) قالوا: فهذا يدل على أن دم الحيض والنفاس نجس. وأما ما لم يرد الدليل بنجاسته فهو طاهر. واستدلوا: بالأصل، فإن الأصل في الأشياء هو الطهارة. والأظهر ما ذهب إليه جمهور العلماء، فإن الرجس في هذه الآية هو النجس وقرينة ذلك أن الله لما ذكر هذه الثلاثة وحكم عليها بالرجسية أضاف إليها بعد ذلك ما أهل به لغير الله من الفسق، ومعلوم أن ما أهل به لغير الله من الفسق رجس – كذلك – معنوي فإنه نجاسة معنوية كما أن الأزلام والميسر والأنصاب رجس معنوي، فإن هذا الذي أهل به لغير الله رجس معنوي، فعلم من ذلك أن المراد بالرجس في الثلاثة الأولى أنه الرجس الحسي وهو القذر الشرعي فالمراد به النجاسة التي حكم الشارع عليها بالنجاسة، فعلى ذلك: الميتة والدم ولحم الخنزير أنجاس لهذه الآية الكريمة. إذن: الراجح أن الدماء كلها نجسة سوى ما دلت الأدلة على استثنائه كدم الشهيد ونحوه. وهذا هو القول الراجح إلا أنه ينبغي أن يستثنى دم الآدمي مطلقاً خلافاً للجمهور، لأن الأدلة الشرعية دلت على ذلك:

_ (1) كذا في الأصل، ولعل الصواب: إلا. (2) متفق عليه، وقد تقدم.

فمنها ما تقدم في قصة عباد بن بشر وعمار بن ياسر فلما صلى في ثوبه عباد أصابه السهم فانتزعه وقد أهريق الدم على ثوبه ثم أتى السهم الثاني ثم الثالث وهو في صلاته وكان ذلك في غزوة مع النبي صلى الله عليه وسلم ولابد أن مثل هذا يبلغ النبي صلى الله عليه وسلم وقد أقره على أن هذا ليس بنجس إذ لو كان نجساً لبين له النبي صلى الله عليه وسلم أنه يجب عليه أن يقطع صلاته وما زال المسلمون يصلون بجراحاتهم، كما قال الحسن البصري (1) وقد تقدم البحث في هذه المسألة في باب سابق فالراجح أن دم الآدمي طاهر. ويقاس كذلك على ما يكون من الحيوانات طاهراً في الممات كميتة البحر وكما لا دم له فإنها طاهرة في الممات فيقاس عليها الآدمي فإنه طاهر في الحياة. فالراجح: أن دم الآدمي طاهر وأما سائر الدماء فإنها نجسة إلا دم الحيض والنفاس فإنه نجس للحديث. قال: (ولا ينجس الآدمي بالموت) الآدمي من مسلم وكافر لا ينجس بالموت، ودليل ذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم: (إن المؤمن لا ينجس) (2) متفق عليه. ولما دلت عليه الأدلة الشرعية من وجوب غسل الميت فإن ذلك يدل على طهارته إذ لو كان نجساً بمماته لما شرع تغسيله إذ لا فائدة من ذلك.

_ (1) ذكره البخاري تعليقاً، وقد تقدم. (2) أخرجه البخاري في كتاب الغسل، باب عَرَق الجنب، وأن المسلم لا ينجس (283) بلفظ: " عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم لقيه في بعض طريق المدينة وهو جُنُبٌ، فانخنستُ منه، فذَهَبَ فاغتسل ثم جاء، فقال: (أين كنت يا أبا هريرة) قال: كنت جنباً، فكرهت أن أجالسك وأنا على غير طهارة، فقال: (سبحان الله، إن المسلم لا ينجس) ، أخرجه مسلم (371) .

ويقاس عليه الآدمي الكافر فإن حكم الطهارة والنجاسة فيهما واحد، وهي الطهارة الحسية وإنما الفارق بينهما في الطهارة أو النجاسة المعنوية، فالمؤمن طاهر حساً ومعنى، وأما الكافر فإنه طاهر حساً ونجس معنى، قال تعالى {إنما المشركون نجس} (1) أي في شركهم بالله تعالى بدليل جواز نكاح الكتابيات وحل ذبائحهم ولو كان الكفار أنجاساً حساً لما جاز ذلك ولأمر الناس أن يغسلوا أيديهم بمسهم فدل ذلك على أنهم طاهرون، وهذا مذهب جمهور أهل العلم. فالآدمي مطلقاً سواء كان كافراً أو مسلماً فهو طاهر وأما الكافر فنجاسته معنوية، فعلى ذلك لا تغسل الأيدي ولا الثياب التي لبسوها ومست أبدانهم ووقع عليها شيء من عرقهم فإن كل ذلك لا يؤثر لأنهم طاهرون حساً. وعرق الآدمي وريقه ومخاطه كل ذلك طاهر باتفاق العلماء. ودليل ذلك: ما تقدم من حديث النخامة وغيرها مثلها أو هو أولى منها بهذا الحكم. قال: (ومالا نفس له سائلة متولد من طاهر) " ومالا نفس ": أي ما لا دم له، فالنفس هنا هي الدم، وهذا معروف في لغة العرب؛ وذلك لأن قوام النفس بالدم فسمي نفساً. " سائلة ": أي ليس له دم يسيل إذا حدث قتل أو جرح فإنه لا يسيل دمه كالجراد والذباب والبعوض وغير ذلك مما لا دم له سائل. " متولد من طاهر ": هذا قيدٌ، فلا بد أن يتولد من طاهر، فإن تولد من نجس كما يكون من الحشرات في الحشوش ونحوها فهذا لا يدخل في هذا الحكم، لكن هذا مبني على عدم الطهارة بالاستحالة وهذا كما تقدم ضعيف. فالراجح: الطهارة بالاستحالة، إذن: هذا الاستثناء ليس بوجيه. فعلى ذلك: كل ما لا نفس له سائلة سواء تولد من شيء طاهر أو من شيء نجس فإنه طاهر ولا ينجس الماء ونحو ذلك، فإذا وقع شيء مما تقدم ذكره حياً كان أو ميتاً – في ماء ونحوه - فإنه لا ينجس هذا الماء ولو تغير به. فإذن: كل ما لا نفس له سائلة فإنه طاهر حياً وميتاً.

_ (1) سورة التوبة.

إذ العلة عند جماهير العلماء من تحريم الميتة والحكم بنجاستها هو الدم وهذا ليس له دم سائل. وقد دل على ذلك ما في البخاري أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا وقع الذباب في إناء أحدكم فليغمسه ثم لينزعه فإن في أحد جناحيه داء وفي الآخر شفاء) (1) وهذا يدل على أن كل ما ليس له نفس سائلة فإن له هذا الحكم وأنه لا ينجس الإناء وأن ميته طاهر، وهذا هو مذهب جمهور الفقهاء. والحمد لله رب العالمين. الدرس الثاني والأربعون (يوم الأربعاء: 28 / 12 / 1414 هـ) قال المؤلف رحمه الله: (وبول ما يؤكل لحمه وروثه ومنيه – إلى أن قال – طاهر) هذا في حكم بول ما يؤكل لحمه وروثه ومنيه وأنها طاهرة. وما يؤكل لحمه: كبهيمة الأنعام وغيرها مما هو من المطعومات فإن بوله وروثه وريقه ومنيه طاهر. فإن بوله وروثه طاهران وكذلك من باب أولى منيه وريقه ودمعه ومخاطه وغير ذلك.

_ (1) أخرجه البخاري في آخر كتاب الطب، باب إذا وقع الذباب في الإناء (5782) ، وراجع (3320) .

ودليل هذا: ما ثبت في الصحيحين عن أنس بن مالك قال: (قدم ناس من عُكل أو عُرينة فاجتووا المدينة فأمرهم النبي صلى الله عليه وسلم أن يشربوا من أبوال الصدقة وألبانها) (1) أي أبوال الإبل وألبانها ولو كانت نجسة لما أمرهم النبي صلى الله عليه وسلم أن يشربوا منها، لأنها نجسة والنجس محرم أن يطعم لقوله تعالى {قل لا أجد فيما أوحى إلي محرماً على طاعم يطعمه إلا أن يكون ميتة أو دماً مسفوحاً أو لحم خنزير فإنه رجس} (2) فالأنجاس لا يجوز أن تطعم ولو كان ذلك للتداوي بها. فإن الدواء لا يكون لأمة محمد بما حرم الله عليها كما ثبت ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم – في صحيح مسلم وغيره (3) – ولم يأمرهم النبي صلى الله عليه وسلم أن يغسلوا أفواههم ولا أوانيهم فدل ذلك على أنها طاهرة.

_ (1) أخرجه البخاري في كتاب الوضوء، باب أبوال الإبل والدواب والغنم ومرابضها (233) بلفظ: " عن أنس قال: قدم أناس من عُكْلٍ أو عُرينة، فاجتووا المدينة، فأمرهم النبي صلى الله عليه وسلم بلقاحٍ، وأن يشربوا من أبوالها وألبانها، فانطلقوا فلما صَحُّوا، قتلوا راعي النبي صلى الله عليه وسلم، واستاقوا النَّعَمَ، فجاء الخبر في أول النهار، فبعث في آثارهم، فلما ارتفع النهار جيء بهم، فأمر فقَطع أيديهم وأرجلهم، وسُمِرَتْ أعينُهم، وألْقُوا في الحَرَّة يستسقون فلا يُسقون، قال أبو قلابة: فهؤلاء سرقوا وقتلوا، وكفروا بعد إيمانهم وحاربوا الله ورسوله) ، وأخرجه مسلم 1671. (3) أخرج مسلم في كتاب الأشربة، باب تحريم التداوي بالخمر (1984) حديث: (إنه ليس بدواء، ولكنه داء) أي الخمر.

ويدل على ذلك ما ثبت في مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (صلوا في مرابض الغنم) (1) ومعلوم أن مرابضها ومباركها لا تخلو من بول وروث فدل ذلك على أنها بقعة طاهرة مع وجود ما يكون فيها من البول والروث. فدل ذلك على أن أبوالها وأرواثها طاهرة، ومثل ذلك – بل أولى منه – المني والدمع والريق – ونحو ذلك. أما بول ما لا يؤكل لحمه وبول الآدمي فإنها نجسة بالاتفاق. أما الآدمي، فإن الأدلة عليه ظاهرة كقول النبي صلى الله عليه وسلم: (استنزهوا من البول فإن عامة عذاب القبر منه) (2) وقوله صلى الله عليه وسلم – في الصحيحين -: (كان لا يستنزه من البول) (3) ولفظة البول هنا: " أل" فيها عهدية بدليل ما ورد في البخاري: (من بوله) ، فلا يرد هذا على القول بطهارة أبوال الإبل، فإن البول هنا لا يدخل فيه بول الإبل ونحوها، بل المراد بذلك البول المعهود وهو بول الآدمي.

_ (1) أخرجه مسلم في كتاب الحيض، باب الوضوء من لحوم الإبل (360) حديث جابر بن سمرة: " أن رجلاً سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم أأتوضأ من لحوم الغنم؟ قال: إن شئت، فتوضأ، وإن شئت فلا توضأ) … قال: أصلي في مرابض الغنم؟ قال: (نعم) .. ". (2) أخرجه الدارقطني في سننه، كتاب الطهارة، باب نجاسة البول والأمر بالتنزه منه، والحكم في بول ما يؤكل لحمه، حديث 7 [1 / 128] ، وقال: الصواب مرسل ". سبل السلام [1 / 169] . (3) أخرجه البخاري في كتاب الوضوء، باب من الكبائر أن لا يستتر من بوله (216) (218) ، وبرقم في كتاب الجنائز (1261) (1378) ، وفي كتاب الأدب، باب الغيبة (6052) من حديث ابن عباس ولفظه (يُعذبان وما يُعذبان في كبير، ثم قال: بلى، كان أحدهما لا يستتر من بوله..) وبلفظ (إنهما ليعذبان وما يعذبان في كبير، أما أحدهما فكان لا يستتر من البول..) ، وأخرجه مسلم (292)

ويقاس عليه: بول ما لا يؤكل لحمه – بل أولى في هذا الحكم من بول الآدمي. بخلاف ما يؤكل لحمه فإنه طاهر. إذن: كل بول وروث فهو نجس سوى ما يكون مما يؤكل لحمه فإنه طاهر. قال: (ومني الآدمي) مني الآدمي طاهر. ودليل ذلك: ما ثبت في مسلم عن عائشة قالت: (كنت أفركه من ثوب النبي صلى الله عليه وسلم فركاً فيصلي فيه) (1) . وثبت في مسند أحمد وصحيح ابن خزيمة بإسناد صحيح عن عائشة قالت: " كان النبي صلى الله عليه وسلم يسلت المني بعرف الإذخر ثم يصلي فيه، ويحته من ثوبه يابساً فيصلي فيه " (2) . إذا كان رطباً فإنه، فإنه يسلته بعود الإذخر، وإذا كان رطباً فإنه يحته ثم يصلي فيه. ومثل هذا يدل على أنه ليس بنجس لأن الأنجاس يجب غسلها أو نضحها، فلما كان كافياً في ذلك الفرك أو الحك أو الحت دل ذلك على أنه ليس بنجس. - وذهب الأحناف والمالكية: إلى أنه نجس. واستدلوا: بما ثبت في الصحيحين من حديث عائشة قالت: (كان النبي صلى الله عليه وسلم يغسل المني) (3) وقالت: (كنت أغسل المني من ثوب النبي صلى الله عليه وسلم) (4) قالوا: فلما ثبت الغسل دل على أنه نجس.

_ (1) أخرجه مسلم في كتاب الطهارة، باب (32) حديث رقم (288) ، سبل السلام [1 / 77] . (2) أخرجه الإمام أحمد في المسند برقم (26587) قال: " حدثنا معاذ، حدثنا عكرمة بن عمار، عن عبد الله بن عُبيد بن عُمير عن عائشة قالت: " كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يَسْلُت المني من ثوبه بعرْقِ الإذْخِرِ، ثم يصلي فيه، ويَحتُّهُ من ثوبه يابساً ثم يصلي فيه ". (3) أخرجه البخاري في كتاب الوضوء، باب (64) حديث (229، 230) ، حديث (231) ، ومسلم في كتاب الطهارة، باب (32) حكم المني حديث (289) ، سبل السلام [1 / 77] .

لكن هذا ضعيف لثبوت الفرك، فدل هذا على [أن] الفرك والغسل ثابتان، فدل على أن الفرك يجزئ في المني، وما دام يجزئ فهذا يدل على أنه ليس نجس. فعلى ذلك يفرك ويغسل وكلاهما يثبت به السنة، ثم إنه أصل الخليقة بما فيهم أنبياء الله ورسله والصديقون والشهداء وبقية عباد الله الصالحين فلا يستقيم مع ذلك أن يكون نجساً (1) . ثم إن الأصل في الأشياء الطهارة، ولم يرد دليل صريح يدل على نجاسته بل ولا دليل ظاهر، بل الأدلة دالة على أنه طاهر وليس بنجس. قال: (ورطوبة فرج المرأة) رطوبة فرج المرأة طاهر أيضاً قالوا: قياساً على المني – هذا هو المذهب –. - وذهب الشافعي: إلى أنه نجس. واستدل: بما ثبت في الصحيحين من حديث زيد بن خالد قال: قلت لعثمان بن عفان: أرأيت الرجل يجامع امرأته ثم لا يمني فقال: (يتوضأ كما يتوضأ للصلاة ويغسل ذكره (2) سمعت ذلك من النبي صلى الله عليه وسلم ". أما الشطر الأول: وهو قوله: (يتوضأ كما يتوضأ للصلاة) فقد دلت الأدلة الشرعية على نسخه كما تقدم هذا في باب الغسل وأن من جامع زوجته وإن لم ينزل يجب عليه الغسل ولا يجزئه الوضوء، وأن الوضوء رخصة في أول الإسلام. وأما الشطر الثاني: فهو محكم قال (ويغسل ذكره) وذلك من رطوبة فرجها فدل ذلك على نجاسته. وهذا القول أصح؛ فإن لفظة: (ويغسل ذكره) خبر بمعنى الإنشاء فيكون ذلك يدل على وجوب الغسل.

_ (1) راجع نيل الأوطار. (2) كتاب الوضوء، باب من لم ير الوضوء إلا من المخرجين من القبل والدبر (179) عن أبي سلمة: أن عطاء بن يسار أخبره أن زيد بن خالد أخبره أنه سأل عثمان بن عفان رضي الله عنه قلتُ: أرأيت إذا جامع فلم يمن؟ قال عثمان: (يتوضأ كما يتوضأ للصلاة ويغسل ذكره) قال عثمان: سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم " وانظر (292) باب غسل ما يصيب من فرج المرأة من كتاب الغسل، وأخرجه مسلم 347 في كتاب الحيض.

وأما أهل القول الأول فقالوا: هذا على الاستحباب. والأظهر هو الوجوب وأن رطوبة فرج المرأة نجس. وهل ينقض الوضوء أم لا؟ جمهور أهل العلم على أنه ينقض الوضوء، فإذا سال من فرجها انتقض وضوؤها من ذلك، لأنه خارج من السبيلين وكل خارج من السبيلين – كما تقدم- سواء كان معتاداً أو لم يكن – فإنه ينتقض به الوضوء – والمراد بالرطوبة الخارج، فما خرج من رطوبتها انتقض به وضوؤها. قال: (وسؤر الهرة وما دونها في الخلقة طاهر) السؤر: هو بقية الشيء، والمراد به: بقية الطعام أو الشراب. فسؤر الهرة وما كان دونها في الخلقة من الطير أو الدواب التي تدب على الأرض، فكل ما كان مثلها في الخلقة أو دونها فإنه طاهر، وسؤره طاهر.

فإذا شرب من الماء فإنه لا ينجس بذلك، ودليل ذلك: ما ثبت عند الخمسة بإسناد صحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال – في الهرة -: (إنها ليست بنجس إنما هي من الطوافين عليكم) (1) فهذا يدل على أنها ليست بنجس ويقاس عليها كل ما ماثلها في الخلقة أو كان دونها – كذا في المذهب –. لكن هذا القياس فيه نظر، لأن الشارع لم يعلل ذلك بحجمها وإنما علله بكونها من الطوافين علينا فيشق التحرز من نجاستها لقوله: (إنها من الطوافين عليكم) فهذا يدل على أن العلة كونها من الطوافين فيشق التحرز من نجاستها. ومع ذلك فإن ما ذكروه صحيح ولكن ليس لهذا القياس بل للأصل، فإن الأصل في الأشياء الطهارة فالهرة وما دونها في الخلقة طاهر، االهرة فقد دل الحديث على ذلك، وأما ما قابلها في الخلقة أو كان دونها فليس للقياس عليها وإنما لدليل آخر وهو الأصل.

_ (1) أخرجه أبو داود في كتاب الطهارة، باب سؤر الهرة (75) قال: " حدثنا عبد الله بن مسلمة القَعْنَبي عن مالك، عن إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة، عن حميدة بنت عبيد بن رفاعة، عن كبشة بنت كعب بن مالك، وكانت تحت ابن أبي قتادة، أن أبا قتادة دخل، فسكبت له وضوءاً، فجاءت هرة فشربت منه، فأصغى لها الإناء حتى شربت، قالت كبشة: فرآني أنظر إليه، فقال: أتعجبين يا ابنة أخي؟ فقلت: نعم، فقال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إنها ليست بنجس، إنها من الطوافين عليكم والطوافات) ، وأخرجه النسائي في الطهارة برقم 241، وابن ماجه 367، والترمذي برقم 92 وقال: حديث حديث حسن صحيح " سنن أبي داود مع المعالم [1 / 60] . وأخرجه الإمام أحمد في المسند برقم (22950) و (22895) . قال الحافظ في البلوغ: " وصححه الترمذي وابن خزيمة " اهـ، ورواه مالك في الموطأ في كتاب الطهارة، باب الطهور للوضوء (13) ، سبل السلام [1 / 54] .

فإن أكلتْ شيئاً نجساً فإن ريقها يطهره إذا طال الفصل كما قرر هذا شيخ الإسلام وغيره من أهل العلم وهو قول في مذهب أحمد وغيره: أنها متى أكلت شيئاً من النجاسات فإن الفصل إذا أطال بحيث يظن أو يعلم أن النجاسة قد ذهبت بريقها، فإن ريقها مطهر له. وهذا مقتضى الدليل فإن الهر يأكل النجاسات كما هو معلوم ومع ذلك حكم الشارع بطهارة سؤره فدل ذلك على أن ريقها مطهر لما تضع من (1) فمها من النجاسات. قال: (وسباع البهائم والطير والحمار الأهلي والبغل منه نجسة) " والبغل منه ": أي البغل من الحمار الأهلي، بخلاف البغل من الحمار الوحشي أي المتولد منه، لأن الحمار الوحشي طاهر لأنه يباح أكله فعلى ذلك بوله وروثه وغير ذلك – من الوحش – طاهر. فقيده هنا بالأهلي ليخرج الوحشي، لذا قال: (والبغل منه) أي من الحمار الأهلي. " سباع البهائم ": كالأسد والذئب ونحو ذلك. " والطير ": كالنسر والصقر أو غير ذلك. فهذه كلها نجسة هذا هو المذهب ودليل ذلك: ما ورد في مسند أحمد والثلاثة بإسناد صحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم: (سئل عن بئر بضاعة وما يرد إليه من السباع والدواب فقال: (الماء طهور لا ينجسه شيء) (2)

_ (1) لعل الصواب: في. (2) أخرجه أبو داود في كتاب الطهارة، باب ما جاء في بئر بضاعة (66) قال: " حدثنا محمد بن العلاء والحسن بن علي ومحمد بن سليمان الأزدي قالوا: حدثنا أبو أسامة، عن الوليد بن كثير، عن محمد بن كعب، عن عبيد الله بن عبد الله بن رافع بن خديج، عن أبي سعيد الخدري أنه قيل لرسول الله صلى الله عليه وسلم: أنتوضأ من بئر بضاعة؟ وهي بئر يُطرح فيها الحِيَضُ ولحم الكلاب والنتن، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (الماء طهور لا ينجسه شيء) ، وأخرجه النسائي برقم 327، 328، والترمذي برقم 66، قال الإمام أحمد: حديث بئر بضاعة صحيح، سنن أبي داود [1 / 54] .

والشاهد قوله: (وما يرد عليه من السباع والدواب) ولو كانت طاهرة لما سكت النبي صلى الله عليه وسلم عن قول ذلك ولقال له: إن السباع طاهرة وليست بنجسة. وذهب الشافعية إلى أن هذه الأشياء طاهرة تمسكاً بالأصل، لأن الأصل في الأشياء هو الطهارة. ولما روى ابن ماجه أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل عن الحياض التي تكون بين مكة والمدينة وما يرد إليها من السباع فقال: (لها ما شربت ببطونها ولنا ما غبر " أي بقى" طهور) (1) لكن الحديث ضعيف لا يحتج به. ومع ذلك: فإن الراجح ما ذهب إليه أهل القول الثاني ذلك للأصل الذي تمسكوا به. ولأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يبين للأمة مع كونهم يركبون البغل والحمار، لم يبين لهم أنها نجسة وأن عرقها الخارج منها نجس وتأخير البيان عن وقت الحاجة لا يجوز.

_ (1) أخرجه ابن ماجه في كتاب الطهارة، باب الحِياض (519) قال: " حدثنا أبو مصعب المدني، حدثنا عبد الرحمن بن زيد بن أسلم عن أبيه عن عطاء بن يسار عن أبي سعيد الخدري أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل عن الحياض التي بين مكة والمدينة، تردها السباع والكلاب والحُمُر وعن الطهارة منها، فقال: (لها ما حمَلَتْ في بطونها، ولنا ما غَبَر طهورٌ) ، قال البوصيري: هذا إسناد ضعيف، عبد الرحمن بن زيد قال فيه الحاكم: روى عن أبيه أحاديث موضوعة. وقال ابن الجوزي: أجمعوا على ضعفه. رواه أبو بكر بن أبي شيبة من قول الحصين، وضعفه الألباني " من زيادات طبعة بيت الأفكار على سنن ابن ماجه صْ 68.

وأما قول النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الله ورسوله ينهانكم عن لحوم الحمر الأهلية فإنها رجس) (1) متفق عليه فإنها نجسة ميتة، فلحمها نجس ولا شك أنها إذا ماتت فهي نجسة ولو كانت بذكاة لأن الذكاة لا تغير شيئاً فهي ميتة وأن ذكيت فلحمها نجس. وهذا لا يدل على أنها نجسة في حال الحياة، فكم من طاهر في الحياة وهو نجس في الموت، فالهرة ونحوها هي نجسة في الممات وهي طاهرة في الحياة. فإن قيل: فما الجواب عما استدلوا من قوله: (وما يرد إليه من السباع والدواب) ؟ فالجواب: أن هذا ليس صريحاً في أن النجاسة المسكوت عنها أن ذلك بسبب سؤرها، بل يكون ورودها مظنة بولها وروثها في هذه المياه، فلما كان ورودها مظنة ذلك سئل عنها النبي صلى الله عليه وسلم فهي غالباً ما يقع شيء من نجاستها في هذه المياه عندما ترد إليها، فيكون هذا السؤال من هذا السائل كناية عن ذكر بولها وروثها وغير ذلك من نجاستها أي هي ترد عليه فلا يسلم أن يقع فيه شيء من بولها أو غيره وهي أشياء نجسة فهل ينجس الماء بذلك أم لا؟ فقال صلى الله عليه وسلم: (إن الماء طهور لا ينجسه شيء) . وقد ذهب الموفق وبعض الحنابلة كصاحب الإنصاف إلى اختيار القول بطهارة البغل والحمار؛ للدليل المتقدم وهو اختيار الشيخ عبد الرحمن بن سعدي. ومثله – على الراجح – بقية هذه الحيوانات. فإذن: كل الحيوانات طاهرة إلا الكلب والخنزير فإنها نجسة هذا على الراجح.

_ (1) أخرجه البخاري في كتاب الجهاد باب (130) التكبير عند الحرب رقم (2991) ، وفي كتاب المغازي باب غزوة خيبر، وفي كتاب الذبائح باب لحوم الحمر الأنسية، ومسلم في كتاب الصيد باب (5) تحريم أكل لحم الحمر الأنسية (1940) ، والنسائي باب تحريم أكل لحوم الحمر الأهلية، وابن ماجه في كتاب الذبائح، باب لحوم الحمر الوحشية (3196) . سبل السلام [1 / 74] .

فعلى ذلك سباع البهائم والطير كل هذه طاهرة سواء كانت كالهرة فما دون أو كانت أعظم منها خلقة فكلها طاهرة. وقياس الحمار الأهلي على الهرة أولى من قياس ما دونه في الخلقة لكونه من الطوافين، فكونه يقاس أولى من أن يقاس ما دون الهرة في الخلقة لأن العلة منضبطة فيه وليست منضبطة فيما دون الهرة لكونها قد لا تكون من الطوافين علينا. إذن: الراجح: أن كل الحيوانات طاهرة إلا ما دل الدليل على نجاسته كالكلب والخنزير. وهذا هو مذهب الشافعية والمالكية. مسألة: حكم المذي والودي: أما المذي: فإنه نجس اتفاقاً لقوله صلى الله عليه وسلم في المتفق عليه قال: (يغسل ذكره ويتوضأ) (1) . واعلم أن الواجب عند جمهور العلماء الغسل لا النضح وأن النضح لا يجزئ بل يجب أن يغسل ما أصاب ثوبه من المذي غسلاً لا نضحاً. وعن الإمام أحمد رواية اختارها شيخ الإسلام وهي جواز النضح وإجزاؤه. لما ثبت في مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (توضأ وانضح فرجك) (2) .

_ (1) تقدم صْ 30. (2) تقدم.

وبما ثبت في مسند أحمد وسنن الترمذي والنسائي بإسناد صحيح من حديث سهل بن حنيف: أنه سأل النبي صلى الله عليه وسلم وقال: (فكيف بما أصاب الثوب منه) فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (إنما يكفيك أن تأخذ كفاً من ماء فتنضح منه ما أصاب ثوبك منه) (1) . فهذا يدل على صحة ما ذهب إليه شيخ الإسلام من أنه يجزئ النضح أي الرش وغمر الماء كما تقدم في نضح بول الغلام الذي لم يأكل الطعام. ويجب غسل الذكر والأنثين لما ثبت في أبي داود أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (يغسل ذكره وأنثييه) (2) وأما الودي: فقد أجمع أهل العلم على نجاسته. فعلى ذلك: يجب غسله لأن الأصل في النجاسات هو الغسل، فعلى ذلك يجب أن يغسل وليس في حكم المذي في جواز النضح بل يجب غسله لأن هذا هو الأصل في إزالة النجاسات وأن النضح لا يجزئ إلا ما دل الدليل عليه، وليس هناك دليل، فعلى ذلك يجب الغسل ولا يجزئ فيه النضح وهو ليس بمعنى المذي.

_ (1) أخرجه الترمذي في كتاب الطهارة، باب ما جاء في المذي يصيب الثوب (115) قال: " حدثنا هنّاد، حدثنا عَبْدَة عن محمد بن إسحاق عن سعيد بن عبيد هو ابن السبّاق عن أبيه عن سهل بن حنيف، قال: كنت ألقى من المذي شدّة وعناء، فكنت أكثر منه الغسل، فذكرتُ ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم وسألته عنه، فقال: إنما يجزئك من ذلك الوضوء، فقلت: يا رسول الله، كيف بما يصيب ثوبي منه، قال: (يكفيك أن تأخذ كفاً من ماء فتنضح به ثوبك حيث ترى أنه أصاب منه) قال أبو عيسى: هذا حديث حسن صحيح، ولا نعرفه إلا من حديث محمد بن إسحاق في المذي مثل هذا ". (2) أخرجه أبو داود في كتاب الطهارة، باب في المذي (208) قال: " حدثنا أحمد بن يونس، حدثنا زهير، عن هشام بن عروة عن عروة، أن علي بن أبي طالب قال للمقداد،وذكر نحو هذا قال، فسأله المقداد، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم (ليغسل ذكره وأنثييه) .

والحمد لله رب العالمين. الدرس الثالث والأربعون (يوم السبت: 1 / 2 / 1415 هـ) باب الحيض الحيض: أصله في لغة العرب: السيلان، ومنه حاض الوادي إذا سال. أما في الاصطلاح فهو: دم طبيعة وجبلة يرخيه رحم المرأة عند بلوغها في أوقات معتادة وهو دم أسود كأنه محترق كريه الرائحة. والحيض يترتب على معرفته أبواب كثيرة من أبواب العلم، من أبواب الطهارة والصلاة والصيام والحج والطلاق وغيرها من الأحكام التي ترتبت على معرفته، فكان من أهم الأبواب الفقهية. قال المؤلف رحمه الله: (لا حيض قبل تسع سنين، ولا بعد خمسين سنة) " قبل تسع سنين ": أي قبل تمامها والشروع في العاشرة فإذا لم يتم للمرأة تسع سنين فإن الدم الخارج منها وإن كان فيه علامات الحيض تماماً فلا يحكم بأنه حيض. فإذا خرج منها دم فإنه يعتبر دم فساد ولا يكون له حكم الحيض، فحينئذ لا يعطى هذا الدم حكم الحيض بل يكون دم فساد فلا يثبت به البلوغ، ولا يترتب على هذا الدم أي شيء من أحكام الحيض. وكذلك لا حيض بعد الخمسين، فإذا بلغت المرأة الخمسين أي تم لها خمسون سنة ثم أتاها دم كدم الحيض، فإن هذا الدم ليس بدم حيض. واستدلوا: على هذه المسألة بالواقع وعدم المعرفة، وأنه لا يعرف أن امرأة حاضت قبل تسع سنين ولا حاضت بعد خمسين سنة. لكن هذا الدليل ضعيف إذ عدم العلم ليس معناه العدم فكونك لا تعلم ولم يبلغك العلم بشيء من الأشياء لا يعني أن هذا الشيء معدوم. فكون هؤلاء الفقهاء لم يبلغهم أن امرأة حاضت قبل تمام التسع أو بعدم تمام الخمسين، لا يعني أن هذا لم يقع أو أنه لا يقع مطلقاً. والراجح: ما ذهب إليه شيخ الإسلام في هاتين المسألتين وهو مذهب المالكية والشافعية في المسألة الثانية، أما في المسألة الأولى فقد وافقوا الحنابلة.

فالراجح: أنه لا حد لأقل سن الحيض ولا لأكثره، بل متى ما رأت الحيض فهي حائض سواء كان ذلك قبل تمام التسع أو كان بعد تمام الخمسين؛ ذلك لأن هذا الدم دم حيض وهو أذى وقد توفرت فيه صفات الحيض الطبيعي فهو دم قد خرج من رحم المرأة وتوفرت فيه صفات دم الحيض فحينئذ يعطى حكم الحيض، لعدم الدليل الدال على أنه ليس بحيض. والأصل أنه ما دام قد خرج من رحم المرأة بصفاته المعتبرة فإنه – حينئذ – دم حيض وكوننا لا نطلق عليه دم حيض ولا نعطيه حكمه هذا يحتاج إلى دليل يدل على ذلك إذ الأصل أنه دم حيض ولا دليل يدل على [خلاف] ذلك. والواقع كون هذا يبلغه شيء وهذا لا يبلغه لا يعني أن يحتج من لم يبلغه هذا الشيء على من بلغه فإن القضية قضية وقوع وكونه لم يبلغ وقوعه من قال بهذه المسألة لا يعني أن الأمر ليس واقعاً حقيقة. إذن: الراجح ما ذهب إليه شيخ الإسلام في المسألة الأولى وكذلك في المسألة الثانية، وهو مذهب المالكية والشافعية وأنه لا أقل لسن الحيض - كما أنه لا أكثر له، بل متى رأت الدم الذي توفر فيه شروط دم الحيض فإنه يجب عليها التكاليف الشرعية وحينئذ: يترتب على هذا الدم الخارج فيها أحكام الحيض تماماً. قال: (ولا مع حمل) فالحيض مع الحمل ليس بمعتبر. فلو أن امرأة رأت الدم وهي حامل فإن هذا الدم لا حكم له، وحينئذ يكون دم فساد، وحينئذ تكون طاهرة وتتوضأ وتصلي لأنه خارج من السبيل، فحينئذ يكون لها حكم المستحاضة، أن تحفظ هذا الدم وتتوضأ وتصلي. إذن: المذهب أن الحامل لا تحيض فإذا خرج منها دم وإن كان كدم الحيض تماماً فليس له حكم الحيض وإنما كحكم دم المستحاضة فحينئذ تتوضأ وتصلي ولا يترتب على هذا الدم شيء من أحكام الحيض مطلقاً وهو مذهب الأحناف.

- وذهب المالكية والشافعية: إلى أن الحامل تحيض، وهو اختيار شيخ الإسلام وتلميذه ابن القيم، وهو أن الحامل تحيض، فمتى ما وقع ذلك فإنه حيض تثبت له الأحكام الشرعية المترتبة على الحيض. قالوا: لأنه دم خرج من رحمها، وقد توفرت فيه شروط دم الحيض، فحينئذ هو حيض، وله أحكام الحيض وليس هناك دليل يدل على إخراجه عن هذا أي عن كونه حيضاً. والقول الأول أظهر وعليه الأدلة الشرعية، منها ما ثبت في مسند أحمد وسنن أبي داود أن النبي صلى الله عليه وسلم قال سبي أوطاس: (لا توطأ حامل حتى تضع ولا غير ذات حمل حتى تحيض) (1) فهنا نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن وطء السبايا حتى تستبرأ، أي حتى يعلم براءة رحمها من الحمل. فلا توطأ من ثبت حملها وظهر حتى تضع حملها، ولا توطأ غير ذات حمل أي لم يظهر حملها أي يشك هل هي حامل أم لا – حتى تحيض – فحينئذ يستبرأ رحمها ويعلم بالحيض أنها ليست بحامل. قالوا: فهذا الدليل يدل على أن الشارع قد جعل الحيض علامة على عدم الحمل، فإذا ثبت أنه علامة على عدم الحمل فإن هذا يدل على أن الحامل لا تحيض. إذن: الشارع جعل استبراء غير ذوات الحمل بأن تحيض ليعلم أنها ليست بحامل. قالوا: ومثله ما ثبت في الصحيحين من حديث ابن عمر: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: في حقه وقد طلق امرأته وهي حائض: (ليطلقها طاهراً أو حاملاً) (2)

_ (1) أخرجه أبو داود في كتاب النكاح باب في وطء السبايا (2157) قال: " حدثنا عمرو بن عون، أخبرنا شريك، عن قيس بن وهب، عن أبي الوَدَّاك، عن أبي سعيد الخدري،ورفعه أنه قال في سبايا أوطاس: (لا توطأ حامل حتى تضع، ولا غير ذات حمل حتى تحيض حيضة) . (2) أخرجه مسلم في كتاب الطلاق 1471، ولم أجده في البخاري بهذا اللفظ.

قالوا: فقد قال: (أو حاملاً) فدل على أن الحامل لا تحيض لأنها لو كانت تحيض لاستثنى النبي صلى الله عليه وسلم كونها غير حائض وهذا هو قول عائشة رضى الله عنها كما ثبت ذلك في سنن الدارمي بإسناد صحيح أنها قالت: (الحبلى لا تحيض فإذا رأت الدم فلتغتسل ولتصلي) (1) وهذا من باب الاحتياط. وهذا القول هو الراجح، فقد دلت الأدلة الشرعية على أن الحامل لا تحيض. إذن: هذا الدم الخارج وإن توفرت فيه صفات دم الحيض فإنه لا حكم له، وبه أفتت عائشة ولا يعلم لها مخالف. * واعلم أن محل الخلاف، كما قال الشيخ عبد الله بن الشيخ محمد بن عبد الوهاب أن محل الخلاف: فيما إذا رأت الدم وهي حامل يعتاد عليها كما يعتاد عليها وهي ليست بحامل. بمعنى: يأتيها في الشهر الأول في وقته المعتاد ثم تطهر كما تطهر وهي غير حامل وهكذا في الشهر الثاني والثالث أما مجرد خروج الدم بها وإن كان قد توفرت فيه صفات دم الحيض وهو غير معتاد فإنه لا تعتد به ولا تلتفت إليه، وإنما تلتفت إليه إذا جاءها على هيئته المعتادة قبل حملها فهذا هو محل البحث. أما مجرد خروج الدم كأن يخرج منها وليس على وجهه المعتاد فهذا الدم لا يمنعها من الصلاة ونحوها ولا تلتفت إليه بل تحفظ فرجها بشيء وتتوضأ وتصلي لأن له حكم دم الفساد. وهكذا في كل دم قلنا أنه ليس بدم حيض فإن المرأة تحفظ فرجها بشيء وتحبسه وتتوضأ وتصلي، وتتوضأ لكل صلاة. إذن: الراجح ما ذكره الحنابلة من أن الحامل لا تحيض.

_ (1) أخبرنا زيد بن يحيى الدمشقي عن محمد بن راشد عن سليمان بن موسى عن عطاء بن أبي رباح عن عائشة قالت إن الحبلى لا تحيض فإذا رأت الدم فلتغتسل ولتصل سنن الدارمي، الطهارة، باب في الحبلى إذا رأت الدم (930) ، انترنت / موقع الإسلام / بواسطة ردادي.

كما أن هذا هو المعتاد عند النساء في معرفة الحمل وثبوته، كما قال الإمام أحمد: " إنما تعرف النساء الحمل بانقطاع الدم "، فانقطاع الدم دليل على ثبوت الحمل. قال: (وأقله يوم وليلة وأكثره خمسة عشر يوماً) هذه مسألة أخرى وهي: ما هي أقل أيام الحيض وأكثرها؟ هنا قال: إن أقلها يوم وليلة، فأقل الحيض أربعاً وعشرين ساعة. وأكثره خمسة عشر يوماً. ودليلهم على هذه المسألة هو دليلهم على المسألة السابقة وهو الوقوع – وأن أقل مدة علمت في الحيض هي يوم وليلة – وأكثر مدة علمت خمسة عشر يوماً. لكن هذا الدليل ضعيف. - لذا ذهب شيخ الإسلام: إلى أنه لا حد لأقله ولا لأكثره، فلو حاضت ساعة فهو حيض، ولو حاضت أكثر من خمسة عشر يوماً فهو حيض ما لم يكن استحاضة. وهذا هو الراجح كما تقدم، وهذا هو الأصل وأن الدم الذي يخرج من الرحم وهو دم حيض له أحكام الحيض إلا أن يدل على (1) دليل على تحديده ولا دليل على تحديد أقله ولا أكثره، فحينئذ: نبقى على إطلاق الشارع فقد أطلقه، والحكم يدور مع علته وجوداً وعدماً. فإذن: الراجح أنه لا تحديد لأقله ولا أكثره. قال: (وغالبه ست أو سبع)

_ (1) كذا في الأصل، والصواب: عدمها.

فغالب الحيض ستة أيام أو سبعة، ودليل ذلك ما رواه الإمام أحمد وأبو داود والترمذي وغيرهم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لحمنة بنت جحش: (تحيضي ستة أيام أو سبعة أيام في علم الله ثم اغتسلي وصلي أبعة وعشرين ليلة بأيامها أو ثلاثة وعشرين ليلة) (1)

_ (1) أخرجه أبو داود في كتاب الطهارة، باب (110) من قال إذا أقلبت الحيضة تدع الصلاة 287 قال: " حدثنا زهير بن حرب وغيره، قالا، حدثنا عبد الملك بن عمرو، حدثنا زهير بن محمد، عن عبد الله بن محمد بن عقيل، عن إبراهيم بن محمد بن طلحة، عن عمه عمران بن طلحة، عن أمه حمْنة بنت جحش قالت: كنت أستحاض حيضة كثيرة شديدة، فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم أستفتيه وأخبره، فوجدته في بيت أختي زينب بنت جحش، فقلت: يا رسول الله،إني امرأة أستحاض حيضة كثيرة شديدة، فما ترى فيها قد منعتني الصلاة والصوم؟ فقال: (أنعتُ لك الكرسف، فإنه يذهب الدم) قالت: هو أكثر من ذلك، قال: (فاتخذي ثوباً) فقالت: هو أكثر من ذلك، إنما أثج ثجاً، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (سآمرك بأمرين، أيهما فعلت أجزأ عنك من الآخر، وإن قويت عليها فأنت أعلم) قال لها: (إنما هذه ركضة من ركضات الشيطان، فتحيَّضي ستة أيام أو سبعة أيام في علم الله ثم اغتسلي، حتى إذا رأيت أنك قد طهرت واستنقأت فصلي ثلاثاً وعشرين ليلة أو أربعاً وعشرين ليلة وأيامها، وصومي، فإن ذلك يجزيك، وكذلك فافعلي في كل شهر كما تحيض النساء وكما يطهرن، ميقات حيضهن وطهرهن، وإن قويت على أن تؤخري الظهر وتعجلي العصر، فتغتسلين وتجمعين بين الصلاتين: الظهر والعصر، وتؤخرين المغرب وتعجلين العشاء ثم تغتسلين وتجمعين بين الصلاتين، فافعلي، وتغتسلين مع الفجر فافعلي،وصومي إن قدرت على ذلك) قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (وهذا أعجب الأمرين إليّ) . وأخرجه الترمذي برقم 128، وابن ماجه برم 622، 627، وقال: هذا حديث حسن صحيح، والإمام أحمد في المسند 6 / 439، سنن أبي داود مع المعالم [1 / 201] .

والعدد يختلف بحسب تحيضها، فإذا تحيّضتْ 6 فإنها تصلي 24، وإن تحيضت 7 فإنها تصلي 23 " فإن ذلك يجزئك، وكذا فافعلي في كل شهر كما تحيض النساء وتطهرن في ميقات حيضهن وطهرهن) (1) . والشاهد قوله: " كما تحيض النساء …." وقد قال قبل ذلك " فتحيضي ستة أو سبعة أيام " قال: (وأقل الطهر بين حيضتين ثلاثة عشر يوماً) فلو أن امرأة حاضت ثم طهرت عشرة أيام ثم حاضت ستة أيام، فإن الثلاثة الأيام الأولى لست بحيض، بل تتوضأ وتصلي، والثلاثة الأيام الأخيرة هي الحيض، ويكون الدم في الثلاثة الأولى دم فساد لا دم حيض. لأنه لابد أن يكون الطهر بين الحيضتين ثلاثة عشر يوماً. ودليل ذلك ما رواه البخاري معلقاً أن امرأة جاءت إلى علي بن أبي طالب فذكرت أنها قد خرجت من عدتها في شهر أي يعني حاضت ثلاث حيض في شهر، فقال علي لشريح: " قل فيها، فقال: إن جاءت ببطانة من أهلها يرضى دينه وأمانته فشهد لها بذلك وإلا فهي كاذبة " (2) قالوا: وأقل مدة للحيض هي يوم وليلة، فعلى ذلك هذه المرأة حاضت يوماً وليلة ثم طهرت ثلاثة عشر يوماً ثم حاضت يوماً وليلة فهذه خمسة عشر يوماً ثم طهرت ثلاثة عشر يوماً ثم حاضت ثم طهرت فهذه ثلاث حيض. ولما قال شريح ذلك قال له علي – وهذا موضع الشاهد -: (قالون) وقالون لغة رومية بمعنى جيد. وهذا مما يدل على أنه لا حرج بأن يتلفظ المتلفظ بالألفاظ الأعجمية أحياناً من غير أن يتخذها على سبيل الدوام أو على سبيل التقليد. لكن هذا الدليل ليس بظاهر على ما قالوه، فما المانع أن تكون حاضت ثلاثة أيام ثم طهرت أربعة أيام ثم حاضت أربعة أيام ثم طهرت، فهذا الدليل ليس بظاهر على ما ذكروه. لذا الراجح وهو رواية عن الإمام أحمد واختاره شيخ الإسلام: أن المرأة متى أتاها الحيض بعد حيضها الأول فإنه يحكم به وإن كانت المدة أقل من ثلاثة عشر يوماً.

_ (2) ذكره البخاري بصيغة التمريض، فتح الباري لابن حجر [1 / 505] .

إذ لا دليل على هذه المدة المذكورة، فإذا حاضت ثم طهرت ثم أتاها الحيض بعد ذلك فهو حيض قصرت المدة أم طالت فإنها يحكم لها بالحيض لأن الحكم يدور مع علته وجوداً وعدماً. وهذا هو ظاهر الأدلة الشرعية من الإطلاق قال تعالى: {فاعتزلوا النساء في المحيض} (1) وهذا محيض فترتب عليه الأحكام الشرعية فهو حيض وله صفاته المعتبرة شرعاً فوجب حينئذ أن يحكم على المرأة بالحيض وأن يحكم عليه بأنه دم حيض يمنع المرأة مما يمنعها الأحكام. فإذن الراجح وهو رواية عن الإمام أحمد وهو اختيار شيخ الإسلام: أنه ليس هناك حد للطهر بين الحيضتين لا قلة ولا كثرة. فيحتمل أن يكون بين الحيضتين الشهر والثلاثة لا مانع من ذلك، ويحتمل أن يكون بينهما ساعة أو ساعتين أو يوم أو يومين لا مانع من ذلك. فعلى ذلك: تكرر الحيض على المرأة في الشهر مرتين أو ثلاث فلا مانع من ذلك ما دام أنه دم أرخاه الرحم طالت مدة الطهر أم قصرت. والحمد لله رب العالمين الدرس الرابع والأربعون (يوم الأحد: 2 / 2 / 1415 هـ) قال المؤلف رحمه الله تعالى: (وتقضي الحائض الصوم لا الصلاة ولا يصحان منها بل يحرمان) هذه المسألة مما أجمع عليه العلماء، وأن الحائض يحرم عليها الصلاة والصوم ولا يصحان منها، ولا تقضي الصلاة وإنما تقضي الصوم.

_ (1) سورة البقرة.

وقد ثبت في الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أليس إذا حاضت لم تصل ولم تصم) (1) ، وثبت في الصحيحين من حديث معاذة أنها سألت عائشة فقالت: ما بال الحائض تقضي الصوم ولا تقضي الصلاة؟ فقال: " كنا نحيض على عهد النبي صلى الله عليه وسلم فنؤمر بقضاء الصوم ولا نؤمر بقضاء الصلاة " (2)

_ (1) أخرجه البخاري في كتاب الحيض، باب ترك الحائض الصوم (304) عن أبي سعيد الخدري قال: خرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في أضحى، أو فطر إلى المصلى، فمرّ على النساء، فقال: (يا معشر النساء تصدقن، فإني رأيتكن أكثر أهل النار) فقلن: وبم يا رسول الله؟ قال: (تكثرنْ اللعن، وتكفرن العشير، ما رأيت من ناقصات عقل ودين أذهبَ لِلُبِّ الرجلِ الحازم من إحداكن) قلن: وما نقصان ديننا وعقلنا يا رسول الله؟ قال: (أليس شهادة المرأة مثل نصف شهادة الرجل) قلن: بلى، قال: (فذلك من نقصان عقلها) ، أليس إذا حاضت لم تصل ولم تصم) قلن: بلى، قال: (فذلك من نقصان دينها) ، وانظر (1951) ، وأخرجه مسلم باختلاف في الحوار رقم (80) . (2) أخرجه مسلم في كتاب الحيض، باب وجوب قضاء الصوم على الحائض دون الصلاة (335) عن معاذة قالت: سألت عائشة فقلت: ما بال الحائض تقضي الصوم ولا تقضي الصلاة؟ فقالت: أحرورية أنت؟ قلتُ: لست بحرورية، ولكني أسأل، قالت: كان يصيبنا ذلك فنؤمر بقضاء الصوم ولا نؤمر بقضاء الصلاة "، وأخرجه أيضاً بلفظ: " أحرورية أنت، قد كانت إحدانا تحيض على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثم لا تؤمر بقضاء " وبلفظ: " أحرورية أنت؟ قد كن نساء رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يحضن أفأمرهنّ أن يَجْزينَ؟ " أي يقضين كما قال محمد بن جعفر كما في صحيح مسلم، وأخرجه البخاري في كتاب الحيض، باب لا تقضي الحائض الصلاة (321) بلفظ: حدثتني معاذة أن امرأة قالت لعائشة: أتجزي إحدانا صلاتها إذا طَهُرت؟ فقالت: أحرورية أنت، كنا نحيض مع النبي - صلى الله عليه وسلم - فلا يأمرنا به، أو قالت: فلا نفعله ". ومعني أَتَجْزي: أي أتقضي.

والعلة من ذلك: أن الصلاة تكثر فيشق قضاؤها والشريعة قد أتت برفع الحرج عن المكلفين، بخلاف الصوم فإنه لا يشق قضاؤه فإنما هو شهر من السنة فتفطر فيه ستة أو سبعة أيام أو نحوها ثم تقضي ولا مشقة عليها في ذلك. ولا يشرع لها أن تقضي الصلاة بل هو بدعة محدث، فقد تقدم حديث عائشة وقولها: (كنا نحيض على عهد النبي صلى الله عليه وسلم فنؤمر بقضاء الصوم ولا نؤمر بقضاء الصلاة) وقول معاذة: (ما بال الحائض تقضي الصوم ولا تقضي الصلاة) فدل على أن الذي كان عليه النساء في عهد النبي صلى الله عليه وسلم أنهن يقضين الصوم ولا يقضين الصلاة، وأن هذا هو أمر النبي صلى الله عليه وسلم. قال: (ويحرم وطؤها في الفرج) . لقوله تعالى: {فاعتزلوا النساء في المحيض} (1) والمحيض كالمبيت والمقيل أي محل الحيض وهو الفرج، فهو محرم أي وطؤها في الفرج وتجب فيه الكفارة. قال ابن عباس – كما رواه ابن جرير -: " فاعتزلوا نكاح فروجهن " (2) . فقوله تعالى {فاعتزلوا النساء في المحيض} أي في الفرج لأن المحيض في اللغة هو محل الحيض، وقد ثبت في مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (اصنعوا كل شيء إلا النكاح) (3) فاستثنى الفرج فدل على تحريمه. قال: (فإن فعل فعليه دينار أو نصفه كفارةً)

_ (1) سورة البقرة. (3) أخرجه مسلم في نهاية باب جواز غسل الحائض رأس زوجها.. (302) عن أنس: أن اليهود كانوا إذا حاضت المرأة فيهم لم يؤاكلوها ولم يجامعوهن في البيوت، فسأل أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - النبي - صلى الله عليه وسلم - فأنزل الله تعالى: {ويسألونك عن المحيض، قل هو أذى فاعتزلوا النساء في المحيض} إلى آخر الآية، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (اصنعوا كل شيء إلا النكاح) ، فبلغ ذلك.. "

هذه كفارة وطء الحائض، فكما أنه يأثم في لو (1) وطئها، فإن عليه الكفارة، والكفارة هي دينار أو نصف دينار، لما ثبت في سنن أبي داود أن النبي صلى الله عليه وسلم قال فيمن يأتي امرأته وهي حائض: (ليصدق بدينار أو نصفه) (2)

_ (1) كذا في الأصل. (2) أخرجه أبو داود في كتاب الطهارة، باب في إتيان الحائض (264) قال: " حدثنا مسدد، حدثنا يحيى، عن شعبة، حدثني الحكم عن عبد الحميد بن عبد الرحمن عن مِقسم عن ابن عباس عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في الذي يأتي امرأته وهي حائض قال: (يتصدق بدينار أو نصف دينار) . قال أبو داود: هكذا الرواية الصحيح، قال: دينار أو نصف دينار، وربما لم يرفعه شعبة " ومسدد: هو ابن مسرهد بن مسربل بن مستورد الأسدي البصري أبو الحسن، ثقة حافظ، مات سنة ثمان وعشرين ومئتين، يقال: إنه أول من صنف المسند بالبصرة، وقيل: اسمه عبد الملك بن عبد العزيز، ومسدد لقبه ". يحيى: هو ابن سعيد بن فروخ القطان أو سعيد البصري، ثقة متقن حافظ إمام قدوة، مات سنة ثمان وتسعين ومئة. شعبة: بن الحجاج بن الورد العَتَكي مولاهم، أبو بسطام الواسطي ثم البصري، ثقة حافظ متقن، كان الثوري يقول: هو أمير المؤمنين في الحديث، مات سنة ستين بعد المئة. الحكم: بن عُتْبة أبو محمد الكندي الكوفي ثقة ثبت فقيه إلا أنه ربما دلس، مات سنة 113. عبد الحميد بن عبد الرحمن: بن زيد بن الخطاب العدوي، أبو عمر المدني ثقة من الرابعة، توفي بحرّان في خلافة هشام. مِقسم: بن بُجْرة، ويقال له مولى ابن عباس للزومه له، صدوق، وكان يرسل، مات سنة 101، وما له في البخاري سوى حديث. كما في التقريب. فالحديث على ذلك إسناده حسن إن سلم من تدليس الحكم، وإرسال مقسم. وأخرج برقم (266) قال: " حدثنا محمد بن الصباح البزاز، حدثنا شريك، عن خصيف، عن مِقْسَم، عنا بن عباس عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (إذا وقع الرجل بأهله وهي حائض فليتصدق بنصف دينار) ، قال أبو داود: وكذا قال علي بن بذيمة عن مقسم عن النبي - صلى الله عليه وسلم - مرسلاً.

فقوله " ليتصدق " خبر بمعنى الأمر، أي تصدق بدينار أو نصفه. وظاهر المذهب أنه على التخيير وهي أشهر الروايتين عن الإمام أحمد، وأنه سواء وطئها أول الحيض أو في آخره أو بعد انقطاع الدم ما لم تغتسل فعليه أن يتصدق بدينار أو نصفه على التخيير. وذهب قتادة من التابعين: إلى أنه إن وطئها أثناء حيضها فإنه يتصدق بدينار، وإن وطئها بعد انقطاع الدم قبل الاغتسال فعليه نصف دينار. وهذا هو مذهب ابن عباس راوي الحديث المتقدم فقد قال ابن عباس – كما في سنن أبي داود بإسناد صحيح: (إذا جامعها في أول الدم فدينار وإذا جامعها بعد انقطاع الدم فنصف دينار) (1) . إذن: مذهب ابن عباس هو الأظهر كما تقدم؛ فإنه هو راوي الحديث ثم إن التخيير في مثل هذا الموضع فيه نظر، فكونه يخير بينهما إنما محل هذا لو قلنا باستحباب هذه الكفارة، وإلا فالأصل في الكفارات أن تكون معينة أو منوعة أنواعاً مختلفة. أما أن تخير بين إطعام عشرة مساكين أو خمسة فإنه لا أصل له في الشريعة. فالأظهر أن يقال: إنه إن جامعها في أول الدم فإنه يتصدق بدينار، وإن جامعها بعد انقطاع الدم قبل الاغتسال فإنه يتصدق بنصف دينار. وعن الإمام أحمد – وقد يقال إن هذا مذهب ابن عباس وقتادة –: أنه إذا جامعها في أول الدم وعند فورانه فإنه يتصدق بدينار. وأما إذا جامعها عند تقطعه قبل انقطاعه فعليه نصف دينار – وهي رواية عن الإمام أحمد –.

_ (1) أخرجه أبو داود في كتاب الطهارة، باب في إتيان الحائض (265) قال: " حدثنا عبد السلام بن مطهر، حدثنا جعفر، يعني ابن سليمان، عن علي بن الحكم البناني، عن أبي الحسن الجزري، عن مقسم عن ابن عباس قال: (إذا أصابها في أول الدم فدينار، وإذا أصابها في انقطاع الدم فنصف دينار) قال أبو داود: وكذلك قال ابن جريج عن عبد الكريم عن مقسم ".

ولفظة ابن عباس تحتمل ذلك فقد قال: (انقطاعه) أي عند تقطعه، بدليل قوله: (عند أول الدم) وهي رواية عن الإمام أحمد كما تقدم، وهذا فيما يظهر هو الأولى فيقال: إنه إذا جامعها في أول الدم فعليه دينار وأما إذا جامعها في آخر حيضها عند تقطع الدم وخفته فيتصدق بنصف دينار. قال: (ويستمتع منها بما دونه) أي بما دون الفرج لما ثبت في مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (اصنعوا كل شيء إلا النكاح) (1) وثبت في الصحيحين من حديث عائشة قالت: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمرني فأتزر فيباشرني وأنا حائض) (2) . وثبت في أبي داود أن النبي صلى الله عليه وسلم: (كان إذا أراد من الحائض شيئاً ألقى على فرجها ثوباً) (3) فهذا يدل – وهو مذهب الحنابلة – على أنه له أن يباشرها فيما سوى النكاح فيباشرها مباشرة كاملة سوى الجماع. - وذهب الأئمة الثلاثة: إلى أنه لا يجوز أن يباشرها فيما بين السرة والركبة. واستدلوا: بحديث عائشة: (أن أتزر) قالوا: والظاهر أن الإزار يغطي الفخذين. والجواب على هذا أن يقال: إن هذا الفعل من النبي صلى الله عليه وسلم لا يدل على تحريم إتيانها دون فرجها، بدليل قوله: (اصنعوا كل شيء إلا النكاح) لما ثبت في سنن أبي داود أنه كان يلقي على فرج الحائض ثوباً …، ثم إن النبي صلى الله عليه وسلم قد يدع الشيء كراهية له واستقذاراً مع كونه مباحا كما ترك أكل الضب.

_ (1) تقدم. (2) أخرجه البخاري في كتاب الحيض، باب مباشرة الحائض (300) وانظر (2030) ، وأخرجه مسلم (297) . (3) أخرجه أبو داود في كتاب الطهارة، باب في الرجل يصيب منها ما دون الجماع (272) قال: " حدثنا موسى بن إسماعيل، حدثنا حماد، عن أيوب، عن عكرمة، عن بعض أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - أن النبي - صلى الله عليه وسلم -: كان إذا أراد من الحائض شيئاًَ ألقى على فرجها ثوباً ".

فالراجح: مذهب الحنابلة وأنه يجوز أن يباشرها في كل موضع إلا أنه يحرم عليه الجماع أي إتيانها من فرجها، وهذا هو ظاهر الآية الكريمة، في قوله تعالى {ويسألونك عن المحيض قل هو أذى فاعتزلوا النساء في المحيض} (1) أي اعتزلوهن في محل الحرث وهو فرجها، لذا تقدم قول ابن عباس: (اعتزلوا نكاح فروجهن) (2) . قال: (وإذا انقطع الدم ولم تغتسل لم يبح غير الصيام والطلاق) إذا انقطع الدم عن المرأة فقد طهرت من الحيض لكنها لم تغتسل. والغسل واجب على الحائض، لما ثبت في الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم قال – للمستحاضة -: (دعي الصلاة قدر أيام حيضك ثم اغتسلي وصلي) (3) فالغسل من الحيض واجب باتفاق العلماء كالغسل من الجنابة. لكن قبل اغتسالها وبعد انقطاع الدم عنها ما الذي يجوز لها؟ قال هنا: لم يبح غير الصيام والطلاق.

_ (3) أخرجه البخاري في كتاب الحيض، باب إذا حاضت في شهر ثلاث حيض (325) عن عائشة أن فاطمة بنت أبي حُبيش سألت النبي - صلى الله عليه وسلم - قالت: إني أستحاض فلا أطهر، أفأدع الصلاة؟ فقال: (لا، إن ذلك عرق، ولكن دعي الصلاة قدر الأيام التي كنت تحيضين فيها، ثم اغتسلي وصلي) ، وأخرجه مسلم (333) .

فلا يحل سوى الصوم والطلاق، أما الصوم؛ فلأن المرأة إذا انقطع دمها فقد طهرت من حيضها وأصبحت كالجنب، والجنب يصح صومه فقد ثبت في الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى الله عليه وسلم: (كان يصبح صائماً وهو جنب) (1) فالمرأة إذا انقطع دمها قبيل آذان الفجر فيجوز لها أن تنوي وتصوم، ثم تغتسل بعد آذان الفجر، لأنه لا يشترط في الصوم الطهارة من الجنابة، فكذلك الطهارة من الحيض وقد انقطع دمها. ومثل الصيام الطلاق، فإنه إنما حرم – أي حرم طلاق المرأة وهي حائض؛ لأن في ذلك زيادة وتطويلاً في عدتها، فإذا طلقت وهي حائض انتظرت حتى تطهر ثم استأنفت ثلاث حيض فيكون في ذلك زيادة في عدتها. أما وقد طهرت من الدم وما بقى إلا فعلها وهو أن تغتسل فإنه لا يكون فيه هذا المعنى، فحينئذ يجوز طلاق المرأة إذا طهرت من الحيض وإن لم تغتسل كما يجوز صومها. ولا يستثنى إلا هذين، فعلى ذلك: الصلاة لا يصح فيها ذلك؛ لأنها في معنى الجنب، فكما أن الجنب لا يصح صلاته فكذلك هي. ولكن الصلاة متعلق بذمتها لأنها يمكنها فعل ما تتمكن به من الصلاة، فإنها قد طهرت من دم الحيض وما بقى عليها إلا أن تغتسل وتصلي وهذا بإمكانها فهو فعلها المختص بها، بخلاف الطهارة من الحيض فإن هذا ليس فعلاً لها ولا من صنعها.

_ (1) أخرجه البخاري في كتاب الصوم، باب اغتسال الصائم (1930) قالت عائشة رضي الله عنها: كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يدركه الفجر في رمضان من غير حلم فيغتسل ويصوم، وبرقم (1931) قال الراوي: أنه سمع أبا بكر بن عبد الرحمن: كنت أنا وأبي، فذهبتُ معه حتى دخلنا على عائشة رضي الله عنها قالت: أشهد على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إن كان ليصبح جنباً من جماع غير احتلام ثم يصومه " ثم دخلنا على أم سلمة فقالت مثل ذلك، وانظر (1926) ، وأخرجه مسلم (1109) .

وكذلك مما لم يستثن فيبقى على التحريم: الجماع، فالمرأة إذا طهرت من الحيض ولم تغتسل فيحرم جماعها. وهذا هو مذهب الحنابلة ومذهب عامة العلماء: وأن المرأة لا يجوز وطؤها في فرجها إلا إذا تطهرت أي اغتسلت. وذهب طائفة من العلماء من التابعين كعطاء والأوزاعي وهو مذهب الظاهرية: إلى أنه يجوز وطؤها إذا طهرت فرجها من الدم بالماء. والخلاف في هذه المسألة يبنى على الخلاف في تفسير الآية المتقدمة – قال تعالى {قل هو أذى فاعتزلوا النساء في المحيض ولا تقربوهن حتى يطهرن} (1) أي حتى ينقطع الدم ولم يكتف الله عز وجل بذلك بل قال {فإذا تطهرن} وهذا من فعلهن أي التطهر وتكلف الطهارة فعل لهن ويحصل بها، بخلاف الطهارة المتقدمة فإنها ليس من صنع المرأة. فقوله {حتى يطهرن} أي ينقطع الدم وهذا باتفاق العلماء. لكن بعد انقطاعه قبل الغسل فقد قال: {فإذا تطهرن} فهنا وقع الخلاف في تفسيرها. - قال الجمهور: أي اغتسلن، وهو قول مجاهد وهو قول عامة أهل العلم. واستدلوا: بقوله تعالى: {وإن كنتم جنباً فاطهروا} (2) فكما أن الطهارة هي الاغتسال هناك، فكذلك هنا، فإن الطهارة هنا مسبوقة بالحيض، وهناك مسبوقة بالجنابة. - وذهب بعض العلماء: إلى تفسيرها {فإذا تطهرن} فسروها بغسل الفرج.

واستدلوا: بما ثبت في الصحيحين: أن امرأة سألت النبي صلى الله عليه وسلم عن غسلها من المحيض فأمرها كيف تغتسل فقال: (خذي فِِرْصة " أي قطعة من صوف أي خرقة " من مسك فتطهري بها، فقالت: كيف أتطهر؟ فقال: (تطهري) فقالت: كيف؟ فقال: (سبحان الله تطهري) فقالت عائشة: فاجتذبتها إلى وقلت: تتبعي أثر الدم) (1) فهنا النبي صلى الله عليه وسلم قال " تطهري " وفسرته عائشة رضي الله عنها، وهذا بإقرار النبي صلى الله عليه وسلم بتتبع أثر الدم. وهذا القول في الحقيقة فيه قوة، وهو أن التطهر هو مجرد غسل فرجها، وكذلك من الأدلة عليه القياس على الجنب، فإن جماع الجنب يجوز اتفاقاً، والمرأة التي قد طهرت من دم الحيض وبقي غسلها في حكم الجنب. والحمد لله رب العلمين. الدرس الخامس والأربعون (3 / 2 / 1415 هـ) قال المؤلف رحمه الله: (والمبتدأة تجلس أقله ثم تغتسل وتصلي) المبتدأة هي: المرأة ترى الدم في زمان يمكن أن يكون هذا الدم حيضاً ولم تكن حاضت قبل ذلك. وقد تقدم ذكر الخلاف في زمنه، وعلى المذهب أن تراه بعد شروعها بالسنة العاشرة، فما حكم هذه المبتدأة؟ قال: (تجلس أقله ثم تغتسل وتصلي) تجلس أقل الحيض وهو يوم وليلة ثم تغتسل وتصلي وإن رأت الدم. فمثلاً: امرأة حاضت عشرة أيام، وهذا هو أول دم رأته. فالحكم: أنها تدع الصلاة يوماً وليلة وكذلك تدع كل ما يدعه الحائض فتعطى في هذا اليوم والليلة حكم الحائض تماماً ثم تغتسل. قالوا: لأن المتيقن في الحيض أن يكون يوماً وليلة، فهذا هو التيقن وهنا يحتمل أن يكون الدم ليس بدم حيض، وإنما دم استحاضة، فلما كان بذلك أمرناها أن تجلس يوم وليلة.

_ (1) أخرجه البخاري في كتاب الحيض،، باب دَلْك المرأة نفسها إذا تطهرت من المحيض (314) ، وأخرجه مسلم (332) .

ونحن متى حكمنا بأن تجلس الأيام كلها فإنه يترتب على ذلك براءة ذمتها مما يجب عليها من صلاة ونحوها، فلما كان كذلك أمرناها بجلوس يوم وليلة ثم بعد ذلك تغتسل وتصلي. قال: (فإن انقطع لأكثره فما دونه اغتسلت عند انقطاعه) إذا انقطع هذا الدم لأكثر الحيض وهو15 يوماً – عندهم – أو قبله، فإنها تغتسل عند انقطاعه اغتسالاً آخر، لأنه يحتمل أن يكون حيضاً، فلما كان كذلك كان من الاحتياط أن تغتسل لاحتمال أن يكون حيضاً. قال: (فإن تكرر ثلاثاً فحيض) إن تكررت المدة التي بلغتها المبتدأة في الشهر الأول والثاني والثالث، فهذه هي مدة الحيض. بمعنى: حاضت في الشهر الأول 10 أيام وفي الثاني والثالث كذلك فتكون عادتها عشرة أيام. فإن لم تكن الأيام متساوية بأن كان أحد الأشهر خمسة والآخر أربعة والثالث ثلاثة، فيحكم بالأقل لأنه قد تكرر، فإن الأربعة متضمنة لتكرار الثلاثة، وكذلك الخمسة فإنها متضمنة للثلاثة. فإذا كانت المدة متساوية في الشهر الأول والثاني والثالث فإننا نحكم بها في الشهر الرابع؛ لأننا قد تيقنا أن هذه عادتها. مثال: إن كانت المدة في الشهر الأول 8 وفي الثاني 8 وفي الثالث 6، فإننا نحكم بستة، فإن كان في الشهر الرابع 8، فإننا نحكم بالعدد ثمانية، فنحكم بما تكرر؛ لأنه إعادة للعادة. هذا هو المذهب. والصحيح خلاف ذلك، وهو ما ذهب إليه شيخ الإسلام وهو: أن كل الدم الذي يخرج من رحم المرأة أنه دم حيض، فهذا هو الأصل، فالأصل أن ما يخرج من رحمها حيض. فإذا ابتدأت المرأة فإنها تجلس الأيام كلها التي خرج فيها الدم منها. بمعنى: ابتدأت بعشرة أيام فإنها تجلس هذه العشرة كلها؛ لأن هذا دم خرج من رحمها، والأصل في الدم الخارج من الرحم أن يكون حيضاً؛ لأن الأصل هو ذاك، وليس الأصل أن يكون استحاضة، بدليل أن الاستحاضة دم مرض، بخلاف الحيض فإنه دم طبيعة وجبلة، والمرض طارئ ليس بأصل.

فالراجح: أنها لا تمكث يوم وليلة بل تمكث بقدر خروج الدم منها، وهذا هو الذي عليه عمل النساء. ثم إن النبي صلى الله عليه وسلم لم يأمر من ابتدأت في عصره بأن تجلس يوم وليلة عن الصلاة ونحوها، بل أطلق، وكذلك أطلق القرآن، وظاهر إطلاق القرآن وإطلاق السنة ظاهر ذلك أنها تمكث مدة خروج الدم. ثم إن هذا التحديد بيوم وليلة يقتضي أن النبي صلى الله عليه وسلم حكم بأن أقل الحيض يوم وليلة، وقد ذكر شيخ الإسلام: أن المحدثين قد اتفقوا على أنه لم يثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم تحديد في ذلك. فالراجح: أنها لا تمكث يوماً وليلة بل تمكث قدر أيام خروج الدم منها كلها، ولا تكتفي بالمكث يوماً وليلة. ثم إن هذا التكرار لا دليل عليه، فإن الحكم معلق وجوداً وعدماً بخروج الدم. إذن هذه المسألة مرجوحة، والراجح فيها ما ذهب إليه شيخ الإسلام. أما مذهب جمهور أهل العلم فإنهم ذهبوا إلى قريب من قول شيخ الإسلام، فإنهم قالوا: تمكث أكثر الحيض. لكن تقدم أن الراجح أنه لأحد لأكثر الحيض ولا لأقله. قال: (وتقضي ما وجب فيه) وهذا مما يدل على ضعف هذا القول، أنهم يوجبون عليها قضاء ما فعلته في حال حيضها. فمثلاً: امرأة ابتدأت بعشرة أيام، فعلى المذهب يجب أن تمكث يوماً وليلة ثم تغتسل وتصلي وتصوم، فإذا ثبت لها بعد ثلاثة أشهر أن حيضها عشرة أيام، فيجب عليها أن تقضي صوم هذه الأيام التي صامتها، بخلاف الصلاة فإنها لا يجب قضاؤها. وهذا مما يضعف هذا القول، فإنه لا يؤمر بأن يفعل الشيء مرتين، كما نهي أن تصلي الصلاة مرتين وكذلك غيرها. فالراجح مذهب شيخ الإسلام كما تقدم. قال: (وإن عبر أكثره فمستحاضة) يعني: امرأة ابتدأت بعشرين يوماً مثلاً، فإنها قد تجاوزت أكثر الحيض على المذهب؛ لأن أكثره 15 يوماً، فإذا جاوز أكثر الحيض فيثبت أنها مستحاضة. والراجح أنها لا تحديد لأكثره، لكن هذا على تقرير المذهب.

ونحتاج أن نميز دم الحيض عن دم الاستحاضة، لأن الدم الخارج من المستحاضة منه ما هو حيض ومنه ما هو مستحاضة. والاستحاضة هي: سيلان الدم من أدنى الرحم من عرق يقال له " العازل " فهو دم عرق لا دم حيض، بمعنى عرق ينفجر على المرأة في أدنى رحمها. وهو دم أحمر يخالف لونه لون دم الحيض، فإن دم الحيض أسود وهو كذلك دم رقيق بخلاف دم الحيض فإنه ثخين. وهو دم رائحته طبيعية أي كرائحة سائر الدم، بخلاف دم الحيض فإنه دم كريه الرائحة. وهو دم يمكن أن يتجمد على الجسد بخلاف دم الحيض فإنه لا يتجمد كتجمده قبل ذلك في رحمها. هذه من مميزات دم الحيض عن دم الاستحاضة فهو دم أحمر رقيق ليست رائحته بكريهة ويمكن تجمده. قال: (وإن كان بعض دمها أحمر وبعضه أسود ولم يعبر أكثره لم ينقص عن أقله فهو حيضها) هذا نوع من أنواع التميز، فدم الاستحاضة دم أحمر، ودم الحيض دم أسود. فهنا الدم قد تجاوز بمجموعه 15 يوماً، لكن بعضه أحمر وبعضه أسود. والأسود لم يتجاوز خمسة عشر يوماً ولم يقل عن يوم وليلة - وهذا على القول المرجوح -. فعليها أن تجلس أيام خروج هذا الدم الأسود، وقعت (1) - تجلس - في هذا الباب أن تدع الصلاة ونحوها مما تمنع عنه الحائض، فإذا انقطع الدم الأسود، وبدأ الدم الأحمر فإنها تغتسل وتصلي، وتتوضأ لكل صلاة. ودليل على هذه المسألة حديث فاطمة بنت أبي حبيش أنها قالت لرسول الله صلى الله عليه وسلم: إني امرأة استحاض فلا أطهر أفادع الصلاة فقال: (لا إنما ذلك عرق وليس بالحيض فإذا أقبلت الحيضة فدعي الصلاة، وإذا أدبرت فاغسلي عنك الدم وصلي) (2) . وقد دلت الأدلة الشرعية على وجوب الوضوء عليها لكل صلاة.

_ (1) كذا في الأصل، أو كلمة نحوها، ولعلها: قعدت. (2) متفق عليه، وقد تقدم نحوه.

وقد ثبت هذا الحديث في مسند أحمد وسنن أبي داود والنسائي بإسناد صحيح – وفي بعض روايات هذا الحديث -: (إذا كان الحيض فإنه أسود يعرِف) أي له رائحة كريهة، وضبطت " العرَف " بفتح الراء، أي تعرفه النساء (فأمسكي عن الصلاة وإذا كان الآخر فتوضئ وصلي) (1) إذن هذا في حكم المبتدأة المميزة التي يمكنها أن تميز الدم هل هو دم حيض أم دم استحاضة. فإن كانت هذه المبتدأة تميز الدمين بعضهما عن الآخر فإنها تجلس أيام الحيض. ومتى انقطع الدم الأسود فإنها تغتسل وتصلي وتتوضأ لكل صلاة مع خروج هذا الدم. وكذلك إذا عرفت دم الحيض من دم الاستحاضة بأي علامة أخرى، كالثخانة أو الرائحة الكريهة أو غيرها من المميزات. قال: (وإن لم يكن دمها متميزاً جلست غالب الحيض من كل شهر) يعني: امرأة ثبت أنها مستحاضة وليس عندها تميز للدم أو الدم الذي يخرج منها دم مخلط في هذه الفترة لا يمكن تميز الحيض عن الاستحاضة. فالحكم أنها تجلس غالب الحيض، وقد تقدم أن غالبه ست أو سبع، كما تقدم في حديث حمنة بنت جحش: (تحيض ستة أيام أو سبعة أيام – إلى أن قال: (كما تحيض النساء ويطهرن في ميقات حيضهن وطهرهن) (2)

_ (1) أخرجه أبو داود في كتاب الطهارة، باب من قال إذا أقبلت الحيضة تدع الصلاة (286) قال: " حدثنا محمد بن المثنى، حدثنا محمد بن أبي عدي، عن محمد - يعني ابن عمرو - قال: حدثني ابن شهاب عن عروة بن الزبير، عن فاطمة بنت أبي حبيش أنها كانت تستحاض، فقال لها النبي - صلى الله عليه وسلم -: (إذا كان دم الحيضة، فإنه دم أسود يعرف، فإذا كان ذلك فأمسكي عن الصلاة، فإذا كان الآخر، فتوضئي وصلي، فإنما هو عرق) . وأخرجه أيضاً في باب من قال توضأ لكل صلاة من كتاب الطهارة، بنفس السند واللفظ دون قوله (فإنما هو عرق) (2) أخرجه الإمام أحمد وأبو داود والترمذي وابن ماجه، وقد تقدم صْ 158.

فإن قيل: هل هذا على التخيير والتشهي أم إلى الاجتهاد؟ فالجواب: إنه ليس على التخيير والتشهي، وإنما ذلك راجع إلى الاجتهاد، فتجتهد وتختار ستة أو سبعة أيام بناء على التحري والنظر، فتنظر إلى ما يظن أن يكون عادتها ستة أو سبعة، فتنظر إلى عادة نسائها أمها وأخواتها ونحو ذلك فتحكم على نفسها. فحينئذ: تمكث ستة أيام أو سبعة على الاجتهاد ثم تغتسل وتصلي. فإن قيل: متى يكون تحيضها في أول الشهر أم آخره؟ فالجواب: أنه يكون في أول الشهر كما ورد في الحديث المتقدم وفيه: (تحيضي ستة أيام أو سبعة أيام وصلي أربعة وعشرين يوماً أو ثلاثاً وعشرين يوماً) فتحيض في أوله. وحينئذ: ينظر إن كانت تعرف أول يوم خرج الدم فيه فإنه تبدأ منه. فإذا لم تعرف ذلك فإنها تبدأ من أول الشهر الهلالي. إذن: المبتدأة: إما أن تكون مميزة أو لا. فإن كانت مميزة فإنها تجلس متى تعرف أنه دم حيض، وتغتسل وتصلي فيما تعرف أنه دم استحاضة وتتوضأ لكل صلاة. أما إذا كان دمها لا يتميز أو هي ليست بمميزة فإنها تمكث ستة أيام أو سبعة أيام من بداية نزول الدم معها من كل شهر، فإن لم تذكر ذلك فإنها تبدأه من أول الشهر الهلالي، لأن الاستحاضة تمكث في المرأة الشهر كله أو غالبه فلا تنقطع عنها إلا زمناً يسيراً اليوم واليومين. والحمد لله رب العالمين الدرس السادس والأربعون (يوم الثلاثاء: 4 / 2 / 1415 هـ) قال المؤلف رحمه الله: (والمستحاضة المعتادة ولو مميزة تجلس عادتها) المستحاضة هي: التي أصيبت بالاستحاضة وهي - كما تقدم -: سيلان الدم من أدنى الرحم من عرق يقال له: العاذل ويكون ذلك في الشهر كله أو غالبه. فقد تقدم الحكم في المستحاضة المبتدأة التي لم يسبق لها عادة، والعادة هي خروج دم الحيض، وسميت عادة لكونها تعود في كل شهر.

وهنا المستحاضة المعتادة وهي التي أصيبت بالاستحاضة لكنها مسبوقة – أي الاستحاضة – بعادة، فكانت تحيض مثلاً ستة أيام أو سبعة أيام في كل شهر ثم بعد ذلك أصيبت بالاستحاضة – وهذه أنواع: منها: أن تكون غير مميزة أي لا تميز دم الحيض عن دم الاستحاضة. أن تكون مميزة – تميز دم الحيض عن دم الاستحاضة –. فالمستحاضة المعتادة سواء كانت مميزة أو غير مميزة حكمها قال: (والمستحاضة المعتادة ولو مميزة) لكي يدخل النوعان (تجلس عادتها) . فإنها تجلس عادتها فإذا كانت عادتها السابقة 10 أيام فإنها تجلس عشرة أيام وهكذا. أما إذا كانت غير مميزة فهذا لا إشكال فيه. لكن الإشكال في المميزة، فيقال: كيف تجلس عشرة أيام، وقد تكون هذه العشرة أيام توافق الدم الأحمر، لأنها عندما تستحاض المرأة قد يضطرب حيضها فيكون في أول الشهر – مثلاً – بعد أن كان في آخره، ويكون – مثلاً – ستة بعد أن كان سبعة أو بالعكس ونحو ذلك مما يحدث من الاضطراب بسبب الاستحاضة. فلماذا لا يقال: إنها ترجع إلى التمييز؟ وقد قال المصنف: (ولو) إشارة إلى خلاف. قالوا: إن النبي صلى الله عليه وسلم قال - في حديث حمنة بنت جحش (1) -: (دعي الصلاة قدر الأيام التي كنتِ تحيضين فيها ثم اغتسلي وصلي) (2) ولم يستفصل النبي صلى الله عليه وسلم منها هل هي مميزة أو غير مميزة مع أنه احتمال كبير أن تكون مميزة. والقاعدة: أن ترك الاستفصال في مقام الاحتمال ينزل منزلة العموم في المقال.

_ (1) كذا في الأصل ولعل الصواب: فاطمة بنت أبي حُبيش كما في البخاري. (2) تقدم أنه أخرجه البخاري في كتاب الحيض، باب إذا حاضت في شهر ثلاث حيض عن عائشة أن فاطمة بنت أبي حُبيش سألت النبي - صلى الله عليه وسلم - قالت: إني أستحاض فلا أطهر، أفأدع الصلاة، فقال: (لا، إن ذلك عرق، ولكن دعي الصلاة قدر الأيام التي كنت تحيضين فيها ثم اغتسلي وصلي) ، وأخرجه مسلم (333) .

أي يكون الحكم شاملاً للنوعين كليهما. فهنا يحتمل أن تكون مميزة، ويحتمل ألا تكون مميزة، فلما لم يستفصل النبي صلى الله عليه وسلم دل على دخول هذين النوعين كليهما في العموم، فدل على أن المرأة التي سبق لها حيض أنها تجلس عادتها وإن كانت مميزة. فعلى ذلك: لنفرض أنها كانت تحيض عشرة أيام من أول كل شهر هلالي، ثم استحيضت فإنها تمكثها من كل شهر ولو كان الدم معها متميزاً على أنه دم استحاضة بلونه أو رائحته أو نحو ذلك. قالوا: والعلة من ذلك أنه أضبط، لأن دم الحيض قد لا يكون منضبطاً، فتارة يكون في أول الشهر وتارة في وسطه وتارة في آخره، وتارة يكون ستة أيام وتارة سبعة، فيلحق المرأة المشقة في متابعة التمييز، فإنه لا يكون ثابتاً فأحياناً يكون على حالة وأحياناً يكون على حالة أخرى، ولها عادة سابقة فحينئذ ترجع إليها، والمشقة تجلب التيسير. قال: (وإن نسيتها عملت بالتمييز الصالح) إذن: هي مستحاضة معتادة لكنها نسيت عادتها. فحينئذ: تعمل بالتمييز الصالح، والمراد به - أي الصالح لأن يكون حيضاً – ألا يكون أقل من يوم وليلة ولا أكثر من خمسة عشر يوماً – وهذا على المذهب -، والراجح عدم تحديده بأقل ولا أكثر. فإذن: إذا نسيت عادتها عملت بالتمييز الصالح، فمثلاً رأت أن الدم أحمر في الشهر كله سوى يومين فإنه أسود فحينئذ: تجلس هذين اليومين، لأنهما أكثر من أقل الحيض وهما يوم وليلة. وإذا كان الدم الأسود خمسة عشر يوماً فإنها تجلسها لأنه تمييز صالح. أما إذا لم يكن كذلك: كأن يكون – أي الدم الأسود – ساعات يسيرة أو بعض يوم أو أكثر من خمسة عشر يوماً فإن له حكماً آخر سيأتي، فلا ينطبق عليه هذا الحكم. إذن: إنما ينطبق عليه هذا الحكم بشرطين: الأول: أن يكون لها تمييز. الثاني: أن يكون التمييز صالحاً.

وإلا فإنه ليس بتمييز صالح أن يحكم به عليه بأنه دم حيض، وهذا كله على تقرير المذهب، وإلا فالراجح خلاف ذلك. وعلى الراجح: فإنها تمكث مدة خروج الدم الذي ميزته ورأت أنه دم حيض سواء كان أقل من يوم وليلة أو أكثر من 15 يوم. ودليل التمييز: حديث فاطمة بنت أبي حبيش – الذي رواه أحمد وأبو داود والنسائي وفيه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لها: (إذا كان دم الحيض فإنه دم أسود يُعرف فأمسكي عن الصلاة، وإذا كان الآخر فتوضئي وصلي فإنما ذلك عرق) (1) فهذا الحديث يدل على الإرجاع إلى التمييز، ومحل هذا حيث كانت ناسية. وقد ذكر الإمام أحمد: أنها – أي فاطمة – كانت كبيرة فيحتمل عليها النسيان، وعلى أنها كانت لها عادة فنسيتها جميعاً بين الأحاديث. قال: (فإن لم يكن لها تمييز فغالب الحيض) يعني: امرأة مستحاضة كانت لها عادة سابقة فنسيتها ولا يمكنها أن تميز، فإنها تجلس غالب الحيض وهو 6 أو 7 أيام، كما تقدم في حديث حمنة بنت جحش وفيه: أنه صلى الله عليه وسلم قال لها: (تحيضي ستة أيام أو سبعة أيام في علم الله – إلى أن قال – كما تحيض النساء ويطهرن في ميقات حيضهن وطهرهن) (2) فهذا الحديث يدل على أن غالب مدة الحيض ستة أيام أو سبعة، وهذه المرأة ليس لها عادة يمكن أن ترجع إليها، وليس لها تمييز. فحينئذ: ترجع إلى غالب عادة النساء وقد تقدم أن هذا التخيير ليس على التشهي وإنما على الاجتهاد، فتجتهد وتبني حكمها بالنظر إلى نسائها وقريباتها، فالمقصود أنها تتحرى وتجتهد وتقرر ستة أيام أو سبعة. قال: (كالعالمة بموضعه الناسية لعدده) كذلك من كانت عالمة بموضعه ناسية لعدده، أي تعلم أن حيضها في أول الشهر لكنها لا تعلم عدده، فهي نسيت العادة لكن ليس نسياناً مجملاً وإنما تذكر موضعه لكن نسيت عدده.

_ (1) تقدم صْ 169، وقد أخرجه أحمد وأبو داود وغيرهما. (2) تقدم صْ 158، وقد أخرجه أحمد وأبو داود.

فحكمها: أنه يكون تحيضها في نفس الموضع الذي تذكره، ولكن العدد ستة أو سبع أيام على الاجتهاد. قال: (وإن علمت عدده ونسيت موضعه من الشهر ولو في نصفه جلست من أوله كمن لا عادة لها ولا تمييز) هذه عكس المسألة السابقة. فهي تعلم العدد، ولنفرض أنه عشرة أيام لكنها نسيت موضعه فلا تدري في أول الشهر أو في أوسطه أو في آخره. فحينئذ: يجب إرجاعها إلى العادة السابقة كما تقدم، ولكن الإشكال أنها نسيت موضعه من الشهر. (ولو في نصفه) : يعني لو قالت: أنا أذكر إني أحيض في نصف الشهر لكن لا أدري أي يوم بالتحديد، أو قالت: في آخر الشهر لكن لا أدري أي يوم بالتحديد فإنها حينئذ: يكون لها نفس الحكم، لذا قال: (جلست من أوله) إذن: تجلس في أول كل شهر هلالي. إذن: امرأة تذكر العدد لكنها نسيت الموضع، سواء نسيته تماماً، أو كانت تذكر أنه في وسط الشهر من غير تحديد فإنها تجلس من أول الشهر الهلالي. وقوله: (ولو في نصفه) : يشير إلى خلاف عند الحنابلة، فقد ذهب بعض الحنابلة: إلى أنها تتحرى فإذا كانت مثلاً: تذكر أنه في وسط الشهر لكن من غير تحديد، فإنها تتحرى ويكون إلى أقرب وقت كانت تحيض فيه. فحينئذ: يكون حيضها من أول نصف أوسط الشهر، فحينئذ: تبدأ من اليوم الحادي عشر، وإذا كانت في آخره فيقال: تبدأ من الحادي والعشرين وهكذا، وهذا القول هو الأرجح؛ لأن هذا التحديد أقرب من الرجوع إلى أول الشهر. إذن: الراجح أنها تتحرى الموضع فيقع فيه حيضها كما تقدم. فإذا قالت: في أول الشهر لكن لا أدري بالتحديد فيقال لها: ليكن حيضك من أول الشهر، وهكذا أوسط الشهر وآخره. قوله: (كمن لا عادة لها ولا تمييز) وهي المبتدأة، فقد تقدم أنها – إن كانت لا تذكر بداية خروج الدم منها فإنها تبدأ من أول الشهر الهلالي -. وهذا القول هو الراجح إلا إذا أمكنها التحري فيجب العمل به لكونه أقرب إلى عادتها.

والحمد لله رب العالمين الدرس السابع والأربعون (يوم الأربعاء: 5 / 2 / 1415 هـ) قال المؤلف رحمه الله: (ومن زادت عادتها أو تقدمت أو تأخرت فما تكرر ثلاثاً فهو حيض) " من زادت عادتها ": كأن تكون عادتها في الأصل خمسة أيام، فزادت إلى ستة أيام أو سبعة أو أكثر. " أو تأخرت ": كأن تكون تأتيها في أول الشهر فأتتها في آخره. " أو تقدمت ": كأن تكون تأتيها في آخر الشهر فأتتها في أوله. فما الحكم؟ قال هنا: (فما تكرر ثلاثاً فهو حيض) فإذن هذه المسائل كلها لا يحكم عليها بأنها حيض حتى يتكرر ثلاثاً. فمثلاً في المسألة الأولى: إذا كان حيضها خمسة أيام فزاد إلى سبعة أيام، ففي الشهر الأول الذي رأت فيه حيضها سبعة أيام، لا تمكث إلا خمسة أيام ثم تغتسل وتصلي وتتوضأ لكل صلاة، وفي الشهر الثاني كذلك، وفي الشهر الثالث كذلك، فإذا جاء الشهر الرابع والعادة سبعة أيام فحينئذ: تمكث هذه السبعة أيام كلها وتقضي ما وجب عليها في هذه الأيام التي قامت فيها بواجبات لا تصح من الحائض، فإذا صامت في اليومين الزائدين فإنها تقضيهما لأنهما من أيام الحيض، كما تقدم في المسألة السابقة. وقد تقدم النظر في تلك المسألة، فكذلك هذه المسألة. فالراجح فيها – ما ذهب إليه الإمام أحمد في رواية واختارها بعض الحنابلة، واختارها شيخ الإسلام – الراجح أن ذلك كله حيض، وأن هذه الزيادة يكون لها حكم الحيض مطلقاً من غير اشتراط تكرار. وهذا القول تدل عليه عمومات النصوص الشرعية، كقوله تعالى {قل هو أذى فاعتزلوا النساء في المحيض} (1) فأطلق الله عز وجل، فمتى رأت المرأة دم الحيض سواء في وقت عادتها الأصلي أو زائداً عليها، أو متقدماً أو متأخراً فإنها يجب عليها أن تمكثه وتجلسه، لأنه دم حيض، كما قال تعالى: {قل هو أذى فاعتزلوا النساء في المحيض} قال: (وما نقص عن العادة طهر)

_ (1) سورة البقرة.

هذه الصورة الرابعة، لأن الصور المتصورة أربع: إما تقدم أو تأخر، وإما زيادة أو نقص، فتقدمت صور ثلاث وهنا صورة النقص، فما نقص عن العادة فهو طهر. فمثلاً: امرأة عادتها سبعة أيام فنقص إلى خمسة أيام، فطهرت بعد خمسة أيام، فهل تمكث هذين اليومين أم لا؟ الجواب: لا، لأنها قد رأت علامة الطهر، وقد قال تعالى: {فاعتزلوا النساء في المحيض ولا تقربوهن حتى يطهرن} وهذه قد طهرت. فإذن: إذا مضت عليها خمسة أيام من عادتها ثم طهرت فإنها تغتسل وتكون في حكم الطاهرات. قال: (وما عاد فيها جلسته) يعني: امرأة عادتها عشرة أيام، فمرت خمسة أيام فرأت الطهر فإنها – كما تقدم تغتسل وتصلي، فانقطع عنها يومين أو ثلاثة ثم عاد إليها في وقت عادتها الأصلي، فالحكم قال (جلسته) ، فتجلس هذه الأيام. وهذا مشكل على مذهبهم؛ لأنهم يرون أن أقل الطهر بين الحيضتين ثلاثة عشر يوماً، وهذه أقل من ثلاثة عشر. لكنهم يقولون: إنهما في حكم الحيضة الواحدة، وهي ما يسمى بمسألة " التلفيق " وهي – على هذا المذهب – أن تكون الأيام المشتملة على الحيض والطهر مجموعها لا تزيد على أكثر الحيض، فإذا كان مجموعهما عشرة أيام أو خمسة عشر فنعم، أما ستة عشر يوماً فأكثر فلا. فحينئذ: تكون هذان الحيضان وما بينهما من الطهر في حكم الحيضة الواحدة، وهذه مسألة التلفيق ما لم يتعد أكثر الحيض. إذن: ما عاد منه جلسته، وهذا القول راجح واضح، إلا ما سيأتي من البحث في مسألة النقاء في الحيض. لكن على – القول الراجح في حد الطهر – وهو أنه ليس له حد مقدر، بل قد يكون ما بين الحيضين يوم وليلة أو يومان أو أكثر أو أقل. قال: (والصفرة والكدرة في زمن العادة حيض)

لما روى أبو داود في سننه بإسناد صحيح عن أم عطية قالت: (كنا لا نعد الكدرة والصفرة بعد الطهر شيئاً) (1) وأصله في البخاري (2) : بدون قوله: (بعد الطهر) . والصفرة هي: كالصديد يعلوه صفرة. وأما الكدرة فهي شبيهة بالماء العكر الوسخ. فالصفرة والكدرة إن كانتا في أثناء الحيض أو أثناء مدة الحيض فإنهما من الحيض. وأما إن كانتا بعد الطهر من الحيض فإنهما ليسا بشيء. فالصفرة والكدرة إذا استقلتا عن الحيض فلا حكم لهما؛ لأنهما ليسا بدم، بل يثبتان تبعاً، وأما إذا كانتا أثناء الحيض فإنهما يكونان بحكمه. قال: (ومن رأت يوماً دماً ويوماً نقاءً فالدم حيض والنقاء طهر ما لم يعبر لأكثره) . وقوله: " يوماً " ليس للتحديد وإنما للتمثيل، وإلا فقد يكون أقل من يوم أو أكثر منه وإلا فالضابط فيه أن يكون هذا الوقت يتسع لعبادة من العبادات الشرعية. فمثلاً: امرأة عادتها سبعة أيام فأصبحت ترى يوماً دماً ويوماً نقاء، فالدم حيض، والنقاء طهر. ففي هذا المثال: الدم في أثناء هذه المدة يخرج منها إلا أنه يتوقف عنها في بعض الأيام بحيث يمكنها في وقت الانقطاع أن تعبد الله بعبادة من العبادات الواجبة، فيمكنها أن تغتسل وتصلي. فمثلاً: انقطع عنها الدم فنأمرها بالاغتسال ثم الصلاة، ومثلاً: طهرت قبل الفجر فإنها تنوي وتصوم ذلك اليوم وإن عاد إليها الدم بعد غروب الشمس. إذن: النقاء المتخلل لعادتها طهر، فيجب عليها أن تغتسل فيه وأن تصلي – هذا هو المذهب –.

_ (1) أخرجه أبو داود في كتاب الطهارة، باب في المرأة ترى الكُدْرة والصفرة بعد الطهر (307) قال: " حدثنا موسى بن إسماعيل، أخبرنا حماد، عن قتادة، عن أم الهذيل، عن أم عطية، وكان بايعت النبي - صلى الله عليه وسلم -، قالت: " كان لا نعد الكدرة والصفرة بعد الطهر شيئاً) . (2) أخرجه البخار يفي كتاب الحيض، باب الصفرة والكدرة.

وهذا القول ضعيف، لأنه من عادة الدم أن يتجزأ وأن يتقطع، وفي إلزامها بهذا الحكم المتقدم مشقة وحرج إذ قد يتخلل عادتها عدة اغتسالات. ثم إن هذا الانقطاع في الحقيقة أمر طبيعي، والنبي صلى الله عليه وسلم لم يأمر النساء – مع وجود هذا الأمر الطبيعي – لم يأمرهن أن يغتسلن فيه ويصلين فهذا أمر طبيعي يحدث للنساء. وهذا هو مذهب أكثر الفقهاء وهو اختيار شيخ الإسلام وهو رواية عن الإمام أحمد – وهذا القول هو الراجح الذي لا يسع النساء إلا هو – وإلا ففي القول المتقدم مشقة وحرج إذ أن من طبيعة الدم التوقف. فالراجح: أنها لا تطهر حتى يثبت لها شيئان: الأمر الأول: القصة البيضاء وهي: سائل أبيض يخرج من المرأة علامة لطهرها. وقد روى البخاري معلقاً: أن النساء كن يبعثن إلى عائشة بالدُرجة " الخرقة " فيها الكرسف " القطن " فيه الصفرة فتقول: (لا تعجلن حتى ترين القصة البيضاء) (1) والعلامة الثانية: أن ينقطع عنها الدم بحيث إذا وضعت القطن أو نحوه لا يخرج صفرة أو كدرة، ويكون ذلك آخر عادتها. لأن بعض النساء لا يرين القصة البيضاء فعلامته انتهائه: انقطاع الدم في آخر عادتها. فإذا وقع أحد الأمرين فإنها يجب عليها أن تغتسل وتكون في حكم الطاهرات. وقوله: (ما لم يعبر أكثره) هذه تدخل فيها المسألة السابقة وهي مسألة التلفيق. يعني: قد يشكل فيقال: إن هذا الطهر أقل من ثلاثة عشر يوماً التي هي أقل الطهر بين الحيضين! فالجواب: إنها بمجموعها في حكم الحيضة الواحدة، لذا قال: (ما لم يعبر أكثره) فإذا كان مجموع النقاء والطهر يتجاوز أكثر الحيض، كأن يمضي عليها 18 يوماً، يوماً نقاء، ويوماً دم، فتكون هذه الأيام الزائدة عن أكثر الحيض في حكم الاستحاضة – هذا على المذهب – قال: (والمستحاضة ونحوها تغسل فرجها وتعصبه)

_ (1) ذكره البخاري في باب (19) إقبال المحيض وإدباره، من كتاب الحيض.

(ونحوها) مما به سلس بول ونحوه من الأحداث المتجددة. (تغسل فرجها) لأن الدم نجس فيجب غسله لنجاسته، وكذلك من به سلس بول لأن البول نجس فيجب غسله. قال: (وتعصبه) بخرقة أو نحوها لئلا يخرج، فتضع على فرجها عصابة تحفظ الدم من الخروج. يدل على ذلك، ما روى أبو داود والترمذي وهذا لفظه من حديث حمنة بنت جحش أنها شكت إلى النبي صلى الله عليه وسلم كثرة الدم فقال: (أنعت لكِ " أي أصف " الكرسف فإنه يذهب الدم) فقالت: إنه أكثر من ذلك فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (فتلجمي) أي ضعي خرقة شبيهة بلجام الفرس الذي يوضع عليه (1) ليكون ذلك حافظاً لخروج الدم. إذن يجب عليها حفظ دمها من الخروج، بحيث لا تتضرر، أما إذا كان هذا الحبس يلحقها بالضرر فلا يجب إذ لا ضرر ولا ضرار. قال: (وتتوضأ لوقت كل صلاة) كما روى البخاري أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في المستحاضة: (وتتوضأ لكل صلاة) (2) وهكذا من به سلس بول ونحوه من الأحداث المتجددة وتصلي فرضاً ونفلاً. فمثلاً: تتوضأ لصلاة الظهر وتصلي بهذا الوضوء نوافلها وما يلحقها من العبادات التطوعية. وهذا باتفاق أهل العلم وأنها تصلي بالوضوء الفرائض والنوافل. هل تُصلي به الصلاة المقضية؟ بمعنى: امرأة توضأت لصلاة الظهر، فهل لها أن تصلي بهذا الوضوء صلاة فائتة أم لا؟ ومحل هذا حيث خرج الدم، أما إذا توضأت فلم يخرج الدم فهي على وضوئها. بمعنى: امرأة توضأت فلم يخرج الدم فإنه لا ينتقض وضوؤها فلها أن تصلي فيه ما لم يخرج الدم. لكن محل هذا حيث خرج الدم بعد وضوئها فهل تصلي فيه الصلاة المقضية أم لا؟ مذهب جمهور أهل العلم: أن لها أن تصلي الصلاة المقضية بهذا الوضوء. وذهب الشافعية: إلى أنها لا يجوز لها أن تصلي بهذا الوضوء الصلاة المقضية.

_ (1) تقدم صْ 158. (2) قال في البلوغ: " وللبخاري (ثم توضئي لكل صلاة) وأشار مسلم إلى أنه حذفها عمداً " صْ 27.

وهذا القول أظهر؛ لموافقته لظاهر الحديث (توضئ لكل صلاة) (1) . ولولا المشقة وإجماع أهل العلم لقلنا بوجوب الوضوء للنوافل لقوله: (لكل صلاة) . أما المشقة هنا – أي في الصلاة المقضية – فهي منتفية ولا إجماع بل الخلاف فيها ثابت. أما الصلاة المجموعة فإنها يكفيها الوضوء الواحد، لأن وقتهما واحد. وقد يقال: بأنها يجب عليها أن تصلي الصلاة المجموعة بوضوء آخر. لكن لكون الصلاتين أحدهما متصلة بالأخرى وهذا هو فعل النبي صلى الله عليه وسلم وهو المشروع. فالراجح: أن يقال: إنها تكتفي بالوضوء الذي توضأته للصلاة الأولى، والعلم عند الله. قال: (ولا توطأ إلا مع خوف العنت) يعني: إذا خشي أن يقع في الزنا أو نحوه فإنه يجوز أن يطأها. فعلى ذلك: المستحاضة لا يجوز وطؤها على المذهب. قالوا: قياساً على الحائض. ودم الاستحاضة دم نجس فوجب أن يجتنب وألا يباشر. ومذهب أكثر الفقهاء: أنه يجوز أن توطأ، وهذا هو الراجح؛ لأن القياس قياس مع الفارق، والفارق هو: أن المستحاضة تصلي وتصوم وتفعل ما لا تفعله الحائض من الأحكام الشرعية ولا تمنع مما تمنع منه الحائض، فإذا ثبتت هذه الفوارق فهو قياس مع الفارق. وأما كون هذا الدم دم أذى، فنقول: هو وإن كان نجساً وأذى فإنه لا يعني أنه لا يجوز له أن يجامعها؛ لأن الأذى الذي نهى الشارع عنه إنما هو دم الحيض فقط: {قل هو أذى فاعتزلوا النساء في المحيض} (2) أي دم المحيض دم أذى، أي إنه أذى يعتزل النساء فيه، ولا يعني أن كل دم يقع في المرأة وإن كان جرحاً يجب أن تعتزل فيه، ولا يجوز أن توطأ مع جروحه، كيف والأدلة تدل على جواز ذلك فإن المستحاضات على عهد النبي صلى الله عليه وسلم لم يثبت في السنة نهي عن أن توطأ إحداهن.

بل قد ثبت في سنن أبي داود بإسناد جيد: أن حمنة كانت مستحاضة وكان زوجها يطؤها " (1) فالمستحاضات كن ذوات عدد ولم يثبت أن نهي زوج إحداهن أن يطئها، وعدم نقل ذلك مع الحاجة إلى نقله يدل على عدم ثبوته إذ الدواعي متوفرة على نقله ومع ذلك لم ينقل. وكون هذا قد تكرهه النفوس فإن هذا لا يعني أنه محرم. فالراجح: جواز وطئها. - قال فقهاء الحنابلة: فإذا وطئها فلا كفارة عليه. قالوا: لأننا وإن قلنا بأن وطئها محرم فإنه ليس كوطء الحائض فهي دون ذلك فبينهما فوارق كبيرة، فعلى ذلك: على القول بأنها لا يجوز وطؤها فلا كفارة في ذلك. فالراجح: جواز وطئها، ومن الأدلة أيضاً: المشقة في اعتزالها بخلاف الحيض، فالاستحاضة تكون الشهر كله أو أغلبه فاعتزالها فيه مشقة، والمشقة تجلب التيسير. قال: (ويستحب غسلها لكل صلاة)

_ (1) أخرجه أبو داود في كتاب الطهارة، باب المستحاضة يغشاها زوجها (310) قال: " حدثنا أحمد بن أبي سُريج الرازي، أخبرنا عبد الله بن الجهم، حدثنا عمرو بن أبي قيس، عن عاصم، عن عكرمة عن حمْنَة بنت جحش أنها كانت تستحاض وكان زوجها يجامعها ".

لما روى الشيخان في صحيحهما: أن أم حبيبة أستحيضت فسألت النبي صلى الله عليه وسلم: (فأمرها أن تغتسل فكانت تغتسل لكل صلاة) (1) . وهذا الحديث كما قال الشافعي: ليس فيه أن النبي صلى الله عليه وسلم أمرها أن تغتسل لكل صلاة وإنما فعلت ذلك تطوعاً من عند نفسها. فالنبي صلى الله عليه وسلم أمرها أن تغتسل من الحيض كما أمر غيرها من المستحاضات أن يغتسلن إذا ذهبت الحيضة وأمرهن أن يتوضأن لكل صلاة كما في غير حديث غير أنها باجتهادها كانت تغتسل لكل صلاة.

_ (1) أخرجه البخاري في كتاب الحيض، باب عِرْق الاستحاضة (327) بلفظ: عن عائشة زوج النبي - صلى الله عليه وسلم - أن أم حبيبة استحيضت سبع سنين، فسألت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن ذلك، فأمرها أن تغتسل فقال: (هذا عِرْقٌ) فكانت تغتسل لكل صلاة "، وأخرجه مسلم في كتاب الحيض، باب المستحاضة وغسلها وصلاتها (334) بلفظ: " عن عائشة زوج النبي - صلى الله عليه وسلم - أن أم حبيبة بنت جحش خَتَنَة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وتحت عبد الرحمن بن عوف استُحيضت سبع سنين، فاستفتت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في ذلك، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (إن هذه ليست بالحيضة، ولكن هذا عرف فاغتسلي وصلي) قالت عائشة: فكانت تغتسل في مركن في حُجْرة أختها زينب بنت جحش، حتى تعلو حمرةُ الدم الماءَ ".

وأما ما روى أبو داود: أن النبي صلى الله عليه وسلم: (أمرها أن تغتسل لكل صلاة) (1) فإنه ضعيف عند الحفاظ فلا يثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم. وقد أمرها النبي صلى الله عليه وسلم أن تغتسل وهذا الأمر لا يقتضي التكرار، فإن الأمر لا يقتضي التكرار كما هو معلوم في أصول الفقه وكما هو مقرر في قواعد اللغة. فقد أمرها النبي صلى الله عليه وسلم أن تغتسل وهذا اللفظ إنما يفيد الاغتسال مرة واحدة وهي الاغتسال من الحيض ثم كانت تغتسل لكل صلاة ولذا لم يوجب ذلك أحد من الأئمة وإنما هو عندهم على الاستحباب. مسألة: امرأة مثلاً: يؤذن الظهر وتمر خلال الوقت نصف ساعة ينقطع فيها الدم، فهل يجب أن تتوضأ في هذه النصف ساعة وتصلي ويكون الدم متوقفـ[ـاً] إلى صلاتها ومن بدايتها بالصلاة إلى انتهائها منها؟ الجواب: يجب عليها ذلك، لأن الصلاة تكون سالمة مما يجيز فعله العذر، فحينئذ إذا كان ينقطع عنها أحياناً ويمكنها أن تصلي فيه فيجب فعل ذلك. والحمد لله رب العالمين. الدرس الثامن والأربعون (يوم السبت: 8 / 2 / 1415 هـ) قال المؤلف رحمه الله تعالى: (وأكثر مدة النفاس أربعون يوماً)

_ (1) أخرجه أبو داود في كتاب الطهارة، باب من قال: تغتسل من طُهر إلى طهر (298) قال: " حدثنا عثمان بن أبي شيبة، حدثنا وكيع، عن الأعمش عن حبيب بن أبي ثابت عن عروة عن عائشة،قالت: جاءت فاطمة بنت أبي حبيش إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فذكر خبرها، وقال: (ثم اغتسلي ثم توضئي لكل صلاة، وصلي) . قال أبو داود بعد أن ذكر حديثين بعده: " وحديث عدي بن ثابت والأعمش عن حبيب وأيوب أبي العلاء كلها ضعيفة لا تصح، ودل على ضعف حديث الأعمش عن حبيب هذا الحديث، أوقفه حفص بن غياث عن الأعمش، وأنكر حفص بن غياث أن يكون حديث حبيب مرفوعاً، وأوقفه أيضاً أسباط عن الأعمش، موقوف عن عائشة.. " اهـ.

النفاس: في اللغة مشتق من النفس، والنفس هو الدم، وقيل مشتق من النفس لما فيه من زوال الكرب. أما في الاصطلاح: فهو دم يرخيه الرحم بسبب الولادة، وهذا الإرخاء إما أن يكون بعد الولادة أو معها أو قبلها. أما الدم الخارج معها أو بعدها فواضح حكمه. وأما الدم الذي قبل الولادة وهو ما يخرج من الدم أثناء مقدمات الوضع مع الطلق، فإن هذا الدم الخارج وقت مخاض المرأة واستعدادها للوضع دم سببه الولادة. وقد حدده أهل العلم بثلاثة أيام فأقل. فالدم الخارج من المرأة قبل ولادتها بثلاثة أيام فأقل دم نفاس. ويعرف ذلك بالأمارات التي تبين قرب الوضع، فإن هذا الدم الخارج منها دم نفاس. وعليه فإذا خرج قبل أربعة أيام أو خمسة فإنه ليس بدم نفاس بل دم فساد، وليس بدم حيض لأن الحبلى لا تحيض – كما تقدم –. فعلى ذلك هو دم فساد فتصلي وتصوم وغير ذلك وهي بحكم المستحاضة. وما ذكره الفقهاء من تحديد ذلك بثلاثة أيام فأقل موضع نظر؛ فإنه لا دليل على ذلك، بل الأمر متعلق بكون هذا الدم خارج مع مقدمات الوضع سواء كان ثلاثة أيام فأقل أو أكثر من ذلك. - وهذا ما ذهب إليه الشيخ عبد الرحمن السعدي، ونظَّر في مذهب الفقهاء بما تقدم وأن هذا التحديد لا دليل عليه شرعاً ولا عرفاً، والأمر متعلق بمقدمات الولادة. فالدم الخارج عند مخاض المرأة وطلقها هو دم نفاس، فعلى ذلك: تدع المرأة الصلاة والصوم ونحو ذلك من الأحكام. وأما الدم الخارج مع الولادة أو بعدها فهو واضح. ولكن على القول بتحديد النفاس بأربعين يوماً وسيأتي الدليل عليه، هل الثلاثة الأيام السابقة للولادة هل تحسب من النفاس أم لا؟ إذا قلنا إنها تحسب فيكون نفاسها إذا ولدت سبعة وثلاثين يوماً.

قال الفقهاء: لا تحسب هذه المدة من النفاس؛ وذلك لأنه قد ثبت في الحديث الحسن أن أم سلمة قالت: (كانت النفساء تجلس على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم أربعين يوماً) (1) في رواية لأبي داود: (بعد نفاسها) أي بعد ولادتها، والحديث حسن رواه الخمسة إلا النسائي. قوله: (أكثر مدة النفاس أربعين يوماً) : هذه أكثر مدته فلا يتجاوز النفاس أربعين يوماً. - وهذا هو مذهب الحنابلة وهو مذهب أكثر أهل العلم، بل قد ذكر الترمذي إجماع أهل العلم عليه فقال: " وأجمع أهل العلم من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فمن بعدهم على أن النفساء تدع الصلاة أربعين يوماً إلا أن ترى الطهر فتغتسل وتصلي ". قال أبو عبيد: " وهو قول جماعة الناس ". وهذا القول قد دل عليه حديث أم سلمة المتقدم فإنها ذكرت أن النفساء كانت تمكث على عهد النبي صلى الله عليه وسلم أربعين يوماً ومعلوم أن النساء يختلفن في الطبيعة والواقع فلما ذكرت أم سلمة هذه المدة المحدودة دل ذلك على أنه توقيت من الشارع وتحديد منه، لأن النساء يختلفن فيه فلا معنى للتحديد الذي ذكرته، وإنما المعنى أن مكثهن هذا العدد كان مؤقتاً من النبي صلى الله عليه وسلم. - وذهب المالكية والشافعية: إلى أنه يوقت بستين يوماً (60) فلا يتجاوزها. ودليل هؤلاء الواقع وأن النفاس بلغ هذه المدة. لذا ذهب بعض أهل العلم إلى تحديده بسبعين.

_ (1) أخرجه أبو داود في كتاب الطهارة، باب ما جاء في وقت النُّفَساء قال: " حدثنا أحمد بن يونس، أخبرنا زهير، حدثنا علي بن عبد الأعلى، عن أبي سهل، عن مُسَّةَ عن أم سلمة، قالت: كانت النفساء على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تقعد بعد نفاسها أربعين يوماً أو أربعين ليلة، وكنا نطلي على وجوهنا الوَرْس تعني من الكلَفِ "، وأخرجه الترمذي في الطهارة، برقم 139، وابن ماجه برقم 648، سنن أبي داود [1 / 218] .

وذهب شيخ الإسلام: إلى أنه لا حد لأكثره كقاعدته في الحيض. لكن الراجح الأول؛ للدليل، ولما ذكر من الإجماع. وقد ذكر الموفق هذا القول عن عمر وابن عباس وأنس وأم سلمة وعائذ بن عمرو، وقال: " لا يعلم لهم مخالف ". وأكثر هذه الآثار رواها البيهقي في سننه، وأثر ابن عباس رواه ابن الجارود في منتقاه بإسناد صحيح (1) . فلا يعلم لهؤلاء الصحابة مخالف فكان قولهم حجة. فإذا استمر الدم مع المرأة بعد أن تمت الأربعين فما الحكم؟ الجواب: أنه لا يخلو من حالين: إما أن يكون موافقاً لوقت عادتها فحينئذ هو دم حيض وإلا فهو دم فساد، فإذا لم يكن موافقاً لوقت عادتها فهو دم فساد، - وله أحكام دم الاستحاضة -. قال: (ومتى طهرت قبله تطهرت وصلت) إذن لا حد لأقله، وهذا هو المذهب وهو مذهب جمهور أهل العلم. فإذا انقطع الدم عن النفساء بعد خمسة أيام أو عشرة أيام أو يومين أو يوم، أو لم يخرج منها الدم مطلقاً وهذا قد يكون من الحالات النادرة، فإنها لا تدع الصلاة وغيرها، بل حكمها حكم الطاهرات. وقد تقدم الإجماع الذي ذكره الترمذي وفيه: " ألا أن ترى الطهر فتغتسل وتصلي ". وللقاعدة المشهورة: الحكم يدور مع علته وجوداً وعدماً، فهنا العلة خروج الدم وقد توقف فحينئذ لا يثبت الحكم. واعلم أن الولادة التي يترتب عليها حكم النفاس – عند العلماء – هي الولادة التي تنتج مضغة مخلقة، أي تخلق منها الآدمي. أما إذا سقطت نطفة أو علقة أو مضغة غير مخلقة فإنها – عند أكثر أهل العلم – لا يثبت بها النفاس. وهذا – أي كونها مضغة مخلقة – يكون زمن 81 يوماً فأكثر، فإذا سقط لإحدى وثمانين يوماً فأكثر ورؤيت المضغة مخلقة أي تبيّن فيه خلق إنسان، والغالب أن يكون ذلك بعد تسعين يوماً أي بعد ثلاثة أشهر.

قالوا: لأن هذا الواقع الساقط مشكوك فيه هل هو إنسان أم لا، ومتى كان مشكوكاً فيه فإنه لا ينتقض الحكم الثابت عندنا وهو أنها مطالبة شرعاً بأحكام شرعية، والنفاس يمنعها من أداء الأحكام الشرعية، وإذا حكمنا أنه نفاس فهذا يعني إبراء ذمتها من ذلك، وهذا مجرد شك ولا ننتقل من الحكم الثابت بمجرد الشك، فيحتمل أن يكون قطعة إنسان. أما إذا كانت النطفة متخلقة، وقد تبين فيه خلق إنسان فإن الحكم يثبت على ما تقدم، وهذا هو المشهور عند أكثر أهل العلم. قال: (ويكره وطؤها قبل الأربعين بعد التطهر) إذا طهرت بعد عشرة أيام من نفاسها – مثلاً – فإنها يكره وطؤها – كما روى البيهقي والدارمي وغيرهما – عن الحسن بن أبي الحسن البصري عن عثمان بن أبي العاص أن امرأته أتته وقد طهرت قبل الأربعين فقال: (لا تقربيني) (1) قالوا: فهذا يدل على كراهية وطئها إذا طهرت قبل الأربعين هذا هو المشهور في المذهب. - وذهب جمهور أهل العلم وهو رواية عن الإمام أحمد: أنه لا يكره ذلك. إذن: هم متفقون على أنه لا يحرم، وإنما الخلاف في الكراهية فالحنابلة كرهوا ذلك. والجمهور قالوا: بعدم الكراهية، قالوا: لأنها طاهرة ولها حكم الطاهرات، والكراهة حكم شرعي فلا يثبت إلا بدليل. والأثر ليس صريحاً في ذلك، فقد يكون تركه تورعاً أو احتياطاً أو خشية من عدم ثبوت الطهر أو نحو ذلك. وهذا على القول بثبوت الأثر، وقد ذكر الحافظ أن الحسن لم يسمع من عثمان بن أبي العاص، فإذا ثبت هذا فإنه يكون منقطعاً. ثم لو صح – فكما تقدم – ليس صريحاً في ذلك فقد يكون تركه احتياطاً لشبهة وقعت في طهرها أو نحو ذلك. إذن: الراجح مذهب الجمهور ورواية عن الإمام أحمد وهو عدم كراهية ذلك. قال: (فإن عاودها الدم فمشكوك فيه تصوم وتصلي وتقضي الواجب) فإن عاودها الدم بصفته وهيئته في أثناء الأربعين.

بمعنى: نفست عشرة أيام ثم انقطع الدم خمسة أيام ثم عاد إليها عشرة أيام ثم انقطع، فقد عاودها في زمنه. " فمشكوك فيه " إذن: لا يكون في حكم النفاس، لأن هذا الدم مشكوك فيه. " تصوم وتصلي وتقضي الواجب " إذن: تجمع بين فعل الواجبات أثناء خروج الدم، وقضاء ما يجب قضاؤه بعد انقطاع الدم وإن كانت فعلته. فعلى ذلك – في المثال السابق – العشرة الأيام الثانية التي رأت فيها الدم تصلي وتصوم لاحتمال أن يكون دم فساد ثم إذا انتهت فيجب عليها قضاء الصوم لاحتمال أن يكون دم نفاس. لكن هذا القول ضعيف. لذا ذهب الإمام أحمد في رواية عنه: إلى أن هذا الدم دم نفاس؛ لأنه على هيئة دم النفاس، وهو واقع في زمن النفاس ولم يكن حيضاً، وفيه صفة دم النفاس فيكون له حكم النفاس تماماً. فتدع الصلاة والصوم وتقضي الصوم بعد ذلك، وهذا هو الراجح. وأما كونها تقضيه؛ فقد تقدم ضعف هذا، وأن الشارع لا يأمر بفعل الشيء مرتين – كما نهى أن تصلى الصلاة مرتين. فإذن: إذا عاودها في زمن النفاس فإنه دم نفاس، فتدع الصلاة وغيرها من الأحكام. قال: (وهو كالحيض فيما يحل ويحرم ويجب ويسقط) فأحكام النفاس كأحكام الحيض. " فيما يحل " من مباشرتها فيما دون الفرج. " ويحرم " كوطئها من فرجها. " ويجب " كقضاء الصوم والغسل عند انقطاع الدم. " ويسقط " كالصلاة والصوم. قال: (غير العدة والبلوغ) هذان استثناءان واضحان. " غير العدة " فلا يحسب النفاس من العدة، فالله عز وجل إنما ذكر الحيض فقال تعالى {ثلاثة قروء} (1) فلا يكون النفاس محسوباً من ذلك. وهذا لا يتصور مثله: لأن المرأة إذا طلقت قبل نفاسها فإنها تنقضي عدتها عند نفاسها أي عند وضعها للحمل.

وإن كان الطلاق أثناء النفاس فهو كالطلاق أثناء الحيض على القول بصحته، فإنه لا يحسب من العدة، فإن الرجل إذا طلق امرأته وهي حائض – على القول بصحته – فإنها لا تحسب هذه الحيضة، وكذلك النفاس. وأما البلوغ فإن المرأة متى حملت فإن ذلك دليل سبق بلوغها، فإنه لا يكون حمل إلا بعد الاحتلام والإنزال، وهذا دليل البلوغ – فحينئذ: لا يتعلق البلوغ بالنفاس؛ لأن هذا مسبوق بحمل والحمل لا يكون إلا باحتلام. ومن الاستثناءات: أن المُولي وهو الذي يحلف ألا يطأ امرأته أكثر من أربعة أشهر، فإن الحيض يحسب، إذا تُربص به أربعة أشهر. أما النفاس فلا يحسب؛ لأن مدة الحيض معتادة بخلاف مدة النفاس فإنها ليست بمعتادة. قال: (وإن ولدت توأمين فأول النفاس وآخره من أولهما) امرأة ولدت توأمين فأنجبت الأول ثم بعد أربعين يوماً جاءت بالثاني فما الحكم؟ فأول النفاس وآخره من أولهما، إذن الثاني على المدة التي تقدم ذكرها لا يكون له شيء من النفاس، فالمدة متعلقة بالأول؛ لأن هذا الدم خرج بسبب الولادة وهما كانا حملاً واحداً فحكمهما واحد – وهذا مذهب الجمهور -. - وذهب الإمام أحمد في رواية عنه – وهو وجه عند الشافعية –: إلى أنه يحسب من الثاني. قالوا: لأن الدم الخارج مع الثاني دم خارج بسبب الولادة فلا معنى لعدم اعتباره، وظاهر هذا القول أن المدة التي توقفت لها عن وضع الثاني لا تحسب من النفاس، وإنما تحسب من الثاني، وهذا – كذلك – فيه ضعف. والذي ينبغي أن يقال: أن كليهما له نفاسه، فالأول له نفاسه، فإذا وضعت الثاني فتستأنف النفاس مرة أخرى وتحسب أربعين يوماً. إذن الراجح: أن الدم الخارج مع المولود الثاني معتبر خلافاً للمشهور في المذهب – كما هو رواية عن الإمام أحمد –؛ لأنه دم خارج بسبب ولادة مستقلة وإن كانت عن حمل واحد، فهي ولادة مستقلة وقد خرج بسببها هذا الدم فكان الواجب اعتباره لا إلغائه.

فعلى ذلك: الدم الخارج مع الثاني محسوب من النفاس. والأظهر أن الأول كذلك يكون محسوباً من النفاس، فإذا وضعت الأول ثم جلست خمسة أيام وهي يخرج ويجري معها الدم فهي في حكم النفساء على القول الأول. فإذا انقطع عنها الدم خمسة أيام ثم ولدت الثاني، فهذه الخمسة أيام على القول الأول ليست من النفاس، وخروج الدم الخارج بعد عشرة أيام مع المولود الثاني ليس في مدة النفاس. وهذا ضعيف؛ لأن الدم قد انقطع بعد خمسة أيام،ولو ولدت بعد الطهر، فحينئذ المولود الثاني لا دم له. وهذا ضعيف، وضعفه ظاهر. فعلى ذلك: الراجح ما تقدم وأن الدم الخارج مع الثاني محسوب من النفاس. (فائدة) هل يجوز للمرأة أن تأكل مانعاً للحيض أم لا يجوز لها ذلك؟ نص الإمام أحمد – رحمه الله – على جواز ذلك، وأنه يجوز للمرأة أن تأكل مانعاً للحيض حيث أمنت الضرر. قال بعض الحنابلة: بشرط أن يأذن زوجها، قال في الإنصاف: وهو الصواب. وهو كما ذكرا، فإن هذا الشرط لابد منه. فلابد أن يكون ذلك بإذن من الزوج؛ لكون ذلك يؤثر في الولادة في تأخرها وتقدها، فكان لابد من إذن الزوج بذلك. والحمد لله رب العالمين انتهى باب الحيض وكذلك: انتهى كتاب الطهارة بحمد الله والله أعلم فهرس الموضوعات باب المسح على الخفين ... ... . 1 إلى 30 باب نواقض الوضوء ... ... .. 30 إلى 66 باب الغسل ... ... ... … 67 إلى 93 باب التيمم ... ... ... … 94 إلى 125 باب إزالة النجاسة ... …..… 126 إلى 154 باب الحيض ... ... ... .. 155 إلى 187 فهرس الأحاديث والآثار ابدؤا بما بدأ الله به ... ... ... ... ... ... ... ... … 114 أتى أعرابي فبال في طائفة المسجد فزجره الناس فنهاهم النبي صلى الله عليه وسلم.. 127 إذا أتى أحدكم أهله ثم أراد أن يعاود فليتوضأ بينهما وضوءاً ... ... ….. 91 إذا أفضى أحدكم بيده إلى ذكره ليس دونها ستر فقد وجب عليه الوضوء ... 40 إذا أقبلت الحيضة فدعي الصلاة، وإذا أدبرت فاغتسلي وصلي ... ... ... 73

إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم........................................ 16، 105 إذا جاء أحدكم إلى المسجد فلينظر ماذا رأى في نعليه قذراً أو أذى فليمسحه وليصل فيهما.. 133 إذا جامعها في أول الدم فدينار وإذا جامعها بعد انقطاع الدم فنصف دينار ... 163 إذا جاوز الختان الختان فقد وجب الغسل ... ... ... ... ... .. 71 إذا حذقت فاغتسل وإن لم تكن حاذفاً فلا تغتسل ... ... ... ... . 67 إذا فضخت فاغتسل ... ... ... ... ... ... ... ... 67 إذا كان دم الحيضة وهو دم أسود يعرف، فإذا كان ذلك فأمسكي عن الصلاة.. 31، 169 إذا قعد على شعبها الأربع ثم جهدها فقد وجب الغسل ... ... ... … 70 إذا وقع الذباب في إناء أحدكم فليغمسه ثم لينزعه فإن في أحد جناحيه داء وفي الآخر شفاء.. 146 اذهب فأفرغه عليك ... ... ... ... ... ... ... ... . 87، 95 اذهبوا به إلى حائط بني فلان فمروه أن يغتسل ... ... ... ... …. 72 استنزهوا من البول فإن عامة عذاب القبر ... ... ... ... ….. 147 أصبت السنة............................................................... 4 اصنعوا كل شيء إلا النكاح ... ... ... ... ... ... ... .. 162 أعطيت خمساً لم يعطهن أحد قبلي – وذكر منها – وجعلت لي الأرض مسجداً وطهورا.. 93 اغسل ذكرك وتوضأ ثم نم ... ... ... ... ... ... ... . 91 اغسلنها بماء وسدر ... ... ... ... ... ... ... ... . 73 اغسلوه بماء وسدر وكفنوه في ثوبيه ... ... ... ... ... ….. 73 اقرؤوا القرآن ما لم يكن أحدكم جنباً، فأما إن كان أحدكم جنباً فلا ... … 75 أكل من كتف شاة ولم يتوضأ ... ... ... ... ... ... …. 54 ألقوها وما حولها وكلوه ... ... ... ... ... ... ... .. 139 أليس إذا حاضت لم تصل ولم تصم ... ... ... ... ... ... 161 أمر الحيض أن يعتزلن المصلى ... ... ... ... ... ... … 79 أمر من أكسل أن يغسل ما مس من امرأته ويتوضأ ... ... ... ….. 71 أمرنا النبي صلى الله عليه وسلم أن نغسل الأنجاس سبعاً ... ... ... . 131 أمرها أن تغتسل لكل صلاة ... ... ... ... ... ... …. 181

أمسح علي الخفين؟ قال: نعم، قال: يوماً؟ ................................ 3 إن جاءت ببطانة من أهلها يرضى دينه وأمانته فشهد لها بذلك وإلا فهي كاذبة.. 159 أن حمنة كانت مستحاضة وكان زوجها يطؤها ... ... ... ... … 180 إن حيضتك ليست بيدك ... ... ... ... ... ... ... 79 إن شئت فتوضأ وإن شئت فلا تتوضأ ... ... ... ... ... …. 54 إن الصعيد طهور المسلم وإن لم يجد الماء عشر سنين فإذا وجد الماء فليمسه بشرته..95 إن عيناي تنامان ولا ينام قلبي ... ... ... ... ... ... … 39 إن الغضب من الشيطان، وإن الشيطان خلق من نار وإنما تطفأ النار بالماء ….. 57 إن كان جامداً فألقوها وما حولها، وإن كان مائعاً فلا تقربوه ... ... … 138 إن الله ورسوله ينهانكم عن لحوم الحمر الأهلية فإنها رجس ... ... ... 152 إن الله يحب أن تؤتى رخصه كما يحب أن تؤتى عزائمه......................... 3 إن المؤمن لا ينجس ... ... ... ... ... ... ... ... . 145 انقضي شعرك واغتسلي ... ... ... ... ... ... ... …. 85 إنما الأعمال بالنيات ... ... ... ... ... ... ... ... . 82 إنما تغسل ثوبك من البول والغائط والمني والمذي والدم والقيء ... ... … 141 إنما الماء من الماء ... ... ... ... ... ... ... ... …. 67، 68 إنما الوضوء على من نام مضطجعاً ... ... ... ... ... ... . 37 إنما يكفيك أن تفعل هكذا وضرب بيديه الأرض ضربة واحدة ومسح الشمال.. 113 إنما يكفيك أن تأخذ كفاً من ماء فتنضح منه ما أصاب ثوبك منه ... ... .. 153 إنها ليست بنجس إنما هي من الطوافين عليكم ... ... ... ... ….. 150 أيما رجل مس فرجه فليتوضأ وأيما امرأة مست فرجها فلتتوضأ ... ... … 40 بسم الله من محمد عبد الله إلى هرقل عظيم الروم ... ... ... ... .. 62 بعث سرية فأصابهم البرد فلما قدموا على النبي - صلى الله عليه وسلم - أمرهم أن يمسحوا............ 11 تحته ثم تقرصه بالماء ثم تنضحه وتصلي فيه ... ... ... ... ... .. 131، 144 تحيضي ستة أيام أو سبعة أيام في علم الله ثم اغتسلي وصلي أبعة وعشرين ليلة ….. 158 توضأ وانضح فرجك ... ... ... ... ... ... ... ... 153

توضؤا مما مست النار ... ... ... ... ... ... ... ….. 54 توضؤوا منها ... ... ... ... ... ... ... ... ….. 54 توضئي لكل صلاة ... ... ... ... ... ... ... ... . 31، 117، 179 تيمم قبل المدينة بميل أو ميلين ثم دخل والشمس مرتفعة فلم يعد ... ….. 121 ثم تمضمض واستنشق وغسل وجهه وذراعيه ثم أفاض على رأسه الماء ثم غسل جسده.. 87 ثم تنحى من مكانه فغسل قدميه ... ... ... ... ... ... .. 85 جئت النبي صلى الله عليه وسلم بابن لي لم يأكل الطعام فأجلسه النبي صلى الله عليه وسلم في حجره.. 141 جعل النبي صلى الله عليه وسلم للمسافر ثلاثة أيام ولياليهن وللمقيم يوماً وليلة ... 3 الحبلى لا تحيض فإذا رأت الدم فلتغتسل ولتصلي ... ... ... ... .. 157 خذي فِِرْصة " أي قطعة من صوف أي خرقة " من مسك فتطهري بها ... …. 166 دعهما فإني أدخلتهما طاهرتين............................................... 18 دعي الصلاة قدر أيام حيضك ثم اغتسلي وصلي ... ... ... ... . 164، 171 رأيت النبي صلى الله عليه وسلم مسح على عمامته وخفيه..................... 12 رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يمسح على الخفين على ظاهرهما............... 27 رخص لنا النبي - صلى الله عليه وسلم -.......................................................... 2 الصعيد طهور المسلم ... ... ... ... ... ... ... … ... 118، 95 صلى وجرحه يثعب دماً ... ... ... ... ... ... ... . 35 صلوا في مرابض الغنم ... ... ... ... ... ... ... … 147 ضرب بكفيه الأرض ومسح شماله بيمينه ويمينه بشماله ثم مسح وجهه ... . 114 طهور إناء أحدكم إذا ولغ فيه الكلب أن يغسله سبعاً أولاهن بالتراب ... . 127 الطواف في البيت صلاة إلا أن الله قد أحل به النطق فمن نطق فلينطق بخير … 64 العين وكاء السه، فمنام فليتوضأ ... ... ... ... ... ... 39 غير ألا تطوفي بالبيت حتى تطهري ... ... ... ... ... ... 80 فإذا تنخع أحدكم فليتنخع عن يساره أو تحت قدمه فإن لم يجد فليفعل ... .. 142 فاعتزلوا نكاح فروجهن ... ... ... ... ... ... ... 161

فأمره النبي صلى الله عليه وسلم أن يغتسل بماء وسدر ... ... ... .. 72 فأمرها أن تغتسل فكانت تغتسل لكل صلاة ... ... ... ... …. 180 فإن أحدكم في صلاة ما كانت الصلاة تحبسه ... ... ... ... … 65 فإني كرهت أن أذكر الله على غير طهر ... ... ... ... ... . 76 فتلجمي ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... 178 فجعلت كلما أغفيت يأخذ النبي صلى الله عليه وسلم بشحمة أذني يفتلها …. 37 فلا ينصرف حتى يسمع صوتاً أو يجد ريحاً ... ... ... ... ….. 59 قاء فتوضأ ... ... ... ... ... ... ... ... ... . 34 قتلوه قتلهم الله ألا سألوا إذا لم يعلموا فإنما شفاء العي السؤال إنما كان يكفيه أن يتيمم.. 16، 105 قدم ناس من عُكل أو عُرينة فاجتووا المدينة فأمرهم النبي صلى الله عليه وسلم أن يشربوا.. 147 كان آخر الأمرين من النبي صلى الله عليه وسلم ترك الوضوء مما مست النار ... … 54 كان إذا أراد من الحائض شيئاً ألقى على فرجها ثوباً ... ... ... ... …. 164 كان أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ينامون ثم يصلون ولا يتوضئون ... ….36، 37 كان رجال من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يجلسون في المسجد وهم مجنبون.. 80 كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمرني فأتزر فيباشرني وأنا حائض ... ... 163 كان في غزوة ذات الرقاع فأصيب رجل من أصحابه (وهو من حراسه) فنزفه الدم..34 كان لا يستنزه من البول ... ... ... ... ... ... ... ….. 147 كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا اغتسل من الجنابة يبدأ فيغسل يديه ... ... . 82 كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا كان جنباً فأراد أن ينام أو يأكل توضأ ... ….. 90 كان النبي صلى الله عليه وسلم يأمرنا إذا كنا سَفْراً ألا ننزع خفافنا ثلاثة أيام.. 2 كان النبي صلى الله عليه وسلم يسلت المني بعرف الإذخر ثم يصلي فيه، ويحته من ثوبه يابساً فيصلي … 148 كان النبي صلى الله عليه وسلم يعجبه التيامن في تنعله وترجله وطهوره وفي شأنه.. 85 كان النبي صلى الله عليه وسلم يغسل المني ... ... ... ... ... .. 148

كان النبي صلى الله عليه وسلم يقبل بعض نسائه ثم يصلي ولا يتوضأ ... ….. 48 كان النبي صلى الله عليه وسلم يقرئنا القرآن ما لم يكن جنباً ... ... ... 74 كان يتوضأ بمد - وهو ربع الصاع – ويغتسل بالصاع إلى خمسة أمداد ... … 89 كان يذكر الله على كل أحيانه ... ... ... ... ... ... ... 75 كان يصبح صائماً وهو جنب ... ... ... ... ... ... ... 164 كانت الصلاة خمسين وكان الغسل من الجنابة سبع مرار، وكان غسل الثوب من البول سبع.. 131 كانت الفتيا التي يقولون (الماء من الماء) رخصةً رخص الله بها ثم أمر بالاغتسال … 71 كانت النفساء تجلس على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم أربعين يوماً ... . 182 كنا لا نعد الكدرة والصفرة بعد الطهر شيئاً ... ... ... ... ... . 176 كنا نتوضأ من لحوم الإبل ولا نتوضأ من لحوم الغنم ... ... ... ... 53 كنا نحيض على عهد النبي صلى الله عليه وسلم فنؤمر بقضاء الصوم ولا نؤمر بقضاء الصلاة.. 161 كنت أغسل المني من ثوب النبي صلى الله عليه وسلم ... ... ... ... 148 كنت أفركه من ثوب النبي صلى الله عليه وسلم فركاً فيصلي فيه ... ... … 148 كنت أنام بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم وكانت رجلاي في قبلته فإذا ... . 46 كنت أنام في المسجد في عهد النبي صلى الله عليه وسلم صلى الله عليه وسلم وكنت فتى شاباً.. 126 كنت مع النبي صلى الله عليه وسلم في سفر فأهويت لأنزع خفيه فقال: دعهما..18 لا ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... … 138 لا أحل المسجد لحائض ولا جنب ... ... ... ... ... ... .. 77 لا إنما ذلك عرق وليس بالحيض فإذا أقبلت الحيضة ... ... ... ... 169 لا، إنما هو بضعة منك ... ... ... ... ... ... ... … 41 لا إنما يكفيك أن تحثي علي رأسك ثلاث حثيات ثم تفيضين عليك الماء فتطهرين … 84، 88 لا تصلوا في مبارك الإبل فإنها من الشياطين ... ... ... ... ... . 57 لا تعجلن حتى ترين القصة البيضاء ... ... ... ... ... ... ... 177 لا تقرأ الحائض ولا الجنب شيئاً من القرآن ... ... ... ... ... 75 لا تقربيني ... ... ... ... ... ... ... ... ... … 184

لا توضؤا من ألبان الغنم وتوضؤا من ألبان الإبل ... ... ... ... ….56 لا توطأ حامل حتى تضع ولا غير ذات حمل حتى تحيض ... ... ... ….. 156 لا ضرر ولا ضرار ... ... ... ... ... ... ... ... …. 99 لا يقبل الله صلاة أحدكم إذا أحدث حتى يتوضأ ... ... ... ... …. 60، 63 لا ينصرف حتى يسمع صوتاً أو يجد ريحاً ... ... ... ... ... .. 30 لما أغمي عليه في مرض موته اغتسل بعد أن أفاق ... ... ... ... .. 81 لما حرم الخمر خرج الناس وأراقوها في الطرقات ... ... ... ... … 136 لما قدم مكة كان أول ما بدأ أن توضأ ثم طاف بالبيت ... ... ... ... 64 لها ما شربت ببطونها ولنا ما غبر " أي بقى" طهور ... ... ... ... .. 151 لو كان الدين بالرأي لكان أسفل الخف أولى من أعلاه ولقد رأيت النبي - صلى الله عليه وسلم -........ 27 ليس عليكم في غَسْل ميتكم غُسْل [إذا غسلتموه] ، فإن ميتكم ليس بنجس …. 52 ليصدق بدينار أو نصفه ... ... ... ... ... ... ... ….. 162 ليطلقها طاهراً أو حاملاً ... ... ... ... ... ... ... ….. 157 ما خير بين أمرين إلا اختار أيسرهما.......................................... 3 ما زال المسلمون يصلون في جراحاتهم ... ... ... ... ... …. 35 الماء طهور لا ينجسه شيء ... ... ... ... ... ... ... . 151 مسح أعلى الخف وأسفله.................................................. 28 مسح على الجوربين والنعلين................................................ 11 المسح على الخفين للمسافر ثلاثة أيام وللمقيم يوم وليلة........................ 4 مسح على خفيه فوضع اليمنى على خفه الأيمن واليسرى على خفه الأيسر...... 28 مسح على نعليه وقدميه.................................................... 18 مفتاح الصلاة الطهور وتحريمها التكبير وتحليلها التسليم ... ... ... .. 65 من أصابه قيء أو رعاف أو قلس أو مذي فلينصرف فليتوضأ ثم ليبن ... …. 34 من غَسل ميتاً فليغتسل ومن حمله فليتوضأ ... ... ... ... ... . 52، 81 من مس ذكره فليتوضأ ... ... ... ... ... ... ... …40

من مس فرجه فليتوضأ ... ... ... ... ... ... ... …. 40 من نام عن صلاة أو نسيها فليصلها إذا ذكرها لا كفارة لها إلا ذلك ... … 124 النساء شقائق الرجال...................................................... 14 نعم إذا توضأ فليرقد ... ... ... ... ... ... ... ….. 90 نعم إذا رأت الماء ... ... ... ... ... ... ... ... .. 68، 81 نعم فتوضأ من لحوم الإبل ... ... ... ... ... ... ... . 54 نعم وما شئت.............................................................. 3 نهى أن يسافر بالقرآن إلى أرض العدو ... ... ... ... ... …. 61 نهى عن الجلالة ... ... ... ... ... ... ... ... …. 134 وأما الرجل فلينشر شعره فليغسله حتى يبلغ أصول الشعر ... ... ….. 83 وأن لا يمس القرآن إلا طاهر ... ... ... ... ... ... ….. 61 وتتوضأ لكل صلاة ... ... ... ... ... ... ... ... 178 وجعلت تربتها لنا طهوراً ... ... ... ... ... ... ... .. 110 ولم ير ابن عباس بالقراءة للجنب بأساً ... ... ... ... ... …. 76 ولو استزدناه لزادنا......................................................... 4 يا عمرو صليت بأصحابك وأنت جنب ... ... ... ... ... … 99 يتوضأ كما يتوضأ للصلاة ويغسل ذكره ... ... ... ... ... . 149 يضعون جنوبهم ... ... ... ... ... ... ... ... …. 38 يغسل ذكره وأنثييه ... ... ... ... ... ... ... ... . 153 يغسل ذكره ويتوضأ ... ... ... ... ... ... ... ….. 30، 153 يكفيك الماء ولا يضرك أثره ... ... ... ... ... ... ….. 132

كتاب الصلاةمن المقدمة إلى نهاية الأذان

الدرس التاسع والأربعون (يوم الاثنين: 10 / 2 / 1415 هـ) كتاب الصلاة الصلاة لغة: الدعاء اصطلاحاً: أقوال وأفعال مخصوصة مفتتحة بالتكبير ومختتمة بالتسليم (1) . وقد فرضها على عباده ليلة أسرى بالنبي صلى الله عليه وسلم، كما في الحديث المشهور المتفق عليه (2) . قال المؤلف رحمه الله: (تجب على كل مسلم مكلف) الصلاة فرض على كل مسلم مكلف، قال تعالى: {وأقيموا الصلاة} (3) وقال تعالى: {إن الصلاة كانت على المؤمنين كتاباً موقوتاً} (4) .

_ (1) قال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله تعالى في الشرح الممتع [1 / 5] : " أما في الشرع: فهي التعبد لله تعالى بأقوال وأفعال معلومة مفتتحة بالتكبير، مختتمة بالتسليم، وإن شئت قلت: هي عبادة ذات أقوال وأفعال مفتتحة بالتكبير مختتمة بالتسيلم. أما قول بعض العلماء: إن الصلاة هي أقوال وأفعال معلومة مفتتحة بالتكبير مختتمة بالتسليم فهذا فيه قصور، بل يشترط أن نقول: عبادة ذات أقوال، أو نقول: التعبد لله تعالى بأقوال … حتى يتبين أنها من العبادات " ا. هـ. (2) أخرجه البخاري في أول كتاب الصلاة (349) ، وانظر (1636) ، ومسلم (163) . (4) سورة النساء.

وقوله صلى الله عليه وسلم لجبريل: حين سأله عن الإسلام: (أن تشهد ألا إله إلا الله وأن محمداً عبده ورسوله وتقيم الصلاة) (1)

_ (1) أخرجه مسلم في كتاب الإيمان (8) [1 / 150] فقال رحمه الله تعالى: " حدثني أبو خيْثمة زُهير بن حرب، حدثنا وكيع عن كَهْمسٍ عن عبد الله بن بريدة عن يحيى بن يعمر ح وحدثنا عبيد الله بن معاذ العنبري وهذا حديثه حدثنا أبي حدثنا كهمس عن ابن بريدة عن يحيى بن يعمر قال: كان أول من قال في القدر بالبصرة معبد الجهني فانطلقت أنا وحميد بن عبد الرحمن الحِمْيري حاجين أو معتمرين، فقلنا لو لقينا أحداً من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فسألناه عما يقول هؤلاء في القدر فوُفّق لنا عبد الله بن عمر بن الخطاب داخلاً المسجد فاكتنفته أنا وصاحبي أحدنا عن يمينه والآخر عن شماله، فظننت أنا صاحبي سيكل الكلام إليّ، فقلت: أبا عبد الرحمن، إنه قد ظهر قِبَلنا ناسٌ يقرؤون القرآن ويتقفرون العلم، وذكر من شأنهم وأنهم يزعمون أن لا قدر وأن الأمر أنف، قال: فإذا لقيت أولئك فأخبرهم أني بريء منهم وأنهم برآء مني، والذي يَحلف به عبد الله بن عمر، لو أن لأحدهم مثل أحدٍ ذهباً فأنفقه ما قَبِل الله منه حتى يؤمن بالقدر، ثم قال: حدثني أبي عمر بن الخطاب، قال: بينما نحن عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ذات يوم إذ طلع علينا رجل شديد بياض الثياب، شديد سواد الشعر، لا يُرى عليه أثر السفر، ولا يعرفه منا أحد، حتى جلس إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فأسند رُكبَتَيْه إلى ركبتيْه ووضع كفيه على فخذيه، وقال: يا محمد أخبرني عن الإسلام، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (الإسلام أن تشهد ألا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله وتقيم الصلاة وتؤتي الزكاة، وتصوم رمضان وتحج البيت إن استطعت إليه سبيلاً) قال: صدقت، قال: فعجبنا له يسأله ويصدقه، قال: فأخبرني عن الإيمان، قال: (أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وتؤمن بالقدر خيره وشره) قال: صدقت، قال: فأخبرني عن الإحسان، قال: (أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه، فإنه يراك) قال: فأخبرني عن الساعة، قال: (ما المسؤول عنها بأعلم من السائل) قال: فأخبرني عن أمارتها، قال: (أن تلد الأمة ربتها، وأن ترى الحفاة العراة العالة رعاء الشاء يتطاولون في البنيان) قال: ثم انطلق فلبثت ملياً، ثم قال لي: يا عمر، أتدري من السائل؟ قلت: الله ورسوله أعلم، قال: (فإنه جبريل أتاكم يعلمكم دينكم) ". وقال رحمه الله: " حدثني محمد بن عُبيد الغُبَري وأبو كامل الجَحْدري وأحمد بن عَبْدة قالوا: حدثنا حماد بن زيد عن مطر الوراق عن عبد الله بن بريدة عن يحيى بن يعمر قال: لما تكلم معبد بما تكلم به في شأن القدر أنكرنا ذلك، قال: فحججت أنا وحميد بن عبد الرحمن الحميري حجة، وساقوا الحديث بمعنى حديث كهمس، وإسناده فيه بعض زيادة ونقصان أحرف. وحدثني محمد بن حاتم حدثنا يحيى بن سعيد القطان حدثنا عثمان بن غياث حدثنا عبد الله بن بريدة عن يحيى بن يعمر وحميد بن عبد الرحمن قالا: لقينا عبد الله بن عمر، فذكرنا القدر وما يقولون فيه، فاقتص الحديث كنحو حديثهم عن عمر رضي الله عنه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وفيه شيء من زيادة وقد نقص منه شيئاً. وحدثني حجاج بن الشاعر حدثنا يونس بن محمد حدثنا المعتمر عن أبيه عن يحيى بن يعمر عن ابن عمر عن عمر عن النبي - صلى الله عليه وسلم - بنحو حديثهم. وحدثنا أبو بكر بن أبي شيبة وزهير بن حرب جميعاً عن ابن عُلية قال زهير: حدثنا إسماعيل بن إبراهيم عن أبي حيان عن أبي زُرعة بن عمرو بن جرير عن أبي هريرة قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوماً بارزاً للناس، فأتاه رجل فقال: يا رسول الله، ما الإيمان؟ قال: (أن تؤمن بالله وملائكته وكتابه ولقائه ورسله وتؤمن بالبعث الآخر) قال: يا رسول الله ما الإسلام؟ قال: (أن تعبد الله ولا تشرك به شيئاً وتقيم الصلاة والمكتوبة وتؤدي الزكاة المفروضة وتصوم رمضان) قال: يا رسول الله، ما الإحسان؟ قال: (أن تعبد الله كأنك تراه، فإنك إن لا تراه، فإنه يراك) قال: يا رسول الله، متى الساعة؟ قال: (ما المسؤول عنها بأعلم من السائل، ولكن سأحدثك عن أشراطها، إذا ولدت الأمة ربها، فذاك من أشراطها، وإذا كانت العُراة الحفاة رؤوس الناس، فذاك من أشراطها، وإذا تطاول رعاء البَهْم في البنيان، فذاك من أشراطها في خمس لا يعلمهن إلا الله ثم تلا صلى الله عليه وسلم {إن الله عنده علم الساعة وينزل الغيث ويعلم ما في الأرحام، وما تدري نفس ماذا تكسب غداً وما تدري نفس بأي أرض تموت إن الله عليم خبير} قال: ثم أدبر الرجل، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (ردوا عليّ الرجل) فأخذوا ليردوه، فلم يروا شيئاً، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (هذا جبريل جاء ليعلم الناس دينهم) . حدثنا محمد بن عبد الله بن نُمير حدثنا محمد بن بشر حدثنا أبو حيان التيمي بهذا الإسناد مثله، غير أن في روايته: (إذا ولدت الأمة بعلها) يعني السراري. ". ورواه البخاري في كتاب الإيمان (50) فقال رحمه الله: " حدثنا مسدد قال حدثنا إسماعيل بن إبراهيم أخبرنا أبو حيان التيمي عن أبي زرعة عن أبي هريرة قال: كان النبي - صلى الله عليه وسلم - بارزاً يوماً للناس فأتاه رجل فقال: ما الإيمان؟ قال: الإيمان أن تؤمن بالله وملائكته وبلقائه ورسله وتؤمن بالبعث، قال: ما الإسلام؟ قال: الإسلام أن تعبد الله ولا تشرك به وتقيم الصلاة وتؤدي الزكاة المفروضة، وتصوم رمضان، قال: ما الإحسان؟ قال: أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك) قال: متى الساعة؟ قال: (ما المسؤول عنها بأعلم من السائل) قال: (وسأخبرك عن أشراطها، إذا ولدت الأمة ربها، وإذا تطاول رعاة الإبل البُهْم في البنيان في خمس لا يعلمهن إلا الله، ثم تلا النبي - صلى الله عليه وسلم - {إن الله عنده علم الساعة} الآية، ثم أدبر، فقال: (ردوه) ، فلم يروا شيئاً، فقال: (هذا جبريل جاء يعلم الناس دينهم) قال أبو عبد الله: جعل ذلك كله من الإيمان. ". طرفه في [4777] .

وقد أجمع العلماء على أنها فرض على المكلفين. والمكلف هو: البالغ العاقل – ذكر كان أو أنثى حراً كان وعبداً (1) –. قال: (إلا حائضاً ونفساء) فلا تجب الصلاة عليهما أداءً ولا قضاءً. فلا يحل الصلاة للحائض – كما تقدم – أن تصلي أو تصوم، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (أليس إذا حاضت لم تصل ولم تصم) (2) وكذلك: العلماء أجمعوا على أنه لا يجوز للحائض ولا النفساء الصلاة.

_ (1) كذا في الأصل بالواو، ولعل الأقرب " أو ". (2) أخرجه البخاري في كتاب الحيض، باب ترك الحائض الصوم (304) عن أبي سعيد الخدري قال: خرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في أضحى، أو فطر إلى المصلى، فمرّ على النساء، فقال: (يا معشر النساء تصدقن، فإني رأيتكن أكثر أهل النار) فقلن: وبم يا رسول الله؟ قال: (تكثرنْ اللعن، وتكفرن العشير، ما رأيت من ناقصات عقل ودين أذهبَ لِلُبِّ الرجلِ الحازم من إحداكن) قلن: وما نقصان ديننا وعقلنا يا رسول الله؟ قال: (أليس شهادة المرأة مثل نصف شهادة الرجل) قلن: بلى، قال: (فذلك من نقصان عقلها) ، أليس إذا حاضت لم تصل ولم تصم) قلن: بلى، قال: (فذلك من نقصان دينها) ، وانظر (1951) ، وأخرجه مسلم باختلاف في الحوار رقم (80) .

كما أنهم أجمعوا على أنها لا تقضي – كما في حديث عائشة: (كان يصيبنا ذلك على عهد النبي صلى الله عليه وسلم فنؤمر بقضاء الصوم ولا نؤمر بقضاء الصلاة) (1) قال: (ويقضي من زال عقله بنوم أو إغماء أو سكر أو نحوه) قوله (أو نحوه) كأن يشرب دواءً مباحاً فيزيل عقله مثلاً. قوله (بنوم) اتفاقاً، فيجب عليه القضاء، لقوله صلى الله عليه وسلم: (من نام عن صلاة أو نسيها فليصلها إذا ذكرها لا كفارة لها إلا ذلك) (2) قوله: (أو إغماء) فالمغمى عليه يجب عليه قضاء ما فاته من الصلوات كأن يكون أغمي عليه عن صلاة أو صلاتين أو يوم أو يومين فيجب عليه القضاء. قالوا: قياساً على النائم.

_ (1) أخرجه مسلم في كتاب الحيض، باب وجوب قضاء الصوم على الحائض دون الصلاة (335) عن معاذة قالت: سألت عائشة فقلت: ما بال الحائض تقضي الصوم ولا تقضي الصلاة؟ فقالت: أحرورية أنت؟ قلتُ: لست بحرورية، ولكني أسأل، قالت: كان يصيبنا ذلك فنؤمر بقضاء الصوم ولا نؤمر بقضاء الصلاة "، وأخرجه أيضاً بلفظ: " أحرورية أنت، قد كانت إحدانا تحيض على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثم لا تؤمر بقضاء " وبلفظ: " أحرورية أنت؟ قد كن نساء رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يحضن أفأمرهنّ أن يَجْزينَ؟ " أي يقضين كما قال محمد بن جعفر كما في صحيح مسلم، وأخرجه البخاري في كتاب الحيض، باب لا تقضي الحائض الصلاة (321) بلفظ: حدثتني معاذة أن امرأة قالت لعائشة: أتجزي إحدانا صلاتها إذا طَهُرت؟ فقالت: أحرورية أنت، كنا نحيض مع النبي - صلى الله عليه وسلم - فلا يأمرنا به، أو قالت: فلا نفعله ". ومعني أَتَجْزي: أي أتقضي. (2) أخرجه البخاري (1 / 157) ومسلم (2 / 142) ، وأبو داود (442) ، وكذا أبو عوانة (2 / 260، 261) والنسائي (1 /100) والترمذي (1 / 335) وغيرهم، الإرواء [1 / 291] رقم 263.

ولما ثبت في سنن البيهقي: (أن عمار بن ياسر أغمي عليه الظهر والعصر والمغرب والعشاء فلم يفق إلا بعد منتصف الليل فقضى تلك الصلوات) (1) هذا هو مذهب الحنابلة. - وذهب أكثر الفقهاء إلى: أن المغمى عليه لا يجب عليه القضاء فلو أغمي عليه – مثلاً – قبل صلاة الظهر فلم يفق إلا بعد خروج وقتها فإنه لا يقضيها. قالوا: لأن الأصل عدم القضاء إلا أن يدل دليل على وجوبه، وقياسه بالمجنون أشبه بجامع زوال العقل زوالاً غير طبيعي. ولا يقاس على النائم – كما ذكرتم – لأن النائم زوال عقله زوال طبيعي وهو يتكرر فلو لم تُقض الصلاة بالنوم والنسيان لأدى ذلك إلى ترك كثير من الصلوات، بخلاف الإغماء فإنه إنما يقع على القلة أو على الندرة فلم يكن حكمه كحكم النوم، فإن الحكم بترك القضاء مع النوم يؤدي إلى ترك صلوات كثيرة والشارع قد أكد وجوبها والمحافظة عليها غاية المحافظة وكون النائم لا يقضي ينافي ذلك. بخلاف المغمى عليه فإن حالته نادرة وقليلة، وهو أثناء الإغماء ليس بمكلف لأنه قد زال عقله في تلك الحال والذي لا عقل له كالمجنون لا يجب عليه القضاء اتفاقاً، وقياسه بالمجنون أشبه. ثم إن النائم إن أُوقظ استيقظ وزال عنه مانع الصلاة، وأما المغمى عليه فإنه لا يستيقظ بإيقاظه، وهذا القول هو الراجح.

_ (1) أخرجه البيهقي في السنن الكبرى [1 / 571] رقم (1822) قال: " أخبرنا أبو بكر بن الحارث الفقيه، أنا علي بن عمر الحافظ، أنا علي بن عبد الله بن مبشر، ثنا أحمد بن سنان، ثنا عبد الرحمن بن سفيان، عن السدي، عن يزيد مولى عمار: أن عمار بن ياسر أغمي عليه في الظهر والعصر والمغرب والعشاء فأفاق نصف الليل فصلى الظهر والعصر والمغرب والعشاء ".

أما أثر عمار بن ياسر فإسناده ضعيف فقد رواه البيهقي وغيره بإسناد ضعيف، وقد نبَّه على هذا ابن التركماني في تعليقه على سنن البيهقي (1) . وعندنا أثر يخالفه وهو صحيح رواه مالك في موطئه وغيره بإسناد صحيح: (أن ابن عمر أغمي عليه فلم يقض) (2) . إذن: هذا الأثر صحيح لا مخالف له عندنا، وهو ترجيح ما ذهب إليه أكثر الفقهاء أن المغمى عليه لا يقضي سواء كان الإغماء أكثر من يوم وليلة أو أقل. فمن أغمي عليه فلا يجب عليه القضاء ما لم يدرك الوقت؛ لأنه غير مخاطب شرعاً بهما (3) بزوال عقله وليس عندنا دليل جديد يوجب عليه القضاء بخلاف النائم. " أو سكر ": حكى غير واحد من العلماء اتفاق أهل العلم على من ذهب عقله بسكر فإنه يجب عليه القضاء. ويستدل لهذا: أن أمره بالقضاء عقوبة له على تركه للصلاة. ويمكن أن يستدل عليه بقياسه على النائم. لكن ذهب شيخ الإسلام إلى أن من ذهب عقله بسكر لا يجب عليه القضاء. وقد حكى شيخ الإسلام – كما في الفتاوى المصرية – أنه لا نزاع بين أهل العلم في أن السكران يجب عليه القضاء. لكنه - رحمه الله – خالف هذا الاتفاق، وذهب إلى أن من ذهب عقله بسكر فإنه لا يجب عليه القضاء وقوله قوي ظاهر. أما قياسه على النوم فهو قياس مع الفارق، فالنوم ذهاب العقل طبيعة، وكما تقدم ترك القضاء يؤدي إلى ترك صلوات كثيرة. بخلاف السكر فإنه ليس بطبيعي. والعقوبة يجب أن تكون مما وردت به الشريعة، فإن عقوبة شارب الخمر أنه يجلد ثمانين جلدة، أما أن يعاقب بغير ذلك فيحتاج إلى دليل شرعي. وكما تقدم فإن من لم يكن صاحب عقل فليس بمخاطب من قبل الشريعة أثناء زوال عقله.

_ (1) قال ابن التركماني: " سكت عنه، وسنده ضعيف، ومخالف للباب " السنن الكبرى للبيهقي [1 / 571] . (2) صححه ابن حزم كما في المحلى [2 / 234] . (3) كذا في الأصل، ولعل الصواب: بها.

وكوننا نأمره بالقضاء يحتاج إلى أمر جديد، وليس عندنا أمر جديد يوجب القضاء. فما ذهب إليه شيخ الإسلام فيه قوة. ومثل ذلك، من ذهب عقله بدواء مباح بل أولى بأن لا يقال بوجوب القضاء – وهو مذهب المالكية والشافعية وهو اختيار شيخ الإسلام – كما تقدم (1) . إذن: الراجح أنه لا يجب القضاء إلا على من نام أو نسي أما المغمى عليه أو من ذهب عقله بدواء مباح أو بسكر فإنه لا يجب عليه القضاء. مسألة: هل يجب القضاء مع الجهل فيمن فعل أو ترك قبل وصول الشريعة إليه وقبل بلوغ العلم له؟ بمعنى: هل تلزم الأحكام قبل بلوغ العلم أم لا؟ أمثلة ذلك: فمن باب الصلاة: فلو أن رجلاً ترك الصلاة لكونه ناشئاً في بادية، أو لكونه نشأ في بلد حرب فأسلم فلم يعلم بوجوب الصلاة، فإذا علم بوجوبها فهل يجب عليه القضاء أم لا؟ رجل ترك الزكاة في باب من أبواب الزكاة كأن يتركها في عروض التجارة، ولم يبلغه وجوب ذلك، فإذا بلغه فهل يجب عليه أن يقضي السنوات السابقة أم لا؟ المشهور عند فقهاء الحنابلة وغيرهم وجوب ذلك. وهناك وجه عند الحنابلة اختارها شيخ الإسلام: أنه لا يجب، وأن الشرائع لا تجب إلا بعد العلم بها فالقاعدة – عند شيخ الإسلام – أن الشرائع لا تلزم إلا بعد العلم بها. وهو قول دلت عليه النصوص الشرعية فمن ذلك:

_ (1) قال في الشرح الممتع [2 / 17] : " مسألة: من زال عقله ببنج فإنه يقضي؛ لأن هذا وقع باختياره، والغالب في البنج أنه لا تطول مدته ".

أن النبي صلى الله عليه وسلم لما أساء المسيء صلاته عند النبي صلى الله عليه وسلم تأدية فريضة كان من النبي صلى الله عليه وسلم أن أمره أن يعيد صلاة الوقت ولم يأمره بإعادة الصلوات السابقة (1) لكونه جاهلاً بأركنها وفرائضها التي لا تصح الصلاة إلا بها، ولو كانت الشرائع واجبة قبل العلم بها لأمر النبي صلى الله عليه وسلم بقضاء الصلوات التي صلاها مختلة الشروط فيها والأركان مما لا تصح العبادة معه. ومن ذلك قصة الرجل الذي رقب الخيط الأبيض من الخيط الأسود فأفطر بعد دخول الوقت (2) ظناً أن المراد به الخيط الأسود الطبيعي والخيط الأبيض الطبيعي فقال له النبي صلى الله عليه وسلم ما قال ولم يأمره بقضاء ذلك اليوم. إذن: لا يجب القضاء إلا بعد العلم بل لا تلزم الشرائع إلا بعد العلم بها سواء كان ذلك في المسائل الكلية كالصلاة أو في المسائل الجزئية كشيء من أركان الصلاة وشرائطها. فمن عمل عملاً ينقض الصلاة أو يبطلها أو ينقض الطهارة أو يبطلها وهو مداوم على عمله ولا يعلم أن هذا مبطل فإنه لا يلزمه إلا إعادة فريضة الوقت. قال: (ولا تصح من مجنون) والمجنون في عرف الفقهاء من زال عقله بجنون أو خرف أو غير ذلك، فكل هذا يطلق عليه في عرفهم جنون فلا تصح من مجنون لأنه لا نية له، ولا كذلك ممن لا تمييز له كالصبي غير المميز، فإنها لا تصح منه الصلاة. فلا تصح من مجنون ولا غير مميز، لأنهما لا نية لهما

_ (1) أخرجه البخاري في كتاب الأذان، باب وجوب القراءة للإمام والمأموم (757) ، وانظر في الصلاة باب 31، و (6252) ، وأخرجه مسلم (397) . (2) وهو عدي بن حاتم رضي الله عنه كما أخرجه البخاري في كتاب الصوم، باب قول الله تعالى {وكلوا واشربوا} (1916) وقال سهل كما في البخاري (1917) : " فكان رجال إذا أرادوا الصوم ربط أحدهم في رجله.. "، وأخرجه مسلم (1901) (1090) .

ومن شروط العبادة النية فإنما الأعمال بالنيات، لذا أجمع أهل العلم على أنها لا تصح من المجنون وغير المميز. قال: (ولا كافر) : فلا تصح صلاته، ودليل ذلك قوله تعالى: {وما منعهم أن تقبل منهم نفقاتهم إلا أنهم كفروا بالله وبرسوله} (1) فإذا كانت النفقات التي فيها النفع المتعدي لم تقبل منهم بسبب كفرهم بالله وبرسوله فأولى من ذلك الصلاة التي نفعها لازم لصاحبها. فإن قيل: فالمرتد؟ إذا أسلم ثم أرتد ثم أسلم، فما حكم صلاته؟ في هذه المسألة ثلاثة أقوال، وهي مبنية على مسألة حبوط العمل، هل يحبط العمل بالردة أم لا؟ - فذهب بعض أهل العلم: إلى أن الردة محبطة للعمل مطلقاً وإن مات على الإسلام. فرجل حج وصلى ثم أرتد ثم عاد إلى الإسلام فأعماله التي قام بها قبل الردة هي أعمال حابطة فعلى ذلك يجب عليه أن يعيد الحج ونحوه مما فعله من الفرائض. - والقول الثاني: أن العمل لا يحبط إلا بالموت على الردة وهذا القول هو الراجح؛ لقوله تعالى: {ومن يرتد منكم عن دينه فيمت وهو كافر فأولئك حبطت أعمالهم} (2) فشرط الله هذا الشرط، فمن ارتد عن دينه ومات على الكفر فهو حابط العمل، وأما من ارتد ثم عاد إلى الإسلام فإن عمله الصالح الذي قام به قبل ردته لم يحبط بل هو مكتوب له عند الله – هذا هو الراجح –. وعلى هذا الخلاف اختلف العلماء في المرتد وهي ثلاث روايات عن الإمام أحمد. 1- الرواية الأولى - وهي مبنية على القول الأول –: وأن المرتد يحبط عمله وإن مات على الإسلام.

_ (1) سورة التوبة. (2) سورة البقرة.

قالوا: لا يلزمه القضاء مطلقاً أي لا العبادات التي تركها في حال إسلامه ولا التي تركها في حال ردته. فالعبادات التي تركها في حال كفره لا يجب عليه قضاؤها وهذا واضح ظاهر، فقد قال تعالى: {قل للذين كفروا إن ينتهوا يغفر لهم ما قد سلف} (1) أما ما تركه من العبادات في حال إسلامه فهذه ينبغي أن تكون معلقة به قالوا: قد حبط عمله فأصبح في حكم الكفار، والكافر كما قال الله – فيه -: {إن ينتهوا يغفر لهم ما قد سلف} (2) فهو في حكم الكافر في حال إسلامه وفي حال كفره. 2- والرواية الثانية: قالوا: يلزمه القضاء في حال إسلامه وفي حال كفره. قالوا: لأن العمل لا يحبط إلا بالموت على الردة. فعليه: ما تركه من الصلوات والصيام في حال إسلامه يجب عليه أن يقضيه، وما قام به من الأعمال الصالحة كالحج لا يجب عليه أن يعيده. وأما ما فعله أثناء الردة فيجب عليه أن يقضيه، وهذا القول: أما في شقه الأول فراجح واضح، وأما في شقه الثاني فهو ضعيف؛ لأنه كيف نؤمر بالقضاء في حالة ردته، فهو في تلك الحال كافر بالله عز وجل فوجب أن يعطى حكم الكفار وليس هذا القول – في شقه الثاني – ليس له وجه صحيح. 3- ويتم الترجيح للرواية الثالثة واختارها طائفة من أصحابه فإنهم قالوا: يقضي ما تركه في حال إسلامه، وأما في حال ردته فهو بحكم الكفار وهذا القول هو الراجح. فما تركه من الأفعال في حال الردة لا يجب قضاؤها؛ لأنه في تلك الحال كافر، وقد قال تعالى عن الكفار {قل للذين كفروا أن ينتهوا يغفر لهم ما قد سلف} أما التي تركها في حال إسلامه فإن عمله لم يحبط لكونه قد فقد الشرط الثاني من شروط حبوط العمل وهو أنه لم يمت وهو كافر، فعلى ذلك عمله الصالح الذي قام به حال إسلامه قبل ردته عمل ثابت له لكونه لم يمت على الردة – وحينئذ – يجب عليه قضاء ما تركه من العبادات أثناء إسلامه، لأنه في تلك الحال مخاطب وقد عاد إليه عمله كما كان.

قال: (وإن صلى فمسلم حكماً) رجل ذمي في بلاد إسلامية صلى صلاة المسلمين فحينئذ يحكم له بالإسلام بالظاهر فإذا مات يرثه المسلمون ويصلى عليه ويغسل ويكفن وغير ذلك من أحكام المسلمين هذا في الظاهر وأما السرائر فالله يتولاها ودليل ذلك: قوله صلى الله عليه وسلم: (من صلى صلاتنا واستقبل قبلتنا وأكل ذبيحتنا فذلك المسلم الذي له ذمة الله وذمة رسوله) (1) والحديث رواه البخاري ولما روى مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (بين الرجل وبين الشرك والكفر ترك الصلاة) (2) وقوله: (العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة) (3) . فهذه الأدلة تدل على أن من صلى صلاتنا فهو مسلم قد ثبت إسلامه بهذه الصلاة ما لم يفعل ناقضاً من نواقض الإسلام فإن فعل ناقضاً بعد أن صلى أو قال: كنت هازلاً في الصلاة أو نحو ذلك فلا يقبل ذلك منه بل يحكم أنه مرتد، ولا يعطى أحكام الكفار الأصليين بل يعطى حكم الكفار المرتدين، لأننا حكمنا عليه لما صلى بأنه مسلم في الحكم الظاهر، فإذا ادعى خلافه وأصر على الكفر فهذا ارتداد منه وله حكم المرتدين، وقد قال صلى الله عليه وسلم: (من بدل دينه فاقتلوه) (4) ولا يحكم عليه بحكم أهل الذمة بتركهم في البلاد الإسلامية بالشروط بل يعطى حكم المرتد.

_ (1) أخرجه البخاري في كتاب الصلاة، باب فضل استقبال القبلة (391) (2) أخرجه مسلم في كتاب الإيمان، باب بيان إطلاق اسم الكفر على من ترك الصلاة. (3) أخرجه الإمام أحمد والترمذي في كتاب الإيمان، باب ما جاء في ترك الصلاة (2621) وقال: " هذا حديث حسن صحيح غريب ". وغيرهما. (4) أخرجه البخاري في باب لا يعذب بعذاب الله، من كتاب الجهاد، وفي باب قول الله تعالى: {وأمرهم شورى بينهم} من كتاب الاعتصام، وأبو داود، باب الحكم في من ارتد من كتاب الحدود وغيرهما، المغني [9 / 550] .

إذن: من صلى صلاة المسلمين بطبيعتها وهيئتها فإنه يحكم عليه بالإسلام للأدلة الشرعية المتقدمة. والحمد لله رب العالمين. الدرس الخمسون (يوم الثلاثاء: 11 / 2 / 1415هـ) قال المؤلف رحمه الله تعالى: (ويؤمر بها صغير لسبع، ويضرب عليها لعشر) يؤمر بها: أي الصلاة. الصغير: سواء كان ذكراً أو أنثى حراً أو عبداً. " لسبع ": أي تمام سبع سنين، فإذا شرع في الثامنة وقد تم له سبع سنين فإنه يؤمر بالصلاة. وإذا تم له عشر سنين وشرع في السنة الحادية عشر فإنه يضرب ضرب تأديب على الصلاة. وهذا خطاب للولي أو الوصي، أو القيم على أمر الصبي، فيجب على الولي، سواء كان أباً أو جداً أو غير ذلك. فإن لم يكن ولياً، فيجب على الوصي، فإن لم يكن وصياً فيجب على القيم الذي يولى أمر الصبي من جهة القاضي أن يأمر الصبي بالصلاة لسبع ويضربه عليها لعشر أي إذا تم له عشر سنين. * وظاهر المذهب وجوب ذلك، وأن هذا واجب على الأولياء، بل يثبت التعزير على الترك كما قال شيخ الإسلام: " فمن لم يفعل فإنه يعزر تعزيراً بليغاً "؛ لأنه ترك ما وجب عليه من الأمر بهذه الصلاة. فالصبي وإن كانت الصلاة منه لا تكون على وجه الفرضية بل هي له نفل، لكن هذا الأمر لتعليمه وتعويده على الصلاة المكتوبة فيألفها ويعتادها فتسهل عليه بالغاً، وإلا فإن الصلاة غير مفترضة على من لم يبلغ لقوله صلى الله عليه وسلم فيما رواه الخمسة: (رفع القلم عن ثلاثة عن الصبي حتى يبلغ وعن النائم حتى يستيقظ وعن المجنون حتى يفيق) (1)

_ (1) أبو داود [4398] والنسائي [2 / 100] ، والترمذي [1 / 267] وابن ماجه [2041] . الإرواء برقم 297 ج 2.

والصبي لا تجب عليه الصلاة إلا إذا بلغ، وهذا الأمر أمر وجوب للأولياء أو نحوهم، أما الصبي فإنه لا يعاقب عند الله على تركه الصلاة سواء كان هذا الترك بسبب تهاون الأولياء بأمره أو كان مع تشددهم وقيامهم لهذا الواجب تجاه الصبي، لكنه لا يجب عليه مطلقاً، فإن فِعْله تنفل ولكن الأمر من الولي أمر وجوب. إذن: يجب على الولي ونحوه أن يأمر الصبي بالصلاة لسبع أي إذا تم له سبع سنين، وأن يضربه عليها إذا تم له عشر سنين، ويدخل في ذلك تعليمه الطهارة وما يشترط للصلاة، كتعليم صفتها فإن هذا واجب على الأولياء فإذا قصروا فيه أثموا. وقد ثبت ما يدل على هذا في السنة الصحيحة، فقد روى الإمام أحمد وأبو داود والترمذي والحديث عن غير واحد من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وهو حديث صحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (مروا أولادكم بالصلاة وهم أبناء سبع سنين واضربوهم عليها وهم أبناء عشر سنين وفرقوا بينهم في المضاجع) (1) قوله: (مروا) : أمر، والأمر للوجوب ما لم يأت صارف ولا صارف له. إذن: الصلاة من الصبي تنفل وتطوع بشرط العقل، وهو أن يكون مميزاً.

_ (1) أخرجه أبو داود في كتاب الصلاة، باب متى يؤمر الغلام بالصلاة (495) قال: " حدثنا مؤمل بن هشام - يعني اليشكري – حدثنا إسماعيل عن سوار أبي حمزة - قال أبو داود: وهو سوار بن داود أبو حمزة المزنني الصيرفي - عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (مروا أولادكم الصلاة..) قال في حاشية سنن أبي داود: " تفرد به أبو داود ". لكن رواه الترمذي في باب ما جاء متى يؤمر الصبي بالصلاة من أبواب الصلاة (407) عن عبد الملك بن الربيع بن سَبْرَة عن أبيه عن جده بلفظ قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " علموا الصبي الصلاة ابن سبع سنين واضربوه عليها بن عشر "، المغني [2 / 350] .

أما إن لم يكن الصبي مميزاً فإن الصلاة لا تصح منه لما تقدم، فإن الصلاة لا تصح إلا بنية، وغير المميز لا نية له. والنبي صلى الله عليه وسلم قد حدد بسبع سنين، أي بعد تمامها والشروع بالثامنة؛ لأن الغالب أن التمييز يكون في ذلك وإلا فإن مناط الحكم هو التمييز، فإن التمييز هو ثبوت العقل في الطفل بحيث يفهم الخطاب ويرد الجواب، فمتى كان ذلك فإنه مميز، وقد يميز وهو ابن خمس سنين أو ست سنين أو سبع سنين، فتصح منه الصلاة. * ولكن هل يجب على الولي أن يأمره بالصلاة وهو ابن ست سنين وقد ميز؟ ظاهر المذهب: أن ذلك لا يجب وأنه معلق ببلوغ سبع سنين. وذهب بعض أهل العلم إلى أنه متى ميَّز فإنه يجب عليه أن يأمره بالصلاة، وهذا قوي ظاهر؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم إنما علق ذلك بالسبع لكون هذا هو الغالب وإلا فقد يميز قبل ذلك فيجب أمره بذلك، وغاية ذلك إنما هو التعليم له وترغيبه بالصلاة وترهيبه من تركها، بخلاف ما إذا بلغ عشر سنين فإنه يضرب ضرب تأديب على ترك الصلاة. قال: (فإن بلغ في أثنائها أو بعدها في وقتها أعاد) أمر الصبي بالصلاة فصلى وأثناء الصلاة بلغ، وهذا فيه إشكال، فكيف يكون البلوغ أثناء الصلاة، لكن لا بأس بذلك فقد يكون مثل ذلك. إذن: يجب عليه إذا بلغ في أثنائها أن يعيدها، وكذلك إذا بلغ بعدها في وقتها أن يعيدها. قالوا: الدليل على ذلك: أنها فريضة عليه وهو إنما صلى على هيئة التطوع والتنفل فلا يجزئ التنفل عن الفرض فصلاته إنما هي نفل وتطوع، وما يجب عليه إنما هو فرض وإلزام ووجوب، وهو إنما قام به على وجه التطوع والتنفل، فالواجب عليه أن يعيده على وجه الافتراض والوجوب. - وذهب الشافعية وهو مذهب بعض أصحاب الإمام أحمد واختار ذلك ابن تيمية: إلى أن ذلك ليس بواجب، فلا يجب عليه أن يعيد الصلاة ولا يؤمر بذلك.

وعللوا ذلك: بأنه قد أمر من وليه بالصلاة وعوقب على تركها ولا يجمع عليه أمران فإنه قد أمر بالصلاة فأداها كهيئة صلاة الناس إلا أنها كانت له نفلاً وكانت لهم فرض بسبب عدم أهليته بذلك، وقد أمر بها وعوقب على تركها فلم يكن – حينئذ – للأمر الثاني وجه، فلا يؤمر بالإعادة مرتين. قالوا: ونحن لا نقول أنها تنقلب من النفل إلى الفريضة لكننا نقول: أنه قد قام بالعبادة كما يقيمها (1) غيره، ولم يكن أهلاً لأن تكون فرضاً فإنه ليس مما يفترض عليه ذلك، فكانت في حكم الله له نفل وإلا فقد قام بها كما يقوم بها غيره فصلى صلاة غيره من الناس. وهذا القول أظهر وأنه لا يجب عليه أن يعيدها؛ لأنه قد أمر بها كما تقدم من الولي بأمر الشارع للولي بذلك فلم يكن من الوجاهة أن يجدد له أمر جديد بذلك. قال: (ويحرم تأخرها عن وقتها إلا لناوي الجمع ولمشتغل بشرطها الذي يحصله قريباً) هذه المسألة هي في باب المواقيت أنسب منها في هذا الباب، فإنها في تأخير الصلاة عن وقتها، وستأتي الأدلة الدالة على أنه لا يجوز تأخير الصلاة عن وقتها بل يجب أن تصلى في المواقيت التي وقتها الشارع. فهنا قال: (ويحرم تأخرها عن وقتها) إذن: يستثني من التحريم صورتان: الصورة الأولى: ناوي الجمع، مثال: رجل أخر صلاة الظهر عن وقتها أخرها بنية أن يجمعها مع العصر جمع تأخير وهو ممن يجوز له الجمع، فيجوز له ذلك بالإجماع، وقد فعل ذلك النبي صلى الله عليه وسلم ودلت عليه الشريعة ومثل ذلك جائز إجماعاً.

_ (1) في الأصل: يقيهما.

الصورة الثانية: لمشتغل بشرطها " كالطهارة " الذي يحصله قريباً - وتقدم هذا في باب التيمم – فإذا اشتغل بالغسل وكان هذا من متناوله وهو قريب إليه فاشتغل بالطهارة حتى خرج الوقت فأخر الصلاة لاشتغاله بشرط الطهارة مثلاً فإن هذا جائز – وقد تقدم البحث في هذه المسألة في باب التيمم – وأن هذا جائز على مذهب طائفة من أهل العلم لاشتغاله بشرطها. وهنا قد قيده بقوله: (الذي يحصله قريباً) فإن لم يحصله قريباً، بأن كان بعيداً بالعرف كأن يكون الماء بعيداً عنه وفي ذهابه إليه تفويت لصلاة الوقت وتأخير لها عن وقتها فإن ذلك لا يجوز له وليس معذوراً بذلك؛ لأن هذا الشرط ليس يحصله قريباً عرفاً بل هو بعيد عرفاً. إذن: المشتغل بشرط من شروط الصلاة يجوز له أن يؤخر الصلاة حتى يتم له القيام بهذا الشرط، هذا على القول المتقدم. وقد تقدم ترجيح وجوب الصلاة في وقتها كما في باب التيمم. وفي قوله: (ويحرم تأخيرها عن وقتها) : ظاهره جواز تأخيرها في وقتها، فله أن يصلي صلاة الظهر في آخر وقتها ونحو ذلك فإن هذا جائز ما لم يكن الوقت محرماً أي وقت ضرورة – وسيأتي بيانه في باب المواقيت –. فإذن يجوز له أن يؤخر الصلاة في وقتها، وقيدوا هذا بشرطين: الشرط الأول: ألا يظن وجود مانع، فمتى ظن وجود مانع فإنه لا يجوز له ذلك. مثال ذلك: رجل أذن الظهر ويعلم أنه سيكون عليه مانع بعد ساعة يمنعه من الصلاة كقصاص ونحوه فإنه لا يجوز له أن يؤخرها؛ لأن في تأخيرها عن هذا الوقت تفويتاً وتضيعاً لها. مثال آخر: امرأة تظن أن يقع عليها الحيض بعد وقت من دخول وقت الفريضة فإنها يجب عليها أن تصلي في هذا الوقت قبل أن يقع عليها هذا المانع. فإن أخرها وقد ظن المانع فيكون آثماً لتفريطه. الشرط الثاني: قالوا: أن يعزم على الصلاة.

يعني: رجل قال: أريد أن أوخرها إلى قبيل أذان العصر أو امرأة ولم تظن مانعاً ولكنها لم تعزم في أول الوقت أن تصلي. قالوا: فإنها تأثم وإن أدركت الوقت للصلاة. - وذهب بعض الحنابلة: إلى أن هذا ليس بشرط، وهذا هو الراجح، فإنه لا دليل يدل عليه. فإن هذا المصلي قد صلى الصلاة في وقتها الموسع الذي يجوز له أن يصليها فيه، وكونه لم يعزم أن يصليها في آخر وقتها فإن هذا لا يعني أن يكون آثماً، فهو وإن نوى ألا يصلي ثم صلاها في آخر الوقت فإن هذا لا يقتضي تأثيمه ما دام أنه قد قام بالواجب عليه، فقد صلى الصلاة في وقتها كما أمره الله تعالى. وهذا ما ذهب إليه بعض الحنابلة وأنه لا معنى لاشتراط هذا الشرط. فإذا توفر هذان الشرطان على المشهور في المذهب أو توفر الشرط الأول – على القول الراجح – فإنه يجوز أن يؤخر الصلاة إلى آخر وقتها. وهذا ما لم تكن هناك جماعة يجب عليه أن يصلي معها فهذه مسألة أخرى. فهذا حيث لم يكن هناك أمر آخر يتعلق بوجوب الصلاة في وقت ما من هذا الوقت الموسع. إذا أخرها تأخيراً جائزاً له في وقتها الموسع فمات فهل يناب عنه أولاً، وهل يأثم ثانياً؟ الجواب: أنه لا يناب عنه فإن الصلاة بإجماع أهل العلم (1) لا تدخلها النيابة لا بالنفس بأن يصلي أحد عن أحد ولا نيابة بالمال بأن تكون فيها كفارة بإطعام أو نحو ذلك، بل قد أجمع أهل العلم – لعدم الدليل الشرعي الدال على ذلك – أن النيابة ليست مشروعة في الصلاة لا النيابة بالنفس ولا بالمال. وهل يأثم أم لا؟ الجواب: بالإجماع أنه لا يأثم؛ لأنه قد فعل ما يجوز له وما يسوغ. فإنه يجوز له تأخيرها إلى آخر وقتها فمات قبل أن يصليها ولم يكن يظن هذا المانع، وقد تقدم التقيد بهذا، فوقع عليه الموت من غير أن يظنه فلا يأثم لأنه فعل ما يجوز له.

_ (1) بخلاف مسألة إهداء ثواب العمل للميت حتى ولو كان صلاة ففيه خلاف بين أهل العلم، والجمهور على الجواز.

ومثل هذا ونظيره – كما قال شيخ الإسلام: الرجل يؤخر الصوم من رمضان، يريد أن يؤخر قبيل رمضان الآخر، فإن هذا جائز له والقضاء من رمضان إلى رمضان وقت موسع، فالفضيلة في الاستعجال بذلك، ولكن الجواز وقته موسع، فإذا أخر القضاء – حيث يجوز له – فمات قبل أن يقضي فلا إثم عليه بالإجماع. وهل يناب عنه أم لا؟ هذه مسألة أخرى دلت الشريعة عليها، وأنه يصام عنه على قول أهل العلم. والقول الثاني: أن عليه الكفارة، وقد قال صلى الله عليه وسلم: (من مات وعليه صيام صام عنه وليه) (1) والمسألة في صيام الفرض مختلف فيها. والراجح: أن الفرض لا يصام عنه وإنما يصام النذر ونحوه من الواجبات. وأما الفرض فإنه فيه الكفارة. وليس هذا محل البحث في هذه المسألة وإنما المقصود أن من أخر الصيام حيث يجوز له التأخير كأن يمر عليه شوال وذي الحجة وما زال الوقت ممكنا له أن يصوم وكان عليه يوم مثلاً فمات قبل يومين من رمضان القادم فإنه لا إثم عليه بإجماع أهل العلم لأنه قد فعل ما يجوز له. والحمد لله رب العالمين. الدرس الحادي والخمسون (يوم الأربعاء: 12 / 2 / 1415هـ) قال المؤلف رحمه الله: (من جحد بها كفر) من جحد بالصلاة كفر وإن فعلها – إجماعاً – فمن جحد وجوبها وقال: هي ليست بواجبة وإنما هي نفل أو نحو ذلك فهو كافر، لأنه منكر لما ثبت بالتواتر من دين الله تعالى مما ثبت في الكتاب والسنة وأجمعت عليه الأمة، وأن الصلاة فريضة على عباد الله فمن أنكر ذلك وجحده فهو كافر لإنكاره ما أثبته الله ورسوله مما علم ضرورة من الدين. إلا إذا كان يمكن أن يخفى عليه مثل ذلك كأن يكون حديث عهد بإسلام أو ناشئاً ببادية بعيدة عن الإسلام فإنه لا يكفر حتى يعرف.

_ (1) أخرجه البخاري في باب من مات وعليه صوم، من كتاب الصوم، ومسلم باب قضاء الصيام عن الميت من كتاب الصيام، وأبو داود والإمام أحمد. المغني [4 / 398] .

إذن: جاحد فريضة الصلاة كافر بالإجماع فمن أنكر وجوب الصلاة فقد كفر وإن صلى. قال: (وكذا تاركها تهاوناً) فمن ترك الصلاة كسلاً تهاوناً فهو كافر أيضاً - وهذا هو مذهب الحنابلة – خلافاً لمذهب المالكية والأحناف والشافعية فإنهم قالوا: إن تارك الصلاة غير الجاحد لوجوبها لا يكفر وإن تركها مطلقاً. واستدل الحنابلة – وهو مذهب جمهور السلف، وممن ذهب إليه إسحاق وابن المبارك -: 1- بقول الله تعالى: {فإن تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فإخوانكم في الدين} (1) فدل ذلك على أنهم إن لم يفعلوا ذلك فليسوا بإخوان لنا في الدين، والأخوة الدينية لا تنفى إلا مع الكفر بدليل أن الله تعالى أثبتها مع قتل النفس قال تعالى: {فمن عفي له من أخيه شيء فاتباع بالمعروف} (2) فإن قيل فلم لا تكفرون تارك الزكاة؟ فالجواب: عن الإمام أحمد رواية أخرى بتكفير تارك الزكاة. والمشهور في المذهب: أنه لا يكفر – وهذا هو الراجح – فعلى هذا ما الجواب؟ الجواب أن يقال: إن أدلة أخرى دلت على استثناء غير المؤدي للزكاة من نفي الأخوة، من قوله صلى الله عليه وسلم: (ثم يرى مقعده إن شاء في الجنة وإن شاء في النار) (3) فهذا يدل على أن تارك الزكاة لا يكفر. إذن: هذه الآية تدل – سوى تارك الزكاة فإن الدليل الشرعي قد دل على استثنائه وسوى ذلك - فإنه يكفر، {فإن تابوا} من الكفر والشرك {وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فإخوانكم في الدين} . 2- واستدلوا بما ثبت في مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (بين الرجل وبين الشرك والكفر ترك الصلاة) (4) .

_ (1) سورة التوبة. (2) سورة البقرة. (3) أخرجه مسلم في كتاب الزكاة، باب إثم مانع الزكاة (987) ، وانظر تفسير ابن كثير [2 / 337] . (4) أخرجه مسلم في كتاب الإيمان، وقد تقدم صْ 9.

فجعل النبي صلى الله عليه وسلم ترك الصلاة فاصلاً بين الإيمان والكفر، وذكر الكفر معرفاً بأل الاستغراقية التي تفيد أن هذا مستغرق في الكفر، فدل على أنه هو الكفر الأكبر. وهذا هو الأصل في إطلاق لفظة الكفر وأنها الكفر الأكبر إلا أن يأتي دليل يدل على أن المراد بها الكفر الأصغر. 3- واستدل [كـ]ـذلك بنحوه: بما ثبت عند أحمد والترمذي والنسائي وغيرهم: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة فمن تركها فقد كفر) (1) . 4- واستدلوا: بإجماع الصحابة، فقد ثبت في سنن الترمذي بإسناد جيد عن عبد الله بن شقيق قال: (ما كان أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يرون شيئاً من الأعمال تركه كفر إلا الصلاة) (2) قالوا: والصحابة أعلم من أن لا يروا أن هناك شيئاً من الأعمال تركه كفر أصغر، فإن الشريعة قد دلت على أن هناك من الأعمال ما هو شرك أصغر فرواه لنا أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم كالحلف بغير الله وكيسير الرياء، وكالنياحة، وكالفخر بالأحساب والطعن في الأنساب ونحو ذلك، فإنها من الأعمال التي فعلها كفر أصغر، وهنا قال الراوي " ما كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يرون شيئاً من الأعمال تركه كفر إلا الصلاة " فلما كانوا يرون أن هناك شيئاً من الأعمال تركه كفر أصغر دل على أن مراده بالكفر هنا، الكفر الأكبر. لذا ذكر ابن حزم أن الصحابة قد أجمعوا على كفر تارك الصلاة. وظاهر كلام الإمام أحمد وغيره من الأئمة كما قال ابن رجب: " ظاهر كلام الإمام أحمد وغيره من الأئمة الذين يرون كفر تارك الصلاة أنه يكفر بخروج وقتها ".

_ (1) تقدم صْ 9. (2) أخرجه الترمذي في كتاب الإيمان، باب ما جاء في ترك الصلاة (2622) بلفظ: " عن عبد الله بن شقيق العُقيلي قال: كان أصحاب محمد - صلى الله عليه وسلم - لا يرون شيئاً من الأعمال تركه كفر غير الصلاة ".

واختار شيخ الإسلام أنه لا يكفر إلا إذا كان تاركاً مطلقاً للصلاة، أما إذا كان يصلي تارة ويدع تارة كما يقع لكثير من المسلمين فإنه لا يكفر بذلك، واختار هذا الشيخ سليمان بن عبد الله بن محمد بن عبد الوهاب. وسيأتي الدليل الدال على ذلك. وأما الأحناف والشافعية والمالكية فاستدلوا: 1- بما ثبت في سنن ابن ماجه ومستدرك الحاكم بإسناد صحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (يدرس الإسلام كما يدرس وشي الثوب حتى لا يدرى ما صلاة ولا صيام ولا صدقة ولا نسك وليسرى على كتاب الله في ليلة فلا يبقى منه في الأرض آية، ويبقى أناس فيهم الشيخ الكبير والعجوز يقولون أدركنا آبائنا يقولون " لا إله إلا الله " فنحن نقولها) قال صلة بن زفر - وهو الراوي عن حذيفة – " وهل تغنيهم هذه الكلمة وهم لا يدرون ما صيام ولا صلاة ولا صدقة ولا نسك؟ فأعرض عنه حذيفة فسأله ثلاثاً وهو يعرض عنه ثم قال: تنجيهم من النار – ثلاثاً - " (1) . قالوا: فهذا يدل على أنهم ليسوا بكفار إذ لو كانوا كفاراً لما قال حذيفة: " تنجيهم من النار " وهذا الاستدلال ضعيف من جهتين: *- الأولى: أن هؤلاء لهم حكم خاص، فإنهم لا يدرون ما صيام ولا صلاة ولا صدقة ولا نسك لارتفاع الشرائع فقد سري بكتاب الله ولم يبق من شريعة الله في الأرض إلا " شهادة أن لا إله إلا الله " فهم جهال بترك الصلاة ونحوها، وهم معذورون بذلك لذا قال: " تنجيهم من النار ".

_ (1) أخرجه ابن ماجه في كتاب الفتن، باب ذهاب القرآن والعلم (4049) قال: " حدثنا علي بن محمد حدثنا أبو معاوية عن أبي مالك الأشجعي عن ربعي بن حِرَاش عن حذيفة بن اليمان قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (يدرس الإسلام..)

وقد تقدم أن الجاحد لوجوبها والتارك لها إذا كان يمكن أن يجهلها فإنه لا يكفر، وهؤلاء قد عاشوا حياة قد ظهر فيها الجهل إلى الغاية، حيث لم يبق في الأرض كتاب ولا سنة فهم أولى بهذا الحكم من غيرهم. *- الثاني: أن هذا قول حذيفة. فلو سُلِّم أن مراده أن هؤلاء ينجيهم من النار قول لا إله إلا الله مع تركهم للصلاة وهم عالمون بذلك كما يريد المستدل بهذا الحديث فإن هذه غايته أنه قول حذيفة، وقوله لا تعارض به الأدلة الشرعية الثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم. وهو مخالف بقول غيره من الصحابة كما تقدم من قول عبد الله بن شقيق. هذا لو سُلم بأنه على هذا النحو قول حذيفة ولا نسلم بذلك بل هو قوله حيث كانوا جهالاً معذورين بالجهل، وإلا فإنا لا نجزم بأن قوله حيث كذلك فيما لو كانوا عالمين وتركوا ذلك تهاوناً وكسلاً.

2- واستدلوا: بما ثبت في البخاري أن النبي صلى الله عليه وسلم قال – فيمن يخرج من النار إلى أن قال -: (فيخرج منها قوم لم يعملوا خيراً قط) (1) وهذا من المتشابه الذي لا يترك به المحكم، ومما تقدم من الأدلة تدل على كفر تارك الصلاة وهذا من المتشابه؛ ذلك لأن هذا الحديث عام في هذه الأمة وغيرها ممن يدخل النار من هذه الأمة وغيرها، ولا تمنع أن تكون الصلاة مفروضة على طائفة من الأمم التي بعث إليها بعض أنبياء الله، ولا يمنع أن تكون قد فرضت ولكن لم يحكم بكفر تاركها كما في هذه الأمة، فإن قوله: " ثم يخرج منها قوم لم يعملوا خيراً قط " لا نسلم أنه في هذه الأمة التي فرضت عليها الصلاة وحكم بكون تاركها كافراً، فإنه من المحتمل – والحديث عام - أن يكون هذا في أمة من الأمم التي لم تفرض عليها الصلاة أو فرضت عليها الصلاة ولم يحكم بكون تاركها كافراً. ثم لو قلنا بدخول هذه الأمة بهذا العموم فإنه لا مانع أيضاً أن يكون هؤلاء معذورون بشيء من الأعذار لأنها قضية عين فيحتمل أن يكون لهم عذر ما كجهل ونحوه ويكونون قد عوقبوا بدخولهم في النار بأسباب أخرى، بمعاصي أو نحوها قد فعلوها عالمين بحكمها فعوقبوا عليها فأما الصلاة فكانوا جاهلين بها فلم يعاقبهم الله بالخلود في نار جهنم. إذن: هذا من المتشابه والواجب العمل بالمحكم وإرجاع المتشابه إليه.

_ (1) لم أجده بهذا اللفظ، وإنما أخرجه البخاري في كتاب التوحيد / باب (24) وجوه يومئذ ناضرة.. / رقم (7439) وفيه: " فيقول: اذهبوا فمن وجدتم في قلبه مثال نصف دينار فأخرجوه … "، ومسلم، صحيح مسلم ج: 1 ص: 170 بلفظ: ".. فيخرج منها قوما لم يعملوا خيرا قط " رقم (183) / كتاب الإيمان / باب (81) معرفة طريقة الرؤية.

3- واستدلوا بما ثبت عند الخمسة إلا الترمذي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (خمس صلوات افترضهن الله تعالى من أحسن وضوءهن وصلاهن لوقتهن وأتم ركوعهن وخشوعهن كان له على الله عهد أن يدخله الجنة، ومن لم يفعل فليس له على الله عهد إن شاء عذبه وإن شاء غفر له) (1) قالوا: فهنا قال: (ومن لم يفعل فليس له على الله عهد إن شاء عذبه) قالوا: فدل هذا على أنه داخل تحت المشيئة ولا يدخل تحت المشيئة إلا المسلم. والجواب على ذلك: أن قوله: " فمن لم يفعل " راجع إلى ما تقدم أي: من لم يفعل الصلوات الخمس على النحو المتقدم بأن يصليهن لوقتهن وقد أتم ركوعهن وخشوعهن وأحسن وضوءهن، فمن لم يفعل ذلك بأن أخل بشيء مما تقدم كأن يكون يصلي تارة ويدع تارة أو يؤخر الصلاة عن وقتها أو لا يتم خشوعها أو ركوعها أو نحو ذلك فإنه تحت مشيئة الله تعالى، أما من تركها فإنه لا يدخل في هذا العموم وقد استثنته الأدلة التي تقدم ذكرها القاضية بكفر تارك الصلاة.

_ (1) أخرجه أبو داود في كتاب الصلاة، باب (337) فيمن لم يوتر (1420) قال: " حدثنا القعنبي عن مالك، عن يحيى بن سعيد عن محمد بن يحيى بن حبان عن ابن مُحَيريز أن رجلا من بني كنانة يُدعى المُخدجي سمع رجلاً بالشام يدعى أبا محمد يقول: إن الوتر واجب، قال المخدجي: فرحُت إلى عبادة بن الصامت فأخبرته، فقال عبادة: كذب أبو محمد، سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: (خمس صلوات كتبهن الله على العباد، فما جاء بهن لم يضيع منهن شيئاً استخفافاً بحقهن كان له عند الله عهد أن يدخله الجنة …) ، وأخرجه النسائي في الصلاة باب المحافظة على الصلوات الخمس (462) ، وابن ماجه في إقامة الصلاة، باب فرض الصلوات الخمس (1401) . سنن أبي داود [2 / 130] .

والقول الراجح: هو ما ذهب إليه الحنابلة وجمهور السلف إلا أنه يقيد بما ذكره شيخ الإسلام، وأن من تركها تارة وتارة فإنه لا يكفر بذلك للحديث الآخر الذي تقدم الاستدلال به للقائلين بعدم كفر تارك الصلاة. فإن من لم يحافظ على الصلوات محافظة تامة بحيث يحافظ عليهن خمساً فهو يصلي تارة وتارة فهو داخل تحت الوعيد إن شاء الله عذبه وإن شاء غفر له، والعلم عند الله تعالى. قال: (وكذا تاركها تهاوناً ودعاه إمام أو نائبه فأصر وضاق وقت الثانية عنها) إذن: ذكر شرطين في تكفيره: الشرط الأول: أن يدعوه الإمام أو نائبه. الشرط الثاني: أن يضيق وقت الثانية عنها. أما الشرط الأول فقالوا: لا يكفر إلا إذا دعاه الإمام أو نائبه لأنه قد يظن أن له عذراً بترك الصلاة وليس ذلك بعذر فلا يكفر حتى يدعوه الإمام أو نائبه، وإنما خص ذلك بالإمام أو نائبه لأن الأحكام الشرعية أو الحدود إنما مرجعها إلى الأئمة ونوابهم دون غيرهم من آحاد الناس. ولكن هذا القول ضعيف، لذا قال ابن رجب في تتمة كلامه المتقدم قال: " وظاهر كلام أحمد وغيره من الأئمة الذين يرون كفر تارك الصلاة أنه يكفر بخروج وقتها ولم يعتبروا دعاءه ولا الاستتابة " وهذا هو الواضح والحق. فإن هذا ما دام أنه قد فعل ما دلت الأدلة الشرعية على تكفيره به، فإن اشتراط دعاء الإمام أو نائبه في تكفيره لا دليل عليه بل يكفر متى ترك الصلاة وإن لم يدعه إمام ولا نائبه. أما قضية القتل فسيأتي الكلام عليها. وكذلك الشرط الثاني: وهو قولهم " وضاق وقت الثانية عنها " يعني مثلاً: ترك صلاة الظهر حتى خرج وقتها، لا يكفر بذلك حتى يضيق وقت الثانية، فإذا ضاق وقت العصر فما بقي لوقت المغرب إلا ما يكون ضيقاً على العصر فإنه – حينئذ – يكفر بذلك. قالوا: لأنا لا نجزم بأنه عازم على ترك الصلاة إلا بهذا.

ولكن هذا ضعيف، وتقدم ما قاله ابن رجب عن الإمام أحمد وغيره وأن ظاهر كلامهم أن المعتبر هو خروج الوقت الصلاة، وهذا هو اختيار المجد واستظهره في الفروع ورجحه شيخ الإسلام ابن تيمية – وهذا الترجيح لشيخ الإسلام إنما هو في القتل وأما التكفير فقد تقدم اختياره من أنه لا يكفر (1) ، ولكن هذا بناء على القول بالقتل وسيأتي دليله -. إذن: أصح قولي المذهب – وهو رواية عن الإمام أحمد – أنه: إذا خرج وقت الصلاة عنها فإنه يكفر. فهذان الشرطان الصحيح أنهما ليس بمعتبرين بل متى خرج وقت الأولى ولم يصل فإنه يكفر ولو لم يضق الوقت – هذا على القول بخلاف ما ذكره شيخ الإسلام. قال: (ولا يقتل) القتل عقوبة لتارك الصلاة في الدنيا، لما في الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (نهيت عن قتل المصلين) (2) ، ولما ثبت في مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (يستعمل عليكم أمراء فتعرفون وتنكرون فمن أنكر فقد برئ ومن كره فقد سلم ولكن من رضي وتابع قالوا: أفلا نقاتلهم يا رسول الله قال: لا ما صلوا) (3) وهو مذهب أكثر الفقهاء وأنه يقتل. ويشترط ما تقدم من الشرطين السابقين: وهما أن يدعوه الإمام وألا يقتل حتى يضيق وقت الثانية عنها.

_ (1) إلا إذا ترك الصلاة مطلقاً، وقد تقدم صْ 16. (2) أخرجه أبو داود في باب الحكم في المخنثين من كتاب الأدب، والنسائي في باب الحكم في تارك الصلاة، وابن ماجه في باب ما جاء في ترك الصلاة من كتاب إقامة الصلاة، والإمام أحمد في المسند 5 / 346، 355، المغني [3 / 36] ، ولم أجده في فهرس الصحيحين طبعة بيت الأفكار، ولم يعزه إليهما محققا المغني. (3) أخرجه مسلم في كتاب الإمارة، باب (16) وجوب الإنكار على الأمراء فيما يخالف الشرع وترك قتالهم ما صلوا (1854) ، وأخرجه الترمذي في كتاب الفتن، باب (78) رقم (2265) ، وقال: " هذا حديث حسن صحيح ".

ولكن هذا أيضاً - أي في كونه يضيق وقت الثانية – ليس كافياً لأنه متى ضاق وقت الثانية حكم – حينئذ – بكفره فإذا حكم بالكفر فإن هذا مرتد، والمرتد يقتل كفراً، ولكن بشرط أن يستتاب ثلاثاً لذا قال: (ولا يقتل حتى يستتاب ثلاثاً فيهما) أي في جحود الصلاة أو في تركها تهاوناً وكسلاً؛ وذلك لأنه مرتد فمتى دعاه الإمام أو نائبه وضاق وقت الثانية فلم يصل فهو مرتد، والمرتد يُقتل ولا يقتل حتى يستتاب ثلاثاً كما هو مذهب الجمهور. والصحيح أن الاستتابة ليست بواجبة كما هي إحدى الروايتين عن الإمام أحمد وأحد القولين للإمام الشافعي ومذهب طائفة من التابعين كما في الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من بدل دينه فاقتلوه) (1) ولم يذكر استتابة. وثبت في الصحيحين أن معاذ بن جبل قدم على أبي موسى الأشعري وعنده رجل موثقاً فقال: ما هذا؟ قال: كان يهودياً فأسلم ثم راجع دينه دين السوء، فقال: (لا أجلس حتى يقتل قضاء الله ورسوله فقال: اجلس، فقال: " لا أجلس حتى يقتل قضاء الله ورسوله قال ذلك ثلاثاً ثم أمر به فقتل) (2) فهذا الفعل من معاذ والإقرار من أبي موسى شرح لهذا الحديث النبوي، وأن من بدل دينه، وتارك الصلاة مبدل لدينه لا يستتاب ثلاثاً بل يقتل. ولا يصح عن النبي صلى الله عليه وسلم حديث في الاستتابة. وكذلك لا يصح الأثر المروي عن عمر بن الخطاب، وقد رواه مالك في موطئه (3) بإسناد ضعيف فيه انقطاع وجهالة.

_ (1) أخرجه البخاري في كتاب الجهاد والسير، باب لا يُعذب بعذاب الله (3017) ، وفي كتاب استتابة المرتدين، باب حكم المرتد والمرتدة واستتابتهم (6922) . ولم أجده في مسلم، ولم يعزه إليه محققا المغني [9 / 550] ولا طبعة بيت الأفكار. (2) أخرجه البخاري في كتاب استتابة المرتدين، باب حكم المرتد والمرتدة واستتابتهم (6923) ، وأخرجه مسلم 1733، وفي الإمارة 15، وفي الأشربة 70.

فالراجح: عدم اشتراط الاستتابة لكنها مستحبة من غير أن يشترط بيوم ولا يومين ولا ثلاثة وإنما بقدر المصلحة. كما أن النظر يدل على أنها ليست بواجبة، لأن الكافر الأصلي المحارب المهدر دمه لا يستتاب وجوباً بل يقتل من غير استتابة ولا دعاية " أي دعوة إلى الإسلام " فيجوز أن يُغار على الكفار بحيث يقع المسلمون عليهم على غرة منهم فإن هذا جائز وقد دلت عليه الأدلة الشرعية ولم يوجب النبي صلى الله عليه وسلم استتابتهم ولا إنذارهم – وإنما لا يجوز قتل من لم يبلغه الشريعة حتى يدعى إليها – وهذا المرتد قد علم حكم الله ودعي إليه وكفر وثبتت ردته – فحينئذ – لا يجب أن يستتاب، لكن الاستتابة مستحبة. إذن الراجح: عدم وجوب الاستتابة بل متى ثبت كفره وذلك يثبت بترك الصلاة مطلقاً على الراجح، وعلى القول المرجح (1) من قولي المذهب يكفر بترك صلاة حتى يخرج وقتها مصراً على ذلك فإنه يكفر ويقتل من غير أن يستتاب أي ما دام أنه قد بين له دين الله وشرع الله وعرف الحق من الباطل فإنه لا يجب أن يتربص به فترة ليستتاب بل متى ثبت كفره فإنه يجوز قتله من غير استتابة. * واعلم أن شيخ الإسلام اختار – وهو القول الحق – أن من ترك الصلاة فإنه لا يقضيها بل ولا يصح منه بل يجتهد بقدر استطاعته بالتطوع. وقد ثبت في الحديث الصحيح أن الله يقول يوم القيامة: (انظروا هل لعبدي من تطوع) (2) فيمن اختلت بعض فرائضه.

_ (1) كذا في الأصل. (2) سنن أبي داود ج: 1 ص: 229 باب (150) قول النبي صلى الله عليه وسلم كل صلاة لا يتمها صاحبها تتم من تطوعه / رقم 864. سنن الترمذي ج: 2 ص: 269 30سنن الترمذي ج: 2 ص: 269 باب (305) ما جاء أن أول ما يحاسب به العبد يوم القيامة الصلاة رقم 413. وابن ماجه، الاسطوانة، وسنن أبي داود [1 / 540] .

فلا يؤمر بقضاء الصلاة وقد فوتها بغير عذر؛ لأن الأدلة الشرعية لم تدل على ذلك بل أمرت الشريعة بأداء الصلاة في وقتها، وأمرت بالقضاء لمن كان معذوراً بنوم أو نحوه فلم يدخل بذلك من تركها بلا عذر وتكون مردودة عليه لو فعلها، وقد قال صلى الله عليه وسلم: (من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد) (1) . فعلى ذلك: من تعمد تأخير صلاة الفجر عن وقتها فإنها لا تصح منه ولا تقبل منه ولا يؤمر بأن يصليها إذا استيقظ ما دام أنه قد تركها

_ (1) أخرجه البخاري في كتاب الصلح (2697) فقال رحمه الله: " حدثنا يعقوب حدثنا إبراهيم بن سعد عن أبيه عن القاسم بن محمد عن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (من أحدث في أمرنا هذا ما ليس فيه فهو رد) رواه عبد الله بن جعفر المَخْرَمي وعبد الواحد بن أبي عون عن سعد بن إبراهيم " وأخرجه مسلم في كتاب الأقضية (1718) [صحيح مسلم بشرح النووي (12 / 15) ] فقال رحمه الله: " حدثنا أبو جعفر محمد بن الصباح وعبد الله بن عون الهلالي جميعاً عن إبراهيم بن سعد قال ابن الصَّبَّاح حدثنا إبراهيم بن سعد بن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف حدثنا أبي عن القاسم بن محمد عن عائشة قالت: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد) . وحدثنا إسحاق بن إبراهيم وعبدُ بن حميد جميعاً عن أبي عامر قال عبدٌ حدثنا عبد الملك بن عمرو حدثنا عبد الله بن جعفر الزهري عن سعد بن إبراهيم قال: سألت القاسم بن محمد عن رجل له ثلاثة مساكن فأوصى بثلث كلِّ مسكن منها، قال يجمع ذلك كله في مسكن واحد ثم قال: أخبرتني عائشة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: (من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد) . "

متعمداً فلم يسع أو يجتهد بقدر استطاعته للقيام لها بل تعمد النوم عنها فلا يقبل منه بل عليه أن يجتهد بالاستغفار وبالتطوع ليسد الخلل الواقع في فريضته. والحمد لله رب العالمين. (انتهى هذا الباب، ويليه باب الأذان والإقامة) الدرس الثاني والخمسون (يوم السبت: 15 / 2 / 1415 هـ) باب الأذان والإقامة الأذان: في اللغة: الإعلام ومنه قوله تعالى: {وأذان من الله ورسوله إلى الناس يوم الحج الأكبر} (1) أي إعلام وإخبار. أما اصطلاحاً فهو: الإعلام بوقت الصلاة بألفاظ مخصوصة. والإقامة في اللغة: مصدر أقام يقيم إقامة، وحقيقتها الإزالة من القعود إلى القيام، وهذا واضح في الإقامة فإنها تزيلهم من القعود إلى الوقوف لأداء الصلاة المفروضة. أما اصطلاحاً فهي: الإعلام بإقامة الصلاة بألفاظ مخصوصة. وقد ورد في فضله أدلة كثيرة: تدل على فضل الأذان وعظيم الأجر بأدائه، فمن ذلك ما ثبت في الصحيحين: " أن أبا سعيد قال لأبي صعصعة: إني أراك تحب الغنم والبادية فإذا كنت في غنمك وباديتك فأذنت فارفع صوتك فإنه لا يسمع صوت المؤذن جن ولا إنس ولا شيء إلا شهد له يوم القيامة سمعته من النبي صلى الله عليه وسلم) (2) . وفي مسلم: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أطول الناس أعناقاً يوم القيامة المؤذنون) (3) .

_ (1) سورة التوبة. (2) أخرجه البخاري في كتاب الأذان، باب رفع الصوت بالنداء (609) وفي كتاب بدء الخلق، باب ذكر الجن وثوابهم وعقاهم (3296) . ولم أجده في مسلم في باب فضل الأذان.. . (3) أخرجه مسلم في كتاب الصلاة، باب فضل الأذان وهرب الشيطان عند سماعه (387) بلفظ: " عن طلحة بن يحيى عن عمه قال: كنت عند معاوية بن أبي سفيان فجاء المؤذن يدعوه إلى الصلاة فقال معاوية: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: (المؤذنون أطول الناس أعناقاً يوم القيامة) .

* وقد اختلف أهل العلم في التفضيل بينه وبين الإمامة: 1- فالأصح في مذهب الحنابلة الذي اختاره طائفة من كبار الحنابلة وهو رواية عن الإمام أحمد وهو مذهب الشافعي واختاره شيخ الإسلام: أن الأذان أفضل. واستدلوا: بما روى أحمد وأبو داود – والحديث صحيح – أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (الإمام ضامن والمؤذن مؤتمن اللهم أرشد الأئمة واغفر للمؤذنين) (1) فالإمام ضامن أي ضامن للقيام بالصلاة على صفتها الشرعية. وأما المؤذن فإنه مؤتمن بالقيام بالأذان على الوجه الشرعي فهي أمانة في عنقه يتعلق بها فريضتان من فرائض الله على عباده وهي الصيام والصلاة، ثم دعا للأئمة بالرشد وهو العلم النافع مع العمل به، ودعا للمؤذنين بالمغفرة. قالوا: هذا الحديث يدل على تفضيل الأذان لكنه في الحقيقة ليس فيه دليل على ذلك إذ ليس فيه إلا الإخبار بأن الإمام في عمله ووظيفته ضامن، بألا يطرأ على الصلاة ما يخل بها من سهو ونحو ذلك. وأما المؤذن فإنه مؤتمن بحيث لا يؤذن قبل دخول الوقت فيخون الناس في صلاتهم وفريضتهم.

_ (1) أخرجه أبو داود في كتاب الصلاة، باب ما يجب على المؤذن من تعاهد الوقت (517) قال: " حدثنا أحمد بن حنبل حدثنا محمد بن فضيل، حدثنا الأعمش، عن رجل عن أبي صالح عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (الإمام ضامن..) ، وقال (518) : " حدثنا الحسن بن علي، حدثنا ابن نمير، عن الأعمش، قال: نُبئت عن أبي صالح قال: ولا أراني إلا قد سمعته منه، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مثله ".

ثم دعا للأئمة بالرشد وهم أحق به لأنهم موضع اقتداء فيكونون أحق بالعلم والعمل، ودعا للمؤذن بالمغفرة لكونه أحق بها، فقد يقع – وهذا لا يسلم منه المؤذن – بما يكون خطأ في الأذن (1) بالأذان قبل الوقت لا سيما في أوقات سابقة عندما كان الاعتماد على التحري فقد يقع مثل ذلك فدعا له بالمغفرة. فهذا الحديث ليس فيه إلا الإخبار عن حالهما والدعاء لكل واحد منهما بما هو الأليق بحاله، وليس في هذا تفضيل لأحد منهما على الآخر. 2- وعن الإمام أحمد: تفضيل الإمامة. واستدلوا: بأن النبي صلى الله عليه وسلم وخلفاءه الراشدين كانوا قائمين بهذا الواجب ولم يقوموا بالأذان ولم يكونوا ليختاروا إلا الأفضل. ولكن هذا الاستدلال محل نظر، فإنهم كانوا قائمين بالإمامة العظمى من القيام بشأن الأمة ولا شك أن القيام بالأذان يخل بهذا فإنه شاق يحتاج إلى التحري بالنظر إلى أمارات وعلامات دخول الوقت وخروجه، والخلافة أهم من ذلك بكثير ولا شك ولا يقارن مثل هذا بها، لذا في البيهقي بإسناد صحيح أن عمر قال: (لولا الخلافة لأذنت) (2) فالخلافة مشغلة عن القيام بالأذان. ولم يتبين لي ترجيح أحد القولين على الآخر، ومثل هذه المسائل – في الحقيقة – لا تحتاج إلى البحث في التفضيل بينهما بل كل منها له الفضل العظيم عند الله ولا شك أن الأذان قد يكون لبعض الناس أفضل كما أن الإمامة قد تكون لبعض الناس أفضل.

_ (1) كذا في الأصل، ولعلها: الأذان. (2) أخرجه البيهقي في كتاب الصلاة، في آخر باب الترغيب في الأذان (2041) قال: " أخبرنا أبو زكريا بن أبي إسحاق المزكي، أنا أبو عبد الله محمد بن يعقوب، أخبرنا أبو أحمد محمد بن عبد الوهاب، أنا جعفر بن عون، أنا إسماعيل يعني ابن أبي خالد، عن قيس بن أبي حازم، قال: قال عمر: " لو كنت أطيق الأذان مع الخليفة لأذنت ".

فمثلاً: من كان من أهل العلم وله قدرة على تعليم الناس في شأن الصلاة وغيرها فهذا الأولى له أن يتولى الإمامة لكونها محل الاقتداء والتلقي من المأمومين بخلاف الأذان، وأما من كان من عامة الناس وله معرفة بالأوقات وقدرة على تحريها والقدرة على الانضباط فالأولى له أن يقوم بالأذان، وكلاهما له فضيلته وأجره عند الله. إذن: في هذه المسألة قولان هما روايتان عن الإمام أحمد: الأولى: أن الإمامة أفضل. والثانية: أن الأذان أفضل. قال المؤلف رحمه الله: (هما فرض كفاية) هما: أي الأذان والإقامة " فرض كفاية " هو الذي إذا قام به البعض سقط الإثم عن الباقين، فإذا قام به البعض من الأمة بحيث تسد بهم الخلة ويقومون بتبليغ الأذان إلى الأمة فإن ذلك كاف. ودليل هذا: ما ثبت في الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لمالك بن الحويرث: (إذا حضرت الصلاة فليؤذن لكم أحدكم وليؤمكم أكبركم) (1) وفي رواية في الصحيحين: (ثم أذنا ثم أقيما) والشاهد هنا قوله هنا قوله: " فليؤذن " وقوله: " ثم أذنا ثم أقيما " والأمر للوجوب. ولما أمر به أحد الرجلين دل على أنه فرض كفاية. قال: [على الرجال] وهنا ذكرهم على وجه الجمع، وتثبت الجماعة باثنين فأكثر، فمن كانا اثنين فأكثر فيجب أن يؤذن أحدهما كما تقدم في حديث مالك: (فليؤذن لكما أحدكما) أما إذا كان فرداً فلا يجب عليه الأذان ولا الإقامة لأن الحديث إنما هو وارد في الاثنين فأكثر.

_ (1) أخرجه البخاري في الأذان، باب الأذان للمسافرين (631) ، ومسلم في المساجد، باب من أحق بالإمامة (674) ، الشرح الممتع [2 / 38] .

أما الواحد فلا يجب عليه الأذان ولا الإقامة ولكن ذلك مستحب له، فقد ثبت في مسند أحمد وسنن أبي داود والنسائي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (يعجب ربك لرجل في شظية لجبل يؤذن ثم يصلي فيقول الله (انظروا إلى عبدي هذا يؤذن ويقيم الصلاة، يخاف مني قد غفرت له وأدخلته الجنة) (1) لما فيه من عظم الإخلاص لله إذ لا يراه إلا الله ولا يسمعه غيره ومع ذلك أذن وأقام للصلاة خوفاً من الله. وفي قوله: " الرجال " تخرج منه النساء، فالنساء كما في المشهور في المذهب: لا يشرع لهن الأذان ولا الإقامة.

_ (1) أخرجه أبو داود في كتاب الصلاة، باب (272) الأذان في السفر (1203) قال: " حدثنا هارون بن معروف، حدثنا ابن وهب، عن عمرو ابن الحارث، أنا أب عُشَّانة المعافري حدثه عن عقبة بن عامر قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: (يعجبُ ربكم من راعي غنم في رأس شَظِيَّةٍ بجبل يؤذن بالصلاة ويصلي، فيقول الله عز وجل: انظروا إلى عبدي هذا يؤذن ويقيم الصلاة، يخاف مني، قد غفرت لعبدي، وأدخلته الجنة) ، قال المنذري: رجال إسناده ثقات، وأخرجه أيضاًَ النسائي 667، سنن أبي داود [2 / 9] .

واستدلوا بما روى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (ليس على النساء أذان ولا إقامة) (1) ولكن الحديث إسناده ضعيف جداً وقد رواه البيهقي وغيره. ورُوى موقوفاً إلى ابن عمر – كذلك عند البيهقي – وإسناده ضعيف فلا يثبت عنه. بل قد ورد عن ابن عمر ما يخالفه، فقد ثبت عند ابن أبي شيبة بإسناد جيد أنه سئل هل تؤذن النساء وتقيم فقال: أنا أنهى عن ذكر الله؟ (2) على وجه الاستفهام أي لست أنهى عن ذكر الله، والأذان والإقامة من ذكر الله. - وذهب الإمام أحمد في رواية عنه وهو قول للشافعي: إلى أن الإقامة مشروعة لهن دون الأذان، لما في الأذان من رفع الصوت الذي ينافي ما ينبغي أن تكون عليه المرأة من الحشمة ولأنه مثار الفتنة.

_ (1) أخرجه البيهقي في السنن الكبرى في كتاب الصلاة، باب (60) ليس على النساء أذان ولا إقامة (1920) قال: " أخبرنا أبو زكريا المزكي، وأبو بكر بن الحسن القاضي، قالا: ثنا أبو العباس محمد بن يعقوب، ثنا بحر بن نصر، قال: قرئ على ابن وهب أخبرك عبد الله بن عمر عن نافع عن ابن عمر أنه قال: ليس على النساء أذان ولا إقامة ". وقال (1921) : " أخبرنا أبو سعد أحمد بن محمد الماليني، ثنا أبو أحمد بن عدي، ثنا أحمد بن الحسن بن عبد الجبار، ثنا الحكم بن موسى، ثنا يحيى بن حمزة، عن الحكم، عن القاسم، عن أسماء قالت: قال رسو ل الله - صلى الله عليه وسلم -: (ليس على النساء أذان ولا إقامة ولا جمعة ولا اغتسال جمعة، ولا تقدمهن امرأة، ولكن تقوم في وسطهن) . قال البيهقي: " هكذا رواه الحكم بن عبد الله الأيلي، وهو ضعيف، ورويناه في الأذان والإقامة عن أنس بن مالك موقوفاً ومرفوعاً، ورفعه ضعيف، وهو قول الحسن، وابن المسيب، وابن سيرين والنخعي " ا. هـ

- وذهب الإمام أحمد في رواية أخرى عنه: إلى مشروعيتهما معاً، وهذا أصح ولكن هذا إذا أمنت الفتنة برفع صوتها كأن يكون صوتها محصوراً بين النساء بحيث لا يخرج الصوت إلى الرجال بحيث تفعله المرأة في مكان خال خاص بالنساء أو تفعله في بيتها بحيث لا تخرج الصوت إلى الأجانب لما فيه من الفتنة ويدل على هذا أن (النساء شقائق الرجال) (1) كما ثبت ذلك في المسند عن النبي صلى الله عليه وسلم فما ثبت في حق الرجل فهو ثابت في حق المرأة إلا أن يدل دليل على تخصيصه، لذا نحن خصصنا من ذلك ما يكون فيه فتنة لأن الشريعة قد وردت بمثل هذا، أما ما لم يكن كذلك فلها أن تؤذن أو تقيم. لكن يشكل عليه ما ورد عن عائشة أنها قالت: (كنا نصلي بغير إقامة) (2) وإسناده جيد.

_ (1) أخرجه الإمام أحمد في المسند برقم (24999) ، باقي مسند الأنصار، باقي المسند السابق، وبرقم (25869) نحوه في مسند أم سليم. انترنت، موقع الإسلام. (2) أخرجه البيهقي في السنن الكبرى، كتاب الصلاة، باب أذان المرأة وإقامتها لنفسها وصواحباتها (1923) قال: " أخبرنا أبو بكر الحارثي الفقيه، أنا أبو محمد بن حيان، ثنا ابن صاعد، ثنا محمد بن عبد الرحيم البرقي، ثنا عمرو بن أبي سلمة، قال سألت ابن ثوبان هل على النساء إقامة، فحدثني أنا أباه حدثه، قال: سألت مكحولا فقال: إذا أذن فأقمن فذلك أفضل، وإن لم يزدن على الإقامة أجزأت عنهن. قال ابن ثوبان: وإن لم يقمن فإن الزهري حدث عن عروة عن عائشة قالت: كنا نصلي بغير إقامة " قال البيهقي: " وهذا إن صح مع الأول – أي أنها كانت تؤذن وتقيم - فلا ينافيان، لجواز فعلها ذلك مرة وتركها أخرى، لجواز الأمرين جميعاً، والله أعلم، ويذكر عن جابر بن عبد الله أنه قيل له: أتقيم المرأة؟ قال: نعم " ا. هـ

ويعارض هذا عن عائشة أنها كانت تؤذن وتقيم، رواه ابن المنذر (1) ، لكن إسناده ضعيف. إذن يشكل على هذا قول عائشة والذي يظهر لي أن هذا الأثر يحمل على ما تكون فيه المرأة في الغالب من كونها تصلي منفردة، والمنفرد لا يجب عليه الأذان ولا الإقامة وإنما ذلك مستحب له. ويعارضه كذلك قول ابن عمر فإنه قال: " أنا أنهى عن ذكر الله " ولو كان ذلك غير مشروع لنهى عنه. والأظهر عندي أن يقال: إنه في (2) مشروع في حقهن بل قد يقال بوجوبه كما صرح به صاحب الروضة الندية " وهو قول قوي؛ لأن النساء شقائق الرجال إلا أنه بالقيد المتقدم حيث لا تكون مثاراً للفتنة. أما إذا كانت منفردة فيشرع لها أن تؤذن وأن تقيم إن كانت في موضع ومحل أذان (3) . أما إذا كانت في بلدة فإنها تكتفي بأذان الناس وتقيم لنفسها، والله اعلم. قال: (المقيمين) فيخرج: المسافرين، فالمسافرون – في المشهور من المذهب – لا يجب عليهم الأذان والإقامة بل هما مستحبان. وهذا القول ضعيف، فإن الأدلة الشرعية السابق ذكرها يشمل المسافرين. - لذا عن الإمام أحمد رواية أخرى اختارها بعض أصحابه كصاحب المبدع: أن المسافرين عليهم الأذان والإقامة فرض كفاية كالمقيمين، وذلك لأن النبي صلى الله عليه وسلم قد عمم في الأدلة الشرعية: (فإذا حضرت الصلاة فليؤذن لكم أحدكم) هذا عام في الحضر والسفر ولأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن يترك الأذان والإقامة سفراً ولا حضراً فدل على فرضيتهما. قال: (في الصلوات الخمس المكتوبة)

_ (1) ورواه البيهقي (1922) قال: " وأخبرنا أبو عبد الله الحافظ، ثنا أبو العباس محمد بن يعقوب، ثنا أحمد بن عبد الجبار، ثنا عبد الله بن أدريس، ثنا ليث، عن عطاء، عن عائشة أنها كانت تؤذن وتقيم وتؤم النساء وتقوم وسطهن ". (2) كذا في الأصل، والأولى أن تحذف. (3) كذا العبارة في الأصل.

دون غيرها، كأن يوجب على نفسه صلاة أو صلاة الكسوف أو الاستسقاء أو صلاة العيد أو نحو ذلك من الصلوات فهذه لا يفرض فيها الأذان ولا الإقامة بل لا يشرع بل هو بدعة لأن الأذان والإقامة إنما ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم في الصلوات المكتوبة، وأما غيرها فإن النبي صلى الله عليه وسلم لم يؤذن فيها ولم يقم فدل على أن المشروع فيها هو ترك الأذان والإقامة كصلاة الكسوف والاستسقاء. فالأذان والإقامة خاصان بالصلوات المكتوبة كما يدل عليه فعل النبي صلى الله عليه وسلم الذي هو محل التشريع. وهنا: الصلاة الفائتة والمقضية هل يشرع فيها الأذان والإقامة أم لا؟

الجواب: يشرع ذلك، فقد ثبت في الصحيحين من حديث عمران بن حصين في قصة نوم النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه عن صلاة الفجر حتى طلعت الشمس قال فيه: (ثم أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - بلالاً فأذن فصلينا ركعتين " أي سنة الفجر " ثم أقام فصلينا) (1)

_ (1) أخرجه البخاري في كتاب التيمم، باب الصعيد الطيب وضوء المسلم (344) قال: حدثنا مسدد قال: حدثني يحيى بن سعيد قال: حدثنا عوف قال: حدثنا أبو رجاء عن عمران قال: كنا في سفر مع النبي - صلى الله عليه وسلم -، وإنا أسرينا حتى كنا في آخر الليل، وقعنا وقعة، ولا وقعة أحلى عند المسافر منها، فما أيقظنا إلا حر الشمس، وكان أول من استيقظ فلانٌ ثم فلانٌ ثم فلان – يسميهم أبو رجاء فنسي عوف - ثم عمر بن الخطاب الرابع، وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا نام لم يوقظ حتى يكون هو يستيقظ؛ لأنا لا ندري ما يحدث له في نومه. فلما استيقظ عمر ورأى ما أصاب الناس، وكان رجلاً جليداً، فكبّر ورفع صوته بالتكبير، فما زال يكبر ويرفع صوته بالتكبير حتى استيقظ بصوته النبي - صلى الله عليه وسلم -، فلما استيقظ شكوا إليه الذي أصابهم قال: (لا ضير أو لا يضير، ارتحلوا) فارتحل فسار غير بعيد، ثم نزل فدعا بالوضوء، فتوضأ ونودي بالصلاة فصلى بالناس. فلما انفتل من صلاته، إذا هو برجل معتزل لم يصل مع القوم، قال: (ما منعك يا فلان أن تصلي مع القوم؟) قال: أصابتني جنابة ولا ماء، قال: (عليك بالصعيد، فإنه يكفيك) . ثم سار النبي - صلى الله عليه وسلم - فاشتكى إليه الناس من العطش، فنزل فدعا فلاناً - كان يسميه أبو رجاء نسيه عوف - ودعا علياً فقال: (اذهبا فابتغيا الماء) ، فانطلقا فتلقيا امرأة بين مزادتين أو سطيحتين من ماء على بعير لها، فقالا لها: أين الماء؟ قالت: عهدي بالماء أمسِ هذه الساعة، ونفَرُنا خُلُوف، قالا لها: انطلقي إذاً، قالت: إلى أين؟ قالا: إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، قالت: الذي يقال له الصابئ؟ قالا: هو الذي تعنين، فانطلقي، فجاءا بها إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وحدثاه الحديث، قال: فاستنزلوها عن بعيرها، ودعا النبي - صلى الله عليه وسلم - بإناء، ففرّغ فيه من أفواه المزادتين أو سطيحتين، وأوكأ أفواههما، وأطلق العزاليَ ونودي في الناس: اسقوا واستقوا. فسقى من شاء واستقى من شاء، وكان آخر ذاك أن أعطى الذي أصابته الجنابة إناء من ماء قال: (اذهب فأفرغه عليك) وهي قائمة تنظر إلى ما يفعل بمائها، وأيم الله لقد أُقلع عنها وإنه ليخيّل إلينا أنها أشد ملأة منها حين ابتدأ فيها. فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - (اجمعوا لها) فجمعوا لها من بين عجوة ودقيقة وسويقة، حتى جمعوا لها طعاماً، فجعلوها في ثوب، وحملوها على بعيرها، ووضعوا الثوب بين يديها، قال لها: (تعلمين، ما رَزِئْنا من مائك شيئاً، ولكن الله هو الذي أسقانا) فأتت أهلها وقد احتبست عنهم، قالوا: ما حبسك يا فلانة؟ قالت: العجب، لقيني رجلان، فذهبا بي إلى هذا الذي يقال له الصابئ، ففعل كذا وكذا، فوالله إنه لأسحر الناس من بين هذه وهذه، وقالت بإصبعيها الوسطى والسبابة، فرفعتهما إلى السماء – تعني: السماء والأرض - أو أنه لرسول الله حقاً، فكان المسلمون بعد ذلك يغيرون على من حولها من المشركين ولا يُصيبون الصِّرْم الذي هي منه، فقالت يوماً لقومها: ما أرى أن هؤلاء القوم يدعونكم عمداً، فهل لكم في الإسلام؟ فأطاعوها فدخلوا في الإسلام ". وأخرجه في كتاب المناقب، باب علامات النبوة في الإسلام (3571) . وأخرجه مسلم في كتاب المساجد، باب قضاء الصلاة الفائتة واستحباب تعجيل فضائها (682) بلفظ: عن عمران بن حصين قال: كنت مع نبي الله - صلى الله عليه وسلم - في مسير له، فأدلجنا ليلتنا..) الحديث، وهو طويل.

والذي يظهر لي هو القول بوجوبها فلا يستحب بل يجب ذلك وقد حكاه صاحب الفروع بلفظة " قيل " فهو قول لبعض أهل العلم، والذي يدل عليه: عمومات الأدلة الشرعية وما أمر به النبي صلى الله عليه وسلم بلالا من الأذان والإقامة ولأن القضاء يحكى الأداء. هذا إذا كانت في محل الصلاة المكتوبة تماماً، كأن يكون هناك جماعة في بر ونحوه فاتتهم صلاة الفجر فاستيقظوا بعد طلوع الشمس فإنهم يؤذنون ويقيمون فيرفعون النداء بالأذان ليتجمعوا على الصلاة بخلاف ما لو فاتته الصلاة في الحضر فإن الأمر يختلف. نعم: إذا كانوا جماعة في بيت فأذنوا أذاناً يكفي أهل البيت فكذلك. إذن: المذهب أن الأذان والإقامة للفائتة مستحب حيث توفرت فيها ما يكون في الحاضرة تماماً. ولنا أن نقول: إذا كان في الحضر فإنه لا يفعل ذلك اكتفاء بالمؤذن الذي يسمعه. لكننا نقول بوجوبه حيث كان في محل لا يؤذن فيه، كأن يكون في حضر أو سفر ولم يؤذن في موضعه الذي فيه فإن الأذان يقضى ويجب الأذان وتجب الإقامة لما تقدم من فعل النبي صلى الله عليه وسلم وأمره بلالاً والأمر للوجوب ولدخول ذلك في الأدلة الشرعية. فإذا كان عليه مجموعة من الفوائت فإنه يكتفي بأذان واحد لأن هذا الأذان قد جمع الناس إلى هذا الموضع فيكتفي به، ولكن لكل صلاة إقامة.

يدل على ذلك: ما رواه أحمد والترمذي والنسائي والحديث حسن عن ابن مسعود قال: " شُغل النبي صلى الله عليه وسلم يوم الخندق عن أربع صلوات، فأمر بلالاً فأذن ثم أقام فصلى الظهر ثم أقام فصلى العصر ثم أقام فصلى المغرب ثم أقام فصلى العشاء " (1) فيكتفى بالأذان الأول وتقام لكل صلاة. كما أنه لا يشرع للصلاة المجموعة إلا أذاناً واحداً كما دلت عليه السنة الصحيحة المتفق عليها. قال: (يقاتل أهل بلد تركوهما) لأنهما من الشعائر العظيمة في الإسلام.

_ (1) أخرجه النسائي في كتاب الأذان، باب الاجتزاء لذلك كله بأذان واحد.. (662) قال: " أخبرنا هنَّاد عن هُشيم عن أبي الزبير عن نافع بن جبير، عن أبي عُبيدة قال: قال عبد الله: " إن المشركين شغلوا رسول الله عن أربع صلوات يوم الخندق، فأمر بلالاً فأذَّن ثم أقام فصلى الظهر، ثم أقام فصلى العصر، ثم أقام فصلى المغرب ثم أقام فصلى العشاء "، وأخرج أيضا (661) عن عبد الرحمن بن أبي سعيد عن أبيه قال: " شغلنا المشركون يوم الخندق عن صلاة الظهر حتى غربت الشمس وذلك قبل أن ينزل في القتال ما نزل، فأنز الله عز وجل {وكفى الله المؤمنين القتال} ، فأمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بلالاً فأقام لصلاة الظهر فصلاها كما كان يصليها لوقتها، ثم أقام للعصر فصلاها كما كان يصليها في وقتها ثم أذن للمغرب، فصلاها كما كان يصليها في وقتها ". وأخرجه الترمذي في كتاب الصلاة، باب ما جاء في الرجل تفوته الصلوات بأيتهن يبدأ (179) بنفس السند السابق، قال فيه الألباني: " ضعيف ".

وإذا تمالأ – كما في القاعدة الشرعية - أهل بلد على ترك شعيرة من الشعائر الإسلامية فإنهم يقاتلون وهذه المقاتلة ليست فرعاً عن التكفير، بل كونهم قد تمالؤوا على ترك شعيرة من الشعائر الظاهرة هذا يقتضي قتالهم على ذلك كما قرر ذلك شيخ الإسلام كأن يتمالؤوا على ترك الزكاة أو ترك غير ذلك من شعائر الإسلام الظاهرة كصلاة العيد ونحوها فإنهم يقاتلون ومن ذلك الأذان. وقد ثبت في مسلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم: (كان يغير إذا طلع الفجر فإذا سمع أذاناً وإلا أغار) (1) فمن تركوا شعيرة من الشعائر فإنهم يقاتلون حتى يظهروا هذه الشعيرة. والحمد لله رب العلمين. الدرس الثالث والخمسون (يوم الأحد: 16 / 2 / 1415 هـ) قال المؤلف رحمه الله: (وتحرم أجرتهما لا رزق من بيت المال لعدم متطوع) " أجرتهما ": أي الأذان والإقامة. في هذه الجملة ثلاث مسائل: المسألة الأولى: أن الرزق على الأذان والإقامة من بيت المال لعدم المتطوع جائز. وهذا مما اتفق عليه أهل العلم، وقد ذكر الموفق أنه لا يعلم بين أهل العلم فيه خلافاً وهذا كرزق الغزاة والقضاة وغيرهم. فالرزق يجوز أخذه مطلقاً. المسألة الثانية: أنه لا يجوز للإمام أن يدفع رزقاً للمؤذن إلا إذا عدم المتطوع. أما إذا كان ثمت متطوع فلا يجوز ذلك حفظاً لمال المسلمين وصيانة له من الضياع، وهذه المسألة هي ظاهر المذهب في قوله " لعدم متطوع " المسألة الثالثة: أن الأجرة محرمة على الأذان والإقامة.

_ (1) أخرجه مسلم في كتاب الصلاة، باب الإمساك عن الإغارة على قوم في دار الكفر إذا سمع فيهم الأذان (382) عن أنس بن مالك قال: " كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يُغير إذا طلع الفجر، وكان يستمع الأذان، فإن سمع أذاناً أمسك وإلا أغار … "

والمراد بالأجرة: ما يأخذه من آحاد الناس، بمعنى لا يكون هذا من بيت المال، كأن يكون جماعة المسجد يضعون له راتباً فهذه هي الأجرة بخلاف الرزق فإنه يكون من بيت المال، فهذه الأجرة محرمة لقول النبي صلى الله عليه وسلم – كما في مسند أحمد وسنن أبي داود والترمذي والنسائي وغيرهم – بإسناد صحيح من حديث عثمان بن أبي العاص وفيه: (واتخذ مؤذناً لا يأخذ على أذانه أجراً) (1) هذا هو المشهور في المذهب. - وعن الإمام أحمد رواية أخرى وهي اختيار شيخ الإسلام: أن ذلك جائز مع الفقر، فإذا كان المؤذن محتاجاً إلى الأجرة على الأذان فهذا جائز له، لقوله تعالى: {ومن كان غنياً فليستعفف ومن كان فقيراً فليأكل بالمعروف} (2) وهذا فيما يكون في مال اليتيم، فيجب عليه أن يتعفف عن أكله إلا أن يكون فقيراً فيحق له أن يأكل بالمعروف ومثل ذلك القيام بالأذان. فالقيام على مال اليتيم قربة يتقرب بها إلى الله وكذلك القيام بالأذان وغيره من العبادات التي نفعها متعد إلى الغير فكذلك.

_ (1) أخرجه أبو داود في كتاب الصلاة، باب أخذ الأجرة على التأذين (531) قال: " حدثنا موسى بن إسماعيل، حدثنا حماد، أخبرنا سعيد الجريري، عن أبي العلاء، عن مطرف بن عبد الله، عن عثمان بن أبي العاص، قال: قلت - وقال موسى في موضع آخر: إن عثمان بن أبي العاص قال: - يا رسول الله، اجعلني إمام قومي، قال: (أنت إمامهم، واقتد بأضعهم واتخذ مؤذناً لا يأخذ على أذانه أجراً) ، وأخرجه النسائي 673، وأخرج الترمذي القسم الأخير برقم 209، ومسلم أخرج القسم الأول برقم 468، وأخرج ابن ماجه القسم الأخير 714، سنن أبي داود [1 / 363] . (2) سورة النساء.

ولقول النبي صلى الله عليه وسلم: (كفى بالمرء إثماً أن يضيع من يقوت) (1) وهذا قد فتح له باب رزق ليسد به فقره ويكفي به نفسه وعياله فحينئذ يجب (2) عليه قبوله. وسيأتي مزيد بحث عن هذه المسألة في باب الإجارة إن شاء الله تعالى. أما الرزق من بيت المال فإنه جائز مطلقاً عند جماهير أهل العلم إلا أن شيخ الإسلام حكى كذلك في هذه المسألة قولان مع الغنى، هل يجوز مع الغنى أم لا؟ وأما جماهير أهل العلم فإنهم على القول بجواز ذلك. إذن: يجوز أن يأخذ على الأذان أجرة إن كان فقيراً أما إن كان غنياً فلا يجوز له ذلك. قال: (ويكون المؤذن صيتاً) أي رفيع الصوت، لما ثبت في سنن أبي داود أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: لعبد الله بن زيد بن عبد ربه وقد رأى الأذان: (فقم مع بلال فألق عليه ما رأيت فليؤذن به فإنه أندى صوتاً منك) (3) أي أرفع صوتاً منك. وعلة ذلك واضحة فإن الصوت كلما ارتفع كلما تم الإعلام وظهر ووضح. فكلما كان الصوت أرفع كلما كان الإعلام أتم وأظهر. ويسن أن يكون حسن الصوت: لما ثبت في ابن خزيمة من حديث أبي محذورة: (أن النبي صلى الله عليه وسلم أعجبه صوته فعلمه الأذان) (4) . وقد ذكر استحباب ذلك الموفق وغيره، وأن المستحب أن يكون المؤذن حسن الصوت.

_ (1) أخرجه مسلم وأبو داود، الإرواء برقم 894، 989 (2) في حاشية الأصل ما نصه: " في نسخة: فيجوز أو يجب ". (3) أخرجه أبو داود في حديث طويل بنفس اللفظ في كتاب الصلاة، باب كيف الأذان (499) قال: " حدثنا محمد بن منصور الطوسي، حدثنا يعقوب، حدثنا أبي، عن محمد بن إسحاق، حدثني محمد بن إبراهيم بن الحارث التيمي، عن محمد بن عبد الله بن زيد بن عبد ربه قال: حدثني أبي عبد الله بن زيد، قال: " لما أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالناقوس … "

قال: (أميناً (1)) فيستحب أن يكون أميناً لا فاسقاً وسيأتي البحث في آخر الباب عن حكم أذان الفاسق فالمستحب أن يكون أميناً عدلاً، يدل على ذلك ما تقدم من حديث: (والمؤذن مؤتمن) فهو مؤتمن على صلاة الناس وسحورهم مؤتمن على عوراتهم فكان المستحب أن يكو أميناً. وروى البيهقي بإسناد ضعيف لكن له شاهد مرسل أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (المؤذنون أمناء الناس على صلاتهم وسحورهم) (2) والحديث حسن بشواهده. قال: (عالماً بالوقت) فيستحب أن يكون عالماً بالوقت أي يعرف أمارات وعلامات يعرف بها دخول الوقت وخروجه ويعرف بذلك الأوقات كلها – هذا أمر مستحب وليس بواجب.

_ (1) أي ظاهراً وباطناً، وأما أمانته وعدالته ظاهراً فشرط في الأذان كما سيأتي عند قوله " من عدل ". (2) أخرجه البيهقي في باب (77) لا يؤذن إلا عدل.. من كتاب الصلاة (1999) قال: " أخبرنا أبو الحسن علي بن أحمد بن عمر المقري الحمامي رحمه الله تعالى ببغداد، ثنا أحمد بن سلمان الفقيه، ثنا محمد بن عبد الله بن سليمان، ثنا يحيى بن عبد الحميد، حدثني إبراهيم بن أبي محذورة، وهو إبراهيم بن عبد العزيز بن عبد الملك بن أبي محذورة، عن أبيه عن جده، عن أبي محذورة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (أمناء المسلمين على صلاتهم وسحورهم المؤذنون) ، وقال (2000) : " أخبرنا أبو بكر أحمد بن الحسن، وأبو زكريا يحيى بن إبراهيم، قالا: ثنا أبو العباس محمد بن يعقوب، أنبأ الربيع بن سليمان، حدثنا الشافعي، أنا عبد الوهاب، عن يونس عن الحسن أن النبي - صلى الله عليه وسلم -: (المؤذنون أمناء المسلمين على صلاتهم) قال: وذكر معها غيرها " قال البيهقي: " وهذا المرسل شاهد لما تقدم " ا. هـ.

والذي يدل على أنه ليس بواجب ما ثبت في الصحيحين أن ابن أم مكتوم كان يؤذن للنبي صلى الله عليه وسلم وكان أعمى لما ثبت في البخاري قال: (وكان رجلاً أعمى لا يؤذن حتى يقال له: أصبحت أصبحت) (1) . فإذا كان الأعمى يصح آذانه فأولى منه الجاهل بالوقت، إلا إذا كان لا يمكن معرفة الوقت إلا بالمؤذن – كأن يكونوا محتاجين لأن يضعوا مؤذناً في بلد ما لا يمكنهم أن يعرفوا الوقت إلا بأذانه – وليس هناك من يعينه على معرفة الوقت فيجب أن يختار فيها من يكون عالماً بالوقت لأن ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب. لكن لما كان الأصل في البلاد أن يكون فيها من يعين المؤذن على معرفة الوقت – حينئذٍ – كان هذا من الأمور المستحبة. فكان مستحباً لوجود من يعينه على معرفته، وإنما استحب ذلك لأنه إن كان غير عالم بالوقت فلا يؤمن عليه الخطأ والغلط في الأذان فيلحق الناس الضرر في صلاتهم وفي سحورهم. قال: (فإن تشاح فيه اثنان قدم أفضلهما فيه) " تشاح ": أي اختلفا وتنازعا. " قدم أفضلهما فيه ": أي في صفات الأذان وهي الأمانة وحسن الصوت وارتفاعه والعلم بالوقت، فمن كانت فيه الصفات أكمل فهو أولى وأحق بالأذان. قال: (ثم أفضلهما في دينه وعقله)

_ (1) أخرجه البخاري في الأذان / باب أذان الأعمى إذا كان له من يخبره (617) ، ومسلم في الصيام / باب أن الدخول في الصيام يحصل بطلوع الفجر (1092) عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما، الشرح الممتع [2 / 47] .

واستدلوا: بما ورد في أبي داود أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (يؤذن لكم خياركم) (1) لكن الحديث إسناده ضعيف. ولكن هذا أمر ظاهر فإنه أكرم عند الله ممن هو دونه – كما قال تعالى: {إن أكرمكم عند الله أتقاكم} (2) وكلما زادت هذه الصفة في العبد كلما زادت كرامته عند الله فكان أولى من غيره بالعبادة المتنازع فيها. قال: (ثم من يختاره الجيران) كلهم أو أكثرهم، فإن اختاروا أحد الرجلين قدم ذلك؛ لأنهم أعلم بهما من غيرهم، من حفظ عورة وقيام بالأذان على الوجه المستحق فلما كان كذلك رُجع بالأمر إليهم مما اختاره الجيران بالمرتبة الثالثة. فنقدم: الأكمل في صفات الأذان ثم الأتقى ثم من يختاره الجيران، ثم بعد ذلك القرعة. قال: (ثم قرعة) ودليلها ما ثبت في الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لو يعلم الناس ما في النداء والصف الأول ثم لم يجدوا إلا أن يستهموا عليهما لاستهموا) (3) فهذا فيه إثبات القرعة. ومن القواعد الشرعية أنه متى ثبت التنازع في شيء ما وليس ثمت مرجح وازدحمت فإنه يقدم من قدمته القرعة فهنا كذلك، فقد اختلفوا في الأذان ولا مرجح لأحدهما على الآخر فلم يكن ثمت مرجوع إليه سوى القرعة التي ثبت بها حكم الله تعالى. قال: (وهو خمس عشرة جملة) وهو: أي الأذان.

_ (1) لم أجده في باب بدء الأذان في سنن أبي داود، بل أخرجه أبو داود في كتاب الصلاة، آخر حديث في باب (16) من أحق بالإمامة (590) قال: " حدثنا عثمان بن أبي شيبة، حدثنا حسين بن عيسى الحنفي، حدثنا الحكم بن أبان، عن عكرمة، عن ابن عباس، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (ليؤذن لكم خياركم وليؤمكم قراؤكم) ، وأخرجه ابن ماجه (726) . (2) سورة الحجرات. (3) أخرجه البخاري في كتاب الأذان، باب الاستهام في الأذان (615) ، وفي باب الصف الأول (721) مختصرا، وأخرجه مسلم (437) .

" خمس عشرة جملة ": وهو الأذان المشهور عندنا وهو أذان بلال الثابت في الصحاح والسنن والمسانيد (1) ، وقد اختاره الإمام أحمد وأبو حنيفة. واختار الشافعي ومالك أذان أبي محذورة الثابت في مسلم وهو كذلك ثابت في السنن (2) . وعدد جمله تسع عشرة جملة " 19 " وفيها خفض الشهادتين بأن يقول بعد قوله " الله أكبر أربعاً " يقول: " أشهد ألا إله إلا الله، أشهد ألا إله إلا الله، أشهد أن محمداً رسول الله، أشهد أن محمداً رسول الله " خافضاً صوته ثم يرفع صوته " أشهد ألا إله إلا الله، أشهد ألا إله إلا الله، أشهد أن محمداً رسول الله، أشهد أن محمداً رسول الله " وفي مسلم أنه قال: (أشهد ألا إله إلا الله، أشهد ألا إله إلا الله، أشهد أن محمداً رسول الله، أشهد أن محمداً رسول الله – خافضاً صوته – ثم: أشهد ألا إله إلا الله أشهد ألا إله إلا الله أشهد أن محمداً رسول الله أشهد أن محمداً رسول الله رافعاً بها صوته ") (3) ويكون الخفض بحيث يسمع نفسه ويسمع القريب منه. - واختار أبو حنيفة إقامة أبي محذورة، وهي سبع عشرة جملة، كأذان بلال بزيادة " قد قامت الصلاة قد قامت الصلاة " بعد الحيعلتين. * واعلم أن ما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم على أوجه مختلفة فإن السنة أن يفعل هذا تارة وهذا تارة – كما قرر هذا شيخ الإسلام وغيره – وهذا كذلك.

_ (3) لفظه في مسلم عن أبي محذورة: أن نبي الله علمه الأذان: (الله أكبر، الله أكبر، أشهد أن لا إله إلا الله، أشهد أن لا إله إلا الله، أشهد أن محمداً رسول الله، أشهد أن محمداً رسول الله) ثم يعود فيقول: أشهد أن لا إله إلا الله، أشهد أن لا إله إلا الله، أشهد أن محمداً رسول الله، أشهد أن محمداًَ رسول الله، حي على الصلاة مرتين، حي على الفلاح مرتين، زاد إسحاق: الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله) . وهو في باب صفة الأذان من كتاب الصلاة (379) .

فقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه أمر بأذان بلال وأُذن له به، وثبت أنه أمر بأذان أبي محذورة وأذن له به وكان هو أذان أهل مكة، وأذان بلال هو أذان أهل المدينة. فعلى ذلك: السنة أن يفعل هذا تارة وهذا تارة ما لم يكن في ذلك فتنة، لذا الإمام أحمد نص على أنه لا بأس بأذان أبي محذورة لثبوت ذلك (1) . قال: (يرتلها) يترسل بها ترسلاً ويتمهل في الأذان لأن المقصود منه إعلام الغائبين فكان المستحب فيه الترسل. وقد روى الترمذي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: لبلال: (إذا أذنت فترسل وإذا أقمت فاحدر) (2) أي أسرع وتعجل، والحديث إسناده ضعيف لكن العمل عليه كما قال ذلك الترمذي (3) ، وكذلك المعنى يدل عليه فإن المقصود من الأذان إعلام الغائبين فكان المشروع فيه الترسل والتمهل. وأما الإقامة فإنها إعلام لمن حضر في المسجد بإقامة الصلاة فكان المشروع فيها الحدر والإسراع. قال: (على علو) على منارة ونحوها، لأن ذلك أبلغ في الإعلام.

_ (1) هنا عبارة في الأصل ما نصه: " انظر آخر الدرس ". (2) أخرجه الترمذي في كتاب الصلاة، باب ما جاء في الترسل في الأذان (195) قال: " حدثنا أحمد بن الحسن، حدثنا المعلى بن أسَد حدثنا عبد المنعم، هو صاحب السِّقَاء، قال حدثنا يحيى بن مُسْلم عن الحسن وعطاء، عن جابر بن عبد الله أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال لبلال: (يا بلال إذا أذنت فترسل وإذا أقمت فاحدر، واجعل بين أذانك وإقامتك قدر..) . (3) لم أجد كلامه في باب ما جاء في الترسل في الأذن، من كتاب الصلاة، سنن الترمذي، طبعة بيت الأفكار.

ويدل عليه ما رواه أبو داود مبوباً عليه بقوله " باب الأذان على المنارة " ثم روى أن بلالاً كان يؤذن على أرفع بيت حول المسجد (1) . وروى ابن أبي شيبة بإسناد صحيح عن عبد الله بن شقيق هو تابعي قال: من السنة أن يؤذن على المنارة، وأن يقيم في المسجد) (2) والإسناد صحيح إلى عبد الله – والتابعي إذا قال " من السنة " فهو مرفوع. وأما مع ظهور رافعات الصوت فإن استعمالها كاف عن ذلك فإن الحكم يدور مع علته وجوداً وعدماً. * ويستحب للمؤذن أن يؤذن قائماً إجماعاً وهو كذلك أرفع لصوته وأبلغ في الإعلام، فإن أذن جالساً فأذانه صحيح بالإجماع (3) . قال: (متطهراً) يستحب أن يؤذن متطهراً وفي الترمذي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا يؤذن إلا متوضئ) (4) لكن الحديث إسناده ضعيف. وروى موقوفاً إلى أبي هريرة وإسناد ضعيف أيضاً فلا يصح موقوفاً ولا مرفوعاً.

_ (1) قال أبو داود في سننه [1 / 357] في كتاب الصلاة: " باب الأذان فوق المنارة " (519) ثم قال: " حدثنا أحمد بن محمد بن أيوب، حدثنا إبراهيم بن سعد، عن محمد بن إسحاق، عن محمد بن جعفر بن الزبير، عن عروة بن الزبير عن امرأة من بني النجار قالت: كان بيتي من أطول بيت حول المسجد وكان بلال يؤذن عليه الفجر.. " (3) وقيل بعدم الإجزاء، راجع حاشية الروض المربع. (4) أخرجه الترمذي في كتاب الصلاة، باب ما جاء في كراهية الأذان بغير وضوء (200) قال: " حدثنا علي بن حُجْر حدثنا الوليد بن مسلم عن معاوية بن يحيى الصدفي عن الزهري عن أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (لا يؤذن إلا متوضئ) . وقال (201) حدثنا يحيى بن موسى حدثنا عبد الله بن وهب عن يونس عن ابن شهاب قال: قال أبو هريرة: لا يُنادي بالصلاة إلا متوضئ) .

لكن يستدل له بما روى أبو داود بإسناد صحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إني كرهت أن أذكر الله على غير طهر) (1) فإن أذن بغير وضوء فأذانه صحيح باتفاق العلماء. قال: (مستقبل القبلة) إجماعاً – وهذا ما عليه العمل عند أهل العلم – فإن أذن لغير القبلة فصحيح، لكن المستحب أن يؤذن إلى القبلة، وقد أجمع أهل العلم على القول به. قال: (جاعلاً إصبعيه في أذنيه)

_ (1) أخرجه أبو داود في كتاب الطهارة، باب أيرد السلام وهو يبول (17) ، وأخرجه النسائي في الطهارة برقم 38، وابن ماجه برقم 350. سنن أبي داود [1 / 23] .

لما ثبت في حديث بلال وفيه: (وجعل إصبعيه في أذنيه) (1) والحديث ليس فيه ذكر الإصبع أهي السبابة أم غيرها، ولكن قد جزم غير واحد من أهل العلم كالنووي وغيره أن المستحب أن تكون السبابة. وهذا حسن، ولكن الحديث لم يعين ذلك، والأحرى أن تكون هي السبابة فهي أنسب من غيرها في ذلك. قال: (غير مستدير)

_ (1) أخرجه ابن ماجه في كتاب الأذان والسنة فيه، باب السنة في الأذان (711) قال: " حدثنا أيوب بن محمد الهاشمي حدثنا عبد الواحد بن زياد بن حجّاج بن أرطاة عن عون بن أبي جُحيفة عن أبيه قال: أتيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالأبطح وهو في قبة حمراء فخرج بلال فأذّن فاستدار في أذانه وجعل إصبعيه في أذنيه "، وقال أيضاً (710) " حدثنا هشام بن عَمَّار قال حدثنا عبد الرحمن بن سعد بن عمّار بن سعد مؤذن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حدثني أبي عن أبيه عن جده أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أمر بلالاً أن يجعل إصبعيه في أذنيه وقال: " إنه أرفع لصوتك " قال البوصيري: هذا إسناد ضعيف لضعف أولاد سعد القرظ: عمار، وسعد وعبد الرحمن " سنن ابن ماجه طبعة بيت الأفكار. وذكره البخاري معلقاً في كتاب الأذان باب هل يتتبع المؤذن فاه ههنا وههنا وهل يتلفت في الأذان فقال رحمه الله تعالى: " ويذكر عن بلال أنه جعل إصبعيه في أذنيه، وكان ابن عمر لا يجعل إصبعيه في أذنيه ". وأخرجه الترمذي في أبواب الصلاة باب 144 ما جاء في إدخال الاصبع في الأذن عند الأذان رقم (197) ، والنسائي في الأذان، باب كيف يضع المؤذن في أذانه، وأحمد 4 / 308، من حاشية سبل السلام [1 / 254] .

أي لا يستدير ببدنه، وفي أبي داود من حديث بلال وفيه: (ولم يستدر) (1) فلا يشرع له أن يستدير بل ينبغي له أن يبقي بدنه على استقبال القبلة، ولا تشرع له الاستدارة لما فيها من التحول عن القبلة. قال: (ملتفتاً في الحيعلتين يميناً وشمالاً) وظاهر المذهب أنه يقول " حي على الصلاة، حي على الصلاة " عن اليمين، ثم " حي على الفلاح، حي على الفلاح " عن الشمال – هذا هو المصرح به في المذهب.

_ (1) أخرجه أبو داود في كتاب الصلاة، باب في المؤذن يستدير في أذانه (520) قال: " حدثنا موسى بن إسماعيل حدثنا قيس - يعني ابن الربيع ح وحدثنا محمد بن سليمان الأنباري، حدثنا وكيع عن سفيان جميعاً عن عون بن أبي جُحَيفة عن أبيه قال: أتيت النبي - صلى الله عليه وسلم - بمكة وهو في قبة … فأذن، فلما بلغ: حي على الصلاة، حي على الفلاح، لوى عنقه يمينا وشمالا، ولم يستدر.. ".

- وذهب بعض أهل العلم: إلى أن المستحب أن يقول " حي على الصلاة " عن اليمين، ثم " حي على الفلاح " عن الشمال، ثم " حي على الصلاة " عن اليمين،ثم " حي على الفلاح " عن الشمال. وهو أولى، وممن اختار هذا القول ابن دقيق العيد في شرحه للعمدة (1) . وهذا أولى، لأن كلاً من الجهتين تأخذ نصيبها من هاتين الجملتين، فتنال جهة اليمين التي يصل الصوت منها إلى أهل اليمين تصل إليهم " حي على الصلاة " وكذلك " حي على الفلاح " وكذلك من كان عن شماله. ومعلوم أنه ربما لا يسمع أهل الجهة اليسرى مثلاً ما يؤديه المؤذن إلى الجهة اليمنى مع البعد. والمناسب أن تصل كل جملة من الجملتين إلى أهل كل جهة فكان الأنسب ما اختاره ابن دقيق العيد. ودليل ذلك: ما ثبت في أبي داود أن بلالاً كان يلوي عنقه ويقول: (حي على الصلاة حي على الفلاح يميناً وشمالاً) (2) .

_ (1) قال شيخنا في شرحه لأخصر المختصرات صْ 17 ما نصه: " واختار ابن دقيق العيد – وهو الأرجح -: أنه يقول عن يمينه: حي على الصلاة، وعن يساره: حي على الصلاة، ثم عن يمينه: حي على الفلاح، ثم عن يساره: حي على الفلاح، لتأخذ كل جهة حقها، ويدل عليه ظاهر الحديث في أبي داود: أنه كان يقول: " حي على الصلاة، حي على الفلاح، يمينا وشمالا ". فالظاهر: أنه يقول: حي على الصلاة، يمينا، و: حي على الصلاة، يسار، ثم يقول: حي على الفلاح، يمينا، ثم: حي على الفلاح، يسارا. هذا إذا لم هناك ميكروفون أمامه ينقل الصوت عن اليمين وعن الميسرة، إذ ليس هذا الأمر تعبديا، بل المقصود منه: إبلاغ من عن يمين المسجد ومن عن يساره ". (2) أخرجه أبو داود في كتاب الصلاة، باب الأذان فوق المنارة (520) وقد تقدم.

وهذا الحديث ظاهره ما ذهب إليه ابن دقيق فإنه جمع للجملتين كليهما جهة اليمين وجهة الشمال، فقال: " حي على الصلاة حي على الفلاح يميناً وشمالاً "، وظاهره أن كل جملة ثبت لها جهة اليمين وجهة الشمال. قال: (قائلاً بعدها في صلاة الصبح الصلاة خير من النوم مرتين) (1) وهل هو في الأذان الأول أم في الثاني؟ ظاهر إطلاقات الفقهاء – كما قال ذلك الشيخ على بن محمد بن عبد الوهاب وغيره – أنه يقول ذلك بالأذانين كليهما. ودليل ذلك: ما ثبت في ابن خزيمة بإسناد صحيح عن أنس بن مالك قال: (من السنة أن يقول المؤذن في أذان الفجر بعد حي على الصلاة حي على الفلاح: الصلاة خير من النوم الصلاة خير من النوم) (2) وهنا قال " في أذان الفجر " والأول والثاني كلاهما أذان للفجر.

_ (1) قال الترمذي في باب ما جاء في التثويب في الفجر من كتاب الصلاة بعد حديث (198) ما نصه: " وقد اختلف أهل العلم في تفسير التثويب، فقال بعضهم: التثويب أن يقول في أذان الفجر الصلاة خير من النوم وهو قول ابن المبارك وأحمد. وقال إسحاق في التثويب غير هذا، قال: التثويب المكروه هو شيء أحدثه الناس بعد النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا أذن المؤذن فاستبطأ القوم قال بين الأذان والإقامة: قد قامت الصلاة، حي على الصلاة حي على الفلاح " ا. هـ.وعليه حمل ما رُويَ عن ابن عمر.

وقد ثبت أن هذا من أذان بلال وأنه كان يقولها في أذانه كما ورد هذا عن بلال من طرق ترتقي إلى درجة الحسن في مسند أحمد وغيره (1) ، وبلال كان يؤذن تارة أذان الفجر الأول، وتارة أذانه الثاني، وكان يقول في أذانه " الصلاة خير من النوم ".

_ (1) روى الإمام أحمد في مسنده (24409) قال: " حدثنا حسن بن الربيع وأبو أحمد، قالا: حدثنا أبو إسرائيل - قال أبو أحمد في حديثه - حدثنا الحكم عن عبد الرحمن بن أبي ليلى عن بلال قال: أمرني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن لا أثوب في شيء من الصلاة إلا صلاة الفجر " وقال (24410) حدثنا علي بن عاصم، عن أبي زيد عطاء بن السائب، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى عن بلال قال: أمرني رسول الله أن لا أثوب إلا في الفجر " وقال: (24411) حدثنا أبو قَطَن، قال: ذكر رجل لشعبة الحَكَمُ، عن ابن ابن - كذا في طبعة بيت الأفكار - أبي ليلى عن بلال، فأمرني أن أثوب في الفجر ونهاني عن العشاء. فقال شعبة: لا والله ما ذكر ابن أبي ليلى ولا ذكر إلا إسناداً ضعيفاً، قال: أظن شعبة قال: كنت أراه رواه عن عمران بن مسلم " ا. هـ

فإن قيل: فما الجواب: عما ورد في النسائي من حديث أبي محذورة قال: (كنت أؤذن للنبي صلى الله عليه وسلم بمكة فكنت أقول في أذان الفجر الأول: " الصلاة خير من النوم، الصلاة خير من النوم ") (1)

_ (1) رواه النسائي في كتاب الأذان، باب التثويب في أذان الفجر (647) ، ورواه الإمام أحمد في مسنده (15453) قال: " حدثنا عبد الرحمن، حدثنا سفيان، عن أبي جعفر - قال عبد الرحمن: ليس هو الفراء – عن أبي سلمان، عن أبي محذورة قال: كنت أؤذن في زمن النبي - صلى الله عليه وسلم - في صلاة الصبح فإذا قلت: حي على الفلاح قلت: الصلاة خير من النوم، الصلاة خير من النوم، الأذان الأول " وقال أيضاً (15452) : " حدثنا سريج بن النعمان، حدثنا الحارث بن عبيد، عن محمد بن عبد الملك بن أبي محذورة عن أبيه عن جده قال: قلت: يا رسول الله، علمني الأذان فمسح ... فإن كان صلاة الصبح قلت: الصلاة خير من النوم، الصلاة خير من النوم … " وروى الأخير أبو داود بنفس السند إلا أن في أوله مسدد بدل سريج بن النعمان في كتاب الصلاة، باب (28) كيف الأذان (500) سريج بن النعمان: بن مروان الجوهري، أبو الحسن البغدادي، أصله من خراسان، ثقة يهم قليلا من كبار العاشرة، مات يوم الأضحى، سنة سبع عشر / خ 4. الحارث بن عبيد: الإيادي، أبو قدامة البصري، صدوق يخطئ، من الثامنة. / خت م د ت، التقريب، وتهذيب الكمال [5 / 258] . وقال البيهقي في السنن الكبرى (1980) : " أخبرنا أبو علي الروذباري، ثنا أبو بكر بن داسة، ثنا أبو داود، ثنا الحسن بن علي، ثنا أبو عاصم وعبد الرزاق، عن ابن جريج أخبرني عثمان بن السائب، أخبرني أبي وأم عبد الملك بن أبي محذورة عن أبي محذورة، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - نحوه، وفيه: الصلاة خير من النوم، الصلاة خير من النوم في الأولى من الصبح " ا. هـ. محمد بن عبد الملك بن أبي محذورة الجُمَحي، المكي المؤذن، مقبول، من السابعة / د. عبد الملك بن أبي محذورة الجمحي، مقبول، من الثالثة / عخ د ت س.

فالجواب: أن في هذا الحديث راو مجهول وهو أبو سليمان (1) وهو مجهول الحال – فعلى ذلك الحديث يتوقف في قبوله لوجود هذه الجهالة – وما كان كذلك فهو في حكم المردود. وأما ما ثبت في البيهقي بإسناد جيد عن ابن عمر أنه قال: (كان يقال: في الأذان الأول بعد: حي على الصلاة حي على الفلاح الصلاة خير من النوم) (2) فالجواب على ذلك: أن ذلك ليس بظاهر في أنه أذان الفجر الأول، بل قال: " في الأذان الأول " وأذان الفجر هو الأذان الأول، بدليل أن العصر هي الصلاة الوسطى، وهذا أمر ظاهر فإن الفجر أول النهار فكان هو الأذان الأول.

_ (1) كذا في الأصل وهو كذلك في سنن البيهقي [1 / 622] وفي السلسلة الصحيحة [4 / 334] ، ولعل الصواب: أبو سلمان كما في النسائي (647) ومسند الإمام أحمد (15453) وفي تهذيب الكمال والتقريب، قال في التقريب: " قيل اسمه همام، مقبول من الثالثة. / س ". وذكر المزي في التهذيب [33 / 367] أنه روى عن علي بن أبي طالب وأبي محذورة، وروى عنه العلاء بن صالح الكوفي، وأبو جعفر الفراء ". (2) أخرجه البيهقي في كتاب الصلاة، باب (74) التثويب في أذان الصبح رقم (1986)

ومع ذلك فإنه لو كان من اكتفاء به في أحد الأذانين كما يفعله الناس اليوم من كونهم يكتفون بهذا في أذان الفجر الثاني – فلو كان من اكتفاء لكان الأولى به هو أذان الفجر الأول الذي إنما شرع لإيقاظ النائم كما ورد هذا في الحديث المتفق عليه – في أذان بلال قال: (ليوقظ نائمكم) (1) فشرع لإيقاظ النائم أي " أذان الفجر الأول " فكان أحق أن يقال فيه هذه اللفظة، بخلاف أذان الفجر الثاني لأنه يؤذن وقد استيقظ الناس فهم يستعدون لصلاة الفجر. وما يفعله الناس من الفارق البعيد بين الأذان الأول والأذان الثاني من الفجر خلاف السنة وسيأتي الدليل عليه في باب المواقيت إن شاء الله. إذن: المستحب أن يقولها في الأذانين كليهما، ولو كان من اكتفاء بها في أحد الأذانين، فالمستحب أن يكون هو الأول لما فيه من المعنى المتقدم وهو إيقاظ النائم ليستعد للصلاة وليتسحر إن أراد الصيام. وما ذكرته هو ما قرره الشيخ علي بن محمد بن عبد الوهاب في مسألة له في مجموعة المسائل النجدية (2) . قال: (وهي - أي الإقامة - إحدى عشر جملة) كما هي إقامة بلال الثابتة – كما تقدم – في الصحاح والسنن والمسانيد (3) . وأما إقامة أبي محذورة فإنها سبع عشرة جملة، وهي ثابتة في المسند وسنن أبي داود والنسائي (4) وغيرهم بإسناد صحيح. قال: (يحدرها) أي يسرع بها ويتعجل، فلا يتريث كالأذان بل يحدرها، ودليل ذلك الحديث المتقدم وقد تقدم تضعيفه (5) لكن العمل عليه. قال: (ويقيم من أذن)

_ (1) أخرجه البخاري في كتاب الأذان، باب الأذان قبل الفجر (621) عن عبد الله بن مسعود عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (لا يمنعن أحدكم … ليرجع قائمكم ولينبّه نائمكم) . وأخرجه مسلم (1093) . (5) تقدم صْ 34.

لقوله صلى الله عليه وسلم: (من أذن فهو يقيم) (1) رواه الترمذي لكن الحديث إسناده ضعيف، وعليه عمل أكثر أهل العلم – كما قال الترمذي (2) – فعليه العمل في زمن النبي صلى الله عليه وسلم فما بعده، فإن بلالاً هو الذي كان يؤذن وهو الذي كان يقيم، وإذا أذن ابن أم مكتوم فهو الذي كان يقيم وهكذا. قال: (في مكانه إن سهل) يعني: إن سهل عليه فيقيم في مكانه أي على المنارة. لكن هذا ضعيف لا دليل عليه. - لذا ذهب بعض فقهاء الحنابلة: إلى أن المستحب أن يقيم في المسجد. وقد تقدم أثر عبد الله بن شقيق وهو قوله: " من السنة أن يؤذن في المنارة ويقيم في المسجد" (3) وهذا كذلك الذي عليه العمل سلفاً وخلفاً. فالمستحب أن تكون الإقامة في المسجد، والمعنى يدل على ذلك فإن الإقامة شرعت لإعلام الحاضرين بخلاف الأذان فهو لإعلام الغائبين. والأذان لإعلام من هو خارج المسجد ليحضر إليه أما الإقامة فهي هنا لإعلام من حضر في المسجد فناسب أن تكون فيه لا سيما وأنه قد يكون الأمر على خلاف هذا المعنى تماماً – فقد لا يسمع من في المسجد الإقامة إن كانت على المنارة وهذا يخالف المقصود تماماً. فالراجح: ما ذهب إليه بعض فقهاء الحنابلة من أن المستحب أن تكون الإقامة في المسجد؛ لأنها لإعلام الحاضرين وهم في المسجد فناسب أن تكون فيه، بخلاف الأذان فإنه لإعلام الغائبين فناسب أن يكون على المنارة.

_ (1) أخرجه الترمذي في كتاب الصلاة، باب (32) ما جاء أن من أذن فهو يقيم (199) بلفظ: " إن أخا صُدَاء قد أذن، ومن أذن فهو يقيم ". (2) قال في كتاب الصلاة، باب ما جاء أن من أذن فهو يقيم: " والعمل على هذا عند أكثر أهل العلم أن من أذن فهو يقيم "

* واعلم أن الإمام أملك بالإقامة كما أن المؤذن أملك بالأذان، فالمؤذن أملك بالأذان وهو إليه، وأما الإقامة فلا يشرع له أن يقيم إلا بإذن الإمام فإن فعل ذلك فقد أخطأ السنة، واستدلوا على ذلك: بما رواه ابن عدي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (المؤذن أملك بالأذان والإمام أملك بالإقامة) (1) لكن الحديث إسناده ضعيف ولكنه ثابت عن علي رضي الله عنه – كما في البيهقي (2) بإسناد جيد. وهو الذي يدل عليه النظر الصحيح فإن الصلاة التي تقام من شؤون الإمام فيما يختاره من الوقت الأنسب لها فيما يوافق السنة وبما فيه الرفق بالمأمومين، فكان ذلك إلى الإمام بخلاف الأذان فإنه راجع إلى تحرى الوقت فكان راجعاً إلى المؤذن. والحمد لله رب العالمين الدرس الرابع والخمسون (يوم الاثنين: 17 / 2 / 1415 هـ) قال المؤلف رحمه الله: (ولا يصح إلا مرتباً متوالياً) " ولا يصح ": أي الأذان " إلا مرتباً ": كما ورد " الله أكبر الله أكبر ... …الخ لابد أن يكون مرتباً " متوالياً ": بحيث لا يكون بين جمله فاصل طويل عرفاً. ودليل هذه المسألة أن الوارد في الأذان الشرعي أن يكون مرتباً متوالياً، فلم يثبت التنكيس فيه ولا القطع.

_ (1) قال الحافظ في البلوغ: " رواه ابن عدي وضعفه " سبل السلام [1 / 268] . (2) أخرجه البيهقي في كتاب الصلاة، باب (131) لا يقيم المؤذن حتى يخرج الإمام (2279) قال: " أخبرنا أبو عبد الله الحافظ، أنبأ أبو بكر بن إسحاق، أنبأ محمد بن غالب، أنبأ أبو عمرو الحوضي، وعمرو بن مرزوق، ومسلم بن إبراهيم، قالوا: أنبأ شعبة، عن منصور، قال: سمعت هلالاً بن يساف يحدث عن أبي عبد الرحمن السلمي، عن علي رضي الله عنه قال: " المؤذن أملك … " قال البيهقي: " وروي عن شريك عن الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة مرفوعاً وليس بمحفوظ ".

فإذا ثبت ذلك فإن سواه مردود لكونه يخالف هدي النبي صلى الله عليه وسلم في الأذان وكل عمل ليس عليه أمر النبي صلى الله عليه وسلم فهو رد فإذا قدم بعض جمله على بعض فإن الأذان يبطل بذلك، وكذلك إذا فصله بفاصل طويل عرفاً كسكوت أو كلام طويل قاطع - ومرجع ذلك إلى العرف؛ لما تقدم - وكل عمل ليس عليه أمر النبي صلى الله عليه وسلم فهو رد. قال: (من عدل (1)) أما إن كان فاسقاً فلا يصح أذانه وهذا رواية عن أحمد وهو المشهور عند الحنابلة، لقوله صلى الله عليه وسلم: (والمؤذن مؤتمن) (2) والفسق ضد الأمانة، فالواجب أن يكون أميناً ومن كان فاسقاً فليس كذلك. قالوا: ولأن الله سبحانه وتعالى قال: {يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا} (3) وهذا خبر فوجب أن يرد؛ لأن خبر الفاسق مردود. - وذهب الشافعي وهو رواية عن الإمام أحمد: إلى صحة أذان الفاسق؛ لأنه قد قام بوظيفة الأذان وهو مسلم وداخل في عموم قوله صلى الله عليه وسلم: (فليؤذن لكم أحدكم) (4) . وأما قضية الخبر فهي راجعة إلى السامعين. ولكن هذا فيه نظر ظاهر، فالأرجح مذهب أهل القول الأول، ولكن هذا ليس على الإطلاق، وإنما ذلك حيث يعتمد على أذانه أما إذا كان في بلدة فيها غيره من المؤذنين الذي يعتمد على أذانهم في الصلاة والصيام فإنه يصح أذانه لأن الله قال: {إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا} وهنا يتم التبين والتثبت بسماع غيره من المؤذنين الذين هم من أهل العدالة والصدق. فإذن: إنما يرد ولا يصح أذانه حيث كان في حالة يعتمد على أذانه فيها كأن يكون في قرية أو نحوها هو المؤذن.

_ (1) أي ظاهراً، وأما عدالته باطناً وظاهراً فمستحب، كما تقدم عند قوله " أميناً ". قاله في حاشية الروض. (2) رواه الإمام أحمد وأبو داود، وقد تقدم صْ 23. (3) سورة الحجرات. (4) متفق عليه، وقد تقدم صْ 25.

أما إذا كان أذانه بمنزلة السنة المؤكدة، فإنه إذا أذن بعض المؤذنين في البلد وقامت بهم الكفاية فأذان غيرهم من باب السنة المؤكدة لأنه قد قام الفرض بأذان غيره – فعلى ذلك أذانه صحيح لأنه يمكن التبين والتثبت بسماع غيره من المؤذنين. قال: (من عدل ولو ملحناً) أي ولو كان مطرباً، أي فيه تطريب وتحسين صوت على هيئة غير شرعية بأن يكون فيه زيادة في المد وفيه شيء من ترديد الصوت أو نحو ذلك مما يخرجه عن هيئته الشرعية إلى أن يكون مشابها للغناء فهذا هو الملحن، فإنه لو كان ملحنا فالأذان صحيح. وهذا أحد الوجهين في مذهب أحمد وهو المشهور. وأما الوجه الثاني في المذهب فهو: أن أذان الملحن لا يجزئ. واستدلوا: بما رواه الدارقطني: أنه كان للنبي صلى الله عليه وسلم مؤذن يطرب فقال له: (إن الأذان سهل سمح " أي بغير تكلف " فإن كان أذانك سهلاً سمحاً وإلا فاعتزلنا) (1) لكن الحديث إسناده ضعيف. وهو ثابت عن عمر بن عبد العزيز كما رواه البخاري عنه معلقاً مجزوماً به ووصله ابن أبي شيبة (2) .

_ (1) أخرجه الدارقطني في كتاب الجنائز / باب (16) تخفيف القراءة لحاجة / رقم 1852. في إسناده إسحاق بن يحيى الكعبي، قال المحقق: " قال ابن حبان: وليس لهذا الحديث أصل من حديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ا. هـ قال الحافظ عن إسحاق الكعبي: هالك يأتي بالمناكير عن الأثبات، وكذا قال الذهبي، وقال أيضاً: " ومن أوابده عن ابن جريج حديث: إن كان أذانك سهلا.. " ا. هـ بتصرف. (2) ذكره البخاري في بداية باب رفع الصوت بالنداء من كتاب الأذان بلفظ " وقال عمر بن عبد العزيز: أذِّنْ أذاناً سمحاً وإلا فاعتزلنا ".

والذي استدل به أهل القول الأول من صحة الأذان: قالوا: إن الأذان الملحن يحصل به المقصود من إبلاغ السامعين الأذان الشرعي بألفاظه الصحيحة مستقيمة الألفاظ ليس فيها تغيير، إلا أن التغيير قد طرأ على أدائه أما الألفاظ فإنها هي الألفاظ الواردة، فعلى ذلك يكون مخطئاً مبتدعاً في فعله ذلك، وأما الأذان فإنه صحيح - وما ذكره أهل المذهب قول قوي – والعلم عند الله تعالى. قال: (أو ملحوناً) الملحون: الذي فيه خلل في اللغة العربية برفع ما يكون حقه النصب، أو نصب ما يكون حقه الجزم أو نحو ذلك ويصح أذان الملحون ما لم يحل المعاني، أما إذا أحال المعاني فإنه يبطل. مثال غير المحيل للمعاني: إذا قال: " أشهدَِ" فهذا ليس مما يحيل المعنى فهو أذان صحيح لكنه مكروه كما نص عليه أهل المذهب. وأما مثال ما يحيل المعاني: كقوله: " أشهد أن محمداً رسولَ الله " فهذا الأذان باطل على المذهب؛ لأنه يحيل المعنى ويبطله فإن المعنى هنا فاقد الخبر. مثال آخر: " آلله أكبر " فهذا استفهام، كأنه يستفهم هل الله أكبر أم لا؟ فالأذان باطل. أو قال: " الله أكبار " والأكبار هو الطبل وهذا مشهور عندنا فهذه كلها تُبطل الأذان؛ لأنها تحيل اللفظ عن معناه فتصرفه عن معناه المراد إلى معنى آخر وهذا كالقراءة أي قراءة الفاتحة. قال: (ويجزئ من مميز) اتفق أهل العلم على أن أذان الكافر والمجنون وغير المميز لا يصح؛ لأنهم لا نية لهم، وفي الحديث: (إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى) (1) . والأذان عبادة يشترط فيها النية، وهؤلاء لا نية لهم فلم تصح عبادتهم. وأما الكافر فلقوله تعالى: {وما منعهم أن تقبل منهم نفقاتهم إلا أنهم كفروا بالله وبرسوله} (2) .

_ (1) متفق عليه. (2) سورة التوبة.

وأما أذان المميز وهو من بلغ سن التمييز حيث يفهم الخطاب ويرد الجواب وهذا يكون في الغالب عند تمام سبع سنين فإنه يصح أذانه لذا قال هنا: " ويجزئ من مميز ". وهذا مذهب الجمهور. قالوا: لصحة صلاته. وذهب بعض أهل العلم إلى: أن أذان المميز لا يجزئ. قالوا: لأنه ليس محلاً لقبول الخبر لذا لا يقبل خبره في حديث النبي صلى الله عليه وسلم حتى يبلغ، وهو ليس محلاً لقبول الأخبار لكونه غير مكلف فليس محلاً للمحاسبة على الصدق والكذب فلما كان كذلك لم يقبل أذانه. وفصَّل شيخ الإسلام في هذه المسألة تفصيلاً حسناً حمل عليه قول أهل القول الأول، فقال – كلاماً معناه: والأشبه أن الأذان الذي يعتمد عليه في الصلاة والصيام لا يقبل من المميز ولا يعتد به قولاً واحداً، فأهل القول الأول لا يقبلونه في مثل هذه الحال؛ لأنه ليس أهلاً لذلك فليس بمكلف وليس بمؤاخذ على الكذب وغيره من الأمور المحرمة فلم يكن محلاً لقبول الخبر. أما إن كان بحيث لا يعتمد عليه – وحينئذ – يكون الأذان سنة مؤكدة كأن يكون في مصر فيه مؤذنون يعتمد عليهم وهو من جملة من يؤذن في هذه البلدة فإن أذانه يصح – وهذا تفصيل حسن من الشيخ رحمه الله – قال: " وفيه روايتان عن الإمام أحمد والصحيح جوازه " (1) . إذن: في هذه المسألة روايتان عن الإمام أحمد، وينبغي حمل هاتين الروايتين على المميز حيث لا يعتمد عليه في صلاة الناس وصيامهم، والصحيح الجواز كما تقدم في مسألة الفاسق، فهو أولى بقبول الخبر من الفاسق. وأما إذا كان بحيث يعتمد عليه فحينئذ: لا ينبغي القول بقبول أذانه ولا الاعتماد عليه وينبغي أن يكون هذا قولاً واحداً في المذهب. قال: (ويبطلهما فصل كثير) فيبطل الأذان إذا كان فيه فصل كثير لاشتراط الموالاة في الأذان، فالفاصل الكثير عرفاً يبطله. والفصل الكثير سواء كان بسكوت أو بكلام. [ويسير محرم] كيف يتصور هذا أي أن يتكلم بكلام يسير محرم؟

كأن يغتاب أو يقذف أو يسب أثناء الأذان وهذا في الحقيقة مسألة مستبعدة، فحينئذ ينقطع بذلك الأذان. وعللوا ذلك: بعلة غريبة أيضاً: وهي أنه يظن أنه مستهزئ بالأذان فحينئذ: يرد أذانه لكونه يظن فيه أن يكون مستهزئاً حيث أدخل في الأذان هذا الكلام اليسير المحرم. لكن هذه المسألة على ندرة وقوعها، الصحيح أنها إذا وقعت فالأذان صحيح؛ لأن الأذان قد وقع على الوجه الشرعي، فقد أذن أذاناً مرتباً متوالياً، وليس من شرط الأذان ألا يتخلله شيء ولم يدل دليل شرعي على مثل ذلك، فالأذان صحيح لا شك فيه، وأما الإثم فهو واقع عليه. والدليل على جواز الكلام فيه، ما رواه البخاري معلقاً قال: (وتكلم سليمان بن صرد وهو يؤذن) (1) ثم إنه لا دليل يدل على المنع منه والإبطال به، والأصل عدم التحريم وعدم البطلان. قال: (ولا يجزئ قبل الوقت إلا الفجر بعد نصف الليل) لا يجزئ الأذان قبل الوقت فإذا أذن قبل زوال الشمس وقبل غروبها فالأذان باطل؛ لأنه عمل ليس عليه أمر النبي صلى الله عليه وسلم فهو رد وهذا مما اتفق عليه أهل العلم، فعلى ذلك يجب إعادته حيث كان مما يعتد به، لأنه أذان ليس على هدي النبي صلى الله عليه وسلم وقد قال: (إذا حضرت الصلاة فليؤذن لكم أحدكم) (2) فلا أذان قبل حضورها. " إلا الفجر ": لقوله صلى الله عليه وسلم: (إن بلالاً يؤذن بليل فكلوا واشربوا حتى يؤذن ابن أم مكتوم) (3) متفق عليه. والليل ما كان قبل طلوع الفجر الصادق، فدل هذا على أن الفجر مستثني من هذه المسألة وأنه يؤذن قبل دخول الوقت وهو الأذان الأول. " بعد نصف الليل ": إذن وقت الأذان الأول بعد نصف الليل.

_ (1) في باب الكلام في الأذان من كتاب الأذان قبل (616) قال رحمه الله: " وتكلم سليمان بن صُرَد في أذانه، وقال الحسن: لا بأس أن يضحك وهو يؤذن أو يقيم " ا. هـ (2) متفق عليه، وقد تقدم. (3) تقدم.

لكن هذا ضعيف، قال في الإنصاف: " وقيل لا يصح إلا قبل الفجر بوقت يسير وهي رواية عن الإمام أحمد ". وهذا القول هو الراجح؛ لأن الأذان الوارد في هذا الباب وهو الأذان الأول للفجر كان قبيل أذان الفجر الصادق بوقت يسير، قالت عائشة – كما في النسائي (1) في أذان بلال وابن أم مكتوم – وكان بلال يؤذن الأذان الأول وابن أم مكتوم يؤذن الأذان الثاني قالت: (لم يكن بينهما إلا أن ينزل هذا ويرقى هذا) (2) فهو وقت يسير، ونحوه عن القاسم بن محمد في البخاري معلقاً (3) .

_ (1) هو في مسلم من قول عائشة وابن عمر رضي الله عنهما، وفي البخاري من قول القاسم، كما سيأتي. (2) كذا في المطبوع، ويحتمله الأصل، وقد أخرجه البخاري في كتاب الصوم، باب قول النبي - صلى الله عليه وسلم - (لا يمنعنكم من سحوركم أذان بلال) (1918) (1919) ، من قول القاسم، وأخرجه مسلم في كتاب الصيام، باب بيان أن الدخول في الصوم يحصل بطلوع الفجر.. (1092) من قول ابن عمر وعائشة، وأخرجه النسائي في كتاب الأذان، باب هل يؤذنان جميعاً أو فُرادى (639) من قول عائشة. (3) قال البخاري رحمه الله تعالى في كتاب الصوم، باب قول النبي - صلى الله عليه وسلم - (لا يمنعنكم من سحوركم أذان بلال) (1918) (1918) ما نصه: " حدثنا عبيد بن إسماعيل، عن أبي أسامة، عن عبيد الله، عن نافع، عن ابن عمر، والقاسم بن محمد، عن عائشة رضي الله عنها: أن بلالا كان يؤذن بليل، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (كلوا واشربوا حتى يؤذن ابن أم مكتوم، فإنه لا يؤذن حتى يطلع الفجر) قال القاسم: ولم يكن بين أذانهما إلا أن يرقى ذا وينزل ذا " ا. هـ.

ومما يدل عليه أيضاً قوله صلى الله عليه وسلم – في المتفق عليه -: (لا يمنعن أحداً منكم أذان بلال عن سحوره) (1) ومن هنا نستفيد أنه كان قبيل أذان الفجر بحيث أنه يخشى على الناس أن يلبس عليهم أهو الأذان الأول أم الثاني " فإنه يؤذن بليل ليرجع قائمكم " ليستريح قليلاً في فراشه ليستعد لصلاة الفجر " ولينبه نائمكم " (2) ليستعد لصلاة الفجر وليستعد للسحور. إذن: هو بقدر ما إذا كان الرجل نائماً بحيث أنه يستعد للوضوء أو الغسل أو نحو ذلك، ويستعد – إن كان مريداً للصوم بأن يطعم، فيكون قدراً كافياً لسحوره. ومن هنا نعلم أن الأذان بعد نصف الليل وقبل الوقت المذكور أنه ليس بمشروع لأنه عمل ليس عليه أمر النبي صلى الله عليه وسلم فهو رد. ويستحب لمن أذن الأذان الأول أن يكون هناك من يؤذن الأذان الثاني وأن يعرف الناس أنه يؤذن الأول لئلاً يلتبس عليهم فيتضررون في صلاتهم وعبادتهم. يستحب أن يكون عرف الناس أنه يؤذن بليل لئلا يلتبس الأمر عليهم، ويستحب أن يكون هناك مؤذن آخر يؤذن للفجر. وهذا الاستحباب في الاكتفاء به نظر، والأظهر وجوب ذلك أو شرطيته وأن ذلك شرط وهذا مقتضى كلام الموفق في كتاب الكافي (3) ؛ وذلك لأنه متى ترك الأذان الثاني فإنه يكون قد أخل بالواجب الأصلي وهو أذان الفجر عند دخول الوقت وإذا أذن بحيث يلبس على الناس فإنه قد أوقعهم بخلاف المقصود من الأذان الشرعي، فكان الواجب لا المستحب فقط أن يكون هناك من يؤذن الأذان الثاني وأن يعرف الناس أن هذا هو الأذان الأول بحيث لا يلبس عليهم أمر صلاتهم وصيامهم. وقال في المبدع: " وأما ما يفعله الناس في زماننا من الأذان في أول الثلث الأخير فهو خلاف السنة وفي جوازه نظر " (4) وهو كما قال بل الراجح أنه ليس بصحيح. والحمد لله رب العالمين. الدرس الخامس والخمسون

_ (1) أخرجه البخاري في كتاب الأذان، باب الأذان قبل الفجر (621) ومسلم (1093) .

(يوم الثلاثاء: 18 / 2 / 1415هـ) قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ويسن جلوسه بعد أذان مغرب يسيراً] " يسيراً ": قال بعض فقهاء الحنابلة: بقدر ما يكفي لقضاء الحاجة والوضوء وصلاة ركعتين. وقال بعضهم غير ذلك. ولعل التي استحبت هذه المسألة من أجلها: أن الأذان مشروع للإعلام فاستحب أن يمكث المؤذن عن الإقامة بقدر ما يدرك الناس الصلاة، فلما كان الأذان للإعلام استحب أن يمكث يسيراً فلا يقيم إلا بعد هذا المكث حتى يتمكن الناس من إدراك الصلاة التي أذن لها، وحينئذ فإن مثل التقدير الذي تقدم ذكره لا يكون في كل حال من الأحوال، وإنما يكون في بعض الأحوال. فالضابط على ذلك أن يقال: أن يمكث بقدر ما يتمكن الناس فيه من الحضور إلى المسجد وإدراك الصلاة تامة، فيمكث بقدر ما يكون كافياً لقضاء الحاجة والوضوء. دليل هذا القائل الذي ذكر هذا القدر مع الركعتين استدل بما ثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه من صلاة ركعتين بعد أذان المغرب وقبل صلاتها. لكن هذا الدليل ليس بظاهر في هذا، فإنه من المحتمل أن يكونوا قد حضروا الأذان في المسجد، فيصلون ركعتين. إذاً: المقصود من ذلك: أنه يسن له أن يمكث بعد أذانه - فلا يقيم إلا - بقدر ما يتمكن الناس الذين أعلموا بالأذان من إدراك الصلاة. وهذا ليس خاصاً لصلاة المغرب بل هو عام فيها وفي غيرها من الصلوات التي يسن تعجيلها، فكل صلاة يستحب تعجيلها يسن هذا الفعل من المكث فيها. وإنما خصت صلاة المغرب بهذا الحكم لقصر وقتها وضيقه، فهي أضيق من غيرها بالوقت. ولما روى تمام في فوائده أن النبي - صلى الله عليه وسلم -[قال] (1) : جلوس المؤذن بين الأذان والإقامة في المغرب سنة) ، لكن الحديث إسناده ضعيف.

_ (1) ليست في الأصل.

ومثله ما روى الترمذي أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال لبلال: (إذا أذنت فترسل وإذا أقمت فاحدر واجعل بين أذانك وإقامتك قدر ما يفرغ الآكل من أكله والشارب من شربه والمعتصر لقضاء الحاجة ولا تقيموا حتى تروني) (1) ، والحديث فيه عبد المنعم صاحب السقاء وهو منكر الحديث، فالحديث لا يثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم -. فعلى ذلك: العلة التي تقدم ذكرها هي: أصل الاستدلال في هذه المسألة، فالأذان شرع للإعلام، فناسب أن يكون هناك فترة زمنية يتمكن بها الخارجون عن المسجد بعد سماعهم للنداء من الوضوء ونحوه مما يحتاجون إليه، وهذا بقدر عشر دقائق ونحوها، وهذا ليس خاصاً بصلاة المغرب بل فيها وفي غيرها، لكن غيرها أوسع منها لأمرين: الأمر الأول: ثبوت الصلاة الراتبة فيها، لاسيما الفجر والظهر، بخلاف العصر فإنها شبيهة بالمغرب من هذا الوجه حيث لا سنة راتبة فيها، وإنما السنة الواردة في العصر والمغرب ليست براتبة. الأمر الآخر: أن الصلوات الأخرى أوسع منها وقتاً. ثم إن كثيراً من هذه الصلوات تكون غالباً بعد عمل الناس، فربما احتاجوا إلى وقت أوسع من ذلك، لذا الوقت بين أذان المغرب والإقامة يكون أقل من غيرها من الصلوات. أما الصلوات الأخرى فإنه يزاد عن هذا الوقت بقدر الحاجة، فإن صلاة الفجر تكون بعد النوم فيحتاج ذلك إلى مزيد من الوقت للاستعداد لصلاة الفجر، وربما احتاج إلى غسل أو إحضار ماء وتسخينه ونحو ذلك مما يحتاج إليه، وكذلك صلاة العصر.

_ (1) أخرجه الترمذي في كتاب الصلاة، باب ما جاء في الترسل في الأذان (195) قال: " حدثنا أحمد بن الحسن، حدثنا المعلى بن أسَد حدثنا عبد المنعم، هو صاحب السِّقَاء، قال حدثنا يحيى بن مُسْلم عن الحسن وعطاء، عن جابر بن عبد الله أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال لبلال: (يا بلال إذا أذنت فترسل وإذا أقمت فاحدر، واجعل بين أذانك وإقامتك قدر..) .

وصلاة الظهر تكون بعد إتيان الناس من أعمالهم، فالمقصود من ذلك: أنه ينبغي للإمام أن لا يأمر بالإقامة إلا بعد مضي وقت كاف لإدراك الناس الصلاة تامة ولإدراك ما يستحب قبلها من السنن الراتبة إن كان ثمت راتبة كالظهر والفجر. قال: [ومن جمع أو قضى فوائت أذن للأولى ثم أقام لكل فريضة] أما الجمع فلما ثبت في مسلم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - جمع بين الظهر والعصر بعرفة بأذان وإقامتين " (1) . وأما الفوائت فقد تقدمت الأدلة عليها. قال: [ويسن لسامعه متابعته سراً] لما ثبت في صحيح مسلم عن عمر بن الخطاب قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (إذا قال المؤذن: الله أكبر الله أكبر، فقال أحدكم: الله أكبر الله أكبر، ثم قال: أشهد ألا إله إلا الله، فقال: أشهد ألا إله إلا الله، ثم قال: أشهد أن محمداً رسول الله، فقال: أشهد أن محمداً رسول الله، ثم قال: حي على الصلاة، فقال: لا حول ولا قوة إلا بالله، ثم قال:حي على الفلاح،فقال: لا حول ولا قوة إلا بالله، ثم قال: الله أكبر، الله أكبر، فقال: الله أكبر، الله أكبر، ثم قال: لا إله إلا الله، فقال: لا إله إلا الله، من قلبه دخل الجنة) (2) .

_ (1) أخرجه مسلم في كتاب الحج، باب حجة النبي - صلى الله عليه وسلم - من حديث جابر رضي الله عنه. (2) أخرجه مسلم في كتاب الصلاة، باب استحباب القول مثل قول المؤذن.. (385) .

وثبت في صحيح مسلم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (إذا سمعتم المؤذن فقولوا مثل ما يقول ثم صلوا علي فإن من صلى علي صلاة صلى الله عليه بها عشراً) وفيه استحباب الصلاة على النبي - صلى الله عليه وسلم - بعيد الأذان (ثم سلوا الله لي الوسيلة، فإنها منزلة في الجنة لا تنبغي إلا لعبد من عباد الله وإني أرجو أن أكون أنا هو، فمن سأل الله لي الوسيلة حلت له الشفاعة) (1) .. وثبت في أبي داود بإسناد صحيح عن عبد الله بن عمرو بن العاص أن رجلاً سأل النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: يا رسول الله إن المؤذنين يفضلوننا، فقال: (قل كما يقولون ثم سل تعطه) (2) . ففي هذه الأحاديث سنية إجابة المؤذن. ويستثنى من ذلك المصلي والمتخلي.

_ (1) أخرجه مسلم في كتاب الصلاة، باب استحاب القول مثل قول المؤذن.. (384) من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص، وهو في الصحيحين من حديث أبي سعيد الخدري بلفظ: " إذا سمعتم النداء فقولوا مثل ما يقول المؤذن "، البخاري، كتاب الأذان، باب ما يقول إذا سمع المنادي (611) . (2) أخرجه أبو داود في كتاب الصلاة، باب ما يقول إذا سمع المؤذن (524) قال: " حدثنا ابن السَّرْح ومحمد بن سلمة، قالا: حدثنا ابن وهب، عن حُيَي، عن أبي عبد الرحمن - يعني الحُبُلِّي – عن عبد الله بن عمرو أن رجلاً قال: يا رسول الله، إن المؤذنين يفضلوننا، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (قل كما يقولون، فإذا انتهيت فسل تُعْطه) ، وأخرجه النسائي في اليوم والليلة، سنن أبي داود [1 / 360] .

أما المصلي؛ فلأن الصلاة شغل، كما قال - صلى الله عليه وسلم -: (إن في الصلاة لشغلاً) (1) ، فيستثنى؛ لأنه متى أجاب المؤذن انشغل عن تدبر الصلاة والخشوع فيها. وهذا هو مذهب الجمهور، وحكاه شيخ الإسلام في الفتاوى ولم يتعرض لخلافه بترجيح. - ورجح – رحمه الله – كما في كتب الحنابلة في النقل عنه استحباب ذلك في الصلاة، وهو رواية عن الإمام مالك، وأنه يستحب إجابة المؤذن في الصلاة نفلاً وفرضاً، واختاره شيخ الإسلام كما تقدم، واختاره الشيخ عبد الرحمن بن سعدي، قال: " والعمومات تؤيده ". والجواب: إن العمومات وإن كانت تؤيده، لكن الصلاة لها معنى خاص يقتضي إخراجها من هذا الحكم؛ لأنه متى أجاب فإن هذا يخل في خشوعه في صلاته وإقباله على الله فيها بمتابعة المؤذن. فالأظهر مذهب الجمهور، وأن إجابة المؤذن لست بمشروعة في الصلاة، وكما تقدم فإن شيخ الإسلام ذكر في الفتاوى قول الجمهور ولم يعقب عليه. وأما ما ذكره من الترجيح السابق فقد ذكر عنه في كتب الحنابلة، فلعله قول قديم له. والعلم عند الله تعالى. * وأما المتخلي، فكذلك، قالوا: ويجيب بعد خروجه من الخلاء. واختار شيخ الإسلام أنه يجيب في الخلاء سراً. والراجح خلافه؛ لأنه ثبت أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يجب المسلِّم عند قضاء حاجته، وأجابه بعد ذلك، وقال: (إني كرهت أن أذكر الله على غير طهر) (2) ، وكذلك الأذان فإنه يجيب بعد خروجه من الخلاء، كما فعل النبي- صلى الله عليه وسلم - لما سلم عليه، فإنه لم يجب حتى قضى حاجته.

_ (1) أخرجه البخاري في كتاب العمل في الصلاة، باب ما ينهى من الكلام في الصلاة (1199) ،وباب لا يرد السلام في الصلاة (1216) وفي كتاب مناقب الأنصار، باب هجرة الحبشة (3875) ، ومسلم (538) ، وأبو داود في كتاب الصلاة، باب (170) رد السلام في الصلاة (923) . (2) أخرجه أبو داود، وقد تقدم.

فالراجح: أن المتخلي يجيب بعد خروجه من الخلاء. فائدة: ذكرها النووي: أنه قال: " ولم أر لأصحابنا في متابعة المؤذن بعد الأذان تعرضاً ". وهي مسألة: إجابة المؤذن بعد فراغه من الأذان، قال: " والذي يظهر إنه إن كان قد قرب فإنه يجيب وإن كان هناك فاصل كثير، فإنه لا يجيب "، وهو قول حسن، وأن من ترك الإجابة فإن كان الفاصل بين الأذان والمتابعة قريباً فإنه يجيب، أما إذا كان طويلاً عرفاً فإنه لا يجيب. هذا ما قرره النووي. ومعلوم أن السنة أن يتابع المؤذن جملة جملة كما تقدم في حديث عمر.

وقد ذكر الحنابلة وهو مستحب عند الشافعية كما هو مستحب عند الحنابلة إجابة المقيم أيضاً؛ واستدلوا بما رواه أبو داود: أن بلالاً أخذ بالإقامة فلما قال: قد قامت الصلاة، قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: (أقامها الله وأدامها) (1) ، لكن الحديث إسناده ضعيف لا يثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، بل هو ضعيف جداً. لكن عمدتهم في الاستدلال هو عمومات الأحاديث، كقوله: (إذا سمعتم المؤذن) ، ومعلوم أن المقيم مؤذن، لقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: (بين كل أذانين صلاة) (2) ، فكما أن الإعلام الخارجي بالأذان الأول أذان، فكذلك إعلام الحاضرين بالأذان الثاني هو أذان. لكن الذي يظهر أن هذا الإطلاق من باب التغليب، كما يقال: العمران والقمران. والأظهر: أن الإقامة لا تشرع لها الإجابة، وهو ما ذهب إليه بعض الشافعية؛ وذلك لوجوه: منها: أن الإقامة المشروع فيها الحدر ومتى كان ذلك فإن في المتابعة عسراً.

_ (1) أخرجه أبو داود في كتاب الصلاة، باب 37) ما يقول إذا سمع الإقامة (528) قال: " حدثنا سليمان بن داود العتكي، حدثنا محمد بن ثابت، حدثني رجل من أهل الشام، عن شهر بن حوشب عن أبي أمامة أو عن بعض أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - أن بلالا أخذ في الإقامة، فلما أن قال: قد قامت الصلاة، قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: (أقامها الله وأدامها) وقال في سائر الإقامة كنحو حديث عمر رضي الله عنه في الأذان ". (2) أخرجه البخاري في كتاب الأذان، باب بين كل أذانين صلاة لمن شاء (627) ، ومسلم (838) ، وأبو داود في كتاب الصلاة، باب الصلاة قبل المغرب (1283) .

ومنها: أنه قد ورد في الأحاديث في متابعة الأذان استحباب الصلاة على النبي - صلى الله عليه وسلم - بعد ذلك واستحباب الدعاء بالدعاء الوارد للنبي - صلى الله عليه وسلم - بالوسيلة والمقام المحمود، وهذا لا يسعه الوقت الذي يكون بين الإقامة والصلاة، فإنه وقت يسير جداً، فمتى انتهى المقيم من الإقامة واعتدلت الصفوف كبر للصلاة، وهذا في الغالب لا يسع لمثل هذا الدعاء. ومنها: أن الإقامة إنما شرعت لإعلام الحاضرين بإقامة الصلاة في المسجد، وقد أجابوا منادي الله فحضروا في المسجد. وأما الأذان الأول فهو إعلام للغائبين فشرع لهم أن يتلفظوا بتلك الألفاظ إعلاناً منهم بإجابة المؤذن وإجابة ندائه، وأنهم مستعدون ومتهيئون لحضور الصلاة وإجابة منادي الله تعالى. فالأظهر ما ذهب إليه بعض الشافعية لهذه الوجوه المتقدمة. مسألة: هل تشرع الإجابة للمؤذن نفسه؟ بمعنى يجيب نفسه؟ ذهب الحنابلة: إلى مشروعية ذلك؛ وعللوا ذلك: بالجمع بين الأجرين، أجر الأذان وأجر المتابعة. لكن الراجح خلاف ذلك، فهذه مسألة فيها نظر ظاهر، فإنه مناد لا مجيب، فهذا منادي،وهذا مجيب، فكيف يكون المنادي مجيباً. ثم إن هذا قد يشغله عن إقامة الإذان على وجهه الصحيح. ثم إن عمومات النصوص الشرعية إنما وردت في السامع (إذا سمعتم الأذان) ، ونحو ذلك، وليس يدخل في تلك الألفاظ إلا السامع، وإدخال المؤذن يحتاج إلى دليل ولا دليل على ذلك. واعلم أن المستحب له أن يقول: " لا حول ولا قوة إلا بالله " عن قول المؤذن: "حي على الصلاة، حي على الفلاح " كما تقدم في حديث عمر. وفي قول " الصلاة خير من النوم " في الإجابة قولان: القول الأول، وهو المشهور في المذهب: أن يقول: " صدقت وبرِرْت ".

القول الثاني: أنه يجيبه بقول: " الصلاة خير من النوم ". وهذا هو الراجح؛ لعموم قوله - صلى الله عليه وسلم -: (إذا سمعتم المؤذن فقولوا مثل ما يقول) ، ويدخل في ذلك كل الألفاظ سوى الحيعلة، فإن الحديث الآخر – حديث عمر – قد ورد باستثنائها. قال الحافظ ابن حجر: " وليس لصدقت وبررت أصل " (1) . ومثل ذلك " أقامها الله وأدامها " عند الإقامة فهي ضعيفة لا تصح. قال: [وحوقلته في الحيعلة] الحوقلة: هي اختصار لقول: " لا حول ولا قوة إلا بالله ". والحيعلة: هي اختصار لقول: " حي على الصلاة، حي على الفلاح ". فيسن أن يجيبه بـ" لا حول ولا قوة إلا بالله " أي ليس لي تحول من حالتي هذه إلى حالة أخرى أجيب بها المنادي وأحضر إلى الصلاة إلا بقوة وتأييد من الله تعالى. قال: [وقوله بعد فراغه: اللهم رب هذه الدعوة التامة والصلاة القائمة آت محمداً الوسيلة والفضيلة وابعثه مقاماً محموداً الذي وعدته] والحديث رواه البخاري في صحيحه: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (من قال حين يسمع النداء: اللهم رب هذه الدعوة التامة والصلاة القائمة آت محمداً الوسيلة والفضيلة، وابعثه مقاماً الذي وعدته) (2) وفي النسائي وابن خزيمة: (وابعثه المقام المحمود) (3) . ولفظة (مقاماً محموداً) أولى لوجهين: الوجه الأول: أنها ثابتة في الصحيح. الثاني: أنها موافقة للقرآن في قوله تعالى في سورة الإسراء: {عسى أن يبعثك ربك مقاماً محموداً} .

_ (2) أخرجه البخاري في كتاب الأذان، باب الدعاء عند النداء (614) ، وفي كتاب التفسير، باب {عسى أن يبعثك ربك مقوماًَ محموداً} (4719) من حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنه. (3) أخرجه النسائي في كتاب الأذان، باب الدعاء عند الأذان (680) .

وفي التنكير من التعظيم ما هو ظاهر، لقوله تعالى: {فيه رجال يحبون أن يتطهروا} (1) أي رجال عظماء، وهنا (مقاماً محموداً) أي مقامً عظيماً محموداً. أما لفظة (إنك لا تخلف الميعاد) (2) فقد وردت في البيهقي بإسناد صحيح، لكن راويها قد شذ عن بقية الرواة، وهم عشرة الذي رووا هذا الحديث فلم يذكروا هذه اللفظة، فشذ هذا الراوي – وهو ثقة – بذكرها. فعلى ذلك: هذه اللفظة شاذة لا تصح نسبتها إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -، وعليه فالسنة أن يقف إلى قوله (الذي وعدته) . ويستحب له أن يدعو الله بين الأذان والإقامة بما شاء؛ لما ثبت في الترمذي أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (الدعاء بين الأذان والإقامة لا يرد) (3) ، وهو حديث صحيح. وقد تقدم حديث (قل كما يقولون ثم سل تعطه) .

_ (1) سورة التوبة. (2) أخرجها البيهقي في كتاب الصلاة، باب ما يقول إذا فرغ من ذلك (1933) . (3) أخرجه الترمذي في كتاب الصلاة، باب (44) ما جاء في أن الدعاء لا يرد بين الأذان والإقامة (212) من حديث أنس بن مالك، قال أبو عيسى: " حديث أنس حديث حسن صحيح، وقد رواه أبو إسحاق الهمْداني عن بريد بن أبي مريم عن أنس عن النبي - صلى الله عليه وسلم - مثل هذا " وقد أخرجه رحمه الله أيضاً في كتاب الدعوات، باب في العفو والعافية (3594) (3595) .

أما ما رواه الترمذي من أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قيل له: فماذا نقول؟ فقال: (سلوا الله العافية في الدنيا والآخرة) (1) ، فالحديث فيه يحيى بن اليمان وهو ضعيف، فهذا التخصيص ضعيف، فيدعو الله بما شاء من خير الدنيا والآخرة , وهذا الموطن من مواطن الإجابة. قوله: (الدعوة التامة) : هي دعوة التوحيد التي رفع المؤذن بها صوته. " والصلاة القائمة ": أي الصلاة الدائمة المستمرة، وهي الصلاة التي دعا الناس إليها. " الوسيلة ": هي منزلة في الجنة لا تنبغي إلا لعبد من عباد الله، وأن النبي - صلى الله عليه وسلم - يرجو أن يكون هو. " مقاما محموداً ": هو مقام الشفاعة العظمى الذي يقومه النبي - صلى الله عليه وسلم - بين يدي الله بعد أن يسجد له فيشفع لعباد الله للفصل بينهم يوم القيامة وهي الشفاعة العظمى والمقام المحمود الذي وُهبه رسوله - صلى الله عليه وسلم -. مسألة: لفظة " حي على خير العمل " هل تستحب في الأذان؟

_ (1) الترمذي، كتاب الدعوات، باب في العفو والعافية، قال: " حدثنا أبو هشام الرفاعي محمد بن يزيد الكوفي، حدثنا يحيى بن اليمان، حدثنا سفيان عن زيد العمِّيِّ عن أبي إياس معاوية بن قرة عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (الدعاء لا يرد بين الأذان والإقامة) قالوا: فماذا نقول يا رسول الله، قال: (سلوا الله العافية في الدنيا والآخرة) .

صحت هذه اللفظة عن ابن عمر، كما في البيهقي بإسناد صحيح (1) ، وأنه قالها إثر قوله " حي على الصلاة، حي على الفلاح ". ورواها البيهقي عن علي بن الحسين، وتعقب البيهقي ذلك بقوله: " وليست هذه اللفظة ثابتة في الأذان الذي علمه النبي - صلى الله عليه وسلم - بلالاً وأبا محذورة ونحن نكره الزيادة "، وهو كما قال، فهذه اللفظة تعارض حصر النبي - صلى الله عليه وسلم - الأذان كما تقدم من تعليمه لبلال وأبي محذورة. وقد ذكر شيخ الإسلام: أن هذه اللفظة إنما فعلها من فعلها من الصحابة لعارض تحضيضاً على الصلاة أي وجد تكاسلاً من الناس في الصلاة فوضع هذه اللفظة تحضيضاً على الصلاة، فيكون ذلك أمر عارض وليست في الأذان الراتب، كما قال شيخ الإسلام. لكن في الحقيقة ليس بمبرر لمثل هذا، فهذا الاجتهاد من صحابي خالف فيه فعل النبي - صلى الله عليه وسلم -، فيكون مردوداً، والسنة في فعله - صلى الله عليه وسلم -، وأما أفعال الصحابة فحيث لا تخالف ما ثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وتعليم النبي - صلى الله عليه وسلم - لبلال وأبي محذورة الأذان وبقاؤهما تلك الفترة الطويلة بين يديه من غير زيادة يدل على أن الزيادة فيه ليست من السنة. على أنها أصبحت من شعار أهل البدعة، فعلى ذلك: أصبحت بدعة ظاهرة، لكونها وإن كانت في زمن ابن عمر قد يتردد بالجزم بأنها بدعة، لكن لما أصبحت من شعار أهل البدعة فينبغي أن يشدد في النهي عنها. مسألة: هل يشرع الأذان على الراحلة؟

_ (1) أخرجه البيهقي في السنن الكبرى [1 / 624] باب (75) ما روي في حي على خير العمل (1991) (1992) موقوفاً على ابن عمر، وبرقم (1993) مقطوعاً على علي بن الحسين. وبرقم (1994) مرفوعاً. ثم قال الشيخ: " وهذه اللفظة لم تثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - فيما علم بلالاً وأبا محذورة ونحن نكره الزيادة فيه وبالله التوفيق ".

لا بأس به، وقد صح ذلك عن ابن عمر كما في البيهقي بإسناد صحيح أنه أذن على الراحلة ثم نزل فأقام " (1) . مسألة: يحرم الخروج من المسجد بعد الأذان أو لمن دخل المسجد بعد الأذان، فيحرم الخروج إلا لعذر أو إرادة الرجعة، أما مع عدم ذلك فإنه لا يجوز. هذا ما صرح به الحنابلة. ودليل ذلك: ما ثبت في صحيح مسلم عن أبي الشعثاء قال: " كنا قعوداً في المسجد ومعنا أبو هريرة، قال: فأذن المؤذن، فقام رجل من المسجد يمشي، فرماه أبو هريرة ببصره حتى خرج من المسجد، فقال: " أما هذا فقد عصى أبا القاسم " (2) . فهذا الحديث ظاهر في تحريم الخروج من المسجد بعد الأذان، ومثل ذلك من دخل المسجد وقد أذن فيه؛ لأن هذا بمعنى الأول تماماً. قال الترمذي: " والعمل على هذا من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - فمن بعدهم، يرون أنه لا يجوز لأحد أن يخرج من المسجد إلا لعذر " (3) . ومن الأعذار أن يخرج لقضاء الحاجة أو ضوء أو نحو ذلك، أما أن يخرج لغير ذلك، فلا يجوز. وقد استثنى بعض الحنابلة: خروجه لمسجد آخر لا سيما إذا كان إمامه أفضل.

_ (1) أخرجه البيهقي في السنن الكبرى [1 / 577] في كتاب الصلاة، باب (42) الأذان راكباًَ وجالساً (1841) (1842) وقال رحمه الله (1843) : " وروي فيه حديث مرسل، أخبرناه أبو عبد الله الحافظ وأبو سعيد بن أبي عمرو، قالا: ثنا أبو العباس محمد بن يعقوب، ثنا يحيى بن أبي طالب، أنا عبد الوهاب، ثنا إسماعيل، عن الحسن أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أمر بلالاًَ في سفر فأذن على راحلته، ثم نزلوا فصلوا.. ". (2) أخرجه مسلم في كتاب المساجد، باب النهي عن الخروج من المسجد إذا أذن المؤذن (655) . (3) سنن الترمذي، كتاب الصلاة، باب (36) ما جاء في كراهية الخروج من المسجد بعد الأذان (204)

ونحن إذا نظرنا إلى اللفظ العام المتقدم فإننا نقول: إن هذا لا يجوز وأنه لا يجوز أن يخرج لجماعة أخرى. لكن إذا نظرنا إلى المعنى وهو ما يورثه الخروج من التهمة في ترك الصلاة جماعة، وما قد يكون سبباً لفوات الجماعة عليه فنحن نقيد (1) هذا الخروج بهذه القيود، فإذا خرج حيث لا تهمة، حيث لا يظن به ظناً سيئاً، وأن يظن ظناً غالباً أن يدرك جماعة أخرى، فإنه يرجى أنّ خروجه لا بأس به، حيث توفرت هذه المعاني المتقدمة. ومع ذلك: فالأولى له والأحوط ألا يخرج من المسجد إلا لعذر من وضوء أو نحوه. وهذا فيمن يجب عليه الصلاة جماعة. أما من لا يجب عليه الصلاة جماعة، كامرأة أو من لا يجب عليه الصلاة أصلاً، فإن خروجه جائز؛ لأن الصلاة جماعة ليست بواجبة عليه، بل الصلاة فرضاً ليست بواجبة عليه. إذاً: يحرم الخروج من المسجد بعد الأذان إلا لمن أراد الرجعة أو كان معذوراً. مسألة: أي مؤذن يجيب؟ ذكر الحنابلة: أنه يجيب المؤذن ومؤذناً ثالثـ[ـاً] ورابعـ[ـاً] .. الخ. فهذا هو المستحب. لكن هذا فيه نظر، والراجح أنه لا يجيب إلا المسجد الذي يريد أن يصلي فيه، وقد اختار هذا النووي.وقال صاحب المبدع: " فإن أجاب وحضر المسجد للصلاة فسمع المؤذن فإنه لا يجيب "؛ لأنه ليس بمدعو. وما ذكره – رحمه الله – ليس خاصاً فيمن أجاب وحضر المسجد فحسب، بل هو عام فيه وفيمن (2) كان في حكمه وهو من يريد أن يذهب إلى مسجد خاص فسمع المنادي ينادي إليه، فإنه يجيب هذا المسجد بخصوصه الذي يقصد حضور الجماعة فيه.

_ (1) في الأصل: نقيده. (2) في الأصل: فيمكن.

والأظهر كذلك: أنه إن لم يحدد مسجداً فإنه يجيب مؤذناً واحداً؛ لأن المقصود الإجابة، وقد أجاب،وإذا أمر الشارع بأمر فإنه يفعل لا على التكرار إلا إذا دل دليل على التكرار، وإلا فإنه يفعل مرة واحدة، وهذا قد أجاب مؤذناً لصلاة فرض، فحينئذ لا يشرع له أن يجيب مؤذناً آخر للصلاة بعينها، فإنهما مؤذنا صلاة واحدة فلم يشرع إلا أن يجيب المؤذن الذي أجابه. وإذا كان الإنسان مسجده بعيداً وهو لا يسمع النداء فإنه يجيب أي مؤذن. والحمد لله رب العالمين. (1) انتهى باب الأذان والإقامة. ويليه باب شروط الصلاة.

_ (1) مسألة: ما الحكم إذا لم يفهم الصوت؟ استظهر بعضهم أنه يعتبر فهمه، أي إذا لم يفهم الصوت فلا يتابع المؤذن. مسألة: ما الحكم إذا سمع بعض الأذان؟ يتابعه فيما سمع فقط، أما الذي لم يسمعه فلا يتابعه فيه. [الحاشية: 1 / 453]

كتاب الصلاة، باب شروط الصلاة

الدرس السادس والخمسون (يوم السبت: 22 / 2 / 1415هـ) باب شروط الصلاة الشروط: جمع شرط وهو ما يلزم من عدمه العدم ولا يلزم من وجوده وجود ولا عدم لذاته. قال المؤلف رحمه الله تعالى: (شروطها قبلها منها الوقت) أي شروط الصلاة قبلها، فالوضوء أو الغسل وهو الطهارة من الحدث وكذلك الطهارة من النجس، واستقبال القبلة، فهذه كلها يجب أن تكون قبل الصلاة. وهذا ضابط في شروط الصلاة وأن كل شروطها يجب أن تكون قبلها إلا النية فإنها تصح مقارنة لها فجميع شروط الصلاة يجب أن تتوفر قبلها إلا النية فإنها تصح مقارنة لها. ويجب في الشروط أن تستمر في العبادة، وهذا هو الفارق بين الشرط والركن، فالشرط في العبادة يستمر فيها، أما الركن فإنه يمكث فيها زمناً فلا يستمر فيها كلها فالركوع مثلاً ركن، وهذا الركن لا يتخلل إلا زمناً منها أما الوضوء فهو شرط منها كلها بحيث أنه يجب أن يشملها فلو تخلل ذلك شيئاً من الحدث فإن العبادة تبطل. ومن الشروط: الإسلام، فمن لا إسلام له لا عبادة له كما تقدم، فإن العبادة مشروطة بالإسلام، فلا يقبل الله عبادة بلا إسلام. ومنها العقل: فلا تقبل عبادة من مجنون ولا غير مميز؛ لأن النية شرط في العبادة ومن لا عقل له لا نية له. قال المؤلف: (منها الوقت) وهذا بالإجماع، والوقت من التوقيت وهو التحديد، فالصلوات لها أوقات محددة شرعاً، فكل صلاة لها وقتها المحدد شرعاً وهذا بالإجماع، وسيأتي ذكر الأدلة عليه. قال المؤلف: (والطهارة من الحدث) لما ثبت في الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا يقبل الله صلاة أحدكم إذا أحدث حتى يتوضأ) (1) قال: (والنجس)

_ (1) أخرجه البخاري في كتاب الحيل، باب في الصلاة (6954) وفي كتاب الوضوء، باب لا تقبل صلاة بغير طهور (135) ، وأخرجه مسلم 225.

أي الطهارة من النجس، فمن شروطها الطهارة من النجاسة بدناً وثوباً وبقعة وهذا بالإجماع وسيأتي الكلام عليه. فهذه ثلاثة شروط قد أجمع عليها أهل العلم وهي الوقت والطهارة من الحدث والطهارة من النجس، وقد تقدم اشتراط الإسلام والعقل. ثم شرع المؤلف رحمه الله في ذكر شرطية الوقت ومباحثه. فقال: (فوقت الظهر) اعلم أن الوقت كما قال شيخ الإسلام هو آكد شروطها ولذلك شرع التيمم مع فقد الماء الذي هو الأصل في الطهارة وانتقل من ذلك إلى التطهر بالتراب لمصلحة المحافظة على الوقت.

وقد شرع بوقت الظهر أولاً، لأن وقت الظهر هو أول وقت صلاة جبريل لما أمَّ النبي صلى الله عليه وسلم كما ثبت ذلك في المسند وسنن الترمذي وغيره وأصله في مسلم (1) . وأيضاً لما ثبت في مسلم – وهو أصل من أصول إثبات المواقيت حديث عبد الله بن عمرو أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (وقت الظهر …) (2)

_ (1) أخرجه الإمام أحمد في مسنده، مسند آل العباس، مسند عبد الله بن عباس (3081) بلفظ " أمَّني جبريل عند البيت، فصلى بي الظهر حين زالت الشمس..) وبرقم (3322) ، وأخرجه الترمذي في بداية كتاب الصلاة، باب ما جاء في مواقيت الصلاة (149) بلفظ: " عن ابن عباس أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (أمني جبريل عليه السلام عند البيت مرتين فصلى الظهر في الأولى منهما حين كان الفيء مثل الشراك ثم صلى العصر.. ". وأخرجه مسلم في كتاب المساجد، باب أوقات الصلوات الخمس (610) مختصراً (2) أخرجه مسلم في كتاب المساجد باب ما جاء في مواقيت الصلاة (612) بألفاظ مختلفة وفي بعضها أنه قال: سئل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن وقت الصلوات فقال: (وقت صلاة الفجر ما لم يطلع قرن الشمس..) فبدأ بالفجر، وفي لفظ آخر قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (وقت الظهر إذا زالت الشمس..) فبدأ بالظهر. وفي مسلم أيضاً حديث بريدة في أوقات الصلاة (613) ولفظه: " عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أن رجلاًَ سأله عن وقت الصلاة؟ فقال: (صل معنا هذين) يعني اليومين، فلما زالت الشمس أمر بلالاًَ فأذن ثم أمره فأقام الظهر.. " فبدأ بالظهر، وفي لفظ آخر أنه بدأ بالفجر: " أن رجلاً أتى النبي - صلى الله عليه وسلم - فسأله عن مواقيت السلاة؟ فقال: (اشهد معنا الصلاة) فأمر بلالاً فأذن بغلس فصلى الصبح..) فبدأ بالفجر. وفيه أيضاً حديث أبي موسى (614) : " عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه أتاه سائل يسأله عن مواقيت الصلاة؟ فلم يرد عليه شيئاً قال فأقام الفجر حين انشق الفجر.. " فبدأ بالفجر.

فشرع أولاً بوقت صلاة الظهر - فكان الأولى اقتداءً بالنبي صلى الله عليه وسلم وجبريل – كان الأنسب والأولى هو البداءة بذلك. وإلا فإن أول صلاته هي صلاة الفجر، فهي أول صلاة النهار، وقد تقدم أثر ابن عمر في تسمية الفجر بالأول، وسيأتي أن العصر هي الصلاة الوسطى، لذا شرع بعض أهل العلم كأبي الخطاب الحنبلي، شرع أولاً بالكلام على صلاة الفجر لكن الأنسب ما تقدم. قال: (من الزوال إلى مساواة الشيء فيئه بعد فيء الزوال) الفيء هو الظل بعد الزوال سمي فيئاً من فاء إذا رجع، أما الظل قبل الزوال فلا يسمى فيئاً. ولفظة " الظل " شاملة للظل قبل الزوال وبعده. أما لفظة " الفيء " فهي خاصة بالظل بعد الزوال. فوقت الظهر من زوال الشمس أي زوالها عن وسط السماء إلى جهة المغرب، وهذا لا يدرك بالعين، لكنه يميز بالظل، فعندما ينصب عصاً أو نحوه ويكون الظل أولاً ناحية المغرب ثم كلما ارتفعت الشمس كلما قصر هذا الظل حتى تقف عند حد معين ثم بعد ذلك تتحرك الشمس من وسط السماء وبعده الظل إلى الحركة بعد التوقف، فعند رجوعه هذا هو علامة زوال الشمس فحينئذ: يعرف أنه قد زالت الشمس. وهذا الظل الذي ثبت للعصا يزيد وينقص، فيختلف طوله وقصره صيفاً وشتاءً، فإن في الشتاء يطول وفي الصيف يقصر، لأن الشمس مرتفعة في الصيف فيقصر، أما في الشتاء فهي أقل ارتفاعاً منها فيكون حينئذٍ الظل أطول منه في الصيف. إذن: عندما يقف الظل بعد امتداده ثم يشرع بالامتداد مرة أخرى فهذا هو علامة زوال الشمس، فإذا زالت الشمس فقد دخل وقت الظهر. قال: (إلى مساواة الشيء فيئه بعد فيء الزوال) هذا نهاية الوقت. فالظل الثابت في الشاخص لا يحسب، فلابد أن يكون الفيء مساوياً للشاخص بعد فيء الزوال. فمثلاً: وضعنا شاخصاً طوله متر، فكان توقفه على ربع متر ثم أخذ بالزيادة فلا تحسب هذه في المساواة فإذا وصل الظل إلى متر وربع فهذا انتهاء وقت صلاة الظهر.

والدليل على ذلك: حديث عبد الله بن عمرو أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (وقت الظهر إذا زالت الشمس وكان ظل الرجل كطوله ما لم يحضر وقت العصر ووقت العصر ما لم تصفر الشمس ووقت المغرب ما لم يغب الشفق ووقت العشاء إلى نصف الليل الأوسط ووقت الفجر إذا طلع الفجر ما لم تطلع الشمس فإذا طلعت الشمس فأمسك عن الصلاة فإنها تطلع بين قرني شيطان) (1) رواه مسلم. الشاهد: قوله " وقت الظهر إذا زالت الشمس " هذا أول وقتها، وقوله: " وكان ظل الرجل كطوله " هذا نهاية وقتها. قال: (وتعجيلها أفضل إلا في شدة الحر) لما ثبت في صحيح مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم: (كان يصلي الظهر إذا دحضت الشمس) (2) أي زالت. قالت عائشة – كما في الترمذي بإسناد ضعيف وله شاهد في مسند أحمد عن أم سلمة فالحديث حسن – قالت عائشة: (ما رأيت أشد تعجلاً للظهر من النبي صلى الله عليه وسلم ولا أبي بكر ولا عمر) (3) .

_ (1) تقدم قريباً. (2) أخرجه مسلم في كتاب المساجد، باب استحباب تقديم الظهر في أول الوقت في غير شدة الحر (618) (3) أخرجه الترمذي في كتاب الصلاة،باب ما جاء في التعجيل بالظهر (155) .

وثبت في صحيح البخاري أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (كان إذا كان البرد عجل وإذا كان الحر أبرد) (1) إذن: المستحب في صلاة الظهر تعجيلها، فإذا زالت الشمس وتقدم المكث بين الأذان والإقامة فحينئذ تقام صلاة الظهر. ما لم يكن الحر شديداً لذا قال: (إلا في شدة الحر) فبقي ما إذا كان الجو بارداً أو معتدلاً أو قريباً من الاعتدال أما إذا كان شديد الحر فالمستحب هو الإبراد، لما ثبت في الصحيحين عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إذا اشتد الحر فابردوا بالصلاة فإن شدة الحر من فيح جهنم) (2) أي من سعة انتشار حرارتها. ومعنى " أبردوا ": أي ادخلوا في البرد بأن تصلي في وقت قد ذهب فيه حرارة الشمس. وهذا الوقت – في الحقيقة – ليس محدداً إلا بهذا المعنى وهو متى: انكسر الحر وكان للجدران ونحوها ظل يستظل به الناس فإنها تشرع صلاة الظهر.

_ (1) أخرجه النسائي في كتاب المواقيت، باب تعجيل الظهر في البرد (499) من حديث أنس بن مالك بلفظ: " كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا كان الحر أبرد بالصلاة، وإذا كان البرد عجّل) ، وأخرجه البخاري في كتاب الجمعة، باب إذا اشتد الحر يوم الجمعة (906) من حديث أنس بلفظ: " كان النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا اشتد البرد بكّر بالصلاة، وإذا اشتد الحر أبرد بالصلاة، يعني الجمعة. قال يونس بن بكير: أخبرنا أبو خَلْدَة فقال: بالصلاة، ولم يذكر الجمعة. وقال بشر بن ثابت: حدثنا أبو خلدة قال: صلى بنا أميرٌ الجمعة، ثم قال لأنس رضي الله عنه: كيف كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يصلي الظهر؟ " ا. هـ. (2) أخرجه البخاري في كتاب مواقيت الصلاة، باب الإبراد بالظهر في شدة الحر (536) ، ومسلم (615) (617) .

وقد ثبت في الصحيحين عن أبي ذر الغفاري قال: (كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم في سفر فأراد المؤذن أن يؤذن فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: (أبرد) ثم أراد أن يؤذن فقال له: (أبرد) حتى رأينا فيء التلول) (1) والتلول: جمع تل، وهو ما يكون على ظهر الأرض من المجتمع من رمل أو تراب، وهذا في الحقيقة لا يظهر له الفيء إلا بعد فوات شيء كثير من وقت صلاة الظهر حتى يدنو وقت العصر، حتى ثبت في البخاري: (حتى ساوى الظل التلول) . إذن: لم يحضر وقت العصر لأنه لابد أن يساويه ويساوي الظل الذي كان لها قبل الزوال فإنه يدل على أنه صلاها قبل دخول وقت صلاة العصر، فهذا تأخير ظاهر فيها. فإذا انكسر الحر وبرد الجو فإنه يشرع له أن يصلي، وقد تقدم حديث البخاري: (كان إذا كان البرد عجل، وإذا كان الحر أبرد) (2) . قال: (ولو صلى وحده) هنا مسألة وهي: هل هذا شامل لمن صلى وحده كما هو شامل لمن صلى جماعة؟ لا إشكال في أن من صلى جماعة فيشرع له الإبراد وهذا فيما إذا كانت الطرق متعرضة للشمس كما هو الغالب فلا إشكال في مشروعية مثل هذا. وإنما الإشكال فيمن يصلي وحده، وكذلك قد يشكل هذا في هذه الأزمان فقد يوجد أماكن تكون الطرق فيها مغطاة عن الشمس، فهل يشرع في مثل هذه الحال الإبراد أم لا؟ قال هنا: (ولو صلى وحده) وهذا هو المذهب، وهو مذهب أبي حنيفة واختاره ابن المنذر وشيخ الإسلام وحكاه عن أهل الحديث وأن السنة تعزر ذلك ولا ندفعه وأن الجمهور على ذلك – هذا ما حكاه شيخ الإسلام – فذلك مستحب ولو صلى وحده (لعذر) .

_ (1) أخرجه البخاري في باب الإبراد بالظهر في السفر (539) ، ومسلم (616) (2) تقدم قريباً.

- وذهب الإمام الشافعي: إلى أن ذلك لا يستحب لمن صلى وحده بل ذلك خاص فيمن يصلون جماعة؛ لأنهم يحتاجون إلى الإبراد لتكون الطرق فيها شيء من الظل يستظلون به، وهذا على القول بأن العلة من الإبراد هي ما ذكروه. ولكن هذا ليس بمسلم، فقد ذكر ابن رجب في شرح البخاري: أن أهل العلم قد اختلفوا في المعنى الذي من أجله شرع الإبراد فقيل: هو لتمام الخشوع في الصلاة، فمن صلى في شدة الحر يكون خشوعه ليس كما لو كان في وقت الإبراد. وقيل: لتنفس جهنم – كما ثبت في الصحيحين – وهذا أمر معنوي، فلما كان ذلك وقت تنفس جهنم ناسب تأخير العبادة – وهذا المعنى يبقي الأمر على ما تقدم. والمعنى الثالث: كما ذكره الشافعي من أنه يكون للحيطان ظل يستظلون به. والراجح هو شمول مشروعية الإبراد لهذه المعاني كلها لنفس جهنم ولأن الخشوع يكون ليس كما لو كان في ذلك الوقت وكذلك لوجود الحر الشديد في الطرقات، فلهذه المعاني كلها شرع الشارع هذا الحكم – وحينئذ-: يبقى الحكم على ما ذهب إليه الإمام أحمد وغيره وأن الإبراد مشروع سواء صلوا متفرقين أو مجتمعين. قال: (أو مع غيم لمن يصلي جماعة) فإذا كان ثمت غيم فيشرع التأخير، وعللوا ذلك باحتمال المطر واحتمال الريح، فوجود الغيم مظنة ذلك فقالوا: يشرع تأخيرها إلى قبيل وقت العصر بحيث يمكث الناس بعد صلاة الظهر يسيراً فيؤذن العصر ثم يصلون العصر في أول وقتها، فيكون ذلك جمعاً صورياً. وحينئذ: لا يكون هذا المعنى خاصاً لصلاة الظهر والعصر بل كذلك في المغرب والعشاء، فتؤخر المغرب إلى آخر وقتها وتصلى العشاء في أوله – فهذا جمع صوري. والجمع الصوري جائز مطلقاً، ولكن هل هو مستحب في مثل هذه الحال؟ القول باستحبابه قول جيد وهو مذهب الإمام أحمد في المشهور عنه ومذهب أبي حنيفة – خلافاً للشافعي ومالك – حيث قالوا: السنة أن تصلى في وقتها لعمومات الأدلة الشرعية.

لكن القول الأول حسن لإزالة ما يُخشى من المشقة، هذا إذا كانت الدواعي قوية في ذلك، أما إن لم تكن كذلك بأن كانت ضعيفة فحينئذ: يبقى على الأصل فتصلي الصلاة في وقتها. إذن: إن كان هناك غيم والأمطار محتملة احتمالاً قوياً والريح كذلك فلإزالة هذه المشقة يستحب لهم أن يؤخروا الظهر إلى آخر وقتها ثم يصلون العصر في أول وقتها وكذلك المغرب والعشاء لإزالة المشقة المتقدمة. أما إذا كان الغيم موجوداً لكن احتمال الأمطار والريح ونحو ذلك مما يلحق الناس المشقة في حضورها إلى المسجد ليس بتلك القوة، فإن الأصل هو البقاء على الأصل من استحباب الصلاة في أول وقتها. ولكن هنا قال: (لمن يصلي جماعة) ، لأن المعنى هنا واضح وهو احتمال نزول المطر وشدة الريح حيث كانوا مجتمعين. أما إذا كانـ[ـوا] متفرقين يصلون في بيوتهم فإن هذه العلة ليست بموجودة فحينئذ نبقى على الأصل.

ويستثنى من استحباب تأخير صلاة الظهر، في شدة الحر – يستثني من ذلك صلاة الجمعة، إذ الثابت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - كما في الصحيحين من حديث سلمة بن الأكوع قال: (كنا نجمع مع النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا زالت الشمس) (1) فالثابت عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه كان يجمع إذا زالت الشمس ولم يثبت عنه صلاتها مؤخرة، بل الثابت عن أنه كان يصليها إذا زالت الشمس حتى قال الصحابي: (ما كنا نقيل ولا نتغدى يوم الجمعة إلا بعد صلاة الجمعة) (2) كما ثبت في الصحيح: والقيلولة إنما تحتاج إليها في الغالب في الحر. ثم إن المعاني الموجودة في صلاة الجمعة غير المتوفرة في صلاة الظهر فدعى إلى ترك هذا الحكم وهو التأخير حيث إن المستحب في صلاة الجمعة هو التبكير إليها، وحيث عجل الناس إليها ثم أخرت يكون في ذلك مشقة على المجتمعين. ثم إنها يجتمع إليها الناس من أماكن بعيدة بخلاف صلاة الجماعة فإن الغالب أن يحضرها القريب.

_ (1) أخرجه مسلم في كتاب الجمعة، باب صلاة الجمعة حين تزول الشمس (860) بلفظ: " كنا نجمع مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا زالت الشمس ثم نرجع نتتبع الفيء "، وأخرجه البخاري (4168) في كتاب المغازي، باب غزوة الحديبية بلفظ: " كنا نصلي مع النبي - صلى الله عليه وسلم - الجمعة ثم ننصرف، وليس للحيطان ظل نستظل به ". لكن ما الجواب عن حديث أنس المتقدم في البخاري. (2) أخرجه البخاري من قول سهل رضي الله عنه في باب قول الله تعالى: {فإذا قضيت الصلاة} من كتاب الجمعة (938) ، وفي أبواب أخرى، وأخرجه مسلم، في باب صلاة الجمعة حين تزول الشمس، من كتاب الجمعة (859) ، وقال أنس: " كنا نبكر بالجمعة، ونقيل بعد الجمعة " أخرجه البخاري في كتاب الجمعة، باب وقت الجمعة إذا زالت الشمس (905) وفي باب القائلة بعد الجمعة (940) ، وعن سهل برقم (941) نحوه.

أما صلاة الجمعة فيأتيها الناس عن بعد فيشق عليهم أن تؤخر هذا التأخير الظاهر لذا استثنى أهل العلم من الحنابلة وغيرهم يوم الجمعة لهذه المعاني المتقدمة. والحمد لله رب العالمين. الدرس السابع والخمسون (يوم الأحد: 23 / 2 / 1415 هـ) قال المؤلف رحمه الله: (ويليه وقت العصر إلى مصير الفيء مثليه بعد فيء الزوال) " ويليه ": أي يلي وقت الظهر وقت العصر بلا فاصل بينهما فليس بينهما فاصل، بل ينتهي وقت الظهر فيبدأ وقت العصر. فإذا كان ظل الرجل كطوله تماماً فهذا هو نهاية وقت صلاة الظهر، ثم إذا زاد زيادة ولو كانت يسيرة جداً فهذا هو وقت صلاة العصر فليس بينهما اشتراك ولا فاصل، والمراد بالاشتراك أن يكون بينهما وقت مشترك بحيث يكون الوقت النهائي للظهر، والابتدائي لصلاة العصر. ودليل ذلك: قوله صلى الله عليه وسلم – في حديث ابن عمرو: (وقت الظهر إذا زالت الشمس وكان ظل الرجل كطوله ما لم يحضر وقت العصر، ووقت العصر ما لم تصفر الشمس) (1) قال: (إلى مصير الفيء مثليه بعد فيء الزوال) تقدم ذكر هذا الاحتراز في المسألة السابقة أي قوله " بعد فيء الزوال ". فإذا كان ظل الرجل مثليه، وليس فيء الزوال محسوباً في ذلك فقد خرج وقت العصر. قالوا: ودليل ذلك ما رواه الترمذي وغيره والحديث صحيح في صلاة جبريل بالنبي صلى الله عليه وسلم، وفيه أنه قال له: (الوقت بين هذين) (2) وقد صلى في اليوم الأول في أول الوقت وفي اليوم الثاني في آخره، وفيه أن جبريل صلى بالنبي صلى الله عليه وسلم العصر في اليوم الثاني حين صار ظل كل شيء مثليه، وهذا هو مذهب الجمهور، وأن وقت العصر ينتهي إذا كان ظل الرجل مثليه، والمراد به وقت الجواز.

_ (1) تقدم. (2) تقدم.

- وذهب الإمام أحمد في رواية عنه اختارها طائفة من أصحابه واختار ذلك شيخ الإسلام - واستظهره صاحب الفروع –: أن وقت الجواز لصلاة العصر يمتد ما لم تصفر الشمس فإذا اصفرت أو احمرت فقد انتهى وقت العصر. واستدلوا: بحديث عبد الله بن عمرو وفيه: (وقت العصر ما لم تصفر الشمس) (1) فجعل النبي صلى الله عليه وسلم وقتها ممتداً ما لم يحدث اصفرار في الشمس. وكذلك: ما ثبت في صحيح مسلم من حديث أبي موسى الأشعري أن رجلاً سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن مواقيت الصلاة فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: (صل معنا هذين) (2) أي هذين اليومين، وفعل النبي - صلى الله عليه وسلم - ما فعله جبريل من الصلاة في اليوم الأول في أول الوقت، وفي اليوم الثاني في آخره وفيه: (ثم صلى العصر في اليوم الآخر والقائل يقول قد احمرت الشمس) أي كادت تحمر الشمس. وهذا القول هو الراجح. أما الجواب على الاستدلال بحديث جبريل. فالجواب أن يقال: هو حديث مكي، وهذه أحاديث " أي حديث عبد الله بن عمرو وأبي موسى " أحاديث مدنية فهما متأخران عنه فيكونان ناسخين له، فوقت الجواز ما لم تصفر الشمس. قال: (والضرورة إلى غروبها) ما تقدم ذكره هو وقت الجواز وهو الوقت المختار فالمختار هو الذي تصلي فيه صلاة العصر فيكون فاعلها فيه قد أداها في وقتها الشرعي الذي لا يلحقه الإثم بفعلها فيه. أما وقت الضرورة فهو ما بعد ذلك والصلاة تكون فيه أداءً لكنه يكون آثماً لصلاتها فيه إن لم يكن معذوراً. لكن إذا غربت الشمس فصلاته تكون قضاءً لا أداءً. إذن: كلاهما وقت للعصر لكن الأول وقت جواز، والثاني وقت ضرورة، فإذا اصفرت الشمس فقد خرج وقت الجواز، وبدأ وقت الضرورة فإذا غربت الشمس فقد خرج وقت صلاة العصر.

_ (1) أخرجه مسلم، وقد تقدم قريباً. (2) تقدم.

وتقدم أن من صلى الصلاة في وقت الضرورة بلا عذر فإنه يأثم لقوله صلى الله عليه وسلم: (تلك صلاة المنافق، تلك صلاة المنافق، تلك صلاة المنافق، يجلس يرقب الشمس حتى إذا كانت بين قرني شيطان قام فنقرها أربعاً لا يذكر الله فيها إلا قليلاً) (1) رواه مسلم. وفي رواية لأبي داود: (فإذا اصفرت الشمس وكانت بين قرني شيطان) (2) فهذا الحديث يدل على إثم المؤخر لها إلى هذا الوقت فإن صلاها في هذا الوقت فإنه آثم إلا أن يكون معذوراً. أما الدليل على صحة الصلاة في وقت الضرورة، فهو ما يثبت في الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من أدرك ركعة من الصبح قبل أن تطلع الشمس فقد أدرك الصبح، ومن أدرك ركعة من العصر قبل أن تغرب الشمس فقد أدرك العصر) (3) . ففيه أن من أدرك ركعة من العصر – وهذا يكون عند احمرار الشمس قبل المغرب – فقد أدرك العصر، لكنه يأثم للحديث المتقدم – إن لم يكن معذوراً، فقد جعله النبي صلى الله عليه وسلم من علامات النفاق وذم صاحبه ومثل هذا يدل على أنه محرم. وإنما يسمى هذا ضرورة؛ لأن هذا الوقت يتدارك به أهل الضرورة الصلاة، كأن يبلغ الصبي أو يسلم الكافر أو تطهر الحائض أو يستيقظ النائم ونحوهم من أرباب الضرورات، فيتداركون بذلك صلاة العصر فهو وقت ضرورة لهذا المعنى. فإذن: صلاة العصر لها وقتان: وقت جواز ووقت ضرورة. قال: (ويسن تعجيلها)

_ (1) أخرجه مسلم في كتاب المساجد، باب استحباب التبكير بالعصر (621) . (2) أخرجه أبو داود في كتاب الصلاة، باب في وقت صلاة العصر (413) . (3) أخرجه البخاري في كتاب مواقيت الصلاة، باب من أدرك من الفجر ركعة (579) وأخرجه مسلم (608) .

لما ثبت في الصحيحين من حديث أبي برزة الأسلمي قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم: (يصلي العصر ثم يرجع أحدنا إلى رحله " منزله " في أقصى المدينة والشمس حية) (1) ، وثبت في مسلم عن أنس قال: (كان النبي صلى الله عليه وسلم يصلي العصر والشمس مرتفعة حية فيذهب الذاهب إلى العوالي فيأتي العوالي والشمس مرتفعة) (2) فهذا يدل على أنه كان يصليها في أول وقتها. وصلاة العصر هي الصلاة الوسطى التي قال تعالى فيها: {حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى} (3) وهذا لعظم شأنها، فهي الصلاة الوسطى أي الصلاة الفضلى. فالوسطى مؤنث الأوسط أي الأفضل. وقد ثبت ما يدل على أن الصلاة الوسطى هي صلاة العصر ثبت ما يدل على ذلك في غير ما حديث عن النبي صلى الله عليه وسلم من ذلك ما ثبت في مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (شغلونا عن الصلاة الوسطى صلاة العصر) (4) . وهذا مذهب أحمد وغيره من أهل الحديث، أن الصلاة الوسطى هي صلاة العصر، والأحاديث مستفيضة في هذا الباب. قال: (ويليه وقت المغرب إلى مغيب الحمرة) . فإذا غربت الشمس أي احتجبت وغاب قرصها جميعه فلم يبق منه شيء فلا يرى منه شيء فقد دخل وقت المغرب، لقوله صلى الله عليه وسلم: (وقت المغرب لم يغب الشفق) (5) . قوله: (إلى مغيب الحمرة) هذا الوقت النهائي لها، والحمرة هي المعترضة في ناحية المغرب، فهذه الحمرة هي الشفق الأحمر، وقد قال صلى الله عليه وسلم (ما لم يغب الشفق) .

_ (1) أخرجه البخاري في كتاب مواقيت الصلاة، باب (13) وقت العصر رقم (547) ، ومسلم في كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب (40) استحباب التبكير بالصبح في أول وقتها رقم 647. (2) أخرجه مسلم في كتاب المساجد،باب استحباب التبكير بالعصر (621) . (3) سورة البقرة. (4) أخرجه مسلم في كتاب المساجد، باب الدليل لمن قال صلاة الوسطى هي صلاة العصر (628) . (5) أخرجه مسلم، وقد تقدم.

فإذا غربت الشمس ظهرت هذه الحمرة، فإذا غابت فقد خرج وقت المغرب. فأول وقت المغرب غروب الشمس وآخره غياب الشفق. * وقت المغرب ينقسم إلى وقتين: وقت جواز. وقت كراهية لا تحريم، أي تأخير الصلاة إليه مكروه إلا لعذر أو حاجة. فقد ثبت في سنن أبي داود ومسند أحمد بإسناد صحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا تزال أمتي على الفطرة ما لم يؤخروا المغرب إلى اشتباك النجوم) (1) أي إلى انضمامها وظهورها ووضوحها. فإذا اشتبكت النجوم وظهرت في السماء، فهذا أوان وقت كراهية صلاة المغرب، أما قبل ذلك فهو وقت فضيلة. إذن: وقت الفضيلة من غروب الشمس ما لم تشتبك النجوم فإذا اشتبكت فهو وقت كراهية ما لم يغب الشفق فيخرج بذلك وقت صلاة المغرب. قال: (ويسن تعجيلها) وهذا باتفاق أهل العلم. وقد ثبت في الصحيحين عن رافع بن خديج قال: (كنا نصلي المغرب مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فننصرف وإن أحدنا ليبصر مواقع نبله) (2) أي في الأرض، أي ما زال الجو فيه وضوح فلم تشتد بعد الظلمة بحيث أنه إذا رمى بالنبل فإنه يبصر مواقع نبله. وثبت في صحيح مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم كان: (يصلي المغرب إذا غربت الشمس وتوارت بالحجاب) (3) إذن: السنة في المغرب أن تعجل.

_ (1) أخرجه أبو داود في كتاب الصلاة، باب في وقت المغرب، وابن ماجه في باب وقت صلاة المغرب من كتاب الصلاة، والإمام أحمد في المسند 4 / 147، 5 / 417، 422. المغني [2 / 21] . (2) أخرجه البخاري في كتاب مواقيت الصلاة، باب وقت المغرب (559) ، ومسلم في كتاب المساجد، باب بيان أن أول وقت المغرب عند غروب الشمس (637) . (3) أخرجه البخاري في الباب المتقدم (561) ، ومسلم (636) من حديث سلمة بن الأكوع.

وتعجيل العصر والمغرب مطلق، إلا صلاة المغرب يستثنى فيها ما تقدم من الاستثناء عند الغيم على المشهور في المذهب وأنها تؤخر في الغيم مع مظنة نزول المطر، فإنها تؤخر إلى قبيل غياب الشفق فتصلى حينئذ ثم يؤذن لصلاة العشاء فتصلى فيكون الجمع صورياً. قال: (إلا ليلة جمع " مزدلفة " لمن قصدها محرماً) أي لمن كان على هيئة الإحرام، أما من لم يكن كذلك فإنه ليس له ذلك. وذلك لأن النبي صلى الله عليه وسلم قد جمع ليلة جمع كما صح ذلك في مسلم وغيره (1) . ولكن استثناء كون قاصدها محرماً ليس على إطلاقه. نعم من ذهب إليها هكذا فلا يشرع له ذلك. لكن حيث كان مصاحباً للمحرمين فالظاهر أنه يفعل ما يفعلون. فمن كان مصاحباً لهم كمن كان قائماً بشأن بعض الناس في الحج فإنه يصلي كما يصلون وإن لم يكن محرماً فإن النبي صلى الله عليه وسلم قد صحبه مثل ذلك، ولم يثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم حث أحداً بخلاف ما فعل، ويثبت تبعاً ما [لا] (2) يثبت استقلالاً. إذن: يشرع تأخير صلاة المغرب ليلة جمع. ولكن هل هذا إلى وقت صلاة العشاء أو هو جمع صوري؟ سيأتي تقرير هذا في باب الجمع. إذن: المقصود: أن صلاة المغرب يستحب أن تعجل إلا حيث شرع الجمع. فإذا شرع الجمع جمعاً صورياً فإنه يستحب تأخيرها إلى آخر وقتها. وحيث لم نقل بالجمع الصوري وقلنا بأنه جمع حقيقي فحينئذٍ: نبقي على الأصل وهو استحباب تعجيلها مطلقاً لأنها إذا جمعت جمعاً حقيقياً فقد صليت في أول وقتها. والحمد لله رب العالمين الدرس الثامن والخمسون (24 / 2 / 1415هـ) قال المؤلف رحمه الله: (ويليه وقت العشاء إلى الفجر الثاني وهو البياض المعترض)

_ (1) أخرجه مسلم في كتاب الحج، باب حجة النبي - صلى الله عليه وسلم -، وأبو داود في صفة حج النبي - صلى الله عليه وسلم -، من حديث جابر رضي الله عنه. (2) ليست في الأصل.

" ويليه " أي يلي وقت المغرب وهي نهاية المغرب وهو غياب الشفق الأحمر، فإذا غاب فقد وجبت صلاة العشاء. إلى الفجر الثاني: وهو الفجر الصادق وهو البياض المعترض في الجانب الشرقي. فوقتها من غياب الشفق الأحمر إلى طلوع الفجر الصادق وهذا الوقت شامل لوقتي الجواز والضرورة. أما وقت الجواز فإنه في المشهور من المذهب - إلى ثلث الليل – لذا قال المؤلف بعد ذلك: " وتأخيرها إلى ثلث الليل أفضل ". واستدلوا - على أن آخره إلى ثلث الليل – بحديث إمامة جبريل للنبي صلى الله عليه وسلم في اليوم الثاني حيث أخر العشاء إلى ثلث الليل وقال له: (الصلاة بين هذين الوقتين) (1) . - وذهب الإمام أحمد في رواية عنه واختارها بعض أصحابه كالموفق والمجد ابن تيمية وغيرهم من فقهاء الحنابلة: إلى أن آخر وقت الجواز هو نصف الليل. واستدلوا: بحديث عبد الله بن عمرو وفيه: (ووقت العشاء إلى نصف الليل) (2) وبما ثبت في البخاري عن أنس قال: (أخر النبي صلى الله عليه وسلم صلاة العشاء إلى نصف الليل) (3) . قالوا: فدل هذان الحديثان الأول من قوله والثاني من فعله – صلى الله عليه وسلم – على أن آخر وقت الجواز لصلاة العشاء هو نصف الليل. وأما حديث جبريل فهو حديث مكي متقدم – وحينئذٍ – يرجح عليه الأحاديث المدنية. وهذا هو الراجح - وأن وقت الجواز إلى نصف الليل – فإذا انتصف الليل فقد دخل وقت الضرورة فمن أخرها إلى ما بعد نصف الليل فقد أثم إن لم يكن معذوراً فهو وقت لأهل الضرورات. فإن قيل:

_ (1) تقدم. (2) تقدم. (3) أخرجه البخاري في كتاب مواقيت الصلاة، باب (25) وقت العشاء إلى نصف الليل (572) ، وأخرجه مسلم في كتاب المساجد، باب وقت العشاء وتأخيرها (640) بلفظ: " أخر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - العشاء ذات ليلة إلى شطر الليل أو كاد.. "

فما الدليل على ذلك فإن: حديث عبد الله بن عمرو ظاهر في أن آخر وقتها هو نصف الليل، وأن ذلك آخر وقتها مطلقاً – وهذا ما ذهب إليه بعض الشافعية وأن نصف الليل هو آخر وقت العشاء مطلقاً. أما جمهور أهل العلم فقد ذهبوا: إلى أن آخر وقتها على الإطلاق طلوع الفجر، ووقت الاختيار إما نصف الليل أو ثلثه على قولين، والراجح أنه إلى نصفه كما تقدم. ودليل ذلك: - أي كونه إلى طلوع الفجر – ما ثبت في مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ليس في النوم تفريط إنما التفريط في اليقظة أن تؤخر صلاة حتى يدخل وقت الصلاة الأخرى) (1) . قالوا: فهذا ظاهر أن الصلوات متصلة بعضها ببعض، فليس بينهما فاصل من الوقت، بل لا ينتهي وقت صلاة إلا ويدخل وقت صلاة أخرى. قالوا: وإنما يستثنى من ذلك ما دل الإجماع على استثنائه وهو صلاة الفجر، فنهاية وقتها على الإطلاق هو طلوع الشمس بإجماع أهل العلم. أما العشاء فليس فيها إجماع بل جماهير العلماء على ما تقدم. قالوا: ويدل على ذلك آثار الصحابة – كما صح عن عبد الرحمن بن عوف وابن عباس في سنن البيهقي – أنهم أفتوا بالحائض تطهر قبل الفجر أنها تقضي الصلاة أي صلاة العشاء " (2) . قالوا: ولو لم يكن هذا من وقت العشاء لم يلزمها ولا يلزم غيرها من المعذورين من أهل الضرورات – لم يلزمهم قضاء العشاء ولا قضاء الصلاة المجموعة إليها. وهذا القول هو الراجح للحديث المتقدم وللآثار عن الصحابة. فعلى ذلك حديث النبي صلى الله عليه وسلم المتقدم إلى نصف الليل هذا نهاية وقت الجواز، وما بعده فهو وقت ضرورة. قال: (وتأخيرها إلى ثلث الليل أفضل إن سهل)

_ (1) أخرجه مسلم في المساجد / باب قضاء الصلاة الفائتة (680) عن أبي قتادة رضي الله عنه، الشرح الممتع [2 / 108] . (2) أخرجه البيهقي في السنن الكبرى [1 / 569] باب (33) قضاء الظهر والعصر بإدراك وقت العصر.. رقم (1815) (1816) .

أي إن كان في ذلك سهولة ولم يكن فيه مشقة على المأمومين أو بعضهم، فالمستحب أن تؤخر إلى نصف الليل أو ثلثه، والمذهب قال: " إلى ثلثه " لكون آخر وقت الجواز عندهم هو ثلث الليل، والراجح أن آخر وقت الجواز نصف الليل فعلى ذلك يستحب تأخيرها إلى نصف الليل ما لم يكن في ذلك مشقة. فإن كان في ذلك مشقة على المأمومين أو بعضهم فيكره ذلك ودليل الكراهية: ما ثبت في مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (اللهم من ولي من أمر أمتي شيئاً فشق عليهم فاشقق عليه، ومن ولي من أمر أمتي شيئاً فرفق بهم فارفق به) (1) . وهذا فيه مشقة. ودليل استحباب تأخيرها: ما ثبت في الصحيحين عن أبي برزة الأسلمي قال: (كان النبي صلى الله عليه وسلم يستحب أن يؤخر العشاء التي تدعونها العتمة) (2) وثبت في سنن الترمذي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم أن يؤخروا العشاء إلى ثلث الليل أو نصفه) (3) وثبت في سنن النسائي وأبي داود أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لولا ضعف الضعيف وسقم السقيم وحاجة ذي الحاجة لأخرت هذه الصلاة إلى شطر الليل) (4) . لكن النبي صلى الله عليه وسلم رفعاً للمشقة على المأمومين أو بعضهم كان النبي صلى الله عليه وسلم يصليها في أول وقتها.

_ (1) أخرجه مسلم في كتاب الإمارة، باب فضيلة الإمام العادل وعقوبة الجائر.. (1828) . (2) تقدم حديث أبي برزة. (3) أخرجه الترمذي في كتاب الصلاة، باب ما جاء في تأخير صلاة العشاء الآخرة (167) وقال: " حديث أبي هريرة حديث حسن صحيح ". (4) أخرجه أبو داود في كتاب الصلاة، باب في وقت العشاء الآخرة (422) دون قوله " وحاجة ذي الحاجة ". وأخرجه النسائي برقم 539، وابن ماجه 693. سنن أبي داود [1 / 293] . من حديث أبي سعيد الخدري

وقد ثبت عند الأربعة إلا ابن ماجه عن النعمان بن بشير أن النبي صلى الله عليه وسلم: (كان يصليها – يعني العشاء – لسقوط القمر لثالثة) (1) وهذا يكون بعد غياب الشفق بوقت يسير قد لا يتجاوز ربع أو ثلث ساعة. وقد ثبت في الصحيحين عن جابر قال: (وأما العشاء فأحياناً وأحياناً إذا رآهم اجتمعوا عجّل وإذا رآهم أبطؤوا أخّر) (2) قال: (ويليه وقت الفجر إلى طلوع الشمس) أي من طلوع الفجر الصادق إلى طلوع الشمس لحديث ابن عمرو: (ووقت صلاة الفجر ما لم تطلع الشمس) (3) وهذا بإجماع أهل العلم. قال: (وتعجيلها أفضل) لما ثبت في الصحيحين عن جابر قال: (كان النبي صلى الله عليه وسلم يصلي الصبح بغلس) (4) أي في شدة الظلام. وثبت في الصحيحين عن أبي برزة الأسلمي قال: (وأما الصبح فكان النبي صلى الله عليه وسلم ينفتل منها حين يعرف الرجل جليسه، وكان يقرأ بالستين إلى المائة) (5)

_ (1) أخرجه أبو داود في أول باب في وقت العشاء الآخرة، من كتاب الصلاة (419) ، وأخرجه الترمذي 165، والنسائي 529، الدارمي، سنن أبي داود [1 / 291] . (2) أخرجه البخاري في كتاب مواقيت الصلاة، باب (18) وقت المغرب، وباب 21 وقت العشاء، ومسلم في كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب (40) استحباب التبكير بالصبح..، سبل السلام [1 / 227] . ولفظه في البخاري (560) عن جابر قال: " كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يصلي الظهر بالهاجرة … والعشاء أحياناً وأحياناً، إذا رآهم.. "، وفي مسلم (646) : " والعشاء أحياناً يؤخرها وأحياناً يعجلُ كان إذا رآهم قد اجتمعوا.. ". (3) تقدم. (4) أخرجه البخاري في كتاب مواقيت الصلاة، باب وقت المغرب (560) ، ومسلم (646) . (5) أخرجه البخاري في كتاب مواقيت الصلاة، باب وقت الظهر عند الزوال (541) ، وباب وقت العصر (547) ، ومسلم 461.

أي يعرف الرجل جليسه القريب منه، وأما البعيد عنه فلا يعرفه، وكان النبي صلى الله عليه وسلم قد أطال بالصلاة، فدل على أنه كان يعجلها. وثبت في الصحيحين عن عائشة قالت: (كن نساء المؤمنات يشهدن الفجر مع النبي صلى الله عليه وسلم متلفعات بمروطهن ثم ينقلبن إلى بيوتهن حين يقضين الصلاة ما يعرفهن أحد من الغلس) (1) فهذه الأحاديث تدل على استحباب تعجيلها. فإن قيل: فما هو الجواب على ما رواه الخمسة بإسناد صحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أسفروا بالفجر فإنه أعظم للأجر) (2) ؟ فالجواب: أنه يجب الجمع بينه وبين ما تقدم، وقد ذهب بعض أهل العلم إلى استحباب تأخيرها ومشروعيته لكن الجواب على ذلك أن يقال: الإسفار المذكور هنا هو بيقين دخول الفجر، كما يقال: " أسفرت المرأة " أي كشفت عن وجهها. فالمقصود: أن ينكشف الوقت عن دخول وقت الفجر فيكون ذلك متيقناً غير مشكوك فيه. أي: تيقنوا وتثبتوا فلا تحكموا على الفجر بدخول وقتها إلا بعد تثبت وتبين، والفجر هي أكثر الأوقات التي قد يحصل فيها اللبس، فاللبس فيها أكثر من غيرها وأظهر. والحمد لله رب العالمين الدرس التاسع والخمسون (يوم الثلاثاء: 25 / 2 / 1415 هـ) قال المؤلف رحمه الله: (وتدرك الصلاة بالإحرام في وقتها) . فإذا كبر للإحرام فخرج وقت الصلاة، فإنه يكون قد أدرك وقت الصلاة. فمثلاً: كبر للإحرام فطلعت الشمس فإنه يكون قد أدرك صلاة الفجر. فعلى ذلك: الصلاة تدرك بتكبيرة الإحرام.

_ (1) أخرجه البخاري في كتاب مواقيت الصلاة، باب وقت الفجر (578) ، ومسلم (645) . (2) أخرجه أبو داود في كتاب الصلاة، باب (8) في وقت الصبح (424) وأخرجه النسائي (549) وابن ماجه (672) والترمذي (154) وقال: حديث حسن صحيح، سنن أبي داود [1 / 294] . وصححه شيخ الإسلام في الفتاوى.

واستدلوا: بما ثبت في مسلم عن عائشة قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من أدرك من العصر سجدة قبل أن تغرب الشمس فقد أدرك العصر) (1) الحديث. قالوا: فهذا يدل على أن أي إدراك للوقت فإنه يكون إدراكاً صحيحاً، كأن يدرك من الوقت قدر سجدة أو ركوع أو تكبيرة الإحرام فإنه يكون مدركاً للوقت. - وذهب الإمام الشافعي وهو مذهب مالك: إلى أنه لا يدرك الوقت إلا بإدراك ركعة تامة، بقيامها وركوعها وسجدتيها، فإذا أدرك ركعة فخرج الوقت فإنه يكون مدركاً للوقت. واستدلوا: بما ثبت في الصحيحين من حديث أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (من أدرك ركعة من الصبح قبل أن تطلع الشمس فقد أدرك الصبح) (2) الحديث. قالوا: فهنا النبي صلى الله عليه وسلم قيد الإدراك بإدراك ركعة، أي ركعة كاملة بتكبيرتها وركوعها وسجدتيها وقيامها. وهذا هو الراجح. فإن قيل: فما الجواب عما استدل به الحنابلة؟ فالجواب: أن السجدة هي الركعة، لذا قال بعض الرواة كما في مسلم: (وإنما السجدة الركعة) فيكون هذا من باب المجاز في إطلاق الجزء واردة الكل، كقوله تعالى: {وقرآن الفجر} (3) أي صلاة الفجر، فيكون هذا من باب ذكر الجزء تنبيها إلى البقية. بدليل: أن الإدراك لا يمكن أبداً أن يكون على هذه الهيئة لذا الحنابلة لا يقولون بظاهر الحديث، وإلا فظاهره أنه إذا كبر وركع وسجد فيكون قد أدرك السجدة فحينئذ يكون قد أدرك الصلاة، وهم يقولون بمجرد ما يدرك تكبيرة الإحرام، مع أنه ليس مدركاً للسجدة. وكون الشارع يعلقها بالسجدة ليس له معنى إلا أن يكون المراد ما تقدم وهو أن المراد بالسجدة الركعة إذ تعليق ذلك بالسجود لا معنى له. ثم إن الحديث يفسر بعضه بعضاً، فحديث أبي هريرة مفسر لحديث عائشة.

_ (1) أخرجه مسلم في كتاب المساجد، باب من أدرك ركعة من الصلاة فقد أدرك تلك الصلاة (609) . (2) تقدم. (3) سورة الإسراء.

فالراجح: أن من أدرك ركعة كاملة من الصلاة بركوعها وسجدتيها فقد أدرك الصلاة أداءً وإلا فإنه لم يدرك وتكون صلاته قضاء لا أداءً. قال: (ولا يصلي قبل غلبة ظنه بدخول وقتها إما باجتهاد أو خبر ثقة متيقن) فلا يصلي قبل تيقن دخول الوقت أو غلبة الظن بذلك إذ الأصل أن الوقت لم يدخل فلا يجوز له أن يصلي إلا إذا تيقن دخوله أو غلب على ظنه؛ لأن الظن معمول به في الشريعة. وأما مع الشك فلا يجوز له أن يصلي، لأن اليقين لا يزول بالشك، وبقاء الوقت للصلاة الأولى وعدم انتقاله إلى وقت الصلاة الجديدة هو الأصل فلا ينتقل عنه إلا بيقين أو غلبة ظن. (إما باجتهاد) : أي بأن كان عارفاً بعلامات دخول الوقت، فيجتهد بأي نوع من أنواع الاجتهاد والتحري والنظر. (أو خبر ثقة متيقن) : فيشترط أن يكون هذا الثقة متيقنا، كأن يقول: " رأيت الشمس طالعة أو رأيتها قد غربت " قالوا: لأنه إن لم يكن متيقناً أي بأن يخبر بغلبة ظن، فإن هذا المكلف عليه أن يتعرف على ذلك بنفسه، بأن يجتهد بنفسه، لأنه عارف بعلامات الوقت فلم يجز له تقليد غيره مع إمكان اجتهاده بنفسه. لكن إن كان المخبر قد بني خبره على يقين فيجب أن يقبل؛ لأنه خبر ديني فيقبل من واحد كالرواية وكالشهادة بدخول رمضان فإنها تثبت بشاهد واحد. أما إذا كان يقول: (أظن أو تبين لي) ونحوها مما لا يكون جزماً ولا يقينا، فلا يجوز أن يقلده لأنه يمكنه أن يجتهد بنفسه في معرفة الوقت. لكن إن لم يكن عارفاً بعلامات الوقت فعليه أن يقلد ذلك المجتهد وهذا الطريق الثالث لمعرفة الوقت. فهنا ثلاث طرق لمعرفة الوقت: 1- الاجتهاد 2- خبر الثقة المتيقن 3- خبر الثقة المجتهد لمقلد، لأنه لا يمكن معرفة ذلك إلا بهذا الطريق فيكون من سؤال أهل الذكر. إذن: هناك طريق ثالث لكنها خاصة بالمقلد وهي أن يقلد من عنده معرفة بهذا الباب.

فإن لم يكن هناك من يقلده وهو غير عارف بالوقت وعلاماته كأن يكون أعمى أو رجل لا يعرف أدوات معرفة الوقت فإنه يصلي على حسب حاله – هذا هو الراجح –. لكن هل يعيد؟ المشهور في مذهب الحنابلة: أنه يعيد سواء أخطأ أم أصاب. وذهب بعض الحنابلة: إلى أنه لا يعيد إلا إذا أخطأ. وهناك قول ثالث: وأنه لا يعيد مطلقاً. وهذا هو الراجح. فالراجح: أنه لا يعيد مطلقاً لأنه صلى على حسب ما أمر به، فقد قال تعالى: {فاتقوا الله ما استطعتم} (1) فصلى فلا يجب عليه الإعادة أخطأ أم أصاب، لأنه قد فعل ما يجب عليه وقد صلى الصلاة على وجه هو قادر عليه، عاجز عن غيره فنقص شيء من شروطها وهو الوقت لسبب العجز عنه ما لم يكن هناك ما يجب عليه، وقد اتقى الله ما استطاع. إذن: عندنا قولان في المذهب: المشهور: أن يعيد مطلقاً. وذهب بعض الحنابلة: إلى أنه لا يعيد إلا إذا أخطأ. والذي يظهر أنه لا يعيد مطلقاً سواء أخطأ أم أصاب؛ لأنه قد أمر بأن يصلي الصلاة، ويتقي الله ما استطاع، فاتقى الله ما استطاع وصلى الصلاة وصحت وقبلت منه لأنه فعل ما وجب عليه وليس هناك دليل يدل على بطلانها وقد فعل ما أمر به من الصلاة، ومن صلى صلاة على وجه شرعي فإن الأدلة الشرعية تدل على أنه لا يؤمر بإعادتها مرة أخرى وقد صلاها على الهيئة الواجبة. قال: (فإن أحرم باجتهاد فبان قبله فنفل) رجل صلى الظهر – مثلاً – عن اجتهاد فثبت له بعد الصلاة أنه قد صلاها قبل وقتها فحينئذ: تكون له نفل. قالوا: لأن الصلاة، لم تجب بعد فوجب أن يصليها بعد دخول الوقت. وعن الإمام مالك: تكون له فرضاً وذلك: لأنه قد صلى على الوجه المأمور به، وليس هناك دليل يوجب الإعادة – وهو قول قوي -. فالظاهر: أنها تقع له فرضاً، لأنه قد صلى بعد اجتهاد ونظر فكانت الصلاة على هذه الهيئة مأموراً بها مطلوبة منه على هذا الوجه، وكونها تنتقل إلى نفل هذا يحتاج إلى دليل ولا دليل.

قال: (وإلا ففرض) فإذا كان الاجتهاد موافقاً للصواب فتبين له أنه قد صلاها في وقتها فإنها تكون فرضاً وهذا لا إشكال فيه، فإنه قد فعل ما أمر به واتقى الله ما استطاع، وأصاب الحق وليس هناك دليل يدل على الإعادة وقد فعل ما أمر به. ومثله ينبغي أن يكون مما تقدم: المقلد الذي صلى على حسب حاله فبان صواباً، فإنه لا معنى للأمر بالإعادة. قال: (وإن أدرك مكلف من وقتها قدر التحريمة ثم زال تكليفه أو حاضت ثم كلف وطهرت قضوها) بمعنى: أذن المؤذن ثم بعد مرور قدر تكبيرة الإحرام حدث مانع يمنع من الصلاة، كأن يجن أو تحيض امرأة. لأنهم قد أدركوا منها قدراً تجب به الصلاة، فالمؤذن قد أذن فأدركوا من الوقت قدر تكبيرة الإحرام لأن المؤذن لا يؤذن إلا عند دخول الوقت. فإذن: إذا مر قدر تكبيرة الإحرام بعد دخول الوقت ثم حصل مانع فإن الصلاة تتعلق بذمتها فيجب عليها القضاء – هذا مذهب الحنابلة –. - وذهب الشافعية: إلى أن الصلاة لا تجب حتى يدرك من وقتها ما يتسع للصلاة. فمثلاً: صلاة الظهر بأن تدرك وقتاً لأربع ركعات بأخف ما يمكن أي بالقدر المجزئ في الصلاة. وهل يشترط لإيجاب القضاء عليها أن تدرك زمناً للطهارة أم لا؟ قولان للشافعية: القول الأول: أنه يشترط أن يكون الوقت متسعاً للطهارة لأنها لا يمكن أن تفعل العبادة إلا بطهارة، ولا تجب الطهارة إلا بدخول وقت الصلاة. القول الثاني: - وهو أضعف – أنه لا يشترط أن يتسع الوقت للطهارة، لأنه يمكن أن تفعل الطهارة قبل دخول وقت الصلاة. لكن هذا ضعيف كما تقدم؛ لأن الطهارة إنما تجب للصلاة عند دخول وقتها. إذن: الراجح في مذهب الشافعية أن الحائض ونحوها إذا أدركوا من وقت الصلاة ما يتسع لها بأخف ما يمكن وما يتسع للطهارة فإنه يتعلق الصلاة بذمتهم. فإن أدركوا أقل منه فلا يتعلق بذمتهم. قالوا: لأنها أدركت من الوقت ما لا يمكنها أن تفعل العبادة فيه فلم يجب عليها القضاء.

- وذهب الإمام مالك: إلى أنه لا يلزم القضاء إلا إذا تضايق الوقت ولم يصلوا. بمعنى: الحائض أذن مؤذن الظهر فلم تصل حتى تضايق الوقت، بأن بقي ما لا يتسع للصلاة وكانت مفرطة، وكانت الصلاة قد خرج وقتها في الحقيقة لأنه بقي ما لا يتسع لها. - وإذا قلنا أن الوقت يدرك بإدراك ركعة كما تقدم – فإذا بقي ما لا يتسع لذلك. وهذا هو الراجح. فإذن: لا تلزمهم إلا إذا تضايق الوقت عليهما – هذا على القول بقضاء الصلاة لمن تركها عمداً – والراجح: أن من تركها عمداً فإنه لا يقضي - كما هو اختيار شيخ الإسلام – في هذه المسألة. إذن: من أدرك الوقت فلم يصل فإنه لا يقضي مطلقاً سواء تضايق الوقت أم لا. فإن لم يتضايق؛ فلأنه غير مفرط فيجوز له التأخير. فالحائض: إذا أخرت الصلاة ساعة أو ساعتين بعد دخول الوقت، وكان الوقت مثلاً ثلاث ساعات فأخرتها إلى وقت يمكنها أن تصلي فيه فهنا لا تكون مفرطة في التأخير، لأنها قد فعلت ما يجوز لها فلم تكن مفرطة ولم يكن في إيجاب القضاء عليها معنى، فإنها قد حدث فيها المانع بعد أن أخرت الصلاة تأخيراً جائزاً لها وليس ثمت أمر جديد بالقضاء، وكوننا نأمرها بالقضاء هذا يحتاج إلى دليل ولا دليل، والأصل عدم إيجاب القضاء. * ثم ذكر شيخ الإسلام مسألة النائم والناسي وأمر النبي صلى الله عليه وسلم لهما بالقضاء مع أنهما غير مفرطين وذكر أن هذا ليس بقضاء، بل ذلك وقتهما، فالوقت لهما عند استيقاظ النائم وتذكر الناسي، لقوله صلى الله عليه وسلم: (من نام عن صلاة أو نسيها فليصلها إذا ذكرها لا كفارة لها إلا ذلك) (1) . قالوا: هذا هو وقتها في حق النائم والناسي. ثم إنه لو لم يكن ذلك وقتهما، فقد دل الشرع على إيجاب القضاء عليهم ولا دليل على المسألة المتقدمة.

_ (1) تقدم.

فالراجح: ما اختاره شيخ الإسلام وهو مذهب مالك وأبي حنيفة من أن القضاء لا يجب لأن هذا المكلف قد أخَّر الصلاة تأخيراً جائزاً غير مفرط في ذلك ثم حدث المانع فلم يجب عليه القضاء، لأن القضاء يحتاج إلى أمر جديد ولا أمر جديد في ذلك. وعلى قول المذهب: إذا أدرك قدر تكبيرة الإحرام من وقت صلاة الظهر ثم حاضت المرأة، فهل يجب عليها أن تصلي الظهر والعصر إذا طهرت أم لا يجب عليها إلا الظهر؟ روايتان في مذهب أحمد: الرواية الأولى: أن الصلاة الثانية لا يجب قضاؤها؛ لأنهم لم يدركوا من وقتها شيئاً ولا من وقت من يتبعها. الرواية الثانية: أن الصلاة الثانية يجب قضاؤها. وهذا القول هو الراجح – كما سيأتي ولما تقدم – من قضاء عبد الرحمن بن عوف وابن عباس في المرأة تطهر قبل الفجر بأنها تصلي المغرب والعشاء، وهذا ما يقول به الحنابلة في المشهور عندهم، لكنهم في هذه المسألة لم يقولوا بها، لأنه عندما يدرك وقت الصلاة الثانية فإن الأولى تبع لها، أما هنا فقد أدرك الأولى ولم يدرك من الثانية شيئاً. لكن هذا في الحقيقة ليس بمؤثر، لأن مناط الحكم فيمن طرأ عليهم عدم التكليف، أو غير المكلف ثم طرأ عليه التكليف أنهم إذا حدث ذلك منهم قبيل خروج وقت الصلاة الثانية فإن الآثار الواردة عن الصحابة في إيجاب الصلاة الأولى عليهم لمعنى متوفر في هذه المسألة وهي: أن هذا الوقت وقت لهما جميعاً عند العذر، فإن وقت الأولى وقت للثانية عند العذر، لهذا فإن من أدرك وقتاً من الثانية فيجب عليه أن يصلي الأولى، لأن الظهر والعصر وقتهما واحد عند العذر وكذلك المغرب والعشاء، فوقتهما واحد عند العذر، لذا جاز الجمع فيما شرعه الشارع من ذلك، وفي الحقيقة لا فرق - حينئذ - بين وقت الأولى ووقت الثانية، لأن الوقت واحد للجميع.

فالراجح، ما ذهب إليه الإمام أحمد في الرواية غير المشهور عند الحنابلة وهي: - وهذا على ترجيح المذهب وإلا فقد تقدم أن الصلاة لا تجب – لكن هذا للترجيح بين الروايتين: أن من أدرك شيئاً من وقت الأولى فإن الصلاة الثانية أيضاً تجب عليه؛ لأن وقتهما في العذر واحد، وقد تقدمت آثار الصحابة فيمن أدرك شيئاً من وقت الثانية فكذلك من أدرك شيئاً من وقت الأولى لا فرق بين المسألتين لأن وقتهما واحد عند العذر. قال: (ومن صار أهلاً لوجوبها قبل خروج وقتها لزمته وما يجمع إليها قبلها) بمعنى: إنسان غير مكلف لم يبلغ فبلغ قبل خروج وقت الصلاة. أو امرأة حائض فطهرت قبل خروج وقت الصلاة فإن الصلاة تلزم. ويلزم ذلك بإدراك تكبيرة الإحرام كما تقدم بمعنى: قبيل أن يؤذن الفجر بقدر تكبيرة الإحرام طهرت المرأة فيجب عليها أن تصلي العشاء والمغرب لأنها أدركت شيئاً من الوقت فوجبت عليها الصلاتين وتعلقت الصلاة بذمتها. - وذهب الإمام مالك إلى قول آخر هو القول الصحيح في هذه المسألة وهو: أن الصلاة لا تلزم إلا إذا أدرك من وقتها ما يثبت به الإدراك. وقد تقدم ما يثبت به الإدراك في مذهب مالك وهو مذهب الشافعي وهو إدراك ركعة كاملة، فإذا أدركت الحائض من وقت صلاة العشاء ركعة كاملة بركوعها وسجودها، فإنها تلزمها صلاة العشاء. وإذا أدركت أربع ركعات يعني: ثلاث ركعات للمغرب وركعة للعشاء، فإنه يجب عليها أن تصلي المغرب والعشاء لأنها أدركت من وقت العشاء ما يتسع لصلاة المغرب والعشاء جميعاً. وذلك يكون إما بإدراك ركعة في إدراك صلاة العشاء أو إدراك أربع ركعات في صلاة المغرب والعشاء جميعاً. ولابد – كذلك – وأن يتسع الوقت للطهارة فلو أدركت من الوقت ما لا يمكنها أن تغتسل وتصلي فإنه لا يجب عليها القضاء؛ لأنها لو اغتسلت يخرج الوقت أو يبقى وقت لا يكفي لإدراك ركعة.

إذن: إذا أدركت من الوقت ما يكفيها للطهارة وإدراك ركعة فتلزمها صلاة العشاء، وإذا أدركت ما يكفيها للطهارة وأربع ركعات فإن المغرب والعشاء تلزمانها. مثال آخر: امرأة طهرت قبل أذان المغرب، فهل يجب أن تصلي الظهر والعصر؟ يجب عليها إن أدركت من الوقت ما يتسع للطهارة وصلاة أربع [ركعات] (1) وركعة، لأنها بالأربع ركعات قد صلت الظهر، وبالركعة أدركت العصر. فإن أدركت أقل من ذلك فلا يجب عليها إلا العصر. فإن أدركت أقل من ذلك بحيث لا تتمكن من إدراك ركعة من العصر مع الطهارة، فلا يجب عليها شيء من ذلك. وهذا القول هو الراجح لما تقدم، فقد تقدم أن الصلاة لا تدرك إلا بركعة كاملة، وهذه المرأة الحائض قد أدركت من الوقت ما لا يكفيها لإدراك ركعة كاملة، والطهارة واجب عليها، فلم تتمكن من الطهارة وإدراك الركعة إلا بعد خروج الوقت فأدركت من الوقت ما لا يمكن أن تصلي فيه فلم تكن الصلاة واجبة عليها؛ لأنها عاجزة عن الصلاة، لأنها لم تدرك من الوقت ما تتمكن به من الطهارة والصلاة الواجبة عليها. قال: (وما يجمع إليها قبلها) ودليله: ما تقدم: من أن وقتها وقت واحد للمعذورين، ولأن ذلك قد صح عن عبد الرحمن بن عوف وابن عباس كما في البيهقي (2) وغيره ولا يعلم لهما مخالف فكان حجة. والحمد لله رب العالمين الدرس الستون (يوم الأربعاء: 26 / 2 / 1415 هـ) قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ويجب فوراً قضاء الفوائت مرتبة] في هذه الجملة ثلاث مسائل: المسألة الأولى: وجوب قضاء الفوائت. المسألة الثانية: وجوبه على الفور. المسألة الثالثة: وجوبه على الترتيب.

_ (1) في الأصل تكرار " أربع ". (2) تقدم.

أما المسألة الأولى: وهي وجوب قضاء الفوائت، دليلها: ما ثبت في الصحيحين أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (من نام عن صلاة أو نسيها فليصلها إذا ذكرها لا كفارة لها إذا ذلك) (1) . فأمر النبي - صلى الله عليه وسلم - لصلاتها عند ذكرها، وأمره للوجوب. وظاهر الحديث أنه واجب على المعذورين بنوم أو نسيان، بدليل قوله: (لا كفارة لها إلا ذلك) ، ومعلوم أن من تركها غير معذور فإن كفارتها ولاشك التوبة إلى الله، ولا قائل بأنه يكتفى بقضائها فحسب، بل يجب أن يتوب إلى الله من تفريطه في إضاعتها عن وقتها. وقد قال - صلى الله عليه وسلم -: (ليس في النوم تفريط) (2) ، فالنوم عذر، فحيث كان معذوراً في فواتها فعليه القضاء. أما إذا كان مفرطاً فيه وأداه ذلك إلى فوات الصلاة فإنه لا يكون معذوراً. [ولكن] (3) المذهب أن ذلك بمفروض مطلقاً، وأن المعذور وغير المعذور يجب عليهما قضاء الفوائت، فمن ترك الصلاة عامداً مفرطاً فيجب عليه قضاؤها وعليه أن يضم إلى ذلك التوبة. وهذا مذهب جماهير العلماء حتى حكاه النووي إجماعاً. لكن ذهب بعض أهل العلم كابن حزم وابن تيمية وابن القيم: إلى أن القضاء ليس بمشروع.

_ (1) أخرجه البخاري (1 / 157) ومسلم (2 / 142) ، وأبو داود (442) ، وكذا أبو عوانة (2 / 260، 261) والنسائي (1 /100) والترمذي (1 / 335) وغيرهم، الإرواء [1 / 291] رقم 263. (2) تقدم. (3) في الأصل: ولفظة.

وحكاه ابن حزم عن عمر وابن عمر وسلمان وأنس بن مالك وابن مسعود ومحمد بن سيرين ومطرف بن عبد الله وعمر بن العزيز، قال: " ولا يعلم لهم مخالف " (1) . وعمدة استدلالهم: أن القضاء يحتاج إلى أمر جديد به، وليس عندنا أمر جديد بقضاء الفائتة غير المعذور صاحبها، وأما الحديث الوارد المتقدم فإنه في المعذورين. وكون الجمهور يقيسون غير المعذور على المعذور هذا قياس ظاهر البطلان؛ لأن هذا عاص لله بفوات الصلاة، وهذا غير عاص له، بل قد وقع ذلك منه على وجه يعذر به، فكيف يقاس عليه من أخرها متعمداً. وهذا القول هو الراجح: وأن من ترك الصلاة عمداً حتى خرج وقتها فإنه لا يشرع له القضاء،بل يتوب إلى الله ويكثر من النوافل، فإن الله يقول يوم القيامة: (انظروا هل لعبدي من تطوع فأتموا به فريضته) (2) كما في المسند وغيره، فلا يقضيها إذاً؛ لأنه عمل ليس عليه أمر النبي - صلى الله عليه وسلم -، فيكون مردوداً على صاحبه، ولم يرد أمر جديد بالقضاء. المسألة الثانية: فهي قوله " فوراً ": وأن الفوائت يجب قضاؤها فوراً. وهذا مذهب الجمهور. ودليلهم قوله - صلى الله عليه وسلم -: (فليصلها إذا ذكرها) ، وظاهره أنه يصليها على وجه الفورية لا على التراخي، فقد أمره بالصلاة بمجرد الذكر، فمتى زال عنه النسيان أو استيقظ من النوم فيجب عليه أن يصلي الصلاة فوراً.

_ (1) المحلى [2 / 238] قال رحمه الله: " وممن قال بقولنا في هذا عمر بن الخطاب وابنه عبد الله، وسعد بن أبي وقاص، وسليمان – كذا، ولعل الصواب: سلمان - وابن مسعود والقاسم بن محمد بن أبي بكر، وبديل العقيلي، ومحمد بن سيرين، ومطرف بن عبد الله، وعمر بن عبد العزيز وغيرهم ". (2) أخرجه الإمام أحمد في المسند، عن رجل من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - (16731) (23590) ، وعن تميم الداري (17079) (17073) .

وذهب بعض أهل العلم، وهو مذهب الشافعية: إلى أنه لا يجب على الفور، بل يسن أن يكون فوراً ولا يجب، فتبقى في ذمته، فمتى صلاها أجزأه ذلك، لكن المستحب أن يصليها فوراً. واستدلوا بما ثبت في الصحيحين من حديث عمران بن حصين في نوم النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه عن صلاة الصبح، ,فيه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (لا خير، ارتحلوا، فارتحل ثم نزل فتوضأ فنودي بالصلاة، فصلى بالناس) (1) . وثبت في الصحيحين من حديث أبي هريرة في نومه - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه في سفر عن صلاة الغداة، قال: (ليأخذ كل رجل فيكم برأس راحلته، فإن هذا منزل حضرنا فيه الشيطان، ففعلنا ثم دعا بالماء فتوضأ ثم سجد سجدتين ثم أقيمت الصلاة فصلى الغداة) (2) . قالوا: فهذا يدل على أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يصل صلاة الفجر وقد فاتته إلا بعد أن ارتحل ثم نزل.وهذا على وجه التراخي. والراجح ما ذهب إليه أهل القول الأول. والجواب على استدلال أهل القول الثاني: أن يقال: إن هذا الحديث قد وقع فيه التأخير لمصلحة الصلاة، فإن هذا موضع غفلة وحضر فيه الشيطان، فمن مصلحة الصلاة وتمامها وتمام خشوعها أن ينتقل لموضع آخر، فكان هذا لمصلحة الصلاة. ومثله لو أخرها يسيراً لانتظار اجتماع الناس ليصلوها جماعة، فإذا احتاج هذا لوقت ليجتمع الناس عليها بالوضوء ونحوه، فيشرع ذلك؛ لأن هذا من مصلحتها. إذاً: الراجح مذهب الجمهور، وهو وجوب ذلك على الفورية، ولكن تأخيرها لمصلحتها مشروع، كأن يكون ذلك لإقامتها جماعة أو للانتقال عن هذا الموضع الذي وقعت فيه الغفلة وحضر فيه الشيطان ونحو ذلك.

_ (1) أخرجه البخاري في كتاب التيمم (344) ، ومسلم (682) . (2) أخرجه مسلم في كتاب المساجد، باب قضاء الصلاة الفائتة.. (680) . ولم أجده من حديث أبي هريرة في فهرس البخاري، طبعة بيت الأفكار.

المسألة الثالثة: وهي وجوبها على الترتيب: والمذهب: أنها ولو كثرت فإنه يجب أن يقضيها مرتبة، أي عن اليوم الأول ثم الثاني ثم الثالث، وهكذا، وهذا وإن كان لا يتصور في مسألة النسيان والنوم، لكنه متصور فيمن تركها عمداً، فمن ترك الصلاة عمداً شهراً، فمذهب الجمهور أن عليه القضاء. وصورة القضاء: أن يقضي الصلاة مرتبات وأن يقضيها مرتبة على الأيام، أي أيام الشهر، أولاً فأول حتى ينتهي ذلك. فالمشهور في المذهب وجوب الترتيب، وهو شرط لصحتها، فلو لم يرتب لم تصح الصلاة التي قد اختل الترتيب فيها، فمثلاً: لو صلى العصر ثم الظهر، فصلاة العصر باطلة، فيجب عليه أن يعيدها بعد الظهر.

واستدلوا بالأحاديث الواردة في ترتيب النبي - صلى الله عليه وسلم -، وهي أحاديث غزوة الخندق. فقد ثبت في مسند أحمد بإسناد صحيح عن أبي سعيد الخدري قال: حبسنا يوم الخندق عن الصلاة حتى كان بعد المغرب لهويِّ من بالليل كفينا، وذلك قوله تعالى: {وكفى الله المؤمنين القتال وكان الله قوياً عزيزاً} (1) فدعا النبي - صلى الله عليه وسلم - بلالاً فأقام الظهر فصلاها فأحسن صلاتها كما كان يصليها في وقتها، ثم أمر فأقام العصر فصلاها فأحسن صلاتها كما كان يصليها في وقتها ثم أمر فأقام المغرب فصلاها كذلك، وذلك قبل أن ينزل الله قوله تعالى في صلاة الخوف: {فإن خفتم فرجالاً أو ركباناً} (2) ، والحديث رواه النسائي (3) إلا أنه ليس فيه ذكر المغرب، والحديث صحيح، وتقدم حديث ابن مسعود في كون النبي - صلى الله عليه وسلم - صلى بالخندق الظهر والعصر والمغرب والعشاء مرتبات (4) . قالوا: فهذه أحاديث تدل على فرضية الترتيب بين الفوائت. قالوا: ومثل ذلك الترتيب بين الحاضرة والفائتة، فرجل عليه فائتة وهي صلاة العصر، وحاضرة وهي صلاة المغرب، فيجب عليه أن يرتب بين الفائتة والحاضرة.

_ (1) سورة الأحزاب. (2) سورة النساء. (3) أخرجه الإمام أحمد في المسند (11216) ، (11485) ، (11667) . (4) أخرجه النسائي في كتاب المواقيت باب (55) كيف يقضي الفائت من.. (622) . وأخرجه الترمذي في باب ما جاء في الرجل تفوته الصلوات بأيهن يبدأ من أبواب الصلاة، والبيهقي. المغني [2 / 336] .

واستدلوا بما ثبت في الصحيحن أن عمر بن الخطاب قال للنبي - صلى الله عليه وسلم - يوم الخندق: " ما كدت أصلي العصر حتى كادت الشمس أن تغرب "، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: (والله ما صليتها، فتوضأ وتوضأنا ثم صلى بعد ما غربت الشمس ثم صلى بعدها المغرب) (1) . وذهب الشافعية: إلى أنه ليس بفرض بل مستحب، قالوا: لأن ما ذكرتموه فعل، والفعل لا يدل على الوجوب. وهذا القول قول – في الحقيقة – قوي ظاهر؛ ذلك لأن الصلاة أوجبها الله تعالى مرتبة حيث تصلى في وقتها، فالترتيب مستحق الوقت، فيسقط بسقوطه، فمادام الوقت سقط فالترتيب تبع له،فيسقط بسقوطه. هذا هو الذي يظهر ويتبين، ونحتاج إلى دليل على فرضية الترتيب ولا دليل يدل على ذلك. والترتيب فرض الوقت وقد سقط الوقت فيسقط بسقوطه، ومن صلى الصلاة فقد فعل ما أمر به، وكوننا نفرض عليه الترتيب، هذا يحتاج إلى دليل، فإن الوقت قد سقط وكوننا نوجب عليه الترتيب وقد أدى الصلاة على ما أمره بها الشارع، فإن ذلك محل نظر ظاهر. إذ لا دليل على ذلك. إذاً: الراجح أن الترتيب بين الفوائت وبين الحاضرة والفائتة إنما هو مستحب. وهو مذهب الشافعية. وهذه المسألة التي سيأتي ذكرها مبنية على المشهور في المذهب، وهو مذهب الجمهور من وجوب الترتيب بين الفائتة والحاضرة وبين الفوائت. قال: [ويسقط الترتيب بنسيانه] فلو صلى غير مرتب ناسياً فالصلاة تصح؛ قالوا: لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (إن الله تجاوز لي عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه) (2)

_ (1) أخرجه البخاري في كتاب الأذان، باب قول الرجل للنبي - صلى الله عليه وسلم - ما صلينا، (641) ، ومسلم (631) . (2) قال في الأربعين: " حديث حسن ". أخرجه ابن ماجه في كتاب الطلاق (2043) قال رحمه الله: " حدثنا إبراهيم بن محمد بن يوسف الفريابي حدثنا أيوب بن سويد حدثنا أبو بكر الهُذلي عن شهر بن حوشب عن أبي ذر الغفاري قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (إن الله تجاوز عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه) ". وأخرج البيهقي في السنن الكبرى (7 / 356) في باب ما جاء في طلاق المكره فقال رحمه الله: أخبرنا أبو ذر بن أبي الحسين بن أبي القاسم المذكر وأبو عبد الله إسحاق بن محمد بن يوسف السوسي في آخرين قالوا: نا أبو العباس محمد بن يعقوب نا الربيع بن سفيان نا بشر بن بكر نا الأوزاعي عن عطاء عن عبيد بن عمير عن ابن عباس رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (إن الله تجاوز لي عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه) جود إسناده بشر بن بكر وهو من الثقات، ورواه الوليد بن مسلم عن الأوزاعي فلم يذكر في إسناده عبيد بن عمير. أخبرناه أبو سعد الماليني أنا أبو أحمد بن عدي الحافظ نا عمر بن سنان والحسن سفيان وغيرهما قالوا: نا محمد بن المصفى نا الوليد بن مسلم، فذكره، وقال: عن عطاء عن ابن عباس رضي الله عنهما. وأخبرنا أبو الحسين بن الفضل القطان قال: أنا عبد الله بن جعفر نا يعقوب بن سفيان نا محمد بن المصفى نا الوليد نا ابن لهيعة عن موسى بن ورد أنه قال: سمعت عقبة بن عامر رضي الله عنه يقول: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (وضع الله عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه) ".

وهذا محل نظر، فإن الترتيب فرض على قول الجمهور، وحيث كان فرضاً فلا يسقط بالنسيان، فغاية النسيان أن يسقط الإثم والحرج، وأما أن يسقط الترتيب فلا. لذا ذهب الإمام مالك: إلى أنه لا يسقط بالنسيان، فلو صلى غير مرتب ناسياً فصلاته غير صحيحة. وعلى القول الراجح فأصل الترتيب ليس بواجب. قال: [وبخشية خروج وقت اختيار الحاضرة] إذاً: هذا فيما إذا كان بين فائتة وحاضرة. مثال: رجل استيقظ من النوم أثناء وقت صلاة العصر وقد نام عن الظهر، [فـ] (1) يجب عليه الترتيب إلا إذا خشي إن صلى الظهر قبل العصر أن تصفر الشمس وإذا اصفرت فقد خرج وقت الجواز. إذاً: إذا خشي فوات وقت الجواز للحاضرة فيجب عليه أن يصليها قبل الفائتة. قالوا: لأن الحاضرة آكد، وهذا هو وقتها الذي هي مختصة به، وتأخيرها عن وقت الجواز محرم، فحينئذ يقدم الحاضرة فيصليها في وقتها الجائز ثم يصلي الفائتة. فإن كان يخشى فوات الوقت كله، فحينئذ يقدم ولا شك الحاضرة؛ لأنه متى لم يصلها اجتمع عليه فائتتان، فتكون الحاضرة فائتة أيضا، لأنه يصلي الفائتة في وقتها، فتكون الحاضرة فائتة، فيجتمع عليه فائتتان. ويسقط الترتيب أيضاً إذا تذكر الفائتة بعد الحاضرة، بمعنى: رجل لما صلى العصر وانتهى منها تذكر أنه لم يصل العصر (2) فيسقط عند جمهور العلماء الترتيب، فيصلي الفائتة بعد صلاته الحاضرة، وهذا يدل عليه الحديث المتقدم: (فليصلها إذا ذكرها) ، وهو لم يتذكرها إلا بعد الحاضرة، فقد تذكرها حيث لا يمكن الترتيب فيسقط. أما المسألة التي فيها البحث والنظر هي: ما إذا تذكر أثناء الصلاة الحاضرة، بمعنى: رجل كبر للعصر واشتغل بها سواء كان إماماً أو مأموماً أو انفرد، فتذكر أنه لم يصل الظهر، فما الحكم؟

_ (1) في الأصل: فهل. (2) كذا في الأصل، ولعل الصواب: الظهر.

قالوا: يتم صلاته مع الإمام لقوله تعالى: {ولا تبطلوا أعمالكم} (1) ثم يصلي الفائتة ثم يعيد الحاضرة. هذا مذهب جمهور أهل العلم. واستدلوا بما رواه أحمد أن النبي - صلى الله عليه وسلم - في يوم الخندق صلى المغرب فقال لأصحابه: (هل أحد منكم يذكر أنا صلينا العصر قالوا: ما صليتها، فصلى النبي - صلى الله عليه وسلم - العصر ثم المغرب) (2) ، والحديث ضعيف، فيه ابن لهيعة، ولا يحتج بحديثه. واستدلوا بما رواه أبو يعلى الموصلي عن ابن عمر مرفوعاً: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (من نسي صلاة فلم يذكرها إلا وهو مع الإمام فليصل مع الإمام ثم ليصل الصلاة التي نسي ثم ليعد الصلاة التي صلاها مع الإمام) (3) . والحديث ليس بصحيح مرفوعاً. وإنما هو ثابت عن ابن عمر موقوفاً كما في الموطأ، لذا صحح وقفه الدارقطني والبيهقي وأبو زرعة والنسائي. فالصحيح أنه من قول ابن عمر كما صح في الموطأ. وعن الإمام أحمد: أنه يقطع صلاته. وهذا لو قلنا بوجوب الترتيب، وأنه يجب عليه أن يعيد الصلاة لكان هذا أوجه، وذلك لأنه عمل ليس بمقبول وليس بصحيح، فإبطاله لا حرج فيه. أو أن ينقله إلى نفل مطلق، فيقلب نيته من فرض إلى نفل مطلق، وهذا أظهر ليبقى أصل الصلاة. وذهب الشافعي: إلى أنه لا يعيد، وهذا بناء على أن الترتيب ليس بواجب، وهو مذهب ابن عباس كما حكاه عنه شيخ الإسلام، ورجّح هذا القول مع أنه من القائلين بوجوب الترتيب.

_ (1) سورة محمد 33. (2) المسند 4 / 106. المغني [2 / 336] . (3) أخرجه الإمام مالك في باب العمل في جامع الصلاة من كتاب قصر الصلاة في السفر، والدارقطني في باب الرجل يذكر صلاة وهو في أخرى من كتاب الصلاة، والبيهقي في الباب نفسه. المغني [2 / 337] .

وترجيحه مبني على تصحيحه صلاته الأولى؛ لأنها صلاة قد أمر بها وأمر بإتمامها، والعبد لا يؤمر بالصلاة مرتين، وقد أداها، فقد أدى الصلاة أولاً، وأمر بإتمامها، فليس من الشرع أن يؤمر بالصلاة مرة أخرى. إذاً: الراجح أنه إذا تذكر في أثناء الصلاة، صلاة فائتة فإنه يتم الحاضرة ثم يصلي بعد ذلك المنسية سواء قلنا بوجوب الترتيب أم لم نقل بوجوبه. أما إذا لم نقل بوجوبه فهذا واضح؛ لأن الترتيب ليس بواجب وغاية الأمر أن يكون قد ترك الاستحباب. وأما إن قلنا بوجوب الترتيب، فكما قال شيخ الإسلام: قد أمرناه بالصلاة وأمرناه بإتمامها، فهي صلاة شرعية قد أمر بها فكيف يؤمر بها مرة أخرى. مسألة: إذا كثرت عليه الفوائت، فما الحكم؟ الجواب: يجب أن يقضيها كلها كما تقدم، ويجب كذلك أن يكون هذا على الفور، كما تقدم. لكن بشرط وهو ألا يكون عليه مشقة في بدنه أو ماله، فإن كانت عليه مشقة وضرر في بدنه أو ماله فلا يجب عليه أن يشتغل بها على هذه الصورة من الفورية، بل يصلي بحيث لا يحلقه الضرر ببدنه وماله. ببدنه: بتعب أو إعياء أو مرض ونحوه. وبماله: بضياع شيء من ماله أو بقطع رزقه بالعمل ونحو ذلك، فإنه لا يؤمر بها متواصلة فورية، بل يؤمر بها على الوجه الذي لا يلحقه الضرر، فيصلي بقدر ما لا يلحقه الضرر ثم يقوم بمصالح نفسه ثم يعود إلى إتمام ما فاته، وهكذا. هل يشرع له أن يقضي نوافل هذه الصلوات أم لا؟ كرجل فاتته خمس صلوات، فهل يشرع أن يقضي نوافلها؟ الظاهر: كما هو المشهور في المذهب التفصيل في هذا: فإن كانت الصلوات كثيرة فإنه لا يقال باستحباب قضاء النوافل، وإن كانت قليلة يسيرة فيشرع له ذلك. أما الدليل على عدم استحباب قضاء النوافل: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما قضى الفوائت يوم الخندق وكانت أربعاً لم يصل نوافلها.

وأما إذا كانت يسيرة فإنه يصلي نوافلها، فدليله: حديث أبي هريرة المتقدم وفيه: " فدعا بالماء فتوضأ ثم سجد سجدتين ثم أقيمت الصلاة فصلى الغداة " (1) . والسجدتان هما سنة الفجر. وهذا ما اختاره شيخ الإسلام ولم أر قولاً يخالف هذا القول. مسألة: إذا نسي صلاة من يوم لا بعينها؟ كأن يقول: أذكر أنه في يوم الجمعة تركت صلاة ناسياً ولا أذكر هذه الصلاة أي صلوات اليوم، فما الحكم؟ قالوا: يصلي الخمس صلوات كلها؛ لأن التعيين فرض، والصلاة يجب أن يعينها أظهرا أم عصراً، ولا يتم ذلك إلا بإعادتها كلها، فلا يتم التعيين إلا بذلك، حيث إن الاحتمال يبقى ولا يكون التعيين إلا بإعادتها كلها. وهذا ما اتفق عليه أهل العلم، وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب. مسألة: إذا ما ترك الترتيب بين الفوائت جاهلاً؟ المذهب: أن الترتيب لا يسقطه الجهل. والقول الثاني: أن الترتيب يسقطه الجهل، كما هو مذهب شيخ الإسلام، فإن الفرائض لا تجب إلا بعد العلم بها؛ لقوله تعالى: {وما كنا معذبين حتى نبعث رسولاً} (2) . وهذا القول هو الراجح، وأن الجهل يسقط الواجبات، فلا تجب عليه إلا الصلاة الحاضرة كما تقدم، وأما الفوائت وما فعله سابقاً فلا تجب عليه. فالفرائض لا تجب إلا بعد العلم، وهو مذهب أبي حنيفة، واختيار شيخ الإسلام، أن الواجبات [لا تجب] (3) إلا بعد العلم بها. ومثل هذه المسألة: من ترك صلوات جاهلاً بها، لكونه حديث عهد بإسلام، فكذلك: المذهب: أنه يجب عليه القضاء. والصحيح أنه لا قضاء عليه؛ لأن الواجبات لا تجب إلا بعد العلم بها. مسألة: إذا خشي فوات الجماعة بصلاة الفائتة؟ رجل نام عن صلاة العصر حتى أذن المغرب، فقال: أخشى إن اشتغلت بالفائتة أن تفوتني الجماعة، فما الحكم؟ قولان في المذهب:

_ (1) أخرجه مسلم، وقد تقدم. (2) سورة الإسراء. (3) ليست في الأصل.

الأول: إن الترتيب يسقط؛ لأنه قد اجتمع عليه واجبان، الواجب الأول هو الترتيب، والواجب الثاني هو صلاة الجماعة، فيسقط حينئذ الترتيب. لكن هذا القول فيه تحكم ظاهر، فإن ترجيح إسقاط أحد الواجبين يحتاج إلى دليل، كيف والدليل يدل على إسقاط واجب الجماعة؛ لأن الترتيب شرط في صحة الصلاة – هذا على المذهب – أما الجماعة فليست شرطاً في صحتها بل تصح الصلاة من المنفرد عن الجماعة وإن لم يكن معذوراً في ذلك، فالصلاة صحيحة إلا إن أجره ينقص ويأثم، بخلاف الترتيب، فحيث قلنا بفرضيته فإن تركه يبطل الصلاة، فهو أرجح من الجماعة، ففوات الجماعة مرجح على فواته؛ لأنه آكد منها. أما على القول الراجح وأن الترتيب ليس بواجب، فهذا ظاهر وواضح، فحينئذ يصلي الحاضرة ويؤديها جماعة، فهو مأمور بتأديتها جماعة ثم يقضي الفائتة. والحمد لله رب العالمين. الدرس الحادي والستون (يوم السبت: 29 / 2 / 1415 هـ) قال المؤلف رحمه الله تعالى: (ومنها ستر العورة) ستر العورة: الستر بفتح السين هو التغطية، وبكسرها هو ما يستر به، سِتر وسَتر. وسترها شرط بالإجماع، قال ابن عبد البر: " وأجمعوا على فساد صلاة من ترك ثوبه وهو قادر على الاستتار به وصلى عرياناً " وقد قال تعالى: {يا بني آدم خذوا زينتكم عند كل مسجد} (1) أي عند كل صلاة. قال: (فيجب بما لا يصف بشرتها)

_ (1) سورة الأعراف. قال الشيخ ابن عثيمين في الشرح الممتع [2 / 145] : " لم تأت كلمة ستر العورة في الكتاب أو السنة ومن أجل أنه لم تأت ينبغي أن لا نعبر إلا بما جاء في القرآن والسنة … ونظير هذا.. تعبير بعضهم في باب محظورات الإحرام بلبس المخيط بدلاَ عن القميص والسراويل.. ولما قال العلماء " ستر العورة " اشتبه على بعض الناس عورة الصلاة وعورة النظر … والذي جاء في القرآن {يا بني آدم خذوا زينتكم عند كل مسجد} .. "

أي لا تصف بشرتها من سواد أو بياض أو حمرة أو نحو ذلك فهذا هو الواجب في سترها وهو أن يسترها بثوب من خرق أو جلد أو نحوه بما لا يصف بشرتها. فإذا وصف البشرة فبان بياض أو نحو ذلك فهو غير ساتر لعورته فالثوب الذي يصف البشرة لا يستر العورة باتفاق أهل العلم لأن العورة ليست بمستورة. وأما حجمها فاتفق أهل العلم على أن ظهور الحجم إذ سترت البشرة أنه ليس بمعتبر في سترها، وذلك لمشقة التحرز من ذلك. فظهور حجمها لا يعد مخالفاً للستر الواجب الشرعي. قال: (وعورة رجل وأمة وأم ولد ومعتق بعضها من السرة إلى الركبة) . فعورة الرجل من السرة إلى الركبة. اتفق أهل العلم على أن السوأتين القبل والدبر أنهما من العورة في الرجل. واتفقوا على أن السرة ليست من العورة. واختلفوا في الفخذين والركبتين. فأما الفخذان: فجمهور أهل العلم على أنهما عورة واستدلوا: -بحديث جَرْهَد أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (غط فخذك فإن الفخذ عورة) (1) رواه أحمد وأبو داود والترمذي، ونحوه من حديث ابن عباس رواه أحمد والترمذي. ونحوه من حديث محمد بن جحش رواه الترمذي. وبحديث علي بن أبي طالب في سنن أبي داود – وهذه الأحاديث كلها فيها أن الفخذين عورة. وذهب الإمام أحمد في إحدى الروايتين عنه وهو مذهب ابن جرير الطبري والنووي وابن المنذر ومذهب الظاهرية واختاره طائفة من أصحاب أحمد كالمجد وصاحب الفروع: وهو أن الفخذين ليسا بعورة.

_ (1) أخرجه أبو داود (3140، 4015) في باب النهي عن التعري، من كتاب الحمام، والبيهقي (2 / 228) ، ولفظه " لا تبرز فخذك ولا تنظر إلى فخذ حي ولا ميت " والترمذي في كتاب الأدب، باب ما جاء أن الفخذ عورة. والإمام أحمد في المسند 3 / 478، 479، الإرواء، والمغني [2 / 285] .

واستدلوا: بما ثبت في صحيح مسلم عن عائشة قالت: (كان النبي صلى الله عليه وسلم مضطجعاً كاشفاً عن فخذيه أو ساقيه " - وفي المسند والطحاوي الجزم بأنهما الفخذان – " فاستأذن أبو بكر فأذن له وهو على تلك الحال ثم استأذن عمر فأذن له وهو على تلك الحال فتحدثا، ثم استأذن عثمان فجعل يسوي ثيابه، قالت عائشة: فسألته فقال: (ألا استحي ممن تستحي منه الملائكة) (1) . ففي هذا الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم كشف فخذيه عند أبي بكر وعمر ولو كانتا عورة لما فعل ذلك النبي صلى الله عليه وسلم. أما الشك، فقد ورد في رواية أحمد والطحاوي الجزم بأنهما الفخذان فتبين أن هذا شك من الراوي. واستدلوا بما ثبت في الصحيحين عن أنس بن مالك – في غزوة خيبر – وهو حديث طويل وفيه: (وإن ركبتي لتمس فخذ النبي صلى الله عليه وسلم ثم حسر الإزار عن فخذه – وفي رواية (ثم انحسر الإزار عن فخذه حتى إني أنظر إلى بياض فخذي النبي صلى الله عليه وسلم) (2) متفق عليه. والاستدلال به من وجهين: الوجه الأول: كون ركبة أنس تمس فخذ النبي صلى الله عليه وسلم والعورة لا يجوز مسها. الوجه الثاني: انحسار الثوب عن فخذ النبي صلى الله عليه وسلم ونظر أنس بن مالك، والنبي - صلى الله عليه وسلم - مصون عن أن تنكشف له عورة.

_ (1) أخرجه مسلم في كتاب فضائل الصحابة، باب من فضائل عثمان بن عفان (2402) . وأخرجه الطحاوي في المشكل (2 / 283 – 284) ، وأحمد (6 / 62) الإرواء [1 / 299] . (2) أخرجه البخاري (1 / 105) برقم (371) ، ومسلم (4 / 145، 5 / 185) ، وأحمد (3 /102) والبيهقي (2 / 230) الإرواء [1 / 301] .

ومن الأدلة على الوجه الأول: ما في البخاري عن زيد بن ثابت قال: (أنزل على النبي صلى الله عليه وسلم – أي القرآن – وفخذه على فخذي فثقلت علي حتى خشيت أن ترض فخذي) (1) والشاهد منه ما تقدم: من مس فخذ النبي صلى الله عليه وسلم لفخذ زيد والعكس وهذا لا يكون في العورة. وأجاب أهل القول الثاني على أهل القول الأول: بأن الأحاديث الواردة في هذا الباب كلها ضعيفة. فحديث جرهد: حديث مضطرب وقد ضعفه البخاري وغيره. وحديث ابن عباس فيه أبو يحيى القتات وهو ضعيف. وحديث محمد بن جحش فيه أبو كثير وهو مجهول. وحديث علي إسناده ضعيف جداً. وهذه الأحاديث إنما تحسن لشواهدها لو لم يكن لها هذا المعارض وهي الأحاديث التي فيها ما اتفق عليه الشيخان ومنها رواه البخاري أو مسلم. والقول الثاني هو الراجح؛ لأن الأحاديث كلها ضعيفة، وهذه الأحاديث صحيحة صريحة في أن الفخذ ليس بعورة. وحيث قلنا إن الفخذ ليس بعورة، فكما قال شيخ الإسلام: " موضع هذا خارج الصلاة، أما في الصلاة، فيجب سترها، لقوله صلى الله عليه وسلم – في الثوب الواحد – (إن كان واسعاً فالتحف به وإن كان ضيقاً فاتزر به) (2) . ثم إن الفقهاء يقع منهم في هذا الباب شيء من الخلط الكثير – كما قال شيخ الإسلام – في مسألة العورة في الصلاة وفيها خارج الصلاة وليس بينهما اجتماع.

_ (1) ذكره البخاري تعليقاًَ مجزوماً به في باب (12) ما يذكر في الفخذ من كتاب الصلاة، وأخرجه أيضاً مسنداً موصولاً في كتاب الجهاد والسير، باب (31) قول الله تعالى {لا يستوي القاعدون من المؤمنين} (2832) . (2) أخرجه البخاري في الصلاة / باب إذا كان الثوب ضيقاً (361) ، ومسلم في الزهد / باب حديث جابر الطويل (3010) ، ولفظه عند مسلم: " إذا كان واسعاًَ فخالف بين طرفيه، وإن كان ضيقاً فاشدده على حقوك "، الشرح الممتع [2 / 146] .

فالعورة في الصلاة عورة ثابتة في الخلوة وغير الخلوة وعند حضور من يجوز أن ينظر إلى العورة ونحوه، فيجب ستر العورة لعمومات الأحاديث. وأما خارج الصلاة فهي عورة حيث وجد من لا يحل أن ينظر إليها ممن ليس بزوج أو نحوه، أما نظر الزوج إلى الزوجة فهو جائز وهذا في خارج الصلاة. ثم إن عورة المرأة على الصحيح – كما سيأتي – كلها إلا الوجه والكفين والقدمين، ولا يستثنى شيء من ذلك في العورة خارج الصلاة. فإذن: من يربط المسألتين فقد أخطاء، فهذه مسألة وهذه مسألة. إذن: المقصود أن العورة إنما هي السوأتان فقط أما الفخذان فليس بعورة. وأما في الصلاة فيجب أن يستتر بثوب بحيث تغطى الفخذان والسوأتان – كما قرر هذا شيخ الإسلام -. أما الركبة: فجمهور أهل العلم على أنها ليست بعورة. وهي عورة عند أبي حنيفة، لحديث وارد في الدارقطني أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (الركبة من العورة) (1) لكن الحديث إسناده ضعيف جداً. فالراجح مذهب الجمهور. وعلى القول بأن الفخذين ليسا بعورة – كما هو الراجح – فأولى منهما الركبتان. قوله: (وأمة أم ولد ومعتق بعضها من السرة إلى الركبة) فعورتها كعورة الرجل، لحديث أحمد والدارقطني أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا زوج أحدكم أمته عبده أو أجيره فلا ينظر إلى ما بين السرة والركبة فإنه عورة) (2) .

_ (1) أخرجه الدارقطني في باب الأمر بتعليم الصلوات والضرب عليها وحد العورة التي يجب سترها، من كتاب الصلاة، سنن الدارقطني [1 / 231] ، المغني [2 / 286] (2) أخرجه أبو داود في باب متى يؤمر الغلام بالصلاة، من كتاب الصلاة، وفي باب قوله {غير أولي الإربة} من كتاب اللباس، والدارقطني في باب الأمر بتعليم الصلاة والضرب عليها.. من كتاب الصلاة، المغني [2 / 285] .

والحديث – في الحقيقة – ليس بصريح في أن هذا عورة، وأن غيره ليس بعورة وإنما فيه أنه عورة بالنسبة إلى السيد إذا زوج أمته فلا يجوز أن ينظر إلى ما بينهما، وأما الركبة فما دون فإنه ليس بعورة بالنسبة إلى السيد المالك، فليس فيه أن الركبة فما دون والصدر ونحو ذلك أنه ليس بعورة مطلقاً على السيد وغيره. - لذا ذهب الإمام أحمد في رواية عنه: إلى أن عورتها كالحرة وهذا في الصلاة – فالبحث هنا إنما هو في عورتها في الصلاة –. وهذا القول هو الراجح؛ لعمومات النصوص الشرعية، كقوله صلى الله عليه وسلم: (لا يقبل الله صلاة حائض إلا بخمار) (1) رواه الخمسة إلا النسائي وهو عام في الحرة والأمة، وكلاهما تصح فيها أن تكون حائض، فتوصف بأنها حائض وإخراج الأمة لا دليل عليه. والدليل المتقدم إنما فيه ذكر العورة بالنسبة إلى السيد. إذن الراجح: أن الأمة وأم الولد والمعتق بعضها والمكاتبة أن عورتها إنما هي كعورة الحرة تماماً لعمومات النصوص الشرعية. وأما عورتها خارج الصلاة: فالأظهر ما ذهب إليه الإمام أحمد في رواية عنه وهو مذهب مالك والشافعي: إلى أن عورتها ما لا يظهر غالباً. فما لا يظهر غالباً منها فهو العورة – فالوجه واليدان والشعر هذا يظهر غالباً فليس من العورة، وأما ما لا يظهر غالباً فهو عورتها. وألحق أهل العلم بالرجل من بلغ عشر سنين، فمن بلغ عشر سنين فعورته كعورة الرجل، وأما ما دون ذلك فالفرجان – هذا هو المشهور في مذهب الإمام أحمد – وتقدم أن الصحيح أن العورة إنما هي الفرجان.

_ (1) أخرجه أبو داود في باب المرأة تصلي بغير خمار، من كتاب الصلاة، والترمذي في باب ما جاء لا تقبل صلاة المرأة إلا بخمار من أبواب الصلاة، وابن ماجه في باب إذا حاضت الجارية لم تصل إلا بخمار، من كتاب الطهارة، والإمام أحمد في المسند: 6 / 150، 218، 259، المغني [2 / 283] .

وأما كشف ذلك فإن مرجعه إلى الفتنة، فإذا كانت الفتنة فلا يجوز كشفه مطلقاً، وأما حيث لا فتنة فيجوز كشفه. إذن: ابن عشر سنين في المشهور من المذهب عورته كعورة الرجل ولم أر دليلاً يدل على هذا وأما ما دونه فعورته الفرجان. والذي ينبغي أن يكون من لم يبلغ كهو بعد التمييز دون عشر سنين، فإنه لا فرق بين ما إذا ميز وكان دون عشر سنين فيه [وبين ما] إذا بلغ عشر سنين ولم يبلغ بعد. وقد تقدم ترجيح أن الفخذين ليسا بعورة، فإذا ثبت هذا فيمن هو بالغ فأولى منه فيمن بلغ عشر سنين أو من دونه. ومما يبين أن ما ذكره الفقهاء لا دليل عليه: أن المرأة غير البالغة جعلوها كعورة الرجل وهي المميزة التي لم تبلغ بعد ابنة عشر أو أصغر أو أكبر ما لم تبلغ فعورتها كعورة الرجل أي السوأتان والفخذان – ولم يجعلوها كالحرة. وهنا جعلوا ابن عشر سنين كالبالغ، ولم يجعلوا بنت عشر ونحوها ممن لم تبلغ لم يجعلوها كالبالغة وهذا تفريق بين مسألتين يعتبر فارق مؤثر. فالمقصود: أن المرأة إذا بلغت فعورتها ستأتي وما لم تبلغ فعورتها كما قال صلى الله عليه وسلم: (لا يقبل الله صلاة حائض إلا بخمار) (1) وما لم تبلغ فليست بحائض. إذن: من دون البلوغ من النساء عورتها في الصلاة ليست كعورة الحرة البالغة. قال: (وكل المرأة عورة إلا وجهها) كل المرأة عورة، كما ثبت في الترمذي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (المرأة عورة) (2) فهذا يدل على أن المرأة كلها عورة. وقد أجمع العلماء على أن المرأة يجب عليها أن تستر كل شيء من بدنها من شعر أو بشرة أو ظفر (3) سوى الوجه واليدين والقدمين، فهذه المسائل الثلاث هناك منها ما أدخله بعض أهل العلم فيما يجب ستره ومنه ما لم يدخله في هذا فهو محل خلاف.

_ (1) تقدم قريباً. (2) أخرجه الترمذي في باب حدثنا محمد بن بشار، من أبواب الرضاع، المغني [2 / 328] . (3) كذا في الأصل.

إلا أن الوجه قد اتفقوا على جواز إخراجه فالوجه لا يجب لها ستره للحاجة إليه. واختلفوا في الكعبين والقدمين. فأما الكفان: فالمشهور في المذهب أنه يجب تغطيتهما لعموم الحديث المتقدم: (المرأة عورة) (1) . وذهب الشافعية والمالكية والأحناف وهو رواية عن الإمام أحمد: إلى أن الكفين يجوز كشفهما في الصلاة قياساً على الوجه. وهذا قياس واضح، فإن الكفين يحتاج إلى كشفهما كما يحتاج إلى كشف الوجه تماماً، والشارع يسوى بينهما فكما سوى بينهما في الإحرام في النهي عن التغطية، فبينهما في الشرع اتفاق. وهنا بينهما اتفاق في المعنى، فإن المعنى واحد فإن الحاجة إلى كشف الكفين واردة كالحاجة إلى كشف الوجه. وهذا هو الراجح. وأما القدمان: 1- فجمهور أهل العلم: على النهي عن كشفهما. واستدلوا: بما رواه أبو داود من حديث عبد الرحمن بن عبد الله بن دينار عن محمد بن زيد عن أمه عن أم سلمه: أنها سألت النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: (أتصلى المرأة في درع وخمار بغير إزار فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (نعم إذا كان الدرع سابغاً يغطي ظهور قدميها) (2) على أن هذا الدليل: ليس دليلاً تاماً لهم؛ لأنه ليس فيه تغطية باطن القدمين وإنما فيه تغطية ظاهرهما وظاهر كلامهم تعميم ذلك في باطن القدمين وظاهرهما. 2- وذهب أبو حنيفة وهو اختيار المزني من الشافعية واختيار شيخ الإسلام: إلى أن القدمين لا يجب تغطيتهما في الصلاة؛ قياساً على الوجه، فإن القدمين مما يظهر غالباً في المرأة في بيتها وحيث لا يراها الأجنبي، وفي تغطيتهما مشقة، والحاجة القاضية بكشفهما، كالحاجة تماماً في كشف الوجه قال شيخ الإسلام: وأما حديث: (المرأة عورة) إنما هو حيث ينظر إليها الأجنبي، ففي تمام الحديث: (فإذا خرجت استشرفها الشيطان)

_ (1) أخرجه الترمذي، وتقدم قريباً. (2) أخرجه أبو داود في كتاب الصلاة، باب كم تصلي المرأة. المغني [2 / 329] .

وقد تقدم أنه لا جامع بين ستر العورة في الصلاة وسترها خارج الصلاة. والراجح ما ذهب إليه أهل القول الثاني. وأما حديث أم سلمه فقد تفرد برفعه عبد الرحمن بن عبد الله بن دينار وحفظه ضعيف. ورواه عامة الثقات موقوفاً على أم سلمة كمالك وابن أبي ذئب وإسحاق وحفص بن غياث وغيرهم، فالراجح أنه موقوف. ثم إن فيه أم محمد بن زيد وهي لا تعرف كما قال ذلك الذهبي، فلا يبنى - على مثل هذا - هذا الحكم العظيم. فعلى ذلك الراجح أن القدمين ليستا من عورة الصلاة وكذلك الوجه والكفان. وأما خارج الصلاة فإنها من العورة لعموم قوله صلى الله عليه وسلم: (المرأة عورة) أي كلها عورة شعرها وبشرتها كلها عورة. والحمد لله رب العالمين. الدرس الثاني والستون (يوم الأحد: 30 / 2 / 1415 هـ) قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وتستحب صلاته في ثوبين] يستحب للرجل أن يصلي في ثوبين، قميص ورداء يلتحف به أو إزار ورداء، أو قميص وإزار، أو قميص وسراويل، ونحو ذلك، بأن يكون عليه ثوبان يصلي فيهما. فالمستحب باتفاق أهل العلم أن يصلي في ثوبين، قميص ورداء، قميص وإزار، قميص وسراويل، إزار ورداء، نحو ذلك. ودليل هذا ما ثبت في الصحيحين أن النبي - صلى الله عليه وسلم - سئل: أيصلي الرجل في الثوب الواحد؟ فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: (أولكلكم ثوبان) (1) فمفهومه مشروعية واستحباب أن يصلي الرجل في ثوبين. فإن صلى في ثوب واحد فيجزئه اتفاقاً مادام أن ستر العورة ثابت فيجزئه إجماعاً.

_ (1) أخرجه البخاري في باب الصلاة في الثوب الواحد ملتحفا به، وباب الصلاة في القميص والسراويل والتبان والقباء من كتاب الصلاة، ومسلم في باب الصلاة في ثوب واحد وصفة لبسه من كتاب الصلاة، وأبو داود والنسائي وابن ماجه ومالك وأحمد، المغني [2 / 293] .

والمستحب أن يصلي في ثوبين كما تقدم، قال عمر - رضي الله عنه -: (إذا وسع الله فأوسعوا) (1) رواه البخاري. قال: [ويجزئ – يكفي – ستر عورته في النفل] فيجزئه أن يستر عورته في النفل. فإذا صلى الرجل بثوب واحد قد ستر به عورته – السوأتين والفخذين، على المذهب – فإن الصلاة صحيحة في النفل. فلو صلى تطوعاً فلم يكن عليه إلا ثوب يستر عورته فالصلاة صحيحة كأن يصلي بإزار فقط. وهذا لأن النفل مبناها على التخفيف والتيسير. هذا المشهور في المذهب. وعن الإمام أحمد: أنه لا يجزئ ستر العورة فقط،بل يجب عليه أن يضيف إلى ذلك تغطية أحد المنكبين أو كليهما، كما سيأتي. قال: [ومع أحد عاتقيه في الفرض] العاتق: هو ما بين المنكب والعنق وهو موضع الرداء في أعلى البدن أو موضع الثوب. قال: يجب في الفرض أن يغطي أحد منكبيه، فإذا صلى بإزار فقط ولم يغط أحد منكبيه وكانت فرضاً فلا تصح. واستدلوا بما ثبت في الصحيحين أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (لا يصلي الرجل في الثوب الواحد ليس على عاتقيه منه شيء) (2) . قالوا: هذا يدل على نهي المصلي أن يصلي وهو مكشوف المنكبين، بل يجب أن يرد طرف الثوب على أحد عاتقيه، فإذا فعل ذلك فإن الصلاة تكون صحيحة. واستثنوا النفل لما تقدم وأن مبناها على التخفيف. وعن الإمام أحمد، وهو ظاهر كلام الخرقي: أن النفل كالفرض، فلا فرق بينهما. وهذا هو الأصل، فالأصل في الأحكام الشرعية الثابتة للفرض أن تثبت للنفل، فما كان شرطاً في الفرض فهو شرط في النفل إلا أن يدل دليل على خلاف ذلك.

_ (1) أخرجه البخاري في باب الصلاة في القميص والسراويل والتبان والقباء، من كتاب الصلاة، المغني [2 / 294] . (2) أخرجه البخاري في باب إذا صلى في الثوب الواحد فليجعل على عاتقيه، من كتاب الصلاة، ومسلم في باب الصلاة في ثوب واحد وصفة لبسه، وأبو داود والنسائي والدارمي وأحمد، المغني [2 / 289] .

كيف والحديث المتقدم عام في النفل كما هو عام في الفرض.وهذا هو الراجح، أن النفل والفرض يجب أن يستر عاتقيه فيهما. المسألة الثانية: قوله " ومع أحد عاتقيه ": فلا يجب عليه أن يستر العاتقين، فإذا اكتفى بستر أحدهما أجزأه. هذا هو المشهور في المذهب. وعن الإمام أحمد واختاره طائفة من أصحابه كالقاضي وغيره: أنه لا يجزئه إلا أن يستر العاتقين كليهما. وهذا القول أظهر؛ لقوله في الحديث المتقدم (ليس على عاتقيه منه شيء) ، فظاهره أنه فرض في العاتقين كليهما. وقد ثبت في الصحيحين عن عمرو بن سلمة (1) قال: رأيت النبي - صلى الله عليه وسلم - يصلي في ثوب واحد مشتملاً به في بيت أم سلمة واضعاً طرفيه على عاتقيه) (2) . هذا هو فعل النبي - صلى الله عليه وسلم -. إذاً: يجب عليه أن يغطي عاتقيه في الفرض والنفل على الصحيح في المذهب. والجمهور على أن ذلك سنة؛ لقوله - صلى الله عليه وسلم - في الثوب: (إن كان واسعاً فالتحف به وإن كان ضيقاً فاتزر به) (3) ، وإذا اتزر به وشده على حقويه فإنه لا ينال العاتقين منه شيء. والجواب على هذا أن يقال: إن هذا الحديث عند الضرورة، فإنه ليس عنده إلا ثوب واحد فيتزر به لضيقه، وإن كان واسعاً فإنه يلتحف به , فظاهر هذا الحديث وجوب تغطية المنكبين كليهما، لقوله (إن كان واسعاً فالتحف به) ، وحقيقة الالتحاف أن يغطي به بدنه كما يوضع الجلباب ونحوه على البدن. فالراجح ما ذهب إليه الحنابلة من الوجوب، ولكن هل هو واجب فقط أم هو واجب لا تصح الصلاة إلا به؟

_ (1) في صحيح البخاري ومسلم: عمرو بن أبي سلمة، كما سيأتي. (2) أخرجه البخاري في كتاب الصلاة، باب الصلاة في الثوب الواحد ملتحفا به (356) (355) (354) ، وأخرجه مسلم (517) في آخر باب من كتاب الصلاة وهو باب (52) الصلاة في ثوب واحد.. . (3) متفق عليه، وقد تقدم.

فإذا صلى وقد كشف منكبيه وهو قادر على تغطيتهما، فهو آثم على القولين، لكن هل تصح الصلاة؟ قولان في المذهب: فالمشهور عند الحنابلة: أنه واجب لا تصح الصلاة إلا به. فإذاً: أدخل في شرط ستر العورة، فأصبح مما يشترط ستره. والرواية الأخرى: أنه ليس شرطاً في صحة الصلاة. وهذا القول هو الأظهر (1) ؛ ذلك لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قد أوجبه وفرضه، وليس تركه يعود إلى الصلاة ولا إلى شرطها، فإنه قد ستر عورته وتم بذلك شرط الصلاة من ستر العورة، وأما ستر أعلى اليدين بتغطية المنكبين فإنه لا يدخل في الصلاة ولا في شرطها، بل قد قام بالصلاة على وجهها الشرعي إلا أنه قد فعل أمراً محرماً لكونه لم يضع ثوبه على عاتقيه، لكن صلاته صحيحة؛ لأنه قد قام بها أركاناً وشروطاً، وكونه يفعل أمراً محرماً فيها ككونه يلبس ثوب حرير ونحو ذلك. ومن صلى وقد ستر عورته بثوب حرير فإن صلاته صحيحة على الراجح، وسيأتي الكلام عليه. إذاً: الراجح هذه الرواية، وأنه واجب وليس شرطاً في صحة الصلاة. فعلى ذلك: حاصل أقوال أهل العلم ثلاثة أقوال، وهي روايات عن الإمام أحمد: الرواية الأولى: السنية، وهذا مذهب الجمهور. الرواية الثانية: أنه شرط في صحة الصلاة، وهذا هو المشهور عند الحنابلة. الرواية الثالثة: وهي أصحها أنه واجب ليس بشرط، فلو ترك تغطية المنكبين عامداً ذاكراً عالماً بالحكم، فتصح صلاته مع لحوق الإثم له. قال: [وصلاتها في درع وخمار وملحفة] الدرع: هو القميص، وهو المفصل على البدن. وخمار: هو ما تغطي به المرأة رأسها.

_ (1) قال الشيخ حفظه الله تعالى ونفع به في شرحه لأخصر المختصرات عام 1420 هـ صْ 43 ما نصه: " فإن صلى وأحد عاتقيه مكشوف لم تصح صلاته في المشهور في المذهب، وذلك لنهي النبي - صلى الله عليه وسلم -، والنهي يقتضي الفساد " ا. هـ

وملحفة: وهي ما نسميها العباءة، وهي الجلباب ونحو ذلك مما تغطي به المرأة بدنها. هذا هو المستحب لها؛ لأن ذلك أستر لها. فإن قيل: فلم يذكر الخمار، مع أن الخمار تغطية الرأس، وتغطية الرأس شرط في صحة صلاة الحرة؟ فالجواب على ذلك: أن الاستحباب إنما هو في كونه خماراً، فلو لبست برقعاً أو نقاباً أو نحوه مما يغطي الرأس فإنه خلاف الأولى، والأولى لها أن تغطيه بخمار، وهو قول عمر وعائشة. قول عائشة رواه عنها سعيد بن منصور. وقول عمر، كما حكاه عنه في المغن (1) ي، وقال صاحب الفروع: رواه محمد بن عبد الله الأنصاري في جزئه عن عمر بإسناد صحيح " أي استحباب أن تصلي المرأة بدرع وخمار وملحفة. فالمستحب أن تصلي بدرع وخمار وملحفة، هذا هو الأفضل لها باتفاق العلماء. قال: [ويجزئ ستر عورتها] هذا هو المجزئ، فلو سترتها بأي ثوب ولو لم يكن خماراً أو اكتفت بالقميص ولم يظهر شيء من عورتها، فصلاتها صحيحة؛ لأنها قد قامت بالشرط، فسترت العورة، وحينئذ قد قامت بالشرط المفترض عليها، وما فضل وزاد فهو خير وليس ذلك على هيئة الفرضية. قال: [ومن انكشف بعض عورته وفحش أو صلى في ثوب محرم عليه أو نجس أعاد لا من حبس في محل نجس] هنا أربع مسائل: المسألة الأولى: من انكشف بعض عورته وفحش. " فحش ": حجماً وزماناً عرفاً؛ لأن المسائل التي لا تحدد في اللغة ولا في الشرع مرجعها إلى العرف. فما فحش: خرج - منه خارج من - عورته، كالفخذين – على المذهب – فانكشف شيء منهما وفحش زماناً أي طال وقته، وحجماً، أي من رآه ونظر إليه قال: هذا كثير فاحش، فمرجعه إلى العرف، وقد تقدم أن ذلك إلى أوساط الناس. فلو خرج منه شيء كثير من الفخذين، لكن الزمن قليل فلا تبطل الصلاة. وكذلك إذا خرج شيء يسير في زمن كثير أي فحش الزمن ولم يفحش الحجم الخارج فإنه لا تبطل الصلاة بذلك.

_ (1) المغني [2 / 330] .

إذاً: لابد وأن يفحش حجماً وزماناً، فإن لم يفحش حجماً وزماناً فهو معفو عنه؛ قالوا: لأن اليسير لا يمكن التحرز منه حيث لم يقصد ذلك. فإن قصد قالوا: بطلت، وإن كان يسيراً، يسيراً في الزمان أو الحجم. هذا هو المشهور في المذهب. وذهب الشافعية: إلى أنه إذا خرج منه أي خارج سواء كان يسيراً أم فاحشاً سواء في زمن كثير أو زمن قليل، أنه إذا خر ج منه شيء بقصد أو غير قصد، الصلاة باطلة تجب إعادتها. قالوا: لأن الواجب هو ستر العورة، ومتى انكشف أي شيء منها فيجب حينئذ أن يعيد الصلاة، وهي باطلة. وهذا القول أقيس وأصح من مذهب الحنابلة، لكن بقصد، وهو مذهب المالكية. فمذهب المالكية هو مذهب الشافعية، لكنهم استثنوا من ذلك النسيان ونحوه. فلو خرج منه شيء بغير قصد فيعفى عنه سواء كان فاحشاً أو لم يكن فاحشاً، كأن يكون جاهلاً أو ناسياً. وإذا خرج منه أي شيء وإن كان يسيراً فالصلاة تبطل إن كان عن قصد. وهذا القول هو الراجح. أما كون أي خارج يناقض ستر العورة؛ فلأن الواجب هو سترها كلها وجميعها، وحيث خرج شيء منها فإن هذا ينافي سترها. وكوننا لا نبطل الصلاة حيث نسي أو جهل؛ فلأن هذا من فعل المحذور، ومن فعل المحذور جاهلاً أو ناسياً فلا شيء عليه كما سيأتي الاستدلال عليه في شرطية الطهارة من النجاسة في الثوب والبقعة ونحوها. فالراجح: أنه مادام أنه فعل المحذور جاهلاً أو ناسياً فلا شيء عليه. فالراجح مذهب المالكية وأنه إذا خرج شيء من عورته في الصلاة، فلا تفسد صلاته إلا إذا خرج على وجه القصد والتعمد، أما إذا خرج على وجه النسيان والجهل ونحوه فذلك لا يضر صلاته. المسألة الثانية: " أو صلى في ثوب محرم عليه أعاد ":

رجل ستر عورته بثوب محرم كثوب حرير أو مغصوب فإنه يعيد؛ قالوا: لأن لبسه للثوب يلحقه به الإثم، فهو عاص لله بلبسه لهذا الثوب؛ لأنه محرم، وهو يفعل قربة فلا يمكن أن يكون هذا قربة وهو مع ذلك إثم ومحرم، بمعنى: لا يمكن أن يلحقه في آن واحد ثواب وإثم،فهو آثم للبسه للحرير،وإذا قلنا بصحة صلاته فهو مأجور على الصلاة ولا يمكن أن يجتمع في الشخص هذان الوصفان في آن واحد. والجواب على هذا – وهو ما ذهب إليه شيخ الإسلام وغيره وهو مذهب أكثر أهل العلم -: أن الصلاة في الثوب الحرير ونحوه أنها صحيحة؛ لأنه قد قام بالصلاة شروطاً وأركاناً، وهذا المحرم الذي فعله لا يعود إلى الصلاة ولا إلى شرطها، فإنه قد ستر العورة وقد صلى الصلاة بشروطها الباقية وأركانها. وكونه يجتمع عليه إثم وثواب لا مانع من ذلك، فلا مانع أن يكون مثاباً من جهة وآثما من جهة أخرى. فالأجر الذي يلحقه ليس للبسه هذا الثوب، لكنه يلحقه لصلاته، فهو مثاب لكونه صلى، وهو آثم لكونه لبس ثوب حرير، فلا مانع أن يجتمع عليه هذان الوصفان؛ لأن كلا منهما له جهته الخاصة به. فالصحيح أنه لا تجب عليه الإعادة إذا ستر عورته بثوب حرير، وهو آثم على لبسه، ومثله من صلى في ثوب مسبل أو مغصوب، فالصلاة صحيحة، لكنه آثم لفعله. المسألة الثالثة: " أو نجس أعاد ": رجل لم يجد ثوباً يستر به بدنه إلا ثوباً نجساً، فصلى، فيجب عليه أن يعيد صلاته. قالوا: لأنه قد اختار ما يمكنه اختيار (1) غيره في الواقع، فإنه كان بين خيارين أن يصلي عرياناً وأن يصلي في ثوب نجس، فاختار أوكدهما وهو أن يسترها بثوب نجس، فاختار أوكدهما عند التزاحم، وعند وجدان الثوب الطاهر يزول هذا التزاحم، فيجب أن يصلي مرة أخرى. قال: [لا من حبس في محل نجس] فمن صلى في موضع نجس محبوساً فلا يجب عليه أن يعيد الصلاة، فكيف يفرق بين الأمرين؟

_ (1) في الأصل: اختياره.

أنه في هذا الموضع والمحل النجس لا يمكنه أن يفعل أمراً آخر، فلا خيار له، فلم يجب عليه الإعادة، ومثل ذلك ما لو حبس في محل مغصوب، فكذلك لا تجب عليه الإعادة؛ لأنه لا خيار له في ذلك. فإن كان مسجوناً سجناً يمكنه أن يخرج نفسه منه؟ بمعنى: رجل غصب أحداً حقه، فيمكنه أن يخرج برد ذلك الحق؟ فيجب عليه أن يعيد؛ لأن له خيار آخر، وهو أن يخرج من السجن بأداء الحق الواجب عليه، هذا كله بناء على هذا التعليل. لكن في الحقيقة هذا الفرق ليس له أثر في الشرع،بل كلاهما قد فعل ما أمر به شرعاً واتقى الله ما استطاع، فكانت صلاته صحيحة. وكون هذا لا خيار له، وهذا له خيار، فهذا في الحقيقة لا أثر له، أو كون هذا نادراً وهذا ليس بنادر، هذا في الحقيقة لا أثر له. وهذا هو اختيار شيخ الإسلام. إذاً: الراجح أن من صلى في ثوب نجس سواء كان محلاً نجساً أو لم يكن كذلك فلا تجب الإعادة عليه مادام أنه فعل ما أمر به شرعاً واتقى الله ما استطاع،وقد قال تعالى: {فاتقوا الله ما استطعتم} (1) . ولم يأمر الله تعالى العبد بأداء الفرض مرتين، فقد أدى الفريضة على حسب ما أمره الله به، فلم يكن هناك ما يدعى إلى إيجاب الصلاة عليه مرة أخرى وقد قام بها على الوجه المأمور به شرعاً. فالراجح: أنه لا يجب عليه أن يعيد مطلقاً سواء كانت الصلاة بثوب نجس، وهو معذور في لبسه وحيث له خيار أو كان ذلك حيث لا خيار له إذا صلى في محل نجس أو في محل مغصوب ونحو ذلك. فمن صلى في ثوب محرم ناسياً فصلاته صحيحة بالإجماع، فكأن المذهب علقوا البطلان في الإثم، فإذا أثم بطلت صلاته وإلا صحت. والحمد لله رب العالمين. الدرس الثالث والستون (يوم الاثنين: 1 / 3 / 1415 هـ) اعلم أن المشهور في المذهب أنه لا يجب أن يكون الساتر للمنكبين - لا يجب أن يكون - كثيفاً لا يظهر البشرة.

لكن هذا فيه نظر كما قال ذلك الشيخ عبد الرحمن بن سعدي؛ وذلك لأنه في حكم في ما يجب تغطيته في الصلاة،فيجب أن يكون مغطٍ (1) للبشرة فلا يظهر لونها. هذا هو الراجح. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ومن وجد كفاية عورته سترها وإلا فالفرجين فإن لم يكفهما فالدبر] هذه مسألة في الحقيقة من المسائل النادرة، وهذا معروف عن الفقهاء وأنهم يذكرون المسائل النادرة وغيرها. قوله: " ومن وجد كفاية عورته ": العورة في المذهب: هي الفرجان والفخذان. فمن وجد ما يكفي عورته ولا يغطي المنكبين فإنه يجب عليه أن يستر الفرجين والفخذين، ويكتفي بذلك عن المنكبين؛ ذلك لأن الفرجين والفخذين هما العورة الواجب سترها على المشهور في المذهب، ومع ما ذكر شيخ الإسلام أن العورة في الصلاة هي الفرجان والفخذان فهما لاشك أولى من المنكبين المختلف في وجوب سترهما. فقد اختلف العلماء في وجوب ستر المنكبين، والحنابلة يخففون فيهما في تغطية البشرة. والجمهور لا يرون فرضية سترهما، فلاشك أنهما أولى بالترك مما ثبتت فرضية ستره. وأما إذا قلنا بالمذهب المتقدم ترجيحه، وهو رواية عن الإمام أحمد من أن المنكبين يجب تغطيتهما من غير أن يكون شرطاً في صحة الصلاة فإن ترجيح ستر الفرجين والفخذين واضح؛ لأن سترهما شرط في صحة الصلاة. إذاً: يغطي عورته، وأما المنكبان فيكشفان ويرجحان في الكشف لأنهما مرجحان كما تقدم. قال: [وإلا فالفرجين] هل يقدم الفرجان أم الفخذان؟ يقدم الفرجان؛ لأنهما أفحش في العورة. قال: [فإن لم يكفهما فالدبر] قالوا: لأنه أفحش. وفي قول آخر: القبل؛ لأنه يواجه به الله تعالى، فكان الواجب أن يستر لاستقبال الله تعالى. وقيل: يخير بينهما والأولى هو الدبر.

_ (1) اسم فاعل، وليس اسم مفعول.

وهذه في الحقيقة مسألة وإن كانت نادرة، لكن المرجح هو وجوب ستر القبل لاسيما في المرأة، ولاسيما - كما قال بعض الحنابلة - إن كان ثمت رجل، فيترجح تغطية قبلها. فإن كان ثمت رجل فيترجح تغطية قبلها – أي المرأة -، وإن كان ثمت امرأة فيترجح تغطية قبله. فإذاً: الأرجح في أصل المسألة تغطية القبل كما هو قول في مذهب الإمام أحمد، فإن كان هناك رجل وهي امرأة فهو ظاهر، وكذلك إن كانت امرأة وهو رجل فهذا ظاهر؛ للفتنة العظيمة في هذا. قال: [وأن أعير سترة لزمه قبولها] لأن العارية لا منة فيها، فمادام أنه ليس فيها منَّة وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب،فيجب عليه قبولها. فإن لم يقبلها وصلى عرياناً فصلاته باطلة؛ لأنه كان يمكنه أن يستر عورته بما لا يلحقه مِنَّة. فإن وُهبها هبة، فهل يلزمه القبول أم لا؟ قولان في المذهب: فالمشهور في المذهب: أنه لا يلزمه قبولها؛ لأن الهبة تحلق بها المنة، فلم يجب عليه قبولها. والقول الثاني في المذهب: أنه يجب عليه قبولها. والذي يتبين لي التفصيل في هذا: فإن كان يترتب على ذلك انكشاف عورة، كأن يكون في محل لا يحفظ عورته،فإنه يجب قبولها؛ لأن المفسدة المترتبة على كشف العورة أعظم من المنة، ويجب ترجيح المفسدة الصغرى وقوعاً، وهروباً من المفسدة الكبرى. فأما إن كان في بيت ونحوه فلا يلزمه القبول للمنَّة المتقدمة. وإن كانت بثمن فيلزمه شراؤها إن كان يمكنه ذلك بالقيود المتقدمة بماء الوضوء، فإن الوضوء إذا بيع بمثن فيجب شراؤه بشروط تقدم ذكرها، وهنا كذلك. قال: [ويصلي العاري قاعداً بالإيماء استحباباً فيهما] هذه صفة صلاة العاري. أن يصلي قاعداً قد ضم فخذيه بعضهما إلى بعض ويومئ بالركوع والسجود، استحباباً فيهما لا وجوباً. فلو صلى قائماً بالركوع والسجود فالصلاة صحيحة.

فالمشهور في المذهب: استحباب الصلاة قاعداً ويومئ بالركوع والسجود، ولو صلى قائماً بالركوع والسجود، فالصلاة صحيحة. وقال الشافعية والمالكية: يجب عليه أن يصلي قائماً بركوع وسجود؛ لقوله - صلى الله عليه وسلم -: (صل قائماً فإن لم تستطع فقاعداً فإن لم تستطع فعلى جنب) (1) . قالوا: وهو مستطيع للقيام بلا ضرر. والراجح كما هو قول في المذهب وهو رواية عن الإمام أحمد،وهو ظاهر كلام الخرقي: أنه يجب عليه أن يصلي قاعداً ويومئ بالركوع والسجود. ودليل هذا: هو ترجيح ستر العورة على القيام، دليله وجهان: الوجه الأول: أن ستر العورة لا يسقط في الفرض والنفل، وأما القيام فهو ركن في الفرض مستحب في النفل، فستر العورة مثقل ليس فيه شيء من التخفيف، وأما القيام ففيه تخفيف بحيث أنه لا يجب في التطوع. الوجه الثاني: أن ستر العورة فرض وواجب في الصلاة وفي غيرها،فقد أمر الله تعالى بستر العورة في الصلاة وفي غيرها. وأما القيام فلا يجب إلا في الصلاة، فالمحافظة على الفرض الذي أمر الله به عباده في الصلاة وفي غيرها أولى من المحافظة على القيام الذي لم يؤمر به إلا في الصلاة. فالراجح أنه يصلي قاعداً وجوباً؛ لأنه يجب عليه أن يستر عورته بقدر الإمكان، وحيث كان قاعداً فإن فيه ستر للعورة بقدر الإمكان، فكان ذلك فرضاً عليه. فعلى ذلك: صفة صلاة العاري: أن يصلي قاعداً قد انضم بعضه إلى بعض يومئ بالركوع والسجود. قال: [ويكون إمامهم وسْطهم] فلا يجوز أن يتقدم؛ لأنه في تقدمه كشفاً للعورة والواجب هو سترها بقدر الإمكان كما تقدم. قال: [ويصلي كل نوع وحده] كل نوع من ذكور وإناث، فالإناث يصلين وحدهن، والذكور يصلون وحدهم.

_ (1) أخرجه البخاري في باب إذا لم يطق قاعداً صلى على جنب من كتاب التقصير، وأبو داود في باب في صلاة القاعد، من كتاب الصلاة، والترمذي وابن ماجه وأحمد، المغني [2 / 570] .

قال: [فإن شق صلى الرجال واستدبرهم النساء ثم عكسوا] بمعنى: إن كانوا في موضع واحد ولا يمكنهم أن يصلوا فيه منفردين، فكيف يكون الحكم؟ يصلي الرجال مستقبلين القبلة، وتكون النساء مستدبرات القبل، ثم بعد ذلك يكون العكس، فتصلي النساء مستقبلات القبلة ويؤدين فريضتهن، ويكون الرجال مستدبرين النساء مستدبرين القبلة. هذا كله على القول بفرضية الصلاة جماعة، وهو المذهب، وهو فيما يظهر لي ضعيف جداً، وأن القول بفرضية الصلاة جماعة مع كشف العورة ضعيف جداً. استدلوا هم: بعمومات الأدلة الشرعية الدالة على فرضية الجماعة. وذهب جمهور العلماء من المالكية والأحناف، وهو قول للشافعية: إلى أن الجماعة تسقط، فيصلون فراداً إلا في ظلمة شديدة لا تنكشف لأحد منهم عورة. وذلك: لأن ما يلحقه في كشف العورة من المذمة والعار والفتنة ونحو ذلك أعظم مفسدة مما يترتب على فوات الجماعة. والواجب هو إسقاط ما يترتب عليه مفسدة صغرى والقيام بما يترتب عليه المفسدة الكبرى، فحينئذ الواجب أن يصلوا فراداً إلا في ظلمة، فإن الجماعة يبقى وجوبها لعدم المعارض لذلك. قال: [فإن وجد سترة قريبة في أثناء الصلاة ستر وبنى وإلا ابتدأ] وجد سترة لا تقطع صلاته، فهي تحتاج إلى عمل يسير لا يؤثر في الصلاة، فيجب عليه أن يستر بها عورته ويبني على صلاته ولا يستأنفها. وأما إن كانت السترة بعيدة عرفاً بحيث تحتاج إلى عمل كثير مبطلٍ الصلاة فحينئذ يجب أن يقوم بالستر، حيث استطاعه، والصلاة لم تتم بعد فتثبت صحة، فيجب عليه أن يستتر بها ويستأنف صلاته. إذاً: الواجب عليه مطلقاً أن يستر عورته. ويبني إن كان العمل قليلاً لا يؤثر في الصلاة. وأما إن كان عملاً كثيراً يؤثر في الصلاة فإنه يستأنفها.

* واعلم أن ما تقدم من كونه يصلي قاعداً ظاهر المذهب،سواء كان في بيته أو جماعة، فإنه يصلي قاعداً، لكنهم قالوا: بالاستحباب، والراجح الوجوب كما تقدم. فليس هذا مختصاً حيث ترى عورته، بل هو عام في هذا الموضع وفي غيره مما لو لم يكن ذلك، كأن يكون في ظلمة أو يكون في بيته. فإن قيل: فلم لم نبق القيام على وجهه؟ فالجواب: إن ستر العورة شرط مطلقاً حيث كان في خلوة أو لم يكن فيها. ثم إن الله - عز وجل - أولى بأن تستر له العورة، لذا النظر إلى العورة ليس هو مناط العلة في هذا الباب، بل مناطها هو نفس ظهور العورة، كيف وهو في الصلاة في موضع يناجي الله تعالى فيه، فكان الستر فيه أولى منه في غيره. إذاً: ظاهر المذهب، وهو الراجح، لكنهم قالوا بالاستحباب، والراجح الوجوب، وجوب الصلاة قاعداً والإيماء بالركوع والسجود سواء كان في موضع ترى فيه العورة أولم يكن ذلك. فإن كان في موضع ترى فيه العورة، فهو ظاهر. وإن كان في موضع لا ترى فيه، فإن الله أحق أن يستحى منه، كيف وهو يناجي الله تعالى، ثم إن العورة شرط سترها في الصلاة حيث يرى أو لا يرى. والحمد لله رب العالمين. الدرس الرابع والستون (يوم الثلاثاء: 2 / 3 / 1415 هـ) قال المؤلف رحمه الله: (ويكره في الصلاة السدل) السدل: هو ترك الثوب على المنكبين من غير أن يرد طرفه على جانبه الآخر أو من غير أن يضم جانبيه بعضهما إلى بعض. وقيل: السدل هو: هو الإسبال أي إسبال الثوب.

والحديث الوارد في النهي هو: ما رواه أبو داود وغيره والحديث حسن أن النبي صلى الله عليه وسلم: (نهى عن السدل في الصلاة وأن يغطي الرجل فاه) (1) . والراجح هو التفسير الأول؛ وذلك لأن الإسبال قد ورد تحريمه في الأدلة أو كراهيته – على القول المشهور في المذهب أنه مكروه بغير خيلاء – فالمقصود أن الأدلة دلت على النهي عن الإسبال في خارج الصلاة والصلاة تدخل في عموم النهي بخلاف السدل فإنا عندما نقول بالنهي عنه فإنا نخص ذلك بالصلاة دون غيرها فكان حكمه مختصاً بالصلاة، فعلى ذلك يكون هذا الحديث قد أتى بحكم تأسيسي، بخلاف ما لو فسرناه بالإسبال فيكون قد أتى بما أتى به غيره. ثم إن الإسبال – على الصحيح – محرم في الصلاة وفي غيرها فتخصيص النهي في الصلاة محل نظر، فليس له فائدة – وقد نهى عنه الشارع في غير الصلاة. ثم إنا لو قلنا تنزلاً إنه لفظ مشترك فاللفظ المشترك يفسر بجميع المعاني المحتملة فيه ما لم يدل دليل يمنع من تفسيره بأحدها. فالراجح هو التفسير الأول؛ لأن الحكم فيه يكون حكماً تأسيسياً ولأن الإسبال محرم في الصلاة وفي غيرها فلا معنى لتخصيصه في الصلاة، ولو قلنا تنزلاً أن المعنيين كليهما يحتمل في الحديث فهذا من المشترك ويصح تفسير المشترك وحمله على جميع المعاني التي يصح أن يفسر بها ما لم يأت دليل يمنع من ذلك. وهذا السدل في المشهور من المذهب مكروه مطلقاً أي سواء كان تحته ثوب آخر أم لم يكن تحته ثوب.

_ (1) أخرجه أبو داود في كتاب الصلاة، باب ما جاء في السدل في الصلاة (643) قال: " حدثنا محمد بن العلاء وإبراهيم بن موسى، عن ابن المبارك عن الحسن بن ذكوان، عن سليمان الأحول، عن عطاء، قال إبراهيم: عن أبي هريرة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " نهى عن السدل في الصلاة وأن يغطي الرجل فاه) ، وأخرجه الترمذي مختصراًَ على الأول (378) .

- وعن الإمام أحمد: أنه لا يكره إلا إذا لم يكن تحته ثوب، أما إن كان تحته ثوب فلا يكره. وهذا إنما يبنى على أن العلة هي خشية ظهور شيء من العورة. ولكن الذي يظهر أن العلة ليست هذه فحسب بل التشبه باليهود، وفي الحديث: (من تشبه بقوم فهو منهم) (1) ومما يدل على أن هذا السدل من فعل اليهود ما رواه أبو داود في سننه عن ابن عمر بإسناد صحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا كان لأحدكم ثوبان فليصل فيهما فإن لم يكن له إلا ثوب فليتزر به ولا يشتمل اشتمال اليهود) (2) أي لا يلقيه على عاتقه ويسدله كما يفعل اليهود. ومما يدل على أن تفسير هذا الحديث هو السدل المذكور، ما صح عن علي رضي الله عنه – كما رواه الخلال وغيره أنه رأى قوماً يسدلون في صلاتهم فقال: (كأنهم اليهود خرجوا من فُهْرهم) (3) - بضم الفاء وإسكان الهاء - أي من مدارسهم، فهو من فعل اليهود.

_ (1) أخرجه أبو داود في كتاب اللباس باب في لبس الشهرة (4031) قال: " حدثنا عثمان بن أبي شيبة حدثنا أبو النضر حدثنا عبد الرحمن بن ثابت حدثنا حسان بن عطية عن أبي منيب الجُرشي عن ابن عمر قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (من تشبه بقوم فهو منهم) ، وأخرجه أحمد في المسند أتم منه، ولفظه (بعثت بالسيف بين ... ) قال السخاوي عن هذا الحديث فيه ضعف، ولكن له شواهد. وقال ابن تيمية: سنده جيد، وقال ابن حجر في الفتح: سنده حسن، وأخرجه الطبراني في الأوسط عن حذيفة بن اليمان، قال العراقي: سنده ضعيف، (من تعليق محي الدين عبد الحميد) ، سنن أبي داود مع المعالم [4 / 314] . (2) أخرجه أبو داود في كتاب الصلاة، باب إذا كان الثوب ضيقاً يتزر به (635) قال: " حدثنا سليمان بن حرب، حدثنا حماد بن زيد، عن أيوب عن نافع عن ابن عمر قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، أو قال: قال عمر رضي الله عنه: (إذا كان لأحدكم ثوبان..) .

فعلى ذلك ينبغي أن يقال بالتحريم؛ لأن التشبه يقتضي التحريم وهو رواية عن الإمام أحمد وهذا القول هو الراجح لأن التشبه فيه ثابت باليهود ومن تشبه بقوم فهو منهم. وأقل أحوال التشبه – كما قال شيخ الإسلام – أن يقال بالتحريم وإلا فظاهره الكفر. قال: (واشتمال الصماء) له تفسيران: التفسير الأول: تفسير اللغويين: أن يتخلل بالثوب الواحد تخللاً يشمل بدنه كله بحيث لا يكون لإخراج اليد موضع فهذه صفة مكروهة؛ لأنه يترتب عليها فوات شيء كثير من السنن كرفع اليدين ومن صفة النزول إلى السجود ونحو ذلك. التفسير الثاني: هو تفسير الفقهاء وهو أن يضطبع بالثوب الواحد ليس عليه غيره. وصورة ذلك: ما يفعله المحرم بردائه أثناء طواف القدوم هذا هو الاضطباع بأن يضع وسط الرداء تحت إبطه الأيمن ثم يرد الطرف على عاتقه الأيسر فحينئذ: يبدو شقه الأيمن أو العكس فكلاهما اضطباع وهو اشتمال الصماء في تفسير الفقهاء. وهذا التفسير أصح لوجهين: الوجه الأول: أن هذا قد وردت به الرواية عن النبي صلى الله عليه وسلم فقد ثبت في الصحيحين عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم: (نهى عن اشتمال الصماء) (1) وفي رواية للبخاري: (أن يجعل ثوبه على أحد عاتقيه فيبدو أحد شقيه ليس عليه شيء) وإن كان ما فسره اللغويون من حيث المعنى فالنهي عنه صحيح لكنه ليس تفسيراً لهذا الحديث كما تقدم من الرواية. الوجه الثاني: أن الفقهاء أعلم بألفاظ النبي صلى الله عليه وسلم من اللغويين كما أن اللغويين أعلم بعبارات أهل اللغة من الفقهاء، لذا قال أبو عبيده – في تفسير الفقهاء – " وهم أعلم بالتأويل " (2) أي أعلم بتفسير كلام النبي صلى الله عليه وسلم لأنهم أعلم بالشريعة من أهل اللغة.

_ (1) أخرجه البخاري في كتاب الصلاة، باب (10) ما يستر العورة (367) ، وأخرجه مسلم (1512) .

إذن: الراجح ما قاله الفقهاء من أن اشتمال الصماء من أن يضطبع بالثوب فيظهر أحد شقيه، وهي صفة مكروهة. - والقول الثاني وهو رواية عن الإمام أحمد: وهو القول بالتحريم وأن اشتمال الصماء محرم – وهو الراجح -. وحينئذ: نعود إلى المسألة السابقة وهي فرضية تغطية المنكبين جميعاً – وهذا من الأحاديث التي تدل على ذلك – فإن هذا الحديث مناط النهي فيه بدو أحد شقيه لذا قال في الحديث المتقدم (فيبدو أحد شقيه ليس عليه شيء) فجعل العلة من النهي أو التحريم بدو أحد الشقين عارياً ليس عليه شيء. وظاهر الحديث أن الاضطباع إنما يكون منهياً عنه حيث لم يكن تحته ثوب لقوله: (فيبدو أحد شقيه ليس عليه شيء) وحيث كان عليه ثوب يغطي هذا الشق فإنه لا يقع عليه النهي لأنه مغطى. إذن: اشتمال الصماء ألا يكون عليه إلا ثوب واحد فيشتمل به مضطبعاً قد بدا أحد شقيه، فالصحيح أن هذه الصفة محرمة لما تقدم من فرضية تغطية المنكبين جميعاً – وهو رواية عن الإمام أحمد وظاهر كلام الخرقي – كما تقدم. قال: (وتغطية وجهه واللثام على فمه وأنفه) تغطية الوجه مكروهة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصلي غير مغطي الوجه، ولتكون أعضاؤه مباشرة لمواضع السجود، وللحديث الصحيح في النهي عن تغطية الفم وحيث غطى الوجه فإنه يترتب عليه تغطية الفم. قالوا: قياساً على المحرم في النهي عن تغطية الوجه، فإن الصلاة إحرام أيضاً لحديث: (وتحريمها التكبير) (1) .

_ (1) أخرجه أحمد في المسند برقم (1006) ، (1072) من حديث علي بن أبي طالب ولفظه (مفتاح الصلاة الطهور، وتحريمها التكبير، وتحليلها التسليم) ، وبرقم (14717) من حديث جابر بن عبد الله بلفظ: (مفتاح الجنة الصلاة، ومفتاح االصلاة الطهور) . وأخرجه الترمذي في كتاب الطهارة، باب ما جاء أن مفتاح الصلاة الطهور (3) .

وأما تغطية الفم، فلما يثبت في سنن أبي داود في الحديث المتقدم: أن النبي صلى الله عليه وسلم (نهى عن السدل في الصلاة وأن يغطي الرجل فاه) (1) . والأنف يقاس على الفم في الكراهية فيكره تغطية الأنف كما يكره تغطية الفم. وهذا كله – أي الحكم بالكراهية – حيث لا سبب يدعي إلى التغطية فإذا كان هناك سبب كحر أو برد أو نحو ذلك فإنه تزول الكراهية. قال: (وكفه كمه ولفه) والعبارتان (الكف واللف) بمعنى واحد، ولم تتكرر - كما قال المحشي على الروض المربع – إلا في عبارة صاحب الزاد، وفي عبارة الشارح، وإلا فإن عبارات الفقهاء إما بأن يقال: اللف أو الكف فهما في معنى واحد. هذه الجملة فيها كراهية كف الثوب أو لفه فيكره في الصلاة أن يكف ثوبه أي أن يضمه ويجمعه كأن يجمع شيء من أطراف ثوبه. ودليل ذلك ما ثبت في الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أمرت أن أسجد على سبعة أعظم وألا أكف شعراً ولا ثوباً) قالوا: فهذا يدل على كراهية كف الشعر والثوب. فعلى ذلك ما يلبسه الشخص من العمامة يكره له أن يكف أطرافها وكذلك الثوب فيكره أن يكف أطرافه بل يجعله ينزل معه في السجود ونحو ذلك فيكره الكف. - وذهب بعض أهل العلم إلى أنه محرم، وهو مذهب الظاهرية وقول الحسن البصري – وهذا القول أظهر لقوله: (أمرت أن أسجد على سبعة أعظم وألا أكف شعراً ولا ثوباً) (2) وظاهر الأمر الوجوب. قال: (وشد وسطه كزنار)

_ (1) أخرجه أبو داود في الصلاة / باب ما جاء في السدل في الصلاة (643) وابن خزيمة (772) (918) ، وابن حبان (2353) الإحسان، والحاكم 1 / 253، والبغوي (519) والبيهقي 2 / 242 عن أبي هريرة رضي الله عنه، والحديث صححه الحاكم على شرط الشيخين، ووافقه الذهبي، الشرح الممتع [2 / 190] . (2) أخرجه البخاري في كتاب الأذان، باب السجود على سبعة أعظم (809) وباب السجود على الأنف (812) . وأخرجه مسلم (490) .

الزُنَّار: ما يشد على الكتابيين لما كانت للإسلام عليهم سلطة وكانوا في بلاد الإسلام فكانوا يؤمرون بما يتميزون به عن المسلمين بأي شيء مما يكون عليه أمر (1) السلطان بما يتميز به الكافر عن المسلم. وكانوا يؤمرون بأن يشدوا زناراً رقيقاً جداً على وسط الواحد منهم، حتى قيل في المثل: " إذا عطس الذمي انقطع زُنَّاره " (2) من دقته وشدة ربطه على وسطه. فيكره للمسلم أن يشد وسطه بزنار، كفعل النصارى لما فيه من التشبه، لكن هذا – كذلك – للتحريم لما فيه من التشبه ومن تشبه بقوم فهو منهم. وفي قوله: (كزنار) يدل على أنه لو شد وسطه بشيء غليظ لا يشبه الزنار أنه لا كراهية فيه وهذا هو الظاهر. وأن الكراهية مختصة بما يكون على هيئة فعل النصارى، وهذا في الحقيقة ليس مختصاً بالصلاة، بل في الصلاة وفي غيرها لأن التشبه محرم وهو عام في الصلاة وفي غيرها. قال: (وتحريم (3) الخيلاء في ثوب وغيره) يحرم الخيلاء في ثوب وغيره في الصلاة وفي غيرها. فيحرم الخيلاء في الثوب من قميص أو عمامة ونحو ذلك لقوله صلى الله عليه وسلم: (من جر ثوبه خيلاء لم ينظر الله إليه) (4) . قالوا: فهذا يدل على أن جر الثوب خيلاء محرم بل من كبائر الذنوب. فإن كان لغير خيلاء فيكره – كما هو المشهور في المذهب –. - وعن الإمام أحمد التحريم. فعلى المشهور في المذهب – إذا فعل الإسبال لحاجة فلا بأس.

_ (1) في الأصل: اخر. (3) كذا في الأصل، وفي الزاد: وتحرم. (4) أخرجه البخاري في باب قول الله تعالى: {قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده} ، وباب من جر إزاره من غير خيلاء، وباب من جر ثوبه من خيلاء، من كتاب اللباس، ومسلم في باب تحريم جر الثوب خيلا.. الخ من كتاب اللباس وغيرهما، المغني [2 / 298] .

لكن الراجح ما ذهب إليه الإمام أحمد في إحدى الروايتين عنه أنه محرم لعموم قوله صلى الله عليه وسلم: (ما أسفل من الكعبين من الإزار ففي النار) (1) فهذا الحديث عام فيما يكون للخيلاء وفيما لا يكون كذلك وثبت في مسند أحمد بإسناد صحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إياك والإسبال فإنه من المخيلة) (2) . فدل هذا الحديث – كما قرر ذلك ابن العربي وغيره – أن مجرد جر الثوب أنه من المخيلة، فإن كان وافق ذلك في قلب فاعله خيلاء، فحينئذ لا ينظر الله إليه يوم القيامة ولا يزكيه وله عذاب أليم وإن لم يكن كذلك فإن الأمر يكون محرماً ويكون صاحبه متوعداً بالعقوبة بالنار. واستدل الحنابلة وغيرهم القائلون بالكراهية، بما ثبت في الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من جر ثوبه خيلاء لم ينظر الله إليه) فقال أبو بكر: يا رسول الله إن إزاري يسترخي إلا أتعاهده فقال: (إنك لست ممن يفعله خيلاء) (3) .

_ (1) أخرجه البخاري في كتاب اللباس، باب ما أسفل من الكعبين فهو في النار (5787) (2) أخرجه الإمام أحمد في المسند (23592) [5 / 378] ، (16733) [4 / 65] عن رجل من قومه. (3) أخرجه البخاري في كتاب فضائل الصحابة، باب (5) قول النبي - صلى الله عليه وسلم - لو كنت متخذا خليلا، (3665) ، ومسلم (2085) .

لكن هذا الحديث في الحقيقة ليس ظاهراً في ذلك، ذلك لأن أبا بكر لم يكن يقصد جره بل كان يقع ذلك منه من غير قصد ولا إرادة ومتى كان ذلك فإنه لا يكون من المخيلة، بدليل أن النبي صلى الله عليه وسلم – كما في البخاري – (لما كسفت الشمس خرج وهو يجر إزاره) (1) وهذا جر للإزار وهو في الأصل محرم لكنه لم يكن مخيلة لأنه فعله بغير قصد فهنا النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إنك لست ممن يفعله – أي على هذه الحال المذكورة – خيلاء) وحيث كان كذلك فإن الفاعل لا يكون فعله مخيلة، وإنما يكون مخيلة حيث قصد ذلك وأراده ووضعه على هيئة يجر فيها. أما إذا لم يكن كذلك بل كان مرفوعاً ثم وقع فيه استرخاء ونحو ذلك فلا يكون ذلك من المخيلة. إذن: الراجح: أن جر الثوب محرم مطلقاً وكما قال صلى الله عليه وسلم – في النسائي: (لا حق للكعبين في الإزار) (2) فالكعبان فما دونه ليس لهما حق من الإزار ومتى فعل ذلك كان واقعاً في التحريم. فإن صلى في ثوب قد أسبل وقلنا بالتحريم مطلقاً، أو بالكراهية لكنه فعله خيلاء، فهل تصح صلاته؟ تقدم تقرر هذا في الصلاة في الثوب المحرم، وأن الراجح أن من صلى في ثوب محرم فإن صلاته صحيحة مع الإثم. قال: (والتصوير واستعماله) التصوير محرم " واستعماله " في ستر وثوب وأي شيء تقع الصورة عليه فهو محرم.

_ (1) أخرجه البخاري في أول كتاب الكسوف، باب الصلاة في كسوف الشمس (1040) . (2) أخرجه النسائي في كتاب الزينة، باب (102) موضع الإزار (5329) عن حذيفة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (موضع الإزار إلى أنصاف الساقين والعضلة، فإن أبيت فأسفل، فإن أبيت فمن وراء الساق، ولا حق للكعبين في الإزار) .

سواء كانت الصورة منسوجة أو كانت مجسمة أو مرسومة رسماً أو فتوغرافية ونحو ذلك فكل هذا محرم، لعمومات الأدلة الشرعية وفيها قوله صلى الله عليه وسلم: (كل مصور في النار) (1) متفق عليه. وقد تقدم البحث في هذا في شرح كتاب التوحيد. فإن فعل ذلك بأن صلى في ثوب فيه صورة فصلاته صحيحة لكنه آثم بلبسه فيكون مثاباً للصلاة وآثماً للبسه هذا الثوب الذي وضعت فيه هذه الصورة. وقد تقدم أن ذلك مخصوص في ذوات الأرواح لقول جبريل للنبي صلى الله عليه وسلم – في الترمذي والحديث صحيح: (مر برأس التمثال فليقطع حتى تكون كهيئة الشجرة) (2) فدل ذلك على أن ما كان على هيئة الشجرة ونحوها مما ليس فيه روح أنه تصويره جائز. والحمد لله رب العالمين. الدرس الخامس والستون (يوم السبت: 6 / 3 / 1415هـ) قال المؤلف رحمه الله تعالى: (ويحرم استعمال منسوج أم مموه بذهب قبل استحالته) هذه الجملة فيها تحريم استعمال الذهب سواء كان منسوجاً أو كان مموهاً أو مكفتاً أو نحو ذلك، فلبسه محرم على الذكور.

_ (1) أخرجه مسلم في كتاب اللباس والزينة، باب (26) تحريم تصوير صورة الحيوان، وتحريم اتخاذ ما فيه صورة غير ممتهنة بالفرش ونحوه (2110) ، ولم أجده بهذا اللفظ في البخاري باب (104) بيع التصاوير من كتاب البيوع، وكتاب اللباس: باب (88) التصاوير، وباب (89) عذاب المصورين يوم القيامة، وباب (90) نقض الصور، وباب (91) ما وُطئ من التصاوير، و (92) باب من كره القعود على الصورة، وباب (93) كراهية الصلاة في التصاوير، وباب (94) لا تدخل الملائكة بيتاً فيه صورة، وباب (95) من لم يدخل بيتا فيه صورة (96) من لعن المصور، وباب (97) من صورة صورة. (2) أخرجه أبو داود، آخر حديث في كتاب اللباس (4158) ، وأخرجه الترمذي في الأدب 2807،، وقال: " حديث حسن صحيح "، سنن أبي داود [4 / 389] .

ودليل ذلك ما ثبت في مسند أحمد وسنن الترمذي والنسائي من حديث أبي موسى الأشعري أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أحل الذهب والحرير للإناث من أمتي وحرم على ذكورها) (1) فهذا الحديث يدل على أنه لا يجوز للرجال لبس الذهب مطلقاً سواء كان على هيئة النسج أو التمويه أو نحوه وهو مذهب جماهير أهل العلم. أما الفضة فكذلك لا يجوز لبسها عند جمهور أهل العلم. ودليلهم: تحريم الآنية، فقد حرم الشارع آنية الذهب والفضة فكذلك اللباس، فلا يجوز لباس الفضة كما لا يجوز آنية الفضة. لكن هذا الاستدلال ضعيف، لذا ذهب شيخ الإسلام وتلميذه ابن القيم إلى جواز لبس الفضة للرجال خاتماً أو مقبضة سيف أو نحو ذلك.

_ (1) حديث أبي موسى رضي الله عنه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (حرم لباس الحرير والذهب على ذكور أمتي وأحل لإناثهم) ، أخرجه الإمام أحمد 4 / 394، 407، والترمذي في اللباس / باب ما جاء في الحرير والذهب (1720) ، والنسائي في الزينة / باب تحريم لبس الذهب على الرجال 8 / 160، والطيالسي (506) ، والطحاوي في الشرح 4 / 251، والبيهقي 3 / 275، وقال الترمذي: " حسن صحيح "، وقد أعل بالانقطاع؛ لأن سعيد بن أبي هند لم يسمع من أبي موسى شيئاً فيما قاله الدارقطني وغيره، وعن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أخذ حريراً فجعله في يمينه، وذهباً فجعله في شماله ثم رفع يده وقال: (هذا حرام على ذكور أمتي) ، أخرجه أحمد 1 / 96، 115، وأبو داود في اللباس (4057) ، والنسائي في الموضع السابق، وابن ماجه في اللباس (3595) وغيرهم. الشرح الممتع [2 / 206] .

ولا نص ولا إجماع – كما قال ابن القيم - في تحريم الفضة بل الأصل في الأشياء الإباحة، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم – في الحديث الحسن –: (ولكن عليكم بالفضة فالعبوا بها) (1) . وثبت في البخاري: أن النبي صلى الله عليه وسلم (لبس خاتماً من فضة) (2) وفي سنن أبي داود والنسائي والترمذي في الشمائل بإسناد صحيح: (أن قبيعة سيف النبي صلى الله عليه وسلم من فضة) (3) . فالراجح: أن الفضة يجوز لبسها مطلقاً، للرجال والإناث للأدلة المتقدمة، ولا نص ولا إجماع على التحريم، بل الأصل في الأشياء الإباحة، والسنة قررت ذلك، فعلاً من النبي صلى الله عليه وسلم في لبسه خاتم الفضة مع تحريم خاتم الذهب، واتخاذه السيف ذي القبيعة من فضة هذا كله يدل على جوازه، ويقرره أيضاً النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: (ولكن عليكم بالفضة فالعبوا بها) .

_ (1) أخرجه أبو داود في كتاب الخاتم، باب ما جاء في الذهب للنساء (4236) بلفظ: " عن أبي هريرة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: من أحبّ أن يُحلّق حبيبه حلقة من نار ... ولكن عليكم بالفضة فالعبوا بها) . وأخرجه أحمد في مسنده برقم (8397) ، (8897) من حديث أبي هريرة في مسند المكثرين. (2) أخرجه البخاري في كتاب اللباس، باب خاتم الفضة (5866) عن ابن عمر رضي الله عنهما: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - اتخذ خاتماً من ذهب أو فضة … ثم اتخذ خاتماً من فضة، فاتخذ الناس خواتيم الفضة.. ورقم (5865) . وأخرجه مسلم في كتاب اللباس والزينة (2091) . (3) أخرجه أبو داود في كتاب الجهاد، باب في السيف يحلى (2582) عن أنس قال: كانت قبيعة سيف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فضة " وأخرجه الترمذي (1691 في الجهاد،، وفي الشمائل 99، والنسائي في الزينة 5376، سنن أبي داود [3 / 69] .

أما الجواب عما ذكره الجمهور: فالجواب: أن تحريم الآنية لا يلزم منه تحريم اللبس والتحلي. بدليل: أن آنية الذهب محرمة على النساء والتحلي بالذهب مباح لهن مطلقاً. فإذن: لبس الفضة جائز مطلقاً للرجال والنساء ولا شك أنه بشرط عدم التشبه بالنساء وإنما يلبسونها بما جرت طبيعة الرجال بلبسه كالساعة من فضة أو الخاتم. وأما الذهب، فإن ما تقدم يدل على تحريمه * ولكن هل كل الذهب محرم أم أنه يستثنى منه اليسير؟ - جمهور العلماء وهو المشهور عن الإمام أحمد: أن الذهب محرم مطلقاً، لأن الشارع إذا نهى عن الشيء فإنه ينهى عن أبعاضه وأجزائه فما دام الأمر كذلك فاتخاذ الشيء اليسير من الذهب محرم. فمثلاً: لا يجوز له أن يتخذ قبيعة من ذهب ولا يجوز أن يضع الشيء اليسير في ساعته من ذهب – هذا هو المشهور في مذهب الإمام أحمد –. - وعن الإمام أحمد قول آخر اختاره أبو بكر من كبار أصحابه واختاره المجد ابن تيمية، واختاره شيخ الإسلام: أن اليسير جائز. فإذا وضع في شيء من ملبوساته علماً من ذهب فإن ذلك لا حرج فيه. واستدلوا: بما ثبت في مسند أحمد وسنن النسائي بإسناد صحيح من حديث معاوية أن النبي صلى الله عليه وسلم: (نهى عن الذهب إلا مقطعاً) (1) ومعلوم أن الذهب، باتفاق أهل العلم – جائز للنساء مطلقاً، فيبقى أن يكون هذا الحديث في الرجال. قال شيخ الإسلام: " إلا مقطعاً " أي تابعاً لغيره، فالمقطع هو التابع لغيره. وهذا هو القول الراجح.

_ (1) أخرجه النسائي في كتاب الزينة، باب تحريم الذهب على الرجال (5152) قال: " أخبرنا أحمد بن حرب قال أنبأنا أسباط عن مغيرة عن مطر عن أبي شيخ قال: بينما نحن مع معاوية في بعض حجاته إذ جمع رهطا من أصحاب محمد - صلى الله عليه وسلم - فقال لهم: ألستم تعلمون أن رسول الله نهى عن لبس الذهب إلا مقطعاً، قالوا: اللهم نعم ".

ويدل عليه القياس على الحرير، فإن اليسير في الثوب جائز كما دلت السنة الصحيحة عليه، فمثله كذلك الذهب من باب القياس. قال: (أو مموه بذهب قبل استحالته) أما إذا استحال إلى مادة أخرى فما بقيت فيه طابع الذهب بل انتقل إلى طبيعة أخرى فإنه يجوز أن يلبس وهذا مما اتفق عليه أهل العلم؛ لأن الحكم يدور مع علته وجوداً وعدماً، والحكم يدور مع ثبوت الشيء، وحيث انتفى واستحال إلى مادة أخرى فإن الحكم ينتقل عنه، فإن الحكم إنما ثابت للاسم مع مسماه وحيث انتقل إلى مادة أخرى فإنه لا معنى للقول بتحريمه. قال: (وثياب حرير) فثياب الحرير محرمة على الرجال أيضاً. ودليل ذلك ما ثبت في الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا تلبسوا الحرير فإنه من لبسه في الدنيا لم يلبسه في الآخرة) (1) والنهي للتحريم. وتقدم حديث أبي موسى الأشعري: (أحل الذهب والحرير للإناث من أمتي وحرم على ذكورها) (2) وهو صريح في التحريم. فالحرير محرم على الذكور لبسه والجلوس عليه والاتكاء عليه سواء كان ما يُتكأ عليه من حرير أو أن يكون ما يتوسد من حرير أو أن يتخذ نمرقة أو ستر من حرير فكل هذا محرم لا يجوز وقد ثبت في البخاري عن حذيفة قال: (نهانا النبي صلى الله عليه وسلم أن نشرب في آنية الذهب والفضة أو أن نأكل فيها، وعن لبس الحرير والديباج أو أن نجلس عليه) (3) قال: (وما هو أكثر ظهوراً على الذكور) إذا كان عليه ثوب من نوعين من قطن وحرير، وكان الغالب ظهوراً هو الحرير فإنه لا يجوز؛ إعطاءً للغالب حكم الكل، أو لأن الشارع إذا حرم شيئاً حرم أبعاضه إلا إذا دل دليل. لكن الغالب له حكم الكل في أكثر الأحكام الشرعية.

_ (1) أخرجه البخاري في كتاب الأطعمة، باب (29) الأكل في إناء مفضَّض (5426) ، ومسلم (2067) . (2) تقدم. (3) أخرجه البخاري في كتاب اللباس، باب (27) افتراش الحرير (5837) ، وأخرجه مسلم 2067 باختلاف.

قال: (لا إذا استويا) فإذا كان ثوب نصفه في الظهور من حرير ونصفه من قطن أو نحوه فإنه يجوز لبسه – إبقاءً على الأصل فإن الأصل هو الحل – والحرير هنا: ليس هو الكل وليس هو الغالب. هذا أحد لوجهين في مذهب الإمام أحمد. والوجه الثاني وهو اختيار شيخ الإسلام: أنه يحرم. وهو الراجح لما تقدم من أن الشارع إذا حرم الشيء حرم أبعاضه. ولما ثبت في الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم: (نهى عن لبس الحرير إلا موضع إصبعين أو ثلاث أو أربع) (1) فهذا يدل على أن لبس الحرير محرم مطلقاً سواء كان هو الغالب أو كان كثيراً ما لم يكن موضع إصبعين أو ثلاث أو أربع فإنه يجوز. وهذا الدليل يصلح للاستدلال على المسألة السابقة وهو أن ما كان أكثره حرير فإنه يحرم، ومن الأدلة الدالة على تحريم الكثير من الحرير الظاهر وإن كان ليس هو الغالب ما ثبت في مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم: (نهى عن القسِّي والمعصفر) (2) . والمعصفر: سيأتي الكلام عليه. أما القسِّي: فهو نوع من الثياب يخلط فيه الحرير مع القطن – بحيث يكونان ظاهرين فيه.

_ (1) أخرجه مسلم (2069) في كتاب اللباس، باب (2) تحريم استعمال إناء الذهب والفضة ….، وأخرجه البخاري بلفظ: " أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى عن لبس الحرير إلا هكذا، وصفَّ لنا النبي - صلى الله عليه وسلم - إصبعيه " وفي لفظ: ".. وأشار بإصبعيه اللتين تليان الإبهام "، كتاب اللباس، باب لبس الحرير وافتراشه للرجال.. (5828) (2) أخرجه مسلم (2078) من حديث علي بن أبي طالب: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نهى عن لبس القسي والمعصفر.. " وهو في باب النهي عن لبس الرجل الثوب المعصفر من كتاب اللباس والزينة، وأخرج البخاري في كتاب اللباس، باب لبس القَسِّيِّ (5838) عن البراء بن عازب قال: " نهانا النبي - صلى الله عليه وسلم - عن المياثر الحُمْر والقسي " وانظر (1239) .

وهنا النبي صلى الله عليه وسلم حرمه مطلقاً ولم يستثن من ذلك استواءهما ولا أن يكونا النوع الآخر هو الأكثر بل حرمه مطلقاً، فنهى النبي صلى الله عليه وسلم عن هذا النوع من الثياب شامل لما كان الحرير فيه هو الأكثر أو كان هو الكثير المساوي أو كان هو الكثير الأقل فهو شامل لهذه الأنواع كلها ما لم يكن موضع إصبعين أو ثلاث أو أربع فقد دل الحديث المتقدم على جوازه. قال: (ولضرورة أو حكة أو مرض) " لضرورة ": من حر أو برد، بأن لا يكون عنده إلا ثوب حرير ويخشى على نفسه الهلكة إن لم يلبسه. أو كانت هناك حاجة وليست ضرورة: كأن يكون فيه حكة أو نحو ذلك فيحتاج إلى أن يلبس الحرير مع أنه إذا لبس غيره فإنه يزول المرض الذي عليه – وهو مع لبسه للحرير لا يقطع بزوال المرض فليس هذا ضرورة بل حاجة. مع ذلك: لبس الحرير للحاجة من حكة أو مرض - ومن باب أولى للضرورة - جائز، لما ثبت في الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم: (رخص لعبد الرحمن بن عوف والزبير بن العوام في قميص الحرير في سفر من حكة كانت فيهما) (1) ولبس الحرير للحكة من الحاجات وليس الضروريات؛ لأنه لا يعلم اندفاع الحكة به، فلا يثبت به زوال الحكة قطعاً بل هو نوع من أنواع التداوي (2) ، ومعلوم أن الدواء لا يقطع بزواله بل هو سبب قد يتم به الشفاء وقد لا يتم به. فاستعمال الحرير لحاجة لا بأس به. قال: (أو حرب) في الحرب يجوز للمسلم أن يلبس فيها الحرير لإرهاب أعداء الله وإظهار قوة المسلمين. وإظهار ما يكون فيه خيلاء في الحرب محمود لإرهاب الأعداء فلهذه المصلحة العامة جاز أن يلبس الحرير.

_ (1) أخرجه البخاري في كتاب الجهاد والسير، باب الحرير في الحرب (2919) ، ومسلم 2076) . (2) في الأصل: التدواي.

– هذا أحد القولين في مذهب الإمام أحمد وهو المشهور فيه وهو اختيار شيخ الإسلام: وأن لبس الحرير في الحرب جائز لما فيه من إظهار قوة المسلمين وإظهار غناهم وبأسهم ونحو ذلك. فلبسه في الحرب جائز حيث أدى إلى هذه المصالح أما إذا لم يثبت فيه شيء منها، كأن يكون خفياً غير ظاهر فلا يجوز له أن يستعمله في الحرب. قال: (أو حشو) إذا اتخذ الحرير حشواً في ثوب، كأن يضع ثوباً من قطن أو صوف ونحوه، فيضع الحرير حشواً له أي ليس في ظهارته ولا بطانته. فالبطانة هي ما تكون مباشرة للبدن، وأما الظهارة فهي ما تكون خارجة للناس. فهنا ظهارته وبطانته من نوع آخر غير الحرير، لكنه حشاه بالحرير، أو حشا وسادة به. فهل يجوز أم لا؟ نعم يجوز ذلك، فلا حرج في مثل هذا؛ لأن النهي لا يشمله وقد ثبت عن الصحابة أنهم لبسوا ثوب الخز وثوب الخز هو نوع من الثياب يكون سداه من حرير ولحمته من نوع آخر. والسدا: هو ما يكون عرضاً عند النسج. أما اللحمة: فهي ما تكون طولاً عند النسج، واللحمة تغطى السدا فيجوز أن يكون الثوب سداه من حرير، وقد لبس الصحابة ثياب الخز. قال أبو داود: " وعشرون من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أو أكثر لبسوا ثياب الخز منهم أنس والبراء " (1) قال الحافظ ابن حجر: " وقد أوردها ابن أبي شيبة عن جمع منهم وعن طائفة من التابعين بأسانيد جيدة " (2) فهذه أفعال للصحابة لا يعلم لهم فيها مخالف. وقد دلت السنة على ذلك – في قول ابن عمر – كما في سنن أبي داود: (إنما نهى عن الثوب المصمت من الحرير) (3)

_ (3) أخرجه أبو داود في كتاب اللباس، باب الرخصة في العلم وخيط الحرير (4055) قال: " حدثنا ابن نفيل، حدثنا زهير، حد ثنا خُصيف، عن عكرمة، عن ابن عباس قال: " إنما نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن الثوب المصمت من الحرير، فأما العلم من الحرير وسَدَى الثوب فلا بأس به "

أي ما كانت لحمته وسداه من الحرير أي هو خالص حريراً. ومن كان سداه حرير ولحمته من غيره فهو جائز، وأما العكس فهو محرم: فلو كانت اللحمة من حرير والسدا من نوع آخر فهو محرم؛ لأن الظاهر هو الحرير. إذن: الحشو بالحرير جائز، وكذلك يجوز أن يكون السدا من حرير. أما البطانة فلا يجوز أن تكون من حرير؛ لأنها – في الحقيقة – ظاهرة، أي الحرير فيها ظاهر في الثوب وإن كان لا يبدوا للعيان، لكنه ظاهر وثبتت مباشرته للبدن. فإذا كانت البطانة من حرير والظهارة من غيره فإنه محرم. قال: (أو كان علماً) فإن كانت خطوط أو طرزٍ على الثوب. " أربع أصابع فما دون " مضمومة من الثوب كله. يعني: جميع ما في الثوب أربع أصابع، ففي عرضه أصبع وفي عرضه الآخر أصبع وفي وسطه أصبعين فيجوز، أما إذا كان مجموعه خمسة أصابع فيحرم. إذن: تكون مضمومة وهذا باتفاق أهل العلم. ودليل ذلك حديث عمر المتقدم: (نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن لبس الحرير إلا موضع إصبعين أو ثلاث أو أربع) قال: (أو رقاعاً) إذا رقع الثوب بشيء من الحرير فيجوز ما لم يكن ذلك أكثر من أربعة أصابع. قال: (أو لبنة جيب) " لبنة جيب ": هي طوقه، فطوق من العنق يسمى لبنة الجيب، فهذا جائز بشرط ألا يزيد على أربعة أصابع، ولو وضع أزراره من حرير فهو جائز أيضاً ما لم يجتمع من ذلك أربعة أصابع. قال: (وسَجْف فراء) الفراء: هو ما يلبس في الشتاء من الثياب الغليظة ونحوها، فحواشيها تسمى السجف. فإذا وضع في أطرافه وحواشيه حريراً وكان مجموعه لا يتجاوز أربعة أصابع فإنه جائز. قال: (ويكره المعصفر والمزعفر للرجال) " المعصفر ": هو المصبوغ بالعصفر وهو نوع من النبات تصبغ به الثياب فتكون حمراء. دليل ذلك: الحديث المتقدم أن النبي صلى الله عليه وسلم: (نهى عن القسي والمعصفر) (1) رواه مسلم.

_ (1) تقدم.

وفي مسلم عن ابن عمرو قال: رآني النبي صلى الله عليه وسلم وقد لبست ثوبين معصفرين فقال: (إن هذه من ثياب الكفار فلا تلبسها) (1) . فلبس المعصفر محرم، وهو المصبوغ بالحمرة بحيث تكون الحمرة خالصة منه (2) . أما إذا كانت الحمرة غير خالصة فيه، بأن كانت الحمرة خطوطاً فيه وإن كانت غالبة فهو جائز، لما ثبت في البخاري عن البراء قال: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم مربوعاً وقد رأيته عليه حلة حمراء ما رأيت شيئاً أحسن منه) (3) فهنا قد لبس النبي صلى الله عليه وسلم الحلة الحمراء فدل على جواز لبس الحلة الحمراء وهنا ليست حمرتها خالصة بل هي من أنواع البرُد اليمانية – كما ذكر ابن القيم – وهي ذات خطوط حمر مع سواد في بقية الثوب، فهو ثوب أسود فيه خطوط حمراء. وسميت حلة حمراء نسبة إلى هذه الخطوط الحمراء التي فيه وليس أن هذه الحلة كلها حمراء بل مع الحمرة غيرها. وأما الثياب الحمراء الخالصة فلا يجوز لبسها. وهنا قد ذكروا الكراهية. والراجح هو التحريم للأحاديث المتقدمة من نهي النبي صلى الله عليه وسلم، ومن قوله: (إن هذه من ثياب الكفار فلا تلبسها) (4) فهذا فيه نهي، وفيه أن هذه الثياب في لبسها تشبه بالكفار والتشبه بالكفار محرم. وقد ذكر ابن حجر في هذه المسألة سبعة أقوال قال: " وأصحها المنع " (5) وهو كما قال. فالراجح: أن لبس الثوب الأحمر إن كان خالصاً بحتاً ليس مشوباً فهو محرم، وأما إن كان مخلوطاً بغيره فإنه جائز.

_ (1) أخرجه مسلم في كتاب اللباس والزينة، باب النهي عن لبس الرجل الثوب المعصفر (2077) . (2) لعلها منه. (3) أخرجه البخاري في كتاب اللباس، باب الثوب الأحمر (5848) ، وفي كتاب المناقب، باب صفة النبي - صلى الله عليه وسلم - (3551) . وأخرجه مسلم في كتاب الفضائل، باب في صفة النبي - صلى الله عليه وسلم - وأنه كان أحسن الناس وجهاً (2337) . (4) تقدم.

وثبت في الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم: نهى عن المياثر الحمر " (1) . والمياثر هي السروج التي يركب عليها، فهذا يدل على أن الجلوس على شيء من الفرش الحمراء أنه محرم وأن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن ذلك. " والمزعفر للرجال ": المزعفر: هو الثوب الذي قد صبغ بالزعفران. ودليل النهي عنه: ما ثبت في صحيح البخاري أن النبي صلى الله عليه وسلم: (نهى أن يتزعفر الرجل) (2) * وهل هذا التحريم للونه وهو الصفرة أو أن ذلك لرائحته؟

_ (1) أخرجه البخاري في كتاب اللباس، باب لبس القسي (5838) ، وأخرجه مسلم في كتاب اللباس والزينة، باب تحريم استعمال إناء الذهب والفضة … (2066) من حديث البراء بن عازب ولفظه في مسلم: " أمرنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بسبع …. ونهانا عن خواتيم … وعن شرب بالفضة وعن المياثر وعن القسي.. " (2) أخرجه البخاري في كتاب اللباس، باب التزعفر للرجال (5846) من حديث أنس قال: " نهى النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يتزعفر الرجل " وأخرجه مسلم بنفس اللفظ في كتاب اللباس والزينة، باب نهي الرجل عن التزعفر (2101) .

الأظهر أن التحريم ليس للونه بل لرائحته، ودليل ذلك ما ثبت في سنن أبي داود وأصله في الصحيحين والحديث إسناده صحيح: أن ابن عمر كان يصبغ لحيته بالصفرة حتى تمتلأ ثيابه منها، فقيل له: لم تصبغ بالصفرة؟ فقال: (إني رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يصبغ بها ولم يكن شيء أحب إليه منها، وكان يصبغ بها ثيابه حتى عمامته) (1) فهنا كان النبي صلى الله عليه وسلم يصبغ بالصفرة، وهذا دال على جواز ذلك ما لم تكن الصفرة عن زعفران فإنه يكون محرم للنهي المتقدم. والحنابلة يرون الكراهية، والحديث ظاهر التحريم وهو مذهب الأحناف والشافعية وهو القول الراجح وأنه محرم لظاهر النهي. فلا يجوز له أن يلبس ثوباً مزعفراً، أما إذا كان الثوب أصفراً من غير زعفران فإنه جائز لا حرج فيه. والحمد لله رب العالمين الدرس السادس والستون (يوم الأحد: 7 / 3 / 1415هـ) قال المؤلف رحمه الله تعالى: (ومنها اجتناب النجاسات) ومنها: أي من شروط الصلاة. فاجتناب النجاسات في الثوب والبدن والبقعة من شروط الصلاة.

_ (1) أخرجه أبو داود في كتاب اللباس، باب في المصبوغ بالصفرة (4064) قال: " حدثنا عبد الله بن مسلمة القعنبي، حدثنا عبد العزيز - يعن ابن محمد - عن زيد - يعني ابن أسلم - أن ابن عمر كان يصبغ لحيته … " وأخرج البخاري في اللباس، باب النعال السبتية وغيرها (5850) ، عن ابن عمر: " أما الأركان فإني لم أر رسول الله - صلى الله عليه وسلم -.. وأما الصفرة فإني رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصبغ بها فأنا أحب أن أصبغ بها "، وأخرجه مسلم في الحج مثل رواية البخاري، باب الإهلال من حيث تنبعث الراحلة رقم (1187) .

ومن أدلة ذلك: ما ثبت في الصحيحين: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال – في دم الحيض يصيب الثوب – (تحته ثم تقرصه [بالماء] ثم تنضحه وتصلي) (1) وفي الصحيحين: أن النبي صلى الله عليه وسلم: (أمر أن يراق على بول الأعرابي في المسجد ذنوباً من ماء) (2) من حديث أنس. قال: (فمن حمل نجاسة لا يعفى عنها) فمن حمل نجاسة لا يعفى عنها فصلاته لا تصح لذا قال بعد ذلك: (لم تصح صلاته) . فمن حمل نجاسة لا يعفى عنها وإن لم يباشرها بيده بل كانت بإناء ونحوه فإن الصلاة لا تصح. وإنما قال: لا يعفى عنها، لأن النجاسة المعفو عنها حملها لا يبطل الصلاة. مثال ذلك: حمل الطفل مع ثبوت النجاسة الباطنة فيه، فهذا لا يؤثر في الصلاة لأنها نجاسة معفو عنها، لذا ثبت في الصحيحين: أن النبي صلى الله عليه وسلم: (حمل أمامة بنت زينب وهو يصلي فإذا سجد وضعها وإذا قام حملها) (3) . فحمل الطفل حيث لم يكن على بدنه وثوبه نجاسة لا يبطل الصلاة. ومثل ذلك: حمل أحد في الصلاة يحتاج إلى حمل مع أثر استجمار، فإن أثر الاستجمار في محله معفو عنه فلم يكن ذلك مؤثراً في الصلاة. وذلك: لأن النجاسة في معدتها فهي في باطن الآدمي فهي معفو عنها للحديث المتقدم في حمل أمامة بنت زينب. أما لو حمل طفلاً وعلى ثوبه أو بدنه نجاسة فصلاته باطلة؛ لأن النجاسة غير معفو عنها فليست في معدتها. فإذن: من حمل شيئاً فيه نجاسة وإن لم يكن يباشر النجاسة بيده فإن الصلاة لا تصح؛ لأنه حامل للنجاسة أما إذا كانت النجاسة في معدنها الأصلي فالصلاة صحيحة.

_ (1) متفق عليه وقد تقدم في الطهارة. (2) متفق عليه وقد تقدم في الطهارة. (3) أخرجه البخاري في كتاب الصلاة، باب إذا حمل جارية صغيرة على عنقه في الصلاة (516) عن أبي قتادة الأنصاري: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يصلي وهو حامل أمامة …) ، وأخرجه مسلم (543) .

قال: (أو لاقها بثوبه أو بدنه لم تصح صلاته) لاقي النجاسة بيده أو رجله أو ثوبه فإن صلاته باطلة؛ للأحاديث المتقدمة، فإنه إذا لاقها وباشرها فإنه خالف ما يجب عليه من اجتناب النجاسة، كما أنه إذا حملها فكذلك، والواجب عليه أن يجتنب النجاسة فإن من شروط الصلاة اجتنابها وهو حيث حملها أو باشرها فإنه لا يعد مجتنباً لها فيكون حينئذ: مخالفاً لشرط من شروط الصلاة، فتبطل الصلاة به. قال: (وإن طيَّن أرضاً نجسة أو فرشها طاهراً كره وصحت) صورة ذلك: أرض نجسة فطينها بطين أو وضع عليها فراش فصلى عليها فصلاته صحيحة مع الكراهية. ومثل ذلك: ما يوضع الآن في البيوت من مجمع النجاسة فإنه يوضع عليه شيء من العازل من الأسمنت وغيره فإذا صلى عليه، فصلاته صحيحة مع الكراهية. أما كونها صحيحة فلأنه لم يباشر النجاسة ولم يحملها فهو مجتنب للنجاسة في ثوبه وبدنه وبقعته. وأما كونه يكره فقالوا: لأن هذه البقعة الطاهرة المباشرة له التي صلى عليها وهي معتمدة على أرض نجسة فالكراهية للاعتماد على الأرض النجسة. - وعن الإمام أحمد: ألا كراهية – وهو الظاهر والراجح –؛ لأن الكراهية حكم شرعي يحتاج إلى دليل ولا دليل على ذلك. فإنه قد فعل ما يجب عليه من اجتناب النجاسة في ثوبه وبدنه وبقعته فصلى على بقعة مباشرة له متصفة بالطهارة فلا معنى – حينئذ – للكراهية ولا دليل يدل على ذلك. نعم الأولى أن يصلي في بقعة غير هذه البقعة، ولكن لو صلى فيها فصلاته صحيحة بلا كراهية. قال: (وإن كانت بطرف مصلى متصل به صحت إن لم ينجر بمشيه) هنا ثلاث صور: الصورة الأولى: صلى على فراش في طرفه نجاسة أي صلى في جهة فيه وفي الجهة الأخرى نجاسة فهنا لا يؤثر ذلك في صلاته؛ لأن البقعة التي باشرها في الصلاة بقعة طاهرة – وهذا باتفاق أهل العلم.

- وإن كانت النجاسة تتحرك بتحرك المحل الطاهر، بمعنى: هو فراش واحد فصلى في أحد طرفيه وفي الطرف الآخر نجاسة فإذا حركنا الطرف الطاهر تحرك الطرف النجس ولكن مع ذلك الصلاة صحيحة؛ لأن بقعته بقعة طاهرة، وقد صلى فيها، فهو مجتنب للنجاسة. الصورة الثانية: رجل صلى على بقعة طاهرة وهو مرتبط ببدنه بشيء نجس، يعني: ليس بحامل له. ولكن مرتبط به فهنا صورتان: أ) الصورة الأولى: أن ينجر بمشيه كأن يربط به كلب أو خنزير وهو يصلي فهذا الكلب والخنزير ينجر بمشيه. فالصلاة باطلة. ب) الصورة الثانية: رجل ربط به سفينة مصنوعة من عظام نجسة وهي لا تنجر بمشيه، فالصلاة صحيحة. فالصورة الأولى: هذه النجاسة ليست متصلة ببقعة بل متصلة ببدنه بحيث أنه لو تحرك لتحركت النجاسة معه قالوا: ولو لم تتحرك النجاسة معه ولو لم يمش فإن النجاسة هو مستتبع لها فيكون كحاملها. أما إذا كانت لا تنجر بمشيه بطبيعتها فإنها حينئذ ليست بمستتبعة له. هذا هو المشهور في المذهب. ونظَّر الشيخ عبد الرحمن بن سعدي في هذه المسألة؛ لأنه ليس من فرق بين الصورتين، إلا أن الأولى نجاسة ثقيلة لا يمكن استتباعها وهنا النجاسة خفيفة يمكن استتباعها، وهذا في الحقيقة – فرق غير مؤثر، فإنه مرتبط بالنجاسة في كلتا الحالتين إلا أن هذه ثقيلة لا تنجر بالمشي وهذه خفيفة تنجر بالمشي وهذا ليس بمعتبر، وهو في الخفيفة ليس بمباشر للنجاسة وليس بحامل لها، فلا معنى للقول بأن الصلاة تكون باطلة، لأنه مجتنب للنجاسة فليس بمباشر لها ولا حامل لها بل بينه وبينها عازل فمثله لا يبطل الصلاة ولا يعد مواقعاً للنجاسة. وهذا هو الراجح، وأنه إن كانت النجاسة متصلة به مستتبعة له أو غير مستتبعة ما لم يكن حاملاً لها أو مباشراً لها فصلاته صحيحة؛ لأنه مجتنب للنجاسة مباشرة وحملاً.

وهي – في الحقيقة – شبيهة بالمسألة المتفق عليها التي تقدمت، عندما يصلي على فراش طرفه نجس فإنه شبيهة بهذه المسألة. فالأظهر أن الصلاة تكون صحيحة في هذه الصور الثلاث كلها. قال: (وأن رأى عليه نجاسة بعد صلاته وجهل كونها فيها لم يعد) رجل لما انتهى من الصلاة رأى على ثوبه نجاسة، ولم يعلم هل حدثت فيه قبل الصلاة أو أثناءها أو بعدها فهو جاهل في وقت حدوثها. فصلاته صحيحة، لأنها قد صحت وثبتت شرعاً وإبطالها يحتاج إلى دليل، والأصل عدم وقوع النجاسة عليه في الصلاة، فالأصل أنه صلى صلاة صحيحة متعرية عن أي مبطل من مبطلاتها والشك هنا لا يزيل اليقين. قال: (وإن علم أنها كانت فيها لكن نسيها أو جهلها أعاد) رجل صلى فلما انتهى رأى نجاسة على بدنه وقد كان يعلم بها قبل الصلاة لكنه نسيها أو كان جاهلاً بها بمعنى: جهل أنها نجاسة كأن يقال له: بعد أن صلى، هذا الماء الذي على ثوبك ماء نجس. 1- فعلى المشهور في المذهب: يجب عليه أن يعيد. قالوا: لأنه شرط كالطهارة من الحدث، فكما أن المحدث يجب عليه إذا نسى حدثه أو جهله يجب عليه بالاتفاق أن يعيد الصلاة، فما دام الأمر كذلك، فكذلك في اجتناب النجاسة فهو شرط كالطهارة من الحدث. 2- والقول الثاني: وهو رواية عن الإمام أحمد ومذهب إسحاق وابن المنذر واختيار شيخ الإسلام: أنه لا يجب عليه أن يعيد.

واستدلوا: بما رواه أبو داود بإسناد صحيح عن أبي سعيد الخدري قال: (بينما رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي بأصحابه إذا خلع نعليه، فلما رأى ذلك القوم خلعوا نعالهم فلما قضى صلاته، قال: ما حملكم على إلقاء نعالكم؟ قالوا: رأيناك ألقيت نعليك فألقينا نعالنا فقال النبي صلى الله عليه وسلم: إن جبريل أتاني فأخبرني أن عليها قذراً أو قال أذى، وقال صلى الله عليه وسلم: (إذا جاء أحدكم المسجد فلينظر فإن رأى في نعليه أذى أو قذراً فليمسحه وليصل فيهما) (1) قالوا: في هذا الحديث النبي صلى الله عليه وسلم جهل النجاسة فلم يعلم بها إلا أثناء الصلاة فأتم صلاته ولو كان ذلك مبطلاً للصلاة لأبطل أولها ولوجب عليه أن يعيد الصلاة، كما أنه لو تذكر أنه محدث أثناء الصلاة فيجب عليه أن يتوضأ ويستأنف الصلاة. قالوا: والفرق بين الطهارة من الحدث والطهارة من النجس فرق واضح فلا يصح قياس أحدهما على الآخر فإن الطهارة من الحدث وهي الغسل والوضوء – من باب الأفعال – والطهارة من النجس من باب التروك.

_ (1) أخرجه أبو داود في كتاب الصلاة، باب الصلاة في النعل (650) قال: " حدثنا موسى بن إسماعيل، حدثنا حماد بن زيد، عن أبي نُعامة السعدي، عن أبي نضرة، عن أبي سعيد الخدري قال: بينما رسول الله صلى الله عليه وسلم يُصلي بأصحابه إذ خلع نعليه، فوضعهما عن يساره، فلما رأى ذلك القول ألقوا نعالهم، فلما قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاته قال: (ما حملكم على إلقاء نعالكم؟) قالوا: رأيناك ألقيت نعليْك فألقينا نعالنا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن جبريل أتاني فأخبرني أنفيها قذراً) أو قال: أذى، وقال: (إذا جاء أحدكم إلى المسجد فلينظر، فإن رأى في نعليه قذراً أو أذى فليمسحه وليصلّ فيهما) .

وما كان من قسم التروك فإن الشارع يطالب العبد باجتنابه والبعد عنه، وحيث فعله مخطئا أو ناسياً فإنه لم يناقض الشرع، فالشارع يريد منه ألا يفعله أي متعمداً وحيث فعله مخطئاً أو ناسياً فإنه لم يناقض الشرع فلم يكن ذلك مبطلاً للعبادة، والحديث المتقدم يدل على هذه القاعدة الصحيحة. ومثل ذلك لو تذكر أو أخبر أثناء الصلاة فإنه يستمر في صلاته بعد إزالة النجاسة فإن لم يمكنه إزالة النجاسة إلا بعمل كثير مبطل للصلاة فإنه يجب أن يقطع الصلاة ثم يزيل النجاسة ويعيد الصلاة من جديد؛ لأنه لا يمكنه أن يزيل النجاسة –حينئذ- إلا بعمل كثير مناقض ومناف للصلاة. قال: (ومن جبر عظمه بنجس لم يجب قلعه مع الضرر) رجل جبر بعظم نجس أو خيّط جرحه بخيط نجس أو نحو ذلك فهنا الواجب عليه إذا صلى أن يجتنب النجاسة، والنجاسة ثابتة فيه فيما وضع لجبر عظمه أو لخيط جرحه، فحينئذ لا يجب قلعه مع الضرر، لحديث (لا ضرر ولا ضرار) (1)

_ (1) قال في الأربعين: " حديث حسن رواه ابن ماجه والدارقطني وغيرهما مسنداً. ورواه مالك في الموطأ مرسلاً عن عمرو بن يحيى عن أبيه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - فأسقط أبا سعيد، وله طرق يقوي بعضها بعضاً ". وقد أخرجه ابن ماجه في كتاب الأحكام (2341) قال رحمه الله: " حدثنا محمد بن يحيى حدثنا عبد الرزاق أنبأنا معمر عن جابر الجعفي عن عكرمة عن ابن عباس قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (لا ضرر ولا ضرار) . (2340) حدثنا عبدُ ربه بن خالد النُّميري أبو المُغلِّس حدثنا فُضيل بن سليمان حدثنا موسى بن عقبة حدثنا إسحاق بن يحيى بن الوليد عن عبادة بن الصامت أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قضى أن لا ضرر ولا ضرار ". وأخرجه الدارقطني في سننه (4 / 227) قال: " نا محمد بن عمرو بن البختري نا أحمد بن الخليل نا الواقدي نا خارجة بن عبد الله بن سليمان بن زيد بن ثابت عن أبي الرجال عن عمرة عن عائشة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (لا ضرر ولا ضرار) . نا أحمد بن محمد بن أبي شيبة نا محمد بن عثمان بن كرامة نا عبيد الله بن موسى عن إبراهيم بن إسماعيل عن داود بن الحصين عن عكرمة عن ابن عباس أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (للجار أن يضع خشبته على جداره وإن كره، والطريق الميتاء سبع أذرع، ولا ضرر ولا إضرار) . نا إسماعيل بن محمد الصفار نا عباس بن محمد نا عثمان بن محمد بن عثمان بن ربيعة بن أبي عبد الرحمن نا عبد العزيز بن محمد عن عمرو بن يحيى عن أبيه عن أبي سعيد الخدري أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (لا ضرر ولا إضرار) . نا أحمد بن محمد بن زياد نا أبو إسماعيل الترمذي نا أحمد بن يونس نا أبو بكر بن عياش قال: أراه قال عن عطاء عن أبيه عن أبي هريرة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (لا ضرر ولا ضرورة، ولا يمنعن أحدكم جاره أن يضع خشبه على حائطه) ".

والشارع لا يأمر ولا ينهي فيما يترتب على المسلم فيه الضرر في ماله أو بدنه أو نحو ذلك، وهنا يترتب عليه الضرر فلم يجب ذلك عليه. أما إن لم يثبت الضرر فيجب عليه أن يزيله، لأن الواجب عليه أن يجتنب النجاسة، وحيث كان ذلك عليه، فإنه مباشر للنجاسة غير مجتنب لها مع قدرته على إزالتها فحينئذ: صلاته باطلة. قال: (وما سقط منه من عضو أو سن فطاهر) لأن ما كان من الآدمي فإنه طاهر، فالمسلم لا ينجس ومثله الكافر لعموم قوله صلى الله عليه وسلم: (ما أبين من حي فهو كميتته) (1) . فما وقع من الإنسان من عظم أو سن ثم أعيد إليه ووصل به فصلاته به صحيحة؛ لأنه ببينونته وانفصاله لم ينجس بذلك فإذا أعيد فإنه عضو طاهر وحينئذ: فلا يكون مواقعاً للنجاسة. فصلاته صحيحة وإن كان قادراً على إزالته لأنه ليس بنجس. قال: (ولا تصح الصلاة في مقبرة، وحش وحمام وأعطان إبل ومغصوب)

_ (1) أخرجه أبو داود في كتاب الصيد، باب في صيد قُطع منه قطعة (2858) قال: " حدثنا عثمان أبي شيبة، حدثنا هاشم بن القاسم، حدثنا عبد الرحمن بن عبد الله بن دينار، عن زيد بن أسلم، عن عطاء بن يسار، عن أبي واقد قال: قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: (ما قطع من البهيمة وهي حية فهي ميتة) . وأخرجه الترمذي أتم منه في الصيد حديث (1480) باب ما قطع من الحي فهو ميت، وقا ل: " هذا حديث حسن غريب "، وابن ماجه عن ابن عمر في الصيد حديث (3216) ، باب ما قطع من البهيمة وهي حية، سنن أبي داود [3 / 277] .

لا تصح الصلاة في المقبرة لقوله صلى الله عليه وسلم – فيما رواه أبو داود والترمذي -: (الأرض كلها مسجد إلا المقبرة والحمام) (1) وإن كان هناك موضع فيه قبر أو قبران فهل تصح فيه الصلاة أم لا؟ ينبني على هذا الموضع هل يسمى مقبرة أم لا؟ فالمشهور في المذهب: أنه ليس بمقبرة، فعليه: يجوز أن يصلي فيه. والقول الثاني في المذهب وهو اختيار شيخ الإسلام واستظهره صاحب الفروع: أن الصلاة لا تصح فيه؛ لأن اسم المقبرة شامل له، فإن المقبرة ما يقبر فيها سواء كان فيها قبر أو قبران.

_ (1) أخرجه أبو داود في كتاب الصلاة، باب في المواضع التي لا تجوز فيها الصلاة (492) قال: " حدثنا موسى بن إسماعيل، حدثنا حماد ح وحدثنا مسدد حدثنا عبد الواحد عن عمرو بن يحيى، عن أبيه عن أبي سعيد قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وقال موسى في حديثه فيما يحسب عمرو: إن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (الأرض كلها مسجد إلا الحمام والمقبرة) ، وأخرجه ابن ماجه (745) والترمذي في الصلاة (317) وقال: " وهذا حديث فيه اضطراب، روى سفيان الثوري عن عمرو بن يحيى عن أبيه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - مرسل، وروى حماد بن سلمة عن عمرو بن يحيى عن أبيه عن أبي سعيد عن النبي - صلى الله عليه وسلم -. ورواه محمد بن إسحاق عن عمرو بن يحيى عن أبيه قال: وكأن عامة روايته عن أبي سعيد عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ولم يذكر فيه عن أبي سعيد عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، وكأن رواية الثوري عن عمرو بن يحيى عن أبيه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أثبت وأصح مرسلاً.. " سنن أبي داود [1 / 330] .

ثم إن العلة التي من أجلها نهى الشارع عن الصلاة في المقابر ثابتة فيه، فإن العلة هي سد ذريعة الشرك فإن تعظيم القبور هو أصل الشرك الواقع في العالم، والصلاة في الموضع الذي فيه قبر أو قبران ثابتة فيه هذه العلة سواء سميناه مقبرة أو لم نسميه. فالراجح أنها صلاة باطلة. وعليه – فكذلك – خلافاً للمشهور في المذهب ولو صلى في موضع في بيته قد دفن فيه ميت من أمواتهم كأن يدفنوا ميتهم في ناحية من نواحي البيت، فهذا الموضع الذي حول القبر لا يجوز أن يصلي فيه للعلة المتقدمة وقد قال صلى الله عليه وسلم: (صلوا في بيوتكم ولا تجعلوها قبوراً) (1) فدل على أن القبور ليست موضعاً للصلاة. فإن نبشت القبور فيجوز أن يصلي في هذا الموضع لما ثبت في الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم: (نبش قبور المشركين التي كانت في حائط لبني النجار ثم صلى فيه، وبنى فيه مسجده) (2) * وهل تدخل في ذلك صلاة الجنازة أم لا؟ ثلاث روايات عن الإمام أحمد: الرواية الأولى: أن صلاة الجنازة تدخل في هذا فعلى ذلك صلاة الجنازة في المقبرة باطلة.

_ (1) أخرجه الترمذي في كتاب الصلاة، باب ما جاء في فضل صلاة التطوع في البيت (451) عن ابن عمر عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (صلوا في بيوتكم ولا تتخذوها قبوراً) وقال: " هذا حديث حسن صحيح "، وأخرجه البخاري في كتاب الصلاة، باب كراهية الصلاة في المقابر (432) بلفظ: " اجعلوا في بيوتكم من صلاتكم ولا تتخذوها قبوراً) ، وفي آخر كتاب التهجد، باب التطوع في البيت (1187) ، وأخرجه مسلم (777) . (2) أخرجه البخاري في كتاب الصلاة،باب هل تبنش قبور مشركي الجاهلية.. (428) عن أنس قال: " قدم النبي - صلى الله عليه وسلم - … "، وأخرجه مسلم (524) في كتاب المساجد، باب ابتناء مسجد النبي - صلى الله عليه وسلم - وخرجه أبو داود في كتاب الصلاة، باب في بناء المسجد (453) .

والرواية الثانية: أنها صحيحة مع الكراهية. والرواية الثالثة: أنها تصح بلا كراهية. وأصحها القول الأول وأن الصلاة على الجنازة في المقابر باطلة لا تصح، لما ثبت في المختارة والطبراني في الأوسط بإسناد جيد أن النبي صلى الله عليه وسلم: (نهى عن الصلاة على الجنائز بين القبور) (1) ولكن يستثنى من ذلك الصلاة على الميت في قبره بعد دفنه حيث فاتته الصلاة فإنها ثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم. إذن: هل تدخل صلاة الجنازة في عموم النهي أم لا؟ قولان في المذهب: الأول: أنها تدخل وهو رواية عن الإمام أحمد. الثاني: أنها لا تدخل وإذا قلنا بعدم دخولها فهل تكره أم لا؟ قولان في المذهب. والصحيح أنها باطلة في المقابر إلا ما ورد عن الشارع من الصلاة على الميت في قبره لمن فاتته الصلاة. (2)

_ (1) قال في مجمع الزوائد ج: 3 ص: 36 في باب الصلاة على الجنازة بين القبور: " عن أنس بن مالك رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى أن يصلي على الجنائز بين القبور رواه الطبراني في الأوسط وإسناده حسن " ا. هـ. من اسطوانة مكتبة الفقه وأصوله. (2) قال شيخنا في شرحه لأخصر المختصرات ما نصه: " الفرع الثاني: - أنه إذا أتي إلى مقبرة، فبني فيها مسجدا، فالأرض أرض مقبرة: فإن الصلاة لا تصح بحال، لأنها مقبرة، ولا حكم للمسجد، لم لا حكم للمسجد؟ لأن المسجد هنا منهي عنه، فهو كالمغصوب. - الحال الثانية: أن تكون الأرض أرض مسجد ثم يبنى فيها قبر: فهنا تصح الصلاة فيها، لأنها أرض مسجد، وهذا القبر أجنبي، وليس لعرق ظالم حق، لكن لا يستقبل القبر، فالمساجد التي توجد فيها قبور، كالمسجد الأموي فيه قبر لكن في الأصل لم يكن فيه قبر. وهذا ما قرره شيخ الإسلام في شرح العمدة. إذاً: إذا كانت الأرض أرض مسجد ثم دفن فيها قبر أو قبران أو ثلاثة، فالصلاة تصح، لكن لا يستقبل القبر، لأنه لو استقبله، دخل في قول النبي- صلى الله عليه وسلم -: (لا تصلوا إلى القبور) . ويدخل في المقبرة، والمقبرة تتناوله: الفناء وحريمها، كل ذلك داخل في المقبرة، لأن ذلك كله يتناوله اسم المقبرة، فليس له أن يصلي فيه.

قال: (أو حش) هو موضع قضاء الحاجة. وأما الحمام فهو موضع الاغتسال والاستحمام، فالصلاة في الحش باطلة لأن (1) إبطالها أولى من إبطال الصلاة بالحمام فهي أولى وأظهر، وقد قال صلى الله عليه وسلم: (الأرض كلها مسجد إلا المقبرة والحمام) (2) ولما ثبت عن ابن عباس – في مصنف عبد الرزاق – أنه قال: (لا تصلين إلى حش ولا إلى حمام ولا في مقبرة) (3) وإذا ثبت عنه النهي عن الصلاة إلى الحش فأولى منه الصلاة في الحش، فهي صلاة باطلة. (أو حمام) للحديث المتقدم، حديث أحمد والترمذي: (الأرض كلها مسجد إلا المقبرة والحمام) . قال: (وأعطان إبل) جمع عطن أي المواضع التي تبرك فيها وتأوي إليها، فالصلاة فيها باطلة للحديث المتقدم في باب نواقض الوضوء من قول النبي صلى الله عليه وسلم: (لا تصلوا في معاطن الإبل) (4) والنهي هنا يعود إلى ذات الصلاة وحيث كان ذلك فإنه يفيد بطلان الصلاة. قال: (أو مغصوب) إذا صلى في أرض قد اغتصبها فهل تصح الصلاة أم لا؟ قال هنا: لا تصح. هذا هو المشهور في المذهب. للمعنى المتقدم: لأنه آثم حيث اغتصب هذه الأرض فلا يمكن أن يكون مثاباً مأجوراً على الصلاة فيكون في آن واحد مثاباً آثماً.

_ (1) في الأصل: لأنها. (2) أخرجه أبو داود والترمذي، وقد تقدم. (3) أخرجه عبد الرزاق في مصنفه [1 / 405] برقم (1584) في باب الصلاة على القبور قال عبد الرزاق: عن الثوري عن حبيب بن أبي ثابت عن ابن عباس.. " (4) أخرجه أبو داود في كتاب الصلاة، باب النهي عن الصلاة في مبارك الإبل (493) ، وفي باب الوضوء من لحوم الإبل من كتاب الطهارة (184) . وأخرجه الترمذي في باب ما جاء في الصلاة في مرابض الغنم وأعطان الإبل (348) مختصراً بلفظ: عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (صلوا في مرابض الغنم ولا تصلوا في أعطان الإبل) .

والقول الثاني وهو مذهب الجمهور وهو رواية عن الإمام أحمد اختارها طائفة من أصحابه: أن الصلاة في الأرض المغصوبة صحيحة. قالوا: لأن النهي لا يعود إلى الصلاة، فهي صلاة صحيحة لا معنى ببطلانها والنهي لا يعود إليها. ولا مانع من أن يكون آثماً مأجوراً في آن واحد فهو آثم بكونه قد اغتصب الأرض وهو مواقع للاغتصاب مشتغل به. وهو مأجور لكونه يصلي. فليس ذلك من جهة واحدة بل من جهتين فحينئذ: الصلاة صحيحة وهو الراجح. ومثل ذلك: المزبلة والمجزرة وقارعة الطريق في المشهور من المذهب فلا تصح الصلاة فيها لما روى الترمذي وابن ماجه من حديث ابن عمر: أن النبي صلى الله عليه وسلم: (نهى أن يصلى في سبعة مواضع: المزبلة والمجزرة والمقبرة وقارعة الطريق والحمام وأعطان الإبل وفوق ظهر بيت الله) (1) لكن الحديث إسناده ضعيف لا يثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم فإن فيه عبد الله بن عمر العمري المكبر وهو ضعيف. إلا أن للفظ " قارعة الطريق " شاهداً عند ابن ماجه (2) من حديث ابن لهيعة. لذا ذهب بعض أهل العلم من الحنابلة كالموفق وغيره وهو مذهب الجمهور: إلى أن الصلاة في هذه المواضع صحيحة لعموم قوله صلى الله عليه وسلم: (وجعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً) (3) والحكم ببطلان الصلاة في موضع والنهي عنه يحتاج إلى دليل يدل على ذلك، والحديث الوارد فيها ضعيف.

_ (1) قال في الإرواء: 1 / 318] : " ضعيف، رواه الترمذي (2 / 177 – 178) وابن ماجه (746) وعبد بن حميد في " المنتخب من المسند " (ق 84 / 2) والطحاوي في شرح المعاني (1 / 224) وأبو علي الطوسي في مختصر الاحكام (ق 36 / 1) والبيهقي (2 / 229 – 230) عن زيد بن جبيرة عن داود بن الحصين عن نافع عن ابن عمر به ". (2) أخرجه ابن ماجه في كتاب الطهارة وسننها، باب النهي عن الخلاء على قارعة الطريق (330) .

إذن: الصلاة فيها صحيحة، لكن الأولى ولا شك ترك ذلك. (1) فلو صلى في قارعة الطريق فالصلاة صحيحة لكنه مخطئ حيث زاحم الناس في طرقهم فإن قارعة الطريق ما يقرعه الناس ويطرقونه ويحتاجون إلى المشي عليه ويكثر ذلك فيه. قال: (وأسطحتها) فأسطحة هذه المواضع لا تصح الصلاة فيها فلو صلى في سطح حمام أو مقبرة أو غير ذلك قالوا: فلا تصح صلاته، لأن الهواء تبع للقرار. فالشخص إذا ملك بقعة من الأرض فهو مالك لهوائها. قالوا: فكذلك هنا. والقول الثاني في المذهب وهو اختيار الموفق: أن الصلاة صحيحة – وهذا هو القول الراجح (2)

_ (1) قال شيخنا في شرحه لأخصر المختصرات الذي شرحه بداية عام 1420 ما نصه: " والقول الثاني في المسألة: أن الصلاة تصح في المزبلة والمزجرة وقارعة الطريق. وهو اختيار الموفق ابن قدامة. لكن الراجح الأول لما تقدم، لأن القياس يدل عليه " ا. هـ. (2) قال شيخنا في شرح أخصر المختصرات ما نصه: " والراجح: هو التفصيل: إن كان السطح بحيث يصدق عليه اسم ما أسفل منه – فهو تبع له -، فإن الصلاة لا تصح. وإن كان بحيث لا يتبعه ولا يتناوله اسمه، فإن الصلاة تصح فيه. مثال: عندما يصلي في مسجد بني في مقبرة، فيصلي في سطحه، فهل يمنع من ذلك؟ نعم، لم؟ لأن الاسم يتناوله، منع من الصلاة في المقبرة فيدخل في ذلك هواؤها، وهذا المسجد قد بني في المقبرة، فسطحه وأسفله داخلان. لكن إذا بنى دورا علويا ووضع فيه غرفة، والذي أسفل من هذه الغرفة حش، فهل هذه الغرفة تتبع هذا الحش في الاسم؟ لا، إذا: الصلاة تصح. مثال آخر: هذه الحشوش التي تكون في المساجد – كما تعلمون منفصلة -، فهل سطحها يدخل فيها؟ الظاهر: نعم، لأن الأصل في السطح أنه يتبع، وهذه لم يبن فوقها ما يخرجها عن أن تدخل في الاسم الحش. لكن لو بنى بيتا، وفي أسفله قبر أو قبران – رجل مات والده، فدفنه في أرضه، ثم إنه بنى فوق هذا القبر فأصبح القبر في القبو، فهل يدخل في المنع؟ الظاهر: أنه لا يدخل في المنع، لأن ما فوق لا يصدق عليه أنه مقبرة. إذاً: إذا صدق عليه أن له هذا الاسم، وأن هذا الاسم يتناوله، وأنه يتبعه، فينهى عن ذلك، وإلا فلا. وهذا نحو ما قرره شيخ الإسلام في شرحه للعمدة " ا. هـ

؛ لأن الأصل هو صحة الصلاة والنهي عن الصلاة وإبطالها يحتاج إلى دليل. وإنما نهى الشارع عن هذه المواضع لعلل ثابتة فيها ولا يثبت ذلك في أسطحتها. فمثلاً: نهى الشارع عن الصلاة في المقبرة لوجود القبور فيها وهذا أصل شرك العالم. أما لو صلى فوقها على سطح يغطي المقبرة كلها أو يغطي موضعاً فيه قبراً أو قبرين أو ثلاثة فإنه – حينئذ – لا معنى للقول بأن الصلاة باطلة وإن كان الهواء تبعاً للقرار، لأن المعنى الموجود في القرار ليس موجوداً في الهواء فحينئذ: لا معنى لإلحاق الهواء بالقرار. مع أن المشهور في المذهب أن العلة تعبدية غير معقولة المعنى – وحيث قالوا بذلك: وهو خلاف الحق – فإن القياس باطل، لأن شرط القياس معرفة العلة وثبوتها وألا تكون العلة تعبدية. وما دام أنهم قالوا: إنها تعبدية فإنه لا معنى لإلحاق الهواء بالقرار لأن القياس باطل لعدم ثبوت العلة. إذن: الراجح أن الصلاة في أسطحتها صحيحة. قال: (وتصح إليها) فلو صلى إلى أعطان إبل أو حمام أو حش أو مقبرة قالوا: الصلاة صحيحة، لأن النهي إنما ورد في الصلاة وفي هذه المواضع، وحيث كانت في قبلته وصلى إليها فإنه لم يصل فيها فلا معنى – حينئذ – لإبطال الصلاة. وهذا صحيح، لكن ليس في كل هذه المسائل، بل قد وردت الأدلة الشرعية في استثناء بعض المسائل، فالصلاة إلى المقبرة صلاة باطلة وهو رواية عن الإمام أحمد اختارها المجد بن تيمية وشيخ الإسلام. واستدلوا: بما روى مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا تصلوا إلى القبور ولا تجلسوا عليها) (1) فهذا يدل على أن الصلاة إلى القبور محرمة وحيث كانت محرمة فهي باطلة لأن النهي يعود إلى ذات العبادة فالصلاة إلى المقبرة باطلة.

_ (1) أخرجه مسلم في كتاب الجنائز، باب النهي عن الجلوس على القبر والصلاة عليه (972) .

ومثل ذلك: الصلاة إلى الحش وهو رواية عن الإمام أحمد واختاره بعض أصحابه، للأثر المتقدم عن ابن عباس: (لا تصلين إلى حش) (1) ولا يعلم له مخالف فيكون قوله حجة. فالصلاة إلى الحش وإلى الحمام قد ثبت عن ابن عباس، والنهي عائد إلى الذات فتفيد البطلان. وليس عندنا من يخالف ابن عباس فيكون قوله حجة. إذن الصلاة إلى المقبرة والحمام والحش باطلة. أما الصلاة إلى أعطان الإبل، أو إلى أرض مغصوبة - على القول ببطلان الصلاة فيها - فإن الصلاة صحيحة ولا أثر إلى استقبالها. وكيف يكون استقبالها؟ المشهور في المذهب أنه إذا كان بينه وبين الحش أو المقبرة ما يستتر به من كان متخلياً بأن يكون بينه وبينها مؤخرة الرحل، فإن الصلاة تكون صحيحة. وعليه فحائط المسجد ساتر، فإن كانت أمام المسجد مقبرة فحائطه يكون ساتراً. وهناك قول ثاني في المذهب اختاره المجد ابن تيمية وهو القول الراجح: أن حائط المسجد لا يكفي بل لابد أن يكون هناك فاصل آخر يفصل بينهما، ومثل مؤخرة الرحل لا يعد ذلك شيئاً، فإن الرجل يعد مستقبل القبلة وإن كان بينه وبين القبلة شيئاً. ولكن حيث كان بينه وبين المقبرة شيء فلا حرج في ذلك إذ المشقة تلحق بالنهي عن استقبالها حيث كانت هناك بيوت أو حوائل أو نحو ذلك. وأما إيجاد ساتر بينهما فإنه لا مشقة فيه فعليه لا يكفي حائط المسجد ولا حائط المقبرة بل لابد أن يكون بينهما عازل آخر بحيث لا يكون المسجد مستقبلاً المقبرة. ومثل ذلك الحش فلو صلى في غرفة تتوجه إلى الحش أو الحمام فالصلاة كذلك باطلة ولا يكفي الحائط بينهما بل لابد أن يكون هناك حائل آخر. فلو كان هناك غرفة بينهما فإن ذلك يجزئ.

_ (1) رواه عبد الرزاق، وقد تقدم.

هذا هو الأصح من الوجهين في المذهب وأنه لا يكفي ما هو كمؤخرة الرحل ولا حائط المسجد ولا حائط الغرفة التي يصلي فيها بل لابد أن يكون بينه وبين ذلك حائط يجعل هذا الموضع غير مستقبل لذاك الموضع والعلم عند الله تعالى. قال: (ولا تصح الفريضة في الكعبة ولا فوقها، وتصح النافلة باستقبال شاخص فيها) أما كون النافلة تصح في الكعبة وعلى ظهرها فهذا قد أجمع عليه أهل العلم، وثبتت السنة الصحيحة فيما ثبت في الصحيحين من حديث ابن عمر: أن النبي صلى الله عليه وسلم: (دخل البيت فصلى فيه) (1) . ولكن هل يشترط أن يستقبل شاخصاً منها أم لا؟ يعني: رجل صلى في سطحها وليس أمامه إلا هواءها فهل تصح أم لا؟ هنا قال: (باستقبال شاخص فيها) . والقول الثاني في المذهب: أنه لا يشترط ذلك. إذن: إذا صلى في سطح الكعبة حيث لا يستقبل شيئاً منها – أو صلى في الكعبة – واستقبل بابها وهو مفتوح فهو ليس بمستقبل شاخص منها فهل الصلاة صحيحة؟ قالوا: لا تصح – هذا هو المشهور في المذهب – قالوا: لأنه ليس بمستقبل شيئاً منها، والواجب أن يستقبل شيئاً منها أي من جدارها أو نحوه. والقول الثاني في المذهب وهو اختيار الموفق وهو الراجح: أن ذلك ليس بشرط لأن الواجب هو استقبال هوائها وموقعها وليس الواجب هو استقبال بنيانها. بدليل: أن من صلى إلى جنب الكعبة على علو فإن صلاته صحيحة، مع أنه يواجه ويسامت هواءها لا بنيانها. فكذلك هنا فالواجب إنما هو استقبال هوائها وقد استقبله وليس الواجب أن يستقبل شيئاً منها. وهذا القول هو الراجح. أما الفريضة فقال هنا: (لا تصح في الكعبة ولا فوقها)

_ (1) أخرجه البخاري في كتاب الصلاة، باب الصلاة بين السواري في غير جماعة (504) (505) . ومسلم (1329)

قالوا: لأن الله تعالى قال {وحيث ما كنتم فولوا وجوهكم شطره} (1) وهذا لم يتوجه إلى الكعبة حيث صلى فيها أو إلى شيء منها، فالواجب أن يتوجه إليها، وهو فيها أو عليها فليس متوجهاً إليها. والنافلة فيها تسامح وتخفيف فجازت دون الفريضة هذا هو المشهور في المذهب. والقول الثاني وهو مذهب الجمهور: أن الصلاة فريضة في الكعبة أو على سطحها صحيحة؛ قالوا: لأنها صحت نافلة وحيث صحت نافلة فالفريضة كذلك؛ لأن الأصل أن الفرائض والنوافل في حكم واحد وتخصيص الفرائض يحتاج إلى دليل ولا دليل. وكونه يؤمر بالتوجه إليها ليس المقصود أن يتوجه إلى جميعها: بدليل أنه لو صلى إلى طرف الكعبة خارجاً عنها واستقبل ركناً من أركانها فإن الصلاة صحيحة اتفاقاً وهو إنما استقبل شيئاً منها، وهو كذلك حيث صلى فيها أو في سطحها فقد استقبل شيئاً من هوائها، فيكون قد استقبل منها ما تصح به الصلاة. وهذا القول هو الراجح فصلاة الفريضة في الكعبة أو على سطحها صحيحة؛ لأنه مستقبل لشيء منها، كما لو كان خارجاً عنها وقد استقبل شيئاً من أركانها وإن لم يستقبلها جميعاً، فإن الصلاة صحيحة. وأما الآية الكريمة: فإنها فيمن كان خارج الحرم فإنها في أهل المدينة ونحوهم وأن الواجب عليهم أن يتوجهوا إلى شطرها أي ناحيتها وجهتها ومثل ذلك: من كان في مكة خارجاً عن الحرم فإنه يستقبل جهتها. وأما من كان في الحرم فإنه يستقبل عينها ولا يشترط – كما تقدم – أن يستقبل جميعها بل لو استقبل بعضها يصح كما لو صلى خارجها مستقبلاً لركنها، فكذلك إذا صلى مستقبلاً لشيء من جوانبها. وقد تقدم عدم اشتراط الشاخص فيها وأن هواءها كاف؛ لأن الواجب إنما هو استقبال هوائها وقرارها وموضعها لا استقبال بنيانها. والحمد لله رب العالمين الدرس السابع والستون (يوم الاثنين: 8 / 3 / 1415 هـ) قال المؤلف رحمه الله تعالى: (ومنها استقبال القبلة)

_ (1) سورة البقرة.

أي من شروط الصلاة استقبال القبلة – باتفاق أهل العلم لقوله تعالى: {فول وجهك شطر المسجد الحرام وحيث ما كنتم فولوا وجوهكم شطره} (1) ولقوله صلى الله عليه وسلم – في حديث المسيء صلاته: (ثم استقبل القبلة فكبر) (2) . قال: (فلا تصح بدونه) فلو صلى إلى غير القبلة مع قدرته على استقبالها فإن صلاته باطلة. قال: (إلا لعاجز) أي عاجز عن استقبالها، كمربوط أو مصلوب إلى غير القبلة فإن هذا لا يمكنه أن يستقبلها، فيجب عليه أن يصلي الصلاة على حسب حاله لقوله تعالى {فاتقوا الله ما استطعتم} (3) والحديث: (إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم) (4)

_ (1) سورة البقرة. (2) أخرجه البخاري في كتاب الاستئذان، باب من رد فقال: عليك السلام (6251) ، وأخرجه مسلم (397) . (3) سورة التغابن 16. (4) أخرجه البخاري في كتاب الاعتصام بالكتاب والسنة (7288) فقال رحمه الله تعالى: " حدثنا إسماعيل حدثني مالك عن أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (دعوني ما تركتكم، فإنما أهلك من كان قبلكم سؤالهم واختلافهم على أنبيائهم، فإذا نهيتكم عن شيء فاجتنبوه، وإذا أمرتكم بشيء فأتوا منه ما استطعتم) " وأخرجه مسلم في كتاب الحج (1337) [صحيح مسلم بشرح النووي (9 / 100) ] فقال: " وحدثني زهير بن حرب حدثنا يزيد بن هارون أخبرنا الربيع بن مسلم القرشي عن محمد بن زياد عن أبي هريرة قال: خطبنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: (أيها الناس قد فرض الله عليكم الحج فحجوا) فقال رجلٌ: أكل عام يا رسول الله؟ فسكت حتى قالها ثلاثاً، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (لو قلت نعم لوجبت ولما استطعتم) ثم قال: (ذروني ما تركتكم فإنما هلك من كان قبلكم بكثرة سؤالهم واختلافهم على أنبيائهم، فإذا أمرتكم بشيء فأتوا منه ما استطعتم، وإذا نهيتكم عن شيء فدعوه) ". وأخرجه أيضاً في كتاب الفضائل بعد حديث (2357) [صحيح مسلم بشرح النووي (15 / 109) ] فقال: " حدثني حرملة بن يحيى التُّجيبي أخبرنا ابن وهب أخبرني يونس عن ابن شهاب أخبرني أبو سلمة بن عبد الرحمن وسعيد بن المسيَّب قالا: كان أبو هريرة يحدث أنه سمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: (ما نهيتكم عنه فاجتنبوه، وما أمرتكم به فافعلوا منه ما استطعتم، فإنما أهلك الذين من قبلكم كثرة مسائلهم واختلافهم على أنبيائهم) . وحدثني محمد بن أحمد بن أبي خلف حدثنا أبو سلمة وهو منصور بن سلمة الخزاعي أخبرنا ليث عن يزيد بن الهاد عن ابن شهاب بهذا الإسناد مثله سواء. حدثنا أبو بكر ابن أبي شيبة وأبو كريب قالا حدثنا أبو معاوية ح وحدثنا ابن نمير حدثنا أبي كلاهما عن الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة ح وحدثنا قتيبة بن سعيد حدثنا المغيرة - يعني الحِزامي - ح وحدثنا ابن أبي عمر حدثنا سفيان كلاهما عن أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة ح وحدثناه عبيد الله بن معاذ حدثنا أبي حدثنا شعبة عن محمد بن زياد سمع أبا هريرة ح وحدثنا محمد بن رافع حدثنا عبد الرزاق أخبرنا معمر عن همام بن منبه عن أبي هريرة، كلهم قال عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ذروني ما تركتكم، وفي حديث همام: ما تركتكم، فإنما هلك من كان قبلكم ثم ذكروا نحو حديث الزهري عن سعيد وأبي سلمة عن أبي هريرة ".

متفق عليه. ومثل ذلك بعض صور صلاة الخوف – وسيأتي الكلام عليها في بابها -. قال: (ومتنفل راكب سائر في سفر) " راكب " لا ماشي وسيأتي الكلام على الماشي. " سائر " لا نازل، فإذا كان نازلاً فيجب أن يصلي مستقبل القبلة. " في سفر " سواء كان السفر طويلاً أو قصيراً. والسفر القصير عند الفقهاء: هو السفر الذي لا تقصر فيه الصلاة، وهو ما دون 4 برد أو 16 فرسخاً وهي ما تزيد على 80 كم. فلو سافر إلى بلدة دون هذه المسافة فهذا هو السفر القصير. وأما إذا كان أربعة برد فهذا الذي يحل فيه قصر الصلاة – هذا هو المشهور في المذهب وهو مذهب الجمهور – من تقسيم السفر إلى سفر طويل وقصير – وسيأتي ترجيح الظاهر في هذه المسألة وأن السفر مطلق ليس منه القصير والطويل، بل متى ثبت السفر فإن القصر يكون مشروعاً ولا فرق بين طويل السفر أو قصيره. فعلى المذهب: لو خرج إلى قرية قريبة لا يقصر فيها الصلاة فيجوز له أن يصلي النافلة على راحلته غير مستقبل القبلة وأولى منه لو سافر سفراً تقصر فيه الصلاة. هذا مذهب جمهور العلماء وأن السفر هنا مطلق يدخل فيه القصير والطويل. وذهب الإمام مالك: إلى أن الصلاة على الراحلة في النفل لا تشرع إلا في السفر الطويل والسفر الطويل هو ما ثبت فيه القصر، وما لم يثبت فيه القصر فلا يشرع فيه ذلك. وعن الإمام أحمد قول ثالث: وهو جوازه في الحضر وهو قول أبي يوسف من الأحناف وهو مذهب الظاهرية ومذهب بعض الشافعية. إذن في المسألة ثلاثة أقوال: القول الأول: أنه يجوز حضراً وسفراً – وهو رواية عن الإمام أحمد –. القول الثاني: أنه لا يجوز في الحضر، وإنما يجوز في السفر مطلقاً طويلاً كان أو قصيراً – وهذا المشهور في مذهب الحنابلة –. القول الثالث: وهو مذهب المالكية أنه لا يشرع إلا في السفر الطويل.

والصحيح منها ما ذهب إليه المالكية، للأحاديث الواردة في هذا الباب، فمن الأحاديث الواردة في أصل الرخصة في صلاة النفل على الراحلة – ما ثبت في الصحيحين عن عامر بن ربيعة قال: (كان النبي صلى الله عليه وسلم يصلي على راحلته حيث توجهت به) زاد البخاري: (يومئ برأسه ولم يكن يصنعه في المكتوبة) (1) وهذا الحديث ليس فيه أن ذلك في السفر، بل هو مطلق في السفر وفي غيره. وبه استدل من رأى أن النافلة يجوز أن تصلى على الراحلة في الحضر وهو رواية عن أحمد كما تقدم. والحديث الثاني في هذا الباب: ما ثبت في البخاري عن عبد الله بن دينار قال: (كان عبد الله بن عمر إذا كان في السفر يصلي على راحلته أينما توجهت يومئ، وذكر عبد الله بن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يفعله) (2) وهنا فيه قيد السفر.

_ (1) أخرجه البخاري في أبواب تقصير الصلاة، باب صلاة الطوع على الدواب وحيثما توجهت به (1093) بلفظ: " رأيت النبي - صلى الله عليه وسلم - يصلى على راحلته حيث توجهت به "، وفي باب ينزل للمكتوبة (1097) بلفظ: " رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو على الراحلة يسبح، يومئ برأسه قبل أي وجه توجه، ولم يكن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصنع ذلك في الصلاة المكتوبة ". وأخربجه مسلم مختصرا (701) في كتاب الصلاة،باب جواز صلاة النافلة على الدابة في السفر حيث توجهت. (2) أخرجه البخاري في أبواب تقصير الصلاة، باب (8) الإيماء في الدابة (1096) بنفس اللفظ إلا أن في بدايته: " كان عبد الله بن عمر رضي الله عنهما يصلي في السفر على راحلته.. "

والحديث الثالث: ما ثبت في مسند أحمد وسنن أبي داود بإسناد جيد عن أنس بن مالك قال: (كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا كان في سفر فأراد أن يتطوع استقبل بناقته القبلة فكبر ثم صلى حيث كان وجه ركابه) (1) . وفي هذا دليل لما ذهب إليه الجمهور في أن ذلك إنما يكون في السفر، فإن مفهوم هذا الحديث أنه إن لم يكن في سفر فإنه لا يفعل ذلك – وهذا هو الأصل فإن الأصل في الصلاة أن تصلى إلى القبلة وأن يركع ويسجد وأن يفعل فيها ما يفعله المفترض إلا أن يدل دليل على ذلك، فقيد أنس هذا الفعل بأنه في السفر فيحمل عليه حديث عامر بن ربيعة فيقيد به إطلاق حديثه. وإنما نرجح مذهب مالك؛ لأن ظاهر لفظة السفر في الشريعة السفر الذي تقصر فيه الصلاة، فإن الشارع شرع القصر في السفر، وهنا قد أتى لفظ السفر، فالأصل أن يكون هو السفر الذي رخص فيه بالقصر وغيره من الأحكام المختصة بالسفر، فيحمل لفظ السفر في حديث ابن عمر وأنس على السفر الذي يشرع فيه القصر. وتقسيم السفر إلى طويل وقصير لا دليل عليه شرعي، وإطلاقات الشريعة ظاهرها أن السفر واحد وأن السفر الذي شرع فيه القصر هو السفر الذي شرعت فيه الصلاة على الراحلة تطوعاً حيث توجهت الراحلة. إذن أرجح هذه المذاهب هو مذهب المالكية من أن هذا مشروع في السفر الذي تقصر فيه الصلاة، وأما ما يسميه الفقهاء من السفر القصير فلا تشرع فيه، ومثله الحضر فكذلك لا تشرع فيه.

_ (1) أخرجه أبو داود في كتاب الصلاة، باب (277) التطوع على الراحلة والوتر (1225) قال: " حدثنا مسدد، حدثنا رِبْعي بن عبد الله بن الجارود، حدثني عمرو بن أبي الحجاج، حدثني الجارود بن أبي سَبْرة، حدثني أنس بن مالك أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان إذا سافر فأراد أن يتطوع استقبل بناقته القبلة فكبر، ثم صلى حيث وجّهه ركابه " قال المنذري: إسناده حسن ". سنن أبي داود مع المعالم [2 / 21] .

والسنة له أن يومئ بركوعه وسجوده، كما تقدم في حديث عامر بن ربيعة (يومئ رأسه) وحديث ابن عمر في قوله (أينما توجهت يومئ) وذكر عبد الله بن عمر أن: (أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يفعله أي من الصلاة والإيماء) (1) . والسجود أخفض من الركوع لما ثبت في سنن أبي داود والترمذي والحديث صحيح عن جابر قال: (بعثني النبي صلى الله عليه وسلم في حاجة فجئته وهو يصلي على راحلته نحو المشرق والسجود أخفض من الركوع) (2) . وفي صفته ما ذكره المؤلف بقوله: (ويلزمه افتتاح الصلاة إليها) هذه إحدى الروايتين عن الإمام أحمد واختارها أكثر أصحابه أنه يلزمه افتتاح الصلاة إليها، فعلى ذلك يجب عليه أن يستقبل بركابه أو ببدنه جميعه القبلة فيكبر ثم يتوجه حيث توجه ركابه. واستدلوا بحديث أنس المتقدم وفيه: (استقبل بناقته القبلة فكبر) قالوا: فهذا يدل على أن هذا الاستقبال فرض؛ لأنه ثابت من فعل النبي صلى الله عليه وسلم في تخصيص الصلاة تنفلاً عن التوجه إلى القبلة في الراحلة في السفر، فيبقى على الأصل من استقبال القبلة فيكون توجهه إذا كبر مبق لهذا الركن على الأصل. - والرواية الثانية عن الإمام أحمد: أنه لا يجب عليه ذلك. وهذا أظهر، فيحمل حديث أنس على الاستحباب؛ لأنه فعل مجرد، والفعل المجرد يدل على الاستحباب. فإن قيل: فلم لم تحمله على الفرضية، لأن النبي صلى الله عليه وسلم خصص هذا الركن بالتوجه إلى القبلة عن سائر الأركان وهو الأصل فوجب أن يبقى على الأصل؟

_ (1) تقدم قريبا. (2) أخرجه أبو داود في كتاب الصلاة، باب (277) التطوع على الراحلة والوتر (1227) ، وأخرجه الترمذي في الصلاة، باب الصلاة على الدابة حديث 351، سنن أبي داود [2 / 22] .

فالجواب أن يقال: إنه لا فرق بين التكبير وغيره فالتكبير جزء من أجزاء الصلاة لا فرق بينه وبين غيره، ولم يُذكر في حديث عامر بن ربيعة ولا في حديث عبد الله بن عمر ولا في حديث جابر، وحيث لم يذكر فإنه يدل على أنه لم يفعل في تلك الأحاديث. فإن قيل: لم لا تقيد تلك الأحاديث بحديث أنس؟ فالجواب: إن الأفعال لا يقيد بعضها بعضاً، فإن كل فعل حكاية عين وحكاية واقعة، فهذا يحكي الواقعة التي رآها وهذا يحكي الواقعة التي رآها وهكذا. وظاهر - ما ذكره (1) - من لم يذكرها أنها لم تقع من النبي صلى الله عليه وسلم. فأظهر الروايتين عن الإمام أحمد أن ذلك لا يجب وهو الذي يقتضيه النظر والقياس فإنه لا فرق بين تكبيرة الإحرام وغيرها من سائر الأركان. ولعل النبي صلى الله عليه وسلم حيثما فعل ذلك: أنه كان نازلاً فركب راحلته، وفي تلك الحال لا يشق أن يتوجه إلى القبلة فكبر متوجهاً إلى القبلة. بخلاف ما إذا كان سائراً فإن هناك مشقة أن يقف فيستقبل القبلة ويكبر تكبيرة الإحرام. ومعلوم أن من أحب أن يصلي ركعات كثيرة، كمن له ورد من الليل، فإنه على ذلك يحتاج أن يقف بعد كل ركعتين فيستقبل القبلة فيكبر، إن صلى مثنى مثنى. ففي هذا مشقة ظاهرة، فالأولى ما تقدم وأنه ليس بواجب وهذا ما يقتضيه التخفيف والتسهيل في أمر النافلة، فمعلوم أن هذا أسهل للمحافظة عليها. وهذا هو أصل مشروعية التنفل على الراحلة غير مستقبل القبلة وإخراجها عن الأصل من إيجاب الركوع والسجود ومن استقبال القبلة، وكذلك ما يكون في الحضر من كونه يصلي قاعداً – كل هذا من باب تخفيف وتسهيل أمر النافلة لتتم المحافظة عليها – والعلم عند الله تعالى. قال: (وماشٍ) كذلك الماشي من باب القياس، فلو كان ماشي في سفر فإنه يصلي حيث توجه.

_ (1) كذا في الأصل.

قالوا: لأن المعنى الموجود في الراكب موجود في الماشي فكل منهما يحتاج إلى أن يحافظ على النافلة، وكل منهما إذا وقف للنافلة فصلاها نازلاً فإنه ينقطع عن السير وربما فاتت عليه صحبته ونحو ذلك – فكان الماشي في هذا الحكم كالراكب لا فرق بين الاثنين وهو أحد نوعي المسافر. فالمسافرون: إما ركباناً أو مشاة. - وعن الإمام أحمد: أن الماشي لا يشرع له ذلك ولا يجوز؛ لأن النص إنما ورد في الراكب وليس الماشي كالراكب؛ لأنه يحتاج إلى مشي كثير، والمشي الكثير مبطل للصلاة. والأظهر هو القول الأول، لأنا حيث أسقطنا عنه استقبال القبلة وحيث أسقطنا عنه الركوع والسجود ونحو ذلك من فرائض الصلاة، فمثل ذلك أن يسقط عن الماشي ما هو من طبيعة سيره من المشي على قدميه فهذا أولى أن يسقط مما تقدم ذكره. فالأظهر ما هو مشهور في المذهب من قياس الماشي على الراكب. وحيث قلنا بوجوب استقبال القبلة عند الافتتاح، فيجب عليه ذلك، لذا قال: (ويلزمه الافتتاح) فهو في حكم الراكب. وحيث قلنا أن الاستقبال عند الافتتاح لا يجب على الراكب فكذلك الماشي. قال: (ويلزمه الافتتاح والركوع والسجود إليها) فلا يجوز له أن يومئ بل يجب عليه أن يقف فيركع ويسجد إلى القبلة، لأنه يجب عليه الركوع والسجود – عندهم – وحيث وجب عليه فإنه لا حاجة إلى ألا يستقبل القبلة أي لا حاجة إلى إسقاط استقبال القبلة عنه. - وعن الإمام أحمد رواية أخرى اختارها المجد بن تيمية أنه يومئ بالركوع والسجود كالراكب. وهذا هو الراجح، لأنا حيث قلنا بكونه يصلي وهو ماشي كان من الممكن أن يقف، والركوع والسجود يتكرر في الصلاة.

وحيث أمرناه بالوقوف والركوع والسجود في كل ركعة، فإن ذلك سيؤدى إلى انقطاع سيره، وسيلحقه شيئاً من المشقة، فلا فرق – حينئذ – بين أن يؤمر فيقف فيصلي وبين أن يؤمر بأن يقف فيركع ويسجد؛ لأن هذه الأفعال متكررة في الصلاة، فالركوع والسجود وما بينهما هذا يأخذ أكثر من شطر الصلاة، فيناقض ما هو المقصود من التخفيف والتسهيل في أمر النافلة. فالأظهر: أنه يومئ بركوعه وسجوده وهذا كذلك الذي يقتضيه القياس على الراكب. فالراجح: أنه لا يجب عليه الركوع والسجود ولا يجب أن يكون ذلك إلى القبلة، بل أصل الركوع والسجود ليس بواجب، فيكفيه أن يومئ إيماء عن الركوع والسجود، ويكون إيماؤه في السجود أخفض من إيمائه في الركوع. فعلى ذلك: صفة صلاة الماشي أن يكبر للإحرام مستقبل القبلة استحباباً ثم يتوجه حيث شاء ثم يومئ بالركوع والسجود. أما صفته على المذهب: فيجب أن يستفتح الصلاة تجاه القبلة ثم يتوجه حيث شاء ثم إذا حان الركوع والسجود يقف فيركع أو يسجد إلى القبلة – والصحيح خلاف ذلك كما تقدم –. قال: (وفرض من قرب من القبلة إصابة عينها، ومن بعد جهتها) فالقريب من القبلة الذي ليس بينه وبينها شاخص ولا ستر يغطي القبلة عنه يجب عليه أن يصيب عينها اتفاقاً فلا يكون مائلاً عنها ولو شيئاً يسيراً، بل يجب أن يكون بدنه كله متوجهاً إلى عين الكعبة، لأنه قادر على ذلك. فإن لم يكن كذلك بل كان بينه وبينها ستر أو جدران ويشق عليه إصابة عينها – بخلاف الجدران التي في الحرم وما حوله فإنه لا يشق عليه أن ينظر فيتوجه إلى القبلة عيناً – أما حيث كان على خلاف ذلك – فالواجب عليه أن يصيب جهتها، لذا قال: (ومن بعد جهتها)

وهذا باتفاق أهل العلم، لما ثبت في الترمذي بإسناد صحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (بين المشرق والمغرب قبلة) (1) فإن كنت من أهل المدينة فجعلت المشرق عن يسارك، والمغرب عن يمينك فأنت متوجه إلى القبلة، وإن كان هناك انحراف يسير فهذا لا يؤثر. فالواجب أن يصيب جهتها، لأن إصابة عينها متعذر. وعندما يكون قريباً إلى الحرم فإنه يشق عليه أن يتقصد إصابة عينها وحيث كان كذلك فالمشقة تجلب التيسير وحيث تعذر ذلك فالعجز عن الواجب يسقطه. قال: (فإن أخبره ثقة بيقين أو وجد محاريب إسلامية عمل بها) إن أخبره ثقة ممن يجب قبول خبره وهو العدل المكلف ذكر كان أو أنثى حراً كان أو عبداً – أخبره عن القبلة عن يقين لا عن اجتهاد ونظر – فيجب عليه أن يقبل خبره؛ لأنه خبر ديني فقبل فيه خبر الواحد. وثبت في الصحيحين عن البراء قال: (لما قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة صلى قبل بيت المقدس ستة عشر شهراً أو سبعة عشر شهراً وكان يعجبه أن يتوجه قبل البيت، وإنه صلى أول صلاة صلاها صلاة العصر فصلى معه رجال، فخرج رجل منهم فمر على أهل مسجد وهو راكعون فقال: أشهد بالله لقد صليت مع النبي صلى الله عليه وسلم قبل البيت فداروا كما هم قبل الكعبة) (2) فقبلوا خبر الواحد. أما إذا كان الخبر عن اجتهاد فإنه لا يجوز أن يقبل خبره – وهذا على المجتهد.

_ (1) أخرجه الترمذي، في كتاب الصلاة، باب (139) ما جاء أن ما بين المشرق والمغرب قبلة (342) ، (344) . (2) أخرجه البخاري في كتاب أخبار الآحاد، باب ما جاء في إجازة خبر الواحد الصدوق (7252) ، وفي كتاب الإيمان، باب الصلاة من الإيمان (40) وفي كتاب الصلاة، باب (31) التوجه نحو القبلة حيث كان (399) وفي أبواب أخرى، وأخرجه مسلم (525) .

فمن كان عارفاً بأدلة القبلة، فسأل آخر فأخبره باجتهاد فلا يجوز له قبول خبره، بل يجب أن يجتهد لأنه قادر على الاجتهاد، والاجتهاد الأول – أي اجتهاد المخبر – قابل للصواب والخطأ، فلا يجوز له إلا أن يجتهد فينظر وهذا باتفاق أهل العلم وأن المجتهد لا يجوز أن يقبل خبر المجتهد مثله. بخلاف المقلد وهو غير العارف بأدلة القبلة – فإنه إذا لم يمكنه أن يتعلمها ودخل وقت الصلاة وتضايق الوقت فإنه يجوز له تقليد المجتهد. أما إذا كان يمكنه أن يتعلم فيجب عليه أن يتعلم لأن ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب. فإذا دخل وقت الصلاة وأمكنه أن يتعلم ما به يعرف القبلة فيجب عليه ذلك ولا يَقبل الاجتهاد. أما إذا كان غير بصير ونحوه ممن لا يمكنه أن يتعرف على القبلة ويصل إليها فإنه يجوز له أن يقلد غيره. (أو وجد محاريب إسلامية) فإنه يصلي إليها ولا يجتهد لأنها – في الحقيقة – تجري مجرى الخبر بل أولى منه فإن وضعها عند هؤلاء المسلمين واستمرارها بعد ذلك تقطع بثبوت صحة اتجاهها إلى القبلة وإن كانت منحرفة يسيراً فهذا لا يؤثر كما تقدم. ولا يجوز له الاجتهاد في هذه الحالة. قال: (ويستدل عليها في السفر بالقطب والشمس والقمر ومنازلهما) القطب: هو ما يكون في ناحية الشمال، فمن كان في مثل بلدنا هذه يتوجه إلى الجهة المغايرة له، فيكون في ظهره. فهذه أساليب وطرق الاجتهاد، ومثل ذلك " البوصلة ". إذن يبحث ويتحرى جهة القبلة سواء كان ذلك بالشمس والقمر ومنازلهما، أو بالرياح واتجاهاتها، أو كان ذلك بالنجوم، المقصود من ذلك أن يجتهد وينظر ويتجه إلى القبلة بعد ذلك. قال: (وإن اجتهد مجتهدان فاختلفا جهة لم يتبع أحدهما الآخر) لأن كلاً منهما مجتهد والواجب على المجتهد أن يعمل بما تبين له، وهو يعتقد صواب نفسه وخطأ غيره.

فإن صلى إلى الجهة الأخرى مقلداً فلا تصح صلاته، لأنه صلى إلى ما يعتقد أنه غير القبلة، فهو يعتقد أن القبلة في الناحية الأخرى – وهو من أهل الاجتهاد -، لأنه توجه إلى غير القبلة في اعتقاده. لكن هل يقتدي أحدهما بالآخر أم لا؟ قولان لأهل العلم: 1- القول الأول وهو مذهب الشافعية وهو المشهور في المذهب: أنه لا يجوز أن يأتم أحدهما بالآخر. قالوا: لأنه يعتقد خطأ اتجاهه، وحيث كان يعتقد خطأ اتجاهه فلا يجوز أن يصلي خلفه. 2- وقياس المذهب كما قال ذلك الموفق: أن الصلاة صحيحة. وهذا هو الظاهر. فالراجح أن الصلاة صحيحة إذا ائتم بعضهم ببعض؛ لأن كلاً منهما يعتقد صحة صلاة الآخر. وهذا كصلاة من يعتقد النقض بنقض [من] (1) نواقض الوضوء خلف من لا يعتقد ذلك فإنه يعتقد خطأه في هذه المسألة ولكنه يعتقد صحة صلاته – وفي هذه المسألة كذلك، وحيث اعتقد خطأه في اتجاهه لا يبرر ذلك عدم ائتمامه. فالراجح: ما رجحه الموفق وقال إنه قياس المذهب من أن الائتمام صحيح؛ لأن كلا منهما يعتقد صحة صلاة الآخر. قال: (ويتبع المقلد أوثقهما عنده) ظاهره وجوباً وهذا هو المشهور في المذهب. والقول الثاني في المذهب: أن ذلك ليس على هيئة الوجوب بل الأولى له أن يقلد الأوثق وليس ذلك واجباً عليه. حجة أهل القول الأول: قالوا: إن هذا هو الأقرب للصواب، فلما كان الأقرب للصواب وجب التزامه. وحجة أهل القول الثاني: أن كليهما دليل بمفرده يجوز أن يقلد لو لم يعارض، وحيث كانا كذلك فهما كالمجتهدين في المسائل الشرعية لا يجب على المقلد أن يقلد أوثقهما ولا أورعهما؛ لأن الله لم يوجب ذلك، بل أوجب عليه أن يسأل أهل العلم ولم يوجب عليه أن يسأل أعلمهما أو أوثقهما أو أورعهما، وللمسلم أن يقلد من العلماء خلاف الأوثق ما لم يكن ذلك عن هوى وشهوة لعموم قوله تعالى: {فاسألوا أهل الذكر} (2) وهذه كتلك.

_ (1) ليست في الأصل. (2) سورة الأنبياء 7.

وكون أحدهما أوثق لا يكون ملزماً بتقليده بل يدل على أن الأولى هو تقليده – وهذا هو اختيار الموفق وهو القول الظاهر في هذه المسألة – وأنه لو اختلف مجتهدان أحدهما أوثق من الآخر فكما لو اختلف عالمان أحدهما أوثق فلا يجب على المقلد أن يقلد الأوثق أو الأعلم بل يجوز أن يقلد أحدهما لعموم قوله تعالى: {فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون} قال: (ومن صلى بغير اجتهاد ولا تقليد قضى إن وجد من يقلده) إذا صلى بغير اجتهاد وهو يمكنه الاجتهاد، أو صلى بغير تقليد وهو واجد لمن يقلده، فيجب عليه أن يعيد الصلاة، لأنه قد ترك فرضه. فمن هو من أهل الاجتهاد وصلى بلا اجتهاد أو هو من أهل التقليد فلم يكن منه ذلك – فلم يكن منهم فعل ما فرض الله عليهم من الاجتهاد أو التقليد فالواجب عليهم: أن يعيدوا الصلاة وإن أصابوا القبلة، لأنهم تركوا الفرض مع الاستطاعة، فإن الفرض هو التوجه إلى القبلة عن علم إما بتقليد عالم حيث لا يمكن الاجتهاد أو باجتهاد ونظر أو بخبر (1) متيقن – والحالة هنا ليست على هذه الصور فكان الواجب عليهم أن يعيدوا الصلاة. فإذن: من صلى إلى غير القبلة أو إلى القبلة بغير اجتهاد وهو قادر عليه أو هو من أهل التقليد وهو قادر عليه ومع ذلك لم يقلد سواء أصاب أم لم يصب فيجب عليهم الإعادة؛ لأنهم تركوا الواجب عليهم والفرض عليهم من وجوب تحري القبلة والصلاة إليها. وهم صلوا على هيئة التخمين والظن غير المشروع مع قدرتهم على الظن الغالب المشروع أو اليقين. أما من صلى باجتهاد أو تقليد ولم يصب القبلة فصلاته صحيحة اتفاقاً، لأنه قد فعل ما أمر به واتقى الله ما استطاع فلم يجب عليه أن يعيد الصلاة مرة أخرى وقد صلاها على الوجه المشروع حيث أمر الله تعالى.

_ (1) في الأصل تكرار بخبر، أو أنها: يخبر بخبر.

ومثل ذلك: المجتهد إذا لم يمكنه الاجتهاد مطلقاً كأن يكون في غيم أو ليلة مظلمة شديدة الظلمة وهي مصحوبة بقتر أو غيم فلم يمكنه أن يجتهد فصلى على حسب حاله فصلاته صحيحة. يدل على هذا: ما ثبت في الترمذي والحديث حسن بشواهده: عن عامر بن ربيعة قال: (كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم في ليلة مظلمة فأشكلت علينا القبلة فصلينا، فلما طلعت الشمس إذا نحن صلينا إلى غير القبلة فنزل قول الله تعالى: {فأينما تولوا فثم وجه الله} (1) أي أقر الله تعالى صلاتهم وقبلها منهم لأنهم قد فعلوا ما أمر الله به وهذه هي استطاعتهم وقدرتهم، فقد اتقوا الله ما استطاعوا فلم يجب عليهم أن يعيدوا الصلاة مرة أخرى. قال: (ويجتهد العارف بأدلة القبلة لكل صلاة ويصلي بالثاني ولا يقضي ما صلى بالأول)

_ (1) سورة البقرة، وقد أخرجه الترمذي في كتاب الصلاة، باب (140) ما جاء في الرجل يصلي لغير القبلة في الغيم (345) قال: " حدثنا محمود بن غيلان، حدثنا وكيع، حدثنا أشعث بن سعيد السَّمَّان عن عاصم بن عبيد الله، عن عبد الله بن عامر بن ربيعة عن أبيه قال: " كنا مع النبي - صلى الله عليه وسلم - في سفر في ليلة مظلمة فلم ندر أين القبلة، فصلى كل رجل منا عل حياله، فلما أصبحنا ذكرنا ذلك للنبي - صلى الله عليه وسلم - فنزل {فأينما تولوا فثم وجه الله} ، قال أبو عيسى: " هذا حديث ليس إسناده بذاك لا نعرفه إلا من حديث أشعث السمان، وأشعث بن سعيد أبو الربيع السمان يُضَعَّف في الحديث. وقد ذهب أكثر أهل العلم إلى هذا قالوا: إذا صلى في الغيم لغير القبلة ثم استبان له بعدما صلى أنه صلى لغير القبلة فإن صلاته جائزة وبه يقول سفيان الثوري وابن المبارك وأحمد وإسحاق " وقد أخرجه أيضا في كتاب تفسير القرآن، باب (2) ومن سورة البقرة (2957) .

فيجب عليه لكل صلاة أن يتحرى وينظر في أدلة القبلة فلو صلى بناءً على اجتهاده في الصلاة الأولى فلا تصح صلاته، بل يجب أن يجدد اجتهاده؛ لأن هذه الواقعة جديدة فيجب الاجتهاد لها. قال في الفروع: " في الأصح ". وحيث قال ذلك: فإنه يدل على أن هناك قول آخر والقول الآخر هو الظاهر، فالظاهر أن ذلك لا يجب؛ لأنه قد اجتهد للصلاة الأولى وظن ظناً غالباً أن هذا هو اتجاه القبلة، والأصل بقاء ما كان على ما كان، إلا أن يتبين له أن اجتهاده كان خاطئاً أو أن شيئاً من النظر والبحث الذي فعله كان على خطأ فحينئذ: يجب عليه أن يجدد الاجتهاد. (ويصلي بالثاني) : أي يصلي بالاجتهاد الثاني ولا يعيد الصلاة الأولى لأنه صلاها عن اجتهاد صحيح وفعل ما أمر به. ومثل ذلك: لو تبين له أثناء الصلاة – كما تقدم في الحديث المتفق عليه – فلو تبين في الصلاة أنه إلى غير القبلة فإنه ينحرف وما تقدم من الصلاة صحيح. * وإذا اجتهد اجتهاداً ثانياً فناقض الاجتهاد الأول، فإن هذا الاجتهاد الثاني لا ينقض الأول للقاعدة الشرعية: " الاجتهاد لا ينقض الاجتهاد " فالاجتهاد لا ينقض باجتهاد مثله وإنما ينقض بنص، فهنا حيث اجتهد ثم رأى اجتهاداً آخر، فإن الاجتهاد الآخر لا ينقض الأول فلا تبطل الصلاة لأنه قد صلاها على ما أمره الله به. لذا قال: (ولا يقضي ما صلى بالأول) لأنه صلاها صلاة شرعية صحيحة باجتهاد صحيح ففعل ما أُمر به واتقى الله ما استطاع فلم يؤمر بإعادة الصلاة مرة أخرى. والحمد لله رب العالمين. الدرس الثامن والستون (يوم الثلاثاء: 9 / 3 / 1415 هـ) قال المؤلف رحمه الله: (ومنها النية)

أي من شروط الصلاة النية، وهي شرط بالإجماع، لحديث: (إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى) (1)

_ (1) أخرجه البخاري في كتاب الإيمان برقم (54) فقال: " حدثنا عبد الله بن مسلمة قال أخبرنا مالك عن يحيى بن سعيد عن محمد بن إبراهيم عن علقمة بن وقاص عن عمر أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: (الأعمال بالنية، ولكل امرئ ما نوى ... ) الحديث. في كتاب بدء الوحي (1) فقال رحمه الله: " حدثنا الحميدي عبد الله بن الزبير، قال حدثنا سفيان، قال حدثنا يحيى بن سعيد الأنصاري، قال أخبرني محمد بن إبراهيم التيمي أنه سمع عَلْقَمَةَ بن وقاص الليثي يقول: سمعت عمر بن الخطاب رضي الله عنه على المنبر قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: (إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى، فمن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها أو إلى امرأة ينكحها فهجرته إلى ما هاجر إليه) . ومسلم في كتاب الإمارة (1907) - شرح النووي المجلد الخامس [13 / 53] – قال: " حدثنا عبد الله بن مسلمة بن قَعْنَب حدثنا مالك عن يحيى بن سعيد عن محمد بن إبراهيم عن علقمة بن وقاص عن عمر بن الخطاب قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (إنما الأعمال بالنية وإنما لامرئ ما نوى، فما كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله، ومن كانت هجرته لدنيا يصيبها أو امرأة يتزوجها فهجرته إلى ما هاجر إليه) . حدثنا محمد بن رُمْح بن المهاجر أخبرنا الليث ح وحدثنا أبو الربيع العَتَكي حدثنا حماد بن زيد ح وحدثنا محمد بن المثنى حدثنا عبد الوهاب يعني الثقفي ح وحدثنا إسحق بن إبراهيم أخبرنا أبو خالد الأحمر سليمان بن حيان ح وحدثنا محمد بن عبد الله بن نمير حدثنا حفص يعني ابن غياث ويزيد بن هارون ح وحدثنا محمد بن العلاء الهَمْدَاني حدثنا ابن المبارك ح وحدثنا ابن أبي عُمر حدثنا سفيان، كلهم عن يحيى بن سعيد بإسناد مالك، ومعنى حديثه وفي حديث سفيان سمعت عمر بن الخطاب على المنبر يُخبر عن النبي - صلى الله عليه وسلم -.

متفق عليه من حديث عمر. وهذا الحديث أصل لمسائل هذا الباب وغيرها من مسائل النيات. فلا يقبل الله عملاً إلا بنية، فالنية تمحض العمل أو تمحضه لله تعالى، والنية أيضاً تميز العبادات بعضها عن بعض، تميز الفريضة عن الفريضة، والفريضة عن النافلة، فالعبادات التي فيها نوع التباس أو بينها اختلاف فالنية تفارق بينها وتميز. فمن صلى بلا نية فصلاته باطلة. وهي شرط في الصلاة كلها لا يستثنى شيء منها. فينوى من تكبيرة الإحرام إلى السلام، فإذا اختل شيء من ذلك عن النية فالصلاة باطلة كما سيأتي. وتقدم أن الفرق بين الركن والشرط، أن الركن جزء العبادة، أما الشرط فهو شامل للعبادة كلها. قال: (فيجب أن ينوي عين صلاة معينة) فينوي صلاة الظهر أو العصر أو الوتر أو راتبة الفجر ونحو ذلك، فينوي الصلاة معينة. فلو أنه صلى أربع ركعات في وقت صلاة الظهر ولم ينو أنها ظهراً فلا يجزئه ذلك. ولو صلى ركعتين قبل صلاة الفجر ولم ينو أنهما ركعتا الفجر لم يجزئه ذلك عنهما. فلابد أن ينوي الصلاة معينة بحيث تتميز عن غيرها لقوله صلى الله عليه وسلم: (وإنما لكل امرئ ما نوى) فيشترط أن يعين الصلاة فرضاً كانت أو نفلاً. - وظاهر هذا أنه لو نوى فريضة الوقت فإنه لا يجزئه. بمعنى: رجل صلى في وقت الظهر ولم ينو ظهراً وإنما نوى أن هذه فريضة وقته. وذهب بعض الشافعية: إلى الإجزاء وهو الظاهر لأنه حيث نوى ذلك فقد نوى ما يجب عليه. فإنه إذا نوى الصلاة الحاضرة، فإنها في الحقيقة هي صلاة الظهر مثلاً، فحيث نوى ذلك فإنه تقع العبادة على ما يجب عليه فقد نوى فريضة الوقت وهي الظهر فيجزئه ذلك. وهذا ما يقع كثيراً حيث أن الصلوات لتكرارها قد يذهل الذهن عن استحضار الصلاة الحاضرة فينوي فريضة الوقت، فإن ذلك على الراجح – يجزئه؛ لأنه قد ميز هذه العبادة عن غيرها من العبادات المماثلة لها، حيث أنها فريضة الوقت وغيرها ليست كذلك.

قال: (ولا يشترط في الفرض والأداء والقضاء والنفل والإعادة نيتهن) فلا يشترط في الفرض أن ينويه، كيف هذا؟ عندما يريد أن يصلي الظهر فلا يشترط أن ينوي أن هذه فريضة بل بمجرد ما ينوي أن هذه الظهر فهذا كاف، فإن كان بالغاً فلا يجب عليه أن ينوي أن هذه فريضته، وإذا كان غير بالغ فلا يجب عليه أن ينوي أن هذه نافلته؛ لأنه بمجرد نيته أنها ظهر اليوم هذا كاف في تمييز هذه العبادة عن غيرها، ولكل امرئ ما نوى، وهذا قد نوى الصلاة الحاضرة سواء كانت على حسب حاله فرضاً أو نفلاً. فلا يجب ذلك لأنهما عير مؤثرين في تمييز العبادة، فهي متميزة من غير ذلك. وكذلك نية الأداء والقضاء. فالأداء هو: القيام بالصلاة في وقتها. وأما القضاء: فهو القيام بها بعد خروج وقتها. فإذا صلى الصلاة في وقتها فلا يجب عليه أن ينويها أداء، وإذا صلاها بعد وقتها فلا يجب عليه أن ينويها قضاءً، لأن هذا غير مؤثر في تمييز العبادة، فالعبادة متميزة من غير نية الأداء ولا نية القضاء. وعليه: فلو أن رجلاً صلى صلاة الفجر يظن الشمس لم تطلع فبان أنها قد طلعت وأن صلاته كانت قضاء وهو قد نواها أداءً. أو رجل يظن أن الشمس قد طلعت فصلاها والشمس لم تطلع في الحقيقة وكان قد نواها قضاء وهي في الحقيقة أداء؛ لأن الوقت باق، فإن هذا لا يؤثر في صلاته بل تكون الصلاة صحيحة فنية القضاء والأداء غير مؤثرة لأن النية قد ميزت هذه العبادة، فنيته أنها صلاة الفجر قد ميزت العبادة ولا فرق بين أن يكون أداءً أو قضاءً. " والإعادة " رجل صلى الصلاة وقد اختل شيء من شروطها فكانت باطلة فوجب عليه أن يعيد الصلاة، فإذا أعاد فلا يجب أن ينوي الإعادة بل يكفي أن ينوي الصلاة الواجبة عليه؛ لأنه بذلك تتميز عبادته، فنيته أنه يصلي الصلاة الواجبة عليه وحيث نوى ذلك فإن العبادة تقبل منه لأنها مميزة بذلك.

والمقصود من النية هو تمييز العبادة وهي هنا مميزة من غير نية الإعادة. مسألة: إذا نوى فائتة من الفوائت في وقت نظيرتها فبان ألا فائتة عليه فهل تجزئه عن فريضة اليوم؟ يعني: رجل صلى قبل أن يصلي المغرب صلى مغرباً على أنها فائتة فبان ألا فائتة عليه، فهل تجزئه هذه الصلاة عن فريضة الوقت أم لا؟ قولان في المذهب: القول الأول: أن الصلاة تجزئه؛ لأنه قد نوى صلاة معينة، وحيث نوى صلاة معينة فإن ذلك يجزئه عن فريضة الوقت وفريضة اليوم. القول الثاني، وهو القول الراجح: أن هذه الفائتة لا تجزئه عن فريضة اليوم، لأن الواجب عليه هو تعين الصلاة الحاضرة ولم ينوها بل قد نوى صلاة فائتة ولكل امرئ ما نوى. فإذن: من نوى فائتة فتذكر ألا فائته عليه وكانت موافقة عن فريضة اليوم فهل تكفي عن فريضة اليوم أم لا؟ قولان: أظهرهما أنها لا تكفي؛ لأن الواجب عليه أن ينوي الصلاة الحاضرة فريضة اليوم بعينها وهو إنما نوى مماثلاً لها وهذا غير كاف، فالواجب عليه هو فريضة اليوم ولم ينو ذلك ولكل امرئ ما نوى. قال: (وينوي مع التحريمة) هذا هو الواجب عليه، فينوي فيكبر أي تكون النية قبيل تكبيرة الإحرام فتكون – حينئذ – النية شاملة للعبادة كلها. وقد تقدم أن الشرط يجب أن يكون شاملاً، وحينئذ تكون النية شاملة لتكبيرة الإحرام. ولكن إن قدمها قبل ذلك بيسير قال هنا: (وله تقديمها عليها بزمن يسير في الوقت) فلو قدم النية على التكبيرة بزمن يسير عرفاً فإن هذه النية تجزئ عنه. - وهنا قول آخر هو رواية عن الإمام أحمد وهو اختيار شيخ الإسلام: أنه ولو كان ذلك زمناً كثيراً ما لم يقطع النية، فما دام أنه مستصحباً للنية لم يقطعها فإن ذلك يجزئ عنه. فإذا خرج من بيته وهو يريد المسجد فخرج قبل الصلاة بزمن كثير فلم يقطع النية فإن الصلاة تصح بهذه النية – وهذا القول هو الراجح –.

وهذا هو الذي يسع الناس، فمتى خرج من بيته إلى المسجد سواء كان قبل الصلاة بزمن يسير عرفاً أو كثير عرفاً ولم ينو قطع النية فإن هذه النية تجزئه، لأن النية ثابتة باقية وقد نواها فلم يقطعها فتكون كافية لصلاته. إذن: لا يشترط الزمن اليسير للنية عرفاً بل لو قدمها قبل الصلاة بزمن كثير عرفاً لكنه لم يقطع هذه النية فإن هذا كاف مع نيته، لأن النية باقية والواجب أن تكون شاملة للصلاة، وقد شملتها لأنه لم يقطع هذه النية، فعدم قبول هذه النية وإبطال الصلاة بمثلها باطل؛ لأن النية باقية فلم يقطعها، وليس ثمت دليل يوجب أن تتقدم بزمن يسير أو تكون مقارنة للتكبير بل متى نوى ولم يقطع فإن ذلك مجزئ. قال: (فإن قطعها في أثناء الصلاة أو تردد بطلت) إن قطعها أثناء الصلاة، كأن يصلي رجل وهو في صلاته قطع النية، أو تردد أي قال: هل أقطع الصلاة أم لا، فهو لم يقطع النية لكنه تردد، وهناك جزم. إذن هنا صورتان. وأصل هذه المسألة: أنه يجب عليه أن يستصحب حكمها، واستصحاب حكمها ألا ينوي قطعها، فإذا نوى قطعها فإن الصلاة تبطل. أما إذا تردد فقولان في المذهب: القول الأول: هو هذا، وأنه متى تردد فإن الصلاة تبطل؛ لأن التردد يخالف الجزم الواجب، والنية يجب أن تكون جازمة، ويجب عليه أن يكون مستديماً للنية، وما دام متردداً فليس بمستديم لها. والقول الثاني في المذهب: أن ذلك ليس بمبطل للصلاة؛ ذلك لأنه قد نوى نية متيقنة واستصحب حكمها وتردد ولم يقطع، فهو لم يقطع ومجرد تردده ليس بقطع، وإن نافى الجزم فإنه لم يبطل النية الجازمة. فإنه قد نوى نية متيقنة جازمة في أول صلاته ثم كان الواجب عليه أن يستصحب حكمها بأن لا ينوى قطعها فهو ما لم ينو القطع فهو مستصحب للحكم، وهذا التردد خارج عن النية، فالنية ما زالت مستصحبة وإنما وقع تردد في قلبه هل يبطل هذه النية أم لا.

بخلاف التردد في أول الصلاة فإنه لم يدخل بنية متيقنة فلا تصح؛ لأن النية غير مجزوم بها. وهذا القول هو الأظهر: وأنه إن تردد تردداً مجرداً عن نية القطع فإن الصلاة تكون صحيحة، ومثل ذلك الصيام وغيره من الأحكام التي يجب أن يكون مستصحباً للنية حكماً بألا ينوي القطع. بخلاف فالو قال: قطعت الصلاة، ثم قال: لا بل أبقى - أي في قلبه -، فإن هذا قطع، فهذا التردد ليس كالسابق، بل هذا قطع، فإذا فعل مثل ذلك فهذا باطل وليس هو المقصود فيما تقدم. قال: (وإن شك فيها استأنفها) رجل في أثناء الصلاة [شك] (1) هل نوى أم لا؟ فحينئذ يجب عليه أن يعيد الصلاة فينوى ويكبر، لأنه وهو في أثناء الصلاة قد شك في نيته والأصل عدم النية، ولما وجد الشك ثبت لنا الحكم بأنه لا نية له؛ لأن الأصل هو عدم النية وحيث شك فإنا نعود إلى الأصل، هذا ما لم تكثر الشكوك والوسوسة في الصلاة. فإن كثرت الشكوك والوسوسة فإنه حينئذ: لا يحكم له بذلك، لأن الأصل هو بقاء النية لا عدمها. فإن شك بعد الصلاة فلا يؤثر ذلك إجماعاً؛ لأن الصلاة قد ثبتت صحيحة فلا يؤثر فيها الشك، واليقين لا يزول بالشك، فإن الأصل هو ثبوتها وصحتها ما لم يثبت مبطل لها، وهذا المبطل مشكوك فيه فنبقى على الأصل من صحة الصلاة وهذا بالإجماع. إذا شك في نيته في أثناء الصلاة ثم تذكر أثناء الصلاة أنه قد نوى الصلاة؟ فهذا لا يؤثر في صلاته بل يتمها، لأنه لم ينو قطعها، والنية ثابتة وحكمها مستصحب لكنه شك في ثبوتها، فمثل هذا لا يؤثر في النية، لأنه لا يجب أن تكون النية متذكرة في الذهن، وإنما الواجب ألا يكون قد نوى قطعها. فإذا غابت عن ذهنه فأداه ذلك إلى الشك فتذكرها بعد شكه قبل أن ينوى القطع فإن ذلك لا يؤثر فيها. قال: (وإن قلب منفرد فرضه نفلاً في وقته المتسع جاز)

_ (1) ليست في الأصل.

" منفرد ": ومثله المصلي مطلقاً ولعل هذا للتمثيل، فإن في عبارة بعضهم " مصل " أي سواء كان هذا المصلي إماماً أو مأموماً أو منفرداً، وإنما نص على المنفرد؛ لأنه في الغالب هو الذي يحتاج إلى قلبها لأنه قد تحضر جماعة فيحتاج إلى أن ينقطع من صلاته هذه ويدخل مع الجماعة فيؤديها جماعة. ولئلا يبطل عمله، فإنه يقلب فريضته هذه إلى نفل. والظاهر أن مرادهم: نفل مطلق لتعليلهم، فإنهم قالوا في تعليلهم هذه المسألة: بأن نيته الأولى شاملة للنفل فهي نية فريضة لكنها شاملة للنفل أيضاً حيث أنه إذا صلى الفريضة فإنه ينوي أنها صلاة وأنها صلاة فرض أو أنها ظهر فيقوم مقام النية أنها فرض. فالذي يصلي الفريضة يجتمع في نيته شيئان أنها صلاة وأنها فرض. فإذا ألغى الفريضة وقطعها بقى أصل الصلاة له، وهذا هو المشهور في المذهب، وأن من نوى قلب فريضته نفلاً - والظاهر أنه نفل مطلق لإطلاقاتهم ولتعليلهم، لأن النفل المقيد ليس بصلاة فقط بل هو صلاة مقيدة، فكما أن الفريضة صلاة مقيدة بكونها فرض، فالنفل المقيد صلاة مقيدة بكونها مثلاً راتبة ظهر ونحو ذلك، فهي صلاة مقيدة فلم يتضمنها نية الفريضة. إذن: المشهور في المذهب أن من قلب فريضة إلى نفل - والظاهر أنه مطلق - فإن ذلك يصح منه. - والقول الثاني في المذهب وهو وجه عند الشافعية: أنه لا يجزئه ذلك؛ لأن الواجب في العبادة فرضاً كانت أو نفلاً أن تكون النية من أولها إلى آخرها وهنا لم ينو من أولها. ولكن هذا القول مع قوته هو ظاهر حيث كان التنفل مقيداً. أما إذا كان مطلقاً فإن نية الفريضة شاملة لنية النفل، فإنه إذا كبر بنية الفريضة فإن هذا شامل لكونها صلاة ولكونها فريضة، فإذا نوى النفل إلى مطلق الصلاة فإنه يبقى على النية الأولى.

ومع ذلك في القول الثاني قوة فينبغي التريث في مثل هذه المسألة من نقل الفريضة إلى نافلة، وأن يتم صلاته فريضة على هيئتها، فإن هذه النية وإن كانت متضمنة لكونها صلاة، لكنها هنا صلاة مطلقة وهناك صلاة بقيد أنها فريضة، وفرق بين نية الفريضة ونية النافلة. والعلم عند الله تعالى. قال: (وإن انتقل بنية من فرض إلى فرض بطلا) كأن ينوي الانتقال من فريضة العصر إلى فريضة الظهر فلا يجزئ ذلك؛ وذلك لأن النية يجب أن تكون شاملة لأول الصلاة وآخرها وهو قد قلبها في آخر الصلاة فلم تكن شاملة لأول الصلاة كما شملت آخرها، والواجب فيها أن تكون شاملة لأولها وآخرها. فلم تصح الثانية؛ لأن الواجب في الصلاة أن تكون نية الظهر من أول الصلاة إلى آخرها، وهو لم ينوها ظهراً إلا آخر الصلاة. وكذلك الأولى لا تصح؛ لأنه أبطلها بقطعها لذا قال " بطلا " أما الفرض الأول فإنه بطل لأنه قطعه. وأما الثانية فإنها بطلت؛ لأن النية فيها لم تكن شاملة لها من أولها. والأولى ألا يُعبَّر لها بالبطلان لأنها لم تنعقد أصلاً، فهذه الصلاة لم تنعقد أصلاً حتى يحكم لها بالبطلان، ولكن لعل هذا من باب التغليب مع الحكم على الفريضة الأولى. والحمد لله رب العالمين. الدرس التاسع والستون (يوم الأربعاء: 10 / 3 / 1415 هـ) قال المؤلف رحمه الله: (وتجب نية الإمامة والمأموم (1)) فشرط في صحة الصلاة نية الإمام والمأموم سواء كانت الجماعة فرضاً كالفرائض الخمس أو نفلاً كصلاة التراويح ونحو ذلك. فيجب ويشترط أن ينوي المأموم الائتمام والاقتداء، وأن ينوي الإمام الإمامة – هذا هو المشهور في المذهب. وعليه: إن لم تثبت النية فالصلاة باطلة. - والقول الثاني في المذهب: أن الصلاة صحيحة فراداً، فلا يكون لهم أجر الجماعة، ويأثمون على أنهم صلوا فرادى.

_ (1) وفي نسخة للزاد: " والائتمام " بدل: " المأموم "

فعلى ذلك تكون هذه النية شرط في صحة الجماعة فتصح الصلاة دون الجماعة. وحجة ما ذهب إليه أهل القول الأول: ما يترتب على الجماعة من الأحكام فيترتب عليها ترك سجود السهو للمأموم، ووجوب المتابعة وسقوط الفاتحة – على المذهب – على المأموم، فلما كان ذلك كانت شرطاً في صحة الصلاة، فحيث لم ينو الإمامة أو الائتمام فالصلاة باطلة. والقول الراجح هو القول الثاني في المذهب وهو مذهب الشافعية، فالراجح أن نية الإمام والمأموم شرط في صحة صلاة الجماعة، فتصح الصلاة؛ لأنها قد توفرت فيها أركانها وواجباتها وإنما يترتب عليها ما ذكروه من الأحكام المتقدمة حيث شرع في النية، فإذا دخل المأموم بنية الائتمام فترتب عليه تلك الأحكام وحيث لم ينو ذلك فإن الأحكام لا يثبت فيها شيء من ذلك، فهي إنما ثبتت حيث تعلقت صلاتهما ببعضهما وذلك إنما يكون بالنية وحيث لا نية فلا ارتباط ولا تعلق – وحينئذ تثبت لهم فرادى. وإنما لم نقل ببطلان الصلاة لأنها قد ثبتت على الوجه الشرعي الذي يطالب به المكلف. ويجب عليه أن يصليها جماعة بنية الجماعة والائتمام، وحيث لم يفعل ذلك فإنها تصح لكنها تصح على أنهم فرادى لا على أنهم جماعة. فعلى ذلك: لو دخل في الصفوف ولم ينو الائتمام بل نوى أن يصلي فرداً وإن كان ظاهر صلاته المتابعة فإن صلاته تصح. قال: (وإن نوى المنفرد الائتمام لم تصح كنية إمامته فرضاً) هنا ثلاث مسائل: المسألة الأولى: أن ينوي الإمامة وقد كان منفرداً وكان ذلك في نفل – كالتراويح –. المسألة الثانية: أن ينوي الإمامة في الفرض. مثال: رجل منفرد يصلي صلاة الظهر فدخل معه أحد أثناء الصلاة، فهل يقلب نيته إلى إمام بعد أن كان ناوياً الانفراد أم لا؟ المسألة الثالثة: أن ينوي الائتمام أثناء صلاته منفرداً فرضاً أو نفلاً. مثال: رجل يصلي منفرداً فحضرت جماعة فهل له أن ينوى الائتمام معهم فيصلي جماعة معهم أم لا؟

وإنما جعلت هذه مسألة مع أنه يمكن أن تقسم إلى مسألتين لأن الحكم فيها – على المذهب – واحد. أما المسألة الأولى: - فالمذهب على القول بصحتها، وهي ما إذا نقل صلاته من منفرد إلى إمام أو من مأموم إلى إمام، فالمذهب على القول بصحتها. واستدلوا: بما ثبت في الصحيحين من حديث ابن عباس في بيتوته عند خالته ميمونة وفيه: أنه قال (فقام النبي صلى الله عليه وسلم فصلى، فقمت لما رأيته صنع ذلك فتوضأت من القربة ثم قمت إلى شقه الأيسر) (1) الحديث – فيه أن النبي صلى الله عليه وسلم أقرَّه، والنبي صلى الله عليه وسلم هنا قد نقل نيته من نية الانفراد إلى نية الإمامة. لذا قال هنا المؤلف: (لم تصح كنية إمامته فرضاً) وظاهره أنه إذا نوى الإمامة في الصلاة نفلاً فإنها تصح. أما المسألة الثانية: فهي أن ينقل صلاته إلى صلاة جماعة من منفرد إلى إمام في صلاة فريضة: فالمشهور في المذهب: أن هذه النية لا تصح، لأن هذه النية لم تشمل أول الصلاة. والقول الثاني وهو رواية عن الإمام أحمد وصححه الموفق: أن نية الإمامة تصح هنا قياساً على النفل، والأصل أن ما يثبت نفلاً فهو ثابت فرضاً إلا بدليل يدل على التخصيص، والأعمال بالنيات في الفرائض والنوافل، فهنا لما صحت في النافلة فالأصل أنها تصح في الفريضة إلا أن يدل دليل على ذلك، ولا دليل على تخصيص النافلة في هذا الحكم. وهذا القول الراجح وأنه في الفريضة يجوز له ذلك. أما المسألة الثالثة: فهي في نية الائتمام: - فالمذهب أن ذلك لا يجوز ولا يصح سواء كانت الصلاة فرضاً [أم نفلاً] (2) . مثال: رجل منفرد فنوى الائتمام أثناء الصلاة فلا يصح ذلك سواء كانت الصلاة فرضاً أو نفلاً. والعلة ما تقدم وهي أنه لم ينو الائتمام من أول الصلاة.

_ (1) أخرجه البخاري في كتاب الوضوء، باب التخفيف في الوضوء (138) ، وفي أبواب أخرى، وأخرجه مسلم (763) . (2) ليست في الأصل.

- والقول الثاني في المذهب وهو رواية عن الإمام أحمد: أن هذا الفعل يصح؛ لأنها نقل من الانفراد إلى الجماعة، فأشبهت النقل إلى الإمامة. تقدم أن النقل إلى الإمامة جائز فرضاً ونفلاً والأدلة تدل عليه، فهو نقل من الانفراد إلى الجماعة. وهنا كذلك نقل إلى الجماعة من الانفراد إلى الائتمام، فإذا ثبت جواز نقل المنفرد صلاته إلى إمام ليصلي جماعة، فكذلك نقله صلاته إلى مأموم ليصلي جماعة، لا فرق بينهما. وهذا القول الراجح. فالراجح في هذه المسائل كلها أنه يصح أن ينقل المنفرد صلاته إلى صلاة جماعة سواء كان ذلك بنية الإمامة أو الائتمام وهو قول في المذهب. قال المؤلف: (إن نوى المنفرد الائتمام لم تصح) ظاهره فرضاً ونفلاً، هذا ظاهر الإطلاق. " كنية إمامته فرضاً " وظاهره أنه لو نواها نفلاً فإنه يصح. قال: (وإن انفرد مؤتم بلا عذر بطلت) إذا كان رجل يصلي مأموماً ثم فارق إمامه. هو عندما صلى مأموماً فقد تعلقت صلاته بصلاة إمامه حيث نوى، فهنا فرق بين هذه المسألة، والمسألة السابقة. فالمسألة السابقة: صلى بلا نية الائتمام، أما هنا فقد نوى الاقتداء بالإمام ثم فارق إمامه فما حكم ذلك؟ له حالتان: 1- أن يفارق المأموم لعذر، فالصلاة تصح. والعذر: ما يباح له ترك الجماعة كأن يخشى فوات رفقة أو ضياع مال أو نحو ذلك فيفارق الإمام ويتم صلاته منفرداً. ودليل ذلك: ما ثبت في الصحيحين: أن معاذاً صلى بأصحابه العشاء فافتتح البقرة فتأخر رجل من أصحابه فصلى وحده فقيل له: نافقت يا فلان، فقال: ما نافقت لآتين النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره، فذكر ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فقال: (أفتان أنت يا معاذ) (1) .

_ (1) أخرجه البخاري في كتاب الأدب، باب من لمير إكفار من قال ذلك متأولاً أو جاهلا (6106) ، راجع (700) ، وخرجه مسلم 465.

فهنا طرأ عليه العذر وهو إطالة الإمام وهو في صلاة العشاء وكانوا يعملون بأعمال فيكون ذلك متعباً لهم فيكون في ذلك مشقة وحرجاً ففارقه وأجاز له النبي صلى الله عليه وسلم ولم يأمره بالإعادة. 2- أن يفارقه بلا عذر: فإنها تبطل لأنه فارق الإمام. ومفارقة الإمام ترك لواجب، ومن ترك واجب عمداً بلا عذر فإن الصلاة تبطل، أما إن كان عاجزاً فيسقط عنه، وإن كان ساهياً فيجبره بسجود سهو. قال: (وتبطل صلاة مأموم بصلاة إمامه فلا استخلاف) فيه أن صلاة المأموم تبطل بصلاة الإمام مطلقاً بعذر أو غير عذر؛ لأن صلاة المأموم متعلقة بصلاة الإمام. فنية الائتمام تربط صلاة المأموم بصلاة إمامه فيحمل عنه سجود السهو، ويسقط الفاتحة وهناك أحكام كثيرة تترتب على ذلك فهي مرتبطة بها، وحيث كان ذلك فإنها تبطل ببطلانها، وهنا فلا استخلاف؛ لأن صلاة المأمومين باطلة، والاستخلاف إنما يبنى على الصحة، وحيث كانت باطلة فلا استخلاف. والقول الثاني في المذهب وهو مذهب الشافعية: أن صلاة المأموم لا تبطل بصلاة إمامه، لقوله صلى الله عليه وسلم: (يصلون لكم فإن أصابوا فلكم ولهم وأن أخطؤوا فلكم وعليهم) (1) . ثم إن هذا المأموم قد قام بما يجب عليه من الائتمام وبما يجب عليه من فرائض الصلاة وواجباتها فلا دليل على إبطال صلاته. وعليه: فيتمون صلاتهم فرادى، وللإمام أو لهم أن يستخلفوا خلافاً للمذهب أيضاً. كما ثبت في البخاري: (أن عمر بن الخطاب لما طعن أخذ بيد عبد الرحمن بن عوف فقدمه فأتم بهم الصلاة) (2) فهنا قد استخلف عمر عبد الرحمن بن عوف وكان ذلك بمحضر من الصحابة فلم ينكر ذلك فكان حجة.

_ (1) أخرجه البخاري في كتاب الأذان، باب إذا لم يُتم الإمام وأتم من خلفه (694) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. (2) أخرجه البخاري في كتاب فضائل الصحابة، باب قصة البيعة (3700) ، وراجع (1392) .

وعلى ذلك: فإن المأمومين يتمون صلاتهم إما فرادى، ولهم – كذلك – وهو الأولى أن يستخلفوا، إما بأن يستخلف الإمام من يتم الصلاة، وإما بأن يتقدم أحد منهم فيتم الصلاة بهم – هذا هو القول الراجح في المذهب. فالقول الراجح: أن صلاة المأموم مرتبطة متعلقة بصلاة الإمام، لكن له أن يفارقه حيث كان معذوراً كما تقدم فإنه من المعلوم أن المأموم – وهو الذي دلت عليه السنة – يفارق الإمام حيث كان معذوراً، وهنا هو معذور عن متابعة الإمام، فالإمام قد بطلت صلاته وهو معذور حيث انفرد وفارق وصلى وحده، فكما أنها انقطعت العلاقة بينهما في الصلاة حيث كان معذوراً ففارق إمامه، فهنا أولى. قال: (وإن أحرم إمام الحي بمن أحرم بهم نائبه وعاد النائب مؤتماً صح) يعني: رجل له نائب في المسجد، فصلى النائب فحضر الإمام فتقدم الإمام وتأخر النائب، فكان أن أحرم إمام الحي وهو الإمام الراتب، بمن سبق أن أحرم بهم نائبه، فذلك يصح. فهنا: أتى الإمام الراتب فنوى الإمامة فهذا صلاته لا إشكال فيها لأنه من أول الصلاة قد نوى الإمامة – أي على المذهب لا إشكال في ذلك –. وانتقل الإمام إلى مؤتم، فيتحول النائب من نية الإمامة إلى نية دونها وهي نية الائتمام، والاقتداء لمصلحة راجحة وهي ثبوت صلاة الإمام الراتب. ودليله: ما ثبت في الصحيحين في قصة مرض النبي صلى الله عليه وسلم من حديث عائشة وفيه: (فجاء النبي صلى الله عليه وسلم حتى جلس عن يسار أبي بكر فكان يصلي بالناس جالساً وأبو بكر قائماً يقتدي أبو بكر بصلاة النبي صلى الله عليه وسلم ويقتدي الناس بصلاة أبي بكر) (1) لأنه هو القائم الظاهر لهم. فهذا فعله والأصل عدم خصوصيته وإلحاق غيره به.

_ (1) أخرجه البخاري في كتاب الأذان، باب (47) من قام إلى جنب الإمام لعلة (683) . وأخرجه مسلم (418) مطولا.

فمتى كان إماماً راتباً فتقدم وتأخر النائب، فالصلاة صحيحة؛ لفعل النبي صلى الله عليه وسلم، والأصل هو عدم الخصوصية. والحمد لله رب العالمين. انتهى باب شروط الصلاة. ويليه باب صفة الصلاة.

كتاب الصلاة من باب صفة الصلاة إلى سجود السهو

باب صفة الصلاة الدرس السبعون (يوم السبت: 20 / 3 / 1415 هـ) " صفة الصلاة " أي كيفيتها الواردة عن النبي صلى الله عليه وسلم ويدخل في ذلك الصفة المجزئة والصفة المستحبة. والأصل في هذا الباب ما ثبت في البخاري من حديث مالك ابن الحويرث وفيه – أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (صلوا كما رأيتموني أصلي) (1) ويستحب أن يمشي إلى الصلاة بسكينة ووقار. لما ثبت في الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا سمعتم الإقامة فامشوا وعليكم السكينة والوقار ولا تسرعوا فما أدركتم فصلوا وما فاتكم فأتموا) (2) فهذا الحديث فيه أن المستحب أن يمشي بسكينة ووقار. والسكينة: هي التأني بالحركات وعدم العبث. والوقار: هو أن يكون بسمت حسن من غض للبصر ونحو ذلك، وأكد ذلك بقوله (ولا تسرعوا) فيكره الإسراع إلى الصلاة أو أن يمشي إليها بغير وقار، بل ينبغي أن يتصف بالتأني المنافي للإسراع، والوقار الذي ينبغي أن يتصف به العاقد إلى الصلاة. وهذا الحديث عام في كل حال سواء كان إسراعه يفيده إدراكاً لتكبيرة الإحرام، أو إدراكاً للركعة أو إدراكاً للجماعة، فإنه لا يسرع الإسراع بل المستحب التأني مطلقاً. وقد نص الإمام أحمد على أنه إذا كان يرجو إدراك تكبيرة الإحرام فإنه لا بأس بالإسراع غير القبيح. وذهب بعض أهل العلم: إلى أنه لا بأس بالإسراع إذا كان لإدراك ركعة. وذهب بعضهم: إلى أنه لا بأس بالإسراع إذا كان يدرك الجماعة.

_ (1) أخرجه البخاري في كتاب الأذان، باب الأذان للمسافر إذا كانوا جماعة والإقامة، وكذلك بعرفة وجمع (631) . (2) أخرجه البخاري في كتاب الجمعة، باب المشي إلى الجمعة (908) ، وفي كتاب الأذان، باب قول الرجل فاتتنا الصلاة (635) ، وباب لا يسعى إلى الصلاة وليأت بالسكينة والوقار (636) . وأخرجه مسلم (603) .

والصحيح أنه لا يشرع الإسراع مطلقاً، ودليل هذا ما ورد في رواية مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (فإن أحدكم إذا كان يعمد إلى صلاة فهو في صلاة) (1) فدل ذلك على أن المشي إلى المساجد صلاة، ولا يشرع في هذه الصلاة إلا أن يمشي بسكينة ووقار سواء كان يدرك بإسراعه تكبيرة الإحرام أو لا، وسواء كانت تفوته الجماعة إن لم يسرع أو لا تفوته. فالعلة – من عدم الإسراع - هي أنه في صلاة فلا يشرع له أن يسرع. قال رحمه الله: (يسن القيام عند " قد " من أقامها) أي عند قوله: (قد قامت الصلاة) كما صرح بذلك صاحب المغني وغيره – وهذا إذا كان الإمام في المسجد يراه المأمومون. هذا هو المشهور في المذهب – قالوا: لأن قوله (قد قامت الصلاة) خبر بمعنى الأمر، أي قوموا إليها وانتصبوا قائمين لأدائها، وهذا المشهور في المذهب وهو مروي عن ابن عمر كما في مصنف عبد الرزاق (2) ، وعن أنس كما عند ابن المنذر (3) . والمذهب الثاني: أن المشروع أن يقوم إذا انتهى المقيم من إقامته، وهذا مذهب الشافعية (4) . والقول الثالث، وهو مروي عن طائفة من التابعين كعمر بن عبد العزيز وسالم بن عبد الله بن عمر والزهري: أن المشروع أن يقوم عند أول شروع المقيم بالإقامة.

_ (1) أخرجه مسلم في كتاب المساجد، باب استحباب إتيان الصلاة بوقار وسكينة والنهي عن إتيانها سعيا (602) . (2) أخرجه عبد الرزاق في مصنفه، باب قيام الناس عند الإقامة، برقم (1940) [1 / 506] قال عبد الرزاق: عن إبراهيم بن محمد، عن محمد بن عبيد الله، عن عطية قال: كنا جلوساً عند ابن عمر فلما أخذ المؤذن في الإقامة قمنا، فقال ابن عمر: اجلسوا فإذا قال: قد قامت الصلاة فقوموا ". (4) قال في المنهاج: " ولا يقوم حتى يفرغ المؤذن من الإقامة "، مغني المحتاج [1 / 500] .

وهذه المسألة الباب فيها واسع، ولكن مع ذلك – فيما يظهر – الأولى أن يقوم عند أول شروعه بالإقامة؛ ذلك لعدة أوجه. الوجه الأول: أن هناك إشارات إلى هذه المسألة في بعض الأحاديث الواردة عن النبي صلى الله عليه وسلم، فمن ذلك: ما ثبت في الصحيحين عن أبي هريرة: (أن الصلاة تقام لرسول الله صلى الله عليه وسلم فيأخذ الناس مصافهم قبل أن يقوم النبي صلى الله عليه وسلم مقامه) (1) .

_ (1) أخرجه البخاري في كتاب الأذان، باب (24) هل يخرج من المسجد لعلة (639) ، وباب (25) ، وفي كتاب الغسل، باب (17) إذا ذكر في المسجد أنه جنب، (275) عن أبي هريرة قال: " أقيمت الصلاة وعُدّلت الصفوف قياما، فخرج إلينا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فلما قام في مصلاه، ذكر أنه جنب فقال لنا: (مكانكم) ثم رجع فاغتسل ثم خرج إلينا ورأسه يقطر، فكبّر فصلينا معه "، وأخرجه مسلم (605) .

والنبي صلى الله عليه وسلم كان يأمرهم بعد الإقامة أن يستووا ويعتدلوا، كما وردت الأحاديث في هذا، ومعلوم أنهم لو قاموا عند قوله (قد قامت الصلاة) أو بعد انتهاء الإقامة لما كان ذلك كافياً لأن يسووا صفوفهم قبل أن يقوم النبي صلى الله عليه وسلم مقامه، بل الظاهر أنهم كانوا يقومون عند شروع المؤذن بالإقامة أو عند رؤيتهم الإمام وهو يأتي لإقامة الصلاة، وأن هذا هو الوقت الكافي لأن يأخذوا مصافهم حيث كان يأمر بتسوية الصفوف بعد إقامة الصلاة، فقد ثبت في صحيح البخاري عن أنس قال: (أقيمت الصلاة فأقبل علينا النبي صلى الله عليه وسلم بوجهه وقال: (أقيموا صفوفكم وتراصوا فإني أراكم من وراء ظهري) (1) . فهنا كان النبي صلى الله عليه وسلم يأمرهم بتسوية الصفوف بعد الإقامة، وفي الحديث السابق كانوا يقومون ويسوون الصفوف قبل أن يقوم النبي صلى الله عليه وسلم مقامه، فيبعد أن يكون قيامهم عند انتهائه، وأظهر منه أن يكون ذلك عند قوله (قد قامت الصلاة) .

_ (1) أخرجه البخاري في كتاب الأذان، باب (71) تسوية الصفوف عند الإقامة وبعدها (718) بلفظ (أقيموا صفوفكم فإني أراكم خلف ظهري) ، وفي باب (72) إقبال الإمام على الناس عند تسوية الصفوف (719) بلفظ: أقيمت الصلاة، فأقبل علينا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بوجهه، فقال: (أقيموا صفوفكم وتراصوا فإني أراكم من رواء ظهري) . وأخرجه مسلم (434) .

2- ويقوي هذا - وهو الوجه الثاني -: ما رواه عبد الرزاق في مصنفه إلى الزهري بسند صحيح قال: (كان الناس ساعة يقول المؤذن (الله أكبر، الله أكبر) يقيم الصلاة يقومون فيأتي النبي صلى الله عليه وسلم مقامه ثم تُعدل الصفوف) (1) . الوجه الثالث: أن المعنى الذي ذكره الحنابلة في لفظة (قد قامت الصلاة) ثابت في الإقامة كلها. نعم لفظة (قد قامت الصلاة) هي صريح الإقامة لكن ألفاظها كلها إنما شرعت ليقوم الناس إلى الصلاة، فإنها تسمى إقامة، كما أن النداء صريحه: (حي على الصلاة حي على الفلاح) وكله نداء، فهذه كلها إقامة وإن كان صريحها لفظة (قد قامت الصلاة) . فأقوى الأقوال - مع أن فيه سعة - ما ذهب إليه بعض التابعين: من أن المشروع أن يقوم عند شروع المؤذن بالإقامة. وهذا – كما تقدم – إذا كان الإمام في المسجد أو كان في معنى من هو في المسجد كأن يكون قريباً إلى المسجد فأقام الصلاة له.

_ (1) أخرجه عبد الرزاق في مصنفه، آخر باب قيام الناس عند الإقامة (1942) [1 / 507] قال عبد الرزاق: عن ابن جريج قال: أخبرني ابن شهاب أن الناس كانوا ساعة يقول المؤذن: الله أكبر، الله أكبر، يقيم الصلاة، يقوم الناس إلى الصلاة، فلا يأتي النبي - صلى الله عليه وسلم - مقامه حتى يعدّل الصفوف ".

أما إذا لم يكن الأمر كذلك فأقامها وهم ينتظرون الإمام، والإمام ليس في المسجد ولا قريباً منه، وهذا وإن كان يقل وقوعه في هذه الأزمان، لكن كان يكثر وقوعه للنبي صلى الله عليه وسلم والخلفاء ونحو ذلك، فقد كانت الصلاة تقام قبل حضورهم فيسمعون الإقامة فيأتون إلى المسجد فمثل هذا لا يشرع القيام حتى يروه؛ لما ثبت في الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا أقيمت الصلاة فلا تقوموا حتى تروني) (1) . قال: (وتسوية الصفوف) أي يسن تسوية الصفوف وتسوية الصف بأن يتراص المصلون فيه بأن يلزق منكبه بمنكب صاحبه وكعبه بكعب صاحبه. فقد ثبت في صحيح البخاري عن أنس في الحديث المتقدم الذي فيه: أن النبي صلى الله عليه وسلم أقبل عليهم بوجهه فقال: (أقيموا صفوفكم وتراصوا فإني أراكم من وراء ظهري) (2) قال أنس: فكان الرجل - أي من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم - يلزق منكبه بمنكب صاحبه وقدمه بقدمه ". فهذا الفعل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم والنبي يراهم، فإنه قال: (فإني أراكم من وراء ظهري) فكان يراهم.

_ (1) أخرجه البخاري في كتاب الأذان، باب (23) لا يسعى إلى الصلاة مستعجلا وليقم بالسكينة والوقار (638) عن عبد الله بن أبي قتادة عن أبيه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (إذا أقيمت الصلاة فلا تقوموا حتى تروني وعليكم بالسكينة) ، وفي باب (22) متى يقوم الناس، إذا رأوا الإمام عند الإقامة (637) ، دون قوله (وعليكم بالسكينة) . وأخرجه مسلم (604) . (2) تقدم قريبا.

وفي سنن أبي داود – وأصله في الصحيحين – من حديث النعمان بن بشير: أن النبي صلى الله عليه وسلم أقبل علينا بوجهه فقال: (أقيموا صفوفكم ثلاثاً – ثم قال: لتسون صفوفكم أو ليخالفن الله بين قلوبكم) قال: فكان الرجل يلزق منكبه بمنكب صاحبه وركبته بركبة صاحبه، وكعبه بكعبه) (1) . فالإطلاق المتقدم في رواية البخاري من قول أنس من قوله: (وقدمه بقدمه) هنا قد ثبت التصريح بأن ذلك في الكعب. وهذا ظاهر في أول الصلاة وأن الواجب أو المشروع للمصلين أن يتراصوا في الصف بأن يلزق منكبه بمنكب صاحبه وركبته بركبته وكعبه بكعبه – والأحاديث فيه واضحة –. وأما بعد ذلك فالأظهر – ولم أر لأحد من أهل العلم في هذه المسألة كلام، والأظهر -: أن يكون ذلك من غير مشقة، ومعلوم أن متابعة ذلك في كل ركعة من ركعات الصلاة فيه مشقة بخلاف التراص فإنه لا مشقة فيه. ففي آخر الصلاة لا يبقى ذلك مشروعاً في حقه لثبوت تراص فيما تقدم، ومثل هذا فيه إلحاق مشقة وكلفة. وظاهر قوله (وتسوية الصفوف) أن ذلك مسنون وهذا مذهب جمهور العلماء وحكى إجماعاً. لكن هذا فيه نظر، فقد ذهب شيخ الإسلام ووجَّه ذلك صاحب الفروع وهو مذهب الظاهرية ومذهب الإمام البخاري: أن ذلك واجب والأدلة دالة على ذلك.

_ (1) أخرجه أبو داود في كتاب الصلاة، باب تسوية الصفوف (662) . وهو في البخاري بلفظ: (لتسون صفوفكم أو ليخالفن الله بين وجوهكم) ، كتاب الأذان، باب (71) تسوية الصفوف عند الإقامة وبعدها (717) ، ومسلم (436) .

فقد ثبت في الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لتسون صفوفكم أو ليخالفن الله بين وجوهكم) (1) أي ليلقين الله في قلوبكم العداوة والبغضاء ومثل هذا لا يقال إلا فيما كان محرماً، ويفسره الرواية المتقدمة في أبي داود: (أو ليخالفن الله بين قلوبكم) (2) فهذا يدل على أن تسوية الصفوف واجبة إذا لا يترتب مثل هذه العقوبة إلا على أمر واجب وتركه محرم. فإذا ثبت وجوب ذلك: فمثل ذلك على الراجح – وهو مذهب الظاهرية -: أن ترصَّ الصفوف بعضها ببعض فلا يكون بين الصفوف إلا ما يكفي المصلين لإقامة ركوعهم وسجودهم، فيجب أن تكون قد اتصل بعضها ببعض ولا يكون بين كل صف وصف مسافة زائدة على ما يحتاج إليه المصلي لإقامة ركوعه وسجوده. يدل على ذلك: ما ثبت في أبي داود أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (رصوا صفوفكم وقاربوا بينها وحاذوا بالأعناق والذي نفسي بيده إني لأرى الشيطان يتخلل بين الصفوف كأنها الحذف) (3) وهي صغار المعز. ففيه الأمر بأن تقارب الصفوف بعضها إلى بعض لقوله: (وقاربوا) . وذلك – أي ما يكفي المصلي لركوعه وسجوده ذلك - بنحو ثلاثة أذرع. وقد وردت أحاديث تدل على وجوب تسوية الصفوف:

_ (1) تقدم قريبا. (2) أخرجه أبو داود في كتاب الصلاة، باب تسوية الصفوف (662) . (3) أخرجه أبو داود في كتاب الصلاة، باب (94) تسوية الصفوف (667) قال: " حدثنا مسلم بن إبراهيم، حدثنا أبن، عن قتادة، عن أنس بن مالك عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: (رصوا صفوفكم وقاربوا بينها، وحاذوا بالأعناق، فالوالذي نفسي بيده إني لأرى الشيطان يدخل من خلل الصف كأنها الحَذَف) .

فمن ذلك: ما ثبت في أبي داود أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أقيموا صفوفكم وحاذوا بين الأعناق وسددوا الخلل ولينوا بأيدي إخوانكم " أي لتسوية الصفوف " ولا تذروا فرجات للشيطان ومن وصل صفاً وصله الله ومن قطع صفاً قطعه الله) (1) فقوله (قطعه الله) ، ظاهر ذلك الإثم وأن من قطع شيئاً من الصفوف بأن جعل بينها خللاً فإنه يقطعه الله، ومثل هذه العقوبة لا تكون إلا على فعل أمر محرم.

_ (1) أخرجه أبو داود في كتاب الصلاة، باب (94) تسوية الصفوف، (666) قال: " حدثنا عيسى بن إبراهيم الغافقي، حدثنا ابن وهب ح، وحدثنا قتيبة بن سعيد، حدثنا الليث، وحديث ابن وهب أتم، عن معاوية بن صالح، عن أبي الزاهرية، عن كثير بن مرة، عن عبد الله بن عمر قال قتيبة: عن أبي الزاهرية، عن أبي شجرة، لم يذكر ابن عمر أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: (أقيموا الصفوف، وحاذوا بين المناكب، وسدوا الخلل، ولِينوا بأيدي إخوانكم) ولم يقل عيسى: " بأيدي إخوانكم " (ولا تذروا فرجات للشيطان، ومن وصل صفا وصله الله، ومن قطع صفا قطعه الله) قال أبو داود: أبو شجرة كثير بن مرة، قال أبو داود: ومعنى " لينوا بأيدي إخوانكم " إذا جاء رجل إلى الصف فذهب يدخل فيه فينبغي أن يلين له كل رجل منكبيه حتى يدخل في الصف "، وأخرجه النسائي مختصراً ومتصلاً حديث 820، سنن أبي داود [1 / 431] .

وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يبالغ في تسوية الصفوف حتى كان يقومها كالقِدْح. كما ثبت هذا في أبي داود عن النعمان بن بشير قال: (كان النبي صلى الله عليه وسلم يسوينا في الصلاة كما يقوم القدْح) (1) وهو خشبة الرمح أي كما تنحت خشبة الرمح وتسوى وتقوم بحيث تكون في غاية الاعتدال لا اعوجاج فيها ولا ميل. وثبت في سنن أبي داود عن أنس بن مالك بإسناد صحيح قال: (كان النبي صلى الله عليه وسلم يتخلل بين الصفوف من ناحية إلى ناحية يمسح على صدورنا ومناكبنا ويقول لا تختلفوا فتختلف قلوبكم ثم يقول " إن الله وملائكته يصلون على الصفوف المقدمة) (2) مسائل في تسوية الصفوف:

_ (1) أخرجه أبو داود في كتاب الصلاة، باب تسوية الصفوف (663) قال: " حدثنا موسى بن إسماعيل، حدثنا حماد، عن سماك بن حرب قال: سمعت النعمان بن بشير يقول: كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يُسوِّينا في الصفوف كما يقوَّم القدح حتى.. " (2) أخرجه أبو داود من حديث البراء في كتاب الصلاة، باب تسوية الصفوف (664) قال: " حدثنا هناد بن السري، وأبو عاصم بن جواس الحنفي، عن أبي الأحوص، عن منصور، عن طلحة اليامي، عن عبد الرحمن بن عوْسجة عن البراء بن عازب قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يتخلل الصف من ناحية إلى ناحية يمسح صدورنا ومناكبنا ويقول: (لا تختلفوا فتختلف قلوبكم) وكان يقول: (إن الله وملائكته يصلون على الصفوف الأُوَل) ، وأخره النسائي حديث 812، سنن أبي داود [1 / 432] .

منها: أن أفضل الصفوف الصفوف المتقدمة وخير صفوف الرجال أولها وشرها آخرها، وشر صفوف النساء أولها وأفضلها آخرها، كما ثبت هذا في مسلم عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (خير صفوف الرجال أولها وشرها آخرها وخير صفوف النساء آخرها وشرها أولها) (1) وذلك للقرب من الرجال. فالأفضل الصفوف المقدمة للرجال، والمتأخرة للنساء. والأفضل الصفوف التي تقع في ميمنة المسجد؛ لما ثبت في سنن أبي داود والنسائي وغيرهما عن البراء قال: (كنا إذا صلينا وراء النبي صلى الله عليه وسلم أحببنا أن نكون عن يمينه فيقبل علينا بوجهه فسمعته يقول: (ربنا قنا عذابك يوم تبعث عبادك) (2) .

_ (1) أخرجه مسلم في كتاب الصلاة، باب (28) تسوية الصفوف وإقامتها وفضل الأول فالأول منها، والازدحام على الصف (440) (2) أخرجه مسلم في كتاب صلاة المسافرين وقصرها، باب استحباب يمين الإمام (709) عن البراء قال: كنا إذا صلينا خلف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أحببنا أن نكون عن يمينه، يُقبل علينا بوجهه، قال: فسمعته يقول: رب قني عذابك يوم تبعث - أو تجمع - عبادك) ، والبيهقي [2 / 259] رقم (3000) . وأخرجه أبو داود في كتاب الصلاة، باب الإمام ينحرف بعد التسليم (615) مختصراً، أي دون قوله " رب قني عذابك.. " وكذا أخرجه النسائي 823، وابن ماجه 1006.

وأما ما رواه أبو داود أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن الله وملائكته يصلون على ميامن الصفوف) (1) فالحديث وإن كان إسناده حسن لكنه معلول فهو شاذ، وقد رواه الثقات كما في المسند وسنن ابن ماجه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إن الله وملائكته يصلون على الذين يصلون الصفوف) (2) هذا هو اللفظ المحفوظ كما قرر هذا البيهقي (3)

_ (1) أخرجه أبو داود في كتاب الصلاة، باب (96) من يستحب أن يلي الإمام في الصف وكراهية التأخر (676) قال: " حدثنا عثمان بن أبي شيبة، حدثنا معاوية بن هشام، حدثنا سفيان، عن أسامة بن زيد، عن عثمان بن عروة، عن عروة عن عائشة قالت: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (إن الله وملائكته يصلون على ميامن الصفوف) ، وأخرجه ابن ماجه (1005) في باب (55) فضل ميمنة الصف من كتاب إقامة الصلاة، سنن أبي داود [1 / 437] . (2) أخرجه ابن ماجه في كتاب إقامة الصلاة، باب (50) إقامة الصفوف (995) قال: " حدثنا هشام بن عمار، حدثنا إسماعيل بن عياش، حدثنا هشام بن عروة عن أبيه، عن عائشة قالت:قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (إن الله وملائكته يصلون على الذين يصلون الصفوف، ومن سد فرجة رفعه الله بها درجة) . قال البوصيري: " هذا إسناد فيه إسماعيل بن عياش، وهو من روايته عن الحجازيين، وهي ضعيفة. رواه الإمام أحمد في مسنده، وابن خزيمة وابن حبان في صحيحه والحاكم، وقال: صحيح على شرط مسلم، وروى أبو داود شطره الأول من حديث البراء بن عازب، وله شاهد من حديث النعمان بن بشير، رواه مسلم والترمذي في الجامع، وقال: حسن صحيح، قال: وفي الباب عن جابر بن سمرة، والبراء بن عازب، وجابر بن عبد الله، وأنس، وأبي هريرة وعائشة ". من زيادات طبعة بيت الأفكار على سنن ابن ماجه. صحيح الجامع (1843) . (3) السنن الكبرى للبيهقي [3 / 149] ، كتاب الصلاة، باب 721 ما جاء في فضل ميمنة الصف (5199) .

وغيره، وأما لفظة (على ميامن الصفوف) فهي خطأ من بعض الرواة، فعلى ذلك الحديث ضعيف. وأما ما ورد في ابن ماجه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من عمر ميسرة المسجد كان له كفلان من الأجر) (1) فالحديث فيه ليث بن أبي سليم وهو ضعيف فلا يثبت. فميمنة المسجد أفضل من ميسرته. ولكن هل من بَعُد وهو عن يمين الصف أفضل ممن قرب وهو عن يساره؟ قال صاحب الفروع: " ويتوجه أن بُعد يمينه ليس بأفضل من قرب يساره قال: ولعله مرادهم " أي مراد الحنابلة. أي: أن ذكرهم تفضيل الميمنة على الميسرة ليس عاماً بل يكون حيث استويا أو كانا متقاربين في القرب من الإمام. أما إذا كان صاحب الميسرة هو القريب من الإمام وصاحب الميمنة بعيد فهذا لا يدخل في مرادهم فهذا له فضيلة القرب وهذا له فضيلة الميمنة. ولم يصرّح بتفضيل الميسرة حينئذ، بل ذكر أن الميمنة – حينئذ – لا تكون أفضل من الميسرة فيحتمل أن تكون مثلها في الفضيلة أو أفضل منها. والأظهر التفصيل في هذا: فإن كان قريباً إلى الإمام بحيث يكون ممن يلي الإمام فهو أفضل، وإن كان في ميسرة المسجد ممن كان بعيداً في الميمنة لقوله صلى الله عليه وسلم: (ليَلَنِي منكم أولو الأحلام والنهى) (2) رواه مسلم، وهو شامل لمن كان والياً له عن يمينه وعن شماله.

_ (1) أخرجه ابن ماجه في كتاب إقامة الصلاة، باب (55) فضل ميمنة الصف (1007) بلفظ: " عن ابن عمر قال: قيل للنبي - صلى الله عليه وسلم -: إن ميسرة المسجد تعطلت، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: (من عمر ميسرة المسجد كتب له كفلان من الأجر) . قال البوصيري: " هذا إسناد ضعيف ضعف ليث بن أبي سليم ". (2) أخرجه مسلم في كتاب الصلاة، باب (28) تسوية الصفوف وإقامتها.. (423) عن أبي مسعود، وعن ابن مسعود. صحيح مسلم بشرح النووي المجلد الثاني [4 / 154، 155] .

وأما إن لم يكن ممن يلي الإمام فالأظهر التساوي فهذا قد فضل بالقرب وهذا قد فضل بالميمنة، فكل منهما فضيلته فحينئذ: لا يجزم بتفضيل أحدهما على الآخر. والمسألة الثانية: صفة إقبال الإمام على المأمومين لتسوية الصفوف؟ ظاهر الأحاديث الصحيحة أنه يقبل عليهم بوجهه، فمن ذلك ما تقدم من حديث أنس قال: (أقيمت الصلاة فأقبل علينا صلى الله عليه وسلم بوجهه) (1) رواه البخاري، وما تقدم من حديث النعمان بن بشير في أبي داود وفيه: (أقبل علينا النبي صلى الله عليه وسلم بوجهه) (2) . وأما ما رواه أبو داود: أن النبي صلى الله عليه وسلم: (أخذ عن يمينه فقال: (سووا صفوفكم واعتدلوا ثم أخذ عن يساره فقال: سووا صفوفكم واعتدلوا) (3) فهو حديث ضعيف فيه مصعب بن ثابت الزبيري وهو ضعيف، فلا يكون معارضاً للأحاديث المصرحة في أن النبي صلى الله عليه وسلم يقبل على الناس بوجهه. فعلى ذلك الأظهر أنه يقبل على الناس بوجهه. إذن: في مسألة تسوية الصفوف أربعة مسائل: المسألة الأولى: في كيفية ذلك: وأن المشروع فيه أن يلزق كعبه بكعبه وركبته بركبته ومنكبه بمنكبه فلا يكون التساوي بأطراف الأصابع كما يفعله كثير من الناس هذا أمر ليس بمشروع، فإن الناس يتفاوتون في ذلك فلا يتم حينئذ التساوي. والثانية: في حكم ذلك وأن الراجح فرضية ذلك ووجوبه. ومثل ذلك: أن يرص الصفوف بعضها ببعض.

_ (1) تقدم قريباً. (2) أخرجه أبو داود في كتاب الصلاة، باب تسوية الصفوف (662) . (3) أخرجه أبو داود في كتاب الصلاة، باب (94) تسوية الصفوف، (670) قال: " حدثنا مسدد، حدثنا حميد بن الأسود، حدثنا مصعب بن ثابت، عن محمد بن مسلم، عن أنس بهذا الحديث، قال: إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان إذا قام إلى الصلاة أخذ بيمينه ثم التفت فقال: (اعتدلوا سووا صفوفكم) ثم أخذه بيساره فقال: (اعتدلوا، سووا صفوفكم) .

والثالثة: في تفضيل صفوف الرجال المتقدمة على صفوفهم المتأخرة والعكس للنساء. وهذه المسألة ظاهرة في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، وأما في الأزمان المتأخرة، حيث وضعت الجدر بين الرجال والنساء وأصبح عازل كامل بين الرجال والنساء، بخلاف المساجد كالحرمين أو نحوها أو عازل خفيف فإن الحكم يبقى –. أما إذا كان هناك عازل قوي قد فصل الرجال عن النساء، فيبقى القول بأن الصفوف المقدمة للنساء أفضل من الصفوف المتأخرة لزوال العلة؛ ولأن النساء شقائق الرجال كما في مسند أحمد (1) . فالأصل أن أحكام الرجال كأحكام النساء، والعلة التي جعلت صفوف النساء المتقدمة مفضولة عن الصفوف المتأخرة علة قد ذهبت وزالت حيث وجدت الجدر العازلة أو كانت النساء يصلين جماعة وحدهن. ثبت في مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ألا تصفون كما تصف الملائكة عند ربهم قالوا: وكيف تصف الملائكة عند ربهم؟ فقال: يتمون الصفوف المقدمة ويتراصون في الصف) (2) الرابعة: في تفضيل ميامن الصفوف على مياسرها وأن الأفضل أن يصلي في ميمن الصف. مسألة: هل يشرع أن يكون الإمام وسط المأمومين؟ الحديث الوارد في هذا: (وسطوا الإمام وسدوا الخلل) (3) فالحديث ضعيف فيه مجهولان.

_ (1) أخرجه الإمام أحمد في المسند برقم (24999) ، باقي مسند الأنصار، باقي المسند السابق، وبرقم (25869) نحوه في مسند أم سليم. انترنت، موقع الإسلام. (2) أخرجه مسلم في كتاب الصلاة، باب (27) الأمر بالسكون في الصلاة والنهي عن الإشارة باليد.. (430) . (3) أخرجه أبو داود في كتاب الصلاة، باب مقام الإمام من الصف (681) قال: " حدثنا جعفر بن مسافر، حدثنا ابن أبي فديك، عن يحيى بن بشير بن خلاد، عن أمه أنها دخلت على محمد بن كعب القرظي فسمعته يقول: حدثني أبو هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (وسِّطوا الإمام وسدوا الخلل) .

فعلى ذلك لا يقال بمشروعية هذا، ولم يثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم ولا عن أحد من أصحابه. نعم في الأصل في المسجد ينبغي أن يكون متوسطاً في المسجد (1) كما هي محاريب المسلمين، وقد تناقله المسلمون خلفاً عن سلف من كون الإمام يكون في المسجد في وسط المسجد، وأما كون هذا في الصفوف بحيث ينهى عن عدم ذلك، فهذا ليس هناك ما يدل عليه. مسألة: إذا استوت الصفوف فهل يشرع أن يقول استووا ونحو ذلك - هذه المسألة في الحقيقة فيها إشكال – والأولى فيما يظهر لي: أن يقول ذلك قبل أن ينظر إلى الصفوف، فإذا أقيمت الصلاة وهم بالاستواء والاعتدال ثم تابع ذلك بالنظر وحينئذ يكون قوله سابق لعدم تبينه استواء الصفوف، وحيث لم نقل بمثل هذا فإن فيه شيئاً من النظر؛ لأن المقصود حاصل، والله أعلم. ولو قيل: يترك ذلك لأنهم عالمون به فحقيقة هو قول قوي، والعلم عند الله. والحمد لله رب العالمين. الدرس الحادي والسبعون (يوم الأحد: 21 / 3 / 1415هـ) قال المؤلف رحمه الله تعالى: (ويقول: الله أكبر)

_ (1) كذا العبارة في الأصل، ولعل الأقرب: الأصل في الإمام …، أو: الأصل في المحراب ….

وهي تحريمة الصلاة كما ثبت عند الخمسة إلا النسائي بإسناد صحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (مفتاح الصلاة الطهور وتحريمها التكبير وتحليلها التسليم) (1) فبه (2) تثبت الحرمة في الصلاة، فلا تنعقد الصلاة إلا بها اتفاقاً. فإن تركها ناسياً أو ساهياً لم تصح صلاته. ولا يصح إلا هذا اللفظ الذي ذكره المؤلف " الله أكبر "، أما لفظة: الله الأكبر أو الله أجل أو أعظم أو غير ذلك من الألفاظ، فإنها لا تجزئ، فلم يثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه افتتح صلاته بغير لفظة " الله أكبر " وقد قال صلى الله عليه وسلم: (صلوا كما رأيتموني أصلي) (3) .

_ (1) أخرجه أحمد في المسند برقم (1006) ، (1072) من حديث علي بن أبي طالب ولفظه (مفتاح الصلاة الطهور، وتحريمها التكبير، وتحليلها التسليم) ، وبرقم (14717) من حديث جابر بن عبد الله بلفظ: (مفتاح الجنة الصلاة، ومفتاح االصلاة الطهور) .، وأبو داود في كتاب الطهارة، باب (31) فرض الوضوء (61) قال: " حدثنا عثمان بن أبي شيبة، حدثنا وكيع، عن سفيان، عن ابن عقيل، عن محمد بن الحنفية، عن علي رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (مفتاح الصلاة..) . وأخرجه الترمذي في كتاب الطهارة، باب ما جاء أن مفتاح الصلاة الطهور (3) . وابن ماجه برقم 275، سنن أبي داود [1 / 49] . (2) الفاء حرف عطف، أي: به تثبت.. ". (3) تقدم.

وحقيقة التكبير الشرعي أن يقول " الله أكبر " فمتى قال غير ذلك من الألفاظ فإنه لا يجزئ، وقد ثبت في الصحيحين في حديث المسيء صلاته أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له: (إذا قمت إلى الصلاة فكبر) (1) ، وفي أبي داود من حديث المسيء صلاته: (إنها لا تتم صلاة أحدكم حتى يسبغ الوضوء كما أمره الله) الحديث وفيه: (ثم يكبر الله عز وجل) (2) . إذن: لا تنعقد الصلاة إلا بالتكبير " الله أكبر ". فإن أتى به على صيغة الاستفهام كأن يقول " آلله أكبر " فلا يجزئه. أو نكسه فلا يجزئه. ولا يجزئه – اتفاقاً – إلا أن يقولها: قائماً في الفريضة، فإن قالها قاعداً أو راكعاً وهو غير عاجز عن القيام فلا يجزئه. قال: (رافعاً يديه … حذو منكبيه) السنة أن يرفع يديه مع تكبيرة الإحرام حذو منكبيه أو حذو فروع أذنيه، فكلاهما ثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم. الصفة الأولى: أن يرفع يديه حذو منكبيه أي يكون الكفان حذو منكبيه. ودليله: ما ثبت في الصحيحين عن ابن عمر قال: (كان النبي صلى الله عليه وسلم يرفع يديه حذو منكبيه إذا افتتح الصلاة، وإذا كبر للركوع وإذا رفع رأسه من الركوع ولا يفعل بين السجدتين) (3) . والصفة الثانية: الرفع إلى حذو الأذن أو فروع الأذنين.

_ (1) أخرجه البخاري في كتاب الأذان، باب (95) وجوب القراءة للإمام والمأموم (757) ، وباب (122) أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - الذي لا يتم ركوعه بالإعادة (793) ، وأخرجه مسلم (397) . (2) أخرجه أبو داود في كتاب الصلاة (858) ، وانظر (857) باب صلاة من لا يقيم صليه في الركوع والسجود. (3) أخرجه البخاري في كتاب الأذان، باب (83) رفع اليدين في التكبيرة الأولى مع الافتتاح سواء (735) ، وباب (84) رفع اليدين إذا كبر وإذا ركع وإذا رفع (736) ، وأخرجه مسلم (390) .

ودليله ما ثبت في مسلم عن مالك بن الحويرث قال: (كان النبي صلى الله عليه وسلم يرفع يديه إذا افتتح الصلاة حذو منكبيه) وفي رواية: (حذو أذنيه) وفي رواية (حذو فروع أذنيه) (1) أي شحمة أذنيه. فيرفع إلى حذو الأذنين أو فروعهما، والأمر واسع فله أن يكون حذو الأذنين مباشرة أو فروعهما. وجمع بعض أهل العلم من المالكية وغيرهم بين هاتين الصفتين. فقالوا: تكون بطون الكفين حذو المنكبين وأطراف الأصابع حذو فروع الأذنين. ويدل عليه ما رواه أبو داود من حديث عبد الجبار بن وائل عن وائل بن حجر وفيه: (أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يرفع يديه حذو منكبيه وإنها حذو فروع أذنيه) (2) لكن الحديث منقطع فيه ابن عبد الجبار بن وائل لم يدرك أباه. والأظهر أنهما ضعيفان، فالحديث ضعيف لا يثبت، فعلى ذلك هما ضعيفان،فأيهما فعل فقد أصاب السنة. والأفضل أن يفعل هذه تارة وهذه تارة. وهل التكبير يكون سابقاً للرفع أو الرفع سابق للتكبير أو يكونا معاً؟ المشهور في المذهب: أنه يرفع يديه مع شروعه بالتكبير، فيبدأ برفع يديه مع شروعه بالتكبير. فإذا انتهى التكبير يكون قد رفع يديه ثم يحطهما.

_ (1) أخرجه مسلم في كتاب الصلاة، باب (9) استحباب رفع اليدين حذو المنكبين مع تكبيرة الإحرام.. (391) بلفظ " حتى يحاذي بهما أذنيه " وفي رواية: " حتى يحاذي بهما فروع أذنيه ". (2) أخرجه أبو داود في كتاب الصلاة، باب (116) رفع اليدين في الصلاة (724) بلفظ: " أنه أبصر النبي - صلى الله عليه وسلم - حين قام إلى الصلاة رفع يديه حتى كانتا بحيال منكبيه، وحاذى بإبهاميه أذنيه، ثم كبر ".

ودليل ذلك: ما ثبت في أبي داود من حديث وائل بن حجر أن النبي صلى الله عليه وسلم: (كان يرفع يديه مع التكبيرة) (1) . وقد وردت السنة بصفتين أخريين: الثانية: أن يرفع ثم يكبر، فيكبر واليدان على ارتفاعهما ثم يحطهما. ودليل ذلك: ما ثبت في مسلم من حديث ابن عمر: (أن النبي صلى الله عليه وسلم قام إلى الصلاة فرفع يديه حتى يكونا حذو منكبيه ثم كبر) (2) ونحوه من حديث أبي حميد الساعدي في أبي داود والترمذي (3) وغيرهما. وفي سنن أبي داود من حديث ابن عمر: (ثم كبر وهما كذلك) (4) أي وهما مرفوعتان. ومما يدل عليها كذلك حديث مالك بن الحويرث – في مسلم – (أنه رأى النبي صلى الله عليه وسلم صلى فرفع يديه ثم كبر) (5)

_ (1) أخرجه أبو داود في كتاب الصلاة، باب (116) رفع اليدين في الصلاة (725) قال: " حدثنا مسدد، حدثنا يزيد - يعني ابن زريع – حدثنا المسعودي، حدثني عبد الجبار بن وائل، حدثني أهل بيتي عن أبي أنه حدثهم أنه رأى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يرفع يديه مع التكبيرة ". (2) أخرجه مسلم في كتاب الصلاة، باب (9) استحباب رفع اليدين حذو المنكبين.. (390) بلفظ: " كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا قام للصلاة رفع يديه حتى تكونا حذو منكبيه، ثم كبر.. " (3) أخرجه أبو داود في كتاب الصلاة، باب (117) افتتاح الصلاة (730) ، والترمذي حديث 260، سنن أبي داود [1 / 467] . (4) أخرجه أبو داود في كتاب الصلاة، باب (116) رفع اليدين في الصلاة (722) . بلفظ: " كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا قام إلى الصلاة رفع يديه حتى تكون حذو منكبيه ثم كبر وهما كذلك فيركع.. ". (5) في صحيح مسلم عن ابن عمر قال: " كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا قام للصلاة رفع يديه حتى تكونا حذو منكبيه ثم كبر " وقد تقدم.

والصفة الثالثة - ولم أر أحداً من أهل العلم قال بها -: وهي أن يكبر قبل رفع اليدين، فإذا كبر رفع يديه، وهي ثابتة في مسلم من حديث مالك بن الحويرث أن النبي صلى الله عليه وسلم: (كبر ثم رفع يديه) (1) . ولم أر أحداً من أهل العلم قال بها، لذا قال الموفق - وهو المشهور في المذهب –: أنه إذا كبر وانتهى من التكبير ولم يرفع يديه فإن السنة قد فات محلها، وهذا خلاف السنة فقد تقدم ثبوت ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كبر ثم رفع يديه. فالسنة أن يرفع يديه حذو منكبيه. فإن لم يستطع أن يرفعهما حذو منكبيه رفعهما بقدر الاستطاعة. كما أنه إن لم يستطع أن يرفع يديه كلتيهما رفع ما يستطيع منهما بأن يرفع يده الصحيحة وقد قال صلى الله عليه وسلم: (إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم) (2) . وإذا كان مغط ليديه بثوب ونحوه من برد وغيره مما يحتاج فيه إلى تغطية اليدين فإنه يرفعهما بثوبه بقدر استطاعته. لما ثبت في سنن أبي داود بإسناد صحيح من حديث وائل بن حجر أنه أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: (رأيت النبي صلى الله عليه وسلم في الشتاء فرأيت أصحابه يرفعون أيديهم في ثيابهم في الصلاة) (3) ، وهذا هو المشهور في المذهب. قال: (مضمومتي الأصابع ممدودة)

_ (1) أخرجه مسلم برقم (391) ، وقد تقدم. (2) متفق عليه، وقد ذكره في الأربعين النووية، وقد تقدم. (3) أخرجه أبو داود في أول باب (117) افتتاح الصلاة من كتاب الصلاة برقم (729) .

أما المد، فقد ثبت عند الخمسة إلا النسائي بإسناد صحيح من حديث أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم: (كان إذا قام في الصلاة رفع يديه مداً) (1) وورد في الترمذي – هذا الحديث من حديث يحيى بن اليمان وهو ضعيف وتفرد به عن الثقات، ورواه بنفس السند إلى أبي هريرة: (أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يرفع يديه نشراً) (2) أي مفرقة لكن الحديث ضعيف لضعف يحيى ولكونه خالف الثقات. وهنا قال: (مضمومة الأصابع) أي يلصق أصابعه بعضها ببعض. ولم أر في السنة ما يدل على ذلك. والمشهور عند الشافعية: أنه يفرقها، وهو رواية عن الإمام أحمد، واستدلوا بحديث أبي هريرة الذي تقدم ضعفه. وذهب الأحناف: إلى أنه لا يتكلف ذلك، وهذا هو الراجح وأنه لا يتكلف ضماً ولا تفريقاً بل يدعهما على طبيعتها من غير ضم ولا تفريق. قال: (كالسجود)

_ (1) أخرجه أبو داود في آخر باب (119) من لم يذكر الرفع عند الركوع (753) بلفظ: " كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا دخل في الصلاة رفع يديه مدا "، وأخرجه الترمذي حديث 239، وقال: " حديث أبي هريرة حسن "، والنسائي حديث 884، سنن أبي داود [1 / 479] . (2) أخرجه الترمذي في كتاب الصلاة، باب (63) ما جاء في نشر الأصابع عند التكبير (239) بلفظ: " كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا كبر للصلاة نشر أصابعه " قال أبو عيسى: " حديث أبي هريرة حسن. وقد روى غير واحد هذا الحديث عن ابن أبي ذئب عن سعيد بن سمعان عن أبي هريرة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان إذا دخل في الصلاة رفع يديه مدا " وهذا أصح من رواية يحيى بن اليمان، وأخطأ يحيى بن اليمان في هذا الحديث " وقال أيضا: " قال عبد الله بن عبد الرحمن: وهذا أصح من حديث يحيى بن اليمان، وحديث يحيى بن اليمان خطأ ". ا. هـ.

فالسجود يستحب له أن يفعل ما تقدم من كونه يضم أصابعه ويجعلهما ممدتي الأصابع وأن يكون حذو منكبيه وسيأتي الدليل على ذلك – عند الكلام على السنة في السجود. قال: (ويسمع الإمام من خلفه) لا زال الكلام في التكبير والسنة فيه. فيسمع الإمام من خلفه فيرفع صوته بالتكبير لما ثبت في مسند أحمد أن النبي صلى الله عليه وسلم: (كان يرفع صوته بالتكبير حتى يسمع من خلفه) (1) والحديث صحيح، وقد قال صلى الله عليه وسلم: (صلوا كما رأيتموني أصلي) (2) . فإن كان الإمام لا يسمع من خلفه فيلجأ إلى التبليغ بأن يرفع أحد المصلين صوته بالتكبير، فهذا مشروع فقد ثبت هذا من فعل أبي بكر خلف النبي صلى الله عليه وسلم كما في مسلم قال جابر: (صلى بنا النبي صلى الله عليه وسلم وأبو بكر خلفه فإذا كبر النبي صلى الله عليه وسلم كبر أبو بكر ليسمعنا) (3) فهذا يدل على مشروعية التبليغ عند الحاجة إليه أما إن لم تكن هناك حاجة فإنه ليس بمستحب باتفاق المسلمين كما قال ذلك شيخ الإسلام. بل قد نص الحنابلة على أنه مكروه، بل هو بدعة محدثة في الدين. قال: (كقراءته في أولتي غير الظهرين) أي كما يرفع صوته في الركعتين الأوليين من غير الظهرين وهما الظهر والعصر، وهذا من باب التغليب كما يقال " الفجران والقمران ". فهنا يسمع الإمام من خلفه التكبير كما يسمعهم القراءة في الركعتين الأوليين من صلاة المغرب والعشاء ومن صلاة الفجر، ورفع الصوت بالقراءة مشروع للإمام بالإجماع في الركعتين الأوليين من غير الظهر والعصر. قال: (وغيره نفسه) أي غير الإمام وهو المأموم والمنفرد يسمع نفسه، فيجب على من كان مأموماً أو منفرداً أن يسمع نفسه القراءة فيحرك لسانه بالحروف فينطق بها بحيث أنه يسمع نفسه.

_ (2) تفدم. (3) أخرجه مسلم في كتاب الصلاة، باب (19) ائتمام المأموم بالإمام (413) بنفس اللفظ.

والمراد هنا: ما لم يكن هناك عارض يمنع من سماع، فإن كان هناك عارض كأن يكون هناك أصوات أو لا يتمكن من إسماع نفسه كالعاجز عن الكلام أو كان لا يسمع نفسه كغير السميع فإنه يتلفظ بالقراءة والتكبير بحيث يسمع نفسه إن كان سميعاً أو يسمع نفسه لو لم يكن هناك هذا العارض الذي يمنع السماع. إذن: يرفع صوته بالقراءة والتكبير بحيث يسمع نفسه لو كان ليس ثمت عارض يمنعه من السماع. - واختار شيخ الإسلام وهو مذهب المالكية ومذهب بعض الأحناف وهو وجه عند الحنابلة – كما قال شيخ الإسلام –: أنه يحرك لسانه بالحروف ولو لم يسمع نفسه، فليس شرطاً أن يسمع نفسه، فالشرط هو أن ينطق بالحروف، والنطق بالحروف هو تحريك اللسان بها وخروج الحروف من اللسان، فإذا خرجت الحروف من اللسان وحرك اللسان بها، فإن هذا كاف ولو لم يسمع – وهذا هو الظاهر – فإن إسماع نفسه لا دليل عليه. وكونه قولاً، يثبت ذلك بمجرد إخراجه للحروف من لسانه، وليس بشرط القول والكلام أن يسمع نفسه أو يسمع غيره، بل شرط ذلك أن يتكلم بالحروف بصوت، فمتى خرجت الحروف وتحرك اللسان بها فهذا هو الكلام. فإن كان ممن لا يمكنه أن يتكلم كأخرس أو نحوه: فإنه ينوي بقلبه التكبير ولا يحرك لسانه في أصح الوجهين في مذهب الإمام أحمد، واختار ذلك الموفق. والقول الثاني: أنه يحرك لسانه؛ لأن المتكلم يحرك لسانه فينطق، فكان عليه أن يحرك لسانه كذلك، فكونه عاجز عن النطق لا يسقط عنه حركة اللسان. لكن الراجح: القول الأول: وأنه لا يشرع أن يحرك لسانه بل ينوي بقلبه، لأن تحريك اللسان بحيث لا فائدة منه. وإنما يحرك المتكلم لسانه لتخرج الحروف فينطق بها وحيث لم يكن ذلك فإنه لا فائدة من تحريك اللسان بالحروف. وظاهر قوله: (وغيره نفسه) : إن هذا في المفرد مطلقاً سواء كان يصلي صلاة سرية أو جهرية، فلا يشرع له الجهر بالقراءة، وسواء كانت أداءً أو قضاءً.

وظاهره أيضاً – وهو المذهب – أن المرأة لا يشرع لها أن تجهر بصوتها مطلقاً سواء كانت في جماعة أو منفردة، وهو المشهور في المذهب. - واختار شيخ الإسلام: أن المرأة يشرع لها الجهر إن كانت تصلي في جماعة. وهذا هو الظاهر: وأنها يشرع لها الجهر إن صلت في جماعة لمصلحة الإسماع، ولأن النساء شقائق الرجال. والصحيح أيضاً وهو قول في المذهب: أن المرأة يشرع لها أن تجهر مطلقاً وإن صلت وحدها صلاة تجهر بها، لقوله صلى الله عليه وسلم: (صلوا كما رأيتموني أصلي) ، والنبي صلى الله عليه وسلم كان يجهر بالصلاة فيشرع الجهر بها لمن صلى وحده منفرداً، ذكراً كان أو أنثى. وهذا أحد القولين في المذهب أيضاً: وأن المنفرد إذا صلى الصلاة الجهرية فيشرع له الجهر، سواء كانت أداءً أو قضاءً، لحديث: (صلوا كما رأيتموني أصلي) ، وهذا يدخل فيه المنفرد. فإن قيل: إنما شرع الجهر لإسماع المأمومين؟ فالجواب: ليس هذا بمسلم، بل الأظهر أن هذا إنما شرع أصلاً، وإنما شرع للإمام أن يزيد رفع صوته ليسمع المأمومين، وأما مجرد الجهر فإنه لا دليل على أنه إنما شرع للإسماع، وإنما لهذه الصلوات خصيصة في الصوت بها حيث أنها في وقت سكون وهدوء، فيشرع لمن لم يصل خلف الإمام أن يجهر، ويشرع للإمام أن يزيد في الجهر. فالراجح وهو قول في المذهب إنه يشرع في الصلاة الجهرية الجهر بما يصدق عليه أنه جهر، وليس كجهر الإمام. ومثله المرأة فيشرع لها إذا صلت في جماعة أو منفردة أن تجهر بصوتها بحيث يصدق عليه أنه جهر لا برفع صوتها رفعاً شديداً، فذلك إنما يشرع للإمام، وهي كذلك إذا صلت إمامة للنساء فيشرع لها أن تجهر بصوتها بحيث تسمع من خلفها. وهذا الحكم حيث لم يكن هناك أجنبي، فإن كان هناك أجنبي فلا يشرع الرفع مطلقاً سواء في جماعة أو غيرها؛ لكونه ينافي ما تؤمر به المرأة من الستر ولما في ذلك من دواعي الفتنة. مسألة:

والمذهب قولاً واحداً في أن رفع اليدين مشروع للإمام والمأموم والمنفرد؛ لعمومات الأحاديث. لكن اختلفوا في المرأة: هل تدخل في ذلك أم لا؟ قولان في المذهب: القول الأول: أنها ترفع يديها، وقد رواه الخلال عن أم الدرداء وحفصة بنت سيرين (1) وكانتا فقيهتين وهو قول طاووس. ودليله: أن النساء شقائق الرجال، وأنهن مأمورات بالاقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم كما أن الرجال مأمورون بذلك: (صلوا كما رأيتموني أصلي) ولا دليل يخصص الرجال بهذا الحكم، والأصل أن النساء شقائق الرجال ولا دليل على التخصيص. القول الثاني: أنه لا يشرع لهن ذلك كالتجافي الذي تنهى عنه المرأة وذلك لكونه ينافي الستر. والراجح القول الأول؛ لأن هذا لا ينافيه مطلقاً إلا إذا كان هناك أجنبي. فإن كان هناك أجنبي فلا يشرع لها ذلك؛ لأنه قد يظهر شيء منها فلا يشرع ذلك. أما إن لم يكن هناك أجنبي فيشرع لها ذلك. إذن: إنما تمنع المرأة عن التجافي ورفع اليدين ونحو ذلك مما فيه منافاة للستر من أحكام الصلاة حيث كان هناك أجنبي، أما إذا لم يكن هناك أجنبي فلا معنى لمنعها، والأصل بقاؤها على حكم الرجال إلا أن يدل دليل على التخصيص، ولا دليل. والحمد لله رب العالمين. الدرس الثاني والسبعون (يوم الاثنين: 22 /3 /1415هـ) قال المصنف رحمه الله تعالى: (ثم يقبض على كوع يسراه تحت السرة) الكوع: هو العظم الناتئ الذي يقابل الإبهام وهو عند الرسغ. وهذه الجملة فيها ثلاثة مسائل: المسألة الأولى:

أن المستحب للمصلي أن يضع يده اليمنى على يده اليسرى في الصلاة. فقد ثبت في البخاري عن سهل بن سعد قال: (كان الناس يؤمرون أن يضع الرجل يده اليمنى على ذراعه اليسرى في الصلاة) (1) ، وفي مسلم من حديث وائل بن حجر: أن النبي صلى الله عليه وسلم: (وضع يده اليمنى على يده اليسرى في الصلاة) (2) فالمستحب أن يضع يده اليمنى على اليسرى فلا يرسل يديه. المسألة الثانية: في صفة الوضع: فيها صفتان ثابتتان عن النبي صلى الله عليه وسلم: الصفة الأولى: القبض، فيقبض بيمينه على شماله بأن يمسك كف اليسرى بباطن كف اليمنى. ودليلها: ما ثبت في سنن النسائي من حديث وائل بن حجر قال: (رأيت النبي صلى الله عليه وسلم إذا كان قائماً في الصلاة يقبض بيمينه على شماله) (3) . الصفة الثانية: أن يضع يده اليمنى من غير قبض على كفه اليسرى والرسغ والساعد.

_ (1) أخرجه البخاري في كتاب الأذان، باب (87) وضع اليمنى على اليسرى (740) بلفظ: " كان الناس يؤمرون أن يضع الرجل اليد اليمنى على ذراعه اليسرى في الصلاة ". (2) أخرجه مسلم في كتاب الصلاة، باب (15) وضع يده اليمنى على اليسرى بعد تكبيرة الإحرام.. (401) بلفظ " أنه رأى النبي - صلى الله عليه وسلم - رفع يديه حين دخل في الصلاة كبَّر - وصف همَّام حيال أذنيه - ثم التحف بثوبه، ثم وضع يده اليمنى على اليسرى، فلما أراد أن يركع أخرج يديه من الثوب.. " (3) أخرجه النسائي في كتاب الافتتاح، باب (9) وضع اليمين على الشمال في الصلاة (887) ، عن وائل بلفظ: " رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا كان قائما في الصلاة قبض بيمينه على شماله ".

ودليلها: ما ثبت في سنن النسائي: من حديث وائل بن حجر، وهو حديث طويل وفيه: (وضع يده اليمنى على كفه اليسرى والرسغ والساعد) (1) المسألة الثالثة: في محل الوضع، هل المستحب أن يده على الصدر أو تحت السرة أو فوقها تحت الصدر؟ ثلاثة أقوال لأهل العلم: 1- المشهور عند الحنابلة: أن المستحب أن يضع يديه تحت السرة. واستدلوا: بما روى أحمد وأبو داود عن علي قال: (من السنة وضع اليمنى على الشمال تحت السرة) (2) وفيه عبد الرحمن بن إسحاق الواسطي وهو متروك الحديث، فعلى ذلك إسناده ضعيف جداً. 2- القول الثاني، وهو رواية عن الإمام أحمد وهو المشهور عند الشافعية: أنه يضعهما فوق سرته وتحت صدرته (3) . واستدلوا:

_ (1) أخرجه النسائي في كتاب الافتتاح، باب (11) موضع اليمين من الشمال في الصلاة (889) بلفظ: " أن وائل بن حجر أخبره قال: قلت: لأنظرن إلى صلاة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كيف يصلي، فنظرت إليه فقام فكبر ورفع يديه حتى حاذتا بأذنيه ثم وضع يده اليمنى على كفه اليسرى والرسغ والساعد، فلما أراد أن يركع … ". (2) أخرجه أبو داود في كتاب الصلاة، باب (120) وضع اليمنى على اليسرى في الصلاة (756) قال: " حدثنا محمد بن محبوب، حدثنا حفص بن غياث، عن عبد الرحمن بن إسحاق، عن زياد بن زيد، عن أبي جُحيفة، أن عليا رضي الله عنه قال: " من السنة وضع الكف على الكف في الصلاة تحت السرة ". (3) كذا في الأصل، ولعل الصواب: صدره.

بما رواه ابن خزيمة عن وائل بن حجر قال: (صليت مع النبي صلى الله عليه وسلم فوضع يده اليمنى على اليسرى على صدره) (1) ، والحديث فيه مؤمل بن إسماعيل وهو ضعيف لكن له شاهدان: الشاهد الأول: عند أحمد مرفوعاً وموصولاً من حديث هُلْب الطائي لكن الحديث ضعيف. والثاني عند أبي داود من حديث طاووس مرسلاً وسنده صحيح إلى طاووس، ويصلحان شاهدين له فيكون الحديث حسناً بشواهده فالحديث من ثلاثة أوجه. لكن الاستدلال به على هذا القول فيه نظر؛ لأن أهل هذا القول لا يقولون بأنه يضع يديه على الصدر بل تحت الصدر وفوق السرة. وإنما يصلح دليلاً لأهل القول الثالث، وهو قول للشافعي وقول إسحاق بن راهوية وهو مذهب لبعض المالكية: أن السنة أن يضع اليدين على الصدر. وهذا أوجهها لما تقدم فالحديث حسن بشاهديه، ولم يعارضه معارض ينظر فيه، والحديث المتقدم إسناده ضعيف جداً. فالراجح: أن السنة أن يضع يديه على صدره أي بأن يضعهما قريباً من النحر على عظام الصدر وبين الثندؤتين. قال: (وينظر مسجده) هذه سنة من سنن الصلاة وهي أن ينظر إلى مسجده أي إلى موضع سجوده. قالوا: لأن ذلك أخشع للصلاة، وهو كذلك أبعد عن النظر إلى السماء المنهي عنه وهي حالة يتبين فيها خشوع الأعضاء لله عز وجل، وقد وردت فيها بعض الآثار.

_ (1) وأخرج أبو داود في كتاب الصلاة، باب 120، (759) قال: " حدثنا أبو توبة، حدثنا الهيثم - يعني ابن حميد - عن ثور، عن سليمان بن موسى، عن طاووس، قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يضع يده اليمنى على يده اليسرى، ثم يشد بينهما على صدره وهو في الصلاة ".

فقد روى البيهقي عن سليمان الخولاني عن أبي قلابة قال: حدثني عشرة من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم عن صلاة النبي صلى الله عليه وسلم في قيامه وركوعه وسجوده بنحو من صلاة أمير المؤمنين - يعني عمر بن عبد العزيز – قال سليمان: (فرمقت عمر في صلاته فكان ينظر إلى موضع سجوده) (1) والحديث فيه صدقة وهو ضعيف. لكن له شاهد مرسل عند الحاكم، ورواه الحاكم موصولاً من حديث أيوب عن محمد بن سيرين عن أبي هريرة وقد أخطأ بعض الرواة فوصله، وعامة الرواة أنه مرسل، قال الذهبي: " والصحيح مرسل ". ولفظه: (أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يرفع بصره إلى السماء فلما نزلت: {قد أفلح المؤمنون الذين هم في صلاتهم خاشعون} طأطأ رأسه) (2) فهذا يدل على أنه يطأطأ رأسه وحيث كان كذلك فإن بصره إلى موضع سجوده. إذن: المستحب كما قرر الحنابلة ويد عليه ما تقدم من الآثار ويعضدها المعنى: أن المستحب للمصلي أن يرمي ببصره إلى موضع سجوده، سوى ما يأتي من التشهد من كونه يستحب له أن يرمي ببصره إلى السبابة كما ثبت هذا في صحيح ابن خزيمة وسيأتي. قال: (ثم يقول: سبحانك اللهم وبحمدك وتبارك اسمك وتعالى جدك ولا إله غيرك) " سبحانك اللهم ": أي تنزيهاً لك اللهم. " وبحمدك ": أي وبحمدك سبحتك. " وتبارك اسمك ": أي كثر خير أسمائك وثبت. " وتعالى جدك ": أي تعالت عظمتك وشرف قدرك. " لا إله غيرك ": أي لا إله في الوجود على الحقيقة غيرك. هذا هو الاستفتاح، فيستحب أن يستفتح الصلاة بشيء مما ورد من الاستفتاحات عن النبي صلى الله عليه وسلم.

_ (1) أخرجه البيهقي في السنن الكبرى [2 / 402] كتاب الصلاة، باب (369) لا يجاوز بصره موضع سجوده (3543) قال البيهقي: " وليس بالقوي ".

وقد رواه أبو داود والترمذي من حديث عائشة: أن النبي صلى الله عليه وسلم: كان يستفتح صلاته فيقول: (سبحانك اللهم وبحمدك) (1) الحديث. وهو ثابت عند الخمسة من حديث أبي سعيد الخدري (2) وهو ثابت من قول عمر في مسلم منقطعاً ووصله الدارقطني بإسناد صحيح: (أن عمر كان يستفتح بسبحانك اللهم يجهر بذلك يُسمعنا ويُعلمنا) (3) وقد اختاره الإمام أحمد لكون عمر كان يعلمه الصحابة وإلا فسائر الاستفتاحات الواردة عن النبي صلى الله عليه وسلم حسنة، بل السنة أن يفعل هذا تارة وهذا تارة.

_ (1) أخرجه أبو داود في كتاب الصلاة، باب (122) من رأى الاستفتاح بسبحانك اللهم وبحمدك (776) .قال أبو داود: " وهذا الحديث ليس بالمشهور عن عبد السلام بن حرب، لم يروه إلا طلق بن غنام، وقد روى قصة الصلاة عن بديل جماعة لم يذكروا فيه شيئا من هذا ". سنن أبي داود [1 / 491] . (2) أخرجه أبو داود في الباب السابق حديث (775) بلفظ: " كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا قام من الليل كبر ثم يقول: (سبحانك اللهم وبحمدك وتبارك اسمك وتعالى جدك ولا إله غيرك) ثم يقول: (لا إله إلا الله) ثلاثا ثم يقول: (الله أكبر كبيرا) ثلاثا، ثم (أعوذ بالله السميع العلم من الشيطان الرجيم من همزه ونفخه ونفثه) ثم يقرأ "، وأخرجه النسائي وابن ماجه والترمذي حديث 242، سنن أبي داود [1 / 490] . (3) قال الإمام مسلم في صحيحه في باب (13) حجة من قال لا يجهر بالبسملة (399) : " حدثنا محمد بن مهران الرازي، حدثنا الوليد بن مسلم، حدثنا الأوزاعي، عن عبدة: أن عمر بن الخطاب كان يجهر بهؤلاء الكلمات يقول: " سبحانك اللهم وبحمدك، تبارك اسمك، وتعالى جدك، ولا إله غيرك ". وأخرجه الدارقطني في سننه في كتاب الصلاة، باب (28) دعاء الاستفتاح بعد التكبير (1138) .

ومن ذلك ما ثبت في الصحيحين عن أبي هريرة قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم: إذا كبر للصلاة سكت هنيهة فسألته فقال: أقول: (اللهم باعد بيني وبين خطاياي كما باعدت بين المشرق والمغرب، اللهم نقني من خطاياي كما ينقى الثوب الأبيض من الدنس، اللهم اغسلني من خطاياي بالماء والثلج والبرد) (1) ، وهي أنواع كثيرة هذا منها. ولعل عمر إنما كان يستفتح بما تقدم لسهولة حفظه ولما فيه من الوحدانية لله والتعظيم له، ولذلك اختاره الإمام أحمد واستحسن غيره من الاستفتاحات الواردة عن النبي صلى الله عليه وسلم. إذن: الاستفتاح سنة. والسنة فيه الإسرار كما تقدم من حديث أبي هريرة فإنه قال: (سكت هنيهة) فلم يكن يسمعه، وإلا لم يحتج إلى سؤاله. وإنما كان عمر يجهر به للتعليم، فحيث كان ذلك بأن يكون الناس محتاجين إلى تعليم فلا بأس به فهو فعل عمر، وإلا فالسنة الإسرار. ومن مسائله: أنه إن نسيه أو تركه عمداً حتى شرع في الاستعاذة فلا يشرع له أن يستفتح بعد؛ لأنها سنة وقد فات محلها – كما قرر هذا الحنابلة وغيرهم. قال: (ثم يستعيذ) يستعيذ بالله من الشيطان الرجيم للقراءة قال تعالى {فإذا قرأت القرآن فاستعذ بالله من الشيطان الرجيم} (2) وثبت عند الخمسة من حديث أبي سعيد الخدري:أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول في استعاذته في الصلاة: (أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم من همزه ونفخه ونفثه) (3) همزه: أي الجنون وهو مس الجن. ونفخه: وهو الكبر، ونفثه: وهو الشعر القبيح، والحديث حسن. فهذا مما ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم في الاستعاذة.

_ (1) أخرجه البخاري في كتاب الأذان، باب (89) ما يقول بعد التكبير (744) ، وأخرجه مسلم (598) في كتاب المساجد، باب (27) ما يقال بين تكبيرة الإحرام والقراءة. وفيهما: ".. سكت هُنيَّة.. " (2) تقدم قريبا في الحاشية (158) .

فإن استعاذ بقول: (أعوذ بالله من الشيطان الرجيم) فهو حسن أيضاً لقوله تعالى: {فاستعذ بالله من الشيطان الرجيم} وإن قال: (أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم) فهو حسن أيضاً لورود آية أخرى فيه. وهل هي سنة أم واجب؟ جمهور أهل العلم: أنها سنة، وهي عندهم سنة في القراءة مطلقاً في الصلاة وغيرها. وعن الإمام أحمد واختاره طائفة من كبار أصحابه المتقدمين وهو مذهب الظاهرية ومذهب عطاء: أنها واجبة للأمر القرآني: {فاستعذ بالله} وظاهر الأمر الوجوب، وهو قول قوي. واختلف أهل العلم هل تشرع الاستعاذة في كل ركعة أم لا تشرع إلا في الركعة الأولى؟ - المشهور عند الحنابلة: أنها لا تشرع إلا في الركعة الأولى، أما في الركعات الثانية فلا يقال باستحباب ذلك وتأكيده فإن فعل فذلك حسن وإلا فلا يقال بمشروعيته كمشروعيته في الركعة الأولى. واستدلوا: بما رواه مسلم عن أبي هريرة: قال: (كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا نهض من الركعة الثانية استفتح بالحمد لله رب العالمين ولم يسكت) (1) قالوا: هذا يدل على أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يستفتح بالحمد لله رب العالمين ولا يسكت، والاستعاذة تحتاج إلى سكوت. - والقول الثاني، وهو رواية عن الإمام أحمد وهو مذهب الشافعية: أنه يشرع له أن يستعذ في كل ركعة. ذلك لقوله تعالى: {فإذا قرأت القرآن فاستعذ بالله} (2) وظاهر الآية أنه يشرع له كلما قرأ أن يستعيذ، وكل ركعة لها قراءتها فإن بين الركعات فواصل من ركوع وسجود وقيام ونحو ذلك وذكر ونحوه.

_ (1) أخرجه مسلم في كتاب المساجد، باب (27) ما يقال بين تكبيرة الإحرام والقراءة (599)

بخلاف سجدة التلاوة، فإن سجدة التلاوة التي تخلل الصلاة من متعلقات القراءة فهي سجدة للقراءة، أما هذا السجود وهذا القيام والركوع في الصلاة فهي منفصلة عنها، فالقراءة ركن كما أن ما تقدم ذكره أركان من أركانها فليست بمتصلة فيها إلا حديث أنها من الصلاة، ففرقٌ بينهما. وأجابوا عن الحديث المتقدم: بأن قول أبي هريرة: (لم يسكت) أي لم يسكت سكوتاً كسكوته في الركعة الأولى وهو السكوت الذي نقله هنا، فإنه سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن سكوته في الصلاة فأخبره النبي صلى الله عليه وسلم أنه يقول: (اللهم باعد ….) ، فقد سأله عن تلك السكتة لكونها سكتة خارجية عن طبيعة السكوت الذي يكون الذي يكون قبيل القراءة، وأما المذكور في قوله: (ولم يسكت) أي لم يسكت كسكوته في الاستفتاح ولهذا نجمع بين الآية وبين ما ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم. فيكون قول أبي هريرة " لم يسكت " أي لم يسكت سكوتاً خارجاً عن السكوت الطبيعي الذي يكون قبيل القراءة للاستعاذة والبسملة، وإنما شرع بالحمد لله رب العالمين لم يسكت كسكوته الأول للاستفتاح فيكون ذلك لنفي الاستفتاح وأنه إنما هو مشروع في الركعة الأولى دون الركعات الأخر. وهذا القول هو الأرجح وأنه يستعيذ في كل ركعة. قال: (ثم يبسمل سراً وليست من الفاتحة) أي يقول: " بسم الله الرحمن الرحيم " يقولها سراً.

أما كونه يقول: " بسم الله الرحمن الرحيم " لما ثبت في النسائي عن نعيم المجمر قال: (صليت وراء أبي هريرة فقرأ " بسم الله الرحمن الرحيم " ثم قرأ بأم القرآن) وفيه أنه قال بعد ذلك " والذي نفسي بيده إني لأشبهكم صلاة بصلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم " (1) ولأن البسملة يشرع أن يفتتح بها السور مطلقاً كما ثبت في مسلم وغيره من قراءة النبي صلى الله عليه وسلم {إنا أعطيناك الكوثر} لما نزلت عليها (2) فقرأ: (" بسم الله الرحمن الرحيم " {إنا أعطيناك الكوثر} …) (3) وثبت في أبي داود بإسناد صحيح إلى أن ابن عباس قال: (كان النبي صلى الله عليه وسلم لا يعرف الفصل بين السور إلا إذا نزلت بسم الله الرحمن الرحيم) (4) فهي مما تفتتح به السور وهو كذلك فاصل بين السور. ومشروعية البسملة مما اتفق عليه أهل العلم. " سراً ": لا جهراً، فلا يشرع الجهر بها. وهذه المسألة اختلف فيها أهل العلم: 1- فذهب الجمهور من الصحابة والتابعين وأهل العلم: إلى القول باستحباب الإسرار بالبسملة وعدم مشروعية الجهر بها وهو مذهب الحنابلة. واستدلوا: بما ثبت في الصحيحين عن أنس بن مالك: (أن النبي صلى الله عليه وسلم وأبا بكر وعمر كانوا يفتتحون الصلاة بالحمد لله رب العالمين) (5) .

_ (1) أخرجه النسائي في كتاب الافتتاح، باب (21) قراءة بسم الله الرحمن الرحيم (905) قال: " أخبرنا محمد بن عبد الله بن عبد الحكم، عن شعيب، حدثنا الليث، حدثنا خالد عن سعيد بن أبي هلال عن نعيم المجمر قال: صليت.. " (2) كذا في الأصل، ولعلها: عليه. (3) أخرجه مسلم في كتاب الصلاة، باب (14) حجة من قال: البسملة آية من أول كل سورة سوى براءة (400) . (4) أخرجه أبو داود في كتاب الصلاة، باب (125) من جهر بها (788) . (5) أخرجه البخاري في كتاب الأذان، باب (89) ما يقول بعد التكبير (743) . ومسلم (399) .

زاد مسلم: (لا يذكرون بسم الله الرحمن الرحيم في أول القراءة ولا آخرها) وفي أحمد والنسائي: (لا يجهرون ببسم الله الرحمن الرحيم) (1) وعند ابن خزيمة: (يسرون) (2) . وثبت في الترمذي من حديث ابن عبد الله بن مغفل قال: سمعني أبي وأنا في الصلاة أقول: " بسم الله الرحمن الرحيم " فقال أي بني محدث إياك والحدث قال: ولم أر أحداً من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم كان أبغض إليه الحدث في الإسلام منه قال: صليت مع النبي صلى الله عليه وسلم ومع أبي بكر ومع عمر ومع عثمان فلم أسمع أحداً منهم يقولها " جهراً " فلا تقلها إذا أنت صليت فقل: " الحمد لله رب العالمين " (3) والحديث حسنه الترمذي وهو كما قال وأما ما ذكره ابن عبد البر والبيهقي وغيرهما: أن الحديث فيه جهالة ابن عبد الله، فإن هذا ليس بصحيح، كما قرر ذلك الزيلعي، وأن ابن عبد الله بن مغفل قد روى عنه ثلاثة فزالت عنه بذلك جهالة العين، ولم يأت بحديث منكر بل أحاديثه كلها مستقيمة تجد لها المتابع والشاهد فليس من أحاديثه ما ينكر عليه، وقد حسن حديثه الترمذي وهذا حديث يوافق ما ثبت عن أنس؛ فالحديث حسن لا بأس به. 2- والقول الثاني، وهو مذهب الشافعية فقالوا بمشروعية الجهر بالبسملة.

_ (1) أخرجه النسائي في كتاب الافتتاح، باب (22) ترك الجهر ببسم الله الرحمن الرحيم (907) بلفظ: " عن أنس قال: صليت خلف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - …. فلم أسمع أحدا منهم يجهر ببسم الله الرحمن الرحيم ". (3) أخرجه الترمذي في كتاب الصلاة، باب (66) ما جاء في ترك الجهر ببسم الله الرحمن الرحيم (244) بنفس اللفظ، قال أبو عيسى: " حديث عبد الله بن مغفل حديث حسن ".

وعامة أدلتهم لا تصح ولا تثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم فكلها موضوعة أو ضعيفة كما قرر هذا شيخ الإسلام وغيره. إلا ما رواه النسائي وغيره بسنده الصحيح إلى نعيم المجمر: قال صليت وراء أبي هريرة فقرأ: " بسم الله الرحمن الرحيم " ثم قرأ بأم القرآن وفيه أنه قال: (إني أشبهكم صلاة بصلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم) (1) قالوا: فهذا يدل على مشروعية الجهر إذ لو لم يجهر أبو هريرة لم يسمعه نعيم وقد عزا ذلك إلى النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: (إني لأشبهكم) لكن الحديث ليس بصريح في الدلالة: فيحتمل أن يكون نعيم قد سمعه وهو يسر بها وكان من الصالحين وكان هو الذي يجمر مسجد المدينة فلا يبعد أن يكون قريباً من أبي هريرة فسمعه وهو يقولها، كما سمع رجل أبا بكر في الركعة الثالثة من صلاة المغرب وهو يقرأ {ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا} (2) . ثم إن نعيماً قد تفرد برواية هذه اللفظة عن سائر الرواة عن أبي هريرة كما قرر ذلك ابن القيم، فكل الرواة لم يذكروا هذه اللفظة وتفرد بها نعيم فكانت مظنة الضعف، وقد خالفها ما تقدم من الأحاديث الصحيحة. وهناك احتمال آخر وهو أن أبا هريرة إنما جهر بها للتعليم، وللإخبار بأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقولها كما كان عمر يجهر بالاستفتاح للتعليم. وقد قال: " إني لأشبهكم صلاة بصلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم " والمشابهة لا تقتضي المماثلة.

_ (1) تقدم قريبا. (2) قال شيخنا في شرحه للزاد الذي شرحه عام 1420 في رأس الخيمة ما نصه: " كما سمع مَنْ سمع أبا بكر رضي الله تعالى عنه وهو يقرأ: {ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهب لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب} ، وكان رضي الله عنه يقرأ هذه الآية في الركعة الثالثة من صلاة المغرب كما في موطأ الإمام مالك بإسناد صحيح ". وقد رواه مالك في موطئه في باب القراءة في المغرب والعشاء (170) من كتاب الصلاة.

فالأحاديث التي استدلوا بها: إما أحاديث ضعيفة وعامتها كذلك، أو صحيحة وليست صريحة وهذا إنما هو حديث نعيم المجمر مع ما تقدم من تفرد نعيم وهو مظنة الضعيف، وعلى القول بقبوله وتحمل تفرده فله احتمالان: أن يكون سمعه وهو قريب منه يسرّ بها. أن يكون إنما جهر بها للتعليم كفعل عمر ولم يخبرهم بذلك لكونهم قد تقرر عندهم عدم مشروعية ذلك وأن هذا من الأمور المحدثة والعلم عند الله تعالى. قال: " وليست من الفاتحة ": فهي ليست من الفاتحة كما هو مذهب الإمام أحمد واختيار شيخ الإسلام. كما ثبت في مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: قال الله تعالى: (قسمت الصلاة بيني وبين عبدي قسمين ولعبدي ما سأل، فإذا قال: العبد الحمد لله رب العالمين قال الله: حمدني عبدي فإذا قال: الرحمن الرحيم قال الله: " أثنى عليَّ عبدي " (1) الحديث ولم يذكر البسملة

_ (1) أخرجه مسلم في كتاب الصلاة، باب (11) وجوب قراءة الفاتحة في كل ركعة.. (395) بلفظ: " عن أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (من صلى صلاة لم يقرأ فيها بأم القرآن فهي خداج) ثلاثا، غير تمام، فقيل لأبي هريرة: إنا نكون وراء الإمام، فقال: اقرأ بها في نفسك، فإني سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: (قال الله تعالى: قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين، ولعبدي ما سأل، فإذا قال العبد {الحمد لله رب العالمين} قال الله تعالى: حمدني عبدي، وإذا قال: {الرحمن الرحيم} قال الله تعالى: أنثى علي عبدي، وإذا قال: {مالك يوم الدين} قال: مجدني عبدي - وقال مرة: فوَّض إليَّ عبدي - فإذا قال {إياك نعبد وإياك نستعين} قال: هذا بيني وبين عبدي ولعبدي ما سأل، فإذا قال: {اهدنا الصراط المستقيم صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين} قال: هذا لعبدي ولعبدي ما سأل) .

وقد تقدم أنها إنما نزلت للفصل بين السور كما قاله ابن عباس (1) . ولو قلنا إنها من الفاتحة لوجبت قراءتها وكانت فريضة سواء قلنا بالإسرار أو الجهر، ولقلنا بالجهر بها لأنها أسوة غيرها من آيات الفاتحة. لكن الراجح ما تقدم وأنها ليست بآية من الفاتحة (2) . والحمد لله رب العالمين الدرس الثالث والسبعون (يوم الثلاثاء: 23 / 3 / 1415هـ) قال المؤلف رحمه الله: (ثم يقرأ الفاتحة) فيقرأ المصلي فاتحة الكتاب فرضاً لقوله صلى الله عليه وسلم: (لا صلاة لمن لا يقرأ بأم القرآن) (3) متفق عليه. وقد اتفق أهل العلم على فرضية قراءتها على الإمام والمنفرد. واختلفوا في حكم قراءتها على المأموم: - والمشهور في المذهب: عدم وجوب قراءتها عليه، وسيأتي البحث في هذا عند قول المؤلف في باب صلاة الجماعة " ولا قراءة على مأموم " فإذن: يقرأ الفاتحة بشداتها وآياتها كلها وقد تقدم أن " بسم الله الرحمن الرحيم " ليس منها فيقرأ من قوله {الحمد لله رب العالمين} إلى {ولا الضالين} وأما لفظة " آمين " فهي ليست من الفاتحة إجماعاً. وشدات الفاتحة إحدى عشرة شدة – وإذا أسقط شدة فقد أسقط حرفاً، ومتى أسقطها فقد أنقص في قراءتها.

_ (1) رواه أبو داود وقد تقدم. (2) قال شيخنا في شرحه الآخر للزاد الذي شرحه عام 1420 في رأس الخيمة ما نصه " وأما ما رواه الدارقطني من حديث أبي هريرة، وفيه أن البسملة إحدى آياتها، فإن الحديث معلول، والصواب وقفه على أبي هريرة رضي الله عنه، فلا يصح مرفوعا إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم، كما ذكر هذا غير واحد من الحفاظ ". (3) أخرجه البخاري في كتاب الأذان، باب (95) وجوب القراءة للإمام والمأموم (756) بلفظ: " عن عبادة بن الصامت: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: (لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب) . وأخرجه مسلم (394) .

ويقرأها قراءة عربية لا تحيل المعاني، فإذا قرأها قراءة غير عربية لم تجزئه لقوله تعالى: {قرآناً عربياً} (1) وقال تعالى: {بلسان عربي مبين} (2) ولا يكون قرآناً إذا قرأ بغير العربية أي ترجم؛ للآية المتقدمة، فإذا قرأ بغير العربية لم يجزئه. وإذا قرأ بالعربية ولحن فإن قراءته إن كان اللحن فيها يحيل المعاني فإنها لا تصح فإذا قال: {أنَعمتُ} أو {إياك} (3) ونحوها، فإن القراءة لا تصح، لأن هذه تحيل المعاني. أما إذا كان لا يحيل المعنى فالقراءة لا تبطل به. ويجب أن يقرأها مرتبة متوالية فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يقرأها كذلك وقال: (صلوا كما رأيتموني أصلي) (4) . فإن كان غير حافظ للفاتحة فيجب عليه أن يتعلمها ما لم يتضايق الوقت، لأن ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب. أما إذا ضاق الوقت فإنه يصلي على حسب حاله. * وهنا مسائل يذكرها الفقهاء عند هذه المسألة: فمنها: إذا كان يحسن من الفاتحة آية فأكثر فإنه يقرؤها لقوله تعالى: {فاتقوا الله ما استطعتم} (5) وقوله صلى الله عليه وسلم: (إذا أمرتكم بأمر فاتقوا منه ما استطعتم) (6) وهل يجب عليه أن يكررها بقدر الفاتحة؟

_ (3) قال ابن كثير رحمه الله في تفسيره [1 / 24] : " وقرأ عمرو بن فايد بتخفيفها مع الكسر، وهي قراءة شاذة مردودة، لأن إيا ضوء الشمس، وقرأ بعضهم " أياك " بفتح الهمزة وتشديد الياء، وقرأ بعضهم " هياك " بالهاء بدل الهمزة، كما قال الشاعر: فهياك والأمر الذي إن تراحبت موارده ضاقت عليك مصادره ". (4) أخرجه البخاري رقم (631) في كتاب الأذان / باب (18) وسيأتي في صْ 181. (5) سورة التغابن. (6) تقدم، وهو متفق عليه، وقد ذكره النووي في الأربعين.

- قال الفقهاء: يجب أن يكررها بقدر الفاتحة سواء كان يحسن غيرها أم لم يكن يحسنه، فإذا كان يحفظ آية فإنه يجب أن يكررها سبعاً، سواء كان يحسن آيات من غير هذه السورة أم لم يكن ذلك. - وهناك قول في المذهب: أنه يتم قدر الفاتحة فيما يحفظه من القرآن، وهذا أظهر، لأنه إذا قرأ منها ما يحفظه فإنه يسقط فرضه؛ لأن الواجب هو قراءتها وحيث قرأه فإنه يسقط بذلك فرضه حيث قرأه فكان الأولى أن يأتي بآيات أخر. وقد قال صلى الله عليه وسلم: (إن كان معك قرآن فاقرأ به وإلا فاحمد الله) (1) فهنا أطلق النبي صلى الله عليه وسلم القول ولم يقيد التكرار في مثل الفاتحة وغيرها، وظاهر إطلاقه أنه يقرأ ما يتمكن منه من القرآن من غير أن يكرر ذلك، بل يقرأ ما أمكنه منه ويسقط عنه الباقي، وحيث أنه يمكنه أن يتم قدر الفاتحة بآيات أخر فإنه يتمها؛ لأن البدل له حكم المبدل منه. أما إذا كان لا يحفظ منها إلا بعض آية، فإنه لا يقرأ ذلك ولا يكرره، لأن النبي صلى الله عليه وسلم لما علم من لا يحسن شيئاً القرآن علمه الذكر، وفيه لفظة " الحمد لله " وهي بعض من آية من الفاتحة ومع ذلك لم يأمره بتكرارها ولم يجعلها قائمة مقام التكرار، بل كانت من الذكر المجزئ عن القرآن. فإن كان لا يحفظ من الفاتحة شيئاً قرأ من غيرها بقدرها. والمذهب قولاً واحداً في عدد آياتها أي لا تجزئه إلا أن يقرأ عدد آياتها أي بأن يقرأ سبع آيات. وهل يجزئه أن تكون هذه الآيات أنقص حروفاً من الفاتحة أم لا؟ قولان في المذهب: القول الأول: أن الواجب أن تكون بعدد حروفها فأكثر. القول الثاني: أنه يجزئ أن تكون أقل منها حروفاً.

_ (1) أخرجه أبو داود في كتاب الصلاة، باب (148) صلاة من لا يقيم صلبه في الركوع والسجود (861) .

والقول الأول هو الأحوط وهو أن يختار آيات بعدد حروفها فأكثر، أي أن تكون الآيات سبعاً وتكون ما تضمنته من الحروف مساوية لما تضمنته سورة الفاتحة فأكثر؛ لأن الحرف له أثر في القراءة بدليل إن قرأ حرفاً من القرآن كان له حسنة والحسنة بعشر أمثالها كما ثبت في الحديث (1) هذا هو الأظهر لأن البدل له حكم المبدل منه. ولو قيل: إنه لا يجب عليه ذلك مطلقاً لا في حروفها ولا في آياتها لكان فيه قوة، لإطلاق النبي صلى الله عليه وسلم في قوله: (فإن كان معك قرآن فاقرأ) (2) فأطلق النبي صلى الله عليه وسلم ولم يأمره بأن يكون ذلك بقدر الفاتحة. إلا أن يقال: إن البدل له حكم المبدل منه وهنا يمكنه أن يقرأ بقدر فاتحة الكتاب وحيث أمكنه ذلك فإنه يجب عليه أن يفعله ليكون ذلك قائماً مقام فاتحة الكتاب وهذا هو الأحوط. فإن لم يكن معه إلا بقدر بعض الفاتحة، فإنه يكررها كما تقدم. والأظهر كذلك أنه لا يكرر لقوله صلى الله عليه وسلم: (فإن كان معك قرآن فاقرأ) فأطلق. كأن يكون رجل يحفظ ثلاث آيات مثلاً من غير الفاتحة فإنه يقرأ هذه الثلاث ويكتفي بها من غير تكرار. وإن لم يكن معه شيء من القرآن فإنه يجزئه الذكر الوارد، وهو ما ثبت في سنن أبي داود والحديث حسن، من حديث عبد الله بن أبي أوفى: أن رجلاً قال للنبي صلى الله عليه وسلم: يا رسول الله إني لا أحسن شيئاً من القرآن فعلمني ما يجزئني منه فقال: (قل سبحان الله والحمد لله ولا إله الله والله أكبر ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم) (3)

_ (1) رواه الترمذي. (2) تقدم. (3) أخرجه أبو داود في كتاب الصلاة، باب (139) ما يجزئ الأمي والأعجمي من القراءة (832) بنفس اللفظ إلا أنه في بدايته قال: جاء رجل إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال:إني لا أستطيع أن آخذ من القرآن شيئا فعلمني ما يجزئني منه.. "

فإن لم يحسن شيئاً من ذلك كحديث عهد بإسلام لا يحسن العربية ونحوه فإنه يقف بقدر فاتحة الكتاب لأن الواجب القيام والقراءة وحيث سقطت عنه القراءة فيجب عليه القيام بقدرها لقوله تعالى: {فاتقوا الله ما استطعتم} ولحديث: (إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم) . وإن لقن من خارج عن الصلاة فإن ذلك يجزئه، كما لو فتح أحد على الإمام وهو خارج عن الصلاة فكذلك هنا. وإن كان يمكنه أن يصلي خلف إمام يحسن الفاتحة وقلنا: إن الفاتحة لا تجب خلف الإمام كما هو المشهور في المذهب، فإنه يجب عليه ذلك. قال: (فإن قطعها بذكر أو سكوت غير مشروعين وطال …) " بذكر ": كأن يسأل الله الرحمة أو يستعيذ به من النار أو يدعو الله ونحو ذلك. " أو سكوت ". " غير مشروعين ": فليس من السنة وليس مما فيه مصلحة الصلاة وليس مما تبطل به الصلاة وسيأتي في بابه. فمثلاً: قرأ آيتين من الفاتحة ثم يسكت سكوتاً طويلاً عرفاً غير مشروع، أو يتكلم بذكر الله ذكراً غير مشروع طويلاً عرفاً فإن الفاتحة تبطل ويجب أن يعيدها. إذن: لا تبطل الفاتحة بالقطع إلا إذا كان القطع طويلاً عرفاً وكان القطع غير مشروع. فعندنا ثلاثة أحوال: الحال الأولى: أن يكون القاطع قصيراً عرفاً، كأن يسكت سكتة وإن كانت غير مشروعة أو تكلم بذكر وإن كان غير مشروع وكان يسيراً عرفاً فإن الفاتحة صحيحة ولا يجب إعادتها وهذا القاطع لا يضره لأنه يسير. قالوا: لأن الواجب في الفاتحة موالاتها لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (صلوا كما رأيتموني أصلي) . والموالاة ألا يكون هناك قاطع عرفاً، وحيث كان القاطع يسيراً فإن المولاة لا تنتفي بذلك، فالموالاة في الشيء لا تنتفي بالقاطع اليسير. الحالة الثانية: أن يكون القاطع مشروعاً وهو طويل عرفاً فتصح.

مثال: أن يقرأ بعض الفاتحة ثم سكت سكوتاً طويلاً ليسمع قراءة الإمام، فهذا سكوت مشروع له؛ لأنه يشرع أن يستمع قراءة إمامه فحينئذٍ لا تبطل بذلك الفاتحة. هذا هو المشهور في المذهب. والأظهر أنه يبطل الفاتحة ويجب عليه أن يستأنفها؛ ذلك لأنه وإن كان مشروعاً لكنه قاطع عرفاً والموالاة تنتفي وهي واجبة، وحيث قطعه بقاطع طويل عرفاً وإن كان مشروعاً فإنها تنتفي. ومثله على الراجح – خلافاً للمشهور من المذهب - لو كان القاطع طويلاً عرفاً وهو معذور فيه كأن يسكت عن نسيان أو يخطئ فيقرأ في سورة أخرى وكان ذلك طويلاً عرفاً، فإنه يقطع القراءة فهو وإن كان معذوراً في نسيانه لكن الموالاة قد انقطعت فيجب عليه أن يستأنف القراءة من الجديد (1) لانقطاع موالاتها. فالواجب شرعاً هو الموالاة وحيث قطعها بقاطع طويل سواء كان مشروعاً وسواء كان معذوراً فيه أم لم يكن معذوراً فيه فإنه يجب أن يستأنف قراءته من جديد لفساد الموالاة وانتفائها. الحالة الثالثة: أن يكون القاطع يسيراً وهو مشروع، فلا تؤثر في الموالاة وهو أولى من الصورة الأولى لكونه مشروعاً. فلو قطع الفاتحة بقوله: " آمين " مع تأمين الإمام، أو فتح على الإمام في قراءته – فإن هذا لا يؤثر في الموالاة – لأنه قاطع يسير. إذن: مناط الحكم – على الراجح – أن يكون القاطع يسيراً فحينئذٍ لا يكون مؤثراً سواء كان مشروعاً أم لم يكن مشروعاً. فالعبرة بطول القاطع، فإن كان طويلاً عرفاً فإنه يفسد الموالاة فيجب استئناف القراءة وإن كان قصيراً فلا يجب ذلك. قال: (أو ترك منها تشديدة، أو حرفاً أو ترتيباً لزم غير مأموم إعادتها) " ترتيباً ": كأن يقدم ما حقه التأخير من آياتها أو يؤخر ما حقه التقديم، فيلزمه الإعادة إن كان غير مأموم. ويستثنى المأموم؛ لأنه لا يجب عليه القراءة خلف الإمام، على المشهور في المذهب. وقوله: " إعادتها " يعود على الفاتحة.

_ (1) كذا في الأصل.

وحيث قلنا بأن المأموم يجب عليه أن يقرأ بفاتحة الكتاب والحكم كذلك فكذلك هنا فيجب عليه أن يعيد إن أخطأ بما يبطلها. قال: (ويجهر الكل بآمين) في الجهرية. " آمين " بمعنى اللهم استجب. وفيها ضبطان وكلاهما بتخفيف الميم. الأول: القصر: وهو بهمزة الوصل " أمين " الثاني: المد " آمين " وهما لغتان فيها ولكن مع تخفيف الميم. أما إذا شدد الميم فإن المعنى يتحول إلى معنى آخر وهو " قاصدين " كما قال تعالى: {ولا آمَّين البيت} (1) أي قاصدينه. أي من القراءة قرأ فهي صحيحة (2) . فيجهر الكل من إمام ومنفرد حيث جهر ومأموم، فكل من جهر أو جهر له من إمام أو مأموم أو منفرد فيشرع له الجهر بالتأمين. ودليل مشروعية التأمين: ما ثبت في الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا أمن الإمام فأمنوا فإن من وافق تأمينه تأمين الملائكة غفر له) (3) وفي الصحيحين من حديث أبي هريرة: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا قال الإمام: غير المغضوب عليهم ولا الضالين فقولوا: آمين، فإن من وافق قوله قول الملائكة غفر له) (4)

_ (2) أي سوى قراءة التشديد. (3) أخرجه البخاري في كتاب الأذان، باب (111) جهر الإمام بالتأمين (780) بلفظ: (إذا أمن الإمام فأمنوا، فإنه من وافق تأمينه تأمين الملائكة غفر له ما تقدم من ذنبه) ، وانظر (6402) ، وأخرجه مسلم (410) . (4) أخرجه البخاري في كتاب الأذان، باب (113) جهر المأموم بالتأمين (782) بلفظ: (إذا قال الإمام {غير المغضوب عليهم ولا الضالين} فقالوا آمين، فإنه من وافق قوله قول الملائكة غفر له ما تقدم من ذنبه) ، وأخرجه مسلم (410) .

وقد ثبت التأمين من فعل النبي صلى الله عليه وسلم: فروى أبو داود والترمذي من حديث وائل بن حجر: أن النبي صلى الله عليه وسلم: كان إذا قال: " ولا الضالين " قال: " آمين " (1) ، في رواية أبو داود: " ورفع صوته "، وفي الترمذي: " يمد بها صوته "، وفي ابن ماجه والحديث حسن: (أن المسجد – أي مسجد النبي صلى الله عليه وسلم – كان يرتج بها) أي من رفع النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه بالتأمين. ويستحب كذلك: أن يمد بها صوته كما تقدم في حديث وائل بن حجر في رواية الترمذي، وورد من حديث وائل بن حجر في أبي داود إلا أن فيه انقطاعاً بين عبد الجبار بن وائل وبين أبيه وهو انقطاع يسير يعضده ما تقدم. وثبت هذا من فعل أبي هريرة: أنه إذا كان وراء الإمام قال: " آمين " يمد بها صوته ويقول: (إذا وافق تأمين أهل الأرض تأمين أهل السماء غفر لهم) (2) رواه البيهقي بإسناد صحيح. فعلى ذلك: يشرع للإمام والمنفرد والمأمومين أن يجهروا به ويمدوا أصواتهم به.

_ (1) أخرجه أبو داود في كتاب الصلاة، باب (172) التأمين وراء الإمام (932) ، والترمذي حديث 28، وابن ماجه حديث 855، وقال الترمذي: حديث حسن "، وقال ابن القيم: " حديث وائل بن حجر رواه شعبة وسفيان، فأما سفيان فقال: " ورفع بها صوته، وأما شعبة فقال: خفض بها صوته، ذكره الترمذي " قال البخاري: " حديث سفيان أصح، وأخطأ شعبة في قوله: خفض بها صوته "، سنن أبي داود [1 / 574] . (2) أخرجه البيهقي في كتاب الصلاة،باب (163) جهر المأموم بالتأمين (2453) .

* والسنة أن يكون ذلك بعد قول الإمام "غير المغضوب عليهم ولا الضالين " لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (إذا قال الإمام " غير المغضوب عليهم ولا الضالين " قُولوا: آمين) (1) أما قوله صلى الله عليه وسلم: (إذا أمن الإمام فأمنوا) (2) فإن معناه إذا شرع بالتأمين، فإذا شرع الإمام بالتأمين ووافق ذلك عقيب قوله " غير المغضوب عليهم ولا الضالين: فقولوا: آمين. * وإذا تركها الإمام فإنها تشرع للمأمومين للحديث المتقدم: (إذا قال الإمام {غير المغضوب عليهم ولا الضالين} فقولوا: آمين) . فتشرع للمأمومين مطلقاً قالها الإمام أم لم يقلها، فترك الإمام لها لا يعنى ذلك أن تترك؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم كان يفعلها إماماً، إذا تركها الإمام فإن ذلك تفويت منه للسنة. * فإن فات محلها وشرع بالقراءة بعدها ولم يؤمن فهي سنة فات محلها، فلا يشرع فعلها. والحمد لله رب العالمين الدرس الرابع والسبعون (يوم الأربعاء: 24 / 3 / 1415هـ) قال المصنف رحمه الله تعالى: (ثم يقرأ بعدها سورة) أي بعد الفاتحة، فيشرع ويسن أن يقرأ بعد الفاتحة سورة من القرآن، وهذا على سبيل الاستحباب عند عامة العلماء، لما ثبت في الصحيحين: من حديث أبي قتادة: (أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقرأ في الأوليين من الظهر والعصر بفاتحة الكتاب وسورة ويسمعنا الآية أحياناً وفي الركعتين الأخريين بفاتحة الكتاب) (3) فهذا الفعل يدل على مشروعيته.

_ (1) تقدم قريبا، وهو في الصحيحين. (2) متفق عليه، وقد تقدم قريبا. (3) أخرجه البخاري في كتاب الأذان، باب (107) يقرأ في الأخريين بفاتحة الكتاب (776) بلفظ: " أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يقرأ في الظهر في الأوليين بأم الكتاب، وسورتين، وفي الركعتين الأخريين بأم الكتاب، ويسمعنا الآية.. "

وستأتي الأدلة التي تدل على أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقرأ سوراً من القرآن مع الصلوات الجهرية. وذهب طائفة من الصحابة وهو مذهب بعض المالكية وبعض الأحناف وحكي رواية عن الإمام أحمد: إلى أن ذلك واجب أي يجب على الإمام والمنفرد أن يقرأ مع فاتحة الكتاب ما تيسر. واستدلوا بدليلين صحيحين: كما ثبت في مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا صلاة لمن لم يقرأ بأم القرآن فصاعداً) (1) . قالوا: فهنا قال النبي صلى الله عليه وسلم " فصاعداً " فدل ذلك على أنه يجب عليه أن يقرأ مع فاتحة الكتاب سورة وأنه لا يجزئه سوى ذلك. ما ثبت في أبي داود من حديث أبي سعيد الخدري: قال: (أمر النبي صلى الله عليه وسلم أن نقرأ أم الكتاب وما تيسر) (2) . قالوا: فهذا أمر وظاهر الأمر وجوب ذلك.

_ (1) أخرجه مسلم في كتاب الصلاة، باب (11) وجوب قراءة الفاتحة في كل ركعة.. (394) قال: " وحدثناه إسحاق بن إبراهيم وعبد بن حميد، قالا: أخبرنا عبد الرزاق، أخبرنا معمر، عن الزهري بهذا الإسناد مثله، وزاد (فصاعدا) ، وأخرجه أبو داود في كتاب الصلاة، باب (136) من ترك القراءة في صلاته بفاتحة الكتاب (822) . (2) أخرجه أبو داود في أول باب (136) من ترك القراءة في صلاته بفاتحة الكتاب، من كتاب الصلاة (818) .

وأما الجمهور فاستدلوا: بما ثبت في أبي داود في قصة صلاة معاذ بأصحابه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال للفتى: ما تصنع يا ابن أخي إذا أنت صليت؟ فقال: " أقرأ بفاتحة الكتاب وأسأل الله الجنة وأعوذ به من النار ولا أدري ما دندنتك ولا دندنة معاذ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (إني ومعاذاً حول هاتين ندندن) (1) وفي رواية " حولها ندندن ". والدندنة هو الصوت الذي يسمع ولا يفقه. فهنا النبي صلى الله عليه وسلم أقره على ذلك، ولم يقرأ إلا بالفاتحة. وأجابوا عن الحديثين الأولين: أما ما رواه مسلم: (لا صلاة لمن لم يقرأ بأم القرآن فصاعداً) . قالوا: فالجواب عليه: من جهتين: الجهة الأولى: في ثبوته. الجهة الثانية: في الاستدلال به. أما الجهة الأولى: فإن الحديث قد أعله البخاري بتفرد معمر فعامة الرواة يرونه بلفظ: (لا صلاة لمن لم يقرأ بأم القرآن) (2) وتفرد معمر فرواه بهذا اللفظ عن سائر الرواة فيكون اللفظ شاذاً.

_ (1) أخرجه أبو داود في كتاب الصلاة، باب (127) في تخفيف الصلاة (793) بلفظ عن جابر، ذكر قصة معاذ، قال، وقال - يعني النبي - صلى الله عليه وسلم - - للفتى: (كيف تصنع يا ابن أخي إذا صليت) قال: اقرأ بفاتحة الكتاب، وسأل الله الجنة.. "، وابن ماجه في كتاب إقامة الصلاة، باب (26) ما يقال بعد التشهد والصلاة على النبي - صلى الله عليه وسلم - (910) ولفظه: عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لرجل ما تقول في الصلاة؟ قال: أتشهد ثم أسأل الله الجنة وأعوذ به من النار، أما والله ما أحسن دندنتك ولا دندنة معاذ، قال (حولها ندندن) . (2) تقدم قريبا.

لكن وردت متابعة له في سنن أبي داود من حديث سفيان ابن عيينة بلفظة " فصاعداً " لكن الذي يظهر أن هذه المتابعة لا تزيل الحكم عن الشذوذ؛ لأن سائر الرواة سوى سفيان ومعمر رووه باللفظ المتقدم، فتكون المخالفة منهما. ولو قلنا بثبوته، فهنا الجواب الثاني، من جهة الاستدلال به: فإن هذا الحديث نظير قول النبي صلى الله عليه وسلم: (لا تقطع اليد إلا في ربع دينار فصاعداً) (1) ومعلوم من الأدلة الشرعية والذي عليه أهل العلم أنها تقطع في ربع دينار فالحديث معناه: تقطع اليد في ربع دينار فأكثر. وكذلك هذا الحديث يحمل على هذا الحمل وهو ظاهر في ذلك، فيكون المعنى: لا صلاة مجزية إلا بالفاتحة ومع فاتحة الكتاب آيات أخر. وأما الجواب على حديث أبي سعيد: فإن الأمر فيه يحمل على الإرشاد والاستحباب. والواو هنا إنما تفيد دلالة الاقتران ودلالة الاقتران ضعيفة عند الأصوليين، والذي حملنا على ذلك ما تقدم من حديث أبي داود فإن فيه الإجزاء بقراءة فاتحة الكتاب. فالراجح: مذهب عامة العلماء من أن فاتحة الكتاب تجزئ في الصلاة، أما قراءة آيات أخر أو سورة أخرى فذلك مستحب. قال المؤلف: (تكون في الصبح من طوال المفصل وفي المغرب من قصاره وفي الباقي من أوساطه) المفصل اتفق العلماء على أن نهايته سورة الناس واختلفوا في أوله: فذهب الجمهور: إلى أن أوله سورة الحجرات. وذهب الحنابلة: إلى أن أوله سورة " ق ". …وما ذهب إليه الحنابلة هو الراجح الصحيح، وصححه الحافظ في الفتح.

ويدل عليه: ما ثبت في أبي داود وابن ماجه ومسند أحمد والحديث إسناده حسن كما قال ذلك ابن كثير في فضائل القرآن وهو كما قال: من حديث أوس بن حذافة (1) الثقفي قال: سألت أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم: كيف يحزبون القرآن؟ فقالوا: (ثلاث ثم خمس ثم سبع ثم تسع ثم إحدى عشر ثم ثلاث عشرة ثم المفصل) (2) ويتم العدد المتقدم وهو عدد ثلاث مع خمس مع سبع وتسع وإحدى عشر وثلاث عشر فيتم بما دون سورة " ق " فيكون شروع المفصل بسورة " ق " فهو الحزب السابع من أحزاب القرآن. وسمي مفصلاً لكثرة الفواصل بين سوره ببسم الله الرحمن الرحيم، وذلك لقصرها. فالراجح ما ذهب إليه الحنابلة من أن أول المفصل سورة " ق "، وطواله إلى النبأ، وأوساطه إلى الضحى، وقصاره إلى الناس. قال: (تكون في الصبح بطواله وفي المغرب بقصاره وفي العشاء بوسطه)

_ (1) كذا في الأصل، ولعل الصواب: حذيفة، كما سيأتي. (2) أخرجه أبو داود في كتاب الصلاة، باب (326) تحزيب القرآن (1393) قال: " حدثنا مسدد، أخبرنا قُران بن تمام ح وحدثنا عبد الله بن سعيد، أخبرنا أبو خالد، وهذا لفظه، عن عبد الله بن عبد الرحمن بن يعلى، عن عثمان بن عبد الله بن أوس، عن جده، قال عبد الله بن سعيد في حديثه: أوس بن حذيفة قال: قدمنا على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في وفد ثقيف..، وأخرجه ابن ماجه في كتاب إقامة الصلاة، باب (178) في كم يستحب يختم القرآن (1345) عن عثمان بن عبد الله بن أوس عن جده أوس بن حذيفة قال: " قدمنا على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في وفد ثقيف فنزلوا الأحلاف على المغيرة بن شعبة … قال أوس: فسألت أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كيف تحزبون القرآن، قالوا: ثلاث وخمس.. ".

كما ثبت في النسائي بإسناد صحيح (1) . قوله: " فلان " لم يسم وليس عمر بن عبد العزيز؛ لأنه لم يولد إلا بعد وفاة أبي هريرة. سلمان بن يسار قال: كان فلان يطيل الظهر ويخفف العصر ويقرأ في المغرب بقصار المفصل وفي العشاء بوسطه وفي الفجر بطواله " فقال أبو هريرة: ما صليت وراء أحد أشبه صلاة بصلاة النبي صلى الله عليه وسلم من هذا ". هذا هو المستحب في الغالب، وإلا فقد وردت الأدلة الشرعية بخلاف هذا. بل المداومة على ذلك ينبغي القول بعدم استحبابها وأنها خلاف السنة، فقد ثبت في البخاري عن مروان بن الحكم قال: قال لي زيد بن ثابت: " ما لك تقرأ في المغرب بقصار المفصل، وقد سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ بطول الطوليين " (2) وهي سورة الأعراف. والطوليان هما سورة الأنعام وسورة الأعراف، والطولى هو أطول السورتين هي سورة الأعراف.

_ (1) أخرجه النسائي في كتاب الافتتاح، باب (61) تخفيف القيام والقراءة (982) قال: " أخبرنا هارون بن عبد الله، قال حدثنا ابن أبي فُديك عن الضحاك بن عثمان، عن بكير بن عبد الله، عن سليمان بن يسار عن أبي هريرة قال: ما صليت رواء أحد أشبه صلاة برسول الله - صلى الله عليه وسلم - من فلان، قال سليمان: كان يطيل الركعتين الأوليين من الظهر ويخفف الأخريين ويخفف العصر ويقرأ في المغرب بقصار المفصل ويقرأ في العشاء بوسط المفصل ويقرأ في الصبح بطول المفصل ". (2) أخرجه البخاري في كتاب الأذان، باب (98) القراءة في المغرب (764) بلفظ: عن مروان بن الحكم قال: قال لي زيد بن ثابت: ما لك تقرأ في المغرب بقصارٍ، وقد سمعت النبي - صلى الله عليه وسلم - يقرأ بطولى الطوليين؟ ". وأخرجه أبو داود في كتاب الصلاة، باب (132) قدر القراءة في المغرب (812) . والنسائي في كتاب الافتتاح، باب (67) القراءة في المغرب بـ " المص " (991) .

وقد ثبت التصريح بها في سنن أبي داود وأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقرأ بها في المغرب، وفي النسائي أنه يقرأ بها في الركعتين كلتيهما (1) . وثبت في الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم: (قرأ في المغرب بالطور) (2) وفي الصحيحين أيضاً: (أنه قرأ بالمرسلات) (3) . وفي الطبراني في الكبير بإسناد صحيح: (أنه قرأ بالأنفال) (4) . وفي ابن خزيمة بإسناد صحيح: (أنه قرأ بسورة محمد) (5) والفجر الغالب أن يقرأ فيها بطوال المفصل لكنه ربما قرأ فيها بقصار المفصل؛ فقد ثبت في سنن أبي داود بإسناد صحيح: أن النبي صلى الله عليه وسلم قرأ في الفجر في سفر: بـ (قل أعوذ برب الفلق " و " قل أعوذ برب الناس " (6) وفي أبي داود بإسناد صحيح: أنه قرأ بـ " إذا زلزلت الأرض زلزالها في الركعتين كلتيهما" (7) أي في كل ركعة قرأها.

_ (1) تقدما قريبا. (2) أخرجه البخاري في كتاب الأذان، باب (99) الجهر في المغرب (765) ، ومسلم (578) . (3) أخرجه البخاري في كتاب الأذان، باب (98) القراءة في المغرب (763) ، ومسلم (462) . (6) أخرجه أبو داود في كتاب الصلاة، باب (354) في المعوذتين (1462) . (7) أخرجه أبو داود في كتاب الصلاة، باب (134) الرجل يعيد سورة واحدة في الركعتين (816) .

وفي مسلم: أنه قرأ بـ " إذا الشمس كورت " (1) كما أنه ثبت عنه " أنه قرأ في الروم " (2) كما ثبت في سنن النسائي. قال: (وفي الباقي من أوساطه) في الباقي: في صلاة العشاء وصلاة الظهر والعصر يقرأ بأوساط المفصل

_ (1) أخرجه مسلم في كتاب الصلاة، باب (35) القراءة في الصبح (456) بلفظ: " عن عمرو بن حُريث أنه سمع النبي - صلى الله عليه وسلم - يقرأ في الصبح {والليل إذا عسعس} ، وفي باب (39) متابعة الإمام والعمل بعده (475) بلفظ " عن عمرو بن حريث قال: صليت خلف النبي - صلى الله عليه وسلم - الفجر فسمعته يقرأ {فلا أقسم بالخنس، الجوار الكنس} ، وكان لا يحني رجل منا ظهره حتى يستتم ساجدا ". وأخرجه النسائي بلفظ " سمعت النبي - صلى الله عليه وسلم - يقرأ في الفجر إذا الشمس كورت "، كتاب الافتتاح، باب (44) القراءة في الصبح بـ إذاالشمس كورت (951) . (2) أخرجه النسائي في كتاب الافتتاح، باب (41) القراءة في الصبح بالروم (947) قال رحمه الله: " أخبرنا محمد بن بشار، قال: حدثنا عبد الرحمن، قال: أنبأنا سفيان، عن عبد الملك بن عمير، عن شبيب أبي روح، عن رجل من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه صلى صلاة الصبح فقرأ الروم، فالتبس عليه، فلما صلى قال: (ما بال أقوام يصلون معنا لا يحسنون الطهور، فإنما يلبس علينا القرآن أولئك) . قال الألباني رحمه الله في تحقيقه لمشكاة المصابيح، [1 / 97] حديث (295) : " ورجاله ثقات إلا أن عبد الملك بن عمير كان تغير حفظه، بل قال فيه ابن معين: مختلط، وقال ابن حجر: وربما دلس ".

أما صلاة العشاء فتقدم الحديث الوارد فيها (1) ، وأما الظهر والعصر فثبت في أبي داود والترمذي والنسائي أن النبي صلى الله عليه وسلم: (كان يقرأ في صلاة الظهر والعصر بـ " والسماء ذات البروج " و " والسماء والطارق ") (2) وهما من أوساط المفصل. لكن الظاهر أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن غالب أمره على هذا، فالظاهر أنها كانت غالب صلاة النبي صلى الله عليه وسلم لها الإطالة، فقد ثبت في مسلم من حديث أبي سعيد الخدري أن النبي صلى الله عليه وسلم: (كان يقرأ في الظهر بقدر " الم تنزيل السجدة " وفي رواية " بقدر ثلاثين آية " وفي الأوليين من العصر على النصف من ذلك) (3) . - وهو رواية عن الإمام أحمد اختارها الخرقي وطائفة من أصحابه: وأنه يستحب أن يطول والظهر وأن تكون صلاة العصر على النصف من الركعتين الأوليين من صلاة الظهر. ومما يدل عليه ما ثبت في مسلم قال الراوي: (كانت صلاة الظهر تقام فيذهب الذاهب إلى البقيع فيقضي حاجته ثم يأتي أهله فيتوضأ ثم يأت النبي صلى الله عليه وسلم في الركعة الأولى مما يطولها) (4) فهذا يدل على أن سنته في الظهر الإطالة.

_ (1) أخرجه النسائي، وقد تقدم صْ 85. (2) أخرجه أبو داود في كتاب الصلاة، باب (131) قدر القراءة في صلاة الظهر والعصر (805) بلفظ: عن جابر بن سمرة، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يقرأ في الظهر والعصر بالسماء والطارق والسماء ذات البروج ونحوهما من السور " وأخرجه النسائي والترمذي (307) وقال: " حديث حسن صحيح ". سنن أبي داود [1 / 506] . (3) أخرجه مسلم في كتاب الصلاة، باب (34) القراءة في الظهر والعصر (452) . (4) أخرجه مسلم في كتاب الصلاة، باب (34) القراءة في الظهر والعصر (454) .

وفي النسائي: أن النبي صلى الله عليه وسلم: (سمع وهو يقرأ في الظهر بالذاريات) (1) . فالسنة – على الراجح – في الظهر أن تكون طويلة بنحو ما يكون في صلاة الفجر، وصلاة العصر تصلى على النصف من ذلك. وقد تقدم حديث سلمان بن يسار: (كان فلان يطول الظهر ويخفف العصر) ، " قال أبو هريرة ما صليت وراء أحد أشبه صلاة بالنبي صلى الله عليه وسلم من هذا ". وهنا مسائل في القراءة بعد الفاتحة: اعلم أن المشروع له أن يرتب السور كما وردت في المصحف فيقرأ في الركعة الأولى سورة مقدمة على الركعة الثانية – هذا المستحب جرياً على ترتيب المصحف – الذي جرى عليه الخلفاء الراشدون. المشهور في المذهب كراهية عكس ذلك. وعن الإمام أحمد: أنه لا كراهية في ذلك وهذا هو الأظهر، كما ثبت في صحيح مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم: (قرأ في قيام الليل بالبقرة ثم النساء ثم آل عمران) (2) فهنا النبي صلى الله عليه وسلم لم يرتب بين السور فدل على جوازه. وثبت في البخاري معلقاً: (أن عمر قرأ في الصبح في الركعة الأولى بالكهف وفي الركعة الثانية بسورة يوسف أو يونس) (3) والشك في الرواية.

_ (1) أخرجه النسائي في كتاب الافتتاح، باب (55) القراءة في الظهر (971) قال: " أخبرنا محمد بن إبراهيم بن صُدْران، قال حدثنا سَلْمُ بن قُتيبة، قال حدثنا هاشم بن البريد عن أبي إسحاق عن البراء قال: كنا نصلي خلف النبي - صلى الله عليه وسلم - الظهر فنسمع منه الآية بعد الآيات من سورة لقمان والذاريات ". (2) أخرجه مسلم في كتاب صلاة المسافرين، باب (27) استحباب تطويل القراءة في صلاة الليل (772) . (3) قال البخاري: " وقرأ الأحنف بالكهف في الأولى، وفي الثانية بيوسف أو يونس، وذكر أنه صلى مع عمر رضي الله عنه الصبح بهما " في باب (106) الجمع بين السورتين في الركعة، من كتاب الأذان.

وحيثما كان اليقين من الشك هنا فإن السورتين كليهما متقدمة على سورة الكهف. فالأظهر جوازه لكن المستحب أن يرتبها على الترتيب في المصحف. وقد يقال بكراهية المداومة على ذلك، فإن في المداومة على ذلك مخالفة صريحة ظاهرة للترتيب الذي جرى عليه المصحف عن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم. أما عدم الترتيب بين الآيات، وذلك بأن يقرأ في الركعة الأولى بآيات من آخر السورة وفي الثانية آيات من وسطها أو أولها: فجمهور العلماء على أن ذلك مكروه، وكراهيته أشد من كراهية الأول، لأن ترتيب الآيات ترتيب وارد عن النبي صلى الله عليه وسلم بالنص. وأما ترتيب السور فإن المشهور عند جمهور العلماء إنه بالاجتهاد أي اجتهاد الصحابة. ثم إنه مظنة تغيير المعاني، فكان ذلك مكروهاً. وعند الإمام أحمد أنه جائز، وهذا القول لا بأس به وهو قول قوي لكن بحيث تثبت من عدم تغيير المعاني وحيث لم يعتد ذلك، لأن النبي صلى الله عليه وسلم [قال] : (ثم اقرأ ما تيسر معك من القرآن) وهذا ما تيسر سواء قدم أو أخر فلا حرج. أما تنكيس الكلمات في الآية نفسها فهو محرم إجماعاً ومبطل للصلاة، لأنه يخرج عن أن يكون قرآناً حيث نكس، وحيث خرج من أن يكون قرآناً فهو كلام أجنبي عن الصلاة – وحيث كان كلاماً أجنبياً فهو مبطل للصلاة مفسد لها. إذن: هي ثلاث صور: تنكيس الكلمات وهذا محرم وهو مبطل للصلاة. تنكيس الآيات وهذا مكروه عند أكثر الفقهاء وهو مذهب الجمهور، وعن الإمام أحمد عدم كراهيته. تنكيس السور، والمشهور عند الحنابلة والشافعية أنه مكروه والأظهر عدم كراهيته. واعلم أن قراءة شيء من الآيات القرآنية من وسط سور القرآن أو أوله أو آخره لا بأس به ولا حرج. أي يقرأ من وسط سورة وأولها أو آخرها فلا بأس لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال في حديث أبي سعيد: " ما تيسر " وقراءة شيء من وسط السورة ونحوه مما تيسر.

لكن مداومته كما قال شيخ الإسلام مكروهة، لأنها تتضمن ترك السنة الواردة عن النبي صلى الله عليه وسلم. واعلم أنه يجوز للمصلي أن يقرأ بعد الفاتحة بسورتين فأكثر ومما يدل عليه ما ثبت في البخاري: (أن إمام مسجد قباء كان يقرأ قل هو الله أحد " يفتتح بها السورة التي بعد الفاتحة فذكر ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فقال: " إني أحبها فقال: حبك إياها أدخلك الجنة) (1) . وثبت من فعل النبي صلى الله عليه وسلم قراءة السورتين في الركعة من حديث ابن مسعود في البخاري (2) ، وكذلك لأنه داخل فيما تيسر من القرآن. كما أنه لا بأس أن يقرأ آية من كتاب الله فإذا قرأ آية بعد الفاتحة فإنه يجزئه ذلك عن السورة التي تقرأ بعد الفاتحة. واعلم أن محل القراءة بعد الفاتحة، فلو سبق بها الفاتحة فإنها لا تجزئه ولا يعتد بها لأنها سنة فُعلت في غير محلها، لكن الفاتحة تجزئه. قال: (ولا تصح الصلاة بقراءة خارجة عن مصحف عثمان) فإذا قرأ بقراءة هي داخلة في المصحف العثماني أجزأته اتفاقاً كأن يقرأ بشيء من القراءات السبع أو العشر أو نحوها من القراءات التي يشملها الرسم العثماني. أما إن قرأ بقراءة لا توافق المصحف العثماني فلا يجزئ عنه هذا هو المشهور في المذهب وهو مذهب الجمهور كقراءة ابن مسعود: " فصيام ثلاثة أيام متتابعات " (3) فالمشهور في المذهب وهو مذهب الجمهور أنه لا يجوز أن يقرأ بشيء من القراءات الثابتة بالسند الصحيح لكنها لا تدخل في المصحف العثماني. ودليل هؤلاء: أنها ليست متواترة والمشروع من القراءة أن تكون متواترة.

_ (1) أخرجه البخاري في كتاب الأذان، باب (106) الجمع بين السورتين في الركعة (774) . (2) أخرجه البخاري في كتاب الأذان، باب (106) الجمع بين السورتين في الركعة (775) ، وفي كتاب فضائل القرآن، ومسلم (822) .

- والقول الثاني، وهو رواية عن الإمام أحمد والإمام مالك واختاره ابن تيمية وابن القيم: أنه يجزئه ذلك لأنه بثبوته بالسند الصحيح يثبت قرآناً، وقد كان هؤلاء الصحابة الذين ثبتت عنهم قراءات لا تدخل في الرسم العثماني كانوا يقرؤون بها في عهد النبي صلى الله عليه وسلم وبعده وكانت ولا شك تجزئ عنهم. بل كان النبي صلى الله عليه وسلم يحث على أخذ القرآن عن ابن مسعود وقد ورد عنه مثل هذه الآية التي تخالف ما استقر عليه المصحف عهد عثمان. ومعلوم أن ما استقر عليه المصحف في عهد عثمان ليس حاوياً للمصحف كله بل هو حاوٍ لشيء فيه وضع على هذه الهيئة درءاً للخلاف والفتنة والفرقة في كتاب الله تعالى – وحيث أنه من القرآن لثبوته بالسند الصحيح إلى هذا الصحابي فإنه لا مانع من أن يقرأ به – وهذا هو القول الراجح. وكونه ليس بمتواتر يقال: ليس بشرط هذا فإن كثيراً من أفراد القراءات الواردة عن القراء السبعة ليست بمتواترة، وادعاء أنها متواترة ليس بصحيح، بل إن كثيراً منها ليس بمتواتر وإنما يعود إلى غرابة السند أو عزته أو شهرته وليس كلها متواتر. وإنما القرآن متواتر في مجموعه، وأما آحاد القراءات وأفرادها فإن القول بتواترها مجرد دعوى. فعليه: إذا ثبت بالسند الصحيح إلى الصحابي فإنه يقرأ به وتصح به الصلاة، لكن ينبغي فعل هذا حيث لا تكون هناك فتنة وفرقة. إذن: كل قراءة وافقت المصحف فيجوز القراءة بها في الصلاة اتفاقاً. فإن لم توافق المصحف وصح سندها: فالمشهور في المذهب أن القراءة لا تصح بها (1) . والراجح – وهو رواية عن الإمام أحمد – بل قال شيخ الإسلام ابن تيمية: " هي أنصهما " أي أنص الروايتين عن الإمام أحمد هذه الرواية التي فيها أن القراءة التي لا تدخل في المصحف العثماني مع صحة سندها قرآن يقرأ به ويحتج به في الأحكام الشرعية. والحمد لله رب العالمين الدرس الخامس والسبعون

_ (1) في الأصل: فيها.

(يوم السبت: 27 / 3 / 1415هـ) قال المصنف رحمه الله: (ثم يركع مكبراً رافعاً يديه ويضعهما على ركبتيه مفرجي الأصابع مستوياً ظهره) قوله: " ثم يركع " لقوله تعالى: {ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا} (1) وقال تعالى: {وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ} (2) ولقوله صلى الله عليه وسلم: (ثم اركع حتى تطمئن راكعاً) (3) في حديث المسيء صلاته، وهو ركن من أركان الصلاة وسيأتي الكلام عليها. " مكبراً " أي بأن يقول: " الله أكبر " وهي تكبيرة الانتقال من ركن القيام إلى ركن الركوع. وقد ثبت في الصحيحين عن أبي هريرة: (كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا قام إلى الصلاة يكبر حين يقوم ثم يكبر حين يركع ثم يقول سمع الله لمن حمده حين يرفع صلبه من الركوع ثم يقول وهو قائم: ربنا ولك الحمد ثم يكبر حين يسجد ثم يكبر حين يرفع رأسه ثم يفعل مثل ذلك في الصلاة كلها حتى يقضيها، ويكبر حين يرفع رأسه من المثنى) (4) أي الجلوس أي حين يقوم من الركعتين الأولين في الصلاة الرباعية أو الثلاثية.

_ (1) الحج: من الآية77) (2) البقرة: من الآية43 (3) أخرجه البخاري في كتاب الأذان، باب (95) وجوب القراءة للإمام والمأموم (757) ، وباب (122) أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - الذي لا يتم ركوعه بالإعادة (793) ، وأخرجه مسلم (397) . وقد تقدم صْ 61. (4) أخرجه البخاري في كتاب الأذان، باب (117) التكبير إذا قام من السجود (789) بلفظ: " كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا قام إلى الصلاة يكبر حين يقوم، ثم يكبر حين يركع، ثم يقول: سمع الله لمن حمده، حين يرفع صلبه من الركعة، ثم يقول وهو قائم: ربنا لك الحمد، قال عبد الله: ولك الحمد، ثم يكبر حين يهوي، ثم يكبر حين يرفع رأسه، ثم يكبر حين يسجد، ثم يكبر حن يرفع رأسه، ثميفعل ذلك في الصلاة كلها حتى يقضيها، ويكبر حين يقوم من الثنتين بعد الجلوس "، وأخرجه مسلم (392) .

فهذا الحديث فيه تكبيرات الانتقال. " رافعاً يديه ": إما حذو منكبيه أو إلى فروع أذنيه. أما كونه يرفعهما حتى يحاذي بهما منكبيه فلحديث ابن عمر المتقدم، وفيه: (أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يرفع يديه حتى يحاذي بهما منكبيه حين يقوم إلى الصلاة وإذا أراد الركوع وبعد ما يرفع رأسه من الركوع) (1) . وأما كونه يرفعها إلى حيال أذنيه فلما روى النسائي بإسناد صحيح إلى مالك بن الحويرث: (أن النبي صلى الله عليه وسلم: كان يرفع يديه إذا ركع وإذا رفع رأسه من الركوع وإذا سجد وإذا رفع رأسه من السجود حتى يحاذي بهما فروع أذنيه) (2) . فكما أنه يستحب له ذلك – أي الرفع إلى حذو المنكبين أو فروع الأذنين – في تكبيرة الإحرام، فكذلك يستحب عند الركوع، وعند رفع اليدين. - والمشهور في المذهب: أنه يستحب له أن يرفع يديه حذو منكبيه أو فروع أذنيه، يستحب ذلك مع تكبيرة الانتقال فيكون ابتداء الرفع مع ابتداء التكبير وانتهاؤه مع انتهائه. وهو مشكل على مذهبهم من أن تكبيرات الانتقال إنما تشرع عند الانتقال وتنتهي بانتهائه، فإذا كبر للركوع فإنه يشرع بالتكبير وينتهي من التكبير إذا انتهى إلى الركوع وهو قائم يقول: الله أكبر، فيمد التكبير حتى يصل إلى الركوع، فيكون الانتقال قد شمله التكبير، وحينئذ يكون الرفع لليدين فيه إشكال.

_ (1) تقدم صْ 61، حاشية رقم (131) . وهو متفق عليه. (2) أخرجه النسائي في كتاب التطبيق، باب (36) رفع اليدين للسجود (1085) ، (1086) ، (1087) .

- والأظهر أن رفع اليدين والتكبيرة إنما يشرعان قبل الركوع، فيكبر ويرفع يديه ثم يركع، وهو ما دل عليه حديث أبي حميد الساعدى في سنن أبي داود بإسناد صحيح قال: (ثم يكبر فيرفع يديه حتى يحاذى بهما منكبيه ثم يركع) (1) وظاهر ذلك أن التكبير والرفع قبل الركوع. فعلى ذلك المشروع أن يكبر رافعاً يديه ثم يركع، فيكونان أي التكبير والرفع قبل الانتقال. (ويضعهما على ركبتيه) لما ثبت في الصحيحين من حديث مصعب بن سعد بن أبي وقاص، قال: " ركعت فجعلت يدي بين فخذي أو قال بين ركبتي فنهاني أبي وقال: كنا نفعل هذا فنهينا عنه وأمرنا أن نضع أيدينا على الركب) (2) .

_ (1) أخرجه أبو داود في كتاب الصلاة، باب افتتاح الصلاة (729) قال: " حدثنا أحمد بن حنبل، حدثنا أبو عاصم الضحاك بن مخلد ح، وحدثنا مسدد، حدثنا يحيى، وهذا حديث أحمد، قال: أخبرنا عبد الحميد - يعني ابن جعفر - أخبرني محمد بن عمر بن عطاء قال: سمعت أبا حميد الساعدي في عشرة من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - منهم أبو قتادة قال أبو حميد: أنا أعلمكم بصلاة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قالوا: فلم؟ فوالله ما كنت بأكثرنا له تبعة ولا أقدمنا له صحبة، قال: بلى، قالوا: فاعرض قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا قام إلى الصلاة … ثم يقرأ ثم يكبر فيرفع يديه حتى يحاذي بهما منكبيه ثم يركع ويضع راحتيه على ركبتيه … ". (2) أخرجه البخاري في كتاب الأذان، باب (118) وضع الأكف على الركب في الركوع (790) بلفظ: " قال: سمعت مصعب بن سعد يقول: صليت إلى جنب أبي، فطبَّقْتُ بين كفيَّ،ثم وضعتُهُما بين فخذي، فنهاني أبي، وقال: كنا نفعله فنهينا عنه، وأمرنا أننضع أيدينا على الركب " وأخرجه مسلم (535) .

ويمكنهما من ركبتيه كما في البخاري من حديث أبي حميد الساعدى قال: (ثم ركع فأمكن يديه من ركبتيه ثم هصر ظهره) (1) أي ثناه. ويكون كالقابض لهما، لما ثبت في سنن أبي داود وعن أبي حميد الساعدى قال: (ثم أمكن يديه من ركبتيه كأنه قابض عليهما) (2) (مفرجي الأصابع) قال أبو حميد – في حديثه المتقدم في أبي داود -: (ثم أمكن يديه من ركبتيه وفرَّج بين أصابعه) (3) . كما أنه يستحب له أن يجافي يديه عن جنبه، كما في حديثه في أبي داود أيضاً بإسناد صحيح وقال: (ووتَّر يديه فجافي عن جنبيه) (4) " ووتر: أي نحاهما. قال: (مسوياً ظهره)

_ (1) أخرجه البخاري في باب (145) سنة الجلوس في التشهد (828) بلفظ: " فقال أبو حميد الساعدي: أنا كنت أحفظكم لصلاة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، رأيته إذا كبر جعل يديه حذاء منكبيه، وإذا ركع أمكن يديه من ركبتيه ثم هصر ظهره.. ".أخرجه أبو داود في الباب السابق (731) قال: " حدثنا قتيبة بن سعيد، حدثنا ابن لهيعة عن يزيد - يعني ابن أبي حبيب - عن محمد بن عمرو بن حلْحَلة عن محمد بن عمرو العامري قال: كنت في مجلس من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فتذاكروا صلاة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال أبو حميد، فذكر بعض هذا الحديث وقال: " فإذا ركع أمكن كفيه من ركبتيه وفرَّج بين أصابعه ثم هصر ظهره.. " (2) وأخرجه أبو داود في الباب السابق برقم (734) ولفظه: " ثم ركع فوضع يديه على ركبتيه كأنه قابض عليهما ". (3) أخرجه أبو داود في الباب السابق (731) بلفظه: " فإذا ركع أمكن كفَّيْه من ركبتيه، وفرَّج بين أصابعه ثم هصر ظهره.. ". (4) أخرجه أبو داود في الباب السابق (734) ولفظه: ".. ووتَّر يديه فتجافى عن جنبيه.. "

فيكون الظهر مستوياً، وقد تقدم: (ثم هصر ظهره) (1) أي ثناه. وفي أبي داود من حديث المسيء صلاته: (وامدد ظهرك) (2) وفي ابن ماجه بإسناد صحيح: أن النبي صلى الله عليه وسلم: (كان يسوى ظهره حتى لو صب عليه الماء لاستقر) (3) .

_ (1) أخرجه البخاري في كتاب الأذان، باب (145) سنة الجلوس في التشهد (828) ، وذكره معلقا في باب (120) استواء الظهر في الركوع من كتاب الأذان أيضا. (2) أخرجه أبو داود في باب (148) صلاة من لا يقيم صلبه في الركوع والسجود رقم (859) قال: " حدثنا وهب بن بقيه، عن خالد، عن محمد - يعني ابن عمرو - عن علي بن يحيى بن خلاد عن أبيه عن رفاعة بن رافع بهذه القصة قال: (إذا قمت فتوجهت إلى القبلة فكبر … وإذا ركعت فضع راحتيك على ركبتيك وامدُدْ ظهرك ". (3) أخرجه ابن ماجه في كتاب إقامة الصلاة، باب (16) الركوع في الصلاة (872) قال: " حدثنا إبراهيم بن محمد بن يوسف الفريابي حدثنا عبد الله بن عثمان بن عطاء حدثنا طلحة بن زيد عن راشد قال: سمعت وابصة بن معبد يقول: " رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصلي فكان إذا ركع سوَّى ظهره حتى لو صب عليه الماء لاستقر " قال البوصيري: " هذا إسناد ضعيف، فيه طلحة بن زيد، قال فيه البخاري وغيره: منكر الحديث، وقال أحمد وابن معين: يضع الحديث، قلت: وله شاهد من حديث ابن عباس، رواه أبو يعلى أحمد بن علي بن المثنى الموصلي في مسند "، وانظر السلسلة الصحيحة (3331) .

ويكون رأسه غير مصوَّب ولا مشخص بل يكون بإزاء ظهره، كما ثبت هذا في حديث عائشة في صحيح مسلم قالت: (فإذا ركع لم يشخص رأسه ولم يصوبه) (1) . (لم يشخصه) أي لم يرفعه، (لم يصوبه) أي لم يخفضه. كما أن رأسه يكون معتدلاً غير منحرف عن اليمين ولا عن الشمال، ففي أبي داود – من حديث أبي حميد المتقدم -: (ولا صافح بخده) (2) أي قد مال بأحد صفحتي رأسه فظهرت من أحد الجنبين فهذا ليس بمستحب. قال: (ويقول سبحان ربي العظيم) كما ثبت في مسلم من حديث حذيفة قال: (كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول في ركوعه " سبحان ربي العظيم " وفي سجوده " سبحان ربي الأعلى ") (3) .

_ (1) أخرجه مسلم في كتاب الصلاة، باب (46) ما يجمع صفة الصلاة وما يفتتح … (498) وهو آخر حديث في هذا الباب، وأخرجه أبو داود في باب من لم يجهر ببسم الله الرحمن الرحيم من كتاب الصلاة، وابن ماجه، والإمام أحمد في المسند 6 / 31، 194. المغني [2 / 176] . (2) أخرجه أبو داود في الباب السابق (731) وفيه: ".. ثم هصر ظهره غير مُقنع رأسه ولا صافح بخده.. " (3) أخرجه مسلم في كتاب صلاة المسافرين وقصرها، باب (27) استحباب تطويل القراءة في صلاة الليل (772) بلفظ: " عن حذيفة قال: صليت مع النبي - صلى الله عليه وسلم - ذات ليلة فافتتح البقرة … ثم ركع فجعل يقول: سبحان ربي العظيم، فكان ركوعه نحوا من قيامه ثم قال …. ثم سجد فقال: (سبحان ربي الأعلى) ".

ويستحب أن يكون ذلك ثلاثاً وذلك أدناه ن لما روى أبو داود عن ابن مسعود بإسناد منقطع وله شواهد يرتقى بها إلى درجة الحسن: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا ركع أحدكم فليقل سبحان ربي العظيم ثلاث مرات وذلك أدناه، وإذا سجد فليقل سبحان ربي الأعلى ثلاث مرات وذلك أدناه) (1) . قال الترمذي: وعليه العمل عند أهل العلم. وهل يستحب له أن يزيد لفظة (وبحمده) ؟ اختلفت الرواية عن الإمام أحمد:

_ (1) أخرجه أبو داود في كتاب الصلاة، باب (154) مقدار الركوع والسجود (886) قال: " حدثنا عبد الملك بن مروان الأهوازي، حدثنا أبو عامر وأبو داود، عن ابن أبي ذئب، عن إسحاق بن يزيد الهذلي، عن عون بن عبد الله، عن عبد الله بن مسعود قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (إذا ركع أحدكم فليقل ثلاث مرات: سبحان ربي العظيم، وذلك أدناه، وإذا سجد فليقل سبحان ربي الأعلى، ثلاثا، وذلك أدناه " قال أبو داود: هذا مرسل، عون لم يدرك عبد الله، وأخرجه ابن ماجه والترمذي 261 وقال: " حديث ابن مسعود ليس إسناده بمتصل، عون بن عبد الله بن عتبة لم يلق ابن مسعود "، وقال المنذري في مختصره: وذكره البخاري في تاريخه الكبير وقال: مرسل " سنن أبي داود [1 / 550] .

فعن الإمام احمد: كراهية ذلك لأنها لم تثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم بسند مقبول، وإنما رواها أبو داود في سننه من حديث عقبة بن عامر (1) ، ثم قال أبو داود: " لكن يخاف ألا تكون محفوظة " وفيها رجل لم يسم، وعامة ما ورد من الشواهد لها فهي معللة فلا يصح لها شاهداً. وعن الإمام أحمد: أنه لا بأس بها واختارها المجد بن تيمية ويشهد لذلك ما ثبت في الصحيحين: أن النبي صلى الله عليه وسلم: (كان يكثر أن يقول في ركوعه وسجوده سبحانك اللهم ربنا وبحمدك اللهم اغفر لي) (2) .

_ (1) أخرجه أبو داود في كتاب الصلاة، باب (151) ما يقول الرجل في ركوعه وسجوده (870) قال: " حدثنا أحمد بن يونس، حدثنا الليث - يعني ابن سعد - عن أيوب بن موسى أو موسى بن أيوب، عن رجل من قومه، عن عقبة بن عامر بمعناه زاد قال: فكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا ركع قال: (سبحان ربي الأعلى – كذا في السنن، ولعلها: العظيم - وبحمده) ثلاثا، وإذا سجد قال: (سبحان ربي الأعلى وبحمده) ثلاثا " قال أبو داود: وهذه الزيادة نخاف أن لا تكون محفوظة، قال أبو داود: انفرد أهل مصر بإسناد هذين الحديثين، حديث الربيع وحديث أحمد بن يونس "، وقال الألباني في صفة الصلاة صْ 100: " صحيح رواه أبو داود والدارقطني وأحمد والطبراني والبيهقي ". وأخرج في باب (154) مقدار الركوع والسجود (885) قال: " حدثنا مسدد، حدثنا خالد بن عبد الله، حدثنا سعيد الجريري عن السعدي، عن أبيه أو عن عمه قال: رمقت النبي - صلى الله عليه وسلم - في صلاته، فكان يتمكن في ركوعه وسجوده قدر ما يقول: سبحان الله وبحمده) ثلاثا، قال المنذري: السعدي مجهول، سنن أبي داود [1 / 550] . (2) أخرجه البخاري بنفس اللفظ في كتاب الأذان، باب (139) التسبيح والدعاء في السجود (817) ، وانظر (794) ، ومسلم (484) .

لكن الأظهر القول الأول، لأنها وإن ثبتت بهذا الحديث المتفق عليه، فإنها لا تثبت مع اللفظ الأول وهو لفظ " سبحان ربي العظيم ". لكن مع ذلك فإن كراهيتها محل نظر، والأولى تركها لكن إن فعلها فلا بأس بذلك والعلم عند الله تعالى. ومما ورد عنه صلى الله عليه وسلم في ركوعه وسجوده: ما ثبت في صحيح مسلم: أنه كان يقول في ركوعه وسجوده (سبوح قدوس رب الملائكة والروح) (1) وتقدم الحديث المتفق عليه: (وأنه يكثر القول في ركوعه وسجوده " سبحانك اللهم ربنا وبحمدك اللهم اغفر لي) (2) وفي مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول إذا ركع: (اللهم لك ركعت وبك آمنت ولك أسلمت خشع لك سمعي وبصري ومخي وعظمي وعصبي) (3) فهذا مما ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم فهذا الباب. إذن: أدنى الكمال أن يقول: سبحان ربي العظيم، وسبحان ربي الأعلى ثلاثاً. واختلفت في أتم الكمال:

_ (1) أخرجه مسلم (487) ، وأخرجه أبو داود في كتاب الصلاة، باب (151) ما يقول الرجل في ركوعه وسجوده (872) . (2) تقدم قريبا. (3) أخرجه مسلم في كتاب صلاة المسافرين، باب (26) الداء في صلاة الليل وقيامه (771) بلفظ: " عن علي بن أبي طالب عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه كان إذا قام إلى الصلاة قال: (وجهت وجهي للذي فطر السموات والأرض …، وإذا ركع قال: (اللهم لك ركعت، وبك آمنت …) بنفس اللفظ.

فاحتمل الموفق أن يكون ذلك عشر تسبيحات لما روى أبو داود في سننه عن أنس قال: (ما صليت وراء أحد أشبه صلاة بصلاة النبي صلى الله عليه وسلم من هذا الفتى – يعني عمر بن عبد العزيز – قال فحرزنا سجوده بعشر تسبيحات وركوعه بعشر تسبيحات) (1) لكن الحديث في إسناده جهالة. كما أن هذا الركوع الطويل الذي حرز بعشر تسبيحات ليس هناك ما يدل على أنه كان يقول " سبحان ربي العظيم: عشراً، فيحتمل أن يكون قد قال غيره مما ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم. لكن هذا الاحتمال هو قوي لو صح الحديث في مقدار الركوع وهو أن يكون مقدراً بعشر تسبيحات، أما أن يكون لتقدير عدد التسبيحات فهذا محل نظر لما تقدم. وقال القاضي من الحنابلة: إن كان منفرداً فبحيث لا يسهو. وينبغي – كذلك – أن يقال: ولا يمل، لأن الملل في العبادة غير مشروع، وإن كان إماماً فحيث لا يشق على المأمومين – وهذا ضابط حسن تدل عليه الأحاديث. وكان النبي صلى الله عليه وسلم يطيل في ركوعه لكنا لا نجزم أن ذلك بلفظة " سبحان ربي العظيم " فحسب بل كان – فيما يظهر – يقول غيره مما ورد عنه.

_ (1) أخرجه أبو داود في كتاب الصلاة، باب (154) مقدار الركوع والسجود (888) قال: حدثنا أحمد بن صالح وابن رافع قالا: حدثنا عبد الله بن إبراهيم بن عمر بن كيسان، حدثني أبي، عن وهب بن مأنوس قال: سمعت سعيد بن جبير يقول: سمعت أنس بن مالك يقول: ما صليت وراء أحد بعد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أشبه صلاة برسول الله - صلى الله عليه وسلم - من هذا الفتى - يعني عمر بن عبد العزيز - قال: فخَرزْنا في ركوعه عشر تسبيحات وفي سجوده عشر تسبيحات " قال أبو داود: قال أحمد بن صالح: قلت له: مأنوس أو مأبوس؟ قال: أما عبد الرزاق فيقول: مأنوس، وأما حفظي فمأنوس، وهذا لفظ ابن رافع، قال أحمد: عن سعيد بن جبير عن أنس بن مالك "، وأخرجه النسائي، سنن أبي داود [1 / 551] .

وفي الصحيحين من حديث البراء: أن النبي صلى الله عليه وسلم: (كان قيامه فركوعه فسجوده فجلسته بين السجدتين فجلسته للتشهد قريباً من السواء) (1) أي معتدلة متقاربة وليس المراد أنها بدرجة واحدة في الطول، وإنما المراد أنها متناسبة في الطول، فإذا أطال القيام أطال الركوع والسجود وغيره، وإذا خففه خففها فتكون الصلاة معتدلة. وسيأتي الكلام على القدر المجزئ من الألفاظ في الركوع وفي القدر المجزئ من الركوع في الكلام على أركان الصلاة وواجباتها. والحمد لله رب العالمين. الدرس السادس والسبعون (يوم الأحد: 28 / 3 / 1415هـ) قال المؤلف رحمه الله: (ثم يرفع رأسه ويديه قائلاً) يرفع رأسه من الركوع، ويرفع يديه حذو منكبيه أو فروع أذنيه، وتقدم دليل ذلك من حديث ابن عمر وكذلك من حديث مالك بن الحويرث وغيرهما. وهنا متى يرفع يديه حذو منكبيه هل عند شروعه بالرفع من الركوع أم عندما يستوي قائماً؟ فيه تفصيل على المذهب: - أما الإمام والمنفرد فيكون ذلك عند الاستواء بالقيام فإذا استويا قائمين شرع رفع اليدين.

_ (1) أخرجه البخاري في كتاب الأذان، باب (140) المكث بين السجدتين (820) بلفظ: " عن البراء قال: كان سجود النبي - صلى الله عليه وسلم - وركوعه وقعوده بين السجدتين قريبا من السواء ". وفي باب (121) حد إتمام الركوع والاعتدال فيه والطمأنينة (792) بلفظ: " كان ركوع النبي - صلى الله عليه وسلم - وسجوده وبين السجدتين وإذا رفع من الركوع ما خلا القيام والقعود قريبا من السواء " وانظر (801) . وأخرجه مسلم (471) .

ودليل ذلك: حديث ابن عمر المتقدم وفيه: (ثم رفع يديه بعدما رفع رأسه) (1) الحديث متفق عليه. - أما المأموم فقالوا: يرفع يديه أثناء رفع صلبه، فإذا شرع في رفع صلبه رفع يديه حتى يستوي قائماً قالوا: لأن المأموم لا يشرع في حقه ذكر بعد الاستواء قائماً، فعلى المشهور من المذهب يقول: " ربنا ولك الحمد " إذا شرع بالرفع فينتهي منها إذا استوى قائماً فلا يشرع له حينئذ أن يقول ذكراً بعد رفع رأسه وحينئذ يقارن بين رفع اليدين والذكر. والراجح: أن المأموم إنما يقول: ربنا ولك الحمد إذا استوى قائماً كالمنفرد والإمام، كما ثبت في الصحيحين من حديث أبي هريرة المتقدم وفيه: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول: (وهو قائم ربنا ولك الحمد) (2) وقد قال صلى الله عليه وسلم: (صلوا كما رأيتموني أصلي) (3) فيدخل في ذلك المأموم ولا دليل يدل على تخصيصه.

_ (1) تقدم صْ 61، وهو في البخاري بلفظ (737) " وإذا رفع رأسه من الركوع رفع يديه " وبلفظ (735) " وإذا رفع رأسه من الركوع رفعهما كذلك أيضا "، وبلفظ (736) " ويفعل ذلك إذا رفع رأسه من الركوع "، وبلفظ (738) " وإذا قال: سمع الله لمن حمده، فعل مثله "، وبلفظ (739) " وإذا قال: سمع الله لمن حمده، رفع يديه " وفي مسلم بنحو هذه الألفاظ. (2) أخرجه البخاري في كتاب الأذان، باب (117) التكبير إذا قام من السجود (789) من حديث أبي هريرة بلفظ: " كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا قام إلى الصلاة يكبر حين يقوم، ثم يكبر حين يركع، ثم يقول: سمع الله لمن حمده، حين يرفع صلبه من الركعة ثم يقول وهو قائم: ربنا لك الحمد، قال عبد الله: ولك الحمد، … "، وأخرجه مسلم (392) في كتاب الصلاة، باب (10) إثبات التكبير في كل خفض ورفع.. . (3) أخرجه البخاري، وقد تقدم صْ 51.

وأما قوله صلى الله عليه وسلم – في المتفق عليه – وهو دليل الحنابلة قوله: (إنما جعل الإمام ليؤتم به … فإذا قال: " سمع الله لمن حمده " فقولوا: " ربنا ولك الحمد ") (1) فليس في هذا ما يدل على أنه يقول ذلك أثناء رفعه، وإنما فيه أنه يقول: " ربنا ولك الحمد " بعد قول إمامه: " سمع الله لمن حمده ". والأدلة الشرعية في الصلاة تدل على أن كل ركن من أركان الصلاة يشرع له ذكر وارد، والرفع من الركوع أسوة غيره من الأركان فيشرع فيه ما يشرع في غيره من قول: " ربنا ولك الحمد ". إذن: هنا مسألتان: أحدهما تترتب على الأخرى: الأولى: هل يقول المأموم ربنا ولك الحمد عند شروعه في رفع صلبه إلى أن يستوي قائماً أم يقوله بعد استوائه قائماً؟ قولان: أصحهما أنه يقول ذلك بعد استوائه قائماً. الثانية: متى يرفع المأموم يديه هل يرفعهما إذا رفع رأسه من الركوع إلى أن يستوي قائماً أو بعد الاستواء قائماً؟ قولان لأهل العلم: وقد استدل القائلون بأنه يقولهما بعد رفع رأسه من الركوع بأنه يقول: " ربنا ولك الحمد " فكانا مقترنين، والجواب على ذلك من جهتين: الجهة الأولى: أن يقال: إن الراجح والذي دلت عليه الأدلة أنه إنما يقول: " ربنا ولك الحمد " عند رفع رأسه واستوائه قائماً. الوجه الثانية: أن يقال: لا تلازم بين الأمرين، فلو ثبت أنه يقول: " ربنا ولك الحمد " أثناء رفع رأسه، فلا تلازم بينه وبين رفع اليدين، وقد دل الدليل على أن رفع اليدين إنما يكون بعد الرفع من الركوع في الحديث المتقدم وقوله: (صلوا كما رأيتموني أصلي) . فالراجح أن المأموم كالإمام يرفع يديه إذا استوى قائماً. قال: (قائلاً إمام ومنفرد سمع الله لمن حمده)

_ (1) أخرجه البخاري في كتاب الأذان، باب (82) إيجاب التكبير وافتتاح الصلاة (732) ، (734) ، وأخرجه مسلم (411) .

أي استجاب الله تعالى حَمْد من حَمِدَه بأن يجازيه على الحمد ويثنيه عليه وهذه اللفظة " سمع الله لمن حمده " يقولها الإمام والمنفرد دون المأموم – هذا هو المشهور في المذهب –. واستدلوا بالحديث المتقدم وهو ما اتفق عليه الشيخان من قوله صلى الله عليه وسلم: (فإذا قال: سمع الله لمن حمده فقولوا: ربنا ولك الحمد) (1) قالوا: والفاء تفيد التعقيب أي يقول المأموم ذلك عقب قول إمامه " سمع الله لمن حمده " وعليه فلا يشرع أن يقول: سمع الله لمن حمده، لأنه إذا قال ذلك فلم يقلها عقيب قول إمامه، وهو مذهب الجمهور. - وذهب الشافعية وهو مذهب صاحبي أبي حنيفة: أن المأموم يقول ذلك ويشرع له. واستدلوا: بأدلة منها: ثبوت ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم وقوله: (صلوا كما رأيتموني أصلي) (2) فهذا العموم شامل للمأموم كما هو شامل للأئمة والمنفردين (3) . واستدلوا: بحديث المسيء صلاته في رواية أبي داود وفيه أن النبي صلى الله عليه وسلم [قال] : (إنه لا تتم صلاة لأحدٍ من الناس) الحديث وفيه: (ثم يقول: سمع الله لمن حمده حتى يستوي قائماً) (4) . وفي هذا الحديث فائدة: وهي أن لفظة " سمع الله لمن حمده " تقال عند رفع الصلب من الركوع إلى أن يستوي قائماً. قالوا: فهذا الحديث عام في المنفرد والإمام والمأموم.

_ (1) تقدم قريبا. (2) أخرجه البخاري، وقد تقدم صْ 51. (3) وأصرح منه ما رواه الدارقطني في سننه [1 / 700] باب (39) رقم (1290) قال: " حدثنا الحسين بن يحيى بن عياش، ثنا الحسن بن محمد، ثنا إسماعيل بن علية عن ابن عون، قال: قال محمد: " إذا قال الإمام: سمع الله لمن حمده، قال من خلفه: سمع الله لمن حمد، اللهم ربنا لك الحمد ". (4) أخرجه أبو داود في كتاب الصلاة، باب (148) صلاة من لا يقيم صلبه في الركوع والسجود (857) .

وأجابوا عن الحديث المتقدم وهو ما استدل به الجمهور بأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا قال سمع الله لمن حمده فقولوا: ربنا ولك الحمد) إنما ورد هذا في بيان عدم مشروعية قوله: " ربنا ولك الحمد " من المأموم إلا بعد قول الإمام: " سمع الله لمن حمده " وليس فيه أنه لا يقول: سمع الله لمن حمده. ونحن قلنا: إن المأموم يشرع له أن يقول: " ربنا ولك الحمد " وهو قائم كما دلت عليه الأدلة الشرعية. فعليه إذا رفع المأموم صلبه من الركوع حتى يستوي قائماً فقال: " سمع الله لمن حمده " فإن هذا لا يؤثر لثبوت الانفصال فإن الانفصال ثابت سواء سكت أو تلفظ، فسكوته أو تكلمه لا يؤثر في كونه قد قال: " ربنا ولك الحمد " بعد قوله " سمع الله لمن حمده "، فإن الانفصال ثابت في السكوت وعليه فما فائدة قول النبي صلى الله عليه وسلم هذا الحديث؟ والجواب أن يقال: إن فائدته تعليم المأمومين ألا يقول: " ربنا ولك الحمد " إلا بعد قول الإمام " سمع الله لمن حمده " وذلك لثبوت الفصل في ذلك، فقد ثبت في الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا قال الإمام سمع الله لمن حمده فقولوا: اللهم ربنا ولك الحمد فإن من وافق قوله قول الملائكة غفر له) (1) . فهذا كقول النبي صلى الله عليه وسلم: (فإذا قال غير المغضوب عليهم ولا الضالين فقولوا آمين) (2) ليوافق التأمين تأمين الملائكة ليغفر الله [لهم] (3) ، وليس فيه أن المأمومين لا يقرؤون بفاتحة الكتاب وقد دلت الأدلة الشرعية على وجوب ذلك.

_ (1) أخرجه البخاري في كتاب الأذان، باب (125) فضل اللهم ربنا ولك الحمد (796) ، وانظر (3228) ، ومسلم (409) . (2) أخرجه البخاري في كتاب الأذان، باب (113) جهر المأموم بالتأمين (782) ، وانظر باب (111) جهر الإمام بالتأمين. (780) ، ومسلم (410) . (3) ليست في الأصل.

والأقوى والأقرب ما ذهب إليه الشافعية وهو الأحوط والعلم عند الله تعالى. قال: (سمع الله لمن حمده، وبعد قيامهما: ربنا ولك الحمد) قيامهما: أي قيام الإمام والمنفرد. " ربنا ولك الحمد " بحذف " اللهم " وزيادة الواو وهي صفة من صفات أربع ثبتت عن النبي صلى الله عليه وسلم في الصحيح. الصفة الأولى: ربنا لك الحمد (1) بحذف الواو، و " اللهم ". الصفة الثانية: ربنا ولك الحمد (2) : بحذف " اللهم " وإثبات الواو. الصفة الثالثة والرابعة بزيادة " اللهم وبحذف الواو وبإثباتها " اللهم ربنا لك الحمد " (3) " اللهم ربنا ولك الحمد " (4) هذه صفات واردة رواها البخاري في صحيحه وروى بعضها مسلم. فقد ثبت في صحيح مسلم عن أبي سعيد الخدري قال: (كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا رفع رأسه من الركوع قال: ربنا لك الحمد ملء السموات والأرض – وفي رواية في مسلم (ملء السموات وملء الأرض) ، وفي رواية (وما بينهما) - وملء ما شئت من شيء بعد، أهل الثناء والمجد أحق ما قال العبد وكلنا لك عبد اللهم لا مانع لما أعطيت ولا معطي لما منعت ولا ينفع ذا الجد منك الجد " (5) يقول الإمام والمنفرد هذا التحميد الوارد بعد قيامهما من الركوع بعد أن يستويا قائمين. قال: (ومأموم في رفعه: ربنا ولك الحمد، فقط) . هنا مسألتان: 1- المسألة الأولى: أنه يقول ذلك أثناء الرفع قبل أن يستوي قائماً.

_ (1) البخاري حديث (789) . (2) البخاري (789) ، ومسلم (392) . (3) البخاري (796) . (4) البخاري (795) . وفي مسلم (476) بلفظ " سمع الله لمن حمده، اللهم ربنا لك الحمد، ملء السموات.. "، وبلفظ (477) " ربنا لك الحمد، ملء السموات.. "، وبلفظ (476) " اللهم لك الحمد، ملء السموات.. " (5) أخرجه مسلم في كتاب الصلاة، باب (40) ما يقول إذا رفع رأسه من.. (477) ، (478) .

والراجح أنه يقوله: بعد أن يستوي قائماً لما تقدم وهو مذهب الشافعية. ودليله أن النبي صلى الله عليه وسلم: " كان يقول وهو قائم ربنا ولك الحمد " وقد قال: (صلوا كما رأيتموني أصلي) (1) ، واستثناء المأموم من هذا العموم الشامل له يحتاج إلى دليل ولا دليل. 2- المسألة الثانية: أنه لا يزيد على لفظة " ربنا ولك الحمد " وهو رواية عن الإمام أحمد. واستدلوا بما تقدم من قول النبي صلى الله عليه وسلم: (فإذا قال سمع الله لمن حمده فقولوا: ربنا ولك الحمد) (2) فأمر المأمومين بأن يقولوا: ربنا ولك الحمد، وظاهره أن المشروع لهم ذلك وأن الزيادة ليس بمشروعة. - وعن الإمام أحمد وهو اختيار طائفة من أصحابه كالمجد بن تيمية وهو اختيار شيخ الإسلام وهو مذهب الشافعية: أن المأموم كالإمام والمنفرد، يزيد ما ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم استحباباً قالوا: لقوله صلى الله عليه وسلم: (صلوا كما رأيتموني أصلي) وكان يزيد ما تقدم. وأما الحديث الذي استدللتم به فإنه لم يسق لبيان ما يقول الإمام ولا ما يقول المأموم، بدليل أن هذا الحديث فيه قول الإمام: سمع الله لمن حمده، وليس فيه زيادة على ذلك، وكذلك قوله: (ربنا ولك الحمد) فإنما سيق ذلك لبيان أن المأموم لا يشرع له التلفظ بلفظة " ربنا ولك الحمد " إلا عقب قول إمامه: " سمع الله لمن حمده " وليس فيه أنه لا يشرع له الزيادة الواردة عن النبي صلى الله عليه وسلم – هذا هو الراجح -. إذن: الإمام والمأموم والمنفرد في حكم واحد في عامة مسائل هذا الباب، في لفظة (سمع الله لمن حمده) ، وفي الزيادة على لفظة " ربنا ولك الحمد " على الأظهر، وفي وقت الرفع وأن يكون ذلك بعد أن ينتصبوا قائمين، وغيرها. وهنا مسألة: صفة وضع اليدين، هل يضع اليد اليمنى على اليسرى أم يرسلهما أم هو مخير؟ ثلاثة أقوال:

_ (1) تقدما. (2) تقدم.

نص الإمام أحمد: على أنه يخير بين الإرسال وبين الوضع، وكأنه تردد في إدخال القيام المشروع بعد (1) الركوع في القيام المشروع قبله، لهذا التردد قال بالتخيير. وهو مذهب الأحناف: أنه يرسلهما، وهو قول طائفة من أصحاب الإمام أحمد. أنه يستحب له أن يضع اليمنى على اليسرى كوضعها قبل الركوع، وهو قول طائفة من أصحاب الإمام أحمد. واستدل أهل القول الثاني: بأنه لم يثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم حديث في هذا الباب، حيث لم يثبت فلا يشرع فعليه أن يرسلهما ويبقيهما على طبيعتهما فإن الأصل في طبيعتها الإرسال، ولما لم يرد الوضع فإنا نبقى على الإرسال ويكون هو المشروع وغيره بدعة. أما دليل أهل القول الثالث - وهو مذهب طائفة من أصحاب أحمد: وهو أرجحها - دليله عمومات الأحاديث ومنها حديث سعد بن أبي وقاص: (كان الناس يؤمرون أن يضع الرجل يده اليمنى على ذراعه اليسرى في الصلاة) (2) رواه البخاري. وهذه صفة خشوع وتذلل وخضوع لله تعالى، وهذا عام في الصلاة كلها إلا ما استثني من جلوس للتشهد ومن سجود ونحو ذلك، أما الرفع من الركوع والقيام بعده فلا دليل على استثنائه فيبقى في العموم. وأوضح منه الحديث الذي تقدم وهو حديث وائل بن حجر في سنن النسائي بإسناد صحيح أنه قال: (رأيت النبي صلى الله عليه وسلم إذا كان قائماً في الصلاة قبض بيمينه على شماله) (3) وهذا عام في كل قيام فيدخل في ذلك القيام بعد الركوع.

_ (1) في الأصل: بعدد. (2) أخرجه البخاري في كتاب الأذان، باب (87) وضع اليمنى على اليسرى (740) . (3) أخرجه النسائي في كتاب الافتتاح، باب (9) وضع اليمين على الشمال في الصلاة (887) . وهو في مسلم (401) بلفظ: " أنه رأى النبي - صلى الله عليه وسلم - رفع يديه حين دخل في الصلاة … ثم التحف بثوبه ثم وضع يده اليمنى على اليسرى، فلما أراد أن يركع أخرج يديه من الثوب.. ".

ثم إن هذا من باب إلحاق النظير نظيره، فإن القيام بعد الركوع شبيه ونظير للقيام قبله، فكلاهما قيام في الصلاة، وهذه صفة فيها خشوع وخضوع وتذلل لله عز وجل فهي أولى من الإرسال. إذن: الراجح أنه يضع يده اليمنى على اليسرى كوضعها في الصفات المتقدمة كوضعها قبل الركوع. والحمد لله رب العالمين. الدرس السابع والسبعون (يوم الاثنين: 29 / 3 / 1415هـ) قال المؤلف رحمه الله: (ثم يخر مكبراً ساجداً على سبعة أعضاء) " يخر ": خر: أي سقط وانكب. " مكبراً " أي قائلاً الله أكبر، لما ثبت في الصحيحين من حديث أبي هريرة وفيه: (ثم يكبر حين يهوى ساجداً) (1) فمن تكبيرات الانتقال التكبير عند الانتقال من القيام بعد الركوع إلى السجود وهو مشروع بينهما، فيبدأ بالتكبير عند انخفاضه وينتهي عند انتهائه. ولم يذكر المؤلف هنا: رفع اليدين؛ لأن المشهور في المذهب عدم مشروعية ذلك، وأنه لا يشرع الرفع عند السجود والرفع منه. ودليله: ما ثبت في الصحيحين من حديث ابن عمر وفيه: (ولا يفعل ذلك في السجود) وفي رواية مسلم: (ولا يرفع يديه إذا سجد ولا إذا رفع رأسه من السجود) (2) .

_ (1) رواه البخاري باب (128) يهوي بالتكبير حين يسجد من كتاب الأذان رقم (803) عن أبي هريرة بلفظ: ".. ثم يقول الله أكبر حين يهوي ساجداً.. "، ومسلم رقم (392) في باب (10) إثبات التكبير في كل خفض ورفع.. من كتاب الصلاة بلفظ ".. ثم يكبر حين يهوي ساجداً ". (2) رواه البخاري باب (83) رفع اليدين في التكبيرة الأولى مع الافتتاح سواء رقم (735) وباب (84) رفع اليدين إذا كبر وإذا ركع وإذا رفع رقم (736) ، ومسلم رقم (390) باب (9) استحباب رفع اليدين حذو المنكبين مع تكبيرة الإحرام.. / كتاب الصلاة بلفظ: ".. ولا يرفعهما بين السجدتين " وفي لفظ: " ولا يفعله حين يرفع رأسه من السجود ".

- الإمام أحمد وهو مذهب طائفة من الصحابة والتابعين: أنه يشرع له الرفع، وأنه يشرع رفع اليدين في كل خفض ورفع. وهذا القول هو الراجح ويدل عليه حديث مالك بن الحويرث في النسائي بإسناد صحيح وفيه: (أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يرفع يديه إذا ركع وإذا رفع رأسه من الركوع وإذا سجد وإذا رفع رأسه من السجود حتى يحاذي بهما فروع أذنيه) (1) . والمثبت مقدم على النافي، فحديث ابن عمر ليس فيه إلا النفي وغاية ما عند النافي عدم بلوغ علمه ما نفاه فإذا أتى ما يثبت ذلك فإن هذا المثبت حجة عليه؛ لأنه حفظ ما لم يحفظ وعلم ما لم يعلم. إلا أن رواية ابن عمر وهو المتابع للنبي صلى الله عليه وسلم والحافظ لحديثه تدل على أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يترك ذلك أحياناً فعلى ذلك ينبغي أن يكون ذلك مستحباً أحياناً. فعدم رواية ابن عمر وعدم إحصائه هذا الفعل عند السجود والرفع منه يدل على أنه صلى مع النبي صلى الله عليه وسلم صلوات كثيرة لم يفعل فيها هذا الرفع، وهذا يدل على أنه لم يكن يداوم على ذلك. فالراجح: أنه يستحب أن يرفع يديه إذا سجد ورفع رأسه أحياناً. قال: (ساجداً على سبعة أعضاء رجليه ثم ركبتيه ثم يديه ثم جبهة مع أنفه) في هذه الجملة مسألتان: المسألة الأولى: فرضية السجود على سبعة أعظم وهي: الجبهة والأنف وهما عضو واحد، واليدان وهما عظمان (2) ، والركبتان وهما عظمان وأطراف القدمين وهما عظمان.

_ (1) أخرجه النسائي في كتاب التطبيق، باب (84) رفع اليدين عند الرفع من السجدة الأولى، رقم (1143) بلفظ: " أن نبي الله - صلى الله عليه وسلم - كان إذا دخل في الصلاة رفع يديه وإذا ركع فعل مثل ذلك وإذا رفع رأسه من الركوع فعل مثل ذلك وإذا رفع رأسه من السجود فعل مثل ذلك كلَّه يعني رفع اليدين ". (2) كذا في الأصل.

لما ثبت في الصحيحين عن ابن عباس وأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أمرت أن اسجد على سبعة أعظم الجبهة وأشار إلى أنفه) (1) - وفي رواية النسائي: (الجبهة والأنف) (2) – واليدين، وفي رواية مسلم: (والكفين) والركبتين وأطراف القدمين) . المسألة الثانية: هي في قوله: (رجليه ثم ركبتيه ثم يديه ثم جبهته) . هنا ما ذكره من الترتيب هو الترتيب الطبيعي فالرجلان ثابتتان ثم بعد ذلك الركبتين ثم اليدين ثم الجبهة والأنف هذا هو الذي يقتضيه الهوي والخرور. لكن السنة قد دلت على أن اليدين مقدمان على الركبتين، وهو مذهب مالك ورواية عن الإمام أحمد. وفي هذه المسألة قولان لأهل العلم: القول الأول، وهو مذهب عامة الفقهاء من الحنابلة وغيرهم: أن المستحب أن يقدم الركبتين على اليدين. واستدلوا: بما رواه أبو داود عن وائل بن حجر وقال: (رأيت النبي صلى الله عليه وسلم إذا سجد وضع ركبتيه قبل يديه وإذا نهض رفع يديه قبل ركبتيه) (3)

_ (1) رواه البخاري باب (134) السجود على الأنف رقم (812) وانظر (809) ، ومسلم (490) باب (44) أعضاء السجود والنهي عن كف الشعر.. من كتاب الصلاة. (2) رواه النسائي في كتاب التطبيق، باب (43) السجود على الأنف رقم (1096) بلفظ: " عن ابن عباس أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: (أمرت أن أسجد على سبعة لا أكف الشعر ولا الثياب الجبهة والأنف واليدين والركبتين والقدمين ". (3) رواه أبو داود في كتاب الصلاة، باب (141) كيف يضع ركبتيه قبل يديه؟ رقم (838) ، وأخرجه الترمذي والنسائي وابن ماجه، وقال الترمذي: " هذا حديث حسن غريب لا نعرف أحداً رواه غير شريك "،وذكر أن هماما رواه عن عاصم مرسلا لم يذكر فيه وائل بن حجر، وقال النسائي: لم يقل هذا عن شريك غير يزيد بن هارون، من مختصر المنذري، سنن أبي داود [1 / 524] .

وبما رواه ابن خزيمة من حديث مصعب بن سعد بن أبي وقاص عن أبيه قال: (كنا نضع اليدين قبل الركبتين فأمرنا أن نضع الركبتين قبل اليدين) (1) أما أهل القول الثاني، وهو مذهب المالكية ورواية عن الإمام أحمد وهو مذهب أكثر أهل الحديث: إلى استحباب تقديم اليدين على الركبتين، واستدلوا بدليلين:

_ (1) سنن البيهقي الكبرى ج: 2 ص: 100 2469 أخبرنا أبو بكر أحمد بن محمد بن الحارث الأصبهاني الفقيه أنبأ أبو محمد بن حيان ثنا بن الظهراني ح وأخبرنا محمد بن أحمد بن زكريا أنبأ محمد بن الفضل بن إسحاق بن خزيمة أنبأ جدي قالا ثنا إبراهيم بن إسماعيل بن يحيى بن أبي سلمة بن كهيل ثنا أبي عن أبيه عن سلمة بن كهيل عن مصعب بن سعد عن سعد قال ثم كنا نضع اليدين قبل الركبتين فأمرنا بالركبتين قبل اليدين كذا قال والمشهور عن مصعب عن أبيه حديث نسخ التطبيق والله أعلم صحيح ابن خزيمة ج: 1 ص: 319 628 أخبرنا أبو طاهر نا أبو بكر نا إبراهيم بن إسماعيل بن يحيى بن سلمة بن كهيل حدثني أبي عن أبيه عن سلمة عن مصعب بن سعد عن سعد قال ثم كنا نضع اليدين قبل الركبتين فأمرنا بالركبتين قبل اليدين، من اسطوانة مكتبة الفقه وأصوله.

1- الأول: ما رواه أبو داود والنسائي بإسناد صحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا سجد أحدكم فلا يبرك كما يبرك البعير وليضع يديه قبل ركبتيه) (1) قالوا: ركبة البعير، وركبة كل ذي أربع في يديها، ومعلوم أن البعير إذا سجد، سجد في مقدمه ثم بعد ذلك لحقه المؤخر والركبتان في مقدمه كما نص على ذلك صاحب لسان العرب وغيره. وقد روى البخاري في صحيحه في قصة سراقة بن مالك وفيه قال: (فساخت يد الفرس في الأرض حتى بلغتا الركبتين) (2) فهذا يدل على أن ركبة الفرس وهكذا ذوات الأربع أنها في اليدين، فالبعير ركبتاه في يديه ولا يصح إنكار ابن القيم لذلك في الزاد فإن هذا الإنكار يخالفه ما ثبت في لغة العرب. ومعلوم أن البعير يخر على ركبته، فنهي المصلي عن ذلك، وزاد ذلك وضوحاً بقوله: (وليضع يديه قبل ركبتيه) وهذا الحديث إسناده صحيح ورواته كلهم ثقات وسنده متصل.

_ (1) رواه أبو داود من حديث أبي هريرة في كتاب الصلاة، باب (141) كيف يضع ركبتيه قبل يديه رقم (840) ، قال الخطابي: حديث وائل بن حجر أثبت من هذا، وزعم بعض العلماء أن هذا منسوخ، وروي فيه خبراً عن سلمة بن كهيل عن مصعب بن سعد – كذا في النسخة التي بين يدي – قال: كنا نضع اليدين قبل الركبتين فأمرنا بالركبتين قبل اليدين ". (2) صحيح البخاري ج: 3 ص: 1422 رقم 3696 كذا في الاسطوانة، وفي نسخة عندي رقم (3906) باب (45) هجرة النبي وأصحابه من كتاب مناقب الأنصار، وهو في صحيح مسلم ج: 3 ص: 1592 رقم 2009، كتاب الأشربة بدون ذكر الركبتين، اسطوانة مكتبة الفقه وأصوله.

والثاني: ما رواه ابن خزيمة عن ابن عمر: (أنه كان يضع يديه قبل ركبتيه ويقول: كان النبي صلى الله عليه وسلم يفعل ذلك) (1) وروى ذلك البخاري في صحيحه معلقاً القسم الموقوف فيه: (أن ابن عمر كان يضع يديه قبل ركبتيه) (2) ومعلوم أن ابن عمر كان من أتبع الناس للنبي صلى الله عليه وسلم حتى كان يغلو في نظر بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك فكانوا ينكرون عليه، فكان في غاية الاقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم، وهنا كما هو معلق فقد رفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم. وهذا القول هو القول الراجح. وأما ما استدل به أهل القول الأول: فأما حديث أبي داود ففيه شريك بن عبد الله وهو ضعيف إذا تفرد وقد خالف هنا فقد خالف همام وهمام قد رواه مرسلاً، فكان فيه تفرد ومخالفة لذا ضعفه البخاري والبيهقي والدراقطني، فإسناد الحديث ضعيف. أما الحديث الثاني ففيه إسماعيل بن يحيى وهو متروك. والصحيح ما تقدم في الحديث المتفق عليه في التطبيق. فالصواب أن هذا وهم وخطأ بل نكارة لأن الصحيح المشهور هو نسخ التطبيق. ومن هنا فالراجح مذهب أهل القول الثاني (3)

_ (2) ذكره البخاري في كتاب الأذان،باب (128) يهوي بالتكبير حين يسجد قبل رقم (803) . (3) تراجع شيخنا عن هذا القول فقال في شرحه للزاد برأس الخيمة ما نصه: " إذاً: استدلوا بحديث وائل بن حجر، وهو من حديث شريك عن عاصم بن كُليب عن أبيه عن وائل بن حجر، وشريك إذا تفرد بالحديث، فإن الحديث لا يقبل، يعني ضعيف إذا تفرد، وقد روى هذا الحديث همام عن شقيق عن عاصم بن كليب عن أبيه مرسلا، يعني ليس فيه ذكر وائل بن حجر، إذاً: الصواب في هذا السند الإرسال. فشريك رواه موصولا، وهمام رواه عن شقيق عن عاصم مرسلا. لكنه ورد من طريق آخر عن وائل بن حجر من حديث محمد بن جُحادة عن عبد الجبار بن وائل عن أبيه، وعبد الجبار لم يدرك أباه، وهذا طريق آخر، وعلى ذلك: يكون الحديث حسنا لغيره، فإن الحديث قد ورد عن وائل بن حجر من طريقين، والحديث صححه ابن خزيمة وغيره، وقد صح هذا أيضا عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه، كما في مصنف ابن أبي شيبة: أنه كان يضع ركبتيه قبل يديه ". القول الثاني في المسألة، وهو قول المالكية، وقال أبو بكر بن أبي داود: " وهو قول أهل الحديث "، ومراده - كما قال ابن القيم - أي بعض أهل الحديث، فإن أحمد والشافعي وإسحاق على خلافه. استدل أهل هذا القول بما روى أهل السنن أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: (إذا سجد أحدكم فلا يبرك كما يبرك البعير، وليضع يديه قبل ركبتيه) ، واستدلوا أيضا: بما روى ابن خزيمة أن ابن عمر كان يضع يديه قبل ركبتيه، ويقول: كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يفعله. والأرجح هو القول الأول، وأما الجواب عن الحديثين: أما الحديث الأول، وهو حديث أبي هريرة (إذا سجد أحدكم فلا يبرك كما يبرك البعير، وليضع يديه قبل ركبتيه) ، فأولاً: قوله (وليضع يديه قبل ركبتيه) قد تفرد بها عبد العزيز الدَّروردي عن محمد بن الحسن، وروى هذا الحديث عبد الله بن نافع عن محمد بن الحسن بلفظ (يعمد أحدكم إذا سجد، فيبرك كما يبرك البعير) ولم يقل (وليضع يديه قبل ركبتيه) ، فتفرد بهذه الجملة (وليضع يديه قبل ركبتيه) عبد العزيز الدروردي، وهو كما قال الحافظ: " صدوق يهم " وقال أبو زرعة: " سيء الحفظ "، فقد تفرد بهذه الزيادة، وقد وهم في ذلك، فعلى هذا التقرير، يبقى الحديث (يعمد أحدكم، فيبرك كما يبرك البعير) وليس فيه (وليضع يديه قبل ركبتيه) . وعليه: فما صورة بروك البعير؟ معلوم أن البعير إذا برك، فإنه يبدأ بمقدَّمه، ويبقى المؤخر منتصبا، سواء كان قلنا أن ركبة البعير في يديه أو أنها في رجليه، فإنه يبدأ بالمقدَّم، ويبقى المؤخر منتصبا. ثانيا: أن الحديث من أصله – يعني جملة – حديث معلول، فقد أعلَّه الإمام البخاري والدارقطني والترمذي، قال الترمذي رحمه الله تعالى: غريب لا نعرفه من حديث أبي الزناد إلا من هذا الوجه " اهـ، فالحديث من حديث محمد بن الحسن عن أبي الزناد، أبو الزناد من المكثرين من الحديث، وهو ممن تدور عليهم السنة، فأين أصحابه عن هذه السنة، حتى يتفرد بها محمد بن الحسن؟! وقد ذكر الإمام البخاري محمد بن الحسن في كتابه في الضعفاء، وقال: " لا يُتابع عليه "، وقال: " لا أدري هل سمع من أبي الزناد أم لا؟ "، فإذا كان ممن لا تعرف روايته عن أبي الزناد، فلا يدري الإمام البخاري رحمه الله، هل سمع من أبي الزناد أم لا، فكيف يتفرد بهذه السنة عن سائر أصحاب أبي الزناد. إذاً: الحديث، كما قال الترمذي: " غريب لا نعرفه من حديث أبي الزناد إلا من هذا الوجه " يعني أين أصحاب أبي الزناد عن هذا الحديث؟! فقد تفرد به من لا يُعرف له عنه سماع، ولم يتابع على ذلك، ولذا كما تقدم أعله البخاري والدارقطني والترمذي، وكذلك حمزة الكِناني، وهو من شيوخ ابن مندة والدارقطني، كما ذكر هذا ابن رجب رحمه الله تعالى. إذاً: الحديث، الصواب أنه معلول. نأتي إلى الحديث الآخر، وهو حديث ابن عمر عند ابن خزيمة: الحديث من حديث عبد العزيز الدروردي عن عبيد الله بن عمر عن نافع عن ابن عمر أنه كان يضع يديه قبل ركبتيه، ويقول: إن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان يفعله " وعبد العزيز الدروردي، كما تقدم، صدوق له أوهام، وقد قال الإمام أحمد رحمه الله: " كان يقلب أحاديث عبد الله بن عمر، يرويها عن عبيد الله بن عمر " وهذا الحديث منها، فإن هذا الحديث يرويه عبد العزيز الدروردي عن عبيد الله بن عمر عن نافع عن ابن عمر، ولذا قال الإمام البيهقي رحمه الله تعالى في هذا الحديث: " لا أراه إلا وهما، والمحفوظ من حديث أيوب عن نافع عن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: (إن اليدين تسجدان كما يسجد الوجه، فإذا سجد أحدكم، فليضع يديه، وإذا رفع وجهه، فليرفعهما) يعني أن الواجب على من سجد أن يضع يديه كما أنه يجب عليه أن يضع وجهه. وهذا الأثر قد ذكره البخاري رحمه الله تعالى معلقا موقوفا، ففي البخاري: " كان ابن عمر رضي الله عنه إذا سجد يضع يديه قبل ركبتيه " ولم أقف على سند لهذا، لكن معلقات الإمام البخاري رحمه الله صحيحة إذا جزم بها، ومع ذلك فإن هذا الأثر لم يُغلقه الحافظ ابن حجر في كتابه " تغليق التعليق "، فإنه لم يذكر سند هذا المعلَّق. إذاً: الصواب أن هذا لا يصح مرفوعا إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم، بل هو وهم، وعلى ذلك فالراجح أن المستحب له أن يضع ركبتيه قبل يديه، كما هو مذهب جمهور العلماء. والله أعلم.

وتقدم من ذهب إليه، وقال الأوزعي فيما رواه المروزي عنه: (أدركت الناس وهم يضعون أيديهم قبل ركبهم) (1) وإسناده صحيح. (والجبهة والأنف) للحديث المتقدم في قوله: (والجبهة وأشار إلى أنفه) ففرض في السجود أن يسجد المصلي على الجبهة والأنف جميعاً لصحة الحديث الوارد في هذا: وهو أصح الوجهين في المذهب وهو أشهرهما. قال: (ولو مع حائل ليس من أعضاء سجوده) فلو سجد وبينه وبين الأرض حائل سواء كان متصلاً أو منفصلاً أي متصل بالمصلي كأن يضع طرف ثوبه فيصلي عليه، أو منفصلاً كأن يأتي بشيء آخر من سجادة ونحوها. ودليل ذلك: ما ثبت في الصحيحين عن أنس قال: (كنا نصلي وراء النبي صلى الله عليه وسلم فيضع أحدنا طرف ثوبه من شدة الحر في مكان السجود) (2) . وروى البخاري معلقاً ووصله ابن أبي شيبة وعبد الرزاق في مصنفيهما بإسناد صحيح عن الحسن البصري قال: (كان أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يسجدون وأيديهم في ثيابهم، ويسجد الرجل على قلنسوته وعمامته) (3) لكن استثنى من ذلك (ليس من أعضاء سجوده) : فإذا وضع يديه ثم سجد عليها فلا يصح ذلك. قالوا: لأن هذا الفعل يداخل أعضاء الساجد، فالشارع قد أمره بالسجود على هذه الأعظم السبعة وحيث جعل بعضها فوق بعض فإن ذلك تداخل فيما بينها ويجعلها متفرقة كما أمر الشارع فهو قد أمر بها متفرقة وكل عمل ليس عليه أمر النبي صلى الله عليه وسلم فهو رد.

_ (2) رواه البخاري في كتاب الصلاة، باب (23) السجود على الثوب في شدة الحر رقم (385) ، ومسلم رقم (620) . (3) ذكره البخاري في الباب السابق، ورواه البيهقي في الكبرى [2 / 153] رقم (2667) باب (202) من بسط ثوبا فسجد عليه من كتاب الصلاة. وعبد الرزاق في مصنفه [1 / 400] رقم (1566) في باب السجود على العمامة مختصراً.

* اعلم أن المشهور في المذهب: أنه يسجد ببعض عضوه فإذا وضع أطراف الأصابع في السجود أجزأه ذلك وإن رفع راحتيه. وذهب بعض الحنابلة كابن حامد وهو من كبار أصحاب الإمام أحمد: إلى أنه لا يجزئه ذلك – وهذا هو الراجح – لظاهر الحديث، فإن في الحديث: (واليدين) وفي رواية: (والكفين) وحيث سجد على أطراف الأصابع فإنه لم يسجد على الكفين، وإذا أمر النبي صلى الله عليه وسلم بالأمر فيجب أن يفعل كله لقوله صلى الله عليه وسلم: (إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم) (1) فيدل على أنهم إذا استطاعوا أن يأتوا به كله فلا يجزئهم سوى ذلك. وهنا أمره - صلى الله عليه وسلم – السجود على الأعضاء السبعة بتمامها وكمالها فلا يجزئه سوى ذلك. فالراجح أنه لا يجزئه أن يسجد على بعض عضوه بل لابد أن يسجد على العضو كله. قال: (ويجافي عضديه)

_ (1) تقدم مراراً.

أي يجافي عضديه عن جنبيه، لما روى أبو داود في سننه بإسناد صحيح: (كان النبي صلى الله عليه وسلم يجافي عضديه عن جنبيه) (1) وثبت في الصحيحين من حديث ابن بحينة قال: (كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا صلى فسجد فرَّج بين يديه حتى يبدو بياض إبطيه) (2) حتى قالت ميمونة – كما في مسلم -: (كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا سجد لو شاءت بهمة أن تمر بين يديه لمرت) (3) البهمة: صغار المعز. فهذا يدل على أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يجافي عضديه عن جنبيه. ويستحب له أن يرفع مرفقيه ففي مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم: (إذا سجدت فضع كفيك وارفع مرفقيك) (4) . قال: (وبطنه عن فخذيه)

_ (1) أخرجه أبو داود في كتاب الصلاة، باب صفة السجود (900) قال: " حدثنا مسلم بن إبراهيم، حدثنا عباد بن راشد، حدثنا الحسن، حدثنا أحمر بن جَزْء صاحب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان إذا سجد جافى عضديه عن جنبيه حتى نأوي له " أي نرثي له ونشفق عليه ونرق له، وأخرجه ابن ماجه، سنن أبي داود [1 / 555] . (2) أخرجه البخاري 390، 807، 3564، وأخرجه مسلم في كتاب الصلاة، باب ما يجمع صفة الصلاة وما يفتتح به.. (495) . (3) أخرجه مسلم في كتاب الصلاة، باب ما يجمع صفة الصلاة وما يفتتح به.. (496) بلفظ عن ميمونة قالت: كان النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا سجد لو شاءت بَهْمَةٌ أن تمر بين يديه لمرت "، وأبو داود في كتاب الصلاة، باب صفة السجود (898) عن ميمونة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان إذا سجد جافى بين يديه حتى لو أن بهْمة أرادت أن تمر تحت يديه مرت ". (4) أخرجه مسلم بنفس اللفظ آخر حديث في باب (45) الاعتدال في السجود ووضع الكفين.. من كتاب الصلاة (494)

يستحب أن يجافي بطنه عن فخذيه، وفخذاه عن ساقيه فقد ثبت في أبي داود بإسناد صحيح: أن النبي صلى الله عليه وسلم (كان إذا سجد فرَّج بين فخذيه غير حامل بطنه على شيء من فخذيه) (1) وفي النسائي وأبي داود بإسناد صحيح عن البراء قال: (كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا سجد جخَّ) (2) أي نحى وهي تنحية عامة، فينحي البطن عن الفخذين والفخذين عن الساقين. قال: (ويفرق ركبته) للحديث المتقدم حديث أبي حميد الساعدى وفيه أن النبي صلى الله عليه وسلم: (كان إذا سجد فرَّج بين فخذيه) (3) ومقتضاه التفريج بين الركبتين أيضاً. ويستحب له في قدميه أن يضمهما وأن يتوجه بأطراف أصابعه إلى القبلة وأن يرص القدمين بعضهما إلى بعض.

_ (1) أخرجه أبو داود في كتاب الصلاة، باب افتتاح الصلاة (735) قال: " حدثنا عمرو بن عثمان، حدثنا بقية، حدثني عتبة، حدثني عبد الله بن عيسى، عن العباس بن سهل الساعدي، عن أبي حميد، بهذا الحديث، قال: وإذا سجد فرَّج بين فخذيه غير حامل بطنه على شيء من فخذيه ". (2) أخرجه أبو داود في كتاب الصلاة، باب صفة السجود، والنسائي في باب صفة السجود، من كتاب التطبيق، المغني [2 / 201] . (3) رواه أبو داود، وقد تقدم قريباً.

يدل على مسألة نصب القدمين: ما ثبت في الترمذي: (أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر أن نضع اليدين وننصب القدمين) (1) أي العقبان إلى أعلى وأطراف القدمين إلى أسفل. وأما استقبال القبلة في الأصابع: فلِما ثبت في البخاري: (أن النبي صلى الله عليه وسلم استقبل بأطراف أصابعه القبلة) (2) . ويستحب أن يفرج بين أصابعه، لما ثبت في الترمذي: (وفتح أصابع رجليه) (3) . وأما رص القدمين بعضهما ببعض فثبت هذا في ابن خزيمة بإسناد صحيح: (أن النبي صلى الله عليه وسلم رص بين قدميه) (4) .

_ (1) أخرجه الترمذي في كتاب الصلاة، باب ما جاء في وضع اليدين ونصب القدمين في السجود (277) قال: " حدثنا عبد الله بن عبد الرحمن أخبرنا معلى بن أسد، حدثنا وهيب عن محمد بن عجلان عن محمد بن إبراهيم عن عامر بن سعد بن أبي وقاص عن أبيه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمر بوضع اليدين ونصب القدمين " قال أبو عيسى: " وروى يحيى بن سعيد القطان وغير واحد عن محمد بن عجلان عن محمد بن إبراهيم عن عامر بن سعد – دون أبيه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمر بوضع اليدين ونصب القدمين مرسل. وهذا أصح من حديث وُهَيب، وهو الذي أجمع عليه أهل العلم واختاروه ". (2) أخرجه البخاري في كتاب الأذان، باب سنة الجلوس في التشهد..، المغني [2 / 123] . (3) سنن الترمذي ج: 2 ص: 106 بلفظ ".. ثم جافى عضديه عن أبطيه وفتح أصابع رجليه.. " في باب (227) منه، رقم (304) ، سنن البيهقي الكبرى ج: 2 ص: 116 رقم 2551، صحيح ابن خزيمة ج: 1 ص: 297 رقم 587، وفي مواضع أخرى، كما في اسطوانة مكتبة الفقه وأصوله. (4) قال الألباني رحمه الله تعالى في صفة صلاة النبي - صلى الله عليه وسلم - صْ 109: " الطحاوي وابن خزيمة (رقم – 654 – طبع المكتب) والحاكم وصححه ووافقه الذهبي ". وانظر تلخيص الحبير ج: 1 ص: 256 رقم 385، اسطوانة مكتبة الفقه وأصوله.

وأما الكفان فيستحب أن يكونا حيال المنكبين أو يكونا حيال الأذنين أو الوجه، فهنا صفتان: الأولى: أن تكون الكفان حذو المنكبين ودليل ذلك: ما ثبت في أبي داود بإسناد صحيح: (أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا سجد وضع كفيه حذو منكبيه) (1) . الثانية: أن يكون حذو أذنيه، فدليله ما ثبت في سنن أبي داود بإسناد صحيح: (أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا سجد وضع كفيه حذو أذنيه) (2) وفي مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم: (كان إذا سجد سجد بين كفيه) (3) أي جعل وجهه بين كفيه أي قريباً من حيال الأذنين.

_ (1) أخرجه أبو داود في كتاب الصلاة، باب افتتاح الصلاة. (2) أخرجه أبو داود في كتاب الصلاة، باب رفع اليدين في الصلاة، وباب افتتاح الصلاة.المغني [2 / 201] ، ولفظه في باب افتتاح الصلاة (736) : " فلما سجد وضع جبهته بين كفيه وجافى عن إبطيه "، وفي باب رفع اليدين في الصلاة (723) بلفظ: ".. ثم سجد ووضع وجهه بين كفيه "، وبلفظ (726) ".. فلما سجد وضع رأسه بذلك المنزل من بين يديه.. "

ويستحب أن يضم أصابعه ويستقبل بهما القبلة كما ثبت ذلك في البيهقي بإسناد صحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم (ضم أصابعه واستقبل بأطرافهما القبلة) (1) قال: (ويقول: سبحان ربي الأعلى) تقدم الكلام على هذا، وذكر الأدلة عليها وذكر ما يستحب ذكره في السجود – في الكلام على لفظة: (سبحان ربي العظيم في الركوع) والحمد لله رب العالمين. الدرس الثامن والسبعون (الثلاثاء: 1 / 4 / 1415هـ) قال المؤلف رحمه الله تعالى: (ثم يرفع رأسه مكبراً) أي يرفع رأسه من السجود إلى الجلسة بين السجدتين. " مكبراً ": أي قائلاً: " الله أكبر " لما ثبت في الصحيحين من حديث أبي هريرة المتقدم وفيه: (ثم يكبر حين يهوي ساجداً ثم يكبر حين يرفع رأسه من السجود) (2) .

_ (1) أخرجه البيهقي في كتاب الصلاة، باب يضم أصابع يديه في السجود ويستقبل بها القبلة (2695) قال: " أخبرنا أبو عبد الله الحافظ، أنبأ أبو بكر بن إسحاق الفقيه، ثنا الحسن بن سفيان بن عامر، عن الحارث بن عبد الله بن إسماعيل بن عقبة الخازن، ثنا هشيم، عن عاصم بن كليب، عن علقمة بن وائل بن حجر عن أبيه قال: كان النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا ركع فرج أصابعه، وإذا سجد ضم أصابعه " وقال (2696) : " أخبرنا أبو عبد الله الحافظ، أنبأ أبو بكر، أنبأ عياش بن تميم السكري، ثنا مخلد بن مالك بن جابر، ثنا محمد بن سلمة، عن الفزاري، عن أبي إسحاق، عن البراء بن عازب رضي الله عنه قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا سجد فوضع يديه بالأرض استقبل بكفيه وأصابعه القبلة ". (2) رواه البخاري في كتاب الأذان، باب (117) التكبير إذا قام من السجود رقم (789) من حديث أبي هريرة بلفظ: " كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا قام إلى الصلاة يكبر … ثم يكبر حين يهوي، ثم يكبر حين يرفع رأسه ثم يكبر حين يسجد ثم يكبر حين يرفع رأسه … "، ورواه مسلم (392) .

وهي – أي الجلسة بين السجدتين – ركن من أركان الصلاة وفي حديث المسيء صلاته المتفق عليه: (ثم اجلس حتى تطمئن جالساً) (1) . وقد تقدم مشروعية رفع اليدين إلى المنكبين أو فروع الأذنين أحياناً. قال: (ويجلس مفترشاً يسراه ناصباً يمناه) أي يفرش رجله اليسرى ويجلس عليها وينصب رجله اليمنى، وهذه هيئة الجلوس بين السجدتين. لما ثبت في صحيح مسلم من حديث عائشة وفيه: (وكان يفرش رجله اليسرى وينصب اليمنى) (2)

_ (1) أخرجه البخاري في كتاب الأذان، باب (95) وجوب القراءة للإمام والمأموم (757) ، وباب (122) أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - الذي لا يتم ركوعه بالإعادة (793) ، وأخرجه مسلم (397) . وقد تقدم صْ 61 (2) صحيح مسلم ج: 1 ص: 357 رقم 498 حدثنا محمد بن عبد الله بن نمير حدثنا أبو خالد يعني الأحمر عن حسين المعلم ح قال وحدثنا إسحاق بن إبراهيم واللفظ له قال أخبرنا عيسى بن يونس حدثنا حسين المعلم عن بديل بن ميسرة عن أبي الجوزاء عن عائشة قالت ثم كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يستفتح الصلاة بالتكبير والقراءة ب الحمد لله رب العالمين وكان إذا ركع لم يشخص رأسه ولم يصوبه ولكن بين ذلك وكان إذا رفع رأسه من الركوع لم يسجد حتى يستوي قائما وكان إذا رفع رأسه من السجدة لم يسجد حتى يستوي جالسا وكان يقول في كل ركعتين التحية وكان يفرش رجله اليسرى وينصب رجله اليمنى وكان ينهى عن عقبة الشيطان وينهى أن يفترش الرجل ذراعيه افتراش السبع وكان يختم الصلاة بالتسليم " اسطوانة مكتبة الفقه وأصوله.

وقد ثبت في أبي داود والترمذي من حديث أبي حميد الساعدي في قصة صلاته صلاة النبي صلى الله عليه وسلم وفيه: (ثم ثنى رجله اليسرى وقعد عليها حتى رجع كل عضو موضعه ثم هوى ساجداً) (1) وفيه أنه اطمأن في جلسته. ويستحب أن يستقبل بأطراف أصابع رجليه اليمنى – وهي المنصوبة – أن يستقبل بها القبلة كما صح ذلك في سنن النسائي بإسناد صحيح: أن النبي صلى الله عليه وسلم: (استقبل بأطراف أصابعه القبلة) (2) يعني في الجلسة بين السجدتين كما هو ظاهر الرواية. ويضع يديه على فخذيه كما سيأتي في الكلام على وضع اليدين في التشهد، ومثله الجلوس بين السجدتين. ولا يستحب أن يشير بأصبعه – في الجلسة بين السجدتين – خلافاً لابن القيم، حيث ساق في صفة صلاة النبي صلى الله عليه وسلم الإشارة في الجلسة بين السجدتين، ولا دليل على ذلك، وأما ما رواه عبد الرزاق في مصنفه (3) فإنها رواية شاذة عند أهل العلم، ولم أر أحداً من أهل العلم ذكرها سوى ابن القيم. قال: (ويقول: رب اغفر لي)

_ (1) أخرجه أبو داود في كتاب الصلاة، باب (117) افتتاح الصلاة رقم (730) بلفظ: " كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا قام إلى الصلاة يرفع يديه …ثم يرفع رأسه ويثني رجله اليسرى فيقعد عليها ويفتخ أصابع رجليه إذا سجد ويسجد ثم يقول: الله أكبر، ويرفع رأسه ويثني رجله اليسرى فيقعد عليها حتى يرجع كل عظم إلى موضعه ثم يصنع في الأخرى مثل ذلك.. ". ومعنى يفتخ كما قال الخطابي: يلينها حتى تنثني فيوجهها نحو القبلة، والفتخ لين واسترسال في جناح الطائر. (2) روى النسائي في كتاب التطبيق، باب (96) الاستقبال بأطراف أصابع القدم القبلة عند القعود للتشهد عن عبد الله عمر قال: من سنة الصلاة أن تنصب القدم اليمنى واستقباله بأصابعها القبلة والجلوس على اليسرى ".

لما ثبت في سنن النسائي: بإسناد صحيح: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول بين السجدتين: (رب اغفر لي، رب اغفر لي) (1) أي يكررها ما شاء الله، فالمستحب هذا اللفظ " رب اغفر لي " وهو كالمستحب في " سبحان ربي العظيم وسبحان ربي الأعلى " الواجب مرة، وأدنى الكمال ثلاثاً، والمستحب أن يكررها ما شاء بقدر جلوسه. وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم: (يطيل الجلسة بين السجدتين حتى يقال: قد نسي) يدل على ذلك ما ثبت في الصحيحين عن أنس قال: (لا آلُ (2) أصلي بكم صلاة النبي صلى الله عليه وسلم فكان – أي أنس – إذا رفع رأسه من الركوع قام حتى يقول القائل قد نسي أو وهم وبين السجدتين حتى يقول القائل: قد وهم أو نسي) (3) في رواية " نسي " وفي رواية أخرى " وهم ".

_ (1) أخرجه النسائي في كتاب التطبيق، باب (86) الدعاء بين السجدتين رقم (1145) . (2) كذا في الأصل، وفي البخاري: آلو، بالمد. (3) رواه البخاري في كتاب الأذان، باب (140) المكث بين السجدتين رقم (821) ولفظه: " عن أنس رضي الله عنه قال: إني لا آلو أن أصلي بكم كما رأيت النبي - صلى الله عليه وسلم - يصلي بنا، قال ثابت: كان أنس يصنع شيئاً لم أركم تصنعونه كان إذا رفع رأسه من الركوع قام حتى يقول القائل: قد نسي، وبين السجدتين حتى يقول القائل: قد نسي. وانظر (800) ، ومسلم (472) .

ومما ورد عنه صلى الله عليه وسلم – من الأذكار في هذا الموضع ما رواه الأربعة إلا النسائي – وهذا لفظ أبي داود – أن النبي صلى الله عليه وسلم: (كان يقول بين السجدتين " رب اغفر لي وارحمني وعافني واهدني وارزقني ") (1) وفي رواية الترمذي: (واجبرني) (2) في موضع (عافني) وزاد ابن ماجه لفظة (وارفعني) (3) – والحديث إسناده حسن. وحسن أن يجمع بينهما – أي هذه الألفاظ – لثبوتها عن النبي صلى الله عليه وسلم. وهذان الحديثان الوارد فيهما من باب الدعاء، ومنه يستفاد أن هذا الموضع موضع دعاء، وحيث كان موضع دعاء وحيث كان النبي صلى الله عليه وسلم يطيل الجلوس حتى يقال قد نسي فإن فيه: أنه لا بأس أن يزيد من الأدعية ما شاء من غير أن يتخذ شيئاً من الألفاظ سنة مستحبة في هذا الموضع. قال: (ويسجد الثانية كالأولى) أي يسجد السجدة الثانية كهيئة السجدة الأولى فيستحب فيها ما يستحب في الأولى وما يجب من الأقوال والأفعال. قال: (ثم يرفع مكبراً) أي قائلاً: " الله أكبر " وقد تقدم هذا في حديث أبي هريرة. قال: (ناهضاً على صدور قدميه معتمداً على ركبته إن سهل) فيها مسائل: المسألة الأولى: هل يستحب له أن يجلس جلسة الاستراحة بعد الركعة الأولى أو الثالثة أم لا؟ على قولين: 1- القول الأول: وهو مذهب أكثر الفقهاء من الحنابلة وغيرهم: أنه لا يستحب له ذلك لذا لم يذكرها المؤلف. واستدلوا:

_ (1) رواه أبو داود في كتاب الصلاة،باب (145) الدعاء بين السجدتين (850) . (2) رواه الترمذي في كتاب الصلاة، باب (95) ما يقول بين السجدتين رقم (284) . (3) رواه ابن ماجه في كتاب إقامة الصلاة، باب (23) ما يقول بين السجدتين رقم (898) بلفظ: " عن ابن عباس قال: كان رسو الله - صلى الله عليه وسلم - يقول بين السجدتين في صلاة الليل: رب اغفر لي وارحمني واجبرني وارزقني وارفعني ".

بأن أكثر الأحاديث الواردة عن النبي صلى الله عليه وسلم في صفة الصلاة لم تذكر هذه الجلسة. 2- القول الثاني: وهو مذهب الشافعية ورواية عن الإمام أحمد اختارها الخلال من أصحابه وذكر أن الإمام أحمد قد رجع إلى القول بها، وهو مذهب أهل الحديث: وأنه تستحب هذه الجلسة. واستدلوا بحديثين ثابتين: الحديث الأول: حديث مالك بن الحويرث في البخاري قال: (رأيت النبي صلى الله عليه وسلم فإذا كان في وتر من صلاته لم ينهض حتى يستوي قاعداً) (1) الحديث الثاني: ما ثبت في سنن أبي داود والترمذي من حديث أبي حميد الساعدي، وقد قاله بمحضر عشرة من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فيهم أبو قتاده وقالوا له – لما ذكر صفة الصلاة – من جملتها جلسة الاستراحة قالوا له: (صدقت هكذا كان النبي صلى الله عليه وسلم يصلي) وفيه: (ثم ثنى رجليه وجلس حتى رجع كل عضو موضعه ثم نهض) (2) . قالوا: فهذان الحديثان فيهما إثبات جلسة الاستراحة. أما حديث أبي حميد: فإنه قد أقره على ذلك عشرة من الصحابة منهم أبو قتادة.

_ (1) رواه البخاري في كتاب الأذان،باب (142) من استوى قاعداً في وتر من صلاته ثم نهض رقم (823) وانظر (824) ففيه: قال أيوب: وكان ذلك الشيخ يتم التكبير وإذا رفع رأسه من السجدة الثانية جلس، واعتمد على الأرض ثم قام، وانظر (677) . (2) سنن الترمذي ج: 2 ص: 105 باب (227) باب منه رقم 304، قال في خلاصة البدر المنير ج: 1 ص: 136 رقم 451: " حديث أبي حميد الساعدي في عشرة من أصحاب رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم أنه وصف صلاة رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم فقال ثم هوى ساجدا ثم ثنى رجله وقعد حتى يرجع كل عظم موضعه ثم نهض رواه الترمذي وقال حسن صحيح قلت وقول الطحاوي جلسة الاستراحة ليست في حديث أبي حميد غريب منه مع جلالته " انتهى من اسطوانة مكتبة الفقه وأصوله، ولم أجده في سنن أبي داود

وأما حديث مالك بن الحويرث: فإن راويه – وهو مالك بن الحويرث – هو راوي أصل هذا الباب، وهو حديث: (صلوا كما رأيتموني أصلي) (1) وقد ذكر فيه جلسة الاستراحة وهذا هو القول الراجح (2)

_ (1) أخرجه البخاري في كتاب الأذان، باب (18) الأذان للمسافر إذا كانوا جماعة.. (631) راجع 628، ومسلم (674) . (2) تراجع شيخنا عن ذلك في شرحه الآخر للزاد الذي شرحه في رأس الخيمة عام 1420 هـ فقال ما نصه " ومثل هذه المسألة في الخلاف بين أهل العلم، جلسة الاستراحة: فإن من أهل العلم من استحبها كالشافعية. ومنهم من لم يستحبها، كالجمهور. ومنهم من قال: إنها إنما تُفعل عند الحاجة. من لم يستحبها قال: إن أكثر الأحاديث عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم ليس فيها ذكر جلسة الاستراحة، وكذلك ما تقدم عن الأكابر من أصحاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنهم كانوا ينهضون على صدور أقدامهم. وأما من استحبها، فاعتمد على حديث مالك بن الحويرث رضي الله عنه، فإن في البخاري أنه كان عليه الصلاة والسلام إذا كان في وتر من صلاته لم ينهض حتى يستوي قاعدا، وفي أبي داود والترمذي من حديث أبي حميد الساعدي أنه كان إذا قام من السجدة، ثنَى رجله ثم جلس عليها حتى يرجع كل عضو موضعه، قال: ثم نهض ". أما حديث أبي حُميد، فإن ذكر جلسة الاستراحة فيه وهم، كما قرر هذا ابن رجب في فتح الباري، ولذا قال الإمام أحمد في حديث مالك بن الحويرث: " ليس لهذا الحديث ثانٍ " أي ليس له من أحاديث الصحابة ما يشهد له، وهذا ليس فيه رد له، لكن المقصود أن سائر الصحابة لم يذكروها، فتفرد بذكرها مالك، فدل على أنها لا تستحب إلا في الحال التي أدركه عليها، ومالك بن الحويرث قد أدرك النبي صلى الله عليه وآله وسلم وقد ثقل، والمعنى يتقضي ذلك: فإن هذه الجلسة للاستراحة، كاسمها عند أهل العلم، فالذي يحتاج إليها، يجلسها، سواء كان مريضا أو ثقيلا. فالأصح، وهو مذهب طائفة من أصحاب أحمد والشافعي، أن هذه الجلسة إنما تستحب عند الحاجة. إذاً: لأهل العلم في هذه المسألة ثلاثة أقوال، أقربها أن هذه الجلسة إنما فعلها النبي صلى الله عليه وآله وسلم لما كبُر وثقل، وعلى ذلك فتستحب عند الحاجة ".

أما ما ذكره أهل القول الأول: من أن هذه السنة لم تثبت إلا في هذين الحديثين. فالجواب: أن هذا في الحقيقة كاف في إثباتها ولا يشترط أن يروي من غير هذين الحديثين بل لو ثبتت السنة في حديث واحد لكانت سنة عن النبي صلى الله عليه وسلم. - وقيل وهو اختيار الموفق: يستحب لمن ضعف وكبر. وعليه حمل الحديثان المتقدمان بأن النبي صلى الله عليه وسلم فعلهما على كبر. لكن هذا وإن كان قد يكون واقعاً – فإن مالكاً راوي هذا الحديث قد يكون رأى النبي صلى الله عليه وسلم وقد كبر، لكن هذا لا يعني أنه لا يستحب لغيره. فإن النبي صلى الله عليه وسلم لما قال له: (صلوا كما رأيتموني أصلي) لم يستثن من ذلك شيئاً، وكانوا قد رأوه وقد جلس جلسة الاستراحة، فلو لم تكن مستحبة لاستثناها النبي صلى الله عليه وسلم وحديث أبي حميد حديث مطلق ليس فيه ما يدل على أنه فعله حين الكبر. كما أن إقرار هؤلاء العشرة وسكوتهم عن روايته وعدم اعتراض أحد منهم على ذلك بأنه قد فعلها حين الكبر، فسكوتهم يدل على أن ذلك سنة مستحبة مطلقاً. إذن: الراجح سنية جلسة الاستراحة. ويستحب أن يطمئن بها كما تقدم في حديث أبي حميد الساعدي: (ثم جلس حتى رجع كل عضو) وهي جلسة لطيفة لم يرد فيها ذكر. مسألة: على القول باستحباب هذه الجلسة متى يكون التكبير؟ ثلاثة أقوال لأهل العلم هي ثلاثة أوجه في مذهب الشافعية: الأول: أنه يكبر إذا رفع رأسه ثم يجلس ثم ينهض بلا تكبير. الثاني: أنه لا يكبر إذا رفع رأسه ثم يجلس ثم يكبر وينهض. الثالث: أنه يكبر إذا رفع رأسه ويمد تكبيره حتى يجلس ثم ينهض. وهذا أصحها عند الشافعية وهو المشهور عندهم. والراجح عدم استحباب ذلك لأن هذه الصفة لو كانت ثابتة لنقلت إلينا لاختلاف الصفة عن غيرها من التكبيرات. ثم إن هذه الجلسة إنما شرعت لإعطاء البدن شيئاً من الراحة وحيث كان على هذه الهيئة فإنه ينافي هذا.

وأصحها أنه يكبر إذا رفع رأسه ثم يجلس وينهض بلا تكبير، والذي يدل عليه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قد رآه من رآه ممن حكى لنا هذا، ولو كان يكبر عن إرادة النهوض لما رويت لنا لعد رؤيتها، وهذا يضعف القول بأنه يكبر عند النهوض. وقد تقدم تضعيف القول بمد التكبير بحيث يكون شاملاً للرفع والجلسة والنهوض. فيبقى أصح الأقوال أنه يكبر إذا رفع رأسه ثم يجلس وينهض بلا تكبير ويؤيده قول أبي هريرة – في الحديث المتقدم -: (ثم يكبر حتى يرفع رأسه) وهذا إنما يصدق على فعله بعد الرفع مباشرة. وهذا القول هو قول في مذهب الحنابلة. وقد اختار بعضهم الرواية الأخرى عن الإمام أحمد ورتبوا عليها ذلك كما ذكر الموفق في المغني. المسألة الثانية: أنه يقوم على صدور قدميه معتمداً على ركبته. أما قيامه على صدور قدميه، فلما روى الترمذي من حديث خالد بن إلياس وهو متروك الحديث: أن النبي صلى الله عليه وسلم (كان إذا نهض ينهض على صدور قدميه) (1) وإسناده ضعيف جداً. واستدلوا على استحباب اعتماده بيديه على ركبتيه أو فخذيه: بحديث وائل بن حجر في سنن أبي داود: قال: (كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا نهض ينهض على ركبته واعتمد بيديه على فخذيه) (2)

_ (1) سنن الترمذي ج: 2 ص: 80 باب 214 باب منه أيضا رقم 288 حدثنا يحيى بن موسى حدثنا أبو معاوية حدثنا خالد بن إلياس عن صالح مولى التوأمة عن أبي هريرة قال ثم كان النبي صلى الله عليه وسلم ينهض في الصلاة على صدور قدميه قال أبو عيسى حديث أبي هريرة عليه العمل ثم أهل العلم يختارون أن ينهض الرجل في الصلاة على صدور قدميه وخالد بن إلياس هو ضعيف ثم أهل الحديث قال ويقال خالد بن إياس أيضا وصالح مولى التوأمة هو صالح بن أبي صالح وأبو صالح اسمه نبهان وهو مدني " اسطوانة مكتبة الفقه وأصوله. (2) رواه أبو داود في كتاب الصلاة، باب (117) افتتاح الصلاة رقم (736) .

واستدلوا: بما روى أبو داود أن النبي صلى الله عليه وسلم: (نهى أن يعتمد الرجل على يديه إذا نهض في الصلاة) (1) . - وذهب المالكية والشافعية وهو رواية عن الإمام أحمد: إلى أن المستحب له أن ينهض معتمداً على يديه. فإذا جلس للاستراحة أو قام من التشهد الأول فإنه يعتمد على الأرض بيديه. واستدلوا: بما ثبت في البخاري من حديث مالك بن الحويرث وفيه: أن النبي صلى الله عليه وسلم: (كان إذا رفع من السجدة الثانية جلس واعتمد بيديه على الأرض ثم قام) (2) وأما الحديثان اللذان استدللتم بهما: فالأول: ضعيف؛ لأن فيه انقطاعاً بين عبد الجبار بن وائل وبين أبيه فإنه لم يدرك أباه. وأما الثاني: فإن مداره على عبد الرزاق صاحب المصنف، وقد رواه الثقات كالإمام أحمد وغيره عنه بلفظ: (أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى أن يعتمد الرجل على يديه في الصلاة) (3) وأخطأ بعض الرواة فرواه باللفظ المتقدم.

_ (1) سنن أبي داود ج: 1 ص: 260 باب 188 كراهية الاعتماد على اليد في الصلاة / كتاب الصلاة، رقم 992 حدثنا أحمد بن حنبل وأحمد بن محمد بن شبويه ومحمد بن رافع ومحمد بن عبد الملك الغزال قالوا ثنا عبد الرزاق عن معمر عن إسماعيل بن أمية عن نافع عن بن عمر ثم قال نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال أحمد بن حنبل أن يجلس الرجل في الصلاة وهو معتمد على يده وقال بن شبويه نهى أن يعتمد الرجل على يده في الصلاة وقال بن رافع نهى أن يصلي الرجل وهو معتمد على يده وذكره في باب الرفع من السجود وقال بن عبد الملك نهى أن يعتمد الرجل على يديه إذا نهض في الصلاة ". اسطوانة مكتبة الفقه وأصوله. (2) رواه البخاري في كتاب الأذان، باب (143) كيف يعتمد على الأرض إذا قام من الركعة رقم (824) وفي آخره: " قل أيوب: " وكان ذلك الشيخ يتم التكبير وإذا رفع رأسه عن السجدة الثانية جلس واعتمد على الأرض ثم قام " وليس فيه " بيديه ".

إذن الراجح أن المستحب له أن يعتمد بيديه على الأرض فيقوم (1)

_ (1) قال شيخنا في شرحه الآخر للزاد الذي شرحه في رأس الخيمة عام 1420 ما نصه: " وأجاب الحنابلة: بأن أكثر الأحاديث الواردة في صفة صلاة النبي صلى الله عليه وآله وسلم لم تذكر الاعتماد على اليدين، وتفرد بهذه السنة الصحيحة مالك بن الحويرث، وكان من متأخري الإسلام، فقد أدرك النبي صلى الله عليه وآله وسلم وقد كبُر عليه الصلاة والسلام، وهذا هو ما يسمى بالعجن، يعني فعل العاجن أو العاجز، يعني إذا قام اعتمد على يديه، فيكون قد أدرك النبي صلى الله عليه وآله وسلم وقد ثقُل، وهذا هو الأصح، وأن المستحب له أن ينهض على صدور قدميه، ولذا فإن هذه السنة هي الثابتة عن الأكابر من أصحاب النبي كما روى ذلك ابن أبي شيبة، فقد روى ابن أبي شيبة بأسانيد صحيحة أن عليا وابن مسعود وابن عمر كانوا ينهضون على صدور أقدامهم، يعني كانوا إذا قاموا في الصلاة ينهضون على صدور أقدامهم، فعامة الأحاديث في صفة صلاة النبي صلى الله عليه وسلم ليس فيها ذكر الاعتماد على اليدين، وكان الأكابر من أصحاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم ينهضون على صدور أقدامهم، وهذه السنة قد رواها مالك بن الحويرث، وهو من متأخري الإسلام، فدل هذا على أن هذه السنة، إنما تفعل عند الحاجة. وصورة العجن: أن يضع اليدين على الأرض ثم يقوم، وأما تخصيص الاستحباب بأن يكون كما يضع العاجن – الذي يعجن العجين – فيعجن، فإن هذا التخصيص ضعيف، وأما ما رواه الطبراني في الأوسط، والحربي الحنبلي في غريبه من حديث الهيثم بن عمران، وهو من حديث ابن عمر رضي الله عنه: أنه كان يعجن يعتمد على يديه إذا نهض في الصلاة، ويقول: إن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان يفعله " فإن هذا الحديث لا يصح، فإن الهيثم بن عمران لم يوثقه سوى ابن حبان، وذكره ابن أبي حاتم ولم يذكر فيه جرحا ولا تعديلا، وكونه روى عنه جماعة، هذا يُقبل حيث لم يأت بسنة غريبة، ولذا فإن هذا الحديث قد أعرض عنه سائر الأئمة، فلم يعتمدوا عليه، وقد قال ابن الصلاح رحمه الله تعالى فيه: " لا يصح ولا يعرف، ولا يحتج به "، وقال النووي: " ضعيف باطل لا أصل له " ذكر هذا ابن حجر في تلخيص الحبير، ولم يتعقب ذلك، وأول من ذكر هذه السنة هو الغزالي في بعض كتبه، وأنكر عليه أئمة الشافعية، ولما ذكر ابن رجب هذا الحديث في فتح الباري قال فيه: " غريب، والهيثم لا يعرف "، فهذا الحديث حديث ضعيف، وعلى ذلك: فالمستحب له إن قلنا بالاعتماد، أن يعتمد على أي شكل، سواء هكذا أو هكذا، من غير تخصيص باستحبابه، يعني لا نقول: إن المستحب فقط أن يقول هكذا. على أن الراجح أن المستحب له أن ينهض على صدور قدميه ".

قال: (إن سهل) : تقدم أنه يقوم على صدور قدميه معتمداً على ركبته، يفعل هذا إن سهل. فإن كان فيه مشقة فإنه يعتمد على يديه دفعاً للمشقة. وقد أجابوا عن حديث مالك بأن النبي صلى الله عليه وسلم إنما فعل ذلك لكونه كبر وثقل فكان يعتمد على يديه، وقد تقدم الجواب عن نحو هذا. قال: (ويصلي الثانية كذلك) فيصلي الركعة الثانية كصلاته الركعة الأولى. قال: (ما عدا التحريمة) فإنها تشرع في أول الصلاة. قال: (والاستفتاح) لحديث أبي هريرة: (أن النبي صلى الله عليه وسلم لما قام إلى الثانية استفتح بالحمد لله رب العالمين ولم يسكت) (1) أي لم يسكت للاستفتاح. قال: (والتعوذ) فإنه يسقط على المشهور في المذهب. وتقدم أن الراجح أنه يتعوذ كل ركعة للقراءة. قال: (وتجديد النية) فإن النية في أول الصلاة شاملة، لأولها ووسطها وآخرها فلا يحتاج إلى تجديد النية فيه. وقد ثبت في الصحيحين في حديث المسيء صلاته وفيه أنه أمره بقراءة ما تيسر من القرآن ونحو ذلك وفيه: (ثم افعل ذلك في صلاتك كلها) (2) فيفعل ما ذكر من الواجبات والأركان في الثانية كما فعله في الأولى.

_ (1) رواه مسلم في كتاب المساجد، باب (27) ما يقال بين تكبيرة الإحرام والقراءة رقم (599) بلفظ: " سمعت أبا هريرة يقول: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا نهض من الركعة الثانية استفتح القراءة بـ {الحمد لله رب العالمين} ولم يسكت ". (2) أخرجه البخاري في كتاب الأذان، باب (95) وجوب القراءة للإمام والمأموم (757) ، وباب (122) أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - الذي لا يتم ركوعه بالإعادة (793) ، وأخرجه مسلم (397) . تقدم صْ 61.

ثبت في مسلم جلسة الإقعاء وهي أن ينصب قدميه ويقعد عليهما وهي صفة ثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال فيها ابن عباس: (سنة نبيكم) (1) . مسألة: إذا كان الإمام لا يجلس جلسة الاستراحة فهل يجلسها المأموم أم لا؟ الجواب: إن جلسها فلا بأس؛ لأنها سنة مستحبة وإن لم يجلسها فهو أولى، قال شيخ الإسلام: " وهذا الأقوى؛ لأن متابعة الإمام أولى من التخلف لفعل مستحب " (2) .

_ (1) في كتاب المساجد، باب جواز الإقعاء على العقبين (536) . وسيأتي صْ 152. (2) جاء في مجموع الفتاوى لشيخ الإسلام ما نصه [22 / 451] : " وسئل: عن رجل يصلي مأموماً ويجلس بين الركعات جلسة الاستراحة ولم يفعل ذلك الإمام، فهل يجوز ذلك له؟ وإذا جاز: هل يكون منقصا لأجره لأجل كونه لم يتابع الإمام في سرعة الإمام؟ فأجاب: جلس الاستراحة قد ثبت في الصحيح أن النبي - صلى الله عليه وسلم - جلسها، لكن تردد العلماء هل فعل ذلك من كبر السن للحاجة أو فعل ذلك لأنه من سنة الصلاة، فمن قال بالثاني استحبها، كقول الشافعي وأحمد في إحدى الروايتين، ومن قال بالأول لم يستحبها إلا عند الحاجة، كقول أبي حنيفة ومالك وأحمد في إحدى الرواية الأخرى، ومن فعلها لم ينكر عليه، وإن كان مأموماً، لكون التأخر بمقدار ما ليس هو من التخلف المنهي عنه عند من يقول باستحبابها، وهل هذا إلا فعل في محل الاجتهاد فإنه قد تعارض فعل هذه السنة عنده والمبادرة إلى موافقة الإمام فإن ذلك أولى من التخلف، لكنه يسير، فصار مثل ما إذا قام من التشهد الأول قبل أن يكمله المأموم، والمأموم يرى أنه مستحب، أو مثل أن يسلم وقد بقي عليه يسير من الدعاء، هل يسلم أو يتمه؟ ومثل هذه المسائل هي من مسائل الاجتهاد، والأقوى أن متابعة الإمام أولى من التخلف لفعل مستحب، والله أعلم ".

هذه المسألة لها صور، كأن يتخلف المأموم عن السلام بعد سلام إمامه بدعاء أو نحوه أو يتخلف عن القيام معه لاشتغاله بذكر أو نحوه فالأولى متابعة الإمام وقد قال صلى الله عليه وسلم: (فإذا كبر فكبروا ….) (1) وظاهره الإسراع والمبادرة بفعله بمجرد ما يفعله الإمام. إذن: إن فعل ذلك فلا بأس؛ لأن هذا شيء يسير لا يخل بالمتابعة، لكن إن تركها متابعة للإمام فهو أولى. والحمد لله رب العالمين. الدرس التاسع والسبعون (يوم الأربعاء: 2 / 4 / 1415هـ) ذكر المؤلف – فيما سبق – تفاصيل الركعة الأولى، وذكر الركعة الثانية مجملة، فيبقى الكلام على التشهد الأول وسننه. قال المؤلف رحمه الله: (ثم يجلس مفترشاً (يسراه) ويداه على فخذيه …. إلى آخره) في هذه الجملة مسائل: المسألة الأولى: في صفة جلوس التشهد، وهو أنه يفترش رجله اليسرى ويجلس عليها وينصب اليمنى – كما تقدم – في حديث عائشة (2) وهو ثابت من حديث ابن عمر كما في البخاري (3) ، فالسنة في التشهد أن يجلس مفترشاً يسراه ناصباً يمناه. المسألة الثانية: (ويداه على فخذيه)

_ (1) أخرجه البخاري في كتاب الأذان، باب (82) إيجاب التكبير وافتتاح الصلاة (732) ، (734) ، وأخرجه مسلم (411) ،وقد تقدم صْ 98. (2) رواه مسلم، وقد تقدم صْ 113. (3) رواه البخاري في كتاب الأذان، باب (145) سنة الجلوس في التشهد رقم (827) ، وكذلك من حديث أبي حميد الساعدي في البخاري رقم (828) .

فاليدان يوضعان على الفخذين، لحديث وائل بن حجر عند الخمسة بإسناد صحيح وفيه: (ثم جلس فافترش رجله اليسرى ووضع يده اليسرى على فخذه اليسرى (1) وحد مرفقه الأيمن على فخذه الأيمن وقبض اثنتين وحلق، ورأيته يقول: هكذا، وحلق بشر – وهو الراوي – الإبهام والوسطى وأشار بالسبابة) (2) . إذن يقبض الخنصر والبنصر ويحلق الإبهام والوسطى ويشير بأصبعه السبابة. وثبت عنه – صلى الله عليه وسلم – أنه كان يضع يديه على الركبتين وأنه يقبض أصابعه كلها ويشير بالسبابة، كما ثبت ذلك في مسلم من حديث ابن عمر: (أن النبي صلى الله عليه وسلم: كان إن قعد للتشهد وضع يده اليسرى على ركبته اليسرى واليمنى على اليمنى وعقد ثلاثاً وسبعين (3) - وهي طريقة الحساب عند العرب - وأشار بالسبابة) (4) . وهذه الطريقة هي: أن يضم أصابعه الأربع ويشير بالسبابة وفي رواية: (قبض أصابعه كلها وأشار بالتي تلي الإبهام) (5) فهاتان صفتان ثابتتان عن النبي صلى الله عليه وسلم. المسألة الثالثة: (ويشير بسبابتها في تشهدها) هذا هو المشهور في المذهب وهو مذهب جمهور أهل العلم وأن يشير بها بلا تحريك أي لا يحرك إصبعه السبابة.

_ (1) كذا في الأصل وهي موافقة للفظ الحديث كما في أبي داود وغيره. (2) رواه أبو داود في كتاب الصلاة، باب (180) كيف الجلوس في التشهد (957) ، قال في حاشية سنن أبي داود [1 / 587] : " وأخرجه النسائي وابن ماجه مختصرا حديث 867 ". (3) كذا في الأصل وفوقها كلمة: خمسين، وهي الموافقة للفظ الحديث. (4) رواه مسلم في كتاب المساجد / باب (21) صفة الجلوس في الصلاة وكيفية وضع اليدين على الفخذين / رقم (580) بلفظ: " ابن عمر أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان إذا قعد في التشهد وضع يده اليسرى على ركبته اليسرى ووضع يده اليمنى على ركبته اليمنى، وعقد ثلاثة وخمسين وأشار بالسبابة ". (5) رواه مسلم في الباب السابق رقم (580) .

واستدلوا: بأن الأحاديث الثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم ليس فيها إلا ذكر الإشارة كما تقدم في غير ما حديث عن النبي صلى الله عليه وسلم وقد ورد ذلك صريحاً – كما في سنن أبي داود- عن ابن الزبير بإسناد جيد وفيه: أن النبي صلى الله عليه وسلم: (كان يشير بإصبعه ولا يحركها) (1) . - وذهب المالكية: إلى استحباب تحريك الأصبع. واستدلوا: بما رواه أبو داود من حديث وائل بن حجر بإسناد جيد: أن النبي صلى الله عليه وسلم (كان يحركها يدعو بها) (2) والصحيح المذهب الأول، لأن هذا الحديث شاذ فعامة الأحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم ليس فيها التحريك وإنما فيها الإشارة فحسب. بل قد خالف صراحة حديث ابن الزبير وفيه عدم التحريك بل عامة الرواة عن وائل لم يذكروا هذه اللفظة وتفرد بها بعض الرواة.

_ (1) رواه أبو داود في كتاب الصلاة / باب (186) الإشارة في التشهد رقم (989) . (2) عزاه الحافظ كما في تلخيص الحبير لابن خزيمة والبيهقي، ولم يعزه لأبي داود، ولم أجده في سنن أبي داود لكن عزاه غير واحد إليه. وقد رواه النسائي - المجتبى ج: 2 ص: 126 باب (11) موضع اليمين من الشمال في الصلاة رقم (889) وج: 3 ص: 37 باب (34) قبض الثنتين من أصابع اليد اليمنى وعقد الوسطى والإبهام منها رقم 1268، وصحيح ابن خزيمة ج: 1 ص: 354 باب (224) صفة وضع اليدين على الركبتين في التشهد وتحريك السبابة ثم الإشارة بها رقم (714) . اسطوانة مكتبة الفقه وأصوله.

ومما يدل على ذلك: ما ثبت في سنن النسائي بإسناد صحيح من حديث سعد بن أبي وقاص أن النبي صلى الله عليه وسلم: (مرَّ على رجل وهو يشير بأصبعيه يدعو بهما فقال: (أحِّد أحِّد) وأشار النبي صلى الله عليه وسلم بأصبعه السبابة) (1) فإن هذا من جنس من يرفع اليدين للدعاء، فيشير بإصبعه إشارة إلى توحيد الله وأن هو المدعو وحده، وأن الدعاء يوجه إليه دون غيره. قوله: (في تشهدها) المستحب عند الحنابلة في المشهور عنهم: أنه يشير بها عند التشهد - وذكر الله – فإذا ذكر الله أشار ثم يعيدها، وكلما ذكر الله أشار. وعن الإمام أحمد: أنه يشير بها في تشهده كله، فيرفع أصبعه السبابة فيشير بها في تشهده كله. أما ما ذكره الحنابلة وغيرهم في هذا الباب فلا دليل عليه وظاهر الحديث المتقدم أنه أشار بها في تشهده كله. والتشهد في الحقيقة دعاء، لأنه ما بين ثناء على الله وصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم وهما من مقدمات الدعاء وسؤال المغفرة ونحو ذلك فكله في الحقيقة دعاء. وفي صحيح مسلم من حديث ابن عمر: (فأشار بأصبعه فدعا بها) (2) فإذن التشهد كله دعاء.

_ (1) رواه النسائي في كتاب السهو، باب (37) النهي عن الإشارة بأصبعين وبأي أصبع يشير رقم (1372) بلفظ: " عن أبي هريرة أن رجلاً كان يعدو بأصبعيه فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (أحد، أحد) ، و (1373) بلفظ: " عن سعد قال: مر علي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأنا أدعو بأصبعي فقال أحد أحد وأشار بالسبابة ". (2) رواه مسلم في كتاب المساجد، باب (21) صفة الجلوس في الصلاة وكيفية وضع اليدين على الفخذين رقم (580) بلفظ: " عن ابن عمر أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان إذا جلس في الصلاة وضع يديه على ركبتيه ورفع إصبعه اليمنى التي تلي الإبهام فدعا بها ويده اليسرى على ركبته اليسرى باسطها عليها ".

ومعلوم أن الداعي لله عز وجل إذا دعاه فإنه يرفع يديه ويتضمن ذلك ثناء على الله وصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم وهما داخلان في الدعاء لأنهما من مقدماته. فالراجح ما ذهب إليه الإمام أحمد في إحدى الروايتين عنه من أنه يشير بها في تشهده كله. ويستحب له أن يديم النظر إليها وحينئذ يكون استثناءً من النظر إلى موضع سجوده، فقد ثبت في المسند وغيره بإسناد جيد: أن النبي صلى الله عليه وسلم: (كان يديم نظره إليها) (1) المسألة الرابعة: (ويبسط اليسرى) أي يبسطها على فخذه. أو يلقمها ركبته، فقد صح في مسلم من حديث ابن الزبير وفيه: (وألقم ركبته كفه) (2) فيستحب أن يبسطها على فخذه أو يلقمها ركبته. قال: (ويقول: التحيات لله ….) (التحيات لله) بمعنى: البقاء والعظمة والملك والسلامة لله تعالى. (والصلوات) كلها فرضها ونفلها، والصلاة الشرعية واللغوية وهي الدعاء كل ذلك لله تعالى مستحق له مصروف إليه بل (والطيبات) كلها فكل عمل أو قول طيب فهو إلى الله يوجه ويصرف إليه. (السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته) هكذا في الرواية وهو ما كان يعلمه عمر بن الخطاب على المنبر – كما في الموطأ بإسناد صحيح (3) .

_ (1) رواه أحمد في المسند رقم (6000) ، وفي طبعة برقم (5964) قال: " حدثنا محمد بن عبد الله أبو أحمد الزبيري، حدثنا كثير بن زيد، عن نافع قال: كان عبد الله بن عمر إذا جلس في الصلاة وضع يديه على ركبتيه وأشار بأصبعه وأتبعها بصره ثم قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (لهي أشد على الشيطان من الحديد) يعني السبابة (2) رواه مسلم في الباب السابق قبل رقم (519) قبل رقم (580) . بلفظ: " كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا قعد يدعو وضع يده … ويلقم كفه اليسرى ركبته " (3) الموطأ / كتاب الصلاة / باب التشهد في الصلاة / رقم (200) .

وذهب كثير من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم إلى القول بعد وفاته: (السلام على النبي) ، كما روى البخاري عن ابن مسعود قال: (لما كان بين ظهرانينا فلما قبض قلنا: السلام) قال البخاري: (يعني على النبي - صلى الله عليه وسلم -) (1) وقد ورد تصريحاً في مصنف ابن أبي شيبة ومستخرج الإسماعيلي: (السلام على النبي) (2) . وروى عبد الرزاق بإسناد صحيح عن عطاء بن أبي رباح قال: (كان أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وهو حي يقولون: السلام عليك أيها النبي، فلما مات قالوا: السلام على النبي) (3) .

_ (1) صحيح البخاري ج: 5 ص: 2311 رقم (5910) حدثنا أبو نعيم حدثنا سيف قال سمعت مجاهدا يقول حدثني عبد الله بن سخبرة أبو معمر قال سمعت بن مسعود يقول ثم علمني رسول الله صلى الله عليه وسلم وكفي بين كفيه التشهد كما يعلمني السورة من القرآن التحيات لله والصلوات والطيبات السلام عليك أيها الله وبركاته السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدا عبده ورسوله وهو بين ظهرانينا فلما قبض قلنا السلام يعني على النبي صلى الله عليه وسلم " اسطوانة مكتبة الحديث، وفي نسخة عندي برقم (6265) باب (28) الأخذ باليدين / كتاب الاستئذان (3) مصنف عبد الرزاق [2 / 204) رقم (3075) بلفظ:" عن عطاء: أن أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - كانوا يسلمون والنبي - صلى الله عليه وسلم - حي: السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته، فلما مات قالوا السلام على النبي ورحمة الله وبركاته "

والأولى الوقوف على الرواية الثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم لأنها لفظ علمه الصحابة في حضرته وغيبته، فهو وهو غائب عنهم يصلون في بيوتهم أو في بواديهم أو في مدنهم الخارجة عن مدينة النبي صلى الله عليه وسلم وفي مساجدهم الخارجة عن مسجده وهم في حكم الغائب عنه، وهو في حكم الميت، لأنه لا يسمع لفظهم، بل وهم يصلون خلفه لا يسمع – من حيث الطبيعة – لا يسمع تسليمهم فإنه في حكم الغائب الميت صلى الله عليه وسلم. وإذا قلنا: بأنه يسمع كلامهم وهو حي فكذلك وهو ميت كما ورد في الحديث الصحيح: (أنه ما من أحد يمر على النبي صلى الله عليه وسلم فيسلم عليه إلا رد الله عليه روحه فرد عليه السلام) (1) وقد قال صلى الله عليه وسلم: (فإن تسليمكم ليبلغني حيث كنتم) (2) . فحينئذ: لا فرق بين كونه حياً وميتاً، وهذا ما كان عليه عمر بن الخطاب ولم ينكر عليه أحد من الصحابة وقد كان يعلمه بمحضر الصحابة. وأما ما رواه ابن مسعود وغيره فإن هذا اجتهاد منهم ونظر.

_ (1) قال في تلخيص الحبير ج: 2 ص: 267: " وأصح ما ورد في ذلك ما رواه أحمد وأبو داود من طريق أبي صخر حميد بن زياد عن يزيد بن عبد الله بن قسيط عن أبي هريرة مرفوعا ما من أحد يسلم علي إلا رد الله علي روحي حتى أرد عليه السلام وبهذا الحديث صدر البيهقي الباب "، رواه أبو داود في كتاب المناسك، باب (100) زيارة القبور رقم (2041) . (2) قال في مجمع الزوائد ج: 4 ص: 3 " رواه أبو يعلي وفيه حفص بن ابراهيم الجعفري ذكره ابن أبي حاتم ولم يذكر فيه جرحا وبقية رجاله ثقات " وذكره الحافظ أبو عبد الله المقدسي في مختاره عن علي رضي الله عنه كما قال شيخ الإسلام في الفتاوى.، ورواه أبو داود من حديث أبي هريرة بلفظ: (لا تجعلوا بيوتكم قبورا … فإن صلاتكم تبلغني حيث كنتم) . في كتاب المناسك / باب (100) زيارة القبور رقم (2042) .

فالراجح أنه يقول: (السلام عليك أيها النبي) . قوله: (السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين، أشهد أن لا أله إلا الله وأشهد أن محمداً عبده ورسوله) هكذا في الرواية المتفق عليها (1) ، وفي مصنف ابن أبي شيبة بإسناد ضعيف مرفوعاً: (وحده لا شريك له) (2) وهي ثابتة في سنن أبي داود موقوفة على ابن عمر بإسناد صحيح أنه قال: (وزدت وحده لا شريك له) (3) . إذن: المستحب – كما هو المشهور في المذهب أنه لا يزيد عليها ذلك كما أنه لا يزيد عليها التسمية، فإنها قد وردت من حديث جابر في النسائي وابن ماجه (4) لكنها ضعيفة. وهذا النوع من التشهد هو أشهرها، وهو تشهد ابن مسعود الثابت في الصحيحين.

_ (1) صحيح البخاري / كتاب الاستئذان،باب (28) الأخذ باليدين / رقم (6265) ،ومسلم رقم (402) . (3) رواه أبو داود في كتاب الصلاة / باب (182) التشهد / رقم (971) (4) أخرجه النسائي في كتاب السهو، باب (45) نوع آخر من التشهد (1281) قال: " أخبرنا عمرو بن علي قال حدثنا أبو عاصم قال حدثنا أيمن بن نابل قال حدثنا أبو الزبير عن جابر بن عبد الله قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يعلمنا التشهد كما يعلمنا السورة من القرآن: بسم الله وبالله التحيات لله والصلوات والطيبات، السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته، السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين، أشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمدا عبده ورسوله، وأسأل الله الجنة وأعوذ به من النار) . قال أبو عبد الرحمن: " لا نعلم أحدا تابع أيمن بن نابل على هذه الرواية، وأيمن عندنا لا بأس به، والحديث خطأ، وبالله التوفيق " ورواه ابن ماجه في كتاب إقامة الصلاة / باب (24) ما جاء في التشهد / رقم (902) قال الألباني " ضعيف ". وانظر مصنف عبد الرزاق رقم (3071) [2 / 203] .

فقد صح عنه أنه قال: التفت إلينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: (إذا صلى أحدكم فليقل: التحيات لله والصلوات والطيبات السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين أشهد أن لا أله إلا الله وأشهد أن محمداً عبده ورسوله ثم يتخير من الدعاء أعجبه إليه فيدعو) (1) . وقد اختاره الإمام أحمد مع ورود أنواع أخرى؛ وقد اختاره الإمام أحمد لأنه ثابت في الصحيحين ولأن أكثر أهل العلم عليه، فقد ذكر الترمذي: أن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ومن بعدهم على ذلك (2) . ومع ذلك فإنه – باتفاق أهل العلم – أنه لو قال أي تشهد وارد فإن ذلك يجزئه – قال الإمام أحمد: " وتشهد عبد الله أعجب إلي وإن كان غيره جائزاً ".

_ (1) متفق عليه، وقد تقدم. (2) جامع الترمذي / كتاب الصلاة / باب (99) ما جاء في التشهد / تحت رقم (289) قال: " والعمل عليه عند أكثر أهل العلم من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - ومن بعدهم من التابعين وهو قول سفيان الثوري وابن المبارك وأحمد وإسحاق ".

فقد وردت تشهدات أخرى كتشهد ابن عباس في مسلم وغيره (1) ، لكن الإمام أحمد اختار تشهد ابن مسعود لثبوته في الصحيحين ولكونه محفوظاً حفظاً ثابتاً حتى قال الأسود: " كنا نتحفظه من عبد الله كما نتحفظ السورة من القرآن " (2) . وإن فعل هذا تارة وهذا تارة فهو أولى لثبوت ذلك كله. قال: (هذا التشهد الأول) ولا يستحب – كما تقدم - أن تزيد عليه " وحده لا شريك له " ولا التسمية. أما النقص: فهل يجزئه إذا نقص أم لا؟ قولان: القول الأول: وهو المشهور في المذهب: أنه يجزئه ذلك. فإذا نقص منه بحيث ذكر أصوله فإن ذلك يجزئه، وذلك بأن يقول: " التحيات لله، والسلام عليك أيها النبي والسلام على عباد الله الصالحين أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً عبده ورسوله ". وهذا القول هو المرجح في المذهب وعليه أكثر أصحاب الإمام أحمد. القول الثاني في المذهب وهو قول ابن حامد: وأن ذلك لا يجزئه حتى يأتي بالتشهد الوارد بتشهد ابن مسعود أو غيره من الوارد. وهذا أولى وأحوط. أما كونه أولى؛ فلأن هذا ذكر والأذكار يجب أن تؤدى كما رويت لذا لا يجوز أن تروى بالمعنى وذلك لأن ألفاظها متعبد بها.

_ (1) رواه مسلم / كتاب الصلاة / باب (16) التشهد في الصلاة / رقم (403) بلفظ: " عن ابن عباس أنه قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يعلمنا التشهد كما يعلمنا السورة من القرآن، فكان يقول: (التحيات المباركات الصلوات الطيبات لله، السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته، السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين، أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدا رسول الله) . (2) رواه أحمد في المسند رقم (4382) بلفظ: " عن عبد الله بن مسعود قال: علمني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - التشهد.. قال: فكنا نحفظ من عبد الله حين أخبرنا أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - علمه إياه.. "، وانظر المغني [2 / 222] .

وأما كونه أحوط فهو ظاهر، فإنه احتياط في الديانة فهؤلاء يقولون يجزئ، والآخرون يقولون: لا يجزئ، والسنة فعله، فهو الثابت، فالأولى والأحوط أن يقوله كاملاً سواء كان تشهد ابن عباس أو ابن مسعود أو غيرهما. ولا يستحب له أن يطيل الجلوس بعد التشهد، بل يقوم بعد ذكر التشهد. ودليل ذلك ما رواه أبو داود والترمذي بإسناد من طريق أبي عبيدة عن أبيه عبد الله بن مسعود ولم يسمع أباه ففيه انقطاع،- وله شواهد سيأتي ذكرها – أن النبي صلى الله عليه وسلم: (كان إذا جلس في الركعتين كأنه على الرضف) (1) وهي الحجارة المحماة. وله شاهد من السنة المرفوعة وهو ما رواه أحمد بإسناد جيد من حديث محمد بن إسحاق وقد صرح بالتحديث وفيه: (فإذا كان وسط الصلاة نهض حين يتم التشهد) (2) وله شاهد من السنة المرفوعة وهي سنة أبي بكر الصديق، فقد ثبت في مصنف عبد الرزاق: (أنه كان إذا جلس في التشهد الأول كأنه على الرضف) (3)

_ (1) رواه أبو داود في كتاب الصلاة / باب (188) في تخفيف القعود / رقم (995) ، وأخرجه الترمذي حديث 366، قال الترمذي: " هذا حديث حسن، إلا أن أبا عبيدة لم يسمع من أبيه ". سنن أبي داود [1 / 606] . (2) رواه الإمام أحمد في مسنده رقم (4382) في مسند عبد الله بن مسعود قال: " حدثنا يعقوب، قال: حدثني أبي، عن ابن إسحاق قال: حدثني عن تشهد رسول الله في وسط الصلاة وفي آخرها عبد الرحمن بن الأسود بن يزيد النخعي عن أبيه عن عبد الله بن مسعود قال: علمني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - التشهد في وسط الصلاة وفي آخرها … ". (3) مصنف ابن أبي شيبة ج: 1 ص: 263 رقم (3017) حدثنا جرير عن منصور عن تميم بن سلمة قال كان أبو بكر إذا جلس في الركعتين كأنه على الرضف يعني حتى يقوم ". ولم أجده في مصنف عبد الرزاق في الاسطوانة، ولم يعزه إليه في تلخيص الحبير حيث قال في ج: 1 ص: 263 ما نصه: " وروى ابن أبي شيبة من طريق تميم بن سلمة كان أبو بكر إذا جلس في الركعتين كأنه على الرضف، إسناده صحيح وعن ابن عمر نحوه قال ابن دقيق العيد المختار أن يدعو في التشهد الأول كما يدعو … " اسطوانة مكتبة الفقه وأصوله.

إسناده صحيح وكذلك رواه ابن أبي شيبة عن ابن عمر. ويسن له كما تقدم أن يعتمد على يديه إذا أراد القيام، كما هو القول الراجح. ويستحب له إذا نهض من التشهد الأول أن يرفع يديه خلافاً للمشهور في المذهب، وهذا هو رواية عن الإمام أحمد واختاره المجد ابن تيمية وحفيده شيخ الإسلام ابن تيمية. واستدلوا: بما روى البخاري من حديث ابن عمر: أن النبي صلى الله عليه وسلم: (كان إذا قام من الركعتين رفع يديه) (1) فهذه سنة صحيحة لا يجوز العدول عنها. ثم يصلي الركعة الثالثة من المغرب والركعتين الأخريين من صلاة الظهر والعصر والعشاء، ويقرأ فيها بفاتحة الكتاب فحسب؛ لحديث أبي قتادة المتقدم: (أنه كان يقرأ في الأخريين بفاتحة الكتاب) (2) ويستحب له تارة – كما هو رواية عن الإمام أحمد: أن يقرأ بسورة بعد الفاتحة – كما ثبت في مسلم من حديث أبي سعيد الخدري قال: (كان النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ في الظهر في الركعتين الأوليين قدر ثلاثين آية، وفي الركعتين الأخريين على النصف من ذلك، وفي الأوليين من العصر على قدر الأخريين من الظهر، وفي الأخريين على النصف من ذلك) (3) .

_ (1) رواه البخاري في كتاب الأذان / باب (86) رفع اليدين إذا قام من الركعتين / رقم (739) . (2) رواه البخاري / كتاب الأذان / باب (107) يقرأ في الأخريين بفاتحة الكتاب / رقم (776) , ومسلم رقم (451) . (3) رواه مسلم / كتاب الصلاة / باب (34) القراءة في الظهر والعصر / رقم (452) بلفظ: عن أبي سعيد الخدري أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يقرأ في صلاة الظهر في الركعتين الأوليين في كل ركعة قدر ثلاثين آية، وفي الأخريين قدر خمس عشرة آية، أو قال: نصف ذلك، وفي العصر في الركعتين الأوليين في كل ركعة قدر قراءة خمس عشرة آية، وفي الأخريين قدر نصف ذلك ".

وحينئذ: تكون قراءته في الركعتين الأخريين من صلاة الظهر بقدر الفاتحة مرتين أي الفاتحة وسورة. فهذا الحديث فيه أن النبي صلى الله عليه وسلم كان ربما قرأ مع فاتحة الكتاب سورة في الركعتين الأخريين من الظهر، وهو جائز ولا حرج فيه، بل يستحب أحياناً. وقد أشار المؤلف إلى هذه المسائل التي تقدم ذكرها أشار إليها – بعد ذكر جملة من المسائل – فقال: (وإن كان في ثلاثية أو رباعية نهض مكبراً بعد التشهد الأول) (نهض مكبراً) للحديث المتقدم – حديث أبي هريرة – في الصحيحين: (وصلى ما بقي كالثانية بالحمد فقط) (1) هذا هو المشهور في المذهب وأنه يقرأ بالحمد فقط، فإن قرأ بها وبغيرها فإنه يباح. بل عن الإمام أحمد استحباب ذلك أحياناً. والحمد لله رب العالمين. الدرس الثمانون (يوم السبت: 5 / 4 / 1415هـ) قال المؤلف رحمه الله تعالى: (ثم يقول: اللهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على آل إبراهيم إنك حميد مجيد، وبارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على آل إبراهيم إنك حميد مجيد) هذا لفظ من الألفاظ الواردة عن النبي صلى الله عليه وسلم في الصلاة عليه في الصلاة، وهو أصحها؛ لثبوته في الصحيحين ولذا اختاره الإمام أحمد. فقد ثبت في الصحيحين من حديث كعب بن عجرة قال: (قلنا يا رسول الله: قد علمنا كيف نسلم عليك فكيف نصلي عليك – في رواية مسلم " إذا نحن صلينا " فقال: قولوا: اللهم صل على محمد ... ) (2) الحديث. وبأي نوع صليت عليه أجزأك ذلك وفعلت السنة. * وهل يجزئه أن يكتفي بقول: " اللهم صل على محمد " أم لا؟ قولان في المذهب: القول الأول: أنه لا يجزئه حتى يصلي عليه بالصلاة الواردة، واستدلوا: بورود ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم فكان المشروع أن يقال كما ورد.

_ (1) تقدم. (2) أخرجه البخاري في كتاب أحاديث الأنبياء، باب (10) رقم (3370) ، وانظر (4797) (63357) ، ومسلم (406) .

القول الثاني: وهو المشهور عند الحنابلة واختاره الموفق: أنه يجزئه ذلك ولا يشترط أن يأتي به بتمامه بل يجزئه صلاة مطلقة، واستدل: بأن الصلاة الواردة عنه كانت عن سؤال، وما كان طريقه السؤال فليس بواجب، إذ لو كان واجباً لابتدأ به. فهنا قال ذلك بعد سؤال الصحابة: فقالوا: " قولوا " وليس في هذا وجوب ذلك إذ لو كان واجباً لعلمهم النبي صلى الله عليه وسلم ابتداءً، فسكوته عن تعليمهم ذلك حتى يسألوه يدل على أن ذلك إنما هو على وجه الإرشاد والتعليم وليس على وجه الوجوب والشرطية للإجزاء، وهذا القول هو الأرجح وأنه متى قال: " اللهم صل على محمد " أجزأه ذلك. * ولكن هل يجب أن يصلي على النبي صلى الله عليه وسلم في تشهده أم لا؟ ذهب الشافعية والحنابلة: إلى فرضية ذلك، أما الحنابلة فيوجبونها في التشهد الثاني فقط، وأما الشافعية ففي كل تشهد، واستدلوا: بقوله: " قولوا " قالوا: وهذا أمر والأمر للوجوب. وذهب المالكية والأحناف: إلى عدم وجوب ذلك، ولكنه سنة. وهذا القول أظهر؛ لما تقدم من التعليل السابق فإن هذا إنما ورد على هيئة سؤال، فالنبي صلى الله عليه وسلم لم يعلمهم الصلاة عليه في الصلاة حتى سألوه عنها، وما كان طريقه ذلك فليس بواجب وإنما هو مستحب. ومع ذلك ففيما قاله الحنابلة قوة، والاحتياط الالتزام بذلك وعدم تركه، بل الاحتياط أن يقول ما ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم تماماً لا يسقط من ألفاظه شيئاً. قال: (ويستعيذ من عذاب جهنم ومن عذاب القبر ومن فتنة المحيا والممات ومن فتنة المسيح الدجال)

لما ثبت في الصحيحين من حديث أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا تشهد أحدكم فليستعذ بالله من أربع يقول: " اللهم إني أعوذ بك من عذاب جهنم ومن عذاب القبر ومن فتنة المحيا والممات ومن [شر] فتنة المسيح الدجال ") (1) وجماهير العلماء على: أن هذه الاستعاذة أنها سنة في الصلاة. وعند الإمام أحمد وهو مذهب طائفة من أهل العلم: أن الاستعاذة على هذه الصفة فرض في الصلاة. حتى عن الإمام أحمد: أنه يعيد صلاته إن تركها، وهو قول طاووس بن كيسان من كبار التابعين. واستدلوا: بالأمر الوارد: " فليستعذ " وذهب جماهير العلماء إلى أنها مستحبة وإن الأمر الوارد فيها إنما هو على وجه الاستحباب. واستدلوا: بما ثبت في الصحيحين من حديث ابن مسعود وفيه – بعد أن ذكر التشهد – قال: (ثم ليتخير من الدعاء أعجبه إليه فيدعو) (2) فهذا يدل على أنه لا يجب عليه نوع من أنواع الأدعية أو الاستعاذات وإنما يدعو بما شاء ويتخير من الدعاء أعجبه إليه، فيكون هذا الأمر من باب الإرشاد، وهذا هو الأظهر. قال: (ويدعو بما ورد)

_ (1) هذا لفظ مسلم، أخرجه في كتاب المساجد، باب (25) ما يستعاذ منه في الصلاة / رقم (588) ، وأخرجه البخاري بلفظ: " كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يدعو: (اللهم إني أعوذ بك من عذاب القبر ومن عذاب النار، ومن فتنة المحيا والممات ومن فتنة المسيح الدجال) في كتاب الجنائز / باب (88) التعوذ من عذاب القبر / رقم (1377) ، ورواه البخاري عن عائشة بلفظ مختلف بدون ذكر عذاب النار في كتاب الأذان، وبألفاظ أخرى عنها في أبواب أخرى. (2) أخرجه البخاري بلفظ: " ثم يتخير " دون اللام. في كتاب الأذان، باب (150) ما يتخير من الدعاء بعد التشهد وليس بواجب / رقم (835) ، ومسلم (402) .

كما في الصحيحين من حديث أبي بكر قال: (قلت يا رسول الله علمني شيئاً أدعو به في صلاتي فقال: قل " اللهم إني ظلمت نفسي ظلماً كثيراً ولا يغفر الذنوب إلا أنت فاغفر لي مغفرة من عندك وارحمني إنك أنت الغفور الرحيم ") (1) أو نحوه مما ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم – كما في الصحيحين أيضاً من الاستعاذة من المأثم والمغرم (2) . وظاهر قوله: " بما ورد " أي بما ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الباب لكن هذا غير مراده، إنما المراد ما ورد في الشريعة، كأن يقول: " ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار " و " ربنا هب لنا من أزواجنا وذرياتنا قرة أعين " ونحو ذلك مما ورد. وظاهره أنه إذا دعا بدعاء من ملاذ الدنيا ونعيمها فإنه لا يشرع له ذلك ولا يجوز بل قد صرح فقهاء الحنابلة بأن الصلاة تبطل بذلك، لأنه كلام أجنبي والكلام الأجنبي يبطل الصلاة.

_ (1) أخرجه البخاري في كتاب الأذان / باب (149) الدعاء قبل السلام / رقم (834) وفي كتاب الدعوات / باب (17) الدعاء في الصلاة / رقم (6326) ، ومسلم رقم (2705) . (2) صحيح البخاري ج: 1 ص: 286 رقم (798) حدثنا أبو اليمان قال أخبرنا شعيب عن الزهري قال أخبرنا عروة بن الزبير عن عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم أخبرته: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يدعو في الصلاة (اللهم إني أعوذ بك من عذاب القبر وأعوذ بك من فتنة المسيح الدجال وأعوذ بك من فتنة المحيا وفتنة الممات اللهم إني أعوذ بك من المأثم والمغرم) فقال له قائل ما أكثر ما تستعيذ من المغرم فقال: (إن الرجل إذا غرم حدث فكذب ووعد فأخلف) ،ومسلم رقم (589) اسطوانة مكتبة الفقه وأصوله.

وعن الإمام أحمد: أنه لا بأس بذلك، واختاره الموفق من فقهاء الحنابلة، وقد نص عليه الإمام أحمد، وهذا القول هو الراجح، وظواهر الأدلة تدل عليه كقوله صلى الله عليه وسلم: (ثم ليتخير من الدعاء أعجبه إليه فيدعو) (1) وعند البيهقي: (ثم ليدعو بما بدا له) (2) . فظواهرها أنه يتخير من الدعاء أعجبه إليه، والدعاء عام فيما ورد وما لم يرد. قال: (ثم يسلم عن يمينه: السلام عليكم ورحمة الله، وعن يساره كذلك) في هذه الجملة ثلاث مسائل: المسألة الأولى: أن المستحب أن يسلم عن يمينه وعن شماله فيقول عن يمينه: " السلام عليكم ورحمة الله " وعن يساره " السلام عليكم ورحمة الله.

_ (2) سنن البيهقي الكبرى ج: 2 ص: 142 2656 وأما الرواية عن ابن عمر فأخبرنا أبو أحمد عبد الله بن محمد بن الحسن العدل أنبأ أبو بكر محمد بن جعفر المزكي أنبأ محمد بن إبراهيم ثنا بن بكير ثنا مالك عن نافع ثم أن عبد الله بن عمر كان يتشهد فيقول بسم الله التحيات لله والصلوات الزاكيات لله السلام عليك أيها النبي ورحمه الله وبركاته السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين شهدت أن لا إله إلا الله وشهدت أن محمدا رسول الله يقول هذا في الركعتين الأوليين ويدعو إذا قضى تشهده بما بدا له فإذا جلس في آخر صلاته تشهد كذلك أيضا إلا أنه يقدم التشهد ثم يدعو بما بدا له فإذا قضى تشهده وأراد أن يسلم قال السلام على النبي ورحمه الله وبركاته السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين السلام عليكم على يمينه ثم يرد على الإمام فإن سلم عليه أحد عن يساره رد عليه "، ومالك في الموطأ برقم (204) . الاسطوانة.

ويستحب له في سلامه أن يبدو بياض خده للمأمومين لما ثبت عند الخمسة بإسناد صحيح: أن النبي صلى الله عليه وسلم: (كان يسلم حتى يبدو بياض خده عن يمينه السلام عليكم ورحمة الله وعن يساره حتى يبدو بياض خده، السلام عليكم ورحمة الله) (1) المسألة الثانية: أن الوارد هو لفظة: " السلام عليكم ورحمة الله " عن يمينه وعن شماله في هذا الحديث المتقدم وقد وردت أنواع أخر: فمن ذلك ما ثبت في سنن أبي داود بإسناد صحيح: أن النبي صلى الله عليه وسلم: (كان يسلم عن يمينه بالسلام عليكم ورحمة الله وبركاته وعن يساره: السلام عليكم ورحمة الله) (2) والنوع الثالث: ما رواه أحمد والنسائي بإسناد صحيح: أن النبي صلى الله عليه وسلم: (كان يسلم عن يمينه السلام عليكم ورحمة الله وعن يساره السلام عليكم) (3)

_ (1) رواه أبوداود في كتاب الصلاة / باب (189) في السلام / رقم (996) بلفظ: " عن عبد الله أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يسلم عن يمينه وعن شماله حتى يُرى بياض خده: السلام عليك ورحمة الله، السلام عليكم ورحمة الله) . والترمذي حديث 295، وقال: " حسن صحيح "، والنسائي حديث 1323، وابن ماجه حديث 914، سنن أبي داود [1 / 607] . (2) لم أجده بهذا اللفظ في سنن أبي داود في باب (189) في السلام / كتاب الصلاة، وإنما هو فيه بلفظ: " عن علقمة بن وائل عن أبيه قال: صليت مع النبي - صلى الله عليه وسلم - فكان يسلم عن يمينه (السلام عليكم ورحمة الله وبركاته) وعن شماله (السلام عليكم ورحمة الله وبركاته) ورقمه (997) ، كذا في النسخة التي بين يدي، لكن في اسطوانة مكتبة الفقه في الحاسب الآلي بدون (وبركاته) في شماله. فليراجع. (3) رواه النسائي في كتاب السهو / باب (17) كيف السلام على الشمال / رقم (1321) بلفظ: " وذكر السلام عليكم ورحمة الله عن يمينه، السلام عليكم، عن يساره ".

وهناك صفة رابعة رواها سعيد بن منصور كما في المغني – لكن الاطلاع على سندها غير متيسر لأن الجزء المذكور فيه هذا الحديث لم يطبع ويخشى أن يكون مفقوداً – وفيه أن النبي صلى الله عليه وسلم من حديث علي -: (كان يسلم عن يمينه السلام عليكم وعن يساره السلام عليكم) (1) هذه الصفة يتوقف فيها حتى تثبت. وهناك صفة خامسة لكن الحديث فيها ضعيف: وهي ما رواه الترمذي والحاكم أن النبي صلى الله عليه وسلم: (كان يسلم تسليمة قبل وجهه يأخذ عن يمينه قليلاً) (2) وقد أعله أبو حاتم والدارقطني وابن عبد البر وغيرهم من الأئمة المتقدمين. والحديث من حديث زهير بن محمد ويروي هذا الحديث عن الشاميين وروايته عنهم ضعيفة منكرة فعلى هذا لا يثبت هذا الحديث. المسألة الثالثة:

_ (1) المغني لابن قدامة [2 / 245] . (2) رواه الترمذي / كتاب الصلاة / في الباب الذي بعد باب (105) ما جاء في التسليم في الصلاة، وهو باب (106) منه أيضا رقم (296) قال: " حدثنا محمد بن يحيى النيسابوري حدثنا عمرو بن أبي سلمة أبو حفص التِّنِّيسي عن زُهير بن محمد عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يسلم في الصلاة تسليمة واحدة تلقاء وجهه يميل إلى الشق الأيمن شيئاً " قال: وفي الباب عن سهل بن سعد، قال أبو عيسى: " وحديث عائشة لا نعرفه مرفوعاً إلا من هذا الوجه. قال محمد بن إسماعيل: زُهير بن محمد أهل الشام يروون عنه مناكير،ورواية أهل العراق عنه أشبه وأصح. قال محمد: وقال أحمد بن حنبل: كأنّ زهير بن محمد الذي كان وقع عندهم ليس هو هذا الذي يُروى عنه بالعراق، كأنه رجل آخر قلبوا اسمه. قال أبو عيسى: وقد قال به بعض أهل العلم في التسليم في الصلاة، وأصح الروايات عن النبي - صلى الله عليه وسلم - تسليمتان، وعليه أكثر أهلا لعلم من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - والتابعين ومن بعدهم ".

- ظاهر قول المؤلف هنا أن هذا السلام يكون عن اليمين وعن الشمال، فيتجه إلى يمينه ويقول: " السلام عليكم ورحمة الله " ثم يلتفت إلى يساره فيقول: " السلام عليكم ورحمة الله " هذا هو ظاهر قول المؤلف، وهو ظاهر الأدلة الشرعية المتقدمة: أن النبي صلى الله عليه وسلم: " كان يسلم عن يمينه "، " كان يسلم عن يساره "، وغيرها، فظاهر هذه الأحاديث ما تقدم. - وقال ابن عقيل: يبتدئ بالسلام إلى القبلة ثم يلتفت يميناً وشمالاً أي: يقول: " السلام عليكم ورحمة الله " ويلتفت إلى اليمين، " السلام عليكم ورحمة الله " ويلتفت إلى اليسار مبتدئا السلام إلى القبلة ثم يتمه إلى اليمين، ويبدؤه إلى القبلة ثم يتمه إلى اليسار. وهذا ضعيف لعدم الدليل الدال عليه، ولأن ظاهر الأحاديث المتقدمة تخالفه. * هل يجزئه أن يقول " السلام عليكم "؟ أما لو صح الحديث المتقدم في سنن سعيد بن منصور فلا إشكال في الجزم بصحة ذلك لثبوت السنة فيه، ولكن تقدم التوقف فيه لعدم معرفة سنده. واختلف في ذلك على قولين: 1- القول الأول: وهو المشهور عند الحنابلة وهو مذهب الشافعية: أنه يجزئه ذلك. 2- قال ابن عقيل من الحنابلة: لا يجزئه ذلك. قال: لأنه ليس بوارد هكذا، وإنما الوارد بزيادة لفظة: " ورحمة الله " فلم يجزئه لأنه لم يأت بما ورد بتمامه. واستدل أهل القول الأول: بأن هذا تسليم وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (وتحليلها التسليم) (1) وبالنظر إلى هذين الدليلين تبين ضعف ما استدل به أهل القول الأول، لأن هذا وإن كان تسليماً لكنه ليس هو الوارد. لذا قال الحنابلة لو قال: " عليكم السلام " أو " سلام عليكم " لم يجزئه لأنه ليس وارداً؛ وهنا كذلك فإن الوارد أن يقول ذلك بتمامه.

_ (1) أخرجه أحمد والترمذي، وقد تقدم صْ 3.

لكن يستدل لأهل القول الأول بالحديث المتقدم: الذي فيه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (عن يساره " السلام عليكم ") فحيث أجزأ في التسليمة الثانية فإنه يجزئ في التسليمة الأولى لأن بالهما (1) واحد، فهما تسليم في الصلاة فحيث ثبت في التسليمة الثانية فكذلك في التسليمة الأولى فالراجح إجزاء ذلك: " السلام عليكم " فهذا هو القدر المجزئ – وأما المستحب فهو أن يسلم بأحد الأنواع الواردة المتقدمة. * ولو قال: " سلام عليكم " ونحو ذلك من الألفاظ الواردة فإنه لا يجزئه فهو وإن كان تسليماً لكنه تسليم غير وارد والواجب هو الوقوف على هديه. مسألة: هل التسليم عن اليمين واليسار واجب أم مستحب؟ قال جمهور العلماء: أن ذلك مستحب فلو سلم تسليمة واحدة أجزأه. وهو رواية عن الإمام أحمد وذهب إليه بعض المالكية وهو اختيار القاضي من الحنابلة: أنه لا يجزئه ذلك إلا أن يسلم تسليمتين. استدل: أهل القول الأول بالحديث المتقدم الذي فيه أن النبي صلى الله عليه وسلم: كان يسلم تسليمة واحدة. ولكن تقدم ضعف الحديث. والراجح هو القول الثاني: وأن التسليمتين فرض. ودليل ذلك: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يفعل ذلك فيكون فعله بياناً لمجمل قوله: (وتحليلها التسليم) ولا يثبت ذلك إلا بالتسليم الوارد عن النبي صلى الله عليه وسلم لأنه بيان لمجمل، وما كان بياناً لمجمل من الفعل فحكمه حكم المجمل. فقوله " تحليلها التسليم ": كان النبي صلى الله عليه وسلم يسلم تسليمتين لم يثبت عنه سوى ذلك، فلم يدع أحد التسليمتين في أي حديث. قال: (وإن كان في ثلاثية أو رباعية نهض مكبراً بعد التشهد الأول وصلى ما بقي من الثانية بالحمد فقط) تقدم شرح هذا في الدرس السابق. قال: (ثم يجلس في تشهده الأخير متوركاً) هذا هو المستحب في الجلوس بالتشهد الأخير: أن يجلس متوركاً.

_ (1) كذا في الأصل.

وصفة التورك: أن يقدم رجله اليسرى وينصب اليمنى ويقعد على مقعدته. لما ثبت في أبي داود والترمذي من حديث أبي حميد الساعدي والحدث صحيح – في صفة صلاة النبي صلى الله عليه وسلم: (فإذا جلس بعد الركعة الأخيرة قدم اليسرى ونصب اليمنى وقعد على مقعدته) (1) . فإذا كانت الصلاة ذات تشهدين فيستحب في تشهدها الثاني. وأما أن كانت الصلاة ذات تشهد واحد، كصلاة الفجر أو السنن التي تصلى مثنى مثنى، فإنه يجلس مفترشاً. لما تقدم: فإنه ذكر الافتراش ثم ذكر السلام، وظاهره أن الصلاة إذا كانت ذات تشهد واحد فإنه يجلس فيها مفترشاً – هذا هو المشهور في المذهب وأن التورك لا يشرع إلا في الصلاة ذات التشهدين في تشهدها الثاني. - واستحبه الشافعية في التشهد الأخير من الصلوات كلها سواء كانت ذات تشهد واحد أو تشهدين. واستدلوا: بعموم الحديث المتقدم: أن النبي صلى الله عليه وسلم: (كان إذا جلس في الركعة الأخيرة) الحديث، والركعة الأخيرة تقع في الصلوات ذات التشهد الواحد كما تقع في الصلوات ذات التشهد الثنائي.

_ (1) رواه أبو داود في كتاب الصلاة / باب (117) افتتاح الصلاة / رقم (730) ، وفي باب (181) من ذكر التورك في الرابعة / رقم (963) بلفظ: " …حتى إذا كانت السجدة التي فيها التسليم أخر رجله اليسرى وقعد متوركاً على شقه الأيسر..) ، وبلفظ (964) : " … فإذا جلس في الركعة الأخيرة قدّم رجله اليسرى وجلس على مقعدته ". والترمذي في كتاب الصلاة / باب (110) رقم (304) بلفظ: ".. حتى إذا كانت الركعة التي تنقضي بها صلاته أخر رجله اليسرى وقعد على شقه متوركا ثم سلم "

والراجح ما ذهب إليه الحنابلة لما ثبت في سنن النسائي بإسناد صحيح: أن النبي صلى الله عليه وسلم: (كان إذا صلى الصبح جلس مفترشاً) (1) فعلى هذا يكون تخصيص للعموم المتقدم، وأنه إذا كان في الركعة الأخيرة في صلاة ذات تشهدين جلس متوركاً وأما إذا كانت ذات تشهد واحد كصلاة الفجر فإنه لا يجلس متوركاً فيها، بل مفترشاً. قال: (والمرأة مثله) فإن النساء شقائق الرجال كما ثبت في مسند أحمد (2) وغيره بإسناد صحيح. فما ثبت للرجل فهو ثابت للمرأة إلا أن يأتي دليل يخصص الرجل بالحكم، لكن استثنى من ذلك مسائل: قال: (لكن تضم نفسها وتستدل (3) رجليها في جانب يمينها) يعني: فإنها إذا جلست في محل التورك فإنها لا تتورك وإنما تستدل (4) رجليها في جانب يمينها. هذا هو المشهور في المذهب. والأظهر: أن المرأة مثل الرجل مطلقاً في جلوسها ورفع اليدين، لكن يستثنى من ذلك المرأة في حضور الأجانب فإنها – حينئذ – تفعل ما يكون فيه ستر لها فتضم نفسها وتستدل رجليها ولا تبالغ في رفع يديها ولا تجافي يديها ونحو ذلك مما يكون فيه تمام لسترها، كأن تصلي في مسجد مكشوف. وأما أن كانت لا تقع عليها نظرة الأجانب كأن تصلي وحدها أو بين نساء أو في بيتها بنظر محارمها فإنها في حكم الرجل تماماً إذ لا دليل يدل على التخصيص.

_ (1) لم أجده في النسائي طبعة بيت الأفكار، ولا في اسطوانة مكتبة الفقه وأصوله، ولم يتطرق إلى هذا الحديث ابن القيم في زاد المعاد [1 / 243، 252] ، ولا الشوكاني في نيل الأوطار [2 / 274] .، ولكن عزاه الألباني رحمه الله في صفة الصلاة صْ 121 للنسائي [1 / 173] ، فالله أعلم. (2) تقدم. (3) كذا في الأصل، ولعل الصواب: تسدل، كما في النسخ الأخرى للزاد، انظر الشرح الممتع لابن عثيمين رحمه الله [3 / 302] . (4) كذا في الأصل، ولعلها: تسدل.

وإنما استثنى ما يكون في نظر الأجانب لأن أصول الشريعة قد دلت على ذلك من النهي عن الفتنة، وقد وردت صور كثيرة على ذلك – كما أن المرأة لا ترمل في طوافها ولا تسرع بين الميلين ونحوه مما يكون ظاهراً للرجال لسد باب الفتنة، وإن كان الأصل أنها تفعل ذلك لفعل الرجال له، لكن استثني من ذلك لما فيه من الستر لها والحفظ من الوقوع في الفتنة بها فكذلك في الصلاة. وبقيت مسائل: في الذكر الوارد بعد الصلاة وفي التفات الإمام ونحو ذلك سيأتي ذكرها في الدرس القادم إن شاء الله. والحمد لله رب العالمين. الدرس الحادي والثمانون (يوم الأحد: 6 / 4 / 1415هـ) مسائل في صفة الصلاة وتمامها: فمن مسائل صفتها: أنه يستحب إخفاء التشهد أي أن يكون سراً، لما ثبت في أبي داود والترمذي – والحديث صحيح – من حديث ابن مسعود قال: (من السنة إخفاء التشهد) (1) وهو مستحب اتفاقاً.

_ (1) رواه أبو داود في كتاب الصلاة / باب (185) إخفاء التشهد / رقم (986) عن عبد الله قال: " من السنة أن يخفي التشهد) ، والترمذي حديث 291 وقال: " حديث حسن غريب "، والحاكم في المستدرك ثم قال: " صحيح على شرط الشيخين ". سنن أبي داود [1 / 602] .

ويستحب له - في باب السلام – أن يحذفه ولا يمده بل يكون حذفاً، لما روى الترمذي من حديث أبي هريرة قال: (حذف السلام من السنة) (1) لكن الحديث فيه قرة بن عبد الرحمن وهو ضعيف، لكن عليه العمل عند أهل العلم: حتى قال الترمذي: " لا يعلم بين أهل العلم فيه خلاف" وقال الدارقطني: " والصحيح أنه من قول أبي هريرة فثبوته عن أبي هريرة ولا يعلم له مخالف يحتج به، والمسألة اتفاقية فلا خلاف فيها، فيستحب له أن يحذفه حذفاً. ومما يكون من تمام الصلاة: ويستحب للإمام أن ينفتل إلى المصلين مقبلاً بوجهه إليهم لا يخص ناحية دون ناحية، لما ثبت في البخاري من حديث سمرة قال: (كان النبي صلى الله عليه وسلم: إذا صلى أقبل علينا بوجهه) (2)

_ (1) أخرجه أبو داود في كتاب الصلاة / باب (192) حذف التسليم / رقم (1004) من الأوزاعي عن قرة بن عبد الرحمن عن الزهري عن أبي سلمة عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (حذف السلام سنة) . وأخرجه الترمذي في الصلاة / باب حذف السلام سنة حديث 297، وقال " حسن صحيح ". سنن أبي داود [1 / 610] . (2) أخرجه البخاري في كتاب الأذان / باب (156) يستقبل الإمام الناس إذا سلم / رقم (845) بلفظ: " عن سمرة بن جندب قال: كان النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا صلى صلاةً أقبل علينا بوجهه "، وأخرجه مسلم بلفظ: " كان النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا صلى الصبح أقبل عليهم بوجهه فقال: (هل رأى أحدٌ منكم البارحة رؤيا؟) [صحيح مسلم / كتاب الرؤيا / باب (4) رؤيا النبي - صلى الله عليه وسلم - / رقم (2275) ] .

وينفتل عن يمينه تارة وعن يساره تارة أخرى، ففي مسند أحمد بإسناد جيد عن عبد الله بن عمرو بن العاص قال: (كان النبي صلى الله عليه وسلم يلتفت عن يمينه وعن يساره) (1) أي وهو متوجه إلى القبلة، في إقباله على المأمومين ينصرف تارة إلى اليمين وتارة إلى اليسار حتى قال ابن مسعود – كما في الصحيحين -: (لا يجعل أحدكم للشيطان نصيباً من صلاته يرى أن حقاً عليه أن ينصرف عن يمينه ولقد رأيت النبي صلى الله عليه وسلم كثيراً ينصرف عن شماله) وفي مسلم: (أكثر ما ينصرف عن شماله) (2) لكن في مسلم عن أنس بن مالك قال: (أما أنا فأكثر ما رأيت النبي صلى الله عليه وسلم ينصرف عن يمينه) (3)

_ (1) أخرجه الإمام أحمد في مسند آل العباس رقم (2792) قال: " حدثنا إبراهيم بن إسحاق، حدثنا الفضل بن موسى، عن عبد الله بن سعيد بن أبي هند، قال: حدثني ثورٌ، عن عكرمة، عن ابن عباس قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يلتفت في صلاته يميناً وشمالا ولا يلوي عنقه "، ورقم (2485) قال: " حدثنا الحسن بن يحيى والطالقَاني، قالا: حدثنا الفضل بن موسى، حدثنا عبد الله بن سعيد بن أبي هند، عن ثور بن زيد، عن عكرمة عن ابن عباس قال: كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يصلي يلتفت يميناً وشمالاً ولا يلوي عنقه خلفه ظهره ". (2) أخرجه البخاري في كتاب الأذان / باب (159) الانفتال والانصراف عن اليمين والشمال / رقم (852) بلفظ قال عبد الله: " لا يجعل أحدُكم للشيطان شيئاً من صلاته، يرى أن حقا عليه أن لا ينصرف إلا عن يمينه، لقد رأيت النبي - صلى الله عليه وسلم - كثيراً ينصرف عن يساره "، وأخرجه مسلم (707) . (3) تقدم.

ومن هنا يكون كل صحابي منهما قد حدث بما رأى، فهذا رأى أن أكثر انصراف النبي صلى الله عليه وسلم وهو إليه، وأنس رأى أن أكثر انصرافه عن يمينه، فعلى ذلك كلاهما سنة ويستحب له أن يفعل هذا تارة وهذا تارة، ويكره أن يرى حقاً عليه ألا ينصرف إلا عن يمينه، فإنه حينئذ: يكون قد جعل للشيطان نصيباً من صلاته باعتقاد ما ليس بواجب. فإذا أقبل على المأمومين: استغفر ثلاثاً وقال: " اللهم أنت السلام ومنك السلام تباركت يا ذا الجلال والإكرام " فقد ثبت في مسلم عن ثوبان قال: (كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا انصرف من صلاته استغفر ثلاثاً وقال: اللهم أنت السلام ومنك السلام تباركت يا ذا الجلال والإكرام) (1) وفي مسلم عن عائشة قالت: (كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا سلم لا يقعد إلا مقدار ما يقول: اللهم أنت السلام ومنك السلام تباركت يا ذا الجلال والإكرام) (2) قال ابن القيم مستدلاً بهذا الحديث أنه يستحب للإمام أن يقول ذلك تجاه القبلة فينصرف إلى المأمومين وقد قال: " اللهم أنت السلام …. إلى قوله: " ذا الجلال والإكرام " أي لا ينصرف عن القبلة إلى المأمومين حتى يقول ذلك واستدل بحديث عائشة: (كان لا يقعد إلا مقدار ما يقول) وقد سئل عن ذلك الإمام أحمد فقيل له: قول النبي صلى الله عليه وسلم " لا يقعد إلا مقدار ما يقول " أي لا يقعد إلى القبلة ثم ينصرف فقال: " لا أدري " أ. هـ.

_ (1) أخرجه مسلم في كتاب المساجد / باب (26) استحباب الذكر بعد الصلاة وبيان صفته / رقم (591) بلفظ: " عن ثوبان قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا انصرف من صلاته استغفر ثلاثاً، وقال: (اللهم أنت السلام ومنك السلام تباركت يا ذا الجلال والإكرام) قال الوليد: فقلت للأوزاعي: كيف الاستغفار؟ قال: تقول: أستغفر الله، أستغفر الله ". (2) صحيح مسلم رقم (592) .

والمستحب عند الحنابلة والشافعية: أن ينفتل بمجرد سلامه فيكون قوله: " اللهم أنت السلام … ذا الجلال والإكرام " بعد إقباله بوجهه إلى المأمومين. والحديث ليس فيه ما يدل على ما ذهب إليه ابن القيم؛ إذ فيه أن النبي صلى الله عليه وسلم لا يقعد إلا مقدار ما يقول وليس في ذلك أنه لا يقعد تجاه القبلة إلا مقدار ما يقول، فالحديث مطلق وظاهره أنه لا يقعد مطلقاً، أي لا يقعد في مصلاه الذي صلى فيه إلا بمقدار ما يقول، بل ليتعجل في القيام من مجلسه وينفتل عنه منصرفاً، وهذا ما كان عليه أبو بكر كما صح في مصنف عبد الرزاق بإسناد صحيح أنه: (كان إذا سلم من الصلاة فقال: السلام عليكم ورحمة الله، انفتل ساعتئذٍ كأنه على الرضف) (1) إذن الراجح: أن المستحب له ألا يقعد في مجلسه الذي صلى فيه إماماً كان أو مأموماً إلا بمقدار ما يقول: اللهم أنت السلام … ". هذا ما ذهب إليه الموفق في المغني وظاهر ذلك أنه مذهب الحنابلة وهو المشهور عند الشافعية. ويستثنى من ذلك ما إذا كان هناك نسوة يصلين في المسجد فإنه لا يستحب للإمام ولا المأمومين أن ينصرفوا حتى ينصرفن.

_ (1) أخرجه عبد الرزاق في المصنف [2 / 242] رقم (3214) في باب مكث الإمام بعدما يسلم، قال: " عبد الرزاق عن معمر والثوري عن حماد وجابر وأبي الضحى عن مسروق: أن أبا بكر كان إذا سلم عن يمينه وعن شماله قال: السلام عليك ورحمة الله ثم انفتل ساعتئذ كأنما كان جالسا على الرضف " قال المحقق: " وأخرجه الطحاوي في التسليم ".

فقد ثبت في البخاري عن أم سلمة قالت: (كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا سلم من صلاته انصرف النساء اللاتي صلين معه فدخلن في بيوتهن قبل أن ينصرف النبي صلى الله عليه وسلم) (1) وذلك لئلا يختلط الرجال بالنساء فتقع الفتنة، فلذلك يكره أن ينصرف المأموم والإمام قبل انصراف النساء وذهابهن عن المسجد. ومع ذلك فإنه إن جلس في مجلسه فقد أحسن لما ثبت في البخاري أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا تزال الملائكة تصلي على أحدكم ما دام في مصلاه الذي صلى فيه تقول: اللهم اغفر له اللهم وارحمه) (2) فهذا الحديث يدل على فضيلة الجلوس فإنه فاضل وحسن، وإذا انصرف فقد فعل السنة. ولو قيل، وهو فيما يظهر لي تفصيل حسن: أنه يستحب للإمام أن ينصرف إذا قال ذلك ويبقى في مجلس آخر في المسجد - كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم في حديث ذي اليدين – أو ينصرف عن المسجد فيسبح الله في طريقه، لأن الحديث المتقدم في النبي صلى الله عليه وسلم أبي بكر وكانا إمامين – هذا ما لم يكن هناك نسوة – وأما المأمومون فإنهم يستحب لهم أن يجلسوا مصلاهم فيذكروا الله فيه - للحديث المتقدم – فإنه فيه الترغيب في ذلك.

_ (1) أخرجه البخاري في كتاب الأذان / باب (157) مكث الإمامفي مصلاه بعد السلام / رقم (850) عن أم سلمة بلفظ: " قالت: كان يُسلِّم فينصرف النساء، فيدخلن بيوتهن، من قبل أن ينصرف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ". (2) أخرجه البخاري في كتاب الصلاة / باب (61) الحدث في المسجد من حديث أبي هريرة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: (الملائكة تصلي على أحدكم ما دام في مصلاه الذي صلى فيه ما لم يحدث تقول: اللهم اغفر له، اللهم ارحمه) . وانظر (176) و (477) .

ولمصلحة أخرى وهي أن في استعجال المأمومين في الخروج وقد يكون ذلك قبل خروج الإمام أن فيه مفسدة متوقعة وهي أن يكون في الصلاة نقص، أو أن يحب الإمام إرشاد الناس وتعليمهم فيسبقوه بالانصراف – فلو قيل بهذا التفصيل فهو حسن. – وفي انصراف الإمام عن مكانه تمام للإخلاص في الذكر وأكثر إقبالاً على الله تعالى. ويستحب له أن يذكر الله تعالى بما ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم فمن ذلك ما ثبت في مسلم من حديث ابن الزبير: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا سلم يقول: (لا إله إلا الله وحده لا شريك له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير، لا حول ولا قوة إلا بالله لا إله إلا الله ولا نعبد إلا إياه له النعمة وله الفضل وله الثناء الحسن، لا إله إلا الله مخلصين له الدين ولو كره الكافرون) (1) وثبت في مسلم من حديث المغيرة بن شعبة: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول إذا انصرف من صلاته: (لا إله إلا الله وحده لا شريك له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير اللهم لا مانع لما أعطيت ولا معطي لما منعت ولا ينفع ذا الجد منك الجد) (2) وفي النسائي وابن خزيمة بإسناد صحيح: (لا إله إلا الله وحده لا شريك له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير) (3) ثلاث مرات. وفي الطبراني بإسناد صحيح: (لا إله إلا الله وحده لا شريك له يحي ويميت وهو حي لا يموت بيده الخير هو على كل شيء قدير) (4)

_ (1) أخرجه مسلم في كتاب المساجد / باب (26) استحباب الذكر بعد الصلاة / رقم (594) . (2) صحيح مسلم الباب السابق / رقم (593) . (3) أخرجه النسائي في كتاب السهو / باب (86) كم مرة يقول ذلك / رقم (1343) (4) قال في فتح الباري ج: 2 ص: 332 زاد الطبراني من طريق أخرى عن المغيرة يحيى ويميت وهو حي لا يموت بيده الخير إلى قدير ورواته موثقون وثبت مثله في البزار من حديث عبد الرحمن بن عوف بسند ضعيف ".

ويستحب له أن يسبح الله ويحمده ويكبره، ويهلله في نوع من الذكر الوارد وقد وردت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنواع من الذكر بعد صلاته المكتوبة وهي: 1- أن يسبح الله ثلاثاً وثلاثين ويكبره ثلاثاً وثلاثين ويحمده ثلاثاً وثلاثين؛ لما في المتفق عليه من حديث أبي هريرة من حديث: (ذهب أهل الدثور بالأجور ... ) وفيه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (تسبحون وتكبرون وتحمدون دبر كل صلاة ثلاثاً وثلاثين) وفي رواية قال بعض الرواة: (حتى يكون منهن كلهن ثلاثاً وثلاثون (1)) (2) . 2- أن يسبح الله ثلاثاً وثلاثين ويحمده ثلاثاً وثلاثين ويكبره ثلاثاً وثلاثين، ويقول: تمام المائة: (لا إله إلا الله وحده لا شريك له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير) ؛ لما ثبت في مسلم من حديث أبي هريرة: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من سبَّح الله دبر كل صلاة ثلاثاً وثلاثين، وحمد الله ثلاثا وثلاثين، وكبر الله ثلاثا وثلاثين، وقال: تمام المائة: لا إله إلا الله وحده لا شريك له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير، غفرت خطاياه وإن كانت مثل زبد البحر) (3)

_ (1) كذا في الأصل،ولعل الصواب: " ثلاثاً وثلاثين " كما في البخاري. (2) أخرجه البخاري في كتاب الأذان / باب (155) الذكر بعد الصلاة / رقم (843) ، وفي كتاب الدعوات / باب (18) الدعاء بعد الصلاة / رقم 6329. وأخرجه مسلم رقم (595) باختلاف. (3) أخرجه مسلم / كتاب المساجد / باب (26) استحباب الذكر بعد الصلاة / رقم (597) بلفظ: " عن أبي هريرة عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (من سبح الله في دبر كل صلاة ثلاثا وثلاثين، وحمد الله ثلاثا وثلاثين، وكبر الله ثلاثا وثلاثين، فتلك تسعة وتسعون،وقال تمام المئة: لا إله إلا الله وحده لا شريك له،له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير، غفرت خطاياه وإن كانت مثل زبد البحر) .

3- أن يسبح ثلاثاً وثلاثين، ويحمده ثلاثاً وثلاثين ويكبره أربعاً وثلاثين. لما ثبت في مسلم من حديث كعب بن أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (معقبات لا يخيب قائلهن أو فاعلهن يسبح الله دبر كل صلاة ثلاثاً وثلاثين ويكبره أربعاً وثلاثين) (1) 4- أن يسبح الله عشراً ويحمده عشراً ويكبره عشراً، وهو ثابت في مسند أحمد وسنن الأربعة بإسناد صحيح من حديث عبد الله بن عمرو أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (خصلتان أو خلتان من حافظ عليهن دخل الجنة هما قليل ومن يحافظ عليهن قليل أن يسبح الله دبر كل صلاة مكتوبة عشراً ويحمده عشراً ويكبره عشراً، فذلك مائة وخمسون باللسان وألف وخمسمائة في الميزان، ويكبر الله أربعاً وثلاثين عند مضجعه ويحمده ثلاثاً وثلاثين ويسبحه ثلاثاً وثلاثين فذلك مائة باللسان وألف في الميزان) (2) 5- أن يسبح الله خمساً وعشرين ويحمده خمساً وعشرين ويكبره خمساً وعشرين ويهلله خمساً وعشرين.

_ (1) أخرجه مسلم / كتاب المساجد / باب (26) استحباب الذكر بعد الصلاة / رقم (596) بلفظ: "عن كعب بن عجرة عن رسول لله - صلى الله عليه وسلم - قال: (معقبات لا يَخيبُ قائلهن أو فاعلهن، دُبُرَ كل صلاة مكتوبة، ثلاثٌ وثلاثون تسبيحة، وثلاث وثلاثون تحميدة، وأربع وثلاثون تكبيرة) وفي لفظ: " معقبات لا يَخيب قائلهن أو فاعلهن ثلاث وثلاثون تسبيحة،وثلاث وثلاثون تحميدة، وأربع وثلاثون تكبيرة في دبر كل صلاة ". (2) أخرجه أبوداود في كتاب الأدب / باب (109) في التسبيح عند النوم / رقم (5095) ، والترمذي في الدعوات حديث 3410 باب كم يسبح بعد الصلاة – في نسخة: باب منه، وهو بعد: باب ما جاء في التسبيح والتكبير والتحميد عند المنام - وقال: " حسن صحيح "، والنسائي في الافتتاح حديث 1349 باب عدد التسبيح بعد التسليم. ولم أجده في فهرس ابن ماجه.

لما ثبت في الترمذي والنسائي بإسناد صحيح، أن النبي صلى الله عليه وسلم علم أصحابه أن يسبحوا دبر كل صلاة ثلاثاً وثلاثين، ويحمده ثلاثاً وثلاثين، ويكبره أربعاً وثلاثين فرأى رجل من الأنصار أن قائلاً يقول: (إن رسول الله صلى الله عليه وسلم علمكم أن تسبحوا الله ثلاثاً وثلاثين وتحمدوه ثلاثاً وثلاثين وتكبروه أربعاً وثلاثين فاجعلوها خمساً وعشرين واجعلوا فيها التهليل) فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم بذلك فقال: (اجعلوها كذلك) وفي رواية: (فافعلوا) (1) وظاهر هذا: تفضيل هذا النوع على النوع المتقدم من أن يسبح الله ثلاثاً وثلاثين ويحمده ثلاثاً وثلاثين ويكبره أربعاً وثلاثين، والله أعلم. ويستحب له أن يقرأ آية الكرسي لما ثبت في سنن النسائي بإسناد صحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من قرأ آية الكرسي بعد كل صلاة مكتوبة لم يمنعه من دخول الجنة إلا الموت) (2)

_ (1) أخرجه الترمذي في كتاب الدعوات / باب (25) منه / رقم 3413 بلفظ: " عن زيد بن ثابت رضي الله عنه قال: أُمرنا أن نسبح دبر كل صلاة ثلاثا وثلاثين ونحمده ثلاثا وثلاثين ونكبره أربعا وثلاثين، قال: فرأى رجل من الأنصار في المنام، فقال: أمركم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن تسبحوا في دبر كل صلاة ثلاثا وثلاثين وتحمدوا الله ثلاثا وثلاثين وتكبروا أربعا وثلاثين؟ قال: نعم، قال:فاجعلوا خمسا وعشرين، واجعلوا التهليل معهن، فغدا على النبي - صلى الله عليه وسلم - فحدثه، فقال: (افعلوا) ، قال أبو عيسى: هذا حديث حسن صحيح. قال صاحب الطبعة: " ولم يذكر في النسخ ولا ذكره المزي ". (2) السنن الكبرى ج: 6 ص: 30 9928 أخبرنا الحسين بن بشر بطرسوس كتبنا عنه قال حدثنا محمد بن حمير قال حدثنا محمد بن زياد عن أبي أمامة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم من قرأ آية الكرسي في دبر كل صلاة مكتوبة لم يمنعه من دخول الجنة الا ان يموت " الاسطوانة. الحسين بشر الطرسوسي: لا بأس به، التقريب. محمد بن حمير: صدوق. محمد بن زياد: هو الألهاني الحمصي، ثقة من الرابعة، وقد روى عن أبي أمامة كما في تهذيب الكمال. عمل اليوم والليلة ج: 1 ص: 182 ثواب من قرأ آية الكرسي دبر كل صلاة 100 أخبرنا الحسين بن بشر بطرسوس كتبنا عنه قال آح حدثنا محمد بن حمير قال حدثنا محمد بن زياد عن أبي أمامة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم من قرأ آية الكرسي في دبر كل صلاة مكتوبة لم يمنعه من دخول الجنة إلا أن يموت. وصحح الحديث ابن حبان كما في نيل الأوطار.

وعند الطبراني: استحباب قراءة " قل هو الله أحد " (1) وإسناده صحيح بعد كل صلاة. وفي مسند أحمد وسنن أبي داود والترمذي من حديث عقبة بن عامر قال: (أمرني النبي صلى الله عليه وسلم أن أقرأ بالمعوذتين دبر كل صلاة) (2)

_ (1) مجمع الزوائد ج: 10 ص: 102 وفي رواية وقل هو الله أحد " رواه الطبراني في الكبير والأوسط بأسانيد وأحدها جيد. الاسطوانة. (2) لم أجده في أبي داود، أخرجه الترمذي في كتاب فضائل القرآن / باب (13) ما جاء في فضل قارئ القرآن / رقم (2903) فيه ابن لهيعة عن يزيد بن أبي حَبيب، وقد عنعن. قال الترمذي: " هذا حديث حسن غريب ". سنن النسائي - المجتبى ج: 3 ص: 68 80 باب الأمر بقراءة المعوذات بعد التسليم من الصلاة 1336 السنن الكبرى للنسائي ج: 1 ص: 397 التكبير بعد تسليم الإمام 1258 أخبرنا بشر بن خالد العسكري أنا يحيى بن آدم عن سفيان بن عيينة عن عمرو بن دينار عن أبي معبد عن بن عباس قال ثم إنما كنت أعلم انقضاء صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم بالتكبير الأمر بقراءة المعوذات بعد التسليم من الصلاة 1259 أخبرنا محمد بن سلمة نا بن وهب عن الليث عن حنين بن أبي حكيم عن علي بن رباح عن عقبة بن عامر قال ثم أمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أقرأ المعوذات دبر كل صلاة الاستغفار بعد التسليم صحيح ابن خزيمة ج: 1 ص: 372 8 باب الأمر بقراءة المعوذتين في دبر الصلاة 755 أخبرنا أبو طاهر نا أبو بكر قال قرأت على محمد بن عبد الله بن عبد الحكم فأخبرني أن أباه أخبرهم قال أخبرنا الليث وحدثنا الحسن بن محمد وحدثنا عاصم يعني بن علي حدثنا ليث عن حنين بن أبي حكيم عن علي بن رباح وفي حديث بن عبد الحكم عن علي بن رباح عن عقبة قال قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم اقرؤوا المعوذات في دبر كل صلاة لم يقل الحسن بن محمد لي. صحيح ابن حبان ج: 5 ص: 344 ذكر الأمر بقراءة المعوذتين في عقب الصلاة للمصلي 2004 أخبرنا بن خزيمة قال حدثنا محمد بن عبد الله بن عبد الحكم عن أبيه عن الليث بن سعد عن حنين بن أبي حكيم عن علي بن رباح عن عقبة بن عامر قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم اقرؤوا المعوذات في دبر كل صلاة.

والظاهر أن ذلك عام في الصلوات المكتوبة كلها، وأما مضاعفة ذلك في صلاة المغرب والفجر فالظاهر أن ذلك ليس لصلاة المغرب والفجر، وإنما ذلك للمساء والصباح فهو من أذكار الصباح والمساء. ويستحب له أن يعقد التسبيح والتحميد والتكبير – بيده اليمنى لما ثبت في الترمذي والحاكم بإسناد صحيح: (أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يعقد التسبيح بيمينه) (1) ويستحب أن يكون عقده بأنامله لما ثبت في أبو داود ومسند أحمد والحديث حسن أن النبي صلى الله عليه وسلم قال للنساء: (واعقدن بالأنامل فإنهن مسؤولات مستنطقات) (2) والأنامل: جمع أنمله وهي أعلى الإصبع.

_ (1) أخرجه أبو داود في كتاب الصلاة / باب (359) التسبيح بالحصى / رقم 1502. أخرجه البيهقي رقم (2850، الاسطوانة) ، وفي الترمذي عن عبد لله بن عمرو: " رأيت النبي - صلى الله عليه وسلم - يعقد التسبيح بيده " كتاب الدعوات / باب (71) ما جاء في عقد التسبيح باليد / رقم (3486) وقال: " هذا حديث حسن غريب من هذا الوجه من حديث الأعمش عن عطاء بن السائب "، ولم أجد لفظة: " بيمينه " في الترمذي والحاكم في اسطوانة مكتبة الفقه وأصوله. (2) أخرجه أبوداود في كتاب الصلاة /باب (359) التسبيح بالحصى / رقم (1501) عن يُسَيرة: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمرهن أن يُراعين التكبير والتقديس والتهليل، وأن يعقدن بالأنامل فإنهن مسؤلات مستنطقات ". وأخرجه الترمذي في كتاب الدعوات / باب (120) في فضل التسبيح والتهليل والتقديس / رقم (3583) بلفظ: " عليكن بالتسبيح والتهليل والتقديس واعقدن بالأنامل فإنهن مسؤلات مستنطقات ولا تغفلن فتنسين الرحمة " قال: هذا حديث غريب، إنما نعرفه من حديث هانئ بن عثمان، وقد رواه محمد بن ربيعة عن هانئ بن عثمان "، ورواه الترمذي أيضا تعليقا (3486) بلفظ: " يا معشر النساء اعقدن بالأنامل … ".

وإن عقد بأصابعه فلا بأس، فيكون من باب ذكر البعض وإرادة الكل، وإن عقد بأنامله فهو أولى لموافقة اللفظ. * ولا يستحب له أن يكون بغير الأنامل كأن يعقد بحصى ونحوها. * وهل يستحب له أن يرفع صوته بالذكر بعد الصلاة المكتوبة أم لا؟ قولان لأهل العلم: 1- مذهب جمهور أهل العلم: إلى أن المستحب له أن يسر به، للحديث المتفق عليه وأن النبي صلى الله عليه وسلم سمع أصحابه في سفر وقد رفعوا أصواتهم بالذكر فقال: (اربعوا على أنفسكم فإنكم لا تدعون أصم ولا غائباً ... .) (1) . قالوا: فهذا يدل على أن المستحب هو خفض الصوت بالذكر وعدم الرفع فيه. 2- وذهب طائفة من السلف والخلف وهو اختيار شيخ الإسلام: إلى استحباب رفع الصوت بالذكر. واستدلوا: بالحديث المتفق عليه من حديث ابن عباس قال: (كان رفع الصوت بالذكر حين ينصرف الناس من المكتوبة على عهد النبي صلى الله عليه وسلم) وفي رواية: (كنت أعلم إذا انصرفوا بذلك إذا سمعته) (2) قالوا: فهذا الحديث واضح ظاهر في مشروعية ذلك، فهذا ابن عباس يخبر أن رفع الصوت بالذكر حين ينصرف الناس من المكتوبة كان على عهد النبي صلى الله عليه وسلم وحيث كان على عهده صلى الله عليه وسلم فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - قد أقره، وحيث أن النبي صلى الله عليه وسلم أقره من أصحابه فيبعد أن أصحابه كانوا يفعلونه من تلقاء أنفسهم وإنما كانوا يقتدون به عليه الصلاة والسلام. وهذا القول هو الراجح لهذا الحديث المتفق عليه.

_ (1) أخرجه البخاري في كتاب المغازي / باب 38 غزوة خيبر / رقم (4205) ، وفي كتاب الجهاد والسير / باب (131) ما يكره من رفع الصوت في التكبير / رقم (2992) . وفي مواضع أخرى، وأخرجه مسلم رقم (2704) . (2) أخرجه البخاري في كتاب الأذان / باب (155) الذكر بعد الصلاة / رقم (841) ، (842) . ومسلم (583) .

وأجيب عنه: بأن النبي صلى الله عليه وسلم إنما فعل ذلك للتعليم فحيث اُحتيج إلى التعليم استحب وإلا فلا. والجواب على ذلك: إنه لا دليل على ذلك، بل الحديث فيه أنهم كانوا يرفعون أصواتهم بالذكر على عهد النبي صلى الله عليه وسلم عامة وليس فيه أن النبي صلى الله عليه وسلم إنما فعل ذلك للتعليم فهذا تقييد لا دليل عليه. ثم لو كان المراد منه التعليم، وسلمنا أن التعليم يحتاج إلى فترة زمنية محددة لما كان ذلك في عهد النبي صلى الله عليه وسلم كله ولاكتفى برفع الصوت بقدر التعليم، فلما تعلم الناس اكتفى عن ذلك. كما أن التعليم لا يحتاج إلى أن يرفع الناس أصواتهم بالذكر، بل إذا اكتفى الإمام برفع صوته بالذكر اكتفى بذلك ولم يشرع لبقية الناس. ثم إنَّا لا نسلم أن التعليم يكتفى به لفترة زمنية محدودة بل الناس محتاجون إلى التعليم، والتعليم في كل زمن، فلا يخلو زمن من جاهل يحتاج إلى تعليم الذكر الوارد. فإن قيل: إن فيه تشويشاً على المتم صلاته؟ فالجواب: أن هذا الوقت حق لهذا الذاكر فإن الأصل أن يصلي المأمومون مع الإمام فينصرفوا جميعاً، أما هذا المتم صلاته فإن الأصل فيه أن ينصرف مع الناس. الأدعية الواردة عن النبي صلى الله عليه وسلم كما في سنن النسائي وأبي داود بإسناد صحيح من حديث معاذ بن جبل أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له: (يا معاذ إني أحبك فلا تدعن دبر كل صلاة أن تقول: اللهم أعني على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك) (1)

_ (1) أخرجه أبو داود في كتاب الصلاة / باب (361) في الاستغفار / رقم (1522) بلفظ: " يا معاذ والله إني لأحبك، والله إني لأحبك، فلقال: (أوصيك يا معاذ لا تدعن في دبر كل صلاة تقول: اللهم أعني على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك) وأوصى بذلك معاذ الصنابحي، وأوصى به الصنابحي أبا عبد الرحمن، وأخرجه النسائي دون ذكر الوصية في الافتتاح باب الدعاء حديث (1304) .

* متى يقال هذا الدعاء ونحوه قبل السلام أم بعده؟ في ذلك قولان: الأول: أنه يقوله بعد سلامه لظاهر قوله: " دبر كل صلاة " والثاني: أنه يقوله بعد تشهده قبل السلام، وهذا القول هو الراجح، وهذا اختيار شيخ الإسلام وتلميذه ابن القيم وإنما رجح ذلك: لأن دبر الصلاة يطلق ويراد به آخرها مما هو منها، ويطلق ويراد به ما بعدها، كما أن دبر كل شيء كذلك، فدبر كل شيء هو آخره أو هو ما بعده. وإنما رجحنا هنا: أن يكون بمعنى آخرها قبل سلامها: لأن الدعاء الأولى فيه أن يكون حال الإقبال على الله ومناجاته وإنما هذا قبل سلامه، فلا يليق أنه إذا انصرف وسلم وأقبل على المخلوقين بعد انصرافه من خطاب الله تعالى أن يدعو الله بل اللائق أن يدعو الله قبل سلامه، لذا في الحديث بعد التشهد: (ثم ليتخير من الدعاء أعجبه إليه فيدعو) (1) استدراك: الإجابة على ما استدل به الجمهور في عدم سنية رفع الصوت بالذكر بعد الصلاة؟ أن يقال: هذا حديث عام وحديثنا خاص، والمقرر هو الإسرار كالنية فإن المقرر فيها أن تكون في القلب وألا يتلفظ بالمنوي به، هذه قاعدة لكن وردت النصوص بالتلفظ بالنية في الأضحية والحج فنخصص ذلك ويكون هذا لمعان رجحت ذلك. وهنا كذلك، فإن الأصل بالذكر أن يكون بصوت خافض لأنه هو الأليق، فإن الله ليس بأصم ولا غائب. لكن في هذا الموضع رجح رفع الصوت بالذكر لمعان منها: إظهار هذه الشعيرة ومعرفة الناس انصراف الإمام بذلك، فقد يكون صوت الإمام غير واضح بسلامه فيسمع برفع الصوت بالذكر ونحو ذلك من المعاني، وأظهرها إظهار هذه الشعيرة. فهذه معان رجحت الرفع على الخفض. وبهذا انتهى من صفة صلاة النبي صلى الله عليه وسلم والحمد لله رب العالمين فصل الدرس الثاني والثمانون (يوم الاثنين: 7 / 4 / 1415هـ) هذا فصل في مكروهات الصلاة وشيء من مستحباتها، وكذلك البحث في مبطلاتها.

_ (1) تقدم.

قال المؤلف رحمه الله: (ويكره في الصلاة التفاته) المكروه هو: ما يثاب العبد على تركه امتثالاً، ولا يأثم على فعله. فيكره في الصلاة الالتفات، أي أن يلتفت عن يمينه وشماله برأسه وهذا باتفاق أهل العلم. أما الالتفات ببدنه فهذا مبطل للصلاة؛ لأنه ينقل عن القبلة، فإذا التفت حتى استدار عن القبلة وانحرف عنها فصلاته باطلة. أما الالتفات برأسه فإنه مكروه كما تقدم، لما ثبت في البخاري عن عائشة قالت: سألت النبي صلى الله عليه وسلم عن الالتفات في الصلاة فقال: (هو اختلاس يختلسه الشيطان من صلاة العبد) (1) والاختلاس هو الاختطاف بسرعة. وفي أبي داود – والحديث حسن – أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا يزال الله عز وجل مقبلاً على العبد وهو في صلاته ما لم يلتفت، فإذا التفت انصرف عنه) (2) فهذا يدل على كراهيته.

_ (1) أخرجه البخاري في كتاب الأذان / باب (93) الالتفات في الصلاة / رقم (751) ، وانظر (3291) . (2) أخرجه أبوداود بنفس اللفظ في كتاب الصلاة / باب (165) الالتفات في الصلاة / رقم (909) ، والنسائي، وفي سنده أبو الأحوص، لا يعرف له اسم، وهو مولى بني ليث، وقيل: مولى بني غفار، ولم يرو عنه غير الزهري،قال يحيى بن معين: ليس بشيء، وقال أبو أحمد الكرابيسي:ليس بالمتين عندهم (من مختصر المنذري) . سنن أبي داود [1 / 560] .

والذي يدل على جوازه للحاجة وزوال الكراهية بها كأن يسمع صوتاً أو حركة فيحتاج إلى الالتفات؛ ما ثبت في سنن أبي داود بإسناد صحيح من حديث سهل بن الحنظلية قال: (ثُوِّب بالصلاة – يعني صلاة الصبح – فجعل النبي صلى الله عليه وسلم صلى الله عليه وسلم يصلي ويلتفت إلى الشعب) قال: وكان أرسل فارساً إلى الشعب من الليل يحرس " (1) فهو مكروه ليس بمبطل للصلاة وهذا مذهب عامة أهل العلم لكن هذه الكراهية تزول حيث اُحتيج إليه. قال: (ورفع بصره إلى السماء) أي يكره رفع بصره إلى السماء وهو يصلي، لما ثبت في البخاري من حديث أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لينتهين أقوام يرفعون أبصارهم إلى السماء في الصلاة أو ليتخطفن أبصارهم) (2)

_ (1) أخرجه أبوداود في كتاب الصلاة / باب (168) الرخصة في ذلك / رقم (916) قال: " حدثنا الربيع بن نافع، حدثنا معاوية، يعني ابن سلام عن زيد، أنه سمع أبا سلام قال:حدثني السلولي - هو أبو كبشة – عن سهل بن الحنظلية قال: " ثُوِّب بالصلاة، يعني صلاة الصبح، فجعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصلي وهو يلتفت إلى الشِّعب. قال أبو داود: وكان أرسل فارساً إلى الشعب من الليل يحرس. والحنظلية: أمه وقيل:أم جده، وسهل: هو سهل بن الربيع. سنن أبي داود [1 / 563] . (2) أخرجه البخاري في كتاب الأذان / باب (92) رفع البصر إلى السماء في الصلاة / رقم (750) بلفظ: (ما بال أقوام يرفعون أبصارهم إلى السماء في صلاتهم) فاشتد قوله في ذلك حتى قال: (لينتهُنَّ عن ذلك أو لتُخطَفَنَّ أبصارهم) .

ورواه مسلم من حديث أبي هريرة نحوه (1) ، ورواه أيضاً من حديث جابر بن سمرة وفيه: (لينتهون (2) عن ذلك أو لا ترجع إليهم) (3) وهذا الحديث ظاهره فوق الكراهية، فإن ظاهره التحريم وهو قول في مذهب أحمد، وهو مذهب الظاهرية ومذهب الظاهرية أن الصلاة تبطل به. والراجح أنها لا تبطل فهو محرم لا تبطل الصلاة به. أما كونه محرماً فلظاهر الحديث المتقدم، فإن فيه وعيداً ولا يكون الوعيد إلى على فعل محرم. لكنه لا تبطل به الصلاة خلافاً للظاهرية لأن النهي لا يعود إلى ذاتها، فالصلاة قد ثبتت بشروطها وأركانها وهذا خارج عن ذاتها. إذن الراجح: أنه محرم كما هو قول في المذهب وهو مذهب الظاهرية، والراجح عدم بطلان الصلاة به وهو قول في المذهب خلافاً للظاهرية. قال: (وتغميض عينيه) فيكره في الصلاة تغميض عينيه، فالمستحب له أن يفتحهما واستدلوا: بمجموع الأحاديث الواردة عن النبي صلى الله عليه وسلم في مسائل وفيها دلالة على أنه كان يفتح عينيه في الصلاة فمن ذلك: أنه كان يرمي ببصره إلى موضع سجوده (4)

_ (1) أخرجه مسلم في كتاب الصلاة / باب (26) النهي عن رفع البصر إلى السماء في الصلاة / رقم (329) بلفظ: " ليَنتَهِيَنَّ أقوام عن رفعهم أبصارهم عند الدعاء في الصلاة إلى السماء أو لتُخطَفَنَّ أبصارهم) . (2) كذا في الأصل، ولعل الصواب: ليَنْتَهينّ، كما في مسلم. (3) في الباب السابق /رقم (428) بلفظ: (لينتهين أقوام يرفعون أبصارهم إلى السماء في الصلاة أو لا ترجع إليهم) . (4) سنن البيهقي الكبرى ج: 2 ص: 283 402 باب لا يجاوز بصره موضع سجوده رقم (3354) وما بعده. سنن البيهقي الكبرى ج: 5 ص: 158 9507 أخبرنا أبو عبد الله الحافظ ثنا أبو العباس محمد بن يعقوب ثنا أحمد بن عيسى بن زيد بن عبد الجبار بن مالك اللخمي بتنيس ثنا عمرو بن أبي سلمة التنيسي ثنا زهير بن محمد المكي عن موسى بن عقبة عن سالم بن عبد الله أن عائشة ثم كانت تقول عجبا للمرء المسلم إذا دخل الكعبة كيف يرفع بصره قبل السقف يدع ذلك إجلالا لله وإعظاما دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم الكعبة ما خلف بصره موضع سجوده حتى خرج منها ". صحيح ابن خزيمة ج: 4 ص: 332 389 باب الخشوع في الكعبة إذا دخلها المرء والنظر الى موضع سجوده إلى الخروج منها رقم (3012) . فتح الباري ج: 2 ص: 232 وقال الشافعي والكوفيون يستحب له أن ينظر إلى موضع سجوده لأنه أقرب للخشوع وورد في ذلك حديث أخرجه سعيد بن منصور من مرسل محمد بن سيرين ورجاله ثقات وأخرجه البيهقي موصولا وقال والجواب هو المحفوظ وفيه أن ذلك سبب نزول قوله تعالى الذين هم في صلاتهم خاشعون ويمكن أن يفرق بين الإمام والمأموم فيستحب للأمام النظر إلى موضع السجود وكذا للمأموم إلا حيث يحتاج إلى مراقبة إمامه وأما المنفرد فحكمه حكم الإمام والله أعلم.

، وكذلك أنه كان يرمي ببصره إلى إشارته (1) وكذلك الحديث المتفق عليه في قصة انبجانية أبي جهم وفيه: (فنظر إلى أعلامها نظرة) (2) وكذلك حديث سهل بن الحنظلية المتقدم، فهذه الأحاديث وغيرها بمجموعها تفيد أنه – صلى الله عليه وسلم – كان يفتح عينيه فيها. وكرهه الإمام أحمد وغيره من أهل العلم؛ لكونه من فعل اليهود كما قال الإمام أحمد وسفيان بن عيينة وغيرهم.

_ (1) صحيح ابن خزيمة ج: 1 ص: 355 227 باب النظر إلى السبابة ثم الإشارة بها في التشهد 718 أنا أبو طاهر نا أبو بكر نا بندار نا يحيى بن سعيد نا بن عجلان عن عامر بن عبد الله بن الزبير عن أبيه: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا تشهد وضع يده اليسرى على فخذه اليسرى ووضع يده اليمنى على فخذه اليمنى وأشار بأصبعه السبابة لا يجاوز بصره إشارته ". (2) أخرجه البخاري في كتاب الصلاة / باب (14) إذا صلى في ثوب له أعلام ونظر إلى عَلَمِها / رقم (373) ، وفي كتاب الأذان / باب (93) الالتفات في الصلاة / رقم (752) ، وأخرجه مسلم (556) .

فعلى ثبوت ذلك وهو قول هؤلاء الأئمة الذي يتلقى خبرهم بالقبول - على قولهم - يكون ذلك محرماً لأن التشبه باليهود وغيرهم من الكفار محرَّم، لحديث: (من تشبه بقوم فهو منهم) (1) - وذهب طائفة من أهل العلم – كما قال ذلك ابن القيم في زاد المعاد –: إلى إباحة ذلك. واختار ابن القيم التفصيل في هذه المسألة: فقال: إن كان الخشوع يثبت مع فتح عينيه فهو المستحب له، ولا يغمض عينيه. وإن كان أمامه شيء يحول بينه وبين الخشوع كزخرفة وبريق ونحوه يشوش عليه صلاته وكان في تغميض عينيه خشوع فهو المستحب له قطعاً، واستحبابه أقرب إلى مقاصد الشرع من القول بكراهيته. قال شيخنا حفظه الله: " والذي تميل إليه النفس ما ذهب إليه أهل القول الأول مع ثبوت ما ذكروه من فعل اليهود، وحيث كان ذلك فإنه لا يشرع مطلقاً، بل القول بتحريمه أظهر لحديث: (من تشبه بقوم فهو منهم) " ومعلوم أن المصلي غالباً تحول بينه وبين القبلة لا سيما إذا كان في فضاء ومع ذلك فالنبي صلى الله عليه وسلم كان يفتح عينيه. ومع ذلك فإن سنة النبي صلى الله عليه وسلم هي فتح العينين.

_ (1) أخرجه أبو داود في كتاب اللباس باب في لبس الشهرة (4031) قال: " حدثنا عثمان بن أبي شيبة حدثنا أبو النضر حدثنا عبد الرحمن بن ثابت حدثنا حسان بن عطية عن أبي منيب الجُرشي عن ابن عمر قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (من تشبه بقوم فهو منهم) ، وأخرجه أحمد في المسند أتم منه، ولفظه (بعثت بالسيف بين ... ) قال السخاوي عن هذا الحديث فيه ضعف، ولكن له شواهد. وقال ابن تيمية: سنده جيد، وقال ابن حجر في الفتح: سنده حسن، وأخرجه الطبراني في الأوسط عن حذيفة بن اليمان، قال العراقي: سنده ضعيف، (من تعليق محي الدين عبد الحميد) ، سنن أبي داود مع المعالم [4 / 314] . وقد تقدم في الطهارة.

فالأظهر أن ذلك مكروه مطلقاً بل القول بتحريمه قول قوي؛ لأنه من فعل اليهود وفي الحديث: (من تشبه بقوم فهو منهم) قال: (وإقعاؤه) فيكره ذلك أي الإقعاء. وصفته: عندهم: أن يجلس على عقبيه فقالوا: هذا مكروه. وأما إقعاء الكلب وهو أن يجلس على أليته (1) وينصب فخذيه فهو مكروه اتفاقاً لحديث عائشة في صحيح مسلم وفيه: (وكان ينهى عن عقبة الشيطان) (2) وهو إقعاء الكلب كما فسره أبو عبيدة وغيره. أما الإقعاء المتقدم – وهو أن يجلس على عقبيه فهو مكروه عند الحنابلة، واستدلوا: بما روى ابن ماجه أن النبي صلى الله عليه وسلم: (نهى عن الإقعاء بين السجدتين) (3) . والصحيح عدم كراهية ذلك وعليه عمل العبادلة من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وبه ثبتت السنة فقد ثبت في مسلم من حديث ابن عباس: أنه قال له طاووس وسأله عن الإقعاء فقال: (هو السنة، فقال: إنا نراه من جفاء الرجل فقال: سنة نبيكم صلى الله عليه وسلم) (4) . فهو إذن من السنن الثابتة – وهذا القول هو رواية عن الإمام أحمد – خلافاً للرواية الأخرى المشهورة.

_ (1) الأَلْيَة: إحدى الأليتين، وهما: العجيزة أو ما رَكِبَها من شحم ولحم. (ج) : أَلاَيا. المعجم الوجيز. (2) أخرجه مسلم في كتاب الصلاة / باب (46) ما يجمع صفة الصلاة … / رقم (498) . (3) أخرجه ابن ماجه في كتاب إقامة الصلاة / باب (22) الجلوس بين السجدتين / رقم (894) عن علي قال: قال لي رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (لا تقع بين السجدتين) قال الألباني " ضعيف ". ورقم (895) بلفظ (يا علي لا تقع إقعاء الكلب) قال الألباني: " حسن ". (4) في كتاب المساجد، باب جواز الإقعاء على العقبين (536) ، وقد تقدم صْ 121.

ويكره له أن يعتمد على يديه في الصلاة، لما ثبت في مسند أحمد وسنن أبي داود بإسناد صحيح: أن النبي صلى الله عليه وسلم: (نهى أن يقعد الرجل في الصلاة معتمداً على يديه) (1) وفي سنن أبي داود بإسناد صحيح أن ابن عمر: (رأى رجلاً وهو يصلي وقد اعتمد على يده اليسرى ومال إلى شقه الأيسر فقال: لا تجلس هكذا، فإن هكذا يجلس الذين يعذبون) (2) فهذه الجلسة في الصلاة منهي عنها وهي أن يجلس معتمداً على يديه أو أحدهما. قال: (وافتراش ذراعيه ساجداً) تقدم أن الصفة المستحبة في السجود أن يضع كفيه ويرفع مرفقيه. فإذا افترش ذراعيه بأن يضع مرفقيه على الأرض باسطاً ذراعيه فإن هذا مكروه عند الحنابلة لما ثبت في الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (اعتدلوا في السجود ولا يبسط أحدكم ذراعيه انبساط الكلب) (3) وظاهره تحريم ذلك. قال: (وعبثه) يكره في الصلاة أن يعبث بيديه أو ثوبه أو نحو ذلك؛ لأن في ذلك منافاة للخشوع، وحيث كان كذلك كان مكروهاً وهذا باتفاق أهل العلم. وهذا ما لم يكن هذا العبث كثيراً يخرجه عن الصلاة فإنه يكون مبطلاً لها – كما سيأتي تقريره إن شاء الله. قال: (وتخصره)

_ (1) أخرجه أبو داود في كتاب الصلاة / باب (187) كراهية الاعتماد على اليد في الصلاة / رقم (992) . وفي مصنف عبد الرزاق ج: 2 ص: 197 3054 عبد الرزاق عن معمر عن إسماعيل بن أمية عن نافع عن ابن عمر قال نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يجلس الرجل في الصلاة وهو معتمد على يديه ". (2) أخرجه أبوداود في الباب السابق رقم (994) . (3) أخرجه البخاري في كتاب مواقيت الصلاة / باب (8) المصلي يناجي ربه عز وجل / رقم (532) ، وفي كتاب الأذان / باب (141) لا يفترش ذراعيه في السجود / رقم (822) . ومسلم (493) .

التخصر هو أن يضع يديه على خاصرته أي شاكلته وقد صرح المؤلف بكراهيته كما هو المذهب ودليل ذلك: ما ثبت في الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم: (نهى أن يصلي الرجل مختصراً) (1) . وفي سنن أبي داود بإسناد صحيح من حديث زياد بن صُبيح: (أنه صلى إلى جنب ابن عمر فوضع يده على خاصرته فلما انصرف – أي ابن عمر – قال: هذا الصلب في الصلاة وكان النبي صلى الله عليه وسلم ينهى عنه) (2) وهذا النهي هل هو للتحريم أم للكراهية؟ ظاهر النهي التحريم. وقد صرح الحنابلة بالكراهية، والظاهر تحريم ذلك ويؤكده ما ثبت في البخاري عن عائشة: (أن هذا فعل اليهود في صلاتهم) (3) .

_ (1) أخرجه البخاري في كتاب العمل في الصلاة / باب (17) الخصر في الصلاة / رقم (1220) بلفظ عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: " نهى النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يصلي الرجل مختصرا " ورقم (1219) عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: نُهيَ عن الخَصْر في الصلاة. وقال هشام وأبو هلال عن ابن سيرين عن أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم -. ومسلم (545) . (2) أخرجه أبو داود في كتاب الصلاة / باب (160) في التخصر والإقعاء / رقم (903) عن زياد بن صُبَيح الحنفي قال: صليت إلى جنب ابن عمر فوضعت يدي على خاصرتي، فلما صلى قال: هذا الصلب في الصلاة، وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ينهى عنه ". (3) أخرجه البخاري في كتاب أحاديث الأنبياء / باب (50) ما ذُكر عن بني إسرائيل / رقم (3458) عن عائشة رضي الله عنها: كانت تكره أن يَجعل يده في خاصرته وتقول: إن اليهود تفعله ". والظاهر أن زيادة " في صلاتهم " ليست في البخاري، لقول ابن حجر فتح الباري ج: 3 ص: 89: " وقيل لأن اليهود تكثر من فعله فنهى عنه كراهة للتشبه بهم أخرجه المصنف في ذكر بني إسرائيل عن عائشة زاد بن أبي شيبة فيه في الصلاة ". الاسطوانة.

فالراجح أن الاختصار في الصلاة منهي عنه نهي تحريم لأنه من فعل اليهود، ولأن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عنه وظاهر النهي التحريم. قال: (وتروحه) أي تروحه بمروحة ونحوها فيكره ذلك؛ لأنه عبث في الصلاة وينافي الخشوع. لكن إن احتاج إليه كأن يكون هناك حر شديد فيحرك يده بشيء ليحرك الهواء إلى بدنه من غير أن يكون ذلك مبطلاً للصلاة بأن يكون كثيراً عرفاً – فإنه لا بأس به للحاجة إليه أما دون حاجة فهو مكروه لأنه عبث. وأما المراوحة بين القدمين: وهي أن يتكئ على أحد رجليه بثقل بدنه، فتكون القدم الأخرى في راحة من حمل بدنه، ثم يحمل بدنه على القدم الأخرى – هذه تسمى المراوحة. وقد ورد في النسائي عن أبي عبيدة عن ابن مسعود: (أنه رأى رجلاً وقد رص (1) قدميه فقال: (أخطأ هذا السنة لو رواح في صلاته لكان ذلك أعجب إليّ) (2) . واستدل به الإمام أحمد على استحباب ذلك، لكن الحديث ضعيف للانقطاع بين أبي عبيدة وأبيه ولكن مع ذلك يقوى القول باستحبابه حيث طال القيام لما فيه من الثبوت على العبادة وتهيئة النفس للاستمرار عليها لأنه إذا فعل ذلك فتكون عنده قدرة على الإطالة أكثر مما لو لم يفعل ذلك. قال الأثرم: (رأيت أبا عبد الله وهو يصلي وقد فرَّج بين قدميه ورأيته وهو يراوح بينهما) فاستحب ذلك الإمام أحمد، ولو قيل باستحبابه لكان قوياً لما فيه من التشجيع على الإطالة. وقوله: (رأيت أبا عبد الله وهو يصلي وقد فرَّج بين قدميه)

_ (1) كذا في الأصل، ولعل الصواب: صف بين قدميه، كما في النسائي. (2) أخرجه النسائي في كتاب الافتتاح / باب (13) الصف بين القدمين في الصلاة / باب (893) : " عن عبد الله أنه رأى رجلا يصلي قد صف بين قدميه، فقال: أخطأ السنة ولو راوح بينهما كان أعجب إلي ".

هذا هو الأولى، لأن قبل هذا الفعل يجعل القدمين على طبيعتها، وحيث لم يرد نص في قدميه حال القيام فإنه يبقيهما على الطبيعة، وطبيعتهما أن يكونا بحيال المنكبين، فليستا بمرصوصتين بل يكون مفرجاً بينهما. ومما يدل على ذلك: أن المصلي يستحب له أن يلزق كعبه بكعب صاحبه ومنكبيه بمنكبه وحيث كان ذلك فإنه لا يثبت إلا بأن يفرج بين قدميه، فعلى ذلك رص القدمين حال القيام غير مشروع، بل المستحب التفريج بينهما. قال: (وفرقعة أصابعه) أي يكره أن يفرقع أصابعه في الصلاة، لأنه عبث وهو – أي العبث – مكروه اتفاقاً. وفي ابن أبي شيبة بإسناد صحيح: (أن شبيبة مولى ابن عباس صلى إلى جنب ابن عباس ففقع أصابعه فلما انصرف قال له ابن عباس: لا أم لك تفقع وأنت في الصلاة) (1) فهذا إنكار منه لذلك يدل على أنه مكروه. قال: (وتشبيكهما)

_ (1) سنن ابن ماجه ج: 1 ص: 310 965 حدثنا يحيى بن حكيم ثنا أبو قتيبة ثنا يونس بن أبي إسحاق وإسرائيل بن يونس عن أبي إسحاق عن الحرث عن علي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (لا تفقع أصابعك وأنت في الصلاة) .

فتشبيك الأصابع مكروه، لما ثبت عند الدارمي بإسناد صحيح من حديث أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا توضأ أحدكم في بيته ثم أتى المسجد فهو في صلاة فلا يفعل هكذا وشبّك بين أصابعه) (1) فإذا كان يكره له هذا وهو في طريقه إلى المسجد لكونه في حكم المصلين، فأولى من ذلك أن يكره أثناء الصلاة. وفي سنن أبي داود بإسناد صحيح أن ابن عمر سئل عن التشبيك في الصلاة فقال: (تلك صلاة المغضوب عليهم) (2) ويحتمل أن يكون المراد بهم اليهود لأنهم هم المغضوب عليهم وحيث كان هذا فهو يقوي التحريم لأنه تشبه بهم. وحيث قلنا بالإطلاق أي عامة المغضوب عليهم فينهى العبد عن التشبه بهم لحديث: (من تشبه بقوم فهو منهم) ، وظاهر الحديث: (فلا يفعل هكذا، وشبك بين أصابعه) ظاهره التحريم. والحمد لله رب العالمين. الدرس الثالث والثمانون (يوم الثلاثاء: 8 / 4 / 1415 هـ) قال المؤلف رحمه الله تعالى: (وأن يكون حاقناً)

_ (1) أخرجه الدارمي في كتاب الصلاة / باب (121) النهي عن الاشتباك إذا خرج إلى المسجد / رقم (1440) عن كعب بن عجرة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: (إذا توضأ أحدكم ثم خرج عامداًَ إلى الصلاة فلا يشبك بين أصابعه) ، ورقم (1441) عن كعب بن عجرة أيضا قال قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (إذا توضأت فعمدت إلى المسجد، فلا تشبكن بين أصابعك، فإنك في صلاة) ، ورقم (1442) عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (من توضأ ثم خرج يريد الصلاة، فهو في صلاة حتى يرجع إلى بيته، فلا تقولوا هكذا) يعني يشبك بين أصابعه ". (2) أخرجه أبو داود في كتاب الصلاة / باب (187) كراهية الاعتماد على اليد في الصلاة / رقم (993) .

فيكره أن يصلي وهو حاقن، والحاقن: هو المحتسب بوله ومثله من احتبس غائطه أو ريحه، فإن الصلاة تكون مكروهة في هذه الحال، لأن هذا ينافي كمالها ويؤثر في الخشوع بها والإقبال على الله فيها. ويدل عليه: ما ثبت في مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا صلاة بحضرة طعام ولا وهو يدافعه الأخبثان) (1) أي الغائط والبول ومثل ذلك الريح فإن الصلاة تكون مكروهة. لكن الصلاة تصح إجماعاً كما حكاه ابن عبد البر. ولهذا الإجماع فإن الحديث يؤول على (لا صلاة كاملة) أو - لو قلنا بالتحريم - (لا صلاة جائزة) ولا يقال: (لا صلاة صحيحة) لإجماع أهل العلم على صحة الصلاة فهذا الفعل مكروه أو محرم لظاهر الحديث المتقدم لكن الصلاة صحيحة إجماعاً. قال: (أو بحضرة طعام يشتهيه) أي تتوق إليه نفسه، فإن الصلاة مكروهة أيضاً للحديث المتقدم: (لا صلاة بحضرة طعام) ، ولما ثبت في الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا قدم العشاء فابدؤا به قبل أن تصلوا المغرب ولا تعجلوا [عن] عشاءكم) (2) وثبت في البخاري نحوه من حديث ابن عمر – نحوه – وفيه: (وكان ابن عمر يوضع له الطعام وتقام الصلاة، فلا يعجل عن عشائه حتى يفرغ وإنه ليسمع قراءة الإمام) (3) .

_ (1) أخرجه مسلم في كتاب المساجد / باب (16) كراهة الصلاة بحضرة الطعام الذي يريد أكله.. /رقم (560) من حديث عائشة رضي الله عنها وفيه قصة حديث ابن أبي عتيق مع القاسم عند عائشة. (2) أخرجه البخاري بنفس اللفظ عن أنس رقم (671) و (5465) كتاب الأذان / باب (42) إذا حضر الطعام وأقيمت الصلاة، ومسلم في كتاب المساجد / باب (16) كراهة الصلاة بحضرة الطام / رقم (557) (3) صحيح البخاري الباب السابق / رقم (673) بلفظ: " وكان ابن عمر: يوضع له الطعام وتقام الصلاة فلا يأتيها حتى يفرغ، وإنه ليسمع قراءة الإمام ".

وثبت في ابن شيبة بإسناد صحيح: (أن ابن عباس وأبا هريرة كانا يأكلان طعاماً في التنور شواء، فأراد المؤذن أن يقيم فقال له ابن عباس: لا تقم لئلا نعجل وفي أنفسنا شيء) وفي رواية (لئلا يعرض في الصلاة) (1) . وفي هذا الأثر الصحيح يتبين أن هذا إنما هو خاص فيما إذا كان الطعام تتوق إليه النفس ويشتهى، وللنفس حاجة إليه – فيخشى أن يعرض في الصلاة فيؤثر في خشوعها، ومما يدل أنه ليس في مطلق الطعام ما ثبت في البخاري من حديث عمرو بن أمية قال: (رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يأكل كتفاً يجتز منها فدعي إلى الصلاة فطرح السكين فصلى ولم يتوضأ) (2) . فهذا يدل على أنه إذا كان عنده طعام لا يشتهيه وليس للنفس حاجة فيه فإنه يصلي. وإنما الذي ينهى عن الصلاة حيث وجد هو الذي تتوق إليه النفس (3) . ومثل ذلك الشراب والجماع قياساً وقال صاحب الإنصاف: " بل هما أولى بالكراهية ". فعلى ذلك يكره له أن يصلي حاقناً أو بحضرة طعام يشتهيه وإن أدى ذلك إلى فوات الجماعة.

_ (1) مصنف ابن أبي شيبة ج: 2 ص: 184 رقم (7925) حدثنا وكيع عن شريك عن عثمان الثقفي عن رجل يقال له زياد قال كنا عند ابن عباس وشواء له في التنور وحضرت الصلاة فقلنا له فقال لا حتى نأكل لا يعرض لنا في صلاتنا ". قال في ابن حجر في فتح الباري ج: 2 ص: 161: " وروى سعيد بن منصور وابن أبي شيبة بإسناد حسن عن أبي هريرة وابن عباس انهما كانا يأكلان طعاما وفي التنور شواء فأراد المؤذن أن يقيم فقال له بن عباس لا تعجل لئلا نقوم وفي أنفسنا منه شيء وفي رواية بن أبي شيبة لئلا يعرض لنا في صلاتنا ". (2) أخرجه البخاري في كتاب الأذان / باب (43) إذا دُعي الإمام إلى الصلاة وبيده ما يأكل / رقم (675) ورقم (210) و (208) من كتاب الوضوء باب (50) . وأخرجه مسلم في كتاب الحيض / باب (24) نسخ الوضوء ما مست النار / رقم (355) . (3) كذا في الأصل.

لكن إن أدى ذلك إلى خروج وقت الصلاة فلا، لأن فوات الخشوع أهون من خروج وقت الصلاة وفواتها فإنه إذا صلاها بعد الوقت فإنه يكون قد خرج عليه وقتها، ولا شك أن فوات الخشوع أهون من فوات الصلاة. فعلى ذلك: لا صلاة حيث كان الوقت متسعاً، أما إذا كان ضيقاً ويخشى خروج الوقت وفوات الصلاة فإنه يصلي على حاله ويجب عليه ذلك لئلا يخرج وقت الصلاة. قال: (وتكرار الفاتحة) فهو مكروه في الصلاة، وذلك لأنه (1) لم يصح عن النبي صلى الله عليه وسلم وكان لا يكررها بل يقرؤها في كل ركعة من صلاته بلا تكرار وحيث كان ذلك، فإن هذا الفعل من المكرر خلاف هديه عليه الصلاة والسلام وحيث كان ذلك فهو محدث في الدين. قال: (ولا جمع سور في فرض كنفل) أي لا يكره جمع سور، فلو جمع السور في الركعة فلا يكره ذلك، وقد تقدمت الأدلة على ذلك كقراءته – صلى الله عليه وسلم – البقرة والنساء وآل عمران في ركعة (2) وكقول ابن مسعود: إنه يعرف القرائن التي كان النبي صلى الله عليه وسلم يقرن بها في الصلاة (3) . وقراءة الرجل بقل هو الله أحد وسورة في كل ركعة (4) . فلا يكره أن يجمع بين السورتين فأكثر في الركعة، لا كراهية فرضاً ولا نفلاً كما تقدم في الأحاديث. وإنما قال: (كنفل) لأن النفل مجمع عليه، فكذلك الفرض؛ لأن ما ثبت نفلاً فهو ثابت فرضاً، فلم يثبت دليل يدل على التخصيص.

_ (1) في الأصل: لأنها. (2) أخرجه مسلم من حديث حذيفة في كتاب صلاة المسافرين وقصرها / باب (27) استحباب تطويل القراءة في صلاة الليل / رقم (772) . (3) أخرجه مسلم في كتاب صلاة المسافرين وقصرها / باب (49) ترتيل القراءة واجتناب الهذ.. وإباحة سورتين فأكثر في ركعة / رقم (822) ، والبخاري (4996) ، (5043) . (4) أخرجه مسلم في كتاب صلاة المسافرين / باب (45) فضل قراءة قل هو الله أحد / رقم (813) من حديث عائشة رضي الله عنها.

على أن الأحاديث الواردة في هذا الباب منها ما هو في الفريضة كما كان من الإمام الذي يفتتح قراءته بعد الفاتحة بـ {قل هو الله أحد} فإنها كانت في الفريضة (1) . ومما يكره له الإكثار من تسوية التراب حيث يسجد، فإنه مكروه أو خلاف الأولى. لما ثبت في الصحيحين من حديث معيقيب أن النبي صلى الله عليه وسلم: (سئل عن الرجل يسوي التراب حيث يسجد فقال: (إن كان لابد فاعلاً فواحدة) (2) ، أما الإكثار من ذلك فإنه مكروه أو خلاف الأولى فإن كان لابد فاعلاً فليكتفي بواحدة يسوي بها التراب وإلا فإنه ينبغي أن يسوي التراب قبل صلاته لئلا ينشغل بتسويته أثناء الصلاة. ومثل ذلك – أيضاً – مسح التراب عن الجبهة فإنه خلاف الأولى.

_ (1) لفظه في مسلم: " أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعث رجلا على سرية، وكان يقرأ لأصحابه في صلاتهم، فيختم بـ {قل هو الله أحد} ، فلما رجعوا ذُكر ذلك لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: (سلوه لأي شيء يصنع ذلك) فسألوه فقال: لأنها صفة الرحمن،فأنا أحب أن أقرأ بها، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (أخبروه أن الله يحبه) . (2) أخرجه البخاري رقم (1207) ،ومسلم في كتاب المساجد / باب (12) كراهة مسح الحصى وتسوية التراب في الصلاة / رقم (546) .

يدل عليه: ما رواه البيهقي عن ابن مسعود أنه قال: (أربع من الجفاء أن يبول الرجل قائماً " والسنة وردت بخلاف ذلك والحجة في قول النبي صلى الله عليه وسلم لا غيره " وصلاة الرجل والناس يمرون بين يديه وليس بين يديه شيء يستره ومسح التراب عن جبهته وأن يسمع المؤذن فلا يجيبه [في قوله] ) (1) فهذه هن الجفاء وهو غير مشروع في الصلاة فعلى ذلك هو خلاف الأولى أو مكروه. فيكره أن يمسح التراب عن وجهه وهو يصلي وأولى من ذلك الإكثار منه لما فيه من الانشغال والإقبال على أمر آخر في الصلاة.

_ (1) أخرجه البيهقي في كتاب الصلاة / با ب (371) لا يمسح وجهه من التراب في الصلاة حتى يسلم / رقم (3552) قال: " أخبرنا أبو زكريا بن أبي إسحاق المزكي، أنبأ أبو عبد الله محمد بن يعقوب، ثنا محمد بن عبد الوهاب، أنبأ جعفر بن عون، أنبأ سعيد عن قتادة عن ابن بريدة عن ابن مسعود أنه كان يقول: " أربع من الجفاء أن يبول.. " وكذلك رواه الجريري عن ابن بريدة عن ابن مسعود، ورواه سعيد بن عبيد الله بن زيادة بن جبير بن حية / عن عبد الله بن بريدة عن أبيه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - بمعناه إلا أنه قال: والنفخ في الصلاة بدل المرور، ولم يقل أربع. قال البخاري: هذا حديث منكر يضطربون فيه " " ا. هـ كلام البيهقي.

ويكره ألا يكظم التثاؤب أو أن لا يضع يده على فيه، فقد ثبت في الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا تثاءب أحدكم - في الترمذي: في الصلاة - فليكظم ما استطاع) وفي مسلم: (فليمسك يده على فيه فإن الشيطان يدخل) (1) قالوا: ويكره له أن يصلي إلى نار أو قنديل أو نحو ذلك كأن يصلي إلى مدفئة ونحوها مما هو نار. وظاهر ذلك – وهو قول – أنه يكره أن يصلي إلى شيء من الضوء وإن كان متولداً من كهرب ونحوه لأنه نار، فهذا كله مكروه، وهو مذهب الشافعية أيضاً. واستدلوا بأن هذا من فعل المجوس من كونهم يصلون إلى نيرانهم فيكون في ذلك تشبه بهم. وهو قول طائفة من السلف كابن سيرين ومقتضى هذا التعليل التحريم؛ لأن من تشبه بقوم فهو منهم.

_ (1) أخرجه البخاري في كتاب بدء الخلق / باب (11) صفة إبليس وجنوده / رقم (3289) عن أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (التثاؤب من الشيطان، فإذا تثاءب أحدكم فليرده ما استطاع، فإن أحدكم إذا قال: ها، ضحك الشيطان) ومسلم دون اللفظة الأخيرة في كتاب الزهد والرقائق / باب (9) تشميت العاطس وكراهة التثاؤب / رقم (2994) من حديث أبي هريرة، ورقم (2995) من حديث أبي سعيد الخدري باللفظ الثاني، وأخرجه الترمذي عن أبي هريرة بالزيادة في كتاب الصلاة / باب (156) ما جاء في كراهية التثاؤب في الصلاة / (370) قال الترمذي: " وفي الباب عن أبي سعيد الخدري وجدّ عَدي بن ثابت " وقال: " حديث أبي هريرة حديث حسن صحيح ".

وظاهر تبويب البخاري جواز ذلك حيث قال: (باب: من صلى وقدامه شيء من تنور أو نار أو شيء مما يعبد فأراد به الله) وذكر الحديث في صلاة الكسوف وفيه: (وعرضت لي النار وأنا أصلي) (1) فهذا يدل على أن النبي صلى الله عليه وسلم قد عرضت له النار فكانت بين يديه وهو يصلي، ولو كان ذلك مكروهاً لما كان ذلك بين يديه. وما ذهبت إليه البخاري أظهر وذلك لما استدل به من حديث النبي صلى الله عليه وسلم ولما ثبت في سنن النسائي وغيره: أن النبي صلى الله عليه وسلم: (استتر بشجرة وصلى إليها) (2) ومعلوم أن الشجرة تعبد من دون الله. وهذا العبد يصلي وبين يديه الأحجار، بل الكعبة التي يتوجه إليها المسلمون إنما هي من الأحجار، ومعلوم أن الأحجار تعبد من دون الله: لكن العبد أراد بتوجهه الله تعالى. وأما ما ذكروه من أن ذلك فيه تشبه بالمجوس. فيجاب عنه: أن هذه النار التي عرضت بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم وأن هذا القنديل الذي يصلي إليه العبد ونحو ذلك أنه ليس هو ذات النار التي تعبد من دون الله.

_ (1) ذكره البخاري تعليقا في كتاب الصلاة / باب (51) من صلى وقدامه تنور أو نار أو شيء مما يعبد فأراد به الله / قبل حديث (431) فقال: " وقال الزهري: أخبرني أنس قال: قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: (عرضت علي النار وأنا أصلي) . (2) السنن الكبرى للنسائي ج: 1 ص: 270 (823) أنبأ محمد بن المثنى قال حدثنا محمد قال حدثنا شعبة عن أبي إسحاق عن حارثة بن مضرب عن علي قال: لقد رأيتنا ليلة بدر وما فينا إنسان إلا نائم إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم فإنه كان يصلي إلى شجرة ويدعو حتى أصبح " الاسطوانة. قال الحافظ في فتح الباري ج: 1 ص: 580 " رواه النسائي بإسناد حسن ". ولم أجده في سنن النسائي " المجتبى ".

فإن النار أنواعها كثيرة، وأما النار التي عبدت من دون الله فهي بخصوصها ينهى عن التوجه إليها، وأما أن يتوجه إلى نار أخرى فإنه لا يقال: إنه توجه إلى شيء يعبد من دون الله بذاته بل توجه إلى جنس ذلك. فالنار التي تعبد من دون الله لا يجوز للعبد أن يصلي إليها لما فيه من التشبه بالمجوس، وأما عموم النار فإنه لا يمنع من ذلك؛لأن من النار ما لا يتوجه إليه ولا يصرف العبادة إليه. كما أنه لو صلى بين يديه صنم يعبد من دون الله فإنه يمنع من ذلك، " فإن صلى وبين يديه حجارة ونحو ذلك لا يعبد، فلا يمنع من ذلك " (1) . فالأرجح ما ذهب إليه البخاري في صحيحه، هو ظاهر تبويبه، وأن الصلاة إلى قنديل أو نار أو شمعة أنه ليس بمكروه خلافاً للشافعية والحنابلة. قال: (وله رد المار بين يديه) بل يسن له ذلك، فإن ظاهر لفظه " له " أنه يباح لكن ذلك مسنون ومستحب عند الحنابلة في المشهور عندهم لذا ذكر الشارح في الشرح بعد لفظة " ويسن ". ودليل ذلك، ما ثبت في الصحيحين: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا صلى أحدكم إلى شيء يستره من الناس فأراد أحد أن يجتاز بين يديه فليدفعه فإن أبى فليقاتله فإنما هو شيطان) (2) وفي مسلم من حديث ابن عمر: (فإن معه القرين) وبه يفسر قوله " فإنما هو شيطان " أي معه شيطان أو القرين. أو أنه فعل ما يفعله الشيطان من تنقيص صلاة العبد وصرف قلبه عنها بمروره بين يديه.

_ (1) في المطبوع بدل هذه العبارة ما نصه: " لكن لو كان مطلق حجر لا يتوجه إليه العبادة فإنه لا يمنع منه ". (2) أخرجه البخاري في كتاب الصلاة / باب (100) يرد المصلي من مر بين يديه / رقم (509) ، ومسلم (505) .

فيشرع له أن يدفع المار بين يديه، فإن أبى فليقاتله أي يدفعه دفعاً شديداً، ومما يدل على أن المراد ذلك قصة هذا الحديث فقد بين في الصحيحين: (أنه صلى في يوم جمعة وبين يديه شيء يستره من الناس فأراد شاب من بني أبي مُعيط أن يجتاز بين يديه فدفعه في نحره فنظر الشاب فلم يجد مساغاً فعاد يجتاز فدفعه أشد من الأولى) (1) وحينئذٍ: لو ترتب على دفعه أذى في بدنه فإنه لا يضمنه لأن ما ترتب على المأذون فهو غير مضمون. - وعن الإمام أحمد: وجوب ذلك وهو الراجح لقول النبي صلى الله عليه وسلم " فليدفعه " وظاهر الأمر الوجوب. إذن: عن الإمام أحمد روايتان: أصحهما وهي غير المشهورة عنه وجوب ذلك لظاهر الحديث وقد قال صلى الله عليه وسلم: (لو يعلم المار بين يدي المصلي ماذا عليه لكان أن يقف أربعين خير له من أن يمر بين يديه) (2) فلا يجوز له أن يمر بين يدي المصلي سواء كان بين يديه سترة أم لا، بأن يمر بين يديه في موضع صلاته. وللمصلي اتفاقاً دفعه إن مر وهل هو واجب أو مستحب؟ الراجح وجوبه كما هو رواية عن الإمام أحمد. قال: (وعد الآي) له أن يعد آيات القرآن التي يقرؤها، وهو وارد عن طائفة من السلف؛ وهل له أن يعد التسبيح فيه قولان في المذهب، وقد توقف الإمام أحمد فيه لعدم وروده عن أحد من السلف، وأجازه طائفة من أصحابه. فعلى ذلك: عد الآي وجه واحد في المذهب أنه مباح وليس بمكروه، وأما التسبيح فهل يكره أم يباح؟ قولان في المذهب: الصحيح في المذهب عندهم أنه يباح أيضاً. وذهب الشافعية والأحناف: إلى أنه مكروه.

_ (1) متفق عليه، الباب السابق. (2) أخرجه البخاري في كتاب الصلاة / باب (101) إثم المار بين يدي المصلي / رقم (510) ، ومسلم (507) .

وهذا أظهر فإن فعل طائفة من السلف من التابعين لا يفيد إباحته حيث لم يثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم، بل قد ثبتت الأدلة في أن الصلاة شغل وإقبال إلى الله تعالى وحيث انشغل في العد فإن ذلك انشغالاً عن الصلاة وعن إتمام خشوعها والخضوع لله فيها. وهو متى قام بالواجب فإن الله عز وجل يجازيه على ما فعله بعده وإن لم يعرف حسابه، ولو فعل ذلك فإن الصلاة صحيحة لكنه مكروه. قال: (والفتح على إمامه) أي: وله الفتح على إمامه، بأن يفتح عليه في قراءته. فإذا لُبس على الإمام في القراءة، فيشرع له أن يفتح عليه بأن يرد عليه ما أخطأ فيه في قراءته. ودليل ذلك: ما ثبت في سنن أبي داود بإسناد صحيح: أن النبي صلى الله عليه وسلم: (صلى صلاة فلُبس عليه فيها، فلما انصرف قال لأُبي أصليت معنا؟ قال نعم قال: " ما منعك " أي ما منعك أن تفتح عليَّ في الصلاة) (1) . إلا أن التعجل في ذلك بحيث يكون في ذلك تلبيس على الإمام هذا غير مشروع، بل يترك الإمام حتى يتبين أن الخطأ عنده صواب وأنه يظن هذا الخطأ صواباً. أما حيث كان في مهلة من أمره وهو ما زال يمكنه أن يصلح خطأه كأن يخطئ في صدر آية وهو لم يصل إلى منتصفها أو آخرها فهو ما زال يمكن أن يصلح خطأه فلا ينبغي التعجيل في ذلك.

_ (1) أخرجه أبو داود في الصلاة / باب الفتح على الإمام (907) ، وابن حبان (2242) ، والطبراني في الكبير (13216) ، والبيهقي [3 / 212] ، والبغوي (665) عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما، قال الخطابي في معالم السنن [1 / 216] : " إسناد حديث أبي جيد "،وقال النووي في المجموع 4 / 241: " رواه أبو داود بإسناد صحيح ". من حاشية الشرح الممتع لابن عثيمين [3 / 347] .

وقد قال علي – في البيهقي بإسناد صحيح – " إذا استطعمك الإمام فأطعمه " (1) أي إذا طلب منك أن تفتح عليه فافعل. والفتح على الإمام بالفاتحة واجب، لأن الصلاة لا تصح إلا بها، وحيث أخطأ الإمام في الفاتحة فإن الصلاة تبطل بذلك. وأما غير الفاتحة فإن ذلك مشروع حيث كان الإمام محتاجاً إليه للحديث المتقدم في قصة أبي بن كعب. قال: (ولبس الثوب ولف العمامة) هذا لا بأس به في الصلاة. فلا بأس أن يلبس ثوبه، كأن يقع ردائه فيرفعه إلى عاتقه أو أن يلبس عمامته هذا لا بأس به ولا كراهية إذا احتاج إليه لأنه عمل يسير في الصلاة والعمل اليسير في الصلاة مباح لا كراهية فيه إلا إذا لم يحتج إليه فإنه يكره لكونه عبثاً فيها. ومما يدل عليه حديث حمل النبي صلى الله عليه وسلم أمامة بنت زينب في الصلاة (2) . ولما ثبت في أبي داود والترمذي والنسائي بإسناد صحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم: (فتح لعائشة الباب وهو يصلي) (3)

_ (1) أخرجه البيهقي في كتاب الجمعة / باب (48) إذا حصر الإمام لقن / رقم (5792) وما بعده. وفيه: " قلنا ما استطعامه؟ قال – أي الراوي -: إذا تعايا فسكت فافتحوا عليه ". (2) صحيح البخاري ج: 1 ص: 193 باب 16 إذا حمل جارية صغيرة على عنقه في الصلاة رقم (494) ، ومسلم رقم (543) . (3) أخرجه أبو داود في كتاب الصلاة / باب (169) العمل في الصلاة / رقم (922) . والنسائي في كتاب السهو / باب (14) المشي أمام القبلة خطى يسيرة / رقم 1206 عن عائشة قالت: استفتحتُ الباب ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصلي تطوعا والباب على القبلة فمشى عن يمينه أو عن يساره ففتح الباب ثم رجع إلى مصلاه "، والترمذي وقال: " حسن غريب ". وحسنه الألباني.

فالحركة اليسيرة إذا احتاج إليها المصلى فلا بأس بها ولا كراهية لأنها عمل يسير فيباح في الصلاة ولا كراهية إذا احتاج إليه.أما إذا لم يحتج إليه فإنه يكره لأنه عبث، وكل عبث في الصلاة فهو مكروه كما تقدم. والحمد لله رب العالمين الدرس الرابع والثمانون (يوم الأربعاء: 9 / 4 / 1415هـ) قال المؤلف رحمه الله: (وقتل حية وعقرب وقمل) أما الحية والعقرب؛ فلثبوت النص بذلك، فقد ثبت عند الخمسة بإسناد صحيح من حديث أبي هريرة: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (اقتلوا الأسودين في الصلاة الحية والعقرب) (1) ويقاس عليهما القمل ونحوه مما فيه ضرر ويجوز قتله، فيقاس عليه وقد ثبت عن طائفة من الصحابة والتابعين. والحديث إنما يقيد بحيث لا تختل الصلاة، فإن اختلت الصلاة، فاحتاج قتل الحية والعقرب إلى عمل كثير ينافي الصلاة فإنه يبطل الصلاة، وهذا مذهب جماهير أهل العلم. لقوله صلى الله عليه وسلم: (في الصلاة) ، وظاهره أن ذلك في الصلاة مع ثبوتها، وجبت كان قائماً بعمل كثير ينافي الصلاة فإنه يكون خارجاً عنها، قياساً على إنقاذ الغريق، فإنه إن احتاج إلى إنقاذه وهو يصلي ولا يمكن أن ينقذه إلا بعمل كثير يبطل الصلاة، فيبطلها وينقذه. هذا تقرير مذهب جماهير أهل العلم، وأن قتل الحية والعقرب إنما يكون حيث كانت الصلاة ثابتة ولم يكن هذا القتل بفعل كثير عرفاً يبطلها، فإن كان بفعل كثير يبطلها، فإن الصلاة تبطل. قال: (فإن أطال الفعل عرفاً من غير ضرورة ولا تفريق بطلت ولو سهواً)

_ (1) أخرجه أبو داود في الباب السابق / رقم (921) ، وأخرجه النسائي في الصلاة حديث 1203 بلفظ (أمر) ، وابن ماجه في الصلاة حديث 1245 بلفظ (أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم -) ، والترمذي حديث 390 وقال: " حسن صحيح "، سنن أبي داود [1 / 566] .

فمرجع معرفة الطويل والقصير في الصلاة هو العرف وهي قاعدة شرعية: في كل ما لم يثبت تحديده في الشرع فإنه يرجع في تحديده إلى العرف ويرجع فيه إلى أوساط الناس وقد اتفق أهل العلم على أن العمل الكثير مبطل للصلاة وأن العمل اليسير ليس بمبطل لها. وقد تقدمت أمثلة للعمل اليسير كأن يفتح باباً أو يلبس ثوباً أو نحو ذلك. فالعمل الكثير يقطع الصلاة اتفاقاً؛ لأنه ينافي الصلاة ويقطع موالاتها، وهو ليس على الهيئة الشرعية ولا مما أجازه الشارع فيها، وحيث كان كذلك كانت الصلاة خارجة عن الهيئة الشرعية الصحيحة وكل عمل خارج عن هديه – صلى الله عليه وسلم – فهو مردود. قال: (من غير ضرورة) : وعليه: فإن كان مضطراً إلى فعل كثير في الصلاة فإن الصلاة لا تبطل بذلك، كأن يكون هارباً من عدو أو سبع ونحوه فإنه يصلي على هيئته وحسب حاله، وإن كان في الصلاة عمل كثير ينافيها في الأصل لكنه مضطر إلى ذلك فتصح صلاته. كما أجاز الشارع الصلاة حال الخوف رجالاً وركباناً كما سيأتي في باب صلاة الخوف – إن شاء الله تعالى -. قال: (ولا تفريق) : بأن كان هذا الكثير متوالياً أما إن كان بمجموعه كثير لكنه بآحاده يسير (1) ، كأن يعمل عملاً يسيراً في الركعة ثم يعود إليها ثم يعمل عملاً يسيراً في الركعة الثانية وهكذا – ويكون هذا اليسير بمجموعه كثيراً فلا تبطل الصلاة به. لأنه حيث لم يبطلها وهو يسير بمفرده فلا يبطلها وهو كثير بمجموعه، فما دام أن الصلاة صحت مع ثبوت العمل اليسير فيها بمفرده فكذلك لا يبطلها بمجموعه، فهذا عندما يفعل فعلاً يسيراً ثم يعود إلى صلاته فهي صحيحة، وإذا فعل فعلا آخر يسيراً ثم عاد فالصلاة صحيحة، وهو لم يقطع موالاتها بمفرده فكذلك إذا كان متفرقاً لكنه بمجموعه كثيرة عرفاً. (بطلت ولو سهواً) :

_ (1) في الأصل: يسيراً.

فلو عمل عملاً كثيراً في الصلاة ساهياً فإن الصلاة تبطل، وهذا هو المشهور في المذهب وعللوا ذلك بما تقدم: من انقطاع الموالاة. - وعن الإمام أحمد: أن العمل الكثير الساهي صاحبه لا يقطع الصلاة بل تصح الصلاة مع العمل الكثير إن كان صاحبه ساهياً. واستدلوا: بما ثبت في الصحيحين في قصة ذي اليدين وفيه: (أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى الركعتين ساهياً ومشى وخرج من المسجد وأتى بيته ثم بعد ذلك أتم صلاته) (1) فقد قام أثناء الصلاة بعمل كثير عرفاً خارج عن الصلاة منافياً لها، ومع ذلك لم تبطل به الصلاة بل أتم صلاته لكونه ساهياً – وهذا هو الظاهر – وهو اختيار المجد بن تيمية.

_ (1) أخرجه مسلم في كتاب المساجد / باب 19 السهو في الصلاة والسجود له / رقم (574) عن عمران بن حصين: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صلى العصر فسلم في ثلاث، ثم دخل منزله، فقام إليه رجل يقال له الخِرْبَاق، وكان في يديه طول، فقال: يا رسول الله، فذكر له صنيعه، وخرج غضْبَانَ يَجُرُّ رداءه حتى انتهى إلى الناس، فقال: (أصدق هذا) قالوا: نعم، فصلى ركعة، ثم سلم ثم سجد سدتين ثم سلم ". وفي لفظ له قال عمران: سلم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في ثلاث ركعات من العصر، ثم قام فدخل الحجرة، فقام رجل بسيط اليدين، فقال: أقصرت الصلاة يا رسول الله؟ فخرج مُغضبا، فصلى الركعة التي كان ترك، ثم سلم، ثم سجد سجدتي السهو، ثم سلم ". وقد أخرج البخاري قصة ذي اليدين من حديث أبي هريرة في مواضع منها (482) ، (714) ، (1228) ، (6051) ، (7250) ، ومسلم (573) ، ولكن ليس في شيء من هذه الألفاظ أنه دخل بيته، وإنما ذلك في حديث عمران المتقدم في مسلم.

وأما مسألة الموالاة فإنها ليست هي العلة التي من أجلها أبطلت الصلاة، بدليل أن العمل اليسير لا يبطلها مع كونه قاطعاً للموالاة، فإن العمل اليسير فعل يجانب الصلاة، ومع ذلك فإنه لا يبطلها، وحيث لم يبطلها، فإن العمل الكثير لا يبطلها إن كان صاحبه ساهياً؛ لأنه فعل ما هو منافي للصلاة من غير تقصير ولا تعمد، وحينئذ [حيث] كان كذلك، فإنه لا يعد فاعلاً شيئاً. والحديث المتقدم ظاهر في ذلك فإنه عمل كثير ومع ذلك لم يعد الصلاة ولم يستأنفها وقد عمل عملاً كثيراً منافياً الصلاة لكنه ساهياً. إذن الراجح: أنه إذا عمل عملاً كثيراً في الصلاة ساهياً فلا تبطل صلاته. قال: (ويباح قراءة أواخر السور وأوساطها) أي يباح للمصلي أن يقرأ من أواخر السور وأوساطها سواء كانت الصلاة فرضاً أو نفلاً. لما ثبت في مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم قرأ في ركعتي الفجر في الأولى {قولوا آمنا بالله وما أنزل إلينا} وفي الثانية: {قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء …} (1)

_ (1) أخرجه مسلم في كتاب صلاة المسافرين وقصرها / باب (14) استحاب ركعتي سنة الفجر.. / رقم 727. من حديث ابن عباس، وفي رواية أخرى له: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يقرأ في ركعتي الفجر في الأولى منهما {قولوا آمنا بالله وما أنزل إلينا} التي في البقرة،وفي الآخرة منهما {آمنا بالله واشهد بأنا مسلمون} ". قلت: وبدايتها: {فلما أحس عيسى منهم الكفر..} . يقول بعض طلبة العلم: وأكثر الرواة على هذه الرواية الأخيرة، وأما الرواية الأولى والتي فيها في الركعة الثاني {تعالوا إلى كلمة سواء..} فقد تفرد بها خالد الأحمر عن بقية الرواة. والله أعلم.

ولقوله صلى الله عليه وسلم: (ثم اقرأ ما تيسر معك من القرآن) (1) وأوساط السور وأواخرها مما تيسر. وقد تقدم أن هذا مباح، لكن اتخاذه عادة وسنة خلاف الأولى، لأن في ذلك تركاً للسنة، فكونه يقرأ من أواخر السور وأوساطها مداوماً على ذلك، ففي ذلك ترك لما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم من قراءة السور بتمامها، ومما كان ظاهراً وغالباً في صلاته – عليه الصلاة والسلام -. فإذن: هو مباح لكن إذا داوم عليه فهو خلاف الأولى مع كونه مباحاً. وقد تقدم حديث زيد بن ثابت وإنكاره على مروان لأنه يداوم على قصار السور في المغرب. قال: (وإذا نابه شيء سبح رجل وصفقت امرأة ببطن كفها على ظهر الأخرى) إذا عرض شيء في الصلاة كسهو إمام أو تنبيه أو نحو ذلك فيقول الرجل " سبحان الله " وتصفق المرأة. وصفة التصفيق ببطن كفها على ظهر الأخرى هذه هي الصورة المشروعة، ونحوها كأن تضرب ببطن أصبعين من أحدهما على كف الأخرى. أما ضرب بطن أحدهما بالأخرى فإنه تصفيق وهو من اللهو واللعب المحرم. ومثل ذلك: ما قال: عيسى بن أيوب كما في سنن أبي داود وهو من رواة هذا الحديث قال: (تضرب بأصبعين من اليمينى على كفها اليسرى) وفي رواية أبى داود: (تصفيح) (2) . والتصفيح: بأن يضرب بطن أحدهما بظهر الأخرى أو بأصبعين من أحدهما على كف الأخرى.

_ (1) أخرجه البخاري رقم (757) و (793) و (6252) ، ومسلم في كتاب الصلاة / باب (11) وجوب قراءة الفاتحة / رقم (397) ، وقد تقدم. (2) أخرجه أبو داود في كتاب الصلاة / باب 173 التصفيق في الصلاة / رقم 942 عن عيسى بن أيوب قال: " قوله: " التصفيح للنساء " تضرب بأصبعين من يمينها على كفها اليسرى ". وفيه أيضا (941) حديث سهل مرفوعاً: (إذا نابكم شيء في الصلاة فليسبح الرجال وليصفح – كذا - النساء)

أما التصفيق المتقدم فهو من اللهو واللعب في الصلاة وفي الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (التسبيح للرجال والتصفيق للنساء) (1) وفي رواية: (في الصلاة) (2) وفي رواية: (إذا نابكم أمر فليسبح الرجال ولتصفق النساء) (3) . ولا يستحب له أن يعدل إلى غير التسبيح كالنحنحة قد روى النسائي وابن ماجه عن علي قال: (كان لي من النبي صلى الله عليه وسلم مدخلان فكنت إذا أتيتبه وهو يصلي تنحنح لي) (4) لكن الحديث إسناده ضعيف ففيه جهالة عين فلا يثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم. قال: (ويبصق في الصلاة عن يساره، وفي المسجد في ثوبه)

_ (1) أخرجه البخاري في كتاب العمل في الصلاة / باب (5) التصفيق للنساء / رقم (1203) من حديث أبي هريرة، و (1204) من حديث سهل بن سعد، ومسلم رقم (422) كتاب الصلاة / باب (23) تسبيح الرجل وتصفيق المرأة إذا نابهما شيء في الصلاة. (2) رواية (في الصلاة) عند مسلم برقم (422) كتاب الصلاة /باب (23) تسبيح الرجل … من حديث أبي هريرة. (3) أخرجه البخاري في كتاب الأحكام / باب (36) الإمام يأتي قوما فيصلح بينهم / رقم (7190) عن سهل وفيه وقال – أي النبي - صلى الله عليه وسلم - - للقوم: (إذا رابكم أمر فليسبح الرجال وليصفِّح النساء) . وفي رواية (684) : (ما لي أراكم أكثرتم التصفيق، من رابه شيء في صلاته فليسبح، فإنه إذا سبح التُفت إليه، وإنما التصفيق للنساء) في كتاب الأذان باب (48) . ومسلم في كتاب الصلاة / باب (22) تقديم الجماعة من يصلي بهم إذا تأخر الإمام ولم يخافوا مفسدة بالتقديم / رقم (421) . (4) أخرجه النسائي في كتاب السهو / باب (17) التنحنح في الصلاة / رقم (1212) و (1211) ، قال الألباني: ضعيف الإسناد "، وابن ماجه في كتاب الأدب / باب (17) الاستئذان / رقم (3708) .

لقوله صلى الله عليه وسلم: (إذا كان أحدكم في الصلاة فإنه يناجي ربه فلا يبصق بين يديه ولا عن يمينه، ولكن عن شماله تحت قدمه) (1) متفق عليه. فإن كان عن شماله مأموم فإنه يبصق تحت قدمه، لما ثبت في رواية للبخاري: (فليبصق عن يساره أو تحت قدمه) (2) . وفي البخاري: أن النبي صلى الله عليه وسلم: (أخذ طرف ثوبه فبصق فيه ثم رد بعضه وقال: (أو يفعل هكذا) (3) ففي المسجد يبصق في ثوبه لأنه بقعة ظاهرة. وقد قال صلى الله عليه وسلم: (البصاق (4) في المسجد خطيئة وكفارتها دفنها) (5) فإذن في المسجد يبصق في ثوبه، وأما في غير المسجد فإنه يبصق عن يساره أو تحت قدمه. والحمد لله رب العالمين. الدرس الخامس والثمانون (يوم السبت: 12 / 4 / 1415 هـ) قال المؤلف رحمه الله: (ويسن صلاته إلى سترة قائمة كمؤخرة الرحل) هذا هو المشهور في المذهب وهو مذهب جماهير العلماء وأن السترة في الصلاة سنة وليست بواجبة. وقد اتفق أهل العلم على مشروعية السترة، والسنة ظاهرة في ذلك وأن السترة سنة في الصلاة، ولم يكن النبي صلى الله عليه وسلم يدعها حضراً ولا سفراً. وإنما اختلف العلماء في هل تجب أم لا؟ قولان:

_ (1) أخرجه البخاري في كتاب الصلاة / باب (33) حك البزاق باليد من المسجد / رقم (405) من حديث أنس، وباب (34، 35، 36، 37، 38، 39) من رقم (406) إلى (417) بألفاظ مختلفة، ومسلم في كتاب المساجد / باب (13) النهي عن البصاق في المسجد (547) إلى (551) بألفاظ مختلفة. (2) البخاري الباب السابق رقم (416) بلفظ: " وليبصق.. ". (3) صحيح البخاري الباب السابق. (4) لعلها البزاق كما في الصحيحين، وقد ورد أيضاً " فلا يبصق " في الصحيحين. (5) أخرجه البخاري في كتاب الصلاة / باب (37) كفارة البزاق في المسجد / رقم (415) ، ومسلم في كتاب المساجد / باب (13) النهي عن البصاق في المسجد.. / رقم (552) .

فذهب الجمهور: إلى أن الصلاة إلى السترة سنة. واستدلوا: بما ثبت في الصحيحين عن ابن عباس قال: (أقبلت راكباً على أتان وأنا يومئذٍ قد ناهزت الاحتلام والنبي صلى الله عليه وسلم يصلي بالناس بمنى إلى غير جدار فمررت من بين يدي بعض الصف وأرسلت الأتان ترتع فلم ينكر ذلك علي أحد) (1) وروى أحمد في مسنده عن ابن عباس: أن النبي صلى الله عليه وسلم: (صلى في فضاء وليس بين يديه شيء) (2)

_ (1) أخرجه البخاري في كتاب العلم / باب (18) متى يصح سماع الصغير / رقم (76) ، وفي كتاب الأذان / باب (161) وضوء الصبيان / رقم (861) ، وفي أبواب أخرى، ومسلم (504) . (2) قال في مجمع الزوائد ج: 2 ص: 63: " رواه أحمد وأبو يعلى وفيه الحجاج بن أرطاة وفيه ضعف ". ورواه في سنن البيهقي الكبرى ج: 2 ص: 273 (3294) حدثنا أبو محمد عبد الله بن يوسف إملاء أنبأ أبو سعيد أحمد بن محمد بن زياد البصري بمكة ح وأخبرنا أبو علي الروذباري أنبأ إسماعيل بن محمد الصفار قالا ثنا سعدان بن نصر المخرمي ثنا أبو معاوية عن الحجاج بن أرطأة عن الحكم بن عتبة عن يحيى بن الجزار عن ابن عباس رضي الله عنه قال: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى في فضاء ليس بين يديه شيء، وله شاهد بإسناد أصح من هذا عن الفضل بن عباس وسيرد بعد هذا إن شاء الله تعالى "، وعزاه صاحب المنتقى إلى أبي داود، والمنذري إلى النسائي، نيل الأوطار [3 / 5] ، ولم أجده فيهما بهذا اللفظ، وإنما هو في أبي داود [1 / 459] كتاب الصلاة / باب (114) من قال الكلب لا يقطع الصلاة / (718) عن الفضل بن عباس قال: أتانا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ونحن في بادية ومعه عباس فصلى في صحراء ليس بين يديه سترة، وحمارةٌ لنا وكلبة تعبثان بين يديه، فما بالى ذلك " وأخرجه النسائي بنحوه حديث 754..

وروى أحمد والنسائي وأبو داود عن الفضل بن عباس قال: (أتانا النبي صلى الله عليه وسلم وعباس في بادية لنا، فصلى في صحراء وليس بين يديه سترة، وحمارة وكلبة لنا تعبث بين يديه) (1) 2 - وذهب الإمام أحمد في إحدى الروايتين عنه وهو مذهب البخاري وطائفة من أهل العلم: إلى وجوب السترة. واستدلوا: بما ثبت في أبي داود والنسائي ومسند أحمد بإسناد صحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا صلى أحدكم فليصل إلى سترة وليدن منها لا يقطع الشيطان عليه صلاته) (2) وظاهر الأمر الوجوب.

_ (1) رواه داود [1 / 459] في كتاب الصلاة / باب (114) من قال الكلب لا يقطع الصلاة / (718) عن الفضل بن عباس قال: أتانا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ونحن في بادية ومعه عباس فصلى في صحراء ليس بين يديه سترة، وحمارةٌ لنا وكلبة تعبثان بين يديه، فما بالى ذلك " وأخرجه النسائي بنحوه حديث 754.. (2) أخرجه النسائي في كتاب القبلة / باب (5) الأمر الدنو من السترة / رقم (748) عن سهل بن أبي حَثْمَة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (إذا صلى أحدكم إلى سترة فليدن منها لا يقطع الشيطان عليه صلاته) ، وقال الألباني: صحيح " وأخرجه أبو داود في كتاب الصلاة / باب (108) ما يؤمر المصلي أن يدرأ عن الممر بين يديه / رقم (698) عن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " إذا صلى أحدكم فليصل إلى سترة،وليدن منها " ثم ساق معناه. أي معنى الحديث السابق وهو: " إذا كان أحدكم يصلي فلا يدع أحداً يمر … فإن أبى فليقاتله فإنما هو شيطان "، وليس فيه: " لا يقطع الشيطان عليه صلاته ".

وروى أحمد والحاكم - والحديث حسن – من حديث سبرة بن معبد الجهني أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ليستتر أحدكم في الصلاة ولو بسهم) (1) قالوا: فهذه أحاديث ظاهرها الوجوب، ولم يثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم في حديث صحيح أنه تركها حضراً ولا سفراً. وأما ما ذكره أهل القول الأول: فالحديث الأول حديث صحيح غير صريح، والحديثان بعده ضعيفان لا يثبتان عن النبي صلى الله عليه وسلم. أما كون حديث ابن عباس حديث صحيح فلثبوته في الصحيحين. أما كونه غير صريح؛ فلأنه نفى أن يكون قد صلى إلى جدار وإنما نفى أنه صلى إلى جدار ولم ينف أنه صلى إلى سترة وظاهر لفظة " غير " أنه قد صلى إلى شيء، فإن لفظة " غير" في الغالب أنها تأتي صفة وهي هنا صفة لمحذوف تقديره " شيء " أي إلى شيء غير جدار. فالحديث ليس فيه نفي السترة مطلقاً وإنما نفي أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم صلى إلى جدار يحجز بينه وبين الدواب أن تمر بين يديه.

_ (1) قال في نصب الراية ج: 2 ص: 80: " وروى البخاري في تاريخه الكبير في ترجمة سبرة بن معبد الجهني " وذكره بسنده. وفي المستدرك على الصحيحين ج: 1 ص: 382 رقم (925) حدثنا أبو العباس محمد بن يعقوب ثنا محمد بن عبد الله بن عبد الحكم ثنا حرملة بن عبد العزيز بن الربيع بن سبرة بن معبد عن أبيه عن جده قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " ليستر أحدكم صلاته ولو بسهم "، وبلفظ (926) : " استتروا بصلاتكم ولو بسهم، على شرط مسلم "، وفي مصنف ابن أبي شيبة ج: 1 ص: 24، رقم (2862) ، السنن الصغرى للبيهقي ج: 1 ص: 531 رقم (952) وفي سنن البيهقي الكبرى ج: 2 ص: 270 رقم (3276) صحيح ابن خزيمة ج: 2 ص: 13، باب (284) / رقم (810) ، ورقم (841) . الاسطوانة.

ومعلوم أن المصلي إذا صلى إلى سترة غير جدار فإن الدواب قد تمر بين يديه فيحتاج إلى دفع منه، بخلاف ما إذا صلى إلى جدار فإنه يحجز بينه وبينها فلا يحتاج إلى دفع وقد مر ابن عباس بالحمار بين يدي بعض الصف لعدم وجود الحاجز والجدار، فلم تكن الصلاة في مبنى ذي جدران يحجز المصلين عن مرور الدواب. وأما الحديث الثاني فإن فيه الحجاج بن أرطاة وهو ضعيف، وأما الحديث الثالث ففيه انقطاع وجهالة. قالوا: فهذه أحاديث ضعيفة لا تثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم وهذا حديث صحيح غير صريح، فلا يعارض أمر النبي صلى الله عليه وسلم بمثل ذلك فيبقى الأمر محكماً وأن ذلك للوجوب. ومما يقوي ذلك أمر النبي صلى الله عليه وسلم بالوقوف عن أن يمر بين يدي المصلي ونهاه عن ذلك وقال: (لو يعلم المار بين يدي المصلي ماذا عليه لكان أن يقف أربعين خير له من أن يمر بين يديه) (1) وترك السترة بين يديه ذريعة لمرور الناس بين يديه فيقعون في محرم، ويقطعون من صلاته ما يقطعون. وقد قال ابن مسعود – في المرور بين يدي المصلي -: " يقطع نصف الصلاة " (2) فإذا مر أحدهم بين يديه فإنه مع تفريطه في ذلك يذهب عنه نصف أجر صلاته. قال: (كمؤخرة الرحل)

_ (1) أخرجه البخاري في كتاب الصلاة باب (101) إثم المار بين يدي المصلي / رقم (510) ، ومسلم (507) . (2) مصنف ابن أبي شيبة ج: 1 ص: 252 باب 61 في الرجل يمر بين يدي الرجل يرده أم لا رقم 2908 حدثنا أبو عبد الرحمن بقي بن مخلد قال نا أبو بكر عبد الله بن محمد بن أبي شيبة قال حدثنا محمد بن فضيل عن محمد بن إسحاق عن عبد الرحمن بن الأسود عن أبيه قال كان ابن مسعود إذا مر أحد بين يديه وهو يصلي التزمه حتى يرده ويقول: إنه ليقطع نصف صلاة المرء مرور المرء بين يديه ". قال في فتح الباري ج: 1 ص: 584: " وقد روى بن أبي شيبة عن بن مسعود إن المرور بين يدي المصلي يقطع نصف صلاته " الاسطوانة.

ظاهره أن هذا هو القدر المجزئ وأنه مثل مؤخرة الرحل وهي ما يتكئ عليه راكب الإبل، فإنه يتكئ على خشبة نحو الذراع، فقد ثبت في مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم: (سُئل في غزوة تبوك عن سترة المصلي فقال: مثل مؤخرة الرحل) (1) وفي مسلم – أيضا – أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (يقطع الصلاة المرأة والحمار – والكلب ويقي ذلك مثل مؤخرة الرحل) (2) وظاهره هذه الأحاديث أن المجزئ – مع القدرة ذلك – أي طولاً. واختلف العلماء في قدر المؤخرة: فعن الإمام أحمد: أنه ذراع، وهو مذهب الأحناف وهو قول عطاء، قال عطاء – في سنن أبي داود - في مؤخرة الرحل قال: (ذراع فما فوق) (3) . وعن الإمام أحمد وهو مذهب الشافعية والمالكية: أنه قدر عظم الذراع أي بإخراج الكف من اليد.

_ (1) أخرجه مسلم في كتاب الصلاة / باب (47) سترة المصلي / رقم (499) عن عائشة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سئل في غزوة تبوك عن سترة المصلي؟ فقال: (كَمُؤْخِرَةِ الرَّحْلِ) . (2) أخرجه مسلم في كتاب الصلاة / باب (50) قدر ما يستر المصلي / رقم (510) عن أبي ذر قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (إذا قام أحدكم يصلي فإنه يستره إذا كان بين يديه مثل آخرةِ الرحل فإذا لم يكن بين يديه مثل آخرة الرحل فإنه يقطع صلاته الحمار والمرأة والكلب الأسود) ، ورقم (511) عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (يقطع الصلاة المرأة والحمار والكلب، ويقي ذلك مثل مُؤْخِرَةِ الرحل) . (3) أخرجه أبو داود في كتاب الصلاة / باب (102) ما يستر المصلي / رقم (686) عن عطاء قال: " آخرة الرحل ذراع فما فوقه ".

والأظهر – كما قرر ذلك الموفق – أن هذا إنما هو على سبيل التقريب لا على سبيل التحديد، وأن قول النبي صلى الله عليه وسلم: (كمؤخر الرحل) سواء كان ذلك ذراعاً فما فوق [أو] فما دونه بقليل لا حرج في ذلك وأنه ذكر على سبيل التقريب لا على سبيل التحديد. بدليل الاختلاف في مؤخرة الرحل – طولاً – في الحقيقة والواقع فإنها ليست بقدر واحد بل هي مختلفة فيها الذراع وفيها ما هو فوق ومنها ما هو دون. فعلى ذلك: القدر المجزئ في الطول أن تكون كمؤخرة الرحل ذراعاً فما فوق أو عظم الذراع فما فوق. وأما من حيث غلظها، فإن الحديث الذي في المستدرك ومسند أحمد – يدل على أنه لا يشترط لها حجماً محدداً في الغلظ بل لو كانت كسهم أو نحوه فلا بأس – في قوله: (ليستتر أحدكم في الصلاة ولو بسهم) (1) . ولأن النبي صلى الله عليه وسلم – كما ثبت في الصحيحين -: (كان إذا خرج يوم العيد أمر بالحربة فتوضع بين يديه فيصلي إليها والناس وراءه وكان يفعل ذلك في السفر ومن ثم اتخذها الأمراء) (2) والحربة أدق من مؤخرة الرحل. وثبت أنه كان يصلي إلى العنزة كما ثبت في البخاري (3) وغيره. فعلى ذلك: كل ذلك جائز ولا يشترط أن يكون محدداً في العرض – بل لو كان ذلك دقيقاً فلا حرج. وهذا حيث كان قادراً، وإلا فلو كانت دون ذلك وهي التي قد قدر عليها فإنه لا بأس بذلك ولا حرج. قال: (فإن لم يجد شاخصاً فإلى خط)

_ (1) تقدم قريباًَ. (2) أخرجه البخاري في كتاب الصلاة / باب (90) سترة الإمام سترة من خلفه / رقم (494) ، وانظر (972) ، ومسلم (501) . (3) أخرجه البخاري في كتاب العيدين / باب (14) حمل العنزة أو الحربة بين يدي الإمام يوم العيد / رقم (973) عن ابن عمر قال: " كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يغدو إلى المصلى والعنَزَة بين يديه تُحمل وتنصب بالمصلى بين يديه، فيصلي إليها ".

أي إن لم يجد شاخصاً يضعه بين يديه من خشب أو حجر أو شجر أو سارية أو نحو ذلك، ومثله لو صلى وبينه وبين القبلة آدمي، فقد ثبت في ابن أبي شيبة بإسناد صحيح: أن ابن عمر يقولون لنافع إن لم يجد سترة: (ولني ظهرك) (1) وقد صلى النبي صلى الله عليه وسلم إلى عائشة (2) – كما ثبت في الصحيحين –، وكان الصحابة يتبادرون سواري المسجد فيصلون إليها (3) كما في البخاري. وثبت في النسائي أنه صلى إلى شجرة (4) .

_ (1) مصنف ابن أبي شيبة ج: 1 ص: 250 رقم (2878) حدثنا أبو بكر قال نا وكيع عن هشام بن الغاز عن نافع قال كان ابن عمر إذا لم يجد سبيلا إلي سارية من سواري المسجد قال لي ولني ظهرك " الاسطوانة. قال في نصب الراية ج: 2 ص: 96: " وأما ما روى من النهي خلف النائم والمتحدث فأخرجه أبو داود وابن ماجة عن بن عباس ان النبي صلى الله عليه وسلم قال لا تصلوا خلف النائم ولا المتحدث انتهى في سند أبي داود رجل مجهول وفي سند بن ماجة أبو المقدام هشام بن زياد البصري لا يحتج بحديثه وقال الخطابي هذا الحديث لا يصح عن النبي صلى الله عليه وسلم وبسط القول فيه ". (2) أخرجه البخاري في كتاب الصلاة / باب (103) الصلاة خلف النائم / رقم (512) وانظر (513) . (3) صحيح البخاري ج: 1 ص: 225 14 باب كم بين الأذان والإقامة ومن ينتظر الإقامة رقم (599) . وانظر البخاري رقم (504) . (4) السنن الكبرى ج: 1 ص: 270 (823) أنبأ محمد بن المثنى قال حدثنا محمد قال حدثنا شعبة عن أبي إسحاق عن حارثة بن مضرب عن علي قال: لقد رأيتنا ليلة بدر وما فينا إنسان إلا نائم إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم فإنه كان يصلي إلى شجرة ويدعو حتى أصبح " الاسطوانة. قال الحافظ في فتح الباري ج: 1 ص: 580 " رواه النسائي بإسناد حسن ". ولم أجده في سنن النسائي " المجتبى "، وقد تقدم صْ 159.

فالمقصود: أنه يصلي إلى شاخص مثل مؤخرة الرحل فما فوق ولا ينظر إلى كونه دقيقاً أو غليظ فإن تحديد ذلك ليس بشرط في الإجزاء بل هو ليس شرطاً في ثبوت السنية والاستحباب؛ لثبوت ذلك كله عن النبي صلى الله عليه وسلم. وقوله: (فإلى خط) : دليله: ما رواه أحمد وأبو داود: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا صلى أحدكم فليجعل تلقاء وجهه شيئاً فإن لم يجد فلينصب عصا، فإن لم يجد فليخط خطاً ثم لا يضره ما مَّر بين يديه) (1) لكن الحديث إسناده ضعيف مضطرب، ففيه جهالة، مع الاضطراب الوارد في سنده وهو من حديث أبي محمد محمد بن عمرو بن حُريث (2) عن جده، على أثبت الأسانيد في ذلك وهما مجهولان. ولذا ضعفه ابن عيينة والبخاري وغيرهم، فالحديث ضعيف. وكرهه الشافعي في قوله الجديد، وكذلك الأحناف والمالكية، وكرهه – كذلك – الإمام أحمد في إحدى الروايتين عنه – وهو الراجح؛ لأن الحديث الوارد في الخط ضعيف لا يثبت. فعلى ذلك: لا يشرع له أن يخط خطاً فأن لم يجد شيئاً شاخصاً فإنه يصلي حسب حاله، ويكون قد سقط عنه وجوب ذلك أو سنيته على القول بها. والمشهور عن الإمام أحمد: أن الخط يقوس كالهلال. وقيل: أنه يوضع طولاً. وقيل: عرضاً.

_ (1) أخرجه أبو داود في كتاب الصلاة / باب (103) الخط إذا لم يجد عصا / رقم (689) قال: " حدثنا مسدد، حدثنا بشر بن المفضل، حدثنا إسماعيل بن أمية، حدثني أبو عمرو بن محمد بن حريث، أنه سمع جده حريثا يحدث عن أبي هريرة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: (إذا صلى أحدكم فليجعل تلقاء وجهه شيئا، فإن لم يجد فلينصب عصا، فإن لم يكن مع عصا فليخططْ خطاً لا يضره ما مر أمامه) . (2) كذا في الأصل، ولعل الصواب: أبي محمد بن عمرو بن حريث، قال في التقريب: " أبو عمرو بن محمد بن حُريث، أو ابن محمد بن عمرو بن حريث، وقيل: أبو محمد بن عمرو بن حريث، مجهول من السادسة. / د ق ".

ولا دليل على شيء من ذلك فالخط مطلق، وإن كان أقربها أن يكون عرضاً؛ لأنه ظاهر الإطلاق، لكن الحديث ضعيف كما تقدم. وفي قوله: (فليجعل تلقاء وجهه) : ظاهره أن السترة تكون بين يديه وهو ظاهر الأحاديث، كما تقدم في المتفق عليه من حديث ابن عمر وفيه: " أن النبي - صلى الله عليه وسلم - يأمر بالحربة فتوضع بين يديه " ظاهر ذلك أنها تكون قبلته وتلقاء وجهه. - لكن المشهور في المذهب أنه لا يستحب أن يصمد إليها صمداً أي لا يتوجه إليها توجهاً تاماً بل يجعلها إلى حاجبه الأيمن أو الأيسر. لما روى أحمد وابن ماجه (1) من حديث المقداد بن الأسود: أن النبي صلى الله عليه وسلم: (ما صلى إلى عود ولا عمود ولا شجرة إلا جعله تلقاء حاجبه الأيسر أو الأيمن ولا يصمد له صمداً) (2)

_ (1) كذا في الأصل، ولعل الصواب: أبو داود [1 / 445] رقم (693) . (2) سنن أبي داود ج: 1 ص: 184 106 باب إذا صلى إلى سارية أو نحوها أين يجعلها منه 693 حدثنا محمود بن خالد الدمشقي ثنا علي بن عياش ثنا أبو عبيدة الوليد بن كامل عن المهلب بن حجر البهراني عن ضباعة بنت المقداد بن الأسود عن أبيها قال ثم ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي إلى عود ولا عمود ولا شجرة إلا جعله على حاجبه الأيمن أو الأيسر ولا يصمد له صمدا ". الدراية في تخريج أحاديث الهداية ج: 1 ص: 181 أخرجه أبو داود وأحمد والطبراني وابن عدي في ترجمة الوليد بن كامل عن المهلب ابن حجر عنها وأخرجه ابن الموطأ من وجه آخر عن الوليد فقال عن ضبيعة بنت المقدام بن معد يكرب عن أبيها والإضطراب فيه من الوليد وهو مجهول " نصب الراية ج: 2 ص: 83 ورواه أحمد في مسنده والطبراني في معجمه وابن عدي في الكامل وأعله بالوليد بن كامل ونقل عن البخاري أنه قال عنده عجائب وأما بن القطان فإنه ذكر فيه علتين علة في إسناده وعلة في متنه أما التي في إسناده فقال إن فيه ثلاثة مجاهيل فضباعة مجهولة الحال ولا أعلم أحدا ذكرها وكذلك المهلب بن حجر مجهول الحال والوليد بن كامل من الشيوخ الذين لم يثبت عدالتهم وليس له من الرواية كثير شيء يستدل به على حاله وأما التي في متنه فهي أن أبا علي بن الموطأ رواه في سننه هكذا حدثنا سعيد بن عبد العزيز فلهذا ثنا أبو تقي هشام بن عبد الملك ثنا بقية عن الوليد بن كامل ثنا المهلب بن حجر البهراني عن ضبيعة بنت المقدام بن معدي كرب عن أبيها قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا صلى أحدكم إلى عمود أو سارية أو شيء فلا يجعله نصب عينيه وليجعله على حاجبه الأيسر انتهى قال بن الموطأ أخرج هذا الحديث أبو داود عن رواية علي بن عياش عن الوليد بن إسناده ومتنه فإنه عن ضباعة بنت المقداد بن الأسود عن أبيها وهذا الذي روى بقية هو عن ضبيعة بنت المقدام بن معدي كرب عن أبيها وذاك فعل وهذا قول قال بن القطان فمع اختلافهما في المتن بقية يقول ضبيعة بنت المقدام وابن عياش يقول ضباعة بنت المقداد فالوهن من حيث هو اختلاف على الوليد بن كامل ومورث للشك فيما كان عنده من ذلك على ضعف الوليد بن كامل وأنه يروى عن ضباعة بنت المقداد وأما ضبيعة بنت المقدام فجاء هو بأمر ثالث وذلك كله دليل على الاضطراب والجهل بحال الرواة انتهى "

لكن الحديث ضعيف فيه: الوليد بن كامل البجلي الشامي وهو ضعيف فلا يستدل به. ونبقى على ظواهر الأحاديث المتقدمة، وأنه يجعل السترة إلى تلقاء وجهه دون ما تقدم. * واعلم أن ظاهر الأحاديث أن السترة مشروعة في مكة وغيرها من غير استثناء لمكة بل هي كغيرها في مشروعية السترة ورد لمار بين يدي المصلي وغير ذلك لعمومات النصوص الشرعية الواردة في ذلك. ومعلوم أن ترك البيان عن وقت الحاجة لا يجوز، فلو كان الاستثناء وارداً لصح في ذلك حديث، ولم يثبت عنه في ذلك شيء. والمشهور في المذهب خلاف ذلك وأنه لا بأس بترك السترة في مكة، وكذلك رد المار لا يكون فيها لازدحام الناس فيها. ومذهب الشافعية والمالكية خلاف ذلك وأن مكة كغيرها، وهو الراجح لظاهر الأحاديث. وأما كون مكة تكون محلاً للازدحام فإننا نخصص الأوقات التي يزدحم الناس فيها بحيث يشق رد المار كأن يكون ذلك في حج أو في مواسم، ففي هذه الحال لا بأس بالقطع لقوله تعالى: {فاتقوا الله ما استطعتم} وهذه مشقة عامة، بخلاف المشقة الخاصة التي يلحق الواقف نفسه فيها مشقة خاصة لا يترتب عليها إلا فوات بعض المصالح المترتبة عليه أو نحو ذلك، أما هنا فقد ترتب عليها مفاسد كبيرة وأذية لعموم الناس. فحينئذ لا يقال بالمنع فيها عند ازدحام الناس. وأما إن لم يكن هناك ازدحام شديد وكانت مكة كغيرها من المساجد في الازدحام فإنه يجب وضع السترة ورد المار بين يدي المصلي. قال: (وتبطل بمرور كلب أسود بهيم فقط) البهيم هو الذي لا يخالطه غير لونه الظاهر فالأسود البهيم هو الذي ليس فيه إلا السواد، وهذا في كل الألوان فالبهيم هو ما كان لوناً لا يخالط بغيره. فالكلب الأسود البهيم، ومثله – على الراجح – ذي النقطتين وهو ما يكون بين عينه نقطتان فهو شيطان كما ثبت في الحديث وأمر بقتله، فهذه كلها قاطعة للصلاة.

ودليل ذلك: ما ثبت في مسلم من حديث أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (يقطع الصلاة المرأة والحمار والكلب ويقي ذلك مثل مؤخرة الرحل) (1) وفي مسلم من حديث أبي ذر الغفارى قال: (والكلب الأسود شيطان) (2) وفيه أنه قد قيد الكلب بالأسود. وهذا الحديث المتقدم ظاهره أن هذه الثلاث تقطع الصلاة وهو رواية عن الإمام أحمد " الرواية الأخرى " وهو اختيار المجد وشيخ الإسلام وتلميذه، وقال ابن تيمية: " وهو مذهب أحمد " (3) أي هو المذهب الذي ينبغي أن يثبت إليه ففيه قولان في المذهب: القول الأول: أنه لا يقطع الصلاة إلا الكلب الأسود البهيم. القول الثاني: أن الثلاث كلها قاطعة للصلاة لعموم الحديث المتقدم وهو الأرجح. وإنما استثنى - من القول بقطع الصلاة - الحنابلة الحمار والمرأة؛ لأن الحمار قد تقدم في حديث ابن عباس أنه مر بين يدي بعض الصف فلم ينكر ذلك. فدل على أن مروره بين يدي المصلي لا يقطع حيث لم ينكر ذلك. وأما كون المرأة لا تقطع الصلاة: فلما ثبت في الصحيحين عن عائشة: (أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصلي من الليل وهي معترضة بين يديه اعتراض الجنازة) (4) . وحيث ثبت ذلك فلا يبقى إلا الكلب الأسود البهيم فهو قاطع للصلاة دون غيره. والراجح ما تقدم: واستدلوا بالعموم المتقدم. وأجابوا عن الحديثين:

_ (1) أخرجه مسلم في كتاب الصلاة / باب (50) قدر ما يستر المصلي / رقم (510) عن أبي ذر قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (إذا قام أحدكم يصلي فإنه يستره إذا كان بين يديه مثل آخرةِ الرحل فإذا لم يكن بين يديه مثل آخرة الرحل فإنه يقطع صلاته الحمار والمرأة والكلب الأسود) ، ورقم (511) عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (يقطع الصلاة المرأة والحمار والكلب، ويقي ذلك مثل مُؤْخِرَةِ الرحل) . وقد تقدم. (2) الباب السابق. (4) تقدم.

أما حديث ابن عباس: فإنه قد مر بين يدي بعض المأمومين من الصف والإمام كان بين يديه سترة – كما تقدم ترجيحه – وحيث كان ذلك فإن سترة الإمام سترة لمن خلفه، فمرور شيء من قاطعات الصلاة بين يدي المأمومين - وهم يأتمون بالإمام، والإمام له سترة - هذا لا يقطع صلاة المأموم. فسترة الإمام سترة لمن خلفه، فإذا مر بين يديه شيء فكأنه قد مر من وراء السترة لأنه غير مبطل لصلاة الإمام فلم يكن مبطلاً لصلاة المأموم. واستدلوا: بحديث ابن عمر المتقدم أن النبي صلى الله عليه وسلم: (كان يأخذ الحربة فيضعها بين يديه ويصلي وراءه الناس) (1) وليس فيه أن الناس كانوا يتخذون السترة، وإنما كانوا يأتمون بالنبي صلى الله عليه وسلم فيصلون وراءه وقد اتخذ سترة ولا سترة لأحد منهم، فدل على أن سترة الإمام سترة لهم، وهو مذهب عامة أهل العلم. وبوب البخاري باباً بهذا اللفظ: (وأن سترة الإمام سترة لمن خلفه) وفيه حديث عند الطبراني في الأوسط (2) فيه سويد بن عبد العزيز وهو ضعيف، ورواه عبد الرزاق في مصنفه عن ابن عمر (3) بهذا اللفظ وإسناده ضعيف أيضاً. وعامة أهل العلم عليه؛ للحديث المتفق عليه المتقدم. فعليه: هذا الحديث الذي رواه ابن عباس: إنما لم تبطل صلاة البعض من المأمومين حيث مر الأتان بين أيديهم لكونهم مؤتمين بإمام والإمام له سترة وسترة الإمام سترة لمن خلفه.

_ (1) تقدم. (2) مجمع الزوائد ج: 2 ص: 62 باب سترة الإمام سترة من خلفه عن أنس بن مالك عن النبي صلى الله عليه وسلم قال سترة الإمام سترة من خلفه رواه الطبراني في الأوسط وفيه سويد بن عبد العزيز وهو ضعيف " وقال في موضع آخر: " مجمع على ضعفه ". (3) مصنف عبد الرزاق ج: 2 ص: 18 2317 عبد الرزاق عن عبد الله بن عمر عن نافع عن ابن عمر قال سترة الإمام سترة من ورائه قال عبد الرزاق وبه آخذ وهو الأمر الذي عليه الناس

وأما اعتراض عائشة بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم اعتراض الجنازة فإنها ماكثة والكلام في المار. والفرق بينهما واضح: فإن المرور هو التجاوز بين المصلي وبين سترته. وأما الماكث فهو باقي أمامه قبلة له كالشيء الذي يستتر به وقد تقدم قول ابن عمر (ولني ظهرك) (1) . ومعلوم أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يرد المار بين يديه من بهيمة ونحو ذلك، ولو كانت ثابتة مستقرة لما فعل ذلك؛ لما ثبت أنه قد صلى إلى راحلته ولو كانت مارة غير ماكثة لدفعها النبي صلى الله عليه وسلم. واعلم أن المستحب في السترة أن تكون عن المصلي ثلاثة أذرع فيما بين قدمه والسترة. أو بينها وبين مواضع سجوده ممر شاة كل ذلك ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم. فقد ثبت في البخاري عن ابن عمر: (أن بلالاً أخبره أن النبي صلى الله عليه وسلم لما دخل البيت كان بينه وبين الجدار ثلاثة أذرع) (2) وفي الصحيحين من حديث سهل بن سعد: (كان بين مصلى النبي صلى الله عليه وسلم والجدار ممر شاة) (3) أي بين موضع سجوده وبين الجدار المستتر به ممر شاة. فعلى ذلك: السترة يدنو منها المصلي فتكون منه على قدر ثلاثة أذرع أو بين السترة وبين موضع سجوده ممر شاة. فإن لم يكن بين يديه سترة فإنه لا يجوز المرور بين يديه ويجب عليه أن يدفع المار بين يديه كما تقدم. وموضع ذلك حيث كان يمكنه دفعه بحيث أنه يمكنه أن يمد يده إليه أو يتقدم يسيراً فيدفعه، فمثل هذا الموضع لا يجوز المرور، وإذا مر بينه وبين ذلك شيء مما تقدم فإنه يبطل الصلاة أو ينقصها.

_ (1) تقدم. (2) أخرجه البخاري في كتاب الصلاة / باب (97) / رقم (506) ، وفي باب (51) الصلاة في الكعبة / رقم (1522) وفي نسخة رقم (1599) من كتاب الحج، وأخرجه مسلم (1329) . (3) أخرجه البخاري في كتاب الصلاة /باب (19) قدر كم ينبغي أن يكون بين المصلي والسترة / رقم (496) .

فالقدر حيث لم يضع سترة بحيث أنه يمكنه من غير إخلال بالصلاة أن يتقدم تقدماً يسيراً فيدفع، هذا تقريباً ثلاثة أذرع. وذهب بعض أهل العلم: إلى أن ذلك يحدد بقدر رمي حجر، وهذا ضعيف. والراجح ما تقدم من أنه ثلاثة أذرع ونحوها. * والمشهور عند جمهور أهل العلم أن الصلاة لا تنقطع بشيء مما تقدم ذكره. واستدلوا بما روى أبو داود أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا يقطع الصلاة شيء وادرؤوا ما استطعتم) (1) لكن الحديث فيه مجالد بن سعيد وهو ضعيف فلا يعارض به ما تقدم من الأحاديث الصحيحة. فعلى ذلك: الراجح: أن الحمار والكلب الأسود والمرأة الحائض مرورهم يقطع الصلاة. وقد ورد في أبي داود والنسائي بإسناد صحيح: تقييد المرأة الحائض (2) ، وإنما يراد بالحائض البالغة. فإن لم تكن حائضاً فإنها تنهى عن المرور وتدفع لكنها لا تقطع الصلاة. قال: (وله التعوذ عند آية وعيد والسؤال عن آية رحمة ولو في فرض) لما روى مسلم من حديث حذيفة – في قصة قيامه الليل: (أن النبي صلى الله عليه وسلم: كان إذا مر بآية فيها تسبيح سبح، وإذا مر بسؤال سأل وإذا مر بتعوذ تعوذ) (3)

_ (1) أخرجه أبو داود في كتاب الصلاة، باب (115) من قال لا يقطع الصلاة شيء / رقم (719) بلفظ: " لا يقطع الصلاة شيء وادرؤوا ما استطعتم فإنما هو شيطان ". (2) أخرجه أبو داود في كتاب الصلاة / باب (110) ما يقطع الصلاة / رقم (703) ، والنسائي حديث 752. سنن أبي داود [1 / 452] . (3) أخرجه مسلم في كتاب صلاة المسافرين.. / باب (27) استحباب تطويل القراءة في صلاة الليل / رقم (772) عن حذيفة قال: " صليت مع النبي - صلى الله عليه وسلم - ذات ليلة فافتتح البقرة فقلت يركع عند المئة … إذا مر بآية فيها تسبيح سبح وإذا مر بسؤال سأل، وإذا مر بتعوذ تعوذ ثم ركع.. ".

وقوله: (ولو فرض) قياساً على النفل، فإن الحديث ثابت في النفل وما ثبت نفلاً فهو ثابت فرضاً إلا بدليل يخصص ذلك. وكره ذلك الأحناف والمالكية وقالوا: إنما هو خاص في النفل دون الفرض، فلا يستحب له في الفرض. وهذا قوي في الغالب، فإن الغالب في فعل ذلك أن فيه إشقاقا (1) ً على المأمومين، فوقوف الإمام عند الرحمة يسألا والعذاب يستعيذ منه هذا يكون فيه إطالة على المأمومين فيكون فيه مشقة، والمشروع في الصلاة الجماعية أن يخففها الإمام بحيث لا يشق على المأمومين. لذا لم يُنقل ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم ولو كان مثل ذلك ثابت في الفرض لنقل لنا ذلك نقلاً بيناً. وأما المأموم فإن في فعل ذلك انشغالاً عن الإمام في متابعة قراءته، وقد قال تعالى: {فإذا قرئ القرآن فاستمعوا له وأنصتوا} (2) فكان الأولى عدم فعله في الفرض كما تقدم، لكن لو تبين أنه ليس في فعله مشقة على المأمومين، كأن يكون المأمومون محصورين بعدد يعلم أن لا يشق عليهم فإنه لا معنى لكراهية ذلك؛ لأن الأصل أن ما ثبت في الفرض فهو ثابت في النفل. وحينئذ: فيشرع للمأموم ذلك. فإذن: الأصل أو الغالب أن في فعله مشقة على المأمومين، وفعله للمأموم يشغله عن متابعة قراءة الإمام أو عن تمامها، فإن فعلها الإمام حيث لا مشقة فلا ينبغي القول بكراهيتها. وحينئذ يفعلها المأموم ما دام الإمام يسكت لها، فسكوت الإمام لها وفعل المأموم لها أثناء السكوت لا يشغله عن متابعة قراءته. والحمد لله رب العالمين. الدرس السادس والثمانون (يوم الأحد: 13 / 4 / 1415هـ) فصل قال المؤلف رحمه الله تعالى: (وأركانها) أي أركان الصلاة. والأركان: جمع ركن وهو جانب الشيء الأقوى وقد تقدم الفارق بينه وبين الشرط. أن الشرط هو الفرض المرتبط بالصلاة من غير ماهيتها وغير حقيقتها. وأما الركن فهو المرتبط بها وهو من حقيقتها وذاتها.

_ (1) أي مشقة.

فالنية من شروط الصلاة وهي قضية خارجة عن حقيقة الصلاة، وأما الركن فهو من حقيقتها وذاتها كالركوع والسجود ونحو ذلك. والركن هو الفرض في تعبير بعض فقهاء الحنابلة وهذا على التفريق بين الفرض والواجب كما هو مذهب طائفة من أصحاب الإمام أحمد. والركن لا يسقط سهواً ولا عمداً، بخلاف الواجب فإنه يسقط سهواً ويجبر بالسجود، فأركان الصلاة لا تسقط سهواً ولا عمداً وسيأتي بيان ذلك في سجود السهو. قال: (القيام) هذا هو الركن الأول من أركان الصلاة وهو القيام مع القدرة، فهو فرض في الفريضة بإجماع العلماء لقوله تعالى: {وقوموا لله قانتين} (1) وقوله صلى الله عليه وسلم في البخاري من حديث عمران بن حصين: (صل قائماً فإن لم تستطع فقاعداً فإن لم تسطع فعلى جنب) (2) . وقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم به المسيء صلاته وكان النبي صلى الله عليه وسلم يفعله، وقال: (صلوا كما رأيتموني أصلي) (3) . وهو فرض بالإجماع مع القدرة لا مع العجز فإن العجز يسقط الواجبات. وهو فرض في الفريضة دون النافلة، وقد تقدم جواز صلاة النافلة على الراحلة، فالقعود جائز هناك لكونها نافلة. وقد اختلف أهل العلم في حقيقة القيام: 1- فقال الحنابلة: حقيقته: ما لم يصلِّ راكعاً، فإذا لم يثبت ركوعه فهو قائم قياماً مجزئـ[ـاً] . فعليه: لو انحنى بحيث لا تصل راحتاه إلى ركبته وإن كان قريباً إلى ذلك فإن القيام يجزئ عنه. 2- وقال الشافعية: هو الانتصاب أي انتصاب فقار الظهر فإذا كانت منتصبة وإن كان هناك انحناء يسير كأن يكون قد طأطأ رأسه وكأن [يكون] في ظهره انحناء يسير فإن هذا مجزئ.

_ (1) سورة البقرة. (2) أخرجه البخاري في كتاب تقصير الصلاة / باب (19) إذا لم يطق قاعداًَ صلى على جنب / رقم (1117) . (3) أخرجه البخاري في كتاب الأذان / باب (18) الأذان للمسافر إذا كانوا جماعة.. (631)

وما ذكروه هو الأظهر: وهو أن يكون قائماً في العرف وهو أن يكون منتصب الظهر، والانحناء اليسير معفو عنه لأن حقيقة القيام ثابتة له عرفاً. وعلى هذا: فلو انحنى انحناء يقرب من الركوع فإن هذا ليس بقيام مجزئ، فلا يجزئه. والواجب والفرض عليه هو قيام مثله، فإن كان في ظهره شيء من الحُدبة أو كان في سجن قصير سقفه، فالواجب عليه أن يقوم بقدر استطاعته وإن كان فيه انحناء لقوله تعالى: {فاتقوا الله ما استطعتم} (1) فهذا هو قيام مثله. * وهل يجزئه أن يكون قائماً مستنداً إلى شيء أم لا؟ لها حالتان: الحالة الأولى: أن يكون على هيئة المتعلق بحيث تكون القدمان لا عمل لهما في القيام مطلقاً، بحيث لو أزيلت قدماه لم يقع، فمثل هذا ليس بقيام على الإطلاق ولا يجزئ بلا خلاف بين أهل العلم فلا خلاف فيه. الحالة الثانية: أن يستند إلى جدار أو عصا أو نحوه، وكان بحيث لو أزيل هذا الجدار أو العصا لاختل قيامه فسقط، ففيه قولان لأهل العلم: 1- القول الأول، وهو قول جمهور أهل العلم: أن الصلاة تبطل. وعليه: لو كان الرجل قادراً على القيام فانتصب مستنداً إلى عصا أو جدار، فلا يجزئ عنه في مذهب جمهور أهل العلم، وعليه فالصلاة باطلة؛ لأنه ترك القيام مع القدرة عليه. 2- القول الثاني، وهو وجه للشافعية اختاره النووي وغيره قالوا: القيام مجزئ عنه؛ لأنه قائم قد فعل القيام، وكونه مستنداً إلى شيء لا يؤثر هذا الحكم؛ لأن القيام قد ثبت، فسواء كان قائماً بنفسه أو قائماً بغيره فقد ثبت القيام وهذا هو الواجب عليه. وهذا القول هو الأرجح، لأن هذا القيام صحيح، ولا ننظر بعد ذلك هل هو قام بنفسه من غير اعتماد على غيره أو كان بالاعتماد على الغير. فهو قيام صحيح فحقيقة القيام موجودة فيها. واعلم أن العاجز عن القيام إن كان يمكنه أن يقوم على هذه الصورة فيجب عليه فعل ذلك.

وهو المشهور في مذهب الحنابلة وأصح الوجهين في مذهب الشافعية. أي لا يستطيع القيام بنفسه لكن يستطيع القيام (1) على عصا ونحوه فيجب عليه ذلك؛ لأنه قادر على القيام وقد اتقى الله ما استطاع، ولو لم يفعل بطلت صلاته فلا يصح فيه القعود، لأن هذا قيام صحيح، وحيث كان قياماً صحيحاً فيجب عليه فعله وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب فيجب أن يعتمد على عصا أو نحوه. - وهناك وجه للشافعية يقدم وجوب ذلك وفرضيته عليه. وهذا يبنى على المسألة السابقة. فحيث قلنا: إنه ليس بقيام مجزئ فلا يجب عليه؛ لأنه في الحقيقة ليس بقائم وهو حيث جلس فقد اتقى الله ما استطاع، ولا فائدة من اعتماده على شيء؛ لأنه لا يعد قائماً. والراجح ما تقدم في المسألتين كلتيهما. قال: (والتحريمة) هي ركن من أركان الصلاة وقد تقدم الكلام عليها في صفة الصلاة. قال: (والفاتحة) لقوله صلى الله عليه وسلم: (لا صلاة لمن لم يقرأ بأم الكتاب) (2) وقد تقدم الكلام عليها في صفة الصلاة. قال: (والركوع) وهو ركن، لقوله تعالى: {اركعوا واسجدوا} (3) ولقوله صلى الله عليه وسلم – في حديث المسيء صلاته -: (ثم اركع حتى تطمئن راكعاً) (4) . وقد تقدم ذكر صفته المستحبة. وأما القدر المجزئ فيه فهو – عند جمهور أهل العلم – هو: أن ينحني بحيث تمس راحتاه ركبتيه فإذا مست الراحتان الركبتين فهذا هو القدر المجزئ منه.

_ (1) في الأصل: بالقيام. (2) أخرجه البخاري في كتاب الأذان، باب (95) وجوب القراءة للإمام والمأموم (756) بلفظ: " عن عبادة بن الصامت: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: (لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب) . وأخرجه مسلم (394) . وقد تقدم. (3) سور الحج 77. (4) تقدم.

وهذا حيث كان منتصباً في رجليه غير حان أو مقدم لركبتيه، أما إذا قدم ركبتيه فلا، لأنه إذا مس بالراحتين حيث قَدَّم الركبتين فهذا المس لم يحصل بسبب الانحناء وهو الركوع، وإنما حصل بسبب تقديم الركبتين. فعليه: تنصب الرجلان وتكون الركبتان في موضعهما الطبيعي غير مقدمتين، فينحني حتى تمس الراحتان الركبتين – هذا هو القدر المجزئ عند جماهير أهل العلم؛ لأن هذا هو حقيقة الركوع، فإن حقيقة الركوع هو الانحناء. وليتميَّز عن القيام فإنا نحتاج إلى أن يكون ذلك على هذه الصورة المتقدمة. وما ذكروه من الاستدلال في الحقيقة، غير واضح وينبغي الاستدلال بما ثبت في حديث المسيء صلاته في أبي داود وغيره – وفيه أن النبي صلى الله عليه وسلم: (أمره أن يضع يديه على ركبتيه) وفي رواية لابن حبان وابن خزيمة: (فضع راحتيك على ركبتيك) (1) .

_ (1) سنن أبي داود ج: 1 ص: 227 رقم (859) عن رفاعة بن رافع بهذه القصة قال: (إذا قمت فتوجهت إلى القبلة فكبر ثم اقرأ بأم القرآن وبما شاء الله أن تقرأ وإذا ركعت فضع راحتيك على ركبتيك …) . صحيح ابن حبان ج: 5 ص: 206 رقم (1887) : عن ابن عمر قال جاء رجل من الأنصار إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله كلمات أسأل عنهن قال اجلس وجاء رجل من ثقيف فقال يا رسول الله كلمات أسأل عنهن فقال صلى الله عليه وسلم سبقك الأنصاري فقال الأنصاري إنه رجل غريب وإن للغريب حقا فابدأ به فأقبل على الثقفي فقال إن شئت أجبتك عما كنت تسأل وإن شئت سألتني وأخبرك فقال يا رسول الله بل أجبني عما كنت أسألك قال جئت تسألني عن الركوع والسجود والصلاة والصوم فقال لا والذي بعثك بالحق ما أخطأت مما كان في نفسي شيئا قال فإذا ركعت فضع راحتيك على ركبتيك ثم فرج بين أصابعك … ".

وحيث قلنا: إن الفعل واقفاً – ليس بواجب – كما هو مذهب الجمهور وهو أن وضع الراحتين على الركبتين ليس بواجب وإنما الواجب هو الانحناء. فحيث قلنا بذلك فإنه لابد وأن يكون متمكناً من وضع الراحتين على الركبتين ولا يكون ذلك إلا بالانحناء المتقدم الذي ذكره الجمهور لكنهم لا يوجبون وضع الراحتين على الركبتين. وحديث المسيء صلاته يوجب ذلك وبفرضه وإلا فحقيقة الركوع في اللغة مجرد الانحناء، فالانحناء في الحقيقة ركوع وإن لم يصل الراحتان إلى الركبتين، لكن حديث المسيء صلاته يدل على فرضية وضع الراحتين على الركبتين أو على قول الجمهور يدل على أنه لابد أن يتمكن من وضع الراحتين على الركبتين. فعلى ذلك: حقيقة الركوع أن ينحني انحناء بحيث إذا مد يديه والمراد بذلك حيث كانت اليدان ليس فيهما طول أو قصر بل هما معتدلان في الخلقة، فمدهما فوضع الراحتين على الركبتين فهذا هو المجزئ. قال: (والاعتدال عنه) لقوله صلى الله عليه وسلم: - في حديث المسيء صلاته -: (ثم ارفع حتى تعتدل قائماً) (1) . وما قلناه في القيام قبل الركوع يقال في القيام بعد الركوع وأن الفرض فيه أن ينتصب قائماً بحيث تكون فقار ظهره منتصبة. قال: (والسجود على الأعضاء السبعة) تقدم الكلام عليه، وفيه حديث ابن عباس، وهو مذهب الحنابلة من فرضية السجود على الأعضاء السبعة. قال: (والاعتدال عنه) لقوله في حديث المسيء صلاته: (ثم اجلس حتى تطمئن جالساً) (2) قال: (والجلسة بين السجدتين) لقوله صلى الله عليه وسلم: (ثم اجلس حتى تطمئن جالساً) (3) ولم أر لفقهاء الحنابلة ذكر [اً] للقدر المجزئ في الجلوس كما ذكروا القدر المجزئ في القيام ونحوه. ورأيت عند فقهاء الشافعية: أن الواجب هو مطلق الجلوس.

_ (1) أخرجه البخاري في كتاب الاستئذان، باب من رد فقال: عليك السلام (6251) ، وأخرجه مسلم (397) . (2) تقدم قريباً. (3) تقدم قريباً.

فإذا تورك أو افترش أو مد رجليه أو نصب أحد رجليه أو نحوه فإنه يجزئ عنه في المواضع كلها التي فيها الجلوس كالتشهد الأول والثاني والجلسة بين السجدتين فهذه المواضع كلها القدر المجزئ فيها مطلق الجلوس. وسكوت الحنابلة يدل على مثل ذلك وأن القدر المجزئ في الجلوس هو مطلقه. والقدر المجزئ هو مطلق الجلوس؛ لأن الشارع أوجب الجلوس، فأي جلوس فعله قد صح منه الجلوس، والقدر المستحب تقدم الكلام عليه: من الافتراش في موضعه، والتورك في موضعه، والإقعاء بين السجدتين. قال: (والطمأنينة في الكل) لحديث المسيء صلاته: (ثم اركع حتى تطمئن راكعاً ثم ارفع حتى تطمئن قائماً ثم اسجد حتى تطمئن ساجداً ثم ارفع حتى تطمئن جالساً …) (1) الحديث. ولقول حذيفة – لما رأى رجلاً لا يتم ركوعه ولا سجوده قال له: (ما صليت ولو مت مت على غير الفطرة التي فطر [الله] عليها محمد صلى الله عليه وسلم) (2) . *واختلف فقهاء الحنابلة في حقيقة الطمأنينة: فالصحيح من المذهب - والمراد الذي صححه الحنابلة والمرجع عندهم –: هو السكون وإن قل، فإذا سكن واستقر راكعاً أو جالساً أو قائماً فإن هذه هي الطمأنينة الواجبة. أما إذا وصل إلى السجود فرفع من غير سكون فيه ولا استقرار فذلك لا يجزئ عنه.

_ (1) تقدم قريباً. (2) أخرجه البخاري بهذا اللفظ بتأخير " عليها " في كتاب الأذان / باب (119) إذا لم يتم الركوع / رقم (791) ، وفي كتاب الصلاة، باب (26) إذا لم يتم السجود / رقم (389) بلفظ: " عن حذيفة رأى رجلاً لا يتم ركوعه ولا سجوده، فلما قضى صلاته ئ، قال له حذيفة: " ما صليت - قال: وأحسبه قال - لو مت مت على غير سنة محد - صلى الله عليه وسلم - ".

والقول الثاني في المذهب: أنه بقدر الذكر الواجب، فهو في القيام بقدر تكبيرة الإحرام وقراءة الفاتحة وفي الركوع بقدر (سبحان ربي العظيم) ، وفي الرفع منه بقدر (ربنا ولك الحمد) – حيث قلنا بوجوبه بعد الرفع، وإلا فالحنابلة يقولون بوجوبه أثناء الانتقال وعليه فهذا الركن ثابت فيه مجرد السكون وإن قل. وفي السجود بقدر قول: (سبحان ربي الأعلى) . ويترتب على ذلك: معلوم أن الطمأنينة ركن، وأن ترك الذكر ترك لواجب، وأن الأذكار في الصلاة واجبة لا فرض. فإذا سجد وسكن في سجوده ورفع لم يذكر الله تعالى (سبحان ربي الأعلى) ساهياً، فهل يكون قد ترك فرضاً أو واجباً؟ لا شك أنه تارك لواجب. لكن هل يضاف لذلك تركه للركن؛ لأنه لم يطمئن بقدر قوله: (سبحان ربي العظيم) أو (سبحان ربي الأعلى) فهو قد سكن لكن ليس بقدر قول: (سبحان ربي الأعلى) ولم يقل هذا الذكر، فهل يعد تاركاً للواجب فقط فيجبره سجود السهو أو يعد تاركاً للركن لأن الركن شرط فيه الطمأنينة؟ على القولين السابقين: والراجح القول الأول وأن مجرد السكون وإن قل هو الطمأنينة؛ لأن هذه هي حقيقة الطمأنينة. وأما قضية الذكر الواجب فهو ذكر يجب في الصلاة ويجب أن يطال في الركوع أو السجود لأجله؛ لأن ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب لكنه ليس بركن فيها بل الركن هو مجرد الطمأنينة وهذه يحصل بمجرد السكون ولو كان ذلك بمقدار (سبحان ربي) وإن لم يقل (الأعلى) فإن هذا يعتبر سكوناً، وإن كان ليس بقدر الذكر الواجب. فيقال: فرض عليه أن يستقر ويسكن في سجوده، وواجب عليه أن يكون هذا السكون بقدر الذكر الواجب. فعلى المسألة السابقة لا يعد تاركاً للركن بل للواجب وهو الذكر. قال: (والتشهد الأخير وجلسته)

هو ركن لحديث ابن مسعود: (كنا نقول قبل أن يفرض علينا التشهد) (1) فهذا يدل على أن التشهد فرض في الصلاة والنبي صلى الله عليه وسلم قد فعله ولم يثبت عنه تركه وقد قال صلى الله عليه وسلم: (صلوا كما رأيتموني أصلى) والعلم عند الله تعالى. فالمشهور في المذهب: فرضية التشهد الأخير والجلوس له كذلك؛ لفعل النبي صلى الله عليه وسلم وقوله: (صلوا كما رأيتموني أصلي) . ولأن التشهد لا يصح إلا بالجلوس وما لا يتم الفرض إلا به فهو فرض. وتقدم أن التشهد ينتهي بقوله: (وأشهد أن محمداً عبده ورسوله) . قال: (والصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم فيه) كما هو مذهب الحنابلة والشافعية وأنه فرض، وهو عند الحنابلة فرض في التشهد الأول (2) فقط، وأما الشافعية فهو فرض في التشهد كليهما. وقد تقدم القول حول هذه المسألة وأن الراجح أنه ليس بفرض في التشهد الأول. وأما التشهد الثاني أي الصلاة فيه فالمشهور في المذهب فرضيتها.

_ (1) سنن الدارقطني ج: 1 ص: 350 (4) وقال: " هذا إسناد صحيح "، والبيهقي في السنن الكبرى رقم (2644) و (3777) . تلخيص الحبير ج: 1 ص: 262 رقم (403) قال: " الدارقطني والبيهقي من حديثه بتمامه وصححاه وأصله في الصحيحين وغيرهما دون قوله قبل أن يفرض علينا ". (2) كذا في الأصل، ولعل الصواب: الثاني أو الأخير، انظر الشرح الممتع لابن عثيمين رحمه الله تعالى [3 / 423] .

- وعن الإمام أحمد: أنها ليست بفرض بل سنة، وهو مذهب أكثر أهل العلم، وهو الراجح؛ لأنه لا دليل على فرضيتها وليس في الباب إلا الحديث المتقدم في قول الصحابي: (يا رسول الله علمنا كيف نسلم عليك فكيف نصلي عليك قال: قولوا) (1) فهذا أمر ورد بعد سؤال، والأمر بعد سؤال ليس ظاهراً في الوجوب بل هو للاستحباب كما قرر ذلك غير واحد من الأصوليين. وقد قال ابن مسعود – وهو راوي حديث التشهد – ورواه أبو داود مرفوعاً إلى النبي صلى الله عليه وسلم والصحيح وقفه قال: (أما إذا قلت هذا أو قضيت هذا) يعني التشهد المذكور في حديثه إلى قوله: (وأشهد أن محمداً عبده ورسوله) فقد قضيت صلاتك) (2) . فهذا يدل على أن ما بعد التشهد من الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم والدعاء ليس بواجب وهو قول ابن مسعود وهو مذهب أكثر الفقهاء. والأصل عدم الوجوب حتى يرد دليل على ذلك، وما استدل به ليس فيه الإيجاب بل فيه مشروعية ذلك واستحبابه والعلم عند الله تعالى. قال: (والترتيب) فرض بالإجماع بين فرائض الصلاة وأركانها لأن النبي صلى الله عليه وسلم فعله في بيان مجمل القرآن في قوله: {وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ} [سورة البقرة 2/43] وما كذلك فهو فرض ولأن النبي صلى الله عليه وسلم علمه المسيء صلاته، فيعلمه لصلاة مرتبة فكان الواجب الترتيب فيها، فإذا قدم الركوع على القيام لم تصح الصلاة وإذا ترك الترتيب سهواً فلا يجبر إلا بفعله. قال: (والتسليم)

_ (1) أخرجه البخاري في كتاب الدعوات / باب (32) الصلاة على النبي - صلى الله عليه وسلم - / رقم (6357) ، وانظر رقم (4797) و (3370) ، ومسلم (406) في كتاب الصلاة / باب (17) الصلاة على النبي - صلى الله عليه وسلم -.. . (2) أخرجه أبو داود في كتاب الصلاة / باب (183) التشهد / رقم (970) ، والبيهقي والدارقطني وابن حبان. الاسطوانة.

هو ركن كذلك، وتقدم دليله في قوله: (وتحليلها التسليم) (1) ، فهذا يدل على أن من شرع في الصلاة لا يحل له ما نهي عنه خارج الصلاة إلا بالسلام فهو فرض فيها. وهذا باتفاق أهل العلم. وقد اتفق أهل العلم على أن التسليمة الأولى فرض. * لكن اختلفوا في الثانية: فذهب جمهور أهل العلم (2)

_ (1) أخرجه أحمد في المسند برقم (1006) ، (1072) من حديث علي بن أبي طالب ولفظه (مفتاح الصلاة الطهور، وتحريمها التكبير، وتحليلها التسليم) ، وبرقم (14717) من حديث جابر بن عبد الله بلفظ: (مفتاح الجنة الصلاة، ومفتاح االصلاة الطهور) .، وأبو داود في كتاب الطهارة، باب (31) فرض الوضوء (61) قال: " حدثنا عثمان بن أبي شيبة، حدثنا وكيع، عن سفيان، عن ابن عقيل، عن محمد بن الحنفية، عن علي رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (مفتاح الصلاة..) . وأخرجه الترمذي في كتاب الطهارة، باب ما جاء أن مفتاح الصلاة الطهور (3) . وابن ماجه برقم 275، سنن أبي داود [1 / 49] . وقد تقدم صْ 61. (2) الكافي لابن قدامة [1 /143] ، الإنصاف للمرداوي ج: 2 ص: 117 والتسليمة الثانية في رواية وكذا قال في الهادي والمذهب الأحمد وهذه إحدى الروايات مطلقا جزم بها في الإفادات والتسهيل قال القاضي وهي أصح وقال في الجامع الصغير وهما واجبان لا يخرج من الصلاة بغيرهما وصححها ناظم المفردات وهو منها وقدمها في الفائق والرواية الثانية أنها ركن مطلقا كالأولى جزم به في المنور والهداية في عد الأركان وقدمه في التلخيص والبلغة والرعايتين والحاويين والنظم والزركشي وإدراك الغاية قال في المذهب ركن في أصح الروايتين وصححها في الحواشي واختاره أبو بكر والقاضي والأكثرون كذا قاله الزركشي مع أن ما قاله في الجامع الصغير يحتمله وهي من المفردات وعنه أنها سنة جزم به في العمدة والوجيز واختارها المصنف والشارح وقدمه ابن رزين في شرحه.. " ونقل ابن المنذر الإجماع على ذلك، لكن قال في الإنصاف للمرداوي ج: 2 ص: 118: " قلت هذا مبالغة منه وليس بإجماع قال العلامة ابن القيم وهذه عادته إذا رأى قول أكثر أهل العلم حكاه إجماعا وعنه هي سنة في النفل دون الفرض وجزم في المحرر والزركشي أنها لا تجب في النفل وقدم أبو الخطاب في رؤوس مسائله أنها واجبة في المكتوبة.. " الاسطوانة.

: إلى أن الثانية ليست بفرض. وذهب الإمام أحمد في رواية عنه وذهب إليه بعض المالكية: إلى أنها فرض. وهذا القول هو الراجح، لأن قول النبي صلى الله عليه وسلم: (وتحليلها التسليم) مجمل بينته السنة في كونه يسلم عن يمينه وعن شماله. ولم يصح عن النبي صلى الله عليه وسلم حديث أنه اكتفى بالتسليم عن يمينه لا في فرض ولا في نفل، وما ورد في ذلك فهو إما حديث ضعيف أو حديث ليس بصريح فعليه التسليمة الثانية فرض في الصلاة وهو رواية عن الإمام أحمد. فهذه أركان الصلاة التي لا تصح الصلاة إلا بها وهي لا تسقط عن المصلي سهواً ولا عمداً. والحمد لله رب العالمين. الدرس السابع والثمانون (يوم الاثنين: 14 / 4 / 1415هـ) قال المؤلف رحمه الله تعالى: (وواجباتها) أي واجبات الصلاة وهي ما تجبر بسجدتي السهو وتركها عمداً مبطل للصلاة. قال: (التكبير غير التحريمة والتسميع) فمن واجباتها التكبيرات التي هي تكبيرات الانتقال، والتسميع كذلك. فالألفاظ التي يتلفظ بها الإمام والمأموم والمنفرد فيما بين الأركان من تكبيرات أو تسميع واجب في الصلاة. واستدلوا على ذلك: بما رواه أبو داود في سننه بإسناد صحيح من حديث المسيء صلاته وفيه: (ذكر تكبيرات الانتقال والتسميع) (1) والحديث صحيح. - وذهب جمهور العلماء: إلى أنه ليس بواجب وهكذا ما بعده فيما ذكر في هذا الباب من الواجبات. وقالوا: إنه لم يذكر في حديث المسيء صلاته. والصحيح أنه مذكور كما في سنن أبي داود بإسناد صحيح وفيه: (لا تتم صلاة أحدكم – الحديث – وفيه ذكر التكبيرات والتسميع) (2) فالصحيح أنه واجب في الصلاة. - بل عند الإمام أحمد: أنه ركن، وهذا الذي يقتضيه حديث المسيء صلاته، وأن الصلاة لا تتم إلا به وهذا هو الركن.

_ (1) تقدم. وهو في أبي داود، كتاب الصلاة،باب (148) صلاة من لا يقيم صلبه في الركوع والسجود (857) (2) تقدم قريبا.

إذن: المشهور في المذهب أن تكبيرات الانتقال والتسميع واجبات وتركها يجبر بالسجود. وعن الإمام أحمد أنها ركن فيه، فعلى ذلك لا تجبر بالسجود بل يجب أن يأتي بها، والحديث يدل على ما ذهب إليه أهل القول الثاني، لكن المشقة واردة في الحكم بركنية التكبير، والتكبير إنما يقصد منه إظهار الانتقال من ركن إلى آخر ومثل هذا يصعب الجزم بركنيته مع ما فيه من المشقة وصعوبة التحرز عن ترك شيء منه لاسيما للمنفرد والمأموم، فينبغي أن يقال: إنه واجب لما في القول بركنيته من المشقة والمشقة تجلب التيسير. مسألة: تقدم أن هذه التكبيرات إنما تشرع في حالة الانتقال ما بين الركن إلى الآخر. وعليه: فإنها تفعل أثناء الانتقال، فإذا شرع برفع رأسه من الركوع – مثلاً – شرع يقول: سمع الله لمن حمده، فينتهي وقد وصل إلى القيام، فلا يشرع فيه في ركوعه ولا يتمه أثناء قيامه، بل يقوله أثناء الانتقال، هذا هو مقتضى كونه مشروعاً أثناء الانتقال. - واعلم أن المشهور في المذهب أن هذا فرض وشرط فيه فلا يصح التكبير إلا حيث كان ذلك. فلو أنه كبر أثناء ركوعه ثم رفع، أو كبر وقد رفع من الركوع فأتمه أثناء القيام فإنه لا يجزئ عنه ولا يصح ذلك منه، وعليه فإنه تارك للواجب فيجب عليه سجود السهو مع النسيان، وإلا فإن صلاته تبطل. قالوا: كما أن القراءة لا تصح قبل القيام ولا بعده. فلو أنه شرع في الفاتحة وهو يرتفع من الركعة إلى ما بعدها فشرع في القراءة أثناء نهوضه قبل أن يصل إلى القيام فلا يجزئ عنه، وإذا أتمها وهو راكع فكذلك لا يجزئ عنه. فكذلك تكبيرات الانتقال، وهذا القول أقيس من القول الثاني. - والقول الثاني في المذهب: أن ذلك يجزئ عنه، ومع ذلك فإن هذا القول هو الراجح مع كون القول الأول أقيس، واختاره المجد ابن تيمية.

وكونه هو الراجح، لما في القول الأول من المشقة وصعوبة التحرز، حتى قال الشيخ عبد الرحمن بن سعدي في هذا القول: " وهو الذي لا يسع الناس غيره " (1) فالتحرز عنه شاق، والمشقة تجلب التيسير، ولأن المقصود منه إنما هو إظهار الانتقال ما بين ركن إلى آخر، وهذا يحصل في الحقيقة وإن قاله أثناء الركن المنتقل منه، أو الركن المنتقل إليه. ومع ذلك فإنه لا يتساهل بهذا، إلا ما يقع من الناس وهذه مسألة لا شك يكثر الوقوع فيها فيشق التحرز منها، والمشقة تجلب التيسير، وهذا لا شك أن السهو فيه يكثر، والجهل فيه يفشو، فمثله ينبغي أن يتساهل فيه لا سيما وأن المقصود منه إظهار الانتقال من ركن إلى آخر. كما أن سكوت النبي صلى الله عليه وسلم عن بيان فرضية هذا - مع كونه لا شك في وقوعه وكثرته في الناس، سكوت النبي صلى الله عليه وسلم - يقتضى عدم وجوبه والتسامح فيه، لأن عدم البيان مع الحاجة لا يجوز، والناس يقع منهم هذا ولا شك، بل كان التكبير في عصور المتقدمين مشروعيته أصلاً مجهولة كما ذكر ذلك شيخ الإسلام وغيره – كما يدل عليه روايات كثيرة – بسبب إمامة الأمراء وكانوا يتساهلون بالتكبيرات أي التلفظ [بها] . قال: (والتحميد) تقدم دليل ذلك ومشروعيته للإمام والمنفرد والمأموم لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (إذا قال الإمام سمع الله لمن حمده فقولوا: " ربنا ولك الحمد ") (2) والأمر للوجوب. قال: (وتسبيحتا الركوع والسجود وسؤال المغفرة مرة مرة ويسن ثلاثاً) أي قوله: " سبحان ربي العظيم " في ركوعه، و " سبحان ربي الأعلى " في سجوده.

_ (2) أخرجه البخاري في كتاب الأذان، باب (51) إنما جعل الإمام ليؤتم به (689) ، وفي باب (128) الهوي بالتكبير حين يسجد (805) ، وفي أبواب تقصير الصلاة، باب (17) صلاة القاعد (1114) . وأخرجه مسلم في كتاب الصلاة،باب ائتمام المأموم بالإمام (411) .

لما ثبت في سنن أبي داود بإسناد حسن من حديث عقبة بن عامر قال: (لما نزلت فسبح باسم ربك العظيم قال: النبي صلى الله عليه وسلم: " اجعلوها في ركوعكم " ولما نزلت " سبح اسم ربك الأعلى " قال النبي صلى الله عليه وسلم: " اجعلوها في سجودكم ") (1) والأمر يقتضي الوجوب. وسؤال المغفرة كذلك، بالقياس وإلحاق الشيء بنظيره والشبيه بشبيهه. فإن هذا الجلوس ركن من أركان الصلاة، فيشرع فيه ما يشرع في غيره ويجب فيه ما يجب في غيره، فكما أن الركوع فيه ذكر واجب، والرفع منه فيه ذكر واجب والسجود والجلوس الأخير والجلوس وسط الصلاة كل ذلك فيه ذكر واجب، فكذلك الجلسة بين السجدتين. فعلى ذلك يجب عليه أن يقول: (رب اغفر لي) في جلوسه بين السجدتين، وهو المشهور في المذهب وكل هذه المسائل عند جمهور العلماء ليست بواجبة والراجح ما تقدم. أما ما ورد فيها في حديث المسيء صلاته فهذا الحديث حجة في وجوبها. وأما ما لم يرد فإنها قد وردت بالأمر، وكونها لم ترد في حديث المسيء صلاته لا يدل ذلك على عدم وجوبها إذ الحديث لا يحيط بأركان الصلاة وواجباتها، وفيه ما هو ثابت بالسنة الصحيحة فرضيته ووجوبه ولم يرد في حديث المسيء صلاته، لقول ابن مسعود: (كنا نقول قبل أن يفرض علينا التشهد) (2) والتشهد وجلوسه ليسا مذكورين فيه. فالحديث لا يحصر ذلك كله، فإن من الواجبات ما يحتمل أن يكون قد فرض بعد حديث المسيء صلاته. وفيها ما لم يحتج النبي صلى الله عليه وسلم إلى بيانه للمسيء صلاته لكون ذلك واضحاً ومعروفاً له، وقد قام به على وجهه فلا يحتاج إلى بيانه. (مرة مرة) : في كل مما تقدم في قوله: (سبحان ربي العظيم، وسبحان ربي الأعلى) و (رب اغفر لي) فكلها تجب مرة. (ويسن ثلاثاً) : وقد تقدم. قال: (والتشهد الأول وجلسته)

_ (1) أخرجه أبو داود في كتاب الصلاة، باب (151) ما يقول الرجل في ركوعه وسجوده (869) (2) تقدم.

فالتشهد الأول من واجبات الصلاة، لما ثبت في حديث ابن مسعود وفيه: (كنا نقول قبل أن يفرض علينا التشهد) . والجلوس له واجب أيضاً؛ لأن التشهد لا يتم إلا بجلوس وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب. وقد فعلها النبي صلى الله عليه وسلم وقال: (صلوا كما رأيتموني أصلي) . وليسا بركنين؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لما قام عن التشهد الأول وانتصب قائماً لم يعد إليه وجبره بسجدتين، وهذا لا يفعل بالركن. وهذا – أي وجوب التشهد الأول وجلسته – مشكل على المذهب حيث أن الدليل واحد في التشهد وقد أوجبوا التشهد الأول، وفرضوا التشهد الثاني وجعلوه من أركان صلاة، مع أن الحديث الوارد في التشهد حديث واحد وهو حديث ابن مسعود. وذهب الإمام أحمد في رواية عنه: إلى أن التشهد الثاني والجلوس له واجبان وليسا بركنين – كما أن التشهد الأول واجب – لأن الحديث الوارد فيها واحد، وحكمهما في الحقيقة واحد. وهذا قول قوي، لكن يشكل عليه قضية الجلوس له، لأن الجلوس له لا يتم السلام – وهو ركن من أركان الصلاة – إلا بهذا الجلوس فينبغي أن يكون الجلوس ركن من أركان الصلاة. وهذا قول في مذهب أحمد: وهو أن الجلوس للتشهد الثاني ركن والتشهد واجب. وهذا – فيما يظهر لي – أرجح الأقوال. قال: (وما عدا الشرائط والأركان والواجبات المذكورة سنة) فكل ما لم يكن واجبـ[ـاً] ولا شرطـ[ـاً] ولا ركنـ[ـا] فهو سنة، وهذا ضابط واضح. قال: (فمن ترك شرطاً بغير عذر غير النية فإنها لا تسقط بحال بطلت صلاته) فمن ترك شرطاً لغير عذر – كالوضوء مثلاً – فإن الصلاة تبطل ولو كان ساهياً ناسياً. إلا أنه استثني المعذور، كالعاجز عن الطهارة أو غيرها من شروط الصلاة، فإن صلاته تصح، لأنه معذور في ترك الواجب لكونه عاجزاً عنه.

(غير النية) : فالنية لا تسقط بحال، لأنه لا يتصور سقوطها، فالنية محلها القلب، ولا يتصور أبداً أن يعجز عنها المكلف فهو قادر عليه على الإطلاق، لذا وجب استثناؤها لأنه لا يمكن أن يكون العبد معذوراً في تركها، إذ محلها القلب وحيث كان محلها القلب فلا عذر في تركها. قال: (أو تعمد ترك ركن أو واجب بطلت صلاته) فمن ترك واجباً أو ركناً عمداً في الصلاة، فإن الصلاة تبطل. أما إذا تركه على سبيل السهو فلا تبطل الصلاة وتجبر بسجود السهو في الواجبات. وأما الأركان فإنها لا تصح الصلاة إلا أن يؤتى بها. فهما في التعمد باب واحد، فكلاهما أمر الشارع به، فإذا ترك واجباً أو ركناً فقد أدى الصلاة على غير أمر الله وشرعه، وكل عمل ليس عليه أمر النبي صلى الله عليه وسلم فهو رد. قال: (بخلاف الباقي) أي بخلاف الباقي من السنن فإنه إذا تركها عمداً لا تبطل صلاته. كمن ترك رفع اليدين عند تكبيرة الإحرام أو إرادة الركوع أو نحو ذلك. قال: (وما عدا ذلك سنن أقوال وأفعال) سنن أقوال: كزيادة (سبحان ربي العظيم) مرتين على المرة الواجبة فيكون المجموع ثلاثاً. وسنن الأفعال: كجلسة الاستراحة – على القول بها – وكرفع اليدين عند تكبيرة الإحرام وإرادة الركوع والرفع منه (1) . قال: (ولا يشرع السجود لتركه، وإن سجد فلا بأس) هذا قول في المذهب: وهو أنه لا يشرع له السجود لتركه لكن إن سجد فذلك جائز.

_ (1) في الأصل منها.

لحديث رواه أبو داود من حديث إسماعيل بن عياش عن زهير بن سالم الشامي (1) – إلى ثوبان أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لكل سهو سجدتان) (2) وهذا عام في كل سهو، فإذا سها في ترك سنة شرع له أن يسجد لها لكن الحديث ضعيف، ضعفه البخاري بقوله: (مضطرب) وفيه إسماعيل بن عياش ويروى عن الشاميين وروايته عنهم ضعيفة. وزهير بن سالم ضعيف أيضاً فالحديث لا يثبت. فعلى ذلك: لا يشرع له أن يسجد وعليه أيضاً فلا يجوز له أن يسجد – كما هو رواية عن أحمد – لأن السجود زيادة في الصلاة لا يشرع إلا في موضعها الذي شرعه النبي صلى الله عليه وسلم، ولم يصح عنه السجود عن ترك سنة. فعلى ذلك: فلا يشرع ولا يجوز له أن يسجد للسهو لأن السجود زيادة في الصلاة لا تشرع إلا حيث شرعها النبي صلى الله عليه وسلم، بل لا تصح إلا حيث وردت ولم يرد ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم – وهو رواية عن الإمام أحمد – رحمه الله تعالى. والحمد لله رب العالمين باب سجود السهو أي السجود المشروع بسبب السهو وهو النسيان والذهول الواقع في الصلاة قال المؤلف رحمه الله تعالى: (يشرع)

_ (1) في أبي داود: أن ابن عياش حدثهم عن عبيد الله بن عبيد الكلاعي عن زهير.. " (2) أخرجه أبو داود في كتاب الصلاة، باب (201) من نسي أن يتشهد وهو جالس (1038) قال: حدثنا عمرو بن عثمان والربيع بن نافع وعثمان بن أبي شيبة وشجاع بن مخلد، بمعنى الإسناد أن ابن عياش حدثهم، عن عبيد الله بن عبيد الكلاعي عن زهير - يعني ابن سالم العنس - عن عبد الرحمن بن جبير ابن نُفير، قال عمرو وحده: عن أبيه عن ثوبان عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (لكل سهو سجدتان بعدما يسلم) ولم يذكر " عن أبيه " غير عمرو.

أي يشرع السجود، وهي لفظة تعم الواجب والمستحب وقد تقدم بيان الراجح في مسألة السجود لترك سنة وأنه لا يشرع السجود لترك سنة، بل هو إما سجود واجب تبطل الصلاة بتركه وإما غير مشروع فلا يجوز في الصلاة. فقوله: " يشرع " بناء على المشهور في المذهب من استحباب سجود السهو لترك سنن الأقوال والأفعال أو ترك سنن الأقوال على قول. " لزيادة ": في الصلاة بقيام أو قعود أو ركوع ونحوه. " ونقص ": إما بترك سجدة أو التشهد الأول أو نحو ذلك. " أو شك ": إما شك استوى طرفاه، وإما شك مع عليه لأحد الطرفين. فيشرع لثبوت ذلك الأحاديث فيه، فقد ثبتت الأحاديث في هذه الأنواع الثلاثة. قال: (لا في عمد) فلو تعمد عمل فعل من جنس الصلاة فزاد قياماً أو قعوداً أو نحو ذلك أو نقص أو نحو ذلك، فالصلاة تبطل، بالإجماع كما تقدم. قال: (في الفرض والنافلة) فسجود السهو مشروع أو واجب – على ما تقدم صحة خلافاً للمذهب – في الفرض والنفل، فكما أن الفريضة يشرع فيها السجود فكذلك في النافلة، وهذا باتفاق أهل العلم. لقول النبي صلى الله عليه وسلم – كما في مسلم – من حديث ابن مسعود: (فإذا نسي أحدكم فليسجد سجدتين) (1) وهذا الحديث عام في الفريضة والنافلة، وهذا الحديث يستدل به على المسألة السابقة وهي أنه لا يسجد في عمد لقوله: " فإذا نسي " فالسجود إنما شرع للنسيان، ومفهوم المخالفة لهذا الحديث أنه لا يشرع إلا فيه، والأصل عدم ثبوته إلا لوروده فكرره إلا فالنسيان فلا يشرع في التعمد. فسجود السهو مشروع فرضاً ونفلاً، لأن ما ثبت فرضاً فهو ثابت نفلاً إلا بدليل على تخصيص أحدهما.

_ (1) أخرجه مسلم في كتاب المساجد، باب السهو في الصلاة (572) بلفظ: " إنما أنا بشر مثلكم أنسى كما تنسون، فإذا نسي أحدكم فليسجد سجدتين وهو جالس … "

ولذا نص الإمام أحمد: على أن من كان يصلي لليل مثنى مثنى فقام إلى الثالثة ساهياً فيجب عليه أن يسجد سجدتين لأن صلاة الليل مثنى، وهذا مذهب جمهور العلماء لأنه قد فعل ذلك ناسياً أو ساهياً وصلاة الليل مثنى، وهذا هو المشهور في المذهب. والمشهور في المذهب أنه إن فعل ذلك في الصلاة في السفر فصلاها أربعاً فالحكم ليس لذلك بل يتم أربعاً، وهذا ضعيف، فإن حكمها واحد. فإن فعل النبي صلى الله عليه وسلم للصلاة في السفر ركعتين ركعتين لم يثبت عنه سوى ذلك فهو بمنزلة قوله: (صلاة الليل مثنى مثنى) (1) فكأنه قال: " صلاة السفر مثنى مثنى) وعليه فالقياس على المذهب: أن يقال: إنه قام إلى الركعة الثالثة في صلاة في السفر فإنه يجب عليه أن يجلس فيسجد سجدتي سهو. فإن قالوا: إنه إن زاد زيادة جائزة، فإن صلى الصلاة في السفر أربعاً كصلاة صحيحة كما هو مذهب جماهير العلماء. قلنا: وكذلك في صلاة الليل فإنه لو صلاها خمساً أو سبعاً أو تسعاً أو إحدى عشرة فذلك يصح لورود السنة فيه. وهذا الالتزام أولى – فيما يظهر لي – وهو أن يقال: أنه قام إلى ركعة يصح أن يصليها فلا يجب عليه أن يسجد للسهو فلو أنه قام – وهو يريد أن يوتر باثنين – قام إلى الثالثة فإنها تصح فيه ولا يسجد للسهو، لأن هذه الركعة صحيحة في هذه الصلاة ولا غيره بنيته والعلم عند الله تعالى. قال: (فمتى زاد فعلاً من جنس الصلاة قياماً أو قعوداً أو ركوعاً أو سجوداً عمداً بطلت، سهواً يسجد له) فمتى زاد فعلاً من جنس الصلاة أن يكون من جنس الصلاة فلو لم يكن من جنسها بأن كان فعلاً خارجاً عن الصلاة، كحركة ليست من أفعال الصلاة فحكمها من التقدم من التفصيل السابق منها، وأنها متى كانت كثيرة عرفاً أبطلت الصلاة وأما إذا زاد فعلاً من جنس الصلاة قياماً أو قعوداً أو ركوعاً أو سجوداً عمداً بطلت وهذا بالإجماع.

(وسهواً يسجد له) فيسجد سجدتي السهو، فإذا زاد سجدة أو قياماً أو ركوعاً أو نحو ذلك سهواً فإنه يجبر هذا سجود السهو. وظاهر قوله: (قياماً أو قعوداً أو ركوعاً أو سجوداً) وأن قل. فلو أنه جلس بقدر جلسة الاستراحة ولم ينوها كذلك فإن الصلاة تجبر بالسهو فيجب عليه أن يسجد سجدتين لأنه قعود هذا هو المشهور في المذهب واختار طائفة من الحنابلة كالزركشي وغيره، وذكره وجهاً في المغني: أن الصلاة لا تبطل به ولا من الفعل اليسير، قالوا: لأنه لا يبطل على وجه التعمد، فكذلك لا يبطل على وجه السهو فلو أنه جلس جلسة للاستراحة ولم ينوها السنة، فإنها لا في صلاته أن فعلها عمداً فكذلك أن فعلها سهواً وهذا هو القول الراجح فإن هذا الفعل اليسير في الصلاة وأن كان قعوداً لكنه فعل يسير لو فعله عمداً لم يغيره فكذلك إذا فعله على وجه السهو ومثله العمل اليسير، فإنه إذا كان خارجاً عن الصلاة ليس من جنسها، فإذا فعله فلا يبطل صلاته، فمثله ما كان من أفعال الصلاة وكان يسيراً، فلا يجب سجود السهو فيها، ولا تبطل إذا تعمدها. قال: (وأن زاد ركعة فلم يعلم حتى فرغ منه سجد) رجل صلى الظهر خمساً أو الفجر ثلاثاً أو المغرب أربعاً فلما أنصرف من صلاته علم أنه زاد في صلاته ركعة سهواً فإنه يسجد بعد أن يفرغ وهذا لا شك فيه فإنه لا يمكنه إلا أن يفعل ذلك لما ثبت في الصحيحين من حديث ابن مسعود: أن النبي صلى الله عليه وسلم: (صلى الظهر خمساً فقيل له: أزيد في الصلاة قال: وما ذاك قالوا: صليت خمساً، فسجد سجدتين بعدما سلم) قال: (وإن علم فيها جلس في الحال فتشهد أن لم يكن تشهد وسلم) رجل صلى الظهر خمساً فلما كان في الخامسة، فلما انتصف قائماً أو هو راكع وهو رافع من الركوع أو وهو ساجد أو وهو بين السجدتين أو نحو ذلك علم أنه قد زاد في الصلاة جلس في الحال، فتترك الركن الذي هو مشتغل فيه وعاد إلى التشهد ليسلم.

فإن لم يجلس في الحال بطلت صلاته لأنه يكون بفعل أفعالاً عمداً وزيد في الصلاة ما ليس منها عمداً فما تبطل الصلاة به. فيجب عليه أن يعود إلى الجلوس بغير تكبير، فيجلس لتسلم من صلاته. " فيتشهد إن لم يكن تشهد " وإلا فيكفيه التشهد الذي قد تشهده. فلو أنه تشهد ثم قام يظن أنه التشهد الأول وهو في الحقيقة التشهد الثاني، فإنه يعود فيجلس ويكفيه التشهد الذي تشهده سابقاً. قال: (تشهد وسجد وسلم) إذن: السجود هنا قبل السلام فهنا زادت الصلاة فإن قام إلى ركعة خامسة في رباعية فعليه سجود قبل السلام هذا المشهور في المذهب. وقاعدة المذهب في سجود السهو: أن السجود مشروع قبل السلام مطلقاً إلا ما وردت به الشريعة، وهي المواضع التي ثبتت عن النبي صلى الله عليه وسلم سجدها بعد السلام فإنها تسجد بعد السلام، سواء كان ذلك زيادة أو نقصاً أو شكاً. والراجح – الذي يدل عليه الأحاديث – ما ذهب إليه الإمام مالك من الزيادة يكون السجود لها بعد السلام والنقص قبله. واختاره ابن تيميه لكن ظاهر مذهب مالك استحباب ذلك، واختار شيخ الإسلام وجوبه وهو الراجح. لقوله صلى الله عليه وسلم: (صلوا كما رأيتموني أصلي) فوجب أن يسجد كما سجد، وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يسجد للزيادة بعد السلام وللنقص قبله، وسيأتي ذكر الأحاديث التي تدل على ذلك. وفيها: حديث أبي هريرة – المتفق عليه – أن النبي صلى الله عليه وسلم: (صلى إحدى صلاتي الظهر ركعتين، فسلم واتكأ على خشبه معروضة في المسجد فقام رجل يقال له: ذو اليدين فقال: يا رسول الله أنسيت أم قصرت الصلاة فقال: لم أنس ولم نقصر فقال: بلى قد نسيت فسأل النبي صلى الله عليه وسلم أبا بكر وعمر فقالا – ومن معهما – بلى يا رسول الله، فصلى النبي صلى الله عليه وسلم ما ترك ثم سلم ثم سجد سجدتين) فهنا النبي صلى الله عليه وسلم قد زاد سلاماً فسجد بعد الكلام لهذه الزيادة.

قال: (وأن سبح به ثقتان فأصر ولم يجزم بصواب نفسه بطلت صلاته) فلابد أن يكون ثقتين لا ثقة واحد. (فإذا سبح به ثقتان فأصر ولم يجزم بصواب نفسه بطلت صلاته) فإذا سبح بالإمام ثقتان من المأمومين أو غيرهم، ونيته على أن الصلاة فيها سهو لكنه أصر ولم يجزم لصواب نفسه. فإذا جزم بصواب نفسه وتيقن أن الصلاة على صواب فإن الصلاة لا تبطل ولا يستجب لتسبيحهما لأنه متيقن واليقين لا يزول بمثل هذا، فإن غاية تسبيح التيقن غلبة ظن، وعنده يقين. فإن لم يتيقن وسبح به ثقات سواء غلب على ظنه صدقهما أو غلب على ظنه خطؤهما – فأصر فالصلاة تبطل وذلك لأن غلبة ظن الاثنين أعظم وأرجح من غلبة ظن الواحد – فعلى ذلك يجب عليه أن يستجب لتسبيحهما فإن لم يفعل بطلت صلاته وأن كان في قلبه غلبة ظن أنه على صواب فتبطل صلاته، لنه يجب عليه أن يستجب لتسبيحهما وحيث لم يستجب فقد ترك واجباً في الصلاة متعمداً وترك الواجب على جهة التعمد يبطل الصلاة. فسواء كان عنده غلبة ظن أو سك أو غلبة ظن لصوابها لكنه لم يقبل تسبيحهما فقد ترك واجباً في الصلاة. فإذا سبح به ثقة فلا يعتمد حينئذ إلا إذا غلب على ظنه صدقه ولا تسبيح ذلك الرجل بل لغلبة الظن، فوجب عليه أن يتبع غلبة الظن الواقعة في قلبه. وعليه فإن سبح به ثقات ولم يغلب على ظنه صدقه أو غلب على ظنه عدم صدقه فإنه لا يستجيب لتسبيحه ولا يضر ذلك صلاته. فتسبيح الثقة لا يبطل الصلاة، لما تقدم أن النبي صلى الله عليه وسلم سأل الصحابة بعد إخبار ذي اليدين له ولم يكتف بخبره فدل على أن الصلاة هنا لا يقبل فيها خبر الواحد، وإنما يقبل فيها خبر الاثنين فأكثر. قال: (وصلاة من تبعه عالماً) إمام قام إلى متبعة بعض المأمومين، فما حكم صلاتهم؟

فتبطل الصلاة أن تبعه عالماً بمعنى قام وهو يعلم أن هذه زيادة في الصلاة وأن الإمام ناسي فتبطل صلاته لأنه قد زاد في الصلاة فيها، وفعل في الصلاة من زيادة على المشروع على وجه لتعمد فتكون الصلاة باطلة وأما إن كان جاهلاً أو ناسياً ساهياً كالإمام فلا تبطل صلاته لحديث ابن مسعود، فإن الصحابة قاموا مع النبي صلى الله عليه وسلم صلى الله عليه وسلم صلى الله عليه وسلم إما جاهلون وإما ساهون فمنهم الناسي والساهي ومنهم الجاهل فلم يأمرهم النبي صلى الله عليه وسلم صلى الله عليه وسلم بإعادة الصلاة. قال: (ولا من فارقه) فلا تبطل صلاة من فارق الإمام. بمعنى: قام الإمام إلى الخامسة فجلس بعض المأمومين فتشهدوا وسلموا فهنا فارقوا الإمام. قالوا: لأنهم معذورون بالمفارقة، فإن الإمام قد فعل في الصلاة ما ليس منها ففارقوه معذورين فكان كالمسألة المتقدمة فيمن فارق الإمام فصلى منفرداً بعذر قالوا: فكذلك هنا. والمشهور في المذهب أن المفارقة وإتمام الصلاة والتسليم واجب، فيجب عليه إذا قام الإمام للخامسة أن يجلس فيتشهد ويسلم، هذا قول في المذهب وهو المشهور فيه. وهناك أقوال هي روايات عن الإمام أحمد: القول الأول: أنه يفارقه في موضعه الذي خالف فيه لكنه ينتظره، وهذا الانتظار هل هو واجب أو مستحب أو مباح ثلاث روايات عن الإمام أحمد أصحها وجوب الانتظار، لأن المتابعة للإمام واجبة في فعل أركان الصلاة كلها، وحيث وقع الإمام في مخالفة في الصلاة فإنه ينهي مسابقته وتنتظره حتى تتابعه في بقية الصلاة وإلا فليزم من ذلك أن الإمام لو اختل في الركعة الأولى فزاد فيها فإن للمأموم أن ينفرد عنه وحينئذ ينفتح باب واسع نهى عنه الشارع. مسألة: مسبوق إذا زاد الإمام خامسة، وكان معه مسبوقون فتابع الإمام فيها ساهياً أو جاهلاً فهل يعتد بها أم لا؟

القول المشهور في المذهب: أنه لا يعتد بها لأنها زيادة لاغية لا قيمة لها، فإنها في حق الإمام لا قيمة لها فهي زيادة لا غية. والقول الثاني في المذهب وهو اختيار الموفق: أن هذه الركعة معتد بها للمأموم لأنها وإن كانت لا غية في حق الإمام لكنها ركعة صحيحة في حق المأموم فوقعت في محلها وإن كان الإمام هذه الركعة لاغية له لأن الحكم هنا إنما هو في حق المأموم لا في حق الإمام. كما أنه لو صلى الإمام وثبت له بطلان صلاته لفعله ما يبطلها فإن صلاة المأموم صحيحة لأن هذه الركعات باطلة بالنسبة إلى الإمام وهي صحيحة بالنسبة إلى المأموم. فعلى ذلك هذه الركعة يعتد بها - إن كان ساهياً أو جاهلاً بخلاف إذا كان عالماً – فإذا علم أنها زيادة فلا يتابعه بل يفارقه لأنه قد ثبت له أن الإمام يزيد في الصلاة ما ليس منها فلا يحل له والحالة هذه أن يتابعه لأن الإمام يفعل ما ليس من الصلاة، وما كان ليس من الصلاة في اعتقاد المأموم فإنه لا يحل له متابعته عليه فالبحث فيما إذا كان ساهياً أو جاهلاً. فلو أتى وقد بقي ركعة من الصلاة فزاد الإمام ركعة ناسياً وتابعه المأموم ساهياً أو جاهلاً فإن الركعة يعتد بها ويسلم معه، وتنتهي بذلك صلاته. والحمد لله رب العالمين قال المؤلف رحمه الله تعالى: (وعمل مستكثر عادة من غير جنس الصلاة يبطلها عمده وشهده هذا هو المشهور في المذهب وتقدم ترجيح أن العمل الكثير في الصلاة سهواً لا يبطل الصلاة فإذا فعل فعلاً كثيراً من غير جنس الصلاة ساهياً جاهلاً فلا يبطل الصلاة بذلك. قال: (ولا يشرع ليسره سجود) هذا الشاهد في باب سجود السهو، أنه لا يشرع ليسره سجود. تقدم أن الفعل اليسير وهو ظاهر قول المؤلف هنا – أن اليسر لا يبطل الصلاة فمن فعل فعلاً من غير جنس الصلاة وكان يسيراً كفتح باب ولبس ثوب ولف عمامة ونحو ذلك فلا يبطل الصلاة، وهل يشرع له سجود سهو أم لا؟

قال هنا: (ولا يشرع ليسره سجود) لعدم وروده مع ثبوت داعيه، فإنه قد ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم فعل فعلاً يسيراً في الصلاة كفتح الباب ولم يثبت أنه سجد سجدتي السهو، ولأن هذا يقع من المكلف كثيراً فيشق الأمر بالسجود له. قال: (ولا تبطل يسير أكل أو شرب سهواً ولا نفل يسير شرب عمداً) هذه المسألة في مبطلات الصلاة، وقد ذكرت للمنا. وهي: أن الصلاة لا تبطل يسير أكل أو شرب سهواً وإذا أكل أو شرب في الفريضة عامداً فالصلاة باطلة بالإجماع مثل ذلك أو كثر عرفاً والصلاة – كما تقدم – أن إنها لا تبطل أن أكل أو شرب في الفريضة أو النافلة يسيراً سهواً لأن الله تجاوز عن هذه الأمة الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه، في قوله صلى الله عليه وسلم: (أن الله تجاوز عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه) فالسهو نسيان، والجهل من الخطأ وهنا قيده باليسير لأنه أن كان كثيراً، فإنه عمل كثير والعمل الكثير تقدم أنه يبطل الصلاة عمداً وسهواً - على المذهب – وتقدم الراجح. وعن الإمام أحمد: أن الكثير كذلك للسهو – وهو الراجح – فعلى ذلك يقيد هذه المسألة باليسير تقييد رجوح والراجح عدم تقييده. فالمشهور في المذهب: أن اليسير من الأكل والشرب لا يبطل الصلاة، أما الكثير مبطلها، ذلك لأن الفعل الكبير وأن كان سهواً يبطل الصلاة والأكل والشرب الكبير كذلك. والصحيح في هذه المسألة والتي ألحقوها، أن السهو يعذر في المكلف فلا يبطل به الصلاة – وهو رواية عن أحمد. (ولا نفل يسير شرب عمداً) فالنفل أن شرب فيه يسيراً كأن يشرب أو نحو ذلك، عامداً فلا يبطل الصلاة وهو مروي عن ابن الزبير. قالوا: لأن النافلة يستحب إطالتها وحيث شرب فيها فإن هذا على إطالتها، والصلاة النافلة يتسامح فيها ما لا يتسامح في غيرها.

وظاهره أن الأكل اليسير عمداً يبطل النافلة كما يبطل الفريضة للفارق بين الأكل والشرب فيما تقدم، فإن المصلي يحتاج إلى شرب مالا يحتاج إلى الأكل. والقول الثاني في المذهب وهو رواية عن الإمام أحمد أن الأكل كذلك، وأن الأكل والشرب اليسير في النافلة جائز وهو قول إسحاق بن إبراهيم. وحجتهم: أنه أكل يسيراً أو شرب يسير فأشبه العمل اليسير في الصلاة لكن هذا منتقض فإن العمل اليسير جائز في الفريضة أيضاً، والأكل لا الشرب اليسير لا يجوز فيها مع أن العمل اليسير لا يؤثر فيها فالحكم على النافلة – هنا – يجوز الأكل والشرب اليسير لأن العمل اليسير جائز فهنا يقال: مقتضاه أن الفريضة يجوز الأكل والشرب اليسير فيها، لأن العمل اليسير جائز أيضاً ومقتض الإجماع المتقدم خلاف هذا، فأن فيه أن الأكل والشرب مبطل مطلقاً قل أو كثر. لذا ذهب الإمام أحمد في رواية أخرى، قال الموفق فيها: (وهي الصحيح من المذهب، وهو مذهب الجمهور – أن الأكل والشرب اليسير عمداً في النافلة مبطل لها وهذا هو الذي يقتضيه القياس، فأن ما أبطل الفريضة فإنه مبطل النافلة إلا أن يدل دليل على تخصيص أي منهما بحكم، وحيث لا دليل على تخصيص فأنا نبقى الحكم على عمومة فيشمل الفريضة والنافلة. فالراجح: أنه لا يجوز له مطلقاً الأكل والشرب في النفل واحد كان يسيراً خلافاً للمشهور عند المتأخرين من الحنابلة وهو الصحيح في المذهب كما قال الموفق: وهو مذهب جمهور العلماء. قال: (وأن أتى بقول مشروع في غير موضعه كقراءة في سجود وقعود وتشهد في قيام، وقراءة سورة في الأخير تبين لم تبطل ولم يجب له سجود بل يشرع) . إذا أتى بقول مشروع كالفاتحة في غير موضعه، كأن يقرأ الفاتحة في ركوعه أو سجود أو نحو ذلك، أو يقول: " سبحان ربي العظيم " في غير موضعه كالسجود – مع قيامه بما وجب عليه.

فمثلاً: قرأ الفاتحة فقام بالواجب عليه لكنه قال ذكر مشروعاً في قيامه لا يشرع فيه القيام – فلا تبطل الصلاة بذلك وأن كان عامداً – ولا خلاف بين أهل العلم في ذلك. (أو لم يجب له سجود بل يشرع له) فيشرع له السجود من غير وجوب أما كونه يشرع له فلقول النبي صلى الله عليه وسلم: (فإذا نسى أحدكم فليسجد سجدتين) قالوا: وهذا نسيان في الصلاة وأما كونه غير واجب، فلأنه جبر لما لا يجب، ففي الأصل لا يجب عليه ألا يفعل ما فعل، وإنما يستحب له ويشرع له ألا يفعل ذلك فعلى ذلك سجوده ليس بواجب – هذا هو المشهور في المذهب وعن الإمام أحمد أنه لا يشرع له مطلقاً أن يسجد، وهذا هو الراجح ذلك، لأنه لم يرد عن النبي صلى الله عليه وسلم السجود في هذا الموضع ولم يرد أيضاً السجود فيما هو بمعناه، فإن السجود الوارد عن البيهقي في فعل يبطل الصلاة كأن يعهدمما ترك تشهد تبطل الصلاة ويتركه عمداً ونحو ذلك، وهنا ليس الأمر كذلك فقد سهى في أمر أن فعله متعمداً لا يؤثر في صلاته ولا يبطلها، أما سجود السهو فإنه جبر لما لو تعمده يتطلب الصلاة لكنه لم يتعمد فوجب عليه سجدة السهو. أما هنا فالأمر خلاف ذلك. فأنه يسجد فهو لما لو تركه تعمداً لم تبطل صلاته وليس هذا في معنى المشروع ولم يرد عن النبي صلى الله عليه وسلم، ومثله لا يبعد وقوعه. قال: (وأن سلم قبل إتمامها عمداً بطلت) إذا سلم قبل إتمام الصلاة عمداً فالصلاة باطلة لأنه تحلل منها قبل محل التحلل وقبل أن تصح منه وتتم على المشروع وهذا باتفاق أهل العلم. قال: (وإن كان سهواً ثم ذكر قريباً أتمها وسجد)

رجل سلم من ركعتين والصلاة رباعية – ساهياً، ثم ذكر ذلك قريباً في العرف فليس هناك فاصل طويل عرفاً وأن خرج من المسجد أو دخل منزله لكن الفاصل قريب عرفاً فحينئذ يتمها ويسجد بعدها، لحديث ذي اليدين المتقدم وثبت من حديث عمران بن حصين – في مسلم – قال: (سلم النبي صلى الله عليه وسلم في ثلاث ركعات من العصر ثم قام فدخل الحجرة فقام إليه رجل بسيط اليدين فقال: أقصرت الصلاة فخرج مغضباً فصلى الركعة التي كان ترك ثم سلم ثم سجد سجدتي السهو ثم سلم) فهنا النبي صلى الله عليه وسلم دخل الحجرة وهذا يعتبر فاصلاً، ومع ذلك فأن النبي صلى الله عليه وسلم أتم الصلاة ولم يستأنفها. وسيأتي كلام شيخ الإسلام في مسألة قريبة من هذه المسألة وهي مسألة من سها في صلاته فنسى سجود السهو فطال الفاصل أو قصر فما حكم ذلك؟ سيأتي الكلام عليه أن شاء الله. فأذن: أن قصر الفاصل عرفاً وأن خرج من المسجد ودخل منزله ونحو ذلك فإنه لا يؤثر في صلاته بل يتمها – ما لم يحدث – فإن أحدث فهو مبطل للصلاة باتفاق العلماء، لأن الصلاة في حكم المتصل فإن أحدث فقد قطعها. قال: (فأن طال الفصل عرفاً أو تكلم لغير مصلحتها بطلت) " تكلم في غير مصلحتها " كأن يكون تكلم مع أحد من الناس في غير مصلحة الصلاة – كما كان محتملاً من النبي صلى الله عليه وسلم فإنه قد خرج فيحتمل أنه سلم على أهله ونحو ذلك – فإذا تكلم لغير مصلحتها بطلت. أما لو تكلم لمصلحتها كأن يتكلمون في السهو ويسأله المأمومون عنه فتباحث معهم في ذلك فأن هذا لا يؤثر لكن المؤثر هو أن يتكلم فيما هو خارج عن مصلحتها لكنه فعل ذلك على سبيل السهو أو الجهل " وسيأتي البحث في هذه المسألة الدرس القادم أن شاء الله " وترجيح أن الكلام في الصلاة سهواً أو جهلاً لا يبطلها وسيأتي دليل على ذلك.

وحينئذ فأن الحكم في هذه المسألة كذلك، وعليه فإذا تكلم جاهلاً أو ناسياً بعد أن سلم فإن الصلاة لا تبطل لذلك وأن كان في غير مصلحتها لأنه وأن كان في حكم المصلين لكنه تكلم ساهياً أو جاهلاً فيكون معذوراً – هذا هو الراجح – أما على المذهب: أنه إذا طال الفصل أو تكلم في غير مصلحة الصلاة فإنها تبطل. مسألة: الطعام الذي يكون في الفم، ما حكمه؟ له ثلاث صور: الصورة الأولى: أن يضع الطعام في فيه من غير أن يمضغه فيكره ذلك في الصلاة. فلو أن رجلاً وضع لقمة في فيه فصلى مع إمكان القراءة ونحوها فالصلاة صحيحة مع الكراهية. الصورة الثانية: أن يضع في فمه شيئاً يتحلل قالوا: كسكر ونحوه فتحلل ودخل، فالصلاة باطلة بالاتفاق لأن هذا أكل. الصورة الثالثة: أن ما يكون بين أسنانه ونحوه فله صورتان: الأولى: أن يكون مما يجري في الريق، يعني: شيء متحلل بين الأسنان لكنه يجري في الريق فهذا لا يؤثر قولاً واحداً في المذهب وذلك لمشقة التحرز منه. الثاني: أن يكون يحتاج إلى دفع، فقولان في المذهب: القول الأول: أنه يبطل الصلاة، فإذا دفعه فدخل في الجوف فأن الصلاة تبطل به، لأن أكل فلا يشق التحرز منه. القول الثاني: أنه لا يبطلها فهو له حكم ما يجري بالريق والأظهر والأحوط القول الأول: لأنه في الحقيقة أكل، ولا يشق التحرز منه. مسألة: رجل صلى مع الإمام، فسها الإمام فصلوا ثلاثاً في رباعية، فلما أراد أن يخرج أخبره رجل أنهم صلوا ثلاثاً فكبر وهو قائم وأتى بركعة فما حكم ذلك؟ الحنابلة قالوا: تبطل صلاته لأنه ترك النهوض بل يجب عليه أن يجلس ثم يقوم وهذا غير معتبر وذلك لأن النبي صلى الله عليه وسلم - في حديث ذي اليدين – لم ينقل عنه أنه جلس ولو كان ذلك تنقل إلينا.

والتعطيل بذلك: أن يقال: أن هذا الانتقال ليس مقصوداً لذاته، بل المقصود القيام، فهو وسيلة إليه، فما دام أنه وصل إلى القيام بعد ذلك مع العذر فلا بأس بذلك وهو اختيار الشيخ عبد الرحمن ابن سعدي. والحمد لله رب العالمين. قال المؤلف رحمه الله تعالى: (بطلت ككلامه في صلبها) الكلام في الصلاة يبطلها هذا في الجملة – وذلك بإجماع أهل العلم – فالكلام في الصلاة عمداً بغير مصلحتها يبطل الصلاة. ودليل ذلك: ما ثبت في الصحيحين من حديث زيد بن أرقم قال: (كنا نتكلم بالصلاة يكلم أحدنا صاحبه إلى جنبه نزلت: {وقوموا لله قانتين} فأمرنا بالسكوت) زاد مسلم: (ونهينا عن الكلام) وفي الصحيحين من حديث ابن مسعود قال: (كنا نسلم على النبي صلى الله عليه وسلم في الصلاة فيرد علينا، فقلنا يا رسول الله إن كنا نسلم عليك في الصلاة فترد علينا، فقال: (أن في الصلاة لشغلاً) وفي مسلم: (أن هذه التسبيح والتكبير وقراءة القرآن) فهذه الأحاديث مستند إجماع العلماء على أن من تكلم في الصلاة عامداً لغير مصلحتها ولغير واجب وجب عليه ولا خروج منه إلا بالكلام فيبطل صلاته إجماعاً، وقد اختلف أهل العلم في مسائل ذكرها المؤلف لقوله: (ككلامه في صلبها) فهذا لفظ عام فيه أن الكلام في الصلاة مبطل لها مطلقاً سواء كان لمصلحتها أو لإنقاذ مسلم من هلكة أو كان عن جهل أو إكراه أو نسيان أو نحو ذلك فكله مبطل لها ودليلهم: عموم الأحاديث المتقدمة، فعموم الأحاديث تدل على هذا، وأن الكلام لا يصلح في الصلاة مطلقاً وأن كان عن نسيان أو جهل أو إكراه سواء كان من إمام أو مأموم وسواء كان لمصلحة الصلاة أو لغير مصلحتها أو كان إنقاذاً أو لم يكن فكله مبطل لها ما دام في صلبها.

وقوله: (في صلبها) احترازاً من الكلم بعد السلام عند السهو فيه، فإذا سهى مسلم قبل وقته فتكلم في مصلحة الصلاة فسيأتي استثناؤه وأما ما سواها فكله إلى عدم البطلان بما تقدم: الإكراه والنسيان والإنقاذ والجهل ". أما النسيان: فإذا تكلم في صلب الصلاة ناسياً فما حكم صلاته؟ فالصحيح ما ذهب إليه الشافعية في أن النسيان لا يبطل الصلاة. ودليل ذلك: حديث ذي اليدين المتقدم فإن فيه أن النبي صلى الله عليه وسلم تكلم بعد السلام ناسياً وتكلم أصحابه وهذا أمر ظاهر فإن المتكلم ناسياً ليس كالمتعمد، فأن المتعمد مناقض لأمر الشارع مخالف له، وأما الأخر فلا. والحقيقة: أن هذا الفارق إنما هو مؤثر في الإثم، بخلاف الإعادة، فلا مانع أن يؤمر الناس بالإعادة مع رفع الإثم عنه لأنه غير مناقض للشرع، لكن لما كان النسيان يقع من المكلف كثيراً فشق إبطال الصلاة به، والمشقة تجلب التيسير شرع هذا الحكم فأن الناسي إذا تكلم في صلاته فلا تبطل صلاته – وهذا هو الراجح – أما المكره: ففيه قولان: القول الأول: وهو المشهور في المذهب: أن الصلاة تبطل إذا أكره على الكلام. القول الثاني: أنها لا تبطل وهو مذهب الشافعية. ودليلهم: قياس المكره على الناسي فأن الشارع لم يفرق بينهما في قوله: (أن الله تجاوز لي عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه) أما القول الأول فإن الصلاة تبطل به وهو الراجح، وذلك لأن الشارع قد جمع بين الإكراه والنسيان في رفع الحرج والإثم، فالمكره لا حرج عليه لكنه يؤمر بالإعادة فلا يؤثم على كلامه في الصلاة كما أن الناسي لا يؤثم أما مسألة إبطال الصلاة فهي مسألة خارجة عن هذا الحديث. والقياس المتقدم قياس مع الفارق، والفارق بين الإكراه والنسيان: أن النسيان يكثر فيشق التحرز فيه، وأما الإكراه فيقل بل يندر، فعلى ذلك يرفع عنه الإثم ويبقى عليه إعادة الصلاة.

أما إنقاذ الهالك: كأن يتكلم رجل في الصلاة لينبه من هو في طريق هلكه، ولا يمكن تنبيهه إلا بذلك فما الحكم؟ الشافعية قالوا: لا تبطل الصلاة بذلك، لأن المصلي هنا قد تكلم بما يجب عليه، كما ثبت في الصحيحين من كلام الصحابة مع النبي صلى الله عليه وسلم فإنهم تكلموا فيما يجب عليهم من بيان سهو النبي صلى الله عليه وسلم في صلاته وهم في الصلاة ليسوا بناسين ولا ساهين، فمن تنبهه من الصحابة فإنه يعلم أنه ناسي فينتبه. والحنابلة: قالوا تبطل الصلاة. وأجابوا عن استدلالهم بكلام الصحابة مع النبي صلى الله عليه وسلم. فقالوا: أن هذا الكلام خارج عن هذا الباب، فالكلام الوارد عن الصحابة إنما لمصلحة الصلاة، أما هنا فليس لمصلحتها، فإن من مصلحة المأموم إصلاح صلاة إمامه، وعلى ذلك فلو أن المأموم لم يمكنه أن ينبه إمامه إلا بقوله: (أركع أو أسجد) فإنه يفعل ذلك ولا حرج عليه. أما إذا نبه خارج الصلاة، فإن الصلاة تبطل بذلك للفارق بين المسألتين. فأن تنبيه الصحابة كان لواجب يتعلق بصلاتهم، وأما هنا فهو واجب أخر يخرج عنها. فعلى ذلك: يجب عليه تنبيه هذا الذي هو في طريقه إلى الهلكة لكن صلاته تبطل بذلك. أما الجاهل: فلو تكلم رجل في الصلاة جاهلاً فما حكم صلاته؟ قال الحنابلة: تبطل الصلاة، لأنه كلام داخل في عموم الحديث. وقال الشافعية: لا تبطل الصلاة.

واستدلوا بما روى مسلم في صحيحه: أن معاوية بن الحكم السلمي قال: (بينما أنا أصلي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا عطس رجل من القوم فقلت: يرحمك الله، فرماني القوم بأبصارهم فقلت: (وأثكل أماه، ما شأنكم تنظرون إلى فجعلوا يضربون بأيديهم على أفخاذهم، فرأيتهم أنهم يصمتونني لكني سكت، فلما صلى النبي صلى الله عليه وسلم فبأبي هو وأمي ما رأيت معلماً قبله ولا بعده أحسن تعليماً منه، والله ما نهرني " أي قهرني " ولا ضربني ولا شتمني، قال: (أن هذه الصلاة لا يصلح فيها شيء من كلام الناس إنما هو التسبيح والتكبير وقراءة القرآن) فهذا الحديث ظاهر في هذه المسألة ترجيح لمذهب الشافعية. فالراجح: إذا تكلم في الصلاة جاهلاً فلا تبطل الصلاة. فالراجح: أن الصلاة لا تبطل بالكلام عن النسيان أو جهل وإنما تبطل بالتعمد أو الإكراه أو التنبيه على أمر خارج عن الصلاة. قال: (ولمصلحتها أن كان يسيراً لم تبطل) والمراد إن كان خارجاً عن صلبها، في المسألة المذكورة سابقاً وهي ما إذا سلم قبل إتمام صلاته ساهياً فبعد السلام تكلم هو والمأمومون لمصلحة الصلاة فهذا يستثنى عند الحنابلة بشرط أن يكون يسيراً لأن ما ثبت العفو عنه إنما هو التيسير. والراجح: ما تقدم وأن الكلام مطلقاً لمصلحة الصلاة سواء كان يسيراً أو كثيراً ما دام لمصلحتها فإنه لا يبطل الصلاة. لكن متى ثبتت للإمام أن الصلاة ناقصة ويجب إتمامها فلا يجوز أن يستمر في الكلام مع المأمومين وأن كان في مصلحة الصلاة، بل يكون ذلك بقدر ما يحتاج إليه لمعرفة الخطأ في صلاته. قال: (وقهقهة ككلام) القهقهة: هو الضحك الذي يخرج منه الصوت. فهو مبطل للصلاة بالإجماع، وذلك لمنافاته للصلاة وقد قال جابر: (القهقهة تنقض الصلاة ولا تنقض الوضوء) رواه الدارقطني مرفوعاً وصوب وقفه، فالصواب أنه موقوف.

وأما التسبيح فلا يبطل الصلاة بالاتفاق لأنه ليس مناف للصلاة ولا دليل يدل على بطلان الصلاة به. قال: (وأن نفخ أو انتحب من غير خشية الله تعالى، أو تنحنح من غير حاجة فبان حرفان بطلت) " أن نفخ " أي قال: " أف " في الصلاة. " أو انتحب " أي رفع صوته بالبكاء. أو تنحنح من غير حاجة فبان حرفان بطلت الصلاة أي خرج منه، من تنحنحه أو نفخ أو بكاء أو أنين أو تأوه أو نحو ذلك فإنه – أن كان من غير حاجة فأن الصلاة تبطل به. وعليه أن كان وقع منه عن غلبة فإنه لا يؤثر، فلو تنحنح أو نفخ عن غلبة فلا يؤثر. وعلة هذه المسألة: أن الكلام يثبت بالحرفين " لا " و " نعم " و " أب " و " أخ " فالكلام يقع من حرفين فأكثر، فإذا تنحنح فخرج منه حرفين أو أكثر فذلك يكون كلاماً فيكون مبطلاً للصلاة. والراجح وهو رواية عن الإمام أحمد، ومذهب الإمام مالك أن الصلاة لا تبطل كذلك، لأن مثل ذلك ليس بكلام فالنفخ والنحنحة ونحوها ليس بكلام وأن بان فيها حرفان. فالكلام – من حيث كلماته ومفرادته – وهو ما أفاد معنى. والكلام المحذور في الصلاة ما أفاد معنى مخاطباً به الآدمي فلفظه " نعم أو " لا " وليس في لغة العرب أن النحنحة أو البكاء أو النفخ – أن ذلك يعد كلاماً – فالراجح: أنه ليس بكلام فإذا وقع ذلك منه سواء كان عن غلبة أو لم يكن عن غلبة وسواء كان عن حاجة أو عن غير حاجة فأن ذلك لا يبطل الصلاة – وقد روى – أبو داود والترمذي بإسناد صحيح عن عبد الله بن عمر قال: فكأن يقول في سجوده " أف، أف " فلم يكن هذا مبطلاً للصلاة ولا مؤثراً فيها ومعلوم أن الكلام وأن احتاج ومعلوم أن الكلام وأن احتاج إليه المصلي –

كما هي قاعدة المذهب – لا يبطل الصلاة فكيف جعلوا هذا كلاماً ولا يبطلها مع الحاجة، وما تقدم يبطلها ولو كان ذلك لمصلحتها أو لمصلحة من يجب تنبيهه بما بها تصل إلى الضرورة في المسائل المتقدمة، ومع ذلك ابطلوا الصلاة بها، واعتبروا هذا كلاماً وأجازوه في لحاجة فهذا مما يبين ضعف هذه المسألة عندهم. والقاعدة: أنه لو ثبت أنه كلام لكان حكمه كحكم الكلام تماماً لا فرق بينهما فيبطل به الصلاة ضرورة أو حاجة ما لم يكن مما يستثنى كما تقدم في المذهب. وقد تقدم حديث علي في تنحنح النبي صلى الله عليه وسلم في الصلاة لكن الحديث ضعيف، وما ذكر كاف فيه وهو أنه ليس بكلام ولا دليل على إبطال الصلاة فيه مع أنه يقع من المصلي كثيراً فيشق أن تبطل الصلاة به. مسألة: إذا قرأ في الصلاة آيةً أو جزءاً منها مخاطباً ونحو ذلك، كأن يطرق عليه الباب فيقول: " أدخلوها " أو نحو ذلك؟ قال شيخنا: (هذا لا يخلو – فيما يظهر لي – من حالتين وما أتذكر كلاماً لأهل العلم في ذهني الآن) الحالة الأولى: أن يكون قد جمع بين هذا وبين خطاب الله فاكتفى بآية خاطب بها الله وخاطب بها الآدمي. فحينئذ: لا يعدو الأمر ألا أن يكون إسماعاً للآدمي بما يخاطب الله به مما يكون مناسباً للآدمي فحينئذ لا يبطل به الصلاة. الحال الثانية: أن يخاطبه بغير نية خطاب الله والتعبد له، فحينئذ: تبطل به الصلاة، لأن هذا لا يعتبر قرآن، بدليل أن قرأ الآية وهو جنب، وقلنا أن الجنب لا يجوز أن يقرأ القرآن كما هو مذهب الجمهور. فالجمهور يقولون: لا يضر لأنه ليس قرآن، لأنه خرج عن أن يكون قرآن. فهذه الطريقة – من كونه يخاطب به آدمي لمقصد حادث – أخرجه عن أن يكون قرآن فحينئذ يبطل الصلاة. ثم ذكر لنا – شيخنا بعد ذلك أن هذا ما يقرره الشافعية فقد قرره الشيرازي في كتابه " المهذب " الذي شرحه النووي في المجموع. والحمد لله رب العالمين.

قال المؤلف رحمه الله تعالى: (ومن ترك ركناً فذكره بعد شروعه في قراءة ركعة أخرى بطلت التي تركه منها، وقبله يعود وجوباً فيأتي به وبما بعده) من ترك ركناً من أركان الصلاة غير التحريمة فإنها لا تدخل في هذا الباب، لأن الصلاة لا تصح إلا بتكبيرة فمن صلى بلا تكبيرة إحرام فالصلاة باطلة وأن كان عن سهو فالصلاة لا تنعقد إلا بها فمن ترك ركنا سوء تكبيرة الإحرام، كأن يترك سجوداً أو ركوعاً أو نحو ذلك. مثال: رجل صلى وهو في الركعة الأولى سجد الأولى فقام إلى الركعة الثانية فترك ركعتين الجلسة بين السجدتين والسجدة الثانية فلهذه المسألة صورتان: ذكرهما المؤلف: الأولى: أن يذكر السهو الواقع منه بعد قيامه وقبل أن يشرع في القراءة. الثانية: أن يذكره بعد شروعه في القراءة. أما في الصورة الأولى: وهي ما إذا ذكر ذلك قبل شروعه بالقراءة فأنه يرجع وجوباً – هذا الإجماع كما حكاه المجد ابن تيميه وقال الموفق: (لا نعلم فيه مخالفاً) فيرجع ويجلس بين السجدتين ويسجد السجدة الثانية وما بعده وما قامه فإنه لأنه وقع في غير محله وموضعه. أما الصورة الثانية: وهي ما إذا ذكره بعد شروعه بالقراءة , فقال: (فذكره بعد شروعه في ركعة أخرى بطلت التي تركه فيها) فتبطل الركعة وتلغو لأنه قد ترك ركناً منها، فتكون الصلاة صحيحة لكن هذه الركعة باطلة، فتقيم الركعة الثانية مقام الركعة الأولى – هذا هو المشهور في المذهب – وهناك قول في المذهب – وهو مذهب الشافعية – أنه يجب عليه الرجوع وأن شرع في القراءة ما لم يصل إلى الركن الذي يقابل الركن الذي تركه، فإذا وصل إليه فإنه يقوم مقامه وهذا القول أرجح، لأنه لا دليل على التعريف بين ما إذا ذكره قبل الشروع وبين ما إذا ذكره بعد الشروع.

قالوا: أن تذكره له أثناء شروعه بالفاتحة قد شرع في ركن مقصود وأما قبل ذلك فالقيام ركن غير مقصود لكن هذا ليس بصحيح، فأن القيام ركن مقصوداً أيضاً بدليل وجوبه على من لم يكن قائماً، فيجب عليه القيام، فالقيام ركن، وهو قد شرع في ركن، فكما أوجبنا عليه وقد شرع في الركن الذي هو القيام قبل القراءة، فكما أوجبنا عليه الرجوع في هذا، فكذلك يجب عليه أن يعود إذا شرع في القراءة فليس هناك فرق مؤثر ثم أنه يلزم من القول الأول إبطال ما ثبت صحته فأنه قد كبر وقرأ الفاتحة وركع وسجد كل ذلك أوقعناه صحيحاً له وليس هناك ما يدل على بطلانه. وكوننا نلغي الركعة كما ذكر الحنابلة، فيه إبطال لما وقع صحيحاً ثابتاً ولم يرد دليل على إبطاله وكذلك فيه إثبات لزيادة لم تقع سهواً، فإنه لما قام في الركعة الأولى وركع وسجد كل ذلك – كان عمداً لا سهواً، فإذا ألغيناه فقد أثبتنا في الصلاة زيادة قد تعمدها صاحبها. لذا الراجح ما ذهب إليه الشافعية وهو أحد القولين في المذهب وأنه يجب عليه الرجوع مطلقاً ما لم يصل إلى الركن المقابل إلى الركن المتروك فحينئذ يقوم مقام الذي ترك. وهنا صورة ثالثة لم يذكرها المؤلف: وهي ما إذا ذكره أثناء الركعة فأنه يجب عليه الرجوع بالإجماع كرجل كبر للصلاة وركع ثم سجد مباشرة ساهياً، وذكر في أثناء الركعة فإنه يرجع إليه وجوباً. قال: (وأن علم بعد السلام فترك ركعة كاملة) أي أنه لما سلم علم أنه ترك سجوداً، يقيناً لا شكاً (فترك ركعة كاملة) لأن هذه الركعة قد اختلت بترك ركن من أركانها وتبطل ولا تصح لأنه قد ترك فيها ما هو من قوامها مما لا تصح إلا به، فتكون الصلاة صحيحة وما تركه من الركن يجبره بفعل ركعة كاملة ويسجد للسهو أما قبله أو بعده على الخلاف المتقدم. والقول الثاني في المذهب: وهو قول غير مشهور في المذهب: أنه يأتي بالركن الذي تركه وما بعده.

فإذا ترك مثلاً السجدة الثانية من الركعة الأولى، فإنه يكبر فيأتي بالسجدة وما بعدها. وهذا هو الأرجح لأن ما فعله قبل ذلك الركن قد ثبت صحيحاً وهذا الركن المتروك وما بعده باطل أما المتروك فظاهر لأنه لم يفعل، وأما ما بعده فلأنه لم يقع في موقعه: فكان الواجب عليه أن يأتي بالركن وما بعده من الركعات فعلى ذلك: إذا كان سهوه في الركعة الأولى فإنه يأتي بما بعدها من الركعات. فإن كان الركن الذي تركه ليس متعلقاً بركعة من الركعات وإنما هو ركن منفرد بنفسه كالتشهد الثاني، فإذا تركه فأنه يأتي به فقط ويسلم. قال: (وأن نسى التشهد الأول ونهض لزمه الرجوع ما لم ينصب قائماً فإن قائماً كره رجوعه، وأن لم ينصب لزمه الرجوع) . إذا نسى التشهد الأول فنهض فيلزمه الرجوع وهو في حالة النهوض ما لم يصل إلى القيام، فيجب عليه الرجوع لأنه ترك واجباً يجب عليه فعله، ولم يشتغل بركن، ولا ترتب على فعل الواجب الذي فعله فإنه زيادة ركن في الصلاة – وهذا مذهب الجمهور – وقد روى أبو داود بإسناد فيه جابر الجعض وهو ضعيف – من حديث المغيرة بن شعبة: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا شك أحدكم فقام في الركعتين فاستتم قائماً فلا يعود وليسجد سجدتين فأن لم يستتم قائماً فليجلس ولا سهو عليه) وهذا حديث ضعيف لكن المعنى المتقدم يدل عليه، فقد ترك واجباً ولم يشتغل بعد بركن فوجب عليه أن يأتي به إذ هو متعلق في ذمته ويمكن فعله من غير بدل ولا ترتيب زيادة في الصلاة ولا ترك ركن بسبب فعله.

(فأن استتم قائماً كره رجوعه) فإذا استتم قائماً فيكره رجوعه، لكن لو رجع تصح لكنه مكروه لأن النبي صلى الله عليه وسلم – كما في الصحيحين من حديث عبد الله ابن قال: (أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى بهم الظهر فقام في الركعتين الأولين ولم يجلس فقام الناس معه حتى قضى الصلاة وانتظر الناس تسليمه وكبر وهو جالس وسجد سجدتين قبل أن يسلم ثم سلم) فهنا النبي صلى الله عليه وسلم قام من الجلوس، وظاهر لفظة (قام) أنه قد ثبت قيامه وقد قال صلى الله عليه وسلم: (صلوا كما رأيتموني أصلي) فإنما يكره لمخالفته السنة. ولذا فالراجح أن استمراره بالقيام واجب، فلا يجوز له الرجوع كما هو قول في المذهب، لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (صلوا كما رأيتموني أصلي) وكان يجب عليه أن يجلس فتركه للوجوب يدل على أنه لا يجوز فعله، وقد استتم قائماً فلم يرجع ولأنه قد اشتغل بركن لا يجوز تركه، فإنه قد اشتغل بالقيام، فهو كما لو اشتغل بالقراءة، وقد اتفق العلماء على أنه لو اشتغل بالقراءة فلا يجوز له أن يرجع ولا فرق بين الصورتين لأن القيام ركن والقراءة ركن. فالراجح: أنه إذا استتم قائماً سواء شرع في القراءة أم لم يشرع فلا يجوز له الرجوع. قال: (وأن لم ينصب لزمه الرجوع) هذا تكرار للمسألة السابقة في قوله: (وأن نسي التشهد الأول لزمه الرجوع) قال: (وأن شرع في القراءة حرم الرجوع) لفعل النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث المتقدم، وهو مما اتفق عليه أهل العلم. واعلم أن القاعدة: أنه إذا مضى فيما يجب عليه الرجوع فيه أو رجع فيما يجب عليه المضي فيه عامداً فالصلاة باطلة. مثال: ما إذا مضى فيما يجب عليه الركوع: كرجل قبل أن يستتم قائماً مضى مع علمه بالوجوب فإن الصلاة تبطل لأنه ترك واجباً من واجبات الصلاة.

(وإذا رجع فيما يجب عليه المضي فيه) كأن يرجع بعد أن يشرع في القراءة فإذا رجع فصلاته تبطل أن كان عامداً عالماً بالحكم أما الجاهل والناسي فلا شيء عليه. واعلم أن الإمام إذا استتم قائماً فسُبح به فرجع فأنه يكون مخطئاً وعليه فإن المأمومين في خطئه أما إذا قاموا فنتصبن، ورجع الإمام قبل أن يستتم قائماً لكنهم سبقوه بالانتصاب فإنه يجب عليهم الرجوع لأن الإمام مصيب بفعله ويجب عليهم أن يتابعوه، لأن الإمام يتابع حيث كان مصيباً أو ساهياً سهواً نتابع بمثله وأما متابعته في القيام عن ترك التشهد فأن السنة قد دلت عليه كما في حديث ابن بحينة المتقدم، فالنبي صلى الله عليه وسلم ترك التشهد وقام مقام الصحابة وراءه وفي ابن خزيمة: (فسبحوا به فمعنى) فهم يعلمون أن النبي صلى الله عليه وسلم كان ساهياً في عن هذا الواجب ولم يفارقوه بل تابعوه ولم ينكر ذلك عليهم النبي صلى الله عليه وسلم بل أمرهم عليه. لذا اتفق أهل العلم على أنه الإمام إذا سهى فتركه الجلسة للتشهد فإن المأمومين يتابعونه. مسألة: ترك التشهد ترك واجب من واجبات الصلاة، فهل غيره من الواجبات كغيره في هذا الحكم – كالتسبيح والتحميد وغيرها من الأذكار الواردة في الأركان؟ الجواب: فارق بين مسألة القيام عن التشهد الأول وبين ترك التسبيح والتحميد ونحوها من الواجبات التي في الأركان في تلك الجلوس للتشهد تبع للتشهد وإنما شرع له وأما هنا فإنه إذا رجع إلى الواجبات ليأتي بها وأن لم يصل إلى الركن فإنه يلزم فيه أن يأتي بالركن مرة أخرى، فيكون في الصلاة زيادة متعمدة. لذا هذه الواجبات إذا خرج عن محلها فأنه لا يعد ويجبرها بالسجود، وأن لم يصل الركن الذي بعدها، لأنه برجوعه يفعل الركن مرة أخرى. أما في التشهد: فإنه لو جلس للتشهد ولم يتلفظ بالتشهد فقام فإنه يرجع لأن الجلوس مشروع للتشهد أما هذا فالركوع ركن وهذه الأذكار واجبة فيه، وهي أركان مقصودة بذاتها.

قال: (وعليه السجود للكل) للمسألتين، والسجود – كما تقدم في المذهب – قبل السلام. أما المسألة الثانية فالحديث الصحيح يدل عليها وهو حديث عبد الله بن بحينة، والقاعدة تدل عليها فإنها نقص في الصلاة. وأما المسألة الأولى فهي زيادة في الصلاة، فقد زاد في الصلاة أركاناً على سبيل السهو. فالواجب أن يكون سجد بعد السلام، لأن ما كان عن زيادة فإنه بعد السلام على الراجح كما تقدم – وهو مذهب مالك واختاره شيخ الإسلام ابن تيميه رحمهما الله جميعاً. والحمد لله رب العالمين. قال المؤلف رحمه الله تعالى: (ومن شك في عدد الركعات أخذنا بالأقل) من شك في عدد الركعات، فلا يدري أصلى ثلاثاً أم أربعاً فإنه يبني على اليقين فيأخذ بالأقل. واستدلوا بما ثبت في مسلم من حديث أبي سعيد أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا شك أحدكم في صلاته فلم يدر كم صلى أثلاثاً أم أربعاً فليطرح الشك وليبن على ما استيقن ثم ليسجد سجدتين قبل أن يسلم، فإن كان صلى خمساً له صلاته وأن كان صلى تماماً كانتا ترغيماً للشيطان) ومثله لو شك وقد ركع هل أدرك الإمام في ركوعه أم لا، كأن يأتي متأخراً فيسجد الإمام راكعاً فيركع ثم يشك هل رفع الإمام رأسه قبل أن يدركه أم بعد أن أدركه ومثل ذلك لو شك في ركن هل فعله أم لا؟ فأنه يبني على اليقين وهو أنه لم يفعل أو لم يزدهن الزيادة. وظاهر كلام المؤلف مطلقاً سواء كان إماماً أو منفرداً، وسواء كان الشك مع علته ظن أو مع استواءت الطرفين. فظاهر كلام المؤلف أن الصورتين كليهما داخلة في البناء على التيقن وهو رواية عن الإمام أحمد وهو مذهب الجمهور. والرواية الأخرى عن الإمام أحمد وهي ظاهر مذهبه (أي المشهور فيه) . التفريق بين الإمام والمنفرد:

أما المنفرد فإنه يبني على اليقين مطلقاً فلا يحكم عليه ظنه وأما الإمام فإنه أن أمكنه غلبه ظن تسبيح الناس خلفه فإنه يعمل به، وأن لم يمكنه ذلك إما بأن يختلف المأمومون أو لا ينتبه أحد منهم – فإنه يبني على اليقين. واستدلوا: بما ثبت في الصحيحين من حديث ابن مسعود أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (وإذا شك أحدكم في صلاته فليتحر الصواب فليتم عليه ثم يسجد سجدتين) وفي رواية البخاري: (فليتم ثم يسلم ثم يسجد) فهذا الحديث فيه أن من أمكنه أن يتحرى الصواب فإنه يتم عليه ويسجد بعد السلام. وقد حمل الحنابلة هذا الحديث على الإمام الذي يمكنه أن يتحرى الصواب بنية المأمومين. فإن لم يمكنه تحري الصواب كأن يختلف المأمومون أو لا يحدث تنبيه مع الشك الواقع فيه فإنه – حينئذ يبني الإمام على اليقين. وهناك رواية ثالثة عن الإمام اختارها شيخ الإسلام: وهي الراجحة إلى أن الإمام والمنفرد كليهما على غلبة الظن ويتحرى الصواب فأن لم يكن هناك صواب يتحراه فإنه يبني على اليقين وهذا هو القول الراجح لعمومات الأحاديث. فأن حديث أبي سعيد الشك عام من الإمام والمنفرد: (إذا شك أحدكم في صلاته) سواء كان إماماً أو منفرداً فإنه يبني على اليقين مادام الشك مع استواء في الطرفين كما أن حديث ابن مسعود حديث عام في الإمام والمنفرد ثم إن غلبة الظن يحصل من المنفرد كما حصل من الإمام، فغلبة الظن التي تحصل بنيته المأمومين يمكن أن يحصل هذا الغلبة للمفرد وأن لم يكن هناك تنبيه فإن يكون الواقع في قلبه أنه صلى ثلاثاً أو أربعاً أو نحو ذلك، وهذا هو المقصود، فأن تنبيه المأمومين لا يعدوا إلا أن يكون وسيلة إلى غلبة الظن، فإذا حصلت غلبة الظن بدون تنبيه من المأمومين فيحكم بها لأنها هي المقصودة في الحكم. تقدم أن المذهب أن غلبة الظن يحصل للإمام دون المنفرد في هذه المسألة، بسبب تسبيح المأمومين.

وعليه: فإذا كان الإمام ليس وراءه إلا مأموم واحد فإن هذا المأموم لا يرجع إلى قوله – كما تقدم – في المشهور من المذهب. وعليه فأن هذه المسألة السابقة: حيث كان مع الإمام مأمومان فأكثر يحصل بتسبيحها الظن الغالب أما إذا سبح به واحد أو لم يكن وراءه إلا مأموم فأن الإمام لا يحكم بغلبة ظنه هنا، لأن المأموم واحد، والواحد لا يرجع إلى قوله – كما تقدم – هذا تقرير المذهب – وعليه – وهو على المذهب – إذا شك المأموم في صلاة إمامه فأن المأموم يبني على اليقين لأن الإمام لا يرجع إليه لكونه واحداً – وهذا خلاف الظاهر، لأن الشارع قد أمر بمتابعة الإمام ما لم يثبت في صلاته خلل، ومجرد الشك لا تعارض الظاهر. فالظاهر أن صلاة الإمام صحيحة يجب على المأموم أن يتابعه عليها، وحيث شك المأموم فأن شكه لا تعبير لأنه مخالف للظاهر. هذان التفريقان على مذهب الحنابلة – وألا فالراجح – كما تقدم – هو اعتبار غلبة الظن مطلقاً للإمام والمنفرد. قال: (ولا شك في ترك ركن فكتركه) فإذا شك في ركن فلما لو تركه، كأن يشك هل ركع أم لا؟ فهو كما لو ترك الركوع. وقد تقدم حكم ترك الركن – وأنه في المشهور من المذهب إذا شرع في القراءة في الركعة الثانية لم يرجع إليه وقامت الركعة الثانية فقام الركعة الأولى التي سقط ركنها نسياناً. وإذا لم يشرع فإنه يعود إلى الركن فيأتي به. كذلك إذا شك، فقبل الشروع بالقراءة يرجع إلى الركن فيأتي به، لأن الأصل أنه لم يأت به فهذا ركن إيجادي يجب إيجاده فالأصل عدمه، فما دام أنه شك فإننا نبقى على الأصل وهو عدم فعله منه وقد تقدم الكلام إذا ترك ركناً من أركان الصلاة، فكذلك إذا شك في تركه فإنه يعطي حكم الترك مطلقاً. وظاهر كلامه – إنقاذ – أنه يبني على التيقن مطلقاً واليقين هنا أنه لم يفعل هذا الركن، فعليه أن يرفع إليه قبل الشروع بالفاتحة، وإذا شرع بطلت الركعة التي شك في ركن من أركانها.

والقول الثاني: في المذهب أنه يبني على غلبة الظن إن كان هناك غلبة ظن. كان يشك هل ركع أم لا، ويمكنه ظنه أنه ركع، فحينئذ حكمه أنه أتى به فيتم الصلاة على أنه قد أتى بهذا الركن ثم إذا سلم سجد سجدتين وهذا هو الراجح – كما تقدم – فالراجح في هذه المسألة – كالراجح في المسألة المتقدمة استدلالاً ودليلاً، فإن هذه المسألة داخلة في عمومات الأحاديث، فينظر في شكه فأن كان عنده غلبة ظن فأنه يعمل به، ويسجد سجدتين بعد السلام وإلا بنى على اليقين وسجد قبل السلام – واليقين هنا – أنه لم يفعل – قال: (ولا يسجد لشكه في ترك واجب أو زيادة) لما رفع من الركوع شك هل سبح فيه أم لا؟ والشك: المعتبر هو الذي لا يقع عن وسوسة من الشيطان وهو الذي يكثر في الصلاة وبتحديث كثيراً فيعلم أنه من الشيطان. وكذلك الشك بعد السلام ليس بمعتبر، فإذا صلى وشك هل تركت الركن أو هل صليت ثلاثاً أم أربعاً أو هل تركت الواجب – فهذا ليس بمعتبر اتفاقاً لأن الظاهر أن الصلاة قد تمت وصحت فلا يفارقها هذا الشك الوارد إليها. فإذا شك من ترك واجب، فلا يشرع له السجود سواء عنده غلبة ظن أو لا. قال: لأن الأصل عدم السجود وقد شك في سببه، لكن هذا ضعيف، لأن المسائل المتقدمة، كذلك فأن الأصل عدم سجود السهو وقد شك في السبب، لما تقدم في حديث: (فلم يدر كم صلى أثلاثاً أم أربعاً) فإنه شك والأصل عدم السجود، فالصحيح الشك في ترك الواجب كالشك في ترك الركن وهو قول في المذهب، لأن الأصل عدم فعل الواجب، فلما شك ما استوى الطرفان رجعنا إلى الأصل وهو عدم الفعل، لأنه واجب إيجادي كما تقدم في الركن وأنه ركن إيجادي، فالأصل أنه لم يفعله، فما دام أنه لم يتيقن أو أنقلب على ظنه فعله فإنا نحكم أنه لم يفعل وهذا القول هو الراجح. وعليه: ترك الواجب كترك الركن، لكن تقدم أن ترك الركن يرجع إليه.

لكن هنا نقول: يبنى على إنه لم يفعل مطلقاً، فلا يرجع لأن الرجوع ممتنع ويسجد قبل السلام. إلا إذا كانت عنده غلبة ظن، كأن يشك في التسبيح في الركوع ويغلب على ظنه قوله فإنه يسجد بعد السلام وإلا فإنه يسجد قبله. إذن: إذا كان عنده شك في فعل الواجب – وكان شكاً فاستوى الطرفين فالسجود قبل السلام. وإذا كان مع ترجيح الفعل فإنه يسجد بعد السلام. قال: (أو زيادة) فإذا شك في زيادة فلا يشرع له أن يسجد، كأن يشك هل صلى أربعاً أم خمساً أو يشك أنه ركع في ركعة ركوعين أو ثلاث سجودات أو نحو ذلك فهذا شك زيادة فلا يشرع له السجود لأن الأصل عدم الزيادة وعدم السجود. فحينئذ: نبني على الأصل، فلا يشرع له أن يسجد لأن هذا الشك الوارد شك زيادة والأصل عمها والأصل عدم السجود: فلا يشرع له أن يسجد. كما أنه لا يشرع له السجود إذا زال شكه وزال موجب سجوده وكأن يشك رجل هل صلى ثلاثاً أم أربعاً فبنى على اليقين، فلما شرع في الرابعة تيقن أنه لم يكن مخطئاً وأنه ليس هناك شك وإنه مجرد خاطر وقع في قلبه فحينئذ: لا يشرع له السجود لأنه موجبة الشك وقد زال الموجب، فلا يشرع له السجود – كما ذكر ذلك الحنابلة وهو قول ظاهر، ودليله ما تقدم من زوال موجبة وهو الشك. والحمد لله رب العالمين. قال المؤلف رحمه الله تعالى: (ولا سجود على مأموم إلا تبعاً لإمامه) فإذا سهى المأموم فلا يسجد للسهو إلا تبعاً لإمامة فإذا سهى ووافق سهوه سهو الإمام، أو سهى الإمام فإنه يسجد معه. ويستثنى من ذلك: ما إذا كان السهو للمأموم في حال القراءة عن إمامه، كأن يكون مسبوقاً، فيقع السهو منه في حال إتمامه للصلاة، لأنه لإمام إنما يحتمل سهوه حيث كان تبعاً له متصلاً به مأموماً، وأما والحالة هذه فإنه يسجد ولا يحتمل عنه الإمام لأن صلاته التي وقع فيها السهو ومنفرداً فيها عن إمامه.

فإذا سهى المأموم مع إمامه فلا يسجد للسهو إلا في الصور المتقدمة – هذا مذهب جماهير العلماء حتى حكاه إسحاق وابن المنذر إجماعاً وأن المأموم إذا سهى خلف إمامه متى تابع فيه إمامه فإنه لا يسجد – وهو مذهب عامة أهل العلم. وذهب طائفة من أهل العلم وهو مذهب الظاهرية ومذهب الشوكاني والصنعاني من المتأخرين إلى أنه يسجد للسهو الذي وقع منه خلف إمامه. استدل أهل القول الأول: بأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يأمر من تكلم جاهلاً خلفه – لم يأمره بالسجود فلو كان السجود واجباً خلف الإمام لأمره بالسجود وهذا استدلال ضعيف لأنا لا نسلم أصلية السجود في مثل هذا وأن الإمام والمأموم إذا تكلم ساهياً أنه يسجد بل الظاهر أنه لا يسجد لعدم الدليل الدال على مشروعية السجود هنا وليس بمعنى ما ورد به النص. واستدلوا: بحديث رواه الدارقطني لكن إسناده ضعيف جداً من حديث عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ليس على من خلف الإمام سهو فإذا سهى الإمام فعليه وعلى من خلفه) . واستدل بعضهم: بأن الصحابة يبعد جداً ألا يقع منهم السهو خلف النبي صلى الله عليه وسلم ولم ينقل لنا أن أحداً منهم سجد مع النبي صلى الله عليه وسلم سهو وقع منه. وأجيب عن هذا: بأن عدم النقل ليس نقلاً للعدم، والصحابة لا يشترط أن يثبت لنا أنهم طبقوا عموماً من العمومات أما إذا خالفوه فنعم، فإن هناك من العلماء من يرى التخصيص بعملهم أو قولهم.

واستدلوا – وهو أصح أدلتهم – بأن الإمام يتابعه المأموم في سجوده وهذه زيادة في الصلاة أوجبنا على المأموم أن يتابع إمامه فيها، كما أن الإمام يتحمل عنه عمده، فإن الإمام إذا قام عن التشهد الأول ساهياً وجب على المأموم أن يتابعه فيقوم عمداً، والنقص مثل ذلك، فإن السجود إنما هو جبر لنقص حدث في الصلاة ترك يبطل الصلاة عمداً، وقد وقع من المأموم سهواً وهناك كذلك، فإن الزيادة في الصلاة مبطلة لها ومن أجل متابعة الإمام وألا يحدث في الصلاة خلاف بين المأمومين وإمامهم – من أجل ذلك أمر الشارع المأموم أن يريد في صلاته هاتين السجدتين لمتابعة الإمام، فهذه زيادة وترك السجود نقص فكان هذا قياساً ظاهراً. وأما أهل القول الثاني: فاستدلوا بعمومات الأدلة لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (وإذا نسى أحدكم فليسجد سجدتين) فهذا حديث عام في الإمام والمنفرد والمأموم لكن الصحيح ما تقدم من باب القياس الصحيح المذكور فإن الإمام يتحمل عن مأمومه الزيادة في الصلاة " في سجدتين السهو " ومتابعة في تعمد ترك واجب من الواجبات فيقوم عن التشهد متعمداً ليتابع إمامه كل ذلك ليحصل الموافقة بين صلاة المأموم وصلاة إمامه. فالراجح أنه لا يشرع للمأموم أن يسجد للسهو خلف إمامه إلا تبعاً لإمامه. وهنا مسائل: المسألة الأولى: - لعدم ذكرها – وهو أنه إذا سهى المأموم خلف إمامه فيما انفرد به من الصلاة فإنه يجب عليه السجود قولاً واحداً. المسألة الثانية: وإذا سهى الإمام فيجب على المأموم أن يتابعه في السجود كما تقدم – وحينئذ – فأن كان المأموم مسبوقاً في صلاته وكان الإمام عليه سجود لسهواً قبل السلام أو يعده، فكيف يتابعه؟ هل يجب عليه أن يتابعه عند سجوده أو يجب عليه أن يؤخر ذلك؟ قولان لأهل العلم:

القول الأول: وهو مذهب الحنابلة: أنه يجب عليه أن يسجد مع إمامه، سواء كان سجوده قبل السلام أو بعده فإذا سلم الإمام قام فأتم صلاته لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (وإذا سجد فاسجدوا) فإذا سجد الإمام للسهو وجب على المأمومين عامة أن يسجدوا سواء من كان منهم مسبوقاً أو لم يكن مسبوقاً. فالمسبوق: أن كان السجود قبل السلام فلا أشكال فإنه يسجد مع الإمام فإذا سلم قام فأتم صلاته وأما إذا كان بعد السلام فإنه لا يسلم مع الإمام، فإذا سلم الإمام وكبر سجد للسهو سجد معه ثم إذا سلم الإمام قام فأتم صلاته ويجزئه ذلك عن السجود. القول الثاني: وهو مذهب الشافعية والمالكية: إذا كان قبل السلام فإنه يسجد مع الإمام، لحديث: (وإذا سجد فاسجدوا) وهو عموم. وأما إذا كان بعد السلام فإن المأموم يقوم بعد سلام الإمام من الصلاة ولا يسجد معه سجدتي السهو، ويتم صلاته ويسجدهما بعد السلام. قالوا: لأن هاتين السجدتين إنما هما مشروعتان خارج الصلاة فتمام المتابعة للإمام أن يفعلا خارجها، فكان المشروع للمسبوق ألا يسجد مع إمامه بل يسجدهما بعد السلام وهذا القول أرجح. وهناك قول ثالث: بالإطلاق وأنه لا يسجد مع الإمام مطلقاً سواء كان السجود قبل السلام أو بعده وهو قول الأوزعي بل يسجد بعد إتمام صلاته سواء كان بعد السلام أو قبله. والراجح مذهب أهل القول الثاني: وأنه يسجد معه أن سجد قبل السلام لعموم قوله: (وإذا سجد فاسجدوا) وكونه ينتظر ولا يسجد معه مفارقة للإمام والواجب أن يتابعه، أما بعد السلام فإنه يتم صلاته ولا يتابع الإمام في سجدتي السهو ثم يسجدهما بعد سلامه وهذه هي المتابعة فأن السجدتين إنما شرعاً بعد السلام فلا يشرع للمأموم أن يتابع إمامه فييفعلهما في صلب صلاته.

وإذا قلنا بالمذهب: فهنا مسألة متفرعة وهي: ما إذا كان على الإمام سجدتين للسهو فقام المأموم قبل أن يشرع في القراءة أن يسجدهما ساهياً، فينظر أن انتصب قائماً لم يجز له الرجوع، وأن لم ينتصب قائماً فيجب عليه الرجوع. هذا على المذهب المرجوح، وألا فالراجح أن المأموم لا يتابع إمامه في هذا الموضع وسجدتي السهو واجبتان فكان حكمهما كحكم من قام عن التشهد، فإنه إذا شرع في القيام فقد شرع في ركن فلا يجوز له أن يدعه إلى الواجب فيعود بل ينتصب قائماً ثم يسجد بعد ذلك. - المسألة الثالثة: إذا سهى الإمام في صلاته ولم يسجد فهل يسجد المأموم أم لا؟ قولان لأهل العلم: أ – قال جمهور أهل العلم: يجب على المأموم أن يسجد لأن الصلاة قد وقع فيها نقص من جهة الإمام فيلحق هذا النقص المأمومين، ويجبر ذلك بالسجود ولم يحدث ذلك من الإمام فكانت الصلاة فيها نقص من جهة المأمومين فوجب عليهم السجود. ب- القول الثاني: وهو رواية عن الإمام أحمد: أنه لا يسجدون لأن سجود المأموم تبع لسجود إمامه، فالأصل أنه لا يشرع للمأموم أن يسجد هاتين السجدتين، إنما يسجدهما تبعاً لسهو إمامه فهو لم يقع فيه سهو بل وقع من الإمام لكنه شرع له تبعاً لإمامه فإذا لم يوجد موجب السجود فإنه لا يسجد له تبعاً لإمامه فإذا لم يوجد فوجب السجود فإنه لا يسجد وموجبة هو وقوع ذلك من الإمام، فحيث لم يقع ذلك من الإمام فإنه لا يشرع له السجود ألا أن يكون السهو منهم فهي مسألة أخرى، أما ما تقدم فالكلام على ما إذا كان السهو واقعاً من الإمام فحسب. فالراجح أنه إذا لم يسجد لم يشرع للمأمومين السجود لزوال الموجب. قال: (وسجود السهو لما يبطل عمده واجب)

والأحاديث ظاهرة في وجوب سجود السهو كقول النبي صلى الله عليه وسلم: (إذا نسى أحدكم فليسجد سجدتين) وظاهر الأمر الوجوب وهنا ذكرها قاعدة وهي: أن ما يبطل عمده يجب السجود له لكن هذا ليس على إطلاقه، فأن الكلام يبطل الصلاة عمده ومع ذلك فالراجح أنه لا يشرع له السجود فهي قاعدة ليست مطلقة بل حيث ورد الدليل فالأصل عدم السجود ألا أن يرد دليل يدل عليه أو يرد صوره بمعنى ما ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم السجود فيه. قال: (وتبطل بترك سجود أفضليته قبل السلام فقط) هنا ثلاث مسائل: الأولى: أن من ترك السجود الذي أفضليته قبل السلام فالصلاة باطلة فإذا ترك السجود قبل السلام في شك قد استوى طرفاه وهو مستحب له السجود قبل السلام، فإذا ترك السجود فإن الصلاة تبطل، لأنه يكون تاركاً لواجباً من واجباتها وترك الواجب عمداً تبطل الصلاة. الثانية: إذا ترك سجوداً للسهو مشروعاً بعد السلام فأن الصلاة لا تبطل به – هذا هو المشهور في المذهب – لكنه يكون آثماً لتركه واجب. قالوا: هو يشبه – حينئذ – ما هو واجب خارج الصلاة، كالإقامة والأذان فأنها من واجبات الصلاة التي هي خارجة عنها، فالسجود بعد السلام هو واجب لكنه خارج عنها فاشبه الإقامة والأذان وقد تقدم أن من ترك الأذان والإقامة مع وجوبهم فأن الصلاة تصح ويكون آثماً لتركه هذا الواجب. وهناك قول في المذهب اختاره الشيخ عبد الرحمن بن سعدي أن الصلاة – تبطل بذلك، لأن السجود متمم للصلاة جابر لها فالصلاة ناقصة دونه، وإنما شرع بعد السلام لا لكونه شبهاً للإقامة والأذان وإنما شرع بعدها لأن الأليق في حقه أن يكون بعدها، فإنه يكون عن زيادة فإذا شرع قبل السلام اجتمع في الصلاة زيادتان، وأما إذا شرع بعده فلا يجتمع في الصلاة زيادتان ومع ذلك فإنه يبقى بلفظ الزيادة ويذهب أثرها. وهذا القول أرجح، لأنه واجب متصل بالصلاة وأن كان خارجاً عنها، متمم لصلبها فهو منها.

الثالثة: قوله: (أفضليته) هذا المشهور في المذهب حكى ذلك إجماعاً وهو أن السجود في كونه قبل السلام أو بعده أنه وأن كان السجود واجباً فإن كونه قبل السلام أو بعده هذا ليس على الوجوب بل على الاستحباب فمثلاً إذا شك في الصلاة استحب أن يكون سجوده قبل السلام فإن سجد بعده أجزأه ذلك. وإذا سلم قبل تمام الصلاة استحب له – عندما يتم الصلاة - أن يكون سجوده بعد السلام وأن سجد قبله أجزأه. وقد تقدم أن الراجح وهو اختيار شيخ الإسلام ورواية عن الإمام أحمد أن النقص يجب أن يكون سجوده قبل السلام: (وهو ظاهر كلام أحمد " وقال الزركشي " وهو ظاهر كلام أبي محمد – يعني الموفق – وأكثر أصحابنا) لكن المصرح به في كتب الحنابلة أن ذلك على الاستحباب. والراجح وجوبه وهو الذي تقتضيه الأدلة الشرعية لفعل النبي صلى الله عليه وسلم وقوله: (صلوا كما رأيتموني أصلي) وقد أمر بذلك كما قوله: (فليسجد سجدتين) وهذا أمر وهو للوجوب. قال: (وأن نسيه وسلم سجد أن قرب زمنه) إذا نسى السجود سواء كان قبل السلام أو بعده، فإنه يسجد أن قرب زمنه عرفاً، والمشهور في المذهب مادام في المسجد أو في موضعه الذي صلى فيه فإنه في حكم المسجد وهناك رواية عن الإمام أحمد: أنه لا فرق بين المسجد وغيره وإنما العبرة بطول الزمن عرفاً أو قصره. وعن الإمام أحمد رواية ثالثة اختارها ابن تيميه أنه يسجد وأن بعد الزمن أي لو تذكر سجود السهو بعد أيام فإنه لا يعيد الصلاة بل يسجد سجدتي السهو. قال شيخ الإسلام: (لأن تحديد ذلك يختلف في عادات الناس وأعرافهم) فليس له حد معروف عندهم، فكوننا نربط الناس به يكون فيه مشقة بل لا يمكنهم معرفة ذلك لأن الناس يختلفون في حده عرفاً أو ليس له حد في أعرافهم. وقال أيضاً: (وليس لهذا أصل في الشريعة) فليس هناك دليل يدل على التفريق بين طول الزمان وقصره وهذا القول هو الراجح.

وظاهر كلام ابن تيميه: كذلك في المسألة السابقة وهي من ترك شيئاً من الصلاة ناسياً كأن يسلم من ثلاث ركعات فإنه يأتي بها وأن طال الزمن. وقد استدل شيخ الإسلام بحديث عمران بن حصين المتقدم وفيه: (أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل حجرته فأخبر ما في المسجد فأتم الصلاة) – وظاهر ذلك أن هذا طويل عرفاً ولا فرق بين هذه المسألة والتي قبلها وأن كان شيخ الإسلام لم ينص على المسألة التي قبلها لكن في حكم هذه المسألة دليلاً واستدلالاً. فالراجح: أنه وأن طال الزمن فإنه يأتي بما ترك – وحينئذ – تكون الموالاة الواجبة قد سقطت عند العذر، فعذر النسيان اسقط الموالاة الواجبة في إتمام الصلاة فمن ترك شيئاً واجباً في الصلاة فالواجب أن يكون موالياً للصلاة لكن النسيان عذر اسقط الموالاة وقد دلت الشريعة على اعتباره – كما تقدم – لكون النبي صلى الله عليه وسلم مع فرضية الموالاة يأتي حجرته فيتحر فيأتي فيصلي ركعة، فهنا الموالاة منتفية والعذر موجود. أما من ترك سجود السهو متعمداً أي ترك الموالاة فيه ففعله متأخراً فالصلاة تبطل به لأن الواجب هو الموالاة وحيث تركها عمداً فتبطل الصلاة. قال: (ومن سها مراراً كفاه سجدتان) رجل سهى في الصلاة، مرتين أو أكثر فما الحكم؟ فيه تفصيل: أما أن كانا – أي السهوان – من جنس واحد، والمراد بذلك أن يشرع لهما سجود أما قبل السلام أو بعده أي هما من نوع واحد أما بالنقص أو زيادة. فحينئذ: لا خلاف بين أهل العلم أنه يكفيه سجود واحد، فإذا كانا زيادة فيسجد بعد السلام سجدتين وتكفيه عنهما، وكذلك إذا كانا نقصاً فيسجد قبل السلام ويكفيه عنهما، وهذا باتفاق أهل العلم. وإنما اختلفوا فيما إذا كانا من نوعين: أي أحدهما يشرع له السجود قبل السلام والأخر بعده.

مذهب جمهور أهل العلم أنه يكتفي بسجدتين قبل السلام لأنه هو الأحق بذلك فهو المتقدم ويكون ذلك أي سجوده قبل السلام استحباباً، والراجح وجوبه كما تقدم. وذهب الأوزعي إلى أنه أن كان السهو من جنس واحد فيكفيهما سجود واحد بعد السلام أو قبله فقد وافق الجمهور وخالفهم فيما إذا كان الأمر على خلاف ذلك وهو ما إذا كان السهوان من جنس مختلف. واستدل: بما رواه أبو داود وغيره من حديث ثوبان: (لكل سهو سجدتان) لكن تقدم أن الحديث ضعيف. والصحيح ما ذهب إليه الجمهور لقوله صلى الله عليه وسلم: (إذا نسى أحدكم فليسجد سجدتين) وهذا عام فيما إذا كان موضعه قبل السلام أو بعده، وسواء كان ذلك في موضعين أو موضع واحد، سواء كان منه سهوان أو أكثر من ذلك فهو حديث عام. مسألة: إذا كان السجود بعد السلام فهل يشرع له تشهد أم لا؟ ذهب جمهور أهل العلم إلى أن يشرع له التشهد فإذا كبر للسجدتين – كما في حديث أبى هريرة – وسجد السجدتين وجب عليه التشهد. واستدلوا: بحديث عمران بن حصين أن النبي صلى الله عليه وسلم: (سها فسجد سجدتين ثم تشهد ثم سلم) رواه أبو داود والترمذي. وذهب محمد بن سيرين وهو اختيار ابن تيميه وقال إليه الموفق إلى أنه لا يشرع له التشهد لظاهر حديث ابن مسعود وأبي هريرة الواردين في السجود بعد السلام وليس فيهما ذكر التشهد. قالوا: وقياساً على سجدة التلاوة فهي سجدة خارج الصلاة كما أن هاتين السجدتين خارج الصلاة، فكما أن سجدة التلاوة لا يشرع لها تشهد فكذلك سجدتا السهو. وأجابوا عن حديث عمران: بأنه حديث ضعيف شاذ وقد ضعفه ابن المنذر والبيهقي وابن عبد البر وشيخ الإسلام ضعفوه وتفرد اشعث بن عبد الملك الحمراني وهو ثقة وقد تفرد به عن عامة الرواة عن ابن سيرين وهو المحفوظ عنه فلم يذكروا التشهد فتفرد اشعث بذكر التشهد.

والمحفوظ من حديث ابن سيرين عدم ذكر التشهد بدليل أن مذهبه عدم القول بالتشهد ولو كان عنده رواية يقال بها. فالحديث شاذ لذا قال عنه الترمذي: (حديث غريب) والصواب ما ذهب إليه أهل القول الثاني وأنه لا يشرع التشهد لأن حديث ابن مسعود وحديث أبى هريرة ليس فيه ذكر التشهد مع توفر الهمم والدواعي لذكره، فإنه طويل لو كانا ثابتاً لذكر، فلما لم يذكره مع توفر الهمم والدواعي لنقله فهو لهذا طويل، فدل ذلك على عدم ثبوته , وأما حديث عمران فهو حديث شاذ كما تقدم. والحمد لله رب العالمين.

كتاب الصلاة باب سجود السهو

باب سجود السهو قوله: [يشرع - سجود السهو- لزيادة ونقص وشك] إذاً عندنا ثلاثة أحوال: 1- زيادة. 2- وعندنا نقص. 3- وعندنا شك. زيادة: كأن يصلي الظهر خمسا. نقصا: كأن يقوم في الركعتين، فلا يجلس للتشهد الأول. شك: كأن لا يدري هل صلى ثلاثا أم أربعا. وسيأتي تفاصيلها إن شاء الله. قوله: [لا في عمد] إذاً السجود في سهو لا في عمد، أما في ترك واجب أو ركن عمداً، فإن الصلاة تبطل كما تقدم، وهذا باتفاق العلماء، وإن كان القول بأن هناك واجب هذا من مفردات المذهب، فترك الواجب عندهم كترك الركن، فمن ترك واجبا أو ترك ركناً بطلت صلاته إن كان عمداً، ولأنه لم يفعل ما أمره الله به فلم يصل كما أمر الله، والنبي صلى الله عليه وآله وسلم يقول: (من عمِل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد) (1) . إذاً سجود السهو خاص بالسهو، ولذا قال عليه الصلاة والسلام كما صحيح مسلم: (إذا نسي أحدكم فليسجد سجدتين) (2) . قوله: [في الفرض والنافلة] يعني يُشرع في الفرض، ويُشرع في النافلة، أما الفرض فظاهر، وأما النفل؛ لأن ما ثبت فرضاً فهو ثابت نفلاً، ولعمومات الأدلة، فقوله: (إذا نسي أحدكم فليسجد سجدتين) ، هذا عام في الفرض وفي النفل. فإذا سها في سنة الظهر أو سنة الضحى ونحو ذلك، فإنه يسجد للسهو.

_ (1) أخرجه البخاري في الصلح، باب إذا اصطلحوا على صلح جور، ومسلم في الأقضية، باب نقض الأحكام الباطلة [1718] ، زاد المعاد [5 / 224] . (2) أخرجه مسلم باب السهو في الصلاة من كتاب المساجد، وابن ماجه باب السهو في الصلاة من كتاب إقامة الصلاة، المغني [2 / 418] .

وهنا فرق بين هذه المسألة والتي قبلها، هناك يصلي فرضاً أو نفلاً، ثم يترك سنة في هذه الصلاة، فنقول: لا يسجد للسهو، لكن هنا يترك ركناً أو واجباً سهواً في صلاة نفل، كأن يترك التسبيح في الركوع أو التسبيح في السجود في سنة الفجر مثلاً، فإنه يسجد؛ لأن ما ثبت فرضاً فهو ثابت نفلاً، ولعموم قوله عليه الصلاة والسلام: (فإذا نسي أحدكم فليسجد سجدتين) . ومن صور السجود في النفل: لو قام لثالثة في الليل، وصلاة الليل كما قال عليه الصلاة والسلام: (مثنى، مثنى) ، فإذا قام لثالثة سهواً، فإنه يجلس ويسجد سجدتين للسهو؛ لأن صلاة الليل مثنى مثنى، وأما إذا كان في النهار فقام إلى ثالثة، فله أن يُتم أربعاً، وفي صلاة الليل له أن يصلي خمساً أو سبعاً أو تسعاً، لكن ليس له أن يصلي أربعاً. فإذا دخل على أن يصلي مثنى مثنى، فصلى فقام إلى ثالثة، فإنه يجلس ويسجد للسهو، لأن صلاة الليل مثنى مثنى. قوله: [فمتى زاد فعلاً من جنس الصلاة] قيَّد الفعل بكونه من جنس الصلاة، فلو كان الفعل من غير جنسها، فإنه يدخل في المسألة السابقة، وهي مسألة الأفعال الكثيرة، أو مسألة الفعل في الصلاة، ما الذي يُبطل الصلاة منه؟ تقدم هذا، وأن الذي يبطله ما كان بحيث من يراه يقول: إنه لا يصلي، لكن هنا الكلام إذا كانت الزيادة من جنس الصلاة، وأما إذا كان الزيادة من غير جنس الصلاة، فننظر، إذا كانت كثيرة، فإنها تبطل الصلاة، وهي التي بحيث إذا رُئي المصلي قيل: إنه لا يصلي، وأما إذا كانت يسيرة، فإنها لا تبطل الصلاة، كما تقدم تقريره، ولذا قيد هنا المسألة بقوله: " من جنس الصلاة ". قوله: [قياماً] أي زاد قياما، كأن يقوم إلى ركعة خامسة. قوله: [أو قعوداً أو ركوعاً أو سجوداً عمداً بطلت، وسهواً يسجد له]

قوله هنا " أو قعوداً " أي قعوداً في غير محل القعود، لكن إن كان القعود في محل القعود فإن هذا لا يجب له سجود السهو. مثاله: جلس في محل التشهد يظن أنه جالسٌ بين السجدتين، فتذكر. هل نأمره بالسجود؟ الجواب: لا نأمره بالسجود، لأن هذا في محله، وليست الزيادة ظاهرة – فليست هناك زيادة -، غاية الأمر أنه تذكَّر أن هذا القعود ليس هو القعود الذي نواه، فكان يظن أنه في قعود للجلسة بين السجدتين، فتبين أنه في قعود للتشهد، فهنا القعود الآن في محل القعود، فقعد في محل قعود، لا في محل قيام. لكن لو أنه جلس بعد أن رفع من السجدة الثانية في الركعة الأولى، فلما أراد أن يقوم للركعة الثانية جلس وأطال الجلوس، يظن أن هذا هو التشهد الأول، - يظن أنه قد صلى ركعتين، وهو لم يصل إلا ركعة واحدة -، فتذكر فقام، أو نُبِّه، فهل يجب عليه سجود؟ الجواب: نعم، يجب عليه سجود؛ لأنه ليس في محل قعود. لكن لو كان في محل قعود، فغاية الأمر أن يكون قد نوى غير ما هو واجب عليه، ثم عاد فنواه، فلا يؤثر ذلك. وهذا التقييد في المذهب. هنا ظاهره أيضاً: أنه ولو كان ذلك بقدر جلسة الاستراحة، فلو أن رجلاً لا يرى جلسة الاستراحة، لما قام من الركعة الأولى جلس بقدر هذه الجلسة، ثم قام، فظاهر كلام المؤلف، وهو المذهب أنه عليه سجود السهو.

والقول الثاني، وذكره صاحب المغني وجهاً في المذهب، واختاره الزركشي من الحنابلة، وهو القول الثاني في المسألة: أنه لا يسجد له. وهذا هو الراجح، وذلك لأن تعمده لا يبطل الصلاة، فلو تعمد رجل هذه الجلسة اليسيرة، فهل نبطل صلاته؟ لا نبطل صلاته، فكذلك إذا سها؛ لأن المسائل السابقة إذا فعلها تعمداً بطلت صلاته، وإذا فعلها سهواً سجد، فهنا هذه الجلسة لو أن رجلاً جلس عجزاً أو تثاقلاً، ثم قام، وهو لا يرى استحبابها، فهل تبطل صلاته؟ الجواب: لا تبطل، حتى في المذهب، فكذلك إذا زادها سهواً. إذاً الراجح أنه لو جلس بقدر هذه الجلسة اليسيرة، ما دام أنها بنحو جلسة الاستراحة، فإنها لا تؤثر. قوله: [وإن زاد ركعة ولم يعلم حتى فرغ منها سجد] إن زاد ركعة في الصلاة، كأن يصلي خمسا، فلم يعلم حتى فرغ منها، سجد. رجل صلى الظهر خمسا، فلما سلّم نُبِّه، فما الواجب عليه؟ أن يسجد سجدتين، لما ثبت في الصحيحين من حديث ابن مسعود أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم صلى الظهر خمساً، فقيل له عليه الصلاة والسلام: أزيد في الصلاة؟ قال: (وما ذاك؟) قالوا: إنك صليت خمساً، فقام عليه الصلاة والسلام فسجد سجدتين بعد ما سلّم. إذاً المذهب أنه إذا صلى الظهر خمساً، ثم علم بعد الصلاة أنه قد زاد خامسة، فإنه يسجد للسهو بعد السلام، وتكون حال ضرورة، لأن الواجب عندهم أن يسجد قبل السلام، لكن هنا لم يعلم إلا بعد السلام، فتكون حال ضرورة. وتحرير مذهب الإمام أحمد في هذه المسألة: أنه يجب سجود السهو قبل السلام إلا ما ورد به النص، وهو في ثلاثة صور. إذاً الأصل عنده أن السجود قبل السلام، لأن السجود يتمم الصلاة، فكان قبل الصلاة، ولم يستثن إلا ثلاث صور قد وردت بها الأحاديث: الصورة الأولى: هذه الصورة، وهي أن يزيد في الصلاة، فيعلم بعد السلام، فيسجد بعد السلام، لأنها حال ضرورة.

الصورة الثانية: أن يَنقص من الصلاة ركعة فأكثر، فيسلِّم، ثم بعد أن يسلم الواجب عليه أن يتم صلاته، قالوا: ويسجد للسهو بعد السلام. يعني إذا صلى الظهر ثلاثا، فسلم أو صلى الظهر اثنتين، فسلم، فهنا نقص ركعة فأكثر، فيجب عليه أن يتم صلاته، ثم يسجد للسهو بعد السلام، لحديث عمران وأبي هريرة، وحديث أبي هريرة في الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم صلى إحدى صلاتي العَشيِّ ركعتين، ثم سلم، ثم قام إلى خشبة معروضة في المسجد، فقال له رجل يقال له ذو اليدين: يا رسول الله، أنسيت أم قُصرت الصلاة؟ قال: (لم أنس ولم تقصر) ، لما قال له ذلك، علم الرجل أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لم يُوح إليه بوحي جديد يوجب قصر الصلاة، فقال: بلى قد نسيت، وفي القوم أبو بكر وعمر، وقد هابا أن يكلماه، فلما سألهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم، قالوا: صدق ذو اليدين، فقام النبي صلى الله عليه وآله وسلم فصلى ما ترك، ثم سلم، ثم سجد سجدتين " إذا كان السجدتان للسهو بعد السلام. إذاً الصورة الثانية أن يُنقص من صلاته ركعة فأكثر، يعني يسلم قبل تمام الصلاة، فيجب عليه أن يتم ثم يسلم، ثم يسجد للسهو بعد السلام. الصورة الثالثة: أن يشك، فيتحرى. يعني يكون عنده شك، يقول: ما أدري هل صليت ثلاثاً أم أربعاً، فيتحرى، فيترجح عنده أنه قد صلى أربعاً، فهنا قال: يسجد للسهو بعد السلام، لحديث ابن مسعود رضي الله عنه، وسيأتي إن شاء الله. إذاً الإمام أحمد استثنى هذه الصور الثلاث.

وفي هذه المسألة ستة أقوال لأهل العلم أوردها الحافظ ابن رجب رحمه الله تعالى في فتح الباري، وأصح هذه الأقوال ما اختاره شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى، وهو قريب من مذهب مالك: أن الصلاة إن كان فيها نقص، فإن السجود يكون قبل السلام، وإن كان فيها زيادة، فإن السجود يكون بعد السلام، وهنا يوافقه الإمام مالك في هاتين الصورتين، والصورة الثالثة في الشك، فالإمام مالك عنده الشك قبل السلام، وأما شيخ الإسلام فيقول: إن كان الشك عند تحر، فبعد السلام فيوافق مذهب الإمام أحمد في هذا، وإن كان بلا تحر – يعني شك يستوي فيه الطرفان – فإنه يكون قبل السلام. إذاً الإمام مالك ليس عنده القول بالتحري، ويرى السجود قبل السلام. إذاً شيخ الإسلام رحمه الله تعالى يختار، - وهو أصح الأقوال - أنه إن كانت في الصلاة زيادة، فالسجود بعد السلام؛ لئلا يجتمع في الصلاة زيادتان، لأنه قد زاد، فإذا أوجبنا عليه السجود قبل السلام، كان فيه زيادتان، ولأن المقصود من هاتين السجدتين ترغيم الشيطان، فشُرع ذلك بعد السلام، ليكون إرغاماً للشيطان، والنبي صلى الله عليه وآله وسلم لما صلى الظهر خمساً، سجد بعد السلام، ولو كان السجود قبل السلام، لنبه الصحابة، ولقال لهم: إذا صليتم فاسجدوا قبل السلام، وإنما سجدت بعده لأن هذه حال ضرورة، فلما لم ينبههم عليه الصلاة والسلام لهذا عُلم أن هذا هو المشروع، فإن كان نقصاً فإنه يكون قبل السلام، فلو ترك التشهد الأول، فالواجب عليه أن يسجد قبل السلام، لأن السجود إنما يشرع الآن لتتميم الصلاة، وتتميمها إنما يكون قبل الفراغ منها، لأن الصلاة فيها نقص، فيسجد للسهو قبل السلام ليتمم نقصها، فكان جبرانا، فكان المشروع إن كان عن نقص أن يكون قبل السلام، وأما إذا كان مع تحر، فإنه يكون بعد السلام، لأنه قد تحرى، وغلب على ظنه صحة صلاته، وأن الصلاة على هذه الصورة، فكان

سجوده بعد السلام ترغيماً للشيطان، وأما إذا كان بلا تحري، فلأنه يُحتمل أن يكون قد زاد، فيحتمل أن يكون قد صلى خمسا، فتكون هاتان السجدتان تشفعان له صلاته. إذاً الراجح ما ذهب إليه شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى، وهو قريب من مذهب مالك، وما خالف فيه مذهب مالك، فهو موافق فيه مذهب الإمام أحمد رحمه الله تعالى. وهنا: هل لو سجد قبل السلام لِمَا السجود مشروع بعده، فهل يجزئه؟ وهل إذا سجد بعد السلام لِما السجود مشروع قبله، هل يجزئه ذلك؟ وهل خلاف أهل العلم المتقدم في الإجزاء أم في الأفضلية؟ يعني رجل نقص، فلو سجد بعد السلام هل يجزئه؟ ورجل زاد، فهل لو سجد قبل السلام – هذا على القول الراجح، وكذلك على الأقوال الأخرى –هل يجزئه؟ اختلف أهل العلم في هذا الخلاف: فمن أهل العلم كابن عبد البر من قال: إن خلاف أهل العلم فيما هو دون الإجزاء، هذا هو معنى كلامهم رحمهم الله تعالى، وأنهم لا يختلفون في أنه لو سجد قبل السلام لِما كان السجود مشروعا له بعده، أجزأه، وكذلك إذا سجد بعد السلام لما كان السجود مشروعا له قبله، فلا بأس، وهذا أيضا مذهب طائفة من أهل العلم. وذهب طائفة من أصحاب الإمام أحمد، وأصحاب الإمام الشافعي إلى: أن هذا الخلاف ليس في الأفضلية، وإنما في الإجزاء. وهذا هو ما قرره أيضا شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، وأن أصح القولين كما قال رحمه الله في مذهب أحمد وغيره أنه يجب السجود قبل السلام لِما شُرع السجود له قبل، ويجب بعده لما شرع بعده، قال: " وهو أصح القولين في مذهب أحمد وغيره " قال: " وعليه يدل كلام أحمد وغيره من الأئمة ".

إذاً عندنا بين أهل العلم خلاف، والذي يترجح هو القول الثاني، وأن هذا الخلاف في الإجزاء، وعلى ذلك فلو سجد قبل السلام لما يجب السجود فيه بعده، لم يجزه، وكذلك العكس، وهذا هو القول الراجح، وهو اختيار شيخ الإسلام رحمه الله تعالى لورود السنة في ذلك، والسنة متنوعة على حسب ما تقدم تقريره، وقد قال عليه الصلاة والسلام: (صلوا كما رأيتموني أصلي) ، وقال في بعض الأحاديث: (فليسجد سجدتين بعدما يسلم) ، إلى غير ذلك، وهذا القول هو القول الراجح، وهو اختيار شيخ الإسلام رحمه الله تعالى، وهو أحد القولين في مذهب الإمام أحمد وغيره. قوله: [وإن زاد ركعة فلم يعلم حتى فرغ منها سجد، وإن علم فيها جلس في الحال] إن علم بالزيادة فيها – أي في الركعة – فإنه يجلس في الحال. رجل وهو قائم في الخامسة، علم أنه في زيادة، فالواجب عليه أن يجلس في الحال، ولو استمر لبطلت صلاته؛ لأنه يكون قد زاد أفعالاً عمداً. قوله: [فيتشهد إن لم يكن تشهد] إذا لم يكن تشهد، نقول: تشهد. هل يُحتمل أن يكون قد تشهد؟ يحتمل، فقد يجلس في التشهد الأخير، ويظن أنه في التشهد الأول، فيتشهد ثم يقوم يظن أن هذا هو التشهد الأول، فإذا لم يكن تشهد، نقول: تشهد. قوله: [وسجد وسلَّم] وتقدم أن الراجح هنا: أنها لما كانت زيادة، فالواجب عليه أن يكون السجود بعد السلام. والله أعلم. انتهى الدرس الأول من باب سجود السهو في ليلة الاثنين التاسع من شهر رجب لعام 1420 للهجرة. قوله: [وإن سبَّح به ثقتان فأصر ولم يجزم بصواب نفسه بطلت صلاته] إن سبح به ثقتان لا فاسقان؛ لأن الفاسق لا يقبل خبره. فإن سبح به ثقتان ولو امرأتان فكذلك؛ لأن هذا خبر ديني فلا فرق فيه بين الذكر والأنثى.

إذاً لو سبح به ثقة فلا يرجع إلى قوله، وإنما يرجع إذا سبح به ثقتان أو أكثر، خلافا لما ذهب إليه إسحاق وأبو حنيفة من أنه يرجع إلى تسبيح الثقة. إذاً المذهب وهو مذهب الجمهور أن الإمام إنما يرجع بتسبيح ثقتين،لا بتسبيح ثقة. وهذا هو الراجح، ويدل عليه أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لم يرجع إلى قول ذي اليدين حتى سأل القوم وفيهم أبو بكر وعمر رضي الله عنهما، وهذا الحديث المشهور وهو حديث ذو اليدين الثابت في الصحيحين وهو: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم صلى إحدى صلاتي العشي ركعتين، ثم قام إلى خشبة معروضة في المسجد فاتكأ عليها كأنه غضبان، فقام رجل يقال له ذو اليدين، فقال: يا رسول الله، أنسيت أم قُصرت الصلاة؟ فقال: (لم أنس ولم تُقصر!) فقال ذو اليدين: بلى قد نسيت، وفي القوم أبو بكر وعمر، فهابا أن يكلماه، فلما قال له ذو اليدين ما قال، قالوا: بلى يا رسول الله، - أي لقول ذو اليدين – فقام النبي صلى الله عليه وآله وسلم فصلى ركعتين، ثم سلم ثم سجد سجدتين بعدما سلَّم) ، واحتج الحافظ ابن حجر بهذا الحديث على ما يقرره أهل العلم من أهل الحديث في باب العلل من رد تفرد الثقة عن الثقات، وأنه لا يُقبل ما تفرد به الثقة عن الثقات، قال: " لاسيما إذا كان مجلس سماعهم واحدا "، فهنا الأصل قبول خبر الواحد، لأنه خبر ديني، كما يُقبل الحديث الذي يتفرد به الراوي، لكن لما تفرد أحد المأمومين عن سائر المأمومين كان ذلك مظنة الخطأ والريبة في خبره، ومن ثم لم يقبل الواحد حتى يعضده خبر ثان. هنا إن سبح به ثقتان: فقد يكون يترجح عنده خطؤه. وقد يترجح عنده صوابه. وقد يتيقن أنه على صواب. إذاً هذا الإمام الذي سبح به ثقتان: إما أن يترجح عنده خطؤه، فهنا يجب عليه أن يرجع إلى خبر الاثنين. الحال الثانية: أن يترجح عنده صوابه، فهنا كذلك يجب عليه أن يرجع، لأن ظن الاثنين أقوى من ظن الواحد.

لكن هنا استثنى المؤلف الصورة الثالثة: وهي ما إذا تيقن صواب نفسه يعني إذا كان يتيقن أنه على صواب، وخبرهما غايته الظن، وهو ظن غالب، ولكن لا يصل إلى اليقين، وعلى ذلك فلا يرجع إلى قولهما لأن قولهما ظن، وما يحصل في نفسه يقين. إذاً إن لم يجزم بصواب نفسه بطلت صلاته، لكن إن جزم بصواب نفسه، فإن صلاته لا تبطل، بل لا يجوز له أن يرجع إلى قولهما وهو يرى أنه على صواب. قوله: [بطلت صلاته] إن لم يرجع هذا الإمام الذي قام خامسة يظنها رابعة، فسبح به ثقتان، ولم يعتقد صواب نفسه، فهنا إن لم يرجع فصلاته باطلة، لأنه واجب عليه الرجوع، فإذا ترك هذا الواجب عمدا فصلاته باطلة. قوله: [وصلاة من تبعه عالما لا جاهلا أو ناسيا] عالما: بحيث يعلم أن الإمام زاد خامسة، ويعلم أن الواجب على المأموم ألا يتابع الإمام إذا زاد خامسة، فإذا قام وهو يعلم أن ذلك لا يجوز، فإن صلاته أيضا تبطل، لأنها زيادة في الصلاة متعمدة. قال " لا جاهلا أو ناسيا ": إذا قام جاهلا، يظن أن عليه أن يتابع الإمام إذا زاد. أو ناسيا: قد حصل له من السهو ما حصل لإمامه، فهنا صلاته صحيحة. إذاً إذا تابعه ناسيا ساهيا أو تابعه جاهلا، فإن صلاته صحيحة. والذين تابعوا النبي صلى الله عليه وآله وسلم لما زاد خامسة في حديث ابن مسعود الذي تقدم، منهم من هو جاهل بالحكم، ومنهم من هو ناس، فلم يبطل النبي صلى الله عليه وآله وسلم صلاتهم. هل للمسبوق أن يتابع الإمام إذا زاد خامسة؟ الجواب: ليس له أن يتابعه، بل يفارق؛ لأنها زيادة لاغية. فإن تابعه ساهياً أو جاهلاً، فهل يعتد بهذه الركعة؟ - المذهب: أنه لا يُعتدُّ بهذه الركعة؛ لأنها زائدة لاغية في حق الإمام، فكذلك في حق المأموم.

- والقول الثاني، وهو الراجح، وهو قول في المذهب، واختاره الموفق ابن قدامة: أنه يعتد بهذه الركعة؛ وذلك لأنه لم يعتقدها زائدة، فهذا المأموم تابع الإمام على اعتقاده، فكما لو صلى الإمام وهو لم ينو إقامة الصلاة، فلو أن إماماً صلى وهو لم ينو، كأن يكون محدثا، لكن صلى بالناس، فصلاته باطلة، لكن المأمومين – كما تقدم، وكما سيأتي في الكلام على الإمامة - صلاتهم صحيحة، فكذلك هنا. إذاً الراجح أن المسبوق إذا تابعه ناسياً أو جاهلاً، فإنه يعتد بهذه الركعة؛ لأنها وإن كانت زائدة لاغية في حق الإمام، لكنه قد تابعه على وجه يُعذر فيه، فاعتد بهذه الركعة. قوله: [وعمل مستكثر عادة من غير جنس الصلاة يبطلها عمده وسهوه] تقدم هذا، وأن الفعل الكثير يبطل الصلاة، عمده وسهوه. والراجح أن سهوه لا يبطل الصلاة، وذلك لما تقدم في غير ما مسألة من أن باب المنهيات إن فُعل على جهة النسيان، فإن العبد يكون معذوراً لا يؤاخذ وتكون العبادة صحيحة، وهنا الرجل عمل أعمالا كثيرة، لكن على جهة النسيان والسهو، فتحرَّك مثلا حركات كثيرة على جهة السهو، وعلى ذلك فيكون معذورا، وعليه فالصلاة صحيحة، لأن باب المنهيات كما تقدم، لا تُعاد العبادة عند النسيان والجهل، كما تقدم تقريره من الفرق بين باب المنهيات وباب المأمورات. قوله: [ولا يشرع ليسيره سجود] رجل الباب بجواره، فطرق الباب طارق، ففتح الباب، أو تحرك بحركات يسيرة لا تبطل الصلاة، قال هنا: لا يشرع له سجود السهو؛ لعدم وروده عن النبي عليه الصلاة والسلام، وعلى ذلك فلا يشرع له أن يسجد للفعل اليسير الذي لا يبطل الصلاة. إذاً مراده بالفعل اليسير هو الذي لا يبطل الصلاة، قال: فلا يشرع له سجود، وهو كما قال. قوله: [ولا تبطل بيسير أكل وشرب سهواً أو جهلاً، ولا نفل بيسير شرب عمداً]

قال: لا تبطل الصلاة بيسير أكل، فقال " بيسير "، وهذا القيد يُخرج الكثير. لِمَ قيَّد هنا باليسير؟ لأن الأكل الكثير عملٌ كثير، والعمل الكثير في المذهب يستوي فيه السهو والخطأ، فإذا أكل كثيرا سهوا، فالصلاة تبطل. والراجح وهو رواية عن أحمد: أنه لا فرق بين يسير ولا كثير، فكما أن الكثير في الفعل لا يبطل الصلاة سهوا، فإن الأكل الكثير سهوا لا يبطل الصلاة. إذاً قوله " بيسير " احتراز من الكثير، فهي فرع عن المسألة، وقد تقدم أن الفعل الكثير يُعذر فيه المكلف بالنسيان، وتُصحَّح عبادته بالسهو، فكذلك الأكل الكثير. أما لو أكل يسيرا أو كثيرا عمدا، فإن صلاته تبطل بالإجماع؛ لمنافاة ذلك للصلاة، فإن الأكل والشرب ينافي الصلاة، وعلى ذلك فتبطل به الصلاة، وهذا بإجماع العلماء. وهنا إذا وضع طعاما في فيه، فلا يخلو من حالين: إما أن لا يمضغه، فهنا لا تبطل الصلاة مع الكراهية، فهذا لا يُعدُّ آكلاً، ولو وضع عِلْكاً في فيه لكنه لم يمضغه، فإن صلاته لا تبطل بذلك. فإن كان الطعام وضعه في فيه بحيث يتحلل، كما لو وضع سُكَّراً أو نحو ذلك في فيه، فيتحلل هذا السكر، فيدخل جوفه، فإن هذا يُعدُّ آكلاً، وعلى ذلك: فتبطل صلاته. وأما ما يكون في الأسنان، كأن يطعم ثم يُكبِّر للصلاة، وهناك شيء من الطعام بين أسنانه، فهنا إن كان يجري مع الريق فيدخل الجوف، فإنه لا يبطل الصلاة؛ لأن هذا يشق التحرز منه، وأما إن كان هذا الطعام الذي يكون بين الأسنان يحتاج إلى دفع، يعني لا يجري مع الريق، بل يدفعه ثم يدخله إلى جوفه، ففيه قولان: والمذهب: أنه يبطل الصلاة. وهذا هو الأظهر؛ لأن هذا أكلٌ، فإذا أخرج ما بين أسنانه ثم ابتلعه، يعني دفعه بريقه حتى دخل جوفه، ففيه قولان لأهل العلم، أظهرهما أنه يبطل الصلاة. إن أكل يسيرا على سبيل الجهل أو النسيان، فإن صلاته لا تبطل. قوله: [ونفلٌ بيسير شرب عمدا]

فلو كان يصلى النفل، فشرب عمدا شربا يسيرا، واليسير هنا يرجع إلى العرف، فإن صلاته لا تبطل إن كانت نفلا. وقوله " شرب " يعني سواء كان ماء أو لبنا مما هو شرب ولا يحتاج إلى مضغ. وأما الأكل اليسير فإنه يبطل النافلة؛ لأن الأكل يحتاج إلى تحريك فم. إذاً المذهب أنه إن شرب يسيرا في العرف، فإن صلاته لا تبطل إن كانت نفلا لا فرضا، إذاً الفرض لا فرق فيه بين الأكل والشرب، فكلاهما يبطل الصلاة، وأما النفل فقالوا: إن الأكل يبطل الصلاة، وأما الشرب فلا يبطل الصلاة إن كان يسيرا؛ قالوا: لأن النفل يُتسامح فيه ما لا يتسامح في الفرض، ولأن هذا مما يقويه على إطالة التطوع، فبعض الناس يصلي الليل ويطيل، فيحتاج إلى أن يشرب شيئا من الماء، قالوا: فلا بأس بذلك، وذكروا ذلك عن ابن الزبير رضي الله عنه، ولم يعزوه، ولم أقف على هذا الأثر. وقال جمهور العلماء: بل الصلاة تبطل، قال الموفق: " وهو الصحيح في المذهب " إذاً هو أحد القولين في مذهب الإمام أحمد، وهو الصحيح في المذهب عند الموفق، وهو مذهب الجمهور، أن ذلك يبطل الصلاة؛ لأن ما ثبت فرضا فهو ثابت نفلا. وهذا هو القول الأرجح في هذه المسألة، وقد يُتردَّد حيث كانت الصلاة طويلة كقيام الليل، فقد يقال بما ذهب إليه الحنابلة تسامحا وترغيبا في التطوع، لاسيما لمن يحتاج إلى الشرب، فإن بعض الناس قد لا يصبر، كأن يكون مريضا ويحتاج إلى تكرار الشرب. والله أعلم. قوله: [وإن أتى بقول مشروع في غير موضعه، كقراءة في سجود وقعود، وتشهد في قيام وقراءة سورة في الأخيرتين] قرأ مثلا الفاتحة في السجود أو الركوع. " وقعود ": قرأ القرآن مثلا في القعود. " وقراءة سورة في الأخيرتين " وهذا على القول بأنه لا يشرع، وتقدم أنه يستحب أحيانا.

هنا إذا أتى بقول مشروع في الصلاة، لكنه في غير موضعه، كأن يقرأ القرآن في غير القيام، أو أن يتشهد في غير الجلوس في الركعتين، والجلوس في آخر الصلاة، وكأن يسبح في القيام والرفع في من الركوع أو يحمد الله في ركوعه أو سجوده أو غير ذلك، فهنا أتى بقول مشروع في غير موضعه، فلا تبطل الصلاة به. قوله: [ولم يجب له سجود بل يُشرع] فالصلاة لا تبطل، لأن الأصل أن الصلاة صحيحة، ولا دليل يدل على بطلانها، لكن هل عليه سجود سهو أم لا؟ قال هنا " ولم يجب له سجود، بل يشرع "، يعني لا يجب أن يسجد، لكن يستحب له السجود. وعن الإمام أحمد: أنه لا يستحب، يعني لا يشرع أيضا. وهذا هو الراجح؛ لعدم ورود ذلك عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فإن أحاديث سجود السهو، ليس فيها السجود عن قراءة أو ذكر في غير موضعهما – ليس ذلك في سجدات النبي عليه الصلاة والسلام -، فليس بمنصوص عليه، وليس بمعنى المنصوص – يعني ولا مُلحقاً بالمنصوص عليه -. إذاً المذهب لا يجب السجود، لكنه يشرع، إذاً جعلوها كالمسألة السابقة فيما لو ترك بعض المستحبات، فلو ترك مستحبا من المستحبات فإنه لا يجب السجود، لكن يشرع، وتقدم أن الراجح أنه لا يشرع. إذاً لا يشرع له سجود سهو، فالسجود إنما ورد بالأفعال، ولم يرد في باب الأقوال، يعني في باب الزيادة. قوله: [ولم سلَّم قبل إتمامها عمدا بطلت] إن سلم قبل إتمام الصلاة عمدا، بطلت، وهذا باتفاق العلماء، وهذا واضح، كما لو تكلَّم عمدا، فهنا قد تحلَّل من صلاته حيث لم يؤمر، وصلى صلاة على غير هدي النبي عليه الصلاة والسلام، وكل ما كان على غير هديه وأمره، فهو رد. قوله: [وإن كان سهواً ثم ذكر قريبا أتمها وسجد]

سلَّم في الظهر عن ركعتين أو ثلاث، سهوا، فهنا أتمها وسجد، كما تقدم في حديث ذي اليدين. إذاً إن سها فسلَّم قبل إتمامها، فإن الواجب عليه أن يتم الصلاة وأن يسجد بعد السلام كما تقدم. لكن قال هنا " ثم ذكر قريبا " يعني قريبا في العرف، فلو أن الإمام سلَّم في صلاة العشاء مثلا عن ركعتين، ثم إنه جلس يذكر الله، وكلّمه بعض الناس ببعض الشيء، ثم قال له اثنان من المصلين: إنك قد سلمت عن ركعتين، ولم يتيقن صواب نفسه، هل هذا قريب في العرف؟ هذا قريب في العرف، وعلى ذلك: يصلي ركعتين ثم يسجد سجدتين ثم يسلم، فإن خرج إلى بيته، وتذاكروا بعد خروجه، أو أخبروه لما حضر إلى الصلاة الأخرى، فالواجب عليهم هنا الإعادة؛ لأنهم لم يذكروا قريبا – في العرف – يعني بعد ساعة أو ساعتين أو ثلاث ساعات، فإن هذا بعيد في العرف. هذا هو مذهب جمهور العلماء. إذاً جمهور العلماء قالوا: إن ذكرها قريبا، فإنه يتمها ويسجد، وإن لم يذكر قريبا، فإنه يعيد.

وذهب طائفة من السلف، وهو قول الأوزاعي ومكحول، وهو منقول عن الإمام أحمد رحمه الله، يعني نُقل عن الإمام أحمد ما يدل عليه، كما قال ذلك ابن رجب، قالوا: إنه يتمها ولو طال الفاصل عرفا، فلو صلوا العشاء مثلا ثلاث ركعات، فلما أتوا الفجر، نبههم بعض المصلين، فإنهم يتمونها، ولا تجب عليهم الإعادة. وهذا هو ظاهر حديث عمران في صحيح مسلم، فإن النبي صلى الله عليه وآله وسلم سلَّم في ثلاث ركعات من العصر، ثم قام فدخل الحُجرة، فقام إليه رجلٌ بسيط اليدين، فقال: يا رسول الله أقصرت الصلاة؟ فخرج النبي صلى الله عليه وآله وسلم مُغضَباً، فصلى الركعة التي كان ترك، ثم سجد سجدتين، ثم سلَّم " فهنا النبي صلى الله عليه وآله وسلم خرج من المسجد ودخل حجرته، ثم قام إليه هذا الرجل، وفي الغالب يكون في ذلك تأخر، لما عُلم من الصحابة من هيبة النبي صلى الله عليه وآله وسلم وترددهم لعل الصلاة تكون قد قُصرت، ثم خرج النبي صلى الله عليه وآله وسلم من حجرته وأتم صلاته ولم يستأنفها عليه الصلاة والسلام. وهذا القول هو الأقرب. وجمهور العلماء على أنه إن كان ذلك قصيرا في العرف، فإنه يبني وإلا فإنه يستأنف. فإن دخل في صلاة، كأن يصلى ثلاث ركعات، ثم وهو يتنفل تذكر أنه صلى ثلاث ركعات، أو علم الإمام فنبه المأمومين، فقاموا ليصلوا: فيُبطل الصلاة الذي هو فيها ويقطعها؛ لأنه ما زال في الصلاة الأولى، فيقطع الصلاة التي هو فيها، ثم يتم صلاته التي لم يتمها. إذاً: إذا شرع في صلاة، فإنه يقطعها ويتم الصلاة التي قد نسي منها. قوله: [فإن طال الفصل – عرفا بطلت – أو تكلم لغير مصلحتها بطلت] الإمام بعد أن سلَّم من ثلاث ركعات، قال: يا فلان أطفئ الميكرفون، فهذا لغير مصلحتها، ثم قالوا له: إنك لم تصل إلا ثلاث، وثبت له ذلك، فأراد أن يقوم ليصلي؟ نقول: لا، عليك أن تستأنف؛ لأنه تكلم لغير مصلحتها.

والراجح خلاف هذا، كما سيأتي في باب الكلام، وأن من تكلم سهوا فإن صلاته لا تبطل، وكذلك هنا، ولذا قال المؤلف: [ككلامه في صلبها] لو أن رجلا سها في الصلاة، فمر عليه أحد أولاده، فناداه سهوا، أو قال يا فلان سهوا، فهنا الكلام ليس لمصلحة الصلاة. فيبطلها في المذهب. والراجح أنه لا يبطلها كما سيأتي، فكذلك هنا، فلو قال: أطفئ الميكروفون، أو افعل أو لا تفعل، فإن الصلاة لا تبطل؛ لأن ذلك على سبيل السهو، لكن إن علم، فهل له أن يتكلم بعد، علم أن في الصلاة نقص، فتكلم عالما، فالصلاة تبطل؛ لأنه لما سلَّم قبل، ما زال في الصلاة حتى يتمها. إذاً الكلام هنا لغير مصلحتها سهوا، لكن لو تكلم على سبيل العمد، فإن الصلاة تبطل بذلك، وهذا واضح. إذا تذكر الإمام أنه لم يصل الرابعة؟ – فالمذهب: أنه يجب أن يقعد ثم يقوم فيتم الرابعة؛ لأن الواجب عليه أن ينتقل من الركن إلى الركن، فإن هذا الرجل سلم من ثلاث، فالواجب عليه إذا أراد أن يتم الرابعة أن يقعد، ثم يقوم، ليأتي بالانتقال إلى الرابعة. – والقول الثاني في المسألة، واختاره الشيخ عبد الرحمن بن سعدي رحمه الله: أنه لا يجب ذلك، ولا يشرع، بل يتمها عن قيام، يعني إذا كان قائما، فإنه يتمها عن قيام، لأن هذا الانتقال ليس مقصودا لذاته، ولأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم في حديث عمران وحديث أبي هريرة لم يثبت أنه قعد ثم قام، ولو كان ذلك ثابتا لنقل لنا. قوله: [ككلامه في صلبها]

الكلام السابق ليس في صلبها، فإنه قد سلم، ثم نُبِّه فتنبه، لكن إذا تكلم في صلبها، فإن الكلام في الجملة يبطل الصلاة، على خلافٍ في التفاصيل. ويدل على ذلك ما ثبت في الصحيحين عن زيد بن أرقم رضي الله عنه قال: " كنا نتكلم في الصلاة، يكلم أحدنا صاحبه عن جنبه، حتى نزلت {وقوموا لله قانتين} فأُمرنا بالسكوت ونُهينا عن الكلام " متفق عليه، وقوله " ونهينا عن الكلام " تفرد بهذه الزيادة مسلم، وفي الصحيحين عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: " كنا إذا أتينا النبي صلى الله عليه وآله وسلم في الصلاة نسلِّم عليه فيرد علينا، فلما أتينا من الحبشة سلمنا عليه، فلم يردَّ علينا، وقال عليه الصلاة والسلام: (إن في الصلاة لشغلا) ، وقال كما في صحيح مسلم: (إن هذه الصلاة لا يصلح فيها شيء من كلام الناس، إنما هو التسبيح والتكبير وقراءة القرآن) ، فالكلام مبطل للصلاة في الجملة باتفاق العلماء، لكن الخلاف في تفاصيل ذلك. والمذهب - كما قال المؤلف هنا " ككلامه في صلبها " -: أن الكلام مطلقا يبطل الصلاة، مطلقا يعني سواء كان سهوا أو عمدا، سواء كان عالما أو جاهلا، سواء كان كلامه واجبا أم لم يكن واجبا. واجبا: كما لو كان لانقاذ من يُخشى عليه الهلكة، أو لم يكن ذلك، سواء كان مكرها أم لم يكن مكرها، قالوا: فإن الصلاة تبطل بذلك. هذا هو المشهور في المذهب.

والراجح في هذه المسألة، وهو مذهب الشافعية: أن من تكلم جاهلاً أو ساهياً أو مكرهاً أو لانقاذ من يخشى هلكته – يعني كان كلامه واجباً -، فإن الصلاة لا تبطل، ويدل على هذا حديث معاوية بن الحكم رضي الله عنه، فإنه قال: بينما النبي صلى الله عليه وآله وسلم يصلي إذ عطس رجل من القوم، فقال: الحمد لله، فقلت: يرحمك الله؛ لأنه كان حديث عهد بالإسلام، قال: فرماني القوم بأبصارهم، فقلت: وا ثُكْل أُمِّياه، ما شأنكم تنظرون إليَّ؟ قال: فجعلوا يضربون على أفخاذهم، فعلمتُ أنهم يصمِّتونني، لكني سكتُّ " يعني كدتُ أن أتكلم وأن أقابلهم بشيء من الكلام لكني سكت، قال: " فلما سلَّم النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فبأبي وأمي، ما رأيت معلِّماً قبله ولا بعده أحسن تعليما منه، والله ما كَهَرَني – أي ما قهرني - ولا شتمني ولا ضربني، ولكن قال: (إن هذه الصلاة لا يصلح فيها شيء من كلام الناس، إنما هو التسبيح والتكبير وقراءة القرآن) ، قالوا: فهذا يدل على أن الجاهل لا تبطل صلاته إن تكلم، قالوا: والجاهل هو الذي يكون حديث عهد بإسلام أو نحوه، كالذي يكون في بادية، كبعض الأعراب، وأما إن لم يكن كذلك، فصلاته تبطل لتقصيره في التَّعلُّم. إذاً يُعذر بالجهل حيث لم يكن مفرِّطا في التعلم. قالوا: وإن كان يتكلم، وهو يعلم أن الكلام حرام، لكنه يخفى عليه أنه يُبطل الصلاة، فإنه صلاته تبطل، كما لو زنى وهو لا يعلم حدَّ الزنا، فإنه يقام عليه الحد. وأما النسيان والسهو، قالوا: فالأحاديث المتقدمة، لما سلَّم النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فإن النبي صلى الله عليه وآله وسلم تكلم مع أصحابه، وكان ذلك سهوا، فلم يُبْطِل الصلاة.

قالوا: ويقاس عليه المُكرَه، إذاً يقاس الناسي على الجاهل، ويقاس المكره على الجاهل. ويقاس أيضا من تكلم كلاما واجبا، كأن يكون هناك رجل أعمى يريد أن يسقط في بئر أو طفل يريد أن يمس الكهرب، فينادي هذا المصلي أمَّ هذا الطفل لتحمله، فهنا هذا الكلام لانقاذ من تُخشى هلكته، قالوا: والكلام هنا واجب، والمتكلم هنا معذور، فيكون ككلام الجاهل والناسي. وهذا القول هو الراجح في هذه المسألة. فالراجح ما ذهب إليه الشافعية في هذه المسائل، وأن كلام الجاهل والناسي والمكره وكلام من لابد له من الكلام لانقاذ من تُخشى هلكته، فلا يكفي التنبيه والتسبيح، بل لابد من الكلام، فتكلم، فلا حرج عليه. قوله: [وإن كان لمصلحتها إن كان يسيراً لم تبطل] هذا إذا كان الكلام في غير صلبها، وأما إذا كان في صلبها، فإن الصلاة تبطل، في المذهب. يعني الكلام هنا راجع إلى المسألة السابقة، يقولون: إذا تكلَّم لمصلحتها يسيرا لم تبطل، وإن تكلم لمصلحتها كثيرا بطلت، هذا فيمن سلَّم يظن أن الصلاة قد تمت. قوله: [وقهقهة ككلام] القهقهة: هي الضِّحكة التي يكون معها صوت، فهذه تبطل الصلاة، وفي الدارقطني عن جابر مرفوعاً أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: (القهقهة تنقض الصلاة، ولا تَنْقُض الوضوء) ، ولا يصح مرفوعا، بل الصواب وقفه على جابر، ولا يُعلم لجابر مخالف، وهذا هو مذهب عامة العلماء، وأن القهقهة تبطل الصلاة. * لكن إن غلبه ذلك، ولم يكن ذلك عن اختيار، فهل تبطل الصلاة أم لا تبطل؟ الذي يترجح أنها لا تبطل، كما لو سبقه الكلام، حتى في المذهب.

رجل وهو يقرأ القرآن في رمضان، ردوا عليه، فالذي اعتاد على التسميع، قد يتكلم، فيقول: لا، أو: نعم، فهذه كلمة، لكنها سبق لسان، غلبت عليه، فهنا لا تبطل الصلاة حتى في المذهب، لأن هذا يشق التحرز منه كبعض الناس يمشي طفل أمامه فيريد أن يسقط، فيقول: لا، أو نحو ذلك، فتخرج على غلبة لا عن اختيار، فهذه لا تبطل حتى في المذهب، فكذلك أيضا في القهقهة. وأما التبسم، فإنه لا يبطل الصلاة عند عامة العلماء، وليس هناك ما يدل على الإبطال. قوله [وإن نفخ – قال: أُف في الصلاة – أو انتحب – يعني رفع صوته بالبكاء – من غير خشية الله تعالى] يعني لم يكن ذلك من خشية الله تعالى، فإذا انتحب من غير خشية الله تعالى أو قال: أُف، من غير خشية الله. قوله: [أو تنحنح من غير حاجة فبان حرفان بطلت] فإن قال: أُف، بان الآن حرفان، أو تنحنح، بان أيضا حرفان، هما الهمزة والحاء، أو انتحب، يعني بكى، فخرج شيء من الصوت، وكان ذلك حرفين، فإن الصلاة تبطل. وهذا هو المشهور في مذهب الإمام أحمد.

والقول الثاني في المسألة، وهو اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية، وهو إحدى الروايتين عن الإمام أحمد، وإحدى الروايتين عن الإمام مالك، بل هو ظاهر مذهب مالك، كما قال شيخ الإسلام، واختار هذا القول شيخ الإسلام ابن تيمية، قال: إن ذلك لا يبطل الصلاة؛ لأن هذا ليس بكلام، فإن كلمة أف، أو التنحنح أو نحو ذلك، ليس بكلام في لغة العرب، وإنما هو بالطبع دال على المعنى، يعني بالطبع يدل على المعنى لا بالوضع، ولذا تجد أن اللغات تتفق عليه، فكل البشر يتفقون على النحنحة والتأفيف، كالبكاء يدل على التحسر، وكالضحك يدل على الاستبشار، فكذلك هذه الأصوات، فهي ليست كلاماً بالوضع، وإنما هي كلام بالطبع، وعلى ذلك يكون لها حكم الحركات، ومعلوم أن الحركات اليسيرة لا تبطل الصلاة، وقد روى أبو داود والترمذي أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان يقول في سجوده في صلاة الكسوف: أف، أف، وإن كان هذا من خشية الله، والحنابلة لا يربطون بذلك، لكن الحجة والعمدة على ما تقدم تقريره، ولذا فإنهم يقولون: " أو تنحنح من غير حاجة "، نقول: لو قال رجل " لا " عمدا لحاجة، فهل تبطلون صلاته؟ صلاته تبطل في المذهب، وإذا تنحنح لحاجة، قالوا: لا تبطل صلاته، فإذا كان كلاما، فلا ينبغي التفريق بينهما، ما دام أن كليهما كلام فلا يصح التفريق بينهما، فهذا التفريق يدل على ترجيح القول السابق. إذاً الراجح أن النحنحة أو التأوُّه، وهو قول: آه، بالمد أو الأنين وهو بالهمزة والهاء يعني بالقصر " أه " يعني يئنُّ، فإن هذا ليس بمبطل للصلاة كما تقدم تقريره. والله أعلم. انتهى الدرس الثاني في ليلة الاثنين السادس عشر من رجب لعام 1420 للهجرة. فصل قوله: [ومن ترك ركنا فذكره بعد شروعه في قراءة أخرى بطلت التي تركه منها، وقبله يعود وجوبا فيأتي به وبما بعده]

هذه المسألة فيمن ترك ركنا من أركان الصلاة، ويستثنى من ذلك تكبيرة الإحرام، لأن تكبيرة الإحرام لا تنعقد الصلاة إلا بها، فمن نسي تكبيرة الإحرام لم تنعقد صلاته. فإذا نسي ركنا سوى التكبيرة، كركوع أو سجود أو قيام أو غير ذلك من أركان الصلاة، فإما أن يذكر ذلك بعد أن يشرع في قراءة الفاتحة من الركعة الثانية، وإما أن يذكر ذلك قبلُ: مثال للصورة الثانية: لو أنه ترك السجود الثاني، يعني سجد سجدة ثم قام ولم يجلس للفصل بين السجدتين، ولم يسجد السجدة الثانية، فتذكر قبل أن ينتصب قائما أو تذكر بعد أن انتصب قائما ولم يشرع في قراءة الفاتحة فما الحكم؟ هذه الصورة الثانية، فهذه الصورة أجمع أهل العلم، كما حكى الإجماع المجد ابن تيمية رحمه الله تعالى، وقال الموفق: " ولا أعلم في هذه المسألة مخالفا "، على أنه يرجع إلى الركن الذي تركه، فيأتي به. فقبل أن يستتم قائما تذكر أنه إنما سجد سجدة واحدة، فنقول له: ارجع فاجلس للفصل بين السجدتين، ثم اسجد السجدة الثانية، وكذلك إذا تذكره وقد انتصب قائما قبل أن يشرع في الفاتحة، فنقول أيضا: ارجع، وهذا لا خلاف فيه بين أهل العلم. لو ترك مثلا الركوع، وهو منتصب قائما حصل له سهو، فسجد ولم يركع، فتذكر أنه لم يركع وهو ساجد، نقول له: ارجع فاركع، ثم اعتدل قائما، وإذا تذكره وهو في الجلسة بين السجدتين، نقول له: ارجع فاركع. إذاً الواجب عليه أن يرجع ما لم يشرع في الفاتحة، هذا بالإجماع. فإن شرع فما الحكم؟

قال الحنابلة: إن شرع لغت التي قبل، وقامت التي بعدُ مكانها، فتلغى الركعة وتقوم الأخرى مكانها. لمّا شرع في فاتحة الكتاب تذكَّر أنه ترك سجدة أو ركوعا في الركعة التي قبل، فنقول له: تقوم الركعة الثانية مقام الركعة الأولى، ولو تذكر في الركعة الثالثة أو الرابعة، تكون رابعته ثالثة، وتكون ثالثته ثانية، وهكذا، يعني هذه تقوم مقام هذه وإن لم ينو، فلو تذكر في الركعة الثالثة أنه ترك سجدة في الركعة الأولى، فنقول له: قد قامت الثانية مقام الأولى، وقامت الثالثة مقام الثانية، إذاً تَلغى الركعة التي سها فيها وترك ركنا، إذا شرع في قراءة التي بعدها.

وقال الشافعية، وهو قولٌ في المذهب: بل لا تلغو هذه الركعة، وإنما إن وصل إلى الركن الذي يقابلها، قام هذا الركن الذي يقابل، مكان الركن الذي ترك، وإما إن لم يصل فيجب عليه الرجوع وإن شرع في الفاتحة، فعلى المثال المتقدم في الذي ترك الفصل بين السجدتين وترك السجدة الثانية، فلمَّا شرع في الفاتحة تذكَّر، فيقول الشافعية: ارجع فائتي بالجلسة بين السجدتين والسجود الثاني، وإذا ذكره وهو راكع نقول كذلك: ارجع، وإذا ذكره بعد أن رفع من الركوع، نقول كذلك: ارجع، وإذا ذكره وهو في السجدة الأولى، نقول كذلك: ارجع، فلما وصل إلى الفصل تذكَّر يعني لما جلس بين السجدتين في الركعة الثانية تذكر أنه لم يكن جلس للفصل بين السجدتين في الركعة الأولى، فنقول: قام هذا الجلوس مقام الذي تركت، وأما ما حصل بين ذلك، قد وقع في غير موقعه، فيكون لاغيا , وهذا القول أصح، وذلك لأن القول بأن الركعة تلغو فيه إبطال لما قد وقع في موقعه وصح، لأنا على ذلك سوف نبطل فاتحته وركوعه والرفع من الركوع وسجدته الأولى، فهذه كلها وقعت في موقعها وكانت صحيحة، وأما على مذهب الشافعية فإنهم يصححون ما وقع في موقعه، وأما الذي لم يقع في موقعه، فإنهم يقولون إنه باطل. أيضا نقول: ما الفرق بين ما إذا انتصب قائما وبين ما إذا شرع في القراءة؟ تقدم لكم أنه إن انتصب قائما، فإن الإجماع على أنه يرجع إلى الركن الذي تركه، فما هو الفرق بين القيام وبين ما إذا شرع؟

قالوا: إن القيام ركن غير مقصود. وهذا فيه نظر، بل القيام ركن مقصود، بدليل أن من لم يكن قارئا يجب عليه القيام. إذاً الراجح ما ذهب إليه الشافعية، وهو قول في مذهب أحمد: أنه إن ترك ركنا في ركعة، فنقول: إن وصل إلى هذا الركن في الركعة التي بعد، قام هذا الركن مقام الذي ترك، وأما إذا لم يصل، فيجب عليه الرجوع، فإذا لم يتذكر إلا بعد، فكما تقدم في ما ذكره الحنابلة، فإذا لم يتذكر إلا في آخر الصلاة، كأن يتذكر في الركعة الرابعة أنه لم يكن قد سجد ولم يكن قد جلس للفصل في الركعة الأولى، نقول: أنت الآن في الركعة الثالثة. قوله: [وقبله يعود وجوبا] يعني قبل الشروع في القراءة يعود وجوبا. [فيأتي به وبما بعده] قوله: [وإن علم بعد السلام فكترك ركعة كاملة] رجل لما سلّم، ذَكَر– وليس شكا، لأن الشك بعد العبادة لا يؤثر اتفاقا – أنه قد ترك ركنا من أركان الركعة الأولى، أو من أركان الركعة الثانية، فما الحكم؟ قال هنا " يأتي بركعة كاملة "، فإذا تذكر مثلا أنه لم يكن قد سجد السجدة الثانية، ولا الجلوس التي بعده في الركعة الرابعة، يعني سجد السجدة الأولى، ثم جلس فتشهد فسلّم، فقالوا: يأتي بركعة كاملة.

والقول الثاني في المسألة، وهو قول في المذهب: أنه يأتي بما ترك وما بعده، فنقول له: اجلس الجلسة بين السجدتين، ثم اسجد، ثم اجلس فتشهد، وكذلك ما لو ترك ذلك في الركعة الأولى، فتكون الجلسة في الركعة الثانية، والسجود الذي بعدها قام عن الركعة الأولى، والثالثة قام عن الثانية، والرابعة قام عن الثالثة، فأصبح النقص راجع إلى الرابعة، وإن كان في الأولى؛ لأن كل ركعة تقوم مقام التي قبلها حتى نصل إلى الركعة الرابعة. وهذا القول أصح، وعلى ذلك: فنأمره أن يأتي بما ترك، لأنه إنما ترك شيئا من الركعة، ولم يترك الركعة كاملة، فيصلي ما ترك، ويسجد سجدتين للسهو. إذاً الراجح أنه يأتي ما ترك وما بعده، أما الذي قبله فلا يأتي به؛ لأنه قد وقع موقعه، فإذا قلنا بأن الركعة كاملة تلغو، فإن في ذلك إبطالا لما وقع في موقعه، بل نأمره بأن يأتي بما ترك؛ لأنه لم يفعله، وأن يأتي بما بعده؛ لأن ما بعده ترتب على خطأ فوقع في غير موقعه. إذاً الراجح أنا نأمره بأن يفعل ما ترك، وما بعده، لكن كما تقدم يُتنبه أن كل ركعة تقوم مقام التي قبلها، فالخلل الذي يكون في الركعة الأولى يُسدُّ بالركعة الثانية، والنقص الذي حصل في الثانية يُسدُّ في الثالثة، ويلغو ما بين ذلك، حتى نصل إلى الرابعة. قوله: [وإن نسي التشهد الأول] وتقدم أن التشهد الأول على الراجح واجب من واجبات الصلاة. قوله: [ونهض] بأن فارق فخذاه ساقيه، وأما إن لم ينهض كأن يتهيأ للقيام، ثم يتذكر، فهذا لا شيء فيه، لكن الكلام هنا حيث نهض، ففارق الفخذان الساقين، ونهض للقيام. قوله: [لزمه الرجوع ما لم ينتصب قائماً، فإن استتم قائما كره رجوعه، وإن لم ينتصب - قائما – لزمه الرجوع، وإن شرع في القراءة حرُم الرجوع] إذاً أصبح عندنا ثلاثة أحوال، ولك أن تقول أربعة أحوال:

الحال الأولى: ألا ينهض، كأن يتهيأ للقيام ثم يتذكر، فهذا لا شيء فيه، ولا يلزم سجود سهو. الحال الثانية: أن ينهض ولا يصل إلى القيام. الحال الثالثة: أن ينتصب قائما. الحال الرابعة: أن يشرع في القراءة. فقالوا: إذا شرع في القراءة، فليس له أن يرجع. وهذا بالاتفاق. الحالة التي قبلها، انتصب قائما، وقبل أن يشرع في القراءة تذكر أنه قد ترك الجلوس للتشهد، فما الحكم؟ قال هنا: " كُره الرجوع "، لكن لو رجع، فلا بأس بذلك. الحال التي قبلها: أن يكون في الحالة النهوض ولم ينتصب بعد – لم يصل إلى القيام -، فهنا يجب عليه الرجوع. إذاً باستثناء الحالة السابقة التي لم ينهض فيها، نقول: إذا نهض ولم يستتم قائما بعد، فيجب عليه الرجوع، فإن انتصب قائما، كره الرجوع، فإن شرع في القراءة حرم الرجوع. أما ما ذكروه في أنه يحرم الرجوع إذا شرع في القراءة، فقد تقدم لكم أن هذا بالاتفاق. وأما ما ذهبوا إليه من أنه إذا انتصب قائما، فليس له الرجوع، فهذا هو المشهور في المذهب، فإذا انتصب قائما كره الرجوع، ولم يحرم الرجوع، هذا قول في المذهب، وهو المشهور فيه.

والقول الثاني في المسألة، وهو قول في المذهب: أنه يحرم الرجوع أيضا. وهذا هو الراجح؛ وذلك لأنه اشتغل بركن، لأن القيام ركن، فاشتغل بركن، كما لو اشتغل بالقراءة، فإنه إذا اشتغل بالقراءة فليس له الرجوع، فكذلك إذا انتصب قائما، لأنه شرع في ركن. وأما التفريق بينهما بأن القيام ركن غير مقصود، وأن القراءة ركن مقصود، فهذا فيه نظر كما تقدم، وعلى ذلك فالراجح أنه ليس له أن يرجع، وقد ثبت في الصحيحين، وهو الأصل في هذه المسألة التي يذكرها المؤلف هنا من حديث عبد الله بن بُحينة رضي الله تعالى عنه قال: " صلى بنا النبي صلى الله عليه وآله وسلم الظهر فقام في الركعتين ولم يجلس، وقام الناس معه، فلما قضى صلاته، وانتظر الناس تسليمه، كبَّر وهو جالس، فسجد سجدتين قبل أن يُسلِّم ثم سلَّم " فهذا الحديث هو الأصل في هذه المسألة، وهنا النبي صلى الله عليه وآله وسلم قام، ولم يرجع، وهذا القيام عام فيما إذا قام ولم يشرع في القراءة بعد، وفيما إذا شرع في القراءة. إذاً الراجح أنه إذا انتصب قائما فليس له الرجوع. أما إن لم ينتصب قائما فهنا لا إشكال أنه يرجع، لأنه لم يشتغل بركن، فيجب أن يرجع ويأتي بالواجب الذي تركه؛ وذلك لأنه لم يدخل في ركن، لأنه إذا دخل في ركن ثم رجع، كان في ذلك زيادة هذا الركن الذي اشتغل فيه، ثم تركه ثم عاد إليه. إذاً على ذلك نقول: أنه إن تذكر قبل أن ينتصب قائما فإنه يجب عليه الرجوع، وأما إذا انتصب قائما فليس له الرجوع على الصحيح، سواء شرع في القراءة أو لم يشرع فيها. قوله: [وإن شرع في القراءة حرم الرجوع] فإن رجع عمدا بطلت صلاته، لأن القاعدة أنه إن مضى حيث يجب الرجوع، أو رجع حيث يجب المضي، فإنه يكون تاركا للواجب، ومن ترك الواجب عمدا بطلت صلاته:

يعني إذا كان بحيث يجب عليه الرجوع، مضى، - ويجب عليه الرجوع فيما إذا لم يستتم قائما – عامدا وعالما بالحكم، فنقول: إن الصلاة تبطل، لأنه ترك واجبا في الصلاة عمدا. وإذا رجع حيث يجب المضي، فكذلك: فإذا استتم قائما أو شرع في القراءة، فإنه يجب عليه المضي، فإذا رجع فإنه يكون قد رجع حيث يجب المضي عامدا، فتبطل الصلاة. وهذه المسألة، وهي ترك التشهد الأول، يُلحق فيها ترك كل واجب، فإذا ترك التسبيح في الركوع، فتذكر قبل أن يستتم قائما، فنقول له: راجع فسبِّح، فإن استتم قائما، فنقول: لا ترجع. إذا ترك قول: رب اغفر لي، في الجلسة للفصل بين السجدتين، فتذكر أن قبل أن يصل إلى السجود، نقول له: ارجع، فإن تذكر وقد وصل إلى السجود، نقول له: لا ترجع. إذاً هذه المسألة عامة في ترك كل واجب، كما هو الصحيح في المذهب. قوله: [ومن شك في عدد الركعات أخذ بالأقل] إذا شك في عدد الركعات، فلا يدري أصلى ثلاثا أم أربعا، قال: " أخذ بالأقل "؛ لما ثبت في الصحيحين، وهذا لفظ مسلم، وفيه زيادات ليست في البخاري، أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: (إذا شك أحدكم في صلاته، فلم يدر أصلى ثلاثا أم أربعا، فليطرح الشك وليبن على ما استيقن – والمتقين هو الأقل -، ثم ليسجد سجدتين قبل أن يسلم، فإن كان صلى خمسا شفعن له صلاته – أي شفعت هاتان السجدتان له صلاته – وإن كان صلى تماما كانتا ترغيما للشيطان) ، إذاً يأخذ بالأقل. ولا فرق في هذه المسألة بين الإمام والمنفرد، وظاهر المذهب أن ذلك في المنفرد، وأما الإمام فإنه إنما يأخذ بالأقل حيث لم يكن عنده تحري، وأما إذا كان عنده تحري فإنه يأخذ بما تحراه. ظاهر المذهب التفريق بين المنفرد وبين الإمام. وظاهر كلام المؤلف هنا، هو قول في المذهب أنه لا فرق بين الإمام ولا المنفرد.

وأما ظاهر مذهب الإمام أحمد فإنه قال في الإمام: أنه يتحرى، فإذا كان الشك يستوي فيه الطرفان، فيأخذ بالأقل، وأما إذا كان هناك تحرٍّ بتسبيح المأمومين خلفه، لكن لم يكن عنده يقين، بأن يسبِّح واحد فقط بحيث لا يجب عليه الرجوع، فحصل عنده تحر، فرجَّح أحد الطرفين، فهنا يبني على ما تحرى. كأن يقول الإمام: أنا أشك، هل صليت ثلاثا أم أربعا؟ لكنه لما جلس للثالثة سبَّح به المأموم الذي خلفه، فأصبح عنده ترجيح أنه قد شك، وأنه إنما صلى ثلاثا، فهنا يصلي رابعة، ويكون سجوده بعد السلام، لقوله عليه الصلاة والسلام: (إذا شك أحدكم في صلاته فيتحر الصواب، فليتم عليه، ثم ليسجد سجدتين) ، متفق عليه، وفي رواية للبخاري (فليتم ثم يسلَّم ثم يسجد) (1) ، إذاً السلام قبل السجود. واختار شيخ الإسلام، وهو رواية عن أحمد: أن لا فرق بين منفرد ولا إمام، وهذا هو الراجح، وعلى ذلك تكون القاعدة واضحة وهي: أنه إن كان عنده تحر، سواء كان منفردا أم إماما، فإنه يعمل بتحريه وليسجد سجدتين بعد السلام، وإما إذا كان ليس عنده تحري، فليبن على الأقل، وليسجد سجدتين قبل أن يسلم.

_ (1) قال ابن حجر في الفتح: " تنبيه لم يقع في هذه الرواية تعيين محل السجود ولا في رواية الزهري التي في الباب الذي يليه، وقد روى الدارقطني من طريق عكرمة بن عمار عن يحيى بن أبي كثير بهذا الإسناد مرفوعاً: " إذا سها أحدكم فلم يدر أزاد أو نقص، فليسجد سجدتين وهو جالس ثم يسلم " إسناده قوي، ولأبي داود من طريق ابن أخي الزهري عن عمه نحوه بلفظ: " وهو جالس قبل التسليم "، وله من طريق ابن إسحاق، قال حدثني الزهري بإسناده، وقال فيه: " فليسجد سجدتين قبل أن يسلم ثم يسلم " قال الملائي: هذه الزيادة في هذا الحديث بمجموع هذه الطرق لا تنزل عن درجة الحسن المحتج به، والله أعلم ".

شك وهو في الرابعة، هل هي الثالثة أم الرابعة؟ فترجَّح في نفسه أنها الرابعة، سواء كان منفردا أم إماما، فنقول: اجعلها الرابعة، ولا تبن على الأقل، وسلِّم، ثم اسجد سجدتين بعد السلام. إذاً الراجح وهو اختار شيخ الإسلام، وهو رواية عن الإمام أحمد: أنه لا فرق بين الإمام والمنفرد. فإذاً عندنا الشك نوعان: شك مع استواء الطرفين، وشك مع الترجيح. فإذا كان مع استواء الطرفين، فيبني على الأقل، ويسجد سجدتين قبل السلام. والثاني: شك مع التحري، يعني مع الترجيح، فهنا: يبني على ما تحرى ويسجد سجدتين بعد السلام. ويُلحق بذلك المأموم الذي أتى والإمام راكع، فشك وقد كبَّر تكبيرة الإحرام، هل أدرك الإمام راكعا أم لا؟ نقول له: هل عندك تحرٍّ؟ فإن قال: نعم، نقول: ابن على تحريك. وإن كان عنده شك بلا ترجيح، فنقول: ابن على أنك لم تدرك الإمام، وعلى ذلك فلا تحسب هذه ركعة لك. إذا شك المأموم الواحد؟ رجل خلف إمام، وهو واحد، فشك هل صلى إمامه ثلاثا أم أربعا، فشك هذا المأموم في صلاة إمامه، فما الحكم؟ المذهب: أن المأموم لا يرجع إلى إمامه، فلو سلَّم الإمام والمأموم عنده شك، فنقول له: ابن على الأقل، وقم وصل ركعة. والقول الثاني وهو الصواب: أنه يرجع إلى قول إمامه، ولو كان المأموم واحدا، أما لو كان مع المأموم مأموم آخر، لحصل له بسكوت المأموم الآخر عن التسبيح زوال للشك، لكن هنا المأموم واحد. فنقول: بل يرجع إلى الإمام ولو كان واحدا؛ لأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: (الإمام ضامن) ، وعلى ذلك فيرجع إلى قوله. إذا حصل تيقن بعد؟ رجل شك، وأثناء الصلاة زال الشك وحصل اليقين، فهنا لا عبرة بهذا الشك، ولا يسجد للسهو؛ لأنه لما زال الشك، زال موجَبُه، فموجب الشك السجود، فلما زال الشك زال موجَب الشك وهو السجود. وهذا واضح. قوله: [وإن شك في ترك ركن فكتركه]

رجل شك، هل ترك الركن أم لم يتركه؟ نقول له هذا كتركه؛ لأنه يُبنى على الأقل كما تقدم في المذهب، والأقل – المتيقَّن – هو الترك، وعلى ذلك نقول: ارجع إليه إن لم تكن قد شرعت في القراءة، هذا على المذهب. وعلى القول الثاني، نقول: ارجع إليه ما تصل إلى الركن الذي بعده. يعني لما انتصب قائما قال: أنا لا أدري هل سجدت وجلست للفصل بين السجدتين أم لا – عنده شك -، نقول له: ارجع، وكذلك إذا شرع في القراءة على الصحيح. والراجح أيضا أنه إن كان عنده تحري، فإنه يرجع إلى تحريه، وذلك لعموم الحديث، فيقول: هل جلست للفصل وسجدت أم لا، لكن الراجح عندي أني جلست وسجدت، فنقول له: ابن على ذلك، واسجد سجدتين بعد السلام. إذاً الراجح أن هذه المسألة داخلة أيضا في عموم حديث ابن مسعود رضي الله عنه. قوله: [ولا يسجد لشكه في ترك واجب أو زيادة] إذا شك في ترك واجب، فقال: أنا لا أدري هل جلست للتشهد الأول أم لا؟ أو قال: لا أدري هل سبَّحتُ في الركوع أم لا؟ فيقول هنا " ولا يسجد لشكه في ترك واجب؛ قالوا: لأن الأصل عدم السجود. إذاً قالوا: إذا ترك الركن، فهذا كترك الركن، لكن إن شك في ترك واجب، فهل يكون كترك الواجب؟ قالوا: ليس كترك الواجب، وعلى ذلك: فإنه لا يسجد، لأن الأصل عدم السجود. والقول الثاني في المسألة، وهو قول في المذهب: أن الشك في ترك الواجب كتركه أيضا، وهذا هو الراجح؛ لعمومات الأدلة. وأما قولهم " الأصل عدم السجود "، فنقول لهم أيضا: الأصل عدم فعل الواجب مع الشك، رجل شك، يقول: لا أدري أجلست للتشهد الأول أم لا، فما هو الأصل؟ الأصل أنه لم يجلس، وعلى ذلك فنبني على هذا الأصل، ونوجب عليه سجود السهو.

إذاً المذهب: أن من شك في ترك ركن فكتركه، ومن شك في ترك واجب فليس كتركه، لكن الراجح أنهما سواء، فمن شك في ترك ركن فكتركه، ومن شك في ترك واجب فكتركه أيضا، فيجب السجود في المسألتين جميعا. قوله: [أو زيادة] هنا شك، قال: لا أدري أصليت أربعا أم خمسا؟ فالشك هنا في الزيادة، الحديث الذي تقدم قال فيه (ثلاثا أم أربعا) ، لكن هنا شك، فلا يدري أصلى أربعا أم خمسا، أو شك هل ركع ركوعا أو ركوعين، أو هل سجد سجودين في الركعة أم ثلاث سجودات، فحصل له شك، لكن الشك هنا في الزيادة؟ فهنا لا يجب عليه السجود، لأن الأصل عدم الزيادة، والأصل أيضا عدم السجود. هناك في النقص قلنا: عدم الفعل، لكن هنا نقول: الأصل عدم الزيادة، ولذا إذا شك، لما جلس للتشهد حصل عنده شك يقول: لا أدري هل صليت خمسا أم أربعا؟ فنقول له: لا تسجد؛ لأن الأصل عدم الزيادة. والله أعلم. اتنهى الدرس الثالث من سجود السهو في ليلة الأحد الثاني والعشرين من رجب لعام 1420 للهجرة. قوله: [ولا سجود على مأموم إلا تبعا لإمامه] هنا مسألتان: المسألة الأولى: فيما إذا سها الإمام، فيجب على المأموم أن يتابعه؛ لعموم قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (وإذا سجد فاسجدوا) ، فإذا سها الإمام فيجب على من خلفه السجود، سواء حصل منهم سهو مع الإمام أم لم يحصل منهم، فهذا لا خلاف فيه، لقوله عليه الصلاة والسلام (وإذا سجد فاسجدوا) . فإن لم يسجد الإمام وقد حصل منه ما يوجب السجود، فإذا لم يسجد وكان واجبا عليه السجود، فهل يجب على المأموم - حيث ترك الإمام السجود – السجود؟

قال جمهور العلماء: يجب عليه السجود؛ وذلك لأن الصلاة فيها نقصٌ، لأنه لما سها الإمام حصل في الصلاة نقص، وعلى ذلك: فلابد من جبران هذا النقص، لأن صلاة المأموم متعلقة بصلاة الإمام، فإذا حصل سهو من الإمام، كأن يقوم إلى خامسة مثلا، فلا يتابعه المأمومون، ثم إنه جلس، فيجب على المأموم هنا سجود سهو، فإذا لم يسجد الإمام، فهل يسجد من خلفه أم لا؟ قال جمهور العلماء: يجب، لأن الصلاة فيها نقص، وعلى ذلك فيجب جبران هذا النقص. وهذا القول قول ظاهر، لكن يستثنى من ذلك على الصحيح ما لو كان الإمام لا يرى وجوب السجود عليه، كأن يكون ممن يختار عدم السجود في هذا الموضع، فحينئذ لا يجب على المأموم أن يسجد، وذلك لأنه لا نقص في الصلاة، فلا نقص في صلاة الإمام، وإنما يكون فيها نقص حيث ترك سجودا يجب عليه أن يسجده. إذاً: إذا حصل من الإمام سهو فلم يسجد، وكان يرى وجوب السجود، فإن في صلاته نقصا، وهذا النقص يلحق المأموم، وعلى ذلك: إن لم يسجد الإمام، فيجب على المأموم أن يسجد، لأن في الصلاة نقصا، فلابد من جبره. وهذا هو مذهب جمهور العلماء. فإن كان المأموم مسبوقا، فسجد الإمام قبل السلام، فإنه يتابعه اتفاقا، لقوله عليه الصلاة والسلام: (وإذا سجد فاسجدوا) . فإن كان سجوده بعد السلام، يعني سلَّم الإمام، فسجد سجدتين بعد السلام، وهذا المأموم مسبوق، فهل يسجد معه، بمعنى أنه لا يسلم إذا سلم الإمام، فإذا سجد الإمام سجدتين، سجد، فإذا سلَّم الإمام السلام الثاني قام فأتم، أم أنه يقوم فيتم صلاته، ثم يسجد سجدتين بعد السلام؟ قولان لأهل العلم:

فالمذهب: أنه يتابعه، وعلى ذلك: فلو أنه نهض، إذ بالإمام – قبل أن يستتم المأموم قائما – يسجد، فنقول: عليك أن ترجع فتسجد مع الإمام سجدتين، وأما إذا شرع المأموم في القراءة، فليس له أن يرجع. وهذا هو المذهب، قالوا: لعموم قوله: (وإذا سجد فاسجدوا) . والقول الثاني، وهو قول المالكية والشافعية، قالوا: إذا سها الإمام فسجد بعد السلام، فإن المسبوق لا يتابعه، وإنما يسجد بعد سلامه؛ قالوا: لأن تمام المتابعة للإمام أن يكون سجوده بعد السلام، لأن هذا السجود إنما يشرع بعد السلام، فتكون متابعته للإمام بسجوده هاتين السجدتين، بعد سلام إمامه. وهذا القول هو الأرجح، فالأقرب والأرجح في هذه المسألة أنه ينهض، فيتم صلاته، فإذا سلَّم سجد سجدتين، لأن هاتين السجدتين إنما يشرعان بعد السلام، وعلى ذلك: فيكون من تمام متابعته للإمام أن يكون سجوده بعد السلام. هذا هو القول الراجح. إذاً: إذا سها الإمام فعليه وعلى من خلفه السجود، فإذا لم يسجد، فإن على المأموم أن يسجد؛ لأن في ذلك نقصا في الصلاة، فإن كان سجوده قبل السلام تابعه فسجد حيث يسجد الإمام، وأما إذا سلَّم الإمام فسجد بعد السلام، فإنه لا يسجد معه، وإنما يسجد بعد أن يتم صلاته؛ لأن هذا هو تمام المتابعة في أصح القولين. هذا هو الشق الأول. الشق الثاني: فيما إذا سها المأموم خلف الإمام، فلسهوه حالتان: الحالة الأولى: أن يكون مسبوقا قد سها فيما انفرد به، يعني لما قام ليتم الصلاة سها، فهنا يجب عليه السجود قولا واحدا، فالإمام لا يتحمل، وعلى ذلك: فعليه السجود، لعموم الحديث: (فإذا نسي أحدكم فليسجد سجدتين) . إذاً المسبوق إذا سها فيما انفرد به، فإن عليه السجود. الحالة الثانية: أن يسهو خلف إمامه، سواء كان مسبوقا أم غير مسبوق، فهنا قد حصل له سهو حال اقتدائه بإمامه، لا حال انفراده عنه؟

فذهب العامة والجماعة من أهل العلم: على أنه لا يجب عليه السجود، وأن الإمام يتحمل ذلك عنه. وقال أهل الظاهر، وهو قول مكحول: بل يجب على المأموم السجود. استدل أهل القول الثاني بعموم قوله عليه الصلاة والسلام: (فإذا نسي أحدكم فليسجد سجدتين) ، قالوا: وهذا عام، فيدخل فيه فيما إذا سها خلف إمامه. وأما أهل القول الأول، فاستدلوا بأدلة منها: أن الإمام يتحمل عن المأموم عمده، يعني عمده في النقص وعمده في الزيادة. يتضح هذا بمثالين، المثال الأول: فيما إذا قام الإمام من الركعتين تاركا للتشهد، فهنا المأموم يتابعه ويترك التشهد، فيكون قد ترك التشهد الأول، وترك التشهد الأول عمده يبطل الصلاة، وقد تركه عمدا متابعة للإمام، وقد تحمل الإمام عنه ذلك.

المثال الثاني: وهو تحمل الزيادة عمدا: فيما إذا سها الإمام، فسجد الإمام سجدتين، والمأموم لم يسهو، كأن يترك الإمام التسبيح في الركوع أو السجود، فإن الإمام يسجد، وهذا السهو قد حصل من الإمام، ولم يحصل من المأموم، ويجب على المأموم أن يتابع إمامه، لقوله عليه الصلاة والسلام: (وإذا سجد فاسجدوا) ، وهذه زيادة في الصلاة، قالوا: فإذا ثبت هذا في عمده، فأولى من ذلك سهوه، وعلى ذلك: فنقيس السهو هنا على العمد، وهذا القياس الصحيح يخصص عموم قوله عليه الصلاة والسلام: (وإذا نسي أحدكم فليسجد سجدتين) ، فإن في ذلك تحصيل لمقصود الشرع من متابعة الإمام. قالوا: وأيضا إن أصحاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم كانوا يصلون خلفه، ولا يخلو ذلك من سهو، فلابد أن يقع من أحد منهم سهو في الصلاة، ولم ينقل لنا أن أحدا من أصحاب النبي عليه الصلاة والسلام سجد للسهو خلفه، ولو كان ذلك واقعا، لنقل لنا نقلا بينا. يعني لابد أن يقع من المأمومين سهو خلف الإمام، لاسيما في القديم، لأن الصوت مع كثرة المصلين قد لا يبلغهم، فيحصل شيء من السهو من المأمومين، وقد يترك المأموم بعض التسبيحات، ونحو ذلك، ولم ينقل لنا أن ذلك قد وقع منهم، ولو كان ذلك واقعا لنقل لنا نقلا بينا، وعلى ذلك فهذا القول هو القول الراجح، فإذا سها المأموم خلف إمامه، فإنه لا يسجد للسهو، وأما ما رواه الدارقطني أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: (إذا سها الإمام فعليه وعلى من خلفه، وإذا سها المأموم فلا سجود عليه) ، فهذا الحديث إسناده ضعيف جدا، فلا يصح عن النبي عليه الصلاة والسلام. قوله: [وسجود السهو لِمَا يبطل عمده واجب] سجود السهو لما يبطل عمده، إن كان من جنس الصلاة، فإذا حصل سهوا فعل ما يبطل عمدا، فلا يخلو من حالين: الحال الأولى: أن يكون هذا من جنس الصلاة، كأن يزيد قياما أو ركوعا أو سجودا، فهذا فيه السجود.

الحال الثانية: ألا يكون من جنس الصلاة، كأن يتكلم في الصلاة مثلا، أو يفعل أفعال كثيرة في الصلاة سهوا، فهل تبطل الصلاة بذلك؟ لا تبطل، لكن هل عليه سجود سهو؟ ليس عليه سجود سهو كما تقدم تقريره. إذاً هنا نقيِّد هذه القاعدة بقيد، وهو أن يكون ذلك من جنس الصلاة كما تقدم. إذاً سجود السهو لما يبطل عمده إن كان من جنس الصلاة، فإن لم يكن من جنس الصلاة، كأن يفعل أفعالا ليست من جنس سهوا وتكون كثيرة، فإنها لا يشرع لها سجود السهو، كذلك لو تكلم، فإنه لا يشرع له سجود. قوله: [وتبطل بترك سجود أفضليته قبل السلام] هنا مسألتان: المسألة الأولى: قوله " أفضليته قبل السلام "، وعلى ذلك فالسجود الذي يشرع قبل من باب الأفضلية، والذي يشرع بعد، هذا من باب الأفضلية، وتقدم الكلام على هذه المسألة، وأن الراجح أن ما شُرع قبل السلام، فيجب قبل السلام، وما شرع بعد السلام فيجب بعد السلام، وأن هذا هو اختيار شيخ الإسلام ورواية عن أحمد، وأحد القولين في المذهب، وهو ظاهر كلام الإمام أحمد كما قال شيخ الإسلام، وقال الزركشي: " وهو ظاهر كلام أبي محمد " يعني الموفَّق رحمه الله تعالى. وهذا هو القول الراجح. إذاً المذهب: أن المسألة أفضلية، فإن كان زيادة، فإن له أن يسجد قبل السلام أو بعده، وإن كان نقصا فله أن يسجد قبله أو بعده، وإن كان عن شك، فله أن يسجد قبل أو بعده، لكن الأفضلية على ما تقدم تفصيله في المذهب في درس سابق، ولكن الراجح ما تقدم من أن من شُرع قبل السلام فيجب قبله، وما شرع بعد السلام فيجب بعده.

الثانية: أنه إن ترك السجود الذي أفضليته قبل السلام، فإنه يبطل الصلاة، وأما إذا كانت الأفضلية بعد السلام فلا يبطل الصلاة، فإذا كان عنده شك مع تحر، تقدم أنه يشرع بعد السلام، فلو تركه فلم يسجد، فلا تبطل صلاته، والشك إذا كان بلا تحر، فإنه له السجود قبل السلام، فإذا تركه عمدا تبطل صلاته، وإذا كان عن زيادة، تقدم أن الراجح أنه يكون بعد السلام، فإذا تركه فلا تبطل الصلاة، ولو كان عمدا، وإذا كان مما يشرع قبل السلام، فتركه عمدا، فإن الصلاة تبطل. هذا هو المشهور في المذهب، قالوا: مع الإثم، كما لو ترك الأذان أو الإقامة، لأنه مشروع خارج الصلاة، فأشبه الأذان والإقامة، يقولون: ما يشرع بعد السلام، هذا إنما شُرع خارج الصلاة، فأشبه الأذان والإقامة، ولو ترك الإذان والإقامة، تصح صلاته، لكن مع الإثم، قالوا: فكذلك إذا ترك هذا السجود الذي يشرع بعد السلام. والقول الثاني في المسألة، وهو قول في المذهب واختاره الشيخ عبد الرحمن بن سعدي: أنه إن ترك ما أفضليته بعد السلام – وعلى الراجح ما هو واجب بعد السلام – يبطل الصلاة أيضا، وهذا أصح، وذلك لأن الصلاة ناقصة، وهذا السجود جبرانها، وإنما شرع خارج الصلاة لأن المناسب واللائق أن يكون كذلك؛ لئلا يجتمع في الصلاة زيادتان - زيادة قبل، ثم نسجد للسهو قبل -. إذاً القول الثاني في المسألة وهو اختيار الشيخ عبد الرحمن بن سعدي أن ترك سجود السهو سواء كان مشروعا قبل السلام أو بعده – تركه – عمدا يُبطل الصلاة، والمذهب أن ما كان مشروعا قبل الصلاة فإن تركه عمدا يبطل الصلاة، وإن كان مشروعا بعد السلام فإن تركه عمدا لا يبطلها. قوله: [وإن نسيه سجد إن قرُب زمنه] في المسألة السابقة تعمد، وهنا الكلام في السهو. إذا نسيه، سواء كان قبل السلام أو بعده، قال: " سجد إن قرب زمنه " فإن قرُب زمنه عرفا، فإنه يسجد.

فلو أنه بعد أن سلَّم ذُكِّر، فتذكَّر فسجد سجدتين، فإن صلاته تتم بذلك، سواء كان مشروعا قبل السلام أو بعده. لكن لو أنه ذُكِّر بعد زمن طويل عرفا، فإنه لا يبني، وإنما يستأنف الصلاة من جديد، هذا إذا كان السجود قبل السلام، وأما إذا كان بعدها، فإن تركه عمدا لا يبطل الصلاة. هذا هو المذهب. قالوا: وإذا خرج من المسجد أيضا، فإنه يستأنف الصلاة، وعلى ذلك يشترط أن يكون الزمن قريبا عرفا، ويشترط أن يكون في المسجد أيضا، فإذا خرج من المسجد، ولو كان الزمن قصيرا – سلَّم فخرج، فذُكِّر وهو خارج المسجد – فعليه أن يستأنف الصلاة من جديد. وعن الإمام أحمد، وهو أصح، أنه لا فرق بين كونه في المسجد أو خارج المسجد ما دام الزمن قريبا. وأصح من القولين كليهما ما اختاره شيخ الإسلام، وهو رواية عن الإمام أحمد، وتقدم ذكر ما يدل عليه من حديث عمران: وهو أنه يسجد ولو طال الزمن عرفا، سواء كان في المسجد أو لم يكن في المسجد، فإن حديث عمران في مسلم فيه: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم دخل الحجرة بعد أن صلى العصر ثلاثا، ثم قام إليه رجل بسيط اليدين، فقال: أنيست أم قصرت الصلاة؟ ، فأتى النبي صلى الله عليه وآله وسلم مغْضَباً، فصلى عليه الصلاة والسلام ما ترك، ثم سلَّم، ثم سجد سجدتين بعد أن سلَّم، ثم سلَّم " كما تقدم، فهنا الزمن طويل عرفا، وقد خرج النبي صلى الله عليه وآله وسلم من المسجد. هذا هو القول الراجح، وهو اختيار شيخ الإسلام هنا، وهو رواية عن الإمام أحمد. إذاً الراجح أنه لو ترك سجود السهو سواء كان قبل السلام أو بعده، ثم تذكر، فإن يسجد سجدتين ولو كان الزمن طويلا. لما أتى الإمام ليقيم صلاة العصر أخبروه أنه حصل سهو في صلاة الظهر، وأنه لم يسجد قالوا: إنك قد قمت عن التشهد ولم تسجد، فيسجد سجدتين ولا شيء عليه. إذاً الراجح ولو طال الزمن عرفا، فإنه يبني.

قوله: [ومن سها مرارا كفاه سجدتان] إذا سها مرارا، حصل منه في الصلاة أكثر من سهو، زاد في الصلاة ونقص، أو نقص ونقص، أو زاد وزاد، فقد يكون سها فزاد مرتين أو ثلاثا، أو سها فنقص مرتين أو ثلاثا أو سها فجمع بين زيادة ونقص، فهنا حصل من الإمام أكثر من سهو، سها مرتين أو أكثر، فهنا لا يخلو من حالتين: الحالة الأولى: أن يكون الموجِب لسجود السهو غير مختلف، يعني مما يشرع فيه السجود إما قبل السلام، وإما بعده. رجل قام عن التشهد الأول، فالواجب عليه أن يسجد للسهو قبل السلام، وترك تسبيح الركوع أو السجود، فالواجب عليه السجود قبل السلام كذلك، وشك، هل صلى ثلاثا أم أربعا ولم يرجح، فهنا حصل له نقص، وكل هذه المسائل فيها سجود قبل السلام، فهنا الواجب عليه أن يسجد قبل السلام، لأن موجِب السجود هنا غير متفرق وغير مختلف، وهذا لا خلاف فيه بين أهل العلم. المسألة الثانية: أن يكون هناك موجِب مختلف، فيكون هناك ما يوجب السجود قبل السلام، وما يوجب السجود بعده. قام فترك التشهد الأول، فالواجب عليه أن يكون قبل السلام، ثم شك هل صلى ثلاثا أم أربعا، ورجَّح أنه صلى أربعا، فالواجب عليه السجود بعد السلام، فهنا هل يكفيه سجدتان كما قال المؤلف هنا، أم لا يكفيه ذلك، قولان لأهل العلم: فقال الجمهور: يكفيه سجدتان، كما هو قول المؤلف هنا. وقال الأوزاعي: بل يجب عليه سجود قبل السلام، وسجود بعده، يعني يشرع له سجدتان قبل السلام، وسجدتان بعد السلام. والقول الأول هو الراجح، استدل أهل القول الأول بعموم قوله عليه الصلاة والسلام: (إذا نسي أحدكم فليسجد سجدتين) ، قالوا: وهذا الحديث عام، سواء كان السجود واحدا أم متكررا، وإذا كان متكررا، سواء كان موجَبه واحدا أو كان موجَبه مختلفا.

وأما أهل القول الثاني فاستدلوا بحديث (لكل سهو سجدتان) ، وتقدم لكم أن الحديث ضعيف، وعلى ذلك فالراجح هو القول الأول، وعلى ذلك: فيسجد قبل السلام، ويكون سجوده قبل السلام يجزئه عن السجود بعد السلام، هذا هو الراجح، وهو مذهب جمهور العلماء، خلافا للأوزاعي، وقول الأوزاعي أيضا هو وجه في مذهب أحمد. مسألة: هل يشرع لسجدتي السهو بعد السلام تشهد أم لا؟ يعني إذا سلَّم فسجد سجدتين، فهل يُشرع أن يتشهد أم لا؟ قال الجمهور: يشرع له أن يتشهد، يعني يسلم ثم بعد أن يسلم يسجد سجدتين ثم يتشهد، ثم يسلم، إذاً يستحب للسجدتين بعد السلام التشهد. واستدلوا بما رواه أبو داود والترمذي من حديث أشعث بن عبد الملك الحُمْراني عن محمد بن سيرين عن عمران، وفيه: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم تشهد ثم سلم. والقول الثاني في المسألة، وهو اختيار شيخ الإسلام، ومال إليه الموفق ابن قدامة، وهو قول محمد بن سيرين: أنه لا يشرع التشهد. استدلوا بحديث أبي هريرة، وحديث ابن مسعود، فإن الرواة لم يذكروا تشهدا، وقد تقدم سياق حديث أبي هريرة في قصة ذي اليدين وحديث عمران بن حُصين في قصة بسيط اليدين، وكذلك في حديث ابن مسعود في التحري، وليس فيها ذكر التشهد، والتشهد كما تعلمون طويل، فلو كان ثابتا لنقل، فهذا مما تتوافر الدواعي على نقله. يبقى الجواب عن حديث عمران في أبي داود والترمذي؟

هذا الحديث حديث شاذ، فهذه الزيادة (ثم تشهد) معلولة، وقد أعلَّها ابن المنذر والبيهقي وابن عبد البر وشيخ الإسلام ابن تيمية. وهذا التعليل هو الصواب، فإن الزيادة معلولة، فقد تفرد بها أشعث بن عبد الملك عن محمد بن سيرين، وغيره من الرواة لم يذكروها، وهذا هو المحفوظ عن محمد بن سيرين، أي عدم ذكر التشهد، فقد تفرد بها أشعث بن عبد الملك، فهو وإن كان ثقة، لكنه تفرد عن غيره من الثقات، وعلى ذلك فهذه الزيادة معلولة، ولذا استغرب – أي ضعّف – هذا الحديث الترمذي أيضا بعد أن رواه. وعلى ذلك فالراجح أن التشهد لا يشرع، وهو رأي محمد بن سيرين الذي قد روى عنه أشعث هذه الزيادة، ولو كانت مروية له لما خالفها، هذا أيضا مما يقوي التعليل المتقدم.والله أعلم تم بحمد الله شرح باب سجود السهو من زاد المستقنع في ليلة الاثنين الثالث والعشرين من رجب لعام 1420 للهجرة، شرحه فضيلة الشيخ / حمد بن عبد الله الحمد، …حفظه الله تعالى. فهرس الأحاديث والآثار إذا نسي أحدكم فليسجد سجدتين ... ….. 1 فإذا نسي أحدكم فليسجد سجدتين ... … 1 من عمل عملاً ليس عليه أمرنا ... ... 1

كتاب الصلاة من صلاة التطوع إلى صلاة الخوف

باب: صلاة التطوع التطوع لغة: فعل الطاعة. اصطلاحاً: الطاعة غير المفترضة، وهي النفل والمستحب. فقوله: " صلاة التطوع " أي الصلاة التي يتطوع بها صاحبها لله تعالى. قال: (آكدها كسوف ثم استسقاء ثم تراويح ثم وتر) قوله: " آكدها " أي آكد الصلاة المتطوع بها. وذكر المؤلف أن أفضل الصلاة بعد الفريضة: صلاة الكسوف ثم صلاة الاستسقاء ثم التراويح ثم الوتر. أما الكسوف: فلأنه لم يثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم تركها مع ثبوت سببها وهو خسوف الشمس أو القمر، فكلما قام سببها صلاها النبي - صلى الله عليه وسلم - وسيأتي الكلام عليها في بابها. وأما الاستسقاء فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان ربما تركها مع وجود سببها وهو قحط الأرض فكانت الكسوف أفضل منها. وفضلت صلاة الاستسقاء على غيرها لأنها تُصلى جماعة فأشبهت الفريضة. ثم التراويح لأنها تُصلى جماعة، ثم الوتر لأنه يصليه منفرداً، وفُضِّل على السنن الراتبة بما فيه من الأحاديث المؤكدة له، هذا ما ذكره المؤلف. والراجح وهو رواية عن الإمام أحمد أن أفضل الصلاة بعد الفريضة قيام الليل – كما ثبت في مسلم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (أفضل الصيام بعد رمضان شهر الله المحرم، وأفضل الصلاة بعد الفريضة قيام الليل) قال الإمام أحمد: " ليس بعد المكتوبة أفضل من قيام الليل " والراجح أن صلاة الكسوف واجبة كما سيأتي دليل ذلك في بابه. وعلى ذلك فإنه لا يفضل بينها وبين المستحبات فهي لا تدخل في هذا الباب لأنها ليست بتطوع بل فريضة. وعن الإمام أحمد: أن أفضل الصلاة بعد الفريضة ركعتا الفجر لما ثبت في الصحيحين أن النبي - صلى الله عليه وسلم -: (لم يكن على شيء من النوافل أشد معاهدة منه على ركعتين قبل الصبح)

والحديث وإن دل على فضلها وأنها أفضل السنن الراتبة، لكنه لا يدل على تفضيلها على قيام الليل، وقد صرح النبي - صلى الله عليه وسلم - في الحديث المتقدم بتفضيله. فالراجح: أن أفضل الصلاة بعد الفريضة قيام الليل. ثم إن قضية أن هذه الصلاة تُصلى جماعة أو فرادى، هذه ليس سبباً للتفضيل، فقد يكون المعنى الذي شرعت من أجله الصلاة إنما تشرع فيه الجماعة، فليس هذا بكونه فاضلاً على صلاة أخرى لا تشرع فيه الجماعة، وإنما شرعت فيه الجماعة لما فيه من المعاني المقتضية لأن يكون جماعة ولا يدل هذا على شيء من التفضيل. كما أن تفضيلهم لصلاة الاستسقاء على صلاة التراويح – مع ثبوت الجماعة فيهما – يقتضي أن يكونا سواء بل صلاة التراويح أولى بأن تكون هي الفضلى من صلاة الاستسقاء لأنه قد ورد في التراويح من الترغيب ما لم يرد في صلاة الاستسقاء. قال: " ثم وتر " إذن: الوتر مستحب، وليس بواجب وهذا مذهب جمهور الفقهاء وأن الوتر ليس بواجب مع ما ورد من التشدد فيه، فقد قال الإمام أحمد – ونحوه قول الإمام مالك -: (من ترك الوتر عمداً فهو رجل سوء لا ينبغي أن تقبل له شهادة) فهذا يدل على أن الوتر مؤكد غاية التأكيد، ومن تركه فإنه مظنة الضعف وشهادة الزور ونحو ذلك. ودليل استحبابه ما ثبت في الصحيحين أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما سأله الأعرابي عن الصلوات المكتوبة فذكر له ما أوجبه الله فيها قال: هل على غيرها قال: " لا إلا أن تطوع ". فدل على أن ما سوى الفرائض الخمس ليس بواجب إلا ما سيأتي استثناؤه من صلاة الكسوف لأنها ليست من الصلوات الدائمة بخلاف الوتر فإنها صلاة يومية فلو كانت واجبة لذكرها النبي - صلى الله عليه وسلم - له. ولما ثبت في الترمذي والحديث حسن عن علي قال: (ليس الوتر بحتم كهيئة المكتوبة ولكن سنة سنها النبي - صلى الله عليه وسلم -) .

وثبت في الصحيحين عن ابن عمر أن النبي - صلى الله عليه وسلم -: (صلى الوتر على الراحلة) وهذا يقتضي عدم وجوبها إذ لو كانت واجبة لفرض فيها القيام، لأن القيام فرض في المكتوبة. - وذهب الأحناف إلى فرضية الوتر. واستدلوا: بما ثبت في سنن أبي داود أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (الوتر حق ومن لم يوتر فليس منا) والحديث منكر فلا يثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم -. فالصحيح أنها سنة وليست بفرض. - لكن ذهب شيخ الإسلام إلى أن الوتر واجب على المتهجد لمن قام الليل فيجب أن يوتر فيه. فأصل قيام الليل والوتر ليس بواجب لكن من قام الليل فلا يجوز ألا يوتر بل يجب أن يوتر. وهذا قول قوي ظاهر يدل عليه قوله - صلى الله عليه وسلم -: (اجعلوا آخر صلاتكم بالليل وتراً) فهذا أمر والأمر يقتضي الوجوب – والحديث متفق عليه من حديث ابن عمر -. ورواه أبو عوانة والحاكم والبيهقي وغيرهم عن ابن عمر بلفظ: (من صلى من الليل فليوتر فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمر بذلك) وهذا الحديث لا صارف له عن الوجوب. بخلاف قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: (أوتروا يا أهل القرآن) ونحوه من الأحاديث التي فيها الأمر بالوتر فإن صارفها عن الوجوب قوله النبي - صلى الله عليه وسلم -: (لا إلا أن تطوع) . وأما هنا فهذا الواجب قد طرأ بسبب كونه قد صلى الليل فلا يجوز والحالة هذه إلا أن يصلي وتراً. وهذا القول قوي ظاهر. قال: (يُفعل بين العشاء والفجر) فالوتر يُفعل بين العشاء والفجر وهكذا قيام الليل فهو مشروع ما بين صلاة العشاء والفجر. والمراد بصلاة العشاء أداؤها ولو كان ذلك بغير وقتها كأن يجمع إلى المغرب جمع تقديم فإنه يبدأ وقت الوتر وإن لم يغب الشفق.

فوقته من صلاة العشاء سواء كانت صليت في وقتها أو جمعت إلى ما قبلها، ولعموم قوله - صلى الله عليه وسلم - فيما رواه أبو داود والترمذي وغيرها والحديث صحيح أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (إن الله زادكم صلاة هي الوتر فصلوها ما بين العشاء إلى طلوع الفجر) فتفعل بين صلاة العشاء وأذان الفجر، فإذا أذن الفجر فقد انتهى وقت الوتر فقوله الفجر: " أي أذان الفجر ". ويدل عليه الحديث المتقدم وفيه: (ما بين العشاء إلى طلوع الفجر) وثبت في مسلم أن النبي - صلى الله عليه وسلم -: (أوتروا قبل أن تصبحوا) من حديث أبي سعيد الخدري. وثبت في الترمذي – والحديث صحيح – أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (إذا طلع الفجر فقد ذهب وقت كل صلاة الليل والوتر فأوتروا قبل طلوع الفجر) - وعن الإمام أحمد أن وقتها إلى صلاة الفجر، فما بين الأذان والإقامة من صلاة الفجر وقت بصلاة الوتر. وظاهره مطلقاً للمعذور وغيره، وظاهره أنه أداء وليس بقضاء. ودليله ما رواه النسائي بإسناد صحيح عن ابن مسعود أنه سُئل عن الوتر فقال: (أوتر وإن أذن، فقال السائل: " أوتر بعد الأذان؟ " فقال: " نعم وبعد الإقامة " ثم حدث عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه نام عن الصلاة حتى طلعت الشمس فصلى) وهنا يحتمل أن يكون مراد ابن مسعود: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نام عن صلاة الفجر حتى طلعت الشمس ثم صلى صلاة الفجر قضاء فحينئذ يكون هذا من باب القياس فهو يلحق النظير بنظيره، فكما أن صلاة الفجر تقضي بعد وقتها فكذلك الوتر. ويحتمل أن يكون مراده: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نام عن صلاة الوتر فقضاها، وهو الذي يقتضيه السياق، لكنه ضعيف لقوله: (حتى طلعت الشمس) وطلوع الشمس ليس وقتاً نهائياً لصلاة الوتر، بل هو وقت نهائي لصلاة الفجر.

فالظاهر أن ابن مسعود استدل بالقياس فذكر هذا الحديث الثابت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - من نومه حتى طلعت الشمس ثم صلاها، وهو فريضة، فكذلك النافلة فإذا نام عنها فإنه يقضيها بين الأذان والإقامة وبعد الإقامة. وروى محمد بن نصر آثاراً عن عائشة وغيرها فيها الإيتار بين الأذان والإقامة. وهذا القول يخالف الأحاديث المصرحة بأن الوتر ينتهي إذا طلع الفجر. والراجح ما ذهب إليه الإمام أحمد في المشهور عنه وأن طلوع الفجر ينتهي به وقت صلاة الوتر. أما هذه الآثار فتحمل على أن ذلك من باب القضاء والوتر يقضى على القول الراجح الظاهر. فقد روى الخمسة إلا النسائي بإسناد صحيح عن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (من نام عن الوتر ونسيه فليصل إذا أصبح أو ذكر) وظاهر الحديث في قضائه أنه يقضي وتراً. وأما ما ورد عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في مسلم من حديث عائشة قالت: (كان النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا عمل عملاً أثبته وكان إذا نام من الليل أو مرض صلى من النهار ثنتي عشرة ركعة) فهذا الحديث نوع آخر وصفة أخرى للقضاء، فعلى ذلك يكون القضاء له صفتان. الأولى: أن يقضيه وتراً. الثانية: أن يقضيه شفعاً. أما قضاؤه وتراً فهو ظاهر حديث أبي سعيد وعليه أفعال الصحابة وأما قضاؤه شفعاً فقد ثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم -. فإن قيل: لِمَ لم تفسروا الحديث الأول بالحديث الثاني؟ فالجواب: أن يقال: هو قول قوي، لكن الذي جعلنا لا نقول به هنا هو تقوية القول الأول – وهو ظاهر الحديث تقويته - بأقوال الصحابة، فإنهم كانوا يقضونه وتراً كما تقدم في الأثر السابق عن ابن مسعود في الأثر المتقدم عن عائشة. فعلى ذلك: من نام عن الوتر أو نسيه حتى طلع الفجر فقد ذهب وقت الأداء ويشرع له أن يقضيه شفعاً وله أن يقضيه وتراً.

فإن كان وتره بالليل سبع ركعات مثلاً، فله أن يقضيها بالنهار سبعاً وله أن يقضيها ثمان بأن يزيد ثامنة يشفع بها صلاته. واعلم أن المستحب في صلاة الليل أن يصليها من آخره ما لم يخف عدم الاستيقاظ، فإن خاف ألا يستيقظ فيستحب له أن يصليها في أوله؛ لما ثبت في مسلم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (من خاف ألا يقوم من آخر الليل فليوتر أوله، ومن طمع أن يقوم من آخره فليوتر آخر الليل فإن صلاة آخر الليل مشهودة وذلك أفضل) . والحمد لله رب العالمين. قال المؤلف رحمه الله تعالى: (وأقله ركعة) أقل الوتر ركعة، فإذا صلى ركعة فقد أوتر ويجزئه ذلك عما يشرع له من فعل الوتر. والمشهور في المذهب أنه لا يكره ذلك، وقد صح عن عثمان وسعد بن أبي وقاص الوتر بواحدة. أما أثر عثمان فرواه محمد بن نصر في كتاب قيام الليل بإسناد صحيح، وأما أثر سعد فرواه الطحاوي بإسناد حسن. قال: (وأكثره إحدى عشرة ركعة مثنى مثنى) فأكثر الوتر إحدى عشرة ركعة، أي أكثره المستحب وسيأتي الكلام عن أكثره الجائز، فأكثره المستحب إحدى عشرة ركعة. يدل على ذلك ما ثبت في الصحيحين عن عائشة قالت: (ما كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يزيد في رمضان ولا غيره على إحدى عشرة ركعة يصلي أربعاً فلا تسأل عن حسنهن وطولهن ثم يصلي أربعاً فلا تسأل عن حسنهن وطولهن ثم يصلي ثلاثاً) - وقد قال بعض الحنابلة: المستحب أن أكثره ثلاثة عشرة ركعة. واستدلوا: بحديث ابن عباس المتفق عليه، وفيه: (أن النبي - صلى الله عليه وسلم - صلى ركعتين ثم ركعتين ثم ركعتين ثم ركعتين ثم ركعتين ثم ركعتين ثم أوتر) فهذه ثلاث عشرة ركعة. والراجح هو القول الأول.

أما ما ذكره ابن عباس فهذا بإضافة الركعتين الخفيفتين اللتين يفتتح بهما قيام الليل، فإن عائشة لم تذكرهما في الحديث المتقدم، فقد قالت: (صلي أربعاً فلا تسأل عن حسنهن وطولهن) مع أنها قالت في صحيح مسلم: (كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يفتتح صلاته بالليل بركعتين خفيفتين) . وثبت الأمر بهما من حديث أبي هريرة في مسلم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (إذا صلى أحدكم في الليل فليفتتح صلاته بركعتين خفيفتين) . فعائشة لم تذكر الركعتين الخفيفتين، وذكرهما ابن عباس ومما يدل على ذلك ما ثبت في مسلم عن زيد بن خالد الجهني قال قلت: (لأرمقن صلاة النبي - صلى الله عليه وسلم - بالليل، فافتتح صلاته بركعتين خفيفتين، ثم صلى ركعتين طويلتين طويلتين طويلتين ثم صلى ركعتين دون اللتين قبلهما، ثم صلى ركعتين دون اللتين قبلهما، ثم صلى ركعتين دون اللتين قبلهما، ثم صلى ركعتين دون اللتين قبلهما، ثم أوتر فذلك ثلاث عشرة ركعة) فعلى ذلك أكثره المستحب إحدى عشرة ركعة. قال: " مثنى مثنى " فيصلى قيام الليل مثنى مثنى أي ركعتين ركعتين، يسلم من كل ركعتين، يدل عليه حديث ابن عباس وفيه: أن النبي - صلى الله عليه وسلم -: صلى ركعتين ثم ركعتين …الحديث. وحديث عائشة المتقدم في رواية لمسلم: (يسلم بين كل ركعتين) ، وفي الصحيحين عن ابن عمر أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (صلاة الليل مثنى مثنى فإذا خشي أحدكم الصبح فليوتر بواحدة) وهو نوع من الأنواع الثابتة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في الوتر. وسيذكر المؤلف الأنواع الأخر. قال: (وإن أوتر بخمس أو سبع لم يجلس إلا في آخرها) ما تقدم – أي إذا صلى مثنى مثنى – فإن وتره يكون بواحدة، لكن إن أحب أن يوتر بخمس أو سبع فإنه يصليها سرداً لا يجلس إلا في آخرها بمعنى يصلي مثنى مثنى ثم يوتر بخمس سرداً أو بسبع سرداً فهي السنة.

فالسنة لمن صلى الوتر سبعاً أو خمساً ألا يجلس إلا في آخرها. ومرادنا بالإيتار بخمس أو سبع، سواء كان الوتر بخمس صلاته كلها أو كان صلى قبله مثنى مثنى. دليل ذلك: ما ثبت في مسند أحمد وابن ماجه بإسناد صحيح عن أم سلمة قالت: (كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يوتر بسبع أو بخمس لا يفصل بينهن بتسليم ولا كلام) وقد ثبت في الصحيحين ما يؤيد الصورة الثانية فيما إذا أوتر بخمس عن عائشة قالت: (كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يوتر، من الليل بثلاث عشرة ركعة " فقد أضافت الركعتين اللتين يفتتح بهما القيام " يوتر فيها بخمس لا يجلس في شيء منها إلا في آخرها) فلم يفصل بينهن بجلوس ولا كلام. أما الوتر بالسبع فقد ثبت في أبي داود ما يخالف ما تقدم في حديث أم سلمة، فقد روى أبو داود في سننه وأصله في مسلم وفيه: (أن النبي - صلى الله عليه وسلم - جلس في السادسة والسابعة ولم يسلم إلا في السابعة) وفي رواية لمسلم: (أنه أوتر بسبع) . بمعنى: صلى ست ركعات ثم قام ولم يسلم ثم جلس جلوساً ثانياً فسلم فيه. وهذا هو مذهب الموفق ابن قدامة وهو وجه في مذهب الحنابلة وأنه إذا أوتر بسبع فإنه يصلي ستاً سرداً ثم يجلس بعد السادسة ثم يقوم فيصلي السابعة ثم يجلس فيها ويسلم.وهذا هو الأرجح. أما حديث أم سلمة فهو على الشك، فإن فيه شك ومثله يوجب التوقف، فإنها قالت: (كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يوتر بسبع أو بخمس) وهنا شك، وقد ثبتت الرواية في المتفق عليه فيما إذا أوتر بخمس وأنه لا يفصل بينهن بسلام ولا كلام، أما السبع فإن هذا الشك يوجب التوقف فيها لا سيما وقد وردت في الرواية الأخرى المخالفة. فعلى ذلك: الأرجح خلاف المشهور في المذهب وهو قول الموفق أنه إن أوتر بسبع فإنه لا يسردها كلها بل يسرد فيها ستاً فيجلس بعد السادسة فيذكر الله، ويدعو ثم يقوم من غير سلام فيصلي السابعة ثم يجلس فيتشهد ويسلم.

قال: (وبتسع يجلس عقب الثامنة ويتشهد ولا يسلم ثم يصلي التاسعة ويتشهد ويسلم) فإذا أوتر بتسع، فيصلي ثماني ركعات سرداً لا يجلس في شيء منهن فإذا انتهى من الثامنة جلس فذكر الله وحمده ودعاه ثم قام فصلى التاسعة ثم جلس فتشهد وسلم، فحينئذٍ يتم له تسع ركعات بتشهدين وسلام واحد. وهذه الصفة ثابتة في مسلم من حديث عائشة - وهو الذي تقدمت الإشارة إليه عند ذكر رواية أبي داود وأن أصلها في مسلم – عن عائشة أنها سألها سعد بن هشام فقال: يا أم المؤمنين أنبئيني عن وتر النبي - صلى الله عليه وسلم - فقالت: (كنا نعدُّ له سواكه وطهوره فيبعثه الله من الليل ما شاء أن يبعثه فيتسوك ويتوضأ ويصلي تسع ركعات لا يجلس في شيء منها إلا في الثامنة فيذكر الله ويحمده ويدعو وينهض ولا يسلم ويقوم إلى التاسعة ثم يجلس فيذكر الله ويحمده ويدعوه ثم يسلم) قالت: - أي عائشة -: (ثم يصلي ركعتين بعدما يسلم وهو قاعد فتلك إحدى عشرة ركعة، فلما أسنَّ وأخذه اللحم أوتر بسبع وصنع في الركعتين مثل صنيعه في الأول) وهاتان الركعتان ثبت فعلهما من النبي - صلى الله عليه وسلم - من حديث أبي أمامة، فقد ثبت في مسند أحمد بإسناد حسن عن أبي أمامة قال: (كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يصلي بعد وتره ركعتين وهو جالس يقرأ فيهما " إذا زلزلت الأرض زلزلاها " و " قل يا أيها الكافرون ") . قال ابن القيم: " هي كالسنة للفريضة ". أ. هـ. فهنا الوتر كأنها عبادة مستقلة تشبه الفرائض فكان لها سنة كالفرائض فهذه كالفرائض فهذه سنتها، فحينئذٍ: لا يعارض هذا قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: (اجعلوا آخر صلاتكم بالليل وتراً) . فإنه إذا أوتر استحب له أحياناً أن يصلي بعد وتره ركعتين خفيفتين وهو قاعد. وقد قال الإمام مالك بعدم المشرعية. وقال أحمد: إن فعلها فلا بأس وإن تركها فلا بأس. قال: (وأدنى الكمال ثلاث ركعات بسلامين)

هذا أدنى الكمال أن يصلي ثلاث ركعات، فالإجزاء أن يصلي ركعة، وأدنى الكمال أن يصلي ثلاث ركعات لكن بسلامين هذا هو المستحب. فلا يستحب الوتر بثلاث بمعنى: أن يصلي ثلاثاً سرداً لا يفصل بينهن بسلام، بل المستحب أن يفصل بينهن بالكلام والسلام. فإن صلى ثلاثاً سرداً قالوا: فلا بأس. وذهب بعض أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى القول بالكراهية، فقد صح عن ابن عباس قال: (ولا أحب ثلاثاً تتراً) أي سرداً. وعن عائشة قالت: (وأكره ثلاثاً تتراً) . والأثران رواهما محمد بن نصر المروزي في كتاب قيام الليل. ويدل على ذلك ما ثبت عند ابن حبان والحاكم بإسناد صحيح أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (لا توتروا بثلاث أوتروا بخمس أو سبع ولا تشبهوا بصلاة المغرب) . فهذا فيه النهي عن الإيتار بثلاث، وهو حديث مطلق وظاهر إطلاقه النهي عن ذلك سواء كانت الثلاث سرداً بلا تشهد، أو كان فيها تشهد بلا سلام، لقوله: (لا توتروا بثلاث) ثم قال: (لا تشبهوا بصلاة المغرب) فإن قيل: أنه إن سردها من غير تشهد فإنها لم يتشبه بصلاة المغرب؟ فالجواب: إن أصل المشابهة ثابت، إذ المشابهة لا تقتضي المماثلة. ثم إن قوله: (لا توتروا بثلاث) شامل للصفتين كلتيهما، وأما قوله: (ولا تشبهوا بصلاة المغرب) فلا يخرج الصفة التي ليس فيها تشهد؛ لأن التشبيه ثابت لعدم السلام ولكونها ثلاثاً. ولأن النبي - صلى الله عليه وسلم - صرف المخاطب إلى أن أمره أن يوتر بخمس أو سبع، فدل ذلك على أن الإيتار بثلاث مكروه مطلقاً، وهذا هو الأظهر وأنه مكروه مطلقاً، وأن المستحب له أن يصلي ركعتين ثم يسلم ثم يصلي الثالثة. وقد صح عن ابن عمر في الموطأ بإسناد صحيح: (أنه كان يسلم بين الركعتين والركعة في الوتر حتى يأمر ببعض حاجته) إذن: الإيتار بثلاث مكروه سواء جلس للتشهد أو لم يجلس والمستحب أن يصلي ركعتين ثم يسلم ثم يأتي بالثالثة.

والحمد لله رب العالمين. الوتر: في لغة العرب: هو الفرد. اصطلاحاً: فهو الركعة الواحدة وما أضيف إليها مما اتصل بها. قال المؤلف رحمه الله تعالى: (يقرأ في الأولى بسبح وفي الثانية بالكافرون وفي الثالثة بالإخلاص) لما روى أحمد وأبو داود والنسائي وغيرهم عن أبي بن كعب – حديث صحيح -: (أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يوتر بسبح اسم ربك الأعلى، وقل يا أيها الكافرون، وقل هو الله أحد) وظاهر كلام المؤلف أنه لا يشرع له أن يقرأ في الثالثة بالمعوذتين مع سورة الإخلاص. وهو المشهور في المذهب. ومذهب الشافعية وهو رواية عن الإمام أحمد: أنه يشرع له أن يقرأ مع سورة الإخلاص بالمعوذتين. لما روى أبو داود من حديث عائشة وفيه: (ويقرأ في الثالثة بقل هو الله أحد، والمعوذتين) والحديث فيه خصيف بن عبد الرحمن وهو ضعيف. لكن الحديث ورد من طريق آخر عند الحاكم فحسن به الحديث، فعلى ذلك الحديث حسن بطريقه، وعليه فيشرع له أن يقرأ مع سورة الإخلاص بالمعوذتين. ولا بأس له أن يقرأ سواها من السور في الركعات الثلاث، وأما ما تقدم فهو على سبيل الاستحباب للقاعدة المشهورة: مجرد الفعل لا يدل على الوجوب، ولقوله - صلى الله عليه وسلم -: (فاقرأ ما تيسر معك من القرآن) . قال: (ويقنت فيها) أي يقنت في ركعته الثالثة، فيدعو الله بالدعاء الوارد كما سيذكره المؤلف، أو بما شاء. فالقنوت هو الدعاء الواقع في الركعة الأخيرة من صلاته. – وظاهره أنه يقنت مطلقاً في جميع السنة، وأن القنوت مستحب في جميع السنة. وهو المشهور في المذهب، وإليه رجع الإمام أحمد فقال: " كنت أذهب إلى أن القنوت في النصف الأخير من رمضان ثم قنت هو دعاء بخير " وهو قول بعض الصحابة حكاه ابن تيمية عن ابن مسعود وغيره. والقول الثاني: وهو رواية عن أحمد أنه لا يستحب بحال لا في رمضان ولا في غيره.

والقول الثالث: أنه يستحب في النصف الأخير من رمضان. هذه ثلاث أقوال لأهل العلم هي روايات عن الإمام أحمد وقد حكى ابن تيمية هذه الأقوال عن الصحابة - رضي الله عنهم - واختار ابن تيمية التخيير بين الفعل والترك وقال: (حقيقة الأمر أن قنوت الوتر من جنس الدعاء السائغ في الصلاة فمن شاء فعله ومن شاء تركه) والظاهر: أنه يستحب لكن استحبابه ينبغي ألا يكون على هيئة الدوام بل يفعله تارة ويتركه تارة أخرى، لأن القنوت قد ثبت من فعل النبي - صلى الله عليه وسلم - ومن تعليمه. فقد ثبت في سنن النسائي بإسناد جيد: أن النبي - صلى الله عليه وسلم -: (كان يقنت في الوتر قبل الركوع) وثبت عند الخمسة، وفيه أن الحسن قال: (علمني النبي - صلى الله عليه وسلم - كلمات أقولهن في الوتر) وإسناده جيد. وثبت عند الأربعة بإسناد صحيح عن علي قال: (كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول في آخر وتره: " اللهم إني أعوذ برضاك من سخطك، وبمعافاتك من عقوبتك، وأعوذ بك منك لا أحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك) فهذه الأحاديث تدل على مشرعية القنوت. وإنما لم نقل باستحباب مداومته، لأن من نقل لنا قيام النبي - صلى الله عليه وسلم - في الليل كعائشة وابن عباس وزيد بن خالد وغيرهم لم يحكوا لنا قنوته، وإنما حكاه علي والحسن، وأبي بن كعب فكون عائشة وابن عباس ومن روى ذلك من الصحابة لا يذكر القنوت مع حرصه على استقصاء صفة قيامه، طولاً وقصراً وما كان يقرأ فيها ونحو ذلك، يدل هذا على أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يفعله إذ الهمم والدواعي متوفرة لنقله منهم فلما لم ينقلوه دل على أنهم لم يروه من النبي - صلى الله عليه وسلم -. وحكاه من رآه كأبي بن كعب وعلي فدل على أنه كان يفعله برؤية هؤلاء ولم يكن يداوم عليه لعدم حكاية أولئك له.

فعلى ذلك، يستحب أحياناً من غير مداومة، لكن إن دوم عليه فلا بأس والمستحب له ألا يداوم لأنه من جنس الدعاء والمسألة في الصلاة. هذا الذي يتبين في هذه المسألة والله أعلم. قال: (بعد الركوع) ندباً، فيستحب القنوت بعد الركوع، فإن قنت قبله فلا بأس هذا هو المشهور في مذهب الحنابلة. واستدلوا: بما ثبت في الصحيحين من قنوت النبي - صلى الله عليه وسلم - للنازلة وفيه: (أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قنت بعد الركوع) وهو من حديث ابن عمر وغيره. وهذا من جنسه، فالقنوت في الوتر من جنس القنوت في النوازل، وهذا التنظير وإن كان راجحاً لكن السنة تخالفه، فقد ثبت في النسائي بإسناد حسن من حديث أبي بن كعب أن النبي - صلى الله عليه وسلم -: (قنت في الوتر قبل الركوع) . وإليه ذهب الإمام مالك وهو الراجح، وأن المستحب أن يقنت قبل الركوع، فإن قنت بعده فلا حرج إن شاء الله. قال: (ويقول: اللهم اهدني فيمن هديت، وعافني فيمن عافيت وتولني فيمن توليت وبارك لي فيما أعطيت وقني شر ما قضيت إنك تقضي ولا يُقضى عليك، إنه لا يذل من واليت ولا يعز من عاديت تباركت ربنا وتعاليت، اللهم إني أعوذ برضاك من سخطك وبمعافاتك من عقوبتك وبك منك لا نحصي ثناءً عليك أنت كما أثنيت على نفسك، اللهم صل على محمد وآل محمد) أما قوله: " اللهم اهدني " إلى قوله: " تباركت ربنا وتعاليت " فقد ثبت عند الخمسة بإسناد جيد عن الحسن بن علي قال: (علمني النبي - صلى الله عليه وسلم - كلمات أقولهن في قنوت الوتر ... الحديث) إلا أن لفظة " ولا يعز من عاديت " تفرد بها النسائي وإسنادها صحيح. وقوله: " اللهم اهدني فيمن هديت ": أي وفقني إلى معرفة الحق والعمل به. " وعافني يمن عافيت ": أي عافني من الشرك والمعاصي وعافني من الأمراض والبلايا ونحوها. " وتولني فيمن توليت ": أي قربني إليك وتولني بعنايتك وحفظك وتسديدك.

" وبارك لي فيما أعطيت " من الخير الديني والدنيوي، اجعله لي مباركاً من علم نافع أو رزق دنيوي. " وقني شر ما قضيت ": أي قني المقضيات التي فيها شر والشر يُنسب إلى مقضيات الله لا إلى فعله كما في الحديث: (والشر ليس إليك) " إنك تقضي ولا يُقضى عليك ": وفي رواية: " فإنك تقضي ... " وزاد ابن خزيمة بعده: (لا منجى منك إلا إليك) وقوله: " اللهم إني أعوذ برضاك من سخطك " ثابت عند الأربعة بإسناد صحيح من حديث علي أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يقول في وتره … أما قوله: " اللهم صل على محمد وآل محمد " فقد روى النسائي بسنده أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال في حديث تعليمه للحسن: " اللهم صل على النبي" لكن الحديث إسناده ضعيف، فلا يثبت ذلك عن النبي - صلى الله عليه وسلم -. لكن فعله حسن لثبوته عن أُبي بن كعب كما عند ابن خزيمة فقد صح عنه في ابن خزيمة أنه كان يقول في آخر قنوته: " اللهم صل على آل محمد " فعلى ذلك هو مستحب لفعل هذا الصحابي له. قال: (ويمسح وجهه بيديه) كما روى الترمذي من حديث عمر أن النبي - صلى الله عليه وسلم -: (كان إذا رفع يديه في الدعاء لا يحطهما حتى يمسح بهما وجهه) . لكن الحديث إسناده ضعيف لا يثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم -. - لذا ذهب الإمام أحمد في رواية أخرى عنه: إلى أنه لا يشرع له ذلك لضعف الحديث فيه. وهذا هو الراجح؛ لأن الحديث الوارد فيه ضعيف. وهذه المسألة متضمنة لرفع اليدين وأنه يستحب له ذلك في دعاء قنوت الوتر، وهذا ظاهر لأنه من جنس الدعاء في قنوت النوازل. وقد ثبت في مسند أحمد – في قنوت النبي - صلى الله عليه وسلم - – للنوازل: (أنه كان يرفع يديه) ففيه مشروعية رفع اليدين لثبوت ذلك في قنوت النوازل.

وهنا ما ذكره من الدعاء هو دعاء المنفرد في قوله: " اللهم اهدني ... … " أما دعاء الإمام فإنه يكون بصيغة الجمع فيقول: " اللهم اهدنا فيمن هديت ... إلى آخره " فإذا دعا الإمام أمَّن المأمومون خلفه ورفعوا أصواتهم بالتأمين بالاتفاق، قال الموفق: " لا نعلم فيه خلافاً "، ويدل عليه ما رواه أبو داود في قنوت النبي - صلى الله عليه وسلم - للنوازل وفيه: (يؤمن من خلفه) فعلى ذلك: يستحب لمن خلف الإمام أن يؤمن. * وهنا اقتصار المؤلف وغيره من الحنابلة على الدعاء الوارد عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في القنوت هل يدل على أنه لا يشرع سواه أم أنهم اكتفوا به لأنه هو المستحب وإن لم يكن متعيناً؟ هذا ما ذكره صاحب الفروع – إجمالاً – فقال: - أي من اقتصر على ذكر ذلك – لعله أراد أنه يستحب وإن لم يتعين؛ وذلك لأن الإمام أحمد نصَّ أن له أن يدعو بما شاء. وصرَّح بذلك طائفة من أصحابه – وهذا هو الأظهر –، فهو محل للدعاء فله أن يدعو بما شاء من الدعاء فكما أن السجود محل للدعاء وله أن يدعو بما ورد وما لم يرد، نعم المستحب له أن يأتي بالوارد، فإن أطال فدعا بما لم يرد فلا بأس ومثل ذلك الدعاء في التشهد، فالمستحب أن يدعو بما ورد فإن زاد ما لم يرد أو دعا أصلاً بما لم يرد فلا بأس ولا حرج. إلا أن يصحب ذلك اعتقاد ينقل الحكم كأن يعتقد في هذا الدعاء أنه أفضل من الوارد عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أو أنه أرجى للإجابة أو اعتقاد أنه سنة أو نحو ذلك فله حكم آخر. والحمد لله رب العالمين. قال المؤلف رحمه الله تعالى: (ويكره قنوته في غير الوتر إلا أن تنزل بالمسلمين نازلة غير الطاعون فيقنت الإمام في الفرائض) فيكره قنوت المصلي في غير الوتر – من الصلوات – كأن يقنت في صلاة الفجر أو صلاة الظهر أو العصر أو المغرب أو العشاء فهو مكروه في المشهور من المذهب. وهذا له حالتان: الحالة الأولى: أن يقنت في صلاة الفجر.

الحالة الثانية: أن يقنت في بقية الصلوات. أما القنوت في صلاة الفجر أي مشروعيته فقد ذهب إليه المالكية والشافعية وأنه مستحب. وأما القنوت في بقية الصلوات فذهب إليه بعض الشافعية، وقد بدَّع شيخ الإسلام هذا الفعل، ولا ينسب إلى إمام من الأئمة وإنما هو قول قاله بعض المنتسبين إلى مذهب الشافعي. أما القنوت في صلاة الفجر فهو مذهب الشافعية والمالكية. وذهب الأحناف والحنابلة وعليه العمل عند أهل العلم كما قاله الترمذي: أنه لا يشرع. استدل القائلون بالمشروعية: بما روى أحمد في مسنده من حديث أنس بن مالك وفيه: (أما الصبح فلم يزل النبي - صلى الله عليه وسلم - يقنت حتى فارق الدنيا) واستدل القائلون بعدم المشروعية بأحاديث: منها: ما ثبت في الصحيحين عن انس قال: (قنت النبي - صلى الله عليه وسلم - شهراً في صلاة الفجر يقول: " اللهم أنج الوليد ابن الوليد، اللهم أنج سلمة بن هشام، اللهم أنج المستضعفين من المؤمنين، اللهم اشدد وطأتك على مضر واجعلها عليهم سنين كسني يوسف) وفي مسلم: (ثم تركه) . وفي أبي داود: قال: (فأصبح النبي - صلى الله عليه وسلم - ذات يوم فلم يدع لهم فذكرت ذلك له فقال: " أو ما تراهم قد قدموا ") فكانت نازلة فانتهت فترك القنوت لزوالها. ومنها ما رواه ابن خزيمة وابن حبان بإسناد صحيح عن أنس قال: (كان النبي - صلى الله عليه وسلم - لا يقنت إلا إذا دعا لقوم أو دعا على قوم) ومنها – وهو أصرح الأدلة – بما ثبت في الترميذي وصححه وهو كما قال من حديث: سعد بن طارق الأشجعي قال: (قلت لأبي: إنك صليت خلف النبي - صلى الله عليه وسلم - وأبي بكر وعمر وعثمان وعلي أفكانوا يقنتون؟ فقال: أي بني محدث) أي هو بدعة. وهو حديث صحيح وعليه العمل كما ذكر الترمذي.

أما حديث: (أما الصبح فلم يزل يقنت حتى فارق الدنيا) فالحديث فيه أبو جعفر الرازي وهو ضعيف إذا تفرد، وقد تفرد بهذه الرواية وهو صاحب مناكير فلا يقبل حديثه. ثم لو سلمنا بصحة الحديث فإنه يحتمل – جمعاً بينه وبين ما تقدم من الأدلة – بأن المراد إطالة القيام في الصلاة فالنبي - صلى الله عليه وسلم - لم يزل يطيل قيام صلاة الفجر. وقد قال - صلى الله عليه وسلم -: (أفضل الصلاة طول القنوت " أي طول القيام ") رواه مسلم. فعلى ذلك الراجح ما ذهب إليه الحنابلة من عدم مشروعية القنوت في غير النوازل وهو اختيار شيخ الإسلام وتلميذه. وهل يكره أم يحرم؟ قولان في المذهب: القول الأول: وهو المشهور في المذهب: هو الكراهية. القول الثاني: أنه محرم وهو قول قاله بعض الحنابلة، وقال بعضهم هو بدعة. أما ابن القيم فذكر في زاد المعاد أنه ليس ببدعة وأنه من الخلاف السائغ، وحكاه عن أهل الحديث. أما ما ذكره عن أهل الحديث من اتفاقهم على عدم تبديع هذا الفعل فإنه يحتاج إلى تثبت في نسبته إلى أهل الحديث لأنه جارٍ مجرى البدع وكون الأمر بدعة لا يعني أن فاعله مبتدع ما دام أنه مجتهد في فعله. فكون الإمام الشافعي يشرع ويستحب القنوت استدلالاً بالحديث المتقدم، لا يعني ذلك أن ينسب إلى شيء من البدعة، وإن كان هذا الفعل بدعة كما أن البدعة قد نسبت إلى فعل بعض أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - عندما تكون غير مشروعة والسنة بخلافها. فعلى ذلك – وكما نص الصحابي المتقدم – وهو طارق الأشجعي في قوله: " أي بني محدث " فهو محدث وكل محدثة بدعة. فالراجح: أنه بدعة لعدم ثبوته عن النبي - صلى الله عليه وسلم -. أما من فعله على أنه سنة فإن له نصيبه من الأجر والاجتهاد فإنه مجتهد مخطئ فله أجره على اجتهاده. فالراجح من قولي المذهب: خلاف المشهور عندهم: أن ذلك محرم وأنه بدعة.

والمالكية والشافعية – كما تقدم – يستحبون القنوت في صلاة الفجر، لكن بينهم فيه اختلاف. فمذهب المالكية: أنه مشروع قبل الركوع سراً. ومذهب الشافعية: أنه مشروع بعده جهراً. واختلفوا أيضاً: في اللفظ الذي يقنت به. فالمشهور عند الشافعية أنه يقنت بحديث الحسن بن علي: (اللهم اهدني فيمن هديت) وهو قول ظاهر الضعف، لأن الحديث إنما ورد في قنوت الوتر ولم يثبت في قنوت الصلاة. وذهب المالكية إلى القنوت بما ورد عن عمر - رضي الله عنه -، فقد روى البيهقي بإسناد صحيح عن عبد الرحمن بن أبزى أنه صلى خلف عمر - رضي الله عنه - صلاة الفجر فسمعه يقول: قبل الركوع وبعد القراءة: (اللهم إياك نعبد ولك نصلي ونسجد وإليك نسعى ونحفد " أي نسارع " نرجو رحمتك ونخشى عذابك، إن عذابك في الكفار ملحق، اللهم إنا نستعينك ونستغفرك ونثني عليك الخير ولا نكفرك، ونؤمن بك ونخضع لك ونخلع من يكفرك) فبه استدل المالكية على استحبابه سراً وعلى أنه قبل الركوع لفعل عمر فإنه قد قنت قبل الركوع سراً لأنه لم يظهر من عمر بل سمع منه. وهذا الأثر يحمل على أنه من قنوت النوازل كما تقدم. أما قنوت النوازل فهو مشروع، كأن تقع بالمسلمين نازلة من تسلط عدو ونحو ذلك، للحديث المتقدم من حديث أنس وحديث أبي هريرة الذي فيه: (اللهم أنج الوليد بن الوليد…الحديث) . واعلم أن السنة أن يكون بعد الركوع بعد قوله: " سمع الله لمن حمده " لرواية في الصحيحين للحديث المتقدم: (أنه كان يقول ذلك بعد الركوع بعد ما يقول: سمع الله لمن حمده) . فإن كان قبل الركوع فلا بأس للأثر المتقدم عن عمر، مع أنه قد صح عن عمر في البيهقي أنه (قنت بعد الركوع ورفع يديه وجهر بالدعاء) . ويدعو بألفاظ منبعثة عن هذه النازلة التي وقعت على المسلمين. واعلم أن قنوت النوازل ليس خاصاً في صلاة الفجر بل عام فيها وفي غيرها من الصلوات المكتوبة.

فقد ثبت في أبي داود من حديث ابن عباس قال: (قنت النبي - صلى الله عليه وسلم - شهراً متتابعاً في صلاة الظهر والعصر والمغرب والعشاء والفجر إذا قال: سمع الله لمن حمده، دبر كل صلاة مكتوبة يؤمن من خلفه) . ففيه أن القنوت مشروع في كل الصلوات المكتوبة، لذا قال المؤلف هنا: " فيقنت الإمام في الفرائض " فهو عام في الفرائض كلها. وثبت في الصحيحين من حديث أبي هريرة: (القنوت في الظهر العشاء والفجر) . وثبت في البخاري من حديث أنس: (القنوت في المغرب والفجر) ، ونحوه من حديث البراء بن عازب في مسلم في قنوت المغرب والفجر.فهذه أربع صلوات ثبتت في الصحيحين أو أحدهما. وأما العصر فقد ثبت فيما تقدم من حديث ابن عباس في سنن أبي داود وهو جامع للصلوات الخمس. والظاهر أنه يجهر بالقنوت مطلقاً سواء كانت الصلاة جهرية أم سرية. وقد صرح بعض الحنابلة بخلاف ذلك وأنه يجهر فيما يجهر به من الصلوات. وأطلق بعضهم، وظاهر إطلاقه أنه يجهر بها كلها، وهو الظاهر لحديث ابن عباس المتقدم: (دبر كل صلاة مكتوبة يؤمن من خلفه) فظاهره أنه قد رفع صوته وجهر به فسمعه من خلفه فأمَّن. فعلى ذلك لو قنت في صلاة الظهر أو العصر فإنه يجهر بالقنوت. قوله: (غير الطاعون) - المشهور في المذهب: أن الطاعون لا يشرع فيه القنوت، وذلك من وجهين: الأول: أنه قد وقع في عهد الصحابة، كما وقع في عهد عمر في ناحية الشام فلم يثبت أنهم قنتوا. الثاني: أنه شهادة، وثبت في البخاري أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (الطاعون شهادة لكل مسلم) - والمشهور عند الشافعية القنوت في الوباء من طاعون وغيره أي مشروعية ذلك. ويُجاب عما استدل به الحنابلة من الوجهين: أما كونه لم يثبت لنا عن الصحابة وأن عدم النقل ليس نقلاً للعدم، فلا يقضي أنهم لم يفعلوه.

وأما كونه شهادة فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - قد دعا فيما تقدم للوليد بن الوليد ومسلمة بن هشام وما هم عليه إنما هو شهادة أو بمعنى الشهادة فهم معرضون للشهادة أو بمعنى الشهادة من التعذيب في سبيل الله، فكونه شهادة لا يعني ذلك أنه لا يقنت منه. فالأظهر ما ذهب إليه الشافعية من مشروعية القنوت فيه، وأنه من النوازل فيجوز للمسلمين أن يقنتوا فيه إذا نزل بهم الطاعون أو غيره من الأوبئة الخطيرة التي تهلك الحرث والنسل. واعلم أن ظاهر حديث أبي هريرة: أن النازلة وإن وقعت في طائفة من المسلمين من أسر أو تعريض لقتل أو وباء على القول به أنه وإن نزل في طائفة من المسلمين ولم يكن عاماً فإنه يشرع ذلك، فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - قد قنت لطائفة مأسورة عند قريش. قوله: (فيقنت الإمام) أي الإمام الأعظم. هذا هو المشهور في المذهب وأنه إنما هو الإمام الأعظم أي الحاكم أو السلطان أو الخليفة. وعن أحمد: أنه نائبه إن أذن الإمام. وعن أحمد: أن إمام الجماعة يشرع له ذلك. وعن أحمد: كل مصل له ذلك. فهذه أربع روايات عن الإمام أحمد: أظهرها وهو اختيار شيخ الإسلام: أنه مشروع لكل مصل لأنه دعاء لله عز وجل لا يترتب عليه فتنة وشر ولا افتيات على السلطان والحاكم. وقد فعله النبي - صلى الله عليه وسلم - وقال: (صلوا كما رأيتموني أصلي) . وقد تقدم أثر عمر، وفيه أنه دعا سراً، فهذا يدل على أنه وإن لم يكن مجهوراً به مختصاً بالمصلي نفسه فإنه يبقى مشروعاً. فإذا فعله من يصلي وحده أو المرأة، فلا حرج في ذلك ويبقى على مشروعيته. إلا أن يترتب على فعله فتنة أو يمنع منه السلطان أو الحاكم فيترتب على فعله مفاسد، فينهى عنه لهذه المفاسد. أما إن لم يكن ذلك، فإنه دعاء لله، الأصل فيه ألا مفسدة فيه، فلا ينهى عنه وإن لم أذن السلطان. [في الفرائض] تقدم أن القنوت عام في الفرائض كلها.

وتقدم أنه يستحب له أن يرفع يديه كما في أثر عمر بن الخطاب، وتقدم في مسند أحمد عند الكلام على رفع اليدين في قنوت الوتر. ويجهر الإمام كما هو ظاهر الأحاديث الواردة في هذا من قنوت النبي - صلى الله عليه وسلم - كما تقدم في حديث أبي هريرة، فظاهر أنه جهر، وحديث ابن عباس، وظاهر في ذلك، وأثر عمر فيه أنه جهر. ويؤمن من خلفه كما تقدم في حديث ابن عباس - رضي الله عنه -، فعلى ذلك: يرفع يديه ويدعو الله بما يناسب المقام من الدعاء مما وقع في المسلمين من نازلة، ويؤمن من خلفه. وقد استثنى الحنابلة في المشهور عندهم صلاة الجمعة، فقالوا: لا يشرع فيها القنوت. واستدل بعضهم: على أنها يوم عيد، فلا يناسب ذكر النازلة فيه. وقال بعض الحنابلة، وهو مذهب القاضي من الحنابلة: إلى أن الجمعة كغيرها، يشرع فيها القنوت. وهذا هو الأظهر؛ فإن حديث ابن عباس المتقدم عام في الجمعة وغيرها، في قوله: " دبر كل صلاة مكتوبة "، فيشمل الجمعة كما يشمل غيرها. وليس هناك معنى يناسب لإخراج الجمعة عن هذا الحكم، فإن وقوع النازلة في المسلمين يقتضي دعاء الله - عز وجل -، وسواء كان ذلك في صلاة الجمعة أو غيرها. مسألة: إذا قنت إمام في غير نازلة، كأن يقنت في صلاة الفجر، كما يقع هذا من الشافعية أو من المالكية بالسكوت منهم، فما الحكم في حق المأموم؟ المشهور في المذهب: أن المأموم يتابع الإمام، فيؤمن بدعائه، وعليه فإنه يرفع يديه وغير ذلك. وهو ظاهر كلام شيخ الإسلام: في أن الإمام إذا فعل ما يسوغ له مما هو من الاجتهاد، فإن المأموم يتابعه، كأن يقنت أو أن يصل الوتر. هكذا قال شيخ الإسلام. وقال بعض الحنابلة: لا يتابعه. وهذا القول ضعيف من جهة إطلاقه، وفيه معنى صحيح.

أما إطلاقه فظاهره أنه يفارق الإمام، وهذا ليس بصحيح، فإن هذا من الإمام فعل يسير في الغالب، ويمكن للمأموم أن ينتظره، ولا يعدو ذلك إلا أن يكون إطالة في ركن مشروع، فكونه يتابعه، هذا لا يؤثر في صلاته. وأما المعنى الصحيح فيها فهو كونه يفارقه في الفعل والقول، فهذا هو المعنى الراجح في ذلك. فالأظهر أنه يتابعه في القيام والانتظار، فلا يسبق الإمام إلى النزول إلى السجود أو إلى الركوع إن قنت قبل الركوع، لكنه لا يرفع يديه ولا يؤمن على دعائه، وإنما ينشغل بذكر مشروع في هذا الموضع، كأن يطيل من تمجيد الله - عز وجل - والثناء عليه؛ لأن المقصود من متابعته عدم الخلاف على الإمام بأن يتقدم عليه في ركوع ونحوه. أما أن يخالفه فيما يمكن مخالفته فيه من غير أن يكون ذلك مؤثراً في الصورة الظاهرة، فهذا لا حرج فيه. فالظاهر أنه لا يتابعه وقد فعل أمراً محدثاً، لكنه يبقى منتظراً له قائماً مشتغلاً بما يشرع من غير أن يقع منه الحدث. والحمد لله رب العالمين. قال المؤلف رحمه الله تعالى: (والتراويح عشرون ركعة) التراويح: جمع ترويحة، وهي الجلسة اليسيرة للاستراحة وسمي قيام الليل تراويحاً: لأنهم – أي السلف – كانوا يجلسون بعد كل أربع ركعات جلسة يسيرة، وقد حكى صاحب الفروع اتفاق أهل العلم عليها. ويستدل لذلك بحديث عائشة في الصحيحين أنها قالت: (ما كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يزيد في رمضان ولا غيره على إحدى عشرة ركعة يصلي أربعاً فلا تسأل عن حسنهن وطولهن ثم يصلي أربعاً ... …ثم يصلي ثلاثاً) فأتت بلفظة " ثم " التي تفيد التراخي، بينما جمعت بين الأربع في قولها: " يصلي أربعاً " مع أنها قالت: " يسلم من كل ركعتين " كما في رواية مسلم فهذا يدل على ثبوت هذه الجلسة بين الأربع ركعات.

إلا أن الحديث المتقدم ليس فيه اختصاص هذه الجلسة لقيام رمضان فحسب، بل القيام كله، وأنه يستحب الراحة بعد صلاة أربع ركعات مطلقاً في رمضان وفي غيره. وقد تقدم أن صاحب الفروع حكى اتفاق أهل العلم على استحبابها وقال: " وفعله السلف ولا بأس بتركه " وهو كما قال فهي سنة مستحبة من تركها فلا بأس. وهي – أي التراويح – سنة مستحبة باتفاق العلماء وإجماعهم فقد ثبت في صحيح البخاري ومسلم عن أبي هريرة قال: (صلى النبي - صلى الله عليه وسلم - في المسجد ذات ليلة فصلى أناس بصلاته، ثم صلى من القابلة فكثر الناس ثم اجتمعوا في الثالثة أو الرابعة فلم يخرج إليهم فلما أصبح قال: قد رأيت ما صنعتم، فلم يمنعني من الخروج عليكم إلا أني خشيت أن تفرض) قال الراوي: وذلك في رمضان ". فهذا هو أصل مشروعيتها من السنة النبوية. وبقي الأمر كذلك في عهد أبي بكر الصديق وصدراً من خلافة عمر رضي الله عنهما: ثم سنها عمر فجمع الناس إليها على أبي بن كعب. كما ثبت في البخاري عن عبد الرحمن القارئ قال: (خرجت مع عمر ليلة في رمضان إلى المسجد فإذا الناس أوزاع متفرقون، يصلي الرجل لنفسه، ويصلي الرجل فيصلي بصلاته الرهط، فقال: إني أرى لو جمعت هؤلاء على قارئ واحد لكان أمثل، ثم عزم فجمعهم على أبي بن كعب، قال: ثم خرجت معه ليلة أخرى والناس يصلون فقال: نعم البدعة هذه والتي ينامون عنها خير من التي يقومون، كان وكان الناس يقومون أوله) " التي ينامون عنها " من صلاة الليل في آخره فهي أفضل. وكانوا مراعاة لمصلحة عامة الناس يصلون في أوله لا سيما قبل العشر الأواخر، فكان عمر يقول ذلك.

فهي سنة نبوية أولاً، فلما زال ما كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يخشاه من كونها تفرض بوفاته عليه الصلاة والسلام وانتهاء التشريع كان من عمر أن استأنف شرعيتها فجمع الناس إليها وهذا من موافقة أمير المؤمنين للحق كما هو معلوم فيما هو عليه - رضوان الله عليه – وفي الحديث: (عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي) . (عشرون ركعة) فتصلى عشرون ركعة كما هو مذهب جماهير العلماء وهو فعل أهل مكة حكاه عنهم الشافعي وغيره. أما فعل أهل المدينة فكما حكاه الشافعي وغيره أنهم يصلون ستاً وثلاثين ركعة ويوترون بثلاث. فجمهور العلماء وهو مذهب أكثر الفقهاء كما حكى ذلك الترمذي وغيره على القول باستحباب صلاة عشرين ركعة ثم يوتر بواحدة أو بثلاث. واستدلوا: بما رواه البيهقي بإسناده الصحيح وصححه شيخ الإسلام وغيره عن السائب بن يزيد قال: (كان الناس يقومون في عهد عمر في رمضان عشرين ركعة) الأثر إسناده صحيح ورواه مالك في موطئه عن يزيد بن رُومان قال: (كان الناس يقومون في عهد عمر في رمضان بثلاث وعشرين ركعة) فذكر فيها الوتر بثلاث، لكن السند هنا منقطع فإن يزيد بن رومان لم يدرك عمر - رضي الله عنه -. فهذا الأثر يدل على أنها كانت تصلى في عهد عمر عشرين ركعة، وهو فعل أهل مكة. وروى مالك في موطئه عن السائب بن يزيد قال: (أمر عمر أُبي بن كعب وتميماً الداري أن يقوما للناس بإحدى عشرة ركعة قال: فكان القارئ يقرأ بالمئين حتى كنا نتكأ على العصي من طول القيام قال: فما كنا ننصرف إلا في طلوع الفجر) . ولعل هذا يحمل – للجمع بينه وبين الرواية المتقدمة – على حدوث ذلك في العشر الأواخر وأنهم لا ينصرفون إلا عند طلوع الفجر، بخلاف صلاتهم قبل ذلك فإنهم يتركون قيام آخره كما في قول عمر: " والتي ينامون عنها خير من التي يقومون ".

والجمع بين الأثرين الصحيحين: أنه لا مانع من ثبوتهما جميعاً لاختلاف الأحوال فإن عصر أمير المؤمنين عمر، ثبت سنين طويلة فلا مانع أن يثبت هذا في بعض السنين ويثبت الآخر في بعضها الآخر أو أن يكون إمامين " أبي وتميم " ويكون ذاك من أئمة أخر. ويحتمل أيضاً: أن هذا بالاختلاف في تطويل القراءة وتخفيفها فإذا طولت القراءة خفف الركعات، وإذا خففت القراءة أكثر الركعات، كما نص على ذلك الشافعي. وقد ذكر الحافظ ابن حجر هذين الاحتمالين للجمع بين الأثرين، فذكر أنه يحتمل أن يكون على اختلاف الأحوال أو اختلاف القراءة تطويلاً وتخفيفاً. وهذا جمع ظاهر بين الآثار. قال شيخ الإسلام: " فإن فعل ذلك أو صلى إحدى عشرة ركعة أو ثلاث عشرة ركعة فقد أحسن " ونص على ذلك الإمام أحمد. وقال شيخ الإسلام: " من ظن أن قيام الليل مؤقت بعدد لا يزاد فيه ولا ينقص فقد أخطأ " وهذا ما نص عليه الأئمة أحمد والشافعي وغيرهما. فليس هناك في قيام رمضان ولا غيره عدد مؤقت لا يزاد فيه ولا ينقص. نعم المستحب أن يصلي إحدى عشرة ركعة مع تمام ركوعها وسجودها وإطالة القيام فيها. لكن إن خفف ذلك – أي القراءة – فالأحب أن يزيد في السجدات فثبت له فضيلة السجود. فليس للقيام عدد مؤقت، والأدلة على ذلك كثيرة. فمن ذلك الأثر المتقدم عن زمن عمر. ومن ذلك – وهو أولى بالاستدلال – ما ثبت في الصحيحين عن ابن عمر قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (صلاة الليل مثنى مثنى فإذا خشي أحدكم الصبح فليوتر بواحدة) فأطلق النبي - صلى الله عليه وسلم - في هذا الحديث: " صلاة الليل مثنى مثنى " وهذه اللفظة تفيد التكرار ولم يوقته بعدد، فلم يقل: " ولا يزيد على إحدى عشرة ركعة " ومعلوم أن فعله لا يقتضي الوجوب. ومن ذلك: ما في مسند أحمد أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (الصلاة خير موضوع فمن شاء استقل ومن شاء استكثر) .

وعليه الصحابة، فقد روى البخاري بسنده الصحيح عن ابن عمر قال: (أصلى كما رأيت أصحابي يصلون لا أنهى أحداً يصلي بليل ولا نهار ما شاء، غير ألا تحروا طلوع الشمس ولا غروبها) وهذا – أيضاً – ما تقتضيه الأدلة الشرعية التي فيها النهي عن الصلاة في أوقات النهي، فظاهرها أنه يصلي في غير وقت النهي ما شاء، وهذا ما يدل عليه ما ثبت في مسلم من حديث عمرو بن عبسة وسيأتي ذكره في أوقات النهي. وعليه عمل السلف الصالح فإنهم يصلون بألوان كثيرة وأعداد مختلفة من غير أن يثبت نكير في ذلك والسنة تقرر هذا وتدل عليه. قال: (تفعل في جماعة) هذا هو المستحب في المشهور من المذهب، أن المستحب في قيام رمضان أن يكون في جماعة، ويكون في المسجد، كما دلت عليه الآثار المتقدمة من حديث النبي - صلى الله عليه وسلم - وصلاته في المسجد، ومن حديث عمر في البخاري ففيه أنها تشرع في المسجد. قال صاحب الإنصاف: " وتُصلى في المسجد في كل عصر ومصر " فهذا عمل الأمة في كل أعصارها وأمصارها أنها تصلي في المساجد. وذهب الإمام مالك إلى أن المستحب أن تُصلى في البيت. واستدل بما في مسلم: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال لمن أتى ليصلي بصلاته وقد صلى بصلاته أناس فأتى قوم من الليلة القابلة ليصلوا بصلاته فقال: (ما زال صنيعكم بكم حتى ظننت أنه سيكتب عليكم فصلوا الصلاة في بيوتكم فإن خير صلاة المرء في بيته إلا الصلاة المكتوبة) أما أهل القول الأول: فدليلهم: فعل النبي - صلى الله عليه وسلم - لها وسنية عمر، لكن هذا الدليل دليل على فضيلة ذلك ومشروعيته لا على أفضليته مع المعارض. والدليل الثابت في مسلم يدل على أن الصلاة في البيت أفضل وهو قول بعض الأحناف وقول لبعض الشافعية، بل هو رواية عن الإمام أحمد. فعلى ذلك المستحب له أن يصلي في بيته للحديث المتقدم.

ومحل هذا – أي استحباب صلاته في البيت – حيث كان لا يكسل عن صلاتها في البيت، وحيث لا تتأثر الجماعة في المسجد بعدم حضوره كالإمام، فيشرع له أن يصليها في المسجد وتكون صلاته في المسجد في حقه أفضل من صلاته في البيت أما سوى ذلك وهو من لا يكسل عن الصلاة في البيت بل يقوى عليها ولا تتأثر الجماعة به فإن المستحب أن يصلي في بيته للحديث المتقدم. قال: (مع الوتر) فيصلي التراويح عشرين ركعة في الجماعة مع الوتر، فالوتر يصلى جماعة في المسجد، يدل عليه حديث أبي داود والنسائي وابن ماجه من حديث أبي ذر أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (فإنه من قام مع الإمام حتى ينصرف كُتب له قيام ليلة) ففيه أنه يصلي معه الوتر أيضاً. وقد أمر عمر أُبي بن كعب وتميماً الداري أن يقوما للناس بإحدى عشرة ركعة فهو ظاهر في أنه أمره بالوتر وأن يقوم للناس بذلك. قال: (بعد العشاء) فهي سنة بعد العشاء كالوتر وقد تقدم دليله. وهو فعل النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه، وكل عمل ليس عليه أمره فهو رد فمن صلى قبل العشاء فلا تصح منه ولا تقبل. أما قيام الليل فالمشهور في المذهب أن وقته يبدأ من بعد صلاة المغرب. وقد أجازها بعض متأخري الحنابلة، وأنكر ذلك شيخ الإسلام وقال: " ومن صلاها قبل العشاء فقد سلك سبيل المبتدعين المخالفين للسنة " فهي مخالفة صريحة للسنة. ويستحب أن يصليها بعد سنة العشاء لترتبط السنة بالفريضة، فإن الأصل في السنة أن تكون مرتبطة بفريضتها. لكنه إن صلى قبلها فلا بأس. فتسن بعد العشاء وسواء صُليت العشاء في وقتها أو قدمت جمعاً مع المغرب. قال: (في رمضان) فالتراويح إنما تُشرع في رمضان. وقد تقدم الحديث المتفق عليه، قوله: (وذلك في رمضان) فإن صلوا في غير رمضان جماعة فلا بأس لكن من غير أن يتخذ ذلك سنة ومن غير أن تكون ظاهرة في المساجد.

ودليل جوازه ما ثبت في الصحيحين من صلاة ابن عباس مع النبي - صلى الله عليه وسلم - وكذلك صلاة جابر وجبار - في مسلم – مع النبي - صلى الله عليه وسلم - قيام الليل في سفر. فهذا يدل على جوازه لكن من غير أن يتخذ سنة ومن غير أن يظهر في المساجد. قال: (ويوتر المتهجد بعده) بعده: أي بعد التهجد. فمن أراد أن يصلي بعد التراويح، فإنه يجعل الوتر بعد تهجده، وعلى ذلك فإذا قام الإمام للوتر انصرف للحديث: (اجعلوا آخر صلاتكم بالليل وتراً) متفق عليه. قال: (فإن تبع إمامه شفعه بركعة) إذا تابع إمامه فقام فصلى معه الوتر فإنه يشفعه بركعة فإذا سلم الإمام قام يصلي ركعة تشفع له ركعة الإمام، ليصيب الفضيلة المتقدمة في حديث أبي داود: (من قام مع الإمام حتى ينصرف كتب له قيام ليلة) وإن سلم معه وتهجد بلا وتر فصلى من الليل بعد ذلك مثنى مثنى فلا بأس كما ثبت هذا من فعل أبي بكر وأقره على ذلك النبي - صلى الله عليه وسلم - كما في أبي داود. وقد تقدم ثبوت ركعتين بعد الوتر، فهنا صلى مع الإمام اقتداءً وانصرف معه، وأحب أن يتهجد من آخر الليل فله أن يتهجد ويصلي مثنى مثنى. وليس له نقض وتره، وصفة نقضه: أن يصلي ركعة واحدة تشفع له وتره المتقدم، فهذا غير مشروع لأنه وتر أيضاً وقد قال - صلى الله عليه وسلم -: (لا وتران في ليلة) رواه النسائي وابن خزيمة وغيرهما والحديث حسن. فلا يشرع في الليل إلا وتر واحد، له أن يشفع ذلك ما دام مع الإمام – كما تقدم – أما بعد ذلك فهو غير مشروع اتفاقاً. قال: (ويكره التنفل بينهما) فيكره أن يتنفل بين ركعات التراويح، وقد حكى الإمام أحمد كراهيته عن ثلاثة من الصحابة فقال رحمه الله: " عن ثلاثة من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - عبادة وأبي الدرداء وعقبة بن عامر "

ولما فيه من الزيادة عن الإمام والرغبة عن البقاء على ما هو عليه من الصلاة، فلا يشرع له أن يتنفل ما دام في المسجد، أما لو كان هناك زمن طويل بينها، كأن يصلي الإمام بعض الركعات في أول الليل، ثم يصلي بعضها في آخره فهذا فاصل كثير له أن يتنفل به كما صرح بذلك الحنابلة. قال: (لا التعقيب في جماعة) صفة التعقيب: أن يصلي بعد التراويح التي صلاها مع الإمام يصلي جماعة. كأن يشهد رجل التراويح مع المسجد في أول الليل، فصلى في مسجد آخر في آخر الليل، فله أن يصلي مع المسجد آخر. أو أناس صلوا مع الإمام ثم أحبوا أن يجتمعوا فيصلوا جماعة فلا بأس بذلك، نصَّ عليه الإمام أحمد، لأنه لا مانع منه شرعاً، وأصل الاجتماع في ليالي رمضان مشروع فلا بأس به وإن تكرر. واستحب الحنابلة أن يختم القرآن كله في التراويح لا يزيد على ذلك ولا ينقص إلا أن يؤثر المأمومون الزيادة. وقال بعض الحنابلة: بل ينظر إلى المأمومين مطلقاً، فله أن ينقص عن الختمة إذا آثر المأمومون ذلك. والأظهر أنه ينظر فيها إلى السنة لأنها صلاة مستحبة ليس في فعلها إلزام فيطبق بها السنة، وإن شق ذلك على بعض المأمومون. وكونه يختم بختمة أو بختمتين أو ثلاث لم أر دليلاً من السنة يدل على شيء من ذلك إلا ما تقدم من أثر عمر وفيه: (أن الناس يتكئون على العصي في صلاة أبي بن كعب وتميم الداري) . فإن قيل: بالتخفيف في أول رمضان والتطويل في آخره فلا بأس بمثل هذا القول، ولم أر في السنة حداً محدداً. ولو قيل: أنها من جنس قيام الليل إلا أنها يصحبها شيء من التخفيف لاجتماع الناس إليها، فإن هذا قول حسن، لكن لا ينبغي أن يكون هذا راجعاً إلى المأمومين مطلقاً بحيث أنه لو شق على طائفة منهم أن يصلي بختمة مثلاً فإنه يخفف. القول بهذا ضعيف؛ ذلك لأن تلك المشقة إنما هي في الفريضة.

أما في النافلة فإنها ليست إلزامية فمن أحب أن يصلي صلى مع الإمام ومن أحب أن يصلي وحده صلى وحده. إلا أن يقال: إنها تدخل في عموم حديث: (من أمَّ الناس فليخفف، ومن صلى بنفسه فليطول ما شاء) فيكون قدرها ليس كقيام الليل، وإنما فيها شيء من الإطالة وإن كانت ليست كقيام الليل. والمقصود من ذلك: أنه ليس في السنة تحديد لقدر الختمات أو نحو ذلك، وإنما تبقى أن تكون من قيام الليل إلا أنه يصحبها شيء من التخفيف الذي يطيقه المأمومون. لكنها أن تكون تحت رغباتهم، فهذا محل نظر فإنها تذهب بالعبادة، فإن العبادة شرعت – في الأصل قياماً لليل – لا سيما في العشر الأواخر التي يشرع فيها إطالة العبادة والإكثار منها، والله أعلم. ونص الإمام أحمد: أنه يستحب أن يفتتح قيام الليل في أول ليلة بأن يقرأ بسورة: " اقرأ " لكونها أول ما أنزل من القرآن. ولم أر أثراً يدل على ذلك، وقد قال صاحب شرح منتهى الإرادات في شرحه" ولعل عنده أثر ". وهذا الغالب في مثل الإمام أحمد أنه لا يذكر مسألة إلا وعنده أثر منها لكن الأثر لم يذكر. وعن الإمام أحمد، وقال شيخ الإسلام: " وهو أحسن " أي من القول الذي قبله – أنه يقرأ بسورة " اقرأ " في صلاة العشاء الآخرة ثم يشرع في البقرة في التراويح. وهذا لا دليل عليه، فيتوقف عن القول به إلا أن يرد دليل يدل عليه أو أثر عن الصحابة. فعلى ذلك: الأولى – ما دام الأثر لم يثبت لنا – أن يشرع بسورة البقرة. ثم إن ظاهر كلام الإمام أحمد استحباب قراءة سورة " اقرأ " كاملة، مع أن أول ما نزل منها إنما هو صدرها؟ ولقائل أن يقول: إنما شرع إتمامها لا لكونه أول ما نزل ولكن لاتصاله بأول ما نزل في السورة، والمستحب في السور أن تتم. والحمد لله رب العالمين. قال المؤلف رحمه الله تعالى: (ثم السنن الراتبة) أي في الفضيلة، فلفظة " ثم " تفيد الترتيب، فبعد الوتر والتراويح تأتي فضيلة السنن الراتبة.

وقد تقدم تفضيل النبي - صلى الله عليه وسلم - لصلاة الليل على الصلاة مطلقاً، وأن أفضل الصلاة بعد الفريضة صلاة الليل والتراويح من صلاة الليل فتكون داخلة في عموم هذا اللفظ فعلى ذلك: الراجح ما تقدم وأن صلاة الليل أفضل الصلاة بعد الفريضة ومن ذلك الوتر وقيام الليل ومنه التراويح. وكون المؤلف يفرِّق بين التراويح وبين غيره من الصلاة محل نظر، بل التراويح نوع من أنواع صلاة الليل وصلاة الليل أفضل الصلاة بعد الفريضة. " ثم السنن الراتبة " وهي السنن المؤكدة مع الفرائض. والرواتب ذكرها المؤلف عشراً فقال: : (ركعتان قبل الظهر وركعتان بعدها، وركعتان بعد المغرب وركعتان بعد العشاء وركعتان قبل الفجر) هذا المشهور في المذهب وأن الرواتب عشر وهي ما تقدم ذكره. ودليل ذلك ما ثبت في الصحيحين عن ابن عمر قال: (حفظت من النبي - صلى الله عليه وسلم - عشر ركعات: ركعتين قبل صلاة الظهر، وركعتين بعدها، وركعتين بعد صلاة المغرب في بيته، وركعتين بعد صلاة العشاء في بيته، وركعتين قبل صلاة الصبح في بيته) وفي رواية (وركعتين بعد الجمعة في بيته) فذكر عشر ركعات ومنها ركعتان قبل الظهر. - وذهب الشافعية وهو اختيار شيخ الإسلام: إلى أن المستحب أربع قبل الظهر فتكون الرواتب اثنتي عشرة ركعة. واستدلوا: بما ثبت في البخاري عن عائشة قالت: (كان النبي - صلى الله عليه وسلم - لا يدع أربعاً قبل الظهر وركعتين قبل الغداة) وثبت في مسلم من حديث أم حبيبة قالت: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (من صلى اثنتي عشرة ركعة في يومه وليلته يبنى له بهن بيت في الجنة) وفي رواية: (تطوعاً) . ورواه الترمذي وزاد: (أربعاً قبل الظهر وركعتين بعدها، وركعتين بعد المغرب، وركعتين بعد العشاء، وركعتين قبل صلاة الصبح) . ففيه أن السنن الرواتب اثنتا عشرة ركعة.

وهذا القول هو القول الراجح، ومن حفظ حجة على من لم يحفظ وفي حديث عائشة وأم حبيبة زيادة علم على ما في حديث ابن عمر. وجمع ابن القيم بين هذه الأحاديث بجمع آخر: فذكر احتمالين استظهر أولهما: الاحتمال الأول: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يصلي ركعتين في المسجد وأربعاً في بيته واستظهر هذا. والاحتمال الثاني: أنه كان يصلي تارة ركعتين وتارة أربعاً. والأولى ما تقدم. أما ما ذكره من الاحتمال الأول، فإن فيه نظر، لأن صلاة البيت أفضل من صلاة المسجد، فاللائق أن تكون الصلاة في المسجد مكررة زائدة على صلاة البيت ليجبر ما يكون من النقص في صلاة البيت، فتكون أربعاً في المسجد وركعتين في البيت. وصلاة البيت أفضل، فلو أن هذا يحتمل في هذه الأحاديث لكان أقوى، لكن هذا غير محتمل؛ لأن من حدثتنا وهي عائشة عن صلاة قبل الظهر فإنما حدثتنا عن صلاته في بيته – كما سيأتي التصريح في مسلم -. وأما الاحتمال الثاني: فإنه وإن كان فيه شيء من القوة لكن ما تقدم ذكره أقوى، لأن غاية حديث ابن عمر الإخبار بأن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يصلي ركعتين، وليس فيه نفي أن يكون قد صلى أربعاً لا سيما إذا صلى في بيته. أو يحتمل أن يكون ابن عمر قد رآه صلى ركعتين في المسجد وكان قد صلى ركعتين في البيت مرة أو مرتين فحدث بذلك. وقد ثبت في مسند أحمد بإسناد جيد: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يصلي إذا زالت الشمس أربعاً ويقول: (أنها ساعة تفتح فيها أبواب السماء وأحب أن يصعد لي فيها عمل صالح) فالراجح: أن المستحب له أن يصلي أربعاً قبل الظهر. وقد قال - صلى الله عليه وسلم - – كما عند الخمسة بإسناد صحيح -: (من حافظ على أربع قبل الظهر وأربع بعدها حرَّمه الله على النار) . والراجح أن السنن الراتبة اثنا عشرة ركعة. قال: (وركعتان قبل الفجر وهما آكدها) أي الركعتان قبل الفجر آكد السنن الراتبة.

ودليله: ما ثبت في الصحيحين عن عائشة قالت: (لم يكن النبي - صلى الله عليه وسلم - على شيء من النوافل أشد تعاهداً منه على ركعتي الفجر) وفي مسلم: (ركعتا الفجر خير من الدنيا وما فيها) ومن السنن المتصلة بركعتي الفجر: فمن ذلك: أن المستحب له أن يقرأ بهما: {قل يا أيها الكافرون} و {وقل هو الله أحد} . أو {قولوا آمنا بالله وما أنزل إلينا ... } الآية من سورة البقرة. و {قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء ... } الآية من سورة آل عمران. فقد ثبت في مسلم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يقرأ في ركعتي الفجر بـ: ( {قل يا أيها الكافرون} و {وقل هو الله أحد} ) . وثبت فيه أيضاً أن النبي - صلى الله عليه وسلم - يقرأ في الركعتين قبل صلاة الفجر، في الأولى بـ: ( {قولوا آمنا بالله وما أنزل إلينا ... } الآية من سورة البقرة. و {قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء ... } الآية من سورة آل عمران) (1) . فالمستحب أن يفعل هذا تارة وهذا تارة. كما أن المستحب له أن يقرأ بالسورتين في الركعتين بعد صلاة المغرب، فقد ثبت في سنن ابن ماجه بإسناد صحيح: أن النبي - صلى الله عليه وسلم -: (كان يقرأ في الركعتين بعد صلاة المغرب بـ ( {قل يا أيها الكافرون} و {وقل هو الله أحد} ) ومن ذلك: أن يخففهما، فالسنة في سنة الفجر التخفيف، ففي الصحيحين عن عائشة قالت: (كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يخفف الركعتين اللتين قبل صلاة الصبح حتى إني أقول أقرأ بأم الكتاب) وهذا من باب المبالغة. ومن ذلك: أن يضطجع على شقه الأيمن بعد هذه السنة أو أن يتحدث مع أهل أو غيرهم. أما دليل ذلك ما ثبت في الصحيحين عن عائشة قالت: (كان النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا صلى ركعتي الفجر اضطجع على شقه الأيمن)

_ (1) أخرجه مسلم.

وفي الصحيحين من حديثها قالت: (كان النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا صلى سنة الفجر فإن كنت مستيقظة حدثني وإلا اضطجع) . وفي أحمد وأبي داود والترمذي من حديث عبد الواحد بن زياد عن الأعمش إلى أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (إذا صلى أحدكم ركعتي الفجر فليضطجع على شقه الأيمن) . والحديث معلول، فإنه من رواية عبد الواحد بن زياد عن الأعمش وروايته عن الأعمش فيها مقال كما نص على ذلك الإمام أحمد وغيره. ورواه شعبة عن سهيل بن أبي صالح عن أبيه عن أبي هريرة أن النبي - صلى الله عليه وسلم -: (كان إذا صلى ركعتي الفجر اضطجع على شقه الأيمن) فالحديث المعلول فيه الأمر بذلك وبه استدل من ذهب على الوجوب، وأما الحديث الثاني فإنه يصف الفعل ثم لو صححناه قولاً فإن هذا الأمر ليس للوجوب بدليل أن النبي - صلى الله عليه وسلم - فعل ما ذكرته عائشة من قولها: (فإن كنت مستيقظة حدثني وإلا اضطجع) فهذه من سنن ركعتي الفجر. ويستحب في هذه الصلوات الراتبة أن يصليها في بيته لما ثبت في الصحيحين أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (أيها الناس صلوا في بيوتكم فإن أفضل صلاة المرء في بيته إلا المكتوبة) وفي مسلم عن عائشة – وهو الحديث الذي تقدمت الإشارة إليه – قالت: (كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يصلي في بيته أربعاً قبل الظهر ثم يخرج فيصلي بالناس ثم يدخل فيصلي ركعتين، ثم كان يصلي بالناس المغرب ثم يدخل في بيته فيصلي ركعتين، ويصلي بالناس العشاء ثم يدخل في بيته فيصلي ركعتين) فذكرت أن من سنته صلاة السنن الرواتب في البيت. وآكد ذلك: سنة المغرب حتى روى عن الإمام أحمد القول بعدم الإجزاء إذا صليت في المسجد. والقول المشهور عنه خلاف ذلك وهو الذي تدل عليه الأدلة.

ودليله ما ثبت عند أبي داود والحديث صحيح: (أن النبي - صلى الله عليه وسلم - صلى في مسجد بني عبد الأشهل فلما قضوا صلاة المغرب قاموا يسبحون بعدها، فقال: هذه صلاة البيوت) فهذه الصلاة لا تشرع أن تصلى إلا في البيوت، لكن مع ذلك إن صليت في المسجد فهي صلاة مجزئة صحيحة. قال: (ومن فاته شيء منها سن له قضاؤه) فمن فاته شيء من النوافل سواء كانت ركعتي الفجر أو غيرها سن له قضاؤه. لعموم قوله النبي - صلى الله عليه وسلم -: (من نام عن صلاة أو نسيها فليصلها إذا ذكرها) و " صلاة " نكرة في سياق الشرط فتفيد العموم. وثبت ذلك من فعله، فقد ثبت في الصحيحين من حديث عمران بن حصين أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما نام في سفره حتى طلعت الشمس صلى ركعتي الفجر ثم صلى الفجر) . وثبت عن أم سلمة في الصحيحين: (أنه شغله وفد عبد القيس عن الركعتين التي بعد صلاة الظهر فصلاهما بعد صلاة العصر) وفي الترمذي بإسناد صحيح أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (من لم يصل ركعتي الفجر حتى طلعت الشمس فليصليهما بعدها) فهذه أحاديث تدل على مشروعية القضاء للسنن الرواتب. واعلم أن وقت النافلة هو وقت الفريضة مجزءاً، فما كان من السنن قبلياً فوقته من دخول وقت الصلاة إلى صلاة الفريضة. وما كان بعدياً فوقته من نهاية الصلاة إلى خروج الوقت. فركعتا الفجر القبلية من أذان الفجر إلى صلاة الفجر. وسنة المغرب البعدية وقتها إذا صلى المغرب ما لم يغب الشفق – كما ذكر ذلك الموفق – ولم يذكر فيه خلافاً والنظر يدل عليه. فإذا صلى القبلية في وقت البعدية فهذا من القضاء، ومن ذلك ما ثبت في أبي داود والحديث صحيح: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - رأى رجلاً يصلي بعد الصبح ركعتين فقال له: (صلاة الصبح ركعتان) فقال الرجل: إني لم أكن صليت الركعتين اللتين قبلها فصليتهما الآن فسكت مقراً له.

فإذا فاتته سنة الفجر القبلية فله أن يصليهما بعد الصلاة وله أن يؤخرها حتى تطلع الشمس، والأولى له أن يصليها بعدها لأن السنة في القضاء المسارعة فيه لقوله - صلى الله عليه وسلم -: (فليصلها إذا ذكرها) . وما ذكره المؤلف هنا هي السنن الرواتب اليومية. وهنا سنن غير راتبة فهي صلوات مستحبة لكنها لا تتخذ راتبة كالسنن الراتبة المتقدمة. فمن ذلك: أن يصلي ركعتين بعد الظهر زيادة على الركعتين اللتين تقدم ذكرهما، فتكون صلاته أربعاً قبل الظهر وأربعاً بعدها. ودليل ذلك الحديث المتقدم عند الخمسة بإسناد صحيح: (من حافظ على أربع قبل الظهر وأربع بعدها حرمه الله على النار) ومن ذلك: أن يصلي قبل صلاة العصر أربعاً، فقد ثبت في المسند وسنن أبي داود والترمذي وحسنه وهو كما قال فالحديث حسن أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (رحم الله امرءاً صلى قبل العصر أربعاً) قالوا: ومن السنة أن يصلي ستاً بعد المغرب، ولعل مرادهم أربع مع الركعتين المتقدمتين فيكون مجموعها ستا. واستدلوا: بحديث لا يثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - فهو ضعيف جداً في الترمذي وابن ماجه بإسناد ضعيف جداً أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (من صلى بعد المغرب ستاً لا يتكلم بينهن بسوء عدلن له عبادة ثنتي عشرة سنة) لكن الحديث لا ثبت. واستحبوا: أن يصلي بعد العشاء أربعاً أو ستاً. واستدلوا: بما رواه أبو داود عن عائشة قالت: (ما صلى النبي - صلى الله عليه وسلم - العشاء قط فدخل عليَّ إلا صلى أربع ركعات أو ست ركعات) لكن الحديث فيه مقاتل بن بشر البجلي وهو مجهول، فالحديث ضعيف. وذكروا أن الركعتين قبل صلاة المغرب مباحتان أي بعينها مباحة وإن كانت مستحبة بالنظر إلى عموم الصلاة. واستدلوا: - بما يقتضي استحبابهما – وهو الراجح.

ودليل ذلك: ما رواه البخاري في صحيحه عن عبد الله بن مغفل أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (صلوا قبل المغرب، صلوا قبل المغرب، صلوا قبل المغرب، وقال في الثالثة لمن شاء كراهية أن يتخذها الناس سنة) في رواية أبي داود: (صلوا قبل المغرب ركعتين) وثبت في ابن حبان أن النبي - صلى الله عليه وسلم -: (صلى قبل المغرب ركعتين) وفي البخاري ومسلم: (أن أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - كانوا يبتدرون السواري فيصلونها) حتى ثبت في مسلم: (فيأتي الغريب فيحسب أن الصلاة قد صليت من كثرة من يصليها) وهذا في الحقيقة ليس خاصاً في صلاة المغرب بل هو عام فيها وفي غيرها من الصلوات، وأنه يستحب أن تقدم بين يديها ركعتان ففي الصحيحين أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (بين كل أذانين صلاة) وثبت في ابن حبان بإسناد جيد أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (ما من صلاة مكتوبة إلا بين يديها ركعتان) فهذا الحديث يدل على أنه يستحب بين الأذان والإقامة في العشاء أن يصلي ركعتين، وأن هذا مستحب بين الأذان والإقامة في الظهر وفي الفجر، لكن تلك قد وردت بها السنة في الصلاة المتقدمة، فعلى ذلك ما لم يرد فيه السنة يستحب أن يصلي ركعتان فيه بين الأذان والإقامة. والصلاة بين أذان المغرب وإقامته آكد لحديث عبد الله بن مغفل ولفعل الصحابة ومواظبتهم عليها، فهذا يدل على أنها آكد لكن مع ذلك بين كل آذانين صلاة. والحمد لله رب العالمين. قال المؤلف رحمه الله تعالى: (وصلاة الليل أفضل من صلاة النهار) أي قيام الليل المطلق، فيخرج من ذلك التراويح والوتر فقد تقدم الكلام عليها – فهي – أي صلاة الليل المطلقة أفضل من صلاة النهار المطلقة " فيخرج الرواتب فقد تقدم ذكرها ". فصلاة الليل المطلقة، أفضل من صلاة النهار المطلقة.

ودليل ذلك: ما ثبت في مسلم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (أفضل الصلاة بعد الفريضة صلاة الليل) وهذا الدليل أعم من المسألة، فهو يعمها ويعم المسائل المتقدمة فهو يدل على تفضيل صلاة الليل مطلقاً على صلاة النهار. فقيام الليل أفضل الصلوات مطلقاً سواء كانت راتبة أو كانت استسقاء أو نهارية مطلقة، فصلاة الليل أفضل منها لعموم الحديث المتقدم. فهم استدلوا بهذا الحديث وذكروا هذه المسألة لكن ليس على وجه التعميم المتقدم بل على وجه التخصيص المقيد أي صلاة الليل المطلقة، أفضل من صلاة النهار المطلقة. قال: (وأفضلها ثلث الليل بعد نصفه) فثلث الليل بعد نصفه أفضل وقت لصلاة الليل. لما ثبت في الصحيحين أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (أحب الصلاة إلى الله صلاة داود كان ينام نصف الليل ويقوم ثلثه وينام سدسه) فهذه أفضل الصلاة أن يصلي ثلث الليل بعد نصفه وهذا الثلث يأخذ من الثلث الأوسط نصفه الأخير، من الثلث الأخير نصفه الأول. قال: (وصلاة ليل ونهار مثنى) أما صلاة الليل فلحديث ابن عمر المتفق عليه: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (صلاة الليل مثنى مثنى) فيكره أن يصلي أربعاً أو ستاً أو ثمانياً إلا ما تقدم مما ثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم -. وصلاة النهار كذلك قالوا: لما روى الخمسة بإسناد صحيح عن ابن عمر أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (صلاة الليل والنهار مثنى مثنى) وهذا الحديث معلول، فلفظة (والنهار) تفرد بعض الرواة، والمحفوظ (صلاة الليل مثنى مثنى) أما لفظة (النهار) فهي لفظة معلولة، وقد نص على خطئها النسائي والدارقطني وغيرهم من الأئمة. [نيل الأوطار: 3 / 31] وإنما هي ثابتة عن ابن عمر كما عند ابن وهب – كما ذكر ذلك الحافظ في الفتح، فهي من قول ابن عمر.

ولكن مع ذلك فالسنة دلت على ذلك، ومن ذلك ما ثبت في سنن أبي داود بإسناد صحيح: أن النبي - صلى الله عليه وسلم -: (لما صلى بمكة ضحى ثماني ركعات سلم بين كل ركعتين) فقد كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يصلي النهار مثنى مثنى، فالمستحب فيها أن تكون مثنى مثنى. كما دل هذا الحديث وغيره. قال: (وإن تطوع في النهار بأربع كالظهر فلا بأس) فإن صلى صلاة النهار أربعاً فلا بأس ولا كراهية أما صلاة الليل تكره كما تقدم. أما النهار فلا بأس بذلك، لما روى أبو داود أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (أربع قبل الظهر ليس فيهن تسليم تفتح لها أبواب السماء) والحديث فيه عُبيدة الضبي وهو ضعيف. وروى أحمد والترمذي والحديث إسناده جيد عن علي: أن النبي - صلى الله عليه وسلم -: (كان يصلي قبل العصر أربع ركعات يفصل بينهن بالتسليم على الملائكة المقربين ومن تبعهم من المؤمنين والمسلمين) فهذا الحديث وإن كان إسناده جيد، لكن الاستدلال به محل نظر لأن لفظة التسليم فيها احتمال قوي مخالف. فيحتمل أن المراد سلم التسليم الشرعي بأن قال: (السلام عليكم ورحمة الله) يميناً وشمالاً فإن هذا تسليم على الملائكة المقربين ومن تبعهم من المؤمنين والمسلمين. ويحتمل أن يكون هذا لأنه جلس للتشهد بين الأربع فتشهد وقام ولم يسلم وفي الحديث في التشهد: (السلام عليك أيها النبي - صلى الله عليه وسلم - ورحمه الله وبركاته، السلام علينا وعلى عباده الله الصالحين) وهذه تشمل الملائكة المقربين ومن تبعهم من المؤمنين والمسلمين. وكلا الاحتمالين قوي، وحملها على الاحتمال الأول هو الأولى لموافقة ما هو معلوم من النبي - صلى الله عليه وسلم - من كونه يصلي من النهار مثنى مثنى فالأظهر الاحتمال الأول.

وإنما ذكر ذلك ليبين أن النبي - صلى الله عليه وسلم - صلاها متوالية لم يفصل بينها إلا بالسلام المشروع الذي هو سلام على الملائكة المقربين ومن تبعهم من المسلمين والمؤمنين، ولم يفصل بينها بكلام ولا غيره. ولكن يستدل لها: بما ثبت من فعل ابن عمر كما في مصنف عبد الرزاق بإسناد صحيح: (أنه كان يصلي من النهار أربعاً أربعاً) وليس فيه إلا فعل النبي - صلى الله عليه وسلم - الدال على استحباب صلاة النهار مثنى، وابن عمر فعله يدل على الجواز وهو راوي حديث (صلاة الليل مثنى مثنى) بخلاف صلاة الليل فقد نص النبي - صلى الله عليه وسلم - على أن المشروع فيها أن تصلى مثنى مثنى. بل لو قيل: أن صلاة الليل لا تصح إلا مثنى مثنى لكان قوياً لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - يخبر بهذا الحديث أن صلاة الليل إنما تشرع مثنى مثنى وخلاف المشروع مردود لا يصح. فعلى ذلك: صلاة الليل لا تشرع إلا مثنى مثنى. أما صلاة النهار فالمستحب فيها أن تصلي مثنى مثنى فإن صلاها أربعاً فلا بأس لفعل ابن عمر. قالوا: ولا كراهية أيضاً. قال: (وأجر صلاة قاعد على نصف أجر صلاة قائم) فصلاة القاعد غير المعذور على نصف أجر صلاة القائم، لما ثبت في الصحيحين عن عمران بن حصين أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (من صلى قائماً فهو أفضل، ومن صلى قاعداً فله نصف أجر القائم ومن صلى نائماً - قال البخاري: " أي مضجعاً " - فله نصف أجر القاعد) فالمراد من كان بغير عذر. أما إن كان معذوراً فقد قال - صلى الله عليه وسلم - كما في البخاري: (إن العبد إذا مرض أو سافر ثبت له ما كان يعمله صحيحاً مقيماً) فالمعذور يكتب له أجر غيره لا ينقص له من أجره شيئاً. وقد أجمع العلماء على صحة صلاة التطوع قاعداً مطلقاً، سواء كانت وتراً أو سنة فجر أو غير ذلك من الصلوات التطوعية لكن للمصلي أجر لا يساوي أجر القائم بل هو على النصف منه.

* وهل تصح صلاة المضطجع تطوعاً أم لا؟ قولان لأهل العلم: المشهور في المذهب، وهو مذهب جماهير العلماء: أن ذلك لا يجوز، حتى قال شيخ الإسلام - فيمن قال: إن صلاة المضطجع صحيحة في التنفل -: " وهو قول شاذ لا يعرف له أصل في السلف ". وهو رواية عن الإمام أحمد وذهب إليه طائفة من أصحابه وأصحاب الشافعي وأصحاب مالك،قالوا: يصح للحديث المتقدم ففيه: (من صلى نائماً فله نصف أجر القاعد) فهذا حديث ثابت، وبثبوت أصل الثواب يدل على الصحة، ولا يحمل هذا على المعذور؛ لأن المعذور له الأجر كاملاً فوجب حمله على غير المعذور. وأما ما ذكره شيخ الإسلام: أن هذا ليس له أصل في السلف، فهذا فيه نظر، فهذا القول قد ذهب إليه الحسن البصري كما رواه عنه الترمذي وغيره، وذهب إليه الإمام أحمد في رواية محكية عنه، وهو مذهب بعض أصحابه. والسنة تدل عليه لكن الأجر كما تقدم على النصف من صلاة القاعد. فالحديث ظاهر في ذلك. هنا مسألتان في صلاة التطوع: المسألة الأولى: جواز صلاة التطوع جماعة: فيجوز - في المشهور في المذهب – أن تصلى صلاة التطوع سواء كانت نهارية أو ليلية أن تصلى جماعة. ومما يدل عليه ما في الصحيحين عن أنس مالك من صلاة النبي - صلى الله عليه وسلم - في بيت أم سليم قال: (فصليت أنا واليتيم خلفه وأم سليم خلفنا) . وثبت نحو هذا من حديث عتبان بن مالك في البخاري عندما سأل النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يزوره فيصلي في بيته فيتخذه مسجداً، فكان من النبي - صلى الله عليه وسلم - أن ذهب إليه فصلى في بيته وصلى خلفه أصحابه. وتقدم حديث ابن عباس المتفق عليه، وحديث جابر وجبار الذي رواه مسلم في صلاتهما مع النبي - صلى الله عليه وسلم - الليل. فهذه الأحاديث تدل على صحة وجواز صلاة التطوع جماعة. وقيَّد ذلك بعض أصحاب الإمام أحمد بقيد صحيح معتبر وهو: ألا تتخذ سنة فتضاهي ما شرعت لها الجماعة.

فإن الشارع قد شرع لبعض الصلوات الجماعة كالتراويح في رمضان وصلاة الاستسقاء وصلاة الكسوف على القول بسنيتها - ونحو ذلك – فكوننا نتخذ هذه الصلاة تطوعاً جماعة - نتخذها - سنة، يضاهي ذلك ما ثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - من مشروعية تلك جماعة، ولما كان مضاهياً للمشروع لم يشرع. المسألة الثانية: هل الأفضل الإكثار من الركوع والسجود أم الأفضل أن يطيل القيام؟ 1- المشهور في المذهب: أن المستحب له أن يكثر من الركوع والسجود وأن ذلك أفضل من إطالة القيام. واستدلوا: بما ثبت في مسلم من حديث ربيعة الأسلمي أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال له: (سل) فقال: أسألك مرافقتك في الجنة، فقال (أو غير ذلك؟) قال: هو ذاك قال: (فأعني على نفسك بكثرة السجود) . وفي مسلم من حديث ثوبان أنه سأل النبي - صلى الله عليه وسلم - عن أحب العمل إلى الله وما يدخل العبد الجنة؟ فقال: (عليك بكثرة السجود فإنك لا تسجد لله سجدة إلا رفعت بها درجة وحط عنك بها خطيئة) . 2- وعن الإمام أحمد، وهو اختيار بعض أصحابه كالمجد ابن تيمية. قالوا: الأفضل هو طول القيام. لما ثبت في مسلم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (أفضل الصلاة طول القنوت) أي طول القيام. ونحن إذا نظرنا من غير ما ذكروه من الأدلة: فإنك ترى أن لكل منهما فضيلة، فالركوع والسجود لا شك أنه أفضل من ذات القيام، فإن في الركوع والسجود من التذلل لله والانكسار بين يديه ما ليس في القيام. وإذا نظرت إلى ما في القيام من القراءة التي هي كلام الله تعالى، وجدت أنه أفضل مما في الركوع والسجود من ذكر الله تعالى، فإنه ليس فيه إلا الذكر حتى ثبتت الأدلة في النهي عن قراءة القرآن فيه، ولا شك بفضيلة القرآن على ذكر الله.

فلكل منهما فضيلة، ونصت السنة على فضيلة طول القنوت - فيما ذكره أهل القول الثاني – وهو الراجح؛ لتصريح النبي - صلى الله عليه وسلم - بالتفضيل. والقيام وإن كان مفضولاً بالنسبة إلى الركوع والسجود فهو فاضل لما فيه من قراءة القرآن. والأحاديث التي ذكرها أهل القول الأول تدل على ففضيلة الإكثار من الركوع والسجود لكن ذلك لا يدل على الأفضلية، بخلاف دليل أهل القول الثاني فهو يدل على الأفضلية. وهذا ما تشير إليه الآيات القرآنية لقوله تعالى: {وقرآن الفجر إن قرآن الفجر كان مشهوداً} فسمى الله الصلاة قرآناً والمراد من ذلك صلاة الفجر في الآية – كما ثبت في الصحيحين. ولا شك أن الجمع بين الإكثار من الركوع والسجود مع طول القنوت أفضل لكن المسألة هنا في التفضيل بينها في التعارض. وعليه: فإذا صلى في التراويح إحدى عشرة ركعة فأطال قيامها وأطال القراءة فيها. فهو أفضل ممن صلى عشرين أو أكثر من ذلك وخفف قراءتها. والحمد لله رب العالمين. قال المؤلف رحمه الله تعالى: (وتسن صلاة الضحى) لما ثبت في مسلم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (يصبح على كل سلامى من أحدكم صدقة فكل تسبيحة صدقة وكل تحميدة صدقة، وكل تهليلة صدقة وكل تكبيرة صدقة وأمر بالمعروف صدقة، ونهي عن المنكر صدقة ويجزئ من ذلك ركعتان يركعهما من الضحى) . وفي الصحيحين من حديث أبي هريرة قال: (أوصاني خليلي بثلاث، بصيام ثلاثة أيام من كل شهر وركعتي الضحى وأن أوتر قبل أن أرقد) ورواه مسلم من حديث أبي ذر نحوه، ورواه أحمد والنسائي من حديث أبي الدرداء ونحوه. فهذان الحديثان وغيرهما يدلان على استحباب صلاة الضحى وهل يستحب ذلك على هيئة الدوام أم المستحب عدم المداومة بل يفعلها أحياناً؟ قولان لأهل العلم هما قولان في المذهب: القول الأول، وهو المشهور: أنه لا يستحب أن يداوم عليها.

القول الثاني، وهو اختيار طائفة من الحنابلة كالمجد ابن تيمية والقاضي وغيرهما قالوا: باستحباب المداومة عليهما. استدل من لا يرى استحباب المداومة: بما ثبت من الأحاديث التي تدل على أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يكن يحافظ عليها. ممن ذلك ما ثبت في الصحيحين: أن ابن عمر سئل: (أتصلي الضحى؟ قال: لا، فقيل:فعمر؟ قال: لا، فقيل: أبو بكر؟ قال: لا، قيل: فرسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟ قال: لا إخاله) أي لا أظنه. ومن ذلك: ما ثبت في الصحيحين عن عائشة قالت: (ما رأيت النبي - صلى الله عليه وسلم - يسبح سبحة الضحى وإني لأسبحها) . وثبت في الصحيحين عن عبد الرحمن بن أبي ليلى قال: (ما حدثني أحد أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يصلي الضحى إلا أم هانئ) – الحديث وسيأتي تمامه –. قالوا: فهذه الأحاديث تدل على أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يكن ظاهراً يحافظ عليها، بل ظاهر هذه الأحاديث أنه لم يكن يصليها. أما القائلون باستحباب المداومة فاستدلوا: بالأحاديث التي تدل على أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يصليها، فمن ذلك: ما ثبت في مسلم – عن عائشة: (أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يصلي الضحى أربعاً ويزيد ما شاء الله) . والجمع بينه وبين حديثها المتقدم: أن الحديث الأول فيه نفي الرؤية، أما هذا الحديث فهو رواية، فهي تروي عن غيرها ممن حدثها أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يصلي الضحى، ولم تنسب ذلك إلى رؤيتها، وإنما نسبت إلى رؤيتها نفي ذلك عن النبي - صلى الله عليه وسلم -. وهو فعلها فقد ثبت في الموطأ بإسناد صحيح أن عائشة: (كانت تصلي الضحى ثماني ركعات وتقول: لو نُشر أبواي ما تركتهما) فهذا فيه تمام محافظتها ومداومتها على صلاة الضحى.

ومما يدل عليه أيضاً: ما ثبت في الحاكم بإسناد حسن من حديث علي ومن حديث جبير بن مطعم والحديثان إسنادها حسن أن النبي - صلى الله عليه وسلم -: (كان يصلي الضحى) . ومن حديث جابر في المستدرك بإسناد حسن أن النبي - صلى الله عليه وسلم -: (كان يصلي الضحى ست ركعات) . وهذا الأحاديث وإن دلت على أن النبي - صلى الله عليه وسلم - يصلي الضحى فإنها لا تدل على المحافظة، كيف وقد نفى ذلك من هو أعلم الناس به عليه الصلاة والسلام وهي عائشة، وقد نفاه من هو من أتبع الناس لسنته وهو ابن عمر فقد ظن ظناً غالباً أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يكن يصليها، فهو نفي منه للرؤية والسماع. لكن هذه الأحاديث وإن دلت على أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يكن يحافظ عليها فإنها لا تدل على أن أصل المحافظة غير مستحب، فقد ثبت عن عائشة قالت: (ما رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يسبح سبحة الضحى وإني لأسبحها وإن كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ليدع العمل وهو يحب أن يعمل به خشية أن يعمل به الناس فيفرض عليهم) . فهنا عائشة كأنها تستدل على استحباب المحافظة والمداومة على صلاة الضحى بأن النبي - صلى الله عليه وسلم - – وإن لم يكن يحافظ عليها فإنه - كان يدع العمل خشية أن يعمل به الناس فيفرض عليهم. والأحاديث القولية المتقدمة تدل على استحباب ذلك مطلقاً. فالأظهر استحباب المداومة عليها. وأما كون النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يحافظ فعلاً، فإنه قد حث عليها قولاً في الأحاديث المتقدمة، والنبي - صلى الله عليه وسلم - إنما كان يدع العمل وهو يحب أن يعمل به خشية أن يعمل به الناس فيفرض عليهم.

ومما ثبت في فضل ركعتي الضحى إن سبقتا بذكر بعد صلاة الفجر – ثبت في ذلك ثواب عظيم – فقد روى الترمذي وغيره والحديث حسن بشواهده أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (من صلى الغداة في جماعة ثم قعد يذكر الله حتى تطلع الشمس ثم صلى ركعتين كان له كأجر حجة وعمرة تامة تامة تامة) والحديث حسن لشواهده. قال: (وأقلها ركعتان) للحديث المتقدم: (ويجزئ من ذلك ركعتان يركعهما من الضحى) وقول أبي هريرة: (وركعتي الضحى) . * وهنا مسألة في التطوع عامة وهي: هل يجزئ في التطوع – سوى الوتر – أن يصليه ركعة أم لا يجزئه ذلك؟ قولان لأهل العلم: فالمشهور عند الحنابلة: الإجزاء. القول الثاني وهو اختيار الموفق: أنه لا يجزئ ذلك. وهو أصح القولين؛ لقول - صلى الله عليه وسلم -: (من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد) وليس من هديه صلاة التطوع واحدة وهديه - صلى الله عليه وسلم - – حاكم على العبادات وكل عمل ليس على هديه فهو مردود. قال: (وأكثرها ثمان) . لما ثبت في الصحيحين من حديث عبد الرحمن بن أبي ليلى قال: (ما حدثني أحد أنه رأى النبي - صلى الله عليه وسلم - يصلي الضحى إلا أم هانئ، فإنها حدثت أن النبي - صلى الله عليه وسلم - دخل بيتها يوم فتح مكة فصلى ثماني ركعات قالت: لم يصل صلاة قط أخف منها غير أنه يتم الركوع والسجود) ، وقد صلاها في بيتها ضحى. قالوا: هذا يدل على أن صلاة الضحى أكثرها ثماني ركعات هذا هو المشهور في المذهب. - وعنه – رحمه الله – وهو اختيار طائفة من أصحابه: أن أكثرها اثنتا عشرة ركعة. واستدلوا: بما رواه الترمذي وضعفه – لجهالة فيه – من حديث أنس بن مالك أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (من صلى الضحى اثنى عشرة ركعة بنى الله له قصراً في الجنة) والحديث إسناده ضعيف عند الترمذي لكن له شاهدان: 1- الشاهد الأول: عند البزار من حديث أبي الدرداء.

2 - والثاني: عند الطبراني في الكبير من حديث أبي ذر. قال الحافظ ابن حجر: " فإذا صح عليه حديث أبي الدرداء وحديث أبي ذر قوي وصلح للاحتجاج ". وهو كما قال فالحديث حسن بشواهده ويشهد له حديث أم حبيبة المتقدم فيمن صلى اثتني عشرة ركعة تطوعاً، وإن كانت السنن الرواتب هناك، فإن هنا كذلك فإن العمل مستوٍ، وهذا يقتضي في الغالب استواء الأخر لاسيما وقد ورد الحديث هنا مع تعدد شواهده. فالأظهر حسن الحديث، وعليه فالمستحب له – كما ذهب إليه الإمام أحمد في رواية عنه وهو اختيار طائفة من أصحابه أن يصلي اثنتي عشرة ركعة، وذلك أكثر صلاة الضحى. وقد ثبت أن النبي - صلى الله عليه وسلم - – كما في مسلم - يصلي الضحى أربعاً ويزيد ما شاء الله. فلو زاد على اثنتي عشرة ركعة فلا بأس كما تقدم من قول ابن عمر: (ولا أنهى أحداً يصلي بليل ولا نهار ما شاء) . وتقدم حديث جابر في أن النبي صلىالله عليه وسلم كان يصلي الضحى ست ركعات. إذن: القدر المجزئ من صلاة الضحى ركعتان، فإن زاد على ذلك فهو حسن، وأكثر ذلك اثنتا عشرة ركعة فإن زاد على ذلك فلا بأس وهو مأجور على زيادته. قال: [ووقتها من خروج وقت النهي إلى قبيل الزوال] وعبَّر بعضهم:" إلى الزوال ". وإنما عبّر بـ" قبيل الزوال " ليبين أن الزوال ليس من وقتها. والتعبير بقوله: (إلى الزوال) أولى؛ لأن الأصل فيما ورد في السنة من تحديد الوقت الثاني ألا يكون داخلاً في الوقت الأول كما تقدم في حديث المواقيت. فهنا إذا قال: (إلى الزوال) فمعنى ذلك أنه ينتهي إلى الزوال وليس فيه أن الزوال داخل فيه كما نبَّه على ذلك صاحب الإنصاف. وأما قوله: (إلى قبيل الزوال) فهذا للإيضاح، لكن ينبغي ألا يتوهم أن ذلك إلى وقت غير محدد؛ لأنه قد يفهم من ذلك أنه ينتهي بوقت قبيله أي بقليل وحينئذ يقع الإشكال في تحديد هذا الوقت الذي تحدد إليه الصلاة.

فالمراد من قوله: (قبيل الزوال) وقتها الداخل في الصحة، أي الوقت الذي هو وقت أداء لها فليس هو وقت تحريم أو نهاية وإنما وقت النهاية هو الزوال. وما ذكره المؤلف يدل عليه المعنى، فإنها صلاة ضحى وتشرع في الضحى، والضحى من خروج وقت النهي وهو – ارتفاع الشمس قيد رمح – إلى الزوال.فإذا صلى الضحى في أي وقت فيه أجزأت عنه. إلا أن المستحب أن يؤخرها إلى [أن] يشتد الحر، لما ثبت في مسلم من حديث زيد بن أرقم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (صلاة الأوابين حين ترمض الفصال) . والفصال: جمع فصل وهي ولد الناقة، فإذا اشتد الحر قامت من مواضعها لشدة الحر. * ومن الصلوات المستحبة – ولم يذكرها المؤلف هنا –: صلاة التوبة: وهو أن العبد إذا أذنب ذنباً استحب له أن يتوضأ فيصلي ركعتين ثم يستغفر الله عن ذنبه. لما روى الأربعة بإسناد صحيح أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (ما من عبد يذنب ذنباً فيحسن الطهور ثم يصلي ركعتين ثم يستغفر الله إلا غفر الله له، ثم قرأ: {والذين فعلوا فاحشة أو ظلموا أنفسهم ذكروا الله فاستغفروا لذنوبهم ومن يغفر الذنوب إلا الله} ) فهذه صلاة التوبة وهي صلاة مستحبة. ومن الصلوات المستحبة: صلاة الحاجة: وهي إذا ما احتاج إلى أمر من أمور دينه أو دنياه صلى ركعتين ودعا الله تعالى.

ويدل عليه ما ثبت في المسند وسنن أبي داود والترمذي والنسائي: أنه أعمى قال للنبي - صلى الله عليه وسلم -: (إنه قد شق علي ذهاب بصري، فادع الله لي، فأمره النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يتوضأ ثم يصلي ركعتين ثم يقول: (اللهم إني أسألك وأتوجه إليك بنبيي محمد نبي الرحمة يا محمد أتوجه إلى الله بك اللهم شفِّعه فيَّ وشفعني في نفسي) [اقتضاء الصراط المستقيم: 2 / 784] وفي رواية لأحمد: (وشفعني فيه) وهذه اللفظة تدل على أن المراد من ذلك الدعاء، أي كما أني توجهت إليك بدعائه فكذلك شفعني في دعائه فهو وسيلتي إليك في الدعاء وأنا وسيلته إليك. وهذا اللفظ وإن كان الظاهر أنه إنما يكون في عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - لكن فيه أصل الصلاة ثم يدعو بما شاء. أما ما رواه الترمذي أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (إذا كان لأحدكم إلى الله حاجة – أو إلى أحد من بني آدم حاجة فليقل: (لا إله إلا الله إلى قوله: والفوز بالجنة والنجاة من النار) وهو دعاء طويل فالحديث إسناده ضعيف جداً لا يثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - فإن فيه راو متروك. ومن الصلوات المستحبة: سنة القدوم من السفر: فيستحب لمن قدم من السفر أن يصلي ركعتين في المسجد، لما ثبت في الصحيحين أن النبي - صلى الله عليه وسلم -: (كان إذا قدم من سفر بدأ بالمسجد فصلى فيه ركعتين) . ومن الصلوات المستحبة: ركعتا سنة القتل. فقد ثبت في الصحيحين: (أن خبيب بن عدي لما أتى به ليقتل في زمن النبي - صلى الله عليه وسلم - من الكفار وقد أسر في أيديهم قال: دعوني أصلي ركعتين، فصلى ركعتين، قال الراوي: فكان أول من سن الركعتين عند القتل) فيستحب ذلك لمن حكم عليه بقتل يكون فيه شهادة. *ومن ذلك صلاة الوضوء:

فقد ثبت في الصحيحين عن أبي هريرة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (يا بلال حدثني بأرجى عمل عملته في الإسلام فإني سمعت دفَّ نعليك بين يدي في الجنة فقال: ما عملت عملاً هو أرجى عندي إلا أني ما تطهرت طهوراً في ساعة من ليل أو نهار إلا صليت بذلك الطهور ما كتب لي أن أصلي) . ومن ذلك صلاة الاستخارة: لما ثبت في البخاري عن جابر قال: (كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يعلمنا الاستخارة في الأمور كلها كما يعلمنا السورة من القرآن يقول: إذا هم أحدكم بالأمر فليركع ركعتين من دون الفريضة) . فلا يجزئ أن تكون الركعتان اللتان يصليها فريضة. وظاهره أنه يجزئ وإن كانت نفلاً مقيداً إلا أن الأولى أن يفردها بركعتين لها. وقد يقال – وهذا محل بحث – أن قوله: (فليركع ركعتين) إنشاء ركعتين لهذه الصلاة، بخلاف سنة الضحى أو الفجر فإنهما أصليتان سابقتان. (ثم ليقل) ظاهره أن القول يكون بعد الصلاة. واختار شيخ الإسلام أنه يدعو قبل أن ينصرف، لما دلت عليه السنة من ذلك من دعاء النبي - صلى الله عليه وسلم - قبل انصرافه وهو الأليق فإن العبد في حال مناجاة لله تعالى. وقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: (ثم ليتخير من الدعاء أعجبه إليه فيدعو) وعلى ذلك يكون قوله: (ثم ليقل) أي قبيل السلام، ومعلوم أن الصلاة قبيل سلامها في حكم المنتهية، مما بقى إلا السلام منها، وهذا لا شك أنه تأويل لكن يرجحه المعنى من أن الأليق للعبد أن يدعو الله في حال مناجاته لله ولحديث: (ثم ليدع بما بدا له) .

فإن دعا بعد السلام فلا بأس: (اللهم أني أستخيرك بعملك وأستقدرك بقدرتك وأسألك من فضلك العظيم، فإنك تقدر ولا أقدر وتعلم ولا أعلم وأنت علام الغيوب، اللهم إن كنت تعلم أن هذا الأمر " وفي أبي داود " ويسميه بعينه " خير لي في ديني ومعاشي وعاقبة أمري أوقال: عاجله وآجله فاقدره لي ويسره لي، وإن كنت تعلم أن هذا الأمر – ويسميه بعينه – شر لي في ديني ومعاشي وعاقبة أمري أو قال: في عاجل أمري وآجله فاصرفه عني واصرفني عنه واقدر لي الخير حيث كان ثم أرضني به قال: وسمى حاجته) والواو لا تفيد الترتيب، ورواية أبي داود في كل موضع قال: (ثم يسمي حاجته بعينها) فهذه صلاة الاستخارة. وظاهر الأحاديث أنها مستحبة في كل أمر ديني أو دنيوي. أما الدنيوي فلا إشكال فيه. أما الديني فقد يقال: كيف يستخار الله في أمر قد أمر به، فإن الله لا يأمر إلا بما هو خير ولا ينهى إلا عما تركه خير؟ فالجواب: أن الأمر الذي يأمر به الشارع أو ينهى عنه وإن كان فيه خير مطلقاً وليس محلاً للاستخارة لكن قد يعتريه ما يجعل العبد يتردد به، كأن يتردد بين عملين صالحين كعلم وجهاد، وبين أن حج هذه السنة أو يتنفل بعمل آخر فهذه أمور تحتاج إلى استخارة، فإذا ثبت مثل هذا شرع له أن يستخير لعموم قول الراوي: (في الأمور كلها) . مسألة: في صلاة التسابيح: روى صلاة التسابيح الترمذي وغيره في حديث ابن عباس وفيه أن صفتها أن يصلي أربع ركعات يقرأ في كل ركعة بفاتحة الكتاب وسورة ثم يقول: (سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر) خمس عشرة مرة، ثم يركع فيقولها عشراً ثم يقول سمع الله لمن حمده فيقولها عشراً، ثم كذلك في السجدتين وبين السجدتين عشراً، ويفعل ذلك في الأربع ركعات كلها – يفعل ذلك في كل يوم أو في كل جمعة أو في كل شهر أو في العمر مرة) كما وردت الرواية.

والحديث من حيث سنده مقبول، فالحديث حسن أو صحيح لكن النكارة في متنه، إذ مثل هذه الصلاة ليست كهيئة غيرها من الصلوات. ولذا اختلف أهل العلم في تصحيحها، فصححتها طوائف كثيرة من المتأخرين كالعلائي وابن الصلاح وقبلهم الخطيب وابن مندة والآجري. وضعفها الإمام أحمد والعقيلي وابن تيمية والنووي وغيرهم لنكارتها، فأنكرها الإمام أحمد ولم يستحبها. وصلاة التسابيح لم يستحبها إمام مطلقاً من الأئمة الأربعة وغيرهم، ولم يستحبها إلا ابن المبارك لكن على غير الصفة الواردة في الخبر. وهي صلاة محلها محل التوقف والتردد فالحديث فيه من ضعفه من الأئمة الكبار كالإمام أحمد ولم يستحبها إمام وهي صلاة تخالف الصلاة المشروعة مطلقاً فليست على هيئة غيرها من الصلوات ولذا فإن الأولى هو التوقف في فعلها حتى يثبت له ذلك بحديث ثابت عن النبي - صلى الله عليه وسلم -. حتى القائلون من أهل العلم كالنووي وغيره من العمل بالحديث الضعيف لم يقولوا بالعمل هنا لأن هذه الصفة لا شاهد لها من السنة، فالتوقف عن فعلها أولى. أما الإمام أحمد فقد نص على أن الحديث فيها منكر أو أنها غير مشروعة. وأما ابن تيمية فقد حكم على الحديث بأنه كذب ووضع وأدخله ابن الجوزي في الموضوعات وأنكر ذلك عليه الحافظ. والحديث كما تقدم: أما في متنه فهو إلى الوضع أقرب وأما في سنده فالسند فيه حسن أو صحيح. والحمد لله رب العالمين قال المؤلف رحمه الله تعالى: (وسجود التلاوة صلاة) . سجود التلاوة هي: السجدة المشروعة عند تلاوة آيات فيها ذكر السجود. وسجود التلاوة صلاة فهو صلاة فيفرض فيه ما يفرض في الصلاة فيشترط فيه ستر العورة واستقبال القبلة والطهارة وغيرها من الشروط لأنها صلاة. وهذا هو مذهب جمهور العلماء. واستدلوا: بأنها صلاة ذات تحريم وتحليل وقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: (مفتاح الصلاة الطهور وتحريمها التكبير وتحليلها التسليم) .

قالوا: ويشرع في سجود التلاوة التكبير والتسليم فهي صلاة، لأن كل ما شرع فيه تحريم وتحليل فهو صلاة، هذا هو المشهور في مذهب الحنابلة، وهو مذهب جمهور العلماء. 2- وذهب طائفة من السلف وهو اختيار ابن جرير الطبري وشيخ الإسلام ابن تيمية: إلى أن سجود التلاوة ليس بصلاة وعليه فلا يشترط فيه ما يشترط في الصلاة من استقبال القبلة أو طهارة أو غير ذلك، فلو سجد محدثاً أو غير مستقبل القبلة فإن سجوده صحيح وإن كان يسن له ذلك. واستدل: بأن الشارع إنما سماها سجدة فأثبت لها مطلق السجود ولم يثبت دليل شرعي يدل على أنها صلاة. وأما ما ذكروه من ثبوت التحريم والتحليل فيها فليس بصحيح. وسيأتي تقرير الأدلة على ذلك وأنه لم يصح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في سجدة التلاوة تكبير ولا تشهد ولا تسليم. فعلى ذلك هي مطلق سجود وليست بصلاة فلا يجب فيها ما يجب في الصلاة إلا ما دل الدليل عليه وهذا القول هو الراجح. وقد ثبت في البخاري في صحيحه تعليقاً صحيحاً وصله ابن أبي شيبة: (أن ابن عمر سجد على غير وضوء) . فالراجح: أن سجدة التلاوة ومثلها سجدة الشكر ليستا بصلاة خلافاً للحنابلة ومن وافقهم في أنهما صلاة. قال: (يسن للقارئ والمستمع دون السامع) " يسن " أي السجود فهو سنة وليس بواجب – وهو مذهب الجمهور، ودليل سنيته ما ثبت في الصحيحين عن زيد بن ثابت: (أنه قرأ على النبي - صلى الله عليه وسلم - بالنجم فلم يسجد عليه الصلاة والسلام) فترك النبي - صلى الله عليه وسلم - لسجودها يدل على عدم وجوبه إذ لو كان واجباً لسجدها. ويدل عليه ما ثبت في البخاري عن عمر بن الخطاب: (أنه كان يقول على المنبر في المدينة: (يا أيها الناس إنا نمر بالسجود فمن سجد فقد أصاب ومن لم يسجد فلا إثم عليه) وفي الموطأ: (إن الله لم يفرض علينا السجود إلا أن نشاء) . وذهب بعض العلماء إلى أن السجود واجب.

واستدلوا: بألفاظ الآيات التي هي السجدات فإن من هذه الآيات ما فيه أمر صريح كقوله تعالى: {فاسجدوا لله وعبدوا} . {فاسجد واقترب} أو فيه تأنيب لعدم السجود كقوله تعالى: {ألا يسجدوا لله} وغير ذلك من الآيات الواردة في هذا الباب. والجواب عن هذا أن يقال: إن هذه الآيات قد دلت على وجوب السجود مطلقاً وأنه يجب على المسلم أن يسجد لله عز وجل وأن يخضع له سبحانه بالسجود المطلق، وليس المراد هذه السجدة فإنها يسجدها من يقيم الصلاة ويسجد لله عز وجل السجدات الكثيرة، فالمراد مطلق السجود ومع ذلك فقد شرع استحباباً أن يسجد عندها. ونظير هذا ما يذهب إليه كثير من العلماء من وجوب الصلاة على النبي - صلى الله عليه وسلم - ويرون استحباب الصلاة عليه عند ذكره عليه الصلاة والسلام. فالأمر في السجود ليس موجهاً إلى سجدة التلاوة المشروعية عند سماع هذه الآيات بل وموجه إلى مطلق السجود له سبحانه وإنما شرع للمسلم أن يسجد عند سماع هذه الآيات لبيان أنه خاضع لله وسامع لأمره بدليل ما تقدم من فعل النبي - صلى الله عليه وسلم - وكونه لم يسجد عندما قرئت عليه سورة النجم مع أن لفظها صريح في الوجوب في قوله: {فاسجدوا لله واعبدوا} وكذلك قول عمر على المنبر وكان يقوله بمحضر المهاجرين والأنصار في المدينة، فلم يثبت منكر لقوله منهم. فالراجح أن سجدة التلاوة سنة مستحبة. (للقارئ والمستمع) فيسن للقارئ والمستمع السجود لما ثبت في الصحيحين عن ابن عمر قال: (كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقرأ علينا السورة فيها السجدة فيسجد ونسجد حتى ما يجد أحدنا موضع جبهته) [فتح الباري لابن حجر: 2 / 647، 652] .

(دون السامع) فلا يسن له السجود لما ثبت في البخاري ووصله عبد الرزاق في مصنفه بإسناد صحيح: (أن عثمان قال: " إنما السجود على من استمع " والمستمع هنا هو من قصد الاستماع وأقبل إلى الآيات التي يقرؤها القارئ وقصد ذلك بالسماع. أما المار والذي تقع في أذنه الآية والآيتان وفيها سجدة فلا يشرع له السجود. قال: (وإن لم يسجد القارئ لم يسجد) فإذا لم يسجد القارئ لم يسجد المستمع فلا يشرع له ذلك وظاهره مطلقاً سواء كانت السجدة في صلاة أو في غير الصلاة. فإذا قرأ الإمام آية فيها سجدة فلا يشرع للمأموم أن يسجد إن لم يسجد إمامه. أو كان خارج الصلاة فقرأ القارئ سجدة فلم يسجد فلا يشرع للمستمع السجود. وهذا الإطلاق محل نظر. وقد ذهب بعض الحنابلة فهو قول في مذهب أحمد، وفاقاً للشافعية: إلى أنه يسجد خارج الصلاة وإن لم يسجد القارئ بخلاف الصلاة فلا يشرع له ذلك لأن الصلاة ينهى المأموم فيها عن أن يسجد سجدتي السهو خلف إمامه فأولى من ذلك السجود المستحب لمتابعة الإمام، لحديث: (ولا تسجدوا حتى يسجد) . أما خارج الصلاة فإذا لم يسجد القارئ فالأظهر أن المستمع يسجد؛ لأن السجود مشروع فكون القارئ أو الإمام لا يسجدها ليس هناك دليل يدل على منع المستمع من السجود، وإن كان قد يقال بأنه لا يتأكد له كتأكده عند سجود القارئ، لكن مع ذلك ليس هناك دليل يمنع، والأدلة عامة فيما لو سجد الإمام أو القارئ أو لم يسجد فهذا هو الراجح وهو قول في مذهب الحنابلة وهو مذهب الشافعية.

وقد روى البخاري في صحيحه معلقاً ووصله سعيد بن منصور أن ابن مسعود وقد قرأ عليه تميم بن حذْلَم – وهو غلام - فقال له: (اسجد فأنت أمامنا فيها) [الفتح لابن حجر: 2 / 647] فهذا يدل على أنه إمام لهم سابق لهم بالسجود فيسبقهم في السجود استحباباً، وهذا هو الأليق فإن هم مستمعون وهو قارئ فالأليق أن يكون شروعه في السجود قبل شروعهم لكن هذا الأثر لا يدل على أنه إن لم يسجد فإنهم لا يسجدون، والأدلة مبقية لهذا الحكم ولا دليل صارف عنه. واعلم أن المشهور عند الحنابلة – كما تقدم – أنه إن لم يسجد القارئ فإن المستمع أو المأموم لا يسجد ومثل ذلك لو كان القارئ لا تصح إمامته، فالقاعدة عندهم أن القارئ هنا في حكم الإمام فلا يجوز أن يقتدي به في السجود إن كانت لا تصح إمامته فلو كان القارئ امرأة أو صبياً فلا يصح السجود معهما – - على قول في المذهب –. والمشهور في المذهب إن إمامة الصبي تصح في النافلة. ولا يصح أن يتقدم عليه ولا أن يكون المصلي عن يساره يعني أنه في حكم الإمام مطلقاً. وهذا في الحقيقة قول لا دليل عليه والسنة واردة في باب سجود التلاوة، ومثل هذا مما تتوافر الدواعي لنقله فلما لم ينقل دل على عدم مشروعيته وهذا بناء على أنه صلاة وأن القارئ فيه إمام وهذا لا دليل عليه. قال: (وهو أربع عشرة سجدة في الحج منها اثنتان) فسجدات التلاوة - في المشهور من المذهب – أربع عشرة سجدة في الحج منها اثنتان، وفي المفصل منها ثلاث وهي في سورة الانشقاق، وسورة اقرأ وسورة النجم فهذه خمس سجدات، وتسع سجدات في بقية القرآن من سوى المفصل وسورة الحج، وهي سجدات معروفة مشار إليها في المصحف العثماني. ودليل ذلك: ما روى أبو داود من حديث عمرو بن العاص قال: (أقرأني النبي - صلى الله عليه وسلم - خمس عشرة سجدة ثلاث منها في المفصل وسجدتان في الحج) .فهنا ذكر خمس عشرة سجدة وهذا بإضافة سجدة سورة (ص) .

هذا الحديث إسناده ضعيف لجهالة في بعض رواته لكن هذا الحديث له شواهد، فقد روى ابن ماجه في سننه من حديث أبي الدرداء قال: (سجدت مع النبي - صلى الله عليه وسلم - إحدى عشرة سجدة ليس في المفصل منها شيء) فهذا يشهد لبعض حديث عمرو بن العاص. أما الشاهد لسجدات المفصل فهي شواهد صحيحه ثابتة فقد ثبت في صحيح مسلم عن أبي هريرة قال: (سجدنا مع النبي - صلى الله عليه وسلم - بإذا السماء انشقت، واقرأ باسم ربك الذي خلق) .وفي الصحيحين من حديث ابن مسعود أن النبي - صلى الله عليه وسلم -: (قرأ بالنجم في مكة فسجد وسجد الناس معه) . وأما شاهد السجدتين في الحج، فما رواه أبو داود في مراسيله من حديث خالد بن معدان وهو تابعي أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (فضلت سورة الحج بسجدتين) والحديث مرسل لكنه يصح شاهداً. وله شاهد من حديث عقبة في الترمذي وغيره أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (فضلت سورة الحج بسجدتين فمن لم يسجدهما فلا يقرأها) . وله شاهد موقوف من قول ابن عمر في الموطأ قال: (فضلت سورة الحج بسجدتين) وهو ثابت من فعله في موطأ مالك أنه سجد في الحج سجدتين. وهو في مصنف ابن أبي شيبة من فعل علي بن أبي طالب وابن عباس. أما سجدة (ص) فحديث عمرو بن العاص وشاهده يدل على مشروعيتها. ويدل على مشروعيتها ما رواه البخاري عن ابن عباس قال: " (ص) ليست من عزائم السجود ولقد رأيت النبي - صلى الله عليه وسلم - يسجدها) . وروى أبو داود في سننه أن النبي - صلى الله عليه وسلم -: (قرأ يوماً [وهو] على المنبر (ص) [فلما بلغ السجدة] نزل فسجد وسجد الناس معه، فلما كان يومٌ آخر قرأها فلما بلغ السجدة تشزَّن الناس -أى تهيؤوا - للسجود، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: (إنما هي توبة نبي ولكن رأيتكم تشزَّنتم) فنزل فسجد وسجدوا) وإسناده صحيح.

وفي البخاري أن مجاهداً سأل ابن عباس عن سجدة سورة (ص) فقرأ: {ومن ذريته داود} إلى قوله: {أولئك الذين هدى الله فبهداهم اقتده} قال ابن عباس: (فكان داود ممن أمر نبيكم - صلى الله عليه وسلم - أن يقتدي به فسجدها داود فسجدها النبي - صلى الله عليه وسلم -) [الفتح: 8 / 405] . وفي أبي داود والنسائي بإسناد صحيح أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (سجدها داود توبة ونسجدها شكراً) . * وقد اختلف أهل العلم فيها على قولين: الأول، وهو المشهور عند الحنابلة والشافعية: أنه لا يشرع السجود فيها في الصلاة، أما خارج الصلاة فسجودها من باب سجود الشكر، أما سجودها في الصلاة فلا يشرع وتبطل الصلاة به عمداً، فإن كان غير متعمد ناسياً أو جاهلاً فإن الصلاة تصح به وتكون من باب السهو فيسجد. فإن فعلها الإمام لم يجز للمأموم أن يتابعه – إن كان يرى أنها ليست سجدة – بل إما ينتظره أو يفارقه. والأولى كما تقدم في مسألة نظيرة لهذه أن ينتظر حتى يأتي. 2- الثاني، وهو مذهب المالكية والأحناف وهو قول في مذهب أحمد: أن السجود لسورة (ص) مشروع في الصلاة وخارجها وإن كانت ليست من عزائم السجود. وبالنظر إلى الأدلة المتقدمة يظهر التجاذب بين هذين القولين، فقد قال ابن عباس: (هي ليست من عزائم السجود) أي ليست مما يتأكد سجوده، ولم ينف السجود فيها، وقوله: (من عزائم السجود) مطلقاً في الصلاة وخارجها ونفى أن تكون عزيمة ولم ينف أصل السجود فيها. وأثره المتقدم من الاقتداء بالأنبياء في الاستدلال بالآية يدل على مشروعيته في الصلاة لأن الاقتداء بهم مشروع في الصلاة وفي غيرها، فالقول بأن المصلي لا يشرع له أن يسجدها مبناه: أنها سجدة شكر كما في قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: (ونسجدها شكر) ، والشكر بالاتفاق لا يشرع السجود له في الصلاة.

ومبنى من قال بمشروعيتها في الصلاة: أن سببها التلاوة فإنها سجدة مشروعة عند التلاوة لا مطلقاً كما في سجدة الشكر، بل عند التلاوة فهي مرتبطة بها، والتلاوة من الصلاة. وهذا في الحقيقة قول قوي وقد قال تعالى: {فخر راكعاً وأناب} والركوع هنا هو السجود باتفاق المفسرين، فهذه الآية هي سبب السجدة، فهي وإن كان النبي - صلى الله عليه وسلم - سماها سجدة شكر وسماها ابن عباس سجدة اقتداء بالنبي - صلى الله عليه وسلم - وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - يسجدها عند قراءة هذه الآية فهذا يدل على أنها تشرع عند التلاوة أي مشروعة عند التلاوة. وأما كونها سجدة شكر فهو معنى من معانيها فليس مستقلاً بالسببية بل هناك سبب التلاوة، فيقتدي به عند تلاوتها فيسجد، وهي سجدة للاقتداء وهي متصلة بالتلاوة والتلاوة من الصلاة فليست بخارجه عنها فحينئذ تكون مشروعة لا تؤثر في الصلاة – فالأدلة متجاذبة في هذه المسألة. والأحوط للإمام ألا يسجد عندها فإن سجد عندها فالأظهر أنه لا بأس بذلك كما هو مذهب الأحناف والمالكية وهو قول في المذهب. مسألة: هل يشرع عند سجود التلاوة القيام، بمعنى إذا قرأ بالسجدة قام فسجد؟ المشهور في المذهب وهو وجه عند الشافعية: أنه يشرع له أن يسجد عن قيام، وهو اختيار شيخ الإسلام ورواه البيهقي عن عائشة. والوجه الثاني عند الشافعية واختاره النووي وغيره: أن ذلك لا يشرع وأن الأثر عن عائشة ضعيف لجهالة بعض رواته. واستدل من ذهب إلى مشروعية ذلك بقوله تعالى: {ويخرون للأذقان سجداً} {خروا سجداً وبكياً} والخرور إنما يكون عن قيام ونحوه لا عن قعود.

والأظهر أنه لا يشرع ذلك، نعم وإن وافق قياماً شرع له ذلك وكان فيه فضيلة الخرور، لكنه لا يشرع له أن يقوم فيسجد بدليل أن الصحابة رواة سجدة التلاوة لم يذكروها مع أنهم ذكروا ذلك في سجدة الشكر، مع كون سجدة الشكر الأحاديث فيها ثبتت كالأحاديث في سجدة التلاوة كثرة في المتون وكثرة في رواتها من الصحابة وكونها أصح وأبين، مع ذلك لم تذكر، وذكرت في سجدة الشكر. فكونها لم تنقل عن النبي - صلى الله عليه وسلم - يدل على أن ما ذكر الله في القرآن إنما هو من باب الموافقة كأن يكون في صلاة ونحو ذلك. ولا شك أن القيام أحد ثلاثة أنواع لا يخلو الإنسان منها إما اضطباع أو قيام أو قعود فهي حال كثيرة. وكذلك ليس هذا في كل ألفاظ السجود، بل في بعضها الحث على السجود من غير ذكر للخرور. ومن فعل ذلك فلا ينكر عليه، لكنه لا يشرع. مسألة: ما يقال في سجود التلاوة؟ يقال فيها ما يقال في عامة السجود بأن يقال (سبحان ربي الأعلى) وما ورد في الترمذي بإسناد صحيح أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يقول: (سجد وجهي للذي خلقه وشق سمعه وبصره بحوله وقوته) . وورد في الترمذي بإسناد حسن: (أن رجلاً من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - رأى شجرة ساجدة تقول: اللهم اكتب لي بها أجراً وضع عني بها وزراً واجعلها لي عندك ذخراً وتقبلها مني كما تقبلتها من عبدك داود " فأخبر بها النبي - صلى الله عليه وسلم - فكان يقولها في السجود) والشجرة هنا رمز لأمر آخر. هذا فيما يستحب أن يقال في سجدة التلاوة. والحمد لله رب العالمين قال المؤلف رحمه الله تعالى: (ويكبر إذا سجد وإذا رفع) يكبر إذا سجد للتلاوة. هذا هو المشهور في المذهب وأنه يشرع له ذلك.

واستدلوا: بما رواه أبو داود في سننه من حديث عبد الله بن عمر العمري المكبر عن نافع عن ابن عمر قال: (كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يقرأ علينا القرآن فإذا مر بالسجود كبر وسجد وسجدنا معه) والقول الثاني في المذهب: أنها لا تشرع. واستدلوا: بأن ذلك لم يثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - بإسناد صحيح مع توافر الدواعي والهمم لنقله وهذا يدل على عدم ثبوته. وأما الحديث فإن فيه عبد الله بن عمر العمري المكبر وهو ضعيف وقد خالفه عبيد الله بن عمر العمري المصغر وهو معه قراءة عن نافع عن عبد الله بن عمر من غير ذكر التكبير وهو اللفظ المتقدم عنه قال: (كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقرأ علينا السورة فيها السجدة فيسجد ونسجد حتى ما يجد أحدنا موضع جبهته) الحديث متفق عليه، فعلى ذلك ذكر لفظة التكبير منكر هذا هو القول الراجح. وقوله: " إذا رفع " كذا ذكر المؤلف وغيره من متأخري الحنابلة وأما متقدموا أصحاب الإمام أحمد فلم يذكروا التكبير عند الرفع وليس له أصل في السنة. والراجح أنه لا يشرع التكبير عند الرفع، فلا يشرع التكبير عند الخفض ولا عند الرفع. هذا في غير الصلاة. أما في الصلاة فيشرع له لعموم قول أبي هريرة: (كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يكبر في كل خفض ورفع) وهذا عام يدخل فيه من صلب الصلاة وما يطرأ على الصلاة من سجدات السهو وسجدات التلاوة، وكذلك لما فيه من مصلحة الصلاة في تمام اقتداء المأموم بإمامه. قال: (ويجلس ويسلم) هذا كذلك لا أصل له في السنة – حتى قال شيخ الإسلام في التسليم -: " بدعة "، وهو كما قال. فإن الجلوس والتسليم لا أصل له في السنة، وقد تقدم أن الدواعي والهمم متواترة للنقل ومع ذلك لم ينقل فهذا يدل على أنه لم يثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وكل عمل ليس عليه هديه فهو رد. قال: (ولا يتشهد)

من غير تشهد لعدم ثبوته، وهو كما قال فإن التشهد لا أصل له في السنة. هذه صفة سجود التلاوة وهي: أن يسجد سواء كان ذلك خروراً عن قيام أو كان ذلك عن جلوس من غير أن يكبر خافضاً ولا رافعاً ومن غير أن يتشهد ولا يسلم. ويستحب له أن يقول فيها بما ورد في عموم السجود وقد نص عليه الإمام أحمد لعمومات الأحاديث. فمن ذلك قول النبي - صلى الله عليه وسلم - في حديث عقبة بن عامر لما نزل قول الله تعالى: ( {سبح اسم ربك الأعلى} فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: اجعلوها في سجودكم) فقوله: " سجودكم " عام في سجود الصلاة وسجود التلاوة وسجود الشكر. ويستحب له أن يقول: ما رواه الترمذي بإسناد صحيح: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يقول في سجود القرآن: (سجد وجهي للذي خلقه وشق سمعه وبصره بحوله وقوته) . والمستحب أن يقول ما ثبت في الترمذي وابن ماجه بإسناد حسن: (اللهم اكتب لي بها أجراً وضع عني بها وزراً وجعلها لي عندك ذخراً وتقبلها منى كما تقبلتها من عبدك داود) . قال: (ويكره للإمام قراءة سجدة في صلاة سر، وسجوده فيها) فهذه المسألة ذات شقين: الأول: أنه يكره له أن يقرأ في الصلاة السرية سورة فيها سجدة وإن لم يسجد. الثاني: أنه يكره له أن يقرأها فيسجد. هذا هو المشهور في المذهب. قالوا: يكره للإمام أن يقرأ في الصلاة السرية آية فيها سجدة، فإن لم يسجد عندها فيكره لأنه قد ترك سنة وإن سجد فإن في ذلك تشويشاً وخلطاً على المأمومين. وذهب بعض الحنابلة وهو اختيار شيخ الإسلام: إلى أنه لا يكره ذلك، وهذا هو الراجح. وبيانه: أنه إذا قرأها فلم يسجد فقد قرأ آية من كتاب الله وترك سجوداً لا بأس له بتركه.

فإن سجود التلاوة إنما يكره تركه مطلقاً، وأما أنه يسجد أحياناً ويدع أحياناً فقد فعل ذلك النبي - صلى الله عليه وسلم - فُقرأت عليه سورة النجم كما في البخاري ومسلم من حديث زيد بن ثابت، وقال عمر: (ومن لم يسجد فلا إثم عليه) . والكراهية تحتاج إلى دليل شرعي ولا دليل يدل على أنه إن قرأ السجدة فتركها فقد فعل أمراً مكروهاً. إلا أن يكون راغباً مطلقاً عن السجود فيقرأ الآيات كلها فلا يسجد مطلقاً للتلاوة فإن ذلك رغبة عن السنة. أما إن سجد فلا يُقال هو مكروه مطلقاً، نعم ينبغي عليه أن يترك حيث كان فيه إرباك وتشويش على المأمومين. أما إذا لم يقع من ذلك كأن يبين لهم قبل الصلاة أو أن تكون الصفوف قليلة بحيث يبين لهم أنه قد سجد سجوداً للتلاوة أو أن يسبح فيقول: سبحان الله، فيزول عنهم التشويش فإنه لا يكره فإنه لا كراهية في ذلك. إنما يُنهى عنه حيث كان ذريعة للتشويش وعلم أو ظن ظناً غالباً أنه يحدث لهم التشويش في ذلك فإنه قد يقال بالنهي عنه. على أن المأموم إذا وقع في مثل ذلك فإنه لا حرج عليه ولا يؤثر في صلاته ومع ذلك فإنه ينبغي أن ينهى عنه حيث ثبت له أو ظن ظناً غالباً بثبوت التشويش على المأمومين. أما إن لم يثبت له ذلك ودرأه بما استطاع من تسبيح أو تبيين قبل الصلاة أو كانت الصفوف قليلة يظن أنه لا يحدث لهم تشويش فإنه لا كراهية في ذلك. وقد ورد في أبي داود: (أن النبي - صلى الله عليه وسلم - سجد في الظهر) لكن الحديث إسناده فيه جهالة. قال: (ويلزم المأموم متابعته في غيرها) هنا هذه الجملة متضمنة لمسألتين: المسألة الأولى: أنه يجب على المأموم أن يتابع الإمام في سجود التلاوة حيث سجد فيما يشرع له السجود " في الجهرية ". فإذا سجد الإمام عند آية في صلاة جهرية فيلزم المأموم أن يتابعه فيسجد، لقوله - صلى الله عليه وسلم -: (وإذا سجد فاسجدوا) وهذا عام في كل سجود مشروع.

فالسجود مستحب للإمام واجب على المأموم إن سجد إمامه. أما كونه مستحب للإمام فللأدلة المتقدمة من استحباب سجود التلاوة. وأما كونه واجباً على المأموم فلوجوب المتابعة كما يتابعه في سجود السهو، وفي الحديث: (وإذا سجد فاسجدوا) . المسألة الثانية: أنه إذا سجد فيما لا يشرع السجود فيه كما يكون في الصلاة السرية فلا يلزم المأموم متابعته. وهذا ضعيف. والقول الثاني في المذهب: أنه يجب عليه أن يتابعه أيضاً، فإذا سجد الإمام في صلاة سرية وقلنا بالكراهية كما هو المشهور في المذهب فالراجح في المذهب وهو أحد القولين وهو خلاف المشهور عند الحنابلة، أنه يلزمه السجود. وهذا لعوم حديث: (وإذا سجد فاسجدوا) . فالراجح أن المأموم يجب أن يتابع إمامه مطلقاً فتكون المسألة ذات شق واحد، وهو أنه يجب على المأموم أن يتابع إمامه إن سجد سواء كان سجود الإمام في صلاة جهرية أو سرية. مسائل: المسألة الأولى: ورد في مسلم ما يدل على فضل سجدة التلاوة قال - صلى الله عليه وسلم -: (إذا قرأ ابن آدم السجدة فسجد اعتزل الشيطان فبكى وقال: يا ويلاه أُمر ابن آدم بالسجود فسجد فله الجنة وأُمرت بالسجود فأبيت فلي النار) المسألة الثانية: أن المسافر إن قرأ آية فيها سجدة فإنه يومئ أي الراكب المسافر كما يومئ في سجود النافلة. المسألة الثالثة: أنه إن قرأ آية فيها سجدة فركع فإن الركوع لا يجزئه كما أن السجود الأول من الركعة لا يجزئه؛ لأن ظاهر الأدلة الشرعية أن هذا السجود مشروع للتلاوة فهي سنة مستقلة كما أن الرواتب مستقلات عن الفرائض، فلذلك السجدة مستحبة وهي مستقلة عن السجدات التي هي من صلب الصلاة، فالركوع لم يشرع لها بل شرع لها السجود. فلا يجزئه الركوع لأن المشروع إنما هو السجود والركوع ولم يرد في السنة قيامه مقام سجود التلاوة.

وأما السجدة الأولى فهي سجدة من صلب الصلاة والمشروع إنما هي سجدة مستقلة فشرع أن تكون مستقلة، فلا يجزئه أن ينوي السجدة الأولى سجدة عن التلاوة وعن الصلاة. المسألة الرابعة: إن كانت السجدة في آخر السورة فإن قام فقرأ شيئاً من القرآن فهو حسن، فإن لم يقرأ فلا بأس بذلك. فيجب عليه أن ينصب قائماً لأن الركوع واجب عن قيام، فإن قرأ شيئاً من القرآن فهو حسن. وقد صح ذلك عن عمر كما عند الطبراني في الكبير: (أنه قرأ بالنجم فسجد ثم قام فقرأ سورة أخرى) وفي رواية: (أنها إذا زلزلت الأرض زلزالها) . هذه مسائل من سجدة التلاوة يتمم بها المسائل التي ذكرها في الزاد. قال: (ويستحب سجود الشكر) فهو مستحب وقد دلت السنة على استحبابه. فقد ثبت عند الخمسة إلا النسائي بإسناد حسن من حديث أبي بكرة قال: (كان النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا جاءه خبر يسره خر ساجداً لله) وقد ثبت عند الحاكم وأحمد في مسنده من حديث عبد الرحمن بن عوف: (أن النبي - صلى الله عليه وسلم - سجد فأطال السجود ثم رفع رأسه فقال أتاني جبريل فقال: إن الله عز وجل يقول: من صلى عليك صليت عليه ومن سلم عليك سلمت، فسجدت لله شكراً) والحديث إسناده حسن. وثبت عند البيهقي بإسناد صحيح عن البراء أن النبي - صلى الله عليه وسلم -: (بعث علي بن أبي طالب إلى اليمن فكتب إليه بإسلامهم فلما قرأ النبي - صلى الله عليه وسلم - الكتاب خر ساجداً شكراً له على ذلك) فهذه الأحاديث الثابتة تدل على مشروعية سجود الشكر. والمستحب أن يكون عن قيام أي يقوم فيسجد، لما تقدم من قوله: (خر ساجداً لله) ، وفي رواية في المسند في حديث أبي بكرة قال: (قام ثم سجد) فدل على أنه قد أحدث قياماً فهذا يدل على مشروعيته. قال: (عند تجدد النعم واندفاع النقم)

سواء كانت عامة أو خاصة وسواء كانت دينية أو دنيوية، فالنبي - صلى الله عليه وسلم - قد سجد لخبر ديني وذلك لما أخبره جبريل وكذلك في خبر إسلام أهل اليمن. فالأخبار الدينية والدنيوية داخلة في عموم قوله: (إذا جاءه خبر يسره خر ساجداً لله) وهو كذلك عام في الخير المختص والخير العام. وإن كان الاستحباب ليس مطلقاً بل يفعله تارة ويدعه تارة كما تدل عليه السنة العملية فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يكن يسجد لكل خبر. فعلى ذلك يستحب أن يفعله وإن تركه أحياناً فإن ذلك حسن لموافقة فعله - صلى الله عليه وسلم -. ولا يشرع له تكبير عند الخفض ولا عند الرفع خلافاً للمشهور عند الحنابلة فإنهم عندهم أن عامة أحكام سجدات التلاوة يشرع في سجود الشكر، فسجود الشكر عندهم صلاة ويشرع له ما يشرع في سجود التلاوة. والراجح خلاف ذلك كما تقدم ترجيح أن سجود التلاوة ليس بصلاة فكذلك سجود الشكر، ولا دليل من السنة يدل على استحباب تكبير عند الخفض ولا عند الرفع ولا تشهد ولا تسليم. ويستحب له أن يقول ما يقوله في سجود الصلاة لعموم قوله - صلى الله عليه وسلم -: (اجعلوها في سجودكم) قال: (ويبطل به صلاة غير جاهل وناس) فإن صلى فسجد شكراً بطلت الصلاة لأنه فعل أجنبي عنها، وإن كان فعلاً مشروعاً. بخلاف سجود التلاوة فإنه فيها فهو متصل بالتلاوة فكان مشروعاً، وقد ثبت ذلك عن النبي - صلى الله عليه وسلم - كما تقدم في بعض الأحاديث. أما سجود الشكر فلا تعلق له بالصلاة بل هو أجنبي عنها هذا إن كان عمداً – أي يبطلها إن كان عمداً -. أما إن كان عن جهل ونسيان فإنه لا يبطل الصلاة لكن يشرع منه مع النسيان السجود لما تقدم من الأفعال الأجنبية عندما يفعلها الجاهل أنها لا تبطل صلاته، والناسي عليه أن يسجد للسهو، والله أعلم. مسألة: إذا كرر آية فيها سجدة فهل يشرع له أن يكرر السجود أم لا؟ وجهان في المذهب:

الوجه الأول: مشروعية ذلك. الوجه الثاني: عدم مشروعيته. والأظهر أنه يستحب ذلك إلا لحاجة كأن يكرر ليحفظ أو ليتدبر أو ليستنبط، والله أعلم. والحمد لله رب العالمين. قال المؤلف رحمه الله تعالى: (وأوقات النهي خمسة) أوقات النهي هي الأوقات التي لا تصح الصلاة فيها، فالصلاة فيها باطلة لا تنعقد ولا تقبل وإن كان المصلي جاهلاً لأن هذه الصلاة قد انعقدت في غير وقتها. ودليل بطلانها الأحاديث الصحيحة الثابتة في النهي عن الصلاة فيها. فقد ثبت في الصحيحين من حديث أبي سعيد قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (لا صلاة بعد الفجر حتى تطلع الشمس ولا صلاة بعد العصر حتى تغرب الشمس) وفي مسلم من حديث عقبة بن عامر قال: (ثلاث ساعات نهانا النبي - صلى الله عليه وسلم - أن نصلي فيهن أو أن ندفن فيهن موتانا حين تطلع الشمس بازغة حتى ترتفع، وحين يقوم قائم الظهيرة، وحين تتضيف الشمس للغروب حتى تغرب) . قوله: " حتى تطلع الشمس بازغة حتى ترتفع " فإذا طلعت الشمس بازغة فهو وقت نهي حتى ترتفع قيد رمح أي: " بقدر الرمح في رأي العين " " وحين يقوم قائم الظهيرة " أي حين تقف الشمس في السماء وذلك قبيل زوال الشمس وذلك زمن قصير لا يتسع للصلاة لكنه يتسع لتكبيرة الإحرام فلا تنعقد الصلاة فيه. " وحين تتضيف الشمس للغروب حتى تغرب " أي حين تميل فتأخذ في الغروب حتى يتم غروبها. قال: (من طلوع الفجر الثاني إلى طلوع الشمس) هذا هو الوقت الأول. " من طلوع الفجر الثاني " أي من الوقت الذي يؤذن فيه للفجر الأذان الثاني وهو الذي تصح فيه صلاة الفجر ويحرم الطعام فيه على الصائم - وذلك بظهور الفجر الصادق – إلى طلوع الشمس. أما دخول النهي عن الصلاة فيما كان بعد صلاة الفجر، فقد تقدم حديث أبي سعيد: (لا صلاة بعد الفجر) وفي مسلم: (لا صلاة بعد صلاة الفجر) .

وأما دخول ما بين الأذان والإقامة في وقت النهي فلما ثبت في المسند وسنن أبي داود والترمذي وغيرهم والحديث صحيح بشواهده أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (لا تصلوا بعد الفجر إلا ركعتي الفجر) أي إلا سنة الفجر. وقال الشافعية والمالكية: بل وقت النهي من بعد صلاة الفجر فلا يدخل فيه ما بين الأذان والإقامة. لأن الحديث المتقدم فيه: (لا صلاة بعد صلاة الصبح) وظاهر الحديث أن ما كان قبل الصلاة فلا ينهى عن الصلاة فيه – وهو مفهوم مخالفة له -. ولما ثبت في مسلم من حديث عمرو بن عَبَسَة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (صل صلاة الصبح ثم اقصر عن الصلاة حتى تطلع الشمس حتى ترتفع، فإنها تطلع بين قرني شيطان وحينئذٍ يسجد لها الكفار، ثم صل فإن الصلاة مشهودة محضورة حتى يستقل الظل بالرمح ثم اقصر عن الصلاة فإنَّ حينئذٍ تُسْجَر جهنم، فإذا أقبل الفيء فصلِّ فإن الصلاة مشهودة محضورة حتى تصلى العصر ثم اقصر عن الصلاة حتى تغرب الشمس فإنها تغرب بين قرني شيطان وحينئذٍ يسجد لها الكفار) [صحيح مسلم بشرح النووي: 6 / 116] والشاهد قوله: صل صلاة الصبح ثم أقصر عن الصلاة. قالوا: فهذا الحديث يدل على أن وقت النهي أوله صلاة الصبح. والراجح: القول الأول للحديث الصحيح: (لا تصلوا بعد الفجر إلا ركعتي الفجر) . وثبت في الصحيحين عن حفصة قالت: (كان النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا طلع الفجر لم يصل إلا ركعتين خفيفتين) فهذان الحديثان دلالتهما دلالة منطوق، وأما ما ذكروه فإن غايتها النهي عن الصلاة بعد صلاة الصبح وليس فيها إلا مفهوم المخالفة، ولا شك أن دلالة المنطوق مقدمة على دلالة مفهوم المخالفة. ولنا أن نقول: إن أوقات النهي ستة: الأول: بين أذان الفجر وصلاتها وقد دل عليه حديث أبي داود المتقدم.

والثاني: من صلاة الفجر إلى طلوع الشمس وقد دل على حديث أبي سعيد المتقدم: (لا صلاة بعد الصبح) وفي رواية مسلم: (لا صلاة بعد صلاة الصبح حتى تطلع الشمس) . قال: (ومن طلوعها حتى ترتفع قيد رمح) هذا هو الوقت الثاني من أوقات النهي، وقد دل عليه حديث عقبة المتقدم وفيه: (وحين تطلع الشمس بازغة حتى ترتفع) وفي بعض الروايات: (قيس رمح) أي برأي العين. قال: (وعند قيامها حتى تزول) وهذا الوقت الثالث: إذا قام قائم الظهيرة، واستقل الظل بالرمح فكان ظل الشاخص محتسب ولم تزل الشمس بعد، وهذا لحظات يسيرة قد تقع التحريمة للصلاة فيها. * وظاهر كلام المؤلف أن ذلك مطلقاً فيدخل في ذلك يوم الجمعة. وهذا هو المشهور في المذهب. وذهب الشافعية: إلى استثناء يوم الجمعة من ذلك. واستدلوا: بما رواه أبو داود وغيره أن النبي - صلى الله عليه وسلم -[قال] مستثنياً من هذا الوقت: (إلا الجمعة) من حديث أبي قتادة لكن الحديث إسناده ضعيف جداً. ومع ذلك فالراجح مذهب الشافعية لأدلة أخرى، فمن ذلك: ما ثبت في البخاري وغيره أن النبي - صلى الله عليه وسلم -[قال] فيمن ذهب إلى الجمعة (فصلى ما كتب له) ولم يستثن النبي - صلى الله عليه وسلم - من ذلك شيئاً. وهو ما كان يفعل في زمن عمر بمحضر المهاجرين والأنصار كما روى ذلك مالك في موطئه عن كعب القرظي قال: (كان الناس يصلون قبل الجمعة في زمن عمر حتى يقوم الخطيب) هذا من جهة الأثر. وأما من جهة المعنى، فإن هذا الوقت كما تقدم، وقت يسير وملاحظته - في مثل يوم الجمعة في اجتماع الناس وقد يكونون في أماكن مظللة ونحو ذلك - فيه مشقة فعُفي عنه في يوم الجمعة للمشقة الحاصلة في تتبعه. قال الحنابلة: لا ينهى عن الصلاة حتى يثبت له الوقت المنهي عنه، أما إذا كان شاكاً فلا بأس وحينئذٍ يندفع ما ذكرتموه من مشقة انتظار ذلك الوقت والنظر فيه.

والجواب عن هذا أن يقال: إن ما لا يتم ترك الحرام إلا به فهو واجب، فلو قلنا بالنهي عنه في يوم الجمعة فلا يجوز له أن يقدم على الصلاة حتى يتثبت من أنه ليس بوقت نهي، لأن ما لا يتم ترك الحرام إلا به فيجب فعله، ولا يتم ترك الحرام من وقوع الصلاة في ذلك الوقت المنهي عنه إلا بتتبع ذلك والنظر فيه، هذا هو محل المشقة. فالراجح: مذهب الشافعية، وهو اختيار شيخ السلام وتلميذه ابن القيم من أنه يستثنى من ذلك يوم الجمعة فيصلي وإن ثبت له قائم الظهيرة. قال: (من صلاة العصر إلى غروبها) اتفق أهل العلم على أن ما بين أذان العصر وصلاتها أنه ليس من أوقات النهي، وأن وقت النهي مربوط بفعل صلاة العصر. وعليه: فلو أن الصلاة قد شرع فيها من غيره وصليت لكنه لم يصلها فليس هذا بوقت نهي في حقه. ومثل ذلك من صلى العصر جمع تقديم فإنه يثبت النهي عليه لأنه قد صلى صلاة العصر لحديث: (لا صلاة بعد صلاة العصر) ، فمتى صلى العصر سواء كانت في وقتها أو جمعها جمع تقديم فما بعدها وقت نهي. قال: (وإذا شرعت فيه حتى يتم) أي إذا شرعت الشمس في الغروب حتى تغرب. ودليل قوله عقبة فيما يحكيه عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: (وحين تتضيف الشمس للغروب حتى تغرب) فهذا وقت النهي. فهذه أوقات النهي التي لا يُصلى فيها. ويُضاف إلى ذلك النهي عن الدفن في ثلاثة أوقات فيها وهي التي ذكرها عقبة بن عامر في الحديث المتقدم. قال: (ويجوز قضاء الفرائض فيها) لقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: (من نام عن صلاة أو نسيها فليصلها إذا ذكرها لا كفارة لها إلا ذلك) متفق عليه. فقوله: " إذا ذكرها " يدخل فيه التذكر في وقت النهي، فإنه يصليها فيه وكذلك من استيقظ في وقت نهي فإنه يدخل فيه، وهذا مذهب جمهور العلماء. قال: (وفي الأوقات الثلاثة فعل ركعتي طواف وإعادة جماعة)

" في الأوقات الثلاثة ": ولا يعني ذلك أنه لا يفعلها في الوقتين اللذين هما تمام الخمسة، بل ذكره ذلك في الأوقات الثلاثة يدل من باب أولى على ثبوته في تمام الخمسة لأنهما آكد. فالعلة مرتبطة في هذه الأوقات أكثر من ارتباطها في الأوقات الأخرى، وقد تقدم حديث عمرو بن عَبَسَة وفيه التعليل المتقدم ذكره. وهي مرتبطة بهذه الأوقات الثلاثة، وقد خصها النبي - صلى الله عليه وسلم - بالنهي كما في حديث عقبة وأضاف إلى ذلك النهي عن الدفن فيها. فمراد المؤلف هنا دفع قول قاله بعض الحنابلة في أن أوقات النهي الثلاثة لا تصح فيها هذه الصلوات، فهذا إشارة إلى خلاف عند فقهاء الحنابلة. والمشهور عندهم ما ذكره المؤلف هنا، من أن أوقات النهي كلها يصح أن يصلي فيها ركعتي الطواف لما ثبت عند الخمسة بإسناد صحيح من حديث جبير بن مطعم: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (يا بني عبد مناف لا تمنعوا أحداً طاف بهذا البيت وصلى أية ساعة شاء من ليل أو نهار) وهذا عام في الأوقات كلها. " وإعادة الجماعة ": لما ثبت في المسند وأبي داود والترمذي والحديث صحيح: من حديث يزيد بن الأسود قال: (صلى النبي - صلى الله عليه وسلم - في مسجد الخيف صلاة الفجر فلما انصرف رأى رجلين في آخر القوم لم يصليا معه، فقال: ما منعكما أن تصليا معنا؟ قالا: صلينا في رحالنا، فقال: لا تفعلوا إذا صليتما في رحالكما ثم أتيتما مسجد جماعة فصليا معه تكن لكما نافلة) فما بعد صلاة الفجر وقت نهي ومع ذلك أمر الرجلين أن يعيدا الصلاة جماعة، وسيأتي الكلام على هذه المسألة بتفاصيلها في باب صلاة الجماعة. قال: (ويحرم تطوع بغيرها في شيء من الأوقات الخمسة حتى ما له سبب) فيحرم أن يتطوع في غير ما تقدم ذكره.

ويستثنى من ذلك في المشهور عند الحنابلة صلاة الجنازة فهي جائزة في وقت النهي، إلا أنهم استثنوا في المشهور عندهم أوقات النهي الثلاثة لحديث عقبة المتقدم، وفيه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى عن الصلاة وعن الدفن، فذكر الدفن مع ذكر الصلاة إشارة إلى النهي عن صلاة الجنازة. - وذهب الشافعية وهو رواية عن الإمام أحمد: أنه يجوز له أن يصليها حتى في أوقات النهي الثلاثة؛ ذلك لأن جوازها في وقتي النهي يدل على جوازها في أوقاته الثلاثة، والحديث ليس ظاهراً في ذلك، فإن فيه النهي عن الصلاة مطلقاً ونهي عن دفن الميت. وما ذكره الحنابلة هنا قوي، لكن الذي يضعفه أن صلاة الجنازة من ذوات الأسباب وسيأتي ترجيح جواز صلاة ذوات الأسباب في أوقات النهي. فالحنابلة: استثنوا صلاة الطواف وإعادة الجماعة وصلاة الجنازة، كلها على سبيل الإطلاق سوى صلاة الجنازة فإنها تستثنى من ذلك أوقات النهي الثلاث. " ويحرم التطوع بعدها " كصلاة الوضوء وتحية المسجد وصلاة الجنازة في المشهور من المذهب وصلاة الاستخارة فهذه تحرم في شيء من الأوقات الخمسة، حتى ما كان له سبب فإنه ينهى عنه، وهذا هو المشهور في المذهب. واستدلوا: بحديث: (لا صلاة بعد العصر) (لا صلاة بعد الفجر) فهذا يدل على النهي مطلقاً فيدخل في ذلك الفرائض والنوافل إلا ما ورد استثناؤه من إعادة الجماعة وركعتي الطواف ومن صلاة الجنازة. - وذهب الإمام أحمد في إحدى الروايتين عنه خلافاً للرواية المشهورة عنه، واختارها كثير من أصحابه كابن عقيل وأبي الخطاب وهي ظاهر كلام الموفق في كتاب الكافي واختارها ابن تيمية وابن القيم وهي مذهب الشافعية: أن الصلوات التي لها سبب جائزة في أوقات النهي كتحية المسجد وسنة الوضوء وغيرها من التطوعات. والمنهي عنه التطوع المطلق الابتدائي الذي يفعله العبد من غير أن يكون له سبب.

قالوا: لثبوت الأحاديث فيها فقد قال - صلى الله عليه وسلم -: (إذا دخل أحدكم المسجد فلا يجلس حتى يصلي ركعتين) فهذا عام فمتى دخل المسجد في وقت نهي أو غيره فيصلي ركعتين. فإن قيل: كذلك حديث: (لا صلاة بعد العصر) حديث عام. فالجواب: الأول حديث عام محكم لا تخصيص له. وأما الثاني فهو حديث عام مخصص، ولا شك أن العام المحكم أرجح من العام المخصص. واستدلوا: بصلاة الكسوف في قوله - صلى الله عليه وسلم -: (وإذا رأيتموهما فصلوا) فالنبي - صلى الله عليه وسلم - ربط الصلاة بسبب يثبت في وقت النهي وغيره وهو رؤية خسوف الشمس أو كسوف القمر. وأما سنة الوضوء فإقرار النبي - صلى الله عليه وسلم - لبلال في قوله: (لم أتطهر طهوراً في أي ساعة من ليل أو نهار إلا صليت لذلك الطهور ما كتب لي أن أصلي) قالوا: والرابط بين هذه الصلوات التي ذكرناه والتي ذكرتموها أنتم - التي يجوز أن تصلي في وقت النهي - الربط بينهما أنها صلوات ذات أسباب والشارع لا يفرق بين المتماثلات فما كان مثيلاً لها من الصلوات ذات الأسباب كصلاة الاستخارة مما يخاف فوته، ونحو ذلك. قالوا: ويدل على ذلك أن الصلاة ذات السبب ليس العبد متحرياً لها متقصداً لها بل قد فعلها لثبوت سنيتها بخلاف التنفل المطلق، إن العبد يفعله ابتداء من غير سبق سبب، وقد قال - صلى الله عليه وسلم -: (لا تتحروا بصلاتكم طلوع الشمس ولا غروبها) متفق عليه من حديث ابن عمر. ويدل عليه حديث عمرو بن عبسة فإن ظاهره في التطوع المطلق في قوله: (ثم صل) والظاهر أن غالبه من باب التطوع المطلق. وهذا هو الراجح. ومن ذلك قضاء النوافل، فهو منهي عنه عند الحنابلة لكونه ليس مما تقدم ذكره. والحديث يرد عليه، فقد صح أن النبي - صلى الله عليه وسلم - في حديث أم سلمة المتفق عليه شغل عن صلاة الظهر فصلاها بعد العصر، ولعموم حديث: (من نام عن صلاة أو نسيها فليصلها إذا ذكرها) .

وقد أقَّر النبي - صلى الله عليه وسلم - فيما رواه الترمذي وغيره فيمن صلى الركعتين بعد الفجر وهو وقت النهي. فالراجح مذهب الشافعية من أن الصلوات لا ينهى عنها إلا ما كان لا سبب له، وهو التطوع المطلق. والحمد لله رب العالمين. باب: صلاة الجماعة صلاة الجماعة مشروعة، ومن أدلة مشروعيتها ما ثبت في الصحيحين عن ابن عمر أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (صلاة الجماعة أفضل من صلاة الفذ بسبع وعشرين درجة) ، وفي الصحيحين من حديث أبي هريرة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (تفضل صلاة الجميع على صلاة الرجل وحده خمساً وعشرين درجة) . وفي البخاري: (وذلك أنه إذا توضأ فأحسن الوضوء ثم خرج إلى المسجد لا يخرج إلا للصلاة لم يخط خطوة إلا رفعت له بها درجة وحط عنه بها خطيئة، فإذا صلى لم تزل الملائكة تصلي عليه ما دام في مصلاه: اللهم صل عليه اللهم ارحمه، ولا يزال أحدكم في صلاة ما انتظر الصلاة) . وفي المسند وأبي داود والنسائي أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (صلاة الرجل مع الرجل أزكى من صلاته وحده وصلاته مع الرجلين أزكى من صلاته مع الرجل، وما أكثر فهو أحب إلى الله) وهو حديث صحيح. وهو ما كان عليه النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه - رضي الله عنهم -، وما كان يتخلف عنها – كما قال ابن مسعود – إلا رجل معلوم النفاق. قال المؤلف رحمه الله: (تلزم الرجال) " تلزم ": أي تجب عيناً " الرجال ": أي تجب على الرجال عيناً، فهي واجب عيني. هذا هو المشهور في مذهب الحنابلة وهو مذهب أكثر السلف كما قال ذلك شيخ الإسلام وهو مذهب طوائف كثيرة من أهل الحديث، كابن حبان وابن خزيمة والإمام البخاري وغيرهم من أهل العلم. وذهب الشافعية إلى أنها فرض كفاية. وذهب المالكية والأحناف إلى أنها سنة مؤكدة. والصحيح ما ذهب إليه الحنابلة وأكثر السلف على القول به وأدلة ذلك كثيرة.

وفمن ذلك ما ثبت في الصحيحين أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (لقد هممت أن آمر بحطب فيحتطب ثم آمر بالصلاة فيؤذن لها ثم آمر رجلاً فيؤم الناس ثم أخالف إلى قوم لا يشهدو الصلاة – في مسند أحمد: لا يشهدون الصلاة في الجميع، وفي أبي داود: يصلون في بيوتهم - فأحرق عليهم بيوتهم، والذي نفسي بيده لو يعلم أحدهم أنه يجد عرقاً سميناً " أي عظماً ذا لحم " أو مرماتين حسنتين " المرماة: هي اللحم بين أظلاف الشاة أي أظافرها " لشهد العشاء) . وثبت في صحيح مسلم أن النبي - صلى الله عليه وسلم -: (أتاه رجل أعمى فقال: يا رسول الله إني لا أجد قائداً يقودني، فرخص له فلما ولى دعاه فقال: أتسمع النداء؟ قال: نعم قال: فأجب) والأمر للوجوب. وفي أبي داود بإسناد صحيح أن ابن أم مكتوم قال للنبي - صلى الله عليه وسلم -: (يا رسول الله إني رجل ضرير البصر شاسع الدار ولي قائد لا يلائمني فهل لي رخصة في أن أصلي في بيتي؟ فقال له النبي - صلى الله عليه وسلم -: أتسمع النداء؟ قال: نعم قال: لا أجد لك رخصة) . وثبت في الصحيحين أن النبي - صلى الله عليه وسلم - - من حديث مالك بن الحويرث - قال: (ليؤذن لكم أحدكم وليؤمكم أكبركم) فهذه الأحاديث تدل على فرضيتها على الأعيان. واستدل من قال بسنيتها: بحديث ابن عمر المتقدم وفيه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (صلاة الجماعة أفضل من صلاة الفذ بسبع وعشرين درجة) . قالوا: فهذا الحديث يدل على أن صلاة الفذ فيها ثواب وأجر وفضيلة، فلو كانت محرمة لم يثبت فيها ذلك. وهذا استدلال ضعيف، فإن ثبوت الفضل لا ينافي ثبوت الإثم فهي صلاة فيها فضل من جهة: لكونها صلاة مؤداة، لكنه آثم من جهة أخرى لكونه قد صلاها ناقصة نقصاً يجلب له الإثم وتوقعه بالتحريم.

بل الأحاديث التي تقدم ذكرها منها ما يدل على أن ترك الصلاة جماعة من كبائر الذنوب كما استدل على ذلك ابن القيم في حديث: (فأحرق عليهم بيوتهم) فهذا الحديث ظاهر أن ترك الصلاة جماعة من كبائر الذنوب. والحديث الذي تقدم، وهو حديث أبي هريرة في رواية البخاري منه، فيها أن الثواب المذكور وهو أن يكون له سبع وعشرون درجة أو خمس وعشرون درجة كما في حديث أبي هريرة ظاهره أن ذلك إن صلاها في المسجد لا في الجماعة مطلقاً فقد قال: (ثم خرج إلى المسجد لا يخرج إلا للصلاة) فشرط في ذلك حضور الصلاة في المسجد. والظاهر أن الثواب المضاعف في صلاة الجماعة ليس ثابتاً له على هذه الهيئة إلا إذا حضرها في المسجد. فالراجح مذهب الحنابلة من أن صلاة الجماعة واجب عيني، وأن من صلى في بيته فهو مثاب على صلاته لكنه آثم لكونها لم تكن في جماعة. وقد ثبت في أبي داود والنسائي بإسناد صحيح أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (ما من ثلاثة في قرية ولا بدو لا تقام فيهم الصلاة إلا قد استحوذ عليهم الشيطان، فعليك بالجماعة فإنما يأكل الذئب القاصية) . لكن هذه الفريضة مخصوصة بالرجال دون النساء، لذا قال المؤلف " تلزم الرجال " أما النساء فلا تجب عليهن الصلاة جماعة باتفاق أهل العلم لقوله - صلى الله عليه وسلم -: (لا تمنعوا إماء الله مساجد الله وبيوتهن خير لهن) .

بل صلاتها في بيتها أفضل من صلاتها في مسجد قومها بل في مسجد النبي - صلى الله عليه وسلم -، بل كلما صلت فيما هو أستر من بيتها كلما كان أفضل، وقد قال - صلى الله عليه وسلم - كما في مسند أحمد بإسناد جيد قال لأم حميد الساعدي، وقد قالت: (إني أحب الصلاة معك، فقال: قد علمت أنك تحبين الصلاة معي، فصلاتك في بيتك أفضل من صلاتك في حجرتك " والبيت هنا أستر من الحجرة فهي الغرفة التي تكون داخل الحجرة " وصلاتك في حجرتك أفضل من صلاتك في دارك، وصلاتك في دارك أفضل من صلاتك في مسجد قومك، وصلاتك في مسجد قومك أفضل من صلاتك في مسجدي) . وفيه أن صلاة المرأة في بيتها بل فيما يكون من الغرف الداخلية في بيتها أفضل من صلاتها في مسجد النبي - صلى الله عليه وسلم - أو أفضل من الصلاة في الحرم المكي. فصلاتها في البيت أفضل من صلاتها في المسجد لكنها لا تمنع من ذلك لنهي النبي - صلى الله عليه وسلم - إلا أن يخشى فتنة أو ضرر فينهى عن ذلك للفتنة والضرر من باب تقديم درء المفاسد على جلب المصالح. قال: (لا شرطاً) أي ليست الجماعة شرطاً لصحة الصلاة فلو صلى في بيته فصلاته صحيحة لكنه قد فوت على نفسه أجراً كثيراً وألحق نفسه إثماً عظيماً. ودليل ذلك حديث ابن عمر وحديث أبي هريرة المتقدمان: (صلاة الرجل جماعة أفضل من صلاة الفذ بسبع وعشرين درجة) وحديث أبي هريرة: (تفضل صلاة الجميع على صلاة الرجل وحده خمساً وعشرين درجة) . فهذان يدلان على ثبوت الفضل والأجر والثواب على صلاته في بيته فثبوت ذلك يدل على التصحيح، إذ إثبات الأجر فرع التصحيح فلا أجر إلا مع الصحة. هذا هو المشهور في مذهب الإمام أحمد واختيار جماهير أصحابه. وذهب طائفة من أصحابه وهو رواية عنه وهو مذهب الظاهرية: إلى أن الجماعة شرط في صحة الصلاة وعليه فلو صلى فرداً بلا عذر فصلاته باطلة.

واستدلوا بما رواه ابن ماجه وابن حبان والحاكم والدارقطني وغيرهم والحديث ثابت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: (من سمع النداء فلم يجب فلا صلاة له إلا من عذر) . والحديث صحيح مرفوعاً وموقوفاً إلى ابن عباس. وثبت موقوفاً إلى أبي موسى في سنن البيهقي بإسناد صحيح. قالوا: فهذا الحديث فيه نفي الصلاة والأصل في النفي نفي الذات ثم نفي الصحة ثم نفي الكمال فلما امتنع نفي الذات لأن الصلاة قد توجد من بعض المكلفين بقي نفي الصحة مقدماً على نفي الكمال، أي لا صلاة صحيحة فهي صلاة باطلة. والراجح: ليست بشرط بدليل إثبات الفضل في صلاة الفذ، فإن صلاة الفذ فيها فضل، فثبوت الفضل فيها يدل على صحتها ومن هنا وجب أن ينصرف إلى الاحتمال الثالث في تفسير الحديث المتقدم، وهو أن يكون المعنى لا صلاة كاملة فلا صلاة كاملة لمن سمع النداء فلم يجب. إلا أن كان معذوراً فصلاته كاملة وله الأجر واف لحديث: (أن العبد إذا مرض أو سافر كتب له ما كان يعمله صحيحاً مقيماً) رواه البخاري. وهل يجب أن تصلى الجماعة في المسجد أم له أن يصليها في بيته؟ روايتان عن الإمام أحمد: الرواية الأولى، وهي الرواية المشهورة: أن له أن يصليها في بيته، فإذا صلى في البيت جماعة فلا إثم والصلاة صحيحة. واستدلوا: بما ثبت في الصحيحين أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (وجعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً فأيما رجل من أمتي أدركته الصلاة فعنده مسجده وطهوره) . قالوا: فهذا يدل على أن أي بقعة صلى فيها العبد فصلاته مقبولة سواء كانت المساجد أو غيرها. والرواية الثانية، وهي اختيار شيخ الإسلام وتلميذه ابن القيم: وجوب صلاة الجماعة في المساجد. وهذا القول الراجح، لما تقدم من الأحاديث من قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: (أتسمع النداء؟ قال: نعم قال: فأجب) والنداء إنما يكون في الأصل في المساجد.

ولقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: (ثم أخالف إلى قوم لا يشهدون الصلاة في الجميع) أي لا يشهدون الصلاة معه مع أنه يحتمل [أنهم] كانوا يصلون في بيوتهم جماعة، وكذلك حديث الأعمى: (أتسمع النداء؟ قال: نعم. قال: لا أجد لك رخصة) . وأما الجواب عما ذكروه فيقال: هو حديث عام وإنما ذكره النبي - صلى الله عليه وسلم - لبيان فضيلة هذه الأمة على سائر الأمم من أن الصلاة ليست مخصوصة بمواضع، بل هي عامة في المساجد وغيرها ولا يعني ذلك أنه مع سماع النداء لا يحضره ولا يجيبه فيصلي في بيته جماعة وغيره، لا يدل على هذا. وقد تقدمت الأحاديث وهي تدل على وجوب الإجابة فهو حديث عام مخصص بها. فيكون للعبد أن يصلي في أي بقعة شاء إلا أن يسمع نداء فيجب عليه أن يجيب نداء الله في المساجد فالراجح إحدى الروايتين عن الإمام أحمد وهي غير المشهور عنه وهو اختيار شيخ الإسلام وتلميذه ابن القيم: وجوب صلاة الجماعة في المسجد ولا يثبت الثواب المذكور إلا بذلك. والله أعلم. قال: (وله فعلها في بيته) هذا على المشهور في المذهب وقد تقدم ترجيح خلافه. قال: (ويستحب صلاة أهل الثغر في مسجد واحد) الذين يكونون على مواضع المخافة وهي الثغور الإسلامية التي تكون في حدود المسلمين مع الكفار ويخشى أن يتطرق إليها العدو فينبغي لهم أن يصلوا في مسجد واحد لأنه أهيب للعدو وأجمع للكلمة وأسرع للرأي وأسهل للمشورة ونحو ذلك من المصالح. قال: (والأفضل لغيرهم في المسجد الذي لا تقام فيه الجماعة إلا بحضوره) مثلاً كأن يحتاج لأن يكون إماماً، لما فيه من مصلحة عمارة المسجد وإقامة الجماعة وإعانة المكلفين على القيام بالواجب عليهم، فهذه مصالح ترجح على ما سيذكره المؤلف بعد ذلك. قال: (ثم ما كان أكثر جماعة)

فإذا كثرت الجماعة في المسجد وكان أكثر من غيره، فالصلاة فيه أفضل لحديث (صلاة الرجل مع الرجل أزكى من صلاته وحده وصلاته مع الرجلين أزكى من صلاته مع الرجل وما كان أكثر فهو أحب إلى الله) . قال: (ثم المسجد العتيق) لسبق الطاعة فيه. والمشهور عند الحنابلة تقديمه على الأكثر جماعة خلافاً لما ذكره المؤلف هنا، وهو قول لبعض الحنابلة. وفضيلة المسجد العتيق تحتاج إلى دليل شرعي ولا دليل يدل على ذلك، فكونه عتيقاً لا يستفاد أنه أفضل من غيره لا سيما ما نص النبي - صلى الله عليه وسلم - على تفضيله في قوله: (وما كان أكثر فهو أحب إلى الله) . قال: (وأبعد أولى من أقرب) فالأبعد من المساجد أولى من الأقرب لما فيه من كثرة الخطا إلى المساجد وقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: (أعظم الناس أجراً في الصلاة أبعدهم ممشى فأبعدهم) . وقال النبي - صلى الله عليه وسلم - لبني سلمة وقد أرادوا أن يتركوا منازلهم وينزلوا قريباً من المسجد قال: (يا بني سلمة دياركم تكتب آثاركم) . وما ذكروه من الأدلة صحيح لكن الاستدلال به فيه نظر. أما كونه يدل على فضيلة من كان يأتي إلى المساجد وبيته بعيد والآثار له تكتب وأنه أعظم الناس أجراً في الصلاة فنعم. وأما كونه يدل على ترك المسجد الأقرب إلى مسجد أبعد فإن الصحابة لم يكونوا يتكلفون ذلك، ولم يرد أن أحداً منهم ممن كان قريباً إلى المسجد تكلف البعد عنه لينال ذلك الثواب المذكور بل هذا الحديث فيه ترغيب من كان بعيداً عن المسجد أن يحضر إلى المساجد وأن يشهد الجماعة مع بعد منزله. ولا يدل على أنه يشرع تكلف ذلك وترك المساجد القريبة إلى مساجد بعيدة، كيف وقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم - فيما رواه الطبراني في الكبير والأوسط بإسناد جيد: (ليصل أحدكم في المسجد الذي يليه ولا يتبَّع المساجد) .

فالراجح: أن المستحب له مطلقاً أن يصلي في المسجد الذي يليه لا سيما إن كان هذا المسجد لا تقام الجماعة إلا بحضوره، هذا هو الأفضل له. فإن وافق ذلك أن هذا المسجد أكثر جماعة أو أنه بعيد عن منزله فإنه له فضيلة أخرى زائدة على الفضيلة المتقدمة. نعم، في مسألة الاختيار هذا حسن: كأن يختار – عندما يرتاد منزلاً – محلاً فيه مسجد كبير ويرتاده الناس أكثر من غيره فينزل بهذا أصلاً من غير أن ينتقل بمنزله. وأما أن يتكلف ذلك فلا؛ لأن السنة دلت على فضيلة هذه الأشياء مع وجودها من غير أن يحدث من المكلف تتبع لها: (ليصل أحدكم في المسجد الذي يليه ولا يتبع المساجد) إذن: المشهور عند الحنابلة: أن المسجد الذي لا تقام فيه الجماعة إلا بحضوره وهذا راجح ثم ما كان أكثر جماعة، - والمشهور تفضيل المسجد العتيق على ما كان أكثر جماعة - ثم ما كان عتيقاً، والأبعد أولى من الأقرب، وتقدم أنه لا يشرع تتبع المساجد. والحمد لله رب العالمين قال المؤلف رحمه الله: (ويحرم أن يؤم في مسجد قبل إمامه الراتب إلا بإذنه أو عذره) يحرم على المصلي أن يؤم في مسجد من المساجد قبل إمامه الراتب المعين لهذا المسجد، إلا بإذنه أو عذره. وأصل النهي ما ثبت في مسلم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (لا يؤمن الرجل الرجل في سلطانه ولا يجلس على تكرمته إلا بإذنه) والمسجد سلطانه إمامه الراتب. قوله: (أو عذره) أي ثبت عذر للإمام منعه من إمامة الناس فإنه يجوز أن يصلي بالناس غيره، فإذا ثبت له عذر وخشي المصلون فوات الوقت جاز لهم أن يقدموا غيره. ومثل ذلك لو ظن عدم حضوره ظناً غالباً فالحكم كذلك فيجوز أن يتقدم غيره. ومثل ذلك إن ظن حضوره لكن علم أنه لا يكره ذلك فهو حقه وهذا يكون بمعنى الإذن.

والأظهر أيضاً أنه متى ثبت الوقت المستحب المعتاد ولم يحضر الإمام جاز لهم أن يقدموا غيره لمصلحة المأمومين لئلا تلحقهم المشقة في انتظاره، ولمصلحة الصلاة في وقتها المستحب، يدل على ذلك ما ثبت في مسلم: (أن عبد الرحمن بن عوف صلى بالصحابة في غزوة تبوك وقد تأخر النبي - صلى الله عليه وسلم - عن حضور الصلاة فلما صلى وراء عبد الرحمن وقضى ما فاته من الصلاة قال: أحسنتم أو قال: أصبتم، يغبطهم أن صلوا الصلاة لوقتها) . وثبت في الصحيحين أن النبي - صلى الله عليه وسلم -: (ذهب ليصلح بين بني عمرو بن عوف وحانت الصلاة فجاء المؤذن إلى أبي بكر الصديق فقال: أتصلي بالناس فأقيم؟ فقال: نعم، فصلى أبو بكر ثم أتى النبي - صلى الله عليه وسلم - فتأخر أبو بكر فأشار إليه النبي - صلى الله عليه وسلم - بالثبات فتأخر وتقدم النبي - صلى الله عليه وسلم -) – الحديث – وفيه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال له: (يا أبا بكر ما منعك أن تثبت) وفيه أنه قال: (وحانت الصلاة) فظاهره أن ذلك وقتها المستحب. فالأظهر أن حق الإمام يزول بحضور الوقت المعتاد والمستحب لئلا يلحق المأمومين المشقة في انتظاره وهذا من باب ترجيح المصلحة العامة على المصلحة الخاصة. تقدم أنه لا يجوز أن يصلي إلا بإذنه، فإن صلى بغير إذنه فهل تصح الصلاة أم لا؟ قولان في المذهب: - أظهرهما الصحة مع التحريم. أما دليل من أبطلها فللنهي والنهي يقتضي الفساد. وأما دليل من صححها فلأنها صلاة قد ثبتت فيها شروطها وأركانها واجباتها الشرعية وهذا الأمر خارج عنها فلا يؤثر فيها بطلاناً – هذا هو القول الراجح. قال: (ومن صلى ثم أقيم فرضٌ سن له أن يعيدها إلا المغرب)

من صلى الفرض في جماعة أو منفرداً – هذا هو ظاهر إطلاقه وهو المذهب – ثم أقيم فرض من قبل مؤذن في مسجد - ولم يقيده المؤلف هنا بالمسجد، وقيده الشارح وغيره وهو قيد دل عليه الحديث – سن واستحب أن يعيد الصلاة إلا المغرب. فالمسألة: أنه إذا صلى منفرداً أو في جماعة ثم أقيمت الصلاة في مسجد آخر سن له أن يعيد الصلاة إلا المغرب فلا يسن له أن يعيدها – هذا المشهور في المذهب – وهنا مسائل: 1- المسألة الأولى: أن ظاهر إطلاق المؤلف هنا أن من صلى منفرداً أو جماعة أنه يشرع له أن يعيد الصلاة التي أقيمت وهذا هو ظاهر إطلاق النبي - صلى الله عليه وسلم - في قوله: (لا تفعلا إذا صليتما في رحالكما ثم أتيتما مسجد جماعة فصليا معه تكن لكما نافلة) فقوله: (إذا صليتما في رحالكما) فيحتمل أن يكون ذلك جماعة ويحتمل أن يكون فراداً، وترك الاستفصال في مقام الاحتمال ينزل منزلة العموم في المقال – كما هي القاعدة الأصولية – كما أن هذا اللفظ ظاهره الإطلاق. وهذا هو المشهور في المذهب. 2-المسألة الثانية: أن يكون ذلك المسجد الذي أقيم الفرض فيه مسجد جماعة، لظاهر الخبر فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (ثم أتيتما مسجد جماعة) وعليه فإنه إذا أقيمت الصلاة في غير مسجد جماعة فهذا الحديث لا يرد فيه. المسألة الثالثة: عن قوله (سن) هذا هو المشهور في المذهب وأن ذلك سنة. وعن الإمام أحمد: أنها تجب مع الإمام الراتب. وعنه: أنها تجب مطلقاً – وهذا هو الأظهر – وأقربها إلى ظاهر الحديث، فإنه قد أمر بذلك، وأنكر ذلك على الصحابيين الذين حضرا معه وأمرهما بأن يصليا إذا حضرا في مسجد جماعة في قوله: (لا تفعلا) وهذا نهي وهو للتحريم، ثم قال: (إذا صليتما في رحالكما ثم أتيتما مسجد جماعة فصليا معه تكن لكما نافلة) وهذا أمر وهو للوجوب. وهذا القول أظهر وهو رواية عن الإمام أحمد.

ولا شك أن تركه للصلاة مع إقامتها في مسجد جماعة مظنة سوء الظن فيه فلئلا يتطرق إليه الظن السيء بأنه لا يصلي أو نحو ذلك شرع مثل هذا، وهذه علة مستنبطة لا مانع أن تكون العلة سواها، لكن الحديث ظاهر في الوجوب. المسألة الرابعة: وهي أن هذه الصلاة التي صلاها في جماعة أو فرادى هي الفرض بالنسبة له، والجماعة الثانية نافلة. فالأولى فرض، والثانية نافلة. يدل عليه حديث: (تكن لكما نافلة) ، ولما ثبت في مسلم من حديث أبي ذر أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: في أمراء السوء الذين يؤخرون الصلاة عن وقتها قال: (صلوا الصلاة لوقتها ثم اجعلوا صلاتكم معهم نافلة) . وفي قوله: (إلا المغرب) : هذا المشهور في المذهب وهي الرواية الشهيرة عن الإمام أحمد: وأن المغرب لا يشرع فيها هذا الحكم؛ وذلك لأنه لا يشرع من الصلوات وتر إلا الوتر، وكونه يصلي مع الإمام ثلاث ركعات تكون له وتراً ولا يشرع له الوتر إلا في صلاة الوتر. وعن الإمام أحمد: أنه يصليها مع الإمام ثم يشفعها رابعة لتكون صلاته شفعاً. والقول الثالث، وهو وجه عند الحنابلة وهو مذهب الشافعية وهو القول الراجح في هذه المسألة: أنه يصليها وراء الإمام وتراً كما يصليها الإمام، لظاهر الحديث فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمره أن يصلي معه وظاهر ذلك أنه يصليها كما يصليها الإمام بعدد ركعاتها. ثم على القول بأن العلة هي مظنة إساءة الظن به فإن ذلك لا يزول إلا بأن يصليها وراء الإمام كما صلاها الإمام. فالراجح: أنه يصليها وراء الإمام – وحينئذ – تكون مستثناة مما تقدم، فحينئذ لا يشرع الوتر بالتطوع سوى الوتر وإعادة الجماعة إن وافقت المغرب لأن الحديث صالح الاستثناء. فالراجح في هذه المسألة بعمومها: أنه يجب على المصلي إذا صلى في جماعة أو منفرداً ثم أتى مسجد جماعة فيجب عليه أن يصلي معهم وتكون له نافلة وهو عام في الصلوات كلها حتى المغرب.

قال: (ولا تكره إعادة الجماعة في غير مسجدي مكة والمدينة) إذا صلى في مسجد إمامه الراتب، ثم حضر بعدهم جماعة فهل يشرع لهم أن يصلوا جماعة أم لا؟ قولان لأهل العلم: القول الأول: وهو المشهور في مذهب الحنابلة: وهو مشروعية ذلك. القول الثاني: وهو قول جمهور الفقهاء: وهو القول بكراهية ذلك، فيكره أن تعاد الجماعة في مسجد من المساجد التي فيها إمام راتب ويستثنى من ذلك عندهم المساجد المطروقة وهي التي تكون في الأسواق ويطرقها الناس فإن المنع من ذلك يشق، وهي في الغالب ليس لها إمام راتب، لكن مع ثبوت الإمام الراتب فالناس يحتاجون لمرورهم من عندها أن يصلوا جماعة مرة بعد مرة. واستدلوا: بما رواه الطبراني في الأوسط من حديث أبي بكرة الثقفي قال: (جاء النبي - صلى الله عليه وسلم - من ناحية من نواحي المدينة يريد الصلاة فوجد الناس قد صلوا فعاد إلى بيته فجمع أهله فصلى فيهم) . قالوا: فالنبي - صلى الله عليه وسلم - قد ترك الصلاة في المسجد جماعة ورجع إلى أهله فصلى بهم، قالوا: فيدل ذلك على أنه لا يشرع له أن يصلي في المسجد جماعة. واستدلوا بما رواه ابن أبي شيبة في مصنفه عن الحسن البصري قال: (كان أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا أتوا إلى المسجد وقد صلى فيه صلوا فرادى) قالوا: فهذا فعل الصحابة. قالوا: ولأن هذا ذريعة إلى البغضاء والعدوان بين هؤلاء وبين إمامهم، ولأن ذلك يورث تهاوناً لحضور الجماعة الأولى. وأما الحنابلة: فاستدلوا بما ثبت في مسند أحمد وسنن أبي داود والترمذي أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال – والحديث صحيح -: (ألا رجل يتصدق مع هذا فيصلي معه) قالوا فهذه جماعة. واستدلوا: بحديث ابن عمر المتقدم وحديث أبي سعيد.

ولفظ حديث ابن عمر: (صلاة الجماعة أفضل من صلاة الفذ بسبع وعشرين درجة) قالوا: فهذه صلاة جماعة وتلك صلاة فردية وصلاة الجماعة أفضل وهذا الحديث عام في فضليتها مطلقاً. قالوا: وروى البخاري في صحيحه معلقاً ووصله البيهقي وأبو يعلى الموصلي بإسناد صحيح: أن أنس بن مالك: (أتى إلى مسجد قد صلى فيه فأذن وأقام ثم صلى جماعة) ، وفي البيهقي " في عشرين من فتيانه "، وهو أثر صحيح عن أنس بن مالك. واستدل الجمهور أيضاً بأثر رواه الطبراني في الأوسط والكبير بإسناد جيد: (أن ابن مسعود أقبل ومعه الأسود وعلقمة إلى المسجد فاستقبلهم الناس وهم خارجون من المسجد فرجع إلى بيته وجعل أحدهما عن يمينه والآخر عن شماله) أي فصلى بهم. قالوا: وهذا يدل على أنه لا يشرع أن يصلي في المسجد جماعة، إذا لو كانت مشروعة لصلى ابن مسعود بمن معه في المسجد. ومع ذلك فقد ذكر الحنابلة ولم أره معزواً عندهم في قولهم هذا أنه قول ابن مسعود. ولا يبعد هذا، فإن ما ذكره الجمهور من أثر ابن مسعود ليس صريحاً في هذه المسألة، فإن ابن مسعود أتى ومعه صاحباه وقد صلي في المسجد فرجع فصلى في بيته، ولا مانع أن يكون ابن مسعود امتنع عن الصلاة جماعة في المسجد خشية الفتنة، إما أن يكون هناك سلطان فيخشى الفتنة وأنه تقصد التأخر عن الصلاة فيه. ويحتمل أنه يرى أن حينئذ لا فرق بين الصلاة في المسجد والصلاة في البيت، فصلى بهم جماعة ولم يقصد المسجد لأنه لا فرق بينهما، فليس صريحاً عن ابن مسعود، بخلاف أثر أنس بن مالك فإنه صريح في ذلك. وأما ما ذكروه من حديث أبي بكرة، ففيه الوليد بن مسلم وهو مدلس وقد عنعنه، وفيه علة أخرى وهو أنه من رواية معاوية بن يحيى وهو مختلف فيه توثيقاً وتضعيفاً، وله مناكير وقد ذكر ابن عدي والذهبي هذا الحديث من مناكيره.

على أن الحديث ليس صريحاً في هذه المسألة فغايته أن النبي - صلى الله عليه وسلم - رجع إلى بيته ولم يصل في المسجد، فيستفاد منه أنه إذا صلى في المسجد فلا فرق بين أن يصلي في المسجد جماعة أو في بيته جماعة. وما ذكروه من أثر الحسن البصري في ابن أبي شيبة فالأثر ضعيف لأن فيه أبا هلال الراسبي وهو ضعيف. ثم إنه قد ورد في رواية لابن أبي شيبة قال: (كانوا يكرهون أنه يجتمعوا مخافة السلطان) أي لئلا يظن أنهم يقصدوا عدم الصلاة خلفه. وما ذهب إليه الحنابلة أرجح لصحة الأدلة. إلا أن ما ذكره الجمهور مما يقع في الصلاة جماعة من إثارة الفتنة ونحو ذلك هذا – في الحقيقة – فيه قوة، لكنه لا يقوى على رد ما تقدم ومع ذلك فإن المخرج منه أن يقال: إن صلاة الجماعة الأولى صلاة واجبة لا يعذر المكلف بالتخلف عنها، فهى الجماعة الواجبة أصلاً لكن إن تخلف عنها بعذر جاز له أن يصلي جماعة. أما إذا كان متقصداً التخلف فإنه يكون آثماً لتركه الواجب لكن الجماعة الأخرى تصح منه. إذن: الراجح ما ذهب إليه الحنابلة من أن إعادة الجماعة ليست بمكروهة بل هي مشروعة بل هي واجبة؛ لأن الصلاة في الجماعة واجب. وقول المؤلف: (ولا يكره) لا يعني ذلك أنه مباح وإنما أراد دفع القول بالكراهية لكن يبقى الحكم على الوجوب كما تقدم. وأما قوله: (غير مسجدي مكة والمدينة) : هذا في المشهور من المذهب. وعن الإمام أحمد أيضاً: والمسجد الأقصى؛ تعظيماً لهذه المساجد أن يتخلف عن جماعتها الأولى. فكره الإمام أحمد أن يصلي في هذه المساجد الثلاثة الجماعة للمتخلفين، فلا يشرع لهم أن يصلوا جماعة في هذه المساجد إلا أن يكونوا معذورين كمن أتوا من سفر أو غيره. وعن الإمام أحمد: أن هذه المساجد كغيرها من المساجد لا فرق، وهو القول الراجح.

لأن قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: (ألا رجل يتصدق على هذا فيصلي معه) قد قاله - صلى الله عليه وسلم - في المدينة وقضية العذر واردة في المسألتين كلتيهما، لكن مع البقاء على القول بمشروعية الجماعة. أما كونه غير معذور فإن هذا يلحقه إثماً لتخلفه عن الجماعة الأولى لكن مع ذلك يحق أن يصلي جماعة. فعلى ذلك: يشرع أن تعاد الجماعة في المساجد كلها لعذر أو غير عذر بل يجب ذلك لكن من كان غير معذور فإن الإثم يلحقه لتخلفه عن حضور الصلاة جماعة. والحمد لله رب العالمين قال المؤلف رحمه الله: (وإذا أقيمت الصلاة فلا صلاة إلا المكتوبة فإن كان في نافلة أتمها، إلا أن يخشى فوات الجماعة فيقطعها) . فإذا أقيمت الصلاة أي شرع المؤذن في الإقامة، فلا صلاة مبتدأة المكتوبة. فإذا سمع المقيم قد شرع في الإقامة فليس له أن يشرع بعد في صلاة مطلقاً، سواء كانت هذه الصلاة نفلاً مطلقاً أو كانت تنفلاً مقيداً من الرواتب أو غيرها سواء كان قد سمعه في بيته – والمراد وهو يحضر المساجد ويصلي فيها – أو كان ذلك في المسجد، فليس له أن يشرع، فإذا فعل ذلك فالصلاة باطلة. ودليله: ما في مسلم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال من حديث أبي هريرة: (إذا أقيمت الصلاة فلا صلاة إلا المكتوبة) وثبت في الصحيحين عن ابن بحينة – وهذا لفظ مسلم – قال: (أقيمت الصلاة فرأى النبي - صلى الله عليه وسلم - رجلاً يصلي والمؤذن يقيم فقال: أتصلي الصبح أربعاً) فقد أنكر النبي - صلى الله عليه وسلم - الصلاة بعد الإقامة، وعن عبد الله بن سرجس - رضي الله عنه - قال: (دخل رجل المسجد والنبي في صلاة الغداة فصلى ركعتين في جانب المسجد، فلما سلم النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: يا فلان بأي الصلاتين اعتددت بصلاتك وحدك أم بصلاتك معنا) رواه مسلم.

وضابط الشروع في الإقامة أن يشرع فيها الإقامة بقول: (الله أكبر …) وقد ثبت التصريح بهذا في ابن حبان: (إذا أخذ المؤذن في الإقامة فلا صلاة إلا المكتوبة) هذا هو تقرير المذهب، فليس لأحد إذا شرع المؤذن بالإقامة ليس له أن يبتدأ صلاة مطلقاً سواء كانت تنفلاً مطلقاً أو من الرواتب. واستثنى بعض العلماء: ركعتي الفجر، واستدلوا برواية للبيهقي أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (إذا أقيمت الصلاة فلا صلاة إلا المكتوبة إلا ركعتي الفجر) . لكن هذه الزيادة لم تصح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وإسنادها لا يثبت وحديث عبد الله بن سرجس في مسلم يرد ذلك. فكل الصلوات لا يجوز الشروع فيها بعد الإقامة. أما إذا كان قد شرع في صلاة قبيل الإقامة ثم أقيمت الصلاة فما الحكم؟ قال: (فإن كان في نافلة أتمها) حفيفة، كما في مسلم من حديث سليك الغطفاني في حديث ركعتي التحية في يوم الجمعة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال له: (صل ركعتين وتجوز فيهما) فإن كان في نافلة أتمها خفيفة. قالوا: ولا يزيد على ركعتين فإن كان شرع في ثالثة فله – للعذر – أن يسلم ثلاثاً وإن كانوا ينهون عن التطوع بثلاث لكنه للعذر، وله أن يتمها أربعاً، فيجوز له كلا الأمرين. ودليل إتمام النافلة قوله تعالى: {ولا تبطلوا أعمالكم} وهذا عمل قد شرع فيه فلا يبطل. وهذا هو مذهب جمهور الفقهاء من إتمام النافلة المشروع بها قبل الإقامة. وذهب الظاهرية: أنها تبطل، وهو الذي يدل عليه الحديث المتقدم: (إذا أقيمت الصلاة فلا صلاة إلا المكتوبة) فقد قال: (فلا صلاة) وهي نكرة سياق النفي فتفيد العموم أي لا صلاة مطلقاً سواء كانت الصلاة مشروعاً فيها أو كانت مبتدأة قبل ذلك، أي سواء كانت مبتدأة مع الإقامة أو أثناءها أو قبيل الإقامة.

وأما قوله تعالى: {ولا تبطلوا أعمالكم} فإن هذا ليس إبطالاً من المكلف وإنما إبطال من الله عز وجل، فإن الله قد أبطلها بكونه قد أخبر على لسان نبيه - صلى الله عليه وسلم - أنه لا صلاة إذا أقيمت المكتوبة. كما أن حديث ابن بحينة ظاهر في ذلك فإن لفظه (أقيمت الصلاة فرأى النبي - صلى الله عليه وسلم - رجلاً يصلي) والظاهر أنه كان يصلي قبل الإقامة. وعموم الحديث المتقدم كاف في ذلك. وأما جمهور العلماء فإنهم لا يبطلون الصلاة – على تفصيل مختلف فيه بينهم -. (إلا أن يخشى فوات الجماعة) هذا استثناء فهو يتمها خفيفة وإن فاتته تكبيرة الإحرام، وإن فاتته ركعة أو ركعتين ما لم يخش فوات الجماعة لأن الصلاة نفل وحضور الجماعة واجب، فوجب عليه أن يقطع صلاته ليشهد ما وجب عليه من حضور الجماعة فالبقاء على النفل قد عارضه واجب وهو حضور الجماعة فكان عليه ألا يتمها إذا خشي فوات الجماعة. ومذهب الظاهرية: أنه متى ما أقيمت صلاة الإمام بطلت صلاة المأموم، وهذا فيه من المصالح ما فيه من تسوية الصفوف وشهود تكبيرة الإحرام ومتابعة الإمام ونحو ذلك من المصالح. وهذا القول هو الأظهر فهذا تنفل تعارضه المصالح الشرعية من إقامة الصفوف وتسويتها فكان هو المشروع نظراً لمصلحة صلاة الإمام ومن معه. قال: (ومن كبّر قبل سلام إمامه لحق الجماعة) رجل أتى والإمام يصلي وهو في التشهد الثاني فقبل أن يسلم الإمام كبر المأموم فقال: (الله أكبر) فإنه يدرك الجماعة – - هذا هو المشهور في مذهب الحنابلة وهو مذهب الجمهور. واستدلوا بقوله - صلى الله عليه وسلم -: (فما أدركتم فصلوا وما فاتكم فأتموا) وقوله: (فما أدركتم فصلوا) ظاهر ذلك مطلق الإدراك وإن أدرك قدر تكبيرة الإحرام. وذهب المالكية: إلى أنه لا يدركها إلا بإدراك آخر ركوع فيها.

واستدلوا: بما ثبت في الصحيحين أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (من أدرك ركعة من الصلاة فقد أدرك الصلاة) وهذا عام في إدراك الوقت وإدراك صلاة الإمام، ولذا ورد في مسلم لفظ: (من أدرك ركعة من صلاة الإمام فقد أدرك الصلاة) . قالوا: وقد روى النسائي في سننه بإسناد صحيح من حديث أبي هريرة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (من أدرك ركعة من الجمعة فقد أدرك الجمعة) قالوا: ولا يحصل إدراك الجمعة – حتى عند الحنابلة - إلا بإدراك ركعة منها، قالوا: فكذلك غيرها من الصلوات والمعتبر عند الشارع هو الركعة كما تقدم في إدراك الوقت وأما إدراك أي جزء وإن كان بقدر تكبيرة الإحرام فإن هذا لا يعلق به الشارع فالتعليق به غير معتبر. وهذا ما رحجه شيخ الإسلام وهو الراجح: وأن صلاة الإمام إنما تدرك بإدراك الركوع الأخير من صلاته. وأما قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: (فما أدركتم فصلوا) فليس فيه أن من فعل ذلك فقد أدرك صلاة الإمام، وإنما فيه أنه يدخل مع إمامه فيصلي مما أدرك ويتم ما بقى وهو مشروع وسيأتي دليل مشروعيته. ثم إن هذا الحديث عام، والحديث المتقدم يخصصه. وليس معنى ذلك أن من أدرك الإمام قبل أن يسلم يثبت له فضل الجماعة، وهو الذي عليه السنة وأن من أدرك مع الإمام شيئاً من صلاته بل من أتى والإمام قد سلم من صلاته وقد توضأ وأحسن وضوءه وراح إلى المسجد فوجد الناس قد صلوا فإنه يثاب كأجر المصلين مع الإمام. فقد روى أبو داود في سننه بإسناد صحيح أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (من توضأ فأحسن وضوءه ثم راح فوجد الناس قد صلوا أعطاه الله أجر من صلاها وحضرها لا ينقص ذلك من أجرهم شيئاً) . وهذا مثال يتضح فيه الخلاف وفائدته: لو أن رجلاً مسافراً دخل مسجداً - إمامه رجل مقيم - فأدركه في الركوع من الركعة الأخيرة فإنه يجب عليه أن يصلي أربعاً لأنه قد ارتبطت صلاته بصلاة إمامه.

أما إذا أدركه بعد الركوع فهو في حكم المسافر ولم ترتبط صلاته بصلاة إمامه فيصلي ركعتين أي قصراً وله أجر الصلاة كاملاً. والمستحب لمن أتى والإمام على حال أن يصنع كما يصنع الإمام – كما صرح بذلك الحنابلة. وظاهر ذلك وإن رجا حضور جماعة. يدل عليه ما ورد في الترمذي أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (إذا أتى أحدكم والإمام على حال فليصنع كما يصنع الإمام) إسناده ضعيف لكن له شواهد كثيرة يرتقي بها إلى درجة الحسن. قال الترمذي: " وعليه العمل عند أهل العلم " (انظر آخر هذا الدرس) . قال: (وإن لحقه راكعاً دخل معه في الركعة وأجزأته التحريمة) هذه مسألة في بيان أن الركعة تدرك بالركوع وهذا مذهب عامة أهل العلم. ودليل ذلك ما ثبت في سنن أبي داود بإسناد صحيح أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (من أدرك الركوع فقد أدرك الصلاة) والركوع معتبر في إدراك الصلاة. وفي حديث أبي بكرة وفيه: أنه تعجل الركوع مع النبي - صلى الله عليه وسلم - وليس لذلك فائدة إلا إدراك الركعة، وسيأتي ذكر الحديث في موضعه إن شاء الله. فالركعة تدرك بالركوع. والمجزئ من ذلك أن يركع ركوعاً مجزئاً بحيث يصل إلى الركوع المجزئ ووافق إمامه فيه ولو كان هو في الهوي والإمام في الرفع فإذا هوى راكعاً فأمكنه أن يضع راحتيه على ركبته والإمام في مثل هذا الموضع من وضع الراحتين على الركبتين، فوافقه في ذلك وإن كان الإمام في الرفع وهو في الهوي فإنه يدرك بذلك الركعة لإدراك ركوعها. (وأجزأته التحريمة) فعندما يدخل والإمام راكع فيكبر تكبيرة الإحرام وهي ركن، ولا تصح إلا وهو قائم في الفريضة أما النافلة فلا يشترط وهو قائم. ولكن: هل يجزئه تكبيرة الإحرام عن تكبيرة الركوع؟ قال عامة أهل العلم وحكاه الموفق عن ابن عمر وزيد بن ثابت قال: ولا يعلم لهم من الصحابة مخالف،: أن تكبيرة الإحرام تجزئه عن تكبيرة الركوع.

والنظر يدل عليه أيضاً: فإنه قد اجتمع واجبان من جنس واحد في محل واحد فأجزأ أحدهما عن الآخر مع حصول المعنى المقصود من الآخر كما أنه إذا أخر طواف الإفاضة إلى اليوم الثالث عشر فإنه يجزئه عن طواف الوداع لأن المقصود حصل لطواف الإفاضة وكذلك هنا فإن المعنى الذي شرعت له تكبيرة الركوع قد حصل حينئذ وهو الانتقال من ركن القيام إلى ركن الركوع. وظاهر كلام المؤلف أنه تجزئه مطلقاً. لكن استثنى الشارح وهو قول القاضي من الحنابلة: استثنى ما لو نواهما جميعاً. وليتبين ذلك هنا صور: الصورة الأولى: أن يكبر للإحرام بنية الإحرام فإنها تجزئه عن تكبيرة الركوع. الصورة الثانية: أن ينوي بالتكبيرة تكبيرة الركوع ولا ينويها تكبيرة الافتتاح، فإنه لا يجزئه اتفاقاً. الصورة الثالثة: أن يكبر للافتتاح وينويها للركوع فيجمع بينهما بالنية. فما الحكم؟ قال الشارح وهو قول القاضي من الحنابلة: أن ذلك لا يجزئه. وأنكر ذلك الموفق وذكر أن المنصوص عن الإمام أحمد خلاف ذلك وهو مذهب جماهير العلماء وأنه يجزئه. أما دليل من قال إنه لا يجزئه فقال: إنه شرَّك بينهما فأثَّر هذا التشريك. وأما دليل من قال: إنه يجزئه فقال: هذه النية وهي نية الركوع لا تنافي نية الافتتاح فقد نوى الافتتاح ونوى الركوع ونية الركوع لا تنافي نية الافتتاح فلم تؤثر فيها، فكونه نوى الركوع، هذا لا يؤثر مطلقاً في نية الافتتاح فقد نواها فأي دليل يبطلها. وأما كونه شرَّك لو بينها، فقد شرك بينهما على وجه لا يؤثر ولا ينافي وهذا هو الراجح. الصورة الرابعة: أن يكبر للافتتاح ويكبر للركوع، وقد استحبه الحنابلة وهو كذلك ظاهر كلام الإمام أحمد؛ وذلك لأنه ليس بين أهل العلم خلاف في جواز هذه الصورة وهذا ظاهر، فإنه – حينئذ – ثبت منه تكبيرة الإحرام التي هي ركن وكذلك تكبيرة الركوع. كما أنه إذا أخر طواف الإفاضة فطافه ثم طاف طواف الوداع كان ذلك أفضل في حقه.

فالمستحب له أن يكبر للإحرام ويكبر للركوع. وأما المجزئ فهو أن يكبر للإحرام بنية الافتتاح فقط على المشهور في مذهب المتأخرين من الحنابلة. والقول الثاني: أنه ولو نوى أنها عن تكبيرة الإحرام والركوع معاً. وهو القول الراجح كما تقدم. * صرح الحنابلة باستحباب الدخول مع الإمام على أي حال، وهو - أي هذا الاستحباب – غير ظاهر فيما إذا كان يدرك صلاة الإمام في واجب فهو واجب. أما إذا أتى وهو في التشهد الأخير فهو لا يدرك الجماعة فهو مستحب لأنه قد يصلي مع جماعة فيصيب أجر الجماعة. وأما إذا كان يدرك الركوع فالظاهر أنه يجب عليه أن يدخل كما هو ظاهر الحديث، ولما تقدم من وجوب إدراك الجماعة الأولى ولا يتم إدراك الجماعة إلا بهذا. * في مسألة: ما إذا أقيمت الصلاة وهو يصلي نافلة فظاهر الحديث أنه يقطعها مطلقاً وإن كان في التشهد الأخير، لكن هذا في الحقيقة مشكل والقول بإخراجه قوي من باب أنه لا معنى مقصود من منعه من إتمام صلاته، فغايته أن يكون جالساً فيقوم فيسوي نفسه مع الصفوف وهذا هو الظاهر عندي، والله أعلم، لأنه لا معنى من إدخالها في العموم المتقدم. * واعلم أن المسائل المختلف فيها، فالصحيح أنه يكون فيها الإنكار كما هو قول في مذهب الإمام أحمد وهو الراجح خلافاً للقول الثاني في المذهب. وذلك لأن من مسائل الإنكار ما يكون مخالفاً لنصوص شرعية، نعم هناك مسائل غايتها الاجتهاد المحض والأذهان تختلف فيها اختلافاً قوياً فمثل هذه يقوى ترك الإنكار فيها أما المسائل التي يكون الحديث فيها ظاهر، فظاهر الحديث الإنكار. والحمد لله رب العالمين قال المؤلف رحمه الله تعالى: (ولا قراءة على مأموم) أي يتحمل الإمام عن المأموم قراءة الفاتحة، فعلى ذلك لا تجب قراءة الفاتحة على المأموم. 1- وهذا هو المشهور في مذهب الحنابلة وهو مذهب جمهور الفقهاء. واستدلوا: بقوله تعالى: {وإذا قرئ القرآن فاستمعوا له وأنصتوا} .

ولقوله - صلى الله عليه وسلم -: (وإذا قرأ فأنصتوا) رواه مسلم من حديث أبي موسى. وبما رواه الأربعة عن أبي هريرة بإسناد صحيح قال: (انصرف النبي - صلى الله عليه وسلم - من صلاة جهر فيها فقال: هل قرأ أحد منكم معي آنفاً؟ فقال رجل: نعم، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: فإني أقول ما لي أنازع القرآن، فانتهى الناس عن القراءة خلف النبي - صلى الله عليه وسلم - فيما جهر به حين سمعوا ذلك) . وبما رواه أحمد وابن ماجه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (من كان له إمام فقراءة الإمام له قراءة) 2- وذهب الشافعية وهو رواية عن الإمام أحمد اختارها الآجرى من أصحابه، واستظهرها صاحب الفروع وهي اختيار البخاري ومذهب أهل الظاهر: إلى أن قراءة الفاتحة على المأموم فرض في الصلاة. واستدلوا: بحديث عبادة بن الصامت المتفق عليه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (لا صلاة لمن لم يقرأ بأم الكتاب) . قالوا: فالحديث عام في الإمام والمنفرد والمأموم وقد تقدم أن أهل العلم قد اتفقوا على فرضية الفاتحة على الإمام والمنفرد فهذا الحديث عام في المأموم كما هو عام في المنفرد والإمام. قالوا: وقد ورد التصريح بفرضيتها في حق المأموم برواية رواها أبو داود والترمذي من حديث عبادة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (لعلكم تقرؤون خلف إمامكم؟ قالوا: نعم، قال: لا تفعلوا إلا بأم الكتاب فإنه لا صلاة لمن لم يقرأ بها) فهذا الحديث نص في دخول قراءة المأموم الفاتحة في عموم الحديث (لا صلاة لمن لا يقرأ بأم الكتاب) والحديث في أبي داود والترمذي فيه عنعنة ابن إسحاق، لكنه صرح بالتحديث عند البيهقي والدارقطني وابن حبان وقد تابعه زيد بن أرقم في سنن أبي داود فلم يتفرد بها، وزيد بن أرقم ثقة. والحديث أيضاً له شاهدان:

شاهد في مسند أحمد من حديث محمد بن أبي عائشة عن رجل من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - بإسناد حسن. وشاهد آخر عند ابن حبان من حديث أنس بإسناد حسن. فالحديث حسن بطريقه الأول، وصحيح بطريقه الثاني، وهو صحيح أيضاً بشاهديه. فالحديث لا مطعن فيه مطلقاً وقد صححه البخاري والبيهقي وصححه ابن القيم وحسنه الترمذي والدارقطني وغيرهم، وقال الخطابي: إسناده جيد لا مطعن فيه. قالوا: ويقوى ذلك أنه مذهب الراوي، فإن عبادة ثبت في سنن أبي داود أن كان يقرأ بالفاتحة خلف الإمام. فهذا مذهبه وهو راوي الحديث المتقدم. واستدلوا: بأنه قول عمر - رضي الله عنه - فقد صح في كتاب جزء القراءة للبخاري، والدارقطني بإسناد صحيح: أن شريك بن يزيد: (سأل عمر عن القراءة خلف الإمام؟ فقال: اقرأ بفاتحة الكتاب قال: وإن كنت أنت؟ قال: وإن كنت أنا، قال: وإن جهرت وإن جهرت) . واستدلوا: بما رواه مسلم عن أبي هريرة: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (من صلى صلاة لم يقرأ فيها بأم الكتاب فهي خداج خداج خداج) فقيل لأبي هريرة: (إنا نكون وراء الإمام؟ فقال: اقرأ بها في نفسك فإني سمعت النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: قال الله تعالى: (قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين) الحديث. فهذا الحديث فيه أنه قول أبي هريرة، وفيه أيضاً استدلال أبي هريرة على فرضيتها على المأموم بقول النبي - صلى الله عليه وسلم - – فيما يرويه عن الله عز وجل: (قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين) فقد سماها صلاة فلم تكن لتسقط بحال. وهذه أدلة ظاهرة في فرضها. فالراجح مذهب الشافعية وهو رواية عن الإمام أحمد. وأما الإجابة على ما استدل به الجمهور وهو اختيار شيخ الإسلام: أما الآية الكريمة: {وإذا قرئ القرآن فاستمعوا له وأنصتوا} فهي آية عامة في الصلاة وفي غيرها.

وعلى القول بأنها في الصلاة كما هو مذهب عامة المفسرين فإنها عامة في قراءة الفاتحة وغيرها، وحديث عبادة خاص فالحديث يخصصها. أما قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: (وإذا قرأ فأنصتوا) فهذه اللفظة قد قال البيهقي (أجمع الحفاظ على خطأ هذه اللفظة) وذلك لتفرد سليمان التيمي عن قتادة بها، وعامة أصحاب قتادة – كهمام وهشام الدستوائي وحماد بن سملة وغيرهم - لم يذكروا هذه اللفظة في حديثه، وممن أعلها البخاري وأبو داود وأبو حاتم وغيرهم. وعلى القول بتصحيحها فالجواب عنها: أنها عامة وحديث عبادة خاص. وأما حديث أبي هريرة الذي قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: (فإني أقول ما لي أنازع القرآن) فكذلك حديث عام وحديث عبادة خاص فيخصص بالعموم. وفي حديث عبادة التصريح بالتخصيص، ففي رواية لأبي داود عن عبادة: (مالي أنازع القرآن فلا تقرؤوا بشيء إلا بأم القرآن) . وأما قوله: (فانتهى الناس عن القراءة خلف النبي - صلى الله عليه وسلم -) فإنه ليس من قول أبي هريرة فيكون له حكم الرفع، بل هو من قول الزهري كما بين ذلك أبو داود في روايته، ونص على ذلك الإمام البخاري وأبو داود وأن هذه اللفظة من قول الزهري. ومما يقوي ما تقدم من التخصيص بحديث عبادة أن هذا هو مذهب أبي هريرة راوي هذا الحديث، فقد تقدم أنه قال: (اقرأ بها في نفسك) فهذا قوله. وأما حديث: (من كان له إمام فقراءة الإمام له قراءة) فالحديث لا يصح، بل اتفق الحفاظ على تضعيفه، قال البخاري: (لا يثبت هذا الحديث عند أهل العلم من أهل العراق وأهل الحجاز وغيرهم لإرساله وانقطاعه) . فتبين من ذلك القول بفرضيتها كما هو مذهب الشافعية ورواية عن أحمد. فما استدلوا به إما حديث ضعيف وإما حديث عام وحديث عبادة خاص فيخصص به العموم، على أنه سيأتي بيان لما يكون مخرجاً للإنصات والاستماع لقراءة الإمام في مسألة السكتة بعد قراءة الفاتحة من الإمام.

فعلى القول بها وهو الراجح لا يكون هناك إشكال فإن الإمام يسكت فيقرأ المأموم فاتحة الكتاب وحينئذ يستمع للفاتحة ويقرأ هو فاتحة الكتاب. قال: (ويستحب في إسرار إمامه وسكوته) أي يستحب للمأموم أن يقرأ بفاتحة الكتاب في إسرار إمامه وسكوته ويستحب ذلك ولا يجب وهما قولان في المذهب. فالقول الأول: أنه يستحب للمأموم إذا سكت الإمام أو كان في سرية أن يقرأ بفاتحة الكتاب. فعليه: لا يجب أن يقرأ بفاتحة الكتاب في الصلاة السرية وإنما ذلك مستحب، وكذلك لا يجب عليه إذا كان الإمام يسكت بعد قراءة الفاتحة. واستدلوا: بحديث: (من كان له إمام فقراءة الإمام له قراءة) وتقدم ضعف الحديث. والقول الثاني في المذهب: أنها تجب في سكوت الإمام وإسراره فيجب عليه أن يقرأ في الصلوات السرية بفاتحة الكتاب. واستدلوا: بأن الأحاديث المتقدمة إنما هي فيما إذا جهر الإمام لقوله: {وإذا قرئ القرآن فاستمعوا له وأنصتوا} وحديث: (وإذا قرأ فأنصتوا) فهذه تخصص حديث عبادة فيما إذا جهر الإمام، أما إذا أسر الإمام فلا. وهذا القول أصح على القول بأن القراءة لا تجب على المأموم وإلا فقد تقدم وجوبها على المأموم مطلقاً لكن المسألة المتقدمة على المشهور في المذهب من عدم وجوب قراءتها على المأموم. مسألة: هل يستحب للإمام أن يسكت بعد فاتحة الكتاب ليقرأ المأموم أم لا؟ قولان لأهل العلم هما: فالمشهور عند الحنابلة وهو مذهب الشافعية ومذهب الأوزعي: أن ذلك مستحب. وذهب الأحناف والمالكية وهو اختيار المجد ابن تيمية، وشيخ الإسلام: إلى أنها لا تستحب أما أهل القول الأول فاستدلوا: بما رواه أبو داود وهو ثابت في المسند وسنن ابن ماجه من حديث سمرة قال: (حفظت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - سكتتين إذا كبر وإذا قرأ غير المغضوب عليهم ولا الضالين) وفي رواية: (وإذا فرغ من القراءة) .

فهذا فيه أن للنبي - صلى الله عليه وسلم - سكتتين، سكتة إذا كبر للافتتاح وهي السكتة التي يقفها الإمام والمأموم لقراءة دعاء الاستفتاح، ويدل عليها حديث أبي هريرة المتقدم في سكوت النبي - صلى الله عليه وسلم - بعد التكبير. والسكتة الثانية: إذا قرأ " غير المغضوب عليهم ولا الضالين " والحديث صححه ابن حبان وقواه ابن القيم وابن حجر وحسنه الترمذي وهو كما قالوا والحديث أعل بعلتين: الأولى: أن الحديث من رواية الحسن عن سمرة، والحسن لم يسمع من سمرة. الثانية: أنه فيه تدليس الحسن البصري وهو قد عنعن. أما العلة الأولى: فالجواب عنها: أن الصحيح من أقوال أهل العلم أن الحسن سمع مطلقاً من سمرة ومن ذلك حديث العقيقة الثابت في البخاري، وحديثه المثلة الثابت في سنن النسائي وهو قول البخاري وابن المديني وغيرهم، وهما متعاصران والسماع ممكن جداً لا مانع منه فبينهما معاصرة، وسمرة قد سكن البصرة. وأما العلة الثانية: وهي تدليس الحسن، فالجواب: أن تدليس الحسن محتمل عند الأئمة، وقد ورد في البخاري ومسلم وغيرها أحاديث مصححة عند أهل العلم فيها تدليس الحسن لذا ذكره ابن حجر في رسالته في المدلسين، وذكره في الطبقة الثانية وهو من احتمل الأئمة تدليسهم. فعلى ذلك الصحيح أن الحديث صحيح لا علة فيه وله شواهد من الأثر والمعنى.

فمن شواهده الأثرية ما رواه ابن أبي شيبة بإسناد حسن: (أن عمر بن عبد العزيز كان له وقفتان: وقفة إذا كبر، ووقفة إذا قرأ غير المغضوب عليهم ولا الضالين) وقد ثبت أن عمر بن عبد العزيز كان من أشبه الناس صلاة بصلاة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وكان ذلك مشهوراً عند السلف، ففي البيهقي بإسناد صحيح أن أبا سلمة ابن عبد الرحمن بن عوف – من كبار فقهاء التابعين – سئل عن القراءة خلف الإمام، وقيل له: (إنا نكون وراء الإمام والإمام يقرأ فقال: اغتنمها في سكتة الإمام إذا قرأ غير المغضوب عليهم ولا الضالين) . وأما النظر فهو أن الله قد أمر بالإنصات والاستماع للقرآن وقد أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - بقراءة الفاتحة للمأموم كما تقدم فكان حينئذ الجمع بينهما أن يشرع مثل هذا. ومن هنا قال شيخ الإسلام أن الأمر بقراءة الفاتحة مع الاستماع عبث تنزه عنه الشريعة "؛ وذلك لأنه لا يعقل أن يأمر الشارع بالإنصات ثم يأمر بقراءة الفاتحة. وعلى التسليم بما ذكره شيخ الإسلام فإن المخرج منه ما ذكرناه. وقد ذكر ابن القيم هذا الحديث وقواه ثم قال: (وقيل إن هذه السكتة لقراءة المأموم فاتحة الكتاب قال: وعلى هذا ينبغي أن تكون بقدر الفاتحة) . فعلى ذلك الراجح: أنه يستحب للإمام أن يسكت سكتة بقدر الفاتحة ليتمكن المأمومون من قراءتها قال: (وإذا لم يسمعه لبعد لا لطرش) ويعني يستحب للمأموم أن يقرأ بالفاتحة إذا لم يسمع قراءة إمامه كأن يصلي رجل وراء إمامه ولا يسمع قراءة الإمام فإنه يستحب له أن يقرأ بالفاتحة. وعلى القول بالوجوب – كما هو أحد القولين في المذهب – فإنه يجب عليه ذلك. فإذا كان صوت الإمام لا يتضح، بل يصل المأموم ما يسمى بالهمهمة فهل يستحب له أن يقرأ أم لا؟ المشهور في المذهب أنه لا يستحب له ذلك.

الثاني في المذهب: وهو رواية عن الإمام أحمد واختاره شيخ الإسلام وهو الراجح: أنه يستحب له؛ لئلا يخرج عن كونه قارئاً أو مستمعاً – وهذا على القول بأنها لا تجب على المأموم – ومتى قلنا بوجوبها فهي واجبة مطلقاً وهذا الترجيح على المذهب وعلى القول في المسألة السابقة بالوجوب فإنه يجب لئلا يخرج المأموم عن كونه قارئاً أو منصتاً، وهنا الإنصات ممتنع لأن القراءة لا تتضح له. وأما إذا كان لا يسمع قراءة الإمام لطرش: (وهو ما دون الصمم) : فالمشهور في المذهب: أنه لا يقرأ. والقول الثاني في المذهب: أنه يستحب له أن يقرأ ما لم يكن في ذلك تشويشاً على جاره في الصلاة وهذا القول الراجح. وعلى القول بالوجوب تجب. قال: (ويستفتح ويستعيذ فيما يجهر فيه إمامه) رجل جاء والإمام يقرأ فكبر فهل يستحب له أن يستفتح ويستعيذ فيما يجهر فيه الإمام؟ قال: هنا يستحب وأولى من ذلك في سكوت الإمام أي في صلاة سرية ونحو ذلك. أما حال سكوته فإنه يستحب – كما تقدم – لفعل النبي - صلى الله عليه وسلم -، والمأموم يقتدي بالنبي - صلى الله عليه وسلم - لقوله: (صلوا كما رأيتموني أصلي) . لكن هنا إذا كان الإمام يجهر فهل يستحب أن يستفتح ويستعيذ أم لا؟ قال: يستحب له وهو المشهور في المذهب. قالوا: لأن قراءة الإمام لا تغني عن استعاذته واستفتاحه تحملاً، فالإمام إنما يحمل عنه القراءة والإمام قد أسر بالاستفتاح والاستعاذة فلم يجهر بهما فلم يتحمل ذلك عن المأموم فكان مستحباً له. وعن الإمام أحمد: أنه لا يستحب ذلك، وهذا القول أصح وهو اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية وهو قول أكثر العلماء وأنه لا يستحب أن يستفتح، لقوله تعالى: {وإذا قرأ القرآن فاستمعوا له وأنصتوا لعلكم ترحمون} . وإنما استثنينا الفاتحة للدليل المتقدم. أما الاستفتاح فلم يرد دليل يدل على استثنائه، فلا يشرع له أن يستفتح، بل يسمع وينصت.

وأما الاستعاذة، فالأظهر استحبابها على القول بفرضية الفاتحة؛ لأنها تبع للقراءة، وعلى القول بوجوب الاستعاذة، فتجب. مسألة: هل ما يقضيه المسبوق هو أول صلاته أو آخرها؟ رجل دخل مع الإمام، فأدرك ركعتين من الصلاة، فهل ما يدركه هو أو صلاته أو آخرها؟ إن قلنا: إنه أول الصلاة، فيستحب له أن يستفتح ويستعيذ ويقرأ السورتين. وإن قلنا: إنه آخر صلاته، فلا يستحب له أن يستفتح. قولان لأهل العلم، عما روايتان عن الإمام أحمد: الرواية الأولى، وهي المشهورة عند الحنابلة: أن ما أدركه هو آخر صلاته؛ نظراً لصلاة الإمام، وما يقضيه هو أولها. واستدلوا: برواية النسائي: (فما أدركتم فصلوا وما فاتكم فاقضوا) . قالوا: والقضاء إنما يكون للفائتة، فدل على أن ما يصليه قضاء، فيشرع فيها قراءة سورة مع الفاتحة ونحو ذلك. الرواية الثانية، وهو أصح: أن ما أدركه هو أول الصلاة، وما يقضيه هو آخرها. للرواية الصحيحة المتفق عليها في هذا الحديث: (وما فاتكم فأتموا) ، ولفظ الإتمام إنما يكون في آخر الشيء. وأما لفظة (فاقضوا) ، فإن القضاء في عرف الشارع ليس بمعنى القضاء في عرف الفقهاء – وهو ما يكون للفوائت -، بل القضاء في عرف الشارع هو الأداء والإتمام نفسه، كقول الله تعالى: {فإذا قضيت الصلاة فانتشروا في الأرض} ، أي إذا أديتموها، وغير ذلك من الأدلة الشرعية. فالقضاء هو الإتمام. ويدل عليه النظر الصحيح، فإن النظر يدل على أن المصلي تكون صلاته بحسب نفسه، وهو إنما قد صلى أولها، فكانت أولاً، وبقي عليه أن يتمها، وأما الإمام فإنما يتابع فيما لا يؤثر في صلاة المأموم، أما أن يؤدي ذلك إلى تعطيل صفة صلاة المأموم عن صفتها الشرعية فلا. فالراجح أن ما يصليه المأموم إتمام؛ لحديث: (وما فاتكم فأتموا) . وأما لفظة (فاقضوا) فهي بمعنى الإتمام، على أن لفظة الإتمام أصح منها؛ لثبوتها في الصحيحين.

والقضاء يأتي في عرف الشارع بمعنى الأداء، كما يأتي بمعنى الشيء الفائت، والحديث المتقدم يبين أن المراد به الأداء. والحمد لله رب العالمين. قال المؤلف رحمه الله تعالى: (ومن ركع أو سجد قبل إمامه فعليه أن يرفع ليأتي به بعده، فإن لم يفعل عمداً بطلت) هذه مسائل في متابعة الإمام في الصلاة. اعلم أن للمأموم مع الإمام أربع أحوال: الحال الأولى: المتابعة. الحال الثانية: المسابقة. الحال الثالثة: التخلف. الحال الرابعة: المقارنة. أما الحالة الأولى: وهي المتابعة التي أمر الشارع بها، فقد ثبت في سنن أبي داود والحديث أصله في الصحيحين أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (إنما جعل ليؤتم به فإذا كبر فكبروا ولا تكبروا حتى يكبر، وإذا ركع فاركعوا ولا تركعوا حتى يركع، وإذا قال سمع الله لمن حمده فقولوا: اللهم ربنا لك الحمد، وإذا سجد فاسجدوا ولا تسجدوا حتى يسجد وإذا صلى قائماً فصلوا قياماً، وإذا صلى قاعداً فصلوا قعوداً أجمعين) . والمتابعة أن يفعل المأموم ما فرض عليه من أفعال الصلاة عقيب إمامه وأثره كما يدل عليه: (فإذا كبر فكبروا) فإن الفاء للتعقيب فتفيد الترتيب مع التعقيب فلا يفعل الركن قبل إمامه متراخياً ولا معه ولا بعده (1) بل يكون عقيب فعل إمامه له. أما الحالة الثانية: فهي المسابقة: وهي ما ذكرها المؤلف هنا وهي: أن يفعل الركن قبله ويشرع فيه قبله وهي حرام باتفاق العلماء؛ لما ثبت في الصحيحين أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال – من حديث أبي هريرة -: (أما يخشى أحدكم – أو قال: ألا يخشى أحدكم – إذا رفع رأسه قبل الإمام أن يجعل الله رأسه رأس حمار أو يجعل الله صورته صورة حمار) والشك فيه من شعبة وقد رواه الطاليسي في مسنده من وجه آخر بغير شك (أن يجعل الله رأسه رأس حمار) . والمسابقة لها صورتان:

_ (1) لعل الصواب: فلا يفعل الركن قبل إمامه ولا معه ولا بعده متراخياً.

الصورة الأولى: أن يسبقه إلى الركن فينتظره ويأتي بالركن معه، كأن يسبقه إلى الركوع فينتظر حتى يركع الإمام فيرفع رأسه معه. الصورة الثانية: أن يفعل الركن قبله، ومثله لو سبقه بركعتين أو أكثر، كأن يرفع من الركوع قبل إمامه، أو يرفع ويسجد. قال المؤلف: (من ركع أو سجد قبل إمامه) هذه الصورة الأولى فيما إذا سبقه إلى الركن فركع قبل أن يركع إمامه أو سجد أو رفع رأسه من الركوع أو السجود قبل إمامه قال: (فعليه) ، إذن الصلاة تصح (أن يرفع ليأتي به بعده، فإن لم يفعل عمداً بطلت) . فيجب عليه إذا سجد أو ركع قبل الإمام ونحو ذلك أن يعود إلى الإمام ثم يأتي بالركن بعده، فمن ركع قبل إمامه فيجب عليه أن يعود فيركع بعد إمامه. . (فإن لم يفعل ذلك عمداً بطلت صلاته) : هذا القول الأول وهو المشهور في المذهب. والقول الثاني في المذهب – بعكسه – قالوا: الصلاة تصح، فإذا أتى بالركن بعد الإمام فالصلاة تبطل؛ لأن في الصلاة زيادة فإذا سبق الإمام إلى الركوع فلا يجوز له أن يرجع إلى الإمام فيأتي به بعده، لأن هذا الفعل يتضمن زيادة في الصلاة فوجب عليه أن ينتظره فيأتي بالركن معه. والقول الثالث وهو رواية عن الإمام أحمد واختيار طائفة من أصحابه وهو مذهب أهل الظاهر: أن الصلاة تبطل، والمراد أن يتعمد السبق لأنه فعل في الصلاة فعلاً من جنسها لا يشرع فيها على وجه التعمد. فإنه إذا سبق الإمام فقد أتى بالركن على صفة غير مشروعة وما كان في الصلاة من شيء أتى به على صفة غير مشروعة فإنه يبطل الصلاة. وهذا القول أرجح، وأن الصلاة تبطل بذلك لثبوت النهي عنه ولأنه فعل في الصلاة على وجه غير مشروع يبطلها عمده وقد تقدم أن تعمد الركوع مبطل للصلاة فهنا قد [فعل] فعلاً في الصلاة غير مشروع فيها على وجه التعمد فبطلت به الصلاة. قال: (وإن ركع ورفع قبل ركوع إمامه عالماً عمداً بطلت)

هذه الصورة الثانية: وهي ما إذا سبقه بركن ففعله قبل إمامه، فتبطل الصلاة بذلك إن كان عامداً، ويستدل لهذا بأنه فعل الركن على هيئة غير مشروعة وكل عمل ليس عليه أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - فهو رد، فهو فعل غير مشروع وعلى وجه الزيادة وقد حصل ذلك على وجه التعمد فأبطل الصلاة. قال: (وإن كان جاهلاً أو ناسياً بطلت الركعة فقط) تقدم أن في مسابقة الإمام صورتين. الصورة الأولى: فيما إذا سبقه إلى الركن لكنه لم يرفع منه حتى ركع إمامه فأتى به مع الإمام، فقد تقدم أنه إن فعل ذلك عمداً فالصلاة تبطل على الراجح. فإن فعله ساهياً أو جاهلاً فإن الصلاة صحيحة باتفاق العلماء للعذر، وقد تجاوز الله لهذه الأمة عن الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه. الصورة الثانية: إذا سبقه إلى ركن أو ركنين فإن فعل ذلك عمداً بطلت الصلاة، فإن فعله جاهلاً أو ناسياً بطلت الركعة فقط؛ لأنه قد فعل الركن على هيئة غير مشروعة فكما لو لم يفعله فكان مردوداً أو كان في حكم من لم يفعله، فهو وإن كان جاهلاً أو ناسياً لكنه وضع في غير موضعه فكان كأنه قد ترك هذا الركن فتكون الركعة باطلة. ومحل ذلك حيث لم يأت به مع الإمام. صورة إتيانه به مع الإمام: سبقه إلى ركن فرفع منه ناسياً فعلم أن إمامه لم يركع فركع مع الإمام فلا يضره ذلك وتصح ركعته، فيكون قد زاد في الصلاة زيادة على وجه السهو أو الجهل فلم يضره ذلك. إذاً إن كان منه نسيان أو جهل فسبق الإمام بركن أو ركنين فلا يخلو من حالتين: أن يأتي به معه فإنه حينئذ لا يضره ذلك ويعتد بركعته. ألا يفعله مع الإمام بل فات فلا يعتد بركعته. قال: (وإن ركع ورفع قبل ركوعه ثم سجد قبل رفعه بطلت إلا الجاهل والناسي ويصلي تلك الركعة قضاء) هنا: فيما إذا سبقه بركنين فقد رفع وسجد قبل رفعه، فهي كالمسألة السابقة تماماً فلا فرق بين أن يسبقه بركن أو ركنين، فتبطل بها الصلاة عمداً.

وإن كان جاهلاً أو ناسياً فإنه يصلي تلك الركعة قضاء إن لم يأت بها مع الإمام أما إذا أتى بها مع الإمام فإنها لا تضر. أما الحالة الثالثة: فهي التخلف وهي مثل المسابقة عند الفقهاء، والتخلف: هو أن يفعل الركن بعد إمامه متراخياً، وله صورتان: أن يكون ذلك بأن يدرك الإمام في الركن كأن يدرك الإمام في آخر ركوعه، فهنا الصلاة صحيحة باتفاق العلماء، لكنه ترك ما يشرع له من المتابعة بل الظاهر أنه ترك ما وجب عليه من المتابعة. أن يتخلف عنه بركن أو ركنين، كأن يركع الإمام ثم يرفع أو يسجد كذلك والمأموم قائم فهي كحكم السابقة المتقدمة. فيقال: إن تخلف عنه بركن أو ركنين عامداً بطلت صلاته، وأما إن كان جاهلاً أو ناسياً فلا تبطل الصلاة، لكن الركعة تبطل لأنها قد اختلت بفعل ركن أو ركنين منها على وجه غير مشروع فكما لو لم يفعلهما فكان في حكم التارك لركن أو ركنين. أما الحالة الرابعة: فهي المقارنة: وهي أن يفعل الركن مع الإمام بأن يركع أو يسجد أو يكبر للإحرام معه ونحو ذلك فهي مكروهة عند أهل العلم. إلا أن التكبير معه تكبيرة الإحرام فإن الصلاة لا تصح، ومثل ذلك ما إذا سبقه – عندهم – بتكبيرة الإحرام؛ لأنه عقد صلاته قبيل تمام انعقاد صلاة الإمام فتكون متعلقة بعدم فلا تصح، لأنها قد سبقت انعقاد صلاة إمامه، وإن قارنه فإن صلاة الإمام لم يتم انعقادها بعد فتكون باطلة – وهذا مذهب جمهور العلماء. أما المقارنة بغير تكبيرة الإحرام كأن يسلم معه ونحوه فهي مكروهة عندهم والصلاة صحيحة.

- وذهب بعض العلماء من الحنابلة: إلى أن الصلاة تبطل أيضاً مع التعمد، وهو قول قوي، لأن الشارع قد أمره بفعل الركن بعد إمامه وعقيبه كما في الحديث المتقدم: (فإذا كبر فكبروا ولا تكبروا حتى يكبر) ففيه أمر المصلي أن يكون ركوعه وسجوده عقيب فعل إمامه وذلك متضمن للنهي عن أن يكون ذلك مع إمامه، وحيث فعل ذلك فيكون مخالفاً لأمر النبي - صلى الله عليه وسلم - تاركاً لهديه فتبطل به الصلاة ويكون الركن واقعاً غير مشروع. وهذا هو الأظهر وأنه إن فعل ذلك متعمداً فتبطل الصلاة، أما ناسياً أو جاهلاً فتصبح الصلاة للعذر. فالصحيح أنه مبطل لها؛ لأن الشارع أمر بالمتابعة وأوجبها، والمقارنة ترك للمتابعة فهي ترك لما أمر به الرسول - صلى الله عليه وسلم -، وكل أمر على غير هديه وسنته مما يفعل تعبداً فهو مردود على صاحبه فكان ذلك باطلاً غير صحيح. هذا الأظهر. فإن قيل: ما هو أصل الحنابلة في أنه يعود إلى إمامه؟ فالجواب: ما رواه البخاري في صحيحه معلقاً عن ابن مسعود قال: (لا تبادروا أئمتكم بالركوع ولا بالسجود فمن رفع قبل إمامه فليسجد ثم ليمكث قدر ما سبقه به) ولا يعلم له مخالف. لكن هذا الأثر ليس ظاهراً في أن ذلك في ما كان على وجه التعمد بل يحتمل أن يكون ذلك على وجه السهو والجهل. فعلى ذلك: يبقى القول بأن من سها أو جهل فإنه يعود إلى إمامه فيأتي بالركن بعده؛ لأن ما فعله فقد فعله في غير موضعه ولا أثر له لأنه في غير موضعه. * عندما يكون الإمام قد أسرع في فعل شيء من الأركان كالفاتحة فهل يتمه المأموم ثم يتابعه أم يدع الركن الذي هو فيه متابعاً لإمامه؟ الظاهر أنه يفارقه لكن ليس مطلقاً بل نوع مفارقة بقدرها لضرورة تعذر، فإذا جازت المفارقة لعذر عن الصلاة كلها، فأولى من ذلك – أن يجوز للعذر – المفارقة في بعض أركانها. هذا ما استظهره شيخنا. مسألة:

أتى والإمام قائم ومعه وقت لا يكفي لقراءة كل الفاتحة، فما الحكم؟ الأظهر أنه يقرأ الفاتحة بقدر ما يتمكن من ذلك وحينئذ يتحمل عنه الإمام ما بقى فإذا كان الإمام يتحمل الفاتحة كلها فأولى من ذلك بعضها. مسألة: ما هو المعتبر في متابعة الإمام؟ في الأصل أن المتابعة مربوطة بالتكبير كما في الحديث السابق. لكن الأصل في قضية المتابعة أن تكون في فعل الأفعال، فلو تراخى الإمام في التكبير فالعبرة هي في الفعل، فمتى فعل الإمام الركن فعله المأموم وإن تأخر في تكبيره لأننا النبي - صلى الله عليه وسلم - ربطنا بالفعل عقيبه، فلو تأخر في التكبير فلم يفعل إلا بعد تكبيرة أدى ذلك إلى أن يكون فعلنا ليس عقيب فعله فتكون مخالفة من الإمام أدت إلى مخالفة السنة فلا عبرة بتكبيره. أما هل يتابع الإمام عند بداية انحطاطه أم إذا وقع ساجداً تبدأ بفعل حركات السجود؟ روى البخاري عن البراء قال: (كنا إذا صلينا وراءه - صلى الله عليه وسلم - لم يحن أحد منا ظهره حتى يقع النبي - صلى الله عليه وسلم - ساجداً) . لكن ليس هذا مطلقاً بل حيث كان يعلم أنه يدرك الإمام أما إذا علم أنه لا يدركه إذا فعل ذلك فيعفى عن ذلك؛ لإدراك الركن وهو مقدم على فعل ما يستحب من أن يكون شروعه بعد وقوع الإمام ساجداً. إذاً: إذا استقر الإمام راكعاً أو ساجداً شرع المأموم في الحركات المؤدية للركوع أو السجود إلا أن يخشى فواتاً فيرجح خلاف ذلك لإدراك الركن. مسألة: كبر إمام وكبر المأمومون خلفه ثم شك في تكبيره فكبر مرة أخرى، فما الحكم في المأمومين؟ فالأظهر أن تكبيرهم صحيح فلا يعيدوه لأن تكبيرهم وقع صحيحاً فلا دليل على إبطاله كما لو كبروا مع إمام فتبين محدثاً فاستخلف فكبر ذلك المستخلف، فالتكبير حينئذ يكون صحيحاً منعقداً لا شيء فيه. الحمد لله رب العالمين. قال المؤلف رحمه الله: (ويسن للإمام التخفيف مع الإتمام) . تدل عليه السنة قولاً وفعلاً.

أما قولاً: فقد ثبت في الصحيحين من حديث أبي هريرة قال: قال رسول النبي - صلى الله عليه وسلم -: (إذا صلى أحدكم للناس فليخفف فإن فيهم السقيم والضعيف) - وفي البخاري: (والكبير) وفي مسلم: (وذا الحاجة) - وإذا صلى أحدكم لنفسه فليطول ما شاء) . وثبت في الصحيحين عن أبي مسعود الأنصاري قال: قال رجل: إني لأتأخر عن صلاة الغداة من أجل فلان مما يطول بنا، قال: فما رأيت رسول - صلى الله عليه وسلم - في موعظته أشد غضباً منه يومئذ فقال: (إن منكم منفرين فأيكم صلى للناس فليخفف فإنما يصلي وراءه الضعيف والكبير وذو الحاجة) ، وفي الصحيحين من حديث معاذ بن جبل: (أتريد أن تكون يا معاذ فتاناً) وفيه: (فإنه يصلي وراءك الضعيف والكبير وذو الحاجة) ، وثبت في سنن أبي داود والنسائي بإسناد صحيح أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال لعثمان بن أبي العاص: (أنت إمامهم واقتد بأضعفهم) أي اقتد بصلاتك طولاً وقصراً بأضعف القوم وهم ذوو المرض والكبار وذوو الحاجات. وأما فعلاً: ما ثبت في الصحيحين عن أنس قال: (ما كان أحد أخف صلاة من النبي - صلى الله عليه وسلم - في تمام) فهذه الأحاديث تدل على استحباب التخفيف للإمام. وضابطه عند الحنابلة: أن يقتصر على أدنى الكمال من التسبيح وغيره من أجزاء الصلاة، فهذا ضابطه في المشهور من المذهب وذلك بأن يسبح الله في ركوعه وسجوده ثلاثاً وهكذا. واختار شيخ الإسلام وتلميذه ابن القيم أن المستحب له أن يصلي كما كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يصلي، قال شيخ الإسلام: (وينبغي أن يفعل غالباً ما كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يفعل غالباً ويزيد وينقص للمصلحة كما كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يزيد وينقص للمصلحة) .

ومما كان النبي - صلى الله عليه وسلم - ينقصه للمصلحة ما ثبت في الصحيحين أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (إني لا دخل في الصلاة أريد إطالتها فأسمع بكاء الصبي فأخفف من شدة وجد أمه به) فهنا كان يخفف للمصلحة. كما أنه كان يطيل لها كما أنه كان يقرأ بالأعراف والأنفال في صلاة المغرب ونحو ذلك، فيفعل ذلك الإمام لبيان ذلك واستحبابه ولئلا يعتقد أن قراءة القصار من السنة المداومة عليها. وليس ذلك – أي التخفيف - تبعاً لشهوة المأمومين كما قرره ابن القيم رحمه الله، بل ذلك التخفيف بالنظر إلى فعله، وما كان النبي - صلى الله عليه وسلم - ليأمر الناس بالتخفيف ويخالفه، لذا قال ابن عمر – كما في النسائي بإسناد صحيح قال -: (كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يأمرنا بالتخفيف ويقرأ بالصافات) ليبين ابن عمر أن أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - بالتخفيف لا يخالفه قراءته بالصافات. فعلى ذلك الظاهر مذهب شيخ الإسلام وتلميذه: من أن المستحب للإمام أن يقرأ كما كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يقرأ وكذلك السجود والتسبيح وغيرها، وذلك هو التخفيف المشروع. قال: (وتطويل الركعة الأولى أكثر من الثانية) يسمى له تطويل الركعة الأولى أكثر من الركعة الثانية كما تقدم في حديث أبي قتادة المتفق عليه وفيه أنه قال: (وكان يطول الركعة الأولى) ، فالسنة تطويل الركعة الأولى وتقصير الركعة الثانية. والظاهر أنه لا أثر للتفاوت اليسير بين الركعة الأولى والركعة الثانية وإن كان ذلك من نصيب الثانية، وهذا هو الذي ذلك دلت عليه السنة، فقد كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يقرأ بسبح والغاشية، والغاشية أطول من سبح وهذا تفاوت يسير. ومن ذلك أن الفلق أقصر من سورة الناس بشيء يسير وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - يقرأ بالفلق في الأولى وبالناس في الثانية.

وظاهر المذهب مطلقاً في قصار السور وغيرها، كما أطلق ذلك في الفروع، والأظهر اختصاصه بالقصار. قال: (ويستحب انتظار داخل ما لم يشق على مأموم) هذا هو المشهور في المذهب وهو مذهب الشافعية، لكن إن شق على أحد من المأمومين فلا يسن له ذلك. واستدلوا: بما رواه أحمد وأبو داود من حديث عبد الله بن أبي أوفى قال: (كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يطيل الركعة الأولى من صلاة الظهر حتى لا يسمع وقع قدم) . والقول الثاني: مذهب الأحناف والمالكية وهو رواية عن الإمام أحمد: أنه لا يستحب له ذلك. واستدلوا: بقوله - صلى الله عليه وسلم -: (إذا سمعتم الإقامة فامشوا وعليكم السكينة والوقار فما أدركتم فصلوا، وما فاتكم فأتموا) قالوا: وكونه ينتظر الداخل فذلك مدعاة إلى الإسراع من الداخل وفيه تشويش على الإمام والمأموم في انتظار الداخل، وفيه مشقة في الغالب على بعض المأمومين. وأما الحديث الذي استدلوا به: فالحديث ضعيف فإن فيه راو مجهول. وهذا القول هو الأظهر؛ لظهور أدلته، وهو رواية عن الإمام أحمد. قال: (وإذا استأذنت المرأة إلى المسجد كره منعها) لما ثبت في الصحيحين أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (لا تمنعوا إماء الله مساجد الله) ، وفي سنن أبي داود من حديث ابن عمر – بإسناد لا بأس به – (وبيوتهن خير لهن) ، ونحوه من حديث أبي هريرة في المسند وسنن أبي داود بإسناد صحيح: (لا تمنعوا إماء الله مساجد الله وبيوتهن خير لهن وليخرجن تفلات) أي غير متطيبات وغير متزينات. وقد ثبت في مسلم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (إذا شهدت إحداكن المسجد فلا تمس طيباً) فنهى عن مس الطيب والزينة وتخرج تفلة. إذن: لا تمنع المرأة ويكره منعها.

ولعل الصارف لهذا الحديث عن التحريم الذي هو ظاهر قوله: (لا تمنعوا) - فالصارف فيما يظهر: - أن المصلحة الدينية غير ثابتة، بل المصلحة الدينية تثبت لهن في صلاتهن في البيوت لقوله: (وبيوتهن خير لهن) فلو كان المصلحة دينية لهن لكان النهي للتحريم، لكن لما قال: (وبيوتهن خير لهن) كانت المصلحة لهن أن يصلين في بيوتهن كان المنع ليس محرماً بل مكروهاً، وإن كان ظاهر كلام الموفق ابن قدامة التحريم. لكن الأظهر ما ذهب إليه الجمهور من كراهية ذلك؛ لأن المصلحة لهن أن يصلين في بيوتهن. قال: (وبيتها خير لها) وقد تقدم الحديث الثابت في مسند أحمد من حديث أبي حميد الساعدي. وتقدم أنه يمنعها إن خشي ضرراً أو فتنة، قالت عائشة كما في مسلم: (لو أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رأى ما أحدث النساء " أي من الطيب والزينة في الذهاب إلى المسجد " لمنعهن المسجد كما منعت نساء بني إسرائيل) فإذا ثبتت الفتنة أو الضرر فإنها تنهى سداً للذريعة. ومثل ذلك أنها تنهى أن تذهب منفردة كما ذكر ذلك الحنابلة؛ لأن انفرادها مظنة الفتنة. أما إذا كانت غير منفردة أو في طرق ممتلئة بالذاهبين والآيبين فإنها ليست في حكم المنفردة، فرجع ذلك إلى أمن الطريق بإن كان آمناً لكثرة الذاهب والآيب ولا يخشى عليها فتنة. أما إذا كان انفرادها مظنة للفتنة فإنها تمنع. إذن: المشهور في المذهب أنها تمنع إن كانت منفردة وظاهر ذلك مطلقاً. والأظهر: ألا تمنع مطلقاً بل تمنع إن كانت منفردة وظنت الفتنة كأن تكون الطرق غير آمنة، فإن كانت الطرق آمنة فإنها لا تمنع. والحمد لله رب العالمين. فصل قال المؤلف رحمه الله تعالى: (الأولى بالإمامة) قال هنا: (الأولى) وفيه أن ما يذكره من الأحكام من تقديم الأقرأ فالأفقه في الإمامة أن ذلك سبيله سبيل الأولية لا سبيل الوجوب والفرضية، وهذا باتفاق العلماء.

فإن خولف ذلك فلا بأس لكن الأولى ذلك. يدل على ذلك ما ثبت في مسلم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (إن كانوا ثلاثة فليؤمهم أحدهم وأحقهم بالإمامة أقرؤهم) . فهذا يدل على أنه إن صلى أحدهم ممن يحسن القراءة أجزأ ذلك وصح، لكن أولاهم بذلك وأحقهم به هو الأقرأ. قال: (الأقرأ العالم فقه صلاته) الأقرأ هو الأولى بالإمامة للحديث المتقدم: (وأحقهم بالإمامة أقرؤهم) ، ولما ثبت في مسلم من حديث أبي مسعود الأنصاري قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (يؤم القوم أقرؤهم لكتاب الله، فإن كانوا في القراءة سواء فأعلمهم بالسنة، فإن كانوا في السنة سواء فأقدمهم هجرة، فإن كانوا في الهجرة سواء، فأقدمهم سلماً " أي إسلاماً " وفي رواية " سناً " ولا يؤُمّنّ الرجل الرجل في سلطانه ولا يقعد على تكرمته إلا بإذنه) . ففي هذا الحديث تقديم الأقرأ لكن بالشرط المتفق عليه بين أهل العلم – وهو ما ذكره المؤلف بقوله: (العالم فقه صلاته) أي الذي يعلم من الصلاة ما يحسنها بتمام شروطها وأركانها وواجباتها، فإن كان جاهلاً بأحكام الصلاة التي لا تصح ولا تقوم إلا بها فلا يقدم وإن كان هو الأقرأ. وقول: (الأقرأ) قال في الشرح: (جودة) وهذا هو المشهور عند الحنابلة وغيرهم فهو مذهب الجمهور، وأن الأقرأ هو الأجود قراءة أي الذي يحسن القراءة فيخرجها من مخارجها الصحيحة وغير ذلك من شروط القراءة الشرعية الصحيحة. والقول الثاني في مذهب أحمد والشافعي وهو خلاف المشهور في مذهبيهما: أن المراد الأكثر قراءة. لحديث عمرو بن سلمة في البخاري قال: (جاء أبي من عند النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: جئتكم من عند النبي - صلى الله عليه وسلم - حقاً، فقال: إذا حضرت الصلاة فليؤذن أحدكم وليؤمكم أكثركم قرآناً) . فهذا يدل على أن الأكثر قرآنا يقدم على الأجود الأقل حفظاً.

والمسألة فيها تفصيل، وهو أن يقال: الأكثر يقدم إن كان مجوداً وتلاوته صحيحة، وإن كان غيره أرجح منه، أما إن كان غير مجيد للتلاوة وله لحن فإمامته مكروهة، كما اتفق العلماء على ذلك – والمقصود اللحن غير المحيل للمعنى – فحينئذ يقدم عليه الأجود وإن كان أكثر منه حفظاً. إذن: الراجح هو التفصيل في هذا، أن يقال: إن الأكثر يقدم لكن ليس مطلقاً بل حيث كان مجوداً لتلاوته وإن لم يكن أجود من غيره لكن تلاوته صحيحة ليس فيها لحن وإن كان غيره أتقن تلاوة. لكن إن كان في قراءته لحن فإنه يكون مرجوحاً على من كان أقل منه قراءة. فالراجح التفصيل، ودليل ذلك قوله: (ليؤمكم أكثركم قرآناً) ولم يعلقه بالجودة مع اختلاف الناس فيها فإنه يحتمل أن يكون هناك من هو أقل منه قراءة وهو أجود، مع العلم أنه في العهد الذي كان فيه مثل عمرو بن سلمة حيث كانت اللغة العربية هي اللغة الدارجة عندهم لا يقال لوجود اللحن في القراءة – لقوله: (ليؤمكم أكثركم قرآناً) فكلهم مجيدون للتلاوة لأن القرآن نزل بلغتهم فحينئذ يكون التفاضل بالرجوع إلى الأكثر قرآناً. قال: (ثم الأفقه) لقوله - صلى الله عليه وسلم -: (فإن كانوا في القراءة سواء فأعلمهم بالسنة) أي بالفقه وهذا باتفاق العلماء بل جمهور العلماء على أن الأفقه يقدم على الأقرأ – خلافاً للمشهور عند الحنابلة من أنه يقدم عليه الأقرأ. واستدل الجمهور: بأن أبا بكر كان يؤم الناس في عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - وكان منهم أبي بن كعب وقد قال فيه النبي - صلى الله عليه وسلم -: (وأقرؤهم لكتاب الله أبي) فكان أقرأ من أبي بكر ومع ذلك فقد قدم عليه أبا بكر في الإمامة. والجواب على ذلك أن يقال: إن النبي - صلى الله عليه وسلم - إنما قدم أبا بكر توطئة لخلافته، لذا استدل الصحابة على أخصية أبي بكر بالخلافة بتقديم النبي - صلى الله عليه وسلم - له في الإمامة.

وجواب آخر أن يقال: معلوم أن أبا بكر كان شبيه النائب للنبي - صلى الله عليه وسلم - وكان يسمر معه وعمر في مصالح المسلمين، فكان كنائب السلطان ونائب السلطان أحق بالنيابة من غيره عند غياب السلطان فالراجح ما نص عليه الحديث: (يؤم القوم أقرؤهم لكتاب الله، فإن كانوا في القراءة سواء فأعلمهم بالسنة) . ويقدم الأفقه على الفقيه فيما إذا كان كلاهما فقيه. ويقدم الأفقه في أحكام الصلاة على غيره ممن هو أفقه في أبواب أخرى كالجنايات والبيوع، لأن قوته في الفقه في أبواب الصلاة متعلقة بالصلاة وهو سبب في أدائها على أتم ما يكون وأكمل. قال: (ثم الأسن) يعني الأكبر سناً، لقوله - صلى الله عليه وسلم - لمالك بن الحويرث: (إذا حضرت الصلاة فليؤذن لكم أحدكم وليؤمكم أكبركم) وسيأتي بيان الحق في هذه المسألة. قال: (ثم الأشرف) لقوله - صلى الله عليه وسلم -: (قدموا قريشاً ولا تقدموها) رواه أحمد. والأشرف المراد به القرشي، ولقوله - صلى الله عليه وسلم -: (الإمامة في قريش) وشيخ الإسلام لا يرى التقديم بالنسب، قال في الإنصاف: "ولم يقدم تقي الدين بالنسب " وذكره – أي صاحب الإنصاف – عن أحمد وصوَّبه. وهو ظاهر، لأن الحديث الوارد في إمامة قريش إنما هذا في الإمامة العظمى. فإن قيل: ألا تقاس الإمامة الصغرى على الكبرى؟ فالجواب: أولاً إن هذا القياس المذكور يقتضي أن يقدموا على الأقرأ كما قدموا على الأفضل والأصلح ممن هو ليس من قريش. ثم أيضاً: إنما كانت الإمامة في قريش لأنهم رأس العرب وبهم تجتمع الأمة وتقوى شوكتها وتتآلف، ويبعد أن تتآلف على غيرهم فلذلك وضعهم الله في هذا الموضع وليس هذا في الصلاة فهي محل للعبادة الدينية أما هناك فلأنها تقوم بها مصالح الدنيا والدين. قال: (ثم الأقدم هجرة) وهذا هو المشهور في المذاهب

وظاهر كلام الإمام أحمد واختار ذلك طائفة من أصحابه: أن الأقدم هجرة يقدم على الأسن والأشرف. فيكون الترتيب: الأقرأ فالأفقه فالأقدم هجرة أو سلماً أي إسلاماً. ودليل ذلك الحديث المتقدم فإن فيه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (فإن كانوا في السنة سواء فأقدمهم هجرة، فإن كانوا في الهجرة سواء فأقدمهم سلماً، وفي رواية: سناً) ، فهنا قدم النبي - صلى الله عليه وسلم - الأقدم هجرة على الأقدم سناً. فإن قيل: فما الجواب على حديث مالك بن الحويرث؟ فالجواب: أنهم كانوا متقاربين في العلم والهجرة، فلذا كان من النبي - صلى الله عليه وسلم - أن أمرهم أن يتقدم أكبرهم، ففي أبي داود قال: (وكنا متقاربين في العلم) وكانت هجرتهم إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - في وقت واحد. وهذا القول الراجح، وهو ظاهر كلام الإمام أحمد واختيار طائفة من أصحابه. فالأقدم هجرة يقدم ثم بعد ذلك الأقدم سلماً، وهو يرجح على الأسن؛ لأن الأقدم سلماً أكبر سناً في الإسلام ولا شك أن من كان إسلامه سابق لغيره فهو أرجح في الأصل من غيره، إلا أن يكون هناك مرجح آخر من علم أو فقه أو غير ذلك. ثم بعد ذلك الأسن. فعلى الراجح يكون الترتيب: الأقرأ ثم الأفقه ثم الأقدم هجرة ثم الأقدم سلماً ثم الأسن. قال: (ثم الأتقى) لقوله تعالى: {إن أكرمكم عند الله أتقاكم} ، ولا شك أنه عندما تستوي التي تقدم ذكرها من المرجحات وهي (القراءة والعلم والهجرة والسلم والسن) فإن الأتقى له مزية على غيره. وقال بعض الحنابلة: الأتقى يقدم على الأشرف. وهو أصح، ولكن مع ذلك تقدم ترجيح كلام شيخ الإسلام: من أن النسب ليس له محل في هذه المسألة أصلاً. قال: (ثم من قرع) أي في القرعة، فتوضع القرعة بينهم لدخول المسألة في القاعدة الشرعية وهي إذا استوى الناس بالاستحقاق لشيء ما ولم يكن ثمت طريق للجمع بينهم فإنه يسلك باب القرعة.

وقبل ذلك من يختاره الجيران فهو مرجح. ومن كان أعمر للمسجد وبقاؤه أصلح لإمامة لمسجد، فهذا مرجح. وقد يكون الأشرف يقدم ولكن هذا من باب الترجيح وليس أصلاً. فالقول بأن الأشرف حيث استوت سابقٌ للقرعة قول قوي؛ لأنه يعتبر مرجحاً، ويكون على قول من قدم الأتقى على الأشرف فيكون من باب المرجحات. قال: (وساكن البيت وإمام المسجد أحق إلا من ذي سلطان) وقال: (ساكن البيت) ولم يقل (ورب البيت) ؛ لأنه قد يكون مستأجراً وإذا قيل (رب البيت) ، ظن أن ذلك للمالك فقط، لذا قالوا بتقديم المستأجر على المؤجر وتقديم المستعير على المعير؛لأنه أحق – حينئذ – بالبيت. وذلك للحديث المتقدم: (ولا يؤمن الرجل الرجل في سلطانه إلا بأذنه) ، وفي رواية لأبي داود: (ولا يؤمن الرجل الرجل في بيته ولا في سلطانه إلا بأذنه) ، وفي الترمذي وأبي داود بإسناد صحيح أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (من زار قوماً فلا يؤمهم وليؤمهم رجل منهم) . فلا يؤمن الرجل الرجل في بيته ولا في مسجده إلا بأذنه، فهذا أحق بالإمامة وإن كان الزائر أقرأ أو أفقه أو نحو ذلك إلا أن يأذن إمام المسجد أو ساكن البيت. (إلا من ذي سلطان) : فصاحب السلطان له الأحقية؛ لأن له عموم الولاية ومثل ذلك نوابه من الأمراء وغيرهم فلهم أن يتقدموا في أي مسجد أو أي بيت شاؤوا؛ لأنه لهم الولاية العامة. قال: (وحر وحاضر ومقيم وبصير ومختون، ومن له ثياب أولى من ضدهم) فالحر أولى من العبد، والحاضر أولى من البدوي، والمقيم أولى من المسافر، والبصير أولى من الأعمى، والمختون أولى من الأقلف، ومن له ثياب يستتر بها كمال الستر أولى ممن له ثياب يستر بها عورته فحسب. ولم أر دليلاً يدل على ما ذكره الحنابلة هنا.

وقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: (يؤم القوم أقرؤهم) يدخل في ذلك العبد والحاضر والمسافر والبدوي وغيرهم – وإن كان من هذه الأشياء التي ذكرها المؤلف ما يكون مرجحاً. فلا شك في ترجيح إمامه المقيم على إمامة المسافر مع التساوي، ولا شك بتقديم المختون المطبق للسنة على الأقلف الغير مطبق لها، فيقدم؛ لأنه أطوع لله عز وجل وأكثر تطبيقاً للسنة. أما أن يكون هذا أولى مطلقاً فليس بصحيح. فإذن: يؤم القوم أقرؤهم لكتاب الله مطلقاً، أما في مسائل الترجيح فإنه يرجح مثل من تقدم كالمقيم وغيره. والحمد لله رب العالمين. قال المؤلف رحمه الله تعالى: (ولا تصح خلف فاسق ككافر) أي لا تصح الصلاة خلف الفاسق كما أنها لا تصح خلف الكافر، فالصلاة خلف الكافر فقد اتفق أهل العلم على بطلانها. وهنا يقيس الفاسق في الإمامة على الكافر بجامع أن كلا منهما لا يقبل خبره لمعنى في دينه، فهذا للكفر وهذا للفسق. وفي ابن ماجه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (لا يؤمن امرأة رجلاً ولا أعرابي مهاجراً ولا فاجر مؤمناً) لكن الحديث إسناده ضعيف جداً. فالمشهور من المذهب: أن الصلاة خلف الفاسق باطلة لا تصح. وهل المقصود بالفاسق من ظهر فسقه أم من خفي؟ قولان للحنابلة: الأول: أن المقصود من ظهر فسقه. الثاني: أنه وإن خفي فسقه فحكمه كذلك. واستثنوا من ذلك صلاة العيد والجمعة، فقالوا: تصح خلف الفاسق؛ لأن صلاة الجمعة والعيد تكون في الأصل وراء إمام واحد فهذا هو أصل مشروعيتها ففي إبطالها وراء الفاسق تفويت لها. وعليه فإذا كانت الجمعة تصلى مع أكثر من إمام وكذلك في العيد فيجب أن يتحرى الإمام العدل. فرأوا بطلان الصلاة خلف الفاسق لكن إن رأى أن المصلحة في الصلاة وراءه ودرء المفسدة بذلك صلى وأعاد صلاته. وله أن يصلي معه بنية المفارقة فيقتدي به في الظاهر وينوي في الباطن مخالفته.

وإن كان مجهول الحال لم تثبت عدالته ولم يثبت فسقه فيصح الاقتداء. والمستحب عدم ذلك وذلك - أي صحة الصلاة خلفه –؛ لأن الأصل في المسلمين العدالة. وكذلك عندهم الحكم في المبتدع فالفسق يدخل فيه الفسق في الاعتقاد والفسق في العمل. أما الفسق في الاعتقاد فهو أن يفعل بدعة لا تكفره، وأما الفسق بالعمل فهو أن يفعل كبيرة أو يصر علي صغيرة. فإذن: الصلاة خلف الفاسق باطلة سواء كان فسقه في الاعتقاد أو الفعل، هذا هو تقرير مذهب الحنابلة. وذهب جمهور أهل العلم: إلى أن الصلاة صحيحة، واستدلوا بأدلة كثيرة من السنة: ما ثبت في البخاري أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (يصلون لكم فإن أصابوا فلكم ولهم وإن أخطؤوا فلكم وعليهم) وما ثبت في مسلم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال في أئمة الجور: (صلوا الصلاة لوقتها ثم اجعلوا صلاتكم معهم نافلة) فصححها النبي - صلى الله عليه وسلم -. وبما رواه أبو داود في سننه من حديث مكحول عن أبي هريرة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (الصلاة المكتوبة واجبة خلف كل مسلم براً كان أو فاجراً وإن عمل الكبائر) وفي إسناده انقطاع، ومع ذلك فهو أصح مما استدل به أهل القول الأول وله شواهد تدل عليه. وبما رواه الدارقطني بإسناد ضعيف أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (صلوا خلف كل من قال لا إله إلا الله وعلى كل من قال لا إله إلا الله) قالوا: وعليه عمل السلف الصالح، فقد كانوا يصلون وراء أئمة الجور مع ثبوت فسقهم، كما صح ذلك عن أبي سعيد الخدري في الصحيحين، وعن ابن عمر في البخاري، وعن الحسن والحسين في البيهقي وابن أبي شيبة حتى حكاه بعضهم إجماعاً للصحابة، والمراد في صلاتهم خلف من كان فسقهم فسق عمل.

كما ثبت في البخاري أن عثمان أتاه عبيد الله بن عدي بن الخِيَار (1) فقال له - وهو محصور –: " إنك إمام عامة وقد نزل بنا ما ترى وإنه يصلي بنا إمام فتنة فقال عثمان: (الصلاة أحسن ما يعمل الناس فإن أحسنوا فأحسن معهم وإن أساؤوا فاجتنب إساءتهم) وقال الحسن البصري كما في البخاري: (صل وعليه بدعته) . فهذا القول هو الذي تعضده الأدلة من قول النبي - صلى الله عليه وسلم - وأفعال الصحابة. لكن اتفق أهل العلم على كراهية الصلاة خلف الفاسق المبتدع وأنهم لا يولونه الإمامة، إلا أن يترتب على ذلك مفسدة أو فوات مصلحة أو يحتاج إلى الصلاة خلفه فحينئذ يصلى خلفه والصلاة صحيحة، لكن إن أمكنه أن يصلي مع غيره فهو المشروع في حقه. وأما الكافر فقد اتفق أهل العلم على عدم صحة الصلاة خلفه سواء كان كافراً أصلياً أو مرتداً أو صاحب بدعة مكفرة أخرجته من الإسلام كالرافضة والجهمية على قول طوائف كثيرة من السلف. وأما الصلاة خلف من جهلت عقيدته، فقد ذكر شيخ الإسلام اتفاق العلماء على صحة الصلاة خلفه وأنه لا يشرع امتحانه أو سؤاله. وهو كما قال شيخ الإسلام لأن الأصل في المسلمين حسن الاعتقاد لكن يستثنى من ذلك، حيث كان مظنة سوء الاعتقاد كأن يأتي من بلاد تشتهر فيها البدعة فإنه يسأل عن الاعتقاد؛ لأنه مظنة العقيدة التي تعتقدها أهل بلده. أما إذا كان من بلد أصحابها أهل سنة وعقيدة فلا يشرع سؤاله ولا امتحانه بل يصلى خلفه وإن جهل اعتقاده.

_ (1) هو عبيد الله بن عديّ بن الخِيَار، ابن عدي بن نوفل بن عبد مناف القرشي النوفلي المدني، قتل أبوه ببدر، وكان هو في الفتح مميِّزاً، فعدَّ في الصحابة لذلك، وعَدَّه العجلي وغيره من ثقات التابعين، مات في آخر خلافة الوليد بن عبد الملك / خ م د س.التقريب.

وحكى شيخ الإسلام أيضاً: أن من أنكر صحة الصلاة خلف المخالف في المذهب فإنه قد خالف الكتاب والسنة وإجماع السلف وأنه ضال مبتدع، وذلك مع صحة اعتقاده في الإمام، لأن الصحابة كان بينهم خلاف في مسائل كثيرة – من الفروع مما يسوغ فيه الخلاف في مسائل الطهارة والصلاة ونحو ذلك - ومع ذلك كان بعضهم يصلي وراء بعض من غير نكير لذلك فمخالفتهم مخالفة للسنة، كأن يصلي خلف من لا يعتقد نقض الوضوء بأكل لحم الجزور وهو يعتقد ذلك. قال: (ولا خلف امرأة) باتفاق العلماء؛ لقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: (لا يفلح قوم ولَّوا أمرهم امرأة) لكن هل تستثنى النافلة؟ في رواية عن الإمام أحمد: استثناؤها. وعن الإمام أحمد وهو اختيار أكثر أصحابه وهي من مفردات المذهب: أن الصلاة خلف المرأة في التراويح صحيحة جائزة. وقيده بعضهم: بأن تكون ذات محرم. وقيده بعضهم بأن تكون عجوزاً – أي كبيرة في السن –. إلا فإطلاق بعضهم أنها تصلي مطلقاً - هذا في الحقيقة - من الغرائب. لكن قالوا: تصلي خلفهم ولا تصلي أمامهم. وهل يقتدون بها بمطلق الصلاة أم بالقراءة فقط؟ قولان: الأول: أنهم يقتدون بها في مطلق الصلاة. الثاني: أنهم يقتدون بها في القراءة فحسب، فتسمعهم القراءة ثم يركعون ويسجدون مع إمام آخر. ودليلهم: ما رواه أبو داود في سننه: عن أم ورقة بنت نوفل أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يزورها وكانت قد جمعت القرآن فجعل لها مؤذناً وأمرها أن تؤم أهل بيتها) والحديث إسناده ضعيف لجهالة في عين بعض رواته. ولو صح فالحديث عام في الفريضة والنافلة وقد ذهب إليه بعض العلماء وأن الصلاة صحيحة خلفها فرضاً ونفلاً، لكن هذا ضعيف باتفاق العلماء –في الحديث -: (لا يفلح قوم ولوا أمرهم امرأة) قال: (ولا خنثي للرجال) لاحتمال أن يكون امرأة، وهو من التبس في أمره خلقةً فلم يثبت بعد أذكر هو أم أنثى، وهذا هو الخنثى المشكل.

فإن تبين أنه ذكر صحت، وإن تبين أنه أنثى لم تصح وذلك إذا ظهر. أما قبل الظهور فلا تصح الصلاة خلفه لاحتمال أن يكون امرأة وهذه من المسائل النادرة. قال: (ولا صبي لبالغ) الصبي: هو ابن سبع أو ست أو خمس سنين ممن ثبت تمييزه. فالصبي لا يجوز أن يؤم البالغين في الفرض، أما في النفل فتصح. هذا هو المشهور في المذهب؛ لقوله - صلى الله عليه وسلم -: (فلا تختلفوا عليه) قالوا: والصبي يصلي بنية النفل، والبالغ يصلي بنية الفرض وهذا اختلاف في النية بينهما، وقد قال: (فلا تختلفوا عليه) وهذا بناء على أنه لا تصح الصلاة خلف المخالف بالنية – وسيأتي الراجح – إن شاء الله. وذهب الشافعية وهو رواية عن الإمام أحمد: إلى أن صلاة الصبي صحيحة بالبالغين فرضاً ونفلاً، لحديث عمرو بن سلمة وفيه: (فنظروا فلم يكن أحد أكثر مني قرآناً فقدموني وأنا ابن ست سنين أو سبع سنين) رواه البخاري. فهذا فعل الصحابة، وهو عموم الأدلة الشرعية: (يؤمكم أكثركم قرآناً) وأما ما ذكروه من اختلاف النية فإن هذا الحديث لا يفسر به على الصحيح. بل تفسر بالاختلاف في الأفعال الظاهرة كما دل عليه الحديث في قوله: (ولا تركعوا حتى يركع) وأما المخالفة في النية فإنه لا أثر لها على الصحيح وسيأتي بيانه إن شاء الله تعالى. فالراجح أن الصلاة خلف الصبي فرضاً ونفلاً صحيحة لحديث عمرو بن سلمة الذي رواه البخاري وغيره. وأما النفل فاتفق العلماء على صحتها من الحنابلة وغيرهم؛ لأن النفل له نفل ولهم نفل فالنية غير مختلفة. قال: (ولا أخرس ولو بمثله) الأخرس: هو الذي لا ينطق. فلا تصح إمامته لأنه ترك ركناً من أركانها وهو الفاتحة بغير بدل. ثم إن الإمامة قوامها القراءة والتكبير والتسميع وهذا لا يكون منه، وهو باتفاق العلماء. لكن إن كان بمثله؟ فالمشهور في المذهب: أنه لا يصح. وقياس المذهب وهو اختيار بعض الحنابلة: صحة ذلك.

لكن يجب أن يقيد هذا – مع ترجيحه – بألاَّ يوجد إمام غير أخرس فيصح أن يقتدي به. قال: (ولا عاجز عن ركوع أو سجود أو قعود أو قيام) فالمذهب أنه لا يجوز أن يولى الإمامة من كان عاجزاً عن القيام أو القعود أو الركوع أو السجود. وقيَّدوه " إلا بمثله "، لذا ذكرنا أن قياس المذهب صحة الصلاة بمثله في الأخرس. فلا تصح إمامة العاجز عن الركوع أو السجود أو القعود إلا بمثله. وهذا هو المشهور في المذهب. وذهب الشافعية وهو اختيار شيخ الإسلام: إلى صحة إمامته لعموم قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: (يؤم القوم أقرأهم لكتاب الله) وهو وإن ترك الركوع والسجود أو القيام أو القعود أو نحو ذلك من الأركان التي لا تتأثر بها الإمامة إنما تركه على سبيل العذر فهو معذور في ذلك ومن صحت صلاته لنفسه صحت صلاته لغيره ولا دليل شرعي يمنع من ذلك. وكونه عاجزاً عن فعلها هو معذور في ذلك فلا مانع من إمامته. وهذا هو الراجح لعمومات الأدلة الشرعية. ومن صحت صلاته، صحت إمامته. قال: (إلا إمام الحي المرجو زوال علته) يستثنى من ذلك - أن في صحته أن يصلي قاعداً – مثلاً - إمام الحي الراتب إن أصيب بعلة يرجى زوالها. وهنا قيدان اثنان: القيد الأول: أن يكون إمام الحي. القيد الثاني: أن يكون مرجو زوال علته. واستدلوا: بأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قد أمَّ على ذلك، ففي الصحيحين عن عائشة في مرض النبي - صلى الله عليه وسلم - قالت: (فجاء النبي - صلى الله عليه وسلم - حتى جلس عن يسار أبي بكر فكان يصلي بالناس جالساً وأبو بكر يصلي قائماً يقتدي أبو بكر بصلاة النبي - صلى الله عليه وسلم - ويقتدي الناس بصلاة أبي بكر)

وقال بعض الحنابلة وهو اختيار الشيخ عبد الرحمن بن سعدي: قال لا يشترط ذلك لعدم الدليل عليه، ولأن الأحاديث عامة في ذلك: (وإن صلى قاعداً فصلوا قعوداً أجمعين) فلا يقيد بالإمام الراتب ولا بمرجو زوال العلة؛ ولأنه معذور في نفسه، صحيحة صلاته، وقد ترك ركناً لا يؤثر بالمأمومين تركه – أي من حيث الائتمام –، فلم يكن ذلك مؤثراً في اقتدائهم، فصحت الصلاة خلفه. وهذا القول أظهر، والنبي - صلى الله عليه وسلم - عندما صلى بهم لا يظهر لنا أنه كان مرجو زوال العلة فقد كان ذلك في مرض موته، وقد خشي الصحابة عليه الموت كما هو مشهور في قصة مرضه - صلى الله عليه وسلم -، فلا يُسلَّم – أنه كان مرجو زوال العلة. قال: (ويصلون وراءه جلوساً ندباً) إن صلى جالساً فإنهم يصلون وراءه جلوساً، بخلاف ما إذا ترك الركوع أو السجود فإنهم يسجدون. أما إن صلى جالساً فيصلون وراءه جلوساً لحديث: (فإن صلى جالساً فصلوا جلوساً أجمعين) وثبت في مسلم عن عائشة قالت: (اشتكى النبي - صلى الله عليه وسلم - فأتاه بعض أصحابه يعودونه فصلى بهم جالساً وصلوا قياماً فالتفت إليهم وأشار أن اجلسوا) . وفي مسلم نحوه من حديث جابر وفيه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (إن كدتم آنفاً لتفعلون فعل فارس والروم يقومون على ملوكهم وهم قعود) " ندباً ": فلا يجب ذلك، فلو صلوا قياماً صحت صلاتهم ولم يتركوا بذلك واجباً من واجبات الصلاة. هذا هو المشهور في المذهب. وقال بعض الحنابلة: بل ذلك فرض عليهم أي الجلوس. واستدل أهل القول الأول بأن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يبطل صلاتهم لما صلوا خلفه قياماً. أما دليل أهل القول الثاني: فهو أمر النبي - صلى الله عليه وسلم -، قوله: (إن كدتم آنفاً لتفعلون فعل فارس والروم يقومون على ملوكهم وهم قعود) وهو تشبه بهم والتشبه بهم محرم.

فعلى ذلك يجب عليهم أن يصلوا قعوداً وعليه: إن صلوا قياماً بطلت صلاتهم. وأجابوا عما استدل به أهل القول الأول، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يبطل صلاتهم؛ لأنهم فعلوا ذلك جهلاً، فعذرهم النبي - صلى الله عليه وسلم -، ولهذا نظائر كثيرة وقواعد الشريعة تدل عليه. وهذا القول الراجح. قال: (فإن ابتدأ لهم قائماً ثم اعتلَّ فجلس أتموا خلفه قياماً وجوباً) هذا استثناء: وهو أنه إذا ابتدأ الإمام الصلاة قائماً فشرعوا في الصلاة في حال القيام ثم اعتلَّ الإمام فجلس فإنهم يتمون صلاتهم قياماً كما شرعوا فيها قياماً. إذن المسألة السابقة: حيث كان الإمام مبتدئاً جالساً فكبَّر بهم تكبيرة الإحرام جالساً. أما إن شرع بهم قائماً ثم جلس فإنهم يتمون الصلاة قياماً. واستدلوا: بحديث أبي بكر المتقدم فإن فيه أن أبا بكر صلى بالناس قائماً فجاء النبي - صلى الله عليه وسلم - فجلس عن يسار أبي بكر فكان المأمومون مع إمامهم الأول قد شرعوا في الصلاة قائمين ثم اعتلَّ الإمام حيث أن النبي - صلى الله عليه وسلم - صلى بهم وبه علته المقتضية للجلوس، فأتموا صلاتهم قائمين. 1- هذا المشهور في المذهب من الجمع بين حديث أبي بكر وحديث: (إذا صلى قاعداً فصلوا قعوداً أجمعين) فالجمع: أن يقال: إن صلى جالساً من أول صلاته فإنهم يصلون خلفه جلوساً أجمعين. أما إن اعتل أثناء الصلاة فجلس، أتموا صلاتهم قائمين لحديث أبي بكر، وهو مذهب طائفة من أهل الحديث وهو اختيار ابن المنذر وابن خزيمة. 2- وقال جمهور العلماء: يصلون خلفه قياماً مطلقاً سواء ابتدأ الصلاة جالساً أو اعتلَّ أثناءها، لحديث أبي بكر. قالوا: وحديث أبي بكر في مرضه فهو حديث ناسخ للأحاديث المتقدمة فهو الحديث المتأخر. والراجح ما ذهب إليه الحنابلة لأن الجمع أولى من النسخ. والحمد لله رب العالمين قال المؤلف رحمه الله: (وتصح خلف من به سلس البول بمثله)

فتصح الصلاة خلف من به سلس بول وهكذا كل من به حدث متجدد كأن تصلي المستحاضة بغير المستحاضة، وهكذا في كل من ثبت به الحدث المتجدد، فتصح الصلاة خلف من به سلسل البول بمثله. ومفهومه أنها لا تصح إن كان يصلي بمن ليس فيه سلس بول. - هذا هو المشهور في المذهب، وأن إمامة من به سلس بول لا تصح إلا أن يؤم مثله. ودليله ما تقدم: لكونه عاجز عن شرط، وقد تقدم العجز عن الركن وهنا عجز عن الشرط وهو الطهارة. - وقال بعض الحنابلة: تصح؛ لأنه وإن كان عاجزاً عن الطهارة فهو عجز بعذر به وصلاته صحيحة ولا ينقص ذلك من صلاته شيئاً، فلا وجه – حينئذ- لإبطال صلاته. وهذا هو اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية والشيخ عبد الرحمن بن سعدي وهو القول الراجح، فإنه قد صلى صلاة صحيحة وقد ترك شرطاً من شروطها معذوراً فيه لكونه عاجز عنه. قال: (ولا تصح خلف محدث ولا متنجس يعلم ذلك) فإذا علم الإمام أنه محدث أو متنجس فالصلاة باطلة أي صلاة المأمومين، أما الإمام فصلاته باطلة بالإجماع، لكن الخلاف في صلاة المأمومين خلفه: فالمذهب أن صلاتهم باطلة لا تصح، فيما إذا صلى وهو محدث أو متنجس يعلم ذلك فصلاته باطلة إجماعاً، وصلاة المأمومين كذلك باطلة أيضاً. وظاهره سواء علم المأموم طهارته أو نجاسته أو لم يعلم ذلك فالحكم إنما هو بعلم الإمام، هذا هو المشهور في المذهب. وذهب الشافعية: إلى القول بأن الصلاة صحيحة، وهو اختيار شيخ الإسلام والشيخ عبد الرحمن بن سعدي. قالوا: المأموم ليس منه تفريط ولا خطأ بل قد عمل ما يجب عليه من الاقتداء، وكون الإمام يكون محدثاً أو غير ذلك هذا تفريط من الإمام وقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: (يصلون لكم فإن أصابوا فلكم ولهم، وإن أخطأوا فلكم وعليهم)

وهذا هو القول الراجح، لأن هذا المأموم صلى خلفه صلاة صحيحة واقتدى به والخطأ إنما هو من جهة الإمام والتفريط إنما هو من جهته ولا ينسب إلى المأموم تفريط ولا خطأ فكانت صلاته صحيحة. وعلى القول الراجح – وهو قول الشافعية -: إذا علم أثناء الصلاة بحدث إمامه أو نجاسة ثوبه أو بدنه فيجب عليه أن ينفرد بالصلاة فيصلي خلفه منفرداً أو بجماعة، فإن ائتم به ولو لحظة عالماً بطلت صلاته؛ لأنه عقد صلاته بمن لا تصح إمامته فكانت الصلاة باطلة. قال: (فإن جهل هو والمأموم حتى انقضت صحت لمأموم وحده) فإن جهل الإمام فالضمير الظاهر " هو " يعود على الإمام، فإن جهل الإمام والمأموم حتى انقضت صحت للمأموم وحده. أما كون صلاة الإمام تبطل فللإجماع المتقدم، وأن من صلى محدثاً بطلت صلاته وإن كان جاهلاً أو ناسياً. وأما من صلى بنجاسة فقد تقدم ترجيح أن من صلى بنجاسة جاهلاً أو ناسياً فصلاته صحيحة. فهنا: إذا جهل الإمام بالحدث أو النجس على المذهب، وجهل المأموم بالحدث أو النجس – على المذهب – حتى انقضت الصلاة، صحت للمأموم وحده لأنه معذور بالجهل، هذا على خلاف القياس عند الحنابلة. لذا ذهب طائفة منهم إلى أن الصلاة تبطل أيضاً ولو كان الإمام جاهلاً، وهو القياس عندهم وإنما خالفوه هنا لثبوت الأثر عندهم عن عمر وعثمان وعلي كما روى ذلك الأثرم وابن المنذر. إذن: المشهور من المذهب – لآثار ذكروها عن عمر وعثمان وعلي عند الأثرم وليس كتابه بين أيدينا فننظر في سنده، وذكره ابن المنذر، تركوا القياس لذلك وإلا فالقياس - أن الصلاة باطلة، وهو رواية عن الإمام أحمد أي البطلان. وقوله: " حتى انقضت " يدل على أنهم لو علموا أثناء الصلاة لبطلت.

بمعنى: صلى الإمام جاهل بالحدث والمأموم كذلك جاهل بحدث الإمام فعلموا جميعاً أو علم أحدهم أثناء الصلاة بطلت ووجب على من علم الاستئناف، فهذا أي قوله " حتى انقضت " قيد مقيد، فهو يدل على أن الإمام أو المأموم لو ثبت من أحدهما أو جميعاً العلم بالحدث أثناء الصلاة وجب استئناف الصلاة، أي تبطل الصلاة من الجميع، هذا هو المشهور في المذهب. وعن الإمام أحمد: أنها لا تبطل بل يبني المأموم، فإذا قطع الإمام صلاته أثناء الصلاة فتذكر حدثاً فقطعها، فإن المأموم يتم صلاته سواء أتموها جماعة أو فراداً، هذا هو الراجح؛ لأن صلاة المأمومين قد ثبتت صحتها وانقطع الإمام عن الصلاة لعذر فكان لهم أن يتموها منفردين أو جماعة ولا دليل على بطلان هذه الصلاة والمأموم لم يحدث منه خطأ ولا تفريط. وهي أولى من المسألة السابقة إذا تمت صلاتهم أو لا فرق بينهما، فكما أنهم لو أتموا الصلاة صحت فكذلك إذا علم الحدث أثناءها. أما على القول المرجح وهو مذهب الشافعية: فإن هذه المسائل كلها ظاهرة الرجحان، فسواء كان التذكر أثناء الصلاة أو بعدها فعلى مذهب الشافعية الذي تقدم ترجيحه أن صلاة المأموم صحيحة، بل لو كان الإمام يعلم ذلك حتى أتم الصلاة فصلاة المأمومين صحيحة، وهذا أولى من جهل الإمام. * القاعدة – على الراجح –: أن الإمام إذا صلى جاهلاً أو ناسياً أو عالماً متعمداً فصلاة المأمومين صحيحة مطلقاً إلا أن يثبت العلم فتبطل صلاة من علم؛ لأن علمه يزيل عذره فيكون – حينئذ – مخطئاً مفرطاً. ومذهب الحنابلة: أنه إذا علم أحد المأمومين ثبت الحكم للجميع فبطلت. وهو ضعيف ظاهر الضعف. لذا ذهب الموفق وهو مذهب القاضي إلى أن الحكم على من علم فحسب، فمن علم الحدث في الإمام فيجب عليه أن ينفرد عن إمامه. قال: (ولا إمامة الأمي وهو من لا يحسن الفاتحة أو يدغم فيها ما لا يدغم أو يبدل حرفاً أو يَلْحَن فيها لحناً يحيل المعنى إلا بمثله)

أي لا تصح إمامة الأمي. والأمي هو من لا يحسن الفاتحة أي لا يحفظها. أو " يدغم فيها ما لا يدغم " فحينئذ يذهب حرف من حروف الفاتحة. أو " يبدل حرفاً بحرف " كالألْثَغ (1) وهو الذي يبدل حرفاً من الحروف الهجائية بحرف آخر كالراء غيناً أو نحو ذلك. أو " يلحن فيها لحناً يحيل المعنى " كأن يقول " إياكِ " أو " أنعمتَ (2) " أو " أهدنا " من الهدية. " إلا بمثله " فتصح إمامته. فتقرير المذهب: أن الأمي لا يصح أن يؤم غيره إلا من كان مثله. وقوله " إلا بمثله " مطلق وظاهره وإن كان للمأموم الذي لا يحسن الفاتحة إمام آخر يمكنه أن يأتم به وهو قارئ. هذا ظاهر إطلاقه. وذهب بعض الحنابلة: أن ذلك لا يجوز، بل إنما يجوز ذلك للضرورة أي عند عدم الإمام القارئ. وهذا القول الراجح. هذا ما اتفق أهل العلم من عدم صحة إمامته إلا بمثله. - وذهب بعض أهل العلم إلى أن إمامة الأمي صحيحة مطلقاً، وهو رواية عن الإمام أحمد ورواية عن الإمام مالك وقول قديم للإمام الشافعي واختاره طائفة من أصحابه كالمزني وأبي ثور وابن المنذر. وذلك لأنه عاجز عن ركن من أركان الصلاة وهو الفاتحة فكان كالعاجز عن القيام، ومحل هذا حيث كان عاجزاً كما ذكروا كالألثغ، أما إذا كان يمكنه التعلم ويقدر على إصلاح الفاتحة فإنه لا يجوز الائتمام به ولا تصح إمامته. وهذا قياس قوي ظاهر. ومع ذلك فالأحوط مذهب الجمهور، وقلت: الأحوط، لأن الترجيح غير بيّن ظاهر في هذه المسألة فالتجاذب بين الدليلين قوي. والفارق بين ما ذكروه من الأصل والفرع فارق يترتب الحكم عليه حيث قلنا: هو مؤثر أو غير مؤثر. فالفارق: أن العاجز عن القيام والقعود ونحو ذلك عجزه عن القيام والقعود لا يؤثر في صلاة المأموم.

_ (1) المعجم الوسيط: 2 / 815. (2) لعلها: أنعمتُ

بخلاف العاجز عن قراءة الفاتحة فإن الصلاة قرآن كما قال تعالى {وقرآن الفجر} ويرفع صوته ليسمع المأموم لاسيما على القول بأن الإمام يتحمل عن المأموم فاتحة الكتاب، فإن هذا يكون قولاً ظاهراً جداً. أما على القول الراجح وهو أن الإمام لا يتحمل عن المأموم الفاتحة فيكون ذلك أضعف. فهنا قراءة الإمام مؤثرة بدليل أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (يؤم القوم أقرؤهم لكتاب الله) فلتأثير القراءة في الإمامة قدم الأقرأ على غيره، حتى يقدم على من هو أفقه ومن هو أسن ومن هو أقدم هجرة وغيره، فالقراءة لها أثر في الصلاة ومع ذلك فكما تقدم القول بصحة إمامته قول قوي وهو رواية عن الإمام أحمد، ورواية عن الإمام مالك، والقول القديم للشافعي وهو اختيار طائفة كابن المنذر وغيره، وهو قول قوي لكن الأحوط العمل بما ذهب إليه الجمهور. قال: (وإن قدر على إصلاحه لم تصح صلاته) أي إن قدر على إصلاح هذا اللحن الذي يحيل المعنى أو قدر على أن يحسن الفاتحة فيحفظها لم تصح صلاة نفسه فضلاً عن أن تصح إمامته فصلاته باطلة، وهذا محل الخلاف في المسألة السابقة، فصحة إمامته وعدمها إنما هو حيث كان عاجزاً عن إحسان الفاتحة أو إزالة الخطأ الواقع منه فيها. أما إذا كان قادراً على ذلك فإن صلاته لا تصح لأنه ترك ركنا قادراً عليه، وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب. قال: (وتكره إمامة اللحَّان) أي لحناً لا يحيل المعنى، أي المكثر من اللحن في الفاتحة وغيرها فإمامته مكروهة، والمراد بذلك اللحن غير المحيل للمعنى. ويمكن أن يدخل فيه اللحن المحيل للمعنى في غير الفاتحة لأنه لا يبطل الصلاة. قال: (والفأفاء والتمتام ومن لا يفصح ببعض الحروف) " الفأفاء " الذي يكرر الفاء عجزاً. " والتمتام " الذي يكرر التاء عجزاً. " ومن لا يفصح ببعض الحروف " كالذي لا يفصح بالقاف أو الضاد.

وهنا في مسألة " الضاد والظاء " كما في الفاتحة " غير المغضوب عليهم ولا الضالين ". ففي الفاتحة الضاد " ض " فإذا قرأها ظاءً فهل تصح الفاتحة أم لا؟ ظاهر قوله " أو يبدل حرفاً بحرف " أنها لا تصح، لأنه إذا قال " ولا الظالين " فإنه قرأ بالظاء التي هي أخت الطاء. هذا هو ظاهر قوله، وهو قول لبعض الحنابلة. والمشهور عندهم: أن الصلاة تصح؛ وذلك لقرب المخرج فيهما، فيتجوز عنهما. وقد قال ابن كثير: " والصحيح عند أهل العلم أن الصلاة تصح لقرب مخرجهما " فكان ذلك سبباً في التساهل والتجاوز وهذا هو القول الظاهر الذي لا يسع الناس إلا القول به وهذا هو المشهور في المذهب. إذن: إبدال الحرفين أحدهما بالآخر يتساهل فيه لقرب مخرجهما. والحمد لله رب العالمين قال المؤلف رحمه الله تعالى: (وأن يَؤُمَّ أجنبيةً فأكثر لا رجل معهن) أي ويكره أن يؤم أجنبيةً لا رجل معها سواء كانت أجنبية واحدة أو أكثر من ذلك. لما ثبت في الصحيحين من نهي النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يخلو رجل بامرأة وليس ثمَّ ذو محرم، كما في قوله - صلى الله عليه وسلم -: (لا يخلون رجل بامرأة إلا مع ذي محرم) قالوا: فهذا الحديث يدل على الكراهية. والصحيح في هذه المسألة أن المسألة دائرة بين التحريم والكراهية والإباحة: وأما التحريم: فهو إذا كانت الخلوة محرمة، فإن الإمامة محرمة مع الخلوة، وذلك للحديث المتقدم فإن ظاهره التحريم، والإمامة – حينئذٍ – من الخلوة، فكانت محرمة. وهذا إذا كان في امرأة أو امرأتين فإن مثل هذه الخلوة - حيث كانت مظنة الفتنة والشر فإنها - محرمة. وأما الكراهية: فهو إن لم يكن كذلك بأن كان داعي الفتنة موجود لكنه أضعف فإنها تكون مكروهة. وأما الإباحة فهي مما سوى ذلك.

وقد ثبت أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يؤم النساء ومنهن من يأتي وليس لها محرم ولم يشترط في حضورهن للمساجد المحرم، فدل على الجواز مع أمن الفتنة، ولا كراهية في الإمامة حينئذٍ. وقوله: " لا رجل معهن " ظاهره مطلق رجل، وهو ضعيف، بل المؤثر في هذه المسألة أن يكون هناك محرم أو رجال تزول بعددهم مظنة الفتنة فحينئذٍ لا كراهية ولا تحريم. فإذا كان هناك محرم فقد ثبت أن النبي - صلى الله عليه وسلم - صلى بأم سليم في بيتها ومعه أنس - رضي الله عنه - كما في الصحيحين. قال: (أو قوماً أكثرهم يكرهه بحق) أي: أو أمَّ قوماً أكثرهم يكرهه بحق. أما إذا كان يكرهه بغير حق فإن هذا لا يؤثر. مثال كراهيته بحق: أن يكرهه لضعف في دينه أو لضعف في إقامة الفريضة أو نحو ذلك مما يورث كراهيته وهو حق. ومثل ذلك: إذا كرهه لدنيا كأن يكون بينهما شحناء لدنيا، أو شحناء من جنس الشحناء التي تقع بين أهل المذاهب والأهواء فإن الإمامة – حينئذٍ – تكره لأن المقصود من الإمامة الاجتماع والائتلاف وهذا ينافي ذلك، وقد قال - صلى الله عليه وسلم -: (ولا تختلفوا فتختلف قلوبكم) . لقوله - صلى الله عليه وسلم - فيما رواه الترمذي بإسناد حسن: (ثلاثة لا تجاوز صلاتهم آذانهم: العبد الآبق حتى يرجع، وامرأة باتت وزوجها عليها ساخط، وإمام قوم وهم له كارهون) . وإنما يستثنى من ذلك أن تكون الكراهية بغير حق كأن يكره لدينه أو فعله السنة فإن الإمامة لا تكره. لكن استحب القاضي من الحنابلة: استحب له ألا يؤمهم صيانة لنفسه وإلا فإنها لا تكره. وذلك لأن هذا أقام بما يشرع أو يفرض عليه، ومنعه أو كراهية إمامته يؤدي إلى مفاسد كثيرة من ترك السنة وهجرها وإماتتها، ولا يشاء لفاسق أو نحوه أن يحكم بمنع إمامة أحد من أهل الصلاح إلا فعل. قال: [وتصح إمامة ولد الزنا والجندي إذا سلم دينهما]

فتصح إمامة ولد الزنا ولا تكره، والأولى أن يقال: " ولا تكره "، خلافاً للجمهور الذين قالوا: بكراهيتها؛ قياساً على العبد؛ لأن الإمامة فضيلة، فيمنع منها. لكن هذا ضعيف. والراجح ما ذهب إليه الحنابلة، وهو من مفرداتهم؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (يؤم القوم أقرؤهم لكتاب الله) ، وهذا عام، وقال تعالى: {ولا تزور وازرة وزر أخرى} ، وقال: {إن أكرمكم عند الله أتقاكم} . ثم إنه لا يقاس على العبد؛ لوجود فوارق بينهما، فهو حر له حريته من بيع وشراء وليس ثمة تمليك عليه. ثم إن العبد لا تكره إمامته على الصحيح، لكن الأولى أن يكون حراً. فولد الزنا متى سلم دينه وكان تقياً، فقد قال تعالى: {إن أكرمكم عند الله أتقاكم} ، ولا يلحقه من معرة والديه شيء، فقد قال تعالى: {ولا تزر وازرة وزر أخرى} . " والجندي إذا سلم دينهما ": الجندي هو العسكري، وليس المقصود نوعاً من الجنود، بل عامة من يعمل عند السلطة، من أعوان السلطان والقائمون بشؤون السلطة من شتى أنواع العسكر، فتصح إمامته ولا تكره إذا سلم دينه. لأن ذلك مظنة الظلم، فإن أعوان السلطان مظنة الظلم، فكان الشرط هذا معتبراً وهو أن يكون سالم الدين ومع ذلك فقد قال الإمام أحمد: " أحب إلى أن يصلي خلف غيره " وذلك لأنه مظنة الظلم. ونحن في هذا العصر أعمال العسكر ليست بمرتبة واحدة فأشبهت أعمالاً كثيرة كان يقوم بها في الزمن وغيره. لكن إن كان الجندي من أعوان الظلمة فيمنع من إمامته لأنه ظالم إن أقام بالظلم، وأما إن كان عمله لا ظلم فيه فإنه لا يمنع من إمامته لذا قال: " إذا سلم دينه " لأنه عدل ولا دليل على منعه من الإمامة. قال: (ومن يؤدي الصلاة بمن يقضيها وعكسه)

كأن تصلي الظهر وراء من يصلي الظهر لكن الإمام بنية الأداء وأنت بنية القضاء، أو هو بنية القضاء وأنت بنية الأداء فصلاة الظهر واحدة لكن الفارق بينهما أن أحدهما بنية الأداء والآخر بنية القضاء فهنا قال: يصح الاقتداء والائتمام؛ لأن الفرض واحد، فليس ثمت اختلاف على الإمام ولا يؤثر في ذلك نية الأداء والقضاء، لأن نية الأداء والقضاء لا تؤثر مع اتفاق الفرض. قال: (لا مفترض بمتنفل) إذا صلى من نوى الفريضة بمن يتنفل، فالإمام بنية النفل والمأموم بنية الفرض، فلا يصح اقتداء المفترض بالمتنفل. وهذا مذهب الجمهور. واستدلوا بقوله - صلى الله عليه وسلم -: (فلا تختلفوا عليه) قالوا: وكونه ينوي الفرض والإمام النفل هذا اختلاف على الإمام بالنية. وعن الإمام أحمد وهو مذهب الشافعي واختيار طائفة من أصحاب أحمد كالموفق ابن قدامة وهو اختبار ابن تيمية: أن ائتمام المفترض بالمتنفل صحيح. واستدلوا: بما ثبت في الصحيح من حديث معاذ: (أنه كان يصلي مع النبي - صلى الله عليه وسلم - فيؤم قومه – في مسجد بني سلمة) ، وفي البيهقي والدارقطني ومصنف عبد الرزاق والطحاوي بإسناد صحيح قال: (هي له تطوع ولهم فريضة) وثبت في أبي داود من حديث أبي بكرة في صلاة الخوف: أن النبي - صلى الله عليه وسلم -: (صلى بالطائفة الأولى ركعتين ثم سلم، ثم صلى بالطائفة الثانية ركعتين) فهنا صلى الصلاة مرتين الأولى فريضة، والثانية له نافلة، والثانية كانت بمفترضين. قالوا: أما قوله - صلى الله عليه وسلم -: (فلا تختلفوا عليه) فإن المراد منه الاختلاف الظاهر بدليل سياق الحديث أي ليس له أن يركع قبل ركوعه أو يسجد قبل سجوده أو أن يكون قائماً والإمام جالس وهكذا فهذا هو الاختلاف الظاهر المنهي عنه.

قالوا: ويدل عليه اتفاقنا نحن وأنتم على صحة ائتمام المتنفل بالمفترض وهي عكس المسألة السابقة، لما ثبت في مسلم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (صلوا الصلاة لوقتها ثم اجعلوا صلاتكم معهم نافلة) وهذا اختلاف عليه في النية ومع ذلك صحت الصلاة. وهذا هو القول الراجح. قال: (ولا من يصلي الظهر بمن يصلي العصر أو غيرهما) تقدم أن من صلى الظهر وراء من صلى الظهر ولكن هذا بنية الأداء والآخر بنية القضاء فالصلاة صحيحة. أما هنا فقد اختلفت الصلاة فهذا يصلي الظهر وهذا يصلي العصر فما الحكم؟ قال: " ولا من يصلي الظهر بمن يصلي العصر أو غيرهما " من الصلوات؛ لقوله - صلى الله عليه وسلم -: (فلا تختلفوا عليه) وهذا اختلاف عليه فإنه يصلي ظهراً والمأموم يصلي عصراً. والجواب عليه كما تقدم. - وذهب إلى صحة ذلك الشافعية ورواية عن الإمام أحمد واختيار شيخ الإسلام وهو قول ابن عقيل من الحنابلة: وأن المفترض بنية صلاة تخالف صلاة الإمام أنه لا بأس بذلك. ويدل عليه حديث معاذ فإذا صحت من المفترض خلف المتنفل ومن المتنفل خلف المفترض، فإن هذا يدل على أن النية جائز أن تخالف نية الإمام وأن ذلك لا يؤثر في الصلاة وإنما المنهي عنه الخلاف الظاهر. وعليه: فإذا كانت صلاة الإمام ثنائية، وصلاته رباعية، فإذا سلم الإمام قام فأتم لنفسه كما يقتدي المقيم بالمسافر فإذا سلم قام فأتم صلاته. والعكس كذلك: فإذا كانت صلاة الإمام أكثر من صلاة المأموم، فكان الإمام يصلي العشاء والمأموم يصلي المغرب فإنه إذا قام الإمام للرابعة جلس ثم سلم. الراجح في هذه المسألة كلها ما ذهب إليه الشافعية من الائتمام مع اختلاف النية واتفاق الفعل الظاهر جائز، وقد ثبت له في السنة نظائر كثيرة تقدم ذكر بعضها، والله أعلم. والحمد لله رب العالمين فصل قال المؤلف رحمه الله تعالى: (يقف المأمومون خلف الإمام)

اتفاقاً وقد تواترت به السنة عن النبي - صلى الله عليه وسلم -. وقد ثبت في الصحيحين عن أنس قال: (صلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقمت أنا ويتيم خلفه وأم سليم خلفنا) قال: (ويصح معه عن يمينه أو عن جانبيه) فيصح أن يكون المأمومون عن يمين الإمام أو عن يمينه ويساره اتفاقاً. لما ثبت في مسلم عن ابن مسعود: (أنه صلى هو والأسود بن يزيد وعلقمة – وهما صاحباه – فقام بينهما وجعل أحدهما عن يمينه والآخر عن يساره) فهذا يدل على جواز ذلك، وفعل النبي - صلى الله عليه وسلم - لا يدل على الوجوب كما هو مقرر في علم الأصول. لذا اتفق أهل العلم على استحباب أن يقوموا وراءه. قال: (لا قدامه) فلا يصح أن يصلي قدام الإمام. والاعتبار بمؤخرة القدم لا بمقدمتها كما تقدم في الكلام على إقامة الصفوف. فإذا صلى قدامه فإن الصلاة تبطل، وهذا مذهب جمهور أهل العلم. قالوا: لأن هذا فعل غير مشروع في الائتمام، وما لم يكن مشروعاً مما يتصل بالديانة فهو مردود، فعليه: العبادة لا تصح لأنه وقف منها وقوفاً غير مشروع في باب الائتمام فبطلت صلاته كما لو وقف خلفه فإنها تبطل،وسيأتي تقريره. فكما أن الوقوف خلف الإمام منفرداً غير مشروع تبطل به الصلاة، فكذلك قدامه بل أولى، لأن من وقف خلف الإمام أمكنه أن يأتمَّ به وهو في معنى الائتمام به ومع ذلك تبطل الصلاة مع تفرده وكونه فذاً فأولى من ذلك تقدمه. قال: (ولا عن يساره فقط) أي ولا يصح أن يصلي عن يساره فقط فتبطل. قالوا: لأنه وقف وقوفاً في الصلاة غير مشروع فبطلت به الصلاة. هذا مذهب الحنابلة. وذهب الجمهور وهو اختيار الموفق وصوبه في الإنصاف واستظهره في الفروع: أن الصلاة لا تبطل بل هي صحيحة.

قالوا: لأن الائتمام يمكن والحالة هذه ولا يناقض الائتمام أن يساويه بل إنما يناقضه أن يتقدم عليه، وكون النبي - صلى الله عليه وسلم - أدار ابن عباس – كما في الصحيحين – من يساره إلى يمينه هذا فعل، والفعل لا يدل على الوجوب، وهذا القول قول قوي؛ لأن الأصل صحة الصلاة، وقوفه عن يسار الإمام نعم هو يخالف السنة لكن إبطال الصلاة به لم يظهر الدليل الدال عليه. ومما استدلوا به أيضاً: أن ابن عباس لما وقف عن يسار النبي - صلى الله عليه وسلم - وكذا جابر جبار لم يبطل الصلاة النبي - صلى الله عليه وسلم -، فلم يأمرهم بإعادتها مع أنه أمر المسيء صلاته لما أساءها جهلاً أمره أن يعيدها. إلا أن الحنابلة تجاوزوا عن الوقوف الذي لا تتم به الركعة كما سيأتي الكلام عليه عند الصلاة فذاً خلف الصفوف. ومع ذلك فالراجح مذهب الجمهور من أن الصلاة تصح إن وقف عن يسار إمامه لكنه تارك للسنة، لكن هذا الترك لا يناقض الائتمام، فإن من الائتمام ما يكون فيه المأموم محاذياً للإمام – وقد تقدم اتفاق أهل العلم على أنهم إن صلوا عن يمينه ويساره فالصلاة تصح – فثبت أن اليسار موقف للصلاة وإن لم يكن موقفاً هنا، لكنه ثبت كونه موقفاً، فمثل هذا يخفف في حكمه. فالراجح: أنه إن وقف قدامه فالصلاة باطلة، لكن إن كان عن يساره فالصلاة لا تبطل.

واستثنى شيخ الإسلام وهو قول في مذهب أحمد وهو قول إسحاق بن إبراهيم قالوا: إن فعل ذلك لعذر صحت الصلاة، كأن يكون المسجد ممتلأً بالمصلين بحيث أنه لا يمكن أن يصلوا كلهم خلفه أو عن يمينه أو عن يساره فاحتاجوا إلى التقدم عن يمينه أو يساره شيئاً، فإن ذلك جائز لأن المصافة على الصورة المتقدمة واجبة، والواجبات تسقط عند العجز عنها، قال تعالى {فاتقوا الله ما استطعتم} وفي الحديث: (إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم) فهذا اتقى الله ما استطاع وصلى كما أمر، عاجزاً عن واجب وهو التخلف عن الإمام في المصافة أو الوقوف عن يمينه أو عن يساره، فـ[إن] عجز [عن] ذلك [و] وقف قدامه فإن الصلاة تصح للعذر، والقاعدة: أن العجز عن الواجب يسقطه. قال: (ولا الفذ خلفه أو خلف الصف إلا أن يكون امرأة) أي ولا تصح صلاة الفذ خلف الإمام أو خلف الصف إلا أن يكون امرأة. فلا يصح للمصلي أن يصلي فذاً خلف الصف أو خلف الإمام، ومراده " خلفه " إن كان المأموم واحداً ومثل ذلك: لو كان وراء الإمام صف أو صفوف فوقف وراء الصف منفرداً فإن الصلاة تبطل. ودليل ذلك: ما ثبت في مسند أحمد وسنن أبي داود والترمذي بإسناد صحيح، والحديث صححه ابن حبان وهو كما قال، من حديث وابصة بن معبد - رضي الله عنه - قال: (رأى النبي - صلى الله عليه وسلم - رجلاً يصلي خلف الصف وحده فأمره أن يعيد الصلاة) وفي ابن ماجه وابن حبان بإسناد صحيح أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (لا صلاة لمنفرد خلف الصف) ففي الحديث الأول أمره النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يعيد صلاته، وفي الحديث الثاني أخبر النبي - صلى الله عليه وسلم - فيه أنه لا صلاة صحيحة لمنفرد خلف الصف.

وقال جمهور العلماء: تصح الصلاة؛ لما ثبت في البخاري من حديث أبي بكرة – وسيأتي سياقه – أنه ركع دون الصف فدخل في الصف، وفيه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يأمره بالإعادة فقال: (زادك الله حرصاً ولا تعد) ففيه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يبطل صلاته وقد صلى مِنْ صلاته خلف الصف، لكن هذا الاستدلال يخالف الأدلة الصريحة التي تقدم ذكرها. ولحديث أبي بكرة استثنى الحنابلة: من صلى خلف الصف وحده دون الركعة أي لم يرفع من الركوع وهو منفرداً خلف الصف. وفيما من ذكروه فيما يظهر نظر وذلك لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى عن الصلاة خلف الصف، وأمر من صلى خلف الصف أن يعيد، وفرق بين من وقف في الصف فكبر، وبين من كبر دون الصف وهو يعلم أن له موضعاً فيه فتقدم إليه، فهذا فاعل لما لا يتم الواجب إلا به فهو يمشي راكعاً حتى يدخل في الصف، وأما الآخر فإنه قائم وليس بمتقدم إلى الصف ففرق بين المسألتين. والذي يظهر لي أنه متى صلى خلف الصف بطلت صلاته لعموم حديث: (لا صلاة لمنفرد خلف الصف) وإذا كبر وقام وركع فإن هذا من الصلاة فتكون الصلاة باطلة. إلا أنّ ما يقع ولابد من وقوعه، معفو عنه حيث أن تكبيرة الإحرام تقع ولابد من بعض المأمومين متقدمة على بعضهم فمثل هذا لا يؤثر اتفاقاً. بخلاف ما إذا قام في [خلف] الصف فإنه يظن بقاء نفسه في هذا الموقع وهو غير متأكد من إتيان أحد من الناس إليه. نعم إذا ثبت له إقبال أحد من المصلين فهذا يكون بمنزلة من ركع ودب حتى دخل في الصف، أما حيث لم يظن ذلك فالأظهر هو بطلان صلاته والله أعلم. وظاهر قول الحنابلة: أن الصلاة تبطل مطلقاً سواء كان معذوراً أو غير معذور. فلو أن رجلاً دخل المسجد فنظر فلم يجد فرجة في الصف يمكنه أن يقف فيها فصلى خلف الصف وحده فظاهر المذهب أن صلاته تبطل؛ لأنه قد صلى خلف الصف فيدخل في عموم حديث: (لا صلاة لمنفرد خلف الصف) .

واختار شيخ الإسلام وتلميذه ابن القيم: أنه إن كان معذوراً في ذلك بحيث أنه نظر فلم يجد فرجة بين الصفوف، ولم يمكنه أن يرص المصلين فيجد فرجة فإنه يصلي خلف الصف وصلاته صحيحة. وهو القول الراجح؛ للقاعدة السابقة المأخوذة من قول الله تعالى: {فاتقوا الله ما استطعتم} وحديث: (إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم) وهي: أن الواجبات تسقط عند العجز عنها. " إلا أن يكون امرأة " فإن المرأة موقفها أن تكون خلف الصفوف باتفاق أهل العلم كما ثبت ذلك في حديث أنس في الصحيحين قال: (فقمت أنا ويتيم خلفه وأم سليم خلفنا) فالمرأة تصف خلف الصف. لكن قوله " إلا أن يكون امرأة " يوهم مسألة تخالف المذهب: فيما إذا صلت المرأة خلف صفوف النساء منفردة وكان يمكنها أن تصلي معهن، فالمذهب قالوا: كذلك يبطل صلاتها قياساً على الرجل والنساء شقائق الرجال. فمراد المؤلف هنا: المرأة تكون خلف الإمام أو تكون خلف صفوف الرجال، أما إذا كانت منفردة خلف صف النساء فإن الصلاة تبطل إن كانت غير معذورة قياساً على الرجل. قال: (وإمامة النساء تقف في صفهن) لما ثبت عن أم المؤمنين عائشة: (أنها كانت تؤم النساء فتقف وسطهن) رواه البيهقي. ونحوه عن أم سلمة أنها كانت تؤم النساء فتقف وسطهن. قالوا: ندباً واستحباباً، فإن وقفت أمامهن كما يقف الرجال فالصلاة صحيحة، وذلك لأن النساء شقائق الرجال، فكما أن الرجل يصلي أمام المصلين فالمرأة كذلك. وتلك الآثار تدل على أن هذا هو المستحب للنساء، أما إن صلت المرأة إمامة متقدمة فإن الصلاة تصح لأن النساء شقائق الرجال. قال: (ويليه الرجال ثم الصبيان ثم النساء كجنائزهم) فيلي الإمام الرجال ثم الصبيان ثم النساء. " كجنائزهم ": فكذلك الجنائز في القبر وعند صلاة الإمام يقدم الرجال ثم الصبيان ثم النساء، فعند الصلاة يوضع الرجال مما يلي الإمام ثم الصبيان ثم النساء.

وفي القبر: فعندما يُراد دفنهم في قبر واحد فيوضع الرجل في اللحد ثم يوجه إلى القبلة، وبعده الصبي ثم المرأة، وسيأتي الكلام على هذا في صلاة الجنازة. أما هنا: فذكر المؤلف أنه يستحب أن يلي الإمام: الرجال ثم الصبيان ثم النساء، وهذا باتفاق العلماء، لما ثبت في مسلم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (ليليني منكم ألو الأحلام والنهى ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم) وروى الترمذي بإسناد فيه شهر بن حوشب وهو مختلف فيه وهو إلى الضعف أقرب أن أبا مالك الأشعري - رضي الله عنه - قال: (لأحدثنكم بصلاة النبي - صلى الله عليه وسلم - فأقام الصلاة ثم صف الرجال ثم صفَّ الغلمان ثم صلى بهم) هذا باتفاق العلماء ودليله حديث مسلم. وأقربهم إلى الإمام أكملهم وأفضلهم. * فإن تقدم إلى موضعه المفضول فهل للفاضل أن يؤخره عن موضعه أم لا؟ قولان لأهل العلم: الشافعية قالوا: ليس له أن يؤخره، لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - – كما في مسلم – نهى أن يقام الرجل من مجلسه ثم يجلس فيه. وقال الإمام أحمد: أنه يجوز له ذلك، لأنه في مكان ليس له، بخلاف من جلس في مجلس فلا يجوز أن يقام منه. واستدل بحديث: (ليليني منكم ألو الأحلام والنهى ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم) وفي مسند أحمد وسنن النسائي بإسناد جيد: من حديث قيس بن عبَّاد أنه صلى مع أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - فأتى أبيّ بن كعب فنحاه وقام محله فلما انصرف من صلاته قال: يا بني لا يسوؤك الله فإني لم آتك الذي لم آتيتك بجهل وإنما قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: (كونوا في الصف الذي يليني) فهذا يدل على جواز ذلك؛ لأنه هو الأحق به.

قال الإمام أحمد: " يليه الشيوخ وأهل القرآن ثم الذين يلونهم "، فعلى ذلك: يصف الرجال ثم الصبيان ثم النساء،، وليس المراد أن يصف الصبيان في صف بمفردهم وإن كان في الصف المقدم الذي فيه الرجال مواضع يمكن للصبيان أن يصفوا فيها، بل المراد أنه إذا تمت صفوفهم صلى الصبيان خلفهم. والحمد لله رب العالمين قال المؤلف رحمه الله تعالى: (ومن لم يقف معه إلا كافر أو امرأة أو من علم حدثه أحدُهما أو صبي في فرض ففذّ) أي من لم يقف معه في مكانه الذي صف فيه خلف الإمام إلا امرأة أو كافر أو من علم حدثه أحدهما أو صبي في فرض فهذه أربع مسائل فيمن تكون صلاته صلاة فذ: الأولى: إذا كان مصافاً لكافر، وهذا لا خلاف فيه بين أهل العلم؛ لأن الكافر لا تصح صلاته فلم تصح مصافته فيكون فذا فتبطل صلاته إلا من عذر. الثانية: مصافة المرأة فيكون فذاً – حينئذٍ –، وهو مذهب الحنابلة خلافاً لجمهور العلماء. قالوا: لأن هذا الموضع الذي تقف فيه المرأة مع الرجل في الصف غير معتد به فكان كعدمه، وهو قول ظاهر. الثالثة: إذا علم حدثه أحدهما: أي إذا علم أحد المتصافين حدث الآخر أو علم المحدث حدث نفسه وإن جهل ذلك المصاف فيكون فذا. وهذه شبهة بمسألة سابقة، فيقال هنا كما قيل هناك من التفصيل، والتفصيل أن يقال: إنْ علم المصلي حدث من صافه فإنه كالفذ، وأما إن لم يعلم فإنه لا يضره ذلك؛ لأنه غير مفرط وإن كان الآخر قد علم حدث نفسه، فكون الشخص يعلم حدث نفسه لا يؤثر في غيره، لكن المؤثر أن يكون الآخر قد علم بالحدث، فحينئذٍ تكون صلاته كصلاة الفذ. الرابعة: " أو صبي في فرض " فمصافة الصبي في الفريضة تصير المصاف له كالمصلي خلف الصف فذاً. قالوا: لأن صلاته نفل، وهذا يصلي مفترض فلم يجز أن يصاف المفترض المتنفل. هذا هو المشهور في المذهب. وقال بعض الحنابلة وهو القول الراجح: إن مصافة الصبي صحيحة كإمامته.

وهذه المسألة تبنى على الإمامة، فحيث قلنا إن إمامة الصبي في الفرض صحيحة، قلنا بصحة مصافته، وإن قلنا أنها باطلة قلنا ببطلان مصافته. وقد تقدم ترجيح صحة إمامته في الفريضة فكذلك صحة مصافته في الفريضة. ويدل على صحتها: حديث أنس المتقدم وإن كان في النافلة لكن ما ثبت نفلاً فهو ثابت فرضاً: في قوله في صلاة النبي - صلى الله عليه وسلم - في بيت أم سليم قال: (قمت أنا ويتيم خلفه وأم سليم خلفنا) ولأن إمامته صحيحة فأولى من ذلك أن تصح مصافته ولما ثبت من قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: (لا رجل يتجر على هذا فيصلي معه) فإنه يصلي معه ويصافه – أي المتجر – وهو متنفل، وأما الآخر فهو مفترض، فصاف المتنفل المفترض ولم يؤثر ذلك في مصافته شيئاً. فعلى ذلك: الراجح أن الصبي تصح مصافته كما هو قول لبعض الحنابلة. قال: (ومن وجد فرجة دخلها وإلا عن يمين الإمام) إذا أتى من يريد الصلاة فوجد فرجة في الصف فإنه يدخلها لقوله - صلى الله عليه وسلم -: (من وصل صفاً وصله الله) وقوله: (ولا تذروا فرجات للشيطان) وقد تقدم تخريجها. " وإلا عن يمين الإمام " فإن لم يجد فرجة في الصف فإنه يقف عن يمين الإمام. - هذا هو المذهب. لأنه موقف للمنفرد مع الإمام، وتصح أيضاً باتفاق العلماء في الجماعة أن يصلي بعضهم عن يمين الإمام وبعضهم عن يساره فثبت موقفاً أصلاً فجاز أن يقف هنا عن يمينه. - وقال بعض الحنابلة: بل يصلي فذاً، وهو اختيار شيخ الإسلام وهذا القول هو الراجح. وإن كان القول بجواز وقوفه عن يمين الإمام جائزاً لأنه موقف في الصلاة، ولأن أبا بكر صلى عن يمين النبي - صلى الله عليه وسلم - فكان مقتدياً بالنبي - صلى الله عليه وسلم - فلا بأس أن يصلي عن يمينه إلا أن الأولى أن يصلي وراء الصف فذاً كما هو اختيار شيخ الإسلام وهو اختيار طائفة من الحنابلة. قال: (فإن لم يمكنه فله أن ينبه من يقوم معه)

فإذا لم يمكنه أن يقف عن يمين الإمام فله أن ينبه من يقوم معه بنحنحة أو تسبيح أو نحو ذلك من غير جر، بل ينبه لغيره – هذا هو المشهور في المذهب. - وذهب بعض الحنابلة وهو الراجح: أنه يصلي فذاً من غير أن ينبه لأن في تنبيهه شيء من التشويش على المنبَّه، وفيه ترك فرجة في الصف قد لا يوصل فكان الأولى أن يترك المصلي في موضعه ويصلي خلف الصف معذوراً وتصح صلاته. وهل له أن يجرَّ أم لا؟ قال جمهور العلماء: ليس له أن يجرَّه، وهو اختيار شيخ الإسلام وهو المشهور في المذهب وأن ذلك مكروه. وقال بعض الحنابلة وهو اختيار الموفق: أن ذلك لا يكره، لحديث الطبراني من حديث وابصة بن معبد وفيه: (ألا دخلت معهم أو اجتررت أحداً) لكن الحديث إسناده ضعيف جداً فإن فيه راو متروك. وقال ابن عقيل من الحنابلة بتحريم ذلك، وهو قوي لما يترتب على ذلك من تشويش على المأموم، ومن نقل له من محل فاضل إلى مفضول، ومن حركة في الصلاة بلا حاجة، ومِنْ تَرْك فرجة في الصف قد أمر الشارع بسدها، فكان هذا القول فيه قوة، وإن كان المقطوع به هو الكراهية، لكن القول بالتحريم قول قوي. قال: (فإن صلى فذاً ركعة لم تصح) تقدم الكلام على هذا، في أن من صلى خلف الصف فذاً ركعة لم تصح صلاته. وظاهر قوله: " ركعة " ركوعها وقيامها وسجدتيها. فإذا صلى معه أحد قبل أن يتم الركعة أو دخل هو في الصف صحت صلاته– هذا ظاهر كلامه. قال: (وإن ركع فذاً ثم دخل في الصف أو وقف معه آخر قبل سجود الإمام صحت) " وإن ركع فذاً ثم دخل في الصف " بمعنى: رأى الناس راكعين، فركع قبل أن يصل إلى الصف، ثم دب راكعاً فدخل في الصف، فهل تصح صلاته أم لا؟

1- قال جمهور العلماء: تصح صلاته ويجزئه ذلك، واستدلوا بحديث أبي بكرة في البخاري: أنه انتهى إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو راكع فركع قبل أن يصل إلى الصف، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: (زادك الله حرصاً ولا تعد) وفي أبي داود من حديثه: (فركع دون الصف ثم مشى حتى دخل في الصف) وفي مستدرك الحاكم بإسناد صحيح عن عطاء بن أبي رباح قال: (كان عبد الله بن الزبير يقول على المنبر: إذا دخل أحدكم المسجد والناس ركوع فليركع حين يدخل ثم ليدب راكعاً حتى يدخل في الصف فإن ذلك السنة) ورواه البيهقي عن أبي بكر بإسناد ضعيف. ورواه عن زيد بن ثابت وابن مسعود وهما من كبار فقهاء الصحابة بإسنادين صحيحين. وهو قول جمهور العلماء. 2- وعن الإمام أحمد: أن الصلاة تبطل للعالم، أما إن كان جاهلاً فصلاته تصح لقوله: (زادك الله حرصاً ولا تعد) لكن هذا معارض لما دلت عليه قواعد الشريعة من أن الجاهل يكون معذوراً بالفعل عن الإثم، لكن يؤمر بالإعادة كما ثبت أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمر المسيء صلاته بأن يعيد الصلاة ولحديث عبد الله بن الزبير: (فإن ذلك السنة) إنما نفسر قوله: " زادك الله حرصاً ولا تعد " بالنهي عن الإسراع، ومن ذلك الركوع دون الصف، فإنه إسراع وقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: (إذا سمعتم الإقامة فامشوا وعليكم السكينة والوقار فما أدركتم فصلوا وما فاتكم فأتموا) فهذا الفعل مكروه، لكنه ليس بمبطل للصلاة ولا محرم هذا القول الراجح – وهو المشهور في المذهب. " أو وقف معه آخر " بأن يكون دخل معه آخر وهو يدب إلى الصف فوقف قبل سجود الإمام. وظاهره أنه لو سجد الإمام السجدة الأولى وهو لم يدخل في الصف أنه لا يدرك بذلك الركعة، ويكون كذلك قد صلى خلف الصف فذاً فبطلت صلاته. وقال في المغني وهو أظهر: قبل تمام الركعة.

وهو أظهر، فلا يقال قبل سجود الإمام وإنما يقال – على الأظهر – " قبل تمام الركعة " لما تقدم – وقد تقدم قوله – " فإن صلى ركعة فذاً ركعة لم تصح " فكذلك هنا قبل تمام الركعة. وعليه: فإن دخل في الصف والإمام ساجد في السجود الثاني أجزأه ذلك. وإن كان ظاهر الأحاديث كحديث ابن الزبير مطلق ذلك، وأنه بتكبيرة الإحرام والركوع يكون بذلك أدرك الصلاة، وإن لم يدرك الإمام إلا بعد تمام الركعة. لكن جمهور العلماء قد اتفقوا على أنه إذا أدركه بعد تمام الركعة فإن الصلاة تبطل ويكون قد صلاها فذاً خلف الصف. إذن: إذا دخل في الصف قبل تمام الركعة أو وقف معه أحد قبل تمام الركعة فإن الصلاة تصح منه، وإن أدركه بعد تمام الركعة فإنه يكون بحكم من صلى خلف الصف وحده، وقد تقدم بطلان صلاته كما هو مذهب الحنابلة، والله أعلم. استدراك: هنا قيد لم يذكره المؤلف – وهو معتبر عند الحنابلة – وهو أن يكون ذلك بقيد خشية فوات الركعة. فإن ركع قبل الصف وكان قد خشي الركعة أجزأه، وإن لم يخش فوات الركعة لم يجزئه. والقول الثاني في المذهب: أنه يجزئه ذلك مطلقاً وإن لم يخش فوات الركعة، ما دام أنه يسعى إلى الدخول في الصف. قالوا: لأن التفريق في مثل هذه المسألة بين خشية فوات الركعة وعدمه تفريقٌ غير مؤثر، لقوله - صلى الله عليه وسلم -: (فما أدركتم فصلوا وما فاتكم فأتموا) فعليه يجوز مطلقاً مع الكراهية، أي سواء خشي فوات الركعة أم لا. والحمد لله رب العالمين فصل قال المؤلف رحمه الله تعالى: (يصح اقتداء المأموم بالإمام في المسجد وإن لم يره ولا من ورائه إذا سمع التكبير، وكذا خارجه إن رأى الإمام أو المأمومين) هنا مسائل: الأولى: في حكم صلاة المأموم مع إمامه في المسجد: فهنا قال: " يصح اقتداء المأموم بالإمام في المسجد وإن لم يره " إذن يصح اقتدائه وإن لم ير الإمام ولا من وراء الإمام بشرطٍ وهوا أن يسمع التكبير.

كأن يصلي بعض المأمومين في سطح المسجد أو ساحته أو منارته أو في حجرة منه ولم يروا الإمام ولا المأمومين فإن الصلاة تصح بشرط وهو مكان الاقتداء. فإذا أمكن الاقتداء صحت الصلاة بإجماع العلماء. ومثل ذلك: صلاة النساء اللاتي يصلين في غرفة في المسجد مع إمكان الاقتداء بسماع تكبيرة الإمام وقراءته ولو لم يرين الإمام أو المأمومين. وهل يشترط اتصال الصفوف أم لا؟ قالوا: لا يشترط اتصال الصفوف، وهذا باتفاق أهل العلم حتى حكاه المجد بن تيمية إجماعاً ولم أر فيه خلافاً. وهذا يقع في المساجد الكبيرة عندما يصلي بعض الناس متأخراً في مؤخرة المسجد صفاً، والناس يصلون وبينهم وبين هذا الصف مسافات كبيرة، فإن الصلاة تصح باتفاق أهل العلم. ولكن هذا الفعل يكره لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمر المسلمين بأن يتراصوا في الصفوف كما تراص الملائكة، وهذا خلاف ما أمر به النبي - صلى الله عليه وسلم - بل ظاهر ذلك التحريم، لكن الصلاة [تصح] باتفاق أهل العلم مع ثبوتهم في المسجد، والمراد إن لم يقف فذاً – على الراجح -. الثانية: عند قوله: " وكذا خارجه إن رأى الإمام أو المأمومين " أي الحكم كذلك إذا صلى المأموم خارج المسجد لكن بشرط أن يرى الإمام أو المأمومين. فلو صلى رجل في بيت بجوار المسجد مرتفع على المسجد يرى الإمام أو يرى المأمومين كما يقع هذا في المسجد الحرام فإن الصلاة تصح لما ذكر المؤلف هنا – هذا هو المشهور في المذهب. - وقال بعض العلماء وهو رواية عن الإمام أحمد ومذهب المالكية: لا تشترط الرؤية أيضاً بل الشرط هو إمكان الاقتداء، فإذا كان يسمع التكبير صحت ولو لم يره – وهذا القول أصح من هذا القيد المتقدم – إلا أن في المسألة من أصلها نظراً كما سيأتي. والراجح الثاني: لأن المقصود من الرؤية الاقتداء، وسماع التكبير يحصل به المقصود من الاقتداء فلم تشترط الرؤية.

* لكن النظر هو هل يشترط اتصال الصفوف أم لا؟ 1- قال الحنابلة في المشهور عندهم: لا يشترط ذلك كما هو ظاهر قول المؤلف هنا. وعليه فلو صلى في بيته وسمع القراءة والتكبير فله الاقتداء في مذهب المالكية ومن تقدم ذكره، وفي مذهب الحنابلة إذا كان يرى الإمام وبعض المأمومين. 2- وقال الموفق ابن قدامة رحمه الله: يشترط اتصال الصفوف وهذا هو الراجح، وذلك لأن الإمام والمأموم إذا كانا في المسجد فهما في موضع الجماعة، فتجاوزنا عن اشتراط الاتصال لكونهما في محل الجماعة. أما والحالة هذه - فبعض المأمومين خارج المسجد -، فاشترط الاتصال ليكون حكم الخارج عن المسجد حكم الداخل فيه لوجود الاتصال بينهما وللعذر، فهذا هو القول الراجح، ولولا الإجماع المتقدم المذكور في المسألة السابقة لقلنا باشتراط اتصال الصفوف في المسجد لأنه هو هدي النبي - صلى الله عليه وسلم - وكل عمل ليس على هديه فهو رد. فعلى ذلك هنا مسألتان: الأولى: إذا اقتدى المأموم بالإمام في المسجد فهنا لا تشترط الرؤية للإمام ولا لبعض المأمومين، وإنما الشرط هو إمكان الاقتداء، ولا يشترط أيضاً – بإجماع العلماء – اتصال الصفوف، لكنه يجب على الراجح كما تقدم. الثانية: إذا كان المأموم خارج المسجد فالصحيح: أنه يشترط أن يتصل صفه بالصفوف التي في المسجد، وهو اختيار الموفق. ولا يشترط – حينئذٍ – لا الرؤية بل الشرط هو إمكان الاقتداء برؤية أو سماع أو غيره فلا فرق بين الرؤية ولا السماع. مسألة: إن كان بين المأمومين خارج المسجد وداخله – طريق أو نهر أو نحو ذلك – فهل يصح الاقتداء مع إمكانه " أي مع السماع أو الرؤية أم لا؟ قولان لأهل العلم: فالمشهور في المذهب: أن الاقتداء لا يصح لثبوت هذا الفاصل بينهما، فهو كالجدار ونحوه لأنه ليس محلاً للصلاة، فكان كالحجاب الذي يمنع الرؤية.

وقال بعض الحنابلة وهو اختيار الموفق ابن قدامة وهو مذهب الجمهور: يصح الاقتداء لإمكانه، وكون هذا الفاصل بينهما – الذي هو ليس محلاً للصلاة – كونه موجوداً مع كونه لا يمنع الاقتداء، هذا لا يؤثر، فلا يمنع من الاقتداء، وكونه ليس محلاً للصلاة هذا لا يؤثر في الاقتداء. فكون الموضع لا يصلى فيه لا يعني أنه لا يجوز أن يكون فاصلاً بين الإمام وبين المأمومين، فهذه مسألة الصلاة، وهذه مسألة الاقتداء. وهذا هو القول الراجح. فلو فصل بين المأمومين بعضهم عن بعض نهر أو طريق – كأن يصلي الناس في محل بينهم وبين المسجد الجامع طريق، وهذا الطرق لا يمكن أن يشغل بالمصلين لكونه طريقاً لمرور الناس فلا تتم المصلحة إلا بتركه مفتوحاً، فلو قدر مثل هذا فالراجح صحة الاقتداء مع إمكانه. استدراك: تقدم وجوب اتصال الصفوف فما هو ضابط ذلك؟ للحنابلة ثلاثة أقوال فيه: منهم من قال: أن يكون بين كل صف وصف ثلاثة أذرع، وهذا هو الذي يكفي للمصلي في ركوعه وسجوده. وقال بعضهم: ألا يكون بينهما ما يصح أن يكون صفاً، وذلك ما يقارب ستة أذرع أو خمسة. وقال الموفق ابن قدامه: ألا يكون بينهما بعدٌ لم يجر العرف به. والقول الثاني: لا دليل عليه، فكونه يكون بينهما خمسة أذرع أو أربعة أذرع هذا يخالف الشرع. وأما الثالث: وهو كونه راجعاً إلى العرف، هذه المسألة لا ضابط لها، فهذه مسألة شرعية قد حددها الشارع فلا ينبغي الرجوع فيها إلى العرف. فكان أولاها بالصواب القول الأول: وأنه ثلاثة أذرع، لكن يخفف فيما لو كان نحوه كأربعة أذرع أو نحوها وإن كان خلاف السنة لكن مثله لا يؤثر، كما أن الصفوف تصح مع عدم وجود المراصة في الأكعب والمناكب ويتجاوز عن الشيء اليسير فيها، فكذلك هنا. فالتحديد ينبغي أن يكون بثلاثة أذرع ونحوها وهو قول طائفة من الحنابلة. والحمد لله رب العالمين

قال المؤلف رحمه الله تعالى: (وتصح خلف إمام عال عنهم، ويكره إذا كان العلو ذراعاً فأكثر) هذه مسائل في صلاة الإمام في موضع عال عن المأمومين. الأولى قوله: (تصح) . الثانية قوله: (وتكره) . الثالثة قوله: (إذا كان العلو ذراعاً فأكثر) وظاهره أنه إذا كان أقل من ذراع أن الصلاة لا تكره. فهذه ثلاث مسائل: المسألة الأولى – وهي أصل المسألة – كراهية ذلك وأن صلاة الإمام في موضع عال أنها مكروهة. ودليله ما رواه أبو داود والحديث صحيح بشواهده: (أن حذيفة صلى في المدائن على دكان " موضع شاخص مرتفع " فأخذ أبو مسعود بقميصه فلما فرغ من صلاته قال أبو مسعود: (ألم تعلم أنهم كانوا ينهون عن ذلك؟) وفي رواية بن حبان: (أليس قد نهى عن ذلك؟ فقال: بلى قد ذكرت حين مددتني) أي حين أخذت قميصي فجبذته) فهذا الأثر فيه كراهة ذلك. وقوله: (كانوا ينهون عن ذلك) يحتمل أن يكون المراد النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه، ويحتمل أن يكون المراد أصحابه على وجهه يحتج به فيكون إجماعاً لاحتجاج أبي مسعود وإقرار حذيفة - رضي الله عنهم -– وهو مذهب جمهور العلماء، وأن صلاة الإمام في موضع عال عن المأمومين أنها تكره. 2- والثانية: قوله: (وتصح) هذا المشهور في المذهب وهو الراجح خلافاً للقول الثاني فيه. والأول هو الراجح وأنها صحيحة وإن صلى الإمام في موضع عال؛ لأن النهي لا يعود إلى ذات الصلاة، ولأن أبا مسعود وحذيفة لم يثبت عن الأول منهما الأمر بالإعادة ولا عن الثاني الإعادة، فدل ذلك على صحة الصلاة. ومعلوم أن ما يقع من الصلاة جهلاً يؤمر المكلف بإعادة الصلاة حيث كان مبطلاً لها. 3- الثالثة: وهي كراهيته بقيد أن يكون ذراعاً فأكثر. قاعدة الاستثناء عند المذهب: أن يكون العلو يسيراً.

واستدلوا بما ثبت في الصحيحين من حديث سهل بن سعد قال: (صلى النبي - صلى الله عليه وسلم - على المنبر فكبر وكبر الناس وراءه وهو على المنبر ثم رفع فنزل القهقرى حتى سجد في أصل المنبر ثم عاد إلى المنبر، فلما فرغ من صلاته قال: (أيها الناس إني صنعت هذا لتأتموا بي ولتعلموا صلاتي) . قالوا: والظاهر أن النبي - صلى الله عليه وسلم - إنما كان رقيه على الدرجة الأولى وذلك نحو ذراع قالوا: فهذا العلو اليسير لا يكره. - وقال بعض الحنابلة: بل يكون ذلك إلى قامة المأموم أي إلى ارتفاعهم، لأن ذلك يحوجهم إلى رفع البصر المنهي عنه للإقتداء بالإمام، فالمأموم يحتاج أحياناً إلى النظر إلى الإمام للإقتداء به. وما ذكروه - أهل القول الأول والقول الثاني – فيه نظر، والأظهر أن النبي - صلى الله عليه وسلم - إنما رقي على المنبر كما يرقى عليه إذا خطب، وذلك أن يكون رقيه ثلاث درجات كما كان يفعل ذلك في خطبته. لكن الحديث يحمل على الراجح – كما حملها الإمام أحمد في إحدى الروايتين عنه وهي غير مشهورة وهو مذهب الشافعية يحمل - على استثناء ذلك للتعليم. فيكون لا بأس به للتعليم، ومثل ذلك عامة المواضع التي يحتاج الإمام فيها أن يكون مرتفعاً كأن يضيق المسجد وتكون مقدمته ضيقة فلا بأس بذلك. فالمشهور عند الشافعية حمل هذا الحديث على جواز الارتفاع من الإمام عن المأمومين بلا كراهية حيث كان للتعليم ونحوه، وهو الراجح وهو رواية عن أحمد. أما ما ذكره الحنابلة من أن ذلك علواً يسيراً وهو نحو ذراع فإن ذلك فيه نظر، وكون ذلك للإقتداء موضع نظر فإن الاقتداء يتم بسماع التكبير ونحوه. فعلى ذلك الأظهر مذهب الشافعية من كراهية العلو للإمام مطلقاً إلا أن يحتاج فعل ذلك للتعليم. أما الحنابلة فمذهبهم أنه يكره مطلقاً للتعليم وغيره، لكن استثنوا من ذلك ما إذا كان دون الذراع أي الارتفاع اليسير، والأظهر الأول. قال: (كإمامته في الطاق)

الطاق هو المحراب أي يكره كذلك كما يكره له أن يؤم في المحراب - وهو مشهور معروف –. - وهذا هو المشهور في المذهب من كراهية صلاة الإمام في المحراب. قالوا: لأنه يستتر عن بعض المأمومين فيفوت بعض الاقتداء. وعليه: سجوده فيه لا بأس به؛ لأنه لا يفوت ذلك شيئاً من الاقتداء، وكذلك إذا كان المأمومون قليلين بحيث يقتدون به وإن صلى في المحراب فإنه لا يكره ذلك. وهل يشرع وضع المحراب في المسجد؟ المشهور عند الحنابلة: أن ذلك مباح؛ لأنه يستدل به على معرفة القبلة. وعن الإمام أحمد: استحبابه، واختاره بعض أصحابه؛ ليستدل به على معرفة القبلة. وعن الإمام أحمد رواية أخرى: تدل على الكراهية، كما ذكر ذلك صاحب الإنصاف، وهي الراجحة وهي كراهية ذلك. وهي قول الحسن البصري فقد قال: (الطاق في المسجد أحدثه الناس) وكرهه. وحكى للإمام أحمد الكراهية عن علي وابن مسعود وابن عمر وأبي ذر - أى كراهية الصلاة في المحراب -. وهو بدعة لم تكن في عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - ولا أصحابه كما ذكر ذلك السيوطي، وإنما كان ذلك في المائة الثانية، وكما يدل على ذلك قول الحسن المتقدم. وقد روى ابن أبي شيبة بإسناد ضعيف أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (لا تزال أمتي بخير ما لم يتخذوا في مساجدهم مذابح كمذابح اليهود والنصارى) والمذابح هي المحاريب لكونها يذبح فيها، أي تذبح فيها القرابين، فهي المحاريب كما ورد هذا في لسان العرب وغيره من كتب اللغة. وروى الطبراني والبيهقي بإسناد لا بأس به أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال – من حديث ابن عمر -: (اتقوا هذا المذابح يعني المحارب) فسر ذلك ابن الأثير بأن المراد من ذلك صدور المجالس.

وفسره السيوطي في كتابه بالمحاريب، وهو الأظهر عندي؛ لثبوت ذلك عن ابن مسعود، فقد روى ابن أبي شيبة عن ابن مسعود بإسناد صحيح إلى إبراهيم عن ابن مسعود وروايته عنه صحيحة، قال: (اتقوا هذه المحاريب) فالأظهر أن هذا الحديث يحمل على المحاريب. قال ابن مسعود – وقد كره الصلاة في الطاق – كما عند البزار: (إنما كانت للكنائس فلا تشبهوا بأهل الكتاب) ، وهذا الوجه الثاني في النهي عنها أنها تشبه بأهل الكتاب وأنها ليست من سنن المسلمين، وإنما استحبها من استحبها من أهل العلم للاستدلال بها على القبلة، لكن هذا قد وجد مقتضاه في عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - من الحاجة إلى الاستدلال إلى القبلة فلم يفعله النبي - صلى الله عليه وسلم - بل كان – كما في الطبراني – بإسناد جيد: (كان قد أتخذ لقوم مسجداً فنصب في قبلته خشبة) . فنصب الخشبة - ونحوها مما يصح سترة - يكفي في معرفة القبلة فحينئذ يكون اتخاذها بدعة كما تقدم في كراهية ذلك، فإنه لا يكره ما كان مشروعاً، فدل على أن ذلك بدعة. وكونه لم يكن على عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - ولا خلفائه الراشدين بل أحدث في المائة الثانية، وكما نص على ذلك الحسن، ووجود مقتضاه على عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - مع عدم فعله والاستغناء به عن غيره يدل على عدم مشروعيته. قال: (وتطوعه موضع المكتوبة إلا من حاجة) أي يكره للإمام أن يتطوع في الموضع الذي صلى فيه المكتوبة إلا من حاجة كضيق مسجد، كما أن الصلاة في المحراب إذا احتيج إليها لكثرة المصلين فإنه يصلي فيه للحاجة فهنا كذلك. فيكره له أن يصلي في موضعه الذي صلى فيه المكتوبة إلا من حاجة. واستدلوا: بما رواه أبو داود وغيره من حديث المغيرة: والحديث صحيح لشواهده أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (لا يصلي الإمام في موضعه الذي صلى فيه حتى يتحول) فهذا نهي من النبي - صلى الله عليه وسلم -.

وأما المأموم فقالوا: الأولى له ترك موضعه والصلاة في موضع غيره من غير كراهية. واستدلوا بما رواه أبو داود وغيره أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (أن يعجز أحدكم إذا صلى أن يتقدم أو يتأخر أو عن يمينه أو عن شماله في الصلاة يعني السُبحة) والحديث ضعيف فيه إبراهيم بن إسماعيل وهو مجهول، فالحديث لا يثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم -. وقد ثبت عن ابن عمر ما يخالف ذلك فقد ثبت في البخاري معلقاً: (أن ابن عمر كان يصلي التطوع في مقامه الذي صلى فيه المكتوبة) ، وثبت ذلك عن محمد بن القاسم، وهو من الفقهاء السبعة، وعن سالم بن عبد الله بن عمر، ثبت عنهم فعل ذلك، وليس في السنة ما يدل على كراهية هذا الفعل. فإن صلى في موضعه فلا بأس وإن تنحى فصلى في موضع آخر فلا بأس أيضاً. قال: (وإطالة قعوده بعد الصلاة مستقبل القبلة) أي يكره للإمام أن يطل القعود بعد الصلاة مستقبل القبلة، وعليه: فإن القعود اليسير لا بأس به. - وعن الإمام أحمد: كراهيته أيضاً – أي القليل – وهو أظهر. قال: (فإن كان ثمَّ نساء لبث قليلا لينصرفن) تقدم البحث في هذا في مسألة سابقة في الكلام على الذكر في صفة الصلاة. قال: (ويكره وقوفهم بين السواري إذا قطعن الصفوف) أي يكره وقوف المأمومين المصطفين وراء إمامهم، يكره وقوفهم بين السواري إذا كانت السواري تقطع الصفوف، وكما تقدم فإن الكراهية تزول عند الحاجة، فإذا ازدحم المصلون فاحتاجوا إلى أن يصلوا بين السواري فإنه تزول حينئذ الكراهية. لأن القاعدة: أن الكراهية تزول عند الحاجة إلى الفعل. واستدلوا: على الكراهية بما رواه الخمسة بإسناد صحيح عن أنس قال: (كنا نتقي هذا على عهد النبي - صلى الله عليه وسلم -، يعني الصلاة بين السواري) . فإذن: يكره ذلك لأنه يقطع الصفوف لكن الكراهية تزول عند الحاجة إلى الفعل – كما تقدم -. والحمد لله رب العالمين. فصل

قال المؤلف رحمه الله تعالى: (ويعذر بترك جمعة أو جماعة مريض) هذا الفصل في الأعذار التي يجوز فيها ترك الجمعة والجماعة. (مريض) المريض: هو الذي يشق عليه حضور الجماعة فلا يجب عليه حضورها، لقوله - صلى الله عليه وسلم - فيما رواه ابن عباس في سنن أبي داود، وقد تقدم الحديث: (من سمع النداء فلم يأت فلا صلاة له إلا من عذر) والمرض عذر، وقد عذر الله به عن الصيام ونحوه من الأحكام، ولأن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما مرض صلى في بيته، وقال كما في الصحيحين: (مروا أبا بكر فليصل بالناس) . ومثل ذلك: لو خشي المرض كانتشار وباء أو تعرض لريح شديدة أو نحو ذلك وهو يخشى المرض بها. ومثل ذلك: تباطؤ المرض وتأخره، فكله من هذا الباب فيعذر في ترك الجمعة والجماعة – وهذا باتفاق العلماء أي أنه معذور في حضور الجمعة والجماعة حيث كان يشق عليه ذلك. قال: (ومدافع أحد الأخبثين ومن بحضرة طعام محتاج إليه) تقدم هذا في قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: (لا صلاة بحضرة طعام ولا وهو يدافعه الأخبثان) في مكروهات الصلاة. قال: (وخائف من ضياع ماله أو فواته أو ضرر فيه، أو موت قريبه، أو على نفسه من ضرر أو سلطان أو ملازمة غريم ولا شيء معه أو فوات رُفقة) الخوف عذر لترك الجمعة والجماعة، وهو ثلاثة أنواع: 1- خوف على النفس. 2- وخوف على المال. 3- وخوف على الأهل والولد. فالخوف على النفس من سلطان أو سبع أو سيل أو غير ذلك. والخوف على المال بتفويته، من سرقة أو فساد مال أو نحو ذلك. كأن يصلح رجل مالاً له فخشي إن ذهب فسد فيجوز له ترك الجمعة والجماعة. وكذلك لو أن رجلاً له دواب يخشى ضياعها فيجوز له ترك الجماعة. والخوف على الأهل والولد: كأن يكون رجل معه أهله وولده في مدينة غير آمنة فخشي إن وقف عند المسجد ضاع أهله أو ولده فيجوز له ترك الجمعة أو الجماعة.

(وخائف من ضياع ماله أو فواته) الفرق بين الضياع والفوات أن الضياع مع حصوله، وأما الفوات فقد لا يكون مع حصوله. فمثلاً: رجل يظن أنه يجد عبده الآبق في وقت صلاة الظهر فيجوز له أن يدعها جماعة لحصول ماله. أو يظن أنه يجد بهيمة أو دوابه في وقت من أوقات الصلاة ويخشى إن فات هذا الوقت أن يضيع هذا المال أو يفوت عليه فيجوز له ترك الجمعة أو الجماعة. (أو موت قريبه) سواء كان بمرضه أو لا. قالوا: لأنه إن كان يمرضه فهذا لحاجة هذا الحي إليه، وإن كان لا يمرضه فلأن المشقة التي يجدها في نفسه من فوات توديعه قبل موته أعظم في نفسه مما أمر الشارع بترك الجمعة والجماعة له من طعام ونحوه، فنفسه تتوق إلى رؤية ميته وتوديعه قبل موته، وهذا أكثر مشقة من الطعام الذي أمر الشارع بترك الجماعة له. (أو على نفسه من ضرر أو سلطان) كأن تكون هناك عقوبة من سلطان ما على حضور الجمعة والجماعة، فيجوز تركها لثبوت العذر عليه. وكل هذه دليلها قوله تعالى: {ما جعل عليكم في الدين من حرج} (أو ملازمة غريم ولا شيء معه) مثال: رجل يقول: أنا إذا ذهبت إلى الجمعة أو الجماعة لازمني غريمي ولا مال معي وأخشى أن يحبسني بماله وأنا عاجز عن السداد، فيجوز له ترك الجمعة والجماعة. فإن كان مماطلاً فليس له ترك الجمعة والجماعة ولا عذر له. ومثله قالوا: لو كان عليه قود أي قصاص وهو يرجو العفو، ويعلم إنه إن حبس ثبت القود وهو يرجو العفو فيجوز له أن يترك الجمعة والجماعة. ولا يجوز له أن يتركها لقصاص أو حد أو نحو ذلك لأنه حق فلا يترك به حق، فلا يكون معذوراً بذلك. (أو من فوات رفقة) كرفقة في سفر مباح فيجوز له ترك الجمعة والجماعة لثبوت الحرج في ذلك. قال: (أو غلبة نعاس)

كأن يصاب رجل بسهر فيغلبه النعاس فيؤذن الفجر وهو مصاب بالسهر الشديد وقد غلبه النعاس، فخشي إن انتظر الإمام أن يشق عليه، فحينئذ يجوز له أن يصلي قبل إقامة الصلاة؛ لأنه معذور بغلبة النعاس الذي هو أشق من تطويل الإمام، وقد تقدم في قصة معاذ المتفق عليها أن تطويل الإمام عذر في ترك الجمعة والجماعة والصلاة منفرداً. قال: (أو أذى بمطر أو وَحَل) . الوَحَل: بفتح الحاء وهي اللغة الفصيحة، وأما بتسكينها (الوَحْل) فهي لغة ضعيفة. فإذا كان هناك أذى بمطر أو وحل فله أن يترك الجمعة والجماعة. ودليله: ما ثبت في الصحيحين عن ابن عباس أنه: (أمر مؤذنه في يوم مطير إذا قال: (أشهد ألا أله إلا الله وأشهد أن محمداً رسول الله) قال له: (لا تقل حي على الصلاة) وقل: (صلوا في بيوتكم) فكأن الناس استنكروا ذلك فقال: " أتعجبون من ذا، فإنه قد فعله من هو خير مني، إن الجمعة عَزْمَة وإني كرهت أن أخرجكم فتمشوا في الطين والدحض) والدَحْض هو الطين الزلق. فهذا يدل على أن اليوم المطير أو الليلة المطيرة التي يكون فيها دحض ووحل يجوز أن يترك الجمعة والجماعة. بل ولو كان المطر يبل الثياب حيث كان به أذى فيجوز فيه ترك الجمعة والجماعة، وقد ثبت في أبي داود بإسناد صحيح عن أبي المليح عن أبيه: (أنه شهد مع النبي - صلى الله عليه وسلم - يوم الحديبية في يوم مطير لم يبتل أسفل نعالهم فأمرهم النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يصلون في رحالهم) . فهذا يدل على أنه متى كان مطر يثبت به الأذى أو شيء من الحرج أو كان هناك طين أو دحض فإن ترك الجمعة والجماعة جائز لرفع الحرج عن الأمة. قال: (وبريح باردة شديدة في ليلة مظلمة) أي لفظة (مظلمة) فلم يذكرها بعض الحنابلة، والظاهر هو تركها؛ لأن الحديث الوارد في هذه المسألة المستدل به ليس فيه ذكر أنها مظلمة، وكذلك لفظة (شديدة) ليست شرطاً عندهم.

قال في الإقناع: (ولو لم تكن شديدة خلافاً لظاهر المقنع) ودليل الجواز: ما ثبت في الصحيحين من حديث ابن عمر أن النبي - صلى الله عليه وسلم -: (كان يأمر مؤذنه في الليلة الباردة أو المطيرة أن يقول: (ألا صلوا في رحالكم) . قوله: (الليلة الباردة) قالوا: هذا دليل على أن الليلة إذا كانت باردة فيها ريح بارد وإن لم يكن ذلك شديداً كما تقدم فإنه يجوز ترك الجمعة والجماعة. إذن: إذا كانت هناك ليلة باردة، بقيد أن يكون فيها ريح فإنه يجوز له ترك الجمعة والجماعة. - وقال الشافعية: إذا كان البرد شديداً تركت الجمعة والجماعة ليلاً أو نهاراً. والظاهر أن مرادهم بالبرد الشديد ما يقع به الحرج، وذلك فيما لم يكن مألوفاً عند الناس كما قيده صاحب حاشية المربع، ولم أرها لغيره لكنه قيد معتبر، فإن المألوف ليس في ذلك حرج عند أهل البلدة الذين ألفوا هذا النوع من البرد بخلاف من لم يألفوه أو كان برداً شديداً خارجاً عما ألفوه. قال الشافعية: وكذلك الريح الشديدة في الليل فإنه يجوز ترك الجمعة والجماعة. والظاهر أيضاً: أنه لا فرق بين ليل أو نهار حيث كانت شديدة يلحق بها الحرج. والقاعدة: في مثل هذه المسائل: أنه متى ثبت الحرج في برد أو ريح شديد سواء كان ذلك في ليل أو نهار فإنه يجوز ترك الجمعة والجماعة – على الراجح -. أما المشهور في المذهب فإنهم يقيدونه بالبرد الذي يكون بريح في ليل، والظاهر عدم اعتبار كون ذلك في ليل أو نهار، لأن الحرج الحاصل بالليل قد حصل مثله بالنهار فلا فرق – حينئذ –. ولا يقيَّد باجتماع الريح والبرد الشديد لحصول الحرج بأحدهما، فإذا وجد أحدهما جاز حينئذ الجمع. - وقال بعض الحنابلة: إذا كان حراً مزعجاً شديداً يفوت معه الخشوع فكذلك، وهو قياس ظاهر لفوات الخشوع كما ذكر.

إذن: القاعدة في هذه المسائل كلها: أنه متى ثبت العذر من مرض أو خوف، أو ثبت الحرج من غلبة نعاس أو من مطر أو من ليلة باردة أو من ريح شديدة مما يثبت الحرج بمثله فإنه يجوز الجمع، وقد قال ابن عباس – كما تقدم –: (إني كرهت أن أحرجكم) أي أن أوقعكم في الحرج، فدل ذلك على أن المعتبر في مثل هذه المسائل هو الحرج، لوجوب الجمعة والجماعة وقد قال - صلى الله عليه وسلم - للأعمى – الذي له قائد لا يلائمه: (لا أجد لك رخصة) ، فدل على وجوب حضورها، وأنه ليس بأي حرج بل بالحرج الذي يلحق المكلف منه شيء من المشقة. لذا إذا كان للأعمى قائد لا يلائمه الملائمة التامة فيجب عليه الحضور وتحمل ذلك، بخلاف الأعمى الذي ليس له قائد أصلاً فإنه معذور عن حضور الجمعة والجماعة؛ لأن الواجبات تسقط عند العذر، وتسقط عند الحرج؛ لأن الله عز وجل قال: {ما يريد الله ليجعل عليكم في الدين من حرج} ومن الدين الجماعة والجمعة. مسألة: الخوف المعتبر هو ما يكون مظنة لذلك كمظنة السرقة ونحوها، أما مجرد الخوف فلا يجيز ترك الجمعة والجماعة. مسألة: إذا كان العمل تفوت فيه الجماعة فما حكمه؟ فيه تفصيل: فإن كان طارئاً فلا بأس. لكن إن كان أصلياً فيه فإنه يتقدم إلى وظيفة يعلم أنه يصلي فيها الجماعة، والأولى له ألا يعمل فيها إذا كانت تفوته فيها الجماعة؛ لأنها أدت إلى محرم وهو ترك صلاة الجماعة. لكن يستثني من ذلك: ما كان فيه مصلحه عامة كالشرط ومن في الثغور ونحوهم؛ لأن المصلحة العامة مقدمة على المصلحة الخاصة. ومن ذلك ما ثبت في الصحيحين من حديث: (لقد هممت أن آمر بالصلاة فيؤذن لها ثم آمر رجلاً فيؤم الناس ثم أخالف إلى رجال) فقد همَّ بترك الصلاة والذهاب لإنكار المنكر. مسألة: حكم دخول المسجد لمن أكل ثوماً أو بصلاً؟ الأظهر أن النهي للتحريم كما هو رواية عن الإمام أحمد. وهل يعذر بترك الجماعة أم لا؟

الظاهر أنه يمنع من ذلك عند قرب وقت الصلاة؛ لأن أكلها سبب لمنعه من حضور الجماعة، وما كان سبباً إلى ترك واجب فإنه يمنع منه. * وهل يخرج من المسجد أم لا؟ (1) قولان لأهل العلم: الظاهر منهما أنه يخرج إلا أن يترتب على ذلك مفسدة كما ذكر ذلك بعض الحنابلة. * وهل يقاس عليهما الدخان؟ يقاس عليهما الدخان وغيره مما له رائحة كريهة يتأذى منها الملائكة. والظاهر كذلك: أن النهي عن حضور الجماعة ليس خاصاً بما إذا كانت في المسجد، بل هو عام فيما إذا كانت في المسجد أو لم تكن، لأن الجماعات لها حكم المساجد في حضور الملائكة. والحمد لله رب العالمين. باب: صلاة أهل الأعذار أهل الأعذار من مريض ومسافر وخائف وغيرهم من أهل الأعذار. وقد شرع في ذكر صلاة أحد المعذورين وهو المريض. فقال المؤلف رحمه الله: (تلزم المريض قائماً) لما ثبت في البخاري من حديث عمران بن حصين أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (صل قائماً فإن لم تسطع فقاعداً فإن لم تستطع فعلى جنب) فإن أمكنه القيام استناداً إلى حائط أو عمود أو إلى أحد جنبه، وجب عليه ذلك لثبوت القيام، وقد تقدم البحث في هذا في الكلام على أركان الصلاة ومنها القيام. فإذاً: يجب عليه القيام سواء كان قائماً بنفسه أو معتمداً على غيره من حائط أو جدار أو عمود أو نحو ذلك. قال: (فإن لم يستطع فقاعداً) فالمريض الذي لا يستطيع الصلاة قائماً فإنه يصلي قاعداً وكذلك إذا كان يخشى المرض أو زيادته بصلاته قائماً فإنه يصلي قاعداً مع قدرته على الصلاة قائماً؛ لأنه وإن قدر على أن يصلي قائماً لكن ذلك يترتب عليه خشية الضرر، إما تباطؤ البرء وإما بزيادة المرض وقد قال تعالى: {وما جعل عليكم في الدين من حرج} . فإذن: إن لم يستطع القيام فإنه يصلي قاعداً.

_ (1) وقد ثبت في الصحيحين إخراج من أكل الثوم والبصل من المسجد من حديث عمر.

قالوا: ويندب له أن يكون متربعاً لما ثبت في النسائي أن النبي - صلى الله عليه وسلم -: (كان يصلي متربعاً) وهذا في حال القيام، وفي الأصح أيضاً في حال الركوع. وأما في حال الجلوس والسجود فإنه يثني رجليه كما يثنيهما في جلوسه في الصلاة؛ لأن هذا هو الأصل في السجود والجلسة بين السجدتين، والجلوس للتشهد. أما التربع فإنه في القيام خاصة. * وأما الركوع ففيه قولان للحنابلة: الأول: أنه يثني رجليه كما يثنيهما في حال الجلوس والسجود أي يفترش. والثاني: أنه يتربع للركوع، وهذا أصح؛ لأن هيئة الراكع في قدميه كهيئة القائم فكان أولى بأن يلحق به بخلاف الساجد والجالس فإن هيئة رجليه ليست كهيئة رجلي الراكع. فالأرجح وهو اختيار الموفق من الحنابلة أنه في الركوع يكون متربعاً. وإنما قلنا بندبه؛ لأنه ليس فيه إلا فعل النبي - صلى الله عليه وسلم -، وفعله لا يدل على الوجوب، وقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: (صل قائماً فإن لم تستطع فقاعداً) وأطلق فيدخل في ذلك التربيع وغيره. وعن الإمام أحمد: أن ذلك واجب. والأصح أنه مستحب كما تقدم. قال: (فإن عجز فعلى جنبه) لقوله - صلى الله عليه وسلم -: (فإن لم تستطع فعلى جنب) وأطلق النبي - صلى الله عليه وسلم - فلم يقيد الاضطجاع على جنبه الأيمن أو جنبه الأيسر، فسواء اضطجع على جنبه الأيمن أو الأيسر فلا بأس؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يعين أحدهما ولا دليل على التعيين. ويكون مستقبلاً القبلة، فيضع وجهه وسائر بدنه تجاه القبلة، هذا هو مذهب جمهور العلماء لقوله - صلى الله عليه وسلم -: (فإن لم تسطع فعلى جنب) وقد أوجب الشارع استقبال القبلة، فكان واجباً عليه أن يضطجع على جنبه متجهاً ببدنه إلى القبلة. قال: (فإن صلى مستلقياً ورجلاه إلى القبلة صح)

فيصح ذلك وإن قدر على أن يضطجع على جنبه، وذكر الموفق والمجد ابن تيميه أن في رواية للنسائي: (وإلا فمستلقياً) ولم أر هذه اللفظة لا في السنن الكبرى ولا الصغرى، وكذلك قال محققا المغنى: إنهما لم يجداها. وقال صاحب الفروع لما حكى ذلك عن المجد قال: " كذا قال "، ففي ثبوت هذه اللفظة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - نظر. ثم إن الحديث لو صح فإنما هو بعد قوله: (على جنب) أي فعلى جنب فإن لم يستطع فإنه يصلي مستلقياً. قالوا: ولأنه إذا فعل ذلك فقد أثبت نوع استقبال للقبلة، فإن فيه نوع استقبال للقبلة بوجهه فيصح بذلك. والقول الثاني في المذهب – وهو اختيار الموفق ابن قدامة: أن ذلك لا يصح، قال الموفق: (والدليل يقتضي ألا يصح، لأن ذلك خلاف أمر النبي - صلى الله عليه وسلم -) وهو وجه عند الحنابلة ورواية عن الإمام أحمد وهو القول الصحيح، لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (فإن لم تستطع فعلى جنب) . وكونه يثبت فيه نوع استقبال هذا لا يدل على صحته بدليل أن القاعد لا تصح صلاته قاعداً وإن كان مستقبلاً القبلة مع قدرته على القيام. ولأن كونه يصلي على جنب أتم في استقباله، فإن سائر بدنه الذي يستقبل به القبلة يكون في حال الاضطجاع على جنب قد استقبل به القبلة. فالصحيح أن ذلك لا يجزئه وهو وجه عند الحنابلة ورواية عن أحمد وهو اختيار الموفق ابن قدامة. لكن إن عجز أن يصلي على جنب فإنه يصلي مستلقياً ولا نزاع في صحة ذلك لقوله تعالى: {لا يكلف الله نفساً إلا وسعها} وقوله: {فاتقوا الله ما استطعتم} وهذا فيه نوع استقبال. قال: (ويومئ راكعاً وساجداً ويخفضه عن الركوع)

مع العجز أن يصلي راكعاً وساجداً، فإنه يومئ بالركوع والسجود، لما روى البزار والبيهقي والحديث صحيح عن جابر: (أن النبي - صلى الله عليه وسلم - عاد مريضاً فرآه يصلي على وسادة فرمى بها وقال: (صل على الأرض إن استطعت وإلا فأومئ بالركوع والسجود واجعل سجودك أخفض من ركوعك) وكل هذا - لا شك - مع الاستطاعة، فإنه إذا سقط أصل السجود فأولى من ذلك أن يسقط كون السجود أخفض من الركوع. قال: (فأن عجز أومأ بعينه) وهذا مذهب جمهور العلماء، فيومئ بعينه في حال الركوع والسجود والقيام وغير ذلك من أفعال الصلاة قياساً على الإيماء بالرأس. وقال شيخ الإسلام ابن تيمية وهو مذهب الأحناف، وهو رواية عن الإمام أحمد ضعفها الخلال من أصحابه: أن ذلك يسقط الصلاة عنه؛ لأنه قد عجز عن أفعالها حيث أمر، فهو عاجز عن فعل ما يجب عليه، فحينئذ تسقط عنه الصلاة. وقال شيخ الإسلام – في الإيماء –: " هو عبث " وذلك لعدم ثبوته عن النبي - صلى الله عليه وسلم -؛ لأنه ليس فيه شيء من أفعال الصلاة، فإن الإيماء بالركوع والسجود جزء من الركوع والسجود، فإنه يشرع بالسجود والركوع بالإيماء بالرأس فإنه فعل الصلاة بخلاف الإيماء بالعينين. وذهب بعض الحنابلة – كما قال صاحب الفروع -: " وظاهر كلام جماعة – أي من الحنابلة – أنه لا يلزمه الإيماء بطرفه وهو متجه لعدم ثبوته ". فهذا قول ثابت هو ظاهر كلام طائفة من الحنابلة أنه لا يومئ لعدم ثبوته عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، ولأنه ليس فيه فعل شيء من أفعال الصلاة.

لكن الصلاة تثبت عليه فلا يلزمه الإيماء لكنه يكتفي بالنية في قلبه – وهذا أظهر؛ لفرضية الصلاة ولأن النية من أفعلها، ولأن من عجز عن أفعالها فإن منهم من يمكنه القراءة، والقراءة هي الصلاة كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم -، ولأن الاستلقاء – وهو فعل لا يعجز عنه أحد – ينوب عن القيام فكان نائباً عن ركن من أركانها، وحيث عجز عن الإيماء فإن الصلاة تبقى وتثبت عليه لكنه لا يومئ بعينه لعدم ثبوت ذلك عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ولأنه لا فائدة فيه لكنه يفعل ما يستطيع من النية والقراءة والاستلقاء على ظهره أو صلاته على جنب واستقبال القبلة بقدر استطاعته لأن الله - عز وجل - قال: {لا يكلف الله نفساً إلا وسعها} وقال: {فاتقوا الله ما استطعتم} . وهذا القول أظهر وأحوط. قال: (فإن قدر أو عجز في أثنائها انتقل إلى الآخر) إن قدر على القيام بعد أن كان عاجزاً عنه أثناء الصلاة فإنه ينتقل إليه لزوال عذره، لكن إن شرع في الفاتحة فإنه لا يتمها في ارتفاعه (1) ؛ لأنه يجب أن يقرأ حال القيام. وإذا عجز عن القيام بعد أن كان قادراً عليه في أثناء الصلاة فإنه ينتقل إلى القعود، و – حينئذ – إن استمر في قراءة الفاتحة في انحطاطه فإنها تجزئ عنه؛ لأن قراءته في حال الانحطاط أولى من قراءته في حال الجلوس، بخلاف المسألة الأولى فإنه يجب أن يقرأها في حال القيام. وهذا ما اتفق عليه أهل العلم، وذلك لثبوت العذر فيها وفي مسألة العذر الذي تقدم في ترك الجماعة نحو هذا. فإذا حصل له العذر الذي يثبت به ترك الجماعة لتطويل إمام فحصل له أثناء الصلاة، فإن له أن يتمها خفيفة، وله أن يقطعها.

_ (1) المقصود حال نهوضه قبل أن يستتم قائماً. انظر حاشية الروض المربع: 2 / 372.

وإن كان التمثيل في مسألة التطويل يوجب عليه أن يتمها خفيفة. بخلاف ما إذا كان يخشى فوات مال أو نحو ذلك فإن له أن يتمها خفيفة، وله إن خشي وقوع الضرر أن يقطعها. فإذا وقع عليه عذر في أثناء الصلاة، فله أن يتمها خفيفة إن أمكنه ذلك ولم يشق عليه، وإلا قطعها. قال: (وإن قدر على قيام وقعود دون ركوع وسجود أومأ بركوع قائماً وبسجود قاعداً) فإذا كان يمكنه أن يصلي قائماً أو قاعداً، لكنه يعجز عن الركوع وعن السجود، ففرض عليه أن يصلي قائماً لقوله - صلى الله عليه وسلم -: (صل قائماً) ، لكنه يومئ في حال القيام عن الركوع؛ لأن الركوع يكون عن قيام، ولأن القيام جزء من الركوع فإن حالة القدمين في حال الركوع تكون في حالة القيام. والسجود كذلك، فإذا أراد أن يسجد فيسجد عن قعود مع قدرته على ذلك؛ لأن القعود جزء من السجود ولأن السجود إنما ينشأ عن قعود. قال: (ولمريض الصلاة مستلقياً مع القدرة على القيام لمداواة بقول طبيب مسلم) إذا قال طبيب مسلم ثقة لمريض أصيب في عينيه إذا سجدت فإن ذلك يؤثر في عينيك ويبطئ في المرض فيك فوضع له حمية أن يصلي مستلقياً على ظهره، فهل يفعل ذلك؟ الجواب: نعم يفعل ذلك فيصلي مستلقياً وإن كان قادراً على أن يصلي قائماً أو قاعداً إذا ذكر له أن في الصلاة مستلقياً سبب لإسراع برئه أو ثبوت البرء. وذلك لأن في ترك ذلك حرج، وقد جاءت الشريعة بنفي الحرج في قوله تعالى: {وما جعل عليكم في الدين من حرج} . والأظهر أنه لا يقيد الطبيب بكونه مسلماً، وإنما يقيد بالثقة الذي يرجى صوابه، لأن العلة في ذلك هي الحرج الواقع في القلب من منع ذلك، وكذلك رجاء الانتفاع بالشفاء، وهذا لا يثبت بكونه مسلماً فقط بل إذا كان ثقة، فالأظهر أنه لا يقيد بكونه مسلماً بل من كان ثقة في قوله ورجي صوابه، والنفع بقوله مثبت. قال: (ولا تصح صلاته في السفينة قاعداً وهو قادر على القيام)

إذا كان قادراً على أن يصلي قائماً وهو في السفينة أو في سيارة أو نحو ذلك – ففرض عليه القيام لقوله - صلى الله عليه وسلم -: (صل قائماً) . وثبت في البزار والحاكم وصححه أن النبي - صلى الله عليه وسلم -: (سئل عن الصلاة في السفينة فقال: (صل قائماً إلا أن تخشى الغرق) لكن إن كان يشق عليه القيام مشقة شديدة كأن يكون فيها حركة واضطراب فلا يمكنه أن يصلي قائماً إلا مع مشقة شديدة فحينئذ لا حرج في أن يصلي قاعداً لقوله تعالى: {وما جعل عليكم في الدين من حرج} . ومثل ذلك: إذا كان في السفينة ولا يمكنه الخروج منها إلا بعد فوات الوقت، فلا يمكنه أن ينزل فيصلي قائماً إلا بعد خروج الوقت – ومثل ذلك السيارة – فحينئذ يصلي قاعداً للعذر لأنه عاجز عن ركن القيام في الوقت. وهل يجب عليه أن يستقبل القبلة في صلاته كلها فيدور مع القبلة كما دارت؟ هذا هو المشهور في المذهب، وأن السفينة إذا اتجهت عن القبلة فإنه يتحرك إلى جهة القبلة. وهذا قول ظاهر إلا أن يشق عليه. لذا ذهب بعض الحنابلة إلى أن ذلك لا يلزمه كالنفل. والأظهر هو التوسط بين القولين: وأن ذلك واجب عليه مع الاستطاعة بلا مشقة، أما إن كان في استدارته مشقة فإنه يسقط ذلك عنه للحرج والمشقة. قال: (ويصح الفرض على الراحلة خشية التأذي بالوحَل) وقد تقدم الوحَل: وهو الطين سواء كان زلقاً أو لم يكن كذلك مما يتأذى منه. فإذا كان على راحلته وخشي فوات الوقت والأرض فيها طين وحرج عليه أن يصلي في الطين حيث أن الوحل فيها، فإنه يصلي على راحلته ويومئ بالركوع والسجود. لما روى أحمد والترمذي عن يعلى بن أمية قال: (انتهى النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى مضيق والسماء من فوقهم والبلة أسفل منهم فأمر المؤذن أن يؤذن، فصلى وهو على راحلته يومئ بالركوع والسجود) والحديث في إسناده جهالة وضعفه الترمذي لكن قال: (العمل عليه عند أهل العلم) .

وذكره الإمام أحمد عن أنس بن مالك ولا يعلم له مخالف وقواعد الشريعة تقتضي ذلك لرفع الحرج – كما تقدم – في قوله: {وما جعل عليكم في الدين من حرج} والمشقة تجلب التيسير – ولم أر في هذه المسألة خلافاً بين أهل العلم – لكن مع القدرة على النزول لا يجزئه ذلك. قال: (لا للمرض) فالمريض لا يجزئه أن يصلي على راحلته. وقال بعض الحنابلة وصوبه صاحب الإنصاف وهو رواية عن الإمام أحمد: أنه يجزئه ذلك. وهذا القول ظاهر، لكن بشرط ألا يكون في نزوله فعل أركان لا يمكن فعلها في حال صلاته على الراحلة. فإذا كان المريض مثلاً: يومئ بالركوع والسجود على النافلة ويمكنه أن يسجد على الأرض ويركع ويقوم فيجب عليه أن ينزل للقيام والركوع والسجود وفعل غيرهما من الأركان، لكن هذا الشرط ألا يشق عليه مشقة ظاهرة، فإنه يصلي على راحلته وإن ترك شيئاً من الأركان المتقدمة. إذن: الظاهر: أنه إن كانت أفعاله كأفعاله على الأرض فإنه لا فرق بين أن يصلي على الراحلة أو على الأرض، لكن إن كان قادراً على فعل شيء من الأركان في حال النزول فيجب أن ينزل إلا أن يُلحقه ذلك مشقة ظاهرة فإن المشقة تجلب التيسير. والحمد لله رب العالمين. فصل في صلاة المسافر قال المؤلف رحمه الله تعالى: (من سافر سفراً مباحاً أربعة برد سن له قصر رباعية ركعتين، إذا فارق عامر قريته أو خيام قومه) هذه الجملة فيها مسائل: المسألة الأولى: مشروعية صلاة السفر وأنها مشروعة قد دل على ذلك الكتاب في قوله: {وإذا ضربتم في الأرض فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة إن خفتم أن يفتنكم الذين كفروا} ، وبسنة النبي - صلى الله عليه وسلم - في فعله وقوله، وبإجماع أهل العلم على مشروعية قصر الصلاة للمسافر. وقد اختلف أهل العلم هل هذه المشروعية للاستحباب أم للفرضية؟

أ – مذهب جمهور العلماء: إلى أن ذلك للاستحباب، وهو المشهور في مذهب الحنابلة، فهي مستحبة وفعلها قصراً أفضل من فعلها تماماً، وإن أتم جاز ذلك وصح من غير كراهية. ب – وعن الإمام أحمد وهو اختيار شيخ الإسلام واستظهره صاحب الفروع: أن الإتمام مكروه. فهذا هو مذهب الحنابلة في هذه المسألة. استدل جمهور أهل العلم على استحبابها بما يلي: قوله تعالى: {فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة} فنفى الله الجناح، ونفي الجناح يدل على الإباحة. وهذا الاستدلال ضعيف، بل نفي الجناح لا يدل على نفي الإيجاب بل يدل على نفي الإثم والتحريم أي لا أثم ولا تحريم. أما مسألة نفي الإيجاب فلا تدل عليها هذه الآية بدليل أن الله تعالى قال: {فلا جناح عليه أن يطوف بهما} والطواف بين الصفا والمروة - وهو باتفاقهم - فرض وركن أو واجب. ولو قالوا بظاهرها هو الإباحة المطلقة فضلاً عن أن يكون ذلك للاستحباب فهذه الآية ليس فيها نفي الإيجاب ولا إثبات الاستحباب بل فيها الإخبار أنه لا تحريم في ذلك ولا حرج ولا جناح. وبما ثبت في النسائي ورواه أبو داود والطيالسي وقال الدارقطني إسناده حسن: أن عائشة قالت: (اعتمرت مع النبي - صلى الله عليه وسلم - في رمضان فصام وأفطرت وقصر وأتممت فقال لها النبي - صلى الله عليه وسلم - (أحسنت) لما ذكرت ذلك له ". قال الدارقطني: إسناده حسن (لكن قال في كتاب العلل وهو أقوى في التضعيف والحكم على الأحاديث: (الراجح أنه مرسل) أو نحو ذلك وهو كما قال، وأنكر هذا الحديث شيخ الإسلام فإنه لا يعقل أن عائشة تخالف النبي - صلى الله عليه وسلم -، فتخالف هديه بكونها تصوم وهو مفطر وتتم وهو يقصر فالحديث لا يثبت، وإن كان قد صح عنها أنها كانت تتم في السفر وتقول: (إنه لا يشق علي) رواه البيهقي لكن كما قال عروة: (تأولت كما تأول عثمان) .

فتأولت أن القصر إنما شرع للمشقة، فرأت أنه لا مشقة فيه عليها فكانت لا تقصر، فلا يعدو ذلك إلا أن يكون تأولاً منها. أما الرواية عنها بقول النبي - صلى الله عليه وسلم - (أحسنت) فلا يثبت ذلك، فالحديث مرسل وقد أنكره شيخ الإسلام. وأما ما رواه الدارقطني من حديثها: أن النبي - صلى الله عليه وسلم -: (كان يتم ويقصر، ويصوم ويفطر) فالحديث إسناده ضعيف. فهذه أدلة جمهور العلماء. وذهب طائفة من أهل العلم من الصحابة والتابعين وهو مذهب الأحناف: إلى أنه فرض في السفر، وهو مذهب ابن عباس وعمر بن عبد العزيز والثوري وحماد بن أبي سليمان. فقد قال ابن عباس – كما في سنن سعيد بن منصور -: (من صلى في السفر أربعاً فكمن صلى في الحضر ركعتين) وهذا منه إبطال للصلاة، فإن من أتم في السفر تبطل صلاته كما لو قصر في الإقامة، ولما سئل – - رضي الله عنه - – عن قصر الصلاة فقال: (ليس تقصيرها ولكن إتمامها وسنة النبي - صلى الله عليه وسلم -) رواه عبد الرزاق. ودليل هؤلاء: ما ثبت في الصحيحين عن عائشة قالت: (أول ما فرضت الصلاة ركعتين فأقرت صلاة السفر وأتمت صلاة الحضر) فقولها " وأقرت " يدل على أنها أقرت على الفريضة لكن يشكل عليه ما تقدم من مذهب عائشة، وهذا هو لفظها. لكن يقال: إن هذا من باب الرواية، وأما ما تقدم فهو من باب الرأي ولا يعارض رأي الراوي بروايته، بل تبقى الرواية على وجهها. واستدلوا – وهو أصرح في الاستدلال – بما رواه مسلم في صحيحه عن ابن عباس قال: (فرضت الصلاة على لسان النبي - صلى الله عليه وسلم - على المسافر ركعتين، وعلى المقيم أربعاً، وفي الخوف ركعة) فقال: " فرضت " والفرضية لفظ صريح في الإيجاب. وبما ثبت في النسائي بإسناد صحيح عن عمر أنه قال: (صلاة السفر ركعتان، وصلاة الجمعة ركعتان، وصلاة العيد ركعتان تمام غير قصر على لسان النبي - صلى الله عليه وسلم -) .

وما ذكروه أصح، فإن الأدلة ظاهرة في إيجاب ذلك ولم يثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في حديث صحيح القصر [لعلها: الإتمام] ، بل كان يتم [لعلها: يقصر] حتى ثبت في الصحيحين أن ابن مسعود لما قيل له: (أن عثمان قد أتم قال: (إنا لله وإنا إليه راجعون، صليت مع النبي - صلى الله عليه وسلم - بمنى ركعتين، ومع أبي بكر بمنى ركعتين، ومع عمر بمنى ركعتين فليت حظي من أربع ركعات ركعتان متقبلتان) لكن مع ذلك فقد صلى أربعاً وقد قال: (الخلاف شر) . فالراجح فرضية القصر. 2 - والمسألة الثانية: عند قوله: (من سافر سفراً مباحاً) : - هذا هو المشهور في المذهب، وهو مذهب جمهور العلماء، وأن ذلك إنما يشرع للمسافر سفراً مباحاً. ويدخل في ذلك السفر لنزهة أو نحوها، فإنه سفر مباح ويخرج من ذلك السفر المحرم، فمن سافر لتجارة محرمة أو فعل محرم، وكذلك المكروه من تكاثر ونحو ذلك فإنه لا يقصر بل يتم. واستدلوا بقوله تعالى: {فمن اضطر غير باغ ولا عاد فلا إثم عليه} قالوا: والباغي هنا هو الخارج على السلطان، والعادي هو العادي على المسلمين، فمن كان كذلك فلا يباح له الميتة بل تحظر عليه، قالوا: وكذلك غيرها من الرخص. وقالوا: إن في مشروعية القصر له إعانة له على السفر المحرم أو المكروه، وهذا يناقض مقصود الشارع من التحريم أو الكراهية. - وذهب الأحناف وهو مذهب الظاهرية واختيار ابن تيمية: إلى أن هذه الرخصة تشمل المسافر العاصي في سفره كما تشمل المطيع، فضلاً عمن بينهما ممن سفره سفر مكروه أو مباح. واستدلوا: بعمومات النصوص: {وإذا ضربتم في الأرض فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة} وغيرها، فهذه ثابتة للمسافر مطلقاً سواء كان في سفره عاصياً أو مطيعاً.

قالوا: وأما الآية فإن التفسير الصحيح هو ما ذهب إليه جمهور المفسرين، وهو أن المراد بقوله: {غير باغ} في كونه يأكل الميتة مع إمكان الاستغناء عنها، و {لا عاد} في كونه يتجاوز ضرورته. وهذا التفسير أصح فيها لتعلقه بفعل المحرم نفسه، ولأن قوله: {فمن اضطر} عام في كل مسلم عاصياً كان أو مطيعاً وللعمومات المتقدم ذكرها. * ثم أن كان خارجاً عادياً على المسلمين خارجاً عن إمامهم مؤذياً لهم، فإنه له حكم خاص لإهدار دمه، فكونه - على التسليم بالتفسير الأول، كونه - لا يرخص له بأكل الميتة ونحوها من الرخص التي فيها بقاء حياته؛ هذا لأنه حياته مهدرة بخلاف من سافر سفر معصية أو نحو ذلك فإن حياته ليست بمهدرة. والراجح التفسير الثاني كما تقدم. وهذا القول – أي الثاني – هو الراجح؛ لعمومات النصوص. وأما كونه فيه إعانة: فإن هذا أمر مشروع ولا دخل له في كونه له إعانة على المعصية، فهي حسرة له هكذا في السفر، أما كونه عاصياً أو مطيعاً فإنه لا يعان على معصية أو ما يكره له، وأما هذا فهو حكم شرعي لا تعلق له بما تقدم بل قد يكون في ذلك إعانة له على فعل ما فرض عليه من إقامة الصلاة. إذن الراجح مذهب الأحناف والظاهرية واختيار شيخ الإسلام. المسألة الثالثة عند قوله: (أربعة برد) : هذه مسألة اختلف فيها العلماء وهي المسافة التي تقصر فيها الصلاة. 1- فذهب جمهور العلماء إلى هذا القول وأنه أربعة برد والبريد أربعة فراسخ، فالأربعة برد ستة عشر فرسخاً، والفرسخ: ثلاثة أميال، فيكون المجموع ثمانية وأربعين ميلاً وهي تزيد على 80 كيلو متراً وهذا – كما ذكروا – تقريب لا تحديد. واستدلوا: بما رواه الدارقطني عن ابن عباس مرفوعاً: (يا أهل مكة لا تقصروا الصلاة إلا في أربعة برد من مكة إلى عسفان) والحديث لا يثبت بل هو ضعيف، والصحيح أنه موقوف على ابن عباس.

لكن ثبت هذا من فعل ابن عباس وابن عمر – كما ثبت في البخاري معلقاً – ووصله البيهقي: (أن ابن عمر وابن عباس كانا يقصران ويفطران في أربعة برد ستة عشر فرسخاً) والأثر صحيح. فإذا سافر أربعة برد سواء كان ذلك يومان قاصدان كما كان في القديم أو أقل بساعة أو ساعتين فلا عبرة بالزمن في السفر بل العبرة بالمسافة. وما ذكروه من أثر ابن عباس وابن عمر: قد ثبتت آثار تخالف هذا الأثر فلا يقال: إنهما لا يعلم لهما مخالف من الصحابة، فقد صح عن ابن عمر نفسه آثار تخالف ذلك، فمن ذلك: في مصنف ابن أبي شيبة – أنه قال: (لو خرجت ميلاً لقصرت) وفيه: (إنه كان يقصر في ثلاثة أميال) ، وفي مصنف عبد الرزاق: (أنه كان يقصر في ثلاثين ميلاً) ، وفي مصنف ابن أبي شيبة: (أنه كان أدنى ما يقصر فيه خيبر يخرج لأرض له) وكان بين خيبر والمدينة نحو تسعين ميلاً، فالرواية مختلفة عن ابن عمر. وثبت في مصنف عبد الرزاق بإسناد صحيح عن إبراهيم التيمي عن أبيه: (أنه استأذن حذيفة – وكان في المدائن – أن يذهب إلى أهله فأذن له وشرط عليه ألا يقصر ولا يفطر، وكان بين المدائن والكوفة نيف وستون ميلاً) والأربعة برد 48 ميلاً، فهذا أثر يخالف. كما أن السنة خالفت ذلك صراحة فقد ثبت في البخاري أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (لا تسافر امرأة يوماً وليلة) الحديث، قال البخاري: (سمى النبي - صلى الله عليه وسلم - يوماً وليلة سفراً) واليوم والليلة إنما يكون فيهما بردان أي 8 فراسخ، فإن الأربعة برد يومان تامان، واليوم والليل يكونان بردين. وثبت في أبي داود ما هو أقل [من] ذلك فقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: (لا تسافر امرأة بريداً) فدل على أن السفر بريد. وقد ثبت أن أهل مكة كانوا يقصرون مع النبي - صلى الله عليه وسلم - بمنى، وكان بين منى ومكة نحو بريد.

لذا أنكر الموفق رحمه الله تعالى: هذا القول من جمهور العلماء وأنه يخالف السنة وظاهر القرآن، وأنه لا دليل عليه من نص ولا إجماع ولا قياس، وهو كما قال. وذهب شيخ الإسلام وهو اختيار ابن القيم: إلى أن مرجع ذلك إلى العرف، فما تعارف الناس أنه سفر فهو سفر، لكن هذا القول لم يتبين لي أنه قول منضبط ينضبط لسائر الناس في معرفة أن هذا سفر وهذا ليس بسفر والناس مضطريون في أعرافهم كما هو ظاهر. وذهب الظاهرية إلى أن مرجع ذلك إلى اللغة، فإن الله عز وجل قد خاطب العرب في كتابه بالسفر، والسفر عندهم هو البروز عن دار الإقامة، فالسفر في اللغة هو الكشف والبروز، فالسفر من دار الإقامة هو البروز عنها فليس هناك إلا داران دار حضر ودار سفر. فدار الحضر هي دار الإقامة، وأما خارجها فهو سفر، فمن برز عن دار الإقامة قصر. قال ابن حزم: ميلاً؛ لأثر ابن عمر المتقدم. وقال داود من الظاهرية: ثلاثة أميال؛ لأثر ابن عمر المتقدم الذي رواه ابن أبي شيبة، وهذا القول تدل عليه السنة. فقد ثبت في مسلم أن أنس: سئل عن قصر الصلاة؟ فقال: (كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا خرج ثلاثة أميال أو فراسخ قصر الصلاة) وهنا شك من الراوي في قوله: (ثلاثة أميال أو فراسخ) وهو من شعبة. واليقين أنه ثلاثة فراسخ وهو نحو تسعة أميال أي 16 كيلو متراً، ومع ذلك فليس هذا تحديداً وإنما فيه أخبار أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان إذا خرج ثلاثة أميال أو فراسخ صلى ركعتين. ويحتمل أن يكون ذلك ثلاثة أميال وهو أوفق للغة العرب لأن الثلاثة أميال غالباً ما تخرج عن حيِّز المدينة.

واستثنى الظاهرية من ذلك ما يتصل بالمدينة من بساتينها ونحو ذلك؛ لأن الصحابة كانوا يخرجون إلى البقيع وإلى أحد وقباء وكذا النبي - صلى الله عليه وسلم - فلم يثبت عنهم القصر وكل هذا متصل بدار الحاضرة، والسفر ليس من هذا القبيل وإنما هو البروز عن دار الإقامة وما اتصل بها، وهذا القول هو أظهر هذه الأقوال الثلاثة. المسألة الرابعة: (قصر رباعية ركعتين) خص ذلك بالرباعية، فيخرج من ذلك الثنائية وهي الفجر والثلاثية وهي المغرب، وهذا بإجماع العلماء كما حكاه ابن المنذر. ويدل على ذلك ما ثبت في مسند أحمد بإسناد جيد من حديث عائشة المتقدم في فرضية صلاة السفر وفيه: (إلا المغرب فإنها وتر النهار وإلا الصبح فإنها تطول فيها القراءة) . المسألة الخامسة: قوله: (إذا فارق عامر قريته أو خيام قومه) فإذا خرج من الحاضرة وما اتصل بها من عمران ونحو ذلك فإنه حينئذ يقصر، فبمجرد ما يخرج من الحاضرة كمطار الطائرات عندنا ونحو ذلك فإنه يقصر الصلاة في ذهابه وإيابه، وهذا هو مذهب جمهور العلماء. واستدلوا بقوله تعالى: {وإذا ضربتم في الأرض فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة} فقيده الله بالضرب بالأرض، وهو يثبت بمجرد الخروج من الحاضرة أو خيام القوم. وكذلك لا ينتهي من الضرب في الأرض حتى يدخلها. وثبت هذا عن علي بن أبي طالب ولا يعلم له مخالف فقد ثبت عنه كما في البخاري معلقاً: أنه خرج فقصر الصلاة وهو يرى البيوت حتى رجع فقيل له: هذه الكوفة فقال: (لا حتى ندخلها) .

ومن هنا تبين لنا: أن حديث أنس بن مالك المتقدم: لا يحمل على أن المراد من ذلك أثناء خروجه؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - لا يمكن أن يخالف قوله ما ثبتت الشريعة بمثله من قول الصحابي الذي لا يعلم له مخالف، وهو مذهب الجمهور، وهم يشرعون القصر بمجرد الخروج ولا يقيدونه بثلاثة أميال ولا بثلاثة فراسخ، والحديث المتقدم عن أنس قد قيده بثلاثة أميال أو فراسخ. ثم إنه قد سئل عن قصر الصلاة فدل على أن المراد من ذلك المسافة التي يقصر فيها. إذن: متى ما فارق قريته أو مدينته أو خيام قومه فإنه يقصر الصلاة حتى يرجع، ويستمر في القصر حتى يدخلها – وهو مذهب جمهور العلماء وهو ثابت عن علي ولا يعلم له مخالف. فإن قيل: قد قال تعالى: {إن خفتم أن يفتنكم الذين كفروا} فقيده الله بالخوف وقد أمن الناس؟ فالجواب: أنه ثبت في مسلم عن يعلى بن أمية قال: (سألت عمر عن قوله تعالى: {فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة إن خفتم أن يفتنكم الذين كفروا} فقد أمن الناس فقال: " أني عجبت مما عجبت منه فسألت النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: (صدقة الله تصدق الله بها عليكم فاقبلوا صدقته) ". ويمكن أن يستدل بهذا على الإيجاب لقوله: " فاقبلوا " وظاهر الأمر الوجوب. والحمد لله رب العالمين. هنا ثلاث مسائل تتفرع عن المسألة السابقة وهي أن مسافة القصر أربعة بُرد: المسألة الأولى: أن من شك في المسافة هل هي أربعة برد أم لا؟ فلا يقصر حتى يتيقن ذلك لأن الأصل – في المشهور من المذهب – عدم السفر، فإذا ثبت هذا فإنه لا يقصر حتى يتيقن أن البلدة التي يسافر إليها بعدها مسافة قصر. وقد تقدم أن الراجح أنه متى ثبت كونه مسافراً فإنه يثبت بذلك القصر. وما ذكره الحنابلة ينبني على القول الراجح، فإذا أراد أن يذهب إلى محل ولم يثبت له كونه سفراً فإنه لا يقصر، إن شك في هذا الموضع هل هو موضع سفر أم لا.

المسألة الثانية: أن من سافر ليترخيص في فطر أو قصر أو نحو ذلك: فالمشهور في المذهب: أنه لا يقصر. ولم أر دليلاً على هذه المسألة أي دليلاً صحيحاً. لذا ذهب بعض الحنابلة وهو مذهب الأحناف: إلى أنه يثبت له رخص السفر، لأنه مسافر فيدخل في عموم الأدلة الشرعية وإن كان ينهى عن ذلك لكنه يثبت كونه مسافراً متعلق به أحكام السفر من قصر أو فطر أو نحو ذلك. فالراجح أن من سافر ليترخص أنه يثبت له أحكام السفر وإن كان ينهى عن ذلك. والترخص أقوى ما يقال فيه: أنه معصية وقد تقدم أن من سافر سفر معصية فإن أحكام السفر تثبت له لعمومات الأدلة الشرعية. المسألة الثالثة: فهي فيمن كان تائهاً في طريقه لم يثبت قصداً له: فإنه لا يقصر في المشهور من المذهب، لأنه منتهى قصده لم يثبت كونه سفراً ولا يقصر حتى يثبت له أن منتهى قصده سفر. يعني: أن من خرج ولم يقصد موضعاً يكون خروجه إليه سفراً ثم تاه فإنه لا يترخص بأحكام المسافرين، لأنه لا يعد مسافراً، وهذا إذا كان الموضع الذي قصده في الأصل ليس بسفر. قال المؤلف رحمه الله تعالى: (وإن أحرم حضراً ثم سافر أو سفراً ثم أقام ... أتم) كأن يكون رجل في سفر فكبر تكبيرة الإحرام في حال كونه مسافراً فوصلت السفينة إلى بلدته – أي بلدة الإقامة – فإنه يتم صلاته. والعكس كذلك: فلو أن رجلاً أحرم في حال الإقامة، كأن تكون السفينة في بلدته فخرجت ثم سافر أثناء الصلاة فإنه يتم صلاته كذلك. وحكي في هاتين المسألتين الإجماع على أنه يتم. أما المسألة الثانية: فظاهر أنه يتم لأنه قد عقد الصلاة في حال الإقامة فوجب إتمامها كذلك. وأما المسألة الأولى: وهي فيما إذا أحرم مسافراً ثم أقام، قالوا فكذلك وقد حكي الإجماع على ذلك. والدليل على ذلك – وهو دليل للمسألة الثانية كذلك قالوا: أنها صلاة اجتمع فيها الحضر والسفر فوجب أن يصلي على هيئة الحضر.

وهذا الدليل ظاهر في المسألة الثانية؛ لأنها قد انعقدت على أنها صلاة حضر، وأما في المسألة الأولى: فالترجيح بتقديم صلاة الحضر على صلاة السفر غير ظاهر، لأنه قد عقدها وهو مسافر فانعقدت على وجه السفر، فلم يلزمه إتمامها، ويثبت تبعاً مالا يثبت استقلالاً. فإن كان الإجماع المتقدم صحيح ثابت فلا خلاف فيه، وإن لم يثبت الإجماع فهذا القول قوي أي أنه يصليها صلاة سفر لأنه قد عقدها مسافراً فانعقدت على وجه السفر وكونه يصل إلى دار الإقامة فإنه يثبت تبعاً ما لا يثبت استقلالاً. قال: (أو ذكر صلاة حضر في سفر أو عكسها) أو ذكر صلاة سفر في حضر: كأن يتذكر مسافر أنه لم يصلي صلاة الظهر في الحضر. فإنه يصليها تماماً وهذا بالإجماع، لأن القضاء يحكى الأداء والواجب في القضاء أن يكون على هيئة الأداء، فقد لزمت في ذمته تماماً غير قصر وبقيت متعلقة بذمته وخرج ومنها على هذه الصورة فكان الواجب عليه أن يصليها تماماً. أما إن سافر بعد دخول الوقت وقبل خروجه فإنه يصليها صلاة سفر، عند جمهور العلماء وحكاه ابن المنذر إجماعاً. ولكن عن الإمام أحمد رواية أخرى: أنه يصليها صلاة حضر، لأنه قد وجبت عليه الصلاة حيث أذن، وقد أذن في الحضر فوجبت كذلك، لكن هذا القول ضعيف، لأن الصلاة واجب موسع فكل وقتها تجب فيه، والنظر هنا إلى حال الأداء فقد أداها في حال السفر فكانت صلاة سفر هذا هو المشهور في المذهب وهو مذهب الجمهور وحكاه ابن المنذر إجماعاً كما تقدم. (أو عكسها) : إذا ذكر في الحضر صلاة سفر: كأن تكون عليه فائتة في السفر لم يذكرها إلا في الحضر فهنا قال: يجب عليه أن يصليها تماماً - هذا هو المشهور في المذهب -. قالوا: لأن القصر رخصة فزال بزوال سببه، وليس هو السفر.

- وذهب الأحناف وهو قول لبعض الحنابلة: إلى أنه يصليها قصراً، وهو القول الراجح؛ لأن الصلاة قد وجبت عليه بخروج وقتها فتعلقت في ذمته على وجه القضاء، والقضاء يحكي الأداء، فلو أنه صلاها في السفر أداء لكانت قصراً لا تماماً، والقضاء يحكي الأداء. فالراجح أنه يقصر؛ لأن هذه الصلاة تعلقت في ذمته على أنها قصر والقضاء يحكي الأداء، فالذي فاته إنما هو ركعتان لا أربع فلم يفته من الصلاة أربع ركعات وإنما فاته ركعتان والقضاء إنما يكون للشيء الفائت. قال: (أو ائتم بمقيم) يعني مسافر ائتم بمقيم سواء كان هذا الائتمام من أول الصلاة أو في أثنائها. أما كونه من أول الصلاة: فصورته: رجل مسافر فكبر خلف مقيم وأدرك معه تكبيرة الإحرام. وأما في أثنائها: كأن يكبر خلف إمام مسافر ثم يطرأ على المسافر عذر يقتضي الاستخلاف فيستخلف مقيماً. فهاتان الصورتان كلاهما لمسألة واحدة وهي صلاة المسافر خلف المقيم فيجب أن يصلي تماماً لصلاة الإمام، وهذا باتفاق أهل العلم (والمراد: هنا المذاهب الأربعة) . ودليل ذلك: ما ثبت في مسند أحمد بإسناد صحيح: أن ابن عباس - رضي الله عنه - قيل له: (إنا إذا صلينا في رحالنا – أي في حال السفر – صلينا ركعتين، وإذا صلينا معكم صلينا أربعاً؟ وكان ابن عباس من المكيين وكان يصلي تماماً " فقال: (سنة النبي - صلى الله عليه وسلم -) . وهو ثابت من فعل ابن عمر - رضي الله عنه - كما في البيهقي بإسناد صحيح ولا يعلم لابن عمر مخالف، وهو كذلك السنة كما تقدم. إلا أن الإمام مالك – وهو الراجح في هذه المسألة – يستثنى ما إذا فاته الركوع من الركعة الأخيرة فإنه يصلي قصراً وقد تقدم الكلام على ذلك.

وخالف إسحاق رحمه الله تعالى – المشهور عند أهل العلم – فقال: إذا صلى المسافر خلف المقيم فإنه له أن يصلي قصراً؛ لأن الإقتداء لا يزيل هذا الحكم، كما لو اقتدى المقيم بالمسافر فإنه يتم صلاته بالإجماع، فكذلك هنا. وهذا قياس يخالف النص ولعله لم تبلغه السنة عن النبي - صلى الله عليه وسلم -. قال: (أو بمن يشك فيه) هذه المسألة تنبني على هل تشترط النية في القصر أم لا؟ يعني: هل يشترط لمن أراد أن يصلي في السفر أن ينوي القصر أم لا؟ المشهور من المذهب – كما سيأتي –: أن ذلك فرض. وقال بعض الحنابلة: لا يشترط ذلك، وهو مذهب الجمهور. ولم يثبت عن الإمام أحمد نص يخالف هذا، وهو اختيار شيخ الإسلام؛ لأن الاشتراط لا دليل عليه من كتاب الله ولا سنة نبيه ولا أقوال الصحابة - رضي الله عنهم -، فلا يشترط له أن ينوي القصر كما لا يشترط له – في الحضر – أن ينوي الإتمام، لأن التمام هو صلاة الحاضرين، فكذلك في القصر لا يشترط له أن ينوي القصر؛ لأن القصر هو صلاة المسافرين، فلا دليل على اشتراط نية القصر. فالأصل في السفر هو القصر كما أن الأصل في الحضر هو الإتمام، وكما أنه لا يشترط نية الإتمام في حال الحضر فكذلك لا يشترط نية القصر في حال السفر، فإن صلاة السفر ركعتان كما تقدم في الأدلة الصحيحة، وهذا مذهب الجمهور. أما الحنابلة فقالوا: أنه إذا أطلق فكبر ولم ينو فإنها تصرف إلى الأصل وهو التمام. وهذا ليس بصحيح، فإن التمام أصل في صلاة الحاضرين وليس بأصل في صلاة المسافرين، لما تقدم من الأدلة كما في حديث عمر: (صلاة السفر ركعتان) فالأصل في صلاة السفر القصر فلم تشترط النية، بل لو نوى الإتمام ثم رأى القصر فإنه يقصر ولا يؤثر فيه هذه النية، فالنية ليست بمؤثرة؛ لأن هذه هي السنة فصلاة السفر ركعتان. وهذا لا يشكل على فرضيتها فيما تقدم ترجيحه.

وكذلك لا يشكل – في الحقيقة – على القول بمشروعيتها؛ لأنها قد شرعت ركعتان فلم تشترط فيها النية. فهذه المسألة مبنية على ذلك. فإذا ائتم بمن يشك فيه فلا يدري هل هو مسافر أم مقيم؟ فإنه يجب عليه الإتمام في المشهور من المذهب. لكن استثنوا من ذلك: إذا كانت هناك غلبة ظن كأن يكون المسجد في طريق المسافرين أو أن يظهر على الإمام هيئة السفر أو نحو ذلك. أو أن ينوي أنه أتم، أتم، وإن قصر، قصر، فيعلِّق صلاته بصلاة الإمام فيجوز. لكن الصحيح في هذه المسائل كلها، أنه إذا صلى وراء إمام ولا يدري أهو مسافر أم مقيم، فإنه يصلي خلفه فإن أتم، أتم خلف. وأن قصر، قصر؛ لأن النية ليست بشرط. قال: (أو أحرم بصلاة يلزمه إتمامها ففسدت وأعادها) هذه مسألة غريبة. صورتها: رجل أحرم بصلاة - يلزمه - في السفر يلزمه إتمامها، كأن يصلي خلف مقيم، فبطلت صلاته كأن يتذكر أنه محدث أو نحو ذلك ثم أراد أن يصلي وحده فهل يصلي قصراً أو تماماً؟ قال هنا: (أتم) فيجب عليه الإتمام، لكن هذا قول غريب؛ لأن وجوب إتمامها في الصلاة الأولى وهي الفاسدة الباطلة كان ذلك لتعلقها بصلاة الإمام فوجب إتمامها لكونه قد اقتدى بمقيم. وأما في الصلاة الأخرى فلا تعلق لها بشيء يوجب الإتمام. وهذا قول ضعيف. - وقد ذهب الأحناف إلى خلاف هذا القول، والراجح ما ذهبوا إليه. قال: (أو لم ينو القصر عند إحرامها) تقدم هذا: وأن المشهور في المذهب وجوب نية القصر. فلو أن رجلاً كبر في السفر وغاب عن ذهنه أنه مسافر فلم ينو القصر فيجب عليه الإتمام. وهذا ضعيف وهو مبني على اشتراط نية القصر، وهو قول ضعيف. قال: (أو شك في نيته) أي في الركعة الثانية شك هل نوى القصر أم لا؟

فيجب عليه أن يتم قالوا: ولو تذكر بعد ذلك، فمثلاً يبقى حائراً لحظات ثم تذكر أنه نوى القصر، فلو بقى لحظة حائراً فإنه يلزمه أن يصلي تماماً؛ لأنه قد بقى زمناً شاكاً في نيته، فوجب الإتمام؛ لأن من شك في نية فيجب عليه الإتمام، فتذكره بعد ذلك لا يغير من الحكم شيئاً بل يلزمه الإتمام. وكل هذه الأقوال تنبني على شرطية نية القصر، وهو قول ضعيف، والقول الراجح هو عدم اشتراط ذلك كما تقدم وهو مذهب جمهور العلماء. مسألة: رجل مسافر فدخل مسجداً في الطريق ووجد رجلاً يصلي فدخل معه وأدرك معه ركعة واحدة ولا يدري هل هو قد أتم صلاته فيتمها أم قصرها، فما الحكم؟ إن غلب على ظنه أحدهما فإنه يبني عليه وإلا فإنه يصلي قصراً، لأننا إنما فرضنا وشرعنا الإتمام له حيث ثبت له أن هذا مقيم، والأصل له أن يصلي مسافراً حتى يثبت له أن هذا الإمام مقيم؛ ولأنه إنما شرع ذلك في الأصل. وإن كانت المسألة قد ثبت فيها بعض الأحكام تبعاً، إنما شرع ذلك لئلا يخالف الإمام، والمخالفة إنما تكون إذا سلم قبل سلام إمامه، وإن كان قد ثبت له في هذه المسألة تبعاً أنه وإن أدرك من الصلاة شيئاً وهو يعلم أنه مقيم أنه يتم، فهذا قد ثبت تبعاً للمسألة السابقة؛ ولاتباع صورة صلاة الإمام تماماً، لكن هنا لم يثبت له ذلك فيبقى على الأصل من كونه يشرع له أو يفرض أن يصلي قصراً. والحمد لله رب العالمين. قال المؤلف رحمه الله تعالى: (أو نوى إقامته أكثر من أربعة أيام) هذا في سياق من يجب عليه الإتمام، فإن هذه المسألة عطف على ما قبلها من المسائل. فإذا نوى المسافر إقامة أكثر من أربعة أي صلاة إحدى وعشرين صلاة فإنه يتم، وإذا نوى أكثر من ذلك أتم الصلاة. واستدلوا: بما ثبت في الصحيحين عن أنس بن مالك قال: (خرجنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى مكة – في رواية لمسلم " إلى الحج " – فكان يصلي ركعتين ركعتين حتى رجعنا إلى المدينة) .

قالوا: والثابت عنه في سياق حجته أنه دخل مكة في صبيحة اليوم الرابع وأنه خرج منها إلى منى في ضحى اليوم الثامن فهذه أربعة أيام. قالوا: فعلى ذلك يقصر إن أقام أربعة أيام فإن زاد أتم. قال المالكية والشافعية: إذا قام ثلاثة أيام فأقل قصر فإن أقام أكثر من ثلاثة أيام فإنه يتم. واستدلوا: بهذا الحديث أيضاً ولم يحسبوا يومي الدخول والخروج لما في حسبهما من المشقة، فإن الاعتبار إنما يكون باليوم التام في حق المسافر، وأما بعض اليوم فإن فيه مشقة. واستدلوا بما ثبت في الصحيحين من حديث: العلاء الحضرمي - رضي الله عنه - قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (يقيم المهاجر بعد نسكه ثلاثاً: أي ثلاثة أيام) . قالوا: فهذا الحديث فيه أن الثلاثة أيام هي الإقامة. - وذهب إسحاق بن راهويه: إلى أنها تسعة عشر يوماً. واستدل: بما ثبت في البخاري عن ابن عباس قال: (أقام النبي - صلى الله عليه وسلم - بمكة تسعة عشر يوماً يقصر الصلاة) قال ابن عباس: (فنحن إذا أقمنا تسعة عشر يوماً قصرنا وإذا زدنا أتممنا) . والمقصود من كونه يتم من أول مكثه وإقامته. ورد جمهور الفقهاء على هذا الحديث بأن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يعزم الإقامة بل كان عليه الصلاة والسلام ينوي الخروج غداً أو بعد حتى خرجت هذه المدة فكانت اتفاقاً، ونحن وأنتم نقول: إن من مكث في بلدة ما ولم يعزم إقامة فإنه يقصر أبداً – كما سيأتي -. ورُدَّ هذا: بأنه خلاف الظاهر، فإن الظاهر أنه أقام تسعة عشر يوماً بنية، ويؤيده القرائن:

() إن ذلك كان في فتح مكة كما في رواية لأبي داود: (وذلك في عام الفتح) فأقام فيها تلك المدة، ويبعد أن يكتفي بمدة أقل منها إذ مكة كانت محل أهل الشرك، وكان العرب يقتدون بهم في سلمهم وكفرهم حتى لما آمنوا وأسلموا، دخل الناس في دين الله أفواجاً، فهي مكة التي كان فيها صناديد الكفار فيبعد أن يكون النبي - صلى الله عليه وسلم - نوى إقامة يوم أو يومين أو ثلاثة. () والقرينة الأخرى: أن النبي - صلى الله عليه وسلم -: يبعد أن يضعف في التقدير هذا الضعف من تسعة عشر يوماً إلى أربعة أو ثلاثة أيام فيقدر ثلاثة أيام أو أربعة، فتصل المدة إلى تسعة عشر يوماً. - وذهب أهل الظاهر: إلى أنها عشرين يوماً. واستدلوا: بما رواه أبو داود في سننه أن النبي - صلى الله عليه وسلم -: (أقام بتبوك عشرين يوماً يقصر الصلاة) لكن الحديث قد اختلف فيه علي: (يحيى بن أبي كثير) فرواه معمر عن يحيى موصولاً، ورواه الثقات عنه مرسلاً وهو الراجح كما رجح ذلك الدارقطني وغيره فهو مرسل، والمرسل ضعيف. واعلم أن جمهور الفقهاء إنما حددوا مدة للإقامة والسفر – كما نبه على ذلك غير واحد – بناءً على أن الأصل في الإقامة هي ترك النقلة، فمتى ترك التنقل فأقام فهو مقيم وليس بمسافر، وإنما السفر هو التنقل. قالوا: ولو لم يثبت أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قصر في حال مكثه لقلنا إنه في حال المكث لا يقصر كما هو مذهب الحسن البصري وهو مروي عن عائشة أو نحوه. لكنه قصر عليه الصلاة والسلام فرأينا أن أكثر مدة لقصره هي كذا. فالقائلون أنها أربعة أيام قالوا: هي أكثر مدة قصر فيها وتأولوا الأحاديث الأخر – وكذلك الباقين. لكن هذا المنطلق فيه ضعف فيما يظهر. ومحل ضعفه أن يقال: إن ما ذكرتموه من أن السفر ينقطع بالإقامة والمكث وترك النقلة قد عارضه الأحاديث الثابتة وكون النبي - صلى الله عليه وسلم - يقصر يوماً أو يومين أو ثلاثة باتفاقنا.

يقصر في حال كونه ماكثاً تاركاً للنقلة، يدل على أن ترك النقلة ليست منافياً للسفر، فإنه وإن ترك النقلة فيبقى مسافراً بدليل أنه - صلى الله عليه وسلم - قد قصر وهو تارك للنقلة. فدل على أن مجرد المكث وترك النقلة أثناء السفر لا ينافي السفر، ولا يخرج المسافر عن السفر إلى الإقامة بل يبقى مسافراً، وإن ترك التنقل ومكث ما لم ينو إقامة يثبت بها حكم الإقامة. - ولذا ذهب شيخ الإسلام وهو مذهب طائفة من أهل العلم إلى أن مرجع ذلك إلى العرف، وذلك لأن الشرع لم يثبت فيه تحديد لهذه المسألة واللغة أيضاً. بخلاف المسألة السابقة فإنا نرى أن اللغة قد حددت السفر بأنه من حيث الانتقال من بلدة إلى أخرى. أما كونه من حيث المدة يكون مسافراً أو مقيماً فليس للغة بحث في هذا، فيبقى العرف - كما هو اختيار شيخ الإسلام - ولو بقى شهوراً. هذا اختيار شيخ الإسلام وتلميذه، وهو مروي عن مسروق من التابعين، وهو قول قوى، وهو أظهر الأقوال السابقة لأن اللغة العربية والشرع لم يثبت فيهما تحديد للمدة التي يثبت بها كون الإنسان مسافراً أو مقيماً فوجب الرجوع إلى العرف كما هو مقرر في أصول الفقه. وقد ثبت في سنن البيهقي يإسناد صحيح وأن ابن عمر: (أقام بأذربيجان ستة أشهر يقصر الصلاة) . ولا يصح أن يقال: أنه لم يعزم تلك المدة، فإن مثل هذه المدة قد حبسه بها الثلج، فيستبعد أن يكون قد ظن أن يذهب بيومين أو ثلاثة أو أربعة فذلك في الغالب في أول الشتاء، لكونه قد استمر هذه المدة وهي ستة أشهر. فيبعد أن يظن ذهابه في مدة يسيره.

ثم إنه – - رضي الله عنه - – لما سئل عن القصر في ذي المجاز – كما في المسند بإسناد حسن – وهو سوق يجتمع فيه ويباع فيه ويمكث فيه عشرين يوماً أو خمسة عشر يوماً؟ فقال: " يقصر الصلاة به " وقال: " إني كنت بأذربيجان فرأيتهم يصلون ركعتين ركعتين ورأيت النبي - صلى الله عليه وسلم - بمنى يصلي ركعتين ركعتين ولقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة) فهنا استدل بفعل أصحابه بأذربيجان وأنهم قد مكثوا شهرين أو أربعة أشهر – كما في مسند أحمد، وفي الرواية المتقدمة (ستة أشهر) ، فاستدل بهذا على القصر عشرين أو خمسة عشر يوماً، فدل على أنه لم يكن ينو المكث المدة التي تقدم ذكرها عند جمهور الفقهاء. ويدل على أنه استنبط ذلك من فعل النبي - صلى الله عليه وسلم - لقوله: (لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة) وفيه أنه رأى ذلك سفراً، وأن إقامته بأذربيجان شهرين أو أربعة كما في رواية أحمد، وفي رواية البيهقي " ستة أشهر ": أن ذلك سفر، وإن مكثهم بذي المجاز عشرين أو خمسة عشر يوماً سفر وأن في القصر اقتداء بالنبي - صلى الله عليه وسلم -. فقوله يخالف قول ابن عباس، ومأخذ ابن عباس تقدم لكم وما فيه من النظر، فهو مخالف بقول ابن عمر، وهذا القول أظهر وأن مرجع ذلك إلى العرف والله أعلم. قال: (أو ملاحاً معه أهله لا ينوي الإقامة ببلد لزمه أن يتم) ملاح في السفينة أو سائق أجرة – كما في هذه الأزمنة - أو في الأزمنة القديمة: الساعي أو البريد ونحو ذلك. فمن كان معه أهله وهو ملاح ولا ينوى الإقامة ببلد فيلزمه أن يتم – وقد تقدم التنبيه على هذه المسألة –. قالوا: هو وإن كان مسافراً لكن سفره دائم لا ينقطع فلم يترخص برخص السفر؛ لأن سفره دائم لا ينقطع. وذهب جمهور الفقهاء وهو رواية عن أحمد واختارها الموفق: إلى أنه يثبت له القصر وغيره من رخص السفر.

وكونه ذا سفر لا ينقطع لا يعني ذلك ألا يكون له حكم المسافرين؛ لدخوله في عمومات النصوص، بل هو أشق – كما قال ذلك الموفق -. فالراجح: أن من كان سفره دائم لا ينقطع كسائق سفينة ونحوه أنه يقصر لكونه مسافر، ولأن ما كان منه لا يعتبر إقامة بل سفراً، وكون سفره الغالب فيه أنه لا ينقطع هذا لا يؤثر في الحكم، فإنه مسافر داخل في عموم المسافرين بل هو أشق منهم فكان أحق بالرخصة المتقدمة. * ومن كان له أهل أو مال في بلد من البلاد وإن لم يتخذها دار إقامة: - فالمشهور عند الحنابلة: أنه يتم فيها سواء كان له أهل فقط أو مال فقط، فمن كان له بستان في بلدة أو ماشية فإنه يتم. واستدلوا: بما رواه أحمد من حديث عثمان: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (من تأهل ببلد فليصل صلاة المقيم) . وبما ثبت في مصنف ابن أبي شيبة عن ابن عباس أنه قال: (فإذا قدمت إلى بلد لك فيها أهل أو ماشية فأتم) رواه الشافعي وابن أبي شيبة بإسناد صحيح. - ذهب الشافعية وهو مذهب ابن المنذر: إلى أن من كان كذلك فإنه يقصر؛ لأنه في حكم المسافرين ما لم ينو الإقامة، فما دام لم ينو الإقامة ولم يتأهل فيها تأهلاً تاماً فإنه مسافر وإن كان له فيها أهل أو مال. قالوا: وأما الحديث الذي ذكرتموه، فإسناده ضعيف منقطع. وأما أثر ابن عباس: فإنه مخالف، فإن الصحابة كان لهم أموال في مكة وكانوا يقصرون فيها وأنكروا على عثمان القصر [لعلها: الإتمام] ، وتقدم أثر ابن عمر في قصره في خيبر وكان له أرض فيها. فهي آثار تخالف ما روى عن ابن عباس، فهو رأي له قد خولف فيه فلم يحتج به. فالراجح مذهب أهل القول الثاني: أن من كان له أهل أو مال في بلدة فذهب إليها ولم ينو إقامة فإنه يقصر لأنه مسافر.

أما إذا تأهل فيها تأهلاً تاماً فأقام فيها الإقامة التي ينتفي بها حكم السفر فإنه يكون في حكم المقيمين ولا مانع أن يكون له بلدتان فأكثر متى ما ثبتت الإقامة. فإذا كان له في هذه البلدة أشهر يمكث فيها وفي البلدة الأخرى بقية السنة فإنه يعتبر مقيماً في البلدتين؛ لأنه قد تأهل تأهلاً تاماً واتخذ كلاً منهما سكنى له فكان له حكم المقيمين لا المسافرين. قال: (وإن كان له طريقان فسلك أبعد هما) وكان أقصرهما لا يثبت به حكم السفر، فسلك أبعد هما فإنه يثبت له حكم المسافرين، وإن كان لو سلك أقصرهما لم يثبت له ذلك. قالوا: لأن سلوكه الأبعد فيه ترك لما كان سلوكه أولى، ولا يكون ذلك إلا لأن سلوك ذلك مظنة خوف أو مشقة، فهذا طريق شاق أو فيه مخاوف فتركه وسلك الطريق الآخر غيره، فكان الطريق الأبعد هو الطريق الأصلي لهذه البلدة لأنه آمن وسالم من المتاعب. - وقال بعض الحنابلة: يستثنى من ذلك ما ذكرتموه فيما إذا كان ذلك مظنة الخوف أو المشقة. أما إذا لم يكن ذلك فلا. وهذا أظهر؛ لأنا إذا قلنا بخلاف ذلك فإنه يقتضي أن يكون اثنان قد أتيا من بلد واحدة وأحدهما له حكم السفر والآخر لا، مع أن [من] له حكم السفر قد اتخذ طريقاً خلاف الأولى، فمثل هذا ضعيف في النظر. أما إذا كان الطريق الآخر فيه مخاوف ومشاق فإنه يكون الطريق الأصلي للبلدة هو هذا الطريق الآمن السالم من المتاعب. فحينئذ يثبت في سلوكه السفر وإن كان غيره أقرب منه لمشقة سلوكه وللمخاوف فيه. فالراجح: أنه إذا كان هناك معنى لسلوك الأبعد لكون الأقرب فيه مخاوف أو مشاق فسلك الأبعد فإنه يقصر الصلاة. قال: (أو ذكر صلاة سفر في آخر قصر) رجل مسافر فذكر أنه ترك صلاة في سفر آخر فإنه يصليها قصراً؛ لأنه قد فعلها في السفر وقد وجبت في السفر فلا معنى لقضائها تماماً. ثم إن القاعدة السابقة " القضاء يحكي الأداء " تفيد هذا.

لكن المذهب لا يقول بهذه القاعدة في المسألة السابقة فلم يستدل به على هذه المسألة لعدم التناقض. أما على الراجح فإنه يستدل بها. أما دليلهم هم فإنهم قالوا: إنها وجبت عليه فعلها في حال السفر فكانت صلاة سفر. قال: (وإن حبس ولم ينو إقامة أو أقام لقضاء حاجة بلا نية إقامة، قصر أبداً) رجل حبس ظلماً أو حبسه مطر أو ثلج ولم ينو إقامة أو أقام لقضاء حاجة من الحوائج بلا نية إقامة، وظن أن إقامته أنها يكفيها أربعة أيام احتمالاً، فيحتمل أنها تنتهي في أربعة أيام وقد تزيد فإنه يقصر. إذن: إذا أقام لقضاء حاجة فله حالان: 1- الأولى: أن يعلم أنه لا يقضي حاجته إلا بعد أربعة أيام فيحتاج للمكث في هذه البلدة أكثر من أربعة أيام، أو يظن أنه يحتاج أربعة أيام وإن كان ربما قضاها قبل ذلك، فإنه حينئذ يجب عليه الإتمام. 2- الثاني: أن يظن أنها تحتاج أربعة أيام، أو يعلم ذلك فإنه يقصر، ولو أقام أبداً. وهذا مذهب جماهير العلماء وحكاه الترمذي وابن المنذر إجماعاً. إلا أن الأصح عند الشافعية خلاف ذلك، وحدوده في الأصح عندهم بثمانية عشر يوماً، وهو خلاف مذهب عامة أهل العلم. والراجح مذهب جماهير العلماء؛ لأنه لم ينو إقامة فلا يكون في حكم المقيمين. واستدلوا: بأثر ابن عمر، لكن تقدم أنه لا يستدل به عليها. لكن دليلها ما تقدم وأنه مسافر وليس مقيم؛ لأنه لم ينو إقامة فلم يكن مقيماً، فلو بقى ما بقى فإنه في حكم المسافر، وحكاه ابن المنذر والترمذي إجماعاً. فإن ثبت أن الشافعي خالف في هذه المسألة، فإن الإجماع منقوض. ومع أن المسألة تحتاج إلى بحث عن كلام الشافعي لكني استبعد ذلك على الشافعي مع أن ابن المنذر من أعلم الناس بمذهبه ومع ذلك حكى الإجماع في هذه المسألة. فالظن أن هذا مذهبٌ لأصحابه، وذلك لا ينقض الإجماع. والحمد لله رب العالمين. فصل

قال المؤلف رحمه الله تعالى: (يجوز الجمع بين الظهرين وبين العشاءين في وقت إحداهما في سفر قصر) . هذا فصل في الكلام في الجمع بين صلاتي الظهر والعصر وهما الظهران، والمغرب والعشاء وهما العشاءان من باب التغليب. وقد أجمع العلماء على أن الجمع لا يشرع بين غيرهما من الصلوات، فلا جمع بين عصر ومغرب، ولا عشاء وصبح، ولا صبح وظهر، فهذا بالإجماع لا يصح فيه الجمع. فيجوز الجمع في وقت إحداهما تقديماً أو تأخيراً، فتقديماً بأن يصلي الظهر والعصر في وقت الظهر، وكذلك المغرب والعشاء في وقت المغرب، وتأخيراً بأن يصلي الظهر والعصر في وقت العصر، أو المغرب والعشاء في وقت العشاء. (في سفر قصر) : فيجوز الجمع بين الصلوات في السفر الذي يصح فيه القصر وقد تقدم الكلام عليه. دليل ذلك: ما ثبت في الصحيحين عن أنس بن مالك قال: (كان النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا كان في سفر فارتحل قبل أن تزيغ الشمس أخر الظهر إلى وقت العصر ثم نزل فجمع بينهما، فإذا زاغت الشمس قبل أن يرتحل صلى الظهر ثم ركب) قال في البلوغ: " وفي رواية الحاكم في الأربعين بالإسناد الصحيح: (صلى الظهر والعصر ثم ركب) ". وروى الإسماعيلي نحوه – كما في الفتح – أن النبي - صلى الله عليه وسلم -: (كان إذا كان في سفر فارتحل بعد أن زالت الشمس صلى الظهر والعصر جميعاً ثم ارتحل) فهذا الحديث يدل على ثبوت الجمع في السفر. وثبت في مسلم عن معاذ بن جبل قال: (خرجنا مع النبي - صلى الله عليه وسلم - في غزوة تبوك فكان يصلي الظهر والعصر جميعاً، والمغرب والعشاء جميعاً) . وثبت في مسند أحمد وسنن أبي داود والترمذي وصححه من حديثه أن النبي - صلى الله عليه وسلم -: (كان إذا ارتحل قبل أن تزيغ الشمس صلى الظهر والعصر جميعاً في وقت العصر، وإذا ارتحل بعد أن زاغت الشمس صلى الظهر والعصر جميعاً في وقت الظهر، وهكذا المغرب والعشاء) .

فهذه أحاديث تدل على ثبوت الجمع في السفر، وهي حجة على من أنكر ذلك من الأحناف في تخصيصهم الجمع بعرفة ومزدلفة. قالوا: لأن الأحاديث في المواقيت متواترة فلا تخصص بذلك. لكن صحتها عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وثبوتها يخصص به المتواتر كما هو مقرر في علم أصول الفقه. بل الأحاديث متواترة في أصل الجمع في السفر أو مستفيضة في ذلك، وحينئذ قوله: (يجوز) ، ظاهره أن ذلك مباح وليس بمستحب. وهو المشهور في المذهب قالوا: وتركه أفضل. وعن الإمام أحمد: أن الجمع في السفر أفضل، وهذا القول أرجح في موضع، والأول أرجح في موضع آخر. أما كون الثاني أرجح، فهو في موضع الارتحال حيث جد به السير. فالمستحب له الجمع لثبوت السنة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في ذلك ومداومته على هذا الفعل تدل على أنه هو المستحب. وأما إذا كان نازلاً فإن المشهور من فعله – - صلى الله عليه وسلم - – أنه كان يصلي الصلاة في وقتها كما صح ذلك في حجته في صلاته في منى، فإنه كان نازلاً في منى وكان يصلي الصلوات في وقتها ولا يجمع ولم يصح عنه أنه جمع في نزوله إلا ما ثبت في موطأ مالك بإسناد صحيح – وهو دليل الجواز – عن معاذ أن النبي - صلى الله عليه وسلم -: (أخر الصلاة في غزوة تبوك يوماً ثم خرج فصلى الظهر والعصر جميعاً ثم دخل، ثم خرج فصلى المغرب والعشاء جميعاً) . لكن الذي كان يداوم عليه – - صلى الله عليه وسلم - – هو الجمع حيث جد به السير، فإن نزل فإنه كان يصلي الصلوات في وقتها ولا يجمع إلا في أحوال نادرة كما تقدم في حديث معاذ الدال على جواز الجمع في حال النزول. قال: (والمريض يلحقه بتركه مشقة)

فالمريض يجوز له الجمع إن كان في صلاته الصلوات في وقتها مشقة عليه، لأن الشريعة قد أتت بنفي الحرج، وقد قال ابن عباس – كما في الصحيحين – (جمع النبي - صلى الله عليه وسلم - بين الظهر والعصر والمغرب والعشاء من غير خوف ولا سفر) وفي مسلم (بالمدينة من غير خوف ولا مطر فسئل عن ذلك فقال: أراد ألا يحرج أمته) . فدل أنه حيث وقع الحرج فإنه يجوز له أن يجمع. وقد وردت السنة بالجمع للمستاحضة كما ثبت هذا في مسند أحمد وسنن أبي داود والترمذي، قال الإمام أحمد: " ومثل ذلك المرضع التي يشق عليها أن تغسل ثوبها لكل صلاة " أي من نجاسة الطفل فيجوز لها الجمع للحرج، وهذا واضح في مثل الشتاء حيث يشق ذلك عليها. ومثل ذلك: حيث خاف على نفسه أو أهله أو ماله – كما تقدم – في العذر في ترك صلاة الجماعة. وهذا هو المشهور في المذهب – أي الجمع للمريض – ونص الإمام أحمد واختيار شيخ الإسلام. قال: (وبين العشاءين لمطر يبل الثياب أو وحل) فإذا كان المطر يبل الثياب وحينئذ تحصل المشقة، فلا تحصل المشقة في المطر القليل أو الطل الذي لا يثبت بمثله أذى. أما الذي يبل الثياب وهو الذي يثبت بمثله الأذى فإنه يجوز الجمع فيه بين العشاءين. واستدلوا: بما في الموطأ بإسناد صحيح أن ابن عمر: (كان إذا جمع الأمراء بين المغرب والعشاء في المطر جمع معهم) ، وثبت في البيهقي بإسناد صحيح: أن عمر بن عبد العزيز: (أنه كان يجمع بين المغرب والعشاء في المطر) ، وأن سعيد بن المسيب وعروة وأبا بكر بن عبد الرحمن ومشيخة ذلك الزمان كانوا يصلون معه ولا ينكرون ذلك قالوا: فكان ذلك إجماعاً. وظاهر قوله: (بين العشاءين) أنه لا يجمع بين الظهر والعصر في المطر – وهذا هو المشهور في مذهب الحنابلة.

قالوا: لعددم وروده كما ورد هذا في المغرب والعشاء؛ ولأنه لا يقاس مطر النهار على مطر الليل، لأن المطر في الليل يكون في الظلمة فتكون المشقة أعظم، كما أنه مظنة للبرد ونحوها فكانت المشقة فيه أظهر فلا يقاس هذا على هذا لوجود الفارق. - وذهب أبو الخطاب من الحنابلة وهو مذهب الشافعية: إلى جواز الجمع – في المطر – بين الظهر والعصر. قالوا: لقول ابن عباس: (من غير خوف ولا مطر) فدل على أن المطر عذر يجمع له، وقال: (أراد ألا يحرج أمته) فالعلة والمناط إنما هو الحرج، والحرج ثابت بالمطر في النهار كما هو ثابت بالمطر في الليل. وكون المطر في الليل أشق من المطر في النهار لا يعني ذلك عدم ثبوت المشقة في المطر في النهار، والحكم إنما علق بالمشقة فمتى ثبتت المشقة فإنه يثبت الحكم، وإن كان هناك ما هو أشق، فكون مطر الليل أشق للظلمة ونحوها لا يعني ذلك عدم ثبوت المشقة في النهار فالحكم إنما يعلق لوجود الحرج والمشقة فمتى ثبت ذلك جاز. وقد تقدم أثر ابن عباس في حديث (ألا صلوا في رحالكم) في البرد الشديد فلا فرق فيه بين الليل والنهار. فالراجح مذهب الشافعية وهو اختيار أبي الخطاب. ومثل ذلك: الوحل لذا قال هنا: (ووَحل) والوحل أشق من المطر الذي يبل الثياب فكانت الرخصة فيه أولى، وقد تقدم في أثر ابن عباس في قوله: (وكرهت أن أخرجكم في الطين والدحض) . فهذا يدل على أن متى ثبت ذلك فهذا عذر في الجمعة في حضورها جماعة ومثلها سائر الصلوات، وكذلك في الجمع لوجود الحرج، وقد قال ابن عباس: (لئلا يحرج أمته) والخروج في حال الوحل والطين الزلق فيه حرج ومشقة. قال: (وريح شديدة باردة) كذلك إذا كانت الريح شديدة باردة يقع الحرج في أن يصلي الناس الصلوات في وقتها فيجوز الجمع – هذا هو المشهور في المذهب –.

والأدلة ظاهرة فيه لوجود الحرج، وقد قال ابن عباس – كما تقدم -: (لئلا يحرج أمته) وهذا من جنس العذر في المطر والدحض ونحو ذلك. والظاهر كما تقدم – أن يقيَّد هذا بألا يكون مما ألفته تلك البلاد، لأن الجمع فيما يكون مألوفاً يؤدي ذلك إلى التفريط في حضور الجماعات – في صلاة الصلوات في وقتها –. فالمراد ما يقع به الحرج وذلك إنما يكون متى لم يؤلف، وأما من وقع عليه الحرج فلا بأس أن يصلي في بيته لوقوع الحرج عليه. إذن: الريح الباردة الشديدة التي لم تجر العادة لأهل تلك البلدة بمثلها وخروجهم مع وجودها يُلحقهم حرجاً ومشقة، يجوز لهم أن يجمعوا بين الصلوات فيها. قال: (ولو صلى في بيته أو في مسجدٍ طريقُهُ تحت ساباط) الساباط: هو ما كان يوضع في الدور في السابق – على السقف، فيوضع على الدور بحيث تكون الطرق مظللة ويكون مظللاً عن المطر نحوه. فلو صلى في بيته أو في مسجد طريقه تحت ساباط فيجوز له الجمع. قالوا: لأن الرخص العامة كالسفر وبيع السلم تثبت وإن انتفت المشقة أو الحرج عن شخص ما، فإن الحكم يثبت له حيث ثبت له غيره. وهذا ظاهر في الشريعة فقد أباحت القصر في السفر، والأصل في ذلك المشقة ولو انتفت المشقة عن بعض المسافرين فإن الحكم يبقى حقاً لهم، ومثله بيع السلم فإنه إنما استثنى من البيع المحرم – لحاجة الناس إليه – ودخل في ذلك الأغنياء وغيرهم ممن ليس لهم حاجة إلى تعاطي هذه الصورة من البيع. فمتى كانت الرخصة عامة فإن حكمها يثبت مطلقاً حتى للشخص الذي لا تقع فيه العلة التي هي باعث الحكم الشرعي، وهذا ظاهر. قال بعض الحنابلة: لا يثبت له هذا الحكم؛ لأن الحكم علق بالمشقة والمشقة منتفية عنه فليس له أن يترخص بذلك.

والأظهر القول الأول؛ لما تقدم من أن الرخص العامة إذا ثبتت في حق عموم المكلفين فإنها تشمل كل مكلف وإن كان في شخصه قد انتفت منه العلة التي من أجلها شرع الحكم، كما في السلم والسفر ونحوه، وهو مذهب الحنابلة في المشهور عندهم. قال: (والأفضل فعل الأرفق به من تقديم أو تأخير) فالأفضل فعل الأرفق به من تقديم أو تأخير، وهو اختيار شيخ الإسلام. وهو ظاهر فإن الجمع إنما شرع لنفي الحرج، وفي كونه يفعل الأرفق به تمام لرفع الحرج. وكوننا نحدد له شيئاً من الاثنين فإن في ذلك ما ينافي تمام توسع الأمر ورفع الحرج فيه، فكان الأولى أن يقال: افعل الأرفق بك؛ لأن الحكم شرع لرفع الحرج عنه، فمتى كان الحرج رفعه أتم وأظهر فإن هذا الأفضل في حقه. وهذا ما دلت عليه السنة في الحديث المتفق عليه المتقدم بأن النبي - صلى الله عليه وسلم -: (كان إذا ارتحل قبل أن تزيغ الشمس استمر حتى يأتي وقت الصلاة الثانية ثم ينزل فيصلي الظهر والعصر تأخيراً) ؛ لأن للمكلف أن ينزل في الصلاة الأخرى، كما إنه إذا أراد أن يسافر وقد زاغت الشمس فإن الأرفق فيه أن يصلي الصلاتين ثم يرتحل وهكذا كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يفعل. مسألة: اختار شيخ الإسلام وهو مذهب ابن سيرين وابن المنذر: أن الجمع جائز مطلقاً عند الحاجة إليه من غير أن يتخذ ذلك سنة وعادة. فمتى احتاج إليه ولو كان ذلك لمصلحة دينية كاجتماع ناس لخطبة أو لأمر ما جاز ذلك من غير أن يتخذ ذلك سنة وعادة.

ودليله حديث ابن عباس: فإن فيه أن النبي - صلى الله عليه وسلم -: (صلى الظهر والعصر جميعاً، والمغرب والعشاء جميعاً بالمدينة من غير خوف ولا سفر ولا مطر) وقال ابن عباس: (أراد ألا يحرج أمته) وهكذا كان فعله - رضي الله عنه - – فقد ثبت في صحيح مسلم عن عبد الله بن شقيق قال: (خطبنا ابن عباس بالبصرة بعد العصر حتى غربت الشمس وبدت النجوم فقيل: الصلاة الصلاة فقال: جمع النبي - صلى الله عليه وسلم - بين الظهر والعصر والمغرب والعشاء) قال عبد الله بن شقيق: فحاك في صدري من ذلك شيء فسألت أبا هريرة فصدَّق مقالته. وقد فعل هذا ابن عباس لمصلحة اجتماع الناس وتفرقهم وكان يخشى أن يتفرقوا عن سماع الحق الذي يريد أن يبينه، وهي مصلحة شرعية، ولعلها فيما كان يدور في الأمة من الخلاف بين أمير المؤمنين علي ومعاوية رضي الله عنهما. فإن قيل: فلعله جمع صوري؟ فالجواب: هذا ضعيف من أوجه: منها: أن عبد الله بن شقيق لا يمكن أن يخفى عليه جواز الجمع الصور والمراد به: أن يؤخر الصلاة إلى آخر وقتها ثم يجلس حتى إذا دخل وقت الأخرى قام فصلاها، هذا جاز بإجماع المسلمين وهو واضح لعامة الناس فضلاً عن علمائهم فيبعد أن يحيك هذا في صدر مثل عبد الله بن شقيق وهو من علماء المسلمين فدل على أنه ليس المراد من ذلك الجمع الصوري. وكذلك ابن عباس: ما كان يحتاج تبيين ذلك والناس يعلمون أنه يجوز لهم أن يؤخروا الصلاة – أي المغرب – وإن بدت النجوم ما لم يغب الشفق. ويدل عليه ما ثبت في النسائي بإسناد صحيح: " أنه ذكر أنه صلى مع النبي - صلى الله عليه وسلم - بالمدينة الأولى " أي الظهر " والعصر ثمان سجدات " أي ركعات " ليس بينهما شيء " أي ليس بينهما انتظار، فليس جمعاً صوري. فإن قيل: لعل النبي - صلى الله عليه وسلم - كان مريضاً كما قال ذلك بعض أهل العلم والمرض عذر، فإنه نفى الخوف والمطر والسفر فبقى المرض؟

فالجواب: أن هذا ضعيف؛ لأن المرض عذر للشخص نفسه، وقد جمع النبي - صلى الله عليه وسلم - بأصحابه، والعذر حيث كان كذلك إنما يكون مختصاً بالشخص نفسه. إذن: ما ذهب إليه أهل هذا القول راجح لكن لا يتساهل بهذه المسألة، فقد ثبت عند سفيان الثوري في جامعه وقد ذكره شيخ الإسلام – والأثر صحيح – عن عمر قال: (الجمع بين الصلاتين لغير عذر من الكبائر) ورواه الترمذي مرفوعاً إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - ولا يصح مرفوعاً بل هو موقوف على عمر. قال: (فإن جمع في وقت الأولى اشتراط نية الجمع عند إحرامها ولا يفرِّق بينهما إلا بمقدار إقامة ووضوء خفيف ويبطل براتبة بينهما، وأن يكون العذر موجوداً عند افتتاحهما وسلام الأولى) هذه شروط ثلاثة لمن أراد أن يجمع جمع تقديم: نية الجمع عند إحرامها – أي الأولى –. الموالاة. أن يكون العذر موجوداً عند افتتاح الأولى والثانية وسلام الأولى. فالشرط الأول: (اشتراط نية الجمع عند إحرامها) : فيجب إذا كبر للأولى أن ينوي الجمع، فلو لم يفعل، كأن ينزل المطر مثلاً وهو يصلي المغرب فلا يصح الجمع؛ لأنه يشترط أن يكون قد نوى الجمع عند افتتاح الأولى وهو لم ينوه. وذهب الحنابلة في الوجه الثاني عندهم وهو اختيار شيخ الإسلام: إلى أن نية الجمع ليست بشرط، وأن هذا القول لا دليل عليه – كما قال شيخ الإسلام – ومثل هذا ينبغي أن يشتهر عنه حيث كان شرطاً، وترك البيان عند الحاجة إليه لا يجوز وهو ممتنع في الشريعة، فيمتنع أن تكون النية للجمع شرطاً ولم يبين النبي - صلى الله عليه وسلم - ذلك لأمته فلا ينقل ذلك عنه لا بإسناد صحيح ولا حسن، ولم يثبت ذلك عن أحد من أصحابه. وهذا القول هو الراجح – وأن نية الجمع ليست بشرط لأنه لا دليل على ذلك – فهذا الشرط غير صحيح. الثاني: (ولا يفرق بينهما)

فالموالاة واجبة قالوا: لأن لفظ الجمع يقتضي الموالاة وعدم المفارقة، والاتصال، فوجب أن تكون الصلاتان متصلتين ببعضهما وهذا هو فعل النبي - صلى الله عليه وسلم - في صلواته التي جمع فيها. وعن الإمام أحمد: أن ذلك ليس بشرط، وهو اختيار شيخ الإسلام،وهو القول الراجح. لأن فعل النبي - صلى الله عليه وسلم - على وجه الموالاة لا يقتضي الإيجاب. وأما كونهما يثبت فيهما الجمع، فإن الجمع لا يقتضي إلا الجمع بينهما في الوقت نفسه، فالمراد من قولنا: جمع أن كليهما صليا في وقت إحداهما، وهذا هو الجمع المقصود من صلاة الصلاتين في وقت إحداهما. وأما كونهما يتصلان أو يفترقان فإن هذا لا يقتضيه لفظ الجمع. وفعل النبي - صلى الله عليه وسلم - يدل على الاستحباب ولا معنى يقتضي إيجاب ذلك. وهذا القول الراجح وأنه ليس بشرط. وعلى المذهب: إذا حدث بينهما فارق: فإما أن يكون يسيراً عرفاً أو كثيراً عرفاً. فإن كان يسيراً عرفاً لم يضر، ومثّل له بإقامة ووضوء خفيف. وإن كان كثيراً ضر، ومثّل له بصلاة راتبة بينهما. فإذن: الفارق مرجعه إلى العرف فإن كان كثيراً فإنه يضر ولا يصح الجمع، بل ينتظر ويصلي الصلاة في وقتها. أما الشرط الثالث فقال: (وأن يكون العذر موجوداً) العذر كالمطر ونحوه (عند افتتاحهما) أي الأولى والثانية (وسلام الأولى) : ونازع في قوله: (وسلام الأولى) ابن عقيل من الحنابلة وقال: " هذا لا أثر له "، وهذا هو الظاهر. فإنه لا أثر له فكون المطر يستمر نازلاً عند افتتاح الأولى فهذا لنية الجمع كما تقدم، وعند افتتاح الثانية فهذا لإثبات العذر في إجازة الجمع. أما قضية سلام الأولى فإن هذا غير مؤثر وهو كما قال.

ويقول: كذلك افتتاح الأولى، فإنه إنما اشترط وجود العذر عند افتتاح الأولى لاشتراط نية الجمع، وتقدم أن نية الجمع ليست بشرط وعليه فلا يشترط ذلك، فلو لم ينزل المطر إلا بعد سلامهم من المغرب – مثلاً – فإنه يجوز لهم الجمع خلافاً للمشهور من المذهب، لأن اشتراط العذر في الصلاة الأولى هذا لا أثر له، فالصلاة الأولى إنما صليت في وقتها والعذر إنما هو للصلاة الثانية لتضم إلى الصلاة الأولى لوجود العذر، ولا أثر للصلاة الأولى مطلقاً لا في افتتاحها ولا سلامها. قال: (وإن جمع في وقت الثانية اشترط نية الجمع في وقت الأولى) هذه شروط جمع التأخير. قال: (اشتراط نية الجمع في وقت الأولى) هذا شرط صحيح ظاهر؛ لأنه إن لم ينو الجمع في وقت الأولى، فإن ذلك يكون من باب القضاء. رجل في سفر فدخل عليه وقت صلاة الظهر حتى خرج وقتها ولم ينو الجمع فدخل وقت الثانية فإن هذا لا يكون من باب الجمع لأن هذا التأخير منه لغير نية الجمع وحينئذ يكون ذلك من باب القضاء لا الأداء، فإنه مفرط في إخراج الصلاة عن وقتها من غير أن ينوي الجمع تأخيراً شرعياً؛ لأن الواجب عليه أن يصلي الصلاة في وقتها، وحيث صلاها خارج وقتها فهذا من باب القضاء وليس له عذر في أن يؤخرها عن وقتها إلا إذا كان ناوياً الجمع، فإن نوى جاز له ذلك. قال: (إن لم يضق عن فعلها) لأنه إذا أخرها ولم ينو الجمع حتى ضاق وقتها عنها فإنه قد فعل أمراً محرماً، وقد تقدم البحث في هذه المسألة. قال: (واستمرار العذر إلى دخول وقت الثانية) هذا هو الشرط الثاني: وهو استمرار العذر إلى دخول وقت الثانية.

فمثلاً: أذن الظهر وهو في سفر، وأرد أن يجمع صلاة الظهر مع العصر في وقت العصر لكنه قدم إلى البلد وقد بقي وقت لأذان العصر، فما زالت في وقت الظهر، فلا يجوز أن ينتظر فيؤخر صلاة الظهر فيؤخرها مع العصر؛ ذلك لأن العذر قد زال بزوال المقتضي، وزوال السبب يمنع من الجمع. وكذلك من زال مرضه: فمثلاً مريض أراد أن يؤخر صلاة المغرب إلى وقت العشاء فزال مرضه أثناء وقت المغرب فإنه لا يجوز له الجمع لزوال عذره، وهو السبب المقتضي للجمع. إذن: عندنا شرطان في جواز جمع التأخير: أن ينوي الجمع في أثناء وقت الأولى. ألا يزول العذر إلا وقد خرج وقت الأولى. وقد قال عمر: (الجمع بين الصلاتين من غير عذر من الكبائر) . قال في الأنصاف: " بلا نزاع بين أهل العلم "، فلا نزاع في هذه المسألة. والحمد لله رب العالمين. فصل في الكلام على صلاة الخوف حكماً وصفة ومسائل. والمراد بصلاة الخوف: هي الصلاة المكتوبة عند الخوف وليس المراد بها أنها يشرع عند الخوف كصلاة الاستسقاء تشرع عند طلب السقيا. وإنما المراد الصلاة المكتوبة كيف تصلي عند الخوف. واعلم أن الثابت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو الثابت في القرآن في باب صلاة الخوف إنما كان في الخوف من الكفار عند القتال وقاس عليه أهل العلم: كل خوف جائز كالخوف من ظالم أو سبع أو سيل أو نحو ذلك. ولو كان الخوف في قتال ليس مع الكفار كقتال أهل بدعة أو بغي ونحو ذلك فإن هذا حيث ثبت الخوف فيه تشرع عنده صلاة الخوف.

أما إن كان القتال قتالاً محرماً فإنه لا يرخص له، وحكاه النووي إجماعاً، كالخارج على إمام أو المعتدي على المسلمين أو نحو ذلك وهو ظاهر، وليس كالمسألة السابقة، فإن هنا إعانة ظاهرة، فإن كونه يصلي الصلاة على راحلته كصلاة الخائف – كما سيأتي تفصيله على مراتبها - فإن في ذلك إعانة له على هربه أو تقوية له، وفي هذا ما ينافي مقصود الشارع من إضعافه فلم يرخص له في ذلك. إذن: القياس يكون حيث ثبت الخوف في أمر مشروع كالقتال في سبيل الله أو في أمر مباح كالهرب من سيل أو سبع أو نحو ذلك. قال المؤلف رحمه الله: (صلاة الخوف صحت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - بصفات كلها جائزة) فهي ثابتة صحيحة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في أحاديث كثيرة سيأتي ذكر بعضها. وهو أيضاً – أي أصل صلاة الخوف – ثابت في القرآن في قوله تعالى: {وإذا كنت فيهم فأقمت لهم الصلاة فلتقم طائفة منهم معك} الآية فإنها في صلاة الخوف وكذلك قوله تعالى: {فإن خفتم فرجالاً أو ركباناً} فهي أيضاً في صلاة الخوف. وليس هذا مختصاً بالنبي - صلى الله عليه وسلم - خلافاً لمن زعم ذلك في قوله: {وإذا كنت فيهم فأقمت لهم الصلاة ….} لأن ما كان ثابتاً للنبي - صلى الله عليه وسلم - فهو ثابت لأمته إلا أن يدل دليل على التخصيص. ولفعل الصحابة بعده كما صح ذلك عن طائفة منهم، وهو مذهب عامة العلماء. وقد صحت صلاة الخوف بصفات عدة، ذكر الإمام أحمد أنها ثبتت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - بستة أوجه أو سبعة أوجه كلها ثابتة جائزة، قال الإمام أحمد: (فمن ذهب إليها كلها فحسن، وأما حديث سهل فأنا أختاره " وسيأتي ذكره وصفة الصلاة فيه.

ومقتضى كلام الإمام أحمد – كما قال ذلك الموفق وصاحب الفروع – خلافاً للمشهور عند الحنابلة – مقتضى كلامه: صحة صلاة الخوف ركعة؛ لأنها من الأوجه الثابتة عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، كما في قول ابن عباس ورفعه إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -: (وصلاة الخوف ركعة) رواه مسلم. وثبت في سنن أبي داود بإسناد صحيح عن حذيفة: أن النبي - صلى الله عليه وسلم -: (صلى صلاة الخوف بهؤلاء ركعة وبهؤلاء ركعة ولم يقضوا) . وهذا في الحضر والسفر، ومقتضى كلام الإمام أحمد جواز [ذلك] حضراً وسفراً سواء كان ذلك من الإمام والمأمومين، أو من المأمومين فقط، وهو قول ابن عباس وإسحاق وطائفة من التابعين لثبوت ذلك عن النبي - صلى الله عليه وسلم -. وأما عامة أهل العلم فإنهم لم يجيزوا ذلك ورأوا أن صلاة الخوف تبع لصلاة الحضر وصلاة السفر، فصلاة الخوف تصلى في الحضر أربعاً وفي السفر ركعتين. وهذا ظاهرٌ إلا ما استثنى في حديث ابن عباس المتقدم. إذن: جماهير العلماء يرون أن الخوف لا أثر له في عدد الركعات لكن الخوف قد أثَّر في هيئتها، فأصبحت في هيئة يُؤمن على المسلم فيها، فهي هيئة مأمونة. وقولهم أصح، وأما حديث ابن عباس فيحمل على شدة الخوف حيث كان الخوف شديداً يقتضي أن تتأثر الركعات فحينئذ يجوز ذلك. فالأظهر: أنه لا يجوز التصرف بركعاتها حضراً ولا سفراً وأما التصرف في الهيئات فهو الوارد إلا أن يكون الخوف شديداً - لا يبلغ أن يصلي راكباً أو قائماً كما سيأتي – لكنه يحتاج المسلم فيه إلى أن يختصر الركعات فيصليها ركعة كأن تقام قبل التقاء الصفوف ويكون في صلاتها أربع ركعات أو ركعتين أو ثلاثاً فيه مشقة فحينئذ يصلونها ركعة. ومما يدل عليه قوله تعالى: {وإذا كنت فيهم فأقمت لهم الصلاة} و" أل " هنا في الظاهر أنها العهدية أي إذا أقمت لهم الصلاة المعهودة وهي المكتوبة فحينئذ هي على ركعاتها المشهورة حضراً وسفراً.

* واعلم أن أولى هذه الصفات الواردة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في العمل هو ما اختاره الإمام أحمد؛ لأن هذه الصفة هي التي وافقها القرآن وهي الصفة التي تفعل في كل حال سواء كان العدو في تجاه القبلة أو ميمنتها وميسرتها أو معاكساً لها. وصفتها: أن يقسم الجيش طائفتين، ولا يشترط في هاتين الطائفتين التساوي لكن يشترط أن تكون كل طائفة فيها تثبت بها الكفاية في الوقوف أمام العدو لو حدث منه ميل إلى المسلمين، فيصلي بهم ركعة ثم يثبت قائماً فيتموا لأنفسهم ثم ينصرفون، فيقفوا وجاه العدو، وتأتي الطائفة الأخرى فيصلي بهم الركعة التي بقيت ثم يثبت جالساً فيتموا لأنفسهم ثم يسلم بهم، فيكون لهؤلاء ميزة التسليمة وللآخرين ميزة التكبيرة. ودليل ذلك: ما ثبت من حديث صالح بن خوات: عمن شهد مع النبي - صلى الله عليه وسلم - يوم ذات الرقاع – وفي مسلم – عن سهل بن أبي حثمة. لذا قال الإمام أحمد – كما تقدم – (وأما حديث سهل فأنا أختاره) –. وهو عند البيهقي (عن صالح بن خوات عن أبيه) ولا مانع أن يكون رواه عن أبيه ورواه عن سهل بن أبي حثمة – عمن شهد مع النبي - صلى الله عليه وسلم - يوم ذات الرقاع صلاة الخوف: (أن طائفة صفت معه، وطائفة وجاه العدو فصلى بالتي معه ركعة ثم ثبت قائماً فأتموا لأنفسهم ثم انصرفوا وجاه العدو، وجاءت الطائفة الأخرى فصلى بهم ركعة ثم جلس فأتموا لأنفسهم ثم سلم بهم) وهو أنكى للعدو وأحفظ للمسلمين، فإنها تفعل حيث كان العدو في أي جهة. ومن الصفات: ما ثبت في الصحيحين من حديث ابن عمر: وصفتها: (أن تقوم طائفة مع الإمام وطائفة تبقى وجاه العدو، فيصلي بالطائفة التي قامت معه ركعة، ثم ينصرفون عن الإمام إلى مواقعهم ويتمون لأنفسهم لكنهم ينتظرون الآخرين في الإتمام ثم تأتي الطائفة الأخرى فتصلي مع الإمام الركعة الثانية ويتمون لأنفسهم) .

هذه صفة أخرى لكنها حيث كان الخوف أخف من الوضع المتقدم لأنهم يبقون يتمون جميعاً لكن معلوم أن الإتمام حيث كان منهم جميعاً لابد فيه من مفارقة، فهذا قائم وهذا جالس وهذا ساجد فيكون هناك نظر للعدو – وإن كانت هذه الصفة إنما تبقى أن يفعل حيث كان العدو وجاه القبلة وإلا فقد تحدث – حينئذ – غرة من الكفار لذا لا ينبغي أن يفعل إلا حيث كان العدو أمامهم وحيث كان الخوف أخف مما يحتاج فيه إلى الصورة المتقدمة. وهناك صفة ثالثة: ثبتت في الصحيحين من حديث جابر، وصفتها: أن يصلي الإمام ويصلي الناس معه جميعاً ويقسمهم إلى صفين، فيركع ويركعون معه ويرفع ويرفعون معه ويسجد ويسجد الصف الأول معه فقط، ويبقى الصف الثاني قائماً، فإذا قام إلى الركعة الثانية سجد الصف الثاني ثم يقومون ويتأخر الصف الأول ويتقدم مَنْ في الصف الثاني ويفعلون كما فعلوا في الركعة الأولى، وهذا حيث كان العدو تجاه القبلة. وهناك صفة أخرى: وهي ما تقدم من أن النبي - صلى الله عليه وسلم - صلى بطائفة ركعة وبطائفة أخرى ركعة ولم يقضوا كما في حديث حذيفة وتقدم أن هذا حيث كان الخوف شديداً. وهناك صفة أخرى ثبتت في النسائي من حديث جابر – وفي أبي داود من حديث أبي بكرة وهي صفة ظاهرة، وهي: أن النبي - صلى الله عليه وسلم -: (صلى بطائفة ركعتين ثم سلم، ثم صلى بالآخرين ركعتين ثم سلم) . وهذا لا إشكال فيه. ومن هنا يجوز لهم أن يقسموا أنفسهم إلى جماعات، فتصلي هذه الجماعة الآن والجماعة الأخرى في وقت آخر، وإنما كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يفعل ما تقدم لفضيلة إمامته – عليه الصلاة والسلام – وإلا فلو قسموا أنفسهم قسمين فصلت الطائفة الأولى ثم صلت بعدهم الطائفة الأخرى فذلك لا بأس به. ولنقف عند الصفة المختارة التي اختارها الإمام أحمد رحمه الله. مسائل:

المسألة الأولى: إذا كان في الإقامة فأراد أن يصلي أربعاً أو في السفر وأراد أن يصلي المغرب فحينئذ هل يكون انتظار الإمام عند القيام أم عند التشهد. قولان لأهل العلم في الأولى: وعليه: فإن أي الصفتين فعل فلا بأس. فسواء قام وانتظرهم قائماً أم جلس فلا بأس لكن أيهما الأولى؟ الأظهر أن الأولى أن ينتظرهم وهو جالس؛ لأن الانتظار إنما فعل في حال القيام في الصورة المتقدمة للاحتياج إليه – حينئذ –، وإلا فإن فيه مشقة على الإمام في التطويل في القيام في انتظاره هؤلاء حتى يسلموا ثم هؤلاء حتى يأتوا. وأما الجلوس فإنه لا مشقة عليه ما في انتظارهم فيه، وفيه مصلحة أخرى: وهي أن تدرك الطائفة الثانية أول شروعه في الركعة الثالثة. المسألة الثانية: في الانتظار حيث كانت الصلاة ركعتين فقد تقدم أنه ينتظر في حال قيامه، فينتظر الطائفة الأولى حتى تسلم وتأتي الطائفة الأخرى، وفي حال جلوسه ينتظر الطائفة الثانية حتى تتم صلاتها فيسلم بها. فهل يشرع بالتشهد ويشرع بالقراءة في حال انتظاره أو ينتظرهم حتى يأتوا فيشرع؟ قولان لأهل العلم: أظهرهما أنه يشرع بمجرد قيامه؛ لأن هذا هو الأصل فيما يشرع، ولأن خلاف ذلك يتضمن سكوتاً وهو ليس بمشروع في الصلاة، فحينئذ بمجرد قيامه يشرع بالفاتحة لكنه يطيل القراءة حتى تأتي الطائفة الأخرى فيدركون معه الفاتحة. لكن إن ركع قبل أن يقرؤوا الفاتحة فذلك جائز لكنه خلاف السنة. قال: (ويستحب أن يحمل معه في صلاتها من السلاح ما يدافع به عن نفسه ولا يثقله كسيف ونحوه) من غير أن يكون ذلك يثقله كدرع ونحوه. واستدلوا بقوله تعالى: {وليأخذوا أسلحتهم} قالوا: هذا يدل على مشروعية حمل السلاح أثناء الصلاة؛ ولأنه لا يؤمن أن يأتي الكفار على حين غرة من المسلمين فيتمكنون منهم.

وما ذكروه من الدليل ظاهر في مشروعية ذلك لكنه واضح في الوجوب كما هو مذهب الشافعية والظاهرية ومال إليه الموفق: وأنه يجب ذلك لظاهر الآية الكريمة ولأن الله قال: {ولا جناح عليكم إن كان بكم أذى من مطر أو كنتم مرضى أن تضعوا أسلحتكم} فنفى الحرج - نفاه - حيث كان المرض والأذى، فدل ذلك على ثبوت الجناح حيث لم يكن أذى ولا مطراً أو عذراً يقتضي ذلك. وهذه الآية ظاهرة في وجوب ذلك كما هو اختيار الموفق ومذهب الشافعية والظاهرية وهذا القول هو الراجح. والمعنى يقتضي ذلك أيضاً وهو حفظ المسلمين من إغارة العدو على حين إقبالهم على صلاتهم ولا سلاح معهم يتمكنون به الدفاع عن أنفسهم. أما إذا كان الخوف شديداً لا يتمكن به المسلم أن يصلي على الصور المتقدمة فإنه يصلي على حاله راكباً وماشياً ومستقبل القبلة وغير مستقبلها وهو يقاتل العدو ويضرب بسيفه، فإنه يصلي على حاله حيث حضرت الصلاة. ودليله قوله تعالى: {فإن خفتم فرجالاً أو ركباناً} قال ابن عمر – كما في الصحيحين: (فإن كان خوف هو أشد من ذلك فرجالاً قياماً على أقدامهم أو ركباناً مستقبلي القبلة وغير مستقبليها) وهذا من تخفيف الله لهذه الأمة. وهنا مسائل – على هذه الصورة: الأولى: وهي داخلة في هذه المسألة والمسائل قبلها – أنه إذا صلى صلاة الخوف على هذه الصورة وغيرها من الصور من غير خوف يقتضي ذلك فإن الصلاة تبطل؛ لأن هذه الصلاة على هيئة لا تصح في حال الأمن لما فيها من مفارقة الإمام بلا عذر وترك متابعته، والصلاة مع العمل أو ترك استقبال القبلة سوى ما تقدم من صلاته ركعتين بطائفة وركعتين بطائفة أخرى فإن هذه الصلاة صحيحة أمناً وخوفاً. إذن: إذا صلى صلاة الخوف المفارقة لصلاة الأمن فصلاها ولا خوف أو لا خوف يقتضي ذلك فإن الصلاة تبطل. الثانية:

فإن ظن شيئاً كأن يرى شيئاً فيظن أنهم الكفار قدموا عليهم وكأن تأتيهم مدد من المسلمين فيظنوهم الكفار – فيصلون صلاة الخوف بناء على أن هذا شيء يقتضي صلاة الخوف فتبين لهم أنه ليس بعدو فهل يعيدون الصلاة أم لا؟ قولان لأهل العلم: الحنابلة قالوا: يجب عليهم أن يعيدوا الصلاة؛ لأنهم تركوا واجباً من واجباتها وهو ما تقدم مما يترك في صلاة الخوف. قال الشافعية - وهو أرجح –: بل لا يعيدونها؛ لأنهم صلوا الصلاة مع ظنهم القوي الغالب المؤثر في الحكم، أن الصلاة تجوز لهم – حينئذ –، فقبلت الصلاة منهم وصحت، فإذا تبين لهم سوى ذلك فإنه لا يؤثر، فإنهم قد أدوا الصلاة مع وجود السبب المقتضي لذلك. الثالثة: إذا تغير الأمر من أمن إلى خوف، أو من خوف إلى أمن أثناء الصلاة فما الحكم؟ يجب على كل منهما أن ينتقل إلى الصلاة الأصلية لزوال السبب المقتضي لخلافها. فمثلاً: رجل يصلي راكباً وهو يقاتل العدو غير مستقبل القبلة فزال الخوف وانتصر المسلمون – وهو يصلي – فيجب عليه أن ينزل فيتم صلاته مستقبلاً القبلة. والعكس كذلك: فلو كان يصلي صلاة الآمنين فحدث أمر يخيف كأن يكون المسلمون يصلون صلاة الآمنين فأتاهم الكفار على حين غرة فإنهم يتمون صلاتهم رجلاً وركباناً. إذن: إذا حدث السبب المجيز لصلاة الخوف فإنهم يتمون كصلاة الخوف. الرابعة: هل يلحق في كونه يصلي راكباً أو راجلاً – هل يلحق بذلك إذا خاف فوات طلبه، كأن يكون يلحق عدواً له من الكفار مثلاً، فخشي أن يمكث على الأرض فصلى أن يفوته هذا العدو وعلم أنه إذا لحقه وصلى راكباً أو راجلاً فإنه يدركه، فهل يجوز له أن يصلي كذلك؟

قال الحنابلة: يجوز ذلك. واستدلوا: بما رواه أبو داود من حديث عبد الله بن أنيس أن النبي - صلى الله عليه وسلم -: (بعثه إلى قتل خالد بن سفيان الهذلي فأدركه وعلم أنه إذا مكث للصلاة أنه يفوته فصلى ماشياً يومئ بصلاته حتى أدركه فقتله) وهو وجه عن الشافعية. والوجه الثاني – عند الشافعية – وهو الأصح عندهم: أن ذلك لا يجوز، وهو مذهب جمهور العلماء. قالوا: لأنه محصل لا خائف، والصلاة إنما شرعت عند الخوف، وهذا في الحقيقة ليس بخائف لكنه محصل لأمر. قالوا: والجواب - لم أره لهم لكن هذا مقتضى قولهم، الجواب - على الحديث المتقدم فهو ضعيف؛ لأن فيه محمد بن إسحاق وقد عنعن وهو مدلس. والراجح مذهب الشافعية وهو مذهب الجمهور: وأنه لا يجوز ذلك لضعف الحديث الوارد، ولأنه محصل لا خائف والصلاة إنما شرعت عند الخوف. لكن يستثنى من ذلك – كما استثنى الشافعية – ما إن ترك متابعته أن يعود إليه العدو فيدركه ويكون منقطعاً عن أصحابه فيخشى على نفسه فيكون حينئذ بحكم الخائفين. الخامسة: قال الحنابلة: إذا كان ذاهباً إلى عرفة وخشي أنه إن وقف وصلى أن يفوته الوقوف فيها، بحيث أنه لا يمكنه أن يدرك إلا الشيء اليسير من ليلتها، فخشي أن يفوته الوقوف بعرفة، فيجوز له أن يصلي صلاة الخائف، وهو هنا محصل كما تقدم فهي مقيسة على المسألة السابقة. وهذا اختيار شيخ الإسلام وتلميذه ابن القيم وهو وجه عند الشافعية. والوجه الثاني، وهو المصحح عندهم: أن ذلك لا يجوز؛ لأنه محصل لا خائف، والصلاة فرض على الهيئة المشروعة لا يستثنى من ذلك إلا ما ورد في النصوص، ومثل هذا لم يرد في النصوص الشرعية. وهذا أظهر وأنه لا يجوز ذلك؛ لأنه لا دليل على الاستثناء. أما مسألة الجمع فنعم لكنه غير وارد في صلاة الفجر، فليست المسألة جمعاً ليقبل بذلك. والحمد لله رب العالمين.

كتاب الصلاة من باب صلاة الجمعة إلى آخر الجنائز

باب: صلاة الجمعة الجمعة: الميم حكي كسرها، وكذلك بالضم وبالفتح وبالسكون، ففيها أربع أوجه، ولغة الحجاز ضمها وهي التي نزل بها القرآن. وسمي يوم الجمعة بذلك: لأن القيامة تقوم فيه وهو يوم الجمع، وثبت في مسلم عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال – في يوم الجمعة -: (وفيه تقوم الساعة) والناس – أيضاً – فهم يجتمعون فيه لأداء الصلاة المكتوبة فيجتمعون في مسجد واحد في المقر الكبير فسمي بذلك، وسمي جمعة أيضاً لأنه هو اليوم الذي جمع الله فيه خلق آدم، كما ثبت هذا في مسند أحمد وصححه ابن خزيمة بإسناد جيد أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لسلمان: (يوم الجمعة يوم جمع فيه أبوك أو أبوكم) فهو يوم الجمعة لأن الجمع للخلق في الآخرة يكون فيه، والجمع للمسلمين في الدنيا يكون فيه، ولأن الله جمع فيه خلق أبي البشر آدم صلى الله عليه وسلم. وصلاة الجمعة مستقلة عن صلاة الظهر، والظهر بدل عنها، ودليل ذلك: ما ثبت في سنن النسائي بإسناد صحيح وتقدم –من حديث عمر– وفيه: (وصلاة الجمعة ركعتان تمام غير قصر) وعند الإمام أحمد: أنها ظهر مقصورة وهو ضعيف بدليل أن الإمام لا يجوز فيها باتفاقهم، بخلاف الصلوات المقصورة في السفر فإنها لو أتمت لصحت خلافاً لأبي حنيفة. فإذن الصحيح أنها مستقلة والظهر بدل عنها. قال: (تلزم) فهي فرض عين وهذا بالإجماع فحضورها فرض عين على من سيأتي ذكره. يدل على ذلك قوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة فاسعوا إلى ذكر الله} وهذا أمر وهو للوجوب وقال - صلى الله عليه وسلم - كما في مسلم: (لينتهين أقوام عن ودعهم الجمعات أو ليختمن الله على قلوبهم ثم ليكونن من الغافلين) وقال في النسائي بإسناد صحيح: (رواح الجمعة واجب على كل محتلم)

وقال – كما في سنن أبي داود والحديث صحيح -: (الجمعة حق واجب على كل مسلم في جماعة إلا لمملوك أو امرأة وصبي ومريض) وقد تقدم الخلاف في صلاة الجماعة، أما الجمعة فإنها فرض بإجماع أهل العلم. قال: (كل ذكر حر مكلف مسلم) " كل ذكر ": فلا تلزم الأنثى. " حر": فلا تلزم المملوك. " مكلف ": فلا تلزم الصبي والمجنون. " مسلم ": فلا تلزم الكافر ولا تصح منه. أما الكافر فهذا ظاهر، وأما من تقدم ذكره: فللحديث المتقدم: (إلا مملوك وامرأة وصبي ومريض) ، فلا تجب الجمعة على الصبي غير المكلف ومثله المجنون لأنه غير مكلف فهو أولى، ولا تصح من المجنون فهو أولى من الصبي لأنها تصح منه، والمرأة لا تجب عليها الجمعة كما أنها لا تجب عليها الجماعة، والمملوك لا يجب عليه أن يحضر الجمعة. إذن: هي واجبة على المسلم الذكر الحر المكلف للحديث المتقدم، وهذا باتفاق أهل العلم. واتفقوا على أنهم لو صلوها لصحت، فلو أن امرأة أو مملوكاً أو مريضاً أو صبياً شهدوا الجمعة فصلوها ركعتين صحت، على أنهم لو صلوها في بيوتهم لصلوها أربعاً، وهذا باتفاق أو إجماع العلماء. قال: (مستوطن ببناء) لابد للوجوب عليه من أن يكون مستوطناً ببناء معتاد، سواء كان هذا البناء بلبن أو حجر أو قصب أو خوص أو نحو ذلك، فإن كان مستوطناً بخيام وهو لا يرتحل شتاءً ولا صيفاً فإنها عند جمهور العلماء لا تصح منه ولا يجزئ عنه، ولا يجوز لهم أن يقيموا الجمعة بل يصلوها ظهراً أو يشهدوا الجمعة فيما حولهم من المساجد التي في القرى التي تصح الجمعة منهم إذا حضروها، وأما إن يقيموها في محلهم وإن كانوا لا يرتحلون عنه شتاءً ولا صيفاً فلا تجوز.

- وقال الشافعي في أحد قوليه وهو اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية وقال في الفروع: " وهو متوجه ": إن إقامة الجمعة لهم صحيحة جائزة، وهذا هو الظاهر؛ إذ المناط إنما هو الاستيطان، فما داموا مستوطنين بهذا الموضع لا يرتحلون عنه شتاءً ولا صيفاً فإنه لا فرق بينهم وبين أصحاب البناء من حجر أو غيره، وهذا هو الراجح. أما أصحاب الخيام الذين يرتحلون شتاءً وصيفاً فإنه لا خلاف بين أهل العلم أنه لا يجزؤهم أن يصلوا الجمعة. وإقامة الجمعة في القرى مع عدم ثبوت المصر الجامع هو مذهب جمهور العلماء. ودليلهم: ما ثبت في البخاري عن ابن عباس قال: (أول جمعة جمعت في مسجد النبي صلى الله عليه وسلم في قرية بالبحرين (1)) فهي قرية ومع ذلك صحت فيها الجمعة. وقال عمر – كما في مصنف أبن أبي شيبة -: (جمعوا حيث شئتم) فتقام في القرى والأمصار. وقال الأحناف: لا تقام إلا في الأمصار. واستدلوا: بقول علي كما في مصنف عبد الرزاق: (لا جمعة إلا في مصر جامع) والجواب عنه: أنه يخالف ما ثبت عن عمر رضي الله عنه كما تقدم بل ما أقر عن جماعة الصحابة في إقامة الجمعة في القرية التي تقدم ذكرها، وكان ذلك إما في عهد النبي صلى الله عليه وسلم وإما في عهد أبي بكر وعمر ومع ذلك لم تنكر. ثم إنه لا فرق بين المصر والقرية في إقامة الجمعة، ويحمل كلام علي رضي الله عنه جمعاً بينه وبين كلام عمر رضي الله عنه أنه لا جمعة كاملة إلا في مصر جامع. ولو كان مراده " لا جمعة صحيحة " فإن أثر عمر يخالفه وأثر ابن عباس يخالفه، والنظر مع ما رواه ابن عباس ووافقه عمر رضي الله عنه إذ لا فرق بين المصر الجامع وبين القرية بخلاف الخيام التي لا يستوطن أهلها بمكان فإن المعنى يفارقها ففرق بينها وبين المصر الجامع. قال: (بناء اسمه واحد ولو تفرق)

_ (1) المقصود به الأحساء والمسجد يعرف بمسجد جُواني.

يعنى يجوز وإن كان متفرقاً - بيتاً هنا وبيتاً هناك - ما دام أن اسمه واحد وقد كانت المدينة متفرقة البيوت، وكانت بريداً في بريد أي أربعة فراسخ في أربعة فراسخ وكان أهلها متفرقون فيها ومع ذلك يجمعها اسم واحد ولم يقم في أي دار من دورهم جمعة على أنها قرية مختصة. فالجمعة كانت في مسجد النبي صلى الله عليه وسلم وكل محلة من محلاتهم ودار من دورهم يثبت له اسم المدينة – وهذا هو الثابت في العرف واللغة – فكون البيوت متفرقة مع اتحاد الموضع هذا لا يؤثر، ومعلوم أن هذا من طبيعة العرب في بنائهم للبيوت وهو التفرق ومع ذلك يطلقون على محلاتهم اسماً واحداً فلها حكم واحد. قال: (ليس بينه وبين المسجد أكثر من فرسخ) هنا: المصلي الذي توفرت فيه الشروط المتقدمة له حالتان: الأولى: أن يكون في هذا المصر وفي هذه القرية فحينئذ يجب عليه أن يجيب النداء ويشهد الجمعة وإن كان بينه وبينها أكثر من فرسخ. فلو كان بينه وبينها فرسخان أو أكثر فيجب أن يحضرها لأن الجمعة قد أقيمت له، والجمعة – كما سيأتي – إنما تقام في مسجد واحد لأهل البلد كلهم. فأهل المصر الواحد يجب عليهم جميعاً أن يحضروا الجمعة وإن كان بعضهم في أطرافها يبعد أكثر من فرسخ ولا خلاف بين أهل العلم في هذا. فالمدينة كانت بريداً في بريد ومن كان في أقصاها ويبعد عن المسجد فرسخان أو ثلاثة، فيجب ... لأنه لا جمعة إلا …. الثانية: أن تكون خارج المصر أو القرية كالبيوت النائية التي لا تتصل بالقرى وليس عندهم جمعة يقيمونها وكالخيام النائية فهل يجب عليهم حضور الجمعة أم لا؟ وإن قلنا بوجوبها فما هو المسافة المحددة لوجوب ذلك؟ أ – ذهب الأحناف: إلى أنه لا يجب عليه ذلك بل تجب على من كان في المصر. ب – قال الشافعية: يجب على من سمع النداء وإن كان أكثر من فرسخ.

جـ – وقال الحنابلة والمالكية: يجب عليه إذا كان فرسخاً فأقل وما كان قريباً من الفرسخ كأن يكون فرسخاً وشيئاً قليلاً فإن الحكم فيه واحد فالمسألة تقريبية لا تحديدية أي فمن كان فرسخاً ونحو الفرسخ فأقل فيجب عليه حضور الجمعة. أما الأحناف: فدليلهم أن الجمعة قد أقيمت في أهل المصر فلا يجب على غيرهم حضورها. وهم محجوجون بما سيأتي ذكره من الأدلة. وأما دليل الشافعية: فهو قوله صلى الله عليه وسلم: للأعمى: (أتسمع النداء؟ قال: نعم، قال: فأجب) وهذا الحديث عام فيمن كان من أهل القرية نفسها ومن كان قريباً منها وهو يسمع النداء. قالوا: وأصرح منه أن النبي صلى الله عليه وسلم – كما في سنن أبي داود – قال: (الجمعة على من سمع النداء) لكن الحديث الراجح وقفه - كما رجح ذلك البيهقي – فهو موقوف على ابن عمرو. لكن الحديث الأول الثابت في مسلم فيه غُنية عنه مع أنه موقوف على صحابي. وأما المالكية والحنابلة: فقالوا: إن جعلنا لهذا الضابط مع ورود السنة فيه، إن جعلنا له ضابطاً هو ليس بضابط فيضبط لأن هذا يختلف باختلاف صوت المؤذن خفة ورفعاً. ويختلف باختلاف صدور الأصوات شدة وخفة. ويختلف أيضاً بحسب الريح كذلك، فإن الريح إذا أتت بخلاف الصوت خفضته بل لا يكاد يسمع، وإذا كانت الريح معه نشرته، وهكذا فإن هذا باختلاف الريح شدة وخفة وباختلاف الأصوات شدة وخفة وصحيحاً، وتختلف باختلاف المؤذن وعلوه ورفعه لصوته.

قالوا: ونظرنا فوجدنا أن المؤذن إذا أذن في موضع عال على السنة، وكان رفيع الصوت صيتاً – كما وردت به السنة – وكان الصوت هادئاً والريح ساكنة فإن أذانه يصل إلى فرسخ وهو ثلاثة أميال أي نحو 5 كيلو مترات، وهذا ظاهر، فإذا جعلنا هذا ضابطاً فهذا يكون منضبطاً ظاهراً، وحينئذٍ يكون كما لو كان المؤذن على عهد النبي صلى الله عليه وسلم، وكما لو كان في الأحوال العادية الطبيعية من سكون الريح ومن كون الأصوات هادئة. ولأن خلاف هذا يؤول إلى إيجاب الجمعة على قوم وعدم إيجابها على قوم هم مما يكون لهم أولى منهم، فإن الصوت إذا ذهب به الريح إلى جهة أدى ذلك إيجابه على هذه الجهة دون غيرهم ممن هم أقرب منهم. وكذلك باختلاف سمع الناس وباختلاف صوت المؤذن. فإذا: أذن مؤذن حيث وصل الأذان إليهم فوجبت فإذا أذن في جمعة أخرى مؤذن خفيف الصوت لم تجب ذلك عليهم، فحينئذٍ لا يكون ذلك منضبطاً. فالراجح ما ذهب إليه أهل هذا القول: من أن الحساب يكون بفرسخ – وهذا لا شك حيث لم يكن فيه مشقة – إذ المشقة متى ثبتت فإنه لو كان قريباً من المسجد فلا يجب على الحضور. وهذا في العادة ليس فيه مشقة إذا كان ست كيلو مترات أو نحو ذلك فإن هذا أحياناً يكون ممن في أطراف المدينة يبعد أكثر من ذلك، والمدينة كانت بريداً في بريد يعني أربعة فراسخ في أربعة فراسخ، فكان بعض الناس يبعد عن المسجد النبوي وهو من أهل المدينة فرسخان أو أكثر أو نحو ذلك فهذا إذاً لا مشقة فيه. - وذهب طائفة من أهل العلم: إلى أن من آواه بيته ومنزله قبل الليل فإنه يجب عليه أن يحضرها. فإذا ذهب صباحاً وعلم أنه يعود قبل الليل فيجب عليه حضورها. واستدلوا: بحديث لا يثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم رواه الترمذي: (الجمعة على من آواه الليل) لكن الحديث لا يثبت وإسناده ضعيف جداً. والحمد لله رب العالمين قال المؤلف رحمه الله تعالى: (ولا تجب على مسافر سفر قصر)

تقدم البحث عن سفر القصر وهو السفر الذي يثبت به سفر القصر. وقوله: " سفر قصر " بناءً على أن السفر قسمان: سفر طويل: وهو سفر قصر. وسفر قصير: وهو السفر الذي لا يثبت به القصر. فما كان دون أربعة برد فهو السفر القصير، وما كان أربعة برد فما فوق فهو السفر الطويل، وتقدم أن هذه القسمة لا تصح ولا دليل عليها من الشرع ولا اللغة ولا العرف. والمقصود هنا: أنه على اختلاف أهل العلم، فمتى قلنا: إن السفر سفر قصر تقصر فيه الصلاة، وأن هذا مسافر سفراً تقصر بمثله الصلاة فإنه لا تجب عليه الجمعة. فإذن: المسافر لا تجب عليه الجمعة. ويريدون بالمسافر: من ليس بمستوطن ولا مقيم، والمستوطن من اتخذ البلدة أو القرية أو المصر ونحو ذلك اتخذه وطناً. وأما المقيم فهو من لم يتخذه وطناً لكنه نوى إقامة تمنعه من القصر، والذي لا تجب عليه الجمعة هو المسافر وهو: من نوى إقامة أربعة أيام فأقل. إذن: المقيم والمستوطن تجب عليهم صلاة الجمعة. وأما المسافر الذي يحق له أن يقصر الصلاة يجوز له أن يدع الجمعة فلا يحضرها ويصليها حينئذٍ ظهراً. - والمذهب: أنه لا فرق بين أن يكون هذا في جماعة من المسافرين ليس تحضرهم جمعة كأن يكونوا في الطريق فيدركهم الوقت أو يكون في بلدة فينزل فيقيم فيها إقامة يثبت فيها القصر، ففي كلا الصورتين لا يجب عليه حضور الجمعة ومن هنا عبر المؤلف بقوله: " ولا تجب على مسافر " لتدخل هذه الصورة الثانية بظهور. لأن الأولى غير جائزة ولا مجزئة فلوا صلوا جمعة لبطلت والواجب عليهم أن يصلوا ظهراً. والنبي صلى الله عليه وسلم – وهذا باتفاق العلماء – لم يكن يصلي في سفره جمعة لا في حجته ولا في غزواته وعمرته.

ومن ذلك ما ثبت في صحيح مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم: (أتى عرفة فصلى بها الظهر ثم أقام فصلى العصر) وكان ذلك يوم جمعة، ودل عليه فعل الخلفاء الراشدين وأصحاب النبي صلى الله عليه وسلم عامة فإنهم كانوا لا يقيمون الجمعة في السفر. وروى الدارقطني مرفوعاً عن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ليس على المسافر جمعة) ورواه الطبراني في الأوسط من حديث أبي هريرة، وكلا الإسنادين ضعيف، لكن كلاً منهما يشهد للآخر وفعل النبي صلى الله عليه وسلم وفعل أصحابه يشهد لذلك. واحتمل شيخ الإسلام: أن المسافر الذي يكون في مكان ينادى فيه لصلاة الجمعة تلزمه للمقيمين، وقال في الفروع: " وهو متوجه " وقاله بعض الحنابلة وحكي رواية عن الإمام أحمد. فهذا قول ثاني في الصورة الثانية، أما المسألة الأولى فلا خلاف فيها كما تقدم. أما المسألة الثانية: فالجمهور على أنه لا يجب عليه حضورها. - وقال ابن تيمية محتملاً: إنه تلزمه تبعاً للمقيمين، وحكي ذلك رواية عن أحمد وهو وجه عند الحنابلة وهو قول متوجه كما قال ذلك صاحب الفروع. ودليل توجهه عمومات النصوص الشرعية التي تأمر بإجابة النداء عند سماعه، ومن ذلك - في خصوص الجمعة – قوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة فاسعوا إلى ذكر الله} وهذا عام في كل من سمعه من أهل المصر أو القرية سواء كان مسافراً أو مقيماً، وهذا القول أظهر في صلاة الجمعة وفي غيرها من الصلوات فيجب عليه أن يجيب منادي الله عز وجل، لعمومات النصوص الشرعية. قال: (ولا عبد ولا امرأة) تقدم الدليل على هذا وهو باتفاق أهل العلم لحديث: (الجمعة حق واجب على كل مسلم في جماعة إلا أربعة – وذكر منهم – المرأة والمملوك) قال: (ومن حضرها منهم أجزأته)

اتفاقاً: فمن حضرها من هؤلاء الأربعة – المريض أو المسافر أو المرأة أو العبد - أجزأت عنه بإجماع العلماء وقد تقدم ذكر هذا. قال: (ولم تنعقد به) أي لم تنعقد بالعبد والمرأة والمسافر، وسيأتي استثناء المريض. فإذا قلنا إن الجمعة لا تنعقد إلا بأربعين كما هو المشهور في المذهب – وسيأتي الكلام فيه – فهل يدخل في هذا العدد المرأة والمملوك والمسافر فتنعقد بهم أم لا؟ قال: (ولم تنعقد بهم) أما المرأة فهذا باتفاق أهل العلم ولا خلاف بينهم في ذلك، لأنها ليست في الأصل محلاً للاجتماع لها، فالمرأة بإجماع أهل العلم واتفاقهم لا تنعقد بها الجمعة. وأما المملوك والمسافر: فهذا مذهب الجمهور: وهو أنها لا تنعقد بهم. وقال الأحناف، وهو اختيار شيخ الإسلام: بل تنعقد بهم، وهذا القول هو الراجح، لأنهم رجال مكلفون حضروها فانعقدت بهم، وقد صحت منهم، وهم أهل للاجتماع وإنما خفف عنهم هذا الحكم لمعنى يقتضي ذلك. فأما في المسافر فلعل ذلك لمشقة ذلك عليه أو لرفع الحرج عنه، وأما المملوك فلرفع الحرج عن سيده أو نحو ذلك، فإذا حضروها فإنها تنعقد بهم ولا دليل يدل على عدم انعقادها بهم. قال: (ولم يصح أن يؤم فيها) أما المرأة فظاهر، وقد تقدم البحث في هذا. وأما المسافر والمملوك: فكذلك عندهم. وقال الجمهور " الشافعية - والمالكية: المسافر فقط – والأحناف ": بل المسافر والمملوك يصح أن يؤم فيها. ومذهب المالكية أنه يصح في المسافر دون المملوك. والصحيح صحة ذلك خلافاً للمشهور في المذهب، وأن المسافر والمملوك يصح أن يؤموا فيها، وما ذكروه علة فهو ضعيف. فقد ذكروا أن المسافر والمملوك تبع لأهل البلدة في انعقاد الجمعة فلا يصح أن يكون التابع متبوعاً.

لكن هذا ضعيف ظاهر الضعف؛ لأن هؤلاء قد صحت صلاتهم ولا دليل شرعي يبطل إمامتهم بل الأدلة الشرعية تدل على أنهم أولى من غيرهم بالإمامة إذا توفرت بهم الشروط على وجه التمام والكمال، وهذا هو الصحيح. فإذن: المسألة على الراجح: المرأة لا تنعقد بها ولا تؤم، والمريض تنعقد به ويؤم – هذا بالاتفاق وسيأتي – والمسافر والمملوك – على الراجح – تنعقد بهم ويؤموا أيضاً. إذن: كل من حضرها من الذكور المكلفين سواء كانوا مسافرين أو مقيمين أحراراً أو مماليك تنعقد بهم الجمعة وتصح إمامتهم – هذا الراجح – وهو مذهب الأحناف في هذه الصور كلها، ووافقهم في بعض الصور طائفة من أهل العلم كما تقدم. لذا قال هنا في استثناء المريض: قال: (ومن سقطت عنه لعذر وجبت عليه بحضوره) فالمريض إذا حضر المسجد وجبت عليه الجمعة، لأنها إنما سقطت عنه في الأصل لمشقة حضورها فإذا حضر فإنها تكون واجبة. ولكن هذا في الحقيقة ليس على إطلاقه إذ قد يكون المرض يمنعه من إطالة البقاء فقد يشق عليه البقاء فيرى مشقة ذلك على نفسه فيجوز له أن يرجع إلى بيته، لكن المقصود من ذلك أنه متى حضر إلى المسجد فإنه حينئذٍ تكون واجبة عليه إلا أن تطرأ مشقة أخرى تقتضي إسقاطها عنه. إذن: المريض باتفاق أهل العلم إذا حضر الجمعة فالجمعة واجبة عليه – وحينئذٍ – تنعقد به ويصح أن يكون إماماً فيها؛ وذلك لأنها إنما أُسقطت عنه لمشقة ذلك عليه فإذا حضرها فقد زالت المشقة المسقطة للحكم فكانت الجمعة واجبة عليه منعقدة به وكان إماماً فيها إذ لا معنى يقتضي خلاف ذلك وإنما سقطت عنه في الأصل لكونه مريضاً فإذا أتاها جاز أن يكون إماماً وانعقدت به. قال: (ومن صلى الظهر ممن عليه حضور الجمعة قبل صلاة الإمام لم تصح)

رجل صلى في بيته أربع ركعات ظهراً ممن عليه حضور الجمعة فيستثنى – حينئذٍ – المرأة والمريض والمسافر والمملوك؛ لأنه ليس عليهم حضور الجمعة – وسيأتي في المتن استثناؤه – فإذا صلى قبل صلاة الإمام أو معه ما لم يفرغ الإمام فإنها لا تصح. بل عليه [أن] ينظر فإذا تيقن أن الإمام قد سلم فحينئذٍ يصليها، وهذا باتفاق أهل العلم. ودليل ذلك: أن هذا المكلف مخاطب بحضور الجمعة لقول الله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة فاسعوا إلى ذكر الله} والظهر بدل عنها، وهو الآن مخاطب بالأصل ويمكنه أن يأتيه وليس ثمت عذر يقتضي إسقاط الجمعة عنه، وقد صلى البدل في غير موضعه فكان باطلاً، هذا هو مذهب جمهور العلماء وهو ظاهر؛ لأنه مخاطب فإنه مخاطب بحضور الجمعة في الأصل والظهر إنما هو بدل عن الجمعة لمن كان معذوراً أو فاتته الجمعة أما هذا فليس بمعذور ولم تفته الجمعة فكان الواجب عليه ألا يصليها إلا بعد صلاة الإمام. وظاهر كلامهم: أنه لابد وأن ينتظر حتى يفرغ الإمام من صلاته، فإذا فرغ من صلاته وسلم فإنه يشرع في الصلاة، هذا هو ظاهر كلامهم في غير هذا المتن كما في المغني. - وذهب بعض الحنابلة: إلى أن ذلك ليس بشرط بل متى ما علم أنه لو ذهب إلى المسجد فإنه لا يدركها فإنه يجوز أن يصليها ظهراً، لأنها في حكم الفائتة عنه فلا يمكن أن يدركها، فحينئذٍ لا يكون مخاطباً بالحضور لأن المخاطب بالحضور إنما هو القادر على حضورها وهذا ليس بقادر على حضورها لكنه آثم بتأخيره وعدم ذهابه في وقت يدرك به الجمعة، وهذا أظهر، لأنه متى ضاق عنه الوقت للذهاب لإدراكها فإنه في حكم من فاتته فيكون ليس مخاطباً بحضورها بل مخاطب بالقضاء وبالصلاة بدلها، والصلاة بدلها إنما هي الظهر.

- وخالف في ذلك الأحناف في أصل هذه المسألة وقالوا: لو صلى الظهر لصحت وإن كان يمكنه أن يحضر الجمعة، فلو صلاها من غير المعذورين قبل الجمعة لصحت. قالوا: لأن الأصل إنما هي الظهر والجمعة بدل عنها، وهذا ضعيف في غاية الضعف لأن الجمعة أصل في يومها بدليل أنه باتفاق الجمهور والأحناف أنه يجب عليه أن يصليها جمعة في ذلك اليوم، ومعلوم أنه لا يمكن أن يقال بالبدل مع إمكان إيجاب أصله. إذن: الراجح مذهب الجمهور وأنه لا يجوز له ذلك ولا تصح منه إذا أقيمت صلاة الجمعة وأمكنه إدراكها، وقد تقدم أن إطلاقهم – كما في المغني - شامل حتى يفرغ الإمام من الصلاة. - وحينئذٍ- فلو أن قرية من القرى يمكنهم أن يقيموا الجمعة فلم يقيموها فصلوها ظهراً في وقت الجمعة لم تصح منهم لأن الفرض عليهم هو الجمعة. لكن يستثنى هنا مسألة - في كون الرجل يصلي قبل الإمام الظهر – إذا تأخر الإمام تأخراً منكراً يشق على المأمومين فقام بعضهم فصلى منفرداً ظهراً فإن ذلك يجوز له ويعذر بذلك كما هو ظاهر كلام الإمام أحمد، وقد صرح به المجد بن تيمية. قال: (وتصح ممن لا تجب عليه) فالذي لا تجب عليه الجمعة وهم المسافر والمريض والمرأة والمملوك إذا صلوا في بيوتهم فيجوز لهم أن يصلوا قبل صلاة الإمام؛ لأن العلة المتقدم ذكرها ليست فيهم فإنهم غير مخاطبين بالجمعة، فالخطاب الشرعي ليس بموجه إليهم لأنهم غير مكلفين بحضورها، وحينئذٍ الواجب عليهم بدلها وهو الظهر. فلو أن مسافراً أو امرأة في بيتها صلوا الظهر بعد زوال الشمس قبل أن تُصلى الجمعة جاز ذلك، وهذا باتفاق أهل العلم. قال: (والأفضل حتى يصلي الإمام) الأفضل له أي هذا المعذور في بيته الأفضل له حتى يصلي الإمام. قالوا: خروجاً من الخلاف. وهو خلاف أبي بكر عبد العزيز من كبار الحنابلة فإنه قد ذهب إلى أنه يجب عليهم أن ينتظروا فلا يصلوا حتى يصلي الإمام.

قال: لأنهم لا يتيقنون زوال العذر وحينئذ فتستثنى المرأة من هذا القول. فمثلاً: المسافر لا يتيقن زوال العذر فقد ينوي الإقامة والمريض قد يشفى والمملوك قد يعتق ونحو ذلك. وأجيب عن هذا: بأن الأصل غير ذلك فإن الأصل هو بقاء العذر لا زواله، كما أن الرجل إذا كان مسافراً وتيمم في أول الوقت فإن ذلك يجوز له مع أنه لا يتيقن زوال العذر لكن الأصل عدمه واستمراره. والخروج من الخلاف فيه نظر، والصحيح أن الخلاف لا يترتب عليه حكم، إلا أن يقوى الخلاف فتكون المسألة من المشتبهات أما مطلق الخلاف فإنه لا يترتب عليه حكم شرعي. قال: (ولا يجوز لمن تلزمه السفر في يومها بعد الزوال) إذا زالت الشمس فلا يجوز لمن وجبت عليه الجمعة – سوى من استثنى كالمريض – فإذا زالت الشمس وإن لم يؤذن فلا يجوز له أن يسافر. قالوا: لأن الوجوب يستقر في أول وقتها، فأول وقت الجمعة الواجب هو زوال الشمس مع أن أول وقتها الجائز مختلف فيه وسيأتي، فتستقر في ذمته، فلا يجوز له السفر؛ لأن الزوال قد دخل فاستقرت الصلاة في ذمته. والصحيح أن الصلاة لا تستقر في الذمة إلا بالأذان وأنه إذا أذن ونودي فقد استقرت، لقوله تعالى: {إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة فاسعوا إلى ذكر الله} فربط الله ذلك بالنداء فالراجح أن ذلك إنما هو بالنداء، فإذا أذن المؤذن فلا يجوز له أن يسافر لأنه مخاطب بحضورها مكلف بذلك موجهاً إليه الخطاب الشرعي بذلك فلا يحل له أن يسافر والحالة هذا، وهذا هو مذهب جمهور العلماء، فإذا أذن المؤذن فلا يجوز له أن يسافر. وقال هنا: " بعد الزوال " وتقدم أن الظاهر أن الحكم مرتبط بالأذان لا بالزوال.

أما إذا سافر قبل زوال الشمس أو قبل الأذان فيجوز له ذلك، لقول عمر رضي الله عنه – كما ثبت ذلك عنه في مصنف عبد الرزاق – بإسناد صحيح أنه قال: (أن الجمعة لا تحبس مسافراً إلا أن يحين الرواح) أي إلا حين يجب الرواح وإنما يجب الرواح عند الأذان. وأما ما رواه أحمد والترمذي أن النبي صلى الله عليه وسلم: بعث عبد الله بن رواحة في سرية يوم الجمعة فمكث بعض أصحابه فشهد الجمعة مع النبي صلى الله عليه وسلم ثم أراد أن يلحق بأصحابه فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (لو أنفقت ما في الأرض ما أدركت فضل غدوتهم) والحديث إسناده ضعيف فيه الحجاج بن أرطاة وهو ضعيف مدلس. فالحجة هو قول عمر ولأنه غير مكلف بحضورها حينئذٍ فجاز له أن يسافر. إذن: - على الراجح – إن سافر وقد أذن فقد فعل أمراً محرماً إلا أن يكون في طريقه جمعة يغلب على ظنه أن يدركها فإن هذه مسألة أخرى، كأن تكون الخطبة فيها طول فيعلم أنه يحضر الصلاة في مسجد قريب من المدينة في قرية قريبة وتيقن من ذلك فلا بأس. أما سوى ذلك فلا يجوز له. والسفر قبل زوال الشمس جائز لكن قال الحنابلة بالكراهية. وقال بعض الحنابلة: لا يكره، وهو أظهر؛ فإن الكراهية حكم شرعي ولا دليل عليه. فإذن السفر قبل زوال الشمس يوم الجمعة جائز وليس فيه أي كراهية لعدم الدليل الدال على الكراهية. مسألة: ذكر الحنابلة أن من فاتته الجمعة فإنه يتصدق بدينار أو نصفه؛ لما روى أبو داود أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (من ترك الجمعة بغير عذر فعليه دينار أو نصف دينار) ، والحديث ضعيف لا يثبت فلا يحتج به، وقد ذكره صاحب الفروع: وحكى الإجماع على عدم وجوب ذلك، والاستحباب فيه نظر؛ لأن الحديث ضعيف فلا يستدل به على مسألة إيجاب ولا استحباب. والحمد لله رب العالمين فصل قال المؤلف رحمه الله تعالى: (يشترط لصحتها شروط ليس فيها إذن الإمام)

فلصحة الجمعة شروط يذكرها المؤلف، وليس فيها إذن الإمام. فالمسألة: هل يشترط لإقامة الجمعة في قرية أو مصر أو في خيام على القول بصحتها قد استوطن أصحابها فيها لا يرتحلون عنها صيفاً ولا شتاءً هل يشترط في إقامتها إذن الإمام أم لا؟ قولان لأهل العلم: 1- المشهور عند الحنابلة وهو مذهب جمهور الفقهاء: وأن إذن الإمام ليس بشرط، وهو الذي يترجح في هذه المسألة. واستدلوا: بقول عثمان رضي الله عنه: في الأثر المتقدم في صلاة إمام الفتنة فيهم وفيه أنه قال: (إن الصلاة أحسن ما يعمل الناس فإذا أحسنوا فأحسن معهم، وإذا أساؤا فاجتنب إساءتهم) والصلاة تشمل المكتوبة كلها، ومن ذلك الجمعة. وقال الإمام أحمد: " وقعت الفتنة في الشام تسع سنين فكانوا يجمعون " أي من غير إذن الإمام. قالوا: ولأن الجمعة فرض كما في حديث: (الجمعة حق واجب على كل محتلم في جماعة) وغيره من الأحاديث وفعل هذه الفريضة لا يشترط فيها إذن الإمام. - وقال الأحناف، وهو رواية عن الإمام أحمد: بل يشترط فيها إذن الإمام. واستدلوا: بأن الجمعة إنما يقيمها في كل الأعصار الإسلامية الأئمة، قالوا: فهذا إجماع يدل على أنها لا تشرع إقامتها إلا بإذنهم. وفي هذا نظر – كما قرر ذلك الموفق في المغني – من وجهين: الأول: أن يقال: إن الإجماع هنا لا يسلم، فإن كونهم يقيمونها – أي الأئمة – لا يعنى ذلك أنهم مجمعون على أنهم لو لم يقيموها فإنها باطلة، بل فيه أن الأئمة يقيمونها، ففيه الإجماع على صحة الصلاة التي يقيمها الأئمة، وأن المشروع فيها في الأصل إقامة الأئمة، وليس فيه المنع من أن تقام بغير إذنهم. إن هذا لا يسلم فإنها كانت تقام في قرى كثيرة في العصور الإسلامية بغير إذن الإمام، وادعاء وقوع ذلك بإذنه فيه عسر أي أن ذلك كله كان يقع بإذنه فيه عسر.

فما ذهب إليه أهل القول الأول هو الراجح وهو صحة الجمعة وإن لم يأذن الإمام، وسيأتي البحث في هذه المسألة إن شاء الله في مسألة تعدد الجمعات، وهل هذا الإذن غير معتبر من الإمام مطلقاً أو حيث كانت الجمعات متعددة. فالراجح في أصل هذه المسألة أن إقامة الجمعة لا يشترط فيها إذن الإمام. قال: (أحدها: الوقت) فهو شرط للجمعة إجماعاً لقوله تعالى: {إن الصلاة كانت على المؤمنين كتاباً موقوتاً} والجمعة صلاة فدخلت في الصلوات المؤقتة، فالجمعة لها أول وآخر بإجماع أهل العلم، فلا تصح قبله ولا تصح بعده، وفرض أن تصلى فيه، وإن كانوا قد اختلفوا في بعض جزئيات هذه المسألة. قال: (أوله أول وقت صلاة العيد وآخره آخر وقت صلاة الظهر) أما كون آخر وقت صلاة الجمعة هو آخر وقت صلاة الظهر وهو وجوب أذان العصر فهذا بالإجماع. * وإنما اختلفوا في أول وقتها: فالمشهور عند الحنابلة: أن أوله أول وقت صلاة العيد أي إذا ارتفعت الشمس قيد رمح، وقد نص عليه الإمام أحمد. والثاني، وهو رواية عن الإمام أحمد: أن أول وقتها في الساعة السادسة أي قبل زوال الشمس بنحو ساعة، وهو اختيار الموفق وأبي بكر عبد العزيز، وظاهر كلام الخرقي. الثالث وهو رواية عن الإمام أحمد وهو مذهب الجمهور واختارها الآجري من أصحاب أحمد: أنها لا تصح إلا بعد زوال الشمس. أما أدلة الجمهور: فهو القياس على صلاة الظهر، فإن الجمعة وإن كانت أصلاً في يوم الجمعة فهي بدل عن الظهر فيه، وإن كان الظهر في يوم الجمعة بدلاً عنها من جهة أخرى. فالأصل الظهر لكن الشارع جعل الأصل في يوم الجمعة هو صلاة الجمعة، فكانت الظهر بدلاً عنها، فالأصل إنما هو في سائر الأيام هو صلاة الظهر، لكن الشارع استثنى من ذلك يوم الجمعة فجعل الجمعة أصلاً فيه، والظهر بدلاً عنها، وكون الظهر بدلاً عن الجمعة يدل على ارتباط بعضها ببعض. قالوا: فحينئذٍ وقتها هو وقت صلاة الظهر.

قالوا: وهو الثابت عن النبي صلى الله عليه وسلم، فقد صح عنه من حديث سلمة بن الأكوع – كما في الصحيحين – قال: (كنا نصلي مع النبي صلى الله عليه وسلم الجمعة ثم ننصرف وليس للحيطان ظل يُستظل به) ، وفي مسلم: (كان يصلي إذا زالت الشمس ثم نرجع نتتبع الفيء) وثبت من حديث أنس قال: (كان النبي صلى الله عليه وسلم يصلي الجمعة حين تميل الشمس) أي حين تزول. أما دليل من قال: إنها في الساعة السادسة: فهو ما ثبت في مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ومن راح في الساعة الخامسة فكمن قرب بيضة فإذا خرج الإمام ... .) الحديث. فرتب النبي صلى الله عليه وسلم خروج الإمام بعد انتهاء الساعة الخامسة أي قبل الجزء الأخير - السادس - من الوقت الذي بين أول الرواح إلى الجمعة المستحب وبين زوال الشمس. قالوا: فهذا الحديث يدل على أن الإمام يجوز أن يخرج بعد انتهاء الساعة الخامسة، وزوال الشمس يكون بعد انتهاء الساعة السادسة، وهم كانوا يقسمون النهار إلى اثني عشرة ساعة، فما بين الفجر إلى زوال الشمس ست ساعات، وما بين زوالها إلى غروبها ست ساعات، وإن كان مقدار الساعة يختلف صيفاً وشتاءً طولاً وقصراً. ولما ثبت في صحيح مسلم عن جابر قال: " كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يصلي الجمعة ثم نذهب إلى جمالنا فنريحها حين تزول الشمس " ولما ثبت في الصحيحين من حديث سهل بن سعد قال: (ما كنا نقيل ولا نتغدى إلا بعد الجمعة) قالوا: والقيلولة والغداء إنما يكون قبل زوال الشمس. قالوا: والذي منعنا من أن نطلق فنقول كما قال أهل القول الثالث وهو قول الجمهور: أن الأصل هو قياس الجمعة على الظهر كما تقدم ولم نستثن إلا ما وردت به النصوص الشرعية، وهو ما كان قبيل الزوال في الساعة السادسة. أما القول الثالث، وهو نص الإمام أحمد وهو المشهور عند الحنابلة: أن أول وقتها أول وقت صلاة العيد.

واستدلوا: بالأحاديث التي استدل بها أهل القول الثاني. قالوا: هذه الأحاديث التي استدللتم بها تدل على أن وقت الجمعة ليس كوقت الظهر، فكون الشارع يثبت فرقاً بينهما فلا يصح – حينئذٍ – القياس؛ لأنه قياس مع الفارق، فهذه أحاديث صحيحة تدل على أنه كان يصلي قبل زوال الشمس فدل على أن الجمعة لا تقاس بالظهر، لأن الظهر لا تصح إلا إذا زالت الشمس. قالوا: والمعنى يقتضي ذلك، فعندنا قياس هو أظهر من هذا القياس وهو قياس الجمعة على العيد، فإن الشارع قد فرَّق بين وقت الجمعة ووقت الظهر كما تقدم من كون النبي صلى الله عليه وسلم ثبت عنه أنه قد صلى الجمعة قبل الزوال فدل على أن القياس ضعيف. أما قياسنا على العيد فهو أظهر، فإن الجمعة عيد الأسبوع، وقد قال صلى الله عليه وسلم – في أبي داود -: (اجتمع في يومكم هذا عيدان) أي عيد السنة وعيد الجمعة، فكان القياس في هذا أظهر، فهي عيد الأسبوع، وأما كون الشارع لا يصليها كصلاة العيد فلمصلحة حضور الناس واجتماعهم لها. وقد أجزأت صلاة العيد عن الجمعة فدل على أنها في حكمها، فكونه يجزئ عنها دل على أنها في حكمها. إذن: الراجح مذهب الحنابلة: وأن الجمعة لو أقيمت كما يقام العيد أي بعد ارتفاع الشمس قيد رمح فإنها تصح. لكن قالوا: الأفضل أن يكون ذلك إذا زالت الشمس خروجاً من الخلاف. ولا شك أن الخروج من الخلاف في هذه المسألة قوي؛ لأنه أحوط كما أنه أفضل، فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان في غالب أمره، إما أن يصلي إذا زالت الشمس أو قبيل الزوال، وإن كانت الأحاديث في كونه يصليها بعد الزوال أكثر من التي فيها أنه صلاها قبيل الزوال، وكذلك هو أفضل لما فيه من مصلحة اجتماع الناس. فهو الأحوط ومع ذلك لو فعل لصحت جمعته. وظاهر قولهم أن هذا في الجمعة كلها بخطبتيها وصلاتها؛ لأن الخطبتين – عندهم – عن ركعتين.

فلو خطب الناس قبل الوقت – وإن صلى الجمعة بعد دخول الوقت – فإنها لا تصح، فالواجب أن يدخل في الوقت خطبتاها؛ لأنهما منها وسيأتي الكلام عن هذا - ونحوه - عند الكلام على شروط الخطبة. وقد روى الإمام أحمد وابن أبي شيبة عن ابن سيدان قال: (شهدت مع أبي بكر خطبته وصلاته فكان ينصرف قبل أن ينتصف النهار، ثم شهدت عمر، فكانت خطبته وصلاته إلى أن أقول قد انتصف النهار، ثم شهدت عثمان فكانت خطبته وصلاته إلى أن أقول زال النهار) لكن الأثر ضعيف فإن ابن سيدان قال فيه البخاري: " لا يتابع على حديثه " وهذا قد استدل به الحنابلة، ولكن في الأحاديث المتقدمة غُنية عن هذا الأثر الضعيف. قال: (فإن خرج وقتها قبل التحريمة صلوا ظهراً وإلا فجمعة) خرج وقت الجمعة قبل أن يكبر تكبيرة الإحرام فإنهم يصلون ظهراً، لأن الوقت لا يدرك بأقل من تكبيرة الإحرام. أما إذا أدركوا تكبيرة الإحرام فجمعة لذا قال: " وإلا فجمعة " وهذا على القول المرجوح الذي تقدم، وتقدم أن الراجح خلافه وأن الوقت لا يدرك إلا بإدراك ركعة كاملة، خلافاً للمشهور من المذهب، لحديث: (ومن أدرك ركعة من الصلاة فقد أدرك الصلاة) فالصلاة لا تدرك إلا بركعة. فإذا أدرك من الوقت ركعة فقد أدرك الجمعة. فمثلاً: رجل خطب الناس ثم نزل فكبر للصلاة فأذن المؤذن للعصر وقد أتم ركعة فحينئذٍ يصلي ركعة أخرى جمعة. أما إذا أذن المؤذن وهو لا زال في الركعة الأولى فإنه يصليها ظهراً. والحمد لله رب العالمين قال المؤلف رحمه الله تعالى: (الثاني: حضور أربعين من أهل وجوبها) هذا الشرط الثاني من شروط انعقاد الجمعة وصحتها، وهو أن يحضرها أربعون من أهل وجوبها. وتقدم من هم أهل وجوبها وهم: كل ذكر حر مكلف مسلم غير مسافر ويستثنى من الحر المملوك والمسافر، ومن المسلم المرأة فإن الجمعة لا تنعقد بها.

ولا يستثنى من ذلك المريض لأنه من أهل وجوبها وقد تقدم البحث في أهل وجوبها، وتبيَّن الراجح وعليه، فإن المملوك تنعقد به والمسافر تنعقد به فهم من أهل وجوبها لأنها تنعقد بهم على الراجح. أما على المذهب: فيستثنى من ذلك المسافر والمرأة، والمملوك والصبي فهؤلاء ليس من أهل وجوبها، أما المريض فإنه من أهل وجوبها، وإنما عذر لمشقة ذلك عليه، فإذا حضر فقد زال عذره. فيشترط أن يحضرها أربعون من أهل وجوبها. واستدلوا: بما رواه أبو داود في سننه بإسناد حسن: أن كعب بن مالك كان إذا سمع النداء يوم الجمعة ترحم لأسعد بن زراره فسئل عن ذلك فقال: (لأنه أول من جمَّع بنا في هَزْم - المطمئن من الأرض - النَّبيت - موضع حول المدينة - من حرَّة بني بياضة - الحرة هي المكان الذي يكون فيه الحجارة السوداء - في نقيع - وهو ما ينتقع به ماء المطر ونحوه - يقال له: نقيع الخَضَمات - وهو موضع حول المدينة إلى قبل منها - فقيل له: كم كنتم يومئذ؟ فقال: أربعون " (1) وبما رواه الدارقطني عن جابر قال: (مضت السنة في أربعين فما فوق جمعة) . هذا دليل الحنابلة والشافعية في هذه المسألة. وقال أبو حنيفة: يشترط لها أربعة. واستدل: بما رواه الدارقطني أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (الجمعة واجبة على كل قرية وإن لم يكن فيها إلا أربع) . وذهب شيخ الإسلام وهو رواية عن الإمام أحمد وهو مذهب صاحبي أبي حنيفة: إلى أن الشرط أن يحضرها ثلاثة، لما رواه مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن كانوا ثلاثة فليؤمهم أحدهم وأحقهم بالإمامة أقرؤهم) . وقال الظاهرية وهو مذهب النخعي والطبري صاحب التفسير: يشترط لها اثنان. وقيل غير ذلك حتى ذكر الحافظ ابن حجر أن الأقوال فيها تصل إلى خمسة عشر قولاً. أما دليل الحنابلة والشافعية:

_ (1) سنن أبي داود، كتاب الصلاة: باب الجمعة في القرى، رقم 1068. [1 / 644] .

أما قول جابر فهو ضعيف؛ لأن فيه عبد العزيز بن عبد الرحمن وهو متروك فهو ضعيف جداً. وأما حديث كعب بن مالك في تجميع أسعد بن زراره بهم، فهو وإن كان حديثاً حسناً، فإن هذا قد وقع اتفاقاً، وليس فيه أنهم لو كانوا أقل من ذلك كأن يكون ثلاثين أو عشرة – أنه لم يجمع بهم إنما فيه جواز التجميع بأربعين وإقامتها بأربعين. ويرد هذا القول بما ثبت في مسلم عن جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم: (كان يخطب قائماً يوم الجمعة فجاءت عير من الشام فانفتل الناس إليها ولم يبق مع النبي صلى الله عليه وسلم إلا اثنا عشر رجلاً) فنزل قوله عز وجل: {وإذا رأوا تجارة أو لهواً انفضوا إليها وتركوك قائماً} ، فقد بقي مع النبي صلى الله عليه وسلم اثنا عشر رجلاً، قال الحنابلة ومن ذهب إلى قولهم: لا مانع من أن يكونوا قد رجعوا وقد سمعوا من الخطبة ما يجزئ وأقاموا الصلاة مع النبي صلى الله عليه وسلم. والجواب عن هذا أن يقال: إن هذه دعوى تحتاج إلى دليل فقد أخبرنا الله عن انفضاضهم ولم يخبرنا عن رجوعهم وتعليق الحكم برجوعهم يحتاج إلى دليل يدل على ذلك. فعلى ذلك هذا القول ضعيف كما تقدم. وأما ما ذهب إليه أبو حنيفة فكذلك، فإن الحديث فيه راو متروك، وقد ورد من طرق في أسانيده رجال ضعاف جداً فلا يرتقي إلى درجة الحسن. وأما ما ذهب إليه شيخ الإسلام وهو مذهب صاحبي أبي حنيفة وهو قولهم: أن الجمعة تصح بثلاثة، واستدلوا بالحديث المتقدم: (إن كانوا ثلاثة فليؤمهم أحدهم) والجواب عنه: أن يقال: قد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (وليؤمكما أكبركما) فصحت الجماعة باثنين فالجماعة اثنان فما فوق، فكوننا نفرق بين الاثنين والثلاثة هذا تفريق لا دليل عليه، فإذا جوزنا الثلاثة فكذلك الاثنين. لذا ذهب أهل القول الأخير وهم الظاهرية وهو مذهب الطبري: إلى أنها تجزئ باثنين. واستدلوا:

بقول النبي صلى الله عليه وسلم: (الجمعة حق واجب على كل مسلم في جماعة) الحديث، فقد قال: " في جماعة " وقد دلت السنة على أن اثنين فما فوق جماعة - كما تقدم هذا في باب صلاة الجماعة – ويدل عليه حديث: (وليؤمكما أكبركما) فهذا القول هو أرجح الأقوال. - وقال المالكية، وهو قول قوي: إن العدد المشروط هو ما تتقرَّى به القرية أي: إذا كان هناك عدد يصبح به هذه المحل المستوطن به قرية فإنهم يجوز لهم أن يجمعوا، ويرجع ذلك إلى العرف، فالبيت مثلاً أو البيتان في عرف الناس ليس بقرية فلا يجوز لهم أن يجمعوا. قالوا: ويستثنى من ذلك الثلاثة والأربعة وما في معناها فإنهم لا يجوز لهم أن يجمعوا. وهذا القول مع قوته لكونه ضابطاً يرجع إلى العرف، لكن ما ذهب إليه أهل القول الأخير وأنها تصح باثنين أظهر مع هذا الشرط ولابد. فإن ما ذكره المالكية إنما هو شرط في الموضع الذي تقام فيه الجمعة، فإذا كان هناك موضع فيه بيوتات يصح أن يطلق عليها قرية في عرف الناس فإنهم يقيمون جمعة وإن لم يحضرها إلا اثنان أو ثلاثة منهم. فأرجح الأقوال وهو مذهب الظاهرية وقول الطبري والنخعي: أنها تصح باثنين فأكثر لكن بشرط أن يكون الموضع – وهو ما ذهب إليه المالكية وينبغي أن يكون شرطاً عند هؤلاء لأنه قد تقدم أن المسافر لا يقيم جمعة وأهل البادية غير المستوطنين فيها، الذين يرتحلون صيفاً وشتاءً لا يقيمون الجمعة، فإذا كان هناك - في قرية، في عرف الناس، فصلوا الجمعة صحت منهم وإن لم يشهدها إلا جماعة منهم والجماعة اثنان فصاعداً كما تقدم.

وهذا الحضور شرط في الخطبة والصلاة، ولابد أن يحضر هذا العدد قدر الإجزاء من الخطبة – وسيأتي –، لذا لو أن الإمام خطب في عشرين فلما أقيمت الصلاة تموا أربعين فليس لهم أن يقيموا الجمعة إلا وأن يعيدوا الخطبة؛ لأنها وقعت غير مجزئة للجمعة؛ لأن الشرط فيها أن يحضرها أربعون كالصلاة. فإن حضر فيها قدر الإجزاء أي سمع ما تصح وما يجزئ خطبة فإن ذلك يجزئ. قال: (الثالث: أن يكونوا بقرية مستوطنين) تقدم هذا الشرط وأن الاستيطان شرط فلا يقيمها مسافر ولا من كان في بادية ينتقل عن موضعه شتاءً وصيفاً وإنما من كان مستوطناً قد اتخذ الموضع وطناً له فإنه يقيم الجمعة بالعدد المذكور المتقدم. قال: (وتصح فيما قارب البنيان من الصحراء) أي يصح لهم أن يقيموا الجمعة في المصر أو القرية بل لهم أن يقيموها في موضع فسيح عن البلدة. فلو كانت البلدة ليس فيها موضع يتسع للناس فصلوا الجمعة في الصحراء – كما يكون ذلك في العيد والاستسقاء – فإنه لا بأس بذلك. ودليله: حديث كعب بن مالك المتقدم وفيه: أنهم أقاموا الجمعة في حرة بني بياضة، وهي على ميل من المدينة -. ولكن هذا الإطلاق يقع في النفس منه شيء، وهو أن يقال: إنها حينئذ تكون مضاهية لما يشرع له الخروج إلى الصحراء وإن وقع ذلك مجزئاً، فإن القول بمثل هذا لا ينبغي إلا أن يحتاج إليه كأن يكون الموضع في الحاضرة في الاجتماع فيه عسر ويسبب ازدحاماً أو نحو ذلك. أما أن يخرجوا مع عدم الحاجة فإن ذلك خلاف السنة، فإن النبي صلى الله عليه وسلم قد فرَّق بين الجمعة وغيرها كالعيد والاستسقاء، فكان يصلي العيد والاستسقاء في الصحراء، ويصلى الجمعة في البلدة، فالذي يظهر أن ذلك خلاف السنة لكن مع ذلك تقع مجزئة، إلا أن يحتاجوا إلى ذلك فلا بأس. قال: (فإن نقصوا قبل إتمامها استأنفوا ظهراً) هنا مسألتان:

المسألة الأولى: ظاهر قول المؤلف هنا: أنهم لو نقصوا عن الأربعين فأصبحوا – مثلاً – تسعاً وثلاثين أو ثمانياً وثلاثين فإن الجمعة لا تنعقد ولا تصح منهم، وحينئذٍ فإنهم يستأنفون ظهراً. وظاهر قوله هنا: سواء أدركوا ركعة أو لم يدركوها. فمثلاً: لما انتهوا من الركعة الأولى حدث عذر لبعض المصلين فانصرف - فأصبحوا تسعاً وثلاثين – فإنهم تبطل جمعتهم. - والقول الثاني، وهو مذهب الإمام مالك أنها لا تبطل، ومثل هذا في الحقيقة هو القوي، لأن إبطالها بخروج رجل واحد، هذا محل مشقة على المصلين، فكان الأولى ما ذهب إليه الإمام مالك فيما إذا أدركوا ركعة فيها لقوله صلى الله عليه وسلم: (من أدرك ركعة من الجمعة فقد أدرك الجمعة) رواه النسائي بإسناد صحيح من حديث أبي هريرة، وهؤلاء قد أدركوا ركعة من الجمعة، وهو قول لبعض الحنابلة وهو الراجح. المسألة الثانية: فهي أنه إذا دخل مع الإمام فلم تصح له الجمعة فإنه يجب عليه أن يستأنفها، فبطلان الجمعة يوجب استئنافها لا إتمامها. فمثلاً: كبروا ثم ثبت أنهم ليسوا بأربعين أو حدث عذر كما تقدم، فإن الواجب أن يستأنفوها ظهراً، فيقطع الإمام صلاته ويكبر مرة أخرى بنية الظهر. فإذا بطلت أثناء صلاتهم الجمعة بنقص العدد المذكور، فالواجب عليهم أن يستأنفوها ظهراً، ولا يتموها ظهراً بل يستأنفونها من جديد. قالوا: لأن الجمعة صلاة مستقلة فليست بظهر، وقد دخل فيها بنية الجمعة، وإنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى. وقال بعض الحنابلة: يتموها ظهراً بلا استئناف. واستدل: بأنها ظهر مقصورة. وتقدم أن هذا ضعيف، وأن الجمعة صلاة مستقلة على الصحيح، فيشترط فيها أن ينويها جمعة. ويتضح هذا في مسألة ذكرها المؤلف بعد ذلك وهي قول: قال: (من أدرك مع الإمام منها ركعة أتمها جمعة)

فمن أدرك مع الإمام من الجمعة ركعة فإنه يتمها جمعة. فمثلاً: رجل أدرك مع الإمام الركوع، فإنه يدرك الجمعة فيضيف لها ركعة أخرى. لما ثبت في النسائي من حديث أبي هريرة، بإسناد صحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من أدرك من الجمعة ركعة فقد أدرك الجمعة) ولا يكون إدراك الركعة إلا بإدراك ركوعها. أما إن لم يكن ذلك بأن يدرك أقل منها فإنه يصليها ظهراً لذا. قال: (وإن أدرك أقل من ذلك أتمها ظهراً) فإذا أدرك من الصلاة أقل من ركعة، كأن يأتي والإمام رفع رأسه من الركوع أو في التشهد فإنه يصليها ظهراً، لما ثبت عن ابن مسعود – في مصنف ابن أبي شيبة ومعجم الطبراني في الكبير – أنه قال: (من أدرك من الجمعة ركعة فليضف إليها أخرى، ومن فاتته الركعتان فليصل أربعاً) والأثر صحيح، وإجماع أهل العلم عليه. وهو ثابت من فعل الزبير بن العوام في مصنف ابن أبي شيبة بإسناد صحيح، ولا يعلم لهما من الصحابة مخالف فكان ذلك إجماعاً. لكن هنا: شرط المؤلف شرطاً: قال: (إذا كان نوى الظهر) أي إذا دخل بنية الظهر، فمثلاً: دخل رجل والإمام قد رفع من الركوع فقد فاتته الجمعة فحينئذٍ يكبر بنية الظهر فيتم الصلاة ظهراً، فيصلي مع الإمام ما أدرك ثم يقوم فيتم أربعاً. وهناك شرط آخر ذكره الحنابلة: وهو أن يكون ذلك في وقت الظهر. وعليه: فلو كان ذلك قبل زوال الشمس فلا يتمها ظهراً بل نفلاً؛ لأن الواجب في الظهر أن تصلى في وقتها ووقتها بعد زوال الشمس. فإذا أتى والإمام في التشهد في صلاة الجمعة فعليه أن ينوي إذا دخل معه أنها ظهر، ويشترط كذلك أن يكون في ذلك في الوقت الذي تصح به الظهر أي بعد الزوال وليس في الوقت الذي تصح فيه الجمعة.

فإذا دخل بغير نية الظهر فإنه يبطلها ويستأنفها ظهراً، فلو كبر مع الإمام بنية الجمعة فتبين أن الإمام قد ركع الركوع الثاني وقد فاتته الركعتان فحينئذٍ يستأنفها ظهراً، لأنه قد نواها جمعة، وإنما الأعمال بالنيات ولكل امرئ ما نوى والجمعة صلاة مستقلة. والحمد لله رب العالمين. قال المؤلف رحمه الله تعالى: (ويشترط تقدم خطبتين) أي ويشترط في صحة صلاة الجمعة تقدم خطبتين، فمن شروط صلاة الجمعة أن تتقدمها خطبتان؛ لفعل النبي صلى الله عليه وسلم، وهذا باتفاق العلماء، وأن الخطبة شرط في الجمعة. ودليل ذلك: أن الله أمر بقوله: {فاسعوا إلى ذكر الله} وهذا أمر من الله يوجب السعي إلى ذكره، وذكره يوم الجمعة في الخطبة وصلاتها، وقد بينه النبي صلى الله عليه وسلم بفعله، كما ثبت في الصحيحين عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: (كان النبي صلى الله عليه وسلم يخطب خطبتين وهو قائم يفصل بينهما بجلوس) ، وفي صحيح مسلم عن جابر قال: (كان للنبي صلى الله عليه وسلم خطبتان يجلس بينهما يقرأ القرآن ويذكر الله) . فهذه الأحاديث التي فيها فعله الراتب الذي قد داوم عليه - عليه الصلاة والسلام - هو بيان لمجمل قوله تعالى: {فاسعوا إلى ذكر الله} فكانت الخطبتان يوم الجمعة قبل صلاتها فرضاً من فروضها، فلا تصح الجمعة إلا بذلك – كما هو مذهب جماهير العلماء -. قال: (ومن شروط صحتها (1) حمدُ الله تعالى) أي من شروط الخطبة، فالخطبة لها شروط لا تصح إلا بها. فهذه أركان الخطبة التي لا تصح الخطبة إلا بها، وهذه الأركان أو الشروط التي يذكرها المؤلف في الخطبتين كلتيهما الأولى والثانية. وقال الحنابلة – في المشهور عندهم -: أن الخطبتين تقومان مقام الركعتين من صلاة الظهر، وهذا على أن الظهر هي الأصل وهي تمام، وأن الجمعة بالنسبة إليها ظهر مقصورة في يوم الجمعة، وهذا خلاف الراجح.

_ (1) في نسخة: صحتهما.

والراجح ما تقدم وأن الجمعة تمام وليست بظهر مقصورة، وقد تقدم قول عمر: (والجمعة ركعتان تمام غير قصر على لسان النبي صلى الله عليه وسلم) رواه النسائي بإسناد صحيح. " حمد الله تعالى ": فحمد الله ركن في الخطبة. واستدلوا: بما رواه أبو داود أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (كل أمر ذي بال لا يبدأ فيه بالحمد لله فهو أقطع) والحديث الصواب أنه مرسل كما رجح ذلك الدارقطني وغيره. لكن ذلك ثابت من فعله – صلى الله عليه وسلم – كما في مسلم من حديث جابر قال: (كانت خطبة النبي صلى الله عليه وسلم يحمد الله ويثني عليه ثم يقول إثر ذلك وقد علا صوته …) الحديث وفيه: (أما بعد فإن أصدق الحديث كلام الله، وخير الهُدى هدي محمد " وتصح: خير الهَديْ هدي محمد " وشر الأمور محدثاتها، وكل بدعة ضلالة " وفي رواية: " من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له) وقال شيخ الإسلام: بأن الواجب إنما هو التشهد بأن يتشهد فيقول: " أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً رسول الله " وهو اختيار ابن القيم. واستدل بقول النبي صلى الله عليه وسلم، - رواه الترمذي وأبو داود والحديث حسن -: (كل خطبة ليس فيها تشهد فهي كاليد الجذماء) (1) أي كاليد المقطوعة، فقال بوجوب ذلك وإن لم يكن ذلك شرطاً عنده في صحتها. وما ذهب إليه شيخ الإسلام أصح، وهو وجوب التشهد فيها فهو واجب للحديث المتقدم، لكن ذلك ليس شرطاً في صحتها، والحمد فيها مستحب لحديث جابر المتقدم. قال: (والصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم) قالوا: لأن كل موضع ورد فيه ذكر الله فإنه يشرع فيه الذكر للنبي صلى الله عليه وسلم فالصلاة عليه كالأذان، ففيه شهادة أنه لا إله إلا الله، وفيه شهادة أن محمداً رسول الله.

_ (1) سنن أبي داود، كتاب الأدب: باب في الخطبة، برقم 4841، [5 / 173] .

لكن يرد هذا: بعدم ثبوته عن النبي صلى الله عليه وسلم فلم يصح لنا أنه كان يصلي على نفسه في خطبته، وإن كان ذلك مشهوراً عند أصحابه كما ذكر ذلك ابن القيم. ولكن ما ذكره شيخ الإسلام وجيه: أي في فرضية التشهد على النبي صلى الله عليه وسلم أي في قوله: " وأشهد أن محمداً رسول الله " أي وجوب الشهادة بأنه رسول الله. ولا شك أن شهادة أن محمداً رسول الله أولى من الصلاة عليه، فإن الشهادة لا يصح الإيمان إلا بها. بخلاف الصلاة عليه فإن غاية أمرها الوجوب كما ذهب إلى ذلك بعض أهل العلم. لكن الراجح: أن الواجب أن يصلي عليه ولو مرة وأن ما سوى ذلك مستحب. فلا شك أن الإخبار بأنه رسول الله وإعلان ذلك على الملأ ذلك أبلغ من مجرد الصلاة عليه. ولكن مع ذلك على القول بعدم وجوبها، فإن الصلاة عليه أمر مستحب لشهرته عن الصحابة. قال: (وقراءة آية) فقراءة الآية شرط في صحة الخطبة، لما تقدم من حديث جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم: (كان يقرأ القرآن ويذكر الله) رواه مسلم. لكن هذا الحديث لا يدل على فرضية ذلك، نعم هو أفضل المواعظ وأعلاها قدراً وأولاها بالاتعاظ والعبرة لكن ذلك لا يدل على فرضيته، فتصح الخطبة ولو لم تقرأ فيها آية، هذا هو الراجح وهو رواية عن الإمام أحمد واختيار الشيخ الموفق. وإن كان الأولى في الخطبة والأفضل أن تشتمل على آيات قرآنية لأن الآيات القرآنية هي أعظم المواعظ وفيها أعظم التأثير والاعتبار. قال: (والوصية بتقوى الله عز وجل) وليس مراده هنا: تخصيص هذا اللفظ بأن يقول: اتقوا الله أو نحو ذلك. لكن المقصود من ذلك أن يعظهم بأن يحثهم على طاعة الله ورسوله وترك معصيتهما خوفاً من الله. لذا عبَّر بعضهم: بلفظ: " الموعظة " محل قوله " الوصية بتقوى الله ".

ولا شك أن الموعظة هي الشرط الأساسي في الخطبة فهي المقصود الأعظم منها – وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم– كما في مسلم -: (يقرأ القرآن ويذكر الناس) وروى أحمد عن علي أو الزبير بن العوام – والشك في الرواية – قال: (كان النبي صلى الله عليه وسلم يخطبنا ويذكرنا بأيام الله حتى نعرف ذلك في وجهه) . فكانت خطبته تذكيراً للناس بالله عز وجل، وهذا هو الذي يناسب يوم الجمعة، وهو اليوم الذي خلق فيه آدم وفيه يبعث الناس وفيه الصعقة والنفخة كما صحت بذلك الأحاديث، ولذا شرع أن يقرأ في صبيحته " بالسجدة " و " هل أتى على الإنسان "؛ لما فيهما من التذكير العظيم والاعتبار والموعظة. فإذن: روح الخطبة الموعظة والتذكير، فكانت خطبته موعظة للناس وتعليماً لهم وتفقيهاً في قواعد الإسلام وشرائعه. لذا كان النبي صلى الله عليه وسلم – في خطبته -: كأنه منذر جيش يقول: " صبحكم ومساكم " أي: كان في غاية ما يكون من التأثير والتأثر في خطبه كالتأثير الخارج من منذر الجيش الذي يقول لهم: " صبحكم أو مساكم ". وهي شرط في الخطبتين كلتيهما، فكل خطبة يجب أن تشتمل على التذكير بالله وبأوامره وبشرعه وبقواعد الإسلام فإن الخطبة إنما شرعت لذلك. - وقال الأحناف وهو رواية عن الإمام مالك: الشرط فيها ذكر الله فقط، فإذا ذكر الله ولو قال: " سبحان الله " ونحو ذلك صحت. لكن هذا ضعيف، لأن فعل النبي صلى الله عليه وسلم يبين مجمل القرآن ويوضحه فإن الله قد أمر بذكره وذكره ما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم من خطبتين مشتملتين على التذكير والمواعظ. فإذن: الخطبة المجزئة هي الخطبة المشتملة على المواعظ والتعليم والتفقيه في الخطبتين كلتيهما، ولا يشترط فيهما على الصحيح الصلاة على النبي - صلى الله عليه وسلم - ولا قراءة آية من القرآن وإن كان المستحب هو ذلك – أي الصلاة وقراءة القرآن - ولا يشترط فيهما الحمد والثناء وإن كان مستحباً.

ويجب فيهما على الراجح – وإن لم يكن شرطاً – أن يشهد لله بالألوهية ولنبيه بالرسالة يقول: " أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً رسول الله ". قال: (وحضور العدد المشترط) تقدم أن المذهب: اشترط عدد أربعين في الجمعة وقد تقدم وصفهم. فذلك الشرط المذكور شرط في الخطبة أيضاً؛ لأن الخطبة من الجمعة، فالجمعة خطبة وصلاة، فالشرط شرط فيهما جميعاً. وقد تقدم أن الراجح أن القرية إذا أقيمت فيها الجمعة فإنه لا يشترط فيها عدد بل لمّا صحت به الجماعة فإن الجمعة تصح منه على القول الراجح، وقد تقدم. ومن شروط صحة الخطبة: الوقت، فلا تصح قبل دخول الوقت وإن كانت الصلاة بعد دخوله. وقد تقدم أن المذهب أن أول وقتها أول وقت صلاة العيد أي إذا ارتفعت الشمس قيد رمح، فلا يصح أن يخطب قبل ذلك وإن صلى بعده، فكما أن الوقت شرط في الصلاة فهو شرط في الخطبة كذلك؛ لأن الجمعة تشمل الخطبة والصلاة جميعاً، فما كان شرطاً في الصلاة فهو شرط في الخطبة، وهذا باتفاق أهل العلم. ومن شروطها: الموالاة بين أجزائها. فإذا قطعها بقاطع طويل عرفاً فإنها تبطل، لأن الخطبة لا تسمى خطبة إلا إذا اتصل بعضها ببعض. وهل تبطل بالكلام اليسير المحرم؟ قال الحنابلة: تبطل. وقال بعض الحنابلة: لا تبطل كالأذان، وقد تقدم أن الأذان لا يبطله الكلام اليسير المحرم، فكذلك الخطبة ثم إن الخطبة قد توفرت فيها شرائطها وأركانها، وكونها يقع فيها النهي هو يعود إلى ذاتها ولا إلى شرط فيها فلم يبطلها. ومثال اشتمالها على الكلام المحرم، كأن يتكلم ببدعة ونحوه. ومن شروطها – في المشهور في المذهب – أن تكون باللغة العربية مع القدرة على ذلك، أما مع غير القدرة والعجز فإنها تصح بغير العربية، لقوله تعالى: {فاتقوا الله ما استطعتم} ولحديث: (إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم) .

أما مع القدرة على التكلم بالعربية فهي شرط، فلا تصح الخطبة إن كان هناك من يمكن أن يتكلم باللغة العربية. وظاهر كلامهم مطلقاً وإن كان من يحضرها من العجم: لذا قال بعض الحنابلة، بل تصح، وهذا أرجح، وأن الخطبة بغير العربية تصح إن كان الحاضرون لها لا يفهمون إلا بذلك، لأنه لا يحصل المقصود من الخطبة إلا أن يكون الفهم فيها، ولا يكون الفهم إلا إذا كانت باللغة التي يتخاطب بها المستمعون. فحينئذٍ: الراجح وهو قول للحنابلة خلافاً للمشهور عندهم أن الخطبة بغير اللغة العربية تصح، وإن كان الخطيب قادراً على أن يتكلم باللغة العربية إذا كان من يسمعها من غير العرب. ثم إن الخطبة ليست قرآناً أو ذكراً من الأذكار الواردة عن النبي صلى الله عليه وسلم الموقوفة عليه، لا تصح إلا بهذا الذكر بلفظه أو آية قرآنية التي لا يجوز أن يترجم إلى لغة أخرى. فالخطبة المقصود منها الوعظ من غير أن يتوقف بلفظ محدد، فحينئذ لا معنى لاشتراط أن تكون بلغة عربية، فإذا خطب بلغة أعجمية لعجم لصحت بل هو أولى لأن التفاهم لا يحصل إلا بذلك وهو مقصود الخطبة. قال: (ولا يشترط لها الطهارة) فلا يشترط للخطبة الطهارة فلو خطب الخطيب جنباً أو محدثاً حدثاً أصغر فإن الخطبة تصح، وإن كان المستحب له أن يخطب طاهراً، لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن يفصل بين خطبته وصلاته بطهارة. لكنه إن خطب جنباً أو محدثاً حدثاً أصغر، فالخطبة صحيحة وهو المشهور في المذهب وأحد قولي الشافعي. والرواية الأخرى عن أحمد وهي أحد قولي الشافعي: أن الخطبة تشترط لها الطهارة. ولا دليل على ذلك فهي كالأذان، وإنما الطهارة شرط في الصلاة.

لكن عن الإمام أحمد - وقال الموفق: وهو الأشبه بأصول المذهب -: أن تكون الطهارة من الجنابة شرط في صحتها، لأن قراءة آية في الخطبة فرض، ولا تصح ولا يجزئ أن يقرأها وهو جنب، وهذا القول بناءً على أن الجنب لا يجوز له أن يقرأ القرآن وعلى القول بأن الآية فرض أن تقرأ في الخطبة. والصحيح: في هاتين المسألتين كلتيهما أنه لا يجب أن يقرأ آية في الخطبة وأن قراءة القرآن للجنب جائزة كما تقدم ترجيحه في باب الغسل. إذن: الصحيح ما ذهب إليه أهل القول الأول: وأن الطهارة من الجنابة ومن الحدث الأصغر ليس بشرط في الخطبة، وإن كان المستحب له ألا يفصل بين خطبته وصلاته بطهارة. قال: (ولا أن يتولاهما من يتولى الصلاة) هذا المشهور في المذهب، وأنه لا يشترط أن يتولى الصلاة من تولى الخطبة، فلو خطب خطيب وصلى آخر فلا بأس؛ لأن الواجب هو إقامة الخطبة والصلاة من غير شرط أن يكون ذلك من إمام واحد، وإن كان المستحب والأولى أن يتولاهما إمام واحد كما كان ذلك في عصر النبي صلى الله عليه وسلم وفي عصر الخلفاء الراشدين. لكن لو خطب خطيب وتولى الصلاة آخر فإنه لا بأس بذلك لأنه لا دليل على اشتراط أن يتولاهما واحد، لأنهما كالصلاتين المختلفتين، فكما لو جمعت الصلاتان فصلى أحدهما إمام والأخرى إمام آخر فلا بأس بذلك. قال: (ومن سننهما أن يخطب على منبر أو موضع عال) " أن يخطب على منبر " إجماعاً؛ لفعل النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو مشهور عنه ومن ذلك ما ثبت في البخاري عن عمر قال: (سمعت النبي - صلى الله عليه وسلم - يخطب يوم الجمعة على المنبر يقول: " من جاء إلى الجمعة فليغتسل) . " أو موضع عال " فلا بأس أن يخطب على موضع عال وإن كان الأولى له أن يخطب على منبر، فإن لم يجد المنبر فإنه يخطب على موضع عال لحصول المقصود به.

وعليه: فلو خطب على الأرض فلا بأس وخطبته صحيحة لأنه قال: " ومن سننهما " وهذا بالإجماع، فالمنبر سنة فيها، والموضع العالي يجزئ فيها، وإن خطب على الأرض فإن ذلك لا بأس وإن كان خلافاً للسنة. قال: (ويسلم على المأمومين إذا أقبل عليهم) يستحب له إذا ارتقى على المنبر أن يستقبل المأمومين بوجهه ويسلم عليهم، لما ثبت في ابن ماجه وفيه ابن لهيعة وهو ضعيف قال: (كان النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا صعد على المنبر سلم) وله شاهد عند الطبراني في الأوسط بإسناد ضعيف، فعلى ذلك الحديث حسن. ولو قال: " السلام عليكم " أجزأه، فإن السلام يصدق على قوله: " السلام عليكم "، والمستحب زيادة: " وبركاته ". قال: (ثم يجلس إلى فراغ الأذان) فإذا سلم جلس إلى فراغ الأذان، لقول ابن عمر كما في سنن أبي داود قال: (كان النبي - صلى الله عليه وسلم -[يخطب خطبتين، كان] يجلس إذا صعد المنبر حتى يفرغ قال الراوي: " أراه قال "المؤذن " أي حتى يفرغ المؤذن ثم يقوم فيخطب ثم يجلس فلا يتكلم - وهي الجلسة بين الخطبتين-[ثم يقوم فيخطب] ) (1) ، وثبت في البخاري من حديث السائب بن يزيد قال: (كان النداء يوم الجمعة حين يجلس الإمام على المنبر) . قال: (ويجلس بين الخطبتين) لحديث ابن عمر المتقدم، وهي مستحبة وليست بواجبة فلو لم يجلس فلا بأس، لكن الغرض أن يسكت سكوتاً يفصل به بين الخطبتين، فإذا انتهى من الخطبة الأولى استحب له أن يجلس، فإن لم يجلس ففرض أن يسكت سكوتاً يفصل به بين الخطبتين؛ لأن الواجب فيها خطبتان ولا يتم الواجب إلا بأن يفصل بينهما بسكوت. قال: (ويخطب قائماً)

_ (1) سنن أبي داود كتاب الصلاة: باب الجلوس إذا صعد المنبر [1 / 657] .

هذا هو المستحب، فخطب جالساً فلا بأس لكن المستحب هو القيام، لحديث ابن عمر المتقدم، وفيه النبي - صلى الله عليه وسلم -: (كان يخطب خطبتين وهو قائم) فهذا هو المستحب؛ لأنه فعل والفعل لا يدل على الوجوب، وهو فعل الخلفاء الراشدين. وأول من جلس على المنبر – وهو محمول على العذر – هو معاوية رضي الله عنه، فقد ثبت في سنن سعيد بن منصور أن أول من جلس في الخطبة معاوية رضي الله عنه، وذلك لعله لعذر فيه، وأما النبي - صلى الله عليه وسلم - وخلفاؤه الراشدين فلم يصح عن أحد منهم خلاف السنة. قال: (ويعتمد على سيف أو قوس أو عصا) لما ثبت في سنن أبي داود عن الحكم بن حَزْن الكُلَفي قال: (وفدت إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -[سابع سبعة أو تاسع تسعة، فدخلنا عليه قلنا: يا رسول الله، زرناك فادع الله لنا بخير، فأمر بنا أو أمر لنا بشيء من التمر والشَّانُ إذ ذاك دونٌ] فأقمنا [بها] أياماً فشهدنا [فيها الجمعة] مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقام متوكئاً على عصا أو قوس فحمد الله وأثنى [عليه] كلمات خفيفات مباركات) (1) ، ففيه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - خطب على قوس أو عصا. وأما السيف فلم يصح ذلك عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، كما قال ذلك ابن القيم، لأن الاتكاء على القوس لا يراد منه إظهار شيء سوى استعانة الخطيب به، فالاتكاء ليس المقصود منه إظهار قوة الإسلام أو نحو ذلك وأن الإسلام قام بالسيف – كما قال ذلك الحنابلة –، فإن ذلك ليس بصحيح إذ لم يصح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه اتكأ على سيف مطلقاً.

_ (1) سنن أبي داود كتاب الصلاة: باب الرجل يخطب على قوس [1 / 658] .

ولأن الإسلام قد قام بالدعوة والبيان، وإنما احتيج إلى السيف عند امتناع من امتنع عن قبوله، وقد كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يتكأ على عصا كما تقدم، فالمقصود هو ذات الاتكاء، وما يستعين الخطيب من ذلك تقوية نفسه أو نحو ذلك، وليس المقصود إظهار شيء مما ذكره بعض الحنابلة كما رد على ذلك ابن القيم أو غيره. قال: (ويقصد تلقاء وجهه) فالمستحب للخطيب في خطبته أن يقصد تلقاء وجهه، فلا يأخذ يميناً وشمالاً أي لا يلتفت أثناء الخطبة إلى ميمنة المسجد أو ميسرته، وهذا باتفاق العلماء، وذلك لأن هذا أسمع لكلامه فإنه إذا أخذ تلقاء وجهه استوى أهل المسجد في سماع كلامه، بخلاف ما إذا أخذ يمنة فإنه يخفي شيء من كلامه على أهل ميسرة المسجد، وهكذا إذا أخذ ذات اليسار فإنه يخفي شيء من كلامه على أهل ميمنة المسجد، فكان المستحب أن يكون تلقاء وجهه ليكون ذلك أسمع لكلامه وليكون أعدل بينهم. قال الموفق: " وهو فعل النبي صلى الله عليه وسلم "، ولم أر ما يدل عليه نصاً، وإن كان اتفاق أهل العلم على ذلك والمصلحة تقتضي أن هذا هو فعل النبي صلى الله عليه وسلم. - والمستحب للمأمومين أن يقبلوا بوجوههم على الإمام حتى من كان في ميمنة المسجد أو ميسرته، وقد وردت في ذلك حديث وآثار. أما الحديث فهو ما رواه ابن ماجه أن النبي - صلى الله عليه وسلم -: (كان إذا خطب استقبله أصحابه بوجوههم) لكن الحديث ضعيف مرسل. وقد قال الترمذي: " ولا يصح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في هذا الباب شيء، لكن ذلك ثابت عن أصحابه، قال البخاري: " واستقبل ابن عمر وأنس الإمام وهو يخطب " ولا يعلم لهما مخالف. لذا قال الترمذي: " والعمل على هذا عند أهل العلم من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - وغيرهم يستحبون أن يستقبل الناس الإمام بوجوههم " وليس المقصود بالنظر بالأعين، وإنما المقصود أن يعطيه وجهه، فيستقبل الخطيب بوجهه.

قال: (ويقصر الخطبة) هذا هو المستحب، لما ثبت في مسلم عن عمار بن ياسر قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (إن طول صلاة الرجل وقصر خطبته مئنَّةٌ من فقهه) فقصر الخطبة وطول الصلاة مئنَّة الفقه، فالمستحب قصر الخطبة وهو فعل النبي - صلى الله عليه وسلم - وقوله، أما فعله فقد تقدم في قول الصحابي: (فحمد الله وأثنى عليه كلمات خفيفات مباركات) ، وأما قوله فهذا الحديث. فالمستحب للخطيب أن يقصر خطبته، ويورد على السامعين جوامع الكلم، والألفاظ المشتملة على المعاني الكبيرة، ويقصر ذلك لئلا يضجرهم ويوقع الملل في نفوسهم ولئلا ينسي الكلام بعضه بعضاً، والعلم إنما يلقى شيئاً فشيئاً كما قال ابن عباس في قوله: " كونوا ربانيين، قال: الذين يعلمون صغار المسائل قبل كبارها " فالخطباء الربانيون هم الذين يعلمون الناس الشيء اليسير حتى يتدرجون معهم إلى الشيء الكبير ويعلمونهم الأساس والأصل قبل أن يعلمونهم الفرع. قال: (ويدعو للمسلمين) فيستحب له أن يدعو للمسلمين، قال في الإنصاف: " بلا نزاع " واستدلوا: بمثل استسقاء النبي - صلى الله عليه وسلم - في الخطبة فهذا يدل على جواز الدعاء فيها، ولعموم الأدلة الدالة على مشروعية الدعاء واستحبابه. ولما ثبت في مسلم عن عمار بن رؤيبة (1) : أنه رأى بشر بن مروان وهو يخطب رافعاً يديه فقال: (قبَّح الله هاتين اليدين ما رأيت النبي - صلى الله عليه وسلم - يزيد على أن يشير بأصبعه) وأشار بأصبعه السباحة " وفي رواية لأحمد: " يدعو على المنبر "، وهذا هو الشاهد. وأما رفع اليدين فإنه بدعة كما صرح بذلك المجد ابن تيمية وقد قال شيخ الإسلام: " ويكره للخطيب أن يرفع يديه عند الدعاء في الخطبة والمشروع له أن يشير بإصبعه السبابة ".

_ (1) في التقريب: عمارة بن رُوَيْبة.

فإذن: يكره للخطيب وغيره من المستمعين أن يرفعوا أيديهم أثناء خطبة الإمام إذا دعا والمستجيب أن يشيروا بأصابعهم. فإن دعا لولي أمر المسلمين: فاستحسن ذلك الإمام أحمد وعدد من أهل العلم، ولا شك أن صلاح الإمام صلاح للمسلمين عامة؛ لكونه أولى بتخصيص الدعاء من عامة المسلمين، لما في إجابة الدعوة من الله فيه من المصلحة له ولغيره من المسلمين ممن هم رعية له وتحت ولايته. وأنكر ذلك بعض أهل العلم وقال: هو محدث كعطاء بن أبي رباح. لكن الأظهر هو جوازه، لكن لا يكون ذلك على سبيل المداومة فلا يتخذ ذلك سنة في كل خطبة، وإنما يفعل ذلك أحياناً؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - وخلفاءه لم يثبت عن أحد منهم المداومة على ذلك واتخاذه سنة. أما فعل ذلك أحياناً فلا بأس، فإن الخطبة موضع إجابة بدليل استسقاء النبي - صلى الله عليه وسلم - في الخطبة. وفيها اجتماع المسلمين فيرجى أن تجاب الدعوة، فإذا خصص بذلك إمام المسلمين والطائفة المجاهدة، أو نحو ذلك فلا بأس، وأما اتخاذ ذلك سنة فإنه في الحقيقة ليس بسنة، كما أنكر ذلك وأدخله في البدع صاحب الاعتصام وأن الاستمرار في الدعاء للمرابطين والمجاهدين أن ذلك بدعة – وهو كما قال – فغنه لم يثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - الاستمرار في الدعاء للمجاهدين والمرابطين ونحو ذلك. أما إذا احتاج المسلمون إلى ذلك فإنه يفعل لكن لا يكون على سبيل الدوام، ومثل ذلك الدعاء لولي أمر المسلمين فلا بأس به لكن لا يكون ذلك على سبيل الدوام، والله أعلم. والحمد لله رب العالمين. فصل قال المؤلف رحمه الله تعالى: (الجمعة ركعتان) وهذا بإجماع العلماء، وقد تقدم من الأحاديث ما يدل على ذلك كقول ابن عباس: (فرض الله على لسان نبيه صلى الله عليه وآله وسلم الجمعة ركعتان) رواه مسلم. وفي النسائي قال عمر: (والجمعة ركعتان … تمام غير قصر على لسان النبي صلى الله عليه وآله وسلم)

فلا تصح بأربع، وإنما اختلفوا هل هي ظهر مقصورة أم صلاة مستقلة تامة، وقد تقدم أن الراجح أنها صلاة مستقلة تامة. قال: (يسن أن يقرأ جهراً في الأولى بالجمعة، وفي الثانية بالمنافقين) كما ثبت في مسلم عن ابن عباس قال: (كان النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ في صلاة الفجر يوم الجمعة " ألم تنزيل السجدة، وهل أتى على الإنسان حين من الدهر، ويقرأ في صلاة الجمعة بسورة الجمعة وبالمنافقين) واختلف الحنابلة: هل المستحب أن يداوم عليها أم لا؟ أى قراءة السجدة والإنسان في صلاة الفجر يوم الجمعة: فالمشهور عندهم: كراهية ذلك؛ لئلا يظن وجوبها ولئلا يعتقد فضيلة السجدة وأنها إنما شرعت للسجدة فيها، ولذا نص شيخ الإسلام على كراهية تحري آيات أو سور فيها سجدة وقراءتها في صلاة الفجر يوم الجمعة، لأن هذا عن عقيدة أن المستحب هو اختيار سورة فيها سجدة وليس المراد ذلك، وإنما لما فيها من المعاني الشرعية المناسبة لذلك اليوم الذي هو يوم النفخة والصعقة ويوم البعث، وما تضمنه تلك السورة من المعاني المناسبة لذلك. والقول الثاني – وهو الراجح –: أن المستحب له أن يداوم على ذلك، وقد ورد في الطبراني: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يداوم عليها، والحديث المتقدم شاهد له، فإن لفظة " كان " في الأصل تدل على المداومة ما لم يرد ما ينافي ذلك، وهنا كذلك. أما ما ذكروه من أن ذلك يؤدي إلى اعتقاد وجوب قراءتها فإن هذا يدفع بتركها أحياناً مع كونه مداوماً عليها إلا الشيء اليسير، ولعل هذا مراد أهل القول الأول. ثم إن هذه المظنة قد تندفع حيث تبينت السنة، فإذا كان أهل البلدة أو أهل المسجد يعلمون أنها سنة وليست بواجب، وأن السجدة ليست هي المقصودة، بل المعاني التي فيها، فإنهم يستحب لهم أن يداوموا عليها مطلقاً، لأن هذا المظنة مدفوعة عنهم.

إذن: المستحب أن يداوم على ذلك، لكن إن خشي اعتقاد الوجوب فإنه يتركها أحياناً لئلا يعتقد ذلك. أما تحري آية أو سورة من القرآن فيها سجدة محلها، فإن هذا ليس من السنة بل هو من البدعة، لأن هذا تابع عن اعتقاد أن هذه السورة إنما خصت لما فيها من السجدة، وليس الأمر كذلك، فهي إنما خصت لما فيها من المعاني التي هي مناسبة ليوم الجمعة الذي هو اليوم الذي يبعث فيه العباد وفيه النفخة والصعقة وفيه خلق الله آدم وهذه السورة متضمنة لهذه المعاني كلها. ويستحب أن يقرأ في الجمعة بسبح والغاشية، لما ثبت في مسلم من حديث النعمان بن بشير قال: (كان النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ في العيدين وفي الجمعة بسبح اسم ربك الأعلى، وبهل أتاك حديث الغاشية) وهاتان السورتان فيهما من المعاني المتقدمة ما هو ظاهر وواضح، فإنه يستحب: أن يقرأ في الجمعة بسبح والغاشية أو الجمعة والمنافقون. فسبح والغاشية: فيهما ما هو ظاهر من ذكر اليوم الآخر وما فيه من الأهوال، وفيهما ما فيهما من الكلام عن الذكرى والتذكير، وأنه إنما يستحب إلى التذكير من هو متصف بالتقوى بخلاف الآخر فهو أشقى، ومعلوم أن الجمعة فيها من التذكير والوعظ والدعوة إلى الله ما يوجب التنبيه لذلك. وأما سورة الجمعة والمنافقون: أما سورة الجمعة: فإن فيها بيان حكم الجمعة ووجوب السعي إليها ووجوب العلم والقيام به. وأما سورة المنافقون: ففيها من التحذير من النفاق، ومعلوم أن اجتماع الناس الكثير مظنة وجود المنافقين. فلهذه اختيرت هذه السور لمناسبتها لهذا الموقف العظيم. قال: (وتحرم إقامتها في أكثر من موضع من البلد إلا لحاجة) هذه مسألة كبيرة والناس يقعون – كما هو معلوم – في مخالفتها وهي: أنه لا يجوز أن يقام في المدينة – وإن كبرت – أو القرية أن يقام فيها جمعتان، وهذا قد اتفقت عليه المذاهب الأربعة وأنه يحرم ذلك وليس بمشروع بل هو بالإجماع ليس بمشروع.

قالوا: لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - مع أنه كان يقام في المدينة جماعات كثيرة كما كان في مسجد قباء ومسجد بني سلمة وغيرهما فإنها كانت تقام فيها الجماعة، وأما الجمعة فلم تكن تقام في غير مسجده - صلى الله عليه وسلم -، فدل على أن إقامتها إنما تشرع في مسجد واحد، فلا يقام في أكثر من مسجد؛ لفعل النبي صلى الله عليه وآله وسلم وفعل خلفائه الراشدين وهكذا كان الأمر في عصر الخلفاء الراشدين الأربعة، فلم تكن تقم في البلدة إلا جمعة واحدة. وكانت المدينة بريداً - × - في بريد، أي ما يقارب 18كم × 18كم، كانوا جميعاً يحضرون جمعته، ولم تقم في المدينة سواها. واستثنى الحنابلة الحاجة، فإذا كان هناك حاجة إلى إقامة جمعة أخرى فإنه لا بأس بذلك، لأن الشريعة قد أتت برفع الحرج. فإذا كانت المدينة كبيرة كما يكون هذا في العواصم ويشق على الناس أن يأتوا من أقطارها المتباعدة، أو يكون المسجد لا يسعهم فتزدحم شوارعه ونحو ذلك فإن هذا حرج يقتضي إباحتها وهو اختيار شيخ الإسلام وهو القول الراجح. - وقال الجمهور: لا يجوز ذلك مطلقاً حتى للحاجة فلا تقام إلا في مسجد واحد. وعليه: فإن الناس يصلون ظهراً. فمثلاً: إذا ازدحم المسجد أو كان في الحضور مشقة فإنهم يصلون في مساجدهم ظهراً ولا يقيمون جمعة أخرى؛ لأنه لم يقم في مدينته - صلى الله عليه وسلم – مع كونها متباعدة الأطراف إلا جمعة واحدة. وأجاب عنهم الحنابلة: بأن الحاجة لم تثبت في عصر النبي صلى الله عليه وسلم لأن المدينة وإن كان في أطرافها تباعد لكنها سهلة السُبل فلم يكن هناك ازدحام شديد وكان المسجد يسعهم. ثم لو أثبتنا الحاجة لهم فإنهم إنما لم يقيموها لكونهم يؤثرون جمعته ولا يرغبون بخطبة بغير خطبته صلى الله عليه وسلم مع سهولة حضورها وإن كان يلحقهم شيء من الحرج، بخلاف الصلوات المتكررة فإنهم يشق عليهم أن يرتادوا مسجده مع تباعد محالهم، وهذا جواب ظاهر.

فما ذهب إليه الحنابلة – وهو اختيار شيخ الإسلام – ظاهر وهو استثناء الحاجة، كأن تكون المدينة كبيرة متباعدة الأطراف أو أن يكون المسجد لا يسعهم، أو أن يكون هناك عداوات تقتضي إقامة الجمعة أكثر من موضع لئلا تقع الفتنة بين الناس. ومثل ذلك صلاة العيد عندهم فإنها لا يجوز أن تقام إلا في مصلى واحد إلا أن يحتاج الناس إلى مصليات أخر، فإنها تقام فيها بقدر الحاجة إلى ذلك. قال: (فإن فعلوا فالصحيحة ما باشرها الإمام أو أذن فيها فإن استويا في إذن الإمام أو عدمه فالثانية باطلة وإن وقعتا معاً أو جهلت الأولى بطلتا) فإن فعلوا: فأقيمت جمعة أخرى ولا حاجة لذلك ففي مسألة الصحة والبطلان تفصيل وهو: أنه إذا تميزت أحد هذه الجمعات بميزة كأن تكون هي جمعة الإمام أي التي يصلي فيها الأمير أو الحاكم أو تميزت بأن لها إذن الإمام، وأما غيرها من الجمعات فلا إذن له، أو تميزت بأنها في وسط البلد كما يكون هذا في الجوامع الكبيرة، فإذا تميزت جمعة بأحد هذه الميزات فإنها هي الصحيحة وما سواها فجمعة باطلة، وعليهم حينئذٍ أن يعيدوا صلاتهم ظهراً. " فإن استويا في إذن الإمام أو عدمه ": يعني كلاهما مأذون فيه أو كلاهما ليس بمأذون فيه، أو كان كلاهما له ميزة يتميز بها عن الآخر فالثانية باطلة، فالسابقة هي الصحيحة؛ لأن لها السبق ولأنها صليت حيث شرع ذلك ولا مزاحم لها فكانت هي الجمعة الصحيحة. أما الجمعة الأخرى فإنها باطلة لأنها مسبوقة بجمعة مجزئة فتكون باطلة. واعتبار ذلك في المشهور من المذهب بتكبيرة الإحرام، فإذا كبر تكبيرة الإحرام إحدى الطائفتين قبل الأولى فصلاتهم هي الصحيحة، ومن كبرت بعدها فصلاتها هي الباطلة. وقال بعض الحنابلة: بل بالشروع في الخطبة، فإذا شرع أحد المسجدين بالخطبة قبل الآخر وإن شرع بعده بتكبيرة الإحرام فإن جمعته هي الصحيحة.

وهذا القول أرجح، لأن الجمعة شاملة للخطبة والصلاة فوقعت شيء منها صحيحاً مجزئاً فلا يصح بعد ذلك إبطاله. " وإن وقعتا معاً " سواء قلنا إن ذلك بتكبيرة الإحرام أو بالشروع في الخطبة فإنهما تبطلان جميعاً، لأنه لا ميزة لإحداهما على الأخرى، لأنه لابد وأن نبطل إحداهما، وتصحيح إحداهما دون الأخرى تحكم لا دليل عليه فوجب أن يبطلا جميعاً. وقبل ذلك أيضاً: إذا جهلت الأولى، فمثلاً: صلت طائفة في طرف البلد وصلت طائفة أخرى في طرفه الآخر ولا يعلم أيهما السابق، ولابد أن تكون إحداهما باطلة، والحكم لأحداهما بالصحة دون الأخرى تحكم. ويحتمل في كل واحدة فيهما أن تكون مسبوقة – فحينئذٍ كان الحكم بإبطالهما جميعاً. وما ذكره المؤلف هنا من التصحيح والبطلان هو مذهب جماهير العلماء من الحنابلة والمالكية والشافعية والأحناف. - وعن الإمام أحمد، وهو مذهب عطاء بن أبي رباح وهو اختيار الشوكاني كما في السيل الجرار، قالوا: إن الجمعة الأخرى تصح. قالوا: لأن فعل النبي صلى الله عليه وسلم إنما يدل على المشروعية، ولا بدل على اشتراط ذلك، نعم الصلاة في أكثر من مسجد مع عدم الحاجة لا يشرع ذلك، أما أن يكون ذلك شرط في صحتها فلا، وهذا القول – فيما يظهر عندي – فيه نظر.

ذلك لأن الجمعة شاملة للاجتماع لها وإقامة الخطبة ونحو ذلك وحيث إنها وقعت على غير سنة النبي صلى الله عليه وسلم فإن ذلك اجتماع غير مشروع، وحيث كان اجتماعاً غير مشروع فهو اجتماع محدث، وكل محدث فهو بدعة وضلالة ورد على أصحابه كما في الحديث: (كل عمل ليس عليه أمرنا فهو رد) ، فالنهي هنا المتضمن للتبديع، لأن السنة لم تكن في عهد النبي صلى الله عليه وسلم إلا أن تقام الجمعة في مسجد واحد، وهذا يقتضي أن تكون الجمعة الأخرى غير مشروعة، وهذا شامل للاجتماع إليها وإقامة الخطبة فيها، فحينئذٍ يكون النهي قد عاد إلى ذات الجمعة، فكان حينئذ الاجتماع على هذا الصورة غير مقبول وحينئذٍ يكون العمل مردوداً على أصحابه. فإذن: أصح المذاهب ما ذهب إليه الحنابلة في المشهور عندهم: وهو أن يقال: إن أقيمت جمعة أخرى في بلدة فيها جمعة ولم تكن حاجة لإقامتها فإنها باطلة ويجب عليهم أن يستأنفوا ظهراً وهو اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية. قال: (وأقل السنة بعد الجمعة ركعتان، وأكثرها ست) هذا في السنة يوم الجعة: وما ذكره المؤلف في السنة البعدية، فقال: " وأقل السنة بعد الجمعة ركعتان وأكثرها ست " وهو ما نص عليه الإمام أحمد فقال: " إن شاء صلى ركعتين وإن شاء صلى أربعاً وإن شاء صلى ستاً ". أما الصلاة ركعتين فدليله ما ثبت في الصحيحين عن ابن عمر قال: " حفظت من النبي - صلى الله عليه وسلم - ... إلى أن قال: (وركعتين بعد الجمعة في بيته) وأما الأربع: فما ثبت في مسلم عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من صلى بعد الجمعة فليصل أربعاً) وأما الست: فدليله ثبوت آثار عن الصحابة رضي الله عنهم فقد ثبت في سنن أبي داود بإسناد صحيح أن ابن عمر: (كان إذا صلى بمكة الجمعة تقدم فصلى ركعتين ثم تقدم فصلى أربعاً، وإذا صلى بالمدينة أتى أهله فصلى ركعتين، وكان يخبر أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يفعله) .

وهو ثابت عن علي بن أبي طالب، فقد ثبت في مصنف عبد الرزاق بإسناد صحيح عن أبي عبد الرحمن السلمي قال: (كان عبد الله: أي ابن مسعود " يأمرنا أن نصلي قبل الجمعة أربعاً وبعدها أربعاً ثم جاء علي فأمرنا أن نصلي بعدها ركعتين ثم أربع) . وقال شيخ الإسلام: إن صلى في بيته صلى ركعتين، وإن صلى في المسجد صلى أربعاً، وفيه قوة، وذلك لأن حديث أبي هريرة المتقدم: (من صلى بعد الجمعة فليصل أربعاً) مطلق، وأما حديث ابن عمر ففيه: (أنه كان يصلي في بيته ركعتين) ولا شك أن صلاة السر أفضل من صلاة الجهر، فضوعفت في صلاة الجهر، فكانت في المسجد أربعاً أو ستاً، وأما الصلاة في البيت فكانت ركعتين، هذا اختيار شيخ الإسلام وتلميذه ابن القيم. وأما السنة القبلية: فقد تقدم عن ابن مسعود أنه كان يأمر الناس أن يصلوا قبلها أربعاً. وروى ابن المنذر عن ابن عمر: (أنه كان يصلي قبلها اثنتي عشر ركعة) ، وعن ابن عباس: (أنه كان يصلي قبلها ثماني ركعات) ، وثبت في مصنف ابن أبي شيبة بإسناد صحيح عن أبي مالك القرظي قال (أدركت عمر وعثمان " وهو العصر الذي كان فيه الصحابة في المدينة متكاثرون من المهاجرين والأنصار " فكان الإمام إذا خرج تركنا الصلاة وإذا تكلم تركنا الكلام) وفيه أنهم كانوا يصلون حتى يخرج الإمام. فالسلف لهم في الصلاة قبل الجمعة طريقتان: الأولى: أن بعضهم يصلي ما كتب له، أربعاً أو ستاً أو غيرها ثم يجلس يقرأ القرآن ويذكر الله حتى يخرج الإمام. الثاني: أن منهم من كان يصلي حتى يخرج الإمام كما في أثر أبي مالك القرظي، وقد ثبت في مسلم حديث وفيه: (ثم صلى ما كتب له) إذن: ليس للجمعة سنة قبلية مؤقتة، وإنما يصلي المسلم ما كتب له. فذهب بعض علماء الحنابلة إلى أنها مقيسة على صلاة الظهر فيستحب أن يصلي فيها ركعتين، وقد تقدم أن راتبة الطهر عندهم ركعتان.

وهذا القياس قياس مع الفارق لثبوت الفوارق الكثيرة المتقدمة بين صلاة الجمعة وصلاة الظهر، على أن النبي صلى الله عليه وسلم صح (1) عنه ذلك، فلم يثبت عنه صلى الله عليه وسلم في الجمعة إلا أنه كان يصلي بعدها ركعتين في بيته وأمر أن يصلى بعدها أربعاً. بخلاف الظهر فإنه ثبتت سنته بصلاة أربع قبلها، وأما الجمعة فقال: (ثم صلى ما كتب له) فهذا القياس يخالف ظاهر السنة. واستدلوا: بما رواه ابن ماجه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لسليك الغطفاني: (أصليت ركعتين قبل أن تجيء) وهذه قد أخطأ بها بعض الرواة كما قرر هذا شيخ الإسلام والحافظ أبو الحجاج المزي، فقرروا أن هذا اللفظ خطأ، وأن الصواب: (أصليت ركعتين قبل أن تجلس) وهما تحية المسجد وليست ركعتي الجمعة القبلية. مسألة: ولم يذكر المؤلف – هنا – مسألة ذكرها صاحب المقنع وهي: فيما إذا اجتمع العيد والجمعة في يوم واحد فصليت العيد فهل يجزئ عن الجمعة أم يجب على المسلمين أن يصلوا الجمعة؟ لم يتعرض لها المؤلف هنا، وذكرها صاحب المقنع – وهذا الكتاب اختصار له، فالأولى ذكرها فيه -. - والمسألة عند الحنابلة: أن العيد إذا صليت في يوم الجمعة فإنها تجزئ عن الجمعة ويجب على الناس أن يصلوا الظهر فلا يسقط عنهم الظهر. ويستثنى من ذلك الإمام فتجب عليه الجمعة – هذا عند الحنابلة – خلافاً لجمهور الفقهاء. واستدل الحنابلة: بأحاديث ثبتت بمجموعها هذه السنة.

_ (1) لعلها: لم يصح.

فقد روى الخمسة إلا الترمذي عن زيد بن أرقم قال: (إن النبي صلى الله عليه وسلم صلى العيد ثم رخص في الجمعة وقال: من شاء أن يصلي فليصل) ، لكن الراوي عن زيد: إياس بن أبي أرملة، قال فيه ابن خزيمة: " لا أعلم فيه جرحاً ولا تعديلاً "، لكن يشهد له ما رواه أبو داود أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (اجتمع في يومكم هذا عيدان فمن شاء أجزأه ذلك عن الجمعة وإنا مجمعون) ، ويشهد له ما رواه أبو داود بإسناد صحيح عن عطاء بن أبي رباح قال: (صلى بنا عبد الله بن الزبير في يوم عيد في يوم جمعة أول النهار ثم رحنا إلى الجمعة فلم يخرج إلينا، فصلينا وحدانا، وكان ابن عباس في الطائف فلما جاء سألناه فقال: أصاب السنة) ، وفي النسائي بإسناد صحيح: أن ذلك بلغ عبد الله بن الزبير فقال: (رأيت عمر بن الخطاب لما اجتمع عيدان صنع مثل ما صنعت) . فهذه الأحاديث حجة على جمهور الفقهاء، فهي أحاديث بعض أسانيدها صحيح وبعضه حسن، وبعضه قابل للتحسين وبمجموعها ثابتة لا شك في ثبوتها عن النبي صلى الله عليه وسلم. فإذن: إذا اجتمع في يوم واحد عيد وجمعة، فإن العيد يجزئ عن الجمعة لهذه الأحاديث، والمعنى يقتضي ذلك، فإن يوم العيد يوم سرور وفرح فلم يناسب أن يجتمع فيه موعظتان أو خطبتان، فرخص في إحداهما وأقيمت الأخرى. قال الحنابلة: ويستثنى من ذلك الإمام فيجب عليه أن يصلي الجمعة. وذهب بعض الحنابلة، كالمجد بن تيمية وهو رواية عن الإمام أحمد: إلى أن الإمام كذلك، فلو لم يقمها الإمام فلم تصح (1) في البلدة جمعة فلا بأس، ودليله: أثر ابن الزبير المتقدم فإنه لم يخرج إليهم وصلوا وحدانا وقال ابن عباس: (أصاب السنة) ، وقال ابن الزبير: (رأيت عمر بن الخطاب لما اجتمع عيدان صنع مثل ما صنعت) فظاهره أن عمر لم يخرج إلى الناس فيقيم فيهم الجمعة.

_ (1) لعلها: تُقم.

إذن الراجح: أن الإمام لا يجب عليه أن يقيم الجمعة، هذه الألفاظ في بعضها ما يدل على أن الواجب عليهم أن يصلوا ظهراً، وهو قول عطاء: (فصلينا وحدانا) ولم ينكر ذلك عليهم ابن عباس ولا ابن الزبير. واختار الشوكاني سقوط الظهر أيضاً، لكن هذا ضعيف، ولا دليل على إسقاطها وهي الأصل فإذا سقطت الجمعة للمعاني المتقدمة بقيت الظهر واجباً إقامتها. وهل يجزئ الجمعة عن العيد؟ فمثلاً: لو صلوا الجمعة في أول النهار، فهل تجزئ عن العيد. أو صليت بعد الزوال وتركت العيد واكتفوا بالجمعة، فهل يجزئ ذلك؟ المشهور في المذهب: أن الجمعة تجزئ عن العيد، والمعنى يقتضي ذلك، وهو المعنى المتقدم بل أولى، فإذا كانت العيد قد أجزأت عن الجمعة، فأولى من ذلك أن يجزئ الجمعة عن العيد. واختار الموفق وأبو الخطاب من الحنابلة: أنها إنما تجزئهم إذا صلوا في أول النهار، لكن هذا تفريق لا دليل عليه، لأن العيد تصح عندهم بعد زوال الشمس، فلو أخرها الناس في يوم العيد إلى أن زالت الشمس فهي وإن خالفت السنة فهي عند أهل العلم صحيحة، وإذا أجزأت العيد عن الجمعة، فأولى أن تجزئ الجمعة– لأنها فرض - عن العيد - وهي مختلف في وجوبها -، سواء كان ذلك في أول النهار أو بعد الزوال. والحمد لله رب العالمين قال المؤلف رحمه الله تعالى: (ويسن أن يغتسل لها وتقدم) أي: يسن له أن يغتسل يوم الجمعة قبل رواحه إليها، وقد تقدم البحث في هذا وبيان فضيلته وأنه سنة كما هو مذهب جمهور العلماء في حكم الاغتسال في باب الغسل. وأن هذا على وجه الاستحباب إلا إذا كانت هناك روائح كريهة يُتأذى منها فهو واجب كما هو اختيار شيخ الإسلام، وتقدمت الأدلة على ذلك. لذا قال المؤلف هنا: (وتقدم) . قال: (ويتنظف ويتطيب)

أي يستحب له أن يتنظف ويتطيب، فقد ثبت في البخاري عن سلمان الفارسي قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا يغتسل رجل يوم الجمعة ويتطهر ما استطاع من طهر - أي يتنظف من استطاع من التنظيف من تقليم أظفار وحلق عانة وغير ذلك من إزالة الأوساخ التي يكون بها التنظيف - ويدهن من دهنه - أي يذهب شعث رأسه بالدهن - أو يمس من طيب بيته - وفي أبي داود من حديث ابن عمرو: أو يمس من طيب امرأته، وفي مسلم من حديث أبي سعيد: ولو من طيب المرأة (1) - ثم يخرج فلا يفرق بين اثنين ثم يصلي ما كتب له ثم ينصت إذا تكلم الإمام غفر له ما بينه وبين الجمعة الأخرى) ففيه فضيلة التنظف والتطيب. وفي الصحيحين من حديث أبي سعيد: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (الغسل يوم الجمعة واجب على كل محتلم وأن يستن وأن يمس طيباً أن وجد) ، وفي رواية مسلم: (ولو من طيب امرأته) ، وفيه أيضاً فضيلة الاستياك فيه. * ويستحب تطييب المسجد، فقد روى سعيد بن منصور في سننه عن نعيم المجمر قال: (كان عمر يجمر المسجد يوم الجمعة إذا انتصف النهار) . قال: (ويلبس أحسن ثيابه)

_ (1) صحيح مسلم بشرح النووي [6 / 132] ، كتاب الجمعة.

كما في أبي داود من حديث عبد الله بن عمرو وفيه: (ويلبس من أحسن ثيابه) ، وفي أبي داود: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ما على أحدكم إن وجد، أو ما على أحدكم إن وجدتم أن يتخذ ثوبين ليوم الجمعة سوى ثوبي مهنته) (1) أي سوى الثياب التي يمتهن بها ويعمل فيها. وفي الصحيحين: (أن عمر رأى حلة سيراء – أي من حرير – عند باب المسجد فقال للنبي صلى الله عليه وسلم: لو اشتريتها فلبستها يوم الجمعة وللوفد إذا قدم عليك فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (إنما يلبسها من لا خلاق له في الآخرة) والشاهد أن النبي صلى الله عليه وسلم أقر عمر على التزين يوم الجمعة. قال: (ويبكِّر إليها ماشياً) فيستحب له أن يبكِّر فيذهب إليها مبكراً، وقد ثبت في الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من اغتسل يوم الجمعة كغسل الجنابة، ثم راح - في موطأ مالك: " في الساعة الأولى " - فكأنما قرب بدنة، ومن راح في الساعة الثانية فكأنما قرب بقرة ومن راح في الساعة الثالثة فكأنما قرب كبشاً أقرن، ومن راح في الساعة الرابعة فكأنما قرب دجاجة، ومن راح في الساعة الخامسة فكأنما قرب بيضة، فإذا خرج الإمام حضرت الملائكة يستمعون الذكر) ، وفي مسلم: (إذا كان يوم الجمعة كان على كل باب من أبواب المسجد ملائكة يكتبون الأول فالأول، فإذا جلس الإمام طووا الصحف وجاؤا يستمعون الذكر، ومَثَل المهجِّر كمثل من يهدي بدنة ثم من يهدي البقرة ثم من يهدي الكبش ثم من يهدي الدجاجة، ثم من يهدي البيضة) .

_ (1) سنن أبي داود، كتاب الصلاة: باب اللبس للجمعة. [1 / 650] .

وقد ثبت في سنن أبي داود بإسناد صحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (وغسَّل يوم الجمعة - وفي أبي داود: من غسل رأسه - واغتسل، وبكر وابتكر " الابتكار هو أدراك الشيء في أوله، أي أدرك الجمعة في أولها ولم يفته من الخطبة شيء - ومشى ولم يركب ودنا من الإمام ولم يلغ كان له بكل خطوة يخطوها أجر سنة قيامها وصيامها) الحديث إسناده صحيح وحسنه الترمذي في سننه. وقوله " بكر وابتكر " أي بكر في الذهاب، وابتكر في الوصول. * وقد اختلف أهل العلم في وقت التهجير أو الرواح إليها على قولين: 1- فقال الإمام مالك: وقت التبكير من زوال الشمس، وقد تقدم أن مذهب مالك أن وقت الجمعة إذا زالت الشمس إلى أن يجلس الإمام، فتكون الساعات ساعات لطيفة جداً هي شبيهة باللحظات تكون خلال هذا الوقت البسيط، فيكون الوقت من زوال الشمس إلى جلوس الخطيب. واستدل: بلفظة (راح وهجر) فقال: الرواح يكون إذا زالت الشمس كما أن الغدو يكون قبل زوالها. قال: والتهجير هو الذهاب إذا انتصف النهار واشتد الحر، وقد قال صلى الله عليه وسلم: (ومثل المهجر كمثل من يهدي بدنة) . 2- وقال جمهور العلماء: بل يكون ذلك من أول النهار وهو طلوع الفجر الصادق، فالساعة الأول هي التي يكون فيها أذان الفجر وما بين الأذان والإقامة وصلاة الفجر وما يكفيه للتهيؤ والرواح فهذه الساعة الأولى وبعدها الساعات الباقية. واستدلوا: بالحديث المتقدم، فإنه قال: (ومن راح في الساعة الأولى) وحديث النبي صلى الله عليه وسلم يفسر بعضه بعضاً، فقد ثبت في النسائي وأبي داود من حديث جابر بإسناد صحيح قال: (الجمعة اثنتا عشرة ساعة) الحديث وسيأتي تمامه. وهكذا سائر الأيام وهو التوقيت الثابت الذي لا يختلف صيفاً ولا شتاءً، فقبل زوال الشمس ست ساعات وبعد زوالها ست ساعات يختلف طولاً وقصراً صيفاً وشتاءً.

فمثلاً إذا أذن الفجر في الساعة الخامسة، وكان زوال الشمس في الساعة الثانية عشرة فهذه سبع ساعات، فتكون كل ساعة من الساعات الثانية ساعة وعشرة دقائق وهكذا. واستدلوا: بالحديث المتقدم، وهو حديث ظاهر على ما ذكروه. ويبقى الجواب على ما ذكره الإمام مالك، قالوا الجواب عليه: أن ما ذكره من جعل الساعات ما بين زوال الشمس وجلوس الإمام لا يعقل أن يعلق الشرع فيه هذا التفضيل الكثير ما بين البدنة والبيضة في وقت لا يتجاوز أربع دقائق أو خمس دقائق، فهذا التعريف غير مؤثر. أما ما ذكره من الرواح والتهجير: فأما الرواح: فهو في لغة الحجاز هو الذهاب مطلقاً سواء كان ذلك قبل الزوال أو بعده، وقد ذكر الأزهري في تهذيبه ذكر على ذلك شواهد. قالوا: وإنما يراد به الذهاب بعد زوال الشمس إذا قوبل بالغدو، فإذا قيل: غدا أو راح، فيراد بالرواح ما بعد زوال الشمس، أما إذا أطلق فيقال: راح في أول النهار وراح في آخره، وهنا الحديث قد أطلق. وأما التهجير فالمراد به في لغة الحجاز ومن حولها من قيس - المراد بها عندهم -: التبكير في أول الوقت، فالتبكير لأول الوقت يسمى تهجيراً. قال الخليل بن أحمد: " التهجير هو التبكير إلى الشيء في أول وقته "، فالتهجير هو أدراك الشيء في أوله في لغة الحجاز ومن حولها من قيس. فالتهجير ليس مختصاً بوقت الهاجرة أي عند اشتداد الحر وهو منتصف النهار، بل يطلق على التبكير إلى الشيء فإنه يسمى تهجيراً. إذن الراجح: ما ذهب إليه جماهير العلماء من أن الرواح يكون من أول النهار. وتقدم أنه عندهم: يكون من طلوع الفجر الصادق.

وقال بعض العلماء من المالكية والشافعية واختيار بعض الحنابلة: يكون من طلوع الشمس، وهذا القول فيه قوة، وذلك لاستبعاد إمكان الرواح قبل طلوع الشمس، فإن الساعة الأولى قد تذهب للاستعداد لصلاة الفجر والذهاب إليها، ولا سيما مع المحافظة على الذكر كما كان النبي صلى الله عليه وسلم يفعل إلا أنه يمكن أن تكون صلاة الفجر في المسجد الجامع – ومن هنا الاحتياط لمن أراد إصابة الثواب أن يكون حسابه من طلوع الفجر الصادق. وقد أنكر الأئمة على الإمام مالك قوله عدم مشروعية الرواح إليها إلا بعد الزوال. فإنه يرى أن الرواح إليها لا يشرع قبل زوال الشمس، فأنكر عليه الأئمة كأحمد وغيره، بل قد أنكر عليه بعض أصحابه كابن حبيب المالكي والسنة حجة عليه كما تقدم. قال: (ويدنو من الإمام) تقدم هذا في حديث أبي داود: (من غسل يوم الجمعة واغتسل وبكر وابتكر ومشى ولم يركب ودنا من الإمام ولم يلغ كان له بكل خطوة يخطوها أجر سنة قيامها وصيامها) وفي ذلك مصلحة سماع الخطبة وتمام ذلك، وفضيلة القرب من الإمام ثابتة للصلوات مطلقاً، كما قال صلى الله عليه وسلم: (ليليني منكم أولو الأحلام والنهى) . قال: (ويقرأ سورة الكهف في يومها) يستحب أن يقرأ سورة الكهف في يوم الجمعة، ويكون ذلك من طلوع الفجر الصادق إلى أذان المغرب، فهذا كله وقت لقراءتها، فليس ذلك مختصاً قبل الصلاة بل هو مطلق في اليوم كله لإطلاق ذلك في الأثر الوارد في الباب. والأثر الوارد فيه: ما ثبت في سنن سعيد بن منصور بإسناد جيد عن أبي سعيد الخدري موقوفاً قال: (من قرأ سورة الكهف يوم الجمعة أضاء له من النور فيما بينه وبين البيت العتيق) ، وهذا الأثر ليس للعقل فيه محل فيكون له حكم الرفع، فهو مرفوع حكماً.

وقد روي مرفوعاً عن أبي سعيد الخدري نحو الأثر لكن الحديث فيه: نعيم بن حماد وله مناكير برواية الحاكم في مستدركه، ورواه ابن مردويه في تفسيره – كما في الترغيب والترهيب لكن في سنده سعيد بن أبي مريم وهو مجهول الحال. قال ابن القيم: " وهو الأشبه " ا. هـ أي الوقف. إذن: هذه السنة التي أقر بها أهل العلم أصلها هذا الأثر الصحيح عن أبي سعيد. وفي قوله: (وقرأ سورة الكهف في يوم الجمعة) هذا عام في اليوم كله فيكون ذلك من أوله إلى آخره. قال: (ويكثر الدعاء) ليصيب ساعة الإجابة. فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم – كما في الصحيحين – وقد ذكر يوم الجمعة قال: (فيه ساعة لا يوافقها عبد مسلم وهو قائم يصلي يسأل الله شيئاً إلا أعطاه إياه وأشار بيده يقللها) أي يقلل زمنها، ويدل على أن المراد تقليل زمنها وأنه زمن يسير، قوله في رواية مسلم: (وهي ساعة خفيفة) فهي ساعة خفيفة تكون في يوم الجمعة من دعا الله فيها بشيء من أمر الدنيا أو الآخرة أعطاه الله عز وجل إياه. ويحتمل أن يكون مراده: " يقللها " أي يزهد هذا الفعل اليسير من الدعاء الذي ينال به العبد الثواب والأجر الكبير، والتفسير الأول أولى، لما تقدم ولأن الضمير في " يقللها " يعود إلى الساعة نفسها ولو كان المراد به ما تقدم، لقال: " يقلله " أي يقلل هذا العمل، وإن كان يحتمل أن يكون الضمير يعود إلى الدعوة، أي يقلل هذه الدعوة التي ينال بها هذا الثواب والأجر. والاحتمال الأول أولى – كما تقدم –. واختلف أهل العلم اختلافاً كثيراً في وقت هذه الساعة حتى ذكر الحافظ أن فيها أكثر من أربعين قولاً، وإن كان بعض هذه الأقوال يدخل بعضه في بعض فبعضه أعم أو أطلق من بعض. وأصح هذه الأقوال قولان – كما قال ابن القيم -:

1- القول الأول: أنها ما بين أن يجلس الإمام إلى أن تقضى الصلاة، فيكون الدعاء أثناء الخطبة من ساعة الإجابة وبين الخطبتين من ساعة الإجابة، وأثناء الصلاة من ساعة الإجابة، فهو ما بين أن يجلس الإمام إلى أن تقضى الصلاة. واستدلوا بحديث مرفوع رواه مسلم في صحيحه رواه مخرمة عن أبيه (1) عن أبي بردة (2) عن أبيه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال أن ساعة الإجابة يوم الجمعة: (هي ما بين أن يجلس الإمام إلى أن تُقضى الصلاة) ، لكن هذا الحديث وإن كان ثابتاً في مسلم فهو مما انتقد عليه – رحمه الله – فقد انتقده الدارقطني وضعف هذا الحديث، وبيَّن أنه من قول أبي بردة التابعي، فيكون مقطوعاً، وليس بمرفوع ولا موقوف. واستدل بأن بكير رواه عن أبي بردة عن أبي موسى مرفوعاً وبكير مدني ثقة، فرواه عنه كوفي وهو أبو بردة مرفوعاً، ورواه الثقات الكوفيون عن أبي بردة رووه مقطوعاً من قول أبي بردة كمعاوية بن قرة (3) وواصل الأحدب، وأبي إسحاق السبيعي فهؤلاء ثقات يحصل بمجموعهم ترجيح روايتهم على رواية بكير على أنهم كوفيون فهم أعلم بحديث الكوفيين من بكير وهو من أهل الحجاز. فعلى ذلك: ما ذكره الدارقطني من تضعيف رفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم وأن الصواب أنه مقطوع على أبي بردة – راجح ظاهر -. 2- القول الثاني: أنها آخر ساعة من يوم الجمعة بعد العصر واستدلوا بأدلة منها:

_ (1) هو بُكَيْر. (2) هو أبو بردة بن موسى الأشعري، صحيح مسلم بشرح النووي [6 / 140] (3) لم يذكره المزي من الذين رووا عن أبي بردة.

ما ثبت في سنن أبي داود والنسائي بإسناد صحيح عن جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (الجمعة اثنتا عشرة ساعة لا يوجد عبد مسلم يسأل الله فيها شيئاً إلا آتاه الله إياه، فالتمسوها آخر ساعة بعد العصر) ، وثبت في ابن ماجه بإسناد صحيح: أن عبد الله بن سلام كان من علماء أهل الكتاب وأسلم – قال: (إنا نجد في كتاب الله – يعني التوراة – في يوم الجمعة ساعة لا يوافقها عبد مؤمن يسأل الله فيها شيئاً إلا قضى الله حاجته) ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (أو بعض ساعة فقال: صدقت أو بعض ساعة، ثم سأل النبي صلى الله عليه وسلم عبد الله بن سلام قال: أي ساعة هي؟ فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: هي آخر ساعة من ساعات النهار) . وهنا إشكال وهو أن يقال: إن ما بعد العصر ليس بوقت صلاة وقد قال: (لا يوافقها عبد مسلم وهو قائم يصلي) فاستشكل ذلك عبد الله فقال: (إنها ليست ساعة صلاة، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: (إن العبد المؤمن إذا صلى ثم جلس لا يجلسه إلا الصلاة فهو في صلاة) . وهو مذهب جمهور الصحابة، فقد روى سعيد بن منصور في سننه عن أبي سلمة بن عبد الرحمن: (أن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم اجتمعوا فتذاكروا الساعة التي في يوم الجمعة فما افترقوا إلا وقد اجتمعوا على أنها آخر ساعة بعد العصر) فهذا هو مذهب جمهور الصحابة، وهو نص الإمام أحمد ومذهب جمهور التابعين. إذن: هي ساعة خفيفة تكون بعد العصر من يوم الجمعة وهذا في آخر النهار. قال: (والصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم) أي يستحب له في يوم الجمعة أن يكثر الصلاة عليه، بل ذلك مستحب في يوم الجمعة وليلته، فقد ثبت في البيهقي بإسناد حسن أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أكثروا علي من الصلاة يوم الجمعة وليلته) . والحمد لله رب العالمين. قال المؤلف رحمه الله تعالى: (ولا يتخطى رقاب الناس إلا أن يكون إماماً أو إلى فرجة)

أي ينهى الذاهب إلى الجمعة أن يتخطى رقاب الناس، لما ثبت في ابن ماجه بإسناد صحيح من حديث جابر: (أن رجلاً دخل المسجد والنبي صلى الله عليه وسلم يخطب فجعل يتخطى الناس فقال النبي صلى الله عليه وسلم: اجلس فقد آذيت وآنيت) أي أبطات المجيء. وروى الترمذي بإسناد ضعيف فيه رشدين بن سعد وهو ضعيف – أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من تخطى الرقاب يوم الجمعة فقد اتخذ جسراً إلى جهنم) لكن الحديث إسناده ضعيف. والمشهور عند الحنابلة – وهو مذهب الجمهور أن النهي للكراهية. وذهب ابن المنذر وهو اختيار شيخ الإسلام ومذهب طائفة من الحنابلة: إلى أن التخطي محرم. واستدلوا بالحديث المتقدم فإن فيه الأمر في قوله (اجلس) وظاهر الأمر الوجوب، وفيه قوله " فقد آذيت " وأذية المسلم محرمة، فيستدل بهذا الحديث على تحريم التخطي من وجهين: 1- الأمر بالجلوس. 2- والأذية في قوله " فقد آذيت ". وقد قال صلى الله عليه وسلم – كما في أبي داود وابن خزيمة بإسناد حسن: (ومن لغى أو تخطى رقاب الناس كانت جمعته ظهراً) أي لم يصب ثواب الجمعة وإن كان قد أصاب الصلاة صحيحة، فيثاب ثواب الظهر لا الجمعة. واستثنى المؤلف فقال: (إلا أن يكون إماماً) فالإمام يجوز له ذلك إذا لم يكن له طريق يسلكه فاحتاج إلى تخطي رقاب الناس للرقي على منبره فلا بأس للحاجة. (أو إلى فرجة) : أي يجوز للقادم إلى المسجد إن رأى فرجة في صف يحتاج إلى الوصول إليها إلى أن يتخطى رقاب الناس فيجوز له التخطي حتى يصل إلى هذه الفرجة. قالوا: لأنهم بتركهم الفرجة لم يصح له حرمة في مسألة تخطي الرقاب، فهم الذين فتحوا هذا الباب على أنفسهم، فإنهم قد تركوا فرجة لا يشرع لهم تركها فلم يكن له حرمة من هذا الباب.

وعن الإمام أحمد: أنه ليس له ذلك مطلقاً وإن كانت هناك فرجة، وبيَّن الموفَّق أن هذه الرواية لا تحمل على هذا المذكور وهو أنه ينهى مطلقاً، قال: بل يحمل على ما إذا كان هناك في الصف سعة يمكنه مع ازدحام أهل الصف بعضهم ببعض أن يكون له فرجة يدخل فيها، فحينئذ يكره ذلك. أي يكون في الصف سعة يسيرة لا تسع المصلي، ويمكنه أن يأتي إليها ويتراص الناس فيكون له فرجة، فقال الإمام أحمد في رواية عنه: إنه يكره له التخطي – وحمله الموفق على ذلك – وهذا لا شك أنه أولى، فحمل روايات الإمام أحمد أو غيره من الأئمة على مواضع مختلفة أولى من حملها على موضع واحد يختلف فيه. فحينئذ: الظاهر أن يقال: أن مذهب الإمام أحمد: أنه إذا كانت هناك فرجة تسعه من غير أن يحتاج إلى الناس لتوسعة هذا الموضع ليصلي فيه، فإذا كان الوضع كذلك فإنه يتخطى رقاب الناس إليها، وأما إن لم يكن له فرجة إلا مثل ما يصلي فإنه ليس له أن يتخطى الرقاب، ومن أمامه من المصلين ليس منهم تفريط فإن المصلي عندما يجلس في الموضع قد يحتاج أن يكون الموضع متسعاً له لسماع الخطبة، فإذا أتى أحد من المصلين وسع له وإن كان يحتاج إليه فلم يكن فيه تفريط في هذا. إذن: عن الإمام أحمد روايتان: الأولى: أنه لا يكره أن يتخطى الرقاب إلى فرجة. الثانية: أنه يكره ذلك، وحملها الموفق على الوفاق لا على الخلاف فقال: المراد من ذلك إذا كانت هناك سعة لا يمكنه أن يصلي فيها إلا بأن يزدحم الناس فإنه لا يتخطى الرقاب لكن، هذه الرواية – وهي مذهب الشافعية -: استثنوا فيها تخطي الواحد والاثنين فقالوا: إذا كان هناك موضع يمكنه أن يصلي فيه وهو يحتاج إلى توسيع وتراخي المصلين بعضهم ببعض، فإذا كان يمكنه أن يصل إليه بتخطي رقبة اثنين أو واحد فلا بأس بذلك لأن هذا شيء يسير معفى عنه.

والظاهر أنه النهي مطلق، وأنه لا يعفى عن الواحد والاثنين إلا أن يكون فرجة أو تكون هناك توسعة محتاج إليها. وصورة السعة المحتاج إليها:أن يأتي والمسجد ممتلئ بأهله وليس له موضع يصلي فيه إلا في موضع مشقة كأن يكون في برد أو حر أو نحو ذلك فإنه يجوز له أن يتخطى الرقاب ليصلي إلى صف يزدحم أهله فيكون له فيه فرجة – هذا إذا احتاج إلى ذلك كأن يزدحم المسجد بأهله، أو يكون هناك مواضع لكنه يشق عليه أن يصلي فيها إما لحر شديد أو برد شديد أو نحو ذلك. قال: (وحرم أن يقيم غيره ويجلس مكانه) وذلك لما ثبت في الصحيحين في حديث ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا يقيم الرجل الرجل من مقعده ثم يجلس فيه ولكن تفسحوا وتوسعوا) ؛ وذلك لأنه بسبقه إليه كان أحق به، فلا يجوز أن ينزع هذا الحق منه وقد سبقه إليه غيره. واستثنى من ذلك فقال: (إلا من قدم من صاحباً له أو غلاماً له في موضع بحفظه له) فمثلاً: جلس الابن في موضع مسبق لأبيه، أو سبق أحد من الناس لأحد من أهل الفضل فإذا أتى قام له، قالوا: فيجوز ذلك لأنه قام باختياره، والنهي المتقدم إنما هو نهي أن يقيم غيره من موضع فيقوم من غير رضى. وهذا إنما ينبني على المشهور في المذهب من جواز وضع فراش ونحوه مما تحجز به المواضع، وسيأتي بيان أن هذا لا يجوز وحينئذ: تكون هذه المسألة كذلك، فلا يجوز له أن يقدم صاحباً له أو غير ذلك، فإن الجالس في الموضع إنما يجلس فيه ليستمع وليكون هذا المحل له، أما إذا ذهب بهذا الغرض فإنه – حينئذ – غير ما قاصد الجلوس بنفسه فلا يجوز له ذلك ويكون بالحجز بالفرش ونحوها. فعليه لا يجوز ذلك، لأن هذا حجز لهذا الموضع بغير حق.

قالوا: وكذلك يجوز لأحد من الناس أن يقوم أو يقام له من مجلس، قالوا: فلا بأس بذلك ويجوز له أن يجلس فيه. قالوا: لأنه قام باختياره، والنهي إنما هو أن يقام. قالوا: لكن يكره لأنه إيثار في القرب فهو في مكان فاضل فآثر به غيره، وهذا نوع زهد عن العمل الصالح فتكون مكروها. واحتمل الموفق: أنه لا كراهية في ذلك؛ لأنه من باب تقديم الفاضل، وتقديم الفاضل إلى القربة وإيثاره بالقربة لا بأس به لقوله - صلى الله عليه وسلم -: (ليليني منكم أولو الأحلام والنهى) . وما ذكره الموفق ظاهر: إن كان المقوم له من أهل الفضل. ويدل على ذلك: أن عائشة آثرت عمر بن الخطاب في موضعها من بيتها، وقد وضعت لها وموضعاً تقبر فيه، فاستأذنها عمر أن يقبر عند صاحبيه فأذنت له وآثرته في هذه القربة رضي الله عنهما، فهذا من باب الإيثار لمن كان أحق بالشيء وأولى به. قالوا: وأهل الفضل أولى بالدنو من الإمام والقرب منه فكان الإيثار لهم جائزاً. وأما إطلاق ذلك فلا، فإن فيه إيثاراً بالقربة. قال: (وحرم رفع مصلى مفروش ما لم تحضر الصلاة) فإذا حضرت الصلاة فيجوز أن يرفع هذا المصلى، هذا أحد الوجهين في مذهب الحنابلة، وأنه من وضع فراشاً أو نحوه فلا يجوز رفعه إلا أن تحضر الصلاة. قالوا: لأنه قد سبق بوضع هذا الفراش أو غيره إلى هذا الموضع، ولما يترتب على رفعه من الخصومة أو العداوة والبغضاء. والوجه الثاني: قالوا: بل له رفعه، وقالوا: لأن تركه ذريعة إلى تخطي الرقاب فيتأخر صاحب هذا الموضع الذي حجزه بهذا الشيء ويتعدى أو يتجاوز رقاب الناس.

قالوا: ولأن السبق إنما هو بالأبدان ولا بغيرها من الفراش ونحو ذلك فهذا الموضع موضع مباح من سبق إليه فهو أحق به، والسبق المشروع إنما يكون بالبدن، فإذا ذهب إلى المسجد وتكلف الذهاب في أول الوقت وفوت على نفسه شيئاً من مصالحه أو مراداته أو نحو ذلك وتقدم واشتغل بالعبادة، فكان هذا الموضع على هذه الصفة هو أحق به من غيره. أما إن لم يكن الأمر كذلك بل قدم إليه شيئاً أو حجزه فإنه ليس أحق به – وهذا القول هو الراجح -. وشدد شيخ الإسلام فأصاب بهذه المسألة وأنكرها وبيَّن أن ذلك منه اغتصاب لهذا الموضع وأن ذلك محرم؛ لأن هذا الموضع لمن سبق إليه وكونه يحوطه بشيء أو يحجزه هذا أمر محرم لأنه [لا] يملك هذا الموضع واغتصبه بغير حق والحق أن يسبق إليه ببدنه وإنما سبق إليه بغير بدنه، ومثل ذلك المسألة السابقة فيمن قدم أحداً من الناس لا يقصد هذا الموضع بل يقصد حجزه فالحكم كذلك. إذن لا يجوز حجز المواضع ومن وضع فراشاً فلغيره رفعه بل يجب كما قال شيخ الإسلام رفعه لأنه من باب إنكار المنكر إلا أن يترتب مفسدة أعظم من ذلك فإنه يترك. قال: (ومن قام من موضعه لعارض لحقه ثم عاد إليه قريباً فهو أحق به) كأن يقوم ليتوضأ أو يأتي بحاجة له قريبة، فإذا رجع فهو أحق بهذا الموضع فله أن يقيم غيره من الناس لأنه أحق به. ودليل ذلك: ما ثبت في مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من قام من مجلسه ثم رجع إليه فهو أحق به) وقال – كما في الترمذي وصححه وهو كما قال -: (الرجل أحق بمجلسه وإن خرج لحاجته ثم عاد فهو أحق بمجلسه) والمراد بالحاجة التي لا تعتبر قاطعة - في العرف – الجلوس، فهي حاجة قريبة كوضوء ونحوه. قال: (ومن دخل والإمام يخطب لا يجلس حتى يصلي ركعتين يوجز فيهما)

وهي تحية المسجد، لقوله صلى الله عليه وسلم – لما دخل رجل المسجد وهو يخطب الناس قال: (أصليت ركعتين؟ قال: لا، قال: قم فصل ركعتين) ، وثبت في مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا دخل أحدكم يوم الجمعة والإمام يخطب فلا يجلس حتى يركع ركعتين وليتجوز فيهما) أي ليخففهما. إذن: يشرع – والراجح كما تقدم: يجب - على الداخل إلى المسجد أن يصلي تحية المسجد وإن كان الإمام يخطب، وإن كان الإمام يخطب فليتجوز فيهما. قال: (ولا يجوز الكلام والإمام يخطب) لا يجوز لأحد من الناس أن يتكلم والإمام يخطب لقوله صلى الله عليه وسلم في الصحيحين: (إذ قلت لصاحبك: انصت يوم الجمعة والإمام يخطب فقد لغوت) ، وقال - كما في مسند أحمد بإسناد فيه مجالد بن سعيد وهو ضعيف -: (الذي يتكلم يوم الجمعة والإمام يخطب كمثل الحمار يحمل أسفاراً، ومن قال له أنصت فليست له جمعة) لكن الحديث ضعيف، لكنه ثابت بهذا اللفظ عن ابن عمر – كما روى ذلك حماد بن سلمة بإسناد قوي – كما قال ذلك الحافظ في الفتح. وأما كونه ليست له جمعة فقد دلت عليه الأحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم فقد قال صلى الله عليه وسلم – كما في المسند من حديث علي – وهو شاهد: (ومن لغا فليست له جمعة) ، وقال في حديث آخر – رواه أبو داود وابن خزيمة: (ومن لغا أو تخطى الرقاب كانت جمعته ظهراً) . إذن: يجب الإنصات للخطيب يوم الجمعة، والإنصات هو ترك الكلام والسكوت، بخلاف الاستماع فإنه هو الإصغاء إليه. فالإصغاء إليه مستحب مشروع، وأما الإنصات وهو ترك الكلام فهو فرض وواجب.

أما دليل فرضية الإنصات فقد تقدم. وأما دليل استحباب الاستماع فهو ما ثبت في سنن أبي داود أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (يحضر الجمعة ثلاثة نفر، رجل حضرها يلغو فهو حظه منها، ورجل حضرها يدعو فهو رجل دعا الله إن شاء أعطاه، وإن شاء منعه، ورجل حضرها بإنصات وسكوت ولم يتخط رقبة ولم يؤذ أحداً فهي له كفارة إلى الجمعة التي تليها وزيادة ثلاثة أيام، وذلك لأن الله يقول: {ومن جاء بالحسنة فله عشر أمثالها} ) . والشاهد قوله: (ورجل حضرها يدعو فهو رجل دعا الله إن شاء أعطاه وإن شاء منعه) فدل على أن من لم يستمع إلى الخطبة واشتغل بدعاء أو صلاة أو نحو ذلك ولم يؤذ أحداً برفع صوته فإن الجمعة تصح منه لكنه تارك للمستحب. وأما الكلام فهو مضاد للإنصات قال تعالى: {وإذا قرئ القرآن فاستمعوا له وأنصتوا} " استمعوا " أي أصغوا إليه بآذانكم " وأنصتوا " أي كونوا ساكتين غير متكلمين غير مشتغلين مما يمنع الاستماع. قال: (إلا له أو لمن يكلمه) أي يجوز للخطيب أن يخاطب الناس بما هو خارج عن خطبته لما تقدم من قول النبي صلى الله عليه وسلم لسليك الغطفاني، وقد دخل يوم الجمعة وهو يخطب قال: (أصليت ركعتين؟ قال: لا، قال: قم فصل ركعتين) فقد خاطب النبي صلى الله عليه وسلم غيره من المصلين. ومثل ذلك: الكلام مع الخطيب، فإنه لا يؤثر ولا ينافي الإنصات المتقدم، كما ثبت في الصحيحين عن أنس: (أن رجلاً دخل المسجد والنبي صلى الله عليه وسلم قائم يخطب فاستقبله وهو قائم قال: يا رسول الله هلكت الأموال وانقطعت السُبل فادع الله يغثنا فقال النبي صلى الله عليه وسلم وقد رفع يديه: (اللهم أغثنا ثلاثاً) وقد تقدم ما دار بين عثمان وعمر لما تأخر عن الجمعة، فكلام الخطيب والكلام معه لا يفسد الجمعة. قال: (ويجوز قبل الخطبة وبعدها) فقبل الخطبة يجوز الكلام، كأن يتكلم الناس وهو صاعد على المنبر لا بأس بذلك.

ودليل ذلك: ما تقدم من أثر أبي مالك القرظي وفيه: (وإذا تكلم تركنا الكلام) . وكذلك بعد الخطبة وهذا باتفاق أهل العلم، ولأن الأحاديث الواردة قد قيدها النبي صلى الله عليه وسلم بقوله " والإمام يخطب ". ومثل ذلك جلوسه بين الخطبتين فيجوز لأحد أن يكلم غيره أثناء ذلك، لأن النهي إنما ورد في حال كونه يخطب، وأما بين الخطبتين فلا بأس بذلك. وهنا مسائل لم يذكرها المؤلف: الأولى: النهي عن العبث، فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم – في مسلم: (من مس الحصى فقد لغا) ، وقد تقدم أن من لغا كانت جمعته ظهراً. الثانية: النهي عن الحبوة وهي أن يجلس على أليتيه ناصباً ساقيه وقد وضع على ذلك خيطاً أو يديه. وقد ورد ما يدل على كراهيتها وهو ما ثبت في الترمذي وحسنه وهو كما قال أن النبي صلى الله عليه وسلم: (نهى عن الحبوة يوم الجمعة والإمام يخطب) . فإذاً: قبل الخطبة وبعدها وبين الخطبتين لا بأس بالاحتباء أما أثناء الخطبة فإنه ينهى عن ذلك. وإلى ذلك ذهب ابن المنذر واختاره المجد ابن تيمية والموفق ابن قدامة. وأما المشهور عند الحنابلة وغيرهم فهو مذهب الجمهور: أنه لا بأس بالاحتباء، واستدلوا: بما رواه أبو داود عن يعلى بن شداد قال: (شهدت مع معاوية بيت المقدس فجمع بنا فإذا جُل من في المسجد أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فرأيتهم محتبين والإمام يخطب) لكن الحديث فيه سليمان بن الزبرقان (1) وهو ضعيف. قالوا: وثبت الأثر عن ابن عمر: (أنه كان يحتبي والإمام يخطب) والسند إليه صحيح، لكن هذا الأثر مخالف بالسنة الصحيحة المتقدمة في كراهية الاحتباء. فإذن الاحتباء يوم الجمعة والإمام يخطب مكروهة.

_ (1) هو سليمان بن عبد الله بن الزبْرقان، ويقال ابن عبد الرحمن بن فيروز، لين الحديث من السابعة / ق. ا. هـ من التقريب.

الثالثة – وهي داخلة في الكلام –: هل يجوز له أن ينبه من يخشى عليه هلكة كضرير متعرض لحريق أو نحو ذلك – والإمام يخطب؟ الجواب: يجب عليه ذلك لوجوبه في الصلاة مع أنه مفسد لها، فهو مفسد للصلاة غير مفسد للجمعة، فإذا وجب مع كونه مفسداً للصلاة فيجب من باب أولى مع كونه غير مفسد للجمعة. الرابعة: وهل يجب تشميت العاطس ورد السلام؟ روايتان عن الإمام أحمد: الرواية الأولى: أنه يجوز قياساً على المسألة السابقة. قالوا: فكما أنه يجب عليه أن يتكلم بالكلام الواجب من إنقاذ ضرير ونحوه فكذلك يجب عليه تشميت العاطس ورد السلام؛ لأن تشميت العاطس واجب وكذلك رد السلام. الرواية الثانية وهي مذهب جمهور أهل العلم: أنه ينهى عن ذلك. قالوا: وعندنا قياس أصح من قياسكم، وهو أنه يقاس على النهي عن إنكار المنكر المتصل بالخطبة الذي يفوت إنكاره بتركه، وهو ما إذا تكلم أحد من الناس أثناء الخطبة فإنه ينهى عن أن يقول له أنصت، وهذا من باب إنكار المنكر وهو واجب فكذلك تشميت العاطس ورد السلام. وأما ما ذكرتموه من القياس على المسألة السابقة فبينهما ما هو من الفرق ظاهر فإن هذا واجب هو من الكماليات وإن كان واجباً في الشريعة. أما ذاك فإنه به تحفظ النفوس فلو ضاعت الخطبة على أن ينقذ مسلم لكان ذلك واجباً. أما تشميت العاطس ورد السلام فإنه من المعلوم أنه يترك، فالرجل وهو يبول لا يجب عليه تشميت العاطس ولا يرد السلام كما تقدم في حديث أبي داود: (إني كرهت أن أذكر الله على غير طهر) . الراجح: أنه لا يشرع له أن يشمت عاطساً ولا أن يرد سلاماً. وهل يشرع أن يصلي على النبي صلى الله عليه وسلم مع الإمام؟ الجواب: نعم وهو نص الإمام أحمد.

وفرق بينه وبين المسألة السابقة، فإنه إن صلى على النبي صلى الله عليه وسلم فهو خطاب للرب، وأما تشميت العاطس ورد السلام فهو خطاب للآدمي، ولأن الصلاة على النبي - صلى الله عليه وسلم - مع الخطيب لا تؤثر لا في الإنصات الواجب ولا في الاستماع المستحب، وقد تقدم حديث: (ورجل حضرها يدعو فهو رجل دعا الله إن شاء أعطاه وإن شاء منعه) فكذلك الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم بل هي أولى من ذلك لأنها لا تقتضي انشغالاً عن سماع الخطبة أو الإنصات إليها. ومثل ذلك: التأمين على دعوة الإمام فهو كلام لله عز وجل، ولا يشغله عن الإنصات ولا عن الاستماع المستحب فكان لا بأس به. الخامسة: أن من تكلم يوم الجمعة، فلا بأس أن يشار إليه باليد ونحوها ليسكت. وذلك لما ثبت في حديث معاوية بن الحكم في إشارة الصحابة له عندما تكلم، وإذا ثبت هذا في الصلاة فأولى منه أن يثبت في الخطبة، ولأنه لا يؤثر فيها، ولا في ترك الإنصات الواجب ولا في ترك الاستماع المستحب. وبهذا ننتهي من الكلام على أحكام الجمعة. والحمد لله رب العالمين. انتهى باب صلاة الجمعة. باب صلاة العيدين العيدان: مثنى عيد، من العود وهو التكرار، فكونه يعود ويتكرر في أوقاته السنوية المعلومة سمى عيداً لذلك. وعيدا المسلمين: عيد الفطر وعيد الأضحى. قال المؤلف رحمه الله: (وهي فرض كفاية) وهي: أي صلاة العيدين صلاة عيد الأضحى وصلاة عيد الفطر فرض كفاية، فإذا قام بها بعض المسلمين ممن يظهر بهم هذه الشعيرة فإنه يسقط الإثم عن الباقين مع أنها مستحبة لكل مكلف ومباحة للنساء. هذا هو المشهور في مذهب الحنابلة.

وذهب الشافعية والمالكية: إلى أنها سنة مؤكدة، ودليلهم على سنيتها هو مواظبة النبي صلى الله عليه وسلم عليها، ومواظبة الصحابة من الخلفاء الراشدين وغيرهم عليها، فلذلك هي مشروعة مؤكدة، ولم يثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه تركها منذ شرعت فكانت مؤكدة بذلك. وأما الحنابلة فدليلهم على فرضيتها فرض كفاية، لأنها شعيرة من شعائر الإسلام الظاهرة والقاعدة في الشعيرة الظاهرة كالأذان وغيره أنها واجبة كالجمعة، فهذه أشياء ظاهرة واجبة على المكلفين لكنها ليست واجبة على الأعيان بل على الكفاية عندهم لأن دليلهم فحسب هو أنها شعيرة ظاهرة والشعائر الظاهرة متى قام بها من يكفي في إظهارها وإبرازها، فإن الحكم يسقط عن الباقين فيبقى في حقهم على الاستحباب. وذهب الأحناف وهو رواية عن الإمام أحمد واختيار شيخ الإسلام: إلى أنها فرض على كل مكلف من الذكور البالغين دون الإناث. واستدلوا على فرضيتها بما ثبت في الصحيحين أن أم عطية حدثت عن النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: (أمرنا أن نخرج العواتق والحيض وذوات الخدور في العيدين ليشهدن الخير ودعوة المسلمين. قالت: قلت يا رسول الله: إن إحدانا لا يكون لها جلباباً؟ فقال: لتلبسها أختها من جلبابها) وهذا الدليل – في الحقيقة – لو استدل به الأحناف، فإنه إنما يصح دليلاً على الذكور والإناث جميعاً. ولعل دليلهم قوله تعالى: {فصل لربك وانحر} فإن هذه الآية قد فسرت عند طائفة من المفسرين بأن المراد بها صلاة العيد وهذا في صلاة عيد الأضحى، ومثله الفطر. لكن الصحيح أن هذه الآية: آية فيها أمر من الله بالصلاة أي بإقامتها، وبالنحر أي بأن يكون الذبح لله سواء بالأضاحي أو غيرها، بدليل أن هذه الآية مكية، وأن صلاة العيد لم تشرع إلا في المدينة.

لكن ما ذكره الأحناف من الدليل المتقدم يصح أن يستدل به على ما ذهب إليه طائفة من العلماء: من أن صلاة العيد فرض على كل مكلف ذكراً كان أو أنثى، فالنبي صلى الله عليه وسلم قد أمر العواتق والحيض وذوات الخدور – في العيدين – أن يشهد الخير ودعوة المسلمين، وبالغ في ذلك حتى أمر من ليس لها جلباب أن تلبسها أختها من جلبابها، وظاهر أمره الإيجاب. ويؤيده ما ثبت في مسند أحمد بإسناد لا بأس به أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (واجب على كل ذات نطاق الخروج إلى العيدين) . ويشهد لهذا الحديث أثر موقوف ثابت عن أبي بكر الصديق، فقد ثبت في مصنف ابن أبي شيبة بإسناد صحيح أنه قال: (حق على كل ذات نطاق الخروج إلى العيدين) . وإلى ذلك ذهب طائفة من العلماء، وهو مذهب ابن حزم والصنعاني والشوكاني، واحتمل هذا القول شيخ الإسلام فقال: " وقد يقال بوجوبها على النساء وغيرهم " (1) ، وهذه الأدلة ظاهرة فيما ذكره شيخ الإسلام من هذا القول المحتمل. فالراجح ما ذهب إليه طائفة من السلف وذهب إليه من تقدم ذكرهم واحتمله شيخ الإسلام فهو أظهرها، لأمر النبي صلى الله عليه وسلم النساء بذلك، وإذا ثبت هذا في حكم النساء فهو في حكم الرجال أولى. قال: (إذا تركها أهل بلدٍ قاتلهم الإمام) إذا ترك أهل بلد صلاة العيد فلم يقيموها في بلدتهم وهجروا هذه الشعيرة فإنهم يقاتلون، لدخولهم في القاعدة المتقدم ذكرها من أن القرية أو المدينة التي تخالف شعيرة من شعائر الإسلام الظاهرة، فإنها تقاتل، كمن ترك الأذان ونحوه، وقد تقدم الكلام على هذا في باب الأذان. فإذن يقاتلهم الإمام لاجتماعهم على ترك هذه الشعيرة، والجهاد قد أقيم لإقامة الدين أو بعضه، فكما يقاتل من ترك الدين فكذلك يقاتل من أصر على ترك شيء من شعائره الظاهرة.

_ (1) قال في مجموع الفتاوى [24 / 183] : " والقول بوجوبه على الأعيان أقوى من القول بأنه فرض على الكفاية ".

قال: (ووقتها كصلاة الضحى وآخره الزوال) باتفاق أهل العلم، وأن وقتها كوقت صلاة الضحى ويكون ذلك من طلوع الشمس بارتفاعها قيد رمح إلى زوال الشمس – هذا وقت صلاة العيد -. ودليل هذا: ما ثبت في سنن أبي داود بإسناد صحيح أن عبد الله بن بُسْر – صاحب النبي صلى الله عليه وسلم – خرج مع الناس في يوم فطر أو أضحى [فأنكر] إبطاء الإمام فقال: (إن كنا- يعني مع النبي صلى الله عليه وسلم – قد فرغنا ساعتنا هذه وذلك حين التسبيح) (1) ، وعند الطبراني وصححه ابن حجر: (وذلك حين تسبيح الضحى) أي حين صلاة الضحى. ومما يدل على أنها ينتهي وقتها بزوال الشمس ما ثبت في سنن أبي داود بإسناد صحيح عن أبي عمير بن أنس بن مالك عن عمومة له من الأنصار قال: (جاء ركب إلى النبي صلى الله عليه وسلم فشهدوا أنهم رأوا الهلال بالأمس – أي هلال شوال – فأمرهم النبي صلى الله عليه وسلم أن يفطروا وإذا أصبحوا أن يغدوا إلى مصلاهم) (2) عند الطحاوي: (وذلك بعد زوال الشمس) أي كان إتيانهم وقد زالت الشمس، فلم يصل النبي صلى الله عليه وسلم صلاة العيد بل أخرها إلى الغد. إذن وقتها بالاتفاق من طلوع الشمس وارتفاعها قيد رمح حتى زوال الشمس. قال: (فإن لم يعلم بالعيد إلا بعده صلوا من الغد) بعده: أي بعد الزوال، ودليله الحديث المتقدم وفيه: (وإذا أصبحوا أن يغدو إلى مصلاهم) .

_ (1) سنن أبي داود [1 / 675] . (2) أخرجه أبو داود في كتاب الصلاة، باب إذا لم يخرج الإمام للعيد.. (255) قال: " حدثنا حفص بن عمر، حدثنا شعبة، عن جعفر بن أبي وحشية عن أبي عُمير بن أنس عن عمومة له من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أن ركباً جاؤوا إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - يشهدون أنهم رأوا الهلال بالأمس، فأمرهم أن يفطروا وإذا أصبحوا أن يغدوا إلى مصلاهم ".

ومثل ذلك لو علموا قبيل الزوال بحيث لا يمكنهم الاجتماع وعلموا أنهم لو اجتمعوا فإن الصلاة لا يمكن أداؤها إلا وقد زالت الشمس – فإنهم يؤمرون بالخروج من الغد. قال: (وتسن في صحراء) أي يستحب أن تصلي صلاة العيد في الصحراء، فلا يصلي في المساجد لا الجامعة ولا غيرها. ودليله: ما ثبت في الصحيحين عن أبي سعيد الخدري قال: (كان النبي صلى الله عليه وسلم يخرج يوم الفطر والأضحى إلى المصلى) (1) واستثنى الحنابلة من ذلك: مكة، فقالوا يستحب لهم أن يصلوا في المسجد المكي. قال الشافعي: بلغنا أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يخرج يوم العيد إلى المصلى بالمدينة وكذلك من بعده وهكذا في سائر البلدان إلا مكة فلم يبلغنا أن أحداً من السلف ممن صلى بهم خرج بهم إلى المصلى. قيل: لعظمة المكان. وفي هذا نظر، والله أعلم.

_ (1) أخرجه البخاري في كتاب العيدين باب الخروج إلى المصلى بغير منبر (956) : " حدثنا سعيد بن أبي مريم قال حدثنا محمد بن جعفر قال أخبرني زيد بن أسلم عن عياض بن عبد الله بن أبي سرْح عن أبي سعيد الخدري قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يخرج يوم الفطر والأضحى إلى المصلى فأول شيء يبدأ به الصلاة ثم ينصرف فيقوم مقابل الناس، والناس جلوس على صفوفهم فيعظهم ويوصيهم ويأمرهم، فإن كان يريد أن يقطع بعثاً قطعه أو يأمر بشيء أمر به ثم ينصرف، قال أبو سعيد: فلم يزل الناس على ذلك حتى خرجت مع مروان ... ". وأخرجه مسلم (889) في كتاب صلاة العيدين وفيه: " عن أبي سعيد الخدري أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يخرج يوم الأضحى ويوم الفطر فيبدأ بالصلاة.. " وليس فيه ذكر المصلى إلا في آخر الحديث في قصته رضي الله عنه مع مروان. صحيح مسلم بشرح النووي [2 (6 / 177) ] .

والذي يظهر لي: أن ذلك لضيق أطرافها، وضيق ممراتها بالجبال بحيث أنه يشق عليهم الخروج إلى مكان يسعهم كما يكون هذا في المدينة ونحوها، وذلك لفضيلة مسجد النبي صلى الله عليه وسلم، ومع ذلك فقد خرج عنه وصلى في الصحراء، ولأن المقصد هو إظهار هذه الشعيرة للناس فكان المستحب أن يكون في الصحراء سواء في مكة وفي غيرها، وإنما استثنيت مكة لضيق أطرافها فإن ممراتها ضيقة بالجبال فلما كان كذلك كان المستحب – حينئذ – أن يصلي في المسجد، والله اعلم. قال: (وتقديم صلاة الأضحى وعكسه الفطر) المستحب في صلاة الأضحى أن يبكر بها، فإذا طلعت الشمس وارتفعت قيد رمح صليت الأضحى. وأما الفطر فبالعكس تؤخر شيئاً ما. واستدلوا بتعليل، فقالوا: صلاة عيد الأضحى يعجل بها ويبكر ليتسع الوقت للأضاحي. وبالعكس في صلاة عيد الفطر فأخرت ليتسع الوقت للناس لأداء صدقة الفطر، فإن المستحب في صدقة الفطر أن تخرج قبل صلاة العيد. وهذه المسألة ورد فيها حديث رواه الشافعي ورواه عنه البيهقي وفيه إبراهيم بن يحيى وهو متروك، وفيه أن النبي صلى الله عليه وسلم: (كتب إلى عمرو بن حزم أن عجل صلاة الأضحى وأخر صلاة الفطر) لكن الحديث في إسناده متروك، ومع ذلك فإن المسألة لا خلاف بين أهل العلم فيها. قال الموفق: " ولا أعلم فيها خلافاً " (1) . وفي التعليل بأن الأضحى تقدم لأجل الأضاحي، نظر. ولو قيل إنما يستحب تعجيلها لاستحباب تعجيل الصلاة والمبادرة بها، فيكون هذا التعليل لصلاة الأضحى. وأما صلاة الفطر فهو ما ذكروه سابقاً. إذن: ما ذكره أهل العلم ظاهر، أما صلاة الأضحى فتعجل في أول وقتها لاستحباب الصلاة في أول وقتها فإن أحب الأعمال إلى الله الصلاة في أول وقتها كما تقدم في الكلام في المواقيت، وإنما تؤخر صلاة الفطر ليتسع ذلك للمسلمين فيؤدوا صدقة فطرهم.

_ (1) قال الموفق في المغنى [3 / 267] : " ولا أعلم فيه خلافاً ".

قال: (وأكله قبلها) يستحب له أن يأكل قبلها أي قبل صلاة عيد الفطر، وقد ثبت ذلك في البخاري: أن النبي صلى الله عليه وسلم: (كان إذا أراد أن يغدو إلى صلاة الفطر يأكل تمراً) (1) وعن رواية معلقة للبخاري: (يأكلهن وتراً) ووصلها الإمام أحمد بإسناد صحيح. فإن أكل طعاماً آخر فإن ذلك يجزئ عنه لإدراك هذه السنة، لكن المستحب له أن يأكل تمراً. وقد ثبت في الترمذي والحديث حسن وصححه ابن حبان عن بريد بن الحصيب قال: (كان النبي صلى الله عليه وسلم لا يخرج يوم الفطر حتى يطعم ولا يطعم يوم الأضحى حتى يصلي) (2) فيستحب للمسلم قبل أن يغدو إلى صلاة عيد الفطر أن يأكل شيئاً والمستحب أن يكون تمراً، والمستحب أن يكون وتراً. وأما في يوم الأضحى فيستحب له أن يطعم بعد الصلاة؛ ليكون ذلك من أضحيته لذا قال: قال: (وعكسه في الأضحى إن ضحى)

_ (1) أخرجه البخاري في باب الأكل يوم الفطر قبل الخروج من كتاب العيدين (953) : " حدثنا محمد بن عبد الرحيم حدثنا سعيد بن سليمان قال: حدثنا هُشيم قال: أخبرنا عُبيد الله بن أبي بكر بن أنس عن أنس قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لا يغدو يوم الفطر حتى يأكل تمرات " وقال مُرَجّا بن رجاء: حدثني عبيد الله قال حدثني أنس عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: ويأكلهن وتراً ". (2) أخرجه الترمذي في كتاب الجمعة، باب ما جاء في الأكل يوم الفطر قبل الخروج قال: " حدثنا الحسن بن الصَّبّاح البزار البغدادي حدثنا عبد الصمد بن عبد الوارث عن ثواب بن عُتبة عن عبد الله بن بريدة عن أبيه قال: كان النبي - صلى الله عليه وسلم - لا يخرج يوم الفطر حتى يطعم ولا يطعم يوم الأضحى حتى يصلي " قال: وفي الباب عن علي وأنس. قال أبو عيسى: حديث بريدة بن حصيب الأسلمي حديث غريب. وقال محمد: لا أعرف لثواب بن عتبة غير هذا الحديث ".

وهذا قيد، فإن لم يضحِّ فإنه لا يترتب عليه شيء من السنة سواء أكل قبل الصلاة أو بعدها، فإنما استحب له ذلك ليكون طعامه من أضحيته. قال: (وتكره في الجامع بلا عذر) أي يكره للناس أن يصلوا في المساجد بلا عذر، فإن كان عذر من مطر أو برد شديد لا يتحملون أو يشق عليهم فإنهم يصلون في المساجد، لقوله تعالى: {ما جعل عليكم في الدين من حرج} . وروى أبو داود بإسناد ضعيف عن أبي هريرة: (أنهم أصابهم يوم عيد مطر فصلى بهم النبي صلى الله عليه وسلم في المسجد) (1) لكن الحديث وإن كان ضعيفاً فإن الآية مقررة لذلك.

_ (1) أخرجه أبو داود في باب يصلي بالناس العيد في المسجد إذا كان يوم مطر (1160) : حدثنا هشام بن عمار حدثنا الوليد ح وحدثنا الربيع بن سليمان حدثنا عبد الله بن يوسف حدثنا الوليد بن مسلم حدثنا رجل من الفرويين وسماه الربيع في حديثه عيسى بن عبد الأعلى بن أبي فروة سمع أبا يحيى عبيد الله التيمي يحدث عن أبي هريرة أنه أصابهم مطر في يوم عيد، فصلى بهم النبي - صلى الله عليه وسلم - صلاة العيد في المسجد "، وأخرجه ابن ماجه، سنن أبي داود [1 / 686] .

فإن لم يكن هناك عذر فالصلاة في المساجد مكروهة بل هي من البدع؛ فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يظهر هذه الشعيرة في المصليات، واتخاذ المساجد لها خلاف السنة وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (عليكم بسنتي ... . وإياكم ومحدثات الأمور) (1)

_ (1) أخرجه أبو داود في كتاب السنة، باب في لزوم السنة (4607) قال رحمه الله تعالى: " حدثنا أحمد بن حنبل حدثنا الوليد بن مسلم، حدثنا ثور بن يزيد، قال: حدثني خالد بن معدان، قال: حدثني عبد الرحمن بن عمرو السلمي وحجر بن حجر، قالا: أتينا العرباض بن سارية وهو ممن نزل فيه {ولا على الذين إذا ما أتوك لتحملهم قلت لا أجد ما أحملكم عليه} فسلمنا، وقلنا: أتيناك زائرين وعائدين ومقتبسين، فقال العرباض: صلى بنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ذات يوم ثم أقبل علينا، فوعظنا موعظة بليغة ذرفت منها العيون ووجلت منها القلوب، فقال قائل: يا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كأن هذه موعظة مودع، فماذا تعهد إلينا؟ قال: (أوصيكم بتقوى الله والسمع والطاعة وإن عبداً حبشياً، فإنه من يعش منكم بعدي فسيرى اختلافاً كثيراً، فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء المهديين الراشدين تمسكوا بها وعضوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات والأمور، فإن كل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة) ". وأخرجه الترمذي في كتاب العلم (2676) قال رحمه الله: " حدثنا علي بن حُجر حدثنا بقية بن الوليد عن بَحِير بن سعد عن خالد بن معدان عن عبد الرحمن بن عمرو السلمي، عن العرباض بن سارية قال: وعظنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوماً بعد صلاة الغداة موعظة بليغة ذرفت منها العيون ووجلت منها القلوب، فقال رجل: إن هذه موعظة مودع، فماذا تعهد إلينا يا رسول الله؟ قال: (أوصيكم بتقوى الله والسمع والطاعة وإن عبدٌ حبشي، فإنه من يعش منكم يرى اختلافاً كثيراً، وإياكم ومحدثات الأمور، فإنها ضلالة، فمن أدرك ذلك منكم، فعليه بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين، عضوا عليها بالنواجذ. قال أبو عيسى: هذا حديث حسن صحيح. وقد روى ثور بن يزيد عن خالد بن معدان عن عبد الرحمن بن عمرو السلمي عن العرباض بن سارية عن النبي - صلى الله عليه وسلم - نحو هذا. حدثنا بذلك الحسن بن علي الخلاّل وغير واحد قالوا: حدثنا أبو عاصم عن ثور بن يزيد عن خالد بن معدان عن عبد الرحمن بن عمرو السلمي عن العرباض بن سارية عن النبي - صلى الله عليه وسلم - نحوه. والعرباض بن سارية يكنى أبا نجيح. وقد روى هذا الحديث عن حُجر بن حُجْر عن عرباض بن سارية عن النبي - صلى الله عليه وسلم - نحوه. ".

فهذه محدثة في الدين وكل محدثة بدعة. وصلاة العيد كصلاة الجمعة لا تشرع إلا في موضع واحد فيجتمع الناس عامة في موضع واحد. لكن إن كان في ذلك مشقة عليهم فإن لهم أن يزيدوا من المصليات ما يدفع عنهم الحاجة بقدرها كما تقدم في صلاة الجمعة. والحمد لله رب العالمين. قال المؤلف رحمه الله تعالى: (ويسن تبكير مأموم إليها ماشياً) أي يسن أن يبكر المأموم لصلاة العيد وذلك لفضيلة الدنو من الإمام. (ماشياً) : لما روى الترمذي بإسناد ضعيف لكن له شواهد يرتقى بها إلى درجة الحسن، ولذا حسنه الترمذي عن علي قال: (من السنة أن يخرج إلى العيدين ماشياً) (1) فالمستحب أن يغدو إليها ماشياً سواء كان إماماً أو مأموماً. قال: (بعد الصبح) أي بعد صلاتها، وهنا قيده الحنابلة بأن يكون ذلك بعد الصلاة، وإن كان ظاهر لفظه هنا (بعد الصبح) أي بعد أذانه، ولكنه مقيد عندهم بأن يكون ذلك بعد صلاة الصبح لا قبلها، فلا يستحب أن يذهب قبل صلاة الصبح بل بعدها. وقد ثبت في الدارقطني بإسناد جيد: (أن ابن عمر كان يخرج إلى العيدين من المسجد - أي إذا صلى الصبح - فيكبر حتى يأتي المصلى ثم يكبر حتى يأتي الإمام) وسيأتي الكلام على التكبير إن شاء الله تعالى. وظاهر قول المؤلف أن المستحب له أن يغدو قبل طلوع الشمس، ولم أر دليلاً يدل على ذلك، وحكى الموفق عن ابن عمر أنه كان يخرج إليها إذا طلعت الشمس، فإن كان ثابتاً عنه فهذا هو المستحب.

_ (1) أخرجه الترمذي في باب ما جاء في المشي يوم العيد من كتاب الجمعة (530) ، قال: " حدثنا إسماعيل بن موسى الفزاري حدثنا شريك عن أبي إسحاق عن الحارث عن علي بن أبي طالب قال: " من السنة أن تخرج إلى العيد ماشياً وأن تأكل شيئاً قبل أن تخرج ". قال أبو عيسى: هذا حديث حسن. والعمل على هذا الحديث عند أكثر أهل العلم.. ".

فإذن: يستحب للمسلم أن يغدو إليها بحيث يدرك خطبتها وصلاتها، وأما أن يستحب له ذلك بعد صلاة الصبح فإنه يحتاج إلى دليل. وأما ما ثبت عن ابن عمر فليس فيه أنه بعد الصلاة مباشرة بل كان يغدو إليها من المسجد ويحتمل أن يكون هذا بعد ذكره وطلوع الشمس فيكون خروجه من المسجد إلى المصلى. قال: (وتأخر إمام إلى وقت الصلاة) فالإمام لا يستحب له أن يبكر كما يبكر المأمومون، بل المستحب له أن يتأخر فيكون ذهابه إلى المصلى بحيث يكون الوقت المستحب لإقامته للصلاة. ودليل ذلك: ما ثبت في الصحيحين عن أبي سعيد الخدري قال: (كان النبي صلى الله عليه وسلم يخرج يوم الفطر والأضحى إلى المصلى فأول ما يبدأ به الصلاة) (1) أي يذهب فيقيمها. قال: (على أحسن هيئة) . فيسن أن يكون الخروج على أحسن هيئة، وقد ثبت في الصحيحين من حديث ابن عمر المتقدم في رواية عنه: أن عمر قال للنبي صلى الله عليه وسلم: (ابتع هذه فالبسها للعيد والوفد) (2) ؛ ولأن الجمعة عيد وهذا عيد فكان المستحب لهما جميعاً التزين باللباس والطيب. وثبت عن ابن عمر من فعله بإسناد جيد عند البيهقي: (أنه كان يلبس في العيد أحسن ثيابه) قال الإمام مالك: " سمعت أهل العلم يستحبون الزينة والطيب في كل عيد " أي في عيد الفطر وعيد الأضحى وفي الجمعة. قال: (إلا المعتكف ففي ثياب اعتكافه)

_ (1) راجع صْ 51 الحاشية (19) (2) أخرجه البخاري في أول كتاب العيدين (948) : " حدثنا أبو اليمان قال أخبرنا شُعيب عن الزهري قال: أخبرني سالم بن عبد الله أن عبد الله بن عمر قال: أخذ عمر جبة من إستبرق تُباع في السوق، فأخذها فأتى بها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: يا رسول الله، ابتع هذه تجمّل بها للعيد والوفود، فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (إنما هذه لباس من لا خلاق له) ... ". وأخرجه مسلم (2068) .

لأن هذه الثياب فيها أثر العبادة والنسك فاستحب له أن يغدو إلى المسجد بها. واستثنى بعض الحنابلة الإمام الأعظم، ومثله إمام الصلاة؛ لأنه منظور إليه، فاستُحب ألا يغدو بثياب اعتكافه بل يلبس أحسن ثيابه ويتطيب. - وقال بعض الحنابلة: بل المعتكف كغيره في اللباس من الزينة والطيب، وهو قول القاضي من الحنابلة – وهو القول الراجح – فإنه لا دليل يدل على استحباب ذلك. والأصل هو استحباب التزين والتطيب في العيد وهذا عام للمعتكف وغيره. قال: (ومن شرطها: استيطان وعدد الجمعة لا إذن إمام) أي من شرط العيد: " استيطان " كما تقدم توضيحه في الكلام على صلاة الجمعة. " وعدد الجمعة " ذلك لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يصح عنه أنه كان يقيم العيد في السفر بل كان لا يقيمها في السفر ولا خلفاؤه من بعده، فدل ذلك على أن العيد يشترط فيها الاستيطان وعدد الجمعة كما يشترط ذلك في الجمعة. ولأن الجمعة عيد فاشترط في العيد ما اشترط في الجمعة، وقد تقدم أن العيد يجزئ عن الجمعة فكان القياس ظاهراً حينئذ، فإن الجمعة عيد وتجزئ عن العيد وكذلك العيد يجزئ عنها، فكان القياس بينهما ظاهر وواضح، ولأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يصل العيد في سفره ولا خلفاؤه الراشدون من بعده. وقد تقدم البحث في مسألة العدد في باب الجمعة فكذلك العيد. " لا إذن إمام " فلا يشترط أن يأذن الإمام، قياساً على الجمعة فهذه فريضة الله على عباده – وقد تقدم أنها عند الحنابلة فرض كفاية وأن الراجح أنها فرض عين. فهي فرض من فرائض الله فلم يكن للإمام أن يتطرق بعدم الإذن فكان حكم الله فوق حكمه، فلا يرجع إلى إذن الإمام أو عدمه. قال: (ويسن أن يرجع من طريق آخر)

يستحب له أن يكون ذهابه من طريق وإيابه من طريق آخر، وذلك لما ثبت في البخاري عن جابر قال: (كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا كان يوم العيد خالف الطريق) (1) . وقد ذكر أهل العلم لذلك عللاً كثيرة منها إظهار شعيرة الله بالذهاب والإياب لأداء هذه الفريضة. ومنها إغاظة المنافقين. ومنها السلام على أهل الطريقين، وغير ذلك. ولا مانع من صحة بعض ما ذكروه من العلل كما أنه لا مانع أن تكون هناك عللاً أخرى، وكما أنه لا مانع أن تكون هذه العلل بمجموعها علة لهذه السنة، فإن السنة النبوية مشتملة على الحكم الكثيرة. قال: (ويصليها ركعتين قبل الخطبة) فصلاة العيد قبل الخطبة، فيبدأ بالصلاة ثم يخطب الناس. فإن من أهم (2) بالخطبة قبل الصلاة لم يعتد بالخطبة وإن كانت الصلاة صحيحة بالاتفاق؛ لأن الخطبة سنة كما سيأتي تقريره فليست شرطاً في صلاة العيد بخلاف الخطبة يوم الجمعة فهي شرط فيها، لكن هذه الخطبة مردودة لأنها لم تقع حيث وضعها الله عز وجل. ودليل ذلك: ما ثبت في الصحيحين: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يفعل ذلك، ففي الصحيحين عن ابن عمر قال: (صليت مع النبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر فكانوا يصلون قبل الخطبة) (3)

_ (1) أخرجه البخاري بهذا اللفظ في باب من خالف الطريق إذا رجع يوم العيد من كتاب العيدين (986) . (2) لعلها: ابتدأ (3) أخرجه البخاري في باب الخطبة بعد العيد من كتاب العيدين (963) : " حدثنا يعقوب بن إبراهيم قال: حدثنا أبو أسامة قال: حدثنا عبيد الله عن نافع عن ابن عمر قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأبو بكر وعمر رضي الله عنهما يصلون العيدين قبل الخطبة " وأخرجه أيضاً في باب المشي والركوب إلى العيد.. (957) ، وأخرجه مسلم (888) . وأخرجه البخاري (962) قال: " حدثنا أبو عاصم قال: أخبرنا ابن جريج قال: أخبرني الحسن بن مسلم عن طاوس عن ابن عباس قال: " شهدت العيد مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأبي بكر وعمر وعثمان رضي الله عنهم فكلهم كانوا يصلون قبل الخطبة ". وأخرجه مسلم (884) .

قال: (يكبر في الأولى بعد الإحرام والاستفتاح وقبل التعوذ والقراءة ستاً وفي الثانية قبل القراءة خمساً) يستحب له أن يكبر سبعاً في الركعة الأولى، وخمساً مع الركعة الثانية. والسبع الأولى مع تكبيرة الإحرام، والخمس الأخرى دون تكبيرة الانتقال. ودليل ذلك: ما ثبت في أبي داود، وصححه أحمد والبخاري وابن المديني من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (التكبير يوم الفطر سبع في الأولى، وفي الآخرة خمس) (1) . وثبت بيانه في أثر ثابت عن ابن عباس عند ابن أبي شيبة بإسناد صحيح أنه: (كان يكبر في العيدين سبعاً في الأولى فيهن تكبيرة الافتتاح ويكبر في الآخرة ستاً مع تكبيرة الانتقال) . وفي قوله: " قبل التعوذ والقراءة "؛ فللرواية المتقدمة وفي آخرها (ويقرأ بعدهما كلتيهما) (2) أي بعد هذا التكبير في الركعة الأولى وفي الركعة الثانية تكون القراءة. قال: (يرفع يديه مع كل تكبيرة) واستدلوا: بعموم الأدلة، فقد ثبت في أبي داود بإسناد صحيح عن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم، الحديث وفيه: (وكان يرفعهما عند كل ركعة وتكبيرة قبل الركوع حتى تنقضي صلاته) ، فهذا الحديث عام في كل تكبيرة قبل الركوع وأنه يستحب له أن يرفع يديه فيها.

_ (1) أخرجه أبو داود في باب التكبير في العيدين (1151) قال: " حدثنا مسدد حدثنا المعتمر قال: سمعت عبد الله بن عبد الرحمن الطائفي يحدث عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن عبد الله بن عمرو بن العاص قال: قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: (التكبير في الفطر سبع في الأولى، وخمس في الآخرة والقراءة بعدهما كلتيهما) . وأخرجه عن عائشة (1149) : أن سول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يكبر في الفطر والأضحى في الأولى سبع تكبيرات وفي الثانية خمساً ". (2) بلفظ: " والقراءة بعدهما كلتيهما " كما تقدم في الحاشية (31) .

وثبت نحوه في أبي داود من حديث وائل بن حجر بإسناد حسن أن النبي صلى الله عليه وسلم: (كان يرفع يديه مع التكبير) (1) وهذا عام، لذا قال الإمام أحمد – عند هذا الأثر – قال: (أرى أنه يدخل فيه هذا كله) أي يدخل فيه تكبيرات العيد وتكبيرة صلاة الجنازة لعموم هذا الأثر. ورووا عن ابن عمر رضي الله عنه أنه كان يرفع يديه في تكبيرات العيد والجنائز، رواه الأثرم كما في كتاب المغنى وغيره ولم أقف على سنده. وقال الموفق: " ولا يعلم له - أي لابن عمر - مخالف من الصحابة "، وهو مذهب الجمهور. وخالف في ذلك بعض أهل العلم وهو رواية عن الإمام مالك، فرأوا أن ذلك لا يشرع لعدم ثبوته نصاً عن النبي صلى الله عليه وسلم. والراجح ما تقدم؛ لعمومات الأدلة. قال: (ويقول: الله أكبر كبيراً والحمد لله كثيراً وسبحان الله بكرة وأصيلاً وصلى الله على محمد النبي وآله وسلم تسليماً كثيراً) . أي يقول ذلك بين التكبيرات في الصلاة، فإذا كبر تكبيرة الإحرام واستفتح قال: " الله أكبر " ثم قال هذا الذكر ثم كبر وهكذا … حتى ينتهي من التكبير، ومثله الركعة الثانية. قال: (وأن أحب قال غير ذلك) لعدم التنصيص عليه، فإنما ذكره لأنه يحصل به ما روي عن ابن مسعود رضي الله عنه، فقد روى المحاملي بإسناد جيد: " أن عبد الله بن مسعود كان بين كل تكبيرتين يحمد الله ويثني عليه "، ورواه الأثرم وزاد: (ويصلي على النبي صلى الله عليه وسلم) . واحتج به الإمام أحمد.

_ (1) أخرجه أبو داود في كتاب الصلاة باب رفع اليدين في الصلاة تحت: أبواب تفريع استفتاح الصلاة (725) : " حدثنا مسدد حدثنا يزيد يعني ابن زريع حدثنا المسعودي حدثني عبد الجبار بن وائل حدثني أهل بيتي عن أبي أنه حدثهم أنه رأى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يرفع يديه مع التكبيرة "، قال المحقق في الحاشية: " في النسخة الهندية: " مع التكبير ".

فقد ثبت لنا أن ابن مسعود كان يحمد الله ويثني عليه ويصلي على النبي صلى الله عليه وسلم بين كل تكبيرتين من تكبيرات العيد، وما ذكره المؤلف رأى أنه يحصل به ذلك، فلو قال غيره مما يكون فيه حمد وثناء وصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم كما لو قال: " الحمد لله رب العالمين، الرحمن الرحيم، اللهم صلي على محمد " فإنه يحصل به الحمد والثناء والصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم. قال: (ثم يقرأ جهراً في الأولى بعد الفاتحة بسبح وبالغاشية في الثانية) لما تقدم من حديث النعمان بن بشير الثابت في مسلم (1) ، ويستحب له أن يقرأ أحياناً ما ثبت في مسلم من حديث أبي واقد الليثي أن النبي صلى الله عليه وسلم: (كان يقرأ في الفطر والأضحى بـ " (ق) واقتربت " (2) . فالمستحب له أن يقرأ هاتين تارة، وأن يقرأ بسبح والغاشية تارة أخرى. والحمد لله رب العالمين. قال المؤلف رحمه الله: (فإذا سلم خطب خطبتين كخطبتي الجمعة) تقدم ما ذكره المؤلف من المسائل في خطبة الجمعة، فما ثبت فيها فهو ثابت في خطبة العيد، ومن ذلك أن خطبة العيد خطبتان، كما ذكر ذلك أهل العلم من الحنابلة والشافعية وأهل الظاهر وغيرهم ولم أر خلافاً بين أهل العلم في هذه المسألة.

_ (1) أخرجه مسلم في كتاب الجمعة باب ما يقرأ في صلاة الجمعة (878) قال: " حدثنا يحيى بن يحيى وأبو بكر بن أبي شيبة وإسحاق جميعاً عن جرير قال يحيى: أخبرنا جرير عن إبراهيم بن محمد بن المنتشر عن أبيه عن حبيب بن سالم مولى النعمان بن بشير عن النعمان بن بشير قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقرأ في العيدين وفي الجمعة بسبح اسم ربك الأعلى وهل أتاك حديث الغاشية، قال: وإذا اجتمع العيد والجمعة في يوم واحد يقرأ بهما أيضاً في الصلاتين ". (2) أخرج مسلم في كتاب العيدين باب ما يقرأ به في صلاة العيدين (891) .

ووردت أحاديث تدل على ذلك، منها أحاديث ضعيفة لا تثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم، فمن ذلك: ما رواه ابن ماجه في سننه عن جابر قال: (خرج النبي صلى الله عليه وسلم في فطر أو أضحى فخطب قائماً ثم قعد قعدة ثم قام) (1) والحديث فيه أبو بحر وإسماعيل بن مسلم وهي ضعيفان فالحديث إسناده ضعيف جداً. وروى سعيد بن منصور في سننه عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة قال: (يكبر الإمام إذا صعد المنبر يوم العيد قبل الخطبة الأولى تسع تكبيرات وقبل الثانية سبع تكبيرات) لكن الحديث مرسل، ومع ذلك فإن عمل أهل العلم على ذلك، ولم أر خلافاً بين أهل العلم في هذه المسألة فتكون المسألة إجماعاً، ويمكن أن يستدل على هذه المسألة: بما ثبت في الصحيحين عن ابن عباس قال: (شهدت صلاة الفطر مع نبي الله وأبي بكر وعمر وعثمان كلهم يصليها قبل الخطبة ثم يخطب فنزل - أي كان يخطب – نبي الله (أي مما ارتقاه سواء كان ذلك منبراً أو شيئاً عالياً) كأني أنظر إليه يجلس الرجال يشير بيده ثم أقبل يشقهم حتى أتى النساء فقال: {يا أيها النبي إذا جاءك المؤمنات ….} الآية فقال: أنتن على ذلك؟ فقالت امرأة: نعم، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: فتصدقن) (2)

_ (1) ضعيف ابن ماجه للألباني رحمه الله تعالى ص94. (2) أخرجه البخاري في باب موعظة الإمام النساء يوم العيد من كتاب العيدين (979) قال: " قال بن جريج وأخبرني الحسن بن مسلم عن طاوس عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: شهدت الفطر مع النبي - صلى الله عليه وسلم - وأبي بكر وعمر عثمان رضي الله عنهم يصلونها قبل الخطبة ثم يخطب بعد، خرج النبي - صلى الله عليه وسلم - كأني أنظر إليه حين يُجلِّس بيده ثم أقبل يشقهم حتى جاء النساء معه بلال، فقال: {يا أيها النبي إذا جاءك المؤمنات يبايعنك} الآية ثم قال حين فرغ منها: (أنتن على ذلك) قالت امرأة واحدة منهن لم يجبه غيرها: نعم، لا يدْرِي حسنٌ من هي، قال: (فتصدقن) فبسط بلال ثوبه، ثم قال: هلم لكُنَّ فداء أبي وأمي " فيلقين الفتخ والخواتيم في ثوب بلال. قال عبد الرزاق: الفَتَخ: الخواتيم العظام كانت في الجاهلية ". وأخرجه البخاري أيضاً في كتاب التفسير، باب إذا جاءك المؤمنات يبايعنك (4895) . وأخرجه مسلم في أول كتاب العيدين (884) .

والشاهد فيه قوله: (كأني أنظر إليه يجلس الرجال) لما انتهى من الخطبة الأولى وذهب إلى النساء يخطبهن، فدل على أنها خطبة أخرى، وإن كان السنة أن تكون هذه الخطبة الثانية موجهة إلى النساء، ولكن مع ذلك هي خطبة أخرى يجلس لها الرجال أي يستحب للرجال أن يجلسوا لها فتكون هي الخطبة الثانية. * وهل يستحب له إذا قام على المنبر أن يجلس أم يشرع في خطبته من غير جلوس؟ قولان لأهل العلم من الحنابلة وغيرهم: الأول: أنه يستحب له الجلوس كجلوسه يوم الجمعة؛ وذلك ليتراد إليه نفسه ويستريح. 2- الثاني: أنه لا يستحب له ذلك، لأن هذا الجلوس الذي شرع يوم الجمعة إنما هو للأذان بين يديه، فللأذان واستماعه كان المستحب أن يجلس ولا فائدة من القيام حينئذ. وأما العيد فلا يستحب له أذان ولا إقامة كما تقدم في الأذان فكان المستحب له أن يشرع في خطبته من غير جلوس. وهذا أولى؛ فإن ظاهر الأحاديث الواردة في سنته في الخطبة ليس فيها ذكر الجلوس، بل فيها أنه كان يقوم فيخطب، لكن إن جلس محتاجاً إلى ذلك ليستريح ويتراد إليه نفسه فلا بأس بذلك للحاجة. قال: (يستفتح الأولى بتسع تكبيرات والثانية بسبع) هذا هو المستحب عند جمهور العلماء من الحنابلة وغيرهم. قالوا: يستحب أن يفتتح الخطبة الأولى بتسع تكبيرات متواليات لا يفصل بينها بفاصل من ذكر ولا غيره ويفتتح الثانية بسبع تكبيرات. واستدلوا بالأثر المتقدم الذي رواه عبيد الله بن عبد الله بن عتبة وأخرجه سعيد بن منصور وغيره.

لكن الحديث – كما تقدم – ضعيف مرسل، ولذا اختار شيخ الإسلام وتلميذه إلى أنه يفتتحها بالحمد؛ لأن الوارد عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في خطبه كلها الافتتاح بالحمد له، وأما الافتتاح بالتكبير فلم يثبت عنه، وما روي عنه لا يصح ولا يثبت، فكان المستحب له الافتتاح بالحمد له، ولما تقدم من قوله - صلى الله عليه وسلم - فيما روي عنه والصواب أنه مرسل: (كل أمر ذي بال لا يبدأ فيه بالحمد لله فهو أقطع) (1) ، وروى ابن ماجه في سننه – بإسناد ضعيف – من حديث سعد المؤذن أن النبي - صلى الله عليه وسلم -: (كان يكثر من التكبير بين أضعاف خطبة العيد) (2) . قال: (يحثهم في الفطر على الصدقة ويبين لهم ما يُخرجون، ويرغبهم في الأضحى في الأضحية ويبين لهم حكمها) الوارد عنه – عليه الصلاة والسلام – في خطبة العيد في الفطر والأضحى – هو التذكير والوعظ والأمر بالتقوى والحث على طاعة الله عز وجل.

_ (1) أخرجه أبو داود في كتاب الأدب، باب الهدي في الكلام (4840) وأخرجه ابن ماجه في كتاب النكاح باب خطبة النكاح (1894) " حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة ومحمد بن يحيى ومحمد بن خلف العسقلاني قالوا: حدثنا عبيد الله بن موسى عن الأوزاعي عن قرة عن الزهري عن أبي سلمة عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (كل أمر ذي بال لا يبدأ فيه بالحمد أقطع ". (2) أخرجه ابن ماجه في كتاب إقامة الصلاة، باب ما جاء في القراءة في صلاة العيدين (1287) : " حدثنا هشام بن عمّار حدثنا عبد الرحمن بن سعد بن عمّار بن سعد المؤذن حدثني أبي عن أبيه عن جده قال: كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يكبّر بين أضغاف – كذا في الطبعة التي بين يدي - الخطبة يُكثر في خطبة العيدين ".

كما ثبت في الصحيحين عن جابر قال: (شهدت يوم العيد مع النبي صلى الله عليه وسلم فبدأ بالصلاة قبل الخطبة بغير أذان ولا إقامة ثم قام متوكئاً على بلال فأمر بتقوى الله وحث على طاعته ووعظ الناس وذكرهم، ثم مضى إلى النساء فوعظهن وذكرهن وقال: تصدقن فإنكن أكثر حطب جهنم) (1) . وأما ما ذكره المؤلف من كون الخطيب يستحب له أن يذكرهم بمسائل الفطر في عيد الفطر، فإن في هذا نظراً؛ لعدم ثبوته أولاً – عن النبي - صلى الله عليه وسلم - –. وثانياً: فوات محله، فإن صدقة الفطر تشرع بل لا تجزئ إلا أن يكون قبل صلاة العيد، فإذا صلى الناس العيد فقد فات وقتها فلم يكن للتنبيه على مسائلها فائدة، بل كان الاشتغال بوعظ الناس وتذكيرهم وأمرهم بالتقوى وحثهم على الطاعة ونهيهم عن المعصية ونحو ذلك أولى من بيان ذلك. - أما الأضحى فإنه قد صح ذلك عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، فإنه قد قال في خطبة كما في الصحيحين من حديث البراء، قال - صلى الله عليه وسلم -: (من ذبح قبل الصلاة فليذبح مكانها أخرى، ومن ذبح بعد الصلاة فقد تم نسكه وأصاب سنة المسلمين) (2) . وفي المسند وابن ماجه: (فاستقبلهم وهم جلوس وقال: تصدقوا) (3) فقد أمر الرجال بالصدقة.

_ (1) أخرجه البخاري في باب المشي والركوب إلى العيد.. (961) مختصراً دون آخره. وأخرجه مسلم في كتاب العيدين (885) . (2) أخرجه البخاري في أول كتاب الأضاحي (5545) و (954) بلفظ قريب منه، وأخرجه مسلم (1962) . (3) أخرجه ابن ماجه في باب ما جاء في القراءة في صلاة العيدين (1288) قال: " حدثنا أبو كريب حدثنا أبو أسامة حدثنا داود بن قيس عن عياض بن عبد الله أخبرني أبو سعيد الخدري قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يخرج يوم العيد فيصلي بالناس ركعتين ثم يسلم فيقف على رجليه فيستقبل الناس وهم جلوس فيقول: (تصدقوا، تصدقوا) فأكثر من يتصدق النساء.. "

فهنا النبي صلى الله عليه وسلم تكلم عن شيء من أحكام الأضاحي في خطبة في عيد الأضحى ولا شك أن الفائدة واضحة في هذا، فإن الأضاحي إنما تشرع بعد الصلاة فيكون في بيان أحكامها فائدة للمصلين وتعليم لهم. إذن: ما ذكره المؤلف هنا وهو مذهب الحنابلة وغيرهم أن الكلام في خطبة عيد الفطر يكون عن إخراج الفطرة، في هذا نظراً لفوات وقته وعدم ثبوته عن النبي صلى الله عليه وسلم. وأما الكلام عن الأضاحي في خطبة عيد الأضحى فإن محل ذلك لم يفت، والمصلحة مقتضية الكلام على هذا ولثبوته أولاً عن النبي صلى الله عليه وسلم. قال: (والتكبيرات الزوائد والذكر بينها والخطبتان سنة) التكبيرات الزوائد: وهي ستة تكبيرات زوائد في الأولى وخمساً في الثانية، فهذه التكبيرات سنة والذكر بينها المروي عن ابن مسعود من ذكر الله وحمده والثناء عليه والصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم – كذلك سنة –، ولا خلاف بين العلماء في أن ذلك سنة، فلو صلى الإمام ولم يكبر التكبيرات الزوائد فإنه قد ترك سنة ولا يؤثر ذلك في صلاته باتفاق العلماء. (والخطبتان سنة) فإن الصلاة تصح ولو لم يخطب، ولا يجب على الناس من الذكور والإناث أن يستمعوا إلى الخطبة. يدل على ذلك ما ثبت في أبي داود والنسائي وابن ماجه من حديث عبد الله بن السائب قال: (شهدت النبي صلى الله عليه وسلم يوم عيد فلما قضى الصلاة قال: إنا نخطب فمن أحب أن يجلس [للخطبة] فليجلس ومن أحب أن يذهب فليذهب) (1) والحديث إسناده صحيح، وقد اتفق العلماء على القول به. قال: (ويكره التنفل قبل الصلاة وبعدها في موضعها)

_ (1) أخرجه أبو داود في باب الجلوس للخطبة من كتاب الصلاة (1155) ، وأخرجه ابن ماجه في باب ما جاء في انتظار الخطبة بعد الصلاة من كتاب إقامة الصلاة (1290) .

أي يكره لمن أتى للعيد أن يتنفل قبل الصلاة وبعدها، لما ثبت في الصحيحين عن ابن عباس قال: (صلى النبي صلى الله عليه وسلم يوم العيد ركعتين لم يصل قبلهما ولا بعدهما) (1) . *وقد اختلف أهل العلم في هذه المسألة. قال الإمام أحمد: " الكوفيون يصلون بعدها لا قبلها، والبصريون يصلون قبلها لا بعدها، والمدنيون لا يصلون قبلها ولا بعدها ". وروى أبو يعلى الموصلي عن أنس بن مالك والحسن البصري: (أنهما كانا يصليان قبل خروج الإمام) . وروى الطبراني في الكبير عن كعب بن عجرة أنه قال في الصلاة قبل العيد: (بدعة وترك سنة) . فالصحابة ومن بعدهم قد اختلفوا في هذه المسألة. والمشهور في المذهب – خلافاً للشافعية –: أنه لا يصلي قبلها ولا بعدها. والصحيح في هذه المسألة: أنه إن صلى بعدها فحسن – وهو مستحب -، فقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم – كما ثبت ذلك في ابن ماجه بإسناد حسن كما قال الحافظ وهو كما قال: (كان النبي صلى الله عليه وسلم لا يصلي قبل العيد شيئاً فإذا رجع إلى بيته صلى ركعتين) (2) . فإن قيل: قد نفى ذلك ابن عباس في حديثه المتقدم؟ فالجواب: أن المثبت مقدم على النافي، فالمثبت معه علم زائد موجب للإثبات، وأما النافي فليس معه إلا العدم. وأما قبل صلاة العيد فالصحيح أنه لا بأس له أن يصلي إذا طلعت الشمس وارتفعت قيد رمح؛ لأنه لا دليل يمنع من ذلك فيكون ذلك من التطوع المطلق كما يكون ذلك في صلاة الجمعة في سنتها القبلية، لأن هذا وقت جواز للصلاة ولا دليل يدل على المنع.

_ (1) أخرجه مسلم في باب ترك الصلاة قبل العيد وبعدها في المصلى (884) بلفظ قريب منه، وأخرجه البخاري في باب القُرْط للنساء من كتاب اللباس (5883) . (2) أخرجه ابن ماجه في باب ما جاء في الصلاة قبل صلاة العيد وبعدها من كتاب إقامة الصلاة (1293) من حديث أبي سعيد الخدري.

وأما كون النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن يصلي – كما في حديث ابن عباس –، فإنه كذلك لم يكن يصلي يوم الجمعة قبلها، فيكون ذلك هو المشروع للخطيب، فالخطيب لا يشرع له أن يصلي قبل الجمعة وقبل العيد، وأما الناس فإن ذلك من التطوع المطلق أن يصلي ما كتب له. وقال بعض الحنابلة: يصلي تحية المسجد. وهذا ظاهر فيما إذا كانت صلاة العيد قد أقيمت في مسجد فإن هذا ظاهر، بل القول بوجوبه واضح لوجوب تحية المسجد سواء كان ذلك في وقت نهي أو لا. وأما المصلى فظاهر كلام هذا القائل من الحنابلة: أنه كذلك، وهو قول قوي من إلحاق المصلى بالمسجد؛ لقول النبي - صلى الله عليه وسلم - للنساء الحيض: (ويعتزل الحيض المصلى) (1) ، فأعطى النبي صلى الله عليه وسلم المصلى حكم المسجد من وجوب اعتزال الحيض له، فكان كذلك في حكمه ذلك الوقت في تحية المسجد. فالأظهر: أنه إذا أتى صلى ركعتين تحية المسجد، وإذا تأخر الإمام حتى ارتفعت الشمس صلى ما كتب له من الصلوات من باب التطوع المطلق، وعليه فيكون حكم العيد كحكم الجمعة، وهذا ما يدل عليه القياس فإن الجمعة عيد. ويدل على ثبوت هذا القياس ثبوت صلاة الركعتين عن النبي صلى الله عليه وسلم في بيته كما كان يصليها بعد الجمعة في بيته. فعلى ذلك التنفل يوم العيد: أما قبل صلاة العيد فإنه من التنفل المطلق إلا أنه يشرع له أن يصلي تحية المسجد. وأما بعد العيد فيستحب له أن يصلي ركعتين في بيته. والحمد لله رب العالمين قال المؤلف رحمه الله: (ويسن لمن فاتته أو بعضها قضاؤها على صفتها) " لمن فاتته " أي صلاة العيد. فيسن القضاء لصلاة العيد ويسن أن يكون ذلك على هيئتها وصفتها، فهنا مسألتان:

_ (1) متفق عليه، راجع صْ 49.

المسألة الأولى: مشروعية قضاء صلاة العيد، وذكر المؤلف هنا أن ذلك سنة وهذا بناءً على أن صلاة العيد فرض على الكفاية فتكون على أفراد المكلفين على الاستحباب، وما كان مستحباً فإن قضائه مستحب. وعلى القول بأنها فرض عين – كما تقدم ترجيحه – فيجب قضاؤها؛ لأن فعلها واجب فقضاؤها واجب أيضاً وقد قال صلى الله عليه وسلم: (من نام عن صلاة أو نسيها فليصلها إذا ذكرها لا كفارة لها إلا ذلك) (1) . ويترتب الخلاف على ما تقدم في قضاء الصلاة هل يقضي المعذور وغيره، أم القضاء فقط للمعذور؟ وتقدم أن الراجح أن القضاء للمعذورين فقط، وأن غير المعذورين لا قضاء عليهم كما هو اختيار شيخ الإسلام. المسألة الثانية: فهي داخلة تحت القاعدة المشهورة: وهي أن القضاء يحكي الأداء، فمن فاتته صلاة العيد قضاها على هيئتها وصفتها ركعتين يكبر في الأولى سبع تكبيرات وفي الثانية خمساً كهيئتها للقاعدة المشهورة: القضاء يحكي الأداء، والأدلة الشرعية تدل على هذه القاعدة. فقوله: (من نام عن صلاة أو نسيها فليصلها) الضمير يعود إلى الصلاة المتروكة نفسها فكان قضاؤها يحكي أداءها. وقال ابن مسعود: يقضيها أربعاً، وهو قول لبعض الحنابلة. وقال بعضهم: إن شاء صلى أربعاً وإن شاء صلى ركعتين. وأثر ابن مسعود رضي الله عنه ثابت عنه في مصنف ابن أبي شيبة بإسناد صحيح أنه قال: (من فاتته صلاة العيد فليصل أربعاً) . وأثره مخالف بأثر رواه البخاري معلقاً ووصله ابن أبي شيبة والبيهقي عن أنس: (أنه قضاها على هيئتها وصفتها) فيخالف الأثران والقياس مع قول أنس.

_ (1) أخرجه البخاري في باب من نسي صلاة.. من كتاب مواقيت الصلاة (597) عن أنس عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (من نسي صلاة فليصل إذا ذكرها..) ، وأخرجه مسلم (684) في كتاب المساجد، باب قضاء الصلاة الفائتة.

فإن القياس والنظر يقتضي أن يصلي هذه الصلاة التي هي من باب القضاء على هيئتها في الأداء. وأما أثر ابن مسعود فإن هذا فيما يظهر من باب إلحاق العيد بالجمعة فإن الجمعة عيد، وإذا تركت صليت أربعاً فكذلك العيد. لكن القياس هنا: ضعيف للفارق بين هاتين المسألتين في أن لصلاة الجمعة بدلاً وهو صلاة الظهر، وهو بدل في يومها فإذا فاتت رجع إلى المبدل، وأما صلاة العيد فليس لها بدل أصلي في سائر الأيام وإن كان غير أصلي في ذلك اليوم. إذن: ما ذهب إليه جمهور العلماء أصح وأن صلاة العيد إن تركت صليت على هيئتها وصفتها بتكبيراتها الزوائد ونحو ذلك مما تقدم. (ويسن التكبير المطلق في ليلتي العيد) يريد الفقهاء بالتكبير المطلق، التكبير في غير أدبار الصلوات المكتوبة. وإنما التكبير المقيد هو التكبير المرتبط بأدبار الصلوات، وأما المطلق فهو ما يكبره الشخص في سوقه وممشاه ومجلسه وفي بيته ونحوه. فيسن التكبير المطلق في ليلتي العيدين، ليلة عيد الفطر وليلة عيد الأضحى. أما ليلة عيد الأضحى فستأتي الآثار الدالة على ذلك، وأما عيد الفطر فدليله قوله تعالى: {ولتكملوا العدة ولتكبروا الله على ما هداكم ولعلكم تشكرون} أي لتكملوا عدة رمضان، ولتكبرون على ما هداكم من صيامه وقيامه ولعلكم تشكرون، فهذه الآية فيها أن التكبير يكون عند تمام عدة الشهر ويكون ذلك من رؤية الهلال، فيكبر من رؤية الهلال أو من ثبوت دخول الشهر الآخر بتمام عدة رمضان، فيكبر الله عند ثبوت رؤية الهلال وليلته تلك وصبيحته حتى يغدو إلى المسجد، وقد تقدم أثر ابن عمر: (أنه كان إذا غدا يوم فطر أو أضحى يجهر بالتكبير حتى يأتي المصلى ثم يكبر حتى يأتي الإمام) . وروى نحوه ابن أبي شيبة عن الزهري عن النبي صلى الله عليه وسلم مرسلاً إلا أن فيه: (إلى أن يقضي الصلاة) ، ومعلوم أن الإمام يكبر في صلاته.

وله شاهد عند البيهقي مرفوعاً إلى النبي صلى الله عليه وسلم فيكون ثابتاً على وجه الرفع إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وعلى وجه الوقف عن ابن عمر رضي الله عنه – وهذا مذهب الجمهور –. - وقال المالكية: لا يستحب له إلا عند غدوه بعد طلوع الشمس على خلاف بينهم إذا غدا قبل طلوع الشمس هل يكبر أم لا؟ لكن المقصود: أنهم لا يرون التكبير إلا في يوم العيد. واستدلوا بأثر ابن عمر المتقدم. والظاهر أن الآية عامة فيدخل فيها أثر ابن عمر والتكبير الوارد في الصلاة وفي أضعاف الخطبة، فإن ذلك كله من التكبير الداخل في قوله تعالى: {ولتكبروا الله على ما هداكم ولعلكم تشكرون} إذن: المشهور عند الحنابلة: أنه يكبر مع رؤية الهلال وأثناء ليلته تلك وصبيحتها ومن غدوه إلى الصلاة داخلة في ذلك، وما يكون في الخطبة داخل ذلك، لأن النبي صلى الله عليه وسلم ثبت عنه التكبير في الغدو، وشرع التكبير في الصلاة، وكما تقدم عند عامة أهل العلم من التكبير أثناء الخطبة والآية أيضاً تشمل التكبير في ليلته. قال: (وفي فطر آكد) للآية، فإن الله أمر بالتكبير فيه فقال: {ولتكملوا العدة ولتكبروا الله على ما هداكم ….} حتى ذهب بعض الظاهرية إلى وجوب التكبير، وهو قول قوي من أنه يجب عليه التكبير سواء كان ذلك في تكبيره في الصلاة، المقصود أنه يكبر الله عند تمام عدة رمضان. قال: (وفي كل عشر ذي الحجة) لقوله تعالى: {واذكروا الله في أيام معلومات} والأيام المعلومات هي عشر ذي الحجة. كما أن الأيام المعدودات هي أيام التشريق، وثبت في البخاري معلقاً: (أن ابن عمر وأبا هريرة كانا يخرجان إلى السوق في أيام عشر ذي الحجة يكبران ويكبر الناس بتكبيرهما) (1) فهذا الكلام على التكبير المطلق.

_ (1) ذكره البخاري في باب فضل العمل في أيام التشريق من كتاب العيدين قبل حديث (969) .

قال: (والمقيد عقب كل فريضة في جماعة من صلاة الفجر يوم عرفة، وللمحرم من صلاة الظهر يوم النحر إلى عصر آخر أيام التشريق) إذن: يسن التكبير المقيد. أما المحرم فيسن له من صلاة الظهر يوم النحر، وأما غير المحرم فيسن له من صلاة الفجر يوم عرفة إلى آخر صلاة من أيام التشريق وهي صلاة العصر، ويكبر بعد العصر ما لم تغب الشمس. ودليل ذلك: الآثار عن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، قال الإمام أحمد: " الإجماع " أي إجماع الصحابة، عمر وعلي وابن عباس وابن مسعود، أما أثر عمر فلم أقف عليه. وأما أثر علي فهو ثابت في ابن أبي شيبة بإسناد صحيح: (أنه كان يكبر بعد صلاة الصبح من يوم عرفة إلى صلاة العصر من آخر أيام التشريق ويكبر بعد العصر) . ونحوه عن ابن عباس عند البيهقي. ونحوه عن ابن مسعود عند الحاكم وهي أسانيد صحاح إليهم. وقال ابن تيمية: " هو إجماع من أكابر أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - " أ. هـ أما المحرم فإنه يكبر بعد صلاة الظهر من يوم النحر؛ لأنه منشغل قبل ذلك بالتلبية، فإذا صلى الظهر وقد رمى جمرة العقبة ضحى فإنه بعد صلاة الظهر يكون التكبير المقيد. وعليه: فإن رمى - كما يكون هذا للضعفة، إن رمى - قبل الفجر عل قول فيكون قد انتهى من التلبية فإنها تنتهي برمي جمرة العقبة، وحينئذ يكبر بعد صلاة الفجر. فإذن: قالوا بعد صلاة الظهر؛ لأنه هو الوقت الغالب في انتهاء الناس من رمي الجمار فيكبرون لانتهائهم من التلبية وحينئذ يكون انشغالهم بالتكبير. ولكن مع ذلك فالأظهر أنه لا بأس أن يكبر ولا ينكر عليه، بدليل ما ثبت في البخاري وغيره عن أنس قال في غدوهم والنبي صلى الله عليه وسلم من منى إلى عرفة: (يلبي الملبي فلا ينكر عليه ويكبر المكبر فلا ينكر عليه) . فإذن: إن كبر يوم عرفة فلا بأس.

ثم إن التكبير في الحقيقة لا يمنع من التلبية، فإن التلبية مشروعة على الإطلاق، وكونه يكبر بعد الصلوات المكتوبة هذا لا يشغله عن التلبية المشروعة، فإن التلبية ليست مشروعة في كل لحظة من لحظاته. وهنا قال: " في جماعة ": فإذا صلى الصلاة المكتوبة في جماعة كبر، فإن صلاها منفرداً لم يكبر. فالتكبير يشرع عقب الصلاة المكتوبة، لأن الصحابة كانوا يكبرون بعد صلاة الفجر، فكان التكبير مختصاً بالصلوات المكتوبة. قالوا: ويكون ذلك في جماعة – خلافاً لمذهب مالك – فإن صلى المكتوبة منفرداً فإنه لا يكبر. واستدلوا: بأثر رواه ابن المنذر واحتج به أحمد ولم أقف على سنده: أن ابن مسعود قال: (إنما التكبير على من كان في جماعة) ، قالوا: ولا يعلم له مخالف من الصحابة. وهذا قوي في النظر، من باب أن التكبير إنما يشرع الجهر به وإظهاره وذلك إنما يكون بعد الصلوات التي يجتمع عليها الناس فيجتهدون في رفع أصواتهم وتظهر هذه الشعيرة من شعائر الله من التكبير. وأيام التشريق يستحب فيها التكبير المطلق، فقد ثبت في البخاري معلقاً: " أن عمر كان يكبر في قبته بمنى فيسمع أهل المسجد تكبيره فيكبرون، ويكبر أهل السوق حتى ترتج منى "، " وكان ابن عمر يكبر تلك الأيام خلف الصلوات وعلى مجلسه في فسطاطه وممشاه، وكانت ميمونة تكبر يوم النحر، وكن النساء يكبرن خلف أبان بن عثمان وعمر بن عبد العزيز أيام التشريق) (1) ، وهي الأيام المعدودات التي قال الله فيها: {واذكروا الله في أيام معدودات} . قال: (وإن نسيه قضاه ما لم يحدث أو يخرج من المسجد) إن نسى التكبير المقيد وهو ما زال دبر الصلاة المكتوبة، فإنه يقضيه؛ لأن السنة لم يفت محلها.

_ (1) ذكره البخاري في باب التكبير أيام منى وإذا غدا إلى عرفة من كتاب العيدين قبل حديث (970)

(ما لم يحدث أو يخرج من المسجد) : أما الخروج من المسجد فنعم، فإنه قاطع عرفاً، فإذا خرج من المسجد فإنه يكبر من باب التكبير المطلق، وأما التكبير المقيد فقد فاته لأن السنة قد فات محلها. وأما الحدث، فاختار الموفق: أنه لا يؤثر في ذلك؛ لأن التكبير ليس من شرطه الطهارة. وقال الحنابلة: الذكر تبع للصلاة فكان الحدث قاطعاً، والصحيح خلاف ذلك كما هو اختيار الموفق. قال: (ولا يسن عقب صلاة عيد) أي لا يسن له أن يكبر التكبير المقيد بعد صلاة العيد. - أما عيد الفطر فهذا واضح؛ لأن التكبير المقيد بعد الصلوات المكتوبة لا يشرع في يوم الفطر بل في يوم النحر وفي يوم عرفة وأيام التشريق. أما عيد الفطر فالتكبير فيه تكبير مطلق فلا يكون بعد الصلوات المكتوبة. - وأما عيد النحر فكذلك، فإذا صلى صلاة عيد الأضحى فلا يكبر بعدها. قالوا: لأن الوارد عن الصحابة إنما هو التكبير خلف الصلوات المفروضة، وصلاة العيد ليست من الصلوات المفروضة فلا يكبر بعدها. - وقال بعض الحنابلة، كما هو اختيار الموفق: أنه يكبر بعد صلاة عيد الأضحى؛ قال: لأن صلاة العيد صلاة مفروضة فهي مفروضة على الكفاية – كما تقدم في مذهب الحنابلة – فيسن لها التكبير كغيرها من الصلوات المفروضة. قال: بل هي أولى؛ لأن صلاة العيد مختصة بذلك اليوم، والتكبير مختص بالعيد فكانت أحق من غيرها بالتكبير لاختصاصها بيوم العيد – وما ذكره أظهر –. فالمستحب له أن يكبر بعد صلاة عيد الأضحى؛ لأنها صلاة مفروضة كسائر الصلوات المفروضة. قال: (وصفته شفعاً: الله أكبر، الله أكبر لا إله إلا الله، والله أكبر الله أكبر ولله الحمد) " شفعاً " أي لا يثلث. وهكذا ثبت عن ابن مسعود رضي الله عنه كما في مصنف ابن أبي شيبة أنه كان يقول في تكبيره: (الله أكبر، الله أكبر لا إله إلا الله، والله أكبر الله أكبر ولله الحمد) .

واختار الشافعية أنه يثلث، فيقول: (الله أكبر الله أكبر، الله أكبر لا إله إلا الله، الله أكبر الله أكبر، الله أكبر ولله الحمد) لثبوت ذلك عن ابن عباس كما في سنن البيهقي بإسناد صحيح. وكلا الصفتين ثابتتان عن هذين الصحابيين فأي منهما فعل فهو حسن. قالوا: وتجوز التهنئة يوم العيد، وقد ثبت ذلك عن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فيما ذكره الإمام أحمد وذكره ابن التركماني في تعليقه على سنن البيهقي عن أبي أمامة وغيره من الصحابة أنهم كانوا إذا رجعوا من العيد يقول بعضهم لبعض: (تقبل الله منا ومنك) ، قال الإمام أحمد: وإسناده جيد. وإن هنأ بما يتعارف عليه الناس من الألفاظ فلا بأس، فإن هذه من مسائل العادات ولا حرج في مثل ذلك. والحمد لله رب العالمين. انتهى باب العيدين باب صلاة الكسوف صلاة الكسوف من الصلوات المشروعة بإجماع أهل العلم. والكسوف والخسوف: يطلقان على الشمس والقمر إذا ذهب نورهما واسود، فيقال في الشمس أو القمر: انكسفت أو انخسفت، فإذا ذهب ضوؤهما أو شيء منه يقال ذلك، وإن كان الغالب أن يطلق الكسوف على الشمس، والخسوف على القمر، ولكن مع ذلك فإن الخسوف يطلق على الشمس كما صحت بذلك الأدلة كما ثبت في قول عائشة: (انخسفت الشمس في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم) . قال المؤلف رحمه الله: (تسن) أي يسن صلاة الكسوف، وهذا مذهب جماهير أهل العلم حتى حكاه النووي وابن الوزير إجماعاً – أي أنها سنة مؤكدة -. - وذهب طائفة من العلماء إلى وجوبها، وقد صرح به أبو عوانة صاحب المستخرج على صحيح مسلم فقال: (باب: وجوب صلاة الكسوف) ومال إليه الشوكاني والصنعاني.

قال الشوكاني: " والظاهر الوجوب إلا أن يصح الإجماع وإلا فلا صارف) أي ما ورد من الأوامر من النبي صلى الله عليه وسلم للمسلمين بإقامة الصلاة يوم تكسف الشمس أو القمر أوامر ظاهرها الوجوب لا صارف لها إلا أن يصح الإجماع المذكور، ومعلوم ما في حكاية الإجماع من التعسر. فعلى ذلك القول بوجوبها قول قوي، فقد قال صلى الله عليه وسلم – كما في الصحيحين – من حديث المغيرة قال: (انكسفت الشمس على عهد النبي صلى الله عليه وسلم يوم مات إبراهيم فقال الناس: انكسفت الشمس بموت إبراهيم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله لا ينكسفان لموت أحد ولا لحياته فإذا رأيتموهما فادعوا الله وصلوا حتى تنكشف) ، وفي رواية للبخاري: (حتى يتجلى) . فظاهر الأمر هو الوجوب فيتوجه ويقوي القول بوجوب ذلك إلا أن يثبت الإجماع، وفي إثباته – كما تقدم - عسر، فإن عامة ما مع من يذكر الإجماع عدم معرفة الخلاف بين العلماء، ومعلوم أن التفريق بالتلفظ بالسنية والإيجاب قليل عند السلف الصالح، فإنهم يقولون بالسنية ويريدون بذلك – كما هو مشهور من أقوالهم – الإيجاب. وأما التفريق فهذا في المتأخرين أكثر منه في المتقدمين، والمقصود من ذلك أن حكاية الإجماع المتقدم فيها شيء من الصعوبة، فالقول بالإيجاب قول قوي وهو الذي يقتضيه المعنى، فإن هذه حال شديدة حيث كسفت الشمس أو خسف القمر وهما ما هما من نعم الله اللذان يقوم بهما مصالح العباد في حياتهم الدنيوية، فلا شك أن عليهم أن يلجؤوا إلى الله بالدعاء والصلاة وغير ذلك لرفع ما فيهم، وقد يكون ذلك من باب العقوبة فناسب أن يقبلوا إلى الله ويلجؤوا إليه ويسألوه كشف ورفع ما هم فيه مما قد يكون عقوبة من الله عز وجل. قال: (جماعة وفرادى) يسن صلاة الكسوف للمنفرد في بيته، وللجماعة في المسجد.

أما كونها تشرع جماعة في المسجد فهذا ظاهر في سنة النبي صلى الله عليه وسلم، فقد ثبت في الصحيحين عن عائشة قالت: (انكسفت الشمس في حياة النبي صلى الله عليه وسلم فخرج إلى المسجد وصف الناس وراءه) وفيه أن صلاة الكسوف تشرع في المساجد لا في المصليات. وأما إقامتها فرادى فلإطلاقات الأحاديث كقوله صلى الله عليه وسلم: (فادعوا الله وصلوا) ، وقوله: (وصلوا) لفظ مطلق يشمل الأمر بالصلاة على هيئة الجماعة أو على هيئة الانفراد. قالوا: لكن الأفضل أن يصلي جماعة لفعل النبي صلى الله عليه وسلم. والأظهر على القول بوجوب صلاة الكسوف أن يقال بوجوب صلاتها جماعة وإن صحت فرادى، لأنها من الواجبات فأشبهت صلاة الفريضة، فكما أن الفريضة يجب أن تقام في الجماعة فكذلك صلاة الكسوف يجب أن تقام في الجماعة. كما أنه يشرع حضور النساء لها، فقد ثبت حضور عائشة وأسماء بنت أبي بكر، لها كما ثبت في الصحيحين، فقد صليتا مع النبي صلى الله عليه وسلم. قال: (إذا كسف أحد النيرين) الشمس أو القمر. فإن قيل: لم يثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم إلا أنه صلى في كسوف الشمس فما هو الدليل الدال على صلاتها عند خسوف القمر؟ فالجواب: أنه قد ثبت في نص قوله - صلى الله عليه وسلم -: (إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله لا ينكسفان لموت أحد ولا لحياته، فإذا رأيتموهما فادعوا الله وصلوا) أي رأيتم إنكسافهما. قال: (ركعتين) لما ثبت في الصحيحين عن عائشة قالت: (جهر النبي صلى الله عليه وسلم في صلاة الكسوف بقراءته فصلى أربع ركعات " أي ركوعات " في ركعتين وأربع سجدات) . فصلاة الكسوف ركعتان بأربع ركوعات وأربع سجودات. قال: (يقرأ في الأولى جهراً) . لحديث عائشة المتقدم وفيه: (جهر النبي صلى الله عليه وسلم بقراءته في صلاة الكسوف) فهذا يدل على أن المستحب هو الجهر.

فإن قيل: فما الجواب عن قول ابن عباس في صلاة النبي صلى الله عليه وسلم قال – رضي الله عنه -: (انخسفت الشمس على عهد النبي صلى الله عليه وسلم فصلى فقام قياماً طويلاً نحواً من قراءة سورة البقرة) فلو كان النبي صلى الله عليه وسلم يجهر لصرح رضي الله عنه بقراءته ولما قال: (نحواً من قراءة سورة البقرة) ؟ فالجواب على ذلك: أن قول ابن عباس لا يعارض بحديث عائشة، فإن غاية قوله هو نفي الجهر وأن كان ليس صريحاً في ذلك فغايته عدم سماعه لجهر النبي - صلى الله عليه وسلم -، وعائشة قد أثبتت جهره، والمثبت مقدم على النافي ويحتمل أن ابن عباس لبعده عن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان ذلك. ومعلوم أنه لم يكن من كبار الصحابة بل قد توفي النبي - صلى الله عليه وسلم - وقد ناهز الاحتلام، فلعل هذه الصلاة في سنه العاشرة أو الحادية عشر فربما كان في أواخر الناس فلم يكن يتبين قراءة الرسول - صلى الله عليه وسلم -، أما عائشة فقد صرحت بإثبات الجهر. فعلى ذلك يستحب الجهر سواء كانت الصلاة لكسوف الشمس أو لخسوف القمر فإن الحديث المتقدم حديث عائشة في صلاة كسوف الشمس وهي في النهار فإذا كان ذلك في النهار الذي الأصل فيه أن تكون القراءة سرية فأولى من ذلك صلاة كسوف القمر الذي يكون ليلاً. قال: (يقرأ في الأولى جهراً بعد الفاتحة سورة طويلة) كما تقدم عن ابن عباس نحواً من سورة البقرة، وهذا على الاستحباب. قال: (ثم يركع ركوعاً طويلاً ثم يرفع ويسمع ويحمد، ثم يقرأ الفاتحة وسورة طويلة دون الأولى، ثم يركع فيطيل وهو دون الأول، ثم يرفع ثم يسجد سجدتين طويلتين ثم يصلي الثانية كالأولى لكن دونها في كل ما يفعل، ثم يتشهد ويسلِّم)

دل على هذه الصفة ما ثبت في الصحيحين عن ابن عباس قال: (انخسفت الشمس على عهد النبي صلى الله عليه وسلم فصلى فقام قياماً طويلاً نحواً من قراءة سورة البقرة ثم ركع ركوعاً طويلاً، ثم قام قياماً طويلاً وهو دون القيام الأول، ثم ركع ركوعاً طويلاً وهو دون الركوع الأول، ثم سجد " ثم رفع ثم سجد " ثم قام قياماً طويلاً وهو دون القيام الأول، ثم ركع ركوعاً طويلاً وهو دون الركوع الأول ثم ركع - هنا حذف أي ثم قام قياماً فإنه لابد بعد الركوع من قيام ليثبت الركوع الثاني فإنه لا يمكن أن يكون الركوع الثاني إلا بعد قيام - ثم ركع ركوعاً طويلاً وهو دون الركوع الأول ثم رفع رأسه ثم سجد ثم انصرف وقد انجلت الشمس فخطب الناس) . وقد ذكر المؤلف هنا: أنه يسمع ويحمد بعد رفعه من كل ركوع وهو ثابت في حديث عائشة في مسلم: أن النبي صلى الله عليه وسلم (بعد ركوعه الأول والثاني من كل ركعة قال: (سمع الله لمن حمده ربنا ولك الحمد) . وذكر المؤلف – هنا – أن سجوده سجود طويل وهذا وإن لم يثبت في حديث ابن عباس فهو ثابت في حديث عائشة في صحيح مسلم وفيه: (ثم سجد سجوداً طويلاً) . وثبت في أبي داود من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص وفيه: (ثم سجد فلم يكد يرفع) (1) ، وهذا هو الذي تقتضيه سنته - صلى الله عليه وسلم – من كون قيامه فركوعه فرفعه من الركوع فسجوده فجلوسه بين السجدتين فانصرافه قريباً من السواء – كما في الصحيحين من حديث البراء، فناسب أن يكون سجوده طويلاً كطول قيامه أي بالمناسبة، فليس المقصود أنه يكون كقيامه بالقدر، لكن المراد بالمناسبة: فكما أنه أطال القيام على خلاف العادة فإنه يطيل السجود على خلاف العادة، لكن يكون ذلك بالتناسب والاعتدال.

_ (1) سنن أبي داود [1 / 704]

إذن: يطيل السجود أيضاً السجدتين الأولى والثانية إلا أن سجدته الثانية تكون أخف من السجدة الأولى، وسجدتاه في الركعة الثانية تكون أخف من سجدتيه في الركعة الأولى. فهذه صفة صلاة الكسوف الثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم، وهناك صفات أخر وردت في السنة سيأتي الكلام عليها في الدرس القادم. قال: (فإن تجلى الكسوف فيها أتمها خفيفة) . لظاهر قوله صلى الله عليه وسلم: (فادع الله وصلوا حتى تنكشف) فظاهره أن الانكشاف غاية لهذه الصلاة وأن المستحب له إذا انكشفت أو تجلت أن يخفف الصلاة فيتمها خفيفة. فإن انصرف من صلاته ولم يتجلى الشمس أو القمر بعد فيستحب له أن يكثر من الدعاء والذكر والصدقة، فقد قال صلى الله عليه وسلم كما في مسلم من حديث أبي موسى الأشعري: (فافزعوا إلي ذكر الله ودعائه واستغفاره) وتقدم في الحديث المتفق عليه: (فادعوا الله وصلوا) ، وفي ابن خزيمة أن النبي صلى الله عليه وسلم: (أمر بالصلاة والصدقة) ، وفي أبي داود وذكره البخاري: أن النبي صلى الله عليه وسلم: (أمر بالعتاق) أي أن تعتق الرقاب. فإذن: إذا انتهوا من الصلاة ولم تتجلى الشمس بعد أو لم يزل الخسوف فإنهم ينشغلون بالدعاء والذكر وقراءة القرآن وغير ذلك مما تقدم من الصدقة وعتق الرقاب مما هو سبب لإطفاء غضب الرب وإزالة ما وقع من الكسوف أو الخسوف. * وهل له أن يشتغل بالصلاة أم لا؟ قولان لأهل العلم: 1 - فالمشهور عند الحنابلة وغيرهم: أن صلاة الكسوف لا تعاد فإذا انصرفوا ولم تتجلى الشمس فليس لهم أن يعيدوها. 2- قال بعض الحنابلة: بل لهم ذلك. وهذا فيما يظهر لي – قوي – فإن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بالصلاة فيشمل أن يصلي هاتين الركعتين أو غيرها من الركعات فقد أمر بالصلاة حتى يتجلى.

وقد انصرف النبي صلى الله عليه وسلم من صلته المتقدمة وقد انجلت الشمس فلا يصح أن يكون هذا دليلاً على منع الاستمرار بالصلاة والإكثار منها. وهنا قد أمر في هذا الحديث بالصلاة والدعاء حتى تتجلى أو تنكشف. والأظهر أنه لا مانع من أن يصلي وإن شاء أن يدعو ويذكر الله ويشتغل بالصدقة ونحو ذلك فهذا أيضاً حسن. وهل يقضي صلاة الكسوف؟ قال أهل العلم: لا يقضي، ذلك لأنها عبادة قد فات محلها، فمحلها ما دامت الشمس خاسفة أو القمر، فإذا زال هذا الخسوف فإن محلها قد فات فلا تشرع كصلاة الاستسقاء وكتحية المسجد وغيرها من العبادات التي تشرع على حال فإذا ذهبت هذه الحال لم تشرع هذه الصلاة. * وينادي لها بـ " الصلاة جامعة "؛ لما ثبت في الصحيحين من حديث عبد الله بن عمرو قال: (انخسفت الشمس على عهد النبي صلى الله عليه وسلم فنودي بالصلاة جامعة) ولا يشرع لها أذان ولا إقامة. مسألة: بماذا تدرك الركعة الأولى من صلاة الكسوف، بالركوع الأول أما بالركوع الثاني؟ الظاهر أنها تدرك بالركوع الثاني، لأنه هو الركوع الأصلي، فإن الركوع الأصلي في الصلاة ما يَعْقبه الرفع الذي فيه التحميد الذي يتبعه السجود. بخلاف الركوع الأول فهو طارئ فهو مسبوق بقراءة وملحوق بقراءة، فهو ركوع طارئ في هذه الصلاة فإذا أدرك الركوع الثاني فإنه يدرك بذلك الركعة. والحمد لله رب العالمين. قال المؤلف رحمه الله تعالى: (وإن غابت الشمس كاسفة، أو طلعت والقمر خاسف ... لم يصل) إذا غابت الشمس وهي كاسفة، أو طلعت الشمس والقمر خاسف فإنه لا يصلي الكسوف. ومثل ذلك: لو شرعوا في الصلاة وقد خسف القمر وطلعت الشمس أو كسفت الشمس وغابت فمثل ذلك فيكون في حكم الانجلاء فحينئذ يتموها خفيفة.

وذلك لأن وقت الانتفاع بهما – أي بالشمس والقمر – هو الليل للقمر والنهار للشمس، فإذا خرج النهار تصاب الشمس ومثل ذلك طلوع الشمس قليل فإنه حينئذ يذهب وقت الانتفاع بهما – هكذا علل الفقهاء –. ويستدل له بقول النبي صلى الله عليه وسلم: (حتى يتجلى) وقوله: (حتى تنكشف) وغياب الشمس وكذلك القمر هو في حكم الانجلاء لأنه لا يمكن أن يكون الانجلاء غاية وقد غابت الشمس فحينئذ لا يكون للصلاة مدى أو نهاية إلا نهاية طويلة قد لا تتضح إلا بعد ساعات طويلة وهذا متعذر لا يعلق الشرع بمثله. قالوا - والقول هنا لفقهاء الحنابلة ومن وافقهم -: وكذلك إذا طلع الفجر والقمر خاسف فإنهم لا يصلون صلاة الكسوف، وإن كانوا قد شرعوا فيها فإنهم يتمونها خفيفة. قالوا: لأن طلوع الفجر ينهى فيه عن الصلاة النافلة فهو وقت نهي – كما هو المشهور في المذهب –. وعند جمهور العلماء: وقت النهي يبدأ من بعد الصلاة، والراجح كما تقدم أنه يدخل بطلوع الفجر. ولكن مع ذلك فإن الصحيح ما ذهب إليه الشافعية، فقد قالوا: إن الصلوات ذات الأسباب تصلي في أوقات النهي ومن ذلك صلاة الكسوف؛ لعموم قوله صلى الله عليه وسلم هنا: (فإذا رأيتموهما فادع الله وصلوا) وتقدم البحث هناك في حكم الصلاة في أوقات النهي ومن ذلك صلاة الكسوف فإنها من ذوات الأسباب فتصلي في أوقات النهي. إذن الحنابلة ومثل ذلك من ذهب إلى مذهبهم: أن صلاة الكسوف لا تصلى في وقت النهي، قالوا: فإذا طلع الفجر – وهذا القول للحنابلة – أو صليت الفجر – وهو قول الجمهور – فإنهم لا يصلون صلاة الكسوف؛ لأن الوقت وقت نهي وإن كان الانتفاع موجود، فإن الانتفاع يبقى بالفجر وإن طلع الفجر فإنه يضيء في ذلك الوقت، لكن الأمر لمتعلق آخر وهو وقت النهي.

إذن المشهور عند الحنابلة أن صلاة الكسوف لا تصلى في أوقات النهي وحينئذ فيدعون الله ويذكرونه ويتصدقون ويكبرون فلا يصلون وإنما يشتغلون بالذكر والدعاء والصدقة والعتق ونحو ذلك من الأعمال التي تقدم ذكر النبي صلى الله عليه وسلم لها ومشروعيتها في يوم كسوف الشمس أو ليلة خسوف القمر، والراجح ما تقدم. قال: (أو كانت آية غير الزلزلة لم يصل) إذا كانت هناك آية من الآيات العظام كنزول صواعق أو كثرة خسف أو سقوط شيء من الكواكب على هيئة ظاهرة مخوفة فهل يشرع لهم أن يصلوا؟ قالوا: لا يشرع لهم أن يصلوا باستثناء الزلزلة، لثبوت الأثر عن ابن عباس فيها، فقد صح في البيهقي عنه: (أنه صلى في زلزلة ست ركعات في أربع سجدات) أي صلى ركعتين في كل ركعة ثلاث ركوعات، صح عنه ذلك في البيهقي بإسناد صحيح، ورواه ابن أبي شيبة بلفظ " صلى بهم " أي صلى بهم جماعة وذلك في البصرة، وقد صلى ركعتين وقال: (هكذا صلاة الآيات) . وذهب المالكية والشافعية: إلى أنه لا يشرع مطلقاً لا في الزلزلة ولا في غيرها؛ قالوا: لأنه لم يصح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ولا عن خلفائه الراشدين أن صلوا في آية من الآيات لا في زلزلة ولا في غيرها. وقال الأحناف: بل يصلي في كل آية، فكل آية من الآيات التي تشابه كسوف الشمس أو خسوف القمر، ومثل ذلك نزول الصواعق والزلازل ونحو ذلك من الآيات العظام التي يخوف الله بها عباده، قالوا: فإنه يصلي. واستدلوا بقوله صلى الله عليه وسلم: (أن الشمس والقمر آيتان من آيات الله يخوف الله بهما عباده) . قالوا: ومثل ذلك في الزلزلة ونحوها من الآيات فإن فيها تخويفاً من الله عز وجل، والأصل أن يتعدى الحكم، فما دام المعنى الموجود في خسوف الشمس والقمر موجوداً في الزلزلة والصواعق ونحوها من الآيات العظام المخوفة فإن الحكم يثبت – وهذا قياس ظاهر –.

قالوا: ولأن ابن عباس قال: (هكذا صلاة الآيات) وهذا عام، فكما أن الحنابلة استدلوا به على الزلزلة فينبغي أن يستدلوا به على عموم الآيات. وهو اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية وهو قول ظاهر. ثم إنا لا نقطع بحدوث آيات عظام كالزلازل ونحوها في عصر النبي صلى الله عليه وسلم ولا في عهد خلفائه الراشدين فلم يبلغنا وقوع مثل هذه الآيات العظام، وثبت لنا هذا القول من ابن عباس ومن صلاته ولم يعلم له مخالف. ولأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (يخوف الله بهما عباده) ، فالأظهر ما اختاره شيخ الإسلام وأن هذه الصلاة المتقدم ذكرها لا تختص بخسوف القمر أو الشمس وإنما يتعدى ذلك إلى سائر الآيات كالزلازل والصواعق ونحوها من الآيات العظام التي فيها تخويف من الله لعباده، والله أعلم. وإن صلاها كما ذكر ابن عباس، أو كصفة صلاة الكسوف فلا بأس. قال: (وإن أتى في [كل] ركعة بثلاث ركوعات أو أربع أو خمس جاز) تقدم حديث ابن عباس المتفق عليه وحديث عائشة وفيهما أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصلي في الكسوف ركعتين في كل ركعة ركوعان، وهنا قال المؤلف " أتى في كل ركعة بثلاث ركوعات أو أربع أو خمس جاز " له ذلك. ومثل ذلك لو صلاها على هيئة التطوع فصلاها ركعتين كل ركعة فيها ركوع واحد. واستدلوا بأحاديث وردت بهذه الصفات. فقد ثبت في مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم – من حديث جابر -: (صلى في الخسوف ست ركعات في أربع سجدات) أي في كل ركعة ثلاث ركوعات. وفي مسلم عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم: (صلى ثماني ركعات في أربع سجدات) . وفي أبي داود من حديث أبي بن كعب أن النبي - صلى الله عليه وسلم - صلى عشر ركعات في أربع سجدات وفي أبي داود من حديث النعمان بن بشير وعبد الرحمن بن سمرة وعبد الله بن عمرو أن النبي صلى الله عليه وسلم: (صلاها ركعتين كهيئة التطوع) .

قالوا: فهذه الأحاديث تدل على جواز ذلك وأنه يجوز له أن يصلي على خلاف الصفة المتقدمة، بل له أن يصلي في كل ركعة ثلاث ركوعات أو أربع أو خمس أو يكتفي بركوع واحد. - وذهب إسحاق بن راهويه وهو اختيار شيخ الإسلام وتلميذه واستحسنه ابن المنذر وغيره من أهل العلم، قالوا: بل المشروع له أن يصلي في كل ركعة ركوعين ولم يصححوا الأحاديث التي تقدم ذكرها، ورأوا أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يصل الكسوف في عصره إلا مرة واحدة يوم مات إبراهيم فصلى بالناس ركعتين وفي كل ركعة ركوعان، وهذا القول هو القول الراجح. أما ما ذكروه من الأحاديث فإنها أحاديث ضعيفة. أما ما رواه مسلم من حديث ابن عباس وجابر، فإن أحاديث مسلم لا شك أن أهل العلم قد اتفقوا على تصحيحها، لكن يستثنى من ذلك اليسير الذي خالفه فيها الأئمة الكبار كأحمد والبخاري وغيرهم، وحذاق أهل العلم ممن كان لهم بصيرة في هذا العلم، فكان لهم مخالفة في أحاديث من أحاديث مسلم، وفي أحاديث أقل منها في صحيح البخاري، والواجب على طالب العلم أن يصحح كل ما ثبت في صحيح مسلم إلا تلك الأحاديث التي انتقدها الأئمة النقاد أو بعضهم، فله مجال بتصحيحها أو القول بتضعيفها فلا تكون من الأحاديث التي تلقت بالقبول واتفق الحفاظ على تصحيحها، ومن ذلك هذان الحديثان " حديث ابن عباس وحديث جابر " فقد قال شيخ الإسلام: " وأما حذاق الأئمة فقد رأوا أنه غلط " يعني رواية ابن عباس ورواية جابر " ورأوا أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يصل الكسوف إلا مرة يوم مات إبراهيم. وقال ابن القيم: " وكبار الأئمة لا يصححونه " يعني بذلك حديث ابن عباس ومثله في الحكم حديث جابر.

وحديث ابن عباس من رواية: حبيب بن أبي ثابت عن طاووس عن ابن عباس، وحبيب بن أبي ثابت مدلس، لكن تدليسه في صحيح مسلم محمول على السماع عند الأئمة إلا مثل هذا الحديث الذي قد اختلف فيه فإنه يصح أن يعلل بهذا التدليس بخلاف غيره من الأحاديث التي لم ينتقدها الحفاظ فإنها محمولة على السماع. وأما حديث جابر فهو من رواية عبد الملك بن سليمان عن عطاء عن جابر، وعبد الملك بن سليمان وإن كانت أحاديثه كلها صحيحة في مسلم لكن في حفظه شيء من الضعف وإذا خولف تبين أنه قد أخطأ في هذا الحديث، وهنا كذلك فقد روى هذا الحديث هشام الدستوائى عن أبي الزبير عن جابر بلفظ: (أربع ركعات في ركعتين) ورواية هشام هي الموافقة للأحاديث المحفوظة عن النبي صلى الله عليه وسلم، كحديث ابن عباس المتفق عليه المتقدم وغيره كحديث عائشة. وحديث ابن عباس المتقدم، المحفوظ أيضاً عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم: (إنما صلى أربع ركعات) كما في الحديث المتفق عليه. بل قد ورد هذا من أكثر من طريق عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم: (أنه صلى أربع ركعات في ركعتين) . فعلى ذلك هذان الحديثان في مسلم معللان عند أهل العلم، والصواب مع من عللهما. أما حديث أبي بن كعب في أبي داود: فإن فيه أبا جعفر الرازي وهو ضعيف الحديث. وأما حديث النعمان بن بشير وعبد الرحمن بن سمرة وعبد الله بن عمرو في سنن أبي داود التي فيها أنه كان يصلي الخسوف كهيئة التطوع. فحديث النعمان بن بشير مضطرب سنداً ومتناً، وحديث عبد الرحمن بن سمره فيه جهالة، وحديث عبد الله بن عمرو إسناده صحيح لكنه مخالف للمحفوظ عن ابن عمرو رضي الله عنه، فإن الثابت عنه من غير ما طريق عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه لم يصل إلا أربع ركعات. فعلى ذلك يترجح لنا القول الثاني من أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يصح عنه في صلاة الكسوف إلا صلاة أربع ركوعات في ركعتين.

مسألة: هل يشرع بعد صلاة الكسوف الخطبة؟ لم يذكرها المؤلف هنا، وذلك لأن المشهور عند الحنابلة وهو مذهب الجمهور: أن الخطبة لا تشرع. وذهب الشافعية وهو رواية عن الإمام أحمد واختيار طائفة من أصحابه كالقاضي وابن حامد وغيرهما: أن الخطبة مشروعة وأنه يشرع له أن يخطب فيها خطبتين كالجمعة. والقول الثالث، وهو قول لبعض الحنابلة: أنه يشرع له أن يخطب لكن خطبة واحدة. والقول الأخير هو أصحها، وذلك لصحة الأحاديث الواردة أولاً بأن النبي صلى الله عليه وسلم خطب، فقد تقدم حديث ابن عباس وفيه: (ثم انصرف وقد انجلت الشمس فخطب الناس) متفق عليه، وفي الصحيحين عن عائشة قالت: (وانصرف النبي صلى الله عليه وسلم وقد انجلت الشمس فخطب الناس فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله لا يخسفان لموت أحد ولا لحياته فإذا رأيتم من ذلك فادعوا الله وكبروا وصلوا وتصدقوا، ثم قال: يا أمة محمد والله ما أحد أغير من الله أن يزني عبده أو تزني أمته، يا أمة محمد لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلاً ولبكيتم كثيراً) . وثبت أيضاً في الصحيحين من حديث أسماء وفيه: (أما بعد فإني قد رأيت في مقامي هذا ما لم أكن قد رأيته، حتى الجنة والنار، وأنه قد أوحى إلي أنكم تفتنون في قبوركم مثل أو قريباً من فتنة الدجال، يؤتى الرجل فيقال له: ما علمك بهذا الرجل، فأما المؤمن أو الموقن (1) - والشك من الراوي عن أسماء – فيقول: محمد رسول الله جاءنا بالبينات والهدى فأجبنا وآمنا واتبعنا فيقال له: نم صالحاً قد علمنا أن كنت لموقناً، وأما المنافق أو المرتاب – والشك من الراوي – فيقول: سمعت الناس يقولون شيئاً فقلته) ، فهذا الحديث شيء من خطبة النبي صلى الله عليه وسلم بعد صلاة الكسوف.

_ (1) صحيح البخاري، كتاب الكسوف: باب صلاة النساء مع الرجال في الكسوف. الفتح لابن حجر [2 / 631] .

فإذن هذه حجة ظاهرة في أنه قد خطب عليه الصلاة والسلام. وأجاب عنه الحنابلة: بأن النبي صلى الله عليه وسلم إنما خطب ليعلمهم حكم صلاة الكسوف ونحو ذلك. لكن هذا الجواب ضعيف فإن النبي صلى الله عليه وسلم عندما خطب في عيد الأضحى في الأضاحي ولم يقل بعدم مشروعيتها لكلامه في الأضاحي، ثم إن النبي صلى الله عليه وسلم قد ذكّر الناس ووعظهم – كما تقدم في الخطب السابقة عنه، ثم إن الحاجة إلى بيان حكمها يحتاج إليها مطلقاً من النبي صلى الله عليه وسلم وغيره. فإذن الصحيح هو مشروعيتها، لكن الأحاديث المتقدمة لا تدل على ما ذهب إليه الشافعية من أنه يشرع لها خطبتان وإنما ظاهرها أنها خطبة واحدة، وهذا ما ذهب إليه بعض الحنابلة وهو القول الراجح. وهذه الخطبة ليست شرطاً في صحة الصلاة، كما أن حضورها سنة كما تقدم في الكلام على خطبة العيد؛ وذلك لأن ليس فيها إلا مجرد فعله – عليه الصلاة والسلام – ومجرد الفعل لا يدل على الوجوب. مسألة: إذا اجتمع صلاة كسوف وشيء آخر كصلاة عيد أو مكتوبة أو نحو ذلك؟ إذا خشي فوات إحداهما فإنها تقدم على ما لم يخش فواته. مثلاً: إذا لم يعلم بثبوت العيد إلا في الضحى الكبير وخشي إن اشتغلوا بصلاة الكسوف أن تفوتهم صلاة العيد وظنوا تأخر الكسوف، فحينئذ يشتغلون بصلاة العيد لخشية فواتها. مثال آخر: إن كسفت الشمس وحضرت صلاة مكتوبة فخشوا إن اشتغلوا بالصلاة المكتوبة أن يفوت الكسوف مع أن وقت هذه الصلاة موسع، فحينئذ: يشتغلون بصلاة الكسوف. أما إذا خشي فوات الجميع فإنهم يقدمون أوجبهما، وإن لم نقل بوجوب صلاة الكسوف فإنه يقال: يقدم أوكدهما. والحمد لله رب العالمين ا انتهى باب صلاة الكسوف باب: صلاة الاستسقاء الاستسقاء هو طلب السقي أي بنزول المطر ونحوه. فصلاة الاستسقاء هي الصلاة المشروعة لطلب السقي من الله تعالى. قال المؤلف رحمه الله تعالى: (إذا أجدبت الأرض وقحط المطر صلوها)

" قحط المطر " أي احتبس، والجدب هو ضد الخصب. فالجدب هو أن تمحل الأرض فلا تنبت، أو تنبت الشيء اليسير الذي لا تقوم به حاجة العباد. وقحط المطر هو احتباسه. ومثل ذلك: إن غاض شيء من الأنهار أو شيء من العيون أو نحوها التي تقوم بحاجة الناس من الماء الذي به حياتهم. " صلوها " أي صلوا صلاة الاستسقاء. ويدل على ذلك: ما ثبت في الصحيحين عن عبد الله بن زيد بن عاصم المازني قال: (خرج النبي صلى الله عليه وسلم يستسقى فتوجه إلى القبلة يدعو ثم حول رداءه وصلى ركعتين) ولذلك غيره من الأحاديث. قال: (صلوها جماعة وفرادى) أي لهم أن يصلوها فرادى في البيوت، ولهم أن يصلوها جماعة، والأفضل عند جمهور العلماء أن يصلوها جماعة لفعل النبي صلى الله عليه وسلم فإنه إنما صلاها جماعة. إذن: المستحب والمشروع له أن يصليها جماعة لفعل النبي صلى الله عليه وسلم، فإن صلوا فرادى فلا بأس. قال: (وصفتها في موضعها وأحكامها كعيد) أي صفة صلاة الاستسقاء أي هيئتها وكيفيتها، وموضعها الذي تصلي فيه، كصلاة العيد.

أما موضعها فهو المصلى، فالمستحب أن تصلى صلاة الاستسقاء في المصلى، ويدل على ذلك: ما ثبت في أبي داود بإسناد جيد عن عائشة قالت: (شكي الناس إلى النبي صلى الله عليه وسلم قحوط المطر، فأمر بمنبر فوضع له بالمصلى ووعد الناس يوماً يخرجون فيه مخرج حين بدا حاجب الشمس فقعد على المنبر فكبر رسول الله وحمد الله ثم قال: (إنكم شكوتم جدب دياركم وإن الله أمركم أن تدعوه ووعدكم أن يستجيب لكم،ثم قال: الحمد لله رب العالمين الرحمن الرحيم ملك يوم الدين، لا إله إلا الله يفعل ما يريد، اللهم أنت الله لا إله إلا أنت، أنت الغني ونحن الفقراء إليك، أنزل علينا الغيث، واجعل ما أنزلته علينا قوة وبلاغاً إلى حين، ثم رفع يديه فلم يزل حتى رئي بياض إبطيه ثم حول إلى الناس ظهره وقلب رداءه وهو رافع يديه، ثم حول إلى الناس وجهه ونزل فصلى ركعتين، فأنشاء الله سحابة فرعدت وبرقت ثم أمطرت) . وأما كون هيئتها كهيئة صلاة العيد أي بالتكبير سبعاً في الأولى مع تكبيرة الإحرام، وخمساً في الثانية دون تكبيرة الانتقال، وأن يجهر فيها بالقراءة وأن يقرأ بسبح والغاشية ونحوها مما ورد في صلاة العيد، فيدل عليه: ما ثبت عند الخمسة ورواه الترمذي وصححه، وصححه ابن خزيمة وابن حبان، والحديث حسن عن ابن عباس قال: (خرج النبي صلى الله عليه وسلم متواضعاً متبذلاً متخشعاً مترسلاً فصلى ركعتين كما يصلي في العيد لم يخطب خطبتكم هذه) والشاهد قوله: (فصلى ركعتين كما يصلي في العيد) أي كهيئة صلاة العيد من التكبير والجهر في القراءة وغيرها. وأما الجهر بالقراءة فقد ثبت في حديث عبد الله زيد بن عاصم – المتقدم – فقد قال: (خرج النبي صلى الله عليه وسلم يستسقي ….. وتمامه " فصلى ركعتين جهر فيهما بالقراءة) .

فإذن تصلى صلاة الاستسقاء كما تصلى صلاة العيد، بالتكبيرات السبع مع تكبيرة الإحرام في الركعة الأولى، وبالتكبيرات الخمس في الركعة الثانية دون تكبيرة الانتقال، وبما ورد عن ابن مسعود مما يقال بين التكبيرات ويجهر فيهما بالقراءة ويقرأ بما ورد في صلاة العيد. قال: (وإذا أراد الإمام الخروج لها وعظ الناس وأمرهم بالتوبة من المعاصي والخروج من المظالم) وذلك لأن المعاصي والمظالم سبب للقحط وزوال النعم، ويدفع هذا النقم بضد سببها وهو فعل الطاعات وتقوى الله عز وجل لذا قال تعالى: {ولو أن أهل القرى آمنوا واتقوا لفتحنا عليهم بركات من السماء والأرض} . فإذن يحثهم الإمام على تقوى الله وعلى الخروج من المظالم وعلى الاشتغال بطاعة الله فإن هذا هو السبب الأعظم في دفع ما هم فيه مما هو مظنة العقوبة. قال: (وترك التشاحن) . فإن التشاحن له أثر في ذلك، وقد تقدم أن النبي صلى الله عليه وسلم ذكر من الثلاثة الذين لا ترفع صلاتهم فوق رؤوسهم شبراً – كما ورد في ابن ماجه وغيره: (أخوان مُتصارمان) (1) فالدعاء والصلاة لا يرتفعان مع التشاحن فكان على الإمام أن يحثهم على ترك التشاحن فإنه سبب عظيم لوقوع النقم. وقد ثبت في البخاري أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (خرجت لأخبركم بليلة القدر فتلاحى فلان وفلان فرفعت) رفعة هذه النعمة من الإخبار بليلة القدر رفعت بسبب شيء من التلاحي الذي وقع بين بعض المسلمين. قال: (ويأمرهم بالصيام والصدقة) والصيام سبب لإجابة الدعوة، كما قال صلى الله عليه وسلم في دعوت الصائم أنها لا ترد.

_ (1) ضعيف الجامع ص383.

والصدقة أيضاً سبب لإطفاء غضب الرب، فالصدقة تطفئ غضب الرب كما صح ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم، وقد قال صلى الله عليه وسلم كما ثبت في ابن ماجه: (وما منع قوم زكاة أموالهم إلا منعوا القطر من السماء ولولا البهائم لم يمطروا) فدل على أن الصدقة تركها سبب لمنع القطر، فكان المستحب له أن يحثهم على الصيام والصدقة. قال: (ويعدهم يوماً يخرجون فيه) ليتهيئوا لهذا اليوم وقد تقدم قول عائشة عن النبي صلى الله عليه وسلم: (ووعد الناس يوماً يخرجون فيه) ولم أر دليلاً يدل على تحديد يوم من الأيام وأنه يستحب أن يكون ذلك في يوم اثنين أو خميس أو نحو ذلك، فلم يثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم فضيلة ليوم من الأيام في تحديد الاستسقاء. قال: (ويتنظف) أي الإمام والمصلي. يتنظف بإزالة الأوساخ وبالغسل، أما إزالة الأوساخ فهو ظاهر لما في ذلك من الأذى. وأما كونه يستحب له أن يغتسل فلا دليل عليه من فعل النبي - صلى الله عليه وسلم - ولا من فعل أصحابه كما بين ذلك ابن قيم الجوزية. فاستحباب الحنابلة للاغتسال له لا دليل عليه، وقد خرج النبي صلى الله عليه وسلم – في الحديث المتقدم -: (متواضعاً متبذلاً " أي غير متزين في الهيئة " متخشعاً " أي مظهراً للخشوع " مترسلاً " أي على رسله في مشيه عليه السلام، ففيه استحباب ترك الزينة والغسل فيها، ألا أن يكون الأذى لا يزول إلا باغتسال فإنه ولا شك يستحب الاغتسال لإزالة الأذى الذي يؤذي المؤمنين عند اجتماعهم. قال: (ولا يتطيب) اتفاقاً، لقوله: (متبذلاً) فلا يستحب التطيب بل يخرج غير متزين ولا متطيب. قال: (ويخرج متواضعاً متخشعاً متذللاً متضرعاً) كما تقدم من فعله عليه الصلاة والسلام. قال: (ومعه أهل الدين والصلاح)

فإن المؤمنين يتوسلون إلى الله بدعائهم، فقد ثبت في البخاري عن عمر أنه قال: (اللهم إنا كنا نستسقي إليك بنبينا فتسقينا وإنا نتوسل إليك بعم نبيك فاسقنا) ، فيستحب للإمام أن يدعو أهل الصلاح والخير والمشهورين بالتقوى والعبادة والعلم ونحو ذلك - يدعوهم - لحضورها فإنا نتوسل إلى الله بدعائهم وتأمينهم لإنزال القطر. قال: (والشيوخ والصبيان المميزون) فإنه إنما يطلق الصبي على المميز، ويخرج من ذلك الطفل فإنه ليس محلاً للعبادة، بخلاف الصبي المميز فإنه محل للعبادة فقد قال صلى الله عليه وسلم: (مروهم بالصلاة لسبع واضربوهم عليها لعشر) فيدعى الشيوخ من أهل السن، ويدعى الصبيان المميزون الذين تصح عبادتهم، لقوله صلى الله عليه وسلم كما في البخاري: (هل تنصرون وترزقون إلا بضعفائكم) . قال: (وإن خرج أهل الذمة منفردين عن المسلمين لا بيوم لم يمنعوا) إذن: لا يستحب أن تدعى إليها أهل الذمة، فهم أعداء الله وأعداء دينه وهم قد كفروا بنعمة الله عز وجل، فقمن ألا يستجاب لهم في دعوتهم مع المؤمنين، بل يخشى أن يقع ضد ذلك، فلم يكن مستحباً دعوتهم إلى حضور استسقاء المؤمنين، لكن إن خرجوا منفردين عن المسلمين لا بيوم لم يمنعوا. إذن: يخرجون لكن يخرجون منفردين أي هم بجهة والمؤمنون بجهة أخرى، وعللوا ذلك: بأنهم قد تقع العقوبة عليهم من الله كما وقعت على من قبلهم فيما وقع على قوم عاد في استسقائهم فذكر الله أنهم رأوا سحابة فظنوها مطراً فإذا فيها عذاب الله عز وجل: {فلما رأوه عارضاً مستقبل أوديتهم قالوا هذا عارض ممطرنا بل هو ما استعجلتم به ريح فيها عذاب أليم} ، وقد قال تعالى: {واتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة} . إذن: استحب الفقهاء أن يكون خروج أهل الذمة من اليهود والنصارى إن خرجوا أن يكون خروجهم على هيئة الانفراد عن المؤمنين.

وعللوا ذلك: بأنهم مظنة العقوبة من الله عز وجل فيخشى أن تقع العقوبة عليهم وعلى المسلمين عامة كما قال تعالى: {واتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة} وكما قص الله علينا في قوم عاد ما قص من نزول العذاب عليهم وقد حسبوه سحاباً ينزل عليهم به المطر. وألا يكون ذلك بيوم يختصون به، بل يكون خروجهم بنفس اليوم الذي يخرج به المؤمنون، فيكون اليوم واحداً للجميع. قالوا: لئلا يوافق ذلك اليوم نزول مطر فتقع الفتنة عليهم وعلى بعض الأغرار من المؤمنين فيقولون مطرنا بسببهم. فإذن: لا يمنع أهل الذمة من الخروج إن خرجوا، ولا يدعون له، لكن إن خرجوا فيكون خروجهم – أولاً – على هيئة الانفراد عن المؤمنين، وألا يختصوا بيوم خاص بهم بل يكون هو اليوم الذي خرج به المسلمون. مسألة: وقت صلاة الاستسقاء ابتداءً كوقت صلاة العيد لذا قالت عائشة: (فخرج حين بدا حاجب الشمس) فوقتها وقت صلاة العيد في الأفضلية ولا تصلى في وقت النهي للسعة، فإن وقتها متسع بخلاف صلاة الكسوف، فيصلى في وقت صلاة العيد وهذا على الأفضلية عند جمهور أهل العلم. لكن لو صلاها في وقت آخر كبعد الزوال لم يمنع من ذلك، وهذا عند جمهور أهل العلم. والحمد لله رب العالمين. قال المؤلف رحمه الله تعالى: (فيصلي بهم، ثم يخطب واحدة يفتتحها بالتكبير كخطبة العيد) هنا مسألتان: المسألة الأولى: أن خطبة الاستسقاء بعد الصلاة، فيصلي ثم يخطب. المسألة الثانية: أنها خطبة واحدة. أما المسألة الأولى: فهذا هو مذهب الجمهور وهو المشهور في المذهب من أن الخطبة تكون بعد الصلاة. واستدلوا: بما رواه البيهقي في سننه عن أبي هريرة قال: (استسقى النبي صلى الله عليه وسلم فصلى ركعتين بلا أذان ولا إقامة ثم خطبنا) ، وبالقياس على صلاة العيد، فإنها أشبهتها بالصفة فالقياس يقتضي أن تكون الصلاة قبل الخطبة.

- القول الثاني، وهو رواية عن الإمام أحمد وهي سوى الرواية المشهورة عنه المتقدمة، وهو مذهب الليث بن سعد وابن المنذر: أن الخطبة قبل الصلاة، فيخطب ثم يصلي. واستدلوا: بحديث عبد الله بن زيد بن عاصم المازني المتقدم وفيه: أن النبي صلى الله عليه وسلم: (توجه إلى القبلة يدعو وحول رداءه ثم صلى ركعتين) ، فكانت خطبته وهي الدعاء قبل صلاته. وبحديث أبي داود المتقدم من حديث عائشة، فإن النبي صلى الله عليه وسلم: (لما أتى المصلى قعد على المنبر فخطب الناس) الحديث. وتقدم: وفيه (ثم نزل فصلى ركعتين) . قالوا: فهذان حديثان صحيحان عن النبي صلى الله عليه وسلم، وإذا ثبت الحديث فإنه لا يصح القياس بل القياس مع النص فاسد، وأما حديث أبي هريرة فإن فيه النعمان بن راشد وهو ضعيف فعلى ذلك الحديث ضعيف. فعليه: الصحيح أن الخطبة قبل الصلاة كما هو رواية عن الإمام أحمد. أما المسألة الثانية: فهي أن الخطبة إنما تكون واحدة – وهذا خلافاً لمذهب مالك والشافعي وأن المشروع أن تكون خطبتين إذ لا دليل على ما ذهبوا إليه – فإن الأحاديث التي تقدم ذكرها التي فيها خطبته، ليس فيها أنه خطب خطبتين. وقياسهم على الجمعة أو على العيد قياس مع ثبوت الحديث المخالف عن النبي صلى الله عليه وسلم فلا يلتفت إلى هذا القياس مع ثبوت ما هو ظاهر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه إنما خطب خطبة واحدة – وهذا هو المشهور في مذهب الحنابلة وأن المشروع أن تكون خطبة واحدة. قال: (يفتتحها بالتكبير كخطبة العيد) . فيفتتحها بالتكبير تسعاً، كخطبة العيد. وعن الإمام أحمد وهو اختيار ابن رجب من الحنابلة: أن التكبير لا يشرع أن يفتتح به في خطبة الاستسقاء بل تفتح بالحمد كسائر خطبه صلى الله عليه وسلم.

والصحيح ما ذهب إليه أهل القول، وأنها تسن أن تفتح بالحمد وبالتكبير. لحديث عائشة المتقدم قالت: (فكبر رسول الله وحمد الله) ، لكن ليس فيه أن التكبير تسع بل فيه أن النبي صلى الله عليه وسلم كبر مفتتحاً خطبته، فالمستحب له هو التكبير والحمد من غير أن يحدد ذلك بعدد معين بل يقال بمطلق التكبير. قال: (ويكثر فيها الاستغفار وقراءة الآيات التي فيها الأمر به) فيكثر فيها الاستغفار، ويكثر قراءة الآيات التي فيها ذكر الاستغفار كقوله تعالى: {فقلت استغفروا ربكم إنه كان غفاراً يرسل السماء عليكم مدراراً} ونحوها من الآيات التي فيها الأمر بالاستغفار، وقد ثبت في الصحيحين: أن عبد الله بن يزيد – وكان من صغار الصحابة وكان والياً على الكوفة – (خرج ومعه البراء بن عازب وزيد بن أرقم – وهما صحابيين فقام بهم على الأرض على غير منبر فاستغفر الله ثم صلى ركعتين بلا أذان ولا إقامة) فقوله: " استغفر " وهو صحابي ويقر من صحابيين من الصحابة يدل على مشروعية الاستغفار في الخطبة. قال: (ويرفع يديه في خطبته) وقد ثبت ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم، فقد ثبت في الصحيحين عن أنس قال: (لم يكن النبي صلى الله عليه وسلم يرفع يديه في شيء من دعائه إلا في الاستسقاء حتى يرى بياض إبطيه) ، وقد تقدم حديث عائشة في أبي داود وفيه أن النبي صلى الله عليه وسلم: (رفع يديه ولم يزل حتى رئي بياض إبطيه ثم حول إلى الناس ظهره وقلب رداءه وهو رافع يديه) . فإذن: يستحب له أن يرفع يديه في خطبة الاستسقاء، وليس هذا مختصاً بالإمام بل للإمام وغيره من المصلين، ففي صحيح البخاري من حديث أنس: (فرفع النبي صلى الله عليه وسلم ورفع الناس أيديهم) . قال: (ويدعو بدعاء النبي صلى الله عليه وسلم) استحباباً، فيستحب أن يدعو في خطبته بما دعا به النبي صلى الله عليه وسلم. قال: (ومنه اللهم اسقنا غيثاً مغيثاً ….الخ)

فقد ثبت في أبي داود أن النبي صلى الله عليه وسلم: (أتته بواكي " أي يسألنه أن يتوسل إلى الله عز وجل وأن يستسقى الله سبحانه، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (اللهم أغثنا غيثاً مغيثاً " أي تزول به الشدة " مريئاً " هو السهل النافع للباطن " مريعاً " المريع هو المخصب الذي يخصب الأرض فتنتفع به الأرض، وضبطت " مُريعاً " من الربيع " نافعاً غير ضار عاجلاً غير آجل) . وثبت عنه كما روى ذلك أبو عوانة في صحيحه – فيما ذكره الحافظ في البلوغ – من حديث سعد بن أبي وقاص: أن النبي صلى الله عليه وسلم استسقى فقال: (اللهم جللنا " أي عممنا " سحاباً كثيفاً قصيفاً " القصيف هو ذو الرعد " دلوقاً " أي متدفقاً بشدة " ضحوكاً " أي كثير المطر " تمطرنا منه رُذاذاً " الرذاذ هو دون الطش " قِطْقِطاً " وهو ما دون الرذاذ " سَحْلاً يا ذا الجلال والإكرام) . وثبت عنه أيضاً في سنن أبي داود بإسناد حسن أنه قال – في استسقائه عليه السلام: (اللهم أسق عبادك وبهائمك وانشر رحمتك وأحي بلدك الميت) رواه أبو داود بإسناد جيد. فيدعو بما ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم استحباباً، ويزيد ما شاء من الدعاء المباح المناسب للمقام من طلب السقيا من الله عز وجل. * واعلم أن الأحاديث الواردة عن النبي صلى الله عليه وسلم في خطبته في الاستسقاء يدل على أنه لم يكن يخطب خطبة يعظ فيها الناس ويذكرهم وإنما كان – عليه الصلاة والسلام – يشتغل في خطبته بدعاء الله عز وجل وإخبارهم أن الله يجيب الدعوة – كما تقدم في حديث عائشة - ولم يكن – عليه الصلاة والسلام – يعظهم ولا يذكرهم ولا يعلمهم شيئاً من الأحكام، ولذا قال ابن عباس – في حديثه المتقدم -: (لم يخطب خطبتكم هذه ولكن لم يزل في الدعاء والتضرع والتكبير) .

فإذن هي خطبة ليست كخطبة الجمعة ولا العيد ولا نحوهما مما تكون فيها المواعظ والتذكير، بل هي خطبة يشتغل بها الإمام بدعاء الله ويؤمّن الناس من خلفه. ويستحب له أن يقلب رداءه وهو رافع يديه، فقد تقدم حديث عائشة في رفع النبي صلى الله عليه وسلم يديه بالدعاء ودعوته العامة التي أمّن الناس عليها قالت: (ثم حول إلى الناس ظهره) - أي لما دعا الدعاء الذي رفع به الصوت – حول إلى الناس ظهره واستقبل القبلة وقلب رداءه وهو رافع يديه. فيستحب للإمام والمصلين أن يقلبوا أرديتهم. وقد ثبت هذا في الحديث المتفق عليه المتقدم من حديث عبد الله بن زيد ابن عاصم المازني وفيه: (وحول رداءه) . وصفة قلب الرداء: أن يجعل أيمن الرداء الواقع على الكتف الأيمن يجعله على الكتف الأيسر، ويجعل أيسره وهو الواقع على الكتف الأيسر في الطبيعة يجعله على الكتف الأيمن ويجعل ظاهره في موضع باطنه، وباطنه في موضع ظاهره. يدل عليه: ما ثبت في أبي داود بإسناد صحيح قال: (فجعل عطافه الأيمن على عاتقه الأيسر وعطافه الأيسر على عاتقه الأيمن) . وأما كونه جعله ظهراً لبطن، فقد ثبت هذا في مسند أحمد بإسناد صحيح وفيه: (فجعله ظهراً لبطن) . - وذهب بعض أهل العلم: إلى أنه يستحب له أن يأخذه من أسفل أي يأخذه من أسفل الرداء ويرفعه إلى الأعلى، فيكون الأعلى في موضع الأسفل والأسفل في موضع الأعلى. واستدلوا: بما رواه أبو داود في سننه: أن النبي صلى الله عليه وسلم: (استسقى وعليه خميصة [له] سوداء، فأراد أن [يأخذ] بأسفلها فيجعله أعلاها [فلما] ثقلت عليه قلبها على عاتقه) (1) أي حول العاتق الأيمن إلى العاتق الأيسر وهذا الحديث: إنما هو ظن من الراوي بدليل أن الصحابة قد حولوا أرديتهم كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم من فعله، ولم يفعلوا ما همّ به، ففي مسند أحمد: (وحول الناس أرديتهم) .

_ (1) سنن أبي داود [1 / 688] .

فإذن: هذا مجرد ظن من الراوي، فالنبي صلى الله عليه وسلم أراد أن يقلب الجهة السفلى فيجعلها في الجهة العليا، فظن الراوي أن ذلك ثقل عليه وإنما تحول عنه وعليه الصلاة والسلام إلى طريقة أخرى فأخذ الجهة اليمنى فوضعها في الجهة اليسرى، واليسرى وجعلها في الجهة اليمنى فكان ظهراً لبطن. إذن هذه الصفة هي الصفة المستحبة في قلب الرداء، وإنما فعل ذلك النبي صلى الله عليه وسلم – فيما يظهر، والله أعلم - تفاؤلاً بتحول القحط وبتغير الأرض مما هي عليه من الجدب إلى الخصب. قال جعفر الباقر - رحمه الله وهو من أتباع التابعين أو من أتباعهم قال -: (وحول النبي صلى الله عليه وسلم رداءه ليتحول القحط) رواه الدارقطني بإسناد صحيح، وهو كما قال رحمه الله فهي مظنة قوية وأنه إنما فعل ذلك تفاؤلاً أن تتحول الأرض من جدبها إلى الخصب ومن انقطاع المطر فيها إلى هطوله، ولا مانع أن تكون لها حكم أخرى مما يخفى علينا. قال: (وإن سقوا قبل خروجهم شكروا الله وسألوه المزيد من فعله) قوله: " وإن سقوا " فإن لم يسقوا فإنهم يستسقون ثانية وثالثة ورابعة ويلحون على الله بالدعاء حتى يستجيب الله لهم، فيكررون الاستسقاء مرة بعد مرة وينوعون الاستسقاء ما بين دعاء مطلق ودعاء في الجمعة ونحو ذلك حتى يستجيب الله لهم. * إن سقوا قبل خروجهم وتهيئهم – وهذه الصورة الثانية – فنزل المطر الذي تزول به الشدة قبل خروجهم وتهيئتهم، فإنه لا يشرع لهم أن يخرجوا إلى الصلاة وأدائها؛ وذلك لذهاب المقصود من خروجهم فإن المقصود هو طلب السقيا وقد حصل ذلك فزال السبب المقتضي للاستسقاء. وأما – وهي الصورة الثالثة - إن سقوا بعد تهيئهم وقبل خروجهم، فإنه – في المشهور من المذهب – يستحب لهم أن يخرجوا فيصلوا.

- وقال المرفق ابن قدامة: بل لا يستحب لهم ذلك وإن تيهؤا؛ لأنه – كذلك – قد زال المقصود من هذه الصلاة ولم يخرجوا إليها، وهذا هو القول الراجح؛ فإن تهيؤهم ليس بمؤثر ما دام أن المقصود قد زال، فإن المقصود هو الاستسقاء فخروجهم إنما هو لقصد الاستسقاء فما دام أن ما قصدوه قد حصل من خروج واستسقاء فإنه لا يشرع لهم ذلك لزوال المقصود. وأما – وهي الصورة الرابعة – إن خرجوا إلى المصلى فنزل الغيث، فهنا يستحب لهم أن يصلوا، قالوا: لخروجهم فلا ينبغي أن يعودوا من غير صلاة، فيكون ذلك شكراً لله وسؤلاً للمزيد. قال صاحب الإنصاف: " بلا خلاف أعلمه ". فالمسألة إن كان فيها إجماع فكما تقدم، وأما إن لم يكن فيها إجماع فالأمر واسع إن شاء الله – وفي الحقيقة – نزول الغيث أثناء الاستسقاء قد لا يتبين للمصلين هل يكون نزوله على هيئة كافية لما خرجوا من أجله، فيكون استسقاؤهم لمظنة كون المطر قليلاً غير كاف ولسؤال الله المزيد. إذن: إن خرجوا ونزل المطر فيشرع لهم أن يصلوا طلباً لثبوت المطر، ولأنه لا يقطع أن يكون هذا المطر الذي قد خرجوا لطلبه من الله وتهيؤوا تهيؤاً تاماً حتى خرجوا إلي المصليات لا يقطع أن يكون هذا المطر كافياً أو أن يستمر على هيئة كافية لهم فحينئذ يستحب لهم الاستسقاء، قال صاحب الإنصاف: " بلا خلاف أعلمه ". مسألة: إذا وقع القحط في بلد فهل يستحب لغيرها من البلدان أن يستسقوا لهم؟ المشهور في المذهب: أنه لا مانع من ذلك، وقيل بالاستحباب. وقال بعض الحنابلة: لا يستحب ذلك ولا يشرع.

وهذا القول – فيما يظهر لي – أظهر، وذلك لأن النبي صلى الله عليه وسلم إنما استسقى هذا الاستسقاء العام الذي يخرج به الناس إلى المصليات ويستغيثون بالله عز وجل – إنما فعله حيث وقع الجدب في المدينة واحتاج الناس إلى المطر. وأما كون المسلم يعين أخاه المسلم بدعوته فإن ذلك بمطلق الدعاء فيستحب له أن يدعو له في صلاته وفي سائر أوقات الإجابة ونحو ذلك – من غير أن يكون هذا على الهيئة المشروعة التي جعلها النبي صلى الله عليه وسلم وأظهرها حيث كان الجدب بالمدينة. فينبغي أن يكون ذلك مختصاً حيث وقع الجدب بأهل البلد أنفسهم، أما إن وقع في غيرهم فإنهم يسألون الله لغيرهم سؤالاً مطلقاً من غير أن يكون مختصاً بهذه الطريقة الواردة عن النبي صلى الله عليه وسلم. مسألة: متى يعيد رداءه ويرجعه كما كان، بعد قلبه؟ الظاهر أنه يرجعه على هيئته بعد خلعه، فكون النبي صلى الله عليه وسلم يطلق ولم يرد أنه قد أرجعه فيبقى على هذا. لكن بعض الألبسة لا يصلح قلبها كالفراء فحينئذ يكتفي بقلب عمامته، وإنما يقلب ما كان ظاهره قريباً من باطنه، وإنما يقلب الأشياء الظاهرة أما الباطنة فلا. وأنواع الاستسقاء: الأول: في خطبة الجمعة كما ثبت في الصحيحين من حديث أنس وغيره: (أتى رجل والنبي صلى الله عليه وسلم يخطب فقال: هلكت الأموال وانقطعت السبل فادع الله يغيثنا فرفع يديه وقال: (اللهم أغثنا) ثلاثاً) . الثاني: في الصلاة كما تقدم. الدعاء بلا صلاة، كما يدل عليه حديث النبي صلى الله عليه وسلم عندما أتى إليه نساء بواكي فقال: (اللهم أغثنا غيثاً مغيثاً) الحديث. والحمد لله رب العالمين. قال المؤلف رحمه الله تعالى: (وينادى لها: الصلاةُ جامعة) ويصح " الصلاةَ جامعة "، فينادى لصلاة الاستسقاء كما ينادى لصلاة الكسوف بقول: " الصلاة جامعة " – هذا هو المشهور في المذهب. واستدلوا: بالقياس على صلاة الكسوف.

وذهب بعض الحنابلة وهو اختيار شيخ الإسلام: إلى أن ذلك لا يشرع؛ ذلك لأن قياس الاستسقاء على صلاة العيد أولى، وقد ثبت عن جابر في مسلم: قال: (صلى النبي - صلى الله عليه وسلم - العيد بلا أذان ولا إقامة ولا شيء) . ثم إن مقتضى ذلك وجد في عصر النبي صلى الله عليه وسلم ولم يصح حديث عنه بأن نادى لها بقول: " الصلاة جامعة ". فعلى ذلك: الراجح ما ذهب إليه أهل القول الثاني وأنه لا يشرع له أن ينادى " الصلاة جامعة " لأن هذا لم يصح عن النبي صلى الله عليه وسلم مع وجود مقتضيه ذلك، ولأن قياسها على صلاة العيد أولى فإنها تشبهها بتكبيراتها ونحو ذلك. قال: (وليس من شروطها إذن الإمام) لما تقدم في صلاة العيد، فلا يشترط أن يأذن الإمام للناس بذلك لأنها نافلة وبها يندفع عن الناس الضر، وهو طلب رزق من الله عز وجل، فلم يكن شرطها إذن الإمام. وينبغي أن يتدبر - في هذه المسألة –، فليس مراد الحنابلة هنا من أنه لا يشترط لها إذن الإمام، أنها تفعل ولو منع أو خشيت الفتنة بإقامتها، وإنما مرادهم أنهم لو أقاموها من غير أن يستأذنوه فإنها صحيحة، وليس مرادهم أنها تقام مع منعه أو مع خشية الفتنة فإنه يترتب مفسدة أعظم من المصلحة المرجوة والشريعة قد أتت بدرء المفاسد وجلب المصالح. كما تقدم في صلاة الجمعة فيه أنه لا يشترط إذن الإمام أي لا يشترط أن يصرح بالإذن، أما إن صرح بالمنع أو خشيت الفتنة بإقامتها فإنها لا تقام. قال: (ويسن أن يقف في أول المطر) فيصيب المطر بدنه، وذلك لما ثبت في مسلم وأنس قال: (أصابنا مع النبي صلى الله عليه وسلم مطر فحسر ثوبه حتى أصابه من المطر وقال: إنه حديث عهد بربه) فهو حديث خلق وإيجاد. قال: (وإخراج رحله وثيابه ليصبهما المطر) الرحل هو السرج أي ما يكون على الدابة مما يضعه الراكب عليها.

قالوا: فيستحب له أن يخرج سرجه وثيابه ليصيبهما من المطر، وقد ورد ذلك عن ابن عباس أنه: (كان يأمر جاريته أن تخرج سرجه وثيابه ويقرأ قوله تعالى: {وأنزلنا من السماء ماءً مباركاً} ) . وهذا الأثر إسناده لا بأس به، رواه البخاري في الأدب المفرد، ورواه الشافعي من غير سند، واستدل به الحنابلة على هذه المسألة. فيستحب له أن يبدي شيئاً من ثيابه أو أثاثه أو متاعه أو شيئاً من بدنه ليصيبه المطر. ويستحب له أن يقول: (اللهم صيباً نافعاً) ، كما ثبت ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم في الصحيحين: (أنه كان إذا رأى المطر قال: (اللهم صيباً نافعاً) . وإذا سمع الرعد أن يقول ما ثبت عن ابن الزبير في موطأ مالك وغيره بإسناد صحيح: (سبحان من يسبح الرعد بحمده والملائكة من خيفته) . والدعاء مرجو عند نزول المطر فهو من مظان الإجابة، وقد ورد هذا عن النبي صلى الله عليه وسلم من طرق يرتقي بها هذا المتن إلى درجة الحسن إن شاء الله، وأن نزول الغيث من الأحوال التي يرجى فيها إجابة الدعوة. قال: (وإذا زادت الأمطار وخيف منها) فإذا زادت مياه الأمطار أو مياه العيون أو الأنهار فخشي أن تطغي على شيء من البيوت، فيستحب أن يدعوا الله برفع ذلك مع بقاء المنفعة الثابتة في الماء على الوجه الذي تتم به حاجة العباد. قال: (سن أن يقول: اللهم حوالينا ولا علينا اللهم على الظراب والآكام وبطون الأودية ومنابت الشجر) ويقول هذا في المطر. " الظراب " هي الروابي الصغار. " الآكام " هي الجبال الصغار وهي ما نسميها نحن بـ " الخزوم "، ويكون عليها الحجر وهي مع ذلك تنبت العشب. " وبطون الأودية " وهي الأماكن المنخفضة في الأودية. " ومنابت الشجر " أي أصولها.

فقد ثبت هذا عن النبي صلى الله عليه وسلم – في الصحيحين – في حديث أنس في دعوته عليه الصلاة والسلام وهو على المنبر قال الراوي: (فأمطرت فلم نر الشمس ستاً " أي أسبوعاً " فجاء رجل من الجمعة القابلة فشكى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم انقطاع السبل وهلاك الأموال فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (اللهم حوالينا ولا علينا اللهم على الآكام والظراب وبطون الأودية ومنابت الشجر) (1) متفق عليه. قال: (ربنا لا تحملنا ما لا طاقة لنا به، الآية) هذا الدعاء لم يرد عن النبي صلى الله عليه وسلم ولكن ليس ذلك شرطاً فيه، وإنما هو من الدعاء المباح الذي وافق هذه المناسبة، فلا بأس أن يدعوا الله ويسبحوه مما لم يثبت في السنة بخصوصية – أي في هذا الموضع – ومن ذلك: {ربنا لا تحملنا ما لا طاقة لنا به …} إذن: الوارد عن النبي صلى الله عليه وسلم ما تقدم في الحديث المتفق عليه من حديث أنس، وأما ما ذكره المؤلف فإنه لم يثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم لكنه لا بأس بالدعاء به أو بغيره من الأدعية المباحة المناسبة للمقام. والحمد لله رب العالمين. تم – بحمد الله تعالى – شرح كتاب الصلاة من زاد المستقنع، لفضيلة الشيخ / حمد بن عبد الله الحمد، حفظه الله تعالى ونفع به، ويليه كتاب الجنائز. الدرس الثالث والأربعون بعد المئة (يوم الجمعة: 14 / 7 / 1415 هـ) كتاب الجنائز الجنائز: جمع جِنازة – بالكسرة – في الأفصح، وتصح بالفتح " جَنازة ". وهي: من جَنزَ الشيءُ إذا ستر. ويسمى بالجنازة: الميت؛ لأنه مستور بكفنه. وكذلك: النعش وعليه الميت. أما النعش أو السرير من دون الميت فإنه لا يسمى جنازة بل يسمى نعشاً أو سريراً أو نحو ذلك. قال المؤلف رحمه الله تعالى: (تسن عيادة المريض) يستحب للمسلم أن يعود المريض.

_ (1) الفتح لابن حجر [2 / 589] ، كتاب الاستسقاء: باب الاستسقاء في خطبة الجمعة غير مستقبل القبلة.

وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أحاديث كثيرة تدل على فضيلة ذلك: فمن ذلك ما ثبت في مسلم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (إن المسلم إذا عاد أخاه المسلم لم يزل في خُرفة الجنة حتى يرجع قيل: وما خرفة الجنة يا رسول الله؟ قال: جَنَاها) (1) ورواه الإمام أحمد في المسند من حديث علي بإسناد صحيح وفيه: (فإن كان غدوة صلى عليه سبعون ألف ملك حتى يمسي وإن كان مساءً صلى عليه سبعون ألف ملك حتى يصبح) (2) وثبت في الصحيحين أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (حق المسلم على المسلم خمس: عيادة المريض، واتباع الجنازة، وإجابة الدعوة، وتشميت العاطس، وإجابة السلام) (3) ورواه مسلم بلفظ: (حق المسلم على المسلم ست) وزاد النصيحة: (وإذا استنصحك فانصحه) وهنا: صريح كلام المؤلف أن عيادة المريض سنة.

_ (1) أخرجه مسلم في كتاب البر والصلة والآداب، باب (13) فضل عيادة المريض (2568) . (2) أخرجه الإمام أحمد في المسند (975) قال رحمه الله تعالى: " حدثنا عبد الله بن يزيد، حدثنا شعبة، عن الحكم، عن عبد الله بن نافع، قال: عاد أبو موسى الأشعري الحسن بن علي فقال له علي: أعائدا جئت أم زائرا؟ فقال أبو موسى: بل جئت عائدا، فقال علي: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: (من عاد مريضا بَكَراً شيّعه سبعون ألف ملك، كلهم يستغفر له حتى يمسي، وكان له خريف في الجنة،وإن عاده مساء شيّعه سبعون ألف ملك كلهم يستغفر له حتى يصبح وكان له خريف في الجنة) ، وانظر (976) ، (1166) . (3) أخرجه البخاري في كتاب الجنائز، باب (2) الأمر باتباع الجنائز (1240) بلفظ: " أن أبا هريرة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: (حق المسلم على المسلم خمس: رد السلام وعيادة المريض، واتباع الجنائز، وإجابة الدعوة، وتشميت العاطس) ، أخرجه مسلم (2162) .

واختار شيخ الإسلام ابن تيمية: أنها فرض كفاية، وقال: " إن ظاهر النصوص تدل على وجوبها ". لكن ذكر النووي الإجماع على نفي الوجوب، وتعقبه ابن حجر بأن الوجوب المنفي إنما هو الوجوب على الأعيان، وأما وجوب الكفاية فليس بمنفي، وقد بوَّب البخاري رحمه الله في صحيحه: " باب: وجوب عيادة المريض ". وهذا القول هو الراجح، وأن عيادة المريض واجبة لكن ليس على الأعيان بل على الكفاية. فإن قيل قوله صلى الله عليه وسلم: (حق المسلم على المسلم) ظاهره أن ذلك على الأعيان؟ فالجواب: قد وجد الصارف، فقد ثبت في البخاري عن ابن عمر قال: (كنا جلوساً عند النبي - صلى الله عليه وسلم - فأتى رجل من الأنصار فسلم ثم أدبر الأنصاري فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: (يا أخا الأنصار كيف أخي سعد بن عبادة؟ فقال: صالح، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: من يعوده منكم؟) (1) فهنا: كون النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يأمر من حضر من أصحابه كل واحد منهم بعينه بالذهاب إلى عيادة سعد دليل على أنها ليست فرضاً على الأعيان. فالراجح ما اختاره شيخ الإسلام من أن عيادة المريض فرض كفاية، فإذا مرض المسلم وجب على من علم حاله من المسلمين ممن تقوم بهم كفاية جبره وتعزيته في مصابه من المرض وتقوية قلبه أن يعودوه.

_ (1) صحيح مسلم بشرح النووي [6 / 226] ، كتاب الجنائز، باب (7) في عيادة المريض (925) . لم أجده في باب عيادة المريض من صحيح البخاري.

والعيادة عامة في كل مرض، أما ما رواه البيهقي من أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ثلاثة لا تعاد: الضرس " أي وجع الضرس " والرمد والدُمَّلُ) (1) ، فهو من قول يحيى بن أبي كثير وهو من أتباع التابعين، أما النبي صلى الله عليه وسلم فقد صح عنه في مسند أحمد ما قاله زيد بن أرقم قال: (عادني النبي صلى الله عليه وسلم من وجع كان في عيني) (2) والرمد وجع عين. فالصحيح أن كل مرض يعاد. والصحيح – أيضاً – أنه متى علم بمرضه عاده من غير أن يتربص ثلاثة أيام وإن كان في مبدأ المرض.

_ (1) قال في ضعيف الجامع ص 379 برقم (2566) : " موضوع " وقال في السلسلة الضعيفة رقم (150) ما نصه: " موضوع، أخرجه الطبراني في الأوسط (70 / 1 من زوائده) والعقيلي (421) وابن عدي (319 / 2) من طريق مسلمة بن علي الخشني حدثني الأوزاعي عن يحيى بن أبي كثير عن أبي حعفر عن أبي هريرة مرفوعا.. ثم قال: " ومما يدل على وضعه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يعود صاحب الرمد، قال أنس: عاد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - زيد بن أرقم من رمد كان به، أخرجه الحاكم (1 / 342) وصححه ووافقه الذهبي وهو كما قالا ". (2) أخرجه أبو داود بلفظ: عادني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من وجع كان بعيني " في كتاب الجنائز، باب (9) في العيادة من الرمد (3102) ، وأخرجه الإمام أحمد في المسند، مسند الكوفيين، حديث زيد بن أرقم، آخر حديث فيه (19563) بلفظ: " عن زيد بن أرقم قال: أصابني رمدٌ فعادني النبي - صلى الله عليه وسلم - … ".

أما ما رواه ابن ماجه من أن النبي صلى الله عليه وسلم: (نهى عن العيادة إلا بعد ثلاث) (1) فالحديث إسناده ضعيف جداً. وليس ثمة وقت محدد لعيادة المريض، إلا أنه ينبغي أن تكون في الوقت الذي لا يضجره ولا يحرجه أما غير ذلك فلا بأس فهي ترجع إلى عادة الناس. قال: (وتذكيره التوبة والوصية) أي يستحب أن يذكر بالتوبة. وقد ثبت في البخاري: أن النبي صلى الله عليه وسلم: أتى غلاماً يهودياً يعوده فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: (أسلم، فأسلم ثم مات) (2) فيستحب لمن عاد مريضاً إن كان كافراً أن يدعوه إلى الإسلام وإن كان فاسقاً أن يدعوه إلى التوبة، ولا يعلم فلعل هذا المرض يكون به موته، فاستحب أن يتدارك بالدعوة والإصلاح بحثه على التوبة. كما أنه يحث على الوصية أي بأن يكتب وصيته، وذلك لأن المرض مظنة الموت، وإذا كان المسلم مأمور بكتب وصيته قبل أن يقع به المرض فأولى من ذلك أن يحث عليها في أثناء مرضه. فقد قال صلى الله عليه وسلم – في الصحيحين - من حديث ابن عمر: (ما حق امرئ مسلم له شيء يوصي به يبيت إلا ووصيته مكتوبة عنده) (3) . فيستحب للمسلم – وقيل بوجوب ذلك، وسيأتي الكلام عليه في الوصايا - فيشرع له أن يكتب وصيته في الحقوق التي له والتي عليه. قال: (وإذا نُزل به، سُنَّ تعاهد بَلِّ حلقه بماء أو شراب وتَنْدِيَةُ شفتيه بقُطْنَةٍ)

_ (1) أخرجه ابن ماجه في كتاب الجنائز، باب (1) ما جاء في عيادة المريض (1437) عن أنس بن مالك قال: كان النبي - صلى الله عليه وسلم - لا يعود مريضا إلا بعد ثلاث ". وأورد ابن الجوزي هذا في كتاب الموضوعات من حديث أبي هريرة وأنس رضي الله عنهما ". (2) أخرجه البخاري في كتاب المرضى، باب (11) عيادة المشرك (5657) . وانظر (1356) . (3) أخرجه البخاري في كتاب الوصايا، باب (1) الوصايا (2738) ، وأخرجه مسلم (1627) .

" وإذا نزل به " أي نزل به ملك الموت، فأخذ بالاحتضار، فإنه يسن تعاهده ببل حلقه بماء أو شراب وتندى شفتيه بقطنة، وذلك ليهون عليه ذلك شدة النزع الواقع فيه. فيستحب أن يبل حلقه: إما أن يكون بشرب جرعة ماء أو بأن يقطر الماء في حلقه أو بأن يبل الشفتين ليسهل عليه ما هو فيه من النزع والشدة. وقد ثبت في البخاري: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان عنده - عند احتضاره - ركوة فيها ماء، فكان يضع يده فيها فيمسح بها على وجهه ويقول: (لا إله إلا الله إن للموت لسكرات) (1) " بقطنة ": ونحوها، فليس المقصود القطنة بالخصوص. قال: (وتلقينه لا إله إلا الله) أي ويسن أن يلقن " لا إله إلا الله " وينبغي أن يكون الملقن ممن يكون للميت له قبول وبينهما مودة مما هو مظنة لقبول كلامه لئلا يتضجر من قول هذا القائل فيمتنع من قولها فهو في شدة، فيكرر عنده قول " لا إله إلا الله " ويكرر ذلك حتى يقولها المحتضر. وكرهوا أن يقول له: " قل لا إله إلا الله "؛ لئلا يتضجر من ذلك ويمتنع، وإنما يكون ذلك على سبيل الإشارة فيكررها عنده حتى يقولها. ودليل استحباب التلقين، ما ثبت في مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لقنوا موتاكم لا إله إلا الله) (2) . وأما دليل كراهية الأمر بذلك فهو خشية التضجر والامتناع مما هو واقع فيه من الشدة. لكن إن لم يخش عليه ذلك وعلم منه أنه لا يكره ذلك وإن كان في سكرات الموت فإنه لا حرج في أن يقال له: قل " لا إله إلا الله ".

_ (1) أخرجه البخاري في كتاب الرقاق، باب (42) سكرات الموت (6510) ، وانظر (890) ، وأخرجه مسلم (2443) . (2) أخرجه مسلم في بداية كتاب الجنائز، باب (1) تقلين الموتى لا إله إلا الله (916) .

فقد ثبت عند أبي يعلى والبزار بإسناد صحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى الله عليه: (أتى رجلاً من الأنصار " وفي رواية: من بني النجار " – وهم مشهورون بحسن إسلامهم – فقال له: قل لا إله إلا الله) (1) . قال: (ولم يزد على ثلاث إلا أن يتكلم بعده فيعيد تلقينه برفق) أي لا ينبغي له أن يزيد على ثلاث مرات لئلا يتضجر الميت فإنه يلقنه بحيث لا يتضجر. " إلا أن يتكلم بعده " فإذا تلقن الميت – والمراد بالميت هنا المحتضر، وهو من باب المجاز لأن أمره سيؤول إلى الموت وهذا معروف في لغة العرب -. فإذا تلقن الميت فقال: " لا إله إلا الله "، فإنه يسكت عنه فلا يلقن إلا أن يتكلم بشيء آخر كأن يوصي وغير ذلك فإنه يستحب أن يعاد تلقينه ليكون آخر كلامه " لا إله إلا الله ". فقد ثبت ذلك في أبي داود بإسناد جيد أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من كان آخر كلامه لا إله إلا الله دخل الجنة) (2) قال: (ويقرأ عنده يس) ويستحب له أن تقرأ عنده سورة يس.

_ (1) قال الألباني في أحكام الجنائز صْ 20 ما نصه: " حديث أنس رضي الله عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عاد رجلا من الأنصار فقال: يا خال قل: لا إله إلا الله، فقال: أخال أم عم؟ فقال: بل خال، فقال: فخير لي أن أقول: لا إله إلا الله فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: نعم " أخرجه الإمام أحمد (3 / 152، 154، 268) بإسناد صحيح على شرط مسلم ". (2) أخرجه أبو داود في كتاب الجنائز، باب (20) في التلقين (3116) .

واستدلوا: بما رواه أبو داود وغيره أن النبي صلى الله عليه وسلم قال من حديث معقل بن يسار: (اقرؤوا على موتاكم يس) (1) . والمراد اقرؤوا عليهم في حال الاحتضار - أما بعد الموت فهو بدعة -؛ وذلك لما فيها من ذكر الجنة ونحو ذلك وما يكون فيها من الرجاء فيعظم رجاؤه. قالوا: وهي سبب لسهولة خروج الروح منه. لكن الحديث الوارد في ذلك ضعيف، فقد ضعفه الدارقطني وغيره وقال: " لا يصح في هذا الباب شيء " (2) وهو كما قال، فإن الحديث ضعيف لجهالة في بعض رواته ولاضطراب في سنده. لذا الراجح هو عدم القول باستحباب ذلك. فإن قرأها فلا بأس أو قرأ غيرها من الآيات أو السور التي فيها الرجاء ونحو ذلك من غير اعتقاد سنية ذلك فلا بأس. وقالوا: ويستحب أن يقرأ عليه فاتحة الكتاب. وهذا أيضاً لا دليل عليه. وإنما يستحب عند المحتضر أن يذكر له محاسن عمله أي الأعمال الصالحة وأن يذكر له فضل الله ورحمته وأن يفتح له باب الرجاء لئلا يموت إلا وهو يحسن الظن بربه، فقد قال صلى الله عليه وسلم – في مسلم -: (لا يموتن أحدكم إلا وهو يحسن الظن بربه) (3)

_ (1) أخرجه أبو داود في كتاب الجنائز، باب (24) القراءة عند الميت (3121) قال: " حدثنا محمد بن العلاء وحمد بن مكي المروزي، المعنى، قالا: حدثنا ابن المبارك، عن سليمان التيمي، عن أبي عثمان، وليس بالنهدي، عن أبيه، عن معقل بن يسار قال: قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: (اقرؤوا يس على موتاكم) هذا لفظ ابن العلاء ". وأخرجه النسائي في عمل اليوم والليلة كما قال المزي، وابن ماجه في الجنائز (1448) باب فيما يقال عند المريض، وقال المنذري: " وأبو عثمان وأبوه ليسا بالمشهورين ". سنن أبي داود [3 / 489] . (3) أخرجه مسلم في كتاب الجنة، باب (19) الأمر بحسن الظن بالله تعالى عند الموت (2877) .

قال إبراهيم النخعي – كما روى ذلك ابن أبي الدنيا بإسناده – قال: " كانوا – أي السلف – يستحبون أن يذكر للميت محاسن عمله حتى يحسن الظن بربه " (1) . وهذا أمر ظاهر فيستحب أن يذكر بما يقتضي موته مع كونه محسناً الظن بربه عز وجل، فإن المقام مقام رجاء لا مقام خوف. قال: (ويوجهه إلى القبلة) أي: يستحب أن يوجهه إلى القبلة. ودليل ذلك: ما رواه الحاكم أن البراء بن معرور رضي الله عنه: أوصى بثلث ماله للنبي صلى الله عليه وسلم، وأوصى أن يوجه وهو يحتضر إلى القبلة، فقيل ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فقال: (أصاب الفطرة، وأمر برد ثلثه إلى أهله) (2) والحديث: فيه نُعيم بن حماد وله مناكير، لكن له شاهد عند البيهقي من حديث كعب بن مالك (3) فالأثر حسن إن شاء الله فيستحب أن يوجه إلى القبلة. فيضطجع على شقه الأيمن متوجهاً إلى القبلة، وإن شق عليه أن يضطجع على شقه الأيمن فإنه يستلقي ويجعل رجليه إلى القبلة ويرفع وجهه ويوجه إلى القبلة، وهذا في الغالب أسهل على الميت. قال: (فإن مات سن تغميضه) فقد ثبت في مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل على أبي سلمة وقد شُقَّ بصره فأغمضه وقال: (إن الروح إذا قبضت اتَّبعه البصر) (4) وكره الإمام أحمد أن يغمضه جُنُب أو حائض، ولم أر دليلاً يدل على ذلك. ولا شك أن الأولى أن يكون من يغمضه من أهل الخير والصلاح كما فعل ذلك النبي صلى الله عليه وسلم وأن يتولى القيام بأمره من كان كذلك.

_ (3) أخرجه البيهقي في السنن الكبرى [3 / 539] ، كتاب الجنائز، باب (22) ما يستحب من توجيهه نحو القبلة (6604) ، (6605) . (4) أخرجه مسلم في كتاب الجنائز، باب (4) في إغماض الميت والدعاء له إذا حُضر (920) بلفظ: (إن الروح إذا قبض تَبِعَهُ البصر) .

قالوا: ويقول: - أثناء الإغماض – بسم الله على ملة رسول الله، ولا دليل يدل على ذلك، وإنما فيه أثر مقطوع على تابعي رواه البيهقي بإسناده الصحيح عن بكر بن عبد الله المزني أنه كان يقول: عند التغميض: (بسم الله وعلى ملة رسول الله) (1) فإذن: لا يستحب قول ذلك عند تغميضه، خلافاً للمشهور في المذهب لعدم ثبوته عن النبي صلى الله عليه وسلم، وأما أثر التابعي فإن قول التابعي ليس بحجة. قال: (وشد لحييه) أي أن يشد اللحيان، فيغطى الفم لئلا يدخله شيء من الأذى أو الهوام ونحو ذلك. قال: (وتليين مفاصله) ليكون ذلك أسهل عند تغسيله، فيرد الذراع على العضد ثم العضد على الجنب، ويرد الساق على الفخذ، والفخذ على الجنب (2) أي تحرك المفاصل. قال: (وخلع ثيابه وستره بثوبٍ) لأن الثياب على الميت في الغالب تحدث شيئاً من الفساد في بدنه بسبب حرارة الثوب على البدن. فتخلع الثياب ويطرح عليه غطاء ونحو ذلك لئلا تحدث هذه الثياب على بدنه شيئاً من الإفساد، لا سيما مع تأخر الاشتغال بتغسيله. وقد ثبت في الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم: (حين توفي: سُجَّي ببرد حِبَرة) (3) . قال: (ووضع حديدة على بطنه) لئلا يقع في بطنه شيء من الانتفاخ أو نحو ذلك: لا سيما مع تأخر الاشتغال بدفنه أو الاشتغال بتكفينه وتغسيله. وقد روي ذلك عن أنس بن مالك كما رواه البيهقي (4) . قال: (ووضعه على سرير غسله متوجهاً منحدراً نحو رجليه)

_ (1) أخرجه البيهقي في كتاب الجنائز، باب (23) ما يستحب من إغماض عينيه إذا مات (6609) . (2) كذا في الأصل، وفي الروض المربع: إلى بطنه، حاشية الروض المربع: 3 / 20. (3) أخرجه البخاري (5814) ، ومسلم في كتاب الجنائز، باب (14) تسجية الميت (942) . (4) أخرجه البيهقي في كتاب الجنائز، باب (24) ما يستحب من وضع شيء على بطنه ثم وضعه على سرير أو غيره لئلا يسرع انتفاخه (6610) .

أي أثناء الغسل يكون على هذه الصورة. فإذا كان مستلقياً أو مضطجعاً على شقه الأيمن فإن جانبه الأعلى – جانب الرأس – يكون مرتفعاً، ويكون الانخفاض إلى جهة الرجلين لئلا يخرج شيء من الماء أو نحو ذلك من فمه، وليكون ذلك أسهل لانصباب الماء عن بدنه. قال: (وإسراع تجهيزه إن مات غير فجأة) أي يستحب أن يسرع في تجهيزه والاشتغال بتغسيله وتكفينه ونحو ذلك. لما ثبت في الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أسرعوا بالجنازة فإنها إن تك صالحة فخير تقدمونها إليه، وإن تك سوى ذلك فشر تضعونه عن رقابكم) (1) فيستحب الإسراع بالجنازة غسلاً وتكفيناً ودفناً. " إن مات غير فجأة ": فيستثنى من استحباب التعجيل إن كان موته فجأة؛ لأن من مات موت فجأة يخشى ألا أن يكون موته متيقناً فيترك حتى يتيقن ذلك بأسباب التيقن. فإذا تيقن من موته فحينئذ يشتغل بتغسيله وتكفينه، فمن مات فجأة أو ببعض الأمراض التي تقع أحياناً التوهم في ثبوت موته بها، فما ينبغي التعجيل بذلك حتى يثبت الموت. قال: (وإنفاذ وصيته) أي ويستحب الإسراع في إنفاذ وصيته، فهي معطوفة على " تجهيزه ". أي يسن أن تنفذ الوصية ويتعجل فيها، وذلك لأن في إنفاذ الوصية التي يوصي بها – كأن يوصي بثلث ماله أو ربعه – فيها تعجيل للأجر وإيصال للحق إلى أهله. فيستحب الإسراع في إنفاذ وصيته لتعجيل الثواب له أولاً ولإيصال الحق إلى أهله ثانياً. قال: (ويجب في قضاء دينه) أما قضاء الدين فيجب الإسراع به.

_ (1) أخرجه البخاري في كتاب الجنائز، باب (52) السرعة بالجنازة (1315) ، ومسلم (944) .

فإذا ترك مالاً وعليه دين فيجب أن يسارع في إخراج دينه فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم فيما رواه أحمد والترمذي بإسناد جيد: (نفس المؤمن معلقة بدينه حتى يقضى عنه) (1) فنفس المؤمن معلقة محبوسة عن نيل ما أعد لها من الثواب حتى يقضى عنها الدين. وقد قال صلى الله عليه وسلم فيما رواه الحاكم بإسناد صحيح: قال صلى الله عليه وسلم ذات يوم: (هل هنا أحد من بني فلان) فلم يجبه أحد ثلاثاً فقال صلى الله عليه وسلم: (إنه من مات منكم محبوس عن الجنة بالذي كان عليه فإن شئتم فافدوه، وإن شئتم فأسلموه إلى عذاب الله) (2) وقال صلى الله عليه وسلم: (يغفر للشهيد كل ذنب إلا الدين) (3) رواه مسلم. فالواجب أن يسرع في قضاء دينه ليصل إليه ثواب الله عز وجل ويمتنع عنه هذا الحبس عن فضل الله وجنته، وكذلك لما فيه من تبرئة ذمته. ولا بأس أن يكشف وجه الميت فيقبل، فقد صح ذلك عن أبي بكر مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما رواه البخاري: أنه كشف وجه النبي صلى الله عليه وسلم فقبله وقال: (بأبي أنت وأمي يا رسول الله) (4) . والحمد لله رب العالمين الدرس الرابع والأربعون بعد المئة (يوم السبت: 15 / 7 / 1415 هـ) فصل قال المؤلف رحمه الله تعالى: (غسل الميت وتكفينه والصلاة عليه ودفنه فرض كفاية)

_ (1) أخرجه الترمذي في آخر كتاب الجنائز، باب (76) ما جاء عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال نفس المؤمن.. (1078) (1079) . قال الترمذي عن الحديث (1079) : هذا حديث حسن، وهو أصح من الأول ". (3) أخرجه مسلم في كتاب الإمارة، باب (32) من قتل في سبيل الله كفرت خطاياه إلا الدين (1886) بنفس اللفظ. (4) أخرجه البخاري في كتاب الجنائز، باب (3) الدخول على الميت بعد الموت إذا أدرج في كفنه (1241) (1242) .

فالغسل والتكفين والصلاة والدفن للميت فرض على الكفاية، فإذا قام به طائفة من المؤمنين سقط الإثم عن الباقين. فقد ثبت في الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم قال فيمن وقصته راحلته فمات: (اغسلوه بماء وسدر وكفنوه في ثوبيه ولا تمسوه طيباً ولا تخمروا رأسه فإنه يبعث يوم القيامة ملبياً) (1) . والشاهد قوله: " اغسلوه، وكفنوه " فهذه أوامر ظاهرها الوجوب وهي موجهة إلى الجماعة فكان فرضاً على الجماعة أو فرضاً على الكفاية. فالغسل والتكفين فرض للحديث المتقدم، وكذلك فقد أجمع أهل العلم على فرضية الصلاة عليه والدفن له. قال: (وأولى الناس بغسله وصيه) فإذا وصى الميت أن يغسله فلان أو أوصت امرأة أن تغسلها فلانة أو زوجها، أو والدها، فإن أولى الناس بالغسل هو الوصي، وإن كان أجنبياً ما دام مسلماً عدلاً فإن هذه الوصية تجعل هذا الموصى هو الأولى بالغسل. ودليل ذلك ما ثبت عند الدارقطني والبيهقي بإسناد حسن: (أن فاطمة أوصت أن يغسلها زوجها " أي علي " وأسماء " وهي بنت عميس " فغسلاها) (2) . ولا شك أن هذا من باب إنفاذ وصيته وفعل ما يحبه، فإنه إنما أوصى بذلك لكونه يحب ذلك فكان هنا – حيث أن الغسيل له – أولى من أن يقوم بالغسل غير وصيه. قال: (ثم أبوه ثم جده ثم الأقرب فالأقرب من عصباته) " ثم الأب " لما فيه من الرأفة والرحمة به مما يجعله يقوم بالتغسيل على أفضل ما يكون منه. " ثم الجد "؛ لأن الجد بمنزلة الأب، فهو أب. " ثم الأقرب فالأقرب من عصباته ": كالابن والأخ الشقيق ثم الأخ لأب ثم العم الشقيق ثم العم لأب وهكذا من عصباته كما يكون في الميراث. قال: (ثم ذوو أرحامه)

_ (1) أخرجه البخاري [1 / 319، …] ومسلم [4 / 23، 26] وغيرهما، الإرواء [1016] . (2) أخرجه البيهقي في السنن الكبرى [3 / 556] كتاب الجنائز، باب (40) الرجل يغسل امرأته إذا ماتت، (6661) .

كالجد لأم والخال ونحو ذلك، وسيأتي بيان ترتيبهم في الكلام على مسألتهم في المواريث والفرائض. قال: (وأنثى وصيتها ثم القربى فالقربى من نسائها) أي يتولاها وصيتها ثم القربى من النساء، أي الأم، فالبنت، فبنت البنت، فالأخت الشقيقة، فالأخت لأب، فالأخت لأم، والعمة والخالة بمنزلة واحدة، وهكذا. فليس كالترتيب المتقدم في الميراث بل يقدم الأقرب فالأقرب لصفة القرابة والمحرمية، فعلى ذلك تكون العمة والخالة بمنزلة واحدة، وبنت الأخت وبنت الأخ بمنزلة واحدة، فإذا حصل تشاح بينهما فإنه يقرع بينهما. هذا هو المشهور في المذهب: وأن حكم الرجال في هذه المسألة ليس كحكم النساء، فالرجال يقدم العم على الخال لأنه عصبة، وأما النساء فلا، بل تقدم القربى فالقربى، فالخالة تقدم على بنت العم. وقال الشافعية بما قال به الحنابلة لكن قالوا: يقدم من (1) يتساوى قربهن إلى المرأة، كالعمة والخالة: تقدم من كانت في محل العصوبة، فتقدم كما لو كانت ذكراً. فمثلاً في العمة والخالة، تقدم العمة لأنها بمنزلة العم، والعم في الميراث مقدم على الخال، وهذا أقوى لأنه مرجح فهو أقوى من القرعة بينهن. وظاهر ما ذكره الحنابلة هنا والشافعية: أن الزوج والزوجة لا يقدمان على غيرهما إلا مع الوصية، بل الأجنبية تقدم على الزوج. وهذا هو المشهور عندهم. وذهب بعض الشافعية وهو الوجه الثاني عندهم وقال به بعض الحنابلة: إلى أن الزوج أو الزوجة يقدمان بعد الوصي – وهذا القول أظهر –، وأن الزوج أولى بغسل زوجته من غيره، والزوجة أولى بغسل زوجها من غيرها من النساء – القريبات إليه – إلا ما تقدم من تقديم الوصي فإن الوصي مقدم لرغبة الميت فيه.

_ (1) في الأصل: فمن.

وذليل ذلك ما ثبت في مسند أحمد وسنن ابن ماجه بإسناد صحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لعائشة: (لو مت قبلي لغسلتك ثم كفنتك ثم صليت عليك ثم دفنتك) (1) وقالت عائشة – كما في سنن أبي داود - بإسناد حسن: (لو استقبلت من أمري ما استدبرت ما غسل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا نساؤه) (2) وقد صح في الموطأ بإسناد صحيح: (أن أسماء بنت عميس غسلت أبا بكر رضي الله عنه) (3) ؛ ولأنه لا يؤمن من اطلاع الغاسل على شيء من العورة فكان من أبيح له الاطلاع إليها في حال الحياة بسبب الزوجية أولى من غيره. فالصحيح ما ذهب إليه أهل هذا القول: فأولى الناس الوصي ثم الزوج أو الزوجة ثم بعد ذلك يكون الأقرب فالأقرب من العصبات ثم ذوو الأرحام، سواء كان الميت ذكر أو أنثى ما دام – أن - المغسل مسلماً.

_ (1) أخرجه ابن ماجه في كتاب الجنائز، باب (9) ما جاء في غسل الرجل امرأته وغسل المرأة زوجها (1465) . قال البوصيري: " هذا إسناد رجاله ثقات،رواه البخاري من وجه آخر عن عائشة مختصرا ". قال ابن حجر: قوله: " لغسلتك " باللام تحريف، والذي في الكتب المذكورة (فغسلتك) بالفاء، وهو الصواب، والفرق بينهما أن الأولى شرطية، والثانية للتمنى " ا. هـ تلخيص الحبير 2 / 107، من حاشية المغني [3 / 462] . (2) أخرجه أبو داود في كتاب الجنائز، باب في ستر الميت عند غسله، وأخرجه ابن ماجه في كتاب الجنائز، باب (9) ما جاء في غسل الرجل امرأته.. (1464) . قال البوصيري: " هذا إسناد صحيح، رجاله ثقات، ومحمد بن إسحاق وإن كان مدلسا ورواه بالعنعنة في هذا الإسناد، فقد رواه ابن الجارود وابن حبان في صحيحه والحاكم في المستدرك من طريق ابن إسحاق مصرحا بالتحديث.. ". سنن ابن ماجه طبعة بيت الأفكار. المغني [3 / 461] . (3) أخرجه الإمام مالك في الموطأ في بداية كتاب الجنائز، باب غسل الميت (521) .

واشترط الحنابلة العدالة، وهو قول ظاهر؛ فإنه قد يطلع على الميت ما يكون فيه فضيحة فاحتيج إلى أن يكون المغسل عدلاً ليستر على الميت فيما يطلع عليه من عورة أو نحو ذلك. قال: (ولكل من الزوجين غسل صاحبه) وهو مذهب جماهير العلماء بل حكي إجماعاً. والأحاديث المتقدمة تدل عليه كقول النبي صلى الله عليه وسلم: (لو مت قبلي لغسلتك) (1) وقول عائشة: (لو استقبلت من أمري ما استدبرت ما غسل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا نساؤه) (2) . وفعل أسماء بنت عميس في غسل أبي بكر رضي الله عنه وكان ذلك بمحضر الصحابة من المهاجرين والأنصار في المدينة فلم ينكروه فكان ذلك إجماعاً. فغسل الزوج للزوجة أو الزوجة للزوج جائز عند جماهير العلماء بل هو إجماع إلا ما حكي عن الإمام أحمد في رواية عنه، والمشهور من مذهبه جواز ذلك. قال: (وكذا سيد مع سُريته) فالسيد يجوز أن يغسل سُريته. والمراد بالسُرية هي الأمة التي يطؤها سيدها. فنخرج حينئذٍ: الأمة المتزوجة التي قد زوجها سيدها أو الأمة المعتدة من نكاح فإنه لا يحل له أن يطلع إلى عورتها لأنها في عصمة غيره. بخلاف السُرية فإنه يجوز أن يغسلها وهي بمنزلة الزوجة. * وفي المقنع: " وهي معه " ولم يذكره المؤلف هنا، وينبغي ذكر ذلك وهذا هو المشهور في المذهب – أي هي تغسله أيضاً – فالسُرية تغسل سيدها، لأنها تطلع على عورته فهي بمنزلة زوجته فإذا مات جاز أن تغسله. هذا هو المشهور في المذهب. وقال بعض الحنابلة وهو مذهب الشافعية: لا يجوز ذلك. وذلك لأنها بموت سيدها قد خرجت من ملكه إلى ملك غيره، فهي مملوكة لغيره بموته فتنتقل إلى غيره ملكاً – وحينئذٍ – فلا يجوز لها أن تطلع على عورته فقد خرجت بموته مباشرة من ملكه إلى ملك غيره.

_ (1) تقدم.

وهذا القول أظهر؛ فإنها بموت سيدها قد خرجت من ملكه إلى ملك غيره، بخلافها إذا ماتت عند سيدها فإن الملك كان في الحياة ثابتاً وقد زال الانتفاع منها فتعلقت بقية أحكام التمليك فيها، لأنها إذا ماتت لم تبق محلاً للانتفاع، بخلاف موت سيدها فهي ما زالت محلاً للانتفاع وقد مات مالكها وبموته انتقلت ملكيتها إلى غيره كما لو باعها أو وهبها. فالصحيح أنه لا يجوز لها أن تغسل سيدها لخروجها من ملك سيدها. قال: (ولرجل وامرأة غسل من له دون سبع سنين فقط) يجوز للمرأة وللرجل أن يغسل من له دون سبع سنين سواء كان ذكراً أو أنثى. فيجوز للرجل الأجنبي أن يغسل جارية دون سبع سنين، وكذلك يجوز للمرأة الأجنبية أن تغسل الغلام دون سبع سنين. هذا هو المشهور في مذهب أحمد ومذهب مالك. وقيَّده الشافعي بقيد أصح فقال: حيث لا يشتهى، فلا يقيد بسبع سنين أو ست وإنما يقيَّد بنفي الشهوة، فإذا كان صبياً لا تشتهيه المرأة أو جارية لا يشتهيها الرجل وليست محلاً للشهوة فلا بأس بغسلهما؛ لأن مثليهما لا عورة له فإن الصبي الذي له ست أو خمس أو سبع ونحوها ممن لا يشتهى ليست له عورة فحينئذٍ يجوز أن تطلع المرأة على عورته ويجوز أن يطلع الرجل على عورة الجارية عند غسلها حيث عدمت الشهوة. قال: (وإن مات رجل بين نسوة أو عكسه يممت كخنثى مشكل) هنا مسائل: المسألة الأصلية: أن الخنثى المشكل وهو من لم تثبت ذكوريته ولا أنوثيته لا يجوز أن يغسل لا من النساء ولا من الرجال بل ييمم. أما كون النساء لا يغسلنه فلأنه يحتمل أن يكون رجلاً، وأما كون الرجال لا يغسلونه فلاحتمال كونه امرأة. ومثل ذلك الرجل يموت بين النساء وليس ثمة رجل يغسله من الرجال وليس ثمة زوجة أو أمة – على القول بها – فإنه حينئذ ييمم. ومثل ذلك المرأة إذا ماتت بين الرجال فإنها تيمم، كما هو مذهب جمهور الفقهاء.

وقد روى الطبراني في الكبير، كما في المجمع بإسناد فيه عبد الخالق بن يزيد بن واقد وهو ضعيف: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: في الرجل يموت بين النساء وفي المرأة تموت بين الرجال وليس معهما محرم قال: (يُيَمَّمان) (1) وله شاهد مرسل من مراسيل مكحول رواه البيهقي (2) . فإن مات رجل بين نساء أو امرأة بين رجال فإنهما لا يغسلان بل ييممان، لأن في تغسيل الرجال للمرأة أو النساء للرجل إطلاع على العورة التي لا يجوز للمغسل أن يطلع عليها فكان الانتقال إلى حكم التيمم. - وقال بعض الشافعية – فهو وجه عندهم – وهو رواية عن الإمام أحمد قالوا: بل يغسلان بصب الماء على الثياب من غير أن يقع شيء من الاطلاع على العورة. بل يصب الماء صباً على ثوبه أو على قميصه أو على حرمه من غير أن يمس ومن غير أن يطلع على عورة الميت سواء كان ذكراً أو أنثى. وهذا القول – في إطلاقه ضعف –؛ لأن مثل هذا التغسيل قد لا يزيد الميت إلا اتساخاً. فإن غسله وعليه ثيابه قد لا يزيده إلا اتساخاً فينافي المقصود من تغسيله وتهيئته للدفن. لكن إن كان في ذلك التغسيل إنقاء كأن يكون مغُسلاً فمات فيعلم أن الماء يصل إليه بالصب من غير أن يظهر شيء من عورته، وأن هذا الغسل ينقيه ولا يحدث له منه وسخ. فحينئذٍ ينبغي القول بمشروعية الغسل لقوله تعالى: {فاتقوا الله ما استطعتم} (3)

_ (2) أخرجه البيهقي في السنن الكبرى [3 / 559] كتاب الجنائز، باب (44) المرأة تموت مع الرجال ليس معهم امرأة (6669) .

ولما ثبت في مسند أحمد وسنن أبي داود بإسناد صحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم، لما مات قال الصحابة رضي الله عنهم: (والله ما ندري أنجرد رسول الله صلى الله عليه وسلم كما يجرد موتانا فلما اختلفوا أُلقي عليهم النوم فكلمهم مكلم من ناحية البيت أن اغسلوا رسول الله صلى الله عليه وسلم في ثيابه فغسلوه وعليه قميصه يصبون الماء فوق القميص ويدلكونه والقميص دون أيديهم) (1) فهذا يدل على أنه متى حصل إنقاء في الغسل وعجز عن الغسل التام فوجد مانع يمنع الغسل التام سواء كان هذا المانع شرعي كما كان ذلك من النبي صلى الله عليه وسلم أو غير ذلك فإنه حينئذٍ يجوز أن يغسل بصب الماء عليه، وهذا لا شك أولى من التيمم. إذن: الراجح أن يقال في هذه المسألة تفصيل: فإن كان الغسل يحصل به الإنقاء، فإنه يغسل ولو كان ذلك بصب الماء على قميصه. وأما إن كان لا يحصل به الإنقاء، فإنه ييمم. وظاهر قول المؤلف وإن كانت النسوة من محارمه، وإن كان الرجال من محارمها، وهو مذهب الحنابلة. فإذا مات الرجل بين النساء وإن كانت النساء من محارمه أو تموت المرأة ومعها أبوها أو أخوها ورجال أجانب – فإنهم – حينئذٍ – لا يغسلونها بل ييممونها. فالمشهور في المذهب أن الرجال المحارم لا يجوز أن يغسلوا المرأة وإن كانت من محارمهم، وأن النساء المحارم لا يغسلن الرجل المحرم لهن، وهذا القول ضعيف. والصحيح ما ذهب إليه المالكية والشافعية: من جواز فعل ذلك لكن مع ستر العورة، فيستران العورة، ثم يقومان بالغسل، وإذا احتاج إلى الاطلاع على العورة لتمام الغسل فإن ذلك يكون معفواً عنه؛ لأن ذلك من باب الحاجة كما يجوز أن يطلع الطبيب ونحوه على شيء من عورة المرأة أو الرجل للحاجة إلى ذلك، فكذلك هنا وقد قال تعالى: {فاتقوا الله ما استطعتم}

_ (1) أخرجه أبو داود في كتاب الجنائز، باب (32) في ستر الميت عند غسله (3141) .

فالراجح: أن الرجل المحرم والمرأة المحرم يجوز لهما أن يقوما بغسل المحرم من غير جنسهما، فالمرأة تغسل الرجل من محارمها، والرجل يغسل المرأة من محارمه إن عدم الجنس الموافق له، أما إن لم يعدم فذلك لا يجوز. فإذا وجدت المرأة وإن كانت أجنبية فهي التي تقوم بالغسل دون الرجل، أما إذا عدم فإنه يقوم به الرجل لقوله تعالى: {فاتقوا الله ما استطعتم} ولأنه أولى بالاطلاع على شيء من عورتها من الطبيب عند الحاجة، فإن الطبيب أجنبي وعند الحاجة يجوز. وهو أولى من ذلك؛ لأنه محرم لها وهي أيضاً محرمة له ولا شك أن اطلاع المحرم على شيء من العورة يبعد أن يكون لشهوة. قال: (ويحرم أن يغسل مسلم كافراً) لا يجوز للمسلم إن مات كافر أن يغسله. قالوا: لأن التغسيل تطهير له وهو لا يتطهر بذلك. - وقال الشافعية: بل يغسله، وهذا أظهر؛ لأنه يحتاج إلى التغسيل، والتغسيل له إحسان له، والله - عز وجل - لم ينه عن الإحسان إلى الكفار بل يحسن إليهم كما يحسن إلى المسلمين إلا أن يكون حربياً فإنه لا يغسل ولا يكفن ولا يحسن إليه بشيء؛ لأن الله نهانا عن الإحسان إليهم. فإذا كان كافراً غير حربي فالأظهر جواز تغسيله لأن ذلك من باب الإحسان إليه والإحسان إلى الكفار معتبر كما دلت عليه الآية الكريمة: {لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم} (1) وقد روى ابن أبي شيبة أن النبي صلى الله عليه وسلم: (أمر علياً أن يغسل أباه أبا طالب لما مات) (2) لكن الحديث مرسل من مراسيل الشعبي فإسناده ضعيف. قال: (أو يدفنه بل يوارى لعدم من يواريه) أما الدفن فإنه لا يدفن كما يدفن المسلمون بل يرمى في حفرة يوارى فيها.

فقد ثبت في أبي داود بإسناد صحيح: أن علياً قال للنبي صلى الله عليه وسلم: (إن عمَّك الشيخ الضال " ويريد بذلك أبا طالب " قد مات فقال: اذهب فواره) (1) أي اذهب فوار عليه تراباً. وهذا الحديث إسناده صحيح وفيه أنه لا يدفن وإنما يوارى لئلا يقع الضرر بجيفته. إذن: الكافر إذا مات لا يغسل في المشهور من المذهب والراجح خلاف ذلك. وأما الدفن فإنه لا يدفن؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قد أمر بمواراة أبي طالب مع كونه أولى بالدفن من غيره من الكفار لنصرته للنبي صلى الله عليه وسلم. وقد أمر بإلقاء صناديد قريش الذين قتلوا في بدر أمر بإلقائهم في قليب بدر - كما صح ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم - في الصحيحين. والحمد لله رب العالمين الدرس الخامس والأربعون بعد المئة (يوم الأحد: 16 / 7 / 1415 هـ) قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وإذا أخذ في غسله ستر عورته] هنا يبين المؤلف صفة الغسل المجزئة والمستحبة. " وإذا أخذ في غسله ستر عورته ": فيجب أن يستر عورته ولا يجوز له أن ينظر إليها ولا أن يمسها، وقد تقدم البحث في العورة. فيستر العورة، قال الموفق: " لا نعلم فيه خلافاً " (2) ؛ ولأنه يمكنه أن يطهره من غير نظر إلى عورته أو مس لها، فلم يكن في ذلك حاجة إلى كشف عورته، فكانت باقية على حكمها في الأصل من النهي عن مسها والنظر إليها، وهذا باتفاق العلماء. قال: [وجرده]

_ (1) أخرجه أبو داود في كتاب الجنائز، باب (70) الرجل يموت له قرابة مشرك (3214) . بلفظ: (اذهب فوار أباك..) . وأخرجه النسائي، سنن أبي داود [3 / 547] . (2) المغني [3 / 369] .

أي جرده سوى عورته، فيجرده من ثيابه سوى عورته، ودليله ما تقدم مما رواه أحمد وأبو داود من قول الصحابة: " لا ندري أنجرد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كما نجرد موتانا أو لا " (1) ، فدل على أنهم كانوا يجردون موتاهم سوى النبي - صلى الله عليه وسلم -. ولأن ذلك أمكن من تغسيله وأتم. فيجرد من ثيابه سواء كان ذكراً أو أنثى سوى العورة كما تقدم. قال: [وستره عن العيون] فيكون في محل مغطى في حجرة أو نحو ذلك؛ لئلا يظهر منه ما يكره فيطلع عليه أحد من الناس. فإذا كان في محل مكشوف فربما ظهر شيء منه، إما من عورته أو شيء مما هو مستور منه، فيظهر ما يكره ظهوره. ومن هنا استحب أهل العلم أن يكون المغسل أميناً صالحاً ثقة، يستر على الميت ما قد يظهر منه، وقد قال - صلى الله عليه وسلم - فيما رواه أحمد بإسناد صحيح: (من ستر أخاه المسلم في الدنيا ستره الله يوم القيامة) (2) . قال: [ويكره لغير معين في غسله حضوره] يكره لمن ليس له إعانة في الغسل أن يحضر الغسل. أما إن كان محتاجاً إلى إعانته بصب الماء أو تقليب الميت أو نحو ذلك (3) . أما إن لم يكن محتاجاً إليه، فلا يجوز أن يحضر هذا المعين؛ لأن حضوره قد يوافق ظهور شيء مما هو مستور على الميت مما يكره أن يطلع عليه. ولأن الغاسل قد يطلع على شيء من عورة الميت مما قد يقع موافقة، لكن للحاجة إلى ذلك تجوز (4) عنه. أما أن يكون أحد من الناس يحضر ذلك، فيقع نظره على شيء من عورة الميت مما قد يقع على سبيل الموافقة أو نحو ذلك فإنه لا حاجة إلى مثل ذلك، فلا يكون ظهور ذلك كظهوره عند من يحتاج إلى غسله إما تأصلاً أو إعانة. قال: [ثم يرفع رأسه إلى قرب جلوسه ويعصر بطنه برفق]

_ (1) تقدم. (2) أخرجه الإمام أحمد في المسند عن رجل من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - (16713) (23572) . (3) كذا في الأصل، أي فلا يكره. (4) في الأصل: يجووز عنه.

" يعصر بطنه برفق ": ليخرج من جوفه ما هو متهيئ للخروج من البول أو الغائط أو نحو ذلك؛ لئلا يخرج بعد تغسيله فيتنجس الميت. فيرفع رأسه إلى قرب جلوسه من غير أن يجلسه؛ لأن في إجلاس الميت مشقة على الميت، فيخشى أن يحدث ذلك انفصالاً في بعض أعضاء بدنه أو نحو ذلك. أما مجرد رفع ظهره قليلاً قريباً إلى الجلوس ثم يحرك بطنه حتى يخرج ما هو متهيئ للخروج؛ لئلا يكون خروجه بعد الانتهاء من غسله، فيحتاج حينئذ إلى إعادة صب الماء عليه، فيكون في ذلك مشقة. قال: [ويكثر صب الماء حينئذ] أي حين هذا الفعل من عصر البطن وتحريكه، يكثر صب الماء على المحل الذي يخرج منه الخارج ليزيله بسرعة، فيصب الماء على السبيلين أثناء خروج شيء منهما. واستحسنوا أن يكون هناك بخور أو نحو ذلك أثناء ذلك؛ لئلا يخرج شيء مما يتأذى به من رائحته. قال: [ثم يلف على يده خرقة فينجيه] فيلف على يده خرقة ويغسل السبيلين، ولكن لا يكون ذلك بالمس باليد مباشرة، بل يكون ذلك بخرقة؛ لأن هذا الفعل يحصل به الإنقاء والتطهر المقصود، فلا يجوز حينئذ أن يكون ذلك عن مس، فإنه بقدر الاستطاعة ينبغي حفظ العورة مساً ونظراً، وحيث أنه يمكنه أن يزيل الخارج من السبيلين بخرقة من غير أن يمس، فلا يجوز المس؛ لأن المس لا يحتاج إليه حينئذ، فيبقى على التحريم. فإن زال بالصب ونحو ذلك، فلا بأس. قال: [ولا يحل مس عورة من له سبع سنين] فمن كان له سبع سنين فأكثر، فإنه لا يجوز أن يمس عورته، وقد تقدم هذا؛ ولأن الإنقاء ما دام يحصل بغير مس للعورة، بأن يكون بخرقة، فإنه لا يجوز أن يرتقى إلى المس مع إمكان ما هو دونه. قال: [ويستحب ألا يمس سائره إلا بخرقة] فالمستحب في سائر البدن، كالفخذين والظهر ونحو ذلك ألا يمس شيئاً من ذلك إلا بخرقة. لفعل الصحابة مع النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقد كانوا يصبون الماء ويدلكونه والقميص من دون أيديهم.

فإذا حصل الإنقاء بذلك فعل، وإن لم يحصل الإنقاء إلا بمسه، فإنه يفعل ذلك، فيمس بدنه، ولا يحرم هنا المس بخلاف مس العورة، فإنه لا يجوز إلا للضرورة إلى ذلك. قال: [ثم يوضيه ندباً] بعد أن ينتهي من إزالة الخارج وتنظيف السبيلين وإخراج ما في بطنه من أذى، يشرع حينئذ فيوضئه، وتوضيئه للاستحباب، وقد قال - صلى الله عليه وسلم - - في حديث أم عطية المتفق عليه -: (ابدأن بميامنها ومواضع الوضوء منها) (1) . فيستحب أن يكون الابتداء - بعد الاستنجاء وإزالة القذر - بالتوضئة. قال: [ولا يدخل الماء في فيه ولا في أنفه] فيستثنى من ذلك المضمضة والاستنشاق؛ لأن في دخول الماء في الفم والأنف إدخال لهذا الماء إلى الجوف، فحينئذ قد يكون سبباً لتحريك القذر في جوفه، فيكون ذلك سبباً لإخراج القذر وقد انتهى من إزالته، فيكون فيه مشقة؛ لإكثار الصب عليه وإكثار غسله ونحو ذلك. فإذا وضع الماء في فيه أو أنفه، فدخل جوفه، أثار النجاسة الموجودة في جوفه، فأدى ذلك إلى خروجها أثناء الغسل، فكان في ذلك مشقة على الميت بإكثار صب الماء على بدنه، ولا شك أن ذلك يؤثر سرعة الفساد إلى بدنه بسبب كثرة صب الماء، مع ما في ذلك من مشقة على الغاسل. قال: [ويدخل أصبعيه مبلولتين بالماء بين شفتيه، فيمسح أسنانه، وفي منخريه فينظفهما، ولا يدخلهما الماء] هكذا الطريقة في محل المضمضة والاستنشاق. يأخذ خرقة فيبلها بالماء فينظف بها أسنان الميت وشفتيه ونحو ذلك. ويدخل خرقة أخرى فينظف بها أنفه من الداخل. هذا محل المضمضة والاستنشاق.

_ (1) أخرجه البخاري في كتاب الوضوء، باب التيمن في الوضوء والغسل، وفي أبواب أخرى، ومسلم في باب غسل اميت، من كتاب الجنائز، وبقية أهل السنن الأربعة، المغني [3 / 375] .

وقال الشافعية: بل يمضمضه وينشقه (1) ؛ للحديث المتقدم، فإنه قال: (ابدأن بميامنها ومواضع الوضوء منها) ، والفم والأنف من مواضع الوضوء. والصحيح ما ذهب إليه أهل القول الأول؛ لما تقدم، فإن في مضمضته واستنشاقه ما يؤثر بإثارة الخارج، فيكون في ذلك مشقة في كثرة صب الماء عليه. قال: [ثم ينوي غسله] فإذا غسل مواضع الوضوء منه وأدخل الخرقة في فمه وأنفه، فإنه ينوي بعد ذلك غسله، ويشرع في الغسل. هكذا قال المؤلف هنا. لكن العبارة في المقنع قبل ذكر الوضوء، وهذا هو الظاهر؛ لأن الوضوء من الغسل المستحب، فالغسل المستحب يكون أوله الوضوء، ثم يغسل بقية وسائر البدن. فكان المستحب – على ما ذكر الموفق في أصل الكتاب، الذي هذا المؤلف اختصار له -. لكن إن لم ينو إلا بعد الوضوء، فذلك جائز فإن الواجب حينئذ – أي بعد أن يوضئه ويريد أن يشرع في تغسيله -. لكن النية استحباباً تكون قبل الوضوء؛ ليدخل الوضوء في الغسل، فهو مستحب للغسل. وتجب ذلك – أي النية – بعد التوضئة وقبل الغسل، فإن النية فرض على الغاسل؛ لأن الغسل عبادة كما قال - صلى الله عليه وسلم -: (اغسلوه بماء وسدر) (2) ، وقال: (اغسلنها ثلاثاً) (3) الحديث. فالغسل فرض كفاية، فكانت النية فيه فرضاً؛ لقوله - صلى الله عليه وسلم -: (إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى) (4) . فإذا غسله بلا نية لم يجزئ ذلك.

_ (1) من الاستنشاق. (2) أخرجه البخاري في كتاب الجنائز، باب الكفن في ثوبين، وباب الحنوط للميت،وباب كيف يكفن الميت، وفي أبواب أخرى من كتاب جزاء الصيد، ومسلم في باب ما يفعل المحرم إذا مات من كتاب الحج، المغني [3 / 376] . (3) متفق عليه، وقد تقدم. (4) متفق عليه، وقد تقدم في الطهارة.

وعن الإمام أحمد، وهو قول بعض الحنابلة: أنه لا يشترط ذلك؛ قالوا: هو بمنزلة إزالة الخارج من السبيلين؛ لأن المقصود هو تنظيف الميت وتطهيره، فلم تجب له النية. وهذا ضعيف؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قد أمر بتغسيله، وهو أمر مطلق شامل لنية النظافة وغيرها. والعلة تعبدية، بل المراد تطهيره وإن كان نظيف البدن، بدليل أن من مات غريقاً أو نحو ذلك فأخرج فإنه يغسل وإن كان موته في ماء وهو في نظافة، فإنه يغسل تعبداً لله بالغسل، فليس ذلك كإزالة النجاسة التي يقصد إزالتها فحسب، بل المقصود هو الغسل. والنبي - صلى الله عليه وسلم - كان طيباً عند موته ومع ذلك غسل تعبداً لله في ذلك. فالصحيح ما ذهب إليه جمهور العلماء من أن الغسل تشترط له النية، فإن عدمت فإن الغسل لا يجزئ ويجب أن يعاد الغسل بنية. والنية مستحبة قبل إيضائه، وبعد إيضائه وقبل غسله هي فرض، لتشمل الغسل المجزئ. قال: [ويسمي] كما تقدم في الأغسال المشروعة وفي الوضوء المشروع، أنه يشرع فيه التسمية، هذا هو المشهور في مذهب الإمام أحمد كما تقدم البحث فيه. قال: [ويَغْسِل برغوة السدر رأسه ولحيته فقط] يؤتى بالماء فيوضع فيه سدر ثم يحرك حتى تظهر الرغوة، فإذا ظهرت، أخذت وغسل بها رأسه ولحيته. وما تبقى من الثُغْل، وهو بقية السدر الباقي بعد خروج هذه الرغوة يغسل بها سائر البدن. هذا هو المشهور في المذهب، ويكون ذلك في كل غسلة من الغسلات. وإنما خصوا الرغوة بالشعر واللحية؛ لأن غسل الشعر واللحية بالثغل يبقي شيئا منه في الرأس لا يزال إلا بإكثار الصب على الرأس، بخلاف الرغوة فإنها تذهب مع الشعر. أما إذا كانت على البدن – أي الثغل – فإنها تذهب مع صب الماء اليسير.

ولفظ المقنع – وهو أظهر – إطلاق ذلك وأنه يغسل سائر البدن بالرغوة. لكن إذا كانت الرغوة قليلة فإنه يكتفى بها - كما هو المشهور في المذهب – على الشعر واللحية، وأما سائر البدن، فإنه يغسل بالماء المتبقي من الثغل أو الكدر أو نحوه من السدر، أما إذا كانت الرغوة تكفي البدن كله، فإنها تغسل بها البدن، كما هو قول الموفق في أصل هذا الكتاب، وهو أظهر. لكن إن كانت الرغوة قليلة، فالشعر واللحية أحق بها؛ لأن سقوط الثغل والكدر في الشعر يصعب إزالته. وظاهر حديث النبي - صلى الله عليه وسلم - الذي فيه ذكر السدر أنه يوضع في كل غسلة، فقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم - في الصحيحين من حديث أم عطية، قالت: " دخل علينا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ونحن نغسل ابنته، فقال: (اغسلنها ثلاثاً أو خمساً – وفي رواية: أو سبعاً – أو أكثر من ذلك إن رأيتن ذلك بماء وسدر، واجعلن في الأخيرة كافوراً أو شيئاً من كافور) (1) . وظاهر ذلك أن كل هذه الغسلات يكون فيها الماء والسدر، وهو نص الإمام أحمد. وسئل على إشكال يطرأ على ذلك، وهو أن الغسلة الأخيرة – حينئذ – يبقى على البدن شيء من ورق السدر أو من دقيق السدر الذي يكون في الماء الذي وضع فيه السدر، فقال رحمه الله: " هو نقي "، وقال عطاء: " هو طهور "، وهو كما قالا. فإنه ليس من الشرط أن يزال هذا الثغل أو هذا الكدر الذي يكون مع الماء من السدر، فإنه لو بقي فلا أثر له، بل هو طهور نقي. لكن إن صب عليه الماء لإزالته، فلا بأس. قال: [ثم يغسل شقه الأيمن ثم الأيسر، ثم كله ثلاثاً] أي يشرع في صب الماء، فيصب على الجهة اليمنى ثم الجهة اليسرى؛ لقوله - صلى الله عليه وسلم -: (ابدأن بميامنها ومواضع الوضوء منها) .

_ (1) تقدم.

فهذا الحديث يدل على أن المستحب أن يُبدأ بالميامن، فيبدأ بشقه الأيمن ثم شقه الأيسر، ثم يصب الماء عليه كله، ويكون ذلك ثلاث مرات. وهذا هو المستحب؛ لقوله - صلى الله عليه وسلم -: (اغسلنها ثلاثاً) . فإن اكتفى بغسله مرة واحدة أجزأ ذلك، وهو خلاف ما يستحب، فالمستحب أن يغسل الميت ثلاثاً. لكن إن غسله مرة أجزأ ذلك؛ لإطلاق النبي - صلى الله عليه وسلم - في قوله: (اغسلوه بماء وسدر) ، فهذا يدل على أن المجزئ هو تعميم البدن بالغسل، لكن المستحب أن يغسله ثلاثاً فأكثر على حسب المصلحة. قال: [ثم (1) يمر في كل مرة يده عل بطنه] يعني: يحرك بطنه في كل مرة من مرات التغسيل حتى يخرج ما هو متهيئ للخروج. قال: [فإن لم ينق بثلاث، زيد حتى ينقي ولو جاوز السبع] إذا لم ينق الثلاث، فإنه يزيد رابعة فخامسة، فإن لم ينق، زاد سادسة فسابعة فأكثر من ذلك حتى ينقي؛ لقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: (أو أكثر من ذلك إن رأيتن ذلك) . وقوله: (إن رأيتن ذلك) أي على حسب المصلحة، لا على حسب التشهي. وظاهر كلام المؤلف – وهو مذهب الحنابلة – أن ذلك مربوط بخروج الخارج. بمعنى: أنه لو كان البدن نقياً بثلاث غسلات، لكن خرج شيء من السبيلين، فإنه يعيد الغسل كاملاً مرة رابعة فخامسة، وهكذا. وذهب جمهور العلماء: إلى أنه يوضئه حينئذ؛ لأن التكرار المتقدم إنما هو حيث كانت المصلحة في تكراره على البدن كله. أما هنا فإن المصلحة في صب الماء على السبيلين فحسب. قالوا: فحينئذ يوضئه. وما ذهبوا إليه – مع أنه أقوى من القول الأول -، لكن الأظهر ألا يقال بتوضئته، بل وإنما يقال بمجرد صب الماء على السبيلين فيزال الخارج.

_ (1) كذا في الأصل، وفي نسخة للزاد بدون " ثم ".

وذلك لأن حكم الميت ليس كحكم الحي، فهم إنما قاسوا الميت على الحي، فإن الحي إذا اغتسل من الجنابة ثم خرج منه شيء فإنه يتوضأ عن هذا الخارج؛ لأن هذا الخارج ناقض للحدث (1) الأصغر دون الأكبر، ولا يعيد الغسل كاملاً؛ لأن الغسل قد بنيت حكمه بالاغتسال، وخرج من الحدث الأكبر بالاغتسال، لكن خروج هذا الحدث الأصغر يوجب عليه الوضوء. وإلحاق الميت بالحي فيه نظر، فإن هذا الغسل إنما هو من باب التعبد وليس بمعنى اغتسال الحي الذي يكون متهيئاً للصلاة ونحوها مما يشترط له الوضوء. فالأظهر: أنه إذا غسله ثلاثاً فأنقى بدنه، فخرج منه شيء من السبيلين، فإنه يكتفي حينئذ بغسل الموضع الذي خرجت منه النجاسة من غير أن يعيد الغسل مرة أخرى، خلافاً للمشهور عند الحنابلة. وقال الجمهور: يعيد إيضاءه، وهذا وإن كان على الغاسل أهون من إعادة الغسل، لكن الأولى فيه أن يكتفى بغسل المحل الذي خرج منه الخارج. قال: [ويجعل في الغسلة الأخيرة كافوراً] فالغسلة الأخيرة يضيف إليها الكافور، وهو نافع للميت، فإنه يشد البدن ويصلب الجسد ويطرد الهوام، ويبرد البدن أيضا، مما يؤدي إلى تأخر الفساد إليه. ودليله ما تقدم من قوله - صلى الله عليه وسلم -: (واجعلن في الأخيرة كافوراً أو شيئاً من كافور) (2) . والكافور طيب، فإذا لم يوجد الكافور ووجد ما يقوم مقامه مما فيه هذه الفوائد المتقدمة، فإنه يضاف إلى الغسلة الأخيرة شيء من الطيب لحصول شيء من فوائده، فإن الكافور رائحته طيبة. قال: [والماء الحار والأشنان والخِلال يستعمل إذا احتيج إليه] " الخلال ": أن يدخل عوداً أو نحوه بين أسنانه لإخراج شيء من الوسخ بين الأسنان. فالماء الحار قد يعجل بفساد البدن، ومثله الأشنان. والخلال قد يحدث شيئاً في لثة الميت ويخرج الدم ونحو ذلك. فهذه الأشياء لا تستعمل إلا إذا احتيج إليه.

_ (1) كذا في الأصل، ولعل الصواب: للطهارة.

فإذا كان هناك أذى بين أسنانه فلم يتمكن من إخراجه إلا بالخلال، فإنه يفعل ذلك. وإن كان عليه وسخ شديد لا يمكن أن يزال إلا بالأشنان ونحوه وبصب الماء الحار ونحو ذلك، فإنه يفعل. قال: [ويقص شاربه ويقلم أظافره] هذا هو المشهور في المذهب، وهو مذهب إسحاق وسعيد بن المسيب وابن جبير والحسن البصري، قالوا: يستحب تقليم الأظافر وقص الشارب. وهل يستحب نتف الإبطين؟ المشهور في المذهب كذلك. وهل تحلق العانة؟ وجهان في مذهب الحنابلة: الأول: أنه يستحب ذلك بشرط أن يكون ذلك بمزيل من غير أن ينظر إلى عورته. الثاني: أنه لا يستحب ذلك. وقال جمهور العلماء: بل لا يستحب شيء من ذلك كله، بل يبقى الميت على هيئته. وقال بعض الحنابلة: يستحب ذلك إن كان فاحشاً كثيراً. وهذا – فيما يظهر لي – أظهرها؛ وذلك لأن هذا الشيء الكثير الفاحش من التطهر والتنظف إزالته. بخلاف مجرد طول في الشارب والإبطين والأظافر، فإن مثل هذا قد لا يحتاج إلى إزالته إلا بعد أن يمر عليه الوقت المحدد، وهو أربعون يوماً. ولأنه إذا كان طوله ليس بفاحش، فلا يكون مستنكراً إلا مع مرور المدة المتقدمة التي وقّتها النبي - صلى الله عليه وسلم -. ولم يصح لنا أن النبي - صلى الله عليه وسلم - ولا عن أصحابه أنهم كانوا يفعلون ذلك، فكان المستحب إبقاء ذلك كله إلا أن يكون فيه فحش، فإنه يزال من باب التنظف والتطهر، والله أعلم. * استحب الحنابلة – أيضاً – أن تخضب اليدان ونحوها بالحناء. وقال بعض الحنابلة: لا يستحب ذلك إلا أن يكون ممن اعتاده في الحياة، وهذا حسن. أما الأول، فهو ضعيف؛ لعدم الدليل عليه، أما من اعتاده في الحياة فلا بأس بذلك. قال: [ولا يسرح شعره] قالوا: لعدم وروده.

وقال الشافعية: بل يستحسن ذلك، فيسرح شعره وظفره، فيستحسن كما يفعل ذلك بشعر المرأة، فلا فرق في هذا بين المرأة والرجل، لاسيما إذا كان شعر الرجل طويلاً، فإنه يحتاج إلى جمع وتسريح ونحو ذلك. وقد ثبت هذا في شعر المرأة كما سيأتي من حديث أم عطية، قالوا: فكذلك الرجل. وقال بعض الحنابلة: يستحب أن يكون ذلك بمشط ذي أسنان متباعدة؛ لئلا يؤدي ذلك إلى تساقط شعره. والأمر – فيما يظهر لي – واسع، فإن فعل هذا، فهو حسن. قال: [ثم ينشف بثوب] إذا انتهى من تغسيله، فإنه ينشف بثوب؛ لئلا يبتل الكفن بالماء، فكان المستحب ذلك؛ لئلا يبتل الكفن بالماء. قال: [ويضفر شعرها ثلاثة قرون ويسدل وراءها] لقول أم عطية في غسلها لابنة النبي - صلى الله عليه وسلم -: (وظفرناها ثلاثة قرون فألقيناها خلفها) . وهذا كان بأمر النبي - صلى الله عليه وسلم - - كما في رواية ابن حبان – أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (اظفرن شعرها ثلاثة قرون) . ولا بأس أن يكون ذلك مع المشط، فقد ثبت في رواية مسلم: (ومشطناها ثلاثة قرون) . فيكون تسريح ومشط، وتظفر ثلاثة قرون، هذا هو المستحب كما فعل بابنة النبي - صلى الله عليه وسلم - بأمر منه عليه الصلاة والسلام. قال: [وإن خرج منه شيء بعد سبع حشي بقطن، فإن لم يستمسك فبطين حر] إذاً: قبل السبع كل ما خرج منه شيء، فإنه يغسل، أي يعاد الغسل كاملاً، وهو كما تقدم قول ضعيف. أما إذا وصل إلى السبع، فلا يعاد؛ لذا قال: " وإن خرج منه شيء بعد سبع، حشي بقطن، فإن لم يستمسك فبطين حُر - أي خالص صلب – يمنع من خروج الخارج، أو نحوه مما يمنع من خروج الخارج عن الميت. قال: [ثم يغسل المحل ويوضأ] ولم يقل: إنه يغسل بدنه – كما في المسألة السابقة –، بل يكتفى حينئذ بغسل المحل وبالوضوء.

فالمشهور في المذهب: أنه إذا خرج منه شيء بعد الثالثة، أعيدت رابعة فخامسة، حتى تكون سبعاً، فإذا خرج شيء بعد السابعة، فلا يعاد التغسيل، بل يكتفى بغسل المحل مع الوضوء. والراجح – ما تقدم -، وأن الإنقاء إذا حصل بثلاث، فخرج شيء من الخارج، فإنا نكتفي بغسل المحل والوضوء، كما هو مذهب الجمهور، بل الأصح ألا يوضأ، ويكتفى بغسل المحل، كما تقدم ذلك. قال: [وإن خرج بعد تكفينه لم يعد الغسل] كذلك إذا كفن وانتهى من تغسيله، فخرج منه شيء، فإنه لا يعاد الغسل، بل يكتفى بإزالة هذا الخارج وتنظيفه. وهل يوضأ أم لا؟ قولان لأهل العلم: القول الأول: ما تقدم، أنه يوضأ. الثاني، وهو رواية عن أحمد: أنه لا يوضأ، وهو أرجح؛ لأن الوضوء فيه مشقة، وللفارق – كما تقدم – بين الحي والميت، والله أعلم. والحمد لله رب العالمين. الدرس السادس والأربعون بعد المئة (يوم الاثنين: 17 /7 / 1415 هـ) قال المؤلف رحمه الله تعالى: (ومُحْرِمٌ ميت كحي) أي أن أحكام الميت المحرم الذي يموت في إحرام حج أو عمرة هو حكم الميت من غير المحرم، وقد تقدم صفة غسل الميت فلا فرق في تلك الصفة بين الميت المحرم في حج أو عمرة أو غيره إلا ما يذكره المؤلف. قال: (يغسل بماء وسدر ولا يقرب طيباً) فلا يمس طيباً، ومن ذلك الكافور فقد تقدم أنه يستحب أن يجعل في الغسلة الثالثة للميت. أما المحرم فلا يجعل فيه كافور ولا غيره من الأطياب. قال: (ولا يلبس ذكره مخيطاً) فالذكر لا يلبس مخيطاً، بل يكفن في ثوبيه غير المخيطين، فلا يلبس قمص ونحو ذلك، بل يكون عليه ثوبا الإحرام اللذين أحرم بهما. قال: (ولا يغطى رأسه) فلا يوضع على رأسه شيء بل يبقى مكشوفاً. قال: (ولا وجه أنثى)

فيبقى وجه الأنثى مكشوفاً، لأن إحرام المرأة في وجهها كما هو مقرر في مذهب الحنابلة وسيأتي البحث في هذه المسألة في بابها في كتاب الحج، هذا حكم المحرم الميت. ودليل ذلك: ما ثبت في الصحيحين عن ابن عباس رضي الله عنه: أن رجلاً كان مع النبي صلى الله عليه وسلم فوقصته ناقته وهو محرم فمات فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (اغسلوه بماء وسدر وكفنوه في ثوبيه ولا تمسوه بطيب ولا تخمروا رأسه فإنه يبعث يوم القيامة ملبياً) (1) قال: (ولا يغسل شهيد معركة) الشهيد: وهو شهيد المعركة لا يغسل، بل يدفن بدمه وثوبه على وجه الخصوص. ودليل ذلك: ما ثبت في البخاري عن جابر قال: أن النبي صلى الله عليه وسلم: (أمر بدفن شهداء أحد بدمائهم ولم يغسلهم ولم يصل عليهم) (2) ، وقال صلى الله عليه وسلم كما في مسند أحمد وسنن النسائي بإسناد صحيح: (زملوهم بدمائهم فإنه ليس كَلْم يُكلم به في سبيل الله إلا جاء يوم القيامة يدمى لونه لون الدم وريحه ريح المسك) (3) فالحكمة من تركه بدمه من غير تغسيل، أنه يأتي يوم القيامة وهو يدمى وهذا الدم منه لونه لون الدم وريحه ريح المسك، وهذا لبقاء الأثر لهذه الطاعة العظيمة، وهي طاعة الجهاد في سبيل الله، فهذا الحكم خاص في شهيد المعركة.

_ (1) تقدم. (2) أخرجه البخاري في كتاب الجنائز، باب (73) الصلاة على الشهيد (1343) ، وانظر (1346) (1347) (1353) . (3) أخرجه النسائي في كتاب الجهاد، باب (27) من كُلِمَ في سبيل الله عز وجل (3148) ، والإمام أحمد في المسند في مسند الأنصار، في بداية حديث عبد الله بن ثعلبة بن صُعَير رقم (24057) .

ويلحق به الشهيد في سبيل الله بأيدي من خرج على إمام عادل، فإن من كان في فريق الإمام العادل، وخروج الخارجون عليه وإن كانوا مسلمين فمن قتل منهم فله هذا الحكم لا يغسل، لأنه قد قتل في سبيل الله كما أن شهيد المعركة – مع الكفار – قد قتل في سبيل الله، وروى البيهقي في سننه أن عماراً دفن بدمه ولم يصل عليه علي رضي الله عنه (1) ، وكان مع أولى الطائفتين بالحق. فشهيد المعركة سواء كان مقتولاً من جهة الكفار، أو كان مقتولاً من جهة المسلمين في حرب كان هو مع الصف الذي هو على الحق – فله هذا الحكم – من ترك تغسيله. وأما الشهيد غير ذلك كالشهيد بالغرق أو الطاعون أو المبطون والنفساء ونحو ذلك مما ثبت بالأدلة الشرعية أنه شهادة فإن هذا يغسل ويصلى عليه باتفاق العلماء. وقد ثبت في الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم صلّى على امرأة نفساء، والنفساء التي تقتلها طفلها من الشهداء، كما صح ذلك في الحديث. قال: (ومقتول ظلماً)

_ (1) كذا في الأصل، والذي في السنن الكبرى للبيهقي [4 / 27] رقم (6825) : " أن عليا صلى على عمار بن ياسر وهاشم بن عتبة، فجعل عمارا مما يليه، وهاشما أمامه، فلما أدخله القبر جعل عمار أمامه وهاشما مما يليه " قال ابن التركماني: " قال البيهقي في باب زرع أرض غير بغير إذنه: ضعيف عند أهل العلم بالحديث. وأشعث هو ابن سوار ضعفه البيهقي في باب من قال للمبتوتة النفقة، وقال الحاكم: الشعبي لم يسمع من علي، ثم لو ثبت أن عليا صلى عليهما فالشهيد يصلى عليه عند أهل الكوفة وأهل الشام وغيرهم كما تقدم، ولهذا قال صاحب الاستيعاب: دفن علي عمارا في ثيابه ولم يغسله، ويروي أهل الكوفة أنه صلى عليه، وهو مذهبهم في أن الشهداء لا يغسلون ولكنهم يصلى عليهم ".

فمن قتل ظلماً فإنه لا يغسل، لأن المقتول في سبيل الله قد قتل ظلماً وبغير حق - وهذا كذلك – أي المقتول ظلماً لمال أو عرض أو غير ذلك له هذا الحكم. هذا هو المشهور في مذهب الإمام أحمد. وذهب جمهور الفقهاء وهو رواية عن الإمام أحمد: أن من قتل ظلماً فإنه يغسل ويصلى عليه. وهذا هو القول الراجح الصحيح، فإن عمر رضي الله عنه قد قتل ظلماً وعثمان وعلي وغيرهم، وكانوا يغسلون ويكفنون، ويصلى عليهم، وإن كانوا شهداء، ومع ذلك لم يثبت هذا الحكم فيهم، وإنما ثبت في شهيد المعركة. بل لو قتل المسلم في أيدي الكفار لكن ذلك عن طريق الاغتيال، ونحوه مما لا يكون فيه قتال ظاهر، فإنه ليس له هذا الحكم. فعمر قتله أبو لؤلؤة المجوسي، وهو شهيد كما قال صلى الله عليه وسلم لأحد: (اثبت فإنما عليك نبي وصديق وشهيدان) (1) فالصديق أبو بكر والشهيدان عمر وعثمان. ومع ذلك فإنه – أي عمر – قد كفن كما ورد ذلك في البيهقي وغيره وهو مشهور عنه، وكذلك علي كما في البيهقي وغيره (2) ، ولم يخالف في ذلك أحد من أهل العلم. فعلى ذلك القتيل الذي يقع قتله في غير الصف يبقى على الحكم الأصلي من التغسيل والتكفين. قال: (إلا أن يكون جنباً) أي شهيد المعركة لا يغسل إلا أن يكون جنباً.

_ (1) أخرجه البخاري في كتاب فضائل الصحابة، باب (5) قول النبي - صلى الله عليه وسلم - لو كنت متخذا خليلا (3675) . وفي باب (6) مناقب عمر بن الخطاب (3686) ، وانظر (3697) . (2) السنن الكبرى للبيهقي [4 / 25] رقم (6820) (6819) فيه قصة عمر رضي الله عنه وفيهما: أنه غسل وكفن وصلي عليه، وأما أثر علي فرقمه (6821) لكن بلفظ: " أن الحسن صلى على علي رضي الله عنهما ". قال ابن التركماني: " يريد بذلك الرد على أبي حنيفة، فإن البيهقي حكى عنه في الخلافيات أنه من قتل بالمصر ظلما بالمحدد لم يغسل عنده "، حاشية السنن الكبرى للبيهقي [4 / 25] .

ودليل ذلك: ما رواه الحاكم بإسناد جيد أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لما قتل حنظلة بن عبد الله بن الراهب قال: (إن صاحبكم تغسله الملائكة فسئلت صاحبته فقالت: " إنه خرج لما سمع الهيعة - الصوت الفزع وهو منادي الجهاد - وهو جنب فقال النبي صلى الله عليه وسلم: لهذا غسلته الملائكة) (1) قالوا: فهذا دليل على أن الجنب يغسل، فإن الملائكة قد غسلت حنظلة بن الراهب رضي الله عنه. - وقال المالكية والشافعية وهو رواية عن الإمام أحمد: لا يغسل، وهو القول الراجح. فإن النبي صلى الله عليه وسلم أخبرنا بما تقدم من أن حنظلة غسلته الملائكة، والملائكة غير مكلفين بغسل الميت، وإنما المكلف هم من علم بحاله من بني آدم، وأما الملائكة فله حكم آخر، فلم يأمر النبي صلى الله عليه وسلم أولياءه أن يغسلوه لكونه جنباً وإنما اكتفى بالخبر أن الملائكة قد غسلته، فهذا خبر من النبي صلى الله عليه وسلم من غير أن يأمر بتغسيله. والأحاديث المتقدمة التي فيها أن الشهيد لا يغسل أحاديث عامة ممن مات جنباً أو طاهراً.

_ (1) أخرجه البيهقي في السنن الكبرى [4 / 22] كتاب الجنائز، باب (82) الجنب يستشهد في المعركة (6814) قال: " حدثنا أبو عبد الله الحافظ، أخبرني أبو الحسين بن يعقوب الحافظ، أنبأ محمد بن إسحاق بن إبراهيم، ثنا سعيد بن يحيى الأموي، حدثني أبي قال: قال ابن إسحاق: حدثني يحيى بن عباد بن عبد الله بن الزبير، عن أبيه، عن جده في قصة أحد: وقتل شداد بن الأسود الذي كان يقال له ابن شعوب حنظلة بن أبي عامر، قال: فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (إن صاحبكم تغسله الملائكة فاسألوا صاحبته) فقالت: خرج وهو جنب لما سمع الهائعة فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (لذلك غسلته الملائكة) . وانظر (6815) (6816) .

وكذلك في المرأة تقتل في سبيل الله حائضاً أو طاهراً فإنها لا تغسل – خلافاً للمشهور في المذهب – وأنها إذا ماتت حائضاً فكالجنب يجب غسلها لحديث حنظلة. والصحيح ما تقدم: وأن من قتل في سبيل الله سواء كان جنباً أو كانت المرأة حائضاً فإنهم لا يغسلون؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يغسل شهداء أحد وهذا عام في كل شهيد في سبيل الله. وأما الخبر بتغسيل الملائكة فهذا خبر عمن لم يتوجه إليه الخطاب وهم الملائكة، ولم يوجه – النبي صلى الله عليه وسلم – الخطاب إلا (1) الآدميين من أوليائه أن يغسلوه. قال: (ويدفن بدمه في ثيابه) لقوله صلى الله عليه وسلم فيما رواه أحمد بإسناد صحيح: (زملوه في ثيابه) (2) فيكفن في ثيابه التي قتل فيها. قال: (بعد نزع السلاح والجلود عنه) لما روى أبو داود أن النبي صلى الله عليه وسلم: (أمر بقتلى أحد أن ينزع عنهم الحديد والجلود وأن يدفنوا في ثيابهم بدمائهم) (3) ، لكن الحديث فيه عطاء بن السائب وقد اختلط فالحديث إسناده ضعيف. ولكن القائلين به من الحنابلة لم يقولوا به على وجه الإيجاب، وإنما قالوا به على وجه الاستحباب والأولوية. أي: يستحب أن ينزع عنه الجلد كأن يكون عليه خفان من جلد أو جبة من جلد فإنها تنزع عنه. وكذلك ما يكون عليه من السلاح من درع ونحوه فإنه ينزع عنه والحديث كما تقدم ضعيف. - وقال المالكية: بل يدفن في ثيابه كلها، وهذا أظهر، لكن السلاح ينبغي استثناؤه للانتفاع به، أو لا فائدة من دفنه مع الميت بل الفائدة في إبقائه لينتفع به، فالسلاح ونحوه مما ينتفع به ينزع عن الميت.

_ (1) كذا في الأصل، ولعل الصواب: إلى. (2) تقدم صْ 119. (3) أخرجه أبو داود في كتاب الجنائز، باب 31 في الشهيد يغسل رقم (3134) ، وأخرجه كذلك ابن ماجه في الجنائز حديث 1515، باب الصلاة على الشهداء ودفنهم. سنن أبي داود [3 / 498] .

وأما ثيابه سواء كان من جلد أو فرو أو نحو ذلك فإنها تبقى عليه – إلا أن تكون هناك مصلحة راجحة لنزعها منه – كأن تكون للمسلمين حاجة في هذه الثياب لتكفين الموتى بها وعليه مزيد ثياب فإنه يكفن بها غيره. إذن: المستحب أن يدفن في ثيابه فلا يجدد له كفن. فإن كفن في غيرها فلا بأس، فقد ثبت في مسند أحمد أن صفية رضي الله عنها: (أرسلت إلى النبي صلى الله عليه وسلم ثوبين ليكفن حمزة فيهما فكفنه بأحدهما وكفن بالآخر رجلاً آخر) (1) فإذن: إذا أحب الولي أو غيره أن يكفنه في ثوب آخر فلا بأس بذلك، لكن المستحب أن يكفن في ثيابه التي قتل فيها. قال: (وإن سلبها كفن بغيرها) إن سلب الثياب في القتال، فوقعت سلباً للكفار فإنه يكفن بثياب أخر. فما تقدم من الكلام فيما إذا كان عليه ثياب، أما إذا لم يكن عليه ثياب، أو كانت عليه ثياب غير كافية فإنه يكفن بثياب أخرى. قال: (ولا يصلى عليه) فشهيد المعركة لا يصلى عليه، لحديث جابر المتقدم، فإن النبي صلى الله عليه وسلم: (لم يغسل شهداء أحد ولم يصل عليهم) (2) ونحوه من حديث أنس في سنن أبي داود أن النبي صلى الله عليه وسلم: (لم يصل على شهداء أحد) (3) فهذه الأحاديث تدل على أنه لا تشرع الصلاة على شهيد المعركة. هذا هو مذهب جمهور العلماء. وذهب الأحناف: إلى مشروعية ذلك. واستدلوا: بما ثبت في الصحيحين: أن النبي صلى الله عليه وسلم: (خرج إلى أهل أحد فصلى عليهم كصلاته على الميت) (4)

_ (1) انظر كتاب الجنائز صْ 79. (2) أخرجه البخاري، وقد تقدم صْ 119. (4) أخرجه البخاري في كتاب الجنائز، باب (73) الصلاة على الشهيد رقم (1344) ، ومسلم (2296) .

في البخاري: (بعد ثمان سنوات كالمودع للأحياء والأموات) (1) أي كان ذلك قبيل وفاته بعد نحو ثمان سنوات من وقعة أحد، وهذا من باب التجوز فإن النبي صلى الله عليه وسلم قد توفي بعد سبع سنوات وأشهر من غزوة أحد. واستدلوا: بما رواه الطحاوي بإسناد حسن أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى على حمزة فكبر عليه تسع تكبيرات ثم صلى على الشهداء وكل ذلك وهو يصلي على حمزة " (2) يعني في كل واحد من الشهداء يصلي على حمزة ". قالوا: والحديث حسن. أما الحديث الثاني وهو ما رواه الطحاوي، فإنه حديث منكر، وقد ضعفه الشافعي وأعله ابن القيم وغيرهم. فإن المحفوظ عنه في الصحيحين وغيرهما أنه لم يصل على شهداء أحد، ولم يكن هذا ليخفى على جابر وأبوه من شهداء أحد، وكذلك لم يكن ليخفى على أنس وله في أحد شهداء. أما الحديث المتفق عليه: فإنه يحتمل أن يكون المراد أنه دعا لهم كدعائه للميت، وهذا يكون فيه الجمع بين ترك النبي صلى الله عليه وسلم للصلاة عليهم أولاً، ويكون فعله الثاني مجرد الدعاء لهم، لكن قال: (كصلاته على الميت) لبيان أن هذا الدعاء مخصوص فهو كالدعاء الذي يقع في الصلاة على الميت. ثم لو قلنا: أنه صلى عليهم صلاة كالصلاة المعروفة، فإنه ينبغي أن يقال: بكونه خاصاً بالنبي صلى الله عليه وسلم، لأنهم لا يقولون بذلك. فالظاهر ما تقدم أنه دعاء كالدعاء في صلاة الميت، أو أن يكون ذلك خاصاً بالنبي صلى الله عليه وسلم؛ لأن الصلاة على الميت إنما تشرع عند موته، وأما أن يكون ذلك بعد ثمان سنوات فلا. فالأظهر مذهب الجمهور وأن شهداء المعركة لا يصلى عليهم لترك النبي صلى الله عليه وسلم ذلك. ثم لو قلنا بالحديث الذي ذكره الأحناف فيحسن أن يقال بما هو رواية عن الإمام أحمد: أن الصلاة على الشهيد تركها أولى فإن صلى فلا بأس.

_ (1) أخرجه البخاري في كتاب المغازي، باب (17) غزوة أحد رقم (4042) .

قال: (وإن سقط عن دابته أو وجد ميتاً ولا أثر به … غسل وصلي عليه) تقدم أن شهيد المعركة لا يغسل ولا يصلى عليه، وهنا استثناء فإذا سقط عن دابته بغير فعل من الكفار أو وجد ميتاً ولا أثر به فليس هناك جرح يدل على أن هذا الموت كان بسبب الكفار، فإنه يغسل ويصلى عليه. - هذا هو مذهب جمهور الفقهاء ومنهم الحنابلة. قالوا: لأن الأصل هو تغسيل الميت إلا ما ورد استثناؤه وهو شهيد المعركة وهذا لم يكن قتيلاً في المعركة وإنما حدث الموت له أثناء المعركة. - وقال الشافعية وهو قول القاضي من الحنابلة: أنه له حكم الشهداء – حينئذٍ –؛ فإنه قد مات وهو يقاتل في سبيل الله ولا يبعد أن يكون السبب هو ذات القتال، وإن لم يكن ذلك ظاهراً، فإن ذلك وإن لم يظهر لنا لكن الاحتمال فيه قوي، فمظنة سقوطه وموته أن يكون ذلك من الكفار، ولذا فإنه لا يغسل ولا يصلى عليه. ولأنه – في الحقيقة – في حكم الشهداء فكان ينبغي أن يلحق بهم، والله أعلم. * وهنا مسألة قريبة من هذه المسائل: وهي فيمن أصابه سيفه أو أصابته رمية من جهة المسلمين، فكان في ذلك حتفه، فما الحكم؟ قال الحنابلة في المشهور عندهم وهو مذهب الجمهور: إنه يغسل ويصلى عليه. وقال الشافعية، وهو اختيار الموفق والقاضي من الحنابلة: له حكم الشهداء. واستدلوا: بما ثبت في صحيح مسلم عن سلمة بن الأكوع قال: (لما كان يوم خيبر قاتل أخي قتالاً شديداً " وهو عامر بن الأكوع " فارتد عليه سيفه فقتله فقال أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك وشكوا فيه: " في شهادته في سبيل الله " فقال النبي صلى الله عليه وسلم: أنه مات جاهداً مجاهداً) (1) فكان له حكم الشهداء.

_ (1) أخرجه مسلم في كتاب (32) الجهاد والسير، باب (43) غزوة خيبر (1802) .

وكان له حكمهم من حيث العموم فإنه لم ينقل لنا أنه خص بحكم سوى حكمهم من ترك تغسيلهم، فكان له حكم شهداء خيبر ممن قتل في سبيل الله تعالى، وهذا القول أظهر. فالراجح أنه في هذه المسألة لا يغسل ولا يصلى عليه فله حكم الشهداء، لأنه مظنة الموت في المسائل الأخيرة بسبب الكفار والقتال مظنة قوية حيث وجد ميتاً أثناء ذلك. أما لو علم أن موته ليس بسبب القتال فإن له الحكم الأصلي من كونه يغسل ويصلى عليه. قال: (أو حمل فأَكَل أو طال بقاؤه عرفاً غسل وصلي عليه) أي من حمل فأكل أو شرب أو تكلم أو [فعل] (1) فعلاً من الأفعال التي يفعلها الحي، أو طال بقاؤه عرفاً. إذن: إن تكلم أو أكل أو شرب أو نحو ذلك من الأفعال التي تقع من الحي وإن لم يطل بقاؤه عرفاً فإنه يغسل ويصلى عليه. فإن لم يفعل هذه الأفعال وطال بقاؤه عرفاً، فكذلك يغسل ويصلى عليه. فالمسألة إذن: من هو الشهيد الذي يترتب عليه الحكم من ترك الصلاة والغسل؟ المشهور في المذهب: أن هذا الحكم خاص فيمن أصيب في المعركة ولم يطل بقاؤه عرفاً بشرط ألا يفعل شيئاً من أفعال الحي من شرب أو كلام ونحو ذلك. وقال الموفق والمجد ابن تيمية من الحنابلة: بل إن طال بقاؤه عرفاً فهو الذي يخرج من هذا الحكم. أما مجرد كونه يشرب أو أنه يتكلم أو تأخذه إغفاءة فإن هذا ليس بمؤثر في الحكم ما دام لم يطل الزمن عرفاً إلا أن يأكل فإن الأكل إنما هو من شأن الأحياء. فعندهم أن من أكل وإن لم يطل بقاؤه عرفاً، فإنه ينتفي عنه الحكم، فيغسل ويصلى عليه. 3- وقال الشافعية، وهو قول في مذهب الإمام أحمد: لا يثبت هذا الحكم إلا فيمن كان موته قبل انقضاء الحرب. أما لو بقي بعد انقضاء الحرب فحمل إلى جهة المسلمين فإنه يغسل ويصلى عليه. الترجيح:

_ (1) ليست في الأصل.

أما ما ذهب إليه الشافعية فإنه ينبغي أن يستثنى منه: ما لو بقي به رمق وهو في أثناء المعركة ثم حدث له الموت وقد علم انتصار هؤلاء على هؤلاء فقد انقضت المعركة، لكن بقي به من رمق ثم كان موته، فإن مثل هذا ينبغي أن يكون له الحكم من ترك التغسيل والصلاة عليه. وقد روى مالك في موطئه بإسناد منقطع: أن سعد بن الربيع وكان من شهداء أحد كان هكذا (1) ، فإنه قد بقي به رمق بعد انتهاء المعركة ثم مات وكان من شهداء أحد، والسند وإن كان منقطعاً لكن هذه القصة مشهورة في كتب السير. ثم إنه ليس هناك فارق مؤثر بين أن يموت في أثناء المعركة وأن يبقى به رمق وهو في موضعه ثم يموت بعد انتهائها، في الحقيقة لا فرق بين هاتين الصورتين. والقول بما ذهب إليه الحنابلة قول فيه قوة - وليس المقصود على إطلاقه بل على إخراج ما ذكروه من الشرب والكلام. فإن مثل هذه غير مؤثرة في الحقيقة، فإن مثل هذه الأمور تقع ممن يحتضر، فيقع منه الشرب والكلام والتوصية ونحو ذلك، فمثل هذه الأمور ليست بمؤثرة بخلاف الأكل فإنه لا يقع إلا من الأحياء. فالقول: بأنه متى طال الزمن عرفاً خرج من حكم الشهداء هذا قول قوي؛ لأن الأصل هو بقاء الحكم لما كان أثراً منه، والأثر في موته إنما هو هذه المعركة، وقد بقي زمناً يسيراً في العرف فلم يطل ذلك عرفاً، فكان باقياً في حكم ذلك الأثر الذي أثر به. أما إذا طال الزمن عرفاً فإنه يخرج من هذا الحكم، فإن سعد بن معاذ قد أصيب بسهم في أكحله في غزوة الخندق - كما ثبت في الصحيحين (2) – ولم يكن له حكم الشهداء بل غسل وصلي عليه.

_ (1) الموطأ، كتاب الجهاد، باب الترغيب في الجهاد رقم (1004) . (2) أخرجه البخاري في كتاب الصلاة، باب (77) الخيمة في المسجد للمرضى وغيرهم (463) ، وفي كتاب المغازي، باب (30) مرجع النبي - صلى الله عليه وسلم - من الأحزاب (4122) ، ومسلم (1769) .

وهذا وإن لم ينقل لنا فإنه في حكم المنقول إذ الهمم متوفرة لنقله والدواعي قائمة لنقله، فلو كان له حكم الشهداء لنقل ذلك، بل بقي مسكوتاً على طريقة غسله وتكفينه فكان ذلك إبقاءً على الأصل من كونه يغسل ويكفن؛ لأنه قد طال الفصل عرفاً. إذن: ينبغي أن يقال: من جرح جرحاً شديداً أثناء القتال فمات فيه أو قبل انقضاء الحرب أو بعد زمن يسير من انقضائها وكان السبب هو هذا الجرح الذي أصابه فله حكم الشهداء. أما إذا طال الفصل عرفاً، كأن يذهب إلى بلاده ويبقى ممرضاً حتى يأتيه الموت فإنه لا يكون له حكم الشهداء كما هو مشهور عند المسلمين كما في قصة سعد بن معاذ وغيره. قال: (والسقط إذا بلغ أربعة أشهر غُسل وصلي عليه) السقط: من سقط من رحم أمه قبل أن يأتي أوانه. فهذا الساقط لأربعة أشهر وعند تمامها تنفخ الروح في الجنين في بطن أمه فيكون له حكم الأحياء فإذا سقط بعد أربعة أشهر فإنه يصلى عليه. وعليه فالجنين الذي يسقط من أمه قبل أربعة أشهر لا يصلى عليه؛ لأنه ليس من الأحياء فلم تثبت له الحياة بعد بل إنما هو قطعة لحم، بل يكون ذلك لمن نفخت فيه الروح ولا يكون ذلك إلا بعد أربعة أشهر كما في حديث ابن مسعود المتفق عليه (1)

_ (1) أخرجه البخاري في كتاب بدء الخلق، باب (6) ذكر الملائكة (3208) بلفظ: " قال عبد الله: حدثنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو الصادق المصدوق قال: (إن أحدكم يجمع خلقه في بطن أمه أربعين يوما، ثم يكون علقة مثل ذلك، ثم يكون مضغة مثل ذلك، ثم يبعث الله ملكا فيؤمر بأربع كلمات، ويقال له: اكتب عمله ورزقه وأجله وشقي أو سعيد، ثم ينفخ فيه الروح، فإن..) . ، وأخرجه أيضا في أبواب أخرى، ومسلم (2643) .

ودليل ذلك قوله صلى الله عليه وسلم: (والسقط يصلى عليه ويدعى لوالديه بالمغفرة والرحمة) (1) رواه الخمسة وإسناده صحيح. - وذهب جمهور الفقهاء: أنه لا يغسل ولا يصلى عليه إلا إذا خرج حياً باستهلاله صارخاً فثبت حياً ثم مات بعد ذلك، فلو سقط وهو ابن ثمانية أشهر فإنه لا يصلى عليه ولا يغسل بل يوارى، وأما إن خرج حياً فثبتت له الحياة باستهلاله صارخاً فإنه يثبت له هذا الحكم. واستدل الجمهور: بقول النبي صلى الله عليه وسلم في الترمذي في الطفل: (لا يغسل ولا يصلى عليه حتى يستهل صارخاً) (2) فالحديث إسناده ضعيف فيه إسماعيل بن مسلم وهو ضعيف. - فالصحيح مذهب الحنابلة. قال: (ومن تعذر غسله يُمم)

_ (1) أخرجه أبو داود في كتاب الجنائز، باب (49) المشي أمام الجنازة (3180) ، والترمذي (1031) ، والنسائي (1944) ، وابن ماجه مختصرا (الطفل يصلى عليه) (1507) ، وقال الترمذي: حسن صحيح ". سنن أبي داود [3 / 523] ، المغني لابن قدامة [3 / 459] . (2) أخرجه الترمذي في كتاب (7) الجنائز، باب (43) ما جاء في ترك الصلاة على الجنين حتى يستهل (1032) قال: " حدثنا أبو عمار الحُسين بن حُريث، حدثنا محمد بن يزيد الواسطي عن إسماعيل بن مسلم المكي عن أبي الزبير عن جابر عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (الطفل لا يصلى عليه ولا يرث ولا يورث حتى يستهل) قال أبو عيسى: هذا حديث قد اضطرب الناس فيه، فرواه بعضهم عن أبي الزبير عن جابر عن النبي - صلى الله عليه وسلم - مرفوعا، وروى أشعث بن سوار وغير واحد عن أبي الزبير عن جابر موقوفا، وروى محمد بن إسحاق عن عطاء بن أبي رباح عن جابر موقوفا، وكأنّ هذا أصح من الحديث المرفوع ".

إن تعذر غسله كحريق ومن أصيب بمرض في جلده لا يمكن تغسيله فإنه ييمم؛ لأن التيمم يقوم مقام الأغسال الشرعية ومن ذلك غسل الميت، فكما أنه يقوم مقام غسل الجنابة، فكذلك يقوم مقام غسل الميت لأن كليهما تطهير فكلاهما يفعل من باب التعبد والتطهير. - وعن الإمام أحمد: أنه لا ييمم، لأن المقصود من غُسل الميت تنظيفه والتيمم لا يستفاد منه تنظيفاً. والقول الأول هو الراجح؛ لأن غسل الميت لا يقصد منه التنظيف فحسب بل يقصد منه التعبد لله عز وجل بتطهير الميت هذا التطهير الشرعي، بدليل أن النبي صلى الله عليه وسلم قد غسل ولم يكن محتاجاً إلى التنظيف. وقد تقدم أثران أنه لا بأس بتحسينهما بمجموعهما في مسألة متشابهة لهذه المسألة - وهي إذا مات رجل بين نسوة أو عكسه فإنهما ييممان – وهي أصل في مشروعية التيمم في غسل الأموات. قال: (وعلى الغاسل ستر ما رآه إن لم يكن حسناً) الغاسل وهو الأمين العدل يجب عليه إذا رأى من الميت ما يكون فيه شيء من العيب أو الفضيحة أن يستر ذلك، وقد قال صلى الله عليه وسلم: (من ستر مسلماً في الدنيا ستره الله يوم القيامة) (1) رواه أحمد بإسناد صحيح. وروى الحاكم بإسناد صحيح: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من غسل مسلماً فكتم عليه غفر له [الله] أربعين مرة - وعند الطبراني: أربعين كبيرة - ومن حفر له [فأجنّه] أجري عليه كأجر (2) مسكن أسكنه إياه إلى يوم القيامة، ومن كفّنه كساه الله عز وجل من سندس وإستبرق الجنة) (3) والحديث صححه الحاكم ووافقه الذهبي وهو كما قالا فالحديث إسناده صحيح. إذن: الواجب عليه أن يستر ما رآه، هذا إن كان الميت من أهل السنة.

_ (1) تقدم. (2) في الأصل: أجري له أجر مسكن.. " (3) أحكام الجنائز وبدعها، للألباني رحمه الله تعالى ص69.

وأما إن كان من أهل البدعة ورأى أن في بيان أمره ما يجعل الناس يبتعدون عما هو عليه من البدعة والضلالة فإنه يسن ذلك لمصلحة المسلمين (1) . كما أنه إذا رأى ممن هو معروف بالبدعة - إذا رأى منه - ما هو من بشارات الخير، فلا يخبر بذلك؛ لئلا يغتر المسلمون من الإغرار به. وأما من كان من أهل السنة فإنه إن رئي منه خير أُظهر ليكون ذلك سبباً للاقتداء به، وإن رأى منه شراً فإنه يخفي ستراً عليه. والحمد لله رب العالمين الدرس السابع والأربعون بعد المئة (يوم الثلاثاء: 18 / 7 / 1415 هـ) فصل قال المؤلف رحمه الله تعالى: (يجب تكفينه في ماله مقدَّماً على دينٍ وغيره) التكفين واجب، وهو من فروض الكفاية، كما تقدم في قوله صلى الله عليه وسلم: (وكفنوه في ثوبيه) (2) وهذا أمر والأمر للوجوب. وهنا قال: (مقدماً على دين وغيره) وإرث ووصية وغير ذلك. فأول ما يقدم من تركة الميت ما يكون في تجهيزه وتكفينه وأجرة غاسله ونحو ذلك، ومن ذلك الكفن، فإنه يقدم على الدين والإرث والوصية ونحو ذلك. ولو كان الدين برهن فكذلك يقدم عليه الكفن، فلو كان له دين وقد رهنه واحتيج إلى هذا المال المرهون في تغسيله وتكفينه فإنه يقدم؛ لأن تكفينه يقوم مقام كسوته في الحياة، ومعلوم أن الكسوة في الحياة مقدمة على حق الدائن وغيره، فإن من كان عليه دين وكان له شيء يحتاج إليه في كسوة وغيرها فإنه يقدم على حق الدائن. والنبي صلى الله عليه وسلم لما أمر بتكفين المحرم في ثوبيه وأمر بتكفين الشهداء في ثيابهم لم يستفصل ولم يستثن إن كان عليهم دين، ولا شك أن الدين في مثل هذا العدد الكثير لا يخلو.

_ (1) قال أحمد: " لا أشهد الجهمية ولا الرافضة.. " المغني [3 / 506] . (2) تقدم.

فعلى ذلك أول ما يقدم من التركة ما يكون في شأن ما يحتاج إليه الميت من تغسيل وتكفين ونحو ذلك. لكن الطيب والحنوط ليس بواجب بل هو مستحب فعلى ذلك يقدم عليه غيره إلا إن رضي بذلك صاحب الحق. قال: (فإن لم يكن مال فعلى من تلزمه نفقته) فإن لم يكن له مال، فعلى من تلزمه نفقته في الحياة. فالوالد مثلاً ينفق على ولده فيجب أن يتكفل الوالد بتكفين ولده وما يحتاج من تجهيزه. قال: (إلا الزوج فإنه لا يلزمه كفن امرأته) هذا هو المشهور في مذهب الحنابلة، وهو مذهب الأحناف. قالوا: لأنه لما ماتت زوجته قد امتنع الانتفاع بها فلم يجب الإنفاق عليها كالبائن والناشز. وقال الشافعية في الأشهر عندهم وهو قول في مذهب الإمام مالك وقول في مذهب الإمام أحمد وحكي رواية عن الإمام أحمد: أن تجهيز المرأة واجب على زوجها – وهذا القول أرجح –؛ وذلك لأن إنفاق الزوج على زوجته واجب ما دامت زوجة له، وقد قال - صلى الله عليه وسلم - لعائشة: (لو مت لغسلتك ثم كفنتك) (1) الحديث، فدل هذا على بقاء معنى الزوجية. ولأن من وجبت عليه النفقة في الحياة فيجب عليه الكفن والتجهيز بعد الممات، كما يجب على السيد تجاه رقيقه وهذا بالاتفاق، ولأن النشوز فعل من الزوجة اقتضى أن تؤدب بمنعها من النفقة، وأما البينونة فهو انفصال تام بحيث أن المرأة قد انتقلت إلى نفقة غيره إما بزواج أو بأن ترجع إلى من ينفق عليها سابقاً، أما هنا فإن معنى الزوجية باق بدليل جواز تغسيلها باتفاق العلماء وبالأحاديث السابقة. فعلى ذلك الأرجح – وهو الأشهر في مذهب الشافعية -: أن الزوج يلزمه الإنفاق على زوجته في تكفينها وتجهيزها. ثم بعد ذلك – أي بعد من تلزمه النفقة في الحياة - يكون ذلك إلى بيت المال؛ لأن بيت المال لمصالح المسلمين وهذا من المسلمين وهو محتاج إلى ذلك.

_ (1) رواه ابن ماجه، وقد تقدم.

فإن لم يكن هناك بيت مال أو لم يقم بيت المال بهذا، فيجب على من علم حاله من المسلمين أن يقوم بتجهيزه ويتعين ذلك. قال ابن تيميه: " ومن علم حاله وعلم أنه ليس هناك من يقوم به فإن ذلك يتعين عليه ". ومثل ذلك لو بلغ طائفة من الناس موته وعلم أنه ليس هناك من ينفق عليه فيجب عليهم بمجموعهم أن يقوموا بالنفقة عليه في تجهيزه وتكفينه فإن قام بعضهم فإنه يسقط الإثم عن باقيهم. قال: (ويستحب تكفين رجل في ثلاث لفائف بيض) لما ثبت في الصحيحين عن عائشة قالت: (كفن رسول الله صلى الله عليه وسلم في ثلاثة أثواب بيض سَحولية "، ضبطت " سُحولية " وهي نسبة إلى بلدة في اليمن تصنع فيها هذه اللفائف " من كرسف - من قطن - ليس فيها قميص ولا عمامة) (1) ، وفي مسند أحمد: (جدد يمانية) (2) . فهذا هو المستحب أن تكون بيضاً جدداً وأن تكون من قطن. ومما يدل على استحباب كونها بيضاً ما ثبت في سنن الأربعة إلا النسائي وهو ثابت في مسند أحمد وصححه الترمذي وهو كما قال أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (البسوا من ثيابكم البياض فإنها من خير ثيابكم وكفنوا فيها موتاكم) (3) وفي النسائي من حديث سمرة: (فإنها أطيب وأطهر) (4) . قال: (تُجمّر)

_ (1) أخرجه البخاري في كتاب الجنائز، باب (25) الكفن ولا عمامة (1273) ، باب (24) الكفن بغير قميص (1271) (1272) ، ومسلم (941) . (2) أخرجه أحمد في مسنده (25381) . (3) أخرجه أبو داود في كتاب الطب، باب (14) في الأمر بالكحل (3878) ، والترمذي في الجنائز (994) باب ما يستحب من الأكفان، وقال: " حسن صحيح "، وابن ماجه في اللباس، باب البياض من الثياب (3566) . (4) أخرجه النسائي في كتاب الجنائز، باب (38) أي الكفن خير (1896) عن سمرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: " البسوا من ثيابكم البياض، فإنها أطهر وأطيب، وكفنوا فيها موتاكم ".

أي تبخر، فتبخر هذه اللفائف بالبخور، ودليل ذلك ما ثبت في مسند أحمد أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا أجمرتم الميت فأجمروه ثلاثاً) (1) ، وثبت في الموطأ بإسناد صحيح عن أسماء بنت أبي بكر قالت: (أجمروا ثيابي إذا مت ثم حنطوني ولا تذروا على كفني حِناطاً " أي طيباً " ولا تتبعوني بنار) (2) والشاهد قولها: " أجمروا ثيابي إذا مت) . ويستحسن أن يرش عليها ماء ورد أو نحوه من المياه التي تسبب علوق البخور بالثوب. قال: (ثم تبسط بعضها فوق بعض) أي توضع ثلاث طبقات على الأرض. قال: (ويجعل الحنوط فيما بينها) الحنوط: أخلاط من طيب ولا يسمى حنوطاً إلا إذا أعد للميت، والذي يدل على استحباب الحنوط قوله صلى الله عليه وسلم – في الصحيحين – فيمن وقصته ناقته فمات: (ولا تحنطوه) (3) فدل على أن المتقرر عندهم هو تحنيط الميت أي تطييبه. وقال صلى الله عليه وسلم: (ولا تمسوه بطيب) ولقول أسماء: (ثم حنطوني) (4) فالحنوط مستحب. (فيما بينها) أي توضع الحنوط فيما بين هذه اللفائف. قال: (ثم يوضع عليها مستلقياً) أي يوضع عليها الميت مستلقياً على ظهره. قال: (ويجعل منه في قطن بين أليتيه ويشد فوقها خرقة مشقوقة الطرف كالتبان تجمع أليته ومثانته) أي يجعل من الحنوط في قطن بين أليته ليسد الخارج وليطيب هذا المحل الذي خرج منه الخارج الخبث. (ويشد فوقها خرقة) : أي يشد فوق الأليتين خرقة مشقوقة الطرف أي في كل طرف من الخرقة شقان حتى تكون كالتبان وهو السروال القصير، ويربط كل طرف بالآخر من الخلف مستوي من الإمام، وطرف الخلف فيربط على الفخذ الأيمن وهكذا على الفخذ الأيسر. " المثانة " هي مخرج البول.

_ (1) أخرجه الإمام أحمد في مسنده من حديث جابر بن عبد الله الأنصاري (14594) . (2) أخرجه مالك في الموطأ بنفس اللفظ، في كتاب الجنائز، باب النهي عن أن تتبع الجنازة بنار (530) . (3) تقدم.

قال: (ويجعل الباقي على منافذ وجهه) أي يجعل الباقي من هذا القطن الذي جعل فيه الحنوط. فيجعل على منافذ وجهه يعنى في منخريه وفي عينيه وفمه لتمنع دخول الهوام فيها ولتسترها من الأذى. قال: (ومواضع سجوده) يعني الركبتين وأطراف القدمين والجبهة واليدين، نطيب هذه (1) المواضع تشريفاً لها، وكذلك المغابن وهي مواضع ثني اليدين كطي الركبتين والإبطين. قال: (وإن طيب كله فحسن) . وهذه اجتهادات لا بأس فهي من تطييب الميت ووضع الطيب في المواضع التي يستحسن أن يوضع فيها الطيب، فالمقصود إنما هو تطييبه. فإن طيبه بما ذكر المؤلف فحسن، وإن طيبه بطريقة أخرى نافعة فكذلك، وإن طيبه كله فهذا أيضاً حسن إن شاء الله. قال: (ثم يرد طرف اللفافة العليا على شقه الأيمن ويرد طرفها الآخر من فوقه ثم يفعل بالثانية والثالثة كذلك) فإذا وضع بين اللفائف مستلقياً على ظهره، يرد طرف اللفافة اليمنى على شقه الأيمن، ويرد طرفها الآخر على شقه الأيسر فوقه. ثم الثانية والثالثة كذلك. ودليل هذا ما ثبت في مسند أحمد من حديث عائشة المتقدم وفيه: (ثم أدرج فيها أدراجاً) وهذا هو الإدراج، والإدراج هو الطي. فالصفة: أن يوضع الميت وسط اللفائف ثم يرد الشق الأيمن من العليا ثم الشق الأيسر ويكون فوقه الشق الأيمن ثم الثانية كذلك ثم الثالثة كذلك. قال: (ويجعل أكثر الفاضل على (2) رأسه) .

_ (1) في الأصل: هذا. (2) وفي نسخة: عند رأسه

ما يفضل من اللفائف علواً وسفلاً يكون أكثره من جهة الرأس تشريفاً له. وقد قال خباب بن الأرت كما في الصحيحين: (قتل مصعب بن عمير فلم نجد ما نكفنه فيه إلا بردة إذا غطينا بها رأسه خرجت رجلاه وإذا غطينا رجليه خرج رأسه فأمر النبي صلى الله عليه وسلم أن تغطى رأسه وأن يجعل على رجليه من الإذخر) (1) فهذا يدل على تقديم الرأس على الرجلين. قال: (ثم يعقدها وتحل في القبر) فإذا انتهى من التكفين وجعل الفاضل من جهة الرأس فإنه يعقدها يعني بحبل، فيعقد من الأعلى بحبل ومن الأسفل بحبل أيضاً؛ وذلك لئلا تنشر هذه اللفائف أثناء حمل الميت فالمقصود من هذه اللفائف إنما هو لئلا تنشر أثناء حملة، لذا قال: (وتحل في القبر) فتنتهي الفائدة من عقدها إذا وضع في قبره فحينئذ تفك هذه الحبال. قال: (وإن كفن في قميص ومئزر ولفافة جاز) إذا لم يكفن على الطريقة السابقة بل كفن في قميص، وهو الثوب المعروف عندنا، فإذا لبس قميصاً، ولبس إزاراً ثم غطى بخرقة أديرت على بدنه فلا بأس بذلك. وقد ثبت في موطأ مالك عن عبد الله بن عمرو بن العاص قال: (الميت يقمَّص ويؤزر ويلف في الثوب الثاني (2) فإن لم يكن إلا ثوب واحد كفن فيه) . وقد ثبت في الصحيحين عن ابن عمر قال: (لما توفى عبد الله بن أبيٍّ جاء ابنه النبي صلى الله عليه وسلم فقال: [يا رسول الله] أعطني قميصك أكفنه فيه [وصل عليه واستغفر له] ، فأعطاه قميصه) (3) فلا بأس بذلك لكن الأفضل ما فعل بالنبي صلى الله عليه وسلم. قال: (وتكفن المرأة في خمسة أثواب: إزار وخمار وقميص ولفافتين)

_ (1) أخرجه البخاري في كتاب الجنائز، باب (27) إذا لم يجد كفنا (1276) ، ومسلم (940) . (2) لعلها: الثالث، كما في الموطأ برواية يحيى بن يحيى الليثي ص110. كتاب الجنائز رقم (525) قبل باب المشي أمام الجنازة. (3) الزيادات من فتح الباري: 3 / 165.

المرأة المستحب أن تكفن في خمسة أثواب. إزار – وتقوم مقامه السروال –. وخمار يغطى به الوجه والرأس. وقميص وهو الثوب المعروف. ولفافتين. وذلك لما روى أحمد وأبو داود من حديث ليلى الثقفية: (أنها كانت فيمن غسَّل ابنة النبي صلى الله عليه وسلم قالت: فكان أول ما أعطاه النبي صلى الله عليه وسلم – يعني لتكفينها – الحِقاء وهو الإزار - ثم الدرع ثم الخمار ثم الملحفة ثم بعد ثوب) (1) أي كان النبي صلى الله عليه وسلم يعطيهن لابنته وهي تغسل – الكفن فكان أول ما أعطاهن الحقاء وهو الإزار، ثم الدرع وهو القميص ثم الخمار ثم الملحفة وهي مثل العباءة ثم ثوب آخر، والملحفة في الحقيقة تقوم مقام اللفافة فحينئذ قال المؤلف " لفافتين "، لكن الحديث فيه: نوح بن حكيم الثقفي وهو مجهول.

_ (1) أخرجه أبو داود في كتاب الجنائز، باب (36) في كفن المرأة (3157) قال: " حدثنا أحمد بن حنبل، حدثنا يعقوب بن إبراهيم، حدثنا أبي، عن ابن إسحاق، حدثني نوح بن حكيم الثقفي، وكان قارئا للقرآن، عن رجل من بني عروة بن مسعود، يقال له داود قد ولدته أم حبيبة بنت أبي سفيان، زوج النبي - صلى الله عليه وسلم - أن ليلى بنت قانِفٍ الثقفية قالت: كنت فيمن غسَّل أم كلثوم بنت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عند وفاتها، فكان أول ما أعطانا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الحِقا، ثم الدرع، ثم الخمار، ثم الملحفة، ثم أُدرجت بعدُ في الثوب الآخر، قالت: ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - جالس عند الباب معه كفنها يناولناها ثوبا ثوبا "، وانظر حاشية الروض المربع: 3 / 75.

لكن ذكر الحافظ في الفتح أن الجوزقي – هو إمام نيسابوري – له مستخرج على صحيح مسلم وكان إماماً حافظاً متقناً توفي سنة 388 هـ: أنه روى بسنده عن أم عطية أنها قالت في تكفين بنت النبي - صلى الله عليه وسلم - – ولعلها أم كلثوم أو غيرها على اختلاف بين العلماء – قالت: (فكفناها بخمسة أثواب وخمرناها كما يخمر الحي) قال الحافظ: " وهذه زيادة صحيحة الإسناد " (1) . فهذا يشهد لما ورد في أبي داود من رواية نوح بن حكيم وهو مجهول، لكن هذا السند يشهد لروايته وهو كما قال الحافظ " سند صحيح ". ويشهد لها المعنى، فإن الأولى في المرأة أن تكون في تكفينها أكثر من الرجل لأنها أولى بالستر منه، بدليل أنها تحتاج إلى الستر في الحياة والتغطية أكثر من الرجل، فكذلك في الممات، ولهذا ذهب جماهير العلماء إلى هذا فاستحبوا أن تكفن المرأة في خمسة أثواب. ويخفف في الجارية والصبي. فالصبي – كما ذكر فقهاء الحنابلة وغيرهم -: يكفي أن يكفن في ثوب واحد، وأما الجارية فإنه يكفي أن تلبس قميصاً وتوضع عليها لفافتين، وذلك للتخفيف في عورتهما، فهنا محل للتخفيف فلم يتشدد فيهما كما يتشدد في الرجل والمرأة. قال: (والواجب ثوب يستر جميعه) فالواجب: أن يغطى بثوب يستر جميعه؛ لأن هذه هي حقيقة التكفين. فكونه مُجْزءاً؛ لأن حقيقة التكفين التي أمر بها الشارع تثبت به. وأما ما ورد من الفعل المتقدم فهو مجرد فعل والفعل لا يدل على الوجوب فهو يدل على الاستحباب. فإذن: القدر المجزئ من التكفين أن تدار عليه لفافة تغطي بدنه. أما المستحب فهو ما تقدم في حق المرأة والرجل والصبي والجارية. فإن كان هناك ثوب لا يستر بدنه كله، فإنه يقدم ستر العورة ثم يدفن على تلك الحال ويغطى سائر بدنه بشيء من الأعشاب الطيبة كالإذخر ونحوه.

_ (1) فتح الباري [3 / 159] طبعة دار الريان للتراث.

وإن كان يستر فيه عورته ومنه فضل فإنه يكون من نصيب الرأس وتكون القدمان مكشوفتين ويوضع عليهما شيء من الإذخر ونحوه لما تقدم في حديث خباب رضي الله عنه (1) . والحمد لله رب العالمين الدرس الثامن والأربعون بعد المئة (يوم الجمعة: 21 / 7 / 1415هـ) فصل في حكم الصلاة على الميت وصفتها، وما في ذلك من المسائل. الصلاة على الميت فرض كفاية – كما تقدم في درس سابق –. والمشهور في مذهب الحنابلة وهو مذهب جمهور الفقهاء: أنه إذا صلى عليه مكلف واحد ذكراً كان أو أنثى فإن هذا الواجب الكفائي يسقط بذلك، لأن الواجب الكفائي متى قام به من يفعله فإنه يسقط الإثم عن الباقين. وقال بعض الحنابلة: بل يشترط أن يكونوا ثلاثة، وهو قول في مذهب الإمام الشافعي. وقال بعض الحنابلة: بل يشترط أن يكونوا جماعة، واثنان فما فوق جماعة. وما ذكره الحنابلة – من أنه إن صلى عليه مكلف فإنه يكفي – قوي، لكن هذا القول يتردد في قبوله لقوله صلى الله عليه وسلم: (صلوا على صاحبكم) (2) كما ثبت ذلك في الصحيحين في قصة المدين، ومثل هذا الأمر موجه إلى جماعة فكان الواجب أن يصلى عليه جماعة ولم يقل: ليصل عليه أحد منكم فدل ذلك على أنه واجب على جماعة منهم، فإذا صلى عليه من يثبت أنه جماعة فإنه يسقط الإثم عن الباقين – والله أعلم –.

_ (1) تقدم أنه في الصحيحين. (2) أخرجه البخاري من حديث سلمة بن الأكوع في كتاب الحوالات باب (3) إن أحال دين الميت على رجل جاز (2289) ، وفي كتاب الكفالة، باب (3) من تكفل عن ميت دينا.. (2295) ، ومن حديث أبي هريرة في كتاب الكفالة، باب (5) الدين (2298) ، ومسلم (1619)

ويستحب أن يقسم المصلون عليه ثلاث صفوف إن كان المصلون عليه فيهم قلة. لما روى الترمذي في سننه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من صلى عليه ثلاثة صفوف فقد أوجب) (1) لكن الحديث فيه محمد بن إسحاق وقد عنعن. لكن للتقسيم إلى ثلاثة صفوف شاهد عند الطبراني في الكبير وفيه ابن لهيعة وهو ضعيف لكنه يشهد لما قبله ولفظه أن النبي صلى الله عليه وسلم: (صلى ومعه سبعة فجعل ثلاثة صفاً واثنين صفاً واثنين صفاً) (2) من حديث أبي أمامة. أما إن كانوا كثرة فإنه لا يقسمهم، فقد ثبت في الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم: (نعى النجاشي فخرج بهم إلى المصلى) (3) الحديث وفيه قال جابر: (فصففنا صفين) (4) .

_ (1) أخرجه الترمذي في كتاب الجنائز، باب (40) ماجاء في الصلاة على الجنازة والشفاعة للميت (1028) . قال الترمذي: " وفي الباب عن عائشة وأم حبيبة وأبي هريرة وميمونة زوج النبي - صلى الله عليه وسلم -. قال أبو عيسى: حديث مالك بن هبيرة حديث حسن، هكذا رواه غير واحد عن محمد بن إسحاق، وروى إبراهيم بن سعد عن محمد بن إسحاق هذا الحديث وأدخل بين مرثد ومالك بن هبيرة رجلا، ورواية هؤلاء أصح عندنا ". (3) أخرجه البخاري من حديث أبي هريرة رضي الله عنه في كتاب الجنائز، باب (55) الصفوف على الجنازة، (1318) ، وانظر (1242) ، ومسلم في كتاب الجنائز، باب (22) في التكبير على الجنازة (951) . (4) هذه الزيادة في صحيح مسلم من حديث جابر في كتاب الجنائز، باب (22) في التكبير على الجنازة (952) ، وهو في البخاري (1317) ، باب (54) من صف صفين أو ثلاثة على الجنازة خلف الإمام بلفظ: " أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صلى على النجاشي، فكنت في الصف الثاني أو الثالث "، وفي رواية له (1320) : " كنت في الصف الثاني ".

وقد قال صلى الله عليه وسلم – في مسلم من حديث ابن عباس: (ما من رجل مسلم يموت فيقوم على جنازته أربعون لا يشركون بالله شيئاً إلا شفعهم الله فيه) (1) ، وهو ثابت في مسلم من حديث عائشة إلا أنها قالت: (مائة) (2) . والعدد لا مفهوم له، فمن صلى عليه طائفة من المسلمين يبلغون أربعين أو أكثر من ذلك أو مئة فصلوا عليه ودعوا الله له إلا شفعهم الله فيه. ويأمرهم بتسوية الصفوف لأنها صلاة كغيرها من الصلوات. قال المؤلف رحمه الله تعالى: (السنة أن يقوم الإمام عند صدره وعند وسْطها) هذه السنة: أن يقوم عند صدر الرجل، وعند وسط المرأة. أما كونه يقوم عند وسط المرأة فقد ثبت في الصحيحين عن أنس قال: (صليت وراء النبي صلى الله عليه وسلم على امرأة ماتت في نفاسها فقام وسْطها) (3) . وأما كونه يقوم عند صدر الرجل فذكروا أثراً عن ابن عباس يبين ذلك – من غير أن يعزوه، ومن غير ذكر سند يمكن أن ينظر فيه.

_ (1) أخرجه مسلم في كتاب الجنائز، باب (19) من صلى عليه أربعون شفعوا فيه (948) . (2) أخرجه مسلم في كتاب الجنائز، باب (18) من صلى عليه مئة شفعوا فيه (947) . (3) أخرجه البخاري من حديث سمرة بن جندب رضي الله عنه في كتاب الجنائز، باب (63) الصلاة على النفساء إذا ماتت في نفاسها، وكذلك برقم (1332) و (332) ، ومسلم (964) .

ومع ذلك فلو ثبت فإنه مخالف بما ثبت وصح عن النبي صلى الله عليه وسلم فقد ثبت عند الخمسة إلا النسائي عن أنس: (أنه صلى على رجل فقام عند رأسه، وصلى على امرأة فقام عند وسطها فقيل له: أهكذا يقوم النبي صلى الله عليه وسلم عند الرجل كما قمت ويقوم عند المرأة كما قمت؟ فقال: نعم) (1) . وهذا القول: رواية عن الإمام أحمد وقول لبعض الشافعية وهو مذهب صاحبي أبي حنيفة – وهو القول الراجح –، فالمستحب أن يقوم عند رأس الرجل وعند وسط المرأة. والمستحب له أن يقوم عند وسطها مطلقاً سواء كان بدنها مغطى بنعش أو لم يكن ذلك. ودليل ذلك: ما ورد في رواية لأبي داود الطيالسي في حديث أنس المتقدم – أنه صلى على امرأة فقام عند وسطها – في رواية لأبي داود الطيالسي: (وعليها نعش أخضر) (2) . أما ما في أبي داود: من أن ذلك – أي صلاة عند وسطها " قبل أن تكون النعوش " فإن هذا قول من بعض الرواة، وأنس قد خالفه في فعله ونسب ذلك إلى النبي صلى الله عليه وسلم. فالمستحب مطلقاً أن يقوم عند وسطها وإن كانت مغطاة بنعش لا يبدي شيئاً منها، فليس المقصود من ذلك تغطية بدنها، بل لو كان عليها نعش فإنه يستحب ذلك. فإن كانت هناك جنائز كثيرة فإنه يساوي بين الرجال والنساء فتكون رؤوسهم سواء.

_ (1) أخرجه أبو داود في كتاب الجنائز، باب (57) أين يقوم الإمام من الميت إذا صلى عليه (3194) وهو حديث طويل، وأخرجه الترمذي في الجنائز (1034) باب أين يقوم الإمام من الرجل والمرأة، وابن ماجه في الجنائز حديث 1494، باب أين يقوم الإمام إذا صلى على الجنازة. سنن أبي داود [3 / 535] . (2) أخرجه أبو داود في سننه في الباب المتقدم.

ودليل ذلك: ما ثبت في النسائي عن نافع أن ابن عمر: (صلى على تسع جنائز فجعل الرجال يلون الإمام والنساء يلين القبلة وصفهم صفاً واحداً) (1) ، وعند عبد الرزاق: (وجعل رؤوسهم واحدة) (2) . وفيه سنة أخرى وهي أن الرجال يكونون فيما يلي الإمام، والنساء فيما يلي القبلة، وإن كانوا غلماناً. ويدل على ذلك تمام الأثر، وتمامه: (ووضعت جنازة أم كلثوم بنت علي ومعها غلام لها يقال له: زيد، فجعل الغلام مما يلي الإمام وفي الناس ابن عمرو وأبو هريرة وأبو سعيد وأبو قتادة، قال رجل: فنظرت إليهم وقلت: ما هذا؟ فقالوا: هي السنة) (3) . قال: (ويكبر أربعاً) لما ثبت في الصحيحين عن جابر قال: (نعى النبي صلى الله عليه وسلم النجاشي في اليوم الذي مات فيه فخرج بهم إلى المصلى فصف بهم وكبر بهم أربعاً) (4) وسيأتي ما ورد عنه من التكبيرات الأخر. قال: (يقرأ في الأولى بعد التعوذ الفاتحة) أي ولا يستفتح فلا يشرع له الاستفتاح، وهذا هو مذهب أكثر العلماء خلافاً للأحناف – لعدم ورود ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم، ولأن صلاة الجنازة ينبغي فيها التخفيف. فلا يسن له أن يستفتح بل يستعيذ ويبسمل ثم يشرع بالفاتحة.

_ (1) أخرجه النسائي في كتاب الجنائز، باب (75) اجتماع جنائز الرجال والنساء (1978) . (2) أخرجه عبد الرزاق في مصنفه في كتاب الجنائز، باب أين توضع المرأة من الرجل (6348) بلفظ: عن ابن عمر أنه كان يساوي بين رؤوسهم إذا صلى على الرجال والنساء ". المصنف [3 / 467] . (3) أخرجه النسائي، وتقدم قريباً. (4) تقدم أنه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، صحيح البخاري حديث (1318) (1332) ، ومن حديث جابر رضي الله عنه (1334) بلفظ: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - صلى على أصحمة النجاشي فكبر أربعاً "، ومسلم (951) (952) .

ودليل مشروعيتها ما ثبت في البخاري عن طلحة بن عبد الله بن عوف قال: (صليت خلف ابن عباس على جنازة فقرأ بفاتحة الكتاب وقال: لتعلموا أنها سنة) (1) ، وفي النسائي: (لتعلموا أنها سنة وحق) (2) وفي النسائي – أيضاً: (أنه قرأ بفاتحة الكتاب وسورة) (3) . وينبغي – كما قال النووي – أن تكون هذه السورة خفيفة؛ لأن المقام يقتضي التخفيف من التعجل بالميت بدفنه، فإن قرأ سورة فهو حسن لثبوت ذلك عن ابن عباس ورفعه ذلك إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فإن اكتفى بالفاتحة فكذلك. قال: (ويصلي على النبي صلى الله عليه وسلم في الثانية كالتشهد) وقد ثبت في النسائي بإسناد صحيح عن أبي أمامة ابن سهل بن حنيف قال: (من السنة في الصلاة على الجنازة أن يقرأ في التكبيرة الأولى بأم القرآن مخافتة ثم يكبر ثلاثاً ثم يسلم في الآخرة) (4) .

_ (1) أخرجه البخاري في كتاب الجنائز، باب (66) قراءة فاتحة الكتاب على الجنازة (1335) بلفظ " ليعلموا أنها سنة ". (2) أخرجه النسائي في كتاب الجنائز، باب (77) الدعاء (1988) . (3) نفس الباب السابق، حديث (1987) . (4) آخر حديثين في الباب السابق (1989) (1990) ، أحكام الجنائز وبدعها للألباني رحمه الله تعالى: ص154

وفي رواية للحاكم والبيهقي – بعد أن ذكر التكبيرة الأولى - قال: (ثم يصلي على النبي صلى الله عليه وسلم ويخلص الدعاء للجنازة في التكبيرات الثلاث) (1) فدل على أن المشروع في الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم أن يكون ذلك بعد التكبيرة الثانية. (كالتشهد) : لأن الصحابة قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم: (يا رسول الله علمنا كيف نسلم عليك فكيف نصلي عليك؟ فقال: قولوا: اللهم صل على محمد …) (2) وتقدم الحديث في صفة الصلاة. فيصلي على النبي - صلى الله عليه وسلم - كصفة صلاته في تشهده. وإن صلى عليه على كيفية أخرى، كأن يقول اللهم صل على النبي، أجزأه ذلك.

_ (1) سنن البيهقي [4 / 64] ، كتاب الجنائز، باب القراءة في صلاة الجنازة (6959) قال: " وأخبرنا أبو بكر أحمد بن الحسن القاضي، ثنا أبو العباس محمد بن يعقوب، ثنا الربيع بن سليمان، أنبأ الشافعي، أنبأ مطرف بن مازن، عن معمر، عن الزهري، قال: أخبرني أبو أمامة بن سهل أنه أخبره رجل من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم -: أن السنة في الصلاة على الجنازة أن يكبر الإمام ثم يقرأ بفاتحة الكتاب بعد التكبيرة الأولى سرا في نفسه ثم يصلي على النبي - صلى الله عليه وسلم - ويخلص الدعاء للجنازة في التكبيرات لا يقرأ في شيء منهن ثم يسلم سرا في نفسه ". (2) أخرجه البخاري في كتاب أحاديث الأنبياء، باب (10) رقم (3370) ، وانظر (4797) (63357) ، ومسلم (406) .

والذي يظهر لي أن الأولى أن يقتصر في الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم بما يتوسع له به الدعاء للميت فلا يطيل من الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأن المقام مقام الدعاء للميت، فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم – فيما ثبت في أبي داود وابن ماجه بإسناد حسن: (إذا صليتم على الميت فأخلصوا له الدعاء) (1) أي لا تشوبوه بغيره، فاجعلوا الدعاء له. قال: (ويدعو في الثالثة) إذا كبر الثالثة دعا. والذي يظهر لي – ما تقدم - وأنه لا يكتفي بالصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم بعد التكبيرة الثانية بل يدعو للميت، فيصلي على النبي صلى الله عليه وسلم ثم يدعو، ثم يكبر ثم يدعو، ثم يكبر ثم يدعو، فقد قال أبو أمامة فيما تقدم قال: (ثم يصلي على النبي صلى الله عليه وسلم ويخلص الدعاء للميت في التكبيرات الثلاث) . ولذا قال النووي: " لا أعلم لتخصيص الفقهاء الدعاء في التكبيرة الثالثة دليلاً " (2) . وظاهر حديث أبي أمامة المتقدم أنه بعد التكبيرة الثانية يكون للميت نصيب من الدعاء وبعد الثالثة كذلك، وبعد الرابعة كذلك. قال: (فيقول …) فيدعو بما ورد استحباباً، فإن دعا بأي دعاء من الدعاء المباح للميت فلا بأس باتفاق أهل العلم، لكن الأفضل له أن يدعو بما ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم. قال: (فيقول: اللهم اغفر لحينا وميتنا وشاهدنا وغائبنا وصغيرنا وكبيرنا وذكرنا وأنثانا، إنك تعلم منقلبنا ومثوانا وأنت على كل شيء قدير، اللهم من أحييته منا فأحيه على الإسلام والسنة ومن توفيته منا فتوفه على عليهما) ولفظة " السنة " ولفظة " وأنت على كل شيء قدير " زادهما الموفق رحمه الله تعالى.

_ (1) أخرجه أبو داود في كتاب الجنائز، باب (60) الدعاء للميت (3199) ، وابن ماجه في الجنائز حديث (1497) ، باب الدعاء في الصلاة على الجنازة. سنن أبي داود [3 / 538] .

وأما لفظة " إنك تعلم منقلبنا ومثوانا " فلم أقف على شيء يدل عليها في سنة النبي صلى الله عليه وسلم لكنها من الدعاء المباح. لكن الذي يظهر لي: إنا وإن قلنا بأن الدعاء بما شاء مباح لكن الذي ينبغي له إذا دعا بما ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم أن يكتفي به؛ لئلا يقع في القلب أن في دعائه قصوراً، بل دعوته دعوة جامعة مانعة، فإذا دعا بدعاء النبي - صلى الله عليه وسلم - فيأتي به بلفظه ثم يزيد بعد ذلك ما شاء من الدعاء المباح. والوارد عنه فيما رواه الأربعة بإسناد صحيح من حديث أبي هريرة " (اللهم اغفر لحينا وميتنا وشاهدنا وغائبنا وصغيرنا وكبيرنا وذكرنا وأنثانا، اللهم من أحييته منا فأحيه على الإسلام ومن توفيته فتوفه على الإيمان، اللهم لا تحرمنا أجره ولا تضلنا بعده) (1) . قال: (اللهم اغفر له وارحمه وعافه واعف عنه وأكرم نزله وأوسع مدْخله " وهو القبر " واغسله بالماء والثلج والبرد ونقه من الذنوب والخطايا كما ينقى الثوب الأبيض من الدنس، وأبدله داراً خيراً من داره وزوجاً خيراً من زوجه، وأدخله الجنة وأعذه من عذاب القبر وعذاب النار وافسح له في قبره ونوِّر له فيه)

_ (1) أخرجه أبو داود في الباب المتقدم (3201) ، والترمذي في الجنائز حديث 1024، باب ما يقول في الصلاة على الميت،، والنسائي في الجنائز حديث 1988 باب الدعاء، وقال الترمذي: " حديث أبي إبراهيم حديث حسن صحيح ".سنن أبي داود [3 / 539] .

الوارد من ذلك ما ثبت في مسلم من حديث عوف بن مالك قال: (صلى النبي صلى الله عليه وسلم على جنازة فحفظت من دعائه: " اللهم اغفر له وارحمه وعافه واعف عنه وأكرم نزله ووسّع مدْخله واغسله بالماء والثلج والبرد ونقه من الخطايا كما ينقى الثوب الأبيض من الدنس، اللهم أبدله داراً خيراً من داره، وأهلاً خيراً من أهله وزوجاً من زوجه) ولا يقال مثل هذا اللفظ للأنثى (اللهم أدخله الجنة وقه فتنة القبر وعذاب النار) (1) . وأما ما ذكره المؤلف سوى الوارد فهو من الدعاء المباح كما تقدم. قال: (وإن كان صغيراً قال: اللهم اجعله ذخراً لوالديه وفرَطاً وأجراً وشفيعاً مجاباً، اللهم ثَقِّل به موازينهما وأعظم به أجورها وألحقه بصالح سلف المؤمنين واجعله في كفالة إبراهيم وقه برحمتك عذاب الجحيم)

_ (1) أخرجه مسلم في كتاب الجنائز، باب (26) الدعاء للميت في الصلاة (963) بلفظ: صلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على جنازة، فحفظت من دعائه وهو يقول: اللهم اغفر له وارحمه وعافه، واعف عنه، وأكرم نزله، ووسع مدخله، واغسله بالماء والثلج البرد، ونقه من الخطايا كما نقيت الثوب الأبيض من الدنس، وأبدله داراً خيراً من داره، وأهلاً خيراً من أهله وزوجاً خيراً من زوجه، وأدخله الجنة وأعذه من عذاب القبر - أو من عذاب النار – قال: حتى تمنيت أن أكون ذلك الميت "، وفي رواية عن عوف بن مالك الأشجعي قال: سمعت النبي - صلى الله عليه وسلم - وصلى على جنازة يقول: اللهم اغفر له وارحمه واعف عنه وعافه، وأكرم نزله، ووسع مدخله، واغسله بماء وثلج وبرد، ونقه من الخطايا كما ينقى الثوب الأبيض من الدنس، وأبدله داراً خيراً من داره، وأهلاً خيراً من أهله، وزوجاً خيراً من زوجه، وقه فتنة القبر وعذاب النار " قال عوف: فتمنيت أن لو كنت أنا الميت، لدعاء رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على ذلك الميت ".

هذا من الدعاء المباح، وقد قال صلى الله عليه وسلم في السقط: (ويدعى لوالديه بالمغفرة والرحمة) (1) يعني في الصلاة عليه يشتغل بالدعاء لوالديه بالمغفرة والرحمة. وثبت عن أبي هريرة – بإسناد حسن – أنه صلى على طفل فقال: (اللهم اجعله سلفاً وفرطاً وأجراً) (2) . فالمقصود: أنه يدعو لوالديه بالمغفرة والرحمة ويدعو للطفل بنحو ما تقدم من كونه بكفالة إبراهيم ونحو ذلك من الدعاء المباح المناسب للمقام فإن النبي صلى الله عليه وسلم أطلق الدعاء للميت فقال: (إذا صليتم على الميت فأخلصوا له الدعاء) (3) قال: (ويقف بعد الرابعة قليلاً ويسلم تسليمة واحدة عن يمينه) وتقدم – وقال المجد ابن تيمية بجواز ذلك – تقدم أن المستحب له بعد التكبيرة الرابعة أن يدعو للميت كما في حديث أبي أمامة: (ثم يصلي على النبي صلى الله عليه وسلم ويخلص الدعاء للميت في التكبيرات الثلاث) (4) فالتكبيرات الثلاث كلها دعاء للميت، فإذا كبر الرابعة دعا قليلاً للميت ثم سلم. (ثم يسلم واحدة عن يمينه) : - هذا هو المستحب وهو المشهور في مذهب الحنابلة وأن المستحب أن يسلم واحدة عن يمينه.

_ (1) أخرجه أبو داود في كتاب الجنائز، باب (49) المشي أمام الجنازة (3180) ، والترمذي (1031) ، والنسائي (1944) ، وابن ماجه مختصرا (الطفل يصلى عليه) (1507) ، وقال الترمذي: حسن صحيح ". سنن أبي داود [3 / 523] ، المغني لابن قدامة [3 / 459] . وقد تقدم صْ 127. (3) أخرجه أبو داود وابن ماجه، وقد تقدم قريباً. (4) تقدم.

ودليل ذلك: ما رواه الدارقطني بإسناد حسن ورواه الحاكم عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم: (صلى على جنازة فكبر عليها أربعاً وسلم تسليمة واحدة) (1) . وهو مذهب أكثر الصحابة بل لا يعلم – لمن سيأتي ذكرهم – مخالف من الصحابة، قال الحاكم: " وبه صحت الرواية عن علي بن أبي طالب وعبد الله بن عمر وعبد الله بن عباس وجابر بن عبد الله وعبد الله بن أبي أوفى وأبي هريرة، وأنهم كلهم كانوا يسلمون على الجنازة تسليمة واحدة " (2) ووافقه الذهبي. وروى غالب هذه الآثار مسندة البيهقي في سننه (3) – وهو آثار لا يعلم لها مخالف صريح من الصحابة. - وقال الشافعية: يستحب أن يسلم تسليمتين عن يمينه وعن يساره. واستدلوا بما روى البيهقي في سننه بإسناد حسن عن ابن مسعود قال: (ثلاث خلال كان النبي صلى الله عليه وسلم يفعلهن، تركهن الناس: إحداهن: التسليم على الجنازة مثل التسليم في الصلاة) (4) وهذا الأثر محتمل، فيحتمل أن يكون مراده أنه يجهر بالسلام فيجهر بالتسليم كما يجهر بالتسليم في الصلاة. ويحتمل أن يكون المراد أصل السلام أي أنه كان يسلم وأن الناس قد تركوا السلام في صلاة الجنازة. أو أن المراد: أنه كان يقول: السلام عليكم ورحمة الله. ويحتمل أن يكون يسلم عن يمينه وشماله.

_ (1) أخرجه الدارقطني في سننه في أول باب التسليم في الجنازة واحد، والتكبير أربعا وخمسا وقراءة الفاتحة من كتاب الجنائز (1793) . والبيهقي وابن أبي شيبة وغيرهم، سنن الدارقطني [2 / 220] . (3) السنن الكبرى للبيهقي [4 / 70] . (4) السنن الكبرى للبيهقي [4 / 71] كتاب الجنائز، باب (123) من قال يسلم عن يمينه وعن شماله (6989) .

وظاهر هذا اللفظ دخول هذه الاحتمالات كلها فيكون قد جهر بسلامه، وقد سلم بالألفاظ الواردة في الصلاة، وأن يكون ذلك عن يمينه وعن شماله، لكن هذه أضعفها؛ لأنها مخالفة لما ورد في الحديث المتقدم وهو حديث الدارقطني، ولكونها مخالفة لما ورد عن أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - صريحاً. ومع ذلك فيحسن القول بجواز هذه الصورة وأنه إن سلم تسليمتين عن يمينه وشماله فلا بأس، وإن كان الأولى له أن يسلم واحد [اً] عن يمينه. وهل يستحب له أن يجهر بالتسليم أم يخافت؟ أثر ابن مسعود المتقدم يدل على أن المستحب له أن يجهر فإنه قال: " مثل التسليم في الصلاة " والتسليم في الصلاة يجهر به، وهو ثابت عن ابن عمر – في البيهقي – بإسناد صحيح: (أنه كان إذا سلم على الجنازة يسمع سلامه من يليه) (1) . وقد ورد في الحاكم في حديث أبي أمامة المتقدم قال: (ويسلم سراً) ، وهو ثابت عن ابن عباس بإسناد حسن: (أنه كان إذا سلم على الجنازة سلم خُفية) (2) . فهذه الآثار تدل على أنه لا بأس بالجهر ولا بأس بالمخافتة، فيلتفت عن يمينه ويسر بالسلام، فسواء جهر أو أسر فلا بأس بذلك. ولا يستحب له أن يجهر بفاتحة الكتاب، وفي أثر أبي أمامة المتقدم أن النبي صلى الله عليه وسلم: (كان يقرأ في التكبيرة الأولى بفاتحة الكتاب مخافتة) (3) فلا يستحب الجهر بها إلا للتعليم. قال: (ويرفع يديه مع كل تكبيرة) حكم رفع الأيدي في تكبيرات الجنائز؟ أجمع أهل العلم على استحباب رفع اليدين في التكبيرة الأولى، كما حكاه ابن المنذر وغيره.

_ (1) السنن الكبرى للبيهقي [4 / 72] كتاب الجنائز، باب (125) من قال يسلم حتى يسمع من يليه (6992) . (2) السنن الكبرى للبيهقي [4 / 72] كتاب الجنائز، باب (124) من قال يسلم تسليما خفيا (6990) . (3) تقدم.

وورد عن النبي صلى الله عليه وسلم حديث في ذلك لكنه لا يثبت، فلا يصح عنه حديث في هذا الباب لكن الإجماع ثابت. وأما في سائر التكبيرات سوى التكبيرة الأولى: فمذهب الجمهور: استحباب ذلك. ومذهب الأحناف: عدم استحبابه، واستدلوا بعدم ورود ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم. وأما دليل الجمهور فقالوا: هذا تكبير عن قيام، والتكبير عن القيام في الصلاة يستحب أن ترفع فيه الأيدي، كما تقدم في غير ما حديث عن النبي صلى الله عليه وسلم – في الكلام على صفة صلاة العيد. وقد ورد هذا صريحاً عن ابن عمر، فقد ثبت عنه فيما رواه البيهقي بإسناد صحيح: (أنه كان يرفع يديه مع تكبيرات الجنائز كلها) (1) ، فهذا فعل صاحب لا يعلم له مخالف، وظاهر السنة يوافقه كما تقدم في الأحاديث التي سبقت الإشارة إليها عند ذكر تكبيرات العيد الزوائد. إذن يستحب له أن يرفع يديه مع كل تكبيرة. فعلى ذلك صفة صلاة الجنازة – في المشهور في المذهب –: يكبر رافعاً يديه، ويقرأ فاتحة الكتاب سراً ثم يكبر ثانية رافعاً يديه، ويصلي على النبي صلى الله عليه وسلم ثم يكبر ثالثة رافعاً يديه ثم يدعو للميت بما تقدم سواء كان بدعاء من عنده من الدعاء المباح أو كان ذلك بما ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم، ثم يرفع يديه مكبراً الرابعة ولا يدعو ولا يسبح ولا يستغفر بل يسكت ثم يسلم تسليمة واحدة عن يمينه.

_ (1) السنن الكبرى للبيهقي [4 / 73] كتاب الجنائز، باب (126) يرفع يديه في كل تكبيرة (6993) .

وأما صفتها على الطريقة التي وردت عن النبي صلى الله عليه وسلم: (فيكبر رافعاً يديه ويقرأ بفاتحة الكتاب وإن شاء سورة قصيرة وتقرأ مخافتة، ثم يكبر الثانية والثالثة والرابعة في كل ذلك يرفع يديه ويشتغل بالصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم في هذه التكبيرات الثلاث، والأولى أن تكون بعد التكبيرة الثانية ويخلص الدعاء للميت، وإذا كبر للرابعة دعا للميت ثم سلم عن يمينه، وإن سلم عن يمينه ويساره فذلك حسن أيضاً، والله أعلم. مسألة: الأولى بأن يصلي على الميت وصيه إن كان عدلاً صالحاً للإمامة قال الإمام أحمد: " وأوصى أبو بكر أن يصلي عليه عمر، وأوصى عمر أن يصلى عليه صهيب، وأوصت أم سلمة أن يصلي عليها سعيد بن زيد، وأوصى أبو بكرة أن يصلي عليه أبو برزة الأسلمي " (1) رضي الله عنهم أجمعين، وذكر بعض أهل العلم غير ذلك وهذه قضايا اشتهرت وانتشرت ولم يعلم لها مخالف، ومع ذلك فهي الأحب إلى الميت. ثم ثانياً: إمام الناس، فإمام المسجد هو أولى الناس بعده؛ لعموم حديث: (يؤم القوم أقرؤهم لكتاب الله) (2) وهذا عام في صلاة الجنازة وغيرها، وقال عمرو بن سلمة – وتقدم حديثه، وفي أبي داود: (وكنت أؤمهم في الجنائز) (3) . وقال الحسن: " أدركت الناس وأخصهم بالصلاة على جنائزهم من رضوهم لفرائضهم " (4) ، وفي الحاكم بإسناد حسن: " أن الحسين قدَّم سعيد بن العاص -وكان أمير المدينة – للصلاة على الحسن بن علي وقال: (قدمتك ولولا أنها سنة ما قدمتك) " (5) . ثم أولياء الميت على حسب ترتيبهم المتقدم في غُسله. والحمد لله رب العالمين. الدرس التاسع والأربعون بعد المئة

_ (2) أخرجه مسلم في كتاب المساجد، باب (53) من أحق بالإمامة (673) . (3) أخرجه أبو داود في كتاب الصلاة، باب (61) من أحق بالإمامة (587) . (4) ذكره البخاري معلقاً في كتاب الجنائز، باب (57) سنة الصلاة على الجنائز.

(يوم السبت: 22 / 7 / 1415هـ) قال المؤلف رحمه الله تعالى: (وواجباتها قيام) هنا يذكر المؤلف رحمه الله تعالى واجبات صلاة الجنازة وأركانها فقال: " قيام " فالقيام ركن فيها كما هو ركن في الصلاة لقوله صلى الله عليه وسلم: (صل قائماً فإن لم تستطع فقاعداً فإن لم تستطع فعلى جنب) (1) وقد صلاها النبي صلى الله عليه وسلم قائماً، فالواجب أن يصليها قائماً؛ لأنها فريضة، فهي من فروض الكفاية والواجب في الصلاة التي يصليها فريضة أن يصليها قائماً. لكن إن كانت نافلة فإن له أن يصليها قاعداً، والسنة أن يصليها قائماً، فلو تكررت الصلاة على الجنازة فصلى عليها مراراً فالصلاة الأولى فرض والصلوات الأخر نافلة فيجوز له في الصلوات الأخر أن يصلي قاعداً مع أن السنة القيام. فإذن: يجب القيام مع كونها فرضاً – أي فرض كفاية – وذلك إنما يكون في الصلاة الأولى، أما إذا تكررت فصلى أحد من المصلين قعوداً فلا بأس بذلك. قال: (والتكبيرات) أي يجب أن يصلي بأربع تكبيرات؛ لأن الثابت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قد كبر أربع تكبيرات فأكثر، ولم يصح عنه أن كبر على الجنائز ثلاثاً. وروى ابن حزم في كتابه بسنده وقال: - هو سند صحيح – وهو كما قال: (أن ابن عباس كبر على الجنائز ثلاثاً) (2) ، والسنة أن يكبر أربعاً ولا يشرع له أن يكبر ثلاثاً لعدم ثبوته عن النبي صلى الله عليه وسلم.

_ (1) أخرجه البخاري في أبواب تقصير الصلاة، باب (19) إذا لم يطق قاعدا صلى علىجنب (1117) . (2) المحلى لابن حزم [5 / 127] .

قالوا: وإذا كبر أربعاً أجزأه ذلك، أما إذا كبر ثلاثاً فإن كان عمداً بطلت صلاته وإن كان سهواً كبر رابعة كما صح ذلك عن أنس في البخاري (1) . إذن: الواجب أن يكبر أربعاً ولا يجزئه أقل من ذلك. ولكن هل يشرع أن يكبر أكثر من أربع؟ 1- المشهور في مذهب الحنابلة: أنه لا يشرع ذلك. وهل يتابعه المأموم إن كبر أم لا؟ المشهور في المذهب أنه إن كبر خامسة تابعه، وإن كبر أكثر من خمس لم يتابعه. وعن الإمام أحمد: أنه يتابعه إلى سبع، وهو اختيار طائفة من أصحابه، وهذا القول أرجح. ودليل ذلك: أن الراجح خلاف ما ذهب إليه الحنابلة، فالراجح هو أن التكبير فوق الأربع مشروع؛ لما ثبت في مسلم عن عبد الرحمن بن أبي ليلى قال: (كان زيد بن أرقم يصلي على جنائزنا فيكبر أربعاً فصلى على جنازة فكبر خمساً فسئل عن ذلك فقال: كان النبي صلى الله عليه وسلم يكبرها) (2)

_ (1) ذكره البخاري معلقاً في كتاب الجنائز، باب (65) التكبير على الجنازة أربعاً بلفظ: " وقال حميد: صلى بنا أنس رضي الله عنه فكبر ثلاثا، ثم سلم،فقيل له: فاستقبل القبلة، ثم كبر الرابعة ثم سلم ". (2) أخرجه مسلم في آخر باب (23) الصلاة على القبر (957) من كتاب الجنائز.

وثبت في سنن الدارقطني بإسناد صحيح: (أن علي بن أبي طالب صلى على سهل بن أبي حنيف فكبر ستاً وقال: إنه بدري) (1) ، وثبت عند الطحاوي بإسناد صحيح – أنه أي علي -: (صلى على أبي قتادة فكبر سبعاً وكان بدرياً) (2) . وكان من طريقته – أي علي – ما ثبت في الطحاوي بإسناد صحيح: (أنه كان يكبر على أهل بدر ستاً وعلى أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم خمساً وعلى سائر الناس أربعاً) (3) . فثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم كبر أربعاً وخمساً، وأن علياً كبر ستاً وسبعاً ولم يثبت له مخالف من الصحابة، ولم يثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم ولا عن أحد من أصحابه أكثر من سبع.

_ (1) أخرجه البيهقي في السنن الكبرى [4 / 59] كتاب الجنائز، باب (114) من ذهب في زيادة التكبير على الأربع إلى تخصيص أهل الفضل بها (6942) قال: " أخبرنا أبو عبد الله الحافظ، أنبأ أبو عبد الله محمد بن علي الصنعاني بمكة، ثنا إسحاق بن إبراهيم الدبري، أنبأ عبد الرزاق، أنبأ ابن عيينة، عن إسماعيل بن أبي خالد، عن الشعبي، عن عبد الله بن معقل: أن عليا رضي الله عنه صلى على سهل بن حنيف فكبر عليه ستا، ثم التفت إلينا، فقال: إنه من أهل بدر ". ولم أجده في الدارقطني بهذا اللفظ، وإنما أخرجه الدارقطني في سننه، كتاب الجنائز، باب (4) التسليم في الجنازة واحد، والتكبير أربعا وخمسا وقراءة الفاتحة (1799) قال: " حدثنا الحسين بن إسماعيل، ثنا أبو هشام، حدثنا حفص، عن عبد الملك بن سَلْع، عن عبْدِ خَيْر، عن علي: أنه كان يكبر على أهل بدر ستا، وعلى أصحاب محمد خمسا، وعلى سائر الناس أربعاً ". (2) أخرجه البيهقي في السنن الكبرى، كتاب الجنائز، باب (114) من ذهب في زيادة التكبير على الأربع.. (6943) . (3) أخرجه البيهقي في السنن الكبرى [4 / 60] (6944) .

إلا ما روى الطحاوي بإسناد حسن: (أن عبد الله بن الزبير قال: صلى النبي صلى الله عليه وسلم على حمزة فكبر عليه تسعاً) (1) لكن الحديث تقدم أنه منكر – كما أنكره الشافعي وابن القيم وغيرهما فالحديث منكر لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يصل على حمزة بل دفنه كسائر الشهداء كما في المتفق عليه. وهناك أثر ثابت عن ابن مسعود رواه ابن حزم بإسناد صحيح أنه قال: (كبروا عليها ما كبر أئمتكم لا وقت ولا عدد) (2) لما ذكر له أن أهل الشام من أصحاب معاذ يكبرون على الجنائز خمساً. والذي يقتضيه هذا الأثر أنه لو زاد على السبع فإنه لا بأس بذلك ونحن ليس عندنا في الزيادة على الخمس إلا أثر علي وهذا أثر عن ابن مسعود فيه أن التكبير للجنائز ليس له وقت ولا عدد فلو كبر تسعاً أو عشراً فلا بأس لكن المستحب له أن يكبر أربعاً أو خمساً وإن زاد على ذلك فلا يتجاوز السبع فإن ذلك هو صريح فعل النبي صلى الله عليه وسلم إلى الخمس، وفعل أصحابه كعلي إلى السبع، لكن إن زاد على ذلك فلا حرج لقول ابن مسعود: (لا وقت ولا عدد) والله أعلم. فعلى ذلك: السنة أن يكبر على الجنازة أربعاً، ويستحب له أحياناً أن يكبر خمساً فإن زاد ستاً أو سبعاً فلا بأس به. قال: (والفاتحة) الفاتحة ركن في صلاة الجنازة، لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (لا صلاة لمن لم يقرأ بأم الكتاب) (3) وصلاة الجنازة صلاة فهذا دليل ركنيتها. وقد ثبت في البخاري ما تقدم عن ابن عباس أنه كان: يقرأ بفاتحة الكتاب ويقول: (ليعلموا أنها سنة) (4) وتقدم غير ما حديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه يقرأ الفاتحة. قال: (والصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم)

_ (2) المحلى لابن حزم [5 / 126] ، وأخرجه البيهقي بمعناه في سننه [4 / 60] كتاب الجنائز، باب (115) من ذهب في ذلك مذهب التخيير.. (6945) . (3) متفق عليه، وقد تقدم. (4) رواه البخاري وقد تقدم.

تقدم ثبوتها في صلاة الجنازة، وهنا قال: هي واجب فيها، ولم أر دليلاً صريحاً يدل على إيجابها. والوارد عن النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الباب فعل، والفعل لا يدل على الوجوب كما هو مقرر في علم أصول الفقه. ولذا قال المجد بن تيمية – في هذه المسألة كقول أهل العلم في مسألة الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم في الصلاة " فإذا قلنا بوجوبها في الصلاة قلنا بوجوبها في الصلاة على الجنازة، وإن قلنا باستحبابها قلنا باستحبابها في الصلاة على الجنازة " (1) . وقد تقدم ترجيح قول جمهور العلماء في الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم في الصلاة وأنها ليست بواجبة فكذلك هنا، فهي ليست بواجبة بل سنة، وليس فيه إلا مجرد الفعل، والفعل لا يدل على الوجوب وهو مذهب طائفة من فقهاء الحنابلة. فالراجح: أنه لا يجب عليه أن يصلي على النبي صلى الله عليه وسلم بل يستحب. قال: (ودعوة للميت) لا شك أنها ركن فهي مقصد الصلاة على الميت وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إذا صليتم على الميت فأخلصوا له الدعاء) (2) وكان النبي صلى الله عليه وسلم يخلص الصلاة – أي الدعاء – على الجنائز في التكبيرات الثلاث كلها. فالدعاء للميت فرض في الصلاة على الجنازة بل هو المقصود منها، وإنما شرعت الصلاة للدعاء للميت. قال: (والسلام)

_ (2) أخرجه أبو داود وابن ماجه، وقد تقدم.

والسلام كما هو ركن في الصلاة فهو ركن في صلاة الجنازة فإنها من باب الصلاة، وفي الحديث: (مفتاح الصلاة الطهور وتحريمها التكبير وتحليلها التسليم) (1) وصلاة الجنازة صلاة. قال: (ومن فاته شيء من التكبير قضاه على صفته) . فإذا سلم الإمام كبر ما فاته وقضاه. لعموم قوله صلى الله عليه وسلم: (فما أدركتم فصلوا وما فاتكم فأتموا) (2) وهل هذا على وجه الإيجاب أو الاستحباب؟ قولان لأهل العلم: فالمشهور في مذهب الحنابلة أن ذلك على وجه الاستحباب، فلو فاته شيء فسلم مع الإمام فلا بأس ويجزئه ذلك. واستدلوا: بما رواه ابن أبي شيبة أن ابن عمر: (وكان لا يقضي ما فاته من التكبير) (3) فيه محمد بن إسحاق وقد عنعن، فالحديث ضعيف. والمشهور عند جمهور الفقهاء أنه يجب ذلك، ولا يجزئه إلا أن يكبرها؛ للحديث المتقدم: (فما أدركتم فصلوا، وما فاتكم فأتموا) . والصحيح مذهب الجمهور وأنه يجب عليه أن يقضي التكبيرات الفوائت لعموم الحديث. فإذن يشرع أن يأتي بما فاته اتفاقاً، لكن هل يجب ذلك؟

_ (1) أخرجه أحمد في المسند برقم (1006) ، (1072) من حديث علي بن أبي طالب ولفظه (مفتاح الصلاة الطهور، وتحريمها التكبير، وتحليلها التسليم) ، وبرقم (14717) من حديث جابر بن عبد الله بلفظ: (مفتاح الجنة الصلاة، ومفتاح االصلاة الطهور) .، وأبو داود في كتاب الطهارة، باب (31) فرض الوضوء (61) قال: " حدثنا عثمان بن أبي شيبة، حدثنا وكيع، عن سفيان، عن ابن عقيل، عن محمد بن الحنفية، عن علي رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (مفتاح الصلاة..) . وأخرجه الترمذي في كتاب الطهارة، باب ما جاء أن مفتاح الصلاة الطهور (3) . وابن ماجه برقم 275، سنن أبي داود [1 / 49] . (2) أخرجه البخاري في كتاب الأذان، باب (21) لا يسعى إلى الصلاة وليأت بالسكينة والوقار (636) . ومسلم (602) .

قولان والصحيح الوجوب. قال: (ومن فاتته الصلاة عليه صلى على قبره) ففيه مشروعية الصلاة على القبر، ودليل ذلك: ما ثبت في الصحيحين في قصة المرأة التي كانت تقم المسجد فسأل عنها النبي صلى الله عليه وسلم: (فقيل: ماتت فقال: أفلا كنتم آذنتموني فكأنهم صغروا أمرها فقال النبي صلى الله عليه وسلم: دلوني على قبرها فدلوه فصلى عليها) (1) . وهنا قال المؤلف: (إلى شهر) . وهذا عند الحنابلة ليس للتحديد وإنما للتقريب يعني شهر وما يقاربه. فإذا دفن الميت فمر على دفنه شهر ونحوه فإنه لا يصلى عليه. واستدلوا: بما رواه الترمذي من مراسيل سعيد بن المسيب رحمه الله: أن النبي صلى الله عليه وسلم: (لما توفيت أم سعد بن عبادة وهو غائب صلى عليها وكان ذلك لشهر) (2) قالوا: فهذا يدل على أن أمد ذلك ومنتهاه إلى الشهر وما قاربه. وقال ابن عقيل من الحنابلة: بل يصلي عليه أبداً، وهو اختيار ابن القيم حيث قال: " ولم يوقت النبي صلى الله عليه وسلم وقتاً " (3) . والأثر المتقدم الذي رواه سعيد بن المسيب ليس فيه أنه لو كان ذلك بعد شهرين أو ستة لا يصلى عليها، بل فيه جواز الصلاة عليها لشهر وليس مانعاً أن نصلي عليها بعد شهرين أو ثلاثة أو أربعة أو أكثر من ذلك.

_ (1) أخرجه البخاري في كتاب الصلاة، باب (72) كنس المسجد.. (458) بلفظ " عن أبي هريرة: أن رجلاً أسود، أو امرأة سوداء كان يقم المسجد … " ورقم (1337) ، ومسلم (956) . (2) أخرجه الترمذي في كتاب الجنائز، باب (47) ما جاء في الصلاة على القبر (1038) .

ويشهد له ما تقدم من أن النبي صلى الله عليه وسلم: (صلى على أهل أحد صلاته على الميت كالمودع للأحياء الأموات) (1) – كما رواه البخاري – على ظاهره في أن المقصود الصلاة على الميت كالصلاة على الجنازة وكان ذلك بعد ثماني سنوات ولا مانع من ذلك فإن المقصود من الصلاة هو الدعاء للميت، فسواء كان ذلك بعد شهر أو سنة أوسنتين أو أكثر من ذلك. لكن بشرط: 1 - أن يكون ممن هو أهل للصلاة أثناء موته. 2- وأن يكون غير مفرط في ترك الصلاة عليه. فمثلاً: رجل قدم من سفر فعلم بموت فلان ولم يكن مفرطاً لأنه كان مسافراً فله أن يصلي على قبره. وكونه أهل للصلاة: بأن يكون مكلفاً، أو مميزاً تصح الصلاة منه. وإلا فإنه لم يرد عن التابعين أو أتباعهم أنهم صلوا على أحد من الصحابة رضي الله عنهم، فيدل ذلك على أنه ليس مطلقاً بل هو حيث كان أهلاً للصلاة ولم يقع منه تفريط كما تقدم. قال: (وعلى غائب بالنية إلى شهر) والمراد بالغائب أن يكون في بلد أخرى، وليس المراد من كان في طرف البلد مما يتمكن أن يصلى عليه صلاة الغائب (2) . فيشرع صلاة الغائب مطلقاً سواء صلي عليه في بلده أم لم يصل عليه كما هو المشهور في المذهب. واستدلوا بحديث أبي هريرة المتفق عليه: (أن النبي صلى الله عليه وسلم نعى النجاشي في اليوم الذي مات فيه فخرج بهم إلى المصلى فصف بهم وكبر أربعاً) (3) . واختار شيخ الإسلام وتلميذه ابن القيم وهو قول الخطابي وابن عبد القوي من الحنابلة وغيرهم: أنه لا يشرع ذلك إلا إذا لم يصل عليه في بلده. فإذا لم يصل عليه في بلده شرع أن يصلى عليه في غير بلده ممن بلغه خبره من المسلمين.

_ (1) صحيح البخاري، كتاب الجنائز، باب (73) الصلاة على الشهيد (1344) ، وصحيح مسلم، كتاب الفضائل، باب (9) إثبات حوض نبينا - صلى الله عليه وسلم - وصفاته (2296) . (2) كذا في الأصل. (3) متفق عليه، وقد تقدم.

وهذا القول هو الراجح، وذلك أنه لم يكن من هدي النبي صلى الله عليه وسلم الصلاة على كل غائب، فقد مات أناس كثير من أصحابه خارج المدينة فلم يثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى على أحد منهم. والنجاشي لم يكن يظهر إسلامه، ولم يكن في بلده من يمكنه أن يصلي عليه فمات فلم يصل عليه، فصلى عليه النبي صلى الله عليه وسلم. * وهل تشرع الصلاة على من مات ولم تبق جثته كأن يموت غريقاً في بحر لا يمكن أن يحضر جثته أو أن يموت مفترساً مأكولاً أو محترقاً لا يبقى منه شيء، فهل يشرع أن يصلى عليه كما يصلى على الغائب؟ المشهور في مذهب الحنابلة: أنه لا يصلى عليه. وقال طائفة من الحنابلة: بل يصلى عليه. وهذا القول هو الراجح؛ قياساً على الصلاة على الغائب فإن هذا الميت الغائب صلى عليه النبي صلى الله عليه وسلم لكونه لم يصل عليه، وهذا كذلك فإنه لا يمكن أن تحضر جثته فيصلى عليه فهو في حكم الغائب فكان المشروع أن يصلى عليه. قال: (ولا يصلي الإمام على الغال) من غَلَّ شيئاً من الغنيمة فأخذها، فإنه لا يصلي عليه الإمام زجراً للناس عن هذه المعصية.

واستدلوا بما روى النسائي عن أبي عمرة عن زيد بن خالد الجهني قال: (توفي رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يوم خيبر فذكر ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فقال: صلوا على صاحبكم قال: فتغيرت وجوه الناس لذلك فقال النبي صلى الله عليه وسلم: إنه قد غل في سبيل الله، قال: ففتشنا متاعه فوجدنا خرزاً من خرز يهود لا يساوي درهمين) (1) . والأثر فيه أبو عمرة تابعي مجهول، وهو الراوي عن زيد بن خالد، لكن الحديث احتج به الإمام أحمد وغيره. والنظر يقتضي أنه ليس بمنكر فإن النبي صلى الله عليه وسلم من سنته ترك الصلاة على بعض العصاة الذين في ترك الصلاة عليهم زجراً لغيرهم عن فعل هذه المعصية كما سيأتي. وقد ترك النبي صلى الله عليه وسلم الصلاة على المدين – كما تقدم في المتفق عليه – وقال: (صلوا على صاحبكم) (2) وذلك قبل أن تفتح الفتوح ويكثر المال في بيت المال، فلما كثر ذلك في عهده صلى على المدينين وقضى عنهم ديونهم. قال: (ولا على قاتل نفسه) . وثبت في مسلم: أن النبي صلى الله عليه وسلم: (أتي برجل قد قتل نفسه بمشاقص " وهو نصل السهم " فلم يصل عليه) (3) .

_ (1) أخرجه النسائي في كتاب الجنائز، باب (66) الصلاة على من غل (1959) قال: " أخبرنا عبيد الله بن سعيد، قال حدثنا يحيى بن سعيد، عن يحيى بن سعيد الأنصاري عن محمد بن يحيى بن حبان عن أبي عَمْرَة عن زيد بن خالد قال: مات رجل بخيبر فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (صلوا على صاحبكم إنه غل في سبيل الله) ففتشنا متاعه فوجدنا فيه خَرزاً من خرَز يهود ما يساوي درهمين ". (2) تقدم. (3) صحيح مسلم، كتاب الجنائز، باب (37) ترك الصلاة على القاتل نفسه (978) .

وفي النسائي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أما أنا فلا أصلي عليه) (1) فلم يمنعهم من الصلاة عليه فإن قاتل نفسه مسلم وليس بكافر، فيصلي عليه طائفة من المسلمين، أما الأئمة في الدين ومن يقتدى بهم من أهل العلم والتقوى فإنهم يتركون الصلاة عليه زجراً له. ومثل ذلك سائر المعاصي الظاهرة التي يحتاج إلى زجر الناس عنها بترك الصلاة عليهم أمواتاً، فليس مختصاً بقاتل النفس والغال، بل إذا ظهرت معصية وحدث فيها فساد عظيم فرجى أهل التقوى وأهل العلم أنهم إذا تركوا الصلاة عليهم أن يكون زجراً لغيرهم عن المعصية فإن ذلك يفعل كما كان من سنته. ومن ذلك ترك الصلاة على المبتدعة كما هو المشهور في مذهب الإمام أحمد وهو مذهب السلف الصالح وذلك لزجر الناس عن فعلهم. لكن كما قال شيخ الإسلام: من صلى عليهم وهو يرجو لهم الرحمة وليس في امتناعه عن الصلاة عليهم مصلحة فذلك حسن. قال: (ولا بأس بالصلاة عليه في المسجد) والسنة أن يصلي عليه في موضع خاص بالجنائز، كما ثبت في البخاري عن ابن عمر: (أن اليهود جاؤوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم برجل منهم وامرأة قد زنيا فأمر بهما فرجما قريباً من موضع الجنائز عند المسجد) (2) . وتقدم حديث أبي هريرة في نعي النبي صلى الله عليه وسلم للنجاشي وفيه: (فخرج بهم إلى المصلى فصف بهم) (3) . فالمستحب أن يصلي عليها في مصلى خاص بالجنائز.

_ (1) أخرجه النسائي في كتاب الجنائز، باب (68) ترك الصلاة على من قتل نفسه (1964) . (2) صحيح البخاري، كتاب الجنائز، باب (61) الصلاة على الجنائز بالمصلى والمسجد (1329) ، و (4556) (7332) . (3) متفق عليه، وقد تقدم.

لكن إن صلى عليها في المسجد مع أمن تلويث المسجد بها فلا بأس بذلك، ودليله: لما ثبت في مسلم عن عائشة قالت: (والله لقد صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم على ابني بيضاء في المسجد) (1) . أما ما رواه أبو داود في سننه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من صلى على الميت في المسجد فلا شيء له) (2) ، فالحديث من حديث صالح مولى التوأمة ويروى عنه عبد الله بن أبي ذئب. وقد ضعف الإمام أحمد هذا الحديث بتفرد صالح مولى التوأمه وصالح هذا مختلط الحديث، لكن عبد الله بن أبي ذئب قد روى عنه قبل الاختلاط فحديثه حسن جيد، كما حسنه ابن القيم. لكن الحديث – حينئذ – يكون منكراً؛ لأنه يكون مخالفاً لما ثبت في مسلم من صلاة النبي - صلى الله عليه وسلم - على ابني بيضاء. ومثل صالح لا يخالف حديثه ما ثبت في مسلم وغيره. لكن ذهب بعض العلماء إلى أن الصحيح فيه – كما قرر ذلك ابن عبد البر وابن القيم، الصحيح فيه -: (فلا شيء عليه) (3) كما ثبت ذلك في نسخة صحيحة لسنن أبي داود. فعلى أن هذا اللفظ هو الصحيح لا نحتاج إلى تضعيف الحديث بتفرد صالح. وأما إذا قلنا إنه على لفظه، فإن هذا لا يقبل منه مع مخالفته لما ثبت في مسلم. * في مسألة الصلاة على القبر: قال بعض أهل العلم: هي خاصة بالنبي صلى الله عليه وسلم.

_ (1) صحيح مسلم، كتاب الجنائز، باب (34) الصلاة على الجنازة في المسجد (973) . (2) أخرجه أبو داود في سننه، كتاب الجنائز، باب (54) الصلاة على الجنازة في المسجد (3191) بلفظ (من صلى على جنازة في المسدد فلا شيء عليه) ، قال في الحاشية: " وأخرجه ابن ماجه في الجنائز حديث 1517 باب الصلاة على الجنائز في المسجد ولفظه: (فليس له شيء) . (3) كما في النسخة التي بين يدي [3 / 531] .

واستدلوا: بما ثبت في مسلم في حديث المرأة التي كانت تقم المسجد وأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن هذه القبور مملوءة ظلمة على أهلها وإن الله ينورها لهم بصلاتي عليهم) (1) . قالوا: فهذا يدل على أن الصلاة على القبر خاص بالنبي صلى الله عليه وسلم، والحديث قد أعله بعض أهل العلم المتقدمين، ولكن الصحيح أن سنده صحيح وليس بمعل. والجواب عنه أن يقال: إن هذا التخصيص إنما هو في الأثر لا في الفعل، فأثر صلاته في الأموات سواء كانوا في قبورهم أو قبل ذلك – أن تكون صلاته عليهم رحمة لهم. وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم – كما في النسائي – لما صلى على جنازة رجل: (إن صلاتي عليه رحمة) (2) وقد صلى عليه قبل أن يدفن. فمن خاصية صلاته على الأموات قبل دفنهم أو وهم في قبورهم – أن يكون ذلك رحمة لهم وإنارة لهم في قبورهم. وأما أن يكون الحكم – وهو الفعل – خاصاً بالنبي صلى الله عليه وسلم فلا، كما أنه خلاف الأصل. فالحديث ليس فيه إلا أن صلاة النبي صلى الله عليه وسلم مختصة بأن تكون نوراً لأهل القبور، وليس فيه أن هذا الفعل خاص بالنبي صلى النبي صلى الله عليه وسلم، والله أعلم. حكم الصلاة على الجنازة بين القبور – (انظر الكلام على هذه المسألة في الدرس الحادي والخمسين بعد المائة الذي سيأتي) -: لا يجوز ذلك، وهو رواية عن الإمام أحمد؛ لما روى الضياء في المختارة والطبراني في الأوسط أن النبي - صلى الله عليه وسلم -: (نهى عن الصلاة على الجنائز بين القبور) (3) وإسناده حسن. والمشهور في المذهب: جواز ذلك وتخصيص النهي بالصلوات ذوات الركوع والسجود. لكن الصحيح النهي مطلقاً؛ للحديث الصحيح المتقدم وأحاديث الضياء أصح من أحاديث الحاكم – كما ذكر شيخ الإسلام – وقد اشترط فيها الصحة. مسألة:

_ (1) صحيح مسلم، كتاب الجنائز، باب (23) الصلاة على القبر (956) .

الأظهر أنه بعد التكبيرات فوق الأربع يشتغل بالدعاء؛ ذلك لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يدعو بين هذه التكبيرات الأربع الثابتة عنه، والمقصود من الصلاة هو الدعاء للميت بل كان يدعو حتى بعد التكبيرة الرابعة، فالذي ينبغي أن يدعو بين هذه التكبيرات. والحمد لله رب العالمين. الدرس الخمسون بعد المئة (يوم الأحد: 23 / 7 / 1415هـ) فصل قال المؤلف رحمه الله تعالى: (يسن التربيع في حمله) التربيع في حمل الجنازة: أن يأتي المتبع للجنازة فيحملها من مقدمة الجنازة من جانبها الأيسر واضعاً له على عاتقه الأيمن ثم ينتقل منه إلى جهته اليسرى المؤخرة فيضعها على عاتقه الأيمن ثم ينتقل إلى الجهة اليمنى من الجنازة فيضع مقدمتها الأيمن على عاتقه الأيسر ثم مؤخرها على عاتقه الأيسر – فهكذا يكون التربيع. وذلك بالنظر إلى الميت فإنه وإن كان الأيسر بالنسبة إلى السرير المحمول إليه الميت فإنه هو الأيمن بالنسبة إلى الميت فبدأ بالجهة اليمنى من الميت. ودليل ذلك: ما روى أحمد وابن ماجه عن أبي عبيدة بن مسعود عن ابن مسعود قال: (من اتبع الجنازة فليحمل بجوانب السرير كلها فإن ذلك السنة ثم إن شاء فليتطوع وإن شاء فليدع) (1) ، وأبو عبيده لم يسمع من أبيه فعلى ذلك الإسناد فيه انقطاع.

_ (1) أخرجه ابن ماجه في كتاب الجنائز، باب (15) ما جاء في شهود الجنائز (1478) . قال البوصيري: " هذا إسناد موقوف، رجاله ثقات، حكمه الرفع، إلا أنه منقطع، فإن أبا عبيدة، واسمه عامر، وقيل: اسمه كنيته، لم يسمع من أبيه شيئاً، قاله أبو حاتم وأبو زرعة وعمرو بن مرة وغيرهم، رواه أبو داود الطيالسي في مسنده عن شعبة عن منصور بإسناده ومتنه ".

لكن يشهد له ما ثبت عن أبي الدرداء في مصنف ابن أبي شيبة بإسناد صحيح أنه قال: (من تمام أجر الجنازة أن يتبعها من أهلها وأن يحمل بأركانها الأربعة وأن يحثو في القبر) (1) ، وهذا له حكم الرفع فإنه متعلق بالأجر فكان هذا القول من هذا الصحابي له حكم الرفع. وثبت عن ابن عمر – كما في مصنف ابن أبي شيبة: (أنه حمل جنازة في أركانها الأربعة فبدأ بالميامن) . وعن الإمام أحمد: أنه لا بأس أن يتحول من جهة الجنازة اليسرى المؤخرة إلى جهتها اليمنى المؤخرة ثم ينتقل إلى اليمنى المقدمة فيبدأ برأسه وينتهي برأسه؛ لأن ذلك أسهل. وهذا أولى لما فيه من اليسر ولأنه أبعد عن اختلاط الناس بعضهم ببعض. فهذا أولى ويحصل به ما حصل من السنة من البداءة باليمنى – كما يحصل في الأول. هكذا يكون التربيع وهو الأفضل عند الحنابلة. - واستحب الشافعية أن يحمله بين العمودين. وقال المؤلف هنا: (ويباح بين العمودين) أي أن يضع رأسه بين العمودين ويجعل الجنازة على كاهله وقد صح ذلك عن سعد بن أبي وقاص، فقد ثبت في سنن البيهقي عن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف قال: (رأيت سعد بن أبي وقاص مع جنازة عبد الرحمن بن عوف قائماً بين العمودين واضعاً الجنازة على كاهله) (2) . وذكر ابن المنذر ذلك عن عثمان وسعد بن مالك " وهو سعد بن أبي وقاص " وابن عمر وأبي هريرة وابن الزبير. - وعن الإمام أحمد: أنهما سواء. والذي يظهر أن الأفضل أن يحمل بجوانبها كلها وهو التربيع؛ وذلك لأن ما تقدم أقوى؛ لأن فيه ما تقدم في الحديث الثابت عن ابن مسعود وفيه أن ذلك من السنة، ويشهد له الأثر الوارد عن أبي الدرداء وله حكم الرفع، ففي ذلك رفع إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وهذا أثر موقوف عن سعد فكان الأول أولى.

_ (2) أخرجه البيهقي في السنن الكبرى، كتاب الجنائز، باب (90) من حمل الجنازة فوضع السرير على كاهله بين العمودين المقدمين (6835) .

فالسنة أن يربع فيحمل بجوانب السرير كلها، لكن إن قام بين العمودين حاملاً للجنازة – على كاهله فذلك حسن إن شاء الله. قال: (ويسن الإسراع بها) يستحب له أن يسرع بالجنازة. ودليل ذلك: ما ثبت في الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أسرعوا بالجنازة فإنها إن تكن صالحة فخير تقدمونها إليه وإن تكن سوى ذلك فشر تضعونه عن رقابكم) (1) ، قال أبو بكرة: (والذي كرم وجه أبي القاسم صلى الله عليه وسلم لقد رأيتنا على عهد النبي صلى الله عليه وسلم وإنا لنكاد أن نرمل بها رملاً) (2) والرمل هو إسراع المشي مع تقارب الخطى. " إنا لنكاد ": فهم لا يرملون لكنهم يكادون ذلك، وذلك لأن في الرمل أذى للجنازة وأذى للمتبع، ففي الإسراع الشديد أذى للجنازة فقد يخرج شيء من الخارج بسبب هذا الإسراع، وقد يحدث شيء من الانفصال في بعض الأعضاء، وكذلك المتبعون يتأذون بذلك. قال: (وكون المشاة أمامها والركبان خلفها) يستحب – في المشهور من المذهب – أن يكون الماشي أمام الجنازة.

_ (1) صحيح البخاري، كتاب الجنائز، باب (52) السرعة بالجنازة. (1315) (1316) . صحيح مسلم، كتاب الجنائز، باب الإسراع بالجنازة (944) . (2) أخرجه أبو داود رقم (3182) [3/ 524] بلفظ: " عن عيينة بن عبد الرحمن عن أبيه أنه كان في جنازة عثمان بن أبي العاص، وكنا نمشي مشيا خفيفا، فلحقنا أبو بكرة فرفع سوطه فقال: لقد رأيتنا ونحن مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نرمل رملاً ".

وذلك لما روى الخمسة بإسناد صحيح – وقد اختلف في وصله وإرساله والراجح الوصل – عن ابن عمر: (أنه رأى النبي صلى الله عليه وسلم وأبا بكر وعمر وهم يمشون أمام الجنازة) (1) وفي الترمذي: (وعثمان) (2) . وأما الراكبون فيستحب أن يكونوا خلفها لما ثبت في الترمذي بإسناد صحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (الراكب خلف الجنازة والماشي أمامها وخلفها وعن يمينها وعن يسارها قريباً منها) (3) . وفي بقيته حجة لما ذهب إليه بعض أهل العلم كالموفق ابن قدامة في الكافي وطائفة من أصحاب الإمام أحمد: إلى أن المستحب للماشي أن يكون حيث شاء، فإن كان أمامها أوخلفها أو عن يمينها أو عن يسارها فلا بأس بذلك. وابن عمر قد رأى النبي صلى الله عليه وسلم يمشي أمام الجنازة (4) ، وقد ثبت في الطحاوي بإسناد حسن أن النبي صلى الله عليه وسلم مشى خلفها (5) . فعلى ذلك: المستحب للماشي أن يمشي حيث شاء، أما ما رآه ابن عمر فتلك واقعة عين، والنبي صلى الله عليه وسلم قال – كما تقدم -: (والماشي أمامها وخلفها وعن يمينها وعن يسارها قريباً منها) . وأما الراكب فلا يستحب إلا أن يكون خلفها. وهل يستحب له أن يركب أم لا؟

_ (1) أخرجه أبو داود في كتاب الجنائز، باب (49) المشي أمام الجنازة (3179) . والترمذي 1007، والنسائي 1946، وابن ماجه 1482، وقال الترمذي: " وأهل الحديث كأنهم يرون أن الحديث المرسل في ذلك أصح ".. " سنن أبي داود [3 / 522] . (3) أخرجه أبو داود في كتاب الجنائز، باب (49) (3180) بلفظ: (الراكب يسير خلف الجنازة، والماشي يمشي خلفها وأمامها وعن يمينها وعن يسارها قريبا منها، والسقط.. ". والترمذي 1031، والنسائي 1944 وقال الترمذي: " حسن صحيح ". سنن أبي داود [3 / 523] .

الأفضل له ألا يركب بل يستحب أن يمشي في الذهاب، وأما في الإياب فلا بأس بالركوب، فقد ثبت في سنن أبي داود بإسناد صحيح أن النبي - صلى الله عليه وسلم - (أتي بدابة وهو مع الجنازة فأبى أن يركبها فلما انصرفوا أتى بها فركبها فسئل عن ذلك فقال: إن الملائكة كانت تمشي مع الجنازة فلم أكن لأركب وهم يمشون فلما ذهبوا ركبت) (1) . لكن إن كان في ذهابه مشقة أو كانت الجنازة لا تحمل بالأيدي بل على الرواحل فلا بأس أن يركب. أما إذا كان موضع دفن الجنازة قريب وحملوها بأيديهم فيستحب ألا يركب، لكن إن ركب - وذلك جائز له -، فإنه يمشي خلفها. قال: (ويكره جلوس تابعها حتى توضع) هنا ثلاث صور: الصورة الأولى: أن تمرَّ الجنازة. الصورة الثانية: أن يتبعها. الصورة الثالثة: أن يسبقها فيأتي قبل أن تأتي الجنازة. أما الصورة الأولى: وهي عند مرور الجنازة فقد ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم: (لما مر بجنازة يهودي قام فسئل عن ذلك فقال: إذا رأيتم الجنازة فقوموا) (2) متفق عليه. قال الحنابلة وغيرهم: هذا الحديث منسوخ بما ثبت في مسلم عن علي أن النبي صلى الله عليه وسلم: (قام ثم قعد) (3) ، وفي مسند أحمد بإسناد صحيح: (أمرنا النبي صلى الله عليه وسلم بالقيام للجنازة ثم جلس وأمرنا بالجلوس) (4) . فقالوا: كان ذلك مستحباً ثم نسخ فالمستحب له ألا يقوم. ومثل ذلك: الصورة الثالثة: وهي فيما إذا سبق الناس إلى المقبرة ثم أتى الناس بالجنازة فلا يستحب له أن يقوم بل يبقى جالساً، وقد روى ذلك الترمذي عن طائفة من الصحابة، وهذا نظير المسألة السابقة لأنه ليس متبع لها فهو في حكم من مرت عليه الجنازة. أما الصورة الثانية: وهي من اتبعها. فالمشهور في مذهب الحنابلة – أنه يستحب له أن يقوم فلا يجلس حتى توضع على الأرض.

_ (1) أخرجه أبو داود في كتاب الجنائز، باب (48) الركوب في الجنازة (3177) .

واستدلوا: بما ثبت في الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا رأيتم الجنازة فقوموا حتى توضع) (1) وفي رواية سفيان: (حتى توضع على الأرض) (2) . وقالوا: وحديث على المتقدم إنما نسخ القيام ابتداءً وأما استدامة ذلك لمن تبعها فإن حديث علي لا ينسخ ذلك. - وقال جمهور العلماء: بل هو منسوخ. واستدلوا: برواية للبيهقي من حديث علي بإسناد جيد قال: (قام النبي صلى الله عليه وسلم على الجنازة حتى توضع فقام الناس معه ثم قعد وأمرهم بالقعود) (3) . ولا فرق بين هذه الصورة وبين الصورتين السابقتين في الحكم. فما ذهب إليه الجمهور من القول بالنسخ أصح، والحديث الذي رواه البيهقي يدل على ذلك. فعلى ذلك: كل القيام منسوخ فلا يستحب أن يقوم لها إن مرت، ولا يستحب أن يقوم في المقبرة إن سبقهم فجاءت، ولا يستحب أن يستديم القيام وهو متبع لها. بل متى شاء جلس لا بأس بذلك ولا حرج – كما هو مذهب الشافعية وغيرهم من أهل العلم. قال: (ويسجى قبر امرأة فقط) أي يغطي قبر المرأة، أما قبر الرجل فلا. ودليل ذلك: ما رواه البيهقي بإسناد صحيح عن أبي إسحاق السبيعي قال: (شهدت جنازة الحارث فأبى عبد الله بن يزيد " وهو صحابي " أن يسجوه بثوب وقال: إنه رجل) (4) . وقد اتفق العلماء على استحباب تسجية قبر المرأة عند الدفن. وأما الرجل فلا يستحب ذلك، وأما ما رواه البيهقي أن النبي صلى الله عليه وسلم: (جلل قبر سعد بن معاذ بثوب) (5) فالحديث إسناده ضعيف وقد ضعفه البيهقي، وهو كما قال، فالحديث إسناده ضعيف. وبه قال الشافعية لكن الحديث ضعيف. قال: (واللحد أفضل من الشق) . اللحد: أن يحفر القبر ثم يحفر للميت على حائط القبر - أى بأحد الجهتين من القبر، والمستحب أن تكون في الجهة التي تلي القبلة، فلا يكون ذلك في الوسط -.

ودليل ذلك – أي استحباب اللحد وأفضليته على الشق – ما ثبت في مسلم عن سعد بن أبي وقاص قال: (الحدو إلي لحداً وانصبوا علي اللبن نصباً كما صنع بالنبي صلى الله عليه وسلم) (1) . وعند الأربعة عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (اللحد لنا والشقة لغيرنا) (2) ، وله شاهد عند ابن ماجه من حديث جرير بن عبد الله، فالحديث حسن. لكن الشق جائز بإجماع العلماء كما حكى ذلك النووي، ومما يدل على جوازه ما ثبت في ابن ماجه من حديث أنس قال: (لما توفى النبي صلى الله عليه وسلم كان في المدينة رجل يَلْحَد وآخر يُضَرِّح " أي يشق " فقال أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم نستخير ربنا ونبعث إليهما فأيهما سبق تركناه [فأرسِل إليهما] فسبق صاحب اللحد فلحدوا للنبي صلى الله عليه وسلم) (3) . وهو ثابت – أيضاً – في ابن ماجه من حديث عائشة، والحديث حسن. ففيه أنه كان في المدينة رجل يضرح أي يشق، فدل على أن ذلك جائز وهذا بالإجماع. بل قد يكون الشق أفضل فيما إذا كانت الأرض رخوة تنهار فإن الشق يكون أفضل. وصورة الشق: أن يكون هذا الموضع الذي يشق في الأرض للميت في وسط القبر ويكون الجانبان مرتفعين ويوضع الميت في هذا الشق ثم يبنى عليه في اللبن بناءً. والمستحب أن يوضع على شقه الأيمن كما يفعل النائم وذلك بلا نزاع كما قال ذلك صاحب الإنصاف، وأن يوجه إلى القبلة لما ثبت في أبي داود أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في الكعبة: (قبلتكم أحياءً وأمواتاً) (4) وهو حديث حسن. قال: (ويقول مُدْخِلُهُ: بسم الله وعلى ملة رسول الله)

_ (3) أحكام الجنائز وبدعها للألباني رحمه الله تعالى ص183.

لما ثبت في مستدرك الحاكم بإسناد جيد أن النبي صلى الله عليه وسلم: (أدخل ميتاً فقال: " بسم الله وعلى ملة رسول الله ") (1) ، ورواه أحمد والنسائي من حديث ابن عمر أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (إذا وضعتم موتاكم في القبور فقولوا: بسم الله وعلى ملة رسول الله) (2) ، وفي رواية " وعلى سنة رسول الله " (3) ، لكن حديث ابن عمر اختلف في رفعه ووقفه والراجح هو الوقف كما رجح ذلك النسائي والدارقطني وغيرهم من أهل العلم. لكن الحجة فيما تقدم عن النبي صلى الله عليه وسلم وهذا أثر موقوف له حكم الرفع. ولا يقال باستحباب قول ما ورد في ابن ماجه بإسناد ضعيف جداً أن النبي صلى الله عليه وسلم: (لما أدخل ابنته أم كلثوم قرأ {منها خلقناكم وفيها نعيدكم ومنها نخرجكم تارة أخرى} ) (4) فالحديث فيه ثلاثة ضعفاء فالحديث إسناده ضعيف جداً. ولا أصل لقراءة هذه الآية عند الحثيات الثلاث. ومعلوم أنه يستحب – كما ثبت في ابن ماجه أن النبي صلى الله عليه وسلم: (حثى على الميت من قبل رأسه ثلاثاً) (5) . قال: (ويضعه في لحده على شقة الأيمن مستقبل القبلة، ويرفع القبر عن الأرض قدر شبر) فيرفع القبر عن الأرض قدر شبر، كما فعل النبي - صلى الله عليه وسلم - فيما رواه البيهقي وابن حبان بإسناد حسن أن النبي - صلى الله عليه وسلم - رفع قبره من الأرض قدر شبر أو نحو شبر " (6) ولا يجوز أن يكون مشرفاً فقد ثبت في مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث علياً وفيه: (وألا تدع قبراً مشرفاً إلا سويته) (7) . أما رفعها قدر شبر فلا بأس، وفي ذلك فائدة تمييزه عن سائر الأرض ليحترم فلا يجلس عليه ولا يؤذي. أما أن يرفع فوق ذلك فلا يجوز. قال: (مُسَنَّماً) . كما ثبت عن سفيان التمار قال: (رأيت قبر النبي صلى الله عليه وسلم مسنماً) (8) وهذا كما هو في القبور عندناً، كسنام البعير، فهذا هو المستحب.

ولا بأس أن يكون مسطحاً لكن المستحب كونه مسنماً. ويستحب أن يوضع عليه من الحصى الصغير كما فعل بقبر النبي صلى الله عليه وسلم كما في أبي داود: (أن قبر النبي صلى الله عليه وسلم كان مبطوحاً ببطحاء العَرْصة الحمراء) (1) والبطحاء هو الحصى الصغير. ولا بأس أن يرش بالماء ومن ذلك أثر عن النبي صلى الله عليه وسلم لكنه مرسل، كما في البيهقي: (أنه رش على قبر ابنه ووضع عليه الحصباء) (2) ، وهو مستحب عند أهل العلم وهذا فيه مزيد محافظة عليه. وهذا أثر مرسل ويشهد له عمل المسلمين قديماً وحديثاً وعليه عمل الفقهاء فأهل العلم يستحبون ذلك. ويستحب أن يوسع القبر وأن يعمق، فقد ثبت في أبي داود والنسائي وهذا لفظ النسائي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (احفروا ووسعوا وأعمقوا) (3) وإسناده صحيح. واستحب الإمام أحمد أن يعمق القبر إلى قدر السرة لأن في ذلك حفظاً للميت وليس في ذلك مشقة على الحافر، خلافاً لما ذهب إليه الشافعية من استحباب كونه كطوله؛ فإن في ذلك مشقة على الحافر وليس في ذلك فائدة، والفائدة تحصل فيما إذا كان إلى السرة. وهو ثابت عن عمر بن عبد العزيز كما في سنن سعيد بن منصور بإسناد جيد: (أنه أمر بأن يعمق قبر ابنه إلى السرة) (4) . فيستحب أن يعمق والذي ينبغي أن يكون ذلك إلى السرة، فإنه يحفظ به الميت ولا يؤذي ذلك الحي ولا يشق عليه ويكون بذلك صيانة الميت فلا يحتاج – حينئذ – على الزيادة على ذلك. والحمد لله رب العالمين. مسائل: المسألة الأولى: في حكم الصلاة على الجنائز بين القبور؟ في هذه المسألة عن الإمام أحمد ثلاث روايات: الرواية الأولى، وهي المشهورة: أن ذلك جائز، واستدل بما رواه عبد الرزاق في مصنفه عن نافع قال: (صلينا على عائشة وأم سلمة وسط البقيع بين القبور والإمام أبو هريرة وحضر ذلك ابن عمر) .

_ (1) أحكام الجنائز وبدعها للألباني رحمه الله تعالى ص196

الرواية الثانية: أن ذلك مكروه، وهو مذهب طائفة من الصحابة والتابعين. الرواية الثالثة: أن ذلك محرم. ودليل هاتين الروايتين ما رواه الطبراني في الأوسط والضياء في المختارة عن أنس رضي الله عنه: " أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى عن الصلاة على الجنائز بين القبور " (1) وإسناده حسن. وأصح هذه الأقوال: القول بكراهية ذلك، وأن هذا النهي يحمل على الكراهية لما تقدم من فعل الصحابة رضي الله عنهم، وللفرق بين الصلاة ذات الركوع والسجود وبين الصلاة على الجنائز بين القبور، فإن الصلاة ذات الركوع والسجود يخشى فيها ما يخشى من فتح باب الشرك، بخلاف الصلاة التي إنما هي قيام وتكبير ودعاء وقراءة للقرآن، وقد فعلها النبي صلى الله عليه وسلم في البقيع على قبر فدل ذلك على أن أصل الصلاة في المقابر ليس حكمها كحكم الصلاة ذات الركوع والسجود. فعلى ذلك: الأظهر كراهية ذلك. المسألة الثانية: أنه يكره للنساء اتباع الجنائز، ودليل ذلك ما ثبت في الصحيحين عن أم عطية قالت: (نهينا عن اتباع الجنازة ولم يعزم علينا) (2) أي لم يعزم علينا بالنهي فيكون ذلك تحريماً وإنما هو للكراهية، ودليل أن ذلك ليس للتحريم ما ثبت في مسند أحمد بإسناد صحيح: (كان النبي صلى الله عليه وسلم في جنازة فرأى عمر امرأة فصاح بها فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (دعها يا عمر فإن العين دامعة والنفس مصابة والعهد قريب) (3) ، فالنهي للكراهية، كما هو المشهور في مذهب أحمد وغيره وهو مذهب جمهور العلماء. المسألة الثالثة: لا يجوز أن تتبع الجنازة بصوت ولا نار. بصوت: من ذكر أو قراءة للقرآن أو نعي للميت. أو بنار: لغير حاجة فلا يقصدون الاستضاءة بها وإنما هو حدث في الدين، أما إذا كانوا محتاجين إليها للاستضاءة فلا بأس بذلك.

ودليل هذه المسألة: ما رواه أبو داود والحديث حسن بشواهده أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا تتبع الجنازة بصوت ولا نار) . ورفع الأصوات عند الجنائز من هدي اليهود وقد أمرنا بمخالفتهم. وروى البيهقي عن قيس بن عباد قال: (كان أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يكرهون رفع الصوت عند الجنائز وعند القتال وعند الذكر) (1) . المسألة الرابعة: أن اتباع الجنازة ثبت له فضل عظيم، فقد ثبت في الصحيحين عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من شهد الجنازة حتى يصلى عليها فله قيراط ومن شهدها حتى تدفن فله قيراطان قيل: وما القيراطان يا رسول الله؟ قال: مثل الجبلين العظيمين) (2) . وهل يثبت الثواب المذكور بمجرد الصلاة أم حتى يتبعها من أهلها؟ ثبت في صحيح مسلم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (من خرج مع الجنازة من بيتها) (3) وتقدم أثر أبي الدرداء وقال: (من تمام أجر الجنازة إلى أن قال: وأن يتبعها من أهلها) (4) . استظهر ابن حجر أن الاتباع من بيتها وإلى المسجد وسيلة إلى الصلاة عليه متقصد منه الصلاة عليها، فحينئذ يثبت الأجر ولو لم يتبعها؛ لأن المقصود من ذلك الصلاة. وفي ذلك نظر، فإن الاتباع مفضل بذاته بالأجر، فإنه له ثواب مختص، ولكن مع ذلك فإن الحكم الذي ذكره راجح وإن كان التعليل المتقدم فيه نظر. وإنما ينبغي أن يقال – وهو مذكور من الحافظ – أن الثواب يختلف، مع ثبوت أصله: فلمن صلى عليها قيراط، ولمن اتبعها من بيتها فصلى عليها قيراط، وإن كان القيراطان ليستا بدرجة واحدة بل هما متفاوتان.

ودليل ذلك ما ثبت في مسند أحمد وصحيح ابن حبان بإسناد صحيح عن أبي سعيد الخدري قال: (لما كان مقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا حضر الميت حضره النبي صلى الله عليه وسلم فاستغفر له حتى يقبض فربما طال عليه ذلك فخشينا مشقة ذلك عليه، فقال بعض القوم: لو كنا لا نؤذن النبي صلى الله عليه وسلم حتى يقبض قال: ففعلنا فكان النبي صلى الله عليه وسلم إذا حضر استغفر له وربما مكث حتى يدفن قال: ثم قلنا لو كنا نحضر جنائز موتانا إلى النبي صلى الله عليه وسلم عند بيته لكان ذلك أرفق بالنبي صلى الله عليه وسلم وأيسر له فكان الأمر على ذلك إلى اليوم) (1) . فدل ذلك على أن الأمر الذي استقر في عهد النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان لا يأتي إلى البيت فيتبع الجنازة بل كان تحضر له الجنائز عند بيته فيصلي عليها، فدل ذلك على أنه يثبت هذا القيراط وإن لم يتبعها من بيتها، لكن أن اتبعها من بيتها فإنه له قيراطاً أعظم من قيراط الأول. أما القيراط فيمن تبعها حتى تدفن، هل يكون بوضعها في اللحد أم يكون حتى يفرغ من دفنها؟ في صحيح مسلم: (حتى توضع في اللحد) وظاهره أنها متى وضعت في اللحد. وقيل: أن يوضع عليها اللبن ويهال عليها التراب ويفرغ من دفنها أنه يثبت له القيراط. وفي رواية البخاري: (حتى يفرغ من دفنها) وعند أبي عوانة: (ويسوى عليها التراب) . وكما قلنا في المسألة السابقة نقول في هذه المسألة فلكل قيراط لكن ذلك مع التفاوت. المسألة الخامسة: يستحب أن يُدخل الميت من قبل رجلي القبر فيؤتى به من قبل رجلي القبر " أي المكان المختص بالرجلين " فيوضع الرأس بسمته ثم يسل سلاً حتى يوضع الرأس في موضعه ثم تنزل القدمان في موضعها؛ لما ثبت في سنن أبي داود بإسناد صحيح عن عبد الله بن زيد: (أنه أدخل الميت من قبل رجلي القبر وقال: هذا من السنة) .

وأما ما رواه الترمذي من أنه يدخل من قبل القبلة، فإن الحديث فيه الحجاج بن أرطاة ومنهال بن خليفة وهما ضعيفان. فالصحيح مذهب الجمهور من أنه يدخل من قبل رجلي القبر ثم يسل سلاً حتى يدخل في القبر. المسألة السادسة: أنه يستحب أن يوقف عند قبره قليلاً بعد الفراغ من دفنه ويستغفر له؛ لما ثبت في سنن أبي داود بإسناد صحيح عن عثمان قال: (كان النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا فرغ من دفن الميت وقف عليه وقال: استغفروا لأخيكم واسألوا له التثبيت فإنه الآن يسأل) . وهل يستحب تلقينه أم لا؟ المشهور في مذهب الحنابلة والشافعية استحباب ذلك، واستدلوا بحديث وأثر. أما الحديث بإسناد ضعيف جداً، وهو ما رواه الطبراني عن أبي أمامة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال فيه: (يقال: له يا فلان ابن فلانة فحينئذ يسمع ولا يجيب ثم يقال: يا فلان بن فلانة فيجلس ثم يقال يا فلان بن فلانة فيقول: أرشدوني أرشدكم الله ثم يرشد ويلقن بلا إله إلا الله وبملة الإسلام وبنبوة محمد صلى الله عليه وسلم فيتولى عنه منكر ونكير ويقولان: كيف بكم برجل قد لقن حجته " قال الهيثمي: (فيه رجال لا اعرفهم) وقد ضعفه ابن القيم وابن حجر والنووي والعراقي وابن الصلاح وغيرهم. وأما الأثر فهو ما رواه سعيد بن منصور في سننه عن ضمرة بن حبيب قال: (كانوا يستحبون – أي أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم – إذا سوي على الميت قبره وانصرف عنه الناس أن يقال له: يا فلان قل لا إله إلا الله – ثلاثاً – يا فلان قل ربي الله وديني الإسلام ونبيي محمد صلى الله عليه وسلم) لكن هذا الأثر ضعيف فإن فيه أبو بكر ابن أبي مريم وهو ضعيف. وذهب الأحناف: إلى كراهية ذلك. وهو الصحيح؛ فإن ذلك لم يثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم فهو بدعة ولم يصح لنا عن أحد من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وإنما يستحب أن يدعى له ويسأل له التثبيت ويستغفر له – من غير أن يلقن ذلك.

وهل يستحب أن يوقف على القبر طويلاً أم لا؟ لا يستحب ذلك؛ لعدم وروده عن النبي صلى الله عليه وسلم، لكن إن فعل فلا بأس، فقد ثبت في مسلم عن عمرو بن العاص قال: (إذا مت فقوموا على قبري قدر ما تنحر جزور ثم يقسم حتى أستأنس بكم وأعلم بما أراجع به رسل ربي) قال المؤلف رحمه الله تعالى: (ويكره تجصيصه) فيكره أن يجصص القبر وأن يزخرف ويزين. هذا للكراهية في المشهور من المذهب وغيرهم من الفقهاء. واستدلوا: بما ثبت في مسلم عن جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم: (نهى أن يخصص القبر وأن يقعد عليه وأن يبنى عليه) . والصحيح أن هذا النهي للتحريم؛ كما هو ظاهر الحديث، وهو ما اختاره الصنعاني. بل ذلك من كبائر الذنوب فهو فتح لباب الشرك الأعظم فإن من أعظم ذرائع الشرك تعظيم القبور بتجصيصها والبناء عليها وزخرفتها، وهي مما كان عليه اليهود النصارى ومما وقعت هذه الأمة بالتشبه بهم فيه. فعلى ذلك هذا من أعظم المنكرات فلا يقال بكراهيته فحسب بل هو محرم مقطوع بتحريمه لأن النص فيه، ولو لم يثبت النص به فهو محرم قطعاً؛ لأنه ذريعة إلى الشرك فكيف وقد نهى عنه النبي صلى الله عليه وسلم. قال: (والبناء عليه) فهو محرم كما تقدم. قال: (والكتابة) الكتابة على القبر مكروهة. ودليله ما ثبت في النسائي من حديث عامر بن ربيعة: أن النبي صلى الله عليه وسلم: (نهى أن يكتب عليه) . وظاهر ذلك المنع مطلقاً سواء كانت الكتابة مزخرفة أم لا، وسواء كانت الكتابة فيها ألفاظ ثناء على الميت أم لم يكن فيها ذلك، فإنها منهي عنها مطلقاً ولا شك أنها ذريعة إلى الشرك. لكن قال الحاكم في مستدركه: (وليس العمل على هذا عند أهل العلم فإن أئمة المسلمين في الشرق والغرب مكتوب على قبورهم) .

وتعقبه الذهبي: بأن هذا لم يصح عن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وإنما فعله بعض التابعين فمن بعدهم ممن لم يبلغهم الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم، فالصحيح أن ذلك لا يجوز. * لكن هل يجوز أن يكون ذلك علامة إن لم يتمكن أهل الميت أن يضعوا علامة عليه لكثرة القبور وعدم التمييز بغير الكتابة؟ ذهب طائفة من أهل العلم إلى جواز ذلك، وإنها إذا وضعت الكتابة مجردة واكتفى بالاسم فحسب فإن ذلك لا بأس به بشرط ألا يتمكن من وضع علامة غيرها، وذلك للحاجة إلى معرفة قبر الميت. فقد ثبت في سنن أبي داود أن صلى الله عليه وسلم: (وضع صخرة عند رأس عثمان بن مظعون وقال: أتعلم بها قبر أخي وأدفن إليه من مات من أهلي) . وهذا القول حسن إن شاء الله. وفي هذا الحديث فائدة وهو أن قبر الميت ودفنه عند خاصته وأقاربه ومعارفه وعند أهل الخير والصلاح أمر حسن فقد فعله النبي صلى الله عليه وسلم فوضع علامة عند قبر عثمان بن مظعون وكان من خيار الصحابة وعبادهم وذلك أيضاً: لتسهل عليه الزيارة فيأتي بالزيارة الواحدة فيجمعهم. فلا بأس أن يتقصد المقابر التي فيها الصالحون كما تقدم في قوله صلى الله عليه وسلم: (وأدفن إليه من مات من أهلي) قال: (والجلوس) الجلوس على القبر منهي عنه، وقد تقدم قول جابر في نهي النبي صلى الله عليه وسلم قال: (وأن يقعد عليه) ، وفي مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لأن يجلس أحدكم على جمرة فتحرق ثيابه فتخلص إلى جلده خير له من أن يجلس على قبر) ، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (لأن أن أمشي على جمرة أو سيف أو أخصف نعلي برجلي " وهو من الأمور المعجزة التي تشق على النفس " أحب إلى من أن أمشي على قبر مسلم، وما أبالي أَوَسَطَ السوق قضيت حاجتي أم وسط القبور) رواه ابن ماجه. وهذا فيه النهي عن المشي ولا شك أن المشي أعظم من القعود.

وفيه – أيضاً – النهي عن قضاء الحاجة في المقابر، أما على القبر فهو محرم – في المشهور من المذهب –، وأما بين القبور فقد كرهه الإمام أحمد كراهية شديدة، ونص بعض أصحابه على أنه محرم – وهذا هو الظاهر؛ لما فيه من أذية الميت والميت له حرمته. ولا شك أن فعل ذلك على القبر محرم قطعاً، وإن كان فعله بين القبور أهون من ذلك. ويكره له في المشهور من المذهب أن يمشي بين القبور في نعليه لما روى الخمسة إلا الترمذي بإسناد صحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى رجلاً يمشي بين القبور بنعليه فقال: (يا صاحب السبتيتين ويحك ألق سبتيتيك) . والحدث ظاهره التحريم فإن النبي صلى الله عليه وسلم زجر عن ذلك وأمر بالقاء السبتيتين، وظاهر ذلك تحريم هذا، وإلى هذا نحا ابن حزم والشوكاني وأن المشي بين القبور بالنعال محرم، وهو قول قوي. لكن يستثنى من ذلك إن احتاج إلى المشي بالنعال كأن تكون المقبرة ذات شوك أو أن تكون الأرض باردة أو شديدة الحرارة، أو أن يكون به مرض يتأذى من المشي حافياً فحينئذ لا حرج عليه بأن يمشي حافياً. وأما ما أجاب به الخطابي من أن ذلك في النعلين السبتيتين فحسب لأنهما من لباس الخيلاء، فهذا ضعيف؛ فليستا من لباس الخيلاء، فقد ثبت في الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم: (لبس النعال السبتية) . فعلى ذلك: ينهى عن المشي بين القبور بالنعال إلا أن يحتاج إلى ذلك. كما أنه ينهى عن الحديث بأمر الدنيا وعن الضحك ونحو ذلك؛ لأن الموضع موضع تذكر واتعاظ فينافي ذلك مقصود الشارع مما يكون في زيارة المقابر واتباع الجنائز من الاتعاظ والتذكر ونحو ذلك، والاشتغال بالضحك والحديث بالدنيا ينافي هذا، فكان ذلك منهيا عنه تحصيلاً لمقصد الشرع من اتباع الجنازة وزيارة المقابر. قال: (والوطء عليه والاتكاء إليه) وهذا لما تقدم فإن هذه من جنس ما وردت به الأحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم.

قال: (ويحرم فيه دفن اثنين فأكثر) واستدلوا: بما ثبت في الصحيحين عن هشام بن عامر رضي الله عنه قال: (لما كان يوم أحد شكونا إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقلنا: إن الحفر لكل إنسان شديد، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: احفروا وأعمقوا وأوسعوا واجعلوا الرجلين والثلاثة في القبر الواحد) . قالوا: فهذا يدل على أن الأصل أن يقبر الميت في قبره وحده، وهذا كما فعل بعثمان بن مظعون وغيره من الصحابة. وما ذكره الحنابلة من نظر. فقد وجد جمهور أهل العلم وهو اختيار المجد بن تيمية واختار ابن عقيل وشيخ الإسلام: إلى أن ذلك للكراهية، فيكره أن يدفن في القبر الواحد اثنان فأكثر من غير تحريم، وهو الراجح. لأن ما ذكره الحنابلة لا يقوى على تحريم ذلك، وفعل النبي صلى الله عليه وسلم – من دفنهم في قبر واحد – يدل على مشروعية ذلك واستحبابه من غير أن يدل على أن خلافه محرم وأنه يجب أن يدفن الميت في قبر واحد. فعلى ذلك – كما ذهب جمهور العلماء واختاره طائفة من أصحاب أحمد كالمجد بن تيمية وابن عقيل وصاحب الفروع وشيخ الإسلام - أنه لا بأس بذلك لكنه مكروه. أما عند الحاجة إليه فلا بأس، كأن يكثر القتلى إما لوباء أو لقتال أو نحو ذلك فيشق على الناس أن يخصوا كل ميت بقبر، فيدفنوا الاثنين والثلاثة بقبر واحد فلا حرج. قال: (ويجعل بين كل اثنين حاجز من تراب) لم أر دليلاً يدل على ذلك ولم يثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم فعل ذلك أو أمر به لما دفن قتلى أحد على الطريقة المتقدمة. وعللوا ذلك: بأن هذا يجعل كل واحد منهما بمنزلة من له قبر مختص به – ولا بأس بذلك لكن من غير أن يقال باستحبابه فلم يثبت ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم. مسألة حكم نبش القبر؟

هو محرم، وقد ثبت في موطأ مالك عن عَمْرة بنت عبد الرحمن أن النبي - صلى الله عليه وسلم -: (لعن المختفي والمختفية) قال مالك: يعني نباش القبور. وهذا الحديث ورد مسنداً عن عمرة عن عائشة فيما رواه عبد الله بن عبد الوهاب ويحيى بن صالح عن الإمام مالك، فرووه مسنداً عن عمرة عن عائشة عن النبي - صلى الله عليه وسلم -. فنبش القبر محرم ولا يجوز ذلك إلا لمصلحة فإذا ثبتت المصلحة فلا بأس بنبشه كأن يدفن من غير تغسيل فيجوز أن ينبش ليكفن ويغسل. أما لو دفن من غير أن يصلى عليه؟ ففي هذه المسألة قولان لأهل العلم: أصحها أنه لا ينبش بل يصلى على القبر لصحة الصلاة عليه في القبر فلا نحتاج إلى أن ينبش قبره. ومثل ذلك: إذا دفن الاثنان في قبر واحد، فأحب أهل الميت بعد أن تفرعوا للميت أن ينبشوه فيضعوه في قبر منفرد. أو كانت الأرض فيها مشاحة واختلاف فاحتيج إلى أن ينقل منها إلى موضع آخر فلا بأس بذلك، وقد ثبت في البخاري عن جابر – في قصة قتلى أحد ودفن أبيه مع غيره في قبر - قال: وقد دفن معه غيره فلم تطب نفسي بذلك فاستخرجته بعد ستة أشهر) . ومثل ذلك: لو وضعت مقبرة ثم ثبتت المصلحة بنقلها إلى موضع آخر فلا حرج بنبش القبور إلى موضع آخر. قالوا: ولا بأس بنبشها أو الزرع عليها أو البناء ونحو ذلك إذا أصبحت رميماً تراباً قد ذهب عظمها فلم يبق منه شيء، وحكى صاحب الفروع: اتفاق أهل العلم على ذلك. فحرمة القبر للميت مرتبطة فيما إذا كان على هيئته أو قد بقي شيء من عظامه، أما إذا أصبح رميماً تراباً فإنه لا حرمة لقبره، فيجوز أن يزرع عليه أو ينبش. ولم منهم تصريحاً أن حرمته تنتهي مطلقاً، بل الظاهر أن ما تقدم من النهي - عن الجلوس ونحو ذلك – يبقى، لكن يجوز أن ينبش فيدفن معه غيره فيه.

والمدة التي يصبح بها الميت رميماً تراباً يعرفها أهل الخبرة فإذا مضت السنوات التي يعلم بالظن الغالب أن الميت قد أصبح رميماً فيجوز أن ينبش قبره ثم يوضع ميت آخر. ولم أر في هذه المسألة خلافاً بين أهل العلم، وقد نص عليها الحنابلة والشافعية والمالكية وغيرهم ولم أر فيها خلافاً وهي مسألة قديمة. فقد ثبت في موطأ مالك بإسناد صحيح عن عروة بن الزبير قال: (لا أحب أن أدفن في البقيع، لأن أدفن في غيره أحب إلى من أدفن فيه فإنما هو أحد رجلين إما ظالم فلا أحب أن أدفن معه وإما صالح فلا أحب تنبش عظامه) . فإن نبش وقد بقيت عظامه؟ فقال الحنابلة يعاد القبر كما كان ولا يقم عليه غيره ما بقيت عظامه. قال الشافعية وهو رواية عن الإمام أحمد واختيار الخلال من أصحابه: أنه لا بأس بذلك. وهذا هو القول الراجح، فإن النبش قد حصل فحينئذ لا مانع أن يدفن، فقد حصل هذا النبش واحتيج إلى هذا القبر في الدفن فحينئذ يدفن معه مع بقاء عظامه، أما إذا بقي على حالته فإنه لا يدفن معه، فإن دفن معه فلا بأس – كما تقدم في مذهب الجمهور خلافاً للحنابلة. فمن ظن بقاء عظامه فلا يجوز نبش قبره، وكذلك القبور المعظمة عند أهل الإسلام لعظمة أهلها في دينهم وصلاحهم فإن هؤلاء مظنة أن تبقى أبدانهم فلا ينبغي أن يتعرض إليها. اعلم أن المستحب أن يتولى دفن الميت أولياؤه من الرجال، وأن النساء لا يستحب لهن مطلقاً أن يتولين الدفن؛ وذلك لأنه مظنة لخروج شيء من سترها والمرأة مأمورة بأتم ما يكون من الستر، ولا شك أن الدفن مظنة لخروج شيء من بدنها فكان ذلك مختصاً بالرجال. وأحق الناس أولياء الميت، فقد ثبت في الحاكم بإسناد صحيح أن علياً والعباس والفضل وصالح مولى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - هم الذين تولوا دفنه – عليه الصلاة والسلام –.

لكن يستحب ألا يكون المشتغل بالدفن ممن قارف ليلته تلك أهله - أي جامع أهله -، فقد ثبت في البخاري عن أنس قال: (شهدنا زينب بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم والرسول صلى الله عليه وسلم جالس على القبر فرأيت عينيه تذرفان فقال: هل منكم من أحد لم يقارف الليلة فقال: أبو طلحة: نعم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: انزل في قبرها، فنزل فقبرها) . وهذا يدل على أنه لا بأس أن يتولى دفن المرأة من لم يكن من محارمها وإن كان المستحب أن يكون ذلك من محارمها؛ لأن مظنة الشهوة بعيدة في هذا الموضع فتكون شبيهة بمحارمه فإن الميتة لا تشتهى. والمحرم أولى، فقد ثبت في البيهقي: (أنه لما ماتت زينب بنت جحش قالت أزواج النبي صلى الله عليه وسلم يتولى ذلك – أي دفنها – من كان يراها في حياتها فقال عمر: صدقتن) . والحمد لله رب العالمين. قال المؤلف رحمه الله تعالى: (ولا تكره القراءة على القبر) فلا بأس أن يقرأ على القبر من القرآن كسورة الفاتحة ويَس أو غير ذلك – هذا في المشهور من مذهب الحنابلة –، وذكروا في ذلك حديثاً أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من جاء إلى المقابر فقرأ فيها يس خفف عنهم وكان له بعددهم حسنات) لكن الحديث لا يثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم -. ومذهب قدماء أصحاب الإمام أحمد وهو مذهب المالكية والأحناف: كراهة ذلك، بل هو بدعة كما صرح به الإمام أحمد في رواية عنه؛ فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يدعو لأهل القبور في المقبرة ولم يصح عنه أنه قرأ شيئاً من القرآن، ولم يثبت ذلك عن أحد من أصحابه فكان حدثاً وبدعة. وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم – فيما رواه مسلم -: (ولا تجعلوا بيوتكم قبوراً فإن الشيطان يفر من البيت الذي تقرأ فيه سورة البقرة) فهنا شبه النبي صلى الله عليه وسلم البيوت التي لا تقرأ فيها القرآن بأنها مقابر، فدل ذلك على أن المقابر ليست مجالاً لقراءة القرآن.

فالصحيح مذهب المالكية والأحناف واختيار شيخ الإسلام وهو رواية عن الإمام أحمد من النهي عن ذلك بل هو بدعة. قال: (وأي قربة فعلها) أي قربة سواء كانت صلاة أو صياماً أو حجاً أو ذكراً أو قراءة للقرآن أو دعاء أو صدقة أو نحو ذلك من الأعمال الصالحة وجعل ثوابها لميت مسلم أو حي، نفعه ذلك وبلغه ثواب العمل – أي قربة كانت فهو يصل الحي والميت، وهذا هو المشهور في المذهب. وقال بعض الحنابلة: لا يكون إلا للميت أما الحي فليس محتاجاً إلى العمل؛ ولأنه يترتب على ذلك مفاسد عظيمة من تواكل كثير من الناس على غيرهم في العمل على ابن وغيره مع كونه قادراً على العمل بل ربما دفعت الأجرة على العمل الصالح ونحو ذلك. وهذا القول – على القول بهذه المسألة وسيأتي الخلاف فيها - أصح وهو أنه مختص بالميت دون الحي، فإن الحي لا يحتاج إلى العمل ولأن ذلك يترتب مفاسد عظيمة – وتقدم ذكر شيء منها. قالوا: ويشترط أن ينوي ذلك بعمله، فلا يعمله ثم ينوي الثواب لغيره، فإذا فعله ثم نوى الثواب لم يجزئ ذلك. قالوا: لأن النبي صلى الله عليه وسلم إنما أذن به على هذه الصورة فقال: (من مات وعليه صيام صام عنه وليه) وقال: (حجي عنها) ونحو ذلك من الأحاديث التي تقتضي أن يكون العمل من أصله متوجهاً إلى الميت. قالوا: ولأن الأثر يترتب على الفعل، فإذا ثبت الأثر على الفعل فإنه لا يتزحزح عنه، والأثر هنا هو الثواب، كالولاء فإن من اعتق عبداً فإنه يثبت له ولاؤه، فلو نوى الثواب لأحد من الناس فإن الولاء يبقى له. وقال بعض الحنابلة: بل لا يشترط ذلك؛ فإن الثواب ملكه فإذا تصدق به بعد ذلك فلا حرج. والأظهر ما تقدم فإن الثواب أثر للعمل فكان شرطاً فيه أصلاً. قالوا: ولا يشترط أن يهدي الثواب كله، فلو تصدق بصدقة ونوى أن يكون شطر ثوابها له وشطر ثوابها للميت فإنه لا حرج في ذلك، وهذا أمر ظاهر.

إذن: أصل المسألة أن الميت يصل إليه الثواب الناتج من عمل أحد من الناس وأنه ينتفع بذلك. واعلم أن أهل العلم قد اتفقوا على أن الدعاء والاستغفار والصدقة وأداء الواجبات في الجملة – أن الميت ينتفع بها. قال تعالى: {والذين جاؤوا من بعدهم يقولون ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان} ، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (استغفروا لأخيكم واسألوا له التثبيت فإنه الآن يسأل) ، وقال صلى الله عليه وسلم: (إذا صليتم على الميت فأخلصوا له الدعاء) . وغير ذلك مما هو في باب الدعاء والاستغفار وأن الآخر ينتفع بدعاء غيره واستغفاره له ومن ذلك الميت، وأما الصدقة فثبت في الصحيحين عن عائشة: (أن رجلاً قال للنبي صلى الله عليه وسلم: إن أمي افتلتت نفسها ولم توص وأظنها لو تكلمت تصدقت أفلها أجر إن تصدقت عنها؟ فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: نعم) ، وثبت في البخاري عن عباده: (أن أمه توفيت – وهو غائب فقال: يا رسول الله إن أمي ماتت وأنا غائب فهل ينفعها إن تصدقت عنها؟ فقال: نعم فقال: أشهدك أن حائطي المخراف صدقة عنها) . وأما أداء الواجبات، فقد قال صلى الله عليه وسلم – لمن سألته عن الحج: (أرأيت لو كان على أمك دين أكنت قاضيته؟ قالت: نعم قال: فدين أحق الله بالقضاء) متفق عليه، وقال: (من مات وعليه صيام صام عنه وليه) . فهذه الأحاديث تدل إلى أن الاستغفار والدعاء والصدقة وأداء الواجبات في الجملة – وفي المسألة تفصيلاً ليس هذا محله –، هذه الأربع قد اتفق العلماء على أنها تنفع الميت. وشذ بعض أهل العلم كالشوكاني – خلافاً للإجماع الذي ذكره النووي وقال: إنما ينفع ذلك من الولد دون غيره والإجماع المذكور من النووي يخالف ذلك.

وأما ذكر الله من استغفار ودعاء من بعدهم يدل على أن ذلك يقبل ولو كان من غير ولده، على أن النبي صلى الله عليه وسلم في حديث مسلم الآتي إنما نص على دعاء الولد ومع ذلك فإن الدعاء بدلالة الكتاب والسنة الصريحة قد دلا على أن الدعاء يصل إلى الميت وهؤلاء الناس يجتمعون على الميت فيدعون له ومنهم الولد وغيره بالإجماع. فهذه الأربع تصل إلى الميت مطلقاً. *واختلف أهل العلم في بقية القرب هل تصل أم لا؟ - فقال الحنابلة وهو اختيار شيخ الإسلام وتلميذه ابن القيم: تصل إلى الميت. واستدلوا: بما تقدم من الأدلة. فقالوا: الصوم يدل على الانتفاع بالعبادات البدنية، والحج يدل على الانتفاع بالعبادات البدنية والمالية والصدقة تدل على الانتفاع بالعبادات المالية. قالوا: فتلك الأدلة دالة على جواز الكل. قالوا: وقد ثبت في سنن أبي داود بإسناد حسن أن النبي صلى الله عليه وسلم قال – لعمرو بن العاص في أبيه: (إنه لو كان مسلماً فأعتقتم عنه أو تصدقتم عنه أو حججتم عنه بلغه ذلك) والحديث إسناده حسن من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده. قالوا: فهذا الحديث يدل على أن الحج عن الميت مطلقاً سواء كان تطوعاً أو فريضة أن ذلك يجزئ عنه. - وشذت طائفة من المبتدعة ولا يقول بذلك إلا أهل البدع فقالوا: إن الميت لا يصل إليه شيء من الأحياء مطلقاً، لا دعاء ولا صدقة ولا استغفار ولا غير ذلك. وهذا القول لا يلتفت إليه، ولكني ذكرته لئلا يفهم كلام شيخ الإسلام فهماً خاطئاً فإنه لما ذكر هذه المسألة قال: ولا يقول بذلك إلا أهل البدع يعني بذلك من نفي الانتفاع مطلقاً، وأما من نفى الانتفاع بغير الأربع فإنه يقول به أكثر أهل العلم كما سيأتي. وقول [أهل] البدع هذا – مخالف الكتاب والسنة وما ثبت بإجماع العلماء.

أما القول الثاني في هذه المسألة، فهو ما ذهب إليه جمهور أهل العلم: وهو أن الميت لا ينتفع إلا بما تقدم ذكره من الأربع، أما غيرها من الأعمال فإنه لا ينتفع به. واستدلوا: بقوله تعالى: {وأن ليس للإنسان إلا ما سعى} . قالوا: فهذه الآية حاصرة، فإن الإنسان ليس له من عمله إلا ما سعاه، أما ما لم يسعه مما أهدي إليه، فإن ذلك لا يصل إليه. ويستثنى من ذلك ما وردت به السنة وهو ما ثبت في مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث صدقة جارية أو علم ينتفع به أو ولد صالح يدعو له) . قالوا: فهذا في الحقيقة من سعيه فإنه متصرف ظاهر في ولده كما هو متصرف ظاهر في العلم والصدقة، فالولد كسب لأبيه، وإنما ذكر هذا النبي صلى الله عليه وسلم لأن هذا من عمله. وأما الدعاء من الغير فليس هو من عمل الإنسان لكن دلت الأدلة المتقدمة أن ذلك يصل إليه. وأجاب شيخ الإسلام على الاستدلال بالآية – وهو أصح جواب أورد على الاستدلال بالآية – أجاب وذكر ذلك ابن القيم مقراً له –: " أي ليس للإنسان مالكاً لغير سعيه، فالنفي هنا متوجه إلى ملكه، وأنه لا يملك شيئاً من الأعمال إلا ما سعاه، وليس فيه نفي الانتفاع فإنه قد ينتفع بعمل غيره ". وفيما قاله – رحمه الله تعالى – نظر، فإن العمل إنما يستفاد منه الانتفاع، وإلا فإن الآية لا يكون لها فائدة، إذ هذا النفي لا يتوجه إلى شيء فإن العمل إنما يقصد منه الانتفاع فإذا عمل الغير له ونفينا أن العمل له وأثبتنا الانتفاع، فإن الآية لا تكون متوجهة إلى إفادة فهذا ممتنع في القرآن غاية الامتناع. فالأصح ما ذهب إليه جمهور العلماء – والمسألة فيها قوة – وأنه لا يصل إلى الميت إلا ما تقدم.

مما يدل على ذلك ما تقدم في مسألة التفريق بين الحي والميت فإن أصل هذه المسألة هو إجازة هذا الثواب للغير، وأن الثواب ملك له فيجوز أن يهديه للغير وحينئذ لا فرق في الحقيقة بين الحي والميت، وهذا مما يضعف هذا القول. فنحن لو أجزنا الإهداء إلى الميت لأن هذا الحي الثواب ملك له فيجوز أن يهديه لأي أحد، فيجوز له مادام ملكاً له أن يهديه للحي أيضاً كما هو المشهور في المذهب، – وحينئذ – يكون هذا مما يضعف القول؛ لأن الإهداء إلى الحي فيه مفاسد كثيرة تقدم ذكر شيء منها. ولأن ذلك لم يكن من هدي السلف الصالح – وهذا شيخ الإسلام قال: إنه ليس من عادة السلف إهداء الثواب وأن ذلك لا ينبغي وأن هديهم أفضل وأكمل. كما أن فيه إيثاراً في القربة، فهي قربة وعمل صالح يتقرب به العبد إلى الله فكيف يهديه إلى غيره. فإن قيل: ألا تقاس سائر الأعمال على ما تقدم ذكره؟ فالجواب: إن هذا قياس مع الفارق، فإن الصدقة فيها انتفاع متعد، والدعاء فيه انتفاع متعد وانتفاع للشخص، فإن الملك يقول: (ولك بمثل) كما ثبت في مسلم. وأما قضاء الدين عنه، فإن هذا واجب عليه، فكان في فعله فرق بين ذلك وفيه إرادة الثواب المحضة فلم يكن القياس صحيحاً مع ثبوت الفارق فإن الفوارق ظاهرة، فإن الصدقة نفعها متعد ومثل ذلك العتق، والشارع متشوف إلى إثباتها، والأحياء يحبون أن يوصلوا الثواب إلى أمواتهم فإذا فتح باب الصدقة وأغلق غيره انتفع بذلك الفقراء وحصل ما يتشوف إليه الشارع من إزالة الفقر عنهم وغير ذلك من مقاصد الشرع الثابتة في الصدقة. والدعاء ينتفع به الشخص وينتفع به الغير فليس كالتخلي عن الثواب، وأما الديون [لعل صوابها: "الصوم" (محمد خليفة) ] فإنها بمعنى الدين على الآدمي وفيها تبرئة لذمة الميت وفيها تطييب لخاطر الحي فإنه إذا قام بالعمل المفترض على ميته وكان ديناً له على الله أو غيره كان ذلك تطيباً لقلبه. فالراجح مذهب الجمهور.

قال: (وسن أن يصلح لأهل الميت طعام يبعث به إليهم) هذا أمر مستحب، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم – فيما رواه الخمسة إلا النسائي -: (اصنعوا لآل جعفر طعاماً فقد أتاهم ما يشغلهم) . فيستحب أن يصنع لأهل المصيبة طعاماً فهم منشغلون عن حاجتهم إلى الطعام والشراب. وقد قيد المجد وهكذا صاحب الروض: بثلاثة أيام – وهذا التقييد لا دليل عليه، فقد يكون ذلك يوماً أو يومين أو ثلاثة أو أكثر من ذلك بحسب تأثر أهل الميت بالمصيبة. قال: (ويكره لهم فعله للناس) يكره لهم وينهون أن يصنعوا الطعام لمن يجتمع عندهم من الناس، فقد ثبت في مسند أحمد وسنن ابن ماجه عن جابر قال (كنا نَعُدُّ الاجتماع عند أهل الميت وصنيعة الطعام بعد دفنه من النياحة) (1) . وذهب بعض أهل العلم من الحنابلة: إلى أن ذلك يحرم، وهو أصح؛ لقول الصحابي " من النياحة " والنياحة محرمة، فلا يجوز لهم أن يصنعوا الطعام للناس، بل الاجتماع عند أهل الميت من النياحة كما تقدم في قول الصحابي، وقد نص على كراهيته الإمام أحمد والشافعي وغيرهم من أهل العلم وأن الاجتماع عند أهل الميت مكروه بل هو من النياحة كما تقدم في قول جابر. فصل قال: (تسن زيارة القبور) . لقوله صلى الله عليه وسلم: (إنى كنت نهيتكم عن زيارة القبور فزروها) زاد أحمد وأبو داود وغيرهما: (فإنها تذكركم الآخرة) ، وفي الحاكم من حديث أنس: (فإنها ترق القلب وتدمع العين) . فيستحب للمسلم أن يزور القبور، وإذا زارها فإنه يأتي من قبل وجهه، فيستدبر القبلة ويستقبل وجه الميت فيدنو منه – كما يفعل في زيارته للحي، وفي ذلك حديث حسنه الترمذي وفيه: وفيه قابوس بن أبي ظبيان وهو ضعيف أن النبي صلى الله عليه وسلم: (أتى قبور المدينة فاستقبل القبور بوجهه) لكن الحديث ضعيف.

_ (1) أحكام الجنائز وبدعها للألباني رحمه الله تعالى ص210.

لكن زيارة الميت في حكم زيارة الحي، فإن الحي إذا زير استقبل وجهه ودني منه فكذلك الميت – وهذا ما عليه عمل أهل العلم. وليس عن النبي صلى الله عليه وسلم وقت لزيارة القبور بل ذلك على حسب ما يحتاج إليه المسلم من تذكر الآخرة أو ما يصل به ميته، وليس في ذلك حد محدود فيه أو يوم معين يستحب فيه الزيارة. قال: (إلا النساء) فلا يشرع زيارة القبور لهن – وهذا من المشهور في مذهب أحمد وأنه يكره للنساء أن يزرن القبور وهناك قولان سوى هذا القول: أحدهما: أن الزيارة للنساء محرمة، وهو اختيار شيخ الإسلام وتلميذه. والثاني: أنها مباحة، وهو مذهب أكثر أهل العلم وهو رواية عن الإمام أحمد. استدل الناهون عن ذلك: بما روى الترمذي وابن ماجه وهو ثابت في مسند أحمد وصحيح بن حبان من حديث عمرو بن أبي سلمة بن عبد الرحمن عن أبيه عن أبي هريرة قال: (لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم زوارات القبور) وعمرو بن أبي سلمة صدوق إلا أن في حفظه بعض الضعف، والحديث حسن لا ينزل عن درجة الحسن، فهذا الضعف اليسير في حفظه لا يؤثر في الحديث. وله شاهد من حديث حسان بن ثابت – عند ابن حبان أن النبي صلى الله عليه وسلم: (لعن زوارات القبور) وفيه ابن بهمان وهو مجهول، لكنه يشهد للحديث المتقدم، على أنه قائم بنفسه إن شاء الله، وقال ابن حبان في روايته حديث أبي هريرة: (لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم زائرات القبور) ، وبقية المصنفين الذين خرجوا هذا الحديث أتوا بلفظة " زوارات "، وهو أصح، فقد أتى بها الإمام أحمد والترمذي بلفظة " زوارات "، وما ذكره جمهور المصنفين يشهد له حديث حسان المتقدم. فعلى ذلك الصحيح في حديث أبي هريرة ما ذكره عامة المصنفين: (لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم زوارات القبور) .

واستدلوا: بما رواه ابن ماجه والترمذي وغيرهما من حديث ابن عباس قال: (لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم زائرات القبور والمتخذين عليها المساجد والسرج) . فهذا دليل يدل على النهي عن زيارة القبور وهو صريح في النهي عن الزيارة أصلاً. لكن الحديث فيه: أبو صالح باذام وصبطت باذان وهو ضعيف الحديث ولا يلتفت لما قاله ابن حبان من أنه صالح الراوي عن ابن عباس وهو ثقة. فإن عامة أهل العلم كالترمذي والمزي والإشبيلي والمنذري وابن دحية وغيرهم من أهل العلم صرحوا بأنه أبو صالح باذام وهو ضعيف كما صرح بذلك الترمذي في سننه وغيره. وقد ورد هذا في بعض أسانيده مصرحاً " عن أبي صالح باذام عن أبي هريرة "، فعلى ذلك الحديث إسناده ضعيف. هذا أدلة الحنابلة القائلين بالنهي عن زيارة القبور. لكن شيخ الإسلام رأى أن هذه الأحاديث تدل على التحريم حيث صحت بلفظة " زائرات " وتقدم أنها لا تصح، فإنها لو صحت لما قيل بكراهية ذلك بل يقال بتحريم ذلك، بل إنه من كبائر الذنوب؛ لأن اللعنة لا تكون إلا على كبيرة. ويستدل لهم: بما ثبت في الصحيحين من نهي النبي صلى الله عليه وسلم المرأة عن اتباع الجنازة كما في حديث أم عطية. - وأما أكثر أهل العلم: فاستدلوا بأدلة منها: ما ثبت في الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم: (مر على امرأة عند قبر وتبكي فقال: اتقي الله واصبري فقالت: إليك عني فإنك لم تصب بمصيبتي، ولم تعرفه، فذكر لها أنه النبي صلى الله عليه وسلم فأتت إليه فلم تجد عنده بوابين فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (إنما الصبر عند الصدمة الأولى) . قالوا: إنما أنكر عليها هنا هذا التأثر الشديد الذي اقتضى لها أنه تنفرد في المقبرة فتبكي ولم ينهها النبي صلى الله عليه وسلم عن أصل الزيارة.

واستدلوا بما هو أظهر وهو ما ثبت في مسلم عن عائشة أنها قالت: (يا رسول الله كيف أقول لهم - تعني إذا زرتهم - فقال النبي صلى الله عليه وسلم: قولي السلام على أهل الديار من المؤمنين والمسلمين) والحديث، فهذا صريح في أن النبي صلى الله عليه وسلم علمها ما تقول ولم تقل: كيف يقال، وهو الثابت من فعلها، فقد ثبت في مستدرك الحاكم بإسناد صحيح عن عبد الله بن أبي مليكة قال: (أقبلت عائشة من المقابر فقلت: يا أم المؤمنين من أين أقبلت؟ فقالت: من قبر أخي عبد الرحمن بن عوف [الصواب: عبد الرحمن بن أبي بكر] فقلت لها: أو ليس [كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم -] نهى عن زيارة القبور؟ فقالت: نعم ثم أمر بزيارتها) . فهنا عائشة رأت أنها داخلة في عموم قوله صلى الله عليه وسلم: (فزوروها فإنها تذكر الآخرة) . قالوا: ولا مفسدة في ذلك بل فيه تذكرها بالآخرة وترقيق القلب وإدماع العين، وهذا النبي صلى الله عليه وسلم لم ينه المرأة - كما تقدم في حديث عمر في المسند – عن اتباع الجنازة، مع أن اتباع الجنازة فيها ما يخاف من الفتنة ما هو أعظم مما يكون في زيارتها، فإن في اتباع الجنازة للمرأة ورؤية الميت مع كون المصيبة حاضرة وحديثة العهد هو أعظم تأثيراً في نفسها من كونها تذهب إلى زيارة القبور - لا شك أنه أعظم -، ومع ذلك فلم يُعزم على النساء في النهي عن ذلك، بل أذن لهن كما في حديث أم عطية، فهذه تدل على قوة ما ذهب إليه جمهور العلماء في هذه المسألة. فما ذهب إليه الجمهور أرجح مما ذهب إليه الحنابلة.

لكن تنهى أن تكون زوارة للقبور والزوارة هي المكثرة للزيارة، ولا شك أن الإكثار من الزيارة فيه ما فيه من المفاسد وفيه إشغال المرأة عن الحق الذي عليها في بيتها، وفيه كذلك ما يخشى على المرأة من شدة التأثر والوارد الذي يرد على قلبها من كثرة الزيارة ما لا تتحمله المرأة، ويخشى عليها أن تنفرد في الزيارة فتكون حيث يتخلى فيها، والغالب في المقابر أن تكون بعيدة عن الناس، مع ما يخشى عليها من التأثر الشديد الزائد عما يرغب فيه الشارع من كونها تذكر الآخرة. والصحيح مذهب الجمهور من جواز زيارة النساء للمقابر. واستثنى صاحب الروض من ذلك ما يكون من زيارة النساء لقبر النبي صلى الله عليه وسلم وقبر صاحبيه " أبي بكر وعمر " فقالوا: لا بأس بذلك. لكن هذا ضعيف فلا يثبت استثناؤه على القول بمذهب الحنابلة بل تنهى كما تنهى عن غيره، فإن ما ذكروه من الأحاديث في هذا الباب عامة في زيارة قبر النبي صلى الله عليه وسلم وقبر صاحبيه. والصحيح ما تقدم وهو مذهب جمهور العلماء وأن ذلك جائز مطلقاً ومن ذلك قبر النبي صلى الله عليه وسلم وسائر قبور الصحابة لكنها تنهى أن تكون زوارة. قال: (وأن يقول: إذا زراها أو مر بها: السلام عليكم دار قوم مؤمنين وإنا إن شاء الله بكم لاحقون يرحم الله المستقدمين منا والمتأخرين نسأل الله لنا ولكم العافية) فقد ثبتت هذه الألفاظ ونحوها في مسلم عن عائشة أنها قالت للنبي صلى الله عليه وسلم: (يا رسول الله: كيف أقول لهم قال: قولي السلام على أهل الديار من المؤمنين والمسلمين ويرحم الله المستقدمين منا والمستأخرين وإنا إن شاء الله بكم للاحقون) ، وفي مسلم من حديثها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (السلام عليكم دار قوم مؤمنين وإنا وإياكم وما توعدون غداً مؤجلون وإنا إن شاء الله بكم لاحقون اللهم اغفر لأهل بقيع الغرقد) . وفيه: أنه لا بأس أن ينص على اسم المقبرة.

قال: (اللهم لا تحرمنا أجره ولا تضلنا بعده واغفر لنا وله (1)) هذا من الدعاء المباح في هذا الموضع وإن كانت هذه الألفاظ في الأصل ثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم في غير هذا الموضع لكنها من الدعاء المباح فيدعو بما ورد وبما شاء من الدعاء بالمغفرة والرحمة ونحو ذلك. ولا بأس أن يرفع يديه، فقد ثبت في مسلم عن عائشة في زيارة النبي صلى الله عليه وسلم في الليل: (قام قياماً طويلاً ورفع يديه ثلاث مرات) لكنه لا يستقبل الميت بل يستقبل القبلة. ومع ذلك فإنه إذا خشيت الفتنة في رفع اليدين فإنه لا يفعل ذلك؛ لئلا تظن أنه يدعو الأموات من دون الله - عز وجل - بل ينبغي له إذا أراد فعل ذلك أن يبتعد قليلاً عن الناس، وأن يوليهم ظهر ويرفع يديه مستقبل القبلة ليزول ما يخشى من الفتنة. والحمد لله رب العالمين. مسألة: في باب الدفن: وهي أن جمهور أهل العلم قد ذهبوا إلى جواز الدفن ليلاً واستدلوا بما ثبت في البخاري أن النبي صلى الله عليه وسلم: (مر بقبر فسأل عنه فقيل له: أنه دفن بليل فقال: أفلا آذنتموني) . فهذا الحديث يدل على أن الدفن بليل جائز وهو مذهب جماهير العلماء. وأما ما ثبت في مسلم: (أن رجلاً من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم قبض فكفن بكفن غير طائل " أي غير ساتر " فزجر النبي صلى الله عليه وسلم أن يقبر رجل بليل حتى يصلى عليه إلا أن يضطر إنسان إلى ذلك ثم قال: (إذا كفن أحدكم أخاه فليحسن كفنه) . فزجر النبي صلى الله عليه وسلم أن يقبر رجل بليل إنما ذلك خشية ألا يحسن كفنه وألا يصلى عليه كما ينبغي أو أن يكون حضور الناس قليلاً أو نحو ذلك من سوء في التغسيل.

_ (1) وفي نسخة بصيغة: " اللهم لا تحرمنا أجرهم ولا تفتنا بعدهم واغفر لنا ولهم "

أما إن كان التغسيل حسناً والتكفين كذلك وكانت صلاته مشهودة فلا بأس بذلك؛ لما تقدم في حديث البخاري. والمشهور أن أبا بكر قد دفنه الصحابة بليل ولم ينكر ذلك فكان إجماعاً. قال: (وتسن تعزيه المصاب بالميت) التعزية: هي التقوية والتسلية والدعاء للميت والحث على الصبر. وأما المصاب: فهو من أصيب بالميت سواء كان من أهله أو من يربطه به نسب أو صهر، أو من أصدقائه كأن يكون رفيقاً. فكل مصاب فإنه يعزى سواء كان من أهله أو أصدقائه. وقد ثبت التعزية من فعله [- صلى الله عليه وسلم -] ، ففي الصحيحين عن أسامة بن زيد: (أن بنتاً للنبي صلى الله عليه وسلم أرسلت إليه أن ابناً لها أو بنتاً قد حضرت فأرسل النبي صلى الله عليه وسلم يُقرئ السلام ويقول: لله ما أخذ وله ما أعطى وكل شيء عنده إلى أجل مسمى) . وفيها إحسان للمصاب وللميت وفيها أمر بالمعروف ونهي عن المنكر من حث على الصبر، وفيها معروف من الدعاء للميت فكانت مشروعة، وهذا مما اتفق عليه العلماء. ولم ثبت بخصوصيتها حديث في فعلها عن النبي صلى الله عليه وسلم، أما ما رواه الترمذي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من عزى مصاباً فله مثل أجره) فقد استغربه الترمذي، وهو كما قال. ومثله ما رواه ابن ماجه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ما من مسلم يعزي أخاه في مصيبة إلا كساه الله من حلل الجنة يوم القيامة) فالحديث إسناده ضعيف. فلم يثبت حديث بخصوصها، لكنها داخلة في عموم فضل تعزية المسلم في مصابه، سواء مصابه المرض ومصابه في ميت له أو نحو ذلك، وما فيها من الإحسان إلى أهل الميت وأمرهم بالمعروف ونهيهم عن المنكر.

والحديث المتقدم – كما قال النووي – من أحسن ما يعزى به، وهو قول النبي صلى الله عليه وسلم: (لله ما أخذ وله ما أعطى وكل شيء عنده بأجل مسمى) رواه البخاري، فإن قال: (أعظم الله أجوركم وأحسن عزائكم) فلا بأس بذلك وهو ثابت عن الإمام أحمد. وعنه: (آجرنا الله وإياك في هذا الرجل) ونحو ذلك من الألفاظ فأي لفظ فيه تعزية وجبر للميت فهو حسن فليس هناك لفظ محدد، لكن ما ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث المتقدم أحسن ما يعزى به. وقد يكون المصاب يحتاج أن يذكر بفضل من مات له ميت أو نحو ذلك معه، ونحو ذلك من الآيات والأحاديث فذلك كله من التعزية. وهل للتعزية مدة محدودة؟ أما أولها فإن التعزية جائزة بعد الدفن أو قبله، كما هو المشهور في مذهب الحنابلة , ويدل عليها الحديث المتقدم في قصة ابن أو بنت بنت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فإنها أرسلت إليه وقالت: إن ابناً لها أو بنتاً حضرت، فهي - أو هو - لم يثبت بعد موته لكنه قد احتضر فكان في حكم الميت فأرسل إليها النبي صلى الله عليه وسلم بالتعزية المتقدمة. وأولى من ذلك التعزية قبل الدفن، فلو عزى قبل الدفن أو قبل التغسيل أو الصلاة عليه فلا بأس بذلك ويحصل المقصود المتقدم، وإن عزى بعد الدفن فلا بأس. والمشهور في مذهب الحنابلة والشافعية: أن مدة العزاء ثلاثة أيام، فلا يعزى بعدها مصاب إلا أن يكون غائباً فيعزى عند حضوره أن لم ينس المصيبة. قالوا: لأن التعزية بعد ثلاث تهيج الحزن وتثيره في النفس فلا يكون فيها الفائدة المقصودة من التعزية بل يحصل ضد ذلك. - وقال بعض الحنابلة، فهو وجه عندهم، وبعض الشافعية: بل ليس للتعزية مدة محدودة بل متى احتيج إليها فعلت، فلو عزاه بعد عشرة أيام أو شهر فلا بأس ما دام أن المصاب يحتاج إلى ذلك.

فلو أن أهل الميت تطاول بهم الحزن فإن التعزية تشرع حينئذ ولو بعد ثلاثة؛ لأن المقصود ما تقدم من تقوية المصاب وتسليته وحثه على الصبر وهذا – في الحقيقة – ليس لها مدة محددة لا يشرع بعدها. إذن الصحيح: أن التعزية ليس لها أمد بل متى احتاج إليها المصاب عزي ولو كان ذلك بعد موت ميته بزمن متطاول. لكن إن كانت لا فائدة منها إلا تهييج الحزن، فإنها لا تفعل ولو كان ذلك بعد يومين أو قبل ثلاثة أيام. وأباح الحنابلة أن يتميز المصاب بثوب أو نحو ذلك ليعزى، فلا بأس أن يشهر بثوب ونحوه. واستنكر هذا بعض الحنابلة وشيخ الإسلام وتلميذه ابن القيم وأن ذلك ليس من فعل السلف الصالح فليس من هديهم إشهار المصاب بثوب، فلا أصل له من فعل السلف فكان من البدع المحدثة – وهو الصحيح. - والمشهور والصحيح في مذهب الحنابلة أنه لا بأس أن يؤخذ بيد المصاب للمصافحة أو نحوها. ومثل ذلك ما يشتهر عندنا من المعانقة، فلا بأس بها على قاعدة المذهب. وكرهه بعض الحنابلة، والأظهر جوازه وأن هذا ليس من باب العبادة وإنما من باب العادة. قال: (ويجوز البكاء على الميت) لما ثبت في الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم: (ذرفت عيناه لما قبض إبراهيم – ابنه – وقال: (هذه رحمة ثم قال: إن العين تدمع والقلب يخشع ولا نقول إلا ما يرضي ربنا وإنا لفراقك يا إبراهيم لمحزونون) ، وقال النبي صلى الله عليه وسلم – في الصحيحين – (إن الله لا يعذب بدمع العين ولا بحزن القلب ولكن يعذب بهذا وأشار إلى لسانه أو يرحم وإن الميت ليعذب ببكاء أهله) . واستحب شيخ الإسلام البكاء على الميت؛ لفعله - صلى الله عليه وسلم - – أن ذلك أكمل مما حدث من بعض التابعين كالفضل من فرحه بموت ابنه أي لإظهار الرضا وكان من كبار التابعين أو أتباعهم، لكن السنة ما كان عليه النبي - صلى الله عليه وسلم -.

فجزم شيخ الإسلام باستحبابه لفعل النبي صلى الله عليه وسلم ولقوله: (هذه رحمة) والرحمة مستحبة وأن ذلك أكمل من الفرح إظهاراً للرضا بقدر الله، والرضا بقدر الله لا يعارضه ما يكون من طبيعة البشر من دمع في العين أو حزن في القلب. * وفي قوله صلى الله عليه وسلم: (وإن الميت ليعذب ببكاء أهله) إشكال: وذلك أن الله عز وجل قال: {ولا تزر وازرة وزر أخرى} وأخبرنا الله في كتابه أنه هو الذي يضحك ويبكي، فكيف يعذب الميت بما يفعله من طبيعته وفطرته، ثم ما الذي يلحق الميت من هذا البكاء الواقع من الحي فإنه لا تزر وازرة وزر أخرى؟ وأجاب أهل العلم عن ذلك بأجوبة، أصحها جوابان. لجواب الأول: وهو ما سلكه جمهور أهل العلم: أن ذلك فيمن أوصى بالبكاء عليه البكاء غير المشروع الذي فيه ندب ونياحة ونحو ذلك، أو يعلم من طبيعة أهله وعادتهم الندب والنياحة ومع ذلك لم يكن منه إنكار لذلك وتوصية بعدم فعل ذلك، فيصل إليه العذاب في قبره لأنه غير منكر بذلك راض به. والجواب الثاني: ما سلكه شيخ الإسلام وتلميذه ابن القيم: أن العذاب المذكور إنما هو التألم والأذى، والتألم والأذى ليس مما يقع فيه الإشكال المتقدم، فإن الإنسان يتألم ويقع في قلبه الحسرة ونحو ذلك من غير أن يقع عليه شيء من العذاب، وقد قال صلى الله عليه وسلم في السفر: (إنه قطعة من العذاب) ، وقال تعالى: {لن يضروكم إلا أذى} ، فلما نفى الله الضرر من الكفار لم ينكر الله وقوع الأذى والألم النفسي ونحو ذلك، فمثل هذا أمر ليس من باب العذاب، بل الله عز وجل يتأذى ورسوله كما في الحديث القدسي: (يؤذيني بن آدم يسب الدهر، وأنا الدهر أقلب الليل والنهار) .

وهذا يوافق ظاهر الحديث، فإن ظاهره أن البكاء يعذب كل ميت، وأن كل ميت يعذب ببكاء أهله، وقد قال صلى الله عليه وسلم ذلك لما حضر سعد بن عبادة وكان عليه غاشية من أهله فقال صلى الله عليه وسلم – وقد بكى وبكى من حوله -: (لا تسمعون إن الله لا يعذب بدمع العين ولا بحزن القلب ولكن يعذب بهذا – وأشار إلى لسانه – أو يرحم وإن الميت ليعذب ببكاء أهله) . فحينئذ: يتبين أن مراده البكاء غير المشروع، وثانياً: العذاب المعنوي وهو التألم النفسي وأنه يتألم لما يقع من أهله مما يخالف شرع الله عز وجل. ومعلوم أن الصالح يتألم من وقوع الناس في المنكر. فهذا الميت يتألم من وقوع أهله في هذا المنكر، كما يتألم لو كان هذا البكاء على ميت غيره وهو حاضر بين أيديهم فكذلك يؤلمه وهو في قبره. قال: (ويحرم الندب والنياحة) الندب: هو ذكر محاسن الميت على وجه التسخط، فهذا هو الندب المحرم. أما ذكر شيء من ذلك لا على سبيل التسخط فإن هذا لا بأس به، وقد ثبت في البخاري عن أنس قال: (لما ثقل النبي صلى الله عليه وسلم فجعل يتغشاه - أي الموت – قالت فاطمة: وكرب أبتاه فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ليس على أبيك كرب بعد اليوم، فلما مات قالت: يا أبتاه أجاب رباً دعاه، يا أبتاه في جنة الفردوس مأواه، يا أبتاه إلى جبريل ننعاه) . فهذا من الندب لكنه ليس من الباب المتقدم الذي فيه تسخط على قدر الله وعدم رضا بما يوقعه الله من المقدرات من موت ونحو ذلك. فالندب المحرم هو: ذكر الميت بمحاسنه وفضائله على وجه التسخط، ويصحبه في الغالب رفع صوت بالبكاء وهو النياحة، فالنياحة أن يرفع الصوت بالبكاء مع ذكر محاسنه كما تقدم.

أو أن يكون مع ذلك فعل ينافي الشرع ويظهر به التسخط أيضاً كضرب الخد أو شق الجيب أو نثر الشعر أو نحو ذلك، فسواء كان ذلك بالألفاظ أي رفع صوته بالبكاء ويندب الميت أو أن يكون ذلك مع شق الثوب ولطم الخد مع تفريق الشعر ونثره ونحو ذلك – فذلك كله من النياحة –. وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم – فيما رواه البخاري: (ليس منا من ضرب الخدود، وشق الجيوب ودعا بدعوى الجاهلية) ، وفي سنن ابن ماجه بإسناد صحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم: (لعن الخامشة وجهها والشاقة ثوبها والداعية بالويل والثبور) . وكل ذلك من النياحة المحرمة وهي من الكبائر للعن النبي صلى الله عليه وسلم وقوله: (ليس منا) . وأما النعي وهو إعلان الموت فلا بأس، فلا بأس أن يعلن موت فلان ليصلى عليه، فقد ثبت في الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم: (نعى النجاشي في اليوم الذي مات فيه) الحديث. لكن ثبت في الترمذي وابن ماجه بإسناد حسن أن النبي صلى الله عليه وسلم: (نهى عن النعي) . والجمع بين الحديثين: أن الحديث الأول المراد به مجرد الإخبار بموته، وأما النفي المحرم فهو ما كان عليه أهل الجاهلية من إظهار ذلك في الأسواق والطرقات والمجالس العامة والصراخ بذلك فهذا هو المحرم، ومثله لو وقع النعي في الجرائد والمجلات فإنه من النعي المحرم. قال: (وشق الثوب ولطم الخد ونحوه) هذا كما تقدم من الأفعال التي تدل على التسخط على قدر الله عز وجل. والحمد لله رب العالمين. انتهى كتاب الجنائز بحمد الله تعالى، شرحه فضيلة الشيخ / حمد بن عبد الله الحمد، حفظه الله تعالى ونفع به. ويليه كتاب الزكاة. سؤال: عند اجتماع صلاة الكسوف وصلاة العيد، أيهما يقدم على الآخر؟ مع ذكر السبب. الجواب:

قال في حاشية الروض المربع ما نصه [2 / 536] : " ويقدم – أي الكسوف - على صلاة عيد، إن أمن فواته اتفاقاً، قاله في الفروع وغيره. واتفاقه مع العيد بعيد، لا يتصور اجتماعهما، ولم تجر به عادة. قال شيخ الإسلام: وأما ما ذكره طائفة من الفقهاء، من اجتماع صلاة العيد والكسوف، فهذا ذكروه في ضمن كلامهم، فيما إذا اجتمع صلاة الكسوف وغيرها من الصلوات، فقدروا اجتماعها مع الظهر والوتر، وذكروا صلاة العيد مع عدم استحضارهم، هل يمكن ذلك في الخارج أو لا يمكن؟ فلا يوجد في تقديرهم ذلك العلم بوجود ذلك في الخارج، لكن استفيد من ذلك العلم: علم ذلك على تقدير وجوده كما يقدرون مسائل يعلم أنها لا تقع، لتحرير القواعد، وتمرين الأذهان على ضبطها اهـ. وقيل: قد يتصور بأن يشهدوا على نقصان رجب وشعبان فيقع العيد في آخر رمضان، فإن خشي فواته قدم وفاقاً؛ لأن صلاة العيد واجبة في قول، والكسوف سنة " انتهى كلامه رحمه الله تعالى. وممن ذكر هذه المسألة: الموفق ابن قدامة في المغني [3 / 331] . شيخ الإسلام ابن تيمية في الفتاوى [24 / 157] . الخطيب الشربيني في مغني المحتاج [1 /..] عبد الرحمن بن محمد بن قاسم النجدي الحنبلي في حاشية الروض المربع [2 / 536] . وغيرهم من الفقهاء.

كتاب الزكاة

السادس والتسعون بعد المئة (يوم الجمعة: 19 / 12 / 1415 هـ) كتاب الزكاة الزكاة في لغة العرب: هي النماء والزيادة، يقال: زكا الزرع، إذا نما. وسميت الزكاة الشرعية زكاة؛ لأنها تنمي الغني والفقير. أما كونها تنمي الفقير، فهذا ظاهر. وأما كونها تنمي الغني، فإنها تنمي ماله، ولذا ثبت في مسند أحمد وسنن الترمذي بإسناد صحيح أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: (ثلاث أُقسم عليهن: ما نقص مال من صدقة، ولا ظُلم عبد مظلمة صبر عليها إلا زاده الله عز وجل عزاً، ولا فتح عبد باب مسألة إلا فتح الله عليه باب فقر) (1) . فالصدقة لا تنقص المال، لكنها تبارك فيه، كما أنها تطهر المال من الوسخ، ولذا قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (إنها لا تحل لآل محمد، إنها من أوساخ الناس) (2) . وهي في الشرع: حق واجب في مال مخصوص لطائفة مخصوصة في وقت مخصوص. " في مال مخصوص ": ستأتي الأموال الزكوية من بهيمة الأنعام والحبوب والثمار ونحوها. " لطائفة مخصوصة ": وهم أهل الزكاة. " في وقت مخصوص ": وهو مضي الحول إلا ما استثني من المعشرات ونحوها. قال المؤلف: [تجب] فالزكاة واجبة شرعاً، ودليل ذلك كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وآله وسلم وإجماع الأمة. أما الكتاب، فقد قال تعالى: {خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها} (3) .

_ (1) أخرجه الترمذي في كتاب الزهد، باب (17) ما جاء مثل الدنيا مثل أربعة نفر (2325) قال أبو عيسى: " هذا حديث حسن صحيح "، وصححه الألباني. (2) أخرجه مسلم في كتاب الزكاة، باب (51) ترك استعمال آل النبي - صلى الله عليه وسلم - على الصدقة (1072) بلفظ: " إن الصدقة لا تنبغي لآل محمد، إنما هي من أوساخ الناس.. "، وبلفظ " إن هذه الصدقات إنما هي أوساخ الناس، وإنها لا تحل لمحمد ولا لآل محمد.. ". (3) سورة التوبة.

وأما السنة، فقد ثبت في الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال لمعاذ بن جبل حين بعثه إلى اليمن: (وأعلمهم أن الله افترض عليهم صدقة في أموالهم تؤخذ من أغنيائهم فترد على فقرائهم) (1) . وقد أجمعت الأمة على فرضيتها، وأن منكر وجوبها كافر خارج عن الإسلام؛ لأن فرضيتها معلومة من الدين بالضرورة. والقاعدة: أن ما علم من الدين ضرورة كفرضية الصلاة والزكاة والحج ونحوها من الأحكام الشرعية – أن – إنكارها كفر بالله؛ لأنه تكذيب لدلالة الكتاب والسنة. أما من تركها بخلاً، فإنه لا يكفر بذلك، كما هو مذهب جماهير أهل العلم، ودليل ذلك: ما ثبت في مسلم أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: (ما من صاحب ذهب ولا فضة لا يؤدي منها حقها إلا إذا كان يوم القيامة صُفحت له صفائح من نار، فأحمي عليها في نار جهنم، فتكوى بها جنبه وجبينه وظهره، كلما بردت أُعيدت له في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة حتى يقضى بين العباد، فيُرى – وضبطت: فيَرى – سبيله إما إلى الجنة وإما إلى النار) (2) . والكافر لا يرى سبيله إما إلى الجنة وإما إلى النار على التخيير، بل سبيله إلى النار على وجه التحتم، فدل هذا على أن تارك الزكاة تكاسلاً مع إقراره بوجوبها أنه لا يكفر. فإن كان تاركها تحت يد الإمام، فإنه يلزمه بها ويأخذ شطر ماله، كما سيأتي تقريره، لحديث: (ومن منعها فإنا آخذوها وشطر ماله عزمة من عزمات ربنا) (3) رواه أحمد وأبو داود بإسناد حسن وقال أحمد: " هو عندي صالح الإسناد ". (4)

_ (1) متفق عليه. (2) أخرجه مسلم في كتاب الزكاة، باب (6) إثم مانع الزكاة (987) . (3) أخرجه أبو داود في كتاب الزكاة، باب (4) في زكاة السائمة (1575) ". (4) هنا عبارة بخط آخر نصه: " وهو قول إسحاق قال: محمولا يعزر ".

وأما إذا كان تاركها ليس تحت قبضة الإمام، بأن كانت طائفة ممتنعة، كأن تمتنع جهة من الجهات عن أداء الزكاة للإمام ولهم قوة وشوكة، فإن الإمام يقاتلهم حتى يؤدوا الزكاة، كما قاتل أبو بكر مانعي الزكاة، ولا تكفر. وقد حكى شيخ الإسلام اتفاق المسلمين على أن الطائفة الممتنعة عن أداء شعيرة من الشعائر الإسلامية الظاهرة، كالصلاة والزكاة ونحوها، أو الممتنعة عن ترك شيء من المحرمات الظاهرة كالربا والزنا أنها تقاتل. قال: [بشروط خمسة] هذه شروط وجوب الزكاة، فلا تجب الزكاة إلا بتوفرها. قال: [حرية] والمكاتب قنٌ، والعبد لا يملك بالتمليك في الصحيح من المذهب. هذا هو الشرط الأول، وهو الحرية، فالعبد لا زكاة عليه؛ وذلك لأنه لا مال له، والزكاة إنما تؤخذ من أصحاب الأموال. وأما العبد فإنه مال ولا يملك، ولذا قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (من باع عبداً وله مال – أي معه مال هو مختص به – فماله للذي باعه) (1) . قال: [وإسلام] فالكافر لا تجب عليه الزكاة، ولا خلاف بين أهل العلم في هذا، وقد قال تعالى: {وما منعهم أن تقبل منهم نفقاتهم إلا أنهم كفروا بالله وبرسوله} (2) . فالزكاة منهم لا تصح، ولا تجب، ولا خلاف بين أهل العلم في هذا، وهذا بإجماع الصحابة رضي الله عنهم، ولذا لم يكونوا يأخذون من الذميين الزكاة، وإنما كانوا يلزمونهم بالجزية. فالزكاة لا تجب على كافر.

_ (1) أخرجه البخاري في كتاب المساقاة (الشرب) ، باب (17) الرجل يكون له ممر أو شرب في حائط أو في نخل (2379) ، ومسلم في كتاب البيوع، باب (15) من باع نخلا عليها ثمر (1543) بلفظ (من ابتاع نخلاً بعد …. ومن ابتاع عبداً وله مال …) . (2) سورة التوبة.

وإن أسلم فلا تجب عليه قضاؤها، ويستأنف حولاً جديداً، أي يستأنف الحول من إسلامه؛ لقوله تعالى: {قل للذين كفروا إن ينتهوا يغفر لهم ما قد سلف} (1) ، فإذا أسلم ترتبت عليه الأحكام الشرعية، فإذا تم لإسلامه حول أخذت منه الصدقة. قال: [وملك نصاب] هذا هو الشرط الثالث: أن يملك النصاب الزكوي من الأموال الزكوية. وسيأتي الكلام على الأنصبة. فمن ملك النصاب من الغنم فعليه الزكاة، وهكذا في بقية الأموال الزكوية التي فيها الأنصبة. أما إن كان ماله لا يبلغ النصاب، فإنه لا تجب عليه الزكاة، فنصاب الذهب مثلاً: عشرون ديناراً، فإن ملك تسعة عشر ديناراً، فلا زكاة عليه، ونصاب الغنم مثلاً: أربعون شاة، فإن ملك تسعاً وثلاثين شاة، فلا زكاة عليه. وهذا باتفاق العلماء. وهو ظاهر الأحاديث النبوية في تقدير الأنصبة، فإن ظاهرها أن من لم يملك النصاب المسمى، فإنه لا زكاة عليه. لكن إن كان الناقص عن النصاب الشيء اليسير عرفاً، فإنه لا عبرة بنقصه، فتبقى الزكاة عليه واجبة، كأن تنقص الحبة والحبتين من أوسق الحبوب أو الثمار، فإن نصاب الحبوب والثمار خمسة أوسق وهو ستون صاعاً، فكون الصاع الأخير ينقص منه شيء يسير هذا نقص لا يعتد به؛ لأن الشارع لا يعلق الحكم بمثل هذا، ولذا فإن الشارع لم يبطل الصلاة بالعمل اليسير الخارج عن الصلاة، وعفا عن النجاسات اليسيرة ونحو ذلك. قال: [واستقراره] فالمال غير المستقر ناقص لا تام. " استقراره ": أي استقرار النصاب في ملكيته. ويعبر عنه صاحب المقنع بتمام الملك، وتمام الملك: هو أن يكون الملك تاماً غير ناقص، وهو الملك المستقر الذي لا يكون عرضة للسقوط، فإن كان ملكاً ناقصاً، بأن كان غير تامٍ أو معرضاً للسقوط، فإنه لا تجب فيه الزكاة.

مثال ذلك: على القول بوجوب الزكاة في الدين، فلو أن سيداً باع على عبده نفسه، وهو المكاتبة، فإن هذا المال يبقى ديناً على المكاتب وهو العبد، فهذا الدين لا تجب فيه الزكاة، كأن يشتري العبد نفسه من سيده بألف إلى سنتين، فإن السيد لا يزكي عن هذه الألف؛ لأن هذا المال ليس ملكه تام فيه، فإن هذا العبد يمكنه أن يعجز نفسه فيعود عبداً، وحينئذ، فإن هذا الدين يسقط، فمتى عجز نفسه فإنه يسقط، فأصبح هذا الدين ليست ملكيته تامة كالديون المتعلقة في ذمم الناس من بيع أو نحو ذلك، فهي ديون مستقرة ثابتة. ومثل ذلك: الوقف الذي يكون لمعين، فلو أوقف رجل مالاً على ذريته، فلا زكاة فيه؛ لأن ملكيتهم ليست بتامة، فإنه لا يمكنهم التصرف فيه ببيع ولا شراء ولا نحو ذلك، ولا يورث منه مطلقاً، بل يجري على ما أوصى به صاحب الوقف، فلا تجب فيه الزكاة؛ لأن الملك فيه غير تام، فلابد أن يكون الملك تاماً. ودليل هذا قوله تعالى: {خذ من أموالهم صدقة} (1) ، وقوله صلى الله عليه وآله وسلم: (إن الله افترض عليهم صدقة في أموالهم) (2) ، وهذا ليس بمال مستقر. فعلى ذلك الشرط الرابع تمام الملك أو استقراره. قال: [ومضي حول]

_ (1) سورة التوبة. (2) متفق عليه.

هذا الشرط الخامس، وهو مضي الحول، والحول هنا هو الحول الهلالي القمري بلا خلاف بين العلماء، كما قال تعالى: {يسألونك عن الأهلة قل هي مواقيت للناس والحج} (1) أي أهلة القمر التي تثبت بها السنة القمرية. فالحول هنا هو الحول القمري أي السنة القمرية، فإذا مضى الحول بالسنة القمرية وهي اثنا عشر شهراً، فإن الزكاة تجب، وهذا باتفاق العلماء. وفي سنن أبي داود بإسناد حسن عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: (ليس في مال زكاة حتى يحول عليه الحول) (2) ، والصحيح وقفه على علي رضي الله عنه، ونحوه عن عائشة في سنن ابن ماجه (3) ، والصحيح الوقف أيضا. وعن ابن عمر عند الترمذي (4) والصحيح الوقف، فهذا آثار موقوفة على الصحابة لا يعلم لهذه الآثار مخالف. قال: [في غير المعشر] المعشرات: هي الحبوب والثمار، فهذه لا ينتظر لوجوب الزكاة فيها مضي الحول، بل متى حُصدت زكيت، لقوله تعالى: {وآتوا حقه يوم حصاده} (5) . ويلحق بها: زكاة المعادن والركاز والعسل، فهذه تخرج زكاتها عند الحصول عليها في المعادن والركاز، وعند جني العسل.

_ (1) سورة البقرة. (2) أخرجه أبو داود في كتاب الزكاة، باب (4) في زكاة السائمة (1573) . (3) أخرجه ابن ماجه في كتاب الزكاة، باب (5) من استفاد مالا (1792) مرفوعاً. قال البوصيري: " هذا إسناد فيه حارثة، وهو ابن أبي الرجال ضعيف. أخرجه الدارقطني في سننه من هذا الوجه. ورواه البيهقي من طريق شجاع بن الوليد. ورواه الترمذي من حديث ابن عمر مرفوعاً وموقوفاً، وهكذا أورده ابن الجوزي في العلل المتناهية في الأحاديث الواهية " من زيادات طبعة بيت الأفكار على سنن ابن ماجه صْ 195. (4) أخرجه الترمذي في كتاب الزكاة، باب (10) ما جاء لا زكاة في المال المستفاد حتى يحول عليه الحول (631) (632) . (5) سورة الأنعام.

وإنما فرق الشارع بين المعشرات وغيرها؛ لأنها ليست معدة للنماء، بل متى حصدت استهلكت، بخلاف بهيمة الأنعام وعروض التجارة والذهب والفضة، فإنها معدة للنماء، فناسب في إيجاب الزكاة فيها مضي الحول. وأما هذه فإنها ليست بمعدة للنماء، فمتى حصد الزرع أو جني الثمر، فإن الزكاة تجب فيه؛ لأنه حينئذ يكون معرضاً للاستهلاك، فلا فائدة حينئذ من أن يتربص به حولاً. قال: [إلا نتاج السائمة وربح التجارة] فما تنتجه السائمة من بهيمة الأنعام فنتاجها وكذلك ربح التجارة هو فرع يلحق بأصله في الحول، فحوله حول أصله. مثال ذلك: رجل عنده أربعون شاة، وقبل أن يتم عليها حول أنتجت كل شاة منها سخلتين أو أكثر بحيث أنها زادت على ما يجب في أصلها، فأصلها أربعون، فيجب فيها شاة، وإذا نظرنا إلى النتاج وأضفناه إلى أصله فإن الواجب شاتين، فحينئذ نوجب فيها شاتين، فنعتدّ بالصغار، فتلحق بأصولها في مضي الحول. وعليه عمل السعاة في عهد النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه، وقد ثبت في موطأ مالك بإسناد صحيح عن سفيان بن عبد الله أن عمر بعثه مصدقاً، فكان يعتد على الناس بالسخل "، يعني يحتسب عليهم السخل، فقالوا: إنك تعتد علينا بالسخل ولا تأخذها – فإن الساعي لا يأخذ الصغار بل يأخذ وسْط المال، الجذعة والثنية، فذكر ذلك لعمر، فقال عمر: " نعم نعتد عليهم بالسخلة يحملها الراعي – أي يحملها بيده – ولا نأخذها، ولا نأخذ الأكولة " وهي التي تسمن لتؤكل، وهي من خيار المال، " ولا الرُبَّى " وهي المرضع تربى ولدها، " ولا الماخض " وهي الحامل، " ولا فحْل الغنم، وتأخذ الجذعة والثنية، وهذا عدل بين غذاء الغنم " (1) أي صغاره وخياره.

_ (1) الموطأ، كتاب الزكاة، باب ما جاء فيما يعتد به من السخل في الصدقة (602) صْ 131.

أي كوننا نحسب عليكم السخلة ولا نأخذها منكم، وإنما نأخذ منكم أكبر منها، يقابل هذا أنا لا نأخذ منكم خيار المال، بل نترك خياره لكم من الأكوله والربى وغيرها، فهذا قول عمر رضي الله عنه ولا يعلم له مخالف. ومثل ذلك أيضا: ربح التجارة، فمثلاً: رجل عنده عروض تجارة تساوي ألف ريال، فلما مضى الحول فإذا بها تساوي أربعة آلاف، فإنه يزكي زكاة أربعة آلاف، فهذا المتولد من هذه الألف له حكمها. إذاً نتاج بهيمة الأنعام وأيضا ما ينتج من التجارة من ربحها، فإن له حكم أصله، كما دل على ذلك أثر عمر المتقدم، وعليه العمل في عهد النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه، فإنهم ما كانوا يستثنون السخلة أو صغار الإبل أو البقر، بل يحسبون ذلك كله. قال: [ولو لم تبلغ نصابا] أي وإن كانت السخال لم تبلغ نصاباً، فإنها محسوبة مع أصلها. قال: [فإن حولها حول أصليهما إن كان نصاباً] أي إن كان هذا الأصل نصاباً كما تقدم في التمثيل السابق. قال: [وإلا فمن كماله] صورة ذلك: رجل في الشهر المحرم امتلك ثلاثين شاة فأخذت بالنتاج، فبلغت بعد ثلاثة أشهر، أربعين - ثلاثون شاة وعشر سخال - فهذه أربعون، ثم أخذت بالنتاج بعد ذلك، فإن الحول لا يكون من الشهر المحرم؛ لأنها كانت فيه ثلاثين، وإنما يكون هذا بعد ثلاثة أشهر منه، أي في شهر ربيع الثاني، حيث بلغت أربعين. إذاً: النتاج له حول الأصل حيث كان الأصل نصاباً، أما إن لم يكن الأصل نصاباً، فإن الحول يكون من الكمال. وظاهر كلام المؤلف أن ما يطرأ على المال من جنسه مما لم يتولد منه أن له حولاً جديداً، وهذا مذهب جمهور العلماء.

صورة هذا: رجل عنده مائتا دينار، امتلكها في شهر المحرم، ثم أهدي إليه بعد شهر أو شهرين مئة دينار، أو ورث مئة دينار، فهذا الإرث وهذه الهبة ليست متولدة من ماله الأول، فيستأنف بها حولاً جديداً؛ لعموم الآثار المتقدمة التي فيها أنه ليس في المال زكاة حتى يحول عليه الحول، وهو مال له حكم مستقل، فليس بمتولد من المال الأول. وإن كانت زكاته مع الأول أبرأ للذمة وأيسر، لكن هذا ليس بواجب عليه. وعند قوله: " وملك نصاب "، علّق الزكاة بملك النصاب، فتثبت الزكاة بملك النصاب، ولو كان المالك غير عاقل أو غير بالغ، ولذا لم يذكر التكليف في الشروط. فالزكاة تجب على الصغير في ماله، وتجب على المجنون في ماله. ويؤدي ذلك وليهما عنهما بنيته من مالهما وجوباً؛ وذلك لأن الزكاة متعلقة بالمال، فلم ينظر فيها إلى المالك، فأشبهت قيم المتلفات وأروش الجنايات والنفقة على الأقارب، فإن هذا كله يجب على غير المكلف. فلو أن غير مكلف قتل، فإن الدية تثبت، وأيضاً النفقة تثبت في مال الصبي والمجنون وأروش الجنايات تثبت كذلك، وقيم المتلفات كذلك، لتعلق حق الآدمي بها، وهنا كذلك، فإن الزكاة تتعلق بها حق الآدمي من أصحاب الزكاة. هذا مذهب جمهور العلماء، وعليه تدل آثار الصحابة، كقول عمر فيما صح عنه عند الدارقطني: " اتجروا بمال اليتيم لا تأكله الصدقة " (1) . والبالغ لا يسمى يتيماً، وإنما اليتيم هو الصبي، ونحوه عن عائشة، ولا يعلم لهم مخالف.

_ (1) أخرجه الدارقطني والترمذي مرفوعاً من طريق المثنى بن الصباح، بلفظ (من ولي يتيماً له مال فليتجر له..) سنن الدارقطني [2 / 280] رقم (1945) . وأخرجه عن عمر مالك في الموطأ في كتاب الزكاة،باب زكاة أموال اليتامى والتجارة لهم فيها (588) عن مالك أنه بلغه أن عمر بن الخطاب قال.. ".

- وقال الأحناف: لا تجب إلا على المكلف؛ واستدلوا بقوله صلى الله عليه وآله وسلم: (رفع القلم عن ثلاثة، وذكر منهم: (والصبي حتى يبلغ والمجنون حتى يعقل) (1) . والجواب عن هذا بأن يقال: ... (2) (رفع القلم) أي قلم التكليف في العبادات التي.... بحق الغير، أما العبادات التي لا تعلق بحق الغير، فهذه.... ما تقدم من نفقة الأقارب وقيم المتلفات، فإنها متعلقة بحق الآدمي فلا ينظر فيها إلى المكلف، بل إلى المال نفسه. كما أن هذا الحديث مُخَصص بأقوال الصحابة، فإن الصحابة أقوالهم تخصص الأدلة، فعلى القول بدخول الزكاة في هذا الحديث من باب العموم، فإن آثار الصحابة تدل على تخصيص الزكاة. فالراجح هو مذهب جمهور أهل العلم من وجوب الزكاة في مال الصبي والمجنون. والحمد الله العالمين. والذي دلت عليه الآثار أنه – أي النصاب – تحديد وتقريب في الجمع، وهو رواية عن أحمد، عنه تقريب الأثمان والعروض، وتحديد في غيرها. واختار شيخ الإسلام أنه لا حول لأجره، وهو رواية عن أحمد ومنقول عن ابن عباس، قال لا يصح أن يشترط رب المال زكاة رأس المال أو بعضه؛ لأنه قد يحط بالربح، حكاه في الفروع وغيره. الدرس السابع والتسعون بعد المئة (يوم السبت: 2 / 12 / 1415 هـ) قال المؤلف رحمه الله: [ومن كان له دين أو حق من صداق أو غيره على مليء أو غيره أدى زكاته إذا قبض لما مضى] هذه مسألة زكاة الديون. الديون على ضربين:

_ (1) أخرجه الترمذي في بداية كتاب الحدود، باب (1) ما جاء فيمن لا يجب عليه الحد (1423) من حديث علي أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: (رفع القلم عن ثلاثة: عن النائم حتى يستيقظ، وعن الصبي حتى يشب، وعن المعتوه حتى يعقل " ثم قال: " وذكر بعضهم: وعن الغلام حتى يحتلم ". (2) بياض في الأصل.

الضرب الأول: أن يكون الدين على مليء باذل، أي يكون المستقرض غني باذل، كأن يستقرض رجل من رجل، ويكون المستقرض باذلاً أو يكون لامرأة صداق مؤخر على زوجها، وزوجها باذل مليء، أو رجل باع سلعة على آخر بثمن مؤجل، فهذا داخل في الديون. الضرب الثاني: أن يكون هذا الدين على غير مليء، بأن يكون معسراً أو يكون على غني مماطل، أو أن يكون الحق محجوراً أو مسروقاً أو مغصوباً، كرجل سُرق ماله أو غُصب. أما الضرب الأول: فتجب عليه الزكاة عند جماهير العلماء؛ لأن هذا الدين داخل في عموم المال، وقد قال تعالى: {خذ من أموالهم صدقة} ، وقال صلى الله عليه وآله وسلم: (فأعلمهم أن الله افترض عليهم صدقة في أموالهم) ، فهذا الدين مال فيدخل في عموم الأدلة الدالة على الزكاة؛ ولأنه شبيه بالوديعة، والوديعة يجب أن يزكيها مودعها، وهذا المال شبيه بالوديعة؛ لأنه يمكنه أن يتصرف به متى شاء، فمتى أراد أن يتصرف به فإنه يطلبه من هذا المدين فيتصرف به وينميه. وهل تجب عليه الزكاة عند مضي الحول وإن لم يقبضه، أو أن الزكاة لا تجب إلا عند قبضه، فيزكيه لما مضى؟ قولان لأهل العلم: ذكر المؤلف القول الثاني، وأنه يزكيه إذا قبضه لما مضى، فإذا أقرض زيد عمراً مئة ألف، فإنه يزكيها إذا قبضها، ولو كان ذلك بعد عشر سنوات، فيزكي عن العشر سنوات، ولا يجب عليه أن يزكيها عند مضى كل حول. فإن زكاها عند مضي الحول، أجزأ، لكن لا يجب عليه ذلك. هذا هو المشهور في مذهب الإمام أحمد، وهو مذهب جمهور العلماء، وهو قول علي كما روى ذلك عنه أبو عبيد في كتاب الأموال بإسناد صحيح؛ ولأنه دين ثابت في الذمة فلم يجب الإخراج قبل قبضه كما لو كان على معسر.

والقول الثاني: أنه يجب أن يزكيه عند مضي كل حول وإن لم يقبضه، وهو قول الشافعي، قال في المغني: " وهو قول عمار وابن عمر وجابر "؛ وذلك لعموم الأدلة الدالة على وجوب الزكاة عند مضي الحول للمال، وهو عام في الدين وغيره. وهذا القول أظهر؛ لأنه مال فيدخل في عموم الأدلة القاضية بإيجاب الزكاة عند مضي الحول، ولا دليل على إخراجه منها. وقال أهل القول الأول: هو مال لا ينتفع به صاحبه، فلم يجب أن يزكيه إلا عند قبضه. وفي هذا نظر، فإن مقتضى التعليل الذي ذكروه، أولاً: عدم وجوب الزكاة فيه مطلقاً، وهم لا يقولون بهذا. والوجه الثاني: أنه يمكنه الانتفاع به بأن يأخذه من صاحبه فيتصرف به كيف شاء، فإن هذا المليء الباذل يدفعه له متى طلبه، وحيث كان كذلك، فإنه يمكنه الانتفاع به متى شاء. فالراجح مذهب الشافعية، وأنه يجب أن يزكيه عند مضي كل حول وإن لم يقبضه. أما الضرب الثاني: وهو ما إذا كان الدين على مماطل أو جاحد أو معسر، أو أن يكون المال مغصوباً أو مسروقا، فهل تجب فيه الزكاة أم لا؟ قولان لأهل العلم، وهما قولان في مذهب أحمد والشافعي: القول الأول: أن الزكاة واجبة، وهو ما ذكره المؤلف هنا، ويزكيه عند قبضه لما مضى. هذا هو المشهور في مذهب أحمد والشافعي؛ قالوا: لأنه مال فيدخل في عموم الأدلة الدالة على فرضية الزكاة في الأموال. وعن أحمد، وهو قول مالك واختاره الشيخ محمد: أن يزكيه إذا قبضه لسنة واحدة.

والقول الثاني في مذهب أحمد والشافعي، وهو مذهب أبي حنيفة: أن الزكاة لا تجب فيه، واختاره شيخ الإسلام؛ قالوا: لأن هذا المال لا يمكنه أن ينتفع به ولا يتصرف به، فليس محلاً للنماء والزيادة، والأصل في مشروعية الزكاة إنما هي في الأموال التي يمكن أن تنمى، وهنا هذا المال ليس كذلك. وهذا القول أظهر، وأن الزكاة لا تجب. فهو وإن كان مالاً، وهو داخل في عموم الأموال، لكنه في الحقيقة بمعنى الدين على المكاتب. وقد تقدم أن الدين على المكاتب لا يزكى بالاتفاق؛ لأن الملك فيه ليس بتام، إذ يمكن أن يسقط، وهنا هو بمعناه؛ لأنه لا يمكنه أن يتصرف به، ولا أن ينتفع به، وحيث كان كذلك، فإنه لا يلزم بإخراج الزكاة عنه، لأنه ليس تحت يده حكماً، وحيث كان كذلك، فإنه لا يلزم بأن يزكيه. وهذا القول أظهر. وحينئذٍ فإنه إذا قبضها استأنف الحول من جديد، فإذا قبض الدين أو وجد المسروق أو أتاه المال الغصوب، فإنه يستأنف حولاً جديداً، فإذا مضى الحول الجديد بالشروط السابقة، فإنه يزكيه. وقوله [أو حق] من مغصوب أو مسروق. وقوله [من صداق أو غيره] : كقرضٍ أو ثمن مبيع. قال: [ولا زكاة في مالِ من عليه دين ينقص النصاب] هذه مسألة أخرى: في حكم الزكاة على من عليه دين ينقص النصاب. تقدم أن الزكاة لا تجب إلا إذا كان النصاب تاماً، فإذا كان على صاحب النصاب دين، لكنه دين بحيث إن هذا الدين ينقص النصاب، فلا تجب عليه الزكاة. مثال هذا: نصاب الذهب عشرون ديناراً، فإذا كان يملك عشرون ديناراً لكن عليه دين لفلان خمسة دنانير، فهي تنقص النصاب، فيكون في الحقيقة مالكاً خمسة عشر ديناراً. مثال آخر: عنده خمس من الإبل، وعليه دين ينقصها، أي بقدر بعير. أو عليه دين شاة أو شاتين وعنده أربعون شاة.

أما إذا كان الدين لا ينقص النصاب، فلا إشكال في إيجاب الزكاة عليه، مع حذف الدين من عليه، فإذا كان عنده ثلاثون ديناراً وعليه عشرة دنانير، فهذا الدين لا ينقص النصاب، فإذا حذفنا عشرة دنانير من ثلاثين ديناراً بقي له عشرون دينارً، وهو النصاب الزكوي، فيجب عليه أن يزكي العشرين. وأما إذا كان الدين ينقص النصاب، فإنه لا زكاة عليه. وهذا كله بيان كلام المؤلف، وسيأتي الكلام في هذه المسألة. قال: [ولو كان المال ظاهراً] الأموال على قسمين: أموال باطنة: وهي الأثمان وعروض التجارة، فالأثمان وهي الذهب والفضة أو ما يقوم مقامها من العملة المعاصرة، هذه أموال باطنة، وعروض التجارة كذلك أموال باطنة؛ لأن قيمتها أثماناً، فكانت بحكمها. وقال بعض الحنابلة: بل الأموال الباطنة هي الأثمان فقط، وأما عروض التجارة، فهي أموال ظاهرة. وهذا فيما يظهر لي أظهر؛ لأنها في الحقيقة ظاهرة، فإن أنفس الفقراء تتشوف إليها، وهي أموال بينة بخلاف الأثمان، فإنها تتصف بأنها أموال باطنة، إذ لا يظهر إلا بإظهار صاحبها لها. وأما عروض التجارة فهي وإن كانت قيمتها أثماناً، لكنها في الحقيقة أموال ظاهرة شبيهة بالمواشي والحبوب والثمار وغيرها. أموال ظاهرة: وهي المواشي والحبوب والثمار. فهنا المؤلف ذكر أن الديون التي تنقص النصاب لا توجب الزكاة، سواء كانت الأموال باطنة كالذهب والفضة وعروض التجارة، أو كانت الأموال ظاهرة كالمواشي وغيرها.

فمن كان عليه دين، وعنده مواشي أو عنده حبوب وثمار أو ذهب وفضة قد بلغت أنصبتها، وهذه الديون التي عليه تنقص النصاب، فإن الزكاة لا تجب عليه. هذا هو المشهور في مذهب الحنابلة؛ قالوا: لأن الزكاة المقصود منها مواساة الفقير، وصاحب الدين بمعنى الفقير، ولذا هو من أهل الزكاة، فلم يكن مناسباً أن يؤخذ منه مال فيجبر به غيره مع حاجته إليه، فليس من المناسب أن تعطل حاجته لدفع حاجة غيره، قالوا: ولأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: (ابدأ بنفسك) (1) ، فالشريعة أقرت هذا، وهو أن يبدأ بحاجة نفسه، فليس من الشرع حينئذ أن يؤمر بما يناقض هذا فيبدأ بغيره مع حاجة نفسه. قالوا: ولما ثبت في موطأ مالك وكتاب الأموال لأبي عبيد بإسناد صحيح: أن عثمان رضي الله عنه في بعض الروايات على منبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: " هذا شهر زكاتكم، فمن كان عليه دين فليؤده حتى تخرجوا زكاة أموالكم " (2) ، قالوا: فقد قال عثمان هذا في محضر من الصحابة ولم ينكر عليه، فكان ذلك إجماعاً. وثبت في سنن البيهقي بإسناد جيد عن ابن عباس وابن عمر في الرجل يستقرض المال فينفقه على ثمرته وأهله، فقال ابن عباس: " يخرج ما أنفق على ثمرته وأهله ثم يزكي ما بقي " (3) ، وقال ابن عمر: " يخرج ما أنفق على ثمرته ثم يزكي ما بقي " (4) . ويصح أن يكون قول ابن عمر مخالفاً لقول عثمان المتقدم وهي مخالفة في الأموال الظاهرة فقط، وأما قول ابن عباس فهو موافق لقول عثمان.

_ (1) أخرجه مسلم في كتاب الزكاة، باب (13) الابتداء في النفقة بالنفس ثم أهله ثم القرابة (997) من حديث جابر رضي الله عنه. (2) أخرجه البيهقي في كتاب الزكاة، باب (83) الدين مع الصدقة (7606) . (3) السنن الكبرى للبيهقي، كتاب الزكاة، باب (83) الدين مع الصدقة (7608) . (4) نفس السابق.

أما الدين المنقص للنصاب في الأموال الباطنة، فما ذهب إليه الحنابلة هو مذهب الجمهور، وأدلتهم في هذا قوية ظاهرة. - وقال الشافعية: بل عليه الزكاة؛ لأنه مال، فيدخل في عموم الأموال التي يجب أن تزكى. والظاهر ما ذهب إليه الجمهور؛ لأنه وإن كان مالاً، لكن صاحبه ليس بغني، وقد قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (تؤخذ من أغنيائهم) (1) ، وقال: (لا صدقة إلا عن ظهر غنى) (2) ، وهذا عليه دين ينقص المال عن النصاب، فلا يكون حينئذ غيناً. ولأنه كما تقدم يحتاج إلى المواساة وحاجته أولى من حاجة غيره. فما ذهب إليه الجمهور في الأموال الباطنة أظهر، ولأثر عثمان ولا يعلم له مخالف، وأما أثر ابن عمر فقد تقدم أن المخالفة في الأموال الظاهرة دون الباطنة. وأما الأموال الظاهرة، فإذا كان عليه دين ينقص النصاب: - فجمهور العلماء: على أن الدين لا يمنع الزكاة فيها، بل تجب؛ وذلك لأن السعاة في عهد النبي صلى الله عليه وآله وسلم وعهد أصحابه لم يكونوا يستفصلون، فلم يكونوا يسألون أصحاب المواشي وأصحاب الحبوب والثمار هل عليكم ديون تنقص النصاب أو لا؟ فكانوا يأخذون منهم الزكاة من غير استفصال. والدليل الثاني، وهو نظري: أن الفقير تتشوف نفسه إلى هذا المال الظاهر، ويتعلق به، فلم يكن من المناسب أن يمنع الدين الزكاة فيه، لتشوف الفقراء عليه، وهذا بخلاف الأموال الباطنة. فهو ظاهر لأعين الفقراء. وأما الحنابلة، فقالوا: الدين إذا كان ينقص النصاب في الأموال الظاهرة، فإنه لا تجب فيها الزكاة؛ قالوا: لعموم قول عثمان التقدم " هذا شهر زكاتكم، فمن كان عليه دين فليؤده حتى تخرجوا زكاة أموالكم "، قالوا: هذا عام في الأموال الظاهرة والباطنة. لكن تقدم أن أثر ابن عمر مخالف له في الأموال الظاهرة دون الأموال الباطنة.

_ (1) متفق عليه. (2) رواه الإمام أحمد، وذكره البخاري تعليقاً، وهو في الصحيحين بلفظ آخر.

واستدلوا بالحديث المتقدم (لا صدقة إلا عن ظهر غنى) ، وأن هذا من أهل الزكاة، فليس من المناسب أن يعطى من الزكاة لديونه، وتؤخذ منه الزكاة. فالزكاة إنما تؤخذ من الأغنياء الذين ليسوا بحاجة إلى الزكاة، وهذا بحاجة إلى الزكاة. وهذا القول فيما يظهر لي أقوى؛ لقوة ما عللوا به هذا القول واستدلوا به، من أن حاجة صاحب المال مقدمة على حاجة غيره، ويبدأ المرء بنفسه قبل غيره، ولا صدقة إلا عن ظهر غنى، وكيف تدفع له الزكاة من جهة وتؤخذ منه من جهة أخرى! . أما ما ذكره أهل القول الأول، فإن عدم استفصال السعاة بناء على الأصل، فإن الأصل هو براءة الذمة من الديون، ولأن من عليه دين فإنه يخبر بذلك ويقول: إن عليّ دين، فهم لم يكونوا يستفصلون لهذا، بناء على الأصل، ولأن من كان عليه دين فإنه يخبر عن نفسه. وأما كون الفقراء تتشوف نفوسهم إلى المال، فحاجة صاحب المال أولى من حاجة غيره، فإن صاحب المال متشوفة نفسه لقضاء دينه وإبراء ذمته، وهو محتاج إلى هذا المال الذي يؤخذ منه، فكان أولى من غيره. فالأظهر ما ذهب إليه الحنابلة في هذه المسألة، وهو أن زكاة المال لا تجب على من عليه دين ينقص النصاب، سواء كان المال باطنا أو ظاهراً. أما المسألة الأولى في الأموال الباطنة، فهو مذهب جمهور العلماء. وأما ما يكون في الأموال الظاهرة، فهو مذهب طائفة من التابعين. وقول المؤلف [ولو كان المال ظاهرا] ، قوله " ولو " إشارة إلى خلاف بعض الحنابلة، وهو أحد الوجهين في المذهب: على أن الزكاة في الأموال الظاهرة واجبة وإن كان الدين ينقص النصاب، وهو رواية عن الإمام أحمد، وهو مذهب جمهور العلماء كما تقدم. قال: [وكفارة كدين] فمن عليه كفارات كمن عليه ديون.

فلو أن رجلا عليه كفارة عتق رقبة أو كفارة إطعام أو دم لحج، وكانت هذه الكفارة تنقص النصاب الزكوي، فلا تجب عليه الزكاة أيضاً، فلو أن رجلاً عنده مال، لكن وجب في ذمته عتق رقبة حقاً لله عز وجل أو وجب في ذمته إطعام حقا لله بحيث إن هذه الكفارة تنقص المال، فإن الزكاة تسقط عنه أيضا. وهذا هو أحج الوجهين في مذهب الإمام أحمد؛ لقوله صلى الله عليه وآله وسلم: (اقضوا الله، فالله أحق بالقضاء) (1) ، فدين الله كدين الآدمي، فالحقوق الواجبة على العبد من الكفارات ونحوها إن كانت تنقص النصاب فلا زكاة على صاحبها. - والوجه الثاني في المذهب: أن الزكاة واجبة عليه، وهذا أظهر؛ وذلك لأن الزكاة متعلقة بعين المال، فهي حق لله متعلق بالمال بعينه، كما أنه متعلق أيضا بالذمة، فهو متعلق بالمال وبذمة صاحب المال، وأما الكفارات فإنها متعلقة بالذمة فحسب، وما كان متعلقاً بعين المال وذمة مالكه أولى مما تعلق بالذمة فقط، وكلاهما حق لله تعالى. بخلاف المسألة المتقدمة، فإن الديون وإن كانت متعلقة في الذمة فقط مع أن الزكاة متعلقة بعين المال، لكن هي حقوق للآدميين، والحقوق للآدميين مبنية على المشاحة بخلاف الحقوق التي لله، فهي مبنية على المسامحة. فالأظهر، وهو أحد الوجهين في مذهب الإمام أحمد: أن من عليه كفارات، فإن الزكاة واجبة عليه وإن كانت الكفارات تنقص النصاب، لأن الزكاة متعلقة بعين المال وهي حق لله تعالى، فقدمت على الكفارات المتعلقة بالذمة. قال: [وإن ملك نصاباً صغاراً انعقد حوله حين ملكه] فلو أن رجلاً عنده نصاب من المواشي، لكنها صغار من صغار الإبل أو صغار الغنم أو صغار البقر.

_ (1) أخرجه البخاري في كتاب جزاء الصيد، باب (22) الحج والنذور عن الميت (1852) ، وانظر (6699) و (7315) .

كأن يملك أربعين سخلة أو أربعين من الفصلان أو الفحول، فهي صغار، وهذا بشرط أن تكون سائمة، أما إذا كانت تطعم اللبن فإنه لا زكاة فيها؛ لأن الزكاة إنما تجب في السائمة. فإذا كان عنده صغار من الإبل أو صغار من البقر أو صغار من الغنم، وهي سائمة ليست مما تطعم اللبن، فإن الزكاة تجب فيها وينعقد الحول من حين ملكها، فلا ننتظر حتى تبلغ السن المجزئة في الأضحية، فلا ننتظر في الشاة حتى تكون مسنة، أو في الضأن حتى تكون جذعاً، بل بمجرد ما يملكها انعقد الحول. ودليل هذا عموم قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (في الغنم في سائمتها) (1) الحديث، وهم غنم، فالصغار غنم، ومثلها الإبل والبقر، فإذا تم الحول، فإنها تزكى وتكون في كثير منها قد بلغت السن المجزئة، كما يكون هذا في الغنم. لكن إن وجبت الزكاة ومضى الحول في مواشي، وكلها صغار، يعني من السخال أو الفصلان أو غيرها،فهل يُخرج صغيراً أم يجب أن يشتري كبيراً فيخرجه في الزكاة؟ قولان لأهل العلم؟ 1 – فذهب مالك: إلى أنه لا يجزئه إلا أن يخرج المجزئ في الأضحية، فعليه أن يشتري ما يجزئ ويخرجه؛ لأن هذا هو الواجب في الزكاة أصلاً، وهو أن يخرج ما يجزئ في الأضحية. 2 – والقول الثاني، وهو مذهب الحنابلة والشافعية في المشهور عندهم: أنه يجزئه إخراج الصغير. وهذا أظهر؛ وذلك لأن المخرج يكون من جنس المال في الأصل، لقوله تعالى: {خذ من أموالهم صدقة} ، ولقول عمر فيما تقدم: " هذا عدل بين غذاء الغنم وخياره " (2) فكما أخذت الجذعة والثنية لأنها عدل بين صغاره وبين خياره، وهنا العدل أن يؤخذ صغيراً، لأن المال كله صغار.

_ (1) سيأتي. (2) حاشية الروض المربع [3 / 171] .

وأما ما استدل به مالك، فإن هذا حيث كان في المال خياراً وصغاراً، أما والمال كله صغار، فهذا يخالف الأصل، فكان العدل أن يؤخذ من الصغار، فالعدل هنا أن يؤخذ من الصغار؛ لأن المال كله صغار، ولأن الأصل في الزكاة أن تؤخذ من المال نفسه إلا أن يدل دليل على أخذها من غيره؛ لقوله صلى الله عليه وآله وسلم: (خذ من أموالهم صدقة) . والله أعلم. والحمد لله رب العالمين. الدرس الثامن والتسعون بعدالمئة (يوم الأحد: 21 / 12 / 1415 هـ) قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وإن نقص النصاب في بعض الحول.. انقطع الحول] إذا نقص النصاب الزكوي في بعض الحول، فإن الحول ينقطع. مثال ذلك: رجل ملك أربعين شاة في أول محرم، فيجب عليه في آخر السنة أي في آخر شهر ذي الحجة أن يزكيها، لكن في أثناء الحول نقصت شاة واحدة، كأن يهب شاة أو يضحي بها، ونحو ذلك، ثم أنتجت الشياه شاة مكانها، فمثلاً في العاشر من ذي الحجة ضحى بشاة منها، وفي الخامس عشر من الشهر نفسه أنتجت بعض الشياه شاة، فتم النصاب، فإن الحول ينقطع، ويبدأ من تمامها النصاب مرة أخرى أي في الخامس عشر من ذي الحجة؛ وذلك لأن الشرط أن يمضي الحول على نصاب زكوي تام، وهنا لم يمض الحول على هذه الصفة، بل قد نقص النصاب أثناء الحول. مثال آخر: نصاب الذهب عشرون دينارًا، فلو ملك رجل عشرين ديناراً فبقيت عنده حولاً، إلا أنه في أثناء الشهر نقص دينار، ثم وهب ديناراً، فتم له عشرين ديناراً، فهنا لم يمض الحول على نصاب تام، بل في أثناء الحول نقص النصاب، فهنا ينقطع الحول. إذاً الشرط أن يكون مالكاً للنصاب، وأن يمضي الحول كله وهو مالك للنصاب، فإن كان في أثناء الحول نقص النصاب، فإنه يستأنف الحول من جديد.

لكن يستثنى من ذلك الزمن اليسير عرفاً، كالساعة أو الساعتين ونحو ذلك، كأن تموت له شاة في أول النهار، ثم وهبت له شاة بعد زمن يسير عرفاً، كالساعة أو الساعتين، فإن هذا لا يؤثر. قال: [أو باعه أو أبدله بغير جنسه] المبادلة نوع من البيع، ومراد المؤلف هنا بالبيع أن يكون بنقد، وبالمبادلة بغير نقد، وإلا فإن المبادلة نوع من أنواع البيع. ولعل المؤلف هنا فرّق بين البيع والمبادلة للإيضاح، وهذا الأسلوب في الحقيقة ليس أسلوباً يناسب المتون العلمية، وإنما يناسب الشروح. أو أن يكون المؤلف يرى – وهو قول يخالف الصواب – أن المبادلة ليست ببيع. المقصود من ذلك أن مراده بالبيع أن يكون بنقد أي بذهب وفضة، أي بالدراهم وبالدنانير، أي أن يبيع الإبل مثلاً بالدراهم والدنانير. وبالمبادلة، بغير نقد، كمبادلة الإبل بالغنم، ومبادلة البقر بالإبل، ونحو ذلك، فهذه مبادلة، وهي في الحقيقة بيع. فإذا باع النصاب الزكوي أو أبدله بغير جنسه، انقطع الحول. مثال ذلك: رجل عنده أربعون شاة، فباعها وأبدلها بإبل، أو باع إبلاً بدراهم، فإنه ينقطع الحول. فلو أن رجلاً عنده خمس من الإبل – وهو نصاب الإبل -، فمضى عليها ستة أشهر،فباعها بدراهم، وبقيت الدراهم عنده ستة أشهر، فلا يزكيها حتى يتم عليها حولاً كاملاً؛ لأن حول الإبل قد انقطع، واستأنف للدراهم حولاً جديداً. ومثل ذلك: لو باع هذه الإبل التي مضى عليها ستة أشهر بأربعين شاة، فإن هذا الأربعين يستأنف حولاً جديداً، فإذا مضى عليها حول كامل وجبت فيها الزكاة؛ وذلك لما تقدم من الآثار التي رُفعت، وتقدم ترجيح وقفها من أنه لا زكاة في مال حتى يحول عليه الحول، وهذه الشياه التي قد اشتريت بالإبل، وهذه الدراهم التي بيعت بها الإبل، هذه أموال لم يمض عليها حول، فلا تجب فيها الزكاة حتى يمضى عليها الحول.

إذاً: إذا باع نصابه الزكوي بنصاب زكوي آخر من جنس آخر، فإنه يستأنف لهذا النصاب الجديد حولاً جديداً؛ لعموم الآثار من أنه ليس في مال زكاة حتى يحول عليه الحول. قال: [لا فراراً من الزكاة] إن فعل هذا فراراً من الزكاة أي حيلة، فإنه لا ينقطع الحول، كأن يكون عنده أربعون شاة، فمضى عليها تسعة أشهر، ثم باعها بدراهم حتى يفر من الزكاة، ثم يعود بعد ذلك فيشتري بها شياه، فإنه تجب عليه الزكاة إذا مضى الحول المتقدم؛ لأنه فعل ذلك فراراً من الزكاة. وهذا لا شك أنه يحتاج إلى قرينة، أي قرينة تدل على أنه فعل ذلك فراراً، أما إذا لم تكن هناك قرينة، فإن القول قوله بلا يمين، فإذا قال: أنا لم أفعل ذلك هروباً من الزكاة، فإن القول قوله ولا نحتاج إلى يمينه؛ لأن الأصل معه، فإن الأصل براءة ذمته من هذا القصد المحرم. لكن إن كانت هناك قرينة تقوي أنه إنما فعل ذلك فراراً من الزكاة، كخصومة بينه وبين الساعي أو نحو ذلك، فإنه يحكم بهذا؛ وذلك لأن الحيلة لا تسقط الواجب، وهي قاعدة شرعية يقررها فقهاء المالكية والحنابلة دون فقهاء الشافعية والأحناف، فإن الحيلة عند فقهاء المالكية والحنابلة لا تسقط الواجبات، فمن احتال لإسقاط واجب، فإن هذه الحيلة باطلة لاغية غير مؤثرة، وأما فقهاء الشافعية والأحناف، فإنهم يصححون الحيل، وإن قالوا بالإثم فيها.

والراجح ما ذهب إليه المالكية والحنابلة في هذه المسائل؛ وذلك لأن تصحيحها يخالف مقصود الشارع من تحريم الحيل، وقد نهى عنها الشارع، كما قال صلى الله عليه وآله وسلم فيما رواه ابن بطة بإسناد حسن: (لا تفعلوا كما فعلت اليهود، فتستحلوا محارم الله بأدنى الحيل) (1) ، والحيلة ليس عليها أمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وكل عمل ليس عليه أمره فهو رد، فالحيل لا غية مردودة غير نافعة لأصحابها، وعليه: فإذا احتال لإسقاط الزكاة فإن هذه الحيلة لا تكون مقبولة منه وغير مؤثرة في إسقاط الزكاة. لكن كما تقدم هذا يحتاج إلى قرينة تدل عليه، أو اعتراف من فاعل ذلك، وأما أن يحكم عليه بمجرد التهمة فلا؛ لأن الأصل معه وهو براءة ذمته من الحيلة. والمحتال يعاقب بنقيض قصده، وهنا قصده الهروب من الزكاة، فيعاقب بإثباتها، كما فعل الله عز وجل من العقوبة في أصحاب الجنة في قصتهم المذكورة في سورة القلم، فيما ذكره الله عنهم من احتيالهم لإسقاط الصدقة الواجبة عليهم للفقراء إلى أن قال الله في جنتهم: {فأصبحت كالصريم} (2) الآيات، فدل هذا على تحريم الحيل، وحيث حرمت فكما تقدم هي باطلة ومردودة في الشرع. إذاً من احتال لإسقاط الزكاة أو لقطع الحول فإنها تجب عليه، والحول لا ينقطع، كما هو مذهب المالكية والحنابلة. وأما الأحناف والشافعية، فإنهم قالوا: لا تجب الزكاة إلا حيث وجد النصاب ومضى عليه الحول، ولم يروا إثبات الزكاة لوجود هذه الحيلة. والصحيح كما تقدم خلافه. قال: [انقطع الحول] في المسائل الثلاثة كلها. قال: [وإن أبدله بجنسه بنى على حوله] اعلم أن الذهب والفضة وعروض التجارة جنس واحد.

_ (1) ذكر الحافظ ابن كثير في تفسير سورة الأعراف آية 163، تفسير ابن كثير 3 / 492، وانظر إرواء الغليل 5 / 375. من المغني [7 / 487] . (2) سورة القلم.

أما الذهب والفضة؛ فلأنهما قيم الأشياء، فمؤداهما واحد، فهما من جنس واحد، ولذا يضم بعضهما إلى بعض في الزكاة، كما سيأتي، فمن كان عنده عشرة دنانير ومئة درهم، فإن الزكاة واجبة عليه كما سيأتي. فلو أنه عنده فضة، فمكثت ستة أشهر ثم أبدلها بذهب، فبعد مضي ستة أشهر تجب عليه الزكاة في الذهب، فحولهما حول واحد، فلا يستأنف حولاً جديداً للذهب. وأما عروض التجارة، فهي من جنس الذهب والفضة بالنظر إلى قيمتها، فإنها مقومة على الاستمرار، فهي معروضة للتجارة، فقيمها الذهب والفضة، وتزكى أيضاً بتقويمها ذهباً أو فضة، فكانت من جنس الذهب والفضة. فلو أن عنده ثياباً للتجارة، مضى عليها ستة أشهر، ثم باعها بدراهم، ثم مضى على هذه الدراهم ستة أشهر، فإنه يزكيها؛ لأنهما من جنس واحد، فالثياب عروض تجارة، وهي من جنس الأثمان من الذهب والفضة، لأن قيمتها الذهب والفضة. فإذا أبدل النصاب الزكوي بجنسه، بنى على حوله. فلو أن عنده أربعين شاة، فأبدلها بأربعين شاة، فإن هذه الأربعين الممتلكة حديثاً لا يستأنف لها حولاً جديداً، بل حولها حول ما قبلها،، فالشياة قد باعها بشياه أخر، فمقصود الشارع حاصل في الشياه الأخر كما هو حاصل في الشياه الأولى، فوجبت الزكاة في الشياه الأخر مبنية على حول الشياه الأولى. حتى لو كانت الشياه الأخرى أكثر من الشياه الأولى، كأن يستبدل أربعين شاة بمئة وثلاثين شاة فيها سخال ونحو ذلك، فإنه يجب عليه أن يزكي عن المئة والثلاثين. فإن قيل: هذا الزائد لم لا يُستأنف له حول جديد؟ فالجواب: أنه شبيه بنتاج السائمة، فإن الزائد على الأربعين تبع للجنس الأول المستبدل، لأنه بدل له. فإذا كان عنده جنس من الأجناس الزكوية، فاستبدل له بجنسه، فإنه لا يستأنف حولاً جديداً، بل يبني على الحول الأول.

لكن إن استبدل أربعين شاة سائمة بأربعين شاة عروضاً، فإن الجنس يختلف، فهي وإن كانت كلها شياه، لكن هذه شياه تسوم، وهذه شياه للتجارة، ولذا لو أن رجلاً عنده أربعون شاة فمضى عليها ستة أشهر وهي سائمة، ثم أعدها تجارة للبيع والشراء، فإنه ينقطع الحول ويستأنف حولاً جديداً؛ لأنها تحولت إلى جنس آخر، فهي في الوضع الأول كانت سائمة، وهنا أصبحت من باب التجارة. قال: [وتجب الزكاة في عين المال ولها تعلق في الذمة] هل تجب الزكاة في ذمة المسلم صاحب المال الزكوي، أو أنها تجب في عين المال، بمعنى: هل هذا المال الذي يمتلكه المسلم إذا أوجبنا عليه الزكاة فيه، هل هذه الزكاة واجبة في عين المال بمعنى: أنها جزء من المال وداخلة فيه بنفسه أم أنها متعلقة في ذمة المزكي، وإن كان لها تعلق بالمال، لكن أصل تعلقها بالذمة؟ قولان لأهل العلم، هما قولان للحنابلة:

القول الأول: أن الزكاة متعلقة بعين المال، ولها تعلق في الذمة، لكن أصل تعلقها في عين المال. واستدلوا: بقوله عز وجل: {خذ من أموالهم صدقة} (1) ، و {من} هنا تبعيضية، ومفادها أن الزكاة بعض المال المتوفرة فيه شروط وجوب الزكاة. وبقوله صلى الله عليه وآله وسلم: (في الغنم في سائمتها في كل أربعين شاة شاة) (2) ، و (في) هنا ظرفية، فتفيد أن هذه الشاة الواجبة زكاةً داخلة في هذا المال، فهي فيه، وهذا المال الزكوي شامل لها. قالوا: لكن لها تعلق في الذمة من حيث أنه لا تجب عليه أن يخرجها بعينها، بل لو أخرج مالاً خارجاً عنها، فإن ذلك يجزئ عنه، وهذا ما اتفق عليه العلماء، من أن الرجل إذا وجبت عليه شاة في أربعين شاة، فلا يجب عليه أن يخرجها من هذه الأربعين، بل له أن يشتري بدراهمه شاة أو أن يأخذ شاة من شياه غيره شراء أو هبة، ثم يدفعها للسعاة، ولو لم يرض الساعي بذلك، فلا يشترط رضا الساعي بذلك. قالوا: فلذا لها تعلق في الذمة، لكن أصل تعلقها في عين المال، ولكن رُخص للمكلف ألا يدفعها من عين المال الزكوي، ويبقيه على هيئته، ويدفعها من جهة أخرى؛ لأن المزكي قد يكون له تعلق في عين ماله، فيرغب أن يخرجها من غيره. ولأن مقصود الشارع يحصل بذلك، فإن المقصود هو إخراج شاة سواء كانت الشاة من عين ماله أو من غيره. القول الثاني، قالوا: تجب في الذمة، لكنها لها تعلق بالمال، لكن أصل وجوبها أن تجب في الذمة. واستدلوا: بما تقدم من أنه يجوز له أن يخرجها من غير عين ماله، وما جاز هذا إلا لوجوبها في الذمة، قالوا: ولو كانت واجبة في عين المال لوجب عليه أن يخرجها من عين ماله.

_ (1) سورة التوبة. (2) رواه البخاري من حديث أنس، كتاب الزكاة، باب (38) زكاة الغنم (1454) . وانظر (6448) .

وفيما ذكروه نظر، ولذا أجاب أهل القول الأول بأنه إنما جاز له أن يخرجها من غير عين ماله رخصة له، فهو من باب الرخصة. ومما ينبني من الخلاف على هذين القولين: لو أن رجلاً عنده أربعون شاةً، مضى عليها حولان، فهل يجب عليه شاة واحدة أو يجب عليه شاتان؟ إن قلنا: إن الزكاة تجب في عين المال، فلا تجب عليه إلا شاة واحدة. وإن قلنا: إنها تجب في الذمة، فيجب عليه شاتان. بيان هذا: عنده شاتان (1) مضى عليها حولان، إذا قلنا بقول الحنابلة هنا، وأنها متعلقة بعين المال، فلا يجب عليه أن يزكي إلا شاة واحدة؛ لأنا إذا أخرجنا عن الحول الأول شاة، فما بقي عنده إلا تسع وثلاثون شاة، والزكاة متعلقة بعين المال، فلتعلقها بعين المال، فإذا أوجبناها عليه في الحول الأول، فإن الزكاة متعلقة بهذه، فلا نحسب في السنة الأخرى، بل يبقى عنده تسع وثلاثون شاة، فلا يجب عليه إلا أن يزكي الحول الأول، وأما الحول الثاني فإن النصاب يكون قد نقص، أما إذا قلنا: إنها متعلقة بالذمة، فهو في الحول الأول قد ملك أربعين شاة، فعليه زكاة شاة، وفي الحول الثاني عنده أربعون شاة، فعليه شاة أخرى، هذا إذا لم نقل إن الدين الذي لله عز وجل الذي ينقص النصاب تجب فيه الزكاة، وقد تقدم الخلاف في هذا. المقصود من هذا: أن الأدلة الشرعية المتقدمة دلت على أن الزكاة متعلقة في عين المال لا في الذمة فقط، بمعنى أنه قد وجب لله - عز وجل - في هذه الأربعين شاة أو في هذه العشرين ديناراً وجب لله فيها هذا الجزء المحدد من الزكاة، وإن كان لها تعلق في الذمة من حيث أن صاحبها لا يجب عليه أن يدفع هذا الجزء، بل له أن يخرجه من جهة أخرى رخصة له. قال: [ولا يعتبر في وجوبها إمكان الأداء] أي لا يعتبر في وجوب الزكاة إمكان الأداء، فالضمير في " وجوبها " يعود على الزكاة.

_ (1) لعل الصواب: أربعين شاة.

رجل وجبت عليه زكاة، لكنه معسر، قالوا: لا يعتبر في وجوبها إمكان الأداء. (1) فيقال له: الزكاة واجبة عليك وإن لم تتمكن من أدائها، وإنما قلنا: الضمير في " وجوبها " يعود على الزكاة؛ لنبيِّن أن إخراجها لا يجب عليه، فالزكاة واجبة، لكن لا يجب عليه أن يخرجها؛ لأنه عاجز عن إخراجها، فالزكاة تبقى متعلقة في ذمته متى ما قدر زكى، لكن لا يجب عليه الإخراج؛ لأنه غير قادر عليه، فتتعلق الزكاة في ذمته حتى إذا ما استطاع زكى. فلو أن رجلاً عنده أربعين شاة، وقد مضى عليها الحول، لكنه معسر لا يستطيع إخراج شيء من الزكاة، فهو معسر محتاج إلى ما عنده من هذه الشياه في قيام بيته أي يحتاج إلى لبنها ونحو ذلك، فقيام معيشته بها، فلا يستطيع أن يخرج منها شيئاً، هو لا يمكنه الأداء، لكن الزكاة تبقى متعلقة في ذمته متى ما قدر زكى.هذا هو المشهور في مذهب الحنابلة، والشافعية.

_ (1) وفي حاشية المذكرة ما نصه: وعليه فيشترط للوجوب الحول والنصاب، التمكن من الأداء، وعليه: لو أتلف النصاب بعد الحول قبل التمكن من الأداء، ضمنها، وعلى الثانية لا، إذا لم يقصد الفرار من الزكاة.

- وعن الإمام أحمد، وهو مذهب المالكية وهو القول الثاني للشافعي، قالوا: إن لم يمكنه الأداء، فإن الزكاة لا تجب عليه؛ قالوا: لأن الزكاة عبادة، ومن شروط إيجاب العبادات إمكان أدائها، وقد قال تعالى: {فاتقوا الله ما استطعتم} (1) ، ولأن الزكاة إنما وجبت من باب المواساة، وهذا معسر يحتاج إلى المواساة، فلم تجب عليه. وليست كالديون على الآدمي، لأن الديون التي على الآدميين فيها محض حق الآدمي، وليست من باب المواساة، بل هي حقوق الآدميين، أما في الزكاة فإن حق الآدمي مشوب بحق الله - عز وجل -، وهي إنما وجبت مواساة من الغني للفقير، فإذا كان هذا محتاجاً إليها أو معسراً، فهو أولى بالمواساة من الفقير. فالراجح القول الثاني، وأن الزكاة لا تجب إلا مع إمكان أدائها. أما أهل القول الأول، فإنهم استدلوا بالأدلة الدالة على وجوب الزكاة بمضي الحول، قالوا: وقد مضى الحول، فتعلقت الزكاة في ذمته. والجواب: ما تقدم من أنها وإن مضى الحول، لكن لا نقول بإيجابها؛ لأن العبادات لا تجب إلا مع إمكان الأداء، ولأنها من باب المواساة، وما كان كذلك، فإنه يسقط عن صاحب المال، لأنه هو أحق بالمواساة من الفقير، لأنه صاحب المال. قال: [ولا بقاء المال] فبقاء المال ليس شرطاً في إيجاب الزكاة. صورة هذا: رجل ملك نصاباً، ومضى عليه الحول، وقبل أن يزكيه تلف المال، بتفريط منه أو غير تفريط، فإن الزكاة واجبة عليه، وكما تقدم الإخراج لا يجب حتى يتمكن، لكن المقصود أن الزكاة تتعلق في ذمته. هذا هو المشهور عند الحنابلة؛ قياساً على دين الآدمي، قالوا: من كان له على آدمي دين، فإنه يجب عليه أن يعطيه إياه وإن كان معسراً، لكن يتربص به حتى يكون موسراً، لكن لا يسقط عنه الدين لإعساره، فكذلك الزكاة.

_ (1) سورة التغابن.

- وقال شيخ الإسلام ابن تيمية، وهو قول الموفق ابن قدامة: إن كان بتفريط، فإن الزكاة تتعلق في ذمته، وإن كان بغير تفريط، فإن الزكاة تسقط عنه؛ قالوا: لأن الزكاة هنا أصبحت كالأمانة في يده، ومن كانت عنده لأحد أمانة، فتلفت بلا تفريط، فلا ضمان عليه اتفاقاً، كما دلت عليه الأدلة الشرعية فكذلك في الزكاة. أما إذا تلفت الزكاة بتعد وتفريط، فإنه يضمن، كما يضمن الأمانة التي تلفت عنده بتعد منه وتفريط. وهذا القول هو القول الراجح. وأما الجواب عن قياسهم على دين الآدمي، فيقال: بينهما فرق، فإن دين الآدمي محض حق للآدمي، وأما الزكاة ففيها حق الله المبني على المسامحة. هذا الوجه الأول. وأما الوجه الثاني: فهو أن ديون الآدميين لا دخل لها في باب المواساة، بخلاف الزكاة، فإنها إنما شرعت مواساة من الغني إلى الفقير، وحيث كان ذلك، فإنه لا يضر بالغني ولا يشق عليه لمواساة غيره. فالراجح ما اختاره شيخ الإسلام. قال: [والزكاة كالدين في التركة] إذا مات صاحب المال وعليه ديون، فإن الديون تقدم على الإرث كما هو مقرر في علم الفرائض، قال تعالى: {من بعد وصية يوصي بها أو دين} (1) ، فالديون مقدمة على الورثة، فكذلك الزكاة. فلو أن رجلا مات قبل أن يخرج زكاة ماله، فإنها تخرج من تركته قبل الإرث؛ لقوله صلى الله عليه وآله وسلم: (اقضوا الله، فدين الله أحق بالقضاء) (2) ، فدل هذا على أن دين الله كدين الآدمي في القضاء، فيقدم حينئذ على الإرث.

_ (1) سورة النساء. (2) رواه البخاري، وقد تقدم.

وهل يقدم دين الله الزكوي على ديون الآدميين المطلقة التي لم تتقوى برهن في هذا المال -، لأن الديون منها ما هو دين برهن، ومنها ما هو دين مطلق، فالدين برهن هذا دين متعلق بالتركة، أما الديون المطلقة فهي التي لا رهن فيها، فهل تقدم الديون المطلقة على دين الله أو يقدم دين الله على الديون المطلقة، أم نجعلها حصصاً ونساوي بينها؟ المشهور عند الحنابلة: الثالث، فلو أن رجلا مات وعليه زكاة، فما بقي له من المال إلا شاة واحدة، الواجب عليه في الزكاة شاة وعليه دين لآدمي بقدر شاة، فإن هذه الشاة تقسم بين دين الله وبين دين الآدمي بالمحاصة، فإذا كان من له الدين واحد، فنصف الشاة للزكاة والنصف الآخر لهذا الدائن، وإن كانوا اثنين فالثلث للزكاة والثلث للدائن الأول، والثلث الأخير للدائن الثاني. وذهب بعض الحنابلة: إلى أن الزكاة مقدمة على دين الآدمي، إلا أن يكون دين الآدمي مرتبط برهن. وهذا القول أظهر، ودليل هذا ما تقدم من أن الزكاة متعلقة بعين المال، فهي جزء منه متعلقة به، وإنما أذن له أن يخرجها من غيره من باب الرخصة، فحيث كان ذلك، فهي مقدمة على الدين المطلق المتعلق بالذمة. وأما الدين الذي يكون برهن، فإنه مقدم على الزكاة؛ لأنه مرتبط بعين هذا المال بخصوصه، فالزكاة متعلق بجزء منه لا على التعيين، وأما الدين الذي برهن، فهو متعلق بجزء من المال بعينه. والوجه الثالث: يقدم دين الآدمي؛ لأن حقه مبني على المشاحة. والحمد لله رب العالمين. ... (1) الدرس التاسع والتسعون بعد المئة (يوم الاثنين: 22 / 12 / 1415هـ) باب زكاة بهيمة الأنعام [تجب في إبل وبقر وغنم]

_ (1) كلام غير واضح متكون من سطرين.

هذه بهيمة الأنعام، فهي الإبل والبقر والغنم، فتجب الزكاة فيها سواء كانت الإبل بَخاتياًّ، وهي الإبل المتولدة من الإبل العربية والعجمية، وهي ذات السنامين، أو كانت عِرابا، وهي المشهورة عندنا، فكلها من بهيمة الأنعام. والبقر: كل ما يسمى بأنه بقر، ومن ذلك الجواميس باتفاق العلماء. * وأما بقر الوحش، فعن الإمام أحمد روايتان: الرواية الأولى: أنها داخلة في البقر التي تجب فيها الزكاة، وهكذا غنم الوحش؛ وذلك لأنها داخلة في عموم الاسم، فلفظ البقر كما أنه شامل للبقر الأهلي، فإن البقر الوحشي يدخل فيه، وهكذا الغنم. الرواية الثانية، وهي مذهب جمهور العلماء: أن بقر الوحش لا يدخل في وجوب الزكاة؛ وذلك لأن اسم البقر لا يشمله إلا بالإضافة، فيقال: بقر وحشي، أما الاسم المطلق وهو " البقر "، فإن بقر الوحش لا يدخل فيه. ولأنه ليس من بهيمة الأنعام، ولأن المعنى الذي من أجله شرعت الزكاة من النماء ليس ثابتاً فيه. فالراجح مذهب الجمهور، وهو رواية عن الإمام أحمد: من أن الوحشي من البقر والغنم ليس فيه الزكاة، إذ هو ليس من بهيمة الأنعام، ولأن الاسم الذي ورد في الشريعة لا يشمل الوحشي إلا بالإضافة. * والمشهور عند الحنابلة: أن المتولد من الوحشي والأهلي تجب فيه الزكاة. وقال الشافعية، وهو اختيار الموفق ابن قدامة: إن الزكاة لا تجب فيه. وهذا هو الراجح؛ لأن المتولد من الوحشي والأهلي نوع آخر، كما أن البغل المتولد من الفرس والحمار نوع آخر. فهو نوع آخر، فليس بمنصوص عليه ولا بمجمع عليه ولا بمعناهما، ولأن الأصل براءة الذمة من الزكاة، والأصل عدم إيجاب الزكاة إلا بنص أو إجماع، ولا نص ولا إجماع ولا قياس.

فعلى ذلك: حاصل ما يجب فيه الزكاة من بهيمة الأنعام ما يصدق عليه أنه من بهيمة الأنعام من الإبل والبقر والغنم، فيخرج من هذا الوحشي من البقر والغنم، والمتولد من الوحشي والأهلي، فإنهما ليسا من بهيمة الأنعام، وبالتالي لا تجب فيهما الزكاة. قال: [إذا كانت سائمة الحول أو أكثره] السائمة: هي الراعية التي ترعى الكلأ. فأما المعلوفة التي يؤتى لها بالكلأ ويجمع لها، أو يشترى لها، فإن الزكاة لا تجب فيها. فالزكاة إنما تجب في السائمة التي ترعى، أما التي يتكلف صاحبها بشراء علفها أو يتكلف جمع الكلأ والعشب لها، فإن الزكاة لا تجب فيها. ودليل هذا: ما ثبت في صحيح البخاري من حديث أنس بن مالك فيما كتب له أبو بكر: " هذه فريضة الصدقة التي فرضها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على المسلمين " الحديث وفيه: " وفي صدقة الغنم في سائمتها " (1) ، فقوله " في سائمتها " قيد يجب مراعاته، فهو قيد وشرط فيما تجب الزكاة فيه من الغنم، وهكذا الإبل والبقر، وقد ورد هذا في الإبل، فقد ثبت في مسند أحمد وسنن أبي داود بإسناد جيد من حديث بهز بن حكيم عن أبيه عن جده أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: (في كل سائمة إبل أربعين بنت لبون) (2) . فهنا قيد الإبل بكونها سائمة. والبقر كذلك من باب القياس الجلي؛ لأنها بمعنى الإبل والغنم. إذاً: لا تجب الزكاة في بهيمة الأنعام إلا أن تكون سائمة. وظاهر الأحاديث أن تكون سائمة الحول كله، بحيث أنها وإن علفت يوماً أو يومين، فإن الزكاة تسقط منها. هذا ظاهر الأحاديث، وهو قول ضعيف في مذهب الإمام أحمد.

_ (1) رواه البخاري في كتاب الزكاة، باب في زكاة الغنم، وقد تقدم. (2) أخرجه أبو داود في كتاب الزكاة، باب (4) في زكاة السائمة (1575) بلفظ: (في كل سائمة إبل في أربعين بنت لبون..) .

والجمهور: على أنها إن كانت تسوم أكثر الحول، فإن الزكاة تجب فيها وإن كان تعلف بعضه. وذلك لندرة السوم السنة كلها، فإن هذا نادر قلّ أن يقع، ولاشك أنا إذا لم نوجب الزكاة إلا بهذا القيد، فإن هذا فيه إجحاف بالفقراء، مع أن الزكاة كانت تؤخذ في عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كثيراً من الإبل والبقر والغنم، فدل على أن المراعى إنما هو الأكثرية، ولاشك أنها توصف بأنها سائمة بناء على الأغلب. فالتي ترعى تسعة أشهر في السنة، وثلاثة أشهر تعلف، تسمى سائمة من باب النظر إلى الأمر الغالب فيها. فإذا كانت سائمة الحول كله أو أكثره، فإنها تجب فيها الزكاة. لكن إن كانت تسوم ستة أشهر، وتعلف ستة أشهر أو كانت تعلف أكثر السنة، فإن الزكاة لا تجب فيها. قال: [فيجب في خمس وعشرين من الإبل بنت مخاض] وبنت المخاض: هي الأنثى من الإبل التي تم لها سنة وشرعت في السنة الثانية. وسميت بنت مخاض؛ لأن أمها في الأغلب تكون ماخضاً أي حاملاً، فمن ملك خمساً وعشرين من الإبل، فعليه بنت مخاض. قال: [وفيما دونها في كل خمس شاة] فإذا كان لا يملك إلا أربعاً وعشرين من الإبل، فعليه في كل خمسٍ شاة، فيجب عليه في أربع وعشرين من الإبل أربع شياه. وفي عشر من الإبل شاتان، وفي خمس عشرة من الإبل فيها ثلاث شياه، ففي كل خمسٍ شاة. وما بين العشرين – مثلاً – وخمس وعشرين وَقْص، أي لا ينظر إليه في الزكاة، إذا بلغت عشرين، ففيها أربع شياه، وكذا إذا بلغت إحدى وعشرين أو اثنتين وعشرين أو ثلاث وعشرين أو أربع وعشرين، فكلها فيها أربع شياه. فهذا هو الوقص: وهو ما بين الفريضتين. فالوقص في بهيمة الأنعام لا شيء فيه. أما إذا لم تبلغ خمساً من الإبل، فلا شيء فيها، فمن عنده أربع من الإبل، فلا شيء فيها. قال: [وفي ست وثلاثين بنت لبون]

إذاً: من خمس وعشرين إلى خمس وثلاثين فيها بنت مخاض. فإذا بلغت ستاً وثلاثين ففيها بنت لبون. وبنت لبون: هي ما لها سنتان وشرعت في السنة الثالثة، وسميت بنت لبون؛ لأن أمها في الغالب تكون ذات لبن، لأنها قد حملت فنتجت فكانت ذات لبن. إذاً: إذا بلغت ستاً وثلاثين إلى خمس وأربعين، فيها بنت لبون. قال: [وفي ست وأربعين حقة] فإذا بلغت ستاً وأربعين ففيها حقة. والحقة: هي طروقة الجمل، ويمكن أن تحمل وتركب، وهي ما تم لها ثلاث سنين وشرعت في السنة الرابعة. فإذا بلغت ستاً وأربعين إلى ستين، فيها حقة. قال: [وفي إحدى وستين جذعة] فإذا بلغت إحدى وستين، ففيها جذعة: وهي ما تم لها أربع سنوات وشرعت في السنة الخامسة. فإذا بلغت إحدى وستين إلى خمس وسبعين، فيها جذعة. قال: [وفي ست وسبعين بنتا لبون] فإذا بلغت ستاً وسبعين إلى تسعين ففيها بنتا لبون. قال: [وفي إحدى وتسعين حقتان] فإذا بلغت إحدى وتسعين إلى مائة وعشرين ففيها حقتان. قال: [فإذا زادت على مئة وعشرين واحدة، فثلاث بنات لبون، ثم في كل أربعين بنت لبون، وفي كل خمسين حقة] فإذا زادت على مئة وعشرين، ففي كل أربعين بنت لبون، وفي كل خمسين حقة.

هذه هي فريضة الإبل، ودليلها: ما ثبت في البخاري عن أنس بن مالك أن أبا بكر الصديق كتب له: " هذه فريضة الصدقة التي فرضها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على المسلمين، والتي أمر الله بها رسوله، في كل أربع وعشرين من الإبل الغنم، في كل خمس شاة، فإذا بلغت خمساً وعشرين إلى خمس وثلاثين ففيها بنت مخاض أنثى، فإن لم يكن فابن لبون ذكر – وسيأتي الكلام على هذه المسألة – فإذا بلغت ستاً وثلاثين إلى خمس وأربعين ففيها بنت لبون، فإذا بلغت ستاً وأربعين إلى ستين ففيها حقة طروقة الجمل، فإذا بلغت واحدة وستين إلى خمس وسبعين ففيها جذعة، فإذا بلغت ستاً وسبعين إلى تسعين ففيها بنتا لبون، فإذا بلغت إحدى وتسعين إلى عشرين ومئة ففيها حقتان، فإذا زادت على عشرين ومئة واحدة، ففي كل أربعين بنت لبون، وفي كل خمسين حقة، فإن لم يكن معه إلا أربع من الإبل فليس فيها شيء إلا أن يشاء ربها " (1) . إذاً: إذا زادت الإبل على مئة وعشرين من الإبل، فإن الواجب عليه في كل أربعين بنت لبون، وفي كل خمسين حقة. فإذا كان عند مثلاً 300 من الإبل، فعليه ست حقق، في كل خمسين حقة، وإذا كان عنده 200 من الإبل فعليه أربع حقق أو خمس بنات لبون، وهكذا. وعند قول المؤلف [وفيما دونها في كل خمس شاة] لا يجزئ من الغنم في صدقة بهيمة الأنعام إلا ما يجزئ في الهدي والأضحية من باب القياس، ولأثر عمر المتقدم في قوله: " نأخذ الثنية والجذعة ". وإن كان الإبل رديئة، فتكون الشاة رديئة، وإن كانت الإبل جيدة، فتكون الشاة المخرجة جيدة، فبحسب الإبل تؤخذ الغنم جودة أو رداءة. فإن كانت الإبل سماناً، أخرجت شاة سمينة، وإن كانت هزالاً، أخرجت شاة هزيلة. فإن كانت الإبل مراضاً أخرجت شاة صحيحة، لكنها في قيمتها تناسب الإبل المريضة.

_ (1) أخرجه البخاري في كتاب الزكاة، وقد تقدم.

فمثلاً: إذا كانت الشاة الطيبة تساوي خمسة دراهم، والإبل الصحيحة، الواحد منها يساوي مئة درهم، ووجدنا أن الإبل المراض يساوي الواحد منها ثمانين درهما، فإنا نخرج شاة قيمتها أربعة دراهم؛ نظراً للفارق بين الصحيحة والمريضة من الإبل، فبقدر النسبة بين الإبل الصحيحة والمريضة تكون النسبة في المخرج. بقى ما تقدم إذا كانت الدراهم للإبل الصحيحة مئة، وللمريض ثمانون، فإن النقص بقدر الخمس، فيكون النقص في قيمة الشاة أيضا بقدر الخمس. إذاً يكون المخرج من الغنم جودة أو رداءة بالمراعاة إلى الإبل جودة أو رداءة، فإن كانت الإبل مراضاً أخرجت شاة صحيحة، لكن قيمتها تناسب الإبل المراض. واعلم أن أظهر قولي العلماء - وهما قولان في مذهب أحمد – أن الواجب عليه أن يخرج أنثى من الغنم، وأن الذكر لا يجزئ؛ لأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم في ذكر صدقة الإبل إنما ذكر الشاة في قوله: (في كل خمس شاة) فقد نص على الأنثى، فلم يجزئ غيرها، وقد تقدم قول عمر: " نأخذ الجذعة والثنية ". واختلف أهل العلم، هل يجزئ أن يخرج الإبل عن الشاة، أم لا يجزئ؟ فلو أن رجلاً عنده خمس من الإبل، فالواجب عليه شاة واحدة، فإذا أخرج عنها بعيراً، فهل يجزئ أم لا؟ قال الحنابلة: لا يجزئ؛ نظراً للنص، فإن النبي صلى الله عليه وآله وسلم إنما نص على الشاة. لكن هذا القول ضعيف، بل هو قريب من طريقة الظاهرية. وذهب الشافعية والمالكية: إلى أن ذلك يجزئ؛ لأن الإبل تجزئ في العدد الأكبر، فإجزاؤها في العدد الأقل من باب أولى. فبنت المخاض تجزئ في خمس وعشرين من الإبل، فإجزاؤها فيما أقل من ذلك من باب أولى. وأما النص الوارد، فهو من باب ما يجب عليه، لكن إن زاد خيراً، فهو خير له، وهو تطوع منه.

ويدل على هذا ما ثبت في مسند أحمد وسنن أبي داود بإسناد حسن أن رجلاً وجبت عليه بنت مخاض في إبله، فقال: " ذلك ما لا لبن منه ولا ظهر، ولكن هذه ناقة سمينة فتيَّة " فذكر ذلك للنبي صلى الله عليه وآله وسلم، فقال: (ذاك الذي عليك، فإن تطوعت بخير آجرك الله فيه وقبلناه منك) (1) ، قال الراوي: " فأخذت صدقته في عهد معاوية ثلاثين حقة "، أي قد بلغت إبله ألفاً وخمسمئة. فالشاهد قوله (فإن تطوعت بخير آجرك الله فيه وقبلناه منك) ، فقبل النبي صلى الله عليه وآله وسلم منه الناقة عن بنت المخاض، فدل هذا على أن من تصدق بفريضة أعلى من الفريضة الواجبة عليه، فإن ذلك يجزئ عنه، ومن ذلك إن تصدق بناقة عن شاة، فإن ذلك يجزئ عنه. ولا خلاف بين أهل العلم في أنه إن تصدق ببنت لبون عن بنت مخاض أو بحقة عن بنت لبون أو بجذعة عن حقة، فإن ذلك يجزئ بلا خلاف، فكذلك في المسألة المتقدمة. واعلم أن من وجبت عليه سن فلم يجدها، ووجد سناً أعلى منها أو أنزل منها، كأن تجب على رجل حقة، فلم يجدها، ووجد أعلى منها – أي جذعة – وأنزل منها – بنت لبون -، فهو بالخيار، إن شاء أن يدفع أعلى منها ويأخذ شاتين أو عشرين درهماً جبراناً له، وإن شاء أن يدفع أنزل منها ويعطي شاتين أو عشرين درهماً جبراناً للصدقة. وكذلك إن لم يجد السن التي تليها، ووجد السن التي تلي ما بعدها، فإن جبرانه أربع شياه أو أربعون درهماً، كأن يجب على رجل بنت مخاض، فلم يجدها وفي ماله حقة، فإنه يجوز له أن يدفع الحقة ويُدفع له أربعون درهماً، أو أربع شياه، جبراناً له.

_ (1) رواه أبو داود في الباب المتقدم رقم (1583) .

فقد ثبت في حديث أبي بكر المتقدم أنه قال: " من بلغت عنده من الإبل صدقة الجذعة وليست عنده الجذعة وعنده الحقة، فإنها تقبل منه وتؤخذ منه شاتين إن استيسرتا أو عشرين درهماً، ومن بلغت عنده صدقة الحقة وليست عنده الحقة وعنده الجذعة فإنها تقبل منه، ويعطيه المصدق شاتين أو عشرين درهماً ". والجبران مختص بالإبل دون البقر والغنم. أما الغنم فلا إشكال، فإن الغنم الفريضة فيها واحدة، فلا تختلف السن فيها كما تختلف في الإبل، فالواجب هو شاة أو شاتان أو ثلاث أو أربع، وهكذا، فلا تختلف السن فيها، فلا مدخل للجبران فيها. وأما البقر، فإن النص لم يرد فيها، والوقص فيها يختلف عن الوقص في الإبل، فلا يصح القياس. فمن وجبت عليه سن في البقر وليست عنده، وعنده سن أكبر منها، فإنه يدفعها إن شاء ولا يعطى جبراناً، وإن شاء اشترى من السوق السن المطلوبة وأعطاها المصدق. إذاً: هذا الجبران المتقدم مختص في الإبل فقط، فلا مدخل للبقر والغنم فيه، والنص إنما ورد في الإبل وليست البقر بمعناها. وأما الغنم، فإن هذه المسألة ليست بمفروضة فيها أصلاً، إذ السن فيها واحدة وإن اختلف عدد الغنم بحيث يختلف عدد الفريضة فيه، فإن الفريضة لا تختلف. الدرس المئتان (يوم الثلاثاء: 23 / 12 / 1415 هـ) فصل قال: [ويجب في ثلاثين من البقر تبيع أو تبيعة] التبيع: ماله سنة، وهو الذكر من أولاد البقر. والتبيعة: الأنثى وهي مالها سنة وقد شرعت في الثانية. قال: [وفي أربعين مسنة] المسنة: ما لها سنتان، وهي الثنية، وقد تقدم أنها تجزئ في الأضحية، فالبقر يجب في ثلاثين منه تبيع أو تبيعة، فإذا بلغت أربعين فالواجب مسنة. قال: [ثم في كل ثلاثين تبيع، وفي كل أربعين مسنة]

ثم بعد ذلك في كل ثلاثين من البقر تبيع، وفي كل أربعين مسنة. فإذا كان عنده تسعون بقرة، فيجب عليه ثلاثة أتبعة، وإذا كان عنده مئة بقرة فيجب عليه تبيعان ومسنة، وهكذا. ودليل هذا ما رواه الخمسة، وحسنه الترمذي، وهو كما قال، لكن لشواهده،عن معاذ بن جبل رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم بعثه إلى اليمن، فأمره أن يأخذ من كل ثلاثين من البقر تبيعاً أو تبيعة، ومن كل أربعين مسنة، ومن كل حالم ديناراً أو عدله معافرياً) (1) ، وهذه جزية وسيأتي الكلام عليها. فإن لم تبلغ البقر ثلاثين، فلا تجب الزكاة فيها، وهو ما يسمى بالشَنَق، فالشنق: هو ما دون النصاب. والوقص: هو ما بين الفريضتين. قال: [ويجزئ الذكر هنا] الذكر هنا وهو التبيع يجزئ عن التبيعة، أما الأربعون فلا يجزئ فيها إلا مسنة. قال: [وابن لبون مكان بنت مخاض] هذا في صدقة الإبل (2) ، فابن اللبون يجزئ عن بنت المخاض، لكن ثمت فارق بين هاتين المسألتين. ففي صدقة البقر يجزئ التبيع عن التبيعة مطلقاً، وأما في صدقة الإبل فإن ابن اللبون لا يجزئ عن بنت المخاض إلا عند عدمها. فلو أن رجلاً وجبت عليه بنت مخاض وليس في ماله بنت مخاض، فإنه لا يكلف شراءها بل يخرج ابن لبون من إبله. وهل له أن يخرج موضع بنت لبون حقاً، أو أن يخرج موضع الحقة جذعاً أم لا؟ فلو أن رجلاً وجبت عليه بنت لبون وليس في ماله بنت لبون، وفي ماله حق، فهل يجزئه الحق عن بنت اللبون، قولان في مذهب الإمام أحمد:

_ (1) أخرجه أبوداود في الباب المتقدم رقم (1576) ، والترمذي في الزكاة، باب زكاة البقر حديث 623، وقال: " حديث حسن " وذكر أن بعضهم رواه مرسلاً وقال: " وهذا أصح "، والنسائي في الزكاة، باب سقوط الزكاة عن الإبل إذا كانت رسلا لأهلها ولحمولتهم حديث 2455، وابن ماجه في الزكاة، باب صدقة البقر حديث 1803. سنن أبي داود [2 / 235] . (2) كذا في الأصل.

الأول، وهو قول القاضي وابن عقيل من الحنابلة: أنه يجزئ قياساً، فكما أن ابن اللبون يجزئ عن بنت المخاض، فكذلك الحق يجزئ عن بنت اللبون، والجذع يجزئ عن الحقة، فعلى ذلك: فارق السن في الذكر مقابل فضيلة الأنوثة. ففضيلة الأنوثة في بنت اللبون يقابلها فارق السن في الحق. وفضيلة الأنوثة في الحقة يقابلها فارق السن في الجذع. والمشهور عند الحنابلة: أنه لا يجزئ؛ وذلك لأن النص لم يرد، وليس هذا بمعنى ما نص عليه، بل هناك فارق بين المسألتين. والفرق: أن ابن اللبون إنما كان مقابلاً لبنت المخاض الأنثى، لأن فضيلته ظاهرة، فإنه يرد الماء ويأكل الشجر ويمتنع عن صغار السباع، بخلاف بنت المخاض، فإنها لا ترد الماء وتدفع عن نفسها صغار السباع، فكانت هذه فضيلة فيه مع زيادة السن. وليس هذا الفارق ثابتاً بين بنت اللبون وبين الحق، فإن بنت اللبون ترد الماء وتأكل الشجر، وتمنع نفسها من صغار السباع، فالفضيلة الثانية في الحق ثابتة فيها، فلم يبق إلا فارق السن، وحينئذ فلا يقابل الأنوثة، فإنه إنما قابل الأنوثة في المسألة السابقة لأمر آخر، وهو أن ابن اللبون فيه فضيلة قيامه بشأن نفسه مع فارق السن، وقيام الحق بشأن نفسه متوفر ببنت اللبون، فلم يكن هناك فارق إلا زيادة السن. فلذا الراجح ما ذهب إليه الحنابلة في المشهور عندهم، من أن الحق لا يجزئ عن بنت اللبون ولا الجذع عن الحقة، وإنما يجزئ ابن للبون عن بنت المخاض؛ للنص الوارد عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم. قال: [وإذا كان النصاب كله ذكوراً]

فإذا كان النصاب كله ذكوراً، فإنه يجزئ أن يخرج الذكر. فإذا كان لا يملك إلا ذكوراً من المعز، أو ذكوراً من البقر، أو ذكوراً من الإبل، فإن الواجب عليه أن يخرج الذكر، ولا يجب أن يخرج الأنثى؛ قالوا: لأن المقصود من الزكاة هو المواساة – مواساة الفقير والغني -، فلا يكلفها من غير ماله، لأنه ليس في ماله أنثى، فماله كله ذكوراً، فيخرج حينئذٍ ذكراً. وهذا هو المشهور عند الحنابلة وغيرهم من أهل العلم. وحكى صاحب الفروع قولاً في المسألة، أشار إليه بقوله: " قيل: - أي قول لبعض الحنابلة، وهو وجه عن الشافعية – أنه يجب أن يخرج أنثى إذا كان النصاب كله ذكراً، لكنها تكون قيمتها بقدر الذكر، فيقوم النصاب إناثاً، ويقوم ذكوراً ثم تخرج الأنثى بقسطه، أي بالفارق بين الذكور وبين الإناث، فإذا كان الذكر مثلاً يساوي ثمانمئة، والأنثى تساوي ألفا، فالفارق بينهما بقدر الخمس، فحينئذ إن كانت قيمة بنت المخاض الواجب إخراجها في الأصل ألف، فإنه يخرج ما قيمتها ثمانمئة. هذا القول قول قوي؛ لعمومات النصوص، فقد قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم فيما تقدم من حديث أبي بكر: (في كل أربع وعشرين من الإبل الغنم) ، وقال: (في كل خمس وعشرين من الإبل بنت مخاض) ، فقوله: (في كل خمس وعشرين من الإبل) (وفي كل ست وثلاثين من الإبل) عام فيما إذا كانت الإبل ذكوراً أو إناثا. لكنه لا يجب عليه أن يخرجها أنثى كما لو كان النصاب إناثاً؛ لأن الزكاة تخرج عدلاً، فحينئذ تخرج أنثى لكن بقدر قيمة الذكر، أي يقوم النصاب ذكوراً وإناثاً، ثم تخرج الأنثى بقسط ما بينهما. هذا، وإن كان أهل القول الأول يمكنهم الخروج من العموم بأن يقولوا: بندرة كون النصاب كله ذكوراً، فإن هذا من النادر، فخروجه من العموم لندرته.

لكن لا شك أن العمل بعموم النصوص الشرعية أولى، والمقصود أن يكون المُخرج منظوراً فيه العدلية، وهذا يثبت بإخراج الأنثى بقيمة الذكر. إذاً: لا يجوز إخراج الذكر إلا في ثلاث مسائل: المسألة الأولى: إذا بلغت البقر ثلاثين، فله أن يخرج تبيعاً أو تبيعة. المسألة الثانية: إذا كان الواجب عليه بنت مخاض، ولم يجدها في ماله،فله أن يخرج موضعها ابن لبون. المسألة الثالثة: إذا كان النصاب كله ذكوراً، فيما تقدم في المشهور عند الحنابلة، والأقوى ما تقدم ذكره. الله أعلم. فصل قال: [ويجب في أربعين من الغنم شاة] إذا ملك أربعين من الغنم، فقد تم النصاب الزكوي فيها، فيجب عليه أن يخرج شاة. إذاً مادون الأربعين شَنق لا زكاة فيه. قال: [وفي مئة وإحدى وعشرين شاتان] فإذا بلغت مئة وإحدى وعشرين، ففيها شاتان. قال: [وفي مئتين وواحدة، ثلاث شياه] فإذا بلغت مئتين وواحدة، فالواجب عليه ثلاث شياه. قال: [ثم في كل مئة شاة] فإذا كان عنده أربعمئة شاة، فعليه أربع شياه، وإذا كان عنده خمسمئة شاة فعليه خمس شياه. إذاً في الأربعين شاة إلى مئة وعشرين. فإذا بلغت مئة وإحدى وعشرين إلى مئتين، ففيها شاتان. فإذا بلغت مئتين وواحد إلى ثملاثمئة ففيها ثلاث شياه. ثم في كل مئة شاة. ودليل هذا: ما تقدم سياق بعضه وهو حديث أبي بكر، وفيه: " وفي صدقة الغنم في سائمتها إذا كانت أربعين إلى عشرين ومئة شاة، فإذا زادت على عشرين ومئة إلى مئتين ففيها شاتان، فإذا زادت على مئتين إلى ثلاثمئة ففيها ثلاث شياه، ثم في كل مئة شاة " (1) . فهذه صدقة الغنم. وإذا كان النصاب الزكوي من الإبل أو البقر أو الغنم من نوعين، كأن تكون الغنم معزاً وضأناً، أو أن تكون الإبل بخاتياً وعراباً، أو أن تكون البقر بقراً وجواميساً، فإنه يخرج من أحد النوعين.

ولاختلاف القيمة المحتملة من النوعين، فإن هذا المخرج يكون بقدر قيمة المالين، وكذا إذا كان المال سمان ومهازيل. مثال ذلك: عنده عشرون شاة، كل شاة ثمنها خمسمئة ريال، وعنده عشرون معزاً سعر الواحدة ثلاثمئة ريال، فيخرج شاة أو معزاً قيمتها أربعمئة ريال. قال: [والخلطة تصير المالين كالواحد] الخلطة في بهيمة الأنعام نوعان، وهو كذلك في كل خلطة، سواء في الأثمان أو عروض التجارة أو الحبوب والثمار: 1- خلطة أعيان. 2- خلطة أوصاف. خلطة الأعيان: أن يكون مال كل واحد منهما غير متميز عن مال الآخر، بل نصيب كل واحدٍ منهما مشاعاً، كأن يكون عندهم مئة شاة، هذا له النصف وهذا له النصف، أو هذا له الربع وهذا له الثلاثة أرباع، وهكذا. أما خلطة الأوصاف: فهي أن يتميز مال كل واحد منهما عن الآخر، فشياه هذا معروفة وشياه الآخر معروفة، لكنها مختلطة، فيما يأتي ذكره مما تثبت به الخلطة. فالخلطة تصير المالين مالاً واحداً بشرطين: الشرط الأول: أن يكون كل واحد من المتخالطين أهلاً للزكاة، فإذا كان كافراً فلا. فإن لم يكونوا أهلاً للزكاة أو لم يكن أحدهما كذلك نقصت بحسب ما ينقص مما ليس أهلاً للزكاة أو لم تجب الزكاة أصلاً. الشرط الثاني: أن يمر على الخلطة حولاً؛ لأن الخلطة جعلت المالين كالمال الواحد، وحينئذ أصبح له حكم مستقل، فاشترط ما تقدم من مضي الحول. إذا ثبت هذا: فلا إشكال في خلطة الأعيان، فهي ظاهرة واضحة، فهي أن يكون لاثنين فأكثر مال يملكانه أو يملكونه مشاعاً. وأما خلطة الأوصاف فشرط فيها الحنابلة شروطاً: أن يكون مَسْرحها واحداً، أي موضعها الذي تخرج منه لترعى (1) . أن يكون مرعاها واحداً. أن يكون راعيها واحداً.

_ (1) قال في الشرح الممتع لابن عثيمين رحمه الله تعالى [6 / 68] : " المسرح أي يسرحن جميعاً ويرجعن جميعاً، فلا يسرح أحد غنمه يوم الأحد والثاني يوم الاثنين ".

أن يكون مراحها واحداً، وهو الموضع الذي تبيت فيه. أن يكون الفحل الذي يطرقها واحداً، فإن تميز مال كل واحد منهما بفحل فلا. إلا أن يكونا نوعين مختلفين، كالضأن والمعز، فهنا نوعان مختلفان، فلا يعتبر هذا الشرط هنا. أن يكون محلبها واحداً، يعني الموضع الذي تحلب فيه. فقالوا: هذه شروط ستة، فإن هذه المواشي تكون خلطة حينئذ، فتؤخذ منها الزكاة جميعاً وكأنها مال واحد. وحينئذ إذا اجتمع لرجلين أربعون شاة، فإنا إذا نظرنا إلى مال كل واحد منهما، فإن الزكاة لا تجب، فكل واحد يملك عشرين شاة، فلا زكاة عليها، وإذا نظرنا إلى المال الذي وقعت فيه الخلطة قلنا بوجوب الزكاة، وهذا ما اعتبره الشارع، ففي حديث أبي بكر: " ولا يجمع بين متفرق ولا يفرق بين مجتمع خشية الصدقة، وما كان من خليطين، فإنهما يتراجعان بينهما بالسوية " (1) ، والنظر يدل على هذا، فإن الزكاة متعلقة بالمال ولذا وجبت على الصبي والمجنون، وحيث ثبتت الخلطة المتقدمة، فإنها تصير المالين مالاً واحداً، فتتعلق الزكاة بهذا المال، كما لو كان مالاً لرجل واحد. إذاً: خلطة الأعيان وخلطة الأوصاف بالشروط المتقدمة تصير المالين مالاً واحداً، وحينئذ تجب الزكاة في هذا المال، وإن كان نصيب كل واحد منهما لا يبلغ نصاباً، فإن النظر إلى مجموع المال. وفيما ذكروه من الشروط الست في خلطة الأوصاف شيء من النظر، والأظهر ما ذكره صاحب الفروع في قوله: " ويتوجه أن ينظر في الخلطة إلى العرف "، فما ثبت في العرف أنه خلطة تثبت به الأحكام، لأن الشرع أطلق، فقال: " وما كان من خليطين "، فمتى ما ثبتت الخلطة عرفاً،فإن الحكم يثبت.

_ (1) رواه البخاري وغيره، وقد تقدم.

والأظهر: عدم اعتبار مثل المحلب، فإن هذا غير مؤثر في هذه المسألة، فالأظهر أن يقال: متى ما ثبتت الخلطة في العرف،فإن الحكم يثبت. فإذا كان عرف الناس أن هذين المالين مختلطين وأنهما كالمال الواحد، فإن الزكاة تجب فيهما على أنهما مال واحد. وأما خلطة الأعيان، فإنه لا إشكال فيها، فالخلطة فيها ظاهرة جداً؛ لأن المال لا يملكه كل واحد منهما متميزاً عن الآخر، فليس كل واحد منهما يملك شياهاً متميزة عن شياه الآخر، بل هم يشتركون في هذه الشياه. إذاً: إذا ثبتت الخلطة، فإن الزكاة تؤخذ من جميع المال، فإذا أخذت الزكاة، فإنهما يتراجعان بينهما بالسوية. مثال هذا: إذا كان المال الذي وقعت فيه الخلطة قدره أربعون شاة، لأحدهما شاة، وللآخر تسع وثلاثون شاة، فأخذت شاة وقدرها أربعون درهم، فحينئذ يكون الواجب على صاحب الشاة قدر درهم من هذه الشاة، وهكذا. وإذا كان المال بينهما ثلاثاً، فأخرجت زكاة، فالواجب على كل واحد منهم ثلثها، فتقوّم الشاة، وما كان من حق لأحدهما، فإنه يدفع له. واختلف أهل العلم هل الخلطة خاصة بالمواشي أم هي عامة فيها وفي غيرها، كعروض التجارة، والحبوب والثمار وغيرها مما تقع به الخلطة؟ قولان لأهل العلم: القول الأول، هو مذهب جماهير أهل العلم، وهو المشهور عند الحنابلة: أن الخلطة لا حكم لها، ولا أثر لها في الزكاة هنا. فلو أن لرجلين محل للتجارة، فإن على كل واحد منهما الزكاة بقدر ماله في هذا الدكان، ثم يزكيه إن كان نصاباً. وإذا اشترك مجموعة في مزرعة، فلكل واحد منهم نصيبه، فيخرج الزكاة فيه إن بلغ نصاباً، وإلا فلا زكاة فيه. قالوا: لأن النص إنما ورد عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم في خلطة المواشي، وأما غيره فلم يرد فيه عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، والأصل أن الزكاة في الواحد منفرداً أو مستقلاً عن مال غيره.

وعن الإمام أحمد: أن الخلطة مؤثرة في هذا الباب، وهو مذهب الشافعية. فإذا اشترك اثنان مثلاً في عقار للتجارة أو دكان أو في مزرعة، فإن الخلطة مؤثرة، ويزكون على أنه مال واحد، وإن كان نصيب كل منهم لا يبلغ النصاب. فلو أن أناساً عندهم نخل، ونصاب التمر خمسة أوسق، وهم عدد كثير بحيث أن نصيب كل واحدٍ منهم لا يبلغ هذا، فحينئذ عليهم الزكاة. وهذا القول أظهر؛ لأن القياس في هذا ظاهر، ولأن الزكاة متعلقة بالمال، ولذا تجب في مال الصبي والمجنون، فإذا اشترك اثنان في دكان، فالموضع واحد والبائع واحد، فإن هذا يشبه اشتراكهم في المواشي في المرعى وفي المراح ونحو هذا مما تقدم، فالقياس فيه ظاهر. وقد يستدل على هذا: بأن السعاة لم يكونوا يستفصلون من أصحاب الحبوب والثمار، أهي مشترك فيها أم لا، مع كثرة هذا، فالاشتراك في مثل هذا كثير. والله أعلم. وقد قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (لا يجمع بين متفرق ولا يفرق بين مجتمع خشية الصدقة) . إذا كان المال متفرق، هذا مال لزيد، وهذا مال لعمرو، وهذا مال لبكر، فلا يجوز أن يجمع خشية الصدقة أي هروباً من الزكاة أو تخفيفاً منها. فإذا كان هذا يملك أربعين شاة، وهذا يملك أربعين شاة، وهذا يملك أربعين شاة، فمجموعها مئة وعشرين شاة لا يجب فيها إلا شاة واحدة، وحيث كانت مفرقة فيجب في كل واحدةٍ منها شاة، فيكون الواجب في مجموعها ثلاث شياه، هذا لا يجوز. وعكسه لا يجوز، فإذا كان المال إذا جمع وجبت فيه زكاة أكثر، فتفريقه لتخفيف الزكاة أو إسقاطها لا يجوز. فمثلاً: الواجب في مئتين وعشرة من الغنم ثلاث شياه، فإذا اقتسماها، هذا له مئة وخمس، والآخر له مئة وخمس، فلا يجب على كل واحد إلا شاة، فتسقط عنهم من الثلاث شاة. هذا أمر لا يجوز؛ لأنه حيلة على المحرم، وقد تقدم الكلام على تحريم الحيلة. وهل يجمع مال الرجل الواحد إن كان في مواضع مختلفة؟

هذه المسألة فيها تفصيل: - فإن كانت الأموال المتفرقة من المواشي أو الحبوب والثمار ونحوها - إن كانت - ليس بينها مسافة قصر، فلا خلاف بين العلماء في إنه يضم بعضها إلى بعض. فلو أن له مثلاً مواشي في شمال بلده وفي جنوبها وفي شرقها وما بينها مسافة لا تقصر فيها الصلاة، فكلها في موضع واحد له حكم واحد من حيث قصر الصلاة، فحينئذ يضم بعضها إلى بعض؛ لأن المال مال رجل واحد، وقد صلى الله عليه وآله وسلم: (في كل أربعين من الغنم شاة) ، وهذا الرجل قد ملك أربعين أو أكثر من ذلك، فوجب عليه قدر ذلك من الزكاة، وحينئذ فلا فرق بين أن يكون ماله في موضع واحد أو في مواضع مختلفة. فإذا كانت أمواله بينها مسافة قصر، كأن يكون له في هذه المدينة شياه، وله في مدينة أخرى شياه أخرى، وفي مدينة ثالثة شياه ثالثة: فالمشهور عند الحنابلة، هو رواية عن الإمام أحمد: أنه لا يضم بعضها إلى بعض، واستدلوا بقوله: (ولا يجمع بين متفرق ولا يفرق بين مجتمع خشية الصدقة) . وعن الإمام أحمد، وهو مذهب جماهير العلماء: أنه يضم بعضه إلى بعض؛ لأن المال مال رجل واحد. وأما حديث (لا يفرق بين مجتمع ولا يجمع بين متفرق) ، فإن هذا إنما هو في المالين إن كان لرجلين، فلا يجمع بينهما ولا يفرق خشية الصدقة. ومما يدل على هذا: الإجماع على المسألة المتقدمة، فقد أجمعوا على أن المال إذا كان متفرقاً وما بينهما مسافة لا يقصر فيها الصلاة، فإنه يجمع بينهما، على أن الحديث مطلق، فدل على أن تفسيره كما تقدم، وهو أن يكون الأموال لأناس مختلفين، فيجمعونها خشية الصدقة أو يفرقونها خشية الصدقة. إذاً: الراجح ما ذهب إليه جماهير العلماء، وأن المال يضم بعضه إلى بعض سواء كان بينه مسافة قصر أو لم يكن. كما أن مسافة القصر في هذا الباب لا معنى لتأثيرها. والحمد لله رب العالمين. الدرس الأول بعد المئتين (يوم الجمعة: 26 / 12 / 1415هـ)

باب زكاة الحبوب والثمار قال تعالى: {يا أيها الذين آمنوا أنفقوا من طيبات من كسبتم ومما أخرجنا لكم من الأرض} ، هذا هو الأصل في وجوب الزكاة فيها. هذا الباب في زكاة الخارج من الأرض، وهي الحبوب من الزروع كالقمح والشعير ونحوها، والثمار من الأشجار كالتمر والزبيب، فالحبوب من الزروع، والثمار من الأشجار. قال المؤلف: [تجب في الحبوب كلها ولو لم يكن قوتاً] القوت: هو ما يقوم به غذاء الآدمي دون ما يطعمه الآدمي تأدماً وتنعماً، كالشعير والحنطة والأرز ونحوها. وهنا المؤلف لم يستثن الأطعمة، بل نص على أنه فرق بين الأطعمة وغيرها، وأنه لا يشترط أن يكون مطعوماً مما يكون به غذاء الآدمي، فذكر أن الحبوب كلها تجب فيها الزكاة سواء كانت مما يطعم كالقمح والأرز والشعير أو كانت مما لا يطعم كحبوب الأدوية، كحب الرشاد والترمس ونحوها من الحبوب، فكل الحبوب تجب فيها الزكاة، سواء كانت من طعام الآدمي من الأقوات أو كانت من طعامه من غير الأقوات كحب الكمون ونحوه مما يوضع في الأطعمة أو كان من الأدوية فيما يتداوى به الآدميون، أو كان من الحبوب التي توضع أدوية للزروع ونحوها. هذا هو المشهور عند الحنابلة، واستدلوا بما روى البخاري في صحيحه أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: (فيما سقت السماء والعيون أو كان عَثَرياً العشر، وما سقي بالنضح فنصف العشر) (1) . والشاهد: قوله (فيما سقت السماء) ، قالوا: وهذا عام فتدخل فيه الحبوب كلها بأنواعها، سواء كانت مطعومة أو غير مطعومة، وسيأتي مذهب جمهور أهل العلم في هذه المسألة إن شاء الله. قال: [وفي كل ثمر يكال أو يدخر] أي في كل حب وإن لم يكن قوتاً وفي كل ثمر بشرط، وهذا الشرط في الحبوب والثمار، أن يكون مكيلاً مدخراً.

_ (1) أخرجه البخاري في كتاب الزكاة، باب (55) العشر فيما يسقى من ماء السماء وبالماء الجاري (1483) .

والمكيل: هو ما يقدر بالكيل أي بالصاع. وأما الموزون فهو ما يقدر بالكيلو جرام. ودليل اشتراط الكيل، قوله صلى الله عليه وآله وسلم في الصحيحين من حديث أبي سعيد: (ليس فيما دون خمسة أوسق من تمر ولا حب صدقة) (1) ، والشاهد: قوله (ليس فيما دون خمسة أوسق) ، فدل على اعتبار التوسيق أي الكيل، فالكيل معتبر فيه. فما لم يكن مكيلاً من الحبوب أو الثمار، فإنه لا زكاة فيه. والوزن متصور في الثمار، إذ الحبوب فيما يظهر لي مكيلة، إلا أن قول المؤلف: " يكال " يدل على أنه يوجد هناك شيء من الحبوب - وإن كانت تخفى علينا - توزن.

_ (1) أخرجه البخاري في كتاب الزكاة، باب (56) ليس فيما دون خمسة أوسق صدقة (1484) و (1405) بلفظ " ليس فيما أقل من خمسة أوسق صدقة.. " وفي باب (42) ليس فيما دون خمس ذَوْد صدقة (1459) بلفظ " ليس فيما دون خمسة أوسق من التمر صدقة.. " ومسلم (979) بلفظ " ليس فيما دون خمسة أوساق من تمر ولا حب صدقة " في أول كتاب الزكاة.

فالشرط أن تكون مكيلة أي تقدر بالصاع، فعليه: لا زكاة في الخضروات والفواكه؛ لأنها موزونة، وهذه هي سنة النبي صلى الله عليه وآله وسلم وخلفائه من بعده، فإنهم لم يكونوا يأخذون من الخضروات والفواكه الصدقة، وقد كان في المدينة شيء من ذلك، وفي الطائف ما هو أبين وأظهر، ومع ذلك مع دواعي النقل، لم ينقل إلينا أنهم كانوا يأخذون منها الصدقة. وأما ما رواه الترمذي من أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: (ليس في الخضروات صدقة) (1) ، فالحديث فيه الحسن بن عُمارة، وهو ضعيف جداً، قال الترمذي: " لا يصح في

_ (1) أخرجه الترمذي في كتاب الزكاة، باب (13) ما جاء في زكاة الخضروات (638) بلفظ: " عن معاذ أنه كتب إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - يسأله عن الخضراوات وهي البقول، فقال: (ليس فيها شيء) . قال أبو عيسى: " إسناد هذا الحديث ليس بصحيح، وليس يصح في هذا الباب عن النبي - صلى الله عليه وسلم - شيء، وإنما يُروى هذا عن موسى بن طلحة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - مرسلاً، والعمل على هذا عند أهل العلم: أن ليس في الخضراوات صدقة. قال أبو عيسى: والحسن هو ابن عُمَارَة، وهو ضعيف عند أهل الحديث، ضعّفه شعبة وغيره، ,تركه ابن المبارك "، وانظر السنن الكبرى للبيهقي [4 / 216] رقم (7475) باب (53) الصدقة فيما يزرعه الآدميون.. قال الألباني في الإرواء [3 / 277] : " وقال الحاكم: وموسى بن طلحة تابعي كبير، لا ينكر أن يدرك أيام معاذ، ووافقه الذهبي فقال: شرطهما، وقد تعقبه صاحب التنقيح بالانقطاع.. " ثم قال الألباني رحمه الله: " لا وجه عندي لإعلال هذا السند بالإرسال، لأن موسى إنما يرويه عن كتاب معاذ، ويصرح بأنه كان عنده فهي رواية من طريق الوجادة وهي حجة على الراجح من أقوال علماء أصول الحديث، ولا قائل باشتراط اللقاء مع صاحب الكتاب، وإنما يشترط الثقة بالكتاب وأنه غير مدخول ".

هذا الباب شيء، والعمل عليه عند أهل العلم ". - وذهب الأحناف: إلى وجوب الصدقة فيها، واستدلوا بعمومات الأدلة، كحديث (فيما سقت السماء..) ، والخضروات والفواكه قد سقتها السماء. لكن هذا ضعيف؛ لأن سنة النبي صلى الله عليه وآله وسلم الفعلية المتقدم ذكرها وما جرى عليه عمل المسلمين في المدينة، وكان الإمام مالك من القائلين بهذا، فهي السنة التي كانت في المدينة النبوية وغيرها من بلاد المسلمين الموروثة عن أصحاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم هو خلاف هذا، وأنها لا تؤخذ منها الصدقة. كما أن الدواعي متوفرة على نقل ذلك لو ثبت، ومع ذلك لم يثبت. وأصرح في الاستدلال ما ثبت في مستدرك الحاكم ومعجم الطبراني بإسناد صحيح أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال لمعاذ بن جبل ولموسى الأشعري: (لا تأخذوا الصدقة إلا من هذه الأصناف: الشعير والحنطة والزبيب والتمر) (1) ، فهذا مخصص ظاهر. فهنا لا زكاة في الخضروات والفواكه. إذاً الشرط الأول: أن تكون مكيلة. الشرط الثاني: أن تكون مدخرة، والمدخر هو ما ييبس فيبقى، كالحبوب والزبيب والتمر، فإنها تزول رطوبتها وتكون يابسة، فتبقى مدة زمنية طويلة. والفواكه والخضروات ليست مما يدخر، في الطبيعة في الأصل، وأما في هذه العصور، لتقدم المادة، فيمكن فعله، لكن هذا خلاف الأصل فيها.

_ (1) أخرجه البيهقي في كتاب الزكاة، باب (48) لا تؤخذ صدقة شيء من الشجر غير النخل والعنب (7451) بلفظ: " عن أبي موسى ومعاذ بن جبل أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعثهما إلى اليمن، فأمرهما أن يعلما الناس أمر دينهم،وقال: (لا تأخذوا في الصدقة إلا من هذه الأصناف الأربعة: الشعير والحنطة والزبيب والتمر "، وأخرجه أيضاً في معرفة السنن (2325) ، والحاكم في المستدرك [1 / 401] ، والدارقطني [2 / 98] . السنن الكبرى للبيهقي [4 / 210] .

واختلف في الاقتيات، هل يشترط أم لا؟ فقال الحنابلة: لا يشترط كما تقدم، ولذا قال المؤلف هنا: " ولو لم تكن قوتاً "، فعلى ذلك: كل ما يكال ويدخر وإن لم يكن مطعوماً، فإن الزكاة تجب فيه. وقال الشافعية والمالكية: يشترط الاقتيات؛ وذلك لأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: (لا تأخذوا الصدقة إلا من هذه الأصناف) ، وذكر الشعير والحنطة والزبيب والتمر، وكلها مما يقتات أي مما يطعم. هذا القول هو الراجح؛ لأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم خص الزكاة في هذه الأصناف الأربعة، فلا تجب الزكاة إلا فيها أو في نظيرها أو شبيهها، وشبيهها هو المكيل المدخر المقتات، فكل هذه الأصناف الأربعة مكيلة ومدخرة ومقتاتة. وهذا هو دليل الجمهور على اشتراط الادخار والكيل، فإن هذه الأصناف الأربعة كلها مكيلة ومدخرة. وعن الإمام أحمد: أن الزكاة محصورة في هذه الأصناف الأربعة، فلا تجب الزكاة في غيرها. وهذه الرواية ضعيفة؛ وذلك لأن هذا يخالف ما دلت عليه الأدلة من القياس، والشريعة لا تفرق بين المتماثلات، وقد جاء الإسلام بالميزان من إلحاق النظير بنظيره والشبيه بشبيهه. فهذه الأصناف الأربعة لا تجب الزكاة إلا فيها أو ما يقاس عليها. هذا هو مذهب جماهير العلماء، وهو المشهور عن الإمام أحمد؛ وذلك بتوفر ثلاث شروط: 1- أن تكون مكيلة. 2- أن تكون مدخرة. 3- أن تكون مقتاتة، وهذا الشرط فيه خلاف من الحنابلة، والراجح ما تقدم. (1) قال: [ويعتبر بلوغ نصاب قدره ألف وستمئة رطل عراقي (2) ] " رطلاً ": يصح، بكسر الراء وفتحها. الرطل: عند العرب ما يساوي اثنتي عشرة أوقية.

_ (1) في حاشية المذكرة ما نصه: " واختار شيخ الإسلام: أن المعتبر هو الادخار، وأنه لا عبرة بالكيل، وإنما اعتبر في باب الربا لاعتبار التساوي، بخلافه هنا ". انظر حاشية الشرح الممتع [6 / 75] . (2) في الأصل: " رطلاً عراقياً ".

والأوقية: وزن أربعين درهما. وهو من الموازين القديمة. وهذا النصاب، وهو " ألف وستمئة رطل عراقي " إيضاح من المؤلف وغيرها للقدر المشهور في زمانهم، وإلا فإن النصاب الوارد عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم هو ما تقدم وأنه خمسة أوسق، لقوله: (ليس فيما دون خمسة أوسق صدقة) ، والوسْق: يساوي ستين صاعاً نبوياً. فعلى ذلك: النصاب ثلاثمئة صاع نبوي. والصاع النبوي يساوي بالكيلو جرام = كيلوين وأربعين جراماً. فعلى ذلك: النصاب يساوي ستمئة واثني عشر كيلوجرام، وهو أكثر من نصف الطن. فعلى ذلك: من ملك ثلاثمئة صاع نبوي ويساوي بالصيعان الموجودة عندنا = مئتين وأربعين صاعاً، فإن الصاع النبوي يساوي أربعة أخماس الصاع المعاصر، فإن الزكاة تجب عليه. هذا هو نصاب الحبوب والثمار. والوسْق: يساوي ستين صاعاً نبوياً، وقد أجمع الفقهاء على هذا، فعلى ذلك: هم متفقون ومجمعون على أن النصاب في الحبوب والثمار ثلاثمئة صاع. قال: [وتضم ثمر العام الواحد بعضها إلى بعض في تكميل النصاب] فلو أن رجلاً عنده نخيل، اختلف بدو صلاحها، فهذه المجموعة من النخيل بدا صلاحها في أوله، وهذه في أوسطه، وهذه في آخره، هذا يختلف باختلاف أنواع النخيل، وكذلك في أنواع القمح والشعير، فإنه يضم الثمر أو يضم الحب وتجب الزكاة فيها جميعاً. فعلى ذلك: لو كان عنده نخيل، قد بدا صلاح بعضها في أول الشهر، وهو لا يبلغ النصاب، وبدا صلاح المجموعة الأخرى من نخيله في آخر الشهر، وبها يكتمل النصاب، فإن الزكاة تجب عليه. فالتمر له أنواع، وكذلك القمح، فهذه الأنواع يضم بعضها إلى بعض في تكميل النصاب، فلا يعتبر كل نوع منها جنس مختلف عن الجنس الآخر، فتجب الزكاة فيه دون غيره، فإن لم يتم نصاباً فلا زكاة، بل يضم بعضها إلى بعضه ويكمل النصاب.

إذاً: الجنس الواحد من الحبوب أو الثمار يضم بعضه إلى بعض، وإن اختلفت الأنواع، وإن اختلف الزمن في بدو صلاحها؛ لأنها ثمرة عام واحد، ولأنها داخلة في الجنس نفسه الذي أوجب النبي صلى الله عليه وآله وسلم فيه الزكاة، ففي قوله (لا تأخذوا الصدقة إلا من هذه الأصناف الأربعة: الشعير..) ظاهره أن كل نوع من أنواع الشعير له حكم الآخر في إيجاب الزكاة، فتكمل به النصاب، كما تقدم هذا في الإبل من بخاتي وعربي، وفي الغنم من معز وضأن، فهي أنواع مختلفة، لكنها يجمعها اسم واحد فهي داخلة تحت جنس واحد. قال: [لا جنس إلى آخر] فلا يضم الجنس إلى آخر غيره، فإذا كان عنده شعير لا يتم نصاباً، وعنده قمح لا يتم نصاباً، وباجتماعهما يتم النصاب، فإن الزكاة لا تجب عليه، فلا يُكمل جنس بجنس آخر، فلا يكمل الزبيب بالتمر، ولا الشعير بالحنطة، ولا الأرز بالذرة، أو نحو ذلك. هذه إحدى الروايات عن الإمام أحمد. والرواية الثانية: أن الأجناس يضم بعضها إلى بعض في الحبوب. والرواية الثالثة: أن الحنطة تضم إلى الشعير، وأن القطنيات المراد به ما يقطن في البيت ويمكث ويدخر من أرز وذرة ونحو ذلك، هذه يضم بعضها إلى بعض، فأفرد الشعير والقمح بالضم دون غيره. والقطنيات الأخرى يضم بعضها إلى بعض، فالشعير والحنطة جنس واحد، والقطنيات جنس واحد. وهذا ضعيف؛ لأنه تفريق بين هذه الأجناس بلا مفرق. والقول الأول، وهو الذي ذكره المؤلف هو الرواية المشهورة عن الإمام أحمد في المذهب، وهو مذهب جمهور العلماء: من أن أجناس الحبوب لا يضم بعضها إلى بعض؛ قياساً على الثمار والمواشي باتفاق العلماء، فلا خلاف بينهم في ذلك، فكذلك الحبوب ذوات الأجناس المختلفة.

وهذا ظاهر الأحاديث الواردة، كقوله صلى الله عليه وآله وسلم: (لا تأخذوا الصدقة إلا من هذه الأصناف الأربعة: الشعير والحنطة) ، فظاهره أنهما جنسان مختلفان، وأن لكل منهما زكاته. وأما الرواية الأخرى عن الإمام أحمد، وهي مذهب طائفة من التابعين: من أن الحبوب يضم بعضها إلى بعض. فقالوا: هي متفقة في قدر النصاب، وهي متفقة في قدر المخرج، فالمخرج في الحبوب واحد، وهو العشر أو نصفه، فيضم بعضها إلى بعض. وهذا ضعيف؛ لأن اجتماعهما في اتحاد النصاب وفي اتحاد المخرج ليس بمؤثر، فالشارع إنما جعل نصابها واحد، وجعل القدر المخرج واحد؛ لأنهما متشابهان في ماليتهما، أما أن يضم بعضها إلى بعض فلا. وهذا منتقض عليهم بالثمار، فإن الثمار كالزبيب مثلاً نصابه ثلاثمئة صاع، والقدر المخرج هو العشر أو نصفه، والتمر كذلك، ومع ذلك فقد اتفق العلماء على أن الثمار لا يضم بعضها إلى بعض، فينتقض قياسهم بالثمار، فهم لا يقولون بها. وأما الرواية الثالثة، فقد تقدم تضعيفها، وهي مذهب الإمام مالك، فعلى ذلك: أصح الأقوال ما ذهب إليه الجمهور، وهو المذهب من أن الحبوب لا يضم بعضها إلى بعض كالثمار. إذاً لا خلاف بين العلماء في أن الثمار لا يضم بعضها إلى بعض، فلا يضم الزبيب إلى الثمر، كما أنه لا خلاف بينهم في أن المواشي لا يضم بعضها إلى بعض، فلا تضم الإبل إلى البقر على أنها بُدن، ولا تضم الإبل إلى الشياه. واختلفوا في الحبوب على ثلاثة أقوال، هي روايات عن الإمام أحمد، وأصحها القول الأول من أن الأجناس المختلفة من الحبوب لا يضم بعضها إلى بعض، وهو ظاهر الأدلة الشرعية، ويدل عليها القياس. قال: [ويعتبر أن يكون النصاب مملوكاً له، وقت وجوب الزكاة] هذا شرط ظاهر، يدخل فيما في ما تقدم من اشتراط ملكية النصاب، فلابد من أن يكون النصاب مملوكاً لمن أوجبنا عليه الزكاة، وأن تكون الملكية وقت وجوب الزكاة.

ووقتها هو بدو صلاح الثمر، واشتداد الحب في الزرع، فإذا اشتد الحب وبدا صلاح الثمر، فإن الزكاة تجب. فعليه: لو اشترى بستانا قبل أن يبدو الصلاح في الثمر أو اشترى زرعاً قبل أن يشتد حبه، واشتد الحب وبدا صلاح الثمر في ملكيته وإن كان لم يشتر إلا قبل أيام يسيرة، فإن الزكاة تجب عليه؛ لأنه قد ملكه وقت الزكاة، ولا نظر للحولية في باب الثمار والحبوب، فإن الله يقول: {وآتوا حقه يوم حصاده} (1) . ولو باعه وقد اشتد الحب وبدا صلاح الثمر، فإن الزكاة تجب على البائع؛ لأن الزكاة تعلقت بذمته قبل البيع، فتجب عليه الزكاة. وحاصل هذا: أنه يشترط أن يكون مالكاً للنصاب الزكوي من الحبوب والثمار عند وقت الزكاة، وهو بدو الصلاح في الثمر واشتداد الحب في الزرع، فمن كان مالكاً له حينئذ، فإن الزكاة عليه. فلو ورث من أبيه زرعاً وقد اشتد حبه، فإن الزكاة لا تجب عليه، وإنما تجب على المورث. أو وهبه رجل زرعاً وقد اشتد حبه، فإن الزكاة تجب على الواهب. ولذا قال - وهي مرتبة على هذه المسألة -: [فلا تجب فيما يكتسبه اللّقّاط] يعني: رجل لقط فجمع الشيء الكثير فبلغ نصاباً، فإن الزكاة لا تجب عليه؛ لأن قد ملكه بعد وقت الزكاة. [أو يأخذه بحصاده] رجل اتفق مع صاحب الزرع أن يحصد له وأن يأخذ منه مقابل حصيده (2) طناً من القمح، فلا تجب الزكاة فيه؛ لأنه لم يملكه عند وقت الزكاة. وكذا لو كانت الأجرة على شيء آخر غير الحصاد. فالمقصود من ذلك: أن الحصاد ونحوه مما يأخذه من الزرع مقابل حصاده أو غيره لا تجب عليه فيه الزكاة إن بلغ نصاباً. قال: [ولا فيما يجتنيه من المباح كالبُطم] البُطم: شجر ينبت في البلاد الشامية من فصيلة الفستق ونحوه، وهذا ينبت في الأرض من غير أن يزرعه الآدمي، فهو من النبات المباح، فليس مملوكاً، والزكاة إنما تجب في المملوك، وهذا مباح فلا تجب فيه الزكاة.

_ (1) سورة الأنعام.

قال: [ولا الزَّعبل] وهو شعير الجبل؛ وذلك لأنه ليس بمملوك، فلا تجب فيه الزكاة. قال: [وبِزْرُ قُطُونا] ذكر الشيخ محمد بن عثيمين عن الشيخ عبد الرحمن بن سعدي أنه الربلة المشهورة من أعشاب البر، وهكذا في تعريف العرب من غير تخصيص، قالوا: هو نبات عشبي. قال: [ولو نبت في أرضه] فكل هذه النباتات المباحة التي لا يملكها أحد، وإنما تنبت بغير صنع الآدمي لا تجب فيها الزكاة، ولو نبت في أرضه، أي ولو كانت الأرض مملوكة له؛ وذلك لأنه لا يملك الزرع بملكية أرضه، فإن المباح مباح ولو ملكت أرضه، لكن صاحب الأرض أحق به من غيره من غير أن يمتلكه. وقوله " ولو " هنا: إشارة إلى خلاف، وهو خلاف للقاضي من الحنابلة. فإنه قال: إذا كان النبات الذي لا يكون من صنع الآدمي إذا نبت في أرض مملوكة، فتجب فيه الزكاة؛ لأنه مملوك بملكية الأرض التي نبت فيها. وهذا ضعيف، فإن النابت في الأرض من المباحات لا يمتلك بامتلاك أرضه، بل يبقى مباحاً، فليس له أن يمنع غيره منه، لكنه أحق به من غيره، كما سيأتي تقريره في موضعه إن شاء الله تعالى. فعلى ذلك: المباحات التي تنبت في الأرض من عشب أو شجر ونحوها لا تجب فيها الزكاة، وإن بلغت نصاباً؛ لأنها لا تملك، والشرط في المزكى أن يكون مملوكاً. هذا ولو كانت الأرض مملوكة له؛ لأن المباح يبقى مباحاً وإن ملكت الأرض، فإن الملكية إنما هي ثابتة في الأرض لا في النبات، وإن كان صاحب الأرض أحق به من غيره، لكن هذه أحقية وليست بملك. والحمد لله رب العالمين. فصل هذا الفصل في القدر الواجب إخراجه في صدقة الحبوب والثمار ومسائل أخرى. قال: [يجب عُشْر فيما سُقي بلا مؤنة]

والمؤنة: هي الكلفة والشدة والتعب، فإن سقى الزرع أو الشجر بلا كلفة، كأن يسقي من مياه الأمطار أو الأنهار أو العيون أو كان بعْلاً يعثر على الماء بجذوره أو كان عثرياً ينبت حول المستنقعات، فإن هذا الزرع والشجر لا مؤنة فيه، أي لا شدة ولا كلفة فيه، فيجب فيه العشر؛ لقوله صلى الله عليه وآله وسلم فيما رواه البخاري في صحيحه وقد تقدم: (فيما سقت السماء والعيون أو كان عثرياً) (1) ، وعند أبي داود: (أو كان بعلاً ففيه العشر) (2) . والكلفة التي يجدها المزارع من تفجير الماء وحفر الأرض لنقل مياه الأنهار إلى أرضه، وحفر السواقي ونحو ذلك هذا لا يؤثر في هذه المسألة، فهو من جنس حرث الأرض. فتصريف المياه بحفر الأرض وإصلاحها لجريان الماء من موضع إلى موضع في المزرعة وفي البستان وأيضا جريان الماء من النهر أو العين إلى بستانه، هذه كلفة لا تؤثرها؛ لأنها من جنس حرث الأرض؛ ولأن الكلفة فيها لا تكرر مع الأعوام، فإنه متى ما أصلح أرضه فأصلح السواقي منها وحفر الأرض من النهر إليها أو من العيون إليها، فإن هذا لا يتكرر، وإن كان يحتاج إلى شيء من الإصلاح اليسير، فيجب عليه العشر. .. (3) وإن كان حبه أو ثمرة خمسة أوسق فيه نصف وسْق. فعليه في ثلاثمئة صاع من التمر – عليه -ثلاثون صاعاً. قال: [ونصفه معها]

_ (1) أخرجه البخاري في كتاب الزكاة باب (55) (1438) وقد تقدم صْ 36. (2) أخرجه أبو داود في كتاب الزكاة، باب (11) صدقة الزرع (1596) عن سالم بن عبد الله عن أبيه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (فيما سقت السماء والأنهار والعيون أو كان بعلاً العشر، وفيما سقي بالسواني..) (3) بياض في المذكرة بما يقارب الكلمة.

أي نصفه مع المؤنة، المؤنة هنا: الكلفة في إخراج الماء من الأرض أو رفعه كأن يكون النهر منخفضاً انخفاضاً ظاهراً عن بستانه، فيحتاج إلى آلات أو نواضح لرفع الماء من النهر أو من العيون إلى أرضه. أو كانت آباراً، فيضع الآلات ونحوها، كما في هذا العصر من مكائن ونحو ذلك، فيضعها على البئر لاستخراج الماء. فإذا كان الماء يحتاج إلى استخراج من الآبار أو إلى رفع من الأنهار ونحوها أي برفع ظاهر يحتاج منه كما يحتاج إلى رفع الماء من الآبار، فهذه الكلفة تسقط عنه نصف العشر، فلا تجب عليه إلا نصف العشر. فعليه في ثلاثمئة صاع عليه خمسة عشر صاعاً. إذاً: إن كانت عليه مؤنة في السقي، فعليه نصف العشر، والمؤنة كما تقدم هي: الكلفة التي يجدها المزارع في إخراج المياه أو في رفعها. ودليله قوله صلى الله عليه وآله وسلم في تمام الحديث المتقدم: (وما سقي بالنضح ففيه نصف العشر) . قال: [وثلاثة أرباعه بهما] فإن كان الزارع يسقي بمؤنة وبغير مؤنة، وهما متناصفان، أي بمعنى أنه قد انتفع بالمؤنة انتفاعاً يساوي الانتفاع بغير المؤنة، فليس الاعتبار هنا بالمدة، فلو كان الزرع مثلاً مؤنته ستة أشهر، وكان في الثلاثة الأشهر الأولى سقيه بلا مؤنة وفي الثلاثة الأشهر الأخرى بمؤنة، هذا لا اعتبار له؛ لأن حاجة الزرع والثمر إلى الماء تختلف من وقت إلى آخر، فالاعتبار هنا بالنفع والنمو. فإذا تساويا بأن كان انتفاع الزرع ونموه بالمؤنة وبغير المؤنة متساوياً، فإنه يجب عليه ثلاثة أرباع العشر، وهذا باتفاق العلماء. والنظر - كما هو ظاهر - يدل عليه، فهي من باب المقاسطة، وقد تقدم نظيرها. والاعتبار هنا كما تقدم بالنفع والنمو لا بالمدة، هذا هو المشهور في المذهب. وقيل: الاعتبار بالمدة. وهو ضعيف كما تقدم؛ لأن حاجة الزرع إلى الماء تختلف من وقت إلى آخر. قاله في المغني. قال: [فإن تفاوتا فبأكثرهما نفعاً]

إذا كان انتفاعه بالسقي بغير مؤنة كمياه الأمطار ونحوها - انتفاعه - به أكثر من انتفاعه بسقيه بمؤنة، فإنها حينئذ ننظر إلى الأغلب فحينئذ نوجب عليه العشر؛ لأن الأغلب هو سقيه بلا مؤنة. والعكس بالعكس، فإذا كان انتفاعه بمؤنة وكلفة أكثر من انتفاعه بلا مؤنة، فالواجب عليه نصف العشر. فإذاً: يجب عليه العشر أو نصفه حكماً للأغلب، هذا هو المشهور عند الحنابلة. - وقال الشافعية، وهو قول ابن حامد من الحنابلة: يجب بالقسط قياساً على ما إذا تساويا، فكما أنهما إذا تساويا حكمنا بالقسط ولذا أوجبنا عليه ثلاثة أرباع العشر، فكذلك إذا اختلفا، حكمنا بالقسط. مثال هذا: إذا كان سقيه بمؤنة يقابل ثلث نفعه ونموه، بينما سقيه بلا مؤنة يقابل الثلثين، فقد سقي بلا مؤنة أكثر من سقيه بمؤنة بمقدار الضعف، فيجب عليه في الثلث الذي قد سقي بمؤنة - يجب عليه - ثلث نصف العشر، وهو سدس العشر، وفي الآخر يجب عليه ثلثا العشر، وهو أربعة أسداسه. فعلى ذلك: يجب عليه خمسة أسداس العشر، وهكذا. وهذا القول أقيس؛ لما تقدم، فإنهم قد اتفقوا على أنه إذا سقى بمؤنة وبغير مؤنة على وجه التساوي أن الواجب عليه ثلاثة أرباع العشر، فهذا عمل القسط، فكذلك إذا تفاوتا. فالأظهر ما ذهب إليه الشافعية، وهو قول ابن حامد، أنا نحكم بالقسط. قال: [ومع الجهل العشر] فإذا جهل، فلا يدري هل السقي بمؤنة أكثر نفعا ونمواً من السقي بلا مؤنة أم العكس، فهو لا يدري أيهما أكثر نفعاً. قالوا: فيجب عليه العشر؛ قالوا: لأن الأصل هو العشر، والكلفة مع ثبوتها تنقصه إلى (1) العشر، والكلفة هنا غير معلومة، فيبقى على الأصل.

_ (1) كذا في الأصل ولعل الصواب: عن.

وهذا ضعيف؛ فإن الحكم بأن الأصل هو العشر لا دليل عليه، بل كلاهما أصل منفرد، فالعشر أصل منفرد، ونصف العشر أصل منفرد، فإذا كان الزرع يسقى بمؤنة ففيه نصف العشر، وإذا كان يسقى بغير مؤنة ففيه العشر، وكلاهما أصل منفرد، ولا دليل على تعيين أحدهما أصلاً، ولا نظر أيضاً يدل على هذا، فإن الزروع والأشجار منها ما يسقى بمؤنة، ومنها ما يسقى بلا مؤنة، فأوجب النبي صلى الله عليه وآله وسلم فيما سقي بمؤنة كذا، وفيما سقي بلا مؤنة كذا، فكلاهما أصل. - قال صاحب الفروع: " ويتوجه احتمال: فيه ثلاثة أرباع العشر لتقابلهما ". وهذا هو الأظهر، وهو مذهب الشافعية، وأن الواجب فيه ثلاثة أرباع العشر؛ لأنهما يتقابلان، فكما لو تساويا، فنحن نجهل أيهما الأغلب، فحينئذ لهما حكم التساوي لتقابلهما، ولأن كليهما أصل منفرد، كما تقدم. فمذهب الشافعية هو الأظهر، وقد وجهه صاحب الفروع - وجهه - احتمالاً: أن الواجب عليه ثلاثة أرباع العشر. قال: [وإذا اشتد الحب وبدا صلاح الثمر وجبت الزكاة] فإذا اشتد الحب وأصبح قويا صلباً. وبدا صلاح الثمر بأن تحمر أو تصفر ثمار النخيل أو يتموه العنب فيطيب أكله. هذا هو بدو صلاحه. فإذا بدا صلاح الثمر واشتد الحب، وجبت الزكاة؛ لما تقدم في درس سابق، لكن قال: [ولا يستقر الوجوب إلا بجعلها في البَيْدر] البَيْدر: هو الموضع الذي تجمع فيه الثمار والحبوب، أما الحبوب فلتصفيتها وإزالة القشر عنها. وأما الثمار فلتجفيفها لتذهب عنها الرطوبة، فتكون جافة كما يكون هذا في الرطب، ليكون تمراً، وفي العنب ليكون زبيباً. فإذا وضعت في البيدر فقد تم الحصاد أو الجداد، فحينئذ تستقر الزكاة في الذمة. وعليه قال: [فإن تلفت قبله بغير تعد منه سقطت] فإذا تفلت قبل وضعها في البيدر بغير تعد منه، فإنها تسقط عنه؛ لأنها لم تستقر بعد في ذمته.

إذاً: إذا بدا صلاح الثمر واشتد الحب ولم يوضع بعد في البيدر، فلم يحصد الزرع، ولم يجد الثمر، فإن الزكاة لم تستقر بعد في ذمته، وإن كان الوجوب قد تعلق ببدو الصلاح وباشتداد الحب، لكن الزكاة لم تستقر بعد في ذمة صاحب المال. فلو حصل له تلف بغير تعد منه ولا تفريط، فإن الزكاة تسقط عنه؛ لأنه في حكم ما لم يثبت عليه اليد، فما دام الرطب على رؤوس النخل والحب في سنبله، فإنه بعد لم يتم ثبوت يد صاحبه عليه، فإذا حصل فيه تلف، كأن يحترق الزرع أو حصل للنخيل جائحة، فإن الزكاة تسقط عنه؛ لأنها لم تستقر بعد في ذمته. أما إذا وضعه في البيدر، فقد استقرت الزكاة في ذمته، فإذا تلف، ولو كان هذا التلف بغير تعد منه، فإن الزكاة تبقى وتتعلق في ذمته. وهذا كله على القول بمسألتين: المسألة الأولى: وقد تقدم أن الراجح خلافها، وهي أن الزكاة تجب قبل التمكن من أدائها. والصحيح أن الزكاة لا تجب إلا بعد التمكن من أدائها، ومتى يمكنه أن يؤدي التمر والزبيب والحب؟ إنما يمكنه ذلك إذا صُفي الحب تماماً وزال ما فيه من قشور وجهز لبيعه أو للانتفاع به، فحينئذ يكون قد تمكن من أداء زكاته، وهذا هو وقت إخراجه عند الحنابلة وغيرهم، فإن وقت الإخراج هو تصفية الحب وجفاف الثمر، فإذا جف الثمر فأصبح الرطب تمراً وأصبح العنب زبيباً، فهذا هو وقت الإخراج، وهذا الوقت هو وقت التمكن، فإن صاحب المال إنما يتمكن من أداء زكاة ماله إذا وجد وقت الإخراج. فإذا وجد وقت الإخراج ولم يخرج فحينئذ تتعلق الزكاة بذمته، فإذا صفى الحب وجفف الثمر ثم فرط فحصل تلف للزرع، فحينئذ تجب عليه الزكاة؛ لأن الزكاة قد استقرت في ذمته حينئذ لتمكنه من أدائها.

إذاً: الراجح ما تقدم، وهو رواية عن الإمام أحمد: أن الزكاة لا تجب إلا عند التمكن من أدائها، وعليه فلا تتعلق الزكاة بذمته ولا تستقر إلا إذا تمكن من أدائها، وذلك بعد تصفية الحب وجفاف الثمر. أما الحنابلة في المشهور عندهم: فإن وقت استقرار الزكاة في ذمته إنما هو وضعها في البيدر، ووقت الإخراج تصفية الحب وجفاف الثمر، فتستقر في ذمته وإن لم يأت وقت إخراجها. والراجح ما تقدم. المسألة الثانية: وقد تقدم ذكرها أن الزكاة بمعنى الأمانة، فإذا استقرت في ذمته ثم تلفت بغير تفريط منه ولا تعد، فإنها تسقط عنه؛ لأنها في حكم الأمانة، كما تقدم، وهو اختيار شيخ الإسلام، واختيار الموفق. فعليه: إذا صُفي الحب وأراد إخراجه، لكن تلف قبل إخراجه وهو لم يفرط، فإن الزكاة تسقط عنه؛ لأن الزكاة في يده كالأمانة. فعلى ذلك: وقت وجوب الزكاة اشتداد الحب وصلاح الثمر. ووقت استقرارها في الذمة عند الحنابلة إذا وضعت في البيدر. والراجح أنها لا تستقر في ذمته حتى وإن وضعت في البيدر حتى يصفى الحب ويجفف الثمر، ويتمكن من الأداء، كما تقدم. والراجح أنه إن حدث تلف في الزكاة بغير تعد منه ولا تفريط، فإن الزكاة تسقط عنه مطلقاً، وإن كان ذلك بعد استقرارها في ذمته؛ لأنها كالأمانة، والأمانة إن تلفت بغير تعدٍ من المؤتمن فإنها تسقط. قال: [ويجب العشر على مستأجر الأرض دون مالكها]

فإذا استأجر زيد من عمرو أرضاً فزرعها أو غرس فيها نخيلاً، فالأرض ليست ملكاً له، وإنما ملكيته ثابتة إما على الثمار دون أصولها كما يقع هذا في النخيل، وإما أن يكون مالكاً للثمر وأصله، أي للرطب والنخيل، أو يستأجر أرضاً فيزرعها، فيكون مالكاً للزرع، فالزكاة تجب على المستأجر؛ لأن الزكاة متعلقة بالمال المزكى، والمال المزكى إنما هو الحب أو الثمر، والحب والثمر مملوك للمستأجر دون صاحب الأرض. وهذا باتفاق العلماء، فلا خلاف بينهم في هذا. وهنا مسألة لم يذكرها المؤلف: وهي مسألة الخرص، وهي مختصة بالثمار دون الحبوب، إذ الحبوب لا خرص فيها. والخرص: هو أن يطيف الخارص، وهو من له خبرة بالخرص، يطيف بالنخل أو بشجر العنب، فينظر إلى ما فيها من ثمر ويقدره أوسقاً. كأن يقول: في هذه النخلة عشرة آصع رطب، وفي هذه تسعة آصع رطب، وهكذا، ثم يقدر كم تجيء تمراً، وفي العنب وكم تجيء زبيباً، هذا هو الخرص. فالخرص: أن يأتي إلى بستان النخيل أو إلى بستان شجر العنب فينظر إلى الأشجار من النخيل والعنب، فيقدر ما فيها من ثمر، ثم بعد ذلك يقدر ما يجيء هذا الثمر من زبيب أو تمر. فالنخلة مثلا يجيء فيها عشرة آصع رطب، فإذا خف، فإنه يكون سبعة آصع تمراً. وإذا اختلفت الأنواع بحيث إنه يختلف، فما خف منها، فإنه يحتاج أن يقدر كل نوع بمفرده. فالخرص إذاً: أن يقدر الرطب وهو في النخل وأن يقدر العنب وهو في شجره، يقدر بالأوسق ثم يقدر ما يجيء منها من تمر أو زبيب.

والخرص مصلحته ظاهرة، فإن الغني يحتاج إلى رطبه، ويحتاج إلى العنب من بستانه، فيحتاج إلى أن يأكل هو وأهل بيته، وأن يهدي وأن يتصدق، فإذا منعناه من ذلك حتى يجد الثمر ثم يجفف حتى يكون زبيباً أو تمراً فإن ذلك يفوت عليه الانتفاع بما يحب الانتفاع به من الرطب، وما يحب من إهدائه وصدقته ونحو ذلك، فلهذه المصلحة إذا بدأ صلاح الثمر يأتي الساعي فيقدره من غير أن يأخذ منه شيئاً، بل يقدر الرطب على رؤوس النخل ويقدر ما يجيء منه من تمر، ثم بعد ذلك ينتظر حتى يتم الجداد وحتى يتم الجفاف ثم تؤخذ بعد ذلك الزكاة؛ لأنه إذا لم يفعل هذا، فإن الغني يمنع من أن يتصرف بالرطب لئلا يتصرف بالمال قبل أخذ الزكاة منه، وفي ذلك تفويت لحاجته، فقد ثبت في الصحيحين عن أبي حميد الساعدي قال: " غزونا مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم في تبوك، فلما جاء مررنا بوادي القرى، فإذا امرأة في حديقة لها، فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (اخرصوا) فخرص النبي صلى الله عليه وآله وسلم عشرة أوسق " (1) ، فهذا في خرص النخيل.

_ (1) أخرجه البخاري في كتاب الزكاة، باب (54) خرص التمر (1481) بلفظ: " عن أبي حميد الساعدي قال: غزونا مع النبي - صلى الله عليه وسلم - غزوة تبوك، فلما جاء وادي القرى، إذا امرأة في حديقة لها فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - لأصحابه (اخرصوا) .. "، وأخرجه مسلم مختصراً (1392) .

وأما في خرص العنب، فقد روى الخمسة - بإسناد فيه انقطاع - عن سعيد بن المسيب عن عتّاب بن أسيد – فالانقطاع بين أسيد (1) وعتاب، فإن سعيداً لم يسمع من عتاب، فهذا انقطاع يسير – قال: " أمرنا النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن نخرص العنب كما يخرص النخل، ونخرج زكاته زبيباً " (2) . فهذا الحديث وإن كان فيه انقطاع، وهو يسير، فإن سعيد بن المسيب مراسيله عند أهل العلم أصح المراسيل، هذا إذا روى عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فكيف إذا رواها عن صحابي. فلو قلنا بضعفه، فهو ضعف يسير ويجبره القياس الظاهر، وهو قياس العنب على النخيل، فإن المصلحة المتقدم ذكرها ثابتة في العنب كما هي ثابتة في الرطب، وإمكان الخرص ثابت في العنب كما هو ثاب في الرطب. إذاً الخرص مشروع في الثمار. وأما الحبوب، فإنه لا يشرع فيها، إذ لا فائدة منه، فليس بواردٍ عن صاحب الشريعة وليس بمعنى الوارد.

_ (1) لعل الصواب: سعيد. (2) أخرجه أبو داود في كتاب الزكاة، باب (13) في خرص العنب (1603) بلفظ: " عن عتاب بن أسيد قال: أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يُخرص العنب كما يخرص النخل وتؤخذ زكاته زبيباً..) ، والترمذي في الزكاة، باب في الخرص حدث 644 وقال: " هذا حديث حسن غريب "، وابن ماجه في الزكاة، باب خرص النخل والعنب حديث 1819. قال الترمذي: " وقد روى ابن جريج هذا الحديث عن عروة عن عائشة، وسألت محمدا - يعني البخاري - عن هذا؟ فقال: حديث ابن جريج غير محفوظ، وحديث سعيد بن المسيب عن عتاب بن أسيد أصح " قال المنذري: وذكر غيره أن هذا الحديث منقطع، وما ذكره ظاهر جداً، فإن عتاب بن أسيد توفي في اليوم الذي توفي فيه أبو بكر الصديق رضي الله عنهما، ومولد سعيد بن المسيب في خلافة عمر، سنة خمسة عشرة، على المشهور، وقيل: كان مولده بعد ذلك، والله أعلم " سنن أبي داود [2 / 258] .

إذا عُلم هذا، فاعلم أن الزكاة لا تخرج رطباً ولا تخرج عنباً، وإنما تخرج تمراً أو زبيباً، لا خلاف بين أهل العلم في هذا. فإذا خرصها، فإنه لا يخرجها رطباً ولا عنباً، وإنما ينتظر حتى يتم الجذاذ ويجف الثمر ثم يؤدى بعد ذلك مرة أخرى إلى صاحب المال فتؤخذ زكاته زبيباً أو تمراً. يدل على هذا ما ثبت في البخاري عن أبي هريرة قال: " كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يؤتى عند صِرام النخيل – أي عند جدادها – فيجيء هذا بتمره وهذا من تمره حتى يصير عنده كَوْماً، قال: فجاء الحسن والحسين يلعبان بها، فأكل أحدهما منها تمرة، فنظر إليه النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأخرجها من فيه، وقال: (أما علمت أن الصدقة لا تحل لآل محمد) (1) . والشاهد هنا: أنه كان يؤتى بالتمر وهذا الإتيان كان على وجه الزكاة، بدليل قوله (فإن الصدقة لا تحل لآل محمد) . إذاً المخرج هو التمر والزبيب، فلا يخرج رطباً ولا عنباً. مسألة: إذا اختلف الساعي – الخارص – وصاحب الثمر، اختلفوا في الخرص، فمثلاً: خُرصت من الساعي، فكان مقدارها عشرة أوسق، فلما تم جدادها وحصادها وجففت بعد ادعى صاحب الثمر أنها لتسعة أوسق وليست لعشرة أوسق، فإن قوله يصدق بلا يمين؛ فالناس لا يستحلفون في صدقاتهم، فهي حق لله عز وجل، واليمين إنما شرعت في حقوق الآدميين، هذا إن كان قوله محتملاً. أما إن كان قوله لا يحتمل كأن يكون الساعي قدرها بخمسة أوسق وادعى صاحب المال أنها خمسة (2) أوسق، والساعي من أهل الخبرة والمعرفة، فإن هذا احتمال بعيد ويتبين به كذب صاحب الثمر، فلا يقبل خبره.

_ (1) أخرجه البخاري في كتاب الزكاة، باب (57) أخذ صدقة التمر عند صِرام النخل (1485) ، ومسلم (1069) باختلاف وبالجزم بأن آخذ التمرة الحسن. (2) كذا في الأصل.

إذاً: إذا ادعى تغليط الساعي بأمر يدل على كذبه، فإن خبره لا يقبل ويُلزم بما قدره الساعي، وأما إذا كان بقدر يحتمل، فإن قوله يقبل بلا يمين. مسألة: وهي أنه يترك لصاحب الثمر الثلث أو الربع، فإن خرصت عشرة أوسق مثلاً، فإنه يترك له الثلث مثلاً، وهو ثلاثة أوسق وثلث أو الربع وهو وسقان ونصف. فإن صاحب الثمار يحتاج لشيء من الثمر في الأكل والإهداء والصدقة ونحو ذلك، فيترك له إما الثلث وإما الربع على حسب اجتهاد الساعي، فإذا رآه من الناس الذين تكثر هدياهم (1) ويكثر الإتيان إليهم، فيكثر الأكل من هذا الرطب عندهم، فإنه يترك له الثلث وإلا فإنه يقدر له الربع. هذا هو المشهور في مذهب أحمد وهو مذهب إسحاق. واستدلوا بما رواه الخمسة إلا ابن ماجه عن سهل بن أبي حثمة قال: " أمرنا النبي صلى الله عليه وآله وسلم إذا خرصتم فخذوا ودعوا الثلث، فإن لم تدعوا الثلث فدعوا الربع " (2) لكن الحديث فيه جهالة التابعي الراوي عن سهل بن حثمة، وله شاهد عند أبي عبيد القاسم بن سلام في كتاب الأموال عن مكحول مرسلاً، وثبت في مصنف بن أبي شيبة بإسناد صحيح: أن عمر بن الخطاب كان يبعث ابن أبي حثمة خارصاً، ويقول له: " إذا أتيت أهل البيت في حائطهم فلا تأخذ منهم قدر ما يأكلون " (3) .

_ (1) كذا في الأصل. (2) بلوغ المرام ص184، رقم 497. أخرجه أبو داود في كتاب الزكاة، باب (14) في الخرص (1605) بلفظ: عن عبد الرحمن بن مسعود قال: جاء سهل بن أبي حثْمَة إلى مجلسنا قال: أمرنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: (إذا خرصتم فجذوا ودعوا الثلث، فإن لم تدعوا أو تجذوا الثلث فدعوا الربع) ، وأخرجه الترمذي في الزكاة، باب في الخرص حديث 643، والنسائي في الزكاة، باب كم يترك الخارص حديث 2493. سنن أبي داود [2 / 260] .

وأما جمهور العلماء فإنهم لم يروا ذلك، بل رأوا أنه لا يترك لأهل البيت شيء؛ قالوا: لعموم الأدلة التي تقدم ذكرها، كقوله: (ليس فيما دون خمسة أوسق) فدل هذا على أن من بلغ ماله خمسة أوسق فتجب عليه الزكاة. والأظهر في الجملة ما ذهب إليه الحنابلة، فإن أدلتهم مخصصة لما تقدم، هذا أولاً. ثانيا: لأن الزكاة إنما تتعلق به إذا كان تمراً أو زبيباً، فالتوسيق المتقدم إنما هو حيث كان تمراً وحيث كان زبيباً، وأما قبل ذلك فلا. لكن ذهب ابن عقيل الحنبلي إلى قول – فيما يظهر لي أصح -، وإن كنا نقول بما ذهب إليه الحنابلة في الجملة أي من إخراج شيء من الرطب وشيء من العنب لصاحب.. البستان. لكن تقديره بالربع والثلث هكذا مطلقاً فيه نظر. بل الأظهر ما ذهب إليه ابن عقيل من الحنابلة، فإنه قال: يترك لهم بقدر ما يحتاجون إليه لأكلهم ولهديتهم بالمعروف سواء كان ربعاً أو ثلثاً أو أقل من ذلك ولو كان عشراً. وهذا أمر ظاهر، فإن بعض الناس يملك بساتين كثيرة لا يحتاج حتى إلى عشرها أو أقل من عشرها. وقول عمر المتقدم يدل على هذا، فإنه قال: " إذا أتيت أهل بيت في حائطهم فلا تأخذ منهم قدر ما يأكلون "، فلم يقدره بالربع والثلث. وأثر عمر رضي الله عنه أصح من الأثرين المتقدمين عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، ولأن الأصل وجوب الزكاة في المال. فعلى ذلك: الأظهر ما اختاره ابن عقيل من الحنابلة، وأنه إذا وجب العنب أو الرطب، فإنه يخرج منه قدراً يحتاجه أهل البيت لأكلهم وهديتهم بالمعروف سواء كان ذلك بقدر الربع أو بقدر الثلث أو بقدر الخمس أو بقدر العشر أو أقل من ذلك، ثم الباقي ينظر فيه، فإن بلغ نصاباً وجبت فيه الزكاة، وإن لم تبلغ نصاباً فلا زكاة فيه. والحمد لله رب العالمين. الدرس الثالث بعد المئتين (يوم الأحد: 28 / 12 / 1415هـ)

قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وإذا أخذ من مِلْكه أو مواتٍ من العسل مئة وستين رطلاً عراقياً ففيه عشره] هنا في زكاة العسل: قال ابن القيم: " ورأوا أن هذه الآثار يقوي بعضها بعضاً، وقد تعددت مخارجها، واختلفت طرقها، ومرسَلُها يُعضد بمسندها " (1) جمهور العلماء لم يروا وجوب الزكاة في العسل؛ قالوا: لأن الأصل هو عدم وجوب الزكاة، ولا دليل على وجوبها، قالوا: ولم يصح حديث عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم في هذا الباب. وقال الحنابلة بوجوب الزكاة في العسل، وهو قول الأحناف، قال الترمذي: " وهو قول أكثر أهل العلم ".

_ (1) زاد المعاد [2 / 15] .

وأجابوا عن الجمهور: بثبوت الحديث فيه، وأنه قد ثبت عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم في سنن أبي داود وغيره من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده: (أنه أخذ في زكاة العسل العشر) (1)

_ (1) أخرجه أبوداود في كتاب الزكاة، باب (12) زكاة العسل (1600) قال: " حدثنا أحمد بن أبي شعيب الحراني، حدثنا موسى بن أعين، عن عمرو بن الحارث المصري، عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال: جاء هلالٌ أحدٌ بني مُتْعان إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعُشُور نحل له، وكان سأله أن يحمي له وادياً يقال له سَلَبة، فحمى له رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ذلك الوادي، فلما ولي عمر بن الخطاب رضي الله نه كتب سفيان بن وهب إلى عمر بن الخطاب يسأله عن ذلك، فكتب عمر رضي الله عنه: إن أدى إليك ما كان يؤدي إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من عشور نحله فاحْم له سلبَة، وإلا فإنما هو ذُباب غيث يأكله من يشاء " قال المحقق: " في هذا دليل على أن الصدقة غير واجبة في العسل، وأن النبي - صلى الله عليه وسلم - إنما أخذ العشر من هلال المتعي إذ كان قد جاء بها متطوعا وحمى له الوادي إرفاقاً ومعونة له بدل ما أخذ منه، وعقَل عمر بن الخطاب المعنى في ذلك فكتب إلى عامله يأمره بأن يحمي له الوادي إن أدى إليه العشر وإلا فلا، ولو كان سبيله سبيل الصدقات الواجبة في الأموال لم يخيره في ذلك، وكيف يجوز عليه ذلك مع قتاله في كافة الصحابة مع أبي بكر مانعي الزكاة ". في أبي داود أيضاً (1601) عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن شبابة - بطن من فهم - فذكر نحوه، قال: من كل عشر قِرَب قرْبة، وقال سفيان بن عبد الله الثقفي قال: وكان يحمي لهم واديين، زاد: فأدَّوا إليه ما كانوا يؤدون إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وحمى لهم وادييهم ". وأخرجه النسائي في الزكاة باب زكاة النحل حديث 1401، وأخرج ابن ماجه طرفاً منه (1823) . وقال البخاري: " ليس في زكاة العسل شيء يصح "، وقال الترمذي بعد ذكر حديث 629: " ولا يصح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في هذا الباب كبير شيء ". سنن أبي داود [2 / 256] .

، قالوا: والحديث حسن، وحديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أحاديث حسان. قالوا: وفي مصنف عبد الرزاق أن عمر: أخذ في زكاة العسل في كل عشرة أفرق فرقاً واحداً " لكن إسناده منقطع، واحتج به أحمد، ورواه سعيد كما في المغني. فجمهور العلماء لم يصححوا هذا الحديث، والأرجح تصحيحه، فعلى ذلك: تجب في العسل الزكاة، كما هو مذهب الحنابلة. وقول المؤلف: " إذا أخذ من ملكه " أي من أرض مملوكة له، كأن يضع في أرض له منحلاً، فينتج هذا المنحل، فيجب عليه إن بلغ النصاب أن يزكيه أو كان ... ... ... (1) . وإن كانت الأرض ليست مملوكة لصاحب الزرع، والثمر يتبع النخيل، فمالك النخيل هو الذي تجب عليه الزكاة، وإن كانت الأرض مستأجرة غير مملوكة له. فالصحيح مذهب الحنابلة، للحديث المتقدم، وأن الزكاة تجب في العسل تبعاً للنخيل من غير نظر إلى الأرض أهي موات أم مملوكة. (2) [مئة وستين رطلاً عراقيا] هذا هو نصاب العسل (160) رطلاً عراقياً، وقد تقدم أن هذا الوزن من الأوزنة القديمة، لكن يمكننا أن نعرف قدره بقياسه بالمقدار المتقدم. وقد تقدم أن الثلاثمئة صاع نبوي يساوي ألفاً وستمئمة رطل عراقي، فعلى ذلك: مئة وستون رطلاً عراقياً يساوي ثلاثين صاعاً نبوياً، وتقدم أن الصاع النبوي يساوي أربعة أخماس الصاع الموجودة عندنا، فعلى ذلك تساوي الثلاثين صاعاً = أربعة وعشرين صاعاً من الآصع الموجودة عندنا. فعلى ذلك: إذا ملك أربعاً وعشرين صاعاً، والصاع كيلوان وأربعون جراماً، فنضرب كيلوين جراماً (3) في أربع وعشرين صاعاً يكون نصاب العسل بالكليوجرامات. هذا هو المشهور في مذهب الحنابلة.

_ (1) يوجد بياض بين العبارات في نحو خمسة أسطر. (2) في حاشية المذكرة ما نصه: " قال القرضاوي بقياس الألبان على العسل ... ... " (3) لعل الصواب: كيلوين وأربعين جراماً.

وقيل: إن نصاب العسل ألف رطل عراقي، وقدَّمه الموفق في الكافي، واحتمله في المغني. وهو الأرجح. أما دليل الحنابلة: فهو ما تقدم من أثر عمر، فقد أخذ عمر من كل عشرة أفرق فرقاً واحداً، والفرق يساوي ثلاثة آصع، فعلى ذلك: من كل ثلاثين صاعاً ثلاثة آصع، والثلاثون صاعاً يساوي مئة وستون رطلاً كما تقدم. وتقدم أن هذا الأثر إسناده منقطع. وأما القول الثاني، فإن دليله ما في سنن أبي داود في بعض روايات حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده المتقدم قال: (في كل عشر قربات قربة) (1) . والقربة تساوي مئة رطل عراقي، فعلى ذلك: العشر قرب تساوي ألف رطل عراقي. فالراجح هو هذا القول؛ لأن أثر عمر إسناده ضعيف، وأعلى منه وأصح هذا الأثر الوارد عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم وهو مرفوع إليه وإسناده حسن. فعلى ذلك الواجب في ألف رطل عراقي الزكاة، ويمكن معرفة قدر الألف رطل عراقي بمعرفة قدر المئة وستين رطلاً، فقد تقدم أنها تساوي ثلاثين صاعاً نبوياً، فيمكن معرفة الألف رطل بالآصع النبوية، ثم بالكيلوجرامات بحساب ما تقدم. فالراجح أن في كل ألف رطل عراقي الزكاة. والواجب فيه العشر، وقد تقدم هذا في الحديث المتقدم أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم: " أخذ في زكاة العسل العشر "، وفي حديث آخر: " في كل عشر قربات قربة ". فعلى ذلك: الواجب في ألف رطل عراقي مئة رطل. قال: [والركاز: ما وجد من دفن الجاهلية، ففيه الخمس] أي ما وجد من مدفونهم، من ركز الشيء إذا أخفاه، وسمي ركزاً لإخفائه. والركاز باتفاق العلماء هو دفن الجاهلية، أو مدفون أهل الجاهلية. ويعرف أنه دفن لأهل الجاهلية بكتابة أسمائهم عليه وصورهم وصور مصوراتهم ونحو ذلك. فما يوجد من الأرض من الكنوز إن وجد فيه علامات الكفار من كتابة أسمائهم أو صورهم أو صور ملوكهم أو صور مصوراتهم فهو الركاز.

_ (1) تقدم.

أما إن وجدت فيه علامات المسلمين أو كان في البلاد الإسلامية وليس فيه علامة فليس بركاز. فالركاز ما يكون من دفن أهل الجاهلية ويعرف بعلامات الكفار أو أن يكون مدفوناً في بلادهم وليست علامات. أما إن كان مدفوناً في البلاد الإسلامية، وإن لم تكن عليه علامة فهو دفن المسلمين أو كان عليه علامة المسلمين فهو دفن لهم، فليس بركاز وإنما هو لقطة، وسيأتي - في هذا الدرس - الكلام عليها. أما الركاز: وهو دفن أهل الجاهلية، فيجب فيه الخمس؛ لقوله صلى الله عليه وآله وسلم: (في الركاز الخمس) (1) ، متفق عليه من حديث أبي هريرة. وكل مدفون ثبتت فيه علامة الكفار فله أخذه ويمتلكه بذلك، وعليه فيه الخمس، سواء كانت الأرض مواتاً أو مملوكة له أو لغيره أو كانت في ديار الكفار، فلا نظر بالأرض هنا؛ لأن الركاز مودع فيها مخفي فيها، فليس منها، فلا يملك الركاز بملكية الأرض، فإذا وجده في أرض مملوكة لغيره فهو له، أو وجده في موات، فلا يقال إنه لبيت المال، بل متى ما وجده فإنه يمتلكه سواء كانت الأرض مواتاً أو كانت ليست أرضا للمسلمين. أو كانت الأرض مملوكة له أو لغيره؛ لأن هذا الركاز مخفي فيها مودع فيها، فليس من الأرض في شيء فلا يتبعها. وهل الخمس مصرفه مصرف الزكاة أو مصرفه الفيء؟ جمهور العلماء على: أن مصرفه مصرف الفيء. وقال الشافعية: مصرفه مصرف الزكاة. أي هل تصرف الخمس كما يصرف خمس الفيء، فيصرف في مصالح المسلمين في بناء المساجد والقناطر ويدفع لبعض أعيان المسلمين تأليفاً أو نحو ذلك مما يكون فيه مصلحة، أم أنه مصرفه مصرف الزكاة، فلا يصرف إلا للأصناف الثمانية؟ قولان لأهل العلم، وتقدما.

_ (1) أخرجه البخاري في كتاب الزكاة، باب (66) في الركاز الخمس (1499) ، ومسلم (1710) .

والقول الراجح هو مذهب جمهور العلماء، وأن مصرفه مصرف الفيء؛ وذلك لأنه مال كافر أُخذ في الإسلام، فأشبه الغنيمة، ولذا وجب فيه الخمس، كما يجب في الغنيمة. فعلى ذلك يصرفه الإمام في مصالح المسلمين كما يصرف الفيء. وهل له أن يتصرف فيه بمصالح المسلمين أي وحده، أم لابد وأن يدفعه إلى الإمام؟ قولان لأهل العلم: المشهور عند الحنابلة، وهو مذهب الأحناف: أنه له أن يتصرف به، فيعطيه أهله ممن يصح أن يصرف لهم الفيء، فيصرفه في مصالح المسلمين ونحو ذلك، وفيه أثر عن علي في البيهقي، لكن إسناده ضعيف. وقال بعض الحنابلة، وهو مذهب أبا (1) ثور: أنه ليس له ذلك، بل يدفعه إلى الإمام، والإمام يصرفه في مصالح المسلمين، كما يصرف الفيء. وهذا القول هو الراجح؛ لأن الإمام هو الناظر في مصالح المسلمين، وما دام هو الناظر فيها، فإن التصرف لا يصح إلا منه. فعلى ذلك: يجب دفعه للإمام ليصرفه في مصالح المسلمين كما يصرف الفيء، وأما أثر علي فإسناده ضعيف. وقد اتفق العلماء على الواجب في الركاز يدفع بمجرد إخراجه، فإذا أخرجه وتمكن من الأداء أخرج، قياساً على الخراج من الأرض من الزروع والثمار. وهذا باتفاق العلماء، لا خلاف بينهم في ذلك، فإنه لا ينتظر حتى يحول عليه الحول، بل بمجرد إخراجه من الأرض يخرج خمسه؛ ولأنه كما تقدم ليس من باب الزكاة، ومضي الحول إنما هو في الأموال الزكوية، وأما هذا فهو يصرف مصارف الفيء، فليس إذاً من باب الزكاة، والحولية إنما هي شرط في الأموال الزكوية. قال: [في قليله وكثيره]

_ (1) الأشهر: أبي ثور، وعلى لغة: إن أباها وأبا أباها قد بلغا من المجد غايتاها. أي بإثبات الألف رفعاً ونصباً وجراً، والأشهر الإعراب بالحروف، قال ابن مالك: أب أخ حم كذاك وهن والنقص في هذا الأخير أحسن. وفي أب وتالييه يندر وقصرها من نقصهن أشهر.، شرح ابن عقيل [1 / 43] .

ليس له نصاب، فنصاب الذهب عشرون ديناراً، فإذا وجد كثيراً لا يصل إلى هذه القيمة فتجب عليه فيه الزكاة؛ لأن الحديث عام، فقد قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (وفي الركاز الخمس) (1) ، فهو عام في كل ركاز، قليلاً كان أو كثيراً؛ ولأنه كما تقدم ليس من الأموال الزكوية والأنصبة إنما تشرع فيها. فعلى ذلك: القدر الذي يجده يخرج خمسه، سواء كانت تساوي نصاب الذهب والفضة أو لم تكن تساويهما، فتجب فيه الزكاة. هذا إذا كان من دفن الجاهلية. أما إذا كان من دفن المسلمين، ويعرف ذلك إما بعلامات المسلمين أو لا تكون فيه علامات، لكن يوجد في البلاد الإسلامية، فهذا هو دفن المسلمين. فلِما تقدم أن الركاز لا يتبع الأرض، فإذاً هو لا يتبع مالكها، بل يكون له حكم اللقطة، فتعرفه سنة، فإن جاء صاحبه وإلا ملكه، هذا إذا كان في أرض مملوكة، أما إذا وجده في موات من الأرض كفلاة، فهذا لا يمكن تعريفه، فإنه يكون عليه فيه الخمس، فيكون له حكم الركاز.

_ (1) متفق عليه، وقد تقدم.

ودليل هذا ما ما ثبت عند أحمد وسنن أبي داود والنسائي بإسناد حسن أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم سئل عن اللقطة، فقال: (إن كانت في طريق مأتي وأرض عامرة فعرفها سنة، فإن جاء صاحبها وإلا ملك، فإن لم تكن في طريق مأتي ولا قرية عامرة، ففيها وفي الركاز الخمس) (1) . إذاً إن وجد دفناً عليه علامات المسلمين ولم يتمكن من معرفة أصحابه، أما إذا كانت العلامات تدل على أصحابه فهو ملك لهم، أما إذا لم يكن فيه علامات أو فيه علامات لا يهتدى بها إلى معرفة صاحبها، فإنه يعرفها سنة ثم يملكها إن كانت في أرض عامرة أو طريق مأتي. أما إذا كانت في موات من الأرض بحيث إنه يبعد معرفة صاحبها والوصول إليه، فإنه يمتلكها وعليه فيها الخمس، والخمس حكمه كالخمس المتقدم. ولم يذكر المؤلف هنا زكاة المعادن وقد ذكرها الشراح فهذا موضعها: والمعادن: جمع معدِن بكسر الدال من عدن أي أقام ومكث. والمراد بالمعادن: ما يخرج من الأرض من ذهب أو فضة أو زئبق أو رصاص أو حديد أو غير ذلك مما يخرج من الأرض. والمعادن تبع للأرض، لأنها مودعة فيها خلقة، فكانت تبعاً لها؛ لأن مالك الأرض يملكها ويملك قرارها.

_ (1) أخرجه أبو داود في كتاب اللقطة رقم (1710) عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عبد الله بن عمرو بن العاص عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه سئل عن الثمر المعلق فقال: (ما أصاب بفيه من ذي حاجة …) قال: وسئل عن اللقطة فقال: (ما كان منها في طريق الميتاء أو القرية الجامعة فعرِّفها سنة، فإن جاء طالبها فادفعها إليه، وإن لم يأت فهي لك، وما كن في الخراب يعني ففيها وفي الركاز الخمس) ، وأخرجه الترمذي في البيوع حديث 1289 وقال: " حديث حسن "، سنن أبي داود [2 / 336] .

جماهير العلماء على وجوب الزكاة في المعادن في الجملة – أي فيه خلاف في أنواع المعادن التي تجب فيها الزكاة، لكنهم مجمعون على أصل هذه المسألة، وأن الزكاة ثابتة في المعادن. واستدلوا بقوله تعالى: {ومما أخرجنا لكم من الأرض} (1) فيدخل في عمومه المعادن، فإنها مما تخرج من الأرض. وفي الموطأ وسنن أبي داود بإسناد مرسل، وأصله عند أبي داود موصولاً، لكن الشاهد فيه هنا مرسل أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أقطع بلال بن الحارث المعادن القبلية، فتلك المعادن لا يؤخذ منها إلا الزكاة إلى اليوم " (2) . والأظهر أن هذا من قول الراوي، فلا يكون موصولاً ولا مرسلاً، وإنما الثابت عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم هو إقطاعه لبلال بن الحارث المعادن القبلية، وأما قوله هنا: " فتلك المعادن لا يؤخذ منها إلا الزكاة إلى اليوم " فالظاهر أنه من قول بعض الرواة، وهو من حديث ربيعة الرأي عن بعض أشياخه عن غير واحد، فهو إذاً من قول بعض أهل المدينة، فهو قول ربيعة أو من روى عنه، فليس بمرسل ولا بموصول، لكن يمكن الاستدلال بالآية {ومما أخرجنا لكم من الأرض} ، والآية عامة فيدخل في عمومها المعادن. وعليه العمل عند أهل العلم، فقد اتفقت المذاهب الأربعة كلها على القول بهذا، وأن الزكاة تؤخذ من المعادن في الجملة. - وخالف في ذلك الظاهرية، فقالوا: لا تجب الزكاة فيها لعدم الدليل، والأصل هو عدم الوجوب. لكن العمل بعموم الآية المتقدمة، وما تقدم من عمل أهل العلم. وقد قال الراوي: " فتلك المعادن لا تؤخذ منها إلا الزكاة إلى اليوم "، يمكن الاستدلال به بما يسمى بالاستصحاب المقلوب، وهو عكس الاستصحاب الذي يُعد من الأدلة الشرعية.

_ (2) أخرجه أبو داود في كتاب الخراج والإمارة والفيء، باب (36) في إقطاع الأرضين (3061) .

وصفة الاستدلال بالاستصحاب المقلوب هنا أن يقال: إن ثبوت أخذ الزكاة فيه في عصر التابعين، فإننا نستصحب هذا الأخذ إلى عصر الصحابة إلى عصر النبي صلى الله عليه وآله وسلم؛ لأن الأصل هو عدم التغير. ولاشك أن هذا الاستصحاب فيه شيء من الضعف، لكنه يقوي ما تقدم. فعلى ذلك جمهور العلماء وهو الأظهر أن الزكاة واجبة ففي المعادن. وخصها الشافعية والمالكية بمعادن الذهب الفضة، أما غيرها من الجواهر والياقوت فلا زكاة فيها. وقال الحنابلة بالعموم، وهو الراجح؛ لأن الآية عامة {ومما أخرجنا لكم من الأرض} ، فهو عام في كل معدن. أما ما رواه البيهقي أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: (لا زكاة في الحجر) (1) ، فإن الحديث لا يصح عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم. * قال جمهور العلماء: ونصابه نصاب الذهب والفضة؛ وذلك لأن الشارع لم يحدد له نصاباً ولا قدراً مخرجاً، فحينئذ ننظر إلى قيمته كعروض التجارة، فإذا كانت قيمته تساوي عشرين ديناراً، كأن يخرج رصاصاً أو حديداً يساوي عشرين ديناراً، ففيها الزكاة، والقدر المخرج هو ربع الشعر. إذاً ننظر إلى قيمتها؛ وذلك لأنها إنما يستفاد منها بالاستفادة من قيمتها، وهي تشبه عروض التجارة، وكما تقدم، فإن الشارع لم يحدد لها نصاباً، فيقدر النصاب بالذهب والفضة، فإذا بلغت قيمتها نصاب الذهب والفضة، ففيها الزكاة، والواجب فيها هو ربع العشر. (2)

_ (1) أخرجه البيهقي في السنن الكبرى [4 / 245] باب (80) ما لا زكاة فيه من الجواهر غير الذهب والفضة (7590) . (2) في حاشية المذكرة ما نصه: وعن أحمد أنه يجب في قليله وكثيره، وهو مذهب ...

الزكاة تخرج كما تخرج زكاة الركاز، فمجرد إخراج المعدن من الأرض تجب الزكاة فيه، قياساً على الزروع والثمار، فإنهما داخلان في عموم قوله: {ومما أخرجنا لكم من الأرض} (1) ، فكما أن الزروع والثمار وهي المخرجة من الأرض تجب زكاتها بمجرد الحصول عليها والتمكن من الأداء، فكذلك في المعادن. إذاً: المعادن تجب فيها الزكاة، والزكاة تجب في كل معدن فيها، ونصابها والمخرج منها قدره قدر قيمتها من الذهب والفضة، ويخرج بمجرد الحصول عليها. وهل تجب الزكاة في المخرج من البحر من اللؤلؤ والعنبر ونحو ذلك؟ قولان لأهل العلم: 1- القول الأول، وهو مذهب الجمهور، وهو المشهور عند الحنابلة: أنه لا تجب فيه الزكاة. قالوا: لأن الأصل عدم وجوب الزكاة، ولا دليل على وجوب الزكاة فيما يخرج من البحر، ولأنه يوجد ملقياً على البحر في غالب أحواله، فأشبه ما يعثر عليه في الأرض من المباحات التى لا تجب فيها الزكاة. 2- والقول الثاني، وهو رواية عن الإمام أحمد: أن الزكاة تجب فيه قياساً على المخرج من الأرض، فكما أن المخرج من الأرض تجب فيه الزكاة، فكذلك المخرج من البحر. وهذا قياس ظاهر. والله أعلم. والحمد لله رب العالمين. باب زكاة النقدين الدرس الرابع بعد المئتين (29 / 12 / 1415 هـ) باب زكاة النقدين النقدان: مثنى نقد، وهو ضد النسيئة، بمعنى منقود أي معطى، فالنقد هو ضد النسيئة والتأخير، والأثمان تنقد نقداً، فليست محلاً للتأخير، فإذا دفع مثلاً مئة دينار، فإنه قد نقد الثمن أي دفعه حاضراً. وهي من نقد الدرهم والدينار، أي نقد جيده من رديئه، أي ميز الطيب من الرديء. والنقدان هما الذهب والفضة. فهذا الباب في زكاة الذهب الفضة. وقد أجمع العلماء على فرضية الزكاة فيهما – الذهب والفضة -، وهما النقدان، وهما أثمان الأشياء. وأما الحلي من الذهب والفضة فسيأتي الكلام عليها في الدرس القادم.

قال المؤلف: [يجب في الذهب إذا بلغ عشرين مثقالاً] المثقال: يساوي في أصح ما ظهر لي من الأقيسة أنه يساوي أربعة جرامات وربع الجرام، فعلى ذلك النصاب يساوي خمسة وثمانين جراماً، وهي ما يساوي عندنا نحو ثلاثة آلاف ريال. هذا نصاب الذهب. يدل على ذلك: أما على أن نصاب الذهب عشرون ديناراً وعلى أن القدر المخرج منه هو ربع العشر: ما روى أبو عبيد القاسم من سلام في كتابه الأموال عن محمد بن عبد الرحمن الأنصاري – وهو ثقة تابعي – أن في كتاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في الصدقة وكتاب عمر: أن الذهب لا يؤخذ منه شيء حتى يكون عشرين ديناراً، ففيه نصف دينار، وأن الورق – وهو الفضة – لا يؤخذ منه شيء حتى يكون مئتي درهم، فإذا بلغ مئتي درهم ففيه خمسة دراهم " (1) وهذا الحديث مرسل، لكن له شاهد عند ابن ماجه من حديث عائشة وابن عمر (2) ، والحديث سنده ضعيف، لكن يصح شاهداً، وله شاهد أيضاً عند أبي داود عن علي قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (إذا كان لك مئتا درهم وحال عليها الحول ففيها خمسة دراهم، وليس عليك شيء حتى يكون لك عشرون ديناراً وحال عليها الحول، ففيها نصف دينار، فما زاد فبحساب ذلك، وليس في مال زكاة حتى يحول عليه الحول) (3) ، والحديث إسناده حسن، لكن الراجح وقفه على علي، ولا يعلم له مخالف.

_ (2) أخرجه ابن ماجه في كتاب الزكاة، باب (4) زكاة الورق والذهب (1791) بلفظ: " عن ابن عمر وعائشة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يأخذ من كل عشرين ديناراً فصاعداً نصف دينار، ومن الأربعين ديناراً ديناراً ". قال البوصيري: " هذاإسناد فيه إبراهيم بن إسماعيل وهو ضعيف. رواه الدارقطني في سننه من هذا الوجه ". (3) أخرجه أبو داود في كتاب الزكاة (1573) باب (4) .

وقد عمل أهل العلم بهذه الآثار، فعليها العمل عند أهل العلم، فقد أجمعوا على فرضية الزكاة في الذهب والفضة، وأن الواجب فيها ربع العشر، وعامتهم على أن نصابها عشرون ديناراً. إلا ما روي عن الحسن: أن نصاب الذهب أربعون ديناراً، وروي عنه موافقته أهل العلم، ولا دليل له على ذلك. إذاً نصاب الذهب عشرون ديناراً، والواجب فيه ربع العشر. قال: [وفي الفضة إذا بلغت مئتى درهم ربع العشر منهما] فقد ثبت في البخاري من حديث أنس في كتاب أبي بكر في الصدقة، وفيه: " وفي الرِّقة – أي الفضة – إذا بلغت مئتي درهم ربع العشر، فإن لم تكن إلا تسعين ومئة فليس فيها صدقة إلا أن يشاء ربها " (1) . كما أن الآثار المتقدمة تدل على هذا، وقد أجمع أهل العلم عليه، وأن الواجب في مئتي درهم ربع العشر. إذا علم هذا، فاعلم أن جماهير العلماء على أن المعتبر في زكاة النقدين هو الوزن. وقد تقدم وزن الذهب وأنه يساوي عندنا فيما يظهر خمسةً وثمانين جراماً، وأما الفضة فإن مئتي درهم يساوي مئة وأربعين مثقالاً، والمثقال من الفضة يساوي جرامين وتسعمئة وخمساً وسبعين بالمئة، وعلى ذلك: نصابه بالجرامات يساوي خمسمئة وخمساً وتسعين جراماً. فالمعتبر عند جماهير العلماء هو الوزن.

_ (1) صحيح البخاري، كتاب الزكاة: باب زكاة الغنم، الفتح [3 / 371] .

فعليه عشرون ديناراً يساوي عشرين مثقالاً، ومئتي درهم يساوي مئة وأربعين مثقالاً، فإذا كانت العشرون ديناراً لا تساوي إلا عشرة مثاقيل، كأن يضرب الناس دنانير تسمى دنانير، لكن الدينار فيها لا يساوي إلا نصف مثقال، فلا تكون النصاب عشرين مثقالاً، بل يكون أربعين مثقالاً، لأن المعتبر هو الوزن، فلا ينظر إلى العدد، أما إذا ملك عشرين مثقالاً لكنها لا تساوي إلا عشرة مثاقيل أو لا تساوي إلا خمسة عشر مثقالاً فلا يجب فيها الزكاة، وكذلك في الفضة، فإن ملك مئتي درهم لكنها لا تساوي مئة وأربعين مثقالاً، فإن الزكاة لا تجب عليه. واستدلوا بما ورد في أبي داود وغيره في قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم، والحديث حسن في زكاة الفضة قال: (إذا بلغت خمس أواق) (1) ، فذكر النبي صلى الله عليه وآله وسلم نصاباً له وزناً، فالأوقية وزن. وقال شيخ الإسلام: بل المعتبر العدد من غير نظر إلى الوزن. وعليه: ما نسميه نحن الريالات تقوم مقام الدراهم،.. .. .. (2) فسيأتي الكلام على الأوراق النقدية، لكن لو ضربت دراهم سميت بريالات أو بغيرها من الأسماء ضربت من الفضة، والدرهم فيها لا يساوي وزناً الدرهم الذي كان على عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، لكنه يسمى درهماً، وكذلك في الدينار، كأن يضرب دينار لا يساوي إلا نصف مثقال، فإنه متى ما بلغ العدد المذكور، فإن الزكاة تجب فيه.

_ (2) بياض في الأصل.

واحتج رحمه الله بأن الدراهم في عهد النبي صلى الله عليه وآله وسلم لم تكن ذات وزن واحد، بل كانت ذات أوزان مختلفة، فمنها ما وزنه ثمانية دوانق، ومنها ما وزنه أربعة دوانق، حتى كان عهد عبد الملك بن مروان فضرب الدرهم الإسلامي الذي يساوي ستة دوانق، قال: فلا يمكن أن يحكم على ما ورد عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم بهذا الدرهم الحادث. فهذا درهم حادث، فهذه الأوزان إنما تعود إلى دراهم ودنانير فضربت في عهد عبد الملك بن مروان، فلا يحكم على القديم بما هو حادث. فهو يرى أن الزكاة متعلقة بعدد الدراهم والدنانير من غير نظر إلى الوزن، واحتج بأن الدراهم والدنانير لم تكن في عهد النبي صلى الله عليه وآله وسلم ذات وزن واحد، بل لها أوزان مختلفة، فعلق النبي صلى الله عليه وآله وسلم الزكاة بعددها، وحيث كان كذلك، فإذا وجدت دنانير ودراهم، فإن الزكاة تجب فيها إذا بلغت العدد المتقدم، وإن كانت لا تساوي الوزن الذي تقدم. وفيما ذكره شيخ الإسلام رحمه الله نظر، فإنه لا يعقل أن تكون الدراهم أو الدنانير التي تتعلق بها قيم الأشياء وتتم بها الأنكحة في مهورها، والبيوع ونحو ذلك من الأحكام الشرعية لا يمكن أن تكون مختلفة الأوزان، وحيث كانت مختلفة في الواقع، فإنه لابد أن يكون هناك قدر هو المتعارف عليه، فإذا وجد دينار يساوي ضعف غيره من الدنانير، فإنه يحكم له بأنه بقيمة دينارين، فنحن وإن سلمنا لم تضرب في عهد النبي صلى الله عليه وآله وسلم، والأمر كذلك، وإنما ضربت – كما تقدم - في عهد عبد الملك، فإنا لا نسلم أنها كانت مجهولة القدر، بل لها قدر ظاهر واضح بيّن، فهي قيم الأشياء وبها تتم أنكحة الناس وبيوعهم وحقوقهم (1) متعلقة بها، ونحو ذلك من الأحكام الشرعية التي تتعلق بالدرهم والدينار.

_ (1) أو كلمة نحوها.

كما أن الشارع لا يمكن أن يجمع بين المختلفات، فيوجب في مئتي درهم الدرهم فيها قدر أربعة دوانق يوجب فيه الزكاة، ولا يوجب الزكاة مما يبلغ الدرهم فيها ثمانية دوانق حتى يبلغ هذا العدد، فإن المئة درهم مما يكون وزنه ثمانية دوانق تساوي مئتي درهم مما يكون وزن الواحد فيها أربعة دوانق، فكيف يفرق الشارع بينهما مع أنهما متساويان. فالأظهر مذهب جمهور العلماء من اعتبار الوزن خلافاً لشيخ الإسلام. وأما الأوراق النقدية المعاصرة، وهي ما تسمى " بنك نوت "، وتسمى بالأنواط في كلام الفقهاء المعاصرين. وهي لغة: " بنك نوت " لغة فرنسية بمعنى الأوراق النقدية. فهذه الأوراق اختلفت فيها أنظار الناس من الفقهاء المعاصرين: فمنهم من قال: هي وثائق دين، يعني ليست أثماناً، وإنما هي وثيقة كما لو اقترضت من رجل مالاً فأعطيته ورقة فتثبت فيها هذا الحق الذي عليك، فهي وثيقة دين. وهذا اعتماد على ما يكتب فيها من التزام مؤسسة النقد بدفع ما يقابلها من ذهب وفضة. وهذا ضعيف، فإن هذه الكتابة المقصود منها توثيقها وإلا فإن صاحب الورق لا يعطي قيمتها من الذهب والفضة، لكن المقصود من هذه الكتابة هو توثيق هذه الأوراق وإعطائها قيمتها. وهذا القول فيه شدة، إذ يترتب عليه الأحكام الكثيرة من عدم جواز السلم فيها، ومن مسائل كثيرة تترتب على هذا، كما أنه لا يجوز شراء الذهب الخالص بها ولا شراء الفضة الخالصة بها؛ لأنها تعتبر ديون، فلا يجوز أن يشترى ذهباً فيها وإن دفعها، ولا فضة وإن دفع هذه الأوراق النقدية؛ لأنها ديون، والواجب أن يكون الشراء يداً بيد في الأموال الربوية، فهذا مع ضعفه فيه ضيق وشدة. وأوسع المذاهب من قال: إنها عروض تجارة، وحجته: أنها مال مرغوب فيه، وليست بذهب ولا فضة، فأشبه العقارات وغيرها من العروض كالأقمشة وغيرها التي تباع وتشترى.

وهذا أيضا ضعيف؛ لأن قيمتها في الحقيقة قيمة ثمنية، إذ لو أن السلطان أبطلها - أي أبطل التعامل بهذه الورق المعينة لم يبق لها قيمة مطلقاً. وهذا أوسع المذاهب. ويترتب على هذا القول جواز الربا فيها بنوعيه، ربا الفضل وربا النسيئة؛ لأنها عروض تجارة، فكما لو استبدل أقمشة بأقمشة، فله أن يستبدل مئة ألف بخمسة آلاف، سواء كان ذلك حاضراً أو نسيئة؛ لأنها ليست بأثمان، بل هي عروض تجارة. وقال بعض أهل العلم: بل هي بدل عن الذهب والفضة، فلها أحكام الذهب والفضة؛ لأنها – على رأي هذا القائل - لابد مقابلها في صندوق النقد ذهب وفضة، فتعطى حكمه. وعليه: إذا كانت بدلاً من الذهب، فنصابها نصاب الذهب، سواء كانت.. ... (1) نحو ثلاثة آلاف ريال. وأما إن كانت بدلاً عن الفضة فنصابها نصاب الفضة، وهو نحو أربعمئة أو خمسمئة ريال، وربما زاد أو نقص. فهذا القول يقول هي بدل عن الذهب والفضة، والبدل له حكم المبدل منه، فعلى ذلك يعطى حكم الذهب والفضة. وعليه: فإنه يترتب على هذا أن الأوراق النقدية المختلفة التي تكون من بلاد مختلفة يقع الربا بينها، أي ربا الفضل وربا النسيئة؛ لأنها كلا من جنس واحد. فمثلاً الدولارات والريالات، إن قلنا أن أصلها ذهب، فلا يجوز أن يعطيه دولارات بريالات متفاضلة؛ لأنها من جنس واحد، وهو الذهب. وذهب بعض أهل العلم، وهو أصحها: أن الأوراق النقدية من الريالات والدولارات وغيرها أثمان مستقلة بنفسها.

_ (1) كلمة غير واضحة.

أما كونها أثمان، فهذا ظاهر؛ فإن لها قيمة الذهب والفضة تماماً في البيع والشراء ونحو ذلك، ولا فرق بينها وبين الذهب والفضة في التعامل القديم، بل قد طغى التعامل بها بظهور ووضوح على التعامل بالذهب والفضة، بل لا يكاد أن يتعامل الناس بالذهب والفضة، بل ربما لا يتعاملون بها على أنها أثمان، وإنما يتعاملون بالأوراق النقدية، فهي الأثمان، ففيها البيع والشراء، فقد أخذت مكان الذهب والفضة تماماً، حتى لا تسمع في القوانين عامة الشرعية وغيرها من لم يقبلها على أنها ثمن للأشياء. وأما كونها مستقلة - أي مستقلة عن الذهب والفضة -؛ فلأن هذا هو الواقع، فإن الواقع أن رصيدها في بيت النقد ليس بذهب على الخصوص أو فضة على الخصوص، بل يجتمع فيه الذهب والفضة والمعادن والعقارات وغير ذلك من الأموال، فليس لها رصيد محدد من ذهب أو فضة حتى نجعلها بدلاً من أحدهما، بل رصيدها من أموال مختلفة، فقد يكون رصيدها من البترول أو من بعض المعادن الأخرى ومن الذهب والفضة ومن العقارات ونحو ذلك، وربما كان رصيدها الثقة الدولية التي تعطى لهذه الدولة. فعلى ذلك: أصبحت مستقلة بنفسها، وحيث كان كذلك،فإن كل ورقٍ نقدي لبلد جنس مختلف، فعليه: يجوز التفاضل بين الريالات والدولارات أو غيرها من الأموال. وهذا لاشك أن فيه دفعاً لحاجة الناس ورفعاً للحرج عنهم مع المحافظة على الأحكام الشرعية من وجوب الزكاة وتحريم الربا ونحو ذلك، فيثبت الربا بنوعيه، ربا الفضل وربا النسيئة فيها، وتثبت الزكوات فيها، كما أن هذا في كل جنس منفرداً، وفيما بينها لا يثبت إلا ربا النسيئة الذي هو أقبح الربا وأعظمه. فعلى ذلك: أصح الأقوال للمعاصرين في مسألة الأوراق النقدية أنها أجناس مختلفة، وهي أثمان مستقلة عن الذهب والفضة. وحينئذ يشكل علينا نصابها، فهل يكون نصابها نصاب الذهب أو يكون نصابها نصاب الفضة؟

وحيث هي أثمان، فإن نصابها بالقياس الظاهر هو نصاب الأثمان، لكن هل يكون نصابها نصاب الذهب أو نصاب الفضة؟ فهل.. .. (1) الريالات خمسا وثمانين جراماً أوجبنا فيها الزكاة، أم أنها.. . . خمسمئة وخمس وتسعين جراماً من الفضة أوجبنا فيها الزكاة؟ ثلاثة أقوال أيضا للمعاصرين: فمن المعاصرين من قال: نصابها نصاب الفضة؛ لأن نصاب الفضة مجمع عليه، ولأنه ثابت في البخاري، والأحاديث الواردة فيه أصح. وقال بعضهم: إن الزكاة تجب إذا بلغ أدنى النصابين، فإذا ساوى الفضة وجبت فيه الزكاة، وإن لم يساو الذهب، فإن كان نصاب الذهب أقل من نصاب الفضة، فإذا بلغ نصاب الذهب وجبت فيه الزكاة، وإن لم يبلغ نصاب الفضة. وهذا أقوى في النظر؛ وذلك لأنها كليهما أثمان تجب فيه الزكاة، فإذا بلغ نصاب أحدهما، وجبت فيه الزكاة وإن لم يبلغ نصاب الآخر. والقول الثالث: أن الواجب فيه نصاب الذهب؛ قالوا: لأن نصاب الفضة يسير لا يقارن بالأنصبة الواردة في الشرع في أربعين شاة أو خمس من الإبل وغيرها مما ورد في الشريعة من أنصبة الأموال. فإن نصاب الريالات السعودية لو حددناه بنصاب الفضة فإنه يساوي خمسمئة ريال، وهذه لا تساوي شاة واحدة، فيبعد أن يوجب الشارع في مثل هذا المبلغ الزكاة، فإن في ذلك إجحافاً بصاحب المال. وأما الذهب، فإنه يصل كما تقدم إلى ثلاثة آلاف، وهذا يقرب أن يكون نصاباً يعرف به الغني. وهذا القول فيما يظهر لي أقوى هذه الأقوال؛ لأنه ليس فيه إجحاف بصاحب المال، ولأن الشرع لا يعلق الزكاة بمثل هذا المبلغ اليسير، فإن الشاة كانت تساوي الدرهم ونحوه، فمئتا درهم تأتي بها مئة شاة ومئتى شاة، وأما هنا،فإنه بالنظر إلى نصاب الفضة لا تساوي الريالات إلا الشيء اليسير من الأموال. فالأظهر هو تقويمها بنصاب الذهب. كما أن الذهب أقوى في الثمنية من الفضة.

_ (1) كلمة غير واضحة.

فأظهر الأقوال أن يقدر بالريالات بالذهب، وأحوطها هو القول الثاني، وهو أنها إذا ساوت أدنى النصابين من الذهب والفضة فإن الزكاة تجب فيها. الله أعلم. قال: [ويضم الذهب إلى الفضة في تكميل النصاب] هذا المشهور عند الحنابلة، وهو مذهب جمهور العلماء، قالوا: لأن الذهب والفضة المقصود منهما واحد، فهما أثمان الأشياء وقيمها، فعلى ذلك: إن ملك نقداً من الذهب، ونقداً من الفضة، بحيث إن كل واحد من النقدين لا يبلغ نصاباً، وبمجموعهما يبلغان النصاب، فإن الزكاة تجب عليه، وهي ربع العشر. - وقال الشافعية، وهو رواية عن الإمام أحمد (1) : إنه لا يضم بعضهما إلى بعض؛ لأن كلاًّ منهما جنس مختلف عن الآخر، كالإبل والبقر والغنم، فكل منها جنس يختلف عن الآخر، فلم يضم بعضها إلى بعض لاختلاف جنسيهما. والأظهر ما تقدم، وهو القول الأول، فإن جنسيهما وإن اختلفا، فهما بمعنى الجنس الواحد، فهما قيم الأشياء، فعلى ذلك: الأظهر مذهب الجمهور أن الذهب والفضة يضم بعضها إلى بعض. وهذه مسألة غير واقعة لنا في الأزمنة المعاصرة إلا أن يقال هذا على القول الذي تقدم اختياره، وهو في الأوراق النقدية المختلفة، كأن يكون يملك دولارات وريالات، وقلنا إن كلا منهما جنس مجرد عن الآخر، فإنه يضم بعضها إلى بعض كما يضم الذهب والفضة. فإذا ضم بعضها إلى بعض، فهل يكون هذا بالأجزاء أم بالقيمة؟ قال جمهور العلماء: يكون هذا بالأجزاء. وصورة هذا: إذا ملك نصف نصاب الذهب وهو عشرة الدنانير، وملك نصف نصاب الفضة وهو مئة درهم، فإن الزكاة تجب عليه، فقد ملك نصفاً من هذا، ونصفاً من هذا، فيتم النصاب. كذلك إذا ملك ثلثاً من نصاب الفضة، وثلثين من نصاب الذهب أو العكس، فإن هذه الأثلاث تجتمع فتكون نصاباً. هذا إذا قلنا:إنها تضم بالأجزاء.

_ (1) واختاره الشيخ محمد العثيمين رحمه الله تعالى.

أما إذا قلنا: إنها تضم بالقيمة، فإذا ملك عشرة دنانير وملك خمسين درهماً وهي تساوي ربع نصاب الفضة، وهذه الخمسون درهماً تساوي عشرة دنانير، لأن قيمة الذهب والفضة تختلف باختلاف الأزمان ونحو ذلك، بل قد يكون في الزمن الواحد بل بالأيام يحصل اختلاف في قيمة الذهب والفضة، فمثلاً إذا كان يملك خمسين درهماً ويساوي عشرة دنانير، وعنده عشرة دنانير، فهذه عشرون ديناراً، فتجب عليه الزكاة. وقال أبو حنيفة: إن الضم يكون بالقيمة، وخالفه فيه صاحباه فوافقوا جمهور العلماء. فجمهور العلماء على أن الضم يكون بالأجزاء، فإذا ملك نصفاً من هذا ونصفاً من هذا وجبت عليه الزكاة، فلو ملك عشرة دنانير ومئة درهم، وهذه المئة درهم لا تساوي إلا ثمانية دراهم، فإنه تجب عليه الزكاة. أما أهل القول الأول، فقالوا: إنا لا ننظر إلى القيمة إذا كانا منفردين، فكذلك إذا ضم بعضها إلى بعض. فعندما يملك عشرين ديناراً وهذه العشرون لا تساوي إلا مئة درهم، فإن الزكاة تجب عليه اتفاقاً، فلم ننظر إلى القيمة، وكذلك من ملك مئتي درهم، فإن الزكاة تجب عليه وإن لم تساو إلا عشرة دنانير، قالوا: فلم ننظر في القيمة وهما منفردان، فكذلك لا ننظر فيها وقد ضم بعضا إلى بعض. هذا هو مذهب الجمهور. وأما القول الثاني، وهو الاعتبار بالقيمة، فقالوا: إن هذه العشرة دنانير لا تساوي إلا خمسين درهماً، فحينئذ يكون ماله بمجموعه لا يساوي نصاباً، وهذا فيما يظهر لي أقوى.

وذلك لأن كوننا ننظر إليهما منفردين لأنهما مال واحد أوجب الشارع فيه الزكاة، وأما هنا فإنهما لم يبلغا نصاباً شرعياً، وإنما بجموعهما قد بلغاه بالقيمة، فحيث كان ذلك فقد وجبت الزكاة. وحيث لم يكن مجموعهما يصل إلى قيمة ما تجب فيه الزكاة فإن الزكاة لا تجب فيهما، ولا شك بالفارق بين ما إذا كانا منفردين وما إذا كانا مضمومين: بأنهما إذا كانا منفردين فقد بلغا النصاب الشرعي، وأما إذا كانا غير منفردين فإن كلاًّ منهما لم يبلغ النصاب الشرعي، وحيث لم يبلغ النصاب الشرعي، فإنا حينئذ نعلق الحكم بقيمته؛ لأن الشارع لا يفرق بين المتماثلات، فحيث كان عنده من الدراهم والدنانير ما يساوي مئة درهم أو عنده من الدراهم والدنانير ما يساوي عشرين ديناراً، فإن الزكاة تجب عليه، لأنه كما لو كان عنده عشرون ديناراً. فالذي يظهر لي وهو رواية عن الإمام أحمد، وهو مذهب أبي حنيفة من الاعتبار بالقيمة هنا لا بالأجزاء. والله أعلم. قال: [وتضم قيمة العروض إلى كلٍ منهما] رجل عنده دكان وعنده دراهم قد حال عليها الحول، فهذه الدراهم التي حال عليها الحول لا يبلغ نصاباً وبضمها إلى قيمة العروض يكون مجموعها نصاباً، فإن قيمة العروض تضم إليها، سواء كانت دراهم أو دنانير، وهذا ظاهر؛ لأنه تقدم أن العروض تجب الزكاة في قيمتها، وقيمتها دراهم أو دنانير، فعلى ذلك: تضم. فإذا كان عنده دكان فقومه بدراهم، وعنده دراهم قد حال عليها الحول، وإذا أفرد كلاً منهما لم يتم نصاباً، فإنه يضم بعضها إلى بعض، ويجب عليه ربع العشر؛ لأن العروض من جنس الدراهم والدنانير، لأن النظر في قيمتها لا في أعيانها. والله أعلم. والحمد لله رب العالمين. الدرس الخامس بعد المئتين (يوم الثلاثاء: 1 / 1 / 1416 هـ) قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ويباح للذكر من الفضة الخاتم]

لما ثبت في الصحيحين عن أنس قال: " اتخذ النبي صلى الله عليه وآله وسلم خاتماً من فضة " (1) . فخاتم الفضة جائز لثبوته عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم. قال: [وقبيعة السيف] هي ظرف مقبض اليد منه، فيجوز أن يكون من فضة؛ ودليل هذا ما ثبت في مسند أحمد وأبي داود والترمذي بإسناد صحيح من حديث أنس بن مالك قال: " كانت قبيعة سيف النبي صلى الله عليه وآله وسلم فضةً " (2) . قال: [وحلية المِنْطَقة] المنطقة: تقدم أنها ما يشد به الوسْط، وهو من ملبوس الرجال سابقاً، فإذا وضع في أطرافه شيء من فضة، فحليت بالفضة فلا بأس.

_ (1) أخرجه البخاري في كتاب العلم، باب (7) ما يذكر في المناولة وكتاب أهل العلم بالعلم إلى البلدان (65) عن أنس رضي الله عنه بلفظ قال: " كتب النبي - صلى الله عليه وسلم - كتاباً - أو أراد أن يكتب – فقيل له: إنهم لا يقرؤون كتاباً إلا مختوماً، فاتخذ خاتماً من فضة نقشه … "، وفي كتاب اللباس، باب (46) خاتم الفضة (5866) عن ابن عمر بلفظ: " أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - اتخذ خاتماً من ذهب أو فضة، وجعل فصه مما يلي كفه، ونقش فيه: محمد رسول الله، فاتخذ الناس مثله، فلما رآهم قد اتخذوها رمى به وقال: (لا ألبسه أبداً) ، ثم اتخذ خاتماً من فضة، فاتخذ الناس خواتيم فضة، قال ابن عمر: فلبس الخاتم بعد النبي - صلى الله عليه وسلم - أبو بكر ثم عمر ثم عثمان، ثم وقع من عثمان في بئر أريس "، و (5869) (5870) عن أنس رضي الله عنه بألفاظ مختلفة، ومسلم (2092) . (2) أخرجه أبو داود في كتاب الجهاد، باب (9) في السيف يحلى (2583) .

وذكر الحنابلة في ذلك آثاراً عن الصحابة لم أقف على عزوها، ولم يعزوها، والقياس يدل على جوازه، وأظهر منه ما سيأتي من إباحة الفضة للرجال مطلقاً مما هو اختيار شيخ الإسلام. قالوا: ومثل ذلك رأس المكحلة وحلية الدرع وحلية المغفر أو أن يضع شيء في النصل أو نحو ذلك، فكل هذا جائز لا بأس به من باب القياس على الحلية التي توضع في السيف التي تقدم ثبوت فعلها عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم. وما سوى ذلك فهو محرم. هذا هو المذهب. قال صاحب الفروع: " ولم أجدهم يحتجون على تحريم لبس الفضة على الرجال، ولا أعرف على تحريم لبس الفضة على الرجال نصاً عن أحمد ". - وهناك قول في المذهب، وهو اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية، وهو القول الثاني في المسألة، وقد قواه صاحب الفروع: وهو أي لبس الفضة للرجال جائز مطلقاً؛ وذلك لأن الأصل في الأشياء الإباحة كما قال تعالى: {هو الذي خلق لكم ما في الأرض جميعاً} (1) ، ومن ذلك الفضة، فالفضة مما خلقه الله لنا، فهو جائز لنا، ولا دليل يحرمه، وقد دلت الأدلة على جوازه للنساء، وهو بإجماع العلماء جائز لهن، والأصل أن ما جاز للنساء فهو جائز للرجال كما أن ما جاز للرجال فهو جائز للنساء إلا بدليل يدل على التخصيص ولا دليل يدل على ذلك. هذا هو القول الراجح في هذه المسألة، وأن لباس الفضة جائز مطلقاً للرجال. وأما كون الآنية محرمة منه، فإن باب اللباس أوسع من باب الآنية، بدليل أن الآنية محرمة على النساء كما تقدم، فالنساء لا يجوز لهن أن يشربن في آنية الذهب والفضة ويجوز لهن أن يلبسن الذهب والفضة، فباب اللباس أوسع من باب الآنية.

فلبس الفضة للرجال جائز مطلقاً على الراجح إلا أن يدل دليل على التحريم، كأن يكون اللبس فيه تشبه بالنساء، فقد دلت الأدلة الشرعية على تحريم تشبه الرجال بالنساء، فلا يجوز أن يلبس سواراً أو غير ذلك، لكن إن لبسه لبساً يختص بالرجال فلا بأس بذلك. ومما يدل على الفرق بين الذهب والفضة أن خاتم الفضة جائز لثبوته عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم وخاتم الذهب محرم عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم نصاً في الصحيحين كما سيأتي. ففرق بين الذهب والفضة. قال: [ومن الذهب قبيعة السيف] يجوز له أن يحلي قبيعة (1) سيفه بالذهب، فهذا جائز، وقد حكاه الإمام أحمد عن عمر بن الخطاب، والوارد عن عمر كما في الطحاوي (2) وغيره بإسناد جيد أن سيفه كان محلاًّ بفضة، وهو الأليق به من الاقتداء بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم، فإن سيفه كان محلاً بفضة، فالأظهر ضعف هذا الأثر، ولم أقف على سند له ينظر فيه، والمحفوظ عن عمر ما تقدم من أن سيفه كان محلاً بفضة. ورواه الترمذي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم مرفوعاً لكن بإسناد لا يصح. إذاً قالوا: قبيعة السيف يجوز أن تكون من ذهب، واستدلوا بما حكاه الإمام أحمد فقال: " روي عن عمر " وتقدم أن المحفوظ فيما وردت به الآثار التي يقف الناظر على سندها إنما ما تقدم من أن سيفه كان محلاً بفضة، لكن سيأتي الدليل على جواز ذلك. قال: [وما دعت إليه ضرورة كأنف ونحوه]

_ (1) القَبِيعةُ: التي على رأس قائم السيف، وهي التي يُدخَلُ القائم فيها، وقيل: هي ما تحت شاربي السيف مما يكون فوق الغِمْد فيجيء مع قائم السيف، والشاربان أنفان طويلان أسف القائم، أحدهما من هذا الجانب والآخر من هذا الجانب، وقيل: قبيعة السيف رأسه الذي فيه منتهى اليد إليه، وقيل: قبيعته ما كان على طرف مَقْبِضِه من فضة أو حديد " لسان العرب [8 / 259] .

يجوز أن يضع من الذهب ما يضطر إليه من أنف أو أسنان أو نحو ذلك. هذا جائز للضرورة. فقد روى أبو داود بإسناده الذي لا بأس به، فالسند لا بأس به إن شاء الله، ويشهد له عمل أهل العلم، فإنه لا خلاف بين العلماء في جواز اتخاذ ما يضطر إليه من أنف أو سن أو نحو ذلك من الذهب، فما يضطر إليه أن يتخذ من ذهب فهو جائز باتفاق العلماء، ويدل عليه أصول الشريعة من أن المحرمات يذهب تحريمها بالاضطرار إليها، فلا تحريم مع ضرورة، فقد روى أبو داود في سننه بإسناد لا بأس به عن عرفجة بن أسعد رضي الله عنه أنه أصيب أنفه يوم الكُلاَب في الجاهلية، فاتخذ أنفاً من فضة، فأنتن، فأمره النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن يتخذه من الذهب " (1) ، ولا خلاف بين العلماء في هذه المسألة.

_ (1) أخرجه أبو داود في كتاب (28) الخاتم، باب (7) ما جاء في ربط الأسنان بالذهب (4232) . قال المحقق [4 / 434] : " وأخرجه الترمذي في اللباس حديث 1770 باب ما جاء في شد الأسنان بالذهب، والنسائي في الزينة حديث 5164 باب من أصيب أنفه هل يتخذ أنفاً من ذهب، وقال الترمذي " هذا حديث حسن غريب، إنما نعرفه من حديث عبد الرحمن بن طرفة " وقال المنذري: وأبو الأشهب هذا، هو جعفر بن الحارث، سكن واسط وكان مكفوفاً، ضعفه غير واحد والكلاب - بضم الكاف وتخفيف اللام والباء – موضع كان فيه يومان من أيام العرب المشهور. الكلاب الأول، والكلاب الثاني، واليومان في موضع واحد، وقيل: هو ما بين الكوفة والبصرة على سبع ليال من اليمامة، فكانت به وقعة في الجاهلية، انتهى كلام المنذري، وفي عارضة الأحوذي شرح الترمذي: يوم الكلاب كان مرتين، الأولى بين بكر وتغلب، والثاني يوم الصعقة بين تميم وأهل هجر الحارثيين وغيرهم، وفي الثاني حضر عرفجة وأكثم بن صيفي والزبرقان بن بدر " انتهى كلام المحقق.

نعود إلى ما تقدم من الاستدلال على جواز قبيعة السيف، دليله ما رواه النسائي وغيره بإسناد صحيح: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم نهى عن الذهب إلا مقطعاً " (1) ، وهو اختيار شيخ الإسلام (2) ، وهو قول أبي بكر من الحنابلة: أن الذهب اليسير التابع لغيره جائز،وهو الذهب المقطع. فإذا اتخذ في شيء من ملبوساته ذهباً يسيراً، فإن ذلك جائز؛ لأن الذهب هنا مقطع، فالذهب المقطع جائز، كأن يحلي الدرع بشيء يسير من ذهب أو يحلي المنطقة بشيء يسير من ذهب أو أن يضع في خاتمه فصاً من ذهب، فإن هذا جائز. وهذا خلاف المشهور في المذهب،فإن المشهور في المذهب جوازه في قبيعة السيف فحسب. - واختار شيخ الإسلام، وهو قول في المذهب: جوازه مطلقاً إن كان تابعاً لغيره، وهو يسير. أما إن كان ليس تابعاً لغيره، بل هو لباس مستقل، كالخاتم وغيره، فإن الأدلة دلت على تحريمه، فقد ثبت في الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم رأى خاتم ذهب في يد رجل فنزعه وطرحه، وقال: (يعمد أحدكم إلى جمرة من نار فيجعلها في يده) (3) . (4) قال: [ويباح للنساء من الذهب والفضة ما جرت عادتهن بلبسه ولو كثر]

_ (1) أخرجه النسائي في كتاب (48) الزينة، باب (40) تحريم الذهب على الرجال (5150) بلفظ: " عن معاوية أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نهى عن لبس الذهب إلا مقطعاً وعن ركوب المياثر "، و (5149) عن معاوية أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نهى عن لبس الحرير والذهب إلا مقطعاً ". (2) الفتاوى لشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله [21 / 87] . (3) أخرجه مسلم في كتاب (37) اللباس والزينة، باب (11) تحريم خاتم الذهب على الرجال.. (2090) . ولم أجده في البخاري، وكذا عزاه صاحب الدراية في تخريج أحاديث الهداية، إلى مسلم فقط. (4) في أسفل المذكرة ما نصه: قال رحمه الله: فيباح خراز الذهب إذا كان أربعة أصابع فما دونها ...

النساء يباح لهن أن يلبسن من الذهب والفضة ما جرت عادتهن به من قرط أو فتخات أو أسورة أو سلاسل أو غير ذلك محلقاً أو غير محلق، يجوز لهن أن يلبسن ما جرت عادتهن بلبسه من الذهب والفضة. وذلك لقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم فيما تقدم تخريجه، وهو في بعض السنن أنه قال في الذهب والحرير: (هذان حرام على ذكور أمتي حلال لإناثهم) (1) . فالذهب مباح للنساء مطلقاً. وقيده المؤلف هنا بما جرت عادتهن، لا بما جرت عادة الرجال به، فما عادة الرجال به فلا يجوز لما فيه من التشبه. إذاً ما جرت عادتهن بلبسه، وهذا يختلف باختلاف الأزمان والبلدان، فإن ذلك جائز لهن ولو كثر.

_ (1) أخرجه أبو داود في كتاب (26) اللباس، باب (14) في الحرير للنساء (4057) بلفظ: " عن عبد الله بن زُريَر يعني الغافقي أنه سمع علي بن أبي طالب رضي الله عنه يقول: إن نبي الله - صلى الله عليه وسلم - أخذ حريراً فجعله في يمينه، وأخذ ذهباً فجعله في شماله، ثم قال: (إن هذين حرام على ذكور أمتي) ، وأخرجه النسائي في الزينة حديث 5147) باب تحريم الذهب على الرجال، وابن ماجه في اللباس حديث 3595 باب لبس الحرير والذهب للنسائي، وفي حديث ابن ماجه (حل لإناثهم) ، وأخرج الترمذي - عن أبي موسى الأشعري – في اللباس حديث 1720 باب في الحرير والذهب، وأخرجه النسائي أيضا في الزينة باب تحريم لبس الذهب، وقال الترمذي: " حسن صحيح "، سنن أبي داود [4 / 330] .

وقوله: " ولو كثر "، " لو " إشارة إلى خلاف في المذهب، فقد قال ابن حامد من الحنابلة، وهو رواية عن الإمام أحمد: أنه إن بلغ ألف مثقال فإنه يحرم،وهذا القول ضعيف؛ لأنه تحديد بلا دليل، بل يجوز للنساء أن يلبسن ما شئن، فإن الأدلة مطلقة، لكن بشرط ألا يكون فيه إسراف ولا مخيلة، وقد يكون الإسراف أو المخيلة في أقل من هذا العدد المذكور، وقد لا يكون فيه، بل في أكثر منه، فمتى ما وقع الإسراف أو المخيلة فإنه لا يجوز. فقد قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم فيما رواه أحمد والنسائي بإسناد جيد: (كلوا واشربوا وتصدقوا والبسوا بغير إسراف ولا مخيلة) (1) . إذاً لا يحدد ذلك بقدر، إذ لا دليل على التحديد، وإنما ينهى فيه الإسراف أو المخيلة، فإنه محرم لما تقدم. قال: [ولا زكاة في حليهما] أي في حلي الذكر والأنثى، فإذا كان عند الرجل خواتم من فضة وله قبيعة سيف من فضة يبلغان نصاباً، فتجب (2) عليه الزكاة فيه، وكذلك المرأة إذا كان فيها لبس من فضة أو لبس من ذهب بلغ النصاب. فقوله: " حليهما " أي الذكر والأنثى أي فيما يجوز لهما من الحلي. قال: [المعد للاستعمال أو العارية] أي لاستعمال مالكه وهو الملبوس، أم كان معداً للعاريَّة. فإن كان قد أعد للاستعمال أو العارية، فلا زكاة فيه. هذا هو المشهور عند الحنابلة، وهو مذهب المالكية والشافعية، وأن الحلي لا زكاة فيه سواء كان معداً للاستعمال أو معداً للعارية.

_ (1) ذكره البخاري معلقاً بصيغة الجزم في أول كتاب اللباس بلفظ: (كلوا واشربوا والبسوا وتصدقوا من غير إسراف ولا مَخِيلة) وأخرجه النسائي في كتاب (23) الزكاة، باب (66) الاختيال في الصدقة (2559) عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده بلفظ قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (كلوا وتصدقوا والبسوا في غير إسراف ولا مخيلة) . (2) كذا في الأصل، ولعل الصواب: لا تجب.

واستدلوا بما روى جابر أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: (ليس في الحلي زكاة) (1) . قالوا: ولأن الحلي المعدة للاستعمال أو العارية ليس محلاً للنماء، والزكاة إنما تجب في الأموال النامية، وهذا ليس بمال نام، بل يستعمل ويعار، وحينئذ فليس قابلاً للنماء، قالوا: فأشبه متاع البيت، فأثاث البيت لا زكاة فيه، فكذلك حليهما المعد للاستعمال والعارية، وهو مذهب الشافعي. - وذهب الأحناف، وهو رواية عن الإمام أحمد، وهو مذهب طائفة كثيرة من التابعين، فهو مذهب ابن المسيب ومجاهد وابن سيرين وعطاء، وهو مذهب ابن مسعود وعائشة كما في البيهقي بإسناد حسن: أن الزكاة تجب في الحلي المعد للاستعمال (2) .

_ (1) رواه الطبراني، قال الألباني في الإرواء [3 / 294] رقم (817) : " باطل ". قال الإمام أحمد كما في منار السبيل: " خمسة من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - يقولون ليس في الحلي زكاة زكاته إعارته، وهم أنس جابر وابن عمر وعائشة وأسماء. (2) أخرج البيهقي [4 / 234] رقم (7546) عن علقمة أن امرأة عبد الله سألت عن حلي لها فقال: إذا بلغي مئتي درهم ففيه الزكاة قالت: أضعها في بني أخ لي في حجري قال: نعم، وقد روي هذا مرفوعاً إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - وليس بشيء ".وفيه (7551) عن ابن عمر قال: " زكاة الحلي زكاته "، وعن عائشة (7545) رضي الله عنها قالت: " لا بأس بلبس الحلي إذا أعطي زكاته ".

واستدلوا بما ثبت عند أبي داود والترمذي والنسائي بإسناد قوي كما قال الحافظ ابن حجر، وهو كما قال: " أن امرأة أتت النبي صلى الله عليه وآله وسلم ومعها ابنة لها، وفي يد ابنتها مسكتان – أي سواران – من ذهب، فقال: (أتؤدين زكاة هذا) قالت: لا يا رسول الله، قال: (أيسرك أن يسورك الله بهما سوارين من نار) فألقتهما وقالت: هما لله ورسوله " (1) ، والحديث من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده، وهي أحاديث يحتج بها. وثبت - وهو شاهد له - عند أبي داود بإسناد حسن، ورواه الحاكم وصححه، وقال ابن دقيق العيد فيه: " إسناده على شرط مسلم " عن عائشة قالت: " دخل علي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وعلى يدي فتخات من ورق – أي من فضة – فقال: (ما هذا يا عائشة؟) فقلت: صنعتهن أتزين بهن لك، فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (أتؤدين زكاتهن؟) قالت: لا أو ما شاء الله - أي من اللفظ المقابل للفظة " ما شاء الله "، فقال: (هو حسبك من النار) (2) .

_ (1) أخرجه أبو داود في كتاب الزكاة، باب (3) الكنز ما هو؟ وزكاة الحلي (1563) . (2) أخرجه أبو داود في الباب السابق رقم (1565) .

وروى أبو داود في سننه وهو شاهد لما تقدم عن عطاء عن أم سلمة قالت: " كنت ألبس أوضاحاً – أي خلخل (1) – من ذهب، فقلت: يا رسول الله أكنز هو؟ فقال: (ما بلغ أن تؤدى زكاته فزكي فليس بكنز) (2) ، وعطاء لم يسمع من أم سلمة، فالحديث فيه انقطاع، لكنه يصح شاهداً للحديثين المتقدمين. قالوا: فهذه أحاديث تدل على فرضية الزكاة في الحلي، قالوا: ويدل على هذا عمومات الأدلة الشرعية، كقوله صلى الله عليه وآله وسلم: (ما من صاحب ذهب ولا فضة لا يؤدي منها حقها..) (3) رواه مسلم، وقوله تعالى: {والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله..} (4) وغير ذلك من العمومات.

_ (1) كذا في الأصل. (2) سنن أبي داود، كتاب الزكاة: باب الكنز ما هو وزكاة الحلي. [2 / 212] .رقم (1564) . (3) أخرجه مسلم / في أول باب (6) إثم مانع الزكاة، من كتاب (12) الزكاة، رقم (987) .

قالوا: وأما ما استدل به أهل القول الأول من حديث جابر، فالحديث إسناده ضعيف جداً، وإنما هو ثابت من قول جابر كما في سنن البيهقي بإسناد صحيح (1) ، فهو قول موقوف على جابر، والقول الموقوف معارض بغيره من الأقوال الموقوفة كما تقدم من أثر عائشة وابن مسعود، فلا يحتج به، فآثار الصحابة إنما يحتج بها حيث لم يخالف بأقوال غيرهم، وقد خولف أثر جابر بأثر عائشة وابن مسعود، وحيث اختلفت أقوال الصحابة فالحجة فيما ورد عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كما تقدم. قالوا: وأما ما ذكرتموه من الحلي من الذهب والفضة المعد للاستعمال لا تجب فيه الزكاة لأنه ليس من الأموال النامية فأشبه متاع البيت، فهذا قياس مردود من وجهين: الوجه الأول: أنه قياس مصادم للنصوص الشرعية، والقياس المصادم للنصوص الشرعية فاسد الاعتبار، فلا ينظر إليه. (2)

_ (1) السنن الكبرى للبيهقي [4 / 233] رقم (7539) قال: " أخبرنا أبو زكريا بن أبي إسحاق وغيره قالوا: ثنا أبو العباس، أنبأ الربيع، أنبأ الشافعي، أنبأ سفيان، عن عمرو بن دينار قال: سمعت رجلاً يسأل جابر بن عبد الله عن الحلي أفيه الزكاة، فقال جابر: لا، فقال: وإن كان يبلغ ألف دينار، فقال جابر: كثير ". قال المحقق: " أخرجه المصنف في معرفة السنن (2353) والشافعي في الأم (2 / 41) . (2) في حاشية المذكرة ما نصه: قال بعض العلماء: لا يشترط النصاب في الحلي، وقال سفيان الثوري: نضمه إلى غيره. ...

الوجه الثاني: أنه قياس مع الفارق، فقد قستم حلي الذهب والفضة على متاع البيت المعد للاستعمال، وبينهما عندكم فارق، والفارق عند الحنابلة وغيرهم فيهما هو أنهم أوجبوا الزكاة في الحلي المعد للنفقة والمعد للكراء، فلو أن امرأة عندها حلي تبيع منه للنفقة على نفسها، فإن الزكاة تجب عليها؛ لأنه ليس بمعد للاستعمال، وإنما هو معد للنفقة، وسيأتي دليلهم على هذا، ولذلك إن أعد للكراء، كأن يكون عند امرأة ذهباً قد أعدته كلها للكراء، أي للإجارة،فإن الزكاة تجب. وأما متاع البيت المعد للنفقة أو الكراء، فإن الزكاة لا تجب فيه عندهم، فبين المسألتين فارق، والقياس مع الفارق لا يصح. ومما يدل على هذا: أن الكنز من الذهب والفضة تجب فيه الزكاة بنص القرآن {والذين يكنزون الذهب والفضة..} (1) ومعلوم أن الكنز ليس بمعد للنماء ومع ذلك فقد أوجب الله عز وجل فيه الزكاة. وأما المواشي المعدة للعمل، فإنها لا تجب فيها الزكاة، وهذا أصح قياساً على هذه المسألة، فإنه لو قيس قولهم على هذا لكان أقوى من القياس المتقدم مع ضعفه. والفارق بين الحلي من الذهب والفضة وبين البقر والإبل العوامل حيث أنها لا تجب فيها الزكاة، الفارق: أن الذهب والفضة مادة الأثمان وبهما قيام المعايش، ولاشك أن اختيارها حلياً ثم لا تجب فيها الزكاة يخالف مقصود الشارع من بقائها أثماناً للأشياء، فحيث أنها بقيت هكذا حلياً بحيث أنها لا تقع فيها هذه الأحكام الشرعية من الزكاة فقد تكون مهرباً لكثير من الناس، فتكون أثمان الناس وقيمهم. وعموماً فإن الأدلة الشرعية قد دلت على إيجاب الزكاة فيها فلا ينظر إلى الأدلة النظرية حيث خالفت الأدلة الأثرية.

واعلم أننا قد أوجبنا – وهو الراجح في المسألتين – الزكاة في الحلي، فإن الحلي إنما تجب الزكاة فيه حيث كان ذهباً وفضة كما دلت عليه الأدلة المتقدمة،وعليه فيخرج عن الزكاة ما لو صنع فيه من الجوهر ونحوه، فإذا رصعت فيه جواهر أو لآلئ أو ماس أو نحو ذلك، فإنها تخرج من وزنه، فلا توزن؛ لأن الزكاة إنما تجب في الذهب والفضة، وأما سائر الحلي من غير الذهب والفضة، فإن الزكاة لا تجب فيها اتفاقاً. وكذلك المخالط للذهب والفضة، فإنه لا تجب فيه الزكاة. وهناك قول ثالث في مسألة زكاة الحلي، وقد قواه ابن القيم، وهو مذهب بعض التابعين وهو رواية عن الإمام أحمد: أن الحلي يجب فيها الزكاة أي العارية.. .. .. (1) أن يعيرها أن يزكيها. وهذا القول ضعيف؛ لأن الأدلة الشرعية المتقدمة فيها لفظ الزكاة، والزكاة إذا تلفظ بها الشارع فهي الزكاة الشرعية الحقيقية التي هي إخراج حق من المال لأهل الزكاة. وما ذكروه من أن زكاتها عاريتها هذا مجاز، والألفاظ تحمل على حقائقها لا على مجازاتها إلا بدليل، ولا دليل شرعي يدل على ذلك. فأصح الأقوال وجوب الزكاة فيها. قال: [وإن أعد للكرى أو للنفقة أو كان محرّماً ففيه الزكاة] إذا كان عنده ذهب قد أعده للكراء كحلي النساء، فتجب الزكاة فيه، قالوا: لأن الأصل في الذهب والفضة وجوب الزكاة، وإنما استثنينا الحلي الملبوس لأدلة ثبتت عندنا، وحيث لم تثبت الأدلة في الكراء فإنا نبقى على الأصل من وجوب الزكاة في الذهب والفضة.

_ (1) لم يتضح لي، قال في حاشية الروض المربع [3 / 256] : " ونقل الشيخ عن غير واحد من الصحابة أنه قال: زكاة الحلي عاريته، قال: والذي ينبغي إذا لم تخرج الزكاة أن يعيره، وهو رواية عن أحمد ".

وكذلك النفقة، فإن الأصل وجوب الزكاة في الذهب والفضة، ولا دليل على إسقاطها في النفقة بخلاف إسقاطها في الحلي، فعندهم ما يستدلون به على هذا، أما هنا فلا دليل عندهم. فعلى ذلك: بقوا على الزكاة فيها. وكذلك إذا كان محرماً، كلبس الرجل للذهب المستقل، فإنه يزكيها، وكذلك المرأة إذا لبست حلياً فيها إسراف، فإنها تزكيها. إذاً: ما لا يحل من الحلي تجب الزكاة فيه؛ قالوا: لأن الأصل هو وجوب الزكاة في الذهب والفضة، وهذا الملبس غير مأذون فيه شرعاً؛ لأنه محرم، فلا يسقط الزكاة، فيبقى على الأصل من إيجاب الزكاة؛ لأن اللبس هنا غير مأذون فيه شرعاً، وحيث كان كذلك فإنا نبقى على الأصل، فلا يكون هذا الفعل المحرم مؤثراً في إسقاط الزكاة. وعلى الترجيح المتقدم، فإنه لا إشكال في دخولها؛ لأنه إذا ثبتت في الذهب المستعمل فأولى منه ما أعد للكراء ونحوه، وإذا ثبتت في الحلي المباح فأولى منه إثباتها في الحلي المحرم. والحمد لله رب العالمين. باب زكاة العروض الدرس السادس بعد المئتين (يوم السبت: 5 / 1 / 1416 هـ) باب زكاة العروض العروض: جمع عرض: وهو ما سوى الأثمان من الأموال، أي ما سوى الذهب والفضة من الجواهر والعقارات والثياب والأمتعة ونحو ذلك من الأموال. وهي في تعريف الفقهاء: ما أعد للبيع بقصد الربح من متاع أو غيره. فعروض التجارة هي الأموال سوى الأثمان التي قد أعدها صاحبها للبيع، أما إن كانت للقنية أي للاقتناء من ملبوسه أو مسكنه أو ما في بيته من أمتعة ونحو ذلك، فإنها قد أعدت للقنية لا للتجارة، فهي بإجماع العلماء لا تجب فيها الزكاة. فلا تجب الزكاة فيما اتخذ للقنية من دابة ومركب أو فراش أو نحو ذلك. وتجب الزكاة في عروض التجارة بدلالة الكتاب والسنة والإجماع وآثار الصحابة.

أما الكتاب، فقوله تعالى: {أنفقوا من طيبات ما كسبتم} (1) ، وقوله تعالى: {خذ من أموالهم صدقة} (2) فقوله {أموالهم} جمع مضاف فيفيد العموم أي خذ من كل أموالهم، والأمتعة والأثاث والعقارات التي أعدت للبيع أموال فتدخل في العموم. وأما السنة، فقد ثبت عند الحاكم في مستدركه والدارقطني والبيهقي في سننيهما بإسناد جيد أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: (في الإبل صدقتها وفي الغنم صدقتها وفي البز صدقته) (3) والبز: هو القماش الذي يباع، فأوجب النبي صلى الله عليه وآله وسلم في البز الصدقة، وضبطها الحاكم في مستدركه – وهو تصحيف – (وفي البر صدقته) (4) ، لكن هذا تحريف وتصحيف كما صحح ذلك النووي وغيره، ولو كان الشارع يريد البر لقال: (وفي الحب صدقته) كما قال صلى الله عليه وآله وسلم: (ليس فيما دون خمسة أوسق من تمر ولا حب صدقة) (5) ، فهذا دليل على وجوب الزكاة في البز، ويلحق به غيره من أموال التجارة.

_ (1) سورة البقرة. (2) سورة التوبة. (3) أخرجه الدارقطني في سننه [2 / 268] رقم (1909) قال المحقق: " في إسناده موسى بن عبيدة الربذي وهو ضعيف … قال الحافظ في التلخيص (2 / 345) : إسناده غير صحيح … وله عنده طريق ثالث من رواية ابن جريج عن عمران بن أبي أنس عن مالك بن أوس عن أبي ذر، وهو معلول، لأن ابن جريج أخرجه عن عمران أنه بلغه عنه.اهـ. وقد تابعه سعيد بن سلمة بن أبي الحسام: ثنا عمران بن أبي أنس، أخرجه الحاكم في المستدرك (1 / 388) وصححه على شرط الشيخين، ووافقه الذهبي، وله متابعة أخرى،وهي التي أشار إليها الحافظ، وستأتي عند الدارقطني " انتهى كلام المحقق. وأخرجه البيهقي [4 / 247] رقم (7598) (7602) . (5) متفق عليه، وقد تقدم صْ 37.

وأما دليل الإجماع، فقد حكى غير واحد من أهل العلم، كابن المنذر وأبي عبيد القاسم بن سلام إجماع العلماء على وجوب الصدقة في الأموال التجارية. أما دلالة أقاويل الصحابة، فقد صح ذلك عن عمر كما في البيهقي وغيره (1) ، وصح عن ابنه كما في البيهقي (2) ، وصح عن ابن عباس كما في كتاب الأموال لأبي عبيد (3) ، ولا يعلم لهم مخالف، فيكون قولهم إجماعاً وحجة. - وذهب الظاهرية إلى أن الزكاة غير واجبة في عروض التجارة، واختار هذا القول الشوكاني في نيل الأوطار وغيره. واستدلوا بالأصل، قالوا: الأصل براءة الذمة من الزكاة، فلا تجب الزكاة إلا بدليل، قالوا: ولا دليل يدل على ذلك. وهذا ظاهر البطلان، فقد تقدمت الأدلة الدالة على وجوبها من عمومات النصوص الشرعية في القرآن ومن الحديث والمتقدم، وهم محجوجون بالإجماع الذي تقدم ذكره. واستدلوا بقوله صلى الله عليه وآله وسلم: (ليس فيما دون خمسة أوسق من تمر ولا حب صدقة) ، قالوا: وأنتم توجبون الزكاة فيما إذا بلغ الحب أربعة أوسق أو التمر، وقد أعد للتجارة. وهذا ظاهر، فإن الذين يوجبون الزكاة في العروض التجارية إذا كان عنده دكان فيه أربعة أوسق من الحب للبيع والتجارة، فإن الزكاة تجب فيها؛ لأنها عروض التجارة. والجواب عن هذا أن يقال: إن هذا باب آخر، فقوله صلى الله عليه وآله وسلم: (ليس فيما دون خمسة أوسق من تمر ولا حب صدقة) (4) ، هذا في زكاة الحبوب والثمار التي تجب عند الحصاد ويراعى فيها عينها، وأما عروض التجارة فإن زكاتها زكاة حولية وتراعى فيها قيمتها، فهذا باب آخر.

_ (1) السنن الكبرى للبيهقي [4 / 248] رقم (7603) . (2) رقم (7605) . (4) تقدم قريباً.

إذاً: ما عليه أهل العلم هو الذي دلت عليه الأدلة الشرعية، وأما ما ذهب إليه الظاهرية، فلا يلتفت إليه لمخالفته ما تقدم، ولمخالفته الإجماع. وباتفاق العلماء أن الزكاة تجب في عروض التجارة عند مضي الحول، لعموم الآثار المتقدمة: " لا زكاة في مال حتى يحول عليه الحول " (1) ، فإذا مضى الحول وجبت الزكاة. قال: [إذا ملكها بفعله] أي باختياره، كالخلع والصداق والهبة والوصية والشراء ونحو ذلك، فالمقصود أنه وقع التملك على هذا السلعة باختياره لا قهراً عنه، ليخرج من ذلك ما يتملكه العبد بالإرث، فإنه يتملكه قهراً لا اختياراً، بحيث أنه بمجرد ما يموت الميت وله مال فإن هذا الوارث يمتلك نصيبه بموته، وإن كان له أن يتنازل عنه، لكن المقصود أنه يدخل في ملكيته قهراً عنه فليس باختياره. فذكر شرطاً، وهو أن يكون ملكية هذه السلعة بفعله واختياره لا قهراً. هذا هو الشرط الأول. قال: [بنية التجارة] هذا هو الشرط الثاني، وهو أن تكون بنية التجارة. فإن كانت بنية القنية فلا تجب فيها الزكاة، فلو اشترى أرضاً على أنه يريد أن يبنيها فيسكنها، فهذه قنية، أو اشترى ثياباً بنية أن يلبسها أو يهديها، فإن الزكاة لا تجب. فالشرط الثاني: هو أن تكون بنية التجارة أي من وقت ملكيتها. وسيأتي الكلام على هذين الشرطين. قال: [وبلغت قيمتها نصاباً] وباتفاق العلماء أن نصابها نصاب الأثمان، أي نصاب الذهب والفضة، والشارع لم يضع لها نصاباً لكثرتها وانتشارها؛ ولأن الاعتبار فيها بقيمتها، فإنها تباع وتشترى بالأثمان، فكان نصابها نصاب الذهب والفضة، فإذا بلغت النصاب من الذهب والفضة فيجب فيها الزكاة. إذاً: تنظر قيمتها، فإذا بلغت نصاباً وجبت فيها الزكاة. وعليه: فإذا كانت عنده أمتعة لا تباع إلا بمئة درهم أو عشرة دنانير، فإن الزكاة لا تجب عليه؛ لأنها لم تبلغ نصاباً، ولا خلاف بين العلماء في هذا.

_ (1) تقدم.

الشرط [الثالث] هذا من باب القياس الظاهر على الأثمان. قال: [زكى قيمتها] فإذا بلغت نصاباً، فإنها تزكى ويخرج زكاتها قيمة، فيكون المخرج القيمة لا العين. هذا هو المشهور عند الحنابلة. فإذا بلغت تجارته عشرين ديناراً فيجب عليه أن يتصدق بنصف دينار. قالوا: لأن نصابها تعتبر فيه القيمة، فاعتبرت - أي القيمة - بالمخرج منها، فإنا إذا أردنا أن ننظر هل بلغت النصاب أم لم تبلغه فإنا ننظر على قيمتها، فإن بلغت القيمة النصاب أوجبنا الزكاة فيها، قالوا: وكذلك المخرج، فيجب أن يخرج القيمة، ولا يجوز له أن يخرجها من أعيان تجارته، فليس له أن يخرجها ثياباً أو نحو ذلك. - وقال بعض الشافعية: بل تجب الزكاة في عينها، فعليه أن يخرج ربع العشر مما عنده من الأموال التي هي سوى الأثمان، فإذا كان عنده أقمشة فيخرج أقمشة ونحو ذلك. قالوا: قياساً على سائر الأموال الزكوية، فكما أن الزروع تخرج زكاتها حباً والثمار يخرج زكاتها ثمراً والمواشي كذلك، فكذلك عروض التجارة. ويمكن أن يجاب عليهم بالفارق، فيقال: الفارق بينهما أن المواشي نصابها مواشي والثمار نصابها ثمار، والزروع نصبها حبوب، وأما هنا فإن نصابها بالقيمة، فكان القدر المخرج منها أيضاً بالقيمة. - وقال الأحناف، وهو اختيار شيخ الإسلام: يجوز أن يخرج قيمة ويجوز أن يخرج عيناً. أما كونه يجوز له أن يخرجها من أعيان هذه الأموال؛ فلأن الزكاة في الأصل تجب من عين المال، لقوله تعالى: {خذ من أموالهم صدقة} ، فالزكاة تؤخذ من المال. وأما كونه يجوز أن يخرج قيمةً – ولم أره لشيخ الإسلام – فلعل ذلك بالنظر إلى نصابها، أو لأن المقصود منها القيمة. وهذا هو الأرجح، فإن إخراجها من عين ماله جائز؛ وذلك لأن الأصل في الزكاة أن تخرج من عين المال، لأن المقصود منها المواساة، فلم يكلفها الغني من غير ماله.

وإن أخرجها قيمة جاز ذلك؛ لأن هذه الأمتعة ونحوها المقصود منها القيمة، فإن أخرج القيمة أجزأه ذلك. هذا هو أرجح المذاهب، فيجوز إخراجها عيناً ونقداً. واعلم أن أهل العلم قد اختلفوا في جواز إخراج القيمة في غير العروض من المواشي ونحوها، فهل يجوز أن يخرج عن الحب دراهم أو دنانير أو يخرج عن الإبل أو البقر أو الغنم دراهم أو دنانير، أو يجب أن يخرجها من عين ماله؟ - قال جمهور العلماء: يجب أن يخرجها من عين ماله؛ لقوله تعالى: {خذ من أموالهم صدقة} . والنصوص الشرعية في هذا الباب كقوله: (في كل أربعين من الغنم شاة) ، ونحو ذلك من الأدلة الدالة على أن المخرج يكون من جنس المال. - وقال الأحناف: يجوز أن يخرج بالقيمة؛ لأن المقصود منها هو القيمة، فله أن يخرج مكان الشاة ما يساويها من الدراهم والدنانير. - واختار شيخ الإسلام، وهو رواية عن أحمد، قولاً بين هذين القولين، فقال: يجوز إخراج القيمة عند الحاجة، فإذا احتيج إلى إخراج الدراهم والدنانير عن الشياه أو عن البقر أو عن الإبل أو عن الحب أو التمر، فإن كانت مصلحة الغني في ذلك من غير ضرر على الفقير أو كانت مصلحة الفقير في ذلك من غير ضرر على الغني، فله أن يخرجها قيمة. قال: لأن هذا هو المقصود من هذه الأشياء، فإن هذه الأشياء تباع وتشترى فلا فرق بين أن يخرج قيمة وبين أن يخرج على الصفة الواردة في الشريعة، وحيث أن الشارع قد نص عليها فلا يجوز لنا أن نخرج القيمة إلا عند الحاجة إليها، فإذا ثبتت المصلحة جاز لنا أن نخرجها.

ودليل هذا من الآثار: ما رواه طاووس عن معاذ بن جبل أنه قال: " ائتوني بخميص أو لبيس – وهي.. ثياب – مكان [الشعير] والذرة أهون عليكم وخير لأصحاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالمدينة " (1) ، وهذا الأثر يرويه طاووس عن معاذ وهو لم يسمع منه، لكنه أدرك حالة تلاميذ معاذ بن جبل في اليمن، وهو من أهل اليمن، وقد احتج بهذا الأثر البخاري في صحيحه، ومقاصد الشريعة تدل عليه. فأصح الأقوال ما اختاره شيخ الإسلام، وهو رواية عن الإمام أحمد: أن إخراج القيمة لا يجوز إلا عند الحاجة إلى إخراجها، فإذا كانت مصلحة أحدهما في إخراجها قيمة من غير ضرر على الآخر فيجوز إخراج القيمة. هذا في غير عروض التجارة، وأما عروض التجارة فإن الجواز مطلق عند الحاجة وغيرها في الأرجح كما تقدم. قال: [فإن ملكها بإرث أو بفعله بغير نية التجارة ثم نواها لم تصر لها] إن ملكها بإرث، فهو ملك بغير الفعل، فلو أن رجلاً توفي والده وترك له دكاناً إرثاً، فإنه لا تجب عليه الزكاة فيه، وإن أبقاه للتجارة؛ لأنه ملكه بغير اختياره. هذا في الحقيقة ضعيف جداً، وهو المشهور عند الحنابلة. - وعن الإمام أحمد وهو اختيار أبي بكر وابن عقيل وغيرهم: أن الزكاة تجب فيه؛ وذلك لأنه مال تجاري فيدخل في عموم الأدلة المتقدمة وهو مالك له، فلا فرق بين أن يملكه باختياره أو بغير اختياره، فقد دخل في ملكيته، وكونه يدخل باختياره أو بغير اختياره، فإن هذا لا أثر له في الحكم.

_ (1) كذا في صحيح البخاري، كتاب الزكاة، باب العرض في الزكاة، الفتح: [2 / 365] ، وفي الأصل: (ائتوني بخميص أو لبيس.. مكان الذرة والحنطة أهون عليكم وخير لأصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - بالمدينة ".

ومثل هذا قوله: " أو بفعله بغير نية التجارة "، فلو أن رجلاً اشترى أرضاً وقد نواها قنية، ثم غير نيته إلى التجارة أو اشترى قماشاً بنية الهبة ثم نواه تجارة، قالوا: فلا تجب فيه الزكاة، فلابد أن تكون نية -للتجارة مقارنة للشراء أو عنده، فلابد أن تكون مقارنة للملك. وهذا أيضاً ضعيف؛ لأنه متى نواه تجارة فإن المال أصبح مال تجارة، ولو كان ذلك بعد زمن من ملكيته، فإن كان نواه قنية ثم حولها إلى تجارة، فإنه بهذه النية أصبح مالاً تجارياً. - وهذا كما تقدم رواية عن الإمام أحمد واختيار أبي بكر وابن عقيل وطائفة كثيرة من الحنابلة. وهذا هو القول الراجح؛ لأنه بالنية وإن كانت غير مقارنة للملك، فهذه النية انتقل إلى مال تجاري، وحيث كان مالاً تجارياً، فإن الزكاة تجب فيه لعمومات الأدلة الشرعية. إذاً: هذان الشرطان فيهما نظر، بل متى ما كان المال ملكاً له وقد نوى فيه التجارة ومضى على نية التجارة حول، فإن الزكاة تجب فيه؛ لأنه مال تجاري فيدخل في عموم الأدلة الشرعية. قال: [وتقوم عند الحول بالأحظ للفقراء من عين أو ورق] رجل عنده قماش للبيع إن قومه بالدراهم ساوى مئتي درهم، وإن قومه بالدنانير ساوى خمسة عشر ديناراً، فإذا نظرنا إلى قيمته بالدراهم أوجبنا عليه الزكاة، وإذا نظرنا إلى قيمته بالدنانير لم نوجب عليه الزكاة، فما الحكم؟ تقوم بأحد النقدين، فإن بلغ نصاب الذهب أوجبنا الزكاة، وإن لم يبلغ نصاب الفضة، وإن بلغت نصاب الفضة أوجبنا الزكاة وإن لم تبلغ نصاب الذهب. وهذا هو المشهور عند الحنابلة. قال: [ولا يعتبر ما اشتريت به] فالمشهور في المذهب: بأنه لا يعتبر ما اشتُريت به، فلو اشتراها بفضة مثلاً فلا بأس أن يقوم بالذهب، إن كان هو الأحظ للفقير، وإن اشتراها بذهب فيجوز أن يقوم بالفضة إن كان هو الأحظ للفقراء، فلا يعتبر ما اشتريت به.

- وعن الإمام أحمد، وهو قول الشافعية: أن الاعتبار بقيمته عند الشراء، فإذا اشتراها بذهب قومناها بالذهب، وإذا اشتراها بالفضة قومناها بالفضة. فإذاً: إن كان اشتراها بالفضة فنصابها نصاب الفضة، وإن كان اشتراها بالذهب فنصابها نصاب الذهب؛ قالوا: لأن قيمتها عند شرائها ذهب أو فضة، فروعي ذلك عند إيجاب الزكاة فيها. وهذا تعليل ضعيف؛ لأن الاعتبار إنما هو في الانتهاء وهو وقت وجوب الزكاة، فالنظر إلى قيمتها عند وجوب الزكاة وهي لها قيمة من الورق ولها قيمة من الذهب. ولا أثر لقيمتها عند الشراء، بدليل أنه قد يشتريها بدينار وتساوي عشرة دنانير بعد حول، فالاعتبار إنما هو بقيمتها وقت إخراجها، وقيمتها هنا يمكن أن تكون بالذهب ويمكن أن تكون بالفضة، فتعليق الحكم بأحد النقدين بالنظر إلى قيمة الشراء هنا متعلق ضعيف؛ لأنه لا أثر له. وأما دليل القول الأول وهو المشهور عند الحنابلة، قالوا: هو مال قد بلغ نصاباً زكوياً فوجبت فيه الزكاة، فهذه العروض قد بلغت النصاب وهو النصاب من الفضة أو بلغت النصاب الآخر وهو النصاب من الذهب، فوجبت فيه الزكاة من غير اشتراط أن يبلغ نصاباً في النقد الآخر. فما دام أن الاعتبار هو بالقيمة وقد بلغت قيمتها أحد النصابين، فإن الزكاة حينئذ تجب؛ لبلوغ هذا المال النصاب الزكوي. وهذا تعليل قوي؛ فإن هذا المال – وهو عروض التجارة – المعتبر فيه القيمة من غير تحديد بذهب ولا ورق، وقد بلغت هذه القيمة نصاباً زكوياً سواء كان من الورق أو من الفضة، فوجبت فيه الزكاة. ولما فيه من مصلحة الفقير، لذا قال المؤلف هنا: " بالأحظ للفقراء "؛ لأن هذه الطريقة أحظ للفقراء. قال: [وإن اشترى عرضاً بنصاب من أثمان أو عروض بنى على حوله]

رجل عنده دراهم يبلغ النصاب مضى عليها ستة أشهر وهي عنده، فاشترى بها أقمشة للبيع والشراء، فحولها حول الدراهم، فيبني على حول الأثمان؛ لأن العروض والأثمان جنس واحد كما تقدم، لأن المقصود من العروض ثمنها، فكانت هي والأثمان جنس واحد، ولذا نصابها نصاب الأثمان، والقدر المخرج هو ربع العشر. فعلى ذلك: رجل عنده مبلغ من المال ويبحث عن تجارة، فمضى على هذا المال عدة أشهر ثم اشترى به تجارة له، فإنه يبني على حول الأثمان. كذلك عروض التجارة: عنده عروض تجارة فاستبدلها بعروض أخرى، فمثلاً عنده أقمشة فباعها واشترى بها أطياباً، فإن هذه الأطياب لا يستأنف لها حول جديد، بل حولها حول ما قبلها من الأقمشة، لأنها ذات قيمة واحدة، فكما لو كانت أثماناً كلها، فهي جنس واحد. قال: [وإن اشتراه بسائمة لم يبن] عنده عروض فباعها بسائمة من الإبل والبقر والغنم، فإنه لا يبني على حول العروض، بل يستأنف حولاً جديداً. أو بالعكس: عنده.. سائمة فباعها بعروض، فإنه لا يبني على حول السائمة؛ وذلك لأن الجنس مختلف، وتقدم الكلام على هذه المسألة، وأن الجنسين المختلفين لا يبنى حول أحدهما على الآخر. مسألة: إذا كان عنده إبل سائمة وقد أعدها للتجارة، فهل تزكى زكاة عروض، لأنها قد أعدت للتجارة أو تزكى زكاة سائمة؟ 1- قال الحنابلة: تزكى زكاة عروض.

وعللوا هذا بأن قالوا: إن الزكاة واجبة فيها وإن كانت سائمة حيث لم تبلغ نصاب السائمة، فلو أن عنده أربع من الإبل سائمة وقد نواها تجارة وتساوي عشرين ديناراً، فإن الزكاة تجب فيها. قالوا: فكما اعتبرناها عروضاً فأوجبنا فيها زكاة العروض وهي لم تبلغ نصاب السائمة، فكذلك إذا بلغت نصاب السائمة. فإذا كان عنده خمس من الإبل، فلا يخرج شاة بل ينظر إلى قيمة الإبل ويخرج ربع العشر. قالوا: ولأن هذا الأحظ للفقراء، وذلك لأنا إذا اعتبرناها عروضاً فلا وقص فيها، بل بحساب ذلك، فلو كان عنده سبع من الإبل، فزكاتها أكثر مما لو كان عنده خمس من الإبل، وإذا كان عنده ثمان من الإبل وقلنا: هي عروض تجارة، فزكاتها أكثر مما لو عنده خمس، وهكذا، فلا وقص فيها، بل تزيد بحساب ذلك , وهذا فيه مصلحة للفقير. 2 - وقال الشافعية: بل تخرج زكاتها على أنها سائمة؛ قالوا: لأن الأدلة الدالة على فرضية الزكاة في السائمة أقوى من الأدلة الدالة على وجوبها في عروض التجارة. لكن هذا ضعيف، فإن كون الأدلة على فرضية الزكاة في السائمة أصح من الأدلة الدالة على وجوب الزكاة في عروض التجارة لا ينافي صحة الأدلة الدالة على الزكاة في العروض. وكونها أصح لا يعني ذلك أن يتغير الحكم مع ثبوت الأدلة على صحة زكاة العروض. فالصحيح مذهب الحنابلة، وأنه إذا كانت عنده سائمة أعدها للتجارة فإنه يخرج زكاتها زكاة عروض، بدليل إنها إذا لم تبلغ نصاب السائمة وقيمتها تساوي نصاب الذهب أو الفضة، فإن الزكاة تجب فيها، فكذلك إذا بلغت النصاب؛ ولأن هذا هو الأحظ للفقراء لاعتبار حساب ذلك. مسألة: رجل عنده سائمة خمس من الإبل قد أعدها للتجارة، فلما مضى عليها ستة أشهر ألغى نية التجارة، وقال: بل هي سائمة، فهل يستأنف حولاً جديداً أم أنه يثبتها على أنها سائمة فتجب عليها الزكاة إذا مضى ستة أشهر – كما في المثال -.

المشهور عند الحنابلة: أنه إذا ألغى هذه النية وأبطلها عن أن تكون تجارة، فلا زكاة عليه حتى يستأنف حولاً جديداً. وعن إسحاق، وهو الأشبه – كما قال ذلك الموفق –: أنه يبني على الحول الأول. قالوا: لأن هذه الإبل وجبت فيها الزكاة لسببين: 1- أنها سائمة. 2- أنها عروض تجارة. فإن ألغى كونها عروض تجارة، فإنه يبقى كونها سائمة، فهي سائمة ترعى، فيجب فيها الزكاة، وإنما أوجبنا فيها زكاة العروض؛ لأنها بنية التجارة، فإذا ألغى هذه النية فقد بقي كونها سائمة، فتجب فيها الزكاة. وهذا هو الأظهر. فالأظهر أنه إذا كان عنده مال من الأموال التي تجب فيها الزكاة، كالسائمة، وقد نواها تجارة ثم ألغى هذه النية، فإن الزكاة تبقى على أنها سائمة، فلا يستأنف حولاً جديداً لدخولها في عموم الأدلة، كقوله صلى الله عليه وآله وسلم: (في الغنم في سائمتها) وقوله: (في كل سائمة من الإبل..) (1) ، وحيث ألغى أحد سببي الزكاة وهو كونها عروض تجارة، فقد بقي السبب الآخر وهو كونها سائمة. والحمد لله رب العالمين. باب زكاة الفطر الدرس السابع بعد المئتين (6 / 1 / 1416 هـ) باب زكاة الفطر الفطر: اسم مصدر من أفطر الصائم إفطاراً.

_ (1) تقدما.

وإضافة الزكاة أو الصدقة إلى الفطر من باب إضافة الشيء إلى سببه أي الصدقة أو الزكاة التي سببها الفطر أي الفطر في رمضان، ففي سنن أبي داود وابن ماجه بإسناد حسن أن النبي صلى الله عليه وسلم: (فرض زكاة الفطر طهرة للصائم من اللغو والرفث وطعمةً للمساكين) (1) الحديث. قال: (تجب على كل مسلم) فصدقة الفطر تجب على كل مسلم سواء كان ذكراً أو أنثى حراً أو عبداً كبيراً أو صغيراً.

_ (1) أخرجه ابن ماجه في كتاب الزكاة باب صدقة الفطر (1827) : " حدثنا عبد الله بن أحمد بن بشير بن ذكوان وأحمد بن الأزهر قالا حدثنا مروان بن محمد حدثنا أبو يزيد الخولاني عن سيّار بن عبد الرحمن الصدفي عن عكرمة عن ابن عباس قال: فرض رسول الله - صلى الله عليه وسلم - زكاة الفطر طهرة للصائم من اللغو والرفث وطعمة للمساكين، فمن أداها قبل الصلاة فهي زكاة مقبولة ومن أداها بعد الصلاة فهي صدقة من الصدقات ". وأخرجه أبو داود في باب زكاة الفطر من كتاب الزكاة (1609) : " حدثنا محمود بن خالد الدمشقي وعبد الله بن عبد الرحمن السمرقندي قالا: حدثنا مروان قال عبد الله حدثنا أبو يزيد الخولاني وكان شيخ صدق، وكان ابن وهب يروي عنه حدثنا سيار بن عبد الرحمن قال محمود الصدفي عن عكرمة عن ابن عباس قال: فرض رسول الله - صلى الله عليه وسلم - زكاة الفطر طهرة للصائم من اللغو من الرفث وطعمة للمساكين، من أداها ... ) الحديث.

ففي الصحيحين عن ابن عمر قال: (فرض رسول الله صلى الله عليه وسلم زكاة الفطر على الحر والعبد والذكر والأنثى والصغير والكبير من المسلمين وأمر بها أن تؤدى قبل خروج الناس إلى الصلاة) (1) . إذن: هي فرض على كل مسلم ذكراً أو أنثى حراً أو عبداً صغيراً أو كبيراً. قال: (فَضُل له يومَ العيد وليلته صاعٌ عن قوته وقوت عياله) فلا يشترط أن يكون غنياً، بل الشرط أن يكون الصاع فاضلاً عن قوته وقوت عياله ليلة العيد ويومه.

_ (1) أخرجه البخاري في باب فرض صدقة الفطر من كتاب الزكاة (1503) : " حدثنا يحيى بن محمد بن السكن حدثنا محمد بن جَهضم حدثنا إسماعيل بن جعفر عن عمر بن نافع عن أبيه عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: فرض رسول الله - صلى الله عليه وسلم - زكاة الفطر صاعاً من تمر أو صاعاً من شعير على العبد والحر والذكر والأنثى والصغير والكبير من المسلمين، وأمر بها أن تؤدى قبل خروج الناس إلى الصلاة ". وأخرجه كذلك برقم (1504) ، (1507) ، (1511) ، (1512) . وأخرجه مسلم في باب زكاة الفطر على المسلمين من التمر والشعير (984) : " حدثنا عبد الله بن مسلمة بن قعنب وقتيبة بن سعيد قالا: حدثنا مالك. وحدثنا يحيى بن يحيى - واللفظ له – قال: قرأت على مالك عن نافع عن ابن عمر أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فرض زكاة الفطر من رمضان على الناس صاعاً من تمر أو صاعاً من شعير على كل حر أو عبد، ذكر أو أنثى من المسلمين ". وأخرجه أيضاً بأسانيد أخرى منها قال: " وحدثنا محمد بن رافع حدثنا بن أبي فُديك أخبرنا الضحاك عن نافع عن عبد الله بن عمر أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فرض زكاة الفطر من رمضان على كل نفس من المسلمين، حرٍّ أو عبد أو رجل أو امرأة صغير أو كبير، صاعاً من تمر أو صاعاً من شعير ".

يدل على هذا أن النبي صلى الله عليه وسلم فرضها على العبد والعبد لا مال له، ويدل عليه أيضاً قول أبي هريرة الثابت عنه في مسند أحمد بإسناد صحيح قال: (زكاة الفطر على كل صغير وكبير ذكر أو أنثى فقير أو غني صاع من تمر أو نصف صاع من بر) (1) فإن كان عنده ما يفضل عن قوته وقوت عياله ليلة العيد ويومه، فإن الزكاة تجب عليه، أما إن لم يكن عنده ما يفضل عن يوم العيد وليلته فلا تجب عليه الزكاة وذلك للحوق الضرر به وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا ضرر ولا ضرار) (2)

_ (2) أخرجه ابن ماجه في كتاب الأحكام (2341) قال رحمه الله: " حدثنا محمد بن يحيى حدثنا عبد الرزاق أنبأنا معمر عن جابر الجعفي عن عكرمة عن ابن عباس قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (لا ضرر ولا ضرار) . (2340) حدثنا عبدُ ربه بن خالد النُّميري أبو المُغلِّس حدثنا فُضيل بن سليمان حدثنا موسى بن عقبة حدثنا إسحاق بن يحيى بن الوليد عن عبادة بن الصامت أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قضى أن لا ضرر ولا ضرار ". وأخرجه الدارقطني في سننه (4 / 227) قال: " نا محمد بن عمرو بن البختري نا أحمد بن الخليل نا الواقدي نا خارجة بن عبد الله بن سليمان بن زيد بن ثابت عن أبي الرجال عن عمرة عن عائشة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (لا ضرر ولا ضرار) . نا أحمد بن محمد بن أبي شيبة نا محمد بن عثمان بن كرامة نا عبيد الله بن موسى عن إبراهيم بن إسماعيل عن داود بن الحصين عن عكرمة عن ابن عباس أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (للجار أن يضع خشبته على جداره وإن كره، والطريق الميتاء سبع أذرع، ولا ضرر ولا إضرار) . نا إسماعيل بن محمد الصفار نا عباس بن محمد نا عثمان بن محمد بن عثمان بن ربيعة بن أبي عبد الرحمن نا عبد العزيز بن محمد عن عمرو بن يحيى عن أبيه عن أبي سعيد الخدري أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (لا ضرر ولا إضرار) . نا أحمد بن محمد بن زياد نا أبو إسماعيل الترمذي نا أحمد بن يونس نا أبو بكر بن عياش قال: أراه قال عن عطاء عن أبيه عن أبي هريرة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (لا ضرر ولا ضرورة، ولا يمنعن أحدكم جاره أن يضع خشبه على حائطه) ". قال في الأربعين النووية: " ورواه مالك في الموطأ مرسلاً عن عمرو بن يحيى عن أبيه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - فأسقط أبا سعيد، وله طرق يقوي بعضها بعضاً "

وقال صلى الله عليه وسلم: (أبدأ بنفسك) (1) فإذا فضل عن قوته وقوت عياله ومن ينفق عليهم من خدم أو بهيمة أو نحو ذلك فإن الزكاة تجب عليه. قال: (وحوائجه الأصلية) فإذا كانت له حوائج أصلية في مسكنه أو ملبسه أو مركبه من الحوائج الأصلية التي يحتاج إليها المسلم - فليست من الحوائج الفرعية - فإن الصدقة لا تجب عليه، فلا يلزم طالب علم أن يبيع شيئاً من كتبه التي يحتاج إليها من الكتب الأصلية ولا يلزم صاحب المنزل أن يبيع شيئاً من أثاث بيته ليشتري به هذا الصاع لأن هذه حوائج أصلية وإلزام المكلف ببيعها وإخراجها صدقة حرج والحرج مرفوع كما قال تعالى: {وما جعل عليكم في الدين من حرج} (2) أما إن كان عنده شيء من المتاع أو الأثاث أو نحوه من الحوائج غير الأصلية مما لا يحتاج إليه أصلاً فإنه يجب عليه أن يبيعه فيشتري به صاعاً فيتصدق به. قال: (ولا يمنعها الدين إلا بطلبه) تقدم أن المذهب وهو الراجح أن الدين يمنع الزكاة في الأموال الظاهرة والباطنة أما في زكاة الفطر فإنها لا يمنعها الدين، فالدين لا يمنع صدقة الفطر، قالوا: لأن صدقة الفطر لا تعلق لها بالمال بدليل وجوبها على الفقير ووجوبها على العبد فدل هذا على أنها لا تعلق لها بالمال فيجب وإن كان مديناً أي عليه دين بخلاف الزكاة فإنها متعلقة بالمال كما قال تعالى: {خذ من أموالهم} (3) إذن: يجب عليه زكاة الفطر وإن كان مديناً لأنها لا تعلق لها بالمال بدليل وجوبها على العبد والفقير كما تقدم.

_ (1) أخرجه مسلم (3 / 78 - 79، 5 / 97) ، والنسائي والبيهقي. الإرواء (833) . (2) سورة الحج آية (78) . (3) التوبة (103) .

لكن استثنى المؤلف فقال: (إلا بطلبه) أي إلا بطلب الدين، فإن كان الدين مطالباً به فإن الزكاة لا تجب؛ وذلك لأن الدين إذا طولب به وجب أداؤه كما سيأتي تقريره في بابه فكان مقدماً على الزكاة، لأن الزكاة إنما تجب من باب المواساة ولأن الدين حق آدمي محض فقدم على الزكاة. إذن: زكاة الفطر لا يمنعها الدين إلا إذا طالب الدائن به فإن الدين يمنع الزكاة لأنه حينئذ يكون أهم؛ إذ هو من حقوق الآدميين المحضة ولأن الزكاة مبناها على المواساة وحقوق الآدميين مبناها على المشاحة، والزكاة مبنية على المواساة فلم يكلفها المسلم مع وجود من يطالبه. قال: (فيخرج عن نفسه وعن مسلم يمونه) فتجب صدقة الفطر عن النفس وتجب عمن يمونه. أما وجوبها عن النفس فقد تقدم قول ابن عمر: (فرض رسول الله صلى الله عليه وسلم صدقة الفطر على الحر والعبد والذكر والأنثى والصغير والكبير من المسلمين) (1) . وتجب على من يمونه – أي على من ينفق عليه –، فعلى من ينفق الصدقة، فإذا كان له ولد وزوجة ورقيق فيجب عليه أن يتصدق عنهم صدقة الفطر كما يجب عليه أن ينفق عنهم.

_ (1) تقدم صْ 84.

ودليل هذا: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم فرضها على العبد، والعبد لا مال له فدل على أنها تجب على سيده وهو المنفق عليه، وفرضها على الصغير، والصغير ينفق عليه ولا مال له في الغالب فدل على أنها تجب على من ينفق عليه، أما إذا كان الصغير ذا مال وهو اليتيم الذي له إرث فإن الصدقة تجب في ماله ويخرجها وليه عنه ويدل على أن الزكاة – زكاة الفطر – تجب على من يمونه ما ثبت في الدارقطني عن ابن عمر قال: (فرض رسول الله صلى الله عليه وسلم زكاة الفطر على العبد والحر والصغير والكبير ممن تمونون) (1) وإسناده ضعيف لكن له شواهد يرتقي بها إلى درجة الحسن وهو ثابت من فعل ابن عمر كما في ابن أبي شيبة بإسناد صحيح. فعلى ذلك تجب صدقة الفطر تبعاً للنفقة، فتجب صدقة الفطر على من وجبت عليه النفقة. فعليه كما ينفق على ولده وزوجه وربما كان ينفق على والده ووالدته وربما كان ينفق على رقيق أو على أخ أو نحوه فيجب عليه - تبعاً للنفقة - أن يخرج عنهم صدقة الفطر للحديث المتقدم. قال: (ولو شهر رمضان) إذا مان (2) مسلماً يعني أنفق عليه ولو كان ذلك في شهر رمضان. مثال: رجل - تبرعاً منه - جَمَع فقراء فأنفق عليهم في شهر رمضان من باب التبرع، فتبعاً لذلك تجب عليه صدقة الفطر.

_ (1) أخرجه الدارقطني في سننه، كتاب زكاة الفطر، رقم (2052) قال المحقق: " أخرجه البيهقي في الكبرى (4 / 161) من هذا الوجه، قال الزيلعي في نصب الراية (2 / 413) : وهو مرسل، فإن جد علي بن موسى: هو جعفر الصادق بن محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب رضي الله عنهم، وجعفر لم يدرك الصحابة، وقد أخرج له الشيخان، وقال ابن حبان في الثقات: يحتج بحديثه، ما لم يكن من رواية أولاده عنه، فإن في حديث ولده مناكير كثيرة ". (2) مانه موناً: احتمل مؤونته وقام بكفايته، فهو مَمُون. تقول: مان الرجل أهله: كفاهم. المعجم الوسيط [2 / 892] .

هذا هو المشهور عند الحنابلة وأن من أنفق على فقير في شهر رمضان فتجب عليه صدقته وإن كان ذلك تبرعاً للحديث المتقدم: (عمن تمونون) قالوا: وهو هنا يمونه وينفق عليه. واختار الموفق وأبو الخطاب من الحنابلة وهو مذهب أكثر الفقهاء: أن الصدقة لا تجب عليه؛ قالوا: لأن النفقة هنا من باب التبرع وأما النفقة المذكورة في الحديث فإنها النفقة الحقيقية التي تجب على المسلم في ولده ونحوهم. أما هنا فهي نفقة على وجه التبرع فلا يدخل في هذا الحديث، وهذا هو الظاهر، وذلك لأن هذه النفقة منه على وجه التبرع لا على وجه الإيجاب، فليس فيها حقيقة النفقة بل هي من جنس الصدقات التطوعية فالراجح ما ذهب إليه أكثر الفقهاء وصححه الموفق وهو قول أبي الخطاب من كبار الحنابلة. قال: (فإن عجز عن البعض بدأ بنفسه) فإذا كان لا يفضل عن قوته وقوت عياله ليلة العيد ويومه وعن حوائجه الأصلية ولا يفضل إلا صاع، فالواجب عليه أن يبدأ بنفسه، لقوله صلى الله عليه وسلم: (أبدأ بنفسك) (1) . وحينئذ يسقط عنه عن زوجه وولده ومن يمون فإن لم يكن عنده إلا صاع فإنه يبدأ بنفسه. قال: (فامرأته) قالوا: لأن الصدقة تبع للنفقة، ونفقة المرأة من باب المعاوضة وتثبت في عسر الزوج ويسره فكانت أقوى من نفقة الولد والرقيق وغيرهما، وحيث أن النفقة هنا قوية، فالصدقة تبع لها فكما أن الزوجة مقدمة في النفقة على غيرها فإنها تقدم في صدقة الفطر. وجمهور العلماء يقولون بأن زكاة الفطر تجب على الزوج عن زوجته، مطلقاً وإن كانت زوجته ذات يسار وقدرة وغنى فإن الصدقة تجب على الزوج. واستدلوا: بما تقدم في قوله صلى الله عليه وسلم: (عمن تمونون) . - وذهب الأحناف: إلى أن صدقة الفطر لا تجب على الزوج عن زوجته، وإنما تجب على الزوجة في مالها.

_ (1) تقدم قريباً.

واستدلوا: بقول ابن عمر: (فرض رسول الله صلى الله عليه وسلم صدقة الفطر على الذكر والأنثى) (1) . فدل على أنها مفروضة عليها، فهي مفروضة على الأنثى وحينئذ فتجب عليها في مالها وهذا القول – فيما يظهر لي – أصح؛ وذلك لأن الحديث أصح مما تقدم، فالحديث الأول إنما يصح بشواهده وطرقه، وهذا الحديث أصح منه وأظهر فإنه قال: فرض رسول الله صلى الله عليه وسلم صدقة الفطر على الذكر والأنثى " فهي فرض على المرأة في مالها ولأن الأصل في الزكاة وجوبها في المال. فالأصح أن الزوج لا تجب عليه صدقة الفطر عن زوجته وإنما تخرجها من مالها، هذا إذا كانت قادرة، وأما إذا لم تكن قادرة فإنه يتوجه القول الأول؛ وذلك لأنه ينفق عليها والصدقة تبع للنفقة كما تقدم. قال: (فرقيقه) قالوا: لأن النفقة على الرقيق تجب في العسر واليسر لكنها دون النفقة على المرأة لأن النفقة على المرأة من باب المعاوضة أما النفقة على العبد فإنها للملكية لا للمعاوضة، فكانت النفقة على الزوجة أولى، لكن النفقة على الرقيق أولى من النفقة على القريب من الأب والولد والأم لأن النفقة على الأقارب تجب في اليسر دون العسر وأما النفقة على الرقيق فإنها تجب في عسر السيد ويسره بحيث إنه إذا كان معسراً فإنه يؤمر ببيعه حتى لا يتضرر العبد بذلك. قال: (فأمه فأبيه) . تُقدّم الأم على الأب؛ قالوا: لأن الأم أولى بالبر من الأب كما في الحديث: (من أبر؟ فقال: أمك، قال: ثم من؟ قال: أمك، قال: ثم من؟ قال: أمك، قال: ثم من؟ قال: أباك) (2) فهنا أمر النبي صلى الله عليه وسلم بتقديم بر الأم على بر الأب قالوا: فكذلك تقدم على الأب في صدقة الفطر. قال: (فولده)

_ (1) تقدم صْ 84. (2) أخرجه البخاري في كتاب الأدب، باب من أحق الناس بحسن الصحبة (5971) ، وفي أوله: " من أحق الناس بحسن صحابتي.. "، ومسلم في كتاب البر والصلة (2548) .

قالوا: لأن الولد تجب النفقة عليه في الجملة وتجب في اليسر دون العسر وحق الوالدين مقدم على حق الولد هذا هو المشهور في المذهب. قال: (فأقرب في ميراث) فالأقرب فالأقرب، فالجد الأدنى يقدم على الجد الأعلى، فالجد مقدم على أب الجد وهكذا (الأقربون أولى بالمعروف) . وفي تقديم المؤلف الزوجة على الولد نظر، فقد قال بعض الحنابلة بتقديم الولد على الزوجة، ودليله ما ثبت في أبي داود والنسائي بإسناد صحيح أن رجلاً قال: (يا رسول الله عندي دينار؟ فقال: تصدق به على نفسك، قال: عندي آخر؟ قال: تصدق به على ولدك، قال: عندي آخر؟ قال: تصدق به على زوجك قال: عندي آخر؟ قال: تصدق به على خادمك، قال: عندي آخر قال: أنت أبصر به) (1) فقدم النبي صلى الله عليه وسلم الولد على الزوجة وقدم الزوجة على الرقيق، فالأظهر هو تقديم الولد على الزوجة والرقيق لهذا الحديث الثابت بإسناد صحيح.

_ (1) أخرجه أبو داود في كتاب الزكاة باب في صلة الرحم (1691) قال: " حدثنا محمد بن كثير أخبرنا سفيان عن محمد بن عجلان عن المقبري عن أبي هريرة قال: أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - بالصدقة، فقال رجل: يا رسول الله عندي دينار.. " وفيه " (تصدق به على زوجتك أو قال: زوجك) ". وأخرجه النسائي في كتاب الزكاة، باب تفسير ذلك (2535) قال: " أخبرنا عمرو بن علي ومحمد بن المثنى قال حدثنا يحيى عن ابن عجلان عن سعيد عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (تصدقوا) فقال رجل: يا رسول الله، عندي دينار، قال: (تصدق به على نفسك) قال: عندي آخر، قال: (تصدق به على زوجتك) قال: عندي آخر، قال: (تصدق به على ولدك) قال: عندي آخر، قال: (تصدق به على خادمك) قال: عندي آخر، قال: (أنت أبصر) ". ففيه تقديم الزوجة على الولد.

والأظهر – أيضاً – تقديم الأب على الأم؛ وذلك لأن صدقة الفطر مال وقد قال - صلى الله عليه وسلم -: (أنت ومالك لأبيك) (1) فدل هذا على أن المال الوالد أحق به من الوالدة (2) . وفي تقديم الرقيق على الأب والأم نظر ظاهر أيضاً حتى في النفقة فإن كون الرقيق يجب النفقة عليه في العسر واليسر ليس معنى ذلك أن يقدم على الأب والأم في النفقة وإنما معنى ذلك أنه إذا أيسر أبقاه في ذمته وفي ملكيته وأنفق عليه، وإن أعسر وعجز عن الإنفاق عليه فإنه يعتقه أو يبيعه ليُنفق عليه وليس معنى ذلك أن تقدم نفقته وهو رقيق مملوك له أجنبي عنه على نفقة الأم والأب اللذين حقهما بعد حق الله عز وجل ورسوله. فإذن: فيما ذكره الحنابلة في هذا الباب من التقديم فيه نظر، فتقديم الزوجة على الولد، والرقيق على الولد فيه نظر كما تقدم، وتقديم الأم على الأب فيه نظر أيضاً، وتقديم الرقيق على الأب والأم فيه نظر. * وهل يقدم الولد على الوالدين أو يقدم الوالدان على الولد؟ وجهان في مذهب الحنابلة: الوجه الأول: ما ذكره المؤلف هنا من تقديم الوالدين على الولد. والوجه الثاني: وهو تقديم الولد على الوالد. والظاهر تقديم الوالدين على الولد، لأن هذا من باب المواساة والصدقة وليس من باب الحاجة، وحيث كان الأمر كذلك فإن الوالد أولى بتطييب خاطره وإدخال السرور في نفسه وإسقاط الواجب الشرعي عنه من الولد. فالأرجح هو تقديم الوالدين على الولد، بل أيضاً على تقديمهما على الزوجة هو الأظهر؛ وذلك لما تقدم من أن الراجح أن صدقة الفطر واجبة في مال الزوجة – هذا أولاً.

_ (1) أخرجه ابن ماجه (2291) والطحاوي في مشكل الآثار (2 / 230) والطبراني في الأوسط (1/ 141 / 1) والمخلص في " حديثه " (12 / 69 / 2 من المنتقى منه) . الإرواء (838) . (2) وحكي ذلك رواية عن أحمد.

وثانياً: لأن المسألة وإن كانت تبعاً للنفقة فهي تبع لها في الجملة لا في التفصيل، فتقديم الزوجة في النفقة على الوالدين لو سلم بها، على ما فيها من النظر لا تعني تقديمها عليهما في صدقة الفطر، فإن صدقة الفطر باب مواساة، وأما النفقة فهي باب حاجة، على أن الأظهر هو تقديم الوالدين على الزوجة في النفقة وإنما وجبت النفقة على المرأة في العسر واليسر كالرقيق فيما تقدم بحيث إنه ينفق عليها في يسره، فإن أعسر فإما أن ينفق عليها وإما أن يطلقها. فعلى ذلك: الأظهر أنه يبدأ بنفسه ثم بوالديه ثم بولده ثم بزوجته ثم بخادمه ثم الأقرب فالأقرب ممن ينفق عليه من ورثته. قال: (والعبد بين شركاءَ عليهم صاعٌ) إذا كان العبد مملوكاً لأكثر من شخص، فإن هذا الصاع يجب عليهم بقدر ملكيتهم فإن اشترك في العبد اثنان لكل منهما النصف فإن على كل منهما نصف صاع، فإن اشترك فيه ثلاثة لكل منهم الثلث فعلى كل واحد منهم ثلث الصاع وهكذا. فإذن: يجمع الصاع من الشركاء في العبد بقدر ملكيتهم فيه؛ لأن الصدقة تبع للنفقة والنفقة مشتركة على هذا القدر فكذلك صدقة الفطر. قال: (ويستحب عن الجنين) فيستحب صدقة الفطر عن الجنين وقد أجمع أهل العلم على أن صدقة الفطر لا تجب عن الجنين حكى ذلك ابن المنذر. واستحب الإمام أحمد صدقة الفطر عن الجنين واستدل بأثر عن عثمان رواه ابن أبي شيبة لكن إسناده منقطع.

لكن ثبت في مصنف عبد الرزاق بإسناد صحيح عن أبي قلابة وهو من كبار التابعين قال: (كانت تعجبهم - أي السلف من الصحابة والتابعين - صدقة الفطر عن الصغير والكبير حتى الحمل في بطن أمه) (1) فإن تصدق عن الجنين فهو حسن من غير إيجاب؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم شرعها عن الصغير والكبير، والجنين لا يصدق عليه أنه صغير، فالصغير هو المولود وهذا ليس بمولود لكن إن فعل فهو حسن لما تقدم من أثر أبي قلابة. قال: (ولا تجب لناشز) المرأة الناشز هي المرأة التي خرجت عن طاعة زوجها بغير حق شرعي. فلا تجب لها النفقة وبالتالي فلا تجب صدقة الفطر عنها كما تقدم من أن صدقة الفطر تبع للنفقة لقوله: (عمن تمونون) والمرأة الناشز لا ينفق عليها فكذلك لا يتصدق عنها لأن صدقة الفطر تبع للنفقة. والحمد لله رب العالمين الدرس الثامن بعد المئتين (يوم الاثنين: 7 / 1 / 1416هـ) قال المؤلف رحمه الله: (ومن لزمت غيرَه فطرتُهُ فأخرج عن نفسه بغير إذنه أجزأته) لا خلاف بين العلماء في أن من وجبت عليه صدقة الفطر عن غيره فأستأذن الغيرُ - من تجب عليه النفقة، استأذنه - في أن يخرج عن نفسه صدقتها فلا خلاف بين العلماء في جواز ذلك وإجزائه. فلو أن ولداً ينفق عليه والده فأستأذن والده أن يتصدق عن نفسه صدقة الفطر. وكذلك الزوجة إذا قلنا بوجوب الصدقة على زوجها عنها فإذا استأذنت زوجها أن تخرج الصدقة عن نفسها من مالها فإن ذلك يجزئ. * ولا خلاف بين العلماء في أنه إذا أخرج عن غيره ممن يجب عليه أن يخرج عن نفسه بغير إذنه فإنه لا يجزئه: فلو أن رجلاً أخرج عن آخر صدقة الفطر وهذا الآخر تجب عليه بنفسه فأخرجها عنه بغير إذنه فإنها لا تجزئ.

_ (1) أخرجه عبد الرزاق في المصنف باب هل يزكى عن الحبل (5788) : " عبد الرزاق عن معمر عن أيوب عن أبي قلابة قال: " كان يعجبهم أن يعطوا زكاة الفطر عن الصغير والكبير حتى الحبل في بطن أمه ".

- واختلفوا فيما إذا أخرج عن نفسه صدقة الفطر وهي تجب على غيره بغير إذنه، وهي المسألة التي ذكرها المؤلف هنا. فمثلاً: إذا أخرج الولد صدقة الفطر عن نفسه وهي تجب على والده بغير إذن والده، أو أخرجت الزوجة صدقة الفطر عن نفسها – على مذهب الجمهور – وهي واجبة على زوجها بغير إذنه، فهل يجزئه ذلك؟ قال المؤلف يجزئه؛ وذلك لأنها واجبة عليه في الأصل وإنما أوجبت على الغير تحملاً، لأنه مظنة ألا يقدر عليها بنفسه فالصغير مظنة ألا يقدر عليها بنفسه والعبد لا مال له، وهكذا سائر من ينفق عليه فهو مظنة ألا يقدر على إخراج صدقة الفطر عن نفسه. ولذا أوجبت على من ينفق عليه فهي في الأصل واجبة عليه لكن لعدم قدرته عليها في الغالب وجبت على غيره فحيث قدر فتصدق عن نفسه ولو لم يأذن له من وجبت عليه فإن ذلك يجزئ عنه هذا هو المشهور في المذهب وهو الوجه الأول. 2- والوجه الثاني: أنه لا يجزئ؛ قالوا: كما لو أخرج عن غيره صدقته ممن تجب عليه بنفسه بغير إذنه فقاسوها على ما إذا أخرج صدقة الغير وهذا الغير ممن يجب عليه أن يخرج صدقة نفسه. وهذا قياس مع الفارق – كما تقدم – والفارق بينهما: أنها في الأصل واجبة عليه وإنما وجبت على غيره من باب التحمل، وأما في المسألة الثانية فهي واجبة عليه مطلقاً فهي طهرة لصومه وواجبة عليه، وأما الأول فهي طهرة له وهي واجبة على غيره ففرق بينهما. فأصح الوجهين ما ذكره المؤلف هنا، من أن من وجبت صدقته على غيره فأخرجها عن نفسه من غير إذن من وجبت عليه فإن ذلك يجزئ عنه. قال: (وتجب بغروب الشمس ليلة الفطر) فتتعلق بذمة المسلم إذا غربت الشمس من آخر يوم من أيام رمضان؛ وذلك لأنها صدقة سببها الفطر والفطر يحصل بغروب الشمس من آخر يوم من أيام رمضان – هذا مذهب الحنابلة وهو مذهب الجمهور –.

- وقال الأحناف: بل وقت وجوبها طلوع فجر يوم العيد عيد الفطر؛ لأنه به يثبت الفطر حقيقة، فإن الليل ليس محلاً للصوم. والأظهر ما ذهب إليه الجمهور من أنه بغروب الشمس تتعلق الفطرة بالذمة؛ وذلك لأنها طهرة للصوم، والصوم ينتهي بغروب الشمس، ولأن ليلة العيد ليست من شهر رمضان، وهي متعلقة بشهر رمضان. فقال المؤلف – مرتباً على هذه المسألة -: (فمن أسلم بعده) أي أسلم بعد غروب الشمس، فلم يدرك شيئاً من النهار يؤمر بإمساكه، فإنه لا صدقة عليه فلا تتعلق بذمته لأنها تجب بغروب الشمس وهو لم تغرب عليه الشمس وهو ممن يمكن أن تتعلق بذمته. قال: (أو ملك عبداً) تقدم أن السيد يجب أن يخرج صدقة الفطر عن عبده، لكن إن اشتراه بعد غروب الشمس فلا يجب عليه أن يتصدق عنه، وإنما يجب هذا على سيده الأول إن كان تحت مسلم قبل غروب الشمس. قال: (أو تزوج أو ولد له) إذا تزوج – وقلنا أن الصدقة تجب على الزوجة (1) عن زوجته – إذا تزوج بعد غروب الشمس فلا يجب عليه عنها وكذلك إذا أتاه ولد فلا يجب عليه عنه صدقة الفطر، وإنما يدخل في الصدقة على الجنين وهي مستحبة كما تقدم، فهذه المسائل مترتبة على هذه المسألة وهي مسألة تعلق الذمة بوجوب الفطرة إذا غربت الشمس. قال: (وقبله تلزم) إذا أسلم قبل غروب الشمس أو اشترى عبداً قبل غروب الشمس أو تزوج قبل غروب الشمس أو ولد له قبل غروب الشمس فإن الصدقة تجب؛ لأنه قد ملك هذا العبد وقد ولد له هذا الولد في وقت تعلق وجوب صدقة الفطر في ذمته. - وقال الحنابلة: إن كان معسراً عند غروب الشمس فغربت عليه الشمس وهو معسر ليس عنده ما يفضل عن قوته وقوت ما (2) ينفق عليه فإن الصدقة تسقط عنه وإن قدر عليها قبل خروج وقتها.

_ (1) لعلها: الزوج. (2) لعلها: من

- وعن الإمام أحمد وهو اختيار شيخ الإسلام: أن الصدقة تجب عليه إذا أيسر بعد ذلك لأنه قادر على الأداء في الوقت فكونه عاجزاً في أول الوقت لا ينفي عنه الوجوب ما دام قادراً على أدائها في وقتها كما أن المتمتع إذا عجز عن الهدي ثم قدر عليه في يوم النحر وما بعده من أيام التشريق فإنه يجب عليه لقدرته على الأداء في الوقت – هذا القول هو الراجح. قال: (ويجوز إخراجها قبل العيد بيومين فقط) يجوز إخراج صدقة الفطر قبل العيد بيومين. هذا هو المشهور عند الحنابلة. وقال الأحناف: يجوز إخراجها من أول السنة. وقال الشافعية: يجوز من أول شهر رمضان. وهما قولان ضعيفان؛ لأن هذه الصدقة متعلقة بالفطر فهي صدقة الفطر وقد سماها الشارع كما تقدم بزكاة الفطر فهي زكاة سببها الفطر فهي متعلقة به فلم تثبت قبله. - وقال المالكية: يجزئ قبل ثلاثة أيام، واستدلوا بما ثبت في الموطأ بإسناد صحيح أن ابن عمر: كان يعطي زكاة الفطر ممن يجمع عنده قبل يومين أو ثلاثة (1) . قالوا: فهذا فعل صحابي ولا يعلم له مخالف فيدل على جواز إعطائها قبل يومين أو ثلاثة فإذا دفعها في اليوم السابع والعشرين من رمضان وكان شهر رمضان تاماً فإنها تجزئ وهو رواية عن الإمام أحمد. والمشهور عند الحنابلة ما ذكره المؤلف وأنها لا تجزئ إلا قبل يوم أو يومين فقط فإن دفعها في يوم الثلاثين أجزأ أو في يوم تسع وعشرين أجزأ إن كان الشهر كاملاً وإن كان ناقصاً يجزئ في يوم ثمان وعشرين.

_ (1) بلفظ: " كان يبعث بزكاة الفطر إلى الذي تُجمع عنده قبل الفطر بيومين أو ثلاثة ". الموطأ برواية يحيى الليثي ص143

واستدلوا: بما ثبت في البخاري من قول ابن عمر – وهو راوي حديث صدقة الفطر قال: (وكانوا يعطون " أي الصحابة " صدقة الفطر قبل يوم أو يومين) (1) - وذهب الظاهرية: إلى أنه لا يجزئ إلا أن يخرجها قبل صلاة العيد أما إذا أخرجها في ليلة العيد فإنها لا تجزئه. واستدلوا: بما ثبت في الصحيحين من حديث ابن عمر وفيه: (وأمر بها أن تخرج قبل الصلاة) (2) قالوا: فأمْر النبي صلى الله عليه وسلم هنا في هذا الحديث دليل على أنها لا تجزئ ليلة العيد أو قبل العيد بيوم أو يومين أو ثلاثة وذلك؛ لأن إخراجها في ليلة العيد أو قبله ليس على أمر النبي صلى الله عليه وسلم وكل عمل ليس على هديه وأمره فهو رد. ويجاب عن أثر ابن عمر المتقدم: بأنها لم تكن تدفع إلى الفقراء قبل يوم أو يومين وإنما كانت تجمع عند العمال الذين كانوا يجمعون الصدقات فيخرجها المسلم قبل يوم أو يومين أو ثلاثة يخرجها إلى العامل الذي يجمع الصدقة ثم تخرج قبل صلاة العيد. ودليل هذا: ما ثبت عند ابن خزيمة: أن أيوب السختياني قال: (قلت لنافع: متى كان ابن عمر يخرج زكاته؟ يعني زكاة الفطر، فقال: كان يخرجها إذا قعد العامل، قلت متى يقعد العامل؟ قال: قبل [الفطر] بيوم أو يومين) (3) فدل على أن ابن عمر إنما كان يخرجها إلى العامل فلا يكون هذا دليلاً – وإن كان فيه استثناء – يدل على جواز إخراجها قبل العيد بيوم أو يومين.

_ (1) ذكره البخاري تحت حديث (1511) وفيه: " وكان ابن عمر رضي الله عنهما يعطيها الذين يقبلونها، وكانوا يُعطون قبل الفطر بيوم أو يومين ". (2) متفق عليه، وقد تقدم " وأمر بها أن تؤدى قبل خروج الناس إلى الصلاة ". (3) إرواء الغليل [3 / 335] .

وما ذهب إليه الظاهرية – فيما يظهر لي – قوي وأن إخراجها لا يجزئ إلا قبل صلاة العيد، فإذا دخل يوم العيد وذلك بصلاة الفجر فإن الصدقة تجزئ. أما جمعها عند العمال الذين يجمعون الصدقات كما يقع عندنا هنا في الجمعيات الخيرية أو بعض المتبرعين الذين يجمعون صدقات الفطر ثم يوزعونها بأنفسهم، فإنه يجوز أن يعطوا الصدقة قبل يوم أو يومين، والله أعلم. قال: (ويوم العيد قبل الصلاة أفضل) إذا أخرجها يوم العيد قبل الصلاة فهو الأفضل. قالوا: لأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بذلك فقال ابن عمر: (وأمر بها أن تخرج قبل الصلاة) وهذا يدل على أن الحنابلة وغيرهم ممن ذهب إلى هذا المذهب - واستدل بهذا الحديث - يرى أن هذه الجملة تدل على أن الإخراج المقصود فيها هو الإخراج في يوم العيد قبل الصلاة لا قبله (1) فالمستحب عند الحنابلة أن يخرجها قبل الصلاة وتقدم أنه هو الواجب. قال: (وتكره في باقيه) إذا أخرجها بعد صلاة العيد أو بعد صلاة الظهر أو بعد صلاة العصر من يوم العيد ما لم تغرب الشمس فإن هذا الفعل منه مكروه لكن الزكاة تجزئ عنه هذا هو المشهور عند الحنابلة. وعن الإمام أحمد: أنه يحرم. وقال الظاهرية، وهو قول الشوكاني: لا يجزئ فإن أخرجها بعد صلاة العيد فإنها لا تجزئ. وهذا هو ما دل عليه قول النبي صلى الله عليه وسلم الثابت في سنن أبي داود وغيره بإسناد حسن من حديث ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم: (فرض زكاة الفطر طهرة للصائم من اللغو والرفث وطعمة للمساكين فمن أداها قبل الصلاة فهي زكاة مقبولة ومن أداها بعد الصلاة فهي صدقة من الصدقات) (2) فهذا دليل ظاهر فيما ذهب إليه الظاهرية من أن الزكاة لا تجزئ، لأنه قال: (فهي زكاة مقبولة) ومفهومه أنها إن أخرجت بعد الصلاة فهي ليست زكاة مقبولة وإنما هي صدقة من الصدقات.

_ (1) لعله: بعدها (2) تقدم صْ 84.

فالراجح أنه إن أخرجها بعد الصلاة لعذر أو لغير عذر فإنها لا تجزئ عنه زكاة وإنما هي صدقة من الصدقات فإن كان معذوراً فلا شيء عليه، وأما إن كان غير معذور فإنه آثم لتركه الواجب في وقته. قال: (ويقضيها بعد يومه آثماً) أي بعد يوم العيد كأن يخرجها في ليلة الثاني من شوال أو في اليوم الثاني أو الثالث من شهر شوال فإنها تجزئ عنه لكنه آثم فهي زكاة مقبولة لكنه آثم لتأخير الواجب عن وقته. والصحيح أنها لا تجزئ عنه – أيضاً كما تقدم – بل هنا أولى فلا يجزئ عنه وهو آثم إن لم يكن معذوراً أما إن كان معذوراً فلا شيء عليه. إذن: المشهور عند الحنابلة أن إخراجها يجزئ قبل يوم أو يومين وأن السنة أن تخرج قبل الصلاة وأنها إن أخرجت بعد الصلاة في يوم العيد فهي زكاة مقبولة لكنها مكروهة وأما إن أخرجها بعد يوم العيد فهو آثم. والراجح: ما تقدم وأن الواجب عليه أن يخرجها قبل الصلاة فإن أخرجها بعد الصلاة فلا تجزئ عنه سواء كان هذا في يوم العيد أو بعده وإنما هي صدقة من الصدقات. فإن قيل: لم فرق الحنابلة في هذا؟ فالجواب: لعلهم فرقوا من باب ما ورد في الدارقطني لكن إسناده ضعيف أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (أغنوهم عن المسألة في هذا اليوم) (1) أو كما روى، فكأنها عندهم في يوم العيد آكد من غيره. والحديث وإن كان ضعيفاً لكن المعنى يدل عليه، فإن زكاة الفطر إنما تؤدى يوم العيد لهذا القصد. فلا يشكل على الفقير طعمته في يوم هو عيد من أعياد المسلمين وهو يوم فطر من رمضان، فيُغنى عن المسألة في هذا اليوم، فالتفريق من هذا الباب. والحمد لله رب العالمين الدرس التاسع بعد المئتين (يوم الثلاثاء: 8 / 1 / 1416 هـ) فصل قال: (ويجب صاعٌ من برٍ أو شعير أو دقيقهما أو سويقهما أو تمر أو زبيب أو أقط) " صاع من بر " وهو الحنطة أو القمح.

_ (1) سنن الدارقطني [2 / 348] رقم (2108) .

" أو دقيقهما " الدقيق هو الطحين. " أو سويقهما " السويق هو ما يطحن من الشعير والبر بعد أن يحمَّص " أي يوضع على النار قليلاً. " أو أقط " وهو ما نسميه بالبقل. فهذه الخمس يجب منها صاع صدقة الفطر. ودليل هذا: ما ثبت في الصحيحين عن أبي سعيد الخدري قال: (كنا نعطيها زمن النبي صلى الله عليه وسلم صاعاً من طعام أو صاعاً من تمر أو صاعاً من شعير أو صاعاً من زبيب أو صاعاً من أقط) (1) فقد ذكر في هذا الحديث أربعة، وكذلك الحنطة بإجماع الصحابة وسيأتي ما يدل عليه. إذن: تخرج من هذه الأصناف الخمسة. والقدر الواجب ما ذكره المؤلف وهو الصاع، وهو الصاع النبوي وتقدم أنه يساوي أربعة أخماس الصاع المعاصر. وكلام المؤلف يدل على أن القدر الواجب في البر هو الصاع كغيره وهذا هو مذهب جمهور العلماء. قالوا: لأن النبي صلى الله عليه وسلم أوجبه – أي الصاع – في هذه الأصناف المختلفة فهي ذوات قيم مختلفة ومع ذلك فقد أوجب الشارع فيها كلها صاعاً فالبر كذلك. - وذهب الأحناف: إلى أن نصف الصاع من الحنطة يجزئ فإذا أخرج مُدَّيْن من حنطة – أي نصف صاع – فإنه يجزئه ذلك. واستدلوا:

_ (1) أخرجه البخاري في كتاب الزكاة، باب (75) صاعٍ من زبيب (1508) عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: " كنا نعطيعها في زمان النبي - صلى الله عليه وسلم - صاعاً من طعام أو صاعاً من تمر أو صاعاً من شعير، أو صاعاً من زبيب، فلما جاء معاوية، وجاءت السَّمْراءُ قال: أرى مداً من هذا يعدل مدين "، أخرجه مسلم 985 بزيادة: فأما أنا فلا أزال أخرجه كذلك ".

بما روى أبو داود في مراسيله بإسناد صحيح إلى سعيد بن المسيب - ومراسيله أصح المراسيل عند أهل العلم – قال: (فرض رسول الله صلى الله عليه وسلم زكاة الفطر مدين من حنطة) (1) أي نصف صاع فإن الصاع أربعة أمداد، وله شاهد عند النسائي من حديث ابن عباس، وشاهد ثالث عند الترمذي من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده، وشاهد رابع من حديث عبد الله بن ثعلبة أو ثعلبة بن عبد الله – الشك في الرواية - في سنن أبي داود (2) ، فهذه شواهد تدل على صحة الحديث، فثبت ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم وهو مذهب جمهور الصحابة، فقد رواه ابن المنذر: عن عثمان وعلي وابن عباس وأبي هريرة وجابر وعبد الله بن الزبير وأسماء بنت أبي بكر قال الحافظ ابن حجر: " بأسانيد صحيحة " (3) . وهو ثابت عن عائشة كما هو ثابت عند ابن حزم.

_ (1) لم أجده في سنن أبي داود بهذا اللفظ، لكن فيه (1622) قال: " حدثنا محمد بن المثنى، حدثان سهل بن يوسف قال: حُميد: أخبرنا عن الحسن قال: خطب ابن عباس رحمها لله في آخر رمضان على منبر البصرة فقال: أخرجوا صدقة … فرض رسول الله - صلى الله عليه وسلم - هذه الصدقة صاعاً من تمر أو شعير أو نصف صاع من قمح على كل حر.. ". وفي صحيح مسلم / كتاب الزكاة / باب (4) زكاة الفطر على المسلمين من التمر والشعير (984) عن ابن عمر قال: فرض النبي - صلى الله عليه وسلم - صدقة رمضان على الحر والعبد والذكر والأنثى صاعاً من تمر أو صاعاً من شعير قال: فعدل الناس به نصف صاع من بر " وفي رواية له: " فجعل الناس عدله مدين من حنطة ". وانظر فتح الباري [3 / 372] . (2) في سنن أبي داود [2 / 270] ما نصه: " عن عبد الله ثعلبة أو ثعلبة بن عبد الله بن أبي صُعيْر عن أبيه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ... "

ورواه ابن حزم أيضاً عن أبي بكر وعمر وابن مسعود لكن بأسانيد ضعيفة فهو قول جمهور الصحابة ولا يعلم لهم مخالف إلا ما كان من أبي سعيد الخدري والمخالفة أيضاً ليست صريحة، ففي الصحيحين: (لما جاء معاوية وجاءت سمراء الشام " أي الحنطة " قال معاوية " (إني أرى مداً من هذه يعدل مدين من شعير) فهو قول معاوية أيضاً، فقال أبو سعيد الخدري: (أما أنا فلا أزال أخرجه كما كنت أخرجه في زمن النبي صلى الله عليه وسلم) . وعند أبي داود: (لا أخرجه أبداً إلا صاعاً) فهذا قول أبي سعيد، فإن كان صريحاً فالمخالف له جمهور الصحابة، وهو ما تقدم أيضاً ثابت عن النبي صلى الله عليه وسلم. ويحتمل أن يكون هذا فعل منه من باب الاحتياط، ولا شك أن من أخرج أكثر من الواجب عليه فإنه يجزئه وله أجر كما قال النبي صلى الله عليه وسلم – فيما تقدم – فيمن أراد أن يخرج ناقة فتية سمينة فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (فإن تطوعت قبلناه منك وآجرك الله عليه) (1) . إذن: ما ذهب إليه الأحناف هو القول الراجح وهو اختيار ابن المنذر وهو من كبار المجتهدين وهو منسوب إلى الشافعية وهو اختيار شيخ الإسلام وهذا هو القول الراجح. ومثل البر الأرز، فإنه يجزئه أن يخرج نصف الصاع منه إن كان من أطيب أنواع الأرز أما إن كان من النوع الرديء الذي يساوي قيمة الشعير ونحوه فإنه لا يجزئه إلا أن يخرج صاعاً لكن الأحوط وهو الآجر أن يخرج صاعاً. قال: (فإن عَدِم الخمسةَ أجزأ كل حب وثمر يُقتات) إذا عدم هذه الخمسة المذكورة فإنه يجزئه كل حب كالذرة مثلاً أو ثمر - يشبه أن يكون هذا التين ونحوه إن يبس (2) - يقتات أي يطعم، وتقدم الكلام على القوت. إذن: إذا عدم هذه الخمسة فيجزئه كل نوع من أنواع الحبوب أو الثمار التي تقتات أي التي تطعم وتدخر.

_ (2) كذا في الأصل.

- وظاهر كلام المؤلف أنها إذا لم تعدم فلا يجزئه ذلك وأن الحكم مخصوص بهذه الأصناف الخمسة وهذا هو المشهور في المذهب فلو أخرج ذرة أو غيرها من الأطعمة التي تقتات،فإنه لا يجزئه. وأنه إذا أخرج شيئاً من الأصناف الخمسة وإن كان لا يقتات كالشعير في وقتنا أو الأقط فإنه يجزئه هذا هو المشهور عند الحنابلة. واستدلوا بالحديث المتقدم الذي فيه ذكر الأصناف الخمسة وهو حديث أبي سعيد. - وذهب جمهور أهل العلم: إلى أن المجزئ ما كان من قوت البلد سواء كان من هذه الأصناف المذكورة أم لم يكن، بل إذا أخرج شيئاً من هذه الأشياء المذكورة وليس قوتاً كالأقط أو الشعير مثلاً عندنا، فإنه لا يجزئه ذلك. فالمجزئ هو إخراج طعام من طعام البلد وقوته سواء كان من هذه الأصناف الخمسة أم لم يكن منه، وأما ما ليس من قوت البلد فإنه لا يجزئه وإن كان من الأصناف الخمسة المذكورة في الحديث. فعلى هذا القول: إخراج الشعير في وقتنا لا يجزئ، وإخراج الأقط لا يجزئ. واستدلوا: بما ثبت في سنن أبي داود وتقدم، من قول الصحابي وهو ابن عباس: (فرض رسول الله صلى الله عليه وسلم زكاة الفطر طهرة للصائم من اللغو والرفث وطعمة للمساكين) فصدقة الفطر إنما شرعت طعمة للمساكين فدل على أن ما كان من طعام البلدة وقوتهم فإنه يجزئ وأن ما لم يكن من طعامهم فإنه لا يجزئه. قالوا: وإنما ذكر النبي صلى الله عليه وسلم الأصناف الخمسة لأنها كانت قوت البلد، فقد ثبت في البخاري وغيره أن أبا سعيد قال: (وكان طعامنا يومئذ الشعير والزبيب والتمر والأقط) فهو طعامهم ولذا أمرهم النبي صلى الله عليه وسلم بإخراجه. وهذا القول هو الراجح وهو اختيار شيخ الإسلام وتلميذه ابن القيم. قال: (ولا معيبٌ)

فلا يجزئ إخراج المعيب كأن يكون مبلولاً بالماء أو مسوساً أو أن يكون متغيراً طعمه لقدمه كما يقع هذا في التمر وبعض الأطعمة فيتغير طعمها لقدمها فإنها لا تجزئ لقوله تعالى: {ولا تيمموا الخبيث منه تنفقون ولستم بآخذيه} (1) فلا يجزئ أن يخرج من خبيث طعامه وما كان معيباً فهو من خبيث الطعام فلا يجوز إخراجه. أما إن كان قديماً لكن طعمه لم يتغير وكان الطعام الجديد أحب إلى الناس – وهذا يختلف باختلاف الأطعمة فالتمر مثلاً الجديد أفضل من القديم، بخلاف بعض الأطعمة كالأرز فإن منها ما إذا طالت مدته كان أفضل فالمقصود من ذلك أن الجديد إذا كان أحب إلى الفقير فهو أولى وأفضل في الصدقة، مع أنه يجزئه أن يخرج القديم الطيب. قال: (ولا خبزٌ) الخبز ما يصنع من الطحين أي من القمح فلا يجزئ لأنه لا يُدّخر وما ذكر من الأطعمة مما يدخر. - واختار ابن عقيل من الحنابلة إجزاءه، ووجه هذا القول الزركشي من الحنابلة فاختار أنه يجزئ إخراج الخبز. وعلى ذلك الأرز المطبوخ يجزئه، وهذا إذا كان الطحين أو الأرز الذي صنع منه الطعام - إذا كان يعدل القدر الواجب إخراجه وهذه المسألة وهي مسألة ثابتة أيضاً في الطحين وفي الدقيق والسويق الذي تقدم ذكره، فلابد أن يكون الطحين أو السويق لابد أن يكون بوزن الصاع من الشعير والصاع من البر وهنا كذلك فإن الطحين الذي يصنع منه الخبز أو الأرز المطبوخ على القول بإجزائه لابد أن يكون قبل الطبخ أو قبل الخبز لابد وأن يكون صاعاً، على القول بأنه لا يجزئه إلا صاع، أو نصف صاع على القول الآخر.

_ (1) سورة البقرة.

وفيما ذكره – فيما يظهر لي – قوة؛ وذلك لأن قضية الادخار غير معتبرة في صدقة الفطر، فإن المقصود هو إغناء الفقير عن المسألة في يومه ذلك، ولذا أوجبناها على الفقير نفسه إن فضل له عن حاجة يوم العيد وليلته صاع، فليس المقصود الادخار إذ أنها تخرج منه فإن الرجل الذي لا يملك إلا صاعاً من بر وهو فاضل عن قوت يوم العيد وليلته هو فقير ونوجب عليه إخراج هذا الصاع وننهاه عن ادخاره فدل على أن الادخار غير مقصود وأن المقصود هو أن يكون له طعمة في ذلك اليوم. فما اختاره ابن عقيل قوى، لكن الأحوط ما ذهب إليه الحنابلة في المشهور عندهم وغيرهم. قال: (ويجوز أن يعُطي الجماعةُ ما يلزم الواحد) الذي يلزم الواحد هو الصاع، فيجوز أن يدفعه إلى جماعة من الناس بمعنى أن يقسم الصاع على أكثر من مسكين؛ لأنه فعل الواجب عليه، فقد أخرج صاعاً من طعام ففعل الواجب عليه. - وقال بعض الحنابلة: لا يجزئه. وهو ظاهر اختيار شيخ الإسلام وأن الصاع هو القدر الذي يحتاج إليه الفقير الواحد وقد قال صلى الله عليه وسلم طعمة للمساكين، ولا شك أنه إذا قسم بينهم هذا حفنة وهذا حفنة، فإن هذا لا يكون لهم طعاماً. فالأظهر أنه لا يجزئه ذلك، وأن الواجب إخراج القدر المجزئ بشرط أن يكون هذا القدر المجزئ طعاماً، وتحديد الشارع للصاع؛ لأن الصاع هو القدر الذي يحتاج إليه الفقير في طعامه، فلا يجزئه أن يقسم الصاع بين أكثر من مسكين وقد يتساهل فيما إذا كان الصاع يكفي أكثر من مسكين، كأن يقسمه بين مسكينين أو ثلاثة بحيث يكون القدر المعطى لكل شخص منهم أن يكون كافياً لطعامه – قد يتساهل بهذا -. أما أن يقسم بينهم بحيث لا يكفيهم كأن يقسم بين عشرة ونحو ذلك فإن هذا غير مجزئ؛ لأنه لم يحصل به طعمة للمسكين. هذا هو ظاهر اختيار شيخ الإسلام.

واستثنى فيما إذا كان هناك مضطرون بحيث إنّا إذا قسمنا الصاع بينهم لكل شخص حفنة أنجيناهم من الهلكة والموت فحينئذ – يجوز أن يفرق بينهم، وهذا ظاهرٌ لاقتضاء المصلحة له. إذن: الأظهر أن هذا الصاع يجب أن يعطى للمسكين؛ لأنه هو القدر الذي يحتاج إليه وبه تندفع حاجته لكن قد يتساهل في هذا ويقال بقول الجمهور إذا كان القدر المعطى يكفي المسكين يومه وليلته فإنه قد يتساهل بهذا كما تقدم. قال: (وعكسه) أي ويجوز عكسه وذلك أن يعطى الواحد ما يلزم الجماعة يعني جماعة أخرجوا صدقة الفطر إلى شخص واحد، قال الموفق: (لا نعلم خلافاً بين أهل العلم فيه) (1) . وذلك لأن هذه الصدقة قد أعطيت مستحقها فبرئت الذمة. ولو قال قائل: بعدم الإجزاء إلا أن يكون الفقراء قليل لكان قولاً قوياً؛ وذلك لما تقدم من أن زكاة الفطر يؤمر بها الفقير فلا يقصد منها الادخار بل يقصد منها طعمة يومه، وطعمة يومه إنما تكون بصاع كما تقدم فعلى ذلك إذا أعطي أكثر من ذلك فإنما يكون للادخار فلا يناسب شرعاً أن تؤخذ من فقير فتعطى فقيراً آخر فيؤخذ منه ما يمكن أن يدخره فيعطى غيره ليدخره – هذا محل نظر ظاهر. لكن إن كان أغلب أهل البلد أغنياء يخرجون صدقة الفطر عن يسر – كما يقع هذا كثيراً في بلادنا – والفقراء قليل، فيعطون هذه الأموال وإن كانوا يدخرونها، فإن هذا جائز.

_ (1) قال ابن قدامة في المغني [4 / 316] ما نصه: " أما إعطاء الجماعة الواحد فلا نعلم فيه خلافاً ".

أما أن يُعطي شخصاً ويمنع منها شخص آخر ونقول بإجزاء ذلك، هذا فيه نظر، ولذا فإن الذي ينبغي أن يكون هناك عمّال يرتبون القيام بإخراجها فيخرجونها على سائر فقراء البلدة فلا يدَعوا فقيراً إلا وقد أوصلوا إليه طعمة يوم العيد وليلته، فإذا فضل بعد ذلك شيء من الطعام أُعطى بعد ذلك الفقراء وإن ادخروه، وأما كلام الفقهاء فإن ظاهره الإجزاء مطلقاً وإن كان هناك فقراء لم يصل إليهم شيء من صدقة الفطر مطلقاً. والأظهر ما تقدم وأن هذا الطعام إنما يقصد به إغناء الفقير ليلة العيد ويومه ولذا يؤمر به الفقير نفسه. وأصح الوجهين في المذهب أن من لم يجد إلا نصف صاع يفضل عن مؤنة يوم العيد وليلته فإنه يجب عليه إخراجه لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم) (1)

_ (1) أخرجه البخاري في كتاب الاعتصام بالكتاب والسنة (7288) فقال رحمه الله تعالى: " حدثنا إسماعيل حدثني مالك عن أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (دعوني ما تركتكم، فإنما أهلك من كان قبلكم سؤالهم واختلافهم على أنبيائهم، فإذا نهيتكم عن شيء فاجتنبوه، وإذا أمرتكم بشيء فأتوا منه ما استطعتم) " وأخرجه مسلم في كتاب الحج (1337) [صحيح مسلم بشرح النووي (9 / 100) ] فقال: " وحدثني زهير بن حرب حدثنا يزيد بن هارون أخبرنا الربيع بن مسلم القرشي عن محمد بن زياد عن أبي هريرة قال: خطبنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: (أيها الناس قد فرض الله عليكم الحج فحجوا) فقال رجلٌ: أكل عام يا رسول الله؟ فسكت حتى قالها ثلاثاً، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (لو قلت نعم لوجبت ولما استطعتم) ثم قال: (ذروني ما تركتكم فإنما هلك من كان قبلكم بكثرة سؤالهم واختلافهم على أنبيائهم، فإذا أمرتكم بشيء فأتوا منه ما استطعتم، وإذا نهيتكم عن شيء فدعوه) ". وأخرجه أيضاً في كتاب الفضائل بعد حديث (2357) [صحيح مسلم بشرح النووي (15 / 109) ] فقال: " حدثني حرملة بن يحيى التُّجيبي أخبرنا ابن وهب أخبرني يونس عن ابن شهاب أخبرني أبو سلمة بن عبد الرحمن وسعيد بن المسيَّب قالا: كان أبو هريرة يحدث أنه سمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: (ما نهيتكم عنه فاجتنبوه، وما أمرتكم به فافعلوا منه ما استطعتم، فإنما أهلك الذين من قبلكم كثرة مسائلهم واختلافهم على أنبيائهم) . وحدثني محمد بن أحمد بن أبي خلف حدثنا أبو سلمة وهو منصور بن سلمة الخزاعي أخبرنا ليث عن يزيد بن الهاد عن ابن شهاب بهذا الإسناد مثله سواء. حدثنا أبو بكر ابن أبي شيبة وأبو كريب قالا حدثنا أبو معاوية ح وحدثنا ابن نمير حدثنا أبي كلاهما عن الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة ح وحدثنا قتيبة بن سعيد حدثنا المغيرة - يعني الحِزامي - ح وحدثنا ابن أبي عمر حدثنا سفيان كلاهما عن أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة ح وحدثناه عبيد الله بن معاذ حدثنا أبي حدثنا شعبة عن محمد بن زياد سمع أبا هريرة ح وحدثنا محمد بن رافع حدثنا عبد الرزاق أخبرنا معمر عن همام بن منبه عن أبي هريرة، كلهم قال عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ذروني ما تركتكم، وفي حديث همام: ما تركتكم، فإنما هلك من كان قبلكم ثم ذكروا نحو حديث الزهري عن سعيد وأبي سلمة عن أبي هريرة ".

وقد أمرنا بالصاع وعجزنا عنه وأمكننا أن نخرج المد أو نصف الصاع فإن إخراجه هو الواجب علينا وقد قال تعالى: {فاتقوا الله ما استطعتم} (1) . مسألة: في الصنف الذي يعطى صدقة الفطر؟ - مذهب الحنابلة: أن أصناف أهل الزكاة هم الذين يعطون صدقة الفطر وهم الأصناف الثمانية المذكورين في قوله تعالى: {إنما الصدقات للفقراء والمساكين} الآية. فعلى ذلك يعطى المؤلفة قلوبهم وتعطى للجهاد في سبيل الله هذا هو المشهور عند الحنابلة. قالوا: لقوله تعالى: {إنما الصدقات للفقراء} فيدخل في ذلك صدقة الفطر. - واختار شيخ الإسلام: أنها لا تجزئ إلا لمن يستحق الكفارة وهو من يأخذ الصدقة لحاجة نفسه وهو الفقير والمسكين، واستدل بقوله صلى الله عليه وسلم: (طعمة للمساكين) فخصها النبي صلى الله عليه وسلم بالمساكين. قال: والفارق بينها وبين زكاة المال: أن زكاة المال متعلقة بالمال، فما يخرج من الشياه أو من الإبل أو البقر أو من الذهب والفضة متعلق بهذه الأموال. أما صدقة الفطر فهي متعلقة بالبدن ولذا يجب على الفقير فأشبهت الكفارة فإن الكفارات ككفارة اليمين وغيرها متعلقة بالبدن لا بالمال فأشبهت صدقة الفطر الكفارة فكانت مستحقة لمن يستحق الكفارة. وهذا القول هو الراجح؛ لقوله - صلى الله عليه وسلم -: (طعمة للمساكين) فخصها بالمساكين وأما قوله تعالى: {إنما الصدقات للفقراء والمساكين} فإن " أل " هنا عهدية وقد قال تعالى في هذه السورة: {خذ من أموالهم صدقة} الآية، فهي صدقة المال. فقوله: {إنما الصدقات} أي إنما صدقات المال، وأما زكاة الفطر فهي صدقة بدن فهي طهرة للصائم من الرفث فهي صدقة بدن لا صدقة مال.وما اختاره شيخ الإسلام هو الراجح. فعليه: لا تدفع إلا للفقراء والمساكين طعمة لهم في ذلك اليوم. والحمد لله رب العالمين الدرس العاشر بعد المئتين (يوم الجمعة: 11 / 1 / 1416 هـ) باب: إخراج الزكاة

قال: (ويجب على الفور مع إمكانه إلا لضرورة) يجب على الفور إخراج الزكاة، فمن وجبت عليه زكاة في ماله سواء كانت من المواشي أو عروض التجارة أو من النقد أو غيرها فيجب عليه أن يخرجها فوراً، ولا يجوز له التراخي، وذلك للقاعدة الشرعية التي تقدم ذكرها وهي أن الواجبات على الفور وقد دلت عليها نصوص الشريعة، فعلى ذلك وقد قال تعالى: {وآتوا الزكاة} فيجب عليه أن يؤتيها فوراً، فإن تراخى أثم. وقيده المؤلف بقوله: (مع إمكانه) أي مع إمكان الإخراج وهذه قاعدة في الواجبات، وأن الواجبات إنما تجب مع القدرة. والفورية الواجبة هنا: إنما تجب مع القدرة عليها، فإن لم يقدر على أدائها فوراً فإنه لا تجب عليه ذلك بل له أن يتراخى بحسب ما تقتضيه قدرته كأن يكون المال غائباً عنه فلم يتمكن من زكاته إلا متراخياً فإنه يجوز له التراخي لقوله تعالى: {فاتقوا الله ما استطعتم} وقوله صلى الله عليه وسلم: (إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم) (1) . واستثنى المؤلف هنا فقال: (إلا لضرورة) فإذا اقتضت الضرورة تأخير الزكاة فإنه يجوز له تأخيرها وإن كان قادراً على أدائها لقوله صلى الله عليه وسلم: (لا ضرر ولا ضرار) فلو أنه مثلاً تأخر عنه الساعي، والساعي يطالب بها عادة، فتأخر عنه الساعي، وعلم أنه إن أداها بنفسه فإن الساعي يطالبه بها وقد لا يصدقه في أنه قد أداها بنفسه، فحينئذ يجوز له أن يتأخر حتى يأتيه الساعي حفظاً للمال وهي من الضروريات الخمس ومثل ذلك: إن احتاج إلى تأخير الزكاة في مؤنة نفسه وكفايتها وحاجتها فله أن يؤخرها؛ لقوله - صلى الله عليه وسلم -: (لا ضرر ولا ضرار) . * وهل يجوز له أن يؤخرها ويتراخى في دفعها ليؤديها إلى من هو أحق بها؟ كأن يكون هناك غائب وهو فقير شديد الحاجة إلى الزكاة أو أن يكون هناك قريب إليه وهو محتاج إلى الزكاة وهو غائب؟

ظاهر كلام بعض الحنابلة المنع من التأخير مطلقاً. وظاهر قول بعضهم جوازه مطلقاً. والمشهور عندهم وهو الأظهر: جوازه إن كان التأخير يسيراً عرفاً كأن يتأخر أياماً يسيرة عرفاً كاليوم واليومين، فإنه يجوز له أن يؤخرها ليدفعها إلى من هو أحوج إليها وأحق بها أما إن كان التأخير كثيراً عرفاً فليس له ذلك، وذلك لأن الأصل وجوب دفعها فوراً، وتأخيرها زمناً يسيراً لأدائها إلى من هو أحق بها، الحاجة داعية إليه ولا يفوت به مقصود الشرع من الفورية في الزكاة بل يحصل به مقصود الشرع من دفعها إلى من هو أحق بها. بخلاف ما إذا كان الزمن كثيراً فإن الزكاة حينئذ تكون عرضة للفوت إما بموت أو إفلاس أو نحو ذلك، ولا يجوز ترك واجب لمندوب. (1) قال: (فإن منعها جحداً لوجوبها كفر عارفٌ بالحكم) أي إذا لم يكن جاهلاً فإنه يكفر؛ وذلك لأنه مكذب لله ورسوله فإن أدلة إيجاب الزكاة ظاهرة من الدين ضرورة فإن جحدها وأنكرها فقد كذب الله في كتابه والنبي صلى الله عليه وسلم في سنته فيكفر هذا إن كان عارفاً بالحكم أما إن كان جاهلاً والجهل ممكن كأن يكون حديث عهد بإسلام فإنه لا يكفر حتى يبين له حكم الله عز وجل وقد أجمع العلماء على أن جاحد وجوبها كافر. قال: (وأخذت منه) أي الزكاة لأنها وجبت عليه قبل كفره، فلا يقال: لا تجب الزكاة لأنه كافر، والكافر لا يجب عليه الزكاة فحينئذ ينتقل إلى وارث أو بيت مال، بل يقال الزكاة واجبة؛ لأنها تعلقت في ماله قبل كفره وقبل ردته فكانت واجبة فتؤخذ من ماله زكاة. قال: (وقتل)

_ (1) في حاشية المذكرة ما نصه: " في الإنصاف: ويجوز له التأخير لحاجته إلى زكاته إن كان فقيراً محتاجاً إليها تختل كفايته ... . وعنه: له أن يعطي قريبه كل شهر شيئاً، وحمله أبو بكر على تعجيلها، وخالفه المجد وأن الظاهر ... . فائدة: نص أحمد على فورية النذر المطلق والكفارة، وهو المذهب ... "

ردةً؛ لأنه كافر بالله عز وجل، وقد قال صلى الله عليه وسلم: (من بدل دينه فاقتلوه) (1) . قال: (أو بخلاً أخذت منه) فمن تركها بخلاً أو تهاوناً وكسلاً فإنها تؤخذ منه قهراً لقوله تعالى: {خذ من أموالهم صدقة} وهذا حق مالي واجب فكان واجباً على الحاكم أن يأخذه من مانعه إن منعه بخلاً به أو تهاوناً وكسلاً. (2) قال: (وعُزِّر) لأنه قد ارتكب أمراً محرماً من ترك الزكاة وفعل المحرم – إن لم يثبت فيه حد – فإن الحاكم يعزر به كما سيأتي هذا في باب التعزيرات إن شاء الله. فإذا منع الزكاة فإن الحاكم يعزره بسجن أو ضرب أو نحو ذلك. وظاهره أنه لا تؤخذ منه شطر المال، وهذا هو المشهور عند الحنابلة وأن مانع الزكاة تؤخذ منه الزكاة الواجبة فحسب ويعزر على المنع. (3) وعن الإمام أحمد: أنه يؤخذ منه شطر ماله، وهو قول أبي بكر وقول الأوزعي وقول الشافعي في القديم وهو اختيار ابن القيم وقد نصره في تهذيب السنن وأن مانع الزكاة يؤخذ منه نصف ماله الذي وجبت فيه الزكاة مع الزكاة الواجبة، وهذا هو القول الراجح.

_ (1) أخرجه البخاري وغيره. (2) في حاشية المذكرة ما نصه: " المذهب: أنه إن قاتل عليها لم يكفر، وعنه.. وهو قول بعض أصحابه: إن قاتل عليها كفر، وعنه: يكفر وإن لم يقاتل عليها. فإن ادعى ما يمنع وجوب الزكاة من نقصان نصاب أو نحوه قبل قوله بلا يمين، هذا هو المذهب، ووجه في الفروع.. " (3) في أعلى المذكرة ما نصه: " لأن الصحابة لم يأخذوا الزيادة، إلا أن يفعله لفسق الإمام، لكونه لا يضعها موضعها، وصوبه في الإنصاف، وقال: لو قيل بوجوب كتمانه لكان سديداً ".

لما ثبت في مسند أحمد وسنن أبي داود والنسائي من حديث بهز بن حكيم عن أبيه عن جده والحديث إسناده جيد، وقد صححه غير واحد من أهل العلم والحديث ثابت جيد السند أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ومن منعها فإنا آخذوها وشطر ماله عَزْمةً من عزمات ربنا) (1) فعلى ذلك يكون هذا من التعزيرات المالية. فعلى ذلك تؤخذ الزكاة ويؤخذ معها شطر ماله. قال: (وتجب في مال صبي ومجنون فيخرجها وليهما) تقدم الكلام على هذه المسألة، وأن الزكاة واجبة في مال الصبي والمجنون ويخرجها عنهما وليهما؛ لأنه هو القائم بالتصرفات المالية عنهما – كما هو مذهب الجمهور خلافاً للأحناف. وعن أحمد: لا يلزمه الإخراج إن خاف أن يطالب بذلك، كأن يخشى رجوع الساعي، لكن يعلمه إذا بلغ وعقل. قال: (ولا يجوز إخراجها إلا بنية) فلا تصح الزكاة ولا يجوز إخراجها إلا بنية فإن دفعها على أنها صدقة تطوع مثلاً ثم نواها زكاة فلا يجزئه ذلك أو تنازل عن حق مالي لشخص ثم نواها بعد ذلك زكاة فلا يجزئ - على القول بإجزاء تبرئة المدين زكاة –؛ وذلك لأن الزكاة عمل، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إنما الأعمال بالنيات) (2) فلا يصح العمل إلا بالنية ولا يجزئ إلا بها فإذا دفع شيئاً من ماله بغير نية الزكاة، كأن يرى مسكيناً مثلاً فيعطيه ولم ينوها زكاة فإنه لا يجزئه زكاة بل صدقة من الصدقات لحديث: (إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى) قال: (والأفضل أن يفرقها بنفسه) فالأفضل له أن يفرقها بنفسه سواء كانت الزكاة من الأموال الباطنة كالذهب والفضة أو كانت من الأموال الظاهرة كالمواشي فالأفضل له أن يتولاها بنفسه فيفرقها على مستحقيها وذلك لأنه بهذا الفعل يتيقن وصولها إلى مستحقيها وله أن يدفعها إلى الإمام أو السعاة هذا هو المشهور عند الحنابلة

_ (1) أخرجه أبو داود، وقد تقدم صْ 2.

فالأفضل – عندهم – أن يدفعها بنفسه ويفرقها بنفسه سواء كانت الأموال الظاهرة أو الباطنة، قالوا: لأنه بذلك يتيقن وصولها إلى مستحقيها. وقال بعض الحنابلة كأبي الخطاب وهو مذهب الشافعية: بل الأفضل له أن يدفعها إلى الإمام، وهو رواية عن الإمام أحمد في الأموال الظاهرة وفي صدقة الفطر. وهذا القول هو الظاهر وأن الأفضل أن يدفعها إلى الوالي؛ وذلك لأنه بهذا الفعل تزول التهمة عنه ولأن الصحابة كانوا يدفعونها إلى العمال والسعاة، وكانت تجبى في زمن النبي صلى الله عليه وسلم وكان الناس يدفعونها إلى السعاة كما هو مشهور في غير ما حديث عن النبي صلى الله عليه وسلم وهذا القول هو الأرجح، وأن الأفضل له أن يدفعها إلى الإمام إن كان الإمام عادلاً يضعها في مواضعها. وظاهر كلام المؤلف أن له أن يدفعها إلى الإمام مطلقاً، لأنه قال: (الأفضل له أن يفرقها بنفسه) وظاهره أنه إن دفعها إلى الإمام جاز ذلك مطلقاً سواء كان الإمام عدلاً أو جائراً، وإن علم أنها تصرف في غير مصارفها وتوضع في غير مواضعها هذا هو المشهور عند الحنابلة. فإن كان الإمام عادلاً ويضعها في مواضعها فلا إشكال في جواز دفعها إليه بل أفضلية ذلك – كما تقدم –. وأما إن كان الإمام لا يضعها في مواضعها ولا يدفعها إلى مستحقيها وأمكنه أن يكتمها عنه فمذهب المالكية والشافعية وهو اختيار القاضي من الحنابلة وصوبه صاحب الإنصاف: أنه ليس له أن يدفعها – حينئذ – إلى الإمام. وهذا هو القول الراجح؛ وذلك لأن مقصود الشارع إيصالها إلى مستحقيها وحيث دفعت إلى سلطان لا يضعها مواضعها فإن في ذلك تضييعاً للحق عن صاحبه. هذا حيث لم تترتب فتنة، بين الحاكم والمحكوم أما إن ترتب فتنة فإن ذلك لا يجوز للفتنة. أما إذا كان الإمام عادلاً، فإن المشهور عند الحنابلة جواز دفعها إليه وله أن يصرفها بنفسه وتقدم أن المستحب له أن يدفعها إلى الإمام. لكن هل يجب دفعها إلى الإمام أم لا؟

إذا كانت الأموال باطنة فقد أجمع العلماء على أنه يجوز له أن يصرفها بنفسه ولا يجب عليه أن يدفعها إلى الإمام. أما أن كانت الأموال ظاهرة: فقال الحنابلة والشافعية: يجوز له أن يفرقها بنفسه ولا يجب أن يدفعها إلى الإمام. وقال المالكية والأحناف: بل يجب أن يدفعها إلى السلطان. واستدلوا بقوله تعالى: {خذ من أموالهم صدقة} (1) وبأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يبعث السعاة في الأموال الظاهرة. وأما الحنابلة فاستدلوا: بالقياس على الأموال الباطنة إذ لا فرق وأما ما ذكرتموه من الأدلة، فإنه ليس فيه إلا إيجاب ذلك على الحاكم أو السلطان وأنه يجب عليه أن يأخذ الأموال فيصرفها إلى مستحقيها، وليس فيه وجوب ذلك على صاحب المال، وحيث دفعها – وهي الأموال الظاهرة – فإن الذمة تبرأ بذلك لأنها زكاة قد أعطيت مستحقها. هذا: إذا لم يطالب بها الإمام، فإن طالب بها الإمام فيجب دفعها إليه سواء كانت باطنة أو ظاهرة؛ وذلك لما في منعها من الفتنة والافتيات على السلطان، ولأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (قد عفوت عن الخيل والرقيق فهاتوا صدقة الرقة) (2) كما ثبت في أبي داود بإسناد حسن، فقوله: (هاتوا) أمر والأمر للوجوب. * بيان هذه المسألة مرة أخرى وتفاصيلها: إن طلب الإمام أو نائبه الزكاة في الأموال الظاهرة أو الباطنة فيجب دفعها إليه لما في منعها من الافتيات عليه، ولما في ذلك من الفتنة ولقوله صلى الله عليه وسلم – وهو الإمام -: (فهاتوا صدقة الرقة) وظاهر الأمر الوجوب. فإن لم يطالب بها الإمام ولم يرسل السعاة إلى جلبها من الناس بأعيانهم فهل يجب أن يدفعها إليه أو يجوز له أن يفرقها بنفسه؟ إن كانت باطنة فيجوز بالإجماع. وإن كانت ظاهرة ففي ذلك قولان لأهل العلم:

_ (1) سورة التوبة. (2) أخرجه أبو داود في كتاب الزكاة / باب (4) في زكاة السائمة (1574) .

أصحهما وهو المشهور عند الحنابلة والشافعية – جواز تفريقها بنفسه؛ وذلك لأن الأدلة الواردة ليس فيها ما يدل على وجوب دفعها إلى الإمام وإنما فيها وجوب الإخراج، ووجوب أخذها من السلطان وليس فيه وجوب دفعها إليه إلا أن يطالبه السلطان بها فيجب حينئذ لما تقدم. ثم هل الأفضل له أن يدفعها إلى الإمام أم الأفضل له أن يفرقها بنفسه؟ الراجح – وهو مذهب الشافعية – أن الأفضل له أن يدفعها إلى الإمام لفعل الصحابة، ولزوال التهمة. * أما إذا ثبت له أن الإمام لا يضعها في مواضعها ويتصرف فيها بغير حق وأمكنه كتمها: فمذهب المالكية والشافعية وهو قول القاضي من الحنابلة وصوبه صاحب الإنصاف: أنه لا يجوز له دفعها إليه كما تقدم. والمشهور من المذهب أنها تدفع إليه. ومما يدل على وجوب دفعها إلى الإمام إن كان الإمام يطالب بها وإن كان الإمام لا يضعها مواضعها ولا يتصرف بها تصرفاً شرعياً آثار الصحابة، ففي البيهقي بإسناد جيد أن ابن عمر قال: (ادفعوها إليهم وإن أكلوا بها الكلاب) (1) ، وقال في رواية: (وإن شربوا بها الخمر) (2) . وثبت في مصنف عبد الرزاق بإسناد صحيح عن أبي صالح قال: اجتمع عندي مال، فأتيت ابن عمر وأبا هريرة وأبا سعيد وسعد بن أبي وقاص فقابلت كل واحد منهم وقلت له: إن هؤلاء يضعونها حيث ترى: " أي لا يضعونها في مواضعها الشرعية " وإني قد وجدت لها موضعاً حسناً، فكلهم قالوا: أدها إليهم) (3) . إذن: إذا كان الإمام يطالب بها فيجب دفعها إليه وإن كان لا يضعها في مواضعها، أما إذا لم يطالب بها أو أمكن كتمها ما لم يترتب على ذلك فتنة فإنه يجب كتمها كما تقدم. (4)

_ (2) السنن الكبرى للبيهقي / كتاب الزكاة، باب (38) الاختيار في دفعها إلى الوالي (7383) . (3) وانظر سنن البيهقي [4 / 193] رقم (7385) . (4) كلام في الحاشية بعضه غير واضح.

ويجوز له أن يدفعها إلى ثقة توكيلاً هذا جائز لا حرج فيه، فإذا أعطى زكاته ثقة يؤديها إلى مستحقيها فلا بأس؛ وذلك لأن النبي صلى الله عليه وسلم قد وكل في زكاة ماله فقد وكل معاذ بن جبل في أخذ زكاة أهل اليمن ويفرقها بينهم وكان يوكل السعاة في أخذ الزكاة ويفرقها فدل ذلك على جواز التوكيل ولأنه يحصل المقصود ولا دليل أيضاً على منعه. وهل يجب عليه أن يعلم الفقير أنها زكاة مال أم لا يجب عليه ذلك؟ نص الإمام أحمد على أنه لا يجب ذلك وأنه لا يستحب له؛ لما في ذلك من كسر قلب الفقير. واستثنى الحنابلة: من كان عادته ألا يقبل الزكاة ويتنزه عنها فإنه حينئذ لا يدفع إليه إلا أن يخبر أنها زكاة، وقالوا: إن دفعت إليه من غير أن يذكر له أنها زكاة فإن ذلك لا يجزئ. هذا هو المشهور عند الحنابلة. وقال بعض الحنابلة: بل يجزئ. وهذا هو الظاهر؛ وذلك لأنه من المستحقين وقد دفعت إليه علم أنها زكاة أم لم يعلم فهي زكاة قد دفعت إلى مستحق لها وهو من أهل الزكاة ولا دليل على عدم إجزائها والأصل هو الإجزاء لكن الذي ينبغي أن يخبر بذلك وألا يفتات عليه فيعطى ما لا يرضى ويعطى ما يتنزه عنها بل يخبر أنها زكاة فإن قبلها فذاك وإن ردها فكذلك. ومع ذلك فالذي يظهر: أنه إذا اقتضت المصلحة الشرعية والحاجة عدم إخباره فإنه لا يخبر، كأن يكون هناك أحد من الناس يتنزه عنها تنزهاً بالغاً وعليه حاجة شديدة ويخشى عليه الهلكة ونحو ذلك وإن دفعت إليه وأخبر أنها زكاة لم يقبلها فالذي ينبغي ألا يخبر بذلك إذ لا ضرر عليه. لكن إن لم يكن الأمر على هذه الصفة فالذي ينبغي هو الإخبار وفي كل الحالات فإنها تجزئ لأنها زكاة توفرت فيها الشروط الشرعية ودفعت إلى مستحقيها ولا دليل على عدم إجزائها والأصل هو الإجزاء، أما إذا كان لا (1) يتنزه عن قبولها فلا ينبغي إخباره بل تدفع إليه بلا إخبار؛ لئلا يكسر قلبه بذلك.

_ (1) لعل الصواب حذفها.

هذا إن كان كسر القلب يحصل بذلك، أما إن كان كسر القلب يحصل بدفعها على أنها صدقة من الصدقات، بينما إذا دفعت على أنها زكاة رأى أن هذا حق من الله - عز وجل - دفع إليه قهراً من الغنى، وأنه لا منة للغني بذلك، فالأولى هو الإخبار بأنها زكاة؛ لئلا يبقى في قلبه منة لهذا الدافع - ولا منة له بذلك فهو حق من الله في مال هذا الغني دفع إلى هذا الفقير -. فالمقصود من ذلك: أنه حيث حصل كسر قلب الفقير فإنه لا يخبر بذلك وإن كانت عادته عدم القبول فينبغي أن يخبر بذلك، فإن لم يخبر أجزأت على الراجح وهو قول بعض الحنابلة. قال: (ويقول عند دفعها هو وآخذها ما ورد) أما هو فيقول عند دفعها: (اللهم اجعلها مغنماً ولا تجعلها مغرماً) (1) لكن الحديث رواه ابن ماجه وإسناده ضعيف. وأما آخذها من السعاة فيقول ما ورد وهو ما ثبت في الصحيحين - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - - عن عبد الله بن أبي أوفى: كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا أتاه الناس بصدقتهم قال: اللهم صل على آل فلان، فأتاه ابن أبي أوفى بصدقته فقال: اللهم صل على آل أبي أوفى) (2) أي: اللهم أثن عليهم، فهو من باب الدعاء وقد قال تعالى: {خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها وصل عليهم إن صلاتك سكن لهم} (3) أي ادع لهم.

_ (1) أخرجه ابن ماجه في كتاب الزكاة، باب ما يقال عند إخراج الزكاة. المغني [4 / 96] . (2) أخرجه البخاري في باب صلاة الإمام ودعائه لصاحب الصدقة من كتاب الزكاة، وفي كتاب المغازي، وكتاب الدعوات، ومسلم في باب الدعاء لمن أتى بصدقته من كتاب الزكاة وغيرهما. المغني [4 / 96] .

فيستحب للإمام أو نائبه أن يدعو لدافعها وهذا الدعاء الوارد في الآية والحديث ليس خاصاً بالنبي صلى الله عليه وسلم بل عام له ولغيره ولكن الخاص به هذا الفضل المذكور بقوله: {إن صلاتك سكن لهم} ، ونظير هذا: قول النبي صلى الله عليه وسلم: (إن هذا القبور مملوءة ظلمة على أهلها وإن الله ينورها لهم بصلاتي عليهم) (1) فلا يعني هذا أن الصلاة على الميت في قبره خاص بالنبي صلى الله عليه وسلم، بل ذلك عام له ولغيره، لكن هذا الفضل وهو أن الله ينورها بالصلاة خاص بالنبي - صلى الله عليه وسلم -. مسألة: إذا منع الزكاة بخلاً فإنها تؤخذ منه شطر ماله معها وهذا الشطر هل يصرف مصرف الفيء أو مصرف الزكاة؟ الظاهر أنه يصرف مصرف الزكاة لأنها متولدة من الزكاة فسببها الزكاة ولقوله صلى الله عليه وسلم: (ومن منعها فإنا آخذوها وشطر ماله عزمة من عزمات ربنا ولا تحل لآل محمد منها شيئاً) (2) وآل محمد تحل لهم الفيء أما الزكاة فلا تحل لهم. فالأظهر أنها تكون لها مجرى الزكاة. مسألة: مستحق الزكاة هل الأفضل له أن يقبلها أم يتنزه عنها؟ الجواب: بل يقبلها إلا أن يترتب على ذلك مفاسد، وإلا فإن الصحابة كانوا يقبلونها وتقدم أثر معاذ: (خير لأصحاب المدينة) (3) فلا شك أن التنزه عما كان عليه الصحابة تنزه مذموم وهي حق من الله - عز وجل - وليس فيها منة فالتنزه عنها ليس بسليم لكن قد يمتنع عنها الشخص إذا كان الناس يرونها مذمة فيكرهها لذلك وإن كان قد يقبلها باطناً لكنه ظاهراً لما يرى من مذمة الناس لذلك فحينئذ، والأصل أنه لا مذمة فيها فهي مال من الله ليس للغني فيه منة. مسألة: رجل زكاة ماله عشرة آلاف ريال، ويريد من فلان عشرة آلاف ريال، فهل له أن يحلل الفقير مما عليه من الدَّيْن ويخصم هذا من زكاته هل يجوز أم لا؟

_ (1) أخرجه مسلم، وانظر فتح الباري [1 / 553] . اسطوانة مكتبة الفقه وأصوله. (2) تقدم. (3) تقدم.

الذي يظهر أن المسألة فيها تفصيل – وإن كان فيما يظهر لي أن المشهور عند الحنابلة المنع مطلقاً. لكن الأظهر هو التفصيل وهو أن يقال: إن كان حقه يخشى ضياعه كأن يكون على معسر فإنه ليس له ذلك؛ لأن هذا المال الذي على هذا الفقير بحكم المال الضائع، فليس له حينئذ أن يخرج هذا من زكاة نفسه، أما إذا كان في حكم ما في يده من المال كأن يكون له دين على فلان عشرة آلاف وهو يعلم أنه قادر على الوفاء وهو وفيّ فيجوز له ذلك؛ لأنه له أن يدفع إليه الزكاة مباشرة وللفقير إذا دفعها إليه أن يعيدها إليه وإن كان قد يمنع من هذا إن قلنا بالمسألة على مذهب الحنابلة إن كان فيها مواطأة لكن لو دفعها إلى هذا الفقير المدين له ثم أعادها هذا المدين من غير مواطأة، لقلنا بالإجزاء فلا فرق حينئذ بين أن يحلله منها مع علمه بقدرته على الوفاء لكن إن كان غير قادر على الوفاء فإنه لا يجوز ذلك، ولما في ذلك من تفويت الزكاة لأنه لا يكاد يجد غنياً إلا له أموال كثيرة قد ذهبت في أيدي كثير من الناس لا يمكن تحصيلها فإذا فعل هذا الفعل خرجت الزكاة وخرجت عن مستحقيها لذا المشهور في المذهب عدم الجواز مطلقاً. والحمد لله رب العالمين الدرس الحادي عشر بعد المئتين (يوم السبت: 12 / 1 / 1416هـ) قال المؤلف رحمه الله تعالى: (والأفضل إخراج زكاة كل مال في فقراء بلده ولا يجوز نقلها إلى ما تقصر فيه الصلاة) .

فالأفضل – أي المستحب – إخراج زكاة كل مال في فقراء بلده ولا يجوز نقلها إلى ما تقصر فيه الصلاة وبهذه الجملة يتبين أن مراد المؤلف في قوله: (والأفضل إخراج زكاة كل مال في فقراء بلده) التفضيل بين إخراجها في بلد المال وبين إخراجها في موضع آخر بينه وبين البلد الذي فيه المال الزكوي - بينه - مسافة لا تقصر فيه الصلاة، فعلى ذلك الأفضل له أن يخرج الزكاة في البلد أفضل له من أن يخرجها في البوادي أو في القرى القريبة من البلدة أو في المدن القريبة منها التي ليس بينها وبين هذه المدينة - التي فيها المال - مسافة قصر. أما إذا نقلها إلى بلدة بينها وبين هذه البلدة التي فيها المال الزكوي مسافة قصر فإن ذلك النقل محرم فأصبح عندنا ثلاث حالات: الحالة الأولى: أن يخرج الزكاة في بلدة المال فهذا هو الأفضل. الحالة الثانية: أن يخرجها إلى بادية أو بلدة قريبة إلى بلدة المال بحيث أنه ليس بينها وبين بلدة المال مسافة قصر فهنا يجوز له ذلك. والحالة الثالثة: أن يخرجها إلى بلدة بينها وبين بلدة المال مسافة قصر فهذا حرام لا يجوز. أما الحالة الأولى: فدليلها ما ثبت في الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لمعاذ بن جبل: (فأعلمهم أن الله افترض عليهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم فترد في فقرائهم) (1) أي في فقراء أهل اليمن، وثبت في سنن أبي داود أن زياد بن أبيه أو بعض الأمراء بعث عمران بن حصين على الصدقة، فلما رجع عمران قال له: (أين المال؟ فقال: وللمال أرسلتني؟ أخذناها [من] حيث كنا نأخذها على عهد النبي صلى الله عليه وسلم ووضعناها حيث كنا نضعها على عهد النبي صلى الله عليه وسلم) (2) فدل على أنهم لم يكونوا يجبون الصدقة إلى بلدة الإمام وإنما كانوا يضعونها في فقراء البلد إلا إن فضل شيء فإنهم يرجعون به إلى بلدة الإمام.

_ (2) سنن أبي داود [2 / 276] ، كتاب الزكاة: باب في الزكاة هل تحمل من بلد إلى بلد.

ومما يدل عليه من النظر: تعلق قلوب الفقراء من أهل البلدة بهذا المال فصرفها إلى غيرهم كسر لقلوبهم ولا شك أن الشارع يراعي جبر خواطرهم. وأما دليل الحالة الثانية: وهي أن يخرجها إلى موضع آخر بينه وبين البلدة دون مسافة القصر فقالوا: لأنها بمعنى البلدة الواحدة لعدم قصر الصلاة بينهما فمن أتى من هذه البلدة إلى هذه لم يقصر، وكذلك العكس. وهذا فيه نظر، لأن ظاهر الأحاديث المتقدمة أنها تصرف في الموضع نفسه، ولذا قال صاحب الفروع: " ويتوجه احتمال بالمنع " (1) أي منع صرفها في بلدة أخرى وإن كانت هذه البلدة ليس بينهما وبين بلدة المال إلا مسافة لا تقصر فيها الصلاة وهذا القول هو الأرجح، وأن الزكاة مختصة بالموضع نفسه فلا يصرف إلى البوادي أو البلدان القريبة التي لا تقصر فيها الصلاة وذلك لظاهر الأحاديث ولما تقدم من التعليل وهو تعلق قلوب الفقراء بها والذين تتعلق قلوبهم هم فقراء البلد نفسه. أما الحالة الثالثة: وهو أن ينقلها إلى بلدة تقصر فيها الصلاة: - فالمذهب المنع وأن ذلك لا يجوز وهذا مذهب جمهور العلماء والدليل ما تقدم من الأدلة السابقة فهي دليل على أنه لا يجوز له أن يصرفها في بلدة أخرى وأنها إنما تصرف في الموضع نفسه. وظاهر كلام الحنابلة وغيرهم أن ذلك ممنوع مطلقاً للسلطان ونائبه وصاحب المال، فلا يجوز لأحد منهم أن ينقلها من بلدة إلى بلدة أخرى. فظاهر قولهم أيضاً أنه وإن دعت المصلحة لهذا، كأن تنقل لطلاب علم في بلدة أخرى أو لشديدي حاجة أو لثغر من الثغور الإسلامية أو لهلكة في بلدة من البلاد الإسلامية أو نحو ذلك وأن هذا لا يجوز مطلقاً.

- وعن الإمام أحمد وهو اختيار شيخ الإسلام: جواز ذلك، واختاره طائفة من الحنابلة، وأنه إذا كانت ثمت مصلحة تقتضي نقلها من بلدة المال إلى بلدة أخرى لكون هذه البلدة الأخرى فيها طلاب علم أو فيها شديدو حاجة أو فيها مجاهدون هم على ثغر من الثغور الإسلامية، أو نحو ذلك من المصالح، فإذا ثبتت المصلحة ورجحت الحاجة فيجوز، وهذا القول هو الراجح الذي تقتضيه القواعد الشرعية من مراعاة المصالح وترجيح الأصلح على الصالح والأنفع على النافع وشديد الحاجة على المحتاج وهو أعظم نفعاً من أن يختص بها فقراء البلد مع كون الحاجة والمصلحة تقتضي نقلها إلى غيرهم. ومما يستدل على هذا ما تقدم من أثر معاذ بن جبل من نقله صدقة أهل اليمن أو شيئاً منها إلى فقراء الصحابة في المدينة. فعلى ذلك: النقل لا يجوز إلا أن تكون هناك مصلحة راجحة فإنه يجوز. قال: (فإن فعل أجزأت) تقدم أنه لا يجوز له أن يخرجها من بلدة المال إلا لمصلحة راجحة فإن نقلها لغير مصلحة على الراجح – فإن ذلك لا يجوز ولكن هل تجزئ؟ قال المؤلف: (أجزأت) ؛ وذلك لأنها زكاة أعطيت مستحقاً لها وكونها تنقل إليه مع وجود من هو أحق منه، هذا يقتضي التحريم والإثم دون البطلان، فهو مستحق لها، فقد أخذها بحق، وهي زكاة مال صرفت إلى مستحق لها فأجزأت، ونقلها إليه من مستحقها الأصلي لا يبطلها بل تكون مجزئه ويثبت الإثم. قال: (إلا أن يكون في بلد لا فقراء فيه) فإذا كان في بلد لا فقراء فيه فقد اتفق أهل العلم على أنه يجوز له أن ينقلها إلى بلدة أخرى وذلك لعدم المزاحم الأحق، ففي المسألة السابقة هناك مزاحم أحق وهو صاحب البلدة الفقير، وأما هنا فإنه قد عدم فلا مزاحم أحق فيجوز حينئذ دفعها إلى بلدة أخرى، وهذا لا خلاف بين أهل العلم فيه. قال: (فيفرقها في أقرب البلاد إليه)

إذا وجبت عليه زكاة المال وكان البلد الذي هو فيه لا فقراء فيه فإنها تنقل كما تقدم، وحينئذ فيجب عليه أن يدفعها إلى أقرب البلاد إليه، فليس [له] أن ينقلها إلى بلدة بعيدة مع وجود بلدة قريبة يستحق أهلها دفع الزكاة. قالوا: لأنهم أولى بها لقربهم وهذا التعليل ليس بتعليل قوي، والحنابلة ينقضونها في المسألة السابقة وهي جواز نقلها إلى بلدة لا تقصر فيها الصلاة فإنهم ينقلونها من الموضع الذي وجبت فيه الزكاة إلى موضع آخر لا تقصر فيه الصلاة ويرون جواز ذلك. وهذه المسألة أولى بالجواز من المسألة السابقة، فينقلها إلى بلدة بعيدة مع وجود بلدة قريبة أولى من نقلها من موضع إلى موضع آخر يشتركان في عدم قصر الصلاة. والأظهر هو جواز ذلك وأنه يجوز أن ينقلها إلى موضع بعيد مع وجود موضع قريب، وذلك لأن مستحقيها في الأصل هم فقراء البلد، فحيث عدموا جاز له أن يصرفها في أي موضع شاء، ولا دليل على إلزامه بموضع قريب دون موضع بعيد لكن لا شك أن الأولى هو دفعها إلى الموضع القريب وكونه أولى لا يعني ذلك وجوبه فليس هو أحق لكنه أولى بالدفع. والأفضل له أن ينقلها إلى الموضع القريب لأن أهل الموضع القريب أولى بمعروفه فالأقربون أولى بالمعروف. قال: (فإن كان في بلد وماله في آخر أخرج زكاة المال في بلده) بعني بلد المال، فقوله: (في بلده) ضمير الغائب يعود إلى المال لا صاحب المال. أي إن كان في بلد من البلاد وماله في بلد آخر فإنه يخرج زكاة المال في بلد المال؛ وذلك لأن الزكاة متعلقة بالمال فتدفع في موضعه، ولأن الفقراء متعلقون بها في موضعها فوجب أن تدفع لهم. بخلاف صدقة الفطر فلتعلقها في البدن تدفع في الموضع الذي هو فيه لذا قال: (وفطرته في بلد هو فيه)

وإن كان ماله في موضع آخر، فلو كان من أهل هذه البلدة وسافر مثلاً إلى مكة ووافق يوم الفطر فيها فإنه يخرج زكاة الفطر في مكة وهكذا؛ وذلك لتعلقها بالبدن لا بالمال. إذن: زكاة المال لتعلقها بالمال تدفع في الموضع الذي فيه المال، وأما صدقة الفطر فإنها تدفع في الموضع الذي هو فيه لتعلقها بالبدن. قال: ويجوز تعجيل الزكاة لحولين فأقل) فيجوز له تعجيل زكاة المال، وذلك أن يخرجها قبل وقت وجوبها، أي يبقى عليه شهر ويمضي عليها الحول فيخرجها قبل شهر مثلاً أو أن يخرجها في أول السنة. جمهور العلماء على جواز تعجيل الزكاة. ومنعه المالكية؛ واحتجوا على المنع بقوله صلى الله عليه وسلم: (لا زكاة في مال حتى يحول عليه الحول) (1) قالوا: أي لا زكاة صحيحه. وقالوا: لأن الشارع وقت لها ميقاتاً فلا يجوز تقديمها على ميقاتها كالصلاة، فكما أنه ليس له أن يصلي قبل زوال الشمس فليس له أن يدفع زكاة ماله قبل حلول الحول ومضيه. وقال الجمهور: يجوز ذلك، واستدلوا: بما ثبت في أبي داود والترمذي وابن ماجه من حديث علي بن أبي طالب – والحديث حسن – أن العباس بن عبد المطلب سأل النبي - صلى الله عليه وسلم -: (في تعجيل زكاته قبل أن تحل، فرخص له في ذلك) (2) ، وهو عند أبي عبيد القاسم بن سلام أن النبي صلى الله عليه وسلم: (تعجل صدقة العباس سنتين) (3) والحديث حسن كما تقدم. قالوا: ولأن تأخيرها إلى حلول الحول ومضيه لمصلحة الغني لينمو ماله ويزداد، فإذا قدمها قبل وقتها فهو محض حقه، فإذا فعل هذا باختياره فإن هذا يجزئ عنه ويجوز له. وهذا القول هو الراجح. والجواب عما استدل به المالكية:

_ (1) أخرجه أبو داود وقد تقدم. (2) أخرجه أبوداود في كتاب الزكاة، باب (21) في تعجيل الزكاة (1624) ، والترمذي باب في تعجيل الزكاة حديث 678، وابن ماجه باب تعجيل الزكاة حديث 1795. سنن أبي داود [2 / 276] .

أما ما استدلوا به مما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم من قوله: (لا زكاة في مال حتى يحول عليه الحول) فتقدم أن الصحيح هو وقفه لا رفعه، ويجمع بين هذه الآثار الموقوفة وبين ترخيص النبي صلى الله عليه وسلم للعباس بأن مراد الصحابة: (لا زكاة واجبة) فلا تجب الزكاة حتى يحول عليه الحول. وأما قولهم: أن العبادة لا تصح قبل ميقاتها كالصلاة. فيجاب عنه: أن الميقات في الصلاة مجهول المعنى فلا يعقل لِمَ جعل الشارع زوال الشمس وقتاً لصلاة الظهر ولم جعل غروبها وقتاً لصلاة المغرب. وأما مضي الحول في الزكاة فإنه معلوم المعنى، فإن معناه توفير الوقت للغني ليتوفر ماله ويزداد وينمو فهو لمصلحة الغني فإذا قدمه فهو حق له قد تنازل عنه وهذا القول هو الراجح وهو مذهب الجمهور؛ لصحة الدليل الذي استدلوا به. وهنا شرطان في جواز تعجيل الزكاة:

الشرط الأول: وهو شرط متفق عليه: هو ملكية النصاب فلو كان عنده مثلاً ثلاثون شاة فلا يجوز له أن يعجل الزكاة فيها فيدفع شاة لاحتمال أن تكون بعد سنة أربعين شاة أو خمسين شاة؛ وذلك لأنه فعل الفعل قبل سببه، وسبب الزكاة هو ملك النصاب ولا يجزئ فعل الشيء قبل سببه كما لو أراد أن يحلف فكفر قبل أن يحلف فإنه لا يجزئه؛ لأن الحلف هو سبب الكفارة ويجزئه إذا حلف أن يكفر قبل الحنث لأن السبب موجود وهو الحلف، فهو فعل قبل سببه وهو خلاف ما أمر به الشارع وما لم يأمر به الشارع فهو مردود، وهنا كذلك فإذا لم يملك النصاب فليس له أن يعجل الزكاة. وملكية النصاب المشترطة هنا تشترط في الحول كله ليجزئ عنه عن زكاة المال، ومعنى هذا أنه لو ملك خمسين شاة فيجوز له أن يخرج شاة معجلة، فإن نقص هذه الشياه عن النصاب فأصبح لا يملك إلا خمساً وثلاثين شاة أثناء الحول فإن تلك الزكاة لا تجزئ وإنما يكون له صدقة من الصدقات وحينئذ إذا تم النصاب فبلغت أربعين فإنه يستأنف حولاً جديداً وتكون زكاته المتقدمة صدقة له؛ لزوال سبب الزكاة وهو ملكية النصاب وقد زال بنقصانها عن النصاب. لكن إن كان النصاب بقدر ما عجل فإن هذا لا يؤثر، فلو أن رجلاً عنده أربعون شاة فعجل فيها شاة فبقيت عنده تسع وثلاثون شاة فهذا لا يؤثر؛ لأن المعجل بحكم الموجود في المال، فالواجب عليه أن يخرجه إذا حال الحول وحيث قدمه قبل ذلك فإن هذا المال المعجل يكون بحكم المال الموجود فلا يؤثر حينئذ. وهل يشترط ملكية المال أم لا؟ بمعنى: رجل عنده ثلاثمئة شاة فالواجب عليه ثلاث شياه وهو يظن ظناً غالباً أن شياهه ستزيد على ثلاثمئة بحيث أنها لا يأتي عليها الحول إلا وقد وجب عليه أربع شياه فهل يجوز له أن يخرج أربع شياه، ثلاث شياه عن الثلاثمئة وهي ما يملكه الآن وشاة عما سيتولد من ماله أم ليس له ذلك؟

المشهور عند الحنابلة: أنه ليس له ذلك؛ لأنه غير مالك للمال المستفاد هنا، فالمائة شاة غير مملوكة له. وعن الإمام أحمد: أن ذلك يجزئه؛ لوجود السبب في الجملة. قالوا – تعليلاً لهذه الرواية -: كما يُضَم المال المستفاد إلى النصاب في الحولية، فيضم إليه أيضاً في جواز التعجيل. وهذا القول أظهر؛ لأن المال المستفاد تبعاً للنصاب في الحولية فيكون تبعاً له في جواز التعجيل. الشرط الثاني: وهو ما ذكره المؤلف بقوله: (لحولين فأقل) أن يكون التعجيل حولين فأقل فله أن يعجل السنة والسنتين، وليس له أن يعجل ثلاث سنين أو أربع أو خمس. - وعن الإمام أحمد: أنه يجوز له أن يعجل ثلاثة أعوام فأكثر. وهذا القول هو الأظهر؛ إذ لا فرق بين تعجيل السنتين أو الثلاث ولا بين الثلاث والأربع فإن النبي صلى الله عليه وسلم قد تعجل صدقة العباس سنتين، وتقدم إن المعنى يدل على الجواز حيث أنه مالك للنصاب فجاز له أن يعجله قبل وقته ما دام أن ذلك باختياره، وأن التأخير إنما هو لمصلحته، وهذا المعنى ثابت في ثلاث سنين وثابت في أربع سنين وهكذا وهو اختيار طائفة من أصحاب الإمام أحمد. إذن: الصحيح أنه لا يشترط للزكاة زمن محدد خلافاً للمشهور عند الحنابلة من أنه يقيد بسنتين. مسألة: إن عجل زكاة ماله ثم طرأ على المعجَّل له وهو الفقير مثلاً – طرأ عليه ما يجعله ليس أهلاً للزكاة لو أخرجت الزكاة في وقتها؟ فمثلاً زكاة ماله تجب في محرم فأخرجها في ذي الحجة وأعطاها من لم يصبح مستحقاً لها في محرم وهو وقتها وكان مستحقاً لها في ذي الحجة كأن يعطيها شخص فيموت أو يرتد أو يعطيها فقيراً فيغنى في وقت وجوبها الأصلي – فهل يجزئه ذلك أم لا؟

- فالمشهور في المذهب أنه يجزئه؛ لأنه أخرج زكاة المال على وجه مأذون له فيه وهي زكاة مجزئة حينئذ، فلا دليل على إبطالها بعد ذلك، والفعل إذا صح فلا يبطل إلا بدليل، وهو مأذون له في ذلك وقد دفعها إلى مستحق لها حينئذ فالاعتبار في حالة الدفع. مسألة: إذا دفع الزكاة معجلاً لها ثم طرأ عليه ما يجعله ليس من أهل الزكاة دفعها عند وقت دفع الزكاة كأن يكون غنياً في أول السنة فيعجلها ثم يفتقر عند حلول الحول؟ فهل يرجع بالزكاة أم لا؟ قولان لأهل العلم: لقول الأول: أنه ليس له أن يرجع لا إلى الفقير ولا إلى السعاة في زكاته، وهو اختيار أبي بكر من الحنابلة والقاضي؛ وذلك لأنه عجلها باختياره ورضاه ودفعت للفقير على وجه التمليك فكانت ملكاً له، فلا يجوز إخراجها من ملكيته إلا بدليل، وكونه يفتقر بعد ذلك هذا لا يعني إخراجها من ملكية الفقير إلى ملكيته هذا أحد الوجهين في مذهب أحمد. القول الثاني: وهو الوجه الثاني في المذهب: أنه إن دفعها إلى الساعي فإنه يرجع مطلقاً سواء دفعت إلى الفقير وأخبر أنها زكاة معجلة أم لم يخبر. وأما إذا دفعها هو بنفسه إلى الفقير المستحق، فإنه لا يجوز له أن يرجع إلا أن يكون أخبره أنها زكاة معجلة فيجوز له الرجوع. ولا دليل على هذا القول وهو قول ضعيف، والراجح هو القول الأول. قال: (ولا يستحب) أي لا يستحب له أن يعجل بل المستحب له أن يخرج زكاته عند مضي الحول. قالوا: لوجود الخلاف في هذه المسألة، فخروجاً من الخلاف لا يستحب التعجيل. وتقدم أن الخروج من الخلاف ليس دليلاً على حكم ما من الأحكام الشرعية.

والراجح: ما ذكره صاحب الفروع احتمالاً فقد قال: " ويتوجه احتمال أنه يتبع المصلحة " فإذا كانت المصلحة في التعجل فالمستحب هو التعجيل، كأن يصاب المسلمون بمجاعة في وقت من الأوقات ليس من أوقات زكوات الناس فحينئذ المستحب هو تعجيل الزكاة لدفع حاجة الناس وأما إن كانت المصلحة في التأخير وإعطائها في وقتها فهو المستحب. فعلى ذلك الراجح: أنه يباح له التعجيل لحديث العباس المتقدم وإن كانت هناك مصلحة شرعية في التعجيل فهو مستحب مراعاة للمصلحة والحاجة، ومراعاة المصالح والحاجات من مقاصد الشريعة. وفي هذا الزمن الناس يخرجون زكوات أموالهم الباطنة لا سيما الباطنة – بأنفسهم – وفي أيام إخراجها يخرجونها على أوجه غير شرعية لعدم اهتمام منهم أو لضيق وقت أو نحو ذلك. فإن عجلوا من أول السنة وهم يخرجون زكاة أموالهم حتى إذا تمت السنة يكونوا قد أخرجوا الزكاة كلها – هذا خير وأفضل. فكون الغني – مثلاً – يتكفل عائلة من الفقراء فيعطيهم كل شهر من زكاة ماله فيغنيهم من الفقر حتى إذا تمت السنة حسب ما دفع لهم أو لغيرهم من مستحقي الزكاة ثم حسب ذلك زكاة له وكان قد نوى التعجيل فإن ذلك هو الأفضل أما إن كان هناك من يقوم بالزكاة ويصرفها في مصارفها الشرعية في وقتها فهذا هو الأصل وإن كان يباح له التعجيل مطلقاً وإن لم تقتضيه المصلحة. مسألة: من كان له مال مثلاً في الرياض ومال في حائل فهل يخرج الزكاة من الذي في حائل أم في الرياض؟ إن كان المالان يكملان نصاباً وكل واحد بمفرده ليس بنصاب فإنه يجوز له دفعها في أحد البلدين والأولى أن ينظر الأحوج والأحق بها.

أما إذا كان المال نصاب في كلا البلدين فإنه يخرج عن كل بلد في بلدها، فمثلاً عنده مائة وخمس وعشرون شاة، أربعون منها في حائل، وخمس وثمانون في الرياض فالواجب عليه شاتان فيخرج شاة في الرياض وشاة في حائل عن الأربعين. (1) والحمد لله رب العالمين. الدرس الثاني عشر بعد المئتين (يوم الأحد: 13 / 1 / 1416هـ) باب هذا الباب فيمن تجزئ الزكاة إن دفعت إليهم، وهم الأصناف الثمانية، ولذا قال: (أهل الزكاة ثمانية) وهم المذكرون في قوله تعالى: {إنما الصدقات للفقراء والمساكين والعاملين عليها والمؤلفة قلوبهم وفي الرقاب والغارمين وفي سبيل الله وابن السبيل فريضة من الله} (2) أي لا تحل الزكاة إلا لهؤلاء المحصورين وهم الأصناف الثمانية أي إنما الصدقات تحل. ولذا اتفق العلماء على أن الزكاة لا يجوز ولا يجزئ أن تصرف في غير هذه الأصناف من أبواب البر والخير كبناء المساجد ووقف المصاحف وبناء القناطر، وإصلاح الطرق ونحو ذلك من أبواب الخير، وذلك لأن هذه الآية قد حصرت أهل الزكاة فلا يجوز أن تدفع لغيرهم. واعلم أن هذه الآية الكريمة فيها بيان لمن تحل لهم الزكاة وهم الأصناف الثمانية، فأي صنف منهم دفعت إليه أجزأت.

_ (1) في أسفل المذكرة ما نصه: والتقديم على الشرط جائز دون السبب. (2) سورة التوبة.

ولا يظهر أن المراد في الآية هو الاستيعاب، خلافاً لما ذهب إليه الشافعية من أن الآية فيها دليل على وجوب الاستيعاب، وهي أن تقسم الزكاة إلى ثمانية أسهم فيعطى كل صنف من هذه الأصناف الثمانية نصيباً فالآية لا تدل على هذا بل ظاهرها أن الزكاة يحل دفعها وتجزئ إلى هذه الأصناف الثمانية، وليس فيها وجوب استيعاب الأصناف الثمانية ومما يدل عليه قوله صلى الله عليه وسلم – في حديث معاذ -: (فأعلمهم أن الله افترض عليهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم فترد في فقرائهم) (1) والفقراء صنف من هذه الأصناف الثمانية وقد أجزأ دفعها إليهم. فالراجح: ما ذهب إليه جمهور العلماء من أن أي صنف دفعت إليه الزكاة أجزأت وأن استيعاب هذه الأصناف الثمانية ليس بشرط خلافاً لما ذهب إليه الشافعية. قال: (الأول: الفقراء وهم من لا يجدون شيئاً أو يجدون بعض الكفاية) فالصنف الأول الفقراء: قال تعالى: {إنما الصدقات للفقراء} (وهم من لا يجدون شيئاً) أي لا يجد شيئاً يطعمه ولا مسكناً يؤيه ولا منكحاً ولا غير ذلك، أو له منكح وعيال وليس له ما ينفقه على نفسه وعياله مطلقاً، فليس له شيء مطلقاً ينفقه على نفسه أو من يعول. (أو يجدون بعض الكفاية) كأن يجد ربع كفايته أو ثلثها. وأما المسكين: فقال: (والمساكين يجدون أكثرها أو نصفها) . فالفقير من لا يجد شيئاً البتة أو يجد أقل من النصف كالربع أو الثلث. وأما المسكين فهو من لا يجد تمام كفايته وإن كان يجد أكثرها أو نصفها. صورة هذا: إذا كان يكفيه في الشهر ألف ريال ينفقه على نفسه وعياله وعنده عقار أو دكان أو وظيفة لا يخرج له منه إلا أربعمئة ريال، فهنا لا يجد إلا أقل من نصف كفايته فهو فقير.

_ (1) متفق عليه.

أما إن كان يجد خمسمئة أو ستمئة أو ثمانمئة، فهو مسكين، وهذا باعتبار السنة، فلو أنه يحصل له في السنة ستة آلاف ولا يكفيه إلا اثنا عشر ألفاً، فإنه يُدفع له ستة آلاف لتتم كفايته، فإن الزكاة إنما تدفع له كفاية سنته وذلك لأنها لا تتكرر إلا في السنة فيعطى كفايته منها سنة. وهنا المؤلف قد جعل الفقير أشد حاجة من المسكين وهو كما قال، ولذا قدمه الله عز وجل في الآية على المسكين فقال: {إنما الصدقات للفقراء والمساكين} والتقديم مشعر بأهمية إعطائه وأنه أحوج من المسكين وهما في الحقيقة صنف واحد يجمعهما عدم تمام الكفاية ولعل الداعي إلى جعلهما نوعين أو صنفين مع أنهما في الحقيقة صنف واحد تنبيهاً على أهمية الدفع إليهم فهو جنس واحد فذكرت أنواعه للتكثير لأهمية الدفع إليهم وأنهم أولى من غيرهم بالزكاة، ولذا خصهم النبي - صلى الله عليه وسلم - بها في حديث معاذ فقال: (تؤخذ من أغنيائهم فترد في فقرائهم) . إذن: من لا يجدون كفايتهم يدفع إليهم من الزكاة ما يتمها كل سنة مما يحتاجون إليه من مشرب وملبس ومنكح – فإن النكاح من الحاجات التي يحتاج إليها الفقير، فيعتبر له ذلك فيعطى ما يمكنه أن ينكح به. واعلم أن الفقير والمسكين بضد الغني، فالغني لا يحل له أن يأخذ من الزكاة شيئاً والغني هو من يملك كفايته بالقوة أو بالفعل. إذن: الغني قسمان: من يملك كفايته بالفعل: أي عنده من الدراهم والدنانير أو عنده من المطاعم والمشارب والمساكن ما يكفيه فهو غني بالفعل. غني بالقوة: وهو المكتسب فليس بيده درهم ولا دينار لكن عنده قدرة بدنية على التكسب فهو جلد يمكنه أن يتكسب وأن يعمل ويتحرف، فهو غني فليس له أن يأخذ من الزكاة شيئاً إلا ألا يتمكن من عمل مع البحث عنه أو تمكن منه لكنه لا يقوم بكفايته فإنه يأخذ من الزكاة.

يدل على هذا ما ثبت في مسند أحمد وسنن أبي داود والنسائي عن عبيد الله بن عدي بن الخيار: (أن رجلين أتيا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يسألانه الصدقة فقلب النظر فيهما فرآهما جلدين فقال: إن شئتما أعطيتكما - وهذا من التوبيخ والتقريع لهما أي إن شئتما أطعمتكما حراماً، ويحتمل أن يكون أرجع إليهم الأمر لاحتمال أنه لم يتهيأ لهما شيء من عمل - ولا حظ فيها لغني ولا لقوي مكتسب) (1) . وجمهور العلماء على أن المعتبر بالغنى هو ما تقدم وهو أحد الروايتين عن أحمد وأصحهما عنه، وهي اختيار أبي الخطاب والمجد من الحنابلة وأن الغني هو من يجد كفايته. وقال أكثر الحنابلة وهو رواية عن الإمام أحمد: أن الغني من يملك خمسين درهماً أو ما يساويها من الذهب أي خمسة دنانير، فمن ملكها فهو غني لا يحل له من الزكاة شيء. وهذا القول لا وجه له في النظر، وإنما استدلوا بحديث رواه أبو داود من حديث ابن مسعود أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من سأل الناس وعنده ما يغنيه كانت له خدوش أو كدوح يوم القيامة فقيل: يا رسول الله وما الغنى؟ فقال: خمسون درهماً أو قيمتها من الذهب) (2) .

_ (1) سنن أبي داود، كتاب الزكاة: باب من يعطى من الصدقة وحد الغني. [2 / 285] . (2) في سنن أبي داود [2 / 277] بلفظ: " من سأل وله ما يغنيه، جاءت يوم القيامة خموش أو خدوش أو كدوح في وجهه، فقال: يا رسول الله، وما الغنى؟ قال: (خمسون درهماً أو قيمتها من الذهب) .

لكن الحديث ضعيف ففيه حكيم بن جبير وهو ضعيف الحديث بل قد ترك الإمام شعبة حديثه لهذا الحديث [الـ]ـضعيف فهو منكر من مناكيره فلا يثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم ولا حظ لهذا القول من الرأي فهم يقولون أن من ملك خمسين درهماً فلا تحل له الزكاة وإن كانت هذه الخمسين لا تكفيه ولا تقوم بحاجته، بينما من ملك عشرة دراهم وهي فاضلة عن حاجته وهو غني غير محتاج فإن الزكاة تحل له، وهذا ضعيف كما تقدم. - وقال الأحناف: من ملك نصاباً فهو غني، فلا يحل له أن يأخذ من الزكاة شيئاً. واستدلوا: بظاهر قوله صلى الله عليه وسلم: (تؤخذ من أغنيائهم) فسمى النبي صلى الله عليه وسلم من تؤخذ منه غنياً وهي إنما تؤخذ ممن ملك نصاباً فدل على أن مالك النصاب غني. والجواب على هذا أن يقال: إنما تؤخذ ممن ملك نصاباً؛ لأن الغالب فيه الغنى وإلا فقد يكون من يملك النصاب عنده من يعولهم كثرة وله حاجات كثيرة بحيث لا يكفيه ما عنده وهذا أمر ظاهر فإن من يملك أربعين شاة لا يكفيه ما يستفيده من هذه الأربعين شياه من القيام بنفسه وولده ونحو ذلك فيحتاج إلى أن يأخذ من الزكاة. فإذن: قول النبي صلى الله عليه وسلم: (تؤخذ من أغنيائهم) وكون الزكاة تؤخذ من مالك النصاب هذا بناءً على الأغلب فإن الأغلب أن مالك النصاب غني، لكن من يكون مالكه فقيراً فيدخل في عموم قوله: (إنما الصدقات للفقراء والمساكين) فهو فقير أو مسكين فيدخل في عموم هذه الآية. فعلى ذلك الراجح أن الغني هو من يملك كفايته وأن الفقير قد لا يملك كفايته وإن ملك نصاباً زكوياً.

* واعلم أن من تفرغ للعبادة وهو قوي مكتسب فإنه لا يعطى من الزكاة شيئاً؛ لعموم قوله - صلى الله عليه وسلم -: (ولا حظ فيها لغني ولا لقوي مكتسب) وهو قوي مكتسب، والعبادة نفعها لازم به فلم يدفع له من الزكاة شيئاً بخلاف طالب العلم فإنه إن تفرغ للعلم وهو قوي مكتسب ولم يمكنه الجمع بين التكسب وطلب العلم فإن الزكاة تجوز له ويعطى منها لشراء كتب علم أو غيرها؛ وذلك لأنه قائم بمصلحة عامة من مصالح المسلمين والفرق بينه وبين العابد أن العابد قائم بنفع نفسه منفعة لازم له وأما طالب العلم فهو قائم بنفع متعد، فيجوز أن يأخذ منها طالب العلم وإن كان يمكنه التكسب إذا كان يشغله، وأما إن كان لا يشغله عن العلم ويمكنه الجمع بين العلم والتكسب فإنه لا يحل له أن يأخذ منها شيئاً؛ لأنه قوي مكتسب غني بقوته. قال: (والثالث: العاملون عليها وهم جباتها وحفاظها) وقسامها وكتبتها وغير ذلك، هؤلاء هم العاملون عليها، لقوله تعالى: {والعاملين عليها} فجباة الزكاة: الذين يجمعونها من الأغنياء. وحفاظها: الذين يحفوظنها في المستودعات وغيرها. وقسامها: الذين يصرفونها إلى أهلها، هؤلاء يدفع لهم من الزكاة أجرة وعُمالة على عملهم لقوله: {والعاملين عليها} فتدفع إليهم وإن كانوا أغنياء، فلا يشترط أن يكون العامل فقيراً.

ودليل هذا: ما ثبت في مسلم عن ابن الساعدي قال: عملت على الصدقة لعمر فلما فرغت منها وأديتها إليه قال: خذ هذه العُمالة فقلت: إنما عملت لله فأجري على الله فقال: خذ ما أعطيتك فإني عملت على عهد النبي صلى الله عليه وسلم فقلت مثل ما قلت فقال لي النبي صلى الله عليه وسلم: (إذا أعطيت شيئاً من غير أن تسأل فخذ فكل وتصدق) (1) وهذا الحديث يدل على أنها تدفع للعامل وإن كان غنياً، ويفيده أيضاً إطلاق الآية في قوله: {والعاملين عليها} وهل يشترط أن يكون العامل عليها مسلماً؟ قال جمهور العلماء باشتراطه واحتجوا بقوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا بطانة من دونكم} فدلت هذه الآية على أن الولاية لا يعطي للكافر والعمل على الزكاة ولاية ولذا قال تعالى: {والعاملين عليها} فأتى بلفظة " على " التي تفيد تضمن الولاية أي العاملون ولاية عليها وقد قال عمر: (لا تأمنوهم وقد خونهم الله) (2) . وعن الإمام أحمد وهو مذهب أكثر أصحابه: أن ذلك جائز فيجوز أن يتولاها الذمي؛ قالوا: لأنه يأخذها أجرة، لا زكاة. والراجح هو القول الأول وأن ذلك لا يجوز لقوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا بطانة من دونكم} والعمل على الزكاة ولاية ولذا يتولاها في الغالب أشراف الناس فهو ولاية على الزكاة وتسليط على الغني لأخذ الزكاة فيها وصرف لها إلى المستحقين فهي ولاية، فلا يجوز أن يتولاها كافر لكن العمل على الزكاة في غير الولاية عليها كالرعاة لها والحاملين لها من منطقة إلى أخرى والحارس وغير ذلك يجوز أن يكونوا كفاراً؛ لأن هذه ليست من الولاية في شيء وإنما هي استئجار ويجوز أن يستأجر الكافر في مثل هذه الأعمال. وهل يشترط أن يكون بالغاً؟ المشهور عند فقهاء الحنابلة وغيرهم: اشتراط أن يكون بالغاً.

_ (1) أخرجه مسلم في كتاب الزكاة / باب (37) إباحة الأخذ لمن أعطي من غير مسألة ولا إشراف (1045) .

ووجه صاحب الفروع: جواز استعمال المميز العاقل الأمين، وهو كما قال؛ لحصول المقصود به. فإنه إن كان أميناً عاملاً فإن المقصود يحصل به كحصوله بالبالغ ويشترط أن يكون أميناً ليحفظ هذه الأموال التي يجمعها وليصرفها إلى مستحقيها. إذن: يشترط أن يكون مسلماً أميناً عاقلاً، وهل يشترط أن يكون بالغاً الظاهر أنه لا يشترط، فإنه إذا توفرت فيه الأمانة والعقل فإن المقصود يحصل وإن لم يكن بالغاً وإن كان البالغ أولى. * ولا يجوز أن يتولاها أحد من ذوي القرابة للنبي صلى الله عليه وسلم وهم بنو هاشم، يدل على هذا ما ثبت في مسلم أن بعض بني هاشم سأل النبي صلى الله عليه وسلم العمل على الصدقة فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (أنها لا تنبغي لآل محمد إنما هي أوساخ الناس) (1) لكن إن وضعهم الوالي جباة وأعطاهم من الفيء لا من الزكاة فإن هذا جائز، أما الزكاة فلا يعطون منها لهذا الحديث. قال: (الرابع المؤلفة قلوبهم ممن يرجى إسلامه) رجل كافر ونرجو إذا أعطيناه شيئاً من المال أسلم وترك دينه، فإنه يعطى من الزكاة، فقد ثبت في مسند أحمد: عن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم: (وكان لا يسأل شيئاً على الإسلام إلا أعطاه، فسأله رجل فأعطاه شاءً كثيراً بين جبلين فرجع إلى قومه فقال: يا قوم أسلموا فإن محمداً يعطي عطاء من لا يخشى الفاقة) . قال: (أو كف شره) رجل من أهل الشر كأن يكون من الكفار من يقطع الطرق على المسلمين أو من الدول الكبيرة من يخشى ضررها على المسلمين فيجوز أن تعطى من الزكاة، وذلك لكف الشر عن المسلمين فإنه كان لا يسأل شيئاً على الإسلام إلا أعطاه وهنا كذلك فإن هذا فيه حفظ للإسلام وأهله، فيجوز أن يعطي السيد من الكفار أو المسلمين ما يحفظ به شره. فإذا خشي على قوم أو طائفة أن يمنعوا الزكاة فأعطى سيدهم مالاً لكي يجبرهم على إخراجها فلا بأس. قال: (أو يرجى بعطيته قوة إيمانه)

_ (1) تقدم.

أي يرجى بإعطائه أن يحسن إسلامه، فكذلك وقد ثبت في الصحيحين أن علي بن أبي طالب: (بعث إلى النبي صلى الله عليه وسلم بذَهبة (1) ِ في تربتها – أي من اليمن – فقسمها النبي صلى الله عليه وسلم بين أربعة: الأقرع بن حابس وعُيينة بن حصين وعلقمة بن عُلاثة وزيد الخير، فغضبت قريش وقالت: يعطي صناديد نجد ولا يعطينا فقال النبي صلى الله عليه وسلم: إنما فعلت ذلك لأتألفهم) (2) فهذا فيه إعطاء السيد المطاع الذي يرجى تأليفه على الإسلام فهم كانوا ذوي إسلام وإنما أعطوا من أجل أن يحسن إسلامهم، كذلك يجوز أن يعطي السيد المطاع لإسلام نظرائه في القبائل، فإنهم إذا رأوا ما يكرم به السيد المسلم كان ذلك أدعى لإسلامهم. إذن: المؤلفة قلوبهم: هم من يرجى بإعطائهم نفع نفسه أو نفع غيره، وهم السادة المطاعون في أقوامهم أو من دونهم إذا وجدت هذه المصلحة. فالسيد المطاع في قومه ونحوه سواء كان مسلماً أو كافراً إذا أعطى لجلب مصلحة أو دفع مضرة تأليفاً فإن ذلك جائز لا حرج فيه دل عليه عموم القرآن في قوله: {والمؤلفة قلوبهم} ودلت عليه السنة النبوية. إذن: من يرجى إسلامه وهو كافر أو يخشى شره وضرره فإنه يعطى من الزكاة، أو هو مسلم فيعطى ليتقوى إيمانه بذلك أو ليكون ذلك سبباً في إسلام نظيره أو لئلا يمنع قومه من أداء الزكاة أو ليجبر غنيهم على دفعها ونحو ذلك من المصالح الشرعية فإن ذلك جائز.

_ (1) في البخاري " بذُهيبة ". (2) أخرجه البخاري في كتاب التوحيد، باب (23) قول الله تعالى {تعرج الملائكة والروح إليه} (7432) . وبرقم (3344) ، ومسلم (1064) .

وإعطاء المؤلفة قلوبهم توقف في عهد عمر وعثمان وعلي لقوة الإسلام وظهوره. واحتيج إليه في زمن النبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر، وتوقفه في عهد الخلفاء الثلاثة لا يعني تركه، وإنما لزوال الحاجة الداعية إليه، فإذا تكررت الحاجة الداعية فإن هذا الحكم يثبت فهؤلاء أصناف أربعة وهؤلاء تدفع إليهم الزكاة تمليكاً ولذا ثبتت لألفاظهم " لام " التمليك فقال تعالى: {إنما الصدقات للفقراء والمساكين والعاملين عليها والمؤلفة قلوبهم …} قال: {وفي الرقاب} فالأصناف الأربعة الأخيرة لا تمتلكها فمتى زالت الحاجة الداعية إليها فإنها تعاد وترجع، أما هذه الأصناف الأربعة فإنهم يستحقونها وإن زال السبب. فلو أن رجلاً فقيراً فدفعت إليه الزكاة ثم اغتنى بعد زمن يسير ولم يصبح محتاجاً إلى الزكاة، فإنه قد امتلكها بدفعها إليه قبل غناه، وكذلك المؤلفة قلوبهم والعاملون عليها والمساكين يدفعها إليه قبل غناه وكذلك المؤلفة قلوبهم والعاملون عليها والمساكين. مسألة: الفقير هل يعطى من الزكاة - هل يعطى - على حسب عرف الناس فيكون وسطاً بين الناس أم يعطى دون ذلك فيسكن السكن الرديء ويأكل الأكل الرديء ويشرب الشراب الرديء وهكذا؟ الظاهر أنه يعطى ما يكون به وسطاً؛ لأن النفقة في الأصل تكون بالمعروف فالنفقات الشرعية تكون بالمعروف كما في غير ما دليل يدل على ذلك، فما يكون في وسط الناس هو المعروف. ولأن إعطائه الشيء الرديء قد تفوت به بعض مقاصد الشريعة من لجوئه إلى سرقة أو زنا أو نحو ذلك من الأشياء المحرمة التي في الحقيقة الزكاة تدفع مثل هذه الأشياء كما أن حقيقة المواساة تثبت بهذا. * تقدم أن الفقير يعطى زكاة سنة؛ لأنها لا تتكرر، فمثلاً يعطى رجل مئة ألف تكفيه سنة، أما إذا كانت تفيض على السنة فلا يجوز، وذلك لأن الكفاية محسوبة بالسنة فهو الآن فقير فإذا أعطيناه ما يكفيه أصبح غنياً، فإذا زدنا فكما لو أعطيناه وهو غني.

والحمد لله رب العالمين. الدرس الثالث عشر بعد المئتين (يوم الاثنين: 14 / 1 / 1416هـ) قال المؤلف رحمه الله تعالى: (الخامس: الرقاب) لقوله تعالى: {إنما الصدقات …} إلى قوله: {وفي الرقاب} . قال: (وهم المكاتبون) وتقدم تعريف المكاتب. والكتابة: اتفاق بين السيد ورقيقه بتحرير الرقيق مقابل أقساط معلومة يدفعها الرقيق لسيده حتى يتم فك رقبته من العبودية لسيده، فالمكاتب يجوز أن يعان على مكاتبته من الزكاة، فيعطى من الزكاة ما يتم به فكاك رقبته. ومثل ذلك أيضاً: الرقيق غير المكاتب لعموم قوله: {وفي الرقاب} فالرقيق غير المكاتب يجوز أن يفك أسره من عبودية سيده بأن تحرر رقبته بالأموال الزكوية. فيدخل في قوله: {وفي الرقاب} الرقاب المكاتبة، والرقاب غير المكاتبة. قال: (ويفك منها الأسير المسلم) إذا وقع مسلم في الأسر تحت أيدي الكفار فيجوز أن يفدى من الزكاة، فيعطى الكفار من الزكاة ليفكوا أسره، وهو داخل في عموم قوله تعالى: {وفي الرقاب} ؛ لأنها رقبة مأسورة تحتاج إلى فك فدخلت في عموم قوله: {وفي الرقاب} . وفي قوله: (المسلم) ما يدل على أن الرقبة إنما تفك إذا كانت مسلمة، وهذا ظاهر، فإن الزكاة إنما تختص بالمسلمين، إلا ما تقدم في المؤلفة قلوبهم فإنها إنما تدفع لكفار منهم لمصلحة المسلمين. قال: (السادس: الغارم لإصلاح ذات البين ولو مع غنى أو لنفسه مع الفقر) السادس: الغارم، وهو من عليه غُرم، والغرم هو الدين قال تعالى: {والغارمين} وقسم المؤلف الغارم إلى قسمين: القسم الأول: الغارم لإصلاح ذات البين. القسم الثاني: الغارم لنفسه.

أما الغارم لإصلاح ذات البين، فهو الرجل يصلح بين طائفتين من الناس فيتحمل من أجل هذا الإصلاح أموالاً في ذمته كأن يقع شجار بين قبيلتين بينهم ديات فيتحمل هذه الديات لتزول ما بينهم من العداوة فهو المصلح ذات البين، فإنه يعطى من الزكاة؛ لدخوله في عموم قوله: {والغارمين} ولما ثبت في مسلم عن قبيصة قال: (أتيت النبي صلى الله عليه وسلم وقد تحملت حمالة فسألته فيها فقال صلى الله عليه وسلم: أقم عندنا حتى تأتينا الصدقة فنأمر لك بها) (1) قال: (ولو مع غنى) فيعطى من الزكاة ولو كان غنياً، وقد تحملها ويمكنه أن يدفعها من ماله فإنه يعطى من الزكاة؛ وذلك لأن هذا الغرم لمصلحة عامة أشبه ما يعطى العامل الغني ومن يؤلفه قلبه، فإنه للمصلحة العامة يعطى مع الغنى فكذلك المصلح ذات البين ولإطلاق قوله تعالى: {والغارمين} فهي لفظة مطلقة غير مقيدة بالفقر أو بالعجز عن القضاء. قال: (أو لنفسه) عليه دين لمصلحة نفسه من مسكن أو منكح أو مطعم أو غير ذلك من الأمور المباحة له فإنه يعطى من الزكاة. أما إن كانت أموراً محرمة فإن ذلك لا يجوز؛ لأن في ذلك تعاوناً على الإثم قال تعالى: {وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان} (2) وهذا تعاون على الإثم فلا يعطى من الزكاة. لكن إن تاب فإنه يعطى من الزكاة لأنه غارم، وإنما منعنا من إعطائه لو لم يتب لما في ذلك من التعاون على الإثم أما وقد تاب إلى الله تعالى فإن هذا المعنى يزول. ومثل ذلك إذا كانت الديون على أمور سرف فإن الزكاة لا تدفع إليه كمن يقترض لمفاخرة في منزل أو ملبس أو مشرب أو نحو ذلك من أمور التكاثر والترف فإنه لا يعان على ذلك لأنها أمور مرفوضة في الشريعة فلا يعان عليها لكن إن تاب إلى الله من ذلك أو ترك هذا فإنه يعاون لزوال المعنى المتقدم.

_ (1) أخرجه مسلم في كتاب الزكاة / باب (36) من تحل له المسألة (1044) . (2) سورة المائدة.

إذن: من عليه دين لنفسه لأمور مباحة أو لأمور محرمة، لكن تاب منها فإنه يُعان من الصدقة. وهنا اشترط الفقر فقال: (أو لنفسه مع الفقر) : وهذا أحد الوجهين في مذهب الإمام أحمد وهو اشتراط الفقر في المدين. ولم أر دليلاً يدل عليه وفي اشتراطه نظر، فإن الآية القرآنية مطلقة وقد قال تعالى: {والغارمين} فظاهرها أن كل غارم يعطى من الزكاة وإن كان قادراً على التكسب والعمل وذلك؛ لأنه غارم والزكاة إنما أثبتت لهم – الزكاة - لمعنى الغرم لا لمعنى آخر سواه. وإن كان مراد المؤلف هنا بقوله: مع الفقر، بأن يكون قادراً على دَيْنه من ماله، فهذا لا إشكال فيه، فلو كان عنده مال وهو قادر على قضاء الدين فلا يعطى من الزكاة بل يؤمر بقضاء الدين من ماله أما إن كان غنياً عنده ما يكفيه ويكفي عائلته لكن عليه ديون، فإنه يعطى من الزكاة لأنه غارم وقد قال تعالى: {والغارمين} . إذن: الغارم لمصلحة نفسه يعطى من الزكاة مطلقاً سواء كان غنياً أو فقيراً ما دام غير قادر على قضاء دينه ولو كان عنده قدرة على التكسب والتحرف لقضاء الدين فإنه غارم فيعطى من الزكاة وإن كان عنده ما يكفيه ويكفي عائلته بالمعروف. والغارم إنما يعطى من الزكاة لدفع غرمه لا للتمليك، فإنه لا يدفع له المال ليتملكه ويصرفه في أي مصرف شاء وإنما يدفع إليه ليقضي دينه منه. ولذا فإن فضل منه شيء فيجب عليه رده. فلو أن رجلاً أعطي عشرة آلاف لقضاء دينه فذهب بها إلى الدائن فأعفاه عن بعضها فيجب عليه أن يرد هذا الباقي لأنه إنما دفع لمصلحة إزالة الغرم عنه، فليس له أن يتملكه وقد زال السبب الذي من أجله أعطي الزكاة.

كذلك لا يشترط إذن الغارم في إعطاء الغريم حقه فلو أن رجلاً يطالب بمبلغ مالي لأحد من الناس فللقائم على مصلحة الزكاة – العامل عليها - ولصاحب المال أن يعطي الدائن مباشرة من غير إذن الغارم؛ وذلك لأن المقصود هو إزالة الغرم ولا يحتاج حينئذ إلى إذن الغارم؛ وذلك لأنه لا يمتلك هذا المال فلا يعطاه تمليكاً له وإنما يعطاه إزالة لغرمه وحيث كان كذلك فلصاحب المال أن يعطيه الغريم من غير إذن الغارم. مسألة: والصحيح من المذهب أن من أبرأ مدينه بنية الزكاة فإن ذلك لا يجزئه. فلو أن رجلاً له على فلان عشرة آلاف فقال له: ذمتك بريئة من هذه العشرة آلاف ونوى ذلك زكاة، فإن ذلك لا يجزئه في الصحيح من المذهب. - وقال بعض الحنابلة بالجواز، لأنها صدقة فإبراء ذمة المدين صدقة وحيث كانت صدقة فإن ذلك يجزئه عن زكاته بالنية. والأظهر هو المذهب الأول؛ وذلك لما ثبت في الصحيحين عن عمر بن الخطاب قال: (حملت على فرس في سبيل الله فأضاعه " أي أضاعه من حملته عليه أي لم يقم برعايته " فأردت أن اشتريه منه وظننت أنه يبيعه لي برخص فسألت النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: لا تشتر ولا تعد في صدقتك فإن العائد في صدقته كالكلب يقيء فيعود في قيئه) (1) وهذا المعنى المستقبح يدل على تحريم العودة في الصدقة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم نهاه عن ذلك فقال: (لا تشتر) فدل على أن اشتراء الصدقة محرم، ودل هذا على ما نحن فيه من أن إعادة الصدقة إلى مصلحة نفسه ومنفعة نفسه فإن ذلك محرم وهو إذا أبرأ المدين من الدين فإنه قد أعاد الصدقة إلى نفسه فحرم ذلك. فالشارع نهى عن العود في الصدقة وفي إباحة ما تقدم، عودة في الصدقة.

_ (1) أخرجه البخاري في كتاب الهبة، باب (37) إذا حمل رجلا على فرس (2636) ، وراجع (1490) ، ومسلم (1620) .

ومثل ذلك – أيضاً في الصحيح من المذهب، وخالف بعض الحنابلة أيضاً كالمخالفة في المسألة السابقة – في أنه لا يجوز أن له يعطي المدين له زكاته حيلة إلى العود. فلو أن رجلاً يريد من رجل عشرة آلاف فليس له أن يدفعها له ويقول: هذه زكاة مالي حيلة لإعادتها إلى نفسه، سواء شرط هذا أو علم أن الغارم سيعيدها إليه، هذا أمر محرم. فإن المسألة السابقة محرمة وإذا شرط ذلك فإنه محرم وإذا أبرأه فإن ذلك محرم والحيلة إلى المحرم محرم، أما لو دفعها إليه فإن ذلك جائز كأن يراه محتاجاً إلى الصدقة فأعطاه الزكاة فإن ذلك جائز لا حرج فيه. إذن: لا يحل له أن يبرأ ذمة المدين ولا أن يدفع إليه الزكاة حيلة لإعادتها لمنفعة نفسه، وفي هذا – كما تقدم – مصلحة كبيرة حفظاً للزكاة من عبث أصحاب الأموال لتبرئة ذمم المعسرين وغيرهم الذين قد تسقط عنهم الحقوق بالإعفاء أو غيره فتذهب زكوات كثيرة لنفع أصحاب الأموال. مسألة: هل يجوز أن تدفع الزكاة للغارم الميت أم هي مختصة بالغارم الحي؟ فلو أن رجلاً توفى وعليه دين فهل يجوز قضاء دين من الزكاة أم هو مختص بالحي؟ قولان لأهل العلم هما قولان في مذهب الحنابلة: 1- القول الأول: أن ذلك لا يجوز وهو مذهب جمهور العلماء. قالوا: لأن الزكاة حينئذ قد دفعت إلى الغريم لا إلى الغارم، وقد قال تعالى: {والغارمين} وعندما ندفعها إلى الدائن فقد دفعناها إلى الغريم ولم ندفعها إلى الغارم. 2- وقال المالكية، وهو قول في المذهب وهو اختيار شيخ الإسلام: أن ذلك جائز؛ لعموم قوله تعالى: {والغارمين} فيدخل في عمومها الغارم الميت. قالوا: وأما تعليلكم فهو ضعيف فإن المقصود هو دفع الغرم سواء دفع المال إلى الغارم أو إلى الغريم، ولذا أجزنا – كما تقدم – دفعها إلى الغريم مباشرة بغير إذن الغارم، لأن دفعها إلى الغارم ليس بمقصود، بل المقصود هو إبراء ذمته من الدين سواء دفع هذا إلى الغريم أو الغارم.

فعلى ذلك الراجح مذهب المالكية وهو قول في المذهب واختيار شيخ الإسلام أن الغارم الميت يجوز أن يبرأ ذمته من دينه بالزكاة. قال: (السابع: في سبيل الله) لقوله تعالى: {وفي سبيل الله} قال: (وهم الغزاة المتطوعة الذين لا ديوان لهم) أي لا يعطون رواتب من الديوان أي من بيت المال أي من الفيء. فإذا كان يعطى من الفيء فإنه لا يعطي من الزكاة أما إن لم يكن يعطى من الفيء أو كان يعطى من الديوان ما لا يكفيه فإنه حينئذ يعطى من الزكاة. يعطى – المجاهد – ما يكفيه لغزوته ذهاباً وإياباً وما يحتاج إليه من أدوات الحرب ومراكبه وما يحتاج إليه من الطعام وغيره، لقوله تعالى: {وفي سبيل الله} يعني الجهاد هذا ولو كان غنياً، وذلك لما تقدم من التعليل السابق فإنه إنما يعطى للمصلحة العامة، ولأن الله أطلق فقال: {وفي سبيل الله} ولم يقيده بالفقراء. ويعطى من يريد الجهاد في سبيل الله ما يكفيه لغزوته تلك وليس له أن يوفر من ذلك شيئاً، فإذا بقى معه شيء من المال فاض عن غزوته فإنه يجب عليه أن يخرجه زكاة أو أن يعيده إلى مصلحة الزكاة. - وأدخل الحنابلة الحج والعمرة الفرض، فقالوا: يجوز أن يأخذ الحاج والمعتمر من الزكاة ما يحج به ويعتمر. - وفي إحدى الروايتين عن الإمام أحمد: في فرض أو نفل، وهو ظاهر إطلاق بعض الحنابلة فيأخذ للحج والعمرة سواء كان فرضاً أو نفلاً.

قالوا: ولما ثبت في أبي داود أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: لأم معقل، وكانت لم تحج واعتذرت بأنه ليس لها ما تركبه وأن زوجها قد أوصى بحمله في سبيل الله فقال لها النبي - صلى الله عليه وسلم -: (فهلا حججتي منه فإن الحج في سبيل الله) (1) ، وبما صح عن ابن عمر – كما في كتاب أبي عبيد القاسم بن سلام بإسناد صحيح أنه قال: (أما إن الحج في سبيل الله) (2) فدل على دخول الحج والعمرة في حكمه – في عموم قوله تعالى: {وفي سبيل الله} . - واختار الموفق وهو مذهب جمهور العلماء: أن الحاج والمعتمر لا يعطي شيئاً من الزكاة وإن كان الحج والعمرة فرضاً؛ لأن الحج والعمرة لا يجبان مع الفقر فإن الله قال: {من استطاع إليه سبيلاً} فهما لا يجبان عليه؛ لأنه فقير. والأقوى ما ذهب إليه الحنابلة لقوة ما استدلوا به من دخولها في سبيل الله وإن كان فيما ذكره جمهور العلماء قوة على أن الجهاد في سبيل الله الكفائي وهو سنة غير فرض يعطى الغازي ما يكفيه لغزوته وإن كان ذلك مستحباً لا واجباً، لكن يظهر الفرق بينهما بأن الجهاد لمصلحة عامة ومصلحة متعدية، وأما الحج والعمرة فهو لمصلحة خاصة أو مصلحة قاصرة على صاحبها.

_ (1) أخرجه أبو داود في كتاب المناسك، باب (80) العمرة (1989) .

ويدخل في سبيل الله طلب العلم، فيعطى طالب العلم الزكاة ما يكفيه لمؤنة نفسه، وما يكفيه لكتب العلم وغيرها مما يحتاج إليه في تعلمه ورحلته وغير ذلك، فهذا جائز لأن العلم في سبيل الله، فهو كالجهاد بل هو نوع من أنواع الجهاد وقد قال صلى الله عليه وسلم: (جاهدوا المشركين بأموالكم وأنفسكم وألسنتكم) (1) والعلم هو سبب الجهاد باللسان فلا قيام للجهاد باللسان إلا بالعلم وقد قال تعالى: {لقد أرسلنا رسلنا بالبينات وأنزلنا معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط وأنزلنا الحديد فيه بأس شديد ومنافع للناس وليعلم الله من ينصره ورسله بالغيب} (2) فالكتاب والميزان هو العلم والحديد هو أداة الجهاد في سبيل الله باليد. فالعلم نصرة لله والجهاد في سبيله، وهو الجهاد الذي قام به النبي - صلى الله عليه وسلم - في أكثر عمره بمكة فقد أقام ثلاث عشرة سنة يجاهد بالعلم والقرآن. * وألحق الشيخ محمد بن إبراهيم، وأفتى به المجمع الفقهي على أن الدعوة إلى الله عز وجل ومصالحها داخلة في هذا. وهو قول قوي؛ لأن الدعوة جهاد في سبيل الله فهي جهاد باللسان كما تقدم، فيجوز أن يعطى الدعاة المتفرغون للدعوة أن يعطوا من الزكاة. قال: (الثامن: ابن السبيل وهو المسافر المنقطع به) أي المنقطع به سفره لقوله تعالى: {وابن السبيل} أي ابن الطريق. وهو كما قال المؤلف: (المسافر المنقطع به سفره) . قال: (دون المنشئ للسفر من بلده) فالمنشئ للسفر من بلده ليس ابن سبيل، فلو أن رجلاً في بلده وبين أهله وعشيرته فليس ابن سبيل، وذلك لأنه [ليس] في سبيل، فليس في طريق. لكن ابن السبيل هو من انقطع به في طريقه خارجاً عن بلده فإنه يُعطى من الزكاة وإن كان غنياً أي إن كان غنياً في بلده ما دام محتاجاً إلى الزكاة في سفره وهذا إذا كان السفر مباحاً.

_ (1) رواه أحمد وأبو داود والنسائي كما في نيل الأوطار.

أما إذا كان السفر محرماً إلا أن يضطر إلى ذلك دفعاً للضرورة، أما إن أمكنه أن يقترض فإنه لا يعطى من الزكاة لما في ذلك من إعانته على المحرم إلا أن يظهر فيه التوبة فإنه يعطى. أما من كان في سفر مباح فإنه يعطى من الزكاة وإن أمكنه الاقتراض في هذه البلدة فإنه يعطى من الزكاة كما هو أصح الوجهين في مذهب الإمام أحمد وهو ظاهر إطلاق الآية الكريمة: {وابن السبيل} ظاهره وإن كان قادراً على الاقتراض فإن في طلب الاقتراض كلفة أو منة فلا يلزم به ويعطى من الزكاة. قال: (فيعطى ما يوصله إلى بلده) فيعطى المال الذي يحتاج إليه في طريقه من مركب، ومطعم ومشرب وغير ذلك مما يحتاج إليه فإنه يعطاه من الزكاة حتى يرجع إلى بلده. كما أنه لو كان قاصداً بلداً من بلده فانقطع في الطريق بينهما فإنه يعطى ما يكفيه للذهاب إلى البلدة التي هو قاصد لها وما يكفيه للرجوع منها إلى بلده لأنه ابن سبيل فيعطى ما يكفيه حتى يرجع إلى بلده حيث ماله هناك. فإن فضل منه شيء فيجب عليه الرد لأنه لا يعطاه تمليكاً له وإنما لزوال الحاجة التي هي سبب لإعطائه فمتى ما أن قضت الحاجة، وتوفر معه شيء فلا يجوز له أن يمسكه لنفسه بل يجب عليه أن يرده. قال: (ومن كان ذا عيال أخذ ما يكفيهم) وهذا ظاهر فإن الرجل الذي يعول عائلة لا يعطى ما يكفيه وحده بل يعطى ما يكفيه وما يكفي من يعول؛ لأنه كما أنّا نقصد دفع حاجته فكذلك نقصد دفع حاجة من يعول فيعطى لزوجته ولأولاده، لأن المقصود هو دفع حاجة الفقراء وهم فقراء، وهو وإن كان عائلاً لهم فهو عاجز عن القيام بالنفقة عليهم فيعطى هو من النفقة ما يكفيه وما يكفي من يعول. قال: (ويجوز صرفها إلى صنف واحد) تقدم البحث في هذا في أول هذا الباب. قال: (ويسن إلى أقاربه الذي لا تلزمه مؤنتهم)

فيسن له أن يدفع زكاة ماله إلى أقاربه؛ وذلك لأن إعطاء القريب الزكاة صدقة وصلة، وأما إعطاؤها للأجنبي فهي صدقة فحسب ولذا قال: النبي - صلى الله عليه وسلم - – فيما رواه أحمد وأبو داود والترمذي والنسائي بإسناد صحيح -: (الصدقة على المسكين صدقة، والصدقة على ذي القرابة اثنتان صدقة وصلة) (1) . وأما تقييده بقوله: (لا تلزم مؤنتهم) فيأتي هذا وأنه من تلزمه مؤنتهم لا يجوز أن يعطيهم من الزكاة شيئاً بل يجب عليه أن ينفق عليهم من غير الزكاة. أما إن كان لا يلزمه مؤنتهم فالأفضل دفع الزكاة لهم ولذا إن أخر زكاة ماله لإعطائها قريب وكان التأخير يسير فهو جائز له كما تقدم. فإن إعطاء القريب أفضل من إعطاء البعيد؛ لما في ذلك من الصلة المأمور بها وهي أيضاً صدقة، فتفضل على الصدقة على البعيد بكونها صلة. والله أعلم. والحمد لله رب العالمين. الدرس الرابع عشر بعد المئتين (يوم الثلاثاء: 15 / 1 / 1416 هـ) فصل (ولا تدفع إلى هاشمي) الهاشمي: هو نسبة إلى هاشم بن عبد المطلب جد النبي - صلى الله عليه وسلم - فالهاشميون هو بنو هاشم بن عبد المطلب القرشي فالزكاة لا تدفع إلى هاشمي فمن ثبت نسبه إلى بني هاشم ذكراً كان أو أنثى فلا تحل له الزكاة. ودليل هذا ما ثبت في صحيح مسلم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال لبعض بني هاشم: (إن الصدقة لا تنبغي لآل محمد إنما هي أوساخ الناس) (2) فالصدقة لا تنبغي لآل محمد، وهم بنو هاشم وهذا باتفاق العلماء، وأن الهاشميين لا تحل لهم الصدقة.

_ (1) رواه أحمد والترمذي والنسائي وابن ماجه، كما في نيل الأوطار وغيره، ولم أجده في أبي داود في باب صلة الرحم من كتاب الزكاة. (2) أخرجه مسلم في كتاب الزكاة، باب (51) ترك استعمال آل النبي - صلى الله عليه وسلم - على الصدقة (1072) . وانظر صْ 50.

وظاهر كلام الفقهاء أنها لا تحل لهم مطلقاً سواء أعطوا من الخمس أو لا، فإن لقرابة النبي صلى الله عليه وسلم وهم بنو هاشم لهم حق في الفيء فلهم خمس الخمس فظاهر كلام الفقهاء أن الزكاة لا تحل لهم وإن لم يعطوا نصيبهم من الخمس. واختار شيخ الإسلام وهو وجه عند بعض الشافعية واختاره بعض الحنابلة: أن الصدقة تدفع إليهم إن لم يعطوا من الخمس لحاجتهم إلى ذلك. وفي هذا نظر، فإن الحديث المتقدم عام وأن الصدقة لا تحل لهم مطلقاً وكونهم يمنعون من حقهم من الخمس لا يجعل ما حرم عليهم حلالاً، فإن الصدقة محرمة عليهم لا تحل لهم وكونهم يمنعون من الخمس لا يعني ذلك أن يباح لهم أخذ الزكاة. وموالي بني هاشم ليس لهم في الخمس شيء ومع ذلك فإن الصدقة لا تحل لهم بنص النبي - صلى الله عليه وسلم -. فعلى ذلك الأظهر ما ذهب إليه جماهير العلماء من أن الصدقة محرمة عليهم وإن لم يعطوا من الخمس شيئاً. وظاهر كلام المؤلف أيضاً وهو ظاهر كلام الفقهاء أن الصدقة لا تحل لهم وإن كانت من بعضهم، فلا تحل صدقة الهاشمي للهاشمي، فليس للهاشمي أن يدفع زكاته إلى هاشمي وليس للهاشمي أن يقبلها خلافاً لشيخ الإسلام، فإنه رأى جواز ذلك لهم، وفي ذلك نظر، فإن الحديث عام، وكما أن الصدقة أوساخ للناس فهي أوساخ لأموال بني هاشم. وأما ما رواه الحاكم من أن النبي صلى الله عليه وسلم سأله العباس فقال: (هل تحل صدقة بعضنا لبعض) فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: (نعم) (1) فالحديث إسناده لا يصح. فعلى ذلك الظاهر ما ذهب إليه جماهير العلماء من أن الزكاة لا تحل لبني هاشم أعطوا من الخمس أم لم يعطوا ولا تحل لهم أيضاً وإن كانت من بني هاشم.

أما صدقة التطوع فإنها تحل لهم وحكى صاحب الفروع ذلك إجماعاً، وذلك لأن العلة الثابتة في صدقة المال الواجبة ليست ثابتة في صدقته التطوعية فإن صدقة التطوع ليست من أوساخ الناس بدليل أن من تصدق ولم يزك فإن ماله لا يتطهر، فهي وإن كانت مطهرة لصاحبها من الإثم لكنها ليست بوسخ المال هذا هو مذهب جماهير العلماء وحكاه صاحب الفروع إجماعاً. إلا ما قاله الشوكاني من أن صدقة التطوع محرمة.. (1) أيضاً؛ وذلك لأنها من أوساخ الناس أيضاً. وفي هذا نظر فإن صدقة التطوع ليست بأوساخ الناس كما تقدم بدليل أنها لا تطهر المال حتى تخرج زكاته. فالصحيح مذهب جماهير العلماء من أن صدقة التطوع تحل لهم وهو الذي تقتضيه المصلحة فإنهم قد يمنعون من الخمس وعندما يمنعون من الصدقة التطوعية مع منعهم من زكاة المال لا شك أنه يلحقهم ذلك حرجاً عظيماً وقد أتت الشريعة بنفي الحرج ورفعه. قال: (أو مطلبي) المطلبي: نسبة إلى المطلب بن عبد مناف أخي هاشم بن عبد مناف، فلعبد مناف: هاشم والمطلب ونوفل وعبد شمس. فلا تحل الزكاة لبني هاشم ولا تحل أيضاً لبني أخيه المطلب أما بنو عبد شمس وبنو نوفل فإنها تحل لهم اتفاقاً – هذا ما ذكره المؤلف وهو مذهب الشافعي.

_ (1) كلمة غير واضحة.

واستدلوا: بما ثبت في مسلم: أن جبير بن مطعم – وهو من بني نوفل ابن عبد مناف قال: (مشيت أنا وعثمان بن عفان " وهو من بني عبد شمس ابن عبد مناف " إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقلنا: يا رسول الله إنك قد أعطيت بني المطلب من خمس خيبر وتركتنا ونحن وهم بمنزلة واحدة) (1) أي بمنزلة واحدة منك فجبير من بني نوفل بن عبد مناف وعثمان من بني عبد شمس فهم بمنزلة واحدة من بني المطلب أي تخصيصك لبني هاشم هذا لا غرابة فيه فأنت من بني هاشم، لكن إعطاءك لبني المطلب ونحن وهم بمنزلة واحدة منك هذا أوجد عندنا شيئاً من الاستغراب فنحن نطالب بذلك لما في ذلك من الشرف والمنزلة فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (إنما بنو المطلب وبنو هاشم شيء واحد) وذلك لأن بني المطلب كانت لهم نصرة عظيمة لبني هاشم في الجاهلية والإسلام، فإنهم قد نصروهم في الشعب وغيره. بخلاف بني عمهم من عبد شمس ونوفل فإنهم قد خذلوهم في الشعب وفي غيره ولذا لهذه النصرة العظيمة راعى النبي صلى الله عليه وسلم حق بني المطلب فأعطاهم من الخمس الذي هو لذي القربى قالوا: فكما لبني المطلب في الخمس فليس لهم نصيب من الزكاة فلا تحل لهم الزكاة. وقال جمهور العلماء، وهو رواية عن الإمام أحمد واختار هذا القول شيخ الإسلام: أن بني المطلب تحل لهم الزكاة. واستدل بعمومات الأدلة الشرعية الدالة على إعطائها للفقير والمسكين وغيرهم ممن تقدم ذكرهم من الأصناف وبنو المطلب يدخلون في هذه العمومات ولا دليل على استثنائهم فقد صحت الأدلة باستثناء آله وهم بنو هاشم ولم يصح دليل على استثناء بني المطلب.

_ (1) أخرجه البخاري في كتاب فرض الخمس، باب (17) ومن الديل على أن الخمس للإمام.. (3140) . ولا أظنه في مسلم.

قالوا: وأما قوله: (إنما بنو المطلب وبنو هاشم شيء واحد) فإن هذا في الخمس لمقتضى النصرة التي قاموا بها لبني هاشم أما الزكاة فإنه لا معنى لاختصاصهم عن بني عبد شمس وبني نوفل، هذا هو القول الراجح وأن بني المطلب تحل لهم الزكاة. قال: (ومواليهما) أي موالي بني هاشم وموالي بني المطلب لما ثبت في مسند أحمد وسنن أبي داود والترمذي والنسائي بإسناد صحيح عن أبي رافع – وهو مولى النبي صلى الله عليه وسلم فهو من موالي بني هاشم قال: (بعث النبي صلى الله عليه وسلم على الصدقة رجلاً من بني مخزوم) وهذا يدل على أن سائر فروع قريش من بني مخزوم وغيرهم تحل لهم الزكاة فإنه قد جعله عاملاً على الصدقة فقال: (اصحبني حتى تنال منها) أي من الزكاة على العمل فسألت النبي صلى الله عليه وسلم: (فقال: لا، مولى القوم من أنفسهم وإنها لا تحل لنا الصدقة) (1) فدل على أن مولى القوم - أي عتيقهم - أنه من أنفسهم فمولى بني هاشم من أنفسهم فلا تحل لهم الزكاة. وقد تقدم أن ذوي قرابته لا يحل لهم العمل على الصدقة بأجرة، أما إذا كان من الفيء فإن ذلك لا بأس به.

_ (1) أخرجه أبو داود في كتاب الزكاة / باب (29) الصدقة على بني هاشم (1650) . والنسائي في الزكاة حديث 2613، والترمذي في الزكاة حديث 657 وقال: حسن صحيح، سنن أبي داود [2 / 299] .

واعلم أن ما تقدم من منع بني هاشم ومواليهم من الصدقة إنما هو ما كان لمصلحة أنفسهم أما ما يدفع إليهم للمصلحة العامة كأن يكون أحدهم غازياً أو مصلحاً ذات البين أو مؤلفاً قلبه فإنه يعطى من الزكاة إذ لا فرق بين بني هاشم وغيرهم في هذا، وهو إنما يعطي حينئذ للمصلحة العامة، والمصلحة العامة المقصود إيجادها سواء كانت لهاشمي أو غيره فالمنع المتقدم حيث كان لمصلحة نفسه في عمل على الصدقة أو كان فقيراً أو مسكيناً أو غارماً لمصلحة نفسه، وأما إن كان غارماً لمصلحة غيره كالمصلح ذات البين أو كان مؤلفاً قلبه على الإسلام أو كان في سبيل الله غازياً فإن الصدقة تدفع إليه. قال: (ولا إلى فقيرة تحت غني منفق) إذا كانت الزوجة فقيرة لا مال لها لكن زوجها غني ينفق عليها، فلا تحل لها الزكاة لاستغنائها بزوجها وكذلك الولد الذي لا مال له ولا عمل ووالده ينفق عليه فلا تحل له الزكاة لاستغنائه بنفقة والده وهكذا. فكل من ينفق عليه فلا تحل له الزكاة لوجود من ينفق عليه واستغنائه بذلك. قال: (ولا إلى فرعه وأصله) لا تحل الزكاة إلى الفروع، والفروع هم أولاده وإن نزلوا أي أولاده الذكور وأولاده الإناث، وأولاد الذكور وأولاد الإناث وإن نزلوا، الوارث منهم وغير الوارث فبنت البنت لا تحل لها منه الزكاة وإن كانت غير وارثة وغير منفق عليها. وكذلك الأصول، والأصول هم الوالدان وإن علوا، أمه وأبوها وأمها وإن علوا، وأبوه وأبو أبيه وأم أبيه وهكذا وإن علوا الوارث منهم وغير الوارث. وقد أجمع العلماء على أن الولد والوالد والزوجة لا تحل لهم الزكاة، حكى إجماعهم ابن المنذر وغيره. وظاهر كلام الفقهاء أن الصدقة لا تحل للأصول ولا الفروع مطلقاً، وجبت النفقة عليهم للإرث أم لم تجب وسواء كان قادراً على النفقة عليهم أو غير قادر عليها.

فمثلاً: رجل عنده بنات ابنته لا تحل لهن الزكاة منه وإن كان غير قادر على الإنفاق عليهن كأن يكون عنده من يعول. وظاهر كلامهم أيضاً: أنه ولو لم تجب عليه النفقة فإنه لا يجب أن ينفق على بنات بناته أو أبنائهن لعدم الإرث كما لا يجب على أبي أمه لعدم الإرث، هذا ظاهر كلامهم. - واختار شيخ الإسلام: أن الزكاة حينئذ تحل، وهو رواية عن الإمام أحمد. قال رحمه الله: إن كان غير قادر على الإنفاق على أصوله وفروعه كأن يكون عنده أبوه وأمه وهو غير قادر على الإنفاق عليهم مع وجود أولاده وزوجته ومن ينفق عليهم. أو كان قادراً على الإنفاق لكن النفقة لا تجب عليه في الأصل وإنما أوجبت عليه باضطرارهم إلى ذلك فأولاد البنت لا تجب عليهم النفقة في الأصل، لكن إذا اضطروا إلى نفقة جدهم من أمهم فإن الراجح أنه يلزم بالإنفاق لكن النفقة في الأصل لا تجب فاختار شيخ الإسلام أنه حينئذ يحل له دفع الزكاة لهم قال: لأن المانع من إجزاء الزكاة دفعاً لهم هو خوف تهربه من النفقة الواجبة عليه وهنا لا نفقة فحيث كان غير قادر على الإنفاق فلا نفقة، فإن لم يعطهم من الزكاة بقوا لا منفق عليهم. وإذا كان لا يجب عليه الإنفاق عليهم فكذلك فإنه حينئذ يصرف الصدقة إلى البعيد وهؤلاء أقرب إليه ولا يجب عليه أن ينفق عليهم. وهذا القول الراجح وأن من عنده أحد من أصوله أو فروعه وهو غير قادر على الإنفاق عليه – فعنده رأس مال تجب فيه الزكاة لكن ما يأتيه من هذا المال لا يكفي إنفاقه على نفسه وولده وزوجه ووالديه، فيحتاج حينئذ إلى أن يدفع إلى والديه الزكاة وينفق عليهم منها فإن ذلك جائز. وكذلك [من] لا يجب عليه أن ينفق عليهم في الأصل كغير الورثة من أصوله وفروعه. هذا هو الراجح؛ لأن المانع من صحة دفع الزكاة لهم هو وجوب الإنفاق وهنا لا تجب النفقة فصحت الزكاة حينئذ ولدخولهم في عمومات الأدلة الشرعية، ولا مانع يمنع من صحة الزكاة لهم.

أما الحواشي: فاتفق الفقهاء على أن ذوي الأرحام وهم غير الورثة – يصح أن يعطوا من الزكاة كبنت الأخ وبنت الأخت أو العمة أو الخالة يصح أن يعطوا من الزكاة لأنهم غير وارثين فلا تجب عليهم النفقة حينئذ. هذا في حكم الحواشي من غير الورثة. أما الحواشي من الورثة كالأخ وابن الأخ والعم فاختلف أهل العلم في صحة دفع الزكاة لهم على قولين: القول الأول: أن الزكاة لا تصح لهم، وهو المذهب وهو قول الشافعية. قالوا: لأن النفقة تجب عليهم فإذا أعطاهم من الزكاة كان ذلك تهرباً من النفقة الواجبة عليهم. 2- وذهب الأحناف وهو رواية عن الإمام أحمد: إلى أن الزكاة يجوز دفعها إليهم، وذلك لأن النفقة لا تجب لهم أصلاً فلا يجب على الأخ أن ينفق على أخيه أو ابن أخيه ولا على عمه فلا تجب النفقة عليهم أصلاً وإنما يوجب عند الضرورة فإذا اضطروا إلى نفقته أوجبناها في الضرورة وهنا - وهم يمكن أن يأخذوا من الزكاة – فلا ضرورة فالنفقة لا تجب عليهم أصلاً إلا إذا وقعت الضرورة والحاجة الماسة إلى ذلك وحيث كانوا يمكن أن يأخذوا من الزكاة فلا ضرورة، وهي الرواية الظاهرة عن الإمام أحمد كما قال ذلك الموفق. وهذا القول هو الراجح وهو مقتضى كلام شيخ الإسلام المتقدم. واعلم أن ما تقدم في النفقة التي يحتاج إليها من طعام وشراب ونحو ذلك. أما الدين: فإن أصح قولي العلماء في هذه المسألة وهو أصح الوجهين في مذهب الإمام وهو اختيار شيخ الإسلام أن الدين يجوز أن يقضيه من زكاته وإن كان يجب أن ينفق.

فالوالد يجوز أن يقضي دين ولده، وذلك لأن قضاء الدين ليس من النفقة الواجبة على المنفق، فالواجب عليه أن ينفق عليه ما يحتاج إليه في طعامه وشرابه وسكناه ونحو ذلك وفي ملبسه ومنكحه وغير ذلك، وأما قضاء الدين فلا يدخل في باب النفقات ولذا صرح فقهاء الحنابلة بأنه يجوز أن يعطي الوالد ولده مالاً يغزو به أو غير ذلك من المصالح العامة وذلك لأنها لا تدخل في النفقة والعلة المتقدمة أن الزكاة إنما تمنع تهرباً من النفقة وهنا لا نفقة واجبة. فعلى ذلك الراجح أنه يجوز للوالد أن يقضي دين ولده أو دين زوجته أو غير ذلك ممن ينفق عليهم؛ لأن ذلك غير داخل في النفقة الواجبة لكن إذا كان الدين بسبب إهماله في النفقة، كأن يكون على الابن دين في نكاحه أو في مسكنه وهو محتاج إلى نفقة والده، أو يكون على الزوجة دين بسبب عدم قيام الزوج بالنفقة فإن قضاء دينها من الزكاة لا يجوز؛ لأنه يجب عليه أن ينفق وهذا داخل في النفقة لكن الدين الخارج عن النفقة هو الذي يجوز أن يقضيه من الزكاة. قال: (ولا إلى عبد) لاستغنائه بنفقة سيده، فإن السيد يجب أن ينفق على عبده. قال: (وزوج) هذا أحد القولين في المذهب، وأن الزوجة لا يحل لها أن تعطي زوجها زكاتها سواء كانت من حلي على القول بالزكاة به أو غير ذلك.

والقول الثاني في المذهب: أن الزكاة يجوز أن يعطي الزوج من الزوجة، وهذا هو القول الراجح؛ وذلك لأن الزوجة لا تنفق على زوجها فلا معنى لمنعها من إعطائه زكاتها والزوج داخل في العمومات التي فيها أصناف من تحل له الزكاة كما تقدم فهو إن كان فقيراً أو مسكيناً فهو داخل في عموم قوله: {إنما الصدقات للفقراء والمساكين} وقد ثبت في البخاري عن أبي سعيد: أن زينب امرأة ابن مسعود أتت النبي - صلى الله عليه وسلم - فقالت: (يا رسول الله إنك قد أمرت اليوم بالصدقة وكان عندي حلي فأردت أن أتصدق به فزعم ابن مسعود أنه وولده أحق من تصدقت به عليهم فقال: صدق ابن مسعود زوجك وولدك أحق من تصدقت به عليهم) (1) . فلها أن تتصدق على زوجها ولها أن تتصدق على ولدها؛ لأنها لا يجب عليها أن تنفق على ولدها وإنما يجب ذلك على الوالد. قال: (وإن أعطاها لمن ظنه غير أهل فبان أهلاً أو بالعكس لم يجزئه) رجل أخذ زكاة ماله فأعطاها هاشمياً أو غنياً أو نحو ذلك وهو يعتقد ذلك ويعلم أن هذا ليس من أهل الزكاة فلا يجزئه وإن ثبت له بعد ذلك خطأ ظنه. فمثلاً: أعطاها غنياً وهو يعلم أنه غني فبان فقيراً فلا يجزئه هذه الزكاة؛ وذلك لأن من شرط الزكاة النية وهنا النية غير جازمة لأنه أعطاها من يعتقده ليس أهلاً وحينئذ لم ينوها زكاة؛ لأن الزكاة إنما تدفع للأصناف الثمانية كما لو صلى صلاة بظن أن الوقت لم يدخل فتبين دخوله فإنها لا تجزئه كما تقدم، فكذلك هنا. (أو بالعكس) رجل أعطى زكاته من يظن أنه من أهل الزكاة، كأن يرى رجل فظن أنه ليس من بني هاشم أو نحو ذلك فأعطاه الزكاة ثم بان بعد ذلك على خلاف هذا، فإنها لا تجزئه. قالوا: لأن الذمة لا تبرأ إلا بدفعها إلى أهلها وقد ثبت أن هذا ليس من أهلها. وقال بعض الحنابلة: بل تجزئ عنه قياساً على الغني.

_ (1) أخرجه البخاري في كتاب الزكاة، باب (44) الزكاة على الأقارب (1462) .

فالمسألة هنا – فيما سوى الغني – كأن يدفعها إلى هاشمي أو إلى عبد أو إلى وارث يظنه بخلاف ذلك ممن هم من أهل الزكاة ثم تبين له أنه هاشمي أو عبد أو وارث – فهنا قالوا: لا يجزئ. وقال بعض الحنابلة: بل تجزئ قياساً على الغني. فالغني – عند الحنابلة - إن أعطى من الزكاة ظناً أنه فقير فثبت غناه، فإن الزكاة تجزئ. واستدلوا: بقوله صلى الله عليه وسلم: (إن شئتما أعطيتكما ولا حظ فيها لغني ولا لقوي مكتسب) (1) قالوا: فهذا يدل على أنها إن أعطيت الغني بظن أنه فقير فإنها تجزئ وإن تبين أنه غني بعد ذلك. وقال بعض الحنابلة: بل لا يجزئ أيضاً إن دفعت إلى الغني ظناً أنه فقير وتبين غناه، لأنها لم تدفع إلى أهلها فلم تبرأ بها الذمة. (2) إذن: المشهور عند الحنابلة: أنها إذا دفعت إلى من ليس أهلاً لها سوى الغني فإنها لا تجزئ، وإن دفعت إلى الغني فإنها تجزئ. قالوا: وإنما فرقنا بين الغني وغيره لخفاء الغني وظهور غيره، فإن النسب ظاهر والعبودية ظاهرة، والإرث ظاهر وأما الغنى فإنه يخفى غالباً. وقال بعض الحنابلة: بل لا تجزئ مطلقاً. وقال بعضهم بل تجزئ مطلقاً. فعندنا ثلاثة أقوال للحنابلة. والذي يظهر: أنه إن اجتهد وتحرى فأعطاها من يظنه أهلاً بعد التحري والاجتهاد فإنها تجزئ؛ لأنه قد فعل ما يجب عليه وقد قال تعالى: {فاتقوا الله ما استطعتم} (3) وقال - صلى الله عليه وسلم -: (إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم) (4) وقال تعالى: {لا يكلف الله نفساً إلا وسعها} (5) وقد قام بوسعه وطاقته وقدرته فسقط عنه الواجب فبرأت بها الذمة – وهذا مطلقاً في الغني وغيره.

_ (1) تقدم. (2) في أعلى المذكرة ما نصه: " وظاهر هذا التعليل أنه إذا دفعها إلى رجل غناه ظاهر، فإنها لا تجزئه ولا تبرأ بها ذمته " (4) تقدم. (5) سورة البقرة.

أما إذا لم يتحر ولم يجتهد فإن ذمته لا تبرأ لأنه مأمور بإعطائها أهلها، وهو لم يعطهم إياه، فلا تجزئه إلا أن يعطيها أهلها وحينئذ فيجب عليه الرجوع أو أن يخرجها من ماله. فإذن يجب عليه الرجوع على من أعطاها إياه؛ لأنها لا تحل له ويحكم له القاضي بذلك لأنه أخذ مال بغير حق فيحل له الرجوع بل حتى إذا دفعها إلى من ليس بمستحق وثبت أنه غير مستحق فمع القول بالإبراء – حيث اجتهد وتحرى – فإن الرجوع واجب لإعطائها أهلها فهي محض حق الفقير وقد صرفت إلى الغني فوجب حينئذ الرجوع. قال: (وصدقة التطوع مستحبة) إجماعاً والأدلة من القرآن والسنة ظاهرة في هذا. قال: (وفي رمضان أفضل) لما ثبت في الصحيحين من حديث ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم: (كان أجود الناس وكان أجود ما يكون في رمضان حين يلقاه جبريل فلرسول الله صلى الله عليه وسلم أجود بالخير من الريح المرسلة) (1) ويتوجه أن تكون الصدقة في عشر ذي الحجة أفضل لصريح قوله صلى الله عليه وسلم: (ما من أيام العمل الصالح فيها أحب إلى الله من هذه العشر) (2) والصدقة من ذلك. قال: (وأوقات الحاجات أفضل) فعندما يصاب الناس بحاجة وفقر ومسغبة فإن الصدقة حينئذ أفضل، فهي أفضل منها في الأزمنة الفاضلة وذلك لتعلقها بالمحتاج نفسه.

_ (1) أخرجه البخاري في كتاب بدء الوحي باب (5) رقم (6) وفي مواضع أخرى، ومسلم (2308) . (2) قال في نيل الأوطار: " رواه الجماعة إلا مسلما والنسائي ". أخرجه البخاري في كتاب العيدين، باب (11) فضل العمل في أيام التشريق (969) بلفظ: " ما العمل في أيام العشر أفضل من العمل في هذه.. " الفتح [2 / 530] .

فإن الصدقة في الأزمنة الفاضلة متعلقة بالزمان، وأما في أوقات الحاجات فهي متعلقة بالمحتاج نفسه فكانت أفضل، فالصدقة في أوقات الحاجات أفضل من الصدقة في رمضان وفي عشر ذي الحجة وفي غير ذلك وقد قال تعالى: {أو إطعام في يوم ذي مسغبة} (1) أي في حاجة وفقر. قال: (وتسن بالفاضل عن كفايته ومن يمون) فيسن له أن يتصدق بما يفضل عن حاجته هو وحاجة من يمون، لما ثبت في البخاري أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (خير الصدقة ما كان عن ظهر غنى وابدأ بمن تعول) (2) أي أفضل الصدقة ما كان زائداً على حاجتك وحاجة من تمون، وقد تقدم أن الغنى هو الكفاية، فما فضل عن الكفاية فهو خير الصدقة. أما أن يتصدق بما يلحقه أو يلحق من يمون ضرراً فإن ذلك محرم. ولذا قال المؤلف: (ويأثم بما ينقصها) أي بما ينقص المؤنة، أي مؤنته ومؤنة من ينفق عليهم. فإذا تصدق وأضر بنفسه وبمن ينفق عليهم فإن ذلك محرم لما ثبت في المسند وسنن أبي داود أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (كفى بالمرء إثماً أن يضيع من يقوت) (3) وقال - صلى الله عليه وسلم -: (لا ضرر ولا ضرار) (4) . لكن يستثنى من ذلك: من كان من أهل اليقين والصبر وكانت أيضاً عائلته على هذه الصفة، فإنه وإن أنفق ماله كله مع رجاء رزق الله - عز وجل - ورجاء الخير فإن ذلك لا حرج فيه، فقد ثبت في مسند أحمد وأبي داود والترمذي بإسناد صحيح: أن أبا بكر: (أتى بماله كله للنبي - صلى الله عليه وسلم - وقال له: ما أبقيت لأهلك فقال: أبقيت لهم الله ورسوله) (5) فهذا يدل على جواز ذلك.

_ (1) سورة البلد. (2) أخرجه البخاري في كتاب الزكاة، باب (18) لا صدقة إلا عن ظهر غنى (1426) . (3) أخرجه أبو داود في باب صلة الرحم من كتاب الزكاة. (4) انظر صْ 85. (5) أخرجه أبو داود في كتاب الزكاة، باب (40) في الرخصة في ذلك (1678) .

واعلم أن السنة في الصدقة الإسرار قال تعالى: {إن تبدوا الصدقات فنعما هي وإن تخفوها وتؤتوها الفقراء فهو خير لكم} (1) . وقد ثبت في أبي داود بإسناد جيد أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (الجاهر بالقرآن كالجاهر بالصدقة، والمسر بالقرآن كالمسر بالصدقة) (2) . وقد ثبتت الأدلة بفضيلة الإسرار بالقرآن أي بين الناس وأن المصلي يناجي ربه فلا يجهر بعضكم على بعض في القرآن كما ثبت هذا في مسند أحمد وغيره بإسناد صحيح (3) . وقد قال صلى الله عليه وسلم في السبعة الذين يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله: (ورجل تصدق بصدقة فأخفاها حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه) (4) . لكن إن اقتضت المصلحة الجهر فهو مستحب كأن يأمن على نفسه من الرياء ويأمن على الفقير من ظهور حاجته إلى الناس ونحو ذلك ويكون في ذلك مصلحة الاقتداء ونحوه فإن ذلك يكون أفضل. وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم – كما في الصحيح – فيمن تصدق أمام الناس وكان قدوة في ذلك: (من سن في الإسلام سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة) (5) . والله أعلم وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه. والحمد لله رب العالمين. تم بحمد الله تعالى شرح كتاب الزكاة من زاد المستقنع، لفضيلة الشيخ: حمد بن عبد الله الحمد، حفظه الله تعالى ونفع به. (6)

_ (1) سورة البقرة. (2) أخرجه أبو داود في كتاب الصلاة، باب (315) في رفع الصوت بالقراءة في صلاة الليل (1333) . (4) أخرجه البخاري في كتاب الأذان، باب (36) من جلس في المسجد ينتظر الصلاة وفضل المساجد (660) وانظر في الزكاة باب (13) ، ومسلم (1031) بقلب في لفظ الشمال. (5) أخرجه مسلم في كتاب الزكاة، باب (20) الحث على الصدقة ولو بشق تمرة أو كلمة طيبة.. (1017) بلفظ: (من سن في الإسلام سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها بعده من غير أن ينقص من أجورهم شيء، ومن سن..) . (6) مسألة: حكم زكاة الأسهم؟ إن كانت محرمة فلا زكاة فيها، لأن الله طيب لا يقبل إلا طيباً. وإن كانت مباحة ففيها أقوال: القول الأول: إن كانت أسهم في مصانع وعقارات ونحوها التي لا يقصد منها البيع والشراء، فليس في رأس مالها زكاة، بل في الربح متى حال عليه الحول وبلغ النصاب. وإن كانت في شركات تجارية، ففي رأس المال مضافاً إليه الربح الزكاة. القول الثاني: أن في جميعها الزكاة؛ لأنها عروض تجارة. القول الثالث: إن كان يقصد بهذه الأسهم أن يبيع ويشتري، ففيها الزكاة. وإن كان يقصد ـم يضعها ويحصل على الربح ولا يريد بيعها وشراءها فلا زكاة إلا في الربح بالشروط السابقة. ملاحظة: إن لم يستخدم المال حتى حال عليه الحول فالذي ينبغي القول فيه: وجوب الزكاة، كما تفعل بعض الشركات تحبس المال لمدة سنة أو أكثر …. المراجع: فتاوى الزكاة لابن جبرين. فقه الزكاة للقرضاوي. شريط " الزكاة " لمحمد بن صالح المنجد. كيف تؤدي زكاة أموالك للطيار.

كتاب الصيام

كتاب الصيام الصيام لغة:الإمساك، وفيه قوله تعالى عن مريم: (إني نذرت للرحمن صوما) ً أي إمساكاً عن الكلام. اصطلاحاً:التعبد لله تعالى بالإمساك عن المفطرات من طلوع الفجر الصادق إلى غروب الشمس وقد دل على فرضيته الكتاب والسنة والإجماع. أما الكتاب:فقوله تعالى: (يا أيها الذين أمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون) وقوله تعالى: (فمن شهد منكم الشهر فليصمه) أما السنة:فمنها قوله صلى الله عليه وسلم: (بني الإسلام على خمس، وذكر منها:صيام رمضان) وأما الإجماع:فقد أجمعت الأمة على فرضيته، وعلى تكفير جاحده، وقد أجمع أهل السير على أن الصيام فُرض في السنة الثانية من الهجرة – وعليه فيكون النبي صلى الله عليه وسلم قد صام تسع رمضانات. واعلم أنه لا بأس أن يقول:جاء رمضان أو دخل رمضان خلافاً لمن منع ذلك من أهل العلم. وأما ما رواه البيهقي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا تقولوا جاء رمضان، فإنه اسم من أسماء الله تعالى) فالحديث لا يثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم، ففيه أبو مَعْشر وهو ضعيف وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم إطلاق ذلك، ففي الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا جاء رمضان فتحت أبواب الجنة …) الحديث. ورمضان مشتق من الرمَضَ، رمض يرمض رمضاً وهو شدة الحر وإنما سمي رمضان بهذا الاسم لأنه وافق شدة حر فسمي بذلك. قال المؤلف رحمه الله تعالى: (يجب صوم رمضان برؤية هلاله) فإذا رؤي الهلال ففرض على المسلمين أن يصوموا، وهي مسألة إجماعية، وقد قال تعالى: (فمن شهد منكم الشهر فليصمه) ، وقال صلى الله عليه وسلم (صوموا لرؤيته وافطروا لرؤيته) متفق عليه. قال المؤلف رحمه الله تعالى: (فإن لم ير مع صحو ليلة الثلاثين أصبحوا مفطرين)

الثلاثين، يحتمل أن تكون من شعبان، وتحتمل أن تكون من رمضان، فيقال:ليلة الثلاثين من باب الظن وإلا فيحتمل أن تكون من رمضان. فإذا كانت ليلة الثلاثين ولم يروا الهلال وليس هناك مانع يمنع الرؤية من سحاب أو غبار، فإنهم يصبحون مفطرين وهذا باتفاق أهل العلم. وقد ثبت في الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا تقدموا رمضان بصوم يوم ولا يومين إلا أن يكون يصوم صوماً فليصمه) وقد قال الحنابلة وهو – أي يوم الثلاثين – يوم الشك الذي قال فيه عمار ابن ياسر – كما رواه أهل السنن والبخاري معلق والحديث إسناده صحيح -: (من صام اليوم الذي يشك فيه فقد عصا أبا القاسم صلى الله عليه وسلم) – هذا المذهب، والراجح أن يوم الشك يوم الثلاثين إذا كان في ليلته غيم أو قتر -. إذن يحرم صيام يوم الشك ويكره له أن يتقدمه بيوم. وهل يكره له أن يصوم إذا انتصف شعبان؟ روى أحمد والترمذي وأبو داود – والحديث أعله أحمد وابن مهدي – عن أبي هريرة قال وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إذا كانت النصف من شعبان فأمسكوا عن الصيام حتى يكون رمضان) لكن هذا الحديث مع أن سنده صحيح، فقد أعله أنكره الإمام أحمد وابن مهدي، بل حكى ابن حجر أن جمهور العلماء على تضعيفه. وقد أنكره لمخالفته ما ثبت في الصحيح من حديث عائشة – وسيأتي ذكره: (أن النبي صلى الله عليه وسلم: كان يصوم شعبان كله إلا قليلاً) وجمع الموفق ابن قدامه بين الحديثين، بأن حديث النهي فيه نهي من لم يصم النصف الأول من شعبان أن يصوم نصفه الثاني درءاً لذريعة إرادة الإلحاق بالفريضة احتياطاً وهو جمع قوي، لكن ينكر عليه قوله: (فأمسكوا عن الصيام) فظاهره الإمساك مطلقاً سواء صام نصفه الأول أو لا. فعلى ذلك ما قاله أهل العلم من نكارة هذا الحديث أولى. قال: (وإن حال دونه غيم أو قتر فظاهر المذهب يجب صومه) " غيم " أي سحاب. " قتر " أي غبار.

فإذا كانت ليلة الثلاثين وكان في السماء غيم أو قتر يمنع من رؤية الهلال، فيحتمل أن يكون الهلال موجوداً، فظاهر المذهب يجب صومه احتياطاً للعبادة. واستدلوا:بما ثبت في الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (صوموا لرؤيته وافطروا لرؤيته فإن غم عليكم فاقدروا له) أي ضيقوا عليه، كما قال تعالى: (يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر) أي يضيق، ومعلوم أن الشهر إما ثلاثون، وإما تسع وعشرون، فالتضييق عليه بأن يجعل تسعاً وعشرين: وهو قول راوي الحديث، ففي أبي داود بإسناد صحيح عن ابن عمر: (أنه كان إذا حال دون قنطره " أي قنطر الهلال " سحاب أو قتر أصبح صائماً) وذهب جمهور أهل العلم إلى أن الصيام لا يجب، وهو رواية عن الإمام أحمد واختيار شيخ الإسلام وتلميذه ابن القيم، وابن عقيل وأبو الخطاب وصاحب الفروع وصاحب الإنصاف وغيرهم قالوا:لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال في الحديث المتفق عليه: (صوموا لرؤيته وافطروا لرؤيته فإن غم عليكم فاقدروا له) وفي رواية مسلم: (فاقدروا له ثلاثين) أي احسبوا له ثلاثين وفي رواية للبخاري: (فأكملوا العدة ثلاثين) وفي الصحيحين من حديث أبي هريرة: (فأكملوا عدة شعبان ثلاثين) ونحوه في مسلم وفي أبي داود وابن خزيمة بإسناد صحيح عن عائشة قالت: (كان النبي صلى الله عليه وسلم يتحفظ من شعبان ما لا يتحفظ من غيره " أي يتكلف في معرفة دخول الشهر من ذلك " فيصوم لرؤية رمضان فإن غم عليه عد ثلاثين يوماً ثم صام) وأما ما استدل به أهل القول الأول أما قوله: (فاقدروا له) فإنها قد فسرتها الرواية الأخرى في الصحيح: (فاقدروا له ثلاثين) وغيرها فثبت أن المراد احسبوا له، وليس المراد ضيقوا عليه.

وأما فعل ابن عمر فإن هذا رأي من خالف روايته، والعبرة بما روى لا بما رأى، والأحاديث ظاهرة في ذلك، بل هو يوم الشك الذي قال فيه عمار: (من صام اليوم الذي يشك فيه فقد عصى أبا القاسم صلى الله عليه وسلم) ؛ لأن حقيقة الشك ثابتة فيه فلا يدري أهو من رمضان أم من غيره. والراجح هو عدم وجوب صومه – كما هو مذهب الجمهور لكن هل يباح صومه أم يستحب أم يكره أم يحرم؟ أربعة أقوال للحنابلة القائلين بعدم الوجوب: الاستحباب وكان قول شيخ الإسلام وقد حكى صاحب الاختيارات عنه أنه قال بعد ذلك. إلى القول بعدم الاستحباب. 3 - 4- الثالث والرابع:النهي وهو قول أبي الخطاب وابن عقيل وهل النهي للكراهية أم للتحريم؟ والراجح من هذه الأقوال الأربعة تحريم ذلك لحديث عمار. وظاهر المذهب – كما تقدم – أنه يجب صومه، فإذا ثبت أنه من رمضان فإنه يجزئ، لأنهم صاموه بنية الاحتياط لكن الراجح تحريم صومه – كما تقدم -. قال: (وإن رؤى نهاراً فهو لليلة المقبلة) فإذا رأى الناس الهلال نهاراً فإنه يكون لليلة المقبلة سواء كان ذلك – أي الرؤية – قبل الزوال أم بعده أما إذا كانت الرؤية بعد الزوال فلا نزاع بين العلماء في ذلك وأنه يكون لليلة المقبلة وأما إذا كانت رويته قبل الزوال، فعن الإمام أحمد أنه يكون لليلة الماضية، فعليه فإذا كان ذلك فإنهم يمسكون عن الطعام والشراب ويكون اليوم الأول من رمضان ومرجع ذلك إلى أهل الخبرة بالأهلة قال: (وإذا رآه أهل بلد لزم الناس كلهم الصوم) فإذا رؤى الهلال في بلدة من البلاد الإسلامية لزم جميع البلاد الصيام. هذا هو المشهور في مذهب أحمد ومذهب مالك. واستدلوا:بقوله صلى الله عليه وسلم: (صوموا لرؤيته وافطروا لرؤيته) .

قالوا:هذا خطاب عام للأمة، فظاهر ذلك العموم لسائر البلدان ولما ثبت في الترمذي بإسناد حسن أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (الصوم يوم تصومون والفطر يوم تفطرون والأضحى يوم تضحون) . قالوا:فقوله الصوم " يدل على أن الأمة يجتمعون على الصيام فصومهم واحد وفطرهم واحد، وإجماعهم واحد. وذهب إسحاق وغيره إلى أن لكل بلدة من البلاد رؤيتها. واستدلوا:بما ثبت في مسلم عن كُريب أن أم الفضل بنت الحارث بعثته إلى معاوية بالشام قال: (فقدمت الشام على معاوية فقضيت حاجتي واستهل رمضان وأنا بالشام فرأيت الهلال ليلة الجمعة ثم قدمت المدينة في أخر الشهر فسألني عبد الله بن عباس، ثم ذكر الهلال، فقال:متى رأيتم الهلال فقلت:ليلة الجمعة، قال:أن رأيته قلت:نعم ورآه الناس فصاموا وصام معاوية، قال:لكنا رأيناه ليلة السبت فلا نزال نصوم حتى نكمل ثلاثين أو نراه قال:قلت أو لا تكتفي برؤية معاوية وأصحابه فقال: (لا هكذا أمرنا النبي صلى الله عليه وسلم) وذهب الشافعية وهو اختيار شيخ الإسلام إلى أن لكل بلد رؤيتها. إلا إذا تحدث المطالع " أي مطالع القمر " فإذا المطالع فإنه إذا رؤى في بلدة لزم الأخر الصيام كما يقع هذا في البلدان المتقاربة كالبصرة والكوفة قالوا ولأنه متى رؤى في بلدة فيعلم أنه يرى في البلدة الأخرى لإيجاد المطلع، وقد منع من رؤيته غيم أو قتر أو إهمال " ونحو ذلك " وإلا فالأصل أنه يرى وهذا قول ظاهر، فإن اتخاذ المطالع معترف به في هذه المسألة عند أهل المعرفة فإنهم يقطعون أنه إذا روى في البلد فإنه يرى في البلدة الأخرى التي توافقها في مطلعها. وأما إذا اختلفت المطالع فلكل بلد رؤيتها لحديث كريب عن ابن عباس.

وهذا القول أصح من القول الذي قبله وتبقى الخلاف بينه وبين القول الأول، فيجتب عن حديث: (صوموا لرؤيته وافطروا لرؤيته) فأن المقصود بذلك أهل البلد ومن وافقهم في الرؤية أما إذا كانت المطالع مختلفة والهلال يرى في بلد الليلة ولا يرى في الأخرى إلا والحي - فهذا بذلك، فلا يحكم عليها بحكم واحد. وأما حديث: (صومكم يوم تصومون) فإنه إنما يراد به أهل البلد الواحد لئلا يختلفوا واختلافهم يؤدي إلى اختلاف قلوبهم فيكون بعضهم صائم وبعضهم مفطر. وهذه المسألة مسألة اجتهاد – فإذا قال الحاكم فيها بأي قول وجب على أهل ذلك البلد أن يعملوا بحكمه. فإذن الظاهر:أن لكل بلد رؤيتها إلا إذا اتحدت المطالع. قال: (ويصام برؤية عدل ولو أنثى) لأنه خبر ديني، والقاعدة في الأخبار الدينية أنها يقبل فيها خبر الواحد كالأحاديث النبوية ولا يشترط أن يكون المخبر ذكراً أو حراً بل لو كان أنثى أو عبد قبل لأنه خبر ديني فإذا أخبر عدل أنه رأى الهلال فإنه يحكم بقوله ويصوم الناس ولو كان المخبر أنثى لأن ذلك خبر ديني بخلاف باب الشهادة فإنها تتعلق بأموال الناس أما الخبر الديني فالتهمة منه بعيدة ومما يدل على ذلك ما روى أبو داود بإسناد صحيح عن ابن عمر قال: (تراءى الناس الهلال فأخبرت النبي صلى الله عليه وسلم أني رأيته فصام وأمر الناس بصيامه) وذهب الأحناف والمالكية إلى أنه لا يقبل إلا برؤية رجلين واستدلوا:بما روى النسائي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (صوموا لرؤيته وافطروا لرؤيته) إلى أن قال: (فإن شهد شاهدان فصوموا وافطروا) قالوا:فعلق النبي صلى الله عليه وسلم الفطر والصوم برؤيته من اثنين، فلا يثبت دخول الشهر إلا برؤيتهما. وهذا القول أضعف من الذي قبله، وذلك لثبوت الحديث المتقدم وهو المنطوق وما في هذا الحديث مفهوم، فإن مفهومه أنه لم يكن شاهدين فلا يثبت، والمنطوق مقدم على المفهوم.

إذن:هلال رمضان يثبت برؤية واحد أما هلال شوال وهو الذي يثبت برؤيته خروج رمضان فقد اتفقوا العلماء – سوى أبي ثور – إلى أنه لابد لثبوته من رؤية اثنين، فلا يثبت برؤية الواحد. واستدلوا:بحديث النسائي: (فإن شهد شاهدان فصوموا وافطروا) قالوا:حديث ابن عمر إنما يخصص دخول رمضان فيبقى خروجه على اشتراط الشاهدين ومع قوة ما ذهب إليه الجمهور – وإن ما ذهب – إليه أبو ثور قول قوي، فإن القاعدة هي قبول خبر الواحد في الأخبار الدينية مطلقاً وأما قوله: (فإن شهد شاهدان فصوموا وافطروا) فإنه يقال فيه ما قيل في المسألة السابقة، والذي يخرج هذه المسألة هو القياس الصحيح والدخول في قواعد الشريعة من أن خبر الواحد مقبول في الأخبار الدينية، فهنا بخبر الواحد يخبر عن النبي صلى الله عليه وسلم تقطع به الأيدي وتراق به الدماء – وهو خبر واحد وواجب علينا قبوله فأولى من ذلك هذا. فعلى ذلك يكون قوله: (فإن شهد شاهدان) على وجه الكمال والاستحباب ومع ذلك فإن العمل على ما ذهب إليه جمهور العلماء احتياطاً للصوم فلا يخرج عنه إلا بشهادة اثنين وإلا فما ذهب إليه أبو ثور وقال إليه الشوكاني في نيل الأوطار قول قوي والله اعلم. قال: (فإن صاموا بشهادة واحد ثلاثين يوماً فلم ير الهلال، لم يفطروا)

إذا ثبت رمضان برؤية رجل واحد، فيتم ثلاثين يوماً فهل يستقبل الغد على أنه فطر أم يتراءى الهلال فإن روى وإلا كان رمضان (لم يفطروا) لأنه يحتمل أن يكون قد أخطأ وهذا القول فيه نظر. والقول الثاني في مذهب الحنابلة أن ذلك يصح المسألة تبنى على المسألة السابقة، وهي مسألة خروجه بشاهدين، فإنه لا يخرج عندهم إلا شاهدين قالوا:فكذلك هنا فاتنا إن أخرجناه، كان ذلك بناء على شهادته لكن هذا النظر إنما يضعف لكوننا اعتمدنا على هذه الشهادة وبنينا عليها حكماً شرعياً فقويت فلا تكن شهادته هنا كشهادته ابتداءً، فشهادته ابتداءً ليست مساوية للشهادة التي اعتمدنا عليها متضمناً ثلاثين يوماً على ما تقدم من مذهب أبي ثور من قبول خبر الواحد فالأظهر ما ذهب إليه بعض الحنابلة أنه إذا اعتمد على شهادة رجل واحد في رمضان متضمناً ثلاثين يوماً فأننا ننتهي ونخرج من رمضان ويكون الغد هو أول يوم من شوال اعتماداً على رؤيته السابقة على أن الأصل في الشهر أن يكون تسعاً وعشرين، فقد قال صلى الله عليه وسلم: (الشهر تسع وعشرون) متفق عليه، لأن هذه الشهادة قد قويت باعتمادنا عليها وبنائنا الحكم عليها فكانت أقوى من الشهادة الاثنين أنه فيما لو شهد ليلة الثلاثين أنه رأى الهلال وجوب، فإن هذه الشهادة الظنية أقوى، على ما تقدم من مذهب أبي ثور من قبول خبر الواحد وهنا على أقل تقدير هو خبر واحد – فالقول الثاني هو الراجح. قال: (أو صاموا لأجل غيم لم يفطروا)

هذا يبنى على القول المتقدم في المذهب:وهو أنه إذا كانت ليلة الثلاثين من شعبان فيها غيم فإنهم يصومون ذلك اليوم احتياطاً فإذا كان ذلك، ويتم لهم ثلاثون يوماً في هذا اليوم الذي ابتدؤا به للاحتياط فإنهم لا يفطرون في يوم الثلاثين من رمضان، فإنه يحتمل أن يكون الغد من رمضان، وهذا ظاهر، فإنهم إنما دخلوا فيه احتياطاً وإلا فيحتمل أن يكون آخر شعبان وحينئذ – يكون رمضان ثلاثون يوماً من دون هذا اليوم، وهذا إنما دخلوا فيه احتياطاً على أن القول الراجح هو عدم جواز صوم ذلك اليوم – أي الثلاثين من شعبان. قال: (ومن رأى وحده هلال رمضان ورد قوله …. صام) كأن يخبر رجل القاضي أنه رأى الهلال وهو صادق في قوله لكن رد قوله لمعنى أما أنه لم يثبت شهادته وكان في بلدة يشترط فيها شاهدان وقد رأى الهلال فيجب عليه أن يصوم اعتماداً على رؤيته، فإن رمضان ثابت بالرؤية. وذهب شيخ الإسلام وهو رواية عن الإمام أحمد:إلى أنه لا يصوم وذلك للحديث المتقدم: (الصوم يوم تصومون، والفطر يوم تفطرون والأضحى يوم تضحون) وقد قال: (صوموا لرؤيته) فهذا الشهر ينبغي أن يجتمع عليه المسلمون لا أن ينفرد بعضهم عن بعض فيه. وهذا القول هو القول الراجح، فذلك لاجتماع الناس على الصوم لكن يستثنى من ذلك ما استثناه شيخ الإسلام وهو ما إذا كان في موضع ليس فيه غيره كأن يكون في بادية، فإذا رأى الهلال فإنه يصوم لأن هذا المعنى المانع من الصيام المتقدم وهو اجتماع الناس ليس بمتوفر فيه فهو منفرد عن عامة الناس، ويحتمل أن يكون قد رأوه فصاموا. قال: (أو رأى هلال شوال صام) . هذه عكس المسألة السابقة كأن يرى رجل هلال شوال ويرد قوله فيجب عليه أن يصوم وهاتان المسألتين – في الأصل – حكمهما واحد لكنهم فرقوا بينها احتياطاً للصوم. وهذا ظاهر لقوله صلى الله عليه وسلم: (الصوم يوم تصومون) .

إذن من رأى الهلال وحده فإنه يوافق الناس صياماً أو قطراً إلا أن يكون في موضع منفرداً فإنه يعتمد على رؤيته لعدم وجود المانع المتقدم. ونعود إلى المسألة الأولى وهي ما ذهب إليه الحنابلة من وجوب الصيام ليوم الثلاثين الذي تكون ليلة فيها غيم وقتر وهو يوم الشك الذي تقدم تحريمه. هنا عند الحنابلة مسائل فيه: المسألة الأولى:هم اعتبروه في الصيام احتياطاً لكن لا يبنى عليه أحكام أخرى. فلو أن هناك أصل لدين مثلاً أو تعليق بطلاق أو انتهاء عدة أو انتهاء إيلاء فلا ترتبط بهذا اليوم فلو أن رجلاً عليه دين مؤجل إلى أول رمضان، أو علق طلاقه بأول رمضان أو لها عدة تنتهي بأول رمضان، فإن هذه الأحكام لا تبنى على هذا اليوم لأنه إنما يصام عندهم من باب الاحتياط فلا يترتب عليه الأحكام المتقدم وهذا وما ذكروه لا يحتاج إليه في القول الراجح لأنا لا يعتبر هذا اليوم من رمضان لا احتياطاً ولا حقيقة. المسألة الثانية:هل يصلي التراويح في تلك الليلة أم لا؟ من أصح الوجهين في مذهب أحمد يشرع صلاة التراويح فيها وذلك احتياطاً لقيام رمضان. واعلم أن الإمام أحمد لم ينص على هذه المسألة – أي وجوب صوم هذا اليوم – بل لا يصح عنه شيء من ذلك بل الصحيح عنه هو عدم إيجاب صيام هذا اليوم وحينئذ فكما قال صاحب الفروع: (فيتوجه عدم نسبته هذا القول إلى الإمام أحمد) . والحمد لله رب العالمين. قال المؤلف رحمه الله تعالى: (يلزم الصوم لكل مسلم)

فلا يصح الصوم من كافر وهو لازم لكل مسلم إجماعاً وأما الكافر فلا يصح منه بالإجماع، وذلك لأن الكافر لا نية له، والأعمال بالنيات والتعبد الذي هو أصل النية لا يصح منه، والأعمال كلها غير مقبولة منه، كما قال تعالى: {وما منعهم أن يقبل منهم نفقاتهم إلا أنهم كفروا بالله} الآية فأن أسلم الكافر في أثناء رمضان، فيجب أن يمسك ويتم الصوم اتفاقاً لأن الشهر ثابت وقد شهده فوجب عليه أن يصوم ولكن هل يجب عليه قضاء هذا اليوم؟ قولان لأهل العلم: المشهور في المذهب أنه يجب عليه القضاء. واستدلوا:بما روى أبو داود قال وأتت أسلم إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: (صمتم يومكم هذا فقالوا:لا، فقال:أتموا بقية يومكم واقضوه) . وذهب الأحناف وهو اختيار شيخ الإسلام لا يجب القضاء واستدلوا:بما ثبت في الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم: (أرسل غداة عاشوراء إلى القرى التي حول المدينة من أصبح صائماً فليتم صومه ومن أصبح مفطراً فليتم بقية يومه) قالوا:فالنبي صلى الله عليه وسلم لم يأمر بالقضاء مع الإمساك وتأخير البيان عن وقت الحاجة لا يجوز. قالوا:والقاعدة الشرعية أن الشرائع لا تجب إلا بعد العلم بها وهي قاعدة مطردة في مسائل الديانة كلها وهذا القول هو الراجح وأما ما استدل به الحنابلة فإسناده ضعيف، وقد ضعفه عبد الحق الأشبيلي وغيره. ومثل ذلك المسألة التي سيأتي ذكرها – وهي مسألة ثبوت البينة نهاراً قال: (مكلف) . المكلف هو البالغ العاقل، فقد قال صلى الله عليه وسلم: (رفع القلم عن ثلاثة وذكر منهم:الصبي حتى يبلغ، والمجنون حتى يفيق) ولكن هل يأمر الولي من تحت ولايته بالصيام إذا بلغ سبع سنين ويضرب إذا بلغ عشر سنين؟ الأظهر:نعم إن كان قادراً على ذلك، فإن الأمر بالصلاة تبنيه على الأمر بعدها من شعائر الإسلام لأن المقصود هو تعويده على العبادة وهذا يثبت في الصلاة وغيرها فيستحب للولي ذلك.

قال: (قادر) ، فالعاجز عن القيام أو المريض مرضاً يرجى برؤه أو لا يرجى برؤه فهؤلاء لا يجب عليهم الصوم، لقوله تعالى: {فمن كان منكم مريضاً أو على سفر فعدة من أيام أخر} ؛ ولأن الشرائع لا تجيب إلا مع القدرة عليها، فلا يكلف الله نفساً إلا وسعها. إذن:يجب الصوم على كل مسلم مكلف قادر. قال: (وإذا قامت البينة في أثناء النهار وجب الإمساك والقضاء على كل من كان في أثنائه أهلاً لوجوبه) . كأن يثبت للناس ضحى أن البارحة قد رؤى الهلال فاليوم من رمضان كأنهم يمسكون لأن الشهر قد ثبت فيجب الإمساك وهذا مما لا نزاع فيه فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (فإذا رأيتموه فصوموا) وقد رأوه شهدوا الشهر فوجب عليهم الإمساك ولكن هل يجب القضاء بذلك اليوم أم لا؟ ومثله الكافر إذا سلم والمجنون إذا أفاق والصبي إذا بلغ فهؤلاء يجب عليهم الإمساك لكن هل يجب لقضاء أم لا؟ هذه المسائل كلها لها حكم واحد، وهو نفس الحكم الذي تقدم البحث فيه في أول الدرس، وأن الراجح عدم وجوب القضاء لأن الشرائع لا تجب إلا بعد العلم بها وثبوت مخاطبة المكلف بها، وهو في اختيار شيخ الإسلام وتلميذه ابن القيم ولذلك فإن يوم عاشوراء كان يوماً مفترضاً صومه قبل رمضان وقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم من أصبح صائماً أن يتم صومه ومن أصبح مفطراً أن يصوم بقية اليوم ولم يأمر النبي صلى الله عليه وسلم بالقضاء، وتأخير البيان عن وقت الحاجة لا يجوز ثم أنه لا فائدة للمكلف من أمره بالإمساك حيث لا يجزئ عنه ثم يؤمر مرة أخرى بالقضاء، والتكاليف لا يجب تكرارها إلا ما دل الشرع عليه، لذا نهى الشارع عن أن يصلي الصلاة مرتين كما في حديث ابن عمر وغيره. قال: (وكذا حائض ونفساء طهرتا ومسافر قدم مفطراً ومريض برئ) .

فالحائض والنفساء إذا طهرتا أثناء نهار رمضان، أو مريض برئ وشفي أثناء النهار وكان مفطراً فيجب على هؤلاء كلهم القضاء إجماعاً، والأدلة دالة على ذلك، فقد ثبت في الصحيحين عن عائشة قالت: (كنا نؤمر بقضاء الصوم ولا نؤمر بقضاء الصلاة) متفق عليه. وقال تعالى: {فمن كان منكم مريضاً أو على سفر فعدة من أيام أخرى} أي فأفطر فعدة من أيام أخر ولكن هل يجب الإمساك عليهم أم لا؟ المذهب أنهم يجب عليهم الإمساك لذا قال: (وكذا …) لأن هذا من رمضان وقد زالت العلة عنهم. وذهب الشافعية إلى أن الإمساك ليس بواجب عليهم. قالوا:لأن الإمساك لا يجزئ عنهم، ولأنه لا دليل يدل على وجوب الإمساك عليهم، فقد أمروا بالقضاء ولم يؤمروا بالإمساك، وقد ثبت منهم الفطر في أول النهار فلا فائدة حينئذ من أمرهم بالإمساك في آخره إلا تكليف المكلف بأمر لا فائدة له منه - وهذا القول هو الراجح وهو اختيار شيخ الإسلام ابن تيميه – لكن استحب الشافعية له الإمساك لرفع التهمة عنه وهذا حسن لكن حيث كان ذلك، فإذا كانت التهمة متوجهة فنعم فيستحب له ألا يطعم أمام الناس أما إذا كان في بيته أو بين من يعلم عذره فإنه لا يتوجه استحباب ذلك لأن الاستحباب حكم شرعي والحكم الشرعي لا بد له من دليل ولا دليل على ذلك، والحكم يدور مع علته وجوداً أو عدماً فإذا كانت التهمة موجودة فيستحب الإمساك وإلا فلا. قال: (ومن أفطر لكبر أو مرض لا يرجى برؤه أطعم لكل يوم مسكيناً)

هذا فيمن عذره لا يزول وهم الشيخ الكبير والمرأة الكبيرة اللذان يشق عليهم الصيام، وكذلك المريض الذي لا يرجى برؤه كبعض الأمراض التي يشق على صاحبها الصوم مع كون هذا المرض في العادة المعروفة عند الأطباء عدم زواله فإن هؤلاء يفطرون ولا قضاء عليهم، لأنهم عاجزون عن الصيام أداءً وقضاء فلا قدرة لهم عليه لا أداءً ولا قضاءً، فحينئذ ينتقلون إلى أن يطعموا كل يوم مسكيناً مداً من حنطة أو أرز، أو نصف صاع من غيره أو خبزاً ولحماً أو غير ذلك من طعام الناس فقد ثبت في البخاري بإسناده إلى عطاء بن أبي رباح أنه سمع ابن عباس يقرأ: {وعلى الذين يطيقونه فدية طعام مسكين} فقال: (ليست بمنسوخة هو الشيخ الكبير والمرأة الكبيرة لا يستطيعان أن يصوما فيطعمان مكان كل يوم مسكيناً) وفي البخاري معلقاً:أن أنس بن مالك (أفطر لكبر عاماً أو عامين يطعم اللحم والخبز) . قال: (وسن لمريض يضره) . فيستحب للمريض الذي يضره الصوم، يستحب له الإفطار. والظاهر أن مراد المؤلف بقوله: (يضره) أي يلحق به الضرر، وحيث كان كذلك فإن هذا فيه نظر بل الظاهر وهو مذهب بعض الحنابلة أنه إذا كان يتضرر بالصوم فيجب عليه الفطر لقوله تعالى: {ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة} وفي الحديث: (لا ضرر ولا ضرار) وقد أتت الشريعة بحفظ النفوس فكان ذلك واجباً عليه والدليل على أن المريض يجوز له الفطر، قوله تعالى: {فمن كان منكم مريضاً أو على سفر فعدة من أيام أخر} والمريض الذي يباح له الفطر هو المريض الذي يشق عليه الصوم أي يلحقه كلف ومشقة، أو يترتب عليه زيادة في مرضه أو تأخر في البرؤ، فهؤلاء يجوز لهم أن يفطروا، وإلا فقد يكون واجباً عليهم كما تقدم حيث الحقه ضرراً في بدنه. وهل يجوز الفطر في الجهاد في سبيل الله عند وجود المشقة في غير السفر؟

المشهور في المذهب أنه لا يجوز لهم ذلك بل يجب عليهم أن يصوموا إلا أن يكون مسافرين فتكون لهم رخصة السفر. واختار شيخ الإسلام وأفتى بذلك في عصره وقد فعله رحمه الله تعالى – جواز الفطر في الجهاد في سبيل الله – وذلك للمشقة وللقياس الظاهر – بل الأولى – على مسألة السفر والمرض ولحفظ الأديان الذي هو أعظم من حفظ الأبدان والأموال على ما في ذلك من حفظ أموال المسلمين ودمائهم، ففيه حفظ أديانهم وأموالهم وأعراضهم وأنفسهم فكان ذلك أولى من غيره بهذه الرخصة – وهذا القول هو الراجح وأنه يجوز لهم الفطر إذا احتاجوا لذلك ليتقووا على العدو، بل قد يكونوا مأمورين به. قال: (والمسافر يقصر) أي يستحب الفطر للمسافر الذي يصح منه القصر وقوله (لمسافر يقصر) يريد أن يبين أنه ليس لكل مسافر بل للمسافر الذي يجوز له القصر، وهو السفر الطويل في المذهب – وقد تقدم البحث في هذا فحيث ثبت السفر فإنه يسن له الفطر – هذا هو المشهور في المذهب – سواء شق ذلك عليهم أم لا. واستدلوا بأدلة منها: ما ثبت في الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم: (كان في سفر فرأى زحاماً ورجلاً قد ظلل عليه فسأل عنه فقيل هو صائم فقال ليس من البر الصيام في السفر) ، وبما ثبت في مسلم عن حمزة بن عمرو الأسلمي أنه قال للنبي صلى الله عليه وسلم: (إني أجد بي قوة على الصيام في السفر فهل علي جناح فقال: (هي رخصة من الله فمن أخذ بها فهو حسن ومن أحب أن يصوم فلا جناح عليه) ، فدل ذلك على أن الفطر هو الأحسن والأفضل فقد وصفه بهذا الوصف ونفى الجناح فحسب عن الصوم فدل على أن الأفضل هو الفطر ولقوله صلى الله عليه وسلم: (إن الله يحب أن تؤتي رخصه كما يحب أن تؤتي عزائمه) كما في مسند أحمد وغيره. وذهب جمهور الفقهاء وهو وجه عند الحنابلة، أن المستحب له هو الصيام ألا أن يشق ذلك عليه واستدلوا:

بما ثبت في الصحيحين عن أبي الدرداء قال: (خرجنا مع النبي صلى الله عليه وسلم في شهر رمضان في حر شديد حتى إن كان أحدنا ليضع يده على رأسه من شدة الحر وما فينا صائم إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم وعبد الله بن رواحه) فهنا قد صام النبي صلى الله عليه وسلم في السفر فدل على أنه هو الأفضل مع ما في ذلك من إبراء الذمة وإيقاع الصوم في وقت الفضيلة وهو رمضان. وذهب طائفة من العلماء من الصحابة والتابعين وهو اختيار ابن المنذر:إلى أن المستحب فيهما أيسرهما فأيسرهما هو أفضلهما. فإن كان صيامه في السفر مشقة عليه فالمستحب له الفطر، وأن لم يكن عليه مشقة فالمستحب له هو الصوم. واستدل:بما ثبت في الصحيحين:عن أنس بن مالك قال: (سافرنا مع النبي صلى الله عليه وسلم ومنا الصائم ومنا المفطر فلم يعب الصائم على المفطر ولم يعب المفطر على الصائم) ونحوه في مسلم أيضاً من حديث أبي سعيد الخدري وفيه: (كانوا يرون أن من وجد قوة فصام فإن ذلك حسن، ومن وجد ضعفاً فأفطر فإن ذلك حسن) فإن هذه الرخصة شرعت دفعاً للمشقة المتوقعة في السفر فحيث لم تكن هناك مشقة فيرجح جانب الصيام لفعل النبي صلى الله عليه وسلم وهذا هو أرجح الأقوال وأن الأرجح منها هو أيسرها. أما قوله صلى الله عليه وسلم: (ليس من البر الصيام في السفر) فهو لوقوع تلك المشقة على ذلك الرجل الذي قد ظلل عليه فليس من البر والحالة هذه، أن يصوم في السفر حيث شق عليه مشقة عظيمة، وبمثل ذلك ليس من البر صومه بل هو عصيان، فقد ثبت في مسلم إن النبي صلى الله عليه وسلم قيل له – وهو في سفر-

أن بعض الناس قد شق عليهم وهم ينتظرون فيما فعلت، عليه الصلاة والسلام فقيل له بعد ذلك: (أن بعض الناس قد صام فقال:أولئك العصاة، أولئك العصاة) فحيث كان فيه مشقة ظاهرة شديدة ومع ذلك صام لا سيما إذا كان ذلك مظنة للضرر فإنه يكون عاصياً وآثماً وليس من البر فعله. إذا كانت المشقة ظاهرة ويخشى الضرر فيجب عليه الفطر لحديث: (أولئك العصاة، أولئك العصاة) وأما إذا لم يكن كذلك فإن وجد قوة فصام فإن ذلك حسن، وإن وجد ضعفاً فأفطر فإن ذلك حسن. قال: (وإن نوى حاضر صوم يوم ثم سافر فله الفطر) رجل نوى وهو مقيم الصوم، ثم أصبح فأراد السفر فهل يجوز له أثناء سفره ذلك الفطر أم لا؟ يجوز له ذلك، خلافاً لمن منعه من أهل العلم. ودليل ذلك:ما ثبت في الصحيحين من حديث جابر قال: (خرجنا مع النبي صلى الله عليه وسلم – أي من المدينة – عام الفتح إلى مكة حتى بلغ فدعا بإناء فيه ماء ثم رفعه إلى الناس ثم شرب) فدل هذا الحديث على أنه يجوز للمسافر أن يفطر في سفره وإن كان قد نوى الصوم في حضره. وهل يجوز له الفطر أثناء الإقامة إذا تجهز للسفر وغلب على ظنه الذهاب أم لا يجوز له ذلك كما أن القصر لا يجوز له إلا بعد خروجه من مدينة ومفارقته لخيام قومه أو عمران بلدته؟

المشهور عند أهل العلم فهو مذهب الجمهور:أنه لا يجوز له أن يفطر حتى يخرج من بلده أو أن نوى السفر وإن تأكد خروجه لقوله تعالى: {فمن كان منكم مريضاً أو على سفر} فحيث كان على سفر فيجوز له الفطر، وأما إذا كان من بلدته لم يغادرها بعد فلا يجوز الفطر. وذهب إسحاق بن راهويه، وهو مذهب الحسن وعطاء من التابعين أنه يجوز له ذلك إذا تأكد عنده السفر. واستدلوا:بما رواه الترمذي وحسنه وذكر أن بعض أهل العلم عليه من حديث محمد بن كعب قال: (أتيتت أنس بن مالك وهو يريد السفر وقد رحلت له راحلته ولبس ثياب سفره فدعا بطعام فأكل فقلت:سنة فقال سنة ثم ركب) فلم يركب إلا بعد أن طعم، وهذا الأثر إسناده حسن ولا مطعن فيه وهذا المذهب قوي فيما يظهر لي، مع أن الاحتياط أن يبقى على صومه حتى يخرج من بلدته. فإن قيل فما الفارق بينه وبين مسألة القصر؟ فالجواب:أن الفطر يستمر ولا فائدة من أمره بالإمساك ونحن نجيز له بعد زمن يسيرأن يفطر مادام أنه قد تأكد عنده إرادة السفر، بخلاف الصلاة فإنها تنتهي في الموضع الذي تقام فيه، فإذا صلاها في موضعه فإنها لا تستمر بعد ذلك. فالأرجح ما ذهب إليه هؤلاء مع أن الأحوط ألا يقع منه ذلك إلا بعد خروجه والله أعلم. والحمد لله رب العالمين. قال المؤلف رحمه الله تعالى: (وإن أفطرت حامل أو مرضع خوفاً على أنفسهما قضتاه فقط، وعلى ولديهما قضتا وأطعمنا لكل يوم مسكيناً)

الحامل والمرضع يجوز لهما الفطر إذا خافتا على نفسيهما أو على ولديهما أو على نفسهما وولديهما جميعاً. ودليل ذلك:ما ثبت في الترمذي وحسنه، ورواه النسائي والحديث حسن كما قال الترمذي – عن رجل بن بني كعب، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن الله وضع عن المسافر شطر الصلاة ووضع عن الحامل والمرضع الصوم) وثبت في سنن أبي داود عن ابن عباس – بإسناد صحيح قال: (رخص للشيخ …. إلى أن قال:والحبلى والمرضع إذا خافتا أفطرنا وأطعمنا عن كل يوم مسكيناً) وقد أطلق الخوف هنا فيشمل الخوف عليها والخوف على الولد. والمذهب إن الخوف إن كان على النفس أو الولد مع النفس فإنها تقضي ولا تطعم قياساً على المريض الذي يرجى برؤه فإنه يقض ولا يطعم. أما إذا كان الخوف على الولد كما يقع هذا في الغالب من المرضع وقد يقع للحامل فإنها تفطر وسبب لإفطارها هو الخوف على ولدها فهو خوف على الغير فإنها حينئذ تجمع بين القضاء والإطعام. أما القضاء فلأنها مادرة عليه فأشبهت المريض الذي يرجى برؤه وقد قال تعالى: {فمن كان منكم مريضاً أو على سفر فعدة من أيام أخر} . وأما الإطعام فللحديث (أثر بن عباس) المتقدم وهو قوله: (أفطرنا وأطعمنا عن كل يوم مسكيناً) – هذا هو مذهب الحنابلة وهو مذهب جمهور العلماء – وذهب إسحاق وهو رواية عن الإمام أحمد وهو مذهب ابن عباس وابن عمر وسعيد بن جبير والقاسم بن محمد وعطاء وعكرمة 0 إلى أن المرضع والحامل إذا أفطرتا فلا يجب عليه إلا الإطعام ولا يجب عليهما القضاء مطلقاً سواء كان الخوف على النفس أو الولد أو عليهما معاً.

واستدلوا:بما ثبت في الحديث المتقدم فإنه قال النبي صلى الله عليه وسلم: (ووضع عن الحامل والمرضع الصوم) فقد وضعه الله عنهما ولا دليل على أيجابه عليهما، فقد وضعه الله لهما كما وضع الركعتين في الرباعية عن المسافر، وحيث أن الله وضعها ولا دليل يدل على إثباتهما وفي الحديث المتقدم فإنه صلى الله عليه وسلم قال: (أفطرنا وأطعمنا عن كل يوم مسكيناً) ولم يذكر قضاء، وتأخير البيان عن وقت الحاجة لا يجوز وقد ثبت في الدارقطني بإسناد صحيح عن ابن عمر وابن عباس رضي الله عنهما قالا: (الحامل والمرضع تفطر ولا تقضي) وصح عن ابن عمر أيضاً ما هو صريح في المسألة، حيث روى معمر في جامعه كما ذكر ذلك ابن عبد البر في الاستذكار والإسناد صحيح عن ابن عمر أنه:قال: (الحامل إذا خشيت على نفسها تفطر وتطعم ولا قضاء عليها) ولم أر أثراً عن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يخالف ما ثبت عن ابن عمر وابن عباس رضي الله عنهما والقاعدة عند الحنابلة في فعل هذه المسألة:أن يقال:هو قول هذين الصحابيين اللذين لم يعلم لهما مخالف فيكون حجة - وهذا القول هو الراجح - فإن النبي صلى الله عليه وسلم أخبر عن الله أنه وضع الصيام عنهما ولا دليل يوجب القضاء عليهما ثم أيضاً:إن مما يتبين في مسألة الصيام أنه لا يجب الجمع بين القضاء ولا طعام بل الله جعل الإطعام نائباً عن القضاء، كما في قوله تعالى: {وعلى الذين يطيقون فدية طعام مسكين} أي على الذين لا يرغبون بالصيام وهم يطيقونه عليهم فدية، وهذا الحكم منسوخ في الأصل لكن هذه الآية بقيت محكمة في الإطعام للشيخ الكبير والمرأة الكبيرة والحبلى والمرضع كما تقدم في أثر ابن عباس رضي الله عنه وهنا فروع على هذه المسألة: 1- الفرع الأول:عند قوله: (وأطعمنا) هذا من باب وإلا فإن الإطعام واجب على من يجب عليه نفقة الجنين أو الولد لأنها إنما أفطرت لمصلحة الجنين، وهذا هو المشهور في مذهب أحمد.

2- الفرع الثاني:قال الحنابلة:هذا الحكم حيث لم نجد الأم ظئراً – أي مستأجرة – تقوم بإرضاع الطفل ويتقبل الطفل الرضاع منها، (ومثل هذا ما هو عندنا في هذا العصر من الحليب الصناعي) فحيث أمكنها ذلك فلا يجوز لها الفطر وفيما قالوا نظر، فإن مصلحة الطفل إنما تكون في رضاعة من ثدي أمه حيث أمكن ذلك، ومراعاة مصلحة الطفل أولى من عدم مراعاتها وقد ثبت الرخصة مطلقاً. 3- الفرع الثالث:أن الظئر – وهي المستأجرة للإرضاع – أنها تلحق بالأم لكن ذلك بشرط أن يكون الطفل محتاجاً إلى إرضاعها، أو أن تكون هي محتاجة إلى الإرضاع لأخذ الأجرة عليها أما أن لم يكن ذلك فلا يجوز لها أن تفطر – وهذا أمر ظاهر. 4- الفرع الرابع:هل يقاس على هذه المسألة ما إذا أراد أن ينقذ غريقاً أو نحوه من هلكة؟ الجواب:نعم، فإنه يفطر أن احتاج لذلك دفعاً للضرر عن الغير وهذا ظاهر ولكن:هل يقاس على هذه المسألة في الفدية؟ والحنابلة يرون أن عليه القضاء، ولكن هل عليه الفدية أم لا؟ وجهان في مذهب أحمد:اختار ابن رجب في قواعده القول بوجوب الفدية وما ذكره ظاهر ذلك لأن القياس وأضح على الحامل والمرضع اللتين يخافان على ولديهما فإنه لم يفطر لمصلحة نفسه بل أفطر لمصلحة غيره فأشبه الحامل والمرضع اللتين تفطران لمصلحة ولديهما. وحينئذ:فالأظهر والله أعلم أنه لا يجب عليه إلا الفدية ولا يجب عليه القضاء كما تقدم في الحامل والمرضع. قال: (ومن نوى الصوم ثم جن أو أغمى عليه جميع النهار ولم يفق جزءاً منه لم يصح صومه لا إن نام جميع النهار، ويلزم المغمي عليه القضاء فقط) هنا ثلاث مسائل:

المسألة الأولى:في حكم النائم في نهار رمضان، أجمع أهل العلم على أن النوم لا أثر له في الصوم، فإنه لو نوى ثم نام النهار كله فإنه لا يؤثر في صومه، وهذا بإجماع أهل العلم كما تقدم؛ لعدم المانع من التكليف، ولثبوت الحس، فإن الإحساس يثبت في النوم، لذا قال هنا (لا إن نام جميع النهار) . المسألة الثانية:في حكم المغمي عليه له حالتان: الحالة الأولى:أن يغمي عليه النهار كله. فقال الحنابلة:لا يصح صومه لأن الصوم يشترط فيه إمساك مع نية، وهذا لا يثبت إليه الإمساك، فلا يقال أنه مدرك الطعام والشراب، وقد قال صلى الله عليه وسلم في الحديث القدسي: (يدع طعامه وشرابه وشهوته من أجلي) متفق عليه، فلا يضاف إليه أنه لم يأكل ولم يشرب وأن كان في الحقيقة ممسكاً من الأكل والشرب، فإنه بمعنى زائل العقل. قالوا:ويجب عليه القضاء، أما ما ذكروه من عدم صحة الصيام فهذا ظاهر لدليلهم المتقدم. أما وجوب القضاء عليه فهذا المشهور في المذهب والراجح هو قول ابن شريح من الشافعية أن القضاء لا يجب على المغمي عليه وقد تقد البحث في هذه المسألة في المغمي عليه عن الصلاة وأنه لا يجب عليه قضاء الصلاة وتقدم الاستدلال عنها. وكذلك يقال هنا:أن الأمر بالقضاء غير ثابت هنا فيحتاج إلى أمر جديد بالقضاء، ومن هنا أمر النبي صلى الله عليه وسلم النائم بالقضاء لأن القاعدة الأصولية وهي قاعدة دلت عليها الأدلة الشرعية تقول:أن القضاء يحتاج إلى أمر وهنا كذلك فإن هذا المغمي عليه ليس يثبت دليل يدل على وجوب القضاء عليه فإنه في حكم المجنون، وإن كان المغمي ليس في حكمه في كون ذلك معيباً أو ليس بمصيب، لكن في حكمه في مسألة زوال العقل فليس هو بحكم النائم بل بحكم المجنون ولا يلحق النائم للفارق بينهما، فإن النائم فيه شيء من الحس بخلاف المغمى عليه، وكذلك فالإغماء غير معتاد بخلاف النوم فإنه معتاد. إذن الصحيح:أنه لا يجب عليه القضاء.

الحالة الثانية أن يفيق جزءاً من النهار كأن يفيق قبل غروب الشمس فهل يصح صومه أم لا أ – قال الحنابلة:يصح صومه لثبوت شيء من الإمساك له فإنه يصدق عليه أنه ترك الطعام والشراب تلك اللحظة التي أما قدمتها. ب – قال الشافعية:لا بد أن يكون هذا أي الإفاقة في أول النهار. ج – قال المالكية:يشترط مع كونه يفيق أول النهار ألا يكون إغماؤه في أكثر النهار وحددوه بالنصف فأقل، فلو أغمى عليه إلى غروب الشمس وقد أفاق أول النهار فإنه يصح منه صومه والذي يظهر لي والله أعلم أنه أن أفاق جزءاً من النهار سواء كان ذلك في أوله أو آخره فإنه لا يجزئ عنه الصوم وذلك لثبوت زوال العقل في الأجزاء الأخرى من النهار، فلا يصدق عليه أنه ممسك فإن الإمساك في الصوم إنما يكون من أوله إلى آخره، فإنما يجب الإمساك بنية من أول النهار إلى آخره وهذا قد تخللت صيامه أوقاتاً زال عقله فلم يصح أن يكون في ذلك الجزء لو كان يسيراً ممسكاً – هذا هو الأظهر – وحينئذ نقول:إن أفاق فإنه يمسك ويجزئ ذلك عنه وإن كان لا يعتد بإمساكه المتقدم لكنه معذور فيه كما لو أفاق المجنون في منتصف النهار مثلاً فإنه يمسك بقية اليوم وأجزأئه صومه. فلو أن رجلاً أفاق أول النهار ثم أغمى عليه قبيل غروب الشمس فإنه على الأقوال المتقدمة يصح صومه وحيث قلنا:أن صيامه لا يصح فإننا نقول:أنه يمسك في ذلك الوقت ولا يأكل ولا يشرب حتى تغرب الشمس ويجزئه ذلك. 3 - المسألة الثالثة:حكم المجنون. فإذا جن النهار كله فإنه كالمغمي عليه ولا شك، وهذا الاختلاف بين أهل العلم فيه وأن صومه لا يصح بزوال العقل وهل يجب عليه القضاء أم لا؟

جمهور أهل العلم أنه لا قضاء عليه وهو القول الراجح، عن دليل ظاهر فإن التكليف مرفوع عنه لحديث: (رفع القلم عن ثلاثة وذكر منهم المجنون حتى يفيق) فإن أفاق جزءاً من النهار، فقال الحنابلة:يصح صومه ودليلهم ما تقدم من أنه صح أنه ممسك وفي هذه الجزء وتقدم الجواب على هذا وأن الواجب هو الإمساك من أول النهار إلى آخره لا الاكتفاء بجزء منه. وذهب الشافعية وهو قول المجد بن تيميه:أنه لا يصح صومه ولو كان الجنون قليلاً، لأن هذا الزمن اليسير الذي جن فيه ثبت زوال عقله فيه، وزوال العقل مانع من الصوم كما لو أن المرأة حاضت في آخر النهار فإنه يفسد صومها، فكذلك إذا جن في أي ساعة من النهار فإنه لا صوم عليه ولا قضاء أما كونه لا صيام له فلأنه وجد فيه مانع من الصوم وهو زوال العقل وأما كونه لا قضاء عليه فلأنه لا تكليف عليه والحالة هذه لكن يمسك إذا أفاق بقية يومه، ولو أكل أو شرب قبل ذلك كما تقدم الكلام عليه. قال المؤلف: (ويلزم المغمي عليه القضاء فقط) فقط على أي لا يجب ذلك على المجنون. قال: (ويجب تعيين النية) يجب على من أراد الصوم أن يعين النية فينوي كون صومه عن رمضان أو عن كفارة أو عن نذر أو نفل أو نحو ذلك. فلو أنه قال:أصوم غداً بنية صوم مطلق ولم ينو كونه من رمضان فإنه لا يجزئ عنه، لقوله صلى الله عليه وسلم: (وإنما لكل امرئ ما نوى) . قال: (من الليل لصوم كل يوم واجب) فيجب أن يكون ذلك من الليل أي جزء منه سواء كان ذلك بعد غروب الشمس أو منتصف الليل أو قبيل الفجر ينوي الصوم غداً وظاهره أنه لو نوى من النهار فإنه لا يجزئ عنه، فلو أن رجلاً في النهار نوى أن يصوم ثم نام إلى أذان الفجر فإنه لا يصح صومه لأنه لم ينو الصوم من الليل بل نواه من النهار والأظهر أنه إذا نوى في النهار ولم ينو القطع بل استصبحت النية ليلاً فلم ينو

الفسخ فإن ذلك لا يؤثر في نيته فإن النية قد ثبتت ولم يقع فسخ لها فتصح ولا يؤثر ذلك في صيامه فيجب تبيت النية من الليل، فمن لم ينو إلا نهاراً فلا يجزئ ذلك عنه كأن يؤذن عليه الفجر ولم ينو بعد فإنه لا صيام له، فالواجب أن تغطي النية النهار كله. ودليل ذلك ما ثبت في أبي داود وغيره والحديث صحيح من حديث حفصة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (من لم يبيت الصيام من الليل فلا صيام له) . قال: (لا نية الفريضة) فعندما ينوي أنه سيصوم غداً من رمضان فإنه يجزئ عنه ذلك وليس لا بد وأن ينوي أن يكون فرضه، فإنه بمجرد أن ينوي نحو ذلك اليوم من رمضان فيتضمن لنيته الفريضة وعندما ينوي أن يصوم في يوم الاثنين فإن هذه النية متضمنة لمعنى التطوع والتنفل. واعلم أنه لا بد من الجزم بالنية أما أن لم يخرج بها تردد، فقال:أني صائم غداً إن شاء الله فإنه لا يجزئ عنه إن كان هذا الاستثناء لنية التردد، أما إذا كان بنية فلا حرج لحديث: (من لم يبيت الصيام من الليل فلا صوم له) " أي من لم يعزم ويجزم والأعمال لا تصح إلا بنية جازمة: (إنما الأعمال بالنيات) . قال: (ويصح النفل نيته من النهار قبل الزوال وبعده) فالنفل لا يشترط فيه تبييت النية من الليل بل يجوز أن تكون النية نهاراً وهو مذهب جمهور العلماء. واستدلوا بما ثبت في مسلم عن عائشة قالت: (دخل علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم فقال:هل عندكم شيء فقلنا:لا فقال:فإني أذن صائم، ثم أتانا يوماً أخر فقلنا:أهدى إلينا حسيس فقال:أرينه فلقد أصبحت صائماً فأكل) رواه مسلم، والشاهد قوله: (فإني أذن صائم) فإنه صلى الله عليه وسلم قد أصبح مفطراً ثم سأل عن الطعام فلم يجده فصام. وقال المالكية وهو مذهب الظاهرية:لا يجوز أن ينوي نهاراً فرضاً كان أو نفلاً.

واستدلوا:بعموم حديث: (من لم يبيت الصيام من الليل فلا صيام له) قالوا:فهو حديث عام يشمل الفرض والنفل. قالوا:وأما حديث عائشة فيحتمل أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم نوى من الليل الصوم ثم أتى أهله وسألهم عن الطعام ونوى أنه أن وجد طعاماً عندهم أفطر وإلا بقى على صومه وما ذكروه يخالف ظاهر الحديث، فإن ظاهره أنه قد نوى الصوم حينئذ فإنه قال: (فإني أذن صائم) بخلاف قوله في الفقرة الثانية: (فإني أصبحت صائماً) ولأن النظر يؤيد ذلك، فإن قاعدة الشريعة الترغيب في التنفل من هو للمسافر أن يصلي على راحلته النفل ولم يشترط للتنفل الصيام في الصلاة وهنا الصوم كذلك فإن الرجل قد ينوي الصيام أثناء النهار وهو أول النهار ممسك لم يطعم ثم ينوي أن يصوم فللرغبة في الصيام جاز له الصوم. فأن قيل:وهل يجوز ذلك في النية في الصلاة النافلة؟ فالجواب:أن الصيام تمتد وفيه بخلاف الصلاة فإنها يقصر وفيها ولا مشقة ولا حاجة إلى أن يقال:أن ينوي أثناء الصلاة بل لا معنى لذلك. فالراجح مذهب جمهور أهل العلم. وهنا فرعان: الفرع الأول:يجوز أن ينويه قبل الزوال أو بعده كما ذكر المؤلف وهذا هو المشهور في المذهب وهو من مفردات المذهب وذهب الجمهور إلى أنه إنما يجوز ذلك قبل الزوال لا بعده واستدل الحنابلة بقولهم:بالمعنى المتقدم، ولأنه حيث جازت النية في جزء من النهار فإنها يجوز في أجزاء أخر فحيث جازت في أوله فإنها تجوز في آخره. وقال الجمهور من الشافعية والأحناف:لا يجوز لأنه ذهب معظم الوقت ومن هنا فإن الصلاة إذا فات ركوعها لم تدرك ركعتها بفوات معظمها فكذلك هنا.

قالوا:ولأن الوارد في الحديث المتقدم إنما كان في الغداء والغداء إنما يكون قبل الزوال والأفعال لا عموم بها. ولا شك في قوة هذا القول، لكن مع ذلك الأظهر ما تقدم فتحاً لهذا الباب وهو باب الترغيب في النافلة، فإن الشارع أجازه للترغيب بالنفل، والإكثار منه وحيث كان ممسكاً من طلوع الفجر إلى بعد زوال الشمس فإنه لا مانع من أن يعمل بإمساكه ويؤخر بقدر صومه وحيث جاز فعله قبل الزوال فإنه يجوز بعده. الفرع الثاني:أن الإمام أحمد نص على أنه إنما يثاب على الوقت على الذي أمسك فيه عن الطعام والشراب بنية الصوم هذا في الأصل وإلا فقد ينال من الثواب بفضل الله وكرمه أكثر من ذلك وذلك لأنه في أول النهار قد أمسك بغير نية التقرب، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إنما الأعمال بالنيات) وهذا عمل لم ينوه فلم يثبت عليه وهو اختيار شيخ الإسلام واستظهره صاحب الفروع. قال: (ولو نوى إن كان غداً من رمضان فهو فرض لم يجزئه) رجل في ليلة الثلاثين من شعبان أمسك عن الطعام والشراب بنية أنه كان غداً من رمضان فهو فرض، وإن لم يكن من رمضان فأنا متنفل، فنيته واقع فيها تردد فلا يجزئ وذلك لوقوع التردد فقد تردد هل هو صوم فرض أو نفل، والواجب في النية الجزم بالفرض أو النفل.

قالوا:أما أن قال:إن كان غداً من رمضان فأنا صائم وإن لم يكن من رمضان فأنا مفطر، قالوا:فإنه يصح حينئذ لأنه علق صومه بأصل لم يثبت لنا زواله، فإنه علق ذلك بثبوت رمضان غداً ولم يثبت زوال هذا الأصل فكان صومه صحيحاً، فهو جازم نية الصوم على نية الفرض واختار شيخ الإسلام في الصورة الأولى الإجزاء أيضاً لأن النية تتبع العلم، فهو لا يعلم أن غداً رمضان والنية تتبع العلم، فعلمه متردد هل غداً من رمضان أو لا فنيته جاز أن يقع فيها التردد لأن هذا هو قدرته فهو لم يعلم إلا ذلك على أن الأصل في هذه المسائل ما تقدم وأنه لا يجوز له الصوم فإذا ثبتت النية أثناء النهار فإنه يمسك ولا حرج عليه ولا قضاء. قال: (ومن نوى الإفطار أفطر) . فمن نوى الإفطار فإنه يفطر وإن لم يأكل وليس المراد بقوله:" أفطر " أنه بمعنى الأكل والشارب، بل مراده أنه كما لو لم ينو الصوم. بمعنى:رجل صائم ثم نوى أن يفطر فإنه يكون بحكم المفطرين لأنه قد قطع النية، والنية شرط أن تغطي العمل كله وقد قطعها، فحينئذ فسد صومه لبطلان نيته وهذا باتفاق العلماء وهي مسألة ظاهرة، لأن الواجب هو النية في اليوم كله، وحيث نوى الفطر فإنه يكون مفطراً. وإنما قلنا:أنه يكون في حكم المفطر، لا في حكم من أكل أو شرب لأن هنا فرقاً بين المسألتين، ويتصور ذلك بأن يقال:رجل ممسك عن الطعام والشراب بنية التقرب إلى الله إلى أذان الظهر ثم نوى الفطر، فإنه أن لم يأكل ولم يشرب يجوز له أن ينوي مرة أخرى التنفل لأنه لم يقع منه أكل ولا شرب فهو ممسك. أما لو قلنا:أنه بمعنى أكل أو شرب فإنه لا يجوز له أن ينوي حينئذ ففرق بين قولنا:أفطر بمعنى أكل أو شرب وقولنا:أفطر بمعنى أصبح لا نية له فهو كما لو لم ينو. فإن تردد في القطع فما الحكم؟ قولان في مذهب أحمد:

أرجحهما أنه لا ينقطع صومه بل يكون في حكم الصائمين لا المفطرين، لأن هذا التردد لم يؤثر في نيته الأصلية فهو مازال ناوياً الصوم أم لا يقطعه فلم تتأثر نيته بذلك. ويصح أن يستدل لذلك بقوله النبي الله عليه وسلم: (أن الله تجاوز لي عن أمتي ما حدثت به أنفسها ما لم تعمل أو تتكلم) . مسألة: المشهور في مذهب الحنابلة أنه يجب أن ينوى صوم كل يوم من رمضان بعينه. وذهب المالكية فصوروا به عن الإمام أحمد إلى أنه يجزئه أن ينوي من أول الشهر بنية صيام رمضان، فيجزئه عن الشهر كله ما لم تفسخ هذه النية. وهذا هو الأظهر لثبوت النية له، فلم يقسمها ولم يقطعها. مسألة: الإطعام للحامل والكبير ونحو ذلك ففيه مسألتان: المسألة الأولى:قدر الإطعام. فقد ورد في البيهقي والدارقطني بإسناد صحيح عن ابن عمر في المرأة الحامل تخاف على ولدها قال: (تفطر وتطعم مكان كل يوم مسكيناً مداً من حنطة) وقال ابن عباس في الدارقطني بإسناد صحيح: (إذا عجز الشيخ الكبير عن الصيام أفطر وأطعم مكان كل يوم مداً مداً) أي من حنطة وثبوت عنه نصف الصاع فما دونه. والحنطة يقوم مقامها الأرز الجيد، أما إذا كان رديئاً فإنه لا يكفي إلا نصف الصاع. ويجزئ أيضاً أن يصنع طعام يكفي مسكيناً أي يشبعه، فقد ثبت في الدارقطني بإسناد صحيح: (أن أنس بن مالك ضعف عن الصوم عاماً فصنع جفنة ثريد ودعا إليها ثلاثين مسكيناً فأتبعهم) . المسألة الثانية:إذا عجز عن الإطعام فهل يتعلق ذلك في ذمته أم لا يسقط عنه؟ قولان لأهل العلم:1- المشهور في المذهب أنه يتعلق في ذمته فإذا قدر فيجب عليه أن يبرأها بالإطعام. 2 – واختار ابن عقيل من الحنابلة وهو الوجه الثاني في المذهب أنه يسقط عنه، وهو الراجح لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يأمر من جامع امرأته في نهار رمضان بالكفارة إذا قدر عليها بل

سقطها عنه وتأخير البيان عن وقت الحاجة لا يجوز، على أن الشارع متشوق إلى عدم تعليق الذمة بخلاف حقوق الآدمي، أما هذه فهي حقوق الله فاسقطها سبحانه. والحمد لله رب العالمين. باب:ما يفسد الصوم ويوجب الكفارة قال المؤلف رحمه -الله تعالى-: (من أكل أو شرب أو اسقط أو احتقن أو اكتحل بما يصل إلى حلقه أو أدخل إلى جوفه شيئاً من أي موضع كان غير إحليله ... ) هنا يذكر المؤلف مفسدات الصوم: المفسد الأول فيها:هو الأكل والشرب وقد أجمع أهل العلم على أن من أكل أو شرب فإن صومه يفسد بذلك، يدل على ذلك قوله تعالى: (وكلوا واشربوا حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر) وبحديث: (يدع طعامه وشرابه وشهوته من أجلي) ويثبت الإفساد بقليل والطعام والشراب، فلو ابتلع شيئاً من أسنانه، أو ابتلع قدر الخردلة من طعام فابتلعها فإنه يفطر بذلك. وهل يفطر بابتلاعه ما ليس بطعام كأن يبتلع حصاه أو خيطاً أو يسف تراباً أو نحوه؟ قال جمهور العلماء:يفطر بذلك واختار شيخ الإسلام أنه لا يفطر بذلك وهو مذهب الحسن ابن صالح. واستدل شيخ الإسلام بأن ذلك لا يصدق عليه أنه أكل، فالأكل إنما يكون للمطعوم الذي يحصل الغذاء به، أما لو ابتلع شيئاً ليس بغذاء كحصاه ونحوها فإنه لا يفطر لأنه قد بلع ما ليس بمطعوم، وهذا القول أظهر، لأن الله إنما حرم الأكل والشرب، وليس هذا من الأكل والشرب. إذن:لا يفطر إلا بابتلاع ما يحصل به الغذاء، أما لو ابتلع ما لا يحصل به الغذاء فإنه لا يفطر بذلك وقد تقدم أن من ابتلع ما بين أسنانه فإنه يفطر أما ما يجري مع الريق مما يكون بين الأسنان ثم يجري طبيعة مع الريق، فقد أجمع أهل العلم على أنه لا تثبت به الفطر، لكن أن يطلب ابتلاعه فإنه يحصل على الفطر لأنه يصدق عليه أنه أكل وإن كان ذلك شيئاً يسيراً إذا ثبت ذلك فاعلم أن ما دلت عليه الأدلة هو أن طريق الأكل أو الشرب وهو الفم والأنف.

أم الفم فهذا أمر ظاهر، وأما الأنف فهو قوله صلى الله عليه وسلم - فيما رواه أبو داود وغيره -: (وبالغ في الاستنشاق إلا أن تكون صائماً) فدل ذلك، خلافاً للظاهر - على أن الأنف منفذ للشراب، وهو ظاهر فيما يقع في هذه الأزمان فيما يقع من إدخال الطعام إلى الأنف للمرضى أما غيرها المنافذ فقد قعد فقهاء الحنابلة قاعدة واسعة في هذا الباب فقالوا:كل ما يصل إلى جوفه أو إلى مجوف في بدنه كالدماغ والحلق – فما يصل إلى المعدة فإنه يثبت به الفطر وعليه:فإذا وضع قطرة في أذنيه أو اسقط في أنفه فإنه يفطر بذلك، والحقنة في الدبر يفطر بها، والدواء الذي يوضع على " وهي الجرح الذي يصل إلى الجوف أو المأمومة " فكل ذلك يفطر ولذا قال المؤلف هنا: (أو اسقط " أي يكون بالأنف " أو احتقن في الدبر أو اكتحل فالعين منفذة للطعام بما يصل إلى حلقه) فإذا اكتحل ولم يصل ذلك إلى الحلق فلا يكون ذلك قد وصل إلى الجوف ومثل ذلك القطرة التي تكون في الأذن فإن المراد ما يصل إلى دماغه لأن التجويف إنما هو في الدماغ لا في الأذنين. (أو أدخل إلى جوفه شيئاً من أي موضع كان غير إحليله)

فلو وضع دواء على جائفة أو مأمومة فوصل ذلك إلى الجوف فإنه يفطر بذلك، غير الأحليل " وهو الذكر " وذلك لأن الذكر لا يصل منه عندهم إلى المعدة شيء وقد نازعهم بعض أهل العلم في بعض أهل هذه المسائل أو كلها – سوى ما تقدم الإجماع عليه – إلا أن الظاهرية قد نازعوا في الأنف، والحديث حجة عليهم كما تقدم ونازعوا في غير الأكل أيضاً، فإنهم قد خصوا الطعام والشراب بما يصل من الفم لا غير. ونازع الشافعية والحنابلة بما يكون في العين من كحل ونحوه فإذا اكتحل فالمشهور عند الشافعية أنه لا يفطر بذلك وقد نازع الإمام مالك الحنابلة فيما يوضع في الأذنين فإنه عنده أن لم يصل إلى الحلق فإنه لا يفطر به وإن وصل إلى الدماغ وأطلق الليث والأوزعي الخلاف في ذلك وقالوا:بل الأذن ليست منفذاً مطلقاً ونازع في الحقنة الظاهرية وشيخ الإسلام، وقالوا أنها ليست مفطرة، لأنها أشبه بشم ما يكون سهلاً والظاهر أن الحقنة كانت توضع عندهم للإسهال، أما إذا كان ذلك للطعام والشراب فهي مفطرة ونازع الإمام مالك الحنابلة فيما يوضع على الجائفة أو المأمومة فقال لا يفطر. أما شيخ الإسلام فهو مذهب الظاهرية سوى ما تقدم من استثناء الأنف، فرأى شيخ الإسلام:أنه لا يقع الفطر إلا بوصول شيء إلى المعدة على سبيل التغذية، أو يصل إلى الدم بحيث يكون مغذياً للبدن. فإذا وصل الدواء إلى الجوف عن طريق الجائفة أو المأمومة فإنه لا يفطر لأنه ليس من سببها فالغذاء، والكحل ليس من باب الغذاء وما يوضع في الأذن ليس من باب الغذاء فقاعدة شيخ الإسلام:أن ما وصل إلى جوف الآدمي على سبيل الغذاء فإنه يحصل به الفطر – وما ذكره هو الظاهر فإن الله إنما نهى عن الأكل والشرب وهما اللذان يحصل بهما الغذاء للآدمي، ويقاس عليهما كل ما يحصل به الغذاء، ومن

ذلك ما يقع في هذه الأزمنة من الإبر المغذية أو المحاليل المغذية التي توضع في الوريد أو غيره فإنه تحصل بها الغذاء وعليه فإن الإبر التي ليست مغذية بل للدواء ولا يحصل بها غذاء بقول الطبيب الثقة فإنها لا تفطر. فعليه:إذا وصل الغذاء إلى البدن من منفذ الأنف أو الفم أو جرح شيء من البدن فأدخل الغذاء من خلاله فإن ذلك يفطر أما مجرد دخول شيء من الأدوية أو شيء مما يوضع في الأذن أو العين وليس ذلك على سبيل التغذية فإنه لا دليل تدل على الفطر به. ومسألة – أي مسألة مفسدات الصوم – مسألة كبيرة واجب بيانها من الشرع ولم يثبت في الكتاب والسنة ما تبين أن ما ذكره هؤلاء الفقهاء وغيرهم أنه من المفطرات ولا شك أنها من المسائل التي يحتاج إلى بيانها فإنها متعلقة بفريضة من فرائض الله تعالى. ثم أن الله قد خاطب العرب بالآية المتقدمة فحينئذ لا يكون مفطراً إلا ما هو أكل أو شرب في عرفهم وليس أكثر ما ذكر مما تقدم في عرفهم من الأكل والشرب. قال: (أو استقاء) أي طلب خروج القيء فحصل له ذلك فإنه يفطر بذلك أما إذا خرج القيء فيه من غير استدعاء ولا بطلب فإنه لا يفطر بذلك بالاتفاق أما أن يطلبه واستدعاه فإنه يفطر عند جماهير العلماء وذهب طائفة من الصحابة وهو مذهب ابن عباس وابن مسعود وعكرمة ووجهه صاحب الفروع وهو رواية عن الإمام مالك اختارها بعض أصحابه إلى إخراج القيء ليس بمفطر مطلقاً سواء تطلبه أم لا. استدل أهل القول الأول بما روى أحمد وأبو داود والترمذي وغيرهم من حديث عيس بن أيوب عن هشام بن حسان عن محمد بن سيرين عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من ذرعه القيء فلا قضاء عليه ومن استقاء فليقض) وهذا الحديث إسناده صحيح في الظاهر، ورجاله رجال الصحيح. واستدل أهل القول الثاني:بالأصل، وأن الأصل أن خروج القيء سواء كان بتطلب أم لم يكن ليس بمفطر وضعفوا هذا الحديث، وقد ضعفه الإمام أحمد والبخاري والترمذي وغيرهم.

قال البخاري: (لا أراه محفوظاً) وكذا قال غيره. ولم يتبين لي ما هو طعن هؤلاء الأئمة في هذا الحديث إلا ما ذكره الترمذي من تفرد عيس بن أيوب وهو ثقة من رجال الصحيحين، لكنه لم يتفرد بهذا الحديث بل تابعه حفص بن غياث كما في سنن ابن ماجة وهو من رجال الصحيحين أيضاً، ثم أنه لو تفرد به لقيل وقال عيس بن أيوب: (زعم أهل البصرة أن هشاماً قد أوهم وهذا هو الطعن الثاني، وهذا المطعن مجرد دعوى فإن الأصل هو عدم وهمه، ولم يتبين لنا سند أخر يثبت به الوقف أو نحو ذلك في هذا الحديث المرفوع وقد صححه طائفة من المتقدمين، والمشهور عند المتأخرين هو تصحيح وإن كان ما تقدم من أقوال الأئمة الكبار يجعل في النفس شيئاً من هذا الحكم المبني على هذا الحديث المتكلم فيه لكن لم يتبين للطعن فالأظهر البقاء على تصحيحه لا سيما وأن العمل عليه أهل العلم كما قال الترمذي رحمه الله، فإنه لما ذكر ما تقدم من تفرد عيس بن أيوب قال: (والعمل عليه عند أهل العلم) وهذا القول هو الأظهر فمن استقاء فليقض كما هو مذهب جماهير العلماء وهل للقي مدد محدد؟ المشهور في المذهب:أن خروج القيء بالتطلب مطلقاً يفطر سواء كان قليلاً أو كثيراً، وسوء خرج طعامه الذي في معدته أو شيئاً من الدم أو البلغم أو أو نحو ذلك فأي شيء يخرج من جوفه بسبب تطلبه لإخراج القيء يفطر بذلك. وعن الإمام أحمد وهو قول ابن عقيل من الحنابلة أنه لا يفطر إلا ملء الفم. والقول الأول أظهر لظاهر الحديث، فإن ظاهره أنه متى ما خرج ما يصح أن يكون ميئاً فإنه يفطر بذلك ولعل العلة من ذلك والله أعلم – خلافاً لما أنكر شيخ الإسلام هذا التعليل – وقد نص على هذا التعليل ابن عبد البر وغيره الأظهر أن خروج الطعام من المعدة إلى الحلق مظنة رجوع شيء منه إليه، وهذا فيه معنى الأكل والشرب والله أعلم. قال: (أو استمنى أو باشر فأمنى أو أمذى)

إذا استمنى أو باشر أو قبل أو لمس فأمنى أو أمذى فإنه يفطر بذلك والمراد بالمباشرة هي ما دون الجماع أما لو باشر أو قبل أو استمنى ثم لم يحصل منه مني ولا مذي فإنه لا يفطر بذلك وهذا بالاتفاق ودليل ذلك ما ثبت في الصحيحين عن عائشة قالت: (كان النبي صلى الله عليه وسلم يقبل وهو صائم ويباشر وهو صائم ولكنه كان أمللكم لأرَبه) أي حاجته، وتصح " الإرْبه " أي عضوه أما أن حصل مع الاستمناء أو المباشرة أو القبلة أو اللمس حصل مني فإنه يفطر عند جمهور العلماء حتى قال الموفق " خلاف بعلمه " وذلك لأن خروج المني تتم به الشهوة، وقد قال الله تعالى فيما يرويه عنه النبي صلى الله عليه وسلم: (يدع طعامه وشرابه وشهوته من أجلي) فالشهوة قد امتنع عنها الصائم فهي مما يمسك عنه وحيث خرج المني باستدعاء فإن الشهوة قد وقعت تامة له فكان ذلك من مفسدات صومه خلافاً للظاهرية القائلين:بأنه لا يفطر إلا بالجماع فلو أمنى باستمناء أو مباشرة فلا يفطر بذلك. والراجح ما تقدم وهو مذهب عامة العلماء أما كون المني مفطراً بخروجه بسبب القبلة واللمس فهذا هو مذهب جمهور العلماء كما تقدم.

أما قولهم أن خروج المني بالاستمناء والمباشرة يفطر الصائم فإن هذا ظاهر لأن الاستمناء والمباشرة سبب ظاهر لخروج المني بخلاف القبلة واللمس فإن الأصل عدم خروج المني بهما إلا على هيئة نادرة، فوقوع الصائم بإخراج الشهوة بسببهما ليس طبيعاً بل هو واقع على سبيل الندرة فمتى حصل ذلك فلا ينبغي القول بالفطر، لأن القبلة واللمس ليسا سبباً ظاهر في خروج المني، فهو لم يكن مقتصداً لخروجه بل قد خرج بغير قصد فيه، وقال إلى هذا القول صاحب الفروع وهو القول الظاهر وذلك لأن الشهوة وأن كانت قد وقعت عليه لم يكن ذلك بقصد منه، فإنهما ليسا سبباً لخروج المني في العادة أما لو علم من نفسه خروج المني بسبب القبلة أو اللمس ثم فعل ذلك، فإن موافقة الجمهور تكون ظاهراً فعلى ذلك يفطر لأنه قد أخرج شهوته بسبب قد تقصده. قال: (أو أمذى) كان يباشر أو يستمنى أو يقبل أو يلمس فيمذى فإنه بفطر هذا مذهب أحمد ومذهب مالك وذهب الشافعية والأحناف إلى أنه لا يفطر بذلك أما دليل أهل القول الأول فهو القياس على المني، فقاسوا خروج المذي على خروج المني وأما أهل القول الثاني فقالوا:هذا قياس مع الفارق، مفرق بين المذي والمني، فليس المذي كالمني، وما المذي إلا جزء من الشهوة بل هو دليل على الشهوة وتقدم لها وليس هو الشهوة نفسها وهو اختيار شيخ الإسلام. واستدلوا:بالأصل، فإن الأصل ألا يكون ذلك مفطراً ولا دليل يدل على الفطر به – وهذا القول هو الراجح. إذن:من باشر أو استمنى أو قبل أو لمس فأمذى فإنه لا يفطر بذلك لأن الأصل بقاء الصوم وصحته لا أبطاله ولا دليل على أبطاله:وقد استظهر هذا القول صاحب الفروع وصوبه في الإنصاف. قال: (أو كرر النظر فأنزل) أي أنزل منياً.

رجل كرر النظر إلى امرأة فأنزل منياً فإنه يفطر بذلك قياساً على القبلة واللمس ونحوها. وذهب الشافعية والأحناف إلى أنه لا يفطر بذلك:إبقاء على الأصل، فالأصل صحة الصوم وبقاؤه ولا دليل على الإفطار. قالوا:وقياساً على الفكر، فإنه لو فكر فأنزل فإنه بالاتفاق لا يفطر، والقياس أقرب من القياس المتقدم على أن تكرر النظر في الحقيقة – ليس سبباً ظاهراً في الإنزال كما تقدم بيانه فإن تكرار النظر لا يقع به في الأصل الإنزال فلو وقع الإنزال حينئذ فإنه لا يقع باختيار من المكلف أما لو علم من نفسه أنه بتكرار النظر يثبت فيه الإنزال فحينئذ نقول به لأنه أشبه الاستمناء فقد طلب خروج المني بهذا الفعل وعلم من نفسه خروجه وهذا نادر ولم يذكر المذي:فالمشهور عند الحنابلة في هذه المسألة أنه لو كرر النظر فأمذى فإنه لا يفطر بذلك، وذلك لمشقة التحرز من ذلك، وللفارق بين المني والمذي وهذا فيه تناقض. قال: (أو حجم أو احتجم وظهر دم) . إذا حجم أو احتجم فظهر الدم فإنه يفطر بذلك، فالحاجم والمحجوم يفطران. ودليل ذلك:ما رواه الخمسة إلا الترمذي من حديث شداد بن أوس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أفطر الحاجم والمحجوم) والحديث إسناده صحيح. ويرى شيخ الإسلام هذا القول، ويرى أن الحاجم إنما يفطر حيث كان بمعنى أداة الحجامة بقية فتكون ذلك مظنة لدخول شيء من الدم – ولو كان دلك من نجاره – إلى حلقه فيفطر بذلك، وحينئذ فرأى شيخ الإسلام أنه لو لم تكن ذلك بمعنى أداة الحجامة فإنه لا يفطر. خلافاً الحنابلة في المشهور عندهم من أنه يفطر، وأن ذلك تعبدي والأظهر ما ذهب إليه شيخ الإسلام لأن الأصل في الأحكام أن تكون أحكاماً تعليلية لا تعبديه. وهل يلحق بذلك الفصد أم لا؟ قولان في مذهب الإمام أحمد. اختار شيخ الإسلام أنه ثبت الفطر بالقصد وذلك لثبوت خروج الدم به، فالمعنى ثابت في الفصد كما هو ثابت في الحجامة.

وحينئذ يلحق أي طريقة في إخراج الدم كما يقع ذلك في التحاليل الطبية التي يقع بها إخراج الدم فإنها تكون مفطرة هذا مذهب الحنابلة – أي كون الحجامة مفطرة – وهو مذهب أكثر أهل الحديث – كما قال ذلك شيخ الإسلام، وهو اختياره واختيار تلميذه ابن القيم. وذهب جمهور العلماء إلى أن الحجامة لا تفطر. واستدلوا:بما ثبت في البخاري من حديث ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم: (احتجم وهو صائم واحتجم وهو محرم) . قالوا:ويوافقه أنه مذهب رواية، فقد ثبت في مصنف ابن أبي شيبة بإسناد صحيح أنه قال: (الفطر فيما يدخل لا فيما يخرج) .

قالوا:والجواب عما استدل به الحنابلة أن الحديث الذي استدلوا به منسوخ بحديثنا، ودليل النسخ الآثار الواردة في هذا الباب فمن ذلك:ما ثبت في سنن الدارقطني بإسناد قوي عن أنس بن مالك قال: (أول ما كرهت الحجامة أن جعفر بن أبي طالب احتجم فمرَّ به النبي صلى الله عليه وسلم فقال:أفطر هذان ثم رخص النبي صلى الله عليه وسلم بعد في الحجامة للصائم) وروى الدارقطني والطبراني في معجمه الأوسط بإسناد صحيح عن أبي سعيد الخدري قال: (رخص النبي صلى الله عليه وسلم في القبلة للصائم وفي الحجامة) ومعلوم أن لفظ الرخصة لا يطلق إلا عزيمة، وقد كانت العزيمة في الفطر بالحجامة ثم رخص بعد بالحجامة. وثبت في أبي داود بإسناد صحيح عن رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم قال: (نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن الحجامة للصائم، وعن المواصلة ولم يحرمهما إبقاء على أصحاب) فكانت العلة هي الإبقاء على الأصحاب لأن إخراج الدم مضعف لليدين ثم بعد ذلك رخص بالحجامة وثبت في البخاري عن أنس أنه قيل له: (أكنتم) ومثل هذا السؤال يكون الجواب عنه عن مذهب الصحابة عامة وإن كان الصحابة مختلفون في هذا، لكن هذا يدل على أن جمهورهم على هذا القول: (أكنتم تكرهون الحجامة للصائم فقال:لا إلا من أجل الضعف) وفي ابن أبي شيبة بإسناد صحيح عن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم: (إنما نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن الحجامة وكرها للضعف) قالوا:وهذه الأحاديث تدل على النسخ. وقابلهم أهل القول الأول بأن حديثنا ناسخ لحديثكم وهو قول النبي صلى الله عليه وسلم.

قالوا:لأن حديثنا ناقل عن الأصل، ما فعله النبي صلى الله عليه وسلم وأنه احتجم وهو صائم فإنه متفق على الأصل، والقاعدة أن الناقل مقدم على المبقي على الأصل وهي قاعدة ترجح في باب النسخ. لكن يجاب عن هذا بأن ما تقدم من الآثار تدل على عكس هذا القول وأن حديث: (أفطر الحاجم والمحجوم) منسوخ لفعل النبي صلى الله عليه وسلم وأجاب الجمهور عن الاستدلال بحديث: (أفطر الحاجم والمحجوم) بأن المراد يؤول أمرهما إلى الفطر فإن ذلك مضعف للمحتجم ومظنة لدخول شيء من الدم إلى الحاجم فيؤول أمرهما إلى الفطر – وهذا ظاهر للجمه بينهما لكن ينكر عليه الآثار والأحاديث المتقدمة فإن ظاهرها أن إفطار الحاجم والمحجوم كان عزيمة على الوجه المتقدم إلا أن يقال إنه كان منهياً عنه وإن لم يكن مفطراً والحاصل:أن مذهب جمهور الفقهاء هو القول الراجح في هذه المسألة. فأن قيل:قد أعل بعض العلماء الحديث الذي رواه البخاري في صحيحيه، فقد أنكر الإمام أحمد – كما أعله شيخ الإسلام وغيره – لفظة (وهو صائم) وأتت (وهو محرم) . فالجواب:أن الإمام أحمد كما فرد ذلك صاحب القيم قد ساق طرفاً ليس فيها طريق البخاري وأنكر هذه اللفظة في هذه الطرق.

أما الطريق الذي خرجه البخاري في صحيحيه فإن الإمام أحمد لم يتعرضى له بإنكار ثم أن السند ظاهره الصحيح وقد قال ابن حجر: (والحديث لا مدفع فيه ولا اختلاف في ثبوته وصحته) فعلى ذلك جماهير العلماء على تصحيح هذا الحديث والحديث من حديث أيوب عن عكرمة عن ابن عباس وقد اختلف فيه على أيوب فرواه وهيب وعبد الوارث موصولاً " أي عكرمة عن ابن عباس ورواه ابن عُلَّبة ومعمر عن أيوب عن عكرمة مرسلاً واختلف على حماد بن زيد بالإرسال الوصل، ومثل هذا لا يؤثر في الحديث بل يكون ثابتاً موصولاً ومرسلاً، فإنه حيث تساوى الواصل والمرسل فإنه لا يقال بترجيح شيء من قوليهما على أن للحديث شواهد تثبت صحته، كيف وقد أخرجه البخاري في صحيحيه الذي تلقته الأمة بالقبول وأحاديث البخاري لا يقال بتعليل شيء منها إلا إذا كانت البينة ظاهرة في ذلك. والحمد لله رب العالمين قال المؤلف رحمه الله تعالى: (عامداً ذاكراً لصومه فسد لا ناسياً أو مكرهاً) . ما تقدم من المفطرات – سوى الجماع فسيأتي البحث فيه – مما تقدم من المفطرات وهي الأكل والشرب والاستقاء والاحتجام هذه المفطرات " في فعلها ناسياً ومكرهاً فإنه لا يفطر، بل لابد أن يفعلها ذاكراً عامداً. عامداً:يقابله مكرهاً، وذاكراً مقابله ناسياً فلابد أن يكون عامداً أي غير مكره، ذاكراً أي غير ناس فإن كان ناسياً أو مكرهاً لم يفطر بذلك.

ودليل ذلك ما ثبت في الصحيحين عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من نسي وهو صائم فأكل أو شرب فليتم صومه فإنما أطعمه الله وسقاه) وفي الحاكم بإسناد صحيح: (من أفطر ناسياً فلا قضاء عليه ولا كفارة) ودليل المكره الحديث الصحيح: (عفي لأمتي عن الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه) فمن أفطر مكرهاً فليتم صومه فإن صومه صحيح، فإنما أطعمه الله وسقاه. ولم يستثن المؤلف رحمه الله الجاهل، لأن الجاهل في مذهب الحنابلة وهو مذهب الجمهور يفطر أن أكل أو شرب أو فعل مضطراً جاهلاً – والمراد الجاهل بالحكم -. واستدلوا:بقوله: (أفطر الحاجم والمحجوم) لما مر على الرجلين وأحدهما يحتجم والأخر محتجم، قالوا فدل على أنه لا يعذر بالجهل وذهب أبو الخطاب من الحنابلة وهو اختيار شيخ الإسلام وهو مذهب إسحاق ومجاهد والحسن وهو مذهب طائفة من السلف والخلف قالوا:هو معذور بالجهل، قياساً للجاهل على الناس، فكما أن الناسي لم يتعمد المفسد للصوم فكذلك الجاهل فإنه لم يتعمده إذا لا تعمد إلا بعلم وإن كان تعمد الفعل. واستدلوا:بما ثبت في الصحيحين أن عدي بن حاتم لما نزلت: {فكلوا واشربوا حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر} قال عمدت إلى عقال أسود وإلى عقال أبيض – فوضعتهما تحت وسادي فجعلت أنظر في الليل فلا يتبين ذلك لي قال:فغدوت إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: (إنما ذلك سواد الليل وبياض النهار) وفي رواية: (إن وسادك إذاً إذا وسع المشرق والمغرب) فالمراد بذلك:بياض المشرق وسواده، وبياض المغرب وسواده أي سواد الليل وبياض النهار، فلم يأمره النبي صلى الله عليه وسلم بالقضاء وتأخير البيان عن وقت الحاجة لا يجوز.

واستدلوا:بحديث أسماء – سيأتي ذكره – من أن الصحابة أفطروا قبل غروب الشمس في يوم غيم فلم يؤمره بالقضاء وكذلك القاعدة الشرعية أن الشارع لا يفرق بين الجاهل والناسي في فعل المحذورات والمفسدات وما ذكروه أصح. وأما حديث: (أفطر الحاجم والمحجوم) فليس صريحاً في أنهما لا يفطران بل المقصود من ذلك أن من فعل ذلك فإنه يفطر على أن هذه قضية عين لا تخالف بها القاعدة الشرعية المتقدمة وهي قاعدة الشربعه في إلحاق الجاهل بالناسي ويحتمل فيها أنه مراد النبي صلى الله عليه وسلم مجرد الأخبار بأن من فعل ذلك فإنه يفطر بدليل تعميميه في الأخبار فيها الأخرى من قوله: (أفطر الحاجم والمحجوم) فالأصح ما ذهب إليه أهل القول الثاني من أن الجاهل لا يفطر بذلك لأنه لم يتعمد المفسد فأشبه الناسي والمكره والحديث المتقدم دليل على ذلك، وهو قوله: (عفي لأمتي عن الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه) والخطأ هو الجهل. قال: (أو طار إلى حلقه ذباب أو غبار)

أو دخان أو غير ذلك فإنه لا يفطر بذلك لأنه ليس بمتعمد لذلك ولا بمختار، والشرط في المفطرات أن تكون على هيئة الاختيار، فإن دخول الغبار لا يكون منه على هيئة القصد وهذا على القول بأن الغبار مفطر، وإلا فقد تقدم اختيار شيخ الإسلام بأن من سفا تراباً ونحوه فإنه لا يفطر بذلك لكن على المذهب من القول بأن الغبار ونحوه يفطر فإنه لا يقال بالفطر به حيث كان عن من غير تقصد ولا اختيار ومثل ذلك الدخان أو البخور فإنه إذا دخل من غير قصد فإنه – على المذهب – لا يفطر، لأنه دخل بغير اختياره أما لو دخل بتقصد منه فإنه يفطر بذلك في المشهور من المذهب وعليه يقاس الدخان المشهور عند الناس فإنه يخرج على المذهب من أنه مفطر من مفطرات الصيام والعمل على ما ذهب إليه الحنابلة فيما يشربه الناس من الدخان مما هو محرم في الشريعة وأما البخور فإن في النفس من ذلك شيئاً، وظاهر اختيار شيخ الإسلام في الفتاوى، ومقتضى السابق، أن شم البخور لا يفطر فإنه ليس بمأكول ولا بمشروب ولا بمعناهما – وهذا هو الأظهر – أما شم الروائح الطيبة من طيب ونحوه – من غير دخان يخرج معه – فإنه لا بأس به باتفاق العلماء. قال: (أو فكر فأنزل) إذا حدث منه تفكير موضع في ذهنه صوراً فوقع من ذلك إنزال فإنه لا يفطر بذلك.

قالوا:لما روى البخاري أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن الله تجاوز لي عن أمتي ما حدثت به أنفسها ما لم تعمل أو تتكلم) فحديث النفس معفو عنه وظاهر كلامهم الإطلاق وفي الإطلاق نظر، فإن الأظهر أنه إذا كان يستحضر الصور بقصد منه وتطلب مع علمه أن ذلك يورثه إنزالاً فالأظهر هو القول بأنه يفطر:وهذا هو اختيار ابن عقيل وأن كان اختياره على هيئة الإطلاق فإن ابن عقيل قال:أن من فكر فأنزل فإنه يفطر واستدل على ذلك بأن الفكر يأتي باستحضاره، وظاهر كلامه إذا لم يأت باستحضار منه بل كان عن غلبة فإنه لا يفطر بذلك وهذا هو الظاهر فإن هذا يشبه ما تقدم من تكرار النظر مع علمه أن ذلك يورثه إنزالاً أما إذا علم من نفسه ذلك واستدعى الفكر فإنه يفطر، لأنه تعاطى سبباً يورث مفسداً من مفسدات الصوم، تعاطاه باختيار منه فأسبه ذلك المباشرة والاستمناء اللذين يورثان إنزالاً. قال: (أو احتلم) فإنه لا يفطر وهذا بإجماع العلماء، والعلة:هي أن هذا الاحتلام لم يكن باختيار منه وينبغي أن يستثنى من ذلك ما لو سبقه فكر، ويعلم أنه إذا وقع منه فكر فبل النوم فإنه يسبب له في الغالب الاحتلام فإنه إذا أوقع ذلك باستحضار عن غلبة فأورثه ذلك احتلاماً وهو يعلم من حاله أن ذلك يحدث منه فإنه يفطر فيما يظهر لي – على ما تقدم في الفكر والنظر ونحو ذلك والله أعلم. قال: (أو أصبح في فيه طعام فلفظه) بمعنى:أصبح وفي فيه طعام – أي قد نزل من أسنانه أو نحو ذلك – فلفظه فإنه لا يفطر لأن هذا الطعام الذي قد وقع في فيه وإن كان منه ما تحلل أثناء نومه ودخل في جوفه فإن ذلك لم يكن باختيار منه ولا تقصد أما إذا أبقاه في فيه بعد استيقاظه من النوم ثم تحلل منه بعد ذلك فإن دخل إلى الخوف فإنه يفطر بذلك لأنه حينئذ يكون مختاراً ومتعمداً للفطر. قال: (أو اغتسل أو تمضمض أو استنثر أو زاد على ثلاث)

" اغتسل " يجوز الاغتسال في نهار رمضان ويستدل لذلك بما ثبت في الصحيحين عن عائشة وأم سلمه قالت: (إن كان النبي صلى الله عليه وسلم ليصبح جنباً من غير احتلام ثم يغتسل وهو صائم) ولو لم يكن الاغتسال جائزاً لما أمره رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى شروعه في الصوم ويدل عليه ما رواه أبو داود وأحمد بإسناد صحيح عن رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم قال: (رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يسكب على رأسه الماء إما من الحر وإما من العطش وهو صائم) وفي البخاري معلقاً: (وبلَّ ابن عمر ثوباً فألقاه عليه وهو صائم) ومثل ذلك المضمضة، فدليلها:ما ثبت من سؤال عمر للنبي صلى الله عليه وسلم عن القبلة للصائم فقال: (أرأيت لو تمضمضت وأنت صائم فقال:لا بأس فقال النبي صلى الله عليه وسلم:فمه) أي فلم يكن هذا السؤال فإن هذا قياس ظاهر، فالقبلة من مقدمات الجماع، والمضمضة مقدمة للشرب فالقياس بينهما ظاهر. وكذلك ما ثبت من مضمضة الصائم في الوضوء سواء كان الوضوء واجباً أو مستحباً، وتأخير البيان عن وقت الحاجة لا يجوز، ولو كانت المضمضة منهياً عنها لما أحدث في الصوم إلا للوضوء الواجب ولسنة النبي صلى الله عليه وسلم، وهذا لا خلاف بين أهل العلم وأما الاستنشاق فيستدل له بما تقدم، مع قوله صلى الله عليه وسلم: (وبالغ في الاستنشاق إلا أن تكون صائماً) وهذا متضمن لجواز أصل الاستنشاق، وإن كانت المبالغة منهياً عنها وهذا لا خلاف فيه بين أهل العلم. ولا بأس أن يدهن، فلو دهن على بطنه أو شعره أو نحو ذلك فلا بأس وأن كان لا يؤمن من تسرب شيء يسير من خلال مسافات اليدين لكن هذا مما عفي عنه، وليس بما تقدم عن الطعام والشراب وهذا مما اتفق عليه العلماء. وقد روى البخاري عن ابن مسعود قال: (إذا كان صوم أحدكم فليصبح دهيناً مترجلاً) .

(أو زاد على الثلاث) في المضمضة والاستنشاق لا يؤثر ذلك في صومه وإن زاد على ثلاث وأما هل هو مشروع أم لا؟ فقد تقدم أن من زاد على الثلاث فقد أساء وظلم. قال: (أو بالغ فدخل الماء حلقه لم يفسد) إذا بالغ في الاستنشاق فدخل الماء إلى حلقه فإنه لا يفطر بذلك هذا هو المشهور في مذهب الحنابلة والصحيح ما ذهب إليه جمهور وهو اختيار المجد ابن تيميه قالوا:يفطر بذلك، ذلك:لأنه بمبالغة بالاستنشاق فعل سبباً لدخول الماء إلى الحلق،، فوقع هذا الدخول بفعل هذا السبب الظاهر فيه فثبت الفطر ثم أنه لا يجوز له فعل ذلك وما ترتب على غير الماء دون فيه فليس بمضمون وتترتب عليه الأحكام الشرعية ثم هو وإن لم يتعمد دخول الماء إلى الحلق لكنه تعمد فعلاً هو سبب ظاهر في دخول الماء إلى الحلق فكما لو استمنى أو باشر فأنزل، فهو وأن لم يقصد بهما نزول المني فإنه يفطر بذلك فكذلك هنا. وذهب المالكية والأحناف:إلى أنه أن استنشق ولم يبالغ فنزل الماء إلى الحلق فإنه يفطر بذلك وهذا ضعيف، فإنه قد فعل أمراً جائزاً ليس سبباً ظاهر لدخول الماء إلى الحلق فدخول الماء لم يكن عن تقصد منه ولا اختيار فلا يفطر به. إذن:إذا استنشق فإنه لا يفطر إلا بأمر. أن يكون قد بالغ في الاستنشاق. أن يصل إلى الحلق شيء من الماء وينزل منه إلى المعدة ومعلوم أنه لا يتيقن وصول ذلك إلى المعدة لكن وصوله إلى الحلق مظنة وصوله إلى المعدة، ولأنه لا يتم الشعور بنزول الماء اليسير إلى المعدة. قال: (ومن أكل شاكاً في طلوع الفجر صح صومه) رجل ظن أن الوقت لا زال ليلاً أو تيقن ذلك فأكل، ثم يثبت تبين أنه كان في نهار – فذلك لا يؤثر في صومه. وذلك لأن الأصل هو بقاء الليل، وليس المقصود من ذلك ألا يفعل الأسباب التي يتوصل بها إلى معرفة الوقت من نظر إلى ساعة أو الجو في الخارج أو نحو ذلك، بل المقصود أنه بقدر استطاعته لم يتبين له خروج الليل وهذا ما ذهب إليه جمهور العلماء.

قال: (لا إن أكل شاكاً في غروب الشمس أو معتقد أنه ليل فبان نهاراً) هذه مسألة بعكس المسألة المتقدمة فهو في النهار، فالنهار هو المتيقن ثم شك هل غربت الشمس أم لا، فأكل أو شرب فإنه يفطر بذلك لأن الأصل هو بقاء النهار فلا يتزحزح عن هذا الأصل إلا بثبوت غروب الشمس لكن أن ظن غروبها ولم يتمكن أن يتيقن غروبها كأن يكون أعمى أو في موضع ليس أمامه إلا الاجتهاد كأن يكون سجيناً ولم يمكنه السؤال، أو أن يكون الجو غيماً فظن أن الشمس غربت فأفطر فإنه لا يؤثر على ذلك شيئاً إذا بان أنها لم تغرب وذلك للعمل بغلبة الظن، فإنه من المتقرر في قواعد الشريعة أن العمل بغلبة الظن صحيح ما لم يمكنه العلم " التيقن "، وهو قد علم بقدرته واستطاعته ولا يكلف الله نفساً إلا وسعها. وقوله: (أو معتقداً أنه ليل فبان نهار) هذا مخالف لما تقدم تقريره من أنه إذا غلب على ظنه غروب الشمس ولم يمكنه العلم فإنه يصح صومه، لكن المذهب أنه يجب على الفقهاء وهو مذهب جمهور العلماء. وهذه مسألة الجاهل في الوقت:فهو جاهل في الوقت ظن أن الشمس قد غربت ولم يمكنه التيقن لوجود غيم فأمطر ثم تبين له بعد ذلك أن الشمس لم تغرب فقد انجلى الغين وطلعت الشمس، فيجب عليه القضاء – وهذا مذهب جمهور العلماء. واختار شيخ الإسلام وهو مذهب إسحاق ومجاهد والحسن كما تقدم:ذهبوا إلى أنه لا يفطر بذلك.

واستدلوا:بحديث أسماء بنت أبي بكر قالت: (أفطرنا يوماً من رمضان في غيم على عهد النبي صلى الله عليه وسلم ثم طلعت الشمس) فسئل هشام " وهو راوي الحديث عن أمه عن أسماء " سئل: (أقضوا فقال " بدُ من قضاء " أي لابد من القضاء) ، وهذا ليس من روايته بل من رأيه، بدليل ما ذكره البخاري في صحيحه قال: (قال معمر:سألت هشام أقضوا أم لا؟ فقال:لا أدري) فدل على أنه ليس عنده رواية ونقل في هذا الباب بل قال ذلك عن اجتهاده وحينئذ فإن هذا الحديث ليس فيه أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى الله عليه وسلم أمرهم بالقضاء، ولو كان ثمت أمر من النبي صلى الله عليه وسلم لكان أولى بالنقل من مجرد فعلهم، فأسماء رضي الله عنها لو كان عندها أن النبي صلى الله عليه وسلم قد أمر بالقضاء، لكان أخبارها بذلك أولى من أن تخبر عن فطرهم في يوم غيم ثم طلعت الشمس فإن هذا خبر يقع في عصرهم وفي غيره، وحيث لم تخبر أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بالقضاء مع أن الهمة متوافرة لنقله فذلك يدل على عدم ثبوته عن النبي صلى الله عليه وسلم ولأنه جاهل في الوقت فأشبه الجاهل في الحكم، فإنه قد فعل المفطر من غير تعمد منه، بل هو قد ظن تمام صومه فأفطر، وقد اتقى الله ما استطاع لكن إذا طلعت الشمس فيجب عليه الإمساك، لثبوت اليوم ولقوله صلى الله عليه وسلم في الناسي إذا أكل قال: (فليتم صومه فإنما أطعمه الله وسقاه) . مسألة:من فعل مفطراً عمداً كالاستيقاء عمداً ونحو ذلك، فهل يمسك بقية يومه أم لا؟ (انظر لزاماً الدرس التالي فإنه – حفظه الله – قد رجح وجوب الإمساك عليه) يجب عليه القضاء كما هو مذهب جمهور العلماء.

الظاهر:أنه لا يجب عليه الإمساك لأن القاعدة عدم الجمع بين القضاء والإمساك ففيه نوع عذاب، فلا يظهر أنه يؤمر بالإمساك بل قد يكون إمساكه وهو فعل هذا المفطر متعمداً يكون مخففاً للمعصية في نفسه، وحيث لم يؤمر بالإمساك فإن ذلك أعظم في نفسه وأردع من أن يتعاطى شيئاً من المفطرات، لكن مع ذلك لا يجوز له أن يأكل علانية لئلا يتهم في دينه. (انظر الدرس الذي بعده فقد رجح خلاف ذلك) . مسألة: رجل يأكل أو شرب ناسياً أو جاهلاً فهل تبين له ذلك أم يترك ويقال:قد أطعمه الله وسقاه؟ وجهان في مذهب الإمام أحمد: الوجه الأول:أنه يترك فإن هذا رزق من الله ساقه إليه فلا يمنع منه. الوجه الثاني:أنه ينكر وهذا أظهر، لوجوب إنكار المنكر، ومعلوم أن من تعاطى محرماً وهو يظنه حلالاً فهو رزق قد ساقه الله إليه لأنه جاهل بالحكم الشرعي ومع ذلك لا شك أنه تبين له أنه حرام فهذا واجبنا من الإنكار على أنه لا يقطع أن يكون ناسياً فقد يكون فعله متعمداً ولا شك من وجوب الإنكار على المتعمد. فأصح الوجهين في مذهب الإمام أحمد وهو وجوب الإنكار عليه. والحمد لله رب العالمين. فصل قال المؤلف رحمه الله تعالى: (ومن جامع في نهار رمضان ….. فعليه القضاء والكفارة)

لقوله تعالى: {فالآن باشروهن وابتغوا ما كتب الله لكم} فهذا يدل أن الجماع نهار رمضان مفسد للصوم، وهذا بإجماع العلماء سواء كان الجماع فيه إنزال أو لم يكن إنزال، وقد قال الله تعالى:في الحديث القدسي: (يدع طعامه وشرابه وشهوته من أجلي) شهوته أي الجماع ولما ثبت في الصحيحين عن أبي هريرة قال: (جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال:يا رسول الله هلكت وفي رواية: (احترقت) فقال:وما أهلكك فقال:وقعت على امرأتي في رمضان فقال النبي صلى الله عليه وسلم:هل تجد ما تعتق رقبة فقال:لا قال:فهل تستطيع أن تصوم شهرين متتابعين فقال:لا فقال:وهل تجد ما تطعم ستين مسكيناً قال:لا، ثم جلس الرجل ثم أتى النبي صلى الله عليه وسلم بعرق من تمر فقال:تصدق بهذا فقال:وعلى أفقر منا يا رسول الله، فو الله ما بين أهل بيت أفقر من أهل بيتي، فضحك النبي صلى الله عليه وسلم حتى بدت أنيابه ثم قال:أطعمه أهلك) . قال: (في قبل) أي في قبل لامرأة سواء كانت أجنيه عنه أو زوجة له أما الزوجة فقد تقدم الحديث المتفق عليه وأم الأجنبية فهي أولى لأن ذلك محرم، ولأن هذا الجماع المحرم فيه ما في الجماع المباح من شهوة، فلا فارق بينهما، بل هو أولى تحريم الشارع له. قالوا:ولو كان في بهيمة لأنه وطء مفسد للصوم وقال أبو الخطاب من الحنابلة وهو رواية عن الإمام أحمد أنه يفسد الصوم لكن لا يجب فيه الكفارة – وهذا أظهر، لأنه قياس مع الفارق، فإن هذا جماع قد أباحه الله تعالى، وهو موافق لطبيعة الإنسان مما جعله الله محلاً للحرث والنسل والشهوة، وأما هذا فهو شذوذ وليس بمساو للجماع الذي يكون للآدمية، فمع إفساد للصوم فإنه لا يوجب الكفارة. قال: (أو دبر) إذا جامع الرجل زوجته في دبرها فقد فسد صومه ويجب عليه الكفارة في المشهور من مذهب أحمد ومذهب الشافعي ومالك.

قالوا:لأنه وطء محرم مفسد للصوم فأشبه الجماع من القبل وذهب الأحناف ووجه ذلك صاحب الفروع إلى أنه وأن أفسد الصوم فإنه لا يوجب الكفارة. قالوا:لثبوت الفارق بين الجماع من الدبر والجماع من القبل في أحكام كثيرة فمن ذلك:ثبوت الإحصان فهو في الجماع من الدبر وهو ثابت في الجماع من القبل، ولأن الشهوة لا تتم به وإنما هو على وجه الشذوذ بمخالفة الفطرة – وهذا القول أظهر – فهو مفسد للصوم لكنه لا يوجب الكفارة للفارق بينه وبين الجماع من القبل، فليس بمنصوص عليه، وليس بمعنى المنصوص والأصل هو عدم وجوب الكفارة فلم يثبت بدليل من كتاب الله أو سنة نبيه أو قياس، وهنا لم يثبت في الكتاب والسنة وليس القياس صحيحاً لوجود الفارق بينهما. والله أعلم. قال: (فعليه القضاء) هذا هو المشهور عن الحنابلة وغيرهم من أهل العلم أن من جامع في نهار رمضان فإنه يجب عليه القضاء وقد ورد مصرحاً به في رواية أبي داود في حديث المجامع امرأته في نهار رمضان وفيه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (صم يوماً مكانه) والحديث قد صححه الحافظ ابن حجر – وسيأتي البحث في هذه المسألة – عند الكلام على القضاء فيمن فعل مفطراً عمداً بلا عذر وقد ذهب جماهير العلماء إلى وجوب القضاء عليه، وقد ورد هنا هذا الحديث الذي له طرق كثيرة يشد بعضها بعضاً، وقد صححه الحافظ. قال: (والكفارة) ودليل وجوبها الحديث المتفق عليه المتقدم، فقد أوجب صلى الله عليه وسلم على المجامع في نهار رمضان الكفارة وهي عتق رقبه فإن لم يجد فصيام شهرين متتابعين فإن لم يستطع فإطعام ستين مسكيناً. قال: (وإن جامع دون الفرج فأنزل) إذا باشر الرجل امرأته وأنزل، فلا يجب عليه الكفارة، كما أنه قد فعل مفسداً من مفسدات الصوم فمع فعل هذه المفسد ويجب عليه القضاء في مذهب الجمهور فإن الكفارة لا تجب عليه.

قالوا:لأن الوارد إنما هو فيمن جامع امرأته من فرجها ولا نص من كتاب ولا سنة ولا قياس يدل على أن المباشرة لامرأته المنزل يجب عليه الكفارة، فإن هناك فارقاً بين الجماع وبين المباشرة وأن كان فيها إنزال فإن الجماع أبلغ فيها وأتم في الشهوة، ولذلك وجبت الكفارة بمجرد الجماع وأن لم ينزل بخلاف المباشرة فإنها بالاتفاق لا تجب الكفارة مع عدم الإنزال بل لا يفطر الصائم كما تقدم، وحيث ثبت الفارق فلا يصح القياس وهذا هو مذهب جمهور العلماء، وهو أن المباشر إذا أنزل فإنه يفسد صومه ولا تجب عليه الكفارة لأن الشارع لم ينص على ذلك ولأن ذلك ليس بمعنى المنصوص والأصل هو عدم الكفارة إلا بدليل أو بتعليل صحيح. قال: (أو كانت المرأة معذورة) بأن كانت ناسية أو جاهلة أو مكرهة فلا يجب عليها الكفارة لأن الشارع قد عذر بالنسيان والإكراه وظاهره أن الرجل يجب عليه وأن كان معذوراً، فلو أن رجلاً جامع امرأته في نهار رمضان ناسياً ومكرهاً أو جاهلاً فإن الكفارة تثبت عليه – وهذا هو المشهور في مذهب الحنابلة – ففرقوا بين الآكل والشارب، وبين المجامع أن المجامع في نهار رمضان يثبت عليه الكفارة ويبطل صومه وإن كان ناسياً أو مكرهاً. وأما الآكل أو الشارب فإذا كان ناسياً أو مكرهاً فلا يجب عليه قضاء ولا كفارة، وأما الجهل فقد تقدم البحث فيه وإن الحنابلة لا يرون العذر بالجهل بالآكل والشرب، فأولى من ذلك ألا يرونه في الجماع.

واستدلوا بحديث المجامع المتقدم فيه أن النبي صلى الله عليه وسلم أمره بالكفارة، وأمره بالقضاء في رواية أبي داود المتقدمة ولم يستفصل النبي صلى الله عليه وسلم أهو ناسي أم ذاكر أهو مكره أم لا، أهو جاهل أم عالم وترك الاستفصال في مقام الاحتمال لترك منزلة العموم في المقال – وهذا ضعيف – ولذا ذهب جمهور العلماء إلى العذر بالنسيان والإكراه في هذا الباب وأما الجهل فكما تقدم ترجيح المسألة لشيخ الإسلام وهن كذلك ولذا يرى شيخ الإسلام يرى العذر في هذه المسألة بالجهل والنسيان والإكراه. قالوا:لأن قصة الرجل المتقدمة – قوله: (هلكت) ونحو ذلك يدل على أنه لم يقع ذلك منه على سبيل النسيان أو إكراه أو جهل وإنما وقع ذلك على سبيل العلم والاختيار وإلا لما قال ذلك. قالوا:ولأن الأصل هو عدم النسيان وعدم الإكراه وعدم الجهل فالأصل في الفاعل للشيء أن يكون قد فعله عن علو واختيار وذكر فالحكم قد أنزل على الأصل، ويؤيد هذا ما تقدم من سياق الحديث وأن ظاهر ذلك أنه فعله مختاراً ذاكراً وما ذكروه هو الأرجح، ودليلهم بعد أن أجابوا عن دليل الحنابلة دليلهم القياس، قياس المجامع على الآكل والشارب مع عدم تعمد واختيار والمفسد وما ذهب إليه جمهور العلماء واختيار شيخ الإسلام أصح في هذه المسألة وقوله: (أو كانت المرأة معذورة) ظاهره أنها أن لم تكن معذورة بأن كانت مختارة لذلك، فإنه يجب عليها الكفارة كما تجب على الزوج – هذا هو ظاهر قول المؤلف وهو المشهور في مذهب أحمد وهو قول جمهور العلماء -. قالوا:لأن الأصل أن ما ثبت في حق الرجل فهو ثابت في حق النساء وكلهم مكلفون بحدود الشريعة من حدود أو كفارات أو أحكام أو غير ذلك، ولأن الكفارات لا يتشارك فيها، فإن الكفارة تتوجه إلى شخص ما من غير أن يكون فيها شيء من التشارك والتداخل. وذهب الشافعي في أحد قوليه وهو رواية عن الإمام أحمد أن الواجب عليها كفارة واحدة.

واستدل:بأن النبي صلى الله عليه وسلم – في حديث المجامع امرأته – لم يأمره أن يأمر زوجته أن تكفر قالوا:فدل ذلك على أنه لا يكون ذلك عليها – وهذا الاستدلال ضعيف النظر فإن السؤال إنما صدر عن السؤال في نفسه فليس من الواجب أن يجاب فمن لم يصدر السؤال عنه، وفي حكم النبي صلى الله عليه وسلم إشارة إلى إثبات ذلك للمرأة لما تقدم من اشتراك النساء مع الرجال في الأحكام الشرعية من حدود ونحو ذلك فإن هذا مقرر معلوم عن الصحابة. والسؤال إنما صدر من الرجل فليس واجباً من البيان أن يذكر حكم المرأة حينئذ – على احتمال أن تكون المرأة معذورة كأن تكون قد طهرت من حيضها فجامعها أو مكرهة ونحو ذلك. قال: (أو جامع من نوى الصوم في سفره أفطر ولا كفارة) رجل مسافر فجامع امرأته في السفر، فإنه يكون بذلك مفطراً ولا كفارة عليه كما لو أكل أو شرب وهذا ظاهر فيما لو فعل ذلك بغير نية الفطر كأن يكون جاهلاً بجواز الفطر في السفر فجامع امرأته لا يظن إلا أنه قد خالف أمر الله عز وجل معتقداً أنه فاعل مفسداً من مفسدات الصوم فهنا لا يتوجه القول بما ذكر المؤلف هنا، بل الأظهر أنه يجب عليه الكفارة – ذلك لأنه لا فرق بين الصوم في السفر والصوم في الحضر إلا بجواز الفطر، وأما أن فرق بينهما بما يترتب على فعل المفطرات فلا، وهذا رواية عن الإمام، وصاحب الفروع أي أنه عليه الكفارة. قال: (وأن جامع في يومين أو كرر في يوم ولم يكفر فكفارة ثانية) . إذا كرر الجماع فله حالتان، ولكل حالة صورتان. الحالة الأولى:أن يكون الجماع في يومين فأكثر بمعنى يجامعها في اليوم ثم يجامعها في اليوم الآخر وهكذا. الحالة الثانية:أن يكون الجماع في يوم واحد. وأما الصورتان فيهما. أ – أن يكون الجماع الثاني بعد الكفارة من الجماع الأول سواء. ب- يوم واحد أو يومين فتكون الصور أربع صور.

أما الصورة الأولى:وهي أن يجامع في يوم واحد يكرر جماعه لامرأته من غير أن يكفر فإن عليه كفارة واحدة لا خلاف بين أهل العلم في ذلك – وهذا ظاهر فإن اليوم المفسد يوم واحد، فهو إنما انتهك حرمة هذا اليوم فكان الواحد عليه كفارة واحدة. أما الصورة الثانية:أن يجامع امرأته في يوم ثم يكفر ثم يجامعها في يوم أخر، فهنا أيضاً لا إشكال ولا خلاف بين أهل العلم بأنه يجب عليه في هذا اليوم الثاني كفارة أخرى لأن كل يوم عبادة مستقلة بنفسها وقد سبق لليوم الأول كفارة وكان الواجب لليوم الثاني كفارته. والصورة الثالثة:أن يجامعها في يوم من أيام رمضان ولم يكفر ثم يجامعها في يوم أخر فهل يكتفي بكفارة واحدة؟ جمهور العلماء أنه لا يكفي بكفارة واحدة وهذا الظاهر لأن كل من هذين اليومين عبادة مستقلة قد انتهكت حرمته من هذا المجامع بالجماع فوجب عليه الكفارة. أما الصورة الرابعة:فهي أن يجامع المرأة ثم يكفر في أول النهار ثم يقع فيه جماع في آخر النهار. فهذا اختلف فيه أهل العلم على قولين: المشهور في المذهب أنه يجب عليه كفارة ثانية. قالوا:لأنه يجب عليه الإمساك بعد جماعه الأول وحيث وجب عليه الإمساك فكان فعله هذا محرماً فأشبه الجماع الأول فيجب فيه كفارة أخرى. فهم قد استدلوا بالإمساك على وجوب الكفارة

وقال جمهور العلماء بل لا يجب عليه كفارة أخرى ذلك لأن اليوم المتبقي وإن كان واجباً فيه الإمساك عليه ليس كأول اليوم الذي وقع فيه الجماع الأول فإن بينهما فارقاً والفارق أن الجماع الأول افسد الصوم وأما الجماع الثاني فإنه ليس هو المفسد للصوم لأنه إنما يجب عليه الإمساك مع وجوب القضاء فهذا الصوم ليس كالصوم المتقدم المقر به الذي لا يجب فيه قضاء وما ذهب إليه جمهور العلماء أصح لأن القياس مع الفارق ليس بصحيح فالقياس هنا مع الفارق، فهما مشتركان بالتحريم لكنهما ليس بدرجة واحدة، فالجماع الثاني جماع ليس بمفسد للصوم والأول مفسد له. مسألة: ما ذكره الفقهاء من أن من جامع امرأته يجب عليه الإمساك هذا هو مذهب جمهور العلماء، وذكر الموفق وأنه لا خلاف بين أهل العلم في هذه المسألة إلا ما حكى عن عطاء في مسألة يمكن تخريج هذه المسألة عليها، وذكر أنه قول شاذ لا يخرج عليه لكن ذكر بعض الحنابلة رواية عن الإمام أحمد في هذه المسألة وهذه المسألة هي أن من أفطر في رمضان فيجب عليه الإمساك. قال الموفق بغير خلاف بين أهل العلم إلا ما يثبت إلى عطاء في مسألة يمكن أن تخرج هذه المسألة عليها … وذكر بعض الحنابلة عن الإمام أحمد رواية أن من أفطر بلا عذر فإنه لا يجب عليه الإمساك وما ذكره جمهور العلماء يتوجه فيما يظهر لي، ذلك لأن هذا اليوم واجب عليه أن يمسكه من أوله إلى آخره، وحيث فعل ذلك في أوله فإنه ليس بمعذور في آخره وإن كان الصوم فاسداً ويجب عليه القضاء. إذن:من أفطر فلا عذر فيجب عليه الإمساك بالاتفاق إلا ما حكى عن الإمام أحمد في رواية عنه ذكرها بعض الحنابلة، وأيضاً تخرج هذه المسألة على قول عطاء كما تقدم. إذن:الرجل إذا جامع في أول النهار فكفر فيجب عليه الإمساك بعد ذلك فإن جامع مرة أخرى فلا كفارة عليه - كما تقدم -. قال: (وكذلك من لزمه الإمساك إذا جامع)

رجل يجب عليه أن يمسك فجامع فيجب عليه الكفارة إذا قامت النية نهاراً فيجب الإمساك، ويجب القضاء - في المشهور من المذهب – وتقدم أن القضاء ليس بواجب في الأصح فإذا جامع فيجب عليه الكفارة أما على ما ذكره الحنابلة فهو مخرج على المسألة السابقة وأما على الراجح فإنه لا إشكال في هذا فإنه يوم يعيد به ولا قضاء منه فأشبه اليوم الذي قد ثبت بنية ليلاً لكن ظاهر كلام المؤلف أن الرجل إذا قدم من سفر مفطراً فجامع امرأته فإنه يجب عليه الكفارة وهذا ضعيف وقد نص الإمام أحمد على أن هذا لا يجب عليه الكفارة خلافاً لما ذكره المؤلف هنا على أنه قد تقدم أنه لا يجب عليه الإمساك لأنه قد أفطر في أول النهار معذوراً فلا يجب عليه الإمساك في يومه – وحيث جامع فلا يؤثر ذلك في صومه. فإطلاق المؤلف فيه نظر. أما إذا كان يجب عليه الإمساك حيث أفطر في أول النهار فلا عذر أو يثبت النية نهاراً فهذا لا إشكال فيه كما تقدم وإنما الإشكال حيث كان مفطراً في أول النهار ثم جامع في آخره وقد زال عنه العذر فإن هذا ضعيف لأن الإمساك لا يجب في الأصح، وإن قلنا بوجوبه فإنه مع وجوب القضاء مثلاً يشبه اليوم الذي لا يجب القضاء فيه وهو معتد به. قال: (ومن جامع وهو معافى ثم مرض أو جن أو سافر لم تسقط) رجل جامع امرأته في أول النهار وهو مكلف ثم كان فيه إن زال تكليفه أما بأنه بجنون أو وقع وطرأ له عذر كالسفر فهل يثبت عليه الكفارة؟ قال المؤلف هنا:يجب عليه الكفارة ولم تسقط – وهذا ظاهر بأن الكفارة قد استقرت في ذمته وقد يؤخر شرطها فهو مكلف فرض عليه الصوم محرم عليه الجماع مفسد لصومه فتعلقت الكفارة في ذمته وتعلق به الإثم وأما كونه مسافر بعد ذلك أو يصاب بمرض فإن ذلك قد طرأ وحيث كان طارئاً فإنه لا يؤثر على ما ثبت أصلاً.

فالعبرة إذن:أنه أثناء الفعل، فإن كان مكلفاً مقيماً فإن جامع فعليه الكفارة والآثم فإن طرأ عليه العذر بعد ذلك فلا يؤثر فقد استقرت الكفارة في ذمته. قال: (ولا يجب الكفارة بغير الجماع في صيام رمضان) رجل جامع امرأته في صيام نذر واجب، أو في صيام قضاء لرمضان أو في صوم تطوع فلا يجب الكفارة وذلك لأن النص إنما ورد في الجماع في رمضان، فلا يقاس عليه الجماع للفارق فإن المعنى الثابت في رمضان والحرمة الثابتة فيه ليس كالثابتة في غيره، فكونه يفطر في يوم صامه بعذر ليس ذلك متشبهاً لكونه مفطر في نهار رمضان الذي هو الأصل في الصيام – وهذا مذهب جمهور العلماء لأن انفي إنما ورد بالجماع في نهار رمضان وغيره ليس بمعناه. قال: (وهي عتق رقبه) . عتق رقبه مؤمنة سليمة من العيوب للحديث المتقدم:وهو قوله صلى الله عليه وسلم: (هل ما تعتق رقبه) وقد مثبت في القرآن في باب أخر بعتق رقبه مؤمنة. قال: (فإن لم يجد فصيام شهرين متتابعين) فإن لم يجد مالا يشتري به رقبه فإنه يصوم شهرين متتابعين. قال: (فإن لم يستطع فإطعام ستين مسكيناً) فإن لم يستطع الصيام فإنه يطعم ستين مسكيناً، كل مسكين مداً من حنطة أو نصف صاع من غيره، أو يصنع طعاماً فيطعمه لهم وهذه الواجبات إنما هي على الترتيب على التخيير، فإذا قدر على العتق فلا يجوز له الصيام، وإذا عجز عن العتق وقدر على الصيام فلا يجوز له الإطعام، وذلك لأن النبي صلى الله عليه وسلم قدر فيها على المجامع امرأته – كما تقدم في الحديث المتفق عليه – وهو مذهب جمهور العلماء. قال: (فإن لم يجد سقطت) فإن لم يجد مالاً يعتق به رقبه ولم يجد مالاً يطعم به ستين مسكيناً فإن الكفارة تسقط عنه مع عدم استطاعته لصيام شهرين متتابعين، فإذا عجز عن الكفارة كلها فإنها تسقط عنه ولا تتعلق بذمته إلى ألقى خلافاً للمسألة المتقدمة في الكفارة عن الحامل والمرضع.

قالوا:لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يعلقها في ذمة المجامع فلم يقل له:يجب عليك أن تفعل شيئاً من هذا الثلاث على الترتيب حيث استطعت وحيث لم يبين له النبي صلى الله عليه وسلم ذلك فإنه يدل على عدم الإيجاب لأن تأخير البيان عن وقت الحاجة لا يجوز. وعن الإمام أحمد أنها لا تسقط قياساً على سائر الكفارات كما تقدم في كفارة المرضع والحامل. والصحيح:أن سائر الكفارات تسقط كهذه الكفارة حيث عجز عنها. والحمد لله رب العالمين. ----------- الدروس 160، 161، 162 غير موجودة ----------------- تقدم أنه لا يصح الاعتكاف إلا في المساجد وإن أصح أقوال العلماء في هذه المسألة صحة الاعتكاف في كل مسجد جماعة. واعلم أن كل موضع يثبت أنه من المسجد فيصح الاعتكاف به كسطح المسجد ومنارته ورحبته وغير ذلك مما يتصل بالمسجد مما هو يتبع له والمشهور في المذهب أن المرأة إذا حاضت فيجوز لها أن تعتكف في رحبته وذهب جمهور العلماء إلى أنه لا يجوز لها ذلك بل تخرج من المسجد إلى بيتها، وهذا هو الأصح وذلك لأن رحبة المسجد منه، والحائض لا يجوز لها المكث في المسجد. أما المستحاضة فإنه يجوز لها الاعتكاف كالصلاة. أما الحائض، فإذا حاضت فيجب خروجها من المسجد لقوله صلى الله عليه وسلم: (ويعتزل الحيَّض المسجد) ويدخل في ذلك كل ما يتصل بالمسجد من سطح ورحبة ومنارة وغرف تفتح أبوابها إلى المسجد ونحو ذلك مما هو من المسجد. قال: (ومن ينو زمناً معيناً دخل معتكفه قبل الليلة الأولى وخرج بعد آخره) هذه مسألة في النذر في باب الاعتكاف، من نذر نذراً معيناً فإنه يجب عليه أن يدخل من أوله ويخرج من آخره. فإذا نذر أن يعتكف شهر رمضان فيجب عليه أن يدخل قبيل غروب الشمس من الليلة الأولى من رمضان، ويخرج إذا غربت الشمس من اليوم الأخير من شهر رمضان.

ومن نذر أن يعتكف نهاراً فيجب أن يدخل قبل طلوع الفجر الصادق ويخرج إذا غربت الشمس وذلك لأن الواجب عليه بالنذر أن يوقعه على من نذره، ولا شك أن الليلة تدخل في اليوم، فأول ليلة من رمضان داخلة في الشهر – بخلاف ليلة العيد فليست من شهر رمضان – وهذا باتفاق العلماء. أما إن كان الاعتكاف تطوعاً فهنا روايتان عن الإمام أحمد في أول وقته: الرواية الأولى:أنه يدخل قبل غروب الشمس من ليلة إحدى وعشرين أي يدخل في آخر نهار عشرين. قالوا لأن الاعتكاف إنما هو للعشر الليالي، بدليل أن الروايات عن النبي صلى الله عليه وسلم تقول:اعتكف العشر. القول الثاني:أنه لا يدخل إلا بعد صلاة الفجر، وهو قول إسحاق والليث والأوزاعي وابن المنذر، واستدلوا: بما ثبت في الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم: (كان إذا صلى الصبح دخل معتكفه) من حديث عائشة. قالوا:وإنما كان النبي صلى الله عليه وسلم يعتكف تطوعاً فكان إذا صلى الصبح دخل معتكفه. وظاهر هذه الرواية أن ذلك من صبيحة إحدى وعشرين. لكن قال القاضي من الحنابلة:ويحتمل أن يكون يوم عشرين أي في صبيحة يوم عشرين – وهذا في نظري – أصح. ويدل عليه ما ثبت في الصحيحين عن أبي سعيد الخدري قال: (اعتكفت مع النبي صلى الله عليه وسلم العشر الأوسط من رمضان، وهكذا كان النبي صلى الله عليه وسلم يعتكف أولاً العشر الأوسط يلتمس ليلة القدر حتى تبين له أنها من العشر الأواخر) فخرجنا صبيحة عشرين فخطبنا النبي صلى الله عليه وسلم صبيحة عشرين فقال: (إني أريت ليلة القدر وإني أنسيتها ... …) الحديث وفيه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:من كان اعتكف معي فليعتكف العشر الأواخر، قال أبو سعيد: (فدخل الناس في المسجد)

وظاهر ذلك أن دخولهم كان صبيحة عشرين لما خطبهم النبي صلى الله عليه وسلم وهذا هو الأليق لتدخل ليلة إحدى وعشرين، فإن ليلة إحدى وعشرين التي هي مقصودة في الاعتكاف – لا تدخل في اعتكافه – ولا يصح حينئذٍ أن يكون اعتكف العشر الأواخر لأنه لم يعتكف الليلة الأولى. فعلى ذلك تكون المسألة:يجوز له أن يعتكف قبل غروب الشمس، فيدخل ليلة إحدى وعشرين في اعتكافه، فإن اعتكف بعد صلاة الصبح من يوم عشرين فهو أفضل، وذلك ليتهيأ للاعتكاف لقيام هذه الليلة التي هي من ليالي العشر ويحتمل أن تكون ليلة القدر كما تقدم في حديث أبي سعيد المتفق عليه – هذا هو الراجح – أن المستحب له أن يدخل صبيحة عشرين كما عليه حديث أبي سعيد وذكره القاضي احتمالاً، فإن لم يدخل إلا قبيل غروب الشمس فلا بأس، أما إن لم يدخل إلا صبيحة إحدى وعشرين فإن ليلة إحدى وعشرين لا تدخل في اعتكافه وإن كان اعتكافه صحيحاً لما بعدها من الليالي لكن ليلة إحدى وعشرين لا تكون من اعتكافه. قال: (ولم يخرج المعتكف إلا لما لابد منه) لحاجة الإنسان من بول أو غائط، طعاماً يطعمه في المسجد أو من يحضر له الطعام فيخرج ليطعم في بيته، أو أن يحتاج إلى الخروج من المسجد لمرض أو أن يتعين عليه الشهادة في ذلك اليوم لإنقاذ مسلم من هلكة أو لأداء صلاة الجمعة وكل ذلك مما لان كله منه، أي كل واجب وما لا يمكن له أن يستغني عنه من طعام وشراب وحاجة ونحو ذلك فإنه يخرج – هذا ما لم يكن هناك مبدوحة – وذلك أما إذا كانت هناك مبدوحة كأن يؤتى بالطعام إليه في المسجد، أو يكون في نواحي المسجد ما يقضي فيه حاجته أو أن يكون غيره يشهد لحق هذا المسلم أو من ينقذ الغريق غيره أو من يقوم بأمر الجنائز غيره ونحو ذلك فإنه لا يجوز له الخروج. ودليل ذلك:ما ثبت في الصحيحين من حديث عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم: (كان إذا اعتكف يبدي له رأسه فترجله ولم يكن يدخل البيت إلا لحاجة الإنسان)

وتقدم حديثها الذي تقدم ترجيح وقفه، وفيه: (ولا يخرج إلا لما لابد له منه) مما لابد له منه فيجوز أن يخرج له وهذا بإجماع العلماء السنة تدل على ذلك فقد تقدم أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يخرج لحاجة الإنسان. أما إذا كان الأمر منه بدّ وله مندوحة عنه فإنه إن خرج له بطل اعتكافه، كأن يخرج إلى البيت لطعام وهو يمكن أن يحضر له في المسجد أو خرج لمبيت فإنه يبطل اعتكافه. فإن كان الاعتكاف نذراً فإنه يفسد اعتكافه فيجب عليه القضاء \ن وإن كان تطوعاً فإنه يستأنفه بنيةٍ جديدة ويفوته من الأجر بقدر ما خرجه وقد تقدم أن الاعتكاف يثبت مسماه ولو لساعة من ليل أو بنهار. أما إذا كان الاعتكاف نذراً فخرج لما له بد فإنه يفسد اعتكافه لأن هذا منهي عنه في الاعتكاف مفسد له، بدليل ما تقدم من قول عائشة: (إلا لما لابدّ له منه) ومفهوم المخالفة فيه أنه خرج لما له منه بدّ فإنه يبطل اعتكافه. قال: (ولا يعود مريضاً ولا يشهد جنازة) لقول عائشة في الأثر المتقدم فيما يكون من السنة على المعتكف قالت: (ولا يعود مريضاً) ومثل ذلك شهادة الجنازة ونحو ذلك من الأفعال الصالحة، فهي وإن كانت أفعالاً صالحة لكن فعلها خارج المسجد يبطل الاعتكاف لأن الاعتكاف حقيقته لزوم المسجد وحيث خرج منه بلا ضرورة فإن ذلك يبطل اعتكافه ولو كان هذا الخروج مستحباً، بل ولو كان خروجه أفضل من اعتكافه وكما تقدم، فإن كان الاعتكاف نذراً فيجب عليه القضاء، وإن كان تطوعاً فإنه يستأنف نيته. قال: (إلا أن يشترطه) أي من نذر الاعتكاف أو أراد أن يتطوع به، فنوى المتطوع في قلبه أو تلفظ بالنذر فقال:" لله عليَّ أن أعتكف عشرة أيام بشرط أن أخرج لعيادة المريض أو اتباع الجنائز أو نحو ذلك من الشروط " فهل يجزئ ذلك ويصح الاشتراط؟ قال الحنابلة يصح الاشتراط، وقيل ذلك في الاعتكاف التطوعي فلو اشترط عيادة المريض ونحو ذلك فإنه يصح.

قالوا:مثل ذلك:لو اشترط ما له منه بدّ وليس قربة كأن يشترط مبيتاً في بيته أو يشترط أن يطعم في بيته ثم يعود إلى المسجد فإذا اشترط ما له منه بدّ مما يحتاجه ولا ينافي الاعتكاف كتجارة أو نحو ذلك فإن هذا الاشتراط لا يجوز لأنه ينافي الاعتكاف. وخالف من الحنابلة ابن عقيل والمجد بن تيمية، وهو رواية عن الإمام أحمد في مسألة اشتراط ما له منه بدّ مما ليس قربة، كأن يشترط طعاماً أو مبيتاً في البيت. قالوا:إن اشترط ذلك فإنه لا يصح وأولى منه قالوا:شرط لخروج لتجارة ونحوها، قالوا:لأن ذلك ينافي الاعتكاف فإنه خرج من المعتكف على غير ولغير عيادة أو شهادة لأن العبادة في الأصل لا تنافي الاعتكاف فكلاهما عبادة لله عز وجل. قالوا:بخلاف هذا الأمر الدنيوي الذي له منه بدّ ومع ذلك اشترطه فإن ذلك ينافي الاعتكاف فلا يصح ذلك. وذهب الإمام مالك إلى أن الاشتراط من أصله لا يصح، لأن حقيقة الاعتكاف هي لزوم الشيء ولا اشتراط فيه يقتضي الخروج من هذا الالتزام في هذا الموضع، فحينئذٍ لا يصح الاشتراط مطلقاً والذي يظهر لي في هذه المسألة: أما إن طرأ له طارئ من مرض أو خوف أو نحو ذلك فإنه لا يعتكف كأن ينذر رجل أن يعتكف شهراً في المسجد الحرام إلا أن يعوقني مرض أو يحدث خوف على الناس فإن هذا الاشتراط يصح لقوله

صلى الله عليه وسلم بضُاعة بنت الزبير قال لها: (اشترطي على ربك فإن لك على ربك ما استثنى) أما أن اشترط أمر من الأمور التي تنافي الاعتكاف منافاة ظاهرة كما يكون ذلك في أمور التجارة ونحو ذلك، فإن القول بعدم جواز الاشتراط ظاهر كما تقدم، ولعله اتفاق بين أهل العلم فلم أر فيه بينهم اختلافاً. وأما اشتراط القربة أو ماله منه بد كميت ونحو ذلك فالذي يظهر لي جوازه أيضاً وذلك لأن غاية الأمر في الناذر أن نذره وقع على هذه مثلاً (نذر أن اعتكف لله اليوم تاماً سوى ما بين الظهر والعصر، ومثل هذا ليس بمؤثر، لاسيما على القول بصحة الاعتكاف ولو ساعة فإن نيته أو لفظه في النذر لم يدخل فيه ما بين الظهر والعصر ويصح الاكتفاء بالنذر ما قبل الظهر وتصح أيضاً ما بعد العصر، فغاية الأمر في نذره أنه كأنه يقول:نذرت لله أن اعتكف من هذا اليوم سوى كذا وكذا وهذا ليس بمؤثر فيه ومثل ذلك التطوع بل أولى منه. فالذي يظهر لي والله أعلم صحة الاشتراط مطلقاً كما ذهب إليه الحنابلة إذ لا دليل يمنع من ذلك، والاعتكاف مسماه الساعة ونحوها بنية الاعتكاف، ومثل هذا يثبت فيه هذا المعنى فلا يظهر لي مانع بل لو رأيت خلافاً بين أهل العلم فيما لو اشترط خروجاً لتجارة ونحوها فلا يظهر لي أن هناك فارق، وأنه لا بأس له أن يشترط تجارة أو عملاً أو وظيفة أو نحو ذلك يخرج إليها، وذلك أن هذه الأعمال وأن نافت الاعتكاف منافاة ظاهرة في المسجد لأن المسجد ليس محلاً للتكسب والعمل ومن هنا أجمع العلماء على تحريم التكسب والتجارة للمعتكف في المسجد فإنها ليست منافية بخروجه من المسجد وهو بمجرد خروجه يكون قد انقطع اعتكافه. قال: (وإن وطئ في فرج فسد اعتكافه)

لا يجوز بإجماع العلماء الجماع للمعتكف، فإن فعل فسد اعتكافه قال تعالى: {ولا تباشروهن وأنتم عاكفون في المساجد} وفي أثر عائشة المتقدم: (ولا يمس امرأة ولا يباشرها) ومثل ذلك لو باشرها بإنزال فإنه بمعنى الجماع في إفساد الاعتكاف كما هو في معناه في إفساد الصوم وبه تكون الشهوة تامة ولكن اختلف أهل العلم فيما يفعله المعتكف فيما هو محرم عليه كأن يقبل امرأة أو يباشرها بلا إنزال، فإن هذا يحرم على المعتكف. واستدلوا:بأثر عائشة وفيه: (ولا يمس امرأة ولا يباشرها) وإذا فسر المس بالجماع فإن المباشرة هي ما دونه، وإذا فسرت المباشرة بالجماع فإن المس فيما دونه لأن الأصل في العطف هو التقارب وأن كان كلاهما يطلق على الجماع، كما أنه يطلق على مادون الجماع، فلما جمع بينهماهنا، دل على أن المراد الجماع ومقدماته أي لا يجوز للمعتكف أن يجامع ولا أن يفعل ما هو من مقدماته من جماع أو قبلة أو نحو ذلك. واختلف أهل العلم هل يفسد ذلك الاعتكاف أم لا؟ القول الأول:وهو مذهب الحنابلة والأحناف وأحد القولين في مذهب التناقض أنه لا يفسده. القول الثاني وهو مذهب مالك والقول الآخر للشافعي أنه لا يفسده. أما أهل القول الأول:فقالوا:نحن لم نقل بالإفساد به قياساً على عدم الإفساد به في الصوم، فإنه يباشر ويقبل وهو صائم فكذلك المعتكف. وأما أهل القول الثاني فقالوا:يفسد صيامه لأنه قد فعل أمراً محرماً في الاعتكاف كما لو جامع أو أنزل.

قالوا:وأما قياسهم فهو قياس مع الفارق، والفارق ظاهر، فإن قياس عدم إفساده في الاعتكاف على عدم إفساده في الصوم قياس مع الفارق وهو قياس لما به الله على ما أباحه الله فإنه قد حرم على المعتكف أن يباشر أو يقبل فمادون الإنزال والجماع وأما الصائم فلم يحرم عليه ذلك، وكونه لا يفسد الصوم فلا يعني بذلك أنه لا يفسد الاعتكاف، فإنه مباح للصائم وأما المعتكف محرم عليه ذلك ولم يتبين لي في هذه المسألة شيء، فإن ما ذكره المالكية قوي والرد على ما ذهب إليه الحنابلة وغيرهم قوي أيضاً لكن لم أر دليلاً يدل على أن ذلك مفسد حيث قياسهم على المجامع قياس مع الفارق، فإن كوننا نقيس المباشر والمقبل على المجامع الذي تمت له شهوته، وهذا غاية فعله أنه فعل مقدمات الجماع وما يكون ذريعة إلى الاعتكاف فإن هذا أيضاً قياس مع الفارق، فكلا القولين قد أوقع قياساً مع الفارق فيبقى على الأصل من أن الاعتكاف لا يفسد بذلك، إلا أن يأتي برهان قوي يدل على ذلك وهذا نوع ترحيم في هذه المسألة، وهو أننا نعود إلى الأصل، فالأصل أن الاعتكاف صحيح ولم يأت من أفسده بحجة وأن كان قد أجاب عن حجة لم تفسده سوى الأصل فإن الأصل وإن لم يستدل به هؤلاء فهو دليل قوي لهم، فهذه المسألة الذي يظهر لي البقاء على الأصل فيها وهو صحة الاعتكاف والاعتداء به حتى تبين لنا صحة دليل الإبطال. قال: (ويستحب اشتغاله بالقرب)

فيستحب أن يشتغل بالأعمال الصالحة – باتفاق العلماء – من ذكر ودعاء وقراءة للقرآن وغير ذلك من الأعمال الصالحة التي يتقرب بها إلى الله عز وجل، وهذا هو مقصود الاعتكاف فليس مقصود الاعتكاف أن يحبس الرجل نفسه في موضع وإنما المقصود من ذلك هو حبس النفس في هذا الموضع للإقبال على الله بالعبادة لا سيما قراءة القرآن فهي مستحبة في هذا الشهر، وهي كذلك من أفضل ما يتقرب به العبد، وإن كان اعتكافه في غير شهر رمضان، ويشتغل بذكر ودعاء فإن اشتغل بقراءة علم وحفظه ونحو ذلك فهو حسن أيضاً لكن ينبغي أن يكون له النصيب الوافر والحظ الكبير من الأعمال التي يتقرب بها لله من العبادات اللازمة التي ينتفع بها. قال: (واجتناب ما لا يعنيه) لأنه يشغله عن المقصود، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (من حسن إسلام المرء تركه مالا يعنيه) ولا شك أنه يصد التقرب إلى الله بالعمل الصالح. تقدم أنه مما لابد له منه الخروج لأداء صلاة الجمعة، فإذا حضرت الجمعة وهو في مسجد آخر من المساجد التي لا تقام فيها جمعة، فهل له أن يتعجل إليها أم لا؟ نص الإمام أحمد على أن له أن يتعجل إليها. وقال بعض الحنابلة بل الأولى له أن يتعجل لأن الخروج يكون بقدر الحاجة فحينئذٍ يخرج قبيل أدائها. وهذا الدليل من حيث الأصل له حظ من النظر ظاهر، لكن لما كان الموضع الذي يريد الذهاب إليه موضع في الحكم كالمسجد الذي هو فيه فإنه حينئذٍ لا معنى من كون ذلك خلاف الأولى، فهو إنما يذهب من مسجد إلى مسجد آخر. ومن هنا أجاز الحنابلة وغيرهم له أن ينتقل إليه، فإذا ذهب من مسجده إلى المسجد الجامع فأحب أن يقيم فيه فلا بأس. قالوا:لأن المسجد لا يتعين بتعينه فكذلك هنا ولأن المقصود يحصل منه، بل يحصل فيه ما هو أعظم مما لو رجع واحتاج إلى الخروج مرة أخرى، إلا أن تكون مصلحة في مسجده الأول – فإنه حينئذٍ – يعود إليه. أما إن أتمه في المسجد الجامع فإنه لا بأس بذلك ولا حرج.

مسألة: متى يخرج من الاعتكاف؟ 1- قال الحنابلة:يستحب له أن يمكث ليلة العيد في المعتكف، وهو مذهب الأحناف. لما روى سعيد ابن منصور عن إبراهيم النخعي أنه قال:كانوا يستحبون ذلك. 2 -القول الثاني:وهو مذهب المالكية والشافعية قالوا:بل يكون بانقضاء المدة. والذي يظهر لي أنه يخرج صبيحة ثلاثين، والدليل على ذلك ما تقدم من حديث أبي سعيد عندما اعتكف العشر الأوسط وفيه أنهم خرجوا صبيحة عشرين. وصبيحة عشرين تقابلها ليلة ثلاثين فيمن اعتكف العشر الأواخر. والحمد لله رب العالمين انتهى كتاب الصيام

كتاب المناسك

كتاب المناسك. المناسك: جمع منسَك ويصح: منسِك بكسر السين وهما لغتان مشهورتان. والقراءة المشهورة لقوله تعالى: {ولكل أمة جعلنا منسَكاً} (1) هي بفتح السين، وقرئ بكسرها وهي من نسك وتنسك أي تَعبد، ويقال: ناسك أي عابد، وأطلقت في الغالب في الشرع على متعبدات الحج فيقال لها مناسك كما أن الغالب أن يسمى الحج نسكاً، كما أن الصلاة والزكاة نسكٌ وهكذا سائر العبادات لكن الغالب أن يطلق النسك ويراد به الحج. قال: (الحج والعمرة) الحَج: بفتح الحاء وكسرها، وهما قراءتان سبعيتان في قوله تعالى: {ولله على الناس حَِج البيت} (2) . والحج لغة: القصد، وفي الاصطلاح: قصد مكة لعمل مخصوص في زمن مخصوص. " هكذا يعرفه الفقهاء "، ومعرفة حقيقة الحج تتبين وتتضح بمعرفة أحكامه ومسائله. والعمرة في اللغة: الزيارة. واصطلاحاً: زيارة مكة على وجه مخصوص، وكذلك فالعمرة حقيقتها الشرعية تتضح وتتبين في معرفة مسائلها وأحكامها. قال: (واجبان)

_ (1) سورة الحج 34. (2) سورة آل عمران 97.

أما الحج فهو فرض بالإجماع، قال تعالى: {ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلاً ومن كفر فإن الله غني عن العالمين} وثبت في الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (بني الإسلام على خمس – وذكر فيها – حج البيت لمن استطاع إليه سبيلاً) (1) وقد قال عمر – كما في سنن البيهقي بإسناد صحيح: (من أطاق الحج فلم يحج فسواء مات يهودياً أو نصرانياً) (2) والأثر إليه إسناده صحيح وهذا من باب الترهيب وإلا فإن من ترك الحج على وجه التكاسل فإنه لا يكفر باتفاق العلماء إلا ما روى عن بعض السلف من تكفيرهم له، والصحيح المشهور الذي تدل عليه الأدلة الشرعية أنه لا يكفر إلا تارك الصلاة، وتقدم في حكم تارك الصلاة، وإنما يكفر من جحد وجوبه وأنكره سواء فعله أم لم يفعله وأثر عمر الذي تقدم رواه الترمذي مرفوعاً إلى النبي صلى الله عليه وسلم بلفظ: (من ملك زاداً وراحلة فلم يحج فلا عليه مات يهودياً أو نصرانياً) (3) لكن الحديث لا يصح مرفوعاً وإنما يصح موقوفاً على عمر.

_ (1) أخرجه البخاري [1 / 10] ومسلم [1 / 35] ، والنسائي، والترمذي، وأحمد. الإرواء [3 / 248] برقم 781. (2) لم أجده في السنن الكبرى للبيهقي. (3) رواه الترمذي في باب ما جاء في التغليظ في ترك الحج من أبواب الحج.

والعمرة واجبة في المشهور من مذهب الحنابلة ومذهب الشافعية سواء كانت العمرة منفردة أو كانت مع حجة سواء كان الحج تمتعاً أو قراناً. ويدل على ذلك قوله صلى الله عليه وسلم – في مسلم -: (دخلت العمرة في الحج إلى يوم القيامة) (1) وثبت في مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لعائشة – وكانت قد حجت قارنة كما هو مشهور في حجتها قال لها: (قد حللت من حجك وعمرتك) (2) وأما إذنه لها بأن تعتمر من التنعيم فذلك تطيباً لخاطرها وليس ذلك من باب عدم إجزاء القران عن العمرة كيف وقد صرح – النبي صلى الله عليه وسلم – بقوله: (قد حللت من حجك وعمرتك) فسألته ذلك وأعمرها أخوها عبد الرحمن وسيأتي ذكر الحديث إن شاء الله. ونص الإمام أحمد – وهو قول ابن عباس كما في مصنف ابن أبي شيبة وقول عطاء وطاووس (3) – إلى أن وجوب العمرة إنما هو على الآفاقيين، أما أهل مكة فلا تجب عليهم العمرة وجزم شيخ الإسلام (4) بأن أهل مكة من الصحابة لم يكونوا يعتمرون وأن ذلك لو كان ثابتاً منهم لنقل إلينا فإن الهمم تتوافر لنقل مثل ذلك. والمعنى يدل على ذلك فإن العمرة هي الزيارة، والزيارة إنما تكون لمن ليس من أهل المحل، وأهل مكة هم أهل المحل، وأهل الحرم فلم تشرع لهم العمرة ولم تجب عليهم كما أنهم يقومون بالطواف، والطواف بالبيت هو ركن العمرة الأعظم وإن كان ظاهر قول المؤلف وهو مذهب القاضي من الحنابلة (5) وغيره أن الوجوب عام في الآفاقيين والمكيين لكن الصحيح ما تقدم وهو نص الإمام أحمد واختاره الموفق وشيخ الإسلام وغيرهم، على ما سيأتي من النقل عن شيخ الإسلام أنه لا يرى الوجوب.

_ (1) أخرجه مسلم [4 / 57] وأبو داود [1790] وغيرهما. (2) صحيح مسلم بشرح النووي [8 / 159] . (3) مصنف ابن أبي شيبة [3 / 431] باب (480) من قال ليس على أهل مكة عمرة من كتاب الحج. اسطوانة.

فالمشهور في مذهب الحنابلة وهو مذهب الشافعية وهو وجوب العمرة واستدلوا بأدلة منها: 1- ما ثبت في مسند أحمد وسنن ابن ماجه بإسناد صحيح عن عائشة أنها قالت: (يا رسول الله على النساء جهاد؟ فقال: عليهن جهاد لا قتال فيه الحج والعمرة) (1) ولفظة " على " تفيد الوجوب كما هو مقرر في أصول الفقه أي أيجب على النساء الجهاد. 2- ما ثبت عند الخمسة بإسناد صحيح عن أبي رَزين العُقيلى أنه قال: (يا رسول الله إن أبي شيخ كبير لا يستطيع الحج والعمرة ولا الظعن؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: حج عن أبيك واعتمر) (2) وإن كان الأمر ليس للوجوب هنا، لأنه أمر بعد سؤال لكن نفي الوجوب إنما يتوجه إلى السائل فلا يجب على السائل أن يعتمر عن أبيه ولا أن يحج وإنما ذلك على وجه الاستحباب كما هو معلوم، لكن يدل ذلك على إدخال العمرة في حكم الحج، فإن هذا السائل قد سأل عن والده الكبير الذي عجز عن أداء فريضة الله عز وجل فهل يجزئ عنه أن يقوم هو عنه بهذه الفريضة فأجابه – صلى الله عليه وسلم - بأمره له أن يحج عن أبيه وأن يعتمر، فيكون ذلك بياناً للفريضة الواجبة عليه.

_ (1) أخرجه أحمد [6 / 165] ، وابن ماجه [2901] . إرواء الغليل برقم [981] . (2) أخرجه أبو داود في باب الرجل يحج عن غيره من كتاب المناسك، والترمذي في باب منه: ما جاء في الحج عن الشيخ الكبير والميت من أبواب الحج، والنسائي في باب العمرة عن الرجل الذي لا يستطيع من كتاب المناسك، وابن ماجه في باب الحج عن الحي إذا لا يستطيع. المغني [5 / 14] .

3-وبما ثبت في سنن أبي داود بإسناد صحيح عن الصُبي بن معبد أنه قال لعمر بن الخطاب: (إني كنت أعرابياً نصرانياً فأسلمت فرأيت الحج والعمرة مكتوبين علي – وفي رواية: (مفروضين علي) – فأهللت بهما معاً فقال له: (هديت لسنة نبيك صلى الله عليه وسلم) (1) فقد أقره عمر على قوله: (مكتوبين علي) وبين أن ذلك سنة النبي صلى الله عليه وسلم فيكون ذلك مرفوعاً وفيه – أيضاً – دليل على المسألة السابقة وأن من اعتمر مع حجه قارناً أو متمتعاً فإن ذلك يجزئه فهذا السائل رأى أن العمرة والحج مكتوبان عليه فأهل بهما معاً ورأى أنه بهذا الإهلال يجزئ ذلك عن حجه وعمرته جميعاً فقال له: (هديت لسنة نبيك صلى الله عليه وسلم) . واستدلوا: برواية لابن خزيمة في حديث جبريل الطويل الذي سأل فيه النبي صلى الله عليه وسلم عن الإسلام والإيمان والإحسان – وفيه: (وأن تحج وتعتمر) (2) وإسناده صحيح ولا يقال هنا – فيما يظهر لي – بالشذوذ، وذلك لأن هذه اللفظة تكون تفسيرية للحج المذكور في اللفظة المتفق عليها وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (دخلت العمرة في الحج إلى يوم القيامة) (3) هذا مذهب الحنابلة والشافعية وهو مذهب أكثر العلماء واختاره البخاري في صحيحه وإسحاق وداود وغيرهم.

_ (1) أبو داود [1799] في باب الإقران، والنسائي [2 / 13 – 14] في باب القران. الإرواء برقم 983. (2) أخرجه الدارقطني [207] والبيهقي في السنن الكبرى [4 / 349] ، وفي شعب الإيمان (7 / 532) رقم (3687) ، وابن خزيمة رقم 1، وابن حبان، بداية المجتهد [2 / 224] والمغني [5 / 14] . (3) أخرجه مسلم، سبق تخريجه برقم 6.

وذهب المالكية والأحناف إلى عدم وجوب العمرة واستدلوا: بالحديث المتفق عليه من حديث طلحة في سؤال الأعرابي للنبي صلى الله عليه وسلم عن شرائع الإسلام، وذكر فيها الحج فقال: (هل علي غيرها؟ قال: لا إلا أن تطوع) قالوا: فهذا يدل على أن ما سوى المذكور في هذا الحديث تطوع وليس بفريضة ومن ذلك العمرة فإنها ليست بمذكورة. واستدلوا: بما روى الترمذي أن النبي صلى الله عليه وسلم قيل له: (يا رسول الله: العمرة أواجبة هي؟ فقال: لا وأن تعتمر خير لك) (1) . وقد أجاب أهل القول الأول قالوا: أما الحديث الثاني فإسناده ضعيف فإن فيه الحجاج بن أرطاة وهو ضعيف الحديث. وأما الحديث الأول: قالوا: العمرة داخلة في الحج لحديث: (دخلت العمرة في الحج إلى يوم القيامة) (2) فعدم ذكر النبي صلى الله عليه وسلم لها في حديث الأعرابي لا يدل على عدم وجوبها. ولا يظهر لي على القول بوجوب التمتع كما سيأتي تقريره إن شاء الله (3) – أي إشكال في ذلك، فإن الراجح مذهب ابن عباس وأن التمتع واجب، وحيث قلنا بوجوب التمتع فإنه لا إشكال في هذا الحديث؛ لأن التمتع فيه عمرة وكما تقدم فقد دخلت العمرة في الحج إلى يوم القيامة، هذا الجواب الأول وهو جواب ظاهر بين. والجواب الثاني: أن يقال: إن أحاديثنا التي استدللنا بها أحاديث صريحة صحيحة تدل على وجوب العمرة وأما هذا الحديث فليس بصريح، فإنه من دلالة المفهوم وحديثنا دلالته دلالة منطوق، ودلالة المنطوق مرجحة على دلالة المفهوم.

_ (1) سنن الترمذي برقم 931، باب ما جاء في العمرة أواجبة هي أم لا، من كتاب الحج. ورواه أحمد كما في البلوغ. (2) سبق برقم 5. (3) تراجع شيخنا إلى استحباب ذلك دون الوجوب في شرحه لأخصر المختصرات كما سيأتي.

فعلى ذلك الراجح ما ذهب إليه أهل القول الأول. واختار شيخ الإسلام القول الثاني وهو عدم الوجوب والصحيح ما تقدم – وهو القول الأول إلا ما تقدم من استثناء المكيين. إذن العمرة واجبة على الآفاقيين. قال: (على المسلم) أما الكافر بالإجماع على أنه لا يجب عليه الحج، وهذا من حيث الأداء، أما من حيث العقوبة فإنه يعاقب عليها فإنهم مخاطبون بفروع الشريعة فيؤاخذون عليها أما في الدنيا فلا يصح منهم أداؤها، وقد قال تعالى: {وما منعهم أن تقبل منهم نفقاتهم إلا إنهم كفروا بالله وبرسوله} (1) فلكفرهم بالله ورسوله لم تقبل نفقاتهم والنفقة أولى بالقبول لأنها من باب النفع المتعدي فهي أولى من العبادات اللازمة ومع ذلك لم تقبل فغيرها من العبادات اللازمة أولى بعدم القبول وقد أجمع أهل العلم على أن الوجوب مختص بالمسلم على أنه يؤاخذ - أي الكافر – يوم القيامة على تركه لفروع الدين. قال: (الحر) . أما العبد فلا يجب عليه الحج – وهذا باتفاق العلماء – ويدل عليه ما رواه الحاكم وصححه ووافقه الذهبي والحديث إسناده صحيح – ورجح بعض العلماء وقفه والصحيح ثبوته رفعاً ووقفاً عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أيما صبي حج ثم بلغ الحنث فعليه أن يحج حجة أخرى، وأيما عبد حج ثم أعتق فعليه أن يحج حجة أخرى) (2) فدل على أن حجته حيث كان رقيقاً لا تجزئ عن حجة الإسلام وحينئذ فلا تجب ولأن العبد متعلق بحق سيده، ولا شك أن الحج يطول زمانه لاسيما في الأزمنة المتقدمة فيفوت بذلك شيء كثير من حق سيده على أنه يحتاج إلى مال، والرقيق لا مال له، وتكليف السيد بأن يدفع له مالاً يحج به، فيه تكليف للسيد بما فيه مشقة ولا نفع له بذلك.

_ (1) سورة التوبة 54. (2) أخرجه الشافعي [1 / 290] ، والطحاوي [1 / 435] والبيهقي [5 / 156] ، والطبراني في الأوسط، والحاكم في المستدرك [1 / 481] والبيهقي [4 / 325] . الإرواء برقم 986.

قال: (المكلف) أي البالغ العاقل، وقد تقدم الحديث الدال على ذلك: (أيما صبي حج ثم بلغ الحنث فعليه أن يحج حجة أخرى) وقول النبي صلى الله عليه وسلم: (رفع القلم عن ثلاثة – وذكر منهم – الصبي حتى يبلغ والمجنون حتى يفيق) (1) قال: (القادر) . القادر بماله وبدنه – وسيأتي شيء من التفصيل في هذا في موضع آخر إن شاء الله – ودليل أصل هذه المسألة قوله تعالى: {ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلاً} فدل على أن من لم يستطع إليه سبيلاً فإن الحج غير واجب عليه والأدلة العامة أيضاً تدل على ذلك كقوله تعالى: {لا يكلف الله نفساً إلا وسعها} (2) ولا خلاف بين أهل العلم في هذه الشروط كما قرر ذلك الموفق في المغني وهذا الوجوب شامل للمسلم سواء كان ذكراً أم أنثى. قال: (في عمره مرة) فلا يجب الحج وكذلك العمرة إلا مرة واحدة في العمر؛ لما ثبت عند الخمسة إلا الترمذي وأصله في صحيح مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن الله كتب عليكم الحج، فقام الأقرع بن حابس فقال: أفي كل عام يا رسول الله؟ فقال: لو قلتها لوجبت الحج مرة فما زاد فهو تطوع) (3) ولفظه في مسلم: (لو قلت نعم لوجبت ولما استطعتم) الحديث. فإذا حج مرة واحدة وقد توفرت فيه شروط صحة الحج على وجه الفرضية فإنه يجزئ عنه ذلك – وكذلك العمرة -. قال: (على الفور) فالحج يجب على الفور، فإذا بلغ فيجب عليه أن يحج فليس له أن يؤخر الحج إلا ألا يكون قادراً – هذا هو المشهور في مذهب الحنابلة –

_ (1) أبو داود [4398] والنسائي [2 / 100] ، والترمذي [1 / 267] وابن ماجه [2041] . الإرواء برقم 297 ج 2. (2) سورة البقرة 186. (3) صحيح مسلم، باب فرض الحج مرة في العمر من كتاب الحج، وأبو داود [1721] والنسائي في باب وجوب الحج، الإرواء980.

واستدلوا: بما روى أبو داود من حديث ابن عباس، وفيه راوٍ ضعيف، لكن ورد من طريق آخر يتقوى به الحديث فيثبت حسنه، فالحديث وارد عند أبي داود من طريقه إلى ابن عباس وعند أحمد من طريق آخر يثبت بذلك حسن الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من أراد الحج فليتعجل) (1) ، وثبت في سنن أبي داود بإسناد صحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من كُسر أو عَرَج فقد حلَّ وعليه الحج من قابل) (2) فمن حصل له شيء من الإحصار بأن حصل له كسر أو عرج فقد حل وسقط عنه الحج تلك السنة – وسيأتي الكلام على هذه المسألة في موضعها من الفوات والإحصار – لكن الشاهد قوله: (وعليه الحج من قابل) فيجب على من حصل له شيء من الإحصار وتحلل أن يعود السنة القادمة فيحج وهذا يدل على التعجل في الحج ووجوبه على الفورية، ولا شك أن وجوبه على الفور على من لم يحج أصلاً أولى من وجوبه على من حصل له حج فيه شيء من الإحصار وللقاعدة الأصولية أن الأوامر على الفور، فالأصل في الأمر الفورية، فإذا أمر السيد عبده بأمر فالأصل أنه يجب عليه أن يفعله فوراً إلا أن يأتي دليل يدل على التراخي. وقال الشافعية: لا يجب على الفور وإنما على التراخي.

_ (1) رواه أبو داود [1732] وابن ماجه [2883] وأحمد [1 / 214، 323، 355] الإرواء برقم 990؟ (2) رواه أبو داود في سننه [2 / 433، 434] في باب الإحصار من كتاب المناسك برقم 1862. والترمذي في باب ما جاء في الذي يهل بالحج فيكسر أو يعرج برقم 940، والنسائي باب: فيمن أحصر بعدو برقم 2860، وابن ماجه في باب المحصر برقم 3077.

واستدلوا: بقوله تعالى: {وأتموا الحج والعمرة لله} (1) ووجه الاستدلال: أن هذه الآية نزلت في السنة السادسة للهجرة والنبي صلى الله عليه وسلم لم يحج إلا في السنة العاشرة. وأجيب عن هذه الآية بأن الآية ليست لفرضية الحج بل في إتمامه فالله أمر في هذه الآية بأن يتم الحج والعمرة، وهما معروفان في الجاهلية، وإنما الآية التي أوجبت الحج وفرضيته هي قوله تعالى: {ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلاً} وأما الآية التي استدلوا بها فليس فيها ما يدل على وجوبه أصلاً وإنما فيها ما يدل على وجوب إتمامه إن دخل فيه ومعلوم أن الحج والعمرة معروفان عند الصحابة وكان منهم من يحج البيت ويعتمر ممن يأذن له كفار قريش بذلك ممن له عندهم منزلة ووجاهة وكان النبي صلى الله عليه وسلم يقر ذلك كله ولا ينكره وهما معروفان في الجاهلية. وأما الآية الأخرى فهي التي دلت على وجوب الحج وقد نزلت في السنة التاسعة للهجرة، فهي من سورة آل عمران وصدر هذه السورة نزل في نصارى نجران، وقد قدموا على النبي صلى الله عليه وسلم بعد الجزية والجزية إنما شرعت في تبوك في السنة التاسعة – كما قرر ذلك ابن القيم رحمه الله – وهذا هو الراجح. فإن قيل: يبقى الاستدلال لهم فإن هذه الآية فرض الله فيها على العباد الحج والعمرة وكان ذلك في السنة التاسعة والنبي صلى الله عليه وسلم لم يحج إلا في السنة العاشرة. والجواب على ذلك من وجهين: الوجه الأول: أن يقال: ليس عندنا ما يدل على أن الآية أوجبت الحج والعمرة في وقت يتمكن فيه من أدائهما في السنة التاسعة فيحتمل أن يكون ذلك في آخر أشهر الحج، ويحتمل أن ذلك في وقت لا يتمكن منه النبي صلى الله عليه وسلم من الذهاب إلى مكة وأداء الحج ومع الاحتمال يبطل الاستدلال.

_ (1) سورة البقرة 196.

الوجه الثاني: أن يقال: لنفرض أنها فَرضَت الحج في وقت يتمكن منه النبي صلى الله عليه وسلم من أداء الحج والعمرة فإن النبي صلى الله عليه وسلم إنما لم يحج تلك السنة لتتطهر مكة من أهل الشرك ومن هنا بعث النبي صلى الله عليه وسلم علياً – كما ثبت في الصحيحين – ينادي في الناس: (ألا يحج بعد العام مشرك ولا يطوف بالبيت عريان) (1) وكان ذلك في السنة التاسعة. ولمصلحة أخرى عظيمة وهي اجتماع الناس لمعرفة حج النبي صلى الله عليه وسلم وتهيؤهم فإن الرسول صلى الله عليه وسلم وإن كان أدرك وقتاً يمكنه وأهل المدينة أن يتهيئوا فإن أهل البوادي ونحوهم ممن يريدون الحج مع النبي صلى الله عليه وسلم ورؤية منسكه لا يتمكنون من ذلك، فلمصلحة بيان الشرع لم يحج الرسول صلى الله عليه وسلم تلك السنة، فالراجح أن الحج واجب على الفور. وكذلك يدل على ذلك: أن التراخي مظنة الترك والإهمال فإنا إذا قلنا بالتراخي فإنا لا نحد لذلك حداً – لأنه لا دليل على التحديد – فيقال له: إن حججت وأنت شيخ هرم فلا بأس عليك ولا حرج، وحينئذ فإن ذلك مظنة للترك، ولا شك أن الشارع متشوف لإقامة الحج. قال: (فإن زال الرق والجنون والصبا في الحج بعرفة وفي العمرة قبل طوافها صح فرضاً) تقدم أن من كان رقيقاً أو صبياً فإن حجه يكون نفلاً ولا يجزئ عن حجة الإسلام. فإذا بلغ الصبي أو أعتق الرقيق أو عقل المجنون في الحج بعرفة أو في العمرة قبل الطواف فيصح ذلك فرضاً فمثلاً: رجل رقيق أحرم بالحج بنية التنفل لأنه لا فرض عليه وأثناء ما هو واقف بعرفة أعتق، فيصح ذلك فرضاً له أو أحرم بعمرة وقبل أن يشرع بالطواف أعتق فإنه يصح له ذلك فرضاً.

_ (1) أخرجه البخاري في كتاب الصلاة، (10) ما يستر من العورة (360) ، وانظر (1622) و (3177) و (4363) و (4655) و (4656) و (4657) ، ومسلم / كتاب الحج / باب (78) لا يحج البيت مشرك.. (1347)

قالوا: أما الوقوف بعرفة فهو فرض الحج الأكبر، والطواف يقابله في العمرة وهما في الأصل أول الأركان فحينئذ يكون قد فعل الأركان وهو حر، وهذا وهو بالغ، وهذا وهو عاقل، فيصح ذلك منهم فرضاً – هذا هو المشهور في مذهب الحنابلة والشافعية – ومثل ذلك لو أفاض الناس من عرفة إلى مزدلفة – ومعلوم أن الوقوف بعرفة لا ينتهي وقته إلا بأذان الفجر فلو أعتق بالمزدلفة فعاد فوقف فإن ذلك يجزئ عنه: قالوا: لأنه فعَل هذه الأركان وهو حر وهذا وهو عاقل، وهذا وهو بالغ فأجزأ ذلك عنه. وقال الإمام مالك: بل لا يجزئ ذلك عنه؛ لأنه قد أحرم بنية التنفل فلم يجزئ ذلك عنه، فإنه حين إحرامه كان متنفلاً فلا ينتقل النفل إلى الفرضية. وأجاب أهل القول الأول بأن الإحرام ليس مقصوداً لذاته وإنما المقصود لذاتها هي الأركان كالوقوف بعرفة والطواف في العمرة. ومع قوة ما ذهب إليه الإمام مالك فإن الأظهر – لي – هو ما ذهب إليه أهل القول الأول، وذلك تحصيلاً لمصلحة الفرضية لهما، ولمشقة الحج في الغالب وقد قاموا بفرائض الحج وهم من أهله فيتساهل حينئذ بالإحرام الذي هو ليس مقصوداً لذاته. فالمشهور عند الشافعية والحنابلة أن من أحرم بالحج وهو من أهل التنفل وليس من أهل الفرضية ثم أدرك الوقوف بعرفة وهو حر أو بالغ – في الحج – وفي العمرة قبل الطواف فإن حجه ينتقل إلى الفرضية – وهذا القول مروي عن ابن عباس في مصنف ابن أبي شيبة لكن فيه ليث بن أبي سليم (1) وهو ضعيف الحديث. والله أعلم. والحمد لله رب العالمين قال المؤلف رحمه الله تعالى: (وفعلهما من الصبي والعبد نفلاً) " وفعلهما " أي الحج والعمرة. فإذا حج الصبي والعبد فإن حجهما نفل لهما، وكذلك إذا اعتمرا فإن عمرتهما نفل لهما ولا يجزئ ذلك عن حجة الإسلام وهذا مما اتفق عليه العلماء.

ويدل عليه حديث ابن عباس المتقدم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أيما صبي حج ثم بلغ الحنث فعليه أن يحج حجة أخرى، وأيما عبد حج ثم أعتق فعليه أن يحج حجة أخرى) (1) والحديث روى مرفوعاً وموقوفاً، والصحيح صحته رفعاً ووقفاً وعلى القول بوقفه فلا يعلم لابن عباس مخالف من الصحابة فيكون قوله حجة فالصبي والعبد إذا حجا فلا يجزؤهما عن حجة الإسلام. وهنا قول المؤلف: (الصبي) عام في الصبي المميز وغير المميز فكلاهما حجهما يصح ويكون له نفلاً، أما المميز فلا إشكال فإن العبادات كالصلاة ونحوها تصح منه كما تقدم، وأما غير المميز فدليله ما ثبت في مسلم أن امرأة رفعت إلى النبي صلى الله عليه وسلم صبياً فقالت: (ألهذا حج؟ قال: نعم ولكِ أجر) (2) . وهو مذهب جمهور العلماء خلافاً للحنفية، والحجة مع ما ذهب إليه الجمهور لهذا الحديث الثابت في مسلم.

_ (1) سبق برقم 15 (2) أخرجه مسلم [4 / 101] وأبو داود والنسائي، الإرواء برقم 985.

والصبي غير البالغ لا يصح أن يحج إلا بإذن وليه فإن حج بغير إذن وليه لم يصح حجه؛ وذلك لأن الحج عبادة متضمنة لعقد يلزم به المال، فهو عقد تعبدي لله عز وجل يلزم به المال على الحاج من هدي وفدية ونحو ذلك، والصبي ليس له أن يتصرف بالتصرفات التي تلزم بها الأموال إلا بإذن وليه وإلا لم يصح تصرفه، والصبي المميز إذا أذن له وليه فإنه يصح حجه ويفعل مناسك الحج وينوي الإحرام وغير ذلك. أما الصبي غير المميز فإن وليه يحرم عنه، أي ينوي له الحج أو العمرة، ولا يشترط أن يكون الناوي محرماً بل لو كان حلالاً فإن حج الصبي يصح، وذلك لأن النية في الأصل تكون من غير المحرم ثم بعد ذلك ما يمكنه فعله من المناسك لا يجزئ أن يفعل عنه كالوقوف بعرفة والمبيت بالمزدلفة ونحو ذلك فإن هذه أفعال لا يعجز عنها الصبي غير المميز؛ لأن المقصود هو مجرد الوقوف، وهذا يحصل من الصبي المميز وغير المميز وغيرهما، والمقصود أيضاً المبيت بمزدلفة. أما الأفعال التي لا يقدر على فعلها كالرمي ونحوه فإنها تفعل عنه ويجزئ ذلك عنه. واستدل أهل العلم بما روى ابن ماجه من حديث جابر قال: (حججنا مع النبي صلى الله عليه وسلم ومعنا النساء والصبيان فلبينا عن الصبيان ورمينا عنهم) (1) ، لكن الحديث في إسناده أشعث بن سُوار وهو ضعيف الحديث، لكن العمل عليه عند أهل العلم، قال ابن المنذر: (كل من حفظت عنه من أهل العلم يرى الرمي عن الصبي الذي لا يقدر على الرمي وكان ابن عمر يفعل ذلك) ، فهو اتفاق من أهل العلم، والأصول الشرعية تدل على ذلك من قيام الغير بفعل الآخر عند العجز عنه كما سيأتي في غير ما مسألة إن شاء الله في الدرس القادم في الحج عن العاجز وغيره.

_ (1) ابن ماجه برقم 3038، باب الرمي عن الصبيان.

أما الطواف فإنه يحُمل، فهو قادر على الطواف لأن الطواف ليس من شرطه أن يطوف ماشياً بل لو طاف محمولاً يصح طوافه وكذلك السعي فإنه يحمل ويسعى به؛ لأن السعي ليس من شرطه المشي وهو من كماله. وإذا طيف بالمميز فإنه ينوي عن نفسه، أما الصبي غير المميز فإذا طيف به فإنه ينوي عنه الطائف به. وهنا مسألة: هل هذا الطواف يجزئ الحامل والمحمول أم لا يجزئ إلا المحمول؟ فإذا طاف رجل بابنه ونوى لابنه الطواف، ونوى لنفسه الطواف أيضاً فهل يجزئه ذلك أم لا يجزئ إلا المحمول؟ قال الحنابلة: لا يجزئ إلا المحمول، وأما الحامل فلابد وأن يستأنف طوافاً جديداً، قالوا: لأن هذا الفعل أجزأ عن المحمول وهو الصبي أو غيره من العجزة ونحوهم ممن يحملون في الطواف، فهذا الفعل قد أجزأ عن المحمول، فلم يجزئ عن الحامل. وهذا تعليل ضعيف. وذهب الأحناف وهو قول في مذهب الإمام أحمد واستحسنه الموفق واختاره الشيخ عبد الرحمن بن سعدي: أن الطواف يجزئ عنهما جميعاً؛ وذلك لأن كلاً منهما قد نوى وطاف طوافاً صحيحاً فلكل منهما طوافه ونيته، فالمحمول طوافه الركوب، وقد نوى له الطواف ولا دخل له بحركات هذا الطائف ولذا لو طيف به على دابة لأجزأ ذلك وهذا الحامل قد نوى لنفسه الطواف وطاف ماشياً فهو طواف مستقل عن طواف المحمول – وهذا القول هو القول الراجح. قال: (والقادر من أمكنه الركوب ووجد زاداً وراحلة) تقدم أن من شروط وجوب الحج أن يكون قادراً فالقادر بينه المؤلف بقوله: (من أمكنه الركوب ووجد زاداً وراحلة) . (أمكنه الركوب) أي يستطيع الركوب إلى مكة، ويقدر على الركوب للتنقل هناك بين مواضع المناسك فيها، أما غير القادر على الركوب فلا يجب عليه الحج لأنه غير مستطيع وقد قال تعالى: {من استطاع إليه سبيلاً} . (ووجد زاداً وراحلة) لابد وأن يجد زاداً وراحلة. "زاداً ": من مأكل ومشرب وملبس.

(وراحلة) يركبها مما يوافق عرف الناس في زمنهم من المركوبات التي تختلف باختلاف عادات الناس وأعرافهم فالقادر هو من وجد زاداً وراحلة سواء كان ذلك في الراحلة استئجاراً وهو قادر على المبلغ الذي يستأجر به أو كانت الراحلة مملوكة له والزاد كذلك سواء كان محصلاً له وهو بيده أو يكون له حرفة يعلم أو يظن ظناً غالباً أنه يستطيع أن يتكسب بها في طريقه وينفق على نفسه مأكلاً ومشرباً وكسوة خلال أيام الحج ومناسكه فإنه حينئذ – يعتبر مالكاً للزاد. فالقادر هو من ملك زاداً وراحلة، وبه فُسر قوله تعالى: {من استطاع إليه سبيلاً} ففسر السبيل بأنه الزاد والراحلة ودليل ذلك ما رواه الترمذي وحسنه من حديث ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قيل له: ما السبيل؟ قال: (الزاد والراحلة) (1) ونحوه من حديث أنس في الدارقطني، وإسناد الحديثين ضعيف لكن الحديث له شواهد كثيرة يرتقي بها إلى درجة الحسن ومن هنا حسنه الترمذي وحسنه شيخ الإسلام، وجود بعض أسانيده ابن عبد الهادي، وقال الضياء صاحب المختارة في بعض أسانيده لا بأس به والحديث – كما تقدم – له شواهد كثيرة يرتقي بها إلى درجة الحسن وبه استدل جمهور العلماء على أن السبيل هو الزاد والراحلة فلا يجب على من لا راحلة له ولا زاد أن يحج، وحينئذ فلا يجب عليه أن يحج ماشياً وإن كان قادراً على المشي للمشقة التي تلحق الماشي لكن استثنوا أن يكون موضعه الذي هو فيه دون مسافة القصر فإنه إن لم يجد راحلة فيجب عليه السير راجلاً إلى بيت الله تعالى.

_ (1) أخرجه الترمذي [1 / 155، 2 / 166] والدراقطني [254] . الإرواء برقم 988.

والذي يظهر لي: أن تقييده بمسافة القصر محل نظر، والذي ينبغي أن يقال فيه: أنه إذا كان قريباً عرفاً بحيث أنه لا يلحقه بالمشي مشقة ظاهرة فإنه يجب عليه أن يحج ماشياً كما يكون هذا في القرى القريبة المجاورة لمكة ممن لا يلحقهم حرج ظاهر في المشي إلى بيت الله وأما مسافة القصر، وهو في المشهور من المذهب 80 كيلو متراً هذا فيه في الظاهر مشقة ولا شك أنه يختلف باختلاف الأجناس والبلدان، لكن المقصود وضع ضابط لهذه المسألة والضابط أن يقال إنه إذا كان قريباً عرفاً بحيث لا يكون فيه مشقة في الغالب فإنه يجب عليه السعي إلى بيت الله. ودليل ذلك: أن الآية عامة فيمن كان إلى مسافة القصر أو إلى دون مسافة القصر وهي قوله: {من استطاع إليه سبيلاً} والسبيل هو الزاد والراحلة وهو عام فيمن كان فوق مسافة القصر أو من دون مسافة القصر، لكن يستثنى من ذلك من كان قريباً عرفاً لا يلحقه في الغالب مشقة فلا يكون له هذا الحكم لأنه بحكم واجد الزاد والراحلة. قال: (صالحين لمثله) وعبر صاحب المقنع بقوله: (صالحة لمثله) أي الراحلة فإذا كان الرجل من أهل الوجاهة والغنيمة والغنى القوي فإنه لا يناسبه أي راحلة يركبها غيره، فلابد وأن تكون صالحة لمثله، والمقصود ما يكون من مركوبه أو نحو مركوبه، لكن إذا كان من مركوب عامة الناس ممن يلحقه مشقة بأن يركب مركوبهم فإنه لا يجب عليه الحج، لأن قوله " الراحلة "، يرجع إلى الراحلة في عرف الناس، ولا شك أن الراحلة في عرف الناس تختلف باختلافهم.

قالوا: ولأن المقصود بالراحلة وعدم إيجاب المشي عليه سيراً هو دفع المشقة، وإلا فإن الإنسان قادر أن يذهب إلى مكة وإن كان في مكان بعيد، ومع ذلك عفي عنه وكان الوجوب مختصاً بمن كان مالكاً للراحلة أو قادراً على استئجارها وذلك لدفع المشقة عنه، وهنا كذلك فكونه يؤمر أن يركب راحلة غير صالحة لمثله هذا فيه مشقة عليه تشبه المشقة التي تلزم القادر على المشي أن يمشى إلى بيت الله وإن كان قادراً على ذلك لكن في ذلك مشقة. وأما الزاد فإن عبارة صاحب المقنع ظاهرها أن الشرط إنما يكون للراحلة وأما الزاد فلا يشترط أن يكون الزاد صالحاً لمثله بل أي زاد يمكنه أن يتقوت به ولا يلحقه ضرر به وإن كان دون أكله ودون ما اعتاده من الطعام، فلو أنه وجد زاداً يطعمه عامة الناس وهو من كبراء الناس ممن لم يعتد هذا الطعام لكن لا يلحقه ضرر بذلك وإن لم يجد الزاد الصالح لمثله – هذا ظاهر كلام الموفق في المقنع وهو الصحيح في مذهب الحنابلة. وأما المؤلف هنا فإن ذهب إلى قول آخر وجهه صاحب الفروع وهو قول عند الحنابلة: وهو أنه الزاد كذلك، قالوا: كما أن الراحلة يلحقه بها مشقة وإن كانت توصله إلى حاجته لكن في ذلك مشقة على نفسه فكذلك في الزاد فإن كونه يطعم طعام الناس فيه مشقة عليه. وما اختاره الموفق أظهر فإن المسافات بعيدة ولا شك أنه يلحقه مشقة بأن يركب مركوب عامة الناس الذي هو دون مركوبه وقد يكون من أمراء الناس ونحو ذلك فيكون في ذلك مشقة بأن يركب مالا يناسبه من المركوبات. وأما الأطعمة فإن الطعام لا يلحقه ضرر، لا يظهر أنه يكون شرطاً في فرضية الحج عليه بل متى ما وجد من الزاد ما يدفع عنه الجوع والعطش فإنه يجب عليه ذلك، والله أعلم. وهذا لعموم قوله تعالى: {من استطاع إليه سبيلاً} وهذا مستطيع إلى الحج سبيلاً، ولا يلحقه المشقة بهذا الزاد الذي هو من زاد الناس ويندفع به الجوع والعطش ولا يلحقه به ضرر والله أعلم.

والأحسن أن يفصّل في مسألة الزاد، فإن الزاد منه ما يكون قريباً إلى زاده أو نحوه من زاد الناس مما تتحمله كبراؤهم، ومنه ما يكون فيه مشقة. والراحلة أمر ظاهر أمام الناس بخلاف الزاد فإنه يأكل زاداً من طعام الناس كالخبز مثلاً ويأكله في موضعه المعد له، هذا لا يلحقه مشقة كما يلحقه في مركوب يركبه أمام الناس ويكون غير صالح لمثله. أما لو كان الزاد في شوارع ونحو ذلك، فإن لم يستطع زاداً إلا مع سوقة الناس في الشوارع والأسواق فيقال فيها بعدم الوجوب. قال: (بعد قضاء الواجبات) فهذا بعد ما يقضي الواجبات عليه، كأن تكون عليه زكاة أو كفارة يمين أو أن يكون عليه ديون للعباد، فهذه العبادة لا يجب عليه الحج إلا بعد قضائها. مثال ذلك: رجل عليه دين وهو يريد قضاءه فهل يجب عليه أن يحج مع ثبوت هذا الدين في ذمته الذي يريد سداده ووفاءه؟ فالجواب: أنه لا يجب عليه الحج وذلك لأن حقوق الآدمين مبنية على المشاحة، وأما حقوق الله عز وجل ومنها الحج فهي مبنية على المسامحة فمن هنا قدم حق العباد على حق الله تعالى. وما تقدم ذكره متعلق بحقوق العباد، فإن الزكاة ينصرف إلى حقوق العباد فهي تنصرف إلى الفقراء والمساكين ونحوهم وهكذا الكفارات ومن هنا قدمت هذه على أداء فريضة الحج. قال: (والنفقات الشرعية) إذا كان عليه نفقات، نفقة لوالده أو من يعول فلا يجب عليه الحج حتى يدخر مالاً يكفي لنفقة أهله. فرجل – مثلا – معه مبلغ من المال ويعلم أنه إذا حج أضر بمن يجب عليه أن ينفق عليه من ولده أو من يعول فإنه لا يجب عليه الحج وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (كفى بالمرء إثماً أن يضيع من يقوت) (1) وهذا حق لآدمي، وحقوق الآدمي مقدمة في الوفاء على حق الله عز وجل لأنها مبنية على المشاحة. قال: (والحوائج الأصلية)

_ (1) أخرجه مسلم وأبو داود، الإرواء برقم 894، 989.

أي الحوائج اللازمة أو يلحق حرج بالاستغناء عنها، وهذه تختلف باختلاف الناس. فمثلاً: السكن هذا من حوائج الناس فلا يلزم ببيع بيته من أجل الحج، وكذلك السيارة، وكذلك الكتب لطالب العلم وغير ذلك. فالحوائج الأصلية التي يحتاج إليها من كسوة وسكن وكتب علم ومن مركوب ونحوه مما تحتاج إليه فلا يجب عليه أن يبيعه حتى يؤدي الفريضة، فإن هذه من الحوائج الأصلية التي يلحق الناس بتكليفهم بالحج وبيعها يلحقهم حرج في الاستغناء عنها، وقد قال تعالى: {وما جعل عليكم في الدين من حرج} (1) . أما ما فضل عن حوائجه الأصلية فيجب عليه أن يبيع هذا ويحج بماله كأن يكون له بيتان يحتاج أحدهما ولا يحتاج الآخر، لكن إن كان الآخر يؤجره وينتفع من ماله في النفقة الواجبة عليه فلا يجب عليه؛ لأن هذه تكون من جنس التجارات، لكن إن كان عنده شيء فاضل يستغني عنه ولا يؤثر في نفقته ونحو ذلك كأن يكون له مسكنان أو مركبان، أو المرأة يكون عليها حلي زائد عن حاجتها الأصلية، وهكذا كل من كان عنده أي شيء من الأمور التي ليست من حوائجه الأصلية فيجب عليه أن يبيعها ليؤدي فريضة الحج. وهذا وإن كان عيناً لكنه بمعنى النقد لأنها ذات قيمة نقدية وهو مستغن عنها لا يحتاج إليها حاجة أصلية. مسألة: في الدين: إذا كان الدين حالاً فلا إشكال في أنه لا يجب عليه الحج، أما إذا كان الدين غير حال فلا يخلو من حالين: - الحالة الأولى: أن يكون قد امتنع من الحج لوفاء هذا الدين ولتخليص ذمته منه فحينئذ لا يجب عليه الحج؛ لأن الشخص يحتاج إلى تبرئة ذمته من الديون المتأخرة كما هو محتاج إلى تبرئتها من الديون الحالة.

_ (1) سورة الحج 78.

الحالة الثانية: أن يكون لا يريد سداد دينه وهذا المال سينفقه في أمور أخرى مما لا يحتاج إليه، وهذا الدين مقسط أقساطاً لا يرغب أن يسدده إلا في أوقاته، فإن ذلك لا يمنع وجوب الحج عليه؛ لأن الحكم يدور مع علته وجوداً وعدماً والعلة هنا غير موجودة بل منتفية. ولو أن رجلاً عنده مال يكفي للحج لكن قال: أريد أن أسدده لأحد من الناس، الذين لهم عليه ديون متأخرة فإنه يفعل ذلك. والحمد لله رب العالمين. قال المؤلف رحمه الله تعالى: (وإن أعجزه كبر أو مرض لا يرجى برؤه لزمه أن يقيم من يحج ويعتمر عنه) هذه مسألة في المستطيع بغيره، وهو من عنده استطاعة مالية وهو غير قادر على الحج ببدنه، أو له ولد ذو مال وقدرة مالية على الحج وهو يطيعه في أمره – فيجب عليه أن ينيب من يحج عنه إما بماله وإما بأن يأمر ولده المطيع بذلك – أي بالحج والعمرة عنه هذا هو المستطيع بغيره. ودليل هذه المسألة: ما ثبت في الصحيحين: (أن امرأة من خثعم قالت يا رسول الله إن فريضة الله على عباده قد أدركت أبي شيخاً كبيراً لا يستطيع أن يثبت على الراحلة أفأحج عنه؟ قال: نعم) (1) وفي رواية لمسلم: (إن أبي شيخ كبير عليه فريضة الله في الحج وهو لا يستطيع أن يستوي على ظهر بعيره قال: فحجي عنه) . ووجه الاستلال ليس في أمر النبي صلى الله عليه وسلم للمرأة بأن تحج، فإن هذا الأمر بعد سؤال، والأمر بعد السؤال لا يفيد الوجوب، وإنما الاستدلال بإقرار النبي صلى الله عليه وسلم قولها: (إن فريضة الله) وقولها في رواية مسلم: (عليه فريضة الله) فدل على أن الشيخ الكبير العاقل والمريض الذي لا يرجى برؤه الحج فرض عليهما، لكن ليس بأبدانهما لعجزهما، وإنما بأموالهما أو بمن يطيعهما من ولدٍ ونحوه.

_ (1) أخرجه البخاري [1 / 384، 464، 3 / 102] ومسلم [4 / 101] .

وحينئذ: النائب ما يثبت من غرامة مالية بدم ونحوه إن كان هذا بسبب ما يترتب على الحج أصلاً كدم التمتع أو القران ونحو ذلك فإنه واجب على صاحب المال المحجوج، ومثل ذلك ما يأذن له فيه – كأن يكون محتاجاً إلى أخذ شيء من شعر رأسه لمرضٍ أو نحوه ويكون عليه الفدية فإذا أذن له في ذلك فإن هذه الفدية تلزم صاحب المال. أما إذا فعل شيئاً لم يؤذن له فيه كجناية في مثل صيد أو سلك طريقاً بعيداً مع إمكانية سلوك طريق أقرب فإنه يلزم النائب لا المنوب عنه؛ لأن هذا فعل ليس بمأذون فيه. قال: (من حيث وجبا) يعني: من حيث وجب عليه الحج أو العمرة، فلو أن رجلاً وجب عليه الحج وهو في المشرق فالواجب أن ينيب من موضعه الذي وجب عليه الحج فيه فليس له أن ينيب رجلاً في بلدة أخرى دون بلدته، أو من عند الميقات أو في مكة. قالوا: لأن البدل يقوم مقام المبدل عنه، فهذا المحجوج عنه لو حج لحج من موضعه الذي وجب عليه الحج فيه وهذا بدل عنه فوجب عليه أن يحج من موضع المبدل عنه – وهذا تعليل لا يقوم به حجة فهوتعليل ضعيف. ولذا ذهب جمهور العلماء إلى أنه له أن ينيب من الميقات من يحج عنه. وظاهر قول الجمهور أنه لو أناب عنه رجلاً من مكة – أنه لا يجزئ عنه –. والذي يظهر أنه يجزى عنه أيضاً وهو اختيار الشيخ عبد الرحمن السعدي رحمه الله تعالى. وذلك لأن النبي صلى الله عليه وسلم لما قال للمرأة: (حجي عن أبيك) أطلق عليه الصلاة والسلام ولم يشترط أن يكون ذلك من حيث وجب عليه الحج، وتأخير البيان عن وقت الحاجة لا يجوز، ثم إن المعنى يقتضي ذلك، فإنه لا فائدة من ذلك والشارع إنما أوجب الحج على العباد لأداء مناسك الحج، وأوجب على من وراء الميقات أن يحرم منه، ومن دونه أن يحرم من موضعه، وأما المسافة التي تكون من بلدته إلى الميقات الذي يحرم منه فإنها ليست مقصودة لصاحب الشريعة، وإنما هي من باب مالا يتم الواجب إلا به فهو واجب.

بدليل أنه لو كان شخص من الآفاقيين صادفه الحج وهو في مكة فأحرم من مكة أجزأ ذلك عنه ولم يوجب عليه أن يحرم من بلده، فليس ذلك مقصوداً لصاحب الشريعة بل المقصود أن يحج حجاً صحيحاً، والنظر في الحج إنما هو إلى البدل لا إلى المبدل عنه والبدل في بلدة دون الميقات كأن يكون في مكة، أو هو في الميقات دون بلدة ذلك. فالصحيح أن هذا ليس بشرط مطلقاً لا من الميقات ولا من ورائه خلافاً للمشهور عند الحنابلة. واعلم أن المريض الذي يرجى برؤه، أو المحبوس الذي يرجو خروج نفسه من الحبس فليس له أن يقيم غيره فيحج عنه؛ لأن الحديث قد ورد في الشيخ الكبير، وهو لا يرجى استطاعته على الحج، وألحق به المريض الذي لا يرجى برؤه. وأما من يرجى برؤه أو المحبوس الذي يرجو الخروج فليس أن ينيب غيره عنه لأن الأصل هو وجوب الحج بالنفس لا بالغير وهذا مرجو زوال العلة. قال: (ويجزئ عنه وإن عوفي بعد الإحرام) . لهذه المسألة صورتان: الأولى: أن يشفى هذا المريض من مرضه الذي كان ميئوساً منه بعد قيام البدل بالحج وانتهائه منه، فإنه يجزئ عنه حجه ولا يجب عليه الحج، وهذا ظاهر؛ وذلك لأنه قد فعل ما أمر به، فقد أمر أن يدفع من ماله ما يحج به عنه ففعل ما أمر به فأجزأه ذلك عن حجة الإسلام وخرج ذلك من عهدته، ولأن هذا الحجة قد وقعت صحيحة مجزئة فلا دليل على إبطالها. الثانية: أن يعافى المريض الذي لا يرجى برؤه بعد إحرام النائب عنه وقبل انتهائه من الحج. مثال: رجل مريض لا يرجى برؤه دفع مالاً لمن يحج عنه، فلما أحرم هذا النائب وقال: لبيك عن فلان شفي هذا المريض، فإنه يجزئه ذلك عن حجة الإسلام ولا يجب عليه الحج – هذا قول في مذهب الإمام أحمد.

والقول الثاني: وهو وجه عند الحنابلة، وهو أظهر الوجهين عند الشيخ تقي الدين – كما قال ذلك صاحب الإنصاف وغيره – أنه لا يجزئه ذلك؛ قالوا: لأنه قدر على الأصل قبل تمام الحج من البدل " وهو النائب عنه " فوجب عليه أن يحج عن نفسه ولا يكتفي بهذا الحج وظاهر هذا التعليل أن هذا ولو كان بعد الوقوف بعرفة ولو كان ذلك أثناء الطواف ما لم يتم الحج، فإذا تم الحج فحينئذ يسقط عنه الفرض. أما حجة القول الأول وهو المشهور في المذهب فحجتهم: أنه قد شرع في البدل، والقاعدة أن من شرع في البدل لعجزه عن الأصل فإنه يجزئ عنه ذلك وإن قدر على الأصل أثناء فعله للبدل وهذا له صور عند أهل العلم. منها: رجل غير قادر على الهدي فبدل الهدي الصيام، فإذا شُرع الصيام ثم قبل أن يتم الصيام قدر على الهدي فإن الصيام يجزئ عنه ولا يجب عليه أن يعود إلى الأصل. ومنها: رجل عليه كفارة يمين فعجز عن إطعام عشرة مساكين فشرع في الصيام، فلما صام الأول قدر على الإطعام فهو بالخيار إن شاء استمر على الصيام ويجزئ عنه ذلك، وإن شاء عاد إلى الأصل وهو إطعام عشرة مساكين قالوا: فهنا كذلك ولا شك أن إلحاق الشيء بمثيله ظاهر في الشريعة، فالشريعة لا تفرق بين المتماثلات فهذا قد شرع في البدل وأثناء ذلك قدر على الأصل فلم يجب عليه أن يعود إليه وكان ذلك مجزئاً عنه – وما ذكروه أصح مما ذكره أصحاب القول الثاني فالراجح ما ذكره المؤلف: وأنه إذا أناب عنه غيره فأحرم " أي نوى الدخول في الحج " ثم قدر المنوب عنه على الحج فإنه لا يجب عليه أن يحج، وإن حج فإن ذلك تطوع له، ويجزئ عنه حجة النائب عنه لأن القاعدة التي دلت عليها الشريعة: أنه إذا شرع في البدل فإن الأصل يسقط ويجزئ البدل عن الأصل، ولو قدر على الأصل أثناء اشتغاله بالبدل. مسألة:

لا يجزئ المنوب عنه حج النائب إن كان النائب لم يحج حجة الإسلام فيشترط في النائب أن يحج حجة الإسلام. ودليل ذلك: ما ثبت في سنن أبي داود وابن ماجه من حديث ابن عباس: أن النبي صلى الله عليه وسلم: (سمع رجلاً يقول لبيك عن شبرمة، قال: من شبرمة؟ قال: أخ لي أو قريب فقال: حججت عن نفسك؟ قال: لا، فقال: حج عن نفسك ثم حج عن شبرمة) (1) وقد اختلف فيه رفعاً ووقفاً والراجح وقفه – فهذا الحديث دليل على هذه المسألة فلا يجوز لمن لم يحج عن نفسه أن يحج عن غيره. فإن عجز عن الحج عن نفسه بسبب عدم القدرة المالية، لكنه قادر بنفسه فهل له أن يحج عن غيره أم لا؟ المشهور في المذهب أنه لا يجزئ ذلك المنوب عنه للحديث المتقدم. وذهب الإمام أحمد في رواية عنه وهو قول سفيان الثوري: إلى أنه يجوز له ويجزئ عن المنوب عنه وهذا أرجح؛ فإن الأصل أن النائب يجزئ حجه عن المنوب عنه، وإنما لم تصح حجته حيث كان قادراً على الحج لأن حجه عن غيره مزاحم لحجه عن نفسه، فهو وإن صح عن غيره فاته حج نفسه والواجب عليه أن يحج عن نفسه. فهناك مزاحمة وأما هنا فليس ثمت مزاحمة فإنه ليس بقادر على الحج، فإن لم يحج عن غيره فإنه لا يحج. والحديث المتقدم فيه قرينة تدل على أن ذلك الرجل قادر على الحج عن نفسه وهي: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (حج عن نفسك) ولا يوجه هذا الخطاب إلا للقادر على الحج، وثمت قرينة أخرى وهي قوله: (أخ لي أو قريب) والغالب فيمن يحج عن قريبه ألا يكون ذلك من مال القريب أو الأخ وإنما يكون ذلك بتبرع محض منه بالمال والبدن جميعاً. فالراجح: أن من حج عن غيره – وهو غير قادر على الحج عن نفسه – فإن ذلك يجزئ عن المنوب عنه. * فإن حج عن غيره مع قدرته على الحج عن نفسه، فهل يصح الحج لأحد منهما أم يبطل لهما جميعاً؟ ثلاثة أقوال:

_ (1) رواه أبو داود [1811] وابن ماجه [2903] وغيرهما، الإرواء [994] .

الأول: أن الحج يقع عن المحجوج له. الثاني: يقع عنه هو " أي النائب ". الثالث: أنه لا يصح منهما جميعاً. أما حجة أهل القول الأول: فإنهم قالوا: الرجل لو أخرج زكاة أخيه قبل أن يخرج زكاة نفسه أجزأ ذلك، وهذا يخالف الحديث المتقدم وكل قياس يخالف النص فاسد. على أن هناك فارق بين المسألتين، فإن إخراج الزكاة عن الغير ثم إخراجها عن النفس لا يؤثر ولا يزاحم فإنه يخرجها عن غيره ثم عن نفسه في وقتها ولذا لو أنه أخرجها عن أخيه مثلاً بحيث أنه لا يستطيع أن يخرجها عن نفسه إلا في سنة أخرى فإنه لا يجوز له ذلك، والحج هنا كذلك فإنه إذا حج عن غيره لم يستطع الحج عن نفسه إلا في سنة أخرى. وإلى هذا القول ذهب الأحناف والمالكية. وأما القول الثاني فهو مذهب الشافعية والحنابلة: وهو أنه إن حج عن غيره فإنه ينصرف الحج إلى نفسه؛ لأن الحديث بين بطلان الحج عن الغير قبل الحج عن النفس وحينئذ ينصرف الحج إلى النفس. وأما القول الثالث فهو رواية عن الإمام أحمد واختارها بعض أصحابه قالوا: يبطل ولا يصح من أحدهما فلا يصح من الحاج ولا المحجوج عنه –. وهذا القول هو الراجح، أما كونه لا يصح من المحجوج عنه فلأن النبي صلى الله عليه وسلم أفسده وأبطله ونهى عنه، أما كونه لا يصح من الحاج نفسه فلأن الأعمال بالنيات ولكل امرئ ما نوى وهذا لم ينوه لنفسه، والحج عبادة وحيث لم ينوه لنفسه فحينئذ لا يجزئ عنه، وشرط العمل النية. فإذا أُخبر فنوى عن نفسه قبل الوقوف بعرفة فإنه يجزئ ذلك عنه وتكون حجة صحيحة له. قال: (ويشترط لوجوبه على المرأة وجود محرمها)

هذا شرط وجوب، والفرق بين شرط الصحة وشرط الوجوب: أن شرط الصحة إذا انتفى بطلت العبادة، وأما شرط الوجوب فإذا انتفى فإن العبادة لا تبطل لكن لا يجب في الأصل بهذا الشرط بمعنى أن انتفاء شرط الوجوب يعني انتفاء الوجوب يعني إن حج فالحج صحيح. وعليه: فالمرأة إذا حجت بلا محرم فحجها صحيح وهي آثمة، وهذا قد اتفق عليه العلماء لأنه شرط وجوب لا شرط صحة، وهي آثمة لما ثبت في الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا يخلون رجل بامرأة إلا ومعها ذو محرم، ولا تسافر المرأة إلا مع ذي محرم فقال رجل: يا رسول الله: إن امرأتي خرجت حاجة وإني اكتتبت في غزوة كذا وكذا فقال: انطلق فحج مع امرأتك) (1) ، وفي الدارقطني وصححه أبو عوانة: (ولا تحجن امرأة إلا ومعها ذو محرم) . فإن حجت مع جماعة النساء فهل يجوز لها ذلك ويسقط عنها الإثم؟ ذهب إلى جواز ذلك الإمام مالك واختار ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية وأن المرأة إذا ذهبت في قافلة آمنة ومعها جماعة النساء فإن ذلك يجوز لها. واستدلوا: بما روى البخاري: أن عمر أذن لأزواج النبي صلى الله عليه وسلم في آخر حجة حجها وبعث معهن عثمان بن عفان وعبد الرحمن بن عوف " (2) وكان ذلك بمحضر من الصحابة، والشاهد أنه قد بعث معهن عثمان وعبد الرحمن وهما ليس بمحارم لهن. وهذا الاستدلال فيه ضعف من وجهين: الوجه الأول: - وهو أضعف من الوجه الثاني – أن يقال: إن نساء النبي صلى الله عليه وسلم لهن من حفظ الله وعنايته لحفظ عرضه صلى الله عليه وسلم ما ليس لغيرهن، ولهن من الصيانة والعفاف أعظم ذلك، فلا يقاس غيرهن بهن – هذا لو سلمنا أنه ليس معهن محرم.

_ (1) أخرجه البخاري [3006، 3061، 5233، 1862] ، ومسلم [424، 1341] . بداية المجتهد [2 / 223] (2) صحيح البخاري، باب حج النساء من كتاب جزاء الصيد رقم 1860.

الوجه الثاني: أن يقال: إن هذا الأثر ليس فيه أنه ليس معهن محرم، وإنما فيه أن عمر بعث معهن على القافلة عثمان وعبد الرحمن أي أمراء على القافلة، فهما أمراء القافلة التي فيها أزواج النبي صلى الله عليه وسلم وليس في الأثر أنه ليس معهن محارم فإن الأثر لم يتعرض لذلك، وهنَّ أجلَّ من أن يخالفن النبي صلى الله عليه وسلم في نهيه العام أن تسافر المرأة بلا محرم. لذلك الصحيح ما هو مشهور في المذهب من: أن المرأة ليس لها أن تسافر إلا مع ذي محرم. ثم إن الفارق ظاهر، فإن المحرم لا يقوم مقامه شيء فلا يقاس به غيره، فكونها تكون مع جماعة النساء لا يغني ذلك عن محرمها ولا يقوم مقامه، والأصل في القياس هو التماثل فلا يلحق هذه المسألة بمسألة المحرم مع وجود الفارق، فإن مظنة [الحفظ] قوية وإن كانت موجودة مع صحبة النساء أو في صحبة منه ولا يشبه ذلك وجود محرمها. واعلم أن من شروط المحرم أن يكون بالغاً – باتفاق العلماء، فالصبي وإن كان مميزاً ليس بمحرم لا في الخلوة ولا في السفر؛ ذلك لأن الحفظ والصيانة لا يكون إلا بمن كان بالغاً وهذا هو المقصود من المحرم. قال: (ومحرمها هو زوجها) فالزوج محرم لها وهذا ظاهر. ولا يجب على الزوج أن يحج بها إذ لا دليل على إيجاب ذلك عليه، وأما قوله صلى الله عليه وسلم: (انطلق فحج مع امرأتك) (1) فإن هذا أمر بعد سؤال فلا يدل على الوجوب؛ ولأن في ذلك مشقة وليس من التعبد المختص بنفسه والأصل في مثل ذلك ألا يكون واجباً إلا بدليل ظاهر يدل عليه، وليس عندنا ما يدل على إيجابه على الزوج ولكن ليس للزوج أن يمنعها من حج الفريضة، فهو حق الله عليها بخلاف حج التطوع فله أن يمنعها. قال: (أو من تحرم عليه على التأبيد)

_ (1) سبق برقم 30.

فيخرج من ذلك من تحرم تحريماً غير مؤبد، فمثلاً: الزوج ليس محرماً لأخت زوجته وعمتها وخالتها لأنها لا تحرم تحريماً مؤبداً، بل هو مؤقت ببقاء عصمته على أختها، أما إذا زالت هذه العصمة بطلاق أو وفاة، فإنها تحل له. نساء النبي صلى الله عليه وسلم يحرمن على التأبيد لكن ليس هذا للمحرمية وإنما للتحريم، فليس الرجال من المؤمنين بمحارم لهن، لكنه لا يحل لأحد منهن أن ينكح إحداهن بعد النبي صلى الله عليه وسلم، فهذا تحريم وليس بمحرمية. قال: (بنسب) أي بقرابة، كالأم والأخت والعمة، فالرجل محرم لأمه وأخته وعمته وخالته. قال: (أو سبب مباح) كالمصاهرة فهي سبب مباح تثبت به المحرمية كأم الزوجة وبنت الزوجة، فهي تحرم على التأبيد بسبب مباح وهو النكاح الذي أباحه الله فتثبت به المصاهرة.فالرجل محرم لأم زوجته وبنت زوجته. والرضاع أيضاً سبب مباح فعمته وخالته من الرضاع هو محرم لها ولا شك أن مثل هذا مع أمن الفتنة، فإذا أمنت الفتنة جاز ذلك. وقيَّد السبب بالمباح، ليخرج السبب المحرم كالملاعنة، فإن الرجل إذا لاعن امرأته حرمت عليه على التأبيد لكن ليس له أن يسافر محرما لها لأن هذا السبب سبب محرم لا تكتسب به محرمية وإنما تكتسب به تحريم وكذلك تخرج بنته من الزنا، فليس له أن يسافر بها وإن علم أنها ابنته من الزنا لأن هذا سبب محرم لا يثبت به المحرمية. إذن المحرمية: تثبت بمن تحرم عليه على التأبيد بنسب أو سبب مباح. قال: (وإن مات من لزماه أخرجا من تركته) . لزماه: أي الحج والعمرة. فإذا مات الرجل وقد لزمه الحج وهو لم يحج فإنه يخرج من أصل تركته قبل قسمة الميراث – يخرج مالاً يحج عنه به ويعطى حكم الديون.

ودليل ذلك: ما ثبت في البخاري أن امرأة من جهينة أتت النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: (يا رسول الله أن أمي نذرت أن تحج فلم تحج حتى ماتت أفأحج عنها؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: حجي عنها أرأيت لو كان على أمك دين أكنت قاضيته اقضوا الله فالله أحق بالوفاء) (1) فجعله النبي صلى الله عليه وسلم من الديون التي تقضى وحينئذ تخرج من تركته كسائر الديون كما تخرج الزكوات ونحوها. مسألة: رجل عاجز أو قادر – على الحج هل يجوز أن يوكلا من يحج عنهما تطوعاً؟ قال الحنابلة: نعم في الصورتين في العاجز والقادر فعندهم باب التطوع ليس كباب الفريضة. والراجح: أنه لا يحج أحد عن أحد كما قال ذلك ابن عمر وهو ثابت عنه بإسناد صحيح، وقال تعالى: {وأن ليس للإنسان إلا ما سعى} (2) وإنما يستثنى العاجز في حجة الفريضة، أما القادر فلا يصح أن يناب عنه لا في حج فرض ولا نفل، وأما العاجز فلا يجوز في النفل ويجوز في الفرض والحمد لله رب العالمين. باب المواقيت. المواقيت: جمع ميقات من وقت الشيء أي حدده وقدره. ومواقيت الحج قسمان: مواقيت مكانية: وهي المواضع التي يهل منها الحاج وسيأتي ذكرها. مواقيت زمانية: وهي الأشهر التي يهل بها الحاج وسيأتي ذكرها أيضاً. قال المؤلف رحمه الله تعالى: (وميقات أهل المدينة ذو الحليفة) شرع المؤلف في بيان المواقيت المكانية، فبدأ بميقات أهل المدينة وهو ذو الحليفة وهو ما يسمى عند العامة بـ " آبار علي " وسمي بذلك لقصة كاذبة مختلقة أن علياً قاتل الجن فيها لكن هذه القصة لا أصل لها كما بين ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية.

_ (1) أخرجه البخاري [1 / 464، 4 / 431] والنسائي وأحمد. الإرواء [993] . (2) سورة النجم 39.

وهو وادي العقيق (1) الذي قال فيه النبي صلى الله عليه وسلم فيما ثبت في البخاري: (أتاني آت من ربي فقال: صل في هذا الوادي فإنه مبارك) (2) . قال: (وأهل الشام ومصر والمغرب الجُحفة) والجُحفة: موضع يبعد عن مكة نحو ثمانين كيلو متراً، لكنه موضع خراب وذلك لأن النبي صلى الله عليه وسلم كما ثبت في الصحيحين: (دعا أن تنتقل حمى يثرب إليه) (3) فكانت فيه حمى يثرب، فانتقل إلى رابغ وهو موضع بحذائه فميقات أهل مصر والشام الآن هو رابغ. قال: (وأهل اليمن يلملم) وهو ما يسمى الآن بـ " السعديَّة " وهو جبل في تهامة. قال: (وأهل نجد قرن) والقرن في اللغة: الجبل المنفرد وهو ما يسمى الآن بالسيل الكبير. قال: (وأهل المشرق ذات عرق) فأهل المشرق من أهل العراق وأهل خراسان ونحوهم ميقاتهم ذات عرق، وهو ما يسمى الآن بـ " الضريبة " فهذه هي مواقيت الحاج.

_ (1) العقيق: واد عليه أموال أهل المدينة، ومهل أهل العراق هو الذي ببطن وادي ذي الحليفة. معجم البلدان. (2) رواه البخاري في كتاب الحج، باب قول النبي - صلى الله عليه وسلم - العقيق واد مبارك. (3) أخرجه البخاري في المرضى باب من دعا برفع الوباء والحمى [2677] ومسلم في الحج باب الترغيب في سكنى المدينة [1376] .

ودليل ذلك ما ثبت في الصحيحين عن ابن عباس قال: (وقت النبي صلى الله عليه وسلم لأهل المدينة ذا الحليفة، ولأهل الشام الجحفة) وفي النسائي (ولأهل الشام ومصر الجحفة) (1) (ولأهل نجد قرن المنازل ولأهل اليمن يلملم هن لهن ولمن أتى عليهن من غيرهن ممن أراد الحج والعمرة ومن كان دون ذلك فمن حيث أنشأ حتى أهل مكة من مكة) (2)

_ (1) النسائي، كتاب مناسك الحج، باب ميقات أهل مصر برقيم [2653] . (2) رواه البخاري في كتاب الحج، باب مهل أهل الشام، وباب مهل أهل مكة وغيرهما، ومسلم، باب مواقيت الحج والعمرة من كتاب الحج، وأبو ادود في باب المواقيت، والنسائي في باب ميقات أهل اليمن.

فهذه مواقيت أربعة وأما ذات عرق فثابت في حديث آخر، وهو ما ثبت في أبي داود والنسائي من حديث عائشة: (أن النبي صلى الله عليه وسلم: وقت لأهل العراق ذات عرق) (1) وأصله في مسلم (2) من حديث جابر إلا أن الراوي شك في رفعه، لكن ورد الجزم بأنه من قول النبي صلى الله عليه وسلم من حديثه في مسند أحمد بإسناد حسن، وقد وقته عمر فخفي عليه ميقات النبي صلى الله عليه وسلم، فإن توقيته كان مظنة الخفاء لأن العراق لم تكن مفتوحة في عصره عليه الصلاة والسلام، فكان ذلك من أعلام نبوته، وأما المواقيت الأخرى فكان يحرم منها ويهل في عصر النبي عليه الصلاة والسلام فخفي ذلك على عمر فأجتهد فأصاب السنة، فقد ثبت في البخاري: (لما فتح المصران " البصرة والكوفة " أتوا عمر فقالوا: إن النبي صلى الله عليه وسلم وقت لأهل نجد قرناً وإنه جور عن طريقنا " أي مائل ومنحرف عن طريقنا " وإنا إن أردنا قرناً شق علينا فقال: انظروا إلى حذوه فوقت لهم ذات عرق) (3) وفي قوله رضي الله عنه: (انظروا إلى حذوه) ما يدل على أنه إن كان الطريق لبلدة من البلاد إلى مكة ليس إلى ميقات وإرادتهم الميقات وانصرافهم إليه فيه مشقة فإنهم يحرمون مما يحاذي الميقات وهذا مما اتفق عليه العلماء. قال: (وهي لأهلها) فهذه المواقيت لأهلها، فذو الحليفة لأهل المدينة. قال: (ولمن مر عليها من غيرهم)

_ (1) رواه أبو داود في كتاب المناسك، باب في المواقيت، والنسائي باب ميقات أهل مصر، وباب ميقات أهل العراق. (2) صحيح مسلم، باب مواقيت الحج والعمرة، من كتاب الحج. كما أخرجه ابن ماجه في باب موقيت أهل الآفاق، والإمام أحمد في المسند 3 / 333، 336. (3) باب ذات عرق لأهل العراق، من كتاب الحج، صحيح البخاري [2 / 166]

فمن مر على هذه المواقيت من غير أهل هذه البلاد فهي مواقيتهم أيضاً، فإذا مر المدني بميقات أهل الشام أهلّ منه والعكس كذلك وهكذا، لقوله صلى الله عليه وسلم: (هن لهن ولمن أتى عليهن من غيرهن) (1) فالشامي إذا مر بميقات أهل المدينة فإنه يحرم منه – هذا هو المشروع في حقه باتفاق العلماء وهل لشخص من أهل الشام مر على المدينة – هل له أن يتجاوز ميقات أهل المدينة حتى يأتي إلى ميقات أهل الشام فيهل منه أم لا؟ والمستحب له بالاتفاق أن يهل من ميقات أهل المدينة، لكن هل يجوز له ويجزئه أن يتجاوز إلى ميقاته أم لا؟ قولان لأهل العلم: قال جمهور العلماء من الحنابلة والشافعية: لا يجوز له أن يهل إلا من هذا الميقات الذي مر به، فإن تجاوزه إلى ميقات أهل بلده فإن عليه دماً. واستدلوا: بقوله صلى الله عليه وسلم: (هن لهن ولمن أتى عليهن من غيرهن) . قالوا: فمعنى قوله: (هن لهن ولمن أتى عليهن من غيرهن) أي هذه المواقيت مواقيت لأهل هذه البلاد، ولأهل البلاد الأخرى إذا مروا عليهن وحينئذ فما دام ميقاتاً فلا يجوز أن يتجاوز، فهو ميقات لهم بنص النبي صلى الله عليه وسلم فليس لهم أن يتجاوزوه.

_ (1) سبق تخريجه برقم 39.

وذهب الإمام مالك إلى أن له أن يتجاوزه وإن كان الأفضل في حقه ألا يفعل، لكن إن فعل فإنه يجزئ عنه. واستدل بعموم قول ابن عباس: (وقت النبي صلى الله عليه وسلم لأهل المدينة ذا الحليفة ولأهل الشام الجحفة..) فهذا الحديث يدل على أن ذا الحليفة – مثلاً – ميقات لأهل المدينة سواء كانوا في بلادهم أو في غير بلادهم، وأن لهم أن يتجاوزوا البلاد حتى يأتوا ميقات بلادهم. وفيما قاله – رحمه الله – نظر، فإن النبي صلى الله عليه وسلم قد نص على ما تقدم وأن هذه مواقيت لمن مر عليها من أهل البلاد الأخرى. وأما قوله: (وقت لأهل الشام) فإن هذا من باب الغالب ولا شك أنه يسمى ميقات أهل الشام وهذا يسمى ميقات أهل المدينة ونحو ذلك فهو ميقاتهم أي ميقات بلدهم، وأما الأشخاص الذين يمرون عليه فسواء كانوا من أهل هذه البلدة أو من غيرهم فهذا هو ميقات من يذهب إلى مكة من جهة الشام وهذا ميقات من يذهب إلى مكة من جهة المدينة – وهكذا – فقوله صلى الله عليه وسلم: (هن لهن ولمن أتى عليهن من غيرهن) يدل على أنه ميقات له، والميقات لا يجوز لأحد أن يتجاوزه. فما ذهب إليه جمهور العلماء أصح مما ذهب إليه الإمام مالك. فعليه: إذا تجاوز الشامي ميقات أهل المدينة حتى أتى ميقات أهل الشام فأحرم منه فإنه قد ترك ما أوجبه الله عليه فيكون عليه دم لتركه واجباً من واجبات الحج وهو الإحرام من الميقات. قال: (ومن حج من أهل مكة فمنها)

من حج من أهل مكة سواء كان مقيماً أو غير مقيم – وهذا باتفاق العلماء – وقد يقال أن مثل هذه المسألة تدل على ضعف ما ذهب إليه الإمام مالك فإنه باتفاق العلماء لمن كان من أهل المدينة وقد مر على ميقات أهل الشام مقبلاً من جهة الشام أنه يحرم منه ولو قلنا بأن هذا الميقات خاص بأهل الشام وهذا خاص بأهل المدينة لم نقل بجوازه، فتبين أن المراد من مر به سواء كان من أهل تلك الجهة مقيماً بها أو كان ماراً غير مقيم. فهنا من كان في مكة مقيماً أو لم يكن مقيماً باتفاق العلماء لمن صادفه الحج وهو في مكة، أو نوى العمرة وهو في مكة فإنه يهل من مكة بالاتفاق، لقوله صلى الله عليه وسلم: (حتى أهل مكة من مكة) (1) فأهل مكة المقيمون وغير المقيمين يهلون بالحج من مكة وهذا مما لا خلاف بين أهل العلم ومما يدل على دخول غير المقيمين ما ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم أعمر عائشة من التنعيم، ومعلوم أن عائشة من أهل المدينة فأعطاها حكم أهل مكة في كونها تهل من الحل وهذا إنما يكون لأهل مكة. قال: (وعمرته من الحل) للحديث الذي تقدم ذكره وهو ما ثبت في الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم: (أمر عبد الرحمن بن أبي بكر أن يعمر عائشة من التنعيم) (2) والتنعيم هو أدنى الحل إلى مكة والحكم عام في التنعيم وغيره من الحل وإنما أعمرها من التنعيم لقربه من الحرم فهو أدنى الحل. فعلى ذلك المكيون إذا أرادوا العمرة وكانوا في الحرم فإنهم لا يعتمرون في موضعهم الذي هم فيه بل من أدنى الحل، وكذلك الآفاقي إذا كان بمكة وأدركه الحج أو أراد العمرة وهو في الحرم فيجب أن يحرم من الحل للحديث المتقدم.

_ (1) سبق تخريجه برقم 39. (2) أخرجه البخاري في كتاب العمرة، باب الاعتمار بعد الحج بغير هدي [1786] ، ومسلم [1211]

والعلة من التفريق بين الحج والعمرة: أن الحج فيه جمع بين الحل والحرم، فإن فاعل أنساك الحج يجتمع فيه الحل والحرم فعرفة مثلاً في الحل ومنى في الحرم، أما المعتمر فإنه إن لم يخرج إلى الحل فإن مناسكه لا يكون فيها حل – هذا ما ذكره أهل العلم – من التفريق. ويظهر لي أيضاً معنى آخر للتفريق وهو أن العمرة هي الزيارة والزيارة إنما تكون من الخارج لا من الداخل، فيخرج إلى الحل ويأتي معتمراً. إذاً: اتفق أهل العلم على التفريق بين الحج والعمرة في الإحرام فقالوا: يحرم من مكة للحج وأما العمرة فلابد أن يخرج إلى الحل سواء كان ذلك من التنعيم أو غيره. إذاً: عندنا هنا طرفان: الطرف الأول: من كان في المواقيت فما وراءها وتقدم الكلام عليه. الطرف الآخر: من كان في مكة في الحرم فتقدم حكمه وأنه يحرم للحج من موضعه، وأما العمرة فمن الحل. الطرف الثالث: من كان بين ذلك كالقرى والمدن التي تكون دون المواقيت إلى مكة فهؤلاء باتفاق العلماء يحرمون من مواضعهم، فكل يحرم من مكانه وذلك لقوله صلى الله عليه وسلم: (ومن كان دون ذلك فمن حيث أنشأ) (1) وإن كان بينه وبين الميقات مسافة يسيرة. قال: (وأشهر الحج شوال، وذو القعدة وعشر من ذي الحجة) (ذو القعدة) بالفتح ويصح الكسر " أي كسر العين [لعل الصواب: القاف] " القعِدة. (ذو الحجة) بكسر الحاء ويصح بفتحها، والمشهور هو الكسر، فعكس ذي القعدة فالمشهور فتح العين ويصح كسرها هذه أشهر الحج عند جمهور العلماء.

_ (1) سبق تخريجه برقم 39.

واستدلوا بقوله تعالى: {الحج أشهر معلومات فمن فرض فيهن الحج} (1) ووجه الاستدلال: قوله: {فمن فرض فيهن الحج} قالوا: ولا يمكن لأحد أن يفرضه إلا في عشر ذي الحجة فما قبلها فحينئذ: الأيام الأخرى من ذي الحجة ليست من أشهر الحج لأنه لا يفرض فيها الحج أي لا يهل بالحج، فإن الحج ينتهي الإهلال به بأذان الفجر من ليلة النحر. وهذا القول ثابت عن ابن عمر كما في البخاري معلقاً ووصله ابن جرير أنه قال: (أشهر الحج شوال وذو القعدة وعشر من ذي الحجة) (2) . ويورد إشكال على ما ذهب إليه الجمهور وهو أن يقال: إن الله عز وجل قال في كتابه: {الحج أشهر} والأشهر جمع، والجمع إنما يكون في الأصل بثلاثة، وهذه شهران وبعض شهر، وليست بجمع. فأجابوا عن ذلك بأن هذا من باب إطلاق الكل وإرادة الجزء وهذا مشهور في لغة العرب، فإن الرجل يقول قمت الليل ولم يقم إلا بعضه، ويقول: رأيت فلاناً اليوم، ولم يره إلا بعضه، وهذا أسلوب معروف في لغة العرب. - وذهب المالكية: إلى أن أشهر الحج شوال وذو القعدة وذو الحجة كاملاً. واستدلوا: بقوله تعالى: {الحج أشهر معلومات} فقوله: (أشهر) جمع، وهذا يصدق في الأصل على ثلاثة، وما ذكرتموه – أي الجمهور – تأويلٌ، فإن إطلاق الكل على الجزء تأويل، والأصل إطلاق الكل على الكل، فإذا قال رجل: قمت الليل، فالأصل أنه قامه كله إلا أن تكون هناك قرينة تدل على أنه لم يقمه كله. قال الجمهور – قرينتنا – قوله تعالى: {فمن فرض فيهن الحج} فهذه قرينة تدل على أنه أطلق الكل وأراد به الجزء.

_ (1) سورة البقرة. (2) البخاري، كتاب الحج، باب قول الله تعالى: {الحج أشهر معلومات..} .

ويمكن أن يجاب على هذا بأن يقال: إنكم قد أدخلتم فيها العاشر من ذي الحجة ومعلوم أن يوم النحر وهو يوم الحج الأكبر لا يفرض الحج فيه، فإن الحج ينتهي بما يمكن أن يدرك فيه عرفة، وعرفة يدرك بإدراك جزء يسير قبل أذان الفجر من يوم النحر. فعليه تبين أن ما ذهب إليه المالكية أصح في هذه المسألة، فإن يوم الحج الأكبر أعظم أيام الحج لا يفرض الحج فيه ومع ذلك قطعاً هو من أيام الحج، على أن اليوم الحادي عشر والثاني عشر والثالث عشر أيام فيها مناسك الحج. فما ذهب إليه المالكية أصح. وأما قوله تعالى: {فمن فرض فيهن الحج} فإن ذلك يرجع إلى السُّنة وقد بينت السنة أن أشهر الحج التي يفرض فيها الحج ما يمكن أن تدرك فيه عرفة، فيبقى هذه خصيصة لما قبل يوم النحر في إدراك الحج وفرضه فيه، وتبقى الأيام الأخرى من شهر ذي الحجة من أشهر الحج. وهذه المسألة لا يترتب عليها كبير ثمرة في المسائل الفقهية ومع ذلك فإن الراجح ما ذهب إليه المالكية في هذه المسألة وأن أشهر الحج شوال وذو القعدة وذو الحجة بتمامه وهو ثابت عن ابن عمر كما عند ابن جرير بإسناد صحيح (1) وعليه فقد اختلف قول ابن عمر في هذه المسألة. مسألة: إذا أهل بالحج قبل أشهره، وهذا وإن كان لا يتصور كثيراً في هذه الأزمان لكنه يتصور في الأزمنة السابقة لمّا كان الناس يبكرون إلى الحج لبعد المسافة، فإذا أهل قبل أشهر الحج كأن يهل بالحج في رمضان فهل يصح حجه أم لا؟ قولان لأهل العلم: قال الحنابلة: يصح حجه لكن يكره – وهو مذهب جمهور العلماء.

_ (1) رواه ابن كثير في تفسيره [1 / 224] وقال: " إسناد صحيح ".

واستدلوا بقوله تعالى: {يسألونك عن الأهلة قل هي مواقيت للناس والحج} والأهلة هي أهلة القمر أي أهلة الشهور، فهنا قال تعالى: {يسألونك عن الأهلة} أي بيِّن لنا الأهلة، فصرفهم الله إلى الفائدة منها فقال: {هي مواقيت للناس والحج} ، قالوا: فقوله: {مواقيت للناس والحج} يدل على أن الأشهر كلها مواقيت للحج. وقال الشافعية: إذا أهل قبل أشهر الحج لم يجزئه ذلك. قال الشافعية: قوله تعالى: {الحج أشهر معلومات فمن فرض فيهن الحج} دليل على أنه لا يجوز له أن يحرم قبل هذه الأشهر، فإن قوله تعالى: {الحج أشهر} خبر من الله تعالى بأن الحج أشهر، والحج لا يوصف بكونه أشهر، فإنه فعل مناسك، فتبين أن هناك محذوف مقدَّر تقديره: " مواقيت الحج أشهر " وهذا من باب حذف المضاف وإبقاء المضاف إليه، فدل على أن مواقيت الحج هي هذه الأشهر، ومعلوم أن الميقات لا يجوز أن يتجاوز لا بتقديم ولا بتأخير وقد قال تعالى: {فمن فرض فيهن} فدل على أن الفرض لا يكون إلا فيهن. وما ذهبوا إليه أصح. وأجابوا عن الآية المتقدمة قالوا: قوله تعالى: {يسألونك عن الأهلة قل هي مواقيت للناس والحج} هنا جعل الله الأهلة مواقيت للحج؛ لأن أشهر الحج تعرف بمعرفة بقية الشهور، فإنا نحتاج إلى معرفة شهر شوال بمعرفة خروج شهر رمضان وبمعرفة صحة دخوله وهكذا. فعلى ذلك هذه الآية فيها بيان [أن] الأهلة يستعان بها على معرفة الحج. أو أن المراد أن بعض الأهلة مواقيت للحج وهي الأشهر الثلاثة. ومذهب الشافعية أصح وأن الإهلال لا يصح، وحينئذ فينقلب عمرة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر أصحابه وقد أهلوا بالحج أن يحلقوا رؤوسهم فتكون لهم عمرة. مسألة: " في المواقيت المكانية " تقدمت المواقيت المكانية وأن الواجب هو ألا يتجاوزها، فإذا أحرم قبل الميقات المكاني فهل يجزئ ذلك عنه أم لا؟

أجمع أهل العلم على أن ذلك يجزئ (1) وأن المقصود ألا يتجاوز هذه المواقيت إلا بإحرام واتفقوا على أن المشروع أن يحرم منها، وأن الإحرام قبلها مكروه، وأما ما رواه البيهقي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من تمام الحج أن تحرم من دويرة أهلك) (2) ففيه جابر بن نوح وهو ضعيف الحديث، وأما ما رواه أبو داود من أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من أهل بحجة أو عمرة من المسجد الأقصى إلى المسجد الحرام غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر وأدخل الجنة) (3) ففيه جهالة، وقال ابن القيم: قال غير واحد من الحفاظ: " إسناده ليس بالقوي ". ولولا الإجماع على أن ذلك جائز، لقلنا بأنه محرم. مسألة: هل يجوز له أن يتجاوز الميقات من غير إحرام إن كان غير مريد للحج والعمرة؟ قولان لأهل العلم: 1- ذهب جمهور العلماء وهو مذهب الحنابلة: إلى وجوب ذلك، فلا يجوز له أن يمر من الميقات إلا بإحرام. واستدلوا: بما ثبت عند البيهقي بإسناد صحيح عن ابن عباس قال: (لا يدخل مكة أحد من أهلها أو من غير أهلها إلا بإحرام) (4) . 2- وذهب الشافعية: إلى أنه لا يجب ذلك عليه، وهو رواية عن الإمام أحمد واختارها طائفة من أصحابه كابن عقيل. واستدلوا: بما ثبت في الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم: (دخل مكة وعلى رأسه المغفر) أي دخل مكة فاتحاً وهو غير محرم.

_ (1) قال ابن حجر في فتح الباري [3 / 448] : " وقد نقل ابن المنذر وغيره الإجماع على الجواز، وفيه نظر فقد نقل عن إسحاق وداود وغيرهما عدم الجواز، وهو ظاهر جواب ابن عمر " رقم 1522 من صحيح البخاري. (2) أخرجه البيهقي في باب تأخير الحج من كتاب الحج [4 / 341] وفي باب من استحب الإحرام من دويرة أهله [5 / 30] . (3) أخرجه أبو داود [1741] باب المواقيت، وابن ماجه [3001، 3002] . زاد المعاد [3 / 301] . (4) زاد المعاد [1 / 50] .

واستدلوا: بمفهوم قول النبي صلى الله عليه وسلم: (ممن أراد الحج أو العمرة) فمهومه أن من لم يرد الحج والعمرة فلا يجب عليه أن يحرم من هذه المواقيت. قالوا: وأما أثر ابن عباس فهو مخالف بأثر ابن عمر الذي رواه البخاري في صحيحه معلقاً ووصله ابن أبي شيبة بإسناد صحيح، أنه كان لا يفعل ذلك، فهذا فعل منه يخالف ما ورد عن ابن عباس، والحجة فيما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم. فما ذهب إليه الشافعية هو الصحيح. والحمد لله رب العالمين بابُ: الإحرام قال المؤلف رحمه الله تعالى: (الإحرام نية النسك) الإحرام في اللغة: مصدر أحرم، يقال: أحرم يحرم إحراماً وهو الدخول في التحريم. وأما في الشرع فقال المؤلف هنا: نية النسك. والنية تقدم تعريفها بأنها: القصد الجازم، والنسك: هو الحج أو العمرة. وهنا يشكل أن الرجل إذا خرج من بلدته إلى مكة فهو قاصد جزماً الحج أو العمرة ومع ذلك فلا يعد محرماً، وإنما يعد محرماً إذا أتى الميقات فنوى فيه، وحينئذٍ فيجب أن يقيَّد بما قيَّده المؤلف كما في الشرح بأن يقال: نية الدخول في النسك أي نية الدخول في الحج أو العمرة – ولا شك أن هذا القيد هو مراد المؤلف -. والصلاة كذلك فإن الرجل يخرج من بيته وهو قاصد الصلاة وأما النية التي هي شرط في الصلاة فهي نية الدخول في الصلاة، فالإحرام هو نية الدخول في النسك سواء كان النسك حجاً أو عمرة. وهل يشترط فيه شرط آخر؟ جمهور العلماء من الحنابلة والشافعية والمالكية في المشهور عندهم: أنه لا يشترط شيء، فإذا نوى الدخول في النسك فإن ذلك يجزئ عنه ولا يشترط شرطاً آخر سوى ذلك. وذهب الأحناف وهو رواية عن الإمام أحمد واختاره شيخ الإسلام: إلى أنه يشترط مع النية قول أو فعل يدل على النية وهو أن يسوق الهدي أو أن يلبي.

فإذا أتى رجل الميقات ولم يسق الهدي ولم يتلفظ بقول: " لبيك عمرة أو لبيك حجاً " أو يقول " لبيك اللهم لبيك ... " فإنه لا يجزئ عنه. أما الأحناف: فإنهم قاسوا الحج على الصلاة، فإن الرجل إذا صلى بنية فإنه لا يجزئ عنه إلا بتكبيرة الإحرام. وأما شيخ الإسلام فعلل ذلك بقوله: إن الرجل إذا خرج من بلدته إلى مكة فإنه قاصد الحج والعمرة ناوٍ ذلك ففرض عليه إذا نوى عند الميقات أن يقول قولاً أو يفعل فعلاً يدل على إرادته للحج، والقول هو التلبية والفعل هو سياقه الهدي. وعليه - فإن مقتضى تعليله – رحمه الله – أنه يجزئ عنه تجرده، فإذا تجرد ولبس الإزار والرداء فإن هذا فعل في أزماننا لا يراد إلا للحج فيكون دليلاً على نيته. وعلى ذلك فإن الراجح ما ذهب إليه جمهور العلماء؛ وذلك لأن الأصل هو الاكتفاء بالنية وتكبيرة الإحرام قد دلت الأدلة الشرعية على أنها ركن من أركان الصلاة ولم يرد مثل ذلك في التلبية في الحج أو في سياق الهدي. وأما تعليل شيخ الإسلام، فإن فيه نظراً تقدم التنبيه عليه: وهو أن الرجل إذا قصد مكة خارجاً من بلدته فإن هذا مجرد قصد للعبادة والنسك بخلاف نيته في الميقات فإنها نية الدخول في النسك – وهذا شبيه كما تقدم بالصلاة – فإن الرجل يخرج من بيته قاصداً المسجد ناوٍ الصلاة ومع ذلك فإن هذه النية لا تجزئ عنه وإن كبر للإحرام ما لم ينو نية جديدة وهي نية الدخول في الصلاة، فالصحيح أنه لا يشترط، وسيأتي حكم النية هل هي ركن أم واجب أم سنة في موضعه – إن شاء الله -. قال: (يسن لمريده الغسل) فيسن لمن يريد الدخول في النسك الغسل، ودليله ما ثبت في مستدرك الحاكم بإسناد صحيح عن ابن عمر قال: (من السنة أن يغتسل عند إحرامه وعند دخوله مكة) وقول الصحابي من السنة يرفعها.

ويدل عليه أيضاً ما ثبت في مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم: (أمر أسماء بنت عميس وكانت نفساء أن تغتسل عند إحرامها) (1) قال: (أو يتيمم لعدم) فإن لم يقدر على الاغتسال لعدم ماء أو لعذر كمرض أو برد فإنه يسن له أن يتيمم – هذا هو قول القاضي من الحنابلة – وهو المشهور عند المتأخرين. ودليلهم: أن التيمم ينوب عن الغسل في الطهارة المشروعة أو المفروضة كما يكون هذا فيمن أصيب بجنابة فلم يجد ماءً يغتسل به فإنه يتيمم. واختار الموفق وصوبه وصاحب الإنصاف: إلى أنه لا يشرع له التيمم. قالوا: لأن هذا الغسل غسل مستحب، قالوا: والأغسال المستحبة إنما شرعت للتنظيف وإزالة القذر فهي مشروعة لذلك، والتيمم لا يحصل به ذلك. قلت: ومما يدل على ذلك ما تقدم من أمر النبي صلى الله عليه وسلم أسماء بنت عميس أن تغتسل وكانت نفساء ومعلوم أن غسلها لا يفدها طهارة، لا طهارة مفترضة ولا طهارة مستحبة - وإنما يراد منه التنظف وإزالة القذر من عرق ونحوه – وهذا هو القول الراجح. قال: (وتنظيف) فيستحب له التنظيف بأن ينتف إبطه ويحلق عانته ويقلم أظافره ويزيل ما يكون في بدنه من الأوساخ ونحو ذلك. ودليل ذلك: مشروعية الاغتسال فإنه تقدم أن الاغتسال إنما شرع للتنظيف فيشبهه إزالة الأقذار وتقليم الأظفار ونتف الإبط وحلق العانة فإنها مستحبة لما فيها من التنظيف فهذا من باب القياس على الاغتسال، فالاغتسال إنما شرع للتنظيف وهنا كذلك. قال: (وتطيب)

_ (1) رواه مسلم في باب إحرام النفساء واغتسالها بالإحرام، من كتاب الحج، صحيح مسلم بشرح النووي [8 / 133] .

فيستحب له أن يتطيب عند إحرامه، ودليل ذلك ما ثبت في الصحيحين عن عائشة قالت: (كنت أطيب النبي صلى الله عليه وسلم لإحرامه قبل أن يحرم ولحله قبل أن يطوف بالبيت) قالت: (وكأني أنظر إلى وبيص " أي لمعان " الطيب في مفارق رسول الله صلى الله عليه وسلم) (1) وهذا الحديث فيه فائدتان: الأولى: ما تقدم وهو مشروعية الطيب عند الإحرام. الثانية: أنه لا بأس باستدامته، فإذا وضع الطيب على رأسه فبقي بعد الإحرام فإنه لا بأس بذلك، أو بقي على ردائه بعد الإحرام فلا حرج في ذلك، مما يدل عليه ما ثبت في أبي داود عن عائشة قالت: (كنا نخرج مع النبي صلى الله عليه وسلم إلى مكة فنضمد وجوهنا بالمسك المطيب عند الإحرام فإذا عرقت إحدانا سال على وجهها فيراها النبي صلى الله عليه وسلم فلا ينهاها) (2) ، في هذا الحديث فائدة أخرى وهي أنه إذا تحول الطيب من موضع إلى موضع بغير فعل من المحرم فلا حرج، كأن ينتقل بسبب إذابة الشمس، أو بالعرق إلى موضع آخر فلا حرج. أما إذا أخذه المحرم بيده فوضعه في موضع آخر فإن ذلك ابتداء للتطيب في ذلك الموضع فيجب عليه أن يفدي. ولا فرق بين الطيب الذي يبقى أثره ولونه، وبين الطيب الذي لا يبقى أثر له إلا الرائحة. مثال الأول: المسك، ومثال الثاني: البخور، فلا فرق بينهما.

_ (1) رواه البخاري كتاب الحج، باب الطيب قبل الإحرام رقم 1538، الفتح لابن حجر [3 / 463] ومسلم في كتاب الحج، باب استحباب الطيب قبل الإحرام، صحيح مسلم بشرح النووي [8 / 100] . (2) رواه أبو داود في كتاب المناسك باب ما يلبس المحرم رقم 1830، سنن أبي داود [2 / 414] .

- وذهب الإمام مالك: إلى أن استدامته من محظورات الإحرام، واستدل بما في الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم أتاه رجل في عمرة الجعرانة (وكانت في السنة 8 هجرية) فقال يا رسول الله: كيف ترى في رجل أحرم بعمرة وهو متضمخ بطيب؟ فسكت النبي صلى الله عليه وسلم ساعة ثم قال: (اغسل الطيب الذي عليك) (1) الحديث وهو من حديث يعلى بن أمية. وردّ هذا جمهور العلماء بأن هذا الحديث منسوخ فإنه كان في السنة الثامنة للهجرة في عمرة الجعرانة، وما تقدم فكان في حجة الوداع في السنة العاشرة فهي أحاديث ناسخة لحديث يعلى بن أمية المتقدم. فالقول الراجح هو مذهب الجمهور. (قال الفقهاء: إذا كان الثوب … فليس أن يلبسه) (2) . قال: (وتجرَّد من مخيط) المخيط: هو الثوب المفصل على شيء من البدن كالقمص والسراويل وليس المراد ما فيه خيوط، فالمراد: الثوب المفصل على شيء من البدن سواء كان البدن كله أو جزء منه كالقمص والسراويل. وأما ما كان فيه خيوط كأن يكون عليه رداء فيه خيوط أو نعول فيها خيوط فإن هذا لا حرج فيه وليس ثمت أحد من العلماء ينهى عن ذلك، وإنما يريدون بالمخيط الثياب المفصلة على قدر البدن أو بعضه. فإذاً: يسن أن يتجرَّد من المخيط، وقد روى الترمذي بإسناد فيه جهالة أن النبي صلى الله عليه وسلم: (تجرَّد لإهلاله واغتسل) (3) .

_ (1) أخرجه البخاري في الحج باب غسل الخلوق ثلاث مرات رقم 1536، 4985، ومسلم في الحج باب ما يباح للمحرم رقم 1180، وأبو داود باب الرجل يحرم في ثيابه 1822، والترمذي والنسائي. (2) هذه العبارة في أعلى المذكرة وليست في الأصل. (3) أخرجه الترمذي [1 / 159] ، والدارمي والدارقطني والبيهقي، الإرواء رقم [149] وقال: " حسن ".

وقال صلى الله عليه وسلم – كما سيأتي -: (وليحرم أحدكم بإزار ورداء ونعلين) (1) فيسن له أن يتجرد من الثياب المخيطة. وهذا فيه إشكال فإنه من المعلوم الإجماع على وجوب ذلك برواية من لبس مخيطاً فإن عليه فدية – وسيأتي -. وزوال الإشكال أن يقال: إن مراد المؤلف قبل الإحرام فقبل نية النسك يستحب له أن يخلع ما عليه من المخيط لتكون نيته للنسك وليس عليه شيء يحتاج إلى إزالته. وعليه: فإذا نوى النسك وعليه شيء مخيط فخلعه فلا حرج عليه في ذلك. أما إذا استدامه ولم يزله فوراً فعليه الفدية. فالواجب عليه بمجرد نية النسك أن يزيل ما عليه فإذا تركه ولو لحظة مع إمكان إزالته فإن عليه الفدية. فمرادهم يسن قبل إحرامه لئلا يعرّض إحرامه لبقاء هذه الثياب المخيطة عليه لحظة من زمن مستديماً لها مفرطاً فتلزمه الفدية. قال: (ويحرم في إزار ورداء أبيضين) للحديث المتقدم الذي رواه أحمد في مسنده بإسناد صحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (وليحرم أحدكم في إزار ورداء ونعلين) (2) وأما دليل استحباب كونهما بيضاً قوله صلى الله عليه وسلم: (البسوا من ثيابكم البياض فإنها من خير ثيابكم) (3) فإن أحرم بثوب لونه آخر فلا حرج في ذلك. قال: (وإحرام عقب ركعتين) فيستحب له أن يكون إحرامه بعد ركعتين، فإن كانت فريضة فبعد أن يصلي الفريضة، وإن لم تكن فريضة صلى ركعتين للإحرام، هذا هو المشهور في مذهب الحنابلة.

_ (1) رواه الإمام أحمد [2 / 34] وابن الجارود في المنتقى، قال الألباني رحمه الله: " صحيح " الإرواء رقم 1096. (2) سبق برقم 59 (3) أخرجه أبو داود كتاب الطب، باب في الأمر بالكحل رقم 3878 سنن أبي داود [4 / 209] ،وابن ماجه في اللباس باب البياض من الثياب رقم 3566، والترمذي في الجنائز باب ما يستحب من الأكفان رقم 994 وقال: (حسن صحيح) .

واستدلوا: بما روى أبو داود من حديث ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم: (أهل عند المسجد بعد أن صلى فيه ركعتين) (1) والحديث فيه خُصيف بن عبد الرحمن وهو ضعيف، لكن له شاهد عند البزار من حديث انس: (أن النبي صلى الله عليه وسلم أهل دبر الصلاة) . واختار شيخ الإسلام وتلميذه ابن القيم، أن المستحب له أن يصلي إن وافق فريضة وإلا فإنه ليس للإحرام صلاة تخصه. قالوا: لأنه لم يصح عن النبي صلى الله عليه وسلم تخصيص صلاة للإحرام لا بقوله ولا بفعله. وأما ما تقدم من حديث ابن عباس فكان ذلك بعد الفريضة، فقد ثبت في الصحيحين عن أنس قال: (صلى بنا النبي صلى الله عليه وسلم ونحن معه بالمدينة الظهر أربعاً والعصر بذي الحليفة ركعتين فبات بها النبي صلى الله عليه وسلم حتى أصبح ثم ركب حتى استوت به راحلته على البيداء) (2) فكان ذلك بعد صلاة الصبح فهما الركعتان اللتان ذكرهما ابن عباس في الحديث الذي تقدم أنه حديث حسن لغيره. فعلى ذلك يستحب له أن يحرم بعد صلاة الفريضة، فإن لم توافق فريضة فلا يشرع أن يصلي صلاة بنية أنها للإحرام فإن ذلك لم يصح عن النبي صلى الله عليه وسلم لا بقوله ولا بفعله. قال: (ونيته شرط) فنية الإحرام شرط وهذا ظاهر فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى) (3) والحج عمل فلا يصح إلا بنية فمن شروط الحج النية، فإن حج بلا نية لم يصح حجه. قال: (ويستحب قول: اللهم إني أريد نسك كذا فيسره لي) لم أر هذا يثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم، وإنما ثبت عنه قوله: (لبيك عمرة في حجة) (4) .

_ (1) أخرجه أبو داود باب في وقت الإحرام رقم 1770، [2 / 372] ، وأحمد في المسند رقم 2358. (2) أخرجه البخاري [1 / 277] ومسلم [2 / 144] وأبو داود والنسائي والترمذي. الإرواء رقم 570. (3) متفق عليه. (4) سبق برقم 36

قالوا: ويستحب له هذا – أي ما تقدم – أو ما في معناه، لكن إن دعا بدعاء مباح فلا بأس بذلك من غير أن يتخذ ذلك سنة فإنه لم يصح عن النبي صلى الله عليه وسلم هذا الدعاء ولا غيره. قال: (وإن حبسني حابس فمحِلِّي حيث حبستني) " إن حبسني حابس " يعني منعني من الوصول إلى المناسك مانع من مرض أصبت به أو عدوٍ أو نحو ذلك فمحلي حيث حبستني، فإذا قال مثل هذه العبارة فحصل له شيء فإنه يحل من حجه ولا شيء عليه، فلا يجب عليه هدي الإحصار. قالوا: لما ثبت في الصحيحين عن عائشة قالت: دخل النبي صلى الله عليه وسلم على ضباعة بنت الزبير فقالت: يا رسول الله: إني أريد الحج وأنا شاكية " أي مريضة " قال: (حجي واشترطي أن محلي حيث حبستني) (1) ، وفي النسائي: (فإن لك على ربك ما استثنيت) (2) . قالوا: فهذا يدل على مشروعية الاشتراط، وهذا سواء كان للشخص عذر يحتمل وقوعه أم لم يكن، فإن هذا المشهور في مذهب الحنابلة. واختار شيخ الإسلام أن ذلك لا يشرع إلا للخائف، فإن اشترط الخائف نفعه ذلك. كرجل مريض يُخشى أن يؤثر عليه المرض ويمنعه من الحج فيشترط إن حبسه حابس أن محله حيث حبس فحينئذٍ متى ما ثقل عليه المرض فلم يستطع أن يمضي إلى الحج وقد أحرم فيه فإنه يحل ولا شيء عليه. وقبل ذلك: لو كانت البلاد خائفة فاشترط ثم كان في الطرق ما يخل بأمنها بحيث أنه لا يستطيع المضي لأداء الحج فإنه يحل ولا شيء عليه. وما ذهب إليه شيخ الإسلام هو الراجح؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم لم يقل ذلك ولا أمر به أصحابه، وإنما أمر به من كانت شاكية خائفة أن تمنعها شكايتها من تمام حجها، فعلّمها النبي صلى الله عليه وسلم هذا الاشتراط، وهذا هو القول الراجح.

_ (1) أخرجه البخاري [3 / 417] ومسلم [4 / 26] . (2) أخرجه النسائي [2 / 20] . الإرواء رقم 1009، 1010.

فيستحب ذلك لمن كان خائفاً كالمريض والخائف ونحوهما فيستحب لهم ذلك وينفع لهم ذلك، فإن حدث لهم مانع فإنهم يحلون ولا شيء عليهم. أما الآخر فإنه لا يشرع له ولا يترتب عليه هذه الأحكام لأن هذا فعل غير مشروع فلا تترتب عليه الأحكام الشرعية. والحمد لله رب العالمين قال المؤلف رحمه الله تعالى: (وأفضل الأنساك التمتع) الأنساك ثلاثة: التمتع والقران والإفراد فالتمتع والقران يجمع فيهما بين العمرة والحج، والفرق بينهما أن التمتع يتحلل منه المعتمر ثم يهل بالحج في أشهره، وأما القران فإنه يقرن بينهما من غير تحلل. فعلى ذلك التمتع: هو الإهلال بالعمرة والحج في أشهر الحج بتمتع بينهما، فيقول في الميقات: لبيك عمرة، ثم يؤدي مناسك العمرة ثم يتحلل الحل كله ثم يهل بالحج – وهذا كله في أشهر الحج – وعليه فإذا أهل بالعمرة في رمضان ثم مكث في مكة إلى الحج فأهل به فليست بمتمتع، فإن التمتع عند أهل العلم الجمع بين الحج والعمرة في أشهر الحج. وأما القران فهو أن يهل بالعمرة والحج معاً، فيقول عند الميقات: " لبيك عمرة وحجاً " أو " لبيك عمرة في حجة " ويفعل مناسك الحج ولا يتحلل بينهما، فلا يتحلل إلا إذا رمى الجمرة يوم النحر. وأما الإفراد: فهو أن يهل بالحج مفرداً فلا يدخل فيه عمرة. فالتمتع هو: الإهلال بالعمرة والحج في أشهر الحج يتحلل بينهما، والقران بغير تحلل. وأما الإفراد: فهو أن يهل بالحج منفرداً متجرداً عن العمرة. وقد قال المؤلف: " أفضل الأنساك التمتع " اعلم أن جماهير العلماء على أن المسلم مخير بين هذه الأنساك الثلاثة فإن شاء أهل متمتعاً وإن شاء أهل قارناً وإن شاء أهل مفرداً.

واستدلوا: بما ثبت في مسلم عن عائشة قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من أراد أن يهل بالحج والعمرة فليفعل " وهذا هو القران " ومن أراد أن يهل بالعمرة فليفعل " وهذا هو التمتع " ومن أراد أن يهل بالحج فليفعل) (1) وهذا هو الإفراد) وذهب ابن عباس رضي الله عنه – وهو مذهب ابن حزم من الظاهرية ومال إليه ابن القيم – إلى أن التمتع واجب، وذكر ابن القيم في زاد المعاد أربعة عشر حديثاً عن النبي صلى الله عليه وسلم تدل على أمره بالتمتع لأصحابه في حجة الوداع. فمن ذلك ما ثبت في الصحيحين عن ابن عباس قال: (كانوا – أي أهل الجاهلية – يرون الاعتمار في أشهر الحج من أفجر الفجور فلما قدم النبي صلى الله عليه وسلم مكة بأصحابه صبيحة رابعة مهلين أمرهم أن يهلوا بعمرة أي أن يقلبوا حجهم إلى عمرة " فيعتمرون ثم يحلون ثم يحجون) فقالوا: يا رسول الله: أي الحل؟ فقال: الحل كله (2) .

_ (1) أخرجه مسلم تحت باب بيان وجوه الإحرام في مذاهب العلماء في تحلل المعتمر والمتمتع، صحيح مسلم بشرح النووي [8 / 143] ، وأخرج البخاري بعضه باب الاعتمار بعد الحج بغير هدي رقم 1786. (2) أخرجه البخاري باب التمتع والقران والإفراد بالحج، رقم 1564، ومسلم باب جواز العمرة في أشهر الحج، صحيح مسلم بشرح النووي [8 / 225] .

وثبت في الصحيحين عن جابر: أن النبي صلى الله عليه وسلم: لما قدم مكة أمر أصحابه فقال: (أحلوا من إحرامكم بالطواف بالبيت وبين الصفا والمروة وقصروا ثم أقيموا حلالاً حتى إذا كان يوم التروية فأهلوا بالحج واجعلوا التي قدِمْتُم بها متعة فقالوا: يا رسول الله كيف نجعلها متعة وقد سمينا الحج؟ فقال: افعلوا ما أمرتكم ولولا أني سقت الهدي لفعلت الذي أمرتكم به ولكن لا يحل منى حرام حتى يبلغ الهدي محله) (1) وفي الصحيحين عن عائشة قالت: (خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى مكة لا نذكر إلا الحج) (2) – الحديث – وفيه: فلما قدم النبي صلى الله عليه وسلم مكة قال لأصحابه: (اجعلوها عمرة فأحل الناس إلا من كان معه هدي) فهذه أحاديث صحيحة فيها أمر النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه أن يهلوا بعمرة وأمر النبي صلى الله عليه وسلم للوجوب، وقد تشدد النبي صلى الله عليه وسلم على أصحابه في ذلك فدل ذلك على وجوبه.

_ (1) أخرجه البخاري، باب التمتع والقران والإفراد بالحج وفسخ الحج لمن لم يكن معه هدي رقم 1568، ومسلم في بيان وجوه الإحرام (مذاهب العلماء في تحلل المعتمر المتمتع. صحيح مسلم بشرح النووي [8/ 166] . (2) البخاري باب التمتع والقران والإفراد، رقم 1561، مسلم في بيان وجوه الإحرام (مذاهب العلماء في تحلل المعتمر المتمتع) ، صحيح مسلم بشرح النووي [8 / 147، 154] .

قالوا: وأما ما استدل به الجمهور من حديث مسلم عن عائشة فإن هذا كان قبل أن يقدم النبي صلى الله عليه وسلم مكة فإنه قال ما تقدم: (من أحب أن يهل بالحج والعمرة فليفعل ومن أحب أن يهل بالعمرة فليفعل ومن أحب أن يهل بالحج فليفعل) (1) فلما قدم مكة أمرهم بأن يهلوا بعمرة كما تقدم من حديثها نفسها، فإنها قالت في الحديث المتفق عليه المتقدم: (خرجنا مع النبي صلى الله عليه وسلم إلى مكة لا نذكر إلا حجاً) إلى أن قالت: (فلما قدم النبي صلى الله عليه وسلم مكة قال لأصحابه: اجعلوها عمرة) (2) فنسخ النبي صلى الله عليه وسلم التخيير المتقدم. فهذه أحاديث ظاهرة في وجوب ذلك. وسلك شيخ الإسلام مسلكاً آخر وارتضاه الشنقيطي في أضواء البيان فقال: هذا الوجوب الذي دلت عليه الأحاديث المذكورة كان على أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم خاصة أما غيرهم فإن ذلك يستحب لهم ولا يجب. واستدل: بما روى أبو داود في سننه من حديث الحارث بن بلال عن أبيه أن النبي صلى الله عليه وسلم سُئل فقيل له: (ألنا خاصة أم للناس عامة؟ فقال: بل لكم خاصة) (3) لكن الحديث فيه الحارث بن بلال وهو مجهول.

_ (1) سبق برقم 68 (2) سبق قريباً. (3) أخرجه أبو داود باب الرجل يهل بالحج ثم يجعلها عمرة رقم 1808.

ويعارض هذا الحديث حديثاً متفق عليه وهو ما ثبت في الصحيحين عن سراقة بن مالك أنه سأل النبي صلى الله عليه وسلم فقال: (يا رسول الله ألعامنا هذا أم للأبد؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: بل للأبد) (1) وزاد مسلم: (فشبك النبي صلى الله عليه وسلم بين أصابعه وقال: دخلت العمرة في الحج إلى يوم القيامة) (2) فهذا حديث متفق عليه فلا يعارض بالحديث المتقدم، وفيه الحارث بن بلال وهو مجهول. واستدل شيخ الإسلام أيضاً: بما ثبت في مسلم عن أبي ذر أنه قال: (كانت المتعة لأصحاب النبي صلى الله عليه وسلم) (3) ونحوه عن عثمان في مسند أبي عوانة بإسناد صحيح. والجواب على هذا: أنها أقوال صحابة فلا يعارض بأقوال النبي صلى الله عليه وسلم فإنه لما سئل (ألعامنا هذا أم للأبد؟ قال: بل للأبد) فيدل على أن هذا رأي منهما رضي الله عنهما.

_ (1) أخرجه البخاري في باب عمرة التنعيم من كتاب العمرة، وفي باب الاشتراك في الهدي والبدن..، من كتاب الشركة، وفي باب قول النبي - صلى الله عليه وسلم - لو استقبلت من أمرى ما استدبرت، من كتاب التمني، ومسلم في باب حجة النبي - صلى الله عليه وسلم - صحيح مسلم بشرح النووي [8 / 165، 178] ، وابن ماجه في باب فسخ الحج. (2) سبق برقم 5 (3) أخرجه مسلم في جواز التمتع من كتاب الحج، صحيح مسلم بشرح النووي [8 / 203]

فالراجح: ما ذهب إليه ابن عباس من الصحابة من وجوب التمتع (1) ، وأن الواجب على المسلم أن يتمتع بالعمرة إلى الحج. وأفضل المناسك في المشهور عن الحنابلة هو التمتع، وهم يقولون – كما تقدم – بالتخيير بينه وبين القران والإفراد. والتمتع عندهم أفضل للأحاديث المتقدمة فإنهم حملوها على الاستحباب. وظاهر ذلك أن هذا مستحب مطلقاً لكن ذكر شيخ الإسلام أن نص الإمام أحمد وغيره من الأئمة الأربعة على أنه إن أفرد الحج بسفرة والعمرة بسفرة أخرى فإن ذلك أفضل، ودليل هذا ما ثبت في البيهقي بإسناد صحيح أن عمر بن الخطاب قال: (إن تفصلوا بين الحج والعمرة فتحرموا بالعمرة في غير أشهر الحج أتم لحج أحدكم وعمرته) (2)

_ (1) قال شيخنا في شرحه لأخصر المتخصرات ما نصه: " واختار شيخ الإسلام رحمه الله والشنقيطي أن ما كان للأبد هو مشروعية التمتع يعني كونه قد أهل بحج فيفسخ إلى عمرة هذا إلى يوم القيامة – إلى الأبد – وأما وجوب الفسخ الذي هو وجوب التمتع فإنه خاص بأصحاب النبي صلى الله عليه وسلم. يدل عليه ما ثبت في صحيح مسلم عن أبي ذر رضي الله عنه قال: (كانت المتعة لأصحاب النبي صلى الله عليه وسلم خاصة) ، ونحوه عن عثمان رضي الله عنه بإسناد صحيح عند أبي عوانة. والمعني يدل على ذلك فإن أهل الجاهلية كانوا يعتقدون كما تقدم في حديث ابن عباس المتفق عليه} أن العمرة في أشهر الحج من أفجر الفجور {، فأمر النبي صلى الله عليه وسلم (أصحابه أن يعتمروا) فكان الفسخ إلى عمرة واستحباب التمتع، إلى الأبد، وأما وجوب ذلك فهو خاص بأصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ولذا كان على هذا أبو بكر وعمر وعثمان كانوا ينهون الناس عن المتعة. وهذا القول الذي عليه الجماهير هو الأولى وأفضل الأنساك هو التمتع من غير إيجاب " اهـ. (2) زاد المعاد [2 / 209]

فالإمام أحمد نص على أن من أراد أن يفرد كلاً منهما بسفر فإنه هو الأفضل، فإذا جمع بينهما فإن الأفضل هو التمتع أما إن أراد عمرة منفردة بسفرة منفردة، وحجة منفردة بسفرة منفردة فإن هذا أتم لحجه وعمرته كما ورد ذلك عن عمر. والصحيح ما تقدم: وهو وجوب التمتع وقد ثبت عند الطحاوي عن عمر بإسناد جيد، وقال ابن القيم: صح عن عمر من غير وجه أنه قال: (لو اعتمرت في السنة مرتين لجعلت مع حجي عمرة) فيحتمل أن يكون هذا ناسخاً لقوله. قال: (وصفته أن يحرم بالعمرة في أشهر الحج ويفرغ منها ثم يحرم بالحج في عامه) فلابد أن يحرم بالعمرة في أشهر الحج، فإن أحرم بها في غير أشهر الحج فليس بمتمتع اتفاقاً. ومثل ذلك في المشهور من المذهب وهو أصح قولي العلماء: لو أحرم في رمضان وفعل المناسك في رمضان فإنه لا يعد متمتعاً، كرجل أحرم في آخر نهار رمضان وفعل المناسك ليلة العيد أو صبيحة العيد أي في شوال فإنه ليس بمتمتع، لأن الإحرام وهو ركن من أركان العمرة، قد وقع في غير أشهر الحج، ولا تكون العمرة في أشهر الحج حتى تكون العمرة كلها في أشهر الحج، وهنا قد وقع الإحرام في غير أشهره. ولابد أن يهل بالحج في عامه ذلك، فإن أهل في عام آخر فليس بمتمتع، فلو أن رجلاً أهل بالعمرة في أشهر الحج ثم مكث بمكة سنة حتى أتى الحج القادم فأهل بالحج فليس بمتمتع. وقد روى البيهقي بإسناد حسن – كما قال النووي – عن سعيد بن المسيب قال: (كان أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يعتمرون في أشهر الحج فإذا لم يحجوا في عامهم ذلك لم يهدوا) . ويدل على ذلك أيضاً الآية الكريمة: {فمن تمتع بالعمرة إلى الحج فما استيسر من الهدي} فظاهر الآية الموالاة بين الحج والعمرة، فإن اعتمر في سنة وحج في أخرى فليس ثمت موالاة. فالتمتع: أن يحرم بالعمرة في أشهر الحج، وأن يكون الحج في العام نفسه الذي اعتمر فيه وإلا فليس بمتمتع، وبالتالي فليس عليه دم.

فلو أن رجلاً أهل بالعمرة في غير أشهر الحج ثم مكث في مكة إلى الحج فأهل بالحج فليس بمتمتع وليس عليه حينئذٍ دم هدي التمتع، ولو أنه أهل بالعمرة في أشهر الحج لكنه لم يحج إلا في عام آخر فإنه ليس عليه دم؛ لأنه ليس بمتمتع، وقد قال تعالى: {فمن تمتع بالعمرة إلى الحج فما استيسر من الهدي (1) } وهو في هاتين المسألتين السابقتين ليس بمتمتع وهذا مما اتفق عليه أهل العلم. قال: (وعلى الأفقي دم) الأفقي: هو من ليس بحاضر المسجد الحرام. فإذا تمتع حاضر المسجد الحرام فلا هدي عليه بلا خلاف بين العلماء، أما من لم يكن حاضراً للمسجد الحرام فعليه هدي. وحاضر المسجد الحرام: هو من كان في الحرم أو بينه وبين الحرم مسافة لا تقصر فيها الصلاة. ودليل المسألة قوله تعالى: {فمن تمتع بالعمرة إلى الحج فما استيسر من الهدي فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجعتم تلك عشرة كاملة ذلك لمن لم يكن أهله حاضري المسجد الحرام} والحاضر للمسجد الحرام هو المكي ومن بينه وبين مكة مسافة لا تقصر فيها الصلاة. أما المكي فلا إشكال في أنه حاضر المسجد الحرام، وأما غيره فلأنه في حكم الحاضر له ولذلك صلاته صلاة حضر، فمن كان بينه وبين مكة مسافة لا تقصر فيها الصلاة أو هو في موضع لا تقصر فيه الصلاة فإن صلاته حضر لا سفر. وهنا فروع في هذه المسألة: الفرع الأول: إذا اعتمر من ليس أهله حاضري المسجد الحرام في الحج ثم أنشأ سفراً آخر ثم رجع من سفره بحجة فهل يجب عليه الهدي أم لا؟ مثال: رجل سافر إلى مكة معتمراً في أشهر الحج لكنه لم يمكث في مكة بل سافر سفراً تقصر فيه الصلاة كأن يسافر – مثلاً – إلى الطائف أو إلى خارج البلاد ثم يأتي من هذه البلدة التي سافر إليها ويأتي مهلاً بحج، فهل يجب عليه الهدي؟ قولان لأهل العلم:

_ (1) سورة البقرة.

1- القول الأول، وهو مذهب الأئمة الأربعة: أنه لا يجب عليه الهدي، على خلاف بينهم في هذا السفر. فمنهم من قال: هو السفر الذي تقصر فيه الصلاة – كما هو مذهب الحنابلة –، ومنهم من قال: بل الميقات، فإذا ذهب إلى الميقات ثم رجع حاجاً فلا هدي عليه، وهذا مذهب الشافعي، ومنهم من قال: بل إذا رجع بلده خاصة كما هو مذهب أبي حنيفة، ومنهم من قال: إذا رجع إلى بلده خاصة أو ما يماثله مسافة وأولى من ذلك إذا كانت المسافة أكثر. إذاً: هم متفقون على سقوط الهدي بتنوع السفر لكن اختلفوا في السفر. 2- وذهب الحسن البصري واختار ذلك ابن المنذر: إلى أنه لا يسقط عنه وإن رجع إلى بلدته أم إلى ما هو أبعد منها. ومنشأ الخلاف في هذه المسألة راجع إلى الخلاف في الآية في سورة البقرة وهو قوله تعالى: {فمن تمتع بالعمرة إلى الحج فما استيسر من الهدي … ذلك لمن لم يكن أهله حاضري المسجد الحرام} فاختلف أهل العلم في " ذلك " هل الإشارة إلى التمتع أو إلى الهدي؟ أ- فهل هي إشارة إلى التمتع، فيكون التمتع غير مشروع لحاضري المسجد الحرام، فيكون المعنى: ذلك التمتع المذكور إنما يشرع لمن لم يكن حاضر المسجد الحرام، أما من كان حاضراً له فليس له أن يتمتع. ب- والقول الثاني: أن الإشارة راجعة إلى الهدي أي ذلك الهدي المشروع إنما يشرع لمن لم يكن أهله حاضري المسجد الحرام أما من كان أهله حاضري المسجد الحرام فتمتع فليس عليه هدي. فمذهب الأحناف وهو اختيار البخاري: أن الإشارة راجعة إلى التمتع ولذا يقول الأحناف بعدم مشروعية التمتع لحاضري المسجد الحرام. ومذهب جمهور العلماء: إلى أن الإشارة إلى الهدي أي ذلك الهدي وما ينوب عنه من الصيام إنما يكون لمن لم يكن أهله حاضري المسجد الحرام، وذلك لأنه ترخَّص وترفَّه بأن جمع بين نسكين في سفر واحد، فلما جمع بينهما في سفر واحد أوجبنا عليه الهدي لترخصه في ذلك.

أما المتمتع من حاضري المسجد الحرام فليس له سفر فلم يترفه حينئذٍ فليس عليه هدي. وقد استدل من قال بأنها راجعة إلى التمتع قالوا: يدل على ذلك أن لفظة " ذلك " قد جمعت بين اللام والكاف وهما إذا اجتمعا في اسم الإشارة فإن ذلك يدل على البعد والمذكور البعيد هو التمتع، فإنه قد ذكر قبل الهدي فهو أبعد. قالوا: والقرينة الثانية أن الله قال {لمن لم يكن أهله حاضري المسجد الحرام} فأتى باللام –والتمتع له – والهدي عليه، فلم يقل ذلك " على " أي ذلك الهدي على من لم يكن أهله حاضري المسجد الحرام. فدل على أن المراد بذلك التمتع الذي له وله أجره وثوابه أما الهدي فهو عليه واجب. وأجاب الجمهور على ذلك فقالوا: أما الإتيان بـ"ذلك " التي تفيد الإشارة إلى البعيد فإنه معلوم في لغة العرب أنها تأتي للإشارة إلى القريب وهذا مشهور في استعمالهم. قالوا: ولفظة " اللام " تأتي بمعنى على، كقوله تعالى {ويخرون للأذقان} أي عليها، وقوله: {وتله للجبين} أي على الجبين. قالوا: والأصل في الإشارة كالضمير أن يعود إلى أقرب مذكور، وأقرب مذكور هو الهدي. والذي يتبين لي أن الأقوى ما ذهب إليه الأحناف واختاره الإمام البخاري: وأن الإشارة تعود إلى التمتع؛ وذلك لأن لفظة " ذلك " في الأصل إشارة إلى البعيد، وكونها إشارة إلى القريب خلاف الأصل وخلاف الظاهر. ولأن اللام في الأصل كما ذكره الأحناف واختاره البخاري، وأما كونها تكون بمعنى " على " فإن هذا خلاف الأصل فهو نوع تأويل.

ولذا فالراجح – كما أنه الأحوط -: ما ذهب إليه الحسن البصري وهو اختيار ابن المنذر: من أن من سافر سفراً بين عمرته وحجته سواء كان هذا السفر يقصر فيه الصلاة فحسب أو كان أبعد من ذلك بأن يرجع إلى بلدته أو نحو ذلك مما تقدم فإن عليه أن يهدي لعموم قوله تعالى: {فمن تمتع بالعمرة إلى الحج فما استيسر من الهدي} وحقيقة التمتع هو الجمع بينهما في أشهر الحج، وقد قوى هذا القول الشنقيطي في أضواء البيان. الفرع الثاني: هل يشترط أن ينوي في عمرته في ابتدائها أو في أثنائها أنه يريد الحج وأنه سيتمتع أم لا يشترط ذلك؟ رجل ذهب في شوال معتمراً فلما تحلل نوى أن يمكث في مكة حتى يأتي الحج فيحج فهل هو متمتع فيجب عليه الهدي أم ليس بمتمتع حتى ينوي في عمرته التمتع؟ وبصورة أخرى: هل يشترط له وهو في الميقات وقد قال لبيك عمرة أن ينوي أنه سيتمتع سواء كان ذلك في مبتدأ تلبيته أو كان ذلك في أثناء العمرة وقبل أن يحل أم لا يشترط ذلك؟ المشهور في مذهب الحنابلة أن ذلك شرط وهذا عندهم كما يكون في الجمع بين الصلوات، فشرط عندهم كما تقدم أن ينوي الجمع في الصلاة الأولى. واختار الموفق أن ذلك ليس بشرط، وهذا هو القول الراجح فإنه لا دليل على اشتراطه، ولأنه قد تمتع بالعمرة إلى الحج فدخل في عموم الآية، واشتراط النية أثناء العمرة لا دليل عليه. وعليه فلو ذهب معتمراً من غير أن ينوي أن هذه العمرة سيتمتع بها إلى الحج فلما أحل نوى أن يحج فبقي في موضعه حتى الحج أو رجع إلى بلدته فإنه متمتع وعليه الهدي. الفرع الثالث: هل الهدي واجب على من جمع بين نسكي الحج والعمرة، ولكن أحدها له والآخر لغيره؟ كمن جمع بين الحج والعمرة بأن كانت العمرة له والحج عن غيره، فهل عليه الهدي أم لا؟ قولان لأهل العلم هما قولان في مذهب أحمد والشافعي ومالك وأبي حنيفة.

والمشهور في مذاهبهم: وجوب الهدي عليه؛ نظراً للفاعل فإن الفاعل واحد، والنسك قد حصل من قِبَل فاعل واحد فوجب عليه الهدي. وقال بعض العلماء وهو قول في مذهب مالك والشافعي وأحمد وأبي حنيفة خلافاً للمشهور في مذاهبهم، قالوا: لا يجب عليه الهدي؛ نظراً لأن أحد النسكين له والآخر ليس له. والأظهر هو الأول؛ فإن النظر إنما يكون للفاعل فإنه واحد والآخر له، وإنما أهدى ثوابه لغيره، فإن الأصل أن هذا الفعل له لكنه أهدى ثوابه لغيره، ولا شك أن هذا هو الأحوط. واعلم أن القران باتفاق أهل العلم داخل في حكم التمتع في باب الهدي، فالقارن يجب عليه أن يهدي، والصحابة يطلقون على القران تمتعاً كما في غير حديث ثابت عنهم كما في الصحيحين وغيرهما. وقد أهدى النبي صلى الله عليه وسلم – كما في الصحيحين – عن أزواجه وكن قارنات؛ ولأنه قد جمع بين النسكين فأشبه المتمتع الجامع بينهما – وهذا كما تقدم – مما اتفق عليه العلماء. استدراك: التمتع يجب على من لم يسق الهدي، فلو أن رجلاً ساق الهدي ثم تبين له الإيجاب فإنه لا يجب عليه حينئذٍ لأنه ساق الهدي، والنبي صلى الله عليه وسلم لما ساق الهدي لم يحل، بل الواجب على من ساق الهدي أن يكون قارناً ولا يجوز له أن يتمتع. مسألة: رجل اعتمر في أشهر (1) الحج ثم مكث في مكة ونوى الحج فهل يجب عليه أن يتمتع فحينئذٍ يأتي بعمرة؟ فإن قلنا بوجوب التمتع فإنه يجب عليه أن يخرج إلى الحل فيأتي بعمرة لوجوب التمتع. وإذا نظرنا إلى جهة أخرى وهي أن العمرة ليست بمشروعة لمن كان في مكة سواء كان آفاقياً أو مقيماً قلنا: إنه لا يشرع. وهذا - فيما يظهر لي – أقوى؛ وذلك لأن هذا الفعل ليس بمشروع والأمر به يناقض مقصود الشارع من عدم مشروعية الاعتمار لمن كان في مكة وكان آفاقياً أو غيره.

_ (1) لعلها: في غير أشهر الحج، بناء على عدم اشتراط النية.

فالذي يظهر لي أن يقال: أنه ليس بواجب عليه، وحينئذٍ فيكون التمتع واجباً لمن كان خارجاً عن مكة. وهذا ظاهر في اختيارنا المتقدم في قوله " ذلك " وأن التمتع لا يشرع لمن كان حاضراً المسجد الحرام – لكن هذا قد ينظر في الاستدلال به – بأن هذا ليس حاضراً للمسجد الحرام وإن كان فيه حينئذٍ؛ لأنه ليس مقيماً في المسجد الحرام فإقامته مؤقتة فليس له حكم المقيمين بل في حكم المسافرين فليس أهله حاضري المسجد الحرام، لكن الاستدلال السابق هو الأظهر وهو أن يقال: إن العمرة من مكة ليست بمشروعة والأمر بها ينافي مقصود الشارع من عدم مشروعيتها. فإن قيل: عندما أمر النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه بالتمتع لم يستثن المكيين؟ فالجواب أن يقال: ظواهر الأحاديث أن هذا كان لغير المكيين فإنه قال: " فلما قدمنا مكة " ثم أيضاً: الأدلة الأخرى التي تدل على عدم مشروعية العمرة على أهل مكة تدل على أن ذلك إنما يوجه لغيرهم. كما أن الغالب أن من كان معه لم يكن من أهل مكة بل من أهل الآفاق. والحمد لله رب العالمين قال المؤلف رحمه الله تعالى: (وإن حاضت المرأة فخشيت فوات الحج أحرمت به وصارت قارنة) إذا حاضت المرأة المتمتعة فخشيت فوات الحج أحرمت بالحج وصارت قارنة.

فإذا لبت المرأة بعمرة على أنها متمتعة – حينئذٍ – تطوف بالبيت وبالصفا والمروة وتحل ثم تهل بالحج، لكن إن طرأ عليها الحيض قبل الطواف بالبيت، والمرأة ممنوعة من الطواف بالبيت – كما سيأتي دليله – فحينئذٍ إن بقيت منتظرة طهرها حتى تطوف لعمرتها فات عليها الوقوف بعرفة، فمثلاً في صبيحة اليوم الثامن أهلت بعمرة عند الميقات فأتاها الحيض، والحيض يمكث معها عدة أيام بحيث أنها لا تطهر قطعاً إلا بعد الوقوف بعرفة وهي لم تهل بالحج بعد، فإذا انتظرت حتى تطهر لتطوف بالبيت لعمرتها فاتها الحج فحينئذٍ تدخل الحج على عمرتها وتكون قارنة، فتقول: لبيك حجاً، وتكون حينئذٍ جامعة بين الحج والعمرة، وحينئذٍ تقف بعرفة وتفعل المناسك كلها وتطوف بالبيت إذا طهرت. ودليل هذه المسألة ما ثبت في مسلم عن عائشة أنها أهلت بالعمرة فلم تطف بالبيت حتى حاضت فنسكت المناسك كلها وقد أهلت بالحج فلما كان يوم النفر قال لها النبي صلى الله عليه وسلم: (يسعك طوافك لحجك وعمرتك) [صحيح مسلم بشرح النووي: 8 / 156] ويلحق بها كل من خشي فوات الحج من المتمتعين، فلو أن رجلاً قال: لبيك عمرة ثم طرأ عليه عارض منعه من الطواف بالبيت حتى خشي فوات الوقوف إن طاف وهو لما يطوف بالبيت فإنه حينئذٍ: يدخل الحج على العمرة ويكون حينئذٍ قارناً. فهذه المسألة إدخال الحج على العمرة، والحديث دليل ظاهر في ذلك. وهنا مسألة بعكس هذه المسألة: وهي مسألة إدخال العمرة على الحج. رجل أهل بالحج مفرداً ثم بدا له أن يدخل العمرة فيكون قارناً " وقد يكون محتاجاً لذلك " بحيث أنه لا يمكنه التمتع كأن يكون قد ساق الهدي تبرعاً وقد أفرد الحج فأحب أن يدخل العمرة فيكون قارناً فهل يجوز ذلك؟ قال الحنابلة: لا يصح منه ذلك، واستدلوا: بأثر عن علي بن أبي طالب رواه البيهقي والأثرم وغيرهما.

وقال الأحناف: يصح منه ذلك، وهذا القول أصح، فإن النبي صلى الله عليه وسلم أمر أصحابه أن يقلبوا حجهم إلى عمرة ولا شك أن مسألتنا أولى بالجواز من تلك المسألة، فإن إدخال العمرة على الحج مع بقائه أولى من إبطال الحج وإثبات العمرة. مسألة: حكم من أهل بالنسك مبهماً؟ وصفة الإبهام أن يقول: أهللت أو لبيت بمثل ما أهل به فلان أو لبى به فلان، فهذا هو الإهلال المبهم. وحكمه الجواز بدليل: ما ثبت في الصحيحين بأن أبا موسى الأشعري: (قدم على النبي صلى الله عليه وسلم وهو منيخ بالبطحاء فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: بم أهللت؟ فقال: قلت: لبيك بإهلال كإهلال النبي صلى الله عليه وسلم فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: أحسنت، فأمرني بالطواف بالبيت وبالصفا والمروة ثم قال: أَحِلَّ) (1) . مسألة: يقاس على الإهلال مبهماً، ما إذا نوى نسكاً مُطْلِقاً ذلك، فنوى نسكاً مطلقاً، كأن يدخل في النسك هكذا على نية الإطلاق فيقول: " لبيك اللهم لبيك لا شريك لك لبيك.. .. " من غير أن يقيد حجاً أو عمرة أو حجاً وعمرة، فقد نوى الدخول في النسك لكنه لم ينو أن يكون متمتعاً ولا قارناً ولا مفرداً، فهذا جائز باتفاق العلماء قياساً على المسألة السابقة. وحينئذٍ: فإنه يصرف نسكه إلى أيها شاء. لكن المستحب له أن يعين كما تقدم من حديث مسلم الذي فيه أن النبي صلى الله عليه وسلم حث أصحابه على التعيين فقال: (من أحب أن يهل بالحج فالعمرة فليفعل ومن أحب أن يهل بالحج فليفعل ... ) (2) الحديث فهنا النبي صلى الله عليه وسلم قد استحب لهم التعيين. قال: (وإذا استوى على راحلته قال: لبيك اللهم لبيك ….)

_ (1) أخرجه البخاري في باب الذبح قبل الحلق من كتاب الحج، وباب يحل المعتمر من كتاب العمرة، و..، ومسلم باب في نسخ التحلل من الإحرام والأمر بالتمام من كتاب الحج، والنسائي. المغني [5 / 97] . (2) سبق برقم 68

وهل المستحب له أن يكون ذلك عند مسجد الميقات أو يكون ذلك إذا أتى البيداء " وهي الموضع المرتفع وهو داخل الميقات "؟ ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم أحاديث في هذا وفي هذا: أما أنه على البيداء، فقد ثبت هذا من حديث أنس بن مالك في البخاري قال: (حتى إذا استوت به راحلته على البيداء حمد الله وسبحه وهلله ثم أهل بالحج والعمرة فأهل الناس معه) (1) وهو أيضاً ثابت في البخاري من حديث ابن عباس. وأما أنه أهل عند المسجد: فهو ثابت في الصحيحين من حديث ابن عمر قال: (ما أهل النبي صلى الله عليه وسلم إلا عند المسجد) (2) بل أنكر أن يكون قد أهل على البيداء وقال: (بيداؤكم هذه التي تكذبون بها على النبي صلى الله عليه وسلم، ما أهل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا عند المسجد) (3) رواه مسلم، وفي البخاري أنه قال: (حتى استوت به راحلته قائمة) أي عند المسجد. فإذاً: الأحاديث اتفقت على أن المستحب له أن يهل بالحج أو العمرة إذا استوت به راحلته. ومن الصحابة من روى أنه أهل عند المسجد، ومنهم من روى أنه أهل عندما استوت به راحلته على البيداء. والجمع بينهما: أن يقال: كل منهما حدث بما رأى. فابن عمر رآه يهل عند المسجد، وأنس وابن عباس رأياه يهل وقد استوت به راحلته على البيداء، وكل قد فعله النبي صلى الله عليه وسلم.

_ (1) أخرجه البخاري باب التحميد والتسبيح والتكبير قبل الإهلال.. رقم 1551، 1545؟ (2) أخرجه البخاري باب الإهلال عند مسجد ذي الحليفة رقم 1541، ومسلم باب إحرام أهل المدينة، صحيح مسلم بشرح النووي [8 / 91] (3) مسلم باب إحرام أهل المدينة، صحيح مسلم بشرح النووي [8 / 91]

فعلى ذلك المستحب له أن يهل إذا استوت به راحلته عند المسجد، وكذلك يهل إذا استوت به راحلته على البيداء، وقد تقدم أن المستحب أن يهل إذا استوت به راحلته، وهو ثابت في الأحاديث المتقدمة في الصحيحين من حديث ابن عمر، وفي البخاري من حديث أنس، وفي البخاري من حديث ابن عباس. وفي البخاري سنة أخرى وهي أن يستقبل القبلة عند التلبية فقد ثبت هذا في البخاري من حديث ابن عمر أنه قال: (وهو مستقبل القبلة) (1) قال: (لبيك اللهم لبيك … إلى قوله: لا شريك لك) لبيك: من لبى في المكان أي لزمه واستقر به، والمعنى: أنا مقيم على طاعتك ملازم لها غير خارج عنها إلى معصيتك. وثنيت لإفادة التكثير أي أنا مقيم إقامة بعد إقامة، فأنا ملازم لطاعتك مجيب لأمرك سامع لخطابك. فالتلبية هي: الإقامة على طاعة الله تعالى وعدم الخروج عنها إلى معصيته، وثنيت للتكثير. وقوله: " لبيك اللهم لبيك لبيك لا شريك لك لبيك إن الحمد والنعمة لك والملك لا شريك لك " وهذه الجملة ثابتة في الصحيحين من حديث ابن عمر (2) ، وهي أيضاً ثابتة من حديث غيره من الصحابة. وثبتت الزيادة من النبي صلى الله عليه وسلم عليها: ففي النسائي من حديث أبي هريرة: (لبيك إله الحق) (3) وفي ابن خزيمة: (إنما الخير خير الآخرة) وهل يجوز له أن يزيد في التلبية؟ لا حرج في الزيادة، فقد ثبت في مسلم عن جابر قال: (فأهل الناس بهذا الذي يهلون به فلم يرد عليهم النبي صلى الله عليه وسلم صلى الله عليه وسلم شيئاً) (4)

_ (1) أخرجه البخاري باب الإهلال مستقبل القبلة رقم 1553. (2) أخرجه البخاري [1 / 360] ومسلم [4 / 8] الإرواء رقم 1097. (3) رواه النسائي رقم 2752، في باب كيف التلبية. (4) أخرجه مسلم باب حجة النبي - صلى الله عليه وسلم -.

ومن ذلك ما ثبت في مسلم عن عمر أنه كان يقول: (لبيك وسعديك والخير بيديك والرغباء إليك والعمل) (1) وفي أبي داود: أن الصحابة كانوا يقولون: (لبيك ذا الفواضل لبيك ذا المعارج) (2) وفي البزار من حديث أنس: (لبيك حقاً حقاً تعبداً ورقاً) فهذه الألفاظ ثابتة عن الصحابة، ولا بأس بالزيادة على ذلك. وهنا مسائل: المسألة الأولى: متى يقطع التلبية؟ في هذه المسألة تفصيل: فإن كان قارناً أو مفرداً فإنه يلبي حتى يرمي جمرة العقبة، ففي الصحيحين عن الفضل بن عباس رضي الله عنهما قال: (لم يزل النبي صلى الله عليه وسلم يلبي حتى رمى جمرة العقبة) (3) ، وفي ابن خزيمة: (قطع التلبية مع آخر حصاة) لكن يستثنى من ذلك: إذا دخل الحرم، فإنه إذا دخل الحرم أمسك عن التلبية. ودليل ذلك: ما ثبت في البخاري أن ابن عمر: (كان إذا دخل الحرم أمسك عن التلبية ثم بات بذي طوى حتى يصبح ثم يغتسل ويقول: كان النبي صلى الله عليه وسلم يفعل ذلك) (4) وفي الموطأ: من فعله، وفيه: أن ذلك كان في الحج. أما إن كان معتمراً أو متمتعاً فإنه يقطع التلبية إذا دخل الحرم، فإذا دخل الحرم أمسك عن التلبية حتى يهل بالحج يوم التروية، فإذا أهل بالحج أعاد التلبية. وفي هذه المسألة خلاف بين العلماء، وما ذكرته هو مذهب الإمام مالك وهو مذهب ابن عمر كما تقدم في الأثر المتقدم. وهو صريح عنه في البيهقي في المعتمر، أن عطاء بن أبي رباح سئل متى يقطع المعتمر التلبية؟ فقال: قال ابن عمر: (إذا دخل الحرم، وقال ابن عباس: إذا استلم الحجر) .

_ (1) أخرجه مسلم، باب التلبية وصفتها، صحيح مسلم بشرح النووي [8 / 88] .وأبو داود في باب كيف التلبية. (2) رواه أبو داود في باب كيف التلبية دون قوله (ذا الفواضل) ، لعله في باب آخر منه. [2 / 404] . (3) أخرجه الجماعة، الإرواء رقم 1098. (4) رواه البخاري باب الاغتسال عند دخول مكة رقم 1573.

فمذهب ابن عمر أن المعتمر أو المتمتع: أنه إذا دخل الحرم أمسك عن التلبية. ومذهب ابن عباس وهو مذهب جمهور العلماء أنه لا يقطعها إذا دخل الحرم بل إذا استلم الحجر عند الطواف فإنه يقطعها، وفي الترمذي عن ابن عباس مرفوعاً: (يلبي المعتمر حتى يستلم الحجر) (1) لكن الحديث فيه محمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى، وهو ضعيف الحديث والصواب أنه موقوف على ابن عباس. فعندنا أثران متعارضان: أثر ابن عمر وأثر ابن عباس. ومذهب ابن عمر وهو مذهب المالكية - هذا المذهب - أشبه بالسنة فإن النبي صلى الله عليه وسلم – وكان قارناً – كان يمسك عن التلبية إذا دخل الحرم فيشبهه المعتمر إذ لا فرق بين المعتمر وبين القارن في مثل هذه المسألة. فالعلة التي من أجلها قطع القارن أو المفرد – قطع التلبية ثابتة قطعاً، وإن لم تعلم لكنها - ثابتة قطعاً لنفي الفارق في المتمتع. فالأصح أن المعتمر إذا دخل الحرم أمسك عن التلبية. المسألة الثانية: أنه يستحب له الإكثار من التلبية، ففي الترمذي والحديث حسن بشواهده: أن النبي صلى الله عليه وسلم لما سئل عن أفضل الحج فقال: (أفضل الحج العج والثج) (2) والعج: هو رفع الصوت بالتلبية. والثج: هو النحر. وفي الترمذي بإسناد صحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ما من ملبي يلبي إلا لبى ما عن يمينه وشماله من حجر أو شجر أو مدر حتى تنقطع الأرض من هاهنا وهاهنا) (3) قال أهل العلم: ويستحب له أن يلبي متى تجددت به حال، فإذا هبط وادياً لبى وإذا صعد لبى وإذا التقى برفيق لبى ودبر الصلوات يلبي وإذا نزل في موضع لبى، وإذا ركب راحلته لبى فكلما تجددت به حال لبى.

_ (1) أخرجه الترمذي رقم 919، باب ما جاء متى تقطع التلبية في العمرة، من كتاب الحج. (2) أخرجه الترمذي باب ما جاء في فضل التلبية والنحر، رقم 827. (3) أخرجه الترمذي باب ما جاء في فضل التلبية والنحر، رقم 828.

وفي مسند الشافعي بإسناد جيد: (أن ابن عمر: كان يلبي راكباً ونازلاً ومضطجعاً) . وفي ابن أبي شيبة أن السلف كانوا يستحبون التلبية في أربعة مواضع: (دبر الصلاة وإذا هبطوا وادياً أو علوه وإذا التقوا بالرفاق) ويدل على هذا ما تقدم أن النبي صلى الله عليه وسلم: لبى عند المسجد ولما استوت به راحلته على البيداء لبى. المسألة الثالثة: حكم التلبية؟ فيها ثلاثة أقوال: الأول: وهو مذهب الحنابلة والشافعية: أنها سنة، فعلها النبي صلى الله عليه وسلم وأمر بها أصحابه. الثاني: وهو مذهب بعض المالكية وبعض الشافعية: أنها واجبة فعلى من تركها دم. واستدلوا: بأن النبي صلى الله عليه وسلم قد فعلها وأمر بها وقال: (لتأخذوا عنى مناسككم) (1) . الثالث: أنها ركن من أركان الحج لا يصح الإحرام إلا بها، وقد تقدم البحث في هذا القول في مسألة سابقة وترجيح أن التلبية ليست بركن من أركان الحج. والذي يظهر لي من هذه الأقوال: القول الثاني: وأن التلبية واجبة بدليل: ما ثبت عن الخمسة عن خلاد بن السائب عن أبيه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أتاني جبريل فأمرني أن آمر أصحابي أن يرفعوا أصواتهم بالإهلال) (2) فهذا أمر، والأصل في الأمر الوجوب. فعلى ذلك: الواجب عليه أن يلبي ولو مرة فإن ترك التلبية فعليه دم، كما هو مذهب بعض الشافعية وبعض المالكية. قال: (يصوت بها الرجل) مستحب للرجل أن يرفع صوته بها وأن يجهر، بل يستحب له أن يبالغ ففي البخاري: أن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم: (كانوا يصرخون بها صراخاً) (3) من حديث أنس.

_ (1) أخرجه مسلم [4 / 79] ، وغيره، الإرواء 1074؟ (2) أخرجه أبو داود باب كيف التلبية، والترمذي باب ما جاء في رفع الصوت بالتلبية، والنسائي. المغني [5 / 101] . (3) أخرجه البخاري باب رفع الصوت بالإهلال، وابن ماجه. المغني [5 / 102] .

وفي ابن أبي شيبة بإسناد صحيح: (أن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم كانوا يرفعون أصواتهم بالتلبية حتى تبح أصواتهم) [الفتح: 3/477] فيستحب رفع الصوت بالتلبية والمبالغة في ذلك. قال: (وتخفيها المرأة) لأن ذلك مظنة الفتنة، ولذا أجمع العلماء على أن المرأة لا يشرع لها أن ترفع صوتها بالتلبية كما حكى الإجماع ابن عبد البر وابن المنذر وغيرهما، فقد أجمعوا على أن المرأة لا يستحب لها أن ترفع صوتها بالتلبية. لكن يستثنى من ذلك: إن كانت في موضع لا يخرج منه صوتها إلى أجنبي؛ فإن النساء شقائق الرجال في الأحكام الشرعية وإنما استثنيت هنا؛ لأن رفعها لصوتها مظنة الفتنة أما إذا كان الموضع ليس فيه إلا رفيقاتها ومحارمها فإنه يستحب لها ما يستحب للرجال فإن النساء شقائق الرجال. أما إذا كان مظنة أن يخرج الصوت لأجنبي فإنه لا يشرع لها، وهذا بإجماع أهل العلم. والحمد لله رب العالمين. باب: محظورات الإحرام محظورات الإحرام: أي ممنوعاته، أي المحرمات بسبب الإحرام. قال: (وهي تسعة حلق الشعر) وهنا ذكر المؤلف الحلق، ولا خلاف بين العلماء في أن إزالته بغير الحلق كالتقصير أو إذهابه بالنُورة أو نحو ذلك أنه له حكم الحلق. وهنا عمم الشعر كله فقال: " حلق الشعر " فيدخل شعر الرأس وشعر الإبطين والشعر الذي يكون في الوجه وفي سائر الجسد. والله عز وجل نص في كتابه الكريم على حلق الرأس فقال تعالى: {ولا تحلقوا رؤوسكم حتى يبلغ الهدي محله (1) } وقاس جمهور العلماء – على حلق الرأس – إزالة غير شعر الرأس مما يكون على البدن كشعر الإبطين وغيره. واستدل جمهور العلماء على هذه المسألة – أي إدخال غير شعر الرأس – في حكم شعر الرأس. استدلوا: أولاً: بحكاية الإجماع على ذلك – فقد حكاه الموفق في المغني – وأن الشعر كله أو سائره له حكم شعر الرأس.

_ (1) سورة البقرة.

وثانياً: بالقياس على حلق الرأس بجامع الترفيه، فإن حلق الرأس علة المنع فيه – عندهم – الترفه، فيقاس على ذلك إزالة بقية البدن بجامع الترفه، هذا هو مذهب جماهير العلماء. - وذهب الظاهرية إلى القول بأن شعر البدن لا يلحق بشعر الرأس. وهم لا يقولون بالقياس، وإن القياس الذي ذكره جمهور العلماء فيه نظر فإنا لا نسلم أن العلة من النهي عن حلق الرأس هي الترفه فإن الترفه قد يكون بإبقاء الشعر لا سيما لمن اعتاد ذلك. ثم إن المحرم يجوز له كثير من الترفه كالاغتسال ونحوه. والأظهر أن العلة هي تعلق النسك بشعر الرأس، فإن الحلق أو التقصير نسك من أنساك الحج والعمرة فهو واجب من واجبات الحج فنهى الشارع أن يؤخذ منه شيء بحلق أو تقصير حتى يوفر لينسك به الحاج في أوانه، فهذه هي العلة الظاهرة. وأما ما ذكروه من الإجماع فإن كان صحيحاً فلا كلام في هذه المسألة وإلا فإن حكاية الإجماع فيها عسر، وكما قال الإمام أحمد: من ادعى الإجماع فقد كذب، لا سيما في هذه المسائل التي ليس فيها نصوص ظاهرة فهي من الإجماعات الظنية. وفي رواية عن الإمام مالك: أنه لا فدية في حلق شعر البدن سوى شعر الرأس وأوجبها في حلق الرأس، والمشهور من مذهبه وجوب الفدية. ومذهب الظاهرية أقرب إلى النظر إلا أن يصح الإجماع المتقدم، وقد تقدم التنبيه على أن كثيراً من الإجماعات التي يحكيها كثير من الفقهاء فيها نظر. ولا يصح فيما يذكره كثير منهم إلا ما كانت عليه نصوص ظاهرة من الشريعة. ومن المستبعد أن يجمع أهل العلم على مسألة كهذه ونجد الخلاف في مسائل فيها نصوص شرعية، فنرى الخلاف فيها منتشر ومثل هذه المسألة أولى ألا يثبت فيها الإجماع والله أعلم. قال: (وتقليم الأظافر) هذه كالمسألة السابقة فجماهير العلماء حكوا الإجماع في هذه المسألة كما حكاه ابن المنذر والموفق وأن تقليم الأظافر من محظورات الإحرام.

واستدلوا: بالقياس على الشعر: كما أن المحرم ينهى عن حلق الشعر وتقصيره والعلة من ذلك الترفه فإنه ينهى عن تقليم الأظافر للترفه، فالجامع بين المسألتين هو الترفه. وقد تقدم النظر في هذا التعليل وأن الأصح في العلة التي من أجلها الشارع نهى عن حلق الرأس إنما هو النسك وليس الترفه وحكاية الإجماع فيها ما فيها كما تقدم. وعن عطاء بن أبي رباح أنه لا فدية في تقليم الأظافر – مع أنه قال أنه محظور من محظورات الإحرام – ففرق بينه وبين حلق الرأس. الحاصل من هذا: أن جماهير أهل العلم على أن تقليم الأظافر من محظورات الإحرام. قال: (فمن حلق أو قلم ثلاثة فعليه دم) هذا هو الحلق أو التقصير أو الإزالة أو التقليم الذي تثبت به الفدية. وقول المؤلف هنا: " فعليه دم " موهم، والعبارة الصحيحة أن يقال: " فعليه فدية " فليس مراده الدم حتماً، وإنما مقصوده الفدية من دم أو إطعام أو صيام – كما سيأتي تقريره. فمن حلق ثلاثة شعرات أو قصرها من رأسه أو شيء من بدنه من موضع واحد أو من مواضع مختلفة أو قلم ثلاثة أظفار من يديه أو رجليه أو بعضها من يديه وبعضها من رجليه فإن عليه الفدية. قالوا: لأن الثلاثة هي أقل الجمع. 1- فأقل الجمع الذي يصدق عليه أنه شعر ثلاثة، هذا مذهب الحنابلة والشافعية. 2- وقال المالكية: إذا حلق ما يزول به الأذى ويحصل به الترفه فعليه الفدية، أو قلم ما يزول به الأذى ويحصل به الترفه فعليه الفدية. 3- وقال الظاهرية: إن فعل ما يصدق عليه أنه حلق فإن عليه الفدية فما صدق عليه أنه حلق، أو ما صدق عليه أنه تقليم، وهم لم يبحثوا في مسألة التقليم لكن هذا من باب قياس مذهبهم وإلا فإنهم لايقولون بالفدية أصلاً في تقليم الأظافر.

قالوا: إذا حلق من رأسه ما يثبت به أنه حلق بحيث أنه إذا فعله وجب عليه أن يحلق الجميع فإن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن القزع وهو أن يحلق بعض رأس الصبي ويترك بعضه فقال: (احلقوه كله أو اتركوه كله) (1) وهذا هو أظهر المذاهب، فهو ظاهر في الحلق لكنه في التقليم مشكل. قال فقهاء الحنابلة والشافعية: فإن أخذ شعرة واحدة فعليه فدية طعام مسكين، وإن أخذ شعرتين فعليه فدية مسكينين. قالوا: لأن ما ثبت الضمان بجملته فليثبت الضمان في أبعاضه، فإذا ثبت في الثلاثة فدية فيجب أن يثبت في الأبعاض، ومثل ذلك الأظافر. وعن الإمام مالك رواية: إلى أنه لا يثبت الإطعام ولا غيره فيما دون التحديد، وهو عنده ما يزول به الأذى، فلا فدية عليه لأن النص إنما ورد في حلق الرأس وهذا – أي أخذ شعرة أو شعرتين ليس بحلق، ولا دليل على ما ذهب إليه الحنابلة والشافعية. ولو قلنا بتقليم الأظافر فالذي يظهر لي أن يقال: ما يصدق عليه أنه تقليم، ولا يقال إنه يصدق عليه أنه تقليم في الأظفر والأظفرين ونحو ذلك، بل لا يقال ذلك إلا إذا أخذ الشيء الكثير من أظفاره فإذا أخذ الشيء الكثير من أظفاره صدق عليه أنه مقلم عرفاً. وعلى القول بما ذهب إليه الظاهرية لا يشكل على هذا الكلام في مسألة الأظافر فإنا لا نحتاج إلى ذلك، وهذا قد يكون مما يبين صحة هذا القول، إذ الشريعة مع الحاجة إلى مثل هذه المسائل لم تبين شيئاً من مثل هذه الفروع مع حاجة الناس إليها. وقد استدل الفقهاء بقياس، استدلوا به على النهي عن حلق بقية شعر البدن وتقليم الأظافر، وهذا ما ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم في نهي المضحي أن يأخذ شيئاً من شعره أو بشرته. قالوا: فيقاس على ذلك المحرم في الحج.

_ (1) رواه أبو داود وأصله في الصحيحين.

وهذا قياس مع الفارق أيضاً، فإن المضحي لا ينهى عن الطيب ولا ينهى عن كثير مما ينهى عنه المحرم في النسك، والعكس أيضاً فإن المحرم في النسك لا ينهى أن يأخذ شيئاً من بشرته بجرح أو نحو ذلك وينهى عن ذلك المضحي، فيثبت بينهما بالأدلة الشرعية فوارق وحيث ثبت ذلك فلا يصح القياس. قال: (ومن غطى رأسه بملاصق فدى) من غطى رأسه بشيء ملاصق كالعمامة أو الطاقية أو وضع على رأسه خباء فيستر رأسه أو نحو ذلك مما يغطي الرأس فإنه يفدي وقد فعل محظوراً من محظورات الإحرام. وتغطية الرأس في الجملة من محظورات الإحرام بإجماع العلماء، وقد دل على ذلك ما ثبت في الصحيحين عن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم: سئل ما يلبس المحرم من الثياب فقال: (لا يلبس القمص ولا العمائم ولا السراويلات ولا البرانس ولا الخفاف إلا أحد لا يجد النعلين فيلبس الخفين وليقطعهما أسفل من الكعبين، ولا يلبس شيئاً من الثياب مسه ورس أو زعفران) (1) والشاهد قوله: " ولا العمائم ولا البرانس ". وثبت في الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: في الذي وقصته راحلته فمات: (اغسلوه بماء وسدر وكفنوه في ثوبيه ولا تحنطوه ولا تخمروا رأسه فإنه يبعث يوم القيامة ملبياً) (2) فهذه الأدلة تدل على أنه لا يجوز للمحرم أن يغطي رأسه سواء كان هذا المغطى لباساً معتاداً كالعمائم ونحوها أو كان غير معتاد كأن يضع على رأسه خماراً أو شيئاً من ذلك. فإن حمل على رأسه شيئاً فما الحكم؟ قولان لأهل العلم: مذهب الحنابلة والمالكية: أنه لا حرج في ذلك؛ لأنه لا يقصد به من ذلك الستر، فإن هذا الفعل لا يقصد منه في الأصل ستر الرأس وإنما يقصد منه حمل هذا الشيء.

_ (1) أخرجه البخاري [1 / 47، …] ومسلم [4 / 2] وغيرهما، الإرواء [1012] . (2) أخرجه البخاري [1 / 319، …] ومسلم [4 / 23، 26] وغيرهما، الإرواء [1016] .

مذهب الشافعية: أنه لا يجوز له هذا وأن عليه الفدية لأنه سترٌ وتغطية. والأصح هو الأول، لأن المقصود منه اللباس، ما يقصد به ستر الرأس وتغطيته وأما هنا فلا يقصد منه ذلك. فإن كان في محمل كأن يكون في هودج أو سيارة أو نحو ذلك أو كمن يحمل الشمسية فما الحكم في ذلك؟ المشهور في المذهب أنه لا يجوز له ذلك وعليه الفدية؛ قالوا: لأنه بحكم تغطية الرأس. 2- وذهب الشافعية إلى أن ذلك لا بأس به، واستدلوا بما ثبت في مسلم عن أم الحصين أنها حجت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حجة الوداع قالت: (فرأيت أسامة بن زيد وبلالاً أحدهما آخذ بخطام ناقة النبي صلى الله عليه وسلم والآخر رافع ثوبه فوق رأسه يستره من الحر حتى رمى الجمرة) رواه مسلم [صحيح مسلم بشرح النووي: المجلد الثالث: 9 / 45، 46] ثم إن هذا – بدليل هذا الحديث – ليس في حكم التغطية الملاصقة للرأس، فليس في حكم التغطية التي هي من جنس الملبوسات ألا ترى أن الشارع نهى المحرم أن يغطي بدنه بالقمص والسراويل ونحوهما وأمره أن يغطيها بالأُزر والأردية ونحو ذلك فهذا من جنس ذلك. فإنه ليس النهي عن مجرد التغطية، بل النهي عن التغطية الملاصقة التي هي بحكم الملبوسات. وقد أجمع أهل العلم على أن من دخل قبة أو داراً فإن ذلك جائز ولا فدية عليه. ودليل ذلك: ما رواه مسلم من حديث جابر وهو حديث طويل وفيه: أن النبي صلى الله عليه وسلم: (ضربت له قبة بنمرة) (1) . مسألة: هل يجوز للمحرم أن يغطي وجهه أم لا؟ روايتان عن الإمام أحمد: الرواية الأولى: وهي المشهورة عند الحنابلة: أنه يجوز له أن يغطي وجهه لعدم الدليل الوارد في النهي عن ذلك. قالوا: وأما الحديث الذي رواه مسلم وفيه: (ولا تغطوا وجهه) (2) - في حديث الذي وقصته راحلته فمات – فإن الحديث لا يصح إذ هو ليس في الرواية المتفق عليها.

_ (1) رواه مسلم باب حجة النبي - صلى الله عليه وسلم -. (2) سبق برقم 103.

الرواية الثانية: وهو مذهب الأحناف والمالكية: أنه لا يجوز له أن يغطي وجهه وهو من محظورات الإحرام، إلا أن الإمام مالكاً لا يرى فيه الفدية. واستدلوا: برواية: (ولا تغطوا وجهه) وهي ثابتة في صحيح مسلم في حديث الذي وقصته راحلته فمات وهي رواية ثابتة في مسلم ولا مطعن فيها. ثم إن القياس يدل عليها فإن أهل العلم نهوا المرأة عن تغطية وجهها إلا إن كان ثمت أجانب، ولا يجوز لها أن تغطي وجهها في خيمتها حيث لا يراها أجنبي، وإحرامها في وجهها – كما سيأتي بيانه – ولا فرق بين الرجل والمرأة في مثل هذه المسألة بل الرجل أولى فإن المرأة في الأصل واجب عليها أن تغطي وجهها عند الأجانب بخلاف الرجل فإنه لا يغطي وجهه مطلقاً فكان أولى بهذه المسألة. فالقياس يدل على ذلك، فإذا كانت المرأة منهية عن تغطية وجهها فالرجل أولى من ذلك. فالصحيح ما ذهب إليه الإمام أحمد في رواية عنه وهو مذهب الأحناف والمالكية أنه لا يجوز للمحرم أن يغطي وجهه. قال: (وإن لبس ذكر مخيطاً فدى) المخيط هو الثوب المفصل على البدن أو على شيء منه. والواجب على المحرم أن يلبس إزاراً ورداءً، فنهى عن القمص والسراويلات ونحوها من الثياب المفصلة على البدن، ومثل ذلك الخفاف والجوارب. فإن لبس إزاراً ووضع فيه إبراً أو خيطاً أو شوكاً ونحو ذلك فأصبح على هيئة الملبوس – فإنه كما ذكر ذلك صاحب المغني وغيره – يكون قد فعل محظوراً من محظورات الإحرام لأنه حينئذٍ يكون في حكم المخيط، والنظر يقتضيه لأنه أصبح في حكم المخيط. مسألة: إن لم يجد نعلين فلبس خفين فهل يجب عليه أن يقطعهما حتى يكونا أسفل من الكعبين؟ قولان لأهل العلم: القول الأول، وهو مذهب الجمهور: أنه يجب عليه أن يقطعهما حتى يكونا أسفل من الكعبين. واستدلوا: بحديث ابن عمر المتقدم وفيه: (فليقطعهما حتى يكونا أسفل من الكعبين) (1)

_ (1) سبق برقم 102

القول الثاني: وهو مذهب الحنابلة واختيار شيخ الإسلام وتلميذه ابن القيم قالوا: لا يجب عليه ذلك بل يلبس الخفين ولا شيء عليه. واستدلوا: بما ثبت في الصحيحين عن ابن عباس: أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم وهو يخطب بعرفات فقال: (من لم يجد إزاراً فليلبس سراويل ومن لم يجد نعلين فليلبس الخفين) (1) قالوا: وأطلق النبي صلى الله عليه وسلم هنا فلم يأمر بقطع الخفين حتى يكونا أسفل من الكعبين. قال جمهور العلماء: هذا حديث مطلق وحديثنا حديث مقيد فيقيد المطلق بالمقيد. فأجاب الحنابلة وقالوا: حديثنا الذي استدللنا به قد قاله النبي صلى الله عليه وسلم بعرفات ومعه المدنيون والمكيون وسائر الناس ممن حج من جهات كثيرة من العرب، وأما حديث ابن عمر الذي استدللتم به فإنما قاله النبي صلى الله عليه وسلم في المدينة، وفي مسند أحمد بإسناد جيد عن ابن عمر قال: (سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول على المنبر أي منبره في المدينة) فالنبي صلى الله عليه وسلم حدث بحديث ابن عباس على مشهد الناس عامة وحدث بحديث ابن عمر على مشهد الناس خاصة، ولو كان واجباً قطع الخفين إلى أسفل الكعبين لبينه النبي صلى الله عليه وسلم في المشهد العام، فدل ذلك على أنه منسوخ؛ لأن تأخير البيان عن وقت الحاجة لا يجوز فيمتنع على النبي صلى الله عليه وسلم أن يحدث الناس بقيد في مجتمع خاص ثم يحدث بغير قيد في مجتمع الناس العام. وقد يقال: أنه إذا قطعهما حتى يكونا أسفل من الكعبين فإنهما يكونان بحكم النعلين بل هما نعلان – وحينئذٍ – يكون قول النبي صلى الله عليه وسلم من باب العزيمة، أما حديث ابن عباس فيكون من باب الرخصة.

_ (1) أخرجه البخاري باب من أجاب السائل من كتاب العلم، وفي كتاب الصلاة، وفي باب لبس الخفين للمحرم و.. من كتاب الحج. ومسلم باب ما يباح للمحرم بحج أو عمرة من كتاب الحج، وغيرهما. المغني [5 / 77] .

فالصحيح ما ذهب إليه الحنابلة واختاره شيخ الإسلام وتلميذه ابن القيم أنه لا يجب عليه أن يقطعهما حتى يكونا أسفل من الكعبين. مسألة: حكم الهِمْيان والمِنطَقة؟ الهميان: هو ما يوضع فيه النقود مما يكون على الحقو. المنطقة: هو ما يوضع على الإزار فيشد به على الحقو. اختلف العلماء في حكمهما: قولان لأهل العلم – هما قولان في مذهب أحمد: الأول: أنه لا يجوز ذلك إلا أن يحتاج إليهما في النفقة. الثاني: وهو مذهب الجمهور: أنه يجوز مطلقاً سواء احتاج إليه في النفقة أم لا. وهذا القول أظهر؛ فإن المنطقة، والهميان كانت مشهورة في زمن النبي صلى الله عليه وسلم ولم يبين النبي صلى الله عليه وسلم فيها حكما، وتأخير البيان عن وقت الحاجة لا يجوز. ثم إن الهميان والمنطقة شبيهة بالنعلين ونحوهما من الألبسة فليست مما يفصل على العضو تاماً. ولا شك أنه إذا أمكنه أن يتخلى عنهما وأمكنه أن يشد إزاره بغير ذلك فإن هذا أولى وأحوط. وعلى قول الحنابلة: لو لبسهما لغير حاجة فقد فعل محظوراً وعليه الفدية، والصحيح مذهب الجمهور. مسألة: هل يجوز للمحرم أن يلبس الساعة ومثل ذلك الخاتم؟ الذي يظهر لي أنه لا بأس بذلك، وأن هذه من الأمور المشهورة وهي ليست من الألبسة التي تعم البدن أو عضواً منه كالألبسة التي ذكرها النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث، وتأخير البيان عن وقت الحاجة لا يجوز. فالأظهر الجواز وهي شبيهة بحكم المنطقة. والحمد لله رب العالمين قال المؤلف رحمه الله تعالى: (وإن طيب بدنه أو ثوبه) هذا محظور من محظورات الإحرام: الطيب. فمن طيب بدنه أو ثوبه فدى وهذا بالإجماع لأنه قد فعل محظوراً من محظورات الإحرام.

والدليل على أن الطيب من محظورات الإحرام، ما تقدم من حديث من وقصته راحلته فمات أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ولا تحنطوه) والحنوط أخلاط من الطيب، وفي رواية للبخاري: (ولا تقربوه طيباً) (1) قال: (أو أدهن بمطيب) إذا ادهن أو استعط أو اكتحل بشيء من الأدهان المطيبة كدهن ورد ونحو ذلك فإن عليه الفدية، لأنه قد قرب طيباً فإن هذا الدهن مطيب وحيث ادهن به فإنه يكون حينئذٍ قد مس طيباً، أما إذا ادهن بدهن ليس من الأدهان المطيبة فلا حرج في ذلك إجماعاً. قال: (أو شم طيباً) كذلك إذا شم الطيب قصداً فإن عليه الفدية؛ وذلك لأن المقصود من الطيب رائحته، وهذا يحصل بالشم فإذا شمه قاصداً فإنه يكون قد فعل هذا المحظور. فالمقصود من الطيب هو رائحته بدليل أنه لو مسه بيده وكان يابساً لا ينتقل إلى اليد بالمس كما لو مس قطع كافور أو نحو ذلك فإنه بالاتفاق ليس بفاعل لمحظور لأن اليد لم يعلق فيها شيء من الطيب فلا يؤثر هذا المس. وهنا: إن أكل أو شرب طعاماً فيه شيء من الأطياب كالزعفران أو نحوه؟ قولان لأهل العلم: القول الأول: وهو المشهور في مذهب الحنابلة وهو مذهب الشافعية قالوا: أنه يكون قد فعل محظوراً. قالوا: لأن المقصود هو الرائحة فإذا أكله أو شربه فظهرت الرائحة من فيه فإنه حينئذٍ يكون قد حصل المقصود من الطيب بخلاف ما لو ذهبت الرائحة بالطبخ فإنه لا حرج في ذلك إذ الحكم يدور مع علته وجوداً وعدماً. القول الثاني: وهو مذهب الأحناف والمالكية: أنه ليس بمحظور سواء وجدت الرائحة أم لم توجد لأنه استحال بالطبخ عن كونه طيباً إلى كونه مطعوماً. والقول الأول أظهر؛ لأن العلة فيه أصح والحكم يدور مع علته وجوداً وعدماً.

_ (1) البخاري [1 / 319..] ومسلم [4 / 23..] وغيرهما، الإرواء 1016.

فسواء وضع الطيب على بدنه أو ثوبه أو أكل طعاماً فيه نوع من الأطياب فظهرت هذه الرائحة من فيه ولم يذهبها الطبخ بل بقيت ظاهرة في فيه فالأصح – حينئذٍ - أنه يكون قد فعل محظوراً لأن الحكم يدور مع علته وجوداً وعدماً، والمقصود من التطيب هو الرائحة وقد ظهرت الرائحة من فيه. مسألة: وهنا: إن كان الطعام الذي قد أكله فيه رائحة طيبة ليست برائحة الأطياب، لكن هذا الطعام ليس طِيباً في الأصل بل فيه هذه الرائحة الطيبة فباتفاق أهل العلم أنه ليس بفاعل محظوراً من محظورات الإحرام وأنه لا بأس بذلك كأن يأكل فاكهة أو نحو ذلك. وليس معنى ذلك أنه لو استخرج من بعض الأطعمة طِيباً واتخذه الناس طِيباً أنه ليس طِيباً يقع - المكلف بقربه - في المحظور. بل متى اتخذ الناس شيئاً من الأطياب ولو كان من بعض الأطعمة كما يوجد الآن في الأطياب التي تكون من فاكهة أو نحوها فإن هذا طيب لأن الناس قد اتخذوه طيباً. لكن الرائحة الموجودة في بعض الأطعمة هذه لا حرج فيها ولا يكون قد فعل محظوراً، أما لو وضع الطيب في طعام وهو مما يتخذه الناس طيباً فلم يذهب بالطبخ بل بقيت رائحته ظاهرة فإنه حينئذٍ يكون قد فعل المحظور بقربه الطيب. قال: (أو يتبخر بعود أو نحوه) هنا كذلك لأن هذا تطيب والمقصود من التطيب الرائحة ولا شك أن البخور يبقي رائحة في الثياب وفي البدن. قال: (وإن قتل صيداً مأكولاً برياً أصلاً ولو تولد منه أو من غيره أو تلف في يده فعليه جزاؤه) المحظور السادس من محظورات الإحرام وهو قتل الصيد البري. والأصل في تحريم الصيد على المحرم قوله تعالى: {لا تقتلوا الصيد وأنتم حرم ومن قتله منكم متعمداً فجزاء مثل ما قتل من النعم} (1) وقال تعالى: {أُحل لكم صيد البر وطعامه متاعاً لكم وللسيارة وحرم عليكم صيد البر ما دمتم حرماً} (2)

_ (1) سورة المائدة 95. (2) سورة المائدة 96.

فصيد البر محرم على المحرم، وقد بيَّن المؤلف الصيد الذي يحرم على المحرم فقال: " صيداً مأكولاً " فإذا كان الصيد غير مأكول فإنه ليس بمحظور، بل ليس بصيد فهذا القيَّد في الحقيقة قيد إيضاحي، وإلا فإنه من المعلوم أن غير المأكول لا يسمى صيداً اتفاقاً. " برياً ": هذا قيد يحتاج إليه فإن الصيد منه ما يكون برياً ومنه ما يكون بحرياً، وسيأتي استثناء الصيد البحري ودليله، فالصيد المحرم إنما هو الصيد البري. ويدخل في ذلك طائر البحر الذي يقع على البحر فإنه صيدٌ بريٌ إجماعاً. قال: " أصلاً ": هذا قيد يحتاج إليه، فإنه قد يكون الحيوان متوحشاً وهو في الأصل مستأنس كأن يتوحش إبل أو بقر ونحو ذلك قد سكن في البر وهو في الأصل من الحيوانات المستأنسة فهذا ليس بصيد اتفاقاً للنظر إلى أصله فإنه أصله أنه مستأنس وليس بصيد. والعكس بالعكس أيضاً: فإذا كان الحيوان برياً متوحشاً كغزال أو حمار وحشي أو نحو ذلك فهذا متوحش في الأصل فهو صيد فإذا استأنس فإنه يبقى صيداً برياً للنظر إلى أصله. فكونه مستأنس استئناساً طارئاً ويتوحش توحشاً طارئاً هذا لا يؤثر في أصله، فالنظر إنما هو إلى الأصل. " ولو تولد منه ومن غيره ": أي من المتوحش الذي هو الصيد وغيره من هو ليس بصيد تغليباً لجانب الحظر. فلو تولد هذا المصيد من حيوان متوحش وغيره كما يقع من التوالد بين مثلاً الفرس والحمار الوحشي فهذا المتولد منهما أهو صيدٌ أم لا؟ قال هنا: " ولو تولد منه ومن غيره " ظاهر كلام المؤلف الإطلاق والتعميم. والمسألة فيها تفصيل: فإن المتولد منه – أي من المصيد – وهو البري المصيد ومن غيره قسمان: القسم الأول: ما تولد من وحشي ومن حيوان مأكول. كأن يتولد من حمار وحشي ومن فرس فإنه حينئذٍ يكون مأكولاً لأن أصلَيْه مأكولان.

فإذا صيد فإنه – تغلباً لجانب الحظر – لأن أحد المتولد منهما صيد وهو الحمار الوحشي فتغليباً لجانب الخطر إن صيد فعلى من صاده الجزاء وقد فعل محظوراً من محظورات الإحرام، وهذا مذهب أكثر أهل العلم تغليباً لجانب الخطر. القسم الثاني: أن يتولد من الوحشي ومن غير الوحشي لكنه غير مأكول، كأن يتولد مثلاً من حمار وحشي وحمار أهلي. فظاهر كلام المؤلف – وهو المذهب – أنه إذا صيد ففيه الجزاء، وهذا فيه نظر؛ لأنه محرم الأكل فإن أحد أصليه غير مأكول وما كان كذلك فإنه محرم الأكل؛ وبهذا يقول الحنابلة تغليباً لجانب الخطر ومع أنه غير مأكول عندهم – مع ذلك - قالوا: بأنه لا يجوز صيده ومن فعل فعليه الجزاء. وهذا فيه نظر، ذلك لأنه ليس بصيد إذ الصيد هو المأكول وهذا ليس بمأكول وبهذا قال بعض الحنابلة. قال: (أو تلف في يده) فإذا أمسك رجل صيداً فلم يقتله لكنه بحبسه إياه قتله فتلف في يده فإن عليه الضمان وهو الجزاء لأنه بإمساكه له يكون قد قتله فقد أتلفه في حال إحرامه. بل إذا أشار إلى أحد بقتله أو أعان أحداً ولو بإعطائه السلاح أو أمر أحداً بقتله فإنه إن فعل ذلك فقد فعل المحظور وعليه الجزاء، وإن كان هذا المشار إليه أو المعان أو المأمور بالقتل حلالاً – أي ليس بمحرم -. ودليل ذلك ما ثبت في الصحيحين في قصة صيد أبي قتادة الحمار الوحشي وكان حلالاً فقال النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه – وكانوا محرمين -: (هل منكم أحد أمره أو أشار إليه بشيء) فقالوا: لا فقال: (فكلوا مما بقي من لحمه) (1) وثبت في الصحيحين أنه قال لهم: (ناولوني السوط فقالوا: والله لا نعينك عليه بشيء) .

_ (1) أخرجه البخاري [1 / 457] ومسلم [4 / 16] وغيرهما، الإرواء 1028.

فإذا أعان أو أشار أو أمر فلا يحل له أن يطعم منه شيئاً، فإن النبي صلى الله عليه وسلم قد رتب جواز الأكل على السؤال المتقدم فقال: (هل أحد منكم أمره أو أشار إليه بشيء) فلما قالوا لا قال: (فكلوا مما بقي من لحمه) كذلك لا يحل له أن يأكل منه إن صيد من أجله، لما ثبت في الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم: لما أهدى إليه الصَّعب بن جَثَّامة حماراً وحشياً وكان صلى الله عليه وسلم بالأبواء أو بودَّان فرده عليه وقال: (إنا لم نرده عليك إلا أنا حرم) (1) وثبت عند الخمسة إلا ابن ماجه والحديث حسن - إن شاء الله - أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (صيد البر لكم حلال وأنتم حرم ما لم تصيدوه أو يصد لكم) (2) وله شاهد من قول عثمان كما في الموطأ بإسناد صحيح أنه رضي الله عنه: (أهدي إليه صيد فقال: لأصحابه كلوا فقالوا: وأنت ألا تأكل؟ فقال: إني لست كهيئتكم، إنما صيد من أجلي) (3) . وهذا مذهب جمهور العلماء. فلو اشترى صيداً مذبوحاً لم يصد من أجله فلا بأس بأكله، أو أُهدي إليه صيد من غير أن يُتقصد في الأصل بالصيد فلا حرج في ذلك. وإن صاد المحرم صيداً فإنه بحكم الميتة له ولغيره، فهو ميتة، وهذا باتفاق العلماء لقوله تعالى: {لا تقتلوا الصيد وأنتم حرم} فسماه تعالى قتلاً، فدل على أنه ميتة. قوله: " فعليه جزاؤه " سيأتي بيانه في الكلام على الفدية. قال: (ولا يحرم حيوان إنسي)

_ (1) أخرجه البخاري [4 / 26، 28] باب إذا أهدى للمحرم حماراً وحشياً، ومسلم [1193] باب تحريم الصيد للمحرم. زاد المعاد [2 / 163] (2) أخرجه أبو داود [1851] باب لحم الصيد للمحرم، والنسائي [5 / 187] والترمذي [849] ، زاد المعاد [2 / 165] . (3) الموطأ برواية يحيى بن يحيى الليثي رقم 790.

الحيوان الإنسي كأن يذبح إبلاً أو شاة فلا بأس بذلك بإجماع العلماء لأنه ليس بصيد، فالحيوان الإنسي المأكول ليس بصيد فإذا ذبح فلا حرج في ذلك. قال: (ولا صيد البحر) فصيد البحر لا يحرم على المحرم بالإجماع. إلا ما اختلف فيه أهل العلم من صيد البحر إن كان في الحرم وسيأتي ذكره، وقد قال تعالى: {أحل لكم صيد البحر وطعامه متاعاً لكم وللسيارة وحرم عليكم صيد البر ما دمتم حرماً} قال: (ولا قتل محرم الأكل) لا يحرم قتل محرم الأكل، فيجوز له ذلك، فلا تعلق للإحرام بقتل شيء من غير مأكول اللحم، وإنما الحكم يتعلق بمأكول اللحم هذا هو المشهور في مذهب الحنابلة والشافعية وأن الإحرام لا دخل بشيء من قتل ما هو غير مأكول اللحم. وذهب المالكية: إلى أنه يحرم عليه ذلك وعليه جزاؤه. واستدلوا: بما ثبت في الصحيحين: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (خمس من الدواب كلهن فواسق يقتلن في الحل والحرم: العقرب والحدأة والغراب - زاد مسلم: الأبقع - والفأرة والكلب العقور) (1) وفي رواية في الصحيحين: (من قتلهن فلا جناح عليه) والمسألة في الأصح من قولي العلماء فيها تفصيل: فيقال: أما هذه التي أمر الشارع بقتلها فإنه لا شك بجواز قتلها وهذا لا خلاف فيه بين أهل العلم، فهو خارج عن محل النزاع. ويقاس عليها في المشهور عند أهل العلم كل ما هو مؤذٍ، فكل ما يتأذى منه الآدمي وفيه عدوان وأذية كالحية ونحو ذلك فإن هذا يقاس على الخمسة المذكورة في الحديث فتقتل. وإنما محل النزاع في هذه المسألة ما ليس كذلك – أي ليس من هذه الخمس المذكورة في الحديث ولا مما يقاس عليها مما فيه أذية وعدوان – ففيه لأهل العلم قولان:

_ (1) أخرجه البخاري باب ما يقتل المحرم من الدواب من كتاب جزاء الصيد، ومسلم باب ما يندب للمحرم وغيره قتله من الدواب. وغيرهما. المغني [5 / 115] .

1- مذهب الحنابلة والشافعية: أنه يجوز قتلها ولا أثر للإحرام في شيء من ذلك، لكن مذاهبهم تدل على أنهم لا يريدون التعميم بل يستثنون من ذلك ما دلت الأدلة الشرعية على النهي عن قتله كالضفدع ونحو ذلك. وإنما مرادهم أنه لا تعلق للإحرام. بمعنى: أن الإحرام لا يحرم عليه القتل أما إن كانت هناك أدلة شرعية تحرم فإن المحرم هو تلك الأدلة وليس هو الإحرام. بمعنى: أن الإحرام لا يحرم عليه قتل الصيد البري. 2- وذهب المالكية إلى أن عليه فدية إن قتله، ويكون قد فعل محظوراً من محظورات الإحرام. واستدلوا: بقوله صلى الله عليه وسلم: (لا جناح عليكم في قتلهن) فإن مفهومه إثبات الجناح في قتل غيرهن. وما ذهب إليه المالكية أصح، لكن في غير الفدية. فالصحيح أنه لا يجوز له القتل وهو محرم لمفهوم هذا الحديث، فإن هذا الحديث مفهومه تحريم ذلك، لأنه قال: (يُقتلن في الحل والحرم) ومفهوم ذلك أن غيرهن لا يقتل في الحل ولا في الحرم. وكذلك قوله: (لا جناح) مفهومه يدل على إثبات الجناح في قتل غيرهن. وأما إثباتهم الفدية أو الجزاء فهو محل نظر، فإن الله عز وجل إنما أثبته في الصيد فقال تعالى: {لا تقتلوا الصيد وأنتم حرم ومن قتله منكم متعمداً فجزاء مثل ما قتل من النعم} وهذه التي قلنا بتحريم قتلها على المحرمين ليست من الصيد إذ هي ليست بمأكولة، فلا تدخل في هذه الآية وإنما هي داخلة في الحديث المتقدم. فالراجح: وهو قول في مذهب الإمام أحمد: أنه لا يجوز للمحرم أن يقتل شيئاً إلا أن يكون فيه أذية وعدوان، لكن إن قتله فلا جزاء عليه، لكنه يكون قد فعل محرَّماً. ويضمن ما دل عليه أو أشار إليه. وقال بعض الحنابلة: لا يضمن، ويحرم. قال: (ولا الصائل)

فإذا صال شيء من الصيد عليه أو على شيء من ماله أو نحو ذلك فخشي الضرر واحتاج إلى قتله وعلم أنه لا يندفع هذا الضرر المظنون في بدنه أو ماله أو نحو ذلك، إلا بقتل هذا الصيد فإنه يجوز له أن يقتله دفعاً للصائل. باتفاق أهل العلم، وذلك لأنه باعتدائه التحق بالحيوانات المؤذية المعتدية التي أمر الشارع بقتلها كالكلب العقور المؤذي الذي يجرح. ولا جزاء في قتله لأن فعله بإذن شرعي وما ترتب على المأذون فليس بمضمون. لكن إن قتله مضطراً إلى أكله كأن يضطر إلى الطعام ولا طعام فاضطر إلى أن يقتل الصيد فيأكله فعليه الجزاء، لكن هذا الفعل جائز منه. وإنما قلنا بالجزاء هنا ولم نقل به هناك لأن قتله هنا لمصلحة له، أما هناك فهو دفع مفسدة. كما أن من حلق رأسه لدفع الأذى عن رأسه كان عليه الفدية بنص القرآن فكذلك من قتل الصيد لمصلحة نفسه فعليه الجزاء لأن هذا لمصلحة نفسه. والحمد لله رب العالمين قال المؤلف رحمه الله تعالى: (ويحرم عقد نكاح ولا يصح ولا فدية) فلا يجوز للمحرم أن يعقد نكاحاً لا لنفسه ولا أن يكون ولياً أو وكيلاً عن غيره، فلا يحل للمحرم أن يكون أحد المتعاقدين في النكاح سواء كان أصالة عن نفسه كالزوج البالغ الذي ينكح نفسه أو كان ذلك بوكالة عن غيره أو ولاية على ابنة له أو ابن أو نحو ذلك، فلا يحل له أن يعقد لنفسه (1) بالنكاح. ولا يدخل في هذا ما إذا كان شاهداً أو من يكون قائماً على عقد النكاح من القضاة أو غيره فإنه لا بأس أن يكون محرماً. إلا أن يكون أحد المتعاقدين محرماً فلا تحل الشهادة ولا يحل لأحد من أهل الشرع أن يعقد لهما. فالمراد هنا: أن يكون أحد المتعاقدين أو من ينوب عنهما بوكالة أو ولاية، أن يكون محرماً، فهو لا يجوز والنكاح باطل.

_ (1) في الأصل: نفسه.

ودليل ذلك: ما ثبت في مسلم عن عثمان أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا ينكح المحرم) أي لا يعقد لنفسه (ولا يُنكح) أي لا يعقد لغيره بولاية أو وكالة أو نحو ذلك (ولا يخطب) (1) . فهذه أمور محرمة، وذلك لأنها من مقدمات الجماع، وقد قال تعالى في كتابه الكريم: {فلا رفث ولا فسوق ولا جدال في الحج} والرفث: هو الجماع ومقدماته. وأما كونه يبطل – أي النكاح – فللنهي عنه، والقاعدة: أن المنهي عنه فاسد أو باطل إلا أن يدل دليل على تصحيحه. وقد ثبت في الموطأ: أن رجلاً تزوج وهو محرم فرد عمر نكاحه " (2) أي أبطله أو أفسده، وقد ذهب جمهور العلماء إلى ذلك. وذهب الأحناف إلى أن النكاح يصح ولا حرج فيه. واستدلوا: بما ثبت في الصحيحين: عن ابن عباس: قال (تزوج النبي صلى الله عليه وسلم ميمونة وهو محرم) (3) قالوا: ففعل النبي صلى الله عليه وسلم لذلك يدل على جوازه. والجواب عن هذا أن يقال: إن ابن عباس في هذه الرواية الصحيحة عنه قد خالف صاحبة القصة وهي ميمونة، وخالف السفير بينهما وهو أبو رافع. فقد ثبت في مسلم عن ميمونة قالت: (تزوجني النبي صلى الله عليه وسلم وهو حلال) (4) .

_ (1) أخرجه مسلم باب تحريم نكاح المحرم من كتاب النكاح. المغني [5 / 163] . (2) الموطأ برواية يحيى بن يحيى الليثي 777، باب نكاح المحرم. (3) أخرجه البخاري باب تزويج المحرم من كتاب المحصر وجزاء الصيد، ومسلم باب تحريم نكاح المحرم من كتاب النكاح. المغني [5 / 162] . (4) أخرجه مسلم [1411] وأبو داود وابن ماجه وأحمد، زاد المعاد [3 / 373] .

وفي المسند وسنن الترمذي بإسناد صحيح قال: (تزوج النبي صلى الله عليه وسلم ميمونة وهو حلال وبنى بها وهو حلال وكنت الرسول بينهما) (1) . فلا شك أن روايتهما أولى من رواية ابن عباس، فإنه لم يكن صاحب القصة، ولم يكن الرسول بين الرسول صلى الله عليه وسلم وبين صاحبة القصة ومعلوم أن صاحب القصة روايته أصح ممن يرويها عنه.وأيضاً من له اتصال بالقصة كأبي رافع أولى ممن ليس له اتصال كابن عباس. أضف إلى ذلك أن ابن عباس قد تحمل هذه القصة ولم يكن بالغاً ولا شك أن من تحملها وهو بالغ كميمونة وأبي رافع أولى وأصح ممن تحملها وهو غير بالغ وإن كان رواية غير البالغ تحملاً لا أداء صحيحة، لكن هذا حيث لم يخالف رواية من بلغ. فعلى ذلك: هو وهمٌ من ابن عباس كما قال ذلك الإمام أحمد وغيره. ولا يؤثر هذا في رواية أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، فإن روايتهم على التصحيح مطلقاً، ومن حفظ الله للشريعة أنه إن كان من وهم مع صحة السند إلى الصحابي فإنه يثبت عن صحابي آخر ما يبين الوهم منه حفظاً من الله عز وجل للشريعة كما في هذا المثال في هذه المسألة. وجمع بعض أهل العلم بين حديث ابن عباس وحديث ميمونة: بأن مراد ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم تزوج ميمونة، وهو في البلد الحرام أو في الشهر الحرام، كما قال الشاعر: * قتلوا ابن عفان الخليفة محرماً * ولم يكن محرماً بحج أو عمرة وإنما كان في البلدة الحرام أو في الشهر الحرام، فالمقصود أن الراجح ما حدثت به ميمونة عن نفسها، ويمكن أن يجاب عن حديث ابن عباس بالجمع المتقدم الذي ذكره بعض أهل العلم – والله أعلم –. إذاً: الصحيح أن المحرم لا يجوز له أن ينكح ولا أن ينكح.

_ (1) أخرجه أحمد [6 / 393] ، والترمذي [841] . على أن أبا عمر ابن عبد البر أعله بالانقطاع بين سليمان بن يسار وأبي رافع، زاد المعاد [3 / 373] .

" ولا فدية ": فإذا حدث منه ذلك فالنكاح باطل، ولا فدية عليه لأنه لا دليل على الفدية، ولأن الأصل براءة الذمة منها. فإن الفدية تتعلق بالذمة، والأصل براءة ذمة المكلف إلا بدليل يدل على شغلها، وهنا الذمة خالية فإشغالها يحتاج إلى دليل ولا دليل وكذلك في الحديث المتقدم لم يذكر النبي صلى الله عليه وسلم الفدية وتأخير البيان عن وقت الحاجة لا يجوز، وكذلك عمر لما أفسد نكاح من تزوج وهو محرم لم يأمره بالفدية. قال: (وتصح الرجعة) فإذا طلق الرجل امرأته طلاقاً رجعياً – لا طلاقاً بائناً يحتاج إلى عقد جديد، بل طلقها طلاقاً رجعياً – فإذا راجعها قبل انتهاء عدتها فلا بأس بذلك وإن كان محرماً؛ وذلك لأن الرجعة إمساك وليست بنكاح مبتدأ، فلا حرج فيها وهو مذهب جمهور العلماء. لكن لو بانت منه فلا يحل له أن يعقد عليها وهو محرم لأن ذلك ابتداء نكاح. والخطبة هل تصح أم تحرم؟ قولان، أظهرهما التحريم؛ لتحريم مقدمات الجماع، وهو قول ابن عقيل. قال: (وإن جامع المحرم …) الجماع من محظورات الإحرام قال تعالى: {الحج أشهر معلومات فمن فرض فيهن الحج فلا رفث ولا فسوق ولا جدال في الحج} والرفث: هو الجماع ومقدماته. والفسوق: اسم للمعاصي كلها. الجدال: هنا الجدال بغير حق إما بغير علم أو أن يجادل في الحق بعد ما تبين له، فالمراد به: المراء بغير حق. وقد أجمع العلماء – خلافاً لبعض المذاهب الشاذة – أجمعوا على أنه ليس شيء من محظورات الإحرام مفسداً للحج سوى الجماع، فقد أجمعوا على أنه مفسد للحج إن كان قبل التحلل الأول، وأما إذا كان بعد التحلل الأول فلا يفسده اتفاقاً. قال هنا: (وإن جامع المحرم قبل التحلل الأول فسد نسكهما ويمضيان فيه ويقضيانه ثاني عام)

" فسد نسكهما " أي المجامِع والمجامَع، فكل وطءٍ سواء كان وطأً في الأصل مباح كوطء الرجل زوجته، أو محرم كالوطء في قبل أو دبر محرم كل ذلك يدخل في الجماع المفسد للحج. وسيأتي البحث إن شاء الله في النسك الذي يثبت به التحلل الأول وأن أصح أقوال العلماء في ذلك: أن ذلك برمي جمرة العقبة يوم النحر. فعلى هذا القول – وهو الراجح – فإذا جامع قبل رمي الجمار فإن الحج يفسد ولا يجزئه عن حجة الإسلام، ويمضي فيه فيجب عليه الاستمرار فيه وهذا من جنس الاستمرار في الصوم فإن الصائم إذا أفطر بحيث لا يجوز له أن يفطر فإنه يمسك فيما بقي كما تقدم، وهنا كذلك فيمضي في الحج وهو حج فاسد ويجب عليه أن يقضيه في العام المقبل وجوباً على الفور لأنه أصبح فرضاً عليه وحيث كان كذلك وجب عليه أن يحج من العام المقبل ويجب أن ينحر بدنة (بعيراً أو بقرة) . فدليل ذلك آثار عن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وحديث مرسل، أما الآثار فهي عن ابن عباس وابن عمر وابن عمرو، كما ثبت ذلك عنهم في البيهقي: أن ابن عباس: (سئل عن الجماع قبل التحلل الأول؟ فقضى بفساد نسكهما ومضيهما فيه وأن يحجا عاماً آخر وأن يهديا كل واحد منهما بدنة) ونحوه عن ابن عمر وابن عمرو، والإسناد جيد ولا يعلم لهم مخالف من الصحابة فكان إجماعاً. وأما الحديث المرسل فقد رواه ابن وهب بسند جيد إلى سعيد بن المسيب أن النبي صلى الله عليه وسلم: (قضى بذلك) ومراسيل سعيد بن المسيب أصح المراسيل. هذا إن كان قبل التحلل الأول. وأما إذا جامع بعد التحلل الأول: فإن إحرامه يفسد في المشهور من المذهب وعليه شاة. فيفسد إحرامه، فحينئذٍ يذهب إلى التنعيم أو إلى موضع آخر من الحل فيحرم منه إحراماً جديداً ثم يأتي ببقية أعمال الحج، وعليه أن يذبح دماً فيذبح شاة، وهذا المشهور في المذهب.

ونازع بعض الحنابلة في الاكتفاء بإفساده للإحرام وقالوا: بل الواجب عليه أن يعتمر وهو المنصوص عن الإمام أحمد وهو ظاهر اختيار شيخ الإسلام. بمعنى: أنه يجب عليه أن يذهب إلى التنعيم أو موضع آخر من الحل فيهل بعمرة فيطوف ويسعى ويقصر ثم يأتي ببقية أعمال الحج. ونازع الشافعية كونه يكتفي بأن يذبح شاة وقالوا: عليه بدنة. قالوا: لأنه جماع في الحج فأشبه الجماع قبل التحلل الأول وهو ما زال محرماً بالحج ولم يثبت له التحلل التام فحينئذٍ يجب عليه أن ينحر بدنة. وأما الحنابلة فقالوا: إنما أوجبنا عليه شاة لأنه جماع لم يفسد الحج فلم يجب فيه بدنة. والصحيح ما ذهب إليه الشافعية في المسألة الثانية، وما اختاره شيخ الإسلام في المسألة الأولى وهو المنصوص عن الإمام أحمد. ودليل ذلك: ما ثبت في الموطأ بإسناد صحيح: أن ابن عباس سُئل عمن جامع امرأته بعد التحلل الأول فقال: (يعتمر ويهدي) وفي رواية: (يعتمر وينحر بدنة) (1) ولا يعلم له مخالف. فعلى ذلك: الراجح: أن الرجل إذا جامع امرأته - أو جماعاً محرماً - بعد التحلل الأول فيجب عليه أن يعتمر فيذهب إلى الحل فيحرم بعمرة ثم يأتي فيطوف بالبيت ويسعى بين الصفا والمروة ويقصر ثم يأتي بعد ذلك ببقية أعمال الحج وعليه بدنة. وهذا للأثر الصحيح عن ابن عباس الذي لا نعلم له فيه مخالف فإنه قضى على من جامع بعد التحلل أنه يعتمر وظاهر ذلك أنه اعتمار حقيقي تام، وهو الجامع للإحرام من الحل والطواف بالبيت وبين الصفا والمروة والتقصير. وأما إذا جامع في العمرة:

_ (1) الموطأ برواية يحيى بن يحيى الليثي رقم 867، 868، باب هدي من أصاب أهله قبل أن يُفيض.

فإن جامع قبل طوافه بالبيت وسعيه بين الصفا والمروة ففيه ما تقدم من الجماع قبل التحلل الأول: فعمرته فاسدة وعليه أن يتمها وأن يعتمر من قابل وعليه بدنة كالحج تماماً، وقد دخلت العمرة في الحج إلى يوم القيامة، ولها أحكام الحج بالاتفاق في مسائل المحظورات والفدية وغير ذلك. وأما إذا كان الجماع بعد الطواف بالبيت والسعي بين الصفا والمروة وقبل التقصير فإن العمرة صحيحة وعليه أن يذبح شاة فما فوقها. فقد ثبت في البيهقي بإسناد صحيح: أن ابن عباس قال لمن جومعت قبل أن تقصر أي بعد طوافها بالبيت وسعيها بين الصفا والمروة، قال لها: (أهريقي دماً، فقالت: أي دم؟ فقال: (بدنة أو بقرة أو شاة) قالت: أي ذلك أفضل؟ قال: (بدنة) فالشاهد أنه قضى بأنه يجزئ عنها أن تذبح شاة فقد خيرها بين أن تنحر بدنة أو بقرة أو أن تهدي شاة ولا يعلم له مخالف. قال: (وتحرم المباشرة) المباشرة هي: الاجتماع مع المرأة أو نحوها بما دون الجماع أي دون الوطء بقبل أو دبر، وهي محرمة اتفاقاً قال تعالى: {فلا رفث} والرفث: هو الجماع أو مقدماته. ولأن الشارع نهى المحرم عن عقد النكاح فالنهي عن المباشرة أولى وهذا باتفاق العلماء. قال: (فإن فعل فأنزل لم يفسد حجه) فإذا باشر فأنزل فإن الحج لا يفسد، وذلك لأن الأصل في المحظورات أن فاعلها لا يفسد حجه، ولا نص ولا إجماع يدل على الإفساد بالمباشرة. فالإجماع والآثار عن الصحابة إنما دلت على أن الجماع مفسد ولم تدل على المباشرة، والأصل في محظورات الإحرام ألا تفسد النسك. فليست المباشرة بمعنى الجماع ولم ينص عليها ولا إجماع على ذلك، ولأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يُفسد نسك من نكح وهو محرم، فكذلك المباشرة. قال: (وعليه بدنة) هذا هو المشهور في المذهب، وهذا من باب القياس على الجماع، فكما أن الجماع تجب فيه بدنة فكذلك المباشرة إذا أنزل فيها فيجب فيها بدنة بجامع الإنزال.

وذهب الشافعية وهو أصح: إلى أنه لا يجب عليه بدنة، بل الواجب عليه فدية الأذى إما أن يذبح شاة أو أن يطعم ستة مساكين أو أن يصوم ثلاثة أيام، وهذا أرجح، فلا دليل على وجوب البدنة، ومحظورات الإحرام لا يجب فيها الدم وإنما يجب فيها الفدية حيث دل الدليل على الفدية فيها، أو كانت بمعنى ما دل عليه الدليل فالأصح مذهب الشافعية وأن من باشر فأنزل فعليه فدية الأذى، وأما البدنة فلا دليل يصار إليه في هذه المسألة، ولم أر آثاراً عن الصحابة يصح في هذا الباب. أما إذا لم ينزل: فقال الحنابلة: عليه أن يذبح شاة. وقال الشافعية: عليه فدية الأذى، وهو أصح ما تقدم. قال: (لكن يحرم من الحل لطواف الفرض) ذِكْر المؤلف لهذا فيه إشكال، فإن المذهب ما تقدم ولا يحضرني كلاماً لهم في أن من باشر فيجب عليه أن يحرم، ولعل هذا إدخال للمسألة التي لم تذكر هنا، وهي إذا ما جامع بعد التحلل الأول فإنه يحرم من الحل لطواف في الفرض في المشهور من المذهب، وتقدم أن الراجح أنه يعتمر اعتماراً تاماً (انظر الدرس الذي بعده) . واعلم أن ما دون المباشرة من القبلة والمس ونحو ذلك للمرأة بشهوة أن ذلك كله محرم ومحظور من محظورات الإحرام - فإن ذلك من مقدمات الجماع – ومقدمات الجماع داخلة في الرفث المنهي عنه. فإن فعل فعليه – في الأصح – فدي الأذى – على القول بإثبات الفدية عليه – فإن الأصح أنه لا يجب عليه دم خلافاً لبعض الحنابلة، والراجح أن عليه فدية الأذى كما هو المشهور عند الشافعية. فعلى ذلك: يدخل في الرفث الجماع والمباشرة وما دونها من القبلة أو المس أو تكرار النظر حتى يمذي أو ينزل أو نحو ذلك فكل ذلك داخل في الرفث المنهي عنه. مسألة: من أفسد عمرته، فهل يهل بها من الحل أو من حيث أهل (1) ؟ أما آثار الصحابة في هذا: فان ابن عباس ذكر – كما في البيهقي -: (أنهما يهلان بها من حيث أهلاَّ)

_ (1) أي من الميقات أو غيره.

فالأظهر أنه يهل بها كما وجبت عليه لأن هذا من باب القضاء والقضاء يحكي الأداء. مسألة: إذا كانت المرأة مكرهة على الجماع فهل يفسد حجها؟ الظاهر في المذهب هو فساد نسكها، وأن البدنة على من أكرهها (انظر آخر باب الفدية) [انظر ص67] والراجح في هذه المسألة: أن نسكها لا يفسد لأنها مكرهة، ومن فعل شيئاً من المحظورات مكرها فإنه لا يترتب عليه حكم، بل هو كما لو لم يفعله، فإن المحظور ينهى عنه حيث كان ذلك بتعمد من المكلف أما إن كان من غير تعمد فإنه في حقيقة أمره ليس بمخالف للشرع. فالصحيح أنها إذا أُكرهت فلا شيء عليها ولا يفسد نسكها. والحمد لله رب العالمين. تقدم ذكر محظورات الإحرام وهي تسعة: 1- حلق الشعر ... ... 2- تقليم الأظافر 3- تغطية الرأس والوجه ... …4- لبس المخيط للذكر 5- مس الطيب ... ... 6- قتل الصيد … 7- عقد النكاح ... ... 8- الجماع 9- المباشرة تقدم الإشكال في قول المؤلف: (لكن يحرم من الحل لطواف الفرض) وقد تقدم أن في هذه العبارة نظراً وأنها في مسألة لم يذكرها المؤلف - وهي مسألة الجماع بعد التحلل الأول – ورأيت ذلك مذكوراً في الروض المربع في شرح زاد المستقنع، وأن المؤلف أدخل هذه المسألة على المسألة المذكورة في المتن، وهذا الإدخال عن طريق الوهم أو الخطأ. قال: (وإحرام المرأة كالرجل) إجماعاً فالمرأة فيما يحرم عليها هي كالرجل في كل ما تقدم من المحظورات فليس لها أن تتطيب وليس لها أن تقتل الصيد وليس لها أن يُعقد نكاحاً تكون طرفاً في هذا العقد وكذلك الجماع والمباشرة، فكل ما تقدم من المحظورات ليس مختصاً بالرجل وإنما هو للمرأة أيضاً وهذا بإجماع العلماء، إلا ما سيأتي استثناؤه. قال: (إلا في اللباس) فالمرأة في اللباس ليست كالرجل. فقد تقدم أن الرجل ينهى عن لبس المخيط من قميص وعمامة وسراويل وغير ذلك.

أما المرأة فحكمها بخلاف الرجل فلها أن تلبس من الثياب ما شاءت من المعصفرة أوغيرها من الألوان، فليس حكمها كحكم الرجل في أنها لا يجوز لها أن تلبس المخيط، فعلى ذلك تلبس الخفاف والجوارب والسراويل والقمص ونحو ذلك. وهذا بإجماع العلماء وقد ثبت في البيهقي بإسناد صحيح: أن عائشة قالت: (المحرمة تلبس من الثياب ما شاءت إلا ثوباً فيه ورس أو زعفران ولا تتبرقع ولا تتلثم وإن شاءت أسدلت ثوبها على وجهها) قال: (وتجتنب البرقع والقفازين) والبرقع: مشهور معروف فتتجنبه المرأة، وتجتنب القفازين وهما أيضاً مشهوران، فالبرقع للوجه، والقفازين لليدين. ودليل ذلك: ما ثبت في البخاري من حديث ابن عمر المتقدم وفيه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ولا تنتقب المرأة المحرمة ولا تلبس القفازين) (1) والنقاب معروف: وهو غطاء للوجه يكون الاعتماد فيه على الأنف وأولى منه بالحكم البرقع، والنبي صلى الله عليه وسلم إنما نص على النقاب ليدخل في ذلك بظهور ووضوح فإنه أولى منه في هذا الحكم. إذاً: تجتنب المرأة اللباس المختص بالوجه كالبرقع والنقاب وتجتنب أيضاً اللباس المختص بالكفين وهما القفازان. قال: (وتغطية وجهها) أي تجتنب المرأة المحرمة تغطية الوجه، فليس لها أن تغطي وجهها وإن كان ذلك بغير البرقع والنقاب، كأن تسدل ثوبا على وجهها كما هو مشهور عندنا. فليس لها أن تغطي وجهها إلا أن يكون هناك أجنبي فإنها تغطي وجهها عنه، أما إن لم يكن هناك أجنبي كأن تكون في هودجها، أو خيمتها أو أن يكون معها محارمها فحسب فإنه ليس لها أن تغطي وجهها فإن فعلت فقد فعلت محظوراً من محظورات الإحرام.

_ (1) أخرجه البخاري باب ما ينهى من الطيب للمحرم من كتاب المحصر وجزاء الصيد، وأبو داود، المغني [5 / 154] .

ودليل ذلك: - أي تغطية المرأة وجهها إن كان هناك أجانب – فقد ثبت في مستدرك الحاكم بإسناد صحيح عن أسماء بنت أبي بكر قالت: (كنا نغطي وجوهنا من الرجال ونمتشط قبل ذلك في الإحرام) وفي موطأ مالك عن فاطمة بنت المنذر قالت: (كنا نخمر وجوهنا ونحن محرمات مع أسماء بنت أبي بكر) . وفي المسألة أثر مشهور لكن في إسناده يزيد بن أبي زياد وهو ضعيف الحديث، وهو ما رواه أبو داود عن عائشة قالت: (كان الركبان ونحن مع النبي صلى الله عليه وسلم إذا حاذونا أسدلت إحدانا جلبابها على وجهها فإذا جاوزونا كشفت) (1) وقد تقدم الاستدلال بالأثرين المتقدمين، وكذلك ما تقدم عن عائشة وهو قولها: (فإن شاءت أسدلت ثوبها على وجهها) فهذه آثار عن هاتين الصحابيتين ولا نعلم لهما مخالف في هذه المسألة. أما مسألة: أن المرأة إن لم يكن هناك أجنبي فلا يجوز أن تغطي وجهها ويجب أن تدعه مكشوفاً: فدليل ذلك: عند أهل العلم قوله صلى الله عليه وسلم في الحديث المتقدم: (ولا تنتقب المرأة المحرمة ولا تلبس القفازين) قالوا: فهذا الحديث يدل على أن المرأة إحرامها في وجهها، وأنه ليس لها أن تغطي وجهها بالنقاب، وذكر النقاب إشارة إلى غيره مما يغطى به الوجه. وقد صح عن ابن عمر – كما في البيهقي – بإسناد صحيح: أنه قال: (إحرام المرأة في وجهها وإحرام الرجل في رأسه) وهذا المذهب هو مذهب فقهاء الأمصار، حتى قال الموفق: (لا يعلم بين أهل العلم في هذه المسألة خلاف) فهي مسألة متفق عليها عند أهل العلم. ولكن ذهب بعض فقهاء الحنابلة إلى إطلاق جواز السدل، وهو ظاهر اختيار شيخ الإسلام، واختيار تلميذه ابن القيم: وأنه يجوز لها أن تسدل جلبابها على وجهها مطلقاً سواء كان ذلك في حضرة الأجانب أم لا.

_ (1) أخرجه أبو داود باب في المحرمة تغطي وجهها، وأحمد، والبيهقي باب تلبس الثوب.. من كتاب الحج، المغني [5 / 154]

قالوا: والنبي صلى الله عليه وسلم إنما نهى عن الألبسة المختصة بالوجه كالنقاب والبرقع، وأما مجرد تغطيته بأي شيء كأن تسدل ثوبها على وجهها فإنه لا حرج في ذلك. وأنكر شيخ الإسلام ما نسب إلى النبي صلى الله عليه وسلم من قوله: (إحرام المرأة في وجهها) وقال: " إنما هو قول لبعض السلف "، وهو كما قال فإنه قد رُفع إلى النبي صلى الله عليه وسلم ذلك ولا يصح، وأما قول شيخ الإسلام: أنه قول لبعض السلف. فنعم هو لبعض السلف، لكنه ليس كأي أحد من السلف بل هو إلى ابن عمر ممن يحتج بقوله حيث لم يكن له مخالف ولم يخالف السنة الثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم. إذا علم الخلاف في هذه المسألة: فليعلم أن منشأ الخلاف في هذه المسألة – أي باعث الخلاف – هو: هل الشارع نهى المرأة عن النقاب والبرقع لكون النقاب والبرقع لباساً مختصاً بالوجه [فيشبه القميص في حق الرجل] وحينئذٍ لا يحرم على المرأة إلا اللباس المختص به، أم أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن النقاب والبرقع لكونه غطاءً للوجه فيحرم عليها كل غطاء وكل تغطية؟ أما الجمهور فقد سلكوا المسلك الثاني. أما شيخ الإسلام في ظاهر قوله، وهو قول ابن القيم ومذهب بعض الحنابلة فقد سلكوا المسلك الأول. قالوا: النبي صلى الله عليه وسلم إنما نهى عن اللباس المختص بالوجه وهو النقاب والبرقع، ولم يمنع من تغطية الوجه فأشبه ذلك المحرم فإنه ينهى أن يلبس القميص ويجوز له أن يغطي بدنه بإزار ورداء. وأما الجمهور فقالوا: - كما تقدم – أنه نهى عن التغطية مطلقاً. ومسلك الجمهور أصح مما ذهب إليه بعض الحنابلة.

فإن النساء في اللباس لسن في حكم الرجال، فإن المرأة يجوز لها أن تلبس القمص وأن تغطي رأسها بالألبسة المختصة بالرأس وتلبس الخفاف والجوارب ونحو ذلك، فليست كالرجل، فلا يحرم عليها شيء من الألبسة، ولو كان المقصود من النهي عن البرقع والنقاب أنه لباس لجاز لها كسائر الألبسة، فدل على أن المقصود من ذلك إنما هو تغطية الوجه. ولأن الغالب في النساء في عهد النبي صلى الله عليه وسلم أنهن يضعن ألبسة مختصة بتغطية الوجه، فنهى النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك. كما أنه لما سئل عما يلبس المحرم نهى عن العمائم، ولم يكتف بذلك عند أهل العلم بل قالوا: وإن غطى رأسه بخرقة فإنه لا يجوز له ذلك فالمقصود النهي عن تغطية الرأس. ثم إن قول ابن عمر صريح في ذلك، فإنه قال: (إحرام المرأة في وجهها) ولا نعلم أثراً صريحاً يخالف أثره. وأما قول عائشة: (فإن شاءت أسدلت ثوبها على وجهها) فإنه من المعلوم أن المرأة لا تسدل ثوبها على وجهها إلا أن كان هناك أجنبي، وإلا فإنها لا تشاء ذلك أصلاً إلا على أحوال نادرة، على أن هذا ليس صريحاً في المخالفة كما تقدم. إذن: الراجح مذهب جماهير العلماء وقد حكى اتفاقاً أن المرأة إحرامها في وجهها، فإذا غطت وجهها من غير حاجة فإنها تكون فاعلة محظوراً من محظورات الإحرام. فرعٌ: إن غطت المرأة وجهها فهل يجب عليها أن تضع عوداً أو شيئاً من ذلك يمنع مسَّ هذا الثوب لوجهها؟ قال بعض فقهاء الحنابلة وهو القاضي من الحنابلة: يجب عليها ذلك فإن مسَّ هذا الثوب شيئاً من بشرة الوجه فإن عليها الفدية. وأنكر هذا الموفق، وبيَّن أن كلام الإمام أحمد لا يدل عليه، وأن الخبر عن النبي صلى الله عليه وسلم لا يدل على ذلك، وبيَّن رحمه الله أن المسدول في الغالب لابد أن يمس الوجه، ولم ينقل عن النبي صلى الله عليه وسلم بيان يدل على اشتراط ذلك، وهو اختيار شيخ الإسلام، وهذا هو الراجح.

قال: (ويباح لها التحلي) فيجوز للمرأة أن تتحلى فتلبس السوار والقرط ونحو ذلك والخاتم ونحو ذلك من الحلي كل ذلك جائز إذ لا دليل يدل على منعه بل إلحاقه باللباس ظاهر، فلا حرج في ذلك. وهنا مسائل فيما يباح للمحرم: المسألة الأولى: يباح للمحرم أن يتاجر في حال إحرامه وأن يصنع ويتكسب ولا خلاف بين العلماء في ذلك، وقد قال تعالى: {ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلاً من ربكم} . المسألة الثانية: أنه لا بأس بالاغتسال للمحرم، وقد ثبت في الصحيحين أن أبا أيوب الأنصاري: (سئل عن الغسل للمحرم؟ فأمر أن يصب على رأسه الماء فصب على رأسه الماء فجعل يحرك رأسه بيديه فأقبل بهما وأدبر، وقال: هكذا كان النبي صلى الله عليه وسلم يفعل) (1) أي وهو محرم. وقد قال ابن عباس – كما في البخاري معلقاً -: (ويدخل المحرم الحمام) (2) أي المغتسل. ولا بأس أن يغتسل بسدر أو صابون - غير مطيب – أو قطمي ونحوه من المنظفات لا بأس بذلك، ودليله ما تقدم في من وقصته راحلته فمات وهو محرم قال النبي صلى الله عليه وسلم: (اغسلوه بماء وسدر) (3) مع كونه نهى أن يخمر وأن يمس طيباً، ومع ذلك فقد أمر أن يغسل بماء وسدر فدل على أن السدر ونحوه من المنظفات ليس من محظورات الإحرام. المسألة الثالثة: أنه لا بأس من أن يحك رأسه أو بدنه، وفي البخاري معلقاً: (ولم ير ابن عمر وعائشة في الحك بأساً) (4) المسألة الرابعة: أنه لا بأس أن يقتل القمل ولا فدية في ذلك وهو المشهور في مذهب الإمام أحمد. وذهب المالكية إلى أنه يحرم قتله وفيه الفدية.

_ (1) أخرجه البخاري باب الاغتسال للمحرم، من كتاب جزاء الصيد، ومسلم باب جواز غسل المحرم بدنه ورأسه من كتاب الحج، صحيح مسلم بشرح النووي [8 / 125] . (2) ذكره البخاري باب الاغتسال للمحرم. (3) متفق عليه، سبق برقم 103 (4) البخاري باب الاغتسال للمحرم.

أما ما ثبت في الصحيحين: من أن النبي صلى الله عليه وسلم أوجب الفدية على كعب بن عجرة (1) ، فإن ذلك ليس للقمل الذي في رأسه، وإنما ذلك لحلقه الرأس. وكذلك لأنه مؤذٍ فأشبه ما تقدم مما يقتل في الحل والحرم. المسألة الخامسة: فيما يباح للمحرم: أنه يباح نظر المحرم إلى المرآة ولا يكره ذلك وهو المشهور في المذهب، خلافاً لمن منعه أو كرهه، وفي البخاري معلقاً: (أن ابن عباس جوزه) (2) المسألة السادسة: أنه يجوز للمحرم أن يحتجم، فقد ثبت في الصحيحين: (أن النبي صلى الله عليه وسلم احتجم وهو محرم) (3) وفي رواية: (في وسط رأسه) وفي رواية للبخاري: (من شقيقة كانت به) . وفي قوله: (وسط رأسه) يدل على أنه أخذ شيئاً من رأسه للحجامة. قال الفقهاء: وعليه إن أخذ شيئاً من رأسه الفدية. وفيه نظر، فإن الحديث ليس فيه أن النبي صلى الله عليه وسلم افتدى ولو افتدى لنقل إلينا ذلك. وهذا يدل على ما تقدم من رجحان خلاف ما ذهب إليه جمهور العلماء من أن أخذ شيء من الرأس فيما لا يعد حلقاً أنه لا تجب فيه الفدية. فإن أخذ الشيء اليسير للحجامة - شيء يسير - لا تجب فيه الفدية والنبي صلى الله عليه وسلم احتجم في وسط رأسه ولابدّ أنه أخذ شيئاً من الشعر حيث لا يمكن الاحتجام إلا بذلك ولم ينقل لنا أنه افتدى. والنص الوارد إنما هو في حلق الرأس، وهذا ليس بحلق تام له.

_ (1) أخرجه البخاري باب قول الله تعالى {فمن كان منكم مريضاً أو به أذى..} .. ومسلم باب جواز حلق الرأس للمحرم إذا كان به أذى..، المغني [5 / 116] . (2) ذكره البخاري باب الطيب عند الإحرام من كتاب الحج قبل رقم 1537. (3) أخرجه البخاري باب الحجامة للمحرم من كتاب المحصر وجزاء الصيد.. ومسلم باب جواز الحجامة للمحرم. المغني [5 / 127] .

فالحجامة جائزة، ومثله الفصد والجرح في الرأس أو سائر البدن أو العمليات الجراحية، وسحب الدم ونحو ذلك، فذلك جائز للمحرم لا حرج عليه في ذلك. المسألة السابعة: فيما يباح للمحرم: يباح للمرأة المحرمة أن تكتحل أو تضع في يديها أو رأسها الحناء، والرجل يجوز له الاكتحال والاختضاب فيما لا يعد تشبهاً. فلا بأس للمرأة والرجل أن يكتحلا ويختضبا، الرجل فيما يختص به والمرأة فيما يختص بها. ولا دليل يدل على المنع عن ذلك للمحرم، والأصل في الأمور الإباحة. مسألة: المرأة يجوز لها أن تغطي يديها بالعباءة ونحوها غطاءً مؤقتاً لكن هل تغطي يديها في غير حضرة أجانب؟ ينبغي لنا مما تقدم أن نقول بالنهي عن ذلك وأن نلتزم به وهو رواية عن الإمام أحمد ومذهب طائفة من أصحابه أن المرأة لا تغطي يديها إلا إذا كان هناك أجنبي فتغطي يديها بثوبها " أي عباءتها " خلافاً للمشهور في المذهب. والحمد لله رب العالمين. باب: الفدية الفدية والفَدي والفَِدَاء بمعنىً. وهو ما يعطى في افتكاك أسير ونحوه، واستعير هنا: في إنقاذ المحرم من تلبسه بمحظورات الإحرام. قال: (يخير بفدية حلق أو تقليم أو تغطية رأس وطيب بين صيام ثلاثة أيام أو إطعام ستة مساكين لكل مسكين مد بر أو نصف صاع تمر أو شعير أو ذبح شاة) فهذه هي الفدية، وقال تعالى: {ولا تحلقوا رؤوسكم حتى يبلغ الهدي محله فمن كان منكم مريضاً أو به أذى من رأسه ففدية من صيام أو صدقة أو نسك} (1) صيام: صيام ثلاثة أيام. " أو صدقة ": إطعام ستة مساكين لكل مسكين نصف صاع من تمر أو أقط أو شعير أو نحوه، فإن كان براً فإنه مدٌ منه - من الحنطة -، ومثل ذلك الأرز فإنهما بدرجة واحدة في القيمة، فيطعم كل مسكين نصف صاع من تمر أو نحوه، أو ربع الصاع من البر أو الأرز أو نحوهما. " أو نسك ": أي ذبح شاة.

_ (1) سورة البقرة.

وقول المؤلف: " أو ذبح شاة " معطوف على قوله: " أو إطعام " وهو معطوف – أي قوله: " أو إطعام " - على قوله: " بين صيام ". فيخير بين أن يصوم ثلاثة أيام أو يطعم ستة مساكين، لكل مسكين نصف صاع من الطعام من التمر ونحوه أو ربع صاع من الأرز أو الحنطة ونحوهما، أو يذبح شاة. والنبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الآتي ذكره نص على نصف الصاع من التمر وجعل الحنابلة مداً من البر يجزئ عن نصف صاع من التمر وهو كما قالوا، فإن الكفارات ككفارة اليمين وغيرها كذلك يجزئ فيها مد الحنطة عن نصف الصاع من غيره. والخيار الثالث: أن يذبح شاة. أما الآية الكريمة فهي آية مجملة ليس فيها عدد الأيام التي تصام ولا عدد المساكين الذين يطعمون وما هو مقدار إطعامهم، وليس فيها بيان النسك أهو دم شاة أم دم بدنة أم دم بقرة. لكنَّ النبي صلى الله عليه وسلم بيَّن ذلك وهذه من منازل السنة مع القرآن أن يبيَّن مجمله. فقد ثبت في الصحيحين: أن كعب بن عجرة قال: حملت إلى النبي صلى الله عليه وسلم والقمَّل يتناثر على وجهي فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (ما كنت أرى الوجع يبلغ بك ذلك أتجد شاة؟ قلت: لا قال: فصم ثلاثة أيام أو أطعم ستة مساكين لكل مسكين نصف صاع) (1) وفي رواية: (ثلاثة آصع من تمر) أي لكل مسكين نصف صاع من تمر. وظاهر الحديث وجوب الترتيب بين الدم وبين الإطعام والصيام فإنه قال: (أتجد شاة؟ قال: لا قال: فصم ثلاثة أيام أو أطعم ستة مساكين) لكن هذا الترتيب ليس على الإيجاب بل على الاستحباب بدليل ما ثبت في الموطأ بإسناد صحيح: (أي شيء فيها فعلت أجزأ عنك) (2) وهو مذهب جمهور العلماء.

_ (1) أخرجه البخاري ومسلم، سبق برقم 130. (2) الموطأ برواية يحيى بن يحيى الليثي 947، باب فدية من حلق قبل أن ينحر.

وبدليل التخيير في الآية: {ففدية من صيام أو صدقة أو نسك} فأمر النبي صلى الله عليه وسلم له أولاً بذبح شاة لأن ذلك أفضل. والآية القرآنية والحديث النبوي في مشروعية الفدية لمن حلق رأسه معذوراً من مرض ونحوه. وألحق جمهور العلماء في حلق الرأس: تغطية الرأس وتقليم الأظافر والتطيب ولبس المخيط فرأوا أن من فعل أحد هذه الأربع فعليه الفدية الواجبة على من حلق رأسه. هذا أولاً. ثانياً: ألحقوا بالمعذور غيره، فالآية والحديث نص في المعذور فألحق جمهور العلماء في المعذور غيره، فلو فعل ذلك تعمداً بلا عذر عالماً بالحكم أو لبس مخيطاً متعمداً عالماً بالحكم أو نحو ذلك فإن عليه الفدية. واستدلوا: بالقياس. وفي النفس مما ذهب إليه الجمهور شيء. وقد ذهب الظاهرية واختاره الشوكاني: أن ذلك – أي الفدية – خاص بحلق الرأس وهو للمعذور فقط. أما الظاهرية فإنهم لا يرون القياس، وحينئذٍ: فردهم على الجمهور هو إبطال القياس من أصله، ولا شك أن قولهم باطل في لغي القياس، لكن القياس هنا فيه نظر، فإن المحظورات الأربعة لا تشبه حلق الرأس فإنه نسك يتعلق به واجب من واجبات الإحرام وهو الحلق أو التقصير بخلاف بقية المحظورات التي ذكروها فإنه لا يتعلق بها واجب كما يتعلق ذلك بالحلق فهو نسك يوفره المسلم ليقوم بحلقه أو تقصيره في يوم النحر، وعند طوافه وسعيه للعمرة. والقياس مع الفارق غير صحيح. وأما إلحاقهم غير المعذور بالمعذور فهو – أيضاً – قياس مع الفارق فإن المعذور غير عاصٍ لله ولا إثم عليه، بخلاف غير المعذور فإنه قد فعل ما نهى الله عنه على وجه يأثم به، فلا شك أن قياس العاصي على المطيع قياس غير صحيح. ومع ذلك فإن الأحوط في هذه المسألة ما ذهب إليه جمهور أهل العلم وإلا فكما تقدم ففي القياس الذي ذكروه نظر. ما تقدم هو فدية الأذى.

ثم انتقل المؤلف إلى الكلام على جزاء الصيد، وقد تقدم الكلام على الصيد وتحريم قتله للمحرم، وهنا في بيان جزاء الصيد. قال تعالى: {يا أيها الذين آمنوا لا تقتلوا الصيد وأنتم حرم ومن قتله منكم متعمداً فجزاءٌ مثل ما قتل من النعم يحكم به ذوا عدل منكم هدياً بالغ الكعبة أو كفارة طعام مساكين أو عدل ذلك صياما ليذوق وبال أمره} جزاء الصيد الذي دلت عليه هذه الآية بالخيار أيضاً بين ثلاثة أشياء: الأول: أن ينظر إلى هذا الصيد الذي صاده وما يماثله من النعم من بهيمة الأنعام من الإبل والبقر والغنم، فينظر ما يماثله ويحكم بالمماثلة ذوا عدل من المؤمنين، فيحكمان بأن هذه البهيمة من النعم عدل لهذا الصيد. مثال ذلك: النعامة يماثلها عند أهل العلم الإبل - وسيأتي الكلام على هذا في فصل مفرد إن شاء الله - فحينئذٍ يذبح هذا المثيل ويوزع على فقراء الحرم: {هدياً بالغ الكعبة} هذا هو الخيار الأول. الثاني: {أو كفارة طعام مساكين} بيان ذلك: أنه إن شاء ذبح هذا المثل وجعله هدياً بالغ الكعبة، وإن شاء قوَّم هذا المثل فيشتري بقيمته طعاماً من أرز أو نحوه ثم يوزع على المساكين لكل مسكين نصف صاع. فمثلاً: قومنا – البعير – في المثال المتقدم فوجدناه يساوي ألف ريال فاشترينا بالألف ريال مئة صاع من التمر فإنه يوزعه على 200 مسكين. فالمقوّم إنما هو المثل وليس الصيد هذا هو المشهور في مذهب الحنابلة والشافعية. وذهب المالكية إلى أن الذي يقوم هو الصيد نفسه. واستدل المالكية على أن المقوم الصيد: قالوا: لأنه هو الأصل وهو المتلف فيجب ضمانه إما بمثله أو بقيمته وحيث أنا لم نأت بالمثل فعلينا أن نأتي بقيمته نفسه.

واستدل أهل القول الأول على أن المقوم هو المثل قالوا: لأن المقصود من الكفارة أن تكون عدلاً بين هذه الأشياء، فكان ينبغي أن تكون مساوية للمثل لا مساوية للأصل، بدليل قوله تعالى بعد ذلك: {أو عدل ذلك صياماً} فدل على أن هذه الكفارات الثلاث المخير فيها أن المقصود فيها أن تكون على هيئة متساوية متقاربة. قالوا: ولأن الواجب في الأصل المثل فحسب أما هنا فإنه لما وقع الخيار بين هذه الثلاثة الأشياء، كان التساوي هو الأنسب فيها. وأما ما ذكرتموه أنتم – أي المالكية – فحيث كان ذلك مع العجز عن المثل، لأن الواجب هو المثل، فإن عجز عن المثل انتقل إلى القيمة، وهنا على خلاف ذلك: فإنا نأتي بالقيمة مع قدرتنا على المثل. والأظهر ما ذهب إليه الحنابلة، فإن تعليلهم أظهر. ثم إن الحاجة – فيما يظهر لي – تقتضي ذلك فإن تقويم الصيد فيه مشقة ظاهرة بخلاف بهيمة الأنعام فإنها مشهورة في التقويم عند الناس، فالناس يعرفون أقيامها ويقدرونها تقديراً ظاهراً بخلاف الصيد فإن في تقويمه شيئاً من المشقة، فكان الأنسب أن يعود التقويم إلى المثل، وكما تقدم فإن في قوله تعالى: {أو عدل ذلك صياماً} تنبيهاً إلى المثلية بين هذه الكفارات الثلاث بين المثل وبين الإطعام والصيام. الثالث: {أو عدل ذلك صياماً} ينظر عدد المساكين الذين يمكن إطعامهم، فيصوم بعددهم أياماً. فمثلاً: بلغوا مئتين كما في المثال السابق فيصوم مئتي يوم، {ليذوق وبال أمره} : أي ليذوق نتيجة عدوانه على ما نهى الله عنه من حرمه أو على فعل هذا الأمر المحظور عليه. قال المؤلف – في بيان ذلك -: (وبجزاء صيد بين مثل إن كان أو تقويمه بدراهم يشتري بها طعام فيطعم كل مسكين مُداً " أي من البر " أو يصوم عن كل مدٍ يوماً) والمقصود بالمد هنا: مدٌ من حنطة، فإن بقي بعض مدٍ فلا يصوم بعض يوم لأن اليوم لا يتجزأ بل يجبره فيصومه تاماً.

وهل يجوز له أن يجمع بين الإطعام والصيام، كأن يطعم بعضاً ويصوم بعضاً؟ لا يجوز له ذلك فإن الكفارات لا يجمع فيها بين شيء وآخر، فليس له أن يصوم بعض الأيام ويطعم بعض المساكين بل الواجب عليه أن يختار شيئاً من هذه الكفارات، كما هو ظاهر القرآن وهكذا في سائر الكفارات. قال: (وبما لا مثل له بين صيام وإطعام) إن كان هذا الحيوان المصيد لا مثل له، يعني قرر أهل العدالة فبينا أنه لا مثل له فحينئذٍ يبقى له خياران تقدم الخيار الأول فيكون ذلك بين الإطعام والصيام، وحينئذٍ فإن المقوم هو الصيد بحسب الاستطاعة، فيقوم الصيد نفسه لأنه لا مثل له فلا يمكن أن نرجع ذلك إلى شيء معدوم فأرجعناه إلى الموجود حينئذٍ للحاجة إلى ذلك ولتعيين ذلك. فيقوّم الصيد ويشترى بقيمته طعاماً يطعم به المساكين لكل مسكين مد من حنطة أو نصف صاع من تمر وغيره، أو يصوم عدل ذلك أياماً. مسألة: لو صاد غزالاً ثم استطاع أن يأتي بغزال مثله فإنه لا يجزئ عنه بل لابد أن يماثله من بهيمة الأنعام لأن هذا من جنس الهدي والهدي لابد أن يكون من بهيمة الأنعام لا غيرها، كالأضاحي وكالدم الذي يكون في الحج لا يكون إلا من جنس بهيمة الأنعام. والحمد لله رب العالمين. * ثبت في البخاري معلقاً أن عائشة أذنت لحاملي هودجها بلبس التُّبّان ولم تر عليهم شيئا. [التُّبّان: بضم المثناة وتشديد الموحدة، سروايل قصير بغير أكمام. فتح الباري لابن حجر: 3/ 465] قال المؤلف رحمه الله تعالى: (وأما دم متعة وقران فيجب الهدي) أي يجب الهدي تعييناً فليس ثمت خيار كما هو في فدية الأذى وفي فدية جزاء الصيد. بل الواجب عليه أن يهدي في التمتع والقران قال تعالى: {فمن تمتع بالعمرة إلى الحج فما استيسر من الهدي} وتقدم أن القران داخل في حكم التمتع باتفاق العلماء، كما أن القران تمتع في لغة العرب، وتدل على ذلك آثار الصحابة كما تقدم.

قال: (فإن عدمه فصيام ثلاثة أيام) إن عدم الهدي فلم يقدر عليه مع قدرته على ثمنه – كأن يكون قادراً على الثمن لكن لم يجد هدياً يشتريه بهذا الثمن – أو كان غير قادر على ثمنه وهذا هو الغالب. والعبرة في قدرته عليه أثناء حجه وتمكنه من ذبحه أو نحره فلو كان قادراً عليه عند رجوعه إلى بلده فهو صاحب قدرة مالية في بلده لكنه أثناء الحج لم يتيسر له ثمن يمكنه أن يشتري به الهدي فإنه في حكم غير القادر أصلاً، فإن العبرة في الواجبات المؤقتة العبرة في القدرة عليها أثناء وقتها وهذه قاعدة في كل واجب مؤقت، فالواجبات المؤقتة العبرة في القدرة عليها أثناء وقتها. ونظير ذلك: غير القادر على الطهارة المائية أثناء وقت الصلاة فإنها تسقط عنه إلى التيمم لعجزه عنها أثناء الوقت وإن كان قادراً عليها بعد خروج الوقت كأن يكون يعلم حضور الماء بعد خروج الوقت، أو يعلم وصوله إلى بلدته بعد خروج الوقت فإن العبرة إنما هي في قدرته على هذا الواجب المؤقت أثناء الوقت وهنا كذلك: فإن العبرة في قدرته على الهدي أثناء الوقت الذي ينحر به الهدي وهو يوم النحر وأيام التشريق. قال: (فصيام ثلاثة أيام والأفضل كون آخرها يوم عرفة) قال تعالى: {فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجعتم} فإن كان غير قادر على الهدي فإنه يصوم ثلاثة أيام في الحج، والأفضل كون آخرها يوم عرفة. إذاً: يصوم يوم عرفة ويومين قبله وهما يوم التروية واليوم السابع، هذا هو الأفضل له وفي ذلك آثار عن الصحابة رضي الله عنهم: فمن ذلك ما ثبت عن علي – في مصنف عبد الرزاق ومصنف ابن أبي شيبة – أنه قال في تفسير هذه الآية: {فصيام ثلاثة أيام في الحج} قال: (قبل يوم التروية يوم، ويوم التروية، ويوم عرفة فمن فاتته هنا فهن أيام التشريق)

ونحوه عن ابن عمر في مصنف عبد الرزاق ابن أبي شيبة وعن عائشة في موطأ مالك: أنها قالت: (الصيام لمن تمتع بالعمرة إلى الحج لمن لم يجد هدياً ما بين أن يهل بالحج إلى يوم عرفة فمن فاتته هنا فهن أيام التشريق) فهذه آثار عن علي وابن عمر وعائشة، وفيها أن الأفضل أن يصوم يوم عرفة ويومين قبله. وكره الشافعي صيام يوم عرفة لكراهية النبي صلى الله عليه وسلم واستحب أن يكون آخر الأيام يوم التروية. فعلى ذلك يصوم اليوم السادس والسابع والثامن. والقول الأول أظهر للآثار المتقدمة عن الصحابة. ولما في ذلك من الكلفة على الحاج من أن يتقدم يومين قبل يوم التروية، فإن المشروع في حقه أن يهل يوم التروية بالحج لكن استحب الصحابة أن يتقدم يوماً ليكون صيامه في الحج. أما تقديمه بيومين فإن في ذلك كلفة على الحاج، وموافقة آثار الصحابة أولى وهو المشهور عند الحنابلة. قال: (وسبعة إذا رجع إلى أهله) ويصوم سبعة أيام إذا رجع إلى أهله، فالواجب عليه أن يصوم عشرة أيام، ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجع إلى أهله، فإذا رجع إلى بلدته وأقام عند أهله صام سبعة أيام. لما ثبت في الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من لم يجد هدياً فليصم ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجع إلى أهله) (1) وهذا بيان للآية المتقدمة: {إذا رجعتم} : أي إذا رجعتم إلى أهلكم كما بينته السنة في الحديث المتفق عليه المتقدم. إذاً: المشروع في حقه أن يصوم ثلاثة أيام في الحج يكون آخرها يوم عرفة، وأن يصوم سبعة إذا رجع إلى أهله. هذا هو المختار فهو صيام الفضيلة. أما صيام الإجزاء، فقد اختلف أهل العلم في وقت الإجزاء لصيام الثلاثة أيام، وفي وقت الإجزاء لصيام سبعة أيام. أما صيام ثلاثة أيام: فقال الحنابلة: يجوز أن يشرع فيها إذا أحرم بالعمرة.

_ (1) متفق عليه.

رجل أراد أن يتمتع بالعمرة إلى الحج أو يقرن وهو غير قادر على الهدي فأحرم في اليوم الرابع من ذي الحجة، فيجوز له أن يشرع بصيام الثلاثة أيام من ذلك اليوم. وإذا تحلل من العمرة فيجوز له أيضاً أن يشتغل بالصيام قالوا: لأنه قد أحرم بأحد نسكي التمتع، فالتمتع له نسكان: عمرة وحج فكما أنه يجوز له أن يشرع بالصيام إذا أهل بالحج اتفاقاً، فالعمرة كذلك لأنها أحد نسكي التمتع. وذهب المالكية والشافعية: إلى أنه لا يجوز له أن يشرع بالصيام إلا إذا أحرم بالحج ولا يجزئه. فعلى ذلك: أثناء إحرامه بالعمرة لا يجزئه الصيام. وأما القارن فإنه لا إشكال على أنه يجوز له لأنه إذا أحرم بالعمرة فإن الحج أيضاً داخل في إحرامه فإنه يحرم بهما جميعاً. واستدلوا: بالآية فإن الله قال فيها: {فصيام ثلاثة أيام في الحج} فعين الله عز وجل الحج للصيام: ولا يكون في الحج حتى يحرم به. وهذا القول هو الظاهر، وهو الموافق لظاهر الآية الكريمة وأما كون العمرة أحد نسكي التمتع: فإن هذا غير كافٍ في الإجزاء لمخالفة ذلك للآية الكريمة أولاً. ولأنه لا يصدق عليه التمتع حتى يشرع بالحج إهلالاً فإذا أهل به فإنه يصدق عليه أنه قد تمتع بإهلاله بالحج. فالراجح ما ذهب إليه المالكية، والشافعية: وأنه ليس له أن يصوم إلا إذا أحرم بالحج. وهو فيما يظهر لي الموافق للآثار المتقدمة عن الصحابة كما قالت عائشة: (الصيام لمن تمتع بالعمرة إلى الحج لمن لم يجد الهدي من أن يهل إلى يوم عرفة) (1) فظاهر ذلك أنه من إهلاله بالحج وهو كما تقدم ظاهر الآية القرآنية. وظاهر الآية القرآنية أنه ليس له أن يصوم بعد ذلك لأن التلبس في الحج ينتهي بيوم النحر، ويوم النحر ليس من أيام الصيام مطلقاً فظاهر الآية: أن الصيام محصور من الإهلال بالحج وينتهي يوم عرفة فإذا فاته يوم عرفة انتهى صيام الثلاثة أيام.

_ (1) تقدم ص64

لكن السنة النبوية رخصت في ذلك فقد ثبت في البخاري عن عائشة وابن عمر أنهما قالا: (لم يرخص في أيام التشريق أن يصمن إلا لمن لم يجد الهدي) (1) وأيام التشريق فيهن أفعال للحج لكن ليس فيهن تلبس بالحج فإنه ينتهي الإهلال بالحج في يوم النحر عند رمي الجمرة وحينئذٍ لا يكون في الحج لكن بقيت أحكام متعلقة بالحج. ولعله لتعلق هذه الأحكام رخص في ذلك. إذاً:أيام التشريق يجوز له أن يصومهن وكونهن لسن من الأيام التي يكون المسلم متلبساً في الحج فيهن، هذا حيث دلالة القرآن وأما السنة النبوية فإنها قد زادت على ما ورد في القرآن. وأيضاً المعنى يدل على ذلك وهو بقاء أفعال للحج ثابتة في أيام التشريق. وأما صيام السبعة الأيام: فالمشروع في حقه كما تقدم أن يصومها إذا رجع إلى أهله. لكن الخلاف في هل يجوز له أن يصوم قبل ذلك كأن يصوم في مكة أو في طريقه؟ قولان لأهل العلم: 1- القول الأول: مذهب الجمهور ومنهم الحنابلة: يجزئه ذلك وحملوا الآية الكريمة على أنها رخصة. وعللوا ذلك بأن السبب قد وجد فسبب الصيام موجود وهو عدم وجود الهدي في وقته، وحيث وجد سببه فإنه يجزئ الصيام وأما الآية القرآنية فهي رخصة. والمعنى يدل على ذلك فكونه يصوم إذا رجع إلى أهله هذا رخصة من الله ليكون ذلك أهون عليه وأسهل في حقه لكن لا مانع أن يصوم قبل ذلك لوجود سبب الحكم وهو عدم الهدي وقالوا: نظير ذلك الصيام للمسافر فإن الله عز وجل قال: {فمن كان مريضاً أو على سفر فعدة من أيام أخر} فظاهر ذلك أنه إن سافر فلا يصوم ويصوم عدة من أيام أخر، لكن هذه الآية رخصة بدلالة السنة النبوية، بل قد يكون الصيام أفضل كما تقدم في كتاب الصيام. والمقصود أنه يجزئ بلا خلاف أن يصوم في السفر لوجود سبب الحكم وهو رمضان.

_ (1) أخرجه البخاري: [4 / 211 – فتح] . الإرواء رقم 964

2- الشافعية إلى أنه لا يجزئ ذلك – فلا يجزئه أن يصوم في الطريق ولا في مكة – وذلك للآية القرآنية وللحديث النبوي. والأصح: ما تقدم وأن الآية رخصة بدليل وجود سبب الحكم وهو عدم وجود الهدي ثم، ولأن المعنى يقتضي ذلك فلا فائدة من تحديد ذلك برجوعه إلى أهله إلا سهولة ذلك على المحرم أما لو تكلف الصيام فإنه لا حرج عليه في ذلك، وهذا يشبه كما تقدم الصيام في السفر في رمضان. إذن: يجوز له أن يصوم هذه السبعة في مكة أو في طريقه لكن المشروع في حقه وهو الأحوط أيضاً ألا يصوم إلا إذا رجع إلى أهله. واعلم أن الآية القرآنية في صيام الثلاثة أيام والسبعة مطلقة غير مقيدة بتتابع ولا تفريق، فله أن يفرق وله أن يتابع ويجمع ولا خلاف بين أهل العلم في ذلك لأن الآية مطلقة ليس فيها التقييد بالتتابع ولا التفريق. قال: (والمحصر إذا لم يجد هدياً صام عشرة ثم حل) المحصر: هو من منع من تمام النسك، كأن يختل الأمن في مكة أو نحو ذلك فلا يتم نسكه، وسيأتي الكلام على هذا في باب مفرد. والمحصر عليه الهدي لقوله تعالى: {فإن أحصرتم فما استيسر من الهدي} أي إذا منعتم وحبستم عن المناسك فتحللوا من إحرامكم - بحج أو عمرة، تحللوا منه - بهدي تنحرونه أو تذبحونه فإذا ذبح أو نحر الهدي فإنه حينئذ يتحلل من الإحرام. فإن لم يجد المحصر هدياً: صام عشرة أيام ثم حل قياساً على المتمتع فكما أن المتمتع إن لم يجد هدياً فإنه يصوم عشرة أيام كما تقدم فإن المحصر يصوم عشرة أيام. ولم يقيد المؤلف هنا بالحج أو في غيره؛ لأنه ليس بمتلبس بالحج، فيصوم عشرة أيام ثم يتحلل فليس له أن يتحلل إلا بعد أن يتم الصوم. قالوا: بدل هدي التمتع صيام عشرة أيام، فكذلك بدل هدي الإحصار صيام عشرة أيام أيضاً. وذهب المالكية والأحناف: إلى أنه لا يجب عليه أن يصوم عشرة أيام بل إذا لم يجد الهدي فإنه يتحلل. قالوا: لأن الله لم ينص على ذلك.

قلت: ولأنه أيضاً ليس بمعنى المنصوص. أما قولهم أن الله لم ينص على ذلك: فإن الله قال في الآية الكريمة: {فإن أحصرتم فما استيسر من الهدي} ولم يوجب على غير القادر صياماً بخلاف المتمتع فإنه أوجب عليه الصيام بعد ذلك. لكن هذا القول من المالكية والأحناف يمكن أن يجاب بأن كونه غير منصوص عليه غير كاف في رد الحكم، فإنه – عندنا – بمعنى المنصوص عليه، ولذا قسناه على ذلك، ولذا قلنا: " وهو ليس بمعنى المنصوص " فإن ثمت فارق. والفارق فيما يظهر لي: إن هدي التمتع هدي موجبه فعل المناسك وأما هدي الإحصار فإن موجبه ترك المناسك، ولا شك بالفارق بين الفعل والترك، فإن المحصر تارك للنسك، وأما المتمتع فهو بفعله النسك وجب عليه الهدي وأن يجبره بعد ذلك ببدله إن عجز عنه، وحيث ثبت الفارق فإن القياس لا يصح، فإن المحصر تارك للنسك متحلل منها، وأما المتمتع فهو متحلل من فعلها، فهو ليس بمنصوص عليه ولا بمعنى المنصوص. ثم إن في ذلك – في الصيام – مشقة وكلفة، فإن كوننا ننهاه أن يتحلل حتى ينتهي من صيام عشرة أيام لا شك أن في مثل هذا كلفه ومشقة، وهذا فارق آخر بين المسألتين، فإن المتمتع إذا رجع إلى أهله وهو متحلل يصوم سبعة أيام ولا حرج عليه في ذلك ولا مشقة. أما المحصر فإنه ليس له أن يتحلل حتى ينتهي من هذا الصيام وذلك لأن المسألتين بينهما فارق، فإن هدي التمتع يفعل بعد التحلل، وأما هدي الإحصار فإنه يفعل للتحلل فلا يتحلل حتى يفعله فيشقه الصيام، فليس للمحصر - على قول الحنابلة - أن يتحلل حتى يصوم عشرة أيام وهذا فارق آخر بين المسألتين. فالصحيح ما ذهب إليه المالكية والأحناف من أن هدي الإحصار ليس له بدل بل إذا لم يجد الهدي فإنه يحل ولا شيء عليه. قال: (ويجب بوطء في فرج في الحج بدنة، وفي العمرة شاة) تقدم البحث في هذا في مسألة الجماع (1) . قال: (وإن طاوعته زوجته لزماها)

_ (1) انظر ص52.

إن طاوعت الزوجة زوجها على الجماع فإنه يجب عليها البدنة أو الشاة على التفصيل المتقدم في حق الرجل. وذلك لأن كليهما مكلف وقد فعل ما يوجب الكفارة فلم يجزئ كفارة أحدهما عن الآخر، والكفارة لحق الله تعالى، وكلاهما مكلف وقد فعل ما يوجب الكفارة فوجبت في حقه – أي المكلف – وحينئذٍ فيجب في حق المرأة وإن قام الزوج بها عن نفسه لأن المرأة مكلفة وقد فعلت ما يوجب الكفارة. وقد تقدم أثر ابن عباس الذي لا يعلم له مخالف من الصحابة وفيه أنه أوجب الهدي على كليهما – أي على الزوج والزوجة –. الأول نظر، وهذا أثر ابن عباس لا يعلم له مخالف. وظاهر قوله: - أي المؤلف – أن الزوجة إن كانت مكرهة فإن الفدية لا تجب عليها وهذا هو المشهور في مذهب الحنابلة خلافاً للمالكية في هذه المسالة. فالمشهور في المذهب أنه لا فدية عليها – إن كانت مكرهة - قالوا: لأنها مكرهة وقد عفي لهذه الأمة عن الخطأ والنسيان وما استكرهت عليه. قال الحنابلة: ولا يجب ذلك على المكره وهو الزوج أو غيره، فالمكره لا يجب عليه الفدية. وقال المالكية: بل يجب على زوجها فدية ويجب عليه أن يدفع من ماله ما يحججها به في السنة الأخرى لأنه هو المفسد لحجها. أما قولهم أنه يجب عليه أن يعطيها نفقة للحج، فهذا ظاهر لو قلنا بإفساد الحج؛ لأن هذه الغرامة حق لآدمي فهي امرأة قد فسد حجها بسبب غيرها فواجب على هذا الغير أن يقوم بالنفقة التي تكفيها في الحج لأنه هو المتسبب لذلك. وأما الكفارة فلا لأنها حق الله تعالى يجب على المكلف حيث توفرت الشروط فيه وهي لم يتوفر فيها شروط الإيجاب؛ لأنها مكرهة. فإذاً: مذهب الحنابلة أصح من مذهب المالكية وأنها إذا أكرهت فليس عليها فدية ولا على زوجها فدية. والمذهب على أن المرأة المكرهة يفسد حجها وهو مذهب المالكية كما تقدم في (1) . وذهب الشافعية وهو الراجح إلى أن المرأة إذا أكرهت على الجماع لا يفسد حجها.

_ (1) بياض في الأصل.

وذلك لأنها لإكراهها لا فعل لها فالمكره لا فعل له، وإنما أفسد الحج بالجماع لأنه فعل من المكلف خالف فيه أمر الله أو اقترف فيه نهي الله عز وجل. وحيث كان مكرهاً فإنه لا فعل له فلا يعد مخالفاً، ولأن الله تجاوز عن هذه الأمة ما أكرهت عليه. ولا يجب عليها بدنة لما تقدم، ولأن الكفارة مترتبة على الفعل المتقصد المتعمد وهنا لا تقصد ولا تعمد بل لا ينسب إليها فعل. مسألة: رجل رجع من الحج ولم يصم ثلاثة أيام – وهو لم يجد هدياً – فهل يقضيها إذا رجع إلى أهله؟ قال الجمهور عليه أن يقضيها. واختلف هل عليه دم أم لا دم عليه؟ 2- والذي يظهر لي والله أعلم أنه لا يقضي ويكون آثماً لتفريطه وهذا يرجع إلى مسألة سابقة، وهي إذا أمر الشارع بأمر له وقت محدد فخرج وقته فهل أمره السابق متضمن للقضاء بعد الوقت أم لا؟ قال الجمهور: لا يتضمن ذلك، فأمر الشارع بالشيء المؤقت لا يستلزم قضاءه بعد خروج وقته لفوات مصلحة الشارع، فإن الشارع قد رأى مصلحة في فرضيته في ذلك الوقت فإخراجه عن وقته إلى وقت آخر من باب القضاء هذا يحتاج إلى دليل جديد. لكن جمهور العلماء خالفوا هذه القاعدة التي هم يقولون بها خالفوها لبعض الأدلة كحديث: (دين الله أحق بالقضاء) ونحو ذلك. والذي يظهر البقاء على هذه القاعدة إلا بدليل ظاهر، فإن عليه أن يستغفر ويتوب لكن السبعة الأيام لا تسقط عنه بل ينبغي فعلهن لأن وقتها ما زال، ولا شك أن الأحوط له أن يصوم. والحمد لله رب العالمين. فصل هذا فصل في شيء من أحكام الفدية قال: (ومن كرر محظوراً من جنس ولم يفد فدى مرة) كرر محظوراً من جنس واحد كأن يلبس مخيطاً في اليوم الأول من أيام الحج، ثم يلبسه في اليوم الثاني ولم يفد بينهما. أو أن يتطيب متفرقاً لا متتابعاً بأن يكرر التطيب، ولم يفد بين ذلك، فإنه يفدي مرة، فيكفيه عن هذه الأفعال ذات الجنس الواحد ما لم يتخللها فدية يكفيه فدية واحدة.

قالوا: لأن الله عز وجل أطلق في فدية الأذى ولم يفرق فيمن حلق رأسه متتابعاً، أو فيمن حلقه متفرقاً بأن حلق ثم حلق. وأشبه ذلك إقامة الحدود الشرعية، فإن الرجل إذا تكرر زناه بامرأة أو قذفه لرجل ولم يقم عليه الحد فإنه لا يقام عليه الحد إلا مرة واحدة فهنا كذلك. إذاً: إن فعل فعلاً من محظورات الإحرام من جنس فكرره في نسكه كأن يكرر في حجه لبس المخيط مرتين أو ثلاثاً، أو أن يفعله متتابعاً، فيستمر في نسكه كله لابساً لثوبه أو أن يفعله ثم يخلعه، أو أن يخلعه ثم يلبسه مرة أخرى فإذا لم يتخللها كفارة فإنه لا يفدي إلا مرة واحدة، أشبه ما يكون هذا بإقامة الحدود. وأشبه أيضاً الأيمان فإن حلف يميناً ثم حنث فيها فحنث فحنث فكرر ذلك فإنه لا يكفر إلا مرة واحدة. وظاهر كلام المؤلف رحمه الله تعالى أنه إذا فدى فإنه يلزمه أن يفدي مرة أخرى وثالثة وهكذا. فلو أن رجلاً لبس ثوبه في يوم التروية ثم فدى (فذبح أو صام أو أطعم) ثم لبسه في المساء أو في الغد فإنه عليه فدية أخرى. قالوا: لأن المحظور الثاني وإن كان من جنس الأول لكنه صادف إحراماً خالياً من فعل محظور تجب فيه الفدية. ففعله للمحظور مرة ثانية أو ثالثة صادف إحراماً خالياً من محظور موجب للفدية فلا موجب حينئذٍ لإسقاطه. إذن: إذا فعل محظوراً من جنس واحد وكرره فلا يخلو من حالين: الأولى: أن يتخلل ذلك فدية، بمعنى: يفعل المحظور ثم يفدي ثم يفعله مرة ثانية فتجب عليه الفدية مرة أخرى لأن فعله الثاني صادف إحراماً خالياً من فعل موجب للفدية، فلا موجب حينئذٍ لإسقاط الفدية عنه كما لو زنى فأقيم عليه الحد ثم زنى مرة أخرى فإن الحد يقام عليه مرة أخرى. الثاني: ألا يتخلل ذلك فدية، فإنه ليس عليه إلا فدية واحدة لأن الله عز وجل لما أمر بالفدية أطلق فمن فعل هذا المحظور فواجب عليه أن يفدي وظاهر هذا الإطلاق ثبوته بالتفرق كثبوته بالتتابع فأشبه ذلك إقامة الحدود.

هذا إذا كان المحظور المكرر من جنس واحد. أما إذا لم يكن المحظور من جنس واحد فقال المؤلف هنا: (من فعل محظوراً من أجناس فدى لكل مرة بخلاف صيد) " ونعود بعد ذلك إلى الكلام على قول (بخلاف صيد) " رجل فعل محظورات مختلفة الأجناس، كأن يلبس مخيطاً ويتطيب ويغطى رأسه فإنه يجب لكل محظور فدية لأن الأجناس مختلفة. قالوا: وقد دلت الأدلة – وقد تقدم البحث في هذا – على إيجاب الفدية على كل جنس فلا موجب حينئذٍ لإسقاطه باجتماعها. كما لو قذف وزنى وسرق فإن هذه الحدود تقام عليه كلها لاختلاف أجناسها فكذلك هنا. وقد استثني من المسألة الأولى الصيد، فلو أن رجلاً صاد ثم صاد ثم صاد، فيجب عليه لكل صيد جزاؤه، سواء فدى بين ذلك أم لم يفد، بل لو فعله دفعة واحدة فإن عليه الجزاء، وهذا لقوله تعالى: {فجزاء مثل ما قتل من النعم} ، فظاهر ذلك أن المثلية في نوعه وفي تعدده. فإذا أوجبنا في نعامة بدنة، فظاهر الآية أن في النعامتين بدنتين، وفي الثلاث ثلاثاً، وهكذا، فإنه قال تعالى: {فجزاء مثل ما قتل من النعم} فظاهر هذا أن المثلية ثابتة بالنوع الذي يحكم به ذوا عدلٍ، وثابتة بعدده. فإنه لو ذبح عشراً من الصيد ثم كان الجزاء واحداً فإن المثلية ليست بثابتة حينئذٍ، فلابد للمثلية من النوع والعدد. قال: (رفض إحرامه أو لا) يجب عليه إن تعددت المحظورات من أجناس مختلفة، أو فعل محذوراً واحداً من جنس فيجب عليه الكفارة، وإن قال: أبطلت إحرامي ونويت الخروج من النسك، وهذا المراد بقوله: " رفض إحرامه أو لا " فإذا رفض إحرامه فإن الفدية واجبة عليه وذلك: لأن رفضه لا حكم له، وهذا بخلاف سائر العبادات، فإن الحج لا يبطل بنيته الخروج من النسك، باتفاق العلماء بخلاف سائر العبادات، وهذا من فوارق الحج عن سائر العبادات أنه لا يبطل بقصد المكلف وإرادته إبطال النية.

وذلك لأنه إن فعل مفسداً للحج فإنه لا يخرج من الحج بذلك، فإذا جامع المحرم فإنه – وإن قلنا بفساد النسك – فإنه يبقى مستمراً به لا يخرج منه، فإفساده للحج لا يخرجه من الحج فأولى من ذلك إبطال النية. ورفض الإحرام لا يفسده باتفاق العلماء. ولذا: إذا حدث له جنون أو إغماء في أثناء حجه أو عمرته فإن زوال العقل هذا لا يخرجه من الحج ولا يفسد حجه بذلك، فلو أُغمي عليه يوم عرفة – وسيأتي – فإن وقوفه يصح. قال: (ويسقط بنسيان فدية لبس وطيب وتغطية رأس دون وطء وصيد وتقليم وحلق) هذه المحظورات فرق بينها المؤلف وهو مذهب الحنابلة فقالوا: المحظورات من حيث الفدية قسمان: الأول: نوع يسقط الفدية فيه النسيان والجهل والإكراه. الثاني: لا تسقط الفدية بهذه الثلاثة. وضابط ذلك: أن ما فيه إتلاف كالصيد، والوطء، لأن الوطء قد يكون فيه إتلاف وهو إذهاب بكارة المرأة ويلحق بذلك ما لو كانت ثيباً، والصيد فيه إتلاف الصيد، وحلق الرأس فيه إتلاف الشعر، فما كان فيه إتلاف فإنه لا يسقط بنسيان ولا إكراه ولا جهل. وما لم يكن فيه إتلاف كالطيب، واللبس وتغطية الرأس فإن الفدية تسقط فيه بالجهل والإكراه والنسيان. قالوا: لقوله صلى الله عليه وسلم: (إن الله تجاوز عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه) قالوا: ولما ثبت في الصحيحين من حديث يعلى بن أمية: أن رجلاً أتى إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهو بالجعرانة وعليه جبة وعليه أثر خلوق " أي طيب " فقال: يا رسول الله ما تأمرني أن أصنع في عمرتي؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (اخلع هذه الجبة واغسل عنك أثر هذا الخلوق واصنع في عمرتك ما تصنع في حجك) قالوا: فلم يأمره النبي صلى الله عليه وسلم بالفدية وقد لبس الجبة وتطيب وذلك لجهله.

قالوا: وإذا ثبت هذا في الجهل فسائر الأعذار كذلك من نسيان وإكراه. وفي الحديث المتقدم لم يأمره النبي صلى الله عليه وسلم بالفدية لجهله وتأخير البيان عن وقت الحاجة لا يجوز فلو كانت الفدية واجبة لأمره النبي صلى الله عليه وسلم بها. قالوا: وأما ما فيه إتلاف من وطء وصيد وحلاق ونحوه فإنه لوجود الإتلاف فيه يستوي عمده وسهوه، فلا فرق بين نسيان وإكراه وجهل وبين تعمد وعلم وذكر. وعن الإمام أحمد وهو اختيار شيخ الإسلام واختاره أيضاً الشيخ عبد الرحمن بن سعدي. قالوا: تسقط الفدية في هذا. ولم أرهم ينصون في اختيارهم على الوطء والظاهر أنه كذلك – اختاروا أن الفدية تسقط وإن كان الإتلاف ثابتاً قالوا: لأن الإكراه والنسيان والجهل عذر ثابت فيهما جميعاً وتفريقكم بين الإتلاف وغيره تفريق غير معتبر، وذلك لأن الإتلاف إنما يستوي عمده وسهوه إذا كان في حق الآدمي أما إذا كان في حق الله عز وجل المبني على المسامحة فإنه لا يستوي عمده وسهوه للمعنى فإن مقصود الشارع من المكلف ترك المحظور وعدم مخالفة الشرع ومشاقته في فعله وحيث فعله على وجه النسيان والإكراه والجهل فإنه ليس هناك مخالفة للشرع سواء كان ذلك بما فيه إتلاف أو لم يكن مما فيه إتلاف. إنما الإتلاف معتبر في حقوق الآدميين حفاظاً لحقوقهم أما حقوق الله عز وجل فهي مبنية على المسامحة. ومما يدل على ذلك: تقييد الله عز وجل إيجاب الجزاء في الصيد بالتعمد فقال تعالى: {ومن قتله منكم متعمداً فجزاءٌ مثل ما قتل من النعم} وهذا قيد لابد من اعتباره، ومفهومه أنه إن لم يقتل على وجه التعمد وذلك يكون بالنسيان أو الإكراه أو الجهل فإنه لا حرج عليه في ذلك، والصيد إتلاف فهكذا سائر ما يقع فيه إتلاف، وهذا القول الراجح. فعليه: يشترط لوجوب الفدية لفعل المحظورات كلها سواء كانت فيها إتلاف أم لم يكن فيها إتلاف: يشترط ثلاثة شروط:

العلم: وضده الجهل فإن كان جاهلاً بالحكم أو جاهلاً بنوع الشيء ودخوله في التحريم فإنه لا شيء عليه لجهله. الذِكر: وهو ضد النسيان. التعمد: فلابد أن يكون متعمداً، أما لو كان مكرهاً فإنه لا شيء عليه. قال: (وكل هديٍ أو إطعام فلمساكين الحرم) مساكين الحرم: هم أهل الحرم والواردون إليه ممن تحل لهم الزكاة لفقرهم فكل هديٍ فإنه لمساكين الحرم، قال تعالى: {هدياً بالغ الكعبة} وقال تعالى: {ثم محلها إلى البيت العتيق} . ومثل ذلك الإطعام فكل إطعام كالإطعام في الصيد مثلاً فإنه يكون لمساكين الحرم. قالوا: قياساً على الهدي بجامع النفع المتعدي للمساكين، فالإطعام نفعه متعدي للمساكين فأشبه الهدي. وقال الجمهور خلافاً للحنابلة: بل الإطعام حيث شاء؛ لأنه قد ورد على هيئة الإطلاق، وما ورد على هيئة الإطلاق فإنه يفعل حيث شاء المكلف، قال تعالى: {أو كفارة طعام مساكين} ولم يقيد ذلك بأن يكون لمساكين الحرم. ويمكن أن يجاب عن قياس الحنابلة بثبوت الفارق، وهو ما في الهدي من نحره وذبحه الذي هو من إظهار شعائر الله فكان ذلك مختصاً في الحرم، ولما كان كذلك كان لمساكينه، ففرق بين الإطعام وبين الذبح، فإن الشارع متشوف إلى فعله في الحرم وحينئذٍ فيكون لمساكينه. ولا شك أن الأولى والأحوط أن يصرف الطعام إلى مساكين الحرم. قال: (وفدية الأذى واللبس ودم الإحصار حيث وجد سببه) رجل وهو في طريقه إلى مكة فعل محظوراً من محظورات الإحرام، فإنه يفعله حيث وجد سببه، فإذا أراد أن يذبح شاة أو يطعم فإنه يتصدق به على المساكين الذين في ذلك الموضع، وذلك لأن النبي صلى الله عليه وسلم لما أمر كعب بن عجرة أن يذبح شاة أو أن يطعم ستة مساكين وكان ذلك في الحديبية لم يقيد النبي صلى الله عليه وسلم ذلك بأن يكون في مساكين الحرم وتأخير البيان عن وقت الحاجة لا يجوز.

وكذلك إطلاق الآية في قوله تعالى: {ففدية من صيام أو صدقة أو نسك} فالآية أطلقت وظاهر ذلك أنه يفعل حيث وجد سببه لتشوف الشارع إلى المسارعة في فعل الكفارات والفِدى وغيرها. ودم الإحصار كذلك، فإذا أحصر الرجل في موضع وهو ليس في الحرم ومنع من إتمام نسكه قبل أن يدخل الحرم فإنه يذبح الهدي حيث أحصر. ودليل ذلك: أن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه لما أحصروا نحروا في الحديبية. ولإطلاق الآية القرآنية: {فإن أحصرتم فما استيسر من الهدي} ولم يقيد ذلك سبحانه بأن يكون في مكة. وحينئذٍ فالقاعدة أن يقال: الفِدى والهدي الذي له سبب، يفعل حيث وجد سببه، فما كان سببه الإحصار يفعل حيث وجد سببه، والفِدى بأن يفعل حيث وجد سببه. والإطعام في مكة وفي غيرها حيث وجد سببه إلا أن يقيَّد الله عز وجل في كتابه أو يقيد رسوله صلى الله عليه وسلم قيداً يدل على فرضيته في موضع ما كهدي المتمتع والقارن فإن الله أوجبه في الحرم، ومثل ذلك جزاء الصيد فإن الله قيَّده بقوله: {هدياً بالغ الكعبة} قال: (ويجزئ الصوم بكل مكان) الصوم يجزئ في كل مكان، سواء كان صوم جزاء الصيد: {أو عدل ذلك صياماً} أو صوم فدية الأذى: {ففدية من صيام أو صدقة أو نسك} وهذا لا خلاف فيه بين أهل العلم قالوا: لأنه لا معنى لتخصيص الصوم في مكان معين، وذلك لأن نفعه غير متعدٍ، فلا يتعدى إلى المساكين أو غيرهم، إنما هو خاص بفاعله فلا معنى أن يقيد بمكان ما. والآيات القرآنية الواردة في هذا الباب: قد وردت مطلقة قال تعالى: {ففدية من صيام أو صدقة أو نسك} فأطلق وقال سبحانه: {أو عدل ذلك صياماً} فأطلق أيضاً، وظاهر ذلك أنه يفعله حيث شاء. قال: (والدم شاة أو سبع بدنة ويجزئ عنها بقرة)

حيث وجب الدم سواء كان ذلك على التخيير كما يكون في فدية الأذى – فإن الواجب دم أو صيام أو إطعام – أو كان ذلك في ترك واجب من واجبات الحج فإنه يجب عليه دم – كما سيأتي ذكره إن شاء الله – فالدم شاة. قال تعالى: {ففدية من صيام أو صدقة أو نسك} وفسر النبي صلى الله عليه وسلم النسك بقوله في حديث كعب بن عجرة المتفق عليه بقوله: (أو ذبح شاة) وقال تعالى: {فما استيسر من الهدي} فيصدق ذلك على الشاة فالدم شاة أو سبع بدنة ويجزئ عن البدنة بقرة. فالدم شاة أو سبع بدنة أو سبع بقرة. أما الشاة فقد تقدم الاستدلال عليها. وأما البقر والإبل فقد ثبت في مسلم عن جابر قال: (اشتركنا مع النبي صلى الله عليه وسلم في الحج والعمرة كل سبعة في بدنة فقيل له: أيشترك في البقرة؟ فقال: ما هي إلا من البدن) (1) وثبت في مسلم عن جابر قال: (أمرنا النبي صلى الله عليه وسلم أن نشترك في الإبل والبقر كل سبعة في بدنة) (2) وليس كل بقرة أو بعير أو شاة تجزئ، وسيأتي شروط ما يهدى ويضحى ونحوه. والحمد لله رب العالمين. باب: جزاء الصيد تقدم في درس سابق ذكر بعض مسائل الصيد، وما فيه من الجزاء. وهنا مسألة: - تقدم ذكرها – إذا أشار المحرم أو دل على صيد فهل عليه الجزاء مع ثبوت الإثم أم لا يثبت إلا الإثم؟ في هذه المسألة صورتان: الصورة الأولى: أن يدل المحرم حلالاً. الصورة الثانية: أن يدل المحرم أو يشير إلى محرم مثله. * أما الصورة الأولى: وهي ما إذا دل المحرم حلالاً على صيد فصاده المحل: 1- قال الحنابلة: عليه مع الإثم الجزاء فيجب عليه الجزاء – أي على الدال المحرم -.

_ (1) أخرجه مسلم باب الاشتراك في الهدي وإجزاء البدنة والبقرة عن سبعة، صحيح مسلم بشرح النووي [9 / 67] . (2) أخرجه مسلم باب الاشتراك في الهدي وإجزاء البدنة والبقرة عن سبعة، صحيح مسلم بشرح النووي [9 / 67]

قالوا: لأنه قد حرم عليه أن يأكل منه كما في قوله صلى الله عليه وسلم: (هل منكم أحد أمره أو أشار إليه بشيء؟ فقالوا: لا قال: فكلوا مما بقي من لحمه) (1) قالوا: فيترتب على تحريم الأكل وجوب الجزاء. وهذا ليس بظاهر، فإنه لا يظهر بترتب الجزاء على تحريم الأكل، فإنه من صيد لأجله يحرم عليه الأكل ولا يترتب على ذلك جزاء اتفاقاً ما لم يكن منه دلالة أو إشارة. قالوا: ولنا دليل آخر، وهو أن الضمان لا يجب على المُحِل وهو المباشر للصيد، فلا يجب عليه الضمان لأنه محل، والضمان إنما يجب على المحرم، ومن باشر الصيد محل فينتقل الضمان إلى المتسبب وهو هذا المحرم الذي دل أو أشار. وهذه قاعدة سيأتي ذكرها في الكلام على الحدود، وهي: أن الضمان يجب على المتسبب إن لم يمكن أن يكون على المباشر. كأن يرمي رجل رجلاً عند أسد فيأكله، فإن الضمان لا يمكن أن يكون على المباشر فحينئذٍ يلزم المتسبب، وهذه قاعدة. قالوا: فهنا كذلك. هذا هو مذهب الحنابلة، وهو مذهب جمهور أهل العلم. 2- وقال الشافعية: لا يجب عليه الجزاء بل عليه الإثم فحسب. قالوا: لأن الله عز وجل إنما رتب الجزاء على قتل الصيد والصيد لم يقتل، لأن فِعل المحل للصيد ليس بقتل للصيد، فقد صاده من غير أن يكون ذلك قتلاً، فهو صيد صحيح، ولذا يجوز للمحل أن يأكله فهو ليس بمقتول، فهو صيد حينئذٍ. وهذا القول أظهر، لأن القاعدة المتقدم ذكرها وإن كانت صحيحة وهي وجوب الضمان على المتسبب إن لم يمكن وجوبه على المباشر فهنا نقول: أصل الضمان لا يترتب، لأن الضمان إنما يترتب على قتل الصيد والصيد لم يقتل وإنما ذبح ذبحاً صحيحاً شرعياً. والقتل إنما هو حيث كان على هيئة غير شرعية، والمحل إذا دله المحرم على صيد فصاده فهو حلال للمحل حرام على المحرم فدل على أنه غير مقتول، وهذا القول هو الأرجح.

_ (1) سبق برقم 111.

* أما الصورة الثانية: وهي فيما إذا دل المحرم محرماً مثله على صيد فقتله: 1- قال الحنابلة: يشتركان في الجزاء أي المتسبب والمباشر. قالوا: لأن كليهما قد فعل المحظور، فهذا قد فعل المحظور بالقتل وهذا قد فعل المحظور بالإشارة والدلالة. 2- وقال المالكية والشافعية: يجب الجزاء على المحرم الذي قتله مباشرة وأما المتسبب فعليه الإثم فحسب. وهذا هو الراجح، لأن الضمان يجب على المباشر ولا يجب على المتسبب إلا إذا لم تمكن إضافته إلى المباشر فإنه حينئذٍ يضاف إلى المتسبب وهنا يمكننا أن نضيفه إلى المباشر فيغلب جانب المباشر على المتسبب. قال تعالى في كتابه الكريم: {يا أيها الذين آمنوا لا تقتلوا الصيد وأنتم حرم ومن قتله منكم متعمداً فجزاء مثل ما قتل من النعم} * جمهور أهل العلم على أن المثلية في الصورة والخلقة، فمن صاد صيداً فعليه مثله صورة وخلقة من النعم وهي بهيمة الأنعام من الإبل والبقر والغنم، وهذا تقريب لا تحقيق، فهو تقريب؛ لأن التحقيق متعذر، فالمسألة مسألة تقريبية. وفي قوله تعالى: {هدياً بالغ الكعبة} هل يشترط في الهدي الذي هو من جزاء الصيد، هل يشترط فيه ما يشترط في الهدي الذي هو واجب على المتمتع من السن ونحو ذلك من الشروط؟ آثار الصحابة تدل على خلاف هذا، فقد فرضوا العناق والجفرة ونحوها وهي لا تجزئ في الهدي ولا في الأضحية، هذا الذي يدل عليه إجماع الصحابة. فهو في حكم الهدي في كونه يكون لمساكين الحرم، ولا يشترط ما يشترط في الهدي من السن ونحوها. وقد قال تعالى قبل ذلك: {يحكم به ذوا عدل منكم} لا خلاف بين أهل العلم أن ما حكم به النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الباب فإنه يجب العمل به. كما قضى النبي صلى الله عليه وسلم: (أن في الضبع كبشاً) (1) كما ثبت هذا في أبي داود وغيره والحديث صحيح.

_ (1) أخرجه أبو داود كتاب الأطعمة، باب في أكل الضبع، رقم 3801. الإرواء 1050، 1051.

وجمهور أهل العلم على أن ما حكم به الصحابة كذلك، وهذا راجع إلى الاحتجاج بآثارهم هذا ما لم يعلم لهم مخالف. أما إذا لم يثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم ولا عن أصحابه جزاء في ذلك فإنه يحكم به ذوا عدل من أهل المعرفة والخبرة، فيحكم من أهل العدالة اثنان لهم معرفة وخبرة وفطنة في باب التماثل بين الصيد وبين جزائه من النعم. ولا يشترط أن يكونا علماء بل يكفي كونهم عدولاً ثقات لهم خبرة وعلم بذلك، هكذا طريقة الحكم. وإن لم يكن للصيد ما يماثله كبعض الطير والجراد فإنه يقوَّم ويشترى بقيمته طعاماً ويهدى إلى مساكين الحرم – كما هو مذهب الحنابلة،ومذهب الجمهور أن الإطعام لأهل الحرم وغيرهم، وقد تقدم البحث في ذلك – أو يصوم عدل ذلك. قال: باب جزاء الصيد قال (في النعامة بدنة) النعامة: طير معروف وهي تشبه البعير إلى حد كبير في هيئته وحجمه ففيها بدنة وهي البعير. قضى بذلك عمر وعثمان وعلي وابن مسعود وزيد بن ثابت وابن عباس ومعاوية كما في سنن البيهقي. والمراد بالبدنة هنا: الإبل. قال: (وحمار الوحش وبقرته والأيَّل والتيتل والوعل بقرة) هذه كلها من الأوعال وهي ما يسمى عندنا بـ تيس الجبل، أو " الْبِدَن " فهذه فيه بقرة. قضى بذلك ابن عباس كما في سنن البيهقي (1) . قال: (والضبع كبش) كما قضى به النبي صلى الله عليه وسلم كما في سن أبي داود (2) . قال: (والغزالة عنز) حكم بذلك عمر كما في موطأ مالك والبيهقي بإسناد صحيح أنه قضى في الغزالة بعنز وفي الأرنب بعناق وفي اليربوع بجفرة. (3) والجفرة: ما له أربعة أشهر من أولاد المعز. والعناق: أكبر من ذلك يصل إلى ستة أشهر إلى دون الحول وهي أنثى المعز. ففي الأرنب عناق، وفي اليربوع جفرة.

_ (1) الإرواء 1049. (2) في كتاب الأطعمة كما سبق. (3) الموطأ برواية يحيى بن يحيى الليثي رقم 941، باب فدية ما أصيب من الطير والوحش. وانظر الإرواء 1052، 1053، 1054.

قال: (والوبر والضب جدي) الضب: قضى به عمر كما في البيهقي. والجدي: ما له ستة أشهر من ذكر المعز. فالضب فيه جدي. قالوا: ويقاس عليه الوبر، أما الأثر فهو وارد في الضب. قال: (واليربوع جفرة) اليربوع معروف: وهو ما نبدل ياءه جيماً (الجربوع) هذا فيه جفرة وهي ما له أربعة أشهر من أولاد المعز وقد تقدم أثر عمر الدال على ذلك. قال: (والأرنب عناق) لأثر عمر المتقدم. قال: (والحمامة شاة) هذا ما قضى به ابن عباس فيما رواه البيهقي ابن عباس: (جعل في حمام الحرم على المحرم والحلال في كل حمامة شاة) (1) ولكن المماثلة بينهما التي ذكرها أهل العلم فيها شيء من الغرابة قالوا: الحمامة تعُبَّ الماء كما تَعَبُّه الشاة. فالحمامة إذا شربت الماء فإنها تضع منقارها في الماء ثم تمصه مصاً كما تفعل الشاة، بخلاف غيرها من الطيور فإنه يأخذ القطرة ثم يرفع رأسه حتى تنزل ثم يعيده مرة أخرى وهكذا. لكن هذه المماثلة – فيما يظهر لي – لا يترتب عليها مثل هذا الحكم وهو باب المماثلة. لكن يشكل علينا قضاء ابن عباس رضي الله عنه فإنه قد قضى بذلك ولا يعلم له مخالف، لكن ذهب الإمام مالك إلى تفصيل في هذه المسألة فقال: هذا خاصٌ في حمام الحرم، وأما غيره مما يصيده المحرم من الحمام في غير الحرم فإن فيه الثمن أي القيمة. ويعضد ذلك: ما ورد عن ابن عباس في البيهقي في بعض الروايات عنه والسند صحيح قال: (وكل ما سوى حمام الحرم ففيه ثمنه إذا صاده المحرم) فظاهر ذلك أن كلامه المتقدم خاص بحمام الحرم، وأما غيره من الحمام فإنه لا يلحقه هذا الحكم. وهذا قوي لأن المماثلة بين الشاة والحمامة بعيدة جداً، لكن كونها تجب في حمام الحرم قويٌ لعظم الخطأ فتعظم العقوبة فلعل ذلك من ابن عباس من هذا الباب.

_ (1) الإرواء 1056.

فالذي يظهر لي ما ذهب إليه المالكية من التفصيل: أما حمام الحرم فيجب فيه شاة كما قضى بذلك ابن عباس تغليظاً لهذا الفعل، وأما غيره من الحمام فإن صاده المحرم فلا يجب فيه إلا القيمة فيشترى بقيمته طعام ويهدى إلى مساكين الحرم، وتقدم. مسألة: رجل وجبت عليه شاة فأهدى بدنة، فإن ذلك يجزئه لأنه فعل ما يجب وزيادة، فمن تطوع خيراً فهو خير له. مسألة: الظاهر أنه يجوز نقل الهدي ونحوه عن مساكين الحرم إذا كانوا مكتفين. والحمد لله رب العالمين. باب: صيد الحرم أي الحرم المكي: ويتبعه المؤلف أيضاً بذكر حكم صيد الحرم المدني. قال: (يحرم صيده على المحرم والحلال) يحرم صيد الحرم وهذا بالإجماع، فلا يجوز للمسلم - أن يصيد بالإجماع - أن يصيد صيد الحرم محلاً كان أو محرماً. وقد ثبت في الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن هذا البلد حرمه الله لا يعضد شوكه ولا ينفر صيده ولا تُلتقط لقطته إلا لمن عرَّفها ولا يختلى خلاها " وهو العشب الأخضر الرطب " فقال العباس: يا رسول الله: إلا الإذخر فإنه لقينهم ولبيوتهم " لقينهم " أي لصانعهم، يوقد به النار لصنعته " فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (إلا الإذخر) (1) وهو عشب معروف هناك. فهذا الحديث وغيره يدل على تحريم مكة – وهذا بإجماع العلماء وأن صيدها حرام على المحل والمحرم. قال: (وحكم صيده كصيد المحرم) فحكم صيد الحرم كحكم صيد المحرم، وقد تقدم البحث في مسألة صيد المحرم في تحريم ذلك وأنه يثبت فيه الجزاء قال تعالى: {يا أيها الذين آمنوا لا تقتلوا الصيد وأنتم حرم ... } فعلى ذلك كل ما يثبت من الجزاء فيما تقدم البحث فيه من وجوب المثلية أو القيمة أو الإطعام والصيام كل ذلك ثابت في صيد الحرم للمحرم والمحل، وهذا باتفاق العلماء. ويدل على ذلك الأثر والقياس:

_ (1) أخرجه البخاري [1 / 401،..] ومسلم [4 / 109] . الإرواء رقم 1057.

أما الأثر: فهو ما تقدم عن ابن عباس من إيجابه في حمام الحرم شاة على المحرم والمحل، وهو في البيهقي بإسناد صحيح. وأما النظر: فهو قياس صيد الحرم على صيد المحرم بجامع أن الصيد ممنوع لحق الله فيهما. فالصيد ممنوع لحق الله تعالى على المحرم، وممنوع لحق الله أيضاً عليه وعلى المحل في صيد الحرم. فقد اتفق أهل العلم على ثبوت الجزاء في صيد الحرم على التفصيل المتقدم في النعامة بدنة وفي الضبع كبش ... وهكذا. وفي قوله: (وحكم صيده كصيد المحرم) ظاهره أن الصيد المائي في الحرم جائز، كأن يكون في العيون أو المياه التي في الحرم – أن يكون فيها- شيء من صيد الحرم، فظاهر كلام المؤلف جواز اصطياده وهو رواية عن الإمام أحمد، وهذا من باب القياس فكما أن المحرم لا يحرم عليه صيد البحر فكذلك هو والمحل في الحرم. والرواية الثانية عن الإمام أحمد: وهي أصح: أن صيد البحر محرَّم في الحرم أي الصيد المائي في العيون ونحوها. وذلك لعموم قوله صلى الله عليه وسلم: (ولا ينفر صيدها) و" صيد " جمع مضاف فيفيد العموم أي كل صيدها، فيدخل في ذلك الصيد المائي. وقياسهم قياس مع الفارق: فإن المحل يجوز له أن يقطع الشجر ويحش الحشيش وأما في الحرم فلا يجوز له ذلك فثبت بينهما الفارق. والقياس مع الفارق غير صحيح. إذاً: أصح قولي العلماء وهو رواية عن الإمام أحمد: أن الصيد المائي لا يجوز صيده في الحرم المكي لعموم قوله صلى الله عليه وسلم: (ولا ينفر صيدها) . قال: (ويحرم قطع شجره وحشيشه الأخضرين إلا الإذخر) يحرم قطع شجر الحرم – أي شجره النابت فيه بغير فعل من الآدميين كالشجر البري، فما ينبت فيه من الشجر البري وليس من صنع الآدميين لا يجوز بالإجماع أن يعضد ولا أن يحش الحشيش الأخضر وذلك للحديث المتقدم في قوله: (ولا يعضد شوكها) . فالشوك مع ما فيه من الأذى لا يجوز أن يعضد فالشجر أولى من ذلك وهذا باتفاق العلماء.

وكذلك الحشيش وهو العشب الأخضر النابت في الحرم مما هو ليس من صنع الآدميين لا يجوز للمحرم أو المحل أن يحتسه، لقوله صلى الله عليه وسلم: (ولا يختلى خلاها) والخلا هو العشب. وهنا قال: (الأخضرين) فيخرج من ذلك اليابسان فيجوز أن تقطع الشجرة اليابسة التي لا حياة فيها، وأن يحتش الحشيش اليابس الذي لا حياة فيه لأنه ميت فلا قيمة له ولأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ولا يختلى خلاها) والخلا إنما هو الرطب لا اليابس فلا بأس بقطعه ما كان يابساً. ويجوز بلا خلاف بين العلماء أن ينتفع بما يكون من الأغصان الساقطة أو الحشيش المقطوع في الأرض وإن كان رطباً ما دام مقطوعاً لأنه انتفاع بلا قطع، والنهي إنما هو عن قطعه. ولا بأس أيضاً أن يؤخذ ما يكون من احتياجات الناس من النباتات الطبيعية كالسنا أو المساويك أو غير ذلك لا حرج في ذلك لأن الحاجة ثابتة إليه فلا حرج فيه كما استثنى النبي صلى الله عليه وسلم الإذخر فقد استثناه النبي صلى الله عليه وسلم لحاجة الناس إليه ويقاس عليه ما يحتاج إليه الناس من النباتات الطبيعية وما يحتاج إليه الناس من النبات أو الشجر الذي يقوم به حاجاتهم. والظاهر أن مرادهم بالحاجة ما يلحق الحرج بتركه، فهذا ضابط الحاجة. قال: " إلا الإذخر ": وقد تقدم دليل ذلك في المتفق عليه من قول العباس: إلا الإذخر فإنه لقينهم ولبيوتهم فقال: " إلا الإذخر " وتقدم أنه يقاس عليه ما يحتاج إليه الناس من النبات الطبي كالسنا وما يحتاج إليه الناس من السواك ونحوه. واعلم أن الكمْأة: تستثنى من ذلك لأنها ثمرة، ولأنه لا أصل لها في الأرض كالنبات من عشب أو شجر، فعلى ذلك يجوز أخذ الكمأ. واختلف أهل العلم في رعيه، فهل يجوز له أن يطلق غنمه أو إبله ترعى في الحرم أم لا؟ قولان لأهل العلم:

أصحهما جوازه: وذلك لما ثبت في الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (فأرسلت الأتان ترتع) (1) وكان ذلك في منى، ومنى من الحرم؛ ولأن الناس في عهد النبي صلى الله عليه وسلم يأتون بالهدايا من إبل وبقر وغنم فلم يكونوا يربطون أفواهها أن تأكل من حرم الله عز وجل، ولو كان هذا ثابتاً لنقل إلينا. ولأن الحاجة إليه – أي للرعي – شبيهة بالحاجة إلى الإذخر بل أعظم فعلى ذلك الرعي جائز، لكن لا يجوز له أن يحتش لها بل يطلقها ترعى في الحرم. هل في قطع شجر الحرم واحتشاش حشيشته هل فيه الجزاء؟ قال جمهور الفقهاء: فيه الجزاء. ا) قال الحنابلة والشافعية: الدوحة " وهي الشجرة الكبيرة " فيها بقرة، والشجرة الصغيرة فيه شاة، وما دون ذلك فإنه يقوّم، كالحشيش فإنه بقيمته. واستدلوا: بأثر ابن عباس أنه قال: (في الدوحة بقرة، وفي الجزْلة " وهي الشجرة الصغيرة " شاة) وهذا الأثر قال الألباني في إرواء الغليل (2) : " لم أقف عليه " وهو كما قال، وقد نظرت باحثاً عن هذا الأثر فلم أجده وإلا لو صح لقلنا به فإنه أثر صحابي لا يعلم له مخالف. فعلى ذلك العمل به متوقف على تصحيحه، وتصحيحه متوقف على النظر في سنده، ولم يعزه الحنابلة إلى كتاب من الكتب المشهورة فينظر فيه كما تقدم. ب) وقال الأحناف: جزاؤه قيمته، فيقوم ثم يتصدق بقيمته. ودليل الجمهور على ثبوت الجزاء فيه: القياس على الصيد. قالوا: كما أن الصيد يجب فيه الجزاء فكذلك قطع الشجر واحتشاش الحشيش يجب فيه الجزاء؛ بجامع أن كليهما مما يمنع في الحرم.

_ (1) أخرجه البخاري باب سترة الإمام سترة لمن خلفه،من كتاب الصلاة، رقم 493، ومسلم باب سترة المصلي من كتاب الصلاة، صحيح مسلم بشرح النووي [4 / 221] . (2) الإرواء رقم 1060.

2- وذهب المالكية واختار ذلك ابن المنذر إلى أنه لا جزاء فيه وذلك لأن الضمان يحتاج إلى دليل ولا دليل يدل عليه، والأصل براءة ذمة المكلف من أن يلحق به غرامة مالية. والأظهر ما ذهب إليه جمهور العلماء من وجوب الضمان قياساً على الصيد بجامع أن كليهما ممنوع في الحرم، ولما سيأتي في الكلام على شجر الحرم المدني من ثبوت السلب فيه، فأولى من ذلك أن يثبت في حرم مكة الجزاء. والأصح من قولي الجمهور: ما ذهب إليه الأحناف من وجوب القيمة فيقوم ما قطع أو احتش. * واعلم أن القطع الذي يترتب عليه الجزاء إنما هو القطع المتلف، وأما إن قطعه ثم نقله إلى موضع آخر فلم يتلف الشجر فإنه لا يترتب عليه الجزاء حينئذٍ. ولا يجوز له أن ينقله إلى خارج الحرم لأن ذلك مظنة لإتلافه. واعلم أن الأغصان تلحق الأصل فلو أن شجرة في طرق الحرم جذرها، وأغصانها تخرج إلى الحل فإنه لا يجوز أن يقطع شيء من أغصانها لأنها تبع لأصلها وأصلها في الحرم (1) . قال: (ويحرم صيد المدينة) صيد المدينة يحرم لما ثبت في الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (المدينة حرام ما بين عَيْر إلى ثور) (2) وفي مسلم: (لا يقطع عِضاها " وهو الشجر ذو الشوك " ولا يصاد صيدها) (3) وفي مسند أحمد وأبي داود وتمامه لأحمد: والحديث صحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا يختلى خلاها ولا ينفر صيدها ولا تلتقط لقطتها إلا لمن أشار بها ولا يقطع فيها شجرة إلا أن يَعْلِف رجل بعيره) (4)

_ (1) قال في المغني [5 / 189] : " وإن كانت في الحل وغصنها في الحرم فقطعه ففيه وجهان.. ". (2) أخرجه البخاري ومسلم، الإرواء 1058. (3) مسلم وأبو نعيم وأحمد، الإرواء 1058 [4 / 251] . (4) أخرجه أحمد وأبو داود والنسائي كما في الإرواء [4 / 251] .

فالمدينة يحرم صيدها فلا ينفر فضلاً عن أن يقتل، وكذلك حشيشه كل ذلك محرم على التفصيل المتقدم في الكلام على حرم مكة من أن ذلك إنما هو في الأخضر الرطب لا في اليابس الميت، وأن ذلك فيما لم يكن للآدمي فيه فعل بخلاف ما يكون للآدمي فيه فعل فإنه جائز. قال: (ولا جزاء) فمن فعل بأن صاد صيداً أو احتش حشيشاً أو قطع شجرة في حرم المدينة فإنه لا جزاء عليه. قالوا: لأن ثبوت التحريم لا يستلزم ثبوت الجزاء فالأصل براءة الذمة من أن يلحقها شيء من الغرامة المالية، فهو محرم ولا يجب عليه الجزاء. والنبي صلى الله عليه وسلم لم يبين ذلك وتأخير البيان عن وقت الحاجة لا يجوز، ولما ذكر حرمها قال: (فمن آوى محدثاً فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين) ولم يذكر جزاءً وتأخير البيان عن وقت الحاجة لا يجوز، هذا هو المشهور عند الحنابلة وغيرهم من أهل العلم. وعن الإمام أحمد: أن من وجد فاعلاً لذلك فله سلبه، أي فله أن يأخذ ثيابه وما معه من متاع وما معه من آلة صيد وما على يديه من خاتم وساعة ونحو ذلك ولا يبقي عليه إلا ما يستر به عورته وهذا هو الثابت في السنة الصحيحة.

فقد ثبت في مسلم أن سعد بن أبي وقاص: (ذهب إلى البقيع فرأى غلاماً يقطع من شجر الحرم فأخذ سلبه، فأتى أهل الغلام يسألونه سلب غلامهم فقال: والله لا أعطيكم شيئاً نفلنيه النبي صلى الله عليه وسلم) (1) وهو أيضاً في أبي داود بلفظ: (إن النبي صلى الله عليه وسلم: نهى عن شجر المدينة وقال: من قطع منه شيئاً فلمن وجده سلبه) (2) إذاً: لا جزاء عليه لكن لمن وجده حاكماً أو محكوماً له سلبه وإنما المحكوم حيث لم يترتب على ذلك مفسدة أما إذا ترتب مفسدة فلا. وهو رواية عن الإمام أحمد، وهو الراجح من أقوال العلماء. لكن إن لم يؤخذ منه سلبٌ فلا جزاء عليه وعليه الاستغفار والتوبة. قال: (ويباح الحشيش للعلف وآلة الحرث ونحوه) فيباح الحشيش للعلف بأن يحتشه ليعلف دوابه. إذن: يفارق حرم مكة بجواز احتشاش العلف للبهائم. ودليل ذلك: ما تقدم في مسند أحمد: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ولا يقطع من شجره إلا أن يعلف رجل بعيره) (3) قال: " وآلة الحرث ونحوه " فيجوز أن يقطع من الشجر ما يستخرج منه الخشب لآلة الحرث التي يحرث بها وهي تحتاج إلى أخشاب كالرحل وغيره.

_ (1) أخرجه مسلم باب فضل المدينة.. من كتاب الحج، ولفظه: " أن سعداً ركب إلى قصره بالعقيق فوجد عبداً يقطع شجراً أو يَخْبِطُه، فسلبه، فلما رجع سعدٌ جاءه أهل العبد،فكلموه أن يرد على غلامهم أو عليهم ما أخذ من غلامهم،فقال: معاذ الله أن أرد شيئاً نفلنيه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وأبى أن يرد عليهم " صحيح مسلم بشرح النووي [9 / 138] . (2) أخرجه أبو داود باب في تحريم المدينة من كتاب الحج رقم 2038 باللفظ المذكور وهو (من قطع منه شيئاً فلمن أخذه سلبه) ، ورقم 2037 بلفظ (من أخذ أحداً يصيد فيه فليسلبه ثيابه) . (3) سبق قريباً.

واستدلوا: بما ذكره صاحب المغني وغيره أن الإمام أحمد روى أن النبي صلى الله عليه وسلم: لما حرَّم المدينة قالوا: يا رسول الله: إنا أصحاب عمل وأصحاب نضح، وليس لنا أرضاً سواها فرخص لنا فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (القائمتان) وهي مقدمة الرحل ومؤخرته، أي ما يوضع على الناقة مما يتكئ عليه في مؤخرته، وما يستمسك به في مقدمته، (والوسادة والعارضة والمَسَدَّ) (1) والوسادة والمسد خشب يوضع في البكرة التي يستسقى بها الماء " والعارضة: خشب يوضع سقفاً للمحمل " وما سوى ذلك فلا يعضد ولا يؤخذ منه حطباً. والحديث ذكره صاحب المغني – كما تقدم – ناسباً إياه إلى الإمام أحمد ولم أجده في المسند، وهكذا قال المعلق على كتاب المغني أنه لم يجده في المسند والاحتجاج به متوقف على النظر إلى إسناده ولعله في شيء من كتب الإمام أحمد سوى المسند. لكن حاجة الناس من أهل المدينة ثابتة لذلك، فإن حاجتهم إلى ذلك أعظم من حاجة أهل مكة لاحتياجهم إلى الحرم بخلاف أهل مكة فإن الأمر يتسع لهم أعظم من أهل المدينة فيما سوى الحرم. ولأن حرم المدينة مخفف عن حرم مكة كما تقدم من أنه لا جزاء في صيد صيده ولا في احتشاش حشيشه ولا قطع شجره إلا ما ورد من السلب وهو ليس من باب الجزاء على الإطلاق، وإنما قد يقع له، فإن لم يقع فلا جزاء، فلا شك أن حرم المدينة أخف من حرم مكة. فعلى ذلك: إن احتاجوا إلى شيء من الأخشاب أو الحشيش ونحو ذلك فذلك جائز لهم. قال: (وحرمها ما بين عَيْر إلى ثور)

_ (1) المغني [5 / 193] .

عير: جبل في جهة الميقات، وأما ثور: فهو جبل خلف جبل أحد من جهة الشمال، فهذا " أي ثور " من جهة الشمال، وعير من جهة الجنوب وبينهما نحو أربعة فراسخ وهي تساوي اثنا عشر ميلاً أي نحو عشرين كيلو متراً أو نحو ذلك. هذا من جهة الشمال والجنوب. وأما من جهة الشرق والغرب: فالحرتان، فقد قال صلى الله عليه وسلم كما في مسلم من حديث أنس: (إني أحرم ما بين لابتيها) (1) واللابتان هما الحرتان. فما بين الحرتين من جهة الشرق والغرب، وما بين جبل عير وثور من جهة الشمال والجنوب هذا هو حرم المدينة. فعليه حرم المدينة بريدٌ في بريد أي أربعة فراسخ في أربعة فراسخ أي اثنا عشر ميلاً في اثني عشر ميلاً. وأما حرم مكة فهو ظاهر فالأميال موضحة له ومبينة. مسألة: هل يجوز أخذ سلب الجاهل؟ الجاهل إن صاد الصيد وهو محرم في الحرم فإنه لا جزاء عليه لجهله لقوله تعالى: {ومن قتله منكم متعمداً …ليذوق وبال أمره} فدل على أنه عالم بالحكم فأولى من ذلك هنا، فلا يجوز سلبه. مسألة: حديث: (يا أبا عمير ما فعل النغير) (2) هذا دليل يعارض الحديث المتقدم فإن ظاهره جواز الصيد في الحرم؟ الجواب عن هذا: أن يقال: يحتمل أن يكون هذا قبل الحكم، فعندنا أحاديث ظاهرة ومحكمة في تحريم صيده فلا نتركها لمثل هذا المحتمل، ويحتمل أن يكون ممسكاً خارج الحرم ومحبوساً في الحرم، وهو جائز عند الحنابلة أن يمسك الصيد في الحل ثم يحبس في الحرم فهو جائز وقد تكون حاجة الناس إلى ذلك، فيجوز ذلك لأنه ليس مصيداً في الحرم.

_ (1) أخرجه مسلم باب فضل المدينة … من كتاب الحج، صحيح مسلم بشرح النووي [9 / 140] . (2) أخرجه البخاري باب الانبساط إلى الناس.. وباب الكنية للصبي.. من كتاب الأدب، ومسلم باب استحباب تحنيك المولود من كتاب الآداب، وأبو داود والترمذي وابن ماجه، المغني [5 / 194] .

وجعل الحنابلة هذا فارقاً بين صيد الحرم المدني وصيد الحرم المكي، وأن صيد الحرم المكي يجب أن يترك وإن صيد في الحل، فمن دخل الحرم ومعه صيد فيجب أن يفلته. والظاهر أن هذه المسألة كتلك؛ لأنه لا فارق بين المسألتين لأن النهي إنما هو عن صيد الحرم نفسه وهذا ليس صيد الحرم وثبوت الإمساك فيه ليس بصيد ويثبت تبعاً ما لا يثبت استقلالاً. فعلى ذلك هذه القصة دليل على ما ذهب إليه الحنابلة من أن إمساكه في الحرم وقد صيد في الحل هذا جائز فيه. ويحتمل ما تقدم وأنه قبل التحريم فإن هذا الطفل قد صيد في حياة النبي صلى الله عليه وسلم كما ذكر هذا أنس بن مالك. مسألة: ثبت لنا أن المحرم لابد وأن يتوفر فيه الشروط حتى يثبت عليه الجزاء. لكن هل هذا في صيد الحرم؟ قال فقهاء الحنابلة: إذا صيد في الحرم فإنه يثبت الضمان مطلقاً وإن كان صائده كافراً أو صغيراً غير مكلف أو غير عاقل؛ والنظر يقتضي ذلك، لأن التحريم ليس بالنظر إلى المكلف وإنما بالنظر إلى حرمة المصيد وحفظه. فليس هذا بالنظر إلى المكلف كما يكون ذلك في تحريم الصيد على المحرم، فإن الصيد حلال ما دام خارج الحرم لكن حرم على المكلف الذي قد أحرم.أما هذا فهو صيد محرم لمعنى في المكان فهو قد ارتبط بمعنى في المكان خارج عن المكلف فعلى ذلك يجب الضمان مطلقاً وإن كان من صاده صغيراً أو غير مكلف. وقد ذكر الموفق هذه المسألة ولم يذكر خلافاً بين أهل العلم فيها. مسألة: رجل أراد أن يستظل تحت شجرة لها أغصان فاحتاج إلى أن يقطع من أغصانها – وكان ذلك في الحرم – فما الحكم؟ فيه تفصيل: إن كان يلحقه الحرج بترك الاستظلال في هذا المكان فنعم. وإن لم يكن يلحقه حرج فلا. مسألة: الثمار في الحرم يجوز قطعها لأن هذا لا يؤثر في أصلها كما تقدم في المساويك ونحوها. والحمد لله رب العالمين. باب: دخول مكة

هذا الفصل في سياق ما يستحب للمحرم من السنن عند دخول مكة في صفة طوافه بالبيت وبين الصفا والمروة وحلق رأسه أو تقصيره، فقال المؤلف هنا. : (يسن من أعلاها) أي يسن لداخل مكة حاجاً أو معتمراً أن يدخل من أعلاها وهو الحجون وهو كداء، فيستحب أن يدخل منه سواء كان في طريقه أو لم يكن في طريقه فيسن له أن يعدل إليه. ويستحب له أن يخرج من أسفلها وهو كدي وهو في سمت شعب الشاميين، ودليل هذه السنة: ما ثبت في الصحيحين عن عائشة قالت: (أن النبي صلى الله عليه وسلم لما جاء إلى مكة دخل من أعلاها وخرج من أسفلها) (1) وفي الصحيحين عن ابن عمر: قال: (دخل النبي صلى الله عليه وسلم مكة من كداء " وهو الحجون " ثم خرج من الثنية السفلي " (2) وهو كدي ") . وظاهر ذلك كما تقدم أنه يستحب له ذلك ولو كان بأعلى مكة أو أسفلها عادلاً جائراً عن طريقه فإنه مستحب له تكلف ذلك. وقال بعض الشافعية: بل لا يستحب ذلك. وإنما كان هذا من النبي صلى الله عليه وسلم على وجه الاتفاق. وهذا ضعيف، ولذا نظر فيه النووي فقال راداً على هذا القول: إن الآتي من المدينة ليس في طريقه الحجون " كداء " فإن النبي صلى الله عليه وسلم قد عدل إلى أعلاها فليس هذا في سمت طريقه فيكون قد فعله على وجه الاتفاق، بل قد عدل عن طريقه وتكلف الدخول من أعلاها. ثم هذا هو الأصل فيما ينقله الصحابة من أفعال النبي صلى الله عليه وسلم أن تكون على وجه الاستحباب لا على وجه الاتفاق. قال: (والمسجد من باب بني شيبة)

_ (1) أخرجه البخاري باب من أين يخرج من مكة من كتاب الحج، ومسلم باب استحباب دخول مكة من الثنية..المغني [5 / 210] . (2) أخرجه البخاري باب من أين يدخل مكة وباب.. من كتاب الحج، ومسلم باب استحباب دخول مكة من الثنية.. المغني [5 / 210]

أي يسن دخول المسجد من باب بني شيبة: روى ذلك الطبراني عن ابن عمر: (أن النبي صلى الله عليه وسلم: دخل من باب بني شيبة) (1) وإسناده ضعيف لكن له شواهد يرقي به إلى درجة الحسن. فلذا: يستحب لمن دخل البيت أن يدخله من باب بني شيبة لفعل النبي صلى الله عليه وسلم فينظر فإن كان باب بني شيبة في سمت طريقه أعلى مكة فإنه يقوى أن يكون هذا قد وقع من باب الاتفاق إذ لا مزية لباب بني شيبة على غيره من الأبواب ولا يسن معنى لذلك بخلاف دخوله من أعلاها وأن يأتيها مشرفاً عليها، فإن ذلك أعظم في نفسه، بخلاف الخروج منها فيكون شبيهاً بذهاب الرجل إلى العيد يأتي من طريق ويرجع من طريق آخر. قال: (فإذا رأى البيت رفع يديه وقال ما ورد) يستحب عند فقهاء الحنابلة: إذا دخل البيت فرآه أن يرفع يديه وأن يقول ما ورد وهو قوله: (اللهم زد هذا البيت تشريفاً وتكريماً وتعظيماً ومهابة وزد من شرفه وكرمه وعظمه ممن حجه أو اعتمره تكريماً وتشريفاً وتعظيماً وبراً) (2) روى هذا الحديث البيهقي في سننه بإسناد ضعيف معضل. فعلى ذلك: لا يستحب لعدم الدليل الصحيح فيه. قال الشافعي: " ليس في رفع اليدين عند رؤية البيت شيء فلا أستحبه ولا أكرهه) قال البيهقي: (ولعله لم يعتمد عليه لانقطاعه) فعلى ذلك لا يقال بالاستحباب لضعف الحديث. لكن صح عن عمر بن الخطاب كما في البيهقي بإسناد جيد: أنه كان إذا نظر إلى البيت قال: (اللهم أنت السلام ومنك السلام فحينا ربنا بالسلام) (3) . ومعلوم أنه يستحب له ما يستحب للمساجد من تقديم الرجل اليمنى وذكر ما ورد عند الدخول والخروج منه، لأنه مسجد فاستحب له بل هو أولى من غيره باستحباب ذلك. قال: (ثم يطوف مضطبعاً)

_ (1) السنن الكبرى للبيهقي [5 / 72] ، المغني [5 / 211] . (2) ترتيب مسند الشافعي [1 / 339] ، المغني [5 / 212] . (3) ترتيب مسند الشافعي [1 / 338] ، المغني [5 / 121] .

صفة الاضطباع: أن يضع وسط رداءه تحت عاتقه الأيمن ويرد طرفيه على عاتقه الأيسر – فحينئذٍ -: ينكشف عاتقه الأيمن، هذا مستحب في طواف القادم وطواف المعتمر. ودليله: ما ثبت عند الخمسة إلا النسائي بإسناد صحيح عن يعلى بن أمية قال: (طاف النبي صلى الله عليه وسلم بالبيت مضطبعاً ببرد أخضر) (1) وفيه أنه لا حرج في لبس غير الأبيض في الإحرام وإن كان المستحب هو الأبيض. وهو مستحب في الطواف خاصة فلا يشرع في بقية المناسك كالسعي بين الصفا والمروة وغيره لأن هذه الصفة صفة غير معتادة، فوردت في الطواف للقادم والمعتمر وقياس غيره عليه لا يصح؛ لأن هذه الصفة غير معتادة ولم ينقل لنا أن النبي صلى الله عليه وسلم قد فعلها في طوافه بين الصفا والمروة لذا لما سُئل الإمام أحمد عن ذلك قال: (ما سمعنا) أي ما سمعنا أن النبي صلى الله عليه وسلم قد فعل ذلك في سعيه بين الصفا والمروة، والأصل في العبادات التوقف. فعلى ذلك: إذا طاف سبعاً أعاد إحرامه إلى هيئته الطبيعية، وثبت في سنن أبي داود بإسناد صحيح عن عمر أنه قال: (فيم الرملان اليوم والكشف عن المناكب وقد أطَّأ الله " أي ثبت " الإسلام ونفى الكفر وأهله مع ذلك لا ندع شيئاً كنا نفعله مع النبي صلى الله عليه وسلم) (2)

_ (1) أخرجه أبو داود في باب الاضطباع في الطواف، وابن ماجه باب الاضطباع، والترمذي باب ما جاء في استلام الحجر. المغني [5 / 216] . (2) باب في الرمل من كتاب المناسك. المغني [5 / 217] .

ففي هذا الأثر: أن مشروعيته – أي الاضطباع – كانت لإظهار قوة المسلمين أمام الكفار وكان ذلك في عمرة القضية في السنة الثامنة للهجرة، وسميت قضية لأنها كانت قضاءً لعمرة الحديبية التي أحصر عنها النبي صلى الله عليه وسلم " فكان الكفار يقولون: يأتيكم محمد وأصحابه وقد وهنتهم حمى يثرب " وكانت يثرب معروفة بالحمى فأراد النبي صلى الله عليه وسلم أن يظهر للكفار جلد المسلمين وقوتهم فأمرهم بالرمل في الأشواط الثلاثة وبالكشف عن المناكب في الطواف كله، فإن في ذلك كله إظهاراً للجلد. ومع ذلك قال عمر: (مع ذلك لا ندع شيئاً كنا نفعله مع رسول الله صلى الله عليه وسلم) وذلك: لأنه لا مانع أن يستحب الشيء لمصلحة ثم يبقى استحبابه بعد ذلك فإن فيه تذكيراً لنعمة الله عز وجل بعد أن كان المسلمون ضعفاء وينظر إليهم الكفار أنهم ضعفاء فاحتاجوا إلى أن يظهروا قوتهم، وكانوا كذلك – بعد أن كانوا – على ضعف، فيتذكر المسلم كذلك ما كان عليه المسلمون من الضعف السابق لقوتهم. قال: (يبتدئ المعتمر بالطواف للعمرة والقارن والمفرد للقدوم) هذا هو السنة والمستحب للقادم مكة حاجاً أو معتمراً أن يكون أول شروعه بالاشتغال بالطواف فلا يسبق ذلك اشتغال بشيء من العبادات من قراءة قرآن أو ذكر أو تحية مسجد أو نحو ذلك بل يستحب له أن يتعجل بطوافه بالبيت. فقد ثبت في الصحيحين عن عائشة قالت: (أول شيء بدأ به النبي صلى الله عليه وسلم حين قدم البيت أن توضأ ثم طاف بالبيت) (1) فالمستحب للمعتمرين أن يشرعوا بطواف عمرتهم ومثل ذلك المتمتع الذي أول نسكه العمرة يشرع بطواف عمرته، والقارن والمفرد طوافهم حينئذٍ طواف القدوم فيطوفون بالبيت طواف القدوم، والنبي صلى الله عليه وسلم كان قارناً فكان طوافه طواف القدوم.

_ (1) أخرجه البخاري، ومسلم باب بيان أن المحرم بعمرة لا يتحلل بالطواف قبل السعي من كتاب الحج، صحيح مسلم بشرح النووي [8 / 220] .

قال: (فيحاذي الحجر الأسود بكله) يقف محاذياً للحجر الأسود بكل بدنه وذلك ليستوعب البدن البيت كله – أي حتى يكون البدن قد طاف على البيت كله -. وحينئذٍ إذا انتهى من الشوط الأول وشرع في الثاني يكون البدن قد طاف على البيت كله. ولا أعلم بين أهل العلم خلافاً في فرضية ذلك، وأن الطواف لا يجزئ إلا بأن يستوعب البيت كله بالطواف. قال: (ويستلمه) إذا حاذى الحجر فإنه يستلمه واستلام الحجر مسحه باليد. وفي الصحيحين عن ابن عمر قال: (لم أر النبي صلى الله عليه وسلم يستلم من البيت إلا الركنين اليمانيين) (1) ففيه مشروعية استلام الحجر الأسود ومشروعية استلام الركن اليماني، فالحجر الأسود والركن اليماني هما الركنان اليمانيان لأنهما من جهة اليمين. قال: (ويقبله) لما ثبت في الصحيحين: أن عمر قبَّل الحجر وقال: (إني لأعلم أنك حجر لا تنفع ولا تضر ولولا أني رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يقبلك ما قبلتك) (2) فإن استلمه بيده فقبلها فذلك سنة ففي صحيح مسلم: (أن ابن عمر كان يستلم الحجر بيده ثم يقبلها ويقول: ما تركته مذ رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يفعله) (3) والأفضل هو تقبيل الحجر لأن ذلك مباشرة للتقبيل لكن حيث كان فيه شيء من الزحام أو لتطبيق هذه السنة أحياناً فإنه يقبل يده، ولذا قال: (فإن شق قبَّل يده) أي قبل يده بعد الاستلام؛ لأنها يد استلمت فاستحب تقبيله، فانتقل ذلك إلى تقبيلها، فاستحب - لفعل النبي صلى الله عليه وآله وسلم – أن تقبل.

_ (1) أخرجه البخاري باب الرمل في الحج والعمرة، ومسلم باب استحباب استلام الركنين اليمانيين في الطواف. المغني [5 / 226] . (2) متفق عليه. البخاري باب تقبيل الحجر رقم 1610. ومسلم باب استحباب تقبيل الحجر … من كتاب الحج، صحيح مسلم بشرح النووي [9 / 16، 17] (3) أخرجه مسلم باب استحباب استلام الركنين اليمانين في الطواف، صحيح مسلم بشرح النووي [9 / 15] .

قال: (فإن شق اللمس أشار إليه) فإن شق استلامه بيده فإنه يشير إليه، فقد ثبت في البخاري عن ابن عباس: (أن النبي صلى الله عليه وسلم طاف على بعير فكان كلما مرَّ على الركن أشار إليه بشيء في يده وكبَّر) (1) ولا يستحب تقبيل هذا الشيء من يد مشيرة أو عصا قد أشير به لأنه لم يمس الحجر، ولأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يقبله، لأنه لم يباشر اللمس وإنما أشير به فحسب. فإذن: إن شق فإنه يشير بيده أو بعصا ونحوه ولا يقبل ذلك لأنه لم يرد، ويكبَّر " يقول: الله أكبر ". ويستحب له أن يستلمه بشيء كأن يكون على بعير أو يكون هناك بعدٌ عن الحرم أو زحام ويمكنه أن يمد إليه شيء فإنه يُمس هذا العصا ونحوه الحجر ويقبله. فقد ثبت في الصحيحين من حديث ابن عباس: (أن النبي صلى الله عليه وسلم طاف بالبيت على بعير فكان يستلم الحجر بمِحْجن " (2) وهو العصا المعكوف. ونحوه في مسلم من حديث أبي الطفيل وفيه: (ويقبل المحجن) فهذه من الصفات الواردة عن النبي صلى الله عليه وسلم، من تقبيل مباشر أو استلام باليد أو استلام بعصا ونحوه وتقبيله، كل ذلك ثابت عنه عليه الصلاة والسلام. وثبت عن عمر: أنه كان يلتزمه ففي مسلم: (أنه – رضي الله عنه – قبَّله ثم التزمه وقال: رأيت النبي صلى الله عليه وسلم كان بك حفياً " (3) أي معتنياً ")

_ (1) أخرجه البخاري باب من أشار إلى الركن.. باب المريض يطوف راكباً من كتاب الحج، وفي كتاب الطلاق، كما أخرجه الترمذي وغيره، المغني [5 / 214] . (2) أخرجه البخاري باب استلام الركن بالمحجن رقم 1607، ومسلم باب جواز الطواف على بعير وغيره من كتاب الحج. (3) باب استحباب تقبيل الحجر.. من كتاب الحج، صحيح مسلم بشرح النووي [9 / 17] .

وإن سجد عليه فحسن فقد صح عن ابن عباس كما في البيهقي: (أنه كان يقبل الحجر ويسجد عليه) (1) فهاتان الصفتان ثابتتان عن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ورضي عنهم. قال: (ويقول: ما ورد) وقد تقدم ورود التكبير في حديث ابن عباس: (أنه كان يشير إلى الحجر بشيء ويكبَّر) (2) أي يقول: " الله أكبر " وليس فيه أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يستقبله ببدنه فالاستقبال بالبدن لا أصل له ولو كان ثابتاً لنقل، بل كان يشير إليه وهو ماشي. ووردت التسمية عن ابن عمر، ففي المسند بإسناد جيد: (أن ابن عمر كان إذا استلم الحجر قال: بسم الله والله أكبر) قالوا: ويستحب له أن يقول: (اللهم إيماناً بك وتصديقاً بكتابك ووفاءً بعهدك واتباعاً لسنة نبيك محمد صلى الله عليه وسلم) رواه البيهقي من حديث عبد الله بن السائب والحديث إسناده ضعيف فلا يحتج به. فإذن: الوارد عند الإشارة أو الاستلام قول: " بسم الله والله أكبر " أما الركن اليماني فلا يستحب فيه إلا الاستلام، فلا يستحب فيه تقبيل اليد ولا تقبيله مباشرة ولا يستحب أن يقول: " بسم الله والله أكبر " لعدم وروده عن النبي صلى الله عليه وسلم أو أحد من أصحابه. ويستحب له بين الركنين أن يقول: (ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار) (3) كما ثبت ذلك في أبي داود بإسناد صحيح: أن النبي صلى الله عليه وسلم: كان يقول بين الركنين:: (ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار)

_ (1) البيهقي باب استلام الركن اليماني بيده من كتاب الحج.. المغني [5 / 226] . الإرواء رقم 1112. (2) أخرجه البخاري باب التكبير عند الركن من كتاب الحج، رقم 1613. (3) أخرجه أبو داود باب الدعاء في الطواف من كتاب المناسك رقم 1892.

ويشتغل في الطواف بما أحب من ذكر ودعاء وقراءة للقرآن أو صمت أو نحو ذلك، يشتغل بما أحب من التعبد لله بالعبادات القولية، ولم يثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم نوع معين من الدعاء خاصٌ بالطواف أو بشيء من مواضعه سوى ما تقدم من قوله بين الركنين. قال: (ويجعل البيت عن يساره) وهذا بإجماع العلماء ولفعل النبي صلى الله عليه وسلم وقوله: (لتأخذوا عني مناسككم) (1) ولا يصح الطواف إلا به. قال: (ويطوف سبعاً) لا يجزئه خمساً ولا ستاً، لفعل النبي صلى الله عليه وسلم وقوله: (لتأخذوا عني مناسككم) قال: (يرمل الأفقي في هذا الطواف ثلاثاً ثم يمشي أربعاً) الآفاقي: وهو غير المكي – القادم من الأماكن البعيدة – سوى أهل مكة فالآفاقي يستحب له الرمل في الطواف. والرمل: هو إسراع المشي مع تقارب في الخطا بلا وثب، فلا يستحب له الوثب، والوثب لا أصل له، بل الرمل مشي سريع مع تقارب في الخطا هكذا عرَّفه الموفق وابن مفلح والنووي وغيرهم من أهل العلم وهو المعروف في لغة العرب. والرمل مستحب في الأشواط الثلاثة الأولى كلها إن كان آفاقياً، أما أهل مكة فلا يستحب لهم ذلك؛ وذلك لأن النبي صلى الله عليه وسلم إنما شرعه للقادمين فلا يلحق بهم غيرهم. وهو مستحب في طواف العمرة وطواف القدوم فلا يستحب في طواف الإفاضة ولا في غيرها مما يطوفه الحاج، فقد ثبت في أبي داود بإسناد صحيح عن ابن عباس قال: (لم يرمُل النبي صلى الله عليه وسلم في طوافه الذي أفاض فيه) (2) أي في طواف الإفاضة. والرمل مستحب في الأشواط الثلاثة دون الأربعة الأخيرة، لما ثبت في مسلم عن ابن عباس قال: (رمَل النبي صلى الله عليه وسلم من الحجر إلى الحجر ثم مشى أربعاً) (3)

_ (1) سبق ص38 (2) أخرجه أبو داود باب الإفاضة في الحج رقم 2001. (3) أخرجه مسلم باب استحباب الرمل في الطواف والعمرة، صحيح مسلم بشرح النووي [9 / 9] .

فإن قيل فما الجواب عما ثبت في الصحيحين من حديث ابن عباس: أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر أصحابه أن يرملوا في الأشواط الثلاثة ويمشوا بين الركنين) (1) فالجواب عن هذا: أن يقال: هو في عمرة القضية، وأما حديث ابن عباس فهو في حجة الوداع. فحديث ابن عباس هو [آخر] الأمرين عنه صلى الله عليه وسلم. فإن فاته الرمل في الشوط الأول فعله في الثاني والثالث، وإن فاته في الأول والثاني فعله في الثالث، وإن فاته في الثلاثة لم يفعله في الأشواط الباقية لأنها سنة فات محلها فهي مشروعة عند ابتداء الطواف في الأشواط الثلاثة فإن فاتته فلا يشرع له أن يفعلها في الرابع والخامس.. . قال: (يستلم الحجر والركن اليماني كل مرة) هذا جواب عن سؤال وهو أن يقال: هل استلام الحجر إنما يستحب في الشوط الأول أم هو مستحب في الأشواط كلها وكذا استلام الركن اليماني؟ فأجاب بقوله: أنه يستحب في كل مرة أي في الأشواط السبعة كلها. ودليل ذلك: ما ثبت في النسائي بإسناد صحيح عن ابن عمر قال: (كان النبي صلى الله عليه وسلم يستلم الحجر الأسود والركن اليماني في كل طوافه) (2) لكن لا يستلمه عند نهاية الشوط السابع لأنه ينتهي الطواف بوصوله إلى الحجر الأسود. مسألة: في الرمل تستثنى المرأة فلا يشرع لها ذلك لما فيه من منافاة لسترها وكذلك في الإسراع في المسعى بين العلمين الأخضرين لما فيه من منافاة سترها. ورد في المسند: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لعمر: (إنك رجل قوي فلا تؤذِ الضعفة أشر إليه وكبر) روى في المسند ورأيت فيه شيئاً من الجهالة لكن المعاني الشرعية تدل على ذلك فإن فيه أذية للضعيف.

_ (1) أخرجه مسلم باب استحباب استلام الركنين اليمانيين في الطواف، صحيح مسلم بشرح النووي [9 / 13] والبخاري باب كيف كان بدء الرمل من كتاب الحج رقم 1602. (2) أخرجه النسائي في باب استلام الركنين في كل طواف من كتاب المناسك رقم 2947.

ولا سيما إذا كان فيه اختلاط نساء فإن الفضيلة تكون للإشارة حيث كان فيه مشقة. * ظاهر قول عمر: (مع ذلك لا ندع شيئاً كنا نفعله مع النبي صلى الله عليه وسلم) (1) فظاهر ذلك أنه قد خفي عليه رمل النبي صلى الله عليه وسلم في الطواف في حجة الوداع وإن كان الظاهر أنه حج مع النبي صلى الله عليه وسلم لكن قد يكون خفي عليه فاجتهد رأيه فأصاب. قاعدة: الرمل والاضطباع خاص للآفاقيين في طواف العمرة والقدوم فقط. والحمد لله رب العالمين. قال المؤلف رحمه الله تعالى: (ومن ترك شيئاً من الطواف … لم يصح) " شيئاً " نكرة في سياق الشرط فتفيد العموم فإن ترك طوافاً أو بعضه. فإن ترك شيئاً من الطواف ولو كان يسيراً، كأن ينصرف من الطواف قبل خطوات يسيرة من وصوله إلى الحجر الأسود فإن طوافه لا يصح ولا يجزئه؛ وذلك لأن النبي صلى الله عليه وسلم قد طاف بالبيت سبعاً وفعله صلى الله عليه وسلم بيان لقوله تعالى: {وليطوفوا بالبيت العتيق} وما كان من الفعل هكذا فإنه له حكم ما بينه أي حكم المجمل، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لتأخذوا عني مناسككم) فلا يجزئه إلا أن يطوف بالبيت أسبوعاً – أي سبعاً. قال: (أو لم ينوه) طاف بلا نية فإنه لا يجزئه ذلك لحديث: (إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى) ولأن الطواف بالبيت صلاة فكما أن الصلاة تشترط فيها النية فكذلك الطواف – هذا مذهب الحنابلة –. واعلم أن الطواف الخارج عن الحج والعمرة وهو طواف التطوع يشترط فيه نية لأن هذا الطواف عبادة والعبادات شرطها النية وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إنما الأعمال بالنيات) – ولا نزاع في هذا بين أهل العلم وإنما النزاع بين أهل العلم في شرطية النية لطواف الحج والعمرة سواء كان طواف إفاضة أو طواف قدوم أو طواف عمرة أو طواف وداع، هل يشترط فيه النية أم لا؟ أي هل يشترط له فيه خاصة أم يكتفي فيه بنية الحج العامة؟

_ (1) سبق ص84

قال الحنابلة: أنها شرط، لحديث: (إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى) . وذهب الشافعية إلى أن النية ليست بشرط، لكن يشترط ألا ينوي غير نسكه. فإن نوى غير النسك لم يجزئه ذلك كأن يطوف حول البيت بقصد البحث عن أحد من الناس أو نحو ذلك فإنه هنا قد نوى البحث عن هذا الشخص بغير نية للطواف أصلاً أو نية منافية للطواف. واستدلوا: بأن الحج كالصلاة فكما أن الصلاة تكفي نيتها لركوعها وسجودها وقيامها وقعودها فلا يشترط أن يجدد نية لكل ركن من أركانها، فكذلك الحج يكتفي بنيته أي بنية الحج - وهو الدخول في النسك تكفي - عن الطواف والوقوف بعرفة والسعي ونحو ذلك من المناسك. وهذا القول هو الراجح وهو مذهب أكثر العلماء فكما أن الصلاة تكفي نيتها عن نية أفعالها التي أجزاء منها فكذلك الحج فإن نيته وهي نية الدخول في الإحرام تكفي عن أفعال الحج. وبدليل أن أهل العلم أجمعوا على أن الواقف بعرفة الناسي يجزئه وقوفه فكذلك هنا. وتفريق من فرّق بين الوقوف بعرفة وبين الطواف: بأن الوقوف بعرفة مجرد مكث وأما الطواف ففعل، فهو تفريق غير مؤثر لأن الوقوف بعرفة وإن كان مجرد مكث فهو عبادة من العبادات والعبادات لا تصح إلا بنية وإن كانت مجرد مكث. فعلى ذلك: الصحيح ما ذهب إليه أكثر العلماء من أن أفعال النسك. " وأفعال الحج والعمرة " ومن ذلك الطواف لكن بشرط أن [لعل الصواب: ألاّ] ينوي غير نسكه، فإن نوى غير النسك كأن يطوف باحثاً عن غريم أو شخص أو نحوه فإنه لا يجزئه ذلك. فالطواف نية الحج تكفي عنه ولا نقول: إنه لا يحتاج إلى نية أصلاً. قال: (أو نسكه) (1)

_ (1) قال في الشرح الممتع [7 / 289] : " أو نسُكَهُ: أي أو لم ينو نسكه لم يصح … ".

ويصح أيضاً: " أو نكَّسه " فإن التنكيس في الطواف لا يصح إجماعاً بل الواجب في طوافه أن يجعل البيت عن يساره فلو جعله عن يمينه لم يصح إجماعاً لأن النبي صلى الله عليه وسلم طاف جاعلاً البيت عن يساره وقال: (لتأخذوا عني مناسككم) . وإن لم ينو نسكه، بأن لم يبين النسك، وقد تقدم الكلام على هذه المسألة وأن من أحرم إحراماً مطلقاً فإنه يجزئه ذلك لكن يجب عليه أن يعينه بعد ذلك إما حجاً وإما عمرة. فلو نوى رجل الدخول في النسك " أي الإحرام المطلق " ولم يعين أهو حج أم عمرة ثم طاف قبل التعيين فإنه لا يجزئه هذا الطواف لأن العمل يجب فيه التعيين وهنا لم يعين فواجب في النية تعيينها أهي للعمرة أم للحج وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى) فهو لم ينو بعد أنسكه حج أم عمرة وحينئذ لا يجزئه ذلك لأنه لم يعين، وفرض تعيين نية العبادة، لحديث (وإنما لكل امرئ ما نوى) . كأن يكون رجل أحرم مطلقاً نسكه فلم يعينه لأنه غير واجد المال يشتري به هدياً وهو يرجو حصوله قريباً فيحرم إحراماً مطلقاً، فإذا حصل له أهل بعمرة حتى يكون متمتعاً وإلا أفرد. قال: (أو طاف على الشاذروان) الشاذروان: وهو ما فضل من جدار الكعبة وهو ما يحيط بالبيت، فيما يرتقيه بعض الناس عند التزام جدران الكعبة – وهو لا يصل إلى المتر. فلو طاف مضطراً على الشاذروان فهل يجزئه ذلك أم لا؟ 1 – قال المؤلف: لا يجزئه؛ وذلك لأن الشاذروان وهو ما فضل من جدران الكعبة من البيت فهو جزء من البيت، وفرض عليه أن يطوف حول البيت كله، فإذا طاف على الشاذروان أو بعضه فإنه لا يصدق عليه أنه طاف على البيت كله فلم يجزئه ذلك. 2-وقال شيخ الإسلام: بل يجزئه وذلك لأن الشاذروان ليس من البيت بل هو عماد له فلو طاف على الشاذروان فإنه يصدق عليه أنه طاف على البيت لأن الشاذروان ليس من البيت بل هو عماد له.

وما ذكره شيخ الإسلام أظهر، وذلك: لأن الشارع استحب استلام الركنين اليمانيين؛ لأنهما أركان البيت وأطرافه ولم يستحب استلام الركنين الشاميين لأن الحجر من البيت وقد قصرت النفقة الخالصة من الإثم بقريش فلم يدخلوها في بناء الكعبة وإلا فإن حجر إسماعيل من البيت، ولذا لا يستلم الركنان الشاميان لأنهما من البيت وليست بأركان له. فالصحيح ما ذهب إليه شيخ الإسلام من أن الشاذروان ليس من البيت بدليل استحباب استلام الركنين اليمانيين فهما أركان الحرم وأطرافه، ولو كان الشاذروان من البيت لم يكونا أطرافاً له وأركاناً بل كانا منه. ومع ذلك فإن الأحوط هو عدم فعل ذلك لقوة الخلاف في هذه المسألة. واعلم أن الحجر من البيت، فقد ثبت في مسلم أن عائشة: (سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الحِجْر؟ فقال: هو من البيت) (1) . والحِجْر: ما يكون في الجهة الشامية من البيت، وقد قصرت – كما تقدم – النفقة الخالصة من الإثم على قريش فبنوه على هذه الهيئة غير الكاملة، فقال النبي صلى الله عليه وسلم لعائشة – كما في الصحيحين -: (لولا حدْثان قومك بكفر لهدمت الكعبة وبنيتها على قواعد إبراهيم) (2) فمن طاف على الحِجْر أو فيه فلا يجزئه الطواف لأنه لم يطف بالبيت كله ولذا قال المؤلف. قال: (أو جدار الحجر) لأن جداره من البيت ولذا لم يشرع أن يستلم أركانه من جهة الحِجر ولا أن يستلم جدار الحجر لأنه من البيت وليس ركناً له. قال: (أو عرياناً)

_ (1) أخرجه البخاري باب فضل مكة وبنيانها، ومسلم باب جدر الكعبة وبابها، من كتاب الحج، المغني [5 / 230] ، وصحيح مسلم بشرح النووي [9 / 96] . (2) أخرجه البخاري باب فضل مكة وبنيانها 1586، ومسلم باب نقض الكعبة 1333، 398، من كتاب الحج.

فشرط في الطواف ستر العورة قال تعالى: {يا بني آدم حذوا زينتكم عند كل مسجد (1) } وقد نزلت هذه الآية في الطواف على هيئة غير ساترة كما ثبت في مسلم عن ابن عباس أن المرأة كانت تطوف بالبيت وهي عريانة وتقول: ومن يعيرني ثوباً تجعله على فرجها فنزل قوله تعالى: {يا بني آدم خذوا زينتكم عند كل مسجد} ، وثبت في الصحيحين: أن النبي صلى الله عليه وسلم: (بعث مؤذناً يؤذن في حجة أبي بكر بالناس قبل حجة الوداع: ألا يحج بعد العام مشرك ولا يطوف بالبيت عريان) (2) فمن طاف عرياناً فإن طوافه غير صحيح لنهي النبي صلى الله عليه وسلم المقتضي لفساد ذلك. قال: (أو نجساً) . هذه مسألة اختلف فيها العلماء وهي من طاف بالبيت نجساً أو محدثاً حدثاً أكبر أو أصغر فهل يصح طوافه أم لا؟ بمعنى: هل يشترط الطهارة بقسميها: الطهارة من الأحداث والأنجاس في الطواف أم لا؟ 1- ذهب جمهور أهل العلم إلى اشتراطها من الحدث والنجس في الطواف فيشترط كونه طاهراً من الحدثين الأصغر والأكبر ومن النجس فلو طاف جنباً أو غير متوضئ أو عليه نجاسة لم يجزئه ذلك. واستدلوا: بما ثبت في الصحيحين عن عائشة قالت: (أول شيء بدأ به النبي صلى الله عليه وسلم حين قدم البيت أن توضأ ثم طاف بالبيت) (3) قالوا: وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لتأخذوا عني مناسككم) واستدلوا: بما رواه النسائي والترمذي وغيرهما: عن ابن عباس مرفوعاً: (الطواف بالبيت صلاة فمن نطق فيه فلينطق بخير) (4)

_ (1) سورة الأعراف 31 (2) أخرجه البخاري 369، 1622، ومسلم [8 / 146] نووي. (3) أخرجه البخاري باب الطواف على وضوء رقم 1641، ومسلم. سبق ص84. (4) أخرجه الترمذي في باب ما جاء في الكلام في الطواف، والنسائي رقم 2922 عن رجل أدرك النبي - صلى الله عليه وسلم - قال:" الطواف بالبيت صلاة فأقلوا من الكلام ". وانظر الإرواء رقم 121، والمغني [5 / 224] .

قالوا: فلما كان الطواف صلاة فيشترط فيه ما يشترط في الصلاة من الطهارة من الأحداث والأنجاس. 2- واختار شيخ الإسلام وهو قول في مذهب الإمام أحمد ومذهب أبي حنيفة وهو مذهب طائفة من السلف: إلى أن ذلك ليس بشرط، بل هو مشروع مستحب. واستدل: بالأصل فإن الأصل فيه عدم اشتراط ذلك. وأجاب عن أدلة الجمهور: أما وضوء النبي صلى الله عليه وسلم وقوله: (لتأخذوا عني مناسككم) فالوضوء فعل، والفعل المجرد لا يدل على الوجوب أما قوله: (لتأخذوا عني مناسككم) فإن الوضوء خارج عن المناسك، فأنتم - أي الجمهور – لم توجبوا الاضطباع ولا الرمل ولا غير ذلك مما فعله النبي صلى الله عليه وسلم في طوافه وهما أولى بالإيجاب من الوضوء الخارج عن المناسك. والاضطباع والرمل من سنن الطواف بالإجماع فأولى من ذلك الوضوء الخارج عن الطواف وأما الحديث – حديث ابن عباس - فإنه لا يصح عن النبي صلى الله عليه وسلم مرفوعاً بل هو موقوف على ابن عباس، قال شيخ الإسلام: (أهل العلم لا يرفعونه) . قلت: ونحوه عن ابن عمر في النسائي (1) . ولكن هذا الجواب يمكن أن يقال في رده: إنه قول صحابي اشتهر ولا يعلم له مخالف فيكون إجماعاً. والجواب عن ذلك هو ما ذكره شيخ الإسلام وتلميذه – من أن قول الصحابي هنا -: (الطواف بالبيت صلاة) لا يقتضي اشتراط ما ذكرتموه بدليل أن استقبال القبلة ليس بشرط في الطواف، والحركة الكثيرة المبطلة للصلاة لا يبطل الطواف اتفاقاً، وبدليل جواز الأكل والشرب فيه، وبدليل جواز الكلام فيه وغير ذلك مما ينهى عنه في الصلاة.

_ (1) برقم 2923.

فكل هذه المنهيات والشروط التي في الصلاة من استقبال قبلة ونحوها ليست ثابتة في الطواف بالاتفاق فيتعين أن يكون مراد الصحابي أنه في حكم الصلاة في الإقبال على الله عز وجل والتعبد له، وهذا نظير قول النبي صلى الله عليه وسلم في الماكث ينتظر الصلاة هو: (في صلاة) (1) مع أنه لا يشترط عليه ما يشترط على المصلين وهو مع ذلك في صلاة. أو أن الطواف يجتمع هو والصلاة في كونهما حول البيت فكما أن المصلي يتوجه إلى القبلة فإن الطائف يتعلق طوافه بالبيت وهذا هو الجامع بين الطواف والصلاة، والمفارقات بينهما كثيرة جداً. وحيث كانت كذلك فلا يمكننا أن نلحق ما اشترطه الجمهور والمفارقات على هذه الطريقة وعلى هذه الكثرة. فالراجح: ما اختاره شيخ الإسلام من أن الطهارة من الأحداث والأنجاس ليست شرطاً في الطواف. مسألة: طواف الحائض هل يصح أم لا؟ 1- ذهب جمهور أهل العلم إلى أن طوافها لا يصح. واستدلوا: بقوله صلى الله عليه وسلم لعائشة لما حاضت بسرف وكانت قد أهلت بعمرة فأمرها أن تهل بالحج: (افعلي ما يفعل الحاج غير ألا تطوفي بالبيت حتى تطهري) (2) وفي رواية لمسلم: (حتى تغتسلي) قالوا: فنهى النبي صلى الله عليه وسلم عن الطواف يقتضي فساده. 2- وذهب الأحناف وهو رواية عن الإمام أحمد إلى أن طواف الحائض صحيح محرم وعليها إن فعلت الدم. قالوا: لأنها إنما نهيت عن ذلك مع جواز سائر الأنساك لها – لكون الطواف بالبيت، والحائض تنهى عن دخول المساجد والمكث فيها فنهى النبي صلى الله عليه وسلم الحائض من الطواف بالبيت ليس لمعنى الطواف لكن لمعنى المسجد وطوافها في المسجد يلزم منه أن تكون ماكثة ولابد منه ومكثها محرم.

_ (1) متفق عليه، صحيح مسلم بشرح النووي [5 / 666] . (2) رواه البخاري [1 / 83 …] ومسلم [4 / 30] وأبو داود والنسائي والترمذي، الإرواء رقم 191.

فحينئذ: إن طافت فطوافها صحيح لأن النهي لم يتعلق بالطواف بل تعلق بالمكث في المسجد وهو أمر خارج، فتكون حينئذ آثمة. 3- واختار شيخ الإسلام وتلميذه ابن القيم أن طواف الحائض لا يصح إلا لضرورة. قالوا: لأن الواجبات تسقط بالعجز عنها كما يسقط عن العريان ستر عورته في الصلاة، فإنه إذا لم يجد ثوباً يستر به عورته فإنه يصلي عرياناً، فكان واجباً عليها ألا تطوف إلا وهي طاهرة فعجزت عن ذلك واضطرت فيجوز لها حينئذ أن تطوف للضرورة. وجمهور أهل العلم: يقولون: إذا خشيت الحائض فوات رفقتها مثلاً فإنها ترجع إلى ديارها محرمة فلا تفعل شيئاً مما يحرم على الحاج ثم تأتي بالطواف بعد ذلك. ولا خلاف بين أهل العلم أن طواف الإفاضة ليس له وقت محدد ينتهي فيه فلو طاف الإفاضة بعد شهر ذي الحجة فإنه يجزئ عنه اتفاقاً. وإنما اختلف أهل العلم في وجوب الدم فيه: فأوجبه المالكية: إذا أخره إلى بعد شهر ذي الحجة. وأوجب الأحناف الدم فيه إذا أخره عن أيام التشريق. وأما الحنابلة والشافعية فلم يوجبوا فيه الدم مطلقاً. فعلى ذلك مذهب الجمهور أنها إذا اضطرت فإنها لا تطوف بالبيت بل ترجع ثم تطوف بعد ذلك ولو كان ذلك بعد سنة أو سنتين. واختار شيخ الإسلام صحة طوافها إذا اضطرت إلى ذلك.

ومما يؤيد صحة طوافها إذا اضطرت إلى ذلك ما ثبت في صحيح مسلم من حديث أسماء بنت عميس: (أنها نفست في ذي الحليفة فأمرها أن تحرم وتغتسل) (1) ولم ينهها النبي صلى الله عليه وسلم عما نهى عنه عائشة من ألا تطوف بالبيت حتى تطهر وذلك لأن ذلك فيه مشقة ظاهرة عليها فإن النفاس في الغالب يطول وهي قد نفست ولم يبق من ذي القعدة إلا أربعة أيام، فلم يبق ليوم النحر إلا نحو أربعة عشر يوماً، والنفساء لا تطهر غالباً في مثل هذه المدة، فلم يأمر النبي صلى الله عليه وسلم أسماء بما أمر به عائشة ألا تطوف بالبيت حتى تطهر لمشقة ذلك. وأظهر الأقوال – فيما يتبين لي والعلم عند الله عز وجل - ما ذهب إليه الأحناف وهو رواية عن الإمام أحمد: أن طوافها صحيح مطلقاً لكنها آثمة وحينئذ إذا اضطرت فلا إثم. وذلك لأنه لا معنى يقتضي نهيها عن الطواف وهي حائض، وقد فارقنا بين الطواف والصلاة – فلا معنى يقتضي أن تنهى عنه إلا أن الطواف بالبيت وفي المسجد والحائض نهيت عن المكث فيه، والله أعلم. والأظهر ألا دم عليها لعدم الدليل. قال: (ثم يصلي ركعتين) وهما ركعتا الطواف فيستحب له إذا انتهى من طوافه أن يصلي ركعتين. ودليله: ما ثبت في مسلم من حديث جابر " أن النبي صلى الله عليه وسلم لما طاف نفذ إلى مقام إبراهيم فقرأ: {واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى} فجعل المقام بينه وبين البيت، وكان يقرأ في الركعتين بـ {قل هو الله أحد} ، و {قل يا أيها الكافرون} ثم رجع إلى الركن فاستلمه – وفي رواية النسائي: (بقل يا أيها الكافرون وقل هو الله أحد) – " (2) . والواو لا تفيد الترتيب. واختلف أهل العلم في هاتين الركعتين أهما سنة أم واجبتان؟

_ (1) صحيح مسلم، باب حجة النبي - صلى الله عليه وسلم - من كتاب الحج، سبق ص24 (2) أخرجه مسلم باب حجة النبي - صلى الله عليه وسلم -، والنسائي باب القراءة في ركعتي الطواف رقم 2963.

1- فذهب جمهور العلماء إلى أنهما سنة لفعل النبي صلى الله عليه وسلم المجرد، وفعله المجرد لا يفيد وجوباً. 2- وذهب الأحناف إلى وجوبهما وبجبران يوم. واستدلوا: بقوله تعالى: {واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى} ، وهذا القول رواية عن الإمام أحمد استظهرها صاحب الفروع. قالوا: هذا أمر والأمر يقتضي الوجوب. والصحيح ما ذهب إليه جمهور أهل العلم. أما استدلال الأحناف بالآية ففيه نظر، لإجماع العلماء على أنه لا يجب أن يصلي الركعتين خلف المقام فلا يجب عليه أن يتخذ مقام إبراهيم مصلى، حكى هذا الإجماع ابن المنذر وغيره، وأن له أن يصليهما في أي موضع شاء، وقد ثبت في البخاري معلقاً: (أن عمر طاف بالبيت فركب فصلى ركعتين بذي طوى) (1) والشاهد من هذا الأثر أنه يجوز له أن يصلي ركعتي الطواف في أي موضع شاء، فثبت لنا أنه لا يجب عليه أن يتخذ مقام إبراهيم مصلى بالإجماع، فتعين أن يكون الأمر للاستحباب في الآية. إذن: يسن له أن يصلي ركعتين بعد طوافه، ويستحب له أن يقرأ فيهما بقل يا أيها الكافرون وبقل هو الله أحد. * فإن كرر الطواف بأن طاف سبعاً ثم سبعاً فله أن يصلي سنة الطواف لكل أسبوع أن يصليها بعد هذه الأسابيع. بمعنى: طاف أسبوعاً ثم أسبوعاً ثم صلى أربع ركعات ركعتين للأسبوع الأول، وركعتين للأسبوع الثاني، فلا بأس بذلك روى ذلك البيهقي عن عائشة رضي الله عنها ولأنه لا تشترط الموالاة بين الركعتين وبين الطواف بدليل فعل عمر المتقدم فإنه قد صلى بذي طوى. فعلى ذلك: إذا طاف سبعاً ثم سبعاً ثم جمع الركعات بعد الانتهاء من الطواف فصلى لكل أسبوع ركعتين فإن ذلك يجزئه، والمستحب له أن يتبع كل أسبوع ركعتيه. وهل تجزئ المكتوبة عن ركعتي الطواف كأن يطوف سبعاً ثم يصلي مكتوبة فهل يجزئ عن ركعتي الطواف؟

_ (1) ذكره البخاري باب الطواف بعد الصبح والعصر قبل رقم 1628.

قال الحنابلة: يجزئه كما أنه يجزئه في ركعتي الإحرام الفريضة – وقد تقدم – أن الحنابلة يستحبون ركعتي الإحرام فإذا أحرم فيستحب له أن يصلي ركعتين فإذا صلى الفريضة أجزأت عن ركعتي الإحرام وكلاهما سنة شرعت للنسك، فركعتا الطواف وركعتا الإحرام شرعتا للنسك فتجزئه المكتوبة عن ركعتي الطواف كما تجزئه المكتوبة عن ركعتي الإحرام. وفي هذا نظر، فقد ذهب جمهور العلماء وهو رواية عن الإمام أحمد اختارها طائفة من أصحابه: إلى أن المكتوبة لا تجزئه وذلك لأن ركعتي الطواف مقصود لذاتهما فلم يجزئ عنهما المكتوبة أشبه ذلك ركعتي الفجر فإنهما لا يجزئ عنهما قضاء أو فريضة فهما مقصودتان لذاتهما فكذلك هنا. أما ركعتا الإحرام على القول بهما – فإنهما غير مقصودتين لذاتهما بل المقصود هو الصلاة فإذا صلى فريضة أو نافلة مقيدة أو مطلقة فإنه يجزئه لأن المقصود هو الصلاة أما هنا فإن المقصود هو سنة الطواف. فإذاً: لا تجزئه المكتوبة عن ركعتي الطواف كما هو رواية عن الإمام أحمد اختارها طائفة من أصحابه وهو مذهب جمهور أهل العلم. قال: (خلف المقام) استحباباً فليس من شرط ركعتي الطواف أن يصليا خلف المقام بل لو صلاهما في موضع آخر أجزأه إجماعاً، وقد تقدم ما رواه البخاري معلقاً في صحيحه: (أن عمر طاف بالبيت ثم ركب فصلى ركعتين بذي طوى) . وهنا مسألتان في الطواف: المسألة الأولى: وأن الموالاة شرط من شروط الطواف عند جمهور أهل العلم. فليس له أن يوجد فاصلاً بين طوافه يثبت أنه قاطع في العرف وذلك لأن النبي صلى الله عليه وسلم طاف موالياً وقال: (لتأخذوا عني مناسككم) . قالوا: فإن حضرت فريضة فإنه يتوقف عن الطواف ويصلي الفريضة ثم يتم طوافه – هذا مذهب جمهور أهل العلم – وخصه المالكية بالفريضة. وعدى الحنابلة والشافعية كل فعل مشروع يخشى فواته كصلاة الجنازة ونحوها. قالوا: لأنه فعل مشروع أثناء الطواف فلم يبطله كاليسير.

وذهب الحسن البصري: إلى أنه إذا قطعه لفريضة أو صلاة جنازة ونحو ذلك أنه يجب عليه أن يستأنف الطواف من جديد. وهذا القول أقيس وأظهر؛ وذلك لأن الواجب في الطواف الموالاة وكونه يكون معذوراً بقطعه لصلاة الفريضة فإن هذا العذر إنما يكون لجواز القطع مع منافاته للموالاة، فكونه يقف لصلاة الفريضة هذا ينافي ما فرض من الموالاة فإنه حينئذ تنقطع الموالاة. وهو إنما يكون معذوراً لخشية فوات الفريضة أما أن يكون هذا العذر يصحح طوافه فلا، فإن ذلك قاطع. فما ذهب إليه الحسن البصري – فيما يظهر لي – أقيس فيجب عليه حينئذ أن يستأنف، لانتفاء الموالاة بصلاة الفريضة أو غيرها فإن الموالاة شرط وقد انتفت حيث قطعها بقاطع سواء كان هذا القاطع مشروعاً على وجه الفريضة أو مشروعاً على وجه الاستحباب أو لم يكن مشروعاً. (وهنا في أثر البخاري معلقاً عن ابن عمر (1) أنه صلى الفريضة ثم أتم طوافه، قال شيخنا: قول المالكية) . وعلى القول بأنه لا يستأنف كما هو مذهب جمهور أهل العلم إذا قطع طوافه فهل يبتدئ بالطواف من الحَجَر أم من الموضع الذي وقف عنده؟ قولان لأهل العلم: المشهور عند الحنابلة أنه يبدأ من الحَجَر. وقال بعض العلماء: بل يبدأ من الموضع الذي وقف فيه، وهو أحد الوجهين في مذهب الشافعي وهو القول الراجح. وهذا متفرع على الترجيح في المسألة السابقة، فلو رجحنا ما ذهب إليه الجمهور فإن هذا أقيس، لأن الطواف عبادة واحدة فسواء قطع الطواف لأمر لا يوجب الاستئناف من أول الطواف أو من أثنائه فالطواف عبادة واحدة فهذا هو الأقيس والأظهر. المسألة الثانية: أن طواف المحمول والراكب لعذر كمرض ونحوه صحيح بلا خلاف بين العلماء.

_ (1) ذكره البخاري باب إذا وقف في الطواف، الفتح [3 / 565] .

ودليل ذلك: ما ثبت في الصحيحين عن أم سلمة قالت: (شكوت إلى النبي صلى الله عليه وسلم أني أشتكي فقال: طوفي من وراء الناس وأنت راكبة) (1) . أما طواف غير المعذور راكباً أو محمولاً فاختلف فيه أهل العلم على ثلاثة أقوال: هي روايات عن الإمام أحمد: الرواية الأول: أن الطواف لا يجزئه قالوا: لأن الطواف بالبيت صلاة فكما أن الصلاة لا تصح من الراكب غير المعذور فكذلك الطواف لا يصح من الراكب غير المعذور. الرواية الثانية: وهو مذهب المالكية والأحناف: قالوا: يجزئه لكن عليه دم لأن الطواف ماشياً واجب فيجب في تركه الدم. الرواية الثالثة: وهي مذهب الشافعية: يجزئه ولا شيء عليه وهو اختيار ابن المنذر وهذا القول الراجح لأن النبي صلى الله عليه وسلم كما ثبت في الصحيحين من حديث ابن عباس: (طاف وهو راكب على بعير له) (2) والنبي صلى الله عليه وسلم لم يكن معذوراً في ركوبه عذراً يجيز ذلك وإنما مجرد درء مفسدة لا تصل إلى أن تكون عذراً، فقد ثبت في مسلم عن ابن عباس – وهو سبب ركوب النبي صلى الله عليه وسلم - قال: (إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كثر عليه الناس يقولون: هذا محمد هذا محمد حتى خرجت العواتق من البيوت " أي في محبته " ولم يكن النبي صلى الله عليه وسلم يضرب الناس بين يديه فلما كثر عليه ركب والمشي والسعي أفضل) فالمشي والسعي أفضل لكن إن ركب لغير عذر فإنه يجزئه؛ ذلك لفعل النبي صلى الله عليه وسلم والله أعلم. والحمد لله رب العالمين. فصل قال: (ثم يستلم الحجر)

_ (1) أخرجه البخاري باب المريض يطوف راكباً من كتاب الحج رقم 1633، ومسلم باب جواز الطواف على بعير.. من كتاب الحج، صحيح مسلم بشرح النووي [9 / 20] . (2) سبق ص85

إن أتم طوافه بالبيت سبعاً وصلى ركعتي الطواف فيستحب له أن يرجع إلى الركن فيستلمه، وقد تقدم حديث مسلم الدال على ذلك وهو حديث جابر وفيه: (ثم رجع إلى الركن فاستلمه) (1) . قال: (ويخرج إلى الصفا من بابه) وهو باب الصفا وهو باب بني مخزوم وإنما يخرج منه لأنه أقرب الأبواب إلى الصفا فليس هذا لتميزه عن سائر الأبواب بفضله وإنما لكونه أقرب الأبواب إلى الصفا. وقد كانت الصفا والمروة خارج المسجد، وباب بني مخزوم باب يدخل منه إلى المسجد ويخرج منه إلى الصفا والمروة فلم تكن الصفا والمروة في المسجد ومن هنا جاز للحائض أن تسعى بين الصفا والمروة مع أنها تنهى عن دخول المسجد لأن الصفا والمروة كانت في عهد النبي صلى الله عليه وسلم خارج المسجد، فلم يتسع بناء المسجد في عهده عليه الصلاة والسلام، لتدخل فيه الصفا والمروة كما اتسع في الأزمنة المتأخرة فدخلت فيه. قال: (فيرقاه حتى يرى البيت ويكبر ثلاثاً ويقول ما ورد)

_ (1) أخرجه مسلم باب حجة النبي - صلى الله عليه وسلم -.

يرتقي على الصفا وهو جبل صغير، فيرتقيه حتى يرى البيت، فلا يزال في صعوده حتى يتمكن من رؤية البيت فيستقبل القبلة ويكبر ثلاثاً ويقول ما ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم، فقد ثبت في صحيح مسلم من حديث جابر قال: (ثم خرج النبي صلى الله عليه وسلم من باب الصفا، فلما دنا من الصفا قرأ: {إن الصفا والمروة من شعائر الله} ابدأُ بما بدأ الله به، فرقي الصفا حتى رأى البيت فاستقبل القبلة فوحد الله " أي قال: لا إله إلا الله " وكبَّره) وفي النسائي: (وكبره ثلاثاً) ثم قال: " لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء لا إله إلا الله وحده أنجز وعده، ونصر عبده وهزم الأحزاب وحده " ثم دعا بين ذلك، فعل هذا ثلاث مرات) (1) فالذكر الوارد بعد أن يرقى الصفا ويرى البيت ويستقبل القبلة يقول: " لا إله إلا الله " الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير، لا إله إلا الله وحده أنجز وعده ونصر عبده وهزم الأحزاب وحده) ثم يدعو بما شاء ثم يعيد الذكر مرة ثانية ثم يدعو ثانية بما أحب ثم يعيده ثالثة. قال: (ثم ينزل ماشياً إلى العلم الأول ثم يسعى سعياً شديداً إلى الآخر ثم يمشي ويرقى المروة ويقول ما قاله على الصفا)

_ (1) أخرجه مسلم باب حجة النبي - صلى الله عليه وسلم -.

بعد أن يرقى الصفا ينزل ماشياً حتى يأتي العلم الأول وهو العلم الأخضر الذي هو علامة ابتداء بطن الوادي فيسعى سعياً شديداً حتى يصل إلى العلم الثاني وهو علامة انتهاء بطن الوادي فإذا انتهى من ذلك مشى حتى يأتي المروة ويقول ما قاله على الصفا. وتمام القطعة من حديث جابر الذي تقدم سياقها قال: (ثم نزل إلى المروة حتى إذا انصبت قدماه في بطن الوادي سعى حتى إذا صعدتا " أي عن بطن الوادي " مشى حتى أتى المروة ففعل في المروة كما يفعل في الصفا) (1) . وظاهره أنه يجمع بين الذكر الوارد والفعل الوارد فيرقى المروة حتى يرى البيت ويستقبل القبلة ويقول: الذكر الوارد كما في الصفا. وفي النسائي بإسناد صحيح: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا يقطع الوادي إلا شداً) (2) والمراد هنا بالوادي بطنه وهو ما بين الميلين. ويستحب له أن يقول: ما ورد عن ابن مسعود في البيهقي بإسناد جيد أنه كان يقول بين العلمين: (اللهم اغفر وارحم فإنك أنت الأعز الأكرم) . واعلم أن أهل العلم قد أجمعوا على أن المرأة لا يستحب لها أن تسعى بين الميلين ولا أن ترمل في الأشواط الثلاثة الأولى في الطواف وفي البيهقي بإسناد صحيح عن ابن عمر قال: (ليس على النساء سعي في البيت " وهو الرمل " ولا بين الصفا والمروة) . واعلم أن السعي بين الصفا والمروة المجزئ هو ما يكون بين الجبلين " الصفا والمروة " بحيث أنه يستوعبهما أي يستوعب ما بينهما بالسعي من غير اشتراط رقي فإن الرقي مستحب وليس بواجب فالواجب عليه أن يضع عقبه على طرف الصفا ثم يمشي حتى يصل إلى طرف المروة ثم يعود سبعة أشواط.

_ (1) أخرجه مسلم باب حجة النبي - صلى الله عليه وسلم -. (2) أخرجه النسائي رقم 2980.

فالواجب عليه أن يسعى بين الصفا والمروة أما رقيه فهو مستحب وهذا باتفاق أهل العلم. واعلم أنه لو ترك شيئاً فيما بين الصفا والمروة من السعي لم يجزئه، فلو ترك ذراعاً أو نحوه فإن سعيه لا يجزئه لأنه لم يستوعبهما في الطواف بين الصفا والمروة. قال: (ثم ينزل فيمشي في موضع مشيه ويسعى في موضع سعيه إلى الصفا يفعل ذلك سبعاً) كذلك في رجوعه من المروة إلى الصفا يمشي في موضع مشيه ويسعى في موضع سعيه فيسعى بين الميلين ويمشي ما بين المروة إلى الميل الأول وما بين الميل الثاني إلى الصفا يمشي كما تقدم في شوطه ما بين الصفا إلى المروة فكذلك في شوطه بين المروة إلى الصفا. قال: (ذهابه سعية ورجوعه سعية) فما بين الصفا والمروة سعية، وما بين المروة والصفا سعية أخرى، ففي الصحيحين من حديث ابن عمر: أن النبي صلى الله عليه وسلم: (طاف بين الصفا والمروة سبعاً) (1) فإذن: ذهابه من الصفا إلى المروة شوط، وإيابه من المروة إلى الصفا شوط – وهذا باتفاق العلماء. قال: (فإن بدأ بالمروة سقط الشوط الأول) فلو أنه بدأ من المروة إلى الصفا فإن هذا الشوط لا يحسب ويسقط ولا يجزئ عنه، وذلك لأن الواجب عليه والفرض أن يبدأ من الصفا لفعل النبي صلى الله عليه وسلم وقوله: (لتأخذوا عني مناسككم) وفعله بيان لمجمل القرآن وفي النسائي: (ابدؤوا بما بدأ الله به) (2) فإذا ابتدأ من الصفا أجزأه، أما إذا ابتدأ من المروة فإنه لا يجزئه الشوط الأول ويحسب له الشوط الثاني الذي هو من الصفا إلى المروة فيجب عليه أن يزيد شوطاً لسقوط الأول وعدم إجزائه.

_ (1) أخرجه البخاري [1 / 409 …] ومسلم [4 / 53] ، الإرواء رقم 1104. (2) أخرجه النسائي باب القول بعد ركعتي الطواف رقم 2962، من كتاب المناسك.

فإذن: إذا ابتدأ بالمروة فهذا الشوط لا يجزئه لأنه على خلاف ما ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم وقد قال: (كل عمل ليس عليه أمرنا فهو رد) (1) قال: (وتسن فيه الطهارة والستارة والموالاة) فالطهارة من الأحداث والأنجاس سنة بالاتفاق – في السعي بين الصفا والمروة فلو أنه طاف بين الصفا والمروة جنباً أو محدثاً حدثاً أصغر أو امرأة حائضاً أو كان عليه شيء من الأنجاس في ثوبه فإن سعيه مجزئ بالاتفاق. كذلك الستارة فليس أيضاً شرطاً أن يستر عورته وهذا باتفاق أهل العلم. قال: (والموالاة) فالموالاة سنة وكلام المؤلف هنا موهم فإن المراد بالموالاة هنا الموالاة بين الطواف بالبيت والسعي بين الصفا والمروة فليس شرطاً أن يبادر بالسعي بعد طوافه بالبيت فلو طاف في البيت في أول النهار وسعى في آخره يجزئه اتفاقاً لأنه قد فعل ما أمر الله به من الطواف بالبيت والسعي بين الصفا والمروة وإن كان المستحب له أن يوالي بين الطواف بالبيت والسعي بين الصفا والمروة هذا مستحب له لفعل النبي صلى الله عليه وسلم وليس واجباً بالاتفاق. وأما الموالاة بين أشواط السعي، فإنها شرط في السعي – وهو مذهب الحنابلة وغيرهم من أهل العلم – فهي شرط من شروط السعي على التفصيل المتقدم في الطواف. قالوا: لفعل النبي صلى الله عليه وسلم وقوله: (لتأخذوا عني مناسككم) وقد طاف الأشواط السبعة موالياً، فإن قطعها بفاصل عرفي فإنه يجب عليه أن يستأنف إلا ما تقدم استثناؤه فيما إذا حضرت الصلاة المكتوبة أو فعل مشروع، على خلاف بين أهل العلم كما تقدم.

_ (1) أخرجه البخاري [5 / 221] في الصلح: باب إذا اصطلحوا على صلح جور، فالصلح مردود، ومسلم [1718] في الأقضية باب نقض الأحكام الباطلة. زاد المعاد [5 / 224] .

واشترط الحنابلة أيضاً النية فهي شرط من شروط السعي وتقدم النظر في هذا وأن الراجح أن أفعال الحج كلها لا تجب فيها النية المستقلة بل نية الإحرام في أول الحج تجزئ عن النية لأفعال المناسك كلها. قال: (ثم إن كان متمتعاً لا هدي معه قصر من شعره وتحلل) لما ثبت في مسلم قال: (فحل الناس كلهم وقصروا إلا النبي صلى الله عليه وسلم ومن كان معه هدي) (1) فالمتمتعون يقصرون ويحلون، وأما القارنون والمفردون فإنهم لا يقصرون ولا يتحللون بل يتحللون في يوم النحر. وفيه أن المستحب للمتمتع أن يقصر رأسه ولا يستحب له حلقه توفيراً للحج ولأن الصحابة هكذا فعلوا، كما في الحديث المتقدم. واعلم أن التقصير المجزئ هو التقصير الشامل كله لعموم الرأس، ولا يقصد من ذلك أن يشتمل كل شعرة فإن هذا لا يسع الناس فعله إذ لا يمكن للشخص أن يعلم دخول كل شعرة في التقصير إلا بالحلق، لكن المقصود أن يقصر من عموم رأسه بحيث يظن ظناً غالباً أن هذا التقصير قد شمل الرأس كله، هذا هو المشهور عند الحنابلة. خلافاً لمذهب الشافعية وأنه يجزئه أن يأخذ من ثلاث شعرات. فالصحيح مذهب الحنابلة، لقوله تعالى: {محلقين رؤوسكم ومقصرين} (2) وقوله: {رؤوسكم} عام للرأس كله، فواجب أن يعم الرأس كله حلقاً أو تقصيراً ولأن النبي صلى الله عليه وسلم حلق رأسه كله وفعله بيان للأمر فيعطى حكمه. واعلم أن التقصير المجزئ هو أخذ الشيء من جميع الشعر الذي يصدق عليه أنه تقصير وإن قل سواء كان أنملة أو أقل منها.

_ (1) صحيح مسلم باب حجة النبي - صلى الله عليه وسلم -. (2) سورة الفتح 27.

والمستحب له أن يبدأ بالجهة اليمنى ثم اليسرى في الحلق والتقصير ففي مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال للحلاق: (خذ وأشار إلى جانبه الأيمن ثم الأيسر ثم جعل يعطيه الناس) (1) وكان عليه الصلاة والسلام يعجبه التيامن في شأنه كله. قال: (وإلا حلَّ إذا حج) إذا كان قارناً أو مفرداً فإنه يتحلل إذا حج أي إذا فعل أركان الحج. والمقصود من الكلام هنا: أنه يتحلل إذا رمى الجمرة أي يتحلل في يوم النحر، وإلا فإنه لا يصدق عليه أنه حج حتى يأتي بالطواف، وسيأتي البحث إن شاء الله في المنسك الذي يثبت به التحلل الأول. ويمكن أن يكون مراد المؤلف هنا: التحلل التام، فإنه لا يكون له التحلل التام بحيث أنه تحل له محظورات الإحرام كلها حتى النساء حتى يتم الحج كله أي أركانه وإلا فإنه يبقى شيء من واجباته كالرمي والمبيت ليالي التشريق وسيأتي إن شاء الله في موضعه. قال: (والمتمتع إذا شرع في الطواف قطع التلبية) تقدم البحث في هذا (2) ، وأن الراجح أنه يقطع التلبية إذا دخل الحرم كما هو مذهب ابن عمر. مسألة: السعي كالطواف في باب الركوب، بل أولى بالحكم لما تقدم من أن بعض أهل العلم يرى أن الطواف بالبيت صلاة، بخلاف السعي فإنه لا يقال فيه هذا، وقد ركب النبي صلى الله عليه وسلم في طوافه بين الصفا والمروة لكي يراه الناس كما ثبت ذلك في الصحيحين (3) . مسألة: قراءة الآية: {إن الصفا والمروة..} الظاهر لي أنه لا يستحب له ذلك إلا عند دنوه من الصفا أول مرة من غير أن يكررها في الأشواط الأخرى وأما قول جابر: (ثم فعل على المروة ما فعل على الصفا) فإنه لا يدخل فيه لأن هذا الذكر قاله النبي صلى الله عليه وسلم قبل رقيه على الصفا كما أن المعنى يقتضي ذلك. مسألة:

_ (1) مسلم، باب السنة يوم النحر من كتاب الحج، صحيح مسلم بشرح النووي [9 / 52] . (2) سبق ص37. (3) الإرواء رقم 1118.

إذا سعى الشوط السابع فهل يدعو بعد نهايته ويقول الذكر أم لا؟ الأظهر عندي والله أعلم أنه لا يقول ذلك لأنه هناك ينتهي سعيه كما ينتهي الطواف عند الحجر الأسود فلا يشرع له الاستلام ولا الإشارة فالأظهر هنا كذلك لأنه قد رقى المروة ثلاثاً فدعا، وفي الصفا أربعاً فهذه سبع. والمسألة اجتهادية، والقول بأنه يشرع له ذلك له محل من النظر لكن الذي أميل إليه أنه لا يشرع له ذلك. مسألة: هل يجزئ الطواف بين الصفا والمروة قبل الطواف بالبيت أم لا؟ جمهور العلماء على أنه لا يجزئه ذلك لفعل النبي صلى الله عليه وسلم وقوله: (لتأخذوا عني مناسككم) والنبي صلى الله عليه وسلم إنما سعى بعد طوافه. وذهب أهل الظاهر وهو مذهب عطاء بن أبي رباح من التابعين وهو مذهب بعض أهل الحديث إلى أنه يجزئه. واستدلوا: بما رواه أبو داود أن رجلاً قال للنبي صلى الله عليه وسلم: (يا رسول الله: سعيت قبل أن أطوف فقال النبي صلى الله عليه وسلم: افعل ولا حرج) (1) وكما ثبت في الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لعائشة: (افعلي ما يفعل الحاج غير ألا تطوفي في البيت حتى تطهري) ويدخل في ذلك السعي فدل على أن السعي لا يشترط لصحته أن يسبق بطواف. وهذا القول فيه قوة، وفعل النبي صلى الله عليه وسلم يحمل على الاستحباب، ومن طاف وسعى فقد فعل ما يجب عليه وما تقدم من الحديثين يدلان على أنه يجزئه. ومع ذلك فإن الأحوط له ألا يشتغل بالسعي قبل اشتغاله بالطواف والله أعلم. والحمد لله رب العالمين. هنا فوائد: الفائدة الأولى: ثبت في البيهقي: أن النبي صلى الله عليه وسلم رفع يديه " أي في وقوفه على الصفا والمروة. وظاهر كلام الحنابلة – كما قال صاحب الإقناع – أن رفع اليدين لا يشرع.

_ (1) رواه أبو داود باب فيمن قدم شيئاً قبل شيء في حجه، رقم 2015.

واستحبه بعض الحنابلة، قال صاحب الإقناع: وهو الظاهر للخبر. ووهم من عزاه إلى مسلم تبعاً للبيهقي، والبيهقي إنما عزاه إلى مسلم لأن أصل الحديث في مسلم أما لفظة رفع اليدين فإنما هي ثابتة في حديث جابر في سنن البيهقي بسند الإمام مسلم. الفائدة الثانية: أنه ثبت عند النسائي من حديث جابر لفظة: " وحمده " (1) أي وحمد الله عز وجل، ولذا ذكرها الحنابلة في الذكر الوارد عن النبي صلى الله عليه وسلم بلفظة: " الحمد لله على ما هدانا " أي من الذكر. فيحمد الله عز وجل – كما يهلله ويكبره ويحمده بهذا اللفظ أو غيره من الألفاظ التي هي من الحمد. 3- الفائدة الثالثة: ثبت في حديث جابر في المسند: أن النبي صلى الله عليه وسلم: (ذهب إلى زمزم فشرب منه وصب على رأسه ثم رجع إلى الركن واستلمه) ففيه مشروعية الشرب من ماء زمزم بعد طواف القدوم أو طواف العمرة. الفائدة الرابعة: أنه ثبت في حديث جابر أيضاً في النسائي لفظة: (يحي ويميت) (2) (لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد يحي ويميت وهو على كل شيء قدير) فهذه الزيادة ثابتة في النسائي من حديث جابر. باب صفة الحج والعمرة قال: (يسن للمحلين بمكة الإحرام بالحج يوم التروية) يوم التروية: هو اليوم الثامن من أيام ذي الحجة، فيستحب للمحلين وهم أهل مكة الذين يريدون الحج أو الآفاقيون الذين أتوا لعمرة وتحللوا منها وهم المتمتعون دون القارنين والمفردين من الآفاقيين فإنهم إنما يحرمون من مواقيتهم كما تقدم، أما أهل مكة ممن أراد منهم الحج أو الآفاقيون الذين تحللوا من عمرتهم يستحب أن يكون إهلالهم بالحج يوم التروية وسمي يوم التروية لتروية الناس المياه فيه استعداداً لبقية أيام الحج.

_ (1) سنن النسائي رقم 2974. (2) أخرجه النسائي باب الذكر والدعاء على الصفا رقم 2974.

ودليل استحباب الإهلال يوم التروية من مكة: ما ثبت في مسلم من حديث جابر قال: (فلما كان يوم التروية توجهوا إلى منى فأهلوا بالحج فركب النبي صلى الله عليه وسلم فصلى بهم الظهر والعصر والمغرب والعشاء والفجر) (1) أي في منى. ولذا قال المؤلف هنا: (قبل الزوال منها) أي قبل الزوال حتى يصلي الظهر بمنى، فقبل زوال الشمس يسن له الإهلال بالحج ليصلي الظهر بمنى، كما فعل ذلك النبي صلى الله عليه وسلم. قال: (ويجزئ من بقية الحرم) يجزئه أن يهل بالحج من بقية حرم مكة وإن خرج من بنيانها كأن يهل من الأبطح أو من منى فإنها من الحرم فيجزئه ذلك لأن ذلك كله ميقات أهل مكة، فالحرم كله ميقاتهم قال النبي صلى الله عليه وسلم: (حتى أهل مكة من مكة) فلا يجوز له أن يهل بالحج من الحل كأن يهل من التنعيم ونحوه لأنه بحكم أهل مكة وأهل مكة يهلون من مكة من بنيانها أو حرمها. ومما يدل على جواز الإحرام من خارج البنيان مادام في الحرم ما ثبت في مسلم من حديث جابر قال: (فأهللنا من الأبطح) وهو موضع من الحرم خارج بنيان مكة أما إذا أحرم من الحل فلا يجوز له ذلك كما لو أحرم خارج الميقات. قال: (ويبيت بمنى) استحباباً اتفاقاً فهو من المستحبات لحديث جابر المتقدم أن النبي صلى الله عليه وسلم: (صلى الظهر والعصر والمغرب والعشاء والفجر) (2) فصلى العشاء والفجر بها فقد بات بها – وهو مستحب بالاتفاق لأنه ليس فيه إلا فعل النبي صلى الله عليه وسلم المجرد، وفعله المجرد لا يقتضي إيجاباً كما تقدم. قال: (فإذا طلعت الشمس سار إلى عرفة) أي إذا طلعت الشمس من يوم عرفة سار إلى عرفة.

_ (1) صحيح مسلم باب حجة النبي - صلى الله عليه وسلم -. (2) صحيح مسلم باب حجة النبي - صلى الله عليه وسلم -.

إذاً: يمكث بعد صلاة الفجر حتى إذا طلعت الشمس ارتحل إلى عرفة فقد ثبت في حديث جابر الطويل بعد ذكر صلاة النبي صلى الله عليه وسلم الفجر بمنى قال: (ثم مكث قليلاً حتى طلعت الشمس فأمر بقبة من شعر فضربت له بنمرة ثم ارتحل ولا تشك قريش أن النبي صلى الله عليه وسلم واقف عند المشعر الحرام كما كانت تصنع في الجاهلية فأجاز " أي أجاز المشعر الحرام " حتى أتى عرفة فوجد القبة قد ضربت له بنمرة فنزل بها، حتى إذا زاغت الشمس أمر بالقصواء فرحلت له فركبها حتى أتى بطن الوادي " وهو بطن عرنة " فخطب الناس ثم أذن ثم أقام فصلى الظهر ثم أقام فصلى العصر، ثم ركب رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أتى الموقف فجعل بطن ناقته القصواء إلى الصخرات وجعل حبل المشاة " أي طريق المشاة " بين يديه فاستقبل القبلة فلم يزل واقفاً حتى غربت الشمس) (1) . قال: (وكلها موقف إلا بطن عرنة) فلا يجزئ الوقوف به، وهو الموضع الذي خطب به النبي صلى الله عليه وسلم فقد ثبت في ابن ماجه والحديث صحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (كل عرفة موقف وارتفعوا عن بطن عرنة وكل مزدلفة موقف وارتفعوا عن وادي محسِّر) (2) وهذا باتفاق العلماء. قال: (ويسن أن يجمع بين الظهر والعصر) كما تقدم هذا في جمعه بين الظهر والعصر في بطن عرنة، وظاهر الحديث أنه لا يجهر بالقراءة فليست جمعة بل هي ظهر فيسر بالقراءة.

_ (1) صحيح مسلم باب حجة النبي - صلى الله عليه وسلم - من كتاب الحج. (2) أخرجه النسائي باب الموقف بعرفات من كتاب المناسك، رقم 3012.

وظاهر الحديث أن الجمع مشروع للمكيين وغيرهم فكل من وقف بعرفة من المكيين وغيرهم فإنه يشرع له الجمع، كما أنه يستحب له أن يتعجل الصلاتين في ذلك اليوم، فقد ثبت في البخاري: أن سالم بن عبد الله بن عمر قال للحَجاج: (إن كنت تريد السنة فقصر في الخطبة وعجل في الصلاة، فقال ابن عمر وكان حاضراً: صدق) (1) فصدقه في أنها سنة. ويستحب له أن يجمع – كما تقدم بين الظهر والعصر بأذان وإقامتين. قال: (ويقف راكباً عند الصخرات وجبل الرحمة) . كما تقدم في حديث جابر وفيه أن النبي صلى الله عليه وسلم: (لما أتى الموقف جعل بطن ناقته القصواء إلى الصخرات) (2) ولا يشرع بالإجماع – كما حكى الإجماع شيخ الإسلام – أن يصعد الجبل فإنه ليس من السنن بالإجماع. قال: (ويكثر من الدعاء بما ورد) وقد ثبت في الترمذي والحديث حسن لشواهده أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (خير الدعاء يوم عرفة وخير ما قلت والنبيون قبلي: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير) (3) . فإن قيل هذا ثناء وليس بدعاء؟ فالجواب بما قاله سفيان بن عيينة لما سئل عن ذلك: فاستشهد ببيتين لشاعر في هذا المعنى: فأذكر حاجتي أم قد كفاني * حياؤك إن شيمتك الحياءُ إذا أثنى عليك المرء يوماً * كفاه الثناءُ فهذا الثناء بمعنى الدعاء، أي إنما أثنيت عليك لتكفيني حاجتي فهو تعريض بالدعاء. إذن: يستحب له أن يكثر من قول: (لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير) .

_ (1) أخرجه البخاري باب قصر الخطبة بعرفة من كتاب الحج، رقم 1663. (2) أخرجه مسلم باب حجة النبي - صلى الله عليه وسلم -، من كتاب الحج. (3) أخرجه الترمذي رقم 3585.

ويستحب له أن يرفع يديه بالدعاء كما صح ذلك في النسائي عن أسامة بن زيد قال: (كنت رديف النبي صلى الله عليه وسلم بعرفة فرفع يديه) (1) أي في الدعاء. ويستحب له أن يستقبل القبلة في دعائه سواء كان راكباً أو قاعداً كما تقدم في حديث جابر الثابت في مسلم ففيه أن النبي صلى الله عليه وسلم (استقبل القبلة) (2) . ويوم عرفة يوم عظيم يعتق الله فيه من النار أكثر ما يعتق في سائر الأيام ففي صحيح مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ما من يوم أكثر من أن يعتق الله فيه من النار من يوم عرفة وإنه ليدنو ثم يباهي بهم فيقول: ماذا أراد هؤلاء) (3) وهو من أعظم الأيام وأحبها إلى الله كما أنه من أيام عشر ذي الحجة ويستحب له أن يغتسل في هذا اليوم كما صح هذا عن علي في سنن البيهقي بإسناد صحيح فهو من الأيام الفاضلة التي يشرع الاغتسال فيها. قال: (ومن وقف ولو لحظة) فمن وقف ولو لحظة أجزأه ذلك. وليس المراد الوقوف الحقيقي بل لو كان قاعداً أو مضطجعاً أو مر مروراً منها أي يجاوزها إلى غيرها فإنه يجزئه لأنه بمعنى الوقوف هنا، إذ الوقوف هنا بذاته ليس بمعتبر فلو مر مروراً منها إلى غيرها فإن هذا المرور يجزئه ولو كان ذلك لحظة. ودليله: ما روى الخمسة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (الحج عرفة فمن أدرك عرفة قبل أن يطلع الفجر فقد أدرك الحج) (4) فظاهره لما يصدق عليه الإدراك وإن قل. في الحديث أن الوقوف بعرفة ركن من أركان الحج بل هو الحج فهو ركن الحج الأعظم وقد أجمع أهل العلم على أنه ركن من أركانها. قال: (من فجر يوم عرفة إلى فجر يوم النحر)

_ (1) أخرجه النسائي رقم 3011. (2) أخرجه مسلم، باب حجة النبي - صلى الله عليه وسلم -. (3) أخرجه مسلم باب فضل يوم عرفة من كتاب الحج، صحيح مسلم بشرح النووي [9 / 117] . (4) أخرجه أبو داود [1949] والنسائي والترمذي وابن ماجه. الإرواء رقم 1064.

هذا بيان من المؤلف لطرفي الوقوف بعرفة من حيث الوقت، فهو من طلوع الفجر الصادق يوم عرفة ما لم يطلع الفجر من يوم النحر. ودليل ذلك: ما ثبت عند الخمسة من حديث: عروة بن مضرس الطائي: أنه قال للنبي صلى الله عليه وسلم: (يا رسول الله فسأله عن الوقوف بعرفة فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من شهد صلاتنا هذه " أي صلاة الفجر من يوم النحر بمزدلفة " ووقف معنا حتى ندفع وقد وقف بعرفة قبل ذلك ليلاً أو نهاراً فقد تم حجه وقضى تفثه) (1) والشاهد قوله: (ووقف بعرفة قبل ذلك ليلاً أو نهاراً) وما قبل الزوال يصدق عليه النهار. ووافق جمهور العلماء الحنابلة على الإجزاء ليلاً قبل طلوع الفجر من ليلة النحر. ونازعوا الحنابلة في إجزائه قبل زوال الشمس من يوم عرفة فقالوا: لو وقف ضحى عرفة لم يجزئه ذلك. واستدلوا: بفعل النبي صلى الله عليه وسلم فإنه إنما أتى عرفة لما زالت الشمس وقال: (لتأخذوا عني مناسككم) . والصحيح ما ذهب إليه الحنابلة لإطلاق النبي صلى الله عليه وسلم في قوله: (ليلاً أو نهاراً) ولأن من وقف ليلاً فإنه فعل ما لم يفعله النبي صلى الله عليه وسلم فإنه قد أفاض من عرفة بعد غروب الشمس فلم يقف ليلاً ومع ذلك يقولون بإجزائه. فالحديث إنما يدل على استحباب ذلك. إذن: يستحب له ألا يقف بعرفة إلا بعد زوال الشمس لكن لو وقف قبل زوالها وبعد طلوع الفجر يوم عرفة فإنه يجزئه ذلك لقوله صلى الله عليه وسلم لعروة: (ووقف بعرفة قبل ذلك ليلاً أو نهاراً) . وقوله: (أو نهاراً) يصدق على أي جزء من أجزاء النهار من يوم عرفة لكن المستحب له ألا يأتي يوم عرفة إلا بعد زوال الشمس. قال: (وهو أهل له صح حجه وإلا فلا)

_ (1) أخرجه أبو داود 1950 والنسائي والترمذي وابن ماجه، الإرواء رقم 1066.

فلابد أن يكون أهلاً له، فإن لم يكن أهلاً له كغير البالغ أو غير العاقل ونحوه ممن ليس أهلاً للحج فإنه لا يجزئه عن حجة الإسلام كما تقدم البحث فيه. قال: (ومن وقف نهاراً ودفع قبل الغروب ولم يعد قبله فعليه دم) إذن: الواجب عليه أن يقف إلى الغروب، فإذا أتى بعد زوال الشمس أو قبل زوالها فإنه ليس له أن يفيض إلا بعد غروب الشمس. قالوا: لفعل النبي صلى الله عليه وسلم وقوله: (لتأخذوا عني مناسككم) هذا مذهب جمهور العلماء بوجوبه. وفي هذا نظر، ولذا سيأتي اتفاقهم على أنه لو وقف ليلاً فإنه ليس عليه شيء من ذلك ولذا قال المؤلف هنا: (ومن وقف ليلاً فقط فلا) رجل لم يأت إلا بعد غروب الشمس فوقف ساعة من الليل ثم رجع فإنه ليس عليه دم – على أن الأول موافقته للنبي صلى الله عليه وسلم أعظم فإن النبي صلى الله عليه وسلم إنما وقف نهاراً وهذا كذلك فقد وقف نهاراً، أما هذا فلم يقف إلا بالليل ومع ذلك فلا خلاف بين العلماء أنه لا دم عليه. واستدلوا: بقوله صلى الله عليه وسلم: (الحج عرفة فمن أدرك عرفة قبل طلوع الفجر فقد أدرك الحج) (1) قالوا: ولم يوجب عليه النبي صلى الله عليه وسلم دماً. والصحيح أنه إذا أفاض قبل غروب الشمس فلا دم عليه أصلاً وهو رواية عن الإمام أحمد وأما فعل النبي صلى الله عليه وسلم فإنه للاستحباب بدليل ما تقدم من أن من وقف بعرفة ليلاً فلا شيء عليه فأولى من ذلك ومن وقف نهاراً وأفاض قبل غروب الشمس هو أولى ألا يوجب عليه الدم ثم إن النبي صلى الله عليه وسلم لم يوجبه في حديث عروة لما قال: (ووقف قبل ذلك ليلاً أو نهاراً) (2) . فالصحيح مذهب الإمام أحمد في إحدى الروايتين عنه وأن من أفاض قبل غروب الشمس فإنه مع مخالفته للسنة النبوية لكنه لا شيء عليه ويجزئه. ويجزئه الوقوف عند جمهور أهل العلم.

_ (1) سبق ص103. (2) سبق ص104.

ومذهب المالكية أنه لا يجزئه وهذا أعظم بعداً من القول المتقدم فإن كونه يقف في النهار فنقول لا يجزئه لأنه أفاض قبل غروب الشمس وأما إذا وقف ليلاً فإنه يجزئه هذا أبعد عن الترجيح من القول المتقدم. إذن: إن وقف بعرفة أي ساعة من ليل أو نهاراً أجزأ عنه ذلك للحديث المتقدم لكن إن أفاض قبل غروب الشمس من يوم عرفة فجمهور العلماء على أن عليه دماً. ومذهب المالكية أن وقوفه لا يعتد به. والصحيح هو مذهب الجمهور من الاعتداد به، ومذهب الإمام أحمد في إحدى الروايتين عنه أنه لا دم عليه لسكوت النبي صلى الله عليه وسلم عنه، ولأنه أولى مما اتفق عليه العلماء من عدم إيجاب ذلك عليه إذا وقف ليلاً. أما إذا خرج من عرفة ثم رجع قبل غروب الشمس، فإنه لا يجب عليه دم، لأنه أدرك الطرف الأخير من النهار وهو غروب الشمس أدركه بعرفة، فكما لو أتى قبل غروب الشمس فوقف إلى غروب الشمس فإنه لا شيء عليه بالاتفاق، فكذلك إذا وقف نهاراً فخرج ثم عاد قبل غروب الشمس فأدرك غروب الشمس فإنه لا شيء عليه. والحمد لله رب العالمين. قال المؤلف رحمه الله تعالى: (ثم يدفع بعد الغروب إلى مزدلفة) فقد ثبت في حديث جابر الطويل في صحيح مسلم وفيه: (فلم يزل وافقاً حتى غربت الشمس وذهبت الصفرة قليلاً حتى غاب القرص فأردف أسامة بن زيد وشنق للقصواء الزمام) (1) فهنا فيه أن النبي صلى الله عليه وسلم أفاض إلى مزدلفة من عرفة بعد أن غربت الشمس وهذا هو المستحب، بل هو الواجب عند جمهور العلماء وقد تقدم أن الراجح وهو رواية عن الإمام أحمد عدم وجوب ذلك فالمشروع له ألا يفيض إلى مزدلفة حتى تغرب الشمس. قال: (بسكينة ويسرع في الفجوة)

_ (1) أخرجه مسلم باب حجة النبي - صلى الله عليه وسلم -، كتاب الحج.

فينبغي أن يكون بسكينة بلا إسراع ففي الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم: (كان يسير العنق فإذا وجد فجوة نصَّ) (1) والعنق: هو ما بين الإسراع والإبطاء، " نصَّ " أي أسرع. وفي البخاري من حديث ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أيها الناس السكينة السكينة فإن البر ليس بالإيضاع) (2) أي ليس بالإسراع، وفي مسلم من حديث جابر أنه كان يقول بيده: (أيها الناس السكينة السكينة) (3) فالمستحب أن يكون سيره إلى مزدلفة بسكينة وتؤده إلا أن يجد فجوة فلا بأس أن يسرع. قال: (ويجمع بها بين العشاءين) أي بمزدلفة بين العشائين كما ثبت هذا في حديث جابر في صحيح مسلم قال: (فأتى المزدلفة فصلى بها المغرب والعشاء بأذان وإقامتين ولم يسبح بينهما شيئاً ثم اضطجع رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى طلع الفجر) (4) فالمستحب له في ليلة المزدلفة أن يجمع بين المغرب والعشاء. قال: (ويبيت بها) أي بمزدلفة لفعل النبي صلى الله عليه وسلم وقوله: (لتأخذوا عن مناسككم) وقد تقدم في حديث جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم: (اضطجع حتى طلع الفجر) . * واختلف أهل العلم في المبيت بمزدلفة هل هو ركن أو واجب أو مستحب؟ ثلاثة أقوال لأهل العلم: القول الأول: أنه ركن فلا يصح الحج إلا به، فمن لم يبت بمزدلفة فلا حج له.

_ (1) أخرجه البخاري باب السير إذا دفع من عرفة من كتاب الحج وفي كتاب الجهاد، وكتاب المغازي، ومسلم باب الإفاضة من عرفات.. من كتاب الحج، وأبو داود، المغني [5 / 277] . (2) أخرجه البخاري باب أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - بالسكينة من كتاب الحج، وأبو داود. المغني [5 / 277] . (3) صحيح مسلم باب حجة النبي - صلى الله عليه وسلم -. (4) صحيح مسلم باب حجة النبي - صلى الله عليه وسلم -.

واستدلوا: بقوله صلى الله عليه وسلم لعروة بن مضرس: (من شهد صلاتنا هذه ووقف معنا حتى ندفع وقد وقف بعرفة قبل ذلك ليلاً أو نهاراً فقد تم حجه وقضى تفثه) (1) . قالوا: فدل على أن من لم يشهد الصلاة ليلة مزدلفة ولم يقف فإن حجه لا يتم وتفثه لا يقضى. هذا مذهب طائفة من السلف وهو مذهب الأوزعي وابن خزيمة وابن جرير الطبري. القول الثاني: وهو قول جمهور العلماء: أنه واجب يجبر بدم. واستدلوا: بما روى الخمسة بإسناد صحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (فمن أدرك عرفة قبل أن يطلع الفجر فقد أدرك الحج) (2) . قالوا: فدل هذا على أنه يدرك الحج وإن فاته المبيت بمزدلفة فظاهر الحديث أن من أدرك عرفة ليلاً قبل طلوع الفجر بدقائق ثم أذن عليه الفجر وهو بعرفة ثم أفاض إلى مزدلفة فإن حجه يصح. فهذا الحديث ظاهره عدم ركنية المبيت بمزدلفة بدليل أن النبي صلى الله عليه وسلم صحح حج من أدرك عرفه قبل طلوع الفجر ومن أدركها على هذه الهيئة فإنه لابد أن يفوته المبيت بمزدلفة. قالوا: وظاهر الحديث وجوب صلاة الفجر فيه، وأنتم لا تقولون بهذا بل تجيزون للظعن والضعفة وغيرهم أن يفيضوا قبل حطمة الناس قبل أذان الفجر كما دلت عليه الأحاديث الصحيحة ولو كان ركناً من أركان الحج – أي شهود صلاة الفجر – فيه لما قلتم بالترخيص للضعفة من النساء وغيرهن أن يفيضوا قبل طلوع الفجر. وأنتم تقولون: أن من نام عن صلاة الفجر فلم يستيقظ إلا بعد طلوع الشمس فإنه يدرك المبيت وإن لم يصل صلاة الفجر.

_ (1) سبق ص104. (2) أخرجه أبو داود باب من لم يدرك عرفة 1949، والترمذي باب فيمن أدرك الإمام بجمع فقد أدرك الحج 889، والنسائي في الحج باب فيمن لم يدرك صلاة الصبح مع الإمام بالمزدلفة 210، 3047، وابن ماجه في الحج باب من أتى عرفة قبل الجمع، 3015.

فإذن: أنتم لا تقولون بظاهره، فإن ظاهره أن من صلى وشهد صلاة الفجر مع الإمام فهو الذي يصح حجه ويقضي تفثه. القول الثالث: وهو مذهب بعض أهل العلم من الشافعية: إلى أن المبيت بمزدلفة سنة وليس بواجب. قالوا: لفعل النبي صلى الله عليه وسلم، وفعله لا يدل على الوجوب. وأصح الأقوال هو مذهب جمهور أهل العلم أن المبيت بمزدلفة واجب يجبر بدم، وأن من فاته فإن حجه صحيح لكنه يجبر ما فاته بأن يهريق دماً. بدليل ما تقدم من إذن النبي صلى الله عليه وسلم للظعن أن يدفعن من مزدلفة قبل أذان الفجر ورخصته بذلك، ولا شك أن الرخصة والإذن إنما يوجه إلى الواجب إذ لا يقال فيمن أذن له بترك رخصة: رخص له بذلك أو أذن له بذلك، فإن هذا إنما يقابل الواجب. فهذه الأحاديث ترد على من قال بسنية المبيت بمزدلفة، فرخصة النبي صلى الله عليه وسلم وإذنه إنما يتوجهان إلى ما ثبت وجوبه، وأما ما ثبت استحبابه فإن الإذن والترخيص ثابت فيه أصلاً فلا يحتاج إلى إذن وترخيص. قال: (وله الدفع بعد نصف الليل) مطلقاً سواء كان معذوراً كضعفة الرجال وكالنساء ونحوهم من المعذورين الذين يشق عليهم أن يدفعوا مع الناس في حطمتهم، أو كان من الأشداء الذين لا يثقل عليهم ذلك فكلهم لهم الدفع بعد نصف الليل – هذا مذهب الحنابلة، ومذهب الشافعية أيضاً. ومذهب المالكية أوسع من ذلك فإن مذهبهم جوازه إن مكث قدراً يكفيه لصلاة المغرب والعشاء وإنزال رحله وهذا لا يتجاوز الثلث ساعة ولا يصل إلى النصف ساعة فإذا قدر نصف ساعة فإنه يجزئه ذلك وله أن يدفع.

وقال الأحناف: لا يجوز له أن يدفع إلا بعد طلوع الفجر. وهذا القول الراجح إذ لا دليل على ما ذهب إليه الحنابلة والشافعية فضلاً عما ذهب إليه المالكية. فإن فعل النبي صلى الله عليه وسلم، وقوله: (لتأخذوا عني مناسككم) وإذنه وترخيصه للضعفة يدل على وجوب المبيت وعدم الترخيص والأذن للأقوياء. وقياس الأقوياء على الضعفاء: قياس مع الفارق. ولذا قال ابن القيم فيما ذهب إليه الحنابلة: ولا دليل له من كتاب الله ولا سنة نبيه صلى الله عليه وسلم. قلت: بل الأدلة الشرعية تخالف ذلك، فإن النبي صلى الله عليه وسلم إنما أذن للظعن، ولغيرهن من الضعفة أن يدفعوا وأما غيرهم فإنهم يبقون على وجوب المبيت، فليس لهم أن يفيضوا أو يدفعوا قبل طلوع الفجر. ثم – أيضاً – الضعفاء من النساء والرجال ممن يجوز دفعهم قبل الفجر لا يجوز دفعهم إلا إذا دخل الثلث الأخير من الليل كما دلت عليه الآثار أيضاً. فمن ذلك: ما ثبت في الصحيحين: أن أسماء بنت أبي بكر قالت: لمولاها (هل غاب القمر) والقمر إنما يغيب ليلة المزدلفة وهي ليلة العاشر من ذي الحجة إنما يغيب في ثلث الليل الأخير فقال: لا، فصلت ساعة ثم قالت: هل غاب القمر فقال: نعم، قالت: فارتحل لي، قال: فارتحلنا حتى أتت الجمرة فرمتها ثم صلت الفجر في منزلها فقلت لها: يا هَنْتاه " أي يا هذه " لقد غلسَّنا " أي بكرنا " فقالت: كلا أي بني، أذن النبي صلى الله عليه وسلم للظعن) (1) أي بما تقدم.

_ (1) أخرجه البخاري باب من قدم ضعفة أهله بليل.. من كتاب الحج، ومسلم باب استحباب تقديم دفع الضعفة من النساء من كتاب الحج. وأحمد والبيهقي. المغني [5 / 285] .

ولا شك أن امتناعها عن الذهاب قبل مغيب القمر يدل على أن الإذن إنما كان عند غيابه وثبت في الصحيحين عن عائشة قالت: (استأذنت سودة النبي صلى الله عليه وسلم ليلة المزدلفة أن تدفع قبله وقبل حطمة الناس، وكانت امرأة ثبطة " أي ثقيلة " فأذن لها، ولأن أكون استأذنت رسول الله صلى الله عليه وسلم كما استأذنته سودة فأدفع بأذنه أحب إلي من مفروح به) (1) وفي رواية: (فأصلي الصبح فأرمي الجمرة قبل أن يأتي الناس) فدل على أن هذا الدفع يكون بوقت يكفيها أن تصل إلى بيتها أو منزلها بمنى فتصلي فيه الصبح ثم ترمي الجمرة. وفي الصحيحين: أن ابن عمر: كان يقدم ضعفة أهله ليلة مزدلفة فيقفون عند المشعر الحرام فيذكرون الله ما بدا لهم ثم يرجعون " أي يبدؤون السير " قبل أن يقف الإمام وقبل أن يدفع فيصلون منى لصلاة الفجر ومنهم من يصل بعد ذلك فإذا قدموا منى رموا الجمرة فيقول ابن عمر: (أرخص النبي صلى الله عليه وسلم في أولئك) (2) فهؤلاء أيضاً إنما كانوا يدفعون قبل صلاة الفجر في الثلث الأخير من الليل بحيث أنهم منهم من يصل لصلاة الفجر ومنهم من يصل بعد ذلك.

_ (1) أخرجه البخاري باب من قدم ضعفة أهله بليل من كتاب الحج رقم 1681 وأخرجه مسلم باب استحباب تقديم دفع الضعفة، صحيح مسلم بشرح النووي [9 / 38] . (2) البخاري باب من قدم ضعفة أهله بليل رقم 1676، ومسلم باب استحباب تقديم دفع الضعفة من النساء.. صحيح مسلم بشرح النووي [9 / 41] .

إذن الراجح: أنه ليس للضعفاء ولا للضعفة ممن يجوز لهم أن يدفعوا ليلة المزدلفة، ليس لهم أن يفيضوا إلا في الثلث الأخير من الليل فيصلون الفجر بمنى، كما أنه ليس للأقوياء أن يدفعوا قبل طلوع الفجر على الراجح – إلا من احتاج الضعفة إليه، كأن تكون هناك نسوة يحتجن إلى من يدفع معهن من الرجال فيجوز لمن احتجن إليه من الرجال أن يدفعوا معهن فقد ثبت في الصحيحين عن ابن عباس قال: (كنت فيمن قدم النبي صلى الله عليه وسلم في ضعفة أهله من جمع بليل) (1) . * متى يكون رمي الجمرة للضعفة ومن معهم من الأقوياء: هل يكون قبل طلوع الفجر أم لا يرمون إلا بعد طلوع الفجر أو لا يرمون إلا بعد طلوع الشمس؟ ثلاثة أقوال لأهل العلم: القول الأول: أن لهم أن يرموا قبل طلوع الفجر، أي الضعفة ومن معهم من الأقوياء هذا مذهب الحنابلة والشافعية. واستدلوا: بما رواه أبو داود في سننه أن النبي صلى الله عليه وسلم: (أذن لأم سلمة أن تدفع ليلة المزدلفة وأن ترمي الجمرة قبل طلوع الفجر) (2) لكن الحديث ضعيف مضطرب ولذا أنكره الإمام أحمد وغيره. فقد استدلوا بهذا الحديث على جواز الرمي قبل الفجر للضعفة وبالقياس الأقوياء. القول الثاني: وهو مذهب المالكية والأحناف: أنه ليس للأقوياء ولا للضعفة أن يرموا إلا إذا طلعت الشمس. واستدلوا: بما ثبت عند الخمسة والحديث له طرق وهو حديث صحيح عن ابن عباس قال: (قدمنا النبي صلى الله عليه وسلم ليلة مزدلفة أُغَيْلمة بني عبد المطلب على جمرات لنا، فجعل يلطخ أفخاذنا " أي يصرفها بلين " ويقول: أي بني لا ترموا حتى تطلع الشمس) (3) .

_ (1) أخرجه البخاري باب من قدم ضعفة أهله بليل من كتاب الحج، ومسلم باب استحباب تقديم دفع الضعفة. (2) أخرجه أبو داود باب التعجيل من جمع رقم 1942. (3) أخرجه أبو داود [1940] والنسائي [2 / 50] وابن ماجه [3025] والترمذي [1 / 169] وأحمد الأرواء رقم 1076 [4 / 276] .

القول الثالث: هو ما اختاره ابن القيم فقد اختار قولاً جمع فيه بين الأحاديث الثابتة في هذا الباب. فقال: أما الضعفة فيجوز لهم أن يرموا بعد طلوع الفجر وقبل طلوع الشمس، وليس لهم قبل طلوع الفجر. واستدل بالآثار المتقدمة بحديث أسماء، وحديث ابن عمر، وحديث عائشة فكل الآثار المتقدمة الثابتة في الصحيحين فيها أنهم كانوا يرمون بعد طلوع الفجر وقبل طلوع الشمس فإن أسماء رمت ثم صلت الفجر في منزلها وعائشة تقول: (فأصلي الصبح فأرمي الجمر، قبل أن تأتي الناس) (1) وظاهره أن هذا هو ترخيص النبي صلى الله عليه وسلم لسودة. وهكذا أيضاً أثر ابن عمر فإنهم يقدمون لصلاة الفجر ومنهم من يقدم بعد ذلك فإذا قدموا – وقدوم أولهم لصلاة الفجر – رموا الجمرة ويقول: (أرخص النبي صلى الله عليه وسلم في أولئك) (2) قال فهذه الأحاديث تدل على أنه يجوز للضعفة أن يرموا بعد طلوع الفجر ولا شك أن ثمت فارق ظاهر بين طلوع الفجر وبين ما قبله فإن طلوع الفجر ثبت به دخول ليوم النحر الذي من مناسكه رمي جمرة العقبة أما قبل طلوع الفجر فإنه لم يدخل بعد هذا اليوم والرمي إنما هو من مناسك يوم النحر. قال: أما الأقوياء فليس لهم وإن دفعوا مع الضعفة ليس لهم أن يرموا حتى تطلع الشمس لحديث ابن عباس المتقدم فإنه كان من الأقوياء الذين قدمهم النبي صلى الله عليه وسلم مع الضعفة ثم نهاهم وقال: (أي بني لا ترموا حتى تطلع الشمس) وهذا القول هو الراجح وبه يكون الجمع بين الأحاديث الواردة في هذا الباب. قال: (وقبله فيه دم) . فإذا وقع [لعلها: دفع] قبل نصف الليل فعليه دم. إذن: يخرج على قولنا المتقدم: أن من دفع قبل طلوع الفجر من الأقوياء فإن عليه دم والضعفة إذا دفعوا قبل ثلث الليل الأخير فعليهم دم، لوجوب المبيت بمزدلفة ولا يحصل المبيت إلا بما تقدم قال: (كوصوله إليها بعد الفجر لا قبله) . هذه مسألة:

_ (1) سبق ص108 (2) سبق ص108

إذا وصل إلى مزدلفة بعد الفجر فلم يأت قبل ذلك فعليه دم لفوات المبيت. (لا قبله) : إذا أتى قبل أذان الفجر فإنه لا دم عليه. فإذن: إذا أتى قبل أذان الفجر فلا دم عليه، وأما بعد الأذان فعليه دم. وذلك لأنه قد ترك واجباً من الواجبات، ويلزمه الدم سواء كان معذوراً أم لم يكن معذوراً لأثر ابن عباس وسيأتي. قال: (فإذا صلى الصبح أتى المشعر الحرام فيرقاه) إذا صلى الصبح بمزدلفة أتى المشعر الحرام وهو جبل " قَزَح " (1) وهو جبل معروف هناك، وهو ما يسمى بالمشعر الحرام. ومزدلفة كلها يثبت فيها هذا الاسم على وجه العموم كما صح ذلك عن ابن عمر فقد قال: (المشعر الحرام المزدلفة كلها) لكن هذا الجبل يثبت فيه هذا الاسم على وجه الخصوص فيقف عند المشعر الحرام فيدعو الله ويكبره ويهلله ويحمده ويوحده فقد ثبت في مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم: (– بعد أن صلى الصبح – ركب القصواء فأتى المشعر الحرام فوقف عنده فاستقبل القبلة فدعاه " أي دعا الله " وكبره وهلله ووحده) (2) وعند أبي داود: (فحمد الله فلم يزل واقفاً حتى أسفر جداً ثم دفع قبل أن تطلع الشمس) (3) لذا قال المؤلف هنا: (فإذا صلى الصبح أتى المشعر فيرقاه) ورقيه ثابت في حديث جابر من رواية أبي داود ولحديثه قال: (فرقي عليه) (4) قال: (أو يقف عنده)

_ (1) في معالم السنن [2 / 478] : " قُزَح: بضم ففتح، موضع وقوف الإمام بمزدلفة، بزنة عمر، وهو ممنوع من الصرف للعلمية والعدل ". (2) أخرجه مسلم باب حجة النبي - صلى الله عليه وسلم - من كتاب الحج. (3) أخرجه أبو داود باب صفة حجة النبي - صلى الله عليه وسلم - 1905. (4) باب صفة حجة النبي - صلى الله عليه وسلم - من كتاب الحج رقم 1905.

فإذاً: إن وقف عنده أو رقى عليه فكل ذلك حسن لكن المستحب أن يرقى عليه لثبوت ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم وقد قال صلى الله عليه وسلم – كما في مسلم -: (نحرت هاهنا ومنى كلها منحر فانحروا في بيوتكم ووقفت هاهنا وعرفة كلها موقف ووقفت هاهنا وجمع كلها موقف) (1) وقوله: " هاهنا " أي عند المشعر الحرام. قال: (ويحمد الله ويكبره ويقرأ: {فإذا أفضتم من عرفات} الآيتين) ولم أجد دليلاً يدل على استحباب قراءة هاتين الآيتين عند الموقف. قال: (ويدعو حتى يسفر) أي حتى يسفر الجو، ثم قبيل طلوع الشمس يدفع إلى منى. قال: (فإذا بلغ محسراً أسرع رمية حجر) ومحسر: وادي بين مزدلفة ومنى، وسمي محسراً: من حسر، أي أعياه وأتعبه، وسمي بهذا الاسم: لأنه أعيا الفيل وأتعبه فحصل له إعياء في ذلك الموضع فسمي محسراً من حسر، وفيه قوله تعالى: {ثم ارجع البصر كرتين ينقلب إليك البصر خاسئاً وهو حسير} أي وهو كليل متعب. فإذا بلغ محسراً أسرع رمية حجر أي يسرع مسافة قدرها رمية حجر – كما صح ذلك عن ابن عمر في موطأ مالك بإسناد صحيح: (أنه كان يسرع فيه رمية من حجر) (2) ، واستحباب الإسراع ثابت عن النبي صلى الله عليه وسلم ففي صحيح مسلم من حديث جابر قال: (فلما أتى بطن محسر حرك قليلاً) (3) قال: (وأخذ الحصى، وعدده سبعون بين الحمص والبندق)

_ (1) أخرجه مسلم باب حجة - صلى الله عليه وسلم - من كتاب الحج، صحيح مسلم بشرح النووي [8 / 195] . (2) الموطأ برواية يحيى بن يحيى الليثي باب السير في الدفعة رقم 889. (3) أخرجه مسلم باب حجة النبي - صلى الله عليه وسلم - من كتاب الحج.

أي أخذ الحصى في طريقه غداة العقبة وذلك لمصلحة التعجل بالرمي عند الوصول إلى جمرة العقبة، حتى لا ينشغل بجمع الحصى عند الوصول إلى الموضع الذي يرمي فيه، فيستحب له قبيل وصوله المرمى أن يجمع الحصى من أي موضع شاء من مزدلفة أو من غيرها فليس هناك موضع يتعين استحبابه وقد ثبت في النسائي عن ابن عباس: (أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له غداة العقبة " أي فجر غداة اليوم الذي ترمي فيه جمرة العقبة ": هلمَّ القط لي قال: فلقطت له حصيات مثل الخذف " وهو الحصى الصغير الذي يمكن وضعه بين السبابتين ليرمي به " فأخذهن من يده ثم قال: بمثل هؤلاء وإياكم والغلو، فإنما أهلك من كان قبلكم الغلو في الدين) (1) والشاهد أن الحصى كحصى الخذف. ثم قال المؤلف هنا: (بين الحِمَّص والبندق) الحمص: معروف ولعله بنصف أنملة الأصبع الصغرى، والبندق كذلك. فبينهما يكون حصى الخذف. وقوله: (عدده سبعون) : ظاهره أنه يجمع سبعين من ذلك الموضع، وهذا فيه نظر. بل الأظهر أنه يجمع لكل يوم في يومه، فالنبي صلى الله عليه وسلم أمره أن يجمع غداة العقبة أي لجمرة العقبة وأما غيرها من الجمرات فيجمع لها في أيامها. وعدد الجمرات التي ترمى في الجمرات كلها على وجه التمام سبعون حصاة. في اليوم الأول (العاشر من ذي الحجة) : سبع. وفي اليوم الحادي عشر: إحدى وعشرون. وفي الثاني عشر كذلك. وفي الثالث عشر كذلك. فيكون مجموعها سبعين حصاة. يجمعها من أي موضع شاء، وهنا النبي صلى الله عليه وسلم قد أمره أن يلقطها في طريقه غداة العقبة وهي بين الحمص والبندق – كما تقدم – والحمد لله رب العالمين. قال المؤلف رحمه الله تعالى: (فإذا وصل إلى منى وهي من وادي محسر إلى جمرة العقبة)

_ (1) أخرجه النسائي باب من التقاط الحصى رقم 3057 من كتاب المناسك بلفظ: " هات القط لي، فلقطت … قال: بأمثال هؤلاء، وإياكم والغلو … ".

ومنى: شعب بين جبلين وهي بين حدين هما: جمرة العقبة ووادي محسر، فجمرة العقبة ووادي محسر ليسا من منى باتفاق العلماء كما نص على ذلك الموفق وابن القيم وغيرهما. والحنابلة ذكروا أن وادي محسر وجمرة العقبة ليسا من منى ولم يذكروا في هذه المسألة خلافاً، وهو المشهور عند أهل العلم وقد ثبت في موطأ مالك بإسناد صحيح أن عمر قال: (لا يبيتن أحد من الحاج ليالي منى من وراء العقبة) (1) فدل على أن ما وراء العقبة ليس من منى، ولا يعلم لهم مخالف وكذلك وادي محسر. ومما يدل على أنه ليس من منى، أن النبي صلى الله عليه وسلم لما مَّر به حرك قليلاً وهي سنته صلى الله عليه وسلم في الأماكن التي وقع فيها بأس الله عز وجل وعذابه كما فعل ذلك في مروره بديار ثمود، ولا يمكن أن يكون هذا الموضع الذي يسرع فيه ويتعجل – لا يمكن أن يكون منسكاً يتعبد لله به. وأما ما ذكره الشيخ الألباني: أن محسراً من منى استدلالاً برواية في صحيح مسلم في حديث الفضل بن عباس من سياق فعل النبي صلى الله عليه وسلم من قول الفضل وفيه ذكر مروره بوادي محسر قال: (وهو من منى) . والأظهر إن هذا من قول بعض الرواة وليس من قول الفضل بن عباس إذ لا يمكن أن يكون هذا الموضع الذي يشرع الإسراع به والتعجل بمروره لا يمكن أن يكون منسكاً يتعبد الله به. وهذا هو المشهور عند أهل العلم وقد ذكره الأزرقي عن عطاء بن أبي رباح إمام أهل مكة، قال ابن القيم – في وادي محسر: (وهو برزخ بين منى ومزدلفة) وهو – كما تقدم – رمية بحجر أي ثلاثمائة أو أربعمائه متراً ونحو ذلك. فعلى ذلك منى: حداها جمرة العقبة ووادي محسر، وأما من الجهتين الأخريين فتحفها الجبال فيهما. قال: (رماها بسبع حصيات)

_ (1) الموطأ براوية يحيى بن يحيى الليثي، باب البيتوتة بمكة ليالي منى رقم 919.

كما ثبت في مسلم من حديث جابر قال: (فرماها بسبع حصيات يكبر مع كل حصاة) (1) ويستحب أن يجعل البيت عن يساره ومنى عن يمينه ويستبطن الوادي – وذلك عند رمي جمرة العقبة – لما ثبت في الصحيحين عن ابن مسعود أنه جعل البيت عن يساره ومنى عن يمينه ورمى الجمرة بسبع حصيات وقال: هذا مقام الذي أنزلت عليه سورة البقرة (2) . قال: (متعاقبات) أي واحدة بعد واحدة، فإن رماها دفعة واحدة لم يجزئه لأنه خلاف فعل النبي صلى الله عليه وسلم وخلاف هديه وقد قال صلى الله عليه وسلم: (كل عمل ليس عليه أمرنا فهو رد) (3) فلا يجزئه ذلك وكانت له رمية بحصاة واحدة، فالواجب فيها متعاقبات لأنه فعل النبي صلى الله عليه وسلم وقد قال: (لتأخذوا عني مناسككم) . * الأظهر أنه يجب ألا يقطع بينها بفاصل، وهذا هو فعل النبي صلى الله عليه وسلم. وفي قوله: (فرماها) فيه اشتراط الرمي وأن الإلقاء والطرح لا يجزئ، فلابد أن يفعل ما يصدق عليه أنه رمى، فلو ألقاها إلقاءً أو طرحها طرحاً فإنه لا يجزئه لأن النبي صلى الله عليه وسلم: إنما رماها رمياً فلا يجزئ إلا ما يصدق عليه الرمي وقد قال: (لتأخذوا عني مناسككم) وهذا باتفاق العلماء وإلقاؤها أو طرحها خلاف هديه، وكل ما كان خلاف هديه فهو رد على صاحبه. قال: (يرفع يده حتى يرى بياض إبطه) هكذا ذكر بعض الحنابلة وأن ذلك مستحب أن يرفع يده حتى يرى بياض إبطه ولم أر ما يدل على ذلك من السنة لكن فعل ذلك حسن لأنه أمكن في الرمي وأتم وأما ثبوت ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم فلا دليل عليه لكن ذلك أعظم في التمكن من الرمي فيستحسن.

_ (1) صحيح مسلم باب حجة النبي - صلى الله عليه وسلم -. (2) أخرجه البخاري باب من رمى جمرة العقبة فجعل البيت عن يساره، من كتاب الحج رقم 1749، ومسلم (3) سبق ص98

إذن: يستحسن له أن يرفع يده ثم يرمي بالحجر ولا نقول إن هذا سنة لا سيما تقييده بأن يرى بياض إبطه لعدم ثبوت ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم. قال: (ويكبر مع كل حصاة) لما تقدم في حديث جابر: أن النبي صلى الله عليه وسلم: (كان يكبر مع كل حصاة) (1) أي يقول الله أكبر. قال: (ولا يجزئ الرمي بغيرها) فلا يجزئه أن يرمي بغير الحصى فلو رمى بغير الحصا كالمدر أو الكحل أو ذهب أو فضة أو نحو ذلك مما ليس بحجر ولا يسمى حجراً فإنه لا يجزئه لأن النبي صلى الله عليه وسلم إنما رمى بالحصى، فقد أمر ابن عباس أن يلقط له حصيات، وقال: (بمثل هؤلاء) (2) أي فارموا، فهو فعل النبي صلى الله عليه وسلم وهديه وكل فعل يخالف هديه فهو رد. ومثل ذلك لو رمى بحجر كبير فإنه لا يجزئه لأن النبي صلى الله عليه وسلم: رمى بحصى الخذف وقال: (بمثل هؤلاء وإياكم والغلو في الدين، فإنما أهلك من كان قبلكم الغلو في الدين) فهنا نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن الرمي بأكبر من حجر الخذف وذكر أنه غلو في الدين، وما نهى عنه النبي صلى الله عليه وسلم فهو فاسد، وهو أصح الوجهين في مذهب الإمام أحمد، فالنهي يقتضي الفساد. قال: (ولا بها ثانياً) ليس له ولا لغيره أن يرمي بحصاة قد رمى بها وذلك لأنها استعملت في عبادة، فأشبه ذلك الماء المستعمل في الوضوء فإنه لا يجوز الوضوء به في المشهور من مذهب الحنابلة. وقال الشافعية: له أن يرمي بحصاة قد رمى بها، كأن يأخذ من المرمى حجراً فيرمى به ثانياً.

_ (1) صحيح مسلم باب حجة النبي - صلى الله عليه وسلم -، والبخاري، سيأتي ص114. (2) سبق ص111

قالوا: لأنه يصدق عليه اسم الرمي، فهو حصى وقد رمي به وأما كونه يأخذه من المرمى ولا يأخذه ابتداءً من الأرض فهو خلاف الأولى لكنه رمي مجزئ، وأما ما ذكره الحنابلة من قياسه على الماء المستعمل في الوضوء، فالراجح في هذا الأصل: أن الوضوء بالماء المستعمل جائز ولا حرج فيه مع أنه – كما تقدم – خلاف الأولى. فالصحيح أنه لو أخذ حصاة من المرمى قد رمى بها هو أو غيره فإن ذلك يجزئه لكن الأولى له أن يأخذها من الأرض ابتداءً فيرمي بها كما ثبت ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم. واعلم أنه لا يجزئه الرمي إلا أن تقع الحصاة في المرمى باتفاق العلماء، وأنه لو رماها فلم تقع في المرمى فإنه لا يجزئه باتفاق العلماء، لأن الواجب هو رمي الجمرة وهنا لم يقع ذلك منه فلم يجزئه. ولو رماها فوقعت على موضع صلب ثم تدحرجت فوقعت في المرمي أو ضربت حائطاً ووقعت في المرمى فإنه يجزئه؛ لأن ذلك فعله، فهذا كله من فعله فقد رماها وكانت نتيجة رميه وقوعها في المرمى فيجزؤه ذلك. أما لو كانت بفعل غيره فإنه لا يجزئه. واعلم أنه لا يجزئ الرمي إلا أن بيقين أو يغلب على ظنه سقوطها في المرمى، أما لو شك في ذلك فإنه لا يجزئه لأن ذمته لا تبرأ إلا بيقين أو غلبة ظن، فالواجب عليه أن يرميها رمياً يتيقن أو يغلب على ظنه سقوطها في المرمي أما إذا شك فإن الأصل عدم وقوعها فيه. واعلم أن الرمي واجب باتفاق العلماء وقد ذهب، بعض العلماء إلى ركنيته، والصحيح هو وجوبه فهو واجب يجبر بدم، وقد فعله النبي صلى الله عليه وسلم وقال: (لتأخذوا عني مناسككم) . قال: (ولا يقف) .

فلا يشرع له أن يقف، بل يرمي ثم يذهب عن جمرة العقبة فلا يقف عندها، لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يقف عندها لا في يوم النحر ولا في أيام التشريق، بخلاف الجمرة الصغرى والجمرة الوسطى فإن النبي صلى الله عليه وسلم وقف عندهما كما سيأتي في حديث ابن عمر في البخاري أما جمرة العقبة فلم يقف عندها. فلا يشرع الوقوف ولا الدعاء ولا ذكر، بل ينصرف عنها ولا يقف. قال: (ويقطع التلبية قبلها) أي قبل الرمي، فيقطع التلبية قبل أن يرمي الجمرة وذلك لحديث الفضل وفيه: (فلم يزل يلبي حتى رمى جمرة العقبة) (1) فالمشهور عند الحنابلة وهو مذهب جمهور العلماء أنه يقطع التلبية قبل اشتغاله برمي الجمار. وذهب إسحاق إلى أنه يقطعها عند آخر حصاة، لما ثبت في صحيح ابن خزيمة بإسناد حسن من حديث الفضل وفيه: (فقطع التلبية مع آخر حصاة) . والذي يظهر لي هو صحة القول الأول، وأن هذه اللفظة منكرة فإن الثابت في الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم: (كان يكبر مع كل حصاة) (2) وهذا يدل - كما قرر هذا البيهقي والموفق، يدل - على أنه قطع التلبية قبل اشتغاله بالرمي إذ لا يمكنه الجمع بين التكبير والتلبية أثناء الرمي. قال: (ويرمي بعد طلوع الشمس) يرمي جمرة العقبة، لما ثبت في مسلم من حديث جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم: (رمى الجمرة يوم النحر ضحى، وأما بعد ذلك فإذا زالت الشمس) (3) أي أيام التشريق كان يرمي بعد الزوال وأما جمرة العقبة فقد رماها ضحى أي بعد طلوع الشمس. قال: (ويجزئ بعد نصف الليل)

_ (1) أخرجه البخاري [1 / 390،..] ومسلم [4 / 71] وغيرهما، الإرواء رقم 1098. (2) أخرجه البخاري باب يكبر مع كل حصاة، ومسلم باب رمي جمرة العقة.. من كتاب الحج. المغني [5 / 297] . (3) أخرجه مسلم باب بيان استحباب الرمي من كتاب الحج. المغني [5 / 294] .

أي يجزئه قوياً أو ضعيفاً أن يرمي بعد نصف الليل، وتقدم ضعف هذا القول وأن الراجح أنه إن كان من الأقوياء فلا يرمي إلا بعد طلوع الشمس وإن كان من الضعفاء فبعد طلوع الفجر. واعلم أن أهل العلم قد أجمعوا على أن رمي جمرة العقبة يمتد إلى غروب الشمس حكى الإجماع ابن عبد البر ويدل عليه ما ثبت في البخاري: (أن رجلاً قال للنبي صلى الله عليه وسلم يوم النحر: رميت بعدما أمسيت فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ارم ولا حرج) (1) والمساء: من زوال الشمس إلى أن يشتد الظلام. وقيل: إلى نصف الليل. والمشهور هو الأول. واختلفوا في الرمي ليلاً هل يجزئ أم لا؟ الحنابلة قالوا: لا يجزئ أن يرمي ليلاً، ومن فاته الرمي نهاراً فغربت الشمس ولم يرم، فإنه يرمي من الغد بعد زوال الشمس – أي في اليوم الحادي عشر -. وقال المالكية والشافعية: يجزئه أن يرمي ليلاً إلا أن المالكية قالوا: عليه دم فهو عندهم من باب القضاء لا من باب الأداء وأما الشافعية فهو عندهم من باب الأداء ولا دم عليه. استدل الحنابلة: مما ثبت في البيهقي بإسناد صحيح عن ابن عمر قال: (من نسى رمي الجمار إلى الليل فلا يرم حتى تزول الشمس من الغد) والإسناد إليه صحيح. وأما حجة المالكية والشافعية: فاستدلوا: بحديث البخاري المتقدم ففيه أن السائل لما قال: (رميت بعدما أمسيت قال له: النبي صلى الله عليه وسلم: ارم ولا حرج) قالوا: والمساء يصدق على جزء من الليل كما أنه يصدق على جزء من النهار باتفاق أهل اللغة. فإن ما قبل اشتداد الظلام بعد غروب الشمس هو من المساء اتفاقاً قالوا: والعبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب.

_ (1) أخرجه البخاري باب الذبح قبل الحلق، وباب إذا رمي بعدما أمسى من كتاب الحج. المغني [5 / 295] .

وأجاب الحنابلة عن استدلال الشافعية بهذا الحديث قالوا: السائل سأل النبي صلى الله عليه وسلم يوم النحر فثبت لنا أن سؤاله موجه إلى المساء في النهار، وهو ما بعد زوال الشمس إلى غروبها ويوم النحر ينتهي بغروب الشمس والحديث فيه أن السائل سأله يوم النحر، فدل على أنه قد رمى في مساء النهار، فإن المساء قسمان 1- مساء نهار 2- ومساء ليل. فمساء الليل بعد غروب الشمس إلى أن يشتد الظلام، وأما مساء النهار فهو من زوال الشمس إلى غروبها. فالسؤال قد وقع في اليوم الذي يدل على أن السؤال إنما كان في النهار. ويدل على هذا: أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن يسأل في ذلك اليوم عن شيء قدم ولا أخر إلا قال: (افعل ولا حرج) (1) . وللفارق بين هذين المسائين فإن مساء الليل تبع لليوم الحادي عشر، فإذا غربت الشمس دخلت ليلة إحدى عشرة وأما ما قبل غروب الشمس فهو من الليل العاشر وهو يوم النحر فالأظهر أن في استدلال الشافعية بهذا الحديث نظراً. واستدلوا – أيضاً – بما ثبت في موطأ مالك بإسناد صحيح: أن بنت أخ لصفية بنت أبي عبيد زوج ابن عمر نفست فتخلفت هي وصفية في المزدلفة فأتيتا بعد غروب الشمس فأمرهما ابن عمر أن يرميا ولم ير عليهما شيئاً) (2) فهذا يدل على جواز الرمي ليلاً. والذي يظهر لي – والله أعلم – قوة ما ذهب إليه الشافعية لثبوت هذا الأثر عن ابن عمر صريحاً. وأما أثره السابق: فالذي يظهر لي أن ذلك في أيام منى وأن من نسى رمي الجمار في أيام منى، فإنه لا يرمي ليلاً وإنما يرمي بعد زوال الشمس من الغد – على رأى ابن عمر وسيأتي الكلام عليه في موضعه.

_ (1) أخرجه البخاري باب الفتيا على الدابة عند الجمرة من كتاب الحج وأخرجه مسلم باب جواز تقديم الذبح على الرمي … من كتاب الحج، صحيح مسلم بشرح النووي [9 / 54، 56] ، المغني [5 / 321] . (2) الموطأ برواية يحيى بن يحيى الليثي باب الرخصة في رمي الجمار رقم 931.

فالجمع بين أثري ابن عمر: أن الأثر الأول في رمي الجمار أيام التشريق وذلك لأن أيام التشريق وقتها واحد، فكلها إذا زالت الشمس رميت، فأُمر بجمعها، وسيأتي الكلام على جمعها ومذاهب أهل العلم في ذلك، فالمراد جمار أيام التشريق بدليل الجمع في قوله: (من نسى رمي الجمار) (1) أي جمرة العقبة والجمرة الوسطى والجمرة الصغرى. وأما أثره الآخر فهو دال على جواز الرمي ليلاً لاسيما للمعذورين وهكذا في ازدحام الناس وحطمتهم فإنه يقال بهذا المذهب. وحينئذ فالأحوط ألا يرمي إلا نهاراً، لكن ينبغي أن يوسع في هذا حيث كانت هناك حطمة وزحام شديد فإنه يوسع في هذا كما تقدم عن ابن عمر في امرأته لما تخلفت وابنة أخيها فإنه أمرهما أن يرميا ليلاً. هناك أثر عن ابن عباس: أن الحجر الذي يرمي فيقبل (2) أنه يرفع وهو ثابت عن ابن عباس لكن هل المراد رفع معنوي أو حقيقي – هذه مسألة أخرى. الجبال التي تحف منى: ما أقبل فهو من منى وما أدبر فليس منها، أما الذي في رأس الجبل لا مقبل ولا مدبر: فالأظهر أنه ليس من منى لأن الحدود في الأصل ليست منها لكن الناس في هذا الوقت لا يمكن إلا أن يخرجوا من منى فهذا باب آخر، لأن الواجبات تسقط بالعجز عنها. ولا شك أن الموضع لا يكفي فيحتاجون أن يكون في مواضع أخرى من المواضع التي تتصل بمنى. فإذا اتصلت المواضع بمنى فقد امتدت فإن لها حكم منى، كما أن الناس إذا صلوا في المسجد فامتدت صفوفهم خارج المسجد فهم في المسجد، فكذلك منى فإذا اتصلت في الخيام ولو كان ذلك خارج منى فإنه يجزئ لأن الواجبات تسقط عند العجز عنها ولأن المشقة تجلب التيسير ولا يتكلفون أيضاً الخروج من خيامهم إلى المبيت في الليل بمنى لما في ذلك من الكلفة عليهم. والحمد لله رب العالمين. قال المؤلف رحمه الله: (ثم ينحر هدياً إن كان معه)

_ (1) سبق ص116 (2) لعلها: فيضل.

سواء كان الهدي واجباً كهدي التمتع والقران، أو كان هدياً مستحباً كهدي المفرد، فمن كان معه هدي فإذا رمى الجمرة استحب له أن يهدي فالترتيب: أن النحر أو الذبح يكون بعد الرمي. دليل ذلك حديث جابر في مسلم قال – وقد ذكر رميه لجمرة العقبة – قال: (ثم انصرف إلى المنحر فنحر ثلاثاً وستين بيده وأعطى علياً ما غبر وأشركه في هديه) (1) . قال: (ويحلق أو يقصر من جميع شعره) السنة في باب الترتيب أن يكون الحلق أو التقصير بعد النحر ففي مسلم من حديث أنس بن مالك قال: (ثم أتى منى فأتى الجمرة فرماها ثم أتى منزله بمنى ونحر ثم قال للحلاق خذ …) (2) الحديث ففيه أن النبي صلى الله عليه وسلم رمى الجمرة أولاً ثم نحر ثانياً ثم حلق ثالثاً. واعلم أن الأفضل بإجماع العلماء هو الحلق، ففي الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (اللهم ارحم المحلقين قالوا: والمقصرين يا رسول الله، قال: اللهم ارحم المحلقين قالوا: والمقصرين يا رسول الله قال: اللهم ارحم المحلقين والمقصرين فدعا لهم في الثالثة) (3) ولأن الله قدم الحلق على التقصير في قوله: {محلقين رؤوسكم ومقصرين (4) } فالحلق أفضل من التقصير وقد تقدم الكلام على التقصير وما يجزئ فيه وأن ما يصدق عليه اسم التقصير من تعميم الشعر كله. فالجزء الذي يصدق عليه مسمى التقصير يجزئ عنه سواء كان بقدر أنملة أو أقل من ذلك. واختلف أهل العلم في الحلق أو التقصير هو نسك أم أنه إطلاق من محظور؟

_ (1) أخرجه مسلم باب حجة النبي - صلى الله عليه وسلم -. (2) أخرجه مسلم باب بيان أن السنة يوم النحر …، صحيح مسلم بشرح النووي [9 / 52] . (3) أخرجه البخاري [1 / 433] ومسلم [4 / 80، 81] وغيرهما. الإرواء رقم 1084. (4) سورة الفتح.

1- فقال جمهور العلماء: هو نسك، ولذا قال المؤلف بعد ذلك: (والحلق والتقصير نسك) فهو نسك من أنساك الحج كالرمي والمبيت بمزدلفة والمبيت بمنى وغير ذلك. ودليل ذلك قوله تعالى: {محلقين رؤوسكم ومقصرين} وقوله صلى الله عليه وسلم: (اللهم ارحم المحلقين والمقصرين) فدل ذلك على أنه نسك وعبادة في الحج. ويدل عليه بظهور أيضاً: ما ثبت في الصحيحين من حديث ابن عمر: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من كان منكم ليس قد أهدى فليطف بالبيت وبالصفا والمروة وليقصر وليتحلل) (1) فدل على أن التحلل مترتب على الحلق أو التقصير وأنهما نسك من أنساك الحج. 2- وقال الإمام أحمد في رواية عنه: هو إطلاق من محظور كالتطيب، فكما أن المحرم يجوز له إذا تحلل أن يتطيب وأن يفعل ما شاء من محظورات الإحرام مما ليس محرماً في الشريعة فكذلك حلق الرأس فهو مجرد إطلاق من محظور من محظورات الإحرام. واستدل الإمام أحمد في هذه الرواية غير المشهورة عنه، بما ثبت في الصحيحين من حديث أبي موسى الأشعري والحديث تقدم لفظه: وفيه: أنه أهل بإهلال رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (فأمرني فطفت بالبيت وبالصفا والمروة ثم قال: " حُل " (2) ولم يذكر حلقاً ولا تقصيراً.

_ (1) أخرجه البخاري [1 / 425] ومسلم [4 / 49] وغيرهما، الإرواء رقم 1048. (2) أخرجه البخاري باب الذبح قبل الحلق من كتاب الحج، و…، ومسلم باب في نسخ التحلل من الإحرام والأمر بالتمام من كتاب الحج، والنسائي وغيرهم. المغني [5 / 97، 305] . سبق ص35.

والصحيح هو القول الأول وأن الحلق أو التقصير من مناسك الحج بدليل الأدلة المتقدمة وأما حديث أبي موسى فإن النبي صلى الله عليه وسلم وإن لم يأمره بالتقصير صراحة وقد أمر به غيره من الصحابة كما تقدم في حديث ابن عمر ثم أن قوله: " حل " أي افعل ما يترتب عليه التحلل من حلق أو تقصير أي افعل ما تكون به حلالاً ولا يكون حلالاً حتى يحلق رأسه أو يقصر. فالصحيح ما ذهب جمهور العلماء وهي الرواية المشهورة عن الإمام أحمد أن الحلق نسك. قال: (وتقصر منه المرأة أنملة) الأنملة هي: رأس الأصبع من المفصل الأعلى. فالمرأة لا يشرع لها أن تكثر من التقصير بل ينبغي لها أن تقصر أنملة أو نحو ذلك، فلا ينبغي لها أن تبالغ بالتقصير. وتقييد المؤلف هنا بقدر أنملة ليس المراد أن هذا هو الواجب عليها بل المقصود إنها لا تبالغ بل يكون قدر أنملة أو نحو ذلك، لكن لو أخذت نصف أنملة أو أقل من ذلك أو أكثر فإنه يجزؤها. فتقييده بالأنملة لبيان عدم مشروعية المبالغة في أخذ الشعر فإن المرأة المستحب لها هو توفير شعرها لا تقصيره. وأما الحلق فهو محرم بالإجماع ولا يشرع للمرأة في الحج وفي الترمذي وغيره والحديث صحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم: (نهى المرأة أن تحلق شعرها) (1) وفي أبي داود أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ليس على النساء حلق وإنما على النساء التقصير) (2) . قال: (ثم قد حل له كل شيء إلا النساء) إذا رمى الجمرة وحلق – فالنحر ليس في هذا الباب، فإن النحر لا يثبت على المفرد ونحوه، ولأن بدله تمتع من ترتيب التحلل عليه - فإذا رمى وحلق فقد حل له كل شيء إلا النساء. وهنا مسألتان:

_ (1) أخرجه الترمذي باب ما جاء في كراهية الحلق للنساء من كتاب الحج رقم 914. (2) أخرجه أبو داود باب الحلق والتقصير من كتاب المناسك رقم 1984، 1985.

المسألة الأولى: أن هذا هو المشهور في المذهب وأن من فعل نسكين من ثلاثة فإنه يتحلل التحلل الأول، فإذا فعل النسك الثالث حل التحلل التام، والأنساك الثلاثة هي الرمي والحلق والطواف. والسعي داخل في هذا الباب مع الطواف وإنما لم يذكروه لأن السعي أيضاً ربما فعله مع طواف القدوم. فإذا فعل نسكين من ثلاثة حل التحلل الأول، فإذا فعل الثالث حل التحلل التام وهذا مذهب الشافعية أيضاً. واستدلوا: بما روى أبو داود في سننه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا رميتم وحلقتم فقد حل لكم كل شيء إلا النساء) (1) قالوا: فذكر النبي صلى الله عليه وسلم هنا نسكين ولا شك أن الطواف أولى منهما، فهما من الواجبات (الحلق والرمي) ، والطواف ركن فهو أولى منهما قالوا: فدل على أنه لو رمى وطاف أو حلق وطاف فكذلك لأن الطواف أولى منهما. وذهب المالكية وهو رواية عن الإمام أحمد: إلى أنه إذا رمى الجمرة فقد حل وإن لم يحلق. واستدلوا: بما روى النسائي عن ابن عباس: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إذا رميتم الجمرة فقد حل لكم كل شيء إلا النساء) (2) والحديث صحيح، وله شاهد عن ابن الزبير في مستدرك الحاكم. وصحح هذا القول الموفق ابن قدامة. (3) وأجابوا عن دليل أهل القول الأول: بأنه حديث ضعيف فإن فيه الحجاج بن أرطاة وهو ضعيف الحديث، وهو كما قالوا فإن الحديث ضعيف. فعلى ذلك الراجح: ما ذهب إليه الإمام أحمد في إحدى الروايتين عنه وهو مذهب الإمام مالك واختاره الموفق – أنه إذا رمى الجمرة فقد حل له كل شيء إلا النساء. فإذا تم له أنساك الحج فحلق وطاف، وسعى المتمتع فإنه يحلل التحلل التام.

_ (1) أخرجه أبو داود باب في رمي الجمار من كتاب المناسك، وأحمد. المغني [5 / 308] . (2) أخرجه النسائي باب ما يحل للمحرم.. من كتاب المناسك، وابن ماجه باب ما يحل للرجل إذا رمى.. من كتاب المناسك. (3) المغني [5 / 310] .

والقياس أن يقال أيضاً: أنه لو حلق فقط أو طاف فقط فإنه يحل التحلل الأول لأن النبي صلى الله عليه وسلم رتب التحلل على رمي الجمرة وهو نسك من أنساك يوم النحر، فالقياس إثباته في أي نسك من أنساكه، فلو حلق فكذلك أو طاف فكذلك أو سعى فكذلك، لكن الأولى ألا يتحلل التحلل الأول حتى يرمي الجمرة وإلا فالقياس أنه لو طاف فحسن أو حلق فكذلك فإنه يحل التحلل الأول بجامع أنها كلها أنساك من أنساك الحج. 2-المسألة الثانية قوله: (إلا النساء) قال الحنابلة: إلا النساء وطأً أو مباشرة أو قبلة أو مساً أو عقداً. وعن الإمام أحمد أنه لا يحرم إلا الوطء من الفرج لأنه أغلظ المحظورات فهو الذي يفسد الحج به وأما مقدماته من مباشرة أو مس ونحوها فإنها لا تحرم. وفي هذا نظر، فإن الشارع إذا نهى عن الشيء نهى عن ذرائعه الموصلة إليه فمقدمات الجماع ينبغي أن ينهي عنها لأنه إذا حرم الشيء حرمت ذرائعه الموصلة إليه. وذكر شيخ الإسلام عن الإمام أحمد – وهو داخل في عموم الرواية المتقدمة – أن عقد النكاح جائز، واختاره رحمه الله وهو مذهب طائفة من أصحاب الإمام أحمد أنه يجوز له عقد النكاح وأن الداخل في ذلك إنما هو الجماع ومقدماته أما مجرد عقد النكاح فإنه لا حرج فيه. وفيما ذهب إليه شيخ الإسلام قوة، إذ قوله (إلا النساء) إدخال العقد فيه بُعد، فإن العقد ليس فيه شيء من مجانسة النساء ولا مباشرتهن ولا جماعهن فيكون كما لو كانت معه امرأته من غير أن يمسها أو يباشرها أو يجامعها. فمجرد العقد الظاهر أنه يدخل في عموم قوله (فقد حل له كل شيء) (1) أما لفظة " إلا النساء " فهي ثابتة في الوطء وأدخلنا مقدمات الوطء لأنها ذرائع موصلة إلى الوطء نفسه. ومع ذلك فإن الأحوط هو الامتناع من العقد أيضاً لا سيما مع قصر الوقت فإنه بتمام المناسك في ذلك اليوم يحل له الوطء والعقد على النساء اتفاقاً.

_ (1) سبق قريباً.

فإذن: ذهب بعض الحنابلة وهو اختيار شيخ الإسلام: استثنوا عقد النكاح ولم يروه داخلاً في قوله: (إلا النساء) ورأوا أن المنهي عنه إنما هو الجماع ومقدماته، وأما عقد النكاح فإنه لا حرج فيه. إذن: الأظهر أنه إذا رمى الجمرة فإنه يحل له كل شيء إلا النساء وطأً أو مباشرة أو قبلة أو مساً وأما العقد فالأظهر عدم دخوله والله أعلم. قال: (والحلق والتقصير نسك) تقدم هذا وأنه هو المشهور في المذهب. قال: (ولا يلزم بتأخيره دم) أي لا يلزم بتأخيره عن أيام منى دم. أما تأخيره في أيام منى فلم أر خلافاً بين أهل العلم في أنه لا يجب عليه الدم. وأراد المؤلف هنا: أن ينبه على اختيار الحنابلة أن تأخير الحلق عن أيام منى كأن يحلق مثلاً في اليوم الخامس عشر من ذي الحجة أو بعد شهر ذي الحجة فلا يلزمه دم. 1 - هذا هو المشهور في مذهب الحنابلة قالوا: لأن الله عز وجل قال: {ولا تحلقوا رؤوسكم حتى يبلغ الهدي محله} (1) فأطلق الله عز وجل فذكر ابتداء الحلق وأنه إذا بلغ الهدي محله ولم يذكر – سبحانه – وقت انتهائه فأطلق ذلك فحينئذ يكون لا مدة لانتهائه، كالطواف فكما أنه يجوز له أن يطوف في اليوم الخامس عشر ونحو ذلك ولا شيء عليه فكذلك الحلق. 2-وذهب الأحناف وهو رواية عن الإمام أحمد: إلى أن من تأخر في الحلق فلم يحلق حتى فاتته أيام منى فعليه دم.

_ (1) سورة البقرة.

وهذا القول – فيما يظهر لي – قوي وهو مقتضى كلام الشيخ عبد الرحمن بن سعدي في مسألة الطواف فإنه نظر في قول الحنابلة وغيره من جواز تأخير الطواف عن أيام منى، وأن ذلك لا يجوز، وذلك لأن أيام منى هي أيام الحج، والحج عبادة مؤقتة {الحج أشهر معلومات فمن فرض فيهن الحج} (1) فكون الله عز وجل لم يقيَّد وقتاً لانتهاء الحلق في الآية المتقدمة لكنه سبحانه وقت للحج في قوله: {الحج أشهر معلومات} فالحج له أيامه التي يفعل فيها، ومقتضى ذلك أنه لا يجوز تأخيره عن أيامه. فالراجح أنه لا يجوز تأخيره عن أيام منى وهو رواية عن الإمام أحمد ومذهب أبي حنيفة وأنه يجب عليه دم وهو مذهب بعض الحنابلة. وعلى ما تقدم من ترجيح مذهب المالكية أن أشهر الحج شوال وذو القعدة وذو الحجة بتمامه، فإنه على ذلك إذا أخر الحلق عن شهر ذي الحجة فعليه دم وقبله لا دم عليه، ومع ذلك فالأحوط أنه: إن أخره عن أيام منى فعليه دم لأن أيام التشريق هي آخر أيام الحج في التعبد وفعل المناسك. قال: (ولا بتقديمه على الرمي والنحر) لو أن رجلاً حلق قبل أن يرمي، أو حلق قبل أن ينحر فلا دم عليه ولا حرج في ذلك. ودليله ما ثبت في الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له رجل: (يا رسول الله! حلقت قبل أن أذبح فقال: اذبح ولا حرج، فقال رجل: يا رسول الله! ذبحت قبل أن أرمي فقال له صلى الله عليه وسلم: ارم ولا حرج) (2) . وفي مسلم: فما سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن شيء قدم ولا أخر إلا قال: (افعل ولا حرج) (3) . وحينئذ فإن هذا يكون ترخيصٌ دلت عليه سنة، وإلا فإن ظاهر قوله تعالى: {ولا تحلقوا رؤوسكم حتى يبلغ الهدي محله} أنه لا يجوز له أن يحلق حتى يبلغ الهدي محله وأن الواجب عليه أن يهدي ثم يحلق لكن استثنت السنة هذا في يوم النحر.

_ (1) سورة البقرة. (2) سبق ص115 (3) سبق ص115

واعلم أنه يستحب للإمام أن يخطب الناس يوم النحر، ففي البخاري من حديث ابن عباس: أن النبي صلى الله عليه وسلم: (خطب الناس يوم النحر) (1) . وليس هي خطبة العيد، لأنها إنما تشرع لأهل الحاضرة والمقيمين. ويستحب له أن يعلمهم مناسكهم فيه، ففي سنن أبي داود من حديث عبد الرحمن بن معاذ قال: (خطبنا النبي صلى الله عليه وسلم بمنى ففتحت أسماعنا له حتى كنا نسمع ما يقول ونحن في منازلنا فطفق يعلمهم مناسكهم حتى بلغ رمي الجمار فوضع أصبعيه السباحتين " أي بعضهما على بعض " وقال: بحصى الخذف) (2) . ويستحب أن يكون ضحى لما ثبت في أبي داود من حديث رافع المزني قال: (رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يخطب الناس بمنى حتى ارتفع الضحى وهو على ناقته الشهباء وعلي يعبِّر عنه " أي يبلغ عنه " والناس بين قاعد وقائم) (3) . فإذن المستحب للإمام أن يخطب الناس يوم النحر فيعلمهم مناسكهم. وفي ابن خزيمة أن النبي صلى الله عليه وسلم: (قلم أظافره بعد التحلل) والحمد لله رب العالمين. فصل قال: (ثم يفيض إلى مكة ويطوف القارن والمفرد بنية الفريضة طواف الزيارة) يطوف القارن والمفرد بنية طواف الزيارة. وأما المتمتع فإنه يطوف طواف القدوم ثم طواف الزيارة فيما نص عليه الإمام أحمد. فقد نص – رحمه الله تعالى – على أن المتمتع والقارن والمفرد إن لم يطف طواف القدوم يستحب لهما أن يطوفا طواف القدوم يوم النحر ثم يطوفا طوافاً آخر وهو طواف الزيارة الذي هو ركن الحج.

_ (1) أخرجه البخاري باب الخطبة أيام منى رقم 1739. (2) أخرجه أبو داود باب ما يذكر الإمام في خطبته بمنى من كتاب المناسك، رقم 1957 بلفظ: " خطبنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ونحن.. السبابتين (3) أخرجه أبو داود باب أي وقت يخطب يوم النحر رقم 1956 بلفظ: " رأيت … على بغلة شهباء … ".

واستدل رحمه الله تعالى: بما ثبت في الصحيحين من حديث عائشة قالت: (فطاف الذين أهلوا بالعمرة بالبيت وبالصفا والمروة ثم أحلوا ثم طافوا طوافاً آخر بعد أن رجعوا من منى لحجهم، وأما الذين جمعوا بين الحج والعمرة – وهو القارنون – فلم يطوفوا إلا طوافاً واحداً) (1) فاستفاد - رحمه الله – من هذا الحديث مشروعية طواف القدوم للمتمتعين ثم يطوفون بعده طواف الزيارة. واستحبه للقارنين والمفردين الذين لم يطوفوا للقدوم لما قدموا مكة. قال الموفق رحمه الله تعالى: (ولم يوافق أبا عبد الله أحد على هذا) (2) ، فجمهور العلماء وهو اختيار شيخ الإسلام وتلميذه على خلاف هذا القول، وأن المتمتع لا يشرع له في الحج إلا طواف الزيارة وهو طواف الحج الأكبر أما طواف القدوم قبله فلا يشرع له، وكذلك لا يشرع للقارنين الذين طافوا طواف القدوم، لا يشرع لهم أن يطوفوا قبل طواف حجهم طوافاً آخر قالوا: ولم ينقل هذا عن النبي صلى الله عليه وسلم ولا عن أصحابه، ولأن طواف القدوم يشبه تحية المسجد ومن اشتغل بالفرض سقطت عنه تحية المسجد بل لم تشرع له.

_ (1) أخرجه البخاري، باب كيف تهل الحائض.. وباب طواف القارن من كتاب الحج رقم 1638، ومسلم باب بيان وجوه الإحرام وباب بيان حج الحائض من كتاب الحج، صحيح مسلم بشرح النووي [8 / 140] . (2) قال في المغني [5 / 315] : " ولا أعلم أحداً وافق أبا عبد الله على هذا الطواف.. ".

وأما الحديث الذي استدل به الإمام أحمد رحمه الله فقالوا: هو السعي بين الصفا والمروة أي أن المتمتعين لم يكتفوا بالطواف بالبيت يوم الحج الأكبر بل ضموا إلى ذلك السعي بين الصفا والمروة فكان للمتمتعين في ذلك اليوم طوافان طواف بالبيت يشتركون به مع المفردين والقارنين، وطواف آخر تفردوا به وهو الطواف بين الصفا والمروة – ولا شك أن السعي بين الصفا والمروة طواف كما قال تعالى في كتابه الكريم: {إن الصفا والمروة من شعائر الله فمن حج البيت أو اعتمر فلا جناح عليه أن يطوف بهما} (1) . إذن قالوا: قول عائشة - أن المتمتعين لما رجعوا من منى طافوا طوافاً آخر، قالوا - هو الطواف بين الصفا والمروة وأما طوافهم الأول فهو طوافهم مع القارنين والمفردين وهو الطواف بالبيت. والراجح ما ذهب إليه جمهور العلماء كما تقدم. وقول المؤلف: (بنية الفريضة) : تقدم الكلام على شرطية النية في الطواف وكلام أهل العلم في ذلك. (طواف الزيارة) يسمى طواف الزيارة لأنه زيارة من منى إلى مكة كما أنه يسمى بطواف الإفاضة لأنه يقع بعد الإفاضة من منى ويسمى – أيضاً – بطواف الركن وذلك لأنه ركن من أركان الحج ويسمى طواف الصدر لأنه يفعل بعد الصدور من منى: فهذه أربعة أسماء له. وطواف الإفاضة ركن من أركان الحج، وقد قال تعالى: {وليطوفوا بالبيت العتيق (2) } وثبت في الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم: (سأل عن صفية أم المؤمنين فقيل له: إنها حائض فقال: أحابستنا هي؟ فقيل له: إنها قد أفاضت يوم النحر " وطافت طواف الإفاضة " فقالوا: اخرجوا) (3) أي اخرجوا من مكة. فظاهر هذا أنها لو لم تطف طواف الإفاضة لحبستهم حتى تطوفه فدل على أنه ركن من أركان الحج ولا خلاف بين أهل العلم في هذا وأنه ركن على المفرد والقارن والمتمتع.

_ (1) سورة البقرة. (2) سورة الحج. (3) أخرجه البخاري: 3 / 173، ومسلم [4 / 93] وغيرهما، الإرواء رقم 1069.

وأما الطواف الآخر الذي استحبه الإمام أحمد فهو إضافة طواف قبله هو طواف القدوم استحبه للمتمتعين مطلقاً وللقارنين والمفردين الذين لم يشتغلوا به عنـ[د] قدومهم مكة. وخالفه جمهور أهل العلم فلم يستحبوا ذلك ولم يوافقه أحد من أهل العلم على مشروعية هذا. قال: (وأول وقته بعد نصف ليلة النحر) هذا هو المشهور في مذهب أحمد والشافعي، وأن طواف الزيارة يبدأ وقته إذا انتصف الليل من ليلة النحر. واستدلوا: بحديث أم سلمة المتقدم وقد تقدم تضعيفه وإنكار الإمام أحمد له. وعن الإمام أحمد وهو مذهب أبي حنيفة: أنه لا يجوز إلا بطلوع الفجر وهو الراجح؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم إنما طاف يوم النحر وقال: (لتأخذوا عني مناسككم) ففي الصحيحين من حديث ابن عمر قال: (أفاض النبي صلى الله عليه وسلم يوم النحر) أي طاف طواف الإفاضة ثم رجع إلى منى) (1) . فالنبي صلى الله عليه وسلم إنما طاف طواف الإفاضة يوم النحر كما في حديث ابن عمر، وحديث غيره كحديث جابر في مسلم (2) ، ولأنه من عبادات يوم النحر فلم يجزئ إلا به وقد تقدم نحو هذا في الرمي. فعلى ذلك من طاف قبل طلوع الفجر فإنه لا يجزئه ذلك سواء كان من الأقوياء أو الضعفة. فالراجح أن أول وقته طلوع الفجر يوم النحر. قال: (ويسن في يومه)

_ (1) أخرجه مسلم باب استحباب طواف الإفاضة يوم النحر من كتاب الحج، وأبو داود، قال محققا المغني: " أما حديث ابن عمر فلم يروه البخاري، انظر اللؤلؤ والمرجان 2 / 73، وتحفة الأشراف 6 / 155 " ا. هـ. قال الإمام البخاري رحمه الله تعالى في باب الزيارة يوم النحر رقم 1732: " وقال لنا أبو نعيم حدثنا سفيان عن عبيد الله عن نافع عن ابن عمر رضي الله عنهما: أنه طاف طوافاً واحداً ثم يقيل ثم يأتي منى، يعني يوم النحر، ورفعه عبد الرزاق أخبرنا عُبيد الله " ا. هـ. (2) باب حجة النبي - صلى الله عليه وسلم - من صحيح مسلم.

أي المستحب أن يكون في يوم النحر لفعل النبي صلى الله عليه وسلم وتقدم. قال: (وله تأخيره) أي تأخيره مطلقاً. قال جمهور العلماء له تأخيره ما بقى حياً، لأن الله عز وجل قال: {وليطوفوا بالبيت العتيق} ولم يبين وقتاً لانتهائه. وإنما اختلفوا في لزوم الدم بتأخيره. فأوجبه الأحناف إذا ذهبت أيام منى. وأما المالكية فأوجبوه إذا انسلخ شهر ذي الحجة ولم يطف. وأما الحنابلة والشافعية فلم يوجبوا الدم مطلقاً، وتقدم النظر في هذا في الدرس السابق. وما ذهب إليه ابن حزم في هذه المسألة – فيما يظهر لي – قوي جداً فإنه قد ذهب إلى أن أشهر الحج لا تصح أفعال الحج إلا بها، فإذا [خرجت] أشهر الحج فإن أفعال الحج لا تصح ولا تحل، فإذا خرج شهر ذي الحجة فلا يصح الإتيان بالطواف ولا غيره من أركان الحج – وهذا هو ظاهر القرآن فقد قال تعالى: {الحج أشهر معلومات} أي وقت الحج أشهر معلومات، ومعلوم أن العبادة لا تصح بعد خروج وقتها. فما ذهب إليه مذهب قوي والله أعلم. قال: (ثم يسعى بين الصفا والمروة إن كان متمتعاً أو غيره ولم يكن سعى مع طواف القدوم) يسعى بين الصفا والمروة يوم الحج الأكبر قسمان من الناس: القسم الأول: المتمتعون، فإنهم مطلقاً يسعون بين الصفا والمروة. القسم الثاني: القارنون والمفردون إذا لم يسعوا عند قدومهم، هذا مذهب جمهور العلماء وأن القارن والمفرد إنما يجب عليه سعي واحد، فإذا سعى عند قدومه أجزأه عن السعي يوم الحج الأكبر، وإن تركه عند قدومه فطافه يوم الحج الأكبر أو بعده فإنه يجزئه ذلك. ودليل هذا حديث عائشة المتقدم وكانت قارنة فقال لها النبي صلى الله عليه وسلم: (يسعك طوافك بالبيت وبالصفا والمروة عن حجك وعمرتك) (1) .

_ (1) سبق ص34.

وأما المتمتعون فجمهور العلماء على أنه يجب عليهم أن يطوفوا بالصفا والمروة طوافين طواف لعمرتهم وطواف لحجهم: (المالكية والشافعية والأحناف والحنابلة) أي يجب عليهم سعيين سعي لحجهم وسعي لعمرتهم. واستدلوا: بما ثبت في الصحيحين من حديث عائشة المتقدم وفيها أنها قالت في المتمتعين: إنهم طافوا بعد أن رجعوا من منى طوافاً آخر " (1) تقدم سياقه. واستدلوا: بما رواه البخاري في صحيحه، قال البخاري: قال أبو كامل الفضل بن حسين ثم ساق بسنده إلى ابن عباس وفيه: أن ابن عباس قال: (وأمرنا عشية التروية أن نهل بالحج - فهم متمتعون إذ القارنون والمفردون ما زالوا على إهلالهم المتقدم من ميقاتهم - فإذا فرغنا من المناسك طفنا بالبيت وبالصفا والمروة وقد تم حجنا وعلينا الهدي) (2) . وعن الإمام أحمد واختار هذا ونصره شيخ الإسلام: أن المتمتع لا يجب عليه إلا سعي واحد بين الصفا والمروة فإذا سعى للعمرة أجزأ ذلك عن الحج. واستدل رحمه الله بما ثبت في صحيح مسلم من حديث جابر قال: (ولم يطف النبي صلى الله عليه وسلم ولا أصحابه بين الصفا والمروة إلا طوافاً واحداً) (3) .

_ (1) سبق ص121 برقم 286. (2) ذكره البخاري باب قول الله تعالى: {ذلك لمن لم يكن أهله حاضرى المسجد الحرام} رقم 1572 قال: " وقال أبو كامل فُضيل بن حسين البصري حدثنا عثمان بن غياث عن عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه سئل عن … ثم أَمَرَنا عشية التروية … ". (3) أخرجه مسلم باب بيان وجوه الإحرام، مذاهب العلماء في تحلل المعتمر المتمتع، صحيح مسلم بشرح النووي [8 / 162] .

قالوا: وهذا في المتمتعين كما هو في القارنين والمفردين بدليل أن جابر كان من المتمتعين فقد ثبت في مسلم من حديث أبي الزبير عن جابر أنه قال: (فقربنا النساء ولبسنا الثياب ومسسنا الطيب - أي بعد العمرة - فلما كان يوم التروية أهللنا بالحج وكفانا طوافنا الأول بالصفا والمروة) (1) إذن جابر كان من المتمتعين. وأجاب شيخ الإسلام عن حديث عائشة المتقدم بقوله: (قيل: إنه من قول الزهري) أي قوله: (فطاف الذين تمتعوا بعد أن رجعوا من منى طوافاً آخر) فما بعده قيل إنه من قول الزهري. ولا شك أن هذا التعليل لا يصح فإن هذا الحديث ثابت في الصحيحين فلا يرد بمثل هذا، وهو قوله: (قيل إنه من قول الزهري) . كما أن الأسانيد الثابتة في هذا الحديث يرد هذا، والأصل ثبوته عن النبي صلى الله عليه وسلم فلا يعلل بمثل هذا القول المحكي المضعف بقوله " قيل ". فعلى ذلك حديث عائشة حديث صحيح متفق عليه فلا يعلل بمثل هذا. وأما حديث ابن عباس فأعل بأن البخاري لم يسمعه من أبي كامل الفضل بن حسين، فإنه قال في صحيحه (قال أبو كامل) ولم يقل: حدثنا فعلى ذلك هو منقطع. والصحيح أن مثل هذه اللفظة: (قال) أنها إما أن تكون من باب العنعنة كما هو مذهب جمهور العلماء ولذا غلطوا ابن حزم في رده حديث المعازف، فإنه لما ضعف حديث المعارف لقول البخاري: " قال " ردوا مقالته تلك وقالوا: إن هذا من باب العنعنة، وأبو كامل من شيوخ البخاري وقد عاصره معاصرة كثيرة فهو من شيوخه فإذا قال: (قال) فكما لو قال: (عن) والبخاري ليس معروفاً بالتدليس اتفاقاً فعلى ذلك تحمل روايته على السماع. وإنما صرفها إلى مثل هذه العبارة؛ قيل: لأنه أخذ هذا عرضاً أو بمناولة أومذاكرة – فلم يصرح بالتحديث لذلك – هذا أولاً.

_ (1) أخرجه مسلم باب بيان جوه الإحرام، مذاهب العلماء في تحلل المعتمر، صحيح مسلم بشرح النووي [8 / 160] .

ولو سلمنا أنه معلق فإن معلقات البخاري صحيحة حيث جزم بها، فإن القاعدة عند أهل العلم أن ما جزم به البخاري من المعلقات عما كان من الطبقات العليا أنه صحيح إلى من جزم إليه، فكيف إذا كان المجزوم عنه به من شيوخه لا شك أنه أولى بالقبول. على أن الحديث ثبت موصولاً فقد رواه مسلم خارج صحيحه موصولاً ورواه الإسماعيلي في مستخرجه موصولاً، ورواه عنه البيهقي في سننه موصولاً، فالحديث ثابت موصولاً. فعلى ذلك الحديث صحيح ثابت قطعاً عن النبي صلى الله عليه وسلم فلا وجه لتضعيف الحديث. وأجاب أهل القول عن حديث جابر فإنه مشكل في هذا الباب أجابوا عنه بأن مراده القارنون بدليل ذكره النبي صلى الله عليه وسلم وقد كان قارناً فإنه قال: (لم يطف النبي صلى الله عليه وسلم ولا أصحابه إلا طوافاً واحداً) (1) قالوا: فهذا المحكي عن جابر إنما كان في القارنين. وهذا فيه نظر – أي هذا الجواب – لما تقدم من قول جابر في روايته الأخرى قال: (فلما كان يوم التروية أهللنا بالحج وكفانا طوافنا الأول بالصفا والمروة) (2) فدل على أنه في المتمتعين. وحينئذ يكون الخروج من هذا بالترجيح لا بالجمع فيقال: عندنا إثبات ونفي فابن عباس يثبت الطواف بالصفا والمروة وكذلك عائشة فإنها تثبته وأما جابر فإنه ينفي ذلك ولا شك أن المثبت مقدم على النافي وأن من حفظ حجة على من لم يحفظ، فحفظت لنا عائشة وابن عباس أن المتمتعين قد طافوا بالصفا والمروة طوافاً آخر، وأما جابر فقد نفى ذلك، ولا شك أن المثبت مقدم على النافي. والوجه الثاني من الترجيح: أن يقال: قد ثبت حديث عائشة في الصحيحين وأما حديث جابر فهو في مسلم ولا شك بترجيح أحاديث الصحيحين على أحاديث مسلم. كما أن حديث ابن عباس ثابت في البخاري فهو مرجح على حديث جابر حيث هو ثابت في مسلم.

_ (1) سبق ص124 (2) سبق أنه أخرجه مسلم، صحيح مسلم بشرح النووي [8 / 161] .

الوجه الثالث: أن يقال: إن إثبات السعي بين الصفا والمروة للمتمتعين يوم الحج الأكبر ثابت عن صحابيين ونفى ذلك ثابت عن صحابي واحد ولا شك أن ترجيح ما ثبت عن راويين أولى من ترجيح ما ثبت عن راو واحد. على أن رواية أبي الزبير – وهو نوع آخر من أنواع الترجيح، رواية أبي الزبير - التي فيها أن جابر حكى ذلك عن المتمتعين فيها كلام لبعض أهل العلم حيث وردت بالعنعنة، ونحن وإن كنا لا نقر هذا القول في أحاديث مسلم التي لم يرد ما يخالفها فيقتضي إنكارها لكن في مثل هذا الموضع قد يقال بمثل هذا حيث إن هذه الرواية تخالف ما ثبت في الصحيحين فإن قوله: (فقربنا النساء) قد ورد من حديث أبي الزبير عن جابر بالعنعنة، بخلاف حديثه الأول فقد ورد بالتحديث ولا شك أن قوله: (ولم يطف النبي صلى الله عليه وسلم ولا أصحابه بين الصفا والمروة إلا طوافاً واحداً) يمكن حمله - جمعاً بينه وبين حديث ابن عباس وعائشة - على أصحابه القارنين كما تقدم، لكن منعنا هذا سابقاً ورود هذه الرواية، لكن ورودها من حديث أبي الزبير عن جابر بالعنعنة يجعل في النفس شيئاً من هذه الرواية. وهنا وجه آخر من أوجه الترجيح: وهو أن العمرة يثبت بعدها التحلل التام من لبس الثياب ومس النساء ونحو ذلك فانفصلت انفصالاً تاماً عن الحج فوجب للحج سعي آخر حيث هو منسك آخر منفصل عن المنسك الأول وهو العمرة. فعلى ذلك الأرجح مذهب جمهور العلماء خلافاً لإحدى الروايتين عن الإمام أحمد. وما ذهب إليه الجمهور هو الرواية المشهورة عن الإمام أحمد كما أن هذا القول أحوط فهو متعلق بركن – على الأرجح – من أركان الحج وهو السعي بين الصفا والمروة. قال: (ثم قد حل له كل شيء)

أي حتى النساء، فإذا طاف بالبيت القارن أو المفرد وطاف وسعى المتمتع فقد حل له كل شيء ففي الصحيحين من حديث ابن عمر قال: (ثم طاف بالبيت – أي النبي صلى الله عليه وسلم – ثم حل له كل شيء حرم عليه) (1) . وأما أن المتمتع لا يحل التحلل التام حتى يسعى فلقول ابن عباس في الحديث المتقدم – في أمر النبي صلى الله عليه وسلم قال: (فإذا فرغنا من المناسك طفنا بالبيت وبالصفا والمروة وقد تم حجنا) (2) ففيه أنه لا يتم حجهم إلا بعد السعى بين الصفا والمروة. وإنما تحل النساء بتمام الحج. قال: (ثم يشرب من ماء زمزم) لما ثبت في حديث جابر في سياقه لصفة حج النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ثم أتى بنى عبد المطلب وهم يسقون فناولوه دلواً فشرب) (3) وذلك بعد طوافه للإفاضة. قال: (لما أحب) . لما أحبه من خير الدنيا والآخرة ففي مسند أحمد وسنن ابن ماجه والحديث حسن بشواهده أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ماء زمزم لما شرب له) (4) . قال: (ويتضلع منه) أي يشرب حتى يرتوي حتى يبلغ الماء أضلاعه أي ارتواءً. واستدلوا: بما روى ابن ماجه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن آية ما بيننا وبين المنافقين أنهم لا يتضلعون من ماء زمزم) (5) لكن الحديث إسناده ضعيف فلا يثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم. قال: (ويدعو بما ورد)

_ (1) أخرجه البخاري باب من ساق البدن معه.. من كتاب الحج، ومسلم باب وجوب الدم على المتمتع من كتاب الحج، المغني [5 / 314] . (2) سبق ص124 رقم 295. (3) صحيح مسلم باب حجة النبي - صلى الله عليه وسلم -. (4) أخرجه أحمد [3 / 357، 372] وابن ماجه [3062] وغيرهما الإرواء [1123] وقال الألباني رحمه الله: " صحيح ". (5) أخرجه ابن ماجه [3061] الإرواء رقم 1125.

وذكروا في هذا: أنه يقول: (اللهم اجعله لنا علماً نافعاً ورزقاً واسعاً ورياً وشبعاً وشفاء من كل داء اللهم اغسل به قلبي واملأه من حكمتك) ، ولم يرد هذا عن النبي صلى الله عليه وسلم وإنما روى بعضه الحاكم في مستدركه عن ابن عباس رضي الله عنه وإسناده لا يصح. فليس هذا وارداً عن النبي صلى الله عليه وسلم ولا عن ابن عباس لكن إن دعا به فهو دعاء حسن. والحمد لله رب العالمين. قال المؤلف رحمه الله تعالى: (ثم يرجع فيبيت بمنى ثلاث ليال) أي يرجع من مكة إلى منى. وقد تقدم أنه يفيض إلى مكة ضحى فيطوف بها طواف الزيارة فهل يستحب له أن يصلي الظهر بمنى أو يستحب له أن يصليها بمكة؟ ثبت في الصحيحين من حديث ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم: (أفاض يوم النحر ثم رجع فصلى الظهر بمنى) (1) ففيه أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى الظهر بمنى. لكن في حديث جابر الطويل في صحيح مسلم قال: (فصلي الظهر بمكة) (2) . والجمع بين الحديثين فيما ذكره النووي وغيره أن النبي صلى الله عليه وسلم: " صلى الظهر بمكة ثم صلاها تطوعاً بأصحابه بمنى " كما صلى النبي صلى الله عليه وسلم صلاة الخوف مرتين في حديث تقدم فصلى المكتوبة بطائفة ركعتين ثم صلاها بطائفة أخرى ركعتين. فهنا كذلك وبهذا يجمع بين الحديثين. (فيبيت بمنى ثلاث ليال) : ليلة الحادي عشر، وليلة الثاني عشر وليلة الثالث عشر أي ليالي التشريق، وهذا لمن تأخر. أما من تعجل فإنه يبيت ليلتين ليلة الحادي عشر والثاني عشر وينفر من منى إذا رمى بعد زوال الشمس من اليوم الثاني عشر.

_ (1) أخرجه البخاري تعليقاً في باب الزيارة قبل النحر من كتاب الحج وقال: " ورفعه عبد الرزاق "، ومسلم باب استحباب طواف الإفاضة يوم النحر من كتاب الحج. المغني [5 / 324] ، سبق ص123 (2) مسلم باب حجة النبي - صلى الله عليه وسلم -.

والمبيت بمنى واجب من واجبات الحج ففي الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم (رخص للعباس بن عبد المطلب أن يبيت بمكة ليالي منى لأجل سقايته) (1) فترخيص النبي صلى الله عليه وسلم له لعذره يدل على أن من لا عذر له يجب عليه أن يبيت بمنى إذ ضد الرخصة العزيمة: فترخيص النبي صلى الله عليه وسلم للعباس يدل على أن هذا الحكم وهو المبيت بمنى عزيمة على غيره من الحجاج. قال: (فيرمي الجمرة الأولى وتلي مسجد الخَيْف بسبع حصيات ويجعلها [عن] يساره ويتأخر قليلاً ويدعو طويلاً، ثم يرمي الوسطى مثلها ثم جمرة العقبة ويجعلها عن يمينه ويستبطن الوادي ولا يقف عندها) (فيرمي الجمرة الأولى وتلي مسجد الخَيْف) وهو مسجد مشهور، فيرمي الجمرة الأولى التي تلي مسجد الخيف وهي أبعد الجمار عن مكة، فرميها بسبع حصيات يكبر الله مع كل حصاة. (ويجعلها عن يساره) إذا رماها بسبع جعلها عن يساره أي أخذ ذات اليمين، وليس هذا في الحديث الذي سيأتي ذكره إن شاء الله لكن لعلهم إنما استحبوا ذلك من باب استحباب التيامن فإن النبي صلى الله عليه وسلم كان يعجبه التيامن. (ويتأخر قليلاً) : أي يسهل فيأخذ مكاناً سهلاً ويتأخر عن الناس وعن حطمتهم وزحامهم. (ويدعو طويلاً) فيدعو الله بدعاء طويل يرفع يديه ويستقبل القبلة. (ثم الوسطى مثلها) فيأتي الجمرة الوسطى فيرميها بسبع حصيات يكبر الله أثر كل حصاة ثم يأخذ ذات الشمال. ففي الجمرة الأولى يأخذ ذات اليمين أما هنا فيأخذ ذات الشمال أي يجعل الجمرة عن يمينه ثم يسهل مستقبل القبلة كما تقدم ويرفع يديه قائماً ويدعو دعاء طويلاً. (ثم جمرة العقبة ويجعلها عن يمينه) أي يجعل الجمرة عن يمينه ليكون مستقبلاً للقبلة.

_ (1) أخرجه البخاري في باب سقاية الحاج وباب هل يبيت أصحاب السقاية.. من كتاب الحج، ومسلم باب وجوب المبيت بمنى.. من كتاب الحج. وأبو داود وغيرهم، المغني [5 / 325] .

(ويستبطن الوادي ولا يقف عندها) أي يكون في بطن الوادي ولا يكون في أعلاه. (ولا يقف عندها) بدعاء ولا غيره. وفي قول المؤلف هنا أنه يجعلها عن يمينه نظر، بل الثابت عن النبي صلى الله عليه وسلم ما تقدم في الصحيحين أن ابن مسعود رمى جمرة العقبة جاعلاً مكة عن يساره ومنى عن يمينه وقال: (هذا مقام الذي أنزلت عليه سورة البقرة) (1) . فلا يستحب له أن يستقبل القبلة وليس في ذلك سنة عن النبي صلى الله عليه وسلم بل يجعل مكة عن يساره ومنى عن يمينه ثم يرميها بسبع حصيات يكبر الله أثر كل حصاة. ودليل هذه الصفة في الرمي ما ثبت في البخاري عن ابن عمر: (أنه كان يرمي الجمرة الدنيا - أي القريبة إلى الخيف - بسبع حصيات يكبر الله إثر كل حصاة ثم يسهل (2) - ولم يذكر أنه أخذ ذات اليمين لكن تقدم أنه يمكن القول باستحباب هذا استدلالاً بأن النبي صلى الله عليه وسلم (كان يعجبه التيامن) - فيستقبل القبلة ويقوم طويلاً ويرفع يديه يدعو ثم يرمي الوسطى ثم يأخذ ذات الشمال ثم يسهل فيقوم فيستقبل القبلة فيرفع يديه.. طويلاً يدعو ثم يرمي جمرة العقبة من بطن الوادي ولا يقف عندها ثم ينصرف ثم يقول: (هكذا رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يفعله " أي الرمي ") وليس فيه أن النبي صلى الله عليه وسلم استقبل القبلة عند رمي جمرة العقبة ولا غيرها وثبت كما تقدم في حديث ابن مسعود في الصحيحين أنه رمى جمرة العقبة جاعلاً مكة عن يساره ومنى عن يمينه.

_ (1) سبق ص112 (2) أخرجه البخاري باب رفع اليدين عند جمرة الدنيا والوسطى من كتاب الحج رقم 1752.

وفي مصنف ابن أبي شيبة بإسناد صحيح: أن ابن عمر (كان يقف عند الجمرتين مقدار ما يقرأ سورة البقرة) ، وفي موطأ مالك بإسناد صحيح: (أنه كان يذكر الله عند الجمرتين ويكبره ويهلله ويحمده ويدعو) (1) . قال: (يفعل هذا في كل يوم من أيام التشريق) في اليوم الأول من أيام التشريق وهو اليوم الحادي عشر، وفي اليوم الثاني وهو اليوم الثاني عشر وفي اليوم الثالث وهو اليوم الثالث عشر من ذي الحجة. قال: (بعد الزوال) لحديث جابر المتقدم وفيه: (كان النبي صلى الله عليه وسلم يرمي جمرة العقبة ضحى وأما بعد ذلك فإذا زالت الشمس) (2) . وفي البخاري عن ابن عمر قال: (كنا نتحين فإذا زالت الشمس رمينا) (3) . هذا هو مذهب جمهور الفقهاء: وأن الرمي لا يصح إلا بعد زوال الشمس لا في اليوم الأول من أيام التشريق، ولا في اليوم الثاني وهو يوم النفر الأول، ولا في اليوم الثالث وهو يوم النفر الثاني، لا يجوز ولا يجزئ الرمي قبل الزوال لأنه يخالف هدي النبي صلى الله عليه وسلم وكل ما كان على خلاف أمره فهو رد. وقال إسحاق: يجزؤه أن يرمي قبل الزوال في يوم النفر الثاني أي يوم 13. وهو قول أبي حنيفة، وخالفه في ذلك صاحباه، وهو مروي عن ابن عباس عند البيهقي بإسناد ضعيف وهو قول طاووس – أنه يجوز له أن يرمي في اليوم الثالث عشر قبل زوال الشمس. وذلك: لأن يوم النفر الثاني لا يجب في الأصل مبيت ليلته ولا الرمي إلا لمن اختار التأخر فخففوا في ذلك.

_ (1) الموطأ برواية يحيى بن يحيى الليثي باب رمي الجمار من كتاب الحج رقم 922 بلفظ: " كان يقف عند الجمرتين الأوليين وقوفاً طويلاً يكبر الله ويسبحه ويحمده ويدعو الله ولا يقف عند العقبة ". (2) أخرجه مسلم باب حجة النبي - صلى الله عليه وسلم - من كتاب الحج وأبو داود، والبخاري معلقاً باب رمي الجمار من كتاب الحج. (3) أخرجه البخاري باب رمي الجمار، من كتاب الحج رقم 1746.

ولا شك أن هذا فيه نظر فإنه وإن خفف فيه لكن هذا بالاختيار أصلاً، وحيث اختار فإنه يجب عليه مبيت تلك الليلة ويجب عليه الرمي وحينئذ يجب عليه أن يكون رميه بعد زوال الشمس. - وعن الإمام أحمد وهو رواية عن أبي حنيفة: أنه يجوز له أن يرمي في يوم النفر الأول أيضاً قبل زوال الشمس وأن المتعجل يجوز له أن يرمي قبل زوال الشمس. والمشهور عن الإمام أحمد وفاق جمهور أهل العلم في هذه المسألة وهو القول الراجح إذ لا دليل يدل على هذا القول ففعل النبي صلى الله عليه وسلم وقوله: (لتأخذوا عني مناسككم) يدل على أنه لا يجزئ الرمي إلا بعد زوال الشمس في الأيام الثلاثة كلها. وهذا هو الصحيح وهو مذهب جمهور العلماء إلا ما تقدم من رواية عن بعضهم وإلا فالمشهور من المذاهب الأربعة أن الرمي لا يجزئ إلا بعد الزوال في الأيام الثلاثة كلها إلا ما تقدم من مذهب أبي حنيفة في اليوم الثاني من أيام النفر وخالفه فيه صاحباه. * وأما آخر وقت الرمي: فينبني على المسألة السابقة وهي هل ينتهي الرمي في يوم النحر إلى غروب الشمس أو يجوز الرمي ليلاً وحيث قلنا بجوازه ليلاً فهل فيه دم أم لا؟ وتقدم أن أقوى المذاهب أن الرمي بالليل جائز وأنه لا شيء على من رمى ليلاً إلا أن الأحوط – كما تقدم – هو عدم ذلك وهو أن يرمي نهاراً، وفي ذلك سعة لكن إن احتاج إلى الرمي ليلاً فلا بأس ولا دم عليه. فالصحيح أن وقت الرمي في أيام التشريق من زوال الشمس ويمتد ليلاً لكن الأحوط ألا يرمي إلا نهاراً. قال: (مستقبل القبلة) أما إذا كان هذا في الدعاء فقد تقدم الحديث.

وأما استقبال القبلة عند رمي الجمار وهو ظاهر قول المؤلف هنا فإنه لا دليل عليه وهو المذهب وهو نص الإمام أحمد وأنه يستحب له عند رمي الجمار كلها أن يستقبل القبلة، ولا دليل يدل على ذلك فلم أر حديثاً يدل على استحباب ذلك، بل تقدم أن جمرة العقبة لا يستحب فيها هذا بل المستحب أن تكون القبلة عن يساره كما في حديث ابن مسعود (1) . فالأظهر هو عدم استحباب ذلك. قال: (مرتباً) فيجب عليه أن يرميها بالترتيب فيرمي الجمرة الأولى ثم الوسطى ثم جمرة العقبة. فإذا نكسها فإنه لا يجزؤه ذلك – إلا في الأولى - لأنه خلاف هدي النبي صلى الله عليه وسلم وأمره وقد قال: (لتأخذوا عني مناسككم) وقال: (كل عمل ليس عليه أمرنا فهو رد) (2) وهديه أنه رمى الجمرة الأولى فالوسطى فالعقبة. قال: (فإن رماه كله في اليوم الثالث أجزأه ويرتبه بنيته) أي رمى جمرة العقبة في يوم النحر (هذه سبع حصيات) ورمي اليوم الحادي عشر (وهذه إحدى وعشرون حصاة) ورمى اليوم الثاني عشر (وهذه إحدى وعشرون حصاة) ورمى اليوم الثالث عشر (وهذه إحدى وعشرون حصاة) – إذا رماها – وهي سبعون حصاة في اليوم الثالث من أيام التشريق أجزأه لكن يجب عليه كما ذكر المؤلف أن يرتبه بنيته. فيبدأ باليوم الأول فيرمي جمرة العقبة ثم يرمي الأولى فالوسطى فالعقبة عن اليوم الأول، ثم يرمي الجمرة الأولى فالوسطى فالعقبة عن الثاني، ثم الجمرة الأولى فالوسطى فالعقبة عن اليوم الثالث، لأن الشارع قد رتب ذلك وقال: (لتأخذوا عني مناسككم) هذا هو المشهور في المذهب (3) . إذن يجزئه أن يرمي في اليوم الثالث عن الأيام قبله. هذا باتفاق العلماء.

_ (1) تقدم ص112. (2) سبق ص98. (3) في أسفل المذكرة ما نصه: " والأظهر عند شيخنا أنه لو رمى الجمرة الصغرى عن اليوم الأول، فالثاني فالثالث ثم الوسطى كذلك، فلا بأس ".

واستدلوا: بما ثبت عند الخمسة بإسناد صحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم (رخص لرعاء الإبل بالبيتوتة عن منى يرمون يوم النحر ثم يرمون الغد وما بعد الغد ليومين ثم يرمون يوم النفر) (1) فجمعوا بين اليوم الحادي عشر والثاني عشر. وفي رواية لأبي داود: (يرموا يوماً ويدعوا يوماً) (2) فعلى ذلك: إذا رمى في اليوم الثاني عشر عنه وعن اليوم الحادي عشر مرتباً أجزأه، وإذا رمى في اليوم الثالث عشر عنه وعن الثاني عشر والحادي عشر أجزأه ذلك باتفاق العلماء، لهذا الحديث الثابت. لكن اختلفوا هل هذا من باب القضاء أم من باب الأداء؟ 1- فقال الجمهور: هو من باب الأداء فعلى ذلك لا دم عليه لأنه قد فعل العبادة في وقتها. ويشبه هذا: الوقت الضروري للصلاة، فعند اصفرار الشمس مثلاً يجوز صلاة العصر ويجزئ لأهل الأعذار، وهو وقتها وليس من باب القضاء بل من باب الأداء. وقال الأحناف: هو من باب القضاء فعليه دم. والصحيح ما ذهب إليه الجمهور لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يوجب على رعاء الإبل وقد جمعوا لم يوجب عليهم دماً، ولأن ابن عمر – كما تقدم (3) – فيمن نسى رمي الجمار حتى غربت الشمس أنه يرمي من بعد الزوال ولم يوجب عليه ابن عمر شيئاً. فعلى ذلك الراجح أنه لا دم عليهم. لكن الأظهر أن ذلك لا يجوز وأن الواجب عليه أن يرمي كل يوم في يومه لأن هذا هو فعل النبي صلى الله عليه وسلم وقد قال: (لتأخذوا عني مناسككم) ويشبه هذا كما تقدم الوقت الضروري للصلاة، فإنه لا يجوز للمسلم أن يؤخر صلاة العشاء حتى ينتصف الليل، لكن إن صلاها بعد نصف الليل وقبل طلوع الفجر فإنه وقت أداء لا وقت قضاء والصلاة تجزئه ولا شيء عليه. فهذا من هذا الباب.

_ (1) أخرجه أبو داود [1975] والنسائي [2 / 50] والترمذي [1 / 179] وابن ماجه [3037] ، الإرواء رقم 1080. (2) أخرجه أبو داود [1976] . (3) تقدم ص115

وجمهور العلماء لا يرون جواز الجمع في الرمي إلا تأخيراً فليس له أن يرمي في اليوم الحادي عشر عنه وعن الثاني عشر بل لا يجزئه إلا أن يكون ذلك من باب التأخير. وظاهر الحديث إجزاء ذلك وقد صرح به طائفة من شراح هذا الحديث فإن الحديث قال: (يرمون يوم النحر ثم يرمون الغد ومن بعد الغد ليومين) (1) فأطلق فدل ذلك على أنه يجوز تقديماً وتأخيراً. كما أن هذا مقتضى قولهم – أي إجزاء ذلك – فإنهم قالوا: وقتها وقت واحد، ومقتضى ذلك جواز التقديم كالتأخير، فكما أن صلاة الظهر يجوز أن يصليا تأخيراً لأنه وقت لهما للعذر، فكذلك يجوز أن يصليا تقديماً لأنه وقت لهما.وهذه قاعدة الشريعة في الصلاة فينبغي أن تكون في باب الرمي، فيجوز للعذر تقديم الرمي. وظاهر مذهب الحنابلة أنه يجوز له أن يرمي يوم النحر كذلك أي أن يدخله في هذا، فلو رمى في اليوم الثالث عشر عن يوم النحر وأيام التشريق أجزأه ذلك، هذا مذهب الحنابلة. والأظهر أن يوم النحر يوم مستقل بنفسه، يدل على هذا أنه له وقت يخالف الوقت الذي يشرع فيه الرمي في بقية الأيام فإن وقته ضحى ووقت بقية الأيام إذا زالت الشمس ففارقها في الوقت. ولما تقدم عن ابن عمر في أمره زوجته وبنت أختها أن ترمي ليلاً (2) وأما أيام التشريق فإنه رأى أن ترمي من الغد (3) لتوافق الوقت المشروع للرمي لأن أيام التشريق كاليوم الواحد وأما يوم النحر فهو يوم مستقل بوقته. فالأظهر أن يوم النحر لا يدخل في هذا، وهو مذهب بعض العلماء واختاره الشنقيطي في أضواء البيان، فليس لأحد أن يؤخره إلى الغد فإن أخره فعليه دم. فالصحيح: أن رمى جمرة العقبة في يوم النحر لا يدخل وقتها في وقت الرمي للجمار في أيام التشريق بل وقتها مستقل، بدليل مفارقتها له في أنها ترمى ضحى وأما أيام التشريق فإنه يرمي بعد الزوال ولما تقدم من تفريق ابن عمر.

_ (1) تقدم قريباً. (2) تقدم ص116 (3) تقدم ص115

* واعلم أنه لا يجزئه إلا أن يرمي سبع حصيات كل جمرة من الجمار وهو مذهب جمهور أهل العلم فإن رمى بست أو خمس لم يجزئه ذلك خلافاً للمشهور عند الحنابلة. فالمشهور عند الحنابلة: أنه يجزئه أن يرمي الجمرة خمس حصيات أو ست، فإن أنقص عن السبع حصاة أو حصاتين أجزأه ذلك. وعن الإمام أحمد: أنه يجزؤه إن أنقص حصاة، فإذا رمى ستاً فإنه يجزئه. والمشهور عنه جواز إنقاص الحصاة والحصاتين. ودليل هذا: ما رواه النسائي وأحمد عن سعد قال: (رجعنا في الحجة مع النبي صلى الله عليه وسلم وبعضهم يقول: رميت بسبع حصيات، وبعضهم يقول رميت بست حصيات فلم يعب بعضهم على بعض) (1) . وأما دليل جمهور العلماء فقالوا: إن النبي صلى الله عليه وسلم رمى بسبع حصيات وقال: (لتأخذوا عني مناسككم) . وأما هذا فهو أثر عن بعض الصحابة ولم يثبت لنا أنه بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم فلا يخالف به سنته – وهذا القول هو الراجح وأنه لا يجزئه إلا أن يرمي كل جمرة سبع حصيات فإن أنقص حصاة لم يجزئه ذلك، فشرط الرمي أن يكون بسبع حصيات. قال: (فإن أخره عنه أو لم يبت بها فعليه دم) (إن أخره عنه) : أي أخر الرمي عن أيام التشريق فقد تقدم أنه يجزئه أن يرمي في اليوم الثالث عشر عن الثاني عشر والحادي عشر عند جمهور العلماء.

_ (1) أخرجه النسائي باب عدد الحصى التي يرمى بها الجمار من كتاب المناسك رقم 3077

لكن إن أخره فرماه بعد أيام التشريق كأن يرميه في الرابع عشر من ذي الحجة فعليه دم؛ لأن العبادة فعلت في غير وقتها فلم يجزئ فيكون تاركاً لشيء من النسك، ومن ترك شيئاً من النسك فعليه دم كما صح ذلك عن ابن عباس في موطأ مالك أنه قال: (من نسي شيئاً من نسكه أو تركه فليهرق دماً) (1) . وهذا هو حجة جمهور العلماء في إيجاب الدماء، فليس في ذلك حديث عن النبي صلى الله عليه وسلم وإنما هو أثر عن ابن عباس لكنه حجة لأنه لا يعلم مخالف. فمن ترك من نسكه شيئاً من رمى أو غيره أو نسيه فعليه أن يهريق دماً. قوله: (أو لم يبت بها) : أو لم يبت بمنى بل بات بمكة لغير عذر فعليه دم لما تقدم من ترخيص النبي صلى الله عليه وسلم لرعاء الإبل بالبيتوتة عن منى (2) قالوا: فترخيصه يدل على إيجاب المبيت، وترخيص النبي صلى الله عليه وسلم للعباس (3) يدل على العزيمة في المبيت، فهي شيء من النسك ومن ترك شيئاً من النسك فعليه أن يهريق دماً. قال: (ومن تعجل في يومين خرج قبل الغروب) فمن أراد أن يتعجل فيكتفي بالمبيت ليلة الحادي عشر والثاني عشر ورميهما فعليه الخروج من منى قبل غروب الشمس. قال: (وإلا لزمه المبيت والرمي من الغد) فإلا يخرج قبل غروب الشمس، فغربت عليه الشمس ولم يخرج من منى فإنه يلزمه أن يبيت بمنى تلك الليلة وأن يرمي من الغد بعد زوال الشمس.

_ (1) الموطأ برواية يحيى بن يحيى الليثي، باب ما يفعل من نسي نسكه شيئاً رقم 950 ولفظه: عن عبد الله بن عباس قال: " من نسي من نسكه شيئاً أو تركه فليهرق دماً، قال أيوب: لا أدري قال: ترك، أو نسي ". (2) تقدم ص130 (3) تقدم ص127

ودليل هذه المسألة: قوله تعالى: {فمن تعجل في يومين فلا إثم عليه (1) } فجعل اليومين ظرفاً للتعجل واليوم ينتهي بغروب شمسه فإذا غربت الشمس انتهى اليوم ولا شك أنه إذا تعجل وقد غربت الشمس في اليوم الثاني من أيام التشريق فإنه لم يتعجل في اليومين. فإذن: التعجل في اليومين رخصة لمن خرج من منى قبل غروب الشمس أما إذا غربت عليه الشمس ودخل الليل من ليلة الثالث عشر فإنه يجب عليه المبيت والرمي بعيد زوال الشمس، ولما ثبت في موطأ مالك بإسناد صحيح عن ابن عمر: قال: (من غربت عليه الشمس من وسْط أيام التشريق " وهو اليوم الثاني عشر وهو يوم النفر الأول " فلا ينفر ثم ليرم الجمار من الغد) (2) . ولا يعلم له مخالف وهذا هو مذهب جماهير العلماء، وأن من غربت عليه الشمس فلا يجوز له التعجل بل يجب عليه أن يبيت بمنى تلك الليلة ويرمي الجمار بعد زوال الشمس وذلك لأن التعجل رخصة لمن لم تغرب عليه الشمس. * واعلم أن ما تقدم من إجزاء الرمي - أي الجمع فيه - في اليوم الثالث عشر للمعذورين وأنه لا دم عليه لحديث البيتوتة بمنى لرعاء الإبل وكانوا معذورين في ذلك – يلحق به كل معذور من مريض أو نحو ذلك وخائف فوات مال. وهذا له صور، فإن كثيراً من النساء يشق عليهن أن يرمين في يوم النفر الأول، وهنَّ يرون التأخر إلى اليوم الثالث عشر فلا حرج عليهن ألا يرمين في الثاني عشر ويؤخرنه إلى الثالث عشر للعذر فإن الزحام في ذلك اليوم شديد، ولا شك أن الرمي بعد غروب الشمس محل حرج في النفس فيؤخر ذلك إلى بعد زوال الشمس من الغد.

_ (1) سورة البقرة 203 (2) الموطأ برواية يحيى بن يحيى الليثي باب رمي الجمار من كتاب الحج رقم 925 بلفظ: " من غربت له الشمس من أوسط أيام التشريق وهو بمنى، فلا ينفرن حتى يرمي الجمار من الغد ".

فالمقصود من ذلك أن هذا الحكم يصدق لرعاء الإبل وغيرهم من المعذورين كالمرضى ومن خاف فوتاً في ماله أو نحو ذلك فإنه يجوز له أن يؤخر في الرمي. ويستحب للإمام أن يخطب الناس في وسط أيام التشريق لثبوت ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم في أبي داود بإسناد صحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم: (خطب في وسط أيام التشريق) (1) فيستحب للإمام أن يخطب في الحادي عشر بالناس فيعلمهم المناسك في اليوم الحادي عشر والثاني عشر والثالث عشر وفي طواف الوداع ونحو ذلك من المسائل. فإذا تعجل أو تأخر فيستحب له أن يصلي الظهر والعصر والمغرب والعشاء بالأبطح وهو المحصّب ويرقد رقدة ثم يطوف طواف الوداع. فقد ثبت في البخاري: أن النبي صلى الله عليه وسلم: (صلى الظهر والعصر والمغرب والعشاء ثم رقد رقدة بالمحصب ثم ركب – أي ليلاً – فطاف بالبيت) (2) وهو طواف الوداع. وحكمة ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم أراد أن يظهر فيه شعائر الإسلام من إقامة الصلوات في ذلك الموضع الذي تقاسم فيه الكفار على الكفر من مقاطعته عليه الصلاة والسلام ومقاطعة من آمن معه وناصره من بني هاشم في الشعب الذي حوصروا فيه ومنعوا من أن يباع لهم شيء من الأرزاق، فأراد أن يظهر في هذا الموضع هذه الشعائر الإسلامية ففي الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إنا نحن نازلون غداً إن شاء الله بخيف بني كنانة " وهو المحصب " حيث تقاسموا على الكفر) (3) والمحصب أقرب إلى منى منه إلى مكة. والحمد لله رب العالمين. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [فإذا أراد الخروج من مكة لم يخرج حتى يطوف للوداع]

_ (1) أخرجه أبو داود باب أي يوم يخطب بمنى من كتاب المناسك. (2) أخرجه البخاري باب من صلى العصر يوم النفر بالأبطح من كتاب الحج رقم 1764 (3) أخرجه البخاري باب نزول النبي - صلى الله عليه وسلم - بمكة، ومسلم باب استحباب النزول بالمحصب [1314] من كتاب الحج، زاد المعاد [2 / 294]

إذا أراد الحاج الخروج من مكة فيجب عليه قبل خروجه أن يطوف للوداع، ويسمى طواف الصدر، ويسمى بطواف الوداع؛ لأنه آخر العهد بالبيت، فهو توديع له من جنس توديع القريب أقاربه عند سفره. وسمي بطواف الصدر؛ لأنه يقع عند صدور الناس متوجهين من مكة إلى بلادهم، كما أن طواف الزيارة فيما تقدم يسمى طواف الصدر عند بعض أهل العلم؛ لأنه يفعل عند الصدور من منى إلى مكة. ولا مشاحة في التسمية؛ لوجود العلاقة بين المسمى وتسميته في اللفظين كليهما. وفي قول المؤلف " إذا أراد الخروج " ما يدل على أن من لم يرد الخروج سواء كان مقيما في مكة أو بدت له الإقامة فيها أنه لا يشرع له طواف الوداع، ولا يجب عليه؛ لأنه إنما شرع للمفارقين لا للملازمين، فإن الوداع لا يقع من ملازم مقيم وإنما يقع من مفارق. ودليل طواف الوداع: ما ثبت في الصحيحين عن ابن عباس قال: " أمر الناس أن يكون آخر عهدهم بالبيت، إلا أنه خفف عن الحائض " (1) ، أي آخر عهدهم بالبيت طوافاً، فإن السعي إنما يشرع في حج أو عمرة، وهذا بالإجماع، وأن المراد هنا إنما هو الطواف. ثم إن السعي بين الصفا والمروة لم يكن في البيت، بل هو خارج عنه. ففي هذا الحديث دليل على وجوب طواف الوداع لأمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم في قول الصحابي: " أمر الناس ". وفي قوله: " إلا أنه خفف عن الحائض "، ما يدل على وجوبه؛ لأن السنة مخفف فيها أصلاً، فلا تحتاج إلى تخفيف عن طائفة، فدل هذا على أن طواف الوداع واجب.

_ (1) أخرجه البخاري باب طواف الوداع، ومسلم باب وجوب طواف الوداع وسقوطه عن الحائض من كتاب الحج، المغني [5 / 337]

وليس بركن من أركان الحج، بدليل أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لما سأل عن صفية؟ فقيل: هي حائض، فقال: (أحابستنا هي؟) فقيل: يا رسول الله إنها قد أفاضت يوم النحر، فقال: (اخرجوا) (1) ، أي اخرجوا من مكة، فدل هذا على أن طواف الوداع ليس بركن، إذ لو كان ركنا لما أمر بخروجها مع الناس مع بقاء هذا الركن عليها. قال: [فإن أقام أو اتجر بعده أعاده] وقت طواف الوداع هو انتهاء الحاج من جميع أموره ومناسكه، بحيث أنه يريد الخروج من مكة ومفارقتها؛ لقول الصحابي: " أمر الناس أن يكون آخر عهدهم "، فهو إنما يشرع حيث أراد الخروج من مكة وانتهى من جميع أموره، وهذا المعنى الذي تفيده كلمة الوداع، فالوداع إنما يكون عند المفارقة، فإذا أراد المسافر بأن يفارق ودَّع إخوانه وأهله. فعلى ذلك: إذا طاف طواف الوداع ثم أقام أو اتجر بعده، فيجب عليه أن يعيده؛ لأنه واجب توديعاً، وهنا لم يفعله توديعاً، بل قد فعل بعده ما ينافي التوديع من إقامة أو تجارة أو نحو ذلك، وقد قال الصحابي: " أمر الناس أن يكون آخر عهدهم بالبيت "، وهذا ليس آخر عهده بالبيت. وقال الأحناف: بل متى فعله في وقته – بعد النفر -، فلو أقام بعده فلا حرج. وهذا خلاف السنة، فإن النبي صلى الله عليه وآله وسلم إنما شرعه بحيث يكون آخر العهد، وحيث لم يكن آخر العهد فإنه يجب أن يعاد. فالراجح مذهب الجمهور خلافاً للأحناف. ولا خلاف بين أهل العلم أنه إن وقع له شراء لحاجة أو قضاء حاجة من الحوائج في طريقه فإنه لا يجب عليه أن يعيده، كأن يشتري.. للطريق ونحو ذلك، فإن هذا لا ينافي الوداع، فلا يبطله، ولا يجب عليه أن يعيده؛ لأن هذا في عرف الناس لا ينافي التوديع، فإن المودع ربما اشترى حاجة أو قضى غرضاً في طريقه قبل خروجه. قال: [وإن تركه غير حائض رجع إليه فإن شق أو لم يرجع فعليه دم]

_ (1) أخرجاه، تقدم ص122

في قوله " غير حائض ": ما يدل على أن الحائض لا يجب عليها طواف الوداع، بل لا يصح منها. ودليل ذلك ما تقدم من قول الصحابي: " إلا أنه خفف عن الحائض "، وفي حديث صفية ما تقدم من قوله (أحابستنا هي) ، فلما قيل له: إنها طافت للزيارة، قال: (اخرجوا) . فدل هذا على سقوط طواف الوداع عن الحائض وأنه لا يجب عليها أن تنتظر حتى تطهر ثم تطوف، بل يسقط عنها، وإن كان طهرها قريبا، فما دام أنها انتهت من حجها ومناسكها وأرادت الخروج، فإنه لا يجب عليها أن تنتظر حتى تطهر، بل قد خفف عنها ذلك. وكذلك النفساء، فأحكام الحائض ثابتة للنفساء مما يجب ومما يسقط، باتفاق العلماء، وقد قال صلى الله عليه وآله وسلم لأم سلمة وقد حاضت: " لعلك نفست "، ومن ذلك سقوط طواف الوداع عنها. قوله: " وإن تركه رجع إليه ": فإن تركه ممن يجب عليه، فإنه يرجع إليه؛ لأنه واجب، فيجب عليه أن يفعله، وقد قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم) (1) ، وهو مستطيع فلا مشقة عليه في الرجوع. [انظر الكلام في آخر هذا الدرس] قوله: " فإن شق ": فإذا شق عليه ذلك، كأن يكون قد بعد بمسافة قصر أو كان دون مسافة القصر، لكن فيه مشقة عليه، كأن يكون مريضاً يشق عليه تحمل المسافة مرة أخرى، أو أن يكون قصد رفقة يخشى فواتهم، فإنه لا يجب عليه الرجوع. وعندهم المسافة البعيدة هي مسافة القصر فما فوق، وأما القريبة فهي دون مسافة القصر. فإذا شق عليه ذلك، فإنه لا يجب عليه الرجوع ويجب عليه دم، أو كانت المسافة بعيدة، فعليه دم. " أو لم يرجع ": أي كانت المسافة قريبة ولا مشقة عليه في ذلك فلم يرجع، فإنه يجب عليه دم؛ لأنه تارك لشيء من نسكه.

_ (1) أخرجه البخاري [4 / 422] ومسلم [7 / 91] وغيرهما، الإرواء [155] .

إذاً: من لم يرجع سواء كان معذوراً أم لم يكن معذوراً فعليه دم؛ لعموم قول الصحابي: " من نسي شيئاً من نسكه أو تركه فعليه دم " (1) ، فقوله: " أو تركه " شامل للمعذور وغيره. قال: [وإن أخر طواف الزيارة فطافه عند الخروج أجزأ عنه وداعاً] فإذا أخر طواف الإفاضة بعد النهاية من مناسكه من منى في اليوم الثاني عشر أو في اليوم الثالث عشر، فطاف طواف الإفاضة، فيجزئه عن طواف الوداع. أي يجزئه أن يخرج بعد هذا الطواف الذي هو طواف الإفاضة، يجزئه أن يخرج إلى بلده من غير أن يشتغل بطواف الوداع. فلا يجب عليه شيء ولا يعد تاركاً لشيء من نسكه؛ وذلك لأنه مأمور أن يكون آخر عهده بالبيت وقد فعل ذلك، فطواف الوداع ليس مقصوداً لذاته، بل المقصود أن يودع البيت بطواف، وقد ودعه بطواف وهو ركن من أركان الحج، فأجزأ ذلك عنه، لكن بشرط ألا ينوي أن يكون للوداع، فإن نوى أنه للوداع لم يجزئ عن طواف الزيارة؛ لأن طواف الزيارة ركن من أركان الحج، فلابد وألا ينوي بنية تنافيه، وحيث نوى أنه طواف للوداع فإن هذا ينافي كونه للزيارة، وقد تقدم أن نية الحج تجزئ عن الطواف وغيره من مناسك الحج، لكن بشرط ألا ينوي نية تنافي ذلك، وحيث نوى طواف الوداع، فالنية حينئذ تنافي كونه طواف الزيارة، فلا يجزئه. إذاً: إذا نواه طواف زيارة أو اكتفى بنية الحج، فإنه يجزئه طوافاً للزيارة ويسقط عنه طواف الوداع إن خرج من مكة بعد هذا الطواف. أما إذا نواه طوافاً للوداع فإنه لا يسقط عنه طواف الزيارة؛ لأن طواف الإفاضة ركن من أركان الحج مقصود لذاته فلابد له من نية يختص به أو من نية للحج عامة له ولغيره من غير أن يصدر من المكلف نية تنافيه. قال: [ويقف غير الحائض بين الركن والباب] أما الحائض فلا يجوز لها أن تقف في البيت؛ لأنها ممنوعة من دخول المساجد.

_ (1) تقدم ص132

فيشرع أن يقف بين الركن – وهو الحجر الأسود – والباب، وهو ما يسمى بالملتزم، فيستحب له أن يقف عنده فليتزمه واضعاً وجهه وصدره وذراعيه وكفيه عليه التزاماً. لما روى أبو داود في سننه من حديث المثنى بن الصباح عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن عبد الله بن عمرو استلم الحجر ثم قام بين الركن والباب فوضع صدره ووجهه وذراعيه وكفيه وبسطهما بسطاً، وقال: " هكذا رأيت النبي صلى الله عليه وآله وسلم يفعل " (1) . لكن المثنى بن الصباح ضعيف الحديث، لكن للحديث شاهد عند أبي داود من حديث عبد الرحمن بن صفوان وفيه يزيد بن أبي زياد وهو ضعيف أيضاً، وله شاهد موقوف عن ابن عباس عند البيهقي وعبد الرزاق في مصنفه وفيه ضعف، فهذه شواهد لعلها ترتقي إلى تحسينه. وهو مشروع عند أهل العلم من الحنابلة والشافعية وغيرهم. إذاً: يستحب له أن يلتزم هذا الموضع وهو ما بين الركن والباب. قال: [داعياً بما ورد] لم يثبت عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم ولم أر هذا يصح عن أحد من الصحابة في هذا الباب، فلم يصح عنهم دعاء مخصوص في هذا الباب. لكن ذكروا عن بعض السلف كما ذكر هذا صاحب المهذب قال: " وقد روي هذا عن بعض السلف ". فذكر الشافعية والحنابلة دعاءً طويلاً في هذا الموضع، وهو مذكور في المغني وفي الروض المربع وفي سائر كتب الحنابلة والشافعية، ومطلعه: " اللهم هذا بيتك وأنا عبدك ابن عبدك ابن أمتك حملتني وسخرت لي ما خلقت.. " (2) إلى آخره، وهو دعاء طويل. لكن هذا الدعاء لم يثبت عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم ولا عن أصحابه وإنما ذكروه عن بعض السلف، ولا بأس بالدعاء به، فهو من عموم الدعاء الحسن، لكن من غير اعتقاد أنه سنة بألفاظه، بل هو من عامة الدعاء الذي لا بأس أن يدعى به في هذا الموضع وغيره.

_ (1) أخرجه أبو داود باب الملتزم من كتاب المناسك، وابن ماجه، المغني [5 / 342] . (2) المغني [5 / 343] .

فالمقصود من ذلك: أنه يلتزم ويدعو بما شاء. قال: [وتقف الحائض ببابه فتدعو بهذا الدعاء] أي تقف بباب الحرم فتدعو هذا الدعاء، لأن الحائض ممنوعة – محذور – عليها دخول البيت، وحيث كان ذلك، فإنه لا يجوز لها أن تدخل البيت فتلتزم هذا الموضع فتدعو بهذا الدعاء، وحينئذ فتدعو عند بابه. وهذا ليس بثابت عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، ولم يأمر به صفية ولا غيرها من نساء المؤمنين اللاتي أصبن بالحيض، لم يأمرهن بالوقوف عند الباب ودعاء الله بهذا الدعاء ولا غيره. فالصحيح أنه لا يقال باستحبابه. قال: [وتستحب زيارة قبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم وقبري صاحبيه] أما إذا كان هذا من غير شد للرحال فنعم، فإن أفضل زيارة لقبر هي زيارة قبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم وزيارة قبور أصحابه لاسيما الشيخين، فلا شك بفضلية زيارة القبور وأن أخص القبور بالزيارة قبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم وغيره من الأنبياء والصالحين ومن ذلك أبو بكر وعمر، فعلى ذلك: إن كان ذلك من غير شد رحل، فإنه من الأعمال الصالحة التي يتقرب بها إلى الله عز وجل. وأما إن كان بشد رحل، فإنه لا يجوز، فإن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: (لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد، المسجد الحرام ومسجدي هذا، والمسجد الأقصى) (1) . فلا يجوز شد الرحال إلى غيرها من المواضع تعبداً، لكنه يقصد المدينة وعبادة الله في حرمها، فإن زار قبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم وقبور الصحابة لاسيما الشيخين فهو فعل يتقرب به إلى الله. ومن البدع أن يتمسح بقبره، فقد قال الإمام أحمد: " أهل العلم كانوا لا يمسونه " أي لا يمسون القبر ولا الحجرة الشريفة التي فيها قبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم.

_ (1) أخرجه البخاري [1 / 299] ومسلم [4 / 126] وغيرهما، الإرواء رقم 970.

كما أنه لا يستقبل القبر بالدعاء، فإذا دعا للنبي صلى الله عليه وآله وسلم استقبل البيت. وحكى شيخ الإسلام النهي عن ذلك باتفاق أهل العلم. كما أنه من البدع أن يدعو لنفسه عند قبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم أو عند قبر أحد من الناس، فإن هذا من البدع، كما نص على هذا شيخ الإسلام، وأنه لم يثبت عن أحدٍ من الصحابة، فإن هذا من العبادة، والقبور لا تتخذ معابداً ومساجداً يعبد الله فيها. وإنما يدعى لأهل القبور، فإن دعا عند قبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم له بالشفاعة والوسيلة، فإن هذا دعاء حسن، ودعا لأبي بكر وعمر برفعة الدرجات ونحو ذلك فهو دعاء حسن، أما أن يدعو لنفسه عند قبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم وقبر صاحبيه أو غيرها من القبور فهو من البدع المحدثة. وما يذكره بعض الفقهاء من الأحاديث في هذا الباب لا أصل له، فإن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: (من حج فزار قبرى بعد مماتي فكأنما زارني في حياتي وصحبتي) رواه الدارقطني وغيره ولا أصل له، بل هو حديث باطل، وغير ذلك من الأحاديث في هذا الباب هي أحاديث باطلة ضعفها شيخ الإسلام وغيره، فلا أصل لهذه الأحاديث. ولا ارتباط لزيارة قبره صلى الله عليه وآله وسلم بالحج. والله أعلم مسألة: من خرج ولم يطف طواف الوداع؟ هل نقول: فات وقته ويلزمه الدم، أو لا نقول: فات وقته، بل هو مطالب به؟ وكوننا نقول: إنه إذا خرج من مكة ولم يطف فإنه قد فات الوقت، وحيث قلنا بوجوب الدماء في ترك شيء من الواجبات، فنقول: بأنه يجب عليك الدم، هذا في الحقيقة قوي؛ لأن العبادات إذا فات وقتها فنحتاج إلى دليل آخر يدل على مشروعية قضائها والوقت هنا هو التوديع، فحيث خرج من مكة من غير أن يفعل هذا، فقد فات الوقت، وحينئذ إن قلنا بالدماء في ترك الواجبات كما هو مذهب ابن عباس وغيره ومذهب الجمهور، فنقول: إنه يجب عليه الدم وإن أمكنه الرجوع.

لكن يقوى القول أنه إن كان معذوراً بجهل أو نسيان أنه يسقط عنه كما أن الحائض يسقط عنها ولا تنتظر لعذرها، فكذلك، فهذا القول قوي ولم أر أحداً من أهل العلم ذكره، فهو فعل قد فات موضعه ومحله ولا دليل على قضائه. إلا أن يصح أثر قد ذكر في هذا الباب في سنن سعيد بن منصور: أن عمر أمر رجلاً أن يرجع لطواف الوداع "، فإن ثبت هذا، فإنه يقوي القول بالرجوع لثبوت هذا الأثر عن عمر. والحمد لله رب العالمين. قال المؤلف رحمه الله تعالى: (وصفة العمرة أن يحرم بها من الميقات) فإن كان من أهل المدينة ومن أتى على المدينة فميقاتهم ذو الحليفة وهكذا البلدان الأخرى، ودليل هذا ما تقدم من قوله صلى الله عليه وسلم: (هن لهن ولمن أتى عليهن من غيرهن ممن أراد الحج والعمرة) (1) فهذه المواقيت مواقيت للحج والعمرة. قال: (أو من أدنى الحل من مكي ونحوه) هذا إذا كان مكياً سواء كان مقيماً في مكة من أهلها أو كان من الزائرين لها، فإن ميقاتهم هو أدنى الحل من التنعيم أو الجعرانة أو الحديبية أو غيرها مما هو من الحل، فميقاتهم الحل في العمرة. وأما ميقاتهم للحج فمن مكة كما في الحديث: (حتى أهل مكة من مكة) (2) . قال: (لا من الحرم) فليس للمكيين أو من نزل مكة من غير المقيمين أن يهلوا من الحرم ليس لهم ذلك بالاتفاق لأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر عبد الرحمن بن أبي بكر أن يعمر عائشة من التنعيم كما ثبت ذلك في الصحيحين (3) . فإن أهلّ من الحرم، فكما لو أهلّ بالحج والعمرة من كان من أهل المواقيت من دونها – أي كما لو أهل المدني من المدينة لا من ذي الحليفة فإنه يجزئه ذلك، فالإهلال صحيح مجزئ وعليه دم. وكذلك إن أحرم المكي من الحرم، فعليه دم لأنه لم يحرم من المواقيت فيكون قد ترك واجباً من واجبات العمرة فعليه دم.

_ (1) تقدم ص18 (2) تقدم ص18 (3) سبق ص19

ولا يستحب كما قرر هذا شيخ الإسلام ولا يشرع: أن يعتمر المكي أو غيره من النازلين بمكة أن يعتمروا من التنعيم خارجين إليه للعمرة فالعمرة إنما تشرع للقادمين – أي بأن يأتي من خارج مكة قادماً إلى مكة فيعتمر أما أن يتكلف الخروج من مكة للعمرة فليس بمشروع ولا مستحب. ودليل هذا: أن النبي صلى الله عليه وسلم – وقد اعتمر مراراً وحج حجة الوداع لم يتكلف هذا، فلم يخرج من مكة لا إلى التنعيم ولا إلى غيره ليعتمر منه خارجاً من مكة وكذلك أصحابه من المكيين وغيرهم لم يصح عن أحد منهم مع توافر الهمم لنقل ذلك – لم يصح عنهم الخروج من مكة لأجل العمرة لا إلى التنعيم ولا إلى غيره. ومن هنا أسقط العمرة - من أوجبها، أسقطها - عن المكيين كما تقدم، وهو مذهب الإمام أحمد وغيره من أهل العلم ولذا قال ابن عباس – كما في مصنف ابن أبي شيبة وغيره: (يا أهل مكة ليس عليكم عمرة إنما عمرتكم الطواف بالبيت) ونحوه عن عطاء إمام أهل زمانه في المناسك فإنه كان يقول: " يا أهل مكة ليس عليكم عمرة إنما عمرتكم الطواف بالبيت " رواه ابن أبي شيبة. وقال طاووس – كما رواه سعيد بن منصور كما حكى ذلك شيخ الإسلام قال: " لا أدري الذين يعتمرون من التنعيم أيؤجرون أم يعذبون، قيل: فلم يعذبون؟ قال: لأنه يدع الطواف بالبيت ويخرج أربعة أميال وإلى أن يجيء من أربعة أميال قد طاف مائتى طواف فكلما طاف بالبيت كان أفضل من أن يمشي في غير شيء ". ولذا لما سئل عطاء وهو إمام أهل مكة – كما روى ذلك عبد الرزاق في مصنفه: أنه سئل فقيل له: " أأعتمر من الشجرة " أي من الحديبية أي من شجرة الرضوان فقال: لا ".

فالعمرة خروجاً من مكة إلى الحل ليست بمشروعة والنبي صلى الله عليه وسلم إنما أذن لعائشة بها تطييباً لخاطرها بعد مراجعة كثيرة منها للنبي صلى الله عليه وسلم – كما ثبت في الصحيحين – فلم يأمرها بها ولم يستحبها لها وإنما استأذنته وأكثرت عليه فأذن لها وكانت تقول في مصنف عبد الرزاق – فيما حكاه شيخ الإسلام: " لأن أصوم ثلاثة أيام أو أتصدق على عشرة مساكين أحب إلى من العمرة التي اعتمرت من التنعيم " وهي عمرة مجزئه لأن النبي صلى الله عليه وسلم - كما تقدم – أذن لعائشة بها لكنها ليست بمستحبة. قال: (فإذا طاف وسعى وقصر حل) إجماعاً فإذا طاف وسعى وقصر أو حلق حل، وهذا هو فعل النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه كما تقدم في سياق عمرتهم في حجة الوداع. قال: (ويباح كل وقت) أي في أشهر الحج وغيرها. وأما ما كان يعتقده أهل الجاهلية من أنها لا تشرع في أشهر الحج قد أبطله الإسلام بل عُمر النبي صلى الله عليه وسلم كلها كانت في أشهر الحج، فله أن يعتمر في أشهر الحج وغيرها بل لو اعتمر في يوم عرفة أو في يوم النحر من ليس متلبساً بحج لأجزأه ذلك إذ لا دليل يدل على المنع من ذلك. وأفضلها العمرة في رمضان كما في الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (عمرة في رمضان تعدل حجة) (1) وفي مسلم: (تقضى حجة أو حجة معي) .

_ (1) أخرجه البخاري باب عمرة في رمضان وباب حج النساء من كتاب الحج، ومسلم باب فضل العمرة في رمضان من كتاب الحج، وأبو داود. المغني [5 / 17] .

وله أن يكررها في السنة مراراً، فلو اعتمر في كل شهر أو في كل شهرين فإنه لا بأس بذلك لإطلاق النبي صلى الله عليه وسلم في قوله: (العمرة إلى العمرة كفارة لما بينهما، والحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة) (1) متفق عليه. فقد أطلق النبي صلى الله عليه وسلم ولم يقيد. وقال فيما رواه الترمذي: (تابعوا بين الحج والعمرة فإنهما ينفيان الفقر والذنوب كما ينفي الكير خبث الحديد والذهب والفضة وليس للحجة المبرورة ثواب إلا الجنة) (2) فأطلق النبي صلى الله عليه وسلم، فدل على أن العمرة بعد عمرة أخرى تصح من غير توقيت إلا ما تقدم استثناؤه من أن يعتمر خارجاً من مكة فإن هذه عمرة غير مشروعة، فلو اعتمر بعد أيام يسيرة أجزأ ذلك. إلا أن الإمام أحمد قال: (لابد للعمرة من حلق أو تقصير وفي عشرة أيام يمكن الحلق) وروي هذا عن أنس كما عند الشافعي: " أنه كان إذا حمَّم رأسه - يعني إذا خرج بحيث يمكن حلقه - فإنه يعتمر ". لكن الحديث المتقدم مطلق فله أن يكرر ذلك ما شاء شريطة ألا يقع ذلك منه خروجاً من مكة بحيث يخرج من مكة ليعتمر أما إن اعتمر قادماً من بلدته ثم رجع إلى بلدته فمكث فيها أياماً ثم عاد فاعتمر فلا مانع من هذا. قال: (ويجزئ عن الفرض) يجزئ عمرة التنعيم وعمرة القارن: يجزئ عن الفرض أي يجزئه عن العمرة الواجبة عليه وكذلك العمرة المفردة – فإنها تجزئه عن العمرة الواجبة وقد تقدم ترجيح المذهب أن العمرة واجبة وذلك لأنه عمرة صحيحة فأجزأت عن العمرة الواجبة، فالواجب عليه أن يعتمر وقد اعتمر ففعل ما يجب عليه.

_ (1) أخرجه البخاري في أول باب العمرة من كتاب الحج، ومسلم باب في فضل الحج والعمرة ويوم عرفة من كتاب الحج.المغني [5 / 16] . (2) أخرجه الترمذي باب ما جاء في ثواب الحج والعمرة من أبواب الحج، والنسائي باب فضل المتابعة بين الحج والعمرة. المغني [5 / 19] .

فعمرته مع تمتعه وعمرته مع قرانه أو عمرته من التنعيم وأولى من ذلك عمرته إن أفردها كل ذلك يجزئه عن العمرة الواجبة ومما يدل على هذا: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لعائشة وكانت قارنة قال: (طوافك بالبيت وبين الصفا والمروة يجزئك عن حجك وعمرتك) (1) . قال: (وأركان الحج الإحرام والوقوف) الإحرام: تقدم تعريفه وهو نية الدخول في النسك وهو ركن وتقدم دليله وهو حديث: (إنما الأعمال بالنيات) (2) " والوقوف " بعرفة وهو ركن وتقدم دليله. قال: (وطواف الزيارة والسعي) فطواف الزيارة ركن وتقدم دليله وكذلك السعي فإنه ركن. واعلم أن مذهب جمهور العلماء أن السعي ركن من أركان الحج وهو رواية عن الإمام أحمد وهي المشهورة عنه. وذهب الأحناف وهو قول طائفة من الحنابلة كالقاضي والموفق: أنه واجب يجبر بدم، وهو رواية عن الإمام أحمد. أنه سنة وهو رواية عن الإمام أحمد. فعن الإمام أحمد في السعي بين الصفا والمروة في الحج والعمرة ثلاث روايات. أما من قال: إنه سنة، فاستدل بقوله تعالى: {إن الصفا والمروة من شعائر الله فمن حج البيت أو اعتمر فلا جناح عليه أن يطوف بهما} (3) فنفي الجناح يدل على أن الطواف بالصفا والمروة ليس بواجب. وهذا دليل باطل أبطلته عائشة رضي الله عنها – كما في الصحيحين – فقالت لعروة: (بئسما رأيت) (4) عندما استدل بهذه الطريقة ولو لم يكن هذا التفسير باطلاً لما قالت فيه عائشة هذه المقالة. وبيان بطلان هذا التفسير من أوجه:

_ (1) سبق ص34 (2) أخرجاه. وقد تقدم. (3) سورة البقرة. (4) أخرجه البخاري باب وجوب الصفا والمروة وجُعل من شعائر الله من كتاب الحج رقم 1643، ومسلم باب بيان أن السعي بين الصفا والمروة ركن.. من كتاب الحج، صحيح مسلم بشرح النووي [9 / 23] .

الأول: أن الله قال: {إن الصفا والمروة من شعائر الله} فجعله من شعائره، وشعائر الله وشعائر الحج لا يجوزان أن تحل قال تعالى: {لا تحلوا شعائر الله} والطواف بين الصفا والمروة من شعائره ومن شعائر الحج ذلك ومن يعظم شعائر الله فإنها من تقوى القلوب. الثاني: أن الله عز وجل لم يقل: {فلا جناح عليه ألا يطوف بهما} كما بينته عائشة في روايتها فإنه قال: {فلا جناح عليه أن يطوف بهما} ولو كان المقصود هو نفي الإيجاب لقال: {ألا يطوف بهما} أي لا إثم عليه ألا يطوف فلا يقال: لا إثم عليه أن يطوف إذ قطعاً السعي بين الصفا والمروة لا إثم فيه، لكن البحث هل يثبت الإثم في تركه وعدم الطواف أم لا؟ فهذا هو محل البحث، ولو كان ذلك لقال: فلا جناح عليه ألا يطوف بهما. الثالث: إن سبب نزول هذه الآية هو تحرُّج وقع من بعض الأنصار – كما ثبت هذا عن عائشة في روايتها، فكان الجواب لرفع الحرج والجناح، لأن السؤال وقع من أناس تحرجوا ورأوا الجناح في الطواف بالصفا والمروة لاعتقاد كانوا يعتقدونه في الجاهلية فأتى الجواب ينفي الجناح بناءً على سؤالهم وموافقة له كما لو قال قائل: هل من جناح في أداء الصلوات المكتوبة؟ فإن الجواب لا جناح في أدائها. فلا شك ببطلان هذا القول، والأدلة الشرعية تبطله كما سيأتي. وأما دليل من قال بالركنية وهو قول الجمهور.

- ما ثبت في مسلم عن عائشة قالت: (طاف النبي صلى الله عليه وسلم وطاف المسلمون فكانت سنة فلعمري ما أتم الله حج من لم يطف بين الصفا والمروة) (1) والشاهد هنا: أن عائشة أثبتت أن الطواف بين الصفا والمروة سنة للنبي صلى الله عليه وسلم وللمسلمين، ورتبت على ذلك بالفاء، وأقسمت على أن الله عز وجل لا يتم حج من لم يطف بالصفا والمروة، وحيث رتبته بالفاء فدل على أن هذا الحكم منها فيترتب على هذه السنة وأنها من السنن المفترضة فيكون قولها له حكم الرفع. - وكذلك ما تقدم من قول ابن عباس: (أمرنا عشية التروية أن نهل بالحج فإذا فرغنا من المناسك طفنا بالبيت وبالصفا والمروة وقد تم حجنا) (2) فرتب تمام الحج على الطواف بالبيت وبين الصفا والمروة فدل على أنه لا يتم الحج إلا بهما. - ما ثبت في المسند والحديث صحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (اسعوا فإن الله كتب عليكم السعي) . - وكذلك قوله تعالى: {إن الصفا والمروة من شعائر الله} وقد تقدم طريقة الاستدلال بهذه الآية. - ولفعل النبي صلى الله عليه وسلم وقوله: (لتأخذوا عني مناسككم) . أما دليل من قال بالوجوب وهم من الأحناف ومن وافقهم فهي هذه الأدلة لكن قالوا: هي لا تدل إلا على الوجوب. وهذا ضعيف فإن الأدلة أو بعضها تدل على الركنية كما تقدم والصحيح أنها تدل على الركنية فالراجح مذهب جماهير العلماء وهو ركنية السعي في الحج والعمرة. قال: (وواجباته: الإحرام من الميقات المعتبر له، والوقوف بعرفة إلى الغروب) مجرد الوقوف ركن لكن الوقوف إلى الغروب هذا واجب وتقدم أن هناك رواية عن الإمام أحمد عنها أنه سنة.

_ (1) أخرجه مسلم باب بيان أن السعي بين الصفا والمروة ركن.. من كتاب الحج، كما أخرجه البخاري في باب يفعل في العمرة ما يفعل في الحج من كتاب العمرة. المغني [5 / 238] . (2) سبق ص124

قال: (والمبيت لغير أهل السقاية والرعاية بمنى ومزدلفة إلى بعد نصف الليل، والرمي والحلاق والوداع) كل هذا تقدم دليله فهذه واجبات الحج (1) . قال: (والباقي سنن) فالاضطباع والرمل وغيره. ومن ذلك طواف القدوم فهو سنة عند جمهور العلماء. وذهب المالكية إلى وجوبه. والأظهر قول الجمهور. قال: (وأركان العمرة، إحرام وطواف وسعي) قوله: " الإحرام " ليس المراد الموضع، بل المقصود نية الدخول في النسك. قال: (وواجباتها: الحلاق، والإحرام من ميقاتها) فهذه واجبات العمرة. ولم يذكر المؤلف طواف الوداع من واجبات العمرة وهو ظاهر كلام المؤلف وظاهر كلام غيره من الحنابلة أن طواف الوداع ليس بواجب في العمرة. قالوا: لأن النبي صلى الله عليه وسلم قد اعتمر عدة عمر ولم يثبت أنه طاف للوداع ولا أمر به ولو كان ذلك ثابتاً لنقل إلينا ولأن الأصل هو براءة الذمة من أن تتعلق بواجب من الواجبات. - وذهب بعض أهل العلم: إلى أن طواف الوداع واجب في العمرة. واستدلوا: بما ثبت في الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لسائل في عمرة الجعرانة: (اصنع في عمرتك ما أنت صانع في حجك) (2) قالوا: فهذا يدل على أن كل ما يصنع في الحج فيجب أن يصنع في العمرة.

_ (1) تقدم ص127، 106، 117، 134 (2) أخرجه البخاري باب يفعل بالعمرة ما يفعل بالحج من كتاب العمرة، رقم 1789، ومسلم باب ما يباح لبسه للمحرم بحج أو عمرة من بداية كتاب الحج، صحيح مسلم بشرح النووي [8 / 76] .

قالوا: وإنما استثناء الوقوف بعرفة والرمي وغير ذلك من مناسك الحج التي لم نقل بوجوبها في العمرة لأنها بالإجماع لا تشرع في العمرة فأخرجها الإجماع، ولأن العمرة متعلقة بالبيت فحسب ولا تعلق لها بغيره بخلاف الحج فإنه يتعلق بالبيت وبغيره فشرعت له تلك المناسك أما العمرة فإنما يشرع لها ما يتعلق بالبيت مما هو ثابت في الحج وطواف الوداع كذلك. وروى الترمذي في سننه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من حج البيت أو اعتمر فليكن آخر عهده بالبيت) (1) لكن الحديث فيه الحجاج بن أرطاة وهو ضعيف الحديث. وهذا الاستدلال فيه قوة. والأقوى – فيما يظهر لي – استدلالاً: أن يقال: إن طواف الوداع لا تعلق له بالحج كما هو اختيار شيخ الإسلام وهو مذهب الشافعية – فإنه لا تعلق له بالحج أصلاً حتى يختص به دون العمرة بل هو متعلق بالبيت توديعاً له. بدليل: أن من طافه ثم أقام فإنه يبطل ويجب عليه أن يعيده. وبدليل: أنه إنما يشرع له إذا أراد الخروج ولو لم يكن ذلك منه إلا بعد سنين طويلة بخلاف مناسك الحج فإنها مشروعة في أيام الحج بالاتفاق، فإن سائر واجبات الحج وأركانه وسننه إنما تشرع في أيام الحج، وأما طواف الوداع فإنه يشرع عند إرادة الخروج ولو كان ذلك بعد شهر ذي الحجة، فدل على أنه لا ارتباط له بالحج وإنما ارتباطه بتوديع البيت للناسكين، والمعتمر ناسك كما أن الحاج ناسك، وهذا المذهب مذهب قوي فيما يظهر لي وهو اختيار الشيخ محمد بن صالح بن عثيمين (2) والله أعلم (3) . أما إذا اعتمر ثم خرج مباشرة فإنه لا يجب عليه طواف الوداع باتفاق العلماء. قال: (فمن ترك الإحرام لم ينعقد نسكه)

_ (1) أخرجه الترمذي باب ما جاء من حج أو اعتمر فليكن آخر عهده بالبيت من كتاب الحج رقم 946. (2) لقد توفي بالأمس، رحمه الله تعالى وغفر لنا وله ورفع درجته. (3) انظر ص145

رجل لم ينو في حج أو عمرة فإنه لا تنعقد نسكه؛ لأن الأعمال لا تصح إلا بالنيات: (إنما الأعمال بالنيات) (1) فإذا لم ينو الحج أو العمرة فإن حجه أو عمرته لم ينعقدا ولا خلاف بين أهل العلم في هذا، بل هي من مسائل الإجماع. قال: (وإن ترك ركناً غيره لم يتم نسكه إلا به) أي إن ترك ركناً غير الإحرام من الأركان الأربعة للحج أو الأركان الثلاثة للحج (2) ، فترك الطواف أو السعي في الحج أو العمرة أو ترك الوقوف في الحج لم يتم نسكه إلا به لأنه ركن ولا تصح العبادات ولا تتم إلا بأركانها وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم – لما قيل له – أن صفية حاضت فقال: (أحابستنا هي) (3) ؟ وهذا أيضاً باتفاق العلماء. قال: (ومن ترك واجباً فعليه دم) من ترك واجباً سواء كان ذلك سهواً أو جهلاً فإن عليه أن يجبره بدم عند جماهير العلماء. ودليل ذلك ما تقدم عن ابن عباس أنه قال: (من نسى من نسكه شيئاً أو تركه فليهرق دماً) (4) ولا خلاف من أحد من الصحابة لابن عباس فلا يعلم له مخالف، وحيث كان ذلك فقوله حجة، ولأن مثل ذلك له حكم الرفع فإنه لا يعقل أن ابن عباس يوجب الدماء في مسائل كثيرة من مسائل الحج في واجباته من غير أن يكون عن نص من النبي صلى الله عليه وسلم فهو مما لا يدرك بالاجتهاد وحيث كان كذلك فإنه له حكم الرفع وهذا الأثر اشتهر عن ابن عباس ولا يعلم له مخالف فيه فيكون حجة وإجماعاً. فإذن: من ترك واجباً من واجبات الحج ساهياً أو جاهلاً أو متعمداً فإن عليه دم، هذا إن لم يتمكن من الفعل، فإن تمكن فعليه أن يفعل فإن لم يفعل فعليه دم.

_ (1) متفق عليه، وقد تقدم. (2) لعل الصواب: العمرة. (3) تقدم ص122 (4) تقدم ص132

أما من ترك واجباً من الواجبات عاجزاً عنه معذوراً شرعاً في تركه كمن لم يتمكن من المبيت بمزدلفة لازدحام الناس أو نحو ذلك فإنه لا شيء عليه لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يوجب ذلك وتأخير البيان عن وقت الحاجة ممتنع. إن قال قائل: لم فرقنا بين هذه المسألة ومسألة سابقة وهي مسألة الفدية فقلنا: أن من فعل محظوراً من محظورات الإحرام جاهلاً أو ناسياً فلا شيء عليه وهنا نقول من ترك واجباً ناسياً أو جاهلاً فعليه دم؟ فالجواب: أنا فرقنا بمفرق وهو أن هذه واجبات وهذه محرمات فهذه أوامر وهذه نواهي فالأوامر مازال المكلف مطالباً بها وأما النواهي فإنها إن وقعت منه فقد وقع في المنهي عنه فكما لو لم يقع منه حيث كان ناسياً أو جاهلاً، وأما الأوامر فإنه لا يزال مطالباً بها فحينئذ يجبر هذا بالدم. فمن فعل أمراً محرماً منهياً عنه ليس كمن ترك واجباً. ولذا فرقنا في مسألة سابقة بين من صلى وعليه نجاسة فقلنا: صلاته صحيحة، وبين من صلى ولا وضوء عليه فقلنا: صلاته باطلة لأن هذا من باب الأوامر وهذا من باب النواهي. قال: (أو سنة فلا شيء عليه) فمن ترك سنة من السنن كالاضطباع والرمل وغيرهما فإنه لا شيء عليه وهذا باتفاق العلماء. والحمد لله رب العالمين. تقدم في الدرس السابق تقوية ما ذهب إليه بعض أهل العلم من وجوب طواف الوداع في العمرة كوجوبه في الحج، وأن أظهر الأدلة على هذا ما قرره شيخ الإسلام: في أن طواف الوداع ليس من واجبات الحج بل من واجبات البيت توديعاً له وحينئذٍ فلا فرق بين الحاج والمعتمر، بدليل أن من أراد الخروج من مكة شرع له ذلك ولو كان خروجه بعد خروج شهر ذي الحجة. وبقي الحديث عن دليل ما ذهب إليه الحنابلة وغيرهم من أن النبي صلى الله عليه وسلم قد اعتمر عمرتين أو ثلاثاً ومع ذلك فإنه لم يطف طواف الوداع ولم يأمر به ولو كان ثابتاً لنقل إلينا.

فالجواب عن هذا: أن طواف الوداع أو الصدر إنما شرع في حجة الوداع كما يدل على ذلك سياق الحديث، فإن الناس كانوا ينصرفون إلى كل جهة فأمروا في حجة الوداع أن يكون آخر عهدهم بالبيت. فدل هذا على أن طواف الوداع إنما شرع في حجة الوداع، فلا يرد ما تقدم بما يستدل للحنابلة به مما تقدم، فإن النبي صلى الله عليه وسلم إنما شرعه في حجة الوداع. باب: الفوات والإحصار الفوات: مصدر فات أي سبق فلم يُدرك هذا لغة. أما اصطلاح: هو عدم إدراك الوقت بعرفة أي يدخل في يوم النحر ولم يقف بعرفة، فهو لم يدرك عرفة فهذا هو الفوات. أما الإحصار فهو في اللغة: المنع والحبس. وفي الاصطلاح: منع المحرم من إتمام نسكه، كأن يمنع من الوقوف بعرفة أو من طواف الزيارة، أو يمنع من الحج كله أو العمرة كلها، فهذا هو الإحصار. أما الفوات: فهو عدم إدراك عرفة فهو خاص بعرفة. وأما الإحصار: فهو عام في عرفة وغيرها، كما أنه عام في الحج والعمرة فهو شامل لهما. قال: (من فاته الوقوف فاته الحج) من لم يدرك عرفة قبل أذان الفجر يوم النحر فقد فاته الحج، ولا خلاف بين أهل العلم في هذا. ودليله ما ثبت عند الخمسة بإسناد صحيح - وتقدم - أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (الحج عرفة فمن أدرك عرفة قبل طلوع الفجر فقد أدرك الحج) (1) فمفهوم الحديث أن من لم يدرك عرفة لم يدرك الحج ولا خلاف بين أهل العلم في هذا. قال: (وتحلل بعمرة) فمن فاته الوقوف فاته الحج وتحلل بعمرة. فهو قد نوى النسك ونسكه نسك حج ففاته الوقوف بعرفة فإنه يتحلل بعمرة فيطوف بالبيت ويسعى بين الصفا والمروة ويحلق أو يقصر. قال: (ويقضي) أي يقضي من العام القادم. قال: (ويهدي إن لم يكن اشترطه) أي يهدي من العام القادم إن لم يكن اشترطه أي إن لم يكن قد قال: (فمحلي حيث حبستني) فمن اشترط فلا يجب عليه قضاء ولا هدي وإنما الحكم فيمن لم يشترط ذلك.

_ (1) تقدم ص103

إذا فاته الوقوف بعرفة فإنه يتحلل بعمرة فيطوف بالبيت ويسعى بين الصفا والمروة ويحلق أو يقصر ويجب عليه في العام القادم أن يحج ويهدي مع حجه عن تلك الحجة التي فاته الوقوف بها. ودليل هذا: ما ثبت في موطأ مالك بإسناد صحيح: أن عمر سأله من فاته الوقوف بعرفة فقال: " اصنع كما يصنع المعتمر - وطف واسع وحلق أو قصر - ثم قد حللت فإذا كان من قابل فاحجج واهد ما تيسر من الهدي " (1) ولا يعلم له مخالف بل وافقه زيد بن ثابت كما في سنن البيهقي بإسناد صحيح – فلا يُعلم لهما مخالف -. وفي قول المؤلف: (ويقضي) إطلاق منه سواء كانت هذه هي حجة فريضة أو حجة تطوع فيجب عليه أن يحج من قابل ويهدي وهذا مذهب جمهور العلماء. وعن الإمام أحمد ومالك لكل منهما رواية أخرى: على أنه لا يجب عليه ذلك في التطوع، فإذا كانت تطوعاً فلا يجب عليه القضاء أما إذا كانت فريضة فيجب عليه الحج من قابل لا من باب القضاء لكنه من باب الأمر الأول المتعلق به فهو ما زال مطالباً بحجة الإسلام ولم يحج بعد حجة صحيحة. فإذن: إن كانت حجة فريضة وفاته الوقوف بعرفة فلا خلاف بين أهل العلم أنه يجب عليه الحج، وذلك لأن حجته تلك لا يجزئ عنه فما زال مطالباً بحجة صحيحة مجزئه. وهل يجب عليه الحج من قابل؟ – على الخلاف بين أهل العلم في هل يجب الحج على الفور أو على التراخي. أما إن كان الحج الذي قد أفسده الفوات إن كان تطوعاً فهل يقضي أم لا؟ قولان: قال الجمهور: يجب عليه القضاء من قابل. وعن الإمام أحمد ومالك: أنه لا يجب عليه القضاء. قال أهل القول الأول:

_ (1) الموطأ برواية يحيى بن يحيى الليثي باب هدي من فاته الحج من كتاب الحج رقم 865. والبيهقي باب ما يفعل من فاته الحج من كتاب الحج، المغني [5 / 426] .

يجب عليه القضاء لظاهر الآثار فإن أثر عمر المتقدم ظاهره أنه عليه الحج من قابل مطلقاً ولم يستفصل عمر أهي حجة تنفل أو حجة فريضة، فلم يستفصل وأعطى حكماً عاماً فدل على أن الحكم يشمل الحجة التي فات الوقوف فيها وهي تطوع كما أنه شامل للحجة التي فات الوقوف فيها وهي فريضة. قالوا: ولأن الله عز وجل قال: {وأتموا الحج والعمرة لله} (1) فالحج يجب بالشروع فيه، وحيث وجب بالشروع فيه، فإذا فاته الوقوف في هذه السنة فيجب عليه أن يأتي به في سنة أخرى كالنذر. وأما حُجة الإمام أحمد في الرواية غير المشهورة عنه: فهي أن الشارع لم يوجب الحج إلا مرة واحدة، وحيث كان ذلك فلا يوجب عليه حجة أخرى. والراجح هو القول الأول لقوة دليله، فإن الله عز وجل قال: {وأتموا الحج والعمرة لله} وحيث فاته الوقوف وقد شرع في الحج فإن الحج لازم في ذمته واجب عليه، فحيث لم يتمكن منه هذه السنة فإنه يجب عليه في السنة الأخرى. ثم عندنا ذاك الأثر عن عمر ولم يستفصل وترك الاستفصال في مقام الاحتمال ينزل منزلة العموم في المقال، ولا أثر يخالفه ولا حديث يخالفه عن النبي صلى الله عليه وسلم. فالراجح أنه يجب عليه القضاء مطلقاً. مسألة: إذا فات رجل الوقوف بعرفة فهل يجوز له أن يختار البقاء على إحرامه إلى السنة القادمة. فيقول: أنا نويت الحج وأريد إبقاءه ولو كان ذلك إلى السنة القادمة. هل يجوز له هذا؟ 1- قال الحنابلة: يجوز له هذا قياساً على العمرة، فكما أن العمرة يجوز أن يبقى محرماً بها السنة والسنتين والثلاث فكذلك الحج. 2- وقال جمهور العلماء وذكره الموفق احتمالاً: لا يجوز ذلك ولا يجزئ بل يجب عليه أن يتحلل منه بعمرة كما تقدم.

_ (1) سورة البقرة.

قالوا: لأن الحج لا يجزئ إلا بأشهره، فأشهر الحج هي مواضع إحرامه أي حج السنة نفسها، فلابد وأن يحرم في أشهر السنة نفسها. وهنا قد أحرم في أشهر ليست في تلك السنة التي يقع فيها الحج. والعمل والعبادة لا تصح قبل وقتها. ولابد وأن يكون الإحرام – كما تقدم ترجيحه – في أشهر الحج للحجة نفسها. وهذا فرق بين الحج وبين العمرة، فإن العمرة – كما تقدم – تجزئ في كل وقت فله في كل وقت أن يحرم بها. وأما الحج فليس له أن يحرم به إلا في أشهره. ولظاهر الآثار فإن الصحابة – كما تقدم في أثر عمر، أمره أن يتحلل بطواف وسعي وحلق أو تقصير – ظاهر الأمر الوجوب. فالصحيح خلاف الحنابلة في هذه المسألة وأنه إذا فاته الوقوف فليس له أن يبقى محرماً إلى السنة القادمة بل يجب عليه أن يتحلل بعمرة كما هو مذهب جمهور الفقهاء. قال: (ومن صده عدو عن البيت أهدى ثم حل) إن صده عدو عن البيت أهدى " أي نحر أو ذبح هديه " ثم حل أي تحلل. رجل أحرم بحج أو عمرة ثم منع عدوٌ له عن أن يتم نسكه من حج أو عمرة فإنه ينحر الهدي ويتحلل. لقوله تعالى: {فإن أحصرتم فما استيسر من الهدي} ولا خلاف بين أهل العلم في هذا. ولم يذكر المؤلف الحلق، وهو أحد القولين في مذهب الحنابلة وأن الحلق أو التقصير لا يجب على المحصر. قالوا: لأن الله لم يشترطه فقد قال تعالى: {فإن أحصرتم فما استيسر من الهدي} ولم يذكر حلقاً أو تقصيراً. وقال بعض الحنابلة وهو أحد القولين في المذهب واختاره أكثر أصحابه: يجب عليه الحلق، وهذا هو الراجح، فإن النبي صلى الله عليه وسلم أمر به فقد ثبت في البخاري عن المسور بن مخرمة: أن النبي صلى الله عليه وسلم: (حلق بالحديبية في عمرته وأمر أصحابه بذلك، ونحر قبل أن يحلق وأمر أصحابه بذلك) (1)

_ (1) أخرجه البخاري باب ما يلبس المحرم، وباب متى يحل المعتمر وباب من قال ليس على المحصر بدل من كتاب المحصر وجزاء الصيد

وذلك لما أحصر كما ثبت ذلك في الصحيحين من حديث ابن عمر قال: (خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فحال كفار قريش دون البيت فنحر النبي صلى الله عليه وسلم هديه وحلق رأسه) (1) فقد نحر ثم حلق وأمر أصحابه بذلك، والسنة تدل على ما يدل عليه القرآن من فرض أو استحباب أو تحريم أو كراهية أو غير ذلك من الأحكام كما هو باتفاق أهل العلم. فعلى ذلك فيه أمر النبي صلى الله عليه وسلم، فقد حلق رأسه وأمر بالحلق. فأصح القولين في المذهب وهو اختيار أكثر الحنابلة: أن الحلق واجب فمن أحصر فيجب عليه أن ينحر ثم يحلق وليس له أن يحلق قبل أن ينحر لقوله تعالى: {ولا تحلقوا رؤوسكم حتى يبلغ الهدي محله} وإنما استثنى ذلك في يوم النحر للحرج فقدم الحلق على النحر وجاز ذلك كما تقدم في الحديث المتفق عليه رفعاً للحرج فما سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن شيء قدم ولا أخر في ذلك اليوم إلا قال: افعل ولا حرج (2) . أما في المحصر فإن ظاهر الآية الكريمة: أنه ليس له أن يحلق رأسه قبل أن ينحر. وظاهر كلام المؤلف: أنه لا يجب عليه القضاء، فمن أُحصر فالواجب عليه أن ينحر ويحلق ولا يجب عليه الحج في السنة المقبلة، إلا أن تكون هذه الحجة حجة فريضة فيجب عليه الحج من قابل للأمر الأول. وهذا هو المشهور عند الحنابلة وأن المحصر لا يجب عليه القضاء. واستدلوا بطريقتهم السابقة في الاستدلال بالآية في قوله تعالى: {فإن أحصرتم فما استيسر من الهدي} ولم يوجب قضاء. وعن الإمام أحمد أن القضاء واجب عليه.

_ (1) أخرجه البخاري باب ما يلبس المحرم، وباب متى يحل المعتمر وباب من قال ليس على المحصر بدل من كتاب المحصر وجزاء الصيد، ومسلم باب بيان جواز التحلل بالإحصار من كتاب الحج. المغني [5 / 195] . (2) تقدم ص115

فعن الإمام أحمد روايتان ودليل الرواية الثانية: ما ثبت عند الخمسة بإسناد صحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من كُسر أو عُرج فليتحلل وعليه الحج من قابل) (1) ولقوله تعالى: {وأتموا الحج والعمرة لله} فهذا قد نوى الحج فوجب عليه أن يتمه وحيث لم يمكنه الإتمام في هذه السنة فإن عليه أن يحج في السنة القادمة كما تقدم في استدلالهم في المسألة السابقة. والنص المتقدم ظاهر في هذا والنبي صلى الله عليه وسلم قد أطلق ولم يفرق بين حجة الفريضة وحجة النافلة. فمن أحصر في فريضة أو نافلة فإن عليه أن يحج من قابل، وهذا هو الأرجح. فالراجح أن المحصر يجب عليه أن يحج من قابل، وهو رواية عن الإمام أحمد. قال: (فإن فقده صام عشرة أيام ثم حل) أي فقد الهدي فإنه يصوم عشرة أيام ثم يحل. فعندهم أنه يسقط عنه الهدي لبدلٍ وهو الصيام - وليس له أن يتحلل حتى يصوم؛ لأنه بدل عن الهدي، ولا يتحلل حتى ينحر الهدي – هذا هو المذهب. وقد تقدم هذا وأن الراجح أنه يسقط عنه الهدي لا إلى بدل كما هو مذهب بعض أهل العلم، فقد تقدم ذكر هذه المسألة في باب سابق. فالراجح: أن من عجز عن الهدي فإنه يسقط عنه لا إلى بدل لأن الله لم يذكر البدل وتأخير البيان عن وقت الحاجة لا يجوز. وتقدم إبطال قياسهم على هدي التمتع في باب سابق. (انظر باب الفدية) قال: (وإن صد عن عرفة تحلل بعمرة) أي رجل لم يُصدَّ عن البيت فيمكنه أن يطوف ويسعى ولكنه صُد عن عرفة التي هي ركن الحج. فحينئذٍ حكمه: أنه يتحلل بعمرة ولا هدي عليه ولا قضاء. فلو أن رجلاً قال: لبيك حجاً فلما أتى مكة أُحصر عن الوقوف بعرفة فحينئذٍ نقول: اقلب حجك إلى عمرة فطف بالبيت وبالصفا والمروة وحلق أو قصر ولا شيء عليك.

_ (1) تقدم ص5

وهذا ظاهرٌ فإنه تقدم أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر الصحابة وقد أهلوا بالحج أمرهم أن يقلبوا إهلالهم بالحج إلى عمرة وحيث جاز هذا بلا إحصار فإنه مع الإحصار أولى. أما إن حبس وصد هذا عن الطواف بالبيت، أي وقف بعرفة ورمى وحلق لكنه منع وصد عن الطواف – عن طواف الإفاضة -. قالوا: يبقى محرماً أبداً حتى يطوف بالبيت. إن منع من الطواف وحبس عنه فإنه لا يمكنه أن يتحلل بعمرة كمن فاته الوقوف وحينئذٍ فليس له أن ينقل النسك وما تقدم قلبٌ للنسك لأنه يمكنه أن يقلبه من حج إلى عمرة، أما هنا فلا يمكنه أن يقلبه إلى عمرة لأن المنع متعلق بالبيت. فحينئذٍ: عليه أن يبقى محرماً أبداً حتى يتمكن من الطواف بالبيت ولو بعد سنوات طويلة. لكن هل له أن يتحلل كما يتحلل المحصرون فيذبح هدياً؟ قالوا: ليس له ذلك. قالوا: لأن الإحصار إنما ورد من الإحرام التام وهو الذي يكون المحرم فيه ممنوعاً من جميع المحظورات وهذا يكون قبل التحلل الأول. قالوا: وهذا هو الإحصار المشروع. أما هنا فإنه ليس بإحرام تام لأنه قد حل التحلل الأول لوقوفه بعرفة ورميه جمرة العقبة ولم يبق محظوراً عليه إلا النساء، والشرع إنما ورد بالتحلل من الإحرام التام أما وقد بقي عليه طواف الزيارة فقد حل التحلل الأول فإنه لم يرد الشرع فيه، هذا مذهب الحنابلة. وهذا لا شك أنه ضعيف. ولذا ذهب الشافعية: إلى أنه يتحلل كما يتحلل المحصرون، فيذبح ثم يحلق. قالوا: لأن الآية عامة: {فإن أحصرتم فما استيسر من الهدي} فالآية عامة في كل محصر سواء كان الإحصار قبل عرفة أم بعدها. فمن أحصر ومنع سواء كان الإحصار بعد عرفة أو قبلها، بعد التحلل الأول أو قبله، فإن ذلك كله داخل في عموم الآية. والمعنى يقتضي هذا، ثم إن التحلل من الإحرام الناقص أولى من التحلل من الإحرام التام، وهذا القول هو الراجح وفيه ما فيه من رفع الحرج.

فعلى ذلك: الصحيح ما ذهب إليه الشافعية وأن من صُد عن طواف الزيارة فإنه ينحر هديه ثم يحل. فالصحيح أنه إن منع عن شيء من أركان الحج فإنه لا يبقى محرماً بل يتحلل من ذلك. ومثل ذلك المرأة الحائض: لو قلنا أنها ليس لها أن تطوف بالبيت وهي حائض ضرورة كما هو مذهب الجمهور. فالصحيح أنها تتحلل بعد هدي تذبحه وأنها في حكم المحصرين – كما هو مذهب الشافعية. أما أن يمنع عن شيء من واجبات الحج فإن التحلل لا يقع، لأن التحلل إنما يكون لفعل المحظورات إن لم يقع له التحلل التام أو التحلل الناقص – على الراجح – والواجبات تجبر بالدماء فليس محلاً للتحلل وحينئذٍ فمن أحصر عن واجب من الواجبات كأن يحصر عن طواف الوداع كان عليه دماً في المشهور في المذهب. وفي إيجاب الدم – فيما يظهر لي – نظر لأنه عاجز عنه وأمر النبي - صلى الله عليه وسلم -، – وهم يقولون بوجوب الوقوف بعرفة من زوال الشمس إلى غروبها، والنبي صلى الله عليه وسلم قد نص على أن من فاته الوقوف بعرفة نهاراً وأدركه بشيء من الليل فمع فوات الواجب الذي هم يقولون به لم يوجب النبي صلى الله عليه وسلم عليه دماً فهنا كذلك. فالأظهر أنه لا دم عليه، فمن أحصر عن شيء من مناسك الحج فإنه لا دم عليه ولا شك أن الأحوط هو الدم. إذن: المشهور عند الحنابلة أن من منع من شيء من الواجبات فإنه لا يوجه إليه التحلل المختص بالمحصرين لأن حجه يصح من غير فعل هذا الواجب، فإن ترك الواجبات كرمي أو غيره لا يبطل الحج ويجبر بالدم فليس محلاً لتحلل المحصرين وحينئذٍ: فعليه أن يذبح دماً لتركه لهذا الواجب. قال: (وإن حصره مرض أو ذهاب نفقة بقي محرماً إن لم يكن اشترط)

إذا حصره مرض كأن يكسر أو يعرج أو يصاب بشيء من الأمراض أو نفدت نفقته فلم يبق له ما ينفق منه على نفسه أو نحو ذلك من العوائق المانعة من تمام الحج سوى العدو – فقد تقدم أن العدو عند الحنابلة إن أحصر الحاج أو المعتمر فإنه يكون محصراً،وحينئذ ينحر ويحلق أو يقصر -. لكن هنا المسألة: إن كان هذا المعيق ليس عدواً وإنما مرض أو ذهاب نفقة أو نحو ذلك. فقال الحنابلة، وهو مذهب الجمهور: يبقى محرماً ولا يكون له حكم المحصرين. قالوا: لأن الله قال في كتابه: {فإن أحصرتم فما استيسر من الهدي} وهذه الآية نزلت في منع المشركين النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه من العمرة فهي قد نزلت في الإحصار من العدو. ولم يلحقوا به غيره. فجعلوا هذه الآية دليلاً على هذه المسألة. وصح عن ابن عباس أنه قال: (لا حصر إلا من عدو) رواه الشافعي بإسناد صحيح، ونحوه عن ابن عمر في الموطأ بإسناد صحيح. - وذهب الأحناف وهو رواية عن الإمام أحمد وهو قول ابن مسعود وقول طائفة من التابعين كمجاهد والحسن وعلقمة، وهو مذهب الظاهرية ومذهب أبي ثور، قالوا: بل الإحصار عام من العدو والمرض وذهاب النفقة وغيرها من العوائق المانعة من الحج أو العمرة. واستدلوا: بما تقدم من قوله صلى الله عليه وسلم: (من كسر أو عرج فليتحلل وعليه الحج من قابل) (1) رواه الخمسة وإسناده صحيح، وهو دليل على هذه المسألة ظاهر. فقد أعطى النبي صلى الله عليه وسلم من كسر أو عرج وهما من الأمراض أعطاهما حكم المحصرين. قالوا: ولأنه داخل في عموم الآية: {فإن أحصرتم فما استيسر من الهدي} ومن منعه مرض أو ذهاب نفقة فهو محصر.

_ (1) تقدم ص5

بل قال غير واحد من أهل اللغة: " الإحصار من مرض والحصر من عدو " وعليه حمل ابن القيم مقالة ابن عباس المتقدمة أي من حيث اللغة فهذه اللفظة " الإحصار " هي في المرض أظهر منها في الأعداء، فعلى ذلك يكون اختيارها في هذه الآية الكريمة تنبيهاً على دخول من منعه المرض من باب أولى لأن لفظة الإحصار أخص في منع المرض من منع العدو، وهذا هو اختيار ابن القيم. وأما الجواب على دليلهم فيقال: العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب. هذا هو القول الراجح وهو اختيار ابن القيم. إذن: اختلف أهل العلم هل يختص الإحصار بمنع العدو أو يعمه ويعم كل حبس ومنع سواء كان من عدوٍ أو من مرض أو ذهاب نفقة على قولين: الراجح: أنه عام في العدو وفي غيره وهذا هو الذي تدل عليه الأدلة الشرعية والنظر الصحيح إذ المعنى ثابت فيه كما هو ثابت في إحصار العدو. هذا إن لم يكن اشترط، أما من اشترط فإنه يتحلل ولا شيء عليه فلا دم عليه ولا يبقى محرماً كما ثبت في قوله صلى الله عليه وسلم لضباعة بنت الزبير: (اشترطي أن محلي حيث حبستني) (1) وفي النسائي: (فإن لك على ربك ما استثنيتِ) . فإذا اشترط فقال: (إن حبسني حابس فمحلي حيث حبستني) فإنه يتحلل ولا شيء عليه لا هدي ولا قضاء وتقدم الكلام على الاشتراط. والمسائل السابقة معروضة فيمن لم يشترط. والحمد لله رب العالمين. باب: الهدي والأضحية (2) الهدي: من الهدية وهو ما يهدى إلى حرم الله تعالى من النعم، وسيأتي الكلام عليه.

_ (1) متفق عليه، وتقدم ص27 (2) قبل ذلك صفحة بيضاء فيها العنوان بخط عريض وفي الصفحة المقابلة لها وبخط مختلف ما نصه: " هل يجزئ الاشتراك مع من ليس بمضح في بدنة؟ 1- الجمهور على الإجزاء (الشافعية وأحمد..) . 2- مالك قال بعدم الإجزاء، وهو قول، وكذلك لو كان متقرباً بغير أضحية. 3- أبو حنيفة: يجزئ أيضاً … "

الأضحية: فهي ما يذبح يوم النحر وأيام التشريق من النعم تقرباً إلى الله تعالى. وفيها أربع لغات: أضحية: كسر الهمزة، وضمها وتشديد الياء وتخفيفها " (أُضحية – إضحية – أضحيَّة، إضحيّة) وهنا لغة خامسة وهي " ضحيَّة " سيأتي الكلام عليها. قال: (أفضلها إبل ثم بقر ثم غنم) الأفضل في الأضحية الإبل ثم البقر ثم الغنم، والبحث هنا في الأضحية وسيأتي الكلام على الهدي. استدل الجمهور على أن أفضل الأضاحي الإبل ثم البقر ثم الغنم، بالحديث المتفق عليه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من راح يوم الجمعة في الساعة الأولى فكأنما قرب بدنة، ومن راح في الساعة الثانية فكأنما قرب بقرة، ومن راح في الساعة الثالثة فكأنما قرب كبشاً أقرن) (1) قالوا: فهذا الحديث يدل على أن الإبل هي الأفضل ثم البقر ثم الغنم " من الضأن أو المعز ". وقال المالكية: الأفضل في الأضاحي هو الغنم فهي أفضل من الإبل والبقر. واستدلوا: بفعل النبي صلى الله عليه وسلم فقد ثبت في الصحيحين من حديث أنس بن مالك قال: (ضحى النبي صلى الله عليه وسلم بكبشين أملحين أقرنين ذبحهما بيده وسمى وكبر ووضع رجله على صفاحهما) (2) والشاهد قوله: " ضحى بكبشين " فالنبي صلى الله عليه وسلم ضحى بالغنم ولما ثبت في الترمذي وابن ماجه بإسناد صحيح عن أبي أيوب الأنصاري قال: (كان الرجل في عهد النبي صلى الله عليه وسلم يضحي بالشاة الواحدة عنه وعن أهل بيته فيأكلون ويطعمون ثم تباهى الناس كما ترى) (3) .

_ (1) أخرجه البخاري باب فضل الجمعة من كتاب الجمعة، ومسلم باب الطيب والسواك يوم لاجمعة من كتاب الجمعة، وأهل السنن، المغني [3 / 165] . (2) أخرجه البخاري [4 / 25، 451] ومسلم [6 / 77] وغيرهما، الإرواء رقم 1137. (3) أخرجه الترمذي [1 / 284] وابن ماجه [3147] وغيرهما الإرواء رقم 1142.

وهنا ينكر على التباهي في هذا الباب فدل على أنه خلاف الهدي - وهذا القول فيه قوة – فالنبي صلى الله عليه وسلم قد ضحى بالغنم ولا شك أن فعله أولى في هذا الباب – وبخصوص الأضحية – أولى بالاستدلال من الحديث المتقدم الذي هو ليس مختص بباب الأضاحي. فحديث الحنابلة وغيرهم في تفضيل الإبل هو حديث عام يدل على فضيلة الإبل على البقر والغنم وعلى فضيلة البقر على الغنم. وحديث المالكية يدل على اختصاص الغنم بالفضيلة في باب الأضاحي فالذي يظهر لي أن ما ذهب إليه المالكية أقوى والله أعلم. وأفضل كل جنس أسمنه فأغلاه وسواء كان ذكراً أو أنثى فلا بأس أن يضحي بالأنثى من الإبل أو بالذكر وكذلك في البقر والغنم، وأفضل ذلك أسمنه فاعلاه. ففي البخاري معلقاً عن أبي أمامة معلقاً قال: (كنا نسمِّن الأضحية بالمدينة وكان المسلمون يسمنون) (1) ووصله أبو نعيم في مستخرجه. وفي أبي عوانة في مستخرجه من حديث أنس المتقدم أن النبي صلى الله عليه وسلم: (ضحى بكبشين أملحين أقرنين) (2) عند أبي عوانة: (سمينين) وفي بلوغ المرام لابن حجر (3) أن عند أبي عوانة: " ثمينين " فلعلها رواية أخرى غير الرواية التي تقدم ذكرها. ولأن هذا من تعظيم شعائر الله، والأضاحي من شعائر الله، وقد قال تعالى: {ومن يعظم شعائر الله فإنها من تقوى القلوب} فأفضل الأضحية أسمنها فأغلاها. قال: (ولا يجزئ فيها إلا جذع ضأن) الجذع من الضأن يجزئ من الأضاحي لا من المعز، وبينهما فارق فإن الجذع من الضأن يرد على الأنثى فيلقح بخلاف الجذع من المعز. ويعرف الجذع بأنه ينام صوفه على ظهره. وقال الحنابلة: وهو ما له ستة أشهر. وقال الشافعية: ما له سنة.

_ (1) ذكره البخاري باب أضحية النبي - صلى الله عليه وسلم - بكبشين أقرنين من كتاب الأضاحي، الفتح [10 / 11] . (2) تقدم ص152 (3) كتاب الأطعمة، أول حديث في باب الأضاحي.

قال ابن الأعرابي: - وهو من أهل اللغة المشاهير -: " الجذع إن كان من شابين أجذع لستة أشهر، وإن كان من هرمين أجذع لثمانية أشهر إلى عشرة أشهر " فدل هذا على أنه يصح أن يجذع وهو لستة أشهر لكن هذا ليس ثابتاً بل قد يجذع لستة أشهر أو لثمانية أشهر إلى عشرة أشهر، فمتى نام صوفه ويعلم هذا أهل الخبرة من أهل الغنم متى نام صوفه فقد أجذع. فالجذع من الضأن هو المجزئ، ولا يجزئ من غيره إلا المسن، ولذا قال: قال: (وثني سواه) الثني هو المسن فلا يجزئ من غير الضأن إلا المسن، وهو ماله من الإبل خمس سنين ومن البقر سنتان، ومن المعز سنة. لذا قال: (وهو ماله من الإبل خمس سنين ومن البقر سنتان ومن الغنم سنة) فلا يجزئ جذعاً إلا أن يكون من الضأن. ودليل إجزاء الجذع من الضأن ما ثبت في سنن أبي داود والنسائي وابن ماجه بإسناد صحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن الجذع يوفي مما توفي من الثنية) (1) ، وثبت في النسائي بإسناد جيد عن عقبة بن عامر قال: (ضحينا مع النبي صلى الله عليه وسلم بالجذع من الضأن) (2) وهو أيضاً ثابت في الصحيحين نحوه. وأما ما ثبت في مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا تذبحوا إلا مسنة إلا أن يعسر عليكم فتذبحوا جذعاً من الضأن) (3) فهذا الحديث يحمل على الاستحباب جمعاً بينه وبين الأحاديث المتقدمة أي: يستحب لكم ألا تذبحوا إلا المسن إلا إن عسر عليكم ذلك فاذبحوا الجذع من الضأن.

_ (1) أخرجه أبو داود [2799] وابن ماجه [3140] وغيرهما الإرواء 1146. (2) أخرجه النسائي باب المسنة والجذعة، كتاب الضحايا رقم 4382، وهو في صحيح البخاري برقم 5547 في باب قسمة الأضاحي بين الناس من كتاب الأضاحي، ومسلم رقم 1965. (3) أخرجه مسلم [6 / 77] وأبو داود [2797] وغيرهما الإرواء 1145.

إذن: يجزئ الجذع من الضأن وهذا هو مذهب جماهير العلماء، ولا يجزئ من غير الضأن إلا الثنى أو المسن وهو ما له من الإبل خمس سنين ومن البقر سنتان ومن المعز سنة. قال: (والضأن نصفها) أي ستة أشهر، هذا هو المشهور في المذهب وتقدم كلام ابن الأعرابي من أهل اللغة. قال: (وتجزئ الشاة عن الواحد) أي عن الواحد وأهل بيته وعياله. كما تقدم في حديث أبي أيوب في الترمذي وابن ماجه قال: (كان الرجل على عهد النبي صلى الله عليه وسلم يضحي بالشاة الواحدة عنه وعن أهل بيته فيأكلون ويطعمون) (1) فالشاة لا تجزئ إلا عن الواحد أي وأهل بيته. ويريد المؤلف بقوله " ويجزئ عن الواحد " أي لا يصح الاشتراك فيها بخلاف الإبل والبقر. وأما إجزاؤها عن أهل بيته وعياله فإنها تجزئ عند الحنابلة ودليل هذا قول أبي أيوب المتقدم وله حكم الرفع. وأما الاشتراك فلا، فإنها لا يشترك بها وإنما يجزئ عن الواحد [و] من اتبعه من أهل بيته وعياله. قال: (والبدنة والبقرة عن سبعة) تقدم ما يدل على هذا وهو حديث جابر في مسلم في قوله: (نحرنا مع النبي صلى الله عليه وسلم البدنة عن سبعة والبقرة عن سبعة) (2) فإذا اشترك سبعة فأقل من ذلك ببقرة أو بدنة أجزأ ذلك عنهم. قال: (ولا تجزئ العوراء) وهي التي ذهبت إحدى عينيها. قال: (والعجفاء) وهي الهزيلة الضعيفة التي لا مخ في عظامها. قال: [والعرجاء] البين عرجها أي عرجها شديد يُضر بها في الرعي ولحاق الغنم في المرعى.

_ (1) تقدم ص152 (2) أخرجه مسلم باب جواز الاشتراك في الهدي، وإجزاء البدنة.. من كتاب الحج، صحيح مسلم بشرح النووي [9 / 66]

ويدل على هذا ما ثبت عند الخمسة بإسناد صحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أربع لا تجوز في الأضاحي: العوراء البيِّن عورها " ودل هذا على أن إحدى العينين إذا كان فيها شيء من البياض من العور الخفيف فإنه لا يؤثر، وإنما المؤثر هو العور البيِّن- والمريضة البيِّن مرضها - أي فيها مرض بيّن مضر ببدنها سواء كان جرباً أو غيره خلافاً لمن قيده من أهل العلم بالجرب فالحديث عام فيه وفي غيره - والعرجاء البيِّن ظلعها - أي عرجها - والكسير - عند النسائي: والعجفاء – - التي لا تنقي) (1) أي التي لا مخ فيها. فهذه الأربع لا تجزئ في الأضاحي، فإذا ضحى بها لم تجزئه. قال: (والهتماء) وهو التي سقطت ثناياها من أصلها. وقال شيخ الإسلام: بل هي التي سقط بعض أسنانها. المشهور عند الحنابلة أن الهتماء لا تجزئ. وذهب بعض الحنابلة وهو أحد الوجهين لمذهب الشافعية واختاره شيخ الإسلام أنها تجزئ وهذا هو الراجح إذ لا دليل يدل على عدم إجزائها. وللحصر المتقدم فإن النبي صلى الله عليه وسلم قد حصر غير المجزئ من الضحايا بأربع فدل هذا على أنها إن سقطت ثناياها أو سقط بعض أسنانها فإنه تجزئ خلافاً للمشهور عند الحنابلة. قال: (والجدَّاء) من جدَّ الضرع إذا يبس وهي التي يبس ضرعها فلا لبن فيها، فهذه لا تجزئ. قالوا: لأن هذا أولى من ذهاب شحمة عينها، فإن العوراء قد ذهبت شحمة عينها فهذه أولى منها بعدم الإجزاء. وفي هذا نظر؛ فإن العوراء إنما ورد الشرع بعدم الإجزاء بها لأن عورها يضر برعيها، بخلاف الجداء " التي يبس ضرعها " فإن هذا لا يؤثر في رعيها ولا يؤثر في لحمها والمقصود هو اللحم.

_ (1) أخرجه أبو داود [2802] والنسائي [2 / 203] والترمذي [1 / 283] وابن ماجه [3144] وأحمد [4 / 284] ، الإرواء رقم 1148.

فالأظهر أن الجدَّاء تجزئ التضحية بها مع أن الأولى أن تكون سليمة من ذلك لقوله تعالى: {ومن يعظم شعائر الله فإنها من تقوى القلوب} وهذا يقتضي اختيار الأفضل. قال: (والمريضة) تقدم أن المريضة بجرب أو نحوه لا تجزئ، والمراد بالمريضة البين مرضها التي فيها مرض ظاهر مضرٍ للحمها فهذه لا تجزئ في الأضحية. قال: (والعضباء) وهي التي ذهب أكثر أذنها أو قرنها – أي أكثر من النصف -. قالوا: لا يجزئ لما روى النسائي والترمذي وصححه عن علي: أن النبي صلى الله عليه وسلم: (نهى أن يضحي بأعضب القرن والأذن) (1) . - وذهب جمهور العلماء وهو اختيار طائفة من الحنابلة كصاحب الإنصاف واستظهره صاحب الفروع واختاره الشيخ عبد الرحمن السعدي: أن ذلك يجزئ. والحديث الذي استدل به الحنابلة يرويه قتادة عن جُري السدوسي عن علي بن أبي طالب، ولم يرو عن جُري إلا قتادة. وقال أبو حاتم: " لا يحتج بحديثه " أي بحديث جُري لأنه لم يرو عنه إلا قتادة. وتعقب الذهبي قول أبي حاتم المتقدم بقوله: " قلت: لكن أثنيَ عليه " فعلى ذلك حديثه لا بأس به. فعلى ذلك الحديث حسن إن شاء الله وقد صححه الترمذي وغيره فقد روى عنه قتادة وتفرد عنه بالرواية لكن أثنى عليه. ومن لم يرو عنه إلا راوٍ واحد لكن وثق سواء كان الموثِّق هو الراوي عنه أو غيره فإن حديثه مقبول.

_ (1) أخرجه أبو داود باب ما يكره من الضحايا من كتاب الضحايا رقم 2805 والنسائي باب العضباء من كتاب الضحايا رقم 4377 بلفظ: " نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يضحى بأعضب القرن "، والترمذي رقم 1504 باب في الضحية بعضباء القرن والأذن من كتاب الأضاحي.

لكن الحديث لا يظهر الاستدلال به على عدم الإجزاء، بل الظاهر أنه يدل على الكراهية، بدليل أن أهل العلم قد أجمعوا على أن التضحية بالخرقاء والشرقاء والمقابلة والمدابرة، وقد ثبت النهي عنها في حديث صحيح سيأتي أنه يجزئ في الأضاحي مع الكراهية وهنا كذلك فإن هذا لا يعدو إلا أن يكون أثراً في القرن أو الأذن ولا يؤثر هذا في اللحم. وقد حصر النبي صلى الله عليه وسلم ما لا يجزئ بأربع ولم يذكر أعضب الأذن والقرن، فالأظهر حمله على الكراهية. فالراجح من قولي العلماء أن التضحية بأعضب الأذن والقرن مجزئ مع الكراهية. قال: (بل البتراء خلقة) البتراء (1) : هي التي لا أذن لها، وتقييد المؤلف بقوله: " خلقة " موهم أن هذا القيد معتبر عند الحنابلة وليس كذلك بل البتراء عندهم سواء كان ذلك خلقة أو مقطوعاً أنه يجزئ فلو قطعت الأذن كلها أو كان ذلك خلقة فإنه يجزئ في المشهور عند الحنابلة. قال: (والجمَّاء) هي التي لا قرن لها، وهي مجزئة. فالبتراء والجماء تجزئ عندهم ولم أر خلافاً بين أهل العلم في هذا. ولأن هذا لا أثر له على لحمها فأجزأت. ولا شك أن قولهم بإجزاء مقطوع الأذن وعدم إجزاء ما قطع أكثر الأذن أو أكثر القرن منه لا شك أن هذا فيه نظر ظاهر. فعلى ذلك: العيب المتعلق بالأذن أو القرن سواء كان العيب بذهاب شيء يسير من الأذن أو القرن أو بذهاب الشيء الكثير منهما أو بذهابهما كلهما خلقة أو قطعاً أن هذا لا يؤثر في الأضاحي. قال: (وخصي) الخصي: لا خلاف بين أهل العلم أنه يجزئ. وفي أبي داود من حديث أنس المتقدم قال: (موجوءين) (2) من الوجاء وهي الخصاء. فقد ضحى به النبي صلى الله عليه وسلم، وهو أفضل للحم وأطيب وأسمن.

_ (1) قال في الروض المربع [4 / 223] : " البتراء التي لا ذَنَب لها.. ". (2) أخرجه أبو داود [3 / 231] باب ما يستحب من الضحايا من كتاب الضحايا رقم 2795، وأحمد [6 / 8] الإرواء رقم 1147.

قال: (غير مجبوب) فإن ترتب على الخصاء أنه يُجب عضوه " ذكره " فإنه لا يجزئ في المشهور عند الحنابلة، لأنه قد ذهب شيء من أعضائه وهو ذكره. وذهب بعض الحنابلة إلى أن الخصاء وإن كان معه جب للعضو فإنه يجوز التضحية به. وهذا أظهر، لأنه لا يؤثر في اللحم، لأن عضوه ليس مقصوداً للأكل عادة. فالأظهر أن الخصي وإن ترتب على خصائه أن جب ذكره، أنه يجزئ في التضحية. قال: (وما بأذنه أو قرنه قطع أقل من النصف) إن كان في أذنه قطع أو قرنه قطع أقل من النصف فإنه يجزئ. وقد تقدم أنه إذا كان القطع أكثر من النصف فهو الأعضب وهو لا يجزئ عند الحنابلة. فإن كان القطع نصفاً فأقل فإنه يجزئ عندهم ولا خلاف بين أهل العلم في هذا كما تقدم، فإن قطع شيء من أذنه أو قرنه ولو كان ذلك النصف فإنه يجزئ لكن مع الكراهية. ودليل الكراهية عندهم: ما ثبت عند أبي داود والترمذي بإسناد صحيح عن علي قال: (أمرنا النبي صلى الله عليه وسلم أن نستشرف العين والأذن وألا نضحي بعوراء ولا مقابلة ولا مدابرة ولا خرقاء ولا شرقاء) (1) المقابلة: هي التي قطع شيء من أذنها من جهة مقدم الأذن ويعلق ذلك بها. والمدابرة: نحوها لكن القطع من مؤخر الأذن. الخرقاء: التي في أذنها خرق مستدير وهذا يفعل سمة لها. الشرقاء: التي في أذنها شق سواء مستديراً أو لا. فعلى ذلك: ما كان في أذنها شق أو قطع ولم يصل ذلك إلى أكثر من النصف فإنه عند عامة العلماء أن ذلك لا يؤثر في باب الأضاحي. أما إذا كان أكثر من النصف، فالمشهور في المذهب أنه لا يجزئ وهو الأعضب. والصحيح القول بإجزائه. كل ما كان فيه شيء من النقص والعيب من بهيمة الأنعام فإنه مكروه التضحية به.

_ (1) أخرجه أبو داود [3 / 237] باب ما يكره من الضحايا من كتاب الضحايا رقم 2804. والترمذي باب ما يكره من الأضاحي من كتاب الأضاحي رقم 1498.

* النبي صلى الله عليه وسلم قال: (العوراء البين عورها) وألحق أهل العلم إجماعاً العمياء بها، والسؤال: هو إذا قام صاحبها بإطعامها – أي العوراء أو العمياء – فهل يجزئ أو لا؟ إذا نظرنا إلى ما تقدم من القاعدة فإننا نقول أنها تجزئ لأنها ذات لحم طيب، وهذا العور أو العمى لم يؤثر في بدنها. وإذا نظرنا إلى قوله صلى الله عليه وسلم: (العوراء البين عورها) قلنا أنها لا يجزئ لأن هذا الوصف بها. والذي يظهر لي – والله أعلم – هو القول بالإجزاء لكن مع ذلك الأولى عدم التضحية بها. وذلك لأن الأصل في العوراء أن يؤثر ذلك في رعيها لكن إن قام صاحبها برعيها، فلم يؤثر ذلك في رعيها فإن مثل عورها ليس في الحقيقة مؤثر، فذهاب شحمة في عينها غير مؤثر. ولا شك أنها مكروهة لأن هذا العيب يؤثر فيها كراهية، كما تقدم من نهي النبي صلى الله عليه وسلم عما هو دون ذلك مما هو مشقوق الأذن فأولى من ذلك العوراء وإن سُمنت. مسألة: هل يُضحي عن الميت؟ هذه ترجع إلى مسألة: هل تصل الأعمال الصالحة إلى الميت أم لا – سوى الصدقة والدعاء فقد أجمعوا على وصولهما -؟ . والذي يظهر لي عدم الوصول، وحينئذٍ هل الأضحية من جنس الصدقات أو لا؟ فإن قلنا إنها من جنس الصدقات قلنا بإجزائها لأن الصدقة تصل إلى الميت. والذي يتبين لي – والله أعلم – أن الأضحية ليست من الصدقات بدليل أن صاحبها لو لم يتصدق بشيء منها بل أكلها وأطعمها جاره وأهدى فإنها تجزئ. فالمقصود من الأضحية إراقة الدم في ذلك اليوم فلما كان الأمر كذلك – وهو أن المقصود إراقة الدم وهو نسك وعبادة – فإنه ليس صدقة ولا من جنس الصدقات. فالأظهر أنه لا يضحى عنه إلا أن يوصي بذلك.

والنبي صلى الله عليه وسلم لم يضحي عن أحد من أهل بيته كخديجة وحمزة مع أن المشهور عند أهل العلم أن الأضاحي شرعت في السنة الثانية للهجرة فالأظهر هو عدم مشروعية ذلك، لكن إن أوصى الميت بذلك فإنه يجوز؛ لأنه تصرف بالمال على وجه صحيح. مسألة: الكبش الأبيض منه أفضل من الأسود كما قال الحنابلة وهو أظهر؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم ضحى بكبش أملح وهو ما فيه بياض وسواد لكن بياضه أغلب لسواده. فالأظهر أن الأملح أفضل من الأسود – هذا في الأصل لكن لو كان هذا أسمن من هذا أو أغلى ثمناً من هذا فإنه أفضل. مسألة: الأضحية لابد أن تكون كاملة فإن كانت مقطوعة الرجل أو نحو ذلك فإنها لا تجزئ لأنها ليست كاملة تامة. أما إذا كان مما تقدم مما ليس بمقصود في الأكل عادة وإن كان ربما أكل لكن ليس هو المقصود في الأكل فإنه يجزئ. مسألة: لابد أن تكون الأضحية من بهيمة الأنعام لقوله تعالى: {ويذكروا اسم الله في أيام معلومات على ما رزقهم من بهيمة الأنعام} (1) ولابد وأن يكون مستأنساً ومن أبوين مستأنسين، فلو كان وحشياً أو أحد أبويه وحشي فإنه لا يصدق عليه ذلك ولا يجوز أن يضحي به. والحمد لله رب العالمين. قال المؤلف رحمه الله تعالى: (والسنة نحر الإبل قائمة معقولةً يدها اليسرى فيطعنها بالحربة في الوَهدة التي بين أصل العنق والصدر) " الوهدة " هو المكان المطمئن. هذه الصفة المستحبة في نحر الإبل أن تكون قائمة قد عقلت يدها اليسرى أي ربطت – فهي قائمة على ثلاثة أطراف – ثم تنحر بحربة في الوهدة التي بين عنقها وبين صدرها. ودليل ذلك قوله تعالى: {فاذكروا اسم الله عليها صواف فإذا وجبت جنوبها (2) } قال ابن عباس كما في البخاري: " {فاذكروا اسم الله عليها صواف} أي قياماً " (3) {فإذا وجبت جنوبها} أي سقطت فهي قائمة.

_ (1) سورة الحج. (2) سورة الحج 36. (3) ذكره البخاري باب نحر البدن قائمة من كتاب الحج قبل رقم 1714.

وثبت في البخاري أن عمر أتى على رجل قد أناخ بدنته ينحرها فقال: (ابعثها قياماً مقيدة سنة محمد صلى الله عليه وسلم) (1) وفي مراسيل أبي داود: (معقولة اليسرى) (2) وهو مرسل فإن عقلت اليمنى فلا بأس لكن العمل بأن تكون المقيدة هي اليسرى أولى لثبوت هذا الأثر المرسل. وكونها تنحر في الوهدة فلأن ذلك أسهل لخروج روحها وقد ثبت في مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن الله كتب الإحسان على كل شيء فإذا قتلتم فأحسنوا القتلة وإذا ذبحتم فأحسنوا الذبحة وليحد أحدكم شفرته وليرح ذبيحته) (3) فهذا الموضع أسهل لخروج روحها فيستحب ذلك. قال: (ويذبح غيرها) غيرها من بقر وغنم، فإنها تذبح ذبحاً لا نحراً. وقد تقدم أن النبي صلى الله عليه وسلم ذبح الكبشين الأملحين بيده ووضع رجله على صفاحهما أي على الجنوب. فإذن: تضجع البقرة أو الغنمة على جنبها ثم توضع الرجل على الجنب الذي إلى السماء وذلك إراحة لها لئلا تتحرك فيكون الذبح عليها فيه عسر ومشقة فتوضع الرجل على جنبها وتوجه إلى القبلة استحباباً. قالوا: ويستحب – وهذا باتفاق العلماء – أن تضجع على جنبها الأيسر وذلك من أجل أن يكون الذبح من الذابح باليد اليمنى وهذا أسهل للذبح. وحينئذٍ: فإن كان أيسراً " أي يذبح بيده اليسرى " فإنه إن أضجعها على جنبها الأيمن فإن هذا أسهل. إذن: تضجع إلى القبلة استحباباً ويكون اضجاعها على جنبها الأيسر ليكون ممسكاً بالسكين بيده اليمنى وهذا أسهل لذبحها وفي الحديث: (وليرح ذبيحته)

_ (1) أخرجه البخاري باب نحر الإبل مقيدة من كتاب الحج، رقم 1713. (2) في باب كيف تنحر البدن من كتاب المناسك رقم 1767. المغني [5 / 298] . (3) أخرجه مسلم باب الأمر بإحسان الذبح والقتل وتحديد الشفرة من كتاب الصيد، المغني [11 / 516] .

لكن إن كان الأسهل اضجاعها على جنبها الأيمن فإن هذا حسن ويضع رجله على جنبها البارز عن الأرض لئلا تتحرك البهيمة فيشق عليه الذبح وفي الحديث: (إن الله كتب الإحسان على كل شيء) . قال: (ويجوز عكسها) فلو ذبح الإبل أو نحر في البقر والغنم فإن ذلك جائز لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال في المتفق عليه: (ما أنهر الدم وذكر اسم الله عليه فكل) (1) فإذا أنهر الدم بالسكين نحراً أو ذبحاً فإنه يجزئ وإن كان المذبوح محله النحر والمنحور محله الذبح؛ لكنه خلاف المستحب. قال: (ويقول: باسم الله والله أكبر) " باسم الله " وجوباً وسيأتي الكلام على حكم التسمية على الذبيحة في باب الذبائح إن شاء الله تعالى. " والله أكبر " استحباباً، وقد تقدم حديث أنس وفيه: (أن النبي صلى الله عليه وسلم لما ذبح الكبشين الأملحين سمى وكبر) (2) وفي مسلم قال: (باسم الله والله أكبر) قال: (اللهم هذا منك ولك) ثبت هذا في سنن أبي داود من حديث جابر: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (اللهم هذا منك ولك) (3) والحديث فيه عنعنة محمد بن إسحاق لكن له شاهد عند أبي يعلى من حديث أبي سعيد. وله شاهد آخر عند الطبراني من حديث ابن عباس فالحديث حسن. " هذا منك " أي هذا نعمة منك وفضلاً. " ولك " أي لك تعبداً ورقاً. قال: (ويتولاها صاحبها)

_ (1) أخرجه البخاري باب قسمة الغنم وباب من عدل عشرا من كتاب الشركة، باب ما يكره من ذبح الإبل.. من كتاب الجهاد، وفي باب ترك التسمية على الذبيحة.. وباب ما أنهر الدم من كتاب الذبائح والصيد، وأبو داود وغيرهما. المغني [13 / 265] . (2) سبق ص152 (3) أخرجه أبو داود باب ما يستحب من الضحايا من كتاب الضحايا رقم 2795 ولفظه: " إني وجهت وجهي … اللهم منك ولك … ".

المستحب أن يتولاها صاحبها وقد تقدم في حديث أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم ذبحها بيده، (وقد نحر النبي صلى الله عليه وسلم في هديه ثلاثاً وستين بيده وأعطى علياً ما بقي وقد أشركه في هديه) . فهذا يدل على أن المستحب في الأضحية والهدي أن يتولى صاحبها الذبح أو النحر. لكن لو تولاها غيره وكان هذا الغير صحيح الذبح فإن هذا جائز ولذا قال: (أو يوكل مسلماً) التوكيل إن كان لمسلم فلا خلاف بين أهل العلم في إجزائه، واتفقوا على أنه لو وكَّل وثنياً لذبح أضحيته فإنه لا يجوز ولا يجزئ لأن ذبيحته لا تحل. لكن اختلفوا في إجزاء ذبح الكتابي فهل يجوز أن يوكل المسلم كتابياً بأن يضحي له أم لا؟ قولان لأهل العلم: أصحهما وهو المشهور عند الحنابلة ومذهب الجمهور: أن ذلك يجزئ. قال المالكية: لا يجزئ لأنها قربة وعبادة فلا تصح من كافر. والصحيح ما ذهب إليه الحنابلة، وهو مذهب الجمهور من الإجزاء وذلك لأن الكافر تصح منه القربة عن المسلم أي فعل القربة عن المسلم والقربة تقع للمسلم. بدليل أنه يجوز بناء المساجد عمارة من الكفار فيجوز أن يتولى الكافر عمارة المساجد ونحوها، فهنا لا يعدو الأمر إلا أن يكون توكيلاً فليس من باب العبادة، فهذا الذمي لا يتعبد الله بالذبح بل هو موكل، وإنما الذي يتعبد الله بالذبح هو المؤمن بنيته وبماله الذي دفعه في هذه الأضحية، والذمي يجوز أن يتولى فعل القربة إن كان فعلها ليس على وجه التعبد وهنا فعل القربة ليس على وجه التعبد فإنه لا يعدو إلا أن يكون موكلاً بالذبح وهو صحيح الذبح. فعلى ذلك الصحيح وهو المشهور عند الحنابلة أنه يجوز ذلك، وإن كان عندهم أن ذلك مكروه خروجاً من الخلاف. والأظهر ألا يقال بالكراهية لعدم الدليل على ذلك، والخروج من الخلاف ليس بدليل يقتضي الكراهية. قال: (ويشهدها)

أي يشهدها المسلم أي يستحب للمسلم أن ينظر إليها ذكراً كان أو أنثى واستدلوا بحديث رواه البيهقي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لفاطمة: (احضري أضحيتك يغفر لك عند أول قطرة من دمها) (1) والحديث لا يصح، فقد رواه البيهقي وضعفه وهو كما قال. قال: (ووقت الذبح بعد صلاة العيد) دليل ذلك ما ثبت في الصحيحين من حديث أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من كان ذبح قبل الصلاة فليعد) (2) فمن ذبح قبل صلاة العيد فإنها لا تجزئه أضحية وإنما هو لحم لأهله للحديث المتقدم. وثبت في الصحيحين من حديث البراء أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من ضحَّى قبل الصلاة فإنما هي شاة لحم ومن ذبح بعد الصلاة فقد تم نسكه وأصاب سنة المسلمين) (3) وظاهر هذه الأحاديث أن الوقت مقيَّد بفعل الصلاة نفسها لا بوقتها. فلو أخرت صلاة العيد فلا يجزئ الذبح قبلها وإن ذهب من وقتها ما يكفي لفعلها، وهذا هو ظاهر كلام الإمام أحمد وهو مذهب جمهور العلماء. - وعن الإمام أحمد وهو ظاهر كلام الخرقي من الحنابلة وهو مذهب بعض الحنابلة: أنه إذا ذهب من وقت صلاة العيد قدراً يكفي لفعل الصلاة فإنه يجزئ الذبح. فإذا دخل وقتها – وهو يدخل بارتفاع الشمس قيد رمح – فإذا فات قدر يكفي لصلاة العيد فإنه يجزئ الذبح بعد ذلك وإن لم يصل الناس.

_ (1) أخرجه عبد الرزاق باب فضل الضحايا من كتاب المناسك، المصنف [4 / 388] ، والبيهقي باب ما يستحب من ذبح النسيكة من كتاب الحج، السنن الكبرى [5 / 239] . المغني [5 / 444] . (2) أخرجه البخاري باب من ذبح قبل الصلاة أعاد من كتاب الأضاحي رقم 5561، ومسلم باب وقتها من كتاب الأضاحي، وغيرهما، المغني [13 / 385] . (3) أخرجه مسلم باب وقت الأضاحي من كتاب الأضاحي، صحيح مسلم بشرح النووي [13 / 112] ، والبخاري باب الذبح بعد الصلاة من كتاب الأضاحي رقم 5560.

وهذا خلاف ظاهر الأحاديث، فإن الأحاديث المتقدمة ظاهرها أن الوقت مقيد بفعل الصلاة نفسها، فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من كان ذبح قبل الصلاة فليعد) فظاهره أن من ذبح قبل الصلاة وإن كان بعد مرور وقت يكفي لفعلها فإنها لا تصح منه وهذا هو ظاهر كلام الإمام أحمد وهو مذهب جمهور العلماء وهو الراجح. لكن إن كان في موضع لا تقام به صلاة العيد فإنه إذا فات قدر ما يكفي لصلاتها بعد دخول وقتها فإنه يجزئ الذبح. كمن يكون في بادية أو في سفر فأول وقت الذبح هو مرور قدر يكفي لصلاة العيد بعد دخول وقتها إذ لا صلاة في حقهم، وقبل ذلك لا يجوز الذبح لأن الصلاة غير مشروعة في حقهم والوقت حينئذٍ يقوم مقام ذلك. لذا قال: (أو قدره) أي أو بعد قدره، و " أو " هنا ليست للتخيير وإنما هي للتفسير فمن كان في الأمصار التي تقام فيها صلاة العيد ولو لم يصل صلاة العيد فإنه لا يجزئه إلا بعد صلاة العيد. وأما إن كان في موقع لا تقام فيه صلاة العيد فقدره أي قدر الوقت الكافي لصلاة العيد. قال: (إلى يومين) هذا آخر وقتها إلى يومين من أيام التشريق، فعلى ذلك أيام النحر والذبح ثلاثة أيام: يوم النحر واليومان الأول والثاني من أيام التشريق، فعلى ذلك لا يجزئه الذبح في اليوم الثالث من أيام التشريق، وهو اليوم الثالث عشر من ذي الحجة هذا هو المشهور عند الحنابلة وهو مذهب جمهور العلماء. واستدلوا: بما ثبت في الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم: (نهى عن ادخار الأضاحي فوق ثلاث) (1) وقال الإمام أحمد: " عن خمسة من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم " أي القول بأن أيام الذبح ثلاثة أيام (وهذه المسألة في الهدي والأضاحي) وذهب الشافعية إلى أن أيام الأضاحي أربعة أيام وأيام التشريق كلها، قالوا: هذه هي أيام النحر.

_ (1) أخرجه البخاري [4 / 27] ، ومسلم [6 / 80] وغيرهما، الإرواء 1155.

واستدلوا: بما رواه الإمام أحمد في مسنده من حديث جبير بن مطعم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (كل أيام التشريق ذبح) (1) قالوا: والحديث إسناده منقطع لكن للحديث شواهد وطرق يرتقي بها إلى الصحة فالحديث صحيح. قالوا: وهو مروي عن علي وجبير بن مطعم، ولأنها – أي هذه الأيام – أيام رمي فكانت أيام ذبح أيضاً وهي من أيام الحج والنحر من مناسك الحج، وهذه المسألة في الهدي والأضاحي. وما ذهب إليه الشافعية هو الراجح وهو اختيار شيخ الإسلام وتلميذه ابن القيم. لأن الحديث الوارد في هذا صحيح لشواهده وطرقه، ولأن أيام التشريق كلها أيام رمي وأيام مناسك فكذلك النحر. وأما دليلهم الذي ذكروه فإنه ليس بدليل على هذه المسألة وهو أن النبي صلى الله عليه وسلم: (نهى عن ادخار الأضاحي فوق ثلاث) فهذا الحديث إنما هو في أيام الادخار وأنها ثلاثة أيام. فلو ذبح في يوم النحر فليس له أن يدخر إلا في يوم النحر ويومين بعده، ولو نحر في اليوم الثاني من أيام النحر وهو أول أيام التشريق فليس له أن يدخر إلا فيه وفي اليوم الثاني والثالث من أيام التشريق، وهكذا. فالمسألة في النهي عن الادخار، فعليه لو ذبح في اليوم الثالث من أيام التشريق فليس له أن يدخر ثلاثة أيام بل يدخر ذلك لليوم الثالث عشر والرابع عشر والخامس عشر. على أن الحديث منسوخ، فقد ثبت في صحيح مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (كلوا وتصدقوا وتزودوا وادخروا) (2) . وإنما نهوا عن الادخار فوق ثلاث لحاجة أصابت الناس في سنة من السنوات فنهي عن الادخار ثم نسخ ذلك.

_ (1) أخرجه أحمد [4 / 82] والبيهقي باب النحر يوم النحر من كتاب الحج..، المغني [13 / 386] . (2) أخرجه مسلم باب بيان ما كان من النهي.. من كتاب الأضاحي، وأيضاً البخاري باب ما يأكل من البدن وما يتصدق.. من كتاب الحج. المغني [5 / 446] .

فالمقصود من هذا: أن ما ذكروه لا يصح دليلاً في هذه المسألة. وأما الآثار التي ذكرها الإمام أحمد فإنها معارضة بأثر علي المروي عنه، وبأثر جبير بن مطعم. وبالحديث أيضاً فإن الحديث تقدم تصحيحه وهو حديث: (كل أيام التشريق ذبح) (1) فعلى ذلك: الراجح أن أيام التشريق كلها أيام هدي وأيام أضحية. قال: (ويكره في ليلتهما) أي في ليلة اليوم الأول من أيام التشريق وفي ليلة اليوم الثاني من أيام التشريق، وأما ليلة يوم النحر فلا يجزئ فيها الذبح كما تقدم. وأما ليلة الأول وليلة الثاني من أيام التشريق فيكره فيها الذبح، وإذا قلنا بجواز الذبح في اليوم الثالث من أيام التشريق فكذلك تكره الأضحية أو الهدي في ليلته. وفي هذه المسألة قولان: الأول، وهو مذهب الجمهور: أن الذبح بالليل يجزئ. قالوا: ولعدم الدليل المانع من ذلك. وإنما كرهناه خروجاً من الخلاف، ولأنه إن ذبح ليلاً فإن اللحم لا يفرق رطباً وإنما يبقى ساعات طويلة ينتظر فيها دخول النهار ليوزع على المساكين أو يهدى على الجيران ونحوهم فكرهوه لذلك. الثاني: وهو مذهب المالكية ورواية عن الإمام أحمد: أن الذبح لا يجزئ ليلاً. قالوا: لأن الله عز وجل قال: {ويذكروا اسم الله في أيام معلومات على ما رزقهم من بهيمة الأنعام} فجعل وقت الذبح الأيام، والأيام جمع يوم، واليوم هو النهار، فجعل الله الوقت للذبح هو النهار وأما الليل فليس وقتاً – حينئذٍ – للذبح. وروى الطبراني: أن النبي صلى الله عليه وسلم: (نهى أن يضحي ليلاً) أجاب أهل القول الأول عن أدلة المالكية: قالوا: أما الآية: فإنها في مثل هذا يدخل في اليوم: الليل والنهار، كقوله تعالى: {فتربصوا في داركم ثلاثة أيام} أي بلياليهن وهنا كذلك. فإذا ذكرت الأيام مجموعة دخل ليلها فيها إلا أن يدل دليل على خروج ذلك.

_ (1) تقدم ص162

وأما نهي النبي صلى الله عليه وسلم عن التضحية ليلاً فإن الحديث لا يصح بل هو متروك فإن فيه راوٍ متهم بالكذب فالحديث لا يصح عن النبي صلى الله عليه وسلم. وما ذهب إليه الجمهور أقوى من أن الذبح ليلاً مجزئ. وأما القول بالكراهية خروجاً من الخلاف فقد تقدم رد مثل هذا وأن الخلاف ليس دليلاً على الكراهية، إذ الكراهية حكم شرعي يحتاج إلى دليل مختص به. وأما كونه يوزع رطباً وإذا ذبح ليلاً لا يمكن ذلك، فنعم، وهذا يختلف باختلاف الأزمان فحيث وجد ما يحفظ اللحم ولا يؤثر فيه فإنه لا مانع من ذلك. كما أن هذه العلة لا تقوى على الكراهية. فعلى ذلك الأولى أن يذبح نهاراً لكن إن ذبح ليلاً فإنه يجزئه ذلك على أن الأحوط هو الخروج من الخلاف في هذه المسألة فيضحي نهاراً. وكذلك فإن في التضحية نهاراً إظهاراً لهذه الشعيرة والله أعلم. قال: (فإن فات قضى واجبه) إذا خرج وقت الأضاحي بأذان المغرب من يوم التشريق الثالث - على الراجح – وبأذان المغرب من يوم التشريق الثاني – على المذهب -. فإذا خرج الوقت فلا تخلو الأضحية من: أن تكون واجبة أو مستحبة. فإن كانت التضحية واجبة – وهذا حيث كانت منذورة أو وصية - فإنها تذبح ولو كان ذلك بعد خروج الوقت تحصيلاً لمصلحة تفريقها ويكون ذلك من باب القضاء. أما إن كانت التضحية مستحبة: فإذا ضحى بعد خروج الوقت فهي ليست بأضحية، وإنما هي شاة لحمٍ، فإن فرقها على الفقراء والمساكين فهي صدقة من الصدقات. إذن: إن كانت نذراً ففات وقتها فإنه يضحي بعد خروج الوقت من باب القضاء.أما إن كانت غير واجبة بل هي تطوع فهي سنة فات محلها فإن ذبحها فهي شاة لحم فإن تصدق بلحمها فهي صدقة من الصدقات. والله أعلم. والحمد لله رب العالمين. فصل قال المؤلف رحمه الله تعالى: (ويتعينان بقوله: هدي أو أضحية)

فالهدي والأضحية يتعينان فيكونان واجبتين بعينهما بقوله: " هذا هدي أو أضحية " فإن هذه البهيمة تتعين هدياً أو أضحية باتفاق العلماء لا بالنية. (لا بالنية) إن نوى أنها هدي أو أضحية فإنها لا تتعين بذلك، وذلك لأن ما أخرجه العبد على وجه القربة لا يثبت إلا بالتلفظ بالتقرب إلى الله عز وجل به لا بالنية المقارنة للشراء، فالنية المقارنة للشراء لا يثبت بها التعيين. وإنما يثبت التعيين فيما أخرج على وجه القربة بالتلفظ بإخراجه كما لو اشترى رقيقاً بنية إعتاقه أو بيتاً بنية إيقافه فإن العبد لا يتحرر بذلك، والبيت لا يكون وقفاً بمجرد شرائه مع النية المقارنة للشراء، فإن قال هو حر أو هذا البيت وقف فإنه حينئذ يتعين العبد حراً والبيت وقفاً. فكذلك هنا مما كان على وجه القربة فالنية المقارنة للشراء لا يثبت بها التعيين بل يثبت ذلك باللفظ فإن تلفظ بلفظ من الألفاظ والتي فيها دلالة على إخراج هذه العين من ملكيته لحق الله تعالى فإنه يثبت بذلك. ومثل التلفظ تقليد الهدي وإشعاره أو ما يقوم مقام هذا في الأضاحي فإنه يثبت به التعيين. والإشعار هو أن تدمى صفحة البعير اليسرى حتى يخرج الدم إظهاراً على أنه هدي، وقد ثبت في الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم: (أشعر بدنه وقلدها) والتقليد هو: أن يوضع فيها على سنة القلادة نعال ونحوها. وقد ثبت في الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم: (أهدى غنماً وقلدها) وإشعار الغنم ليس مشروعاً بالإجماع، وإنما المشروع هو تقليدها هذا في الهدي، وأما الأضحية فلم يرد شيء ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم. فإذا قلد هديه أو أشعره فإن هذا الفعل يقوم مقام التعيين باللفظ وهذا أصح قولي العلماء، ففي هذه المسألة قولان للحنابلة: اختار الموفق أنها إن قلدت أو أشعرت فإنها لا يتعين هدياً إلا باللفظ.

واستظهر صاحب الفروع أنها تتعين بذلك، وهذا هو الراجح، كمن بنى مسجداً وجمع الناس للصلاة فيه، ولم يقل: هذا مسجد، فإن هذا الفعل منه يقوم مقام اللفظ. فهذا المشعر لهديه أو المقلد له يقوم مقام قوله: " هذا هدي " كذلك إن وضع شيء من إشعار أو تقليد في أضحيته – وإن لم نقل بمشروعيته – لكن هذا الفعل يقوم مقام التلفظ فكما لو قال: هذه أضحية. إذن: التعيين لا يثبت إلا باللفظ أو بالفعل الدال عليه كالإشعار والتقليد. قال: (وإذا تعينت لم يجز بيعها ولا هبتها) فإذا تعينت البهيمة هدياً أو أضحية فلا يجوز بيعها، لأنها بتعينها خرجت من ملكه وأصبحت حقاً لله تعالى فليس له التصرف فيها كالوقف وغيره. قال: (إلا أن يبدلها بخير منها) أي له إن اشترى أضحية من الغنم وعينها ثم رأى غيرها خيراً منها فله أن يبدلها خيراً منها. قالوا: لمصلحة ذلك – هذا هو أشهر الوجهين عند الحنابلة. والوجه الثاني وهو قول أبي الخطاب من الحنابلة قالوا: لا يجوز له ذلك لأنها قد تعينت بلفظه أو فعله فليس له والحالة هذه أن يبدلها ولو كان البدل خيراً منها. وهذا هو مذهب الشافعية – وهذا هو الأرجح فيما يظهر لي – لأنه بتعينه لها قد أخرجها من ملكيته وأصبحت حقاً لله تعالى فليس له أن يبدلها ولو كان هذا البدل خيراً منها. قال: (ويجز صوفها ونحوه إن كان أنفع لها ويتصدق به) إن كان جز الصوف من البهيمة أنفع لها كجزه في وقت الربيع ليكون أخف لها في رعيها فله ذلك لكنه يتصدق به. أما إن كان هذا الجز لغير نفع لها فليس له ذلك لأنها حق لله تعالى فليس [له] أن يتصرف فيه إلا بما ينفعه. مسألة: وهل له أن يركبها؟ قولان لأهل العلم: الأول: وهو مذهب الشافعية وأحد الوجهين في مذهب الإمام أحمد: أنه ليس له أن يركبها إلا عند الضرورة إليها بمعنى: أن يلجأ إلى ركوبها فلا يجد ظهراً غيرها يركبه.

الثاني: وهو مذهب المالكية وأحد الوجهين في المذهب: أن له أن يركبها مطلقاً ولو لم يُضطر إلى ركوبها. استدل أهل القول الأول: بما ثبت في مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل عن ركوب الهدي فقال: (اركبها بالمعروف إذا أُلجئت إليها حتى تجد ظهراً) واستدل أهل القول الثاني: بما ثبت في الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم: رأى رجلاً يسوق بدنةً فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: (اركبها) فقال: (إنها بدنة) فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: (اركبها ويلك) في الثانية أو الثالثة. والقول الأول أظهر فإن الحديث فيه أخص وأوضح فإن النبي صلى الله عليه وسلم قد قيَّد هذا بقوله: (إذا ألجئت إليها حتى تجد ظهراً) . وهذا الذي قال له النبي - صلى الله عليه وسلم -: (اركبها) الظاهر أنه كان لا يجد ظهراً غيرها ولذا كان يسوقها. فالأظهر أنه له أن يركبها إن اضطر إليها، وهكذا الأضحية إن تعينت، فإذا تعين بدنة يضحي بها فله أن يركبها إذا اضطر إلى ذلك. ويتبعها ولدها سواء عُينت وهي حامل أو حملت بعد تعيينها فإن ولدها يتبعها فحكمه حكمها هدياً أو أضحية وهو قول علي بن أبي طالب ولا يُعلم له مخالف كما روى ذلك سعيد بن منصور كما في كتاب المغني. وأما شرب لبنها، فإن لم يضر بولدها ولم يضر بلحمها فإنه يجوز وذلك لأنه هو الذي يعلفها ويطعمها ويقوم بشأنها فأشبه المرتهن، فإن المرتهن الذي يقوم بعلف الدابة المرهونة لبن هذه الدابة له مقابل ما ينفق عليها من علف ونحوه فكذلك هنا. قال: (ولا يعطي جازرها أجرته منها)

الجازر لا يعطى أجرته منها، فليس لمن ضَحى له جزار أن يعطيه أجرته من لحمها أو جلدها أو صوفها أو نحو ذلك ودليل هذا: ما ثبت في الصحيحين عن علي قال: (أمرني النبي صلى الله عليه وسلم أن أقوم على بدنه أن أتصدق بلحومها وجلودها وأجلتها " وهي ما يوضع على ظهورها " وألا أعطي الجزار منها قال النبي صلى الله عليه وسلم: نحن نعطيه من عندنا) ولأنه إنما أذن له بالانتفاع بها أكلاً أو غيره وأما البيع فلا. فعليه: لا يجوز أن يُعطي الجزار منها أجرةً لجزارته لكن إن كان الجزار فقيراً مستحقاً فأعطي منها لفقره وأعطي أجرته من غيرها فإن هذا جائز لا بأس به. أو كذلك أعطي لكونه جاراً أو صديقاً ونحو ذلك مع إعطائه أجرته من غيرها فلا بأس. قال: (ولا يبيع جلدها ولا شيئاً منها بل ينتفع به) لما تقدم، فإن الشارع إنما أذن له بأن يأكل منها وينتفع بها وأما أن يبيع جلدها فلا يجوز، وقد تقدم أن النبي صلى الله عليه وسلم: (نهى أن يعطى الجزار شيئاً منها) ومثل ذلك: البيع، فإن هذا دليل بالتنبيه على النهي عن بيع شيء منها. فلا يجوز له أن يبيع جلدها أو صوفها أو نحو ذلك. لكن له أن ينتفع بها، لأنه أجيز له الانتفاع بأكلها فكذلك الانتفاع بجلدها. فله أن ينتفع بجلدها وصوفها أو نحو ذلك لكن ليس له أن يبيعه. قال: (وإن تعيَّبت ذبحها وأجزأته إلا أن تكون واجبة في ذمته قبل التعيين) صورة هذه المسالة: إذا عيَّن رجل أضحيته وقبل أن يأتي يوم النحر حدث فيها عيب يمنع الإجزاء بها أصلاً كأن يصيبها عرج بيِّن، أو نحو ذلك فإنها تجزئ عنه. ومثل ذلك لو أنه عين هدياً على سبيل التطوع ثم حدث له عطب أو شيء يمنع من الإجزاء فإنه يجزئ عنه ولا يجب عليه أن يهدي غيره ولا أن يضحي بغيره.

وذلك لأنه ليس بواجب عليه فالأضحيه ليست بواجبه في الأصل والهدي – أي هدي التطوع – ليس بواجب وإنما وجب هذا المعين، فالواجب هو هذا المعيَّن، فحيث حدث له تلف أو عيب فإنه لا يجب عليه أن يبدله، فإن الوجوب المتقدم متعين به هو، أما ذمته فهي بريئة من أن يتعلق بها شيء، وإنما التعيين في هذه البهيمة نفسها فإذا حدث بها عيب فإنها تجزئ عنه لأنها تعينت فثبت حقاً لله. فقد خرجت من ملكيته لحق الله تعالى حين عينها، ولا يجب عليه أن يذبح بدلها، لأن ذلك ليس بواجب عليه أصلاً وإنما وجبت هي بنفسها بتعيينها. (إلا أن تكون واجبة في ذمته قبل التعيين) فإنه يجب عليه أن يذبح بدلها. رجل معه هدي واجب فكان أن حدث في هذا الهدي الواجب عيب يمنع من الإجزاء وقد عينه بتقليده أو إشعاره أو بقوله: " هذا هدي " حدث فيه عيب يمنع الإجزاء قبل نحره. أو قال هذه أضحية وكان قد نذرها فإنها إن تلفت أو عطبت أو حدث بها ممنع الإجزاء: فإن الواجب لا يسقط عنه وذلك لأن ذمته قد تعلقت بها إيجاب شاة أو نحوها سليمة من العيوب سواء كان ذلك بالنذر أو بالهدي الواجب فقد تعلق في ذمته أن يذبح شاة سليمة من العيوب وحيث لم يفعل ذلك فإن ذمته لا تبرأ بل تبقى مشغولة. وذلك لأن الواجب عليه أن ينحر أو يذبح بهيمة سليمة من العيوب وحيث لم يفعل ذلك فإن ذمته تبقى مشغولة. وحينئذٍ: فهل له التصرف بهذا المعيب أم ليس له التصرف به؟ جمهور أهل العلم أن له التصرف به وهو قول ابن عباس كما رواه سعيد بن منصور في سننه. وذلك لأنه لا يجزئ عنه وقد أوجب الشارع عليه بدله وحيث كان كذلك فإن هذا يكون قد عاد إلى ملكيته وحينئذٍ يكون قد بطل تعيينه. فإذن: حيث أوجبنا عليه غيرها فهذا إبطال لتعيينه المتقدم فله أن يتصرف فيها بما شاء من بيع أو أكل أو نحو ذلك.

وهدي التطوع إن حدث به عطب أو نحو ذلك فإنه ينحر ثم يؤخذ من دمه بالقلائد التي عليه وتلطخ به جوانبه ليعرفه الفقراء، وليس لمن هو سائق لهذه البدن أو رفقته ليس لهم أن يطعمون من ذلك فقد ثبت في مسلم عن دؤيبة أبي قبيصة: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يبعثه على البدن فقال له صلى الله عليه وسلم: (إن عطب شيء منها " أي من هذه البدن وكانت على هيئة التطوع " فخشيت عليها موتاً فانحرها ثم اغمس نعلها " وهي القلائد التي على رقبتها " في دمها ثم اضرب على صفحتها " أي على جانبها وهذا من أجل معرفة الفقراء لها " ولا تطعم منها شيئاً ولا أحد من رفقتك) (1) وهذا لسد الذريعة لكي لا يكون سعي في إعطابها ليأكلها فنهى النبي صلى الله عليه وسلم أن يطعمها سائقها ومن كان معه من رفقة. قال: (والأضحية سنة) لفعل النبي صلى الله عليه وسلم، وقد ثبت في مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا دخلت العشر وأراد أحدكم أن يضحي فلا يمس من شعره ولا بشرته شيئاً) وفي رواية: (ولا يقلمن ظفراً) قالوا: فعلق النبي صلى الله عليه وسلم الأضحية بإرادة المكلف والواجبات لا تعلق بإرادته، فلا يقال في الواجبات " من أرادها " فإنها لا تعلق لها بإرادة المكلف بل يجب عليه أن يفعلها مطلقاً، يدل هذا على أنها – أي الأضحية – ليست بواجبة، هذا مذهب جمهور العلماء. وذهب أبو حنيفة وهو رواية عن الإمام أحمد: أنها واجبة على الغني. واستدلوا: بما روى أحمد وابن ماجه عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من وجد سعة فلم يضح فلا يقربن مصلانا) والحديث الصحيح أنه موقوف على أبي هريرة – قال الحافظ ابن حجر – وقد ذكر تصحيح الحاكم له قال: " ورجح الأئمة غيره وقفه " وهذا هو الراجح فهو موقوف على أبي هريرة.

_ (1) رواه مسلم في باب ما يفعل بالهدي إذا عطب في الطريق من كتاب الحج. المغني [5 / 439]

وهو مخالف لأبي بكر وعمر رضي الله عنهما، ففي سنن البيهقي بإسناد صحيح: (أن أبا بكر وعمر كانا لا يضحيان مخافة أن يُقتدى بهما) أي مخافة أن يقتدي الناس بهما فيعتقدون أنها واجبة. والقول الأول: هو الراجح، فليس في هذه المسألة إلا فعل النبي صلى الله عليه وسلم وفعله لا يدل على الوجوب. وأما الحديث الذي ذكره الأحناف فهو موقوف على أبي هريرة وهو معارض لفعل أبي بكر وعمر، فيبقى فعل النبي صلى الله عليه وسلم وفعله لا يدل على الوجوب. قال: (وذبحها أفضل من الصدقة بثمنها) فذبح الأضحية أفضل من التصدق بثمنها لفعل النبي صلى الله عليه وسلم، ولأن الصدقة بثمنها ذريعة لترك سنته، والنبي صلى الله عليه وسلم يختار الأضحية على الصدقة بثمنها فكان يضحي - صلى الله عليه وسلم -، فعلى ذلك الأفضل أن يضحي؛ لفعل النبي صلى الله عليه وسلم. قال: (وسن أن يأكل ويهدي ويتصدق أثلاثاً) يسن له أن يأكل ثلثها، وأن يتصدق بثلثها وأن يهدي ثلثها. واستدلوا: بأثر عن ابن عمر ذكره الموفق في المغني ولم يعزه وبأثر ابن مسعود ذكره الإمام أحمد فقال الإمام أحمد " نحن نذهب إلى أثر عبد الله) أي ابن مسعود. وحيث لم نقف على الأثر، فالذي يظهر لي هو اتباع الإمام أحمد في العمل بهذا الأثر فهو من أهل الحديث ومعرفة الآثار وحيث أنه احتج به وليس عندنا ما يضعفه فالأولى هو اتباع هذا الأثر الذي استدل به الإمام أحمد. فعليه: المستحب أن يقسم الأضحية أثلاثاً فيتصدق بثلثها ويهدي – أي إلى الجار والقريب – ثلثها، ويدخر لنفسه ثلثها هذا في الأضحية. وأما في الهدي له فالمستحب له أن يأكل شيئاً منه ويتصدق بالباقي، فقد ثبت في مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم: (أمر ببضعة من كل بدنة فجعلت في قدر فأكلا منها وشربا من مرقها) أي هو وعلي رضي الله عنه فلم يأخذ النبي صلى الله عليه وسلم ثلثها بل أخذ ببضعة من كل واحد منها.

قال: (وإن أكلها إلا أوقية تصدق بها جاز) إذا وضع الأضحية كلها لبيته ادخاراً أو أكلاً فهو جائز بشرط أن يتصدق بجزء منها ولو كان هذا الجزء يسيراً، للإطلاق فإن النبي صلى الله عليه وسلم أطلق الصدقة والأكل فقال: (كلوا وتصدقوا) وحيث أطلق النبي صلى الله عليه وسلم فأي شيء يصدق عليه أنه صدقة فإنه يجزئ عنه، فلو أخذ بضعة فتصدق بها أجزأ عنه. ولو كان ذلك مقدار أوقية أو أقل منها مما يصدق عليه أنه صدقة. قال: (وإلا ضمنها) إن لم يخرج شيئاً منها، فإنه يضمن هذا الشيء المجزئ فيجب عليه أن يشتري لحماً يتصدق به، وذلك لأن الصدقة فيها واجبة عليه لقوله صلى الله عليه وسلم: (تصدقوا) وحيث أكلها أو تزود بها ولم يتصدق بها فإنها تبقى في ذمته فيجب عليه ضمانها فيخرج شيئاً من ماله يشتري به لحماً يتصدق به. قال: (ويحرم على من يضحي أن يأخذ في العشر من شعره أو بشرته شيئاً) لا يجوز لمن أراد أن يضحي سواء باشر الأضحية هو أو باشرها غيره أو كان موكلاً غيره، فليس للمضحي أو المضحَى عنه ليس لأحد منهم أن يمس من بشرته ولا من شعره، وذلك للحديث المتقدم وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إذا دخلت العشر) وذلك يكون من إهلال شهر ذي الحجة وهو ثابت في بعض روايات مسلم فإذا دخلت الليلة الأولى من شهر ذي الحجة فليس له أن يأخذ من شعره ولا من بشرته ولا من ظفره شيئاً للحديث المتقدم: (إذا دخلت العشر وأراد أحدكم أن يضحي فلا يمس من شعره ولا بشرته شيئاً) وفي رواية: (ولا يقلمن ظفراً) . وظاهر الحديث كما قال المؤلف التحريم – فإن نهي النبي صلى الله عليه وسلم ظاهره التحريم إلا أن يدل دليل على الكراهية. وذهب جمهور أهل العلم إلى كراهية ذلك لا تحريمه. الأظهر هو التحريم كما هو مذهب الحنابلة لظاهر الحديث.

واعلم أن من تعينت أضحيته المستحبة وقد تقدم أنه لا يجب عليه أحد إن حدث بها تلف أو عيب يمنع الإجزاء، لا يجب عليه أن يضحي. اعلم أنها إن وقع فيها عيب من فعله فإنه يضمنها لأن على اليد ما أخذت حتى تؤديه. فهي يد أمينة، فإن حدث في هذه البهيمة شيء من العيوب بغير فعله فلا شيء عليه. وأما إن كان بفعله وتعديه وتفريطه فإنه يلزمه أن يذبح غيرها لأنها تلفت في يده وبتعديه وتفريطه، فهي قد تعينت وتعدى عليها أو فرط في حفظها فوجب عليه أن يضحي ببدلها. مسألة: وهل الأضحية مشروعة للحاج؟ انظر الجواب في مطلع الدرس القادم " بعد هذا الدرس ". والحمد لله رب العالمين. تقدم البحث في حكم الأضحية، واعلم أن مذهب جمهور العلماء مشروعية الأضحية في يوم النحر مطلقاً للحاج وغيره، وأن الحاج يشرع له أن يضحي كغيره من المسلمين. واستدلوا: بما ثبت في الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم: (ضحى في حجة الوداع عن نسائه بالبقر) . قالوا: فدل هذا على مشروعية الأضحية للحاج كغيره.

وقال المالكية وهو اختيار شيخ الإسلام: أنها لا تشرع للحاج بل يشرع له الهدي واستدل على هذا الشنقيطي في أضواء البيان بقوله تعالى: {وأذن في الناس بالحج يأتوك رجالاً وعلى كل ضامر يأتين من كل فج عميق ليشهدوا منافع لهم ويذكروا اسم الله في أيام معلومات على ما رزقهم من بهيمة الأنعام} قال: فبهيمة الأنعام المذكورة في هذه الآية الكريمة هي الهدي بدليل أن الله عز وجل ذكر الأذان بالحج إليها فقال: {وأذن في الناس} وقال: {ليشهدوا منافع لهم ويذكروا اسم الله في أيام معلومات على ما رزقهم من بهيمة الأنعام} فبين أن العلة من الأذان بالحج أن يشهدوا منافع لهم وأن يذكروا اسم الله على ما رزقهم من بهيمة الأنعام، ومعلوم أن الأضحية لا تحتاج إلى هذا فإن الأضحية تثبت بكل موضع فتبيَّن أن بهيمة الأنعام التي يذكر اسم الله عليها في هذه الآية الكريمة هي الهدايا لا الأضاحي. ويستدل على هذا أيضاً: أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يصح عنه ولا عن أصحابه إلا الهدي في حجة الوداع. وأما ما استدل به جمهور العلماء فإن هذه اللفظة وهي لفظة (ضحى) من تصرف بعض الرواة، بدليل أنها وردت في بعض الروايات (نحر) وفي بعضها (أهدى) . ويدل على هذا أن نساء النبي صلى الله عليه وسلم كن قارنات فدل هذا على أن هذا الذبح كان لهدي التمتع بالقران، وأن لفظة (ضحى) من تصرف بعض الرواة. فالراجح ما ذهب إليه المالكية وهو اختيار شيخ الإسلام وأن الهدي هو المشروع للحاج دون الأضحية وأن الأضحية لا تشرع له وإنما يشرع له الهدي فإن أحب استقل من الهدي وإن أحب استكثر كما تقدم أن النبي صلى الله عليه وسلم نحر مئة بدنة وأشرك علياً معه في ذلك. وأما الهدي فهو مشروع للحاج وغيره، فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يرسل الهدايا وهو غير حاج. فصلٌ قال المؤلف رحمه الله تعالى: (تسن العقيقة)

العقيقة من العق وهو القطع، والعقيقة هي الذبيحة تذبح عن المولود، وسميت عقيقة لأنها تقطع أي تذبح، والذبح يكون بقطع الحلقوم وما معه مما تثبت به التذكية فسميت هذه الذبيحة التي تذبح للمولود عند ولادته بالعقيقة. " تسن " فالعقيقة سنة وهو مذهب جمهور العلماء، واستدلوا على سنيتها بما ثبت في سنن النسائي بإسناد صحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم: (عق عن الحسن والحسين بكبشين كبشين) . أما ما رواه أبو داود أن النبي صلى الله عليه وسلم: (عق عنهما كبشاً كبشاً) فإن الحديث ضعيف فالصواب أنه مرسل كما رجح ذلك أبو حاتم الرازي وغيره. وفي الترمذي بإسناد صحيح عن عائشة قالت: (أمرنا النبي صلى الله عليه وسلم أن نعق عن الغلام شاتين وعن الجارية شاة) وإسناده صحيح. ولا تجب – أي العقيقة – كما ثبت في سنن أبي داود والنسائي بإسناد حسن أن النبي صلى الله عليه وسلم سُئل عن العقيقة فقال: (إن الله لا يحب العقوق - وكأنه كره الاسم - فمن ولد له ولد فأحب أن ينسك عنه فلينسك عن الغلام شاتان مكافئتان " متماثلتان متشابهتان في السن والإجزاء وفي السلامة من العيوب " وعن الجارية شاة) . قالوا: فقد قال صلى الله عليه وسلم: " من أحب أن ينسك " فعلقه بإرادة المكلف ومحبته، وحيث كان ذلك فإن هذا لا يدل على وجوبه وأنه راجع إلى اختيار المكلف، ولا شك أن الأحكام الواجبة ليست براجعة إلى اختيار المكلف، بل ملزم بها.

وفي قوله صلى الله عليه وسلم: (إن الله لا يحب العقوق) يدل على أن هذا الاسم (العقيقة) : يستحب ألا يداوم عليه، والمداومة عليه مكروهة، وإنما قلنا أن المكروه هو المداومة عليه دون إطلاق التسمية هكذا من غير مداومة – إنما قلنا ذلك لقوله صلى الله عليه وسلم – فيما ثبت عند الخمسة بإسناد صحيح: (كل غلام رهينة بعقيقته) فسماها – أي هذه الذبيحة – عقيقة، فدل على أن المكروه هو أن تغلب هذه التسمية على أسمائها الأخرى فتكون هي التسمية السائدة الغالبة أما إن تسمى بهذا الاسم من غير أن تكون هذه التسمية غالبة فلا حرج في هذا، وهكذا تسمية المغرب بالعشاء وكتسمية العشاء بالعتمة فإنها إنما تكره إن كانت ثابتة غالبة على غيرها من الأسماء الشرعية فعلى ذلك تسمى بالنسيكة فإن سميت تارة بالعقيقة من غير أن يغلب هذا الاسم على اسمها الشرعي وهو النسيكة، فإنه لا حرج في هذا، وإنما قلت: إنها تمسى نسيكة لاختيار النبي صلى الله عليه وسلم الفعل المشتق منها، فقد قال صلى الله عليه وسلم وقد كره العقوق: (من ولد له ولد فأحب أن ينسك عنه) فدل هذا بالإشارة والتنبيه على أن المستحب أن تسميها بالنسيكة. إذن: مذهب جمهور العلماء وهو المشهور عند الحنابلة أن العقيقة سنة وليست بواجبة. وعن الإمام أحمد واختاره طائفة من أصحابه واختاره أهل الظاهر وهو قول الحسن البصري أن العقيقة واجبة. واستدلوا: بما ثبت عند الخمسة بإسناد صحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (كل غلام رهينة بعقيقته يذبح يوم سابعه ويحلق ويسمى) والشاهد قوله: " رهينة بعقيقته " قالوا: فهو محبوس مرتهن بعقيقته فلا فكاك له من هذا الحبس وهذا الارتهان إلا بالعقيقة. وكما أن الرهن يجب أن يفك فكذلك يجب أن يفك رهن هذا الغلام فيعق عنه.

واستدلوا: - أيضاً – بحديث عائشة المتقدم: (أمرنا النبي صلى الله عليه وسلم أن نعق عن الغلام شاتين وعن الجارية شاة) وفي الاستدلال بهذين الدليلين – فيما يظهر لي – نظر. أما الدليل الأول: فإن الله عز وجل لا يوجب على أحد – إلا أن يكون هذا صريحاً – لا يوجب على أحدٍ ما يكون فكاكاً لغيره إلا أن يرد هذا صريحاً كإيجاب صدقة الفطر على الولد أو من تحت اليد ممن ينفق عليه، وأما أن يوجب هذا لفك رهينة على الوالد فإن في هذا نظراً. فالذي يظهر أن هذا لا يقوى على الإيجاب فهو مرتهن ومحبوس بذلك لكن لا يعني ذلك أن هذا واجب على الأب، كما أنه لا يجب على الأب أن يقضي دين ولده الذي توفي وعليه دين مع أنه محبوس بدينه أعظم من هذا الحبس فإن هذا يتعلق بحق الآدمي وأما الأول فغايته أن يكون متعلقاً بحق الله وحقوق الله عز وجل مبنية على المسامحة فلا يظهر لي الاستدلال بهذا على وجوب العقيقة. وأما حديث عائشة: فلا يظهر الاستدلال به على الوجوب فالأمر فيه للاستحباب فيما يظهر، بدليل أنه لو عُق عن الغلام بشاة، فإنه ذلك يجزئ كما سيأتي الدليل عليه، فدل هذا على أن الأمر للاستحباب، فإن الحديث فيه الأمر أن يعق عنه بشاتين وقد دلت الأحاديث على أنه لو عق عنه بشاة، فإن ذلك يجزئ. ففي سنن أبي داود بإسناد حسن عن بريدة قال: (كنا في الجاهلية إذا ولد لأحدنا غلام نذبح شاة ونلطخ رأسه بدمها فلما جاء الله بالإسلام كنا نذبح الشاة " أي عن الغلام " ونحلق رأسه ونلطخه بزعفران) فكره الشارع لطخ رأسه بدم العقيقة وشرع حلق رأسه وأن يلطخ بزعفران والشاهد أنه قال: (فلما جاء الله بالإسلام كنا نذبح الشاة) فالظاهر أن الشاة تجزئ لهذا الحديث. فالأقوى ما ذهب إليه جمهور العلماء وأن النسيكة سنة مستحبة وليست بواجبة والله أعلم. قال: (عن الغلام شاتان وعن الجارية شاة)

لحديث عائشة المتقدم: (أمرنا النبي صلى الله عليه وسلم أن نعق عن الغلام شاتين وعن الجارية شاة) قال: (يذبح يوم سابعه) استحباباً لحديث سمرة الذي رواه الخمسة وقد تقدم وفيه: (تذبح يوم سابعه) فإن ذبحها قبل سابعه أجزأت عند جمهور العلماء ولم يجزئ عند المالكية. أما جمهور العلماء فاستدلوا: بقوله صلى الله عليه وسلم: (كل غلام مرتهن بعقيقته) وحيث كان كذلك فإنها إن ذبحت قبل السابع فإنه يفك رهنه كما يفك الرهن بإعطاء الحق قبل أوانه. وقالوا: قوله صلى الله عليه وسلم: (تذبح يوم سابعه) للاستحباب بدليل ما صحَّ مما سيأتي من السنة من جواز ذبحها بعد ذلك في اليوم الرابع عشر وفي اليوم الواحد والعشرين، فإذا ثبت هذا – وسيأتي – فإن هذا يدل على أن قوله صلى الله عليه وسلم: (تذبح يوم سابعه) أنه للاستحباب، ثم إن ذبحها قبل سابعه يحصل به المقصود. وأما المالكية فقد استدلوا: بقوله صلى الله عليه وسلم: (تذبح يوم سابعه) قالوا: فقد وقت النبي صلى الله عليه وسلم للنسيكة يوم السابع فلا يجوز أن يقدم عليه كسائر المواقيت. والأظهر ما ذهب إليه الجمهور، لما تقدم، فإن قوله: (تذبح يوم سابعه) للاستحباب بدليل جواز ذبحها بعد يوم السابع ولأن المعنى يقتضي ذلك فالمقصود يحصل بذبحها في اليوم الرابع أو في اليوم الثالث أو في اليوم الأول. لقوله صلى الله عليه وسلم: (كل غلام رهينة بعقيقته) والرهن يفك متى دفع الحق وإن كان ذلك قبل أجله وأوانه. والله أعلم.

ويستحب في اليوم السابع: أن يحلق رأسه وأن يلطخ رأسه بزعفران وأن يتصدق بوزن شعره من فضة – هذا إن كان غلاماً ذكراً – ففي المسند بإسناد جيد عن أبي رافع قال: (لما ولد الحسن قالت فاطمة للنبي صلى الله عليه وسلم: أعق عنه؟ قال: لا " وذلك لأن النبي صلى الله عليه وسلم أحب أن يعق عنه كما تقدم " ولكن احلقي رأسه وتصدقي بوزن شعره من فضة) والحديث في الغلام. وأيضاً قوله صلى الله عليه وسلم: (كل غلام رهينة بعقيقته) وقال: (ويحلق) ولأن النساء يكره في حقهن الحلق – وهذا هو المشهور عند الحنابلة وأن الحلق واللطخ بالزعفران بعد الحلق، والتصدق بوزن شعره من الفضة – أنه مختص بالذكور دون الإناث، وهو ظاهر الأحاديث الواردة في هذا الباب. وأما التسمية فقد تقدم حديث سمرة وفيه: (ويسمى) وأن ذلك في اليوم السابع، وهذا مذهب بعض الحنابلة. قالوا: يستحب أن تكون التسمية في اليوم السابع. - وذهب بعض الحنابلة إلى أن المستحب في التسمية أن تكون حين ولادته. واستدلوا: بما ثبت في الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ولد لي الليلة ولد فسميته باسم أبي إبراهيم) ولما ثبت عن أنس بن مالك: (أنه ذهب بابن لأبي طلحة حين ولد إلى النبي صلى الله عليه وسلم فحنكه بتمر وسماه عبد الله) وثبت أيضاً في الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم: (سمى المنذر بن الأسود المنذر حين ولد) وهذه أحاديث متفق عليها دلت على أن التسمية مشروعة حين الولادة، وكلا الأمرين جائز لكن الأظهر هو استحباب التسمية عند ولادته لأن الأحاديث الواردة فيه أصح، فإن سمي يوم سابعه فلا بأس. قال: (فإن فات ففي أربعة عشر فإن فات ففي إحدى وعشرين)

لما روى الحاكم في مستدركه بإسناد جيد أن امرأة من آل عبد الرحمن بن أبي بكر نذرت إن ولدت امرأة عبد الرحمن نحرت جزوراً، فقالت عائشة: (لا بل السنة عن الغلام شاتان متكافئتان وعن الجارية شاة تذبح جدولاً " أي أعضاء " ولا يكسر لها عظم وأن يكون ذلك يوم سابعه فإن لم يكن ففي أربعة عشر فإن لم يكن ففي إحدى وعشرين) وفي قولها: " لا بل السنة " ثم ساقته، ما يدل على أنه من سنة النبي صلى الله عليه وسلم ولو لم يثبت ذلك سنة فإنه قول الصحابي لا يعلم له مخالف فيكون حجة. فعلى ذلك: إن فات السابع فيستحب له أن يتأخر إلى اليوم الرابع عشر فإن فاته اليوم الرابع عشر فيستحب له أن يتأخر إلى اليوم الحادي والعشرين فإن فات اليوم الحادي والعشرين فإنه يذبحها متى شاء. وظاهر إطلاقهم أنها تذبح عنه ولو كان ذلك بعد بلوغه. وعند الإمام أحمد أنها إنما تكون عن الصغير أي غير البالغ، وهذا هو الأظهر فإن الأحاديث الواردة في ذلك مقيدة بالغلام والجارية وهما من لم يبلغا. فإن بلغا فليس بغلام وليست هي بجارية. فهي مشروعة عن الغلام وعن الجارية وحيث بلغا فهي سنة فات محلها، أما ما رواه الطبراني أن: (النبي صلى الله عليه وسلم عق عن نفسه) فإنه إسناد لا يثبت وقد أنكره الإمام أحمد. واستحب الحسن وعطاء أن يعق عن نفسه إن لم يعق عنه أبوه وقال الإمام أحمد: " لا أقول به ولا أكرهه ". الأظهر ما تقدم: وأنه إن بلغ فهي سنة فات محلها، وأما من لم يبلغ وقدر أن يعق عن نفسه فإنه يعق. والذي يعق عنه في المشهور عند الحنابلة هو الأب فقط، فلا يجزئ أن يعق عنه غيره. وقال الشافعية: بل كل من ينفق عليه، ممن وجبت عليه النفقة فإنه يعق عنه سواء كان أباً أو أخاً أو عماً. وذهب بعض أهل العلم وهو اختيارالشوكاني إلى أن العقيقة تجزئ من الأب أو من يجب عليه النفقة أو من غيرهما.

فمن عق عنه ولو كان العاق بعيداً عنه لا ينفق عليه فضلاً أن يكون أباً فإن ذلك يجزئ. واستدل بأن النبي صلى الله عليه وسلم: (عق عن الحسن والحسين) وأبوهما علي رضي الله عنهم، والنبي صلى الله عليه وسلم لا تلزمه النفقة عليهما وهذا هو القول الراجح. وما ذهب إليه الحنابلة والشافعية لا دليل عليه، فالراجح أنه إن عق عنه فإن ذلك يجزئ من غير نظر إلى فاعل ذلك سواء كان أباً أو غيره منفقاً أو غيره. قال: (تنزع جُدولاً ولا يكسر عظمها) " جدولاً " أي أعضاءً، فلا تكسر عظامها، ولذا قال: " ولا يكسر عظمها " أي تنزع اليد، والرجل، والرقبة هكذا عضواً عضواً ولا تكسر عظامها، للأثر المتقدم عن عائشة قالت: " وتذبح جدولاً ولا يكسر لها عظم ". وقال المالكية: لا بأس أن تكسر عظامها ولا يقال باستحباب ذبحها جدولاً وعدم تكسير عظامها. قالوا: لأنه لم يثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم شيء في ذلك. والراجح القول الأول لصحة الأثر عن عائشة، فإن كان مرفوعاً فكما تقدم وإن كان من قولها فهو قول صاحب لا يعلم له مخالف. ولما في ذلك من التفاؤل بأن يكون هذا الغلام سليمة أعضاؤه من أن يقع فيها شيء من الكسر أو العيب أو نحو ذلك. وقد استحب الحنابلة أن تطبخ لأن ذلك أيسر مؤونة على الفقير، وهو كما قالوا حيث كان الطبخ أيسر لكن إن كان إعطاؤه إياها لحماً من غير طبخ أحب إليه أي لحفظها وتخزينها فإن ذلك أفضل، فيراعى في ذلك مصلحة الفقير من طبخ أو غيره. وفي أثر عائشة المتقدم قالت: (فتأكل وتطعم وتتصدق) أي يأكل صاحب العقيقة فيها ويطعم جاراً أو قريباً ويتصدق على الفقير، فمجراها شبيه بمجرى الأضحية يؤكل منها وتُتصدق ويُهدى. فإن تصدق بها كلها أو أهداها كلها أو وضعها لضيف فإن ذلك يجزئ على أنها عقيقة، لأن المقصود هو ذبحها. وإن تصدق بها على الفقراء فهو الأولى، بل الأولى من ذلك أن يتصدق ويطعم ويهدي لأثر عائشة المتقدم.

قال: (وحكمها كالأضحية) فيشترط في العقيقة ما يشترط في الأضحية من كونها سليمة من العيوب ذات سن مجزية، إن كانت من الإبل فخمس سنين، وإن كانت من البقر فسنتان وإن كانت من المعز فسنة وإن كانت من الضأن فستة أشهر – وهذا من باب القياس – والجامع أن كليهما نسك فقد سماها النبي صلى الله عليه وسلم نسكاً واستحبها فتقاس – حينئذٍ – على الأضحية. قال: (إلا أنه لا يجزئ فيها شرك في دم) هذا استثناء، فهي في أحكامها كالأضحية لكن لا يجزئ فيها شرك من دم، فليس له أن يشارك غيره في إبل أي في العقيقة فقد تقدم أن السبع من البدن والبقر عن شاة في الأضاحي والهدي. قالوا: أما العقيقة فلا، فلو أن له ثلاثة من البنين فأراد أن يذبح جزوراً فيعق به عنهم فإن ذلك لا يجزئ فلابد وأن يكون لكل واحدٍ منهم دماً سواء كان إبلاً أو بقراً أو غنماً فلا يشارك فيها. قالوا: لأن مجراها مجرى الفداء فهي فداء عن النفس فكانت النفس بالنفس فهي فداء عن نفس هذا الغلام فلا يجزئ فيها إلا نفساً تامة سواء كانت من الإبل والبقر والغنم. وقال جمهور العلماء: بل يجزئ ذلك. وهذا أظهر؛ لأن الشريعة دلت على أن السبع من البدنة أو البقرة يقوم مقام الشاة وحيث كان ذلك، وقد تقدم أن العقيقة مقيسة عند أهل العلم على الأضحية فكذلك هنا، فيجزئ السبع من البقر أو الإبل عن الشاة، ويجزئ السبعان عن الشاتين في العقيقة. هذا القول أظهر. وأما قولهم: إنها فداء عن النفس فكما تقدم، فإن سبع البدن وسبع البقر يقوم مقام الشاة الواحدة.

لكن المستحب له أن يذبح شاتين عن الغلام وشاة واحدة عن الجارية وأنها أفضل من السبع مطلقاً بل الظاهر أنها أفضل من البعير أو البقر كاملاً، لما تقدم من قول عائشة فيمن نذرت جزوراً قالت: (لا بل السنة عن الغلام شاتان وعن الجارية شاة) ولفعل النبي صلى الله عليه وسلم فإنه قد ذبح عن الحسن والحسين بكبشين كبشين فالأظهر أن الكبش في باب العقيقة أفضل من الإبل والبقر وإن كانت الإبل والبقر تامة لفعل النبي صلى الله عليه وسلم. * وهل يجزئه أن يضحي ويدخل العقيقة في أضحية فيذبح ذبيحة واحدة في يوم النحر وأيام التشريق وينوي بها العقيقة؟ ثلاثة روايات عن الإمام أحمد: الأولى: الإجزاء وهو المشهور عند الحنابلة. الثانية: عدم الإجزاء. الثالثة: التوقف في هذه المسألة. وأصح هذه الروايات عدم الإجزاء خلافاً للمشهورة في المذهب لأن لكل منهما – أي العقيقة والأضحية – لكل منهما سبب مختلف عن الأخرى، ولكل منهما مقصد فلم يجزئ أحدهما عن الآخر، هذا هو القول الراجح وهو رواية عن الإمام أحمد. وهم استدلوا بإجزاء النافلة عن تحية المسجد وإجزاء الفريضة عن تحية المسجد. وهذا ضعيف فإن تحية المسجد ليست مقصودة لذاتها فإن المقصود ألا يجلس حتى يصلي سواء صلى فريضة أو نافلة بخلاف العقيقة والأضحية فإن كليهما مقصود لذاته. قال: (ولا تسن الفَرَعة ولا العَتيرة) الفرعة هي ذبح أول ولد الناقة. والقتيرة: هي الرجبية أي الذبيحة تذبح في رجب وهما من سنن الجاهلية وقد أبطلهما الإسلام. ففي الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا فرع ولا عتيرة) قال الحنابلة: نفى الشارع سببهما فلا يكرهان وإنما لا يستحبان.

وفي هذا نظر بل هما مكروهان بل بدعتان وذلك لأن التعبد لله عز وجل بالذبح في أمر لم يشرعه الله بدعة في الدين لكن إن أرادوا أنه إن ذبح أول ولد للناقة للحاجة إلى ذلك لا للتعبد أو ذبح في رجب لا لمعنى رجب وإنما وافق ذلك رجباً كأن يوافق ضيافة أو عقيقة توافق رجباً فيذبحها فلا بأس به وقد صرحوا بذلك، فإن كان هذا مرادهم فنعم. وأما إن كان مرادهم أن التعبد لله بذلك جائز ولا يكره لكنه ليس بمستحب فهذا ليس بصحيح، ولذا قال الشيخ عبد الرحمن بن سعدي:" وظاهر الأحاديث المنع "؛ وذلك لأن العبادات مبناها على التوقف. فعلى ذلك الفرعة والعتيرة بدعة وهما مكروهان في الشريعة لكن إن ذبح أول ولد الناقة لحاجته إلى ذلك أو ذبح في رجب لحاجته إلى ذلك من غير نية التعبد فلا حرج في هذا. مسألة: الجنين لا يظهر أنه مستحب أن يعق عنه، لكن إن عق عنه فلا بأس لكن لا يظهر استحباب ذلك لعدم دخوله وظاهر الأحاديث: (كل غلام) وهو ليس كذلك، ولقوله صلى الله عليه وسلم: (من ولد له ولد) وأما إن مات قبل سابعه فإن قوله صلى الله عليه وسلم: (من ولد له ولد) وقوله: (كل غلام رهينته بعقيقته) يدخل فيه هذا، وفي قوله: (يذبح عنه يوم سابعه) يخرجه من هذا فإنه لم يبلغ اليوم السابع لكن تقدم إن الذبح يوم سابع للاستحباب وأنه لو ذبح قبل ذلك فإنه يجزئ. فالأظهر أنه متى ولد فإنه تشرع عنه العقيقة وإن مات بعد ذلك لأنه غلام وولد فيدخل في عموم الأحاديث، وكذلك التسمية لأنها تشرع عند الولادة. * الأذان في أذن الصبي، فقد رواه الترمذي أن النبي صلى الله عليه وسلم: (أذن في أذن الحسن حين ولدته فاطمة) يعني حين الولادة، والحديث فيه عاصم بن عبيد الله وهو ضعيف. وأما الإقامة فقد رواها ابن السُني بإسناد لا يصح فالحديث موضوع في الإقامة أما الأذان فالسنة فيه ضعيفة، لكن قال الترمذي: (والعمل عليه عند أهل العلم) فهو مستحب عند أهل العلم.

وأما التحنيك لا حرج فيه لكن بتمر لا بريق، لكن إن كان بريق مقروء فيه قرآن فقد يقال أنه أمر حسن فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يحنك بتمر. فالتحنيك لا بأس به، أما أن يذهب إلى صالح فهذا من التبرك المنهي عنه، لكن إن كان المقصود ذات القرآن بأن يقرأ فيها شيء أو نحو ذلك فيخرج عن التبرك لكن يبقى معنى آخر وهو إدخال القرآن إلى جوفه، هذا لا دليل عليه. ولا تجزئ العقيقة إلا أن تكون من بهيمة الأنعام. وقد أشكل قول بعض الأئمة ولعله الإمام مالك قال: " يعق ولو بعصفور " وإنما مراده بذلك المبالغة أي بأنه يعق ولا يترك العق ولو كان بشيء زهيد. والحمد لله رب العالمين. فهرس الموضوعات حكم الحج والعمرة ... … 1، 2 شروط وجوب الحج ... ... 3، 4 الفورية في الحج ... ... ... 4 إن زال الرق والجنون والصبا بعرفة ... … 6 وفعلهما من الصبي والعبد نفلا ... ... 7 القادر من أمكنه الركوب ... … 8 مسألة الدين ... ... … 11 إن أعجزه كبر أو مرض ... ... 11 ويجزئ عنه وإن عوفي بعد الإحرام ... … 12 مسألة: من حج عن غير ولم يحج عن نفسه … 13 ويشترط لوجوبها على المرأة وجود محرمها ... 14 شروط المحرم ومن هو؟ ... … 15 إن مات من لزمه الحج والعمرة ... … 16 مسألة: التوكيل في حج التطوع مع القدرة … 16 باب المواقيت ... … 17 عمرة أهل مكة ... ... … 19 أشهر الحج ... ... ... 20 مسألة: إذا أهل بالحج قبل أشهره ... … 21 إذا أحرم قبل الميقات المكاني ... … 22 الإحرام لمن لا يريد الحج والعمرة ... … 22 باب الإحرام ... … 23 هل يشترط مع نية الإحرام شيء يدل عليه … 23 سنن الإحرام ... ... ... 24 وإحرام عقب ركعتين ... ... … 26 الاشتراط عند الإحرام ... ... 27 أفضل الأنساك ... ... 28 وإن حاضت المرأة فخشيت فوات الحج ... 34 من أهل بالنسك مبهماً ... … 35 حكم التلبية ... ... 38 باب محظورات الإحرام ... … 39 حكم الجماع في الحج والعمرة …. 53 ما يباح للمحرم ... ... 58 باب الفدية ... ... 60 فصل في أحكام الفدية ... … 68

باب جزاء الصيد ... ... 73 باب صيد الحرم ... ... 76 باب دخول مكة ... ... 82 طواف الحائض ... … 92 إن كرر الطواف فله أن يصلي أربعاً ... 94 فصل: ثم يستلم الحجر ... ... 96 فصل: ثم يفيض إلى مكة ... … 121 وقت طواف الزيارة ... ... 123 ثم يرجع فيبيت في منى ثلاث ليال ... 127 فيرمي الجمرة الأولى ... 128 طواف الوداع ... ... 134 وصفة العمرة ... … 139 باب الفوات والإحصار ... 145 ومن صده عدو عن البيت … 148 باب الهدي والأضحية ... … 152 ويتعينان بقوله هدي أو أضحية ... 164 فهرس الأحاديث والآثار أأعتمر من الشجرة … 140 ابدؤوا بما بدأ الله به ... … 98 ابعثها قياماً مقيدة سنة محمد - صلى الله عليه وسلم - ... 159 أتاني آت من ربي فقال: صل ... ... … 17، 27 أتاني جبريل فأمرني ... … 38 اجعلوها عمرة ... ... ... …. 29 أحابستنا هي؟ ... ... 122، 135، 144 إحرام المرأة في وجهها ... ... 56 أحسنت ... ... ... ... ... 35 احضرى أضحيتك يغفر لكِ ... … 161 أحل ... ... ... ... ... …. 35، 117 احلقوه كله أو اتركوه كله ... ... 41 أحلوا من إحرامكم بالطواف ... ... 28 اخرجوا ... ... ... 122 اخلع هذه الجبة واغسل عنك ... ... 70 إذا استلم الحجر (ابن عباس) ... ... 37 إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم ... … 136 إذا رميتم الجمرة فقد حل ... ... 119 إذا رميتم وحلقتم فقد حل لكم ... … 118 إذا لم يجد إزاراً فليلبس السراويل وإذا لم يجد نعلين … 44 أذن عمر رضي الله عنه لأزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - في آخر حجة … 15 أذن لأم سلمة أن تدفع ليلة المزدلفة وأن ترمي قبل طلوع الفجر … 109 أربع لا تجوز في الأضاحي: العوراء … 155 أرخص في أولئك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ... 108، 109 ارم ولا حرج ... … 115، 120 استأذنت سودة النبي - صلى الله عليه وسلم - ليلة المزدلفة ... … 108، 109 استقبل القبلة ... … 103 اسعوا فإن الله كتب عليكم السعي ... … 142 اشترطي أن محلي حيث حبستني ... 151، 27

اشتركنا مع النبي - صلى الله عليه وسلم - في الحج والعمرة كل سبعة في بدنة … 72 أشهر الحج شوال وذو القعدة وعشر (ابن عمر) … 20 اصنع كما يصنع المعتمر ثم قد حللت، فإذا أدركك … 146 اصنع في عمرتك ما أنت صانع في حجك ... … 143 اغتسال علي يوم عرفة ... … 103 اغسل الطيب الذي عليك ... ... 25 اغسلوه بماء وسدر ... ... 42، 58 أفاض النبي - صلى الله عليه وسلم - يوم النحر ... ... 123، 127 أفضل الحج العج والثج ... ... 38 افعل ولا حرج ... … 115، 121، 148 افعلي ما يفعل الحاج غير أنه لا تطوفي ... 92، 100 ألا يحج بعد العام مشرك ولا يطوف ... … 6، 90 البسوا من ثيابكم البياض فإنها من خير ... … 26 أمر أسماء بنت عميس أن تغتسل عند إحرامها … 24، 93. أمر أصحابه أن يرملوا في الأشواط الثلاثة و … 87 أمر الناس أن يكون آخر عهدهم بالبيت ... … 134 أمرنا عشية التروية أن نهل بالحج ... ... 142، 124 أمرنا النبي - صلى الله عليه وسلم - أن نستشرف العين والأذن ولا نضحي بعوراء … 157 أمرنا النبي - صلى الله عليه وسلم - أن نشترك في الإبل والبقر كل ... 72 إن آية ما بيننا وبين المنافقين أنهم لا يتضلعون ... 127 أن ابن عمر كان يستلم الحجر بيده ثم قبل يده … 85 أن ابن عمر كان يلبي راكباً ونازلاً ... 38 أن أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - كانوا يرفعون أصواتهم ... 39 أن بنت أخ لصفية بنت أبي عبيد نفست بالمزدلفة ... … 116، 131 إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كثر عليه الناس يقولون … 96 أن عبد الله بن عمرو استلم الحجر ثم قام بين الركن والباب ... … 137 أن عمر أمر رجلاً أن يرجع لطواف الوداع ... ... … 139 أن عمر طاف بالبيت فركب فصلى بذي طوى … 94 إنا لم نرد عليك إلا أنا حرم ... ... … 48 إنا نحن نازلون غداً إن شاء الله في بخيف بني كنانة … 134 إن تفصلوا بين الحج والعمرة فتحروا بالعمرة (عمر بن الخطاب) … 30 إن الجذع يوفى مما يُوفي منه الثنية ... … 154

أن رجلاً تزوج وهو محرم فرد عمر نكاحه ... 50 انظروا إلى حذوه (عمر رضي الله عنه) ... 16 إن الله تجاوز عن أمتي الخطأ و ... ... … 70 إن الله كتب الإحسان على كل شيء فإذا قتلتم … 159 إن الله كتب عليكم الحج ... ... 4 إنما الأعمال بالنيات ... ... 27، 88، 89، 141 إنما الخير خير الآخرة ... ... 36 أن سعد بن أبي وقاص ذهب إلى العقيق فوجد عبداً يقطع ... 80 أن عمر رضي الله عنه أذن لأزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - ... 15 إنك رجل قوي فلا ... …. 88 إن كنت تريد السنة فقصر في الخطبة وعجل في الصلاة ... 102 أن النبي - صلى الله عليه وسلم - احتجم وهو محرم ... ... … 59 أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمر عبد الرحمن بن أبي بكر أن يعمر … 19، 139 أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أهل دبر الصلاة ... ... … 26 أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أهل عند المسجد بعد أن صلى … 26 أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أوجب الفدية على كعب ... … 58، 72 أن النبي - صلى الله عليه وسلم - دخل من باب بني شيبة ... … 83 أن النبي - صلى الله عليه وسلم - صلى الظهر بالمدينة أربعاً والعصر.. ركعتين … 26 أن النبي - صلى الله عليه وسلم - طاف على بعير كلما أتى الحجر أشار ... 85 أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما جاء إلى مكة دخل من أعلاها و ... … 82 أن النبي - صلى الله عليه وسلم - وقت لأهل العراق ... ... 16 إن هذا البلد حرمه الله يوم خلق السموات …. 76، 77، 78 أنه جعل البيت عن يساره ومنى عن يمينه ... … 112، 128 أنه كان يسرع رمية حجر ... ... 111 أنه كان يشير إلى الحجر بشيء ويكبر ... … 86 أنه كان يقبل الحجر ويسجد عليه (ابن عباس) ... 86 أنهما يهلان بها من حيث أهلا ... 54 إني أحرم ما بين لابتيها ... … 81 إني لأعلم أن حجر لا تضر ولا ... . 85 إني لست كهيئتم، إنما صيد (عثمان بن عفان) … 48 أهريقي دماً ... … 53 أهل النبي - صلى الله عليه وسلم - عند المسجد بعد أن صلى ... 26

أهل دبر الصلاة ... ... 26 أول شيء بدأ به النبي - صلى الله عليه وسلم - حين قدم مكة ... … 84، 91 أي بني لا ترموا حتى تطلع الشمس ... … 109 أي شيء فيها فعلت ... ... ... 61 أيما صبي حج ثم بلغ الحنث … وأيما عبد ... … 4، 7 أيها الناس، السكينة السكينة، فإن البر ليس بالإيضاع … 106 بئس ما قلت ... … 141 بأمثال هؤلاء، وإياكم والغلو في الدين فإنما ... … 111 بسم الله والله أكبر ... … 86 بل للأبد ... ... … 29، 30 بمثل هؤلاء فارموا وإياكم ... ... 111، 113 بني الإسلام على خمس ... ... … 1 بيداؤكم هذه التي تكذبون على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - … 36 تابعوا بين الحج والعمرة، فإنهما ينفيان ... 140 تجرد لإهلاله واغتسل ... ... 25 تزوج النبي - صلى الله عليه وسلم - ميمونة وهو حلال ... 51 تزوج النبي - صلى الله عليه وسلم - ميمونة وهو محرم ... 50 تزوجني النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو حلال (ميمونة) ... … 51 ثم أتى بني عبد المطلب وهم يسقون ... 126 ثم أتى منى فأتى الجمرة فرماها ... 117 ثم أمرنا عشية التروية أن نهل بالحج ... 124 ثم انصرف إلى المنحر فنحر ... ... 116 ثم خرج النبي - صلى الله عليه وسلم - من باب الصفا ... … 96 ثم رجع إلى الركن فاستلمه ... … 96 ثم طاف بالبيت ثم حل له كل شيء … 126 ثم مكث قليلاً حتى طلعت الشمس ... 102 ثم نزل إلى المروة حتى إذا انصبت قدماه ... … 97 جعل في حمام الحرم (ابن عباس) ... … 75، 77 حتى إذا استوت به راحلته على البيداء ... … 35، 36 حتى أهل مكة من مكة ... ... … 18، 16، 17، 101، 139 حججنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ومعنا النساء والصبيان … 7 الحج عرفة فمن أدرك ... ... 103، 105، 146 حج عن أبيك واعتمر ... ... ... 2 حج عن نفسك ثم حج عن شبرمة ... … 13 حجي عنه ... ... 11 حجي عنها، أرأيت لو كان على أمك … 16 حجي واشترطي وقولي: اللهم إن ... 27، 151 حل ... ... 117، 35 حلق بالحديبية في عمرته وأمر أصحابه بذلك … 148

خذ، وأشار إلى جانبه الأيمن ... 99 خرجنا مع رسول - صلى الله عليه وسلم - إلى مكة لا نذكر إلا حجاً … 29 خرجنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فحال كفار قريش دون البيت ... 148 خطبنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ونحن بمنى ففتحت أسماعنا … 121 خطب الناس في وسط أيام التشريق ... 134 خطب الناس يوم النحر ... ... 121 خمس فواسق يقتلن في الحل والحرم ... … 48 خير الدعاء يوم عرفة، وخير ما قلت و ... 103 دخلت العمرة في الحج ... ... … 1، 3، 29 دخل مكة وعلى رأسه المغفر ... … 22 دخل النبي - صلى الله عليه وسلم - مكة من كداء و… 82 دعا أن تنقل حمى يثرب ... ... 17 ذهب إلى زمزم ... ... 101 رأيت أسامة بن زيد وبلال (أم الحصين) … 42 رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يخطب الناس بمنى حين ارتفع الضحى.. 121 رأيت النبي - صلى الله عليه وسلم - بك حفياً ... ... 86 ربنا آتنا في الدنيا حسنة و ... 86 رجعنا في الحجة مع النبي وبعضنا يقول رميت بسبع حصيات و ... 132 رخص لرعاء الإبل في البيتوتة عن منى يرمون يوم النحر ... 130، 133 رخص للعباس بن عبد المطلب أن يبيت بمكة ليالي منى … 127، 133 رفع القلم عن ثلاثة ... ... 4 رفع يديه ... … 100 ركب النبي - صلى الله عليه وسلم - في سعيه بين الصفا والمروة … 100 رمل النبي - صلى الله عليه وسلم - من الحجر إلى الحجر ... … 87 رمى الجمرة يوم النحر ضحى ... ... 114 رميت بعدما أمسيت ... … 115 الزاد والراحلة ... ... ... 8 سئل عن الجماع قبل التحلل الأول (ابن عباس) … 52، 67 سئل عن الغسل للمحرم ... ... 58 سمعت النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول على المنبر ... … 44 صلى بنا النبي - صلى الله عليه وسلم - الظهر بالمدينة أربعاً والعصر.. ركعتين … 26 صلى الظهر والعصر والمغرب والعشاء والفجر … 102 الصيام لمن تمتع بالعمرة إلى الحج لمن لم يجد ... 64 صيد البر لكن حلال وأنتم حرم ما لم ... 48

ضحى النبي - صلى الله عليه وسلم - بكبشين أملحين أقرنين … 152، 153، 160 ضحينا مع النبي - صلى الله عليه وسلم - بجذع من الضأن ... 154 ضربت له قبة بنمرة ... … 42 طاف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وطاف المسلمون فكانت سنة فلعمري … 142 طاف بين الصفا والمروة سبعاً ... … 98 طاف النبي - صلى الله عليه وسلم - على بعير كلما أتى الحجر أشار …. 85، 96 الطواف بالبيت صلاة فمن نطق ... … 91 طوافك بالبيت وبين الصفا والمروة يجزئك عن حجك وعمرتك … 141 طوفي من وراء الناس وأنت راكبة ... .. 95 عليهن جهاد لا قتال فيه ... ... … 2 العمرة إلى العمرة كفارة لما بينهما والحج المبرور … 140 عمرة في رمضان تعدل حجة ... … 140 فأتى المزدلفة، فصلى بها المغرب والعشاء ... ... 106 فإذا فرغنا من المناسك جئنا فطفنا بالبيت و ... 126، 124 فأرسلت الأتان ترتع ... ... … 78 فإن لك على بك ما استثنيت ... … 27 فأهللنا من الأبطح ... … 102 فأهل الناس بهذا الذي يهلون به فلم يرد ... … 36 فحجي عنه ... ... . 11 فحل الناس كلهم وقصروا إلا النبي - صلى الله عليه وسلم - و ... 99 فحمد الله فلم يزل واقفا حتى أسفر جداً ... … 110 فرأيت أسامة بن زيد وبلال (أم الحصين) … 42 فرقي عليه ... ... 110 فرماها بسبع حصيات ... … 112 فصلى بمكة الظهر ... 127 فطاف الذين أهلوا بالعمرة بالبيت وبالصفا والمروة ثم حلوا ثم طافوا طوافاً آخر بعد أن رجعوا … 121 فقربنا النساء ولبسنا الثياب ... 124 فقطع التلبية مع آخر حصاة ... ... 114 فكلوا مما بقي من لحمه ... ... 47، 73 فلما أتى بطن محسر حرك قليلاً ... … 111 فلما كان يوم التروية أهللنا بالحج وكفانا الطواف الأول ... 125 فلما كان يوم التروية توجهوا إلى منى ... 101 فلم يزل واقفاً حتى غربت الشمس ... 105 فلم يزل يلبي حتى رمى جمرة العقبة ... … 114 فمن أدرك عرفة قبل أن يطلع الفجر فقد ... 106 فمن لم يجد هدياً فليصم ثلاثة أيام ... . 64 في صلاة ... … 92

فيم الرملان اليوم والكشف عن ... ... 84، 88 القائمتان والوسادة والعارضة والمسد ... 80 قبل يوم التروية يوم ويوم التروية … 64 قد حللت من حجك وعمرتك ... ... ... … 1 قدمنا النبي - صلى الله عليه وسلم - ليلة المزدلفة أغيلمة ... … 109 قضى ابن عباس في حمار الوحش و.. ببقرة … 75 قضى بذلك ... … 52 قضى عمر في الغزالة بعنز وفي … 75 قضى عمر وعثمان و.. في النعامة بدنة ... 75 قضى عمر في الضب بجدي ... … 75 قضى النبي - صلى الله عليه وسلم - أن في الضبع كبشاً ... ... 74، 75 قطع التلبية مع آخر حصاة ... ... 37 قلم أظافره بعد التحلل ... ... … 121 قياماً ... … 159 كان إذا دخل الحرم أمسك عن التلبية ... … 37 كان أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - يعتمرون في أشهر (ابن المسيب) … 30 كان الرجل في عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - يضحي بالشاة عنه وعن أهل بيته … 152، 154 كان الركبان ونحن مع النبي - صلى الله عليه وسلم - … 56 كانت المتعة لأصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - ... ... 29 كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يرمي جمرة العقبة ضحى، وأما ... … 129 كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يستلم الركن اليماني والحجر في كل طواف … 87 كان يذكر الله عند الجمرتين ويكبره ويهلله ... … 129 كانوا يرون الاعتمار في أشهر الحج من أفجر ... 28 كانوا يستحبون التلبية في أربعة مواضع ... 38 كانوا يصرخون بها ... ... 38 كان يسير العنق فإذا وجد فجوة نص ... … 106 كان يقف عند الجمرتين مقدار ما يقرأ سورة البقرة ... 129 كان يكبر مع كل حصاة ... ... 113، 114 كفى بالمرء إثماً أن يضيع ... ... … 10 كلا يا بني، إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أذن للظعن ... … 108 كل أيام التشريق ذبح ... … 162، 163 كل عرفة موقف وارتفعوا ... 102 كل عمل ليس عليه أمرنا ... ... 98، 112، 130 كلوا وتصدقوا وتزودوا ... … 163 كنا نتحين فإذا زالت الشمس رمينا ... ... 129

كنا نخرج مع النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى مكة فنضمِّد (عائشة) … 25 كنا نخمر وجوهنا ... … 56 كنا نسمن الأضحية بالمدينة ... 153 كنا نغطي وجوهنا … 56 كنت أطيب النبي - صلى الله عليه وسلم - لإحرامه قبل (عائشة) ... 24 كنت رديف النبي - صلى الله عليه وسلم - بعرفة فرفع يديه ... … 103 كنت فيمن قدم النبي - صلى الله عليه وسلم - في ضعفة أهله ... . 108 لأن أصوم ثلاثة أيام أو أتصدق على عشرة مساكين … 140 لا ... 140 لا أدري الذين يعتمرون من التنعيم أيؤجرون أم يعذبون؟ … 140 لا إلا أن تطوع ... ... 3 لا تحجن امرأة ... … 14 لا تذبحوا إلا مسنة إلا أن يعسر عليكم فتذبحوا جذعة … 154 لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد ... ... 138 لا حرج ... … 115 لا حصر إلا من عدو ... … 151 لا وأن تعتمر خير لك ... ... 3 لا يبيتن أحد من الحاج ليالي منى من وراء العقبة ... 112 لا يختلى خلاها ولا ينفر ... … 79، 80 لا يخلون رجل بامرأة ... … 14، 15 لا يدخل مكة أحد (ابن عباس) ... … 22 لا يقطع عضاها ولا ... ... 79 لا يقطع الوادي إلا شداً ... … 97 لا يلبس القميص ولا العمائم ... … 42، 43 لا ينكح المحرم ... … 50 لبيك إله الحق ... ... 36 لبيك حقاً حقاً تعبداً ... … 37 لبيك ذا الفواضل لبيك ذا المعارج ... … 36 لبيك عمرة في حجة ... ... 27 لبيك اللهم لبيك ... … 36 لبيك وسعديك والخير بيديك ... ... 36 لتأخذوا عني مناسككم ... ... 38، 86، 87، 88، 89، 91، 95، 98، 100، 104، 106، 107، 112، 123، 129، 130، 132، 142 لعلك نفست ... … 135 اللهم اجعله علماً نافعاً ورزقاً واسعاً … 127 اللهم ارحم المحلقين ... ... 117 اللهم اغفر وارحم فإنك أنت الأعز … 97 اللهم أنت السلام ومنك السلام ... … 83 اللهم إيماناً بك وتصديقاً بكتابك ووفاء ... … 86 اللهم زد هذا البيت تشريفاً وتكريماً و ... 83 اللهم هذا بيتك وأنا عبدك وابن عبدك حملتني على ما سخرت علي … 137 اللهم هذا منك ولك ... … 160

لما أتى الموقف جعل بطن ناقته القصواء ... 103 لما فتح المصران (ابن عمر رضي الله عنه) ... 16 لم أر النبي - صلى الله عليه وسلم - يستلم من البيت ... … 85 لم يرخص في أيام التشريق أن يصمن إلا ... 65 لم يرمل النبي - صلى الله عليه وسلم - في السبع الذي أفاض فيه ... 87 لم يزل النبي - صلى الله عليه وسلم - يلبي حتى رمى جمرة العقبة ... … 37 لم يطف النبي - صلى الله عليه وسلم - ولا أصحابه بين الصفا والمروة إلا طوافاً واحداً … 124، 125، 126 لو اعتمرت في السنة مرتين لجعلت (عمر بن الخطاب) … 30 لولا حدثان قومك بكفر لهدمت الكعبة ... .. 90 ليس على النساء حلق ... ... 118 ليس على النساء سعي ... ... 97 ماء زمزم لما شرب له ... … 126 ما أنهر الدم وذكر اسم الله عليه فكل … 160 ما أهل النبي - صلى الله عليه وسلم - إلا من عند المسجد ... ... .. 35 ما كنت أرى الوجع يبلغ بك ما أرى ... … 60 ما من ملبي يلبي إلا لبي ما عن يمينه وشماله ... 38 ما من يوم أكثر من أن يعتق الله فيه عبداً ... … 103 المحرمة تلبس من الثياب ما شاءت ... … 55 المدينة حرام ما بين عير إلى ثور ... … 79 المشعر الحرام المزدلفة كلها ... ... 110 معقولة اليسرى ... … 159 ممن أراد الحج والعمرة ... ... 22، 18 من أحب أن يهل بالحج ... ... … 28، 29، 35 من أراد أن يهل بالحج والعمرة فليفعل ... … 28، 29 من أراد الحج فليتعجل ... ... … 5 من أطاق الحج فلم يحج فسواء ... ... 1 من أهل بحجة أو عمرة من المسجد الأقصى ... 22 من تمام الحج أن تحرم من دويرة أهلك ... 22 من حج البيت أو اعتمر فليكن آخر عهده بالبيت ... 143 من حج فزار قبري بعد مماتي ... … 138 من ذبح قبل الصلاة فليعد ... … 161 من راح يوم الجمعة في الساعة الأولى فكأنما قرب بدنة … 152 من السنة أن يغتسل عند إحرامه (ابن عمر) … 24 من شهد صلاتنا هذه ووقف معنا حتى ... … 104، 105، 106 من ضحى قبل الصلاة فإنما هي شاة ... 161

من غربت عليه الشمس من أوسط أيام التشريق وهو بمنى فلا ينفرن حتى … 133 من قطع منه شيئاً فلمن أخذه سلبه ... ... 80 من كان ذبح قبل الصلاة فليعد ... … 161 من كان منكم ليس قد أهدى ... ... 117 من كسر أو عرج فقد حل وعليه الحج ... 5، 149، 151 من لم يجد إزاراً فليلبس السراويل، ومن لم يجد نعلين … 44 من ملك زاداً وراحلة فلم يحج ... ... 1 من نسي رمي الجمار إلى الليل فلا يرم حتى تزول الشمس … 115، 116، 131 من نسي شيئاً من نسكه أو تركه فليهرق دماً ... … 132، 136، 144 موجوءين ... ... 157 نحرت هاهنا ومنى كلها منحر ... ... 110 نحرنا مع النبي - صلى الله عليه وسلم - البدنة عن سبعة والبقرة ... 154 نعم ... ... ... ... 11 نعم، حجي عنها، أرأيت لو كان على أمك … 16 نعم، ولك أجر ... ... 7 نهى أن يضحى بأعضب القرن ... … 156 نهى أن يضحى ليلاً ... … 163 نهى عن ادخار لحوم الأضاحي فوق ثلاث … 162 نهى المرأة أن تحلق شعرها ... ... 118 هديك لسنة نبيك (عمر بن الخطاب رضي الله عنه) … 2 هذا مقام الذي أنزلت عليه سورة البقرة ... … 112، 128، 130 هكذا رأيت النبي - صلى الله عليه وسلم - يفعل ... … 137 هكذا كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يفعل ... ... … 58 هل غاب القمر؟ ... 108 هل منكم أحد أمره أو أشار إليه … 73، 47 هن لهن ولمن أتى عليهن ... … 18، 19، 139 هو من البيت ... .. 90 وأمرنا عشية التروية أن نهل بالحج ... 124 وأن تحج وتعتمر ... ... 3 واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى ... … 93 وحمده ... … 101 وقت النبي - صلى الله عليه وسلم - لأهل المدينة ... ... 18، 17، 19 وكبر ثلاثاً ... … 97 وكل ما سوى حمام الحرم ففيه ثمنه ... … 76 ولا تحجن امرأة إلا ومعها ... … 14 ولا تحنطوه ... … 45 ولا تغطوا وجهه ... ... … 43 ولا تقربوه طيباً ... ... 45 ولا تنتقب المرأة المحرمة ولا ... . 56 ولم ير ابن عمر وعائشة بالحك بأساً ... …. 58

ولم يطف النبي - صلى الله عليه وسلم - ولا أصحابه بين الصفا والمروة إلا طوافاً واحدا … 124، 125، 126 وليحرم أحدكم في إزار ورداء ونعلين ... 25، 26 ومن كان دون ذلك فمن حيث أنشأ ... 18، 16، 17 وهو مستقبل القبلة ثم يلبي ... 36 ويدخل المحرم الحمام ... … 58 وينظر في المرآة ... ….. … 59 يا أبا عمير ما النغير ... ... 81 أهل مكة ليس عليكم عمرة، إنما ... … 139، 140 يا رسول الله سعيت قبل أن أطوف ... 100 يحيي ويميت … 101 يسعك طوافك لحجك وعمرتك ... ... 34، 124 يعتمر وينحر بدنة ... ... … 53 يعتمر ويهدي ... …. 53 يلبي المعتمر حتى يستلم الحجر ... ... 37

كتاب الجهاد

كتاب الجهاد * الجهاد: مصدر على زنة فِعال. وهو مصدر فاعل فِعالا، أي جاهد جهادا. وجاهد الذي مصدره جهاد هو المبالغة في قتال العدو، فيقال: جاهد فلان أي بالغ في قتال عدوه.فالجهاد مصدر جاهد من جهد أي بالغ في قتال عدوه. * وهو في الشرع: جهاد الكفار خاصة. فإذن: الجهاد لغة مصدر جاهد إذا جهد عدوه أي بالغ في قتاله. والجُهد بالضم والجَهد بالفتح قيل هما مترادفان وقيل بالفتح يعني المشقة، وبالضم يعني الوسع والطاقة وهو المشهور. فعلى ذلك الجهاد هو: بذل الوسع والطاقة في قتال أعداء الله من الكفار. * فضيلة الجهاد: وفضيلة الجهاد متواترة في كتاب الله وسنة نبيه - صلى الله عليه وسلم - لا أرى داعيا لذكرها لشهرتها وتواترها في الكتاب والسنة. * قال المؤلف ـ رحمه الله تعالى: [وهو فرض على الكفاية] . فالجهاد فرض كفاية. فيجب على الأمة الإسلامية أن تجاهد في سبيل الله فإن قام منها طائفة به على وجه يكفي سقط الإثم عن الباقين. فإن لم تقم طائفة منهم بذلك أو قامت طائفة على وجه لا يكفي فإن الإثم يعمهم. فإذا قامت طائفة بالجهاد في سبيل الله بالنفس والمال هجوما على الكفار ودفاعا عن البلاد الإسلامية فكانت كلمة الله هي العليا وفرض دين الله على العباد سقط الإثم على الباقين. وإلا فإن الأمة كلها آثمة إن فرّطت في هذا. وهذا حيث كانت القدرة. * أما مع العجز بأن كان المسلمون ضعفاء فلا عدد ولا عدة يمكنهم أن يجابهوا بها الكفار فإن الواجبات تسقط مع العجز كما قال الله تعالى: [لا يكلف الله نفسا إلا وسعها] ولكن لاشك أن الأمة إذا فرّطت في الاستعداد وفي التطور المادي وغير ذلك مما يحتاج إليه في مجابهة أعدائها فإذا فرطت في تعاطي الأسباب حتى كانت أمة ضعيفة فلا شك أنها تكون آثمة حينئذٍ. إذن الجهاد فرض كفاية. وعليه فلا يجب على كل مسلم أن يجاهد في سبيل الله بل إذا

قامت طائفة من الأمة بالجهاد في سبيل الله سواء كان ذلك على وجه التبرع منها (1) أو كانوا جندا لهم رَزق من بيت المال فإن الإثم يسقط عن الأمة حيث قامت الكفاية. ضابط الكفاية: والكفاية كما تقدم؛ بأن يترتب على هذا الجهاد ظهور الدين وإعلاء كلمة الله تعالى في الأرض. أدلة وجوب الجهاد: والأدلة كثيرة في كتاب الله على فرضية الجهاد ومن ذلك: 1 ـ قوله تعالى: [كتب عليكم القتال وهو كره لكم] 2 ـ وقوله تعالى: [انفروا خفافا وثقالا وجاهدوا بأموالكم وأنفسكم في سبيل الله] فهذه أدلة على فرضية الجهاد. الأدلة على أنه على الكفاية لا العين: وإنما قلت: هو فرض على الكفاية لا فرض عين لأدلة دلت على ذلك: 1 ـ منها قوله تعالى: [لا يستوي القاعدون من المؤمنين غير أولي الضرر والمجاهدون في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم فضل الله المجاهدين بأموالهم وأنفسهم على القاعدين درجة وكلا وعد الله الحسنى] أي وعد المجاهد والقاعد. 2ـ ولقوله تعالى: [وما كان المؤمنون لينفروا كافة] . 3 ـ وعليه عمل النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ: فإنه كان يبعث السرايا مع مكثه في المدينة وسائر أصحابه ـ رضي الله عنهم أجمعين ـ. فهذا يدل على: أن الجهاد فرض كفاية وهو مذهب عامة العلماء. شبهة وجوابها: فإن قيل: فما الجواب عن قوله تعالى: [إلا تنفروا يعذبكم عذابا أليما ويستبدل قوما غيركم] ؟ فإن هذا يدل على أن من ترك الجهاد فإنه يعذب عذابا أليما، وهذا يدل على أنه فرض عين. الجواب من وجهين:

_ (1) ـ بعد إذن الإمام لها بذلك، إلا إذا أصبح عينيا فلا يشترط الإذن، على ما سيأتي بيانه إن شاء الله تعالى.

الأول: أن يقال: إن ذلك حيث استُنفر الإنسان، وقد استنفر في هذه الآية: [يا أيها الذين آمنوا مالكم إذا قيل لكم انفروا في سبيل الله اثّاقلتم إلى الأرض] .. إلى قوله تعالى: [إلا تنفروا يعذبكم] فقد ثبت الاستنفار وحيث ثبت الاستنفار فإن القتال يجب علينا. وقد قال ـ صلى الله عليه وسلم ـ:} وإذا استنفرتم فانفروا { (1) . الوجه الثاني: أن هذه الآية منسوخة فقد ثبت في سنن أبي داود عَنْ عِكْرِمَةَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ ـ رضي الله عنهما ـ قَالَ: [إِلَّا تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا] [وَمَا كَانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ] إِلَى قَوْلِهِ [يعْمَلُونَ] نَسَخَتْهَا الْآيَةُ الَّتِي تَلِيهَا: [وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفرُوا كَافَّةً] (2) . * شروط وجوب الجهاد: ... ... واعلم أن الجهاد لا يجب إلا بسبعة شروط: الشرط الأول: الإسلام. وهو ظاهر. الشرط الثاني: العقل. وهو ظاهر أيضا. الشرط الثالث: البلوغ. ودليله: حديث عَائِشَةَ عَنْ النَّبِيِّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ قَالَ:} رُفِعَ الْقَلَمُ عَنْ ثَلَاثٍ عَنْ النَّائِمِ حَتَّى يَسْتَيْقِظَ وَعَنْ الصَّغِيرِ حَتَّى يَكْبُرَ وَعَنْ الْمَجْنُونِ حَتَّى يَعْقِلَ أَوْ يُفِيقَ { (3) .

_ (1) ـ أخرجه البخاري. وسيأتي تخريجه. (2) ـ (د: 2144) ك: الجهاد. ب: في نسخ نفير العامة بالخاصة. وحسنه الحافظ في الفتح في شرحه على باب: النفير ومايجب من الجهاد والنية.وحسنه الشيخ الألباني في صحيح (د: 2187) . تنبيه: ترقيم الأحاديث كالتالي: (خ وم (محمد فؤاد عبد الباقي، الخمسة (ط. العالمية، وما عدا ذلك يقع التنبيه عليه عند أول إحالة إن شاء الله تعالى) . (3) ـ (ن: 3378، د: 3822، ت: 1343، حم: 23553) .

وفي الصحيحين من حديث ابن عمر ـ رضي الله عنهما ـ قَالَ: (عَرَضَنِي رَسُولُ اللَّهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ يَوْمَ أُحُدٍ فِي الْقِتَالِ وَأَنَا ابْنُ أَرْبَعَ عَشْرَةَ سَنَةً فَلَمْ يُجِزْنِي، وَعَرَضَنِي يَوْمَ الْخَنْدَقِ وَأَنَا ابْنُ خَمْسَ عَشْرَةَ سَنَةً فَأَجَازَنِي) (1) . الشرط الرابع: الذكورية. أي أن يكون ذكرا، فلا يجب الجهاد على الأنثى. ودليل ذلك: ماثبت في البخاري عن عائشة ـ رضي الله عنها ـ أنها قالت: (اسْتَأْذَنْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْجِهَادِ فَقَالَ:} جِهَادُكُنَّ الْحَجُّ {) (2) وفي مسند الإمام أحمد وسنن ابن ماجه ـ بإسناد صحيح ـ عنها قالت: (قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ عَلَى النِّسَاءِ جِهَادٌ قَالَ:} نَعَمْ عَلَيْهِنَّ جِهَادٌ لَا قِتَالَ فِيهِ الْحَجُّ وَالْعُمْرَةُ {) (3) الشرط الخامس: الحرية. الخلاف في هذا الشرط: العلماء في اشتراط الحرية لوجوب الجهاد على قولين: القول الأول: أنه لا يجب على العبد، هذا هو المشهور في المذهب كما ذكر ذلك الموفق ابن قدامة في كتابة المغني وغيره. القول الثاني:

_ (1) ـ (فتح: 2664، م: 1868) وهذا لفظ مسلم: ك: الإمارة. ب: بيان سن البلوغ. وتمامها: قَالَ نَافِعٌ فَقَدِمْتُ عَلَى عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ وَهُوَ يَوْمَئِذٍ خَلِيفَةٌ فَحَدَّثْتُهُ هَذَا الْحَدِيثَ فَقَال َ إِنَّ هَذَا لَحَدٌّ بَيْنَ الصَّغِيرِ وَالْكَبِيرِ فَكَتَبَ إِلَى عُمَّالِهِ أَنْ يَفْرِضُوا لِمَنْ كَانَ ابْنَ خَمْسَ عَشْرَةَ سَنَةً وَمَنْ كَانَ دُونَ ذَلِكَ فَاجْعَلُوهُ فِي الْعِيَالِ. (2) ـ (فتح: 2875) ك: الجهاد والسير. ب: جهاد النساء. (3) ـ (حم 24158، جه: 2892) وهو في صحيح (هـ 2345) للألباني.

وجوبه على العبد. وهو القول الثاني في المذهب. وهو الراجح لعمومات الأدلة الشرعية الدالة على ذلك.وحيث لا دليل يخصص العبد منها. نعم. يشترط في الجهاد التطوعي أن يستأذن سيده مراعاة لحق السيد. * أما الجهاد العيني فلا دليل يدل على إخراجه من العمومات الدالة على الوجوب على العبد والحر ولا دليل لدى القائلين باستثناء العبد فيصار إليه. وعلى ذلك: فلا نشترط الحرية في فرض العين. أما الجهاد التطوعي فليس للعبد أن يجاهد إلا أن يستأذن سيده لحق السيد عليه. الشرط السادس: السلامة من الضرر. فالأعمى والأعرج والمريض لا يجب عليهم الجهاد في سبيل الله وإن تعين على غيرهم لقوله تعالى: [ليس على الأعمى حرج ولا على الأعرج حرج ولا على المريض حرج] والمراد بالعرج: العرج الفاحش، الذي يؤثر عليه في جهاده في ركوبه وغير ذلك. أما مطلق العرج فلا. ومثل ذلك المرض، فالمرض الذي يؤثر عليه ويشق عليه معه الجهاد في سبيل الله. وأما مطلق المرض فلا. وعلى ذلك: إن كان مستطيعا ببدنه فيجب عليه الجهاد، وإلا فلا. فالأعمى والأعرج شديد العرج والمريض شديد المرض لا يستطيعون بأبدانهم الجهاد في سبيل الله. فالشرط السادس هو السلامة من الضرر، وبتعبير آخر: (أن يكون مستطيعا ببدنه الجهاد في سبيل الله) . الشرط السابع: وجود النفقة. أي أن يكون لديه ما ينفقه على نفسه في آلات الحرب وفي زاده، هذا إذا لم تكن هناك نفقة من بيت مال المسلمين. فإن كانت هناك نفقة من بيت المال فيجب عليه أن يجاهد منها. فإن لم يكن هناك نفقة فلا يتعين عليه الجهاد لقوله تعالى: [ليس على الضعفاء ولا على المرضى ولا على الذين لا يجدون ما ينفقون] في الجهاد [حرج إذا نصحوا لله ورسوله] . إذن الجهاد يشترط في وجوبه: وجود النفقة أي: القدرة أو الاستطاعة المالية. فإن كان معه نفقة تكفيه في جهاده وتفضل عمن يعول وجب عليه الجهاد فعلا.

وعليه: فإن كان معه نفقة لكنها لا تفضل عمن يعول بحيث أنه يضر بأهله فإن الجهاد ـ حينئذٍ ـ لا يجب عليه. *ـ وقد ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية ـ رحمه الله تعالى ـ أن العاجز ببدنه عن الجهاد والقادر بماله يجب عليه أن يجاهد بماله. الدليل: ويدل على ذلك قوله تعالى: [جاهدوا بأموالكم وأنفسكم في سبيل الله] فأمر سبحانه وتعالى بالجهاد بالمال. * وعليه: فيجب على النساء أن يجاهدن بأموالهنّ. * وعليه أيضا: إن احتيج إلى مال الصبي للجهاد في سبيل الله فإنه يؤخذ منه أيضا. فهذا من الجهاد المالي. فإذا احتاج المسلمون إلى أموال الصغار وأموال النساء فإنه يتعين إخراج حاجة المسلمين من أموالهم. ـ وذكر شيخ الإسلام ابن تيمية ـ رحمه الله تعالى ـ أيضا: أنه إذا تعين الجهاد بالمال واحتاج المسلمون إلى المال في الجهاد فإن دفعه إلى القائم على الجهاد مقدم على وفاء الدين. قال: لأنه أولى من النفقة حينئذٍ. ومعلوم أن النفقة الواجبة عليه على ولده وزوجه وغير ذلك مقدمة على وفاء الدين، فهنا أولى من ذلك. ثم إنها ـ حينئذٍ ـ أي إذا احتاج المسلمون إلى المال إنه يعتبر نفقة واجبة مقدمة على وفاء الدين. * قال المؤلف ـ رحمه الله تعالى: [وَيَجِبُ إذَا حَضَرَهُ] . أي إذا حضر القتال أي الصف؛ فالمسلمون والكفار صافون للجهاد فقد تعين عليه الجهاد وإن كان في الأصل مستحبا له، لكن إذا حضر الصف فإن الجهاد يكون فرض عين في حقه. الأدلة: 1 ـ لقوله تعالى: [يا أيها الذين أمنوا إذا لقيتم فئة فاثبتوا] . 2 ـ وقوله تعالى: [يا أيها الذين آمنوا إذا لقيتم الذين كفروا زحفا فلا تولوهم الأدبار. ومن يولهم يومئذ دبره إلا تحرفا لقتال أو متحيزا إلى فئة فقد باء بغضب من الله ومأواه جهنم وبئس المصير] * قال المؤلف ـ رحمه الله تعالى: [أوْ حَصَرَ بَلَدَهُ عَدُوٌّ] .

وهي في الأصل في المقنع (أو حضر) بالضد وضبطها بعض الحنابلة (أو حصر) بالصاد. أي إذا حصر بلده عدو أو حضر بلده عدو. فعلى (حضر) بالضاد يتعين القتال على أهل البلدة وإن لم يحصرهم العدو أي بمجرد ما يحضر العدو لقتال هذه البلدة يتعين على أهلها القتال. وعلى (حصر) أي إذا حصل من الكفار الحصار فأحاطوا ببلدة المسلمين فيجب عندئذ على من فيها أن يقاتلوا في سبيل الله. لذا فالتعبير بلفظة (حضر) بالضاد ـ كما هو المشهور ـ أولى، وذلك لتعليق الحكم بمجرد حضور العدو سواء حصر أم لم يحصر. فبمجرد ما يحضر العدو لقتال المسلمين فإن الجهاد يكون فرض عين على من فيها من المسلمين. فهذه هي الحالة الثانية التي يكون الجهاد فيها فرض عين. وهي أن يحضر العدو بلدا من بلاد المسلمين فيجب على أهل هذه البلد أن يقاتلوا في سبيل الله. أما غيرهم من البلدان فلا يجب عليهم الجهاد وذلك إلا أن لا تقوم الكفاية بقتال أهل تلك البلدة. فإذا احتاج أهل هذه البلدة إلى إخوانهم في البلاد البعيدة فجب على أهل البلاد البعيدة أن يعينوا إخوانهم بمن تقوم بهم الكفاية. ـ ومثل ذلك من احتيج إليه فإن الجهاد يتعين عليه، كمن يُحتاج إليه في معرفة بعض الطرق في تلك البلدان أو يحتاج إليه في القيادة أو نحو ذلك فإن الجهاد حينئذٍ يكون فرض عين عليه لأن الكفاية لا تقوم إلا بحضوره. والدليل: على أن الجهاد فرض عين فيما إذا حضر بلده عدو، أنه لا تحفظ الأديان والأعراض إلا بذلك فيتعين عليهم الجهاد. لأنهم إن لم يقوموا به على هذه الصفة فإن الأموال والأنفس والأعراض التي هي الضرورات لكلها تكون معرضة لأيدي العدو. ولكن ظاهر كلامهم أنه عين على أهل البلد عامة لا على كل شخص من أهل البلد فإنهم يقولون: تَعَيّنّ على أهل البلد. والظاهر أنه لا يجب على كل شخص منهم.

فهو إذن عيني نسبي أي عيني بالنسبة إلى أهل البلدان التي حضرها العدو، فهو متعين على أهل البلدة عن سائر البلدان وأما على كل شخص فإنهم لم يصرحوا بهذا. * قال المؤلف ـ رحمه الله تعالى: [أو استنفر الإمامُ] . فإذا استنفر الإمام فإن الجهاد يتعين على من استنفرهم الإمام. الأدلة: 1 ـ وذلك لحديث ابْنِ عَبَّاسٍ ـ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا ـ أَنَّ النَّبِيَّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ قَالَ يَوْمَ الْفَتْحِ:} لَا هِجْرَةَ بَعْدَ الْفَتْحِ، وَلَكِنْ جِهَادٌ وَنِيَّةٌ، وَإِذَا اسْتُنْفِرْتُمْ فَانْفِرُوا { (1) فيتعين عليكم أي إذا طُلب منكم النفر فعليكم أن تنفروا وليس لكم أن تتخلفوا. 2 ـ وقد تقدمت الآية الكريمة والكلام عليها [يا أيها الذين آمنوا مالكم إذا قيل لكم: (انفروا في سيبل الله) اثّاقلتم إلى الأرض أرضيتم بالحياة الدنيا من الآخرة فما متاع الحياة الدنيا في الآخرة إلا قليل * إلا تنفروا يعذبكم عذابا أليما ويستبدل قوما غيركم ولا تضروه شيئا] فإذا استنفر الإمام طائفة أو خصص شخصا بعينه فإنه يتعين عليهم ذلك. 3 ـ ولأن طاعة الإمام واجبة في مثل ذلك وقد قال ـ صلى الله عليه وسلم ـ:} عَلَى الْمَرْءِ الْمُسْلِمِ السَّمْعُ وَالطَّاعَةُ فِيمَا أَحَبَّ وَكَرِهَ إِلَّا أَنْ يُؤْمَرَ بِمَعْصِيَةٍ فَإِنْ أُمِرَ بِمَعْصِيَةٍ فَلَا سَمْعَ وَلَا طَاعَةَ {. (2) ـ ذكر المؤلف ثلاثة أحوال يتعين فيها الجهاد.وبقيت حالة: 4 ـ وذكر شيخ الإسلام ابن تيمية ـ رحمه الله تعالى ـ حالة رابعة: وهي إذا كان من الجند الذين جعل لهم الإمام أرزاقا على أن يجاهدوا في سبيل الله من الشُّرَط وغيرهم. الدليل:

_ (1) ـ (فتح: 2825، م: 1353) البخاري: ك: الجهاد والسير. ب: وجود النفير. (2) ـ (فتح: 7144، م: 1839) من حديث ابن عمر ـ رضي الله عنهما ـ.

فهؤلاء يتعين عليهم الجهاد لما بينهم وبين الإمام من عقد على ذلك.وقد قال تعالى: [يا أيها الذين أمنوا أوفوا بالعقود] . فالطائفة التي قد جعل لها الإمام أرزاقا على الجهاد في سبيل الله يتعين عليهم الجهاد حيث كان ذلك في العقد. * قال المؤلف ـ رحمه الله تعالى: [وتمام الرباط أربعون يوما] . الرباط: هو الإقامة بالثغور لجهاد الكفار. والثغور: هي الحدود التي تكون بين المسلمين والكفار. والمقصود بها الحدود بين بلدة إسلامية وبلدة كافرة محاربة. أي الأماكن والمواضع التي يخيف المسلمون الكفار فيها ويخيف الكفارُ المسلمين فيها.فهذه هي الثغور. ـ وسمي رباطا لأن الخيل تربط فيه استعدادا للقتال في سبل الله. ـ وأفضل الرباط ما يكون في ثغر هو أشد من غيره خوفا أي احتمال ورود الكفار إلى المسلمين منه أقوى، فهو مخوف أكثر من غيره، ولذلك أي لشدة الحاجة إلى الإقامة فيه فهو أفضل الرباط. فأفضل المواضع التي يرابط فيها ما كان الخوف فيه أشد للحاجة إلى لزومه. * فضل الرباط في سبيل الله: وقد وردت أحاديث نبوية تدل على فضيلة الرباط في سبيل الله. من ذلك: ـ ما ثبت في صحيح مسلم أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال:} رِبَاطُ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ خَيْرٌ مِنْ صِيَامِ شَهْرٍ وَقِيَامِهِ وَإِنْ مَاتَ جَرَى عَلَيْهِ عَمَلُهُ الَّذِي كَانَ يَعْمَلُهُ وَأُجْرِيَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ وَأَمِنَ الْفَتَّانَ { (1) أي فتنة القبر وهي سؤال منكر ونكير.فالرباط في سبيل الله من أفضل الأعمال. * وقد ذكر المؤلف هنا أن تمام الرباط أربعون يوما. فهذا تمامه. لكنه يثبت الرباط بالقليل والكثير فلو أقام ساعة إنه يثبت له رباط ساعة ولكن تمامه أربعون يوما.

_ (1) ـ (م: 1913) ك: الإمارة. ب: فضل الرباط في سبيل الله. من حديث سلمان ـ رضي الله عنه ـ.

لما روى الطبراني في الكبير عن أبي هريرة (1) ـ رضي الله عنه ـ مرفوعا:} إن تمام الرباط أربعون يوما {لكن إسناده ضعيف. وإنما يثبت موقوفا على أبي هريرة كما روى ذلك عبد الرزاق في مصنفه (2) . وعلى ذلك فالمستحب له أن يرابط أربعين يوما لثبوت ذلك عن أبي هريرة وليس ذلك عن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ فالحديث ـ كما تقدم ـ ضعيف، لكن هذا لا مجال للرأي فيه وما كان كذلك من أقوال الصحابة ـ رضوان الله عنهم ـ فإن له حكم الرفع، ولذا استحبه الإمام أحمد وغيره.

_ (1) ـ لم أجده عنده في معاجمه الثلاثة من حديث أبي هريرة. والذي في معجمه الكبيرهو عن أبي أمامة [7606] عن مكحول عن أبي أمامة قال قال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ: " تمام الرباط أربعين يوما ومن رابط أربعين يوما لم يبع ولم يشتر ولم يحدث حدثا خرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه " (8/133) ط2/ العلوم والحكم ـ الموصل.تحقيق حمدي بن عبد المجيد. قال الهيثمي في المجمع: وفيه أيوب بن مدرك ضعيف. وقال الألباني في الإرواء في آخر كلامه عليه [1201] وبالجملة فالحديث ضعيف بهذه الطرق، ولم أره الآن من حديث ابن عمر وأبي هريرة. (2) ـ (عب 4 / 584) (152) حَدَّثَنَا وَكِيعٌ قَالَ نا دَاوُد بْنُ قَيْسٍ عَنْ عَمْرِو بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْعَسْقَلَانِيِّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: تَمَامُ الرِّبَاطِ أَرْبَعُونَ يَوْمًا. كتاب فضل الجهاد.) قال الألباني: وهذا سند ضعيف، العسقلاني قال ابن أبي حاتم عن أبيه: (مجهول) (6 / 245) ط1.دارإحياء التراث ـ بيروت) الإرواء: 5 / 23 = [1201] . وهكذا جهله الذهبي في الميزان والمغني وجهله ابن حجر في اللسان.

ـ ولا يستحب لمن رابط أن يحمل نساءه وذريته في المواضع المخوفة لئلا يظفر العدو بذلك الثغر فيستولي على من فيه من نساء المسلمين وذراريهم. فهو موضع مخوف يحتمل في كل وقت أن يظفر فيه العدو. بل إن القول بالتحريم يقوى في تلك المواضع. فلا ينبغي للمسلمين أن يحملوا نساءهم وذراريهم إلى تلك الموضع المخوفة. ويستثنى من ذلك أهل الثغر، أي أهل تلك البلدة فإنه لا قرار لحياتهم إلا بذلك. فهم أهل الثغر وسكانه. أما من يأتي إليهم من المرابطين في سبيل الله فليس لهم أن يحملوا نساءهم وذراريهم. * الحراسة في سبيل الله: ومن الأعمال الفاضلة: الحراسة في سبيل الله. 1 ـ وقد روى الترمذي عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: (سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ يَقُولُ:} عَيْنَانِ لَا تَمَسُّهُمَا النَّارُ عَيْنٌ بَكَتْ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَعَيْنٌ بَاتَتْ تَحْرُسُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ { (1) 2 ـ وقال ـ صلى الله عليه وسلم ـ لأنس بن أبي مرثد الغنوي ـ رضي الله عنه ـ وقد بات يحرسهم ليلة:} أوجبت فلا عليك ألا تعمل بعد ذلك { (2) واعلم أن الجهاد في سبيل الله ـ المشهور من مذهب الإمام أحمد ـ أنه أفضل الأعمال، فهو أفضل من سائر النوافل. الدليل: 1 ـ ما ثبت في الصحيحين أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قيل له: (أي الناس أفضل؟) فقال:} مُؤْمِنٌ يُجَاهِدُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِنَفْسِهِ وَمَالِهِ { (3) ولاشك أن تفضيل المتصف بهذه الصفة وجعله أفضل من غيره يدل على أن هذه الصفة أفضل من غيرها من الصفات.

_ (1) ـ (ت: 1563) . (2) ـ (د 2501) كتاب الجهاد. باب: فضل الحراس في سبيل الله. (3) ـ (فتح: 2786، م: 1888) .

2 ـ وقد ثبت في البخاري عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ: (أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سُئِلَ: أَيُّ الْعَمَلِ أَفْضَلُ؟ فَقَالَ:} إِيمَانٌ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ {قِيلَ: ثُمَّ مَاذَا؟ قَالَ:} الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ {قِيلَ: ثُمَّ مَاذَا؟ قَالَ:} حَجٌّ مَبْرُورٌ { (1) القول الثاني: وعن الإمام أحمد رواية أخرى: أن تعلّم العلم وتعليمه أفضل من الجهاد في سبيل الله والظاهر أن العلم تعلما وتعليما نوع من أنواع الجهاد في سبيل الله (2) وأن تفضيل أحد النوعين على الآخر راجع إلى المصلحة العامة. فإذا كان الاشتغال بالعلم أصلح للأمة من الاشتغال بالجهاد ـ كما في هذه الأزمان ـ فإن العلم أفضل. وأما إن كانت الأمة محتاجة إلى الجهاد في سبيل الله وإلى المجاهدين فإن الاشتغال بالجهاد في سبيل الله أفضل من العلم. فهما نوعان من جنس واحد. وكوننا نفضل أحدهما على الآخر على الإطلاق فيه نظر، بل هما في درجة واحدة لكن إن اقتضت المصلحة العامة أحدهما فهو أفضل. القول الثالث: وقال شيخ الإسلام ابن تيمية ـ رحمه الله تعالى ـ: استيعاب العشر الأوائل من ذي الحجة بالصلاة ليلا ونهارا أفضل من الجهاد في سبيل الله إلا أن يذهب بنفسه وماله ثم لا يرجع من ذلك بشيء.

_ (1) ـ (فتح: 26) ك: الإيمان. ب: من قال إن الإيمان هو العمل. (2) ـ لعله يستدل لذلك بقوله ـ صلى الله عليه وسلم: " جَاهِدُوا الْمُشْرِكِينَ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ وَأَلْسِنَتِكُمْ " كما في حديث أنس عند النسائي في المجتبى (ن: 3045) .

وهو كما قال وهذا استثناء دلت عليه الأدلة الشرعية فقد ثبت في البخاري أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال:} مَا الْعَمَلُ فِي أَيَّامٍ أَفْضَلَ مِنْهَا فِي هَذِهِ {قَالُوا: وَلَا الْجِهَادُ. قَالَ:} وَلَا الْجِهَادُ إِلَّا رَجُلٌ خَرَجَ يُخَاطِرُ بِنَفْسِهِ وَمَالِهِ فَلَمْ يَرْجِعْ بِشَيْءٍ { (1) ولذا قيد شيخ الإسلام ابن تيمية ـ رحمه الله تعالى ـ هذا التفضيل بقوله: (إلا ما يذهب فيه النفس والمال) فالجهاد الذي يذهب فيه النفس والمال أفضل من الجهاد في عشر ذي الحجة.إذن استيعاب عشر ذي الحجة بالعمل الصالح من العبادة والصيام والقيام أفضل من الجهاد في سبيل الله الذي لم تذهب فيه النفس والمال ورأى شيخ الإسلام ابن تيمية ـ رحمه الله تعالى ـ أن الجهاد تعدله أشكال العبادة ليلا ونهارا فمن اجتهد ليلا ونهارا صياما وقياما في غير عشر ذي الحجة فإن عمله يعدله الجهاد في سبيل الله. الدليل:

_ (1) ـ (فتح: 969) ك: الجمعة. ب: فضل العمل في أيام التشريق.

فقد ثبت في الصحيحين عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ـ رضي الله عنه ـ قَالَ: قِيلَ لِلنَّبِيِّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ: (مَا يَعْدِلُ الْجِهَادَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ؟) قَالَ:} لَا تَسْتَطِيعُونَهُ {قَالَ فَأَعَادُوا عَلَيْهِ مَرَّتَيْنِ أَوْ ثَلَاثًا كُلُّ ذَلِكَ يَقُولُ لَا تَسْتَطِيعُونَهُ وَقَالَ فِي الثَّالِثَةِ:} مَثَلُ الْمُجَاهِدِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ الصَّائِمِ الْقَائِمِ الْقَانِتِ بِآيَاتِ اللَّهِ لَا يَفْتُرُ مِنْ صِيَامٍ وَلَا صَلَاةٍ حَتَّى يَرْجِعَ الْمُجَاهِدُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ تَعَالَى { (1) فمن كان هذا نصيبه من العبادة لا يفتر من الصيام والقيام قائم قانت بآيات الله قد أسهر ليله في العبادة وأظمأ نهاره بالصيام فإن عمله يعدل عمل المجاهد في سبيل الله. إذن: فاستيعاب عشر ذي الحجة بالعبادة ليلا ونهار أفضل من الجهاد في سبيل الله الذي لم تذهب فيه النفس والمال بنص حديث النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ. واستيعاب سائر السنة بالعبادة يعدل الجهاد في سبيل الله، فإذا كان اثنان أحدهما جاهد شهرا والآخر قد استوعب هذا الشهر بالصيام والقيام فإن عملهما يتعادل بنص حديث النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ. * قال المؤلف ـ رحمه الله تعالى: [وإذا كان أبواه مسلمين لم يجاهد تطوعا إلا بإذنهما] . إذا كان أبواه: أي والديه مباشرة، الأب المباشر والأم المباشرة. وقوله (مسلمين) قيد يخرج ما إذا كانا كافرين. وقوله (تطوعا) قيد آخر يخرج ما إذا كان الجهاد فرضا. وهي مسألة اتفق العلماء عليها، وأن الجهاد التطوعي لا على المسلم إلا أن يستأذن والديه المسلمين. الدليل:

_ (1) ـ (فتح: 2785، م: 1878) واللفظ لمسلم؛ ك: الإمارة. ب: فضل الشهادة في سبيل الله.

ودليل ذلك ما ثبت الصحيحين: من حديث عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَمْرٍو رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا يَقُولُ: (جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ فَاسْتَأْذَنَهُ فِي الْجِهَادِ فَقَالَ:} أَحَيٌّ وَالِدَاكَ؟ {قَالَ: نَعَمْ قَالَ:} فَفِيهِمَا فَجَاهِدْ { (1) فيحب باتفاق أهل العلم استئذان الوالدين المسلمين في الجهاد التطوعي. وأما جهاد الفرض فإن الوالدين لا يستأذنان فيه لأنه فرض فتركه معصية ولا طاعة لمخلوق في معصية الخالق. * فرع: فإن كان والداه كافرين لم يستأذنهما كما هو ظاهر كلام المؤلف وهو المشهور في مذهب الحنابلة وغيرهم. قالوا: وعليه عمل الصحابة فإنهم كانوا يجاهدون بغير إذن آبائهم الكفار كأبي بكر الصديق ـ رضي الله عنه ـ وغيره. وقالوا: يستبعد أن يأمر الشارعُ المسلمَ باستئذان الكافر في جهاد أهل ملته أو غيرهم من ملل الكفر مع أنه عدو لله ورسوله. فلا يمكن والحالة هذه أن يستأذن المسلم والده وهو كافر عدو لله ورسوله في الجهاد في سبيل الله. القول الثاني: وقال الثوري: بل يستأذن الوالد الكافر في الجهاد في سبيل الله. أدلته: واستدل بعمومات النصوص كقوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ:} أحي والداك؟ {قال: (نعم) قال:} ففيهما فجاهد {. وجه الاستدلال: أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ لم يسأله عن والديه أهما كافران أم مسلمان مع أن ذلك في الآباء كثير في عهد النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ. وترك الاستفصال في مقام الاحتمال ينزل منزلة العموم في المقال ـ كما هو مقرر في أصول الفقه. قال: وعلى ذلك يستأذن الوالد وإن كان كافرا. الترجيح: والذي يظهر لي ـ والله أعلم ـ أن المسألة فيها تفصيل:

_ (1) ـ (فتح: 3004، م: 2549) .

وهو أنه إن كان الوالد له ضرورة أو حاجة إلى ولده بحيث يحتاج إليه للقيام بحقه والنظر في شؤونه فإنه لا فرق بين أن يكون الوالد كافرا أو مسلما إلا أنه يستثنى من ذلك أن يكون الوالد محاربا. فإن كان ليس بمحارب كالذمي الذي يعيش في البلاد الإسلامية أو يعيش في بلدة بيننا وبينها أمان لا حرب وكان له حاجة إلى ولده ومضطرا إليه أو محتاجا إليه حاجة تامة وظاهرة فالذي يظهر ـ والله أعلم ـ ما ذهب إليه الثوري من وجوب الاستئذان وذلك لعموم الحديث المتقدم.فإن هذا الحديث يحمل على حاجة الوالدين بدليل قوله:} ففيهما فجاهد {أي فيهما فابذل طاقتك ووسعك، فدل هذا على أنهما محتاجان إلى طاقته ووسعه، والشريعة تأتي ببر الوالدين مطلقا سواء كانا مسلمين أم كافرين كما قال تعالى: [وإن جاهداك على أن تشرك بي ما ليس لك به علم فلا تطعهما وصاحبهما في الدنيا معروفا] فالذي يظهر ـ والله أعلم ـ أنه إن كان الوالدان يحتاجان إلى مجاهدة الولد فيهما والقيام بحقوقهما فإنهما يستأمران في ذلك، هذا إذا كانا معصومي الدم، وأما إن كانا حربيين فلا لأن دمهما هدر فما كان فيه حفظ لأبدانهما غير مراعى شرعا. * فرع: في حكم استئذان الوالدين إن كان رقيقين: ... ... … ـ واعلم أن المشهور في المذهب أن الوالدين الرقيقين لا يستأذنان. قالوا: لأنهما لا ولاية لهما، فإن الولاية تنتقل بالرق. القول الآخر: والوجه الثاني في المذهب هو وجوب استئذانهما وإن كانا رقيقين وهذا هو الظاهر. الأدلة عليه: 1 ـ لعمومات النصوص في قوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ:} أحي والداك؟ {قال: (نعم) قال:} ففيهما فجاهد {والحديث عام في الأحرار والعبيد. 2 ـ ولأن المقصود من ذلك مراعاة حق الوالد 3 ـ ولئلا يقع في نفسه شيء من الحسرة بفوات نفس ولده أو تعرضه للقتل وهذا ثابت في الرقيق كما هو في الأحرار.

ولأن الولاية لا أثر لها هنا، فإن الابن القائم بنفسه وهو ولي نفسه فيستأذن والده مع أنه لا ولاية للوالد عليه فالابن البالغ الرشيد القائم بشؤون نفسه لا ولاية لوليه عليه وإن كان والده حرا ومع ذلك فإنه يستأذنه. فانتفاء الولاية لا تعلق له بالحكم هنا ولا أثر لها. إذن لا أثر للولاية بدليل أن الأب الحر لا ولاية له على أبنائه البالغين الراشدين، فكون الأب رقيقا لا ولاية له على أولاده هذا ليس بمؤثر في هذه المسألة بل المؤثر كونه والدا، وفي قلبه من الرأفة والرحمة ما يجعل الشارع يراعي ذلك حيث كان الجهاد تطوعيا يمكن أن يُستغنى عن الولد فيه. * فرع: … في استئذان الجد والجدة: ... ... ... ... ... ... ... ... واعلم أن المشهور في المذهب: أن الجد والجدة لا يستأذنان وهذا ظاهر. وذلك لأن الأصل هو تصرف الولد في نفسه فله أن يجاهد من غير أن يرتبط بإذن أحد من الناس هذا هو الأصل وإنما استثنى الوالدان لما لهما من الحق الكبير العظيم. ولما يقع في قلوبهما من الحسرة ونحو ذلك حيث تعرض الولد لأذى أو قتل وهذا لا يساويه ما يقع في قلب الجد أو الجدة ولا قياس مع الفارق. ـ واحتمل صاحب الفروع وجها آخر وهو: أن أب الأب يستأذن. الترجيح: والراجح ما تقدم وأن الجد مطلقا سواء كان أب للأم أم للأب فإنهما لا يستأذنان. وكذا الجدة لأم أو لأب لا يستأذنان. وذلك لأن الأصل هو تصرف الشخص في نفسه من غير أن يرجع في ذلك إلى إذن أحد. ولا يصح إلحاقهما بالوالدين للفارق. * فرع: … في جهاد المدين: ـ قال أهل العلم: ومثل ذلك من عليه دين ولا وفاء له فإنه ليس له أن يجاهد الجهاد التطوعي إلا بإذن غريمه. الدليل: قالوا: لأن الجهاد ذريعة إلى الشهادة، والشهادة تفوت بها النفس، وحيث فاتت النفس فات حق الغريم، فليس له أن يقاتل ويجاهد وعليه دين إلا أن يستأذن غريمه. الاستثناءات:

1 ـ ويستثنى من ذلك ما إذا كان الجهاد فرضا فإنه إذا كان كذلك فلا يعارض بوفاء دين ولاغيره. 2ـ ويستثنى أيضا: إذا كان له وفاء كأن يترك دورا أو عقارا تقابل الدين الذي عليه بحيث إذا استشهد قضي عنه دينه منها. فإذا كان له وفاء فله أن يجاهد الجهاد التطوعي من غير أن يستأذن الدائن. 3 ـ قالوا: كذلك إذا أقام كفيلا أي غارما فإنه يجوز له أن يجاهد من غير استئذان الدائن لكنه يستأذن كفيله الغارم. 4 ـ وكذلك يجوز له ألا يستأذن غريمه إذا وثّق دينه برهن. فإذا كان الدين موثقا برهن فإن له أن يقاتل من غير استئذان. إذن: لا يحل لمسلم أن يجاهد جهادا تطوعيا وعليه دين لا وفاء له مالم يقم كفيلا أو يوثّق دينه برهن أو يكون له وفاء وذلك لئلا يفوت حق الغير. * قال المؤلف ـ رحمه الله تعالى: [ويتفقد الإمام جيشه عند المسير] . يجب على الإمام أن يتفقد الجيش، أو نائبه، أو يوكّل ثقة ذا خبرة بالجيش فيتفقده، فينظر فيه عددا وعُدة وينظر في حمله وسلاحه ورجاله، فيتفقد الجيش واستعداده وتهيؤه للقتال في سبيل الله. * قال المؤلف ـ رحمه الله تعالى: [ويمنع المخذل والمرجف] . المخذّل: هو المثبط عن الجهاد في سبيل الله المزهد فيه، فيمنعه الإمام. والمرجف: هو المهوّل قوة العدو والمضعّف قوة المسلمين، الذي يُلقي في قلوب المسلمين الضعف والوهن. فهذا يجب على الإمام منعه من القتال في سبيل الله. وهكذا كل من لا يصلح للقتال. كأن يشهد القتال صبي ضعيف البدن. أو أن يشهده رجل هرم يخشى أن يلقي بنفسه إلى التهلكة أو نحو ذلك. فينظر الإمام في الجيش فيمنع من لا يصلح لشهوده المعركة من مخذل ومرجف أو غيرهمأ.

ـ ويوصي الإمام أميره بتقوى الله في نفسه ويوصيه بالمسلمين خيرا بأن يرفق بهم ولا يلقي بهم في التهلكة ويحثه على الإخلاص واتباع السنة في القتال في سبيل الله والاستعانة بالله عز وجل فقد ثبت في صحيح مسلم من حديث بريدة ـ رضي الله عنه ـ قَالَ: (كَانَ رَسُولُ اللَّهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ إِذَا أَمَّرَ أَمِيرًا عَلَى جَيْشٍ أَوْ سَرِيَّةٍ أَوْصَاهُ فِي خَاصَّتِهِ بِتَقْوَى اللَّهِ وَمَنْ مَعَهُ مِنْ الْمُسْلِمِينَ خَيْرًا ثُمَّ قَالَ:} اغْزُوا بِاسْمِ اللَّهِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ قَاتِلُوا مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ اغْزُوا وَلَا تَغُلُّوا وَلَا تَغْدِرُوا وَلَا تَمْثُلُوا وَلَا تَقْتُلُوا وَلِيدًا. وَإِذَا لَقِيتَ عَدُوَّكَ مِنْ الْمُشْرِكِينَ فَادْعُهُمْ إِلَى ثَلَاثِ خِصَالٍ أَوْ خِلَالٍ فَأَيَّتُهُنَّ مَا أَجَابُوكَ فَاقْبَلْ مِنْهُمْ وَكُفَّ عَنْهُمْ ثُمَّ ادْعُهُمْ إِلَى الْإِسْلَامِ فَإِنْ أَجَابُوكَ فَاقْبَلْ مِنْهُمْ وَكُفَّ عَنْهُمْ.. { (1) الحديث وهو طويل. ويعين الإمام القواد ويعين الألوية هذا واجب على الإمام بنفسه أو نائبه أو أن يوكل ثقة من أهل الخبرة بقوم بذلك. ـ ويستحب أن تكون الغزوة يوم الخميس لما ثبت في البخاري من حديث كعب بن مالك ـ رضي الله عنه ـ أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ خَرَجَ يَوْمَ الْخَمِيسِ فِي غَزْوَةِ تَبُوكَ وَكَانَ يُحِبُّ أَنْ يَخْرُجَ يَوْمَ الْخَمِيسِ (2) .

_ (1) ـ (م 1731) ك: الجهاد. ب: تأمير الإمام الأمراء على البعوث ووصيته. وهو عند (حم: 21900و21652، د: 2245، ت: 1542، جه: 2849، مي: 2332) . (2) ـ (فتح 2950) ك: الجهاد. ب: من أراد غزوة فورى بغيرها.

ـ ويستحب أن يكون لقاء العدو في بكرة النهار أي في أول النهار فقد قال ـ صلى الله عليه وسلم ـ كما عند الخمسة (1) بإسناد صحيح من حديث صَخْرٍ الْغَامِدِيِّ ـ رضي الله عنه ـ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ:} اللَّهُمَّ بَارِكْ لِأُمَّتِي فِي بُكُورِهَا {قَالَ: (وَكَانَ إِذَا بَعَثَ سَرِيَّةً أَوْ جَيْشًا بَعَثَهُمْ أَوَّلَ النَّهَارِ) (2) . فإن فاته ذلك فحتى تزول الشمس وتهبّ الرياح فقد ثبت في المسند وعند الثلاثة بإسناد صحيح عن النعمان بن مقرِّن ـ رضي الله عنه ـ قال: (شَهِدْتُ رَسُولَ اللَّهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ إِذَا لَمْ يُقَاتِلْ مِنْ أَوَّلِ النَّهَارِ أَخَّرَ الْقِتَالَ حَتَّى تَزُولَ الشَّمْسُ وَتَهُبَّ الرِّيَاحُ وَيَنْزِلَ النَّصْرُ) (3)

_ (1) ـ لم أجده عند النسائي في المجتبى. وهو في الكبرى (5/ 258 من محققة البنداري وسيد كسروي حسن) . (2) ـ أخرجه (حم: 14891 و 14896و 15006 و 15007 و 18613 و 18660، ت: 1133، د: 2239، جه:2227،، مي: 2328) . (3) ـ (د 2283: ك: الجهاد. ب: في أي وقت يستحب اللقاء.) وهو عند (حم: 22627، ت: 1538) ولم أجده في المجتبى وهو في الكبرى: 5 / 191. المحققة المشار إليها آنفا. وهو في البخاري بنحوه (فتح: 3160: ك: الجزية. ب: الجزية والموادعة مع أهل الحرب.) من حديث جُبَيْرِ بْنِ حَيَّةَ ـ وهو من كبار التابعين ـ في خبر قتال كسرى في خلافة عمر ـ رضي الله عنه ـ في خبر طويل في سبيل الله آخره: فَقَالَ النُّعْمَانُ:.. وَلَكِنِّي شَهِدْتُ الْقِتَالَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ كَانَ إِذَا لَمْ يُقَاتِلْ فِي أَوَّلِ النَّهَارِ انْتَظَرَ حَتَّى تَهُبَّ الْأَرْوَاحُ وَتَحْضُرَ الصَّلَوَاتُ.قال الحافظ في الفتح: (تهب الأرواح) جمع ريح. قوله: (وتحضر الصلوات) في رواية ابن أبي شيبة (وتزول الشمس) وهو بالمعنى.وقال في آخره: وفي الحديث: … وفضل القتال بعد زوال الشمس على ما قبله.. ولا يعارضه ما تقدم أنه ـ صلى الله عليه وسلم ـ كان يغير صباحا لأن هذا عند المصاففة وذاك عند الغارة. اهـ.

أي هو مظنة لنزول النصر حيث نزل النصر عند هبوب الريح يوم الأحزاب. ـ ويستحب للإمام أن يورّي في غزوة بغيرها. فقد ثبت في الصحيحين أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ كان قلما يريد غزوة إلا ورّى بغيرها (1) .فإذا أراد الشمال سأل عن الجنوب وطرقها وأوديتها وآبارها وغير ذلك وهو يريد الشمال ليكون قتاله لعدوه في الشمال على حين غرة منه من غير أن يكون عن استعداد لأن العدو يكون له عيون في البلد وقد يُخرج الخبرَ المسلم الغِرّ فكانت التورية فيها مصلحة ظاهرة. قال المؤلف ـ رحمه الله تعالى: [وله أن ينفل في بدايته الربع بعد الخمس، وفي الرجعة الثلث بعده] . النفل: هو الزيادة على سهم القسمة. فالمقاتل في سبيل الله له نصيب من القسمة كما سيأتي إن شاء الله تعالى. وهنا للإمام أن يعطي زيادة على القسمة المقررة للمقاتل، فله أن ينفل بالربع بعد الخمس وله أن ينفل الثلث بعد الخمس. بيان هذا: إذا غزا الجيش في سبيل الله فتقدمت سرايا من سرايا المسلمين فأصابت غنيمة، فإذا أخرج الخمس أعطيت هذه السرية الربع زيادة على سهمها الأصلي في القسمة ثم يكون لها سهمها في القسمة،هذا في البدء.

_ (1) ـ في الصحيحين في قصة توبة كعب بن مالك وصاحبيه لتخلفهما عن غزوة تبوك. (فتح: 4418 , م: 2769) وزاد (د) وكان يقول ـ أي ـ صلى الله عليه وسلم ـ: " الحرب خدعة ". وصححه الألباني (د 637) وهي عندهما من غير طريق كعب ـ رضي الله عنه ـ.

وأما في الرجعة فله أن ينفل السرية الثلث بعد الخمس، بمعنى إذا قفل الجيش راجعا من القتال فذهبت سرية تقاتل بأمر الإمام فأصابت غنيمة فإنه يخرج أولا من هذه الغنيمة الخمس ثم يعطي هذه السرية ثلث الباقي زيادة على سهمها الأصلي من الغنيمة. واختلفت العطيتان لاختلاف الداعي فيهما إلى الإعطاء لأن هذه السرية في البدء والجيش وراءها فهو ظهر لها، وأما في الرجعة فإن الجيش راجع إلى البلاد الإسلامية وهم قد أوغلوا في بلاد الكفار ولاظهر لهم فكان للإمام أن يعطي أكثر مما يعطيهم في البدء.ولأن الرجعة يقع فيها من الكسل ما لايقع في البدء فإنهم في الرجعة يكونون في شوق إلى بلدانهم وأهليهم فيكون في ذلك مشقة أكثر من المشقة التي تكون عليهم في البدء فلذا كان للإمام أن يعطيهم الثلث وليس هذا واجبا لها وهو للإمام. الدليل: ودليل هذا ما ثبت في سنن أبي داود بإسناد صحيح في حديث حَبِيبَ بْنَ مَسْلَمَةَ الْفِهْرِيَّ يَقُولُ: (شَهِدْتُ النَّبِيَّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ نَفَّلَ الرُّبُعَ فِي الْبَدْأَةِ وَالثُّلُثَ فِي الرَّجْعَةِ (1) وفي رواية بعد الخمس (2) . فيجوز للإمام أن ينفل السرية في البدأة الربع بعد الخمس وفي الرجعة الثلث بعد الخمس. * قال المؤلف ـ رحمه الله تعالى: [ويلزم الجيش طاعته والصبر معه] . يلزم الجيش طاعة قائد الجيش أو أميره. الأدلة على لزوم طاعة أمير الجيش: 1 ـ قال تعالى: [يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي ألأمر منكم] .

_ (1) ـ (د: 2370) ك: الجهاد. ب: فيمن قال الخمس قبل النفل. (2) ـ عند (حم 16820) عَنْ حَبِيبِ بْنِ مَسْلَمَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَفَلَ الرُّبُعَ بَعْدَ الْخُمُسِ فِي بَدْأَتِهِ وَنَفَلَ الثُّلُثَ بَعْدَ الْخُمُسِ فِي رَجْعَتِهِ.

2 ـ وفي الصحيحين عن أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ قَالَ:} مَنْ أَطَاعَنِي فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ وَمَنْ يَعْصِنِي فَقَدْ عَصَى اللَّهَ وَمَنْ يُطِعْ الْأَمِيرَ فَقَدْ أَطَاعَنِي وَمَنْ يَعْصِ الْأَمِيرَ فَقَدْ عَصَانِي { (1) . 3 ـ وقد أجمع سلف الأمة كما ذكر ذلك ابن أبي العز الحنفي في شرحه للعقيدة الطحاوية على وجوب طاعة أمير الجيش في مواضع الاجتهاد وأن الرأي يترك لرأيه، وبيّن رحمه الله أن مصلحة الائتلاف والجماعة ومفسدة الاختلاف والفرقة أعظم من مسائل جزئية فلا شك أن المصلحة العامة الحاصلة بالجماعة والائتلاف والمفسدة الناتجة عن الفرقة والاختلاف لا تقابل بمسألة جزئية يقع الاجتهاد فيها. * قال المؤلف ـ رحمه الله تعالى: [والصبر معه] . قال تعالى: [يا أيها الذين آمنوا اصبروا وصابروا ورابطوا] فيجب على من معه من المسلمين أن يصبروا معه وألا يخذلوه فإن في ذلك إضعافا للمسلمين وكسرا لهم كما أن فيه قوة للكفار وإظهارا لهم. * مسألة: التجنيد السنوي: واعلم أن المشهور عند الحنابلة والشافعية ـ وهي من المسائل التي محلها الدرس الأول لكن نذكرها هنا لوجود شيء من المناسبة بينها وبين هذه المسألة ـ أن الإمام الأعظم يجب عليه أن يجند المسلمين للجهاد في كل عام مرة. دليلهم: فقد تقدم أن الجهاد فرض كفاية. قالوا: فيجب في كل سنة مرة. قالوا: لأن الجزية تجب في كل سنة مرة، وهي بدل عن القتال فكان القتال واجبا في كل سنة مرة. المناقشة: ولايخفى بعد هذا النظر وعدم الارتباط بين هاتين المسألتين. واختاره في المقنع.

_ (1) ـ (فتح: 2957، م: 1835) واللفظ لمسلم.

فالأظهر: أن الجهاد في سبيل الله يجب بقدر ما تقع به المصلحة للمسلمين وبقدر ما يحصل به للمسلمين من العلو والظهور ولدينه من العلو والظهور ولدينه أيضا من الحجة والبيان فيجب الجهاد بقدر حصول ذلك. ولا شك أن هذا يختلف من زمان إلى زمان. فإذا ابتدأت الأمة الإسلامية حياتها من جديد فلا شك أنها تحتاج إلى جهاد طويل متكرر في السنة مرات حتى تستعيد مجدها وظهورها في الأرض. بخلاف ما إذا كان لها سلطان ظاهر وقوة ظاهرة في الأرض فإنها قد لا تحتاج إلى الجهاد في السنة بل ربما مضت السنة والسنتان والثلاث من غير أن يحتاجوا إلى قتال وجهاد عام. فالمقصود من ذلك أن فرض الكفاية يجب بقدر الحاجة وبقدر ما يحصل به المقصود ومن ذلك الجهاد في سبيل الله. * قال المؤلف ـ رحمه الله تعالى: [ولا يجوز الغزو إلا بإذنه] . لا يجوز للمسلمين أن يجاهدوا في سبيل الله وأن يقاتلوا الكفار إلا بإذن الإمام. الدليل: وذلك لأن هذه المهمة موكولة إليه ففعلها دون إذنه افتيات عليه فهي مهمته وهو موكول بها فإن قام بها أجر وإن ترك أثم. أما أن يقوم طائفة من الأمة بالجهاد بغير إذنه فإن ذلك غير جائز لما فيه من الافتيات عليه. ولأن ذلك ذريعة إلى شق عصا الطاعة فقد يدّعي طائفة من الطوائف بأنها قد اجتمعت للقتال في سبيل الله وتعدّ لذلك العدة والعدد فتكون في الظاهر مقاتلة في سبيل الله وهي في الباطن خارجة عن طاعة الإمام شاقة لعصا الطاعة فلهذا وذاك لا يجوز أن تقاتل طائفة إلا بإذن الإمام.

واستثنى المؤلف ما إذا فجأ المسلمين عدو فحينئذ لايجب عليهم أن يستأذنوا الإمام وذلك لتعذر استئذانه حينئذ، ولو تمكن من الاستئذان فإنه تمكنهم يكون بعد فوات المقصود أو كثير منه فلذا إن فاجأهم عدو فلهم أن يقاتلوا من غير أن يستأذنوا السلطان وذلك لتعذر استئذانه في الغالب ولأنهم لو تمكنوا منه فالغالب أن يكون تمكنا بعد فوات المقصود وربما كان هذا بعد استيلاء الكفار على البلاد الإسلامية. * لذا قال المؤلف ـ رحمه الله تعالى: [إلا أن يفجأهم عدو يخافون كلبه (1) ] . وهنا مسائل: * المسألة الأولى: في جواز تبييت الكفار وتبييت الكفار: بأن يغير المسلمون عليهم ليلا على حين غفلة منهم. وما يقع من قتل للنساء والذرية حينئذ؛ فما يكون على غير وجه التعمد لا حرج على المسلمين فيه. الدليل: ماثبت في الصحيحين: عَنْ الصَّعْبِ بْنِ جَثَّامَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ قَالَ: (مَرَّ بِيَ النَّبِيُّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ بِالْأَبْوَاءِ أَوْ بِوَدَّانَ وَسُئِلَ عَنْ أَهْلِ الدَّارِ يُبَيَّتُونَ مِنْ الْمُشْرِكِينَ فَيُصَابُ مِنْ نِسَائِهِمْ وَذَرَارِيِّهِمْ قَالَ:} هُمْ مِنْهُمْ {) (2) * ومثل ذلك: لو تترس الكفار بالنساء والذرية فللمصلحة ودرء المفسدة يجوز للمسلمين أن يرموا هؤلاء الكفار وإن أصابوا من تترس به من النساء والذرية. وأما قتل النساء والذرية على وجه التعمد فلا يجوز. 1 ـ فقد ثبت في الصحيحن عَنْ نَافِعٍ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ ـ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ـ أَخْبَرَهُ: (أَنَّ امْرَأَةً وُجِدَتْ فِي بَعْضِ مَغَازِي النَّبِيِّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ مَقْتُولَةً فَأَنْكَرَ رَسُولُ اللَّهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ قَتْلَ النِّسَاءِ وَالصِّبْيَان ِ) (3) .

_ (1) ـ كلبه بفتح اللام أي شرّه وأذاه. (2) ـ (فتح: 3013، م: 1745) . (3) ـ (فتح: 3014، م: 1744) .

2ـ وقال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ كما ثبت في حديث بريدة ـ رضي الله عنه ـ وتقدم سياق أوله وفيه:} ولا تقتلوا وليدا { (1) . والعلة في نهي الشارع عن قتل النساء والذرية مع مافي الشريعة من الرأفة والرحمة أن النساء والذرية لا يقاتلون فلم يقابلوا بالقتل. فقد ثبت في سنن أبي داود ـ بإسناد صحيح ـ عن رَبَاحِ بْنِ رَبِيعٍ قَالَ: (كُنَّا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ فِي غَزْوَةٍ فَرَأَى النَّاسَ مُجْتَمِعِينَ عَلَى شَيْءٍ فَبَعَثَ رَجُلًا فَقَالَ:} انْظُرْ عَلَامَ اجْتَمَعَ هَؤُلَاءِ {فَجَاءَ فَقَالَ: (عَلَى امْرَأَةٍ قَتِيلٍ) . فَقَالَ:} مَا كَانَتْ هَذِهِ لِتُقَاتِلَ {قَالَ: وَعَلَى الْمُقَدِّمَةِ خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ فَبَعَثَ رَجُلًا فَقَالَ قُلْ لِخَالِدٍ:} لَا يَقْتُلَنَّ امْرَأَةً وَلَا عَسِيفًا {) (2) أي أنها: لِمَ تُقتل؟! فإنها لم تكن لتقاتل. ولذا يقاس على النساء والذرية كل من لا يقاتل من الكفار كالرهبان والشيوخ الهرمين والزمنى وغيرهم ممن لا يمكنهم القتال. فكل من لا يقاتل المسلمين من راهب أو شيخ فان أو مريض شديد المرض عاجز عن القتال فإنه لا يقتل لقوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ:} ما كانت هذه لتقاتل {فدل على أن كل من لا يقاتل لا يُقتل. ـ ودل هذا الحديث على أن هؤلاء إن قاتلوا فإنهم يُقتلون فالمرأة أو الصبيان إن رفعوا السيف وقاتلوا فإنهم يُقتلون. ومثل ذلك أيضا من كان لهم رأي ومكيدة في الحرب كما يقع هذا للشيوخ أو غيرهم. * والمسألة الثانية: في جواز نصب النجنيق

_ (1) ـ سبق تخريجه وهو في مسلم (م 1731) . (2) ـ (د: 2295) ك: الجهاد. ب: في قتل النساء.

فقد روى أبو داود في مراسيله عن مكحول أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ نصب المنجنيق في الطائف (1) . وروى البيهقي أنّ عمرو بن العاص نصب المنجنيق في الإسكندرية (2) . وعليه عمل المسلمين في قتالهم. والأثر المتقدم وإن كان مرسلا لكن عليه العمل وهو مذهب جماهير العلماء. ويشبهه القنابل الموجودة في زماننا فهي شبيهة بالمنجنيق فلا بأس برميها على الكفار. تنبيه: أما ما يكون إحراقا لهم يشبه هذه القنابل الذرية التي تحدث إحراقا عاما أو أن يكون إحراقا عاديا بالنار فإن ذلك لا يجوز. الدليل: ما ثبت في البخاري أَنَّ عَلِيًّا ـ رَضِيَ اللَّهُ عَنْه ُ ـ حَرَّقَ قَوْمًا فَبَلَغَ ابْنَ عَبَّاسٍ ـ رضي الله عنهما ـ فَقَالَ: (لَوْ كُنْتُ أَنَا لَمْ أُحَرِّقْهُمْ لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ:} لَا تُعَذِّبُوا بِعَذَابِ اللَّهِ {وَلَقَتَلْتُهُمْ كَمَا قَالَ النَّبِيُّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ:} مَنْ بَدَّلَ دِينَهُ فَاقْتُلُوهُ {) (3) فالنار عذاب الله ولا يجوز للمسلمين أن يعذبوا بعذاب الله.

_ (1) ـ (المراسيل لأبي داود: ـ صلى الله عليه وسلم ـ 248) قال شعيب الأرنؤوط: رجاله ثقات رجال الصحيحين غير ابن يزيد الكلاعي فإنه من رجال البخاري. ثم أورد أبو داود أثرا عن الأوزاعي أنه سأل يحيى بن سعيد عن ذلك فأنكره.وأشار ابن حجر أن العقيلي وصله في الضعفاء في ترجمة عبد الله بن خراش بن حوشب (2 / 797) غير أن العقيلي قال في طرق خبر المنجنيق في ترجمة المذكور: كلها غير محفوظة ولا يتابعه عليها الا من هو دونه أو مثله. (2) ـ (هق: 9 / 84) ط. دار الباز بمكة. تحقيق محمد عبد القادر عطا. أورده عن الشافعي في القديم. وأورده كذلك الهيثمي في زوائد مسند الحارث (2 / 684) . (3) ـ (فتح: 3017) ك: الجهاد والسير ب: لا يعذب بعذاب الله.

لكن إن لم يكن الاقتدار على الكفار إلا بذلك أي بالنار ونحوها فإن ذلك جائز باتفاق أهل العلم لمصلحة الأمة، وهي مصلحة عامة وفيها درء المفاسد عنهم من تسلط الكفار وغيرهم. * المسألة الثالثة: في ثبوت الرق على النساء والذرية. اعلم أن النساء والذرية وإن أصابهم المسلمون بسبي فإنهم يثبت عليهم الرق بمجرد سبيهم. فقد ثبت في الصحيحين من حديث عائشة ـ رضي الله عنها ـأن رَسُولُ اللَّه ـ صلى الله عليه وسلم ـ أتى بني قريظة فَنَزَلُوا عَلَى حُكْمِهِ فَرَدَّ الْحُكْمَ إِلَى سَعْدٍ قَالَ: (فَإِنِّي أَحْكُمُ فِيهِمْ أَنْ تُقْتَلَ الْمُقَاتِلَةُ وَأَنْ تُسْبَى النِّسَاءُ وَالذُّرِّيَّةُ وَأَنْ تُقْسَمَ أَمْوَالُهُمْ) (1) وثبت في الصحيحين ـ من حديث ابن عمر ـ رضي الله عنهما ـ أنَّ النَّبِيَّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ أَغَارَ عَلَى بَنِي الْمُصْطَلِقِ وَهُمْ غَارُّونَ وَأَنْعَامُهُمْ تُسْقَى عَلَى الْمَاءِ فَقَتَلَ مُقَاتِلَتَهُمْ وَسَبَى ذَرَارِيَّهُمْ وَأَصَابَ يَوْمَئِذٍ جُوَيْرِيَةَ. (2) فبمجرد ما يحصل السبي للنساء أو الذرية ـ والذرية هم غير البالغين من الذكور والإناث ـ يحصل حينئذٍ عليهم الرقّ. * ومثل ذلك من لايُقتل كالرهبان وغيرهم ممن لايقاتل المسلمين فبمجرد ما يحصل له السبي يحصل حينئذٍ التملك على رقبته فيكون رقيقا حيث يكون من جنس الغنيمة. وقد كان النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ إذا سبى قوما أوقع الرق عليهم كما تقدم في سبيه نساء بني المصطلق وكانت منهنّ جويرة زوج النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ. * المسألة الرابعة: خصال المقاتلة. أما المقاتلة فالإمام مخير بين خصال أربع: الخصلة الأولى: القتل.

_ (1) ـ (فتح: 4122) ك: المغازي. ب: مرجع النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ من الأحزاب. (م: 1769) . (2) ـ (فتح: 2541) ك: العتق. ب: من ملك من العرب رقيقا فوهب وباع وجامع. (م: 1730) .

ـ لقوله تعالى: [فإذا لقيتم الذين كفروا فضرب الرقاب] 2 ـ وروى أبو داود في مراسيله عن سعيد بن جبير أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قتل يوم بدر ثلاثة صبرا (1) . الخصلة الثانية: المنّ. أي أن يطلق من غير مال. الخصلة الثالثة: الفداء. أي يفدي نفسه بمال. قال تعالى: [فإما منّا بعد وإما فداء] الخصلة الرابعة: الاسترقاق. أي أن يكون رقيقا. وقد اتفق العلماء على ثبوت الرقّ على أهل الكتاب. * مسألة: في ثبوت الخصال الأربع لعبدة الأوثان واختلفوا في عبدة الأوثان، هل هناك خيار رابع في حقهم أم أنه ليس هناك إلا ثلاث خصال. القول الأول: وهو المشهور عند الحنابلة ألا استرقاق في غير أهل الكتاب والمجوس. القول الثاني: وهو قول الشافعية ورواية عن الإمام أحمد أن الرق يقع عليهم كغيرهم من عبدة الأوثان إذ لا فرق بين الكفار فيما يثبت من الأحكام إلا أن يدل دليل على تخصيص طائفة منهم بحكم. قالوا: ولا دليل يصار إليه في هذه المسألة. وهذا القول فيه قوة ـ والله أعلم ـ. فتقع الخصال الأربعة على عامة الكفار سواء كانوا من أهل الكتاب أو غيرهم فيخير الإمام بين أربع الخصال كما تقدم. وهذا التخيير للإمام ليس على وجه التشهي ولكن على وجه المصلحة العامة. فإن ثبت له أن المصلحة في القتل قتل، وإن ثبت له أن المصلحة في المنّ منّ، وإن رأى أن المصلحة في الفداء فدى، وإن رأى أن المصلحة في الاسترقاق فعل ذلك. * مسألة: إسلام الأسير: فإذا أسلم الأسير فلا يجوز قتله. وهل يثبت عليه الرق أم يبقى للإمام الخيار في الخصال الثلاث؟ أي هل بمجرد إسلامه يكون رقيقا؟ أم يبقى الخيار السابق لكن تسقط خصلة وهي خصلة القتل؟ القول الأول:

_ (1) ـ (المراسيل: صحفة: 249) قال المحقق الأرنؤوط: فيه زياد بن أيوب ـ شيخ أبي داود فيه ـ من رجال مسلم ومن فوقه من رجال الشيخين.وانظر الإرواء: [1214] .

قالت الحنابلة بمجرد ما يسلم الأسير فإنه يكون رقيقا وليس للإمام أن يمنّ عليه وليس له أن يقبل منه الفداء. قالوا: لأنه لا يجوز قتله فأشبه النساء. فكما أن النساء لا يجوز قتلهنّ فتعين فيهن الرق فكذلك الأسير إذا أسلم يتعين فيه الرق للمنع من قتله قياسا على النساء والذرية ومن يمنع قتلهم القول الثاني: قالت الشافعية: بل يبقى التخيير لأن تخيير الإمام بين الفداء والمنّ ثابت مع كفره فثبوت ذلك مع إسلامه أولى، فالمسلم أولى أن يمنّ عليه أو يقبل منه فداء من الكافر. وكونه يمنع من قتله ليس هذا للمعنى الموجود في النساء وإنما لثبوت إسلامه. الترجيح: وما ذكروه أظهر، من أن الكافر إذا أسلم وهو أسير عند المسلمين فإن الإمام يخير بين ثلاث خصال إن شاء جعله رقيقا وإن شاء قبل فيه المال فدية وإن شاء منّ عليه هذا كله تحت خيار الإمام على حسب المصلحة التي يراها. * مسألة: هل يصدق الأسير في ادّعاء الإسلام؟ فإن ذلك لا يقبل منه حتى يأتي ببينة لأن الظاهر خلاف قوله. وقد تعلق برقبته حق الرقّ فلم يسقط هذا الحق بمجرد دعواه، فإن رقبته قد تعلق بها حق الرق أو حق الفداء الذي قد يختاره الإمام فتعلق هذا الحق برقبته يمنع من قبول دعواه إلا أن يأتي ببينة. * مسألة: هل يقتل آحاد المسلمين الأسير؟ وإذا أسر مسلم كافرا فليس له أن يقتله إلا أن يضطره إلى ذلك كأن يدافعه الكافر أو يخشى صولة الكفار فينالوا أسيرهم أو أن يأبى هذا الكافر السير معه أو نحو ذلك مما يكون داعيا لقتله. أما إن لم يكن هناك داع لقتله فليس له أن يقتله. وذلك لأنه بمجرد أسره تعلق به حق الإمام فإن شاء الإمام قتل أو منّ أو قبل الفداء وإن شاء أوقع عليه الرق، فقتْله تفويت لحق الإمام فيه فلم يجز له ذلك. * مسألة: في من قتل شيوخ المشركين.

عَنْ الْحَسَنِ عَنْ سَمُرَةَ بْنِ جُنْدُبٍ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ:} اقْتُلُوا شُيُوخَ الْمُشْرِكِينَ وَاسْتَبْقُوا شَرْخَهُمْ { (1) هنا قسمة ثنائية فقسمهم النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ إلى شيوخ وشرخ والشرخ هم غير البالغين فدل على أن المراد بالشيوخ هم البالغون فيكون هذا من باب التغليب ولأن الشيوخ يقاتلون ونحن ـ إذ استثنيناه من القتل سابقا ـ إنما قيدناه بالشيخ الهرم الذي لايقاتل أما الشيخ فإنه يقاتل وله رأي ومكيدة في الحرب. * مسألة: في تترس المشركين بأسرانا ـ إذا تترس المشركون بأسرى مسلمين فهل يجوز أن يرموا؟ الجواب: لا يجوز لعصمة دماء هؤلاء المسلمين إلا أن تترتب مصلحة ظاهرة جدا وتترتب على عدم رمي الكفار مفسدة ظاهرة ويُخشى أن يقع في المسلمين من القتل إن لم يقوموا بهذا أكثر مما يقع من القتل لهؤلاء الأسرى الذين هم وهم تحت أيدي العدو مظنة القتل. فعلى ذلك: يُنظر إن كانت هناك مفسدة أكبر فإن المفسدة الصغرى تتلاشى مع وجود المفسدة الكبرى. * مسألة: في الإغارة قبل الدعوة ـ هل للإمام أن يُغِير قبل أن يدعوهم؟ الجواب: ليس للإمام أن يغير قبل أن يدعوهم وهذا شرط تُقيّد به المسألة السابقة. فيقال: يجوز للإمام أن يغير على الأعداء ويبغتهم بشرط وهو: أن يكون قد دعاهم إلى الله عزوجل لقوله تعالى: [وما كنا معذّبين حتى نبعث رسولا] ولقوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ في حديث بريدة السابق وقد ذكر دعوتهم إلى الله قال:} فإن أبوا فاستعن بالله وقاتلهم { (2) فلا تقاتل طائفة من الكفار حتى تدعى إلى الله وتقام عليها الحجة. لقوله تعالى: [وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا] فليس للأمة أن تقاتل حتى تبين لهم الحق فإن أبوا فإنهم يقاتلون.

_ (1) ـ (د: 2296) ك: الجهاد. ب: قتل النساء. (2) ـ سبق تخريجه وهو في (م: 1731) .

* قال المؤلف ـ رحمه الله تعالى: [وتملك الغنيمة بالاستيلاء عليها في دار الحرب] . إذا اقتتل المسلمون والكفار ووضعت الحرب أوزارها وانتهت الوقعة فإن هذه الغنائم يملكها الغانمون وإن كانت الغنائم لم تحز لدار الإسلام وإن كانت لم تقسم فهي ملك لهم. وعليه: فإن مات بعض الغزاة فالحق من بعده لورثته في الغنيمة. قالوا: لأنه بانتهاء الحرب وغلبة المسلمين تكون الغنائم قد زالت ملكية الكفار عنها ووقعت تحت أيدي المسلمين فكانت ملكا لهؤلاء الغزاة. هذا هو المشهور عند الحنابلة. القول الثاني: لاتملك حتى تقسم، هذا إن كانت لم تحز إلى ديار الإسلام. أما إن حيزت فإنها تملك بمجرد حوزها وإن لم تقسم. إذن شرط القسمة أن تكون الغنائم في دار الحرب. القول الثالث: وأطلق ابن القيم فقال: بل تشترط القسمة مطلقا سواء كانت في دار الحرب أو في دار الإسلام فلا تملك الغنيمة إلا بقسمتها مطلقا وهذا هو أصح الأقوال. الدليل: ودليل ذلك ما ثبت في البخاري (1) أن وفد هوازن قدموا إلى النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ يسألونه أموالهم ونساءهم وذراريهم فقال النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ:} إني كنت قد استأنيت لكم {أي أمهلت وفي رواية أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ انتظرهم بعد قفوله من الطائف تسع عشرة ليلة. (استأنيت لكم) أي تمهلت فلم أقسمها لعلكم ترجعون فتأخذون نساءكم وذراريكم وأموالكم وأما الآن وقد قسمت فلا. فدل هذا على أن الغنيمة إنما تملك بعد القسمة لأن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قد أمهل هوازن بعد انتهاء الحرب وبعد أن حيزت إلى البلاد الإسلامية لم يقسمها فهذا دليل ظاهر للمسألة. وعلى ذلك: إن مات قبل أن يقسم سواء كانت الغنيمة في ديار الحرب أو في ديار الإسلام فإن الإرث لا يثبت لعدم الملكية. والغنيمة: هي ما أخذ من مال الحرب قهرا بالقتال. مصارف الغنيمة

_ (1) ـ (فتح: 2308، 2540، 2608، 3132، 4319) .

قال المؤلف ـ رحمه الله تعالى: [وهي لمن شهد الوقعة من أهل القتال] . فالغنيمة لمن شهد الوقعة من أهل القتال فقد ثبت في البخاري (1) أن أبان بن سعيد بن العاص قدم على النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ بعد خيبر وقد قسّمت فقال للنبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ: (اقسم لي) فقال:} اجلس {ولم يقسم له. وثبت في مصنف عبد الرزاق بسند صحيح عن عمر ـ رضي الله عنه ـ أنه قال: (إنما الغنيمة لمن شهد الوقعة) (2)

_ (1) ـ (فتح: 4238) . (2) ـ (عب: 7 / 268) وقال الحافظ في التلخيص الحبير: (3 / 219) : {الْغَنِيمَةُ لِمَنْ شَهِدَ الْوَقْعَةَ} هَذَا الْحَدِيثُ بِهَذَا اللَّفْظِ إنَّمَا يُعْرَفُ مَوْقُوفًا كَمَا سَيَأْتِي , لَكِنْ فِي هَذَا الْمَعْنَى حَدِيثَانِ: أَحَدُهُمَا عَنْ أَبِي مُوسَى {أَنَّهُ لَمَّا وَافَى هُوَ وَأَصْحَابُهُ - أَيْ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم - حِينَ افْتَتَحَ خَيْبَرَ , أَسْهَمَ لَهُمْ مَعَ مَنْ شَهِدَهَا , وَأَسْهَمَ لِمَنْ غَابَ عَنْهَا غَيْرَهُمْ} مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَالثَّانِي: حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ {أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم بَعَثَ أَبَانَ بْنَ سَعِيدِ بْنِ الْعَاصِ فِي سَرِيَّةٍ قِبَلَ نَجْدٍ , فَقَدِمَ أَبَانُ بَعْدَ خَيْبَرَ , فَلَمْ يُسْهِمْ لَهُ} . رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ , وَأَبُو دَاوُد. وَأَمَّا لَفْظُ: {الْغَنِيمَةُ لِمَنْ شَهِدَ الْوَقْعَةَ} . فَرَوَاهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ: نَا وَكِيعٌ: نَا شُعْبَةُ , عَنْ قَيْسِ بْنِ مُسْلِمٍ , عَنْ طَارِقِ بْنِ شِهَابٍ الْأَحْمَسِيِّ , أَنَّ أَهْلَ الْبَصْرَةِ غَزَوْا نَهَاوَنْدَ. . . فَذَكَرَ الْقِصَّةَ فَكَتَبَ عُمَرُ: " إنَّ الْغَنِيمَةَ لِمَنْ شَهِدَ الْوَقْعَةَ ". وَأَخْرَجَهُ الطَّبَرَانِيُّ , وَالْبَيْهَقِيُّ , مَرْفُوعًا , وَمَوْقُوفًا , وَقَالَ: الصَّحِيحُ مَوْقُوفٌ , وَأَخْرَجَهُ ابْنُ عَدِيٍّ مِنْ طَرِيقِ بُخْتُرِيِّ بْنِ مُخْتَارٍ , عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ مَسْعُودٍ , عَنْ عَلِيٍّ مَوْقُوفًا.

فمن لم يشهدها فلا حظ له منها، لكن من لم يشهدها لمصلحة الجيش كالعين والرسول والدليل ونحوه فإنه يقسم له. دلّ على ذلك أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قسّم لعثمان بن عفان ـ رضي الله عنه ـ وكان قد جلس في المدينة عند النساء. * فرع: هل يسهم للمرأة؟ وهي لأهل القتال، فعليه المرأة لا سهم لها، لأنها ليست من أهل القتال. وقد ثبت في مسلم أن ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ قال: (كان النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ يغزو بالنساء فيداوين الجرحى ويحذين ـ أي يعطين من الغنيمة ـ أما سهم فلم يضرب لهنّ) (1)

_ (1) ـ (م: 1812) وهذا لفظه: عَنْ يَزِيدَ بْنِ هُرْمُزَ أَنَّ نَجْدَةَ كَتَبَ إِلَى ابْنِ عَبَّاسٍ يَسْأَلُهُ عَنْ خَمْسِ خِلَالٍ فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ لَوْلَا أَنْ أَكْتُمَ عِلْمًا مَا كَتَبْتُ إِلَيْهِ كَتَبَ إِلَيْهِ نَجْدَةُ أَمَّا بَعْدُ فَأَخْبِرْنِي هَلْ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَغْزُو بِالنِّسَاءِ وَهَلْ كَانَ يَضْرِبُ لَهُنَّ بِسَهْمٍ وَهَلْ كَانَ يَقْتُلُ الصِّبْيَانَ وَمَتَى يَنْقَضِي يُتْمُ الْيَتِيمِ وَعَنْ الْخُمْسِ لِمَنْ هُوَ فَكَتَبَ إِلَيْهِ ابْنُ عَبَّاسٍ كَتَبْتَ تَسْأَلُنِي هَلْ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَغْزُو بِالنِّسَاءِ وَقَدْ كَانَ يَغْزُو بِهِنَّ فَيُدَاوِينَ الْجَرْحَى وَيُحْذَيْنَ مِنْ الْغَنِيمَةِ وَأَمَّا بِسَهْمٍ فَلَمْ يَضْرِبْ لَهُنَّ وَإِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَكُنْ يَقْتُلُ الصِّبْيَانَ فَلَا تَقْتُلْ الصِّبْيَانَ وَكَتَبْتَ تَسْأَلُنِي مَتَى يَنْقَضِي يُتْمُ الْيَتِيمِ فَلَعَمْرِي إِنَّ الرَّجُلَ لَتَنْبُتُ لِحْيَتُهُ وَإِنَّهُ لَضَعِيفُ الْأَخْذِ لِنَفْسِهِ ضَعِيفُ الْعَطَاءِ مِنْهَا فَإِذَا أَخَذَ لِنَفْسِهِ مِنْ صَالِحِ مَا يَأْخُذُ النَّاسُ فَقَدْ ذَهَبَ عَنْهُ الْيُتْمُ وَكَتَبْتَ تَسْأَلُنِي عَنْ الْخُمْسِ لِمَنْ هُوَ وَإِنَّا كُنَّا نَقُولُ هُوَ لَنَا فَأَبَى عَلَيْنَا قَوْمُنَا ذَاكَ.

أي يعطين من الغنيمة شيئا دون السهم وهو مايسمى بالرضخ أي يرضخ لهن شيء من الغنيمة دون السهم لشهودهنّ القتال. * فرع: هل يُسهم للعبد؟ ومثل ذلك العبد فهو لايجب عليه القتال فليس في الأصل من أهله وعليه فإنه لا يعطى سهما بل يرضخ له. لذا ثبت في سنن أبي داود أن عميرا قَالَ: (شَهِدْتُ خَيْبَرَ مَعَ سَادَتِي فَكَلَّمُوا فِيَّ رَسُولَ اللَّهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ فَأَمَرَ بِي فَقُلِّدْتُ سَيْفًا فَإِذَا أَنَا أَجُرُّهُ فَأُخْبِرَ أَنِّي مَمْلُوكٌ فَأَمَرَ لِي بِشَيْءٍ مِنْ خُرْثِيِّ الْمَتَاعِ) قَالَ أَبُو دَاوُد: (مَعْنَاهُ أَنَّهُ لَمْ يُسْهِمْ لَهُ) (1) أي من متاع الميت فلم يسهم له النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ. * فرع: هل يُسهم للكافر المشارك. ـ ومثل ذلك الكافر فإن شهد الوقعة مع المسلمين فإنه يرضخ له ولا يعطى سهما كما يعطى الغزاة المسلمون. وذلك قياسا على العبد:فكما أن العبد مع قتاله لا يعطى إلا رضخا لأنه ليس من أهل القتال فكذلك الكافر هذا هو أحد الوجهين في مذهب الإمام أحمد وهو مذهب الجمهور. القول الثاني: وهو المشهور في المذهب أن الكافر يسهم له، فيُعطى سهمها من القسمة. واستدلوا: بما رواه سعيد بن منصور في سننه أن صفوان بن أمية شهد مع النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ غزوة حنين وهو على شركه فأسهم له. الترجيح: فأصح القولين هو ماذهب إليه الجمهور وهو أحد الوجهين في المذهب: أن الكافر إذا شهد الوقعة فإنه لا يسهم له. * فرع: … هل يُسهم للصبي؟ ومثل ذلك الصبي فإن الصبي يرضخ له ولا يسهم له. الدليل:

_ (1) ـ (د:2354) ك: الجهاد. ب: في المرأة والعبد يحذيان من الغنيمة. (حم: 20935، ت: 1478، جه: 2846) .

1 ـ يدل على ذلك ما ذكره صاحب الغني وعزاه إلى الجوزجاني وأن الجوزجاني رواه بإسناده وقال فيه: (من مشهور حديث مصر وجيده) فقد جوّد سنده أن تميم بن فٍرَع (1) كان من الجيش الذين فتحوا الإسكندرية مع عمرو بن العاص ـ رضي الله عنه ـ فلم يعطه من الغنيمة شيئا وقال: (غلام لم يحتلم) وكان في القوم أبو نضرة الغفاري وعقبة بن عامر ـ رضي الله عنهما ـ فقالا: (انظروا فإن أشعر ـ أي نبت شعر عانته ـ فاقسموا له) (2) فهذا قول عمرو بن العاص وأبي نضرة الغفاري وعقبة بن عامر رضي الله عنهم ولا يعلم لهم مخالف. 2 ـ وكذلك بالقياس على المرأة بجامع أنهما ليسا من أهل القتال * مسألة: الاستعانة بالمشركين في القتال. وفيها ثلاثة أقوال: القول الأول: وهو المشهور في المذهب: أن الكافر لا يستعان به في القتال في سبيل الله. الدليل:

_ (1) ـ الإكمال لابن ماكولا (7 / 51) . (2) ـ رواه الطحاوي في شرح مشكل الآثار (3 / 217) .

ما ثبت في الصحيحين (1) : عَنْ عَائِشَةَ زَوْجِ النَّبِيِّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ أَنَّهَا قَالَتْ: (خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قِبَلَ بَدْرٍ فَلَمَّا كَانَ بِحَرَّةِ الْوَبَرَةِ أَدْرَكَهُ رَجُلٌ قَدْ كَانَ يُذْكَرُ مِنْهُ جُرْأَةٌ وَنَجْدَةٌ فَفَرِحَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ رَأَوْهُ فَلَمَّا أَدْرَكَهُ قَالَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جِئْتُ لِأَتَّبِعَكَ وَأُصِيبَ مَعَكَ قَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ قَالَ لَا قَالَ:} فَارْجِعْ فَلَنْ أَسْتَعِينَ بِمُشْرِكٍ {قَالَتْ ثُمَّ مَضَى حَتَّى إِذَا كُنَّا بِالشَّجَرَةِ أَدْرَكَهُ الرَّجُلُ فَقَالَ لَهُ كَمَا قَالَ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَمَا قَالَ أَوَّلَ مَرَّةٍ قَالَ فَارْجِعْ فَلَنْ أَسْتَعِينَ بِمُشْرِكٍ قَالَ ثُمَّ رَجَعَ فَأَدْرَكَهُ بِالْبَيْدَاءِ فَقَالَ لَهُ كَمَا قَالَ أَوَّلَ مَرَّةٍ تُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ قَالَ نَعَمْ فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَانْطَلِقْ (2) القول الثاني: وعن الإمام أحمد أنه يجوز أن يستعان بالمشرك. الدليل: ما تقدم من حديث صفوان بن أمية وفيه أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ استعان به وكان على شركه وأسهم له. لكن تقدم أن الحديث مرسل ضعيف (3) . القول الثالث: وقال الشافعي وهو ظاهر كلام الخرقي: أنه يجوز عند الحاجة. الترجيح: والقول الثالث أظهر الأقوال.

_ (1) ـ لم أجده في البخاري. (2) ـ (م: 1817) ك: الجهاد والسير. ب: كراهية الاستعانة في الغزو بكافر. (3) ـ تقدم تخريجه فيهما.

وقوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ:} فارجع فلن أستعين بمشرك {هذا حين لم تكن المصحلة ظاهرة في الاستعانة به وأما إذا كانت المصلحة ظاهرة في الاستعانة به وأمن شره فإن الاستعانة به جائزة لا حرج فيها جلبا للمصلحة ودرءا للمفسدة. * وأما عند الضرورة فلا إشكال في جوازه فإن المحرمات تباح عند الضرورة إليها. إذن: الغنيمة تقسم أسهمها على الغزاة إذا كانوا من أهل القتال، أما إذا لم يكونوا من أهل القتال فلا يعطون أسهما، وإنما يرضخ لهم رضخا أي يعطون شيئا من الغنيمة يقدره الإمام لهم باجتهاده لكن يكون دون أسهم الغزاة. * قال المؤلف ـ رحمه الله تعالى: [ثم يقسّم باقي الغنيمة للراجل سهم وللفارس ثلاثة أسهم؛ سهم له وسهمان لفرسه] . فإذا حضرت القسمة بين يدي الإمام. فقبل الخمس يخرج السلب. والسّلَب: ما يحصله القاتل من مقتوله من أدوات الحرب من مركوب ورحل وسلاح. فيخرج أولا. الدليل:

ما ثبت في الصحيحن (1) من حديث سلمة بن الأكوع قَالَ غَزَوْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هَوَازِنَ فَبَيْنَا نَحْنُ نَتَضَحَّى مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذْ جَاءَ رَجُلٌ عَلَى جَمَل أَحْمَرَ فَأَنَاخَهُ ثُمَّ انْتَزَعَ طَلَقًا مِنْ حَقَبِهِ فَقَيَّدَ بِهِ الْجَمَلَ ثُمَّ تَقَدَّمَ يَتَغَدَّى مَعَ الْقَوْمِ وَجَعَلَ يَنْظُرُ وَفِينَا ضَعْفَةٌ وَرِقَّةٌ فِي الظَّهْرِ وَبَعْضُنَا مُشَاةٌ إِذْ خَرَجَ يَشْتَدُّ فَأَتَى جَمَلَهُ فَأَطْلَقَ قَيْدَهُ ثُمَّ أَنَاخَهُ وَقَعَدَ عَلَيْهِ فَأَثَارَهُ فَاشْتَدَّ بِهِ الْجَمَلُ فَاتَّبَعَهُ رَجُلٌ عَلَى نَاقَةٍ وَرْقَاءَ قَالَ سَلَمَةُ وَخَرَجْتُ أَشْتَدُّ فَكُنْتُ عِنْدَ وَرِكِ النَّاقَةِ ثُمَّ تَقَدَّمْتُ حَتَّى كُنْتُ عِنْدَ وَرِكِ الْجَمَلِ ثُمَّ تَقَدَّمْتُ حَتَّى أَخَذْتُ بِخِطَامِ الْجَمَلِ فَأَنَخْتُهُ فَلَمَّا وَضَعَ رُكْبَتَهُ فِي الْأَرْضِ اخْتَرَطْتُ سَيْفِي فَضَرَبْتُ رَأْسَ الرَّجُلِ فَنَدَرَ ثُمَّ جِئْتُ بِالْجَمَلِ أَقُودُهُ عَلَيْهِ رَحْلُهُ وَسِلَاحُهُ فَاسْتَقْبَلَنِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالنَّاسُ مَعَهُ فَقَالَ:} مَنْ قَتَلَ الرَّجُلَ؟ {قَالُوا

_ (1) ـ (فتح: 3051) ولفظه: عَنْ إِيَاسِ بْنِ سَلَمَةَ بْنِ الْأَكْوَعِ عَنْ أَبِيهِ قَالَ أَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَيْنٌ مِنْ الْمُشْرِكِينَ وَهُوَ فِي سَفَرٍ فَجَلَسَ عِنْدَ أَصْحَابِهِ يَتَحَدَّثُ ثُمَّ انْفَتَلَ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اطْلُبُوهُ وَاقْتُلُوهُ فَقَتَلَهُ فَنَفَّلَهُ سَلَبَهُ وهو مختصر جدا عن الذي عند مسلم حتى قال الشيخ الألباني ـ بعد إيراده لفظ مسلم ـ وأما لفظ البخاري فهو أبعد عن هذا بكثير. (الإرواء: 5 / 55) .

: (ابْنُ الْأَكْوَعِ) قَالَ:} لَهُ سَلَبُهُ أَجْمَعُ (1) { وفي سنن أبي داود عَنْ عَوْفِ بْنِ مَالِكٍ الْأَشْجَعِيِّ وَخَالِدِ بْنِ الْوَلِيدِ ـ رضي الله عنهما ـ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَضَى بِالسَّلَبِ لِلْقَاتِلِ وَلَمْ يُخَمِّسْ السَّلَبَ (2) ـ ويخرج أيضا قبل الخمس: ما تحتاج إليه الغنيمة من أجرة لحملها وحفظها. * مسألة: هل يخرج الرضخ المتقدم قبل الخمس أم بعده؟ قولان لأهل العلم هما وجهان في مذهب أحمد والشافعي. القول الأول: أن الرضخ يخرج قبل أن تخمس الغنيمة. قياسا على أجرة الحامل والحافظ للغنيمة. القول الثاني: أن الرضخ يخرج بعد الخمس. قالوا: لأنه أخذ بسبب حضور الوقعة فأشبه سهام الغانمين. الترجيح: والقول الثاني أقيس وهو أن الرضخ لا يخرج إلا بعد الخمس لأنه قد أخذ بسبب شهود الوقعة فأشبه سهام الغانمين. إذن: إذا حضرت القسمة فيخرج منها ما يحتاج إليه من أجرة حامل وحافظ ونحو ذلك. ثم يخرج منها السلب فلايخمس. ثم تخمس الغنيمة فيخرج خمسها.قال الله تعالى: [واعلموا أنما غنمتم من شيء فأن لله خمسه وللرسول ولذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل] * قوله [فأن لله خمسه] : ليس لله عزوجل سهم، وإنما المراد: أن هذا الخمس يصرف فيما يرضي الله تعالى. وليس المراد أن هناك سهم لله عزوجل ـ كما قال بعض العلماء ـ يصرف إلى الكعبة أو غيرها. ودليل ذلك: ماثبت في سنن البيهقي ـ بإسناد صحيح ـ أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ سئل عن المغنم فقال:} لله خمسه وأربعة أخماسه للجيش {

_ (1) ـ (م: 1754) ك: الجهاد والسير. ب: استحقاق القاتل سلب القتيل. (2) ـ (د: 2345) ك: الجهاد. ب: في السلب لا يخمس.

وثبت في سنن أبي داود عن عَمْرَو بْنَ عَبَسَةَ ـ رضي الله عنه ـ قَالَ: (صَلَّى بِنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى بَعِيرٍ مِنْ الْمَغْنَمِ فَلَمَّا سَلَّمَ أَخَذَ وَبَرَةً مِنْ جَنْبِ الْبَعِيرِ ثُمَّ قَالَ:} وَلَا يَحِلُّ لِي مِنْ غَنَائِمِكُمْ مِثْلُ هَذَا إِلَّا الْخُمُسُ، وَالْخُمُسُ مَرْدُودٌ فِيكُمْ { (1) والوبر هو ما يقابل الشعر من الغنم ونحوه. إذن: الخمس لله والرسول أي فيما يرضي الله تعالى وهو بيد الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ يصرفه فيما يراه من المصالح وكذلك هو بأيدي خلفائه من بعده يصرفونه فيما يرونه من المصالح هذا هو الخمس الأول (خمس الرسول) . إذن: هو لله لأنه يدفع فيما يرضي الله تعالى، وهو للرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ لأنه تحت يد الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ وهو السهم الأول: تحت يده يصرفه في مصالح المسلمين. السهم الثاني:لذوي القربى. أي لقرابة النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ وهم: بنو هاشم بنو المطلب. السهم الثالث: لليتامى. السهم الرابع:للمساكين. السهم الخامس:لابن السبيل. فهذه خمسة أخماس. يقسم خمس الغنيمة إلى خمسة أخماس؛ سهم يكون بيد الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ وخلفائه من بعده فيصرفونه في مصالح المسلمين هذا هو المشهور من مذهب الحنابلة ومذهب الشافعية وهو أن الغنيمة تخمس خمسة أخماس لكل صنف من هذه الأصناف الخمسة نصيبه. القول الثاني: ومال الإمام مالك إلى أن يعطى بعض ذوي القربى حقهم منه والباقي يصرفه الإمام فيما يراه من المصالح سواء أنال اليتامى والمساكين وابن السبيل منه نصيب أم لم ينلهم. وهذا اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية ـ رحمه الله تعالى ـ وتلميذه ابن القيم. الدليل:

_ (1) ـ (د: 2374) ك: الجهاد. ب: في الإمام يستأثر بشيء من الفيء لنفسه.

قالوا: لأنه لم يثبت عن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ولا عن خلفائه من بعده هذه القسمة، ولو كان ذلك ثابتا لنقل نقلا بينا، فهو ما تقوى الهمم وتقوى الدواعي على نقله. قالوا: ولأن الزكاة قد وجبت في الأصناف الثمانية ولو صرفت لصنف واحد لأجزأت فكذلك هنا. الترجيح: وهذا هو الراجح. فالخمس يوضع في يد الإمام فيعطى ذوي القربى حقهم منه ويصرف الباقي في مصالح المسلمين. * مسألة: كيفية توزيع سهم ذوي القربى وفيها قولان: القول الأول: أن ذوي القربى يعطون منه ـ في المشهور من المذهب ـ للذكر مثل حظ الأنثيين. قالوا: لأنه نيل بسبب الأب فأشبه الإرث؛ فإن بني هاشم نالوه بسبب هاشم وبني المطلب نالوه بسبب المطلب. القول الثاني: وهو رواية عن الإمام أحمد أنهم يعطون بالسوية لا يفرق بين ذكر وأنثى ولا صغير ولاكبير. قالوا: لأن الله قد أمرنا بإعطائهم وليس هذا على سبيل الإرث بدليل عدم ثبوت الحجب فيه فإن الابن يأخذ مع وجود أبيه. ثم إن سببه هو القرابة والنصرة في بني هاشم، والنصرة في بني المطلب. القول الثالث: أنهم يعطون بقدر الحاجة وبحسب ما يراه الإمام سواء كان بالتفضيل أو بالسوية. وهو مذهب مالك. الترجيح: والقول الثالث هو الراجح في هذه المسألة وهو اختيار ابن القيم ـ رحمة الله عليه ـ فيعطون على مايراه الإمام، ويعطون قدر حاجاتهم، فيعطى الفقير أكثر من الغني، ويعطى الغني الذي هو صاحب كرم ويجتمع الناس حوله أكثر مما سواه وهكذا.. فهو شامل لفقيرهم وغنيهم. الدليل:

1 ـ ما ثبت في البخاري والنسائي عَنْ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ قَالَ لَمَّا قَسَمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَهْمَ ذِي الْقُرْبَى بَيْنَ بَنِي هَاشِمٍ وَبَنِي الْمُطَّلِبِ أَتَيْتُهُ أَنَا وَعُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ فَقُلْنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ هَؤُلَاءِ بَنُو هَاشِمٍ لَا نُنْكِرُ فَضْلَهُمْ لِمَكَانِكَ الَّذِي جَعَلَكَ اللَّهُ بِهِ مِنْهُمْ أَرَأَيْتَ بَنِي الْمُطَّلِبِ أَعْطَيْتَهُمْ وَمَنَعْتَنَا فَإِنَّمَا نَحْنُ وَهُمْ مِنْكَ بِمَنْزِلَةٍ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّهُمْ لَمْ يُفَارِقُونِي فِي جَاهِلِيَّةٍ وَلَا إِسْلَامٍ إِنَّمَا بَنُو هَاشِمٍ وَبَنُو الْمُطَّلِبِ شَيْءٌ وَاحِدٌ وَشَبَّكَ بَيْنَ أَصَابِعِهِ (1) . فهذا النبي صلى الله عليه وسلم ـ لما جاءا يسألانه من الفيء لم يعتذر لهما بكونهما أغنياء وإنما اعتذر لهما بأنهما ليسا من بني المطلب وبني هاشم. فدل على أن للغني نصيبه في الغنيمة ثابت كالفقير. 2 ـ وللإطلاق في الآية، فإنها مطلقة لم تقيد سهم ذوي القربى بالفقراء دون الأغنياء. هذا هو الخمس. ـ إذن: إذا أخرج الإمام الخمس فحينئذ يقسم الغنيمة ويخرج منها النفل فإن النفل يخرج بعد الخمس كما تقدم هذا في نفل النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ الربع بعد الخمس والثلث بعده. وفي مسند أحمد وسنن أبي داود ـ بسند صحيح ـ من حديث معن بن يزيد ـ رضي الله عنه ـ قال سمعت:} لَا نَفْلَ إِلَّا بَعْدَ الْخُمُس ِ { (2)

_ (1) ـ (ن: 4068) كتاب: الفيء. باب. وأصله في البخاري بأخصر من ذلك. (فتح 3140،3503، 4229، 4068، د 2585، جه: 2872) (2) ـ (د: 2273، حم: 15301) .

فالنفل: هو ما يعطيه الإمام لبعض الغزاة زيادة عن سهمهم.إما لتقدم سرية من السرايا، أو لحسن بلائه وشدة بأسه بالكفار كما أعطى سلمة بن الأكوع سهم الراجل وسهم الفارس كما ثبت في صحيح مسلم (1) . ثم يقسم الغنيمة للراجل أي للماشي على رجليه ومثله الراكب على بعير ونحوه يعطى سهما. والفارس وهو الراكب فرسا يعطى ثلاثة أسهم؛ سهما له وسهمين لفرسه. وذلك لما للفرس من مكانة في العدو. الدليل: ماثبت في الصحيحن عَنْ نَافِعٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: (قَسَمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ خَيْبَرَ لِلْفَرَسِ سَهْمَيْنِ وَلِلرَّاجِلِ سَهْمًا) . قَالَ: (فَسَّرَهُ نَافِعٌ فَقَالَ: إِذَا كَانَ مَعَ الرَّجُلِ فَرَسٌ فَلَهُ ثَلَاثَةُ أَسْهُمٍ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ فَرَسٌ فَلَهُ سَهْمٌ) (2) وفي سنن أبي داود (3) للفارس ثلاثة أسهم سهمين لفرسه وسهم له؟ * فرع: …في سهم الفارس الهجين. ـ وهل هو في كل فرس سواء كان عربيا أم هجينا؟ قال جمهور العلماء: نعم، سواء كان الفرس هجينا وهو غير العربي أو كان عربيا فإن للفرس سهمين. لعموم الحديث.

_ (1) ـ (م: 1807) ك: الجهاد والسير. ب: غزوة ذي قرد وغيرها. (2) فتح: 4228) ك: الجهاد. ب: خيبر. (م: 1762) . (3) ـ الذي في (د 2358) ك: الجهاد. ب:في سُهمان الخيل. قال أَبُوعَمْرَةَ عَنْ أَبِيهِ قَالَ أَتَيْنَا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَرْبَعَةَ نَفَرٍ وَمَعَنَا فَرَسٌ فَأَعْطَى كُلَّ إِنْسَانٍ مِنَّا سَهْمًا وَأَعْطَى لِلْفَرَسِ سَهْمَيْنِ حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ حَدَّثَنَا أُمَيَّةُ بْنُ خَالِدٍ حَدَّثَنَا الْمَسْعُودِيُّ عَنْ رَجُلٍ مِنْ آلِ أَبِي عَمْرَةَ عَنْ أَبِي عَمْرَةَ بِمَعْنَاهُ إِلَّا أَنَّهُ قَالَ ثَلَاثَةُ نَفَرٍ زَادَ فَكَانَ لِلْفَارِسِ ثَلَاثَةُ أَسْهُمٍ.

القول الثاني: وقال الحنابلة في المشهور عندهم:الفرس الهجين أو البرذون له سهم واحد لاسهمان. الدليل: واستدلوا بما رواه أبوداود في مراسيله بإسناد صحيح عن مكحول أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ أعطى الفرس العربي سهمين والهجين سهما (1) . وله شاهد مرسل من حديث خالد بن معدان في مراسيل أبي دواد (2) وله شاهد عن ابن عباس كما في المجمع. وعليه فالحديث حسن إن شاء الله تعالى. وبه يترجح ما قال الحنابلة لأن الفرس العربي أقوى وأعظم نكاية في العدو من الفرس الهجين. القول الثالث: وهو رواية عن الإمام أحمد: أن الفرس الهجين إذا عمل بعمل الفرس العربي فإن له سهمين وهذا قول قوي ظاهر لأن الشريعة لا تفرق بين المتماثلات. إذن الفرس الهجين له سهم، لكن إن عمل كما يعمل الفرس العربي وكان فيه نكاية ظاهرة في العدو فإن له سهمين لأن الشريعة لا تفرق بين المتماثلات. ـ هذا إذا كان الفرس قادرا على القتال قويا. أما إذا كان مريضا فإنه لا سهم له لأن السهم إنما أعطي لنكايته في العدو أما إن كان مجرد مركوب ولا نكاية له في العدو فإنه لا فرق بينه وبين الجمل فحينئذ لا يسهم له شيء. * فرع:

_ (1) ـ (مراسيل أبي داود: ص 227) 287 حدثنا أحمد بن حنبل أن عبد الرحمن بن مهدي وحماد بن خالد وزيد بن الحباب حدثوهم المعنى عن معاوية بن صالح عن أبي بشر عن مكحول أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ هجن الهجين يوم خيبر وعرب العربي للعربي سهماه وللهجين سهم) ط. مؤسسة الرسالة. تحقيق شعيب الأرنؤوط. ونقل عن العجلي توثيقه لأبي بشر التابعي.وذكرأن الشافعي رواه في الأم والبيهقي. (2) ـ (مراسيل أبي داود: ص 226) 286 حدثنا أحمد بن حنبل حدثنا وكيع حدثنا محمد بن عبد الله الشعيثي عن خالد بن معدان قال: (أسهم رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ للعربي سهمين وللهجين سهما) قال المحقق: الشعيثي: صدوق وباقي رجاله رجال الشيخين.

… في ما يُسهم للفرسين فأكثر. إذا شارك بأكثر من فرس فهل يسهم لهما؟ فيها قولان: القول الأول: قالت الحنابلة: إن كان له فرسان فله أربعة أسهم. الدليل: ما رواه سعيد بن منصور أن عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ كتب إلى أبي عبيدة ـ رضي الله عنه ـ أنه اقسم للفرس سهمين وللفرسين أربعة أسهم وللرجل سهما. لكن الأثر منقطع. القول الآخر: قال الجمهور: بل ليس له إلا سهمان لفرس منهما.فليس له إلا نصيب فرس واحد الدليل: قالوا: لأن الفرس الثاني لا يعدو إلا أن يكون نائيا عن الفرس الأول قائما مقامه ... ... فعلى ذلك لا يكون له إلا سهم فرس واحد. وهذا هو القول الراجح. * أما إذا كان معه ثلاثة أفرس أو أربعة فاتفق العلماء على أنه لايأخذ على الثالث ولا على الرابع وغنما الخلاف في الأخذ على الثاني. * قال المؤلف ـ رحمه الله تعالى: [ويشارك الجيشُ سراياه في ما غنمت ويشاركونه فيما غنم] . فالجيش المنطلق من بلاد الإسلام إلى بلاد الأعداء تخرج منه سرايا فتغنم فله نصيبه من هذه المغانم فهو يشاركها وهي أيضا تشاركه.فقد تخرج بعض السرايا فيما ينال الجيش غنيمة دونها فلها نصيبها من هذه الغنيمة. الدليل: 1 ـ ما تقدم من أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ كان ينفل الربع بعد الخمس والثلث بعده للسرايا وهي غنيمة لها دون الجيش ومع ذلك فإن الجيش يشاركها، فإن الثلث أو الربع يخرج بعد الخمس والباقي يشترك فيه بقية الجيش فأشركهم النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ أشرك الجيش بما تناله السرية وكذلك العكس. ـ ولأن مقصدهم واحد وكلهم قد خرجوا لقتال العدو وهذا ربما أرسل في سرية وهذا بقي في الجيش للمصلحة العامة فحينئذ تشتركون في الغنيمة جمعيا. مسائل الغلول * قال المؤلف ـ رحمه الله تعالى: [والغالّ من الغنيمة يُحرّق رحله كله إلا السلاح] الغالّ: هو الكاتم شيئا من المغنم على وجه لا يحل له.

الغلول من كبائر الذنوب. للأدلة التالية: 1 ـ قال تعالى: [ومن يغلل يأت بما غل يوم القيامة] 2 ـ وفي الصحيحن (1) عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو ـ رضي الله عنهما ـ قَالَ: (كَانَ عَلَى ثَقَلِ النَّبِيِّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ رَجُلٌ يُقَالُ لَهُ كِرْكِرَةُ فَمَاتَ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ:} هُوَ فِي النَّارِ {فَذَهَبُوا يَنْظُرُونَ إِلَيْهِ فَوَجَدُوا عَبَاءَةً قَدْ غَلَّهَا) (2) . 3 ـ وثبت في مسند الإمام أحمد وسنن النسائي ـ بإسناد صحيح ـ في حديث عبادة ـ رضي الله عنه ـ أن الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال:} .. فَأَدُّوا الْخَيْطَ وَالْمَخِيطَ وَأَكْبَرَ مِنْ ذَلِكَ وَأَصْغَرَ وَلَا تَغُلُّوا فَإِنَّ الْغُلُولَ نَارٌ وَعَارٌ عَلَى أَصْحَابِهِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ { (3) . * مسألة: ما يُفعل بمال الغالّ. القول الأول:

_ (1) ـ لم يرو مسلم قصة كركرة من طريق ابن عمرو بن العاص رضي الله عنه. وإنما ذكر قصة مثيلة لها واحتمل الحافظ في الفتح أن تكون قصة البخاري مفسرة لما ذكره مسلم (م: 114) عن عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ قَالَ لَمَّا كَانَ يَوْمُ خَيْبَرَ أَقْبَلَ نَفَرٌ مِنْ صَحَابَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالُوا فُلَانٌ شَهِيدٌ فُلَانٌ شَهِيدٌ حَتَّى مَرُّوا عَلَى رَجُلٍ فَقَالُوا فُلَانٌ شَهِيدٌ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَلَّا إِنِّي رَأَيْتُهُ فِي النَّارِ فِي بُرْدَةٍ غَلَّهَا أَوْ عَبَاءَةٍ. (2) ـ (فتح: 3074) ك: الجهاد والسير. ب: القليل من الغلول.هي غير قصة صاحب الشملة كما قرر ذلك الحافظ (فتح: 4234) . (3) ـ (حم: 21641، ن: 3628، جه: 2840) .

وهنا قال المؤلف: (يحرق رحله كله) أي ما على راحلته من أثاث من أوان وزاد وسرج وغير ذلك ويستنثى من ذلك الحيوان وماله روح.ويستثنى كذلك المصحف وكتب العلم وكذلك الأسلحة هذا هو المشهور عند الحنابلة. الأدلة: 1 ـ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ:} إِذَا وَجَدْتُمْ الرَّجُلَ قَدْ غَلَّ فَأَحْرِقُوا مَتَاعَهُ وَاضْرِبُوهُ {قَالَ: فَوَجَدْنَا فِي مَتَاعِهِ مُصْحَفًا فَسَأَلَ سَالِمًا عَنْهُ فَقَالَ بِعْهُ وَتَصَدَّقْ بِثَمَنِهِ) (1) . والحديث فيه: صالح بن محمد بن زائدة وهو منكر الحديث، وقد ضعف الحديث البخاري والترمذي والدارقطني وغيرهم من أهل العلم. 2ـ وروى أبوداود في سننه: (..قَالَ حَدَّثَنَا الْوَلِيدُ بْنُ مُسْلِمٍ قَالَ حَدَّثَنَا زُهَيْرُ بْنُ مُحَمَّدٍ عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ حَرَّقُوا مَتَاعَ الْغَالِّ وَضَرَبُوهُ. قَالَ أَبُو دَاوُد وَزَادَ فِيهِ عَلِيُّ بْنُ بَحْرٍ عَنْ الْوَلِيدِ وَلَمْ أَسْمَعْهُ مِنْهُ وَمَنَعُوهُ سَهْمَهُ) (2) والحديث: ضعيف أيضا فإنه فيه الوليد بن مسلم وهو شامي عن زهير بن محمد، ورواية الشاميين عن زهير بن محمد ضعيفة. والصحيح أنه من قول عمرو بن شعيب فهو مقطوع عليه، كما رجّح ذلك غير واحد من الأئمة فلا يصح شاهدا للحديث الأول. القول الثاني: وذهب جمهور العلماء إلى أن الإمام ليس له أن يحرق رحله.

_ (1) ـ (د: 2338) ك: الجهاد. ب: في عقوبة الغال. (ت: 1381، مي: 2379) . (2) ـ (د: 2340) ك: الجهاد. ب: في عقوبة الغال.

الدليل: ما رواه أبوداود في سننه ـ بإسناد حسن ـ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو قَالَ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا أَصَابَ غَنِيمَةً أَمَرَ بِلَالًا فَنَادَى فِي النَّاسِ فَيَجِيئُونَ بِغَنَائِمِهِمْ فَيَخْمُسُهُ وَيُقَسِّمُهُ فَجَاءَ رَجُلٌ بَعْدَ ذَلِكَ بِزِمَامٍ مِنْ شَعَرٍ فَقَالَ: (يَا رَسُولَ اللَّهِ هَذَا فِيمَا كُنَّا أَصَبْنَاهُ مِنْ الْغَنِيمَةِ) فَقَالَ:} أَسَمِعْتَ بِلَالًا يُنَادِي ثَلَاثًا؟ {قَالَ نَعَمْ قَالَ:} فَمَا مَنَعَكَ أَنْ تَجِيءَ بِهِ؟ {فَاعْتَذَرَ إِلَيْهِ فَقَالَ:} كُنْ أَنْتَ تَجِيءُ بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَلَنْ أَقْبَلَهُ عَنْكَ { (1) قالوا: فهنا الرجل لم يحرق متاعه. قالوا: ولم يصح في تحريق المتاع حديث كما قرر ذلك الإمام البخاري رحمة الله عليه. القول الثالث: واختار شيخ الإسلام ابن تيمية ـ رحمه الله تعالى ـ وتلميذه ابن القيم: أن تحريق المتاع جائز من باب التعزير لا من باب الحد. أي أنه للإمام أن يعزر بذلك وله أن يعزر بشيء آخر كضربه أو تأنيبه أو غير ذلك كما أنّب النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ الرجل في القصة المتقدمة.

_ (1) ـ (د: 2337) ك: الجهاد. ب:في الغلول إذا كان يسيرا يتركه الإمام ولا يحرق. ورواه (حم: 6701) وفي آخره: إني لن أقبله حتى تكون أنت الذي توافيني به يوم القيامة.

وهذا مبني على القول الراجح في مسألة جواز التعزير بالمال. كما تقدم في قوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ عَنْ بَهْزِ بْنِ حَكِيمٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ ـ في زكاة السائمة ـ:} وَمَنْ مَنَعَهَا فَإِنَّا آخِذُوهَا وَشَطْرَ مَالِهِ عَزْمَةً مِنْ عَزَمَاتِ رَبِّنَا عَزَّ وَجَلَّ لَيْسَ لِآلِ مُحَمَّدٍ مِنْهَا شَيْءٌ { (1) وغير ذلك من الأدلة الدالة على هذه المسألة وسيأتي الكلام عليها في باب التعزير إن شاء الله تعالى. فالتعزير بالمال جائز وتدخل فيه هذه المسألة فللإمام أن يعزر بتحريق متاعه. فإن قيل: هذا فيه إتلاف للمال وإفساد له فيقال: نعم، لكن لمصلحة راجحة وهي عظم التنكيل وشدة التأنيب فإن في ذلك تنكيلا ظاهرا به. الترجيح: وهذا القول الثالث هو الراجح في هذه المسألة واستظهره صاحب الفروع وصوبه صاحب الإنصاف.فالراجح إذن اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية ـ رحمه الله تعالى ـ وأن تحريق المتاع جائز للإمام إن رأى مصلحة شرعية في ذلك. * مسألة: وهل يمنع من سهم الغنيمة؟ الجواب: لايمنع من سهمه من القسمة كما هو المشهور في مذهب أحمد وغيره. والنبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ لم يصح عنه أنه منع من غلّ من سهمه أو استرده منه. وهو حق مالي ثابت له فلا يمنع منه بمعصية. القول الثاني: وعن الإمام أحمد رواية أخرى أن الإمام يمنعه من سهمه. وهذا القول ظاهر في باب التعزير المالي. فللإمام أن يعزره بأن يمنعه سهمه. وله أن يعطيه سهمه ويعزره بباب آخر من أبواب التعزير. إذن: للإمام أن يمنعه من سهمه تعزيرا له. وهذا داخل في مسألة التعزيز بالمال. * مسألة: في توبة الغال.

_ (1) ـ (د: 1344) .

ـ وقد أجمع أهل العلم على أن الغالّ إن تاب فأراد أن يعيد ما غلّ وكان قبل القسمة والتخميس فإنه يدفعه بيت المال ليخمس ويقسم على الغانمين ليأخذ كل صاحب حق حقه فلبيت المال الخمس وأربعة أخماسه للغانمين. * فرع: أما إن كان ذلك بعد تخميس الغنيمة وتقسيمها: ففيه قولان: القول الأول: قال الحنابلة: يدفع إلى بيت المال الخمس. ويتصدق بأربعة أخماسه عن الغانمين. وذلك لأنه حق لا يمكن أن يعطى صاحبه فقد أخذ الغزاة نصيبهم ولا يمكن أن يقسم عليهم هذا الباقي بعد الخمس فحينئذ يكون كالمال الذي لا يهدى إلى صاحبه فيتصدق عنه به. القول الثاني: قال الشافعية وهو اختيار الآجرّي من الحنابلة وصوبه صاحب الإنصاف: أنه يدفع كله إلى بيت المال أي كل ما غُلّ يدفعه إلى بيت المال. الترجيح: والقول الثاني أظهر بناء على المسألة السابقة التي تقدم ذكرها وهي أن الغنيمة لا تملك إلا بعد قسمتها. فالغنيمة حق لبيت المال وملك له حتى تقسم بين الغانمين وهنا لم تقسم الغنيمة التي وقع عليها الغلول فحينئذٍ تكون في بيت المال. هذا هو الأظهر وعليه فيرد ما غلّ إلى بيت المال مطلقا سواء كان ذلك قبل أن تخمس الغنيمة وتقسم أو كان ذلك بعد تخميسها وتقسيمها. الأراضي المفتوحة (المغنومة) الأراضي المفتوحة قسمان: ـ الأول: ما فتح عنوة.الثاني: ما فتح صُلحا. والكلام الآن عن: القسم الأول: ـ وهي ما فتح عنوة. * قال المؤلف ـ رحمه الله تعالى: [وإذا غنموا أرضا فتحوها بالسيف خُيّر الإمام بين: قسمها، ووقفها على المسلمين] . إذا افتتح المسلمون قرية بالسيف ـ أي بالقتال ـ فإن الإمام مخير بين أن يقسم هذه الأرض بين الغانمين وبين أن يوقفها على المسلمين. هذا هو القول الأول وهو المشهور في مذهب أحمد وأبي حنيفة. الدليل:

1 ـ ما ثبت في سنن أبي داود ـ بإسناد صحيح ـ: (عَنْ رِجَالٍ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا ظَهَرَ عَلَى خَيْبَرَ قَسَمَهَا عَلَى سِتَّةٍ وَثَلَاثِينَ سَهْمًا جَمَعَ كُلُّ سَهْمٍ مِائَةَ سَهْمٍ فَكَانَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلِلْمُسْلِمِينَ النِّصْفُ مِنْ ذَلِكَ وَعَزَلَ النِّصْفَ الْبَاقِيَ لِمَنْ نَزَلَ بِهِ مِنْ الْوُفُودِ وَالْأُمُورِ وَنَوَائِبِ النَّاسِ) (1) فهذا النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ لم يجعل أربعة أخماسها للغانمين، بل جعل النصف للغانمين، وجعل النصف الآخر للمصالح. 2ـ عُمَرُ ـ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ـ: (لَوْلَا آخِرُ الْمُسْلِمِينَ مَا فَتَحْتُ قَرْيَةً إِلَّا قَسَمْتُهَا بَيْنَ أَهْلِهَا كَمَا قَسَمَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَيْبَرَ) (2) فعمر ـ رضي الله عنه ـ قد أوقف مصر والشام والعراق لمّا فتحت في عهده ـ رضي الله عنه ـ لمصلحة آخر المسلمين ولم يقسمها على الفاتحين. ولم يعلم له مخالف فكان إجماعا. 3 ـ قالوا: فهذه الأدلة السابقة تبين آية الأنفال وتخصصها، تبين أن المراد بالغنائم فيها ماسوى الأرض من الأموال المنقولة كالذهب والفضة والمواشي والثياب وغير ذلك فيه التي تقسم بين الغانمين. وأما الأرض فللإمام في ذلك الخيرة. 4 ـ ومما يدل على أن المراد بالغنائم في الآية ما عدا الأرض أن هذه الأمة قد اختصت بإباحة الغنائم لها، كما في الصحيحين من قوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ:} وأحلت لي الغنائم ولم تحل لأحد من قبلي {.

_ (1) ـ (د: 2617) ك: الخراج والإمارة والفيء. ب: ماجاء في حكم أرض خيبر. (حم: 15821) . (2) ـ (فتح: 1325) ك: فرض الخمس. ب: الغنيمة لمن شهد الوقعة.

قالوا: والأرض أحلت لمن قبله كما في قوله تعالى: [وأورثنا القوم الذين كانوا يستضعفون مشارق الأرض ومغاربها التي باركنا فيها] فكانوا يرثون الأرض ويغنمونها. فدل على أن المراد بالغنائم في الآية ما سوى الأرض من المنقول كالذهب والفضة والماشية وغيرها. القول الثاني: وذهب المالكية والشافعية إلى أن مجراها مجرى القسمة أي فتخمس وأربعة أخماسها للفاتحين فليس للإمام أن يوقفها كلها بل له الخمس وأما أربعة أخماسها فإنه يقسم في الغانمين الدليل: قوله تعالى: [واعلموا أنما غنمتم من شيء فأن لله خمسه وللرسول. قالوا: والأرض غنيمة فيخمسها الإمام وأما أربعة أخماسها فإنه يقسمها على الغانمين. الترجيح: والقول الأول وهو ما ذهب إليه الحنابلة والأحناف هو الراجح لقوة دليلهم ولما أوردوه في الرد على ما استدل به المالكية والشافعية وبه صحت سنة رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ وسنة أمير المؤمنين عمر ـ رضي الله عنه ـ. * قال المؤلف ـ رحمه الله تعالى: [ويضرب عليها خراجا مستمرا يؤخذ ممن هي بيده] . هذه هي المصلحة: وهي أن الأرض التي قد أوقفت يضرب الإمام عليها خراجا. وهو مال يدفع سنويا ممن الأرض تحت يده. فيدفعه إلى الإمام. والإمام يصرفه في مصالح المسلمين. قوله: (ممن هي في يده) سواء كان مسلما أم ذمّيّا فيؤخذ هذا الخراج كأجرة على من هي بيده. * قال المؤلف ـ رحمه الله تعالى: [والمرجع في الخراج والجزية إلى اجتهاد الإمام] .

فالإمام يجتهد ويحدد قدر الخراج فيحدده بما هو اصلح باجتهاده بالنظر إلى أحوال الناس وبالنظر إلى الأرض في كونها ذات جصّ قوي أو جصّ ضعيف وباختلاف الأزمنة من زمن لآخر فيقدر الإمام ما يراه مناسبا. لأن الشارع لم يرد فيه تحديد فيرجع إليه فيه فالمرجع في ذلك إلى الإمام فيحدد باجتهاده فيما وأصلح كالجزية تماما.هذا في أصح الروايتين عن الإمام أحمد رحمة الله عليه كما سيأتي إن شاء الله تعالى. كل هذا فيما لو فتحت الأرض عنوة وقهرا. القسم الثاني: وهي ما فتح صُلحا: ـ أما إذا فتحت الأرض صلحا فلا تخلو من حالتين: الحالة الأولى: أن يصالح الكفار المسلمين على أن تكون الأرض لهم أي للكفار. فحينئذٍ تكون الأرض للكفار ويدفعون خراجها للمسلمين. الحالة الثانية: أن يصالح المسلمون الكفار على أن تكون الأرض للمسلمين، ويشتغل بها الكفار ويدفعون خراجها للمسلمين. فهذه الحالة لها حكم المسألة السابقة أي الحالة الأولى من جهة أن الأرض تبقى بأيديهم ويعملون بها ويدفعون خراجها لبيت مال المسلمين ولم بيعها إلى مسلم أو ذمي ويبقى الخراج ثابتا عليها. أما الحالة الأولى: فحينئذٍ إذا أسلم الكفار أو أسلم بعضهم سقط الخراج عمن أسلم وبقيت الأرض ملكا له لا خراج فيها. فإذا صالح المسلمون الكفار على أن تكون الأرض للكفار فإذا أسلموا أوأسلم بعضهم فإن الخراج يسقط وذلك لعدم ملكية الأرض للمسلمين أولا. ولأن الخراج كالجزية يسقط بالإسلام: فكما أن الجزية تسقط عن الكافر إذا أسلم فكذلك الخراج يسقط عنه فتبقى الأرض على ملكيتها ويسقط عنه الخراج. * قال المؤلف ـ رحمه الله تعالى: [ومن عجز عن عمارة أرضه أجبر على إجارتها أو رُفع يده عنها] . رجل له أرض خراجية ولم يعمرها بزرع أو شجر فإنه يجبر على إجارتها أو رفع يده عنها.

أي: إما أن يعمّرها وإما أن يؤجرها، وإما أن نرفع يده عنها أي يتركها تقع في يد الأسبق إليها. وذلك لأن في تركها عاطلة تفويتا لحق بيت المال بالخراج. * قال المؤلف ـ رحمه الله تعالى: [ويجري فيها الميراث] . بمعنى أنها تورث لأنها حق فتورث كسائر الحقوق فإذا مات الرجل ورثها أقاربه كسائر ماله لأنها حق له فبموته يجري فيها الإرث. بابٌ: الفَيْء الخلاصة: [وما أخذ من مال المشرك بغير قتال كجزية وخراج وعشرٍ ما تركوه فزعا وخمس خمس الغنيمة ففيء يصرف في مصالح المسلمين] . * قال المؤلف ـ رحمه الله تعالى: [وما أخذ من مال المشرك بغير قتال كجزية وخراج وعشرٍ] . العشر: هو مايضرب على تجارة الكفار إذا أدخلوا تجارتهم إلى البلاد الإسلامية. وعلى الذميين نصف العشر. وعلى الحربيين الذين يدخلون بأمان إلى البلاد الإسلامية ليتجروا فيها أو يدخلوا تجارتهم فيها عليهم العشر. * قال المؤلف ـ رحمه الله تعالى: [وما تركوه فزعا] . أي لم يقع قتال بين المسلمين والكفار وقد ترك هؤلاء الكفار أموالهم من غير قتال. قال تعالى: [ما أفاء الله على رسوله منهم فما أوجفتم عليه من خيل ولا ركاب] فهذا يُعتبر فيئا لا يقسم بين الغانمين فليس له حكم القسمة. * قال المؤلف ـ رحمه الله تعالى: [وخمس خمس الغنيمة] . تقدم الكلام في هذا عند الكلام على خمس خمس الغنيمة وأنه يكون في يد الإمام يصرفه في مصالح المسلمين. وتقدم ترجيح قول الإمام مالك وأن الخمس كله فيء لمصالح المسلمين إلا ما يحتاج إليه ذوو القربى. * قال المؤلف ـ رحمه الله تعالى: [ففيء يصرف في مصالح المسلمين] .

إذن: الجزية والخراج والعشور وما يؤخذ من الكفار بغير قتال وخمس خمس الغنيمة كل هذا فيء يصرف في مصالح المسلمين. فمنه رزق الإمام والقضاء والأمراء والمدرسين وغيرهم وكذا بناء المساجد وإصلاح الطرق وبناء القناطر وغير ذلك من مصالح المسلمين وإغناء الفقراء وغيرها من المصالح والحاجيات للمسلمين. إذن: الفيء يصرفه الإمام في مصالح المسلمين. وهذا في كل مايدخل بيت المال حتى التجارات والمكاسب التي يكتسبها بيت المال ومن ذلك ما في هذه الأزمان من بترول ومعادن وغير ذلك مما يستخرج من الأرض هذا كله فيء يصرف في المصالح الإسلامية. الأدلة: 1 ـ قال عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ كما في سنن البيهقي ـ بإسناد صحيح ـ: (كل المسلمين لهم حق في الفيء) وقال: (لم يبق أحد إلا له حق في هذا المال إلا ما ملكت أيمانكم من أرقائكم فإن عشت إن شاء الله تعالى لم أُبق أحدا من المسلمين إلا سيأتيه حقه حتى الراعي يأتيه حقه منها ولم يعرق فيها جبينه) (1) والأثر إسناده صحيح. 2 ـ وفي سنن أبي داود عَنْ عَوْفِ بْنِ مَالِكٍ ـ رضي الله عنه ـ (أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ إِذَا أَتَاهُ الْفَيْءُ قَسَمَهُ فِي يَوْمِهِ فَأَعْطَى الْآهِلَ حَظَّيْنِ وَأَعْطَى الْعَزَبَ حَظًّا) (2) * ويبدأ بالأهم فالمهم، فيبدأ مثلا بأرزاق القضاة والأمراء والمقاتلة فهذا أولى من البدء بالغني الذي لا حاجة له في المال. وما يبقى فيصرفه في مصالح المسلمين فهو حق لهم يقسمه بين المسلمين غنيهم وفقيرهم من الأحرار. باب عقد الذمة وأحكامه.. الذمة لغة واصطلاحا: الذمة: لغة، العهد. وفي الاصطلاح: عقد يقيمه الإمام، يقر به الكفار على كفرهم مع إعطائهم الجزية أو التزامهم بأحكام الشريعة في الجملة.

_ (1) ـ (هق: 6 / 351) . (2) ـ (د: 2564) ك: الخراج والإمارة والفيء. ب: قسم الفيء. ورواه (حم: 22878، 22861) .

وقوله (يقر به الكفار على كفرهم) أي في حكم الدنيا وإلا فإنهم لا يُقرون عليه في حكم الآخرة. فالمعقود عليه هو الذمي. جماعتهم: الذميون. هذا هو عقد الذمة. * قال المؤلف ـ رحمه الله تعالى: [ولا يعقد لغير المجوس وأهل الكتابين ومن تبعهم] . فلا يجوز هذا العقد إلا لصنفين من الناس. 1 ـ الصنف الأول: أهل الكتاب وهم اليهود والنصارى. 2 ـ الصنف الثاني: وهم المجوس. أما صنف الكتابين: فدليله قوله تعالى: [قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله ولا يدينون دين الحق من الذين أوتوا الكتاب حتى يُعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون] فهذا في الجزية على أهل الكتاب. وأما المجوس: فقد ثبت في البخاري من حديث عبد الرحمن بن عوف ـ رضي الله عنه ـ أن النبي صلى الله عليه وسلم أخذها ـ الجزية ـ من مجوس هجر (1) . هذا هو المشهور من مذهب أحمد والشافعي وأن الجزية لا تؤخذ إلا من أهل الكتاب والمجوس ومن تبعهم أي من تبعهم على دينهم. وإن لم يكن أصلا منهم. ذلك لأن اليهود والنصارى من بني إسرائيل فمن تبعهم من العرب والإفرنج أو غيرهم له هذا الحكم وكذلك ديانة المجوس فإنها في الأصل في الفرس ممن كانوا مجوسا من غير الفرس كبعض مجوسية العرب أو غيرهم فإن الجزية تؤخذ منه ولا تؤخذ الجزية ـ في هذين المذهبين ـ من غير هذه الأصناف فهي خاصة في اليهود والنصارى والمجوس. لأن الله تعالى قال: [من الذين أوتوا الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون] وقد أمرنا بقتال الكفار، قال تعالى: [وقاتلوا المشركين كافة] وقال: [وقاتلوهم حتى لاتكون فتنة] وليس في ذلك ذكر للجزية. قالوا: وأما المجوس فقد ثبت الدليل بأخذ الجزية منهم ماثبت في البخاري وتقدم. قالوا: وإنما فرق بين المجوس وعبدة الأصنام أن لهم كتابا فرفع.

_ (1) ـ (فتح 2923) ك: الجزية. ب: الجزية والموادعة مع أهل الحرب.

روي ذلك عن علي بن أبي طالب كما في مصنف عبد الرزاق (1) غير أن السند لا يصح كما قرر هذا ابن القيم وغيره. قالوا: فإذا ثبت أن لهم كتابا فرفع فإن فيهم شبهة أهل الكتاب. وعليه: فإن الجزية تؤخذ منهم. القول الثاني: وقال الأحناف والمالكية: تؤخذ الجزية من الكفار عامة، فكل الكفار مخيرون بين ثلاثة خصال:إما الإسلام وإما الجزية وإما القتال. 1 ـ واستدلوا بحديث بريدة الثابت في صحيح مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له:} فإذا لقيت عدوك من المشركين فادعهم إلى ثلاث خصال {: وفيه:} فإن أبوا فاسألهم الجزية فإن هم أجابوا فاقبل منهم {فهنا قد ثبت الحكم على وجه العموم. فإنه قال:} فإن لقيت عدوك من المشركين {قالوا: هذا الحديث عام في كل كافر. 2ـ قالوا: ولأن النبي صلى الله عليه وسلم قد أخذها من المجوس وهم عبد النار ولا كتاب لهم. أما ما روي عن علي فإنه لا يصح. ولو صح فإن العبرة بالحال. فإنهم في الحال لا كتاب لهم وهؤلاء عبدة الأصنام من العرب ومن قريش وغيرهم كانوا أتباعا لإبراهيم عليه السلام ومع ذلك فأنتم لم تروا الجزية عليهم مع أنهم لهم رسول وقد اتبعوه واتبعوا ما معه من صحف ومع ذلك قد أخذها الرسول صلى الله عليه وسلم من المجوس ولا فرق بينهم وبين عبدة الأصنام من العرب أو العجم. قالوا: وأما قوله تعالى: [من الذين أوتوا الكتاب حتى يعطوا الجزية] فإن هذا قيد لبيان الواقع فإن النبي صلى الله عليه وسلم قد نزلت عليه هذه الآية وقد فتح الله عليه بلاد العرب وذلك بعد أن أذل الله له عبدة الأصنام وأمر بقتال أهل الكتاب من اليهود والنصارى فهذا القيد لبيان الواقع حين شرعته الجزية. الترجيح:

_ (1) ـ (عب: 6 / 70) ط. المكتب الإسلامي. تحقيق: الأعظمي.

وهذا هو القول الراجح وهو اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية ـ رحمه الله تعالى ـ وتلميذه ابن القيم فكل ملة من الملل تخير بين ثلاث خصال:الإسلام فإن أبوا فالجزية فإن أبوها فالقتال لعموم حديث بريدة المتقدم. * قال المؤلف ـ رحمه الله تعالى: [ولا يعقدها إلا الإمام أو نائبه] . لا يعقد هذا العقد بين المسلمين والكفار إلا الإمام الأعظم أو نائبه أو أحد قواد جيشه ممن خول لهم الإمام ذلك. وذلك لأن عقد الذمّة من الأمور العامة الموكولة للإمام فلا يجوز الافتيات عليه بعقدها دونه وهذا ظاهر. وعليه فلا يجوز ولا يصح أن يعقده إلا الإمام أو نائبه أو من خوله الإمام من قواد الجيش. وقد ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا بعث أميرا على جيش أو سرية.. الحديث وفيه:} فإن أبوا فاسألهم الجزية فإن هم أطاعوا فاقبل منهم {فدل على أنّ قائد الجيش يجوز يجوز له أن يعقد هذا العقد دون الإمام إن أذن له الإمام بذلك. * قال المؤلف ـ رحمه الله تعالى: [ولا جزية على صبي ولا امرأة] الجزية لغة: … مأخوذة من الجزاء؛ لأنها جزاء للكافر وجزاء للمسلم؛ جزاء للكافر على كفره فهي عقوبة على الكفر، وجزاء للمسلم على حفظه دم الكافر وصيانة ماله أي ثواب فهي ثواب للمسلم وأجرة على ما يقوم به من حفظ دم الكافر وماله. وهي جزاء على الكافر أي عقوبة له على كفره فإنها إنما تضرب عليه إذا امتنع عن الإسلام. الجزية شرعا: … مال يؤخذ من الكافر على جهة الصغار عليه بسبب عقد الذمة. وقد تقدم تعريف عقد الذمة. * أما الصبي فلقوله صلى الله عليه وسلم لمعاذ فيما رواه الخمسة بإسناد صحيح وقيد ذكره في باب (زكاة البقر) ومنه:} ومن كل حالم دينارا أو عدله معافريا { (1) أي من كل بالغ، فهذا يدل على أن غير الحالم وهو الصبي لا تؤخذ منه الجزية.

_ (1) ـ (ت: 566، ن: 2407،د:1345، حم: 21112)

وأما المرأة فلما ثبت في البيهقي ـ بإسناد صحيح ـ أن عمر بن الخطاب كتب إلى أمراء الأجناد أن يأخذوا الجزية وألا يأخذوها من النساء والصبيان (1) . وهكذا كل من لا يقاتل المسلمين من الرهبان المعتزلين في صوامعهم لعبادتهم الذين ليس لهم رأي ولا مكيدة في الحرب. وذلك لأن الجزية لصيانة الدم من أن يهدد فإنه يخير بين الإسلام وبين الجزية وبين القتل ومعلوم أن هؤلاء لا يقتلون وعليه فلا تؤخذ منهم الجزية. * قال المؤلف ـ رحمه الله تعالى: [ولا عبد] . لأنه مال كسائر مال سيده فكما أن الكافر لايؤخذ منه على مسكنه وعلى تجارته الجزية، فكذلك لا يؤخذ من رقيقه. ولأن العبد لا مال له فلا تؤخذ من العبد وإن كان سيده كافرا. قد حكى ابن المنذر الإجماع على هذا. ولكن هنا رواية عن الإمام أحمد: أن الجزية تؤخذ من العبد واستدل: بما روى البيهقي في سننه أن عمر بن الخطاب قال: (لا تشتروا رقيق أهل الكتاب فإن عليهم خراجا) (2) لكن السند فيه سفيان العقيلي لم يوثقه سوى ابن حبان. والمشهور عن الإمام أحمد أن العبد لا تؤخذ منه الجزية وهو الراجح. لأنه مال فأشبه سائر مال سيده ولأن العبد لا يجب عليه واجب مالي لأنه لا مال له. * قال المؤلف ـ رحمه الله تعالى: [ولا فقير يعجز عنها] . فالفقير الذي يعجز عن دفع الجزية لا تؤخذ منه قال تعالى: [لا يكف الله نفسا إلا وسعها] وهذا هو مذهب جمهور العلماء للأمة المتقدمة. إذن: تؤخذ الجزية من المكلف الذكر الحر الذي هو من أهل القتال. فأما غير المكلف وهو الصبي والمجنون وغير الحر وهو العبد، وغير الذكر وهي الأنثى ومن ليس من أهل القتال كالأعمى والزمن والراهب المعتزل في صومعته فهؤلاء لا تؤخذ منهم الجزية لأنهم غير مقاتلين، والجزية إنما شرعت لصيانة دمهم. ودمهم مصون في الأصل فلم تجب عليهم الجزية بعد ذلك.

_ (1) ـ (هق: 9 / 198) (2) ـ (هق: 9 / 140)

* قال المؤلف ـ رحمه الله تعالى: [ومن صار أهلا أخذت منه في آخر الحول] . أي بالحساب. صورة هذا: بلغ الصبي في نصف السنة فإنها تؤخذ منه الجزية في آخر الحول بالحساب فلا يؤخذ منه حينئذ إلا نصف الجزية. وذلك لئلا يفرد وحده فيشق. فكوننا ننظر حتى يحول الحول على بلوغه ثم يعطي الجزية منفردا هذا فيه مشقة وذريعة لفوات ذلك إما بإهمال أو نسيان أو غير ذلك. بخلاف ماإذا كان لها وقت واحد تجمع فيه من سائر الكفار فإن هذا مظنة لحصولها وعدم فواتها. ومن أسلم منهم فإنها تسقط عنه. ولو كان ذلك بعد الحول فلو أن رجلا أسلم أثناء الحول أو بعد مضي الحول وما بقي إلا أن يدفعها لعاملها فإنها تسقط عنه. وذلك لأن الجزية تؤخذ مع صغاروالمسلم لا صغار عليه وهي إذلال وعقوبة على الكفر وحيث أسلم فإنه لا يدفعها لأن المسلم لا صغار عليه. ـ ومن مات وقد وجبت عليه فإنها تؤخذ من تركته إذا مضى الحول. فإن لم يتم عليها حول فبحساب ذلك. فتؤخذ من التركة لأنه حق مالي للمسلمين متعلق بالتركة بعد الموت كسائر الحقوق التي تتعلق بالتركة. * قال المؤلف ـ رحمه الله تعالى: [ومتى بذلوا الواجب عليهم وجب قبوله وحرم قتالهم] . فإذا بذلوا الجزية فلا يجوز القتال لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال:} فإنْ هم أجابوا فاقبل منهم {وقد قال تعالى: [حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون] فجعل إعطاءهم الجزية غاية فيحث أعطوا الجزية فلا يجوز أن يقاتلوا. * قال المؤلف ـ رحمه الله تعالى: [ويمتهنون عند أخذها ويطال وقوفهم وتجر أيديهم] . يمتهنون امتهانا بليغا عند أخذها صغارا لهم، فيكون الآخذ جالسا ويكون الدافع قائما مطأطئ الرأس ذليلا. (ويطال وقوفهم) فيقال له: انتظر. ويطال وقوفه كثيرا إذلالا لهم وصغارا. (وتجر أيدهم) أي لا تؤخذ منهم بسهولة بل تجذب يده جذبا شديدا عند أخذ الجزية منه.

قالوا: لقوله تعالى: [حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون] أي أذلاء فلا بد وأن يدفعوها على هيئة يكونون فيها أذلاء. هذا هو المشهور في مذهب الحنابلة. والراجح: خلاف ذلك وأن هذا لا أصل له في كتاب الله ولاسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا في عمل الصحابة فإن هذا لم ينقل عنهم. وإنما الصغار المذكور في الآية هو مجرد إذلالهم بإعطائهم الجزية. وقبولهم التزام الشريعة الإسلامية في الجملة فهذا إذلال ظاهر لهم. ولذا فإن بني تغلب وكانوا من العرب أبوا أن يعطوا الجزية وقالوا: بل ندفعها صدقة ونقول: هي صدقة. فقبل ذلك منهم عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ بشرط أن تكون ضعف صدقة المسلمين (1) .كما ثبت هذا في مصنف بن أبي شيبة وغيره.فاستنكف هؤلاء عن دفع الجزية لأن مجرد دفعها صغار وذلة والتزامهم أيضا بشريعة أخرى لا يدينون بها صغار وذلة وهذا هو الأصح في مذهب الشافعية وقد أنكر هذا القول النووي في روضة الطالبين وبيّن أنه لا أصل له في سنة النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ولا في عمل خلفائه الراشدين ـ رضي الله عنهم ـ. وهو كما قال. الترجيح: فالراجح هو خلاف هذا، وأن الجزية تؤخذ منهم برفق وإحسان والشريعة تأمر بالإحسان وفي ذلك دعوة لهم إلى الإسلام. مبحث: في مقدار الجزية: وفيه أقوال: القول الأول: وهو المشهور عند الشافعية أن الجزية دينار.

_ (1) ـ (خلاصة البدر المنير لابن الملقن: 2/ 356) [2618] أن عمر ـ رضي الله عنه ـ طلب الجزية من نصارى العرب وهم تنوخ وبهرا وبنو تغلب فقالوا نحن عرب لا نؤدي ما يؤدي العجم فخذ منا ما يأخذ بعضكم من بعض يعنون الزكاة فقال عمر هذا فرض الله على المسلمين فقالوا زد ما شئت بهذا الاسم لا باسم الجزية فراضاهم على أن يضعف عليهم الصدقة ذكره الشافعي وقال قد حفظه أهل المغازي وساقوه أحسن سياق. وانظر (نصب الراية: 2 / 362) .

لحديث معاذ ـ رضي الله عنه ـ المتقدم، وفيه أن الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ أمره أن يأخذ من كل حالم دينارا أو عدله معافريا. القول الثاني: وهو للمالكية: على الغني أربعة دنانير وعلى الفقير دينار. واستدلوا بما ثبت في سنن البيهقي (1) ـ بإسناد صحيح ـ أن عمر ـ رضي الله عنه ـ ضرب الجزية: أربعة دنانير أو أربعين درهما ـ وهي عدل الدنانير من الدراهم. القول الثالث: وهو مذهب الأحناف ورواية عن الإمام أحمد أنه يؤخذ منه ألغني ثمانية وأربعين درهما، ومن المتوسط أربعة وعشرين درهما، ومن الفقير اثني عشر درهما. وفي ذلك أثر رواه البيهقي في سننه. القول الرابع: وهو رواية عن الإمام أحمد وهو الصحيح في المذهب ـ كما قال صاحب الإنصاف ـ وهو مذهب الثوري وأبي عبيد القاسم بن سلام: أنها تؤخذ على حسب ما يراه الإمام؛ فمردّ ذلك إلى الإمام. لأن هذه المسألة تختلف باختلاف الأزمان واختلاف الناس غنى وفقرا واختلاف أراضيهم وأحوالهم فكان مرجع ذلك إلى الإمام. ويدل عليه: اختلاف الآثار المتقدمة. ولذا فإنها ضربت على أهل اليمن دينارا وعلى أهل الشام أربعة دنانير.فإن عمر ـ رضي الله عنه ـ ضربها على أهل الشام أربعة دنانير كما في الأثر المتقدم وضربها النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ على أهل اليمن دينارا، ولذا قال مجاهد كما في البخاري لما سئل: (ما بال أهل الشام تؤخذ منهم الجزية أربعة دنانير وأهل اليمن تؤخذ منهم دينارا؟) فقال: (إنما فعل ذلك من أجل اليسار) أي من أجل الغنى. فلما اختلفوا في الغنى اختلفوا في الجزية. وهذا يدل على أنه ليس هناك مقدار ثابت بل يختلف باختلاف الناس غنا وفقرا وباختلاف أحوالهم وأماكنهم وهذا القول هو الراجح. * مسألة: عقد الذمة عقد باق لا يجوز تغييره. هذا هو المشهور في المذاهب.

_ (1) ـ (هق: 9 / 195) .

وهناك قول آخر اختاره شيخ الإسلام ابن تيمية ـ رحمه الله تعالى ـ: وهو أن عقد الذمة يجوز تغييره للمصلحة. وهذا هو الظاهر. فإذا اختلفت المصلحة باختلاف الأزمان فيجوز للإمام أن ينقض هذا العقد معهم ويعلن الحرب ويمهلهم حتى يستعدوا للحرب. وذلك لأن المصلحة قد زالت. * قال المؤلف ـ رحمه الله تعالى: [ويلزم الإمام أخذهم بحكم الإسلام في النفس والمال والعرض] . يلزم الإمام أخذ الذميين بشرائع الإسلام في النفس وفي المال والعرض؛ في النفس كالقتل والجناية على طرف من الأطراف فالسن بالسن والعين بالعين، فمن قتل ذميا من جنسه قتل به، ومن جنى على ذمي من جنسه اقتص له منه وهكذا.. وكذلك في الأموال في حماية الممتلكات فمن أتلف مالا لآخر فإنه يضمنه. وكذلك في العرض في القذف إذا قذف ذمي ذميا آخر بالزنا أو قذف مسلما فإن حكم الله يقام عليه. * قال المؤلف ـ رحمه الله تعالى: [وإقامة الحدود عليهم فيما يعتقدون تحريمه دون ما يعتقدون حله] . تقام عليهم الحدود. 1 ـ وثبت في الصحيحين أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ أتي بيهوديين قد فجرا بعد إحصانهما فرجمهما (1) . 2ـ وفي الصحيحين أن يهوديا رض رأس جارية بين حجرين واعترف فأتي به النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ فأمر أن يرض رأسه بين حجرين (2) . 3 ـ وقد قال الله تعالى: [وأن احكم بينهم بما أنزل الله]

_ (1) ـ (فتح: 6320، م: 3211) . (2) ـ (فتح: 2236) ك: الخصومات.ب: ما يذكر في الأشخاص والخصومة.َ عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ يَهُودِيًّا رَضَّ رَأْسَ جَارِيَةٍ بَيْنَ حَجَرَيْنِ قِيلَ مَنْ فَعَلَ هَذَا بِكِ أَفُلَانٌ أَفُلَانٌ حَتَّى سُمِّيَ الْيَهُودِيُّ فَأَوْمَأَتْ بِرَأْسِهَا فَأُخِذَ الْيَهُودِيُّ فَاعْتَرَفَ فَأَمَرَ بِهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَرُضَّ رَأْسُهُ بَيْنَ حَجَرَيْنِ (م: 3167) .

وقيده المؤلف هنا بما يعتقدون تحريمه كالزنا والسرقة فإن الحدود تقام على الذميين من قبل الحاكم المسلم إن كانوا يعتقدون التحريم، أما إن كانوا يعتقدون حل الخمر ونكاح المحارم فإن الشريعة لا يُحكم بها عليهم، لكن يُمنعون من إظهاره بين المسلمين لما فيه من أذية المسلمين وإظهار المعصية فإن أظهروه فللإمام أن يعزرهم عقوبة لهم على إظهار المعصية في بلاد الإسلام أما مسائلهم التي هي من شؤونهم الخاصة كالأنكحة والطلاق والظهار وغيرها وما ألحق بها من المسائل الأسرية فإنه لا يحكم عليهم بالشريعة الإسلامية إلا أن يتحاكموا إلينا فإن تحاكموا إلينا فللإمام أن يحكم بينهم بما أنزل الله. وله أن يعرض عنهم. قال تعالى: [فإن جاءوك فاحكم بينهم أو أعرض عنهم، وإن تعرض عنهم فلن يضروك شيئا] * قال المؤلف ـ رحمه الله تعالى: [ويلزمهم التميز عن المسلمين] . فيجب أن يتميزوا عن المسلمين بملابسهم ومراكبهم وأسمائهم وكناهم … فلا يكونوا على هيئة تختلطون فيها بالمسلمين اختلاطا لا يميزون به عنهم. وذلك لأن هذا ذريعة إلى أن يعاملوا معاملة المسلمين، ومعاملتهم معاملة المسلمين محرم،بل لهم معاملة تخصهم ولا يمكن أن يعاملوا المعاملة الشرعية التي تخصهم إلا بأن يكونوا متميزين عن المسلمين، وما لايتم الواجب إلا به فهو واجب. ويجب على المسلم أن يعاملهم معاملة الكفار ولا يمكن هذا إلا بأن يكونوا على هيئة يتميزون بها عن المسلمين فوجب أن يميزوا. * قال المؤلف ـ رحمه الله تعالى: [ولهم ركوب غير الخيل بغير سرج بأكاف] . الأكاف: هو كساء يوضع على المركوب. والسرج كذلك لكن السرج فيه زينة. ويركبه أهل الشرف والعلو سواء كان علوا جائزا أم غير جائز. وأما الأكاف فهو مجرد كساء يوضع على الدابة فتركب.

فينهى أهل الذمة عن ركوب الدواب التي فيها علو وشرف فإنها قد تكون طريقا إلى خيلائهم وفخرهم على فقراء المسلمين ولأنها مركوبات علو وشرف، وهم ليسوا بأهل علو وشرف. بل هم أهل ضعة حيث خالفوا شرع الله وقد قال تعالى: [وهم صاغرون] وفي الدارقطني من حديث عائذ بن عمرو والحديث حسن بشواهده أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال:} الإسلام يعلو ولا يعلى عليه { (1) . فينهون عن ركوب الخيل ويؤذن لهم بالجمل والبغل والحمير وغير ذلك من المركوبات وهنا كذلك في هذه الأزمان فالسيارات الفاخرة يمنعون منها وأما ما يركبه أوساط الناس أو دونهم فإن هذا لا حرج عليهم بركوبه. إذن: ينهون عن ركوب الخيل وعن وضع السرج لما فيه من العلو والشرف وقد يكون فيه استطالة على ضعفة المسلمين. * قال المؤلف ـ رحمه الله تعالى: [ولا يجوز تصديرهم في المجالس] . للعلة المتقدمة فإن المجالس إنما يصدر لها أهل العلو في الدنيا أو أهل الديانة والصلاح أما هؤلاء فليسوا كذلك بل هم صاغرون. ولا شك أن تقديرهم وإكرامهم هذا التقدير والإكرام الزائد حيث يوضعون في صدور المجالس يخالف المقصود. وليس المقصود أن يمتهنوا لكن أن يكونوا في وسط الناس فلا يرفعون على الناس في المجالس فيوضعون في أفضلها بل يجلسون كعامة الناس لأن هذا مجلس شرف وعلو وهم ليسوا كذلك بل هم أهل صغار والإسلام يعلو ولا يعلى عليه. * قال المؤلف ـ رحمه الله تعالى: [ولا القيام لهم] . فإذا قدموا فلا يجوز القيام لهم للتحية بل يحيي وهو جالس لما في القيام لهم من الاحتفاء بهم والإكرام لهم وهذا يناقض ما ينبغي أن يكون عليه المسلم من عدم إكرامهم الإكرام الذي يعامل به أهل الشرف والمقام العالي.

_ (1) ـ (قط: 3 / 252، هق:6 / 205، طح: 3 / 257) وحسنه الحافظ في الفتح (3: 220) .

ولذا ورد في الحديث عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ:} لَا تَبْدَءُوا الْيَهُودَ وَلَا النَّصَارَى بِالسَّلَامِ فَإِذَا لَقِيتُمْ أَحَدَهُمْ فِي طَرِيقٍ فَاضْطَرُّوهُ إِلَى أَضْيَقِهِ { (1) . فهذا يدل على أنهم لا يعطون شيئا من الإكرام بل يضيق عليهم الطريق. ويقاس على ذلك هذه المسألة وهي أنه لا يقام لهم وكذلك لايصدّرون في المجالس. * قال المؤلف ـ رحمه الله تعالى: [ولا بداءتهم بالسلام] . فلايبدؤون بالسلام للحديث المتقدم} لاتبدؤوا اليهود والنصارى بالسلام {ولاما يشبه السلام كقوله: (كيف أصبحت؟ وكيف أمسيت؟) وغير ذلك من الألفاظ التي قد تكون في النهي أعظم أثرا من السلام فإن السلام يلقى على الخاص والعام أما مثل هذه الأسئلة فإنها توجه إلى الخاص فالمقصود أنه لايبدؤهم بتحية إنما يبدؤون هم بالتحية للحديث المتقدم فإذا ابتدؤوه بالتحية أجابهم. قال تعالى: [وإذا حييتم بتحية فحيوا بأحسن منها أو ردوها] إلا أن يُخشى أن يكون في سلامهم شيء من التعريض كما كان يقع من اليهود في عهد الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ فإنه يحييهم بما كان يجيب به الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ اليهود فيقول: (وعليكم) . كما ثبت هذا في الصحيحين من حديث عائشة (2) * مسألة: في تهنئة أهل الكتاب: وهل تجوز تهنئتهم بما يجوز أن يهنّأ به المسلمون؟ كمولود أو ربح تجارة..لا بما لايجوز كالتهنئة بأعيادهم فإن التهنئة بها إقرار لهم على باطلهم فهي باطل. لكن إن هنّأهم على أمر جائز في الأصل كتهنئة بمولود أو نحو ذلك أو يعزيهم في مصابهم أو أن يشيع جنائزهم أو يعود مرضاهم، فهل يجوز هذا أولا؟ قولان، هما روايتان، عن الإمام أحمد. الرواية الأولى:

_ (1) ـ (م: 4030) ك: السلام. ب: النهي عن ابتداء أهل الكتاب بالسلام. (2) ـ (فتح: 2718،5565،5570،5786 وم: 4027) .

وهي المشهور في المذهب: أن ذلك لايجوز. الرواية الثانية: أن ذلك يجوز لمن رُجي إسلامه.وهي اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية ـ رحمه الله تعالى ـ وهو الراجح في هذه المسألة لما ثبت في البخاري أن غلاما ليهودي كان يخدم النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ فمرض فأتاه النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ يعوده فقال له:} أسلم {فأسلم (1) . وثبت في الصحيحين أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ عاد أباطالب كما في الحديث المشهور ودعاه إلى الإسلام. فلا بأس من تهنئتهم بالأشياء الجائزة وعيادة مرضاهم إن رجي إسلامهم أي إن كان في ذلك مصلحة للدعوة. وإلا فإنهم يهجرون في معصيتهم. لكن إن ثبتت المصلحة الشرعية في عيادة مريضهم واتباع جنائزهم وغير ذلك فلا بأس به إن رجي إسلامهم. * قال المؤلف ـ رحمه الله تعالى: [ويمنعون من إحداث كنائس وبيع] . بالإجماع، كما قال ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية ـ رحمه الله تعالى ـ.

_ (1) ـ (فتح: 1268) ك: الجنائز.ب: إذا اسلم الصبي فمات هل يصلى عليه. ولفظه: عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ كَانَ غُلَامٌ يَهُودِيٌّ يَخْدُمُ النَّبِيَّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ فَمَرِضَ فَأَتَاهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَعُودُهُ فَقَعَدَ عِنْدَ رَأْسِهِ فَقَالَ لَهُ: " أَسْلِمْ " فَنَظَرَ إِلَى أَبِيهِ وَهُوَ عِنْدَهُ فَقَالَ لَهُ أَطِعْ أَبَا الْقَاسِمِ فَأَسْلَمَ فَخَرَجَ النَّبِيُّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ وَهُوَ يَقُولُ: "الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْقَذَهُ مِنْ النَّارِ".

وذلك لأن إحداث الكنائس والبيع إظهار لشعيرة الكفر ولا يجوز الإقرار على ذلك، فلا يجوز أن يقروا على شعيرة من شعائر الكفر وإحداث الكنائس كذلك. فلايؤذن لهم ببناء كنائس بناء جديدا. لكن إن كانت الأرض لهم كأن يقع صلح بين المسلمين والكفار فتكون الأرض للكفار فإن ذلك لا يمنعون فيه لأن الأرض لهم، إلا أن يشترط ذلك عليهم المسلمون، فإن اشترط عليهم المسلمون ألا يحدثوا كنيسة ولا بيعة فإنهم يجب عليهم أن يلتزموا بذلك وعلى المسلمين منعهم. * قال المؤلف ـ رحمه الله تعالى: [وبناء ما انهدم فيها] . إذا فتح المسلمون بلدا وفيها كنائس فأقرت هذه الكنائس على بناياتها يتعبد هؤلاء بها فإذا حصل فيها انهدام فهل يؤذن لهم ببنايتها من جديد؟ قال المؤلف هنا (يمنعون من اصلاح ما انهدم فيها) وهذا هو المشهور في المذهب. والوجه الثاني أن ذلك جائز وهذا هو الأرجح. لأن تجديد البناء استدامة لاإنشاء والاستدامة جائزة فهذا الكنيسة يجوز أن تبقى مستمرة مادام أنها كانت موجودة أثناء العقد بين المسلمين وبين الذميين , وتجديد بناياتها إذا انهدمت استدامة وليس بإنشاء. وهذا هو مناط المسألة: أن يقال: إذا انهدمت الكنيسة فهل بناؤها إنشاء أو استدامة؟ إن قلت: هو إنشاء، فإنه لا يجوز لهم لأن هذا كبناء كنيسة جديدة. وهذا لايجوز. وإن قلت: هو استدامة ـ وهذا هو الأظهر ـ فإن ذلك جائز لهم، لأن هذا الموضع من الأرض قد أُقر أن يكون كنيسة لهؤلاء الذميين فحيث حصل فيه انهدام فإنه لم يزل موقعا للكنيسة ومعبدا فإذا بني من جديد فلا يعدو الأمر إلا أن يكون استدامة لهذه الكنيسة. * قال المؤلف ـ رحمه الله تعالى: [ولو ظلما] . لو اعتدى بعض المسلمين ـ وهذا أمر لا يجوز ـ فقاموا بهدم كنيسة من كنائس الذميين التي قد أقرها الإمام بالعقد الذي بينه وبين الذميين فإذا هُدمت فلا يجوز أن يبنوها مرة أخرى.

الأَولى أن يقال بجواز ذلك كما قال صاحب الفروع،لأن هذا استطالة عليهم، وإزالة حق لهم بغير وجه شرعي صحيح فلا مانع من إعادة بنائه مرة أخرى. وقد أزيل ظلما لهم. وعلى الترجيح المتقدم وأن بناء الكنيسة بعد انهدامها وإصلاحها استدامة لها لا إنشاء لا إشكال في هذا القول، وأنه سواء كان ظلما أو غير ظلم فإن لهم أن يبنوها من جديد وليس للمسلمين أن يمنعوهم من ذلك، إلا أن يكون هناك شرط بين الإمام وأهل الذمة أن ما انهدم من الكنائس فإنه لا يبنى، فإنهم يمنعون من ذلك لأن الناس على شروطهم فيمنعون أن يبنوا ما انهدم مادام هناك شرط بينهم وبين الإمام. * قال المؤلف ـ رحمه الله تعالى: [ومن تعلية ببناء على مسلم] . لا يجوز أن يقر الذمي على بنيان بيته بحيث يكون فيه علو على بيوت المسلمين للمعنى المتقدم فالإسلام يعلو ولا يعلى عليه ولأن البيوت العالية هي بيوت أهل العلو والشرف وهم ليسوا كذلك فهم أهل ذلة وصغار كما تقدم. بل يمنعون من البيوت العالية مطلقا وإن لم تكن مجاورة لبعض بيوت المسلمين لأنهم بيوت عالية يسكنها أهل الشرف والعلو وهم يمنعون من فعل ما فيه علو وشرف كما تقدم.والإسلام يعلو ولا يعلى عليه. واستثنى الحنابلة فيما إذا اشترى الذمي بيتا من مسلم وفيه علو وارتفاع فإن ذلك جائز وهذا قول ضعيف، ولذا قال ابن القيم ـ رحمة الله عليه ـ: إن هذه المسألة أُدخلت في المذهب غلطا محضا وأنها لاتوافق أصول المذهب ولا فروعه. إذ لافرق بين أن يبني الذمي بيتا عاليا شاهقا يعلو به على المسلمين أو على طائفة منهم وبين أن يشتري هذا البيت من مسلم ثم يسكنه على هذه الهيئة. لا فرق بين المسألتين فإن المفسدة حاصلة منهما جميعا ومثل ذلك الاستئجار فإن استئجار البيوت العالية ممنوع عليهم. * قال المؤلف ـ رحمه الله تعالى: [ولا مساواته له] .

فإذا بنى بيتا يساوي بيت المسلم ولو كان هذا البيت الذي قد بناه بيت عال فلا بأس ما دام أنه على مساواة البيوت التي قد بناه من حوله من المسلمين. الوجه الثاني في المذهب: أن ذلك لا يجوز. وهذا هو الأرجح. وذلك لأن البيت المساوي لبيت المسلم وفيه علو قد حصل له به العلو والشرف، وهو ممنوع عليه وإن كان ذلك مساويا للمسلمين كما يمنعون من ركوب الخيل وإن ركبها المسلمون كما يمنعون من وضع السرج وإن وضعها المسلمون فكذلك يمنعون من البيوت العالية المرتفعة التي إنما يسكنها أهل الشرف والجاه والمنزلة وإن كانت بيوت المسلمين كذلك لأنها بيوت علو وشرف، وهم ليسوا كذلك، وإن كانت أقل مفسدة من البيوت التي هي أعلى من بيوت المسلمين لمنع دخول الاستطالة فيها، فإن الاستطالة ممكنة مادام أن بيوتهم كبيوت المسلمين. فإذن يكونون في مركوبهم وفي مسكنهم على درجة دون درجة أهل العلو والشرف. * قال المؤلف ـ رحمه الله تعالى: [ومن إظاهر خمر وخنزير وناقوس وجهر بكتابهم] . لأن الجهر بالمعصية محرم فإظهارالمعاصي محرم وفيه أذية للمسلمين فيمنعون من إظهار شرب الخمر ومن إظهار أكل الخنزير أو وضع المسالخ له أو نحو ذلك وبيعه بالمحلات ويمنعون مما ذكره من الناقوس في كنائسهم ومن الجهر بقراءة كتبهم ومثل ذلك وضع الدعايات لدينهم وتأليف الكتب في ديانتهم ووضع إذاعات للدعوة إلى دينهم كل هذا يمنعون منه لما فيه من إظهار دينهم. والشريعة إنما فرضت عليهم ما يمنع إظهار الدين. ولما فيه إظهار شعائر الكفر من قصد إيذاء المسلمين ومجرد إظهارها يخالف مقصود الشارع. * قال المؤلف ـ رحمه الله تعالى: [وإن تهود نصراني أو عكسه لم يقرّ ولم يُقبل منه إلا الإسلام أو دينه] . إذا كان تحتنا في بلادنا ذميون يهود ونصارى فانتقل اليهودي إلى النصرانية أو النصراني إلى اليهودية فهل يُقر على هذا؟ فيه ثلاثة روايات: الرواية الأولى:

قال المؤلف: (لا يُقرّ) ، وعليه فإن الإمام يحبسه ويعذبه في نفسه وماله حتى يعود إلى دينه أو يدخل في الإسلام ولا يقتل لشبهة العقد الذي بيننا وبينهم من حفظ دمه وماله لكنه يلزم بأحد الأمرين. وإلزامه أن يرجع إلى دينه قول غريب. الرواية الثانية: ورد عن الإمام أحمد أنه يلزم بالإسلام فإما أن يسلم وإما أن يبقى على ماهو عليه بالضرب والتأديب وغير ذلك. لأن في إرجاعه إلى النصرانية شيء من الإقرار الظاهر له. وفي إلزامه أن يعود إليها تأييد لها فيبقى الإلزام بالإسلام. الرواية الثالثة: وعن الإمام أحمد وهو أظهرها أنه يقرّ مطلقا؛ فله أن يرجع من اليهودية إلى النصرانية ومن النصرانية إلى اليهودية أو غيرها من ملل الكفر وذلك لأن العقد الذي بيننا وبينه هو إقراره على الكفر والكفر ملة واحدة. ثم في الحقيقة فاليهودي والنصراني وعابد الوثن وعابد النار في الحقيقة ملة واحدة قال تعالى: [والذين كفروا بعضهم أولياء بعض] فالراجح: أنه يُقرّ، وأن له أن ينتقل إلى أي دين شاء. لأنه إنما أُقر على الكفر أصلا بالشروط المتقدمة ولافرق بين أن يبقى على ديانته النصرانية أو ينتقل إلى اليهودية أو العكس لافرق بين هاتين الملتين أو غيرهما. إذن هنا ثلاثة أقوال أرجحها القول الأخير. * قال المؤلف ـ رحمه الله تعالى: [فإن أبى الذمي الجزية أو التزام حكم الإسلام أو بغى على مسلم بقتل أو زنا أو قطع طريق أو تجسس أو إيواء جاسوس أو ذكر الله أو رسوله أو كناية بسوء انتقض عهده] . إذا أبى الذمي بذل الجزية أو أبى أن يلتزم بحكم الإسلام أو كان منه اعتداء على المسلمين بقتل أو قطع طريق أو زنا أو سبّ الله ورسوله أو دين الإسلام أو كتاب الإسلام فإن عهده ينتقض مطلقا، هذا هو المشهور في مذهب الحنابلة. القول الثاني:

وذهب الشافعية إلى التفصيل في هذا وأنه إن أبى أن يلتزم بالجزية أو أبى أن يلتزم بحكم الإسلام أو فعل ما يناقض عهد الذمة كالقتل فإن عهده يُنقض وما سوى ذلك فإن حكم الإسلام يُقام عليه إن كان حدا أو قصاصا أو تعزيرا. إلا أن يكون قد اشترط فإن هذا الشرط يعمل به بمعنى: إن قيل للذميين أثناء العقد متى ما فعلتم القتل أو الزنا أو آويتم جاسوسا أو نحو ذلك فإن العهد ينتقض ولاذمة لكم فإن الناس على شروطهم. فمذهب الشافعية هو التفصيل فإن أبى بذل الجزية أو التزام الشريعة فإن عهده ينتقض وذلك لأنه لا قوام لعهد الذمة إلا بهما. فإن عقد الذمة لايصلح إلا بهما. قالوا: وكذلك إذا كان ما فعله يخالف وينافي مقتضى العقد ـ وهو فيما إذا قاتلنا ـ فإذا قاتل الذمي المسلمين أو سعى في قتالهم فإن عهده ينتقض وذلك لأن مقتضى عقد الذمة الأمان من الجانبين وحيث وقع من الذميين قتال فإن هذا ينافي ويخالف العقد الذي بيننا وبينهم وهو عقد الذمة الذي مقتضاه الأمان من الجانبين أما ماسوى ذلك فيحكمون بما أنزل الله وهذا هو الراجح إذ لادليل على انتقاض العقد بماذكروه مع إبرامه وثبوته. وما ذكروه فإن مثله في الغالب يقع من اعتداء على الأعراض أو على النفوس في المجتمعات الكبيرة. وإذا سب الذمي النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ مثلا فإنه يقتل من غير استتابة كما قرر هذا شيخ الإسلام ابن تيمية ـ رحمه الله تعالى ـ في كتابه الصارم المسلول وهكذا إن قتل نفسا أو زنا فإنه يقام عليه الحدّ فالأصل هو بقاء عقد الذمة فلا ينتقض إلا بدليل. * قال المؤلف ـ رحمه الله تعالى: [انتقض عهده دون نسائه وأولاده] . أي عهده هو دون نسائه وأولاده وذلك لأنه لم يحصل منهم ما يوجب النقض وحصوله من عائلهم لا يوجب النقض منهم [لا تزر وازرة وزر أخرى] فلا يكونون حربيين لكون من يقوم بشأنهم قد ينقض العهد الذي بينهم وبين المسلمين بل يعطي لهم ذمة الله ورسوله.

* قال المؤلف ـ رحمه الله تعالى: [وحلّ دمه وماله] . (حل دمه) : أي أصبح في حكم الحربيين، لأن حفظ دمه إنما كان للعهد الذي بينه وبين المسلمين وحيث إنه نقض العهد فقد أصبح دمه حلالا لا حرمة له. وحينئذٍ فالإمام مخير فيه بين أربعة خصال. القتل والفداء والمنّ والاسترقاق. فللإمام الخيار بين هذه الخصال لأنه أصبح كالأسير الحربي. (وماله) : أيضا ماله يكون حلالا لأن الحربي ماله حلال وهو حربي. فإن قيل: فلم لا يكون لنسائه وأولاده؟ الجواب: أنه إنما يكون لنسائه وأولاده بسببه، وهنا لم يقع سببه، وسببه هو الموت، فإذا مات انتقل إلى نسائه وأولاده إرثا وهنا لم يمت، هو مال له، فحينئذٍ يتبعه في عدم الحرمة فيكون فيئا لبيت المال. لأنه تبع له ولا ينقل لهم إلا بطريق شرعي من إرث أو غيره وهنا الطريق لم يثبت فبقي المال فيئا. استدراكات: ولم يتكلم المؤلف في كتاب الجهاد عن مسألة الأمان والهدنة. وسنتكلم عليهما إن شاء الله تعالى تباعا. الأمَان لغة: من الأمن وهو ضد الخوف، والمستأمَن أو المستأمِن: هو من رفض استباحة دمه وماله ورقه ودخل ديار الإسلام. ومن أحب من المشركين أن يسمع كلام الله في البلاد الإسلامية ويتعلم الإسلام فإنه يجب أن يؤمّن. قال تعالى: [وإن أحد من المشركين استجارك فأجره حتى يسمع كلام الله ثم أبلغه مأمنه] إذا سمع كلام الله فإنه يبلغ مأمنه فيحفظ في طريقه حتى يصل إلى الموضع الذي يؤمن به من المسلمين. * وعقد الأمان يصح من كل مسلم مكلف ذكر كان أو أنثى حرا كان أو عبدا بشرط أن يكون مختار أي غيرمكره وبشرط عدم الضرر. هذا هو الأمان الخاص. * نوعا الأمان: فإن الأمان نوعان خاص وعام. فالأمان الخاص: هو أن يؤَمَّن رجل أو طائفة من الناس. وأما الأمان العام: فهو ما يقع لحماية الكثرة من الكفار، كأن يقع لبلدة كبيرة أو نحو ذلك.

فالأمان العام لا يكون إلا من الإمام لأن مثل هذه الأمور أمور عامة فتوكل بالإمام فهو الناظر فيها والاعتداء عليه في عقدها افتيات عليه. والأمان الخاص يشترط عدم الضرر على المسلمين ودليل ذلك قوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ:} ذمّة المسلمين واحدة، يسعى بها أدناهم { (1) وما ثبت عن عائشة كما في سنن أبي داود: (إن كانت المرأة لتأخذ على الناس) (2) أي لتأخذ الأمان على الناس. ـ وقد قال ـ صلى الله عليه وسلم ـ لأم هانيء:} قد أجرنا من أجرت يا أم هانيء { (3) متفق عليه. فإذا أمّن مسلم كافرا فإنه لا يجوز الاعتداء عليه في دمه ولا ماله ... . واختلف في المميز العاقل على قولين هما قولان في مذهب الإمام أحمد. القول الأول: وهو مذهب مالك. أن المميز يصح أمانه لعموم قوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ:} ذمة المسلمين واحدة يسعى بها أدناهم {. القول الثاني:وهو مذهب الجمهور. أن الصبي لايقع منه أمان. وذلك لضعف يصرفه. ولذا فإن الصبي لايصح تصرفه في ماله فكيف يصح تصرفه في شأن من شؤون المسلمين. وهذا هو الراجح.لأن الصبي ضعيف التصرف ولذا يكون عليه الولي في ماله فهنا كذلك لايصح أمانه. ـ وإن اعتدى فقتل معاهَدا أو مستأمنا فإنه قد ارتكب كبيرة من كبائر الذنوب يستحق عليها تعزيرا بالغا. فقد ثبت في الصحيحين أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال:} من أخفر مسلما فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين لايقبل منه صرف ولا عدل { (4) من أخفر أي نقض عهده

_ (1) ـ متفق عليه من حديث علي ـ رضي الله عنه ـ (فتح: 2943،6258، 6756. م: 2433، 2774) . (2) ـ (د: 2383) ك: الجهاد. ب: في أمان المرأة. عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ إِنْ كَانَتْ الْمَرْأَةُ لَتُجِيرُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ فَيَجُوزُ. (3) ـ (فتح: 344، 2935، 5692. م: 1179) . (4) ـ (فتح: 2943، ك: الجزية. ب:إثم من عاهد ثم غدر)

وفي البخاري عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو ـ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا ـ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ:} مَنْ قَتَلَ مُعَاهَدًا لَمْ يَرِحْ رَائِحَةَ الْجَنَّةِ وَإِنَّ رِيحَهَا تُوجَدُ مِنْ مَسِيرَةِ أَرْبَعِينَ عَامًا { (1) الهدنة هي عقد يقيمه الإمام أو نائبه مع الحربيين مدة محدودة من الزمن بعوض أو بغير عوض وفيها مسائل: * المسألة الأولى: الدُّور دارن أن الدور داران؛ دار إسلام ودار كفر. فدار الإسلام: هي التي يُحكم فيها بالإسلام.وإن كان أكثر أهلها يهودا أو نصارى. وأما دار الكفر: فهي الدار التي لايحكم فيها بشرع الله وإن كان أكثر أهلها مسلمين. ودار الكفر قسمان: الأولى: دار حرب: وهي التي ليس بين المسلمين وبينها عقد ولا ذمة. الثانية: دار عهد: وهي التي بينها وبين المسلمين عهد. هكذا قسم الفقهاء الدور. فإذا عقد الإمام مع دار الحرب عقدا لمدة زمنية محدودة سواء بعوض أم بغير عوض فهذه هي الهدنة. * المسألة الثانية: هل تجوز الهدنة مع الكفار بعوض؟ لا إشكال أنه يجوز أن يكون العوض من الكفار فإنه من جنس الجزية. لكن: هل يجوز أن يكون العوض من المسلمين؟ القول الأول: وهو المشهور في مذهب أحمد والشافعي: أن ذلك لا يجوز. وهذا ظاهر؛ فإن فيه ذلة وصغارا. وهو من جنس الجزية ولا يجوز للمسلمين أن يرضوا بالصغار والذلة وقد أظهرهم الله. ويستثنى من ذلك ـ كما قرره الموفق وغيره ـ إذا اضُطر المسلمون إلى ذلك فإن الضرورات تبيح المحرمات. فإذا خشي المسلمون على أنفسهم وأموالهم وذراريهم وبلادهم وكان للكفار سطوة وقوة والمسلمون على ضعف فيجوز إقامة الهدنة بعوض من المسلمين من باب الوقوع في المفسدة الصغرى دفعا للمفسدة الكبرى. * المسألة الثالثة: في مدة الهدنة

_ (1) ـ (فتح: 2930، ك: الجزية. ب: إثم من قاتل معاهدا بغير جزم)

ثبت في السنة ـ كما في سنن أبي داود ـ والحديث حسن وفيه عنعنة محمد بن إسحاق ـ لكن صرح بالتحديث في سنن البيهقي من حديث المسور بن مخرمة أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ صالح قريشا عشر سنين يأمن فيها الناس. واختلف أهل العلم: هل يجوز الزيادة على عشر سنين؟ على ثلاثة قوال: القول الأول: وهو قول الشافعية والحنابلة. أنه لايجوز ذلك. لأن الله أمرنا بقتالهم قال تعالى: [وقاتلوا المشركين كافة كما يقاتلونكم كافة] وغيرها من الآيات الدالة على وجوب قتالهم. والهدنة تنافي القتال فلا يجوز فيها إلا ما وردت به السنة وهو عشر سنين. القول الثاني:وهو قول الأحناف. وهو جواز الزيادة على عشر سنين. وذلك إن ثبتت المصلحة في ذلك. قالوا: لأن وضع النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ لها عشر سنوات هذا لامعنى له إلا أن في العشر مصلحة حينئذ وإلا فإن هذا العدد لا أثر له. وهذا هو الأظهر. وأن إقامة الهدنة مع الكفار أكثر من عشر سنوات جائز وذلك إذا ثبتت المصلحة في ذلك. القول الثالث: واختار شيخ الإسلام ابن تيمية ـ رحمه الله تعالى ـ جواز الهدنة مطلقا لكن بشرط أن تكون الهدنة يجوز نقضها وإن كان ذلك ولا بد مسبوقا بإعلام. وهذا قوي وذلك لأن العقد والهدنة لازمة، فليس للكفار أن ينقضوا وليس للمسلمين أن ينقضوا. أمّا والعقد جائز فإن هذا لامفسدة فيه فمتى رأى المسلمون من أنفسهم القوة على قتال الكفار فحينئذٍ ينقضون ما بينهم وبين الكفار ويعلنون هذا للكفار لاحرج في مثل هذا العقد.

فإن رأى الإمام من الكفار أمارات النقض وظهر منهم ما يدل عليه فإن الإمام ينقض عهدهم قال تعالى: [فما استقاموا لكم فاستقيموا لهم] ولكن عليه أن يعلن ذلك وأن يظهره فلا يقاتلهم على حين غرة منهم. قال تعالى: [فإمّا تخافنّ من قوم خيانة فانبذ إليهم على سواء] أي انبذ إليهم عهدهم والعقد الذي بينك وبينهم على سواء أي على وضوح وظهور فلا تكن في ذلك خفيا. وهو إذا قاتلهم على غير ذلك فإن ذلك في الظاهر خيانة ولا ينبغي للمسلم أن يتصف به إذ الله عزوجل لا يحب الخائنين. * فرع: في مدة الأمان اختلف العلماء هل يجوز أن يكون عقد الأمان مطلقا، أم لا بد أن يكون مقيدا؟ الجواب: فمنهم من قال: يجوز أن يكون مطلقا. ومنهم من منع من ذلك. وقال: غايته سنة. فإذا مضت السنة فإنه يُلزم بالجزية وذلك لأن الله عزوجل أمر بقتالهم إلا أن يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون فلا بد وأن يقاتل إلا أن يعطى الجزية وهذا أظهر وأن الأمان لا يكون مطلقا بل يكون عدة يسيرة تقتضيها المصلحة العامة. * مسألة: في الهدنة: إذا كان في الهدنة شرط يخالف كتاب الله أو يخالف مقتضى العقد فإن الهدنة لا تصح. مثال ما يخالف كتاب الله: لو اشترط الكفار أن ترد إليهم النساء المهاجرات قال تعالى: [لاهنّ حل لهم ولاهم يحلّون لهم] . وإرجاعهنّ إليهنّ ذريعة إلى الوقوع بهن …. * ومثال ما خالف مقتضى العقد: أن يشترط أحدهما النقض له , أو يكون لهما كليهما النقض.ومن هنا فإن ماذكره شيخ الإسلام ابن تيمية ـ رحمه الله تعالى ـ نوع آخر من الأمان وهو في معنى الهدنة.فلك أن تقول: الهدنة نوعان: لازمة، وجائزة. والذي يحكم به أنها لازمة أو جائزة مايقع في العقد بين الكفار والمسلمين.

كتاب البيوع المقدمة إلى باب الرهن

كتاب البيع البيع لغة: أخذ شيء وإعطاء شيء، وأما اصطلاحا فقد عرفه المؤلف وسيأتي. وقد دل الكتاب والسنة والإجماع على جوازه، أما الكتاب فقد قال تعالى {وأحل الله البيع وحرم الربا} وأما السنة فالأدلة متواترة على جواز البيع، وقد عقد الأئمة في مؤلفاتهم في الكتب الستة أبوابا في البيع، وأما الإجماع فقد أجمع أهل العلم على جوازه، والمصلحة تقتضي ذلك، فإن الناس يحتاج بعضهم إلى ما في يد بعض، ولو لم يشرع البيع لوقع الناس في حرج عظيم، ولسلك الناس الطرق المحرمة للحصول على ما في أيدي الناس من الأموال، فكان جوازه دفعا للحرج. قوله [وهو مبادلة مال ولو في الذمة أو منفعة مباحة كممر في دار بمثل أحدهما على التأبيد غير ربا وقرض] قوله (مبادلة) المبادلة هي إعطاء شيء في مقابلة شيء آخر، فهذا يعطي الآخر المال، وذلك يعطيه السلعة. قوله (ولو في الذمة) سواء كان المال معينا أو في الذمة، والمال المعين: هو المال المشار إليه، كأن يقول: بعتك هذا الثوب، فهذه سلعة معينة، أما لو قال: بعتك ثوبا صفته كذا، فهذا بيع في الذمة، وليس المراد النسيئة، فإن النسيئة فيها معنى التأجيل، ولكن المراد: أن السلعة التي وقع عليها البيع ليست معينة بل موصوفة، ومثل ذلك الثمن، فإذا قال: اشتريت منك هذا الثوب بهذه الدنانير، فالدنانير التي هي عن الثوب معينة، أما إذا قال: بعتك هذا الثوب بعشرة دنانير، والدنانير غير معينة، فهي في الذمة، فالمال سواء أكان معينا أم في الذمة فإن التعاقد عليه يقع في البيع.

قوله (أو منفعة مباحة كممر في دار) فالمنفعة المباحة يقع عليها البيع، مثاله: ما ذكره المؤلف وهو أن يبيع ممرا، فلو أن رجلا بين داره وبين الشارع أرض لرجل آخر، فاشترى منه المرور ليتمكن من الوصول إلى الشارع، فهنا قد اشترى منه المرور، فهو لا يملك الأرض قرارها وهواءها، لكن هو يشتري المرور على هذه الأرض، فلم يقع التبايع على شيء لا مال معين ولا مال في الذمة، وإنما وقع على منفعة مباحة، ومثال آخر: أن يحتاج إلى أن يحفر بئرا في أرض عند داره، فيشتري من جاره هذه المنفعة، فيقول: احفر في أرضك بئرا بكذا وكذا من المال، فلا يكون من باب الإجارة، بل يكون البئر ملك له دائم، ولصاحب الأرض أن يبني فوقه لأنه يملك الهواء، وهذا إنما ملك هذا الحفر الذي حفره وانتفع به، وأما أصل الأرض وهواؤها فإنه لا يملكه، فهذا نوع ثالث، فالنوع الأول: مال معين، والنوع الثاني: مال في الذمة، والنوع الثالث: منفعة مباحة، وحينئذ تكون الصور تسعا، أي ثلاثة في ثلاثة وهي: 1- مال معين بمال معين. 2- مال معين بمال في الذمة. 3- مال معين بمنفعة مباحة. 4- مال في الذمة بمال معين. 5- مال في الذمة بمال في الذمة. 6- مال في الذمة بمنفعة مباحة. 7- منفعة مباحة بمال معين. 8- منفعة مباحة بمال في الذمة. 9- منفعة مباحة بمنفعة مباحة. وقد قيد المؤلف المنفعة بكونها مباحة، فدل على أن المنفعة المحرمة لا تجوز، فلو اشترى منه الممر ليكون له حانة خمر، أو دار زنا أو نحو ذلك، فإن ذلك لا يجوز، لما سيأتي في شروط البيع، وأن الذي يقع عليه العقد لا بد أن يكون مباحا. قوله (بمثل أحدهما) كما تقدم فتكون الصور تسعا.

قوله (على التأبيد) احتراز من الإجارة، فإن الإجارة ليست على التأبيد، فإذا تعاقدا على منفعة أرض سنة أو سنتين أو نحو ذلك فهذا ليس بيعا، بل هو إجارة، فقيده بقوله (على التأبيد) ليكون كل منهما قد ملك ما أخذه ملكية تامة مؤبدة. قوله (غير ربا أو قرض) فالربا ليس بيعا، ولذا قال تعالى {وأحل الله البيع وحرم الربا} ففرق بينهما، فدل على أن الربا ليس بيعا. وقوله (قرض) فالقرض حقيقته فيه المبادلة المتقدمة، فإنه مثلا يعطيه عشرة دنانير إلى سنة، فيعطيه الآخر مثلها، فهذا فيه مبادلة، لكنه لما كان بغير طريق المعاوضة لم يكن بيعا، فالبيع فيه معاوضة، وأما القرض فإن فيه إرفاقا ورحمة، وليس بمعاوضة، وعلى هذا فالقرض ليس بيعا، وإن وقعت فيه المعاوضة المذكورة. قوله [وينعقد بإيجاب وقبول بعده وقبله] ينعقد البيع بإيجاب وقبول بعده، أي القبول بعد الإيجاب، والإيجاب هو قول البائع الدال على الرضا بالبيع، كقوله: بعتك، وأما القبول فهو قول المشتري الدال على الرضا بالبيع، كقوله: قبلت. وقوله (بعده) فيه أنه يشترط أن يكون القبول بعد الإيجاب، فيقول البائع للمشتري بعتك هذا الثوب بدرهم، ثم يقول المشتري: قبلت، فهذا هو الإيجاب والقبول.

قوله (وقبله) وهذا فيه إطلاق، وتقييده أن يقال أمرا أو ماض مجرد عن الاستفهام أو نحوه، فمثال الأمر أن يقول المشتري: بعني هذا الثوب بدرهم، فيقول البائع: قبلت، فكل لفظ منهما دل على الرضا، ومثال الماضي: أن يقول المشتري: اشتريت هذا الثوب منك بدرهم، فيقول البائع: قبلت، أما إذا كان الفعل ماضيا سبق باستفهام أو نحوه كالتمني فإنه لا يدل على الرضا، كأن يقول المشتري: أتبيعني هذا الثوب بكذا، فيقول: نعم أو بعتك، فقول المشتري أتبيعني هذا الثوب لا يدل على رضاه إذ ليس جازما بالبيع، فقد يخبر بالقبول ولا يرضى، إنما هو مستفهم، ومثل ذلك لو تمنى فقال: ليتك تبيعني هذا الثوب بكذا. قوله [متراخيا عنه] ينعقد متراخيا عنه، فإذا تراخى القبول عن الإيجاب فلا بأس، فإذا قال رجل: بعتك هذا الثوب بدرهم، فسكت المشتري ثم قال: قبلت: فإذا ذلك يصح لعدم ما ينافي الرضا المشروط، فإن الألفاظ وضعت للدلالة على الرضا، فإذا قلت: قبلت، فإن الرضا ثابت من الطرفين، ولو كان ذلك على سبيل التراخي، لكن قيده بقوله: قوله [في مجلسه] فلو تفرقا عن المجلس فلا، وذلك لأن تفرقهما عن المجلس من غير أن يتم البيع دليل على عدم الرضا، ودليل على الإعراض عنه، فإذا تفرقا ولم يقع القبول فلا بيع، ومثل ذلك: قوله [فإن تشاغلا بما يقطعه بطل] فإذا تشاغلا بما يقطع القبول عرفا بطل البيع، كأن يقول بعتك، ثم يتحدثا في أمر خارج عن البيع، ثم قال: قبلت، فلا، وذلك لوجود القاطع، والرجوع في ذلك إلى العرف، فما كان قاطعا في العرف فإن القبول يبطل، ونحتاج إلى استئناف الإيجاب والقبول مرة أخرى.

ويشترط أيضا موافقة القبول الإيجاب، فلو قال: بعتك هذا الثوب بعشرة دراهم، فقال: قبلته بخمسة، أو قال: بعتك هذا الثوب إلى شهرين بمائتي درهم، فقال: قبلت إلى شهر بمائة، فهذا لا يصح، وذلك لعدم موافقة الإيجاب للقبول، فإن الرضا بذلك لم يثبت. قوله [وهي الصيغة القولية] صيغة الإيجاب والقبول هي الصيغة القولية، ولا يشترط لفظ خاص، بأن يشترط أن يكون اللفظ: بعتك أو قبلت، بل كل لفظ دل على البيع بأي لغة كانت فإن الإيجاب والقبول يتمان به، فلو قال: بعتك أو أعطيتك أو خذ هذه السلعة بكذا، وقال المشتري رضيت أو اشتريت أو تم أو قبلت أو نحو ذلك فكل ذلك مما ينعقد به البيع، وذلك لأن الشارع لم يحدد لفظا معينا، فكان المرجع إلى العرف. قوله [وبمعاطاة وهي الفعلية]

هذا هو النوع الثاني مما يثبت به البيع، فالصيغة الأولى: الصيغة القولية، والصيغة الثانية: الصيغة الفعلية، وهي المعاطاة، سواء كانت من الطرفين أو من أحدهما، مثال كونها من الطرفين أن يضع المشتري الثمن ويأخذ السلعة، بحيث تكون السلعة معروفة الثمن، فهنا وقعت المعاطاة من الطرفين، ومثال المعاطاة من المشتري أن يقول البائع للمشتري خذ هذا الثوب بدرهم، فيضع الدرهم عند البائع ويأخذ الثوب، فهذه معاطاة من طرف واحد وهو المشتري، ومثال المعاطاة من البائع أن يقول المشتري أعطني هذا الثوب بدرهم، فيعطيه إيه من غير أن يقول قبلت، أو رضيت، فهذه معاطاة من البائع، فسواء كانت المعاطاة من الطرفين أو من أحدهما فهي جائزة، قالوا: لحصول المقصود بها من الدلالة على الرضا، وقد قال تعالى {إلى أن تكون تجارة عن تراض منكم} ، والمقصود حاصل بالصيغة الفعلية كما هو حاصل بالصيغة الفعلية، قالوا: ولأن النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه لم يصح عنهم أنهم كانوا في تبايعهم يأتون بالصيغة القولية، قالوا: ولو ثبت لنقل نقلا شائعا فدل على أنهم كانوا يتعاملون بالمعاطاة، ثم لو ثبت شيء من الأدلة يدل على وجود القبول والإيجاب في شيء من عقودهم فإن غالب عقودهم إنما هي على صورة المعاطاة المتقدمة، قالوا: وعليه عمل المسلمين قديما وحديثا، ولو كانت الصيغة القولية شرطا في البيع لنقل لنا ذلك نقلا ظاهرا شائعا مشهورا عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، ولبينه للأمة بيانا واضحا إذ يتعلق بأمر مهم في حياتهم ألا وهو البيع، وعند الشافعية لا يصح البيع بالمعاطاة مطلقا، وعند الحنفية يصح في المحقرات فقط، والصحيح ما ذهب إليه المالكية والحنابلة وكثير من الشافعية أن البيع بالمعاطاة جائز، فالخلاصة أن هناك صيغتان يثبت بهما البيع:

الصيغة الأولى: الصيغة القولية: وهي صيغة الإيجاب والقبول، ويشترط أن يكون الإيجاب متقدما على القبول، إلا أن يكون القبول فعل أمر أو فعلا ماضيا مجردا عن الاستفهام ونحو ذلك، ويشترط ألا يكون هناك فاصل عرفا بينهما، ويشترط أن يقع القبول في نفس المجلس الذي وقع فيه الإيجاب، ويشترط أن يكون القبول موافقا للإيجاب. الصيغة الثانية: صيغة المعاطاة، وهي الصيغة الفعلية، ويثبت بها البيع لدلالتها على الرضا. قوله [ويشترط التراضي منهما] سيذكر المؤلف شروط البيع وهي سبعة شروط لا يصح البيع إلا بها. الشرط الأول: التراضي منهما. قال تعالى {إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم} ، وفي سنن ابن ماجة بإسناد صحيح أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (إنما البيع عن تراض) (1) [جه 2185] ، فلا يصح البيع إلا بالتراضي بين الطرفين، ولذا قال المؤلف: قوله [فلا يصح من مكره بلا حق] بيع المكره لا يصح لعدم الرضا، فإذا انتفى الرضا فلا بيع صحيح، وهو مذهب الجمهور، وهناك قول آخر بأنه يحتمل الصحة وثبوت الخيار عند زوال الإكراه، وهو مذهب الأحناف بناء على أنه تصرف فضولي، ففي المسألة قولان، وقيد المؤلف ذلك بقوله (إلا بحق) فإن أكره بحق فإن البيع صحيح، كأن يكره السلطان أحدا على بيع شيء من ماله لوفاء دينه، فهذا الإكراه غير مؤثر في العقد، فالعقد صحيح.

_ (1) - وهو في سنن أبي داود (3458) بلفظ: (لا يفترقن اثنان إلا عن تراض) ، وفي سنن الترمذي (1248) بلفظ: (لا يتفرقن عن بيع إلا عن تراض)

وكره الحنابلة الشراء من المكره، وهذه المسألة تسمى بيع المضطر، مثال ذلك: رجل أكرهه السلطان على ضريبة من المال، فباع شيئا من ماله لبعض ليسدد الضريبة، فالشراء من هذا المكره مكروه، وقال شيخ الإسلام يجوز بلا كراهة، قال: لأن امتناع الناس من شراء ما يبيعه أشد ضررا عليه، لأنه متوعد بما يضره في نفسه أو أهله أو ولده إلا إن دفع ذلك المال الذي أكره عليه، فإذا امتنع الناس من الشراء منه كان في ذلك ضررا عليه، ولا دليل على الكراهة، بل الظاهر هو خلاف ذلك، وهو عدم الكراهية، فالصحيح جواز ذلك، إلا أن يكون في امتناعهم من الشراء زوال للإكراه عنه فيمتنعوا ليزول الإكراه. * واعلم أن من المسائل التي تترتب على هذا الشرط بيع التقية أو بيع التلجئة، وهي أن يبدي المتعاقدان بيعا وهما غير مريدين له في الحقيقة، لكن من أجل التقية يريدان البيع، كأن يخشى ظالما فيظهر البيع على أحد من الناس وهما في الباطن غير مريدين للبيع، فهنا البيع باطل ولا يصح على ما بيناه، لعدم الرضا منهما، وقال الشافعية يصح البيع، والصحيح هو مذهب الحنابلة لما سبق من الأدلة، وهناك مسألة أخرى شبيهة بها وهي فيما إذا أظهرا ثمنا في العقد وهما يبطنان بينهما ثمنا آخر في السر، فإن العمدة على ما أبطناه لأن الرضا مرتبط به، فهما لم يتراضيا إلا على هذا الثمن الذي اتفقا عليه في الباطن، ومثل ذلك في أصح الوجهين في مذهب الحنابلة وهو المشهور في المذهب خلافا لقول أبي الخطاب بيع الهازل غير الجاد، فلا يقع بيع الهازل، بل هو باطل، وذلك لانتفاء الرضا، فإن الهازل غير راض بالبيع لكن بشرط أن يكون هناك دليل أو قرينة تدل على الهزل في البيع، وقد قال - صلى الله عليه وسلم - فيما رواه الترمذي وغيره بإسناد صحيح: (ثلاث جدهن جد وهزلهن جد النكاح والطلاق والرجعة) [ت 1184، د 2194، جه 2039] فدل على أن الجد جد والهزل هزل في سواهن.

قوله [وأن يكون العاقد جائز التصرف] هذا هو الشرط الثاني وهو أن يكون البائع والمشتري جائزا التصرف. والعاقد: يشمل البائع والمشتري، فيشترط أن يكون البائع والمشتري جائزا التصرف، وجائز التصرف هو: الحر المكلف الرشيد، وعليه فالعبد لا يصح تصرفه وذلك لأن ما في يده من مال لسيده فلا يصح أن يتصرف إلا بإذن سيده، وأن يكون مكلفا أي بالغا عاقلا، كما يشترط أن يكون رشيدا، أي يحسن التصرف في ماله، ودليل ذلك قول الله تعالى {وابتلوا اليتامى حتى إذا بلغوا النكاح فإن آنستم منهم رشدا فادفعوا إليه أموالهم} فقوله {وابتلوا اليتامى} أي اختبروهم في بعض التصرفات المالية ليثبت لكم حسن تصرفهم في المال، وقوله {حتى إذا بلغوا النكاح} دليل على البلوغ، أي اشتراط البلوغ، وقوله {فإن آنستم منهم رشدا} أي ظهر منهم الرشد في التصرف، وهذا يدل على اشتراط العقل والرشد في التصرف، فإن غير العاقل لا شك أنه ليس برشيد، فهذه الآية دليل على اشتراط التكليف والرشد، فجائز التصرف هو الحر المكلف الرشيد، ولذا قال المؤلف: قوله [فلا يصح تصرف صبي وسفيه] الصبي لأنه غير بالغ، والسفيه لأنه ليس برشيد، وليس المراد بالسفيه غير العاقل. قوله [بغير إذا ولي] فلا بد من إذن الولي، وعلى هذا فيصح تصرف الصبي بإذن وليه، ويصح تصرف السفيه بإذن وليه، ويصح تصرف العبد بإذن سيده، أما العبد فظاهر، فإن صاحب المال هو السيد، وقد أذن له بالتصرف في ماله، وأما الصبي والسفيه فلقوله تعالى {وابتلوا اليتامى} أي اختبروهم، فهم لم يثبت بعد رشدهم، ومع ذلك قد أمر الله بابتلائهم واختبارهم وهذا لا يكون إلا بالإذن لهم بشيء من التصرف ليثبت رشدهم، فدل هذا على جواز تصرفهم بالإذن، وعن الإمام أحمد أنه يصح تصرفهم ويكون موقوفا على إجازة الولي، وهذا القول فيه قوة.

ولكن ليس للولي أن يأذن لهم بما يكون فيه ضرر عليهم لأنه مؤتمن، بمعنى أن يأذن لهم في أمور يغلب على الظن نجاحهم فيها، وعدم خسارتهم فيها، وعدم لحوق الضرر بهم. ويستثنى من ذلك أيضا الشيء اليسير عرفا كشراء بعض الأطعمة أو شيء من ذلك، فيجوز تصرف الصبي المميز وغير المميز والسفيه بغير إذن الولي، وذلك لأنه لا ضرر فيه عليهم، فلا بأس أن يتصرف الصبي أو السفيه بما هو يسير عرفا من غير إذا الولي، وهذا يختلف باختلاف البلدان والأزمان. قوله [وأن تكون العين مباحة النفع من غير حاجة] هذا هو الشرط الثالث: وهو أن تكون العين مباحة النفع لغير حاجة. فهنا ثلاثة أوصاف: 1- النفع، وهذا احتراز مما لا نفع فيه كالحشرات ونحوها. 2- أن تكون مباحة، وهذا احتراز من بيع المحرم كالخمر والخنزير والأصنام والصور والميتة ونحوها. 3- ألا تكون إباحتها لحاجة، فإن كانت لحاجة أو لضرورة أي أن الأصل أنها محرمة لكن أبيحت لحاجة أو ضرورة، فلا يجوز بيعها،كالكلب، فإنه يجوز اقتناؤه لحاجة، وكالميتة فإنه يجوز أكلها لضرورة، ومع هذا فلا يجوز بيعها، فإن اختل شيء من هذه الأوصاف الثلاثة لم يصح البيع. قوله [كالبغل والحمار ودود القز وبزره] دود القز الذي يستخرج منه الحرير، وبزره أي ولده، وذلك للمآل، فإنه ينتفع به في استخراج الحرير في المآل أي بعد تربيته، وهذا كله للتمثيل. قوله [والفيل] لأنه ينتفع به منفعة مباحة لغير حاجة. قوله [وسباع البهائم التي تصلح للصيد] كالفهد، فهو يصلح للصيد، فيجوز بيعه. * وهل يجوز بيع الهر؟ 1- قال جمهور أهل العلم يجوز ذلك.

2- وعن الإمام أحمد وهو اختيار طائفة من أصحابه وهو مذهب طائفة من التابعين واختاره شيخ الإسلام وابن القيم أن ذلك لا يجوز، ودليله ما ثبت في مسلم عن جابر أنه سئل عن ثمن الكلب والسنور - أي الهر - فقال: (زجر النبي - صلى الله عليه وسلم - عن ذلك) [م 1569] أي نهى عنه، وظاهر النهي التحريم، وحمله الجمهور على الكراهة التنزيهية لا الكراهة التحريمية، وأنه ليس من اللائق بيعه، ولكن هذا ليس بصحيح، إذا الأصل هو حمل النهي على ظاهره، وقد قرن بالكلب، والكلب محرم كما سيأتي، وهذا هو الراجح. قوله [إلا الكلب] فلا يجوز بيعه، وإن كان كلب صيد، وذلك لما ثبت في الصحيحين عن ابن مسعود الأنصاري قال: (نهى النبي - صلى الله عليه وسلم - عن ثمن الكلب ومهر البغي وحلوان الكاهن) [خ 2237، م 1567] وتقدم حديث جابر في مسلم، والنهي يقتضي التحريم، ولا فرق بين ما يجوز اقتناؤه ومالا يجوز اقتناؤه، وأما ما رواه النسائي في حديث جابر المتقدم وفيه (إلا كلب صيد) [ن 4295، 4668، وهو في سنن الترمذي من حديث أبي هريرة (1281) وقال الترمذي عقب روايته للحديث:" قال أبو عيسى هذا حديث لا يصح من هذا الوجه وأبو المهزم اسمه يزيد بن سفيان وتكلم فيه شعبة بن الحجاج وضعفه وقد روي عن جابر عن النبي - صلى الله عليه وسلم - نحو هذا ولا يصح إسناده أيضا "، ويقصد بحديث جابر، حديثه الذي في سنن النسائي] فإن هذه اللفظ منكرة كما بين ذلك الإمام النسائي نفسه، وعليه فلا يجوز بيع الكلب مطلقا، وهو مذهب جمهور الفقهاء، فالكلب فيه منفعة مباحة لكن لحاجة، فيخرج من الضابط المتقدم. قوله [والحشرات] لأنه لا منفعة فيها، فلا يحل بيعها، وفي ذلك أكل للمال بالباطل. قوله [والمصحف] وشك أن إدخال المؤلف للمصحف بحرف العطف على هذه الصورة غير لائق، والذي ينبغي أن يفرده بجملة فيقول: ولا يصح بيع المصحف.

وهذا هو المشهور في المذهب أنه لا يجوز بيع المصحف، وهو أحد الروايات الثلاث عن الإمام أحمد، فعن الإمام أحمد ثلاث روايات: الأولى: وهي موافقة للمشهور من المذهب، وأنه لا يجوز بيع المصحف. الثانية: أن ذلك جائز مع الكراهة، وهو المشهور في مذهب مالك والشافعي. الثالثة: أن ذلك جائز بلا كراهة، وهو المشهور عند الأحناف. واستدل القائلون بالنهي عن ذلك بما رواه عبد الرزاق في مصنفه عن ابن عمر أنه قال:" وددت أن الأيدي تقطع في بيع المصاحف " [المصنف 8 / 112، برقم 14525، وسنن البيهقي 6 / 16] وقال ابن عباس كما في مصنف عبد الرزاق:" اشترها ولا تبعها " [المصنف 8 / 112، برقم 14521] ، قالوا: ولما في بيعها من ابتذالها، ولا يجوز ابتذال المصحف. وأما القائلون بالجواز فقالوا: قد ثبت في الصحيح أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (إن أحق ما أخذتم عليه أجرا كتاب الله) [خ 5737] ، قالوا: فيدخل في عموم ذلك بيع المصحف، فإنه يأخذ أجرا على كتابته، فقد كتب المصحف وجلده، واشتغل بإصلاحه، قالوا: ولا ابتذال في بيعه، فإن بيعه لا يعني ابتذاله، نعم إن كان على الصور المبتذلة فلا يجوز ذلك، وأما مطلق البيع فإنه ليس فيه ابتذال، قالوا: ولعل كراهية الصحابيين - ابن عمر وابن عباس - إنما هو لخشية ابتذالهما، وقال بعض العلماء: لعل هذا النهي منهما لقلة المصاحف وقتئذ، فيكون بيعها بأسعار غالية مرهقة للناس، فأمر بإعطائها من غير بيع لها يرهق الناس، من أجل حصولهم على المصاحف، بخلاف الأزمنة المتأخرة التي كثرت فيها طباعة المصاحف، وأصبحت تباع بأسعار مناسبة، فحينئذ المعنى الذي من أجله كره ابن عمر وابن عباس بيع المصاحف غير موجود، وهذا هو الأصل، فإن الأصل في البيوع الحل، وأرجح الأقوال هو جواز بع المصحف، وهو رواية عن الإمام أحمد كما سبق، وهو مذهب الأحناف، لكن على وجه لا يبتذل.

قوله [والميتة] الميتة لا يجوز بيعها، لما ثبت في الصحيحين أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (إن الله حرم بيع الخمر والميتة والخنزير والأصنام، فقيل: يا رسول الله، أرأيت شحوم الميتة فإنها تطلى بها السفن وتدهن بها الجلود ويستصبح بها الناس فقال - صلى الله عليه وسلم - لا هو حرام) [خ 2236، م 1581] ، وقوله (لا هو حرام) أي البيع، فبيع الميتة حرام، ولا يجوز ولو كان المشتري مضطرا لها، لكن إذا كان مضطرا لها ولم يعطاها إلا ببيع فله أن يشتريها فدعا للضرورة، فإنه إذا جاز أن يأكلها دفعا للضرورة فأولى من ذلك أن يشتريها دفعا للضرورة. كذلك في المصاحف على القول بتحريم بيعها، فيجوز للمحتاج إلى المصحف أن يشتريه من بائعه، لأنه محتاج إليه، فجاز الشراء إذا لم يعطاه إلا ببيع. قوله [والسرجين النجس] السرجين: هو ما نسميه بالسماد، وهو ما يوضع لإصلاح النبات، فالسرجين النجس يحرم بيعه، لقوله - صلى الله عليه وسلم - لما قيل له: (أرأيت شحوم الميتة فإنها تطلى بها السفن وتدهن بها الجلود ويستصبح بها الناس، فقال: لا هو حرام) فدل على أن النجس لا يجوز بيعه، ومن ذلك السرجين، أما الانتفاع به فجائز، لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - في الحديث المتقدم أقرهم على الانتفاع به، ونهاهم عن البيع. وتقييد المؤلف له بـ (النجس) يدل على أن السرجين الطاهر يجوز بيعه كروث الإبل والبقر والغنم وغيرها من مأكول اللحم، فإن روثه طاهر، وعليه فيجوز بيع السرجين الطاهر لأن فيه منفعة. قوله [والأدهان النجسة والمتنجسة]

فالأدهان النجسة لا يجوز بيعها لما تقدم: لما سئل النبي - صلى الله عليه وسلم - عن شحوم الميتة فقال: (لا هو حرام) ، وقوله (المتنجسة) فالأدهان النجسة والمتنجسة لا يجوز بيعها، والفرق بينهما أن الأدهان النجسة هي النجسة بأصلها، أما المتنجسة فهي التي طرأت عليها النجاسة، كدهن طاهر وقعت فيه نجاسة، فالأدهان المتنجسة يحرم بيعها على المذهب، وهذا بناء على أن الدهن المتنجس لا يمكن تطهيره، وتقدم أن المائعات تطهر ويمكن تطهيرها، وعليه فيجوز بيعه، أي المتنجس، لإمكان تطهيره، وقد سبق هذا في كتاب الطهارة، وعلى هذا فالراجح أن الأدهان المتنجسة لا حرج في بيعها. قوله [ويجوز الاستصباح بها] أي بالمتنجسة لا النجسة، والاستصباح بها أي جعلها مادة لاشتعال النار في المصابيح، فيجوز على هذا استعمال الأدهان المتنجسة دون النجسة في الاستصباح، وهذا هو المشهور من المذهب، واختار شيخ الإسلام وهو قول في المذهب الحنبلي، وقول في المذهب الشافعي جواز ذلك، وأنه لا حرج فيه، فيجوز الاستصباح بالأدهان النجسة، ودليل ذلك ما تقدم من قوله - صلى الله عليه وسلم - في شحوم الميتة (لا هو حرام) أي البيع، وأقرهم على الانتفاع بها كما تقدم، فدل هذا على جواز الانتفاع بالدهن النجس أو المتنجس، أما الأكل فإنه محرم، وأما الانتفاع بها في غير ما نهى الشارع عنه فهو جائز. قوله [في غير مسجد]

فيجوز الاستصباح بالأدهان المتنجسة في غير المسجد، وذلك لأن الدخان يتحلل من هذا الدهن المتنجس فيكون في المسجد، والمسجد يجب أن يصان من النجاسات، فليست العلة أنه نجس موضوع داخل الإناء، فإن هذا لا يؤثر، فهذا يشبه النجاسة الباطنة في بدن الآدمي، لكن عندما يوقد فإن الدخان يتحلل منه فيكون في جو المسجد شيئا نجسا، والواجب أن يطهر المسجد من كل النجاسات، والراجح هو أن هذه المسألة مبينة على مسألة سابقة وهي أن ما يتحلل من النجاسة ليس بنجس، بل هو مادة أخرى، كما اختار ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية، فالمتحلل من النجاسة ليس بنجس، وعليه فإن الدهان المتحلل من هذا النجس أو المتنجس ليس بنجس، بل هو مادة أخرى، فهو دخان وليس دهنا، وعليه فيجوز الاستصباح بالأدهان المتنجسة في المساجد، ومثل ذلك على الراجح الأدهان النجسة. قوله [وأن يكون من مالك أو من يقوم مقامه] هذا هو الشرط الرابع: وهو أن يكون التصرف من مالك أو من يقوم مقامه. أي أن يكون التصرف من مالك للسلعة والثمن أو من يقوم مقامهما، والذي يقوم مقامهما إما ولي أو وصي أو وكيل أو ناظر. فالوكيل: هو النائب عن الحي. والوصي: هو النائب عن الميت. والناظر: للوقف خاصة. والولي: هو القائم على من لا يجوز تصرفه بماله كاليتيم. ودليل ذلك ما ثبت في المسند وهو عند الخمسة بإسناد صحيح من حديث حكيم بن حزام أن قال: (سألت النبي - صلى الله عليه وسلم - فقلت يا رسول الله يأتيني الرجل فيسألني البيع ليس عندي أبيعه منه ثم أبتاعه له من السوق قال: لا تبع ما ليس عندك) [حم 14887، 14888، ت 1232، ن 4613، د 3503، جه 2187] ، فدل على أن البيع لا يصح إلا من مالك أو من يقوم مقامه. قوله [فإن باع ملك غيره أو اشترى بعين ماله بغير إذنه لم يصح]

وهذا ما يسمى بتصرف الفضولي، فإذا باع ملك غيره بغير إذنه، كأن يبيع عمرو مالا لزيد بغير إذن زيد، أو اشترى بعين ماله بلا إذنه، كأن يكون عنده دنانير أو دراهم لزيد فاشترى سلعة من السلع لزيد، فإن هذا التصرف يسمى تصرف الفضولي، ولا يصح، وعليه فالبيع باطل، وهذا هو مذهب الشافعي والحنابلة، واستدلوا بحديث حكيم بن حزام: (لا تبع ما ليس عندك) ، وذهب المالكية وهو رواية عن أحمد إلى صحة البيع بشرط الإجازة، فإذا أجازه بأن قبل البيع أو الشراء فإن البيع يكون لزيد، وإن لم يقبل ذلك فإن البيع يبطل، وهذا القول هو الراجح، ودليله ما رواه الإمام أحمد في مسنده والبخاري في صحيحه وأبو داود والترمذي وابن ماجة في سننهم من حديث عروة البارقي: (أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أعطاه دينارا يشتري به أضحية أو شاة فاشترى شاتين فباع إحداهما بدينار فأتاه بشاة ودينار فدعا له بالبركة في بيعه، فكان لو اشترى ترابا لربح) [حم 18867، خ 3643، جه 2402، د 3384، ت 1258] وهذا هو تصرف الفضولي، ومع ذلك فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - قد أجازه على ذلك وأقره، وهذا القول هو الراجح في هذه المسألة، وأن بيع الفضولي وإن كان البيع من غير المالك فإنه بيع صحيح لكنه موقوف على الإجازة، ويلزم بشرط الإجازة من صاحب المال، فإن لم يجزه فإن البيع يبطل، ويجاب عن استدلال أهل القول الأول بحديث حكيم بأن حديث عروة يصح أن يكون مخصصا للمسألة السابقة، وأن من باع ما لا يملك فإنه يتوقف اللزوم على إذن المالك، والمعنى يدل على هذا، فإن المنع إنما هو لحق المالك، وحيث أجازه فقد أسقط حقه ورضي به. قوله [وإن اشترى له في ذمته بلا إذنه ولم يسمه في العقد صح له بالإجازة وإلا لزم المشتري بعدمها ملكا]

بمعنى أنه عقد صفقة ذكر فيها الثمن، وهو ينوي أن تكون السلعة لغيره، ولم يسمه في العقد، ولم يكن بعين مال ذلك الغير، مثاله: رجل اشترى بيتا، ونوى أن يكون لزيد، وقال: اشتريته بعشرة دنانير، وكانت هذه العشرة في الذمة، وليست بعين مال زيد، ولم يسم زيدا في العقد، فإنه يصح له بالإجازة، وإلا لزم المشتري بعدمها ملكا، فيصبح هذا المبيع له إن أجاز، وإلا لزم الفضولي فيكون ملكا له. وقول المؤلف هنا: (ولم يسمه) ظاهره أنه لو سماه فقال اشتريت هذه الدار لزيد بعشرة دنانير، فإن المسألة تكون كالمسألة السابقة فلا تصح مطلقا، وهذا هو المشهور من المذهب، وظاهر كلام صاحب المقنع أنه إذا سماه في العقد فكذلك وهو الظاهر، فيرجع فيه إلى إجازة من اشترى له في الذمة سماه أو لم يسمه، فإن أجازه كان ملكا له، وإلا فإنه يلزم المشتري. * مسألة: إن وكل رجلين في بيع سلعة، فباع كل واحد منها بثمن مسمى فالبيع للأول، لأن الوكيل الثاني زالت وكالته بانتقال ملك الأول عن السلعة، وصار بائعا ملك غيره بغير إذنه. قوله [ولا يباع غير المساكن مما فتح عنوة كأرض الشام ومصر والعراق بل تؤجر] هذا هو المشهور من مذهب الحنابلة، وغيرهم، فهو مذهب جمهور العلماء، أن ما فتح من الأرض عنوة فأوقفه الإمام على المسلمين فإن بيع الأراضي لا يجوز، وإنما يجوز بيع المساكن وكذلك إجارتها، وهذه كأرض مصر والشام والعراق مما أوقفه أمير المؤمنين عمر على المسلمين، ولم يقسمه بين الناس فكان وقفا، وقد أجمع العلماء على أن بيع المساكن وإجارة البيوت فيما فتح عنوة أنه جائز ولا بأس به، قالوا: وهؤلاء الصحابة لما سكنوا هذه البلاد كانوا يبيعون المساكن من غير نكير فكان ذلك إجماعا، وما زال المسلمون يتبايعون مساكن أراضي العنوة فلا نكير فكان ذلك إجماعا، قالوا: وإنما الأرض لا يجوز بيعها لأنها وقف، والوقف لا يباع ولا يوهب.

وقال الأحناف: بل يجوز بيع الأراضي أيضا، وهو أحد القولين في مذهب الشافعي وهو رواية عن الإمام أحمد واختار هذا القول شيخ الإسلام، وذلك لأن الوقف فيها ليس كالوقف الذي لا يجوز بيعه، بل هو وقف عام، يقصد منه إعطاء من كانت بيده الخراج عليها، فالمقصود أن من كانت بيده ينتفع بها فإنه يعطي بيت المال خراجها، ولذا جاز فيها التوارث، مع أن الوقف لا توارث فيه، وهذا القول هو الراجح، قال شيخ الإسلام:" وعليه عمل الأمة " ا. هـ، فالصحيح أن أراضي العنوة كأراضي مصر والشام والعراق يجوز بيعها، كما يجوز بيع المساكن وإجارتها. * مسألة: الصحيح من أقوال أهل العلم أن مكة قد فتحت عنوة، لقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: (إنما أحلت لي ساعة من نهار) [خ 104، م 1354] لكن اختلف العلماء في رباع مكة، هل يجوز بيعها وإجارتها أم لا يجوز؟ والمراد بالرباع: المنازل. القول الأول: وهو مذهب الجمهور من الأحناف والمالكية والحنابلة أن ذلك لا يجوز، فالبيع والإجارة غير جائزين، بل صاحب المنزل أحق به ما دام محتاجا إليه، فإذا استغنى عنه فليس له أن يبيعه ولا أن يؤجره، واستدلوا بما رواه الحاكم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (مكة كلها حرام، وحرام بيع رباعها وحرام أجرته) [كم 2 / 35] ونحوه عند سعيد بن منصور في سننه عن مكحول مرسلا، قالوا: ومكة حريم البيت الحرام الذي جعله الله للناس سواء العاكف فيه والباد، فلا يجوز لأحد تحجيره، وعليه فإن احتاج ما في يده سكنه، وإلا بذله للمحتاج إليه.

القول الثاني: وهو قول الشافعية، أنه يجوز بيعها وإجارتها، واستدلوا بما ثبت في الصحيحين عن أسامة بن زيد أنه قال: (يا رسول الله أين تنزل غدا إن شاء الله - وذلك زمن الفتح - قال: وهل ترك لنا عقيل من منزل) [خ 4283، م 1351] وفي رواية: (من رباع أو دور) [خ 1588، م 1351] ، فدل هذا على أن عقيلا تصرف فيها ببيع، وكذلك قال: (هل ترك لنا) فدل على أنها لو تركت لكانت له ولقرابته، وكذلك قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: (من دخل دار أبي سفيان فهو آمن) [م 1780] وذلك ما دخل مكة، فأضاف الدار إليه، والأصل أنها إضافة ملك، قالوا: وأما ما استدللتم به فالحديث الذي رواه الحاكم فيه عبيد الله بن زياد وهو ضعيف، وأما الثاني فهو مرسل، والمرسل ضعيف، فلا يعارض بهما ما استدللنا به.

القول الثالث: وهو الوسط، وهو اختيار شيخ الإسلام وتلميذه ابن القيم أنه يجوز بيع الرباع ولا تجوز إجارتها، فالبيع جائز لأنها ملك له بدلالة الحديثين الذين استدل بهما الشافعية، وأما الإجارة فمحرمة، قالوا: لما في ذلك من التضييق على الحجاج والزائرين، فمكة دار منسك، والذي يأتيها ممن يحتاج إلى استئجار فيها إنما هو في الغالب الحجاج والزائرين، قالوا: وقد قال عمر - رضي الله عنه - كما صح ذلك عند في مصنف عبد الرزاق وقد ثبت ذلك عنه من غير ما وجه أنه قال:" يا أهل مكة لا تضعوا على بيوتكم أبوابا حتى يدخل البادي " [مصنف عبد الرزاق 5 / 147، برقم 9211] والبادي: هو من أتى من خارج الحرم، وهذا الأثر يدل على أنهم ليس لهم أن يمنعوا البادي من سكنى لا يحتاجون لها، وهذا القول هو الراجح، فلا يحل لأحد أن يؤجر فيها لقول عمر، وقول الصحابي يخصص عموم الأدلة ولما في ذلك - أي في إجازة الإجارة - من التضييق على الحجاج والزائرين، وأما البيع فجائز لأنها ملك لأصحابها، والأصل في البيوع الجواز، ولما استدل به الشافعية من الأحاديث وقد تقدمت، لكن إن رأى الإمام أن المصلحة تقتضي الإذن بالإجارة فلا بأس، كأن يرى أن أهل مكة لا يصلحونها للسكنى إلا بالإجارة فلا بأس أن يأذن لهم فيها. قوله [ولا يصح بيع نقع البئر] إذا حفر رجل بئرا، فسقى منه بهائمه وزرعه، وفضل من ذلك فضل زائد عن حاجته فليس له أن يبيعه، وبيعه محرم، والمال الذي يكسبه منه محرم، لأن الله إذا حرم شيئا حرم ثمنه، وقد ثبت في المسند أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (إن الله إذا حرم شيئا حرم ثمنه) [حم 2956، د 3488، بلفظ: (وإن الله إذا حرم على قوم أكل شيء حرم عليهم ثمنه) ، وفي الصحيحين: (قاتل الله اليهود حرمت عليهم الشحوم فجملوها فباعوها) ]

ودليل هذه المسألة ما ثبت في مسلم أن النبي - صلى الله عليه وسلم -: (نهى عن بيع فضل الماء) [م 1565] ، وفي صحيح البخاري أن النبي - صلى الله عليه وسلم -: (لا تمنعوا فضل الماء لتمنعوا به فضل الكلأ) [خ 2354] ، وظاهر الحديثين العموم سواء كانت البئر والعين في أرض مملوكة له أو في أرض غير مملوكة له، وفي سنن أبي داود بإسناد صحيح أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (الناس شركاء في ثلاث: الماء والكلأ والنار) [د 3477 بلفظ: (المسلمون شركاء في ثلاث في الكلأ والماء والنار) ] وثبت في سنن ابن ماجة بإسناد صحيح أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (ثلاث لا يمنعن الماء والكلأ والنار) [جه 2473] ، وفي المسند بإسناد حسن أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (من منع فضل مائه أو فضل كلئه منعه الله فضله يوم القيامة) [حم 6635] فلا يجوز لأحد أن يمنع غيره فضل مائه، لكن إن حازه فوضعه في ظرف أو جعله في ساقية أو بركة ونحوه فله بيع هذا الماء، ودليل ذلك ما ثبت في صحيح البخاري أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (لأن يأخذ أحدكم حبله فيأتي بحزمة الحطب على ظهره فيبيعها فيكف الله بها وجهه خير له من أن يسأل الناس أعطوه أو منعوه) [خ 1471، م 1042] فدل هذا على أن الحطب - وهو من الكلأ وهو مما لا يجوز بيع فضله - إذا جز ثم وضع في حبل فكان حزما فإنه يجوز بيعه، وكذلك الماء، وليس له أن يمنع أحدا من أن يدخل أرضه ليأخذ من الماء الفاضل عن حاجته، وذلك لأنه حق لهذا الداخل فليس له منعه، إلا أن يترتب على ذلك ضرر عليه كأن يكون في محل محوط، ويكون فيه شيء من أمواله، ويخشى عليها من الضياع أو السرقة، فحينئذ له أن يمنع الناس ليحتاط لماله وعوراته، فلا يلزمه نفع غيره بضرر نفسه. * مسألة: هل يملك نقع البئر بملك الأرض؟ قولان هما روايتان عن الإمام أحمد، والصحيح أنه لا يملك لإطلاق الأدلة.

قوله [ولا ما ينبت في أرضه من كلأ وشوك] كذلك ما نبت في أرضه من عشب أو شجر أو كلأ أو شوك، فإنه لا يحل له أن يمنع غيره منه للحديث المتقدم (الناس شركاء في ثلاث) وهو أحق به لكونه في أرضه، وليس له أن يبيع فاضله، وليس له أن يمنع أحدا من الناس من فضله، لكن إن كان ذلك الكلأ لا يكفيه فله منع الناس منه، واستثنى شيخ الإسلام ابن تيمية ما إذا قصد استنباته لأن له عملا فيه، كأن يحرث أرضه للكمأة. قوله [ويملكه آخذه] إذا أخذ الماء أو الكلأ فإنه يملكه بأخذه، وحينئذ يجوز له أن يتصرف فيه كما شاء. قوله [وأن يكون مقدورا على تسليمه] هذا هو الشرط الخامس من شروط البيع: وهو أن يكون المبيع مقدورا على تسليمه. ويدل لهذا الشرط حديث حكيم بن حزام: (لا تبع ما ليس عندك) ولما ثبت في مسلم أن النبي - صلى الله عليه وسلم -: (نهى عن بيع الغرر) [م 1513] ، وكون البائع يبيع شيئا وإن كان ملكا له لكن لا يقدر على تسليمه فإن هذا غرر، وقد نهى عنه الشارع، وقد باع ما ليس عنده، فليس هذا المبيع مقدورا على تسليمه وقد مثل لهذا المؤلف فقال: قوله [فلا يصح بيع آبق] الآبق: هو العبد الهارب من سيده، فلا يجوز أن يبيعه لأنه غير مقدور على تسليمه. قوله [وشارد] هو الجمل الشارد، فلا يجوز بيعه، لأنه غير مقدور على تسليمه. قوله [وطير في الهواء] لأنه غير مقدور على تسليمه. قوله [وسمك في ماء]

والعلة في ذلك قد تقدمت، ظاهر كلام المؤلف وإن كان المشتري قادرا على تحصيله، فإنه لا يجوز، كأن يبيع العبد الآبق على من يقدر على تحصيله، ويكون ذلك مع الفسخ إن عجز عن الحصول عليه، فظاهر كلام المؤلف النهي عن هذا، وهو المشهور من المذهب، واختار الموفق ابن قدامة وهو قول لبعض الحنابلة وهو صاحب الإنصاف أن بيع غير المقدور على تسليمه للقادر على تحصيله جائز، وإن عجز عنه فله الفسخ، لأنه لا غرر في هذا، وهذا القول هو الراجح، فإنه لا غرر في ذلك، حيث باعه شيئا يمكنه أن يحصله، وعلى هذا فغير المقدور على تسليمه قسمان: 1- غير مقدور على تحصيله، فهذا لا يجوز بيعه قولا واحدا. 2- مقدور على تحصيله، فهذا يجوز في أصح القولين. وقياسا على بيع المغصوب على من يقدر على أخذه من غاصبه، فسيأتي كلام المؤلف في جوازه، فكذلك هنا، فإن المقدور على تحصيله وهو غير موجود يشبه المغصوب، فكلاهما غير مقدور على تسليمه، ومقدور على تحصيله. وتقييد المؤلف في قوله (وطير في هواء وسمك في ماء) هذا حيث كان لا يقدر على تسليمه، أما إذا كان يقدر على تسليمه ولو بمشقة فإن ذلك جائز، كأن يكون الطير في برج مغلق يمكن أن يسمك به فيه لكن مع المشقة، أو يكون السمك في موضع محصور، فهذا يقد على تسليمه، فيجوز بيعه، حتى مع وجود المشقة، وعلى هذا إذا كان يقدر على تسليمه بمشقة فإن ذلك جائز. قوله [ولا مغصوب من غير غاصبه أو قادر على أخذه]

المغصوب لا يجوز بيعه، لاختلال هذا الشرط، وهو القدرة على التسليم، فإن غير المقدور على تسليمه فيه غرر، واستثنى المؤلف أن يبيعه على غاصبه، فإن باعه على غاصبه فإنه يجوز، لكن بالشروط المتقدمة، ومنها شرط الرضا، أما إذا كان مكرها ملجئا إلى ذلك فلا يجوز، واستثنى بيع المغصوب على القادر على أخذه، كالأمير ونحو ذلك، فذلك جائز لأن المشتري لا غرر عليه، ويثبت له الفسخ، لأننا إذا أثبتنا البيع عليه بدون فسخ كان في هذا غررا، فقد يحصله وقد لا يحصله، فيكون حينئذ معرضا للخسارة، فيكون في ذلك غرر ظاهر. قوله [وأن يكون معلوما برؤية أو صفة] هذا هو الشرط السادس من شروط البيع: أن يكون المبيع معلوما. لأن بيع المجهول فيه غرر، وقد نهى النبي - صلى الله عليه وسلم - عن الغرر، كما نهى عن بيع حبل الحبلة كما في الصحيحين [خ 2143، م 1514] وهو نتاج النتاج للجهالة كما سيأتي، فعليه يشترط أن يكون المبيع معلوما بأي طريق من طرق العلم، وذكر المؤلف هنا الرؤية والصفة. أما الرؤية فيرى إما رؤية كاملة أو يرى بعضه الدال عليه، كأن يرى ظاهر الصرة - كومة الطعام - الذي يستدل به على الطعام نفسه، أو يرى وعاء التمر فينظر في أعلاه فيستدل بأعلاه على أسفله، ويستدل بظاهر الصرة على باطنها، فهذا جائز. ويشترط أن تكون الرؤية مقارنة للبيع أو سابقة له بزمن لا تتغير فيه السلعة تغيرا ظاهرا غالبا، كالدور والعقارات والمركوبات، وإن كان تغيرا يسيرا يعفى عن مثله فهذا لا بأس به، ولا يؤثر، وذكر المؤلف الرؤية ومثلها الشم والذوق ونحوها من طرق المعرفة، فالطيب يعلم بالشم، وبعض المطعومات تعرف بالتذوق، كالعسل والسمن ونحو ذلك، وعليه فالشرط أن يعرف السلعة، أي يعرفها معرفة لا يلحقه بها غرر.

أما الصفة فهي أن يوصف له المبيع وصفا منضبطا بما يؤثر في اختلاف الثمن، أي بالوصف المؤثر في الثمن، ودليل جواز بيع الموصوف في الذمة جواز بيع السلم، وسيأتي الكلام عليه، وهو تعجيل الثمن وتأخير المثمن، ولأنه يحصل به العلم ولا غرر فيه. قوله [فإن اشترى ما لم يره] فإن اشترى ما لم يره ولم يوصف له لم يصح، لاختلال هذا الشرط، فإن المبيع غير معلوم، إذا لم يره، ولم يوصف له. * مسألة: إن اشترى ما لم يره ولم يوصف له، لكن ذكر له جنسه، كأن يبيع عليه سيارة بعشرة آلاف، ولم يرها ولم توصف له، فعن الإمام أحمد وهو مذهب أبي حنيفة واختاره شيخ الإسلام في موضع وضعفه في موضع آخر كما في الاختيارات أنه يصح، وعليه فله الخيار إن رآه، فإن شاء أمضى، وإن شاء فسخ، والحاجة داعية إلى مثل هذه المعاملة، والضرر مدفوع بالخيار، ويكون النماء من العقد. قوله [أو رآه وجهله] أي رأى المبيع لكنه قد جهل ما هو، كأن يرى وعاء من طعام، فيباع الطعام في هذا الوعاء، فلا يدري نوعية الطعام الذي في الوعاء، ولا قدره، فإن ذلك لا يجوز للجهالة أيضا، وقوله (ولم يره) يغني عن هذه الجملة فإن فيها تكرارا، فالمقصود بالرؤية رؤية المبيع. قوله [أو وصف له بما لا يكفي سلما لم يصح] هذا هو المشهور في المذهب، وعن الإمام أحمد وهو أحد قولي الشافعي أنه يصح بما لا يكفي سلما، وهذه المسألة متعلقة بمسألة يأتي فيها البحث في باب السلم، وأن من شروط السلم صفته، وسيأتي الكلام عليه في بابه، والضابط المقصود في هذا الباب أنه متى وصف بوصف منضبط يعلم به المبيع فإن البيع صحيح. قوله [ولا يباع حمل في بطن]

للجهالة، ففي الصحيحين أن النبي - صلى الله عليه وسلم -: (نهى عن بيع حبل الحبلة) أي نتاج النتاج، بمعنى أن نبيع نتاج نتاج بهيمة الأنعام، وفي مسند البزار والحديث حسن لشواهده أن النبي - صلى الله عليه وسلم -: (نهى عن المضامين والملاقيح) [مجمع الزوائد 4 / 104، الطبراني في الكبير 11 / 230، برقم 11581] ، والمضامين ما في بطون الأنعام، أي الحمل، والملاقيح ما في ظهور ذكورها، وقد: (نهى النبي - صلى الله عليه وسلم - عن عسب الفحل) [خ 2284] أي عن نزوه، فإن بيع نزوه لا يجوز، فذلك كله بيع محرم. إذن لا يجوز بيع الحمل في البطن، ومثله الأمة فلا يجوز بيع حملها وهو في بطنها وذلك للجهالة والغرر. قوله [ولبن في ضرع منفردين] بيع اللبن في الضرع لا يجوز لما فيه من الغرر، وقد نهى النبي - صلى الله عليه وسلم - عن الغرر، وفي مصنف ابن أبي شيبة بإسناد صحيح عن ابن عباس قال:" لا تبتاعوا صوف الغنم على ظهورها، ولا اللبن في الضروع " [مصنف بن أبي شيبة 5 / 222، كتاب البيوع - بيع اللبن في الضروع] ورواه البيهقي مرفوعا ولا يصح [سنن البيهقي 5 / 340] والصواب وقفه على ابن عباس.

وقوله (منفردين) أي لا يجوز بيع الحمل في البطن، واللبن في الشرع منفردين، أما لو باع الأم وحملها، والبهيمة ولبنها، فذلك جائز لأنه يثبت تبعا ما لا يثبت استقلالا، فبيع اللبن في الضرع منفردا لا يجوز، واستثنى شيخ الإسلام خلافا لجمهور العلماء بيع اللبن الموصوف في الذمة وإن شرط المشتري أن يكون من بقرة أو غنمة معينة، فإذا اشترى من صاحب غنم لبنا موصوفا في الذمة من غنمة أو بقرة معينة فذلك جائز، قال: لأنه لا غرر فيه، وهو كما قال، فإنه لا غرر فيه، فإذا أعطاه اللبن الموصوف في الذمة أعطاه ثمنه، وإلا فسخ البيع، واستثنى أيضا ما يوجد في هذا الزمان من استئجار البقر أو الغنم أو الإبل وقت الدر، فتستأجر للبنها، فهذا جائز، قال: لأنه لا غرر فيه، فإن قيل: قد لا تدر عليه شيئا؟ فأجاب شيخ الإسلام ابن تيمية أن الغالب أنها تدر، وكونها لا تدر هذا شيء نادر، فلا يترتب على مثله غرر، كاستئجار الأرض لغرسها وزرعها، فإنها قد لا تنبت، ومع ذلك فإنه يجوز استئجارها لأن الغالب هو أن يخرج زرعها وشجرها، وقياسا على الظئر وهي المرضعة، وذكر شيخ الإسلام هذا قولا لبعض أهل العلم، وما ذكره شيخ الإسلام ظاهر لما تقدم إذ لا غرر فيه، فعليه لا يجوز بيع اللبن في الضرع إلا في الصورتين التين استثناهما شيخ الإسلام. والذي نهي عنه إنما هو بيع الموجود في الضرع لأنه لا يعرف مقدار ما وقع عليه البيع فإنه يخلفه غيره على وجه لا يتميز به ما وقع عليه البيع عما لم يقع عليه، فيكون في ذلك غرر. قوله [ولا مسك في فأرته]

الفأرة: هي الوعاء، أي ولا مسك في وعائه، والمسك معروف وهو نوع من الطيب بل هو أفضل الطيب، فالمسك لا يجوز أن يباه في وعائه الذي خلق فيه، لما في ذلك من الغرر، فإن قدر المسك وكميته مجهولة، فيكون في ذلك غرر، واختار ابن القيم ووجهه صاحب الفروع وجها واحتمالا في المذهب أن ذلك جائز، قال ابن القيم: لأن أهل الخبرة يعرفون باطنه بظاهره، فإنهم يستدلون بمعرفة الظاهر على الباطن، ولأن اشتراط الرؤية بإزالة وعائه عنه يعرضه إلى شيء من الفساد، بذهاب شيء من رائحته ورطوبته، وما ذكره ابن القيم ظاهر في هذا وهو الراجح (وفصل الشيخ عبد الرحمن بن سعدي في هذه المسألة فقال: إن بيع على أهل الخبرة فجائز، وإن بيع على غيرهم فلا يجوز، فإن الغرر يزول ببيعه على أهل الخبرة دون غيرهم) ، والراجح ما تقدم وعلى ذلك فبيع الذهب في الأرض أو النفط في الأرض أو نحو ذلك على قول ابن القيم يجوز، لأن أهل الخبرة يستدلون على معرفة ما في الباطن بما عندهم من الآلات والأجهزة، وعلى المذهب فإن ذلك محرم، والصواب أنه جائز. قوله [ولا نوى في تمره] فالنوى فيه منفعة مباحة لغير حاجة، فإنه قد يطعم، وقد يستخدم لبعض الاستخدامات، لكن في مثل هذا الزمن ثبت أنه لا قيمة له، فإن بيعه محرم، لأنه في الحقيقة لا قيمة له، إلا أن يكون مطعوما للدواب ونحوها فذلك جائز، والمقصود أن بيعه في التمر منهي عنه، لما في ذلك من الغرر، إذ لا يدري قدر النواة، وهل هي صغيرة أم كبيرة، والراجح جوازه لأن أهل الخبرة يعرفون ذلك، فهم يعرفون قدر النواة المعتاد من كل نوع من أنواع التمر، فلا يكون في ذلك غرر، والمشهور في المذهب أن بيعه لا يجوز وهو في تمره، أما إذا استخرج فإن ذلك جائز لمنفعته. قوله [وصوف على ظهر]

فلا يجوز بيع الصوف على الظهر، لما في ذلك من الغرر، وذلك لأنه يزداد نموا فيكون في ذلك غرر، وقد تقدم الأثر عن ابن عباس في هذا، وقوله:" لا تبتاعوا صوف الغنم على ظهورها "، وهذا هو القول الأول في هذه المسألة، وهو المشهور في المذهب، وعن الإمام أحمد وهو قول لبعض الشافعية أن ذلك جائز بشرط أن يجز في الحال، وهذا هو الراجح لأنه إذا جز في الحال فلا غرر. قوله [وفجل ونحوه قبل قلعه] أي من أنواع الحضروات التي يكون مأكولها في باطن الأرض ولا يظهر منها إلا شيء من الورق ونحوه مما ليس بمطعوم كالبصل والفجل ونحوها، فهنا قال: لا يجوز بيعه قبل قلعه، وعن الإمام أحمد وهو مذهب المالكية أن ذلك جائز، وهذا هو الراجح، وذلك لأن أهل الخبرة يستدلون بما يظهر منه فيعرفون الباطن، ولأن اشتراط ذلك سبب في إفساده، وعليه فيجوز بيع هذه الأطعمة، وعلى تفصيل الشيخ عبد الرحمن المتقدم يقال: بيعها على غير أهل الخبرة لا يجوز، لما فيه من الغرر. واتفق أهل العلم على أن المطعومات التي هي في وعاء ويؤدي اشتراط رؤية ما في باطنها إلى فسادها فإن بيعها في وعائها جائز، كبيع الرمان ونحوه، فإن اشتراط رؤية ما في داخلها يفسدها فيجوز باتفاق أهل العلم بيعها وهي في وعائها. قوله [ولا يصح بيع الملامسة والمنابذة]

وهذه المسألة محل اتفاق بين العلماء، والملامسة: أن يقول أي ثوب لمسته فهو لك بكذا، أو نحو ذلك، والمنابذة أن يقول: أي ثوب نبذته عليك فهو لك بكذا، ونحوه كأن يقول ما طرحته عليك من السلع فهو علي بكذا ونحوه، فهذا البيع محرم وباطل باتفاق أهل العلم، فقد ثبت في الصحيحين أن النبي - صلى الله عليه وسلم -: (نهى عن بيع الملامسة والمنابذة) [خ 5819، م 1511] وهو من الغرر وقد نهى الشارع عن الغرر وبيع الجهالة، ومثل ذلك بيع الحصاة، ففي مسلم أن النبي - صلى الله عليه وسلم -: (نهى عن بيع الحصاة) [م 1516] كأن يقول ارم بهذا الحصاة على أي سلعة أو على أي شاة أو نحو ذلك فهي لك بكذا، أو ارم بهذه الحصاة من موضعك فإلى أي مسافة وقعت من الأرض فهي لك بكذا ونحو ذلك، وهذا أيضا غرر وجهالة. قوله [ولا عبد من عبيده ونحوه] كأن يقول أبيعك عبدا من عبيدي أو شاة من شياهي أو أرضا من أراضي أو نحو ذلك، فلا يجوز ذلك للجهالة، فإن العبيد تختلف أسعارهم وكذا الشياة وكذا الأراضي، فيكون فيه جهالة، وظاهر كلام أبي الخطاب من الحنابلة أن القيمة إذا تساوت فإن ذلك جائز، فإذا كان عنده قطيع من الغنم كل شاة فيه تساوي مائة درهم، فقال: أبيعك شاة من هذه الشياة بمائة درهم، فلا بأس بذلك، إذ لا غرر، أو قال: أبيعك سيارة من هذه السيارات أو خيلا من هذه الخيول بكذا، وكانت السلع متساوية القيمة، فهذا جائز، وما ذهب إليه أبو الخطاب ظاهر إذ لا جهالة ولا غرر، إلا أن يكون لهذا المشتري غرض صحيح كأن يكون غرضه شاة حاملا أو شاة سمينة وهو يريد الذبح، وهي متساوية القيمة لكن هذه شاة حامل، وهذه شاة سمينة، وهو له قصد في الذبح أو له قصد في النماء أو نحو ذلك فحينئذ لا يجوز للجهل، إذ يفوت مقصوده حيث أعطي غير ما يريد فيكون في ذلك جهالة.

إذن ما ذهب إليه أبو الخطاب ظاهر حيث تساوت القيمة ما لم يكن هناك غرض صحيح له، كما سبق، وينبغي أيضا جواز ما كان الغرر فيه يسيرا كما إذا كانت القيم متقاربة. قوله [ولا استثناؤه إلا معينا] فإذا قال أبيعك هذا القطيع من الغنم إلا بعضه، لم يصح، لأنه لا يدري قدر هذا القطيع، ولا يدري هل هو كثير أم قليل، وحينئذ تثبت الجهالة والغرر، ولذا ثبت في السنن بإسناد صحيح أن النبي - صلى الله عليه وسلم -: (نهى عن المحاقلة والمزابنة وعن الثنيا إلا أن تعلم) [ت 1290، ن 3880، د 3405، وأصله في مسلم دون قوله (إلا أن تعلم) ، م 1536] أي عن الاستثناء إلا أن يعلم. وعلى هذا فإن علمت الثنيا - أي الاستثناء - فإن ذلك جائز، كأن يقول بعتك هذا القطيع إلا هذه الشاة، فحينئذ لا جهالة ولا غرر. فإن قال: بعتك هذه الشياة إلا شاة، فتعود المسألة السابقة: فإن كانت القيم مختلفة فلا يجوز للغرر. وإن كانت القيم متساوية فننظر هل لهذا المشتري غرض صحيح في شيء منها، فإن كان له غرض صحيح فلا يصح للجهالة، وإن لم يكن له غرض كأن يكون هدفه التجارة، والقيم متساوية فحينئذ يصح البيع كما تقدم. قوله [وإن استثنى من حيوان يؤكل رأسه وجدله وأطرافه صح، وعكسه الشحم والحمل]

إذا قال: بعتك هذه الشاة إلا رأسها، أو جلدها، أو شيء من أعضائها فهذا جائز، وذلك لأن المستثنى معلوم، وقد نهى النبي - صلى الله عليه وسلم - عن الثنيا إلا أن تعلم، والثنيا هنا معلومة، وحينئذ فإذا تم البيع فإن ذبح هذه الشاة فإن الآخر يأخذ ما استثناه، وإن أبى أن يذبحها فإنه يعطيه قيمتها، وعلى هذا فاستثناء شيء ظاهر من الحيوان المأكول اللحم جائز، وعكسه الشحم والحمل، فالشحم لا يجوز استثناؤه، لأنه مجهول، فلا يدري قدره، هل هو قليل أم كثير، فإنه ليس بمشاهد، وعليه فإن قدره كأن يقول لي من شحمها كذا، فإن هذا جائز، إذ لا جهالة فيه، لكن إذا أطلق فقال: إلا شحمها، فلا يجوز لأن الشحم غير معلوم القدر، وكذلك الحمل، فإذا باعه شاة حاملا فقال: أبيعك هذه الشاة إلا حملها فلا يجوز، وهذا هو المذهب، وعن الإمام أحمد وهو قول إسحاق أن ذلك جائز، وأن الصفقة إنما وقعت على شاة لا حمل فيها، فكأنه يقول: إن الحمل لا أبيعك إياه، وإنما أبيعك شاة خالية من الحمل، فأقدرها لك على أنها لا حمل فيها، فلم يقع البيع على الحمل بل هو استبقاء للحمل في ملكه، فلا يكون من باب بيع الحمل، وعلى هذا لو قال: بعتك هذه الشاة إلا حملها فإن ذلك جائز، وهذه الرواية عن الإمام أحمد أصح من الرواية المشهورة عنه. قوله [ويصح بيع ما مأكوله في جوفه كرمان وبطيخ] وهذه المسألة محل وفاق، ومثل ذلك البيض، فما يكون مأكوله في جوفه يجوز بيعه من غير رؤية، لأن الحاجة داعية إلى مثل ذلك، ولأن النظر في الطعام وهو في جوف قشره فيه إفساد له، فيكون ذلك جائزا لا حرج فيه، فإن خرجت فاسدة فلا رجوع في البيع ما لم يكن هناك شرط في ذلك. قوله [وبيع الباقلاء ونحو في قشره]

وكذلك يجوز بيع الباقلاء وهو الفول ونحوه كالحمص والجوز واللوز، فهذه المأكولات التي تكون ذات لب وقشر لا يشترط في بيعها النظر في لبها، بل تباع في قشرها من غير أن ينظر في اللب، لما تقدم من دعاء الحاجة إلى ذلك، ولأن في إزالة القشر إفسادا لها. قوله [والحب المشتد في سنبله] ويجوز بيع الحب المشتد وهو ما زال في سنبله، وذلك لما ثبت في سسن الترمذي وغيره أن النبي - صلى الله عليه وسلم -: (نهى عن بيع الحب حتى يشتد) [ت 1228، د 3371، جه 2217، ونحوه في الصحيحين] ظاهره أن بيعه إذا اشتد جائز مطلقا، ولو كان في سنبله. قوله [أن يكون الثمن معلوما] هذا هو الشرط السابع من شروط البيع: أن يكون الثمن معلوما. والثمن ما دخلت عليه الباء، وهو في الغالب من النقدين، وقد تقدم أن المبيع يشترط أن يكون معلوما، فكذلك الثمن، لأن الثمن هو أحد العوضين الذين وقع عليهما عقد البيع، فكما أن المثمن يشترط فيه العلم، فكذلك يشترط في الثمن، لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى عن بيع الغرر، واختار شيخ الإسلام صحة البيع وإن لم يسم الثمن وله ثمن المثل كالنكاح، ثم قال المؤلف مرتبا على ذلك: قوله [فإن باعه برقمه..... لم يصح]

أي إن قال: أبيعك هذا الثوب بالرقم المكتوب عليه، فعليه ورقة مكتوب فيها السعر، يقول المؤلف هذا لا يصح، قالوا: لأن الرقم مجهول، سواء كان مجهولا للبائع أو للمشتري أو مجهولا لهما، أما البائع فقد يكون لا يحيط بأسعار السلع التي عنده أو أن تكون هذه السلعة جديد حضورها، وقد كتب البائع عليها سعرها، وأما المشتري فجهالته ظاهرة بالرقم المكتوب على هذه السلعة، قالوا: فلا تجوز للجهالة، وعن الإمام أحمد واختاره شيخ الإسلام أن ذلك جائز، قال: لأن الرقم المكتوب على السلعة هو الثمن الذي يشتري به الناس، أي قد رضي الناس بهذا الشراء، وبهذا الثمن، وحينئذ فإن هذا المشتري يسعه ما يسع الناس، فإنه يرضى بما يرضى به الناس، وهذا أمر ظاهر، فإن المشتري يرضى في الغالب بالسعر الذي يشتري به الناس، وما ذكره شيخ الإسلام ظاهر، حيث ثبتت هذه العلة التي ذكرها وهي حيث كان الرقم مما يشتري به الناس، وهذا إنما يكون في السلع التي يتعاطاها أكثر الناس وسعرها معروف لديهم كما في أقوات الناس ونحو ذلك، وأما ما ليس مشهورا عند الناس، فإن قبول طائفة من الناس للشراء به لا يعني قبول غيرهم، ففيه جهالة وغرر حينئذ، فمثلا الألبسة تختلف أسعارها، وهذا الذي يبيعها برقمها، يقبل قوله طائفة من الناس، فلا يعني هذا قبول سائر الناس لقوله، وحينئذ يكون فيه جهالة وغرر، فالأظهر ما ذهب إليه الحنابلة في هذه المسألة إلا أن بكون مما هو مشهور عند الناس سعره وقبوله بهذا السعر فإن المشتري يرضى غالبا بما يرضى به عامة الناس. قوله [أو بألف درهم ذهبا وفضة] أي قال: بعتك هذا الثوب بألف درهم ذهبا وفضة، والمعنى: بعتك هذا الثوب بخليط من الذهب والفضة تساوي ألفا، فهنا القيمة هل هي معلومة أم مجهولة؟

إذا نظرنا إلى أنها محددة بالدراهم قلنا إن القيمة معلومة، فألف درهم، تساوي مائة دينار، فالدرهم عشر الدنانير، فإذا أعطى البائع تسعمائة درهم وعشرة دنانير فهنا أعطاه ذهبا وفضة تساوي مجموعها ألفا، إذن الجهالة ليست في القيمة، وإنما الجهالة هنا في الثمن، هل هو ذهب أم فضة، مع عدم تحديد مقدار كل منهما، فلم يحدد قدر الذهب، ولم يحدد قدر الفضة، وقد يكون له قصد في الذهب دون الفضة، لكن لا يظهر في هذا جهالة، فإن البائع إذا رضي بهذا فإنه قد رضي بهذه القيمة بغض النظر عن المعطى له هل هو ذهب أم فضة، فلا يتبين النهي عن مثل هذه الصورة، بخلاف ما إذا قال: بعتك بألف ذهبا وفضة، فحينئذ لا يدري ما القيمة، فقد نعطيه تسعمائة وتسعا وتسعين درهما، ودينارا واحدا، وقد نعطيه تسعمائة وتسعة وتسعين دينارا ودرهما واحدا، فالقيمة حينئذ مختلفة، ومثل ذلك لو قال في وقتنا الحاضر: بعتك بألف دولار وريال، والدولار أكثر من الريال، وحينئذ لا يدري أيهما أكثر فثبتت الجهالة والغرر، بخلاف الصورة الأولى. ووجه صاحب الفروع الصحة ويلزمه النصف ذهبا وفضة، وفيه نظر، لعدم ثبوت الرضى. قوله [أو بما ينقطع به السعر]

كأن يقول: هذه السلعة يوقف بها في المزاد، ويزداد عليها، فما وقفت عليه هذه السلعة فأنا أشتريها من ك بالثمن الذي تقف عليه، فقال المؤلف هنا: لا يجوز، لما فيه من الجهالة والغرر، فقد تباع بألف، وقد تباع بمائة ألف، واختار شيخ الإسلام وتلميذه ابن القيم وهو رواية عن الإمام أحمد جواز هذه الصورة، وذلك لما تقدم من العلة السابقة، فإن الثمن الذي تقف عنده هذه السلعة هو الثمن الذي تستحقه عند الناس، فيكون راضيا بسعرها الذي يشتري به الناس، وفي هذا نظر ظاهر، وذلك لأن هذه المحال التي يتزايد فيها على السلع تختلف القيم فيها اختلافا بينا ظاهرا، بحسب اختلاف عدد الراغبين في السلعة، فأحيانا يقلون وأحيانا يكثرون، فإن كثروا فإن هذه السلعة سيزداد سعرها، وحينئذ يكون فيه غرر وجهالة، كما أنه مدعاة للعداوة والبغضاء والاختلاف ونحو ذلك، فينهى عنها سدا لهذه الذريعة، فالأظهر هو ما ذهب إليه الحنابلة من النهي عن هذه الصورة خلافا لما اختاره شيخ الإسلام وهو أحد الروايتين عن الإمام أحمد، واختاره ابن القيم، وقال:" إنه لا نص في كتاب ولا سنة ولا إجماع ولا قول صاحب ولا قياس صحيح ينهى عنها، وإن الناس يتبايعون بها في كل عصر ومصر " ا. هـ. أما تعامل الناس بها فهذا لا يدل على جوازها، وأما أنه لا يمنعها نص من كتاب ولا سنة، فإن المانعين يقولون هما غرر، والنبي - صلى الله عليه وسلم - نهى عن الغرر. قوله [أو بما باع زيد وجهلاه أو أحدهما لم يصح]

أي قال: بعتك هذه السلعة بما بعته على زيد من الناس، فهنا لا يجوز إذا جهلاه أو جهله أحدهما وذلك للجهالة والغرر، وقال بعض العلماء إن ذلك جائز واختاره شيخ الإسلام وهو رواية عن أحمد، وذلك إن كان هذا المشتري ممن يثق بشرائه، بمعنى: رجل أراد أن يشتري سيارة، وهناك رجل معروف بمعرفته بقيم السيارات، فقال البائع: قد اشتراها مني فلان بثمن ما، فأنا أبيعك نفس السلعة بنفس الثمن الذي اشتراها مني به، فالأظهر جواز ذلك، لأنه لا دليل على الحرمة، وهو يشبه التوكيل، كما لو قال رجل لآخر: اشتر لي سيارة بالثمن المناسب لها، فاشترى السيارة له بالثمن المناسب لها فيجب أن يقبل ذلك، ومسألتنا هذه فيها شبه من مسألة الوكيل، ولأن هذا هو سعرها المعقول، وقد رضي بذلك ولا غرر منه، والجهالة إنما ينهى عنها لما فيها من الغرر، وحيث لا غرر، فيجوز حينذاك. * مسألة: إن قال: بعتك هذه السيارة بألف، فهل يصح هذا البيع أم لا؟ الجواب: إن كان هناك نقد غالب في البلد، أو لم يكن هناك سوى نقد واحد، فإن البيع صحيح، ويحمل هذا المبلغ عليه، فإن قال: بعتك بألف، فيحمل على الريالان في المملكة العربية السعودية، لأنها في النقد الغالب، ومثل ذلك وأولى إن لم يكن هناك إلا نقد واحد، أما إن كان هناك أكثر من نقد متداول، وكل من هذه النقود غالبة في تعامل الناس فهنا لا يصح للجهالة. قوله [وإن باع ثوبا أو صبرة أو قطيعا كل ذراع أو قفيز أو شاة بدرهم صح]

الصبرة هي كومة الطعام، والقفيز: عدد من الأرطال، ومثال ما ذكره المؤلف: إن كان عنده قماش، فقال: أبيعك هذا القماش كل متر بكذا، فهما قد جهلا أو أحدهما قدر الأمتار من هذا القماش، لكنهما يعلمان المبيع والثمن، فكل متر بدرهم، وكل قفيز من الصبرة بكذا، وكل شاة من القطيع بكذا، وهو يريد بعيه كله، فالصفقة قد وقعت على الثياب كلها، وعلى الشياة كلها، وعلى الطعام كله، فالبيع صحيح، لتوفر الشروط في المبيع، فالمبيع معلوم، والثمن معلوم أيضا، ولا يؤثر الجهل بقدر العدد المشترى، فهذه جهالة غير مؤثرة لأن المبلغ معلوم والسلعة معلومة. قوله [وإن باع من الصبرة كل قفيز بدرهم..... لم يصح] الفرق بين هذه المسألة والمسألة السابقة أن المسألة السابقة الصفقة قد وقعت على الصبرة كلها، وكذلك على الثياب كلها، وعلى الشياة كلها، أما في هذه المسألة فقد وقعت على البعض، كأن يقول: أبيعك بعض هذا القطيع كل شاة بدرهم، وأبيعك من هذا القماش كل ذراع بدرهم، وأبيعك من هذه الصبرة بعضها كل قفيز بدرهم، قالوا: لا يجوز ذلك، لأن هذا البعض قد يكون قليلا وقد يكون كثيرا، وحينئذ حصلت الجهالة، وقال بعض الحنابلة: هو جائز، وهو اختيار ابن عقيل، وذلك لأن الثمن معلوم، والمبيع معلوم،فلا جهالة، وكونه يجهل هل الأقل هو المشترى أم الأكثر هذا غير مؤثر كما أن جهالة أذرع القماش فيما إذا باعه كله غير مؤثرة، فكذلك هنا ولا فرق، وهذا الذي عليه عمل الناس اليوم في الأسواق، فإنه عندما يأتي إلى الطعام ليشتريه يقول: تأخذ كل قدر كذا من هذا الطعام بكذا، وهذا جائز ولا بأس به، فإنه لا جهالة فيه. قوله [وبمائة درهم إلا دينار وعكسه]

إذا قال: أبيعك هذه الصبرة بمائة درهم إلا دينار أو عكسه بأن يقول أبيعك هذه الصبرة بمائة دينار إلا درهم، قالوا: هذا لا يجوز، لأن المستثنى منه مجهول، وهو الدينار في المسألة الأولى، والدرهم في المسألة الثانية، وكون المستثنى منه مجهولا يصير الشيء كله مجهولا أيضا، ويترتب على ذلك أن يكون الثمن مجهولا، وظاهر قول الخرقي من الحنابلة أن ذلك جائز، وهذا هو الظاهر، فإن قدر الدينار معلوم، ولعل هذه المسألة عندهم على أن الدينار مجهول، لا يعرف قدره بالدراهم، فإذا كان كذلك منع، وأما إذا كان قدر الدينار من الدراهم معلوما فإن هذا لا جهالة فيه، وعلى هذا فالصحيح أنه إذا كان قدر الدينار والدراهم معلوم جاز ذلك. قوله [أو باع معلوما ومجهولا يتعذر علمه ولم يقل كل منهما بكذا لم يصح] إذا باع سلعتين في صفقة واحدة، إحداهما معلومة، والأخرى مجهولة يتعذر العلم بها، فباعهما بثمن واحد ولم يخبر المشتري ثمن كل سلعة فإن البيع لا يصح للجهالة، كأن يبيع فرسا وما في بطن فرس أخرى بمائة دينار، ولم يقل هذه بكذا وهذه بكذا، فحينئذ يكون البيع غير صحيح للجهالة بالثمن. قال الموفق:" ولا أعلم بطلانه خلافا " ا. هـ قوله [فإن لم يتعذر صح في المعلوم بقسطه]

صورة هذا: إن لم يتعذر علينا علم هذا المجهول، كأن يقول: أبيعك هذه الفرس وفرسا أخرى بالبيت من غير وصف لها بمائة دينار، فالأولى معلومة والأخرى مجهولة، فالبيع غير صحيح للجهالة، لكن هذه المجهولة يمكن التعرف على قيمتها فيذهب فيراها ويعرف قيمتها، وعلى هذا فالبيع باطل للمجهولة، وصحيح للمعلومة، وحينئذ يصح في المعلوم بقسطه من الثمن، فنقوم المعلومة، ونقوم المجهولة بعد أن نراها، فإذا وجدنا مثلا أن ثمن المعلومة ثلاثين دينارا، وثمن المجهولة يساوي ستين دينارا، فنسبة المعلومة للثمن الثلث، ونسبة المجهولة للثمن الثلثان، وكان السعر بينهما مائة دينار، فعلى هذا يكون ثمن المعلومة الثلث، وهو ثلاثة وثلاثون دينارا. وهذه المسألة تسمى تفريق الصفقة، وهذه هي الصورة الأولى منها. ومثل ذلك إذا باع عبدا مشاعا كما قال المؤلف بعد هذا: قوله [ولو باع مشاعا بينه وبين غيره كعبد أو ما ينقسم عليه الثمن بالأجزاء صح في نصيبه بقسطه] وهو قول الجمهور وأحد الوجهين عند الشافعية، والمشاع ما كان الاشتراك فيه بكل جزء من الأجزاء، مثاله: رجلان يملكان عبدا، لكل واحد النصف، فباع أحدهما العبد بلا إذن الآخر، أو كانا يملكان أرضا مشاعة بينهما لكل منهما النصف، فباع أحدهما كل الأرض دون إذن الآخر، أو كان لكل واحد منهما نصيبه الذي ينقسم عليه الثمن بالأجزاء كأن يكون عندهم عشرة آصع من التمر، هذا له خمسة، وهذا له خمسة، وقد بيعت هذه الكومة من التمر مجتمعة، وهذا كله بلا إذن الآخر، فالحكم أنه يصح في نصيبه بقسطه. مثاله: له من العبد النصف، فباعه بدون إذن صاحبه، فيقوم هذا النصف، ويقوم النصف الآخر، ويكون له نصف الثمن، فيدفع المشتري نصف المثمن له فيتملك نصيبه، وأما النصف الآخر فيبقى في ملك الأول. وهذه هي الصورة الثانية من مسائل تفريق الصفقة، أما الصورة الثالثة فذكرها المؤلف بعد هذه:

قوله [وإن باع عبده وعبد غيره بغير إذنه، أو عبدا وحرا، أو خلا وخمرا صفقة واحدة صح في عبده وفي الخل بقسطه] مثاله: أخذ عبده وعبد غيره فباعهما معا، وقال: هذان العبدان بمائة دينار، أو أخذ عبدا وحرا، فباعهما بثمن واحد، والحر لا يصح بيعه، أو أخذ خلا وخمرا فباعهما بثمن واحد، فهنا قال المؤلف: (صح في عبده) أي الذي يملكه، (وفي الخل) ، لكن كيف نقوم ما صح بيعه؟ أما في الحر فإنه يقدر لو كان عبدا، وهذه في الحقيقة مشكلة، لأنه قد لا يرضى بذلك، بمعنى أنه يؤخذ هو والعبد فيقال كم يساوي هذا العبد في السوق، قالوا: خمسين دينارا، وكم يساوي هذا الحر لو كان عبدا، قالوا: مائة دينار، فصار العبد نصف الحر، فنصيب العبد الثلث من الثمن. وإن كانت المسألة من عبدين فكذلك، يقال: كم يساوي هذا العبد - أي الذي هو ملك له - فيقال: خمسون دينارا، فيقال: كم يساوي هذا العبد الآخر - وهو العبد الذي بيع بدون إذن صاحبه - فيقال: مائة دينار، فحينئذ يكون نصيبه من الثمن الثلث. وأما الخمر فإنه يقوم خلا، لأن بيع الخمر محرم، والخمر ليس له قيمة شرعا، فينظر في قيمة الخل، ثم في قيمة الخمر لو كان خلا، ويقوم الخل بقسطه كما سبق. قوله [ولمشتر الخيار إن جهل الحال] هذا المشتري الذي تبعض عليه المبيع والسلعة ثبت له الخيار، بشرط أن يجهل الحال، فله أن يلتزم البيع، ويأخذ السلعة مبعضة، فإنه إذا اشتري الشيء على أنه تام فإذا به مبعض فله أن يقبله وله أن يرده، هذا إن جهل الحال، ولأنه إنما رضي على الصورة المتقدمة، فلم يثبت رضا على الصورة المتأخرة. * وهل له الخيار إن علم الحال؟

الجواب: ليس له ذلك، لأنه دخل على بصيرة، وهذا ما قيده المؤلف بقوله (إن جهل الحال) فظاهره أنه إذا علم الحال فلا، وذلك لأنه دخل على بصيرة، فإذا اشترى خلا وخمرا ويعلم أن هذا خمر، لا يجوز بيعه، فليس له بعد ذلك الخيار، بل هو ملزم بشراء الخل لأنه قد دخل على علم وبصيرة. ولا خيار للبائع في المشهور في المذهب، وقال شيخ الإسلام يثبت له الخيار أيضا، ذكره عنه في الفائق وهذا ظاهر إن جهل الحال ولحقه ضرر، والشركة عيب. فصل قوله [ولا يصح البيع ممن تلزمه الجمعة بعد ندائها الثاني] واتفق العلماء على تحريم البيع بعد النداء الثاني، واختلفوا هل يصح البيع أم لا يصح على قولين، فقال المالكية والحنابلة لا يصح، وقال الشافعية والأحناف: يصح. قوله (ممن تلزمه الجمعة) احتراز ممن لا تلزمه، كالمرأة والعبد ونحوهما. قوله (بعد ندائها الثاني) لا الأول. والدليل على هذه المسألة قوله تعالى {يا أيها الذين آمنوا إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة فاسعوا إلى ذكر الله وذروا البيع} فأمر الله عز وجل بترك البيع إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة، وأمر الله تعالى هذا يدل على أن تعاطي البيع والشراء حرام، وما كان محرما فهو فاسد، لقوله - صلى الله عليه وسلم -: (كل عمل ليس عليه أمرنا فهو رد) [خ تعليقا، م 1718] فالبيع محرم وباطل، أما تحريمه فلقوله تعالى {وذروا البيع} وأما بطلانه فلأنه منهي عنه، والنهي يقتضي الفساد، وقال الشافعية والأحناف: هو صحيح، ولكن هذا القول ضعيف، لأن المنهي عنه فاسد كما سبق.

* وهنا قال المؤلف (بعد ندائها الثاني) فدل على أن البيع بعد النداء الأول جائز، وهو كما قال، فإن الله تعالى قال {إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة} والنداء لصلاة الجمعة عند نزول هذه الآية كان هو النداء الثاني، وأما الأول فإنما هو سنة عثمان - رضي الله عنه - للمصلحة الراجحة في عهده، ولم يكن على عهد النبي - صلى الله عليه وسلم -. ** أما إذا كان المتعاقدان ممن لا تلزمهما الجمعة فإن البيع صحيح، لكن لو أن امرأة باعت على من تلزمه الجمعة فالبيع باطل وهو محرم، لأنه تعاون على الإثم، وقد قال تعالى {ولا تعاونوا على الإثم والعدوان} ، فهي إذا باعته بعد نداء الجمعة الثاني فقد أعانته على المحرم، وهو محرم. *** يستثنى من ذلك ما إذا كانت له إليه حاجة يلحقه الحرج بتفويته فهذا جائز، كمن اضطر إلى طعام أو شراب أو كسوة، أو اضطر أهل الميت إلى شراء كفن أو نحو ذلك، ويخشون على الميت إن تأخروا في شراء كفنه وحنوطه ونحو ذلك، فهذا جائز، لأن الضرورات تبيح المحذورات. **** وظاهر قوله تعالى {وذروا البيع} البيع كله قليله وكثيره، فلا يستثنى من ذلك شيء، فالبيع كله محرم، وإن قل، ومن كان يسكن في بيت بعيد عن المسجد، ويحتاج إلى سعي قبل النداء، فإنه يحرم عليه البيع بقدر ما يحتاج إليه من السعي، فإن المسألة السابقة حيث كان يدرك ذكر الله من نداء الجمعة، فإذا سمع النداء فسعى أدرك الذكر الواجب - وهو الصلاة فقط أو الصلاة والخطبة -، أما هنا فإن بيته بعيد بحيث لا يستطيع إدراك الجمعة، وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب. ***** مسألة: ما حكم البيع بعد الأذان في الصلوات الخمس؟ ظاهر كلام المؤلف جواز ذلك، والمسألة لها صور في المذهب.

1- الصورة الأولى: أن يكون ذلك مع تضيق وقت الصلاة بأن لا يبقى من الوقت إلا ما يسعها، مثلا يكفي لصلاة الظهر لإدراك ركعة خمس دقائق، فلو استمر في عقد البيع إلى أن تضيق الوقت بحيث لم يبق منه إلا ما يدرك به الصلاة فلا يجوز البيع والشراء في هذه الحالة، وهل يصح البيع أم لا؟ فيه وجهان، أصحهما أنه لا يصح لأنه كالمسألة السابقة في صلاة الجمعة. 2- الصورة الثانية: ألا يضيق الوقت، فالمشهور من المذهب جواز ذلك، والقول الثاني في المذهب وهو قول لبعض الحنابلة أن ذلك لا يجوز، وهو الأرجح، لأن الجماعة تفوت، فالصحيح أنه إذا نودي للصلاة فلا يجوز البيع والشراء، لأن البيع ذريعة إلى تفويت صلاة الجماعة، وهي واجبة، لكن البيع يصح لأن الأصل صحة البيع والقياس على الجمعة مع الفارق، فالجمعة آكد ولأن صلاة الجمعة تفوت بخلاف الجماعة. فإن قيل: لماذا ذكر الله في الآية صلاة الجمعة فقط؟ فالجواب أنه لبيان القصة الواقعة وسائر الصلوات مثلها، فالراجح أنه ينهى عن البيع والشراء بعد الأذان مطلقا كما سبق. قوله [ويصح النكاح وسائر العقود]

كالرهن والهبة وغيرها من العقود، فهي صحيح بعد نداء الجمعة الثاني، قالوا: لأن الله قال {وذروا البيع} فلم يذكر الله غيره، ولأن وقوع غيره وقوع قليل، فلا يكون ذريعة إلى تفويت ما يجب على المسلم من السعي لصلاة الجمعة، وقال بعض الحنابلة وبعض المالكية وغيرهم وهو القول الثاني في هذه المسألة: إن سائر العقود كالبيع، أي غير جائزة، وذلك لأنها مشغلة عن السعي الواجب، فأشبهت البيع، سواء كان وقوعها قليل أم كثير، فإن قلة وقوعها وكثرته لا يغير الحكم، وفيه مشغلة، فالنكاح وإن كان قليلا فإنه يشغل المرء عن تلك الصلاة المعينة، فهو وإن لم يكن ذريعة إلى ترك جميع الصلوات، لكنه كان ذريعة إلى ترك تلك الصلاة المعينة، وأما تنصيص الله تعالى على البيع دون غيره فلأن الواقعة التي نزلت لها الآية كان فيها البيع، فإنه لما أتت قافلة وذهب لها بعض الناس وتركوا الصلاة نزلت الآية، فالراجح أن سائرا العقود كالبيع، وذلك لأنها مشغلة عما يجب على المرء من الذهاب إلى الصلاة، فيحرم تعاطيها ولا يصح. وقد يتساهل في بعض العقود التي لا تشغل عن صلاة الجمعة كعقد الهبة، لأنه لا يكون فيه انشغال عن الصلاة، فقد يفعله الإنسان وهو في المسجد. قوله [ولا يصح بيع عصير ممن يتخذه خمرا] لا يصح بيع العصير كعصير العنب ممن يتخذه خمرا، فإذا علمت أن المشتري يصنع منه الخمر فلا يجوز لك، لقوله تعالى {وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان} ، واختار شيخ الإسلام وهو قول في المذهب وصوبه صاحب الإنصاف وهو الراجح أن ذلك ليس متعلقا بالعلم، بل حتى بالظن، فإن ظن أنه يتخذه خمرا حرم البيع. قوله [ولا سلاح في فتنة]

فإذا وقعت فتنة بين المسلمين كأن يقع قتال بين طائفتين على وجه الفتنة فإن بيع السلاح حرام، لأن هذا السلاح سيستخدم فيما لا يحل، وأما بيعه على الطائفة العادلة وطائفة الإمام فذلك جائز، لأن استخدامهم له استخدام مباح. ويعلم مما سبق أن بيعه على قاطع الطريق أو على الفرقة الباغية أو على المسلمين عامة في قتال الفتنة محرم، لأن الله تعالى يقول {وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان} ، وفي الطبراني لكن إسناده ضعيف أن النبي - صلى الله عليه وسلم - (نهى عن بيع السلاح في الفتنة) [سنن البيهقي 5 / 327، معجم الطبراني الكبير 18 / 137، مجمع الزوائد 4 / 87، 108] والحديث على ضعفه فإن قواعد الشريعة تدل عليه. قوله [ولا عبد مسلم لكافر إذا لم يعتق عليه] لا يجوز بيع العبد المسلم على الكافر لأن ذلك إذلال للعبد المسلم، واحتقار له، والذلة والصغار تكونان على الكفار، وقد قال تعالى {ولن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلا} ، فالمؤمن هو العزيز، والكافر هو الذليل. واستثنى من ذلك ما إذا أعتق عليه، كأن يكون ذا رحم محرم، كأن يبيع العبد لأخيه الكافر، فإنك إذا بعته فإنه يعتق عليه، ويتبين من هذا أن هذا حيث يكون للمسلمين سلطة على هذا الكافر الذي سيشترى أخاه الرقيق، بحيث أنه يلزم كالذميين الذي يحكم فيهم بحكم الشريعة الإسلامية، فيجوز بيع العبد المسلم على الكافر إذا كان يعتق عليه، لأن في ذلك طريق إلى تحريره وإزالة الرق عنه، ومثل ذلك إذا علق الكافر إعتاق عبد فلان على ملكه له، فقال: إن ملكت عبد فلان فهو حر، فيجوز بيع العبد عليه لأن في ذلك تحريرا له من الرق، والخلاصة أنه لا يجوز بيع العبد المسلم على الكافر إلا إذا كان ذلك البيع طريقا لتحريره. قوله [وإن أسلم في يده أجبر على إزالة ملكه ولا تكفي مكاتبته]

مثال ذلك: رجل كافر يملك عبدا كافرا، ثم أسلم هذا العبد وبقي السيد الكافر على كفره، فإنه يجبر على إزالة ملكه إما ببيع أو بهبة أو بإعتاق، والمقصود أنه لا يبقى تحت ملكه، لقوله تعالى {ولن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلا} ، ولأن في ذلك ذلة وصغار على هذا المسلم. * وهل تكفي مكاتبته؟ قال المؤلف: لا تكفي مكاتبته، وذلك لأن المكاتبة مبقية لملك السيد عليه، فإن المكاتب رقيق وقن حتى يتم ما عليه من ثمن الكتابة، وقد يعجز فيعود قنا، وحتى إن لم يعجز فإنه عبد حتى يؤدي ما عليه. ** ولا يقر الكافر على بيع العبد المسلم بشرط الخيار، كأن يسلم العبد ثم يبيعه سيده الكافر بشرط الخيار ثلاثة أيام ونحوها، فهذا لا يجوز لأن الكافر بإمكانه فسخ العقد خلال الثلاثة أيام، بل عليه أن يبيعه بيعا تاما لا خيار فيه. قوله [وإن جمع بين بيع وكتابة أو بيع وصرف صح في غير الكتابة ويقسط العوض عليهما] إذا جمع بين بيع وكتابة في صفقة واحدة، فقال لعبده: كاتبتك وبعتك بيتي هذا بعشرة آلاف، فلا يصح البيع، بل تصح الكتابة فقط، لذا قال المؤلف: صح في غير الكتابة، أي صح البيع في غير الصورة التي فيها البيع مع الكتابة، فلو جمع بين البيع والصرف، أو بين البيع والإجارة، أو بين البيع والنكاح صح الجميع، أما إن جمع بين البيع والكتابة فإن البيع غير صحيح، والكتابة تصح، قالوا: لأن هذا العبد رقيق له، وإنما وقعت الكابة أثناء عقد البيع، فالكتابة والبيع مقترنان، فلم تسبق الكتابة البيع، فكما لو باع على قنه فلا يصح فكذلك هنا، فالشرط عندهم أن تكون الكتابة سابقة، فلو قال: كاتبتك، وثبتت الكتابة، ثم قال: بعتك بيتي، صح لأنه أصبح مكاتبا، والمكاتب يصح أصل تصرفه بقيود، وإلا لما تمكن من سداد الدين الذي عليه من المكاتبة.

والقول الثاني في المسألة وهو الوجه الثاني في المذهب وقيل هو المنصوص عن الإمام أحمد أن ذلك جائز، وأن اقتران المكاتبة بالبيع لا تؤثر على البيع، فإنه أثناء البيع أصبح ممن يصح تصرفه في الجملة، قالوا: وهذا كقوله - صلى الله عليه وسلم -: (أعتقتك وجعلت عتقك صداقك) [خ 4200، م 1365] فإن الأمة لا صداق لها، وهي ملك سيدها، يطؤها من غير ما صداق، والنبي - صلى الله عليه وسلم - أصدقها وأعتقها في عقد واحد صحيح، فهنا كذلك، والراجح أن مثل هذه الصيغة صحيحة، فكما أن السيد يجوز أن يبايع مكاتبه بعد ثبوت الكتابة، فكذلك يجوز له أن يبايعه أثناء الكتابة، ومعلوم أن آثار البيع إنما تترتب بعده. * وأما البيع والصرف فمثاله أن يقول: خذ هذا الدينار وأعطني هذه السلعة وخمسة دراهم، فهذا فيه بيع وصرف، وكلاهما صحيح. وكذلك بيع وإجارة، كأن يقول: ابتعت منك هذا الرقيق وأؤجر عليك هذا البيت بعشرة آلاف، فهنا صفقة واحدة وهي صحيحة. ومثل ذلك لو قال: أبيعك داري وأنكك ابنتي بكذا وكذا، فالبيع والنكاح كلاهما صحيح. ومثله البيع والخلع، كأن تقول الزوجة: أخلع نفسي منك وأشتري هذا البيت بكذا، فالبيع والخلع صحيحان، فهذه الصور كلها جائزة، لأن الأصل في المعاملات الحل، ولا دليل يدل على المنع. ** على القول بعدم جواز الجمع بين البيع والكتابة تكون المسألة من مسألة تفريق الصفقة، التي تقدم شيء من صورها، والمراد من تفريق الصفقة أن بعضها يصح، وبعضها يبطل، فإذا قال: كاتبتك وبعتك هذه الدار بعشرة آلاف دينار، وقلنا إن البيع لا يصح كما هو المشهور من المذهب، فحينئذ نقسط الثمن على العبد وعلى الدار، فنقوم العبد والدار أولا، فلو قومنا العبد بخمسمائة دينار، وقومنا الدار بألف دينار، فنسبة العبد وقسطه هو الثلث، فتكون قيمة المكاتبة نحوا من ثلاثمائة وثلاثة وثلاثين دينارا، كما تقدم.

وقوله (ويقسط العوض عليهما) أي على البيع والكتابة، فيحذف قسط البيع لأنه باطل، ويبقى قسط الكتابة، كما تقدم. قوله [ويحرم بيعه على بيع أخيه كأن يقول لمن اشترى سلعة بعشرة أنا أعطيك مثلها بتسعة وشراؤه على شرائه كأن يقول لمن باع سلعة بتسعة: عندي فيها عشرة] هنا مسألتان، الأولى: بيعه على بيع أخيه، والثانية: شراؤه على شرائه، وكل ذلك محرم، لما ثبت في الصحيحين أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (لا يبيع الرجل على بيع أخيه) [خ 2139، م 1412] فهذا نهي من النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يبيع الرجل على بيع أخيه، والشراء بيع. والحكمة من هذا النهي ما فيه من إثارة العداوة والبغضاء والضغائن بين المسلمين. قوله [ليفسخ ويعقد معه] وذلك لبقاء الخيار في البيع، فما زال الخيار باقيا، سواء كان خيار المجلس كأن لم يتفرقا، ومثله خيار الشرط، فما زال الخيار باقيا بحيث يمكن لأحدهما أن يفسخ، فإذا أعطي البائع على هذه السلعة ثمنا أكثر، أو أعطي المشتري هذه السلعة بثمن أقل والخيار باق فإنه يفسخ البيع مع الأول، ويعقده مع الثاني، لقلة الثمن أو زيادته بالنسبة للبائع، وقال ابن رجب: يحرم مطلقا، سواء كان في زمن الخيارين أم لا، وهو قول ابن تيمية وابن القيم وهو الراجح، لما يترتب عليه من العداوة والبغضاء، ولأنه قد يحتال على الفسخ بطريقة ما. قوله [ويبطل العقد فيهما] فالعقد باطل لأن الشارع نهى عنه، وما نهى عنه الشارع فإنه فاسد، فالنهي يقتضي الفساد.

* وأما حكم سومه على سوم أخيه، فهو محرم أيضا، ففي البخاري ومسلم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (لا يسم المسلم على سوم أخيه) [خ 2727، م 1408، واللفظ لمسلم] فدل هذا على أنه محرم، ولكن ليس مطلق السوم محرم، فإن من السوم ما هو جائز، وقد دلت الأدلة على جوازه، وهو ما إذا لم يركن أحدهما إلى الآخر، فلم يثبت الرضا الذي يتم بعده البيع، أما إذا ثبت الرضا وركن بعضهما إلى بعض وما بقي بينهما إلا العقد فإن السوم يكون محرما، فأما سومه على سوم أخيه قبل ثبوت الرضا وقبل ركون أحدهما إلى الآخر فهو جائز، وهو ما يسمى بالمزايدة، وقد اتفق العلماء على جوازه، وهو مشهور في عهد النبي - صلى الله عليه وسلم -. ** وإذا سام رجل سوما محرما، وثبت به البيع فهل يصح البيع أم لا؟ البيع صحيح، كما هو المشهور من المذهب، والفارق بين هذه المسألة والمسألة السباقة أن النهي في المسألة السابقة يعود إلى ذات العقد، وأما هنا فإنه يعود إلى أمر آخر خارج عنه. *** هنا مسائل: المسألة الأولى: أنه لا يجوز أن يبيع حاضر لباد، والمراد بالبادي من هو من خارج البلدة سواء كان حضريا أم بدويا، فمن أتى من خارج البلدة فلا يجوز لأحد من داخل البلدة أن يكون سمسارا له، يبيع له، لقوله - صلى الله عليه وسلم -: (لا تلقوا الركبان ولا يبع حاضر لباد) فقيل لابن عباس ما قوله (ولا يبع حاضر لباد) قال:" لا يكون له سمسارا " رواه البخاري ومسلم [خ 2158، م 1521] . وعلة هذا مصلحة أهل السوق، فإن أهل السوق عندما يأتي أحد من خارج بلدتهم فإن بيعه يكون أرخص من البيع الذي يكون بين أهل البلدة، فيكون في هذا سعة لهم، ولهذا قال النبي - صلى الله عليه وسلم - فيما ثبت عنه في مسلم: (لا يبع حاضر لباد، دعوا الناس يرزق الله بعضهم من بعض) [م 1522] . * ويحرم ذلك بخمسة شروط، ويبطل البيع كذلك:

1- أن يقدم البادي بسلعته للبيع، فإن قدم لغير البيع كأن يقدم لاحتكارها أو لأكلها أو لإهدائها ونحو ذلك فلا بأس أن يكون الحاضر له سمسارا، وذلك لأن المصلحة في ذلك لأهل السوق، ولأهل البلد، فإنه لم يأت للبيع، فإذا أتي أحد من أهل البلدة وأقنعه بالبيع فإن في ذلك مصلحة لأهل السوق. 2- أن يبيعها بسعر يومها، أي أن يكون مراده بيعها بسعر يومها، أما إذا كان هذا البادي يريد أن يبيعها بأكثر من السعر أو يريد أن يتربص بها حتى يكون لها السعر المناسب فحينئذ يكون قد احتاط لنفسه فلا بأس والحالة هذه أن يكون هناك من الحضر واسطة بينه وبين الناس في بيعها، وذلك لأنه احتاط لنفسه فهو لا يريد أن يبيعها بأي سعر، بل يريد بيعها بالسعر المناسب. 3- أن يكون جاهلا بالسعر، أما إذا كان عالما عارفا بأسعار السلع فإن توسط أحد الحاضرين بينه وبين الناس جائز، وذلك لأنه وسيط لا يؤثر. 4- قالوا: أن يقدم الحاضر إليه، فإذا قدم هذا البادي على الحاضر وطلب منه أن يكون سمسارا فإن ذلك جائز، لأنه يكون بذلك قد احتاط لنفسه، وفي هذا نظر فإن الحديث المتقدم ينهى عن ذلك، فالراجح أنه ليس له ذلك لدخوله في عموم النهي المتقدم، وقد يرجح قول الحنابلة ما سيأتي من وجوب النصح للبادي إذا استنصح الحاضر. 5- قالوا: أن يكون بالناس حاجة للسلعة التي معه، فإن كانت من السلع التي لا يحتاج الناس إليها، وليست من أقواتهم فيجوز أن يكون سمسارا، ولم يذكر الإمام أحمد - كما قال الحنابلة - هذا الشرط، والحديث يخالفه فإن الحديث عام. فالشروط عند الحنابلة للتحريم والبطلان خمسة، وتقدم أن الشروط الراجحة ثلاثة شروط، وأما الشرطان فعموم الحديث يدل على عدم اعتبارهما، والمعنى يدل على ذلك فإن قوله - صلى الله عليه وسلم -: (دعوا الناس يرزق الله بعضهم بعضا) يدل على عدم اعتبار هذين الشرطين ** وهنا فرعان:

الفرع الأول: هل يجوز أن يشتري الحاضر للبادي؟ 1- قال الحنابلة يجوز ذلك، وذلك لأن النهي إنما ورد في البيع. 2- ونقل عن الإمام أحمد وهو قول طائفة من التابعين كمحمد بن سيرين أن ذلك منهي عنه، ودليل ذلك ما رواه أبو عوانة في صحيحه - كما في الفتح - عن محمد بن سيرين قال: سألت أنس بن مالك فقلت له: لا يبع حاضر لباد، أنهيتهم أن تبيعوا أو تشتروا لهم؟ قال: نعم، أي نعم نهينا أن نبيع أو نبتاع لهم، فيكون الشراء منهي عنه أيضا، ولأن الشراء داخل في معنى البيع كما تقدم، ولأن المعنى أيضا ثابت وهو قوله - صلى الله عليه وسلم -: (دعوا الناس يرزق الله بعضهم من بعض) . والصحيح أنه لا يجوز للحاضر أن يشتري للباد إذا توفرت الشروط المتقدمة، أما إذا كان عالما بالسعر محتاطا لنفسه فإنه يجوز له أن يكون سمسارا له كما تقدم في شروط التحريم. الفرع الثاني: هل يجوز أن يشير على البادي؟ قالوا: إن استشاره فيجب عليه أن يشير عليه، لقوله - صلى الله عليه وسلم -: (وإذا استنصحك فانصحه) [م 2162] وهذا ظاهر، فإنه إذا استشار فقد احتاط لنفسه وواجب حينئذ أن ينصح له. - وهل يجب عليه أن ينصحه من غير استنصاح؟ في المسألة نظر، قال صاحب الفروع:" ويتوجه النصح " لقوله - صلى الله عليه وسلم -: (الدين النصيحة) [م 55] والراجح خلاف هذا، لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - إنما نهى أن يبيع الحاضر للبادي أو يشتري له ليرزق الله بعض الناس من بعض، ولا شك أن النصيحة له تقوم مقام البيع والشراء له، ويمكن أن يقوي هذا الدليل شرط الحنابلة الذي تقدم ذكره، وهو جواز البيع له والشراء إذا قدم هو على الحاضر، فإنه حينئذ يكون قد احتاط لنفسه، فكما لو استنصح فيجب له النصح. المسألة الثانية:

وهي عند قوله - صلى الله عليه وسلم -: (لا تلقوا الركبان) ، والركبان: هم الذين يجلبون السلع إلى أهل البلد من غير أهلها، ولا يجوز لأحد من أهل السوق أن يتلقاهم خارج السوق فيشتري منهم أو يبيع لهم أيضا، لحديث (لا تلقوا الركبان) ، وهذا لمصلحة الركبان، فقد يكون الثمن في السوق أقل من الثمن الذي بيع عليهم، وقد يكون الثمن في السوق أكثر من الثمن الذي اشتري به منهم، فلم يتركوا حتى ينظروا في سعر السوق، فكان ذلك محرما. ولكن البيع يصح مع خيار الغبن، فهم إذا قدموا السوق فهم بالخيار، فإن ثبت الغبن عليهم فهم بالخيار، إن شاءوا فسخوا البيع، وإن شاءوا أبقوه، لحديث مسلم: (لا تلقوا الجلب فمن تلقى فاشترى منه فإذا أتى سيده السوق فهو بالخيار) [م 1519] أي إذا أتى صاحب السلعة السوق فهو بالخيار إن شاء أمضى وإلا فسخ. والنهي عن تلقي الركبان ما لم يصلوا إلى السوق فإذا وصلوا إلى السوق فيجوز أن يتلقاهم في أعلى السوق، لأن غاية النهي هو دخلوهم السوق، لقوله - صلى الله عليه وسلم - كما في حديث ابن عمر: (لا تلقوا السلع حتى يهبط بها أصحابها إلى السوق) [خ 2165] . المسألة الثالثة: وهي مسألة التسعير، فلا يجوز للسلطان أن يسعر على الناس، وهو ظلم، وقد قال - صلى الله عليه وسلم - فيما رواه الخمسة إلا النسائي بإسناد صحيح لما قال بعض الصحابة: يا رسول الله غلا السعر فسعر لنا، فقال - صلى الله عليه وسلم -: (إن الله هو المسعر القابض الباسط الرزاق وإني لأرجو أن ألقى الله تعالى يوم القيامة وليس أحد منكم يطلبني بمظلمة دم ولا مال) [حم 11400، ت 1314، د 3451، جه 2200] ، فهذا يدل على تحريم التسعير، وأنه ظلم. ولكن هل يستثنى من ذلك ما إذا غلت الأسعار غلاء فاحشا يضر بالناس؟

الجواب: ذهب بعض الشافعية إلى استثناء التسعير حينئذ، وأنه جائز، فيجوز للحاكم أن يتدخل فيما إذا غلت الأسعار غلاء فاحشا بحيث يتضرر بذلك عامة الناس، لقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: (لا ضرر ولا ضرار) [جه 2340، 2341] ولأن في ذلك مصلحة عامة، بل دفع لمفسدة عامة، وإن ترتب على ذلك فوات مصلحة خاصة، فإن التسعير فيه فوات مصلحة خاصة، وأما الغلاء الفاحش فإن فيه مفسدة عامة، ودفع المفسدة العامة أولى من جلب المصلحة الخاصة، وكذلك تحمل المفسدة الخاصة أولى من تحمل المفسدة العامة، وهذا القول هو الصحيح. قال ابن القيم: وجماع الأمر أن مصلحة الناس إذا لم تتم إلا بالتسعير سعر لهم تعسير العدل. المسألة الرابعة: مسألة الاحتكار، والاحتكار: هو أن يدخر السلعة حتى يغلو ثمنها فيبيعها، وهو محرم لقول النبي - صلى الله عليه وسلم - كما ثبت في مسلم من حديث معمر بن عبد الله: (لا يحتكر إلا خاطيء) فقيل لسعيد فإنك تحتكر، قال سعيد: فإن معمرا الذي كان يحدث هذا الحديث كان يحتكر. [م 1650] * قال الحنابلة ويحرم الاحتكار بثلاثة شروط: 1- الشرط الأول: أن يكون المحتكر قوتا، فإن كان المحتكر غير قوت فيجوز ذلك، قالوا:لأن سعيد بن المسيب وهو الراوي عن معمر كان يحتكر النوى - أي نوى التمر - والخبط - وهو علف الدواب - والبذر - أي بذور النبات -، وفي المسند أن سعيد بن المسيب كان يحتكر الزيت، قالوا: ولا يعقل أن هذا الإمام يخالف روايته إلا وأن هذا خارج عن روايته، وقد ثبت أن معمر بن عبد الله كان يحتكر، قالوا:فدل هذا على أن المحتكر الممنوع احتكاره إنما هو القوت، وذهب أبو يوسف صاحب أبي حنيفة وهو اختيار الشوكاني إلى ذلك محرم، وهذا هو الراجح لعموم قوله - صلى الله عليه وسلم -: (لا يحتكر إلا خاطيء) ، وأما الجواب عن فعل معمر بن عبد الله وسعيد بن المسيب فيتضح في الشرط الثاني الذي اشترطه الحنابلة.

2- الشرط الثاني: ألا يكون للناس في المحتكر حاجة، وعلى هذا يحمل احتكار معمر واحتكار سعيد، وأن احتكارهما ليس في الناس حاجة إليه، فلا يتضرر الناس باحتكارهما، فيجوز للشخص أن يحتكر القوت وغيره إن لم يكن للناس فيه حاجة، إذ لا ضرر على أهل السوق في ذلك، وهذا الشرط واضح وصحيح، ويدل عليه فعل معمر وفعله يخصص ما رواه، ورأي الصحابي ولا سيما راوي الحديث أو فعله مما يخصص روايته، كما أن المعنى يدل على ذلك، إذ لا ضرر في احتكار ما يحتاج إليه الناس سواء أكان من أقواتهم أم من غيرها 3- الشرط الثالث: أن يشتريه من البلد، فإذا جلبه من خارج البدل أو صنعه بنفسه أو كان هذا من مزرعته فإن هذا جائز، واستدلوا بما رواه ابن ماجة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (الجالب مرزوق والمحتكر خاطيء) [جه 2153، فيه علي بن سالم بن ثوبان، وعلي بن زيد بن جدعان، وكلاهما ضعيف] والراجح خلاف ما ذكروه، فإن الحديث أولا: ضعيف. ثانيا: لا فرق بين احتكار ما لم يجلب واحتكار ما يجلب من خارج البلد، فما دام أن في الناس حاجة إلى ذلك ففي احتكاره تضييق عليهم، وعلى يظل قوله - صلى الله عليه وسلم -: (لا يحتكر إلا خاطيء) على عمومه، فإن الصور التي استثناها الحنابلة داخلة في عموم النهي، فليس لأحد أن يحتكر شيئا وإن جلبه من خارج البلد، لأنه بذلك قد قدم المصلحة الخاصة على المصلحة العامة. قوله [ومن باع ربويا بنسيئة واعتاض عن ثمنه ما لا يباع به نسيئة] قوله (من باع ربويا بنسيئة) كأن يبيع طنا من قمح بألف ريال إلى سنة، فهذا بيع جائز، والربوي هو البر، وبيع البر بالدراهم والدنانير جائزة، فهنا باع كذا صاع من بر بكذا من الدراهم إلى أجل معلوم.

قوله (واعتاض عن ثمنه ما لا يباع به نسيئة) بأن قال لما حل الأجل أعطني بدل الدراهم شعيرا أو برا أو تمرا أو غير ذلك، فهذا لا يجوز، لأنه ذريعة إلى الربا، وهو بيع البر بالبر نسيئة، والذريعة إلى المحرم محرم، وهذا هو المشهور من المذهب. وقال الموفق يجوز مطلقا ما لم يكن حيلة على الربا. وقال شيخ الإسلام يجوز عند الحاجة أما عند عدم الحاجة فلا يجوز، أما كونه لا يجوز عند عدم الحاجة فلأجل سد الذرائع الموصلة إلى الربا، وأما كون يجوز عند الحاجة فلأن الشريعة قد أتت لنفي الحرج ورفعه، والقاعدة كما ذكر ابن القيم أن ما حرم تحريم سد الذرائع فإنه يجوز عند الحاجة إليه، لأن تحريمه ليس تحريما أصليا، وإنما لكونه ذريعة إلى غيره، وحيث احتيج إليه فإن تحريمه يزول حينئذ. وهذا هو أصح الأقوال، وهذا ما لم يكن تواطؤ منهما أو احتيال (1) . قوله [أو اشترى شيئا نقدا بدون ما باع به نسيئة لا بالعكس لم يجز] مثاله: اشترى فرسا بألف دينار نقدا، كان قد باعها على هذا البائع سابقا بألف وخمسمائة دينار نسيئة، فهذا لا يجوز، فإذا اشترى شيئا نقدا بدون ما باعه به نسيئة فهذا لا يجوز، وهو مذهب الجمهور خلافا للشافعية، وهذا هو بيع العينة.

_ (1) - قال في الشرح الممتع:" بقي علينا شرط لا بد منه على القول بالجواز، وهو ألا يربح المستوفي، ونأخذ هذا الشرط من قول النبي - صلى الله عليه وسلم - في حديث ابن عمر: (لا بأس أن تأخذها بسعر يومها) ، ونأخذ هذا أيضا من نهي النبي - صلى الله عليه وسلم - (عن ربح ما لم يضمن) أي نهى أن تربح في شيء لم يدخل في ضمانك، فمثلا: باع عليه برا بمائتي ريال إلى سنة، ولما حلت السنة قال ليس عند إلا تمر، فقال أنا آخذا التمر، فأخذ منه أربعمائة كيلو تمر تساوي مائتين وخمسين درهما، فهذا لا يجوز، لأنه الآن ربح في شيء لم يدخل في ضمانه " ا. هـ

وفي مسند أحمد وسنن الترمذي والنسائي بإسناد صحيح أن النبي - صلى الله عليه وسلم -: (نهى عن بيعتين في بيعة) [حم 9301، ت 1231، 1309، ن 4632] ولأبي داود: (من باع بيعتين في بيعة فله أوكسهما أو الربا) [د 3461] أي إما أن يأخذ رأس ماله، أو الربا. وفي سنن أبي داود والحديث صحيح أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (إذا تبايعتم بالعينة وأخذتم أذناب البقر ورضيتم بالزرع وتركتم الجهاد في سبيل الله سلط الله عليكم ذلا لا ينزعه حتى ترجعوا إلى دينكم) [د 3462] فهذه هي صورة بيع العينة، أن يبيع الشيء إلى سنة بكذا - أي نسيئة - ثم يشتريها قبل السنة بأقل من الثمن الذي باعه به، فأصبحت السلعة حيلة فيها للوصول إلى عقد ربوي محرم، فكأنه أعطاه ألف دينار، على أن يردها عليه ألفا وخمسمائة، فالسلعة غير مقصودة لذاتها. ولذا قال ابن عباس كما روى ذلك الحافظ محمد بن عبد الله كما في تهذيب السنن أن ابن عباس سئل عن رجل باع حريرة بمائة واشتراها بخمسين، أي باعها بمائة مؤجلة واشتراها بخمسين حاضرة، فقال:" دراهم بدراهم وقعت بينهما حريرة ". وقال أيوب رحمه الله كما في كتاب الحافظ محمد بن عبد الله كما في تهذيب السنن:" يخادعون الله كما يخادعون الصبيان لو أخذه على جهته كان أسهل ". وروى الدارقطني والبيهقي بإسناد حسن وقد حسنه غير واحد من أهل العلم وقال فيه ابن القيم إنه محفوظ عن زوج أبي إسحاق السبيعي أنها دخلت على عائشة، فدخلت أم ولد لزيد بن أرقم فقالت: إنها باعت غلاما لها على زيد بن أرقم بثمانمائة درهما نقدا، ثم اشتريتها منه بستمائة دراهم نقدا،، فقالت عائشة:" بئسما اشتريت وبئسما شريت، أخبري زيد بن أرقم أن جهاده مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد بطل إن لم يتب " [سنن البيهقي 5 / 330، سنن الدارقطني 3 / 52] والأثر إسناده حسن، فهذه بيعة العينة.

* وقوله - صلى الله عليه وسلم -: (فله أوكسهما أو الربا) دليل على أنها بيعتان، خلافا لما ذهب إلى الشافعي من أن صورة بيع العينة أن يقول أبيعك هذه السلعة بكذا وكذا نسيئة، أو بكذا وكذا نقدا، فيتفرقان قبل أن يعينا أحد الثمنين، وحمله الشافعي على أن يقول: بعتك هذا العبد بألف دينار حالة أو بألفين إلى سنة، قد وجب لك البيع بأيهما شئت أنا أو شئت أنت. وهذه في الحقيقة أولا: بيعة واحدة وليست بيعتين، ثانيا: هذه الصورة ليس فيها ربا، وقد قال: (فله أوكسهما أو الربا) ، وإنما هي بيعة جهالة، فالثمن غير معلوم. وكذلك يقال في قول سماك وهو من رواة هذا الحديث:" أن يبيع الرجل مع الرجل فيقول: هو علي نساء بكذا وكذا، ونقدا بكذا وكذا " فهذا فيه ما في القول المتقدم، فإن هذه صفقة واحدة، وبيع العينة بيعتان في بيعة. أما إن باع السلعة نسيئة بأكثر من ثمنها نقدا فلا حرج فيه اتفاقا. (1) ** فإن تواطآ على بيع العينة فالبيع كله باطل، البيعة الأولى، والبيعة الثانية، كأن يقول أبيعك هذه السيارة بثلاثين ألفا إلى سنة، وأشتريها منك غدا بخمسة وعشرين ألفا، فالبيعة الأولى والثانية كلاهما باطل، لأنهما محرمتان جميعا، وما نهى عنه الشارع فهو فاسد، فإن لم يتواطئا على ذلك، فالبيعة الأولى صحيحة، قال شيخ الإسلام إنه قول عن أحمد، ومثال ذلك: رجل باع سيارة على الآخر بثلاثين ألفا إلى سنة، ثم اشتراها منه من غير تواطؤ منهما ولا اتفاق بخمسة وعشرين ألفا، فالبيعة الثانية باطلة لنهي الشارع عنها، وأما الأولى فهي صحيحة، إذا لا دليل على إبطالها.

_ (1) - انظر الفتاوى (19 / 498)

*** صور بيع العينة ما ذكره ابن القيم في تهذيب السنن فقال:" والصورة الرابعة للعينة وهي أخت صورها أن يكون عند الرجل المتاع لا يبيعه إلا نسيئة، فإن باعه بنقد ونسيئة جاز، وهو نص الإمام أحمد " وهذا ما يقع فيه كثير من الناس، مثل أن يشتري سيارة ولا يفكر أن يبيعها نقدا بل نسيئة، فهذا من صور العينة، وباين هذا أن صاحب البيع النسيئة فقط قصده الثمن فلا قصد له في السلعة أصلا، فهو يتوصل بهذه السلعة ليبيع المال أو الدراهم بأكثر منها، وأما صاحب النقد والنسيئة فهو تاجر من التجار، قال ابن عقيل معلالا نص الإمام أحمد على هذه المسألة:" وهذا لمضارعته الربا فإنه يقصد الزيادة غالبا "، وذكر شيخ الإسلام أن مثل هذا البيع وهو ألا يبيع الإنسان إلا نسيئة أنه بيع على أهل الضرورة والحاجة، فإن هذه السلعة لا يشتريها في الغالب إلا من يتعذر عليه النقد، وهم أهل الضرورة والحاجة، وأما من يبيع نقدا ونسيئة فهو تاجر من التجار وهو يبيع على الناس عامة، المضطر منهم وغير المضطر، وقد روى أبو داود في سننه بإسناد في جهالة أن النبي - صلى الله عليه وسلم -: (نهى أن يباع على المضطرين) [حم 939، د 3382] فهذه الصورة على الراجح من صور العينة المحرمة. **** مسألة التورق. ومسألة التورق تخالف بيع العينة، بأن المشتري لا يبيعها على بائعها الأول، بل يبيعها على شخص آخر، وصورتها: أن يحتاج رجل إلى دراهم، فيشتري سلعة بنسيئة إلى سنة بأكثر من ثمنها نقدا، ثم يبيعها على غير البائع الأول لأنه إذا باعها على الأول فهي بيع العينة، وقد اختلف العلماء في هذه المسألة على قولين هما روايتان عن الإمام أحمد: الرواية الأولى: وهي المشهور عند الحنابلة وهو قول الجمهور أن ذلك جائز، قالوا: لأن الأصل في المعاملات الحل، لقول الله تعالى {وأحل الله البيع وحرم الربا} ، فهذا بيع والأصل في الحل.

الرواية الثانية: وهي التي اختارها شيخ الإسلام ابن تيمية وهو قول عمر بن عبد العزيز أن ذلك محرم، قال شيخ الإسلام: لأن الأمور بمقاصدها، فهو لم يشتري السلعة إلا قاصدا للثمن، قال رحمه الله:" إذا أتى الطالب ليأخذ دراهم بدراهم أكثر منها - أي هذا هو مقصده - وأعطاه الآخر فهو ربا ولا شك في تحريمه، بأي طريق كان، لأن الأعمال بالنيات وإنما لكل امريء ما نوى "، وروجع رحمه الله مرارا - كما ذكر ذلك ابن القيم - وهو يقول بالتحريم ويأبى أن يقول بالحل. وما ذهب إليه قول قوي، فإن ذلك ذريعة إلى الربا المحرم، وهذا المشتري للسلعة لم يقصدها بل قصد الثمن، ولا عبرة بالأشياء الظاهرة، وإنما العبرة بالمقاصد والنيات وهو قصده الثمن، وهي ذريعة لفتح الباب المتقدم، فالأظهر ما اختاره شيخ الإسلام وأن التورق محرم خلافا للمشهور عند الحنابلة، وذلك لأن الأمور بمقاصدها ولا عبرة بالظاهر. وقوله (لا بالعكس) : تقدمت صورة بيع العينة، وهي أن يبيع الشيء بنسيئة ثم يشتريها نقدا بأقل من ثمن المبيع، وقال هنا لا بالعكس، فعكس هذه المسألة يجوز، والعكس له صورتان: الصورة الأولى: وهي أن يبيع الشيء نقدا ثم يشتريه نسيئة بأكثر، مثاله: رجل عنده دار، واحتاج إلى دراهم، فقال لرجل أبيعك هذه الدار بخمسين ألفا نقدا، على أن أشتريها منك بسبعين ألفا نسيئة، فظاهر كلام المؤلف جواز هذا، وهذا ضعيف جدا، وهو مروي عن أحمد أنه يجوز بلا حيلة، والصحيح التحريم، وهو المشهور عند الحنابلة، وهو اختيار ابن القيم، لأنه لا فرق بين هذه الصورة وصورة العينة المتقدمة إلا باللفظ، فلا وجه للقول بجوازها.

الصورة الثانية: وهي الصور الثانية للعكس المذكور، وهي جائزة كما قال المؤلف، وهي إذا باع الشيء نسيئة إلى سنة بعشرة آلاف، ثم اشتراها نقدا بعد شهر أو شهرين بعشرة آلاف أو أحد عشر ألفا، فهذه لا وجه للقول بتحريمها، فهي جائزة، وليس فيها حيلة على الربا، ومثال آخر: باع سيارته بنسيئة إلى سنة، ثم رغبتها نفسه فاشتراها بأكثر من ذلك أو بمثله فهذا جائز ولا إشكال فيه. قوله [وإن اشتراه بغير جنسه..... جاز] مثاله: رجل باع سيارة إلى سنة بثلاثين ألف ريال، ثم اشتراها بعد ستة أشهر بعشرة آلاف دولار، فهنا يجوز، وهذا على القول بان جنس الريالات غير جنس الدولارات. وصورة أخرى: باعها بثلاثين ألف ريال إلى سنة، ثم اشتراها بعد ستة أشهر بكذا طن من القمح، فيجوز، بل قال الموفق: لا أعلم خلافا في جوازها، بمعنى باع الشيء نسيئة، ثم اشتراه بعد ذلك بعرض، فهذا جائز، أما الصورة الأولى فاختار الموفق التحريم، وأنه لا يجوز وهذا هو الظاهر، لأنه باع الشيء نسيئة بدراهم واشتراه بدنانير، وليس هناك فرق بين الدراهم والدنانير، فأحدهما يقوم مقام الآخر، فهما أثمان للأشياء، ويتوجه في الصورة الثانية إن لم يكن فيها إجماعا التحريم إذا كانت قيمة العرض أقل من ثمن النقد، فإنه لا وجه للقول بجوازه، ومثاله: باعه السيارة بثلاثين ألف ريال، ثم اشتراها بكذا طن من القمح، تساوي خمسة عشر ألف ريال، فلا وجه للقول بالجواز، وهذا في الحقيقة حيلة، لأن هذا الغرض له قيمة من الدراهم والدنانير، فباع بالدراهم والدنانير، فيكون كأنه اشتراه بنقد أقل من النقد الذي باعه به. [قلت: تحريم هذه الصورة بناء على ما سبق، من اعتبارهم العينة متحققة دون مواطئة، والصحيح كما مضى أن العينة لا تكون عينة إلا باشتراط مسبق بين الطرفين، والله أعلم] .

إذن إذا اشتراه بغير الجنس الذي باعه فهو جائز عند الحنابلة، ومنع الموفق ابن قدامة الجواز فيما إذا كان نقدا، ويظهر المنع فيما سوى ذلك، إلا أن يكون ثمن الغرض مساويا أو أكثر. قوله [أو بعد قبض ثمنه] مثاله: باعه هذه السيارة بعشرة آلاف إلى سنة، فلما سدد هذا المشتري القيمة، اشتراها منه بخمسة آلاف أو ستة آلاف، فهذا جائز، ولا إشكال في جوازه إذ العلة المتقدمة قد زالت وما يخشى من الربا قد زال. قوله [أو بعد تغير صفته] مثاله: باع سيارة بعشرة آلاف إلى سنة، ثم اشتراها بعد ستة أشهر بثمنها الذي يستحقه، وقد تغيرت صفتها، فبعد أن كانت تساوي عشرة آلاف أصبحت تساوي ثمانية آلاف أو سبعة آلاف، فسبب شرائها بثمن أقل أنه قد تغيرت صفتها، مثل أن تكون قد استخدمت ونزل سعرها، فالنقص بسبب تغير الصفة، ولا بد ألا ينظر إلى قضية التأجيل، فإن نظر إلى قضية التأجيل كان ذلك ممنوعا كما تقدم. قوله [أو من غير مشتريه] مثاله: رجل اشترى سيارة بالتقسيط، ثم باعها على شخص آخر، فهل للبائع الأول أن يشتريها من هذا المشتري الجديد؟ الجواب: لا مانع من ذلك لزوال العلة المتقدمة. [قلت: هذا على شرط عدم وجود الاتفاق بين الأطراف الثلاثة، وإلا حرم] . قوله [أو اشتراه أبوه أو ابنه جاز] فإذا اشتراها أبوه أو ابنه أو مكاتبه أو نحو ذلك جاز، لأنه لم يشتريها هو، والنهي الوارد فيما إذا اشتراه هو، وليس هذه ذريعة إلى الربا كما تقدم، إلا أن يكون حيلة على ذلك ليتملكها هو - أي الأب مثلا - ثم يأخذها من أبيه بنفس الثمن الذي اشتراها به، فهذه حيلة فلا تجوز، فإذا اشتراها أبوه أو ابنه فهم أجانب عن البيع فلا إشكال في جواز ذلك، لكن إن كان ذلك حيلة على الربا فهو محرم كما تقدم. باب الشروط في البيع الفرق بينه وبين شروط البيع من عدة أوجه: 1- أن شرط البيع من وضع الشارع، وأن الشرط فيه من وضع المتعاقدين.

2- أن شروط البيع كلها صحيحة، وأما الشروط في البيع فمنها الصحيح ومنها الباطل. 3- أن شروط البيع تتوقف عليها صحة البيع، والشروط في البيع يتوقف عليها لزومه. 4- أن شرط الشارع لا يسقط، وشرط العاقد وهو الشرط في البيع لمن شرطه أن يسقطه. وتعريف الشرط في البيع: هو إلزام أحد المتعاقدين الآخر بسبب العقد ما لا يقتضيه العقد، والذي يقتضيه العقد هو أن تكون السلعة ملكا للمشتري، والثمن ملكا للبائع، وأن يسلم كل واحد منهما الآخر ما له بعد تمام العقد، أما مثال الشرط في البيع فهو أن يشترط أحدهما على الآخر حملان المبيع أو أن يبيع عبدا بشرط أن يعتقه. والأصل في الشروط الحل، إلا أن يدل دليل على بطلانه كما قرر ذلك شيخ الإسلام وتلميذه ابن القيم، ففي الصحيحين عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: (ما كان من شرط ليس في كتاب الله فهو باطل وإن كان مائة شرط، قضاء الله أحق وشرط الله أوثق) [خ 2168، م 1504] فلا يحرم من الشروط إلا ما دل الشرع على بطلانه نصا أو قياسا.

واعلم أن المعتبر عند الحنابلة من الشروط ما كان في صلب العقد أي مقارنا للعقد، بمعنى أن يشترطاه أو يشترطه أحدهما أثناء العقد، فإن كان الشرط سابقا للعقد فليس بمعتبر، ولا يلزم المشروط عليه الوفاء به، مثاله: قيل لرجل: هل تبيع بيتك؟ قال: أنا لا أبيعه إلا بشرط أن أسكنه شهرا، ثم سكتا سكوتا فاصلا، ثم عقدا البيع، ولم يذكر البائع ذلك الشرط، فحينئذ لا يعتبر الشرط عند الحنابلة، وهذا القول ضعيف، ولذا اختار شيخ الإسلام أن الشرط السابق للعقد كالمقارن له، قال صاحب الفروع:" ويتوجه كنكاح " أي كما أن النكاح يعتبر فيه الشرط السابق وإن لم يقارن العقد فكذلك في البيع، وهذا هو الراجح، فقد قال - صلى الله عليه وسلم - فيما رواه الترمذي وغيره والحديث حسن بشواهده: (المسلمون على شروطهم) [ت 1352، وذكره البخاري معلقا مجزوما به] وهذا شرط، ولأن العاقد المشترط لم يبع هذه السلعة إلا بهذا الشرط، فهو لا يرضى بانتقالها عن ملكه إلا بهذا الشرط، فكان عدم وجود الشرط مخلا بالرضا في العقد، والذي هو من شروط البيع. قوله [منها صحيح كالرهن المعين] أي أن الشروط في البيع منها الصحيح المعتبر كالرهن، كأن يقول: أنا أبيعك هذه السلعة بشرط أن أرهن بيتك أو سيارتك أو نحو ذلك، فهذا شرط صحيح، كذلك إذا اشترط ضامن كأن يقول أبيعك بشرط أن تأتي بضامن، فإن لم تأت بضامن فلي الفسخ، فكذلك هذا شرط صحيح. قوله [وتأجيل الثمن] كأن يقول: أشتري منك هذه السلعة بشرط أن أعطيك ثمنها بعد شهر، فهذا شرط صحيح. قوله [وكون العبد كاتبا أو خصيا أو مسلما والأمة بكرا] هذه شروط صحيحة لأنها لا تخالف كتاب الله. قوله [ونحو أن يشترط البائع سكنى الدار شهرا] مثاله: أن يقول أبيعك داري بشرط أن أسكنه شهرا ونحو ذلك، فهذا جائز. قوله [وحملان البعير إلى موضع معين]

قوله (معين) أتى بهذا القيد لأنه لو قال (إلى موضع) فإن فيه جهالة، والجهالة ممنوعة، فلا بد أن يكون الأجل معلوما، والموضع في الحملان معلوم، وفي الصحيحين عن جابر بن عبد الله - رضي الله عنه -: (أنه كان يسير على جمل له قد أعيا فأراد أن يسيبه، قال: فلحقني النبي - صلى الله عليه وسلم - فدعا لي وضربه فسار سيرا لم يسر مثله، قال: بعنيه بوقية، قلت: لا، ثم قال: بعنيه، فبعته بوقية واستثنيت عليه حملانه إلى أهلي، فلما بلغت أتيته بالجمل فنقدني ثمنه، ثم رجعت فأرسل في أثري، فقال: أتراني ماكستك لآخذ جملك خذ جملك ودراهمك فهو لك) [خ 2718، م 715] ، فهذا شرط صحيح. قوله [أو شرط المشتري على البائع حمل الحطب أو تكسيره أو خياطة الثوب أو تفصيله] قوله (تفصيله) التفصيل غير الخياطة، فالتفصيل هو أن يقطع الثوب حتى يتهيأ للخياطة، والشروط التي ذكرها المؤلف شروط صحيحة، لأنها لا تخالف كتاب الله، ولأنها لا تحالف مقتضى العقد، فإن وفى المشروط وإلا فلمن اشترط الفسخ. قوله [وإن جمع بين شرطين بطل البيع]

ولذا قال المؤلف (وإن اشترط على البائع حمل الحطب أو تكسيره أو خياطة الثوب أو تفصيله) ، فلو اشترط الحمل والتكسير لم يصح فهما شرطان، هذا هو المشهور من المذهب، وأنه إذا شرط شرطين فإنه لا يصح، وإن كان كل شرط بمفرده صحيحا، وقد روى الخمسة والحديث حسن عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (لا يحل سلف وبيع ولا شرطان في بيع ولا ربح ما لم يضمن ولا بيع ما ليس عندك) [حم 6633، ت 1234، ن 4611، د 3504، جه 2188] والشاهد في قوله (ولا شرطان في بيع) ، قالوا: فدل هذا على أنه لا يجوز الجمع بين شرطين في بيع، وإن كانا شرطين صحيحين، وعن الإمام أحمد وهو اختيار شيخ الإسلام وتلميذه ابن القيم أن ذلك جائز، لأنه لا يخالف كتاب الله، قالوا: ولا مانع فيه، فإن صحة الشرط لا يبطلها صحة شرط آخر، فهذا شرط صحيح، وهذا شرط صحيح، وكلاهما معتبر، فإذا اجتمعا لم يبطلاه كما لو انفردا، والمعنى يدل على ما قالا، وهذا لا يخالف كتاب الله، كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: (ما كان من شرط ليس في كتاب الله فهو باطل وإن كان مائة شرط) قالوا: وليس في كتاب الله ما يدل على إبطال هذه الشروط، وأجابوا عن حديث: (ولا شرطان في بيع) أن المراد به البيعتان في بيعة، وهي بيع العينة، ويدل على هذا أن في موضع هذه اللفظة في مسند أحمد (ولا بيعتين في بيعة) [حم 6879] قالوا: البيعتان في بيعة شرطان في بيع، لأن كل بيعة شرط، فإذا تبايع الاثنان فالبيع بينهما شرط لأن كلا منهما التزم بهذا البيع كما هو ملتزم بالشرط، فالبيع شرط، وهذا القول هو الراجح، إذ لا معنى للنهي عن هذا البيع الذي فيه شرطان صحيحان. قوله [ومنها فاسد يبطل العقد] فهذا الشرط يبطل العقد، فليس الشرط باطل فحسب، بل الشرط والبيع باطلان، ومثاله:

قوله [كاشتراط أحدهما على الآخر عقدا آخر كسلف وقرض وبيع وإجارة وصرف] قوله (كسلف) السلف هو السلم، وهو تعجيل الثمن وتأخير المثمن. فلا يحل بيع سلف، بأن يقول: أبيعك هذه الدار بشرط السلم بيني وبينك، بأن تعطيني عشرة آلاف وأعطيك بعد سنة كذا وكذا من القمح، والراجح جوازه ما لم يكن حيلة إلى الربا، وأما الحديث فالسلف فيه هو القرض كما قال البغوي وغيره، ولا محذور في الجمع بين السلف والبيع ما لم يكن حيلة إلى الربا، وصورة اشتراط القرض في البيع، أن يقول: أبيعك واشترط أن تقرضني مائة ألف، فهذا قالوا: لا يجوز لأنه قد اشترط عقدا في البيع، كذلك بيع وإجارة، كأن يقول: أبيعك بشرط أن تؤجرني هذه الدار، أو صرف كأن يقول: لا أبيعك إلا بشرط أن تصرف هذه المائة دينار إلى دراهم، وكذلك إذا قال: لا أبيعك حتى تشاركني في الأرض أو نحو ذلك، فهذا كله يبطل العقد، فإذا عقدا مع البيع عقدا آخر، فالبيع باطل والعقد الآخر باطل. وهذه الصور التي ذكرها المؤلف هي مسائل مجتمعة ذات أحكام متفرقة على الصحيح، لا كما قال المؤلف من أنها يبطل بها العقد مطلقا، أما البيع والقرض فإن ما ذهب إليه المؤلف ظاهر، فإن فيه ربا أو ذريعة إلى الربا، وهو بمعنى حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (لا يحل بيع وسلم) فهو ذريعة إلى الربا الذي نهى عنه الشارع، وكذلك إذا قال: أبيعك كذا بشرط أن تقرضني، فهذا يكون من القرض الذي جر نفعا فهو ربا، فعقد القرض إذا دخل في البيع فإنه لا يصح ويبطل العقد. أما ما سوى ذلك فالصحيح أنه جائز، وهو مذهب الإمام مالك، إذا لا دليل على المنع، فإذا قال: أبيعك هذه الدار على أن تشاركني في كذا، أو قال: أبيعك هذه الدار على أن تنكحني ابنتك، أو قال: أبيعك هذه الدار على تستأجر بيتي، فهذا كله جائز، إذ لا دليل على المنع، والأصل في المعاملات الحل.

واستدل الحنابلة بنهي النبي - صلى الله عليه وسلم - عن بيعتين في بيعة، قالوا: وهاتان بيعتان في بيعة، والصحيح أن البيعتين في بيعة هي بيع العينة كما تقدم عن ابن القيم وشيخ الإسلام وغيرهما، وأما هنا فليس كذلك، لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (فله أوكسهما أو الربا) وليس هذه في مثل الصور المتقدمة. قوله [وإن شرط ألا خسارة عليه] مثاله أن يقول: سأشتري منك هذه السلعة بشرط ألا خسارة علي، فإن بعتها بخسارة فهي عليك، أي على البائع، فهذا لا يصح، قالوا: لأنه يحالف مقتضى العقد، فإن مقتضى العقد أن الشخص يملك السلعة إذا اشتراها وكونه يربح أو يخسر هذا أمر راجع له، وأما السلعة فإنها تملك بالبيع، فلا يصح أن يشترط ألا خسارة عليه، ولأن الخراج بالضمان فالضمان عليه وعلى ذلك فالخسارة عليه والربح له. قوله [أو متى نفق المبيع وإلا رده] مثاله: قال للبائع: أنا أشتري منك كذا من البر وأبيعها، فإن نفقت، وإلا رددتها عليك، أو رددت الذي لم ينفق عليك، قالوا: هذا لا يصح للمعنى المتقدم من أنه يخالف مقتضى العقد. قوله [أو لا يبيع ولا يهبه ولا يعتقه] مثاله: أن يقول: بعتك هذا العبد بشرط ألا تبيعه، أو بشرط ألا تهبه، أو بشرط ألا تعتقه، فهذا كله باطل، لأن مقتضى العقد أن يتصرف البائع بسلعته كيف شاء، فإذا اشترط عليه ألا يبيع أو ألا يهب أو ألا يعتق فهذا يحجر عليه. قوله [أو إن عتق فالولاء له]

مثاله: أن يقول بعتك هذا العبد، لكن اشترط عليك إن أعتقته أن يكون الولاء لي، فهذا الشرط باطل، ودليل بطلانه ما ثبت في الصحيحين في قصة بريرة لما أرادت عائشة أن تشتريها، فاشترطوا على عائشة أن يكون الولاء لهم، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: (اشتريها واشترطي لهم الولاء، فإنما لولاء لمن أعتق) فإنه لا عبرة بهذا الشرط، ومنه ما تقدم من قوله - صلى الله عليه وسلم -: (ما كان من شرط ليس في كتاب الله فهو باطل وإن كان مائة شرط قضاء الله أحق وشرط الله أوثق وإنما الولاء لمن أعتق) قوله [أو أن يفعل ذلك] مثاله: أن يقول له: أبيعك هذا السلعة بشرط أن تبيعها أو بشرط أن تهديها أو بشرط أن تعتقه، لكنه استثنى العتق فقال: (إلا إذا شرط العتق) فإذا قال: أبيعك بشرط أن تعتقه فهذا صحيح، وهذا مذهب جمهور العلماء، قالوا: لأن الشارع يتشوف إلى العتق ويرغب فيه، فإذا اشترط العتق فهو شرط صحيح، وقال بعد ذلك: قوله [بطل الشرط وحده إلا إذا شرط العتق] فالمسائل السابقة كلها يبطل فيها الشرط وحده، وأما البيع فيصح، ويكون المشترط بالخيار، إن شاء أمضى، وإن شاء فسخ، فإذا اشترط مثلا ألا يبيعه، فهذا الشرط باطل، ويصح البيع الأول، وللمشترط الخيار، فإن شاء أمضاه وإن شاء فسخ.

أما مسألة اشتراط الولاء فما ذهب إليه الحنابلة هو الصحيح، فالشرط باطل، لأنه شرط يخالف كتاب الله، وكل شرط يخالف كتاب الله فهو باطل، فإن تراضيا عليه فلا عبرة بتراضيهما على شرط يخالف كتاب الله، وأما سوى ذلك مما ذكروه فاختار شيخ الإسلام وهو رواية عن الإمام أحمد أن هذه الشروط صحيحة، فإذا قال: أبيعك بشرط أنه ما لم ينفق أرده عليك، أو بشرط ألا خسارة علي أو نحو ذلك مما تقدم فالشرط والبيع صحيحان، بشرط أن يكون للبائع قصد وغرض صحيح لا مجرد التحجير على المشتري، مثال ذلك: رجل عنده جارية، ويكره أن يتملكها أي أحد، ويجب أن يتملكها من هو مستحق لها، فقال: أبيعها عليك بشرط ألا تبيعها، أو بشرط ألا تبيعها إلا وأن أكون أنا أحق بالبيع بالثمن نفسه، أو ألا تبيعها إلا على من يتصف بكذا وكذا ونحو ذلك، أو أن يكون الشرط في مصلحة المبيع نفسه، كأن يقول أبيعك عبدي بشرط ألا تبيعه لفاسق، فهذه الشروط صحيحة لأن لها غرضا صحيحا، ولا دليل على القول ببطلانها، واختيار شيخ الإسلام هو الصحيح، إن كان هناك غرض صحيح كما سبق، أو مصلحة للمبيع، فإذا تراضى المتعاقدان فقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: (المسلمون على شروطهم) . لكن إن قال أشتريه منك بشرط ألا خسارة علي فلا يظهر أن في هذا قصدا صحيحا، فإن قضية الخسارة والربح ليس لها ارتباط باحتياط المكلف لنفسه، فالأظهر في مثل هذا أن ذلك الشرط غير صحيح، وعلى كل حال فالراجح ما ذهب إليه شيخ الإسلام وأنه إذا كان هناك غرض صحيح فإنه يصح. قوله [وبعتك على أن تنقدني الثمن إلى ثلاث وإلا فلا بيع بيننا صح]

مثاله: إذا قال البائع للمشتري بعتك هذه السلعة بألف درهم مؤجلة إلى ثلاثة أيام بشرط أنك إذا لم تأت بالثمن إلى ثلاثة أيام فالبيع رد، قال المؤلف هنا: (صح) لحديث: (المسلمون على شروطهم) وهذا شرط فيجب الوفاء به، فإن لم يوف به بطل البيع، كما أن الأصل في الشروط الصحة، وهو لا يخالف كتاب الله، وهذا كما لو باع واشترط الخيار ثلاثة أيام، وسيأتي الكلام عليه وأنه من الخيار الجائز، وهذا نظير المسألة الأولى وقد أجازه الشرع. قوله [وبعتك إن جئتني بكذا، أو رضي زيد..... لا يصح] إذا قال بعتك إن جئتني بكذا، أو قال: بعتك إن رضي زيد، فهذا بيع معلق، وليس بيعا منجزا، فلا يصح وهو مذهب الجمهور، قالوا: لأن البيوع تكون منجزة لا معلقة، واختار شيخ الإسلام وهو رواية عن أحمد جواز ذلك، وأن البيع المعلق صحيح، وقد دلت القاعدة المتقدم ذكرها وهي أن الأصل في العقود الحل، وهذا عقد من العقود، وهذا التعليق لا يخالف كتاب الله، فلا وجه للمنع، والبيع مما تعارف عليه الناس، سواء كان منجزا، أو معلقا، فلم يحدد لنا الشارع التنجيز في البيع، بل أطلقه، فيرجع إلى ما تعارف الناس عليه، وهذا القول هو الصحيح، وعلى ذلك إذا قال: أتعاقد أنا وإياك على هذا البيع لكن بشرط أن يرضى أبي أو أمي فإن لم يرض فلا بيع، فهذا جائز على الصحيح. قوله [أو يقول للمرتهن: إن جئتك بحقك وإلا فالرهن لك لا يصح البيع]

هذه صورة ثالثة مما لا يصح فيها البيع، وهي رجل اشترى سلعة ووضع رهنا عند مالك السلعة، وقال: إن جئتك بالثمن إلى عشرة أيام وإلا فهذا الرهن لك، أي هو ملك لك، وهذا في الحقيقة بيع معلق، فهو كالصورتين السابقتين، لأنه باعه هذا الرهن بشرط أن يكون البيع لهذا الرهن معلقا، والشرط الذي يقتضي تعليق الرهن هنا هو أنه إذا لم يأته بالثمن إلى عشرة أيام، فكأنه يقول: الرهن إن لم آتك بالثمن إلى عشرة أيام هو لك، فهو بيع معلق، ويستدل الحنابلة على عدم جواز هذه الصورة فضلا عما سبق في الصورتين السابقتين بما رواه الدارقطني أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (لا يَغْلَقْ الرهن عن صاحبه الذي رهنه، له غنمه وعليه غرمه) [جه 2441 مختصرا بلفظ (لا يغلق الرهن) ، سنن الدارقطني 3 / 32] أي لا يؤخذ منه فيتملك من قبل المرتهن، وقال شيخ الإسلام وتلميذه ابن القيم وهو رواية عن الإمام أحمد بل فعله الإمام أحمد أن ذلك جائز، واستدلوا بما تقدم وهو أن الأصل في العقود الحل، وهذا بيع للرهن على سبيل التعليق، فهو كالصورتين السابقتين التين تقدم جوازهما، قالوا: والحديث إنما ينهى عن أن يغلق عليه من غير رضا منه كما كان في الجاهلية، فإن الرجل إذا وضع الرهن ثم لم يأت بالثمن فإنه يؤخذ منه قهرا، فيتملكه المرتهن، فهذا كان من عمل الجاهلية فنهى عنه الشارع، وليست هذه المسألة من هذا الباب، فإن الرهن هنا لم يغلق من صاحبه، بل هو قد أغلقه على نفسه بشرطه الذي اشترطه، والمسلمون على شروطهم، وهذا القول هو الصحيح، لكن إن لم يكن الغبن فاحشا، فإن كان فاحشا فالراجح ما ذهب إليه الجمهور لا سيما إن غلب على التأخير. * هل يجوز بيع العربون وإجارة العربون؟

وصورة هذه المسألة أن يشتري الرجل السلعة من أحد الناس ويقول: لي الخيار ثلاثة أيام، وهذا مبلغ عندك فإن اشتريت السلعة أكملت لك المتبقي من الثمن، وإلا فإن هذا المبلغ المقدم لك، وهي صورة مشهورة عند الناس، وتسمى بالعربون، وفيها قولان لأهل العلم: 1- قال الجمهور إن هذا محرم، لأنه أكل للمال بالباطل، فلا حق له بأكله، وروى أبو داود في سننه وهو في موطأ مالك أن النبي - صلى الله عليه وسلم -: (نهى عن بيع العربان) [حم 6684، د 3502، جه 2192] أي العربون. 2- وقال الحنابلة بيع العربون جائز، ومثله إجارة العربون بأن يدفع شيئا للمؤجر ويقول إن عزمت على الاستئجار وإلا فهذا الثمن لك، وقد لا يقع بينهما عقد، ويقول هذا المال، وأنا أفكر وأتأمل فإن عزمت على الشراء أكملت ما تبقى من الثمن، وإلا فإن هذا المال لك، واستدلوا بما رواه البخاري معلقا وذكره صاحب المغني وذكر أن الإمام أحمد احتج به، وأن الإمام أحمد قيل له: أتذهب إليه؟ فقال: لم، وهو قول عمر، والأثر:" أن نافع بن الحارث عامل عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - على مكة اشترى دار السجن من صفوان بن أمية، فإن رضي عمر وإلا فله كذا وكذا " [خ تعليقا (كتاب الخصومات - باب الربط والحبس في الحرم) ] ولا يعلم له مخالف، قالوا: وأما الحديث الذي ذكره الجمهور فإن إسناده منقطع، وقد ضعفه غير واحد من الأئمة كالإمام أحمد، قالوا: وليس هذا بأكل لأموال الناس بالباطل، فإنه إنما يأخذ المال بسبب تربصه انتظاره، وبقاء السلعة بيده من غير بيع، فإنه يتربص وينتظر حتى يعزم هذا المشتري على الشراء، وقد لا يعزم فيكون قد تربص بهذه السلعة بدون أن يقدر على بيعها، فهذا ليس من أكل أموال الناس بالباطل، فإنه قد تعود عليه مصلحة وقد يلحق به الضرر بسبب التربص، قالوا: ولأن الأصل في المعاملات الحل، وهذا القول هو الصحيح.

قوله [وإن باعه بشرط البراءة من كل عيب مجهول لم يبرأ] مثاله: إذا قال هذه السلعة أمامك، وأنا بريء من كل عيب مجهول، ليبطل عليه خيار العيب، فإذا وجد عيبا بعد ذلك فلا يكون له الخيار، قال المؤلف: (لم يبرأ) بل للمشتري إذ وجد السلعة معيبة بعد ذلك حق الخيار، فله إما الفسخ أو الإمضاء مع الأرش، وذلك لأن خيار العيب إنما يثبت بعد البيع، ولا يثبت قبله، وهو إنما يثبت بعد الاطلاع على العيب، وهذا هو المشهور عند الحنابلة، وقال شيخ الإسلام وهو رواية عن الإمام أحمد وهو مذهب المالكية: يبرأ إلا أن يكون قد علم بالعيب فلا يبرأ، أما إن كان هذا القائل جاهلا بعيوب هذه السلعة ولا يعرف عيوبها فيقول: أن أبيعك هذه السلعة وأنا لا أعرف هل فيها عيب أم لا، وأريد أن تبرأني من كل عيب مجهول، فإن شئت تشتريها هكذا، وإلا فلا أبيعها عليك، وهو صادق من حيث كونه لا يعلم إن كان فيها عيب أم لا، فإن هذه التبرئة صحيحة معتبرة، وذلك لأن الطرف الآخر قد أسقط حقه ولم يقع غش ولا خداع ولا غرر من البائع. أما إذا قال: أنا بريء من كل عيب مجهول، وكان البائع عالما بوجود عيب فإن هذا لا يقبل ولا يعتبر، بل الخيار ثابت، وذلك لأن هذا غش وخداع وغرر، فكان الخيار ثابتا، وما قاله رحمه الله ظاهر، فإنه إذا لم يعلم شيئا من العيوب فإنه لم يقع منه ما يقتضي جواز الفسخ للآخر وقد أسقط الآخر حقه، وأما إذا كان عالما بالعيوب فإنه قد غش وخدع، فعند ذلك يثبت الخيار للآخر، ويدل عليه ما رواه مالك في موطئه والبيهقي بإسناد صحيح أن ابن عمر - رضي الله عنه - باع غلاما له بثمانمائة درهم وباعه بالبراءة، فقال الذي ابتاعه: بالغلام داء لم تسمه لي، فاختصما إلى عثمان، فقضى على ابن عمر أن يحلف له، لقد باعه العبد وما به داء يعمله، فأبى أن يحلف، وارتجع العبد، فصح عنده، فباعه بألف وخمسمائة.

أما إذا سمى العيب ومع ذلك اشتراها وبرأه من العيب فإن الخيار لا يثبت بعد ذلك، وذلك لأنه قد أطلعه على العيب فرضي به وأسقط حقه في الخيار. قوله [وإن باعه دارا على أنها عشرة أذرع فبانت أكثر أو أقل صح] مثاله: إذا قال أبيعك هذه الدار وهي عشرة أذرع، واتفقا على ذلك، فبانت تسعة أذرع أو بانت أحد عشر ذراعا، صح البيع، وما كان من زيادة فللبائع، وما كان من نقص فعليه، فإذا كان هناك زيادة فيؤخذ من الأرض عشرة أذرع ويترك الباقي للبائع، وإن كان هناك نقص فعليه الثمن الفارق، فمثلا باعه عشرة أذرع بألف درهم، فبانت تسعة أذرع، فإنه يعطيه مائة درهم، والبيع صحيح لأن الشروط قد توفرت. قوله [ولمن جهله وفات غرضه الخيار] مثاله: إن قال المشتري أنا أجهل أنها تسعة أذرع وأظنها عشرة أذرع، وغرضي يفوت، فإني أريد أرضا قدرها كذا وكذا من الأذرع، وهذه الأرض التي اشتريتها لا تفي بالغرض، فإن له الخيار، وإن أعطاه الثمن الفارق، فإن له رفضه وفسخ البيع، وذلك لفوات غرضه. * فالبيع صحيح، لكن هل يثبت له الخيار؟ إن جهل وفات غرضه فله الخيار، وهذا الخيار بفوات غرضه، وشرطه الجهل، لأنه إذا دخل على بصيرة فليس له الخيار، فإنه دخل على علم ومعرفة فلا يحق له والحالة هذه الفسخ، أما إذا كان جاهلا لكن لم يفت غرضه فإنه حينئذ يلزم بالبيع ولا يثبت له الخيار، لأن البيع قد لزم، وليس له غرض معين بما حدده. باب الخيار الخيار اسم مصدر من اختار، والمصدر اختيارا، والخيار: هو الأخذ بخير الأمرين بين الإمضاء والفسخ. قوله [وهو أقسام، الأول: خيار المجلس]

قالوا: وهو خيار مكان التبايع، وفي الصحيحين أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (البيعان بالخيار ما لم يتفرقا وكانا جميعا) [خ 2079، م 1532] وفي الصحيحين أيضا أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (إذا تبايع الرجلان فكل واحد منهما بالخيار ما لم يتفرقا وكانا جميعا أو يخير أحدهما الآخر، فإن خير أحدهما الآخر فتبايعا على ذلك فقد وجب البيع، وإن تفرقا بعد أن تبايعا ولم يترك أحد منهما البيع فقد وجب البيع) [خ 2112، م 1531] فهذان الحديثان يدلان على ثبوت خيار المجلس، أو خيار عدم التفرقة. وظاهر ما تقدم أن الخيار يثبت في مكان البيع، وأنهما إن لم يكونا في مكانه، وإن لم يتفرقا فإن الخيار ينتهي، لأنه مرتبط بعدم مفارقتهما للمكان، هذا هو ظاهر كلامهم، وظاهر الحديث خلاف هذا، وأنهما إذا كانا جميعا فالخيار باق، فلو كانا في سفر وهما في سيارة فالخيار باق، مع أن السيارة تنتقل من موضع إلى موضع، أما إذا تفرقا فإن البيع يمضي ولا فسخ. ولم يقل بخيار المجلس الإمام مالك احتجاجا بعمل أهل المدينة، والحديث حجة عليه، ولا يصح حمل الحديث على تفرق الأقوال لأن الأقوال مجتمعة بالإيجاب والقبول لا متفرقة، وتأويلهم البائع بالسائم ضعيف جدا لأن الأصل الحقيقة أولا، وثانيا: أن الخيار للسائم معلوم لا يحتاج إلى بيان، والقول بخيار المجلس هو قول سعيد بن المسيب وهو إمام أهل المدينة في عصره، فكيف يقال إن إجماع أهل المدينة على خلافه. قوله [يثبت في البيع والصلح بمعناه]

أما في البيع فظاهر، فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (البيعان بالخيار) ، وقوله (والصلح بمعناه) أي الصلح الذي بمعنى البيع، وهو الصلح الذي يتم بعوض، كأن يقر رجل لآخر بسلعة قد اختلفا فيها، فيأخذ صاحب السلعة من المقر عوضا عن سلعته، فيقول مثلا: هذه سلعتك وأصالحك عليها بأن أدفع لك كذا وكذا، فهذا صلح بمعنى البيع، وذلك لاشتماله على العوض، فهو بيع فثبت فيه الخيار. فالحديث ورد في البيع فيقاس عليه ما في معناه من عقود المعاوضات. قوله [وإجارة] كذلك الإجارة يثبت فيها الخيار، فإن استأجر شيئا، وقلنا إن الإجارة من العقود اللازمة، فإن الإجارة بعوض، فهي بيع، لكنه بيع منفعة، ففيها معنى البيع، لاشتمالها على العوض، فإذا اتفقا على أن يستأجر منه هذه الدار ستة أشهر، بعشرة آلاف، وهما بعد لم يتفرقا، فأراد أحدهما الفسخ فله ذلك، ولكل منهما الخيار. قوله [والصرف والسلم] فكذلك يثبت فيهما الخيار، لأنهما بيع. قوله [دون سائر العقود] كالرهن والحوالة والضمان والشركة والمساقاة والمزارعة (على القول بأن العقد فيهما جائز وليس بلازم وهو أحد الوجهين في المذهب) والهبة والوقف والوصية وغير ذلك من العقود، فهذه العقود لا يثبت في خيار المجلس، وذلك لأن هذه العقود إما أن تكون غير لازمة، أي عقود جائزة، والعقد الجائز لا يحتاج إلى الخيار فهو جائز، فللشص أن يمضيه وله أن يفسخه من غير أن يحتاج إلى خيار، كعقد الشركة، فلكل واحد منهما الفسخ فلا يحتاج إلى خيار، وهذا باتفاق العلماء، ومنها - أي مما تقدم - ما هو عقود لازمة لكن لا عوض فيها كالوقف والوصية، فهي عقود لازمة ولا عوض فيها، ولذا فلا تلحق بالبيع، وقد نص الشارع على البيع فليحق به ما هو في معناه، وحيث كان العقد اللازم لا عوض فيه فإنه ليس في معنى البيع، وعلى هذا فسائر العقود ليس فيها خيار.

وحكى الوزير الاتفاق على أن خيار المجلس لا يثبت في العقود غير اللازمة كالشركة ولا في العقود اللازمة التي لا يقصد منها العوض كالنكاح. قوله [ولكل من المتبايعين الخيار ما لم يتفرقا عرفا بأبدانهما] فلكل واحد من المتبايعين الخيار ما لم يتفرقا عرفا بأبدانهما، وعلم من كلام المؤلف أن المرجع في التفرق إلى العرف، وذلك لأن كل ما لم يضع الشارع له حدا فإنه يرجع فيه إلى العرف، فالشارع قال: (ما لم يتفرقا وكانا جميعا) فيحتاج إلى تحديد التفرق، بأي شيء يكون؟ فلم يضع الشارع لنا حدا فيه، فالعرف يكون هو الحد. فإذا كانا في غرفة فخرج أحدهما منها فهو تفرق في العرف، وكذلك إذا كان في فضاء كأن يكونا في السوق فإذا استدبر أحدهما الآخر فمشى خطوات يسيره فالعرف يقول هذا تفرق، وإذا كانا في سفينة أو سيارة فكان أحدهما في أعلاها والآخر في أسفلها فهذا تفرق في العرف، وهكذا. قوله [وإن نفياه أو أسقطاه سقط] إن نفياه قبل العقد فقال أحدهما أريد أن نتعاقد على هذا البيع بشرط ألا خيار بيني وبينك، فقال الآخر: رضيت، فهذا صحيح، وإسقاطه يكون بعد ثبوت العقد. قوله [وإذا أسقطه أحدهما بقي خيار الآخر]

ودليل ذلك قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: (أو يخير أحدهما الأخر، فإن خير أحدهما الآخر فتبايعا على ذلك فقد وجب البيع) [خ 2112، م 1531] ولأنه حق لهما لمحض مصلحتهما، فإذا أسقطاه أو نفياه أو أسقطه أحدهما فإنه يسقط، أما الآخر الذي لم يسقط حقه فإنه لا يسقط، ويدل لهذا أيضا ما رواه الخمسة إلا ابن ماجة بإسناد جيد أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (البائع والمبتاع بالخيار ما لم يتفرقا، إلا أن تكون صفقة خيار - أي عقد فيه خيار - ولا يحل لأحدهما أن يفارق صاحبه خشية أن يستقيله) [حم 6682، ت 1247، ن 4483، د 3456] أي ليس لأحدهما أن يبادر الآخر بالمفارقة خشية أن يستقيل الآخر البيع، أي يرجع فيه بحق الخيار الذي هو له، فهذا لا يجوز، وهو الصحيح في المذهب، أما إذا فعل ذلك بغير نية تضييع حقه في الرجوع عن البيع فلا شيء في ذلك، لقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: (إنما الأعمال بالنيات) ، وأما ما ورد عن ابن عمر - رضي الله عنه - كما في البخاري أنه باع مالا له بالوادي بمال لعثمان بخيبر، قال: فلما تبايعنا رجعت على عقبي حتى خرجت من بيته خشية أن يرادني البيع، فالجواب عنه من وجهين: الوجه الأول: أن يقال: لعله لم يبلغه النهي. الوجه الثاني: أنه بادره لطول مجلس عثمان - رضي الله عنه - فإنه كان الخليفة. فإن فارقه خشية أن يستقيله فقد قال الحنابلة: ويثبت التفرق بذلك، في هذا نظر، بل الأظهر أن التفرق لا يثبت، لأنه تفرق غير شرعي، فهو تفرق منهي عنه، وما دام منهيا عنه فهو فاسد، لا عبرة به، وعلى هذا يثبت الخيار ولا يثبت التفرق لما سبق، وإذا جوزنا ذلك وقلنا إن التفرق يثبت فإننا بذلك نفتح بابا لمثل هذا الفعل، فالأصح أنه لا يثبت التفرق ويظل الخيار كما هو.

ومما لا يقع فيه الخيار العتق، فإذا اشترى رجل من آخر رقيقا يعتق عليه، أو يقول المشتري: إذا اشتريت فلانا فهو حر، فإذا اشتراه فإنه يعتق مباشرة ولا خيار، وذلك لتشوف الشارع إلى العتق، ومثل ذلك الكتابة، فلو أن رجلا كاتب مملوكه على كذا وكذا من الأقساط يدفعها له شهريا أو سنويا، فليس للسيد الخيار في مثل هذا العقد، وإن كان بمعنى البيع، وذلك للعلة السابقة، وهي تشوف الشارع إلى العتق، قالوا: ومثل ذلك إذا كان متولي طرفي العقد واحد، كرجل وكل من بائع أن يبيع له، ومن مشتري أن يشتري له، فهنا لا خيار، إذ لا يمكن إثبات الخيار لتعذر التفرق في الشخص الواحد. وقال بعض أهل العلم من الحنابلة: بل يثبت الخيار، ويكون الخيار ما دام في المجلس الذي أوقع فيه العقد، والذي يظهر هو القول الأول، وان هذا إنما حيث كان طرفا العقد شخصين، لئلا تخرج السلعة من صاحبها إلا بعد الرضا التام، وحيث كان واحدا فإن هذا لا يحتاج إليه، إلا أن يكون الخيار له بالنظر في مصلحة كل من الطرفين الذين تولى عنهما البيع والشراء فقد يكون في القول الثاني قوة. * وهل يورث الخيار؟ فيه قولان في المذهب، ومثاله: إذا مات الرجل في مجلس الخيار، فهل يورث خياره أم لا؟ فقال بعضهم إنه لا يورث، لأن الموت أعظم فرقة، وهذا هو المشهور من المذهب، وقال بعض أهل العلم إنه يورث، وهذا هو القول الثاني في المذهب، وذلك لأن الخيار حق له فيورث كسائر الحقوق، والقول الأول أظهر لأن الأصل لزوم البيع والموت أعظم فرقة. قوله [وإذا مضت مدته لزم البيع] أي إذا تفرقا في مدته لزم البيع، ولهذا قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: (فإن تفرقا بعد أن تبايعا ولم يترك أحدهما البيع فقد وجب البيع) ، فمراد المؤلف بقوله (وإذا مضت مدته) أي مدته التي تقدمت أنها معتبرة بحسب العرف، وهو التفرق العرفي بالأبدان.

قوله [الثاني: أن يشترطاه في العقد مدة معلومة ولو طويلة] هذا هو النوع الثاني من أنواع الخيار، وهو خيار الشرط. والفارق بين خيار المجلس وبين خيار الشرط أن خيار المجلس من وضع الشارع، وأما خيار الشرط فهو من وضع المتعاقدين، فخيار الشرط خيار وضعي، وأما خيار المجلس فهو خيار شرعي. وخيار الشرط يدل عليه قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: (المسلمون على شروطهم) ، ويدل عليه قول الله تعالى {أوفوا بالعقود} وقوله (أن يشترطاه) ظاهره أنهما لو اشترطاه قبل العقد فليس بمعتبر، وأنه يشترط أن يكون في صلب العقد، فلو قال رجل لآخر: لو بعتني سلعتك على أن يكون الخيار لي شهرا، فقال الآخر بعتك، فقال: قبلت، فشرطه هذا ليس بمعتبر، لأنه ليس في صلب العقد، وإنما يكون معتبرا إذا قال: بعني على أن يكون الخيار لي لمدة شهر، ثم يقول: قبلت، والراجح في هذه المسألة نظير المسألة السابقة، وأن هذا داخل في قوله - صلى الله عليه وسلم -: (المسلمون على شروطهم) ، وهذا عام في الشروط كلها، سواء كانت في صلب العقد أم قبله، وتقدم الاستدلال بمزيد أدلة على هذه المسألة في الشروط في البيع، فقد تقدم أن الشروط في البيع في المشهور من المذهب لا تصح إلا في صلب العقد، وتقدم أن الراجح أنها تصح قبله. وكما أن خيار الشرط يصح في صلب العقد، فيصح أثناء مدة الخيار، سواء كان الخيار خيار شرط أو خيار مجلس، فإذا قال: بعتك هذه السلعة على أن يكون لي الخيار ثلاثة أيام، فقال: قبلت، فقبل أن تتم المدة قال: أريد أن يكون الخيار شهرا، فإن ذلك مقبول لأن البيع لم يجب بعد، ومثل هذا في خيار المجلس، بأن قال قبل أن يتفرقا: اشترط الخيار لمدة شهر، وكانوا لم يشترطوا ذلك في العقد، فإن ذلك جائز.

وقوله (مدة معلومة ولو طويلة) ولو كانت شهرا أو شهرين أو سنة أو سنتين، فإن ذلك يصح، فلو اشترى من آخر بيتا، وقال لي الخيار سنة، فذلك جائز، قالوا: لقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: (المسلمون على شروطهم) ، إلا أن يكون مما لا يبقى إليها في العادة، وقال الأحناف والشافعية: لا يصح إلا ثلاثة أيام، قالوا: لأن الأصل إمضاء البيع، ولم يثبت لنا خيار في الشرع أكثر من ثلاثة أيام، كما في خيار التصرية، فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال في المصراة: (فله الخيار ثلاثة أيام) وكذلك أثبته للمسترسل كما في سنن الدارقطني والبيهقي أن له الخيار ثلاثة أيام، قالوا: فهذا أقصى حد لمدة الخيار في الشرع فلا نزيد عليه، وقال المالكية: الأصل أنه ليس له الخيار إلا ثلاثة أيام، إلا أن يحتاج إلى هذا كأن تكون السلعة من السلع التي لا يكفي فيها ثلاثة أيام، أو يكون عنده سفر أو مرض أو نحو ذلك مما يعيقه عن النظر في السلعة، فهنا يمكنه أن يشترط الخيار أكثر من ثلاثة أيام بحسب المدة التي يحتاج إليها، وأظهر المذاهب فيما يظهر مذهب الحنابلة، لعموم قوله - صلى الله عليه وسلم -: (المسلمون على شروطهم) ، وأما خيار التصرية وأنه أقصى خيار ثبت في الشرع ففرق بين ما وضعه الشارع، وما وضعه المتعاقدان، فإن خيار الشرط من وضع المتعاقدين، فما دام أنهما قد تراضوا على مدة معلومة، فإن ذلك جائز.

وقوله (معلومة) يدل على أنها لو كانت مجهولة فإن الخيار لا يصح، وعليه فيكون له الخيار فورا، فإن شاء فسخ وإلا أمضى، وهذا هو المشهور من مذهب الحنابلة، فلو قال: بعتك على أن يكون لي الخيار مدة من الزمن أو حتى يأتي فلان، ونحو ذلك فإنه لا يصح، ومثله لو كان على التأبيد، كأن يقول لي الخيار أبدا، لما في ذلك من الجهالة والغرر، وقال المالكية: يصح البيع ويحد لهما من الزمن مدة تكفي للخيار، وتجربة المبيع في العادة، فيضع لهما القاضي مدة تكفي لتجربة المبيع وللمشاورة، وهذا يختلف من سلعة إلى أخرى، وقال شيخ الإسلام يثبت لهما الخيار ثلاثة أيام لأنه هو الخيار الذي ثبت عن الشارع كما في حديث التصرية، وهذا هو أظهر الأقوال، وذلك لأن الشارع قد وضع هذه المدة في الخيار، على أن قول المالكية له وجه وقوة. قوله [وابتداؤهما من العقد] فإذا قال كل منهما لي الخيار ثلاثة أيام، فإن هذه المدة تبتديء من العقد، وهذا ظهر. قوله [وإذا مضت مدته أو قطعاه بطل] إذا مضت مدة الخيار فإنه يبطل ويثبت البيع، وتحديد المدة في الخيار يجوز مع الاختلاف، فيجوز أن يشترط البائع له ثلاثة أيام، ويشترط المشتري له عشرة أيام، لأن ذلك حق لهما، فإذا مضت مدة أحدهما أو مدتهما فإن الخيار يبطل ويثبت البيع. وقوله (أو قطعاه) بأن قال كل منهما ليس بيننا خيار، فهذا جائز، ويبطل به الخيار، ويثبت معه البيع، لأن هذا حق لهما، فإذا قطعاه فقد أسقطا حقهما برضاهما، ويجوز أن يسقط أحدهما حقه في الخيار دون الآخر. قوله [ويثبت في البيع والصلح بمعناه]

فخيار الشرط يثبت في البيع كخيار المجلس، والمسلمون على شروطهم، ويثبت في الصلح بمعناه، وهو الصلح بعوض، وظاهر كلام المؤلف أنه لا يثبت في مثل الصرف والسلم وغيرهما من العقود اللازمة ذات العوض التي تقدم ثبوت خيار المجلس فيها، واختار بعض الحنابلة ثبوت خيار الشرط فيما يثبت فيه خيار المجلس وهذا هو اختيار شيخ الإسلام والشيخ عبد الرحمن بن سعدي وهو الراجح، لعموم قوله - صلى الله عليه وسلم -: (المسلمون على شروطهم) . قال شيخ الإسلام:" ويثبت خيار الشرط في كل العقود ولو طالت المدة " ا. هـ فإن قيل: إن الصرف يشترط فيه التقابض، فيكف يثبت فيه الخيار؟ فالجواب: لا إشكال في ثبوت الخيار مع التقابض، فكل منهما يقبض ماله، وما تعاقدا عليه، ومع ذلك فالخيار ثابت وليس هذا من الربا في شيء، فالصحيح أن كل ما ثبت فيه خيار المجلس فإن خيار الشرط يثبت فيه ولا فرق، وقد أثبت الشارع خيار المجلس في مثل هذه العقود فدل على جواز أصل الخيار فيه فإذا أثبته المتعاقدان لأنفسهم برضا منهم فإنه يثبت لهم. قوله [والإجارة في الذمة أو على مدة لا تلي العقد] يثبت خيار الشرط في الإجارة في الذمة مطلقا، والإجارة في الذمة هي الإجارة على بناء حائط أو على عمل بمزرعة أو خياطة ثوب أو نحو ذلك، فيثبت الخيار لأن المسلمين على شروطهم، وليس فيه المحذور الذي ذكر الحنابلة في مثل الصرف والسلم. وقوله (أو على مدة لا تلي العقد) فالخيار في الإجارة على مدة معينة فيه تفصيل: فإن كانت على مدة لا تلي العقد فالخيار صحيح، كأن يكونا في الخامس من محرم فيقول: آجرتك بيتي لمدة سنة، وابتداؤها من أول شهر صفر، على أن يكون لي الخيار لمدة عشرين يوما، فهنا الخيار واقع في مدة لا تلي العقد، لأن العقد لا يثبت إلا في أول صفر، والخيار يكون قبله فيكون صحيحا.

أما إن كانت على مدة تلي العقد فإن ذلك لا يصح، كأن يكونا في الخامس من محرم، فيقول: آجرتك بيتي لمدة سنة على أن يكون ابتداء المدة من الآن، ولي الخيار ثلاثة أيام، فهذا لا يصح، لأن الخيار في مدة تلي العقد، قالوا: لأنه حينئذ ينتفع بهذه العين المستأجرة في مدة الخيار، فكيف يثبت الخيار مع انتفاعه بها، ففي ذلك تفويت لشيء من الانتفاع، وهذا هو المشهور في المذهب، وقال القاضي من الحنابلة وهو اختيار شيخ الإسلام أن هذا جائز، وأن هذه المدة التي انتفع بها المستأجر تحسب عليه بأجرة المثل، بمعنى: استأجر منه هذا البيت اليوم، وقال لي الخيار سبعة أيام، واستفاد من البيت خلال السبعة أيام، وفي خلالها أراد الفسخ، فحينئذ يعطي المستأجر المؤجر أجرة المثل للأيام التي انتفع بها، وحينئذ لا يفوت عليه شيء، وهذا هو الصحيح أن الإجارة بنوعيها - الإجارة في الذمة أو الإجارة على مدة يجوز فيها خيار الشرط ويثبت. قوله [وإن شرطاه لأحدهما دون صاحبه صح] فإذا قال أحدهما: لي الخيار ثلاثة أيام، وأما أنت فلا خيار لك، أو قال: أنا لا خيار لي، فهذا جائز، لأنه حق لكل منهما، فمن أثبته فلنفسه، ومن نفاه فعليها، فلا يشترط أن يكون الخيار ثباتا لهما جميعا. قوله [وإلى الغد أو الليل يسقط بأوله]

إذا قال: أبيعك هذه السلعة ولك الخيار إلى الغد أو إلى الليل، فإن الخيار يسقط بأول جزء منه، فإذا قال: إلى الغد، فإنه يسقط بأذان الفجر، وإذا قال: إلى الليل فإنه يسقط بأذان المغرب، وهذا هو المشهور في المذهب، وعن الإمام أحمد وهو مذهب أبي حنيفة أن الغد كله يدخل وأن الليل كله يدخل، أما أهل القول الأول فقالوا: إن لفظة (إلى) لانتهاء الغاية، فإذا قال: إلى الغد فإنه ينتهي ويكون ذلك بأوله، وقال الأحناف هي بمعنى (مع) كما قال تعالى {وأيديكم إلى المرافق} أي مع المرافق، والراجح أن (إلى) بمعنى (حتى) فهي لانتهاء الغاية، فإن الحد يباين المحدود، وأنت إذا قلت: بعتك هذه الأرض من هذا إلى تلك الشجرة، فإن الشجرة لا تدخل لأن الحد غير المحدود، وأما إذا كان الحد من جنس المحدود فإنه يدخل، كقوله تعالى {إلى المرافق} ، فإن المرفق من اليد، ولذا من حيث اللغة ما ذهب إليه الحنابلة أقوى، والصحيح في هذه المسألة عدم الرجوع إلى اللغة، ولكن المرجع هو العرف، فما تعارف عليه الناس فهو المعتبر، وذلك لأنه عندما يتلفظ بتلك اللفظة إنما يريد ما هو معروف عند الناس، فمثلا الباعة في الأسواق إذا قالوا: لك الخيار إلى الغد، فليس مرادهم بالغد أذان الفجر، وإنما عندما تفتح الأسواق ونحو ذلك، فالراجح أن العبرة في ذلك بالعرف. قوله [ولمن له الخيار الفسخ ولو مع غيبة الآخر وسخطه] لكل من له الخيار الفسخ ولو كان الآخر غائبا أو ساخطا، فلا يشترط أن يلتقيا ليخبره بالفسخ، لأنه حق له فله الفسخ متى شاء، وكذلك إن كان الآخر ساخطا.

وظاهره أن الفسخ يثبت ولو لم يرد الثمن، كأن يأخذ البائع عشرة آلاف على هذه السلعة، ويشترط المشتري له الخيار، ثم يقول المشتري في زمن الخيار: أنا فسخت البيع، فظاهر هذا أن الفسخ يثبت وإن كان المبيع ما زال في يده أو كان الثمن ما زال في يد الآخر، وهذا لا شك أنه ذريعة إلى أكل أموال الناس بالباطل، فقد يجحد، وقد يأبى دفع هذا المال، ولذا فعن الإمام أحمد وهو اختيار شيخ الإسلام وصوبه في الإنصاف أن الفسخ يثبت برد الثمن، وذلك سدا للذريعة، وعلى هذا ففي المثال السابق لا يثبت الفسخ إلا بأن يرد المشتري السلعة إلى البائع، ويرد البائع الثمن للمشتري، لئلا يكون هذا ذريعة إلى أكل أموال الناس بالباطل. قوله [والملك مدة الخيارين للمشتري] فالملك مدة خيار الشرط وخيار المجلس للمشتري، لقوله - صلى الله عليه وسلم - في الحديث الذي رواه السبعة: (من باع عبدا وله مال فماله للذي باعه إلا أن يشترطه المبتاع) [حم 4538، خ 2379، م 1543، ت 1244، ن 4636، د 3433، جه 2211] فدل على أن المبتاع إذا اشترط المال الذي بيد العبد فهو له، واللام للتمليك، فدل على أن البيع الثابت فيه الخيار يثبت فيه ملك كل واحد منهما لما في يد الآخر، وإن كان الفسخ ثابتا للآخر، فالبائع مالك للثمن وإن كان الآخر له الفسخ، والمشتري مالك للسلعة وإن كان البائع له الفسخ، للحديث المتقدم، ويترتب على هذه المسألة: قوله [وله نماؤه المنفصل وكسبه] فإذا نما المبيع نماء منفصلا فهو لهذا المالك الذي هو تحت يده، مثلا: اشترى شجرا، وكان الخيار مدة سنة، فأثمر الشجر، فإن الثمر للمشتري، ما دام الخيار ثابتا، وكذلك الكسب، فلو اشترى عبدا، فإن كسبه يكون له مدة الخيار، ودليل ذلك قوله - صلى الله عليه وسلم -: (الخراج بالضمان) رواه الترمذي وغيره والحديث صحيح [حم 23704، 25468، ت 1285، ن 4490، د 3508، جه 2243] .

فالخراج: أي ما يخرج من الشيء من ثمر أو كسب ونحوه. بالضمان: أي لمن كان الضمان عليه. والضمان مدة الخيار عن السلعة التي بيده، وإن كان الآخر له حق الفسخ، وعلى هذا فالنماء المنفصل والكسب يكون لمن كان الثمن أو المبيع بيده. وأما نماؤه المتصل فلم يذكره المؤلف، وهو للبائع، وهذا هو المشهور، وهو مذهب جماهير أهل العلم، وحكي إجماعا، فمثلا: رجل اشترى شاة فبقيت عنده لمدة شهر أو شهرين وكان الخيار فيها مدة سنة، فسمنت الشاة، فهذا السمن ليس للمشتري، وهو وإن كان في ملكه لكنه نماء متصل، ويثبت تباعا مالا يثبت استقلالا، واختار شيخ الإسلام أن النماء المتصل للمشتري أيضا وهذا القول هو الراجح، لعوم قوله - صلى الله عليه وسلم -: (الخراج بالضمان) ، ولأنه نما في ملكه، وحينئذ يقوم المبيع، ففي المثال السابق تقوم الشاة لما كانت هزيلة وقت البيع، وتقوم لما كانت سمينة عند الفسخ، ويدفع الفرق للمشتري، فإذا كانت وهي هزيلة تساوي ثلاثمائة، فلما كانت سمينة أصبحت تساوي خمسمائة، فهنا يدفع البائع للمشتري مائتين. قال الأحناف والمالكية: الملك مدة الخيار للبائع، قالوا: لأن الخيار مانع من ترتب آثار العقد عليه، وعليه فالنماء مدة الخيار للمالك، والراجح ما تقدم لأن العقد صحيح فتترتب آثاره عليه والخيار إنما يمنع لزوم البيع. قوله [ويحرم ولا يصح تصرف أحدهما في المبيع وعوضه المعين] فلا يصح لأحدهما أن يتصرف في المبيع، فمن أخذ السلعة فليس له أن يتصرف فيها، بمعنى أن ليس له أن يبيعها ولا أن يهبها ولا أن يتبرع بها، فكل هذا محرم، لأن حق الآخر في الفسخ يسقط بمثل هذا التصرف، ولا يجوز إسقاط حقه في الفسخ، وعن الإمام أحمد أن البيع يصح، ولكنه يكون موقوفا على إجازة الآخر، وهذا هو الراجح كما تقدم في تصرف الفضولي، وهذا أولي من تصرف الفضولي.

وقوله (وعوضه المعين) لأن عوضه الذي يكون في الذمة لم يثبت عليه العقد، فالعوض المعين كقوله: بعتك هذه الدار بهذا الشيء، فهذا الشيء المعين لا يصح التصرف فيه ولا يجوز، لكن لو قال: بعتك هذا الشيء بعشرة آلاف، فله أن يتصرف فيها لأن العشرة آلاف غير معينة، فالواجب عليه متى ثبت البيع أن يعطيه عشرة آلاف، وعلى ما تقدم يصح التصرف حتى لو كان معينا ويكون موقوفا. قوله [بغير إذن الآخر] أما إذا أذن الآخر فلا إشكال في جوازه، مثاله:رجل اشترى سلعة من آخر، وكان بينهما الخيار، وقال له: أريد أن أبيعها أو أهبها، فوافق الطرف الثاني، فإن له ذلك، ولا إشكال في جواز هذا. قوله [بغير تجربة المبيع] أما إذا تصرف تصرفا للتجربة فذلك يجوز، كأن يذهب بها إلى السوق فيزايد عليها مزايدة ليعرف ثمنها، كذلك لو ركب الدابة ليعرف سيرها، فهذا جائز لأن مثل هذه التصرفات هي المقصودة من الخيار، لأن الخيار إنما وضع لمثل هذا. قوله [إلا عتق المشتري]

مثاله: رجل اشترى عبدا، وقال للبائع لي الخيار ثلاثة أيام، وفي اليوم الأول أعتقه المشتري، قالوا: فإنه يعتق العبد، وذلك لتشوف الشارع إلى العتق، وهذا هو القول الأول في هذه المسألة، وهو مذهب الجمهور، والقول الثاني وهو رواية عن الإمام أحمد أن الخيار لا يسقط وإن كان العتق يسري ويصح لكن الخيار لا يسقط، وحينئذ يقوم العبد في اليوم الذي أعتق فيه ويعطى البائع حقه، فلا يؤدي تصرف المشتري إلى فسخ العقد، بل للبائع الخيار، فإن شاء أن يرضى بمثل هذا البيع، وإن شاء لم يرض، وهو إن لم يرض فإن العبد يصح عتقه لكن ينظر في اليوم الذي أعتق فيه كم يساوي، واختار الشيخ السعدي أن العتق لا يصح، وهذا هو الرأي الراجح في هذه المسألة، وأنه يكون أيضا - وإن لم يكن هذا من كلام الشيخ السعدي - موقوفا على الإجازة، وعلى هذا فالأصل أنه لا يصح ولا يجوز، وذلك لأن الشارع وإن كان متشوفا إلى العتق لكنه متشوف إليه بأن يكون بطريق شرعي، وأما أن يكون بغير طريق شرعي فهذا لا يجوز، العتق بطريق غير شرعي يفوت حقوق الآخرين، وكوننا نقومه يوم البيع هذا فيه نظر، فقد يكون وضع الخيار لنفسه لكونه مترددا في بيع هذا العبد وهو يرغب فيه، فالراجح أن العتق لا يثبت وإن كان الشارع متشوفا إليه، ويكون العتق موقوفا على إجازة البائع. قوله [وتصرف المشتري فسخ لخياره] هذا إذا كان الخيار له وحده، مثاله: رجل اشترى بيتا وقال لي الخيار ثلاثة أيام، أما البائع فلا خيار له، ثم في اليوم الأول باع البيت، فحينئذ يكون تصرفه فيه ببيع أو هبة إسقاط لحق نفسه في الخيار، وهذا ظاهر، لأن تصرفه دليل على رضاه، وهو أظهر من مجرد اللفظ.

كذلك أيضا تصرف البائع يدل على الفسخ، مثلا: قال رجل أبيعك هذه الدار ولي الخيار ثلاثة أيام، ولك الخيار أيضا، فالخيار لهما جميعا مدة ثلاثة أيام، ثم بعد يوم أتى البائع نفسه فباع بيته، فهذا البيع يصح، لأنه له الفسخ، ويكون هذا البيع إبطالا لحق المشتري في الخيار والبيت. هذا ما قرره الموفق في المغني ورجحه ابن عقيل وهو إحدى الروايتين عن أحمد وأحد الوجهين في المذهب، والوجه الثاني أنه ليس بفسخ لأنه لا يملك، والراجح الأول. قوله [ومن مات منهما بطل خياره] هذا هو المشهور من المذهب، قالوا: لأن الخيار أمر نفسي يختص بالشخص نفسه، لا يعتاض عنه بغيره، وقال الشافعية والمالكية بل يثبت الخيار للورثة، وهذا هو الراجح، وذلك لأن الخيار حق مالي فيدخل في الإرث، فالشخص يرث كل ما هو للموروث. قوله [الثالث: إذا غبن في المبيع غبنا يخرج عن العادة] هذا هو النوع الثالث من أنواع الخيار وهو خيار الغبن، فإذا غبن أو خدع غبنا يخرج عن العادة أي غبنا فاحشا فله الخيار، فليس الغبن العادي خيار، لأنه أمر يقع في العادة، فليس فيه الخيار إلا أن يشترطه على الصحيح كما في قوله - صلى الله عليه وسلم - حيث ذكر رجل له أن يخدع في البيوع فقال له النبي - صلى الله عليه وسلم -: (إذا بايعت فقل: لا خِلابة) [خ 2117، م 1533] وهذا عام في كل خداع سواء أكان خداعا مما يجحف به أو ممالا يجحف به، فإذا شرط فقال: لا خلابة أو لا خداع فإن الخداع اليسير يثبت فيه الخيار، لقوله - صلى الله عليه وسلم -: (المسلمون على شروطهم)

فإذا غبن غبنا يخرج عن العادة فإن البيع يصح مع خيار الغبن، فله أن يسمك ولا أرش له، وله أن يرد، وإن اختار الإمساك فلا أرش له لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يذكر الأرش كما في تلقي الجلب، وهو من خيار الغبن، ولذا نص فقهاء الحنابلة وغيرهم على أنه لا أرش في خيار الغبن لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يذكره في تلقي الجلب. قوله [بزيادة الناجش] فالغبن له ثلاث صور عند الحنابلة في المشهور من المذهب: الصورة الأولى: تلقي الجلب، فإنه يثبت فيها خيار الغبن. الصورة الثانية: زيادة الناجش، والنجش: أن يزيد في السلعة من لا يريد شراءها ليغر المشتري، والنجش محرم، ففي الصحيحين أن النبي - صلى الله عليه وسلم -: (نهى عن النجش) [خ 2142، م 1516] . وقال جمهور العلماء إن البيع المسبوق بنجش بيع صحيح، وقال الظاهرية وهو رواية عن الإمام أحمد أن البيع باطل، قالوا: لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى عنه، والنهي يقتضي الفساد، والصحيح ما ذهب إليه الجمهور وأن البيع صحيح لأن النهي لا يعود إلى ذات المنهي عنه، بل إلى أمر خارج عنه، وهو النجش أي المزايدة المحرمة، ولأن الضرر الواقع على المغبون يدرأ بالخيار، فيقال له لك الخيار إن شئت أمسكت، وإن شئت رددت، ومثل ذلك ما لو قال البائع: قد اشتريتها بكذا وهو كاذب، فإن هذا من النجش، وهنا وإن كان الزائد هو البائع، فلا فرق بين أن يكون الزائد هو البائع أو غيره، لأن المقصود أن السلعة قد أعطيت غير سعرها المفترض لها ففي هذا غرر على المشتري. قوله [والمسترسل] وهذه هي الصورة الثالثة من صور الغبن عند الحنابلة. والمسترسل: هو الجاهل بالقيمة، الذي لا يحسن المماكسة أي المكاسرة، فهو الذي يطمئن ولا يستوحش من هذا البيع لجهله بالقيمة، وهو لا يحسن المماكسة، ومثله البائع الجاهل بقيمة المبيع.

وقد تقدم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال للرجل الذي كان يخدع في البيوع: (إذا بايعت فقل لا خلابة) فهذا المسترسل يثبت له خيار الغبن. وظاهر كلام المؤلف وهو المشهور من المذهب أن خيار الغبن لا يثبت إلا في هذه الصور الثلاث المتقدمة، وقال الشيخ عبد الرحمن السعدي وهو قول في المذهب إنه يثبت في كل غبن، فأي بيع يثبت فيه غبن فإن الخيار يثبت فيه، وعليه فلو اشترى شخص يحسن المماكسة بسعر، وغلب على ظنه أمانة البائع ووثق به، وكان عليه غبن فإن الخيار يثبت له إذا تبين له أنه قد غبن، وعلل ذلك القول بان المتعاقدين يدخلان في البيع على أن يتعوض كل واحد منها بقيمة المثل، أو بزيادة أو نقص لا إجحاف فيه، وعليه فإذا كان هناك زيادة فاحشة وإن لم يكن من الصور الثلاثة المتقدمة فإن البيع يخرج إلى معاوضة خارجة عما هو شرط في الضمن، فإن كلا منهما كأنه يشترط على صاحبه الأمانة وأن يبيعه بثمن المثل، ولأنه كما تقدم فإن الشخص وإن كان يحسن المماكسة فقد يغلب على أمره، ويقد يغره البائع، ولذا فالراجح هو ما اختاره الشيخ عبد الرحمن السعدي وهو قول في المذهب، لأن الشارع لا يفرق بين المتماثلات، بل يجمع بينها بحكم واحد. * مسألة: قال شيخ الإسلام:" يحرم تغرير المشتري، بأن يسومه كثيرا ليبذل قريبا منه " ا. هـ قوله [الرابع: خيار التدليس] التدليس مأخوذ من الدُّلْسَة، وهي الظلمة، والمراد بها اصطلاحا: أن يظهر المبيع على صورة أفضل منه في الواقع، والتدليس محرم فإنه خداع والخداع محرم. قوله [كتسويد شعر الجارية أو تجعيده] تسويد شعر الجارية بعد أن أصبح أبيضا، وتجعيده أي يجعله مجعدا وهو ضد المسترسل، قالوا: لأنه إذا جعد شعر الجارية فإنه يدل على القوة، فكأنه يدل على شباب وقوة الجارية، وهذا تدليس. قوله [وجمع ماء الرحى وإرساله عند عرضها]

الرحى معروفة، فيجمع الماء ثم يرسله عند العرض على المشترين، فيندفع الماء بشدة فيتحرك الرحى بشدة، وحينئذ يكون في هذا تدليس، لأن هذه ليست سرعتها الحقيقية، وهذا محرم. ومثل ذلك التصرية، والتصرية أن يحبس اللبن في الضرع عند بيع الشاة ونحوها إظهارا لكثرة لبنها، والحديث فيه هو الأصل في النهي عن التدليس وهو الأصل في ثبوت خيار التدليس، فقد ثبت في الصحيحين أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (من اشترى شاة مصراة فهو بخير النظرين إنشاء أمسكها وإن شاء ردها وصاعا من تمر) [خ 2150، م 1515] وفي صحيح مسلم: (فهو بالخيار ثلاثة أيام) [م 1524] ولم يذكر النبي - صلى الله عليه وسلم - أرشا، فدل على عدم ثبوت الأرش في خيار التدليس، وأن من ثبت عليه التدليس فهو بالخيار إن شاء أمسك ولا أرش، وإن شاء رد. وأما صاع التمر الذي ذكره النبي - صلى الله عليه وسلم - فهو مقابل لهذا اللبن الذي شربه، وهو الذي كان في هذه الشاة عند بيعها، ولذا فإذا رد الشاة على حالها من غير ما تغير فإنه ليس عليه أن يرد صاعا من تمر، وإنما يرد معها صاعا من تمر إذا استعمله. قال الموفق: وله الخيار متى علم التصرية، وهو الصحيح في المذهب، وقال بعض الحنابلة من حين البيع، فإذا علم التصرية فله الخيار إلى تمام ثلاثة أيام، وهو أظهر، وأبعد عن الخصومة. قوله [الخامس: خيار العيب: وهو ما ينقص قيمة المبيع] كأن يبيع عبدا على أنه كامل الأعضاء فيثبت أنه أقطع اليدين، فهذا عيب ينقص الثمن، فيثبت به خيار العيب، وقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: (المسلم أخ المسلم ولا يحل لمسلم باع من أخيه بيعا فيه عيب إلا بينه له) [جه 2246] ، والضابط فيه ما ينقص قيمة المبيع عادة، وعليه فاليسير عادة لا خيار فيه. ثم ضرب أمثلة لذلك فقال: قوله [فإذا كمرضه وفقد عضو أو سن أو زيادتهما وزنا الرقيق وسرقته وإباقه وبوله في الفراش]

هذه كلها عيوب في المبيع من باب التمثيل. قوله [فإذا علم المشتري العيب بعد أمسكه بأرشه] قوله (بعد) احتراز مما لو علم قبل العقد، لأنه يكون حينئذ قد دخل على بصيرة، فلم يكن له الخيار. قوله [وهو قسط ما بين الصحة والعيب أو رده وأخذ الثمن] فإذا علم المشتري بالعيب بعد العقد فله الخيار، وعلى هذا فله أن يمسك ويأخذ الأرش، أو يرد ويأخذ الثمن، والأرش هو قسط ما بين الصحة والعيب. مثاله: باع عبدا على أنه كامل الأعضاء بمائة وعشرين، ثم العبد أنه أقطع، فنقول للمشتري: أنت بالخيار إن شئت أن تمسك ولك الأرش، وإن شئت أن ترد ولك الثمن، فإذا اختار الإمساك مع الأرش فهنا يقوم العبد لو كان صحيحا، فلو فرضنا أننا قومناه وهو صحيح بخمسة عشر ألفا، وقومناه وهو معيب بعشرة آلاف، فأصبح القسط بين ثمن الصحة والعيب الثلث، فثلث المائة والعشرين هو أربعون، وعلى هذا فعلى البائع أن يرد أربعين للمشتري، وهو أرش ذلك العيب. وقد قال بإثبات الأرش الحنابلة، وقال الأحناف والشافعية وهو رواية عن الإمام أحمد أنه لا أرش، فإن شاء أمسك ولا أرش له، وإن شاء رد، واستدل أهل القول الأول بأنه قد فاته جزء من المبيع فاستحق الأرش مقابل ذلك الجزء الفائت عليه، وقال أهل القول الثاني: إن هذا الشيء الفائت نظير الشيء الفائت في مسألة التدليس، فإنه إذا باعه العبد على أنه كاتب فبان غير كاتب فأنتم لا تقولون بأنه له الأرش، لأن هذا من باب التدليس،فكذلك العيب، وأما كونه قد وقع عليه الغرر المتحقق بذلك فإنه يدفعه بخيار العيب، فيرد السلعة وله ثمنه، وهذا القول هو الراجح وهو اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية والشيخ ابن سعدي، لأن الشارع لم يذكر الأرش في المصراة وثبت بها خيار التدليس مع فوات صفة فيها يقدر بمال، فكذلك هنا وهو خيار العيب.

لكن إن تراضيا على ذلك فلا بأس، كأن يقول البائع: لا تفسخ وخذ هذه الدراهم، فيقبل المشتري فلا بأس. قوله [وإن تلف المبيع أو عتق العبد تعين الأرش] وهذا ظاهر، وأهل القول الثاني الذي يقولون إنه لا أرش يثبتونه إن تعذر الرد، فهو الآن لا يمكنه الرد، وفي المبيع عيب، فحينئذ لا بد وأن يثبت له الأرش لأن عدم إثباته له يفوت حقه، ومثل ذلك ما إذا أعتق العبد، كرجل اشترى من هو قريب له قرابة لا يحل معها أن يكون رقيقا له، كأن يشتري أخاه، فإنه يعتق عليه، فحينئذ لا خيار، فإذا ثبت أن فيه عيبا ينقص الثمن فله الأرش لتعذر الرد، ومثل هذا لو تلف المبيع وفيه عيب، فإنه يجبر بدفع الأرش بتعذر الرد عليه، فلا يمكن تحصيل حقه حينئذ إلا بهذا الأرش لأن الخيار قد فاته. قوله [وإن اشترى ما لم يعلم عيبه بدون كسره كجوز الهند وبيض نعام فكسره فوجده فاسدا فأمسكه فله أرشه، وإن رده رد أرش كسره] هذا في بيع ما لا يعلم فساده وصلاحه إلا بكسره، فإذا اشتراه فكسره ليعلم حاله أهو فاسد أم صالح، فوجده فاسدا فله أن يمسكه وله الأرش وهذا على القول بثبوت الأرش وتقدم بحثه، وإن رده فإنه يرد أرش كسره على البائع، لأن قشره له قيمه، فما دام أنه قد كسره فهذا الكسر له قيمته، هذا إذا كان الكسر مؤثرا، أما إذا كان الكسر غير مؤثر في قيمته فلا أرش حينئذ.

والأرش يختلف حينئذ باختلاف التقويم، فإن التقويم يختلف، فإنه في الصورة الأولى - أي التي يمسك فيها المشتري مع أخذ الأرش - يقوم المبيع صحيحا، ويقوم فاسدا غير مكسور، وأما في الصورة الثانية - أي التي يرد فيها المشتري السلعة ويدفع الأرش للبائع - فإن القشر يقوم غير مكسور، ثم يقوم وهو مكسور، وهذا هو المشهور في المذهب، والصحيح وهو رواية عن الإمام أحمد وهو مذهب مالك أن البيع لا خيار فيه أصلا، وذلك لأن البائع لم يقع منه غرر ولا خداع فإن هذا أمر باطن، إلا أن يشترط، فإذا اشترط أن يكون سليما صحيحا فحينئذ له الخيار لأن المسلمون عند شروطهم، وكذلك الناس يحتاجون إلى التبايع على هذه الصورة المجهولة فلا خيار إلا أن يشترطه. والكسر - على القول بثبوت الخيار - لا أرش فيه لأنه مأذون فيه، ولا يمكن أن يتعرف على ما في باطنها إلا بهذا الكسر، إلا أن يكون الكسر خارجا عن العادة وخارجا عما يحتاج إليه فحينئذ إن أعادها فعليه أرش قيمة ما أفسد، وعليه فالكسر الذي أذن فيه إنما هو قدر ما يحصل به الاستعلام كما قرر الشيخ عبد الرحمن بن سعدي. قوله [وإن كان كبيض دجاج رجع بكل الثمن] لأن قشره لا قيمة له، فهنا صورتان: الصورة الأولى: إذا كان القشر له قيمة، كما في المسائل السابقة. الصورة الثانية: إذا كان القشر لا قيمة له، فليس فيه أرش، بل هو بالخيار إن شاء أمسك، وإن شاء رد، ولا أرش، لأنه لا قيمة أصلا لهذا القشر، والصحيح ما تقدم أنه لا خيار له إلا أن يشترطه. قوله [وخيار عيب متراخ ما لم يوجد دليل الرضا]

فخيار العيب متراخ، فلو أن رجلا اشترى سلعة فوجد فيها عيبا فله الخيار على التراخي، إن شاء غدا، أو بعد شهر أو بعد سنة ما لم يوجد دليل الرضا، كأن يؤجره أو يهبه أو يبيعه ونحو ذلك، فإذا تصرف فيه تصرفا يدل على الرضا فلا خيار له، لأن هذه التصرفات دليل على رضاه بالعيب، وهذا هو المشهور من المذهب وهو قول الجمهور، وعن الإمام أحمد وهو مذهب الشافعي أن خيار العيب على الفور، فمتى علم بالعيب فإنه عليه أن يرده فورا إلا أن يكون له عذر بالتأخير، وإن لم يفسخ بالبيع ثابت حينئذ وليس له الحق في الخيار، قالوا: لأنه سكوته وتراخيه دليل على رضاه، ولأن التأخير قد يلحق الضرر بالبائع، وهذا القول هو الراجح، فالصحيح أن خيار العيب على الفورية لا على التراخي، وأنه متى ثبت عنده العيب فعليه أن يرده ما لم يكن له عذر، ومثل ذلك خيار الغبن والتدليس فإنه على الفور للمعنى المتقدم، ونزيد دليلا وهو أن الأصل في البيوع هو اللزوم والخيار خلاف الأصل، ولأن هذا التراخي في الغالب يورث عداوة وبغضاء وخصومة ونحو ذلك، فالراجح أن خيار العيب على الفورية، ومثله خيار الغبن والتدليس، وقال الحنابلة: بل خيار الغبن والتدليس على التراخي أيضا والصحيح ما تقدم. ويستثنى من ذلك ما نص عليه النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو بيع المصراة، فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - أثبت له الخيار ثلاثة أيام، فإن قيل: فلم لا نثبت الخيار في التدليس ثلاثة أيام؟ فالجواب: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - إنما ذكر ثلاثة أيام لأنها هي المدة الكافية للتعرف هل هذه تصرية أم طبيعة منها، ولذا فإنا نمهل كل من احتاج إلى مهلة ليتعرف على هذا المبيع، وتحديد النبي - صلى الله عليه وسلم - خيار التدليس ثلاثة أيام يدل على أنه ليس على التراخي، والنبي - صلى الله عليه وسلم - حدده بأيام والتراخي يخالف ذلك، فإنه ليس محددا.

قوله [ولا يفتقر إلى حكم ولا رضا ولا حضور صاحبه] فهذا الخيار لا يفتقر إلى شيء من ذلك لما تقدم في مسألة شبيهة بهذه المسألة، لأن هذا حق له فمتى فسخ فإن الفسخ يثبت ولا يشترط أن يحضر إلى حاكم ولا أن يرضى الطرف الثاني ولا أن يحضر صاحبه عند القاضي إذا أراد الفسخ ولا غير ذلك. قوله [وإن اختلفا عند من حدث العيب فقول مشتر مع يمينه] إذا اختلفا عند من حدث العيب فهذا يقول حدث عند البائع، وهذا يقول حدث عند المشتري فالقول قول المشتري مع يمينه، وهذا هو المشهور من المذهب، وعللوا ذلك بقولهم: إن الأصل عدم قبض هذا النقص، والعيب نقص، فالأصل أن المشتري لم يقبض المبيع كاملا، وقال جمهور العلماء القول قول البائع مع يمينه، لأن الأصل السلامة من العيب، ولأن الأصل هو لزوم البيع ولا خيار فيه، والمشتري مدعي للعيب وأنه حاصل عند البائع، والبينة على المدعي واليمين على من أنكر، وهذا القول هو الصحيح، وأما قولهم إن الأصل أنه لم يقبضه كاملا، فإننا نقول إن الأصل أنه قد قبضه كاملا، فإنه قد تم البيع، ووقع المبيع في ضمانه فالأصل أن قبضه كان كاملا. قوله [وإن لم يحتمل إلا قول أحدهما قبل بلا يمين] إذا كان العيب لا يحتمل إلا أن يكون عند أحدهما كأن يكون العيب أصبع زائدة في العبد، فحينئذ بلا شك أن هذا العيب موجود في ملك البائع، فلا يقبل قوله إذا ادعى نفيه، لأن الأصل أن هذا موجود من الخلقة وأنه لا يمكن أن يوجد بعد ذلك، أو أن يكون فيه جرح طري لا يمكن أبدا أن يكون إلا بعد العقد، فإذا ادعى المشتري أن هذا الجرح كان قبل العقد فلا يقبل منه ذلك، لأن هذا الجرح لا يمكن إلا أن يكون أثناء ملكية المشتري فحينئذ يقبل قول المشتري في الصورة الأولى، وقول البائع في الصورة الثانية ولا نحتاج إلى يمين فالحق واضح. * مسألة: إذا حدث عيب آخر في ملكية المشتري؟

مثاله: رجل اشترى سلعة معيبة، لم يعلم بعيبها، فلما أخذ المبيع في ملكه حدث له عيب آخر غير الأول، فهل يثبت له الخيار إذا علم بالعيب الأول أم ينتفي الخيار لثبوت العيب الآخر؟ قولان لأهل العلم هما روايتان عن الإمام أحمد: 1- الرواية الأولى: أنه ليس له الخيار لأن البائع يتضرر حينئذ بإعادة هذا المبيع إليه وفيه عيب آخر، فليس له حينئذ الخيار، بل له الأرش لأن الرد متعذر. 2- الرواية الثانية: أن له الرد، لأن الأصل هو بقاء الخيار ما دام أن العيب موجود، ولا يسقط حقه في الخيار لوجود عيب آخر في ملكيته، ويدفع الضرر عن البائع بأن يعطيه أرش هذا العيب الذي حدث جديدا، وهذا القول هو الراجح، فإن الأصل ثبوت الخيار، ولا دليل على إسقاطه، وكونه يتجدد عنده عيب فنقول يرد المبيع ويدفع الضرر المتجدد على البائع بأن يعطيه الأرش. قوله [السادس: خيار في البيع بتخبير الثمن متى بان أقل أو أكثر] تخبير الثمن أي الإخبار به، بأن يقول هو علي بكذا وما أبيعه إلا بكذا، وستأتي صوره، فإذا ثبت أن إخباره بالثمن كان خلاف الواقع وهو كذب أو غلط منه فإن الخيار يثبت فيما سيذكره المؤلف. وقوله (أو أكثر) هذا وهم من المؤلف، وهذه العبارة ليس لها أصل في كتب الحنابلة، ولا يمكن أن يكون الإخبار بأكثر من الثمن. قوله [ويثبت في التولية والشركة والمرابحة والمواضعة] التولية: أن يبيعه السلعة برأس مالها، فيقول هذه السلعة لك برأس مالها وهو عشرة آلاف. الشركة: أن يبيع السلعة بقسطه من رأس المال، بأن يكون المشتري شريكا له، فيقول هذه الأرض التي مساحتها مائة متر بمائة ألف، ولك نصفها من الثمن أي خمسون ألفا. المرابحة: أن يبيعه السلعة برأس مالها مع ربح معلوم، كأن يقول: هذه السلعة علي بعشرة، وأربح عليها درهمين فهي باثني عشر.

المواضعة: بعكسها، فهي البيع برأس المال مع خسارة معلومة، كأن يقول: هذه السيارة علي بألف، واضع عليك منها مائة فتكون تسعمائة، فهذه الصور الأربعة هي صور التخبير بالثمن. قوله [ولا بد في جميعها من معرفة المشتري رأس المال] فلا بد في جميعها أن يعرف المشتري رأس المال، وكذلك البائع، وإنما ذكر المشتري دون البائع لأنه هو الذي يجهل الثمن في العادة، وسبب ذلك أنهما إن لم يعرفا رأس المال أو كان أحدهما لم يعرفه فإن البيع فيه جهالة، وشرط في البيع أن يكون ثمنه معلوما، إذن أثبت المؤلف الخيار في هذه الصور، فمن بيع عليه على سبيل التولية فقيل له: السعة علي بألف وهي لك بالألف أيضا، فتبين أن البائع كاذب أو مخطيء في خبره، فقال المؤلف: يثبت له الخيار، أي للمشتري، فله أن يفسخ البيع، وله أن يمضيه، هذا ما ذكره المؤلف وهو رواية عن الإمام أحمد وهو مذهب الأحناف، وأما المشهور عند الحنابلة - خلافا لما ذكره المؤلف، وهذه من المسائل التي خالف فيها المؤلف المشهور من المذهب - أن الخيار لا يثبت هنا، وإنما يأخذ المشتري الفارق بين رأس المال الحقيقي ورأس المال الموهوم، ولا حاجة لنا إلى الخيار، فإن الخيار إنما يثبت لدفع الضرر عن المشتري، وهنا المشتري لا ضرر عليه، بل قد حصل على ماله، ولا شك أن رضاه بالسلعة ظاهر، وهو أولى من رضاه بها حيث كان الثمن أكثر، فإن قد خبر أن الثمن أكثر فرضي فإذا وجد أن الثمن أقل وأعطي الفارق فإنه لا ضرر عليه، وعليه فلا حاجة إلى هذا الخيار، ولأن الأصل في البيوع اللزوم لا الخيار، فنبقى على الأصل، وهذا القول هو الراجح، وأن الخيار لا يثبت في هذه المسائل بل يعطى المشتري الفارق بين رأس المال الموهوم وبين رأس المال الحقيقي. قوله [وإن اشترى بثمن مؤجل.... ولم يبين ذلك في تخبيره بالثمن فلمشتر الخيار بين الإمساك والرد]

إذا قال مثلا: هذه السيارة رأس مالها بعشرة آلاف، وظاهر هذا أن ذلك نقدا، ولم يبين لها أنه نسيئة، ومعلوم أن البيع بالنسيئة يختلف عن البيع بالنقد، فالثمن في النسيئة أكثر، فإذا لم يتبين له ذلك فلا شك أن هذا تغرير بالمشتري، فحينئذ له الخيار بين الإمساك والرد، وقال بعض الحنابلة: بل لا خيار له، وأنه يأخذها بالثمن المؤجل، فلا يدفع له هذا نقدا بل يأخذه على التأجيل، وهذا بعيد، وذلك للفرق بين الثمن المؤجل والثمن المنقود، فعندما نقول للمشتري ادفع بثمن مؤجل فإننا حينئذ نلزمه بزيادة على الثمن، ثم ليس كل أحد يرغب في التأجيل، فهذا في الحقيقة فيه ضرر، وإنما يسلك هذا المسلك المحتاج، فلا يلزم بهذا البيع، كما أن كثيرا من الناس لا يرغب أن يكون في ذكته شيء من المال لأحد من الناس، فالراجح ما ذكره المؤلف، وأن له الخيار بين الإمساك والرد. قوله [أو ممن لا تقبل شهادته له]

كأبيه أو ابنه أو زوجته ونحو ذلك، فإن الشخص إذا اشترى من أبيه سلعة أو من ابنه أو من زوجته فإنه قد يأخذها بثمن أعلى من ثمنها المعتاد محاباة لهؤلاء، ومثال ذلك: أن يشتري السلعة من والده بخمسة عشر ألفا وهي تساوي أقل من ذلك، فهذا لا يجوز، أي لا يجوز أن يبيع السلعة بعد ذلك ويخبر المشتري أنه قد اشتراها بخمسة عشر ألفا، لأن هذا ليس هو ثمنها الحقيقي، بل هذا الثمن قد دخله المحاباة كما سبق، وعلى ذلك لو باع تلك السلعة على شخص، فإنه يثبت له الخيار، فلا بد أن يبين له أن قد اشتراها من أبيه أو ابنه أو زوجته ونحو ذلك، ومثل ذلك لو اشتراها محاباة من غير هؤلاء كأن يشتريها من صديق بثمن أعلى من ثمنها محاباة له، ومثل ذلك إذا اشتراها في موسم لها يرتفع سعرها فيها وقد ذهب ذلك الموسم، أو يشتريها برغبة مختصة به، كأن تكون له دار، وبجوارها أرض ملحقة بها، فيشتري تلك الأرض بثمن مرتفع، رغبة منه أن لا يسكن فيها شخص لا يرغب في سكناه بجواره، فإذا أراد أن يبيع تلك الأرض فيما بعد فلا بد أن يقول رأس مالها كذا، واعلم أني قد اشتريتها لرغبة مختصة بي وهي كذا وكذا، حتى يكون المشتري على علم بأن رأس المال المذكور وقعت فيه زيادة، فلا يقع في غرر وجهالة. قوله [أو بأكثر من ثمنها حيلة] لو أن رجلا اشترى من آخر سلعة بثمن أكثر من ثمنها المعتاد، وكان البيع بينهما بيعا صوريا للاحتيال على الناس، ثم باعها على هذا الثمن وأنه هو رأس مالها ولم يبين ذلك للمشتري فهنا يثبت للمشتري الخيار. أو كان اشترى السلعة حيلة لاستخلاص حقه كأن يكون له على زيد ألف درهم، فيشتري منه سلعة تساوي ثمانمائة ويقول: هذا مقابل ما في ذمتك، ويكون البائع مماطلا. قوله [أو باع بعض الصفقة بقسطها من الثمن ولم يبين ذلك في تخبيره بالثمن فلمشتر الخيار بين الإمساك والرد]

كذلك إذا باع بعض الصفقة بقسطها من الثمن ولم يبين ذلك في تخبره بالثمن، ومثاله: أرض بعضها على الشارع العام، وبعضها على شارع ليس بعام، يرتفع به الأرض، فقال هذه الأرض التي مساحتها ألف متر اشتريتها بمائة ألف، ولك بعضها المحدد بخمسين ألفا، وكان هذا النصف يختلف عن النصف الذي هو سبب لرفع سعرها، فإن في ذلك غررا. وهذا كله يكون في أشياء أبعاضها غير متماثلة، أما لو كانت أبعاضها متماثلة كأن يكون عنده طن من الشعير أو نحوه فيقول: هو علي بكذا وأبيعك نصفه بقسطه من الثمن، وأبعاضه لا تختلف فحينئذ لا حرج لعدم الغرر. قوله [وما يزاد في الثمن أو يحط منه في مدة الخيار..... يلحق برأس ماله ويخبر به] مثاله ذلك: رجل اشترى من آخر دارا وكان الاتفاق على أن يكون ثمنها ألف درهم، وأثناء ما هم في مدة الخيار سواء كان خيار مجلس أم خيار شرط هم أحدهما بالفسخ فزيد في ثمن السلعة أو نقص منه من أجل ألا يقع هذا الفسخ، مثلا: اشتراها وكان الثمن المتفق عليه ألف درهم فهم المشتري بالفسخ أو خشي البائع أن يفسخ المشتري فقال: قد وضعت عنك مائة درهم، فحينئذ ثمنها تسعمائة درهم، أو خشي المشتري أن يفسخ البائع فقال: أزيدك مائة درهم، فأصبح ثمنها مائة وعشرة دراهم، فلا بد أن يخبر المشتري من أراد أن يشتري منه السلعة بعد ذلك بأن ثمنها كان كذا ثم آل إلى كذا. قوله [أو يؤخذ أرشا لعيب] فالثمن الذي يؤخذ أرشا لعيب لا بد وأن يخبر به، مثاله: اتفقا على أن هذه السيارة بعشرة آلاف، ولزم البيع، ثم ثبت فيه عيب، وقلنا بالأرش، فكان الأرش ألفا، فيكون رأس مالها تسعة آلاف، فإذا أراد المشتري أن يبيع السيارة بعد ذلك فيجب أن يخبر من سيشتريها منه أن سعرها كان كذا ثم آل إلى كذا، ومثل ذلك: قوله [أو جناية عليه] وكل هذا إذا كان في مدة الخيار، والعيب خياره عندهم على التراخي.

ومثال هذه الصورة: أن يكون له عبد قد اشتراه بمائة مثلا، فيجني عليه جناية تنقصه، وكانت هذه الجناية بخمسين، فلا يصح أن يبيعه برأس ماله ويقول إن رأس ماله هو مائة. ومثله في مسائل السيارات إذا حدث فيها صدم أو نحو ذلك فلا بد أن يخبره، وإن كان قد أخذ ثمنا وأصلحها به، لأن السيارة تنقص بحدوث الصدم فيها. أما إن كانت هذه الجناية لا تنقصه فلا حاجة لأن يخبر المشتري بها، لأنها لا تؤثر في الثمن، فيخبره برأس مالها الأصلي فقط. قوله [وإن كان ذلك بعد لزوم البيع لم يلحق به] مثاله: اشترى سيارة بمائة ألف، ولزم البيع، ثم جاء البائع بعد مدة وقال به قد وضعت عنك ألفا من ثمن السيارة، فهذا لا دخل له في ثمن المبيع، لأنه يشبه الهبة، فالبيع لازم، وهو على ما اتفقا عليه، وما وقع بعد لزوم البيع أمر خارج عن ثمن المبيع، فلا حاجة إلى أن يخبر من اشتراها منه بعد ذلك بما حصل من البائع الأول. قوله [وإن أخبر بالحال فلا بأس] فإذا أخبر ببعض التفاصيل التي لا تؤثر في رأس المال فإن هذا أمر حسن، لأنه أبلغ في الصدق، فلو قال: إن البائع بعد أن تم العقد ولزم البيع وضع عني كذا، ونحو ذلك فإن هذا أحسن، وهذا أيضا قد يرشد المشتري إلى أن البائع الأول قد وقع عنده شيء من التردد في سعرها، وأن فيه شيئا من الغلاء، أو لحقه شيء من التورع عن بيعها بهذا السعر أو نحو ذلك. قوله [السابع خيار لاختلاف المتبايعين] هذا نوع آخر من الخيار، وهو خيار اختلاف المتبايعين، فإذا اختلف المتبايعين فإن الخيار في الجملة يثبت، وسيذكر المؤلف صورا من هذا. قوله [فإذا اختلفا في قدر الثمن تحالفا، فيحلف البائع أولا ما بعته بكذا، وإنما بعته بكذا، ثم يحلف المشتري ما اشتريته بكذا، وإنما اشتريته بكذا، ولكل الفسخ إذا لم يرض أحدهما بقول الآخر]

فإذا اختلف البائع والمشتري في قدر الثمن، فالبائع يقول: بعته إياه بعشرين، والمشتري يقول اشتريته منك بعشرة، فقد اختلفا ولا بينة، أما إذا كان مع أحدهما بينة كشهود أو نحو ذلك فإنه يعمل بها، لكن حيث لا بينة أو كان مع كل واحد منهما بينة فتساقطتا فإنهما حينئذ يتحالفان، فيحلف البائع فيبدأ به، قالوا: لأن الحق في جانبه أولى، فإن السلعة بعد التحالف ترجع إليه وهو ربها أولا، وصاحبها سابقا فهو أحق بها، ولا شك أن مثل هذا لا أثر له، فإنه لو حلف المشتري فإن هذا تقديم في الألفاظ لا يترتب عليه تغير في الأحكام، ومثل هذا إنما يكون من باب الأولوية وليس بواجب كما هو المشهور في المذهب، ولا دليل يصار إليه في وجوب أن يحلف البائع أولا، فيحلف البائع أولا: ما بعته بكذا وإنما بعته بكذا، وهنا يقدم النفي على الإثبات، وعن الإمام أحمد أنه يقدم الإثبات على النفي، وأيضا هذه المسألة ليس فيها ما يقتضي إيجاب تقديم أحدهما من نص أو قياس، فإذا وقع النفي أو الإثبات فقد حصل المقصود، ثم يحلف المشتري ما اشتريته بكذا وإنما اشتريته بكذا، ولكل منهما الفسخ إذا لم يرض أحدهما بقول الآخر، إذن لا يقع الفسخ بمجرد التحالف، بل إذا رضي أحدهما بعد هذا التحالف فإن البيع يقر، وهذا شبيه بتعارض البينات، فإن البينات إذا تعارضت فهذا لا يوجب الفسخ، ولذا إذا رضي أحدهما بعد ذلك فإن البيع يقر على ما هو عليه، فإن لم يرض أحدهما بقول الآخر فإن البيع يفسخ، وعن الإمام أحمد وهو اختيار شيخ الإسلام أن القول قول البائع أو يترادان، فلا تخرج السلعة منه إلا بثمن يرضاه، لقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: (إذا اختلف المتبايعان ولا بينة فالقول قول البائع أو يتتاركان) ، وفي رواية (والسلعة قائمة) لكن هذه الفظة معلولة لا تصح، أما ما يذكره بعض الفقهاء في هذا الحديث من زيادة لفظ (تحالفا) فلا أصل له في كتب الحديث كما قرر

هذا غير واحد من أهل العلم كالرافعي وابن حجر والألباني. هذا إذا كانت السلعة قائمة، لقوله (يترادان) ، فإن كانت تالفة فقال المؤلف: قوله [فإن كانت السلعة تالفة رجعا إلى قيمة مثلها] إذا كانت السلعة تالفة أي غير قائمة فإنهما يرجعان إلى قيمة مثلها وقت العقد، فينظر في قيمة المثل ثم يعطيه المشتري للبائع. وظاهر كلام المؤلف أن هذا الحكم - أي قيمة المثل - يثبت ولو كانت قيمة المثل أكثر من الثمن الذي رضي به البائع، مثاله: اختلفا فقال البائع ما بعته بمائتين بل بثلاثمائة، وقال المشتري ما اشتريته بثلاثمائة بل بمائتين، فقومت السلعة وكان قيمتها أكثر من ثلاثمائة، ومعلوم أن البائع قد رضي بالثمن الذي حالف المشتري عليه فزادت القيمة على هذا الثمن، لأن البائع والمشتري كلاهما متفقان على أن السعر لن يزيد على ثلاثمائة، فظهر أن السعر أكثر من ثلاثمائة، فقال شيخ الإسلام: يتوجه أنه إذا كانت القيمة أكثر من الثمن الذي رضي به البائع ألا يستحق القيمة، لاتفاقهما على عدم استحقاقه للزيادة، وهذا هو الظاهر فإن هذا التقويم إنما هو لإزالة هذه الخصومة التي وقعت بينهما، وكون القيمة تثبت بأكثر مما وقع عليه الرضا فإنه يكون خلاف المقصود، فالأظهر ما ذهب إليه شيخ الإسلام، وأن البائع يستحق قيمة المثل إذا كانت قيمة المثل مساوية أو أقل من القيمة التي رضي بها البائع، فإن كانت أكثر فإنه لا يعطى إلى هذه القيمة التي رضي بها، لأنه يقر أن العقد قد وقع عليها، ولا يريد أكثر منها، فكان إعطاؤه أكثر من الثمن زيادة على ما أقر به. قوله [فإن اختلفا في صفتها فقول مشتر] إذا اختلف في صفة هذه السلعة التالفة فالقول قول المشتري، فإذا اختلفا فقال البائع: أنا بعت عليك العبد وكان كاتبا، وقال المشتري: لم يكن العبد كاتبا، فالقول قول المشتري، وهذا ظاهر لأنه غارم ومنكر، والقول حينئذ قوله، والبينة على الآخر.

هذا هو المشهور من المذهب في أصل هذه المسألة، وهي ما إذا كانت السلعة قائمة، وعن الإمام أحمد وهو قول الشعبي أن القول قول البائع، ففي المسألة السابقة القول قول البائع ولا يتحالفان، وهذا القول هو الراجح، ولكن بشرط وهو أن يثبت الخيار للمشتري، فيتحالف البائع أنه باعه بالثمن الفلاني، ولم يبعه بالثمن الذي يدعيه المشتري، فإن قبل المشتري فذاك، وإلا فله الفسخ، ودليل هذا ما ثبت في مسد احمد وسنن أبي داود والنسائي والحديث صحيح وله طرق كثيرة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (إذا اختلف المتبايعان ولا بينة، فالقول قول البائع أو يتتاركان) [حم 4431، د 3511، ت 1270، 4648، جه 2186] ، فهذا الحديث أثبت الخيار للمشتري كما أنه أثبت للبائع القول، ومن كان القول قوله فاليمين يمنيه، كما هو مقرر، وعلى ذلك فالراجح وهو ظاهر الحديث أن القول قول البائع، والمشتري له الخيار، فإن شاء أمضى وإن شاء فسخ. قوله [وإذا فسخ العقد انفسخ ظاهرا وباطنا]

إذا قال أريد أن أفسخ العقد فإنه ينفسخ ظاهرا وباطنا، ظاهرا أي في ظاهر الحكم، وينفسخ باطنا أي في حقيقة الأمر، وعليه فلو كان أحدهما كذابا، فإنه له أن يتصرف في هذه السلعة أو في هذا الثمن - الذي فسخه من الأجر بغير حق - كما يتصرف في سائر ماله، وهذا هو المشهور من المذهب، واختار الموفق ابن قدامة التفصيل في هذه المسألة فأما الصادق فإنه ينفسخ عقده ظاهرا وباطنا، وأما من علم كذب نفسه فإن البيع ينفسخ في حقه ظاهرا كما تقدم، وأما في الباطن فإنه يكون ظالما مغتصبا آثما، وليس له أن يتصرف فيه، وتصرفه فيه تصرف بغير وجه حق، لأنه ملك مال غيره بطريق غير شرعي، وهذا هو الظاهر، وعليه فلو تبين له خطأ نفسه، وأنه ظن خلاف الواقع فإن عليه أن يذهب إلى الآخر ويستبيحه، أو يرجع إليه السلعة لأنها قد فسخت عليه بغير وجه حق، فكان ذلك حقا له، فيجب أن يعاد إليه حقه. قوله [وإن اختلفا في أجل أو شرط فقول من ينفيه] اختلفا في أجل، بأن قال المشتري اشتريته منك على أجل، وقال البائع بل بعته عليك حاضرا لا آجلا، كأن يتفقا على عشرة آلاف، فادعى المشتري أنها مؤجلة، وقال البائع بل هي نقدا، أو اختلفا في شرط، فقال البائع أنا اشترط لنفسي الخيار شهرا، وقال المشتري بل لم تشترط ذلك ولا بينة بينهما، فالقول قول من ينفيه، أي من يقول لا أجل ولا شرط، سواء كان بائعا أو مبتاعا، وذلك تمسكا بالأصل، فإن الأصل في البيع أن يكون بلا أجل ولا شرط. قوله [وإن اختلفا في عين المبيع تحالفا وبطل البيع] تبايعا على أرض مساحتها 500 متر، ثم اختلفا، فقال البائع أنا بعتك الأرض التي في الموقع الفلاني، وقال المشتري بل التي في الموضع الآخر، فاختلفا في عينها، فإنهما يتحالفان ويبطل البيع، وذلك إن لم يرض أحدهما بقول الآخر فهي كالمسألة السابقة، أي كما إذا اختلفا في الثمن.

والصحيح في هذه المسألة كالمسألة السابقة أن القول قول البائع مع يمينه، ثم المشتري بالخيار، إن شاء رضي وإن شاء فسخ البيع، لعموم قوله - صلى الله عليه وسلم -: (إذا اختلف المتبايعان) وهذا عام في كل اختلاف بينهما. قوله [وإن أبى كل منهما تسليم ما بيده حتى يقبض العوض والثمن عين، نصب عدل يقبض منهما ويسلم المبيع ثم الثمن] إذا تبايع رجلان، فقال البائع: أنا لا أسلم السلعة حتى يسلمني الثمن، وقال المشتري أنا لا أدفع الثمن حتى أستلم السلعة، وهذا إنما يقع حيث خيف الخيانة أو المماطلة أو نحو ذلك فحينئذ للمسألة صور: الصورة الأولى: إذا كان الثمن عينا أي معينا وليس في الذمة كأن يقول: بعتك هذه السيارة بهذه العشرة آلاف، فهنا الثمن عين، فالحكم أنه ينصب عدل من قبل القاضي الشرعي يقبض منهما السلعتين - المبيع والثمن - ويسلم المبيع ثم الثمن لجريان العادة بتسليم المبيع ثم الثمن، وهذا الترتيب لا يظهر أنه على الوجوب بل هو على الأولوية، فلو سلم صاحب الثمن أولا قبل صاحب السلعة فلا حرج. قوله [إن كان دينا حالا أجبر بائع ثم مشتر إن كان الثمن في المجلس] هذه هي الصورة الثانية: وهي إذا كان الثمن دينا أي في الذمة كأن يقول: أبيعك هذه السيارة بعشرة آلاف، فالثمن في الذمة أي ليس معينا، ولا يريد أنه مؤجل، بل هو دين أي في الذمة، فهو متعلق في ذمته، فهنا الحكم فيه تفصيل:

1- أن يكون حالا، فإنه يجبر البائع على التسليم ثم المشتري، فإن قيل لم قدم البائع بالدفع قبل المشتري؟ فالجواب: لأن العقد قد تعلق بعين السلعة، وأما الثمن فقد تعلق بذمة المشتري، وما تعلق بالعين فهو أولى، هكذا قال الحنابلة، ولا يخفى ما فيه، فإن المسألة حقوق لهما، ولا فرق بين أن يكون معينا وبين أن يكون في الذمة، وعليه فإذا سلم هذا قبل هذا أو هذا قبل هذا فلا حرج، لكن إذا ترتب على التقديم خصومة فإنه يقدم صاحب السلعة لتعلق الحق بعينها، ولأن العادة جرت بإعطاء السلعة قبل الثمن، وأما إذا لم يتقدم خلاف ولا خصومة فلا إشكال في مخالفة التقديم الذي ذكره الحنابلة. قوله [وإذا كان غائبا في البلد حجر عليه في المبيع وبقية ماله حتى يحضره] 2- أما إذا كان المال غائبا في البلد، بمعنى اتفقا على البيع والمال غائب في البلد، كأن يقول البائع: بعتك هذه السيارة بعشرة آلاف، فقال المشتري قبلت، فهنا الثمن ليس حالا، ولكنه في الذمة، فإذا قال المشتري المال ليس معي الآن فمعناه أن المال الآن غائب، وليس هو مؤجل، لكنه غائب في الذمة، فالحكم أنه يعطى المبيع، أي تؤخذ السلعة من البائع وتعطى للمشتري ثم يحجر عليه فيمنع من التصرف في هذا المبيع ويمنع من التصرف ببقية ماله إن كان مؤثرا في إيصال الحق إلى صاحبه. قوله [وإن كان غائبا بعيدا عنها والمشتري معسر فللبائع الفسخ] فإن كان هذا المال الذي هو في الذمة غائبا بعيدا عنها أي عن البلد التي هو منها أو كان المشتري معسرا أي ليس عنده مال الآن وقد اتفقا على أن يكون الثمن حاضرا فللبائع الفسخ، لأن في ذلك ضررا ظاهر عليه.

وأولى من هذا أن يقال: إنه إنما باع بشرط أن يكون المال حاضرا يدفع إليه في نفس المجلس، أما والمال غائب بعيدا عنه فإنه لم يبايع على هذا، ولذا فالصحيح أن المال مطلقا إذا كان غائبا عن المجلس فليس على البائع أن يسلمه، وليس للقاضي أن يلزمه بالتسليم، وهذا هو اختيار الموفق وهو القول الثاني في المذهب، وهو اختيار الشيخ عبد الرحمن بن سعدي وهو القول الظاهر، لأنه قد يكون عليه ضرر أو مماطلة فليس عليه أن يخرج السلعة إلا على الشرط الضمني لهذا البيع، والشرط الضمني أنه إنما باعه على أن يعطيه ثمنها حاضرا وألا يؤخره تأخيرا يخالف ما تضمنه العقد من إعطائه في المجلس، فهذا هو القول الراجح كما تقدم، وعليه فيحبس البائع السلعة على الثمن. وقال شيخ الإسلام:" وللبائع الفسخ إن ظهر من المشتري مماطلة " وصوبه في الإنصاف وهو كما قالا، فإن المماطلة ضرر، وحيث كان المشتري مماطلا فإن الخيار يثبت لأن الخيار يثبت لدفع الضرر. وقول المؤلف (والمشتري) الواو بمعنى (أو) . قوله [وثبت الخيار للخلف في الصفة ولتغير ما تقدمت رؤيته] هذا نوع آخر من الخيار وهو خيار الحلف في الصفة، أي أن يصف له المبيع ثم يتبين أنه على غير ذلك، فله الفسخ لضرر، وقد تقدمت القاعدة السابقة وهي أن الخيار يثبت مع الضرر، وكذلك يثبت الخيار لتغير ما تقدمت رؤيته، مثاله: رأى فرسا عند البائع، ثم بعد يومين أو ثلاثة قال: بعني ذلك الفرس، فباعه وكان قد طرأ عليه تغير، وقد تقدم أن الرؤية يشترط فيها أن تكون مع العقد، وقبله بوقت لا يتغير فيه المبيع، فإذا ثبت تغير المبيع فإن هذا غرر فيثبت له الخيار للحوق الضرر به كما تقدم. فصل قوله [ومن اشترى مكيلا ونحو صح ولزم بالعقد]

من اشترى مكيلا ونحو كالموزون أو المعدود أو المذروع، وظاهر كلام المؤلف عموم الحكم في الأطعمة وغيرها، فكل مكيل أو موزون أو مذروع أو معدود سواء كان مطعوما أو غير مطعوم، فإذا اشترى منه شيئا فإنه يصح ويلزم بالعقد، وهذا ظاهر، وذلك لأنه بيع قد توفت فيه شروط البيع فهو بيع صحيح ولازم ما لم يكن خيار كما تقدم. قوله [ولم يصح تصرفه فيه حتى يقبضه] وهذا هو المراد هنا، فمن اشترى طعاما أو نحوه سواء كان مكيلا أو موزونا أو معدودا أو مذروعا فليس له أن يبيعه حتى يقبضه، وسيأتي الكلام على القبض إن شاء الله. ودليله ما ثبت في الصحيحين من حديث ابن عمر أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (من ابتاع طعاما فلا يبعه حتى يقبضه) [خ 2133، م 1526] ونحوه من حديث ابن عباس وفيه أن ابن عباس قال:" أحسب كل شيء كالطعام " [م 1525] وهذا من قياس الصحابة وهو من أصح القياسات. وفي مسند الإمام أحمد وصحيح ابن حبان بإسناد حسن أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال لحكيم بن حزام: (إذا ابتعت بيعا فلا تبعه حتى تقبضه) [حم 14892، حب 11 / 358 برقم 4983، هق 5 / 313، طب 3 / 196] ، وفي الصحيحين عن ابن عباس أن النبي - صلى الله عليه وسلم -: (نهى أن يبيع الرجل طعاما حتى يستوفيه، قيل لابن عباس: كيف ذاك؟ قال: ذلك دراهم بدراهم والطعام مرجأ) [خ 2132، م 1525] وعن الإمام أحمد أن هذا الحكم خاص بالطعام، لقوله - صلى الله عليه وسلم -: (من ابتاع طعاما) وهذا القول ضعيف، فإن قوله - صلى الله عليه وسلم - (من ابتاع طعاما) هو من باب ذكر بعض أفراد العام، وهو لا يدل على التخصيص كما تقدم، وقد تقدمت أدلة عامة تدل على أن الحكم عام في كل مبيع كما في حديث حكيم بن حزام: (إذا ابتعت بيعا) ، ولأن غير الطعام كالطعام، فإن العلة ثابتة فيه كثبوتها في الطعام، ولذا قال ابن عباس:" أحسب كل شيء كالطعام "

والعلة والله أعلم كما بينها شيخ الإسلام وتلميذه ابن القيم أن البائع قد يمتنع عن تسليم المبيع أو يماطل أو يجحد أو يحتال، ولا سيما إذا ثبت له أن المبتاع قد ربح في بيعه. وقول الحنابلة بالمنع من التصرفات كلها كما قيده المؤلف هنا بقوله: (ولم يصح تصرفه فيه) فإن هذا منع من كل تصرف، فليس له أن يهبه أو يؤجره أو نحو ذلك، هذا ما ذكره المؤلف وهو أحد القولين في المذهب والمشهور في المذهب، واختاره شيخ الإسلام أن المنع مختص بالبيع، وأن له أن يهب أو يحيل به ونحو ذلك وله الإجارة كذلك، وذلك لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى عن البيع خاصة، وقد قال - صلى الله عليه وسلم - في سنن أبي داود وقد تقدم الحديث: (ولا ربح ما لم يضمن) فهو في ضمان البائع كما سيأتي تقريره، فنهى الشارع إن أن يربح فيه وهو ليس في ضمانه، والربح إنما يكون بالبيع، وهذا للمفسدة المتقدمة، وإن كانت الإجارة فيها ربح لكنه ليس في معنى البيع، ولا يلجأ - في الغالب - البائع إلى جحود أو مماطلة أو نحو ذلك لتصرف المشتري بالإجارة، وهذا القول هو الراجح، وأن للمبتاع أن يتصرف قبل القبض بأي تصرف كان سوى البيع، لأن الشارع نهى عن البيع، وليس سوى البيع بمعناه. قوله [وإن تلف قبله فمن ضمان البائع] إذا تلف قبل القبض فمن ضمان البائع، وذلك لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - كما في الحديث السابق قال: (ولا ربح ما لم يضمن) ولذا نهى المبتاع عن البيع لأنه ليس في ضمانه، ويده لم تقع عليه بعد، والضمان إنما يكون على ما وقعت عليه اليد، فالضمان على البائع، فمثلا: تبايعا سلعة، وقبل أن يقبضها المشتري تلفت، فهذا في ضمان البائع، وعليه فيرجع المشتري بثمنه على البائع، لأنها ليست في ضمانه. قوله [وإن تلف بآفة سماوية بطل البيع]

إذا حصل للمبيع كالدار ونحوها آفة سماوية، كأن ينزل المطر على الطعام فيفسده، وذلك قبل أن يقبضه المشتري، فإن البيع يبطل، فيرجع المشتري بالثمن على البائع لأن المبيع ليس في ضمانه. قوله [وإن أتلفه آدمي خير مشتر بين فسخ وإمضاء ومطالبة متلفه ببدله] إذا أتلفه آدمي سواء كان المتلف البائع أو غيره خير المشتري بين الفسخ، لأنه قد تلف وهو في ضمان البائع، فله أن يفسخ، وله أن يمضي البيع لإمكانيته إتمام البيع، ثم يطالب متلفه ببدله، لأنه ملك له بالبيع، لكنه ملك غير مضمون، فبالنظر إلى أنه غير مضمون يمكنه فسخه، وحينئذ يرجع بالثمن على البائع، وبالنظر إلى الملكية فهو مالك له فيرجع على المتلف بمثله إن كان مثليا أو بقيمته إن كان مقوما. قوله [وما عداه يجوز تصرف المشتري فيه قبل قبضه] قوله (وما عداه) أي ما عدا: 1- المكيلات. 2- الموزونات. 3- المعدودات. 4- المذروعات، بالإضافة إلى: 5- الموصوف الذي لم ير. 6- ما كانت رؤيته متقدمة على العقد. فهذه الست لها الحكم المتقدم وهو أنه لا يجوز بيعها إلا بعد قبضها. وإنما ألحقوا الموصوف وما رؤي رؤية متقدمة بالمكيلات ونحوها بجامع حق التوفية، فإن المكيل لا بد أن يقبضه المشتري بما اتفقا عليه من الكيل، فلا بد أن يعطى حقه وافيا كاملا في المكيل بالصاع، وفي الموزون بالكيلو، وفي المعدود بالعدد، وفي المذروع بالذرع، ولا بد أن يستوفي حقه كاملا، وكذلك المبيع بالصفة فإنه لا بد أن يعطيه المبيع على الصفة التي اتفقا عليها، وكذلك المعقود عليه عقدا برؤية متقدمة، فلا بد أن يستوفى، بأن يعطى المبتاع هذه السلعة كما كان رآها بالرؤية المتقدمة، فهذه الست لا يحل للمبتاع أن يتصرف فيها حتى يقبضها، وأما ما عداها فإن له أن يتصرف فيه قبل قبضه، كالأرض وكالدار، وفيما يباع جزافا.

والمبيع جزافا (1) صورته: بيعه كومة من الطعام من غير أن يذكر له كيلها، فهذه الصور السابقة يجوز للمشتري أن يتصرف فيها قبل القبض، وهذا هو المشهور من المذهب عند الحنابلة، ولعلهم يستدلون بمثل قول النبي - صلى الله عليه وسلم - في حديث ابن عمر وابن عباس: (من ابتاع طعاما فلا يبعه حتى يستوفيه) وفي رواية (حتى يقبضه) ، فكأن عندهم النهي إنما هو فيما يحتاج إلى استيفاء، وهذا إنما يكون في الأشياء الستة التي سبق ذكرها، وذهب الشافعي وهو اختيار شيخ الإسلام إلى أن هذا الحكم ليس خاصا بهذه الست بل هو عام فيها وفي غيرها، لقوله - صلى الله عليه وسلم -: (حتى يقبضه) ، والحقيقة أن الاستيفاء ليس هو القبض، وعليه فيكون الحكم حتى يستوفيه وحتى يقبضه، ويدل على هذا ما ثبت في الصحيحين عن ابن عمر أنه قال: (كانوا يضربون على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا اشتروا طعاما جزافا أن يبيعوه في مكانهم حتى يؤووه إلى رحالهم) [خ 6852، م 1527] ، وقد نهى النبي - صلى الله عليه وسلم - أن تباع السلع حيث تبتاع حتى يحوزها التجار إلى رحالهم [د 3499] ، فقد نهى النبي - صلى الله عليه وسلم - عن بيع الطعام جزافا وهو ليس بمكيل، ومع ذلك فقد نهى أن يباع حتى ينقل من موضعه - أي موضع البائع - إلى موضع المبتاع، لأن العلة الثابتة فيما يحتاج إلى استيفاء ثابتة أيضا فيما لا يحتاج إلى استيفاء، فالعلة الثابتة في الست المتقدمة ثابتة في غيرها. قوله [وإن تلف ما عدا المبيع بكيل ونحوه فمن ضمانه]

_ (1) - بيع الصبرة جزافا مع جهل البائع والمشتري بقدرها جائز، نص عليه أحمد، قال الموفق: لا نعلم فيه خلافا، لأنه علم ما اشترى بالرؤية التي هي أبلغ الطرق فلا يحتاج إلى معرفة المقدار.

قوه (فمن ضمانه) أي من ضمان المشتري، فما عدا المبيع بكيل ونحوه - وهو ما تقدم من الأصناف الستة - هو من ضمان المشتري، وذلك لأنهم يرون أنه يجوز له أن يتصرف فيه، وأن يربح فيه، وإذا كان النبي - صلى الله عليه وسلم -: (نهى عن ربح ما لم يضمن) فدل هذا على أن ما عدا الأصناف الستة هو من ضمان المشتري لأنه ربح فيه، وعلى القول الذي تقدم ترجيحه لا يحل له أن يربح فيه، لأنه ليس بضامن، وهو قول شيخ الإسلام ابن تيمية أنه ليس في ضمانه، فليس له أن يربح فيه. قوله [ما لم يمنعه البائع من قبضه] إذا قلنا إنه في ضمان المشتري ولكن منعه البائع من قبضه فإنه يكون في ضمان البائع، لأنه غاصب له، فكان في ضمانه، كما أن الغصب في ضمان الغاصب، وهذا على القول بأنه من ضمان المشتري، وأما على القول بأنه في ضمان البائع كما تقدم ترجيحه فلا فرق بين هذه المسألة والمسألة السابقة فالكل من ضمان البائع. لكن إن بذله البائع فأبى المشتري استلامه، فهو من ضمان المشتري. قوله [ويحصل قبض ما بيع بكيل أو وزن أو عد أو ذرع بذلك] فما بيع بكيل يكون قبضه بكيله، والمكيل يكون بالصاع، وما بيع بوزن يكون قبضه بوزنه، وذلك بالكيلو والرطل ونحوهما، وما بيع مذروعا فقبضه بالذرع وهكذا، وعن الإمام أحمد أنه لا بد من قبض ذلك، فإن مجرد الكيل والوزن والذرع والعد ليس بقبض، فلا بد من أن يخلي بينه وبين السلعة، وهذا القول هو الراجح، فإن مجرد الوزن والذرع والكيل والعد ليس بقبض ما دام في يد البائع، ويدل لهذا ما ثبت في صحيح البخاري ومسلم عن ابن عمر قال: (كنا في زمان النبي - صلى الله عليه وسلم - نبتاع الطعام - وهذا يشمل الطعام الجزاف والمكيل - فيبعث علينا من يأمرنا بانتقاله من مكانه الذي ابتعناه فيه إلى مكان سواه قبل أن نبيعه) [خ 2124، م 1527] وعليه فمجرد الكيل والوزن والعد ليس بقبض، وإنما هو استيفاء.

قوله [وفي صبرة وما ينقل بنقله] الصبرة: هي الكومة من الطعام، وقبضها يكون بنقلها لأنها لم تبع كيلا بل بيعت جزافا، وقبضها في العرف بنقلها، وكما تقدم في الحديث المتفق عليه من حديث ابن عمر وفيه الأمر بنقلها. قوله [وما يتناول بتناوله] أي ما يعطي باليد فقبضه يكون بإعطائه باليد، وهذا هو القبض عرفا فيه. قوله [وغيره بتخليته] فالأرض والدار والمركوبات ونحو ذلك قبضها يكون بتخليتها من غير مانع، فإذا خلى بينه وبينها وليس ثمت حائل فهذا هو قبضها عرفا، وعلى هذا فالقاعدة أن القبض هو ما يثبت أنه قبض في العرف. قوله [والإقالة فسخ] الإقالة: هي أن يأذن البائع بإرجاع السلعة إليه بثمنها، أي بعد لزوم العقد، فالإقالة فسخ، وهي سنة مستحبة، وفي سنن أبي داود: (من أقال مسلما بيعة أقال الله عز وجل عثرته) [د 3460، جه 2199] ، وهي فسخ وليس بيعا، أي إزالة ورفع، وهذه حقيقتها، وعليه فتجوز قبل قبض المبيع، وهذه هي مناسبة ذكر الإقالة هنا، وعن الإمام أحمد وهو مذهب مالك أن الإقالة بيع، لأنها نقل الملك بعوض على جهة التراضي، والراجح الأول، وهي فسخ للعقد من حين الفسخ، وهو المذهب واختاره شيخ الإسلام، وعليه فيكون النماء للمشتري. قوله [تجوز قبل قبض المبيع بمثل الثمن] فإذا قلنا إن المشتري ليس له أن يبيع السلعة حتى يقبضها، وقلنا إن الإقالة ليست بيعا، فإنها جائزة قبل أن يقبض السلعة. وظاهر كلام المؤلف أن البيع إلى البائع قبل القبض غير جائز، ولذا ذكر الفسخ، فلو أن رجلا اشترى سلعة من آخر، وقبل أن يقبضها هذا المشتري رغبت نفس البائع فيها، وقال اشتريها منك بأكثر، فهل يجوز هذا؟

ظاهر المذهب أنه لا يجوز، ولذا أجازوا الفسخ هنا، فظاهره - وقد صرحوا به - أن إرجاع السلعة إلى البائع قبل القبض على سبيل التبايع غير جائز، وفي هذا ضعيف، ولذا اختار شيخ الإسلام ابن تيمية جواز ذلك، وذلك لأن العلة السابقة منتفية، فإن الشارع إنما نهى عن بيع السلع قبل قبضها خشية الجحود والمماطلة وامتناع البائع من تسليم السلعة، أما والسلعة بيده - أي بيد البائع - فإن هذا انتفاء للعلة المتقدمة، وعليه فالراجح ما اختاره شيخ الإسلام أن البيع على البائع جائز قبل القبض لأن الحكم يدور مع علته وجودا وعدما. إذن الإقالة فسخ، ولو قلنا إنها بيع كما هو مذهب بعض أهل العم كالإمام مالك فالحكم كذلك، على أن الصحيح أن الإقالة فسخ لأنها لا تعدوا أن تكون إزالة ورفعا للبيع، وليست بيعا مستأنفا. * وهنا على المذهب تجوز الإقالة قبل القبض بمثل الثمن، لأنها إن لم تكن بمثل الثمن بل كانت بأكثر منه أو بأقل فإنها بيع، لأنها أصبحت هنا معاوضة. قوله [ولا خيار فيها ولا شفعة] فلا خيار فيها لأن الخيار إنما يثبت في البيع والإقالة فسخ وليست بيعا، وكذلك لا يثبت فيها شفعة لأنها إنما تثبت في البيع والإقالة فسخ وليست بيعا، وسيأتي الكلام على الشفعة في بابها. * مسألة: حكم الإقالة بعد نداء الجمعة الثاني؟ الحنابلة ذكروا أنها جائزة، وفي هذا نظر، وذلك لأنه ليس المقصود قضية التبايع بل المقصود الانشغال عن الجمعة، ويقع في الإقالة ما يقع في البيع من الانشغال عن صلاة الجمعة، وهذا أمر ظاهر. * هل تكون الإقالة حيلة على الربا؟ الجواب عن هذا أن يقال إنها لا تكون حيلة على الربا مطلقا وذلك لما تقدم من أن الإقالة لا تصح إلا أن يكون الثمن واحدا، فلا تسمى إقالة مع ربح، لأن الإقالة تبرع، فلا تكون بأقل من الثمن ولا أكثر، فإن كانت بأقل من الثمن أو أكثر فهي بيع وليس بإقالة. باب الربا والصرف

الربا في اللغة: الزيادة، قال تعالى {فإذا أنزلنا عليا الماء اهتزت وربت} ، وأما اصطلاحا: فهو زيادة في شيء مخصوص، ويتضح هذا التعريف في الكلام على أحكام الربا إن شاء الله. وهو محرم بالكتاب والسنة والإجماع، أما الكتاب فمنه قوله تعالى {وأحل الله البيع وحرم الربا} ، ومن السنة قوله - صلى الله عليه وسلم -: (اجتنبوا السبع الموبقات - وذكر منها - أكل الربا) متفق عليه [خ 2767، م 89] وفي صحيح مسلم عن جابر قال: (لعن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - آكل الربا وموكله وكاتبه وشاهديه وقال: هم سواء) [م 1598] أي في الإثم، ونحوه في البخاري من حديث أبي جحيفة [خ 5962] ، وآكل الربا: أي آخذ الزيادة، وهو المتاجر بالربا، وموكله: هو دافع الربا، وكاتبه وشاهديه كذلك في الإثم، لأنهم قد أعانوا على الإثم، وقد قال تعالى {ولا تعاونوا على الإثم والعدوان} والصرف: بيع نقد بنقد، أي بيع دراهم بدراهم، أو بيع دراهم بدنانير، اتحد الجنس أو اختلف. قوله [يحرم ربا الفضل في مكيل وموزون بيع بجنسه] يحرم ربا الفضل باتفاق المذاهب الأربعة، لقوله - صلى الله عليه وسلم - في حديث عبادة بن الصامت: (الذهب بالذهب والفضة بالفضة والبر بالبر والشعير بالشعير والتمر بالتمر والملح بالملح مثلا بمثل سواء بسواء يدا بيد فإذا اختلفت هذه الأجناس فبيعوا كيف شئتم إذا كان يدا بيد) رواه مسلم [م 1587] فهذا الحديث صريح في ربا الفضل، وهو كما عرفه المؤلف بقوله (في مكيل أو موزون بيع بجنسه) كأن يبيع برا ببر، فالطرف الأول يدفع مائة صاع، والآخر يدفع تسعين صاعا، فهذا من ربا الفضل، فليس فيه تأخير، بل فيه حلول، لكن فيه فضل.

وروى البخاري ومسلم أن النبي - صلى الله عليه وسلم -: (لا ربا إلا في نسيئة) [خ 2179، م 1596] فإن قيل: هذا الحديث مفهومه أن ربا الفضل جائز، وفي لفظ لمسلم: (إنما الربا في النسيئة) [م 1596] . فالجواب أن يقال: لا يعارض منطوق قوله - صلى الله عليه وسلم - بمفهوم قوله، فإن حديث عبادة بن الصامت منطوقه يدل على تحريم ربا الفضل، وأما هذا الحديث المتفق عليه فمفهومه يدل على واز ربا الفضل، فلا يعارض المنطوق بالمفهوم كما هو متقرر في علم الأصول، وعليه فقوله - صلى الله عليه وسلم -: (لا ربا إلا في نسيئة) أي أعظم الربا وأقبحه وأشده هو ربا النسيئة، والأمر كذلك كما إذا قيل لا عالم في المدينة إلا زيد، فلا يعني أنه ليس هناك في المدينة عالم سواه، ولكن المقصود أنه أعلم أهل المدينة، وهنا كذلك، وإنما حرم ربا الفضل لأنه ذريعة إلى ربا النسيئة، فتحريمه من باب سد الذرائع، وأما ربا السيئة فتحريمه تحريم أصلي. وقوله (في مكيل) الكيل يكون بالصاع، والوسق، ونحو ذلك. وقوله (وموزون) الوزن يكون بالميزان، كما يكون عندنا بالجرامات، وفي زمن متقدم بالأرطال. وظاهر كلامه في قوله (في مكيل) أنه سواء كان الكيل مطعوما كالبر والتمر والشعير، أو كان غير مطعوم كالأشنان - وهو من المواد المنظفة -، ومثله كثير من الأدوية، فإن ك ذلك يجري في حكم ربا الفضل، والموزون كذلك سواء كان مطعوما كالسكر واللحم واللبن ونحو ذلك، أو كان غير مطعوم كالذهب وفضة، وهذا هو المذهب. واعلم أن أهل العلم جميعا أجمعوا على تحريم الربا في الأصناف الستة المتقدمة في حديث عبادة، وهي: الذهب والفضة والبر والقمح والشعير والملك والتمر، فقد أجمعوا على تحريم ربا النسيئة فيها، وكذلك ربا الفضل في قول عامتهم كما تقدم، واختلفوا هل يقاس عليها غيرها أم لا؟

فقال الظاهرية وهو اختيار بن عقيل من الحنابلة إنه لا يقاس عليها غيرها، أما الظاهرية فجريا على قاعدتهم في نفي القياس، وهي باطلة، وأما ابن عقيل فإنه قد خفيت عليه العلة، فبقي هذا الحكم مختصا بالأصناف الستة، وذهب جماهير العلماء إلى القول بالقياس، أي إلحاق غيرها كاللحم واللبن وغير ذلك، واختلفوا في العلة الجامعة التي تثبت في الفرع ليثبت له حكم الأصل: 1- فقال الحنابلة والأحناف: العلة في الذهب والفضة هي الوزن، وفي الأصناف الأربعة الباقية هي الكيل، فقالوا كل مكيل أو موزون سواء كان مطعوما أم غير مطعوم فإنه يحرم فيه الربا، وعليه فيجوز بيع المطعوم المعدود كالبيض بالبيض فضلا. 2- وقال المالكية في علة الأصناف الأربعة أنها الاقتيات والادخار، وأن القوت هو ما يبني عليه الآدمي بدنه من الأطعمة المهمة والأصلية، والمدخر هو ما يدخر إلى الأمد المبتغى منه عادة، ولا يفسد بالتأخير، كما يكون هذا في البر ونحوه، بخلاف الفواكه ونحوها فإنه لا يدخل في هذا، وفي معنى الاقتيات إصلاح القوت كملح ونحوه، وهذه علة ربا الفضل عندهم، وأما ربا النسأ فالطعم على غير جهة التداوي. 3- وقال الشافعية العلة هي الطعم، سواء كان اقتياتا أو تفكها أو تداويا، فكل مطعوم سواء كان مكيلا أو موزونا أو لم يكن مكيلا ولا موزونا، وسواء كان قوتا أو مدخرا أو لم يكن كذلك، واستدلوا على ذلك بقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: (الطعام بالطعام) كما في بعض روايات حديث عبادة [م 1592] ، وأجيب عنه بقول معمر - رضي الله عنه - كما في مسلم:" وكان طعامنا يومئذ الشعير " [م 1592] ، فعليه قوله: (الطعام بالطعام) أي الشعير بالشعير.

4- وعن الإمام أحمد أن العلة هي الكيل والطعم، فإذا كان مكيلا مطعوما فإن الربا يثبت فيه، وهذا القول اختاره شيخ الإسلام وتلميذه ابن القيم بقيد: وهو أن يكون هذا الطعام قوتا أو ما يصلح القوت، وهذا هو أصح المذاهب، وهو أن العلة هي الكيل مع كونه قوتا أو ما يصلح القوت، وذلك لأن الأصناف الأربعة كلها قوت، أو ما يصلح القوت، وهذه العلة في الحقيقة هي العلة المؤثرة، فإن هذه أطعمة للناس، والناس يحتاجون إلى الطعام، ويتضررون بحسابه عليهم بالزيادة والنسيئة بما لا يتضررون فيما سواه، كما أنهم يتضررون بالأطعمة التي هي قوت لهم - وقد قام طعامهم عليها - بما لا يتضررون بغيرها من الأطعمة، وما ذكره المالكية من الادخار لا يظهر أن هذا مؤثر لتضرر الناس الأطعمة التي لا تدخر وهي قوت لهم كاللحم ونحوه، فأصح المذاهب ما هو رواية عن الإمام أحمد واختاره شيخ الإسلام وتلميذه ابن القيم وهو جمع بين ما ذكره الشافعية والحنابلة والأحناف، فإن العلة عند الأحناف والحنابلة هي الكيل، وعند الشافعية هي الطعم، فجمعت فيها هذه الرواية وأضافت ما اشترطه المالكية وهو أن يكون قوتا، ومثله ما يصلح القوت، وقد نص النبي - صلى الله عليه وسلم - على الملح، هو ليس بقوت وإنما هو مما يصلح القوت، فهذه هي العلة في الأصناف الأربعة لكن بشرط الادخار. وأما العلة في الذهب والفضة فعلى أقوال عند أهل العلم: 1- فقال الحنابلة - كما تقدم - إن العلة هي الوزن، فكل ما كان موزونا فيجري فيه الربا بنوعيه، وإن لم يكن ذهبا ولا فضة، وهذا هو مذهب الأحناف أيضا، فالحنابلة والأحناف يتفقون في العلة في الأصناف كلها.

2- وقال الشافعية والمالكية: العلة هي الثمنية، وهو رواية عن الإمام أحمد واختاره شيخ الإسلام وتلميذه ابن القيم، قالوا: العلة هي الثمنية وذلك لأن علة الوزن ليست بمؤثرة، وإنما قلنا إن الكيل مؤثر في الأصناف السابقة لأنه لا يمكن الحكم بالتفاضل بين الأشياء ومعرفة الفوارق بينها إلا بالكيل والوزن، ولذا سيأتي أن شيخ الإسلام لا يفرق بين الكيل والوزن في الأصناف المتقدمة، وأن الربا يجري فيها وإن كانت بالوزن لا بالكيل، فإن قضية الوزن ليست بمؤثرة لكن يعرف بها التماثل من عدمه، فالذهب والفضة نقدان، فهما قيم الأشياء وأثمانها، فهي العلة الحقيقية في الذهب والفضة، كما أن العلة في الأصناف الأربعة أنها قوت، فهي قوت أو ما يصلح القوت، ولو قلنا إن العلة هي الوزن لما كان هناك ربا في تعاملات الناس اليوم، لأن النقود اليوم لا توزن بل تعد عدا، وهذا مما يضعف القول بأن العلة هي الوزن. والأوراق النقدية فيها علة الثمنية، فعليه هي أجناس ربوية تتعدد أجناسها بتعدد جهات إصدارها، فيجري فيها نوعا الربا، وهذا ما قررته هيئة كبار العلماء. قوله [ويجب فيه الحلول والتقابض] أي يجب أن يكون حالا مقبوضا، حالا في مجلس العقد، ومقبوضا أي يدا بيد، فإن تقابضا في غير مجلس العقد فإن ذلك لا يحل، لقوله - صلى الله عليه وسلم -: (الذهب بالذهب والفضة بالفضة) إلى أن قال: (يدا بيد) ، ولا بد كما تقدم أن يكون مثلا بمثل، فليس له أن يبيع برا وإن كان رديئا ببر طيب، أو بالعكس مع التفاضل، فهذا لا يجوز. قوله [ولا يباع مكيل بجنسه إلا كيلا، ولا موزون بجنيه إلا وزنا ولا بعضه ببض جزافا] هذه ثلاث صور ينهى عنها: الصورة الأولى: قوله (ولا يباع مكيل بجنسه إلا كيلا) ، فالبر يكال بالصاع، فلو باعه بالوزن - والمشهور في زماننا أنه بالوزن - فهذا لا يجوز، فلا يجوز بيع البر بالبر إلا أن يكون الحساب بالكيل.

الصورة الثانية: قوله (ولا موزون بجنسه إلا وزنا) فالسكر يوزن بالكيلوجرامات، فلو باعه الصاع فذلك لا يجوز، ولو علم التساوي بينهما. الصورة الثالثة: قوله (ولا بعضه ببعض جزافا) فإذا قال: هذه كومة من التمر أبيعها عليك بهذه الكومة من التمر وهما لا يعلمان قدر كل كومة، فهذا لا يجوز. أما الصورة الأخيرة فلا إشكال في النهي عنها، وذلك لقوله - صلى الله عليه وسلم -: (مثلا بمثل) فالبيع جزافا ليس فيه تحقق المثلية، بل كال منهما جاهل بالمقدار، والجهل بالتماثل كالعلم بالتفاضل. وأما المسألتان الأوليان وما بيع المكيل جنيه وزنا، وبيع الموزون بجنسه كيلا، أي أن يبيع البر بالكيلوجرامات بدل أن يبعه بالآصع، ويبيع السكر بالآصع مكان الوزن، فهذا جائز، وهو مذهب المالكية، وهو اختيار شيخ الإسلام، وذلك لثبوت التماثل، والتماثل ثابت سواء باعه بالكيل أم بالوزن وهذا ظاهر. قوله [فإذا اختلف الجنس جازت الثلاثة] إذا اختلف الجنس كأن يبيع برا بشعير، جازت الثلاثة لعدم اشتراط التماثل، فلو باع ما يكال بالوزن، أو ما يوزن بالكيل، أو باعه جزافا فهذا كله جائز، فإذا قال: هذه الصبرة من الشعير أشتريها منك بهذه الصبرة من البر فهذا جائز لعدم اشتراط التماثل، وعلى الترجيح المتقدم فلا إشكال في ذلك. قوله [والجنس ما له اسم خاص يشمل أنواعا كبر ونحوه] البر له أنواع، والتمر له أنواع، والشعير كذلك، فالجنس ما له اسم خاص يشمل أنواعا. قوله [وفروع الأجناس كالأدقة والأخباز والأدهان] الأدقة جمع دقيق، وهو معروف، وهو الطحين.

والأدهان كدهن الذرة ودهن الزيتون ودهن السمسم، فهذه فروع الأجناس، فتعطى حكم أصلها فتكون جنسا، فعليه لا يجوز أن يباع طحين بطحين من البر إلا مع التماثل والتقابض، لا يجوز أن يباع خبز البر بخبز البر إلا مع التماثل والتقابض، ولا يجوز أن يباع دهن البر بدهن البر إلا مع التماثل والتقابض، وذلك لأن فروع الأجناس لها حكم الأصل. (1) قوله [واللحم أجناس باختلاف أصوله] فلحم الضأن والمعز هذا جنس، ولحم البقر جنس آخر، ولحم الإبل جنس ثالث، فالعبرة باختلاف أصوله، فهذه فصيلة المعز، ويدخل فيها الضأن ونحوه، وهذه فصيلة البر، ويدخل فيها الجواميس ونحوها، وهذه فصيلة الإبل فيدخل فيها أنواعها، فبيع لحم الإبل بلحم البقر يجوز بشرط التقابض، أما المفاضلة فهي جائزة لأن الأجناس هنا مختلفة، وأما بيع لحم البقر بحم البقر فلا يجوز إلا بالتقابض والتماثل لأنه جنس واحد. قوله [وكذا اللبن] فاللبن يتبع أصوله، فلبن الإبل جنس، ولبن البقر جنس آخر، وهكذا. قوله [واللحم والشحم والكبد أجناس] فاللحم جنس، والشحم جنس آخر، والكبد جن آخر، وهكذا بقية أجزاء الحيوان، فإنها أجناس مختلفة، وذلك لأن لكل منها اسم وحقيقة تختلف عن اسم وحقيقة الآخر، وعليه فبيع اللحم بالكبد يشترط فيه التقابض فحسب، وأما بيع اللحم من جنس واحد فلا بد فيه من التماثل والتقابض. قوله [ولا يصح بيع لحم بحيوان من جنسه]

_ (1) - واختار شيخ الإٍسلام ابن تيمية أن ما صنع من الأجناس فإن خرج عن كونه قوتا خرج عن كونه ربويا، وهذا بناء على أن العلة مشتملة على جزء الاقتيات، وإن لم يخرج عن كونه قوتا فهو جنس مستقل ليس تابعا لأصله، وعليه فيجوز أن يبيع الخبز بهريسه، والزيت بالزيتون، والسمسم بالجريش، انظر الاختيارات الفقهية ص 188، وسيأتي من شرح الشيخ حفظه الله.

أي أنه ليس له أن يبيع لحم إبل ببعير، ولا لحم البقر ببقرة، أو لحم الغنم بغنمة، ونحو ذلك، وذلك للجهل بالتماثل، وتقدم أن الجهل بالتماثل كالعلم بالتفاضل، ويدل عليه ما رواه مالك في موطئه بسند صحيح إلى سعيد بن المسيب رحمه الله أن النبي - صلى الله عليه وسلم -: (نهى عن بيع اللحم بالحيوان) [ك 1316] ، وله شاهد عند البيهقي من حديث سمرة بن جندب - رضي الله عنه -[هق 5 / 296، برقم 10349] ، وهذا هو مذهب جماهير العلماء، وأنه لا يجوز بيع اللحم بحيوان من جنسه، والعلة كما سبق هي الجهل بالتماثل. قوله [ويصح بغير جنسه] فلو باع كذا كيلو من لحم الإبل بضأن أو معز فهذا جائز إذا كان يدا بيد، لقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: (فإذا اختلفت الأجناس فبيعوا كيف شئتم إذا كان يدا بيد) فيجوز هذا ولو مع التفاضل، أما النسيئة فلا يجوز سواء كان بجنسه أم بغير جنسه، ويدل لهذا ما رواه الخمسة والحديث صحيح أن النبي - صلى الله عليه وسلم -: (نهى عن بيع الحيوان بالحيوان نسيئة) [حم 19630، ت 1237، ن 4620، جه 2270، د 3356] ، قال شيخ الإسلام:" إذا كان المقصود اللحم وإلا فلا " فإذا كان المقصود هو اللحم فإنه لا يجوز ذلك، وذلك لما تقدم في العلة في الربا وأنها هي القوت، فإذا كان المقصود هو اللحم فيحرم وإلا فيجوز، ولذلك ثبت في المستدرك أن النبي - صلى الله عليه وسلم -: (اشترى البعير بالبعيرين وبالثلاثة، والبعيرين بالثلاثة إلى إبل الصدقة) [كم 2 / 56، د 3357] وذلك لأن المقصود ليس هو اللحم، وإنما المقصود هو الركوب، وهذا جمع بين الأدلة، فعليه لا يجوز بيع الحيوان - بقصد اللحم - بالحيوان. قوله [ولا يجوز بيع حب بدقيقه ولا سويقه]

فلا يجوز له أن يبيع الحب كالبر بالدقيق وهو طحينه، وذلك للجهل بالتماثل، والجهل بالتماثل كالعلم بالتفاضل، وعن الإمام أحمد أن ذلك جائز وزنا، وهذا هو الظاهر، فإن التفاضل إنما يقع في الكيل، وأما بالوزن فإن التماثل يعلم، وإنما يقع التفاضل في الكيل لأن الدقيق سيكون أكثر بكثير من الحب لوجود مسافات بين الحبوب، وعلى هذا فالراجح هو الرواية عن الإمام أحمد أن بيع الدقيق بحبه جائز إذا ثبت التماثل بالوزن. وقوله (ولا سويقه) والسويق هو أن يضعه على النار حتى يأخذ شيئا من الحمرة، ثم يوضع عليه شيء من الزيت والماء ونحو ذلك، فلا يجوز له أن يبيع الحب بالسويق، ولا يجوز أن يبيع الدقيق بالسويق لعدم معرفة التماثل، لأن السويق قد أضيف إليه شيء من السمن أو من الماء، وقد وضع على النار فلا يثبت حينئذ التماثل. قوله [ولا نيئه بمطبوخه] لا يحل له أن يبيع النيء بالمطبوخ، فمثلا بيع الحنطة بالهريس أو بيع البر بالخبز هذا لا يجوز لعدم معرفة التماثل. قوله [وأصله بعصيره] فالأصل مثلا الزيتون، فلا يجوز أن يباع بعصيره وهو زيت الزيتون، لعدم معرفة التماثل، والزيتون قالوا هو مما يجري فيه الربا، وزيته فرع عنه، والفرع له حكم الأصل. قوله [وخالصه بمشوبه] فلو باع حنطة خالصة بحنطة مشوبة فهذا لا يجوز، وذلك للجهل بالتماثل، أما إذا كان الشائب يسيرا بحيث لا يؤثر فإنه يجوز للعفو عن اليسير. قوله [ورطبه بيابسه] فلو باع مثلا رطبا بتمر فهذا لا يجوز، ويدل عليه ما ثبت عند الخمسة والحديث صحيح أن النبي - صلى الله عليه وسلم -: (سئل عن بيع الرطب بالتمر، فقال: أينقص إذا يبس، فقالوا: نعم، فنهى عن ذلك) [حم 1518، ن 4546، ت 1225، د 3359، جه 2264] ، والعلة ما تقدم وهي الجهل بالتماثل. قوله [ويجوز بيع دقيقه بدقيقه إذا استويا في النعومة]

يجوز بيع الطحين بالطحين، فيجوز بيع طحين الشعير بطحين الشعير، بشرط أن يستويا في النعومة، لكن لو كان أحدهما فيه خشونة فلا شك أن التماثل لا يكون حينئذ معلوما. قوله [ومطبوخه بمطبوخه] يجوز أن يبيع المطبوخ بالمطبوخ، كالسويق بالسويق أو نحو ذلك. قوله [وخبزه بخبزه إذا استويا في النشاف] يجوز بيع الخبز بالخبز إذا استويا في النشاف، أما إذا كان رطبا كالخبز الرطب مع الخبز اليابس فذلك لا يجوز لعدم معرفة التماثل. قوله [وعصيره بعصيره] فيجوز أن يبيع زيت الزيتون بزيت الزيتون بشرط التماثل. قوله [ورطبه برطبه] كأن يبيع رطبا برطب، فهذا جائز بشرط التماثل، فهذه الأجناس الربوية لا يحل بيع بعضها إلا إذا ثبت التماثل. وقد نهى الشارع كما في الصحيحين عن المحاقلة والمزابنة، فالمزابنة: بيع الرطب على رؤوس النخل بالنخل - إلا ما سيأتي استثناؤه من العرايا - وبيع العنب على شجره بالعنب، فلا يجوز ذلك لعدم معرفة التماثل، وأما المحاقلة: فهي بيع الحب بعد أن يشتد في سنبله، بحب من جنسه، أما إذا باعه بشيء ليس من جنسه كأن يبيع برا في سنبله بشعير فهذا جائز لعدم اشتراط التماثل. ** مسألة بيع العرايا.

اعلم أن العرايا جائزة بشروط، والعرايا جمع عرية، والعرية ما أفرد عن الجملة، أي ما أفرد عن شبيهه ونظيره في الظاهر، وقد دلت الأدلة الشرعية على الرخصة في العرايا، وهي بيع الرطب بالتمر خرصا كيلا عند الحاجة إلى ذلك، بشروط سيأتي ذكرها، ففي الصحيحين من حديث زيد بن ثابت أن النبي - صلى الله عليه وسلم -: (رخص في العرايا أن تباع بخرصها كيلا) [خ 2193، م 1539] أي أجاز العرايا بشرط أن تباع بخرصها كيلا، فيأتي من عنده معرفة وخبرة بما يؤول إليه أمر الرطب إذا جف، فيقول هذه الأربعة آسق من الرطب إذا جفت فإنها تساوي ثلاثة آسق من النمر، فنعطيه ثلاثة آسق من التمر ويأخذ المشتري أربعة آسق من الرطب، ويجوز ذلك بشروط: الشرط الأول: أن يكون المشتري محتاجا إلى ذلك ولا نقد عنده، فإن كان غينا قادرا على أن يشتري الرطب بماله فلا يجوز ذلك، لنهي النبي - صلى الله عليه وسلم - عن المزابنة، وإنما جاءت العرايا لرفع الحرج، وفي مسلم أن النبي - صلى الله عليه وسلم -: (رخص في العرية يأخذها أهل البيت بخرصها تمرا يأكلونها رطبا) [م 1539] فدل على أن الغرض من إباحة العرية هو أكلها رطبا. الشرط الثاني: أن يكون فيما دون خمسة أوسق، لما ثبت في الصحيحين أن النبي - صلى الله عليه وسلم -: (رخص في العرايا بخرصها من التمر فيما دون خمسة أوسق أو في خمسة أوسق) [خ 2382، م 1541] والشك من الراوي كما دل عليه رواية مسلم ورواية ابن حبان، وقد تقدم النهي عن المزابنة، فالأصل هو التحريم، وحيث ورد الشك فإن اليقين هو الأقل وهو فيما دون خمسة أوسق، وأما خمسة أوسق فلا تجوز لأنها مشكوك فيها، والأصل هو التحريم. الشرط الثالث: التقابض، وذلك لأنه بيع ربوي بربوي، ولا يجوز بيع الربوي بالربوي إلا أن يكون ذلك تقابضا وتماثلا، وقد جوزنا عدم العلم التام بالتماثل، فبقي التقابض.

الشرط الرابع: أن يأكلها رطبا، فإن أكلها تمرا فلا يجوز، لأنها أجيزت للحاجة. وهل هذا خاص في الرطب مع التمر، أم يدخل فيه العنب والزبيب كأن يشتري عنبا في شجرة بزبيب؟ قال الحنابلة: هو خاص في التمر مع الرطب، وقال المالكية: مثله في الحكم العنب مع الزبيب، وهذا هو الصحيح. قوله [ولا يباع ربوي بجنسه ومعه أو معهما من غير جنسهما] هذه مسألة مد عجوة، والمد: هو ربع الصاع، والعجوة: تمرة مشهورة، وهي من تمر المدينة، وصورة هذه المسألة: أن يباع مد عجوة ودرهم بدرهمين، فهذا الدرهم ربوي بيع بجنسه، فدرهم بدرهم أو درهم بدرهمين ومع أحدهما شيء آخر، وهو هنا مد عجوة، وكذلك لو باع ذهبا بذهب وحرز، أو باع فضة بفضة ونحاس، ونحو ذلك، أو باع فضة ونحاس بفضة ونحاس، فهذا كله لا يجوز، ودليل هذه المسألة ما ثبت في صحيح مسلم من حديث فضالة بن عبيد قال: (اشتريت يوم خيبر قلادة باثني عشر دينارا فيها ذهب وخرز ففصلتها فوجدت فيها أكثر من اثني عشر دينارا، فذكرت ذلك للنبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: لا تباع حتى تفصل) [م 1591] ، فهنا ذهب بذهب وخرز، فنهى النبي - صلى الله عليه وسلم - عن ذلك حتى يفصل، أي حتى يميز الذهب من الخرز، فيعرف مقدار الذهب، ويعرف مقدار الخرز، وعن الإمام أحمد وهو اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه ابن القيم أن هذه المسألة يستثنى منها ما إذا كان الجنس المتميز أكثر من الجنس المختلط، أي الجنس المنفرد أكثر من الجنس المختلط، فحينئذ تكون الزيادة في المنفرد مقابل هذا الجنس الزائد، ومثال ذلك: باع عشرة دنانير بقلادة فيها تسعة دنانير وخرز، فحينئذ تسعة دنانير بتسعة دنانير، ودينار مقابل الخرز، وكذلك إذا باع مائة صاع من التمر بتسعين صاعا من التمر وكذا صاعا من الشعير أو الأقط، فهذا جائز بشرط ألا يكون حيلة على الربا، وذلك لأن الأصل في البيوع الحل، ومن باع تسعة دنانير

بتسعة دنانير، والدينار الزائد يقابله الخرز الزائد فإن هذا ليس فيه شيء محرم، وإنما أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - بأن تفصل للمعرفة، وقد ثبت المعرفة، فإذا بيع المختلط بما هو منفرد، وكان المنفرد متميزا وأكثر من المختلط فهذا جائز وليس فيه حيلة على الربا، وهذا القول هو الصحيح، وعليه فإذا كان الجنس منفردا فيجوز أن يباع بجنس مختلط بشرطين: الأول: أن يكون المنفرد أكثر من المختلط. الثاني: ألا يكون هذا حيلة على الربا. قوله [ولا تمر بلا نوى بما فيه نوى] لا يجوز أن يباع مائة صاع من التمر الذي أخرج نواه، بمائة صاع من التمر ذي النوى، وذلك لعدم التماثل، والشرط في البيع التماثل. قوله [ويباع النوى بتمر فيه نوى] النوى عندهم جنس ربوي لأنه يكال، فإذا باع نوى بتمر فيه نوى كأن يبيع مائة صاع من النوى بخمسة آصع من التمر الذي فيه نوى فذلك جائز، وذلك لأن النوى في السلعة الثانية ليس مقصودا، بل المقصود هو التمر، وهذا باتفاق العلماء، فإذا بيع ربوي بسلعة أخرى فيها ربوي من جنسه، وكان هذا الربوي الذي من جنسه ليس بمقصود في البيع فإن ذلك جائز. إذن المسألة السابقة وهي بيع ربوي بربوي من جنسه ومعهما أو مع أحدهما شيء زائد، وهي مسألة مد عجوة، هذا إن كان الربوي في السلعتين مقصودا، أما إذا كان الربوي في السلعتين أو في أحدهما ليس بمقصود فإن ذلك جائز،ومثله بيع دار فيها شيء من الذهب بذهب، فالمقصود بالبيع هو الدار وليس الذهب، فهذا جائز باتفاق أهل العلم، واختار أيضا شيخ الإسلام وذكر أنه ظاهر المذهب بيع السيف المحلى بالذهب بذهب، وبيع السيف المحلى بالفضة بفضة، فإن الفضة في السيف وكذلك الذهب ليس بمقصود، بل المقصود هو السيف فيجوز ذلك. قوله [ولبن وصوف بشاة ذات لبن وصوف]

اللبن ربوي، والصوف عندهم ربوي لأنه موزون، والصحيح ما تقدم أن العلة ليست هي الوزن، بل العلة هي الثمنية، فإذا باع لبنا وصوفا بشاة ذات لبن وصوف، فيجوز ذلك، لأن المقصود هو الشاة نفسها ليس اللبن ولا الصوف الذي عليها، وهذا باتفاق أهل العلم كما تقدم. قوله [ومرد الكيل لعرف المدينة، والوزن لعرف مكة زمن النبي - صلى الله عليه وسلم -] تقدم أن الحنابلة يعللون الأصناف الأربعة بأنها مكيلة، والذهب والفضة بأنهما موزونان، فإن قيل كيف يعرف المكيل وكيف يعرف الموزون؟ أي ما هي الأشياء التي تكال فيثبت فيها الربا، وما هي الأشياء التي توزن فيثبت فيها الربا؟ فمثلا: الصوف والحديد والنحاس هل هو موزون أم مكيل، ولا شك أن هذه المسألة لها أهمية، هذا على القول بما ذكروه من أن العلة هي الكيل والوزن، وإذا عرفنا أن هذا مكيل وهذا موزون فيجوز أن أبيع هذا بهذا، أي المكيل بالموزون، لأنه يجوز عندهم بيع المكيل بالموزون، فقال المؤلف إن مرد الكيل لعرف المدينة، وليس المراد ما هو قدر الصاع، بل المقصود ما هو المكيل، وما هو الموزون، فمرد الكيل لعرف المدينة، ومرد الوزن لعرف أهل مكة، لقوله - صلى الله عليه وسلم -: (الوزن وزن أهل مكة، والمكيال مكيال أهل المدينة) [ن 2520، د 3340] والحديث إسناده صحيح، فالصوف يوزن عند أهل مكة، وكذلك الذهب والفضة ونحوها، والمائعات تكال بالصاع، وكذلك التمر والبر، هذا في عرف أهل المدينة، فعرفنا الآن أن البر يكال لأن أهل المدينة يكيلونه، وأن الذهب يوزن لأن أهل مكة يزنونه. قوله [وما لا عرف له هناك اعتبر عرفه في موضعه]

فما لا عرف له في مكة والمدينة فإنه يعتبر عرفه في موضعه، فإن كان مكيلا اعتبر، وإن كان موزونا اعتبر كذلك، فيرجع فيه إلى عرف أهل البلد، فإذا اختلف أهل البلاد فيه، فمنهم من يقول: هو مكيل، ومنهم من يقول هو موزون، فإنه يحكم بالغالب، فإن لم يكن ثمت غالب فإنه ينظر إلى شبهه بما هو مكيل أو بما هو موزون فيلحق به، فمثلا الجواهر شبيهة بالذهب والفضة فحكمها الوزن، والذرة شبيهة بالأرز فحكمها الكيل، وهذا كله على قول مرجوح في مسألة الوزن، والراجح أن الحكم راجع إلى مسألة الثمنية في الذهب والفضة، وقضية الكيل الذي يترجح أن المقصود فيها هو القياس، فسواء كان القياس بالكيل أو بالوزن فإن المقصود هو ما يعرف به التماثل، سواء كان بكيل أم بوزن، وقد تقدم قول مالك وأن العلة في الأصناف الأربعة هي الاقتيات والادخار ولم يذكر الكيل، لكن الكيل يحتاج إليه والوزن يحتاج إليه لمعرفة التماثل من عدمه. فصل قوله [ويحرم ربا النسيئة في بيع كل جنسين اتفقا في علة ربا الفضل ليس أحدهما نقدا كالمكيلين والموزونين] يحرم ربا النسيئة بإجماع العلماء، فقد قال - صلى الله عليه وسلم -: (فإذا اختلفت هذه الأجناس فبيعوا كيف شئتم إذا كان يدا بيد) ، والنسيئة من النساء بفتح النون وهو التأخير، فربا النسيئة في بيع كل جنسين اتفقا في علة الربا، وعلة الربا على المذهب الكيل والوزن، فلو باع بر بشعير ثبت فيه ربا النسيئة، لأن كلا منهما مكيلا، ومن باب أولى إذا باع شعيرا بشعير، وكذلك لو باع ذهبا بفضة، فهما جنسان اتفقا في علة الربا وهي الوزنية على المذهب.

وقوله (ليس أحدهما نقدا) هذا في باب الموزونات، فمن الموزونات عند الحنابلة النحاس والحديد والسكر ونحو ذلك، فلا يجوز - على القاعدة السابقة - بيع السكر بالدراهم، أو بيعه بالدنانير نسيئة، لأن السكر العلة فيه الوزن، فهو ربوي، وكذلك الدنانير والدراهم، فاتفقا في العلة، فاحتاج المؤلف إلى استثناء ما إذا كان أحدهما نقدا، لئلا ينسد بهذا باب السلم، وهو نوع من الديون في الموزونات، وهذا مما يدل على ضعف هذه العلة التي ذكروها، وهي علة الوزنية، فاحتاجوا إلى مثل هذا الاستثناء، وإلا فالراجح ما اختاره شيخ الإسلام وهو مذهب المالكية والشافعية ورواية عن أحمد وهي أن العلة في الذهب والفضة هي الثمنية. قوله [وإن تفرقا قبل القبض بطل] مثاله: اشترى ذهبا بفضة، وتفرقا ولم يتم التقابض، فإن البيع بطل، لأن الشارع قد اشترط التقابض، وحينئذ فهذا البيع قد خلا من شرط الشارع، وكل ما خلا من شرط الشارع فهو باطل، وقد قال - صلى الله عليه وسلم -: (فإذا اختلفت هذه الأجناس فبيعوا كيف شئتم إذا كان يدا بيد) . قوله [وإن باع مكيلا بموزون جاز التفرق قبل القبض والنسأ] فإذا باع مكيلا كبر بموزون كذهب جاز التفرق قبل القبض لأن التقابض ليس بشرط، لأن العلة قد اختلفت، فالبر علته أنه قوت، والذهب علته الثمنية، وعلى قول الحنابلة البر علته الكيل، والذهب علته الوزن، فإذا اختلفت العلة جاز التفاضل والنسأ وهذا بالإجماع، ويدل عليه ما رواه البخاري في صحيحه أن النبي - صلى الله عليه وسلم -: (رهن درعه عند يهوي على شعير أخذه لأهله) فهنا اشترى الشعير بالدراهم المؤجلة، وهذا كما سبق محل إجماع بين أهل العلم، وعلى هذا فقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: (فإذا اختلفت هذه الأجناس فبيعوا كيف شئتم إذا كان يدا بيد) مقيد بالأجناس ذات العلة المتحدة، فصار عندنا الآن ثلاثة أنواع:

النوع الأول: بيع ربوي بجنسه، فلا يجوز فيه التفاضل ولا النسيئة كبر ببر. النوع الثاني: بيع ربوي بجنس آخر يتحد هو وإياه في العلة، فيجوز فيه النسيئة دون التفاضل. النوع الثالث: بيع ربوي بجنس ربوي آخر يخالفه في العلة فيجوز فيه النسيئة والتفاضل إجماعا. * وهل يجوز بيع فلوس نافقة - أي غير كاسدة، بل يتعامل بها على أنها أثمان للأشياء - بدراهم أو دنانير نسيئة أم لا؟ قولان لأهل العلم، فذهب الجمهور أن بيع الفلوس النافقة بالدراهم جائز مع التفاضل إذا كان حالا، والفلس ما يساوي سدس الدرهم، ويصنع من غير الذهب والفضة، بل هو من جنس آخر، وهو موزون، وعلى الراجح هو ثمني، فعليه هو جنس ربوي، فإذا بيع بالدراهم أو بالدنانير مع التفاضل فهذا جائز لأن الأجناس مختلفة، وإذا اختلفت الأجناس جاز البيع، ولا يظهر أن الفلوس موجودة عندنا، وذلك لأن الأوراق والمعادن كلها في الحقيقة ذات مرجع واحد، فإنها بنفسها ليس لها قيمة، وإنما القيمة في مرجعها، وليس مرجعها ذهبا ولا فضة ولا شيئا محددا، وإنما ترجع إلى القيمة المادية للبلد، ويختلف هذا باختلاف نمو هذه البلدة من بترول أو معادن أو نحو ذلك، وعلى ذلك فهذه المعادن التي بأيدينا لا يظهر أنها جنس آخر، بل هي من جنس الريالات، فهذه أوراق وهذه معادن، ومرجعها واحد، ولو قلنا إن مرجعها مختلف فإنه يجوز فيها التفاضل كما يجوز في الفلوس النافقة، والصحيح خلاف هذا، فإن الصحيح أن مرجعها واحد، فإنه ينظر ما عند أهل البلدة من قدرة مادية ويؤذن لهم بقدرها من الصرف من الريالات، سواء صرفوها معادن أو ريالات، وساء كانت الريالات الورقية ذات درجة واحدة أو درجات مختلفة، وقد تقدم ترجيح ما ذهب إليه بعض أهل العلم وهو ما يفتي به هيئة كبار العلماء أن الريالات والدنانير والدولارات وغيرها أجناس مختلفة بحسب اختلاف جهات مصادرها، كما تقدم في كتاب الزكاة، فيجوز فيها

التفاضل دون النسيئة. فهذه الفلوس النافقة التي كانت تصنع قديما لها قيمة معدنية بذاتها، وليست ذهبا ولا فضة بل هي جنس آخر، وعليه فيجوز فيها التفاضل بالذهب والفضة لأنها جنس آخر، وإنما الكلام هنا في جواز بيعها نسيئة، فهل يجوز بيع الفلوس النافقة بالدراهم أو بالدنانير نسيئة؟ قولان لأهل العلم، ومنشأ الخلاف هو هل الفلوس النافقة أثمان أم عروض؟ فإن قلنا هي أثمان فلا يجوز بيعها نسيئة بالدنانير أو بالدراهم، كما لا يجوز بيع الدراهم بالدنانير نسيئة، وهذا القول هو المشهور من المذهب وهو قول المالكية وهو اختيار شيخ الإسلام في الفتاوى، والقول الثاني أنها عروض وليست أثمانا، وحينئذ فيجوز بيعها نسيئة كما يجوز أن يشتري ثيابا بدراهم نسيئة فهي عروض، وهذا مذهب الشافعية وهو اختيار ابن عقيل من الحنابلة، وذكره صاحب الفروع اختيارا لشيخ الإسلام، والقول الأول هو الراجح فإنها أثمان، فالحكم للغالب عليها أنها أثمان، فيباع بها ويشترى كما يباع ويشترى بالذهب والفضة، فالحكم الغالب عليها هو الثمنية، وعليه فلا يجوز بيعها بالدراهم ولا بالدنانير نسيئة، أما التفاضل فجائز. ** مسألة: المصوغ المباح من الذهب والفضة كحلي النساء ونحو ذلك مما يجوز للرجل كالخاتم من الفضة ونحوه، هل يجوز بيعه بالدراهم والدنانير تفاضلا - ولا إشكال في الدراهم - ولكن في الدنانير في مسألة التفاضل، والدراهم والدنانير في مسألة النسيئة، أم لا يجوز؟ وهذه المسألة توجد في أسواق الناس، فهل يجوز للرجل أن يشتري من بائع الذهب الحلي بدراهم إلى سنة، وهل يجوز أن يشتري منه هذا الحلي بذهب تبر مع تفاضل، فمثلا: يقول هذا الذهب عندي اعتبره تبرا ولا تعتبره مصاغا لأنه مستعمل، فخذ هذا الذهب وزنه كيلو جرام على أنه تبر، وأعطني تسعمائة جرام من الذهب المصاغ، فهل هذا جائز؟

اختار شيخ الإسلام وتلميذه ابن القيم جواز هذا، ودليل شيخ الإسلام على جواز التفاضل والنسيئة أن الذهب بالصنعة قد خرج عن كونه ثمنيا، كما أن الفضة بالصنعة قد خرجت عن كونها ثمنية، فإن الذهب ليس بثمني ما دام مصوغا، بل هو من جنس عروض التجارة، وليس من الثمنية، ولذا لا يشترى به ولا يباع إلا مع أهله المختصين به من أهل الذهب والفضة الذين يعيدونه إلى أصله، فإنه لا شك أن صاحب الذهب المصنع لا يمكنه أن يبيعه بذهب غير مصنع مع التماثل، فإنه حينئذ يذهب قيمة أجرة صنعته، وحينئذ فيحتاج صاحب الذهب إلى أن يأتيه بدراهم، وقد يكون في هذا مشقة، وربا الفضل يباح عند الحاجة كما أجازته الشريعة في العرايا، فإن قيل إن الذهب المصنع شبيه بالتمر الرديء ومع ذلك فإن التمر الرديء لا يجوز بيعه بالتمر الجيد؟ فالجواب أن بينهما فرقا، فإن التمر الرديء، الرداءة فيه صفة خلقية، أي من خلقته، وليس هذا من صنع الآدمي، وأما هذه الصنعة فإنها صنعة آدمي، ويحتاج إلى أن يأخذ عليها أجرا، أضف إلى هذا ما تقدم من العلة في الأمور الربوية، فإن الحلي المصنع ليس بثمني، فيشبه الجواهر ونحوها، فإنه قد خرج عن كونه ثمنيا، وما ذهب إليه شيخ الإسلام وابن القيم هو الراجح، فعليه يجوز بيع الذهب المصوغ بالذهب وبيع الفضة المصوغة بالفضة مع التفاضل، قال صاحب الإنصاف:" وعليه عمل الناس "، والنسيئة كذلك جائزة لما تقدم، وقيده شيخ الإسلام بقيد ظاهر وهو ألا يكون بقصد ثمنيتها، فإن اشترى رجل من آخر ذهبا مصوغا إلى سنة بأربعين ألفا، وقصد الثمنية فلا يجوز، وأما إن قصد كونها حليا فلا بأس، وهذا لحديث فضالة، فإن قوله (فوجدت فيها أكثر من اثني عشر دينارا) يدل على أنه قصد الثمنية، وأما ما رواه البيهقي عن مجاهد قال: كنت عند ابن عمر فجاءه صائغ فقال: إني أصوغ الذهب، ثم أبيع الشيء من ذلك بأكثر من وزنه على قدر عمل يدي، فنهاه عن ذلك

وقال: الدينار بالدينار والدرهم بالدرهم لا فضل بينهما، هذا عهد نبينا محمد - صلى الله عليه وسلم -، فالجواب عنه: أنه كان يصوغ الذهب إلى دنانير، وهذه الصنعة غير مراعاة اتفاقا للمصلحة العامة المقصودة من ضرب الدراهم والدنانير، ولو روعيت لفسدت المعاملة ولا يعقل أن يأمره بإهمال صنعته فإن في ذلك إضاعة للمال، وأما إنكار أبي سعيد على معاوية بيعه آنية من فضة في مسلم، فإن ذلك لتضمنه مقابلة الصياغة المحرمة بالأثمان. وقد التزم شيخ الإسلام وتلميذه ابن القيم في غير الذهب المصوغ من فروع الأجناس بهذا القول، ومعلوم أن فروع الأجناس لها حكم أصولها، كالخبز من الدقيق ونحو ذلك، فالتزما بهذه القاعدة فقالا: ما تكون فيه صنعة آدمي من الأجناس إن خرج عن كونه قوتا كالنشا الذي يصنع من الحنطة فإنه خرج عن كونه قوتا، وعلى هذا فليس بربوي، لزوال علة الربوية وهي الاقتيات، وإن لم تزل عنه العلة الربوية بل ثبتت فيه فهو جنس آخر منفرد بنفسه، فالخبز جنس، والحنطة جنس آخر، وهكذا فروع الأجناس، فعليه يجوز بيع زيت الزيتون بالزيتون، وبيع الخبز بالحنطة، وهذا لما في ذلك من صنعة الآدمي وعمله، فيحتاج إلى أجرة، لكن مع النسيئة لا يجوز لأن العلة الربوية متفقة. وقوله (جاز التفرق قبل القبض) أي وإن كان التبايع ليس نسيئة، وقد اتفقا على أن يكون الثمن حالا، فتفرقا قبل القبض فهذا جائز، والنساء إذا اتفقا على التأخير. قوله [وما لا كيل فيه ولا وزن كالثياب والحيوان يجوز فيه النساء]

وذلك لذهاب العلة الربوية، فيجوز النساء ويجوز التفاضل في الثياب والحيوان ونحو ذلك، ودليل هذا ما رواه أبو داود في سننه والحاكم والدارقطني وغيرهما والحديث صحيح أن النبي - صلى الله عليه وسلم -: (أمر عبد الله بن عمرو بن العاص أن يجهز جيشا فنفدت الإبل فأمره أن يأخذ على قلائص الصدقة فأخذ البعير بالبعيرين إلى إبل الصدقة) [سبق تخريجه] والعلة على القول الراجح كما تقدم هي الثمنية في الذهب والفضة، والقوت في الأصناف الأربعة الآخر، والأظهر كما تقدم أنه متى أمكن التماثل فإنه لا يجوز ربا الفضل سواء كان بكيل أو وزن أو عد، فالريالات التي عندنا الآن لا توزن وإنما تعد فيقع فيها الربا، وكذلك لو قدر وجود بعض الأقوات وكان الطريق فيها غير الكيل والوزن فإن الحكم واحد لكونها قوتا، ولأن الضرر المترتب على جواز الربا فيها هو نفسه المترتب على غيرها مما هو مكيل أو موزون، والشريعة لا تفرق بين المتماثلات. قوله [ولا يجوز بيع الدين بالدين] وهذا محل إجماع بين أهل العلم، وروى الدارقطني بإسناد ضعيف ضعفه الإمام أحمد وغيره من أهل الحديث أن النبي - صلى الله عليه وسلم -: (نهى عن بيع الكاليء بالكاليء) [قط 3 / 71، كم 2 / 57، هق 5 / 290] أي الدين بالدين، وصورة هذا أن يبيع على الرجل سلعة بثمن مؤجل، ثم يبيعه هذا الثمن بثمن آخر مؤجل، فيقلب عليه الدين بدين، فهذا لا يجوز، ولو زاد عليه الثمن مع التأجيل فهذا هو ربا الجاهلية وهو من أقبح الربا.

قال الحنابلة: ولا يصح المقاصة وهي عندهم من بيع الدين بالدين، وصورتها أن يكون على زيد لعمرو مائة دينار، ولعمرو على زيد ألف درهم، فيقول كل منهما للآخر أبرؤ ذمتك وتبرؤ ذمتي، فيتصارفان ولم يحضرا شيئا، فقال الحنابلة هذا لا يجوز، وذلك لو كان له على الآخر مائة صاع من الشعير وللآخر عليه خمسة آصع من البر، فقال أسقط الذي علي وأسقط الذي عليك، قالوا: لا يجوز ذلك، لأنه من باب بيع الدين بالدين، واختار شيخ الإسلام وتلميذه ابن القيم وهو مذهب الأحناف والمالكية واختيار الشيخ عبد الرحمن بن سعدي أن ذلك جائز وهو الراجح، لأنه لا محذور شرعي فيه، وفيه إبراء للذمم، والشريعة متشوفة إلى ذلك، فهذا القول هو الصواب، وقد تقدم ضعف حديث نهي النبي - صلى الله عليه وسلم - عن بيع الدين بالدين، وهذه المسألة لا إجماع فيها. فصل قوله [ومتى افترق المتصارفان قبل قبض الكل أو البعض بطل العقد فيما لم يقبض]

تقدم تعريف الصرف: وهو بيع نقد بنقد، كبيع دراهم بدنانير والعكس، أو بيع الفلوس النافقة بالدراهم والدنانير، فهذا هو الصرف، ومنه بيع الريالات بالدولارات، فإذا تصارفا الدنانير والدراهم والجنسان مختلفان، فإذا تفرقا قبل قبض الكل أو البعض يبطل العقد فيما لم يقبض، فإذا افترقا قبل قبض الكل فالعقد باطل كله، وإن كان في البعض فهو باطل فيما لم يقبض، مثاله: تصارفا مائة درهم بمائة دينار، فافترقا قبل أن يتقابضا في الكل، فالعقد كله باطل، وإذا افترقا قبل قبض البعض فأعطاه هذا خمسة دنانير وأعطاه الآخر خمسين درهما، وبقي على عقدهما خمسة دنانير تقابلها خمسون درهما، فيصح العقد في البعض دون ما تبقى، لتوفر الشروط في البعض، وتكون هذه المسألة من تفريق الصفقة التي تقدم الكلام على بعض صورها، أما الباقي فالعقد باطل لعدم توفر شروط الصحة، ومن شروط الصحة قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: (فإذا اختلفت الأجناس فبيعوا كيف شئتم إذا كان يدا بيد) . قوله [والدراهم والدنانير تتعين بالتعيين]

كسائر السلع، وتقدم ذكر هذا، فإذا قال: بعتك هذا الشيء فإن البيع يكون قد وقع على هذا الشيء نفسه، بخلاف ما لو قال: بعتك ما وصفه كذا وكذا، فحينئذ لا يتعين، فمثلا إذا قال: ابتع عليك هذه العشرة دنانير بهذه المائة درهم، فحينئذ قد عينت الدراهم والدنانير، فتتعين فتكون الصفقة واقعة عليها بعينها كسائر العقود، فإذا قال: اشتريت منك هذه الشاة فإنها تتعين وتكون هي المبيعة، فلا بد أن يعطيه إياها، لأن العقد وقع عليها، بخلاف ما لو قال: اشتريت منك شاة وصفها كذا وكذا، وهذا مذهب جمهور العلماء أن الدراهم والدنانير تتعين بالتعيين، وقال بعض الحنابلة لا تتعين، لأن المقصود واحد وهو رواية عن أحمد ومذهب الأحناف، والقول الأول أظهر من حيث التعليل، لكن ذلك في زمانهم وأما في زماننا فإن المقصود واحد لأن الدنانير والدراهم في القديم لتعيينها قصد، ففيها الرديء والجيد، والمشوب والخالص. قوله [فلا تبدل] هذه من فروع المسألة، فلا تبدل لأن العقد قد وقع على عينها، فهي بمجرد العقد أصبحت ملكا للمشتري بعينها، وأصبح الثمن ملكا للبائع بعينه، فحينئذ لا يصح تبديله. قوله [وإن وجدها مغصوبة بطل] فلو ثبت أن هذه الدراهم مغصوبة فحينئذ يبطل البيع، وذلك لأن البيع على عينها لا على وصفها، فثبت أنها مغصوبة فحينئذ يبطل البيع، لأن السلعة قد ثبت أنها غير مملوكة، وما دامت غير مملوكة فلا يصح أن يصرف هذا بها، وعلى القول بأنها لا تتعين يجوز تبديلها وإن كانت مغصوبة صح البيع، ووجب البدل في ذمته. قوله [ومعيبة من جنسها أمسك أو رد]

إذا وجد الدينار فيه عيب أو هذا الدرهم فيه عيب فلا يخلو هذا العيب: إما أن يكون من جنسه - أي من جنس المعيب - وإما أن يكون من غير جنسه، فمثال ما كان فيه عيب من جنسه سواد في الفضة، وبياض في الذهب أو نحو ذلك، وأما ما كان فيه عيب من غير جنسه كأن يكون فيه شيء من النحاس أو أن يكون نحاسا أو تبين فيه غش، فهنا العيب ليس من جنسه، فإذا كان العيب من جنسه أمسك أو رد، فهو مخير بينهما، وليس فيه أرش إذا أمسك، لأنه إذا ثبت الأرش فهو ربا، لأن التفاضل محرم، وتقدم عدم ثبوت الأرش أصلا ولا دليل على ثبوته، وإن كان العيب من غير جنسه فحينئذ يبطل العقد، فلا خيار، وذلك لأنه قد ثبت أن العقد كان على غير المسمى، والرضا إنما وقع على أنه ذهب فبان أنه نحاس أو فضة أو حديد فليس هناك رضا. قوله [ويحرم الربا بين المسلم والحربي وبين المسلمين مطلقا بدار إسلام وحرب] فالربا محرم على المسلم مطلقا، سواء كان مع مسلم أو حربي أو ذمي، وسواء كان في دار حرب أو إسلام، لعمومات الأدلة الشرعية، فقد لعن النبي - صلى الله عليه وسلم - آكل الربا وموكله وكاتبه وشاهديه، ولا يحل للمسلم أن يكون طرفا في ربا، وأما ما روي أنه لا ربا بين أهل الحرب وأهل الإسلام فالحديث لا يصح عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، وقال أبو حنيفة: لا يجري الربا بين مسلم وحربي في دار الحرب لأن أموالهم مباحة، والجواب: أنها مباحة قهرا، وأما أخذها بمعاملة وعقد فيجب أن يوافق الشرع، ولما يترتب على ذلك من المفاسد في هذا العصر من ترك أموال المسلمين في البنوك الربوية التي بأيدي الكفار، ويقال أيضا لا فرق بين دار الحرب ودار الإسلام لأن الأمان على ماله أن يؤخذ قهرا، وفي الربا رضا منه. * مسألة: إذا باع سلعة بدراهم إلى شهر، فلما جاء الشهر أراد أن يدفع دنانير بدل الدراهم فهل يجوز؟ الجواب يجوز ذلك بشرطين:

الشرط الأول: أن تكون بسعر يومها أي يوم القبض. الشرط الثاني: ألا يتفرقا بينهما شيء. ودليل ذلك ما ثبت في الخمسة عن ابن عمر قال: قلت يا رسول الله: إني أبيع الإبل بالبقيع، فأبيع بالدنانير وآخذ الدراهم، وأبيع بالدراهم وآخذ الدنانير، آخذ هذا من هذه، وأعطي هذه من هذا، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (لا باس أن تأخذها بسعر يومها ما لم تتفرقا وبينكما شيء) [حم 6203، ن 4582، د 3354، ت 1242، جه 2262] والحديث الصحيح فيه وقفه على ابن عمر، ولكن الأدلة الشرعية تدل على هذا الحديث، أما قوله (ما لم تتفرقا وبينكما شيء) فإن هذا شرط في الصرف، وهو إذا حل الوقت فقال أريد أن أعتاض عنها دنانير بدل الدراهم فهذا صرف، ولا بد في الصرف من التقابض، وكونها بسعر يومها لئلا يربح ما لم يضمن، وقد قال - صلى الله عليه وسلم -: (ولا ربح ما لم يضمن) . باب بيع الأصول والثمار الأصول جمع أصل وهو ما يتفرع منه غيره، كالدار والأرض والشجر، فالشجر أصل يتفرع منه الثمر، والأرض كذلك يتفرع منها ما فيها من غرس وبناء ونحوه، والدار يتفرع عنها ما فيها من بناء وأبواب ونحو ذلك، والثمار: جمع ثمر كالتمر ونحوه. قوله [إذا باع دارا شمل أرضها وبناءها وسقفها والباب المنصوب والسلم والرف المسمورين والخابية المدفونة] فإذا باع رجل دارا أو وهبها أو أوقفها أو أوصى بها أو أقر بها فكل هذا في حكم البيع، فإذا باع دارا فإن هذا يشمل أرضها وبناءها وسقفها والباب المنصوب والسلم والرف المسمرين أي الذين قد وضعا بالمسامير، والخابية وهي وعاء الماء إذا وضع في الأرض، وقيد الخابية بالمدفونة ليخرج ما لم يكن مدفونا كوعاء الماء الذي ليس بمدفون فإنه لا يدخل في هذا الحكم. قوله [دون ما هو مودع فيها من كنز وحجر]

ما هو مودع فيها من كنز وحجر فإنه لا يدخل في الدار، لأن اللفظ لا يتناوله، فلا يملك بمجرد البيع، فمن باع دارا وفيها كنز فإن المشتري لا يملك هذا الكنز، لأن اللفظ لا يتناوله. قوله [ومنفصل منها كحبل ودلو وبكرة وقفل وفرش ومفتاح] فإن هذه وإن كانت من مصلحة الدار لكنها منفصلة عنها، فالضابط عندهم فما يدخل فيما يباع من الأصول: أن يكون من مصلحة الدار ومتصلا بها، فإن لم يكن من مصلحتها ولا متصلا بها أو كان من مصلحتها وهو غير متصل بها فإنه لا يدخل في البيع، والوجه الثاني في المذهب أن المفتاح ونحوه كالقفل يدخل، والصحيح أن الحكم في ذلك راجع إلى العرف، فما دخل في اللفظ عرفا فإنه يثبت ملكه بالبيع، لأنه كالشرط، وقد تقدم أن الشرط العرفي كالشرط اللفظي، فمثلا إذا قال بعتك هذه الدار، فإن العرف يدل على دخول الأرض والبناء والأبواب والأقفال والمفاتيح ونحو ذلك مما هو متصل بها ومن مصلحتها، والعرف لا يدخل الفرش ولا الأثاث، لكن إن اشترطه المشتري فالمسلمون عند شروطهم. قوله [وإن باع أرضا ولو لم يقل بحقوقها شمل غرسها وبناءها] قوله (ولو لم يقل بحقوقها) إشارة إلى خلاف، فالوجه الثاني في المذهب أنه إن لم يقل بحقوقها فإن غرسها ونحوه لا يدخل، إذن في المسألة قولان في المذهب: القول الأول: أنه إذا قال بعتك هذه الأرض فإن غرسها وبناءها ونحوه يدخل وإن لم يقل بحقوقها.

القول الثاني: أن ذلك لا يدخل إلا أن يشترطه، فإن قال: اشتريت منك الأرض بحقوقها أو بما فيها أو قال البائع بعتك الأرض بحقوقها أو بما فيها دخل ما سبق وإلا فلا، والراجح ما تقدم من أن مرجع ذلك إلى العرف، فإذا كان العرف يقضي بأن بيعها - أي الأرض - يدخل فيه ما سبق فإنه يدخل فيه، وإلا فلا، والعرف حاليا لا يدخل الشجر، فمن باع أرضا وفيها شجر، فإن العرف لا يدل على أن الشجر داخل في البيع، إلا أن تكون الأرض أرضا زراعية، أما إذا كانت أرضا للبناء فلا يدخل فيها، لكن لو قال: بعتك هذا البستان أو بعتك هذا الحائط فإنه يدخل فيه ما فيه من شجر ونحوه. * وهل يدخل فيه ما يكون منصوبا فيه من خيام ونحو ذلك؟ الجواب ما سبق من أن مرجع ذلك إلى العرف، لكن لو اشترطه فالمسلمون على شروطهم. قوله [وإن كان فيها زرع كبر وشعير فلبائع مبقى] إذا كان في الأرض بر وشعير فإنه يبقى للبائع إلى أول وقت الحصاد، هذا إذا لم يشترطه المشتري، فإذا أتى أول وقت الحصاد فإنه يجبر على حصاده، وهذا هو القول الأول في المذهب، وأنه يجب عليه أن يحصده أول وقت الحصاد ولو كان في الانتظار خير للزرع، والقول الثاني في المذهب أنه يبقى إلى كماله وتمامه لأن العادة قد جرت بذلك، فالعادة قد جرت بأن الزرع لا يحصد حتى يكمل، والشرط العرفي كالشرط اللفظي، وهذا هو أحد القولين عند الحنابلة، وهو الراجح وهو اختيار شيخ الإسلام. قوله [وإن كان يجز ويلقط مرارا فأصوله لمشتر والجزة واللقطة الظاهرتان عند البيع للبائع]

إن كان يجز مرارا كالبرسيم مثلا، أو يلقط مرارا كالقثاء مثلا، فأصوله للمشتري، والجزة واللقطة الظاهرتان للبائع وذلك لأن ما يجز ويلقط مرارا يلحق بالشجر من نخيل ونحوه، وذلك لأنه زرع ليبقى، فهو كالنخيل يتكرر جذاذه، فكما أنهما لو تبايعا في الأرض نخيل عليه ثمر، فالثمر للبائع، والنخيل للمشتري، كما سيأتي في الحديث عن النبي - صلى الله عليه وسلم -. قوله [وإذا اشترط المشتري ذلك صح] فلو اشترط المشتري الجزة واللقطة الظاهرتين صح، فالمسلمون على شروطهم. فصل قوله [ومن باع نخلا تشقق طلعه فلبائع مبقى إلى الجذاذ] من باع نخلا تشقق طلعه، فهو متهيء للتأبير، فلم يبق إلا أن يؤبر، والتأبير هو التلقيح، فمن باع نخلا تشقق طلعه فإنه يبقى للبائع إلى الجذاذ، فله الثمر مبقى إلى أول الجذاذ، وبمجرد ما يبدأ الناس يجذون يؤمر هو بالجذاذ، والصحيح ما تقدم أنه يبقى إلى كماله. قوله [إلا أن يشترطه المشتري] فإن اشترط المشتري فإنه يكون له، ودليل ذلك ما ثبت في الصحيحين أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (من باع نخلا بعد أن يؤبر فثمرتها للبائع إلا أن يشترطه المبتاع) [خ 2379، م 1543] قالوا: وإنما علق الشاعر الحكم بالتأبير لأنه ملازم للتشقق غلابا، فإذا تشقق فإنها تؤبر، وعن الإمام أحمد وهو اختيار شيخ الإسلام أن الحكم منوط بالتأبير، وذلك لظاهر الحديث المتقدم، ولأن التأبير يقع به فهل من المكلف بخلاف التشقق، فإنه لا فعل لمكلف فيه، وهذا القول هو الراجح وهو أن الحكم منوط بالتأبير، فإن باع نخلا وهو مؤبر فالثمرة للبائع إلا أن يشترطه المبتاع، وإن باعه ولم يؤبر بعد وإن كان متشققا فإن الثمرة للمشتري، والمذهب يعلق هذا بالتشقق، والراجح ما اختاره شيخ الإسلام. قوله [وكذلك شجر العنب والتوت والرمان وغيره]

فكذلك تشقق ثمرها، فإنه إذا باعها تكون الثمرة للبائع، ,إن لم يتشقق فإن الثمرة للمشتري، ولم نعلقه بالتأبير لأنه لا تأبير فيه، والقياس حيث أمكن فهنا يلحق به قياسا حيث تشقق. قوله [وما ظهر من نوره كالمشمش والتفاح، وما خرج من أكمامه كالورد والقطن] فما ظهر من نوره أي من زهره كالمشمش والتفاح، وما خرج من أكمامه أي وعائه كالورد والقطن فإن له نفس الحكم، فمن باع تفاحا أو مشمشا فإن كان قد خرج من نوره فهو للبائع، وإن لم يخرج من نوره فإنه للمشتري كالثمر المتشقق من النخل. قوله [وما قبل ذلك والورق فلمشتر] أي ما قبل التشقق والخروج من النور والخروج من الوعاء فإنه يكون للمشتري، وكذلك الورق والأغصان، فإنها للمشتري لأنها تبع للشجر، وقد ثبت الحكم للأشجار فورقها وأغصانها تابعة لها، وأما الثمر فما كان قبل التشقق أو التأبير في النخل فإنه للمشتري، وما كان بعد التشقق من سائر الثمار وبعد التأبير في النخل خاصة فهو للبائع إلا أن يشترطه المبتاع. قوله [ولا يباع ثمر قبل بدو صلاحه ولا زرع قبل اشتداد حبه]

لا يباع النخل وهو رطب حتى يبدو صلاحه، ولا يباع زرع قبل اشتداد حبه، فأما صلاح الثمر فبأن ينضج، فهذا هو بدو صلاحه، وهذا يختلف باختلاف الثمر، فمنه ما يكون باحمراره أو اصفراره، ولذا قال أنس لما قيل له ما زهوها قال:" أن تحمار أو تصفار "، والعنب جاء فيه حديث عند الخمسة إلا النسائي بإسناد صحيح أن النبي - صلى الله عليه وسلم -: (نهى عن بيع العنب حتى يسود، وعن بيع الحب حتى يشتد) [حم 12901، ت 1228، د 3371، جه 2217] وهذا في العنب الأسود، وما لم يكن له علاقة باللون فإذا تهيأ لأن يطعم ويؤكل فهذا هو بدو صلاحه، وقد ثبت في الصحيحين عن ابن عمر - رضي الله عنهما - قال: (نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن بيع الثمار قبل بدو صلاحها) قيل: ما بدو صلاحها قال:" أن تذهب عاهتها " وهو من قول ابن عمر، فهو مدرج كما ثبت في بعض الروايات [خ 1486، م 1534] ومعنى " أن تذهب عاهتها " أي تذهب عنها الآفة السماوية المحتملة قبل نضجها، ولذا قال النبي - صلى الله عليه وسلم - كما في البخاري ومسلم: (أرأيت لو منع الله الثمرة فبم يأخذ أحدكم مال أخيه) [خ 2199، م 1555] فالعلة هي أن الثمرة قد تمنع فتأتيها آفة سماوية قبل بدو صلاحها فبم يستحل البائع مال أخيه، وفي الصحيحين من حديث أنس - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم -: (نهى عن بيع الثمار حتى تزهو) قيل وما زهوها؟ قال - وهو من قول أنس كما بينته بعض الروايات -: أن تحمار أو تصفار [خ 2196، 2197، م 1555] فهذه الأحاديث تدل على أن بيع الثمرة قبل بدو صلاحها محرم، وأن بيع الحب قبل اشتداده محرم أيضا، وهذا باتفاق العلماء. قوله [ولا رطبة ولا بقل ولا قثاء ونحوه كباذنجان دون الأصل] الرطبة هي البرسيم، والقثاء هو الخيار، فلا يجوز بيع البرسيم والقثاء وكذلك الباذنجان ونحو ذلك دون الأصل حتى يبدو صلاحها.

قوله [إلا بشرط القطع في الحال أو جزة جزة أو لقطة لقطة] فما يتكرر جزه أو يتكرر لقطه كالبرسيم والقثاء ونحوه لا يباع إلا جزة جزة أو لقطة لطقة، فيقول: أبيع عليك هذه الجزة، فإذا اشتراها، ثم نمت الجزة الأخرى باعها، وهكذا فيما يلقط، فبيع اللقطة الأولى يكون إذا خرجت وكذلك الثانية والثالثة وهكذا، وعليه فليس له أن يبيع البرسيم أو نحوه الذي قد بدا صلاحه الموسم كله، فمثلا: يأتي إلى مزرعة البرسيم فيقول: أبيع عليك هذا البرسيم تجزه ما شئت يعني كلما نبت منه شيء جززته، وهكذا حتى ييبس، وهكذا في القثاء ونحوه، فهذا لا يجوز، قالوا: لأنه معدوم، فالجزة الثانية معدومة، والبيع إنما يكون في الموجود لا في المعدوم، ولأن هذا المعدوم فضلا عن كونه معدوما فإنه لم يبد صلاحه، وقد نهى النبي - صلى الله عليه وسلم - عن بيع هذه الأشياء حتى يبدو صلاحها، واختار شيخ الإسلام وتلميذه ابن القيم جواز ذلك، وأنه يجوز أن يبيع المقثاة حتى ييبس ويجوز أن يبيع البرسيم حتى ييبس وذلك بعد بدو الصلاح، قالوا: لأنه لا غرر في ذلك، فإن أهل الخبرة يستدلون بجنس هذا الزرع على طيب ما يجز منه أو يلقط، وعلى كثرته ونحو ذلك، قالوا: ولأن في المنع من هذا حرجا ومشقة، ومثل هذه المسائل تجوز عند المشقة والحرج، قالوا: ولأنها لا تدخل في نهي النبي - صلى الله عليه وسلم - عن بيع الثمر حتى يبدو صلاحه، فإن هذا فيما يمكن الانتظار فيه حتى يبدو الصلاح، فلا يكون في ذلك مشقة ولا حرج، وأما هنا فإن بدو الصلاح فيه متكرر، فيشق انتظاره، وما ذهب إليه شيخ الإسلام وتلميذه هو القول الراجح في هذه المسألة دفعا للحرج، كما أنه يمكن أن يقال لأهل القول الأول: ماذا تقولون في بدو الصلاح في بعض ثمر النخلة الواحدة؟ فالجواب: أنهم يقولون اتفاقا يجوز بيعها إذا بدا صلاح بعض ثمرها دون الآخر، وذلك لأن النهي عن بيعها حتى يبدون صلاحها كلها فيه

مشقة، فإن الانتظار فيه مشقة، وكذلك على الراجح إذا بدا صلاح بعض النخل أو نحوه من نوع واحد، فإنه يحكم للباقي بالحكم نفسه إذا كان في بستان واحد، فيجوز بيعه حينئذ، وهذا هو المشهور في المذهب وهو مذهب الشافعي، وعن الإمام أحمد أنه يمنع حتى يبدو صلاح كل الثمر، والصحيح هو ما تقدم وذلك دفعا للحرج، ويقال هنا كذلك في المسائل التي تقدم فيها اختيار شيخ الإسلام وتلميذه ابن القيم. وقوله (إلا بشرط القطع في الحال) فإذا باع ثمرة لما يبدو صلاحها أو حبا لما يشتد بعد أو باع رطبة أو قثاء ولما يبدو صلاحها بشرط القطع في الحال فإن هذا جائز، وذلك لزوال العلة المتقدمة وهي قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: (أرأيت لو منع الله الثمرة بم يأخذ أحدكم مال أخيه) ، وهناك شرط آخر، وهو شرط قد تقدم في شروط البيع وهو أن يكون مما ينتفع به، أي يحصل به الانتفاع سواء بأن يكون طعاما للآدميين أو طعاما للبهائم أو نحو ذلك، فهذا كله جائز، والعلة قد زالت، وهذا هو مذهب الجمهور. قوله [والحصاد والجذاذ واللقاط على المشتري] إذا باع زرعا أو ثمر نخل فالذي يجب عليه حصاد الزرع وجذاذ ثمر النخل والذي يجب عليه أن يلقط هو المشتري، قالوا: لجريان العادة بذلك، فالعادة محكمة في مثل هذه المسائل، والشرط العرفي كالشرط اللفظي، وحينئذ فإن كان العرف عن أن ذلك على البائع فإنه يعمل به إلا أن يشترط أحدهما خلاف العرف، كأن يكون العرف على أن الجذاذ على المشتري، فيشترط المشتري أن يكون على البائع فالمسلمون على شروطهم. قوله [وإن باعه مطلقا أو بشرط البقاء.... بطل]

إذا باع الثمر مطلقا قبل بدو الصلاح ولم يشترط القطع في الحال فالبيع باطل لنهي النبي - صلى الله عليه وسلم - عن ذلك، والنهي يقتضي الفساد، وكذلك إذا باع الثمر قبل بدو الصلاح واشترط المشتري البقاء، أي بقاء الثمر حتى يبدو صلاحه، فهذا الشرط يخالف الشرع، فهو باطل والبيع باطل، ويستثنى من هذا ما تقدمت إشارة المؤلف إليه في قوله (دون الأصل) فإذا باع الأصل فإن الثمر يتبع، وإن لم يبد صلاحه، فلو أن رجلا باع نخلا وكان الثمر لم يبد صلاحه فذلك جائز، وهذا باتفاق أهل العلم، ويثبت تبعا ما لا يثبت استقلالا. قوله [أو اشترى ثمرا لم يبد صلاحه بشرط القطع وتركه حتى بدا] إذا قال: أنا اشتري منك هذا الثمر قبل بدو صلاحه بشرط أن أقطعه في الحال، فلم يقطعه في الحال بل تركه حتى بدا صلاحه فالبيع باطل، وذلك لأن الشريعة إذا نهت عن الشيء نهت عنه وعن ذرائعه الموصلة إليه، ولا شك أن عدم إبطال مثل هذا العقد يؤدي إلى بيعه قبل بدو صلاحه من غير أن يشترط قطعا في الحال، وعليه فالثمرة تعاد إلى البائع والثمن يعاد إلى المشتري. قوله [أو جزة أو لقطة فنمتا...... بطل] إذا باعه جزة أو لقطة لم يبد صلاحها بشرط القطع في الحال فلم يقطعها في الحال بل تركها حتى نمتا فإن البيع يبطل لما تقدم. قوله [أو اشترى ما بدا صلاحه وحصل آخر واشتبها] مثاله: قال أبيعك هذا الثمر الذي قد بدا صلاحه من هذه النخلة، فلم يلقط ما بدا صلاحه، وبدا صلاح بقية الثمر فاختلطا، فالحكم أن البيع باطل، هذا ما ذكره المؤلف وهو رواية عن الإمام أحمد، والصحيح في مذهب الحنابلة أي المشهور عندهم وهو ظاهر المذهب أن البيع صحيح، ولا دليل على بطلانه، وذلك للقدرة على تسليمه، ولأنه ليس فيه نهي يقتضي فسادا، وحينئذ ينظر فيما نما، فإن علم قدره أخذه البائع، فإنه نما في ملكه، وإن لم يعلم قدره تصالحا على شيء، فإن لم يتصالحا فلكل منهما الفسخ.

قوله [أو عرية فأتمرت بطل] اشترى عرية فأتمرت فيبطل البيع، لأن الشارع إنما أجازها ليؤكل رطبا كما تقدم في قوله النبي - صلى الله عليه وسلم -: (يأكلونها رطبا) ، والشريعة إنما أجازتها للحاجة وهي أن تؤكل رطبا، فإذا أخرت حتى أتمرت فإن ذلك لا يجوز، ويكون البيع باطلا. قوله [والكل للبائع] فكل هذه الأشياء للبائع، فالعرية إذا أتمرت تعود إلى البائع، وحينئذ يرجع عليه المشتري بالثمن، وكذلك كل ما تقدم بطلانه فإنه يكون للبائع لأن البيع باطل، وحيث كان باطلا فإنه يرجع إلى البائع، وأما المشتري فله ما دفعه ثمنا. قوله [وإذا بدا ما له صلاح في الثمرة أو اشتد الحب جاز بيعه مطلقا] فإذا بدا صلاح الثمرة واشتد الحب جاز بيعه مطلقا، ودليل ذلك ما تقدم من نهي النبي - صلى الله عليه وسلم - عن بيع الثمار حتى يبدو صلاحها، ومفهومه جواز بيعها بعد بدو صلاحها، ولأن الأصل في البيوع الحل. قوله [وبشرط التبقية] إذا قال بعد بدو صلاح الثمر أشتري منك هذا الثمر بشرط أن يبقى حتى يكمل صلاحه حتى يجذ في الأوان المناسب له، فهذا جائز، والمسلمون على شروطهم، وقد تقدم أن البستان إذا بدا الصلاح في نخلة من نخلاته فيجوز بيع ثمره كله، ولا شك أن المشتري يحتاج إلى إبقاء الثمر في النخيل التي لم يد صلاح ثمرتها بعد، وربما أيضا احتاج إلى تبقية ما بدا صلاحه من الثمر حتى يكون نضجه أتم وأحسن، وهذا كله جائز، والمسلمون على شروطهم. قوله [وللمشتري تبقيته إلى الحصاد والجذاذ] فللمشتري التبقية إلى الحصاد والجذاذ وإن لم يشترط ذلك لجريان العادة بذلك، والشرط العرفي كالشرط اللفظي، وله أن يبيعه كذلك لثبوت القبض، فإن التخلية كما تقدم قبض. قوله [ويلزم البائع سقيه إن احتاج إلى ذلك وإن تضرر الأصل]

إذا اشترى منها لثمر واشترط تبقيته أو أبقاه إلى أوان الحصاد والجذاذ فإن السقيا واجبة على البائع لجريان العرف بهذا، لكن لو اشترط البائع أن السقيا تكون على المشتري فالمسلمون على شروطهم. وقوله (وإن تضرر الأصل) أي بالسقي. قوله [وإن تلفت بآفة سماوية رجع على البائع] إذا أصابت الثمر أو الزرع بعد بيعه آفة سماوية فذلك منضمان البائع لا المشتري، والمسألة فيها قولان: القول الأول: أن هذا منضمان البائع، كما هو مقرر في المذهب، وهو مذهب المالكية. القول الثاني: أنه من ضمان المشتري لأنه قد تم البيع، وقد أقبضه المبيع، فكان من ضمان المشتري، وهذا هو مذهب الشافعية، والصحيح هو القول الأول لدلالة السنة عليه، فقد ثبت في صحيح مسلم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (لو بعت على أخيك ثمرا فأصابته جائحة فلا يحل لك أن تأخذ منه شيئا بم تستحل مال أخيك بغير حق) [م 1554] وفي رواية أن النبي - صلى الله عليه وسلم -: (أمر بوضع الجوائح) [م 1554] ولذا قال المؤلف: وإذا تلفت بآفة سماوية رجع - أي المشتري - على البائع بالثمن، وذلك بشرط ألا يقع من المشتري تفريط، أما لو وقع منه تفريد وتأخر بالجذاذ فخرج الوقت المعتاد للجذاذ وحصلت آفة سماوية فحينئذ الضمان على المشتري لتفريطه، لأنه فوت على البائع الانتفاع بالثمر. واعلم أن قول المؤلف (وإن تلفت بآفة سماوية) يعود على الثمرة، كما هو المشهور من مذهب الحنابلة، وأن وضع الجوائح مختص بالثمرة دون الزرع، والراجح هو اختيار شيخ الإسلام والمجد ابن تيمية أن الزروع مقيسة على الثمار، لقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: (أرأيت إن منع الله الثمرة بم تستحل مال أخيك بغير حق) ، وهذا المعنى ثابت في الزروع كما هو ثابت في الثمار، وهذا القول هو اختيار الشيخ عبد الرحمن بن سعدي وهو مقتضى القياس الصحيح.

قوله [وإن أتلفه آدمي خير المشتري بين الفسخ والإمضاء ومطالبة المتلف] هذا هو المشهور من المذهب، والقول الثاني في المذهب وهو اختيار أبي الخطاب من الحنابلة أن التلف الحاصل بغير آفة سماوية يكون الضمان فيه على المشتري وهو الراجح، وذلك لأن الآفة السماوية لا يمكن للمشتري أن يرجع على أحد بثمنه، فحينئذ يكون ذلك أكلا للمال بالباطل، وقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: (بم تستحل مال أخيك بغير حق) ، وقد سبق أن هذا إذا لم يكن هناك تفريط من المشتري. أما ذا كانت الآفة غير سماوية فإن المشتري يمكنه أن يتدارك حقه بالرجوع إلى المتلف، فحينئذ نبقى على الأصل في الضمان، وأن الضمان يبقى على المشتري عند القبض، وقد تقدم أن البائع إذا باع الثمر وخلى بينه وبين المشتري فإن الضمان يكون على المشتري، وإنما استثنت الشريعة الجوائح للمعنى المتقدم، وقال بعض الحنابلة: إن ما قد يحدثه سارق أو لص أو عسكر أو نحو ذلك مما يشبه الآفة السماوية، وهذا أيضا راجح، فالصحيح أن التف إذا كان من آدمي يمكن الرجوع عليه فإن الضمان على المشتري، أما إذا كان من آدمي لا يمكن الرجوع عليه كالسارق والعسكر ونحوهما فهذا يشبه الآفة السماوية. قوله [وصلاح بعض الشجر صلاح لها] فإذا صلح في الشجرة بعضها فهذا الصلاح للشجرة كلها، وعلى هذا فيجوز أن يبيعها، وقد تقدم ذكر اتفاق أهل العلم عن ذلك. قوله [ولسائر النوع الذي في البستان] فإذا صلح بعض الشجر من النوع فإن سائر النوع قد بدا صلاحه فيجوز بيعه، كما هو المشهور في المذهب وهو مذهب الشافعية، وتقدم الكلام على هذه المسألة. قوله [وبدو الصلاح في ثمر النخل أن تحمر أو تصفر وفي العنب أن يتموه حلوا] قوله (أن يتموه حلوا) أي أن يلين ويكون كالوعاء اللين المملوء ماء. قوله [وفي بقة الثمار أن يبدو فيها النضج ويطب أكله] وقد تقدم الكلام على هذا.

قوله [ومن باع عبدا له مال فماله لبائعه إلا أن يشترطه المشتري] لما ثبت في الصحيحين أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (من ابتاع عبدا وله مال فماله لذي باعه إلا أن يشترطه المبتاع) [خ 2379، م 1543] فإذا اشترطه المشتري فقال: اشتريت العبد وماله، فإنه يكون له. قوله [فإن كان قصده المال اشترط علمه وسائر شروط البيع وإلا فلا] إذا اشترى رجل عبدا ومعه مال، واشترط هذا المال وكان هذا المال هو مقصود المشتري بالبيع أي له قصد فيه فحينئذ لا بد من توفر شروط البيع ومنها العلم، فإذا كان مجهولا لا يدري ما هو المال الذي مع العبد فلا يصح البيع، وهكذا سائر شروط البيع. وقوله (وإلا فلا) أي وإلا يقصد المال الذي معه فلا يشترط شروط البيع، وذلك للقاعدة الشرعية القائلة: يثبت تبعا مالا يثبت استقلالا، كما إذا باع الشجر وعليه ثمر لم يبد صلاحه فالبيع جائز، لأنه يثبت تبعا مالا يثبت استقلالا، وهاهنا باع عبدا وله مال، والمال مجهول وهو غير مقصود فالبيع صحيح لما تقدم. قوله [وثياب الجمال للبائع، والعادة للمشتري] من باع عبدا فثياب الجمال أي التي تكون على العبد من ثياب الزينة ونحوها فإنها للبائع، وذلك لأن العادة لم تجر ببيعها معه، فإذا باع عبدا وعليه حلي من فضة وثياب جميلة تعد زينة فهذا كله للبائع، وأما ثياب العادة كثياب المهنة والخدمة التي تكون عليه وما يلبسه لستر العورة مما هو معتاد فهذا يدخل في البيع لجريان العادة ببيعه، ومثله لو باع سيارة وفيها أشياء معتادة يتسامح بمثلها فتدخل في البيع، وإلا فلا. باب السلم السلم والسلف مترادفان، فالسلم لغة حجازية والسلف لغة عراقية، وسمي السلم سلما لتسليم الثمن في مجلس العقد، وسمي سلفا لتقديم الثمن على المثمن، ففيه معنى السلف، والسلم عرفه المؤلف بقوله: قوله [عقد على موصوف في الذمة مؤجل بثمن مقبوض بمجلس العقد]

كأن يقول: أبيع عليك كذا وكذا صاعا من البر، وصفته كذا وكذا - أي من جيده أو رديئه ونحو ذلك - بألف ريال حاضرة الآن، فهنا قد باع موصوفا في الذمة مؤجلا بثمن مقبوض في مجلس العقد، إذن فهو عقد على موصوف في الذمة، ولك أن تقول: هو تعجيل الثمن وتأخير المثمن، والمسلِم - بكسر اللام - هو دافع الثمن، وهو في الغالب التاجر، والمسلَم إليه - بفتح اللام - هو صاحب الحاجة، وهو دافع السلعة، وغالبا ما يكون صاحب حاجة، فإن السلم من بديلات الربا، والمسلَم فيه - بفتح اللام - هي السلعة المؤجلة الموصوفة في الذمة. قوله [ويصح بألفاظ البيع والسلف والسلم] يصح بألفاظ البيع - كل لفظ من ألفاظ البيع -، فلو قال: بعتك مائة صاع من البر إلى سنة بمائة دينار حاضرة، فهذا يعتبر سلما، لأن السلم من أنواع البيع، فيصح بأي لفظ من ألفاظ البيع، وقد تقدمت ألفاظ البيع، فلو قال: بعت أو اشتريت أو نحو ذلك صح، ويصح أيضا بلفظ السلم، كأن يقول: أسلمتك مائة ريال في هذا المجلس على أن تعطيني كذا صاعا من البر إلى سنة، ويصح بلفظ السلف كأن يقول أسلفك كذا وكذا من الدنانير على أن تعطيني مائة صاع من البر إلى سنة. قوله [بشروط سبعة] وهذه الشروط سوى شروط البيع التي تقدم ذكرها. قوله [أحدها: انضباط صفاته بمكيل وموزون ومذروع] الصواب أن يقول: من مكيل وموزون ومذروع، أو كمكيل وموزون ومذروع. فالشرط في المسلم فيه وهي السلعة أن تكون مما تنضبط صفاتها، من مكيل كالبر، أو موزون كالحديد مثلا، أو مذروع كالقماش، فهذه تنضبط صفاتها، أما إذا كانت لا تنضبط صفاتها، فهذا لا يجوز السلم فيه، لأنه يفضي إلى المنازعة، وما يفضي إلى المنازعة فهو ممنوع شرعا. قوله [وأما المعدود المختلف كالفواكه] الفواكه معدودة، وتتفاوت تفاوتا ظاهرا يختلف به الثمن اختلافا ظاهرا. قوله [والبقول]

أي من الخضروات ونحوها كذلك، فالبقول مما يباع جزافا فهو كذلك، لأنه يتفاوت تفاوتا ظاهرا يختلف به الثمن اختلافا ظاهرا، ولو قالوا: تعد بالحزمة ونحوها فإن الحزمة تختلف عن بعضها البعض اختلافا ظاهرا، وهذا هو المشهور من مذهب الحنابلة، وعن الإمام أحمد وهو مذهب الشافعي وأبي حنيفة أن ذلك جائز، وأنه يوزن وزنا، وهذا هو الراجح، فإنه إذا وصف الفاكهة أو البقول ثم اتفقا على الوزن فإن ذلك جائز، ثم أيضا الحزم ونحوها أو الفواكه وإن اختلفت فإن هذا الاختلاف يسير وهو معفو عنه دفعا للحرج والمشقة، فالذي يظهر أن مثل هذا التفاوت اليسير لا بأس به، ودليل هذا أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال فيما ثبت عنه في الصحيحين: (من أسلف في تمر فليسلف في كيل معلوم ووزن معلوم إلى أجل معلوم) [خ 2239، م 1604] وفي رواية البخاري: (من أسلف في شيء) [خ 2241] وهي لفظة عامة تدخل فيها الفواكه والبقول وغيرها. قوله [والجلود] فالجلود لا يجوز فيها السلم، لأنه يحصل فيها التفاوت، وذلك لأن أطرفها تتفاوت، فإن أطرافها ليست منضبطة كما يكون هذا القماش ونحوه، بل تكون متفاوتة. قوله [والرؤوس] أي رؤوس الحيوانات كذلك، لأنه يقع فيها التفاوت، ومذهب مالك وهو رواية عن أحمد أن هذا يجوز فيه السلم، وذلك لأن مثل هذا التفاوت في الحقيقة تفاوت معلوم لا تقع بمثله المنازعة، فهو تفاوت يسير. قوله [والأواني المختلفة الرؤوس والأوساط كالقماقم] القماقم: جمع قمقم، وهو ما يسخن به الماء، فهذا كذلك لا يجوز فيه السلم، والوجه الثاني في المذهب أنه يجوز، لأن التفاوت في الحقيقة تفاوت يسير، ولأنه يمكن أن ينضبط في الوصف. قوله [والأسطال الضيقة الرؤوس والجواهر]

فالجواهر لا يجوز فيها السلم، لأنها تختلف اختلافا ظاهرا وتتفاوت تفاوتا بينا، وذلك في شكلها وعددها وصفتها وضوئها ونحو ذلك، وعن الإمام أحمد أن السلم في الجواهر جائز، ومرجع هذا ما تقدم: فإذا أمكن ضبطها فإنه لا إشكال في جواز السلم فيها، وتدخل في عموم قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: (من أسلف فليسلف في شيء معلوم) ، ومرجع هذا إلى أهل الخبرة بالجواهر، فإذا كانت الجواهر يمكن أن تنضبط ولا يقع النزاع في السلم فيها فلا مانع منه. قوله [والحامل من الحيوان] فالحامل من الحيوان لا يجوز السلم فيه، فلا يجوز أن يقول مثلا: اشتريت منك ناقة حاملا إلى كذا بكذا، قالوا: لأن الحمل مجهول غير متحقق، فقد تلد وقد لا تلد، والرواية الثانية عن الإمام أحمد أن السلم في الحيوان الحامل جائز، وهذا هو الراجح، وذلك لأن السلم بيع، وكما جاز بيع الناقة أو الشاة أو غيرها وهي حامل مع الجهالة، فكذلك هنا، لأنه ثبت تبعا، ويثبت تبعا ما لا يثبت استقلالا، والأصل معلوم فلا عبرة بجهالة الحمل. قوله [وكل مغشوش] كاللبن المشوب، والجواهر المشوبة، ونحو ذلك، فهذا لا يجوز السلم فيه، وهذا ظاهر، فإن وجود الغش فيه يجعله غير منضبط، وليس المقصود الغش الممنوع، وإنما المقصود أنه مشوب فيه شيء، أي أن تكون العين غير خالصة، بل قد أضيف إليها شيء آخر، فهذا لا ينضبط ويقع الخلاف في مثله، لكن لو ثبت لنا أنه يخلط به غيره بطريقة ثابتة في العرف متميزة ظاهرة فحينئذ لا يقال إن هناك ما يمنع، فلو أسلم في لبن مشوب، وكان العرف يقضي بقدر ما يكون من الخلط، فإنه لا مانع حينئذ من السلم فيه للقاعدة العامة. قوله [وما يجمع أخلاطا غير متميزة كالغالية والمعاجين فلا يصح السلم فيه]

أي يجمع أخلاطا غير متميزة، والغالية: هي أخلاط الطيب، فإن هذا لا يجوز السلم فيه لعدم الانضباط، والذي يظهر أنها تكون معلومة، لأن أهل الخبرة يعرفونها إذا كانت الأخلاط على أقدار محددة معينة بحيث يتميز بعضها عن بعض، وحينئذ يجوز السلم فيها، وعلى العموم فهذا داخل تحت القاعدة العامة أنه إن أمكن ضبطها فلا مانع من السلم فيها وإلا فلا، وكذلك المعاجين كالأدوية التي تكون من المعاجين، والذي يظهر أن تلك المعاجين يعرفها أيضا أهل الخبرة، فيميزون بينها أخلاطها. قوله [ويصح في الحيوان] يصح السلم في الحيوان، وقد صح هذا عن النبي - صلى الله عليه وسلم - كأن يأخذ منه كذا وكذا من الدراهم على أن يعطيه مائة شاة أو نحوها، فهذا جائز، وقد ثبت في صحيح مسلم أن النبي - صلى الله عليه وسلم -: (استسلف من رجل بكرا) [م 1600] فهذا جائز للحديث، ولأن الحيوان مما ينضبط. قوله [والثياب المنسوجة من نوعين] إذا كانت الثياب منسوجة من نوعين فيجوز السلم فيها، كأن ينسج من القطن والكتان، فهذا جائز لأنها متميزة، ولا يظهر أن هناك فرقا بين ما تقدم المنع منع في المعاجين والغالية وبين ما يكون من هذا النسيج الذي يكون من القطن والكتان. قوله [وما خلطه غير مقصود كالجبن وخل التمر والسكنجبين ونحوها] وما خلطه غير مقصود كالجبن فإن فيه الأنفحة، وهي غير مقصودة، وكذلك خل التمر، فالتمر فيه خل، وهذا الخل غير مقصود، وكذلك السكنجبين، وهي كلمة فارسية وهي سكر فيه خل، ونحوها كالخبز وفيه ملح، فالملح في الخبز والخل في السكر والخل في التمر والأنفحة في الجبن هذه غير مقصودة فيصح السلم فيها. قوله [الثاني: ذكر الجنس والنوع] فيقول: من التمر مما نوعه كذا كالعجوة ونحوها. قوله [وكل وصف يختلف به الثمن ظاهرا] فلا بد أن يذكر له كل وصف يختلف به الثمن اختلافا ظاهرا، وليس أي اختلاف يذكر، فاليسير لا يذكر.

قوله [وحداثته وقدمه] كذلك حداثته وقدمه، فإن الحديث والقديم يتفاوت بهما الثمن تفاوتا ظاهرا. قوله [ولا يصح شرط الأردء أو الأجود] فلا يصح أن يقول: بشرط الأجود أو الأردء،قالوا: لأنه ما من جيد إلا هناك ما هو أجود منه، ومن رديء إلا هناك ما هو أردأ منه، وقال الموفق بل شرط الأردء يجوز، لأنه يمكن أن يعطيه ما هو خير منه وأجود منه، فحينئذ لا إشكال، وقال الشيخ عبد الرحمن بن سعدي إن العادة في مثل هذه الألفاظ أن مراده أجود ما يكون معروفا عندهم، أو أردأ ما يكون عندهم، وحينئذ فيحمل على العرف فلا مانع من تصحيح هذا الوصف وحمله على العرف، ولا شك أنه في التمر ما يسمى في عرفنا أجود، وكذلك أردأ، وقد تقدم أن ألفاظ المتعاقدين تحمل على العادة والعرف، فالأظهر أن مراده بالأجود والأردأ ما هو معروف عن المتعاقدين، فيكون ذلك ظاهرا، أما إن ترتب عليه منازعة أو نحو ذلك فلم يكن متميزا فإنه يمنع منه درءا للمنازعة كما سبق. قوله [بل جيد ورديء] فإذا قال: جيد، ورديء، فهذا جائز. قوله [فإن جاء بما شرط] فإن جاء بما شرط فقد أوفى بما عليه، وحينئذ فيجب على المسلم أن يقبله. قوله [أو أجود منه من نوعه] كذلك يجب عليه أن يقبله إن أتاه بما هو أفضل، إذ امتناعه عن القبول عناد ومكابرة فلا يكون مقبولا. قوله [ولو قبل في محله ولا ضرر في قبضه لزمه أخذه] فإذا أتاه به قبل الوقت المتعاقد عليه، كأن يقول إلى سنة فيأتيه به بعد ستة أشهر، فحينئذ يجب عليه القبول، لأن هذا أفضل وأولى بالقبول، لكن بقيد وهو ألا يكون في قبضه عليه ضرر، فإن كان في قبضه ضرر كأن تكون من الفاكهة أو الأطعمة التي تفسد، ولا يستطيع أن يتصرف بها إلا في الموعد المحدد، أو أن يكون في موضع يخشى على ماله فيه، أو نحو ذلك فحينئذ لا ضرر ولا ضرار فلا يلزمه القبول. قوله [الثالث: ذكر قدره بكيل أو وزن أو ذرع يعلم]

وهذا هو الشرط الثالث، ودليله قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: (من أسلم فليسلم في كيل معلوم ووزن معلوم إلى أجل معلوم) ، ولأن الوزن المجهول والكيل المجهول والذرع المجهول فيه غرر لأنه من بيوع الجهالة، وقد تقدم النهي عن بيع ما يجهل، وأن الشرط في الثمن والمثمن أن يكونا معلومين، وعليه فلو كان الوزن غير معلوم كأن يتفقا على وزن ما، أو على كيل ما، أو على ذرع ما، من غير أن يكون معلوما فلا يصح، فالشرط أن يكون معلوما أو متعارفا عليه، أي معلوم بالعرف أن المكيلات تكال بالصاع الذي قدره كذا، والموزونات توزن بالوزن الذي قدره كذا، ونحو ذلك من العرف، وهذا الشرط هو محل اتفاق بين العلماء. قوله [وإن أسلم في المكيل وزنا أو في الموزون كيلا لم يصح] فالبر مثلا يكال، فإن كان السلم فيه بالوزن أي بالكيلو مثلا أو بالطن لم يصح، وكذلك السكر مثلا فإنه يوزن، فإذا أسلم فيه بالكيل لم يصح، وكذلك المذروع، وهذا مذهب جمهور العلماء، قالوا: لأنه قد قدر بغير مقياسه الأصلي فلم يصح، فالمكيلات تكال، والموزونات توزن، والمذروعات تذرع وهنا قد اختل ذلك فلم يصح بيعها سلما، وقال الشافعية وهو رواية عن أحمد واختار ذلك الموفق ابن قدامة أن ذلك جائز، لأن المقصود هو معرفة قدره، وهذا حاصل بالوزن في المكيلات، وبالكيل في الموزونات، وبالوزن في المذروعات، وهذا القول هو الراجح. قوله [الرابع: ذكر أجل معلوم له وقع في الثمن]

هذا هو الشرط الرابع، وهو أن يذكر أجلا معلوما، لقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: (إلى أجل معلوم) ، والأجل إذا لم يكن معلوما فهو مجهول، والجهالة غرر، فلا بد وأن يكون معلوما له وقع في الثمن، فإن كان الأجل لا وقع له في الثمن كاليوم واليومين والثلاثة ونحو ذلك فلا يجوز السلم، فلو قال: أسلمك مائة دينار على أن تعطيني كذا وكذا صاعا من البر غدا أو بعد غد أو مساء فهذا لا يجوز، لأن هذا الوقت اليسير لا وقع له في الثمن، وإنما الشهر والشهران هي التي يكون لها وقع في الثمن، وهذا هو المشهور من مذهب الحنابلة، وقال الأحناف: يصح إن كان نصف يوم، وهو الراجح، وسيأتي ما يدل عليه. قوله [فلا يصح حالا] فلا يصح السلم حالا، فلو قال: أسلمك مائة دينار على أن تعطيني ألف صاع حالة غير مؤجلة، فهذا لا يجوز، قالوا: لأن السلم والسلف فيهما معنى التأجيل، فإن السلم تعجيل للثمن وتأجيل للمثمن، وهكذا معنى السلف، فإذا أسلم حالا لم يصح، وقال الشافعية وهو رواية عن أحمد يجوز، وهو وجه عند الحنابلة، وعليه فيكون بيعا، وهذا القول هو الراجح، فهو إذا لم يكن سلما لأن معنى السلم مفقود فيه فهو بيع، والأصل في البيوع الحل، وإذا ثبت هذا فإن المسألة السابقة أولى، فإذا جاز أن يكون المسلم فيه حالا غير مؤجل، فأولى منه جواز تأجيله يوما أو يومين أو ثلاثة. * وقد اختلف أهل العلم هل السلم على خلاف القياس، أي هو في الأصل محرم لكن الشريعة أباحته للحاجة أم أنه بيع من البيوع وليس مستثنى للحاجة؟ قولان لأهل العلم: 1- المشهور عند الحنابلة أنه على خلاف القياس، وأنه في الأصل ممنوع، وإنما أجازته الشريعة للحاجة، ولذا منعوا من الصورتين السابقتين لقوله - صلى الله عليه وسلم -: (لا تبع ما ليس عندك) .

2- والقول الثاني أن بيع السلم بيع من البيوع، فهو لا يخالف القياس، وأما حديث: (لا تبع ما ليس عندك) فإنه محمول على أحد احتمالين: أ- المحمل الأول: أن يكون المراد به بيع العين غير المملوكة، كأن يقول: أبيعك هذه السلعة المشار إليها بكذا وكذا، وهي غير مملوكة له. ب- المحمل الثاني: أن يبيع موصوفا في الذمة غير موثوق بتسليمه، بل يمكن أن يسلم ويمكن ألا يسلم، فهذا لا يجوز لأن من شروط البيع القدرة على التسليم. ولا شك أن الأصل في أحكام الشريعة أنها عزيمة لا رخصة، فالأصل في الأحكام أنه لا تخالف القياس، وهذا ما قرره ابن القيم في أعلام الموقعين، وهو اختيار شيخ الإسلام، فالصحيح أن السلم بيع من البيوع، ولا شك أن كثيرا من تفصيلات الفقهاء في هذا الباب مبنية على أصلهم وهو أن السلم يخالف القياس فيشترط فيه ما لا يشترط في البيع، والصحيح ما تقدم، لأن الشريعة لم تنه عن بيع الموصوف في الذمة الذي هو موثوق من تسليمه غالبا، ومن ذلك بيع السلم. قوله [ولا إلى الحصاد والجذاذ] لو قال له: أبيعك أو أسلمك أو أسلفك مائة ألف ريال الآن على أن تعطيني كذا طنا من البر إلى الحصاد أو الجذاذ أو نحو ذلك مما هو معروف عند الناس عادة فلا يصح، وهذا هو المشهور من المذهب، قالوا: لأنه يختلف، وقال المالكية وهو رواية عن الإمام أحمد أن ذلك جائز وهو القول الراجح، وذلك لأنه معلوم في العادة، والتفاوت اليسير لا يؤثر، فالتفاوت اليسير كالأيام والأسبوع لا يؤثر، والحاجة داعية إلى ذلك، وهكذا لو قال إلى أن تصرف لنا الدولة أو نحو ذلك فالمذهب أن ذلك لا يجوز، والصحيح جوازه لما تقدم. قوله [ولا إلى يوم إلا في شيء يأخذه منه كل يوم كخبز ولحم ونحوهما]

لا يجوز السلم إلى يوم لما تقدم من أن اليوم ليس له وقع في الثمن، وتقدم أن هذا القول مرجوح، واستثنى المؤلف فقال: إلا في شيء يأخذه منه كل يوم كخبز ولحم، كأن يعطي البقال مالا ويأخذ منه مدة شهر أو سنة حتى ينفد هذا المال، فهذا سلم لأنه قدم الثمن وأجل المثمن، قالوا: هذا يجوز إذا كان يأخذ منه على هيئة أقساط لأن الحاجة داعية إلى ذلك، وتقدم أن أصل هذه المسألة جائز، وإن لم يكن هذا مما يؤخذ كل يوم. قوله [الخامس: أن يوجد غالبا في محله] أي في أجله، وهذا هو الشرط الخامس، وهو أن يؤخذ غالبا في محله، فإذا اتفقا على أن يسلمه المسلم فيه - أي السلعة - إلى سنة في الشتاء، وكانت هذه السلعة لا تؤخذ في الشتاء إلا نادرا ووجودها إنما يكون في الصيف كبعض الفواكه فهذا لا يجوز، وكذا العكس، وهذا باتفاق العلماء كما حكى هذا الموفق ابن قدامة وغيره، وذلك لأنه غير مقدور على تسليمه حينئذ، ومن شروط البيع القدرة على التسليم. قوله [ومكان الوفاء] هذه اللفظ من المؤلف مراده فيها إذا باع ثمر بستان بعينه ونحوه فإن هذا لا يجوز، وذلك لأن هذا الثمر قد يتلف، فإذا قال مثلا: أسلمك مائة ألف ريال، على أن تعطيني قمح بستانك الفلاني هذه السنة، فلا يجوز هذا، وذلك لما تقدم من أنه قد يتلف فيكون في ذلك غررا، وهذا باتفاق العلماء، وعن الإمام أحمد أن ذلك جائز عند بدو الصلاح واختاره طائفة من الحنابلة وهو الراجح، لأن السلم بيع من البيوع، وبيع الثمر وقد بدا صلاحه جائز، فقد أمن الآفة غالبا، فعلى هذا إذا باعه ثمرة بستان معين سلما ففي المسألة تفصيل وقد سبق. وكلمة (مكان الوفاء) مراد المؤلف منها ما تقدم، كما بين ذلك الشارح، ولكن هذه اللفظة لا يفهم منها هذا المراد، فهذه اللفظة فيها خطأ، ولفظة (مكان الوفاء) سيأتي الكلام على المسألة المتعلقة بها. قوله [لا وقت العقد]

فلا يشترط أن يكون المسلم فيه موجودا في وقت العقد، وهذا ظاهر، والنبي - صلى الله عليه وسلم - لم يشترطه ولا معنى لاشتراطه، فمثلا الفاكهة الفلانية نضجها في الصيف، فاتفقا في الشتاء على السلم فذلك جائز، لأن هذا وقت عقد لا وقت وفاء. قوله [فإن تعذر أو بعضه فله الصبر أو فسخ الكل أو البعض ويأخذ الثمن الموجود أو عوضه] إذا تعذر المسلم فيه، كأن يعطيه عشرة آلاف درهم على أن يعطيه إلى سنة كذا وكذا صاعا من الرطب، فكان الآخر قد حصلت له آفة سماوية فلم يمكنه أن يعطيه رطبا، فحينئذ قد تعذر كله، وكذلك إذا تعذر بعضه كأن يتفقا على مائة صاع، ولم تنتج بستانه إلا خمسين صاعا، فله أن يصبر فمتى قدر المسلم إليه فإنه يعطيه حقه سواء كان هذا من هذه السنة أو من السنة الثانية، وله الفسخ أيضا، وحينئذ إما أن يكون الفسخ للكل أو للبعض، فإن كان قد أسلمه بعض الثمرة فالفسخ يكون للبعض، وإن كان لم يسلمه شيئا منها فإن الفسخ يكون للكل، فليست (أو) هنا للتخيير وإنما هي للتنويع. قوله (ويأخذ الثمن الموجود) فإذا كان الثمن موجودا فإنه يأخذه، (أو عوضه) فيأخذ عوضه إن لم يكن الثمن موجودا، فمثلا اتفقا على أن يدفع له مائة ألف ويعطيه الآخر بعد سنة كذا طنا من القمح، ثم تعذر عليه الكل، ولم يشأ المسلم الصبر وشاء الفسخ، فيقال: هل الثمن موجود، فإن كان موجودا أخذه، وإن لم يكن موجودا أخذ عوضه، فإن كان مثليا أخذ مثله، وإن كان غير مثلي أخذ قيمته، لأنه قد يكون السلم على غير الدراهم ونحوها، فقد يسلم على كذا وكذا من الشياة، فحينئذ يعطيه مثلها، وإن لم تكن مثلية فإنه يعطيه قيمتها، ويأتي إيضاح هذا في باب ضمان المتلفات. قوله [والسادس: أن يقبض الثمن تاما]

فالشرط السادس أن يقبض الثمن تاما قبل التفرق، فمثلا اتفقا على ألف ريال بكذا صاع من البر إلى سنة فلا بد أن يأخذ المسلم إليه دراهمه في المجلس قبل أن يتفرقا، وهذا هو مذهب الجمهور، قالوا: لأن السلم والسلف لا يثبت إلا بهذا، فإن السلم تسليم الثمن والسلف تقديم الثمن، فإن لم يتقدم الثمن ولم يسلم في مجلس العقد فإنه لا يكون سلما ولا سلفا، وحينئذ فالسلم والسلف مستثنى من حديث: (لا تبع ما ليس عندك) ، وقال المالكية: بل يصح، وهذا القول هو الراجح، لما تقدم، فإن السلم من أنواع البيوع، وهو إن لم تكن هنا سلما فهو بيع، فنحن إن سلمنا أنه ليس بسلم لأن السلم يقدم فيه الثمن في مجلس العقد فإنه بيع من البيوع، فإن قيل: قد نهى النبي - صلى الله عليه وسلم - عن بيع الدين بالدين، وهذا بيع الدين بالدين، فإنه إذا قال: أبيعك ألف ريال غدا أسلمها لك، على أن تعطيني كذا وكذا بعد شهر فهذا من بيع الدين بالدين، فالجواب: أن ما روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - من نهيه عن بيع الدين بالدين لا يصح، وإنما صح الإجماع على النهي عن بيع الدين بالدين في بعض صوره، وقد تقدم ذكر الصور المنهي عنها، وهنا قد ثبت الخلاف فلا إجماع، ثم إن الأصل في البيوع الحل، وهذه الصورة ليس فيها ما يفسدها، بل كل من المتعاقدين له مصلحة في شغل ذمته بما شغلها به، وليس هذا داخلا في الأصناف الربوية فيكون ربا، وعلى هذا فهو حلال. قوله [معلوما قدره ووصفه] هذا ظاهر، وقد تقدم أن من شروط البيع أن يكون الثمن معلوما، فإن كان الثمن مجهولا فهذا بيع غرر، وقد نهى الشارع عن الغرر. قوله [قبل التفرق] تقدم الكلام على هذا. قوله [وإن قبض البعض ثم افترقا بطل فيما عداه]

هذا مبني على اشتراط ثبوت القبض في مجلس العقد، فإذا لم يقبض الثمن في مجلس العقد فإن عقد السلم يكون باطلا، وإن كان قد قبض بعضه فيصح في المقابل له، ويبطل فيما عداه. قوله [وإن أسلم في جنس إلى أجلين أو عكسه صح] صورة هذه: قال أعطيك مائة ألف ريال في على أن تعطيني مائة طن من القمح، فقال الآخر: نعم بشرط أن تكون خمسين طنا في أول الحصاد، وخمسين طنا في آخر الحصاد، أو خمسين طنا في شهر كذا ونحو ذلك، فهذا جائز، وعكسه كذلك: أي كانا جنسين ولهما أجل واحد، وصورته أن يقول: أعطيك مائة ألف ريال على أن تعطيني خمسين طنا من القمح وخمسين طنا من الشعير إلى سنة، فهنا أسلف في جنسين إلى أجل واحد، وهذا جائز. قوله [إن بين كل جنس وثمنه] هذا في المسألة الثانية، وهي ما إذا كان الجنسان لهما أجل واحد، فلا بد أن يبين قدر كل جنس وأن يبين ثمنه، وقوله (بين كل جنس) هنا حذف، والتقدير: إن بين قدر كل جنس، كما تقدم في المثال السابق، لأنه إن لم يبين قدر كل جنس فإنه يقع في بيع الجهالة، فقد يكون تسعين طنا من الشعير، وعشرة أطنان من القمح، وقد يكون العكس، وهذه جهالة، وقوله (وثمنه) أي كذلك لا بد أن يبين ثمن كل جنس، فيقول: خمسين طنا من القمح بكذا، وخمسين طنا من الشعير بكذا، فإنه قد يقع فسخ كما تقدم، فقد يعجز أن يعطيه ما وعده به فيكون الفسخ حينئذ، فإذا لم يبين ثمن كل جنس وقع في الجهالة عند الفسخ. قوله [وقسط كل أجل]

هذا في المسألة الأولى، وهي إذا كان الجنس له أجلان، فإذا قال: أعطيك مائة ألف ريال على أن تعطيني مائة طن من القمح على قسمين الأول يكون شهر كذا، والقسم الثاني يكون شهر كذا، ولم يبين نصيب كل شهر من الأطنان، فهذا فيه جهالة، فقد يعطيه خمسة أطنان في الشهر الأول، ويدخر خمسة وتسعين طنا في الشهر الثاني فيقع حينئذ نزاع وجهالة، فلا بد من أن يبين فيقول مثلا: في الشهر الأول أعطيك خمسين طنا، وفي الشهر الثاني أعطيك ثلاثين أو نحو ذلك. قوله [السابع: أن يسلم في الذمة فلا يصح في عين] فلو قال: أعطيني مائة ألف ريال على أن أعطيك داري هذه إلى سنة، فهذا لا يجوز، والصحيح جوازه لأن هذا لا يعدو أن يكون بيعا من البيوع، والأصل في البيوع الحل، وإذا تلف فإن عليه عوضه، أي مثله إن كان مثليا، أو قيمته إن كان مقوما، وهو قد باع ما يملك فلا يدخل في قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: (لا تبع ما ليس عندك) . قوله [ويجب الوفاء موضع العقد] هنا مسألة: وهي أين يكون الوفاء؟ هل يأتي المسلم إليه بالسلعة إلى المسلم؟ أو يأتي المسلم إلى المسلم إليه ليأخذ السلعة؟ قال المؤلف: يجب الوفاء موضع العقد، قالوا: لأن مقتضى العقد يدل على هذا، فمقتضى العقد أن يكون محل التسليم هو محل العقد، وهذا هو المشهور من المذهب، والراجح أن مرجع ذلك إلى العرف، فإذا كان عرف الناس مثلا أن يذهب صاحب المال إلى مزرعة المسلم إليه ليأخذ الحب أو الثمر فإن الناس على عرفهم، وكذا العكس. قوله [ويصح شرطه في غيره] فيصح أن يشترط الوفاء في موضع آخر غير موضع العقد، والمسلمون على شرطهم. قوله [وإن عقد ببر أو بحر شرطاه] إذا كان العقد في البر أو في البحر فحينئذ لا بد أن يشترطا موضعا للوفاء، قالوا: لأن الموضع الذي هما فيه لا يمكن أن يوفى فيه، فلا بد من الشرط، وحيث قلنا إن المرجع إلى العرف فلا إشكال في هذا.

قوله [ولا يصح بيع المسلم فيه قبل قبضه] لا إشكال في هذا، فقد تقدم نهي النبي - صلى الله عليه وسلم - عن البيع قبل القبض، وهكذا في السلم فلا يجوز بيع المسلم فيه، فإذا قال مثلا أعطني مائة ألف ريال على أن أعطيك كذا طنا من القمح إلى سنة، ثم جاء شخص إلى المشتري بعد يوم أو يومين فقال: أنا اشتري منك الأطنان التي عندك لفلان إلى سنة، وأعطيك كذا وكذا، فهذا لا يجوز لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى عن ربح مالم يضمن، وهو لم يضمن هذا ولم يقبضه. * لكن هل يجوز بيعه إلى المسلم إليه قبل قبضه؟ كأن يقول: أعطيك مائة ألف ريال على أن تعطيني مائة صاع من البر إلى سنة، وبعد شهر أو شهرين قال المسلم إليه: أنا أريد أن تبيعني ما في ذمتي لك، فاتفقا على شيء من الثمن فذلك جائز على الصحيح، والمذهب لا يجوز، والصحيح جوازه كما تقدم في اختيار شيخ الإسلام في النهي عن بيع ما لم يقبض، وأن بيعه على بائعه جائز، فإذا باع المسلم على المسلم إليه ما أسلم فيه فهذا جائز، ما لم يكن فيه ربا كما تقدم، وبشرط ألا يربح فيه، لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى عن ربح ما لم يضمن. قوله [ولا هبته] فلا تصح الهبة، وظاهر كلام المؤلف أن هذا عام في المسلم إليه وغيره، وهذا غير صحيح، فإنه عند الحنابلة أنه إذا وهب المسلم فيه إلى المسلم إليه فذلك جائز، لأن هذا إبراء لذمته، وهذا هو الصحيح في المذهب، والمراد هنا هبته إلى غيره، لا هبته إلى المسلم إليه، وقد تقدم أن شيخ الإسلام يختار أن المنهي عنه قبل القبض هو البيع فحسب، وأما الهبة ونحوها قبل القبض فهي جائزة، وهذه المسألة تدخل فيها إذ لا غرر في ذلك. قوله [والحوالة به ولا عليه]

والحوالة به أي بالسلم، والحوالة عليه أي على المسلم فيه، مثال الصورة الأولى: رجل أخذ مائة ألف ريال على أن يدفع مائة صاع من البر إلى سنة، ثم قال لمن أعطاه المال: أنا أحيلك على فلان وأبريء ذمتي، فقالوا: هذا لا يجوز الحوالة به، وأيضا لا يجوز الحوالة عليه، ومثاله: هذا الرجل الذي دفع مائة ألف ريال على كذا طن من القمح، هناك أحد يريد منه دين، فقال: تأخذها من فلان قمحا بعد سنة، فقالوا: هذا لا يجوز، قالوا: لأن دين السلم غير مستقر، فقد يفسخ البيع، وهذا ضعيف، فإن الأصل هو عدم فسخه، والأصل هو ثبوته، وهذا القول هو رواية عن الإمام أحمد واختيار بعض الحنابلة واختار هذا الشيخ عبد الرحمن بن سعدي، فالصحيح أن الحوالة فيه جائزة، وذلك لأنه دين، فأشبه سائر الديون. قوله [ولا أخذ عوضه] فإذا قال: أعطيك مائة ألف ريال على أن تعطيني كذا طنا من القمح، فلما جاء الوقت قال: أريد أن أعتاض عنها بكذا وكذا من البر، أو قال أعتاض عنها بكذا وكذا من الدراهم، قالوا: هذا لا يجوز، وقد تقدم أنهم يجيزونه في غير هذه المسألة في الديون كما ثبت في حديث ابن عمر، أما في السلم فلا يجوز عندهم، قالوا: لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال كما في سنن أبي داود: (من أسلم في شيء فلا يصرفه إلى غيره) [د 3468، جه 2283] والحديث فيه عطية العوفي وهو ضعيف، وقال الإمام مالك بل يجوز هذا وهو رواية عن الإمام أحمد وهو اختيار شيخ الإسلام وهو الراجح، وقد تقدم أثر ابن عمر الذي روي مرفوعا وموقوفا والصواب وقفه. قوله [ولا يصح الرهن والكفيل فيه]

هذه مبنية على المسألة السابقة، فلا يصح الرهن لأنه بذلك يصرفه إلى غيره، فالفائدة من الرهن أنه إذا لم يسلمه فإنه يستوفي حقه من الرهن، وهو بذلك يكون قد صرفه إلى غيره، والكفيل فائدته أنه يضمن، فإذا لم يأت المسلم إليه بالمسلم فيه فإنه يدفع - أي الكفيل - من ماله للمسلم، فحينئذ يكون قد صرفه إلى غيره، والراجح ما تقدم من جواز العوض فيه، فيجوز الرهن والضمان والكفالة فيه كغيره من الديون. باب القرض قوله [وهو مندوب] القرض لغة: القطع، واصطلاحا: دفع مال لمن ينتفع به ويرد بدله، والقرض مندوب كما قال المؤلف، فهو مستحب من المقرض، وهو مباح من المقترض، وقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: (من كشف عن مسلم كربة من كرب الدنيا كشف الله عنه كربة من كرب يوم القيامة والله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه) [م 2699] ، وروى الإمام أحمد وابن ماجة والحديث حسن لغيره أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (إن السلف - أي القرض - يجري مجرى شطر الصدقة) [حم 3901، جه 2430] . قوله [وما يصح بيعه صح قرضه إلا بني آدم] أي إلا الرقيق عبدا كان أو أمة، فكل ما صح بيعه صح قرضه من دراهم ودنانير وبر وقمح وحيوان وغير ذلك، واستثناء العبد والأمة هو المشهور في المذهب، قالوا: لعدم النقل في هذا، والوجه الثاني في المذهب هو جواز إقراض الرقيق عبدا كان أو أمة، واختاره الموفق ابن قدامة وهو الراجح، إذ عدم نقله ليس بمؤثر لأن الأصل في المعاملات الحل، فلا يشترط فيها النقل، وكثير من المسائل التي هي في باب العقود والمعاملات لم تنقل، فلا يعني هذا أنها لا تحل، وإنما يشترط النقل في تحريمها، ومنع منه المالكية والشافعية في الأمة لئلا يكون ذلك ذريعة إلى وطئها، وأباحوه إن كان المقترض من محارمها، والراجح ما تقدم، ذلك لأنه بالقرض قد ملك هذا الرقيق عبدا كان أو أمة.

وظاهر كلام المؤلف أن المنافع لا يجوز إقراضها إذ لا يصح بيعها كما تقدم في المذهب، فالمنافع كالعمل في حصاد أو السكنى في بيت أو نحو ذلك ظاهر كلام المؤلف أنه لا يجوز إقراضها لأن بيعها لا يصح، واختار شيخ الإسلام أن إقراض المنافع جائز، كأن يقول: أحصد معك اليوم وتحصد معي غدا، أو يجذ معك رقيقي اليوم بشرط أن يجذ معي رقيقك غدا، أو يقول: أسكني دارك اليوم وأسكنك داري غدا، فهذا جائز على الراجح لأن الأصل في المعاملات الحل. قوله [ويملك بقبضه فلا يلزم رد عينه] يملك القرض بقبضه، فإذا قبضه فقد ملكه، فلا يلزمه أن يرد عين القرض، بل الذي يلزمه أن يرد مثله إن كان مثليا أو قيمته إن كان مقوما، وذلك لأنه ملك بالقبض، وهذا ظاهر لأنه إنما أقرضه ليملكه فينتفع به، وقد رضي المقرض بذلك فكانت هذه العين ملكا للمقترض يتصرف فيها كما يتصرف في سائر ملكه فلا يلزمه أن يرد عينها، فمثلا اقترض منه بكرا من الإبل، وبقي عنده هذا البكر حتى أتى الأجل الذي يقضي فيه الدين، فلا يلزم المقرض أن يقضيه هذا البكر، بل له أن يعطيه غيره. قوله [بل يثبت في ذمته حالا ولو أجله]

فبمجرد القرض يثبت البدل مثلا إن كان مثليا، أو قيمة إن كان متقوما، ويكون حالا ولو أجله، فللمقرض أن يطالبه متى شاء، وإن كان الاتفاق بينهما أنه على أجل، كأن يتعاقدا بينهما على أن يكون الوفاء بعد سنة، فللمقرض أن يطالبه قبل ذلك، وهذا هو المشهور من مذهب الحنابلة، وهو مذهب الجمهور، قالوا: لأن القرض يمنع فيه التفاضل فيمنع فيه التأجيل أيضا كالصرف، فالصرف يمنع فيه التفاضل والتأجيل فكذلك القرض، وهذه العلة ضعيفة، ولهذا ذهب المالكية إلى جواز التأجيل، وأنه يكون ملزما فلا يحق للمقرض المطالبة قبل الأجل، وهو اختيار شيخ الإسلام وتلميذه ابن القيم وذلك لأن المسلمين على شروطهم، ولأن الله أمر بالوفاء بالعهد، ولأن المقرض قد أسقط حقه برضاه بذلك الأجل فلا يحل له المطالبة به، وهذا اختيار الشيخ عبد الرحمن بن سعدي، والجواب عما ذكره أهل القول الأول أن يقال: هناك فرق بين الصرف وبين القرض من جهتين: 1- الجهة الأولى: أن الصرف بيع، فهو معاوضة، وأما القرض فهو تبرع وإحسان وإرفاق فبينهما فرق والقياس مع الفارق باطل. 2- الجهة الثانية: أنكم تجيزون عدم مطالبة المقرض للمقترض، وهذا تأجيل ولا تجوزونه في الصرف، فلو أن رجلا أعطى آخر دراهم صرفا، فلا يحل التأخير سواء اشترطاه أم لم يشترطاه، وأما هنا فإنه لو أقرضه مائة ألف فإنه يجوز له أن لا يطالبه بل يؤجل مطالبته، وهذا فرق بينهما. قوله [فإن رده المقترض لزمه قبوله] هذا ظاهر، فإذا رده المقترض كما أخذه سليما من العيب فإنه يلزمه أخذه ولا يلزمه المقرض بالبدل، فمثلا: استقرض منه حيوان، ثم من الغد أرجعه إليه، فيلزمه أن يقبله إذ لا ضرر عليه في قبوله إلا أن يكون فيه عيب فله رده، وإنما أوجبنا البدل في الذمة لأنه في الغالب يتصرف بهذا الشيء الذي استقرضه فيلزمه المثل أو القيمة على ما تقدم.

قوله [وإن كانت مكسرة أو فلوسا فمنع السلطان المعاملة بها فله القيمة وقت القرض] أي إن كانت الدراهم مكسرة أو فيها قص وتكسير ونحو ذلك، أو كان هناك فلوس فمنع السلطان منها فله القيمة وقت القرض، مثاله: رجل أقرض الآخر دراهم مكسرة - أي لا يعرف وزنها فهي دراهم مكسرة - فعند الرد يلزم برد المثل لأنها لها مثل، وكذلك إذا منع السلطان الناس من التعامل بالدراهم المكسرة فله القيمة وقت القرض، وقال بعض الحنابلة: بل يعطي قيمتها عند تحريم السلطان لها، وذلك لأن المتعلق في ذمته هو المثل، حتى منع السلطان التعامل بها فانتقل حينئذ إلى البدل وهو القيمة، فلزمته القيمة من وقت تحريم السلطان لها، وهذا القول هو الراجح. قوله [ويرد المثل في المثليات] وهذا ظاهر فالمثليات كالموزونات مثلا يجب أن يرد مثلها، كأن يأخذ مائة صاع من القمح فيرد إليه مائة صاع من القمح. قوله [والقيمة في غيرها] إذا لم يكن الشيء مثليا كبعض الجواهر فإنه يرد إليه قيمتها. قوله [فإن أعوز المثل فالقيمة إذن] أي إن تعذر المثل فالقيمة إذن، أي القيمة حينئذ أي حين الإعواز، ومثاله: كان الواجب عليه كذا وكذا من الطعام الفلاني، وكان يمكنه أن يعطيه مثله، فتعذر المثل فحينئذ تجب القيمة، فهل نقول تجب القيمة عند وقت القرض كالمسألة السابقة، أو نقول: تجب القيمة عند وقت الإعواز والتعذر؟ قالوا: عند التعذر، وذلك لما تقدم فالقيمة إنما وجبت في ذمته عندما تعذر مثلها، وأما وقت القرض فكان المتعلق بذمته هو المثل نفسه، فيكون المؤلف قد فرق بين المسألتين من غير ما فرق مؤثر، والفارق بين هاتين المسألتين أن المسألة الأولى: قالوا: الدراهم والفلوس تتغير تغيرا سريعا وتختلف اختلافا كبيرا في الزمن، وهذا في الحقيقة ليس بمؤثر، فإنه يمكننا أن نضبط قيمتها في اليوم الذي تعذر فيه، وهو تحريم السلطان لها. قوله [ويحرم كل شرط جر نفعا]

فكل شرط جر نفعا فهو حرام، وروى الحارث بن أبي أسامة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (كل قرض جر نفعا فهو ربا) والحديث إسناده ضعيف جدا، لكن له شواهد من أقوال الصحابة، فقد روى البخاري معلقا عن عبد الله بن سلام أنه قال لأبي بردة:" إنك بأرض الربا بها فاش، فإذا كان لك على رجل حق فأهدى إليك حمل تبن أو حمل شعير أو حمل قت فلا تأخذه فإنه ربا " [خ 3814] فهذه هدية مالية فكان ذلك ربا، ونحوه في المنع من الهدية عن ابن عباس عند البيهقي بإسناد صحيح، وأما رفع ذلك فلا يصح. وقد اتفق العلماء على القول به، وأن كل قرض جر نفعا فهو ربا، كأن يقول له: أقرضك مائة ألف ريال إلى سنة على أن تسكني دارك أو على أن تعمل لي أو نحو ذلك فهذا لا يجوز. قوله [وإن بدأ به بلا شرط...... جاز] مثاله: اقترض رجل من آخر مائة ألف ريال، فلما أتى وقت الوفاء أعطاه زيادة على ذلك عشرة آلاف ريال فهذا جائز، فإذا أعطاه مع الوفاء أو بعده فهذا جائز إذا لم يكن هناك مواطأة بينهما، وقد ثبت في مسلم: (أن النبي - صلى الله عليه وسلم - استسلف من رجل بكرا، فلما جاءت إبل الصدقة أمر أبا رافع أن يقضي الرجل بكره، فقال للنبي - صلى الله عليه وسلم - لم أجد إلا خيارا رباعيا، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - أعطه إياه فإن خير الناس أحسنهم قضاء) [م 1600] فهذا مع الوفاء فهو جائز، وقد اتفق أهل العلم على جوازه، والسنة تدل عليه. قوله [أو أعطاه أجود] كما تقدم في حديث أبي رافع. قوله [أو هدية بعد الوفاء جاز] أي أهدى إليه هدية بعد الوفاء فهذا كله جائز، وأما الهدية قبل الوفاء فلا تجوز للحديث المتقدم، وتقدم أثر عبد الله بن سلام. قوله [وإن تبرع لمقرضه قبل وفائه بشيء لم تجر عادته به لم يجز إلا أن ينوي مكافأته أو احتسابه من دينه]

إذا تبرع لمقرضه قبل وفائه بشيء فهذا لا يجوز إلا أن تكون قد جرت العادة بينهما بمثل هذا، فإذا كان بينهما تهاد من قبل فاقترض أحدهما من الآخر شيئا وأهداه هدية فهذا جائز، لأن جريان العادة بينهما بذلك قرينة ظاهرة على أنه لم يرد مجازاته على قرضه، وإنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امريء ما نوى، أما إذا لم تجر العادة بينهما بذلك فلا يحل للمقرض أن يقبل منه الهدية، لكن إذا نوى أن يكافئه عليها فهذا جائز، لأن هذا القرض لم يجر نفعا زائدا، بل جر نفعا مقابلا بنفع آخر، ويجوز أن يقبل الهدية في حالة أخرى وهي ما إذا نوى احتسابه من دينه، أي ينوي أن ينقص الهدية من الدين، فهذا جائز. قوله [وإن أقرضه أثمانا فطالبه ببلد آخر لزمه] مثاله: إذا أقرض زيد عمروا مائة ألف ريال في بلدة - وتقدم أن مكان الوفاء هو مكان العقد في السلم وأن الراجح أن ذلك راجع إلى العرف - فهنا إذا أقرضه أثمانا فطالبه ببلد آخر لزمه، لأنه لا ضرر عليه بدفعها، وهو واجب عليه. قوله [وفيما لحمله مؤونة قيمته إن لم تكن ببلد القرض أنقص]

هذه الأثمان التي تقدم ذكرها لا تحتاج في حملها إلى مؤونة، لكن لو كانت أشياء تحتاج في حملها إلى مؤونة كأن يكون قد أقرضه طعاما أو حيوانا أو نحو ذلك ثم طالبه به في بلد آخر فقال هنا: الواجب عليه القيمة، وذلك لأن نقل الطعام أو الحيوان إلى هذه البلد الأخرى تحتاج إلى مؤونة فلم يلزم ذلك، وإنما يلزم بالقيمة، لأن القيمة لا ضرر بها، والقيمة مرجعها إلى البلد الذي يجب عليه أن يقضيه فيها، فمثلا أقرضه حيوانا وطالبه في الخارج، وكان قد استدان منه الحيوان في الداخل، والحيوان هنا يساوي خمسمائة ريال، وفي الخارج يساوي ألف ريال، فإنه يعطيه قيمته هناك، وإن كان لا شك أن الأصلح له أن يقبل ويعطيه إياه مثليا، ولذا قال المؤلف: إن لم تكن ببلد القرض أنقص، فإن كانت ببلد القرض أنقص فإنه يلزمه، مثلا: كانت تساوي في بلد القرض خمسمائة ريال، وتساوي في البلد الآخر أربعمائة ريال، فإنه حينئذ لا ضرر عليه بل له نفع أن يعطيه إياها كذلك، وذلك لأنها ببلد القرض أنقص، كذا قال المؤلف، والعبارة الصحيحة كما قال الشارح (أكثر) ، وعلى هذا فإذا كان القرض أثمانا فطالبه بها في بلد آخر فإنه يلزمه أن يعطيه إياها، إذ لا ضرر عليه في ذلك، وأما إن كان غير أثمان وفي حملها مؤونة فلا تخلو من حالين: الأولى: أن يكون ثمنها في بلد القرض أكثر فحينئذ يلزمه أن يدفع المثل، إذ لا ضرر عليه في ذلك بل فيه نفع له. الثانية: أن يكون ثمنها في بلد القرض مساويا أو أنقص فحينئذ لا يلزمه ذلك، بل الذي يلزمه أن يدفع القيمة. * مسألة السفتجة.

السفتجة هي لفظة أعجمية، وصورة المسألة: أن يعطي الرجل الآخر مالا في هذه البلدة، ويأخذ من وكيله ما يقابله في بلد آخر، مثلا: يقول أنا أريد السفر إلى العراق، وفي العراق وكيل لصاحبه، وهذا لما كانت الطرق غير آمنة ويخشى على المال، فيقول لصاحبه: أنا أعطيك ألف وتكتب لي ورقة إلى وكيلك هناك فيعطيني مائة ألف، فما حكم ذلك؟ 1- منع الجمهور من هذه المعاملة لوجود النفع، وقد تقدم أن كل قرض جر نفعا فهو ربا. 2- وذهب الحنابلة وهو اختيار شيخ الإسلام إلى جواز ذلك، وذلك لأن هذا القرض لم يجر نفعا ماديا، بل هو نفع غير مادي، فلكل منهما مصلحة، وليس هذا النفع جنس الهدايا ونحوها التي ورد النهي عنها. ** مسألة: " ضع وتعجل "، وهي أن يقول الرجل لمن له عليه دين، ضع عني شيئا من الدين وخذا لمال الآن، فمثلا: الأجل كان إلى سنة، والمال عشرة آلاف ريال، فيقول ضع عني ألفا وخذ تسعة آلاف الآن قبل أوانها، أو العكس بأن يقول المقرض أعطني تسعة آلاف الآن وأسقط عنك الباقي، فهذه المسألة اختلف العلماء فيها: 1- جمهور العلماء من الحنابلة والشافعية والمالكية والأحناف منعوا مثل هذه المعاملة.

2- عن الإمام أحمد وهو اختيار شيخ الإسلام وتلميذه ابن القيم أن هذا جائز، وحكاه شيخ الإسلام قولا في مذهب الحنابلة، ولا يصح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - حديث لا في المنع ولا في الإجازة، وأما ما روى عن النبي - صلى الله عليه وسلم - من قوله للمقداد: (أكلت الربا يا مقداد وأطعمته) [هق 6 / 28] وما روي عنه في قوله لبني النظير: (ضعوا وتعجلوا) [هق 6 / 28، طس 1 / 338 برقم 821، قط 3 / 46] والخبران رواهما البيهقي وكلاهما لا يصح عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، وأقوال الصحابة فيها متعارضة فعن ابن عمر المنع كما في سنن البيهقي [هق 6 / 28] وعن ابن عباس الجواز كما في سنن البيهقي أيضا [هق 6 / 28] والإسناد إليهما صحيح. وحجة الجمهور أن هذا النقص يقابل الأجل، قالوا: فأشبه الربا، فالربا الزيادة في مقابل الأجل، وكذلك هنا النقصان في مقابل الأجل، وأما حجة أهل القول الثاني فهي أن الأصل في المعاملات الحل، وهذه معاملة فتكون مباحة، قالوا: وأما قولهم إن النقصان هنا يقابل الأجل فأشبه الربا وذلك لأن الربا زيادة في مقابل الأجل فضعيف جدا، وذلك لأن الربا زيادة واستغلال وأكل للمال بالباطل، وأما مسألة ضع وتعجل فإن فيها إرفاقا وإبراء للذمة ومصلحة أيضا، وهي نقصان المال المطلوب لا وليس زيادته، والربا زيادة فيكون هذا من باب إعطاء حكم الشيء لنقيضه، فقد أعطوا حكم الربا لنقضيه، والصحيح ما اختاره شيخ الإسلام وهو رواية عن الإمام أحمد وعليه عمل الناس اليوم. باب الرهن الرهن لغة: الدوام والثبوت. وفي الاصطلاح عند فقهاء الحنابلة: توثيق دين بعين، هذا هو تعريفهم، وسيأتي بيانه، وقد دل الكتاب والسنة والإجماع، قال الله تعالى {فرهان مقبوضة} ، وفي البخاري وغيره أن النبي - صلى الله عليه وسلم - اشترى من يهودي طعاما ورهن درعه عنده [خ 2916، م 1603] وقد أجمع العلماء على جواز الرهن.

والحكمة منه توثيق الدين، فكما أن الدين يوثق بالشهود طمأنينة لقلب الدائن وحفاظا على حقه فكذلك يوثق بالرهن. إذا علم هذا فليعلم أن ما تقدم من تعريف الحنابلة للرهن فيه نظر، فإن الحنابلة لا يرون الرهن إلا بالعين، ولذا قال المؤلف: قوله [يصح في كل عين] أما إذا كان الرهن دينا أو منفعة فلا يصح، وهذا هو المشهور من المذهب، فلا بد أن يكون عينا، كأن يقول: أقرضني مائة ألف ريال وأضع عندك داري أو أرضي رهنا، فإذا أتى وقت الوفاء وتعذر الوفاء فإن الرهن يباع، ويستوفى حقه منه. فلا بد أن يكون عينا كما هو المشهور من المذهب، قالوا: لأن المقصود منه استيفاء حق المرتهن ببيعه إن تعذر الوفاء، وعليه فإذا كان دينا أو نحوه فإن ذلك لا يجوز، والقول الثاني وهو اختيار الشيخ عبد الرحمن بن سعدي أن كل ما يحصل به التوثيق يصح أن يكون رهنا، سواء أكان ذلك عينا أو دينا أو منفعة، لأن المقصود هو التوثيق، ويحصل التوثيق بالدين والمنفعة. ولذا قال بعض الحنابلة - وهو خلاف المشهور من المذهب - يجوز أن يكون الرهن دينا على المرتهن للراهن، مثال ذلك: إذا كان لزيد على عمرو مائة صاع من البر إلى سنة، فأراد زيد أن يستدين منه، فيقول زيد لعمرو مثلا: أستدين منك مائة ألف ريال على أن يكون الذي عليك رهنا.

واختار الشيخ السعدي جوازه في عامة الديون التي في الذمم، فلو قال: أرهنك الدين الذي لي في ذمة فلان، وهذه الأوراق التي تثبته، ويكتب له بذلك، فإن هذا صحيح لحصول التوثيق به، كذلك لو كان منفعة كأن يقول أنا قد استأجرت هذه الأرض الزراعية مدة خمس سنوات، فهي الآن في يدك، فأجرها على من شئت واحفظ المال الذي ينتج من إجارتها رهنا للدين الذي علي، فهذا يصح، وقاعدة المذهب أن الرهن من باب المعاوضات فعليه لا يصح رهن إلا ما يجوز بيعه، وعلى القول المتقدم وهو اختيار الشيخ السعدي أن الرهن ليس من باب المعاوضات بل هو من باب التوثيقات، وباب التوثيقات أوسع من باب المعاوضات، فالمقصود منه التوثيق وليس بيعا، وستأتي بعض المسائل التي يرجحها الحنابلة ويصححون الرهن فيها، مع أن البيع لا يصح فيها، كرهن الثمر قبل بدو صلاحه، فإنه لا يجوز بيعه، لكنهم يصححون رهنه. قوله [يجوز بيعها حتى المكاتب] فالمكاتب يجوز أن يكون رهنا، وصورة الرهن فيه، أن يكون ما يأتي به من أقساط شهرية يدفعها للمرتهن، ويبقى عقد الكتابة على ما هو عليه، فيعمل ليحرر نفسه، فإذا أمكنه أن يحرر نفسه كانت هذه الأقساط المجموعة رهنا عند المرتهن، وإن لم يمكنه فيبقى هو رهن أيضا لأنه يجوز بيعه، وما جاز بيعه جاز رهنه، وعلى القول المتقدم وهو الراجح فإن هذا ظاهر لحصول الثقة بذلك عند المرتهن، والقول الثاني في المذهب أن المكاتب لا يصح رهنه، وذلك لأن مقتضى الكتابة أن يكون حرا بعمله، فهو يذهب إلى أي موضع شاء للعمل، ومن شروط الرهن عند الحنابلة استدامة القبض، ولا شك أن بقاء المكاتب عند المرتهن يخالف مقتضى عقد الكتابة، والصحيح ما سيأتي من ترجيح أن استدامة القبض ليس بشرط، وعليه فلا مانع من أن يكون المكاتب رهنا، ويعمل كيف شاء. قوله [مع الحق وبعده] قوله (مع الحق) كأن يقول أقرضني مائة ألف وأضع بيتي رهنا عندك.

وقوله (بعده) أي بعد أن يتفقا على البيع وهما يكتبان الدين يقول: بشرط أن تكون دارك رهنا عندي، فهذا جائز لعموم قول الله تعالى {فإن لم تجدوا كاتبا فرهان مقبوضة} ولحصول المقصود من الرهن، وظاهر كلام المؤلف أن الرهن قبل الحق لا يصح، وصورته لو قال: أضع عندك داري رهنا على أن تقرضني بعد شهر كذا وكذا من الدراهم، فالمشهور من المذهب أن هذا لا يجوز، وعللوا ذلك بأن الرهن لاحق للحق، وهنا كان الرهن سابقا له، فالرهن المقصود منه توثيق الحق، فالحق سابق، وهذه علة ضعيفة، وذلك لأن التوثيق حاصل وإن كان الرهن مدفوعا قبل الحق، والأمور مع عللها، فالعلة من الرهن التوثيق، وهي حاصلة سواء أكان الرهن قبل الحق أو معه أو بعده، وهذا هو مذهب أبي حنيفة ومالك واختيار أبي الخطاب من الحنابلة، فالصحيح أن الرهن قبل الحق صحيح، فإن استقرض منه وإلا فإنه أخذ حقه، ولا دليل يدل على المنع والأصل في المعاملات الحل. [قلت: إلا أنه إن رهنه قبل الحق لم يكن واجبا، إلا مع ثبوت الحق –والله أعلم-] . قوله [بدين ثابت] أي دين مستقر، أما إذا كان الدين عرضة للزوال فلا يصح الرهن فيه، والديون نوعان: 1- دين مستقر: كأن يقول أقرضني مائة ألف، أو بعني هذه السلعة بعشرة آلاف إلى سنة. 2- دين غير مستقر: كدين الكتابة، فإنه يمكن للمكاتب أن يعود إلى سيده ويقول أريد أن أقطع الكتابة وأعود عبدا، ويمكن أن يعجز المكاتب عن سداد دين الكتابة، فهو دين غير مستقر.

قالوا: فالرهن إنما يصح في الدين المستقر، فليس للسيد أن يقول لعبده أكاتبك على أن ترهنني كذا وكذا، كما أن العبد المكاتب إذا وضع عند سيده رهنا فهذا الرهن ليس بمعتبر لأنه في غير موضعه، وهذا فيه نظر، والأظهر جواز الرهن، لأن المقصود منه توثيق الدين بهذا الرهن للمرتهن، وحينئذ فلا مانع من جوازه والأصل في المعاملات الحل، فلا مانع أن يضع على الدين غير المستقر رهنا، ومتى ما سقط هذا الدين فإن الرهن يبطل، فإذا عجز المكاتب عن الكتابة فإنه يعود قنا، فإن كان المال للعبد كان لسيده، وإن كان ليس للعبد بل هو عارية أو نحو ذلك فإنها ترجع إلى صاحبها، ولا يترتب على هذا أي شيء، والرهن المتقدم حصل فيه توثيق للدين، وهذا هو القول الثاني في المذهب. قوله [ويلزم في حق الراهن فقط] فالرهن يلزم في حق الراهن، فهو عقد لازم في حق الراهن، وعقد جائز في حق المرتهن، فالمرتهن هو صاحب الدين، فله أن يسقط الرهن لأنه حق له. قوله [ويصح رهن المشاع] كأن يكون لرجلين أرض يشتركان فيها اشتراكا مشاعا لكل واحد منهما النصف، فله أن يرهن نصيبه أو بعضه، وذلك لأن البيع جائز فالرهن جائز، وحيث قلنا إن الرهن توثيق وليس بمعاوضة فذلك أولى بالجواز. قوله [ويجوز رهن المبيع غير المكيل والموزون على ثمنه] هنا مسألتان: الأولى: رهن المبيع على ثمنه، فهذا جائز لعمومات الأدلة، فلو قال زيد لعمرو: أشتري منك هذه الدار بمائة ألف ريال مقسطة وتكون هذه الدار رهنا عندك، فمتى ما قضيت حقك أخذتها، وإن لم أعطك حقك فلك أن تبيعها وتأخذ حقك منها، فهذا جائز لعمومات الأدلة.

الثانية: أن رهن المبيع غير المكيل والموزون جائز قبل قبضه، مثاله: رجل اشترى سيارة، وقبل قبضها رهنها، فهذا جائز على المذهب، وكذلك لو اشترى أرضا ورهنها قبل قبضها فهذا جائز، لكن إن اشترى مكيلا أو موزونا أو معدودا أو مذروعا فإنه ليس له أن يرهنه حتى يقبضه، وذلك للقاعدة المتقدمة وهي أن ما جاز بيعه جاز رهنه، ولا يجوز بيع المكيل والموزون ونحوهما قبل قبضها ولو على البائع في المشهور من المذهب، واختار شيخ الإسلام أن الرهن جائز في كل مبيع قبض أو لم يقبض، وقد تقدم هذا عند نهي النبي - صلى الله عليه وسلم - عن بيع ما لم يقبض، وأن شيخ الإسلام يرى أن سائر العقود سوى البيع لا يشترط فيها القبض، ومن ذلك الرهن فإنه يجوز فيما لم يقبض، ومثاله: اشترى زيد من عمرو دارا، ولما يقبضها بعد، ثم رهنها، فهذا جائز، وذلك لحصول المقصود فإن التوثيق حاصل كما تقدم في كلام الشيخ السعدي. قوله [وما لا يجوز بيعه لا يصح رهنه] وهذا ظاهر لأنه لا يحصل به الثقة، فما دام لا يجوز بيعه كالموقوف فإنه لا يصح بيعه فلا يصح رهنه، ولا فائدة من رهنه لأن بيعه لا يمكن فلا يحصل به الثقة، وهذه القاعدة قاعدة أغلبية، وقد تقدم بعض الاستثناء فيها، ولكن متى حصلت الثقة فيما لا يجوز بيعه فإنه يجوز رهنه، فلو حصلت الثقة في بعض الديون أو المنافع - على القول بعدم جواز بيعها وقد تقدم اختيار شيخ الإسلام من جواز بيعها - فإنه يصح رهنها. قوله [إلا الثمرة والزرع الأخضر قبل بدو صلاحهما بدون شرط القطع] تقدم أن الثمار لا يجوز بيعها قبل بدو صلاحها، وأن الحب لا يجوز بيعه قبل اشتداد حبه، فهل يجوز أن يرهن ذلك أم لا؟

على القاعدة المتقدمة لا يجوز، لأنه لا يجوز بيعها، وقال الحنابلة هنا بل يجوز، وخالفوا قاعدتهم المتقدمة، قالوا: لأن النهي عن البيع قبل بدو الصلاح إنما هو خشية الآفة، وهنا في باب الرهن لو تطرقت إليه الآفة فلا ضرر على المرتهن لأن الحق ثابت بغير الرهن، فالدين ثابت في الذمة، والرهن لا يزيد عن كونه توثيقا للدين، وعلى قاعدتهم المتقدمة فإن هذا ضعيف، ولذا فإن مذهب الشافعية أن ذلك لا يجوز جريا على القاعدة المتقدمة، وأما على أصل المسألة الذي تقدم ترجيحه وهو أن المقصود من الرهن هو التوثيق فإن ذلك جائز، لأن المقصود هو التوثيق، وكون الآفة تصيب الزرع هذا قليل والأصل السلامة، فتحصل المنفعة بالثمر قبل بدو صلاحه وبالزرع قبل اشتداد حبه، ولو حصلت الآفة فالدين باق في الذمة، وعلى هذا فما ذهب إليه الحنابلة راجح هنا على القاعدة المتقدمة من أن باب التوثيقات أوسع من باب المعاوضات. وقال هنا (بدون شرط القطع) أما إذا اشترط القطع فجوزاه ظاهر لأنه يجوز بيعه، فيجوز رهنه، فلا إشكال في هذه المسألة. قوله [ولا يلزم الرهن إلا بالقبض] بيان ذلك: تبايع زيد وعمرو على شيء بثمن يكون دينا في ذمة عمرو، فرهنه شيئا، فهل يلزم الرهن بمجرد العقد أم لا يلزم حتى يقبضه؟ 1- قال الحنابلة وهو مذهب الجمهور لا يلزم إلا بالقبض، فلعمرو أن يتراجع عن هذا الرهن لأنه لم يقبض بعد، قالوا: لأن الله عز وجل قال {فرهان مقبوضة} فوصف الرهان بأنها مقبوضة بحيث لو لم تكن مقبوضة فلا تكون رهنا، قالوا: ولأن الرهن تبرع من الراهن فيصح الرجوع فيه قبل القبض.

2- وقال المالكية بل يلزم الرهن بمجرد العقد، واستدلوا على ذلك بقول الله تعالى {يا أيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود} وبقوله {وأوفوا بالعهد إن العهد كان مسؤولا} ، وهذا قد حصل من عهد وشرط والمسلمون على شروطهم، وأجابوا عن دليل القول الأول أن قوله {فرهان مقبوضة} أن هذا من الله عز وجل لبيان أتم الرهن وأكمله حفاظا على حق الدائن، ويدل لهذا أن قوله {واستشهدوا شهيدين من رجالكم فإن لم يكونا رجلين فرجل وامرأتان ممن ترضون من الشهداء} فهذه الآية قد أمر الله فيها باستشهاد رجلين، فإن لم يكونا رجلين فرجل وامرأتان، وقد اتفق العلماء على أنه لو استشهد رجلا وامرأتين فإن هذا جائز وإن أمكنه أن يشهد رجلين، فهذا من باب حفظ الحقوق، وليس في الآية أن الرهن غير المقبوض يجوز قطعه، وكيف هذا وقد أمر الله عز وجل بالوفاء بالعهد، والشريعة تسد باب الغدر، وأما ما ذكروه من أنه تبرع فيقال: هذا فيه نظر ظاهر بل هو توثيق للدين وشرط، والمسلمون على شروطهم، فليست القضية تبرعا كالهبة ونحوها بل هو توثيق، وهذا القول هو اختيار الشيخ السعدي وطائفة من أصحاب الإمام أحمد، وهو القول الراجح، ثم إن القول الأول يترتب عليه مع الشرط الذي بعده تعطيل كثير من مصالح الناس. قوله [واستدامته شرط] استدامته بأن يبقى بيد المرتهن، فهذا شرط، فإن قيل: أليس شرط القبض يكفي؟

فالجواب: لا، فإنه قد يقبضه إياها ثم يرجعها إليه ليتصرف فيها، كأن يقول المرتهن للراهن خذ مزرعتك فتصرف بها، فهذا لا يصح في المشهور من المذهب، وعليه فلا يلزم حينئذ الرهن، فإذا قبضه ثم أعطاه إياه، وقال اتركه عندك فحينئذ لا يبقى الرهن لازما للراهن، فللراهن أن يرجع عن رهنه كما تقدم، وذهب الشافعية أن استدامته ليس بشرط، لأن القبض قد حصل، لقوله تعالى {فرهان مقبوضة} والشافعية ممن يشترط القبض، وعلى القول بأن القبض ليس بشرط وهو الراجح، فأولى من ذلك الاستدامة، فإن الاستدامة قبض مستمر، فإذا لم يشترط القبض في الابتداء، لم يشترط في أثنائه ولا انتهائه، وقد تقدم الدليل على ذلك، فالصحيح أن الاستدامة ليست بشرط، ويقال إن التوثيق حاصل فيصح الرهن، ولأن مصلحة الناس لا تتم إلا بهذا، فإذا قيل يرهنه ويبقى عند المرتهن فهذا يضيع مصالح كثيرة، فتتعطل المزرعة لأنها بيد المرتهن، وسيأتي مزيد بيان عند قول المؤلف (وللمرتهن أن يركب ما يركب ويحلب ما يحلب بقدر نفقته بلا إذن) . قوله [فإن أخرجه إلى الراهن باختياره زال لزومه] بمعنى قبض المرتهن الرهن، ثم أعطاه للراهن، فقال له مثلا: أبق الرهن عندك، فهو لم يتخلى عن حقه في الرهن، بل أبقاه عند الراهن، إما على سبيل الإعارة أو الأجرة أو نحو ذلك، فهنا لا يلزم الراهن بالرهن، بل له أن يتراجع عن الرهن. قوله [فإن رده إليه عاد لزومه إليه] فإذا رده الراهن إلى المرتهن كأن يستعيره ثم يعيده، فإنه يعود اللزوم إليه، وهذا مبني على القول الذي ذكروه من اشتراط الاستدامة، والصحيح عدم ذلك، وأنه باق حتى لو كان بيده أصلا. قوله [ولا ينفذ تصرف واحد منهما فيه بغير إذن الآخر]

لا ينفذ تصرف أحد منهما - أي الراهن والمرتهن - فيه - أي في الرهن - بغير إذن الآخر، أما الراهن فلأن في تصرفه في الرهن تفويتا لحق المرتهن، فإن المرتهن قد تعلق حقه بهذا الرهن، فإذا تعذر الوفاء باع هذا الرهن وأخذ حقه كما سيأتي تقريره، وكذلك ليس للمرتهن أن يتصرف في الرهن كأن يبيعه أو يهبه أو يوثقه أو نحو ذلك من التصرفات، وذلك لأنه ليس ملكا له، ومن شروط التصرف الملك. وهذا كله يستثنى منه ما إذا أذن أحدهما للآخر، فإذا ثبت الإذن فذلك جائز من الطرفين، فإذا أذن الراهن للمرتهن بالبيع فذلك جائز، وكذلك إذا أذن المرتهن للراهن، فإذا أذن الراهن للمرتهن بالبيع فهذه وكالة في البيع. * وهل للراهن أن ينتفع بالرهن أم لا؟ مثاله: رهن زيد عند عمرو داره على دين اقترضه، فهل للراهن أن ينتفع بهذه الدار بأن يسكنها أو يؤجرها أو يعيرها أو غير ذلك من الانتفاعات؟ 1- القول الأول وهو المشهور من المذهب أن ذلك لا يجوز، فليس للراهن أن يسكن الدار المرهونة ولا أن يؤجرها ولا غير ذلك، قالوا: لتعلق حق المرتهن بها. 2- وذهب الشافعية إلى جواز سائر الانتفاعات التي لا تضر بالعين، كالسكنى للدار، والركوب للدابة، وعللوا قولهم بأن حق المرتهن إنما هو متعلق بالعين لا بالمنفعة، وحيث انتفع بالعين على وجه لا يضر بها فإن هذا غير ممنوع، كيف والشريعة قد نهت عن إضاعة المال، وفي تعطيلها إضاعة للمال، وهذا القول هو الراجح، ولا دليل على المنع. قال الحنابلة: ولا يمنع الراهن من مراعاة المرهون بإصلاحه وسقي أو ترميم أو مداواة أو غير ذلك، فعندما يمنع من الانتفاع بداره المرهونة فإنه لا يمنع من القيام بمصالحها، وهذا لا إشكال في جوازه، وعلل الحنابلة لذلك بأن فيه مصلحة للرهن وللراهن، وليس فيه ضرر على المرتهن، بل فيه منفعة له أيضا، فإنه بذلك تبقى العين صالحة. قوله [إلا عتق الراهن فإنه يصح مع الإثم]

إذا اشترى زيد من عمرو طعاما، ووضع رقيقه رهنا عنده، فهل للراهن أن يعتقه أم لا؟ وإن أعتقه فهل يعتق وينفذ التصرف أم لا؟ قال الحنابلة لا يجوز له أن يعتقه، لذا قال المؤلف هنا (مع الإثم) ، لأن ذلك تصرف في المرهون، وقد تقدم عدم جواز تصرف الراهن في المرهون، لكن هل ينفذ تصرفه بالعتق أم لا؟ قال الحنابلة في المشهور عندهم ينفذ تصرفه، وذلك لتشوف الشارع إلى العتق ولسراية العتق. وعن الإمام أحمد وهو قول في مذهب الشافعي وهو قول للشافعي وهو مذهب عطاء بن أبي رباح وهو اختيار شيخ الإسلام أن ذلك لا ينفذ سواء كان المعتق موسرا أو معسرا، وذلك لأن هذا ممنوع ومنهي عنه، والنهي يقتضي الفساد، قالوا: ولأنه متعلق به حق الغير، ففارق المسألة التي أثبت الشارع العتق تشوفا أو سراية، وهذا القول هو الراجح. قوله [وتؤخذ قيمته رهنا مكانه] على القول بنفوذ العتق فإن هذا الرقيق يقوم ثم توضع قيمته عند المرتهن حفاظا لحقه، فتكون رهنا مكانه، وهذا فيه ما فيه، فإنه قد يكون معسرا فيعجز عن إعطاء القيمة، وقد يكون موسرا مماطلا فيفوت على صاحب الحق حقه. قوله [ونماء الرهن وكسبه وأرش الجناية عليه ملحق به]

إذا وضع عنده رهنا فنما هذا الرهن، كأن يضع عنده شجرا فتثمر أو دوابا فتلد أو رقيقا فيسمن ويتعلم الكتابة مثلا أو نحو ذلك، أو أن يضع عنده عبد يتكسب، وقد تكون هناك جناية على العبد وفيها أرش، فقال المؤلف هنا (نماء الرهن) سواء أكان متصلا أم منفصلا، فالمتصل كالسمن في الدابة، والمنفصل كالثمر والولد، فهذه الأشياء ملحقة بالرهن فتكون رهنا عند المرتهن، وهذا هو المشهور من المذهب، قالوا: لأن النماء يتبع أصله في الحقوق، والأصل مرهون فيكون النماء مرهونا، وقال الشافعية وهو قول في مذهب الإمام أحمد أن النماء المتصل يتبع الأصل، أما النماء المنفصل فلا، فالثمر والولد والكسب وأرش الجناية كل هذه لا تتبع الأصل، قالوا: لأن الرهن متعلق بالأصل فلا يسري هذا إلى غيره، والأصل هو براءة مال المسلم من أن يتعلق به حق غيره، وهذا القول هو الراجح، فإن هذا المرتهن لا حق له فيما يكون من النتاج ونحوه، بل حقه متعلق بالعين نفسها، وعلى دليل على سراية ذلك إلى كل النماء. قوله [ومؤنته على الراهن] المؤنة وهي النفقة التي يحتاج إليها الرهن، فما يحتاج إليه الرهن من نفقة ونحو ذلك فإن ذلك يجب على الراهن، فما تحتاج إليه الدواب من طعام أو موضع توضع فيه، وما تحتاج إليه من أجرة راع، وما تحتاج إليه الدار من عناية ونحو ذلك، كل هذا واجب على الراهن، ويدل لهذا قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: (لا يغلق الرهن من صاحبه الذي رهنه له غنمه وعليه غرمه) رواه الدراقطني والحاكم وصححه [جه 2441 مختصرا بلفظ (لا يغلق الرهن) ، سنن الدارقطني 3 / 32] والشاهد قوله (وعليه غرمه) ، ومؤنة النفقة غرم فتكون واجبة على الراهن، ولأن هذا إنفاق، والإنفاق إنما يجب على المالك، والمالك هو الراهن. قوله [وكفنه وأجرة مخزنه]

إذا احتاج إلى مخزن أو إلى حارس أو نحو ذلك فهذا كله يجب على الراهن، لما تقدم، هذا ما لم يكن هناك شرط، فإذا وجد هناك شرط فالمسلمون على شروطهم، فإذا قال: أضع هذا رهنا عندك لكن عليك أن تقوم بنفقته وكانت النفقة معلومة وليس فيها غرر فهذا جائز، لأن المسلمون على شروطهم. قوله [وهو أمانة في يد المرتهن إن تلف من غير تعد منه فلا شيء عليه] الرهن عند المرتهن من باب الأمانات، والأمين لا يضمن إلا بالتعدي أو التفريط، وكونه في حكم الأمانة عنده ظاهر، ويدل عليه ما تقدم من قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: (له غنمه وعليه غرمه) فدل هذا على أنه كالوديعة، لكن إن تعدى أو فرط فعليه الضمان، فإذا استخدمه بغير إذن أو فرط في حفظه وصيانته ولم يضعه في حرز مثله، فإنه يضمن لأن الأمين يضمن عند التعدي أو التفريط، فلو رهن عنده تمرا لم يبد صلاحه، فأصابته آفة، فإن المرتهن لا يضمن لأنه لم يتعدى ولم يفرط. قوله [ولا يسقط بهلاكه شيء من دينه] وهذا ظاهر جدا، وبيانه لو أن الرهن هلك، فإن الدين يبقى، وذلك لأن الدين متعلق بالذمة، ولا يزيد الرهن عن كونه وثيقة لحفظ الحق، فإذا حصل له تلف فالدين باق في الذمة، كما لو حصل للشهود وفاة فالدين باق في الذمة، أو حصل للورقة التي كتب فيها الدين تلف أو احتراق فالدين باق في الذمة، فهذه كلها وثائق لحفظ الحقوق. قوله [وإن تلف بعضه فباقيه رهن لجميع الدين] وهذا أيضا ظاهر، ومثاله: وضع عنده هذا الثمر الذي لم يبد صلاحه رهنا، فحصل لبعض هذه الثمار تلف، فالمتبقي من هذه الثمار يبقى الرهن فيها، إذ لا دليل على سقوط الرهن عنها. قوله [ولا ينفك بعضه مع بقاء بعض الدين]

مثاله: قال هذا الرقيق رهن عندك على مائة ألف اقرضها منك، فإذا قضاه خمسين ألفا، فلا يخرج من الرهن، فلا يقال إن نصف العبد أصبح ليس مرهونا، بل يبقى حتى يقضيه حقه، وذلك لأن الرهن إنما أخذه عن الدين كله، فلا ينفك حتى يقضي الراهن الدين كله، ولا خلاف بين أهل العلم في هذه المسألة، وقد حكى ابن المنذر الإجماع فيها. قوله [وتجوز الزيادة فيه دون دينه] يجوز الزيادة فيه أي في الرهن دون دينه، فهنا مسألتان: 1- المسألة الأولى: حكم الزيادة في الرهن، فقد بين المؤلف هنا جوازها، مثاله: اشترى زيد من عمرو سلعة نسيئة، وقال رهنت عندك هذا الدرع، ثم بعد زمن زاده في الرهن فقال: أرهنك هذا الفرس أو هذا السيف، فهذا جائز لا بأس به، لأنه زيادة استيثاق ولا محذور فيه. 2- المسألة الثانية: وهي في قول المؤلف (دون دينه) أي لا يجوز الزيادة في دين الرهن، مثال هذا: اشترى منه سلعة بثمن مؤجل، ورهنه داره، ثم اشترى منه شيئا آخر بثمن مؤجل، وقال الرهن للدين الأول هو رهن أيضا للدين الثاني، فهذا على مذهب الحنابلة لا يجوز، وعللوا ذلك: بأن الرهن قد شغل بالدين الأول، والمشغول لا يشغل، وهذا القول هو المشهور من المذهب، وذهب الإمام مالك إلى جواز ذلك، وذلك للمصلحة ولرفع الحرج، وأما قولهم المشغول لا يشغل فهذا صحيح فيما لو كان الرهن لزيد وأراد أن يستدين من عمرو فرهن الرهن الأول له، فإذا كان مشغولا بدين فلا يحل أن يشغل بدين رجل آخر، وأما إذا كان بدين الغريم الأول نفسه فإن هذا لا حرج فيه، وهذا القول هو اختيار شيخ الإسلام وتلميذه ابن القيم وهو اختيار الشيخ عبد الرحمن بن سعدي وهو الراجح. قوله [وإن رهن عند اثنين شيئا فوفى أحدهما.... انفك في نصيبه]

إذا رهن زيد فرسه عند اثنين، كأن يقترض من بكر ألفا، ومن عمرو ألفا، وقال هذا الفرس رهن بالألفين، فالرهن واحد، والراهن واحد، والمرتهن اثنان، فهذا جائز ولا بأس به، ولكن البحث هنا فيما إذا قضى أحدهما فهل ينفك بقدر الدين من الرهن أم لا؟ قال المؤلف (انفك نصيبه) ، فعليه في المثال السابق ينفك نصف الفرس، وذلك لأنه قد رهنه لاثنين فيكون ذلك بمنزلة عقدين، فكأنه قال: اقترضت منك يا زيد ألفا والرهن نصف فرس، وقال: اقترضت منك يا بكر ألفا والرهن نصف فرس، فإذا قضى لأحدهما انفك نصف الفرس، وهذا يتصور في غير الفرس كما لو رهن طعاما. قوله [أو رهناه شيئا فاستوفى من أحدهما انفك نصيبه] هنا المرتهن واحد والراهن اثنان، مثاله: اقترض زيد وعمرو كلاهما من بكر، وكل واحد اقترض ألفا، وقال: هذا الطعام رهن عندك على ما علينا من الدين لك، فهنا الراهن أكثر من واحد، فإذا قضى أحدهما الدين فأعطى بكر حقه مثلا فحينئذ له أن يأخذ ما يقابله من الرهن، وذلك لأن الراهن متعدد، وعليه فعقد الرهن أصبح بمنزلة عقدين. قوله [ومتى حل الدين وامتنع من وفائه فإن كان الراهن أذن للمرتهن أو العدل في بيعه باعه ووفى الدين، وإلا أجبره الحاكم على وفائه أو بيع الرهن، فإن لم يفعل باعه الحاكم ووفى دينه] إذا اشترى منه أرضا إلى سنة، وقال: هذه السلعة رهن عندك، فإذا حل الدين ومضت السنة، وامتنع من وفاء دينه، كأن يقول: لا أوفي لك حقك، أو يدعي الإعسار، أو يماطل أو نحو ذلك فهنا المسألة فيها تفصيل:

1- إن كان الراهن قد أذن للمرتهن أو للعدل في بيعه باعه ووفى الدين، والعدل هو من يختارانه لكي يكون الرهن عنده، فقد لا يرضى الراهن بأن يكون الرهن عند المرتهن، بل يقول الرهن بيد فلان، فهذا هو العدل، فإن كان الراهن قد أذن للمرتهن ببيعه أو أذن للعدل فله أن يبيعه، وليس له أن يبيعه بدون إذن، وسواء كان الإذن قديما في العقد أو جديدا فلا حرج. 2- إن لم هناك إذن للمرتهن قديم ولا جديد فحينئذ يجبره الحاكم على وفاء الدين وإعطاء الحق أو بيع الرهن، فإن لم يفعل - أي لم يعطه حقه ولم يبع الرهن - فإن الحاكم يبيع الرهن ويعطي المرتهن حقه. 3- فإن تعذر هذا كأن يكون في بعض البلاد التي ليس فيه قضاة يقضون بالشرع وقد وضع الراهن عند المرتهن هذا الرهن وأبى أو يوفيه حقه فالحكم كما ذكر شيخ الإسلام عن بعض أهل العلم أن المرتهن يضعه في يد ثقة دفعا للتهمة ويبيعه هذا الثقة ويشهد على البيع وعلى الثمن ثم يأخذ المرتهن حقه، وما ذكره المؤلف وما ذكره شيخ الإسلام عن بعض أهل العلم هو مقتضى العقد، فإن الرهن إنما وضع لهذا القصد، وإلا فلا فائدة منه ولا يحصل به الاستيثاق. فصل قوله [ويكون عند من اتفقا عليه] إذا اتفق الراهن والمرتهن على أن يكون الرهن عند فلان من أهل العدالة فإن الرهن يكون عنده، وذلك لأن المسلمين على شروطهم. قوله [وإن أذنا له في البيع لم يبع إلا بنقد البلد] إذا أذنا - أي الراهن والمرتهن - للعدل الذي اتفقا على أن يكون الرهن عنده إذا أذنا له في البيع لم يبع إلا بنقد البلد.

أما الراهن فإذنه ظاهر الاعتبار لأنه المالك، وأما المرتهن فإذنه معتبر كذلك، لتعلق حقه بالرهن، ولذا فإن له أن يمتنع عن بيع الرهن يثمن بخس يضر به، فمثلا: لو أراد العدل أن يحابي أحدا في بيع الرهن، وكانت هذه المحاباة تنقص السعر بصورة تؤثر على حق المرتهن في استفاء دينه فله أن يمتنع عن قبول مثل هذا، وحاصل المسألة أن العدل ليس له أن يبيع إلا بنقد البلد أي بالنقد الرائج النافق، وأما إذا كان النقد لا ينفق وهو من النقد الكاسد فلا، وذلك لأنه وكل عنهما فليس له أن يبيعه إلا بما هو أحظ، فمثلا: في هذه البلدة دراهم كاسدة ودراهم نافقة، فإنه لا يبيعه بالدراهم الكاسدة بل يجب عليه أن يبيعه بالدراهم النافقة لأن ذلك هو الأحظ، وسيأتي بيان أن الوكيل يجب عليه أن يتعامل بالوكالة بما هو أصلح وأحظ. قوله [وإن قبض الثمن فتلف في يده فمن ضمان الراهن] إذا قبض العدل الثمن بعد بيع الرهن، ثم تلف هذا الثمن بيده من غير تعد ولا تفريط فإن الضمان يكون على الراهن، لأن هذا العدل يده يد أمانة، ويد الأمانة لا ضمان عليها كما تقدم تقريره. قوله [وإن ادعى دفع الثمن إلى المرتهن فأنكره ولا بينة ولم يكن بحضور الراهن ضمن كوكيل]

صورة هذه: أخذ هذا العدل الثمن، ودفع إلى المرتهن ولم يشهد، فأنكر المرتهن أن يكون قد أخذه منه، ولا بينة، فإنه يكون من ضمان العدل، لأنه قد فرط، فالواجب عليه أن يقضي دين الراهن للمرتهن بصورة تكون مبرأة لذمته، وهنا لم تبرأ ذمته، وهكذا الوكيل أيضا، ولذا قال المؤلف (كوكيل) ، فلو أعطيت رجلا مثلا مائة ألف ريال، وقلت له: أعطها فلانا عن ديني، فأعطاه ولم يشهد ثم أنكر الآخر وقال: أنا لم آخذ منه شيئا، فالضامن هو الوكيل لأنه قد فرط، واليد الأمينة لا ضمان عليها إذا لم تتعد ولم تفرط، وعليه ففي مسألتنا يرجع المرتهن إلى الراهن ويقول: أعطني حقي، ويرجع الراهن في العدل ويطالبه بالمال. قوله [وإن شرط ألا يبيعه إذا حل الدين] إذا قال: هذا رهن عندك لكن اشترط عليك ألا تبيعه إذا حل الدين، فهذا الشرط باطل، لأنه يخالف مقتضى العقد، فمقتضى العقد - أي عقد الرهان - أن يبيعه وإلا فلا فائدة منه. قوله [وإن جاء بحقه في وقت كذا وإلا فالرهن له لم يصح الشرط وحده]

صورة هذه المسألة أن يقول: هذه الدار رهن عندك على ثلاثمائة ألف ريال، وإذا مرت سنتان ولم آتك بهذا المبلغ فالدار لك، فقال المؤلف: لا يجوز هذا، وهذا هو مذهب جمهور العلماء، واستدلوا على ذلك بحديث: (لا يغلق الرهن من صاحبه الذي رهنه، له غنمه وعليه غرمه) ، ولا يغلق أي لا يخرج عن صاحبه، قالوا: فهذا يدل على أنه ليس له أن يشترط هذا الشرط، فإن قاله فالشرط باطل لكن الرهن صحيح، والقول الثاني في المسألة وهو اختيار شيخ الإسلام وتلميذه ابن القيم أن ذلك جائز، قال ابن القيم:" ولم يدل على المنع منه كتاب ولا سنة ولا إجماع ولا قياس صحيح، وليس فيه مفسدة ظاهرة بل هو بيع معلق بشرط "، إذن هم تمسكوا بالأصل، وهو أن الأصل في المعاملات الحل، وهذا كأنه بيع معلق بشرط، فكأنه قال له أبيعك هذه الدار بثلاثمائة ألف ريال إن لم آتك بحقك إلى سنتين، أما الجواب عن الحديث المتقدم فقد أجابوا عنه بأن الشريعة قد أبطلت ما كان عليه أهل الجاهلية من أن مقتضى العقد يفيد هذا، فمقتضى العقد عندهم يفيد أنه من لم يأت بالحق فالرهن له وإن لم يشترط، وأما اختيار شيخ الإسلام وتلميذه فإنه يكون بمقتضى الشرط لا بمقتضى العقد، ثم إنه لم يغلق عليه بل هو الذي أغلقه على نفسه، فهو قد وضع شرطا على نفسه، والمسلمون على شروطهم، فقوله - صلى الله عليه وسلم -: (لا يغلق) معناه أنه لا يغلق على سبيل القهر كما كان في الجاهلية، وما ذهب إليه شيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذة ابن القيم هو القول الراجح. قوله [ويقبل قول الراهن في قدر الدين والرهن ورده وفي كونه عصيرا لا خمرا] يقبل قول الراهن في أربع مسائل، ومن كان القول قوله فاليمين يمينه:

1- المسألة الأولى: إذا اختلفا في قدر الدين، كأن يثبت لنا أن هذه الدار رهن عند زيد لعمرو، كلنهما اختلفا في قدر الدين، فقال زيد هذه الدار قد وضعها عمرو عندي مقابل مائة ألف أريدها منه، وقال عمرو بل مقابل درهم واحد يريده مني، فالقول قول الراهن، فعليه يعطيه درهما ويأخذ داره، وهذا هو المشهور من المذهب، قالوا: لأنه منكر، فهذا يدعي أن له في ذمته مائة ألف، والراهن يدعي أن في ذمته درهما، والأصل براءة الذمة، والقول قول المنكر، أكثر، أما إذا كانت قيمته أقل من الدين فالقول قول الراهن، وصورة هذا: وضع عنده دارا، وقال إني لم أرهنه هذه الدار إلا على مبلغ عشرة آلاف، وقال المرتهن بل على مائة ألف، والدار تساوي مائة ألف، فحينئذ القول قول المرتهن، وذلك لأن الأصل أن الرهن يكون بقدر الدين لأنه وضع للاستيفاء، والأصل أن المرتهن لا تسمح نفسه برهن شيء إلا أن يكون هذا الرهن يمكن استيفاء الحق منه، لكن لو قال الراهن: هو لا يريد مني إلا عشرة آلاف، وقال المرتهن أريد منه مائة ألف، والدار لا تساوي إلا عشرة آلاف، فحينئذ لا يقبل قول المرتهن، وهذا القول هو اختيار شيخ الإسلام، فإن قيل الأصل ما ذكره الحنابلة من أن القول قول المنكر، فالأصل أن البينة على المدعي واليمين على من أنكر، والحنابلة أدخلوا هذه المسألة في القاعدة السابقة، فالجواب: أن هذا الأصل متروك هنا، وذلك لقيام القرينة الظاهرة على الخلاف، والقاعدة أنه عند وجود القرينة الظاهرة فإننا نترك الأصل.

2- المسألة الثانية: إذا اختلفا في الرهن، مثاله: قال الراهن أنا لم أرهنك إلا هذه الدار، وقال المرتهن أنت رهنتني هذه الدار وهذه الدار، فالقول قول الراهن، وذلك لأن الأصل مع المنكر فالقول قوله، والأصل براءة ماله من تعلق حق الغير به، لكن يجب أن يستثنى ما تقدم وهو أن يقال إلا أن تقوم قرينة ظاهرة تدل على صدق المرتهن، فإننا نترك الأصل وتكون اليمين مع المرتهن. 3- المسألة الثالثة: يقبل قول الراهن في رد الرهن، فإذا أعطى الراهن المرتهن المال في القوت المحدد بينهما، ثم ادعى المرتهن أنه أعطاه الرهن، وقال الراهن لم يعطني الرهن، فالقول قول المنكر وهو الراهن، فالبينة على المدعي واليمين على من أنكر، فيقال للمرتهن هل عندك بينة أنك أعطيته الرهن، فإن لم يأت ببينة فيقال للراهن احلف أنك لم تأخذ منه الرهن، فإذا حلف فيبقى هذا في ذمة المرتهن. 4- المسألة الرابعة: يقبل قول الراهن في كونه عصيرا لا خمرا، مثاله: قال الراهن أنا أعطيته الرهن عصيرا، وقال المرتهن بل أعطاه لي خمرا، فالقول قول الراهن لأن الأصل السلامة من الخمر، فمعه الأصل، ومن كان الأصل معه فاليمين يمينه. قوله [وإن أقر أنه ملك لغيره أو أنه جنى، قبل على نفسه وحكم بإقراره بعد فكه إلا أن يصدقه المرتهن] قوله (أقر أنه ملك لغيره) مثاله: قال خذ هذه الدار عندك رهنا على مائة ألف أقترضها منك، ثم بعد يومين أقر أن هذه الدار اغتصبها من فلان، فالحكم أنه يقبل على نفسه فتكون هذه الدار لفلان لأنه قد أقر بها له، أما المرتهن فإن الرهن يبقى في يده ثم إذا أخذ حقه أعطاه من أقر له به، إذن يبقى هذا الرهن عند المرتهن حتى يأخذ حقه، وذلك لأن إقرار الراهن إنما يكون على نفسه.

ومثل ذلك لو أقر أنه جنى، كأن يقول: خذ هذا العبد رهنا عندك، ثم قال: أقررت أنه جنى، وإذا جنى العبد فإن المجني عليه يمكن من رقبته، أي له حق أن يبيعه ويأخذ حقه إذا كان مالكه معسرا كما سيأتي تقريره، فهل يخرج العبد من الرهان ويمكن المجني عليه من رقبته، أم نقول إقرارك على نفسك، فهذا العبد قد ثبتت عليه الجناية، ويبقى عند المرتهن حتى إذا ما قضي الدين فإنه يمكن منه، فيعطى العبد للمجني عليه؟ الجواب: الثاني، أي أنه يبقى عند المرتهن حتى يستوفي حقه، ثم يعطى الجاني. ويستثنى من هذا ما إذا صدقه المرتهن، فقال أنا أقر بذلك، وأن هذا المال هو لبكر وليس لزيد، فقد أقر على نفسه فحينئذ يخرج الرهن منه. وقال بعض الحنابلة في أصل المسألة وهي ما إذا أقر الراهن أن الرهن ملك لغيره أو أنه قد جنى إنه يبطل الرهن. والذي يظهر أن المسألة فيها تفصيل وهو أن يقال: 1- إذا كان بإقراره متهما فإنه يكون إقرارا على نفسه فقط، ويبقى الرهن عند المرتهن حتى يأخذ حقه من الراهن. 2- وأما إذا كان بإقراره غير متهم، فإن الإقرار يلحق المرتهن. وصورة هذا إذا أقر به لزوجه كأن يقول أنا رهنتك هذا الشيء وهو لزوجتي، وقد قهرتها عليه وهي غير راضية، فالآن هو متهم بتضييع حق الآخر، فالحكم أنه يبقى عند المرتهن حتى يقضي الراهن ما عليه، وأما إن لم يكن متهما كأن يقر لأجنبي ويبعد أن يقع بينهما شيء من المواطأة فحينئذ يبطل الرهن، ويتوجه أن يلزم الراهن بإعطاء المرتهن حقه أو يوضع رهنا جديدا، لأن الرهن يؤخذ من المرتهن ويدفع إلى من أقر له به. فصل قوله [وللمرتهن أن يركب ما يركب ويحلب ما يحلب بقدر نفقته بلا إذن]

للمرتهن وهو من بيده الرهن أن يركب ما يركب ويحلب ما يحلب، فله أن يركب الظهر وأن يحلب الدر بالمعروف بما لا ينتهك المركوب ولا يضعف المحلوب بقدر نفقته، ودليل هذا ما ثبت في البخاري أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (الرهن يركب بنفقته إذا كان مرهونا ولبن الدر يشرب بنفقته إذا كان مرهونا وعلى الذي يركب ويشرب النفقة) [خ 2512] وهذا الحديث فيما يظهر يمكن الاستدلال به على مسألة سابقة وهي عدم شرط استدامة القبض، فإنه قال (وعلى الذي يركب) والغالب أنهما طرفان رهان ومرتهن، فلا يحتاج إلى هذا العموم إذا كان في يد المرتهن فحسب، فدل هذا على جواز أن يكون بيد الراهن وأن هذا لا يخل بصحة الرهن، والمقصود هنا الاستدلال هذا الحديث على أن من ركب أو شرب فإن عليه النفقة، وأن المرتهن يجوز له وإن لم يأذن الراهن يجوز له أن يركب المركوب كالجمل والفرس ونحوهما بنفقته، وهل السيارة مثل ذلك؟ هذا في الحقيقة لا يقع في السيارة لأنها لا تحتاج إلى نفقة إلا مع السير فيها، لكن المثال الأوضح هو الجمل والفرس ونحوهما من الدواب المركوبة، والمقصود أن من أنفق فله الركوب سواء كان راهنا أو مرتهنا بإذن الراهن للمرتهن أو بغير إذن، وهذا قد اتفق عليه العلماء لثبوت الحديث فيه، واتفقوا على أن ما يحتاج إلى مؤنة كالدار ونحوها فإنه ليس للمرتهن أن ينتفع به، وذلك لأن الرهن ملك للراهن، والانتفاع به تبع للملك، ونماؤه تبع للأصل، فليس للمرتهن أن يركب السيارة ولا أن يسكن الدار إلا بإذن الراهن. واختلف العلماء في العبد ونحوه مما يحتاج إلى نفقة واجبة، هل له حكم المركوب والمشروب أم ليس له هذا الحكم؟

1- فالمشهور من المذهب أن العبد ونحوه ليس للمرتهن أن ينتفع به إلا بإذن الراهن، وأنه إن أنفق عليه فإن كان على وجه التبرع فليس له أن يرجع على الراهن، وإن أنفق عليه نية الرجوع فله أن يرجع على الراهن على تفصيل سيأتي ذكره في المذهب. 2- وعن الإمام أحمد وهو مذهب أبي ثور أن له أن ينتفع به مقابل النفقة قياسا على المركوب ومشروب الدر، وذلك بجامع أن كليهما نفقته واجبة، بخلاف الدار فإن مالكها له أن يهملها ويعطلها من غير أن يقول بإصلاحها أو عمارتها، وأما العبد والحيوان فإنه يجب على مالكه أن ينفق عليه، وهذا القول فيما يظهر راجح، فإن النفقة واجبة فيه، فإذا أنفقها عليه فيجوز له بمقابل هذه النفقة أن ينتفع به بالمعروف من عمل وتكسب ونحو ذلك. قوله [وإن أنفق على الرهن بغير إذن الراهن مع إمكانه لم يرجع وإن تعذر رجع ولو لم يستأذن الحاكم] إذا أنفق المرتهن على الرهن بغير إذن من الراهن مع إمكان استئذانه، كأن ينفق على رقيقه أو زرعه أو شجره من غير أن يستأذن الراهن مع إمكان الاستئذان فإنه لا يرجع، فيكون حكمه حكم التبرع، قالوا: لأنه لا يخلو من حالين: الأولى: أن يكون هذا الإنفاق منه بنية التبرع فحينئذ ليس له أن يرجع ويطالب بما أنفق. الثانية: أن يكون بنية الرجوع فليس له الحق أيضا لأنه مفرط فهو قادر على الاستئذان متمكن منه ومع ذلك لم يستأذن.

لكن إن تعذر الاستئذان فله أن يطالبه بحقه لأنه غير قادر على الاستئذان، وحينئذ لا يكون مفرطا، ولو لم يستأذن الحاكم، فليس بشرط أن يستأذن الحاكم في النفقة، وذلك لما يترتب عليه في الغالب من تفويت مصلحة الرهن حتى يأذن الحاكم، ولأنه لا دليل على اشتراط إذنه، وعن الإمام أحمد وهو اختيار شيخ الإسلام وتلميذه ابن القيم أنه له الرجوع مطلقا ما لم ينو التبرع، ودليل هذا أنه نائب عن صاحب الحق فكان له أن يطالب كسائر من ينوب عن الغير في أداء الحقوق، فهنا ناب عن صاحب الحق فيما لا يجب عليه فكان له أن يطالب بالحق، وقد قال الله تعالى {هل جزاء الإحسان إلا الإحسان} وهذا محسن فجزاؤه أن يحسن إليه، وأما أن يمنع من إعطائه حقه فليس هذا من الإحسان، ولأن الله تعالى قال {فإن أرضعن لكم فآتوهن أجورهن} وقال {وعلى المولود له رزقهن وكسوتهن بالمعروف} ولم يقيد الله سبحانه هذا بالاستئذان، فأوجب الله على الوارث أن يعطي المرضعة أجرتها ولم يقيد ذلك بإذنه له بالرضاع، بل أوجبه بمجرد الرضاع، وهذا القول هو الراجح. قوله [وكذا وديعة ودواب مستأجرة هرب ربها] فالوديعة كذلك كالرهن، فإذا كان عند رجل وديعة، وكانت هذه الوديعة تحتاج إلى نفقة واجبة، كأن يضع عنده رقيقا أو حيوانا وديعة أو نحو ذلك فإذا أنفق عليه بغير نية التبرع ففيه الخلاف المتقدم، فليس له الرجوع إن لم يستأذنه مع إمكان الاستئذان، وإذا استأذنه وأذن له فيجب عليه أن يعطيه حقه، فالوديعة لها حكم الرهن على التفصيل المتقدم، وكذلك إذا استأجر دوابا فهرب ربها وتركها فهي في حكم الوديعة لأنها أصبحت أمانة في يده، فإذا أنفق عليها فعلى التفصيل المتقدم. قوله [ولو خرب الرهن فعمره بلا إذن رجع بآلته فقط]

فإذا وضع عنده دارا رهنا فخربت هذه الدار فعمرها وأحضر لها خشبا وحديدا ونحو ذلك، فالحكم أنه له ثمن الآلة من خشب وحديد وليس له أن يأخذ أجر المعمرين ولا أجرة الماء ولا الطين ولا نحو ذلك، ودليل ذلك أن هذه النفقة نفقة غير واجبة على الراهن فليس واجبا على الإنسان أن يصلح داره إذا خربت، فإذا أصلحها المرتهن فقد فعل أمرا لا يكون فيه نائبا عن أمر واجب عن آخر، وقال القاضي من الحنابلة: بل على الراهن أن يعطيه عوضه، وله أن يطالب بالحق لأن في ذلك مصلحة الرهن، فهذا الرهن قد تعلق به حق المرتهن، ولا شك أن فساده فساد لهذه الوثيقة، ظاهر كلامه أن ذلك مطلق، سواء كان هذا الإصلاح يترتب عليه حفظ حقه أم لا، وفصل ابن رجب الحنبلي تفصيلا وقال هو متوجه قواه صاحب الإنصاف أنه إذا كان هذا الخراب يمكن أن يستوفي من الرهن قيمة الدين مع وجوده فليس له أن يرجع، مثال ذلك: أعطاه هذه الدار رهنا، فحصل فيها خراب، وكانت رهنا على عشرة آلاف، ولو بيعت وهي خربة فإنها تباع بعشرة آلاف، فإنه حق المرتهن الآن محفوظ من غير أن يصلحها، فإذا أصلحها فليس له الرجوع لأنه تصرف تصرفا لم يؤذن له فيه أولا، وليس واجبا على الآخر أن يصلح هذا الشيء، وأما إذا كان الرهن لا يستوفى ببيعه الدين بعد وقوع الخراب فيه، فإذا أصلحه أمكن أن يبقى ويستوفى منه الدين، أو خشي أن يخرب شيئا فشيئا حتى تذهب قيمته فلا يمكن أن يستوفى منه الدين فإذا أصلحه والحالة هذه فإنه يمكنه أن يرجع، وهذا التفصيل تفصيل قوي كما ذكر صاحب الإنصاف، وقد أفتى شيخ الإسلام فيمن أصلح وقفا أنه يأخذ نفقته من غلته، وعلى هذا يمكن أن تخرج هذه المسألة المتقدمة على كلام شيخ الإسلام.

كتاب البيوع من باب الضمان إلى باب المساقاة

باب الضمان الضمان لغة: من الضمن، فهو مشتق من الضمن، ضمن الشيء ضمنا (1) . واصطلاحاً: ضم ذمة الضامن إلى ذمة المضمون عنه في التزام الحق، وسمي ضمانا لأن ذمة الضامن تصير في ذمة المضمون عنه. ومثال الضمان: اقترض زيد من عمرو عشرة آلاف، فضمنه بكر، أي التزم أن تكون ذمته منشغلة بالدين كذمة عمرو، فقد ضم ذمته إلى ذمة عمرو في التزام الحق الواجب على عمرو. وعليه فإن الضمان من الإحسان، والله يحب المحسنين، ويسمى ضمينا وكفيلا وزعيما وقبيلا. قال [ولا يصح إلا من جائز التصرف] لا يصح الضمان إلا من جائز التصرف، وقد تقدم تعريف جائز التصرف وهو المكلف الرشيد، فلا بد أن يكون جائز التصرف وذلك لأن الضمان تبرع بالتزام حق مالي فلا يصح إلا ممن يجوز تصرفه، وعليه فلا يصح ضمان صبي ولا سفيه ولا نحو ذلك، لأنه غير جائز التصرف. قال [ولرب الحق مطالبة من شاء منهما في الحياة والموت] لرب الحق وهو الدائن، له (2) أن يطالب من شاء منهما، فله أن يطالب الضامن أو المضمون عنه. فعندنا: ضمان (3) وقد تقدم تعريفه. وضامن وهو من تبرع بالتزام حق مالي على غيره. وعندنا (4) مضمون عنه وهو المدين أو المستقرض. ومضمون له: وهو صاحب الدين. فللمضمون له أن يطالب من شاء منهما - فله أن يطالب الضامن، وله أن يطالب المضمون عنه (5) - في الحياة وفي الموت. أما في الحياة فظاهر، وأما في الموت فمن التركة. وظاهره أن له أن يطالب الضامن (6) وإن كان المضمون عنه صاحب يسار وغنى (7) وعدم مماطلة، وإن كان هذا بعد الممات، وعليه فيرجع الضامن إلى المضمون عنه بالحق الذي أخذه منه المضمون له.

_ (1) العبارة الأخيرة وهي " ضمن الشيء ضمنا " ليست في المطبوع. (2) ليست في المطبوع. (3) في المطبوع: فهنا الضمان. (4) ليست في المطبوع. (5) الجملة المعترضة ليست في المطبوع. (6) في المطبوع: الضمان. (7) ليست في المطبوع.

وهذا هو مذهب جمهور العلماء، قالوا: لأن الدين قد تعلق بذمتيهما جميعا. وعن الإمام مالك وقواه ابن القيم (1) واختاره الشيخ عبد الرحمن بن سعدي وهو القول الثاني في هذه المسألة: أنه ليس له أن يطالب الضامن إلا إذا تعذر الاستيفاء من المضمون عنه، قالوا: لأن الضمان كالرهن فهو توثيق للدين، والرهن إنما يجوز أن يباع على راهنه إن تعذر استيفاء الحق، أما مع القدرة على استيفاء الحق فإنه لا يباع كما تقدم تقريره، قالوا: وكذلك الضمان فإنه توثيق للدين، ولأن الضامن محسن، وقد قال تعالى {ما على المحسنين من سبيل} (2) فليس لنا سبيل عليه وهو محسن إلا أن يتعذر الحق، ولأنه من المستقبح أن يطالب الضامن بالحق الثابت على غيره مع قدرة من عليه الحق أن يقضي الحق عن نفسه، فهذا من المستقبح جداً. وهذا القول هو الراجح لقوة أدلته، وأما تعلقه في ذمة الضامن فهو معلق كتعلق الدين بالرهن، فهو إنما يكون حين يتعذر الوفاء (3) . إلا أن يكون هناك شرط أو عرف، فإن كان هناك عرف أو شرط فالمسلمون على شروطهم (4) . فلو قال: تضمن فلانا، لكن لي أن [أ] طالب أيكما شئت، أو كان العرف جارٍ على هذا (5) . قال [فإن برئت ذمة المضمون عنه برئت ذمة الضامن لا عكسه]

_ (1) كذا في المطبوع، وفي الأصل – المذكرة -: ابن القيم الجوزية. (2) سورة التوبة. (3) في المطبوع: وأما تعلق الدين بذمة الضامن فهو كتعلق الدين بالرهن. (4) في المطبوع: ويستثنى من ذلك ما إذا شرط أو كان العرف جاريا بجواز مطالبة أيهما. (5) في المطبوع: فلو قال الدائن للضامن: تضمن فلانا لكن لي أن أطالب أيكما شئت، فرضي، فإن له أن يطالب أيهما شاء لأن المسلمين على شروطهم.

هذا ظاهر، فمتى برئت ذمة المضمون عنه وهو المدين فإن ذمة الضامن تبرأ أيضا، لأن الحق ثابت في ذمة الضامن تبعا، فإذا ذهبت عن الأصل تبعها تبعتُها (1) ، فحينئذ يسقط ذمة الضامن أيضاً. وأما العكس فلا، ولذا قال (لا عكسه) . فإذا ديَّن رجل آخر مالا، وطلب عليه ضمينا، ثم أبرأ صاحب الحق الضمين فلا تبرأ ذمة المضمون عنه، لأن ذمة الضامن كالرهن، فالدين ثابت في ذمة المستدين أو المستقرض ولا يعدو الضامن إلا أن يكون وثيقة للدين،فإذا سقط فإنه يسقط الحق الذي في ذمة المضمون عنه، فإن إبراء التبع لا يعني إبراء الأصل، وهذا أيضا ظاهر لا إشكال فيه. قال [ولا تعتبر معرفة الضامن للمضمون عنه ولا له] فلا تعتبر ولا يشترط أن يعرف الضامن المضمون عنه، فلو قال بعض الناس لبعض التجار: " أيَّ أحد تقرضه فأنا أضمنه لك " فهو جاهل بالمضمون عنه، فهذا جائز، وذلك لأن الضمان تبرع بالتزام حق مالي فلا تشترط فيه معرفة المضمون عنه، ولا دليل على اشتراط ذلك. ولذا فإنه لا يشترط أيضا رضى المضمون عنه، فإن ضمنه من غير رضى المضمون عنه فهذا جائز أيضا، ولا خلاف بين العلماء فيه، وهو كما لو أدى الدين عنه. فلا يشترط رضى المضمون عنه، كما لو أدَّى الدين عنه، فلو كان لزيد عند عمرو ديناً، فقضاه بكر من غير أن يستأذن زيداً الذي في ذمته الدين، فإن الذمة تبرأ، فمن باب أولى صحة الضمان، إذا كان لو قضى الدين عنه من غير إذنه جاز، فأولى من ذلك جواز الضمان عنه.

_ (1) في المطبوع: فإذا ذهب عن الأصل تبعها تابعها.

ولذا جاز الضمان عن الميت كما في حديث سلمة بن الأكوع في البخاري أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أتي بجنازة فقالوا: يا رسول الله صل عليها، فقال: هل عليه دين، فقالوا: نعم، فقال: صلوا على صاحبكم، فقال أبو قتادة: يا رسول الله صل عليه وعليَّ دينه [خ 2291] (1) . وفي هذا الحديث ما يدل على أن المضمون له لا يشترط رضاه، فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - قد أقر أبا قتادة على الضمان من غير إذن المضمون له أي صاحب الحق، وكذلك لا يشترط معرفة الضامن للمضمون له، كأن يقول: " اقترض من أي أحد شئت من التجار والضمان عليَّ "، ويكتب له ورقة بذلك، فهذا جائز. [فعندنا أمور لا تشترط: 1- معرفة المضمون له. 2- رضى المضمون له. 3- معرفة المضمون عنه. 4- رضى المضمون عنه] (2) قال [بل رضى (3) الضامن] هذا هو الذي يشترط، وهو رضى الضامن، وذلك لأنه تبرع بالتزام الحق فاشترط فيه الرضا. فإن كان الضامن مكرها فلا يصح؛ لأنه تبرع بالتزام حق مالي في ذمته، فاشترط رضاه، ولا خلاف بين أهل العلم في ذلك. قال [ويصح ضمان المجهول إذا آل إلى العلم] مثال هذا: إذا قال زيد لعمرو: اذهب إلى فلان واقترض منه ما شئت من المال والضمان علي، أو قال: أي ثمن يقرضك إياه فلان فالضمان علي، أو اشترِ (4) هذه السيارة ومهما بلغ ثمنها فضمانها علي، فهذا جائز لأنه يؤول إلى العلم؛ لأن من شروط البيع أن يكون الثمن معلوما، والذمم لا تعلق بها حقوق غير معلومة.

_ (1) أخرجه البخاري في كتاب الحوالات، باب (3) إن أحال دين الميت على رجل جاز (2289) ، وكتاب الكفالة،باب (3) من تكفل عن ميت دينا فليس له أن يرجع (2295) . (2) العبارة التي بين القوسين هي في المطبوع دون الأصل. (3) في الأصل: رضا. (4) في الأصل والمطبوع: اشتري.

وكذلك يجوز ضمان ما لم يجب، كأن يقول له: اقرض فلاناً ومتى ما أقرضته فالضمان علي، فقد ضمن الشيء قبل وجوبه. ودليل هذا قول الله تعالى في قصة يوسف - وشرع من (1) قبلنا شرع لنا ما لم يرد في شرعنا ما يخالفه - {ولمن جاء به حمل بعير وأنا به زعيم} (2) ، أي أنا به ضمين، أي أنا ضمين بحمل البعير، وهذا قبل أن يجب الحق، فإن الحق لا يجب إلا بعد أن يؤتى بهذا الصاع، فإذا أتانا بالصاع وجب حمل البعير، فضمنه قبل وجوبه. (3) قالوا: وحمل البعير يختلف كثرة وقلة فكان مجهولاً. ثم إن الأصل في المعاملات الحل ولا غرر في هذا ولا ضرر. قال [والعواري] العواري جمع عارية، والعارية في المشهور من المذهب مضمونة، والبحث هنا على المشهور من المذهب وأنها مضمونة، وسيأتي الخلاف في ذلك في بابه إن شاء الله. فمثلا: ذهب زيد إلى عمرو وقال أعرني سيفك، فقال: حتى تأتي بضمين، فالضمان يصح، وذلك لأن العارية مضمونة، فالأصل مضمون فيصح في الفرع، فيصح الضمان في الأشياء المضمونة، فهنا العارية مضمونة، فلما ثبت الضمان على الأصل جاز في الفرع، ولأن الأصل في المعاملات الحل. وأما إذا قلنا: إن العارية ليست بمضمونة فلا يصح الضمان، وذلك لأن الضمان لم يثبت في الأصل فلا يثبت في الفرع من باب أولى. فإذا كان من بيده الشيء لا ضمان عليه، فكيف الضمان في غيره، ومثل ذلك المغصوب، لذا قال: [والمغصوب] فالمغصوب يثبت فيه الضمان، فلو اغتصب زيد من عمرو شيئا فطالبه به، فله أن يأبى أن يخليه حتى يأتيه بضمين، فإذا أتى بالضمين تركه، وذلك لأن الأشياء المغصوبة مضمونة لأن اليد يد تعد، واليد المتعدية ضامنة فالفرع كذلك. قال [والمقبوض بسوم] هذا يصح فيه الضمان.

_ (1) كذا في المطبوع، وفي الأصل: شرع ما قبلنا.. (2) سورة يوسف. (3) في المطبوع: فلا يجب حمل البعير إلا إذا أتي بالصاع، وهنا ضمن حمل البعير قبل وجوبه.

وصورته أن يذهب مثلا إلى السوق ويسوم شيئا، ثم يقول: دعني حتى أستشير فيه وأريه بعض الناس أو نحو ذلك فهذا هو المقبوض بسوم، فليس مقبوضا ببيع، بل بسوم. فيَد هذا القابض ضامنة، فلو تلف سواء كان بتعد منه أو لم يكن فإنه يضمن، ذلك لأن هذا القبض قبض معاوضة، وما كان قبض معاوضة فإن الضمان يثبت فيه. فإذا قال: أنا لا أقبضك إياه حتى تأتي بضمين يضمنك حتى ترجعه إليَّ، فالضمان صحيح معتبر. وأما إن قبضه من غير سوم فلا يصح الضمان، لأن هذا يكون من باب الأمانات، لأنهما حيث لم يتساوما على شيء فلا معاوضة بينهما، وحينئذ فلا يصح الضمان فيه لأنه غير مضمون على الأول. قال [وعهدة مبيع] عهدة المبيع لغة: الصك الذي يكتب فيه البيع. والمراد به هنا عند الفقهاء ضمان الثمن عن المشتري للبائع، وضمانه عن البائع للمشتري. مثال ضمان الثمن عن المشتري للبائع: أن يقول: أعط فلاناً هذه السلعة التي تبايعتما عليها وإن لم يسلمك الثمن فهو في ضماني. ومثال ضمان الثمن عن البائع للمشتري: أن (1) يقول للمشتري: أعطه ثمنه فإن ثبت أن السلعة ليست له وأنه مغتصب لها أو أنها معيبة فالضمان عليَّ. فالضمان هنا صحيح عند جماهير أهل العلم لعمومات الأدلة، ولأن الأصل في المعاملات الحل. قال [لا ضمان الأمانات بل التعدي فيها] (2) لا يعتبر ضمان الأمانات، فلو قال: ضع هذا الشيء أمانة عندك بشرط أن تأتيني بضمين فلا يصح هذا، لأن الأمين ليس بضامن، فلو تلفت في يده من غير تعد ولا تفريط فلا ضمان عليه، فإذا كان الأصل لا ضمان عليه فكيف يثبت الضمان للفرع (3) . ولأن هذا تحايل إلى مخالفة الشريعة، فإن الشريعة أبطلته على (4) الأمين، فإذا أجزناه في الفرع كان في هذا تحايلا على الشريعة.

_ (1) في الأصل: كأن. (2) في المطبوع: [لا ضمان الأمانات كوديعة] . (3) في المطبوع: في الفرع. (4) في المطبوع: لغت الضمان عن.

فعليه: الأمانة لا يصح الضمان فيها؛ لأن يد الأمين لا تضمن، فإذا كان هذا في الأصل، فالفرع من باب أولى. [بل التعدي فيها] أي يصح الضمان في التعدي فيها، كأن يقول: أضع هذه الأمانة عندك بشرط أنها (1) متى تُعديت عليها أو فرَّطت، فإن الضمان عليه، فهذا صحيح. أو حصل للأمانة عند الأمين - حصل لها - تلف بتعد أو تفريط فطلب صاحب الحق ضمينا لحقه فهذا صحيح؛ وذلك لأن الأمانات تضمن بالتعدي، فإذا كانت تضمن بالتعدي أصلا فيجوز الضمان عليها فرعا. إذاً: هذه المسألة ليس البحث فيها في مسألة ضمان الأمين، أو في مسألة ضمان الغاصب أو في مسألة ضمان المستعير، أو ضمان القابض بسوم أو البائع أو المشتري، بل في الضمانات على ذلك، فيكون الضامن طرفاً آخر ليس هو البائع، وليس هو المستعير ولا الغاصب ولا الأمين، بل هو طرف آخر يكون ضامناً للمستعير أو ضامناً للغاصب أو للقابض بسوم ونحو ذلك. والقاعدة: أنا ما فيه ضمان فيا لأصل فيصح الضمان فيه في الفرع، وما لا، فلا. والحمد لله رب العالمين. الدرس السادس والستون بعد المئة (يوم السبت: 21 / 4 / 1416 هـ) فصل هذا الفصل في الكفالة الكفالة لغة: المراعاة والعناية، ومنه قوله تعالى {وكفَّلها زكريا} (2) ، وأما في اصطلاح الفقهاء فهي التزام رشيد إحضار بدن من عليه الحق لصاحب الحق، وهي من الإحسان إلى الناس كما تقدم في الضمان. قوله [وتصح الكفالة بكل عين مضمونة] كالعارية مثلا، فقد تقدم أن المشهور من المذهب أنها مضمونة فيثبت فيها الكفالة، فلو قال مثلا: لا أعيرك هذه العين حتى تأتي بكفيل فهذا صحيح، فكل عين تضمن فإن الكفالة تصح فيها كما تقدم في الضمان. قوله [وببدن من عليه دين] فمن وجب في ذمته حق مالي للغير فإن الكفالة تثبت فيه. قوله [لا حد ولا قصاص]

_ (1) في المطبوع: أنك. (2) سورة آل عمران.

فلا تصح الكفالة في الحدود ولا في القصاص، وذلك لأن الحد والقصاص لا يستوفى إلا من الجاني، فلا يمكن أن يستوفى من غيره فلم ثبت فيه الكفالة، فإذا وجب عليه حد زنا أو سرقة أو قتل فلا تثبت في هذه الأمور الكفالة، وإذا وجب عليه قود في النفس أو قصاص في شيء من الأعضاء فكذلك لا تثبت فيه الكفالة لأنه لا يمكن أن يستوفى من الكفيل، وقد روى البيهقي بإسناد ضعيف أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (لا كفالة في حد) [هق 6 / 77] والحديث إسناده ضعيف، ويكفي ما تقدم من العلة الظاهرة في النهي عنه. * وقد اختلف أهل العلم في الكفالة هل يثبت فيها غرم أم لا؟ بمعنى إن تعذر على الكفيل إحضار مكفوله، فهل يضمن الحق الثابت في ذمة المكفول أم لا؟ قولان لأهل العلم: 1- القول الأول: وهو مذهب الشافعية والأحناف أنه لا يغرم، قالوا: لأنه إنما التزم بإحضار بدنه ولم يلتزم بإعطاء الحق المالي الواجب عليه. 2- القول الثاني: وهو مذهب المالكية والحنابلة أنه يغرم، واستدلوا بما رواه الترمذي وحسنه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (الزعيم غارم) [ت 1265، د3565، جه 2405] قالوا: والواجب عليه أن يؤدي ما التزمه من إحضار بدنه، والكلام حيث تعذر ذلك، وإنما أقيم مقام الرهن أي الكفيل فكان فيه ما في الرهن من استيفاء الحق، فدل على أنه يضمن ويغرم، وهذا القول هو الراجح للحديث المتقدم، وعليه وعلى القول الراجح الذي تقدم من أنه ليس لرب الحق أن يطالب الضامن إلا بعد تعذر الاستيفاء من المضمون عنه، على هذا القول لا فرق بين الضمان والكفالة إلا أن الكفالة فيها إحضار بدنه وأما هناك فإنه يلزم بأن يأخذ الحق من صاحبه الذي هو عليه، فإن تعذر فإنه يعطى الحق من الضامن ثم يرجع هو على المضمون عنه. قوله [ويعتبر رضى الكفيل]

لأن الكفالة التزام بحق فاشترط فيها رضى الملتزم وهذا الق هو أن يحضر المكفول به على ما وقع عليه الاتفاق. قوله [لا المكفول به] فليس شرطا أن يرضى المكفول به بالكفالة، وهذا هو المشهور من المذهب، قالوا: كالضمان، فكما أن الضمان لا يشترط فيه الرضى من المضمون عنه فكذلك ف الكفالة لا يشترط الرضى من المكفول به، والقول الثاني في المذهب وهو مذهب الشافعية أنه يشترط رضى المكفول به، قالوا: لأنه يلتزم بحق، والحق الذي يلتزم به هو أن يتجاوب ويتطاوع مع الكفيل إذا جاء لإحضاره، فإن الكفالة عقد يلتزم فيه المكفول به أن يحضر مع الكفيل متى أراد ذلك على ما وقع عليه الاتفاق، فكان قد التزم بحق، وهذا لا بد فيه من الرضى، وهذا القول هو الراجح. وليس بشرط رضا المكفول له، لأنها وثيقة غير مقبوضة فلم تشترط فيها الرضى كالضمان، وقد تقدم أنه لا يشترط في الضمان إذن المضمون له فكذلك هنا ولا فرق بين الأمرين. قوله [فإن مات.... بريء الكفيل] إذا مات المكفول به بريء الكفيل، وهذا هو المشهور من المذهب، وفي المسألة أقوال ثلاثة: القول الأول: أنه يبرأ مطلقا، وهو مذهب جمهور العلماء، قالوا: لأن الحضور قد سقط بالموت، فلا يمكن أبدا أن يحضره وقد مات، وهو إنما تكفل بإحضاره. القول الثاني: أنه لا يبرأ مطلقا، وهو قول مالك واختيار شيخ الإسلام، قالوا: قياسا على الرهن والضمان، فإن الضامن لا يبرأ بموت المضمون عنه، وكذلك الرهن، والمقصود استيفاء الحق كما سبق. القول الثالث: وهو قول لبعض الحنابلة أن في هذه المسألة تفصيل، فإن توانى وقصر وفرط حتى مات فإنه لا يبرأ، وأما إذا لم يكن منه ذلك فإنه يبرأ، وهذا القول هو أعدلها. فهناك فرق بين الرهن والكفالة، فإنه في الأصل إنما التزم بإحضاره، وهذا أمر يسقط بالموت، ويستثنى من هذا ما إذا فرط وقصر وأهمل. قوله [أو تلفت العين بإذن الله تعالى]

كذلك إذا تلفت العين بإذن الله، مثلا: أخذ عارية فتلفت بقدر الله تعالى، الكفيل يبرأ وذلك لأنه ما دام أنها تلفت فحينئذ لا يجب شيء على من وقع التلف عنده، وعليه فإن الكفيل يبرأ أيضا، وأما إذا تلفت بفعل الآدمي فإن الكفيل لا يبرأ، وذلك لوجوب بدلها على المتلف، فما زال للمكفول له الحق، لأن البدل قائم، وعليه فتبقى الكفالة. قوله [أو سلم نفسه بريء الكفيل] إذا سلم المكفول به نفسه فإن الكفيل يبرأ، وذلك لأن المكفول به إذا سلم نفسه فقد قام بما يجب على الكفيل، فأدى الواجب عن الكفيل، فإذا حضر بنفسه فقد حصل المقصود. ويبرأ الكفيل أيضا إذا أحضر المكفول به في المجلس المتفق عليه في الأجل المحدد وذلك لأنه قد قام بما يجب عليه، وكذا قبل الأجل من غير أن يتضرر المكفول له. * مسألة: قال شيخ الإسلام السجان كفيل، أي القائم على شان السجن كفيل، وعليه فإنه يجب عليه أن يحضر البدن فإن لم يحضر البدن فإن الضمان عليه، وقال بعض الحنابلة بل السجان ليس بكفيل، إنما هو وكيل على الحفظ، وهذا القول هو الراجح، فهو وكيل على الحفظ، وذلك لأنه ليس بملتزم بإحضار البدن، وإنما هو ملتزم بحفظه في الموضع الذي هو فيه، فهو لم يلتزم إلا بالحفظ، كما قرر هذا الشيخ عبد الرحمن بن سعدي وهو اختيار بعض الحنابلة، فهو وكيل في الحفظ، وعليه فإن فرط فعليه الضمان، وإن لم يفرط فلا ضمان عليه. ** مسألة:

المشهور من المذهب أن كفالة المعرفة كالكفالة تماما، وكفالة المعرفة أن يأتي مثلا بعض الناس إلى بعض التجار ليشتري، فيقول: هل يعرفه أحد منكم، فيقول أحدهم أنا أعرفه، فحينئذ يكون كفيلا له، وعليه فيلتزم بإحضاره في الموعد المتفق عليه، فإن لم يحضره فإنه يضمن، واختار الشيخ عبد الرحمن بن سعدي التفصيل في هذه المسألة فقال: إن عرفه باسمه وموضعه ونحو ذلك فقد قام بما يجب عليه، فإنه إذا قال: أنا أعرفه، فليس فيه إلا أنه يعرفه أي يعرف اسمه ويعرف وصفه، فليس في ذلك إلا هذا، فإن عرفه وإلا فإنه يضمن، وهذا القول هو الراجح، فإنه إذا ضمنه ضمان معرفة فليس فيه أنه يلتزم بإحضار بدنه، بل غاية هذا أن يلتزم بتعريفهم إياه اسما ومحلا ونحو ذلك، فإن قام بما يجب عليه وإلا فعليه الضمان لأنه فوت الحق عليهم. *** إذا كان المكفول به في الحبس فإن هذا يكفي عن إحضاره، فلو قدر أنه كان محبوسا في الوقت المحدد فهل يكفي أم لا بد من إحضاره؟ الجواب: أنه يكفي هذا ولا يجب أن يحضره كما ذكر ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية فقال:" وليس أحد من الأئمة يأمر بإحضاره لأنه متمكن منه " باب الحوالة الحوالة في اللغة: من التحول وهو الانتقال، أما في الاصطلاح الفقهي فهي: نقل حق من ذمة إلى ذمة أخرى، وأركان الحوالة أربعة: 1- المحيل: وهو المدين الأول، أي من عليه دين. 2- المحتال: وهو من له دين، أي هو صاحب الحق. 3- المحال عليه: وهو المدين الثاني، فهو من عليه دين للأول. 4- المحال به: وهو الدين الذي في ذمة المحيل.

والأصل في الحوالة قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: (مطل الغني ظلم وإذا أبتع أحدكم على مليء فليتبع) متفق عليه [خ 2287، م 1564] وفي وراية أحمد: (إذا أحيل أحدكم على مليء فليحتل) [حم 27239] ، وهو عقد إرفاق وذلك لما فيه من إبراء الذمم، فهذا الذي في ذمته الحق تبرأ ذمته بنقل الحق الذي في ذمته إلى شخص آخر، وهي استيفاء وليست ببيع، كما يقرر هذا فقهاء الحنابلة، ويقرره شيخ الإسلام ابن تيمية وابن القيم، ويدل على ذلك أن النبي - صلى الله عليه وسلم - ذكر الحوالة في سياق الوفاء فقال: (مطل الغني ظلم) فهذا فيه ما لا يجوز من فعل الغني من المماطلة، ثم قال: (وإذا أتبع أحدكم على مليء فليتبع) ، ويدل عليه أيضا عدم اشتراط رضى المحتال، والبيع من شروطه الرضى، كما قال تعالى {إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم} فالحوالة استيفاء وليست بيعا. قوله [لا تصح إلا على دين مستقر] هذا هو الشرط الأول من شروط الحوالة، أن تكون على دين مستقر، فعليه يجب أن يكون المال المحال عليه مستقرا في ذمة المحال عليه، مثاله: ثمن المبيع وبدل القرض، فهما دينان مستقران في الذمة غير قابلين للسقوط في الأصل فتصح الحوالة فيه، أما إذا كان الدين غير مستقر كدين المكاتب فهو دين غير مستقر لأنه عرضة للسقوط فللمكاتب أن يبطل العقد - أي عقد الكتابة - ويرجع قنا أو يعجز عن أداء الحق الذي عليه فيعود قنا، وهكذا سائر الديون غير المستقرة لا يصح الحوالة عليها، وذلك لأن مقتضى عقد الحوالة أن يلتزم المحال عليه بالدين الذي قد أحيل عليه به، وإذا كان الدين غير مستقر فإنه عرضة للسقوط فكيف تبرأ ذمة الأول وتتعلق به ذمة الثاني والدين غير مستقر فحينئذ يكون قد التزم والدين ليس بلازم. قوله [ولا يعتبر استقرار المحال به]

إن قيل هل يشترط استقرار الدين المحال به أم لا؟ الجواب: لا يعتبر، وبيان هذا: إذا كان المكاتب الذي عليه لسيده دين في ذمته مقابل الكتابة، فهود دين غير مستقر، فللمكاتب أن يحيل سيده إلى أحد لهذا المكاتب عليه دين مستقر، فإن لا يعتبر أن يكون الدين المحال به مستقرا، وذلك لأن تسليم الدين جائز، وللمحيل أن يسلمه أو يسقطه، فإذا كان التسليم جائزا كانت الحوالة جائزة. قوله [ويشترط اتفاق الدينين جنسا ووصفا ووقتا وقدرا] هذا هو الشرط الثاني من شروط الحوالة، وهو أنه يشترط اتفاق الدينين، الدين الأول هو الذي في ذمة المحيل، والثاني هو الذي في ذمة المحال عليه، فيشترط أن يتفقا جنسا، فهذا ذهب وهذا ذهب، فإن كان أحدهما ذهبا والثاني فضة فلا يجوز، وكذلك أن يتفقا وصفا، فهذا رديء وهذا رديء، وهذا جيد وهذا جيد، وهذا صحيح وهذا صحيح، وهذه مكسرة وهذه مكسرة، ويشترط أن يتفقا وقتا، فهذا حال وهذا حال، وهذا مؤجل إلى شهر وهذا مؤجل إلى شهر، ويشترط أيضا أن يتفقا قدرا، فيحيل بخمسة على خمسة، أو بعشرة على عشرة، أما لو أحال بخمسة على ستة فلا يجوز، قالوا: لأن الحوالة عقد إرفاق فإن كان فيها فضل فقد خرجت عن موضعها، وقد تقدم قول الجمهور أن بيع الدين بالدين منهي عنه، ولا يتبين المنع من هذا، فهذا وإن خرج عن كونه حوالة فلا يخرج عن كونه بيعا، فيشترط فيه ما يشترط فيه البيوع، فإذا جرى على قواعد البيوع فلا يتبين أنه فيه منعا، وكونه بيع دين بدين فقد تقدم أنه ليس كل صور بيع الدين بالدين محرمة، وإنما حرم الشارع منها ما كان فيه الربا الذي كان عليه أهل الجاهلية، وأيضا فإن بيع الدين بالدين فيه إشغال للذمم وهنا في مسألتنا فيها إبراء للذمم. قوله [ولا يؤثر الفاضل]

بيان هذا، إذا كان على أحذ من الناس عشرة آلاف، ويريد منك فلان خمسة آلاف، فقلت: أحيلك بخمسة آلاف على خمسة آلاف من العشرة التي لي في ذمة فلان فلا يؤثر هذا الفاضل لأنه يبقى لربه، وذلك لأنهما قد اتفقا في القدر وأما الفاضل فيبقى لرب المال. قوله [وإذا صحت] أي إذا صحت الحوالة فتوفرت فيها شروطها، وتقدم شرطان، وسيأتي شرط رضا المحيل. قوله [نقل الحق إلى ذمة المحال عليه وبريء المحيل] فيبرأ المحيل بالحوالة، وهذا هو مقتضى عقد الحوالة فيلتزم المحال عليه بالدين الثابت للمحتال على المحيل. قوله [ويعتبر رضاه] إذا يشترط رضا المحيل، فليس للدائن أن يلزم المدين بالحوالة، وذلك لأن الحق واجب عليه من غير تحديد جهة، فالواجب أن يعطي صاحب الحق حقه من غير أن يتعين عليه جهة، وإذا ثبتت الحوالة من غير رضاه فقد عينت عليه جهة وألزم بما ليس بلازم له. قوله [لا رضا المحال عليه] لا يشترط رضا المحال عليه، وذلك لأن المحيل هو صاحب الدين، فله أن يستوفي الحق الواجب له في ذمة المحال عليه بنفسه أو بوكيله، وقد أقام المحتال مقام نفسه فكان كالوكالة بل أولى. قوله [ولا رضا المحتال على مليء]

لا يشترط رضى المحتال، وهو الذي حول حقه من ذمة إلى ذمة، فلا يشترط رضاه إذا أحيل على مليء، وهذا هو المشهور من المذهب وهو قول ابن جرير وأبي ثور، وقال الجمهور بل يشترط رضاه، وحجة الحنابلة حديث: (وإذا أتبع أحدكم على مليء فليتبع) قالوا: وهذا يدل على وجوب قبول الحوالة، وحيث وجب قبولها فإن الرضا ليس بشرط، وأما الجمهور فحملوا الحديث على الاستحباب وقالوا: هو واجب له في ذمة هذا فلا يلزم بأن ينقل إلى ذمة أخرى، والصحيح وجوبه لأن نقله لا ضرر عليه فيه، كما لو أعطى حقه قبل حلول الأجل ولا ضرر عليه فإنه يلزم بقبوله، هذا إذا أحيل على مليء، والمليء هو القادر بماله وقوله وبدنه، كما قال ذلك الإمام أحمد رحمه الله، فالقادر بماله هو القادر ماليا على الوفاء، والقادر بقوله هو الذي لا يماطل، والقادر ببدنه هو من يمكن أن يحضر مجلس الحاكم أي القاضي، وأما إذا كان لا يمكن إحضاره إلى مجلس القاضي كأن يحال على والده مثلا أو إلى أحد لا يمكنه أن يحضره إلى مجلس القاضي فإن الحوالة حينئذ لا تلزم المحتال. قوله [وإن كان مفلسا ولم يكن رضي به رجع]

أي إذا كان المحال عليه مفلسا أو مماطلا ولم يكن المحتال قد رضي به رجع، أما إذا أخبره بأنه مفلس أو مماطل فرضي فليس له الرجوع، فالكلام في المسألة السابقة إذا كان مليئا، فإذا كان مليئا فلا يشترط رضا الدائن، وأما إذا لم يكن مليئا فيشترط رضاه، وذلك لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (وإذا أحيل أحدكم على مليء فليحتل) وهذا لم يحل على مليء، وهذا لم يحل على مليء فله أن يفسخ الحوالة، وظاهره ولو كان جاهلا، وهذا هو المشهور من المذهب، بمعنى أحيل على أحد فظنه مليئا ولم يعلم أنه غير مليء فالحوالة صحيحة، وليس له أن يرجع، وذهب المالكية وهو رواية عن الإمام أحمد اختارها طائفة من أصحابه أنه إن كان جاهلا مغررا له فإن الحوالة لا تثبت لنهي النبي - صلى الله عليه وسلم - عن الغرر، وهذا هو الراجح. قوله [ومن أحيل بثمن مبيع أو أحيل به عليه فبان البيع باطلا فلا حوالة] من أحيل بثمن المبيع أو أحيل بثمن المبيع عليه، فأصبح ثمن المبيع في المسألة الأولى محالا به، وفي المسألة الثانية محالا عليه، مثاله: إذا اشترى زيد من عمرو سلعة بثمن مؤجل إلى شهر، فقد تعلق في ذمة المشتري ثمن المبيع، فحينئذ إن أحيل بهذا الثمن الثابت في ذمة المشتري فبان أن البيع باطل بأن تكون السلعة محرمة أو نحو ذلك فحينئذ تبطل الحوالة، وكذلك لو قال البائع لأحد الناس لي على عمرو ألف ريال مقابل سلعة قد بعتها عليه إلى شهر، فأنا أحيلك على هذا الثمن لتستوفي ما في ذمتي لك، فبان أن البيع الذي باعه التاجر على المحال عليه باطل، فإنه الحوالة هنا باطلة، وذلك لأن الحوالة مبنية على لزوم الثمن، وحيث بان أن البيع باطل، فإن الثمن لم يلزم أصلا، وعليه فالحوالة باطلة. قوله [وإذا فسخ البيع لم تبطل]

إذن إذا بطل البيع بطلت، وإذا فسخ البيع فإنها لا تبطل، وبيان هذا: اشتريت سلعة وكان البيع صحيحا، وكان الثمن إلى شهر، وكان في ذمة شخص لي دين إلى شهر، فأحلت البائع إلى ذلك الشخص، ثم ثبت أن في السلعة التي اشتريتها أمر يثبت الفسخ، فالحوالة هنا لا تبطل، وظاهره مطلقا سواء كان الفسخ بعد القبض أو قبل، بمعنى أحال عليك وأعطيت المال الذي في ذمتك لهذا المحتال، ثم ثبت العيب أو كان هذا قبل القبض، وذلك لأن الثمن لازم أثناء عقد الحوالة، وليس كالبيع الباطل، فإنه ليس بلازم، وإن ظن لازما، فهو في الظاهر لازم لكنه في الباطن ليس بلازم لأن البيع باطل. قوله [ولهما أن يحيلا] للبائع أن يحيل المشتري لمن أحاله عليه، وللمشتري أن يحيل البائع لمن أحاله عليه، وهذه إنما تكون قبل القبض، وصورة هذا: اشتريت هذه السلعة منك بألف ريال إلى شهر، وقلت: أنا أريد من فلان ألف ريال إلى شهر فخذها منه، ثم فسخ البيع قبل أن تقبض، إذا الحوالة ثابتة، فما هو المخرج منها، المخرج منها أن يقول ذلك الشخص الذي أحلت عليه للبائع: قد أحلتك على فلان فيعود علي، ومثال المسألة الأخرى إذا قال البائع لأحد من الناس أنا أريد من فلان ألف ريال مقابل سلعة قد اشتراها مني، فخذ دينك منها، فالحوالة قد ثبتت، لكن قبل أن يقبض فسخ البيع، فالآن قد برئت ذمة أحدهما، والدين قد انتقل إلى ذمة شخص آخر، فللآخر أن يحيل عليه مرة أخرى هذا إذا كان قبل القبض، أما إذا كان بعد القبض فإنه يرجع عليه بالثمن، مثاله: أحاله على شخص أجبني، ثم قبض المال من هذه الشخص الأجنبي ثم فسخ البيع فإنه يرجع عليه بالثمن.

* وهنا مسألة: وهي إذا اختلفا فقال أحدهما قد وكلتك، وقال الآخر بل أحلتني، فالقول قول مدعي الوكالة، وذلك لأن الوكالة فيها إبقاء الحق، وأما الحوالة ففيها نقل الحق، والأصل هو إبقاء الحق، فمن ادعى الوكالة فالقول قوله، والبينة على الآخر. باب الصلح الصلح في اللغة: قطع المنازعة، أما في الاصطلاح فهي: عقد لازم يتوصل به إلى قطع المنازعة بين المتخاصمين، والبحث هنا في الصلح في الأموال، وقد دلت الشريعة على ثبوت الصلح فقال تعالى {والصلح خير} وقال تعالى {لا خير في كثير من نجواهم إلا من أمر بصدقة أو معروف أو إصلاح بين الناس} ، وروى الترمذي من حديث عمرو بن عوف وله شاهد من حديث أبي هريرة والحديث صحيح بطرقه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (الصلح جائز بين المسلمين إلا صلحا حرم حلالا أو أحل حراما) [حم 8566، د 3594، حب 11 / 488، برقم 5091، كلهم من حديث أبي هريرة، ت 1352، جه 2353 من حديث عمرو بن عوف] والصلح نوعان: 1- صلح على إقرار. 2- صلح على إنكار.

وهذا الفصل سيكون في الصلح على الإقرار، والصلح على الإقرار هو أن يقر المدعي عليه بالدعوى ثم يتصالحا على أن يسقط بعضه إن كان دينا أو يهبه بعضها إن كانت عينا أو يعطيه عوضها، مثال الأول: ادعى أن له في ذمته ألف ريال، فأقر المدعي عليه بذلك، ثم وضع عنه المدعي مائة ريال قطعا للمنازعة، ومثال الثاني: أن يدعي عليه أن هذه الدار التي هو سيكنها له، فيقر المدعي عليه بذلك، ثم يتصالحا على أن يترك له المدعي شطرها هبة، ومثال الثالث: أن يقر له بهذه الدار، ثم يتصالحا على أن يعطيه عوضا عنها كأن يعطيه بستانا أو أرضا أو نحو ذلك، وقد روى البخاري في صحيحه أن كعب بن مالك تقاضى ابن أبي حدرد دينا له عليه في عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في المسجد فارتفعت أصواتهما حتى سمعها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو في بيته فخرج إليهما رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتى كشف سجف حجرته ونادى كعب بن مالك قال يا كعب، قال لبيك يا رسول الله، فأشار بيده أن ضع الشطر من دينك، قال كعب قد فعلت يا رسول الله، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لابن أبي حدرد: قم فاقضه) [خ 471، م 1558] فهذا من الصلح على الإقرار، فقد وضع عنه شيئا من الدين الذي أقر به. قوله [إذا أقر له بدين أو عين فأسقط أو وهب البعض وترك الباقي صح] قوله (أسقط) أي من الدين، وقوله (وهب) أي من العين، فإذا أقر له بدين أو أقر له بعين فأسقط من الدين أو وهب البعض من العين وترك الباقي صح، وهذا مذهب جماهير العلماء لما تقدم في حديث كعب بن مالك، وليس فيه إلا أن صاحب الحق قد تنازل عن شيء من حقه برضى منه فكان ذلك جائزا. قوله [إن لم يكن شرطاه]

أي إن لم يكن الصلح مشروطا، فإن كان الصلح شرطا فلا، فإذا قال: لا أعطيك حقك إلا أن تضع عني بعضه أو لا أتنازل عن العين التي هي لك حتى تهبني بعضها أو حتى تأخذ عوضها، فهذا لا يجوز، وذلك لأن الصلح أحل حراما، وذلك لأن هذا الدين أو العين ملك له، وكذلك ما يراد دفعه العوض عنه كل هذا ملك له فإذا أجبر على شيء من ذلك فقد أجبر على أخذ شيء من حقه بغير رضا منه، وكان من أكل أموال الناس بالباطل. * وهل يجوز - إن لم يكن عن شرط - أن يكون بلفظ الصلح؟ مثاله: أقر زيد لعمرو بأن في ذمته له مائة ألف، فقال زيد: قد صالحتك على عشرة آلاف، أو قال: صالحني على عشرة آلاف من غير شرط فصالحه، فهل يجوز ذلك؟ 1- قال الحنابلة: لا يجوز ذلك، وذلك لأن لفظ الصلح هنا يقتضي المعاوضة، فكأنه قال: لا أعطيك حقك حتى تصالحني على كذا، وإن لم يكن هذا حقيقة الأمر لكن اللفظ يقتضيه. 2- وقال الشافعية وهو رواية عن الإمام أحمد بل يصح ذلك، قالوا: لأن لفظ الصلح لا يقتضي المعاوضة في الأصل، وإنما يقتضي قطع المنازعة، وهذا هو اختيار طائفة من أصحاب الإمام أحمد وهذا هو الراجح، لأن العبرة بالحقائق لا بالألفاظ، فحقيقة الأمر أنه لا شرط ولا معاوضة، فلا يؤثر هذا اللفظ. قوله [وممن لا يصح تبرعه] أي بشرط أن يكون ممن يصح تبرعه، فإن كان ممن لا يصح تبرعه فلا، ومعنى العبارة: إن لم يكن شرطاه وإن لم يكن ممن لا يصح تبرعه، فإن كان ممن يصح تبرعه فهو جائز، فإذا كان الصلح من ولي أمر اليتيم فلا يصح، لأنه ولي لليتيم ولا يصح تبرعه، فهذا المال ليس له بل هو لليتيم، ولا مصلحة فيه لليتيم، فإنه إسقاط حق من باب الإحسان إلى الخلق فهو هدية أو هبة أو صدقه، وهذا ليس لولي اليتيم، لكن إن كان الحق لا يقدر عليه، ويخشى إن لم يصالح أن ينكر الخصم، فإن له أن يتبرع بشيء من مال اليتيم حفاظا على مصلحته.

قوله [وإن وضع بعض الدين الحال وأجل باقيه صح الإسقاط فقط] مثاله لو قال: أنا أريد أن أحسن إليك بشيئين: الأول: أحسن إليك بوضع بعض الدين عنك، والثاني: أؤجله لك، فمثلا عليه دين حال بألف ريال، فقال: أضع عنك الشطر وأؤجله إلى شهر، فقال هنا: صح الإسقاط دون التأجيل، أما صحة الإسقاط فما تقدم، فقد تنازل عن شيء من حقه برضاه من غير معاوضة، وأما التأجيل فلا يصح لأن الشيء الحال لا يتأجل، وقد تقدم الكلام على هذا في باب القرض، وتقدم اختيار مذهب مالك في هذه المسألة وأن الدين يتأجل بتأجيله، وهو اختيار شيخ الإسلام وتلميذه ابن القيم، فالصحيح أن الإسقاط يصح والتأجيل يصح، وهذا هو الراجح. قوله [وإن صالح عن المؤجل ببعضه حالا.... لم يصح] مثاله: عليه في الذمة عشرة آلاف إلى سنة، فقال الدائن: أعطني خمسة آلاف حاله وأبرؤ ذمتك، فقد وضع شطرها، فهذا لا يجوز، وقد تقدم البحث في هذه المسألة وهي مسألة: ضع وتعجل، وأن الراجح جوازها كما هو اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية. قوله [أو بالعكس] الذي يظهر أن العبارة تكرار للمسألة السابقة، وعليه فهي وهممن المؤلف، فإن العكس أن يقال: إن الصلح عن الحال ببعضه مؤجلا، كأن يكون عليه مائة ألف حالة، فيقول: أعطني خمسين ألفا إلى سنة، فتكون المسألة هي التي تقدم ذكرها في قوله (وإن وضع بعض الحال وأجل باقيه صح الإسقاط فقط) ، وفي موضع هذه الكلمة يذكر الحنابلة هذه المسألة كصاحب الأصل وهو المقنع، وغيره من كتب الحنابلة. قوله [أو أقر له ببيت فصالحه على سكناه أو يبني له فوقه غرفة.... لم يصح]

وسبب عدم الصحة هو المعاوضة، فإذا أقر أن هذه الدار له بشرط أن يسكنها إلى سنة، أو قال له المدعي: أصالحك عن كذا وأقر لي بهذه الدار فهذه معاوضة على الحق المقر به، أو قال: هذا الحق الثابت لي اعطني إياه وأصالحك على أن تسكنه سنة أو تبني فوقه غرفة أو نحو ذلك، فهذا لا يصح للمعاوضة، فإنه قد حرم حلالا، فإن هذا مباح له، وحرم عليه إلا بعوض، سواء كان العوض سكنى أو بناء أو نحو ذلك. قوله [أو صالح مكلفا ليقر له بالعبودية] رجل حر، وقال له: أقر لي بالعبودية وأعطيك كذا وكذا، فهذا لا يصح لأن فيه تحليل ما حرم الله، فإن الله حرم العبودية على الحر، وهذا فيه تحليل ما حرم الله. قوله [أو امرأة لتقر له بالزوجية بعوض لم يصح] إذا قال لامرأة أقري لي بأني زوج لك ولك كذا وكذا، فهذا لا يصح لأنه استباحة فرج قد حرمه الله بغير طريق شرعي. قوله [وإن بذلاهما له صلحا عن دعواه صح] إذا قالا نحن نبذل لك العوض واترك هذه الدعوى فهذا يصح، مثاله: قال هذا الذي ادعى عليه العبودية وطلب منه الإقرار بها قال: أنا أعطيك العوض، ولا تدعي على هذه الدعوى، فإنه قد يتوصل إلى دعواه بالشهود ونحو ذلك، كذلك قالت هذه المرأة التي يدعي عليها الزوجية قالت: أنا أعطيك العوض ولا تدعي علي هذه الدعوى فإن هذا يصح، لأنه ليس فيه تحليل ما حرم الله، فإن العوض يعتق به العبد، والمال يفارق به الزوجة كما يكون في الخلع فلم يكن فيه تحليل ما حرم الله، ولكن في الباطن يحرم عليه إن كان بغير حق، لأن أكل لأموال الناس بالباطل. قوله [وإن قال أقر بديني وأعطيك منه كذا ففعل صح الإقرار لا الصلح]

هذه من الحيل التي تخفى على الناس، إن قال: أقر لي بديني وأعطيك منه النصف، ففعل هذا وأقر صح الإقرار لا الصلح، أما الإقرار فيصح لأنه حق ثابت قد أقر به، فلم يصح إنكاره، وأما الصلح فلا يصح لأنه حق ثابت له فلم يعط هذا الحق إلا بعوض فكان العوض باطلا. * مسألة: هل يصح الصلح على شيء مجهول أم لا؟ في المسألة تفصيل: - فإن كان هذا المجهول لا يمكن التوصل إليه فإن الصلح يصح. - أما إذا كان يمكن التوصل إليه ومعرفته فإن الصلح لا يصح. مثال الأول: إذا كانت هناك مواريث مجهولة، أو كانت هناك أراضي لا يدرى حدودها ولا يميز بينها ولا يمكن معرفة هذا، فتصالحا على شيء وتراضيا عليه، فلا بأس بذلك، للحاجة الداعية إليه، ولما فيه من إبراء الذمم، وإعطاء ما يمكن إعطاؤه من الحق، ودليل ذلك ما رواه الإمام أحمد في مسنده وأبو داود بإسناد حسن من حديث أم سلمة قالت: (جاء رجلان من الأنصار يختصمان إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في مواريث بينهما قد درست ليس بينهما بينة فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إنكم تختصمون إلي وإنما أنا بشر ولعل بعضكم ألحن بحجته أو قد قال لحجته من بعض فإني أقضي بينكم على نحو ما أسمع فمن قضيت له من حق أخيه شيئا فلا يأخذه فإنما أقطع له قطعة من النار يأتي بها إسطاما - أي حديدة تسعر بها النار - في عنقه يوم القيامة فبكى الرجلان وقال كل واحد منهما حقي لأخي فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أما إذ قلتما فاذهبا فاقتسما ثم توخيا الحق ثم استهما ثم ليحلل كل واحد منكما صاحبه [حم 26117، د 3584] ففي الحديث دلالة على جواز الصلح على شيء مجهول لا يمكن معرفته. وأما إذا كان المجهول يمكن معرفته فقولان في مذهب الحنابلة: القول الأول: هو الجواز.

القول الثاني: هو المنع، مثال هذا: إذا صالح الورثة زوجة أبيهم على شيء من المال لتتنازل عن حقها من الإرث وهي لا يعلم قدر حقها، لكن يمكن معرفته بحصر مال مورثها، فهل يجوز هذا؟ قولان في المذهب، وأصحهما المنع من ذلك، لأنه معاوضة فأشبه البيع، وبيع المجهول لا يجوز إلا عند الحاجة إليه، ولأن فيه غررا ومخاطرة وقد نهى النبي - صلى الله عليه وسلم - عن الغرر. فصل تقدم الكلام على الصلح على الإقرار، وهان فصل في الصلح على الإنكار، أي أن يصالح المدعى عليه المدعي مع عدم إقراره، فهو لا يقر بالدعوى التي ادعيت عليه في ماله لكنه يصالح المدعي قطعا للخصومة وصيانة للمال وإبراء للذمة، مثال ذلك: أن يعدي عليه أن هذه الدار ليست له، وهي في يده، فيصالح المدعي على شيء من المال يعطيه إياه أو شيء مما تقدم ذكر كأن يهبه بعضها إن كانت عينا أو يعطيه عوضا، فهذا هو الصلح على الإنكار، وجمهور أهل العلم على القول به، ودليل ذلك قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: (الصلح جائز بين المسلمين) ولما تقدم من جواز الصلح الذي بمعنى البيع وهو أن يدعي عليه أن هذه الدار ليست له فيقر بذلك لكن يقول: صالحني على أن تأخذ موضعها بستاني فهذا جائز باتفاق أهل العلم فكذلك الصلح على الإنكار، ومنع الشافعية من الصلح على الإنكار وقالوا: لا يجوز، لأنه عاوض على شيء لم يثبت له، فإن المدعي لم يثبت حق له على المدعى عليه، فإن المدعى عليه لم يقر، فيكون هذا المدعي قد أكل مال أخيه بالباطل، وقد عاوض عما لم يثبت له، وقد قال - صلى الله عليه وسلم - (إلا صلحا حرم حلالا أو أحل حراما) ، قالوا: وهذا قد أحل حراما، فإن مال المسلم محرم، وهذا الصلح قد أحله، والجواب عند جمهور العلماء عما ذكره الشافعية هو كالتالي:

أما قولهم إنه عاوض على ما لم يثبت له، فالجواب: أنه عاوض على شيء قد ثبت عنده، فهو يعلم أن الحق له، وقد ادعى ذلك، وهو يعتقد أن الحق له، ولذلك عاوض عنه، هذا في جهة المدعي، أما في جهة المدعى عليه فإنه قد دفع ما دفع قطعا للخصومة وإبراء للذمة وتركا لليمين التي يطالب بها، فلم يكن في ذلك شيء مما ذكره الشافعية، وأما قوله - صلى الله عليه وسلم -: (إلا صلحا حرم حلالا أو أحل حراما) فمراد النبي - صلى الله عليه وسلم - بهذا اللفظ الصلح الذي يتوصل به إلى تحليل الحرام، فهو ما زال محرما، ومع ذلك فإن هذا الصلح يتوصل به إلى تحليله، فهذا الصلح محرم وممنوع، كأن يتوصل بالصلح إلى حل الربا أو تعبيد الحر أو تحليل البضع ونحو ذلك، وعليه فما ذهب إليه جمهور العلماء من الأحناف والمالكية والحنابلة هو القول الراجح في هذه المسالة خلافا لمذهب الشافعية. قوله [ومن ادعى عليه بعين أو دين فسكت أو أنكر وهو يجهله ثم صالح عليه بمال صح] قوله (بعين) كأن يعدي عليه أن هذه الدار التي بيده ليست له، وإنما لفلان، وقوله (دين) كأن يدعي عليه إنسان أن له عليه ألف ردهم ونحو ذلك، أو يدعي عليه أن اشترى سلعة بثمن مؤجل إلى شهر ولم يدفع الثمن بعد، وقوله (فسكت) أي ولم يقر، فهو صلح على عدم إقرار سواء كان على إنكار أو سكوت، والسكوت بمعنى الإنكار فإنه لم يقر به، وقوله (وهو يجهله) أي يجهل ثبوت هذا الشيء، فهو يظن أنه لا يثبت، وقوله (ثم صالح عليه بمال صح) فإذا صالح بمال كأن يقول هذه الدار التي ادعيت أنها لك أصالحك عليها بمائة ألف ريال، أو أصالحك بأن أعطيك بعضها فهذا يصح، وهو الصلح على الإنكار وتقدم دليله، وأن هذا القول هو مذهب جمهور العلماء. قوله [وهو للمدعي بيع يرد معيبه ويفسخ الصلح ويؤخذ منه بشفعة، وللآخر إبراء فلا رد ولا شفعة] هنا مسألة: وهي هل الصلح على الإنكار بيع أم لا؟

أي هل هو بيع فتثبت فيه أحكام البيع، أم ليس بيعا فلا تترتب عليه أحكام البيع؟ المسألة ذات جهتين: 1- الجهة الأولى: جهة المصالح - بكسر اللام - وهو المدعى عليه. 2- الجهة الثانية: جهة المصالح - بفتح اللام - وهو المدعي. أما المدعى عليه فليس الصلح في حقه بيعا، وإنما دفعه إبراء للذمة، وليس فيه معاوضة. أما في حق المدعي فإنها معاوضة، لأنه يعتقد أن هذه الدار له، فعاوض عنها بكذا من الدراهم، فكأن هذا بيعا في حقه، لكن يستثنى من ذلك ما إذا كان الصلح على شيء من هذه الذي يثبت الادعاء فيه، فإن هذا يكون استرجاعا لا معاوضة، ففي المثال المتقدم ذكر وهو مثال الدار، فإذا قال: أصالحك على أن أعطيك جزءا منها فأعطاه الجزء، فلا يكون معاوضة في حق المدعي وذلك لأن الأمر لا يعدو أن يكون استرجاعا للحق، فهو يعتقد أن الدار له، وقد استرجع بعضها فلا يكون هذا فيه معنى المعاوضة، وإنما تكون المعاوضة حيث كان ما وقع عليه الصلح فيه شيئا آخر سوى هذه العين التي اختلف عليها. إذا ثبت هذا فإن الصلح في حق المدعي يترتب عليه أحكام البيع، وأما الآخر فلا تترتب عليه أحكام البيع، وعليه فإذا وجد المدعي عيبا فله أخذه مع الأرش على القول به كالبيع، وله أن يفسخ الصلح كالبيع، ويتثبت فيه الشفعة، وسيأتي الكلام عليها، وأما المدعى عليه فالصلح في حقه إبراء. قوله [وإن كذب أحدهما لم يصح في حقه باطنا وما أخذه حرام] إذا كان أحدهما كاذبا في الدعوى، سواء كذب في الدعوى أو كذب في الإنكار فلا يجوز له ما أخذه، فالمدعى عليه إذا كان كاذبا وسكت أو أنكر فبقي له شيء من هذه الدار فلا يحل له هذا البعض وهو يعلم كذب نفسه، وكذلك المدعي لو ادعى على شخص شيئا وهو يعلم كذب نفسه فأخذ مالا مصالحة فما أخذه يعتبر حراما، وهو في حكم الغصب، وهو من أكل أموال الناس بالباطل. قوله [ولا يصح بعوض عن سرقة وقذف]

رجل ثبت عليه السرقة أو ثبت عليه حد القذف فهل يجوز الصلح فيه؟ الجواب: لا يجوز الصلح فيه، وذلك لأنه حق لا يعتاض عليه، فليس من الحقوق التي يؤخذ عليها العوض، فمثلا: إذا ثبت قذف رجل لآخر، فقال المقذوف أصالحه على كذا من المال، أو قال المسروق منه أصالحه على كذا من المال، فهذا لا يجوز ولا يصح الصلح فيه. وأما القصاص والقود فيصح الصلح فيه وذلك لأنه حق يعتاض عليه في الدية، فإذا ثبت القصاص ولم يرض أولياء المقتول بالدية فلأولياء القاتل أو للقاتل أن يعرضوا عليهم أكثر من الدية ولو كان ذلك أضعافا مضاعفة، وذلك لأن القصاص حق يعتاض عنه. قوله [ولا حق شفعة] حق الشفعة لا يحوز فيه الصلح، مثال هذا: ارض فيها شراكة، فباع أحد الشركاء نصيبه من الأرض المشترك فيها، فتثبت الشفعة للطرف الآخر، فله الحق أن يشتري هذا الجزء المباع على ما سيأتي تفصيله في باب الشفعة، فحق الشفعة ثابت للشريك، فهل يجوز لهذا الشريك أن يعتاض عن حق الشفعة بمال؟ الجواب: لا يجوز ذلك، قالوا: لأن الشفعة إنما شرعت لدفع ضرر الشريك ولم تشرع للاستفادة المالية، قالوا: وكذلك الخيار فليس له أن يبيع حقه من الخيار، كأن يكون الخيار بينهما مدة شهر، فيقول أسقط حق الخيار بكذا وكذا، قالوا: كذلك لا يجوز هذا، وذلك لأن الخيار إنما شرع لأن يختار ما هو أحظ له، لا ليستفيد منه استفادة مالية، وهذا هو المشهور من مذهب الحنابلة، والقول الثاني: أن ذلك جائز لأنها معاملة والأصل في المعاملات الحل، وكون الشارع لم يشرعه إلا لدفع الضرر لا يعني هذا أن الاستفادة المالية لا تجوز، وهو حق له، وقد اختار لنفسه احتمال الضرر من الشريك ورضي بذلك مقابل المال فلم يمنع من ذلك، وهذا القول هو اختيار الشيخ عبد الرحمن بن سعدي، وهو الراجح. قوله [وترك شهادة]

لا يجوز الصلح على ترك الشهادة، سواء كانت شهادة حق أم شهادة باطل، مثال شهادة الحق: قال به أصالحك على ألا تشهد علي، وهي شهادة حق فيها إثبات حق مالي عليه، أو فيها إثبات قصاص أو نحو ذلك، فهذا محرم، لأنه كتمان للشهادة، وقد حرم الله كتمانها، وإذا كانت الشهادة بالباطل فلا يجوز الصلح عليها، لأنه يكون قد أكل مال أخيه بالباطل، مثاله: إذا قال: أصالحك على ألا تشهد علي، وكان هذا الشاهد يريد أن يشهد عليه شهادة زور، فقال: لا تشهد علي وأعطيك كذا وكذا صلحا، فهذا لا يجوز، وذلك لأن الشاهد يأكل المال بالباطل، ولا يظهر هنا أن هذا محرم، مع حرمة ذلك على الشاهد، وذلك لأن فيه دفعا للضرر عن نفسه. قوله [وتسقط الشفعة والحد] بيان هذا، إذا قال له: أسقط حق الشفعة ولك كذا وكذا، أو قال الشريك أصالحك على ألا شفعة لي وأعطني كذا وكذا من المال، فهذا الصلح محرم كما تقدم، وهل تبقى الشفعة، قالوا: لا، بل تسقط عنه الشفعة، فليس له بعد هذا الصلح المحرم حق في الشفعة، والعوض الذي أخذه يرده على صاحبه، أما سقوط الشفعة فلأنه رضي بإسقاط الشفعة بهذا المال الذي عرض عليه، وأما رد العوض فلأنه صلح باطل، والقول الثاني في المسألة في مذهب الحنابلة أن الشفعة لا تسقط، وهذا القول هو الراجح، وذلك لأنه إنما رضي بإسقاط الشفعة مقابل هذا المال، فإذا ثبت أنه لا حق له في هذا المال، على القول بذلك فحينئذ ينتفي رضاه، فهو إنما رضي بشرط العوض، وحيث لا عوض فلا رضى، وحيث لا رضى فالشفعة لا تسقط، وعلى القول بصحة الصلح في الشفعة وهو الراجح كما تقدم فلا إشكال في هذه المسألة.

قالوا: وإذا ثبت الصلح في حد السرقة أو قذف فإن الحد يسقط ويرد العوض على صاحبه، أما سقوط الحد فلأنه رضي بإسقاطه، وأما رد العوض فلأن الصلح باطل، والجواب أن يقال: إنه إنما رضي بإسقاطه حيث ثبت العوض وأما إن لم يثبت العوض فلا رضا، وهذا على القول بأن الحد حق للآدمي كحد القذف، والصواب أنه حق لله تعالى وللآدمي، فلا يسقط بإسقاط الآدمي له، فإذا أسقط المقذوف حقه فإن الحد لا يسقط لبقاء حق الله عز وجل، وسيأتي الكلام عليه إن شاء الله في باب الحدود، وعلى هذا فالصحيح أن الشفعة يثبت فيها الصلح، وأن الحدود إن كان يعتاض عنها كحد القصاص فإن الصلح يثبت فيها، وأما إن كانت لا يعتاض عنها كحد القذف وحد السرقة فلا صلح فيها كما سبق بيانه. * واعلم أن صلح الأجنبي عن المنكر صحيح سواء كان بإذن المنكر أو بدون إذنه، مثال هذا: ادعى زيد على عمرو أن الدار التي بيد عمرو له، فصالح أجنبي وهو بكر، صالح زيدا على كذا وكذا من المال، مقابل ترد هذه الدعوى وقطع هذه الخصومة عن عمرو، فإن هذا الصلح جائز سواء أذن بذلك المدعى عليه أو لم يأذن، وقد تقدم فيما مضى ما إذا صالح المدعى عليه عن نفسه، وإذا صالح الأجنبي عنه فإن هذا جائز سواء أذن بذلك المدعى عليه أم لم يأذن، وذلك لأن الصلح فيه إبراء للذمة وقطع للخصومة فأشبه قضاء الدين عنه، وتقدم أن قضاء الدين عنه جائز أن أم لم يأذن. ** وهل يرجع عليه أم لا؟ الجواب فيه تفصيل: - إذا أذن له المدعى عليه بالمصالحة عنه، ولم ينو هذا الأجنبي التبرع بل نوى الرجوع، فإنه يرجع عليه فيأخذ حقه ويكون كالوكيل.

- وأما إذا لم يؤذن له بذلك وتصرف من غير إذن فإنه لا يرجع مطلقا سواء نوى التبرع أم لم ينوه، لأن هذا الصلح غير لازم للمنكر فإنه يمكنه أن يدفع هذه الخصومة باليمين فلم يكن هذا الصلح لازما في حقه، فحينئذ لا يلزمه أن يعطي الأجنبي ما دفعه من المال في هذا الصلح، لأنه قد تصرف عنه بما لا يلزمه، فلا يجب عليه كما تقدم في مسألة شبيهة بهذه. قوله [وإن حصل غصن شجرته في هواء غيره أو قراره أزاله] هنا في أحكام الجوار وهي داخلة في مسائل الصلح، لأن الصلح يجوز في مسائل منها يأتي ذكرها إن شاء الله، أو أن يكون هذا من باب ذكر الشيء مع ما يناسبه. فإذا حصل غصن شجرته في هواء غيره أو قراره أزاله، لأن مالك القرار مالك للهواء، فمن ملك أرضا فإنه يملك هواءها، وتقدم هذا في باب بيع الأصول والثمار، فإذا غرس جاره شجرة في ملك نفسه فخرجت أغصانها إلى قرار أرض جاره أو هوائها وطالبه الجار بإزالة ذلك فإنه يجب عليه أن يزيلها، ولذا قال المؤلف هنا (أزاله) ، هذا إذا كان يطلب منه ذلك، وهل يجبر على هذا أم لا؟ قولان في المذهب: القول الأول: وهو المشهور من المذهب أنه لا يجبر، قالوا: لأنه هذا ليس من فعله. القول الثاني: وهو الراجح أنه يجبر على هذا، لأنه وإن لم يكن من فعله فهو من فعل ملكه، وهذا الشجر في ملكه، والشجر غير مكلف فكان التكليف لاحقا للمالك، فعليه أن يزيله، فإن أجبره الحاكم فلم يفعل فترتب ضرر بعد مطالبة الجار فإنه حينئذ يضمن لأنه قد تعدى والمتعدي ضامن. قوله [فإن أبى لواه إن أمكن وإلا قطعه]

فإن أبى أن يزيله فإنه يلويه، أي يلوي الجار الغصن الذي خرج على أرضه، يلويه إن أمكن ذلك، وإن لم يمكن فله أن يقطعه وليس له أن يقطعه مع إمكان ليه، فإن قطعه مع إمكان ليه فإنه يضمن لأنه متعدي والمتعدي ضامن، إذن يلويه فإن لم يمكنه فإنه يقطعه ولا ضمان عليه حينئذ للحوق الضرر به، وكان هذا كالصائل الذي لا يدفع إلا بالقتل. كذلك عروق الشجر إذا دخلت في أرضه فكذلك لأن الشخص يملك الأرض وقرارها، ولا يجوز لصاحب الملك أن يضع في ملكه ما يتضرر به جاره، كأن يغرس فيه أثلا أو أن يضع فيه تنورا، أو يضع فيه حماما فيه بخار بحيث يلحق الجار ضرر، فهذا لا يجوز لقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: (لا ضرر ولا ضرار) [حم 2862، جه 2340] فهو يتصرف في ملكه بما شاء في حدود ما أباحه الله، لكن ليس له أن يفعل في ملكه ما يكون فيه ضرر على جاره. قوله [ويجوز في الدرب النفاذ فتح الأبواب للاستطراق] الدرب النافذ هو الذي ثبتت فيه الملكية العامة وليست خاصة، فله أن يفتح عليه الأبواب للاستطراق أي لتكون طريقا، فهذا جائز ولا خلاف فيه جوازه، لأن هذا لا يضر بالمجتازين والحاجة داعية إليه، وما زال المسلمون يفعلونه قديما وحديثا من غير نكير. قوله [لا إخراج روشن وساباط]

الروشن: كان موجودا قديما ويوجد أيضا في البيوت المسلحة، وهو أن يضع شيئا من الأخشاب ونحوها فتمتد إلى الخارج ثم يبني عليه ما يقارب المتر أو المترين ونحوه، أما الساباط فهو أن تمتد الأخشاب حتى تصل إلى الجدار المقابل سواء كان جداره أو جدار غيره ثم يبني عليه، فلا يجوز أن يضع الروشن والساباط، قالوا: لأن الهواء ملك لغيره، فإذا بناه فقد بناه على ملك غيره، ولأنه قد يضر بالمجتازين بالسقوط، فقد يسقط، ولأنه - لاسيما الساباط - يسد الهواء، ويمنع دخول الضوء، قالوا: فلا يجوز إلا بإذن السلطان، فإذا أذن فإنه يجوز ذلك، لأن السلطان نائب المسلمين، وهو حق للمسلمين، فإذا أذن فيه السلطان وهو نائبهم جاز، وعن الإمام أحمد وهو مذهب جمهور العلماء أن ذلك جائز حيث لا ضرر، وأما المذهب فإنهم يمنعون منه مطلقا سواء كان فيه ضرر أم لم يكن، قال الجمهور: يجوز ذلك إذا لم يكن فيه ضرر، لأن الطريق يسلكه المارة ويجلسون فيه، فكذلك يجوز هذا، واجب الحنابلة بأن المشي في الطريق إنما وضع الطريق له، لم يمنع منه، ولأن الجلوس في الطرقات لا يدوم ولا يمكن التحرز منه بخلاف هذا، وما ذهب إليه الحنابلة أظهر وأنه يحتاج إلى إذن السلطان، وذلك لأن هذا الهواء ملك عام للمسلمين فاحتيج إلى إذنهم، والسلطان هو نائبهم، وبناءه بغير إذن تصرف في ملك الغير، ولأنه قد يقع فيه ضرر، ولا شك أن فتحه من غير إذن السلطان قد يترتب عليه مفاسد كثيرة، فالصحيح ما ذهب إليه الحنابلة. قوله [ودكة]

الدكة هي المكان المرتفع يبنى عند الدار ويجلس عليه، وهذا لا يجوز، ولا خلاف بين أهل العلم في أنه لا يجوز، كما قال ذلك الموفق، فلا يجوز هذا سواء كان الطريق واسعا أو ضيقا لأنه تصرف في الملكية العامة، وأما إذا أذن السلطان فإنه يجوز لأنه نائب المسلمين، ولا ينبغي للسلطان أن يأذن إلا إذا لم يكن هناك ضرر بالمارة، بل إذا ثبت ذلك فإنه لا يجوز ولو أذن السلطان لحديث: (لا ضرر ولا ضرار) قوله [ولا ميزاب] لا يجوز أن يوضع الميزاب، بحيث يصب في الطريق، وهذا هو المشهور من المذهب، قالوا: لأنه يزلق الطريق، ولأنه قد يؤذي المارة فيصب عليهم، وعليه فيحتاج إلى إذن من السلطان، والقول الثاني في المسألة وهو مذهب جمهور العلماء وهو اختيار شيخ الإسلام وتلميذه ابن القيم أن ذلك جائز، قالوا: لأن الحاجة داعية إلى وضعه لأنه يدفع الضرر عن البيت، وعادة الناس جارية على وضعه قديما وحديثا ولا نكير فيه، وكونه يزلق ويؤذي المارة فإن هذا ضرر ضعيف بالنسبة إلى الضرر الذي يقع في بيوت الناس، وكون الزلق في الطريق هذا يقع مع الأمطار ومع سيل الماء من البيوت وهذا يقع غالبا، فيكون حدوث هذا في ضمن حدوث غيره، فالذي يظهر أنه لا يحتاج إلى إذن من السلطان لأن الحاجة داعية إليه، والعادة جارية به. قوله [ولا يفعل ذلك في ملك جاره ودرب مشترك بلا إذن المستحق] فليس له أن يضع في هواء جاره روشنا ولا ساباطا ولا ميزابا ولا دكة ولا غير ذلك، وذلك لأنه تصرف في ملك الغير بدون إذنه فلم يحل، كذلك الدرب المشترك لا يحل له أن يفعل فيه مثل هذا، بل يتوقف هذا على إذن المشارك لأن فيه ملكية للغير فاحتيج منه إلى الإذن، فإن أذن فهذا جائز. قوله [وليس له وضع خشبة على حائط جاره إلا عند الضرورة إذا لم يمكنه التسقيف إلا به وكذلك المسجد وغيره] يجوز له أن يضع خشبة على حائط جاره بشرطين:

الأول: ألا يكون في ذلك ضرر على الجار، لحديث: (لا ضرر ولا ضرار) الثاني: أن تكون هناك ضرورة لذلك، أما إذا كانت حاجة فلا، فإذا كان يمكنه أن يضع الخشب على غير جدار جاره كأن ينصب خشبا فيضعها عليه أو أن يضع جدارا آخر فإنه ليس له أن يفعل ذلك - هذا هو كلام المؤلف - وكذلك المسجد وغيره كالوقف من باب أولى، لأنه إذا ثبت في حق الآدمي المبني حقه على المشاحة ففي حق الله المبني على المسامحة أولى، ودليل هذه المسألة قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: (لا يمنعن جار جاره أن يغرز خشبه على جداره) متفق عليه من حديث أبي هريرة [خ 2463، م 1609] وظاهر الحديث عدم اشتراط الضرورة، فالحديث عام في الضرورة وغيرها، وهو قول ابن عقيل من الحنابلة، وأن الجار له أن يغرز خشبه على جدار جاره حيث لا ضرر على الجار، وإن لم تكن هناك ضرورة، وهذا القول هو الموافق لظاهر حديث النبي - صلى الله عليه وسلم - فالصحيح أنه لا يشترط الضرورة، بل ذلك جائز حيث لا ضرر لعموم الحديث، وقال جمهور العلماء: لا بد من الإذن، وحملوا الحديث على الكراهية، وأن له أن يمنع لكن يكره له المنع، وهذا يخالف ظاهر قول النبي - صلى الله عليه وسلم -، فإن ظاهر قوله التحريم، قال الجمهور: ليس له أن يضع خشبه على جدار جاره عند الضرورة مع عدم الضرر إلا بإذن الجار، واستدلوا بالأحاديث العامة في أنه لا يحل مال امريء مسلم إلا بطيب نفس منه [حم 20172] والجواب: أن هذا الحديث عام، والحديث الذي استدل به الحنابلة خاص، فيخصص عموم هذا بهذا، إذن له أن يغرز الخشبة في جدار جاره من غير إن حيث لا ضرر سواء أكانت هناك ضرورة أم لم تكن. قوله [وإذا انهدم جدارهما أو خيف ضرره فطلب أحدهما أن يعمره الآخر معه أجبر عليه]

إذا انهدم جدارهما المشترك، أو خيف ضرره أي خيف أن يسقط كأن يظهر فيه انهدام أو شيء من الاعوجاج ونحو ذلك، فطلب أحدهما من الآخر أن يعمره معه فإنه يجبر على ذلك، وهذا هو المشهور من المذهب وهو اختيار شيخ الإسلام رحمه الله، وقال الأحناف والشافعية لا يجبر على ذلك، أما دليل أهل القول الأول فهو حديث: (لا ضرر ولا ضرار) وانهدامه يضر بالجار، واستدل أهل القول الثاني بعلة وهي أن هذا الجار الذي لم يشأ أن يبني جداره لا يلزمه أن يبنيه، والجدار لا حرمة له، فلم يجب عليه أن ينفق عليه، فالنفقة غير واجبة في بنائه وإصلاحه ونحو ذلك، وما ذكروه صحيح حيث كان الجدار له وحده، أما وله مشارك فلا يظهر تعليلهم، وعليه فالراجح هو القول الأول، ويؤيده ما سبق ذكره في الرهن وأنه يلزم بالنفقة على الرهن حيث كان هناك ضرر على الآخر، وهنا كذلك. قوله [وكذا النهر والدولاب والقناة] كذلك النهر إذا احتاج إلى إصلاح فإن كل من يستفيد من هذا النهر فإنه يلزم بهذا الإصلاح، وهذا يتضح في الأنهار التي تحتاج إلى إصلاح وتعمير وحفر، وذلك لأنه شيء مشترك فأشبه المسألة المتقدمة، فإن الحقوق متعلقة به، بخلاف ما لو كان منفردا، كذلك الدولاب، وهو الذي تديره الدابة للسقي بمعنى: يكون في البئر أو عند النهر فتديره الدواب فيسقي منه الناس، فالدولاب إذا احتاج إلى إصلاح فكذلك كما يكون في الجدار، وكذلك القناة، وهي ما يشق من النهر مما يكون مجرى للماء، أي يجري إلى بعض مزارع الناس أو إلى بيوتهم، فكذلك إذا احتاج إلى إصلاح فإنه يجبر الآخرون، لأنه حق مشترك، لحديث: (لا ضرر ولا ضرار) .

ومن هذا الحديث يؤخذ أن الجار إذا كان منزله عاليا فإنه يؤمر بوضع سترة تمنعه من الإشراف على جيرانه، وأما إن كانت البيوت متساوية في العلو ويشرف بعضها على بعض فإن السترة يشترك فيها، وذلك لما تقدم في الجدار المشترك، فهنا ما دام أن البيوت متساوية فإن السترة يشترك فيها، فإذا أراد بعض الجيران عمل سترة فإن له أن يطالب بقية الجيران بوضع السترة لأنه حق مشترك. * مسألة: هل يجوز أن يقول الجار لجاره: آذن لك أن تجعل الأغصان تمتد، ولكن آخذ منك جزءا من ثمرها أو آخذ منك كذا وكذا من الدراهم؟ الجواب: هذا جائز، فإن قيل: امتداد الأغصان مجهور، فأصبح المصالح عنه مجهولا فلا يجوز، فالجواب: أن هذا المصالح عنه مجهول لا يمكن العلم به، فأشبه الإرث الدارس، وحيث كان المصالح عنه مجهولا يحتاج إليه ولا يمكن معرفته فإن الصلح جائز كما تقدم في مسألة شبيهة بهذه، وفي المسألة قولان في المذهب، فالمشهور من المذهب المنع منه لأن المصالح عنه مجهول، والقول الثاني أنه جائز، قال الموفق: " واللائق في مذهب أحمد صحته " ا. هـ. باب الحجر الحجر لغة: المنع، وفي اصطلاح الفقهاء: منع الإنسان من التصرف في ماله، والحجر نوعان: 1- حجر لحظ النفس، كالحجر على الصبي في ماله. 2- حجر لحظ الغير، كالحجر على المفلس. وقد روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: (أنه حجر على معاذ في ماله وباعه في دين كان عليه) [هق 6 / 48، قط 4 / 230] وعليه العمل، وله شاهد عن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - من فعله، رواه مالك في موطئه أنه حجر على رجل من جهينة [ك 1501، كتاب الأقضية] والعمل على هذا عند أهل العلم، وفيه حفظ للحقوق، فالحجر على الغير فيه حفظ لحقوق الغير من الضياع، فالحجر على المفلس فيه حفظ لحقوق الدائنين من الضياع، كما أن في ذلك إبراء للذمة من هذا الدين، والحجر لحظ النفس فيه حفظ لمال المحجور عليه من الضياع.

قوله [ومن لم يقدر على وفاء شيء من دينه لم يطالب به وحرم حبسه] مثاله: رجل مدين سواء كان عن قرض أو عن ثمن مبيع أو نحو ذلك، ففي ذمته ديون لا يقدر على وفائها فهو معسر، فتحرم مطالبته بالدين لإعساره ويحرم حبسه، ودليل ذلك قول الله تعالى {وإن كان ذو عسرة فنظرة إلى ميسرة} فأوجب الله إنظاره فحرمت المطالبة وحرم حبسه، ولما ثبت في مسلم من حديث أبي سعيد الخدري: (أن رجلا أصيب في عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - في ثمار ابتاعها فأفلس، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - تصدقوا عليه، فتصدق الناس عليه، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - لغرمائه: خذوا ما وجدتم وليس لكم إلا ذلك) [م 1556] فدل على أنهم ليس لهم مطالبته وأنه ليس للحاكم أن يحبسه، ولقول النبي - صلى الله عليه وسلم - فيما رواه أبو داود والنسائي والحديث حسن: (لي الواجد يحل عرضه وعقوبته) [ن 4689، د 3628، جه 2427] أي مماطلة الغني تحل عرضه أي أن يقال: مطلني، وتحل عقوبته: أي الحبس، قال ذلك سفيان بن عيينة كما في صحيح البخاري قال:" عرضه أن يقول: مطلني، وعقوبته: الحبس " [خ كتاب في الاستقراض وأداء الديون والحجر والتفليس] ، ومفهوم هذا الحديث أن غير الواجد لا يحل عرضه ولا عقوبته، فعليه: من لم يقدر على وفاء شيء من دينه لم يطالب به، وحرم حبسه، وأما إن كان معروفا بالغنى أو كان قد اشترى شيئا عن عوض، كأن يشتري سلعة بثمن مؤجل، ثم ادعى الإعسار، فإنه يحتاج إلى بينة تثبت إعساره، لأن الأصل بقاء هذا المبيع الذي قد اشتراه بثمن، والأصل أيضا بقاء غناه، فهو معروف بالغنى، فإذا ادعى الإعسار لم يقبل ذلك إلا أن يأتي ببينة، فإن لم يأت ببينة فإنه يحبس، لقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: (لي الواجد يحل عرضه وعقوبته) ، والمشهور في مذهب الإمام أحمد أن البينة على الإعسار أن يشهد شاهدان، فإن شهد اثنان على أنه معسر فإن ذلك

يكفي، وعن الإمام أحمد وهو مذهب بعض الحنابلة وبعض الشافعية وهو اختيار ابن القيم أنه لا يكفي لإثبات إعساره إلا ثلاثة، فإذا شهد ثلاثة ممن يخبر حاله على أنه معسر فإن الإعسار يثبت، ودليل هذا ما ثبت في مسلم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (ورجل أصابته فاقة حتى يقول ثلاثة من ذوي الحجى من قومه لقد أصابت فلانا فاقة فحلت له المسألة حتى يصيب قواما من عيش) [م 1044] ، فإذا كان هذا في المسألة وفي جواز إعطاء الزكاة، فأولى من ذلك ما يسقط به أداء الدين، فلا شك أن الاحتياط في قضاء حقوق الناس أولى من المسألة ومن إعطائه شيئا من الزكاة، وهذا القول هو الراجح، وأن البينة المثبتة للإعسار يشترط أن يكون ثلاثة ممن يخبر حاله. قوله [ومن له مال قدر دينه لم يحجر عليه وأمر بوفائه] من ماله قدر دينه فإنه لا يحجر عليه، إذ لا فائدة من الحجر، فالمقصود من الحجر حفظ حقوق الناس، وحيث إن ماله قدر دينه فلا فائدة من الحجر، وفي بعض الشروح:" ومن له قدرة على وفاء دينه "، فلا يحجر عليه إذا لا فائدة من الحجر وهو قادر، لكن يؤمر بالوفاء وذلك لأن مطله ظلم، والواجب على الحاكم أن يمنع الظلم والمماطلة.

واعلم أن المفلس الذي يحجر عليه عند الفقهاء كما هو المشهور عندهم هو من دينه أكثر من ماله، وعليه فإذا كان دينه قدر ماله فإنه لا يحجر عليه، وقد تقدم أن في بعض النسخ كما في بعض النسخ من الروض:" ومن له قدرة "، هذا هو المشهور في مذهب الفقهاء، وفي هذا نظر، فإن العلة التي يحجر بها على من كان دينه أكثر من ماله هي تعلق حقوق الغرماء ذوي الديون الحالة، وهذه العلة ثابتة أيضا فيما إذا كان ماله قدر دينه، ولذا قال بعض الحنابلة:" وكذلك إذا كان قدره ولا كسب له وليس له ما ينفق على نفسه سواه "، وهو كما قال لما تقدم، والأحكام تدور مع عللها وجودا وعدما، فحقوق الغرماء متعلقة بماله حيث كان دينه قدر ماله كأن تكون عنده حلي تساوي عشرة آلاف، وعليه دين يساوي عشرة آلاف، وليس له طريق يتكسب به، فنفقته من هذه الحلي أن يبيعها، فإنه يحجر عليه، أما إذا كان له كسب آخر يأكل منه وينفق منه على نفسه، أو كانت له صنعة ينفق على نفسه منها فإنه كما قال الفقهاء، إذن إذا كان لا مال له سوى هذا المال الذي تعلقت به ديون الناس فإنه يحجر عليه، وعلى هذا فالراجح هو ما ذكره بعض الحنابلة من أن المفلس من كان دينه أكثر من ماله، أو قدر ماله ولا كسب له سواه. * وهل للغريم أن يمنع مدينه من السفر أم لا؟ وبعبارة أخرى: هل لا بد أن يستأذن المدين الدائن عندما يريد السفر؟ المسألة فيها تفصيل: الحالة الأولى: أن يكون قدومه من سفره قبل حلول الأجل المتفق عليه، فهنا ليس للدائن أن يمنع المدين من السفر، إلا أن يكون السفر سفرا غير آمن كسفر الجهاد ونحوه فله أن يمنعه، إلا أن يقيم ضمينا أو رهنا. الحالة الثانية: أن يكون قدومه بعد حلول الأجل، فهنا يشترط الاستئذان لتعلق حق الغريم، إلا أن يقيم رهنا أو ضمينا. قوله [فإن أبى حبس بطلب ربه] فإذا أبى الوفاء فإنه يحبس بطلب رب المال فإنه حقه.

قوله [فإن أصر ولم يبع ماله باعه الحاكم وقضاه] إذا أصر وأبى أن يقضي صاحب الحق حقه فحينئذ يباع ماله عليه ويعطى صاحب الحق حقه، لأن هذا من منع الظلم ومنع الظلم واجب، ودليل حبسه حديث: (لي الواجد يحل عرضه وعقوبته) وهذا لي منه، ولأنه كما قال صاحب الإنصاف:" الغالب أن الحقوق لا تستخرج إلا به - أي بالحبس - أو ما هو أشد منه في الأزمنة المتأخرة " ا. هـ وظاهر كلام المؤلف وغيره من الحنابلة أنه يحبس مطلقا ولو عارض ذلك حق آخر، كأن يكون أجيرا فيكون في حبسه تضييع حق مؤجره، أو أن تكون زوجة فيكون في حبسها تضييع لحق زوجها، واختار الشيخ عبد الرحمن بن سعدي أنه إذا عارضه حق آخر فإنه لا يحبس وذلك لأنه يمكن أن يجبر على إعطاء الحق بغير حبس، فكان هذا الإجبار بغير الحبس تحصيل للحقين، فيحصل الزوج حقه من زوجته، ويحصل الدائن حقه من مدينه بغير حبس، وهذا هو الظاهر إن أمكن ذلك، فإذا أمكن أن يحجر على المرأة في بيتها وأن تحبس في بيتها فتمنع من الخروج وكان في استطاعة الزوج منعها من ذلك، وكذلك إذا كان هناك قدرة على حبس الأجير ومنعه من غير أن يحبس في غرفة ونحو ذلك فأمكن حفظ حق الغريم من غير أن يكون هناك حبس وأمكن جبره على إعطاء الحق فإن ذلك هو الأولى.

والحجر لا يثبت إلا بحكم الحاكم، وهذا قول الحنابلة وعليه فله أن يتصرف قبل حجر الحاكم عليه، وإن كان هذا التصرف يضر بغرمائه، فمثلا: رجل مدين، وقد استوفت الديون أمواله، فتصدق بشيء من ماله أو أوقفه أو أهداه أو تصرف فيه بأي شيء من التصرفات التي تضر بالغرماء فصريح كلام الحنابلة أنه ينفذ تصرفه ويصح، وإنما لا ينفذ إذا حكم الحاكم بالحجر عليه، واختار شيخ الإسلام ابن تيمية وهو رواية عن الإمام أحمد وهو اختيار الشيخ عبد الرحمن بن سعدي أن الحجر يثبت قبل حكم الحاكم متى توفرت دواعيه، فإذا توفر داعي الحجر فليس له أن يتصرف ولا تنفذ تصرفاته، فإذا كان الرجل مدينا وكان في تصرفه ضرر على الدائنين فإن هذا التصرف لا ينفذ، وهذا القول هو الراجح، وذلك لما في من حفظ حقوق الناس، فلو أعتق لم ينفذ عتقه، ولو تصدق لم تنفذ صدقته وهكذا سائر الأحكام، وحكم الحاكم بالحجر لا يعدو أن يكون إظهارا لمنعه من التصرف وإلا فهو ممنوع من التصرف قبل ذلك، لأن الأحكام تدور مع عللها وجودا وعدما والعلة ثابتة قبل حكم الحاكم. قوله [ولا يطلب بمؤجل] وهذا ظاهر، فإن المؤجل لا يجب أداؤه إلا عند حلوله، فإذا لم يحل فإن أداءه غير واجب، وعليه فلا يطالب به لأنه ليس بواجب. قوله [ومن ماله لا يفي بما عليه حالا وجب الحجر عليه بسؤال غرمائه أو بعضهم] لما تقدم من حديث معاذ وأثر عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -، وتقدم أن العمل عليه عند أهل العلم، فمن كان ماله لا يفي بما عليه من الديون الحالة فإنه يحجر عليه، بسؤال غرمائه أو بعضهم، لأنهم أصحاب الحق، وتقدم القول بأنه يحجر عليه قبل حكم الحاكم لتعلق حقوقهم بذلك كما هو اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية وغيره. قوله [ويستحب إظهاره] أي يستحب إعلان وإظهار ذلك، ليكون تصرف الناس معه على بصيرة، فيظهر ويبين لئلا يغتر به الناس، فيتصرفون معه تصرفا يضر بهم.

قوله [ولا ينفذ تصرفه في ماله بعد الحجر ولا إقراره عليه] إذا حجر عليه فإنه لا ينفذ تصرفه في ماله، وذلك حق الغريم، فلو أعتق لم ينفذ، ولو وهب أو أوقف وقد حجر عليه فإن هذه التصرفات لا تنفذ، وكذلك لو أقر فإن إقراره يمنع منه وذلك لتعلق حق الغرماء بماله، فيمنع من الإقرار ولا ينفذ إقراره، وظاهر كلامه أن عدم نفوذ تصرفه وإقراره أن ذلك بعد الحجر وأما قبل الحجر فإنه يصح، والصحيح أنه لا يصح لا قبل الحجر - أي حجر الحاكم عليه - ولا بعده، إلا أن الإقرار يصح قبل الحجر إذا أمكن كأن تكون هناك قرائن تدل على ثبوت هذا الإقرار وصحته فإنه يقبل لما فيه من تحصيل حق المقر له، فإذن المشهور من المذهب أن تصرفه بعد الحجر ممنوع والصحيح أنه يمنع من التصرف قبل حكم الحاكم بالحجر وبعده كما تقدم. قوله [ومن باعه أو أقرضه شيئا بعده رجع فيه إن جهل حجره وإلا فلا] إذا باع رجل على هذا المفلس شيئا بثمن مؤجل، أو أقرضه شيئا ولم يعلم أنه محجور عليه، فإنه أن يرجع فيأخذ حقه منه، وذلك لأنه معذور بجهله. فإن قيل: ألا يكون مفرطا لأنه لم يسأل أهو محجور عليه أم لا؟ فالجواب: أن الأصل عدم الحجر، فالأصل هو صحة التصرف ونفوذه.

ومن باعه شيئا قبل الحجر ثم وجد سلعته قائمة بعينها بعد الحجر عليه فهو أحق بها من سائر الغرماء، مثاله: رجل باع رجلا سلعة بثمن مؤجل إلى شهر، وبعد أسبوع أفلس الرجل، وحكم عليه بالحجر، فوجد هذا الرجل سلعته قائمة بعينها لا زيادة فيها ولا نقصان فإنه أحق بها من سائر الغرماء، ودليل ذلك ما ثبت في الصحيحين أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (من أدرك ماله بعينه عند رجل قد أفلس فهو أحق به) [خ 2402، م 1559] هذا إذا لم يكن فيها زيادة ولا نقصان، فإن كان فيها زيادة كأن يكون عبدا فيعلمه الكتابة، أو أن يكون فيها نقص كأن يشتري سلعة فيتصرف فيها تصرفا ينقصها كطعام ونحوه يؤخذ منه شيء يسير، فقد اختلف أهل العلم، هل له الرجوع أم لا حق له في الرجوع فيكون أسوة الغرماء يأخذ قسطه من الدين كما يأخذ سائر الغرماء قسطهم من الدين؟ قولان لأهل العلم: 1- قال الحنابلة لا رجوع له، لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (من أدرك ماله بعينه) وهذا لم يدرك ماله بعينه بل أدركه وفيه زيادة أو نقص.

2- وقال المالكية والشافعية بل يرجع، وحينئذ إن كانت السلعة فيها زيادة فإن هذه الزيادة تقوم ويدفع قيمتها للغرماء، وإن كان فيها نقص فيشارك الغرماء بقدر هذا النقص، كأن تكون السلعة سعرها قبل هذا النقص مائة ألف، وبعد النقص أصبحت تساوي ثمانين ألفا، فيشارك الغرماء بعشرين ألفا، فيكون كما لو كان عليه عشرون ألفا فحسب، والصحيح ما ذهب إليه أهل القول الأول، وذلك لثبوت الزيادة والنقص، ولأن الأصل أنها أصبحت ملك للمدين وكل ملك لهذا المدين فالغرماء فيه أسوة، وهم مشتركون فيه، وهذا خلاف الأصل فتعين البقاء على ما ورد، فهو استثناء فتعين البقاء على ما ورد، ولأنه إذا قبض شيئا من الثمن فهو أسوة الغرماء، فكذلك إذا تغير المبيع بزيادة أو نقص، فلو أنه مثلا باعه سلعة بمائة ألف إلى سنة، وأعطاه مقدما خمسة آلاف ثم أفلس هذا المشتري، وحجر عليه فحينئذ لا رجوع لهذا البائع وإن وجد سلعته قائمة بعينها، لا زيادة فيها ولا نقصان، فكما أنه إذا كان هناك استلام للثمن فلا رجوع فكذلك إذا كان هناك تغير في المبيع بزيادة أو نقص، ودليل أنه إذا استلم شيئا من الثمن فلا رجوع له ما رواه أبو داود أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (أيما رجل باع متاعه فأفلس الذي ابتاعه ولم يقبض الذي باعه من ثمنه شيئا فوجد متاعه بعينه فهو أحق به، وإن مات المشتري فصاحب المتاع أسوة الغرماء) [د 3520] والحديث اختلف في وصله وإرساله، والصواب أنه مرسل، كما رجح هذا أبو داود وغيره، لكن لكل شطر من الحديث شاهد، أما الشطر الأول وهو الذي فيه أنه إذا قبض شيئا من الثمن فلا رجوع له فله شاهد عند الإمام أحمد من حديث الحسن عن أبي هريرة [حم 10415] ، وأما الشطر الثاني الذي فيه أنه إذا مات فإن البائع أسوة الغرماء - وهي مسألة أخرى - فلها شاهد عند ابن ماجة من حديث أبي هريرة [جه 2361] وفيه اليمان بن عدي وهو ضعيف لكن حديثه يصلح أن يكون

شاهدا. فهذا الحديث فيه مسألتان: المسألة الأولى: أنه إذا قبض شيئا من الثمن فلا رجوع. المسألة الثانية: أنه إذا مات المشتري المفلس وانتقل الحق إلى الورثة فلا رجوع بل يكون أسوة الغرماء. قوله [وإن تصرف في ذمته أو أقر بدين أو جناية توجب قودا أو مالا صح] تقدم أنه ليس له أن يتصرف في الأموال التي ثبت الحجر عليها، فليس له أن يتصرف فيها، مثاله: عنده مزرعة ودار ودكان ثبت الحجر عليها، فليس له أن يتصرف فيها ببيع أو هبة أو هدية أو نحو ذلك، لأن مقتضى الحجر منعه من ذلك، ولما في ذلك من الإضرار بحقوق الغرماء، فقد تعلقت حقوق الغرماء بهذه الأموال التي قد ثبت الحجر عليها، ومثل ذلك الإقرار، فلا يجوز، فلو قال هذه الدار - التي ثبت الحجر عليها - لفلان فلا يقبل إقراره، وأما هنا فالأموال التي أقر بها أو التي باع بها قد تعلقت في الذمة، فإذا اشترى في الذمة أو اقترض أو أقر أو نحو ذلك فهي تصرفات صحيحة، وذلك لأنه أهل للتصرف، وهو جائز التصرف، وإنما حجر عليه في ماله لا في ذمته، فالحجر ثابت في هذه الأموال التي قد احتيط لحقوق الغرماء بالحجر عليها، وأما ما يكون في الذمة فإنه خارج عن هذا، فه أن يشتري في الذمة وأن يوصي وأن يقترض وغير ذلك، ولا يطالب هذا المقرض ولا هذا الدائن بحقه في هذه الأموال التي ثبت الحجر عليها، وغنما يطالب بعد الحجر وذلك حقوق الغرماء، ولذا قال المؤلف بعد ذلك: قوله [ويطالب به بعد فك الحجر عنه] فلا يطالب إلا بعد فك الحجر عنه، لأن هذا الحجر ثابت لحقوق الغرماء، وأما هذا الغريم الذي قد ثبت حقه بعد الحجر فلا حق له في هذه الأموال التي ثبت الحجر عليها. قوله [ويبيع الحاكم ماله] فيبيع الحاكم هذه الأموال بالأحظ له، فيبيعها بثمن السوق بأفضل ما يكون، فلا يتعجل البيع بل يحتاط له في البيع، فيبيعها من غير عجلة، لأن العجلة في الغلاب تنقص من ثمنه.

قوله [ويسقم ثمنه بقدر ديون غرمائه] مثال هذا: عليه من الديون مائتا ألف، والدائنون أربعة، لكل واحد منهم خمسون ألفا، فكل واحد منهم يريد منه الربع أي بنسبه (25 %) ، فإذا بعنا ماله فتحصل نه مائة ألف فلكل واحد منهم (25 %) أي ربع المائة ألف، فكل واحد منهم يأخذ خمسة وعشرين. قوله [ولا يحل مؤجل بفلس] إذا أفلس الرجل وثبت الحجر عليه فإن ديونه المؤجلة لا تحل، وذلك لأن التأجيل حق له، فلا يسقط بفلسه، فطالما قد اتفقا على أن الدين لا يحل إلا بعد سنة، أو سنتين ثم أفلس فإن هذا لا يعني أن يحل الدين بفلسه. قوله [ولا بموت إن وثق الورثة برهن أو كفيل مليء]

إذا مات فلا يحل دينه المؤجل، مثال هذا: اقترض رجل من آخر مائة ألف إلى سنة، ثم توفي بعد يوم أو يومين، فلا يحل هذا الدين بل يبقى مؤجلا كما اتفقوا علبه قبل الموت لكن لا بد أن يوثق برهن أو كفيل مليء، فيقال للورثة: إما أن تعطوه حقه، وإما أن توثقوه برهن أو كفيل مليء حفاظا على حقه من الضياع، لأنه إذا مات من عليه الدين وانتقل ماله إلى الورثة فإن هذا مظنة ضياع الحق، ومظنة المضارة بصاحب الحق فلا بد أن يحتاط له، وقال جمهور العلماء وهو رواية عن الإمام أحمد أن الدين المؤجل يحل بالموت مطلقا، وللدائن أن يمنع التوثيق فيقول أنا أريد حقي ويمنع التوثيق برهن أو كفيل، قالوا: لأن هذا الدين إما أن يتعلق بذمة الميت، وإما أن يتعلق بذمة الورثة، وإما أن يتعلق بعين المال الموروث أي بعين التركة، قالوا: أما تعلقه بذمة الميت فهو ممتنع، لأن ذمته قد خربت بالموت، فالمطالبة متعذرة، ولا يمكن أن يعلق بذمة الورثة لأن الدائن لم يرض بذلك، فتعلقه بذمتهم يحتاج إلى رضى، ويحتاج إلى أن يلتزموا، وهذا لم يثبت فكان ذلك ممتنعا، أما إذا التزموا بذلك ورضي به فهذا شيء آخر، ولكن المقصود أن تقع المسألة من غير هذا، وأما تعلقه بعين المال فهذا ممتنع، لأننا إذا علقناه بعين المال فقلنا مثلا: حقه متعلق بهذه الدار التي ورثها الميت فحينئذ يتضرر الميت ببقاء الدين معلقا به، والميت مرتهن بدينه حتى يقضى عنه، ويتضرر أيضا الدائن بتأخير حقه مع احتمال تلف هذه الأعيان أو التلاعب في هذا المال، فيتحمل الضرر عليه، والورثة لا ينتفعون بذلك لأنهم يمنعون من التصرف بهذه الأعيان لتعلق حق الدائن بها، فلا يتعلق بعين المال، فإذا كان لا يتعلق بذمة الميت ولا بذمة الورثة ولا بعين المال تعين أن يكون حالا غير مؤجل، فالراجح أنه يحل بموت الميت، وهذا هو مذهب جمهور العلماء وهو رواية عن الإمام أحمد.

قوله [وإن ظهر غريم بعد القسمة رجع على الغرماء بقسطه] وهذا ظاهر، ففي المسألة السابقة: الغرماء أربعة، فثبت غريم خامس، فلا بد وأن يكون له نصيب من القسمة، فيأخذ قسطه، فتعود المسألة حينئذ بعد أن كان لكل واحد منهم الربع يكون لكل واحد منهم الخمس، هذا إذا كان نصيبه كنصيب سائر الغرماء، وهذا كما لو قسمت التركة على ورثة فثبت أن هناك وارث أو هناك وصية فإننا نعود إلى المسألة من جديد فنعطي كل ذي حق حقه. قوله [ولا يفك حجره إلى الحاكم] لا يفك حجرا إلى الحاكم، هذا إن بقي عليه حق، وذلك لأن هذا الحجر قد ثبت بحكمه فلم يفك إلا بحكمه، وأما إذا لم يبق عليه شيء فإن الحجر ينفك تلقائيا، بمعنى أنه بمجرد ما يقضي ما عليه من الديون ولا يبقى عليه حقوق فحينئذ يفك عنه الحجر من غير حكم الحاكم، وذلك لزوال موجبه، فإن الموجب للحجر هو تعلق حقوق الغرماء، وقد زال هذا التعلق فحينئذ يزول الحجر من غير حكم الحاكم. * مسألتان: المسألة الأولى: هل يلزم المفلس بالتكسب والعمل لقضاء دينه حيث لم تفي أمواله بقضاء ديونه؟ قولان لأهل العلم: القول الأول: وهو المشهور من المذهب أن المفلس يلزم بذلك حيث كان له قدرة على التكسب والتحرف، فليزم بالعمل ليقضي أصحاب الحقوق حقوقهم. القول الثاني: وهو مذهب المالكية والشافعية أنه لا يلزم بذلك.

واستدل أصحاب القول الأول بما ثبت في سنن الدارقطني بإسناد صحيح أن النبي - صلى الله عليه وسلم -: (باع حرا قد أفلس في دينه) [قط 3 / 16، هق 6 / 50] أي باع منافعه، وهذا من باب المجاز لامتناع ذلك في الشريعة، وهذا كقوله تعالى {واسأل القرية} أي اسأل أهلها، فقوله (باع حرا) أي باع منافعه، أي أجره، وهذا يدل على أن يعمل ويتكسب ليقضي دينه، ويستدل على ذلك بأن الشريعة قد دلت على وجوب إعطاء صاحب الحق حقه، وإنما عذر المعسر لإعساره، أما وهناك وسيلة لقضاء الدين فإنه لا عذر، وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب، والوسائل لها أحكام المقاصد، فإعطاء الحق لصاحبه واجب، ووفاء الدين واجب، والتكسب والعمل وسيلة إلى ذلك فهو قادر على هذه الوسيلة فوجبت عليه. واستدل أصحاب القول الثاني بقول الله تعالى {وإن كان ذو عسرة فنظرة إلى ميسرة} والصحيح هو القول الأول لقوة أدلتهم كما تقدم، وأما الآية فالمراد به العاجز عن قضاء دينه من ماله ومن تكسبه، فهو المعسر أما إذا كان قادرا على قضاء الدين بتكسبه فليس بمعسر، فالمعسر هو العاجز عن قضاء الدين، ولا يعتبر معسرا إذا كانت عنده قدر على التكسب. المسألة الثانية: أنه ينفق على المحجور عليه من ماله بالمعروف، وينفق على من ينفق عليهم ويعولهم بالمعروف أيضا أثناء الحجر، ويترك له بعد الحجر ما ينفق على نفسه وعياله بالمعروف، هذا إذا لم يكن له قدرة على التكسب، وأما إذا كان له قدرة على التكسب والإنفاق على نفسه وعياله فإنه لا يترك له شيء من ذلك، واختلف أهل العلم هل يترك له مسكنه أم لا؟ على قولين: القول الأول: أنه يترك له مسكن لائق به بالمعروف، وهذا هو المشهور من مذهب الإمام أحمد. القول الثاني: وهو مذهب المالكية والشافعية أنه يباع عليه ويكترى له.

أما دليل أهل القول الأول من أنه لا يباع عليه مسكنه فقالوا: لأن المسكن من الحاجيات، فأشبه النفقة المتفق عليها، فإن النفقة بالمعروف من الحاجيات، ويمكن أن يعطى من النفقة ما يدفع عنه الجوع ويذهب عنه الظمأ، ومع ذلك يترك له ما يطعمه بالمعروف وكذلك الكسوة، وهي من الحاجيات فكذلك المسكن. وأما أهل القول الثاني فاستدلوا بحديث النبي - صلى الله عليه وسلم -: (خذوا ما وجدتم وليس لكم إلا ذلك) ، قالوا: فقوله (خذوا ما وجدتم) عام فيدخل فيه المسكن، وأجاب أهل القول الأول عن استدلالهم بهذا الحديث بأنها قضية عين فيحتمل ألا مسكن له، ثم إن قوله (خذوا ما وجدتم) إنما هو فيما تصدق عليه به، فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (تصدقوا) فتصدق الناس، ثم قال: (خذوا ما وجدتم) أي من الصدقات التي تصدق عليه بها. فالأظهر هو القول الأول، وأنه يترك له ما يسكنه بالمعروف، ولكن هل يستثنى من ذلك ما إذا كان قد استدان فاشترى مسكنا أم لا يستثنى منه؟ استثنى هذا بعض الحنابلة، وقوى الشيخ عبد الرحمن بن سعدي هذا القول، بل قد قوى مذهب المالكية والشافعية، وتقدم أن قول المالكية والشافعية مرجوح في هذه المسألة، ولكن هل ما ذهب إليه بعض الفقهاء من الحنابلة صحيح؟ الجواب: هذا فيه قوة حيث كانت هناك قرينة تدل على أنه كان محتالا مبطلا، وقد اشترى هذا المسكن ثم قال إنه معسر، فهذا قد تلاعب بأموال الناس وأراد أن يصل إليها بالطرق الباطلة، فإذا اشترى السكن مستدينا ثم ادعي الإعسار فإذا كانت هناك قرينة تدل على احتياله فإن الشريعة قد أتت بإبطال الحيل، فحينئذ يعامل بنقيض قصده فيباع بيته ويعطى غرماؤه كل منهم يأخذ قسطه كما تقدم تقريره. فصل في المحجور عليه لحظه قوله [ويحجر على السفيه والصغير والمجنون لحظهم]

يحجر على السفيه، وهو البالغ العاقل المكلف لكنه ليس حسن التصرف بالمال، بل عنده تبذير وتلاعب بالمال، فهذا هو السفيه كما تقدم تقريره في شروط البيع، وليس المراد من في عقله شيء من النقص بل المراد من عنده سوء تصرف في المال، ويحجر كذلك على الصغير أي غير البالغ، ويحجر على المجنون أي غير العاقل، وهذا هو النوع الثاني من أنواع الحجر وهو الحجر لحظ النفس، والفرق بين الحجر لحظ النفس والحجر لحظ الغير أن الحجر لحظ النفس عام في عين المال وفي الذمة، فيحجر عليه ولا يتصرف في ماله ولا في ذمته، وأما المحجور عليه لحظ غيره فإن الحجر على المال، وأما الذمة فإنه يتصرف فيها كما تقدم تقريره. قوله [ومن أعطاهم ماله بيعا أو قرضا رجع بعينه وإن أتلفوه لم يضمنوا]

إذا أعطى شخص أحدا من هؤلاء الثلاثة - السفيه أو المجنون أو الصغير - ماله بيعا أو قرضا رجع بعينه، فإن أدرك ماله فإنه يرجع به، فالبيع غير صحيح، فإذا أدرك ماله وإن كان فيه تغير فإنه يأخذه، وهذا ظاهر لأن البيع عليهم باطل لا يصح، فالمبيع راجع إلى صاحبه، وإن أتلفوها لم يضمنوا، لأنه مفرط حيث عاملهم بالبيع أو القرض سواء علم بالحجر أم لا، لأن الحجر عليهم مظنة الشهرة فلم يعذر فيه بالجهل، فقد فرط حيث لم يتبنه لذلك، وعليه فإذا أتلفوا المال ولو كنوا متعمدين فإنهم لا يضمنوه في أموالهم، وظاهر كلامهم أن هذا عام في هؤلاء ومنهم السفيه، والذي يظهر أن الحجر على السفيه ليس مظنة الشهرة، فهو رجل عاقل مكلف لكن عنده سوء تصرف في المال، فمعرفة الحجر عليه ليس مظنة الشهرة، فالذي يظهر وهو قول لبعض الحنابلة عبر عنه صاحب الإنصاف بقوله:" قيل " أن البائع أو المقرض أو نحوهما إذا جهل أن هذا سفيه فإن السفيه يضمن، لأنه عاقل مكلف قد يسلط على مال غيره من غير تفريط من هذا الغير فكان ضامنا، وأما إذا دخل على بصيرة فهو الذي قد مكنه من التصرف في ماله وإتلافه فلا يضمن. قوله [ويلزمهم أرش الجناية وضمان مال من لم يدفعه إليهم] في المسألة السابقة حيث كان التعامل فيه تسليط، أي قد سلطهم على ماله، وأما إذا كان التعامل ليس فيه تسليطا كالعارية والوديعة فإن المعير والمودع لم يسلط المستعير ولا المودع على ماله، بل قد جعله عند هذا عارية، ليستفيد منها ثم يعيدها من غير إفساد لها، وجعل هذه وديعة عنده، فهي أمانة، فإذا وضع وديعة أو عارية عند أحد من هؤلاء الثلاثة فأتلفها فهل يضمن أم لا؟ قولان في المذهب: القول الأول: أنه لا ضمان، وذلك لأنه لما أعارهم وأودعهم فقد مكنهم من التصرف فيها وإتلافها.

القول الثاني: أنهم يضمنون، وذلك لأنه لم يمكنهم من التصرف فيها، فهو لم يسلطهم عليها، وإنما جعلها أمانة أو عارية وليس في هذا تخويل لهم في التصرف فيها، والذي يظهر هو القول الأول وذلك لأنه بهذا قد سلطهم على ماله ومكنهم منه، وهذا في غير السفيه، فالسفيه مكلف، والحجر إنما يكون في التصرفات المالية، والأمر هنا ليس كذلك، فقد وضعت عنده عارية وهذه أمانة فلا يحل له أن يتصرف فيها، فإذا تصرف فقد اعتدى، فالذي يظهر أن السفيه يضمن مطلقا، حتى لو علم الآخر أنه سفيه محجور عليه، وذلك لأنه لم ينه عن مثل هذا، وإنما نهي أن يتصرف في ماله، وهذا ليس من التصرف في المال، والآخر وهو المودع أو المعير لم ينه عن إيداع السفيه ولا عاريته، إنما نهي عن التعامل معه بالبيع والشراء ونحو ذلك. قوله [وإن تم لصغير خمس عشرة سنة...... زال حجرهم] إذا كمل الصغير خمس عشرة سنة فيكون حينئذ بالغا، ودليل ذلك ما ثبت في الصحيحين عن ابن عمر قال: (عرضت على النبي - صلى الله عليه وسلم - يوم أحد وأنا ابن أربع عشرة سنة فلم يجزني - وفي رواية (ولم يرني بلغت) وعرضت عليه يوم الخندق وأنا ابن خمس عشرة سنة فأجازني) [خ 2664، م 1868، حب 11 / 30، برقم 4728، بلفظ (عرضت على النبي - صلى الله عليه وسلم - وأنا بن أربع عشرة سنة فلم يجزني ولم يرني بلغت ... ) ، قط 4 / 115، بنفس لفظ ابن حبان] فهذا يدل على أن من تم له خمس عشرة سنة فهو بالغ، وهذا هو فهم الراوي، والراوي أعلم بما روى، وهذا هو المشهور من مذهب أحمد والشافعي. وقال مالك: ليس للتكليف سن محددة، بل يعرف ذلك بالاحتلام ونحوه وأما السن فلا، وقال أصحابه إذا بلغ سن سبع عشرة سنة، وقال أبو حنيفة كذلك في الأنثى، وفي الذكر إذا بلغ ثماني عشرة سنة أو تسع عشرة سنة، وهذه الأقوال لا دليل عليها، والراجح هو القول الأول للحديث المتقدم.

قوله [أو نبت حول قبله شعر خشن] وهو نبات شعر العانة، وهو علامة على البلوغ، ودليل ذلك ما رواه الأربعة بإسناد صحيح عن عطية القرظي قال: (عرضنا على النبي - صلى الله عليه وسلم - - أي اليهود - يوم قريظة فكان من أنبت قتل، ومن لم ينبت خلي سبيله، فكنت ممن لم ينبت فخلي سبيلي) [حم 18299، ت 1584، د 4404، ن 4981، جه 2542] فقد جعل النبي - صلى الله عليه وسلم - نبات الشعر الخشن حول القبل جعله علامة من علامات البلوغ، وذلك لأن الصبي لا قتل كما تقدم في كتاب الجهاد، وهنا لم يقتلوا فدل على أنهم غير بالغين، وشعر العانة يكون خشنا، وأما غير الخشن فإنه قد ينبت في الطفل وغيره. قوله [أو أنزل] إجماعا، فإذا أنزل فبالإجماع يثبت له البلوغ، قال تعالى {وإذا بلغ الأطفال منكم الحلم} أي الاحتلام، فهذا دليل من القرآن، وقد أجمع أهل العلم على ذلك وأن من أنزل وإن كان ابن عشر سنين أو أقل أو أكثر فهو بالغ، فالبلوغ يكون في أحد هذه العلامات الثلاث، ولا يشترط اجتماعها، ولا - كما يظن بعض الناس - أنه لا بلوغ إلا إذا تمم خمس عشرة سنة، بل البلوغ يكون بأحد هذه العلامات الثلاثة، وهذه العلامات يشترك فيها الذكور والإناث، إلى أن قال المؤلف قوله [..... وتزيد الجارية البلوغ بالحيض وإن حملت حكم ببلوغها] فالحيض علامة على بلوغ المرأة بلا نزاع، وقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: (لا يقبل الله صلاة حائض إلا بخمار) [حم 24641، جه 655، د 641، ت 377] فالحائض بالغ، وإن كانت بنت عشر سنين، وكذلك الحمل بلوغ، لأنه لا حمل إلا بماء، ولا ماء إلا بإنزال، فإذا حملت المرأة فهذا دليل على أنها قد أنزلت وأن لها ماء إذ لا حمل إلا بماء كما تقدم. قوله [أو عقل مجنون ورشد]

إذن إذا تم للصبي خمس عشرة سنة أو نبت شعر عانته أو أنزل أو عقل مجنون، فإذا عاد المجنون إلى علقه ورشدا، أي رشدا جميعا، أي عقل هذا وبلغ هذا وثبت لهما الرشد، لقول الله تعالى {وابتلوا اليتامى حتى إذا بلغوا النكاح فإن آنستم منهم رشدا فادفعوا إليهم أموالهم} فاشترط الرشد مع البلوغ، فإذا بلغ الطف ورشد، وعقل المجنون ورشد فحينئذ يزول حجرهم. قوله [أو رشد سفيه زال حجرهم] أي بلغ ولم يرشد ثم رشد، فحينئذ يزول حجرهم، للآية الكريم المتقدمة {فإن آنستم منهم رشدا فادفعوا إليهم أموالهم} قوله [بلا قضاء] أي لا يشترط القضاء، فلا يشترط أن يحكم القاضي بأنهم قد رفع عنهم الحجر بل يرتفع عنهم تلقائيا، فلا ينتظر فيهم حكم الحاكم خلافا للإمام مالك، وذلك لإطلاق الآية الكريمة المتقدمة، فإن الله تعالى قال {فإن آنستم منهم رشدا فادفعوا إليهم أموالهم} ولم يقيد الله عز وجل الدفع بحكم الحاكم، بل أمر الأولياء بأن يدفعوا إليهم أموالهم بمجرد ما يزول عنهم الحجر، وأما مالك رحمه الله فإنه اشترط حكم الحاكم وقال: إن معرفة البلوغ والرشد تحتاج إلى اجتهاد، فكان هذا إلى نظر الحاكم، وفيما ذهب إليه رحمه الله نظر، وهو أن يقال: إن معرفة البلوغ والرشد من الأمور المشهور والمعروفة عند الناس، والأولياء الذي خولهم الله حفظ أموال من تحت أيديهم يعرفون مثل هذه الأمور، وثانيا: إن الله تعالى قد خول الأولياء فقال {فإن آنستم} وقال {فادفعوا إليهم} فهي مسؤولية الأولياء لا مسؤولية الحاكم.

أما إذا كان الشخص رشيدا فأصيب بالسفه فحكم الحاكم بحجره لسفهه، فالمشهور من المذهب أن هذا الحجر لا يزول إلا بحكم الحاكم، وذلك لأنه قد ثبت بحكمه فلا يزول إلا بحكمه، وقال أبو الخطاب من الحنابلة بل يزول من غير حكمه لزوال علته، والأول أولى احتياطا للمال أولا، وثانيا: أن هذا الأمر قد يتعجل فيه ويسارع فيه فكان مرجع ذلك إلى الحاكم، ولأنه أيضا قد تحدث له بعض التصرفات المالية وقد حكم الحاكم بالحجر عليه فيقع نزاع وخصومة فيمكن أن يقال: إن الحاكم حكم بالحجر عليه فلا يصح تصرفه، والمتصرف قد بنى تصرفه معه على أنه أصبح رشيدا فيقع النزاع والخصومة بين الناس، فالأولى أنه حيث ثبت بحكم الحاكم فلا يرتفع إلا بحكم الحاكم وهو المشهور في مذهب الحنابلة. قوله [ولا ينفك الحجر قبل شروطه] فلا ينفك الحجر عن الصبي حتى يبغ ويرشد، ولا ينفك عن السفيه حتى يرشد، ولا ينفك عن المجنون حتى يعقل ويرشد، فلا ينفك عنهم قبل الشروط، وإن أصبح الصبي شيخا وإن تزوجت المرأة، فإن هذا لا يغير في الحكم شيئا، فلا ينفك الحجر قبل الشروط التي اشترطها الله عز وجل بقوله تعالى {فإن آنستم منهم رشدا فادفعوا إليهم أموالهم} قوله [والرشد الصلاح في المال]

هذا هو الرشد، قال تعالى {فإن آنستم منهم رشدا فادفعوا إليهم أموالهم} والصلاح في المال ضد الفساد فيه، والفساد هو السفه والتبذير فيما لا فائدة فيه في دين ولا دينا، وأولى منه أن يذره فيما هو حرام من شرب خمر أو غناء أو مجون أو نحو ذلك، وقال الشافعية وهو اختيار ابن عقيل من الحنابلة: الرشد هو الصلاح في المال والصلاح في الدين، وعليه فالفاسق وإن كان رشيدا في تصرفه في ماله فإنه يحجر عليه، قالوا: لأن الفاسق غير ثقة في تصرفه في ماله، والراجح هو القول الأول، وهو أن الفاسق غير محجور عليه، ما دام راشدا في تصرفاته المالية، وذلك لأنه لا تلازم بين الفسق والسفه في المال، فإن الفاسق ثقة في تصرفاته المالية لما في ذلك من حظ نفسه، نعم إذا تصرف في ماله تصرفا يقتضي سفها فهذا يدل على أنه غير راشد في تصرفاته المالية، كأن يتصرف في ماله بمقتضى فسقه تصرفات فيها تبذير في ماله، لكن إن كان راشدا في تصرفاته المالية فلا وجه للحجر عليه، ثم إنهم يقولون إن أعطى ماله وهو عدل رشيد في التصرف في ماله ثم طرأ عليه الفسق فلا يحجر عليه، بخلاف ما إذا طرأ عليه تغير في التصرفات المالية بأن أصبح غير رشيد فإنه يحجر عليه، ففرقوا بينهما، فالراجح ما ذهب إليه الحنابلة من أن الرشد هو الصلاح في المال. قوله [بأن يتصرف مرارا فلا يغبن غالبا]

وذلك بأن يعطى مالا ويقال له: بع أو اشتر أو غير ذلك مما هو لائق، ثم يكرر هذا مرارا حتى يتبين لنا أنه لا يغبن في الغالب، لكن إن وقع منه غبن أحيانا فلا بأس به، فإن هذا يقع للراشد في تصرفاته فقد يغبن أحيانا، ومرجع ذلك إلى العرف، فإذا كان لا يغبن غالبا فإنه لا يحجر عليه، وليس أيضا أي غبن، بل المراد الغبن الفاحش أي بأن لا يغبن غبنا فاحشا غالبا، أما لو غبن غبنا غير فاحش فهذا غير مؤثر، فإن الرشيد لا يسلم منه الغبن اليسير، كأن يشتري الشيء الذي يساوي مائة وعشرة يشتريه بمائة وعشرين. قوله [ولا يبذل ماله في حرام] فإذا كان تبذير المال في الأمور المباحة سفه، فتبذيره في الأمور المحرمة أولى بالسفه، كأن يبذر ماله في الفجور وشرب الخمور ونحو ذلك فلا شك أن هذا يحجر عليه. قوله [أو في غير فائدة] كذلك إذا كان يصرف ماله في غير فائدة كما تقدم تقريره، فهذا يدل على سوء تصرفه في المال، فيقتضي حجرا عليه، فإن كان تصرفه فيما ينفعه في الآخرة ولكنه يضر في الدنيا بمن يعول فكذلك يحجر عليه، كأن ينفق أمواله في أوجه البر إنفاقا يضر بمن يعول، وهذا يدل على سفه لأنه قد قدم ما هو مستحب على ما هو واجب، ومثل ذلك إذا كان وحده فهو لا يعول أحدا، ومع ذلك أنفق ماله وهو لا يثق بصبر نفسه، وعدم تطرقه إلى ما لا يحل من سؤال ونحوه، فكذلك يحجر عليه، لأنه أدخل على نفسه الضرر بمثل هذا التصرف وهذا سفه. قوله [ولا يدفع إليه حتى يختبر] لقول الله تعالى {وابتلوا اليتامى} أي اختبروهم، وقد تقدمت طريقة الاختبار. قوله [قبل بلوغه]

فهذا الاختبار يكون قبل البلوغ، فمثلا: رجل عنده يتيم مقبل على البلوغ، فيأمره ببعض التصرفات التي لا تضر بماله، ويثبت بها معرفة رشده من سفهه، وهذا حيث كان مميزا مراهقا، أي يكون هذا قبيل البلوغ، لأنه هو الذي يمكن أن يتعرف على مثل هذا فيه، وليس المراد قبل البلوغ بوقت طويل، أي بمجرد التمييز مثلا، ولذا لو قال المؤلف (قبيل البلوغ) لكان أولى، فالمميز المراهق الذي يعرف المصالح والمفاسد وما يكون فيه صيانة لماله ونحو ذلك، فهذا هو محل الاختبار، ودليل كون الاختبار قبل البلوغ قوله تعالى {وابتلوا اليتامى حتى إذا بلغوا النكاح} فسمى المبتلين: يتامى، واليتيم هو غير البالغ، فالبالغ لا يسمى يتيما، ولأنه قال سبحانه {حتى إذا بلغوا النكاح} فدل على أن هذا الاختبار يكون قبل بلوغهم. قوله [بما يليق به] لا بد أن يكون هذا الاختبار بما يليق به، فلا يختبر الأمير الذي قد ترك والده إرثا، لا يختبره بأن ينظر بيعه وشراءه، لأنه ليس من أهل التجارات، وإنما يعطى شيئا من المال وينظر في تصرفه فيه، فإن تصرف فيه بما فيه فائدة لنفسه في دينه أو دنياه فهو رشيد، وابن التاجر ونحوه يعطى مالا ويؤمر فيه بيع أو شراء ليتعرف على ضبطه في شرائه ورشده فيه، وهكذا. قوله [ووليهم حال الحجر الأب] فالأب هو الولي، وذلك لكمال شفقته وحرصه على صيانة مال ابنه والحفاظ على مصلحته، وهل للجد ولاية؟

المشهور من المذهب أنه لا ولاية له، وعن الإمام أحمد وهو مذهب الشافعي أن الجد له ولاية، وهذا أصح، لقول الله تعالى {واتبعت ملة آبائي إبراهيم} الآية، فسمى الله الجد أبا، ولقول أبي بكر - رضي الله عنه -:" الجد أب " [حم 15675، خ 3658] ولما له من النصيب الكبير الذي يقارب ما للأب من الشفقة والحرص على مصلحة ابن ابنه، فالجد على الراجح يكون وليا، واختار شيخ الإسلام رحمه الله أن سائر العصبة أولياء، فيقدم أقربهم له، لما لهم من الولاية التي اقتضت الإرث في الشرع، فكانوا أولياءه في ماله، ولما لهم من الحرص على مصلحته لوجود هذه العصوبة بينهم وبينه. قوله [ثم وصيه] أي ثم وصي الأب، أي نائبه بعد الممات، الوكيل يكون في الحياة، والوصي بعد الممات، فإذا توفي الأب وأوصى لفلان من الناس بالولاية على ابنه فهو أولى من غيره، وهل يقدم عليه الجد وسائر العصبة على القول بولايتهم؟ استظهر صاحب الإنصاف تقديمهم على الوصي، والذي يظهر خلاف ذلك، وأن الوصي أولى منهم، وذلك لأن الوصي نائب الأب، فقام مقام الوكيل، فكما أن الوكيل هو النائب عن الأب في الحياة وهو أولى من الجد وغيره في الولاية، فكذلك بعد الممات فهو النائب عن الأب، ولأن كمال شفقة الأب لا يشبهها شيء، واختياره لهذا الوصي يدل على أن هذا الوصي له قيام كبير في هذا الباب لأولاده وأن هذا الوصي قد يكون أكمل شفقة من سواه. قوله [ثم الحاكم] أي القاضي، وذلك لما له من الولاية العامة، فالحاكم له الولاية العامة والقاضي نائب عن الإمام الأعظم، فإن لم يكن ثمت قاضي شرعي فيقوم مقامه أمين، فيختار أمين يقوم مقامه بالولاية، إذا الأولى بالولاية الأب فالوصي فالجد فالعصبة أقربهم فأقربهم ثم الحاكم فإن لم يكن فيختار أمينا قويا في حفظه وصيانته، يقوم مقام الحاكم في حفظ المال. قوله [ولا يتصرف لأحدهم وليه إلا بالأحظ]

فلا يتصرف الولي إلا بالأحظ والأصلح، لقول الله تعالى {ولا تقربوا مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن} فإذا كان يريد أن يبيع له عقارا فلا يتعجل في بيعه، بل يتريث حتى يكون ذلك أحظ له، وعليه فلا يحل له أن يعتق من ماله ولا أن يهب ولا أن يهدي، ولا أن يحابي كأن تكون هذه الأرض تساوي مائة ألف فيشتريها من صديقه بمائة وعشرة آلاف لليتيم، فهذا لا يجوز، وإن تصرف بمثل هذه التصرفات فهو ضامن لأنه متعد، فالأمين يضمن بالتعدي أو بالتفريط، أما إذا غبن في شراء شيء غبنا يسيرا يقع مثله فهذا لا يؤثر. قوله [ويتجر له مجانا] فإذا أرد أن يبيع ويشتري له بهذا المال، فإنه يبيع ويشتري مجانا، فليس له أن يأخذ على التجارة له شيئا، وهذا هو المشهور من المذهب، قالوا: لأنه لا يحل أن يعقد لنفسه، فهو عندما يعقد العقد التجاري بينه وبين اليتيم إنما يعقد لنفسه ولا يحل هذا، واختار شيخ الإسلام ابن تيمية وهو قول لبعض الحنابلة أنه يستحق الأجرة على ذلك، وهذا القول هو الراجح، وذلك لأن هذا التصرف التجاري خارج عن حفظ المال، وصيانته والإنفاق على اليتيم، وقد قال تعالى {ولا تقربوا مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن} وهذا قربنا لمال اليتيم بالتي هي أحسن فلا مانع منه، وأما قولهم إنه ولي فلا يعقد لنفسه فلا دليل على هذا ولا مانع شرعي يقتضي ألا يعقد لنفسه، بل لو كان هذا العقد لنفسه هو الأصلح فهو الأولى به، فلو أنه مثلا أراد أن يبيع أرضا لموليه فوقف السوم على مائة ألف، وكان أحظ له لكنه يرغب بها، فزاد شيئا من المال فاشتراها منه فلا يظهر أن هناك مانع لأن هذا من قربان مال اليتيم بالتي هي أحسن. قوله [وله دفع ماله مضاربة بجزء معلوم من الربح]

فله أن يتفق مع رجل آخر على أن يتاجر بمال اليتيم بجزء معلوم الربح، إما النصف أو الربع أو غير ذلك مما يكون فيه مصلحة لليتيم، فهذا جائز لأنه قائم على مصلحته ونائب عنه في التصرف فجاز أن يعقد له مثل هذا العقد، والفرق بين هذه المسألة والتي قبلها أن المسألة التي قبلها هو الذي يتاجر بالمال بنفسه، وأما هنا فهو يعقد لغيره، فالمتاجر غيره وهو يعقد لهذا الغير، وكلاهما جائز كما تقدم. قوله [ويأكل الولي الفقير من مال موليه الأقل من كفايته أو أجرته مجانا]

لقول الله تعالى {ومن كان فقيرا فليأكل بالمعروف} فله أن يأكل من مال يتيمه، قالوا: وقدره الأقل من كفايته وأجرته مجانا، فيقال: قدر أجرتك بالمعروف لو أننا أردنا أن نعطيك أجرة على هذه الولاية، فقال: كل شهر ألف ريال، هذه الأجرة على حفظ المال وصيانته، وهذا يرجع إلى كثرة المال وقلته وما فيه من تجارات ونحو ذلك، ويقال له بعد ذلك: ما كفايتك؟ فإن قال: ألفا ريال، فيقال له: خذ ألف ريال لأنه الأقل، وإن قال الأجرة خمسة آلاف، وكفايتي ألفا ريال، فيقال: خذ ألفي ريال، إذن يأخذ الأقل من كفايته وأجرته، قالوا: لأنه إنما يأخذ المال بهما، فاشترط اجتماعهما ولا يجتمعان إلا في الأقل، فهو يأخذ المال لأجرة عمله، ويأخذ المال لحاجته وكفايته، فيجتمعان في الأقل لا في الأكثر، والذي يظهر وقد نص عليه الإمام أحمد في رواية حنبل وهو صريح قول بعض الحنابلة أنه يأكل بالمعروف، وهو ظاهر الآية الكريمة، وعليه فلو كانت أجرته أقل أو أكثر والذي يكفيه بالمعروف هو كذا، فإنه يأكل بالمعروف سواء كان ما يأكله أكثر من أجرته أو أقل، ولأن المسألة ليست قضية إجارة، بل هي قضية ولاية فيها معنى الأمانة ونحو ذلك من الحفظ، وهو لا يأخذ عليها مع غناه، بل يأخذ مع فقره، فجاز له الأكل بالمعروف وإن كانت أجرته أقل، وذلك للآية الكريمة المتقدمة، ولما ثبت في سنن أبي داود بإسناد حسن أن رجلا قال للني - صلى الله عليه وسلم -: إني فقير وإن لي يتيما، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: (كل من مال يتيمك غير مسرف ولا مبادر - أي متعجل، فتتعجل بالأكل قبل كبر اليتيم - ولا متأثل) [ن 3668، د 2872، جه 2718] مؤجل للمال، فتأخذ شيئا زائدا عن الكفاية، وظاهره أنه يأكل ما يكفيه مطلقا سواء كان ذلك أقل من أجرته أو أكثر منها. قوله [ويقبل قول الولي والحاكم بعد فك الحجر في النفقة والضرورة والغبطة والتلف ودفع المال]

يقبل قول الولي أبا كان أو وصيا، والحاكم بعد فك الحجر في النفقة والضرورة والغبطة والتلف ودفع المال، فإذا اختلف الولي والمولي - أي المحجور عليه - فالقول قول الولي أو الحاكم، فإذا اختلفا في النفقة في قدرها، فقال الولي: أنفقت عليه في هذه السنوات التي قد حجر عليه فيها ألف درهم، وقال المولي المحجور عليه بل لم ينفق علي إلا خمسمائة، فالقول قول الولي فيحلف أنه أنفق عليه كذا وكذا، إلا أن يأتي المحجور عليه ببينة تدل على صدق قوله، أو أن يكون الظاهر يخالف قول الولي كأن يدعي إنفاقا زائدا لا يتحمله الواقع فحينئذ يكون الظاهر موفقا لقول المحجور عليه، فمثلا: ادعى المحجور عليه أنه لم ينفق عليه عشرة آلاف، وادعى الولي أنه أنفق عليه عشرة آلاف، وكان الواقع يوافق قول المحجور عليه، والظاهر يخالف قول الولي فحينئذ يكون القول قول المحجور عليه وذلك لوجود القرينة. كذلك إذا اختلفا في الضرورة، فمثلا باع الولي عقارا للضرورة، وادعى المحجور عليه بعد فك الحجر أنه قد باعه لغير ضرورة، وقال الولي بل بعته لضرورة فقد احتاج لبيع هذا العقار لأجل الكسوة ونحوها، فالقول قول الولي لأنه أمين.

كذلك إذا اختلفا في الغبطة، وهي المصلحة، فمثلا باع الولي عقارا وادعى أنه باعه لمصلحة، وخالفه المولى فقال: بل لا مصلحة، ولا غبطة، فحينئذ القول قول الولي لأنه أمين، والمشهور من المذهب أن بيع الغبطة هو البيع الذي فيه مصلحة، وقال بعض الحنابلة وهو أحد الوجهين في المذهب: بيع الغبطة أو يزيد الثمن الثلث فأكثر على بيع المثل، كان يكون شيئا يستحق مائة ألف فيبيعه بمائة وأربعين ألفا، وقال القاضي من الحنابلة: بيع الغبطة ما فيه زيادة ظاهره سواء كانت الثلث أو أقل، والصحيح أن بيع الغبطة ما فيه مصلحة سواء كانت زيادة ظاهرة أو غير ظاهرة، لعموم قول الله تعالى {ولا تقربوا مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن} وبيع شيء من عقاره فيه مصلحة للمولي هذا من قربان مال اليتيم بالتي هي أحسن، فهو جائز، وهو المشهور من المذهب وهو اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية. وكذلك التلف، فإذا ادعى الولي أن المال قد تلف عنده، وأنكره هذا المولي وقال بل هو قد أتلفه أو قد غيبه وجحده أو نحو ذلك، فحينئذ القول قول الولي لأنه أمين، وهذا كما تقدم ما لم تكن قرائن تخالف قول الولي.

وكذلك إذا اختلفا في دفع المال، فقال الولي: أعطيته المال بما بلغ رشده، وقال المولي: لم يعطني شيئا، ولا بينة فالقول قول الولي لأنه أمين، وقال ابن رجب في القواعد:" ويحتمل أن يكون القول قول المحجور عليه ما لم يكن هناك بينة "، وقواه صاحب الإنصاف، وهو الذي يظهر، وذلك لأن الأصل عدم الدفع فالأصل هو بقاء المال عند الولي وحيث ادعى الدفع فهو ادعاء لنقل المال من يده إلى يد موليه، فإذا لم يكن له بينة فالأصل هو البقاء، ويده يد أمانة في مدة مكث المال عنده، وعليه فالذي يظهر أن القول قول المولي، لأن الأصل هو بقاء المال، لكن إن أشهد على دفع المال للمولي فإنه يقبل قول الولي للبينة، فإن لم يأت ببينة فيلزمه أي الولي أن يدفع المال إلى المولي في الظاهر، وإن كان في الباطن قد دفعه. هذا - أي ما ذكره الحنابلة في هذه المسائل كلها - حيث كان الولي متبرعا، وأما إذا كان الولي غير متبرع بل يأخذ مقابل ولايته أجرة، كأن يضع الوالد وصيا لولده مقابل أجرة من المال يأخذها، فحينئذ ليس القول قول الولي في المشهور من المذهب، وذلك لأنه منتفع، فيده ليست يد حفظ وصيانة فحسب، بل يد انتفاع، وحيث كان الأمر كذلك فالقول قول المولي، وسيأتي الكلام على هذه المسألة في الكلام على الوديعة إن شاء الله. قوله [وما استدان العبد لزم سيده إن أذن له وإلا ففي رقبته كاستيداعه وأرش جنايته وقيمة متلفه]

إذا استدان العبد، فإنه يلزم الدين سيده إن أذن له، وذلك لأن السيد قد غرره حيث أذن له، وأما إن لم يأذن له سيده فإنه يتعلق الدين في رقبة العبد، وحينئذ يقال للسيد اختر أحد أمرين: إما أن تسلم العبد للدائن، وإما أن تفديه، والفداء يكون بأقل الأمرين، إما بقدر الدين، وإما بقدر القيمة، مثال هذا: استدان عبد بلا إذن من سيده مائة ألف، فيقال للسيد: إما أن تسلم العبد وإما أن تفديه، وطريقه الفداء ما يستحق العبد، فوجدناه مثلا يستحق عشرة آلاف، فنقول: تعطي الدائن عشرة آلاف وتحرر عبدك من الدين، فتختار أقل القيمتين، وذلك لأن المال متعلق برقبته فلم يلزم سيده بأكثر من ذلك، وظاهر ذلك علم المتعامل أم لم يعلم، وعن الإمام أحمد أنه معامله إذا علم فلا يتعلق الحق برقبة العبد، وذلك لأنه دخل على بصيرة، وهذا هو الظاهر، وذلك لأن العبد لا يصح تصرفه في المال، فإذا دخل معامله معه على بصيرة من أمره فقد غرر بنفسه فلم يتعلق ذلك في رقبة العبد. وقوله (كاستيداعه) إذا وضع عند عبد وديعة فأتلفها فإن الحق يتعلق برقة العبد، فيقال للسيد إما أن تسلمه، وإما أن تفديه، فلو فرض أن الأمانة تساوي ثلاثين ألفا، وأن العبد يساوي أربعين ألفا، فإن السيد حينئذ يدفع له ثلاثين ألفا لأنها هي الأقل. قوله (وأرش جناية) إذا اعتدى العبد وجنى، فتتعلق الجناية في رقبته، فإما أن يسلمه إلى المجني عليه، وإما أن يفديه السيد، وطريقة الفداء، مثلا وجدنا الجانية تساوي عشرة آلاف، والعبد يساوي خمسة آلاف، فيعطون خمسة آلاف، فلا يلزم السيد بشيء زائد. قوله (وقيمة متلف) إذا أتلف العبد شيئا، فإن الحق يتعلق في رقبته، فإما أن يسلم السيد العبد، وإما أن يفديه بأقل الأمرين كما تقدم. وهنا مسائل متعلقة بالحجر: * المسألة الأولى:

أن لولي الصبي ونحوه أن يأذن له بالتصرف بما جرت به العادة من صدقة يسيرة كأن يتصدق بالدرهم والدرهمين ونحو ذلك، وكأن يشتري الطفل شيئا من اللعب ونحوهما من أمور اللهو فهذه قد جرت بها العادة فيسمح بمثلها، وكذلك أن يشتري طعاما بلا إسراف. ** المسألة الثانية: أن للزوجة أن تنفق من بيت زوجها ما جرت به العادة بالسماح بمثله بلا إذن، لقول النبي - صلى الله عليه وسلم - في الصحيحين: (إذا أنفقت المرأة من بيت زوجها غير مفسدة فلها أجرها بما أنفقت وللزوج أجره بما كسب وللخازن مثل ذلك لا ينقص بعضهم من أجر بعض شيئا) [خ 1425، م 1024] ولأن جريان العادة بمثل ذلك يجري مجرى الإذن. أما إذا منعها من ذلك أو علمت منه المنع لشح ونحو ذلك أو شكت في رضاه فليس لها ذلك، كما أنه ليس لها أن تخرج من بيته ما لم تجر العادة بمثله، لقول النبي - صلى الله عليه وسلم - فيما رواه أحمد وغيره والحديث صحيح: (لا يحل مال امريء مسلم إلا بطيب نفس) [حم 20172] ، وهذا مال زوجها فلا يحل إلا بطيب نفس، فإن أذن فذاك وإلا فلا. *** المسألة الثالثة: هل يحجر الزوج على زوجته الرشيدة الحسنة التصرف في المال أم لا؟ على ثلاثة أقوال للعلماء هي روايات عن الإمام أحمد:

الرواية الأولى: وهي الرواية المشهورة في المذهب أنه ليس له أن يمنعها، بل تتصرف كما شاءت، فلو أنفقت المرأة مالها كله من غير إذن زوجها بل مع منعه فها ذلك، واستدلوا بما ثبت في الصحيحين: (أن ميمونة - رضي الله عنها- أعتقت وليدة ولم تستأذن النبي - صلى الله عليه وسلم - فلما كان يومها الذي يدور عليها فيه، قالت: أشعرت يا رسول الله أني أعتقت وليدتي، قال: أوفعلت؟ قالت نعم قال أما إنك لو أعطيتها أخوالك كان أعظم لأجرك) [خ 2592، م 999] قالوا: فقد أعتقت هذه الوليدة من غير إذن النبي - صلى الله عليه وسلم -، واستدلوا بما ثبت في الصحيحين أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (تصدقن ولو من حليكن) [خ 1466، م 1000] فأمرهن بالتصدق من حليهن ولم يشترط استئذان أزواجهن. الرواية الثانية: وهي مذهب مالك أن الزوج يمنعها مما زاد على الثلث، وأما ما نقص فلا يمنعها لقول النبي - صلى الله عليه وسلم - في الوصية: (الثلث والثلث كثير) [خ 2742، م 1628] الرواية الثالثة: أن له أن يمنعها مما قل عن الثلث، ومما زاد، لقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: (لا يجوز لامرأة عطية إلا بإذن زوجها) [حم 6643، ن 2540، د 3547] وفي لفظ: (لا يجوز للمرأة أمر في مالها إلا بإذن زوجها) [حم 7018] والحديث حسن، قالوا: والحديث عام فيما قل عن الثلث وفي الثلث وفيما زاد عن الثلث، فالحديث عام، وفيه رد على مذهب مالك، فلا تتصرف المرأة بأي شيء من مالها إلا ما جرت به العادة، وهذا القول هو قول الليث بن سعد وطاووس من التابعين، وهذا القول هو أرجح الأقوال.

أما الجواب عما استدل به الإمام مالك فقد تقدم، وأما الجواب عما استدل به أهل القول الأول فإنه لا مانع من أن تكون ميمونة علمت إذن النبي - صلى الله عليه وسلم - لا سيما والنبي - صلى الله عليه وسلم - يرغب في العتق ويندب إليه، ويبعد أن تعتق ميمونة وهي تعلم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - يكره هذا، وأنه لا يأذن فيه، ولذا أرشدها النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى ما هو خير، فظاهر الأمر أنها علمت إذنه في ذلك، وإن لم يكن إذنا خاصا في هذا، ولذا قالت:" ولم استأذنه " بل قد علمت إذنه العام، لا سيما وهو يحث على عنق الرقاب، وأما قوله - صلى الله عليه وسلم -: (تصدقن ولو من حليكن) فكذلك حيث علمت المرأة الإذن العام من زوجها، ولا يعقل أن يأمر النبي - صلى الله عليه وسلم - النساء أن يفعلن شيئا يكون فيه معارضة لطاعة الأزواج، والحديث المتقدم حديث صريح في المسألة ولا شك أن الحديث المحكم مقدم على الحديث المتشابه، فالراجح ما ذهب إليه الإمام أحمد في الرواية الثالثة وهو مذهب الليث بن سعد وطاووس. بسم الله الرحمن الرحيم وبه نستعين وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وبعد باب الوكالة

الوكالة بفتح الواو وكسرها، والأشهر الفتح، وهي لغة: التفويض، وأما اصطلاحا: فهي استنابة جائز التصرف مثله فيما تدخله النيابة، والقاعدة أن كل حق لله تعالى أو لآدمي فالنيابة فيه مطردة كما قرر ذلك الشيخ عبد الرحمن بن سعدي، إلا ما لا يحصل المقصود إلا بفعل المكلف له، فكل حق من حقوق الآدمي من طلاق وبيع وشراء وصلح وغير ذلك وكل حق لله تعالى من تفرقة الزكاة، وتفرقة الصدقة وتفرقة الكفارة ونحو ذلك فإنها تدخلها النيابة، إلا إذا كان لا يحصل المقصود إلا بفعل المكلف له كما يكون هذا في إقامة الحد، فإن المقصود منها عقوبة المجرم، وكذلك في العبادات البدنية المحضة كالصلاة والصوم وغيرها، فالمقصود هو فعل المكلف لها فلا تحصل فيها الوكالة. والوكالة جائزة بالكتاب والسنة والإجماع، أما الكتاب فلقول الله تعالى في سورة الكهف في قصة أصحاب الكهف حيث قال بعضهم لبعض {فابعثوا أحدكم بورقكم هذه إلى المدينة فلينظر أيها أزكى طعاما فليأتكم برزق منه وليتلطف} وأما السنة فكما تقدم في حديث عروة البارقي وتوكيل النبي - صلى الله عليه وسلم - له شراء الأضحية) (1) وكذلك توكيل النبي - صلى الله عليه وسلم - لعمر بن الخطاب في جمع الصدقة كما هو ثابت في الصحيحين، وكذلك توكيل معاذ بن جبل في أخذ زكاة أهل اليمن، وأما الإجماع فقد أجمع أهل العلم على جواز الوكالة، والحاجة داعية إليها، فإن الإنسان يحتاج إلى أن يوكل غيره في شيء من شؤونه من بيع وشراء ونحو ذلك، والشريعة قائمة بتحصيل المصالح ومن ذلك الإذن للمكلفين بالوكالة. قوله [تصح بكل قول يدل على الإذن]

_ (1) 1– مسند الإمام أحمد (18867) البخاري (3643) أبو داود (3384) الترمذي (1258) ابن ماجه (2402) .

فكل قول يدل على الإذن بالتصرف فإن الوكالة تثبت وتصح معه، فإذا قال له: بع لي هذا البيت، أو اشتر لي هذا البيت، أو أذنت لك بأن تبيع هذا الشيء ونحو ذلك من الألفاظ القولية الدالة على الوكالة فإن الوكالة تثبت فيها. وظاهر كلام المؤلف أنها لا تثبت بالفعل، وهو المشهور في المذهب، فلو أعطى أحداً ثوباً وكان إعطاؤه له مفهماً له أنه يوكله بخياطته أو بتغسيله فإن الوكالة لا تثبت بذلك، والصحيح أنها تثبت بالفعل، وهو ظاهر كلام القاضي من الحنابلة واستظهره صاحب الفروع، وهذا القول هو الراجح كالبيع، ولأن المقصود التعرف على الرضى وذلك يحصل بالفعل كما يحصل بالقول، فالمقصود أن هذا الفعل قد دلنا على أن هذا يريد أن يوكل وأنه راضٍ بذلك، وهذا هو الإيجاب. قوله [ويصح القبول على الفور والتراخي بكل قول أو فعل دال عليه] ما تقدم هو الإيجاب، والإيجاب ما يصدر عن الموكل، وأما القبول فهو ما يصدر عن الوكيل، فيصح القبول من الوكيل على الفور والتراخي، فمثلا قال له: بع لي هذه الدار، فقال: قبلت فوراً، أو كان قبوله متراخياً كأن يبلغه بعد زمن أن فلاناً قد وكله فرضي بهذه الوكالة، كأن يكتب له ورقة فلا تصل إليه إلا بعد شهر أو شهرين أو نحو ذلك، فلا يشترط في القبول الفورية، وذلك لأن الإيجاب دل على الإذن فالإذن باقٍ لا رافع له، فلا يؤثر فيه التراخي، ويصح القبول بالقول وبالفعل الدال عليه، فإذا قال: قبلت هذه الوكالة، أو أخذ السلعة وكان أخذه لها دليلاً على رضاه بهذه الوكالة فإن الوكالة تثبت. وتصح الوكالة مؤقتة كوكلت سنة، أو بشرط نحو إذا جاء الشتاء فافعل كذا. قوله [ومن له التصرف في شيء فله التوكيل والتوكل فيه]

فمن له التصرف في شيء فله أن يكون موكلا وله أن يكون وكيلا، فمثلا: الرجل له أن يطلق زوجته، فله أن يوكل غيره في الطلاق، ويجوز أن يوكل غيره بالبيع أو بالشراء ونحو ذلك، لأن هذه التصرفات صحيحة منه فصح أن ينيب غيره فيها، وكذلك يصح أن يكون وكيلا فيها، لأنها لو كانت له لصح التصرف فيها، فهذا الرجل لو كان متزوجا لصح طلاقه، فالصفات المشترطة في صحة الطلاق متوفرة فيه، ولو كان متزوجا لصح طلاقه فيصح أن يكون وكيلا في الطلاق، لذا تقدم في التعريف اشتراط جواز التصرف في الوكيل والموكل. قوله [ويصح التوكيل في كل حق آدمي] إجماعاً. قوله [من العقود] كعقد البيع وعقد الصلح وعقد العارية وغيرها، وذلك لأنه يصح له أن يتصرف فيها فجاز له أن يوكل وقد تقدم ذلك. قوله [والفسوخ] كالإقالة والخلع، فيجوز أن يوكل من يخالع زوجته، ومن يقيل بيعا له ونحو ذلك. قوله [والطلاق والرجعة] فيجوز له أن يوكل من يطلق عنه أو يراجع عنه. قوله [ويملك المباحات من الصيد والحشيش ونحوه] كذلك يجوز التوكيل في تمليك المباحات من الصيد والحشيش ونحوه، كأن يضع وكيلا عنه في تملك ما يصطاد، أو تملك ما يجتث، وفي إحياء الموات ونحو ذلك، وذلك لأنها حقوق آدمي له التصرف فيها فجاز أن يوكل. قوله [لا الظهار واللعان والأيمان] ولا النذور، وذلك لأنها متعلقة بعين الشخص فلم يصح التوكيل فيها. والظهار يقول له: وكلتك في أن تظاهر عني. فيقول: أنتِ على زوجكِ كظهر أمه عليه، وهذا منكر من القول وزور كسائر المعاصي. قوله [وفي كل حق لله تعالى تدخله النيابة من العبادات]

فكل حق لله تعالى تدخله النيابة من العبادات فيجوز التوكيل فيه كأن يوكل من يذكي عنه أضحية أو من ينحر عنه، كما ثبت في مسلم (1) من توكيل علي بذلك. ويصح أن يوكل من يفرق صدقته أو زكاته، ويصح أن يوكل من يكفر عنه كفارة مالية ويجوز ذلك في العبادات المالية. وأما العبادات البدنية المحضة كالصلاة والصوم فإن النيابة لا تصح فيها، وتقدم التفصيل في مسألة الحج والكلام عليها. والأصل في حقوق الله أنها لا تدخله النيابة، ولا يجوز له في المشهور من المذهب إن وكل في الصدقة أن يأخذ منه لنفسه إذا كان من أهل الصدقة وذكر في الإنصاف احتمالاً بالجواز والأظهر الأول لما فيه من التهمة ولأن إطلاق لفظ الموكل ينصرف إلى غيره. لكن هل يجوز له أن يدفع منه لوالده وولده وزوجته فيها وجهان والأظهر المنع للتهمة. قوله [والحدود في إثباتها واستيفائها] كذلك تصح الوكالة في الحدود في إثباتها وفي استيفائها أي في إيقاعها على المجرم المعاقب، فيجوز للحاكم أن يوكل من يقوم بالنظر في الأدلة التي تثبت الحد على المتهم، ويجوز له أن يوكل من يستوفي الحدود فيقيمها على أربابها، ودليل ذلك ما ثبت في الصحيحين أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (واغد يا أنيس إلى امرأة هذا فإن اعترفت فارجمها) (2) فقوله (فإن اعترفت) فيه توكيل في إثبات الحد، وفي قوله (فارجمها) فيه توكيل في استيفاء الحد. قوله [وليس للوكيل أن يوكل فيما وكل فيه إلا أن يجعل إليه] هنا ثلاث صور: الصورة الأولى: أن يقول الموكل: وكلتك ولك حق التوكيل، ونحو ذلك فباتفاق العلماء له أن يوكل للإذن فيه. الصورة الثانية: أن يمنعه من التوكيل، فيقول: وليس لك حق التوكيل، أو أنت منهي عن التوكيل، فباتفاق العلماء ليس له أن يوكل.

_ (1) 1 – مسلم (1317) . (2) 1 – البخاري (6828) مسلم (1698) .

الصورة الثالثة: أن يوكله من غير إثبات للإذن ولا نفيه، كأن يقول: وكلتك، من غير أن يقول: لك الحق في التوكيل، ولا أن يقول: ليس لك الحق في التوكيل، ولها ثلاث حالات: الحالة الأولى: أن يكون هذا الشيء الموكل فيه مما يتولاه هذا الوكيل، أي مما يناسب ويليق بمثله، ولا يعجز عنه، فحينئذ ليس له أن يوكل، وذلك لأن صاحب الشأن لم يأذن بالتصرف عنه إلا لهذا الوكيل فليس له أن يعدي الوكالة إلى غيره حيث لا إذن، مثال ذلك: أن يوكل شريفا من أشراف الناس وسيدا من ساداتهم على جبي الصدقات، فهذا من الأعمال التي تليق بمثله ولا يعجز عنها. الحالة الثانية: أن يكون هذا الشيء الموكل فيه ليس مما يتولاه مثل هذا الوكيل أو يعجز عنه ولا يقدر عليه، فحينئذ إيقاع الوكالة مع علم الموكل بهذا يدل على أنه أراد منه أن يوكل من يقوم بهذا العمل، فإذا أسدى الخليفة إلى أمير من الأمراء أن يبني له شيئا أو يحمل له شيئا معينا إلى موضع، فهذا لا شك أنه لا يليق بهذا الأمير، وحينئذ فتوكيل الخليفة له يدل على أنه إنما أراد القيام بهذا الشأن بالوكالة، أو كان يعجز عنه كأن يكون صناعة من الصناعات ويعرف أنه لا يحسن هذه الصناعة ولا يتقنها، وليس من أهلها فحينئذ يكون مراد الموكل القيام بها ولو كان هذا بالوكالة. الحالة الثالثة: أن يكون هذا الوكيل قادرا على البعض عاجزا عن الكل، كأن يعطيه عملا كبيرا كالقيام بأعمال كثيرة يعلم الموكل قطعا أن هذا الوكيل لا يمكنه القيام بهذه الأعمال كلها إلا ومعه من يعينه على ذلك، فهل يجوز له أن يوكل؟

المشهور من مذهب الحنابلة والشافعية أن له أن يوكل مطلقا، بمعنى أن له أن يخرج عن القيام بهذا العمل بالكلية ويوكل غيره بالقيام به، والوجه الثاني في مذهب الحنابلة والشافعية أنه لا بد وأن يكون طرفا فيه، فلا بد أن يقوم ببعض العمل وأما أن يوكل فيه كله فلا، فله أن يوكل فيما لا يستطيع، ويقوم هو بما يستطيع، وهذا القول هو الراجح، وذلك لأننا لا نخرج عما دلت عليه الوكالة من قيامه هو – أي الوكيل – بها إلا بقرينة تدل على ذلك، وهنا القرينة إنما دلت على عدم قيامه بالعمل كله، لا على عدم القيام ببعضه، فإنه يمكنه أن يقوم ببعضه، وإنما دلت على أنه يحتاج إلى وكلاء معه، وعليه فيضع معه وكلاء، وأما أن يتخلى عن العمل بالكلية ويضع وكلاء فلا. والله اعلم وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم بسم الله الرحمن الرحيم وبه نستعين وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وبعد قوله [والوكالة عقد جائز] فالوكالة عقد جائز، أي لكل من الوكيل وموكله الفسخ بغير رضى الآخر ما لم يكن هناك ضرر، فإن كان ضرر فلا يجوز، فالوكالة عقد جائز، وذلك لأنه من جهتيهما لا يقتضي لزوما، أما الموكل فلأن هذا من جهة إذنه، فالوكالة متعلقة بإذنه، وأما الوكيل فلأنها متعلقة ببذل نفع منه، وهذا ليس بلازم، فكانت الوكالة من العقود الجائزة. قوله [وتبطل بفسخ أحدهما] لما تقدم فهي عقد جائز فإذا فسخها أحدهما فإن الوكالة تبطل. قوله [وموته] وكذلك جنونه، وذلك لأن من شرطها أن يكون الموكل والوكيل جائزا التصرف، والميت ليس له أهلية التصرف فبالموت تبطل الوكالة، فإذا وكل زيد عمروا ببيع أرض له، فمات زيد، وهو الموكل قبل البيع فإن هذه الوكالة تبطل، لأن أهلية التصرف تبطل بالموت، وكذلك إذا جن لأن المجنون ليس له أهلية التصرف. قوله [وعزل الوكيل]

فتبطل الوكالة بعزل الوكيل، فإذا عزل الموكل وكيله بطلت الوكالة، فمثلا: قال وكلتك على أن تبيع هذه الأرض، ثم عزله فإن الوكالة تبطل، وذلك لأن ذلك حق له، والوكالة عقد جائز ولا يشترط في هذا العزل رضى الوكيل، لأنه حق للموكل ولو لم يرض الوكيل. وظاهر كلام المؤلف وهو المذهب سواء علم الوكيل بالعزل أو الموت أو لم يعلم، فإذا وكل زيد عمروا ببيع أرض له، ثم عزله وأشهد على عزله، ولم يعلم الوكيل بالعزل، أو مات الموكل ولم يبلغه موته فإنه ينعزل، وعليه فتصرفاته - أي تصرفات الوكيل - تكون باطلة، ففي المثال السابق لو باع الأرض وهو لم يعلم بموت الموكل أو عزله له فإن البيع باطل إلا أن يجيزه الموكل، كما تقدم في تصرف الفضولي من أنه موقوف على الإجازة، وهذا هو المشهور من المذهب ومذهب الشافعية، وذهب الأحناف إلى أنه ينعزل بالموت لا بالعزل، والمراد إذا لم يعلم بذلك، وأما إذا عزله بعلمه وعلم بالعزل فلا خلاف بين العلماء في بطلان الوكالة، لكن إذا مات الموكل ولم يعلم والوكيل وتصرف، فإن تصرفاته باطلة، وإذا عزله الموكل ولم يعلم الوكيل بالعزل فإن تصرفاته تكون صحيحة، وعن الإمام أحمد أنه لا ينعزل لا بالموت ولا بالعزل إلا بالعلم، قالوا: لثبوت الضرر، فإن هذا الوكيل يتصرف بتصرفات من بيع وشراء ونحو ذلك، فإذا قلنا إنها ليس نافذة كان في هذا ضرر لتعلق حق ثالث، فعليه تصح تصرفاته قبل العلم وصوبه صاحب الإنصاف، وأرجح هذه الأقوال فيما يظهر القول الأول، وهو القول بأنه ينعزل بالموت قبل العلم، وينعزل بالعزل قبل العلم، والتصرفات باطلة وموقوفة على الإجازة، وهذا لما تقدم من التعليل القوي وهو أن فسخ الوكالة لا توقف على الرضى فلم يتوقف على العلم، ولأنه إنما أذن له بالتصرف بهذه الوكالة، وهنا قد بطلت الوكالة بالعزل فلم يصح التصرف، إلا أنه يستثنى حيث كان هناك تغرير من الموكل وعلم أنه أراد التغرير

فحينئذ تثبت هذه الوكالة ولا تبطل. وإذا عزل الوكيل كان ما في يده أمانة لا يضمن إلا مع التعدي والتفريط. وهل يضمن الوكيل إذا تصرف بعد عزله وقبل علمه أم لا؟ قولان في المذهب القول الأول: أن الوكيل يضمن هذه التصرفات، وهو غاية في الضعف، وذلك لمخالفته لقواعد الشريعة وأصولها فإنه لم يفرط، وقد تصرف تصرفا بناء على بقاء هذه الوكالة، ولم يقع منه أي تفريط فلا وجه لتضمينه. القول الثاني في المذهب: أنه لا يضمن مطلقا وهو اختيار شيخ الإسلام وهو الراجح في هذه المسألة، وذلك لأنه لم يفرط، فعلى ذلك إذا تصرف الوكيل بعد عزله وقبل علمه فالتصرف باطل لبطلان الوكالة بالعزل، وهذه التصرفات موقوفة على الإجازة على ترجيح قول تقدم ذكره وهو أن تصرف الفضولي صحيح مع الإجازة، ولا يضمن الوكيل لعدم تفريطه، ويتوجه تضمين الموكل إذا كان قد غرر به لأنه هو المتعدي بالتغرير. ولا تقبل دعوى الموكل العزل لوكيله بعد تصرفه لتعلق حق الغير به إلا ببينة لكن يستثنى الطلاق ويدين. هل تبطل وكالة الثاني بموت الوكيل الأول أم لا؟ إذا قال الموكل للوكيل: وكلتك ولك الحق في التوكيل، فوكل غيره فمات الوكيل، فهل تبطل هذه الوكالة أم لا تبطل؟ فيه تفصيل: 1- أما إن قال له وكلتك وأذنت لك أن توكل عني فوكل عنه، فالوكيل الجديد وكيل عن صاحب المال، وحينئذ فإذا مات الوكيل الأول فلا تبطل الوكالة. 2- وأما إذا قال له: وكلتك ولك أن توكل عن نفسك من شئت، فوكل عن نفسه من شاء ثم مات فإن الوكالة تبطل، لأن هذا اللفظ مقتضاه أن الوكيل الجديد وكيل عن الوكيل الأول.

وكذلك العزل: فليس له العزل في الحالة الأولى، وله العزل في الحالة الثانية، فإذا قال: وكلتك وأذنت لك أن توكل عني، فليس له العزل، لأنه إذا عقدها مع الوكيل الجديد فحينئذ يكون هذا الوكيل قد ارتبط بالأول، وأما إذا قال له وكلتك وأذنت لك أن توكل عن نفسك، فوكل عن نفسه فله أن يعزل لأن هذا وكيل عنه. قوله [وحجر السفيه] إذا حجر على السفيه بطلت الوكالة، وذلك لأن السفيه غير جائز التصرف فليس له أهلية التصرف، وحينئذ فإن كان طرفا في الوكالة فتبطل الوكالة، بخلاف الحجر على المفلس، فإن الوكالة لا تبطل إذا كان طرفا فيها، وذلك لثبوت أهلية التصرف له كما تقدم، لكن إن كانت الوكالة في أعيان ماله التي ثبت الحجر عليها فتبطل الوكالة، وذلك لأن هذه الوكالة قد تعلقت بما لا يجوز التصرف فيه، فهو لا يجوز له أن يتصرف في أعيان ماله التي ثبت الحجر عليها، فلا يصح حينئذ أن يوكل فتبطل الوكالة، وأما كونه وكيلا أو موكلا في أشياء أخر ليست من هذا الباب، كأن يوكل في نكاح أو طلاق أو أن يوكل في بيع أو شراء أو نحو ذلك فهذه الوكالة صحيحة لأنه جائز التصرف. قوله [ومن وكل في بيع أو شراء لم يبع ولم يشتر من نفسه وولده] من وكل في بيع أو شراء لم يبع ولم يشتر من نفسه وولده، وسائر من لا تقبل شهادته له ممن يتهم فيهم، فإذا قال الموكل لوكيل وكلتك أن تبيع داري، فهل للوكيل أن يشتريها؟ أو قال وكلتك أن تشتري لي دارا فهل له أن يبيع له داره؟ الجواب: لا يجوز ذلك، فلا يجوز أن يكون بائعا ولا مشتريا، وكذلك لا يجوز أن يدخل ولده أو زوجته وسائر من لا تقبل شهادته له ممن يتهم فيهم، وذلك لعلتين: الأولى: أن العرف هو بيع الشخص من غيره لا من نفسه، فكانت الوكالة كذلك، فالوكالة ترجع إلى العرف، فإذا قال بع لي هذه الدار، فالأصل في هذا البيع أن يكون بيعا على غيره، وحينئذ فالوكالة ترجع إلى هذا.

الثانية: التهمة من ترك الاستقصاء في الوصول إلى الثمن المناسب، فهنا العلتان أوجبتا المنع من أن يكون الوكيل طرفا في البيع والشراء، وهذا هو المشهور من مذهب الحنابلة، وعن الإمام أحمد أن ذلك جائز، بشرط أن ينادي عليها ويكون المنادي غيره، ويشتريها بسعر أكثر مما وصلت إليه في المناداة، وحينئذ فتدفع التهمة المتقدمة من ترك الاستقصاء. ولا يظهر أن هذا كاف لدفع التهمة، فإن قد يبيعها في أيام لا تصل فيه السلعة مع النداء إلى ثمنها المناسب، وإن زاد عليه كما هو معلوم في بيع السلع، فالمقصود أنه متى استقصى وجعل لها سعرها المناسب ثم زاد على ذلك فإن ذلك يكون دافعا للتهمة المتقدمة، وأما العلة الأولى وهو أن العرف أن البيع يكون بيع الرجل من غيره لا من نفسه، فالجواب عن هذا: أن مقصود الموكل يحصل بهذا البيع بل مقصوده يحصل وأعظم منه إذا باع الموكل لنفسه، فإن مقصوده أن تباع هذه السلعة بثمن مناسب لها، فإذا بيعت بهذا الثمن المناسب وزيادة فإن مقصوده يحصل بل يحصل أعظم منه، فالذي يظهر هو هذا القول، وأنه متى استقصى استقصاء ظاهرا واشتراها بأعلى مما تقف عليه سوما فإن هذا البيع صحيح، وكذلك الشراء لما تقدم، وهو رواية عن الإمام أحمد وهو قول الأوزاعي، ومثل ذلك الولي على اليتيم والحاكم، فإذا احتاج الولي إلى بيع شيء من مال موليه اليتيم ووصل سعره في السوق إلى سعر ما بعد الاستقصاء ثم اشتراه فإن هذا الشراء جائز، لعدم وجود التهمة، ولقول الله تعالى: {ولا تقربوا مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن} . قوله [ولا يبيع بعرض ولا نسأ ولا بغير نقد البلد]

ليس للوكيل أن يبيع بعرض، فإذا قال: بع لي هذه الشياة، فباعها الوكيل بإبل أو بثياب أو نحو ذلك فهذا لا يجوز، وذلك لأن عقد الوكالة لا يقتضي هذا، فإن عقد الوكالة يقتضي أن يبيعها بدراهم أو دنانير، فإذا باعها بعرض فإن هذا البيع لا يصح، فهو إنما أذن له ببيع يقتضيه عقد الوكالة، وكذا إذا باعها نساء أي بتأخير، فإذا قال: بع لي هذه الدار بمائة ألف، فباعها بمائة ألف ريال إلى شهر، فالبيع باطل، وذلك لأن عقد الوكالة لا يقتضي ذلك، فهو يقتضي أن يكون الثمن حالا لا مؤجلا، وكذلك إذا باعها بغير نقد البلد، فكذلك البيع يكون باطلا، لأن مقتضى عقد الوكالة أن يبيعها بنقد البلد، وعليه فالبيع باطل، وحينئذ يكون من تصرف الفضولي، وتصرف الفضولي موقوف على الإجازة، فإذا أجاز الموكل وقال رضيت بهذا البيع وإن كان بغير نقد البلد أو رضيت به وإن كان بعرض أو رضيت بتأخير الثمن فيكون البيع صحيحا وإلا فهو باطل. قوله [وإن باع بدون ثمن المثل] فمثلا كأن يقول له بع لي هذه السيارة، وكان سعرها مثلا عشرة آلاف، فباعها بتسعة آلاف. قوله [أو دون ما قدره له] فهاتان مسألتان في البيع، والمسألتان اللتان بعدهما في الشراء. قوله [أو اشترى له بأكثر من ثمن المثل] كأن يقول: اشتر لي سيارة وصفها كذا وكذا، وسعر مثلها كان عشرة آلاف، فاشتراها له بأحد عشر ألفا. قوله [أو بأكثر مما قدره له] كأن يقول له: اشتر لي سيارة وصفها كذا وكذا بعشرة آلاف، فاشتراها له بأحد عشر ألفا. قوله [صح البيع وضمن النقص والزيادة]

إذن البيع صحيح، يضمن الوكيل النقص في مسألتي البيع، ويضمن الزيادة في مسألتي الشراء، وذلك لأنه مفرط، إلا إذا كان الغبن الذي غبن به غير فاحش فإنه معفو عنه هذا إذا لم يقدر له ثمنا للبيع أو الشراء، وهذا هو المشهور من المذهب، وعن الإمام أحمد وهو اختيار الموفق وهو مذهب الشافعي أن البيع لا يصح، وعليه فعلى القول بوقف تصرف الفضولي على الإجازة يكون موقوفا على الإجازة وإلا فهو بيع باطل، وذلك للعلة المتقدمة، وهي أن عقد الوكالة لا يقتضي هذا، فعقد الوكالة يقتضي أن يشتري له سيارة بثمن مثلها أو بما حدده له، أو أن يبيع له السيارة بثمن مثلها أو بما حدده له، وما زاد أو نقص فهو غير مأذون فيه، وحينئذ يكون تصرفه خارجا عن مقتضى الوكالة، وهذا القول هو الراجح وعليه فهذه البيوع باطلة إلا أن يجيزها الموكل.والراجح المذهب لأن الوكيل لم يخالف في أصل العقد فقد باع بإذن الموكل ولا ضرر على الموكل إلا بالنقص ويضمن له. قوله [وإن باع بأزيد] كأن يقول: بع لي هذه السيارة بعشرة آلاف فباعها بأحد عشرة ألفا. قوله [أو بع بكذا مؤجلا فباع حالا] كأن يقول بع لي هذه السيارة بعشرة آلاف مؤجلة، فباعها بعشرة آلاف حالة، فهذا يعتبر خيرا للموكل. قوله [أو اشتر بكذا حالا فاشترى به مؤجلا] كأن يقول اشتر بعشرة آلاف هذا الشيء حالا، فاشتراه بعشرة آلاف مؤجلا، فهذه كلها فيها خير للموكل، فعقد الوكالة وإن لم يقتضيها لكن فيها خير، وقد تقدم حديث عروة البارقي الذي رواه البخاري وفيه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أعطاه دينارا ليشتري به شاة، فاشترى به شاتين، وباع أحدهما بدينار، فهو قد اشترى الشاتين بدينار، والنبي - صلى الله عليه وسلم - قد وكله أن يشتري شاة بدينار، فهذا فيه خير وإن لم يقتضيه عقد الوكالة فكان جائزا، لكن بشرط وهو ألا يكون فيه ضرر فيهما ولذا قال: قوله [ولا ضرر فيهما صح وإلا فلا]

أما إذا كان فيهما ضرر كأن يلحقه ضرر بحفظ المال كأن يقول: بع لي هذه السيارة بعشرة آلاف مؤجلة، فيبيعها بهذا الثمن حالا ويضره أن تكون هذه العشرة آلاف معه الآن ويخالف مقصوده فإنه لا يريد حفظ المال في هذا الوقت، وفي المسألة الأخرى له مقصوده بكون الثمن الذي يدفعه حالا فحينئذ لا يصح التصرف لأنه خالف عقد الوكالة، والمشهور من المذهب أنه يصح وإن كان فيه ضرر، فإذا قال بع لي هذه السلعة بعشرة آلاف إلى سنة، وهو لا يريد المال الآن فباعها بهذا السعر حالة فإنه يصح وإن كان عليه ضرر، والصحيح خلافه لأن عقد الوكالة لا يقتضيه، وإنما صححناه حيث لا ضرر لأن هذا البيع يحصل به أعظم من المقصود وأعظم من المراد فلا يتوجه المنع منه مطلقا، وأما حيث كان هناك ضرر فحينئذ يكون قد خالف عقد الوكالة على وجه يضر به، وما ذكره المؤلف هو أحد القولين في المذهب. والله اعلم وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم بسم الله الرحمن الرحيم وبه نستعين وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وبعد فصل قوله [وإن اشترى ما يعلم عيبه لزمه إن لم يرض موكله]

إذا اشترى الوكيل ما يعلمه معيبا، فقد اشتراه على بصيرة فإنه يلزمه، لأنه قد اشتراه على بصيرة، ولأن عقد الوكالة يقتضي شراء السليم، فإن رضي موكله فحينئذ يكون للموكل لرضاه، هذا إن كان الشراء في الذمة من الوكيل للموكل، وذلك لأنه قد نوى الشراء له، وأما إذا كان هذا الشراء بعين مال الموكل كأن يقول: اشتر لي بهذه الدراهم دارا، فاشترى له دارا معيبة فلا يصح في المذهب، وهذا يرجع إلى تصرف الفضولي والخلاف فيه، وقد تقدم أن الصحيح أن تصرف الفضولي موقوف على الإجازة كما هو أصح الأقوال في هذه المسألة، إذن إذا تصرف الوكيل له في الذمة تصرفا لا يقتضيه عقد الوكالة فرضي به الموكل فيصح ذلك لأنه قد نوى الشراء له، أما إذا كان بعين مال الموكل فلا يصح، والصحيح ما تقدم من أنه موقوف على الإجازة، فإن رضي الموكل فالبيع صحيح، ويكون من باب تصرف الفضولي. قوله [فإن جهل رده] فإذا جهل الوكيل هذا العيب الموجود في السلعة فإنه يرد هذه السلعة، لأنها معيبة، والوكيل يقوم مقام موكله فهو نائب عنه، فكما أن الموكل له الرد بالعيب فكذلك الوكيل. قوله [ووكيل البيع يسلمه ولا يقبض الثمن بغير قرينة] مثاله: وكل زيد عمروا في أن يبيع له سيارة، فإن عمروا وهو الوكيل يقبض المشتري السيارة، وذلك لأن عقد الوكالة يقتضي هذا، فقد وكله في البيع ومقتضى عقد الوكالة أن يسلم هذه السيارة للمشتري، ولكن هل يقبض الوكيل الثمن من المشتري عن موكله أم لا؟ قولان في المذهب:

القول الأول: وهو المشهور من المذهب هو ما ذكره المؤلف من أنه لا يقبض الثمن بغير قرينة، فليس له أن يقبض الثمن لأنه إنما وكله في البيع ولا يقتضي هذا إلا تسليم المبيع، وأما قبض الثمن فلا يقتضيه عقد الوكالة، وهو قد يوكل بالبيع من لا يثق به في القبض، إلا بقرينة تدل على أنه أراد منه أن يقبض الثمن، كأن يعطيه سلعة ليبيعها في سوق هو غائب عنه، فمقتضى هذا أن يستلم الثمن. القول الثاني: أنه يقبض الثمن مطلقا، وفيه ضعف لمخالفته عقد الوكالة كما تقدم. واختار الشيخ عبد الرحمن بن سعدي أن مرجع هذه المسألة إلى العرف والعادة، وذلك لأن الإذن العرفي كالإذن اللفظي وما ذكره الشيخ قرينة عرفية فإن أعطاه حلياً ليبيعه فيقبض الثمن لوجوب التقابض فهي قرينة شرعية. قوله [ويسلم وكيل المشتري الثمن] فلوكيل المشتري أن يسلم الثمن للبائع كالمبيع، فكما أن لوكيل البائع أن يسلم المبيع، فلوكيل المشتري أن يسلم الثمن، لأن عقد الوكالة يقتضي هذا، وهل يقبض وكيل المشتري السلعة المبيعة أم لا؟ على ما تقدم في قبض وكيل البائع الثمن. قوله [فلو أخره بلا عذر وتلف ضمنه] إذا أخر وكيل البائع تسليم المبيع أو أخر وكيل المشتري تسليم الثمن بلا عذر وتلف ضمنه، لأنه قد تعدى بالتأخير، والمتعدي ضامن. قوله [وإن وكله في بيع فاسد فباع صحيحا.... لم يصح] إذا وكله في بيع فاسد فإن هذا البيع لا يصح لأن الموكل لا يصح له أن يبيع هذا البيع الفاسد، فكذلك الوكيل، فلو وكله أن يشتري له خمرا أو أن يبيع له خمرا فإن هذا البيع فاسد كما هو فاسد من موكله، ولو وكله في بيع فاسد فباع صحيحا كأن يشتري له شيئا غير محرم كأن يشتري به إبلا أو بقرا أو خلاً فلا يصح، لأنه لم يأذن له بذلك. قوله [أو وكله في كل قليل وكثير.... لم يصح]

إذا قال: وكلتك في كل قليل وكثير، فطلق نسائي إن شئت، وأنفق مالي إن شئت وهبه إن شئت فأنا قد وكلتك في كل قليل وكثير قال هنا (لم يصح) وذلك لما فيه من الغرر، فقد يطلق عليه كل نسائه وقد ينفق عليه كل ماله ففيه غرر، وقال ابن أبي ليلى من الفقهاء وهو اختيار الشيخ عبد الرحمن بن سعدي بل يصح هذا، قالوا: لأنه إنما وكله لتمام ثقته به، وطمأنينته إلى اختياره، ولأنه لو قال به بالتفصيل لجاز هذا، فلو قال: وكلتك في طلاق نسائي صح، ووكلتك في هبة مالي صح، فكذلك يصح إجمالاً، وهذا القول هو الراجح، وذلك لما تقدم ولأن المصلحة قد تقتضي مثل هذا، كأن يكون عنده سوء تصرف فيوكل من يقوم على مصالحه .قوله [أو شراء ما شاء] كذلك إذا وكله في شراء ما شاء كأن يقول له: اشتر ما شئت، فيقول: هذه مائة ألف اشتر لي بها ما شئت، فهذا لا يصح. قوله [أو عينا بما شاء ولم يعين لم يصح] كذلك إذا قال اشتر لي هذه السيارة بما شئت من المال فهذا لا يصح لما فيه من الغرر، وعن الإمام أحمد وهو اختيار طائفة من أصحابه أنه يصح، لما تقدم تقريره، وهو أنه اختاره لكمال ثقته به ولطمأنينته إلى اختياره، ولعلمه أنه لا يختار إلا الأصلح وحينئذ فمثل هذا جائز والأصل في المعاملات الحل. قوله [والوكيل في الخصومة لا يقبض والعكس بالعكس] فمن وكل في خصومة فليس له أن يقبض كأن يقول الموكل لوكيله أنا أريد من فلان عشرة آلاف وقد وكلتك في الخصومة عني أي عند المحاكم ونحو ذلك، فهل يقبض المال الذي يخاصم عليه؟

الجواب: لا يقبضه، وذلك لأن عقد الوكالة لا يقتضيه، فعقد الوكالة إنما هو في الخصومة لا القبض، ولأنه قد لا يثق به في القبض مع ثقته في الخصومة، وقوله (والعكس بالعكس) أي إن وكله في القبض فله الخصومة، فإن قال أنا أريد من فلان عشرة آلاف وقد وكلتك أن تقبضها منه، فماطل أو جحد المدين فللوكيل الخصومة، وهذا أحد القولين في المذهب، والقول الثاني في المذهب أنه ليس له الخصومة وهو الراجح، وذلك لأن عقد الوكالة لا يقتضيه، وهو قد يثق به في القبض لأمانته ولا يثق به في الخصومة لعدم معرفته بطرق إثبات الحق، فإذا قال وكلتك أن تقبض حقي، فماطل أو جحد المدين فليس له أن يخاصم عن موكله، إلا مع القرينة كأن يوكله في قبض مال في ذمة أحد من الناس يعلم الموكل أنه جاحد وأنه مماطل، فمماطلته وجحده قرينة على أنه أراد منه أن يخاصم عنه، فالراجح أن من وكل بالقبض فلا يعني ذلك أن له الخصومة عن موكله إلا أن تكون هناك قرينة. قوله [واقبض حقي من زيد لا يقبض من ورثته إلا أن يقول الذي قِبَلَهُ] إذا قال له وكلتك أن تقبض حقي من زيد، فحينئذ له أن يقبضه من زيد أو من وكيله لأن الوكيل يقوم مقام الموكل. وهل له أن يقبضه من ورثة زيد؟

قال المؤلف هنا ليس له أن يقبضه من ورثة زيد، لأن عقد الوكالة إنما في القبض من زيد، وليس فيه القبض من ورثة زيد، وأما الوكيل فإنه يقوم مقام زيد، إلا أن يقول قبله، فإذا قال: وكلتك أن تأخذ حقي الذي قِبَلَ زيد أي الذي من جهته فحينئذ يأخذه ولو من ورثته لدلالة اللفظ، واختار الشيخ عبد الرحمن بن سعدي أنه إن قال اقبض حقي من زيد فله أن يقبضه من ورثته وذلك لأن مراده تحصيل الحق سواء كان من زيد أو من وكيله أو من ورثته، وهذا هو الظاهر من مراده إلا أن يصرح كأن يقول: اقبض حقي من زيد نفسه لا من ورثته فحينئذ ليس له أن يأخذه من ورثته، وما ذكره الشيخ رحمه الله هو الظاهر لأن العبرة بالمعاني لا بالمباني. قوله [ولا يضمن وكيل في الإيداع إذا لم يشهد] إذا قبض الوكيل الثمن ثم أودعه أي جعله وديعة عند فلان من الناس ولم يشهد أنه قد أودعه إياه، ثم أنكر المودع عنده فهل يضمن هذا الوكيل؟ قال: لا يضمن، وذلك لأنه لا فائدة من الإشهاد وعليه فإنه لا يكون مفرطا. وهذا يرجع إلى مسألة اختلف فيها أهل العلم وهي: إذا ادعى المودع عنده الرد، فقال: قد رددت الوديعة، فهل يقبل فوله حينئذ فعليه اليمين، أو لا يقبل قوله إلا ببينة تدل على الرد؟ قولان لأهل العلم: فالجمهور على أنه يقبل قوله مطلقا، أي قول المودع عنده، فإذا اختلف المودع والمودع عنده في رد الوديعة فالقول قول المودع عنده مع يمينه، وعليه فلا فائدة من الإشهاد، فلو أن المودع أشهد على أنه وضع هذا المال وديعة عند فلان، ثم ادعى أنه قد ردها إليه فإنه يقبل قوله فلا فائدة من هذا الإشهاد، وعليه تنبني هذه المسألة في المذهب.

والقول الثاني: وهو مذهب مالك أنه إذا كان هناك بينة في الإيداع فلا يقبل قول المودع عنده في الرد إلا ببينة، بمعنى وضعت عنده وديعة، وأشهدت على الوديعة فحينئذ لا يقبل قوله في الرد إلا ببينة، وذلك لأن المودع إنما وضع البينة أولا خوفا من الجحود فحينئذ يراعى قصده، وهذا هو المشهور في مذهب مالك، ولذا فعن الإمام أحمد رحمه الله في هذه المسألة أي مسألة الباب وهو قول لبعض الحنابلة أن الوكيل يضمن إذا لم يشهد فإذا حصل الوكيل ما وكل به ثم جعله وديعة عند رجل ولم يشهد ثم أنكر هذا المودع عنده فإن الوكيل يضمن وذلك لتفريطه، لأنه لو أشهد لم يقبل قول المودع عنده إلا ببينة وعليه فيكون مفرطا. ولأن المودع عنده قد ينسى فينكر الوديعة. فصل قوله [والوكيل أمين لا يضمن ما تلف بيده بلا تفريط] فالوكيل يده يد أمانة، فإذا تلف شيء في يده وهو لم يفرط فحينئذ لا ضمان عليه، فإذا تسلم الوكيل الثمن ثم حصل له تلف أو سرقة أو غصب أو نحو ذلك فحينئذ لا يضمن لأنه لم يفرط بترك ما يجب ولم يتعدِ في فعل مالا يجوز كأن يستعمل ما وكل في بيعه فيتلف والتفريط كأن يضعه في غير حرز. قوله [ويقبل قوله في نفيه] أي في نفي التفريط، فلا نقول هات بينة على أنك لم تفرط، بل متى ادعى أنه لم يفرط وحلف على ذلك فالقول قوله لما تقدم. قوله [والهلاك مع يمينه] فإذا ادعى الوكيل هلاك المال فكذلك يقبل قوله لأنه أمين وحينئذ فعليه اليمين. قوله [ومن ادعى وكالة زيد في قبض حقه من عمرو لم يلزمه دفعه إن صدقه ولا اليمين إن كذبه] إذا ادعى رجل أنه وكيل لزيد في قبض حق زيد من عمرو فما الحكم؟

لا يلزم عمروا أن يدفع الحق إن صدقه، وذلك لأنه يحتمل أن ينكر زيد، ويقول أنا لم أوكله وحينئذ فيتضرر عمرو بالرجوع عليه، ولا يلزمه اليمين إن كذب الوكيل، فاليمين لا تلزم عمروا لأن اليمين إنما تلزم حيث كان النكول عنها نافعا مثبتا للحق فلا يلزم أن يقول والله إنك كاذب وأنه لم يوكلك. قوله [فإن دفعه وأنكر زيد الوكالة حلف وضمنه عمرو] فإذا دفع هذا المدين الحق إلى الوكيل، وأنكر زيد الوكالة وقال: أنا لم أوكله، فإن زيدا يحلف لأنه مدعي عليه ويغرم عمرو، وذلك لأن الحق باق في ذمته حتى يسلمه إلى صاحبه، وهو لم يسلمه إلى صاحبه فيبقى في ذمته، ويرجع عمرو على هذا الوكيل بحقه. قوله [وإن كان المدفوع وديعة أخذها] مثاله: وضع زيد عند عمرو وديعة، فقال: هذه الحلي وديعة عندك، فأتى شخص وادعى أنه وكيل عن زيد في قبض الحلي فقبضه هذا الوكيل، فحيث وجد زيد الحلي فإنه يقبضها في أي موضع وجدها، فإذا وجده في يد هذا الوكيل أخذه، وإذا وجده في يد المشتري من هذا الوكيل أخذه، لأنه عين حقه، وقد انتقل عنه بغير حق فلم يكن هذا الانتقال معتبرا، هذا إذا كان عين الوديعة أو نحوها إن كان باقيا، أما إذا كان تالفا فإنه يضمن أيهما شاء. قوله [فإن تلفت ضمن أيهما شاء] فإن شاء ضمن هذا الوكيل المدعي للوكالة، وإن شاء ضمن المودع عنده، أما تضمين المودع عنده فلأنه قد فرط في إخراج هذه الوديعة من يده بغير إذن شرعي، فيكون مفرطا وعليه فيكون ضامنا، وأما تضمين القابض المدعي للوكالة فلأنه أخذ الشيء بغير حقه، فقد أخذ شيئا لا يستحقه فيكون ضامن والله اعلم وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم بسم الله الرحمن الرحيم وبه نستعين وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وبعد باب الشركة

الشركة يصح فيها هذا الضبط على وزن (سرقة) ، ويصح على وزن (نسعة) بكسر النون وسكون السين، ويصح على وزن (تمرة) ، والشركة هي كما عرفها المؤلف: قوله [وهي اجتماع في استحقاق أو تصرف] فالشركة نوعان: الأول: شركة أملاك واستحقاق. الثاني: شركة تصرف أو عقود. فالشركة الأولى وهي شركة الأملاك أو الاستحقاق هي أن يشترك اثنان في عين أو منفعة، كأن يشترك زيد وعمرو في أرض لهما لكل واحد منهما النصف مثلا، أو يشتركان في منفعة ونحوه، وشركة الاستحقاق كل منهما له حق التصرف في نصيبه لأنه ملكه، وأما نصيب الآخر فليس له أن يتصرف فيه إلا بإذنه، وحينئذ فيكون تصرفه فيه كتصرف الفضولي موقوف على الإجازة، فإذا ورث اثنان أرضا لكل واحد منهما النصف فباعها أحدهما بغير إذن الآخر فإن البيع يصح في نصيبه لا في نصيب الآخر، وصحة البيع في نصيب الآخر موقوف على الإجازة كتصرف الفضولي، وهذا هو النوع الأول من أنواع الشركة. أما النوع الثاني وهو ما يبحث فيه في مسائل هذا الباب فهو شركة التصرف أو شركة العقود ولها أنواع كثيرة يأتي ذكرها. قوله [وهي أنواع: شركة العنان] شركة العنان مأخوذة من عنان الفرس، وذلك لأن الشريكين في تصرفهما في مال الشركة كفارسين على فرسين قد تساويا في السير، فكان عنان، وهو السير الذي يرتبط باللجام ويمسك به الفارس، كل واحد منهما مساو لعنان الآخر فكذلك في الشركة كل منهما يتصرف، هذا يتصرف من جهة بملكه، ومن جهة أخرى بالوكالة. قوله [وهي أن يشترك بدنان بماليهما المعلوم] كأن يدفع هذا عشرة آلاف، وهذا عشرة آلاف، ويشترك فيها بدنان فأكثر، ولا بد أن يكون المال المشترك فيه معلوما، إذ الجهالة غرر، وقد نهت الشريعة عن الغرر. قوله [ولو متفاوتا]

فلا يشترط التساوي في المال المشترك فيه، فلو دفع أحدهما عشرة آلاف والآخر عشرين ألفا فهذا جائز، فلا يشترط التساوي لحصول المقصود بذلك، وعدم ترتب الغرر، ولأن الأصل في المعاملات الحل. قوله [ليعملا فيه ببدنيهما] أو يعملان ببدنيهما أو بأبدان من ينيبانه. فكلاهما يعمل فيه، فيشتركان في المال، ويشتركان في العمل، ولو كان العمل متفاوتا ما دام معلوما. أو يعمل أحدهما ويكون له من الربح أكثر من ربح ماله نظير عمله كالإبضاع في المذهب وهو أن يعطي المال لمن يتجر به والربح كله للدافع والراجح أنه يصح وهو وجه في المذهب لأنه أسقط حقه من الربح برضاه وهو مذهب المالكية. قوله [فينفذ تصرف كل واحد منهما فيهما] فكل الشركاء ينفذ تصرفهم في هذا النوع من أنواع الشركة، فإذا اشترك زيد وعمرو ودفع كل واحد منهما عشرة آلاف فكل واحد منهما يتصرف بهذا المبلغ، فيتصرف في نصيبه لأنه مالك له، ونصيب الآخر لأنه وكيل عنه، ولذا قال: قوله [بحكم الملك في نصيبه والوكالة في نصيب شريكه] لأن هذا هو مقتضى هذا النوع من أنواع الشركة، فيتصرف كل واحد منهما بالمال بحكم الملك في نصيبه، وبالوكالة في نصيب الآخر، ولا يحتاج إلى إذن لأنه مقتضى عقد الشركة، فكل يتصرف بما فيه مصلحة الشركة، أما إذا كان التصرف تصرفا في غير مصلحتها كأن يتصرف في قرض أو عتق أو في محاباة أو في تبرع فهذا لا يقتضيه عقد الشركة فليس له أن يتصرف في هذا الباب، إلا أن يأذن الطرف الآخر، فإن تصرف ضمن.

وعلى كل واحد منهما أن يقوم بما تجري العادة بتوليه إياه، فكل واحد منهما يقوم بالعمل الذي تقتضي العادة أن يقوم مثله بمثله، فإذا اشتركا في بيع قماش فطيه ونشره وإدخاله وإخراجه من الدكان هذا يقتضيه العقد، ويتولى الشريك مثله، فإذا استأجر الشريك أجيرا لشيء من هذه الأعمال فعليه الأجرة، لأن مقتضى عقد الشركة أن يقوم هو به، فإن قام به غيره فعليه الأجرة، وليست الأجرة من مال الشركة. وأما إن كان من الأعمال التي لا تقتضي العادة قيامه بها، كأن تكون الشركة في عدة دكاكين وهما شريكان ومعلوم أنهما لا يمكن أن يقوما بالإشراف والبيع في هذه الدكاكين الكثيرة فحينئذ إذا استأجر أجراء ليقوموا بهذه الأعمال فيكون ذلك - أي أجرتهم - من الشركة. أما إذا كانت العادة تجري - كما يوجد عندنا - بمجرد الإشراف عليه ومتابعته للعمال فإذا أتى بأحد يشرف عنه فعليه هو الأجرة، لأن العادة جارية بأن الإشراف يكون على الشريك أو على الشريكين، وأما الأجراء والعمال فإن العادة جارية على أنه لا يتولاه مثله وحينئذ فتكون الأجرة من مال الشركة. قوله [ويشترط أن يكون رأس المال من النقدين المضروبين ولو مغشوشين يسيراً] فيشترط أن يكون رأس المال من النقدين من الدراهم والدنانير المضروبين، ولو كان فيهما غش يسير فلا بأس، فلو كان في الذهب غش يسير من فضة فهذا لا يؤثر، وذلك لأن هذا الغش اليسير لا يمكن التحرز منه، وهذا في القديم لما كانت تضرب الدراهم والدنانير وهو لمصلحة تصليب النقد، وأما إذا كان الغش كثيرا فلا يصح حينئذ المشاركة بها، وذلك لما فيه من الغرر. والمضروب هو الذي جعل نقداً.

والمذهب يقتصر في شركة العنان على أن يكون مال شركة العنان من الدراهم والدنانير المضروبة، ولا تصح الشركة في العروض، فلو اشتركا في قماش أو ثياب أو أراض عقارية فهذا لا يجوز، وعللوا ذلك: بأن عروض التجارة من القماش والثياب ونحوها أسعارها تزيد وتنقص فلا تكون منضبطة، فإذا أراد أن يفترق الشريكان فحينئذ قد يستوعب نصيب أحدهما المال كله، فمثلا: اشتركا في أراض في حائل وأراض في الرياض، وبعد عشر سنوات أصبحت قيمة الأراضي في الرياض أضعافا كثيرة، ونزلت قيمة الأراضي في حائل فإذا قيل يشتري لهذا أرض في الرياض وللآخر أرض في حائل فقد يستوعب الأول الربح كله أو أكثره فلا يصح الشركة فيها للغرر لأن القيمة غير منضبطة، وذهب الإمام مالك وهو رواية عن الإمام أحمد وهو اختيار شيخ الإسلام وتلميذه ابن القيم وهو اختيار الإمام محمد بن عبد الوهاب وصوبه صاحب الإنصاف واختيار طائفة من الحنابلة أن الشركة في العروض جائزة، قالوا: لأن الأصل في المعاملات الحل، وأما ما ذكرتموه من الغرر فإنه يندفع بتقويمها عند العقد، وتكون دراهما عند الفراغ من الشركة أو بطلانها، فإذا اشتركا - كما في المثال المتقدم - في أراضي في مناطق مختلفة أو بعروض أو نحو ذلك فإنها تقوم ويكون رأس كل واحد منهما هو هذا، وحينئذ فلا غرر، وهذا هو القول الراجح في هذه المسألة. قوله [وأن يشترطا لكل منهما جزءا من الربح مشاعا معلوما] فيشترط لكل واحد منهما - أي من المتشاركين - جزءا من الربح مشاعا، كالربع والثلث أو النصف ونحو ذلك، وهذا باتفاق العلماء دفعا للغرر، وذلك لأنهما لو قدرا دراهم محدودة في كل شهر فقال: لهذا ألف درهم كل شهر، وللآخر الباقي فهذا فيه غرر، وقد يربح أضعافا مضاعفة، وقد لا يربح شيئا، فيكون في ذلك غرر، وهذا من الميسر المنهي عنه. قوله [فإن لم يذكرا الربح.... لم يصح]

لأن المقصود من الشركة الربح وعليه فإن لم يذكر الربح لم تصح. فإذا تشاركا ولم يذكرا الربح لم يصح البقاء على عدم ذكر الربح، وحينئذ فيقسم لكل واحد منهما نصيبه على قدر ماله كما قرر ذلك فقهاء الحنابلة، فعندما يتشارك اثنان في تجارة، كل واحد منهما دفع النصف، ولم يقدرا ربحا فيكون ربح كل واحد منهما النصف، ويتخرج على قول شيخ الإسلام في مسألة شبيهة في فساد الشركة، يتخرج على قوله في تلك المسألة أن كل واحد منهما يعطي نصيبه على قدر النفعين بمعرفة أهل الخبرة، وهذا هو الذي يقتضيه العدل، بمعنى أن كل واحد منهما يعطى على قدر نفعه المالي أولا، وعلى قدر نفعه البدني ثانيا، وأما الحنابلة فقد أعطوا على قدر النفع المالي وأهملوا النظر إلى النفع البدني، فالعدل أن يعطى كل واحد منهما على قدر النفعين النفع المالي، والنفع البدني، وهذا القول هو الراجح. وعليه - وهو قول الحنابلة وغيرهم - لو أنهما تدافعا مالا كل واحد منهما دفع النصف، وكان الجزء المشاع لأحدهما أكثر من النصف فهذا جائز نظرا للنفع البدني، وذلك لأنهما تراضيا وتشارطا عليه والمسلمون على شروطهم وهو كما تقدم مقتضى العدل. فإذن إذا فسد العقد قسم الربح على قدر المالين ولكلٍ منهما أن يرجع بأجرة نصف عمله. قوله [أو شرطا لأحدهما جزءا مجهولا] فلو قال لك البعض ولي البعض فهذا مجهول، فلا يجوز ذلك للغرر. قوله [أو دراهم معلومة] فإذا قال لك ألف ريال أو أكثر أو أقل فهذا لا يجوز لما فيه من الغرر. قوله [أو ربح أحد الثوبين لم تصح]

إذا قال لك ربح أحد المالين ولي ربح الآخر، كأن يشتركا في مال، وهذا المال في موضعين، فبعضه هنا وبعضه في بلدة أخرى، فقال أحدهما: لي الربح الذي يكون في هذه البلدة، ولك الربح الذي يكون في البلدة الأخرى فهذا لا يجوز، وذلك لأنه غرر، وقد نهى النبي - صلى الله عليه وسلم - عن الغرر، فقد يربح هنا ولا يربح هناك، وقد يكون العكس. قوله [وكذا مساقاة ومزارعة ومضاربة] كذلك المساقاة وسيأتي الكلام عليها، والمزارعة والمضاربة وهي نوع من أنواع الشركة، يشترط أن يكون الربح فيها جزءا مشاعا معلوما باتفاق العلماء دفعا للغرر. قوله [والوضيعة على قدر المالين] الوضيعة هي الخسارة، فتكون الخسارة على قدر المالين، مثاله: اشترك اثنان فدفع أحدهما ثلث المال والآخر ثلثاه وكان لكل واحد من الربح النصف فالخسارة تكون بقدر المال لا بقدر الربح، وهذا باتفاق العلماء، وهذا هو العدل وذلك لأن الخسارة متعلقة بالمال لا بالربح، فالخسارة لا تعلق لها بالربح، فعلى ذلك من له الثلثان من الربح فالخسارة عليه بقدر الثلثين، ومن له الثلث تكون الخسارة بقدر الثلث نظرا لتعلق الخسارة بالمال نفسه. فإن شرط عليه من الوضيعة أكثر من قدر ماله فسد الشرط وحده لمخالفته مقتضى العقد، وكذا لو شرط ضمان المال لو تلف فهو شرط فاسد، أو شرط أن لا يفسخ الشركة مدة بعينها. فعلى ذلك الشروط في الشركة كالشروط في البيع والنكاح: شرط صحيح كأن يشترط أن لا يتجر إلا في كذا. 2- شرط فاسد مفسد للعقد وهو ما يعود بجهالة الربح. 3-شرط فاسد غير مفسد للعقد كأن يشترط ضمان المال أو لزوم الشركة بأن لا يفسخ مدة معينة. قوله [ولا يشترط خلط المالين]

فلو اشتركا في مال متميز فهذا جائز لا حرج فيه، فلو اشتركا في أراضي عقارية، هذه في جهة وهذه في جهة أخرى فهذا جائز، أو على المذهب حيث لا يجيزون العروض لو اشتركا في دراهم ودنانير ولم يخلطاهما بل تاجر في هذه بجهة، وفي هذه بجهة أخرى فلم تختلط هذه الأموال بل هي متميزة هذا جائز فلا يشترط خلط المالين، وذلك لأن المقصود من هذه الشركة هو الربح سواء كان المالان مختلطين أم متميزين فلا أثر لذلك، ولأن الأصل في المعاملات الحل. قوله [ولا كونهما من جنس واحد] فلو اشتركا في دنانير ودراهم فهما جنسان مختلفان وهذا جائز للعلة المتقدمة وهي حصول الربح فالربح حاصل وإن كانت الأجناس مختلفة، وعلى القول الذي تقدم ترجيحه لو اشتركا في ثياب وقماش أو اشتركا في أطياب مختلفة فهذا كله جائز، وفي المذهب حيث كانت الدراهم والدنانير لا تزيد ولا تنقص، أما والدراهم تزيد وتنقص فهذا يشكل على المذهب، فلو اشتركا في ريالات ودولارات فالريالات قد تنقص والدولارات قد تزيد أو بالعكس فكانت كالعروض، وحينئذ فالصحيح أنها لا بد أن تقوم ما دام أنها تزيد وتنقص فيقال الدولارات كل دولار يساوي أربع ريالات، وحينئذ نجعل الريالات دولارات أو نجعل الدولارات ريالات، لا بد من هذا، وذلك لأنه في القديم الدراهم لا تزيد ولا تنقص إلا زيادة يسيرة جدا، أو نقصان يسير جدا، وأما في الوقت الحاضر كما قرر هذا الشيخ عبد الرحمن بن سعدي فإنها تختلف وتزيد وتنقص فلا بد من تقويمها دفعا للغرر. والله اعلم وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم بسم الله الرحمن الرحيم وبه نستعين وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم فصل قوله [الثاني: المضاربة] والمضاربة جائزة بالإجماع كما حكاه ابن حزم الظاهري رحمه الله.

وتسمى بالقراض والمقارضة، وقد ثبتت في موطأ مالك عن عمر وعثمان وحكيم بن حزام (1) ولا يعلم لهم مخالف، ويدل عليها الأصل فإن الأصل في المعاملات الحل، والمضاربة من الضرب في الأرض، لأن المضاربة فيها ضرب في الأرض في السفر للتجارة. قوله [لمتجر به ببعض ربحه] فالمضاربة هي دفع مال لمتجر به ببعض ربحه المشاع المعلوم، وصورتها: أن يدفع رجل مالا معلوما لآخر ليعمل به الآخر ويأخذ - أي الآخر وهو العامل - مقابل عمله وتجارته جزءا معلوما مشاعا كالربع والنصف ونحو ذلك، إذن فالمال من أحدهما والعمل من الآخر، بخلاف شركة العنان فإن كان منهما منه المال والعمل، وفي شركة المضاربة لا بد أن يكون الربح مشاعا معلوما كما تقدم من اتفاق أهل العلم على ذلك، فلو قال ببعض الربح لم يصح لما فيه من الغرر، فإن قال: خذ هذا المال فاتجر به والربح كله لك فالمذهب أنه قرض، وذلك لأنه دفع المال ولا ربح له فيه فكان قرضا وهذا هو المشهور من المذهب، وعليه فيضمنه كما يضمن القرض، وذهب المالكية إلى أن هذا العقد صحيح في باب الشركات، فيبقى قراضا أو مقارضة أو مضاربة ولا يكون قرضا، قالوا: لأن الآخر قد دخل على أنه لا ضمان عليه، ونحن إذا جعلناه قرضا فإنه يضمن، وإذا جعلناه شركة فإن العامل لا يضمن، وهو قد أخذ المال على أنه شريك لا على أنه مقترض، وعليه فيكون قوله والربح لك هبة منه، وهذا القول هو الراجح وهو اختيار الشيخ عبد الرحمن بن سعدي، وذلك لأنه لم يدخل على أنه ضامن وأن هذا العقد قرض، ولا بد في العقود من الرضى، فتكون مضاربة والربح هبة. قوله [فإن قال: والربح بيننا فنصفان] إذا قال خذ هذا المال فاتجر به والربح بيننا، فنصفان لكل واحد منهما نصف، وذلك لأن قوله: والربح بيننا فيه إضافة للمال من غير ترجيح فقد أضاف المال إليهما من غير ترجيح فكان لكل واحد منهما النصف.

_ (1) 1 – الحاكم (1396- 1397)

قوله [وإن قال: ولي أو لك ثلاثة أرباعه أو ثلثه صح والباقي للآخر] إذا قال: خذ هذا المال فاتجر به ولي الربع، أو ولي الثلث أو قال: خذ هذا المال فاتجر به ولك الثلث أو ولك ثلاثة أرباعه، ولم يذكر نصيبه في الأمثلة التي ذكر فيها نصيب الآخر، أو لم يذكر نصيب الآخر في الأمثلة التي ذكر فيها نصيبه فهنا يكون الحكم الصحة، فهي شركة صحيحة، ويكون الباقي للآخر، كما قال تعالى {وورثه أبواه فلأمه الثلث} ولم يذكر نصيب الأب لأنه مفهوم باللفظ أي وللأب الباقي كما هو معلوم. قوله [وإن اختلفا لمن المشروط فلعامل] إذا اختلف المضارب والعامل لمن المشروط فلعامل، فإذا ذكر في العقد أن الثلث لأحدهما، والباقي للآخر فاختلفا فكل منهما يقول للآخر الثلث لك، وبينة بينها فيكون المشروط للعامل، وذلك لأن العامل هو الذي يحتاج إلى ذكر نصيبه وذلك لأن الآخر وهو المضارب حقه متعلق بالمال، وما ذكره الحنابلة هنا متجه فهو تعليل صحيح، لكن حيث لم يشهد العرف بخلافه، أما لو شهد العرف بخلافه فيعتبر العرف كما قال الشيخ ابن سعدي رحمه الله. والآن في البنوك – في وقتنا الحالي - لرب المال. قوله [وكذا مساقاة ومزارعة] إذا اختلفا في المشروط في المساقاة والمزارعة فالحكم واحد، فإذا اختلفا في النصيب المشروط أهو لصحاب المزرعة أم للمزارع، أهو لصاحب النخل أم لمن تولاها بسقي ونحو ذلك وهو العامل، فإذا اختلفا في ذلك فإن النصيب المشروط يكون للعامل ما لم يشهد عرف بخلافه.

وإذا اختلفا في قدره فحينئذ القول قول المضارب، فإذا ادعى العامل أن المشروط هو النصف، وأنكر هذا المضارب وقال: بل المشروط هو الثلث فالقول قول رب المال، وذلك لأنه منكر والعامل مدعي، فرب المال ينكر أن يخرج من ماله هذا النصيب الزائد عن الثلث، والآخر يدعيه، والبينة على المدعي واليمين على من أنكر، وعليه فيحلف المضارب أنهما قد اتفقا على الثلث لا النصف فإن حلف حكم بقوله. قوله [ولا يضارب بمال لآخر إن أضر الأول ولم يرض فإن فعل رد حصته في الشركة] مثال هذه المسألة: اتفق زيد وعمرو على أن يعمل له عمرو بماله، ثم اتفق عمرو مع بكر على أن يعمل له عمرو بماله، فهل يجوز ذلك؟ هنا لا يخلو من حالين: 1- أن يكون هذا العقد الجديد للمضارب الآخر مضرا بالأول. 2- ألا يكون مضرا به. فإن كان مضرا بالأول كأن تكون المضاربة الأولى ذات مال كثير وتحتاج إلى أن يستفرغ وقته بالعمل فيها، فحينئذ لا يجوز لقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: (لا ضرر ولا ضرار) ، ولأنه دخل معه على عقد مقتضاه أن يفرغ وقته للعمل لأنه مال كثير يحتاج إلى تفرغ، لكن إن رضي الأول بذلك وقال: رضيت وإن كان علي ضرر فحينئذ يكون قد أسقط حقه فلا بأس بذلك. أما إذا كانت المضاربة الجديدة لا تخل بالمضاربة الأولى فلا بأس بها.

فإذا فعل المضارب مضاربة جديدة مضرة بالأول ولم يرض الأول ردت حصته في الشركة أي رد الربح الجديد في الشركة الأولى، فيرد ربحه الذي يكون في الشركة الثانية إلى الشركة الأولى، قالوا: لأن هذا المال - أي الربح الجديد - قد استحق بمنفعته وهي - أي منفعته - للشركة الأولى، فيكون الربح للشركة الأولى، وهذا هو المذهب، وقال الموفق ما حاصله إن الشركة الأولى لا تستحق هذا المال وهذا الربح، بل تكون للعامل، وإن أضر ذلك بالشركة الأولى، وذلك لأن رب المال في الشركة الأولى ليس له في الشركة الثانية لا عمل ولا مال، فلم يستحق شيئا من الربح في الشركة الثانية، وغاية الأمر أن هذا الرجل العامل قد تعدى حيث دخل في الشركة الثانية على وجه يضر بالأولى، فكما لو ترك العمل وكما لو اشتغل لمصلحة نفسه وتعدي العامل لا يوجب عوضاً، وهذا هو ما اختاره شيخ الإسلام ابن تيمية وهو الراجح، فحينئذ يكون العامل قد تعدى. وأما إذا ضارب بمال الشركة الأولى وأدخل مال الشركة الأولى في الشركة الثانية فلا إشكال أن هذا الربح يكون للشركة الأولى، فمثلا أعطاه مائة ألف على أن يعمل فيها، فدفع عشرة آلاف منها لأحد يعمل له فلا شك أن الربح الناتج من هذه العشرة آلاف راجعة إلى الشركة، لأن رب المال في الشركة الأولى له في الشركة الثانية مال أيضا، وإن كان بغير إذنه فلا يجوز له أن يضارب بغير إذنه وعليه فالضمان على العامل، فلو دفع العامل بعض مال المضاربة فحصل تلف بالمال فإن العامل يضمنه لأنه قد تعدى. قوله [ولا يقسم مع بقاء العقد إلا باتفاقهما]

مثاله: دخلا في الشركة هذا منه المال، وهذا منه العمل، فلا يقسم الربح، كأن يعطيه مائة ألف على أن يعمل بها، فأصبحت بعد سنة مائة وعشرون ألفا فالربح وهو عشرون ألفا لا يقسم إلا برضى الطرفين، أما إذا انتهى العقد فلا إشكال في القسمة، فلا يقسم الربح مع بقاء العقد إلا باتفاقهما وذلك لأن بقاء الربح مع رأس المال يكون وقاية له، فإذا اتفقا على القسمة أو كانت مشروطة فالسلمون على شروطهم. قوله [وإن تلف رأس المال أو بعضه بعد التصرف أو خسر جبر من الربح قبل قسمته أو تنضيضه] إذا تلف رأس المال أو بعضه بعد التصرف أي بعد التصرف في هذا المال الذي وقعت عليه الشركة، فإنه يجبر من الربح قبل قسمته أو تنضيضه، والتنضيض هو رده إلى النقد، فإذا رد المتاع إلى نقد، فهذا هو التنضيض، كأن تكون ثيابا فتباع وتحول إلى نقد، فإذا حصل تلف في رأس المال أو خسارة جبر من الربح قبل قسمته وقبل تنضيضه فينزل التنضيض مع المحاسبة منزلته مع المقاسمة، وهما إذا اتفقا على المشاطرة أو على أخذ جزء مشاع أو نحو ذلك فقد اتفقا على ذلك من الربح، وحيث حصل في رأس المال شيء من النقص فحينئذ لا بد أن يجبر من الربح والمتبقي بعد رأس المال هو الربح، وهذا ظاهر لأن الاتفاق في القسمة إنما هو بعد رأس المال، أما إذا حصلت فيه خسارة أو تلف بعد المقاسمة أو بعد تنضيضه ومعرفة كل واحد منهما ماله، فحينئذ لا يجبر رأس المال، وذلك لأن المضاربة قد انتهت، فتكون الخسارة قد وقعت بعد المضاربة، وإن كانا قد أنشئا مضاربة جديدة فتكون هذه الخسارة ف المضاربة الجديدة لا في المضاربة الأولى، فإذا كان رأس المال مائة ألف، والربح مائة ألف، وبعد القسمة أو بعد التنضيض والمحاسبة لم يكن فيه أي خسارة فكان لكل واحد منهما خمسون ألفا في هذا المال، وهما قد نويا مضاربة جديدة فحينئذ إذا حصلت خسارة أو تلف في رأس المال فتكون في الشركة الجديدة.

فإن تلف رأس المال أو بعضه قبل التصرف انفسخت في التالف وكان رأس المال الباقي كالتالف قبل القبض، أما بعد التصرف فقد دار في التجارة وشرع مما قصد بالعقد من التجارة المؤدية إلى الربح. وهنا مسائل في باب المضاربة: * المسألة الأولى: أن الشركة - أي شركة المضاربة - إذا فسدت فللعامل أجرة المثل، فإذا حصل فساد في الشركة كأن لا يذكر في الشركة سهم العامل فحينئذ تكون شركة فاسدة فما الحكم؟ قال الحنابلة له أجرة المثل، فيقال: قدروه عاملا أجيرا، وقدروا له ما يأخذه فيأخذه، وقال شيخ الإسلام بل له نصيب المثل أي أسهم المثل كالنصف، بمعنى أن يقدر هذه شركة من الشركات، ويقدر هذا مال قدره كذا، وهذا عامل عنده من الحرفة كذا، ومن المهارة الشيء المعين فنقدر نصيبا له كذا وكذا فيأخذه، وهذا هو العدل كما قال الشيخ عبد الرحمن بن سعدي. ** المسألة الثانية: هل يجوز للعامل أن يتعامل بهذا المال نسيئة؟ مثلا: أعطاه مائة ألف، وقال: اتجر بها في القماش، فهل له أن يبيع شيئا من القماش نسيئة أم لا؟ قال الحنابلة وهو مذهب الجمهور لا يجوز ذلك، وذلك لما فيه من المخاطرة، فإن النسيئة فيها مخاطرة، فلا يجوز أن يدخل بهذا المال فيما فيه مخاطرة، وقال الأحناف وهو رواية عن الإمام أحمد بل يجوز هذا، لأن هذا مما يعتاده التجار، والعادة محكمة، والإذن العرفي كالإذن اللفظي، وما ذكروه راجح حيث كان عرفا، أما إذا لم يكن عرفا فذلك لا يجوز وعليه الضمان لما فيه من المخاطرة، وأما إذا أذن في رب المال فهذا لا إشكال فيه. والعامل في المضاربة أمين لأنه متصرف فيه بإذن مالكه على وجه لا يختص بنفعه كالوكيل بخلاف المستعير فإنه يختص بالنفع وعليه فلا يضمن – العامل – إلا مع التعدي والتفريط. والله أعلم وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين بسم الله الرحمن الرحيم

وبه نستعين وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وبعد فصل قوله [الثالث: شركة الوجوه] أي الشركة بالوجوه، والمراد بالوجه: الجاه، أي الشركة التي سببها الجاه، وصورتها أن يشترك اثنان فأكثر بأخذ شيء من الأموال في ذمتيهما ويتاجران بها ويكون الربح بينهما وهم يأخذون هذه الأموال في الذمة على ثقة التجار، ولا يشترط أن يشتركا في البيع والشراء، فإذا قال كل واحد منهما أنت وكيل لي وكفيل بالثمن الذي آخذه فإن الحكم يثبت، أو اتفقا على أن يكون بينهما شركة وجوه، إذن شركة الوجوه حقيقتها أن يكون كل واحد منهما وكيلا عن الآخر وكفيلا له، فإذا اتفقا على هذا فاشترى زيد بضاعة ثم باعها فيكون تصرفه في هذه السلعة شراء وبيعا يكون عن نفسه أصالة وعن عمرو وكالة، ويكون الربح بينهما على ما اتفقا عليه، وكذلك إذا اشترى عمرو شيئا من السلع ثم باعها فشراؤه وبيعه فيه تصف عن نفسه أصالة، وعن زيد وكالة، وزيد كفيل له، فلا يشترط أن يكون البيع والشراء بينهما بالسوية. وقد أجاز هذا النوع الحنابلة والأحناف، ومنع منها المالكية والشافعية، قالوا: لأنه لا مال فيها ولا عمل، فهما لا مال لهما، بل المال في الذمة فهذه الشركة مبنية على الذمم، ولا عمل فيها أيضا، وكل منهما يعمل بهذا المال الذي يأخذه ثم يتصرف فيه تصرفات تجارية ويكون الربح بينه وبين الآخر، وقال الحنابلة والأحناف: بل هي صحيحة لأن الأصل في المعاملات الحل، وليس فيها غرر يمنعها، ولأن حقيقتها كما تقدم أن كل واحد منهما وكيل عن الآخر وكفيل له، وما ذهب إليه الحنابلة والأحناف هو الراجح إذا لا مانع منها. قوله [أن يشتريا في ذمتيهما بجاهيهما فما ربحا فبينهما]

كأن يكون اثنان لهما وجاهة، والناس يعرفونهم ويثقون فيهم، فيقولان: نضع بيننا شركة كل منا يشتري ما شاء - بناء على شروط يضعونها - ويبيع، ويكون وكيلا للآخر، والآخر كفيل له، ثم يكون الربح بينا، فهذه الشركة حقيقتها وكالة وكفالة، والوكالة جائزة، والكفالة جائزة، والأصل في المعاملات الحل. قوله [وكل واحد منهما وكيل صاحبه وكفيل عنه بالثمن] فكل واحد منهما يكون وكيلا عن صاحبه، وكفيلا عنه بالثمن، وهذا هو مقتضى عقد الشركة أي شركة الوجوه، وعليه فلا يشترط في عقد الشركة التنصيص على ذلك، لأن هذا هو مقتضى العقد. قوله [والملك بينهما على ما شرطاه] فالملك والربح أيضا كما سيأتي يكون على ما شرطاه، كأن يقول هذه الأموال التي تأخذها وأنا آخذها لي الثلث ولك الثلثان، أو نحو ذلك فالمسلمون على شروطهم، كذلك الربح ولذا قال المؤلف: قوله [والربح على ما شرطاه] فإذا قال: الربح بيننا مناصفة أو نحو ذلك فالمسلمون على شروطهم. قولهم [والوضيعة على قدر ملكيهما] لما تقدم، فالخسارة مرجعها المال لا الربح، فإذا كان لكل واحد منهما من المال النصف، ولأحدهما من الربح الربع، وللآخر ثلاثة أرباع، فتكون الوضيعة بالنظر إلى الملك، وعليه فتكون الوضيعة في المثال المتقدم على كل واحد منهم قدر النصف، وهذا باتفاق أهل العلم في شركة العنان وهنا كذلك. ولا يشترط ذكر جنس ما يشتريانه ولا قدر ولا وقت. قوله [الرابع: شركة الأبدان أن يشتركا فيما يكتسبان بأبدانهما]

هذا هو النوع الرابع، وهي شركة الأبدان أو الأعمال، وهي أن يشتركا فيما يكتسبان بأبدانهما، فيجتمع عامل وعامل ويقولان: ما يكون بيننا من العمل والربح يكون شركة بيننا، فيكون الربح بيننا على ما يتفقان عليه، كما يقع هذا في الورشات كورشات النجارة وغيرها، وقد اتفق القائلون بشركة الأبدان اتفقوا على جوازها فيما إذا كان الشريكان صنعتهما واحدة، واختلفوا فيما إذا كانت صنعة كل واحد مختلفة كأن يشترك تاجر وحداد أو نحو ذلك؟ فذهب الحنابلة إلى صحة الشركة، وقال المالكية لا تصح، وعللوا المنع بقولهم إن مقتضى الشركة أن يكون العامل الآخر الشريك ضامنا، بمعنى: أتى رجل ليعمل له هذا الشريكان صنعة، فاتفق معهما، فلم يقم صانعها بها، فإنها تلزم الآخر وهو الشريك، فإن الشريك ضامن، وهذا مقتضى الشركة، وعليه فإذا كان الشريك لا يتقن هذه الصنعة التي اتفق شريكه مع أجنبي على صنعتها فحينئذ لا يتمشى هذا مع كونه ضامنا، وأما دليل الحنابلة فهو الأصل، وهو أن الأصل في المعاملات الحل، وأجابوا عن دليل المالكية بأن كونه ضامنا لا يلزم منه أن يقوم هو بالعمل، بل يمكن أن يستأجر أجيرا ليعمل هذا العمل، أو أن يتبرع له متبرع بهذا العمل، فلا يشترط أن يقوم هو بهذا العمل، قالوا: ويدل على هذا أنكم تقولون - أي المالكية - إذا كان العمال أحدهما أمهر من الآخر فإنكم تصححون الشركة، مع أن الأمهر إذا لم يقم بهذا العمل فإن من دونه من العمال لا يمكنهم أن يقوموا به كما أراد الطالب، فإذا جاز هذا فإذا اختلفت الصفة فكذلك، وهذا القول هو الراجح، والحاجة داعية إلى مثل ذلك فإن المصانع الكبيرة وورشات السيارات ونحو ذلك تحتاج إلى عدة مهن، وقد يشتركون فيها مع اختلاف مهنهم. قوله [فما تقبله أحدهما من عمل يلزمهما فعله] كما تقدم لأن هذا هو مقتضى عقد الشركة وهو الضمان. قوله [وتصح في الاحتشاش والاحتطاب وسائر المباحات]

تصح في الاحتشاش بأن يحتشوا ويكون الربح بينهما على ما شرطاه، وكذلك الاحتطاب وسائر المباحات، كأن يشترط أصحاب السيارات التي تحمل السلع في حمل البضائع وتكون الأرباح بينهم على ما يشترطون. والقول بشركة الأبدان هو المشهور في مذهب الحنابلة وهو مذهب جمهور العلماء وهو اختيار شيخ الإسلام، وقال الشافعية وهو اختيار ابن حزم من الظاهرية إن شركة الأبدان لا تصح، وذلك لما فيها من الغرر، وقد نهت الشريعة عن الغرر، فإنه إذا اشترك العاملان فقد يعمل أحدهما ولا يعمل الآخر، فيربح هذا ولا يربح الآخر، فتكون فيها مخاطرة وقمار، واستدل أصحاب القول الأول ما رواه النسائي وغيره من حديث ابن مسعود قال:" اشتركت أنا وعمار وسعد يوم بدر فجاء سعد بأسيرين ولم أجئ أنا ولا عمار بشيء (1) لكن الحديث إسناده منقطع، وما ذهب إليه الجمهور هو الراجح لأن الأصل المعاملات الحل، وأما ما ذكره أهل القول الثاني من ثبوت الغرر فإن الغرر ليس مطردا في مثل هذه الشركة، ثم هو غرر يسير إن حصل، لكن إن كان الغرر ظاهرا فيتوجه المنع كما ذهب إليه الشافعية. قوله [وإن مرض أحدهما فالكسب بينهما وإن طالبه الصحيح أن يقيم مقامه لزمه] فإذا مرض أحد الشريكين فالكسب بينهما على ما شرطاه، وحينئذ هناك ضرر يلحق الصحيح فإنه يعمل ويشارك في ربحه الآخر، فيدفع هذا الغرر بما ذكره المؤلف في قوله (وإن طالبه الصحيح أن يقيم مقامه لزمه) وإلا فله الفسخ، فله أن يفسخ هذه الشركة إن أبى أن يقيم مقامه.

_ (1) النسائي (3937) أبو داود (3377) ابن ماجه (2288)

وظاهر كلام المؤلف أنه إن ترك العمل غير معذور فإن الكسب لا يكون بينهما بل لا كسب ولا ربح، وهذا هو أحد القولين في المذهب، وذكره الموفق في المغني احتمالا، والقول الثاني وهو الصحيح في المذهب وليس براجح من حيث الدليل أن له نصيبه من الربح وهذا قول ضعيف، وذلك لأن المسلمون على شروطهم، وهما قد دخلا في هذه الشركة على أن يعملا فيها، فلم يعمل الآخر فأخل بالشرط فلم يستحق من الريح شيئا. وإذا طلب أحد الشريكين الأجرة فيلزم المستأجر أن يعطيه إياها وذلك لأنه شريك يتصرف في هذه الشركة عن نفسه أصالة وعن شريكه وكالة، وله أي للمستأجر لطالب الصنعة أن يعطي الأجرة أيهما شاء لأن كل واحد منهما يتصرف عن نفسه أصالة وعن شريكه وكالة. ولا تصح شركة الدلالين لأن الشركة لا تخرج عن الوكالة والضمان ولا وكالة هنا لأنه لا يمكن توكيل أحدهما على بيع مال الغير، ولاضمان لأنه لا دين يصير من ذمة واحد منهما ولا تقبل عمل وأما مجرد النداء وعرض المتاع وإحضار الزبون فيجوز الاشتراك فيه. قوله [الخامس شركة المفاوضة: أن يفوض كل منهما إلى صاحبه كل تصرف مالي وبدني من أنواع الشركة] فيقول نشترك أنا وأنت في شركة الأبدان وشركة العنان وشركة الوجوه والمضاربة وهي جائزة، لأنها إذا صحت الشركة منفردة صحت على جهة الاجتماع والأصل في المعاملات الحل. قوله [والربح على ما شرطاه والوضيعة بقدر المال] كما تقدم. قوله [فإن أدخلا فيها كسبا أو غرامة نادرين أو ما يلزم أحدهما من ضمان غصب أو نحوه فسدت] إذا قال: أنا وإياك مالنا واحد، فما ربحت فبيني وبينك، وما خسرت فعلي وعليك، وإذا أتاك إرث فلي ولك، وإذا وجبت عليك دية فعلي وعليك، وإذا حصل عليك ضمان جناية أو غصب أو نحو ذلك فعلي وعليك، وإذا حصل أي ربح من الأرباح فلي ولك، وهكذا فهذا لا يجوز لأنه فيها غرر. والله أعلم وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين

بسم الله الرحمن الرحيم وبه نستعين وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وبعد باب المساقاة المساقاة: مفاعلة من السقي، وسميت مساقاة لأن أهم ما يكون فيها هو السقي، والمساقاة هي: دفع شجر إلى من يقوم بسقيه والعمل عليه على جزء مشاع معلوم من الثمرة، فهي دفع شجر ولو لم يغرس إلى من يقوم بسقيه والعمل عليه من تأبير ونحو ذلك، مثاله: أن يدفع زيد بستانه الذي فيه نخل أو نحو ذلك إلى آخر ليقوم هذا الآخر بسقيه وتأبيره وإصلاح شأن الثمر والاهتمام به وله الربع مثلا من الثمار، والأصل في المساقاة ما ثبت في الصحيحين من حديث ابن عمر أن النبي - صلى الله عليه وسلم -: (عامل أهل خبير على شطر ما يخرج منها من ثمر أو زرع) [خ 2286، م 1551] فهذا هو الأصل في المساقاة أو المفالحة، فالشجر هنا لبيت المال، وعامل عليه ولي المسلمين - صلى الله عليه وسلم - في عهده عامل عليه أهل خبير من اليهود على أن يعملوا عليه ولهم شطر ثماره. قوله [تصح على شجر له ثمر يؤكل] فتصح المساقاة على شجر له ثمر يؤكل، كشجر النخيل أو شجر العنب، وظاهره أن الشجر إذا كان له ثمر لا يؤكل فإن المساقاة لا تصح فيه، وذلك كالقَرظ الذي تدبغ بها الجلود، أو غيرها من الأشجار ذات الثمار المقصودة المنتفع بها لكنها لا تؤكل سواء كانت ثمارها خشبا أو دواء أو غير ذلك، وهذا هو المشهور من المذهب، والقول الثاني في المذهب وهو مذهب المالكية أن المساقاة تصح على كل شجر ذي ثمر مقصود سواء كان مما يؤكل أو مما لا يؤكل، وهذا القول هو الراجح، وذلك للقياس الصحيح على ثمر النخيل بجامع الانتفاع بالثمر، ولأن الأصل في المعاملات الحل ولا دليل يمنع من ذلك. وألحق الموفق رحمه الله وهو قول طائفة من أصحاب الإمام أحمد الحقوا ما يقصد ورقه أو يقصد زهره كالورد والياسمين ونحو ذلك، وهو قياس صحيح والأصل في المعاملات الحل. قوله [وعلى ثمرة موجودة]

كذلك تصح المساقاة على ثمرة موجودة، بمعنى غرس نخلا فأثمر هذا النخل ويحتاج إلى عناية وعمل، فله أن يساقي عليه أحداً ليعمل له حتى يتم نضج هذه الثمار، فهذا جائز لأن الأصل في المعاملات الحل. قوله [وعلى شجر يغرسه ويعمل عليه حتى يثمر بجزء من الثمرة] كذلك تصح المساقاة على شجر يغرسه، كأن يقول هذه أرضي وهذا نخلي فاغرس النخل في أرضي واسقها واعمل عليها ولك النصف أو الثلث أو نحو ذلك، فهذا جائز، وذلك لأنه لا فرق بين المسألة السابقة وهذه المسألة إلا مزيد عمل من العامل، حيث إنه هنا يزيد عمله بالغرس وهذا لا يمنع من الصحة وتسمى بالمناصبة. وقوله (بجزء من الثمرة) أي بجزء من الثمرة مشاع معلوم، أما لو قال له: بجزء من الثمار، ولم يكن مشاعا فإنه لا يصح، فلو قال هذه مائة نخلة اغرسها في هذه الأرض ولك ثمار هذه النخيل العشر أو لك ثمار هذه النخيل العشرين أو لك ثمار نخيل هذه الجهة أو لك ثمار هذا النوع فهذا لا يجوز، وكذلك لو قال: لك ستون وسقا أو نحو ذلك، فهذا كله لا يجوز لما فيه من الغرر، فقد ينتج هذا النوع ولا ينتج النوع الآخر، وقد تنتج هذه الجهة ولا تنتج الجهة الأخرى. قوله [وهو عقد جائز] أي لكل منهما - لمالك الشجر وللعامل - أن يفسخ فهو عقد جائز بين الطرفين، فمثلا اتفقا على أن يعمل له في بستانه الذي فيه نخيل، والثمار بينهما مناصفة، فلما مضى شهر قال رب المال: أنا أريد الفسخ، فله الفسخ، أو قال العامل: أنا أريد الفسخ فله الفسخ، وهذا هو المشهور في مذهب الحنابلة، وهذه المسألة فيها ثلاثة أقوال: القول الأول: هو هذا القول وأن المساقاة والمزارعة عقد جائز بين الطرفين، وهو المشهور من المذهب.

القول الثاني: وهو القول الثاني في المذهب وهو مذهب الجمهور أن عقد المساقاة عقد لازم بين الطرفين فلا يجوز للمالك ولا للعامل أن يفسخ، وهو اختيار شيخ الإسلام والشيخ عبد الرحمن بن حسن والشيخ عبد الرحمن بن سعدي. القول الثالث: وهو قول لبعض الحنابلة وهو اختيار الشيخ محمد بن عبد الوهاب أنه عقد لازم من جهة المالك وجائز من جهة العامل، فالمالك ليس له أن يفسخ إلا برضى العامل، وأما العامل فيجوز له أن يفسخ ولو لم يرض مالك الشجر. أما أهل القول الأول فاستدلوا بحديث ابن عمر وفيه رواية أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال لأهل خبير: (نقركم فيها على ما شئنا) [خ 2338، م 1551] قالوا: فهذا يدل على أنها عقد جائز والنبي - صلى الله عليه وسلم - يقرهم فيها وهو نائب المسلمين على ما يشاء، قالوا: كالمضاربة، والمضاربة بالاتفاق عقد جائز، فكذلك هنا. وأما أهل القول الثاني الذين قالوا أنها عقد لازم فقاسوها على الإجارة، فالإجارة عقد لازم فكذلك عقد المساقاة بجامع أن فيهما كليهما العوض والكسب، قالوا: وإذا لم تكن عقدا لازما فإن في ذلك ضررا، فقد يعمل العامل عدة أشهر ثم بعد ذلك يقول له فسخت، وحينئذ يتضرر العامل، ولا ضرر ولا ضرار كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم -. وأما أهل القول الثالث فقالوا: الضرر إنما يلحق العامل، فلا ضرر على المالك، فجعلناه لازما في حق المالك، حتى لا يتضرر العامل، وأما العامل فهو عقد جائز من جهته.

وأجاب أهل القول الأول عما استدل به أهل القول الثاني من قولهم بأنها إجارة قالوا: فرق بين الإجارة والمساقاة، فإن الإجارة نوع بيع، فهي بيع للمنفعة، وليس كذلك في المساقاة، بل المساقاة أشبه بالمضاربة فكلاهما فيه نوع اشتراك، فالمضاربة يدفع المال ويعمل الآخر، وهنا في المساقاة يدفع الشجر ويعمل الآخر، قالوا: وأما الضرر الذي يقولون إنه يلحق العامل فهو مدفوع بما يذكره المؤلف: قوله [فإن فسخ المالك قبل ظهور الثمرة فللعامل الأجرة، وإن فسخها هو فلا شيء له] فإما أن يكون الفسخ قبل ظهور الثمرة أو بعد ظهورها، فإن كانت الثمرة قد ظهرت فقد ثبت حق العامل، وله نصيبه من الثمرة التي ظهرت، وأما إذا كانت الثمار لم تظهر بعد فلا يخلو من حالين: الأولى: أن يكون العامل هو الذي فسخ، فإذا فسخ هو فقد أسقط حقه فلا شيء له، وذلك لأن العقد فيه أنه يعمل حتى تظهر الثمرة، وله نصيب من الثمار، وحيث لم يصبر حتى تظهر الثمار فلا شيء له، والمسلمون على شروطهم. الثاني: أن يكون الفسخ من جهة المالك، فندفع الضرر الذي يكون على العامل بأن نعطيه أجرة المثل، فمثلاً: اشتغل خمسة أشهر وأجرة مثله كذا وكذا، فيعطيها إياه المالك. وفيما ذكروه نظر، فإن إعطاء العامل أجرة المثل فيه نظر، فهما قد تعاقدا على أن يكون للعامل نصيب مثله مساقاة لا إجارة، وهو إنما اشتغل هذه المدة على أن له ما شرط له من الربع أو الثلث أو نحو ذلك، فإعطاؤه أجرة المثل يخالف الشرط، والمسلمون على شروطهم، [قلت (محمد بن خليفة) : والذي يظهر لي والله أعلم أنه يأخذ من سعر الثمر الذي كان سيعطاه على قدر عمله، ويأخذه حين يُجنى الثمر؛ لأن العقد كان على هذا، وأخذه حالا فيه أجحاف بحق صاحب الشجر، والله أعلم] .

والذي يقوى والله أعلم ما ذهب إليه الجمهور من أنه عقد لازم، وذلك لأن الله أمر بالإيفاء بالعقود في قوله {يا أيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود} وقال {وأوفوا بالعهد إن العقد كان مسؤولا} وهذا عقد وعهد فهو عقد لازم، فالأصل في العقود اللزوم، إلا أن يأتي دليل يدل على عدم لزومها كما يكون هذا في الوكالات وفي الشركات فإنها وكالة، وكما يقع في التبرعات فهي عقود جائزة بدلالة الأدلة، وأما غيرها فيبقى على الأصل، ولأن المسلمين على شروطهم، وهذا قد دخل على شرط وعقد فيجب أن يوفي به، وأما قوله - صلى الله عليه وسلم -: (نقركم فيها على ما شئنا) فيجمع بينه وبين الأدلة التي استدل بها أهل القول الثاني بأن يقال: قوله - صلى الله عليه وسلم -: (نقركم فيها على ما شئنا) أي من السنوات، فأنتم تعملون هذه السنة، وسنوات بعدها نقركم على ما شئنا، فالصحيح ما ذهب إليه الجمهور وهو اختيار شيخ الإسلام وهو قول لبعض الحنابلة وهو اختيار الشيخ عبد الرحمن بن سعدي. وعليه فهل يشترط تحديد سنة أو سنتين أو نحو ذلك أو لا يشترط؟ المشهور عند الشافعية أنه يشترط، فإذا لم تحد سنوات فهي مساقاة فاسدة، وقال أبو ثور من الشافعية وهو صاحب اجتهاد: لا يشترط التحديد، وحينئذ تكون هذه المساقاة على سنة، فإذا دخل من غير تحديد فحينئذ تكون على سنة، وهذا القول هو الراجح، ويدل عليه أن الثمار تظهر كل سنة، ولا يلحق الضرر حيث أبطل العقد أو فسخ بعد سنة، وقد ظهرت ثمار سنة وأخذ نصيبه، وأيضا فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يحدد لأهل خبير سنة ولا سنتين بل قال: (نقركم فيها على ما شئنا) فهذا يدل على عدم اشتراط التحديد ولأنها عقد جائز كالوكالة وهو المذهب. وتملك الثمرة بظهورها فعلى العامل تمام العمل إذا فسخت بعده وله بيعها إن كان غرساً لا ثمراً حتى يبدو صلاحه. قوله [ويلزم العامل كل ما فيه صلاح الثمرة من حرث وسقي وزبار]

الزبار كلمة غير عربية، والمراد بها قص الغصون من شجر العنب، لأن في بقائها أثراً على الثمر. قوله [وتلقيح وتشميس وإصلاح موضعه] أي إصلاح موضع التشميس. قوله [وطرق الماء وحصاده ونحوه] هذه الأعمال تلزم العامل، إذن كل ما يكون فيه صلاح الثمرة فهو واجب على العامل، وقوله (وحصاد ونحوه) كذلك ما يحتاج إليه من آلة الحصاد ونحو ذلك. قوله [وعلى رب المال ما يصلحه] الضمير في قوله (ما يصلحه) يعود إلى المال، أي عليه ما يصلح المال. قوله [كسد الحائط] فإذا كان الحائط فيه انهدام أو نحو ذلك فيجب على رب المال أن يسده. قوله [وإجراء الأنهار] فعندما يكون هناك نهر فيحتاج إلى أن يحفر في الأرض ليوصل ماءه إلى هذا البستان فهذا واجب على رب المال. قوله [والدولاب ونحوه] الدولاب: آلة يستخرج بها المال، ومثلها عندنا: المكائن ونحوها، هذه كلها واجبة على رب المال، إذن ما يتصل بالأصل فهو واجب على رب المال، وما يتصل بالثمر ويصلحه فهو واجب على العامل، هذا كله حيث لم يشهد عرف بخلاف ذلك، إذا شهد العرف بخلاف ذلك فالشرط العرفي كالشرط اللفظي، فإن كان العرف على أن إصلاح المكائن مثلا يكون على العامل فهو عليه، وإذا كان الحصاد أو الجذاذ إذا كان العرف يشهد أنه على رب المال فهو عليه وهكذا، كذلك إذا كان هناك شرط لفظي فإنه يعمل به. الله اعلم وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم فصل بسم الله الرحمن الرحيم وبه نستعين وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وبعد فصل قوله [وتصح المزارعة]

المزارعة: هي دفع أرض إلى آخر ليزرعها على جزء من الزرع مشاع معلوم، والفرق بين المساقاة والمزارعة أن المساقاة في الشجر، وأما المزارعة فهي في الزرع من قمح وشعير وذرة ونحو ذلك، وتصح المزارعة كما هو مذهب فقهاء الحديث كالإمام أحمد وإسحاق ابن خزيمة وأبي ثور وغيرهم من أهل العلم، ودليل صحة المزارعة من السنة ما تقدم في الصحيحين من حديث ابن عمر حيث عامل النبي - صلى الله عليه وسلم - أهل خبير على شطر ما يخرج منها من ثمر وزرع، فقوله (وزرع) يدل على صحة المزارعة، وذكر البخاري في صحيحه معلقا هذه المعاملة عن طائفة كثيرة من الصحابة فقال رحمه الله:" عن أبي جعفر - الصادق - قال ما بالمدينة أهل بيت هجرة إلا يزرعون على الثلث والربع، وزارع علي وسعد بن مالك وعبد الله بن مسعود وعمر بن عبد العزيز والقاسم وعروة وآل أبي بكر وآل عمر وآل علي وابن سيرين، وقال عبد الرحمن بن الأسود كنت أشارك عبد الرحمن بن يزيد في الزرع، وعامل عمر الناس على إن جاء عمر بالبذر من عنده فله الشطر وإن جاءوا بالبذر فلهم كذا " (1) قالوا: ولا يعلم لمن تقدم من الصحابة مخالف فكان إجماعا.

_ (1) البخاري: كتاب المزارعة باب المزارعة بالشطر ونحوه.

وقال الأحناف والشافعية بل لا تصح المزارعة، واستدلوا بما ثبت في الصحيحين أن النبي - صلى الله عليه وسلم -: (نهي عن المحاقلة) (1) وفي أبي داود بإسناد صحيح من حديث زيد بن ثابت نحوه وفيه أنه سئل - أي زيد - عن المحاقلة فقال: (أن يأخذ الأرض على نصف وثلث وربع) (2) واستدلوا بحديث رافع بن خديج في البخاري وغيره أنه قال: (نهانا النبي - صلى الله عليه وسلم - أن نحاقل بالأرض على الثلث والربع والطعام المسمى) (3) وبما ثبت في الصحيحين من حديث جابر بن عبد الله وهو نحو حديث رفع بن خديج وفيه أنه قال (كان فيها - أي في المدينة - رجال لهم فضل أرضين فأرادوا أن يؤجروها بالثلث والربع فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: (من كانت له أرض فليزرعها أو يمنحها فإن أبى فليمسك أرضه) (4) قالوا: فهذه الأحاديث تدل على النهي عن المحاقلة وهي المزارعة. والصحيح ما ذهب إليه أهل القول الأول، للحديث المتقدم وهو حديث ابن عمر في مزارعة النبي - صلى الله عليه وسلم - أهل خبير، وأما الجواب عما استدل به أهل القول الثاني فيقال: إما أن يكون هذا في أول الإسلام حيث كانت الحاجة داعية إلى المنح والإحسان، ولم يكن ذلك تحريما، ولذا ثبت في الصحيحين عن ابن عباس قال: (إن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم ينه عن ذلك وإنما قال: يمنح أحدكم أخاه أرضه خير له من أن يأخذ عليها خرجا معلوما) (5) فتحمل الأحاديث المقدمة على أنها في أول الإسلام، وهذا وجه.

_ (1) البخاري: 2186 - مسلم: 1539. (2) أبوداود: 3407. (3) البخاري: 2344 - مسلم: 1548. (4) البخاري: 2341 - مسلم: 1536. (5) البخاري: 2330- مسلم: 1550.

والوجه الثاني أن تحمل على المخابرة الجائرة أي المزارعة الجائرة الظالمة التي لا تكون على جزء معلوم، ويدل لهذا ما ثبت في مسلم من حديث رافع بن خديج وهو ممن روى في النهي عن المخابرة فإنه قال لما سئل عن كراء الأرض بالذهب والفضة فقال: (لا بأس به إنما كان الناس يؤاجرون على عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - على الماذيانات - وهي أطراف السواقي - وأقبال الجداول - الجدول هو النهر والمعنى: أوائل النهر - وأشياء من الزرع فيهلك هذا ويسلم هذا ويسلم هذا ويهلك هذا فلم يكن للناس كراء إلا هذا فلذلك زجر عنه فأما شيء معلوم مضمون فلا بأس به) (1) [م 1547] وفي الصحيحين عنه أنه قال: (كنا أكثر الأنصار حقلا، قال كنا نكري الأرض على أن لنا هذه ولهم هذه فربما أخرجت هذه ولم تخرج هذه فنهانا عن ذلك) (2) فهذا يدل على أنهم كانوا يتفقون على أن هذا له، وهذا للآخر، أي هذا النصف مثلا من هذه الجهة لي، والنصف الآخر وهو الجهة الفلانية لك، وهذا هو المنهي عنه، فالصحيح جواز المزارعة، والقياس الصحيح يدل على ذلك، فإنه لا فرق بينهما وبين المساقاة التي تقدم ذكرها. قوله [بجزء معلوم النسبة] كأن يقول: بثلث ما يخرج أو ربعه أو نحو ذلك، فلا بد أن يكون جزءا مشاعا معلوما، لكن لو قال: لي ما يخرج في هذه الجهة، ولك ما يخرج في الجهة الأخرى، أو لي طعام فسمى كذا وكذا من الآصع أو نحو ذلك فلا يجوز هذا. هل يجوز أن يستأجر الأرض على هذه الصفة؟ فيقول: أريد أن استأجر منك أرضك بثلث ما يخرج منها، وعليه فإذا لم يزرع هذه الأرض فإن عليه أن يأتي بالثلث الذي يخرج منها عادة، بأن ينظر غلة الأراضي التي تشبهها ثم يعطي ثلثه، فهل هذا يصح؟

_ (1) مسلم: 1547. (2) البخاري: 2332- مسلم: 1547

المشهور من المذهب جوازه، ومنع منه الجمهور، واحتجوا على المنع بأن الإجارة لا بد أن تكون الأجرة فيها معلومة، وهنا الأجرة ليس بمعلومة فقد يكون الثلث الذي يخرج منها قليلا وقد يكون كثيرا، والصحيح ما ذهب إليه الحنابلة من جواز هذه المسألة، وذلك لأنها إن أنبتت الأرض وأخرجت زرعها فأخذ الثلث فلا فرق حينئذ بين الإجارة والمزارعة إلا بالألفاظ وهذا ليس بمؤثر، وإن لم تنبت فإن الثلث معلوم في العادة فليس بمجهول، فإن أهل الخبرة يعلمون القدر الذي تخرجه في العادة وحينئذ فقسطه معلوم فلا جهالة. قوله [مما يخرج من الأرض لربها أو للعامل والباقي للآخر] فإذا قال رب المال: لي النصف فحينئذ يتعين الباقي للعامل، وإن قال العامل: لي النصف فحينئذ يتعين لرب المال الباقي. قوله [ولا يشترط كون البذر والغراس من رب الأرض وعليه عمل الناس]

هذا هو أحد القولين في مذهب أحمد وأحد الروايتين عنه وهو اختيار الموفق والمجد ابن تيمية وهو اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه ابن القيم، أن البذر لا يشترط أن يكون من رب الأرض فلو كان من العامل فهذا جائز، فلو اتفقا على أن يكون البذر من العامل في المزارعة، أو أن يكون الشجر من العامل في المساقاة فهذا جائز، والقول الثاني وهو المشهور في المذهب أنه لا يجوز ذلك، وأنه يشترط أن يكون البذر من رب المال، فإن كان البذر من العامل فهي مزارعة فاسدة، وإن كان الغراس من العامل فهي مساقاة فاسدة، وهذا هو مذهب جمهور العلماء، واستدل أهل القول الأول بما تقدم من أثر عمر بن الخطاب فإنه عامل الناس على أنه إن جاء عمر بالبذر - وهو النائب عن المسلمين - فلهم الشطر، وإن جاءوا - أي العمال - بالبذر فلهم كذا، فهذا هو قول عمر وفعله ولا يعلم له مخالف، ولأن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما عامل أهل خبير وكانوا هم العمال لم يثبت أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يعطيهم شيئا من البذور ولم ينقل هذا، ولو كان مثل هذا ثابتا لنقله رواة هذا الحديث، فلما لم ينقلوه كان الظاهر أن ذلك لم يكن منه - عليه الصلاة والسلام -، وأما أهل القول الثاني فقالوا: إن المضاربة يكون رأس المال فيها من رب المال، فكذلك البذر وكذلك الغراس فلا بد أن يكون من رب المال كالمضاربة، فاستدلوا بالقياس على المضاربة، والقياس حيث خالف ما تقدم من الأثر والسنة فهو قياس فاسد ثم إن هناك فرقا وهو أن رأس المال يرجع إلى صاحبه في المضاربة وأما البذر فلا يرجع إلى رب المال، بل ترجع إليه أرضه والربح، فكان بين البذور والمال فرقا، وعليه فالراجح هو القول الأول، وعليه فإذا كان بينهما شرط لفظي على أن يكون البذر من أحدهما فهو عليه، وإن كان هناك عرف فإنه يحكم به.

مسألة:هل يجوز أن يقول رب المال أو العامل - على القول به - أنا أدفع البذر ولكن إذا أخرجت الأرض فآخذ قيمة البذر ثم يكون الربح بعد ذلك بيننا؟ كأن يضع طنا من القمح بذرا، ثم تخرج الأرض مائة طن، فيخرج طنا على أنه هو البذر فيأخذه دافع البذر ويقسمان الباقي المشهور من المذهب المنع من ذك، قالوا:لأنه قد لا ينتج شيء، إلا ما يماثل البذور، فيكون هذا كما لو اتفقا على آصع معلومة، هذا فيه غرر، وأجازه شيخ الإسلام قياساً على المضاربة، وألحقه برأس المال. كذا الكلف السلطانية ما لم يكن هناك عرف يقضي بخلاف ذلك، فإذا كان السلطان يأخذ شيئا من رب المال على هذا الربح كأن تكون ضرائب فتخرج هذه الضرائب ثم يقسمان الربح ما لم يكن هناك عرف بخلاف ذلك.قال شيخ الإسلام ويتبع في الكلف السلطانية العرف مالم يكن هناك شرط. مسألة: هل يجوز أن يؤجر الأرض بطعام معلوم؟ كأن يقول: استأجر منك هذه الأرض لأزرعها بخمسين طنا من القمح، ويزرعها قمحاً أو يزرعها شعيرا؟ لهذه المسألة صورتان: الصورة الأولى: أن يكون الطعام المسمى من جنس ما يزرع، كأن يقول: استأجر منك هذه الأرض لأزرعها قمحا وأعطيك كذا طنا من القمح، فهذا لا يجوز، وهو رواية عن أحمد وهو مذهب مالك، والجمهور على جوازه، والصحيح هو المنع وذلك لأنه ذريعة إلى التحايل على تحديد آصع معلومة في الزارعة، وهذا ممنوع منه، وفيه غرر كما تقدم، ولذا تقدم حديث رافع بن خديج في الصحيحين: (نهانا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على أن نحاقل بالأرض على النصف والربع والطعام المسمى) الصورة الثانية: أن يكون الطعام من جنس آخر، كأن يستأجر الأرض ليزرعها قمحا ويعطيه أجره من الشعير أو غيره فلا وجه للمنع من هذا، فإن ذلك يشبه كراء الأرض بالذهب والفضة وليس هناك محذور وهو مذهب الجمهور ومنع منه المالكية، والصحيح هو جوازه

كتاب البيوع من باب الإجارة إلى منتصف الشفعة

باب الإجارة الإجارة في اللغة: مشتقة من الأجر، وهو العوض، وأما في الاصطلاح فه ي عقد على منفعة مباحة معلومة من عين أو عمل بعوض معلوم مدة معلومة. فقولنا (عقد) أي بين المتعاقدين المؤجر والمستأجر. وقولنا (على منفعة مباحة معلومة) كسكنى الدار مثلا، أو ركوب الراحلة أو نحو ذلك. وقولنا (من عين) كالدار للسكنى أو للبيع فيها أو نحو ذلك، سواء كانت العين معينة أو موصوفة، كأن يقول: أجرتك وأكريتك هذه الدار، أو موصوفة كأن يقول: أجرتك دارا سعتها كذا، وفيها من الغرف كذا ونحو ذلك. وقولنا (عمل) كأن يستأجر على أن يحمل له طعاما أو يبني له حائطا، أو نحو ذلك. وقولنا (بعوض معلوم) كأن يكون عشرة آلاف. وقولنا (مدة معلومة) كسنة أو سنتين أو نحو ذلك. وقد دل الكتاب والسنة والإجماع على صحة الإجارة، أما الكتاب فقوله تعالى {فإن أرضعن لكم فآتوهن أجورهن} ، وأما السنة فمن ذلك ما ثبت في صحيح البخاري: (أن النبي - صلى الله عليه وسلم - وأبا بكر - رضي الله عنه - استأجرا رجلا من بني الديل هاديا خريتا - أي ماهرا في الدلالة -) [خ 2263] وقد أجمع أهل العلم على صحة الإجارة، والحاجة داعية إليها فإن الإنسان يحتاج إلى المنافع المتصلة بأعيان مملوكة لغيره، فيحتاج إلى سكنى الدار، وإلى أحد يحمل له، وإلى رحلة يركبها، وقد لا يكون مالكا لذلك، فيحتاج إلى هذه المنافع التي أعيانها مملوكة لغيره، فأجازتها الشريعة، وهي قائمة على رفع الحرج وتحصيل المصلحة، ولا شك أن الإجارة عقدها عقد مصلحة وحاجة. والإجارة بيع للمنفعة، وعليه فيشترط فيها ما يشترط في البيع، ومن ذلك أن يكون المتعاقدان جائزي التصرف. قوله [تصح بثلاثة شروط: معرفة المنفعة] إما بالعرف أو بالوصف، وقد ضرب المؤلف هنا ثلاثة أمثلة للعرف فقال: قوله [كسكنى دار]

فإذا أراد أن يستأجر دارا ليسكنها فإن كيفية الانتفاع بها بالسكنى معروفة بالعرف، ولذا فليس له سوى ما دل عليه العرف، فليس له أن يجعلها مخزنا للطعام، أو أن يضع فيها دوابا أو غير ذلك، وله أن يكرم فيها ضيفه ونحو ذلك، لأن العرف قد دل عليه، وإن كانت هذه الدار فيها مساحة، وقد قام العرف على جواز وضع الدواب فيها فإنها توضع. قوله [وخدمة آدمي] فعندما يستأجر عاملا ويقول: أريد أن تعمل عندي شهرا، فإن تحديد زمن هذه الخدمة من الليل والنهار معروف في العرف، فإنه يكون من صلاة الفجر - مثلا - إلى المغرب في عرف بعض الناس أو بعض العمال، وهذا يختلف باختلاف الأزمان واختلاف العمال. قوله [وتعليم علم] فإذا استأجره لتعلم منه علما سواء كان علما شرعيا أو كان علما دنيويا - وسيأتي الكلام على أخذ الأجرة على العلم الشرعي -، فإذا استأجره ليتعلم منه علما فهذا معروف في العرف. وقد تكون المنفعة معروفة بالوصف وذلك إن لم يكن هناك عرف، فإذا استأجره لبناء دار أو حائط، ونحو ذلك فإنه يحدد له طوله وعرضه وطريقة البناء ومواد البناء التي يختلف باختلافها البناء ونحو ذلك، وإذا أراد أن يستأجره لحفر بئر حدد له عمقها وعرضها وطولها ونوعية الأرض ونحو ذلك، والمقصود أن تكون المنفعة المستأجرة معلومة محددة إما بعرف أو وصف، ودليل ذلك أن الإجارة بيع، فهي بيع منفعة، ومن شروط البيع معرفة المبيع، وهنا كذلك من شروط صحة الإجارة معرفة المنفعة المستأجرة. قوله [الثاني: معرفة الأجرة] كالبيع، وهذا باتفاق العلماء، وذلك لأن معرفة الثمن في البيع شرط، فكذلك في الأجرة، كأن يقول: استأجرت منك هذه الدار بعشرة آلاف كل سنة. قوله [وتصح في الأجير والظئر بطعامهما وكسوتهما]

فيصح أن يستأجر أجيرا ليعمل له وتكون أجرته هي سكناه وطعامه وكسوته، فهذا جائز، وكذلك يجوز أن يستأجر مرضعة وتكون الأجرة طعامها وكسوتها، ودليل ذلك قول الله تعالى {وعلى المولود له رزقهن وكسوتهن بالمعروف} فعلى المولود له وهو ولي الرضيع أن يكسو وأن يرزق المرضعة، وليس هذا للزوجة، لأن الله عز وجل قد جعل أجرة للرضاعة، وكذا أوجبه على الوارث غير الزوج فقال تعالى {وعلى الوارث مثل ذلك} ، فدل على أن هذا الرزق والكسوة من الزوج ليس بسبب الزوجية، وإنما هو بسبب الرضاع فهو أجرة على الرضاع، وكذلك الأجير كما تقدم، وروى ابن ماجة بإسناد ضعيف جدا - فإن فيه بقية بن الوليد وفيه سلمة وهو رجل ضعيف جدا - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (إن موسى قد أجر نفسه ثماني سنين أو عشرا على عفة فرجه وطعام بطنه) [جه 2444] والحديث لا يصح، لكن الأجير يقاس على الظئر. فإن قيل هذه الأجرة مجهولة، وقد شرطنا في الأجرة أن تكون الأجرة معلومة؟ فالجواب: أنها ليست مجهولة، بل هي معلومة، فإن مرجع ذلك إلى العرف، والعرف يدل عليها، فيمكننا أن نحدد هذه الكسوة وهذه النفقة بالعرف. * هل يجوز أن يستأجر دابة وتكون الأجرة علفها أو أن يحدد لها شيئا من المال مع تعليفها، كأن يقول: استأجر منك هذه الدابة وأجرتها أن أعلفها عنك، أو يقول: وأجرتها كل يوم درهم، وأن أعلفها عنك، فهل يجوز ذلك؟ الجواب: منع الحنابلة من ذلك في المشهور عندهم للجهل، قالوا: علفها مجهول، سواء كان منفردا بالإجارة، أو كانت هناك أجرة مضافة إليه، وعن الإمام أحمد أنه يصح، وهو اختيار شيخ الإسلام وجمع من أهل العلم، وهو القول الراجح، وذلك لأن هذا معروف بالعرف، فالعرف يقوم مقام التسمية، فكما أجزناه في الظئر وفي الأجير فكذلك في الدابة. قوله [وإن دخل حماما أو سفينة أو أعطى ثوبه قصارا أو خياطا بلا عقد صح بأجرة العادة]

قوله (قصارا) القصار هو من يفصل الثوب من غير خياطة، [قلت (محمد خليفة) : بل القصار هو من يدفع إليه القماش أو الثوب ليقصره؛ لأن من الثياب ما يقصر بالغسيل، فلا يمكن خياطتها إلا بعد أن تقصر، فتدفع مثل هذه الأقمشة إلى القصار ليقصرها، فيغسلها، ويدقها بالعصا، وينشرها، ويكويها، ولعله أن يصبغها أحيانا ليغير من لونها حسب ما يطلب منه، ثم بعد ذلك يدفعها للخياط ليخيطها. أفادني بما ذكر الأستاذ أبو طريف محمد النميري، والله أعلم] فإذا وضع ثوبه عند قصار أو خياط، أو ركب سفينة أو سيارة من الرياض مثلا إلى حائل ولم يتفق على أجرة، أو أجر حمالا يحمل له طعاما ولم يسميا أجرة، فإنه يصح بأجرة العادة، وذلك لأن جريان العرف بالشيء يقوم مقام التسمية. قوله [الثالث: الإباحة في العين، فلا تصح على نفع محرم كالزنى والزمر والغناء وجعل داره كنسية أو لبيع الخمر] أو لبيع الأشرطة المحرمة من غناء أو فيديو أو غير ذلك من الأشياء المحرمة، فهذا لا يجوز ولا تصح الإجارة، وذلك لأن الشريعة من قصدها إزالة هذه المنكرات، والإذن بالإجارة فيها وتصحيحها ينافي مقصود الشرع المتقدم، ولقول الله تعالى {وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان} ، ولأنه لعن في الخمر من لعن ومنهم حاملها، فهو أجير يحمل الخمر، ومع ذلك لعنه النبي - صلى الله عليه وسلم -، إذن فالشرط الثالث: هو الإباحة في العين، فعلى ذلك إذا استأجر رجل دكانا لبيع الخمر أو أشرطة الغناء أو نحو ذلك فتبين للمؤجر أن ذلك محرم فيجب عليه أن يبطل العقد، وإن اتفقوا سنوات، وإن كان استلم الأجرة، مع أن عقد الإجارة عقد لازم لا يجوز لأحد من الطرفين فسخه، لكن هنا هو عقد باطل، وذلك لأن النفع غير مباح. قوله [وتصح إجارة حائط لوضع أطراف خشبه عليه]

فيجوز أن يؤجر حائطه لوضع أطراف خشب معلوم، لأن الأصل في العقود الحل، وهذا نوع من أنواع الإجارة، وكذلك لو كان عنده دكان، فاستأجر أحد منه أن يضع عليه شيئا من الخارج أو نحو ذلك فيجوز له أن يؤجر، وذلك لأنه أجر منفعة معلومة. قوله [ولا تؤجر المرأة نفسها بغير إذن زوجها] لا تؤجر المرأة نفسها بعمل من الأعمال بغير إذن زوجها، وذلك لما في عملها من تفويت حق الزوج، فلم يكن لها أن تعمل عملا إلا أن يأذن لها زوجها فيه. فصل تقدمت شروط المنفعة المستأجرة، وهذا الفصل في شروط العين المؤجرة، أي العين المشتملة على المنفعة، فعندما يستأجر دارا ليسكنها، فالسكنى منفعة، والدار هي العين، وعندما يستأجر جملا ليحمل عليه، فالجمل هي العين، والمنفعة هي الحمل، وعندما يستأجر امرأة للرضاع، فالرضاع هو المنفعة، والمرأة هي العين. قوله [يشترط في العين المؤجرة معرفتها برؤية أو صفة] هذا هو الشرط الأول: وهو معرفة العين المؤجرة برؤية أو صفة. وذلك لأن المنفعة تختلف باختلاف العين، فعندما يستأجر دارا ليسكنها وهو لا يعرف ما في هذه الدار من غرف ولا يعرف مساحتها ونحو ذلك فلا شك أن هذا مؤثر في اختلاف الأجرة فاشترط ذلك. قوله [في غير الدار ونحوها]

فالدار ونحوها مما لا يصح فيه السلم لا تكفي الصفة، بل تشترط المشاهدة والرؤية، فإذا قال: أريد أن أكريك داري التي مساحتها كذا، وعدد غرفها كذا، وموقعها كذا، ونحو ذلك فقال: رضيت، فهذا لا يجوز، ولا تصح الإجارة، قالوا: لأن الدار ونحوها مما لا يصح فيه السلم لا ينضبط بالوصف، وقد تقدم أن المشهور من المذهب أن السلم لا يصح إلا في المكيلات والموزونات والمذروعات، وأما المعدودات وغيرها مما لا ينضبط فلا يصح فيه السلم، لأن السلم بيع على الصفة، وقد تقدم أن الراجح أن ما يكون الاختلاف فيه اختلافا يسيرا، والتفاوت فيه تفاوت يسير فالسلم فيه جائز، ولو لم يكن مكيلا أو موزونا أو مذروعا، فهنا كذلك في باب الإجارة، فعندما يصف له الدار وصفا بينا ظاهرا ثم يستأجرها على هذا الوصف التام الظاهر - وإن كان يقع فيه شيء من التفاوت اليسير - فهذا ليس بمؤثر، فهذه جهالة يسيرة يعفى عن مثلها. إذن هذه المسألة تنبني على المسألة السابقة في باب السلم، فالصحيح أن كل ما ينضبط بالصفة وإن كان الانضباط فيه ليس تاما بل مع التفاوت اليسير فإن الإجارة فيه جائزة كالسلم، أما إذا كان التفاوت كثيرا مما تقع بمثله المنازعة فلا يجوز ذلك كما في السلم. قوله [وأن يعقد على نفعها دون أجزائها] هذا هو الشرط الثاني: وهو أن يعقد على نفعها دون أجزائها.

بمعنى أن الإجارة لا تؤثر على أجزائها، فلا يتلف من هذه العين شيء، كسكنى الدار والحمل على الجمل ونحوه، لكن لو كانت الإجارة على شيء من أجزائها كأن يستأجر طعاما للأكل أو شمعا ليشعله أو صابونا لغسل اليدين به أو نحو ذلك فلا تجوز الإجارة فيه، فلا تصح الإجارة في أي شيء يستنفذ شيئا من الأجزاء بل لا بد أن تكون مختصة بالمنافع، ولا يريدون ما يحصل من التلف اليسير، فإن سكنى الدار يحصل فيها تلف يسير، فهذا ليس هو المقصود، بل المقصود أن يكون هذا العقد يقضي على شيء من أجزائها، وهذا هو المشهور من المذهب وهو مذهب جمهور الفقهاء، واختار شيخ الإسلام جواز هذا، واختاره طائفة من أصحاب الإمام أحمد من المتأخرين، وهذا القول هو الراجح، وذلك لأن الأصل في المعاملات الحل، ولو سلمنا - ونحن نسلم بهذا - أنها ليست إجارة لأن الإجارة تكون على المنفعة مع بقاء العين وعدم استهلاكها لكن لا مانع من ذلك، فهي وإن لم تكن إجارة لكن لا دليل على المنع منها، ولذا قال شيخ الإسلام:" هي إذن بالإتلاف وليست إجارة وهذا سائغ "، أي أن يأذن بإتلاف ماله مقابل مال يدفع إليه فهذا سائغ، وهي ليست بإجارة، لكنها عقد صحيح لا تستهلك فيه العين كلها فيكون بيعا، وإنما يستهلك فيها بعض العين، ويأخذ المؤجر حقه مقابل هذا الاستهلاك. قوله [فلا يصح إجارة الطعام للأكل ولا الشمع ليشعله ولا حيوان ليأخذ لبنه إلا في الظئر]

أي في المرضعة فذلك جائز، أما لو استأجر من رجل إبلا أو بقرا أو غنما ليأخذ لبنها في وقت درها فقال الحنابلة وهو مذهب الجمهور لا يجوز ذلك، وذلك لأن الإجارة على المنفعة، وهنا وقعت على العين، فإن اللبن عين، فليست الإجارة على منفعة، وقال بعض أهل العلم كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية وهو اختياره رحمه الله، واختيار تلميذه ابن القيم واختيار الشيخ عبد الرحمن بن سعدي أن ذلك جائز، قياسا على الظئر، فكما أن الظئر يجوز لها أن تؤجر لبنها للطفل فكذلك يجوز في هذه المسألة، قالوا: واللبن هنا مع بقاء الأصل كالمنفعة مع بقاء الأصل، فاللبن هنا يستهلك والأصل باق، فإن الأصل هو البقر - مثلا - باق، واللبن يستهلك فأشبه هذا المنفعة، فإن المنفعة تكون مع بقاء الأصل، قالوا: وبالقياس على المساقاة فإنه يؤجر أرضه ونخله ويأخذ الآخر ثمرها بكراء من ذهب أو فضة، وهنا كذلك فإنه يستأجر هذا البقر أو الغنم ويأخذ لبنها، بل تطرق الإجارة إلى الأرض أعظم من تطرقها إلى لبن هذه الشاة أو لبن هذه البقرة، وهذا القول هو الراجح لقوة أدلته، وليس مع المانعين دليل يمنع كما أن الأصل في العقود الحل. قوله [ونقع البئر وماء الأرض يدخلان تبعا] إذا قيل: أنتم عندما تكرون أرضا أو تؤجرونها يدخل فيها ماء بئرها، وعندما تكرون أرضا للزراعة يدخل في ذلك ماء بئرها، ويدخل في ذلك الماء الذي في الأرض وهي أعيان، فلماذا لو تقولوا بالمنع فيها، فهي كاستئجار الحيوان لأخذ اللبن في وقت دره، فأجابوا هنا: أنهما يدخلان تبعا، ويثبت تبعا ما لا يثبت استقلالا، وهي قاعدة صحيحة، وعلى القول الراجح المتقدم الذي اختاره شيخ الإسلام لا إشكال في هذه المسألة. قوله [والقدرة على التسليم] هذا هو الشرط الثالث: أن يكون مقدورا على تسليمه كما يشترط هذا في البيع. ولا شك أنه إذا أجر ما لا يقدر على تسليمه فإن ذلك غرر.

قوله [فلا تصح إجارة الآبق والشارد] فلا تصح إجارة العبد الآبق أي الهارب من سيده وكذلك لا تصح إجارة الشارد أي الجمل الشارد وهذا ظاهر. قوله [واشتمال العين على منفعة] هذا هو الشرط الرابع: وهو أن تكون العين مشتملة على المنفعة. فعندما يستأجر منه عينا على أن ينتفع بها ولا نفع فيها فلا شك أن ذلك لا يجوز، وذلك لأن المقصود هو استيفاء المنفعة، فإذا لم تكن المنفعة ثابتة في هذه العين فحينئذ لا يمكن استيفاؤها، فعندما يكريه جملا عاجزا عن الحمل لكي يحمل عليه فلا يمكنه أن يستوفي ذلك، فكان ممنوعا ولذا قال: قوله [فلا تصح إجارة بهيمة زمنة لحمل، ولا أرض سبخة لا تنبت] فلا يجوز له أن يؤجر أرضا سبخة لا تنبت لأن هذه العين لا نفع فيها ولا يمكنه أن يستوفي نفعها، كذلك عندما تكون البهيمة زمنة أي فيها عاهة فلا يمكن أن تؤجر ولا تصح إجارتها وذلك لأن المنفعة لا يمكن استيفاؤها. قوله [وأن تكون المنفعة للمؤجر أو مأذونا له فيها] هذا هو الشرط الخامس: وهو أن تكون المنفعة للمؤجر مملوكة له أو مأذونا له فيها.

ولم يقل: العين، وذلك لأن الإجارة تقع على النفع، فمتى كان مالكا للنفع فله أن يؤجر، فمثلا ناظر الوقف لا يملك الوقف لكنه يملك منافعه فله أن يؤجر، والمستأجر لدار مثلا لا يملك الدار لكنه يملك منفعتها فله أن يؤجرها، وكذلك عندما تكون هذه الأرض مملوكة لغيره وقد وكله بتأجيرها، فهو لا يملك العين بل يملك النفع، وهو نائب عن المالك فله أن يؤجرها، فعلى ذلك إذا أجر رجل دارا لا يملك منفعتها فلا تصح إجارتها، وذلك لاختلال هذا الشرط، والإجارة كالبيع فكما أن البيع يشترط فيه أن يكون من مالك، فكذلك الإجارة، وعلى ما تقدم ترجيحه من صحة بيع الفضولي مع الإجازة فكذلك الإجارة، فإذا أجر دارا وهو لا يملك منفعتها فأجاز مالك المنفعة ذلك فتصح الإجارة لأنه تصرف فضولي أجيز، فهو صحيح خلافا للمشهور من المذهب كما تقدم في البيع. قوله [وتجوز إجارة العين لمن يقوم مقامه لا بأكثر منه ضررا] إذا استأجر أرضا أو دارا أو جملا أو نحو ذلك فهل له أن يؤجر؟ الجواب: باتفاق العلماء له أن يؤجر، وذلك لأنه مالك لمنفعتها المدة المتفق عليها، ولكن هل له أن يؤجرها بثمن أكثر؟ الجواب: له ذلك، وذلك لأنه متصرف في ملكه، فالمنفعة ملك له، فله أن يؤجرها بما شاء. ولكن هل له أن يؤجرها مع ضرر أكثر؟ الجواب: ليس له ذلك، مثاله: استأجرت أرضا لتزرع فيها قمحا، فهل لك أن تؤجرها لمن يزرعها أرزا؟ الجواب: ليس لك ذلك لأن الأرز يستهلك الأرض أكثر من استهلاك القمح لها، وكذلك إذا استأجرتها لتزرع شيئا من الخضروات فليس لك أن تؤجرها لمن يزرعها قمحا لأن القمح يستهلك الأرض أكثر، وكذلك إذا استأجرت دارا لتسكنها فليس له أن تؤجرها لما يضر بها، كأن تؤجرها محلا أو نحو ذلك، وذلك لأنك لا تملك ذلك، فأنت عندما استأجرت الأرض لتزرع القمح، هل لك أن تزرعها أرزا؟

الجواب: لا، ليس لك ذلك، لأن المنفعة المأذون لك فيها أقل ضررا، فإذا كان هذا فيك، فكذلك فيمن يقوم مقامك، أما إذا أجرها بنفس الضرر أو أقل فلا بأس. قوله [وتصح إجارة الوقف] وذلك لأن نفعه مملوك للموقوف عليه، فإذا أوقفت دارا على أولادك فنفع هذا الوقف مملوك للأولاد، فإذا أجر، فالإجارة تقع على منفعته وهي مملوكة للمؤجر. قوله [فإن مات المؤجر وانتقل إلى من بعده لم تنفسخ وللثاني حصته من الأجرة] إذا أجر الوقف ثم مات هذا المؤجر، فإنه يتنقل إلى من بعده في المرتبة فما الحكم؟ مثاله: قال هذا البيت وقف على زيد فإن مات زيد فهو وقف على عمرو، فإذا أجره زيد سنة، فلما مضى شهر مات، فهل تنفسخ الإجارة؟ قال المؤلف: لا تنفسخ الإجارة لأن زيدا لما أجره كان مأذونا له في ذلك، وكان ذلك تحت ولايته، فكان له أن يؤجره كما أنه لمالك غير الوقف أن يؤجر ملكه، فإن مالك غير الوقف إذا أجر ثم مات فإن الإجارة لا تنفسخ كما سيأتي، فجعلوا إجارة من بيده الوقف كإجارة مالك الشيء غير الموقوف، والقول الثاني في المسألة وهو أحد الوجهين في مذهب الإمام أحمد وهو اختيار شيخ الإسلام واختيار ابن عقيل من كبار الحنابلة أنه ينفسخ، قالوا: لأنه أجر هذا الوقف في وقت ملكه للنفع، وذلك وقت حياته، وأجره في غير ملكه وهو ما بعد موته، فليس له أن يؤجره في غير ملكه، فقد انتقل إلى طبقة أخرى، وهذا القول هو الراجح، والفرق بين إجارة المالك لغير الوقف وبين إجارة المالك لمنفعة الوقف ظاهرة، والقياس مع الفارق لا يصح، ويمكن أن يكون الفرق من وجهين: الأول: أن ملكية المالك لغير الوقف أقوى من ملكية مالك نفع الوقف، فإن ملكية المالك تثبت على العبن والنفع، وأما الوقف فالموقوف عليه لا يملك إلا نفعه.

الثاني: أن المؤجر المالك لغير الوقف له أن يأخذ المال - أي الأجرة - ويكون في ملكه من أول الإجارة، وأما المالك لنفع الوقف فإنه يؤخذ من تركته كما قرر ذلك الحنابلة - فيما سيأتي -، بمعنى: أجره ثم بعد شهر مات هذا المؤجر، فلا يملك من هذه الإجارة إلا مدة شهر، وأما المالك الآخر فلو أخذ المال أي الأجرة قبل الموت فهو مالك لها، فاختيار شيخ الإسلام هو الراجح وبه يحفظ حق الموقوف عليه، فإن المدة قد تطول عليه. فإن قلنا: لا تنفسخ، فكما قال المؤلف هنا (للثاني حصته من الأجرة) إذا أجره الموقوف عليه الأول لمدة سنة بعشرة آلاف ريال، وأخذ فيها خمسة آلاف ريال، ومات بعد ستة أشهر، فللموقوف عليه الثاني الخمسة الآلاف الباقية، لأن النفع في هذه المدة الباقية أصبح ملكا له، وليس للموقوف عليه أن يستسلف الأجرة كما قال شيخ الإسلام، وذلك لأنه لا يملك منفعتها المستقبلة، وبالتالي لا يملك أجرتها المستقبلة، فإذا اتفق معه على الإجارة خمس سنوات وأخذ الأجرة مع العقد فما يدريه أنه سيعيش ويبقى له الوقف هذه السنوات المقبلة، فإنه لا يملك إلا منفعتها الحالة، فعليه: يأخذ الأجرة أقساطا، فإذا أخذ الموقوف عليه الأول الأجرة كاملة وكان الاتفاق على سنة ثم مات بعد شهر، فالمشهور من المذهب أن الموقوف عليه الثاني يرجع إلى تركة الموقوف عليه الأول، فإن لم يجدها قالوا: تسقط، وذلك لأنه لا يمكن الرجوع فحينئذ تسقط، وهذا فيه تضييع حق كما تقدم، وليس له أن يفسخ، لأن الأول قد أثبت هذا العقد، والراجح كما تقدم من اختيار شيخ الإسلام وهو أحد الوجهين في المذهب. قوله [وإن أجر الدار ونحوها مدة ولو طويلة يغلب على الظن بقاء العين فيها صح]

فإذا أجر داره التي يغلب على ظنه بقاؤها مدة طويلة إذا أجرها مدة طويلة صح، كأن يؤجر بيتا له يغلب على ظنه بقاؤه عشرين سنة يؤجره عشرين سنة، فهذه الإجارة صحيحة، وذلك لأن الأصل في العقود الحل، ولا محذور في هذا العقد، وإذا صح لسنة أو سنتين أو نحوهما فإنه يصح أكثر من ذلك ولا محذور فيه. * هل يجوز للوكيل المطلق أن يؤجر الدار ونحوها - التي قد وكل في إجارتها - مدة طويلة يغلب على الظن بقاؤها فيها؟ منع نم ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية وذلك لأن العرف يقضي بذلك، فإن العرف أن الوكيل لا يؤجر السنين الطويلة وإنما يؤجر السنة والسنتين ونحو ذلك، وصوب صاحب الإنصاف وقال:" لا يظهر أن الشيخ تقي الدين يمنع من ذلك " صوب أنه إذا كان في ذلك مصلحة جاز ذلك، ويعرف ذلك بالقرائن، فإذا ظهر للوكيل أن في إجارة الدار المدة الطويلة مصلحة للموكل فإنه لا مانع من هذا، وهذا يقع عندنا في مثل استئجار الدوائر الحكومية أو الشركات ونحو ذلك، فإنها في الغالب تحتاج إلى استئجار مدة طويلة ويكن فيها مصلحة، فمثل هذا لا يمنع منه، فالعرف وإن لم يجر به فإن الوكالة تكون فيما فيه مصلحة، وهنا فيه مصلحة ويغلب على الظن بل يتيقن أن هذا الموكل لا يمنع من هذا، وعلى القول بأنه يمنع من ذلك فإنه موقوف على إجازته. إذن لصاحب الدار أن يؤجر داره مدة طويلة يغلب على الظن بقاء الدار فيها، وأما الوكيل فليس له أن يؤجر إلا ما جرت العادة له كسنة أو سنتين أو نحو ذلك، إلا أن تكون هناك مصلحة ظاهرة فإن ذلك جائز ولا حرج فيه. قوله [وإن استأجرها لعمل، كدابة لركوب إلى موضع معين، أو بقر لحرث، أو دياس لزرع، أو استأجر من يدله على طريق، اشترط معرفة ذلك وضبطه بما لا يختلف]

فإذا استأجر من يدله على طريق أو استأجر جملا أو نحوها لتحمل أو استأجر بقرا لدياس الزرع أو لحرث الأرض ونحو ذلك فإنه يشترط أن يعلم هذا العمل ويعرف بما لا يختلف فيه، وذلك لأن المعقود عليه هو العمل، فاشترط العلم به كالبيع، فكما أنه يشترط العلم بالمبيع في عقد البيع، فيشترط أيضا العلم بالعمل في عقد الإجارة، فإن الإجارة نوع من أنواع البيع. قوله [ولا تصح على عمل يختص أن يكون فاعله من أهل القربة] لا تصح الإجارة على عمل من الأعمال التي يختص أن يكون عاملها من أهل القربة، وأهل القربة هم المسلمون، والأعمال التي يختص بها أهل القربة هي الأعمال التي لا تقع إلى على جهة التعبد كالأذان والإقامة والصلاة والحج وغير ذلك من الأعمال الصالحة، أما إن كان العمل لا يختص أن يكون من القرب كبناء المساجد مثلا فإن باني المسجد قد يبنيه لله عز وجل وقد لا ينوي به التعبد، وكتعليم علوم اللغة، فإنه من نوى بها التعبد كانت عبادة، ومن لم ينو بها التعبد لم تكن عبادة وهكذا.

فمثل هذه يجوز أن يأخذ عليها الأجرة بلا خلاف بين أهل العلم، وإنما وقع الخلاف على أخذ الأجرة على الأعمال التي لا تختص بأن يكون فاعلها نم أهل القربة، ولا خلاف بين العلماء أن الرزق الذي يكون من بيت مال المسلمين كالرواتب التي تكون للخلفاء والقضاة والعلماء وغيرهم لا خلاف بينهم أن هذا جائز عند الحاجة، وأما إذا كان آخذه غنيا غير محتاج إليه فقولان لأهل العلم كما حكى ذلك شيخ الإسلام، والجمهور على الجواز، ويدل عليه جواز أخذ الغنيمة للمجاهد الغني، فقد تقدم في كتاب الجهاد أن المجاهد الغني يجوز له أن يأخذ الغنيمة وأن يعطى من النفل فكذلك هنا وهو مذهب جماهير العلماء، وهذا هو الأظهر، ولا نزاع بين أهل العلم على أن الأعمال التعبدية اللازمة كالصلاة والصوم والحج عن النفس وغير ذلك أنها لا تجوز فيها أخذ الأجرة وذلك لأنه لا نفع للغير فيها، فنفعها لازم لصاحبها فلا وجه لأخذ الأجرة عليها، فإن أخذ الأجرة إنما يكون عوضا عن نفع يقع للغير، وهنا لا نفع يقع للغير، واتفق العلماء على أنه يجوز أخذ الأجرة على الرقية لأنها نوع تداوي لقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: (إن أحق ما أخذتم عليه أجرا كتاب الله) رواه البخاري [خ 5737] ، واختلف أهل العلم في أخذ الأجرة على ما سواه مما تقدم، أي أن يأخذ أجرة من الناس لا من بيت المال على قضاء يقضيه بين الناس، أو على عقد الأنكحة لهم، أو على تعليم الناس القرآن أو السنة أو الفقه ونحو ذلك من العبادات المتعدية، فمنع من ذلك الأحناف والحنابلة، واستدلوا بما رواه أبو داود وابن ماجة والحديث حسن لغيره عن عبادة بن الصامت أنه علم رجلا من أهل الصفة شيئا من القرآن، فأهدى له قوسا، فسأل النبي - صلى الله عليه وسلم - عن ذلك فقال: (إن سرك أن تطوق بها طوقا من نار فاقبلها) [حم 22181، د 3416، جه 2157] وله شاهد عند ابن ماجة من حديث أبي بن كعب بإسناد ضعيف [جه 2158]

وآخر بإسناد لا بأس به من حديث أبي الدرداء عند البيهقي [هق 6 / 126] وعلى ذلك فالحديث حسن لطرقه أولا، ولشواهده ثانيا، وهذا السوط وإن كان هدية لكنه مقابل لهذا النفع حيث علمه شيئا من القرآن فكان بمعنى الأجرة، وأجاز المالكية والشافعية أخذ الأجرة على ذلك، وهو رواية عن الإمام أحمد، واستدلوا بحديث: (إن أحق ما أخذتم عليه أجرا كتاب الله) قالوا: فنقيس هذه المسائل المختلف فيها على جواز أخذ الأجرة على الرقية، وأجاب أهل القول الأول بأن أخذ الأجرة على الرقية باب آخر، فإن الرقية نوع من أنواع الطب، فكان أخذها كالطب، فإن فيها مداواة، لما فيها من العمل من نفث وغير ذلك، واستدلوا أيضا بما رواه البخاري ومسلم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال لخاطب المرأة: (ملكتكها بما معك من القرآن) [خ 5030، م 1425] فجعل النبي - صلى الله عليه وسلم - صداق هذه المرأة أن يعلمها ما معه من القرآن، فيكون صداقها هو تعليمها القرآن، فدل هذا على جواز أخذ الأجرة على تعليم القرآن، وأجاب أهل القول الأول عن هذا الدليل بأن هذا من باب الإكرام له لا من باب الصداق، وهذا الجواب ضعيف، وذلك لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال له كما في رواية مسلم: (فعلمها القرآن) [م 1425] فدل على أنه ليس لإكرامه فحسب بل ليعلمها القرآن، وأجابوا عنه أيضا بأن هناك فارقا بين عوض النكاح وعوض الأجرة، فعوض النكاح لا يجب تسميته عند العقد ولها مهر مثيلاتها، وأما الإجارة فكما تقدم أنه يشترط فيها تسمية الأجرة، وهذا التفريق ضعيف، وذلك لأننا نجيز على الراجح الإجارة إذا لم تسم حيث كان هناك عرف، فإذا استأجر شيئا ولم يذكر في العقد أجرته وكان له أجرة في العرف فإن الإجارة تصح، إذن لا يصح رد على هذا الحديث الصحيح، وفيه جواز أخذ الأجرة على العمل الصالح، والقول الثالث في هذه المسألة وهو رواية عن الإمام أحمد وهو اختيار شيخ

الإسلام أنه جائز عند الحاجة، وهذا القول هو الراجح وبه تجتمع الأدلة، فإن قوله: (ملكتكها بما معك من القرآن) إنما قاله النبي - صلى الله عليه وسلم - حيث كان هذا الرجل فقيرا لا يملك شيئا، فهو محتاج، وبهذا القول تحصل المصالح، وتدرأ المفاسد، ولذا استحبه الإمام أحمد في إحدى الروايات عنه، استحبه وفضله على العمل عند السلطان، وعلى أن يتدين وهو لا يدري هل يقضي دينه أو يموت وأمانات الناس في عنقه، إذن عن الإمام أحمد ثلاث روايات: 1- الرواية الأولى: المنع مطلقا، وهو مذهب الحنابلة والأحناف. 2- الرواية الثانية: الجواز مطلقا، وهو مذهب الشافعية والمالكية، وفيه ما فيه من المفاسد حيث يبخل أهل العلم وأهل النفع المتعدي الديني بما معهم إلا بمال. 3- الرواية الثالثة: وهو اختيار شيخ الإسلام أنها جائزة عند الحاجة، ومما يدل على هذا قول الله تعالى في ولي اليتيم {ومن كان غنيا فليستعفف ومن كان فقيرا فليأكل بالمعروف} ، وقد روى الإمام أحمد بإسناد صحيح أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (اقرؤوا القرآن واعملوا به، ولا تجفوا عنه، ولا تغلوا فيه، ولا تأكلوا به ولا تستكثروا) [حم 15103] وهذا من أدلة المنع، ولكن عند عدم الحاجة كما تقدم. قوله [وعلى المؤجر كل ما يتمكن به من النفع كزمام الجمل ورحله وحزامه والشد عليه وشد الأحمال والمحامل والرفع والخط ولزوم البعير ومفاتيح الدار وعمارتها]

هذا في الأشياء الواجبة على المؤجر، والحاكم في ذلك هو العرف، فما يذكره المؤلف من التفاصيل حيث كان العرف يوافق هذا، وأما حيث كان العرف لا يوافقه فلا يصح كما قرر هذا صاحب الإنصاف، والشيخ عبد الرحمن السعدي وغيرهم من أهل العلم، فالأولى هو الحكم بالعرف في مثل هذه المسائل، إذ لا دليل من الشرع يدل على ذلك، وليس هناك شرط لفظي فرجع إلى الشرط العرفي، فمثلا عندنا الكهرباء والمياه هذه واجبة على المستأجر، وأما إصلاح الدار إذا انهدم منها شيء فهذا واجب على المؤجر. وقوله (ورحله) أي ما يخمل عليه وقوله (والشد عليه) أي شد هذه البضاعة ونحو ذلك، فهذا واجبة على المؤجر. قوله (وشد الأحمال) أي البضائع. وقوله: (والمحامل) وهي الشقتان اللتان تكونان على شقتي البعير للحمل. قوله (ولزوم البعير) فمثلا وهم في الطريق قال المستأجر أريد أن أقضي حاجتي، فالذي يلزم البعير هو المؤجر. قوله [فأما تفريغ البالوعة والكنيف فيلزم المستأجر إذا تسلمها فارغة] البالوعة لعلها أشبه ما يكون بما يسمى عندنا بالبيارة، وهي حفرة تحفر في الأرض فتجتمع فيها مياه الأمطار ومياه المستحم، ونحو ذلك من المياه الفائضة في الدار، وقوله (والكنيف) وهو محل قضاء الحاجة، ويلزم المستأجر لأنها نتيجة فعله واستخدامه بهذه الدار، وهذا إذا تسلمها فارغة، أما إذا تسلمها غير فارغة فهنا بالمشاركة، وإذا تسلمها فارغة فإنه يسلمها فارغة، والعرف يقضي بهذا. فصل قوله [وهي عقد لازم] فالإجارة عقد لازم لأنها نوع من أنواع البيع، وعليه فلا تنفسخ بفسخ أحد المتعاقدين مع عدم رضا الآخر، قال تعالى {يا أيها الذي آمنوا أوفوا بالعقود} فهي عقد لازم يجب إيفاؤه، وعليه فليس لأحد من الطرفين أن يفسخه كالبيع، إلا في وقت الخيار، فإن فيه خيارا كالبيع، خيار مجلس وخيار شرط. قوله [فإن أجره شيئا ومنعه كل المدة أو بعضها فلا شيء له]

وهذا هو المشهور من المذهب، فإذا أجرة شيئا كأن يؤجره دارا ويكون الاتفاق على مدة سنة، ثم منعه كل المدة فلم يمكنه من الانتفاع بها أو منعه بعض المدة كأن يخرجه منها بعد ستة أشهر مثلا فلا شيء له، وهذا هو المشهور من المذهب، قالوا: لأنه لم يسلمه ما تشارطا عليه، فإنهما قد تشارطا على المدة كلها فلم يوف بشرطه، ولم يسلمه ما عقد عليه من الإجارة فلا شيء له، ولو كان المستأجر قد انتفع بها بعض المدة كأن يستأجرها سنة ثم يجبره على الخروج منها بعد ستة أشهر، فلا شيء له لأنه لم يسلمه ما اتفقا عليه، وقال الجمهور: بل له الأجرة بقسطه، وهو رواية عن الإمام أحمد، فمثلا: إذا أجره داره سنة بعشرة آلاف، ومكنه من الانتفاع ستة أشهر ثم أجبره على الخروج فإن المؤجر يملك من الأجرة نصفها فله خمسة آلاف، وهذا القول هو القول الراجح، وذلك لأن المستأجر قد انتفع بهذه العين المؤجرة هذه المدة على وجه المعاوضة فكان عليه قسط ذلك من العوض، لكن يتوجه ما ذهب إليه الحنابلة فيما إذا لم يكن له نفع بهذه الإجارة، كأن يستأجر حمالا أو غيره على عمل فيعمل له بعض العمل على وجه ولا ينفعه، بل قد يكون عليه فيه ضرر، كأن يتفقا على حمل شيء من المتاع من بلدة إلى أخرى فيحمله إلى بعض الطريق في موضع يضر بالمستأجر أو لا ينفعه فحينئذ لا يتوجه أن يكون له أجرة، لأن المستأجر لم ينتفع، أما لو كانت البضاعة مثلا تحمل من جدة إلى حائل فحملها له إلى المدينة وهناك من يحملها له من المدينة إلى حائل بأجر أقل بسبب قصر المسافة فإنه يترجح ما ذهب إليه الجمهور لأنه قد انتفع بهذا العقد على وجه المعاوضة فكان عليه الأجرة. قوله [وإن بدأ الآخر قبل انقضائها فعليه]

إذا بدأ الآخر - وهو المستأجر - قبل انقضائها فعليه أي الأجرة، فإذا استأجر دارا لمدة سنة ثم خرج منها بعد بضعة أشهر ولم يستوف المدة المتفق عليها فعليه الأجرة كاملة، وهذا هو مقتضى عقد الإجارة، فإن مقتضاه أن المستأجر يملك المنفعة هذه المدة، والمؤجر يملك الأجرة، وعليه فإذا تحول المستأجر عن الدار قبل انقضاء المدة فإن للمؤجر الأجرة كاملة، وذلك لأن هذا هو مقتضى عقد الإجارة. قوله [وتنفسخ بتلف العين] فالإجارة تنفسخ بتلف العين، فإذا استأجر جملا ليركبه فمات الجمل فإن الإجارة تنفسخ، وذلك لتعذر استيفاء المنفعة. وهل يجوز للمؤجر أن يبيع العين المؤجرة؟ الجواب: يجوز هذا إذ لا محذور فيه، فمثلا أجر عمرو زيدا داره لمدة خمس سنوات، ثم أراد أن يبيعها، فالبيع صحيح، وتبقى الإجارة على ما هي عليه فلا تنفسخ، لأن المستأجر مالك للمنفعة تلك المدة، لكن إن لم يعلم المشتري بالإجارة فله الفسخ كما تقدم في كتاب البيع. قوله [وبموت المرتضع] تقد استئجار المرضعة، وقد قال تعالى {فإن أرضعن لكم فآتوهن أجورهن} فإذا استأجر ولي الطفل - الذي يحتاج إلى رضاع - إذا استأجر ظئرا لترضع طفله، ثم مات المرتضع، فإن الإجارة تنفسخ، وذلك لأن هذه المنفعة وهي منفعة الرضاع لا يمكن استيفاؤها. قوله [والراكب إن لم يخلف بدلا]

كذلك إذا مات الراكب ولم يخلف بدلا، فإذا استأجر دابة ليركبها من بلدة إلى أخرى فمات المستأجر ولم يخلف وارثا بدلا عنه يقوم بالانتفاع بهذه العين، فإن الإجارة تنفسخ في أحد قولي المذهب، قالوا: لأن فيه ضرر، فإن المستأجر لا ينتفع بها ولا تورث عنه، والمؤجر يمنع من التصرف بها، فتبقى هذه العين عاطلة لا ينتفع بها، وهذا أحد القولين في المذهب وهو اختيار الشيخ السعدي، والقول الثاني في هذه المسألة وهو المذهب أن الراكب إذا مات ولم يخلف بدلا فإن عقد الإجارة لا ينفسخ، قالوا: لأن عقد الإجارة عقد لازم كما تقدم، والأظهر ما ذهب إليه أهل القول الأول، لثبوت الضرر، ولأن هذه العين تبقى عاطلة لا ينتفع بها. فالذي يتبين والله أعلم في هذه المسألة أحد الوجهين في المذهب وهو أنه إذا مات الراكب ونحوه ولم يخلف بدلا ينتفع بهذه العين المؤجرة فإن عقد الإجارة ينفسخ، وذلك لأن خلاف هذا يبقى هذه العين عاطلة، فلا يمكن للمكري - أي المؤجر - أن يتصرف بها، والمكتري لا نفع له بها. قوله [وانقلاع ضرس أو برئه ونحوه] فإذا اتفق زيد مع الطبيب على أن يقلع ضرسه، وكانت الأجرة كذا وكذا، فانقلع الضرس قبل قلع الطبيب له فحينئذ تنفسخ الإجارة، وقوله (أو برئه) كأن يقول للطبيب أنا اتفق معك على أني إن شفيت من هذا المرض فلك عشرة آلاف، فشفي من الغير طب، أو بطريق آخر من الطب سوى هذا الطبيب الذي اتفق معه، فحينئذ تنفسخ الإجارة، فلا شيء للطبيب وذلك لما تقدم حيث إنه لا نفع للمستأجر بها، فلا يمكنه استيفاء المنفعة المعقود عليها. قوله [لا بموت المتعاقدين أو أحدهما]

المتعاقدان هما المؤجر والمستأجر، فإذا ماتا أو مات أحدهما فإن الإجارة باقية لازمة، لا تنفسخ لأنها عقد لازم، فإن قيل هناك ضرر؟ فالجواب: أنه لا ضرر فإن المستأجر موروث، ومن إرثه ملك المنفعة في هذه الأجرة، فينتفعون بهذه الدار إما بسكناها أو بتأجيرها، فليس هناك ما يبطل كون عقد الإجارة عقدا لازما هنا، ويخرجنا عن الأصل في الإجارة. قوله [ولا بضياع نفقة المستأجر ونحوه] كاحتراق بضاعته مثلا، فمثلا: استأجر جملا فضاعت نفقته، أو استأجر دكانا فاحترقت بضاعته، فإن الإجارة ثابتة فلا تنفسخ، وذلك لما تقدم من أنها عقد لازم فهي كالبيع، ويمكنه حينئذ أن يؤجر هذه الدار أو يؤجر هذا الجمل ونحو ذلك، وكذلك لو استأجر سيارة ليركبها وضاعت نفقته التي منها هذه الأجرة التي تدفع إلى صاحب السيارة فإن الإجارة تثبت لأنها عقد لازم كالبيع. قوله [وإن اكترى دارا فانهدمت الدار أو أرضا لزرع فانقطع ماؤها أو غرقت انفسخت الإجارة في الباقي] فإذا استأجر دارا ليسكنها فانهدمت هذه الدار، أو استأجر داكنا ليعمل به فانهدم هذا الدكان أو استأجر أرضا ليزرعها أو ليغرس فيها نحلا ونحو ذلك، أو غار الماء الذي فيها، أو انقطع أو غرقت، فإن الإجارة تنفسخ في الباقي، وذلك لأنه لا يمكنه أن ينتفع بهذه العين، قالوا: إذا انهدمت لا يمكنه أن ينتفع بها بعد انهدامها، والأرض إذا غار ماءها وقد استأجرها ليسكن فيها فلا يمكنه أن ينتفع بها، فلا يمكنه أن يستوفي المنفعة، فأشبه هذا بتلف العين، ولكن ما مضى فعليه الأجرة، فمثلا: استأجر دارا لمدة سنة، فانهدمت بعد ستة أشهر فعليه أجرة ستة أشهر، وذلك لأنه انتفع بها على وجه المعاوضة فقد استوفى منفعتها فعليه الأجرة، ولا وجه لإسقاطها. قوله [وإن وجد العين معيبة أو حدث بها عيب فله الفسخ وعليه أجرة ما مضى]

كأن يستأجر عبدا ليعمل له مدة معلومة، أو استأجر جملا ليركبه فوجد في هذه العين عيبا، فللمستأجر الفسخ كالبيع، فإذا استأجر شيئا فوجده معيبا أو حدث به عيب عنده فإنه بالخيار إن شاء أمضى المدة وإن شاء فسخ، فإن أمضاها فهل يكون له أرض أم لا؟ مثاله: استأجر دارا بعشرة آلاف، فوجدها معيبة بحيث إنها لا تساوي مع العيب إلا ثمانية آلاف فإن شاء فسخ، وإن شاء أمضى، فإن أمضى فهل يأخذ الألفين أرشا؟ تنبني على المسألة السابقة في خيار العيب، وقد تقدم أن المذهب أن له الأرش، وأن الراجح أنه لا أرش له، ومع ذلك إن المشهور في المذهب هنا أنه لا أرش له، وقياس المذهب أن له الأرش كالمسألة السابقة، والصحيح ما تقدم في تلك المسألة وفي هذه المسألة المتفرعة عنها فلا أرش له.

فإن تبين بعد مضي مدة أن بها عيبا كأن يستأجرها بعشرة آلاف، ثم تبين له أن فيها عيبا يجعل إجارتها تساوي ثمانية آلاف بهذا العيب، فإذا سكنها ستة أشهر ثم تبين له العيب فعلى المذهب لا أرش له هنا، وحينئذ فإذا أراد الفسخ فإنه يدفع خمسة آلاف أجرة الستة أشهر، وإن شاء أن يمضي بعشرة آلاف، وفي هذا فيما يظهر نظر، وذلك لأن هذا الأرض يدفع عنه الضرر هنا بخلاف المسألة المتقدمة، فإنه قد استوفى المنفعة هنا في هذه المدة وفيها هذا العيب، فحينئذ عليه ضرر حيث إنه استأجر معيبا على أنه غير معيب، وقد استأجره بأجرة غير المعيب، وليس هذه كالمسألة المتقدمة، فهنا لا يدفع الضرر عنه إلا بحساب الأرش، فالذي يظهر أنه لا يدفع قسط الأجرة على أن السلعة غير معيبة، بل يدفع القسط على أن السلعة معيبة، فمثلا: استأجر دارا مدة ثمانية أشهر، ثم تبين له أن فيها عيبا، فالثمانية أشهر لغير المعيبة لعشرة آلاف، وللمعيبة بستة آلاف، فعلى المذهب إن أمضى فإنه يدفع العشرة آلاف، وهذا فيه نظر، فإنه لا يندفع عنه الضرر إلا بإعطاء هذا الأرش الفارق بين ثمنها معيبة وثمنها غير معيبة. قوله [ولا يضمن أجير خاص ما جنت يده خطأ] الأجير نوعان: 1- أجير خاص. 2- أجير عام مشترك.

فالأجير الخاص هو من يختص المستأجر بنفعه مدة معلومة، فعندما يستأجر عاملا للزراعة أو للتجارة أو نحو ذلك لمدة شهر أو شهرين أو نحو ذلك فهذا الأجير نفعه خاص بالمستأجر، فإذا جنى هذا الأجير جناية خاطئة لم يتعد فيها ولم يفرط فتلف مال المستأجر أو بعضه فإنه لا يضمن، كأن يستأجر عاملا للمزرعة فيعمل على مكائنه فيفسدها من غير أن يتعدى ولا يفرط، فإنه لا ضمان عليه، كالوكيل والمضارب ما تقدم، فهو نائب عن المالك في منافعه، فإن منافع هذا الأجير مملوكة لمستأجره، فهو نائب لهذا المستأجر في تصريف منافع نفسه على حسب ما يأمره به هذا المستأجر، فإذا حصل شيء من التلف بغير تعد ولا تفريط فإنه لا يضمن كالوكيل والمضارب. قوله [وطبيب وبيطار لم تجن أيديهم إن عرف صدقهم] البيطار هو طبيب البهائم، والطبيب هو الطبيب المعروف، وهو في العرف الحادث يراد به كما ذكر ابن القيم الطبيب الطبائعي، وأما في اللغة فهو أعم من ذلك، فإن الحجام والكواء ونحو ذلك يقال لهم طبيب، فعلى ذلك كلهم يدخلون في قول النبي - صلى الله عليه وسلم - في الحديث الذي رواه أبو داود والنسائي والحديث حسن: (من تطبب وهو لا يعلم بطب فهو ضامن) [ن 4830، د 4587، جه 3466] فالطبيب بكل أنواعه سواء كان طبيبا للآدميين أو للبهائم أو حجاما أوكيميائيا أو كواء أو نحو ذلك فإنه إذا لم تجن يده وعرف حذقه في الطب فإنه لا يضمن، وذلك لقوله - صلى الله عليه وسلم - في الحديث المتقدم: (من تطبب ولا يعلم بطب فهو ضامن) وظاهره أنه إذا كان يعلم بالطب فإنه لا يضمن، ولأن هذا الفعل مأذون له، وما ترتب على المأذون فليس بمضمون، وما ذكره المؤلف هنا بالاتفاق، فإذا لم تجن يده وهو طبيب حاذق فإنه لا يضمن، وكذلك إذا صرف دواء وهو حاذق وهو غير مخطيء في ذلك بل صرفه صرفا صحيحا ومع ذلك ترتب عليه ضرر ولم يقع منه تفريط ولا تعدي فإنه أيضا لا يضمن.

قوله [ولا راع لم يتعد] فالراعي إذا لم يتعد ولم يفرط في حفظ ما تحت يده من البهائم فإذا حصل شيء من التلف فإنه أيضا لا يضمن لأنه أمين والأمين غير ضامن. قوله [ويضمن المشترك ما تلف بفعله ولا يضمن ما تلف من حرزه أو بغير فعله ولا أجرة له] الأجير المشترك: هو من لا يختص أحد من المستأجرين بنفعه، بل نفعه يشترط فيه بحيث إنه يعمل لعدة أشخاص في وقت واحد، كخياط الثياب أو مصلح السيارات ونحو ذلك، فإذا حصل عنده تلف ولم يتعد ولم يفرط فإنه يضمن في المشهور عند الحنابلة، وذهب بعض الحنابلة وهو مذهب الشافعية ومال إليه صاحب الإنصاف واختاره الشيخ عبد الرحمن بن سعدي أنه لا يضمن، وهذا القول هو الراجح، واستدل أهل القول الأول بما روي عن علي بن أبي طالب - رضي الله عنه -:" أنه كان يضمن الصباغ والصواغ، ويقول: لا يصح الناس إلا بهذا " لكن الحديث إسناده منقطع فلا يصح، ولذا ضعفه الشافعي وغيره، والراجح ما ذهب إليه أهل القول الثاني، وذلك لأنه لم يحصل من تعد ولا تفريط، وهو مأذون له بهذا العمل فترتب على عمله المأذون له فيه تلف من غير تعد ولا تفريط فلا ضمان عليه. وقوله (ولا يضمن ما تلف من حرزه أو بغير فعله) مثاله: لما خاط الثوب وضع الثوب في حرز مثله، أي في محل يحفظ فيه الثوب عادة، فسرق الثوب، أو حصل له تلف بغير فعل منه، فحينئذ لا يضمن وذلك لأنه أمين والأمين لا يضمن ـ فالثوب الآن أصيح أمانة عنده.

وقوله (ولا أجرة له) فلا أجرة له في هاتين المسألتين كلتيهما، فإذا حصل في الثوب تلف بفعله أو حصل له تلف وهو في حرزه أو بغير فعله فلا أجره له في هذه المسائل، وذلك لأنه لم يسلم ما اتفقا عليه، واختار ابن عقيل من الحنابلة وقواه صاحب الإنصاف واختاره الشيخ عبد الرحمن بن سعدي أن له الأجرة، وذلك لأن الأجرة في مقابل العمل وقد حصل العمل، وهذا هو القول الراجح، فالاتفاق على أن يخيط له هذا الثوب مثلا، وقد خاطه فإذا حصل له تلف من غير تعد ولا تفريط منه أو حصل له تلف في حرزه فإنه يستحق الأجرة لأن الأجرة عوض عن عمله. وقوله هنا (ولا يضمن ما تلف من حرزه) أي من غير تعد ولا تفريط، قالوا: فإذا حبس الثوب على الأجرة ثم حصل فيه تلف فإنه يضمن، كأن يقول له: لا أعطيك الثوب حتى تدفع الأجرة فحصل له تلف فإنه يضمن، وذلك لأنه قد تعدى بعدم إعطائه الثوب ونحوه في الوقت المحدد. وهذا ينبني على أن حبس الثوب ونحوه المعمول فيه على الأجرة أنه تعد، والصحيح أنه ليس بتعد كما هو اختيار ابن القيم رحمه الله، فإنه قرر أن هذا العمل من هذا الأجير قائم بهذه العين المستأجرة، والعمل يجري مجرى الأعيان، بدليل ثبوت العوض في الأعمال كثبوتها في الأعيان، وحينئذ فله أن يمتنع من تسليم عمله المرتبط بهذا الثوب حتى يستلم العوض، فلم يتعد. قوله [وتجب الأجرة بالعقد إن لم تؤجل وتستحق بتسلم العمل الذي في الذمة]

إذا اتفق زيد وعمرو على أن يعمل زيد لعمرو في داره في إصلاح ما انهدم منها، واتفقا على أن يكون العمل لمدة شهر، فيجب الأجرة بمجرد العقد، أي تثبت الأجرة بمجرد العقد كما يثبت الثمن، وكما يثبت الصداق، فبمجرد ما يعقد الرجل على المرأة يجب صداقها، أي يثبت ويلزم، وبمجرد ما يشتري السلعة فإن ثمنها يثبت ويلزم، ولكن هذا الأجير لا يستحق المطالبة بها حتى يسلم العمل الذي في الذمة، ولذا قال (وتستحق بتسليم العمل الذي في الذمة) ، وفي البخاري يقول الله تعالى في الحديث القدسي: (ثلاثة أنا خصمهم يوم القيامة رجل أعطى بي ثم غدر، ورجل باع حرا فأكل ثمنه، ورجل استأجر أجيرا فاستوفى منه ولم يعطه أجره) [خ 2270] وفي ابن ماجة والحديث حسن: (أعطوا الأجير أجره قبل أن يجف عرقه) [جه 2443] إذن يملك الأجير المطالبة الأجرة عند تسليم العمل الذي في الذمة، وأما إذا كانت الإجارة على عين فإنه يملك المطالبة عند تسليم العين، فإذا استأجرت دارا لتسكنها فسلمك المؤجر الدار وأعطاك مفتاحها وأخلاها لك فأنت الآن متمكن من الانتفاع بها، فحينئذ يملك هو المطالبة بالأجرة، ولا ينتظر حتى تستوفي المنفعة إلى سنة أو نحو ذلك، بل يطال بالأجرة بمجرد تسليمك العين، وذلك لأنه بتسليمه العين قد مكنك من الانتفاع بها، وأنت قد ملكت المنفعة من حينئذ فكانت الأجرة مطالبا بها من حينئذ كالبيع. وقوله (إن لم تؤجل) فالأجرة واجبة بالعقد لكن إن اتفقا على تأجيلها فالمسلمون على شروطهم، فإن قال: لا أعطيك الأجرة حالة، بل الأجرة مؤجلة إلى سنة فالمسلمون على شروطهم. قوله [ومن تسلم عينا بإجارة فاسدة وفرغت المدة لزمه أجرة المثل] إذا تسلم دارا ليسكنها بالإجارة لكن هذه الإجارة إجارة فاسدة كأن يؤجره دارا، ويكون المؤجر غير جائز التصرف مثلا، ثم فرغت المدة فحينئذ ماذا يلزم المستأجر؟

يلزمه أجرة المثل، فإذا اتفقا على أن تكون الأجرة عشرين ألفا وأجرة المثل عشرة آلاف فلا يعطيه إلا عشرة آلاف، وكذا العكس، وهذا هو المشهور في المذهب، وذلك لأنها إجارة فاسدة فحينئذ لا تعتبر الأجرة المذكورة فيها، وقياس المذهب كما قال القاضي من الحنابلة وهو اختيار شيخ الإسلام أن الواجب هو الأجر المسمى قياسا على النكاح، فكما أن النكاح الفاسد إذا ذكر فيه صداق فيجب الصداق المسمى فكذلك هنا بل أولى، وذلك لأن الأجرة مقصودة في الإجارة بخلاف الصداق في النكاح فليس بمقصود كقصد الأجرة في الإجارة، فإن هناك مقاصد أخرى للنكاح هي أعظم من مقصد الأجر بخلاف الأجرة في الإجارة فإنها هي المقصودة، وهذا القول هو الراجح. باب السبق السبق بتسكين الباء هو المسابقة، وبالفتح السبق هو العوض الذي يجعل للسابق من المتسابقَين أو المتسابقِين. قوله [يصح على الأقدام] أي تصح المسابقة على الأقدام، فالمسابقة على الأقدام جائزة، وقد ثبت في مسند أحمد وسنن أبي داود أن النبي - صلى الله عليه وسلم - سابق عائشة [حم 23598، د 2578، جه 1979] وفي صحيح مسلم عن سلمة بن الأكوع: أنه سابق بين يدي النبي - صلى الله عليه وسلم - رجلا من الأنصار فسبقه. ** وهنا مقدمة فيما يجوز من اللهو: اعلم أن اللهو ثلاثة أنواع: 1- النوع الأول: اللهو المفضي إلى ما نهى الله عنه من الصد عن ذكر الله، والعداوة والبغضاء وغير ذلك وهذا محرم لا يجوز، فكل لهو يفضي إلى ما نهى الله عنه فهو محرم لا يجوز، قال شيخ الإسلام:" وكل فعل أفضى كثيرا إلى ما حرمه الله فإن الشارع يحرمه ما لم تكن هناك مصلحة راجحة ".

وذلك لأنه يكون سببا للشر والفساد، ولذا حرمت الشريعة النرد وهي ما تسمى بالطاولة عند العامة، فقد روى مسلم في صحيحه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (من لعب بالنردشير فكأنما صبغ يده بدم خنزير ولحمه) [م 2260] وفي موطأ مالك ومسند أحمد وسنن ابن ماجة بإسناد صحيح أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (من لعب بالنردشير فقد عصى الله رسوله) [حم 19027، د 4938، جه 3762، ك 1786] وهذان الحديثان عامان في النرد سواء كان على عوض وهو القمار أو على غيره، والتشبيه المذكور في الحديث المتقدم وهو قوله: (فكأنما صبغ يده بدم الخنزير ولحمه) هذا التشبيه متناول للعب بالنرد سواء وجد الأكل أم لم يوجد، فاللعب بالنرد محرم وذلك لأنها سبب للشر والفساد والعداوة والبغضاء والصد عن ذكر الله، وأولى من ذلك الشطرنج في مذهب جمهور العلماء من المالكية والأحناف والحنابلة، وتوقف الشافعي في حكمها، وللشافعية قولان من إباحة وتحريم، هذا إذا لم يكن فيها عوض، فإذا كانت فيها عوض فلا خلاف بين العلماء في تحريمها وأنها من القمار، والصحيح هو التحريم مطلقا سواء كانت بعوض أم لم تكن بعوض وذلك لثبوت تحريم النرد، والشطرنج أولى من ذلك، فإن صدها عن ذكر الله أعظم، وإلقاءها للعداوة والبغضاء أكثر فكانت أولى بالتحريم، فإنها تستغرق - كما قرر الشيخ الإسلام - تستغرق فكر لاعبيها حتى لا يشعر بنفسه ولا يشعر بمن حوله فهذا مماثل أو أشد من الخمر، وروى البيهقي سننه وصححه شيخ الإسلام أن علي بن أبي طالب:" مر على قوم يلعبون بالشطرنج فقال: ما هذه التماثيل التي أنتم لها عاكفون " [هق 10 / 212] وروى ابن أبي شيبة بإسناد منقطع أنه قال:" الشطرنج من الميسر " [مصنف ابن أبي شيبة 6 / 191 برقم 10]

2- والنوع الثاني: هو اللهو الذي يكون فيه منفعة ولا مضرة فيه فهذا جائز كما قرر هذا شيخ الإسلام، وقد روى الترمذي في سننه وصححه ورواه ابن ماجة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (كل ما يلهو به الرجل المسلم باطل إلا رميه بقوسه وتأديبه فرسه وملاعبته أهله فإنهن من الحق) [حم 16849، ت 1637، جه 2811] وروى النسائي في سننه الكبرى نحوه من وجه آخر في كتاب عشرة النساء وفيه: (وتعلم السباحة) [5 / 303] فهذه من الحق وفيها نفع فهي جائزة، وإن كان لا نفع فيها فهي من القسم الباطل الذي يذهب على العبد وقته، وقد يكون من النوع المحرم الذي تقدم ذكره، وللحنابلة وجهان في اللعب الذي لا يعين على عدو هل يكره أم لا؟ قال صاحب الإنسان الإنصاف:" والأولى الكراهية اللهم إلا أن يكون له بذلك قصد حسن ". 3- النوع الثالث: ما كان معينا على ما أمر الله به في قوله {وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل ترهبون به عدو الله وعدوكم} فهذا من اللهو المستحب. وإذا كان من اللهو المستحب فيجوز فيه السبق وهو الجعل، وإن كان من اللهو المحرم فلا يجوز مطلقا لا بجعل ولا بغير جعل، وإن كان من اللهو المباح أو المكروه فلا يجوز فيه الجعل ويجوز بغير جعل. قوله [يصح على الأقدام] فتصح المسابقة على الأقدام كما تقدم من فعل النبي صلى الله عليه وسلم مع عائشة. قوله [وسائر الحيوانات] من البغال والخيل والفيلة وغيرها. قوله [والسفن والمزاريق] كذلك تصح في السفن والطائرات كما في هذا الوقت وتصح في المزاريق وهي جمع مزراق وهو الرمح، وهكذا كل ما تقدم ما فيه نفع وليس فيه مضرة الراجحة. قوله [ولا تصح بعوض إلا في إبل وخيل وسهام] فلا تصح بعوض أي بجعل إلا في إبل وخيل وسهام، لما رواه أحمد والثلاثة بإسناد صحيح أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (لا سبق إلا في خف أو حافر أو نصل) [حم 9788، ت 1700، جه 2878] .

(في خف) : أي في الإبل، (حافر) : أي في الخيل، (نصل) : أي في القوس، فهذا الحديث يدل على أن الجائزة لا تحل على شيء من المغالبات وأنواع الملاهي التي تقع في المسابقات إلا في هذه الأنواع الثلاثة التي تعين على الجهاد إعانة ظاهرة وهي سباق الخيل، وسباق الإبل، وسباق الرمي، وأما غيرها فلا يجوز فيها السبق أي الجعل، فالمسابقة على الأقدام والمصارعة ونحو ذلك هذه كلها لا يجوز فيها السبق. * واختلف أهل العلم هل يقاس على هذه المسابقة ما فيه إعانة على ظهور حجة الإسلام وبراهينه من علوم القرآن والسنة والفقه والعقيدة؟ قولان لأهل العلم: القول الأول: منع من ذلك جمهور علماء. القول الثاني: أجازه الأحناف، وهو اختيار شيخ الإسلام، وتلميذه ابن القيم. وما ذكروه هو الراجح، وذلك لأن القياس قياس صحيح بل هو من باب قياس الأولى، فإن الدين قائم على الحجة والبرهان، وقائم على السيف والسنان، وقيامه بالحجة والبرهان أعظم، وإنما يحتاج إلى السيف والسنان إذا وقف أمام الحجة والبرهان وعورض، فتبين من هذا أن الحجة والبرهان القائمة على العلم النافع الموروث عن النبي - صلى الله عليه وسلم - من الكتاب والسنة أحق بجواز هذا السبق. ** واعلم أن السبق فيها جائز سواء كانت من أجنبي كالإمام أو نائبه أو غيرهما كأن يضعه أحد من أرباب الغنى، فيضع مالا لسباق الخيل أو لسباق الإبل أو الرمي فهذا جائز للحديث المتقدم وهو عام سواء كان من المتسابقين أو من غيرهما، فهنا المتعلق محذوف فيفيد هذا العموم، ولا خلاف بين أهل العلم في هذا. فإذا وضع الجائزة أجنبي سواء كان الإمام أو نائبه، أو وضعه غيرهما خلافا لما ذهب إليه الإمام مالك، فإنه يمنع أن يكون من غير الإمام أو نائبه، ولا دليل على التفريق، أو كان الواضع أحد المتسابقين فهذا جائز.

أما إذا كانت الجائزة من المتسابقَين كليهما أو من المتسابقِين كلهم فمنع من ذلك جمهور العلماء، قالوا: لأن كليهما يكون إما غانما أو غارما وهذا قمار، والقمار محرم، بخلاف ما لو وضعها أحدهما دون الآخر فإن هذا الواضع يكون غارما أو غانما، وأما الآخر فإنه إما أن يكون غانما أو سالما، قالوا: ويجوز حينئذ أن يضع المحلل، فإذا تسابق زيد وعمرو ودفع هذا ألفا ودفع الآخر ألفا فأدخلا بينهما ثالثا لا يضع شيئا فهذا جائز بشرط ألا يؤمن سبقه بحيث لا يكون حيلة إلى تحليل ما حرم الله، قالوا ودليل هذا ما رواه الإمام أحمد وأبو داود من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (إذا أدخل فرس بين فرسين لا يأمن أن يسبق فلا بأس، وإن أمن فهو قمار) [حم 10179، د 2579، جه 2876] واختار شيخ الإسلام وتلميذه ابن القيم جواز هذه الصورة التي نهى عن الجمهور بغير محلل، قالا: إذا تسابق على خيل أو إبل أو سهام أو على علوم شرعية كما تقدم فيجوز أن يشارك كل واحد من المتسابقين بالسبق، قالا: لأن القمار أكل للمال بالباطل، وهذا ليس بأكل للمال بالباطل بل هو أكل للمال بالحق، فإن فيه إعانة على ما أمر الله به عز وجل من الجهاد في سبيله، وأجابوا عن حديث أبي هريرة المتقدم بأن إسناده ضعيف فهو من حديث سفيان بن حسين وسعيد بن بشير عن الزهري، ورواية سفيان بن حسين عن الزهري ضعيفة، وسعيد بن بشير ضعيف الحديث، قالوا: ورواه الثقات عن الزهري عن سعيد بن المسيب من قوله، فهو من قول سعيد بن المسيب، وهذا القول هو القول الراجح، فإن القمار أكل للمال بالباطل وهذا ليس أكل للمال بالباطل بل هو أكل للمال بالحق، واستدلوا بما روى أحمد في مسنده بإسناد جيد: (أن أنس بن مالك قيل له هل كنتم تراهنون على عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - قال نعم لقد راهن النبي - صلى الله عليه وسلم - على فرس يقال له سبحة فسبق

فهش له وأعجبه) [حم 12216] والإسناد جيد، قالوا: وروى أحمد في مسنده:" أن أبا عبيدة قال: من يراهنني، فقال شاب: أنا إن لم تغضب، قال - أي الراوي - فسبقه فرأيت عقيصتي -] ضفائره - أبي عبيدة تنقزان وهو خلفه على فرس عربي " [حم 346] قالوا: والمراهنة مفاعلة، فإذا قال من يراهن أي من يقابلني في الرهان فيدفع هذا ويدفع هذا، وروى الترمذي وصححه والحديث صحيح:" أن أبا بكر - رضي الله عنه - راهن قريشا على غلبة الروم على الفرس " [ت 3194] فدل هذا على أن المراهنة جائزة. قوله [ولا بد من تعيين المركوبين] فلا بد من تعيين المركوبين سواء كانا فرسين أو ناقتين أو نحو ذلك، ولا بد من تعيين الرماة، ولذا قال بعد ذلك: قوله [والرماة] وذلك لأن المقصود من المسابقة بين الخيل وبين الإبل معرفة سرعة عدوها، فالمسابقة متعلقة بالمركوب، وإذا لم يعين المركوب فقد يكون المركوب مما يؤمن سبقه، وحينئذ يكون هذا من أكل المال بالباطل، والمسابقة في الرمي المقصود منها معرفة حذق الرماة، فتعلقها بفعل الرماة، فاشترط أيضا تعيين الرماة. قوله [واتحادهما] فلا بد من تعيين المركوبين واتحادهما، بأن يكونا عربيين أو أن يكونا هجينين، فلا بد أن يكونا من نوع واحد، وهذا هو المشهور في المذهب، والوجه الثاني في المذهب أنه يجوز أن تكون من أنواع مختلفة، والحاكم في هذه أنه إذا حصل المقصود من المسابقة بان كانت هذه الخيول وإن اختلفت أنواعها كل واحد منها لا يؤمن سبقه فكان فيه الفائدة المرجوة من التدريب على الجهاد في سبيل الله، فذلك جائز، وأما إذا كان بين نوعين مختلفين وأحدهما يؤمن سبقه فإن هذا ممنوع منه لأنه لا فائدة من السباق هذا، وهذا هو الراجح في هذه المسألة. قوله [والمسافة]

فلا بد من تحديد المسافة، وفي الصحيحين عن ابن عمر قال: (سابق النبي - صلى الله عليه وسلم - بين الخيل التي قد ضمرت من الحيفاء - وهو موضع خارج المدينة - إلى ثنية الوداع، وبين الخيل التي لم تضمر من الثنية إلى مسجد بني زريق) [خ 7336، م 1870] قال ابن عمر في رواية للبخاري:" بين الحيفاء وبين ثنية الوداع خمسة أميال أو ستة، وبين الثنية ومسجد بني زريق ميل " [خ 2868] وإضمار الخيل بأن تسمن ثم بعد ذلك لا تطعم إلا قوتها، وتوضع في بيت وتجلل أي تغطى حتى تعرق فيخف لحمها، ثم إن المسافة إذا لم تحدد فإن هذا يفضي إلى الخلاف والتنازع للجهالة، وإزالة الجهالة المفضية إلى النزاع واجب. قوله [بقدر معتاد] فلا بد أن يكون القدر معتادا ليحصل المقصود، وإلا فإن الغرض يفوت، فمثلا: الرمي الطبيعي مائة وخمسون مترا تقريبا، فإذا زاد عن هذا فإنه يفوت الغرض لأنه لا يصل إلى الهدف إلا نادرا، كذلك الخيل أو الإبل إذا وضعت مسافة بعيدة جدا لا تصل إليها في العادة فإنه حينئذ يفوت الغرض المقصود. قوله [وهي جعالة لكل واحد فسخها]

السبق جعالة في المشهور من المذهب، ويأتي الكلام على الجعالة، وبين ابن القيم في كتابه الفروسية الفارق بين الجعالة والسبق بما يدل على بطلان كون السبق جعالة، فإن بينهما فروقا منها: أن الجاعل للجعل إنما يجعله لنفع نفسه، فإذا ضاع له مال يقول: من يحصل لي هذا المال أعطيه كذا وكذا، فهو يقصد بدفع هذا الجعل نفع نفسه، وأما في السبق فهو يوفيه لمن يعجزه ويقهره ويغلبه، ومنها: أن الجعالة يجوز أن يكون العوض والمعوض مجهولين، فيجوز أن يقول: من أتى بعبدي الآبق وهو مجهول فله كذا وكذا، فالمعوض وهو العبد الآبق مجهول، ويجوز أن يقول القائد في الحرب: من دلني على حصن فله ثلث ما فيه من الغنيمة، والغنيمة التي فيه مجهولة، وهذا كله لا يجوز في باب السبق، بل يشترط أن يكون السبق معلوما وأن تكون المسافة والمركوب والرماة معلومين، فدل على أن السبق ليس بجعالة، كما أنه ليس بإجارة، وليس بشركة، وليس بنذر، كما بين ابن القيم أنه نوع مستقل له حكمه الخاص، فلا يؤخذ أحكامه من أحكام غيره، وهنا الحنابلة قالوا: هو جعالة، وعليه فلكل واحد منهما الفسخ، فمثلا: اتفق زيد وعمرو على المسابقة، وأن يكون بينهما سبقا قدره كذا وكذا، سواء دفع واحد منهما كما هو مذهب الجمهور، أو دفعا كلاهما، فلما شرعا في السباق ولما يتبين الفضل لواحد منهما فيجوز لكل واحد منهما الفسخ، فيجوز قبل الشروع، وبعد الشروع ما لم يتبين أن لأحدهما فضلا، أما إذا تبين أن لأحدهما فضلا فله الفسخ، وأما الآخر فليس له الفسخ، لأنه قد ظهر ما يكون مرجحا لجانب الآخر، فحينئذ إذا جاز له الفسخ ففيه إسقاط لحق الآخر، وهذا هو المشهور من المذهب وهو مذهب أبي حنيفة وهو أحد قولي الشافعي أن عقد السبق عقد جائز، والقول الثاني للشافعية وهو وجه في المذهب أن هذا العقد عقد لازم، فإذا شرعا فيه فليس لأحدهما أن يفسخ، قالوا: قياسا على عقد الإجارة،

والقياس على عقد الإجارة هنا ضعيف، للفارق بين عقد الإجارة وبين السبق، قالوا: الجامع بينهما أن في كليهما يشترط أن يكون العوض والمعوض معلوما كما تقدم، والجواب: أنه قياس مع الفارق، فبينهما فروق منها أن الإجارة يشترط أن يكون العمل المطلوب فيها مقدورا على تسليمه، وليس هذا في باب المسابقة، فإنه قد سبق وقد لا يسبق، وهناك فروق أخرى، ومع ذلك فالذي يتبين والله أعلم هو رجحان هذا القول لقول الله تعالى {يا أيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود} فأمر الله تعالى بالوفاء بالعقود إلا ما استثني، وإن كان يتوجه - والله أعلم - أنهما إذا لم يشرعا فيه فيتوجه القول الأول، وهو جواز الفسخ، لأنه لا يجوز أن يأخذ أحد مال أخيه بغير طيب نفس منه، وحيث لم يشرعا في السباق فلم يترتب على ذلك عمل من الآخر. قوله [وتصح المناضلة على معينين يحسنون الرمي] المناضلة هي المسابقة في الرمي، وقوله " على معينين " كما تقدم فيشترط أن يعين الرماة، وقوله " يحسنون الرمي " فإن كان بعضهم لا يحسن الرمي فإن هذه من المسابقة التي يؤمن فيها السبق، فيكون هذا من أكل أموال الناس بالباطل. باب العارية العارية: تضبط بتشديد الياء وتخفيفها، وهي من العري، وهو التجرد، وسميت بذلك لتجردها من العوض، وعرفها المؤلف بقوله: قوله [وهي إباحة نفع عين تبقى بعد استيفائه] أي بعد استيفاء النفع، فهذه العين التي أعيرت كالدار مثلا إذا انتفع بها هذا المستعير واستوفى نفعها فإن هذه العين تبقى بعد استيفاء هذا النفع المتبرع به، وهي مشروعة بالإجماع. * واختلف أهل العلم هل تجب العارية أم لا؟

فذهب جمهور العلماء إلى أنها مستحبة غير واجبة، واستدلوا بما ثبت في الصحيحين من حديث طلحة بين عبيد الله أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال للأعرابي بعد أن ذكر له هل على شيء غير الزكاة لما سأله عما يجب عليه فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: (لا إلا أن تطوع) قالوا: فدل هذا على أن العارية ليست واجبة فلو كانت واجبة لأجاب النبي - صلى الله عليه وسلم - بها لما سأله: هل علي غيرها، والقول الثاني في هذه المسألة وهو قول في المذهب واختاره شيخ الإسلام أن العارية واجبة أي مع غنى مالكها وحاجة الآخر إليها، ودليل هذا ما ثبت في مسلم من حديث جابر عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: (ما من صاحب إبل ولا بقر ولا غنم لا يؤدي حقها إلا أقعد لها يوم القيامة بقاع قرقر - أي مستو - تطؤه ذات الظلف بظلفها وتنطحه ذات القرن بقرنها ليس فيها يومئذ جماء - أي التي لا قرن لها - ولا مكسورة القرن، قلنا يا رسول الله وما حقها؟ قال: إطراق فحلها وإعارة دلوها ومنيحتها وحلبها على الماء وحمل عليها في سبيل الله) [م 988] والشاهد في قوله: (وإعارة دلوها) ، ويدل لذلك أيضا قول الله تعالى {ويمنعون الماعون} ، وقد روى أبو داود والنسائي في سننه الكبرى بإسناد حسن عن ابن مسعود - رضي الله عنه - قال:" كل معروف صدقة، وكنا نعد الماعون على عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - إعارة الدلو والدر " [ن كبرى 6 / 522، د 1657] فهو لا يتضرر بهذه الإعارة ولا تفوته مصلحة بها فذم على المنع، وما اختاره شيخ الإسلام في هذه المسألة قوي، والجواب عن حديث الأعرابي أن يقال: إن العارية من الأمور الطارئة، فقد يملك الإنسان ما يعيره وقد لا يملكه، وإذا ملكه فقد يكون هناك من هو محتاج إليه وقد لا يكون، وهو كما قال له النبي - صلى الله عليه وسلم - لما سأله عن الصلاة: هل علي غيرها؟ قال: لا إلا أن تطوع، مع دلالة الشرع على وجوب صلاة

الكسوف، فعلى ذلك القول الراجح هو اختيار شيخ الإسلام. ** والعارية تبرع بالنفع وعليه فلا تصح إلا من جائز التصرف، هكذا يقرر الفقهاء، وهذا على القول باستحباب العارية، وأما على القول الراجح وهو وجوب العارية لا يتبين هذا، فإن هذا تبرع واجب، فهو واجب في ماله فأشبه الزكاة ونحوها. *** وكل قول أو فعل يدل على الإعارة فإن العارية تثبت به، فإذا قال: أعرتك، فهو قول يدل على العارية فيثبت به، وكذلك إذا قال: أعطيتك راحلتي لتسافر بها ثم تعيدها إلي بلا عوض فهذا قول يدل على العارية، وكذلك إذا قال: أعرني كذا، فدفعه إليه ولم يتلفظ فإن هذا الفعل يدل على الإعارة. قوله [وتباح إعارة كل ذي نفع مباح] كالدلو والقدر والفأس والراحلة والدار وغير ذلك، فكل ذي نفع مباح تباح عاريته لدلالة الأدلة الشرعية على مشروعيتها، وحيث كان النفع مباحا فإنه داخل في العقود، والأصل في العقود الإباحة. قوله [إلا البضع] أي الفرج، فإنه لا تصح عاريته، كأن تكون له أمة فإنه لا تصح إعارة بضعها وذلك لأن الفرج لا يباح إلا بما جعله الله سببا لإباحته. قوله [ولا عبدا مسلما لكافر] فلا يجوز أن يعير عبده المسلم لكافر ليستخدمه، فإن الله لم يجعل للكافرين على المؤمنين سبيلا. قوله [وصيدا ونحوه لمحرم] فليس له أن يعير صيدا لمحرم، ولا نحوه كأن يعيره مخيطا أو نحوه، وذلك لأن المحرم ممنوع من إمساك الصياد، وممنوع من لبس المخيط، فإذا أعاره صيدا أو ثوبا مخيطا فقد أعانه على الإثم، وقد قال الله تعالى {ولا تعاونوا على الإثم والعدوان} قوله [وأمة شابة لغير امرأة أو محرم] فليس له أن يعير أمة شابة أي يفتتن بها، ليس له أن يعيرها لأجنبي عنها ذكر، وذك لأنه لا يؤمن عليها، أما إذا أعارها إلى امرأة أو محرم لها كأن يعيرها عمها أو خالها فذلك جائز لا بأس له.

* المشهور عند فقهاء الحنابلة وهو مذهب الجمهور أن المعير له أن يسترد العين المعارة متى شاء إلا أن يأذن بشغلها بشيء يتضرر المستعير برجوعه فيها، فلو أعاره راحلة فله أن يرجع فيأخذها قبل أن ينتفع بها المستعير، لكن لو كان قد أعاره هذه الراحلة لينقل بضاعة له إلى موضع فليس له أن يرجع وهذه الراحلة بمفازة من الأرض بحيث يتضرر المستعير برجوعها، وكذلك لو كانت سفينة في لجة البخر، وذلك لأنه يتضرر بالرجوع، وهذا هو المشهور عند الحنابلة وهو مذهب الجمهور، كالقرض تماما، فهذه المسألة مبنية على مسألة القرض التي تقدم ذكرها، ولذا فمذهب المالكية وهو رواية عن الإمام أحمد أن العارية إن عين لها أجل معين فإذا قال: استعير منك هذه السيارة شهرا فليس للمعير أن يرجع مدة هذا الشهر، فإن لم تذكر مدة فإنها تبقى عند المستعير فينتفع لها كما ينتفع بمثيلاتها عادة، فمثلا إذا استعار منه شيئا من أدوات البيت، فالعادة أن أدوات البيت تمكث إلى اليوم واليومين ونحو ذلك، إذن على القول الثاني في هذه المسألة أنهما إذا عينا لها مدة فإنها تتعين، فإن لم يعينا لها مدة فيرجع إلى العرف، وهذا القول هو الراجح، لقول الله تعالى {يا أيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود} وهذا عقد فيجب أيفاؤه، وتقدم أن هذه المسألة مبنية على مسألة القرض، وتقدم أن الجمهور على أن القرض لا يتأجل بتأجيله، وتقد أن هذا قول مرجوح، وأن الراجح ما ذهب إليه المالكية من أنا لقرض يتأجل بتأجيله. قوله [ولا أجرة لمن أعار حائطا حتى يسقط] هذه المسألة تنبني على المسألة السابقة، مثاله: رجل أعار الآخر أن يضع خشبا على حائطه، فوضع المستعير خشبه على هذا الحائط وبنى، فهل له الرجوع؟

الجواب: ليس له الرجوع، وذلك لأن هذا البناء سينهدم، فإنه قد وضع الخشب ووضع عليه البناء، فإذا رجع في هذه العارية فإن هذا الآخر يتضرر، فليس له الرجوع، وقد تقدم أن الفقهاء يقيدون جواز الرجوع بحيث لم يأذن له بشغله بشيء يتضرر المستعير برجوعه، وهنا يتضرر المستعير، إذن ليس له الرجوع، وهل له أن يأخذ عليه الأجرة؟ الجواب: ليس له أن يأخذ عليه الأجرة، وذلك لأن العارية باقية، والعارية لا أجرة فيها، فليس له أن يقول إما أن تهدم بيتك وإما أن تعطيني أجرة، وذلك لأن العارية قد انعقدت، والرجوع ممنوع منه بسبب الضرر، وإذا سقط الحائط فيجوز له حينئذ أن يمنع من هذه العارية، فيرجع فيها، وذلك لأن البناء قد تهدم، فلا ضرر في الرجوع. قوله [ولا يرد إن سقط إلا بإذنه] فلا يرد الخشب إن سقط الجدار إلا بإذن صاحب الجدار، وذلك لأنه لم يأذن إذنا جديدا، فالإذن قد ذهب بسقوط الجدار. قوله [وتضمن العارية بقيمتها يوم أتلفت ولو شرط نفي ضمانها]

فالعارية مضمونة بقيمتها يوم تلفت لأنه هو يوم فواتها على معيرها، فالعارية مضمونة وإن لم يتعد ولم يفرط، وإن كانت مثلية فالضمان بالمثلي وإلا فبقيمته، ولو شرط نفي ضمانها فإنها تضمن، فلو قال المستعير بشرط ألا أضمن، فإنه يضمن ولا يعتبر هذا الشرط، وهذا هو المشهور في مذهب أحمد والشافعي، واستدلوا بما رواه الخمسة بإسناد صحيح أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (على اليد ما أخذت حتى تؤديه) [حم 19582، ت 1266، د 3561، جه 2400، ن الكبرى 3 / 411] قالوا: فهذا يدل على أن اليد يجب عليها ما أخذت حتى تؤديه إلى مالكه، واستدلوا بما رواه أحمد وأبو داود من حديث صفوان ابن أمية: (أن النبي - صلى الله عليه وسلم - استعار منه دروعا يوم حنين فقال: أغصب يا محمد؟ قال: بل عارية مضمونة) [حم 27089، د 3562] والحديث فيه شريط بن عبد الله، وله شاهد من حديث جابر في مستدرك الحاكم [كم 3 / 48، 49] فالحديث حسن، فإذا تلفت العارية بغير تعد ولا تفريط فإنه يضمن كأن تأتيها آفة من السماء ونحو ذلك، وهنا احتراز لا بد منه: وهو أن المراد بالتلف غير التلف الذي تقتضيه استعارتها، مثاله: عندما يستعير ثوبا ليلبسه فإنه لا بد أن يحصل لهذا الثوب شيء من التلف فإن الثوب يبلى، وهكذا سائر الأشياء المستعارة، فهذا التلف الذي يقتضيه الاستعمال لا ضمان فيه وإن أتى على الشيء المعار كله، وذلك لأن الإذن باستعمال هذه العارية متضمن للإذن بإتلافها عادة، والقول الثاني وهو مذهب الأحناف، وهو أن العارية غير مضمونة، واستدلوا بما رواه أحمد وأبو داود والنسائي في الكبرى والحديث صحيح لطرقه، وصححه ابن حبان وغيره: (أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال ليعلى بن أمية: إذا أتتك رسلي فأعطهم ثلاثين درعا، فقال: يا رسول الله أعارية مؤداة أم عارية مضمونة؟ فقال: بل عارية مؤداة) [حم 27089، د 3566، حب 11 / 22، ن الكبرى

3 / 409] وكذلك الحديث المتقدم: (على اليد ما أخذت حتى تؤديه) ، ولما ثبت في سنن الترمذي والحديث إسناده حسن أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (والعارية مؤداة والزعيم غارم والدين مقضي) [ت 1265، د 3565، جه 2398] قالوا: والأداء لا يستلزم الضمان بدليل أن الوديعة بالاتفاق لا ضمان فيها، وقد قال تعالى {إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها} فأمر الله بأدائها ولم يستلزم هذا ضمانها، فالمقصود أنها تؤدى ما دامت موجودة، وأما إذا حصل لها تلف بغير تعد ولا تفريط فهذا باب آخر، وقال المالكية إن تلفت بسبب ظاهر كالحريق فلا ضمان، وإن تلفت بسبب غير ظاهر فالضمان ثابت، وأصح الأقوال في هذه المسألة ما اختاره شيخ الإسلام وهو رواية عن الإمام أحمد وهو اختيار صاحب الفائق من الحنابلة وغير واحد من الحنابلة وهو اختيار ابن القيم والشيخ عبد الرحمن بن سعدي وهو أن العارية غير مضمونة إلا أن يشترط ذلك المعير وبه تجتمع الأدلة، فقول النبي - صلى الله عليه وسلم - ليعلى بن أمية وقد سأله في العارية: أعارية مؤداة أم عارية مضمونة فقال: بل عارية مؤداة، فهذا يدل على أن العارية ليست بمضمونة، ولما قال له: صفوان بن أمية أغصب يا محمد؟ فقال: بل عارية مضمونة، فدل على أنها مع الشرط يثبت الضمان فيها، ولأن المسلمين على شروطهم، إلا شرطا حرم حلالا أو أحل حراما، واشتراط الضمان لا يحل ما حرم الله ولا يحرم ما أحله، فقول شيخ الإسلام هو قول الأحناف لكنه يرى جواز الشرط، وأما الأحناف فالمشهور عندهم أن الشرط باطل وفي رواية عندهم يرون جواز الشرط، ولا خلاف بين أهل العلم أنه إذا فرط في حفظ هذه العارية أو تعدى عليها بفعله فإنه يضمن، لأن الضمان بالتعدي أو التفريط ثابت في الوديعة فمن باب أولى في العارية.

وقول المؤلف (ولو شرط نفي ضمانها) هذا ضعيف، وهو إشارة إلى الخلاف المتقدم، فعن الإمام أحمد وهو اختيار طائفة من أصحابه أن الشرط صحيح وهذا هو القول الراجح. قوله [وعليه مؤنة ردها] أي على المستأجر مؤنة رد العارية، فالعارية عندما تستعار، ويحين ردها فإنها قد تحتاج إلى نفقة لإرجاعها إلى مالكها، فهنا تجب على المستعير هذه النفقة، لقوله - صلى الله عليه وسلم -: (على اليد ما أخذت حتى تؤديه) ، ولأن أداء العارية واجب، وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب. ** وهل عليه نفقة المعار أثناء الاستعارة؟ المشهور في المذهب أنه لا يجب، فإذا كانت دابة ونحوها فلا يجب عليه أن ينفق عليها، وإذا أعلفها مثلا فإنه يرجع بعلفها على معيرها، وقال شيخ الإسلام:" قياس المذهب فيما يظهر لي أنها تجب على المستعير " وذكر شيخ الإسلام أنه لم يجد قولا في المذهب، ولذا خرجها كما تقدم، وقال الشيخ عبد الرحمن بن سعدي:" وهو العرف الجاري، ويستقبح الناس أن يحسن إلى أحد بإعارة دابة يستعملها ويركبها فيعلفها ثم يرجع بعلفها على صاحبها " أ. هـ وهو كما قال، فالراجح أن نفقة العين المستعارة واجبة على المستعير لأن العرف يقضي بذلك. قوله [لا المؤجرة] فالعين المؤجرة مؤنة ردها تجب على المؤجر لا على المستأجر، فإذا استأجر دابة فحان ردها فنفقة الرد على المؤجر، وأما المستأجر فلا يجب عليه نفقة ردها، بل يردع يده عنها، وهذا هو المشهور من المذهب، وهو تعليل ظاهر ما لم يحكم عرف بخلافه أو يثبت ضرر بفعله، فإن ثبت ضرر كأن يخلي الدابة في موضع يخشى عليها التلف فيه فإن هذا ممنوع، أو قضى عرف بأنه يجب عليه أن يرد، كأن يقضي العرف بأن من استأجر سيارة ونحوها فإنه يردها إلى مؤجرها، فالرد على المؤجر. قوله [ولا يعيرها]

فإذا استعرت دابة فليس له أن تعيرها غيرك، وذلك لأن المعير قد أباح لك الانتفاع بها، وانتفاع غيرك بها غير مأذون به من المالك، وهذا هو المشهور من المذهب وهو أحد القولين في مذهب الشافعي، وذهب الأحناف وهو أحد القولين في مذهب الشافعي وهو قول في المذهب أن له أن يعرها، وذلك لأنه إن أعارها فقد تصرف بهذه العين بقدر ما أذن له به، فقد أذن أن ينتفع بها انتفاعا لا عوض فيه، فإذا أعارها بلا عوض فقد تصرف بها كما أذن له، والراجح هو القول الأول، وذلك لأن المعير - مالك العين - لم يأذن له إلا أن يتصرف بها، فليس له أن يعدي التصرف إلى غيره، وليس مالكا للمنفعة بل هو مأذون له بالانتفاع، بدليل اتفاق العلماء على منعه من تأجيرها، فإذا استعار دابة فليس له أن يؤجرها، ولو كان مالكا لنفعها لجازت له الإجارة، فدل هذا على انه ليس مأذونا له إلا أن يتصرف بها هو، دون غيره. قوله [فإن تلفت عند الثاني استقرت عليه قيمتها] مثاله: أعار زيد عمروا دابة، فأعارها عمرو بغير إذنه بكرا، فتلفت عند بكر، فالضمان على المستعير الثاني وهو بكر، وذلك لأنها تلفت في يده، فقد أخذها عارية، والعارية مضمونة، وهذا البحث على أن العارية مضمونة، وعلى القول الراجح وهو أن العارية غير مضمونة فيثبت الضمان هنا أيضا لثبوت التعدي. قوله [وعلى معيرها أجرتها]

فمع الضمان فيه أجرة، فهذا المعير الثاني وهو عمرو قد تصرف فيها بغير إذن، فوجبت الأجرة، لأنه انتفاع بملك الغير بلا إذن فوجبت منه أجرة المثل سواء تلفا العين أم لم تتلف، والأجرة واجبة على معيرها وهو المستعير الأول، أي عمرو، قالوا: لأنه قد غرر بالمستعير الثاني أن يستوفي منفعة عين غيره بغير حق، فقد غرر بالمستعير الثاني وظن أنها ملك له، أو أنه مأذون له بأن يعيرها غيره، فغرر به فتصرف بها بغير حق، فتكون الأجرة على هذا المغرر، وعليه فإذا كان المستعير الثاني عالما بالحال أي عالما بأن هذه عارية وليست مالكا وأنه قد أعاره ملك غيره فحينئذ يكون قد دخل على بصيرة وعليه فالأجرة عليه كما يقرره فقهاء الحنابلة، إذن الأجرة على المستعير الأول حيث لم يكن المستعير الثاني عالما بأنها ملك غيره بل هو ظن أنها ملك له أو مأذون له بالإعارة،أما إذا علم أن هذا المستعير الأول قد أعاره إياها ولا إذنه أو ظنه غاضبا أو غير ذلك ومع ذلك تصرف في ملك غيره فإن الأجرة تجب عليه أي على المستعير الثاني لأنه هو المنتفع بهذه العين فوجب عليه عوضها. قوله [وضمن أيهما شاء] فإذا تلفت العين فإنه يضمن أيهما شاء، فإن شاء ضمن عمروا وهو المستعير الأول وإن شاء ضمن بكرا وهو المستعير الثاني. أما تضمينه للمستعير الأول فلأن المستعير الأول تصرف في العارية بغير إذن، بأن سلط عليها غيره بغير حق، وأما تضمينه للمستعير الثني فلأن التلف حصل في يده، فإن ضمن المستعير الأول وهو عمرو، فإنه يرجع على المستعير الثاني بالضمان، لأن الضمان واجب عليه في الأصل، كما تقدم في مسألة نظيرة لهذه في باب الضمان. قوله [ون أركب منقطعا للثواب لم يضمن]

إذا أركب على دابة منقطعا أي قد انقطع به السبيل فلا يضمن هذا المنقطع لو تلفت هذه الدابة، وذلك لأن يد مالكها لم تزل عليها فهو شبيه بالرديف، وعليه فلا ضمان عليه، فلا يكون كالمستعير الذي يجب عليه الضمان في المذهب، وذلك لأن يد مالكها لم تزل عليها، كأن تكون معه راحلتان، راكب هو على أحدهما، ثم وجد منقطعا فأركبه على الراحلة الأخرى، فهذا كما لو أردفه على الراحلة نفسها، فلم تزل يد مالكها عليها، وعلى القول الراجح من أن العارية غير مضمونة إلا أن يشترط ذلك المعير فلا إشكال. قوله [وإذا قال: أجرتك، قال: بل أعرتني أو بالعكس عقيب العقد قبل قول مدعي الإعارة] إذا قال المالك أجرتك، وقال الآخر بل أعرتني، فمثلا: سكن في داره فقال: قد أجرتك هذه الدار، فقال: بل أعرتني، أو بالعكس كأن يقول أعرتك فيقول: بل أجرتني، ومصلحته من إنكار العارية مع أن ظاهر الأمر أن العارية أفضل من الإجارة مصلحته من ذلك أنه قد يكون يريد إبقاء هذه العين معه مدة وإن كان ذلك بأجرة، والعارية يملك المعير إرجاعها متى شاء كما تقدم في المذهب، وكان ذلك عقيب العقد أي لم تمض مدة لها أجرة في العادة، فيقبل قول مدعي الإعارة سواء كان المالك أو كان الآخر الذي بيده العين، وذلك لأن الأصل هو عدم الإجارة لما فيها من العوض فالأصل عدمها، وعله فحينئذ لا أجرة إلا أن يأتي مدعي الإجارة ببينة فحينئذ تثبت الأجرة، لكن الكلام حيث لا بينة، وحينئذ ترد العين إلى مالكها. قوله [وبعد مضي مدة قول المالك بأجرة المثل]

مثاله: بعد ما مضى شهر اختلفوا، فقال المالك: أعرتك، وقال الآخر: بل أجرتني أو بالعكس، فحينئذ القول هو قول المالك، وذلك لأن الأصل في مال الغير الضمان، وقد قال - صلى الله عليه وسلم -: (لو يعطى الناس على دعواهم لادعى أناس دماء قوم وأموالهم) [خ 4552، م 1711] فالقول قول المالك، وذلك لأن الأصل في أموال الناس الضمان، ومن كان الأصل معه فالقول قوله، فيقال للمالك: احلف فإن حلف فالقول قوله، وحينئذ وقد مضت مدة فإنه يدفع أجرة المثل للمالك، وإنما ثبتت أجرة المثل ولم تثبت الأجرة المسماة التي يدعيها المالك لأن الإجارة لا تثبت بالدعوى، نعم أرجعنا إليه ماله، وجعلنا القول قوله، لكن لا يعني هذا أن نكون قد أثبتنا الإجارة، ولذا ترد العين إلى مالكها، وإنما هذا حكم عند المنازعة. قوله [وإن قال أعرتني أو قال أجرتني فقال: بل غصبتني] إذا قال: أنت قد أعرتني هذه الدابة، أو قال: أنت قد أجرتني دارك، فقال: أنا لم أؤجرك ولم أعرك بل غصبتني، فالقول قول المالك لأن الأصل عدم الإعارة وعدم الإجارة، وهذا مدعي خلاف الأصل، فالقول قول المالك. قوله [أو قال: أعرتك، قال: بل أجرتني والبهيمة تالفة] إذا قال: أعرتك هذه البهيمة لتركبها، فقال: لا بل أجرتنيها، لكي لا يضمن، فإن المستأجر لا يضمن وأما المعير فعليه الضمان في المذهب، وكانت البهيمة تالفة فالقول قول المالك، للأصل المتقدم، وهو ا، الأصل في أموال الناس الضمان كما تقدم، ودليله من قوله - صلى الله عليه وسلم -: (لو يعطى الناس على دعواهم لادعى أناس دماء قوم وأموالهم] قوله [أو اختلفا في رد فقول مالك] مثاله: أعاره دابته ثم اختلفا، فالمستعير يقول: رددت، والمالك يقول: لم تردها إلى، فالقول قول المالك هنا لأن الأصل عدم الرد، وقد ثبتت العارية بالبينة أو الإقرار، فلا بد وأن يثبت الرد بالبينة أو بالإقرار. باب الغصب

الغصب لغة: القهر، وفي الاصطلاح: عرفه المؤلف بقوله: قوله [هو الاستيلاء على حق غيره قهرا بغير حق] هو الاستيلاء على حق غيره، سواء كان هذا الحق مالا أو اختصاص، مثال المال: الدار أو الدابة أو نحو ذلك، ومثال الاختصاص أن يكون عنده كلب صيد أو كلب زرع، فإنها اختصاص، بدليل أنه يمنع من بيعها، وليست قيمتها قيمة مالية. وقوله (قهرا) يخرج من ذلك ما لو استولى على حق غيره بغير قهر كأن يختلس أو يسرق أو ينتهب ونحو ذلك، فإنها ليس قهرا وإنما أخذت بطريق خفي، أو بطريق ظاهر ليس فيه قهرية. وقوله (بغير حق) يخرج من ذلك ما لو كان هذا الاستيلاء بحق كاستيلاء ولي اليتيم على ماله، واستيلاء الحاكم على مال المفلس، فإن هذا الاستيلاء ليس بباطل، وليس المراد أن يستولي عليه لنفسه، ولكن المراد أن يستولي عليه لحظ غرمائه في المفلس، ولحظ نفسه في المحجور عليه من يتيم وغيره، وهذا التعريف يدخل فيه استيلاء الحربي المقاتل على مال المسلم، وهذا ليس بصحيح كما بين هذا شيخ الإسلام، وذلك لأن هذا الاستيلاء لا يضمن فليس مرادا بهذا التعريف. قوله [من عقار ومنقول] قوله (من عقار) كالدار والأرض والبستان ونحو ذلك، وقد ثبت في الصحيحين أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال (من اقتطع شبرا من الأرض ظلما طوقه الله إياه يوم القيامة من سبع أرضين) [خ 3198، م 1610] . وقوله (ومنقول) كأثاث ونحوه، فإذا دخل داره فأخذ أثاث أو طعاما ونحوه فهذا اغتصاب، وقد روى الإمام أحمد في مسنده وأبو داود والترمذي وحسنه وهو كما قال أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (لا يأخذ أحدكم متاع أخيه جادا ولا لاعبا، ومن أخذ عصا أخيه بغير حق فليردها) [حم 17481، د 5003، ت 2160] والمتاع والعصا من المنقولات. قوله [وإن عصب كلبا يقتنى أو خمر ذمي ردهما]

إذا غصب كلبا يقتنى ككلب صيد أو كلب زرع ونحوه رده، فما يجوز اقتناءه فإذا غصبه وجب عليه رده، وذلك لأن المقتني يختص به وقد اقتناه على وجه مأذون له فيه فهو حق له فيجب عليه أن يرده، ومثل ذلك لو اغتصب خمر ذمي لم يظهره، أي لم يظهر شربه أمام الناس بل قد أسر ذلك وأخاه فكذلك يجب رده، وذلك لأنه إذا كان يشرب الخمر سرا فإن هذا مأذون له فيه، فإذا أخذه منه فقد أخذه بغير وجه حق. قوله [ولا يرد جلد ميتة] فلا يرد جلد الميتة لأنه لا يطهر بدباغ في المذهب، وعليه فهذه المسألة متفرعة عن مسألة يقررها الحنابلة تقدمت في باب الآنية، وهي أن جلد الميتة لا يطهر بدباغ، وقال بعض الحنابلة بل يردها، وذلك لأنه يجوز استعمال الجلد في يابس ونحوه كما تقدم عند الحنابلة، فإذا اقتنى جلد الميتة وقد دبغ واستعمله في يابس فإن ذلك جائز، وعلى القول الراجح وهو أن جلد الميتة يظهر بالدباغ فعليه يجب عليه الرد وهو مال، فجلد الميتة له قيمة، فيجب عليه أن يرده لأن الانتفاع مأذون له شرعا إذا دبغ، وإن كان هذا قبل الدبغ لأنه يمكنه أن ينتفع به بعد دبغه. قوله [وإتلاف الثلاثة هدر] فإذا أتلف شيئا من هذه الثلاثة وهي الكلب والخمر وجلد الميتة فهي هدر، فإذا قتل هذا الكلب وإن كان الآخر قد اقتناه لينتفع به على وجه مأذون له فيه شرعا أو أتلف هذا الجلد أو أهراق هذه الخمرة فإن ذلك هدر، فليس على المتلف ضمان، أما جلد الميتة فهو ضعيف، فإن جلد الميتة يدبغ وله قيمة عند دباغه، فإذا أتلفه فعليه الضمان لأن له قيمة، وأما الكلب والخمرة فليست لهما قيمة لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى عن بيعهما وعليه فلا قيمة لهما. فإن قيل: إن خمرة الذمي معصومة إذا لم يجهر بشربها؟

فالجواب: أن كونها معصومة لا يستلزم ضمانها، أو أن يكون لها قيمة بدليل أن نساء المحاربين وأولادهم معصومون ومع ذلك فإذا قتل المسلم امرأة من نسائهم أو صبيا من صبيانهم فلا ضمان، مع أن ذلك يحرم، فكذلك هنا، فلا يجوز له أن يهريق هذه الخمرة، وقد أسر هذا الذمي بشربها لأنه يخالف العقد الذي وضعه إمام المسلمين معهم، ولكن لا ضمان لأن الخمرة لا قيمة لها، لنهي النبي - صلى الله عليه وسلم - عن بيعها، وكذلك الكلب وغن كان يقتنى فقد نهى النبي - صلى الله عليه وسلم - عن ثمنه. قوله [وإن استولى على حر لم يضمنه] فإذا استولى رجل على حر أي اغتصبه سواء كان هذا الحر صغيرا أو كبيرا فإنه لا يضمن، فلو مات عنده بغير سبب منه كأن يموت بمرض أو نحوه فلا ضمان عليه، لكن لو مات بسبب حبس له في موضع احترق أو أصيب هذا الموضع بصاعقة فإنه يضمن. فإن قيل: لم لا يضمن الحر مع أن العبد يضمن؟ فلو أن رجلا اغتصب عبدا فمات العبد ميتة لا سبب للغاصب فيها فإنه يضمن، لأن يده يد متعدية فيثبت عليها الضمان، وأما الحر فلا يضمن، فالجواب: أن الحر ليس بمال بخلاف العبد الرقيق فإنه مال مقوم، وأما الحر فليس بمال، إذن إن استولى على حر لم يضمنه، إلا أن يباشر ذلك. فإن اغتصب دابة وعليها مالكها؟ فالمشهور من المذهب انه لا ضمان عليه في الدابة لو تلفت، لأنها تحت يد مالكها، ومالكها لا ضمان عليه فهي تبع له، والقول الثاني في المذهب أن الضمان يثبت واختاره الشيخ عبد الرحمن بن سعدي وهو القول الراجح، وذلك لأننا إنما استثنينا الحر لأنه ليس بمال، وأما هنا فقد تبعه ما هو مال، فإن هذا الرجل قد اغتصب هذه الدابة وهي مال، فحينئذ عليه ضمانها، وأما مالكها فلا ضمان عليه فيه لأنه حر، وهذا القول هو الراجح. قوله [وإن استعمله كرها أو حبسه فعليه أجرته]

إن اغتصب هذا الحر واستعمله في مهنة ونحو ذلك فعليه أجرته، وذلك لأنه استوفى منفعته، والمنفعة لها عوض فوجب العوض، وكذلك إذا حبسه ولم يكرهه على عمل لكنه حبسه في دار أو نحو ذلك ففوت عليه منافعه فعليه أجرة المثل لأنه فوت عليه منافعه، والمنافع لها أجرة، فإن منعه العمل ولم يحبسه ولم يغصبه لكنه منعه من العمل بغير وجه حق، فهل يثبت الضمان أم لا؟ المشهور من المذهب أنه لا ضمان عليه، وقال صاحب الفروع:" يتوجه: بلى " أي عليه ضمان، وصوبه صاحب الإنصاف، وهذا القول هو الراجح، وذلك لأنه بمنعه قد فوت عليه منافعه فيجب عليه أجرة المثل. قوله [ويلزم رد المغصوب بزيادته وإن غرم أضعافه] فيلزم رد المغصوب بزيادته المتصلة والمنفصلة، كأن يغتصب عبدا فيعمله الكتابة أو يغتصب دابة فيسمنها فذه زيادة متصلة، ومثال الزيادة المنفصلة، كأن يغتصب بهائم فتنتج أو تلد فحينئذ تتبعها أولادها ونتاجها وتكون كلها للمغصوب منه، كذلك إذا سرق منه رقيقا فعلمه صنعة من الصنائع فيجب عليه رده، ولا يستحق شيئا على هذا التعليم بل يكون العبد بصفته ملكا للمسروق منه، وذلك لأن هذه الزيادة هي نما ملك المغصوب، ويجب عليه الرد لقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: (ومن أخذ عصا أخيه بغير حق فليردها) وغير هذا من الأدلة التي تدل على وجوب ذلك، وعليه أن يردها ولو خسر أضعافها، مثال ذلك: إذا اغتصب عبدا، فأبق العبد فيجب عليه أن يرد المغصوب وإن خسر أموالا كثيرة لرده، وذلك لقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: (على اليد ما أخذت حتى تؤديه) قوله [وإن بنى في الأرض أو غرس لزمه القلع، وأرش نقصها، وتسويتها والأجرة] مثاله: رجل بنى في أرض غيره، أو غرس نخلا أو شجرا في أرض غيره فما الحكم؟

يقول المؤلف هنا: لزمه القلع، ودليل هذا ما ثبت في سنن أبي داود بإسناد حسن والحديث صحيح لغيره عن عروة بن الزبير عن رجل من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - أن رجلين اختصما إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، غرس أحدهما نخلا في أرض الآخر فقضى لصاحب الأرض بأرضه وأمر صاحب النخل أن يخرج نخله، وقال - صلى الله عليه وسلم -: (ليس لعرق ظالم حق) [د 9073] إذن يجب عليه أن يقع هذه النخيل ويهدم هذا البناء، هذا أولا، وثانيا: يجب عليه أرش نقصها، فعندما يغرس في هذه الأرض فقد يسبب هذا الغرس نقصا في الأرض، كأن يؤثر فيما تنتجه الأرض من زراعة ونحوها، فحينئذ له أرش نقصها، فتقوم هذه الأرض قبل أن يحصل فيها هذا البناء، وقيل أن يحصل فيها هذا الغرس، ثم يقوم بعد أن حصل فيها الغرس والبناء، ثم ينظر الفارق بينهما فيدفعه الغاصب إلى المغصوب منه، وثالثا: يجب عليه أن يسوي الأرض وأن يصلحها بعد أن حصل فيها من الحفر ونحو ذلك، بسبب هذا الغرس، وهذا البناء، فيجب عليه أن يسويها، ورابعا: يجب أجرة الأرض هذه المدة، لأنه فوت على صاحب الأرض الانتفاع بها هذه المدة، وما ذكره المؤلف في الغرس، لكن لو اغتصب أرضا فزرعها فما حكم ذلك؟

قال الجمهور يجب القلع، وإن كان حصد الزرع فله الزرع وعليه الأجرة، كالغرس أي قياسا على الغرس، وأما الحنابلة فقد فصلوا في هذه المسألة، فقالوا في المشهور عندهم إن كان لم يحصد بعد فنقول للمالك أنت مخير إن شئت أن تترك له ما زرع حتى يحصل ولك الأجرة، وإن شئت أن تأخذ الزرع وتعطيه النفقة، أي ما أنفقه على هذا الزرع، فتعطي الغاصب نفقته، ويكون الزرع ملكا لصحاب الأرض، أما إن كان الزرع قد حصد فوافقوا الجمهور، وقالوا: إن كان الزرع قد حصد فللغاصب ما حصده من الزرع، وعليه الأجرة، وعن الإمام أحمد وهو اختيار ابن عقيل من الحنابلة واختيار شيخ الإسلام ابن تيمية أنه لا فرق بين ما إذا حصد الزرع وإذا لم يحصد، بل يكون ملكا لصحاب الأرض، وإن شاء أن يأخذ الأجرة فله ذلك، حتى ولو حصده هذا الغاصب فلصحاب الأرض أن يقول أريد الزرع ويعطيه النفقة، وهذا القول هو الراجح، ودليل ذلك ما رواه أحمد والترمذي وحسنه، ورواه ابن حاجة وأبو داود، وقد نقل الترمذي عن البخاري تحسينه واحتج به الإمام أحمد والحديث حسن بشواهده أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (من زرع بأرض قوم بغير إذنهم فليس له من الزرع شيء وله نفقته) [حم 15394، د 3403، ت 1366، جه 2466] والحديث عام في الزرع قبل حصاده وبعد حصاده. فإن قيل: ما الجواب عما ذكره الجمهور فقد قاسوا الزرع على الغرس؟ فالجواب: أنه قياس مع الفارق، وذلك لأن الغرس إذا قلع فلا إتلاف، وأما الزرع فإذا قلع فإنه يتلف، وقد أمكننا أن نرد إلى المغصوب حقه بغير إتلاف لمال الغاصب. قوله [ولو غصب جارحا أو عبدا أو فرسا فحصل بذلك صيد فلمالكه]

مثاله: رجل اغتصب جراحا كصقر مثلا، أو اغتصب عبدا أو فرسا فحصل بذلك صيدا فلمالكه، أي فالصيد يكون لمالكه، وهو المغصوب منه، لأنه حصل بسبب ملكه، وقال شيخ الإسلام:" يتوجه أنه إذا اغتصب فرسا فصاد به يتوجه أن يكون الكسب بين الغاصب وبين المغصوب منه بقدر نفعهما " فتقوم منفعة راكب بالفرس وهو الغاصب، وتقوم منفعة المركوب وهو الفرس، ويكون الكسب وهو الصيد بينهما، وهذا هو القول العدل في هذه المسألة. وإذا كان الصيد على فرس ونحوه فإن للراكب دورا كبيرا أكثر من دوره فيما لو كان الصيد بجارح كصقر ونحوه، وقد يقال في المسألة السابقة الني تقدم ذكرها، فيما إذا علم العبد ونحوه فإن له نصيبه من ذلك وأن هذا هو العدل، فقد يخرج هذا على التوجيه الذي ذكره شيخ الإسلام. قوله [وإن ضرب المصوغ] أي اغتصب حليا أو اغتصب ذهبا فجعله دراهم ودنانير. قوله [ونسيج الغزل] إذا اغتصب غزلا فنسجه، فأصبح منسوجا بعد أن كان غزلا. قوله [أو قصر الثوب أو صبغه] إذا قصر الثوب أي غسله أو صبغه أي عمل فيه من صبغ ونحوه. قوله [ونجر الخشب ونحوه] فأصبحت الأخشاب التي قد اغتصبت أبوابا مثلا، أو أحال الحديد إلى مواد أخرى من آلات ونحوها فما الحكم؟ قالوا: يرده وأرش نقصه، فنقول له رد الأبواب ورد الثياب بصبغتها، ويرد هذا الذهب بضربه، ويرد الغزل بنسجه مع الأرش، ووجه شيخ الإسلام ما تقدم، بل عن الإمام أحمد أنه يكون شريكا له في منافعه، وذلك لأن المنافع تجري مجرى الأعيان، وهذا القول هو الراجح، وهو القول الذي تقدم تقريره، وعلى القول الذي ذهب إله الحنابلة: إن قال أريد منك أن تعبد هذه الأبواب ويرجع خشبي، فهل يلزم بذلك أم لا؟

قالوا: يلزمه ذلك إن كان للمغصوب منه في ذلك غرض صحيح، فإن لم يكن له غرض صحيح فلا، فإذا كان له غرض صحيح كأن يريد هذه الأخشاب لأمر مهم له، وأحيلت إلى أبواب لا نفع له بها، فحينئذ يلزم، فإن لم يكن هناك غرض صحيح فلا، وذلك لأنا إذا ألزمناه مع عدم وجود الغرض الصحيح فإن في ذلك نزاعا وشقاقا، والواجب قطع النزاع والشقاق. ومثل هذا في مسألة الغرس، فلو غرس نخلا، وقال للمغصوب منه أريد أن أهلك هذه النخيل مكان أن أقلعها فهل يلزم بقول هذه الهبة؟ فيه تفصيل: فإن كان له غرض صحيح في قلعها وإزالتها فله ألا يقبل، وإن لم يكن له غرض صحيح فإنه يلزم بقبول الهبة قطعا للنزاع، ومثال الغرض الصحيح أن يبني هذا الغاصب فيها بناء، والمغصوب منه يريد زراعتها ولا حاجة له في هذا البناء، وقد وهبه هذا البناء فإنه لا يلزم بقبوله. قوله [أو صار الحب زرعا] اغتصب حبا، فبذره فأصبح هذا الحب زرعا. قوله [والبيضة فرخا] اغتصب بيضا فأصبح الآن فرخا. قوله [أو النوى غرسا] اغتصب نوى تمر ثم غرسه فأصبح الآن نخلا، فما الحكم؟ قوله [رده وأرش نقصه ولا شيء للغاصب] فيرد هذا النوى نخلا، ويرد هذه البيضة دجاجة أو فرخا، ويرد هذا الحب وإن كان زرعا، وإن كان من نقص فإنه يرد أرش النقص، ولا شيء للغاصب، واختار الشيخ عبد الرحمن بن سعدي أنه في مثل هذه المسألة يضمنها كما لو تلفت فيرد ضمانها كما لو تلفت، بمعنى أنها في مثل هذه المسال قد استحالت إلى عين أخرى غير العين التي اغتصبها، وعليه فلا يردها وإنما يضمنها ضمان المتلفات، وعليه فيرد إليه حبا آخر مكان هذا الحب الذي اغتصبه، وهذا هو القول الراجح، وذلك لأنها قد استحالت إلى عين أخرى، وحينئذ فالعدل هذا. قوله [ويلزمه ضمان نقصه]

إن غصب دابة مثلا وكانت تساوي ألف ريال، فردها إلى المغصوب منه وهي لا تساوي إلا تسعمائة ريال فعليه ضمان النقص، وهو هنا يساوي مائة ريال، فإذا كان المغصوب قد نقص عند رد الغاصب له فإنه يقوم صحيحا ويقوم ناقصا وينظر الفارق يسنهما وهو الأرش فيجب على الغاصب ضمانه، وذلك لأنه نقص حصل في يده فكان عليه ضمانه، وقد تقدم أن يد الغاصب متعدية فعليها الضمان، والمسائل الآتية مبينة على القاعدة السابقة أي قاعدة تضمين الغاصب. قوله [وإن خصى الرقيق رده مع قيمته] وكذلك إذا قطع يديه أو نحو ذلك، فما تثبت فيه دية كاملة فيجب عليه أن يعطي قيمته ويرده. قوله [وما نقص بسعر لم يضمن] مثال هذا: اغتصب منه عقارا يساوي عند الاغتصاب مائة ألف ريال، فرده وهو لا يساوي إلا خمسين ألف ريال، فهل يضمن هذا الفارق أم لا؟ قال المؤلف: لا يضمن، قالوا: لأنه قد رده على ما هو عليه بلا نقص، فالعقار على ما هو عليه، فلا ضمان، وعن الإمام أحمد وهو اختيار شيخ الإسلام وهو اختيار الشيخ عبد الرحمن بن سعدي وهو القول الراجح في هذه المسألة أن الضمان واجب، وذلك لأنه قد فوت عليه الفارق بين السعرين، بين سعره وقت الغصب، وبين سعره وقت الرد، وليس من العدل ألا يضمن شيئا قد اغتصبه زمنا ثم رده في زمن آخر، أضف إلى هذا أن الصفات إنما تقصد لقيمتها، فإذا كان النقص في الصفات مؤثرا فكذلك النقص في القيمة مؤثر. قوله [ولا بمرض عاد ببرئه]

ذا اغصب عبدا، فمرض العبد ثم بريء فإذا رده فلا ضمان، فمثلا اغتصب عبدا وهو يساوي مائة ألف، ثم مرض فأصبح يساوي تسعين ألفا، ثم شفي من مرضه فأصبح يساوي مائة ألف، فلا ضمان عليه لزوال موجب الضمان، والمذهب أن الضمان يستقر بالرد، فإذا اغتصب عبدا يساوي مائة ألف فمرض فرد هذا العبد مريضا لا يساوي إلا تسعين ألفا فعليه عشرة آلاف، فإذا شفي العبد بعد ذلك فإن هذه العشرة آلاف تبقى للمغصوب منه سواء كان قد أخذها مع الرد أو لم قد أخذها بل قد تعلقت في ذمة الغاصب، والراجح خلاف هذا لزوال موجب الضمان، فإن موجب الضمان هو النقص، وقد زال هذا النقص، إلا أن يكون زوال النقص بفعل من المغصوب منه كأن يشتغل بمداواته ونحو ذلك فهذه مسألة أخرى، فإن زوال هذا النقص قد حصل بمعالجة من المغصوب منه، أما إذا لم يكن كذلك فإن الضمان يزول بزوال موجبه، وهو قول بعض الحنابلة خلافا للمشهور من المذهب. قوله [وإن عاد بتعلم صنعة ضمن النقص] إذا عاد النقص بتعليم صنعة ضمن النقص، مثال هذا: غصب عبدا يساوي عشرة آلاف، فأصاب هذا الرقيق بهزال ببدنه، فأصبح لا يساوي إلا تسعة آلاف فعلمه صفة تساوي ألفا فأصبح الرقيق يساوي عشرة آلاف فإنه يضمن النقص، وذلك لأن هذه الزيادة قد حصلت من جهة أخرى، فإن النقص الذي فيه وهو الهزال لم يزل، فلم يزل ناقصا من هذه الجهة، وهذا النقص قد حصل في يد الغاصب فكان الضمان عليه، وهذه الزيادة التي قد جبرت هذا النقص إنما هي مع بقاء النقص، فإذن موجب الضمان وهو النقص باق وحينئذ فتعليمه للصنعة ونحوها لا يزيل موجب الضمان فيجب عليه الضمان. قوله [وإن تعلم أو سمن فزادت قيمته ثم نسي أو هزل فنقصت ضمن الزيادة]

صورة هذه المسألة: اغتصبه وهو لا يساوي إلا ألف ريال هزيلا جاهلا، فعلمه فأبح عالما في صنعة من الصنائع، وأطعمه فسمن فأصبح بعد أن كان يساوي ألفا أصبح يساوي عشرة آلاف، ثم نسي العلم وهزل فأعاده هزيلا جاهلا فعليه الضمان، فنقومه وهو صانع سمين ثم نقومه بعد أن أصبح هزيلا جاهلا ثم يعطى المغصوب منه الفارق بينهما، وذلك لأن هذه الزيادة قد زادت في ملك المغصوب منه، فهذا الغاصب يده يد متعدية فحينئذ إذا زالت فعليه الضمان. قوله [كما لو عادت من غير جنس الأول] أي كما لو عادت الزيادة لكن من غير جنس الأول، كما تقدم في المسألة السابقة، فهذا لمسألة تكرار للمسألة السابقة وهي قوله (وإن عاد بتعليم صنعة ضمن النقص) قوله [ومن جنسها لا يضمن إلا أكثرهما] فإن كان من جنسها فلا ضمان إلا أن تكون إحدى الصفتين أكثر من الصفة الأخرى، وبيان هذا: إذا اغتصب عبدا وهو يتقن صنعة الحدادة مثلا، فعلمه النجارة، وأنساه الحدادة، وأصبح لا يتقن الحدادة وإنما يتقن النجارة، فحينئذ لا ضمان، وذلك لأن هذا النقص قد جبره بتعليمه النجارة فلا ضمان، إلا أن تكون الصفة التي قد فوتها عليه أفضل وأعلى من الصفة التي علمه إياها هذا الغاصب، فيجب الفارق حينئذ، كأن تكون إحدى الصنعتين تساوي فيه ألفا، والأخرى تساوي فيه خمسمائة، فيجب له الفارق أي للمغصوب منه.

* وإن جنى الغاصب على المغصوب جناية، فحينئذ عليه أكثر الأمرين من أرش الجناية والنقص، مثال هذا: إذا اغتصب عبدا، وجنى عليه جناية، وهذه الجناية أنقصت قيمة العبد فأصبح العبد بعد أن كان يساوي عشرة آلاف أصبح يساوي تسعة آلاف، فهنا لضمان النقص ألف درهم، والجناية تساوي مثلا ألفين، فإنه يجب عليه ضمان ألفين أرش الجناية لأنه هو الأكثر، وإن كان أرش الجناية لا يساوي إلا ألفا، لكنا قومنا العبد ووجدنا أن الأرش ألفين، فحينئذ يجب عليه الأرش، وذلك مثلا في السيارة، إذا اغتصب سيارة وصار فيها حادث فأعادها، وقدرنا القيمة التي تصلح فيها هذه السيارة فوجدناها ألف درهم، ثم قدرنا قيمة السيارة فوجدناها بعد أن كان تساوي عشرة آلاف أصبحت تساوي خمسة آلاف، فنضمنه أكثر الأمرين وهو خمسة آلاف، وذلك لأنه قد وجد سبب الأمرين كليهما، فسبب أرش الجناية موجود وهو الجناية، وسبب ضمان النقص موجود وهو هذا الفارق بين ثمنه الحقيقي وثمنه بعد رده، فما وجد سبب كل منهما ضمناه أعلاهما لدخول أقلهما في أعلاهما. ** وإن جنى العبد عند الغاصب فهل يكون أرش جنايته على سيده الذي قد اغتصب منه أو يجب على هذا الغاصب؟ الجواب: يجب على الغاصب، وذلك لأن الجناية نقص، وقد تعلق هذا النقص برقبة العبد، فكان كسائر أحوال النقص التي تقدم ذكر شيء منها. فصل قوله [وإن خلط بما لا يتميز كزيت أو حنطة بمثلهما...... فهما شريكان بقدر ماليهما فيه]

إذ غصب زيتا فخلطه بزيت، أو غصب حنطة فخلطها بحنطة ونحو ذلك، فقال المؤلف (فهما شريكان بقدر ماليهما فيه) فيباع الزيت، ويعطى كل واحد منهما قدر نصيبه من الزيت مالا، فإذا كان لكل واحد فيها النصف، فبيع بألف درهم فلكل من الغاصب والمغصوب منه خمسمائة درهم، ظاهر كلام المؤلف أن ذلك مطلقا، سواء كان زيت الغاصب أفضل من زيت المغصوب أو كان مثله أو كان دونه، وهذا قول في المذهب، والمشهور في المذهب أن على الغاصب مثله إن كان المختلط مثله مساويا له، بمعنى: خلط الغاصب زيته بزيت المغصوب منه، وزيت المعصوب يماثل زيت الغاصب في القيمة، كأن يأخذ منه كذا وكذا من الزيت، فيجب على الغاصب أن يعطي المغصوب منه هذا القدر الذي اغتصبه منه، وهذا هو الظاهر وذلك لأن المثل أولى من البدل، بخلاف ما إذا كان أفضل منه أو دون فإنا لا نأخذ من هذا المختلط مثله، لأن مال الغاصب في المسألة الأولى أفضل من مال المغصوب منه، وفي المسألة الثانية مال المغصوب منه أفضل من مال الغاصب، فلم نأخذ من المختلط مثله. قوله [أو صبغ الثوب أو لت سويقا بدهن أو عكسه ….. فهما شريكان بقدر ماليهما فيه] إذا غصب ثوبا فصبغه وكذلك إذا اغتصب سويقا ثم لته بدهن، فالدهن له، والسويق مغصوب، وعكسه كذلك، فإذا كان السويق له، والدهن مغصوب أو الصبغ مغصوب والثوب له، فهما شريكان بقدر ماليهما فيه، لأن الاجتماع في الملك يقتضي التشريك فيه، فهذا له غين، وهذا له عين أخرى، فالغاصب له الصبغ، والمغصوب منه له الثوب، والعكس بالعكس، كذلك السويق للغاصب والدهن للمغصوب، فاجتمعا في الملكين بما يقتضي اجتماعهما في التشريك فكانا شريكين. قوله [ولم تنقص القيمة ولم تزد]

فإذا بعنا هذا الثوب المصبوغ، فالصبغ مال الغاصب، والثوب مال المغصوب منه، فكان ثمنه عشرة دراهم، وقيمة الثوب في الأصل خمسة دراهم، والصبغ قيمتها خمسة دراهم أيضا فحينئذ لم يزد ولم ينقص، فنعطي المغصوب خمسة دراهم قيمة الثوب، ونعطي الغاصب خمسة دراهم قيمة صبغه. قوله [وإن نقصت القيمة ضمنها] فإن كان الثوب بعد الصبغ أقل منه قيمة قبل الصبغ فكانت قيمته خمسة دراهم فأصبح أربعة دراهم فإنه يضمن هذا الدرهم، فإذا نقصت قيمة هذا الشيء المغصوب بعد خلطه بهذا الشيء غير المتميز منه فالضمان على الغاصب، وذلك لأنه نقص حصل في يده فكان في ضمانه. قوله [وإن زادت قيمة أحدهما فلصحابه] أي لصاحب العين التي كانت الزيادة بسببها، فالثوب مثلا بعد أن صبغ أصبح يساوي خمسة عشر درهما، وقيمة الصبغ لا تساوي إلا خمسة دراهم، والثوب كان عند اغتصابه يساوي خمسة دراهم، لكن ارتفعت أسعار الثياب بعد ذلك فأصبح يساوي عشرة دارهم، فأصبح وهو مصبوغ يساوي خمسة عشر درهما، فهذه الزيادة حصلت بسبب الثوب، فتكون للمغصوب منه، لأنها حصلت بسبب ملكه، فإن كان الصبغ قيمته خمسة دراهم، لكنه كان صبغا حسنا فصار الثوب يساوي خمسة عشر درهما لارتفاع قيمة الصبغ أو نحو ذلك فحينئذ تكون هذه الزيادة للغاصب لأن هذا لسبب ملكه. وفي قول المؤلف (إن خلط بما لا يتميز) دليل على أن المسألة مختصة بهذا، وأنه إن خلط المغصوب بما يمكن تمييزه فيجب التمييز، والتمييز واجب على الغاصب فعليه أجرته، كأن يخلط حنطة بزبيب، ويمكننا أن نفصل هذا عن هذا، فإن التمييز واجب على الغاصب لأنه قد حصل بسببه. قوله [ولا يجبر من أبى قلع الصبغ] إذا اغتصب ثوبا فصبغه، فهل يجبر المالك على قلع الصبغ من ثوبه إن أراد الغاصب قلعه، أو هل يجبر الغاصب على قلع الصبغ إن قال له المغصوب منه: اقلع صبغك؟

الجواب: قال المؤلف: لا يجبر، وذلك لما يترتب من الإتلاف في ماله، فإن صاحب الصبغ إذا أجبر على قلع الصبغ تلف ماله، كما أن صاحب الملك إذا اجبر على قلع الصبغ تلف ماله، وكما تقدم في الزرع وأنه لا يقلع لأنه يتلف على الغاصب ماله فكذلك هنا. قوله [ولو قلع غرس المشتري أو بناؤه لاستحقاق الأرض رجع على بائعها بالغرامة] صورة هذه المسألة: إذا باع رجل على آخر أرضا، وكان قد اغتصبها، فباعها عليه بيعا صحيحا في الظاهر، فبنى فيها المشتري بيتا أو وضع فيها غرسا أو نحو ذلك ثم ردت هذه الأرض المغصوبة إلى مالكها الأصلي فقلع على المشتري بناؤه وغرسه فالضمان على البائع الغاصب، وذلك لأنه تلف في مال الغير حصل بسببه فقد غرر به، وأوهمه أن الأرض ملك له. لكن لو كان المشتري يعلم أنها مغصوبة فلا ضمان على الغاصب، لأنه قد دخل على بصيرة فلم يغرر به ولم يوهمه، فهو يعلم أنه لا يجوز له أني تصرف بها، ومع ذلك قبل البيع، وقوله (لاستحقاق الأرض) أي بأن كانت الأرض مستحقة لغير البائع. قوله [وإن أطعمه لعالم بغصبه فالضمان عليه وعكسه بعكسه] إذا أطعم رجلا طعاما، وكان هذا الرجل يعلم أنه مغصوب، فلا ضمان على الغاصب بل الضمان على الآكل، وذلك لأنه أتلف مال غيره بعلم، فإذا اغتصب رجل مثلا، فأطعم أولاده هذا الغصب فأكلوه وهم مكلفون يقع على مثلهم التضمين، أو غير مكلفين ولهم مال فالضمان عليهم فيما طعموا، وذلك لأنهم قد طعموا وهم يعلمون أن هذا غصب، وقوله (وعكسه بعكسه) أي إذا أطعمه لغير عالم بالغصب فالضمان على الغاصب لأنه قد غرر به وأوهمه. قوله [وإن أطعمه لمالكه أو رهنه أو أودعه أو أجره إياه لم يبرأ إلا أن يعلم ويبرأ بإعارته]

قوله (إن أطعمه لمالكه) كأن يغتصب منه شاة فيطعمه إياها فحينئذ لا يبرأ، وذلك لأن المالك لا يتصرف به كما شاء، فهو لا يتصرف به باختياره، بل يتصرف على الوجه الذي دفع إليه وهو الطعم، ومثل ذلك إذا وهبه إياه فلا يبرأ بذلك، ولما فيه من المنة، وربما كافأه على هذه الهدية وهي في الحقيقة غصب، فلم يبرأ بذلك، لكن إن خشي ضررا بإرجاعه إليه ورده إليه ردا صريحا كأن يعاقب بما لا يستحق شرعا، فله حينئذ أن يهديه إياه وأن يهبه إياه دفعا للضرر كما قرر ذلك ابن القيم. وقوله (أو أودعه إياه) إذا أودعه إياه فحصل له تلف فإنه لا يبرأ - أي الغاصب - كأن يقول: خذ هذه المائة ألف - وقد اغتصبها منه - يقول: خذها وديعة عندك، فتلفت فلا يبرأ الغاصب من ذلك، لأنه لم يعطه إياها على أنها ملكه، والواجب أن يرد الشيء إليه على أنه ملك له، ولأن الوديعة لا ضمان فيها، فإن المودع لا يضمن، فحينئذ لا يندفع ضمان الغاصب بشيء، بخلاف ما ذكره المؤلف من قوله بعد ذلك (ويبرأ بإعارته) فإن المذهب على أن العارية مضمونة، فحينئذ لا فائدة من إبقائنا على تضمين الغاصب مع أننا نضمن المستعير، فالمستعير ضامن لهذه السلعة المغتصبة منه لأنها عارية، والعارية مضمونة، فإذا قلنا للغاصب: أنت ضامن، وقلنا للمستعير وهو المغصوب منه أنت ضامن فلا فائدة، لأن الغاصب إذا ضمناه رجع إلى المستعير وهو المالك. وهذا على التسليم به، فإنه مبني على المذهب المرجوح الذي تقدم وهو أن العارية مضمونة، والصحيح عدم ضمانها، فإن شرط المعير ضمان العارية، فلا يتوجه أي فلا يتوجه أن تبرأ ذمة الغاصب بذلك، وذلك لأنه لم يرجعها إليه على أنها ملك له، فما زالت يد الغاصب عليها، وهو قد أخذها على أنها عارية فواجب عليه ضمانها بالشرط المتقدم، لكن هنا نقول: في الشرط هنا شيء من النظر، وذلك لأنه ضمن على ماله، وشورط على ماله، وهذا شرط بغير حق.

وقوله (أو آجره إياه) كذلك إذا آجره إياه لا يبرأ، وذلك كما تقدم في الوديعة، لأن العين المؤجرة في يد المستأجر غير مضمونة، فحينئذ الضمان الواجب على الغاصب ما زال باقيا غير مدفوع. * وهنا إشكال، في قول المؤلف (وصبغ الثوب........ إلى أن قال: فهما شريكان بقدر ماليهما) وقد تقدم قوله في أول باب الغصب (أو صبغه فلا شيء للغاصب) وقد تقدم أن اختيار شيخ الإسلام في المسألة السابقة أنهما شريكان فالصبغ يكون المالك له شريكا به، وهنا كذلك كما هو مقرر هنا، بينما هناك أدخلها المؤلف مع تغسيل الثوب ونسج الغزل، وهل بينهما تعارض؟؟ الجواب: الذي يظهر أن بينهما تعارضا، وأن المسألة الأولى وهم من المؤلف، فإن صاحب المقنع لم يذكر صبغه، وهو أصل هذا الكتاب، وشيخ الإسلام لما استدل على أنه يكون شريكا للمالك في هذه المسائل التي أوهم المؤلف في إدخال الصبغ منها: احتج عليهم بالصبغ، وقال: كالصبغ، وفرق الموفق رحمه الله بين الصبغ وغيره من المسائل المتقدمة،بأن الصبغ عين ولذا تقدم أنها منافع، والمنافع تجرى مجرى الأعيان، والصبغ ليس بمنفعة، وإنما هو عين. قوله [وما تلف أو تغيب من مغصوب مثلي غرم مثله إذا] إذا تلف المغصوب أو أتلف أو تغيب كجمل يشرد مثلا فيجب ضمان مثله إن مثليا، والمشهور في مذهب الحنابلة أن المثلي هو المكيل أو الموزون مما ليس فيه صناعة مباحة، ويصح سلما، فالمكيلات كالبر مثلا، فإذا غصب منه مائة صاع من البر الجيد فيضمن الغاصب مائة صاع من البر الجيد، والموزونات كالحديد، فإذا غصب منه كذا وكذا رطلا من الحديد فإذا تلفت فيجب على الغاصب أن يدفع له قدرها من الحديد. وقولنا " مما ليس فيه صناعة مباحة " فإن كانت فيه صناعة مباحة فليس بمثلي كالحلي مثلا، فإذا غصب منه حليا، فإن هذا الذهب المصوغ لا يضمن بمثله، بل بقيمته، فتقدر قيمة هذا الحلي ويدفعها له هذا الغاصب.

وقولنا " ويصح سلما " فإن لم يصح سلما كالجواهر واللؤلؤ ونحوها كما تقدم في باب السلم فليست بمثلية، وعليه فضمانها يكون بضمان قيمتها، وعليه فإذا غصب منه ما ليس بمكيل ولا موزون أو فيه صناعة مباحة أو لا يصح سلما فإذا تلف فإنه يضمن قيمته، ومثله أن يغصب منه طعاما مطبوخا أو طعاما معدودا لا مكيلا ولا موزونا كما يكون في بعض الفواكه، أو أن يغصب منه أرضا أو أثاثا أو متاعا أو نحو ذلك، ومذهب الشافعية أن كل ما له مثل فإنه يضمن كذلك، أي يضمن بمثله، سواء كان مكيلا أو موزونا أو لم يكن كذلك، وهو اختيار شيخ الإسلام وتلميذه ابن القيم، وبه يجتمع الأمران، فيحصل المقصود للمغصوب منه بحصوله على مثلي ما غصب منه وأيضا القيمة فيه، ويدل على هذا ما ثبت في صحيح البخاري أن النبي - صلى الله عليه وسلم - (كان عند بعض نسائه - وفي الترمذي أنها عائشة - فأرسلت إحدى أمهات المؤمنين - وفي بعض الروايات أنها زينب - بقصعة فيها طعام، فضربت بيدها فكسره القصعة - وفي رواية أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: غارت أمكم، فضمها النبي - صلى الله عليه وسلم - وجعل الطعام فيها، وقال: كلوا ودفع القصعة الصحيحة للرسول وحبس القصعة المكسورة) [خ 2481، ت 1359، ن 3955] وفي الترمذي قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: (طعام بطعام وإناء بإناء) [ت 1359] فالطعام هنا فيه صنعة، والإناء ليس بمكيل ولا موزون، ومع ذلك فقد أثبت النبي - صلى الله عليه وسلم - فيه الضمان. قوله [وإلا فقيمته يوم تعذره]

فإذا كان هذا المغصوب له مثلي لكنه متعذر وقد أعوز الغاصب أن يأتي بمثله، كأن يغصب منه طعاما مكيلا ولا يتوفر هذا الطعام في تلك البلاد، فإنه يضمن قيمته يوم تعذره، فإذا كان تعذره في الأسواق في شهر كذا فينظر قيمته يومئذ، ويعطيها الغاصب للمغصوب منه، قالوا: لأنه إنما وجب في ذمة الغاصب حينئذ أي حين انقطاع هذا المثلي أو تعذره، وهذا هو المشهور من المذهب، وهو إحدى الروايات الثلاث عن الإمام أحمد، والرواية الثانية: أنه تجب عليه قيمته يوم حكم الحاكم أي عند المحاكمة، فإذا حكم الحاكم في آخر الشهر بأن عله المثلي، فكان المثلي متعذرا ففي هذا اليوم يتعلق في ذمته قيمة المثلي، وهذا هو مذهب جمهور العلماء، قالوا: لأنه إنما وجبت القيمة في ذمته عند حكم الحاكم، والرواية الثالثة عن الإمام أحمد واختارها شيخ الإسلام أنه تجب عليه القيمة يوم غصبه، وهي أصح الروايات الثلاث، فالقول الراجح ما اختاره شيخ الإسلام، وأنه إن كان الواجب عليه مثله لكن المثل متعذر فتجب عليه قيمته يوم غصبه، وذلك لأنه قد أتلفه على المغصوب منه حقيقة يوم غصبه، وإنما أوجبنا المثل لأن المثل بدل عن المغصوب، فحيث تعذر المثل فإننا نرجع إلى الأصل، والأصل قد أتلف عليه بالاغتصاب، وهذا هو القول الراجح في هذه المسألة. قوله [ويضمن غير المثلي بقيمته يوم تلفه] وغير المثلي في المذهب ما ليس بمكيل ولا موزون أو كان مكيلا أو موزونا لكن فيه صنعة مباحة كالحلي من الذهب، أو لا يصح سلما كالجوهر واللؤلؤ، فيكون ضمانه بقيمته إذ لا مثل له، وقد تقدم القول الراجح وهو عدم تخصيص المثلي بما ذكره الحنابلة، بل كل ما ليس له مثل فهو داخل في هذا، وما كان له مثل فهو داخل في المسألة السابقة، سواء كان مكيلا أو موزونا أو غير ذلك.

وقوله (يوم تلفه) إذ الضمان يكون بقيمته يوم التلف، فعندما يغصب منه شيئا لا مثل له كجوهر ونحو ذلك، فإذا غصبها منه في شهر محرم، ثم تلفت على الغاصب في آخر شهر ذي الحجة، وكانت قيمتها يوم غصبها عشرة آلاف، وقيمتها يوم تلفها عشرون ألفا فهل نوجب عليه ضمانها يوم تلفها أو يوم غصبها؟ قولان لأهل العلم: القول الأول: وهو المشهور في المذهب أنه يضمنها يوم تلفها، وعللوا قولهم هذا بأن الواجب عليه رد هذه العين قبل تلفها، وإنما وجبت عليه القيمة يوم تلفها وإلا فالواجب أن يرد عينها. القول الثاني: وهو قول الجمهور وهو اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية وهو رواية عن الإمام أحمد أن الواجب عليه قيمتها يوم غصبها، وذلك لأنه قد أتلفها عليه حينئذ، فباغتصابها أتلفها عليه، وفوت الانتفاع بها عليه، وكونه يجب عليه أن يردها قبل تلفها لا يعني أن تكون القيمة بدلا عنها في ذلك اليوم، فقد كان واجبا عليه أن يرد عينها لأن هذه العين هي عين مال هذا الرجل، لكن لما أتلفها وهي في يده فرجعنا حينئذ إلى الأصل، ولما تقدن في مسألة سابقة، تقدم ترجيحها خلافا للمذهب من أن النقص في السعر مضمون، فإذا كانت السلعة تساوي عشرة آلاف يوم اغتصابها ثم ردها وقد نقص سعرها فإنه يضمن الفارق كما تقدم ترجيحه، فالراجح مذهب الجمهور وهو اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية. قوله [وإن تخمر عصير فالمثل] مثاله: غصب عصيرا فتخمر هذا العصير، فيجب عليه المثل، أي أن يدفع لهذا المغصوب منه عصيرا مثل عصيره، وذلك لأنه قد تعدى على هذا العصير بزوال ماليته، لأنه لما صار خمرا أصبح لا قيمة له، فليس بمال، فحينئذ يكون هذا الغاصب قد أزال مالية مال هذا الرجل فوجل عليه الضمان. قوله [فإن انقلب خلا دفعه ومعه نقص قيمته عصيرا]

إذا أصبح هذا العصير خلا لا خمرا، والخل مال، وله قيمة، فحينئذ يدفعه إلى المغصوب منه لأن الخل قد تحول من هذا العصير، والعصير مال المغصوب منه، وعليه فيدفعه إليه، فإن نقصت قيمته خلا، كأن يكون لما كان عصيرا يساوي ألفا، فلما صار خلا أصبح لا يساوي إلا تسعمائة فعليه أن يضمن الفارق فيدفع له مائة، وقال بعض الحنابلة وهو وجه عند الشافعية: إذا تحول إلى خل فإنه يكون للغاصب وعليه ضمان العصير لأنه قد استحال إلى عين أخرى، وتقدم نظير هذه المسألة فيما إذا صار الحب زرعا ونحو ذلك، واختيار الشيخ عبد الرحمن بن سعدي، وهنا كذلك، فالصحيح أنه إذا تخلل العصير فإن الخل يكون ملكا للغاصب وعليه ضمان العصير لأنه بالاستحالة قد أتلفه عليه فقد أصبح الآن خلا وليس بعصير فعليه الضمان. * مسألة: إذا غصب مما يؤجر في العادة، كأن يغصب منه دارا تؤجر في العادة، فعليه أجرتها في المدة التي اغتصبها فيها، سواء استوفى المنافع أم لم يستوفها، لأنه إذا استوفى المنافع فوجوب الأجرة عليه ظاهر، وإن لم يستوف المنافع فإنه قد فوت على صاحب الدار منافع داره، وهي تسحق الأجرة فكان عليه أجرتها. فصل قوله [وتصرفات الغاصب الحكمية باطلة] قوله (الحكمية) أي التي يحكم عليه بصحة أو فساد، كبيعه أو هبته ونحو ذلك، فتصرفات الغاصب الحكمية كلها باطلة، وذلك لأنه تصرف في ملك غير ملكه بلا إذن، وحينئذ فتكون في حكم تصرف الفضولي، وعليه فالراجح كما تقدم في مسألة تصرف الفضولي أنها موقوفة على الإجازة، فإذا أجاز المالك صحت وإلا فلا، فإذا اغتصب دارا فأجرها، ثم أرجعنا هذه العين وهي الدار إلا مالكها، وكان الغاصب تصرف فيها بإجارتها، فتصرف باطل إلا أن يجيزه المغصوب منه.

وقوله (الحكمية) احتراز من غير الحكمية كإتلافه المغصوب بأكله كما يكون في الطعام أو بإشعال شمعة ونحو ذلك، وهذه لا يحكم عليها بصحة أو فساد، وإنما يحكم عليها بحل أو حرمة. قوله [والقول في قيمة التالف أو قدر أو صفته قوله] أي قول الغاصب، وقوله (في قيمة التالف) مثاله: إذا اختلفا في قيمة التالف، فأحدهما يقول قيمته عشرة آلاف، والآخر يقول خمسة عشر ألفا، وقوله (أو قدره) مثاله: أن يقول: قد اغتصبت مني مائة صاع، ويقول الثاني: لم أغصب منك إلا خمسين صاعا، وقوله (أو صفته) كأن يقول: قد اغتصب مني عبدا كاتبا، ويقول الآخر: لم يكن العبد كاتبا بل كان أميا، فالقول في هذه المسائل قول الغاصب إلا ببينة، فإذا كان عند المغصوب منه بينة تدل على صدق قوله وإلا فالقول قول الغاصب، وذلك لأنه غارم منكر، والأصل براءة ذمته من هذا القدر الزائد، وأما الآخر فإنه مدعي، وعلى المدعي البينة، واليمين على من أنكر. قوله [وفي رده أو تعييبه قول ربه] إذا اختلفا في الرد فقال الغاصب: قد رددت، وقال المغصوب منه: بل لم يرد، وكذا إذا اختلفا في عيب كأن يقول الغاصب: قد اغتصبته معيبا، وقال المغصوب: اغتصبته صحيحا لا عيب فيه، فالقول هنا قول ربه، أي قول رب المغصوب، وهو المغصوب منه، لأن الأصل عدم الرد وعدم العيب. قوله [وإن جهل ربه تصدق به عنه مضمونا]

إذا غصب شيئا ثم جهل مالكه، ومثل هذا الودائع، فلو أن رجلا وضعت عنده وديعة أو عارية أو نحو ذلك، ثم جهل ربها، فحينئذ يتصدق به عنه مضمونا، فيتصدق بهذا الشيء المغصوب بنية الضمان، فمثلا: غصب من رجل عشرة آلاف أو وضع عنده رجل عشرة آلاف وديعة، ولم يدر ولم يهتد إلى صاحبها، فنقول: تصدق عنه بهذه العشرة آلاف بنية الضمان، بمعنى: إذا جاء المغصوب منه يوما أو عرفته واهتديت إليه أو جاءك هذا الودع أو اهتديت إليه فتقول: قد تصدقت بالوديعة أو بالعارية، أو تصدقت بما اغتصبته منك عنك، فإن شئت فالثواب لك، وإلا فخذ حقك مني والثواب لي، وحينئذ يكون المغصوب منه أو المودع أو المعير بالخيار، فإن شاء كان الثواب له، وإلا فإن الدافع لماله المتصدق به يكون عليه الضمان، فإن لم يرد الغاصب أو المودع ذلك، أي لم يرد أن يتصدق بها بنية الضمان فحينئذ يسلمها إلى الحاكم، ويجب على الحاكم تسلمها وقبولها، ويتصرف بها في مصالح المسلمين، وحينئذ تبرأ عهدة الدافع، إذن إن شاء سلمها إلى الحاكم وتبرأ حينئذ عهدته، وتكون في حكم الأموال الضائعة في بيت المال، تصرف في مصالح المسلمين، وإن شاء تصدق عنه بنية الضمان. قوله [ومن أتلف محترما..... ضمنه] من أتلف على رجل دابته أو متاعه أو غير ذلك فعليه الضمان، وذلك لأنه قد فوته عليه بالإتلاف، فكما لو غصبه فتلف عنده، فهذه مسائل ملحقة بالغصب، فهو لم يغصب هذا المال بل أتلفه عليه بغير إذن من صاحب المال فعلى المتلف الضمان. قوله [أو فتح قفصا أو باب أو حل وكاء] فإذا فتح قفصا عن طير أو بابا عن ماشية، أو حل وكاء أي رباطا، كأن يكون هناك سمن في وعاء فيحل الوكاء فيهراق على الأرض أو تتلفه الشمس فعلى من فعل ذلك الضمان. قوله [أو حل رباطا] كأن يكون هناك فرس قد ربط برباط، فيحل رباطه فيشرد الفرس فعليه الضمان. قوله [أو قيدا]

كأن يكون له عبد قد قيده خوفا من هربه فيأتي رجل فيفك قيده فعليه الضمان، لأنه قد أبق بسببه فتلف على صاحبه بسببه. قوله [فذهب ما فيه أو أتلف شيئا ونحوه ضمنه] فهذا باب واحد، فكل من أتلف على غيره شيئا أو تسبب بالإتلاف فعليه الضمان لأنه فوت على هذا ماله. قوله [ومن ربط دابة بطريق ضيق فعثر به إنسان ضمن] من ربط دابة في طريق ضيق فعثر بهذا الحبل إنسان فعليه الضمان، وذلك لأنه لما ربط هذه الدابة بهذا الحبل في هذا الطريق الضيق فإنه يكون متعديا بهذا الفعل فحينئذ يضمن. فإن كان الطريق واسعا فكلام المؤلف يدل على أنه لا يضمن، وقال بعض الحنابلة وهو الوجه الثاني في المذهب أن عليه الضمان، والذي يتبين أنه لا يضمن إلا مع الإضرار، فإذا كان الطريق واسعا وربط فيه شيئا مضرا بالسوق أو مضرا بالمارة فعليه الضمان، والقاعدة أن الضمان مع التعدي، فإذا كان الطريق واسعا فربط به شيئا بحيث يكون متعديا كأن يكون الطريق مزدحما بالناس، أو أن يكون في الليل بحيث لا يتبين للمارة هذا الحبل وليس من العادة وضع مثله فيتلف به إنسان ونحوه فالضمان على الواضع. قوله [كالكلب العقور لمن دخل بيته بإذنه، أو عقره خارج منزله] الكلب العقور هو الجارح، فمن أذن لرجل أن يدخل بيته وكان في بيته كلبا عقورا فجرح هذا الداخل فعلى صاحب الكلب العقور الضمان، لأنه لما أذن له بالدخول وفيه هذا الكلب العقور يكون حينئذ قد تعدى، كذلك إذا أفلته فعقر خارج المنزل فكذلك لأنه يكون متعديا، بخلاف ما إذا كان محبوسا في موضع كأن يكن محبوسا في البيت فدخل عليه هذا الرجل فلا إذن من صاحب الدار فعقره فلا ضمان، لأنه بدخوله بغير إذن يكون متعديا. قوله [وما أتلفت البهيمة من الزرع ليلا ضمنه صاحبها وعكسه النهار]

الأصل فيما تتلفه البهائم أنه هدر، لقول النبي - صلى الله عليه وسلم - في الحديث المتفق عليه: (العجماء جبار) [خ 1499، م 1710] أي هدر، والعجماء هي البهيمة. لكن إن أتلفت البهائم بالليل زرعا أو شجرا أو نحو ذلك كثياب ونحوها فحينئذ على مالكها الضمان، فهي وإن كانت جنايتها هدر لكن هنا تعد أو تفريط من مالكها، لأن الواجب على المالك حفظها بالليل، فإذا لم يحفظها بالليل فقد فرط، وما أفسدته بالنهار فلا ضمان ما لم يكن هناك تعد أو تفريط، كما سيأتي في بعض الصور، ودليل هذا ما رواه أبو داود والإمام مالك في موطئه والحاكم والبيهقي والحديث صحيح: (أن ناقة البراء بن عازب دخلت حائطا فأفسدت فيه، فقضى النبي - صلى الله عليه وسلم - أن على أهل الحوائط حفظها نهارا، وأن ما أفسدت المواشي بالليل فهو مضمون على أهلها) [حم 23179، د 3570، جه 2332، ك 1467، كم 2 / 55، هق 8 / 341] وهو قضاء سلميان - عليه الصلاة والسلام - المحكي في كتاب الله تعالى في قوله {إذ نفشت فيه غنم القوم وكنا لحكمهم شاهدين ففهمناها سليمان وكلا آتينا حكما وعلما} . وكذلك البئر جرحا جبار كما في الصحيحين أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (والبئر جبار) [خ 1499، م 1710] فالبئر هدر فإذا حفر بئرا في أرضه فوقه فيها إنسان فتلف فلا ضمان عليه، لكن إن حفرها متعديا بأن يحفر بموقع لا يؤذن له فيه، فحينئذ عليه الضمان لتعديه. قوله [إلا أن ترسل بقرب ما تتلفه عادة] أي إلا أن ترسل البهائم بقرب ما تتلفه عادة، فحينئذ يكون مالكها إما مفرطا أو متعديا، وعلى كلتا الحالتين يكون عليه الضمان لتعديه أو تفريطه، كأن يجعلها ترعى حول زروع الناس بحيث أنه لا يؤمن تعديها مع هذه الحال، فتعدت فيكون الضمان عليه. قوله [وإن كانت بيد قائد أو سائق ضمن جنايتها بمقدمها لا بمؤخرها]

إذا كان راكبا على ناقة مثلا فما أتلفت بفمها كأن تأكل زرعا أو ثمرا فعليه الضمان، لأنه مشرف عليها متمكن من منعها فإن لم يمنعها فقد فرط، وكذلك إذا أتلفت بيدها فعليه الضمان لأنه مفرط، لكن إن أتلفت برجليها فرفست أو فعلت شيئا فأتلفت فلا ضمان لأنه لم يتعبد ولم يفرط، والعجماء جرحها جبار، لكن إن علم منها إنها ترفس فقادها في مواضع الناس فعليه الضمان لأنه يكون متعديا. قوله [وباقي جنايتها هدر] لحديث: (العجماء جرحها جبار) قوله [كقتل الصائل عليه] أي الواثب عليه الذي يريد قتله أو أذيته في نفسه أو أهله أو ولده أو نحو ذلك، فإذا قتل الصائل عليه فلا ضمان عليه وذلك لما ثبت في مسلم: (أن رجلا جاء إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: يا رسول الله أرأيت إن جاء رجل يريد أخذ مالي؟ قال: فلا تعطه مالك، قال: أرأيت إن قاتلني؟ قال: قاتله، قال: أرأيت إن قتلني؟ قال: فأنت شهيد، قال: أرأيت إن قتلته؟ قال: هو في النار) [م 140] فقتله مأذون له فيه شرها فهو غير مضمون، فمن دافع صائلا لينقذ نفسه ولم يمكنه دفعه إلى بقتله فقلته فلا ضمان عليه، أما إذا كان دفاعا عن غيره فالمشهور من المذهب أن عليه الضمان كأن يكون دفاعا عن زوجه أو ولده، واختار ابن عقيل أنه لا ضمان عليه، وهو الراجح، لأن المقصود هو صيانة النفس المحرمة، وهذا يثبت في نفسه وفي نفس غيره، فلا ضمان في الحالتين. قوله [وكسر مزمار] إذا أخذ نوعا من أنواع المزامير فكسره على صاحبه، وكذلك أنواع الأشرطة المحرمة فلا ضمان عليه. قوله [وصليب] فإذا كسر صليبا أو تصاوير. قوله [وآنية ذهب وآنية خمر غير محترمة]

قوله (آنية خمر غير محترمة) أي ليست لذمي، لأنها مال للذمي، وتقدم أن الخمر وإن كان للذمي فإنه ليس بمضمون، فهذه الأشياء لا تضمن وذلك لأنها محرمة ولا يحل بيعها فليست بمال، ولكت للحاكم أن يعزر إن ثبت المفسدة لأن هذا افتيات على الحاكم، وأما الضمان لمالكها فلا، وذلك لأنها لا قيمة لها. * مسألة: قال الحنابلة: إن مال جداره بحيث أصبح عرضة للسقوط فلم يهدمه بل تركه وأبقاه فانهدم فسقط على شيء فأتلفه فلا ضمان عليه، لأنه لم يحصل بسبب فعله، والقول الثاني في المذهب أنه إن طالبه من يخشى وقوع الجدار على شيء من ماله إن طالبه وأشهد على المطالبة فلم يهدم فإنه عليه الضمان، وذلك لوقوع التفريط منه حيث طولب فلم يفعل، وعن الإمام أحمد وهو اختيار ابن عقيل من الحنابلة أنه يضمن مطلقا واختاره الشيخ عبد الرحمن بن سعدي. باب الشفعة الشفعة: بضم الشين وتسكين الفاء من الشفع، وهو في اللغة: الضم، وسميت الشفعة شفعة؛ لأن الشفيع يضم المبيع إلى ملكه المنفرد، وعرفها المؤلف بقوله: قوله [استحقاق انتزاع حصة شريكه ممن انتقلت إليه بعوض مالي بثمنه الذي استقر عليه العقد]

فعندما يشترط (1) اثنان في عقار من أرض أو بستان، فيريد أحدهما أن يبيعه فإن أولى من يشتري هذا النصيب هو الشريك فهو أحق به، مثال هذا: اشترك زيد وعمرو في بستان لكل واحد منهما نصفه، فباع زيد نصيبه على بكر بعشرة آلاف ريال، فلعمرو أن يأخذ نصيب زيد من بكر بهذا الثمن الذي تم عليه العقد، وهذا من محاسن الشريعة الإسلامية، وذلك لأن الشراكة يقع فيها الضرر كثيرا، ولذا فإن الشخص يحتاط فيمن يكون شريكا له، فقد يباع النصيب المشارك على من لا يصلح شريكا له ممن يتعدى أو يفرط، فكان أحث (2) بنصيب شريكه، ففي الصحيحين أن النبي - صلى الله عليه وسلم -: (قضى بالشفعة في كل ما لم يقسم فإذا وقعن (3) الحدود وصرفت الطرق فلا شفعة) [خ 2214، م 1608] وفي مسلم: (الشفعة في كل شرك في أرض وربع - أي دار - وحائط، لا يصلح - وفي لفظ: لا يحل - أن يبيع نصيبه قبل أن يعرضه على شريكه) [م 1608] وفي البخاري أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (الجار أحق بصقبه) [خ 6977] أي بملاصقته، فهو لملاصقته أحق بملك جاره، فهذه أدلة تثبت الشفعة، وقد اتفق العلماء على القول بها.

_ (1) لعلها: يشترك. (2) لعلها: أحق. (3) لعلها: وقعت.

وقوله (بثمنه الذي استقر عليه العقد) أي إذا استقر العقد على عشرة آلاف، فهي له بعشرة آلاف وهكذا، ويتوجه كما ذكر شيخ الإسلام أنه إن حابى البائع المشتري محاباة غير معتادة فيتوجه ألا يأخذ الشفيع إلا بالقيمة، ففي المثال المتقدم: إذا كان بين زيد وبكر صداقة أو ثرابة (1) فحاباه بالبيع، فهذا النصيب قيمته عشرة آلاف فباعه له بخمسة آلاف فهنا محاباة غير معتادة، فلا يأخذه الشفيع بخمسة آلاف بل يأخذ بقيمته وهي عشرة آلاف لأنه إنما باعه بهذا الثمن نظرا للمشتري لما بينهما مما يستدعي المحاباة، وعليه فليسب (2) هي قيمته الحقيقية التي يرضى ببيعه، وعليه فإنه يقوّم ويباع بقيمته، بخلاف ما لو حابى المشتري البائع كأن تكون لا تساوي إلا عشرة آلاف فحابى المشتري البائع فأخذها منه بخمسة عشر ألفا، فيقال للشفيع: إن شئت فخذها بهذا الثمن الذي عرض عليه وهو خمسة عشر ألفا لئلا تفوت المصلحة على البائع. قوله [فإن انتقل بغير عوض] فإذا انتقل هذا النصيب بغير عوض كهبة أو صدقة كأن يتصدق بنصيبه أو يهبه فلا شفعة، قالوا: كما لو انتقل بالإرث فلا شفعة فكذلك هنا، لأنه انتقال بغير عوض. قوله [أو كان عوضه صداقا أو خلعا أو صلحا عن دم عمد فلا شفعة]

_ (1) لعلها: قرابة. (2) لعلها: فليست.

كذلك إذا كان عوض هذا الشقص غير مالي كأن يجعله صداقا أو خلعا أو صلحا عن دم عمد، كأن يثبت على رجل قصاص، فيقول: تنازل عن القصاص ولك نصيبي من هذا البستان، أو تقول المرأة لزوجها: طلقني ولك نصيبي من هذا البستان فهذا الخلع، أو أن يجعل الرجل نصيبه مهرا للمرأة، فهنا العوض ليس عوضا ماليا فلا تثبت الشفعة فيه، وذلك لأنه لا يمكن أخذه بعوضه إذ لا عوض له معروف، فالتنازل عن القصاص ليس له قيمة محددة وكذلك المهر والخلع، وقد جعل هذه الأشياء عوضا عن هذه التي لا تعرف قيمتها فلا يمكن حينئذ الأخذ به أي بالشفعة، فإذا حكمنا بالشفعة فلا نستطيع أن نقدر قيمة هذا الشقص في البستان، وهذا هو المشهور من مذهب الحنابلة، والقول الثاني في المذهب وهو اختيار طائفة من أصحاب الإمام أحمد كابن حامد وأبي الخطاب واختاره الشيخ عبد الرحمن بن سعدي أن الشفعة تثبت في هذه المسائل، وذلك للحوق الضرر، فإن الضرر ثابت فيها كما هو ثابت في المسائل المتقدمة، فالشفعة هنا تدفع الضرر كما تدفعه لو كان هناك عوض مالي، ويمكننا الأخذ بالقيمة، فكون الخلع والصداق وغيرهما غير معروفة القيمة فإنه يمكننا أن نعرف قيمة هذا النصيب والشقص بتقويمه، فنقومه ويأخذه الشفيع بقيمته، وهذا القول هو القول الراجح، وأما القياس على الإرث فلا يصح لأنه قياس مع الفارق، والفارق هو أن النصيب انتقل في الإرث من المورث إلى وارقه انتقالا قهريا، بخلاف الهبة والصدقة ونحوهما، فإنه انتقل في هذه المسائل باختيار الواهب. قوله [ويحرم التحيل لإسقاطها]

كأن يتحيل بهبتها إلى زوجته أو ولده ثم يجعل زوجته تبيعه له فلا يحل التحيل لإسقاطها، ولا يمضي، وذلك لحرمة التحيل، كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: (لا ترتكبوا ما ارتكبت اليهود فتستحلوا محارم الله بأدنى الحيل) [أخرجه الحافظ ابن كثير في تفسيره (سورة الأعراف، الآية رقم 163) 2 / 324، وقال:" وهذا إسناد جيد "، وحسن إسناده شيخ الإسلام في الفتاوى 29 / 29] والضرر ثابت مع الحيلة فهذه الحيلة لا تزيل الضرر، فوجب دفعه وذلك بتحريم الحيلة أولا، وبعدم إمضائها ثانيا. قوله [وتثبت لشريك في الأرض تجب قسمتها]

فتثبت الشفعة لشريك في أرض، وهذا هو المشهور من المذهب وأن الشفعة لا تثبت في العقار، وأما المنقول كالحيوان والمركوبات كالسفن ونحوها فالشفعة لا تثبت فيها، واستدلوا بما تقدم من أن النبي - صلى الله عليه وسلم -: (قضى بالشفعة في كل ما لم يقسم فإذا وقعت الحدود وصرفت الطرق فلا شفعة) قالوا: فدل على أن الشفعة لا تثبت إلا فيما كان عقارا غير منقول من بستان وأرض وبناء ونحو ذلك، وعن الإمام أحمد وهو اختيار ابن عقيل واختيار شيخ الإسلام وهو مذهب أهل الظاهر أنها تثبت فيه، فتثبت في المنقول كما تثبت في العقار، واستدلوا بما رواه الطحاوي أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (الشفعة في كل شيء) [ت 1371، طب 11 / 123 برقم 11244، هق 6 / 109، شرح معاني الآثار 4 / 126، قال الحافظ في الفتح:" رجاله ثقات إلا أنه أعل بالإرسال، وأخرج الطحاوي له شاهدا من حديث جابر بإسناد لا بأس برواته "] وفيه عنعنة ابن جريج لكن له شواهد، وصوب الترمذي إرساله عنده من حديث ابن عباس، ولأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قضى بالشفعة في كل ما لم يقسم، قالوا: وهذا عموم أيضا، قالوا: وأما قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: (فإذا وقعت الحدود وصرفت الطرق فلا شفعة) فهذا لا يعدو إلا أن يكون ذكر شيء من أفراد العام، وذكر شيء من أفراد العام لا يفيد التخصيص كما هو مقرر في علم الأصل، وهذا القول هو الراجح، ولأن المعنى الذي من أجله ثبتت الشفعة ثابت أيضا فيما سوى العقارات من المنقولات. وقوله (تجب قسمتها) أي تجب قسمتها عند المطالبة، فما يمكن قسمته تجب قسمته عند مطالبة من له جزء بذلك، فالأرض مثلا يمكن قسمتها، وكذلك البستان ونحو ذلك، ومثال ما لا يمكن قسمته قسمة البئر، فإذا اشترك اثنان في بئر فلا يمكن أن نقسمه، وكذلك إذا اشتركا في دار صغيرة، فكذلك لا يمكن قسمتها فلا تثبت فيها الشفعة.

فما يمكن قسمته تثبت فيه الشفعة لقوله - صلى الله عليه وسلم -: (فإذا وقعت الحدود وصرفت الطرق فلا شفعة) وهذا إنما يكون فيما يقسم، وعن الإمام أحمد وهو اختيار ابن تيمية أن الشفعة تثبت أيضا فيما لا يمكن قسمته، بل الشفعة تثبت فيه من باب أولى، وذلك لأن الضرر فيه أكثر، فإن المشاركة فيه مؤبدة أما ما يقسم فإنه متى شاء أحدهما طلب المقاسمة وزال الضرر عنه، وأما هنا فإن الضرر أعظم وأشد، وقد قضى النبي - صلى الله عليه وسلم - بالشفعة في كل ما لم يقسم، وهذا عام فيما تمكن قسمته وما لا تمكن، وأوضح من هذا: الاستدلال بقول - صلى الله عليه وسلم -: (الشفعة في كل شيء) ويندرج في هذا العموم ما لا تجب قسمته لعدم إمكان القسمة، وأما قوله: (فإذا وقعت الحدود وصرفت الطرق) فالجواب عنه كالجواب عنه في المسألة السابقة، وأنه ذكر فرد من أفراد العموم لا يقيد (1) التخصيص. قوله [ويتبعها الغراس والبناء لا الثمرة والزرع] إذا باع نصيبه من الأرض فإن للشفيع أن يشتريها وهو أولى من غيره بذلك، ويتبع الأرض ما فيها من بناء وغرس، وذلك لأن البناء والغرس يتبع الأصل كما تقدم في باب الأصول والثمار، بخلاف الزرع والثمر فإنه لا يتبع الأصل، فإذا باع أرضا وفيها زرع أو ثمر فإن البيع لا يفع (2) على الثمر ولا على الزرع إلا أن يشترطه المبتاع كما تقدم في باب الأصول والثمار. قوله [فلا شفعة لجار]

_ (1) لعلها: لا يفيد. (2) الصواب: لا يقع.

فالجار ليسب (1) له شفعة، وإنما الشفعة للشريك، فلو أن رجلا بجانبه أرض، فأراد صاحبها أن يبيعها فليس هو - أي الجار - أحق بالشراء بخلاف الشريك، وهذا هو المشهور في المذهب، واستدلوا بقول النبي - صلى الله عليه وسلم - في الحديث المتقدم: (فإذا وقعت الحدود وصرفت الطرق فلا شفعة) والجار وقعت الحدود بينه وبين جاره، وصرفت الطرق فحينئذ لا شفعة، وهذا هو مذهب جمهور العلماء، وقال الأحناف بل له الشفعة، واستدلوا بقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: (الجار أحق بصقبه) أي أحق بسبب ملاصقته وقربه، وفي المسند والترمذي وغيرهما من حديث آخر أن ذلك في الشفعة [حم 13841، ت 1369، د 3518، جه 2494] وعن الإمام أحمد وهو اختيار غير واحد من المحققين كشيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه ابن القيم والشيخ محمد بن إبراهيم والشيخ عبد الرحمن بن سعدي وغيرهم من أهل العلم أن المسألة فيها تفصيل: فالجار أحق بالشفعة إن كان بينهما حق مشترك كأن يكون الطريق مشتركة بينهما أو يكون البئر مشتركا بينهما أو نحو ذلك، فحينئذ الجار أحق بالشفعة، وأما إن لم يكن بينهما طريق مشترك ولا حق آخر من الحقوق المشتركة فحينئذ الجارة (2) أسوة غيره، وهذا القول هو الراجح، وهو الذي تجتمع به الأدلة، فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (فإذا وقعت الحدود وصرفت الطرق فلا شفعة) وهنا ليس الأمر كذلك، فإن ثمت طريق مشترك أو حق مشترك، وقد نص على ذلك النبي - صلى الله عليه وسلم - فيما رواه أحمد والأربعة بإسناد صحيح أنه قال: (الجار أحق بشفعة جارة (3) ينتظر بها وإن كان غائبا إذا كان طريقهما واحدا) [سبق تخريجه قريبا] فدل هذا الحديث على أن الجار أحق بشفعة جاره إذا كان الطريق مشتركا أو نحو الطريق مما يكون فيه اشتراك بينهما من بئر ونحوه.

_ (1) ليست. (2) لعلها: الجار. (3) لعلها: جاره.

قوله [وهي على الفور وقت علمه، فإن لم يطلبها إذاً بلا عذر بطلت] هنا بين المؤلف أن الشفعة على الفور وأنه متى علم ببيع شريكه حصته ولم يطالب بالشفعة فلا حق له بعد ذلك في الشفعة، واستدلوا بما روى ابن ماجه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (الشفعة كحل العقال) أي أنها تذهب عن صاحبها كما يذهب البعير الشرود إذا حل عقاله، والحديث فيه من يتهم (1) بالكذب، فالحديث إسناده ضعيف جدا، وهذا هو مذهب الحنابلة وهو مذهب الجمهور، وعليه فإذا لم يعلم بالبيع فله المطالبة ولو بعد سنوات، وكذلك إذا علم لكن كان له عذر من مرض أو غيبة وليس له من يوكله وليس هناك من يشهده على المطالبة بالشفعة أو علم بالليل فأخر ذلك إلى النهار فإنه له الحق بالمطالبة بها، وقال المالكية وهو رواية عن الإمام أحمد بل له المطالبة بها على التراخي وذلك لأنه حق له فلا يسقط إلا بإسقاطه، فلو علم ولا عذر له بالتراخي لكنه تراخى ثم طالب بها فله الحق فيها، قالوا: لعموم الحديث الوارد في الشفعة، فإنه ليس فيه أنها لا بد أن تكون على الفور، بل عموم الحديث يدل على أنها تثبت له ما لم يدل دليل على إسقاطها أو الرضا بالشريك الجديد، ثم إن هذا الذي له حق الشفعة يحتاج إلى زمن ليستبين وليتأمل وينظر في أمره، فاشتراطنا لثبوتها أن تكون على الفور تفويت لحقه لأنه يحتاج إلى تأن وتريث ونظر واستشارة واستخارة، وهذا القول هو القول الراجح وهو اختيار الشيخ عبد الرحمن السعدي، وعليه فيحدد له زمن يحصل به مقصوده عرفا، فلا يكون الزمن مفتوحا ولا إلى سنة كما قال بعضهم ولا إلى ثلاثة أيام كما قال البعض الآخر بل يكون ذلك راجع إلى العرف، وهذا يختلف باختلاف السلع وباختلاف المشترين وحذقهم في معرفة السلع. قوله [وإن قال المشتري بعني أو صالحني]

_ (1) لعلها: متهم.

إذا باع أحد الشريكين نصيبه، فقال الشريك الآخر للمشتري بعني هذا النصيب أو قال: صالحني على هذا النصيب أو أجرنيه فلا شفعة له، إذن تسقط الشفعة لأن هذا يدل على الرضا بهذا البيع. قوله [أو كذب العدل] إذا أخبره العدل الثقة الذي يجب قبول خبره أن شريكه قد باع حصته فلم يصدق خبره فحينئذ تسقط شفعته، فلو طالب بها بعد ذلك على التراخي فلا تثبت له لأنه تراخي بلا عذر، وهذا على القول بثبوت الشفعة على الفور، وعلى القول الراجح إذا أخبره الثقة بالخبر ولم يقبل ومضت مدة يحصل بمثلها ما يحتاج إليه من النظر والتروي والاستشارة ثم أتي بعد ذلك ليطالب بها فلا يقبل، وذلك لأنه قد علم بها من طريق هذا العدل وتكذيبه له تفريط منه، بخلاف ما إذا أخبره الفاسق لأنه لا يقبل خبره لكن إن صدقه فحينئذ كما لو أخبره بذلك الثقة لحصول عمله بهذا البيع. قوله [أو طلب أخذ البعض سقطت] إن قال هذا الشريك للمشتري: أنا لي الشفعة لكني لا أريد أن آخذ النصيب كله بل أريد أن آخذ بعضه، كأن تكون الأرض المتشارك بها مساحتها ألف متر، فباع أحدهما نصيبه وهو خمسمائة متر، فقال الشفيع للشريك الآخر أريد من المشتري مائتين وخمسين مترا، فلا شفعة له، وذلك لما في تبعيض المبيع من الإضرار بالمشتري، فإن المشتري إنما اشتراها على أنها خمسمائة متر، فإذا شفع الشريك بالنصف فقد فوت على المشتري مقصوده، إذن يشترط أن يأخذ المبيع كله شفعة،فإن أراد البعض فلا، وذلك لما فيه من تفويت المقصود على المشتري بتبعيض المبيع عليه. قوله [والشفعة لاثنين بقدر حقيهما]

إذا كان بين ثلاثة اشتراك في بستان لكل واحد منهم الثلث فباع أحدهم نصيبه، فالشفعة حق للاثنين، وكل واد منهما له المطالبة بنصف المبيع شفعة، فإن كان هؤلاء الثلاثة أحدهم له النصف، والثاني والثالث لكل واحد منهما الربع فباع الثاني نصيبه فإن الشفعة تثبت للشريكين بقدر ملكيهما، وذلك لأن الشفعة حاصلة بسب الملك فكانت للشفعاء بقدر أملاكهم. فمثلا: كان هناك بستان يملك زيد نصفه، ويملك عمرو ربعه، ويملك بكر ربعه، فباع بكر نصيبه وهو الربع، فالباقي يكون ثلثاه لزيد وثلثه لعمرو، فلهما الحق بالشفعة بقدر أملاكهما. قوله [إن عفا أحدهما أخذ الآخر الكل أو ترك] إذا قال أحدهما أن (1) قد تنازلت عن نصيبي من الشفعة فحينئذ إن شاء الآخر أن يأخذ الكل أو أن يترك، ففي المثال المتقدم: إذا تنازل عمرو وله الربع، إذا تنازل عن الشفعة فحينئذ إن شاء زيد فله الشفعة، ولكن ليس لزيد أن يأخذ بعضها بل إما أن يأخذ النصيب كله وإما أن يبقيها للمشتري كلها، وذلك لما تقدم، فإن تبعيض المبيع على المشتري فيه إضرار بالمشتري وهذا ممنوع منه. قوله [وإن اشترى اثنان حق واحد.... فللشفيع أخذ أحدهما] في المثال المتقدم، لما أراد بك (2) أن يبيع نصيبه من هذا البستان وهو الربع اشتراه منه اثنان، هل للشفيع أن يأخذ من أحدهما نصيبه ويترك الآخر أم لا؟ الجواب: له ذلك، فلشفيع أخذ نصيب أحدهما، وذلك لأن تعدد المشترين تعدد في العقود، فهو بمنزلة عقدين، ولا ضرر حينئذ على المشتري لأن المشتري الذي نبقي له نصيبه لا يتضرر بذلك فنصيبه كامل مبقى له. قوله [أو عكسه] أي أن يشتري واحد حق اثنين، إذا اشترك زيد وعمرو وبكر في أرض لكل واحد منهم الثلث، فباع زيد وعمرو نصيبهما لرجل واحد، فهل لبكر أن يأخذ من هذا المشتري نصيب أحدهما دون نصيب الآخر؟

_ (1) لعلها: أنا. (2) لعلها: بكر.

قال المؤلف: له ذلك، قالوا: لأن تعدد البائع كتعدد المشتري، وهذا أحد القولين في المذهب، والقول الثاني في المذهب المنع من ذلك وهذا القول هو الراجح، وذلك لأن المشتري لما كان واحدا فإذا قلنا بجواز الشفعة بأحد النصيبين اللذين اشتراهما ففيه تبعيض المبيع، وهذا يخالف مقصوده ففيه إضرار بالمشتري، وهذا القول هو الراجح، وأنه يقال له: إما أن تأخذ النصيبين جميعا وإما أن تتركهما جيمعا، وذلك لأن في أخذ أحدهما دون الآخر تفويتا لمقصود المشتري. قوله [أو اشترى واحد شقصين من أرضين صفقة واحدة] مثاله: لزيد وعمرو بستانان فباع زيد شقصيه أو حصتيه من البستانين لبكر، فالمشتري واحد، والشقصان متعددان، فهل لعمرو وهو الذي له حق الشفعة، هل له أن يأخذ أحد الشقصين شفعة ويترك الشقص الآخر أم لا؟ القول الأول: يجوز له ذلك كما ذكر المؤلف، والقول الثاني: أنه لا يجوز ذلك لما فيه من تبعيض الصفقة على المشتري وفي ذلك إضرار به، وهذا القول أظهر كما تقدم، لكن لا يتبين أن هذا على الإطلاق بل متى تبين لنا أنه لا ضرر ظاهر عليه في ذلك فلا يمنع من الشفعة. قوله [وإن باع شقصا وسيفا...... فللشفيع أخذ الشقص بحصته من الثمن] مثاله: رجل يشترك هو وآخر في أرض لكل واد (1) منهما خمسمائة متر، فباع نصيبه من الأرض وهو خمسمائة متر ومعها سيارة أو دابة ونحو ذلك، فهل تثبت الشفعة أم لا؟ قال المؤلف: فللشفيع أخذ الشقص بحصته من الثمن،، وكذلك إذا باع حثته (2) من الأرض ومعها سيف بألف درهم، وحصة الشقص من الألف ثمانمائة درهم، وحصة السيف مائتا درهم، فهل للشفيع أن يأخذ الأرض بحصتها من الثمن دون السيف؟

_ (1) لعلها: واحد. (2) لعلها: حصته.

الجواب: له ذلك، وذلك لأن الشفعة ثابتة في الشقص منفردا فبقيت مع غيره، والأصل بقاؤها، وكونه يضاف إليها مبيع آخر لا يعني هذا انتفاء الشفعة، فالأصل هو بقاؤها، ولا ضرر على المشتري في هذا التبعيض لأنهما سلعتان مختلفتان، وهذا هو قول الحنابلة، وهذا هو تعليلهم، وهو تعليل ظاهر. قوله [أو تلف بعض المبيع فللشفيع أخذ الشقص بحصته من الثمن] مثاله: اشترك زيد وبكر في بستان لكل واحد منهما النصف، فاشترى عمرو من بكر نصيبه، ثم تلف بعضه بآفة سماوية أو أتلفه أحد أو نحو ذلك، فهل للشفيع وهو زيد أن يأخذ ما لم يتلف من هذا النصيب بحصته من الثمن؟ قال المؤلف هنا: له ذلك، وهذا هو المشهور في المذهب، وقال ابن حامد من الحنابلة: إذا كانت الآفة السماوية فإن الشفعة تسقط وذلك لما في إثباتها من الإضرار بالمشتري، فإنه يتضرر لأن التلف حينئذ يكون عليه، إلا أن يشاء أن يأخذهما بالثمن الذي وقع عليه العقد، فيكون قد اشترها هذا الرجل بألف درهم وحصلت لها آفة سماوية، فإن شاء أن يأخذها بألف درهم وإلا فلا شفعة بخلاف ما إذا كان المتلف آدميا فإنه يرجع إلى الآدمي بقيمة ما أتلفه، وهذا هو القول الأرجح في هذه المسألة. قوله [ولا شفعة بشركة وقف] إذا كانت هناك دار نصفها وقف ونصفها طلق - أي ليس بوقف - فأراد صاحب الطلق أن يبيعه فهل لصاحب الوقف أو المنتفع به الشفعة أم لا؟

قالوا: ليس له الشفعة، فالموقوف عليه ليس له أن يأخذ الباقي سواء كان للوقف أو له، قالوا: لأن ملكه ملك ناقص، والذي تصرف له مصالح الوقف ملكه ملك غير تام، وعليه فلا شفعة، والقول الثاني في المسألة وهو قول بعض الحنابلة واختاره الشيخ عبد الرحمن بن سعدي رحمه الله أن له الحق في الشفعة، وهذا القول هو الراجح، وذلك لأن الأدلة لم تفرق بين الملك التام والملك الناقص، بل هنا ضرر هذا أعظم، لأن هذا الموقوف عليه لا يمكنه بيع الوقف حتى يخرج من ضرر هذا الشريك، بخلاف الآخر فإنه إذا تضرر فيمكن له أن يبيع، ومع ذلك أثبتنا له الشفعة، فأولى من ذلك هنا. قوله [ولا غير ملك سابق] إذا اشترى اثنان دارا من رجل، فليس لأحدهما الشفعة، وذلك لأنه لا مزية لأحدهما شعلى (1) الآخر، فمثلا: اشترى زيد وعمرو دارا من رجل، فلا تثبت الشفعة لأحدهما في نصيب الآخر، فلا نقول: لك أن تملك المبيع كله شفعة، وذلك لأنه لا مزية لأحدهما على الآخر، فترجيح أحدهما على الآخر ترجيح لا مرجح، فلا بد أن يكون هناك ملك سابق. قوله [ولا لكافر على مسلم] فلا تثبت الشفعة لكافر على مسلم، فلو أن رجلا له دار ويشاركه ذمي في هذه الدار فباع المسلم نصيبه لمسلم آخر فهل تثبت الشفعة للذمي؟ قالوا: لا تثبت وهو المشهور من المذهب، وقال الجمهور: تثبت الشفعة للذميين، وذلك لعمومات الأدلة، وأما الإمام أحمد وهو اختيار ابن القيم وذكر أنه ليس أحد من السلف يقول بالشفعة لهم، وذلك لأن ثبوتها للمسلم لا يلزم منه ثبوتها للذمي، وذلك لأن مراعاة حق المسلم أولى وأعظم، فلا يلحق به غيره، كيف وقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم - كما في صحيح مسلم: (وإذا لقيتموهم في طريق فاضطروهم إلى أضيقه) [م 2167] فكيف يؤخذ من المشتري المسلم لمراعاة حق هذا الذمي، وهذا القول هو القول الراجح وهو اختيار ابن القيم. فصل

_ (1) لعلها: على.

قوله [وإن تصرف مشتريه بوقفه أو هبته أو رهنه لا بوصية سقطت الشفعة]

كتاب البيوع من باب إحياء الموات إلى باب اللقيط

" باب إحياء الموات" قال: [وهي الأرض المنفكة عن الاختصاصات وملك معصوم] هذا هو تعريف الموات. منفكة عن الاختصاص: كالأفنية والطرق ومسايل الماء وحريم النهر ونحو ذلك فهذه فيها منفعة عامة فهي من الاختصاصات وليست ملكاً لمعصوم أي لمعصوم المال سواء كان مسلماً أو ذمياً فهذه الأرض هي الموات فمن أحياها فقد ملكها، ولذلك قال المؤلف: [فمن أحياها فقد ملكها] لما روى البخاري من حديث عروة عن عائشة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (من عمّر أرضاً ليست لأحدٍ فهو أحق بها) قال عروة وقضى بذلك عمر في خلافته. وروى الثلاثة والحديث حسنه الترمذي وهو حسن لشواهده أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال من حديث أبي سعيد الخدري: (من أحيا أرضاً ميتة فهي له) . قال: [من مسلم وكافر] . سواء كان المحيي مسلماً أو كان كافراً ذمياً، فللذمي أن يحيى، فإذا سبق الذمي إلى أرض فأحياها بزرع أو بناءٍ أو نحو ذلك فهي ملك له أيضاً، وهو مذهب الجمهور ودليل ذلك عموم الحديث المتقدم: " من أحيا أرضاً ميتة فهي له". ومنع الشافعية من ذلك في الذمي، وقالوا: إذا أحيا الذمي أرضاً أي في البلاد التي هي ملك للمسلمين فهي ليست له، واستدلوا بما روى البيهقي بإسناد صحيح إلى طاووس وهو من التابعين أن النبي - صلى الله عليه وسلم -?قال: ?عاديُّ الأرض" أي قديمها نسبةً إلى عاد" لله ورسوله ثم لكم بعدُ) ، والقول الراجح مذهب الجمهور?لعموم الحديث، وأما ما استدل به الشافعية فهو مرسل والمرسل ضعيف فهو عن طاووس وهو من التابعين، فالراجح مذهب الجمهور لعموم الحديث، ولأن الذمي يملك في البلاد الإسلامية، يملك بماله بالشراء ويملك بالهبة، فإذا وهب أو اشترى فإنه يملك فكذلك إذا سبق إلى أرض فأحياها فهي ملك له. وفي قول المؤلف: [وهي الأرض المنفكة????وفي قوله بعد ذلك: [في دار?وغيرها، والعنوة كغيرها??

في هذا ما يدل على أن الإحياء عام في كل أرضٍ، سواء كانت هذه الأرض في البلاد الإسلامية أو غيرها، وسواء كانت قد فتحت عنوة كأرض الشام ومصر والعراق، أو فتحت صلحاً، لعموم قوله: "من عمّر أرضاً"، ولقوله: "من أحيا أرضاً ميتة"، فأي أرض ينفذ فيها حكم الإسلام فيحييها مسلم أو ذمي فهي له، وعند الحنابلة في المشهور عندهم?أن الأرض إذا فتحت صلحاً على أن الأرض للكفار، فإذا أحياها مسلم فليست له، واختيار الموفق رحمه الله أنها له وهو الراجح لعموم الحديث. فإذن: من أحيا أرضاً مواتاً فهي له، سواء كانت البلاد التي هي فيها فتحت عنوة كأرض الشام ومصر والعراق، أو فتحت صلحاً سواء كان الصلح على أن تكون?الأرض للمسلمين أو على أن تكون الأرض للكفار، وهذا من تشوّف الشارع إلى إحياء الأرض وتعميرها، ومن القيام بأمر الدنيا، فالدين الإسلامي قائم بمصلحة الدين والدنيا. قال: [بإذن الإمام وعدمه] أي سواء أذن الإمام أم لم يأذن، فلا يشترط إذن الإمام هذا هو المشهور عند الحنابلة وهو مذهب الجمهور، ومنع من ذلك الأحناف، وقالوا: بل يشترط إذن الإمام والراجح هو الأول لعموم الحديث، فإن النبي - صلى الله عليه وسلم -?قال: (من?أحيا أرضاً ميتةً فهي له??ولم يشترط في ذلك إذن الإمام، ولأنها عين مباحة فلم تفتقر إلى إذن الإمام كالاحتطاب ونحوه لكن إن منع الإمام من إحياء أرض، كما يمنع في الغالب من إحياء الأراضي التي تكون حول المدن انتظاراً لمصلحة أو نحو ذلك، فإنه حينئذ يمنع من الإحياء، وذلك لأن منعه من إحيائها يعني اختصاصها، وأنها أصبحت مختصة ومعدة لمنفعة عامة?? قال: [ويملك بالإحياء ما قرب من عامرٍ إن لم يتعلق بمصلحته]

بمصلحته": الضمير يعود إلى العامر، أي هذا الإحياء ليس مختصاً بالأراضي النائية البعيدة عن المدن بل هو عام فيها وفي غيرها من الأراضي القريبة إلى المدن وليس فيها اختصاص، فلا تكون مقبرة أو ملقى كناسة أو طريقاً، أو مركب خيلٍ أو مصلى عيدٍ أو نحو ذلك مما فيه مصلحة عامة. فإذا لم يكن هذا الموضع القريب من الأرض العامرة لمصلحتها، فإن له أن يحييه لعموم الحديث المتقدم، "من أحيا أرضاً ميتةً فهي له??وهذه أرض موات. ومنع منه الأحناف، لأنه يحتمل أن يُحتاج إليه للمصلحة العامة والراجح الأول، لأن هذا الاحتمال لا يمنع الحق، فهذا حق له وهذا مجرد احتمال، لكن للإمام، كما تقدم أن يمنع من إحياء المواضع القريبة من المدن، بل ينبغي له أن يمنع من الإحياء ترجيحاً للمصلحة العامة على المصلحة الخاصة?? قال: [ومن أحاط مواتاً ... إلى أن قال "فقد أحياه] ???إذا أتى إلى أرض منفكة من?الاختصاصات وليست ملكاً لمعصوم، أتى إليها فوضع عليها حائطاً منيعاً سواء كان من طين أو غيره مما تحاط به الأرض، فهي له وإن لم يزرعها وإن لم يسقفها. إذن، من إحياء الأرض أن تضع عليها حائطاً. استدلوا: بما روى أبو داود أن النبي - صلى الله عليه وسلم -?قال: ??من أحاط حائطاً على أرضٍ?فهي له) ،?وعن الإمام أحمد وهو مذهب الشافعية واختاره طائفة من أصحاب الإمام أحمد كابن عقيل والقاضي والموفق وغيرهما، أن الإحياء مرجعه إلى العرف، فإذا أحياها عرفاً فهذا هو الإحياء المعتبر، وكونه يحيطها بحائط من غير أن يسقفه إن كان البناء للسكن، ومن غير أن يجري على هذه الأرض الماء إن كان للزرع أو الغراس، فإن هذا ليس بإحياء وهذا القول الأرجح،?لقوله عليه السلام: ?من أحيا?،?ومن أحاط حائطاً فإنه ليس بمحيي.

وعليه فقوله - صلى الله عليه وسلم -????من أحاط حائطاً على أرضٍ فهي له) ?هذا بالنظر إلى ما يؤول إليه الأمر، أي هو أحق بالأرض، فإذا سقف هذا الحائط أو زرع أو غرس فهي له، فإذا أحاط حائطاً فهو أحق بها من غيره لكن لا تكون ملكاً له حتى يحييها، لقوله - صلى الله عليه وسلم -?في الحديث "من عمرّ أرضاً??وهذا في الحقيقة لم يعمرها، فالراجح أن مرجع ذلك إلى العرف، فعليه إذا أحاطها بحائط وحفر فيها بئراً أو أجرى إليها الماء من النهر أو من العيون أو من السدود واشتغل في الأرض فهذا هو الإحياء لها، وإذا كانت للسكن فإذا أحاطها وسقفها فهذا هو إحياؤها. قال الحنابلة??إذا تحجّر أرضاً فهو أحق بها أي وليست ملكاً له، فإذا أحاطها بحجر أو بتراب فإنه لا يملكها لكنه أحق بها من غيره فليس لأحدٍ أن?يسبقه إلى إحيائها، وقبل ذلك على الراجح لو أحاطها بحائط وذلك لأنه سبق إليها فهو أحق بها، وحينئذ فيمهله الإمام ليحييها. قالوا: يمهله الشهرين والثلاثة ويقول له، إما أن تحييها وإما أن تتركها، هذا هو المشهور في المذهب. وقال بعض الحنابلة وهو الصواب??التحديد مرجعه إلى الحاكم، وهذا يختلف باختلاف الأزمنة وبعد الأرض عن المالك، والآليات التي تصلح بها الأرض، فيمهله مدة معلومة تكفيه ليتمكن من إحيائها فإذا لم يحيها فإنه ينزعها من يده. قال: [أو حفر بئراً فوصل إلى الماء أو أجراه إليه من عين أو نحوها أو حبسه عنه ليزرع فقد?أحياه] ???قوله "أو حبسه عنه ليزرع??أي حبس الماء عن الزرع ليزرع فإن من الزرع ما يحتاج إلى حبس الماء عنه، فإذا كان الماء يسيل إلى جهة الأرض فأخذ يشتغل بإيقاف الماء عن هذه الجهة من الأرض ليزرع فإن هذا إحياء. وإذا اشتغل بإزالة الأحجار ونحوها عن الأرض، وإصلاحها بالأسمدة ونحو ذلك فهذا أيضاً إحياءُ لها. ?فقد أحياه] ?وتقدم أن الراجح أن مرجع ذلك إلى العرف.

قال: [ويملك حريم البئر العادية خمسين ذراعاً من كل جانب، وحريم البدّيّة نصفها] . ??الحريم: هو ما يمنع غير المالك من التصرف فيه، فهذا الحافر للبئر، يملك من الأرض ما?حفر وحريمه وسمي بذلك لأن غيره يحرم عليه أن يتصرف فيه، وحريم البئر العادية، "والعادية نسبة إلى عادِ" وهي البئر القديمة، حريمها خمسون ذراعاً أي نحو خمسة وعشرين متراً من كل جهة، فإذا كان هناك بئر قديم فاشتغل بإصلاحه وإخراج الماء منه فإنه يملك حينئذ خمسين ذراعاً من كل جهة، وحريم البئر البديّة أي الحديثة نصف ذلك أي خمساً وعشرين ذراعاً، ودليل هذه المسألة ما روى أبو داود في مراسيله بإسناد صحيح إلى سعيد بن المسيب أنه قال: "السنة أن يكون حريم البئر العادية خمسين ذراعاً، وحريم البدّية خمساً وعشرين ذراعاً"، وله شاهد مرسل عن الزهري عند أبي داود في مراسيله أيضاً، فإن كان شجراً أو نخيلاً، فإن حريمها ما امتدت إليه أغصانها وفي النخل بعدد جريدها، فإذا غرس نخلة في أرض موات فإنه يملك موضع النخلة وما حولها بقدر الجريد، وإن كانت أشجاراً سوى النخيل فإنه يملك بقدر الأغصان، ودليل هذا ما ثبت في أبي داود بإسناد صحيح عن أبي سعيد قال: " اختصم رجلان إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -?في?حريم نخلٍ، فأمر النبي - صلى الله عليه وسلم -?بجريدة، من جريدها فوجدت سبعة أذرع أو خمسة أذرع فقضى بذلك) . وأما حريم النهر وغيره فإنه بقدر ما يحتاج إليه، وهكذا سوى ذلك، فمثلاً عندما يبني داراً فإنه يحتاج إلى شيء من الأراضي الخارجة عن داره كموضع الخروج والدخول ونحو ذلك، فيترك له بقدر ما يحتاج إليه. قال المؤلف رحمه الله: [وللإمام إقطاع موات لمن يحييه ولا يملكه] .

تقدم تعريف الموات وأنها الأرض المنفكة عن الاختصاصات وعن ملك معصوم، وللإمام أن يقطع من رعيته?ما شاء من الموات لمن يحييه أي لمصلحة إحيائه، ودليل ذلك ما ثبت في الصحيحين: (أن النبي - صلى الله عليه وسلم -?أقطع الزبير?بن العوام نخلاً) ، وفي سنن أبي داود والترمذي وحسنه وهو كما قال: (أن?النبي - صلى الله عليه وسلم -?أقطع وائل بن حجر أرضاً في حضرموت) . ??لكن لا يملكه بالإقطاع بل يملكه بالإحياء، فإذا أقطعه أرضاً للسكن أو للزراعة، أو للغراس، فلا يملكها إلا بالبناء إن كانت للسكن أو بالزراعة إن كانت للزراعة أو بالغراس إن كانت للغراس، فهو أحق بها لكن لا يملكها إلا بإحيائها ودليل ذلك ما ثبت في البيهقي، والأثر حسن أن عمر بن الخطاب أخذ من بلال بن الحارث ما عجز عن عمارته مما أقطعه النبي - صلى الله عليه وسلم -?فقد أقطع النبي - صلى الله عليه وسلم -?أقطع بلال بن الحارث المعادن القبليّة، كما سيأتي ذكره، فلما ولي عمر نزع عنه ما عجز عن عمارته، ولو كان يملكها بالإقطاع لما نزعها منه، هذا هو المشهور في المذهب، وهو مذهب الجمهور?فلا يملكها بالإقطاع، بل هو أحق بها أي بأن يسبق غيره في غرسها أو زراعتها أو بنايتها، وحينئذ، إن لم يحيها فإن الإمام يمهله زمناً يتمكن بمثله من إحيائها، وإلا فإنه ينزعها منه كما تقدم تقريره. وعليه: فإنه ليس له أن يبيعها هذا هو المشهور في المذهب قالوا: لأنها لا تملك إلا بالإحياء وهو لم يحيها فإذن لا تكون ملكاً له.

وقال بعض أهل العلم وهو قول في مذهب الإمام أحمد: أنه يجوز له أن يبيعها وذلك لأنه أحق بها، فهي من اختصاصاته فهو وإن لم يملكها لكنها اختصاص له، وهذا هو القول الراجح، ويدل عليه ما روى أبو داود بإسناد جيد: أن جٌهنيين لحقوا النبي - صلى الله عليه وسلم -?في ذهابه إلى تبوك في الرحبة فقال: من أهل ذي المروءة فقيل له: بني رفاعة من جهينة، فقال: قد أقطعتها: "أي الرحبة" لبني رفاعة" قال الراوي: فمنهم من باع، ومنهم من أمسك فعمل". وهذا هو القول الراجح، وأن من أقطع أرضاً لسكناها لزراعتها أو حجرها تحجيراً، أي حوطها بالأحجار أو بالتراب أو نحو ذلك فهو أحق بها وله بيعها لأنها من اختصاصاته. فإن أقطع ووجد فيها معادن سواء كانت معادن باطنة كالذهب والفضة، أو كانت معادن ظاهرة كالملح والكُحل، والمعادن الظاهر هي التي لا تحتاج إلى حفرٍ وإنما تكون ظاهرة على الأرض، وقد تحتاج إلى كشفٍ يسير، وأما المعادن الباطنة فهي التي تحتاج إلى حفرٍ وعمل، فإذا أقطع أرضاً فوجد فيها معدناً من المعادن سواء كان ظاهراً أو باطناً فهو له، لأنه في ملكه فهو مالك للأرض وما فيها. وهل للإمام أن يقطع أرضاً فيها معادن؟ أما المعادن الظاهرة فليس للإمام بالاتفاق أن يقطعها، كأن تكون أرض فيها ملح فليس للإمام أن يقطعها وذلك لما فيه من الإضرار بالناس، فالناس يشتركون فيها كما يشتركون في الكلأ ونحوه. ولذا روى الأربعة إلا النسائي، أن النبي - صلى الله عليه وسلم -????أقطع أبيض ابن حمّال معدن الملح بمأرب فقيل له، إنما قطعت له الملح العدّ أي الملح الذي?هو كالماء الجاري على الأرض فانتزعه منه) . أما المعادن الباطنة التي تحتاج إلى حفرٍ وعمل فقولان في المسألة. القول الأول??وهو المشهور في المذهب وهو مذهب الشافعية?أنه ليس له ذلك أيضاً كالمعادن الظاهرة.

القول الثاني?في مذهب الإمام أحمد: وهو قول في مذهب الإمام الشافعي?إلى جواز ذلك، ما لم يكن فيه ضرر، وهذا القول الراجح، ودليله ما ثبت في أبي داود والترمذي أن النبي - صلى الله عليه وسلم -???أقطع بلال بن الحارث المعادن القبليّة?جليّها وغوريّها???الجلسيّ هي الأرض المرتفعة والغوريّ: هي الأرض المنخفضة، ولأنه يحتاج إلى حفرٍ وعمل فأشبه إحياء الأرض بالزرع هذا ما لم يكن في ذلك تفويت مصلحة عامة، فالمصلحة العامة مقدمة على المصلحة الخاصة، ولكن الإمام قد يحتاج إلى مثل هذا لتأليف قلب أميرٍ من الأمراء، كأمير قبيلة أو نحو ذلك. قال: [وإقطاع الجلوس في الطرق الواسعة ما لم يضر بالناس] . فللإمام أن يقطع في الطرق الواسعة وأيضاً في رُحب المساجد التي لا تحوط، وهي ما تسمى عندما بمواقف السيارات ونحوها، فله أن يقطع للجلوس فيها للبيع والشراء، ولمن أقطع أن يضع فيها شيئاً لمنع الحر والبرد ومنع الشمس ونحو ذلك، كالمظلات ونحوها، ما لم يضر بالناس بأن يضيق على الناس طرقهم فلا يجوز لحديث "لا ضرر ولا ضرار?، والمصلحة العامة مقدمة على المصلحة الخاصة. قال: [ومن غير إقطاع لمن سبق بالجلوس ما بقي قماشه فيها وإن طال] ???فيجوز لآحاد الناس من غير أن يقطعهم الإمام، يجوز لهم أن يجلسوا في الطرق الواسعة من غير إضرار بالناس للبيع والشراء هذا جائز من غير أن يقطعهم الإمام وذلك لأنه شيء مباح ومن سبق إلى مباح فهو أحق به، وقوله: " ما بقي قماشه وإن طال??أي قماشه الذي يعرض عليه بضاعته. قال صاحب المغني وغيره: " مازال عمل الناس في الأمصار وفي كل?الأعصار على هذا من غير نكير?، ولكن إن منع من ذلك الإمام فلا يفعل ذلك حتى لا يفتات عليه ولا يتعدى على حقه. قال: [وإن سبق اثنان اقترعا] .

إن سبق اثنان إلى موضع للبيع والشراء في طريق واسع، فإنه يوضع بينهما قرعة، وذلك لأنهما قد ازدحما على شيء ولا مرجح لأحدهما على الآخر والقرعة يعمل بها حينئذ، فإذا ازدحم اثنان فأكثر على حقٍ ولم يكن لأحدهما مرجح فليس لأحدهما ميزة على الآخر فحينئذ تكون القرعة، كما قال تعالى: ((فساهم فكان من المدحضين)) ، وكان النبي - صلى الله عليه وسلم -?كما في الصحيحين: (يقرع بين نسائه إذا أراد سفراً) . قال: [ولمن في أعلى الماء المباح السقي وحبس الماء إلى أن يصل?إلى كعبه ثم يرسله إلى من يليه] إذا كانت هناك مزارع أو بساتين، وكان الماء الذي تسقى به هذه البساتين وهذه المزارع يرد إليها من نهرٍ أو عين أو سدٍ أو نحو ذلك، فحينئذ يسقي الأعلى فالأعلى، فأعلى واحد منهم يدخل الماء إلى مزرعته فإذا وصل الماء إلى كعبيه يرسله إلى جاره، فإذا وصل الماء إلى كعبيه أرسله الآخر إلى من يليه وهكذا، الأعلى فالأعلى. ودليل هذا: ما ثبت في الصحيحين أن النبي - صلى الله عليه وسلم -?قال: (اسق يا زبير ثم?احبس الماء حتى يلغ الجدر??والجَدْر هو التراب الذي يرفع حول النخيل ونحوها لإمساك الماء، فإذا بلغ الجدر وهو تمام حاجة الزرع وتمام حاجة النخيل فيرسله إلى من يليه وهكذا، وفي أبي داود بإسناد جيد أن النبي - صلى الله عليه وسلم -?قضى في سيل مهزور "وهو وادٍ في المدينة" أن يمسك الماء حتى يبلغ الكعبين ثم يرسل الأعلى فالأعلى". قال: [وللإمام دون غيره حمى مرعى لدواب المسلمين ما لم يضرهم]

فللإمام الأعظم دون غيره، حمى مرعى لدواب المسلمين أي أن يمنع الدواب الأخرى من هذا المرعى، فيحوط هذا المرعى ويجعله خاصاً بدواب المسلمين، كأن يجعلها لخيل القتال ولإبل الصدقة ولمواشي ضعفة الناس. وليس هذا لغير الإمام، بل هو خاص بالإمام الأعظم لدواب المسلمين، ويدل على هذا ما ثبت في البخاري أن النبي - صلى الله عليه وسلم -?قال????لا حمى إلا لله ولرسوله) فالحمى محرم إلا ما يحميه الإمام لدواب المسلمين خاصة. وهذا كله ما لم يضر بالناس، فليس له أن يحمي حمى يضر بعامة الناس، فالمصلحة العامة راجحة. " باب الجعالة " الجعالة: بتثليث الجيم "الجُعالة والجِعالة والجَعالة" وعرفها المؤلف بقوله: [وهي أن يجعل شيئاً معلوماً لمن يعمل له عملاً معلوماً أو مجهولاً مدة معلومة أو مجهولة] أن يجعل شيئاً معلوماً" فيشترط العلم بالعوض، كأن يقول: من ردّ عبدي الآبق فله مائة دينار، فهنا العوض معلوم، وهو شرط في صحة الجعالة هذا هو المشهور في المذهب. والقول الثاني في المذهب وهو اختيار الموفق وابن القيم: أنه إن كان العوض مجهولاً وكانت جهالته لا تمنع التسليم أي عند تمام العمل يمكن أن يسلم إليه العوض، فحينئذ يجوز ذلك. مثال ذلك: أن يقول قائد الجيش: من دلني على حصن فله ثلث ما به" أو يقول رجل: من ردّ شياهي الضالة فله نصفها فهنا الثلث أو النصف مجهولان، لكن عند تمام العمل، عندما يدله على الحصن وعندما يحصل له الشياه، فإن ثلث ما في الحصن ونصف الشياه معلوم غير مجهول يمكن تسليمه، وهذا هو القول الراجح أن لا غرر، وأما إذا كان الجهل يمنع التسليم فلا يجوز لأن فيه غرراً كأن يقول: من ردّ إلي عبدي الآبق فله شيء، فهذا الشيء مجهول أو في ذلك غرر وقد نهى النبي - صلى الله عليه وسلم -?عن الغرر "لمن يعمل له عملاً معلوماً أو مجهولاً".

فالعمل لا يشترط فيه العلم، فسواء كان العمل الذي وقع عليه عقد الجِعالة، سواء كان معلوماً أو?مجهولاً فلا يؤثر هذا فلو قال: من ردّ عبدي الآبق فله مائة درهم" فعبده الآبق لا يدري أين موضعه فقد يكون قريباً، وقد يكون بعيداً، فهذا جائز، وذلك لأن الحاجة داعية إليه، ولأن عقد الجعالة عقد جائز فيجوز له أن يفسخ إن رأى العمل فيه مشقة ونحو ذلك فلا ضرر في هذا "مدة معلومة أو مجهولة"، فالمدة لا يشترط أن تكون معلومة بل يجوز أن تكون مجهولة، فإذا قال: "من حرس لي مالي فله علي كل يوم درهم" فهنا المدة مجهولة فلا يدري يوم أو يومين أو سنة، وهذا لا يؤثر، والحاجة داعية إلى ذلك، والأصل في العقود الحل. قال: [كرد عبدٍ ولقطةٍ?وخياطةٍ وبناء حائط] هذه أمثله للجعالة، والجعالة نوع من الإجارة، ولذا فإن الأنسب أن يكون هذا الباب بعد باب الإجارة، كما جعله صاحب الفروع وغيره، فإن الجعالة نوع من الإجارة وإن كان بينهما فروق وهذه الفروق اقتضت أن يكون لها باب منفرد، فمن الفروق، أن الإجارة لا تصح مع الجهالة بالعمل، والجعالة تصح، ويشترط في الإجارة أن يكون المعقود معه معيناً، وأما في الجعالة فلا يشترط، والإجارة عقد لازم، والجعالة عقد جائز. قال: [فمن فعله بعد علمه بقوله استحقه، والجماعة يقسمونه] ????من فعل هذا العمل الذي وقع عليه عقد الجعالة، فعله بعد علمه بقوله أي قول الجَاعل، "من بنى حائطي فله كذا"، أو قال: من ردّ عبدي الآبق فله كذا، فسمع هذه المقالة فعمل على رده، ثم ردّه فله ذلك الجُعل، وذلك لأنه عمل في مال الغير مأذون له فيه على عوض فاستحق العوض المسمّى، وإن كانوا جماعة فإنهم يقتسمون العوض لأنهم اشتركوا في العمل فاقتضى هذا اشتراكهم في العوض. قال: [وفي أثنائه يأخذ قسط تمامه]

إذا قال: من بنى لي حائطاً فله مائة دينار" وكان ذلك الرجل قد اشتغل ببناء الحائط قبل أن يسمع هذه المقالة فقد بنى نصفة، فهنا لا يستحق الجُعل تاماً وإنما يستحق قسط تمامه،?فيستحق في هذا المثال خمسين ديناراً، وذلك لأن العمل الذي قام به قبل أن يعلم بهذه المقالة عملُ غير مأذون له فيه فلم يستحق عليه عوضاً، وإذا علم بقول الجَاعل بعد أن أتم العمل فلا شيء له، وذلك لأن عمله غير مأذون فيه فإذا أُعلم الجاعل بالحال وبالأمر على حقيقته فتبرع له بالعوض فهذا جائز له. قال: [ولكل فسخها] ??لأنها عقد جائز فلكل واحدٍ منهما فسخها قال غير واحدٍ من الحنابلة???لا خلاف أعلمه" ويتوجه القول بلزومها، كما تقدم الاستدلال عليه فيما تقدم نقله عن الشيخ عبد الرحمن السعدي?في مسألة سابقة من باب الوفاء بالوعد، ولأن هذا من باب العوض وليس من باب التبرع أو الوكالة أو نحو ذلك والله أعلم. قال: [فمن العامل لا يستحق شيئاً] ??المشهور في المذهب كما تقدم، أنها عقد جائز، فإن كان الفسخ من العامل فإنه لا يستحق شيئاً، فإذا قال لرجل: إن رددت إلي عبدي الآبق فلك مائة دينار وتعاقدا على ذلك، ففسخ العامل العقد فإنه لا يستحق شيئاً لأنه لم يأت بما شرط عليه. قال: [ومن الجَاعل بعد الشروع للعامل أجرة عمله] ????فإذا كان الفسخ من الجَاعل، فإن كان ذلك قبل شروع العامل بالعمل فلا شيء له لأنه لا يستحق عدمها من عدم العمل، وفي هذه المسألة والمسألة التي قبلها وهي فيما إذا كان الفسخ من العامل يقوى القول بأنها عقد جائز.

أما إذا كان فسخ الجَاعل بعد شروع العامل بالعمل فله أجرة عمله وتقدر بما يستحق مثله عرفاً، وهذا يختلف باختلاف بلده وباختلاف نوع العمل ومشقته، وقال برهان الدين ابن مفلح صاحب المبدع???لو قيل تقسط الأجرة لم يبَعْد" وفيه قوة حيث أمكن ذلك، فإذا علمنا أن هذا العمل يحتاج إلى ثلاثة أشهر وقد عمل له فيه شهراً، وقد قدّر له عوضاً قدره ثلاثون ألفاً فحينئذ يعطى عشرة آلاف، فإذا أمكن هذا كما يكون في بعض الأعمال التي لها مدة محددة أو نحو ذلك، كأن يقول، من بني لي حائطاً فله عشرة آلاف فيبني له نصفه، ثم يقسم الجاعل، فإنه حينئذ يعطي العامل قسطه من الجُعل وهو خمسة آلاف، هذا أظهر وذلك لأن العامل قد دخل على أن له جُعلاً لا على أن له أجرة، فقد تكون أجرة مثله في الشهر ألفين بينما يكون قسط الجُعل عشرة آلاف، هذا القول هو الأظهر حيث أمكن هذا. قال: [ومع الاختلاف في أصله أو قدره يقبل قول الجَاعل] ???إذا اختلفا في أصل الجعالة فالعامل يقول: أنت قلت من رد إلي عبدي الآبق فله عشرة آلاف وصاحب العبد الآبق يقول: أنا لم أقل ذلك ولا بينة، فالقول قول من زعم عليه الجعالة وذلك لأن الأصل براءة ذمته ولأنه منكر، وكذلك إذا اختلفا في قدره، فالجاعل يقول: أنا قلت من ردّ‍عبدي الآبق فله عشرة آلاف درهم، والعامل يقول: بل قلت عشرة آلاف دينار أو أحد عشر ألف درهم، فالقول قول الجَاعل وذلك لأنه منكر والأصل براءة ذمته من هذا القدر الزائد. قال: [ومن ردّ لقطةً أو ضالة أو عمل لغيره عملاً بغير جعل لم يستحق عوضاً] ???من وجد ضالةً لأحدٍ فردّها إليه أو وجد لقطةً فردها على صاحبها، فإنه لا يستحق على عمله هذه عوضاً وذلك لأنه قد بذل منفعته بلا عقد معاوضة فلم يستحق شيئاً وهذا باتفاق العلماء، ويستثنى من ذلك مسألة:

وهي ما إذا كان قد أنقذ مال غيره من هلكة أو تلف كأن ينقذ شيئاً من ماله من غرق أو حريق فله أجرة على ذلك ترغيباً لهذا العمل نصّ على ذلك الإمام أحمد رحمه الله، واختاره شيخ الإسلام وتلميذه ابن القيم?لما في ذلك من الترغيب في العمل، فإن هذا المال أصبح في حكم التالف أو الهالك وهذا هو الذي أنقذه منه فترغيباً له بهذا العمل استحق العوض. قال: [إلا ديناراً أو أثنى عشر درهماً عند ردّ الآبق] ????إذا ردّ آبقاً فله دينار أو اثنا عشر درهماً، واستدلوا بما روى البيهقي من حديث عمر بن دينار أن النبي - صلى الله عليه وسلم -?جعل في ردّ الآبق من خارج الحرم ديناراً" والحديث مرسل، من المرسل الضعيف، وفي البيهقي عن علي بن أبي طالب، بإسناد ضعيف، واختار الموفق وهو رواية عن الإمام أحمد?وهو مذهب الشافعية?أنه لا يستحق شيئاً، وهو الأرجح لضعف الدليل، وللعلة المتقدمة فإنه بذل منفعة من غير عقد معاوضةٍ فلم?يستحق شيئاً. مسألة???لا خلاف بين أهل العلم في أنه يجوز له أخذ الآبق، بخلاف ما سيأتي الكلام عليه من بعض الضوال كما يكون في ضالة الإبل ونحوها، وذلك لما يخشى من ترك الآبق من لحوقه بدار الحرب وقتاله ضد المسلمين، ولما يخشى من إفساده في الأرض فاختلف عن الضوال، وله بيعه?إن رأى المصلحة في ذلك، كأن يجده في بلد أخرى فيخشى ضياعه أو نحو ذلك فله أن يبيعه ويحبس ثمنه لصاحبه إن رأى المصلحة في ذلك. قال: [ويرجع بنفقته أيضاً] ????إذا أنفق على هذا العبد الآبق، كأن ينفق عليه في الطريق حتى يأتي به إلى صاحبه فإنه يرجع بالنفقة وإن لم يأذن له صاحب العبد بذلك لأن النفس لها حرمة وواجب على السيد أن ينفق عليه وهو وإن لم يأذن لكن لحرمة النفس فإنه يرجع عليه بنفقته، لكن هذا الرجوع حيث لم ينو بنفقته التبرع أما إذا أنفق له بنية التبرع فليس له الرجوع. ??باب اللقطة "

اللُقطة: بضم اللام وفتح القاف وتسكينها "اللقَطة، اللقْطة" وعرفه المؤلف بقوله: ??وهي مال أو مختص ضلّ عن ربه??? فهي مال: كدراهم أو دنانير أو شاة أو نحو ذلك. أو مختص: ككلب صيدٍ ونحوه مما لا مالية له، لكن لأحد فيه اختصاص. قال: [وتتبعه همة?أوساط الناس] . ???أي تتعلق به رغبة أوساط الناس، فلأوساط الناس فيه مقصد وله عندهم قيمة، فلا عبرة بأشراف الناس الذين قد لا يكون للشيء الكبير عندهم قيمة بل العبرة بأوساط الناس، فمثلاً: عندنا الريال والريالان?والعشرة هذا لا قيمة له عند أوساط الناس، بخلاف الخمسمائة والثلاثمائة فإن هذا تتبعه همة أوساط الناس، وهكذا في المتاع، فإذا كان المتاع من ذهب فإن همة أوساط الناس تتبعه كالأساور ونحوها. ولذا قال المؤلف: [فأما الرغيف والسوط ونحوهما فيملك بلا تعريف] فالشيء الذي لا قيمة له عند أوساط الناس كالرغيف والتمر والسوط والعصا والحبل ونحو ذلك فهذا يملك بلا تعريف، ودليل هذا ما روى أبو داود في سننه من حديث المغيرة بن زياد عن أبي الزبير المكي عن جابر أن النبي - صلى الله عليه وسلم -???رخص في العصا والسوط والحبل يلتقطه الرجل ينتفع به) ، ورواه المغيرة بن مسلم وحديثه أصح عن أبي الزبير المكي عن جابر بلفظ: "كانوا لا يرون بأساً" أي الصحابة وهذا أصح، وأعله بعض العلماء بعنعنة أبي الزبير المكي، لكن له شاهد متفق عليه، ففي الصحيحين أن النبي - صلى الله عليه وسلم -???مرّ بتمرة في طريق فقال??لولا أني أخشى أن تكون من الصدقة لأكلتها) ،?فبّين النبي - صلى الله عليه وسلم -?أن المانع له من أكل هذه التمرة هو خشية أن تكون من الصدقة، فتبيّن من هذا أنه لم يمنعه كونها لقطة وإنما الذي منعه خشية أن تكون من الصدقة. قال: [وما امتنع من سبع صغير كثور وجمل ونحوهما حرم أخذه]

ما يمتنع من صغار السبع كالإبل فإنه لا يجوز التقاطه ودليل ذلك: ما ثبت في الصحيحين عن زيد بن خالد الجهني أنه سأل النبي - صلى الله عليه وسلم -?عن اللقطة فقال: ??اعرف عفاصها ووكاءها ثم عرفها?سنة، فإن جاء صاحبها وإلا فشأنك??فقال: يا رسول الله فضال الغنم فقال: ?هي لك أو?لأخيك أو للذئب??فقال: يا رسول الله فضالة الإبل، قال: مالك ولها معها سقاؤها وحذاؤها ترد الماء وتأكل الشجر) . وهل يقاس على الإبل البقر ونحوه؟ المشهور في المذهب?القياس، وأنه يقاس عليه الثور ونحوه كما ذكر المؤلف هنا. والقول الثاني في المسألة: وهو قول في مذهب الإمام مالك?أن البقر لا تقاس فإنها تلتقط كالشاة، والمشهور في مذهب الإمام مالك?قياسها على الإبل، استدل أهل القول الأول: وهو المشهور في مذهب الإمام أحمد وغيره، بما روى أبو داود في سننه، أن جرير بن عبد الله البجلي " أمر ببقرة فطردت حتى توارت" أي أمر ببقرة ضالة فطردت عن بقره حتى توارت، وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -????لا يأوي ضالة إلا ضال) ،?لكن الحديث في إسناده اختلاف وجهالة، فعلى ذلك الحديث ضعيف، والذي يتبّين هو رجحان ما ذهب إليه المالكية?في قول لما فيه من الفارق بين الإبل والبقر من حفظ الماء، وتحمل السير في القفار ونحوها، فليست في حفظ نفسها كالإبل، بل هي أشبه بالشياة وإن كان هناك فارق بينهما. والمشهور في مذهب الإمام أحمد?أن الخيل والبغال والحمير كالإبل، ونظرّ الموفق?في مسألة الحمر ورأى أن الأولى عدم إلحاقها وهو القول الراجح?وذلك لعدم صبرها عن الماء بخلاف الإبل، والذي يتبيّن لي ما تقدم وهو اختصاص هذا بالإبل وإن أشبهها شيء في كونه معه سقاؤه الذي يحفظ فيه الماء وحذاؤه الذي يتحمل به المشاق في القفار ونحوها وعنده قدرة على منع نفسه من صغار السبع فإنه إن ثبتت فيه هذه المعاني فحكمه حكم الإبل إذ الشريعة لا تفرق بين المتماثلات.

حرم أخذه": فأخذه لا يحل لما تقدم في حديث زيد بن خالد الجهني وعليه، فإن أخذه وتلف عن يده فعليه ضمان، وذلك لأن يده يد متعدية لأنها أخذت ما ليس لها أن تأخذه. وهل تبرأ ذمته برده إلى موضعه؟ الجواب: لا تبرأ ذمته بذلك، لأن الضمان ثبت عليه بأخذه فلا يبرأ منه إلا برده إلى مالكه أو من يقوم مقامه لكن إن ردّه إلى الحاكم ونائبه فإن ذمته تبرأ لما للحاكم من النظر في أموال المسلمين، وللحاكم ونائبه أن يأخذوا الضوال?ويصفوها في موضع يختص بها، ولا يجب عليهم تصريفها، بل من ضاع له شيء فإنه يأتي إلى هذا الموضع الذي تكون فيه الضوال فإن وجد ضالته أخذها. قال: [وله التقاط غير ذلك من حيوان وغيره إن أمن نفسه على ذلك] . فله التقاط غير ذلك من الحيوانات كالشياة وصغار الإبل وهي الفصلان وصغار البقر وهي العجاجيل، وصغار الخيل ونحوها، وكذلك سائر الأمتعة، فله أن يلتقطها، لما تقدم من قوله - صلى الله عليه وسلم -?في ضالة الغنم ولأنه سئل عن اللقطة وهو عام في الأشياء كلها إلا ما ورد استثناؤه وما شابهه، فله أن يلتقطها بشرط أن يأمن نفسه عليها، فإذا علم من نفسه الأمانة والقدرة على التعرف فله ذلك فهو مباح له، والأفضل الترك، في المشهور في المذهب، قالوا: لأنه يخشى ألا يقوم بواجب التعريف وقد تطمع فيها نفسه فيخون أمانته. وقال بعض الحنابلة وهو قول أبي الخطاب وصوّبه صاحب الإنصاف وهو مذهب الشافعية، أنه يستحب له ذلك إن كانت في مضيعةٍ، أي في مكان غير مطروق بحيث أنه إن لم يأخذها أخذها غيره، وقد يكون هذا الغير ليس بأمين، والذي يتبّين?والله أعلم??أنه إن علم من نفسه أنه يقدر على] ?التعريف وحفظ الأمانة فإنه يستحب له أن يلتقطها لما في ذلك من الإحسان إلى الناس، وأشبه هذا الوديعة، فإن الوديعة قد تطمع النفس بأخذها وخيانة صاحبها ومع ذلك فإنها تسحب اتفاقاً كما نقل. قال: [وإلا فهو كغاصب] .

إذا علم من نفسه الخيانة أو عدم القيام بحفظها فهو كغاصب فيده يد متعدية وعليه فعليه الضمان، فإذا أخذها من لا يعلم في نفسه الأمانة أو يعلم في نفسه الخيانة أو يخشى ألا يقوم بواجب التعريف أو يعلم من نفسه عدم ذلك فلا يحل له أن يأخذها لما في أخذها من تعريضها للضياع، وتفويتها على ملتقط آخر يقوم بحفظها وعليه: فإذا التقطها فيده يد متعدية، واليد المتعدية يد ضامنة. قال: [ويعرف الجميع في مجامع الناس غير المساجد حولاً?? يعرف ما تقدم ذكره مما يجوز التقاطه، يعرفه في مجامع الناس عند أبواب المساجد وفي الأسواق ونحو ذلك من المواضع التي هي مكانُ لوجود صاحب هذه اللقطة أو من يتصل به في هذه المواضع، وقد روى مالك في موطئة بإسناد لا بأس به: " أن عبد الله بن زيد الجهني وجد صُرةً في?طريقه إلى الشام فيها ثمانون ديناراً فسأل عن ذلك عمر فقال له، عرفها سنة عند أبواب المساجد وعند كل من أتى من الشام سنة فإذا مضت السنة فشأنك بها"، فيعرفها في المواضع التي يشيع أمرها فيكون ذلك وسيلة إلى وصول صاحبها إليها، وهذا يختلف باختلاف الأزمان فقد يكون في بعض الأزمان طرق ووسائل لنشر اللقطة والتعريف بها، والمقصود أنه يسلك الطرق المناسبة لمثلها في التعريف وهذا واجبُ عليه لقوله - صلى الله عليه وسلم -???ثم عرفها سنة??والأمر للوجوب ولما كان واجباً عليه منفقة التعريف ومؤونته واجبة عليه، كأن يكون قد بعث منادياً ينادي بذلك، وهذا المنادي له أجرة فأجرة المنادي على الملتقط لا على صاحب اللقطة، وذلك لقوله - صلى الله عليه وسلم -???ثم عرفها?، فأمره بالتعريف وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب، وهذا هو المشهور في مذهب الحنابلة?ويدل عليه ما تقدم فقد أمر النبي - صلى الله عليه وسلم -?بتعريفها وهذا قد يحتاج إلى أجرة ووسيلة الواجب واجبة.

غير المساجد] ?لأن المساجد لم تبنِ لذلك وفي مسلم أن النبي - صلى الله عليه وسلم -?قال: ?من سمع رجلاً ينشر ضالة في المسجد فليقل لا ردها الله عليك فإن المساجد لم تبنِ لهذا) . ???حولاً] ?فيعرفها حولاً كاملاً على الوجه المعتاد الذي يكون وسيلة إلى إيصالها إلى صاحبها، فليس شرطاً أن تكون الأيام متتابعة أي في كل يوم أما الأيام الأول فيجب أن يكون التعريف فيها أكثر، ولذا قال الحنابلة: يعرفها في الأسبوع الأول في كل يوم لأن الأيام الأول التي فقدها صاحبها فيها يكثر بحث صاحبها عنها، فحينئذ وجب الإكثار من المناداة بها في تلك الأيام، ثم بعد ذلك يكون على الوجه المعتاد عرفاً، فيكون في كل أسبوع أو كل شهر أو نحو ذلك. إذن: ليس واجباً عليه أن يعرفها في كل أيام السنة فيستوعب أيام السنة، لما في ذلك من المشقة الظاهرة. نعم في أول الأيام يجتهد في ذلك ويقوى القول بوجوب ذلك في كل يوم حيث كان في ذلك وسيلة إلى إيصال الحق إلى مستحقه ثم بعد ذلك يكون على الوجه المعتاد في عرف الناس. قال المؤلف رحمه الله: [ويملكه بعده حكماً] . ???فيملك الملتقط ما التقطه بعده أي بعد تعريفه حولاً لقوله - صلى الله عليه وسلم -???ثم عرفها سنة فإن جاء صاحبها وإلا فشأنك بها) ، وظاهر قول المؤلف أنه إن لم يعرفها فإنه لا يملكها لأنه قال: "ويملكه بعده" أي بعد التعريف. وهذا هو ظاهر حديث النبي - صلى الله عليه وسلم -?فإنه قال: ?ثم عرفها سنة فإن جاء صاحبها وإلا فشأنك بها) فشرط التعريف. فدل على أنه إن لم يعرفها فلا ملك له عليها، ومثل ذلك إن لم يعرفها تعريفاً صحيحاً أي بأن يقصر في التعريف فلا يقوم بالمطلوب من بثّ الدعاية عليها ونشر أمرها فكذلك فإنه لا يملكها لأنه لم يقم بالشرط على الوجه المطلوب، وشرط التمليك هذا التعريف وهنا لم يعرفها التعريف المطلوب، فإن كان له عذر في ترك التعريف كمرضٍ أو جهلٍ أو نحو ذلك فهل يملكها بعد الحول؟

قولان لأهل?العلم هما وجهان في المذهب، أظهرهما أنه?لا يملكها لعدم توفر الشرط، فإن النبي - صلى الله عليه وسلم -?شرط في ملكيتها تعريفها، وهو لم يعرفها، وأما كونه مريضاً أو جاهلاً أو نحو ذلك من الأعذار فإن هذا يرفع عنه الإثم في ترك واجب التعريف، فإذا التقط لقطةً فلم يعرفها أو عرفها تعريفاً قد قصّر فيه فما الحكم فيها؟ روايتان عن الإمام أحمد? الرواية الأولى??أنه يتصدق بها بشرط الضمان أي متى ما جاء صاحبها يقول له: إني قد تصرفت بها عنك فإن شئت أمضيت صدقتي وإلا فخذ مثلها إن كانت من المثليات أو قيمتها إن كانت من المقومات. الرواية الثانية??أنه يعرفها أبداً وهذا هو الأظهر، كلقطة الحاج، وذلك لأنه قد أخذها ولم يقم بالواجب وهذا لا يحل له فأشبه هذا مالوا التقط لقطة لا يحل له التقاطها فإنه يعرفها أبداً كلقطة الحاج وسيأتي الكلام عليها. وبقوله ?حكماً] ?أي قهراً بلا اختيار، فيملك هذه اللقطة قهراً بلا اختيار منه ولا رضى، فتكون ملكاً له كالميراث هذا هو المشهور في مذهب الإمام أحمد وغيره وهو مذهب الجمهور، ودليل ذلك ما ثبت في ابن ماجه من حديث كعب بن مالك أن النبي - صلى الله عليه وسلم -?قال: (فهي كسبيل مالك?? والقول الثاني??وهو قول أبي الخطاب من الحنابلة??أنها لا تدخل في ملكه إلا رضا منه واختيار كالشراء، والقول الأول أظهر، لقول النبي - صلى الله عليه وسلم -???فهي كسبيل مالك) . فإذن إذا قضى الحول ولم يأتِ صاحبها، وكان قد عرفها فإنها تكون كسبيل ماله، فحينئذ إن جاء صاحبها يوماً من الدهر فهي له وإلا فيتصرف بها كما يتصرف في ماله كله. وهل عليه الضمان أم لا؟ فإذا حصل تلف فيها بتعدٍ وتفريط أو بلا تعدٍ ولا تفريط فهل عليه الضمان؟

أما في الحول، الذي هو زمن التعريف، فإن تلفت بلا تعدٍ ولا تفريطٍ لم يضمن اتفاقاً، لأن يده يد أمانة ويد الأمانة لا ضمان عليها، أما إن تلفت بتعدٍ أو تفريطٍ فهو ضامن كما تقدم تقريره لأن هذا قد حصل بتعديه بفعله، أو بترك الواجب من حفظ الأمانة. وأما بعد الحول، حيث يتصرف بها كتصرف بماله، فإن تلفت بتعدٍ أو تفريطٍ فالظاهر أن عليه الضمان لقوله - صلى الله عليه وسلم -???فإن جاء صاحبها يوماً من الدهر فأعطها إياه) . وأما إن لم يكن منه تعدٍ ولا تفريطٍ، فقولان لأهل العلم. القول الأول??وهو المشهور في المذهب??أن عليه الضمان لأنها أصبحت ملكاً له يتصرف بها كما يتصرف بماله، ولذا في المشهور من المذهب أن له خراجها، أي من ولدٍ أو نحوه من النماء المنفصل فهو للملتقط. والقول الثاني?في المسألة: وهو رواية عن الإمام أحمد، ألا ضمان عليه، وعليه فالخراج أيضاً ليس له، وهذا القول أظهر، لقوله - صلى الله عليه وسلم -?في حديث زيد بن خالد في الصحيحين قال: ?فإن لم يأت صاحبها فاستنفقها ولتكن?وديعةً عندك) ?يدل على أنها في حكم الوديعة، والوديعة لا ضمان فيها وعليه، فالخراج ليس له، لأن الخراج بالضمان. قال: [لكن لا يتصرف فيها قبل معرفة صفاتها] ?????فلا يأكلها ولا يبيعها قبل أن يعرف صفاتها، فيعرف عفاصها" وهي الخرقة التي تشد فيها، ويعرف وكاءها وهو الخيط الذي تشد فيه" ويعرف عددها وجنسها ونحو ذلك بما تتميز به عن بقية الأعيان وعن شبيهاتها أيضاً، إذن لا يدخلها في ماله حتى يضبط صفاتها، ولذا?قال - صلى الله عليه وسلم -???فإن لم تُعترف?فاعرف صفاتها ووكاءها ثم كلها فإن جاء صاحبها فأدها إليه) .?ويستحب له أن يشهد على ذلك، لما ثبت عند الخمسة إلا الترمذي بإسناد صحيح أن النبي - صلى الله عليه وسلم -?قال: (من وجد لقطةً فليشهد ذوي عدلٍ وليحفظ عفاصها ووكاءها ثم لا يكتم ولا يغيب فإن جاء ربها فهو أحق بها وإلا فهو مال الله يؤتيه من يشاء) .

الشاهد قوله: "فليشهد ذوي عدل" وهو عند جمهور العلماء للاستحباب? قال: [فمتى جاء طالبها فوصفها لزم دفعها إليه] ???إن جاء طالبها فقال: أنا أنشد لقطة، وسمعت أن عندك لقطة من الماشية، وماشيتي صفتها كذا ووسمها كذا ووصفها بما تتميز فيه فحينئذ يدفعها إليه بلا بينة ولا يمين، لقوله - صلى الله عليه وسلم -???فإن جاء صاحبها فعرف عفاصها وعددها ووكاءها فأعطها إياه وإلا فهي لك) فأمر النبي - صلى الله عليه وسلم -?بإعطاء هذا الطالب اللقطة متى ما عرف عفاصها ووكاءها ونحو ذلك من صفاتها، ولم يشترط النبي - صلى الله عليه وسلم -?البينة ولم يأمر باليمين فدل على أنه متى ما جاء من يصفها وإن لم يكن عدلاً فإنها تدفع إليه. قال: [والسفيه والصبي يعرف لقطتهما وليهما] ???السفيه هو غير الرشيد، فإذا التقط صبي أو سفيه لقطة فإن وليهما يعرف لقطتهما، لقيامه مقامهما وعليه فيعرف لقطتهما. مسألة: اللقطة لا تخلو من ثلاثة أنوع: ?النوع الأول: أن تكون من الحيوان، كأن يلتقط ماشية ونحوها، فالملتقط يخير بين ثلاثة أمور ويختار الأصلح منها للمالك. الأول??أن يأكلها، فإن جاء مالكها أعطاه القيمة أو المثل إن كانت من المثليات. الثاني??أن يبيعها ويحفظ قيمتها لمالكها، فمتى جاء المالك دفعها إليه. الثالث??أن يحفظها عنده وينفق عليها ويرجع بالنفقة إلى ربها. وإن نوى التبرع فلا رجوع يختار أحدها على حسب ما تقتضيه مصلحة المالك. النوع الثاني??أن تكون طعاماً يخشى فساده، فحينئذ الملتقط بين ثلاثة أمور. أ) الأكل ب) البيع ج) تجفيفها إن أمكن ذلك أو حفظها كما يوجد في الثلاجات ونحوه، ويرجع بالنفقة على مالكها. النوع الثالث??ألا يكون حيواناً ولا طعاماً، فإنه يحفظه وجوباً كالأمانة. مسألة: ???ظاهر كلام الحنابلة?أنه لا فرق بين لقطة مكة وغيرها، وأن لقطة مكة أسوة غيرها واستدلوا بعمومات الأدلة،

وعن الإمام أحمد وهو مذهب الشافعية واختاره شيخ الإسلام?أن لقطة مكة لا تحل فلا تملك وإنما ينشدها أبداً، لقوله - صلى الله عليه وسلم -????ولا تحل ساقطتها إلا?لمنشدٍ) ?أي إلا لمنشد أبداً، ولما ثبت في مسلم أن النبي - صلى الله عليه وسلم -???نهى عن لقطةٍ?الحاج) ?وهذان الحديثان أخص مما استدل به الجمهور، وهو القول الراجح?في هذه المسألة. قال: [ومن ترك حيواناً في فلاة لانقطاعه أو عجز ربه عنه ملكه أخذه] ??فمن ترك حيواناً في فلاةٍ لأن ربه عجز عنه، أو لأن ربه قد انقطع في هذه البرية، فأخذه رجل فأحياه فهو ملك له، وهذا خاص في الحيوان، وأما المتاع فلا لأن حرمته ليست كحرمة الحيوان، والعبد أيضاً ليس حكمه كذلك لأنه ينيج نفسه من الهلكة في الغالب، ودليل هذه المسألة، ما روى أبو داود بإسناد حسن أن النبي - صلى الله عليه وسلم -?قال: ??من وجد دابةً قد عجز عنها أهلها فسيبوها فأخذها فأحياها فهي ملكة) قال: [ومن أُخذ نعله أو نحوه ووجد موضعه غيره فلقطة] ????رجل بعد أن خرج من وادٍ أو من مسجدٍ لم يجد نعله، وانتظر حتى أخذ الناس نعالهم فبقيت نعل، فهل يحل له أن يمتلكها على أنها تقوم مقام نعله أم لا؟ قال المؤلف: فلقطة" فيعرفها سنة، فإن شاء أخذها فإنها تكون لقطة، وذلك لأنه لم يعاوض عليها فلم يملكها. وقال بعض الحنابلة وصّوبه صاحب الإنصاف، أنه يملكها مع قرينة سرقة، فإذا كانت هناك قرائن تدل على تقصد صاحب النعل ترك نعله موضع هذه النعال وأخذ هذه النعال فإن له ذلك، وفي هذا قوة وإلا فإنه لا يحل له أخذها وإن أخذها فإنها تكون لقطة. ??باب اللقيط " اللقيط على زنة فعيل بمعنى مفعول أي الملقوط. قال: [وهو طفل لا يعرف نسبه ولا رقه نبذ أو ضل]

فهو طفل والطفل هو من لم يميز، والمشهور في المذهب وهو قول أكثر الحنابلة?أن غير البالغ كذلك أي إذا نبذ أوضاع ولا يعرف نسبه ولا رقه فهو لقيط ويكون ذلك الطفل من باب ذكر الغالب، فإن الغالب فيمن ينبذ?ويضل أنه الطفل الذي لا تمييز له. قال: [وأخذه فرض كفاية] ???وذلك لأنه من باب إنقاذ من تخشى هلكته كإنقاذ الغريق وإطعام الجائع ونحوهم، فإذا لم يقم به البعض أثم الجميع، فهو من باب فروض الكفاية. قال: [وهو حر] ???واللقيط يحكم له بالحرية، وذلك لأن الأصل الحرية والرق عارض ولما روى مالك في موطئه بإسناد صحيح أن عمر قال لملتقطٍ وقد سأل عريفه عنه وقال له: إنه رجل صالح، فقال: "اذهب فهو حر وأنت وليه وعلينا نفقته" فإن أدعى إنسان أنه مملوك له لم يقبل قوله إلا ببينة حتى الملتقط، وإن كان المدعي سوى الملتقط في يده فإن القول قوله مع يمينه فإذا أدعى رجل أن هذا الطفل الذي في يده أنه مملوك له فإن قوله يقبل مع يمينه بلا بينة: "ذلك لأنه في يده فما دام في يده فالقول قوله، وأما الملتقط فلا يكفي أنه في يده وذلك لمعرفتنا سبب كونه في يده وهو الالتقاط، بخلاف الآخر فإن الظاهر أنه ملك له فما دام في يده فهو ملك له فيقبل قوله مع يمينه بلا بينة. قال: [وما وجد معه] . ???فما وجد مع هذا الطفل ذكراً كان أو أنثى، كأن يوجد معه صرة فيها دراهم أو دنانير أو نحو ذلك. قال: [أو تحته ظاهراً] . ??كفراشة، أو ما يوضع تحت الفراش، كأن يوجد تحت فراشه صرة فيها دراهم أو دنانير أو قطعة من ذهب أو نحو ذلك. قال: [أو مدفوناً طرياً] . ????أي يوجد تحت فراشه شيء من الدراهم والدنانير مدفونة، ودفنها دفن طري، فهي للقيط. قال: [أو متصلاً به كحيوان وغيره] . ???متصلاً به: كحيوان يربط بسريره أو نحو ذلك كماشيه ونحوها "وغيره" كأن يوجد في بستان وليس هناك أحودُ يدعي هذا البستان فهو له، أو يوجد، مثلاً في خيمة في بر ونحو ذلك فهي له.

قال: [أو قريبًا منه فله] . ???فهو للقيط وذلك موافقةً للظاهر، ولأن يده يد صحيحة ولذا يرث ويورث فيده يد صحيحة أي يملك. قال: [وينفق عليه منه] . ???أي ينفق، عليه الولي منه، والولي من تقدم وهو الملتقط، فهذا الملتقط ينفق على هذا اللقيط من هذا المال الذي وجده معه، فينفقها عليه بطعام وشراب وكسوة ونحو ذلك مما يحتاج إليه بالمعروف. فإن اختلف الملتقط أي بعد بلوغه، في النفقة، كأن يقول هذا أنفقت ألفاً ويقول?الآخر، أنفقت خمسمائة، أو اختلفا هل أسرف الملتقط في الإنفاق أم لم يسرف فالقول قول الملتقط لأنه أمين والقول قول الأمين. قال: [وإلا فمن بيت المال] . ???إن لم يكن معه مال ينفق عليه منه، فينفق عليه من بيت المال، لما تقدم من قول عمر: "وعلينا نفقته". فإن لم ينفق عليه من بيت المال لكونه ليس بمنتظم بمصالح المسلمين أو ليس هناك بيت مال، فيجب عليه أن ينفق عليه من علم حاله من المسلمين، وهذا فمرض كفاية سواء كان المتلقط أو غيره. فإن أنفق عليه منفق بنية الرجوع إلى اللقيط إذا بلغ وأيسر أو الرجوع إلى بيت المال فله ذلك. قال: [وهو مسلم] . ??فاللقيط يحكم بإسلامه، وذلك إن كان التقاطه في دار إسلام تبعاً للدار ولأن الإسلام يعلو ولا يعلى عليه، وأما إذا كان في دار كفار أي وجد في دار كفار فإنه يحكم عليه بالكفر سواء كان فيها مسلمون أو لم يكن فيها مسلمون، تبعاً للدار هذا هو المشهور في المذهب? وقال الشافعية وهو وجه في المذهب، إن كان في البلد مسلمون فإنه يحكم له بالإسلام تغليباً للإسلام، والإسلام يعلو ولا يعلى عليه، وفيه قوة حيث أمكن هذا أما إذا لم يمكن هذا أو ثبتت قرائن تدل على كفره فلا، كأن يوجد في قرية من قرى الكفار وكان عليه بعض لباسهم وزيهم ونحو ذلك فلا يمكن أن ينسب مع ذلك إلى المسلمين. قال: [وحضانته لواجده الأمين] .

الحضانة تكون لواجده الأمين فيشترط أن يكون الحاضن له أميناً.. وهو واجده وعليه فإن كان فاسقاً فلا حضانة له عليه، ودليله ما تقدم من أثر عمر لما سأل عريفه عن الرجل فقال هو رجل صالح، فإن قيل، أليست اللقطة تصح من الفاسق فكذلك يصح أن يكون الملتقط للقيط فاسقاً؟ فالجواب: أن بينهما فرقاً من وجهين. الوجه الأول: أن الملتقط للقيط له عليه ولاية وأما الملتقط للقطة فهو كاسب. الوجه الثاني: أن اللقطة لا تطول مدتها فإنه يوقت له سنة? ???بخلاف اللقيط فإن أمده طويل يحتاج إلى سنوات طويلة لحفظه وصيانته فاشترط أن يكون عدلاً، وعليه فإذا كان الملتقط فاسقاً فإن الإمام ينزع اللقيط من يد هذا الواجد ويضعه في يد أمين. فإن وجد اثنان حكم للأنفع له منهما، فإذا وجده اثنان أحدهما أنفع للقيط في دينه ودنياه فإنه يحكم له به مراعاة للأحظ لهذا اللقيط. فإن اختلف فيه اثنان كل يدعي أنه التقطه، فيحكم لمن كان في يده، فإن لم يكن في يد أحدهما فحينئذ يحكم بالقرعة هذا إذا لم يكن هناك بينةً، أما إذا كانت هناك بينة فإن البينة تظهر الحق وتقضي به. والذي يتبيّن أنه إن?كان أحدهما أنفع للقيط من الآخر فإنه يحكم له حيث لم تكن يد أحدهما عليه ولا بينة. قال: [وينفق عليه بغير إذن الحاكم] . ???لأنه ولي فلم يحتج إلى أذن الحاكم. قال: [وميراثه وديته لبيت المال] . ??إذا مات اللقيط وله مال، أو قتل فماله الذي ورثه وديته تكون لبيت المال لأنه لا وارث له، لا بنكاح ولا بسبب ولا بولاء، هذا هو المشهور في المذهب وهو مذهب الجمهور?

واختيار شيخ الإسلام وتلميذه ابن القيم وهو قول إسحاق?أن المتلقط يرثه وذلك لأن إنعام الملتقط على لقيطه ليس دون إنعام المعتق على معتقه، والشريعة لا تفرق بين المتماثلات، وهذا القول هو الأرجح في هذه المسألة. وفي السنن بسند ضعيف أن النبي - صلى الله عليه وسلم -?قال: ??المرأة تحوز ثلاث مواريث?لقيطها وعتيقها وولدها الذي لا عنت عليه) ،?والحديث اسناده ضعيف لكن المعنى يدل عليه. قال: [ووليه في العمد الإمام يتخير بين القصاص والدّية] . ???إذا قتل اللقيط عمداً فإن وليه الإمام يتخير بين القصاص إما القصاص وإما الدية فيختار الأصلح هذا هو المشهور في المذهب وهو مذهب الجمهور، وقد يقال إن وليه في ذلك ملتقطه لقول عمر: "أنت وليه" وقد تخرج هذه المسألة على المسائل السابقة. فإن قطع للقيط طرف فإنه ينتظر بالجاني حتى يبلغ اللقيط ويرشد ثم يقال له: إن شئت أن تأخذ بالقصاص وإن شئت أن تأخذ بالدية. فعن الإمام أحمد??أن للإمام استيفاء القصاص قبل البلوغ واختاره صاحب الفائق وهو أرجح? وعليه أيضاً: له أن يختار الدية فيختار الأصلح من قود أو دية. قال: [وإن أقر رجل أو امرأة ذات زوج مسلم أو كافر أنه ولده ألحق به ولو بعد موت اللقيط] . هنا مسألتان. المسألة الأولى:?إذا أقرّ رجل، سواء كان هذا الرجل مسلماً أو كافراً حراً أو عبداً، أقر أن هذا اللقيط ولده فيقبل قوله ولا يطالب ببينة لما في ذلك من مصلحة اللقيط في اتصال نسبه ولا نتزحزح عن الحكم المتقدم وهو الحكم بحريته وإسلامه فكون المدعي كافراً لا يجعلنا ننتقل إلى الحكم بكفر هذا اللقيط، ولا الحكم برقه بعد حريته، فإذا أدعى كافر أن هذا اللقيط ابنُ له وقد حكمنا له بالإسلام، فإن الإسلام يبقى له ويثبت نسبه لهذا الكافر، وكذلك تثبت حريته ويثبت نسبه لهذا الرقيق. المسألة الثانية??أن تدعيه امرأة فتقول: هو ابني فحينئذ يلحق بها ولا يلحق بالزوج، هذا هو المشهور في المذهب.

وقال الجمهور وهو قول في المذهب:?بل لا يلحق بها لأنه لا منفعة له بذلك إذ لا يثبت له بذلك نسب، وأيضاً يتضرر بذلك زوجها ويتضرر بذلك أهلها للّحوق العار بهم، وهذا هو القول الراجح، والعكس كذلك فإذا ادعاه الزوج فلا ينسب لزوجته إذ قد يكون لنكاح شبهةٍ أو من زوجة أخرى، أو نحو ذلك، فما دام أنها لم تقر به فلا ينسب إليها أما إذا أقرّت به فإنه ينسب إليها. قال: [ولا يتبع الكافر في دينه إلا ببينةٍ تشهد?أنه ولد على فراشه] . ???إذا ادعى كافر أن هذا اللقيط ابنه، وجاء ببينةٍ تدل على أنه ولد على فراشه فحينئذ يلحق بهذا الكافر، نسباً وديناً لأن البينة قامت على أنه ابن له وحينئذ يلحق به في دينه. وأما إذا كانت مجرد دعوى لا بينة فيها فنثبت له النسب لا الدين. قال????وإن اعترف بالرق مع سبقٍ منافٍ أو قال إنه كافر لم يقبل منه] ???إذا قال هذا اللقيط بعد أن بلغ، أنا رقيق مع سبقٍ منافٍ أي مع سبق شيء منافٍ لذلك، كأن يكون قد باع واشترى أو نكح أو نحو ذلك، فهذه أفعال لا يفعلها إلا الأحرار. وكذلك إذا كان مع عدم سبق منافٍ، فالحكم كذلك فلا يقبل منه ذلك، لحق الله عز وجل في الحرية، فإن الحرية يلحقها أحكام، إذن هذه مجرد دعوى لا تخرج بها من الأصل من ثبوت حريته وما يترتب عل ذلك من أحكام لله عز وجل في الأحرار. أو لما بلغ قال إنه كافر، فلا يقبل منه، وحينئذ فلا يبقى مسلماً بل يكون مرتداً، لأنه إذا قبلنا منه وقلنا أنت كافر فحينئذ نبقيه كسائر الكفار الذين قد تثبت لهم أحكام تعصم دماءهم كالذميين، وأما إذا لم نقبل منه ذلك فحينئذ يكون قوله ردة فيحكم عليه بالقتل. قال: [وإن ادعاه جماعة قدم ذو البينة] . ???إذا ادعاه جماعة فكل يقول هذا ابني، فإنه يقدم ذو البينة منهم سواء كان مسلماً أو كافراً حراً أو عبداً لأن البينة تظهر الحق وتحكم به. قال: [وإلا فمن ألحقته القافة به] .

إن لم تكن هناك بينة، فندعي القافة ونحكم بقولهم والقافة: قوم لهم معرفة في الشبه فيلحقون الشبيه بشبيهه. وقد ثبت في الصحيحين أن النبي - صلى الله عليه وسلم -????دخل على عائشة يوماً مسروراً تبرق أسارير وجهه فقال: ألم تري إلى مجزر المدلجي ??وبنو مدلج" كانوا مشهورين بالقيافة??قد دخل على أسامة وزيداً وعليهما قطيفة قد غطيا رؤوسهما وبدت أقدامهما فقال: إن هذه الأقدام بعضها من بعض) فقد أقر النبي - صلى الله عليه وسلم -?العمل بها، وكذلك أقر عمر كما في البيهقي والطحاوي بإسناد صحيح. فإن حكمت البينة للجميع حكم به للجميع فكان ابناً لهم يرثهم ويرثونه وتثبت الأحكام كلها. ودليل ذلك الأثر عن عمر، فقد ثبت في البيهقي والطحاوي بإسناد صحيح، (أن رجلين اشتركا في وطء امرأة في شهر فدعى عمر القافة فقال: أخذ الشبهُ لهما جميعاً، فقضى به لهما) ، فيحكم به للجميع وهو المشهور في مذهب الإمام أحمد? وإن أشكل على القافة أو لم يتبينوا من ذلك أو نفى القافة أن يكون شبيهاً لأحد من هؤلاء المدعين؟ ضاع نسبه في المشهور من المذهب. وقال الإمام أحمد في رواية عنه??بل يلحق?بأيهما أحب وهو القول الراجح وهو مذهب الشافعية?ودليله: ما ثبت في البيهقي بإسناد صحيح: " أن رجلين ادعيا رجلاً ولا يدرى أيهما أبوه فقال عمر: اتبع أيهما شئت". وهل ينتظر حتى يبلغ أو حتى يميز؟ قولان للشافعي. القول القديم للشافعي: أنه ينتظر حتى يبلغ. والقول?الجديد: أنه ينتظر حتى يميز، والقول القديم هو قول في المذهب وهو أولى?وأنه ينتظر به حتى يبلغ لأن اختياره بعد ذلك يكون أتم.

كتاب الوقف، والهبة، والعطية

الدرس الثامن بعد الثلاثمئة ??يوم السبت: 3 / 7 / 1416 هـ) ??كتاب الوقف " ??الوقف: مصدر وقف يقف وقفاً، وجمعه وقوف ويقال: وقفه وأوقفه. أما في الاصطلاح الفقهي فقد عرفه المؤلف. بقوله: ??وهو تحبيس الأصل وتسبيل المنفعة] . ????كأن يحبس نخلاً، وثمارها تكون صدقة في سبيل الله أو يحبس داراً وأجرتها في سبيل الله، أو يحبس فرساً يركب في سبيل الله. ??والوقف مندوب إليه، لقوله تعالى: ((وافعلوا الخير)) (1) ?وهو من الخير. وثبت في الصحيحين عن ابن عمر: أن عمر بن الخطاب أصاب أرضاً بخيبر فأتى النبي - صلى الله عليه وسلم -?يستأمره فيها فقال له?????لو شئت حبست أصلها وتصدقت بها) ??، ?فتصدق بها عمر أنه لا يباع أصلها ولا يورث ولا يوهب، تصدق بها في الفقير وفي القربى وفي الرقاب وفي سبيل الله وابن السبيل، لا جناح على من وليها أن يأكل منها بالمعروف ويطعم صديقاً غير متمول مالاً) ? (2) قال: [ويصح بالقول وبالفعل الدال عليه] ???فالوقف يصح بكل قول دل عليه، وبكل فعلٍ دل عليه. ثم مثّل المؤلف للفعل فقال??? ??كمن جعل أرضه مسجدا وأذِن للناس في الصلاة فيه أو مقبرة وأذن بالدفن فيها] ??فإذا جعل أرضاً مسجداً وأذن للناس بالصلاة فيه فتكون هذه الأرض وقفاً مسجداً لله عز وجل؛ لأن هذا الفعل منه يدل على ذلك، ولا يشترط أن يقول هي وقف أو نحو ذلك، ولكن فعله يدل على ذلك ولو لم يتلفظ بأنها وقف. أو جعل أرضه مقبرة فحوطها كما تحوّط المقابر وأذن للناس أن يدفنوا فيها فكذلك هي وقف?؛?لأن هذا الفعل منه يدل على ذلك. قال: [وصريحه: وقفت وحبست وسبلت] . ???هذا في القول?? ?القول منه ما هو صريح ومنه ما هو كناية ?

_ (2) أخرجه البخاري في باب الشروط في الوقف، من كتاب الشروط، وفي باب ما للموصي أن يعمل في مال اليتيم..، وباب الوقف كيف يكتب من كتاب الوصايا، ومسلم باب الوقف، من كتاب الوصية، كما أخرجه بقية السبعة، المغني [8 / 184] .

فالصريح يكفي فيه اللفظ من غير اشتراط انضمام شيء إليه من نية أو فعل أو قرينة، فبمجرد ما يتلفظ باللفظ الصريح تثبت هذه العين وقفاً وإن قال أنا لم أنوِ، وإن لم يفعل ما يدل على ذلك، وإن لم تكن?هناك قرينة تدل على أنه وقف?? وصريحه: وقفت وحبست وسبلت، فإذا قال: وقفت داري أو حبست داري أو سبلت داري فهذه ألفاظ صريحة في الوقف. قال: [وكنايته?تصدقت وحرمت وأبَّدت??? ?????الكناية هي: ما لا يكفي فيه اللفظ بل يشترط انضمام أمر زائد إليه من نية أو فعلٍ أو قرينة. وكنايات الوقف: تصدقت وحرمت وأبدّت?? ?فإذا قال مثلاً: تصدقت بداري?، ثم قال: أنا لم أنوه وقفاً، ولا قرينة ولا فعل?، فإنه يحكم بقوله?؛?وذلك لأن هذه الألفاظ مشتركة في الوقف وغيره فكان لابد من أمر زائدٍ يدل على إرادة الوقف?? ??وقال ابن الجوزي، وهو من فقهاء الحنابلة???بل لفظة (?أبَّدت???تدل على الوقف فهي من صريحه لا من كنايته. وفيه قوة: ومرجع معرفة اللفظ أهو من الصريح أم من الكناية مرجع ذلك إلى أعراف الناس. ?? قال: [فتشترط النية مع الكناية] . ???أي يقول: تصدقت بداري " وينوي أنها وقف؛ ?لأن قوله: تصدقت بداري، لفظ مشترك فيحتمل أن تكون الصدقة التي ليست هي بوقف ويحتمل أنه يريد الوقف، فلما كان لفظاً مشتركاً اشترط فيه النية. قال: [أو اقتران أحد الألفاظ الخمسة] . ??تقدمت ألفاظ ستة، منها ثلاثة صريحة، ومنها ثلاثة من باب الكناية، فإذا تلفظ بلفظ من ألفاظ الكناية وضمّ إليه لفظاً من الألفاظ الباقية، فحينئذ يزول الاشتراك وتكون وقفاً. ??فإذا قال: تصدقت بداري صدقة موقوفة، أو تصدقت بداري صدقة محبوسة، أو تصدقت بداري صدقة مسبّلة أو قال تصدقت بداري صدقة محرمة أو صدقة مؤبدة. ?فحينئذ يكون وقفاً وإن ادعى?أنه لم ينو، فلا يقبل منه ذلك. وكذلك لو قال: "حرمت داري تحريماً مؤبداً أو تحريماً موقوفاً أو تحريماً محبساً، ونحو ذلك فإنه يحكم بأنه وقف??

ومرجع هذا في الألفاظ إلى عرف الناس، وقد يكون في عرف الناس لفظ هو صريح في الوقف وهو في عرف من قبلهم كناية فيه وقد يكون العكس أيضاً. قال: [?أو حكم الوقف] . ????أي أن يضم إلى هذا اللفظ الذي هو من الكناية، يضم إليه ما يدل على الوقف وهو حكمه. كأن يقول: "?تصدقت بداري فلا تباع ولا توهب ولا تورث، فدل على أن قوله?????تصدقت بداري، يريد بذلك الوقف. قال: [ويشترط فيه المنفعية دائماً من عين ينتفع به مع بقاء عينه كعقار وحيوان ونحوهما] (1) ? ??فيشترط في الوقف أن يكون ذا منفعة دائمة مع بقاء العين ? فإذا كانت العين لا ينتفع بها على سبيل الدوام فلا تصح وقفاً. مثال ذلك: الدراهم والدنانير، والطعام ونحوها، فلا يصح وقفها وذلك لأنها تنفد فلا يبقى الانتفاع. ??كعقار] ?أي كأرض يبنى فيها، وتبقى وتؤجر ومثل ذلك البستان فهذه يصح وقفها. وقد تقدم حديث عمر لما أصاب أرضاً بخيبر فقال?له ?النبي ?- صلى الله عليه وسلم -??????لو شئت حبست أصلها وتصدقت بها) ?فهذا يدل على أن الأرض تصح وقفاً. ?وحيوان] ?فالحيوان يصح وقفه، كما في قوله - صلى الله عليه وسلم -?في صحيح البخاري: ??من حبس فرساً في سبيل) (2) ?

_ (1) في النسخة التي عندي: " ويشترط فيه المنفعة دائماً من معين ينتفع به مع بقاء عينه، كعقار وحيوان ". (2) لم أجده بهذا اللفظ في صحيح البخاري، لكنه أخرج في كتاب الجهاد والسير، وفي كتاب الوصايا، باب وقف الدواب والكراع.. (2775) : أن عمر حمل على فرس له في سبيل الله، أعطاها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ليحمل عليها رجلا، فأخبر عمر أنه قد وقفها يبيعها، فسأل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يبتاعها فقال: (لا تبتعها ولا ترجعن في صدقتك) ، وأخرجه مسلم 1621.

وفي الصحيحين أن النبي - صلى الله عليه وسلم -?قال: في خالد بن الوليد: ??وأما خالدٌ?فإنكم تظلمون خالداً فقد احتبس أدراعه وأعتاده في سبيل الله) (1) ? ?وهذا يدل على صحة وقف الأدراع ونحوها من السلاح?? والعتاد???هو أهبة القتال من خيل وذخيرة وسلاحٍ ونحو ذلك. وفي?قول المؤلف????من عين??? ??هذا هو المشهور في المذهب?وأن الموصوف في الذمة لا يصح وقفه ? فإذا قال???وقفت عبداً وصفه كذا، أو داراً وصفها كذا أو حيواناً وصفه كذا، فلا يصح. ومثل ذلك، المبهم فإذا قال: "?تصدقت بأحد فرسيّ في سبيل الله صدقة موقوفة، أو قال???حبست أحد عبديَّ في سبيل الله" ونحو ذلك، فهنا مبهم لا يدري أي العبدين ولا أي الفرسين، فلا يصح أيضاً كما هو المشهور في المذهب? قالوا: كالهبة. وسيأتي الكلام على الهبة والخلاف فيها. ??وهنا احتمال في المذهب وهو اختيار شيخ الإسلام???أنه يصح وقف الموصوف في الذمة ويصح وقف المبهم?،?وهذا هو القول الراجح? ???وعليه: فعليه أن يوقف ما وصفه في الذمة?? ?فيقال?له???أنت وقفت داراً قلت وصفها كذا وكذا، فعليك أن توقف ما وصفت ? وإن قال: وقفت أحد عبدي في سبيل، فيُقرع بينهما ومن خرجت عليه القرعة فهو وقف. والحمد لله رب العالمين الدرس التاسع بعد الثلاثمئة ??يوم الاثنين: 5 / 7 / 1416 هـ) قال رحمه الله: [وأن يكون على بر كالمساجد والقناطر والمساكين والأقارب] . ????هذا هو الشرط الثاني من شروط الوقف وهو أن يكون على برٍ وهذا باتفاق العلماء.

_ (1) أخرجه البخاري في باب قول الله تعالى: {وفي الرقاب..} من كتاب الزكاة، وفي باب ما قيل في درع النبي - صلى الله عليه وسلم -، من كتاب الجهاد،، ومسلم في باب في تقديم الزكاة ومنعها من كتاب الزكاة،وأخرجه أبو داود والنسائي وأحمد، المغني [8 / 232] .

فإن الوقف يدوم إلى ما بعد موته فلم يكن له?حق في أن يصرف شيئاً من ماله في أمر محرم ولا مباح فاشترط أن يكون في بر، كبناء مسجد أو مدرسة علمية أو بناء دار يكون ريعها للفقراء وذوي القربى?? فإن كان على محرم فلا يجوز كأن يبنى داراً للهو?المحرم أو لشرب الخمر ونحو ذلك?? وإذا كان على مباح فإنه لا ينفذ أيضاً كأن يجعل داره وقفاً على لهو مباح. قال: [من مسلم وذمي] . ????يصح أن يكون الوقف على المسلم وعلى الذمي ? أما المسلم فظاهر. وأما الذمي?فلقوله تعالى: ((لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يُخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم)) (1) ? وروى عبد الرزاق في مصنفه، والأثر حسن أن صفية زوج النبي- صلى الله عليه وسلم -?أوصت لابن أخٍ لها يهودي? (2) ?فيجوز أن يوقف على ذمي ونحوه. قال: [غير حربي] . فالحربي لا يجوز أن يوقف عليه، وذلك لأن ماله ليس بمعصوم وعليه فريع الوقف غير معصوم ? والوقف لازم وحين ذلك لا يكون لهذا المال عصمة لكون صاحبه ليس بمعصوم المال ولأنه ليس بوجه برٍ أن يوقفه على من يحارب الله ورسوله وأهل الإسلام.

_ (1) سورة الممتحنة. (2) أخرجه عبد الرزاق في مصنفه برقم (9914) في كتاب أهل الكتاب، باب عطية المسلم الكافر ووصيته له قال: " أخبرنا عبد الرزاق عن الثوري عن ليث عن نافع عن ابن عمر: أن صفية ابنة حُييّ أوصت لابن أخ لها يهودي " وبرقم (9913) [6 / 33] وبرقم (19327) [10 / 349] قال: " أخبرنا عبد الرزاق قال: أخبرنا معمر عن أيوب عن عكرمة، قال: باعت صفية زوج النبي - صلى الله عليه وسلم - داراً لها من معاوية بمئة ألف، فقالت لذي قرابة لها من اليهود: أسْلِم فإنّك إن أسلمتَ ورثتني، فأبى، فأوصت به، قال بعضهم: بثلاثين ألفاً ". وأخرجه برقم (19342) قال: " أخبرنا الثوري عن ليث عن نافع عن ابن عمر أن صفية زوج النبي - صلى الله عليه وسلم - أوصَت لنسيب لها نصراني ".

قال: [وكنيسةٍ ونسخ التوراة والإنجيل وكتب زندقة] . فهذه لا يجوز الوقف عليها. قال: [وكذا الوصية] . ??أي في الحكم، فالوصية كذلك فإن ما لا يصح وقفه لا تصح الوصية به، وسيأتي الكلام على هذا في باب الوصايا. قال: [والوقف على نفسه] . ?أي لا يصح الوقف على نفسه، فإذا قال: " وقفت داري على نفسي ثم أولادي من بعدي" فهنا الوقف لا يصح. قالوا: كما لا يصح بيعه على نفسه وإجارته عليها، هذا هو المشهور في المذهب. ??وعن الإمام أحمد وهو اختيار شيخ الإسلام وتلميذه ابن القيم وهو قول طائفة من أصحاب الإمام أحمد كابن عقيل وهو مذهب أبي يوسف من الأحناف، وبعض الشافعية???أن الوقف على النفس صحيح. وهذا هو الأظهر، وذلك قياساً على أم الولد فإن الرجل إذا وطئ أمته فولدت له ولداً فهي أم ولد، تبقى له في حياته ولا تباع ولا توهب، فكذلك الوقف يبقى له في حياته ولا يباع ولا يوهب?? ?وكما لو أوقف مسجداً وصلى فيه أو أوقف مقبرةً ودفن فيها أو أوقف بئراً وكان دلوه فيها كدلاء المسلمين كما وقع من عثمان رضي الله عنه فهنا قد دخل في المنتفعين من الوقف، ولا خلاف بين العلماء في جواز ذلك وأنه إذا أوقف مقبرةً فله أن يقبر فيها وكذلك إذا أوقف مسجداً فله أن يصلي فيه وهكذا فكذلك هنا?? ?وأما المنع من بيعه على نفسه وإجارته عليها فهذا لامتناعه فهو ممتنع لا فائدة فيه. وفي هذا القول ترغيب بالوقف فإنه إذا علم أنه يمكنه أن يوقف شيئاً من ماله ويستفيد من ريعه حياته فإن هذا يكون ترغيباً له فيه. ??قال الحنابلة??ويجوز له إن أوقفه عل غير نفسه أن يشترط غلته كلها أو بعضها أو مدة معلومة، له أن يستثني ذلك وهو مخرج من المسألة المتقدمة. ويستدلون بما تقدم من قول عمر????ولا جناح على من وليها أن يأكل منها بالمعروف ويطعم صديقاً غير متمول مالاً?? (1) ?وكان عمر كما قالوا، كان هو وليها في حياته??

_ (1) متفق عليه، وقد تقدم في الصفحة الأولى.

وهذا ظاهر، وحيث قلنا بالقول المتقدم من جواز الوقف على نفسه فهذا أولى. قال: [ويشترط في غير المسجد ونحوه أن يكون على معين يملك] . المسجد والمقبرة ونحوهما إذا أوقفه فإنه لا يوقفه على معين بل على جماعة من الناس، وكذلك القنطرة أو النفق أو الطريق، فهذا وقف على غير معين، فلا يشترط العلم بالموقوف عليه، فإذا بنى مسجداً فلا يشترط أن يعلم من يصلي فيه، وهكذا. أما غير المسجد ونحوه، فإنه يشترط فيه أن يكون على معين يملك، فيكون على معين غير مجهول ولا مبهم. قال: [لا مَلَك] . فإذا أوقف على ملك من الملائكة أو على جني فإنه لا يصح لأنه لا يملك. قال: [وحيوان] . ??لا يصح الوقف عليه لأنه لا يملك، وكذلك العبد فإنه معين لكن لا يملك فلا يصح الوقف عليه. قال: [وقبر] ? (1) ? لا يصح الوقف عليه لأنه وإن كان معيناً لكنه لا يملك. قال: [وحمل] ? (2) ? ??لا يصح الوقف عليه لأنه ليس بمعين أو لا يدرى?هل موجود أو لا. ويشترط?،?وهو الشرط الرابع???هو? (3) ?????أن يكون ناجزا لا معلقاً هذا هو المشهور في المذهب? فإذا قال: "?أوقفت داري إن شفى الله مريضي أو إن جاء زيد من سفر" فإن الوقف لا يصح. ??والقول الثاني في المذهب وهو اختيار شيخ الإسلام، واختيار صاحب الفائق من الحنابلة???إن الوقف يصح وهو الراجح إذ لا مانع منه شرعاً. ومثل ذلك إن قال: أوقفت داري سنة أو عشر سنوات، أي ثم بعد ذلك ترجع إليَّ?، ففيها قولان: والأظهر الجواز?إذ لا مانع منه، وإن كان الوقف في الأصل يدوم ويستمر لكن هذا لو سلمنا أنه ليس بوقف لكن لا نسلم أنه ممنوع إذ الأصل في العقود الحل. قال: [لا قبوله] . أي لا يشترط قبوله، إذا أوقف على غير معين فلا إشكال في أنه لا يشترط القبول، كأن يوقف مسجداً ونحوه، فلا يشترط قبول الموقوف عليهم لأنها جهة عامة.

_ (1) في الأصل:والقبر. (2) في الأصل: والحمل. (3) كذا في الأصل.

لكن الكلام هنا حيث كان الوقف على معينٍ كأن يقول: "أوقفت داري على زيد وأولاده من بعده" فهل يشترط قبول الموقوف عليهم أم لا؟ قال المؤلف: لا يشترط قبوله، كالعتق?، فكما أن العبد لا يشترط قبوله للعتق?، فكذلك هنا. والقول الثاني في المسألة، وهو وجه في المذهب وهو رواية عن الإمام أحمد???أنه يشترط قبوله?؛?قياساً على الوصية أو الهبة، فهي تبرع من آدمي. وهذا أظهر?فهي بالهبة هنا أشبه منها بالعتق ? والفارق بين الوقف والعتق أن العتق إن رُدّ فإن في ذلك إبطالاً لحق الله في الحرية?? ?بخلاف رد الوقف فكان الوقف هنا أشبه بالهبة والوصية منه بالعتق. ولأن ما يترتب من المنة ونحوها ثابتة في الوقف كما هي ثابتة في الهبة. فإن لم يقبل هذا الوقف فإنه ينصرف إلى من بعده، فإذا قال "أوقفت هذه الدار على زيد وعمرو" فلم يقبل زيد فإنها تنتقل إلى من بعده. قال: [ولا إخراجه عن يده] . أي لا يشترط أن يخرج الوقف عن يده. فإذا قال مثلاً: هذا الفرس وقف لله تعالى، ولم يخله فهو ما زال في يده، فهل يلزم الوقف أم لا؟ قولان لأهل العلم. ???القول الأول???أنه يلزم فليس له الرجوع بعد ذلك?، وهذا هو المشهور في المذهب? قالوا??لأنه قد ثبت بالقول الدال عليه أو?الفعل الدال عليه فيحصل الوقف بذلك. قالوا: وقياساً على العتق?، فكما أن الرجل إذا قال: أعتقت فلاناً فإنه يعتق عليه وإن لم يخرجه من يده" فكذلك هنا. القول الثاني?،?وهو رواية عن الإمام أحمد??أنه لا يلزم ويثبت إلا إذا أخرجه من يده وأما قبل ذلك فله الرجوع?? ?واستدلوا: بالقياس على الهبة والوصية. فكما أن الهبة لا تثبت حتى يخرجها عن يده ويقبضها الآخر فكذلك هنا في الوقف. والذي يترجح?من هذين القولين?، أن ذلك ليس بشرط بل يثبت الوقف وإن كان الوقف في يده?، وذلك لأن حقيقة الوقف قد ثبتت بمجرد قوله: "وقفت أو حبست ونحو ذلك" لأن الوقف هو حبس الأصل وتسبيل المنفعة، وقد حصل الوقف بقوله ذلك ?

وأما الهبة فلا تكون هبةً حتى ينتقل من يده ويقبضها الآخر ففرق هنا بين الهبة والوقف. فالراجح أنه لا يشترط لثبوت الوقف - لا يشترط - إخراج الوقف من يد الواقف. والحمد لله رب العالمين الدرس العاشر بعد الثلاثمئة ??يوم الثلاثاء: 6 / 7 / 1416 هـ) ??فصل " قال رحمه الله: [ويجب العمل بشرط الواقف] . يجب العمل في الوقوف بشرط واقفها، لأثر عمر المتقدم في الصحيحين. قال شيخ الإسلام: "وقول الفقهاء نص الواقف كنص الشارع يعني في الفهم والدلالة لا في وجوب العمل". فالفقهاء عندهم أن لفظ الواقف كنص الشارع يعني في دلالة الألفاظ من عموم أو خصوص أو إطلاق أو تقييد أو نحو ذلك ? قال أي شيخ الإسلام، "والتحقيق أن لفظه ولفظ الموصي والحالف والناذر وكل عقدٍ يُحمل على عادته في خطابه ولغته التي يتكلم فيها وافقت لغة العرب أو لغة الشرع أم لا"?اهـ. فالعبرة بما يريده في لفظه وهو المراد في خطاباته وفي لغته أي في أعراف الناس، فمثلاً الناس عندنا يطلقون الولد ويريدون به الذكر، وليس هذا في لغة العرب ولا في لغة الشرع. فإذاً: فهم كلام الواقف مرجعه إلى عادته في خطابه ولغته التي يتكلم فيها?؛?لأن هذا هو مراده. وقول المؤلف هنا:???بشرط الواقف "، ?ظاهره سواء كان الشرط مستحباً أو كان مباحاً، وهذا هو المذهب?? مثال كون الشرط مستحباً أن يقول: "?أوقفت داري على أولادي ثم أولادهم من بعدهم لطلبة العلم أو لحفظة القرآن منهم" فهذا شرط مستحب?? ?ومثال الشرط المباح أن يقول: " أوقفت داري على أولادي الأغنياء منهم" فهذا شرط مباح. واختار شيخ الإسلام أن الشرط المباح ليس بمعتبر فإذا قال: "للأنسب منهم أو للغني منهم أو غير ذلك من الشروط المباحة أو شرط ألّا يؤجر ونحو ذلك، فإنه لا عبرة بشرطه، فللناظر على الوقف أن يخالف شرطه وهذا هو القول الأرجح??

وذلك لأن اشتراط القربة ثابت في اعتبار الجهة أصلاً كما تقدم?، وأن الواجب في الوقف أن يكون على قربة فكذلك في شروطه فيشترط أن تكون في قربة ?? ولأن مثل هذا سفه وعبث في المال فينهى عنه فالراجح هو ما اختاره شيخ الإسلام? وشرط الواقف يجب العمل به حيث لم يخالف مقصود الشرع أو لم يكن فيه إخلال بمقصود الشارع فإذا وضع وقفاً على أئمة وقال???يكون لغير الأقرأ أو لغير الأعلم???أو كأن يقول???للأكبر???، فهذا يخالف ويخل بمقصود الشارع من أن إمام الناس أقرؤهم لكتاب الله. فالشرط المخالف لكتاب الله غير مقبول. قال: [في جمع] . يجب العمل بشرط الواقف في جمع أي في جمع الموقوف عليهم، فإذا قال: "أوقفت داري على أولادي وأولاد أولادي" فقد جمع بين أولاده وأولاد أولاده فيكون ريع الوقف لهم جميعاً، لأن هذا هو شرطه. قال: [وتقديم] . ??فإذا قال " هذا وقف على زيد وعمرو والمقدم هو زيد" فيُعمل بشرطه فإنه قد شرط التقديم لزيد?،?فيعطى زيد من الريع ما يكفيه فإن فضل شيء فهو لعمرو، وإن لم يفضل شيء فلا شيء له. قال: [وضد ذلك] . ??ضد الجمع الإفراد، وضد التقديم التأخير. فإذا أفرد فقال: "هذا وقف لزيدٍ ثم أولاده من بعده" فيعمل به. وإذا قال: هذا وقف لزيد وعمرو والمؤخر هو زيد" فيعطى عمرو ريع الوقف وما فضل فلزيد لأنه هو المؤخر. قال: [واعتبار وصف وعدمه] . ???فإذا قال: هذا وقف على أولادي ثم أولادهم من بعدهم الأفقه منهم، فحينئذ نعطيه?الأفقه?منهم فنعمل بهذا الوصف. وإذا قال: "هذا وقف عل أولادي ثم أولادهم من بعدهم" فهنا لم يذكر وصفاً وعليه فنحن نطلق كما أطلق?، فهو قد شرّك بينهم، وأطلق فحينئذ نشرك بينهم ونطلق؛ وذلك لأنه لم ينص على صفة معينة. قال: [وترتيب] . فالترتيب شرط مقبول منه.

فإذا قال: ??هذا لأولادي ثم لأولادهم من بعدهم، فلا نُشرِّك بين أولاده وأولاد أولاده، بل يعطى أولاده، ثم إذا لم يبق له ولد فإنه يعطى أولاد أولاده، لأنه هنا قد رتّب. قال: [ونظر] . ??إذا قال: "والناظر على الوقف فلان" فهو شرط معتبر يجب العمل به، فيكون هذا المعين هو الناظر على الوقف المعتني?بشؤونه الصارف لريعه، فقد ثبت في سنن أبي داود بإسناد صحيح في وصية عمر بن الخطاب: "هذا ما أوصى به عبد الله، عمر أمير المؤمنين إن حدث به حدث أن ثمغاً وصِرْمَة بن الأكوع، والعبد الذي فيه، والمئة سهم التي بخيبر والأرقاء فيه والمئة التي أطعمه النبي - صلى الله عليه وسلم -?بالوادي، تليه حفصة بنت عمر ثم ذو الرأي من أهلها" (1) ? فهذا شرط من عمر في تعيين الواقف. قال: [وغير ذلك] . ???فأي شرط يشترطه، فإنه يعمل به، وقد تقدمت ضوابط في هذا. قال: [فإن أطلق ولم يشترط استوى الغني والذكر وضدهما] . ??إذا أطلق الواقف فقال: "هذا وقف على أولادي وأولاد أولادي" ولم يشترط فإنه يستوي فيه الغني والفقير والذكر والأنثى، لا فرق بينهم. وذلك لأنه شرّك بينهم وأطلق، ومقتضى هذا الإطلاق التسوية بينهم. قال: [والنظر يكون للموقوف عليه] . ??لأن الواقف لم يعين ناظراً فحينئذ يكون الناظر هو الموقوف?عليه.

_ (1) أخرجه أبو داود باب ما جاء في الرجل يوقف الوقف من كتاب الوصايا برقم [2878] ولفظه: " بسم الله الرحمن الرحيم، هذا ما أوصى به عبد الله، عمر أمير المؤمنين إن حدث به حدثٌ أن ثمغاً وصِرْمَة بن الأكوع والعبد الذي فيه والمئة سهم التي بخيبر ورقيقه الذي فيه، والمئة التي أطعمه محمد - صلى الله عليه وسلم - بالوادي تليه حفصة ما عاشت، ثم يليه ذو الرأي من أهلها، أن لا يباع ولا يشترى ينفقه حيث رأى من السائل والمحروم وذوي القربى ولا حرج على من وليه إن أكل أو آكل أو اشترى رقيقاً منه ".

فإذا قال: "هذا وقف على زيدٍ ثم لأولاده من بعده، ولم يعين ناظراً" فإن الناظر يكون زيداً. وهذا إن كان فرداً مستقلاً به. أما إذا كان الموقوف عليه جماعة، كأن يقول: هذا الوقف على أولادي وهم جماعة فحينئذ يكونون هم الناظرين عليه جميعاً بقدر حصصهم، هذا إذا كان الوقف مما يكون على المعينين. وأما إن لم يكن على المعينين، كأن يوقف على الفقراء أو على المساكين ونحو ذلك فإن الناظر هو الحاكم. إذن: إذا كان الوقف على معينين، فالمعينون هم الناظرون فيه. فإن كان فرداً استقلّ به، وإن كانوا جماعة فهم جميعاً ناظرون عليه بقدر حصصهم. قالوا: لأن الوقف ملك لهم والمنفعة لهم. أما كون المنفعة لهم، فإن هذا صحيح فإنهم هم المنتفعون به وهذا يقتضي أن يكونوا هم الناظرين عليه لأن ريعه وثمرته لهم. وأما كونهم هم المالكون للوقف، فهذا هو المذهب?،?فالمذهب?أن الوقف ملك للموقوف عليه، فإذا قال: ?هذا وقف على زيد" فهو ملك له. قالوا: قياساً على الهبة. ??وعن الإمام أحمد وهو مذهب أبي حنيفة واختيار طائفة من أصحاب الإمام أحمد:?أنه حق لله وليس ملكاً للموقوف عليه، نعم الموقوف عليه يملك منفعته وأما أصله فلا يتملكه الموقوف عليه، وهذا هو الراجح. فالراجح: أنه?ملك لله عز وجل. ويستدل على هذا، بقول النبي - صلى الله عليه وسلم -???احبس أصلها وتصدق بها) (1) ، فدل على أنها صدقة. ولأن الموقوف عليه لا يملك التصرف فيها ولا تورث عنه كسائر ماله فدل على أنها ليست ملكاً له، وقد تقدم الفارق بين الوقف والهبة. والحمد لله رب العالمين الدرس الحادي عشر بعد الثلاثمئة ??يوم الأربعاء: 7 / 7 / 1416 هـ) قال المؤلف رحمه الله: [وإن وقف على ولده، أو ولد غيره، ثم على المساكين] .

_ (1) متفق عليه وقد تقدم في الصفحة الأولى.

الوقف على الولد جائز باتفاق العلماء، ومن الآثار الواردة فيه ما ثبت عند البيهقي والدارمي ورواه البخاري معلقاً، أن الزبير رضي الله عنه وقف على ولده وجعل للمردودة أن تسكن غير مضرّةٍ?ولا مضرّاً بها فإن استغنت بزوج فلا حق لها" (1) ?ولا يعلم له مخالف. أو ولد غيره، كأن يقول: هذه الدار وقف على ولد زيد أو على ولد أخي" فهذا جائز. فإذا قال هذه الدار وقف على ولدي ثم للمساكين. قال: [فهو لولده] . ???قال الفقهاء من الحنابلة في المشهور عندهم:?لولده الموجودين حين الوقف، وعليه???فإذا ولد له بعد ذلك فلا حق لهم في الوقف، وهذا ضعيف. ??وعن الإمام أحمد وهو اختيار طائفة من أصحابه???أن من يولد من ولده فله حق في الوقف، وذلك موافقةً لغرض الواقف، ولدخوله في لفظه فهو داخل في ولده ومقصوده انتفاع ولده وهذا من ولده، بل هو أشفق عليه وأرحم به لصغره فكان دخوله أولى. قال: [الذكور والإناث بالسوية] . ??فريع هذا الوقف يكون لولده ذكروهم وإناثهم بالسويَّة، وذلك هو مقتضى إطلاقه، فإنه قد شرَّك بينهم وأطلق فاقتضى التسوية فللذكر مثل ما للأنثى. قالوا: ويستحب له أن يفضل الذكر على الأنثى.

_ (1) أخرجه البيهقي في السنن الكبرى [6 / 275] رقم (11930) ، باب الصدقة على ما شرط الواقف.. من كتاب الوقف قال: "أخبرنا أبو عبد الرحمن السلمي، ثنا أبو الحسن الكارزي، ثنا علي بن عبد العزيز، ثنا أبو عبيد، ثنا أبو يوسف، عن هشام بن عروة أن الزبير جعل دوره صدقة،قال: " وللمردودة من بناته أن تسكن غير مضرة ولا مضر بها، فإن استغنت بزوج فلا شيء لها " قال أبو عبيد: قال الأصمعي: المردودة المطلقة " وعلقه البخاري في باب إذا وقف أرضاً أو بئراً واشترط لنفسه مثل دلاء المسلمين من كتاب الوصايا بعد (2777) فقال: " وتصدق الزبير بدوره … "

واختار الشيخ عبد الرحمن بن سعدي?وجوب تفضيل الذكر على الأنثى وتحريم عدم التفضيل وهو الراجح، وذلك لأن التفضيل هو العدل كما في الإرث وترك العدل محرم فترك العدل ظلم. وعليه: فإذا أطلق أو نص على أن الذكر له مثل ما للأنثى، فإن الذكر يعطى مثل ما للأنثيين، لأن هذا هو العدل الذي أمر الله به. قال: [ثم ولد بنيه] . ???فيكون لولده من صلبه ثم لولد بنيه، وهل الترتيب هنا ترتيب على فرد أو ترتيب بطن على بطن؟ بمعنى: هل لا يعطى?أولاد الأبناء حتى ينقرض الأولاد من الصلب فلا نعطى أولاد بنيه حتى ينقرض أولاده. أم أن الترتيب ترتيب فرد على فرد، فإذا مات زيد من ولده ولزيدٍ أولاد فنصيب زيد ينتقل إلى أولاده؟ وجهان في مذهب الحنابلة? والمذهب هو الأول??وأنه ترتيب بطن على بطن فإذا انقرض البطن الأول أعطي?البطن الثاني فلا يعطى?أولاد?الأبناء مع وجود الأولاد. القول الثاني في المذهب: وهو اختيار شيخ الإسلام واختيار الشيخ عبد الرحمن بن السعدي:?أنه ترتيب فرد على فردٍ وهو الراجح?تقريباً للإرث والعدل وبعداً عن الجور?والظلم، فإن هذا حق لوالدهم كان يأخذه وهو حي فينتقل حينئذ إليهم كما ينتقل إليهم سائر ماله. قال: [دون بناته] . أي دون ولد بناته. ولد البنات لا يرثون كما تقدم في الفرائض??? فبنت البنت وابن البنت وإن نزلا فلا إرث لهما. قالوا: فكذلك هنا لقوله تعالى: ((يوصيكم الله في أولادكم)) (1) ?فإذا قال???هذا وقف على ولدي?،?لم يدخل ولد بناته، كما لا يدخلون في قوله تعالى:???يوصيكم الله في أولادكم للذكر مثل حظ الأنثيين)) ? (2) ?? هذا هو مذهب الإمام أحمد فهو مذهب الحنابلة? ومذهب الشافعية???أن أولاد بناته يدخلون. قالوا: لأن ولد البنت ولده?، ولذا قال تعالى: ((ومن ذريته داود وسليمان ???إلى قوله???????وعيسى??? (3) ?وعيسى ابن بنته مريم رضي الله عنها.

_ (1) سورة النساء. (2) سورة النساء. (3) سورة الأنعام 84.

ولقوله - صلى الله عليه وسلم -?في الحسن، وهو ابن بنته، قال: ?إن ابني هذا سيدّ" (1) ?? وهذا القول رواية عن الإمام أحمد واختاره أبو الخطاب من الحنابلة واختاره من أئمة الدعوة الإمام عبد الرحمن بن حسن والإمام محمد بن إبراهيم وهو القول الراجح?في هذه المسألة. وأما قوله تعالى: ((يوصيكم الله في أولادكم للذكر مثل حظ الأنثيين)) ? (2) ? فالجواب أن ولد البنت داخل في العموم، وإنما دل الإجماع على عدم إرثهم فرضاً. ويمكن أن يُستدل بهذه الآية على إرثهم رحماً كما هو مذهب الحنابلة ??لكن فيه نظر؛ لأنه يلزم أن يرثوا للذكر مثل الانثيين??? (3) ?? قال: [كما لو قال: على ولد ولده وذريته لصلبه] . ???إذا قال: هذا وقف على ولد ولدي أو على ذريتي لصلبي أو على عقبي أو على نسلي". فالخلاف كذلك هنا، والراجح أن ولد البنت يدخلون في ذلك كما هو مذهب الشافعية? قال: [ولو قال على بنيه أو بني فلان اختصّ بذكورهم??? ????إذا قال: هذا وقف على بنيّ أو على بني فلان، فيختص بالذكور فليس للإناث من الوقف شيء. وذلك لأن الابن يطلق ويراد به الذكر كما قال تعالى: ???أم?له البنات ولكم?البنون????? (4) ?فالابن بخلاف البنت. وهل يدخل في ذلك ابن بنته؟ على الخلاف المتقدم، والراجح دخولهم.

_ (1) أخرجه البخاري، في باب قول النبي - صلى الله عليه وسلم - للحسن..، من كتاب الصلح، وفي باب علامات النبوة في الإسلام من كتاب المناقب، وفي باب الحسن والحسين من كتاب فضائل الصحابة، وفي باب قول النبي - صلى الله عليه وسلم - للحسن من كتاب الفتن،وأخرجه أبو داود والترمذي والنسائي، المغني [4 / 98] . (2) سورة النساء. (3) ما بين القوسين ليست في الأصل، وإنما في المطبوع فقط. (4) قال الله تعالى في سورة الصافات 149: {فاستفتهم ألربك البناتُ ولهم البنون} .

وقد قال تعالى: ((وحلائل أبنائكم الذين من أصلابكم)) ? (1) ?أي محرمات ومعلوم أن زوجة ابن البنت محرمة بالاتفاق. قال: [إلا أن يكونوا قبيلة فيدخل فيه النساء دون أولادهن من غيرهم] . ????إذا قال: هذا وقف على القبيلة الفلانية فيدخل فيه النساء؛ وذلك لأن النساء من القبيلة فيشمل الذكور والإناث. ويخرج أولاد النساء من غيرهم. فإذا تزوج رجل من قبيلة أخرى، امرأةً من هذه القبيلة فالمرأة لها نصيب من الوقف?؛?لأنها تنسب إلى هذه القبيلة، أما أولادها من هذا الرجل فلا نصيب لهم؛ وذلك لأنهم لا ينتسبون إلى هذه القبيلة، وهذا ظاهر. قال: [والقرابة وأهل بيته وقومه يشمل الذكر والأنثى من أولاده وأولاد أبيه وجده وجد أبيه] . ???إذا قال: هذا وقف على قرابتي أو على أهل بيتي أو على قومي، فإنه يشمل الذكر والأنثى من أولاده وأولاد بنيه (2) ?وجده وجد أبيه، فالنبي - صلى الله عليه وسلم -?اسمه هو محمد بن عبد الله بن عبد المطلب بن هاشم، فإذا أوقف لقرابته فيدخل في ذلك أولاده، وأولاد عبد الله???وعبد الله ليس?له من الولد إلا النبي - صلى الله عليه وسلم -???وأولاد عبد المطلب وأولاد هاشم، فعبد الله أبوه، وجده عبد المطلب، وجد أبيه هاشم، قالوا: بدليل أن النبي - صلى الله عليه وسلم -?قد جعل سهم ذوي القربى في?أولاد هاشم وأولاد عبد المطلب، وأولاده عليه الصلاة والسلام. وقال الشافعية?بل يدخل في ذلك كل من ينتسب إلى أبيه الذي ينتسب إليه هو، وليس المراد الأب المباشر بل قد ينتسب إلى جده?أو أبي جده،?كما يقال ??بنو جعفر أو بنو هاشم وبنو مخزوم. فإذا قال: هذا الوقف لقرابتي أو أهل بيتي أو لقومي ?، دخل في ذلك كل فرد [مـ]ـمن ينتسب إلى أبيه. وهذا هو القول الراجح?وهو أقرب إلى العرف.

_ (1) سورة النساء، نهاية الجزء الرابع. (2) كذا في الأصل، ولعلها: أبيه.

فمثلاً: العائلة الفلانية إذا قال رجل منهم ??هذا وقف على قرابتي أو قومي أو أهل بيتي، يدخل فيها كل من يتسمّى بهذه القبيلة سواء كان من ولد أب الجد أو من ولد جد الجد. وقد أعطى النبي - صلى الله عليه وسلم -?بني المطلب من سهم ذوي القربى وهم من ولد جد جده. وقد تقدم كلام شيخ الإسلام وأن مرجع هذه الألفاظ إلى العرف لا إلى دلالة اللغة ولا إلى دلالة الشرع. وما تقدم من المسائل كذلك، فإذا كان في عرف الناس عندنا أنه إذا قال: على ولدي" لا يدخل في ذلك أولاد بناته فنحكم بذلك?؛?لأن هذا هو مراده، بدليل أنه لو عرف أنا سنفهم مراده على غير هذا لاستثنى وقال: إلا ولد البنات، فالواجب حمل كلام الناس على ما يعتادون عليه. قال: [وإن وجدت قرينة تقتضي إرادة الإناث أو حرمانهن عمل بها??? ????إذا قال: "وقف على بنيه" فلا تدخل فيه البنات فإذا كانت هناك قرينة تقتضي إعطاء الإناث، أو حرمانهن في مسائل أخرى فإنه يعمل بها. هذا يخالف الشرع والعدل كما قرر هذا الشيخ عبد الرحمن بن سعدي?فالشخص لا يتصرف بماله يمقتضى شهوته وهواه، وإن خالف الشرع والعدل بل الشرط ألا يخالف الشرع والعدل، ولا شك أن العدل بين الأولاد ذكورهم وإناثهم واجب. فإذا تضمن لفظه في وقفه تضمن حرمان صاحب حق أو اختصاص بعض الورثة بالوقف دون البعض الآخر، فإن هذا ظلم وجور والشريعة تنهى عن ذلك. فعلى ذلك لا ينظر إلى لفظه الذي يخرج به الإناث بل تعطى الإناث?لوجوب العدل وتحريم الظلم. ولو فتح هذا لسلكه كل من شاء حرمان الإناث من المال بأن يوقفه على أبنائه وأبناء أبنائه ونحو ذلك، والواجب سد هذا الباب. قال: [وإن وقف على جماعة يمكن حصرهم وجب تعميمهم ??والتساوي??? (1) ??? ???إذا قال هذا وقف على من يوجد في بلدتي من القبيلة الفلانية، وكان حصرهم ممكناً فحينئذٍ يعطونه بالتسوية ويجب تعميمهم؛ لأنه يمكن حصرهم.

_ (1) هذه الكلمة في المطبوع دون الأصل.

وظاهر إطلاق كلامه التسوية بينهم. وقال بعض الحنابلة:?بل إذا كان هناك ما يقتضي التمييز فللناظر التمييز ?، كأن يكون بعضهم غنياً وبعضهم فقيراً فيميز بين غنيهم وفقيرهم، أو بعضهم إناث وبعضهم ذكور فيميز بين ذكرانهم وإناثهم وهذا هو القول الراجح?كما تقدم تقريره في مسألة سابقة وأن شرطه المباح لا يعمل به، وهذا شرط مباح، فالمساواة بين الذكور والإناث إن لم نقل بتحريمه فيقال على أقل تقدير بإباحته ولا يعمل بالشرط المباح وإنما يعمل بالشرط المستحب، هذا القول هو الراجح. قال: [وإلا جاز التفضيل والاقتصار على أحدهم] . ??فإذا كان لا يمكن حصرهم كأن يقول????هذه الدار وقف على كل قبيلة بني تميم?–?وتميم أكثر قبائل العرب - ?وهي دار لا يخرج منها إلا عشرة آلاف فحينئذ يجوز التفضيل والاقتصار على أحدهم. قالوا: لأنه لما أتى بهذا اللفظ الذي لا يمكننا العمل به إذا (1) ??لا يمكنهم تعميم ذلك، علم أنه يريد نفع هذا الجنس وهذا حاصل بنفع رجل واحدٍ منهم. قالوا: وعليه فإذا كان يجوز لنا أن نقتصر على واحد فإن التفضيل أولى، لأنه إذا جاز حرمانه فكونه مفضلاً عليه من باب أولى. أما إذا كانوا ابتداءً يمكن حصرهم ثم طرأ عليهم انتشار ونحو ذلك فأصبحوا لا يمكن حصرهم فحينئذ يجب أن يعمل الناظر بالتعميم حيث أمكن، لأنه أراد تعميمهم. ??فصل " قال: [والوقف عقد لازم لا يجوز فسخه] . ??فالوقف عقد من العقود اللازمة وقد تقدم ما يدل على هذا. قال: [ولا يباع] . ???فالوقف لا يباع خلافاً لأبي حنيفة، لما تقدم في حديث ابن عمر وفيه: أنه لا يباع (2) ? وقول أبي حنيفة مخالف للسنة فلا يلتفت إليه، والجمهور على تحريم?بيع الوقف. قال: [إلا أن تتعطل منافعه] . ??إذا تعطلت منافعه بالكلية، فأصبح لا ينتفع?به فيجوز بيعه.

_ (1) كذا في الأصل، ولعلها: إذْ (2) تقدم في بداية كتاب الوقف.

مثال ذلك: بنى مسجداً وقفاً في قرية فخربت هذه القرية فلم يبق فيها ساكن بل أصبحت مزارع وبساتين، أو بني طريقاً أو قنطرة، أو نحو ذلك، ثم حصل خراب في هذه المدينة فأصبحت هذه الأرض لا ينتفع بها، وقد بنى بها قنطرةً، وطريقاً، أو فتح مدرسة، فيجوز بيعه في المشهور من المذهب. ??ومنع من ذلك الشافعية، والمالكية?تمسكاً بنهي النبي - صلى الله عليه وسلم -?عن البيع. والراجح ما ذهب إليه الحنابلة? لأن هذا هو الموافق لمقصود الشارع أولاً وقد نهى الشارع عن إضاعة المال وفي ترك هذا المال من غير أن ينتفع به إضاعة له، وهو أيضاً موافق لغرض?المُوقِف فإن غرض الموقف الانتفاع به?، وهنا قد فات الانتفاع به? فإن لم تعطل منافعه لكن المصلحة الراجحة بيعه فهل يجوز بيعه أم لا؟ المشهور في المذهب???المنع؛ لنهي النبي - صلى الله عليه وسلم -?عن البيع. وعن الإمام أحمد وهذه الرواية هي أظهر?نصوصه وهو قول في المذهب وهو اختيار شيخ?الإسلام?وهو المعمول به في هذه البلاد في المحاكم????أن ذلك جائز حيث المصلحة الراجحة. وهذا هو الراجح، لأنه أتم وأكمل في مقصود الشارع ومقصود الموقِف ? ?فمثلاً: مسجد كان في موضع وهو لا يتسع إلا لمئة مصلٍ، وحوله بيوت فإذا أردنا أن نوسعه احتجنا إلى شراء هذه البيوت بأثمان غالية وربما امتنع أصحابها من بيعها، وفي نفس الحي أرض واسعة فهل يجوز أن نبيع أرض المسجد ونشتري هذه الأرض الواسعة ويبنى بها بهذا الثمن مسجد. الجواب: نعم للمصلحة الراجحة. قال: [ويصرف ثمنه في مثله ولو أنه مسجد] . إن كان مسجداً فبمسجد وإن كانت مدرسة فبمدرسة ونحو ذلك.

وذلك لأن هذا هو الأقرب لمقصود الموقف، فإن مقصوده بناء مدرسة أو بناء مسجد فإذا أخذنا الثمن ووضعناه في شيء آخر فإن هذا يخالف مقصوده فحينئذ يوضع فيما هو أقرب لمقصود الموقف فيبنى به مسجد أو بعض مسجد (1) ??كأن يشترى به الأرض ثم يتبرع أحد ببناء?مسجد عليها ? قال: [وآلته وما فضل عن حاجته جاز صرفه إلى مسجد آخر] . آلة المسجد من فرش وأدوات أخرى من كهرباء ونحو ذلك، ما يفضل منه يجوز صرفه في مسجد آخر، للمصلحة الراجحة وهو أقرب لمقصود الموقف. قال: [والصدقة به على فقراء المسلمين] . ??أي ويجوز أن يتصدق به على الفقراء?، كأن تباع ويُتصدق بها على الفقراء. واستدلوا بما روى البيهقي???أن شيبة كان يتصدق بخُلْقان الكعبة "أي أستارها" وأن عائشة أمرته بذلك?? (2) ?أي يبيع ستر الكعبة ويتصدق به على الفقراء، لكن الأثر إسناده ضعيف. وعن الإمام أحمد???أنه لا يتصدق به بل يصرف في مسجدٍ آخر ?، وقال صاحب الإنصاف?????وهو اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية???? فعلى ذلك آلات المسجد الفاضلة عن حاجته ولا يظن أنه يحتاج إليها قريباً من فرش ونحو ذلك لا تباع فيتصدق بها، بل تنقل إلى مسجد آخر، وهكذا المصاحف ونحو ذلك مما يفضل عن حاجة المسجد. مسألة: ???هل يجب تعمير الوقف على الموقف عليهم من غلته أم لا؟ إذا أوقف زيد داره على أولاده فهل إذا حصل فيها خراب أو نحو ذلك يجب عليهم أن يعمروها?؟ المشهور في المذهب???أنه لا يجب التعمير ? وهذا القول ضعيف جداً. وذلك لأن فيه تسليطاً للبطن الأول عليه بإفساده، بحيث يستقلون بمنافعه فلا يستفيد منه من بعدهم?، ففيه إضرار بمن بعدهم. ولما فيه من الإضرار بالوقف، ولأن العرف جار بوجوب ذلك في جميع الأوقاف، وهو اختيار شيخ الإسلام، واختيار الشيخ عبد الرحمن بن سعدي، فالراجح وجوب تعميره. مسألة:

_ (1) في المطبوع: أو أرض مسجد.

إذا قال ??هذا وقف على أولادي?ولم يقل: ثم للمساكين، فانقرض أولاده فلمن يصرف ريع الوقف?؟ ثلاثة أقوال في هذه المسألة هي روايات عن الإمام أحمد. القول الأول?،?وهو المشهور في مذهب أحمد والشافعي????أنه يصرف إلى قرابته لأنهم أولى بمعروفه. القول الثاني???أنه يرجع إلى بيت المال، ويصرف في المصالح?؛?لأنه مال لا مستحق له. القول الثالث?،?واختاره القاضي من الحنابلة واختاره الشيخ عبد الرحمن بن سعدي???أنه يكون للمساكين. وهذا القول أرجحها?؛?وذلك لأن مصرف الصدقات المساكين، والوقف صدقة كما تقدم في قوله - صلى الله عليه وسلم -?لعمر: ?احبس أصلها وتصدق بها) ،?ومصرف الصدقات المساكين، ولذا فمن نذر صدقة مطلقة فإنها تصرف للمساكين?? ?ومع ذلك فإن الأولى والأحق هم قرابته المساكين فهم أولى بمعروفه، لكن لا يعطى?الغني منهم، فإن ظاهر المذهب الأول أنه يعطى الغني منهم أيضاً، والصحيح أنه للمساكين وأولى المساكين بذلك هم قرابته. والحمد لله رب العالمين الدرس الثاني عشر بعد الثلاثمئة ??يوم الجمعة: 9 / 7 / 1416 هـ) ?باب: الهبة والعطية" الهبة والعطية: هما إعطاء المال بلا عوض. والعطية هنا هي الهبة في مرض الموت، وأما الهبة فهي في حال الصحة، هذا هو الفرق بين الهبة والعطية هنا. ??والهدية يقصد بها الإكرام والتودد والمكافأة فإن لم يقصد بإعطائه شيئاً فهبة وعطية ? (1) ??? والفرق بين الهبة والعطية والهدية وبين الصدقة: أن الهبة ونحوها تعطى لشخص معين يقصد بها لمحبةٍ أو لتأليف قلبٍ ونحو ذلك، وقد قال - صلى الله عليه وسلم -???تهادوا تحابوا) ? (2) ?رواه البخاري في الأدب المفرد، وهو حديث حسن ?

_ (1) العبارة التي بين القوسين ليست في الأصل، وإنما هي في المطبوع فقط. (2) قال الألباني رحمه الله في صحيح الأدب المفرد ص221 رقم [462 /594] قال: " حسن - الإرواء (1601) : ليس في شيء من الكتب الستة ".

وأما الصدقة فهي عبادة يقصد بها دفع الحاجة ولا يقصد بها أحد بعينه?وكان النبي - صلى الله عليه وسلم -?يقبل الهدية ولا يقبل الصدقة كما في الصحيحين ??ويقصد بإعطائه ثواب الآخرة فقط?? (1) ? قال: [وهي التبرع بتمليك ماله المعلوم الموجود في حياته غيره] . فالهبة?هي التبرع?، فيخرج من ذلك المعاوضة، والمعاوضة بيع. "بتمليك??احتراز من العارية، فإن العارية ليست بتمليك فإنه يدفع عين ماله لمن ينتفع به لا تمليكاً وإنما من باب إباحة نفع العين. "المعلوم الموجود" فيشترط أن يكون المال الموهوب، أن يكون معلوماً لا مجهولاً وأن يكون موجوداً لا معدوماً، هذا هو المذهب ? ?في حياته??لا بعد موته، فكونه يمتلكها بعد الموت هذه وصية، فإذا قال له???هذه الدار لك بعد موتى، فهي وصية. ?غيره"?فهي تمليك للغي?? ?ويشترط أن يكون الواهب جائز التصرف. قال: [فإن شرط فيها عوضاً معلوماً فبيع] . ???إن?شرط على الهبة عوضاً معلوماً فهي بيع وليست بهبة. فإذا قال: "وهبتك داري على أن تهبني فرسك" فلا تكون هبة بل تكون بيعاً للمعاوضة فيها، هذا هو المشهور في المذهب? ??وعن الإمام أحمد وهو اختيار القاضي من الحنابلة???أن هذه الصورة هبة وليست ببيع?، وأن من الهبة ما يكون فيه عوض ومنها?ما لا يكون فيه عوض كالعتق?، فكما أن العتق منه ما يكون بعوض?، ومنه ما لا يكون بعوض فكذلك الهبة.

_ (1) ما بين القوسين ليس في الأصل، وإنما في المطبوع فقط.

وهذا أرجح?، ويدل عليه قول عمر الثابت في موطأ مالك بإسناد صحيح أنه قال?????من وهب هبةً أراد عليها الثواب فهو على هبته يرجع فيها إذا لم يرض منها?? (1) ?فقد سماها هبةً مع ما فيها من الثواب. قال شيخ الإسلام:??ومن وهب ليعاوَض على هبته أو ليقضى?له فيها حاجة فلم يوفَ?فهو كالشرط"، أي كأنه قال: "وهبتك هذا الشيء بشرط أن تعاوضني" أو بشرط أن تقضي لي الحاجة والمسلمون على شروطهم. فإن كان العوض مجهولاً فلا يصح. إذا?قال "وهبتك هذا الشيء على أن تهبني كذا وكذا وذكر شيئاً مجهولاً، كأن يقول: على أن تقضي لي حاجة أو على أن تعطيني عوضها ولم يذكر هذا العوض، فحينئذ يكون البيع غير صحيح، لأنه بيع في المذهب ومن شروط البيع أن يكون الثمن معلوماً. والصحيح ما تقدم وأنه هبة وليس ببيع. ??وعن الإمام أحمد?، ومال إليه أبو الخطاب من الحنابلة?في هذه المسألة ??أنه يعطيه ما يرضيه، فحينئذ تزول الجهالة، وقد تقدم ما يدل عليه من أثر عمر?، وقد قال فيه: " فهو على هبته يرجع فيها إذا لم يرض منها" فإذا رضى منها فهي هبة صحيحة. قال: [ولا يصح مجهولاً] . ????أي لا يصح أن يكون الموهوب مجهولاً، فإذا قال: "وهبتك الجمل الذي في بطن ناقتي" مثلاً فلا يصح. ومثله المعدم (2) ، فإذا قال: "وهبتك ثمر السنة القادمة من نخلي". فلا يصح لأنه معدوم?? ?ومثله إذا قال "وهبتك العبد الآبق ??فلا يصح؛ لأنه غير مقدور على تسليمه?? قالوا: قياساً على البيع.

_ (1) رواه مالك في الموطأ في كتاب الأقضية، باب القضاء في الهبة برقم (1436) عن أبي غطفان بن طريف المُرِّي أن عمر بن الخطاب قال: " من وهبَ هبةً لصلة رحم أو على وجه صدقة، فإنه لا يرجع فيها، ومن وهب هبةً يرى أنه إنما أراد بها الثواب، فهو على هبته يرجعُ فيها إذا لم يُرض منها ". (2) كذا في الأصل.

واختار شيخ الإسلام وهو مذهب مالك???صحة كون الموهوب مجهولاً وهو اختيار الشيخ إبراهيم بن عبد اللطيف آل شيخ، وهو اختيار الشيخ عبد الرحمن بن سعدي وهو القول الراجح?في هذه المسألة. وذلك للفرق بين التبرع والمعاوضة، فإن الهبة هنا عقد تبرع?في الأصل وإن وقع فيها في بعض صورها المعاوضة لكنها في الأصل عقد تبرع. والبيع عقد معاوضة، ويُغتفر?في عقود التبرعات ما لا يُغتفر في عقود المعاوضات؛ وذلك لعدم الضرر إذ لا غرر. فقد بذل له هذا الشيء بلا عوض، فإن حصل له على الصفة التي يريدها وإلا لم يضره هذا الشيء?، وهذا هو القول الراجح. قال: [إلا ما تعذر علمه] . ??إن تعذر علم الشيء فهبته جائزة، كالصلح. قالوا: وذلك فيما إذا كان الشيء غير متميز، فملكه لا يتميز عن ملك غيره، فوهب أحد المالكين نصيبه للآخر، فإذا اختلط زيته بزيت غيره على وجه لا يتميز به فلكل واحد منهما أن يهب نصيبه للآخر للحاجة. والصحيح ما تقدم وأن هبة المجهول صحيحة مطلقاً في هذه الصورة وغيرها. قال: [وتنعقد بالإيجاب والقبول] . أي أن يقول: وهبتك?، ويقول الموهوب له???قبلت، ونحو ذلك من الألفاظ. قال: [وبالمعاطاة الدالة عليها] . ??فإذا دفع له الشيء وقبله الآخر فعلاً على وجه المعاطاة الدالة على الهبة فكذلك. وذلك لأن النبي - صلى الله عليه وسلم -?وأصحابه كانوا يهدون ويُهدى إليهم وكان سبيلهم في ذلك المعاطاة فلم ينقل عنهم إيجاب ولا قبول ولو كان شرطاً لنقل نقلاً بيناً، وهذا ظاهر. إذن تثبت الهبة بكل قول أو فعلٍ يدل عليها. قال:???وتلزم بالقبض] . ???إذن: الهبة تنعقد بالقول الدال عليها أو الفعل الدال عليها ولا تلزم إلا بالقبض. فإذا قال: "وهبتك داري" ولم يخل بينه وبينها، أو قال:" وهبتك هذا الطعام" ولم يقبضه إياه، فإن الهبة لا تلزم ?

ودليل هذا???ما ثبت في مسلم أن النبي - صلى الله عليه وسلم -?قال???يقول ابن آدم مالي مالي، وهل لك من مالك إلا ما أكلت فأفنيت أو لبست فأبليت أو تصدقت فأمضيت) ? (1) ، فذكر الإمضاء وهو الإقباض. ولما ثبت في موطأ مالك بإسناد صحيح?، أن أبا بكر قال لعائشة: ??إني كنت قد نحلتك عشرين وسْقاً ولو أنك جددتيه أو حزتيه لكان لك وإنما هو مال وارث) ? (2) ??

_ (1) أخرجه مسلم في كتاب الزهد والرقائق (2958) قال: " حدثنا هَدَّابُ بن خالد، حدثنا همَّامٌ، حدثنا قتادة، عن مُطَرَّف عن أبيه قال: أتبيت النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو يقرأ: {ألهاكم التكاثر} قال: (يقول ابن آدم: مالي، مالي، قال: وهل لك يا ابن آدم من مالك إلا ما أكلتَ فأفنيت، أو لبست فأبلَيْتَ، أو تصدقتَ فأمْضيْتَ ". ورواه أيضاً من حديث أبي هريرة (2959) بلفظ: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: (يقول العبد: مالي، مالي، وإنما له من ماله ثلاث: ما أكل فأفنى، أو لبس فأبلى، أو أعطى فاقتنى، وماسوى ذلك فهو ذاهب وتاركه للناس) . (2) أخرجه مالك في الموطأ، باب ما لا يجوز من النحل من كتاب الأقضية (1434) ، عن عائشة زوج النبي - صلى الله عليه وسلم - أنها قالت: إن أبا بكر الصديق كان نحلها.. قال: والله يا بنية ما مِنَ الناس أحدٌ أحب … وإني كنت نحلتك جادَّ عشرين وسقاً، فلو كنت جدَدْتيه واحتزْتيه كان لك، وإنما هو اليوم مال وارث.. "، وأخرجه عبد الرزاق في مصنفه [9 / 101) رقم (16507) باب النحل من كتاب الوصايا.

وهو قول عمر كما في مصنف عبد الرزاق (1) ، وذكره المروذي من أصحاب أحمد عن الخلفاء الأربعة?? وقال الظاهرية??بل تلزم بمجرد القول أو الفعل الدال عليها، لقوله?- صلى الله عليه وسلم -???ليس لنا مثل السوء، العائد في هبته كالكلب يقيء ثم يعود في قيئه??? (2) ?متفق عليه. والجواب: أن هذا حديث عام ويخصص بما ثبت عن الصحابة كما تقدم?،?فيدل على أن المراد به ما يكون بعد القبض، وأن الراجع فيه كالكلب يقيء ثم يرجع في قيئه وهو مثل سوءٍ ليس للمؤمنين فدل على التحريم. قال: [بإذن واهب] . فلابد من إذن الواهب في القبض؛ وذلك لأن القبض بلا إذنه تفويت لحقه في الرجوع?? ?وهل تكون ملكاً للموهوب له قبل قبضها أو تكون ملكاً للواهب؟ قولان في المذهب: المشهور في المذهب???أنها ملك للموهوب له، فالنماء له؛ لأن الضمان عليه فالنماء له. والقول الثاني في المذهب???أنها ملك للواهب، وهذا القول هو الراجح?؛ لأن من أركانها القبض ولم يثبت القبض ? ولأن الموهوب?له لا يضمنها لأنها ليست تحت يده، وعليه فالخراج ليس للموهوب?له؛ لأن الضمان ليس عليه ??فالصحيح أنها ملك للواهب حتى يقبضها الموهوب?له، فعليه النماء يكون للواهب ??وعليه فإذا وجد القبض علمنا أنها للموهوب?? (3) ?? قال: [إلا ما كان في يد متهب] .

_ (1) أخرجه عبد الرزاق في مصنفه، كتاب الوصايا، باب النحل (16509) قا ل عبد الرزاق: " عن معمر عن الزهري عن عروة بن الزبير قال: أخبرني المسور بن مخرمة وعبد الرحمن بن عبد القاري أنهما سمعا عمر بن الخطاب يقول: ما بال أقوام ينحلون أبناءهم، فإذا مات الابن قال الأب: مالي، وفي يدي، وإذا مات الأب قال: قد كن نحلت ابني كذا وكذا، لا نحل إلا لمن حازه وقبضه عن أبيه " وأخرجه البيهقي بمعناه. (2) أخرجه البخاري في كتاب الهبة، باب لا يحل لأحد أن يرجع في هبته وصدقته (2622) .، وأخرجه مسلم (1622) . (3) هذه العبارة في المطبوع دون الأصل.

المتهب هو الموهوب له.??? رجل وضع وديعة عند آخر ثم قال?له: ??هي لك"، فحينئذ لا نقول يلزم القبض؛ لأنها عنده?، فالقبض مُستدام فلم يشترط ابتداء قبض. قال: [ووارث الواهب يقوم مقامه] . ??فله حق الرجوع. إذا وهب زيد هبةً لعمرو، ولم يقبضها عمرو، ثم مات زيد فهل لابن زيدٍ وهو بكر مثلاً أن يرجع فيها?؟ الجواب??له أن يرجع فيها. وذلك لأنهم ورثة لحقوقه وهذا حق من حقوقه فورث كسائر حقوقه. وتبطل الهبة بموت المتهب أي الموهوب له" إذا وهب زيد لعمرو هبةً فمات عمرو قبل أن يقبضها، فالهبة تبطل وذلك لعدم القبض. وإن?قبضها رسوله أو وكيله فهو قبض. مثال ذلك???إذا أعطى زيد رسول عمرو أو وكيل عمرو، أعطاه هديةً فمات عمرو قبل أن يصل إليه رسوله أو وكيله فهي ملك له لأن قبض رسوله وقبض وكيله يقوم مقام قبضه هو. قال: [ومن أبرأ غريمه من دينه بلفظ الإحلال أو الصدقة أو الهبة ونحوها?برئت ذمته ولو لم يقبل] . ???في ذمة زيد لعمرو عشرة آلاف ريال، فقال عمرو قد أبرأت ذمتك من هذا الدين، فلا يشترط القبول من الغريم?المدين، بل تبرأ ذمته، ولو لم يقبل، هذا هو المشهور في المذهب? والقول الثاني في هذه المسألة وهو اختيار الشيخ ابن سعدي وهو قول في المذهب???أنه لا يجبر على القبول?؛?وذلك لأن في إجباره على القبول إجباراً على أن يكون تحت منَّة غيره ? وأيضاً هذه هبة ديون وأوصاف فأشبهت هبة الأعيان، فكما أنه إذا أهدى له عيناً فيشترط قبوله لها ولا تدخل في ملكه إلا أن يرضى بذلك?، فكذلك في هبة الديون إذا لا فرق وهو الراجح? وأما الحنابلة فقالوا: هو إسقاط حق فلم يفتقر إلى قبول، وهذا تعليل ضعيف. فالراجح أنه يفتقر إلى قبول، وذلك لئلا يجبر على أن يكون تحت منَّةِ?غيره، ولأنه لا فرق بين هبة الأعيان وبين هبة الأوصاف والديون. قال: [وتجوز هبة كل عين تباع وكلب يقتنى] .

فكل عين يصح بيعها تجوز هبتها، وما لا يصح بيعه لا تصح هبته كأم الولد والوقف ونحو ذلك. هذا إذا كان النهي عن بيعه للنهي عن نقل اليد عنه كأم الولد هنا ? وأما إذا كان لمعنى آخر وهو عدم ماليته فلا، ولذا قال المؤلف "وكلب يقتنى" فالكلب الذي يقتنى لا يباع لنهي الرسول - صلى الله عليه وسلم -?عن بيعه وهذا ليس للنهي عن نقل اليد عنه وإنما لعدم ماليته فصحت هبته?،?وهو اختيار الموفق? ??والقول الثاني في المذهب??أن هبة الكلب لا تصح، وهو ضعيف؛ قالوا: كالبيع فكما أن البيع لا يصح فكذلك الهبة، وهذا ضعيف؛ وذلك لأن النهي عن بيع الكلب ونحوه لعدم ماليته لا لئلا ينقل عن اليد?، بخلاف النهي عن بيع أم الولد ونحوها فالنهي لئلا تنتقل عن اليد. مسألة: إذا وهب هبة معلقةً كأن يقول: "وهبتك هذه الدار إن جاء زيد أو إن دخل شهر رمضان" أو نحو ذلك. أو وهبه هبة مؤقتة كأن يقول: "وهبتك هذه الدار سنةً أو نحو ذلك??? ??فمذهب الحنابلة وهو مذهب أكثر الفقهاء، ولم يذكر الحنابلة خلافاً في هذه المسألة ??أن هذا لا يجوز ولا تصح الهبة. لأن الهبة تراد للتمليك كالبيع، وإذا كانت معلقة أو مؤقتة فهذا ينافي تمليكها المؤبد. ??وقال ابن القيم??بل يصح تعليقها وتوقيتها، وذلك جائز؛ لأنه شرط?له، والأصل في الشروط الصحة ولا دليل يمنع من ذلك وهذا فيه قوة، ويأتي ما يدل عليه في المسألة الآتية. مسألة: العُمرى?والرُقبى ? العمُرى ??أن يقول???أعمرتك هذه الدار يعني ملكتك إياها عمرك، أو يقول: لك هذه الدار ما عشتَ أو ما حييتَ أو ما عشتُ أو ما حييتُ. وأما الرقبى ??أن يقول أرقبتك هذه الدار فإن مت قبلي فهي لي وإن مت قبلك فهي لك.

والمشهور في مذهب الحنابلة وهو مذهب الجمهور???أن الرقبي والعمري تكون للموهوب?له ولورثته مطلقاً، أي سواء قال "هذه الدار لك عمرك ولعقبك" أو قال: "هذه الدار لك عمرك" أو قال: "هذه الدار لك ما عشتَ ??أو قال: "?أعمرتك هذه الدار أو أرقبتك هذه الدار. فلها ثلاث حالات: ??الحالة الأولى??أن ينص على أنها تكون لعقبه من بعده فيقول: "?أعمرتك هذه الدار لك ولعقبك من بعدك" فلا خلاف بين أهل العلم على أنه يملكها ملكاً مستقراً لا ترجع بعده للمعمِر المتبرع. - الحالة الثانية??أن يطلق فيقول: "أعمرتك هذه الدار ??ولا ينص على: "ما عشتُ" ونحو ذلك. فالجمهور???على أنها لا ترجع إليه أيضاً وهو الراجح? وقال المالكية???بل ترجع إليه?؛?وذلك لأن لفظ العمرى?يدل على الشرط والمسلمون عل شروطهم، فكأنه قال: "هي لك عمرك?أو هي لك ما حييت". ??الحالة الثالثة??أن ينصّ على الشرط فيقول: "?أعمرتك هذه الدار ما عشتَ أو ما حييتَ أو ما بقيتَ أو ما عشتُ وما بقيتُ ونحو ذلك ? فمذهب الجمهور???أنها تكون للموهوب له ولعقبه من بعده. ومذهب مالك???أن الشرط هنا معتبر فترجع إلى صاحبها وهو اختيار شيخ الإسلام?، وهو اختيار الشيخ عبد الله بن محمد بن عبد الوهاب. فقالوا: الشرط هنا معتبر لأن المسلمين على شروطهم.

فالجمهور استدلوا بقول النبي - صلى الله عليه وسلم -?في المتفق عليه ????العمري لمن وهبته?له) ? (1) ?قالوا: ولقوله - صلى الله عليه وسلم -?في مسلم من حديث جابر: ??أمسكوا عليكم أموالكم ولا تفسدوها فإن من أرقب شيئاً أو أعمر شيئاً فهو لمن أعمره حياً وميتاً?ولعقبه ?? (2) ?، قالوا: فدل على أنها تكون للمعمَر ولا ترجع للمعمِر، وتكون للمعَمَر ولورثته من بعده. وأما من قال بأنها مع الشرط ترجع إلى المعمِر: فلما ثبت في مسلم من قول جابر: قال: "?إنما العمري التي?أجازها النبي - صلى الله عليه وسلم -?أن يقول ??هي لك ولعقبك من بعدك، وأما إن قال: هي لك ما عشت، فإنها ترجع إلى صاحبها???وهذا يقوي ما ذهب إليه الإمام مالك في هذه المسألة. وهذا يقوي ما ذهب إليه ابن القيم في المسألة المتقدمة من صحة الهبة المؤقتة ومثلها من باب أولى المعلقة. فالصحيح??أن العمرى?تكون للموهوب?له ولورثته من بعده سواء قال "العمرى لك ولعقبك من بعدك" أو قال "هي عمرى لك" ولم يشترط?? ?أما إن اشترط فإنها تكون للمعمَر ما بقي حياً فإذا مات فإنها ترجع إلى معمِرها?? ??ويقوي قول الجمهور أن الرقبى لا تكون إلا بشرط?? (3) ? والحمد لله رب العالمين. الدرس الثالث عشر بعد الثلاثمئة (يوم السبت: 10 / 7 / 1416) "فصل" قال: [ويجب التعديل في عطية أولاده بقدر إرثهم] . يجب على الوالد أباً كان أم أماً التعديل في عطية أولاده بقدر إرثهم للذكر مثل حظ الأنثيين.

_ (1) أخرجه البخاري في باب ما قيل في العمرى.. من كتاب الهبة، ومسلم في باب العمرى، من كتاب الهبات، وأخرجه أبو داود والنسائي والإمام أحمد 3 / 304، 393. المغني [8 / 283] . (2) أخرجه مسلم في باب العمرى من كتاب الهبات، وأبو داود والنسائي وابن ماجه والإمام أحمد، المغني [8 / 183] . (3) هذه العبارة في المطبوع دون الأصل.

فيجب على الأب والأم أن يعدلوا بين أولادهم في أصل العطية وقدرها فلا يختص أحد الأولاد بعطية دون بقيتهم. وذلك لما ثبت في الصحيحين عن النعمان بن بشير أن أباه أتى به رسول الله - صلى الله عليه وسلم -?فقال:??إني نحلت ابني هذا غلاماً كان لي، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -??أفعلت هذا بولدك كلهم" قال: لا، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -???اتقوا الله واعدلوا بين أولادكم) ? (1) ?قال النعمان: "?فرجع أبي فرد تلك الصدقة??? وفي رواية في الصحيحين: " إني لا أشهد على جور " وفي مسلم: " أشهد على هذا غيري" ثم قال: "أيسرك أن يكونوا لك في البر سواء؟ قال: بلى، قال: فلا إذن ". فقوله: "اتقوا الله واعدلوا بين أولادكم: "يدل على وجوب العدل بين الأولاد، وقوله: "إني لا أشهد على جور" يدل على أن تركه جور، والجور محرم على فاعله ومحرم أيضاً على المعطي تناوله هذا هو المشهور في المذهب. - وقال الجمهور باستحباب العدل بين الأولاد في العطية واستدلوا بقول النبي - صلى الله عليه وسلم -???أشهد على هذا غيري) ? وهذا استدلال ضعيف?، فإن مراد النبي - صلى الله عليه وسلم -?التهكم أو التهديد والتخويف بدليل قوله: "لا أشهد على جور?، والراجح ما ذهب إليه الحنابلة?من وجوب ذلك، وأن التعديل بينهم يكون بقدر إرثهم للذكر مثل حظ الأنثيين.

_ (1) أخرجه البخاري في كتاب الهبة، باب الهبة للولد، وباب الإشهاد في الهبة (2586) ، (2587) ، وأخرجه مسلم (1623) .

وأما قوله - صلى الله عليه وسلم -?في رواية للنسائي، من حديث النعمان: "ألا سويت بينهم"، فإنه لا يدل على التسوية بين الذكر والأنثى، بل المراد التسوية في أصل العطية، أي ألا سويت بينهم في أصل العطية فأعطيت هذا كما أعطيت هذا، لا في قدر العطية، ويحتمل أنه ليس له إلا ذكور?–?أي بشير - ?والعدل بين الأولاد في العطية ينفي الحسد والعداوة التي قد تقع بين الأولاد، فإن عدم العدل بينهم مظنة?الحسد والعداوة بينهم. كما هو مظنة العقوق لذا قال النبي - صلى الله عليه وسلم -???أيسرك أن يكونوا لك في البر سواء) . وظاهر كلام المؤلف وجوب التسوية بين الأولاد إلا إذا كان أحدهم ذكراً والآخر أنثى فيعطى الذكر مثل ما?للأنثيين????ظاهر كلامه هذا ??ولو كان هناك معنى يقتضي التخصيص كأن يكون بعض ولده فيه زمانة?أو عمى أو له اشتغال بعلم أو دعوةٍ أو غير ذلك تقتضي تخصيصه بالعطية، هذا ظاهر كلام المؤلف وهو أحد القولين في المذهب? ??وعن الإمام أحمد??أنه إذا كان هناك معنى يختص به أحدٌ?منهم فيجوز أن يفضَّل في العطية?،?وهو الراجح، وقد رجحه الموفق، وذلك قياساً على تفضيل الذكر على الأنثى فإن الذكر إنما فُضل على الأنثى لمعنى يختص به، فإذا كان في بعض بنيه معنى يختص بالتفضيل كأن يكون فقيراً أو مريضاً زمناً أو غير ذلك فإنه يجوز تخصيصه بالعطية وتفضيله. والناظر في واقعة هذه المسألة يرى أن تخصيص الفقير أو الأنثى أو الذكر في بعض الشؤون لا ينافي العدل ولا يقتضي الجور فإن الذكر يحتاج من العطايا ما لا تحتاجه الأنثى، والأنثى في جهة أخرى تحتاج من العطايا ما لا يحتاجه الذكر، فمثلاً في واقعنا قد يحتاج الذكر إلى مركب?، والمرأة تحتاج إلى حلي وبين هذا وهذا فارق في الثمن. وهكذا الفقير قد يحتاج إلى أشياء من حاجياته ولا يحتاج إلى هذا الغنى ولا ينافي هذا العدل ولا يقتضي الجور. قال: [فإن فضّل بعضهم سوّى?بينهم برجوع أو زيادة] .

فإن فضّل بعض أولاده تفضيل جورٍ منهي عنه فإنه يجب عليه أن يسوي بينهم إما بأن يُرجع صدقته وعطيته، وإما أن يعطي الآخر، أو يزيده حتى يسوي بينهم. إذا أعطى الذكر ولم يعطِ الأنثى شيئاً فنقول: إما أن تأخذ هذه العشرة آلاف فترجع بهبتك، وإما أن تعطي الأنثى خمسة آلاف وإن كان أعطاها ألفاً أو ألفين فنقول: زد حتى تصل إلى خمسة آلاف. قال: [فإن مات قبله ثبتت] . وهب الأب ولده هبةً، وكانت هبة جورٍ حيث أنه قد خصّه بها دون باقي أخوته فمات الوالد ولم يرجع عن هذه الهبة فإنها تثبت للولد، وليس لباقي الورثة المطالبة بها، هذا هو المشهور في المذهب. - وعن الإمام أحمد وهو اختيار شيخ الإسلام وهو قول طائفة من الحنابلة: أن لهم أن يرجعوا، فللورثة أن يطالبوا بها، وهذا هو الراجح. وذلك لأن هذه العطية عطية جورٍ وظلم، والظلم محرم على فاعله ومحرم أيضاً تناوله، وهذا قد تناوله جوراً وظلماً فكان لمن له حق أن يطالب به، فأخذ هذا الموهوب له بغير حق فكان للورثة المطالبة به. وفي قوله: [في عطية أولاده] . ظاهره أن التعديل الواجب في الولد دون سائر أقاربه كإخوانه أو بني عمه أو نحو ذلك. وفي المسألة قولان في المذهب. أشهرهما هذا، وأن التعديل ليس واجباً في سوى الأولاد من سائر الأقارب. وهذا هو الراجح لأن الأصل هو جواز تصرفه في ماله وإنما استثنى الأولاد لمعنى يختص بهم وهذا المعنى لا يثبت في الأقارب فلم يلحقوا بهم. قال: [ولا يجوز لواهب أن يرجع في هبته اللازمة] . الهبة اللازمة تقدمت وهي الهبة المقبوضة. فلا يجوز للواهب أن يرجع في هبته التي قبضها المتهب، للحديث المتقدم: "ليس لنا مثل السوء العائد في هبته، كالكلب يقيئ ثم يعود في قيئه" متفق عليه. وظاهره ولو كان يريد بها الثواب، فإذا وهب هبةً يريد بها الثواب فليس له الرجوع، هذا هو المشهور في المذهب.

- وقال المالكية والأحناف: بل له الرجوع فإذا دلّت القرائن أنه يريد بذلك الثواب فله الرجوع إذا لم يثب وهذا هو الراجح وتقدم ما يدل على عليه من قول عمر في موطأ مالك: (من وهب هبةً أراد بها الثواب فهو على هبته يرجع فيها إذا لم يرض منها) ? (1) . قال: [إلا الأب] . فالأب يجوز له أن يرجع في هبته لولده. لما ثبت عند الخمسة، وصححه الترمذي، والحديث حسن أن النبي - صلى الله عليه وسلم -?قال: ?لا يحل لرجل مسلم أن يعطي العطية ثم يرجع فيها إلا الوالد فيما يعطي ولده) ? (2) ?? ??والمذهب خلافاً للشيخ لكافر الوالد أن يرجع بما وهب ابنه الذي أسلم بعد أن يرجع في هبته لولده?? (3) ?? فللوالد الأب لقوله (لا يحل لرجل مسلم) أني يرجع في هبته لولده. قال الحنابلة??فإذا كانت الهبة قد زادت زيادة متصلة، كأن يعطيه من صغار الغنم أو الإبل فتنمو، ففيها زيادة متصلة قالوا: فليس للأب الرجوع لهذه الزيادة المتصلة.

_ (1) تقدم. (2) أخرجه أبو داود في كتاب البيوع والإجارات، باب الرجوع في الهبة (3539) قال: " حدثنا مسدد، حدثنا يزيد - يعني ابن زريع - حدثنا حسين المعلم عن عمرو بن شعيب عن طاوووس عن ابن عمر وابن عباس عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (لا يحل لرجلٍ أن يُعطي عطية أو يهب هبة فيرجع فيها، إلا الوالد فيما يُعطي ولده، ومثلُ الذي يُعطي العطية ثم يرجع فيها كمثل الكلب يأكل فإذا شبع قام ثم عاد في قيئه) ، وأخرجه الترمذي في الولاء والهبة حديث 2133، باب في كراهية الرجوع في الهبة، وقال: حسن صحيح، والنسائي في الهبة حديث 3720، باب رجوع الوالد فيما يعطي ولد، وابن ماجه في الهبات حديث 2377، باب أعطى ولده ثم رجع فيه، سنن أبي داود [3 / 810] . (3) هذه العبارة في المطبوع دون الأصل، ولعلها من بعض طلبة الشيخ حفظه الله تعالى، وستأتي هذه المسألة في صْ 33.

وهذا ضعيف لعموم الحديث المتقدم، ولما سيأتي تقريره من قوله - صلى الله عليه وسلم -???أنت ومالك لأبيك?? (1) ? والذي يتبيَّن لي أن هذه المسألة نظير قوله - صلى الله عليه وسلم -???أنت ومالك لأبيك) ?فالأب?له أن يأخذ من مال ولده ما شاء بشروطهم التي سيأتي ذكرها، ولذا جاز له الرجوع في هبته. لأنه إذا جاز له أن يأخذ من مال ولده ما هو مال للولد أصلاً فأولى من ذلك أن يرجع في هبته. إذن: المشهور في المذهب: أنه إذا زادت الهبة زيادة متصلة فليس للأب الرجوع. وعن الإمام أحمد وهو اختيار عبد الرحمن بن سعدي: أنه يجوز الرجوع وهو الراجح لقوله - صلى الله عليه وسلم -???إلا الوالد) وهذا عام سواء كان فيها زيادة متصلة أم لم يكن فيها زيادة متصلة. قال: [وله أن يأخذ ويتملك من مال ولده ما لا يضره ولا يحتاجه] . له أي للأب، أن يأخذ من مال ولده، لقول النبي - صلى الله عليه وسلم -???أنت ومالك لأبيك) ?رواه ابن ماجه والحديث صحيح.

_ (1) أخرجه أبو داود في كتاب البيوع والإجارات، باب في الرجل يأكل من مال ولده (3530) قال: " حدثنا محمد بن المنهال، حدثنا يزيد بن زريع، حدثنا حبيب المعلم، عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن رجلاً أتى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: يا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إن لي مالاًَ وولداً، وإن والدي يجتاح مالي، قال: (أنت ومالك لوالدك، إن أولادكم من أطيب كسبكم فكلوا من كسب أولادكم) ، وأخرجه ابن ماجه في التجارات حديث 2292، باب ما للرجل من مال والده، وأخرج ابن ماجه عن جابر برقم 2291: (أنت ومالك لأبيك) ورجال إسناده ثقات.

وقوله - صلى الله عليه وسلم -???أطيب ما يأكل الرجل من كسبه وإن ولده من كسبه) ? (1) ? رواه الخمسة بإسناد صحيح. ولقوله تعالى: {?ولا على أنفسكم أن تأكلوا من بيوتكم أو بيوت آبائكم أو بيوت أمهاتكم?} ? (2) ? ولم يذكر بيوت الأبناء فهم داخلون في بيوت الأب فللأب أن يمتلك من مال ولده ما شاء بالشروط الآتي ذكرها?? ?ويشترط?في الأب: أن يكون حراً، فإن كان عبداً فليس?له أن يتملك من مال ولده؛ وذلك لأن مال العبد مال لسيده، فإنه حينئذ يخرج من ملكية الولد لا إلى ملكية الوالد بل إلى ملكية سيده. فاشترط أن يكون الأب حراً. ويشترط أن يكون الأب مسلماً كما قرره شيخ الإسلام وصّوبه صاحب الإنصاف. وكذلك- الأشبه كما قال شيخ الإسلام فيما إذا كان الولد كافراً فيشترط أن يكون الأب كافراً كالإرث فلا إرث مع اختلاف الدين فكذلك في هذه المسألة. ??وجواز الأخذ خاص بالأب فلا يدخل في ذلك الجد ولا الأم?؛?لأن هذا الحكم خلاف الأصل، فإن الأصل أنه لا يخرج من ملك الآدمي شيء إلا بطيب نفس منه فاستثني?الأب ولا يستثنى الجد ولا الأم وليسا ?في معنى الأب?، فإن الأب أكمل شفقة من الجد وأحسن تصرفاً من الأم. [ما لا يضره ولا يحتاجه]

_ (1) أخرجه أبو داود في كتاب البيوع، باب في الرجل يأكل من مال ولده (3528) قال: " حدثنا محمد بن كثير، أخبرنا سفيان، عن منصور، عن إبراهيم، عن عمارة بن عُمير، عن عمته، أنها سألت عائشة رضي الله عنها: في حِجْري يتيم أفآكل من ماله؟ فقالت قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (إن من أطيب ما أكل الرجل من كسبه، وولدُهُ من كسبه) ، وأخرجه الترمذي في الأحكام حديث (1358) باب الوالد يأخذ من مال ولده، والنسائي في البيوع حديث 4454 باب الحث على الكسب، وابن ماجه في أول كتاب التجارات حديث 2137 باب الحث على المكاسب، سنن أبي داود [3 / 800] . (2) أواخر سورة النور.

هذا هو الشرط الأول، وهو أن لا يضر هذا الأخذ بالولد، فللأب أن يأخذ من ولده ما شاء سواء كان الأب غنياً أو فقيراً وسواء كان الولد ذكراً أو أنثى كبيراً بالغاً رشيداً، أو غير ذلك، بشرط ألاّ يضر به ولا يجحف. وبشرط آخر - ويحسن أن يدخل في الشرط الأول - ألاّ يحتاج إليه فما كان من حاجياته كمسكنه وملبسه وخادمه ومركبه ونحو ذلك من حاجياته فلا، لما في ذلك من الحرج. والشرط الثالث: أن لا يأخذ منه فيعطي ولداً آخر إعطاءً ينافي العدل، لأنه إذا وجب عليه التعديل في ماله هو، فأولى من ذلك أن يجب التعديل في المال الذي يأخذه من ولده. الشرط الربع: ألا يكون في مرضه المخوف لا الأب ولا الابن لانعقاد الإرث حينئذ، ويأتي الكلام عليه في الوصايا. قال: [فإن تصرف في ماله ولو فيما وهبه له ببيع أو عتق أو إبراء.. لم يصح] . إذا تصرف الوالد في مال ولده، ولو فيما وهبه الوالد لولده إذا تصرف به ببيع، أو تصدق به أو وهبه لأحد من الناس أو أعتقه كأن يعتق عبد ولده، أو تصرف فيه بإبراء كان يبرئ غريم ولده من دين ولده، أو أراد أخذ هذه الهبة التي وهبها لولده قبل رجوعه أي قبل قوله رجعت عن الهبة، أو تملكه بالقول كأن يقول: هو لي، أو نية: بأن ينوي أن يتملك هذا الشيء، وقبضٍ معتبر لم يصح هذا التصرف. صورة هذه المسألة: لو أن رجلاً باع شيئاً من ملك ولده كأن يبيع عبده أو راحلته أو داره أو أن يعتق عبده، أو يهب شيئاً من ماله يتصرف به الأب قبل أن يتملكه بأن يقول: هو ملك لي، ويقبضه من ولده قبضاً معتبراً، فلابد مع القول من قبض، وكذلك لابد مع النية من قبضٍ. فإذا تصرف قبل تملكه أو رجوعه من الهبة فتصرفه باطل، فبيعه باطل، وعتقه باطل، وهبته باطلة، وإبراؤه كذلك. إذن: ليس للوالد أن يتصرف في مال ولده حتى يقبضه تملكاً. أي قبضه مع قول يدل على الملك أو نية الملك فحينئذ له أن يتصرف فيه وإلا فتصرفه باطل.

وذلك لأنه ملك للولد فلا يصح أن يتصرف فيه الوالد حتى يثبت ما يدل على ملكيته له بقول أو نية مع القبض، أو رجوع في الهبة هذا هو المشهور في المذهب. - وعن الإمام أحمد: أنه يصح، واختاره الشيخ عبد الرحمن بن سعدي وهو القول الراجح في هذه المسألة؛ لأن تصرفه فيه ببيع أو عقد أو إبراء ونحو ذلك متضمن للتملك وقد قال - صلى الله عليه وسلم -???أنت ومالك لأبيك) . وإذا قلنا: قد تصرف في غير ملكه فقد نافينا قول النبي - صلى الله عليه وسلم -???أنت ومالك?لأبيك) ?فهذا الحديث يدل على أنه ملك للأب، وهذا كله مع توفر الشروط المتقدمة. لكن إن كان تصرفاً يضر بالولد أو فيما يحتاج إليه الولد فحينئذ التصرف باطل أو موقوف على الإجازة. قال: [بل بعده] . ???أي بعد القول أو النية مع القبض المعتبر، أو الرجوع في الهبة. قال: [وليس للولد مطالبة أبيه بدين ونحوه] . ليس للابن أن يطالب أباه بدين ولا نحوه كإرش جنايةٍ ولا غير ذلك مما يكون في ذمة الوالد. وذلك لأن النبي - صلى الله عليه وسلم -?قال???أنت ومالك لأبيك) . وقال الجمهور: بل له أن يطالبه؛ لأنه دين ثابت فكان كدين الأجنبي. والجمهور لا يرون العمل بحديث (أنت ومالك لأبيك) بل هو من مفردات المذهب والأحاديث حجة عليهم. وقال بعض الحنابلة: ويحتمل أن له المطالبة مع غنى الوالد وحاجة الولد. وهذا هو الراجح وأنه ليس له أن يطالب والده، إلا أن يكون الوالد غنياً وهو محتاج؛ وذلك لأن الوالد ليس له أن يتملك حينئذ فكان له أن يطالبه كالدين الثابت. وهل له أن يرجع إلى التركة بعد وفاة الوالد أم لا؟ الجواب: نعم له أن يرجع هذا هو المشهور في المذهب؛ لأنه دين ثابت فكان كدين الأجنبي. لكن إن أخذه الوالد تملكاً فلا، أو أسقطه الوالد وله الإسقاط فكذلك لقوله "أنت ومالك لأبيك". إذن: له أن يرجع إلى تركة أبيه إلا أن يكون الوالد قد أخذه تملكاً فحينئذ يكون قد خرج من ملكيته.

ومثل ذلك لو أسقطه الوالد من ذمته وقال: لا شيء لك في ذمتي، وكان الولد غنياً عنه ليس مضطراً ولا محتاجاً إليه وتوفرت الشروط في تملك الوالد، فله أن يسقطه. قال: [إلا بنفقته الواجبة (عليه فإن له مطالبته بها) (1) ] . حيث كان الولد (2) عاجزاً عن التكسب فإن له مطالبة والده بالنفقة الواجبة. قال: [وحبسه عليها] . فللولد إن وصل الأمر إلى حبس الوالد حتى يعطيه النفقة الواجبة فله ذلك، هذا من باب حفظ النفس؛ لأنه قائم بهذه النفقة الواجبة فحياته قائمة بذلك، فهو حق واجب له. مسألة: إن أهدي للشخص هدية أو تُصدق عليه بصدقة فأحكامها كأحكام الهبة تماماً. مسألة: فإن وهب له هبةً ولها وعاء فهل يدخل وعاؤها فيها أم لا؟ إذا أهدى إليه تمراً في إناء، أو طعاماً في إناء، فهل يدخل الإناء في الهدية أم لا؟ الجواب: مرجع ذلك إلى العرف، فإن كان العرف يدل على هذا دخل في الهدية وإلا فإنه لا يدخل فيها. الدرس الرابع عشر بعد الثلاثمئة (12 / 7 / 1416 هـ) "فصل في تصرفات المريض" تقدم أن الهبة في مرض الموت تسمى عطية في اصطلاح الفقهاء. قال: [من مرضه غير مخوف كوجع ضرس وعين وصداع (يسير) (3) ] . المرض المخوف: هو المرض الذي يخشى معه الموت، ومرجع هذا إلى العادة أو إلى قول طبيبين ذوي خبرة مسلمين ثقتين، ولا يشترط أن يكون ظن الموت غالباً في المرض ولا أن يكون ظن الموت مساوياً لرجاء سلامته بل متى ما كان يخشى معه الموت كثيراً فإنه مرض مخوف (أي ما يكثر حصول الموت منه كما في الاختيارات) (4) . قال: [فتصرفه لازم كالصحيح (ولو مات منه) (5) ] .

_ (1) هذه العبارة في المطبوع دون الأصل. (2) في الأصل: الوالد، وهو خطأ. (3) هذه الكلمة في المطبوع دون الأصل. (4) هذه العبارة ليست في الأصل، وإنما في المطبوع فقط. (5) ليست في الأصل.

(1) فإذا وهب مضت هبته على ما وهب، فتصرفاته نافذة صحيحة (2) . قال: [وإن كان مخوفاً كبرسام] . البِرْسام: مرض من الأمراض المخوفة قالوا: أن يتبخّر من الباطن أو نحوه بخارٌ فيفسد الدماغ، ولا أدري ما تسميته عند المعاصرين. قال: [وذات الجنب] . ذات الجنب: مرض يصاب به الجنب من الباطن بقروح. قال: [ووجع قلبٍ ودوام قيام] . أي دوام قيام إلى خلاء بإسهال مزمن ممرض. قال: [ورعاف دائم، وأول فالج] . الفالج: مرض يصيب البدن فيرتخي بعض أطرافه، فلا تتحرك هذه الأطراف. وهو أشبه ما يسمى عندنا بـ"الجلطة". قال: [وآخر سلٍ] . السل: قروح تصيب الرئة. قال: [والحمى المطبقة والرِبْع] . الحمى المطبقة: أي المستمرة، والحمى معروفة وهي حرارة تكون في البدن. "والربْع" أي الحمى الربع وهي أن تصيبه يوماً ثم تتركه يومين ثم تعود إليه في اليوم الرابع. وهذه أمثلة وإلا فالمرجع في ذلك إلى ما يراه الناس في العادة أنه مرض مخوف. قال: [وما قال طبيبان مسلمان عدلان إنه مخوف] . فما قال طبيبان مسلمان عدلان إنه مرض مخوف، وذلك لما يترتب على ذلك من حق الوارث وحق المعْطى فاشترط أن يكونا طبيبين ثقتين مسلمين. - والقول الثاني في المذهب، وهو ظاهر قول الخرقي: أن قول الطبيب الواحد يقبل مع العدم. ويستدل له: بما روى الإمام أحمد في مسنده وغيره أن عمر لما جُرح سقاه الطبيب لبناً فخرف من جرحه فقال: اعهد إلى الناس فعهد" (3) . ولو قيل بقبول خبر طبيب واحدٍ ثقة حيث لم يعارضه غيره لكان قوياً، والله أعلم. قال: [ومن وقع الطاعون في بلده] . فإذا وقع الطاعون في بلدٍ، فوقوعه فيها مخوف فيخشى معه التلف فيكون له حكم المرض المخوف.

_ (1) هنا في الأصل عبارة وهي: " فالمريض مرضاً غير مخوف تصرفه كتصرف الصحيح ". (2) في الأصل: " كالصحيح " بدل: صحيحة. (3) أخرجه الإمام أحمد …

وقد اتفق العلماء على أن هبة المريض مرضاً مخوفاً متصلاً بالموت أن حكم هبته كالوصية، وسيأتي إيضاح هذا. قال: [ومن أخذها الطلق] . أي المرأة يأخذها الطلق. قال: [لا يلزم تبرعه لوارث بشيء] . فالمريض مرضاً مخوفاً أو من وقع في بلده الطاعون أو من كان عند التحام الصف والعدو يُخاف ونحوهم فهبته تكون في حكم الوصية. فإن كانت لوراث فلا يلزم هذا التبرع لقوله - صلى الله عليه وسلم -???لا وصية لوارث) ? (1) ،?وهنا كما تقدم حكم الهبة كحكم الوصية. قال: [ولا بما فوق الثلث إلا بإجازة الورثة لها إن مات منه] . فإذا وهب نصف ماله مثلاً لأجنبي في مرضه المخوف، فإذا مات الواهب، فلا يُعطى هذا الأجنبي نصف المال الذي وهبه إياه في مرض الموت بل يُعطى الثلث لقوله - صلى الله عليه وسلم -???الثلث والثلث كثير) ? (2) ? إلا أن يجيز هذا الورثة، فإذا رضي الورثة بذلك فإن هذا إسقاط لحقهم، فإنه إنما يمنع لحق الورثة، فإذا أجاز ذلك الورثة فقد أسقطوا حقهم. قال: [وإن عوفي فكصحيح] . إذا عوفي هذا المريض مرضاً مخوفاً فإن هذه الهبات تلزم من جميع المال؛ وذلك لفقدان الشرط الآخر وهو أن يكون هذا المرض قد اتصل به الموت، وهنا لم يتصل به الموت لأنه لما لم يمت به فهذا يدل على أنه ليس مرض الموت.

_ (1) أخرجه أبو داود في باب ما جاء في الوصية لوارث من كتاب البيوع، والترمذي في باب ما جاء لا وصية لوارث، والنسائي وابن ماجه الدارمي والإمام أحمد، المغني [8 / 390] . (2) أخرجه البخاري في باب الوصية بالثلث من كتاب الوصايا، ومسلم باب الوصية بالثلث من كتاب الوصية، كما أخرجه النسائي في باب الوصية بالثلث وابن ماجه والإمام أحمد، المغني [8 / 393]

ودليل ما اتفق عليه أهل العلم من أن المرض المخوف الذي يتصل به الموت له حكم الوصية، ما ثبت في مسلم: أن رجلاً من الأنصار أعتق ستة أعبد في مرضه ولا مال له غيرهم فاستدعاهم النبي - صلى الله عليه وسلم -?وجزأهم ثلاثة أجزاء وأقرع بينهم، فأعتق اثنين وأرقّ أربعة? (1) ?وهذا في العتق فكذلك الهبة. قال: [ومن امتدَّ?مرضه بجذام أو سلٍ أو فالجٍ ولم يقطعه بفراش فمن كل ماله] . الجذام: مرض تتساقط به الأعضاء. فإذا امتد به هذا المرض المخوف ولم يقعده على فراشه فإن ما يهبه من الهبات تكون من جميع المال لا من الثلث. إذن: له حكم تصرف الصحيح. أما إذا أقعده في فراشه فليس له حكم تصرف الصحيح بل له الحكم المتقدم فيكون له حكم الوصية، هذا هو المشهور في مذهب الإمام أحمد? ??القول الثاني?،?وهو رواية عن الإمام أحمد وهو وجه في المذهب???أنه له حكم الوصية أيضاً وإن لمم يقعده على فراشه، وهذا هو القول الراجح? إذ عدم قعوده في الفراش ليس بمؤثر مع أن هذا المرض مخوف، وعدم قعوده على الفراش مع أن هذا المرض بطبيعته مرض مخوف يخشى أن يتعجل معه الموت لا يكون مؤثراً. قال: [والعكس بالعكس] . ??أي إذا كان يقطعه بفراشٍ فتصرفاته كتصرفات المريض مرضاً مخوفاً أي في حكم الوصية. قال: [ويعتبر الثلث عند موته] . فيعتبر الثلث عند موته لا حال هبته وعطيته. رجل يملك تسعين ألفاً وهو في مرض مخوف فأعطى رجلاً ثلاثين ألفاً أي هبة، فهي ثلث ماله حال العطية، ثم أنفق على نفسه من المال فبقى له عند موته ستون ألفاً، فأصبحت الثلاثون ألفاً نصف ماله. فالحكم: أنه يعتبر الثلث عند موته؛ وذلك لأن هذا هو زمن استحقاق الوصية ولزومها، فكذلك الهبة.

_ (1) أخرجه مسلم في باب من أعتق شركا له في عبد من كتاب الأيمان، وأبو داود باب في من أعتق عبيدا له.. من كتاب العتق، والترمذي والنسائي، والإمام مالك مرسلا، والإمام أحمد، المغني [8 / 395] .

وإذا أعتق عبداً في مرضه المخوف وليس له سوى هذا العبد، وعند الموت أصبح يملك ثلاثة أعبد فإنه يعتق عليه هذا العبد؛ لأنه ثلث ماله. ولو وهب رجلاً ثلاثين ألفاً في مرضه المخوف، وعند موته كان عليه ديونه تستغرق هذه الثلاثين فحينئذ تقدم ديونه ولا شيء للمعطى. إذن: العبرة بحال الموت، فيعتبر الثلث بحال موته لا عند العطية. قال: [ويسوى بين المتقدم والمتأخر في الوصية، ويبدأ بالأول فالأول في العطية] . هنا فوارق بين الوصية والعطية. الفارق الأول: أنه يُسوى بين المتقدم والمتأخر في الوصية، فإذا أوصى لزيدٍ بعشرة آلاف، ثم أوصى لعمرو بعشرةٍ آلاف ومات عن ثلاثين ألفا، فالثلث هو عشرة آلاف، فكل واحد منهما يأخذ خمسة آلاف فيسوى بين المتقدم والمتأخر. وذلك لأن الوصية تبرع بعد الموت، فهو تبرع مشروط بالموت، والموت يحصل دفعةً واحدةً فاستويا ولم يسبق أحدهما الآخر في الملكية. وأما العطية فيقدم الأول فالأول: فإذا وهب زيداً عشرة آلاف، في مرضه المخوف، ثم وهب عمراً عشرة آلاف، ثم مات وترك ثلاثين ألفاً، فالثلث عشرة آلاف نعطيها زيداً ولا يكون لعمرو شيئاً، لأن الأول يُقدم. وهذا الفارق بينهما علته: أن العطية لازمة بخلاف الوصية فإنها جائزة ولا تلزم إلا بالموت، ففي العطية يكون ملك زيدٍ سابق لملك عمرو. قال: [ولا يملك الرجوع فيها] . هذا فارق آخر بين العطية والوصية، هو أن العطية لا يملك الرجوع فيها. فإذا وهب في مرضه المخوف زيداً عشرة آلاف وقبضها زيد فإنه لا يملك الرجوع فيها، لأنها أصبحت لازمة. وأما الوصية فيملك الرجوع فيها. فلو أن رجلاً في مرضه المخوف أو قبل ذلك أوصى بثلث ماله ثم بدا له أن يرجع، فله ذلك لأنها لا تلزم إلا بالموت وهذا فارق آخر. قال: [ويعتبر القبول لها عند وجودها] .

فالعطية يعتبر القبول لها عند وجودها، فإذا قال: "وهبتك كذا" فيعتبر القبول عند وجود الهبة، فإذا لم يقبل الموهوب له حينئذ فللآخر أن يرجع عن هبته. أما الوصية فإن قبولها يكون عند موت الموصي لأنه وقت استحقاقها ولزومها. وهذا فارق ثالث. قال: [ويثبت الملك إذن (والوصية بخلاف ذلك) (1) ] . هذا الفارق الرابع: العطية إذا قبضت فقد ثبت الملك فإنها تصبح ملكاً للمُعطى في أثناء مرضه المخوف، وذلك لأن الهبة تملك في الحال. وأما الوصية فإنها إنما تملك بعد الموت. فإذا قال: "أعطيتك يا زيد عشرة آلاف" وهو في مرضه المخوف، فقال زيد: قبلت" وقبضها فأصبحت ملكاً لزيد. لكن يكون هذا المال منتظراً به ومرتقباً فلا يعطى هذا الموهوب له فيتصرف به تصرفاً لا يمكن الورثة أن يردوه، إن شاءوا الرد. إذن يملكه لكن هذا الملك ملك موقوف. فإذا شفي الواهب من هذا المرض فإنه يأخذ هذه العشرة آلاف من جميع المال، سواء كانت الثلث أو أكثر. أما إذا مات من هذا المرض المخوف، فحينئذ ننظر إن كان وارثاً فلا شيء له، لأنه أصبحت بحكم الوصية ولا وصية لوارث. وإن كان أجنبياً فننظر هل يستغرق الثلث أم لا؟ فإن كان بقدر الثلث أو أقل أعطيناه إياه، وإن كان أكثر من الثلث نظرنا إلى الورثة فإن أجازوا أعطيناه إياه، وإن لم يجيزوا اكتفينا بالثلث. * والمحاباة في المرض المخوف، في حكم العطية. فلو حابى وارثه ببيع دار بنصف ثمنها. فمثلاً: باع على بعض ورثته داره التي تساوي مائة ألف باعها له في مرضه المخوف بخمسين ألفاً فحينئذ ما زاد من هذه الدار فلا بيع فيه بل يثبت البيع فيها بقدر الثمن فحينئذ يكون المبيع هو نصف الدار. وللمشتري الخيار لتبعيض السلعة عليه، هذا إذا كان وارثاً. وأما إن لم يكن وارثاً فينظر إلى هذه المحاباة هل هي بقدر الثلث أم لا؟ فإن كانت بقدر الثلث فهي له. وإن كانت بأكثر من الثلث فينظر فيه إلى إجازة الورثة.

_ (1) هذه العبارة ليست في الأصل.

والحمد لله رب العالمين. تم كتاب الوقف، ويليه كتاب الوصايا. (1)

_ (1) تم مراجعة كتاب الوقف على الأصل.

كتاب الوصايا

" كتاب الوصايا " الوصايا: جمع وصية وهي التبرع بعد الموت، وقد دل عليها كتاب الله وسنة نبيه - صلى الله عليه وسلم - وإجماع أهل العلم. أما الكتاب: فقوله تعالى: ((من بعد وصيةٍ يوصى بها أو دين)) . وأما السنة: فقد ثبت في الصحيحين عن ابن عمر أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (ما حق مسلم له شيء يريد أن يوصي فيه يبيت ليلتين) (1) . في مسلم: ثلاثاً، إلا ووصيته مكتوبة عنده. وقد أجمع أهل العلم على ثبوت الوصية. والوصية تصح من جائز التصرف، وقد تقدم من هو جائز التصرف في كتاب البيوع. فجائز التصرف تصح وصيته ما لم يغرغر وتبلغ الروح الحلقوم، لأنه حينئذ لا قول له، ولذا تقبل توبة العبد ما لم يغرغر وهذا باتفاق العلماء. وقد اتفق العلماء على أن غير العاقل وغير المميز لا تصح وصيتهما. واختلفوا في وصية الصبي العاقل والسفيه البالغ: 1- فجمهور العلماء على صحة وصيته، كعبادته، فكما تصح عبادته من صلاة ونحوها فكذلك تصح وصيته. وذلك لأن وصيته نفع محض له لا ضرر عليه فيها، لأن الوصية تكون بعد الموت بخلاف الهبة فإنها تكون في حال الحياة. وظاهر إطلاق الفقهاء سواء كان مما تستحب الوصية فيه أو مما لا تستحب مثال ما تستحب فيه الوصية، أن يوصي لأقاربه غير الوارثين. ومثال الوصية غير المستحبة أو المباحة، أن يوصي للأباعد مع وجود الأقارب المحتاجين ظاهر إطلاق الفقهاء أن وصية الصبي تصح مطلقاً سواء كانت على وجهٍ تستحب معه أم لم تكن كذلك.

_ (1) أخرجه البخاري في باب الوصايا وقول النبي - صلى الله عليه وسلم - وصية الرجل مكتوبة عنده، من كتاب الوصايا، صحيح البخاري 4/ 2، ومسلم في كتاب الوصية، صحيح مسلم 3 / 1249، 1250. المغني [8 / 389] .

وقال شيخ الإسلام، وفسّر كلام الأئمة أحمد وغيره من السلف بقوله هذا، قال: "إذا كانت على وجه تستحب فإن وصيته تصح كأن يوصي لأقاربه غير الوارثين، وأما إذا أوصى للبعيد مع وجود القريب المحتاج فلا تمضي وصيته وذلك لأنه قاصر التصرف فاحتاج إلى نظر الشارع كما يحتاج إلى نظر الولي في بيعه وشرائه ونحو ذلك" ا. هـ. وما ذكره- رحمه الله – ظاهر. فعلى ذلك وصية الصبي صحيحه بشرط أن تكون على وجه يستحب كما قرر هذا شيخ الإسلام. 2- وذهب الأحناف: إلى أن وصية الصبي لا تصح مطلقاً قياساً على هبته. وهذا قياس مع الفارق، لأن الهبة في الحياة، والوصية بعد الحياة، فالهبة فيها فوات نفع أو لحوق ضرر، وأما الوصية فهي نفع محض. وروى مالك في موطئه: أن عمر بن الخطاب، سئل عن غلامٍ من غسان لم يحتلم وورثته في الشام وليس له هاهنا، أي بالمدينة، إلا ابنة عم له فقال رضي الله عنه: "فليوصِ لها" وهو غلام لم يحتلم. وكتابة الوصية سنة كما تقدم في حديث ابن عمر في قوله: " إلا ووصيته مكتوبة عنده ". ويستحب الإشهاد عليها قطعاً للنزاع. وإذا وجد خط له متضمن لوصية، وأثبتت البينة أن هذا هو خطه كأن يشهد اثنان على أن هذا هو خطه، فإن الوصية تصح. أو أقرّ الورثة أن هذا هو خط مورثهم فالوصية تصح وتمضي. ويستحب أن يُصدّر وصيته بما كان السلف يصدرون وصاياهم به، فقد روى سعيد بن منصور بإسناد صحيح عن أنس بن مالك قال: "كانوا يكتبون في صدور وصاياهم" بسم الله الرحمن الرحيم هذا ما أوصى به فلان أنه يشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له وأن محمداً عبده ورسوله وأن الساعة آتية لا ريب فيها وأن الله يبعث من في القبور، وأوصى من ترك من أهله أن يتقوا الله ويصلحوا ذات بينهم وأن يطيعوا الله ورسوله وأوصاهم بما أوصى به إبراهيم بنيه ويعقوب يا بني إن الله اصطفى لكم الدين فلا تموتن إلا وأنتم مسلمون". قال: [يسن لمن ترك خيراً- وهو المال الكثير أن يوصي بالخمس] .

فالوصية لمن ترك خيراً مستحبة لأنها من الإحسان للناس، والإحسان مستحب. فإن قيل: ألا تجب لقوله تعالى: ((كتب عليكم إذا حضر أحدكم الموت إن ترك خيراً الوصية للوالدين والأقربين بالمعروف حقاً على المتقين)) والكتب هو الفرض والإيجاب. فالجواب: أن هذه الآية منسوخة كما قال هذا ابن عباس ففي البخاري أنه قال: "كان المال للولد" أي الإرث "وللوالدين الوصية فنسخ الله ذلك". وقوله هناً: "لمن ترك خيراً" وهو المال الكثير في العرف فمن ترك مالاً كثيراً في العرف فيستحب له أن يوصي. وقال الموفق: "الذي يقوى عندي أن يكون المتروك يفضل عن غنى الورثة وإلا فلا تستجب" (1) واختاره صاحب الفائق من الحنابلة وهذا هو الذي يوافق ظاهر قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: (إنك أن تذر ورثتك أغنياء خير من أن تذرهم عالةً يتكففون الناس) (2) . فقد يكون المال كثيراً لكن الورثة كثير بحيث أنهم لا يصيبون غنى بآحادهم فحينئذ تكره الوصية. " أن يوصي بالخمس " فالمستحب في الوصية أن تكون بالخمس قال ابن عباس، كما في البيهقي بإسناد جيد قال: "الذي يوصي بالخمس أفضل من الذي يوصي بالربع، والذي يوصي بالربع أفضل من الذي يوصي بالثلث".

_ (1) قال الموفق في المغني: [8 / 392] : " والذي يقوى عندي أنه متى كان المتروك لا يفضل عن غِنَى الورثة فلا تستحب الوصية ". (2) أخرجه البخاري في باب رثى النبي - صلى الله عليه وسلم - سعيد بن خولة من كتاب الجنائز، وفي باب أن يترك ورثته أغنياء.. وباب الوصية بالثلث من كتاب الوصايا، وفي … صحيح البخاري 2 / 103، 4 / 3، 4، 5/ 87، 7/ 153، 155، 8/ 99، 187، ومسلم في باب الوصية بالثلث من كتاب الوصية، صحيح مسلم 3 / 1250، 1252، 1253، وبقية الأربعة، المغني [6 / 37] .

وفي البيهقي بإسناد منقطع، أن أبا بكر، أوصى بالخمس وقال: رضيت لنفسي ما رضيه الله لنفسه" يشير إلى قوله تعالى: ((واعلموا أن ما غنمتم من شيء فأن لله خمسه)) . ولذا قال - صلى الله عليه وسلم - لسعد بن أبي وقاص لما قال له: يا رسول الله: إني ذو مال ولا يرثني إلى ابنة لي واحدة، أفأتصدق بثلثي مالي فقال: "لا" فقال: أفأتصدق بشطره فقال: "لا" فقال أفأتصدق بثلثه فقال: "الثلث والثلث كثير، فدل على أن الوصية بالثلث خلاف الأولى" إنك أن تذر ورثتك أغنياء خير من أن تذرهم عالة يتكففون الناس)) . قال: [ولا تجوز بأكثر من الثلث لأجنبي] . لا تجوز الوصية بأكثر من الثلث لأجنبي لقوله - صلى الله عليه وسلم -: (الثلث والثلث كثير) وقال - صلى الله عليه وسلم - كما في الدارقطني من حديث معاذ، وفي المسند من حديث أبي الدرداء، وفي ابن ماجه من حديث أبي هريرة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (إن الله تصدق عليكم بثلث أموالكم عند وفاتكم زيادة لكم في حسناتكم) والحديث حسن لغيره. فله أن يوصي للأجنبي بالثلث فأقل، فإن أوصى بأكثر من الثلث كأن يوصي له بنصف ماله، فإن الموصى له يعطى الثلث وما بقي له فما أوصى به ينظر فيه إلى الورثة فإن أجازوا فذاك وإلا فهو حقهم. قال: [ولا لوارث بشيء] . فالوارث لا يوصى له بشيء، لما روى الخمسة إلا النسائي والحديث صحيح متواتر، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (إن الله قد أعطى كل ذي حق حقه فلا وصية لوارث) (1) .

_ (1) أخرجه أبو داود في باب ما جاء في الوصية للوارث، من كتاب البيوع سنن أبي داود 2 / 103، والترمذي في باب ما جاء لا وصية لوارث من أبواب الوصايا، عارضة الأحوذي 8 / 275، 278، كما أخرجه النسائي في باب إبطال الوصية للوارث من كتاب الوصايا، المجتبى 6 / 207، وابن ماجه في باب لا وصية لوارث من كتاب الوصايا، سنن ابن ماجه 2 / 905، 906 وغيرهم، المغني [8 / 390] .

وحينئذ فإذا أوصى لوارث فإنه يكون موقوفاً على الورثة لأن المقصود منه حفظ حقهم. ولذا قال - صلى الله عليه وسلم - كما في الدارقطني بإسناد حسن، من الحديث المتقدم "إلا أن يشاء الورثة". ولذا قال: [إلا بإجازة الورثة لهما بعد الموت] . قوله "لهما" أي للأجنبي وللوارث. وتكون إجازة الورثة معتبرة بعد الموت لا قبله ولذا قال في الحديث: "إلا أن يشاء الورثة" وهم إنما يكونون ورثة بعد موت مورثهم. إذن: إن أجازوا الوصية لوارث، أو لأجنبي بما فوق الثلث أجازوا ذلك وهو في مرض الموت، فلهم أن يرجعوا عن هذا بعد موته لقوله: "إلا أن يشاء الورثة". قال: [فتصح تنفيذاً] . فتصح إجازتهم تنفيذاً لا ابتداءً. بمعنى: أنه إذا أوصى له، وهو وارث بكذا من المال فأجازه الورثة، فهذه الإجازة من الورثة تكون تنفيذاً لوصية مورثهم، وإمضاءً لها وليست هبةً مبتدأة منهم فيشترط فيها ما يشترط في الهبات. لقوله: (إلا أن يشاء الورثة) بعد قوله: "فلا وصية لوارث" أي إلا أن يشاء الورثة الوصية وهذا هو مذهب جمهور العلماء. وعن الإمام أحمد: أنها هبة مبتدأة، والصحيح ما تقدم فهي وصية منفذة، وعليه فلا يشترط فيها قبض ولا غير ذلك مما يشترط في الهبات. قال: [وتكره وصية فقير وارثه محتاج] . لقوله - صلى الله عليه وسلم -: (إنك أن تذر ورثتك أغنياء خير من أن تذرهم عالة يتكففون الناس) . قال: [وتجوز بالكل لمن لا وارث له] . فتجوز الوصية بالكل لمن لا وارث له، وكذلك إذا كان له وارث فله أن يوصي له بما بقي من التركة فلو مات عن زوجته – ولم نقل بالرد عليها كما هو المشهور في المذهب – فقال: أوصي بمالي لزوجتي فحينئذ تأخذ الزوجة التركة كلها فرضاً ووصية وذلك لأن المنع من الزيادة على الثلث لحفظ حق الورثة بدليل قوله: ((إلا أن يشاء الورثة) ولذا إذا أجازوها مضت، فالمقصود حقهم، وحيث لا ورثة فحينئذ لا حق يعارض هذه الوصية. قال: [وإن لم يف الثلث بالوصية فالنقص بالقسط] .

إذا لم يف الثلث بالوصايا فالنقص يلحق الجميع محاصّةً كمسألة الحول (1) في الفرائض، مثاله: إذا أوصى لفلان بعشرة آلاف، ولفلان بعشرة آلاف ولم يترك إرثاً إلا ثلاثين ألفًا، فثلثه عشرة آلاف فحينئذ لكل واحد منهما نصف الثلث وهو خمسة آلاف. قال: [وإن أوصى لوارث فصار عند الموت غير وارث صحت والعكس بالعكس] . إذا أوصى لوارث كأن يوصي لأخيه حيث لا ابن له – أي للموصي – ثم ولد للموصي ولد فإن الأخ يحجب من الإرث فحينئذ تثبت للأخ الوصية، لأنه في حال موت الموصي ليس بوارث والعبرة بحال موته. "والعكس بالعكس" فلو أوصى لغير وارث كأن يوصي لأخيه وللموصي أبناء فالأخ حين الوصية ليس بوارث ثم مات الأبناء في حياة والدهم فحينئذ أصبح الأخ وارثاً حيث لا حاجب له فحينئذ ليس له نصيب من الوصية لأنه في حالة الموت حيث تستحق الوصية هو وارث ولا وصية لوارث. إذاً النظر في مسألة الوصية للوارث وغير الوارث معتبرة عند موت الموصي لأنها تبرع بعد الموت. قال: [ويعتبر القبول بعد الموت وإن طال لا قبله] . القبول للوصية معتبر بعد الموت لأنه هو وقت استحقاق الوصية، فلا عبرة بقبوله قبل موت الموصي. فإن تراخى – أي لم يتعجل بالقبول – فله بعد ذلك القبول، ويجب أن يقيد هذا بحيث لم يكن تراخيه دليلاً على عدم قبوله – إذن: له أن يتراخى لأنه حق له، فلا يسقط بتراخيه. فإن مات الموصى له قبل أن يقبل وقبل أن يرد، فهل يرث ورثته ذلك فيكون مقامه أم لا؟ قولان في المذهب:- القول الأول: أن الوصية تبطل. والقول الثاني: أنها لا تبطل ويقوم وارثه مقامه، وهذا هو الراجح لأنها حق له فورث كسائر حقوقه. قوله: [ويثبت الملك به عقب الموت] .

_ (1) لعلها: العول.

يثبت الملك به أي بالقبول، فالضمير يعود إلى القبول، فإذا قبل الموصى له ما وصّي له به يثبت الملك به أي بالقبول أو يفعل ما يدل على القبول (1) ليس بملك له وهو ملك لورثة الموصي فنماؤه المنفصل يكون لهم ونماؤه المتصل على الخلاف المتقدم، والمذهب أنه يكون له. فإذا أوصى له بكذا وكذا شاة ثم مات وتراخى الموصى له فلم يقبل إلا بعد شهر مثلاً فإن كان من نماء في هذه الشياة فإنه يكون للورثة لا للموصى له لأنه لا يكون ملكاً له إلا بقبوله كسائر العقود فإنها لا تنتقل بها الملكية إلا بالقبول. قال: [ومن قبلها ثم ردها لم يصح الرد] . من قبل الوصية ثم ردها لم يصح الرد، لأنها بقبولها أصبحت ملكاً له فلا يصح الرد، وحينئذ فإن قبل ذلك الورثة فهي هبة لهم، لأنه لما قبلها أصبحت ملكاً له فإذا ردها فإنها تكون هبة من الهبات. قال: [ويجوز الرجوع في الوصية] . إذا كتب رجل وصية ثم قال: الثلث لفلان، ثم بدا له أن يرجع فله أن يرجع اتفاقاً، وقد روى البيهقي – وسكت عنه الحافظ في تلخيص الحبير – أن عمر قال: " يحدث الرجل في وصيته ما شاء" وهذا باتفاق أهل العلم. قال: [وإن قال: إن قدم زيد فله ما أوصيت به لعمرو فقدم في حياته فله] . إذا أوصى لعمرو بوصية ثم قال: إن قدم زيد فله ما أوصيت لعمرو، فقدم في حياة الموصي فهي لزيد، وذلك لثبوت الشرط. قال: [وبعدها لعمرو] . فإذا لم يقدم زيد إلا بعد موت الموصي فإنها تكون لعمرو لا لزيد، لأنه ليس للموصي حق في الوصية بعد الموت، والشرط لم يقع. قال: [ويخرج الواجب كله من دين وحجٍ وغيره من كل ماله بعد موته وإن لم يوص به..] . أي يخرجه وصيه ومن بعد ذلك وارثه ومن بعد ذلك الحاكم أي القاضي. مما يتعلق بماله من الديون لله عز وجل كحج أو زكاة أو كفارة أو نذر وما يتعلق به من الديون للآدميين تخرج من رأس ماله قبل الوصية.

_ (1) لعل هناك سقط، ويستقيم المعنى بأن يقال: أما إذا لم يقبل فإنه ".

لقوله تعالى: ((من بعد وصية يوصى بها أو دين)) . وفي الترمذي والحديث حسن أن النبي - صلى الله عليه وسلم -: (قضى بالدين قبل الوصية) . فهذه الحقوق تخرج من ماله، ولو لم يوص بها لأنها حقوق لهم ثابتة. لكن إن خشي أن تضيع عليهم حقوقهم حيث لم يوص فالوصية واجبة. إذن: الدين يخرج قبل الوصية فيخرج من رأس المال. مثال: رجل أوصى لزيد بثلث ماله، وكان ماله مائة ألف، وعليه ديون قدرها خمسين ألفاً، فتقضى عنه ديونه وما بقي فإن زيداً يأخذ ثلثه. قال: [فإن قال: أدوا الواجب من ثلثي بدئ به] . فإذا: أوصى بثلثه للفقراء، ثم قال: ما علي من دين فإنه يخرج من ثلثي. فحينئذ يخرج من ثلثه كما قال. فإن بقي شيء أخذه الموصى له وإلا فإنه يسقط لذا قال: [فإن بقي منه شيء أخذه صاحب التبرع وإلا سقط] . إذن: الدين يخرج من رأس المال كله. إلا أن يشترط المورّث إخراجه من الثلث، فحينئذ يخرج من الثلث فإن بقي شيء للموصى له أخذه وإلا فإنه يسقط. " باب الموصى له " الموصى له: هو من يستحق الوصية. قال: [تصح لمن يصح تملكه] . فالوصية تصح لمن يصح تملكه من كافرٍ أو مسلم، قال تعالى: ((إلا أن تفعلوا إلى أوليائكم معروفاً)) سواء كان الكافر ذمياً أو حربياً. أما الذمي فقد تقدمت وصية صفية زوج النبي - صلى الله عليه وسلم - وقول الله تعالى: ((لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم)) . والحربي داخل في قوله تعالى: ((إلا أن تفعلوا إلى أوليائكم معروفاً)) . قالوا: وقد ثبت في الصحيحين أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أهدى إلى عمر ثوب حرير فكساه أخاً له مشركاً) وهو حربي لأن أهل مكة في عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - أهل حرب. ومنع من ذلك الأحناف لقوله تعالى: ((إنما ينهاكم الله عن الذين قاتلوكم في الدين وأخرجوكم من دياركم أن تولوهم)) . والآية في التولي:

لكن الأصل على مذهب الجمهور أن مال الحربي ليس بمعصوم وإنفاذ الوصية ينافي ذلك. ويستثنى على اختيار ما قاله الجمهور السلاح والخيل ونحوه التي يقاتل بها المسلمون فإنها لا تحل الوصية له بها. وكذلك يستثنى ما إذا كانت وصية إلى غير معينين، كأن يوصي لليهود أو النصارى أو نحو ذلك، فهذا لا يصح لما فيه من منافاة مقصود الشرع، ولما فيه من إرادة نفعهم لديانتهم وهذه من الموالاة المحرمة. إذن: ما ذهب إليه الأحناف فيه قوة، وذلك لأن الحربي ماله ليس بمعصوم، وانفاذ الوصية ينافي ذلك. والله أعلم. قال: [ولعبده بمشاع كثلثه ويعتق منه بقدره] . إذا أوصى لعبده بمشاع كثلث المال أو ربعه أو نصفه، فإنه يصح، والعبد لا يملك لكن لما أوصى بمشاع دخل في ذلك العبد لأنه من المال، فإذا أوصى بالثلث فإن ثلث العبد يدخل فكانت الوصية بالمشاع متضمنةً للعتق منه. بخلاف ما لو كان غير مشاع، كأن يقول: أوصيت لك بداري أو بكذا درهماً أو ديناراً، فإن هذا اللفظ لا يدخل فيه العبد، وحينئذ فيكون تمليكاً للعبد، والتمليك للعبد تمليك لسيده وسادته هم الورثة وحينئذ يكون هذا لا فائدة منه لأنه تمليك للمالك فهم مالكون للعبد والمال. ولذا قال المؤلف بعد ذلك: [وبمئه أو بمعين لا تصح له] . لأنه مملوك للورثة وهذه الوصية تكون لورثته فحينئذ لا فائدة من ذلك لكن إذا أوصى له بجزء مشاع كالثلث أو الربع فإنه يعتق منه بقدر المشاع فإذا قال: لك الربع عتق ربعه، فإن كان هناك فاضل عتق بقيته بقدر قيمته، فإن بقي شيء فله الفاضل. ولذا قال: [ويأخذ الفاضل] . أي بعد عتقه، فإذا عتق وبقي شيء فإنه يكون له لأنه يكون حراً فيصح تملكه. قال: [وتصح بحملٍ ولحملٍ تحقق وجوده قبلها] . أي قبل الوصية، أي تصح الوصية بحملٍ قد تحقق وجوده قبلها، كأن يقول "أوصيت لك بحمل هذه الدابة" وقد تحقق من وجود هذا الحمل أو "أوصيت بحمل هذه الأمة" وقد تحقق وجود هذا الحمل.

وتصح لحملٍ قد تحقق وجوده قبلها. فمثلاً: لزيدٍ زوجة، وهي حامل فقال عمرو: للحمل الذي في بطن زوجتك كذا وكذا من مالي وصية، فتصح إذا تحقق وجوده كالإرث. وقد تقدم بيان تحقق وجوده في كتاب الفرائض. أما إذا لم يتحقق وجوده فإن الوصية لا تصح له لأنه معدوم والمعدوم لا يملك. قال: [وإذا أوصى من لا حج عليه أن يُحج عنه بألفٍ صُرف من ثلثه مؤنة حجة بعد أخرى حتى ينفذ] . كأن يقول "حجوا عني بألف دينار" والألف دينار عشر حجج، فُيحج عنه عشر حجج لأن هذه هي وصيته، وهي وصية برٍ على القول بجواز حج التطوع عن الميت. وقال المؤلف: "لا حج عليه"، لأنه إذا كان عليه حج فريضة فإنه يؤخذ من رأس المال، فنفقة حجة الفريضة تؤخذ من رأس المال لا من الثلث. قال: [ولا تصح لملك] . إذا وصى لملكٍ كجبريل عليه السلام ونحوه فلا تصح هذه الوصية، وذلك لأنه لا يملك. والقاعدة: أنها لا تصح الوصية لمن لا يصح تملكه. قال: [وبهيمةٍ] . فإذا أوصى لبهيمة فلا تصح هذه الوصية، لأن البهيمة لا تملك. قال: [وميتٍ] . كذلك لا تصح الوصية للميت لأنه لا يملك. وقال الإمام مالك: بل إذا أوصى لميتٍ يعلم موته فإن الوصية تصح ويكون في قضاء دينه إن كان عليه دين وإلا فلورثته. وهو القول الراجح؛ وذلك لأنه لما أوصى له مع علمه بموته، فإن هذا يدل على أن غرضه نفعه، وهذا يحصل بقضاء دين أو بإعطائه ورثته. وكذلك في مسألة البهيمة فإنه لا يقصد تمليكها بل يقصد نفعها فيوضع في علفها وغير ذلك مما تحتاج إليه. قال الحنابلة: إذا أوصى لعبد غيره صحت لسيده. والقول الثاني في المذهب: أنها لا تصح. والراجح صحتها. ويخرج عليها مسألة البهيمة فإنها تكون لمالك البهيمة. والمذهب: أنه إذا أطلق فقال: "أوصيت بكذا للبهيمة الفلانية" فلا تصح. وإن لم يطلق بل قال: لفرس زيدٍ مثلاً، فحينئذ يعلم أنه لا يريد تمليكها، وإنما يريد نفع مالكها فتصح. قالوا: وتلزم بلا قبول من العبد أو من المالك.

والصحيح عدم لزومها إلا بالقبول. وذلك لأن المنة تلحقه كما لو أوصى إليه، لأن مراده نفعه، فإذا أوصى لفرسه فإن مراده نفع صاحب الفرس فاشترط رضاه. قال: [فإن أوصى لحي وميتٍ يعلم موته فالكل للحي] . إذا قال: هذه الدار وصية لزيدٍ وعمرو، وهو يعلم أن زيداً ميت. قالوا: فالكل للحي. أما على القول الراجح المتقدم فإن نصيب الميت يصرف في قضاء دينه وإلا فيكون لورثته. وهذه المسألة متفرعة عن المسألة المتقدمة. فعلى المذهب: أنه إذا أوصى لحيي وميت يعلم موته فالكل للحي. قالوا: لأنه أضاف الوصية إليهما مع علمه أن أحدهما غير قابلٍ للوصية، فكأنه أراد الوصية للحي وحده وهذا تعليل ضعيف، وما ذكره المؤلف هنا قول في الذهب. والمشهور في المذهب: أن للحي النصف، وذلك لأنه أضاف الوصية إليهما وكون أحدهما لا تصح له الوصية لا يقتضي تملك الآخر لنصيبه بل يقتضي بطلان الوصية في نصيب الميت ولا يقتضي تمليك الآخر إذ كيف يملك ما لم يعطه، هذا هو المشهور في المذهب وهو اختيار الشيخ عبد الرحمن سعدي. قال: [وإن جهل فالنصف] . إذا قال: هذا وصية لزيدٍ وعمرو وهو لا يدري أن زيداً ميت فيكون للحي النصف، لأنه أضاف الوصية إليهما، وهذا يقتضي أن تكون الوصية لهما وإذا مات أحدهما فالوصية تبطل في حقه وتبقى للآخر فله النصف. قال: [وإن وصى بماله لابنيْه وأجنبي فردا فله التسع] . إذا قال عند موته: "مالي كله وصية لابنيّ وزيدٍ، فمقتضى هذا اللفظ أن يكون لكل واحدٍ منهما الثلث، فإذا ردّ الابنان الوصية ولم ينفذاها، فحينئذ ترجع إلى الثلث فيكون له التسع. وذلك لأن الوصية له بثلث ما يكون وصيةً، وكان المال كله وصية فرده الابنان فرجعت الوصية إلى الثلث، وثلث الثلث التسع، هذا هو المذهب.

وقال أبو الخطاب من الحنابلة بل له الثلث، وهو أقيس وذلك لأن لفظه المتقدم يدل على إعطاء الأجنبي الثلث وإنما قال: "لابني ولزيدٍ" هذا المال، حيث أمضوا وصيته وأما وقد ردوا الوصية فمقتضى لفظه المتقدم أن يكون للأجنبي الثلث. " باب الموصى به " الموصى به: هو الشيء الذي وقعت الوصية عليه كدارٍ أو حيوان أو نحو ذلك. قال: [تصح بما يعجز عن تسليمه كآبق وطيرٍ في هواء] . فالوصية تصح بما يعجز عن تسليمه. فلو قال: أوصيت لك بعبدي الآبق أو بجملي الشارد ونحو ذلك فالوصية صحيحة. وذلك لأن باب التبرعات يغتفر فيه ما لا يغتفر في باب المعاوضات، فهو تبرع إن حصل فذاك وإلا فإنه لا غرر عليه. قال: [وبالمعدوم كبما يحمل حيوانه وشجرته، أبداً أو مدة معلومة] . فالوصية بالمعدوم صحيحة. فإذا قال: حمل حيواني لك أو ثمر ما تنتج شجرتي من الثمار فهو لك وصية أبداً أو مدة معلومة. أي سواء كان ذلك أبداً أو مدة معلومة. ومثل ذلك المجهول والمبهم فإنها تصح فيهما الوصية والمبهم كأن يقول: أوصيت له بأحد عبديّ هذين فإنه يقرع بينهما. قال: [فإن لم يحصل منه شيء بطلت الوصية] . فإذا حصل فهو له. وإن لم يحصل شيء فإن الوصية تبطل. قال: [وتصح بكلب صيد ونحوه وبزيت متنجس، وله ثلثهما ولو كثر المال] . فالوصية بكلب الصيد ونحوه ككلب زرع وماشية، وصية صحيحة وكذلك الوصية بالزيت المتنجس صحيحة أيضاً، ويكون للموصى له ثلثه فقط. فإذا قال: "أوصيت بكلبي المعلم لزيدٍ" فإن الورثة يشاركونه فللورثة، الثلثان من هذا الكلب، ولزيدٍ الثلث وذلك: لأن موضوع الوصية تسليم ثلثي التركة للورثة وأن تكون الوصية في الثلث. وهنا الكلب ليس من جنس التركة فاستحق فيه الثلثين، هذا هو المشهور في المذهب. والقول الثاني في المذهب وهو اختيار الشيخ عبد الرحمن بن سعدي، أنه ليس للورثة منه شيء بل الكلب كله للموصى له، وكذلك الزيت المتنجس.

وذلك لأنه لا قيمة له، فإذا كان يملك الثلث من المال إذا أوصى له به فأولى من ذلك أن تملك مثل هذا الذي لا قيمة له. [ولو كثر المال] ، فله ثلثهما ولو كثر المال. والقول الثاني: إن ذلك له ولو قل المال وهو الراجح لما تقدم. قال: [إن لم تجز الورثة] . فإذا أجازت الورثة فإنه يملك الكلب كله والزيت المتنجس كله. فإذا لم تجز الورثة فله ثلثهما، كما تقدم. قال: [وتصح بمجهول كعبدٍ وشاةٍ] . فإذا قال: "أوصيت لك بعبدٍ أو شاةٍ" فالوصية صحيحة لأن هذا من باب التبرعات. قال: [ويُعطى ما يقع عليه الاسم العرفي] . فإذا أوصى له بعبدٍ مجهول أو شاة مجهولة أو نحو ذلك، فإنه يعطى ما يقع عليه الاسم العرفي، فما يقع عليه اسم العبد عرفاً فإنه يعطاه، وهذا هو اختيار الموفق. وقال الحنابلة: بل يرجع بذلك إلى اللغة، لأن كلام الله وكلام رسوله مردهما إلى اللغة فكذلك لفظ الموصي، وهذا ضعيف وقد تقدم كلام شيخ الإسلام في لفظ الواقف وأن مرجعه إلى ما اعتاده من الكلام، لأن هذا هو مراده. فالله ورسوله يعرف مرادهما باللغة، وأما لفظ الموصي فإن مراده يعرف بلغة خطابه. قال: [وإذا أوصى بثلثه فاستحدث مالاً ولو دية دخل في الوصية] . إذا قال: ثلث مالي لزيدٍ "فاستحدث مالاً أي حدث في ملكه مال جديد لو بعد موته. كأن يضع شبكة في بحرٍ فتصيد بعد موته، فهذا الصيد يدخل في ملكه، وتدخل الوصية فيه ولو كان ذلك ديةً، لأن الدية بدل نفسه، ونفسه له فكان بدلها ملكاً له. فإذا ترك مئة ألف وكانت ديته مئة ألف، فحينئذ الثلث يكون أقل من السبعين ألفاً، فالثلث يكون من ماله كله تلاده وطريفة (1) ومن ذلك الدية. قال: [ومن أوصى له بمعين فتلف بطلت] . إذا أوصى له بمعين كدابة مثلاً فماتت فلا شيء للموصى له وذلك لأن حقه في الوصية متعلق بهذا المعين، فبطلت الوصية بتلفه. وهذا من مبطلات الوصية.

_ (1) يراجع الأصل، لعدم وجوده بين يدي.

وقد تقدم أن من مبطلاتها أيضاً رجوع الموصي، وتقدم أيضاً عدم قبول الموصى له. وتبطل أيضاً بقتل الموصى له للموصي كالإرث. فكما أن الوارث إذا قتل مورثه لا إرث له فكذلك الموصي. وتبطل أيضاً بموت الموصى له قبل موت الموصي، لأنها تبرع بعد الموت يملكه بعد الموت، وهنا قد مات الموصى له قبل ملكه. قال: [وإن تلف المال غيره فهو للموصى له] . إذا تلفت التركة كلها ولم يبق إلا هذا الشيء المعين الموصى به، فهو للموصى له. فمثلاً: أوصى له بعبد ثم تلفت التركة ولم يبق إلا هذا العبد فهو له لأن الورثة لا حق لهم في هذا العبد فحقهم غير متعلق به. قال: [إن خرج من ثلث المال الحاصل للورثة] . أما إذا كان هذا أكثر من ثلث المال فإنما يصح منه ما كان بقدر ثلث المال إلا أن يجيز الورثة. " باب الوصية بالأنصباء والأجزاء" الأنصباء: على وزن أصدقاء جمع نصيب. والأجزاء: جمع جزء. وهذا الفصل هو: حساب الوصايا إن نسبت الوصية إلى نصيب الورثة. قال: [إذا أوصى بمثل نصيب وارث معين فله مثل نصيبه مضموماً إلى المسألة] . إذا قال: "لزيدٍ مثل ما يكون لأبي أو لابني أو لزوجتي أو نحو ذلك. فحينئذ: نضع مسألة للورثة. فإذا وجدنا – مثلاً – أن المسألة من ستة، ونصيب الأب فيها واحد من ستة وقد قال: لزيد من مالي مثل ما لأبي فحينئذ تعول المسألة إلى سبعة فنعطيه سهماً واحداً كما يأخذ أبو الموصي. قال: [فإذا أوصى بمثل نصيب ابنه وله ابنان فله الثلث وإن كانوا ثلاثة فله الربع، وإن كان معهم بنت فله التسعان] . أي له اثنان من تسعة. وما ذكر هنا أمثله على ما تقدم. قال: [وإن وصى له بمثل نصيب أحد ورثته ولم يعين كان له مثل ما لأقلهم نصيباً] . إذا قال: أوصيت لزيدٍ بمثل نصيب أحد ورثتي ولم يعين فحينئذ نؤصل المسألة وننظر من هو أقل الورثة سهاماً، فنعطي الموصى له قدره، لأن هذا هو اليقين وما زاد فهو مشكوك فيه وهو مذهب الجمهور. قال: [فمع ابن وبنت ربع] .

فالمسألة من ثلاثة، والبنت لها واحد من ثلاثة، فنعطيه هو واحد فتعول المسألة إلى أربعة فيكون له الربع. قال: [ومع زوجة وابن تسع] . فالزوجة مع الابن لها الثمن أي واحد من ثمانية، فنعطي الموصى له واحد فتعول المسألة إلى تسعة فيكون له التسع. قال: [وبسهم من ماله فله السدس] . إذا قال: أوصيت لزيدٍ بسهم من مالي" فله السدس. قالوا: لما روى الطبراني، أن رجلاً أوصى الآخر بسهم من ماله فأعطاه النبي - صلى الله عليه وسلم - السدس. قالوا: وهو ثابت في لغة العرب أي أن السهم سدس المال أما الحديث فهو ضعيف. وأما ثبوت هذا في اللغة، فإن لم يثبت فلا كلام. وإن ثبت فمرجع مثل هذه المسألة إلى العرف، فإن كان هناك عرف في السهم فإنه يعطاه. فإن لم يكن هناك عرف فالراجح أنه يعطى سهم من تصحيح المسألة هو رواية عن الإمام أحمد. بمعني: نصحح مسألة الورثة فإذا كانت المسألة من ثمانية فإنه يعطى واحد من تسعة لأن المسألة تعول بسهمه إلى تسعة فيعطى واحد من تسعة. قال: [وبشيء أو جزء أو حظ أعطاه الوارث ما شاء] . إن قال: أوصى لفلان بحظ من مالي أو بجزءٍ أو بشيء فهذا لا حد له في اللغة والشرع فحينئذ يعطى ما يصدق عليه أنه شيء أو جزء أو نصيب أو حظ في العرف مما يتمول عادةً. "باب الموصى إليه " الموصى إليه: هو الوصي، وهو من يؤذن له بالتصرف بالمال بعد الموت. أي يتصرف في مال الميت بقضاء ديونه وإخراج ثلثه ونحو ذلك. فإن كان الإنسان يثق بنفسه ويعلم من نفسه القيام بهذا العمل فهو مندوب إليه لأنه من الإحسان إلى الناس، والإحسان إلى الناس مندوب. قال: [تصح وصية المسلم إلى كل مسلم] . فلا تصح الوصية إلى الكافر اتفاقاً، أي لا يصح أن يكون متصرفاً في المال بعد موت المورّث. قال: [مكلفٍ] . فلا تصح إلى مجنون ولا إلى صبي اتفاقاً. قال: [عدل رشيد] . فلا تصح إلى فاسق ولا إلى سفيه لعدم أهليتهم وقصور تصرفهم. قال: [ولو عبداً] .

ولو امرأة أيضاً، وقد تقدم أن عمر قد أوصى بوقفه إلى حفصة رضي الله عنها. ويصح أيضاً أن يكون عبداً. قال: [ويقبل بإذن سيده] . فالعبد لا يقبل إلا بإذن سيده، لأن السيد يملك منافعه فاشترط إذن سيده. قال: [وإذا أوصى إلى زيدٍ وبعده إلى عمرو ولم يعزل زيداً اشتركاً] . وذلك لأن لفظه لا يفيد عزلاً. لكن إن كانت هناك قرينة تدل على العزل فحينئذ يكون قوله الآخر ناسخاً لقوله الأول. فإن لم تكن هناك قرينة فإنهما يشتركان لأن لفظه الآخر لا يفيد عزلاً. قال: [ولا ينفرد أحدهما بتصرفٍ لم يجعله (موص) له] . فإذا أوصى لزيدٍ ثم بعد ذلك قال: أوصيت إلى عمرو، فليس لأحد هذين الوصيين أن يتصرف بالانفراد لأنه لم يؤذن له بذلك على هذه الصفة، فإنه يشترط نظر الاثنين كالوكيلين، فليس لأحد الوصيين أن يتصرف منفرداً بل لابد أن يشتركا في التصرف. قال: [ولا تصح وصية إلا في تصرف معلوم يملكه الموصي كقضاء دينه وتفرقة ثلثه والنظر لصغاره] . هذا ظاهر. فلا تصح وصية إلا في تصرف معلوم، لأنه إن كان التصرف غير معلوم فإنه لا يمكنه التصرف ولا يمكنه حفظ المال. كذلك لابد وأن يكون الموصي يملك التصرف فيه قبل موت، فليس له أن يأذن لأحدٍ في أن يتصرف في الشيء هو لا يملك التصرف فيه بل لا بد أن يكون هو مالكاً للتصرف فيه. قال: [ولا تصح بما لا يملكه الموصي كوصية المرأة بالنظر في حق أولادها الأصاغر ونحو ذلك] لأنها لا تملك ولايتهم. كذلك لا تصح وصية الرجل على ابنٍ له بالغ رشيد وذلك لأنه هو لا يملك الولاية على البالغ الرشيد فأولى من ذلك الموصى إليه. قال: [ومن وصّي في شيء لم يصر وصياً في غيره] . هذا أيضاً ظاهر. فإذا: أوصيت إليك بقضاء الدين، فليس له أن يخرج الثلث لأنه لم يؤذن له بذلك. قال: [فإن ظهر على الميت دين يستغرق (تركته) بعد تفرقة الوصيّ لم يضمن] .

أي: بعدما أخرج الثلث وتصرف في هذا المال بعض التصرف على الوجه المأذون له فيه، بعد ذلك أتى شخص له دين يستغرق التركة فحينئذ لا يضمن الوصي، لأنه معذور لعدم علمه وحينئذ فيرجع هذا الدائن إلى الورثة لأن حق الدائن سابق لحقهم. قال: [وإن قال: ضع ثلثي حيث شئت لم يحل له ولا لولده] . فإذا قال له: ضع ثلثي حيث شئت، لم يحل للموصى إليه أن يضعه له ولا لولده. قالوا: لأنه متهم في حقه فلا يحل له أن يضعه في نفسه ولا أن يضعه في ولده لأنه متهم في حقهم. وقال المجد ابن تيمية بل له أن يضعه في ولده وذلك لأن وضعه في الولد تفريق له وحيث كانوا مستحقين فقد صرفه في المستحقين فظاهر كلام المؤلف: أنه يجوز أن يضعه في غير الولد كالأب والأم. والمشهور في المذهب خلاف هذا، وأنه لا يجوز له أن يعطيه سائر الورثة. ومذهب أبي حنيفة وهو احتمال في المذهب، أن له أن يضعه في نفسه وولده وذلك لتناول اللفظ له ولهم وهذا هو القول الراجح. وأما كونه متهماً في حقهم، فهذا لا أثر له وذلك لأنه قد رضي بتصرفه فرضاه بتصرفه يزيل التهمة في حقه. وقد يقال: بأن له أن يتصرف به على الوجه الأصلح كالوكيل فإن كان الأصلح دفعه لنفسه أو لولده فعل ذلك. وإلا فيجب عليه أن يدفعه إلى الأصلح أي إلى الأحق سواء كان النفس أو الولد أو غيرهما. مسألة: المشهور في المذهب أن للوصي أن يعزل نفسه متى شاء أي في حال حياة الموصي وبعده. وعن الإمام أحمد وهو مذهب أبي حنيفة، أنه ليس له ذلك أي بعد موت الموصي وهو الراجح. لما في ذلك من تضييع الأمانة وتعريض المال للضياع وأما في الحياة فإن المال بيد صاحبه ويمكنه أن يوصي غيره فيجوز للموصى إليه أن يعزل نفسه في حياة الموصي. والمذهب: أن الموصى إليه ليس له أن يوصي إلى غيره بالمال كالوكالة.

وهذا ظاهر، لكن يتجه إن خشي من عدم قيام الحاكم أي القاضي بالمال قيامًا شرعياً، بأن كان القاضي ليس أهلاً، حينئذ يتجه جواز الإيصاء أي مع العذر فإذا كان معذوراً فله أن يوصي غيره أي أن يوصي أميناً. إذن الراجح أن له أن يوصي غيره إن لم يكن القاضي أهلاً أو خشي أن يولي الحاكم غير أمين، لوجوب حفظ المال هذا إن كان له عذر. قال: [ومن مات بمكان لا حاكم فيه ولا وصي حاز بعض من حضره من المسلمين تركته (1) وعمل الأصلح حينئذ فيها من بيع وغيره] . من مات بمكان لا قاضي فيه ولا وصي فإنه يجوز لبعض المسلمين ممن حضره أن يتولى تركته ويعمل الأصلح فيها من بيع وغيره. وذلك لأن هذا موضع ضرورة فهو وإن لم يوصِ إليه فإن هذه ضرورة لحفظ المال وهذا من واجبات الكفاية. فإن عدم قيام البعض بذلك ضياع للمال. انتهى شرح كتاب الوصايا من زاد المستقنع للشيخ حمد الحمد، حفظه الله ونفع به.

_ (1) عندي بلفظ: " ومن مات بمكان لا حاكم به ولا وصي جاز لبعض من حضره من المسلمين تولي تركته … ".

كتاب الفرائض

كتاب الفرائض الدرس الأول (يوم السبت: 6 / 5 / 1416هـ) رأيت أن نتدارس كتاب الفرائض من الزاد على هذه الطريقة، وهو أن يكون بعد درس الزاد من البيوع، أي تقريبا بين الأذان والإقامة. وذلك لأن تدارس الفرائض من الزاد إن أطلنا به بالأمثلة ونحو ذلك كان في ذلك تأخرا في دراسة هذا الكتاب. وإن أخذنا منه ما نأخذ في الدروس الأخرى فإن هذا يفوت اتقان وضبط المسائل الفرضية. قال المؤلف ـ رحمه الله تعالى:] وهي العلم بقسمة الميراث [ تعريف الفرائض: في اللغة: جمع فريضة بمعنى مفروضة أي مقدرة. قال تعالى: [نصيبا مفروضا] أي مقدرا. وأما في الاصطلاح فكما قال المؤلف (وهي العلم بقسمة الميراث) . وإن شئت قلت: علم يعرف به من يرث ومن لا يرث ومقدار ما لكل وارث. وعلم الفرائض داخل في العلوم الشرعية التي رغب الشارع في تعلمها وهي من فروض الكفاية. وللفرائض فضيلة تختصه حيث إنه تصان به الدماء وتحفظ به الأموال وقد تكفل الله بقسمته في سورة النساء. ولم يصح عن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ حديث خاص في فضيلته. أما ماروي عنه في هذا الباب فهي أحاديث ضعيفة. - منها مارواه الحاكم وابن ماجه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((يا أباهريرة تعلموا الفرائض وعلموها فإنها نصف العلم وهو ينسى وهو أول علم ينزع من أمتي)) (1) والحديث إسناده ضعيف جدا

_ (1) المستدرك على الصحيحين ج: 4 ص: 369 45 كتاب الفرائض 7948 حدثنا أبو بكر أحمد بن إسحاق ثنا بشر بن موسى الأسدي ثنا إسماعيل بن أبي أويس حدثني حفص بن عمر بن أبي الغطاف مولى بني سهم عن أبي الزناد عن الأعرج قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " يا أبا هريرة تعلموا الفرائض وعلموه فإنه نصف العلم وإنه ينسى وهو أول ما ينزع من أمتي ". سنن ابن ماجه ج: 2 ص: 908 23 كتاب الفرائض / 1 باب الحث على تعليم الفرائض / 2719. الاسطوانة.

- ومنها مارواه أبوداود وابن ماجه من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص أن النبي ـ ـ صلى الله عليه وسلم ـ ـ قال: ((العلم ثلاثة وماسوى ذلك فهو فضل: آية محكمة، وسنة قائمة، وفريضة عادلة)) (1) . - ومنها مارواه الترمذي من حديث ابن مسعود وإسناده ضعيف جدا أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال: ((تعلموا القرآن وعلموه الناس وتعلموا الفرائض وعلموها الناس فإني امرؤ مقبوض وإن هذا العلم سيقبض ويوشك أن يختلف الرجلان في الفريضة لا يجدان من يقضي بينهما)) (2) فهذه الأحاديث لا تصح عن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ.

_ (1) سنن أبي داود ج: 3 ص: 119 / 13 كتاب الفرائض / 1 باب ما جاء في تعليم الفرائض / 2885 حدثنا أحمد بن عمرو بن السرح أخبرنا بن وهب حدثني عبد الرحمن بن زياد عن عبد الرحمن بن رافع التنوخي عن عبد الله بن عمرو بن العاص أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:" العلم ثلاثة وما سوى ذلك فهو فضل آية محكمة أو سنة قائمة أو فريضة عادلة ". وابن ماجه / باب 8 اجتناب الرأي والقياس / رقم 54، والمستدرك / كتاب الفرائض / رقم (4949) والبيهقي في بداية أول باب من كتاب الفرائض / رقم (11952) . والدارقطني. الاسطوانة. (2) أخرجه الترمذي في كتاب الفرائض / باب 2 ما جاء في تعليم الفرائض / رقم (2091) قال: " حدثنا عبد الأعلى بن واصل، حدثنا محمد بن القاسم الأسدي، حدثنا الفضل بن دَلْهَم حدثنا عوف عن شهر بن حوشب عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (تعلموا القرآن والفرائض وعلموا الناس فإني مقبوض) قال أبو عيسى: " هذا حديث فيه اضطراب، وروى أبو أسامة هذا الحديث عن عوف عن رجل عن سليمان بن جابر عن ابن مسعود عن النبي - صلى الله عليه وسلم -. وأخرجه بطوله البيهقي في الباب السابق رقم (11953) ، والدارقطني (45) ، والنسائي في الكبرى رقم (6305) ، والحاكم في المستدرك. الاسطوانة.

قال المؤلف:] أسباب الإرث: رحم، ونكاح، وولاء [. هذه أسباب الإرث وهي ثلاثة: ـ السبب الأول: الرحم: وهو القرابة كما قال الله تعالى: {يوصيكم الله في أولادكم} وغير ذلك من الآيات التي فيها الإرث بالرحم وسيأتي سياقها. والوارثون بالرحم ثلاثة أصناف: أـ أصول: وهم من لهم عليك ولادة من الذكور والإناث. وهم الأب والأم والجد والجدة وإن علوا هؤلاء هم الأصول. ب ـ فروع: من لك عليهم ولادة وإن نزلوا. كالابن والبنت وابن الابن وابن البنت وهكذا. ج ـ حواشي: وهم الذين يرجعون إلى أصولك أي الذين يجمع بينك وبينهم أصل، كالأخ والأخت والعم وابن الأخ ونحو ذلك. ـ السبب الثاني: النكاح: وهو عقد الزوجية الصحيح. ويثبت التوارث به بمجرد العقد وإن لم يثبت الدخول لقوله تبارك تعالى: [ولكم نصف ماترك أزواجكم] فالزوج يرث. والآية عامة سواء كان هذا قبل الدخول أو بعده، مادام أن الزوجية قد ثبتت بالعقد. وقد روى الخمسة بإسناد صحيح و (1) صححه الترمذي أن ابن مسعود قضى بامرأة توفي عنها زوجها ولم يدخل بها أن لها الميراث فقام معقل بن سنان الأشجعي فأخبر ابن مسعود أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قضى في بَرْوع بنت واشق الأشجعية بمثل ما قضى به ابن مسعود (2) . ـ السبب الثالث: الولاء: وهي عصوبة سببها نعمة المعتِق على معتَقه بالحرية.

_ (1) في الأصل: والحديث صححه الترمذي. (2) سنن أبي داود ج: 2 ص: 237 32 باب فيمن تزوج ولم يسم صداقا حتى مات 2114 سنن الترمذي ج: 3 ص: 450 44 باب ما جاء في الرجل يتزوج المرأة فيموت عنها قبل أن يفرض لها 1145 سنن النسائي - المجتبى ج: 6 ص: 121 68 باب إباحة التزوج بغير صداق 3354 سنن ابن ماجه ج: 1 ص: 609 18 باب الرجل يتزوج ولا يفرض لها فيموت على ذلك 1891

كأن يشتري رجل عبدا فيعتقه أو يكون عنده عبد فيعتقه سواء كان هذا العتق واجبا عليه كالكفارات أو كان ذلك منه على وجه التبرع والتطوع فإن الولاء يثبت به، وقد قال ـ صلى الله عليه وسلم ـ في الصحيحين: “ إنما الولاء لمن أعتق (1) “ فيرث المعتِِق عتيَقه وهكذا عصبته (2) المتعصبون بأنفسهم لابغيرهم ولا مع غيرهم وسيأتي الكلام على العصبة - إن شاء الله - (3) . فيرث المعتِق وعصبته باتفاق العلماء أي (4) المتعصبون بأنفسهم. وعليه فالعتق يثبت به الإرث من أعلى لا من أسفل؛ فالمعتِق يرث العتيق لا بالعكس كما هو مذهب جماهير العلماء. واختار شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى ثبوت الإرث من أسفل فيرث العتيق من معتِقه. وسيأتي الكلام على اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى في أسباب الإرث المختلف فيها إن شاء الله تعالى. والحمد لله رب العالمين الدرس الثاني (يوم الأحد: 7 / 5 / 1416هـ) قال المؤلف ـ رحمه الله تعالى-:] والورثة ذوو فرض، وعصبة، ورحم [. الورثة ثلاثة: ذوو فرض، ذوو عصبة، وذوو رحم. على القول بتوريث ذوي الأرحام وهو المشهور في المذهب وسيأتي الكلام عليه إن شاء الله تعالى.وكذلك سيأتي الكلام على العصبة. والبحث هنا في ذوو الفروض. الفرض: هو الجزء المقدر لكل وراث، فصاحب الفرض هو من أخذ جزءا مقدرا كمن يأخذ الثلث أو النصف ونحو ذلك. والفروض في كتاب الله تعالى ستة: النصف والربع والثمن والثلثان والثلث والسدس. أي الربع والثلث ونصف كل وضعف كل. وهناك فرض سابع دل عليه اجتهاد الصحابة رضوان الله عنهم وهو ثلث الباقي وستأتي المسألة التي يثبت فيها ثلث الباقي إن شاء الله تعالى.

_ (1) صحيح البخاري ج: 1 ص: 174 37 باب ذكر البيع والشراء على المنبر في المسجد 444 صحيح مسلم ج: 2 ص: 1142 1504، وفي مواضع أخرى منهما. (2) في المطبوع: عصبة المعتق. (3) ليست في المطبوع. (4) في الأصل: عصبته.

إذن الفروض سبعة؛ ستة منها في كتاب الله تعالى والسابع قد دل عليه اجتهاد الصحابة رضي الله عنهم. قال المؤلف ـ رحمه الله تعالى-:] فذوو الفروض عشرة: الزوجان والأبوان والجد والجدة والبنات وبنات الابن والأخوات من كل جهة والإخوة من الأم [. الزوجان: الزوج وزوجته أي الذكر والأنثى من الأزواج. الأبوان: أي الأب والأم. والجد والجدة والبنات وبنات الابن. قوله:] والأخوات من كل جهة [أي سواء كنّ شقيقات أو لأب أو لأم. فأصحاب الفروض هم: الزوجان والأبوان والجد والجدة والبنات وبنات الابن والأخوات من كل جهة والإخوة من الأم. قال المؤلف ـ رحمه الله تعالى-:] فللزوج النصف. ومع وجود ولد أو ولد ابن وإن نزل الربع [ الزوج له النصف لقوله تعالى: [ولكم نصف ما ترك أزواجكم إن لم يكن لهن ّولد] . ومع وجود ولد سواء كان ذكرا أم أنثى أو ولد ابن وإن نزل فله الربع لقوله تبارك وتعالى: [فإن كان لهنّ ولد فلكم الربع مما تركن] إذن فالنصف للزوج إن لم يكن للزوجة ولد أو ولد ابن وإن نزل، فإن كان هناك ولد أو ولد ابن وإن نزل فله الربع. فالزوج له النصف بشرط عدم الفرع الوارث فإن وجد الفرع الوارث للزوجة وإن لم يكونوا من الزوج فله الربع. قال المؤلف ـ رحمه الله تعالى-:] وللزوجة فأكثر نصف حاليه فيهما [ قوله:] فأكثر [أي سواء كنّ اثنتين أم أكثر. قوله:] مثل حاليه فيهما [. فالحالة التي يأخذ فيها الزوج النصف تأخذ فيها الربع. والحالة التي يأخذ فيها الزوج الربع تأخذ فيها الثمن. وعليه: فلها الربع حيث لا فرع وارث للزوج. فإن كان هناك فرع وارث له فلها الثمن. قال الله تعالى: [ولهنّ الربع مما تركتم إن لم يكن ولد، فإن كان لكم ولد فلهنّ الثمن مما تركتم]

قال المؤلف ـ رحمه الله تعالى:] ولكل من الأب والجد السدس بالفرض مع الذكور الولد أو ولد الابن، ويرثان بالتعصيب مع عدم الولد وولد الابن، وبالفرض والتعصيب مع إناثهما [ قال تعالى: [ولأبويه لكل واحد منهما السدس إن كان له ولد، فإن لم يكن له ولد وورثه ابواه فلأمه الثلث] حالات الأب في الإرث: ـ الحالة الأولى: أن يرث بالفرض فقط. وذلك إذا كان معه فرع وارث ذكر فإنه يرث السدس. مثال: توفي عن أب وابن: (للأب السدس. لوجود الفرع الوارث الذكر. ـ الحالة الثانية: أن يرث بالتعصيب فقط. وذلك حيث عدم الفرع الوارث ذكورا وإناثا. مثال: مات عن أبيه وأمه: (فالأب يرث هنا بالتعصيب فقط. الدليل: لقوله تعالى: [فإن لم يكن له ولد وورثه أبواه فلأمه الثلث] أي للأب الباقي. وهذا هو الإرث بالتعصيب. فهذا الإرث بغير تقدير. ـ الحالة الثالثة: أن يرث بالفرض والتعصيب معا. وذلك إذ كان هناك فرع وارث أنثى. مثال: هلك عن أبيه وابنته: (فللأب السدس لوجود الفرع الوارث. وتأخذ البنت نصيبها. وله الباقي تعصيبا. والجد كذلك. لكن الجد يحجب بالأب كما سيأتي وهذا حيث كان الجد وارثا لامحجوبا أما إذا كان محجوبا فلا إرث له للحجب. أمثلة: توفي عن جده وابنه: (للجد السدس لوجود الفرع الوارث. توفي عن جده وابنتيه: (فللجد السدس وله الباقي بعد توريث البنتين. توفي عن جده وأمه: (فالجد يرث بالتعصيب فتأخذ الأم حقها ويأخذ الجد الباقي حيث لم يكن هناك أولى منه لأن العصبات لها ترتيبها كما سيأتي. الدليل على توريث الجد: أن الجد أب لقوله تعالى: [واتبعت ملة آبائي إبراهيم وإسحاق ويعقوب] . وقال أبو بكر وابن عباس وابن الزبير ـ رضي الله عنهم ـ كما في البخاري: (الجد أب)

وروى أبو داود من حديث بريدة ـ رضي الله عنه ـ بإسناد ضعيف أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ أعطى الجد السدس وله شاهد من حديث عمران بن حصين ـ رضي الله عنه ـ عند الترمذي. وله شاهد آخر عند ابن ماجه من معقل بن يسار ـ رضي الله عنه ـ فالحديث صحيح. ويشهد له القرآن كما تقدم. ـ فصل ـ قال المؤلف ـ رحمه الله تعالى:] والجد لأب وإن علا [ الجدّ لأب: هو الجد الوارث وهو من ليس بينه وبين الميت أنثى. وهكذا كل أصل من الذكور لا يرث إلا إذا لم يكن بينه وبين الميت أنثى. فالقاعدة: في الأصول الذكور: أنه لايرث منهم من كان بينه وبين الميت أنثى. قال المؤلف ـ رحمه الله تعالى:] وإن علا [أي: وأب الأب وإن علا بمحض الذكور. قال المؤلف ـ رحمه الله تعالى:] مع ولد أبوين أو أب كأخ منهم [ مع ولد أبوين: هو الأخ الشقيق أو أب أي الأخ لأب فهو كأخ منهم فيرث مشاركة. اتفق العلماء على أن الأب يحجب الإخوة. واتفق أهل العلم على أن الجدّ يحجب الإخوة لأم. لقوله تعالى: [وإن كان رجل يورث كلالة أو امرأة وله أخ أو أخت فلكل واحد منهما السدس] فالإخوة هنا هم الإخوة لأم بالاتفاق. والكلالة هو: من لا ولد له ولا والد. والجد والد فاشترط الله عزوجل في إرث الإخوة لأم أن يكون الميت كلالة وحينئذ يشترط أن لايكون للميت والد، والجد والد. واتفق العلماء على أن الجد يحجب أبناء الإخوة الأشقاء وأبناء الإخوة لأب. واختلف أهل العلم في: هل يحجب الجد الإخوة لأب والإخوة الأشقاء أم يرثون معه؟ القول الأول: فذهب جمهور الفقهاء ـ في المعنى الاصطلاحي ـ وهم هنا الحنابلة والشافعية والمالكية إلى أن الإخوة الأشقاء والإخوة لأب يرثون مع الجد على طريقة يأتي بيانها إن شاء الله. القول الثاني:

ـ وذهبت الحنفية وهو رواية عن الإمام أحمد اختارها شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله *وتلميذه ابن القيم واختارها أيضا شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب وغير واحد من آل الشيخ واختارها أيضا الشيخ عبد الرحمن السعدي واستظهرها صاحب الفروع وصوبها صاحب الإنصاف وهي أيضا اختيار طائفة من أصحاب الإمام أحمد كالآجرّي وغيره: أنّ الجد يحجب الإخوة وهذا هو مذهب جمهور الصحابة رضوان الله أعلم وقد ذكره شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله.عن بضعة عشر صحابيا من أصحاب النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ وهو قول إسحاق وأبي ثور والمزني وابن شريح من فقهاء الشافعية. الأدلة: استدل أهل القول الأول: بدليل نظري وهو أن كلا الطرفين قد أدلى بالأب فالواسطة واحدة فاقتضى ذلك المشاركة. نقضه: وهذا الدليل منتقض عليهم بقولهم: إن أبناء الإخوة الأشقاء لا يرثون مع الجد، وقد أدلوا جميعا بالأب. أما أهل القول الثاني فاستدلوا: 1 ـ بقوله تعالى: [يستفتونك. قل الله يفتيكم في الكلالة. إن امرؤ هلك ليس له ولد وله أخت فلها نصف ما ترك] قالوا: والكلالة من لا ولد له ولا والد، والأخت هنا الأخت الشقيقة أو لأب بدليل توريثها النصف وهذا بالاتفاق، فشرع الله عزوجل في توريثها أن يكون كلالة لا ولد له ولا والد، والجد والد. قالوا: وقد استدللتم بالآية التي تقدم ذكرها على أن الجد يحجب الإخوة لأم والآيتان دلالتهما واحدة فكما أن الآية التي فيها ذكر الإخوة لأم استدللتم بالكلالة على أن الجد يحجب الإخوة لأم فاستدلوا أيضا لهذه الآية على أن الجد ـ بذكر الكلالة ـ يحجب الإخوة الأشقاء أو لأب، فالآيتان يجب أن يكون مدلوهما واحد، لأن لفظهما واحد.

2 ـ قالوا: ولأن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال: “ ألحقوا الفرائض بأهلها فما بقي فلأولى رجل ذكر “. وجهة الجد جهة أبوة، وجهة الإخوة جهة أخوة، ولا شكّ أن جهة الأبوة مقدمة على جهة الأخوّة في العصبة بالاتفاق. وهذا النزاع وقع عند الفقهاء لأن الجد عندهم ليس مدخلا في جهة الأبوّة، وهذا فيه نظر ظاهر فالله عز وجل قد سماه أبا كما في قوله تعالى: [واتبعت ملة آبائي إبراهيم وإسحاق ويعقوب] وفي غيرها من الآيات. بيان الراجح: والراجح هو القول الثاني. وهو أن الجد يحجب الإخوة الأشقاء ولأب. تقدم الكلام على مسألة الجد والإخوة الأشقاء أو لأب وأن الراجح أنه يحجبهم وحينئذ فلا نحتاج إلى ما يذكره المؤلف هنا من طريقة توريث الجد مع الإخوة فهو القول الراجح الذي يذهب إليه الحنابلة ومن وافقهم ممن تقدم ذكره. ونتدراس اليوم طريقة توريث الجد مع الإخوة. للجد مع الإخوة حالتان: الحالة الأولى: ألا يكون في المسألة صاحب فرض. فإن الجد يخير بين الثلث والمقاسمة. فيأخذ الأحظ منهما. مثال: توفي عن جد وثلاثة إخوة أشقاء: فالثلث أحظ للجد لأن نصيبه مع المقاسمة يكون الربع. مثال آخر: توفي عن جد وأخ شقيق: فالمقاسمة هنا أحظ له لأنه يأخذ بها النصف. إذن هو مخير بين الثلث والمقاسمة. ودليل الثلث منقول عن زيد بن ثابت رضي الله عنه. فإن صحّ هذا عنه فهو معارض بقول من لايورّث الإخوة مع الجد أصلا. وإن لم يصح فلا إشكال. ولا دليل من الكتاب والسنة على هذا. بل الدليل يخالف هذا؛ فإنه حيث لا صاحب فرض يقتضي هذا التعصيب، وإذا أعطيناه الثلث فقد جعلناه صاحب فرض. الجد يقوم مقام الأب، وحيث لا صاحب فرض فالواجب هو أن يأخذ الباقي وهنا أعطيناه الثلث. الحالة الثانية: أن يكون في المسألة صاحب فرض فإنه يخير بين ثلاثة أمور: السدس، وثلث الباقي، والمقاسمة. مثال:

توفي عن زوج وأخ شقيق وجد: فالزوج يأخذ النصف، ويبقى النصف. فثلث الباقي هو السدس، والمقاسمة يأخذ منها الجد الربع. فالمقاسمة أحظ له. وثلث الباقي لا أصل له إلا ما سيأتي في مسألة العمريتين. قال المؤلف ـ رحمه الله تعالى:] فإن نقصته المقاسمة عن ثلث المال أعطيه [. إذن هو مخير بين المقاسمة وبين ثلث المال. فيعطى أفضلهما. هذا مع غير ذوي الفرض. هكذا قال. قال المؤلف ـ رحمه الله تعالى:] ومع ذي فرض بعده الأحظ من المقاسمة أو ثلث ما بقي أو سدس الكل [ إذن إذا كان في المسألة صاحب فرض فإنه يخير بين السدس وثلث الباقي والمقاسمة. قال المؤلف ـ رحمه الله تعالى:] فإن لم يبق سوى السدس أعطيه وسقط الإخوة [ إذا أعطي الجد السدس ولم يبق شيء للإخوة فلا شيء لهم، لأن الفروض قد استوفت التركة. وإذا استوفت الفروض التركة فلا شيء للعصبة. قال المؤلف ـ رحمه الله تعالى:] إلا في الأكدرية [ ولذا سميت بالأكدرية، فسميت أكدرية لأنها كدرت وعكرت على مذهب زيد رضي الله عنه؛ فإن مذهبه أنّ السدس إذا أخذه الجدّ فلا شيء للإخوة. وهنا في مسألة الأكدرية ترث الإخوة معه. والأكدرية هي: زوج وأم وجد وأخت لغير أم (أي شقيقة أو لأب) : (فللزوج النصف، وللأم الثلث، وللجد السدس لوجود صاحب فرض، وللأخت النصف. فالمسألة في الأصل من ستة؛ الزوج له النصف = ثلاثة، والأم لها الثلث = اثنان، وللجد السدس = واحد. والأخت لها النصف = ثلاثة. لكن المسألة من ستة فتعول إلى تسعة. فحينئذ نقع في إشكال: نصيب الجد واحد من تسعة، ونصيب الإخوة ثلاثة من تسعة، ولا يمكن هذا فهذا كدّر هذه المسألة. لأن مسائل العصبة لا عول فيها. وهنا هذه المسألة جعلت من مسائل التعصيب وفيها عول.

إذن: أصبح للجد واحد وللأخت ثلاثة، قالوا: وهذا لا يمكن، فنجمع بين نصابهما ويجعل للذكر مثل حظ الأنثيين على قاعدتنا، لأن الجد مع المقاسمة يأخذ ضعف ما للأنثى. قالوا: واحد وثلاثة المجموع أربعة، ونضربها في ثلاثة فتساوى اثنا عشر فيعطى الجد ثمانية والأخت أربعة للذكر مثل حظ الأنثيين فتصبح المسألة من سبع وعشرين. ويأتي هذا في الكلام على الحساب إن شاء الله تعالى. وعلى القول الراجح المتقدم: زوج وأم وجد وأخت شقيقة: (الجد يرث الباقي وهو السدس، والأخت الشقيقة لا إرث لها لأنها حينئذ لا ترث. وهذا يبين ضعف هذه المسألة وما فيها من الكدر والتناقض. قال المؤلف ـ رحمه الله تعالى:] ولا يعول ولا يفرض لأخت معه إلا بها [ أي فلا يعول ولا يفرض لأخت مع الجد إلا في الأكدرية. لا يفرض، لأنا إذا جعلناهم عصبة فللذكر مثل حظ الأنثيين فلا فرض، وهنا أعطيناها الفرض وهو النصف. والقاعدة في إرث الجد والإخوة أنها من باب التعصيب، وهنا قد جعلنا لها فرضا. قال المؤلف ـ رحمه الله تعالى:] وولد الأب إن تفردوا معه كولد الأبوين [ ولد الأب: هم الإخوة لأب. فإذا كان مع الجد إخوة لأب منفردين فإنهم يرثون كإرث الإخوة الأشقاء. مثال: توفى عن جد وأخ لأب: (فللجد النصف لأنه الأحظ له، وللأخ لأب النصف. قال المؤلف ـ رحمه الله تعالى:] فإن اجتمعوا فقاسموه أخذ عصبة ولد الأبوين دون ولد الأب [ فإن اجتمعوا فكان مع الجد إخوة أشقاء وإخوة لأب فحينئذ يدخل الإخوة لأب في العدّ ولا يعطون شيئا. مثال: توفي عن جدّ وأخ شقيق وثلاثة إخوة لأب. فاجتمع الإخوة لأب والإخوة الأشقاء والقاعدة في التعصيب أننا نسقط الإخوة لأب إذا اجتمعوا مع الإخوة الأشقاء.

إذن نقسم المسألة كأن فيها أربعة إخوة أشقاء ثم بعد المقاسمة يأخذ الأخ الشقيق ما بيد الإخوة لأب. وإنما أدخلوا في المقاسمة إضرارا بالجد لكي يكون نصيبه أقل؛ لأنه كلما كثرت الأشقاء كلما قل نصيب الجد. وهذا لا شك أنه باطل، إذ كيف يفرض لهم ثم يمنعون. هذا أمر لا شبيه له في علم الفرائض ولافي الشريعة أصلا. ففي المسألة المتقدمة: الأحظ للجد الثلث، ويبقى الثلثان للإخوة ثم يأخذ الأخ الشقيق ما بيد الإخوة لأب فيكون له الثلثان. مثال آخر: توفي عن جد وأخ شقيق وأخوان لأب. الأحظ للأب هنا الثلث، وإذا أسقطنا الأخوين لأب فإن المقاسمة أفضل له. لكن نقول خذ الثلث، والثلثان الباقيان للإخوة لأب والأخ الشقيق، ثم نقول للإخوة: لانصيب لكم بل يأخذه الأخ الشقيق فيأخذ الثلثين. قال المؤلف ـ رحمه الله تعالى:] وأنثاهم تمام فرضها، وما بقي لولد الأب [ فتأخذ الأنثى تمام فرضها ـ وهو النصف ـ وما بقي يكون للإخوة لأب. مثال: توفي عن جد وأخت شقيقة وأخ لأب. (فالجد يأخذ الثلث، ويبقى الثلثان: فتأخذ الأخت الشقيقة تمام فرضها ـ وهو النصف ـ والباقي للأخ لأب. ولاشك أن مثل هذه المسائل التي فيها تناقضات كثيرة تدل على ضعف هذا المذهب. ولذا فالراجح هو القول بأن الإخوة الأشقاء والإخوة لأب لا يرثون مع الجد. كما تقدم تقريره. ـ فصل ـ هذا الفصل في إرث الأم. قال المؤلف ـ رحمه الله تعالى:] وللأم السدس مع وجود والد أو ولد ابن [ الأم لها السدس حيث وجد الفرع والوارث لقوله تعالى: [ولأبويه لكل واحد منهما السدس إن كان له ولد] فإن كان له ولد أو ولد ابن فإن الأم لها السدس للآية الكريمة. مثال: توفي عن أم وابن: (للأم: السدس، لوجود الفرع الوارث. قال المؤلف ـ رحمه الله تعالى:] واثنين من إخوة أو أخوات [ كذلك: إذا وجد اثنان من الإخوة أو الأخوات سواء كانوا أشقاء أو لأب أو لأم فلها السدس. مثال:

توفي عن أم وأختين لأم: (فللأم السدس. ودليل ذلك قوله تعالى: [فإن كان له إخوة فلأمه السدس] . قال المؤلف ـ رحمه الله تعالى:] والثلث مع عدمهم [ فتأخذ الأم الثلث مع عدم الإخوة وعدم الولد. فهما شرطان عدميان. 1) عدم الفرع الوارث. 2) عدم الجمع من الإخوة. والمراد بهم اثنان فأكثر في مذهب جمهور الصحابة رضي الله عنهم. دليل ذلك: قوله تعالى: [فإن لم يكن له ولد وورثه أبواه فلأمه الثلث] قال المؤلف ـ رحمه الله تعالى:] والسدس مع زوج وأبوين، والربع مع زوجة وأبوين. وللأب مثلاهما [ كان الأولى أن يقول: (ثلث الباقي) . فتتحصل السدس في المسألة الأولى والربع في المسألة الثانية. فللأم ثلث الباقي في مسألتين، هما المسألتان العمريتان. وسميتا بالعمريتين لقضاء عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ بهما. المسألة الأولى: زوج وأم وأب. (ففي هذه المسألة: الزوج له النصف. والأم لها الثالث. الأب له الباقي وهو السدس. غير أنه لايمكن أن يكون الأم لها الثلث والأب له السدس فيكون للمرأة ضعف ما للرجل، والقاعدة أن المرأة لايمكن أن تأخذ أبدا ضعف الرجل، بل إما أن يكون لها نصف نصيبه وإما أن تساويه. أما هنا فقد أخذت ضعفه. فقسمها عمر ـ رضي الله عنه ـ: بأن أعطى الأم ثلث الباقي فحينئذ: الزوج له النصف وتأخذ الأم ثلث نصف الباقي وهو الربع هنا. ويأخذ الأب ثلثين. فأصبح هذا ضعفها فجرى هذا على القاعدة. المسألة الثانية: زوج وأم وأب. (فإذا قسمنا على الطريقة السابقة، فإن الزوجة تأخذ الربع، وتأخذ الأم الثلث، وللأب الباقي. فتكون الأم ـ إشكال ودفعه: فإن قيل: إن الله عزوجل قال: [فإن لم يكن له ولد وورثه أبواه فلأمه الثلث] فظاهر الآية أن الأم تأخذ الثلث مطلقا. فما الجواب على هذا؟ الجواب: أن يقال: هذا إذا انفردا. فإذا انفرد الأبوان فللأم الثلث والباقي للأب هذا هو ظاهر الآية.

ولذا فعمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ لما وجد هذا الوارث الآخر سوى الوالدين أعطاها ثلث الباقي فأعطاه حقه وجعل الباقي كأنه تركة تامة فقد انفردا بها فأعطى الأم ثلث الباقي فحينئذ خرجت هذه المسألة عن الآية المتقدمة، فقوله تعالى: [وورثه أبواه فلأمه الثلث] وهنا لم ينفردا بالإرث بل دخل معهما وارث آخر فأعطى عمر ـ رضي الله عنه ـ هذا الوارث حقه وانفرد الأبوان بالتركة فأعطى الأم الثلث أي من الباقي. ـ وخالف ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ كما في البيهقي وغيره ـ مستدلا بهذه الآية فأعطى الأم الثلث مطلقا. الراجح: والصحيح خلاف هذا لأن الآية لا تفيد إلا أخذ الثلث حيث انفردا. ولمخالفة هذا لقاعدة الفرائض كما تقدم. الخلاصة: إذن الأم تأخذ السدس إذا وجد فرع وارث أو وجد جمع من الإخوة. وتأخذ الثلث بثلاثة شروط عدمية: عدم الفرع الوارث. عدم الجمع من الإخوة. أن لا تكون المسألة إحدى العمريتين. ـ فصل ـ هذا الفصل في إرث الجدة. قال المؤلف ـ رحمه الله تعالى:] ترث أم الأم وأم الأب وأم أب الأب ـ وإن علون أمومة ـ السدس [ دلت السنة على إرث الجدة كما عند الخمسة إلا النسائي من حديث المغيرة بن شعبة ومحمد بن مسلمة ـ رضي الله عنهما ـ أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ أعطى الجدة السدس. والحديث حسن بشواهده. وفي سنن أبي داود بإسناد لابأس به أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ أعطى الجدة السدس إن لم يكن دونها أم. والجدة التي ترث في المشهور من المذهب هي: أم الأم وإن علت بمحض الإناث؛ أي أم الأم، وأم أم الأم وهكذا. أم الأب وإن علت بمحض الإناث؛ أي أم الأب،وأم أم الأب. وهكذا. أم أب الأب وإن علت بمحض الإناث؛ أي أم أب الأب، وأم أم أب الأب. وهكذا. وعليه: فأم أب أب الأب لاترث في المشهور من الحنابلة. وذلك لأنها لم تدلِ بالأب ولا بأب الأب ولا بالأم. الأدلة:

واستدلوا بما روى أبو داود من حديث إبراهيم النخعي أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ أعطى ثلاث جدات؛ جدتين من جهة الأب، وجدتين من جهة الأم. فالجدتان اللتان من جهة الأب هما: أم الأب، وأم أب الأب. والتي من جهة الأم هي: أم الأم. القول الثاني ـ في الوارث من الجدات: وقال الشافعية والحنفية: بل الجدات يرثن مطلقا ـ ولو كانت أم أب أب أب أب الأب. وإن كان هناك من الآباء أكثر من الاثنين، أي وإن كان بينها وبين الميت ثلاث آباء أو أربعة. وهذا مع ندرته لكنه قد يقع. فالقاعدة عندهم: أن الجدة التي لاترث هي كل جدة سبقت بذكر مسبوق بأنثى، فهذه هي التي لاترث.كأم أب الأم، فإنها لاترث لأنها مسبوقة بذكر مسبوق بأنثى. وأما سواها ـ وهن من لم يكن بينهن وبين الميت ذكر مسبوق بأنثى ـ فإنها ترث. وهذ هو الراجح. المناقشة: أما الحديث الذي استدل به أهل القول الأول فهو حديث مرسل والمرسل من أقسام الحديث الضعيف. وأما الأحاديث الأخرى فهي أحاديث عامة في إعطاء النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ الجدة السدس. فالصحيح: أن كل أنثى من الأصول لم تسبق بذكر مسبوق بأنثى فإنه وارثة لعموم الأدلة. قال المؤلف ـ رحمه الله تعالى:] فإن تحاذين فبينهنّ [ أي إذا أصبحن بدرجة واحدة كأن تجتمع أم الأم وأم الأب فإنهما تشتركان في السدس. فيكون بينهما بالسوية. وهذا باتفاق الصحابة ـ رضي الله عنهم ـ. قال المؤلف ـ رحمه الله تعالى:] ومن قربت فلها وحدها [ مثال: إذا اجتمع في مسألة أم الأم وأم أم الأم فإن السدس يكون للقربى منهما وهي أم الأم. مثال آخر: إذا اجتمع في مسألة: أم الأم، وأم أب الأب: (فالسدس يكون لأم الأم. قال المؤلف ـ رحمه الله تعالى:] وترث أم الأب والجد معهما كمع العم [ المسألة هنا هي: هل تحجب الأب أمه أم لا؟ إذا اجتمع في مسألة: جدة وأب. والجدة هي أم الأب.

والجواب: أن الأب لا يحجب أمه. بل ترث معه. وقد روى الترمذي في سننه ـ والحديث حسن بشواهده ـ أن أول جدة أعطاها النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ السدس معها ابنها وابنتها هي. فهنا ورث النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ الجدة مع الأب. وللحديث المتقدم ذكره أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ أعطى الجدة السدس ما لم يكن دونها أم. فالقاعدة في الجدة: أنها ترث السدس مالم يكن دونها أم. ـ كذلك إذا اجتمع في مسألة: جد وأم الجد فإنها لا تحجب به بل ترث معه. ] كمع العم [من باب أولى. قال المؤلف ـ رحمه الله تعالى:] وترث الجدة بقرابتين ثلثي السدس. ولو تزوج بنت خالته فجدته أم أم أم ولده، وأم أم أبيه. ولو تزوج بنت عمته فجدته أم أم أمه وأم أب أبيه. [ قد تكون الجدة تلي بالقرابة من جهتين، كأن تكون جدة من الأب وحده من جهة الأب. فإذا كان لك جدة من جهتين، ولك جدة أخرى من جهة واحدة من جهة الأب أو من جهة الأم، فهل يقتسمن السدس بالسوية أم لا؟ الجواب: أن من أدلت بجهتين ترث ثلثي السدس. وثلث السدس يكون للجدة التي أدلت بجهة واحدة. الدليل: وذلك لأن الجدة الأولى جدة من جهتين فهي في الحقيقة جدتان. كما يمكن أن يكون الزوج ابن عم. فلو ماتت امرأة عن زوج وزوجها أيضا ابن عمها: (فيكون له النصف كزوج ويكون له الباقي لأنه ابن عم. فهنا قد أدلى بجهتين فكذلك الجدة إذا أدلت بجهتين. هذا هو المشهور في المذهب. الخلاصة: إذن القاعدة في الجدة: أنها ترث السدس مع عدم الأم. وأن الجدات إن كنّ مدليات بجهة واحدة وكنّ بدرجة واحدة فإنهنّ يشتركن في السدس. وأما إذا لم يكنّ بدرجة واحدة بل إحداهنّ أقرب من الآخرى فأقرب القربى تحجب البعدى. وإن كنّ في درجة واحدة، وإحداهنّ تدلي بجهتين فإن ثلث السدس لمن تدلي بجهة وثلثي السدس لمن تدلي بجهتين. ـ فصل ـ قال المؤلف ـ رحمه الله تعالى:] والنصف فرض بنت وحدها [

النصف فرض البنت بشرطين: 1_عدم المعصب وهو أخوها أي الابن. 2_عدم المشارك وهى أختها أي البنت. مثال: توفي عن بنت وأب: (فللبنت النصف لعدم المعصب والمشارك. فإذا مات عن بنتين فليس لواحدة منهما النصف لوجود المشارك. وإذا مات عن ابن وبنت فلاترث النصف لوجود المعصب. الدليل: ودليل ذلك قوله تعالى: [فإن كنّ نساء فوق اثنتين فلهنّ ثلثا ماترك. وإن كانت واحدة فلها النصف] فدلت هذه الآية على أن البنت إن كان معها مشارك فإن لهما الثلثين. وإن كانت واحدة فلها النصف. ودلت آية أخرى على أن المعصب إذا وجد فللذكر مثل حظ الأنثيين. قال تعالى: [يوصيكم الله في أولادكم للذكر مثل حظ الأنثيين] . قال المؤلف ـ رحمه الله تعالى:] ثم هو لبنت ابن وحدها [ ثم هو: أي النصف. لنبت ابن: وذلك بثلاثة شروط: 1 ـ عدم المعصب وهو ابن الابن أو ابن عمها. 2ـ عدم المشارك وهي أختها أو بنت عمتها أو بنت عمها. 3 ـ عدم وجود فرع وارث أعلى منها كالابن أو البنت. مثال: توفي عن بنت ابن وأخ شقيق: (فلبنت الابن النصف. مثال آخر: توفي عن بنت ابن وعم: (فلبنت الابن النصف لعدم المشارك وعدم المعصب وعدم وجود فرع وارث أعلى منها. قال المؤلف ـ رحمه الله تعالى:] ثم الأخت لأبوين [ وهي الأخت الشقيقة. وترث النصف بأربعة شروط: 1 ـ عدم المشارك. وهي الأخت الشقيقة. 2 ـ عدم المعصب. وهو الأخ الشقيق. 3 ـ عدم الأصل الوارث من الذكور. كالأب والجد. 4 ـ عدم الفرع الوارث ذكرا كان أو أنثى. كالبنت وبنت الابن وابن الابن. قال المؤلف ـ رحمه الله تعالى:] أو لأب وحدها [ كذلك ترث الأخت لأب النصف. وذلك بخمسة شروط: 1 ـ 4: وهي الشروط المذكورة في إرث الأخت الشقيقة النصف. وتزيد شرطا خامسا وهو: 5 ـ عدم وجود الأشقاء والشقيقات فإن وجد أخ شقيق أو أخت شقيقة فأكثر فإنهم يحجبونها عن النصف.

قال تعالى: [يستفتونك. قل: الله يفتيكم في الكلالة. إن امرؤ هلك ليس له ولد وله أخت فلها نصف ماترك. وهو يرثها إن لم يكن لها ولد. فإن كانتا اثنتين فلهما الثلثان مما ترك] قال المؤلف ـ رحمه الله تعالى:] والثلثان لثنتين من الجميع إن لم يعصبن بذكر [ فهذه الأصناف الأربعة لهنّ الثلثان إذا اختل شرط عدم المشارك. فإذا وجد المشارك مع توفر سائر الشروط السابقة فإنهن يرثن الثلثين. مثال: توفي عن بنتين وأب: (فللبنتين الثلثان. لوجود المشارك وعدم المعصب. إذن: إذا توفرت الشروط السابقة سوى شرط عدم المشارك فحينئذ تنتقل من فريضة النصف إلى فريضة الثلثين. قال المؤلف ـ رحمه الله تعالى:] والسدس لبنت ابن فأكثر مع بنت [ فبنت الابن تأخذ السدس مع البنت فإذا أخذت البنت النصف فلبنت الابن السدس تكملة الثلثين. وإنما تأخذ السدس مع عدم المعصب. ومعصبها هو ابن الابن. روى البخاري في صحيحه أن ابن مسعود سئل عن: بنت وبنت ابن وأخت فقال: لأقضينّ بها بقضاء النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ: للبنت النصف. ولبنت الابن السدس. وللأخت الباقي. فبنت الابن تأخذ السدس مع البنت وإن كنّ ـ أي بنات الابن ـ أكثر من واحدة. مثال: مات عن بنت وثلاث بنات ابن وأخت: (فلبنات الابن الثلاث: السدس، يقتسمنه بالسوية. قال المؤلف ـ رحمه الله تعالى:] والأخت فأكثر لأب مع أخت الأبوين مع عدم معصب فيهما [ فالأخت لأب مع الشقيقة تقوم مقام بنت الابن مع البنت. فإذا أخذت الأخت الشقيقة النصف بتوفر الشروط التي تقدم ذكرها وهي أربعة، وفي المسألة أخت الأب ولا معصب لها فللأخت لأب: السدس قياسا على بنت الابن مع البنت. وكذلك إجماعا. قال المؤلف ـ رحمه الله تعالى:] فإن استكمل الثلثين بناتٌ، أو هما سقط مَن دونهنّ إن لم يعصبهنّ ذكر بإزائهنّ أو أنزل منهنّ [

إذا استكمل الثلثين بنات كأن يكون في المسألة ابنتان أو ثلاث بنات وبنت ابن فلا شيء لبنت الابن لأن البنات استكملن الثلثين. قوله:] أو هما [: بنت وبنت ابن وبنت ابن ابن، فللبنت النصف. ولبنت الابن السدس تكملة الثلثين ولاشيء لبنت ابن الابن. فإذا استكمل الثلثين بنات أو بنات وبنات ابن سقط من دونهنّ إن لم يعصبهنّ ذكر بإزائهنّ. مثال: مات رجل عن بنتين وبنت ابن وابن بن: (فللبنتين: الثلثان، وبنت الابن ليس لها السدس لاستكمال البنات الثلثين.ولكنها لا ترث بالفرض لوجود ابن الابن الذي قد عصبها فلهما الباقي للذكر مثل حظ الأنثيين سواء كان هذا المعصب بإزائهنّ كما في هذا المثال. أو أنزل منهنّ كما في المثال التالي: مثال آخر: مات عن بنتين وبنت ابن وابن ابن ابن: (فابن ابن الابن يعصبها مع أنه أعلا منه، لقوله تعالى: [يوصيكم الله في أولادكم] ويسمى الابن المبارك. قال المؤلف ـ رحمه الله تعالى:] وكذا الأخوات من الأب مع أخوات الأبوين إن لم يعصبهنّ أخوهنّ [ إذا مات عن شقيقين وأخت لأب فللشقيقين الثلثان ولاشيء لأخت الأب.لكن إن عصبها أخوها فإنها ترث تعصيبا. ومعصب الأخت لأب هو الأخ لأب. مثال: مات عن شقيقين وأخت لأب وأخ لأب: (فللشقيقين الثلثان. والباقي للأخ لأب والأخت لأب للذكر مثل حظ الأنثيين. قال المؤلف ـ رحمه الله تعالى:] والأخت فأكثر ترث بالتعصيب ما فضل عن فرض البنت فأزيد [ الأخت الشقيقة أو الأخت لأب ـ عند عدم الأخت الشقيقة ـ فلو كانت أختان شقيقتان أو ثلاث أخوات شقيقات وعند عدم الأخوات الشقيقات، ثلاث أخوات لأب. فالأخت فأكثر ترث بالتعصيب لا بالفرض ما فضل عن فرض البنت فأزيد. مثال: مات عن بنتين وأختين شقيقتين: (فللبنتين الثلثان، وللأختين الشقيقتين الباقي. إذن: الأخوات الشقيقات أو لأب عصبة مع البنات وبنات الابن. وهذه تسمى العصبة مع الغير.

ودليل هذه المسألة حديث ابن مسعود ـ رضي الله عنه ـ السابق أنه ورّث الأخت الباقي فجعلها عصبة مع البنات. مثال: مات عن بنتي ابن وأخت لأب: (فلبنتي الابن الثلثان. الباقي للأخت لأب تعصيبا. قال المؤلف ـ رحمه الله تعالى:] وللذكر أو الأنثى من ولد الأم السدس، ولاثنين فأزيد السدس بينهما بالسوية [ للذكر أو الأنثى من ولد الأم أي الأخ لأم أو الأخت لأم لكل واحد منهما السدس بثلاثة شروط: 1 ـ الانفراد. كأن يكون في المسألة أخ لأم أو أخت لأم لا أكثر. 2 ـ عدم الفرع الوارث. فإن كان في المسألة فرع وارث فلا يأخذ الأخ لأم أو الأخت لأم شيئا. 3 ـ عدم الأصل الوارث من الذكور. فإذا وجد الأب أو الجد فلا يرث هذه النصيب. فإذا كانوا أكثر من واحد أي اثنين أو اثنتين فأكثر فالثلث بينهما بالسوية، للذكر مثل الأنثى، وذلك مع توفر الشرط الثاني والثالث. مثال: مات عن خمسة أخوة لأم: (فالثلث بينهم بالسوية لافرق بين ذكرهم وأنثاهم. الدليل: لقوله تعالى: [وإن كان رجل يورث كلالة أو امرأة وله أخ أو أخت فلكل واحد منهما السدس فإن كانوا أكثر من ذلك فهم شركاء في الثلث] وفي قراءة غير مشهورة [.. يورث كلالة وله أخ أو أخت لأم] وهو مروية عن سعد بن أبي وقاص وغيره. وقد اتفق العلماء على أن المراد بها الأخوة لأم. ـ فصل: في الحجب ـ الحجب لغة: المنع. واصطلاحا: منع وارث من نصيبه بالكلية أو بعضه. نوعا الحجب: (باعتبار مقدار المحجوب) وعليه: فالحجب نوعان: حجب حرمان، وحجب نقصان. فحجب الحرمان: أن يمنع الوارث من نصيبه بالكلية. مثال: إذا وجد في مسألة: أخ لأم أو أخ شقيق ووجد معهم ابن. فإن الابن يحجب الأخ لأم والشقيق حجب حرمان. فلايأخذان من نصيبهما شيئا. وأما حجب النقصان: فهو ألا يأخذ الوارث أوفر حظيه بل يأخذ الأقل. مثال:

إذا وجد مع الزوج ابن فإن الزوج لا يأخذ أوفر حظيه بل يأخذ أقلهما وهو الربع. نوعان آخران للحجب: (باعتبار نوع الحاجب) وهذا الفصل هو في حجب الأشخاص. وهو نوع من الحجب. والنوع الآخر هو: حجب الأوصاف. وهو أن يقوم بالوارث وصف يمنعه من الإرث كأن يقوم به الرقّ أو القتل أو الكفر، فإن هذا حاجب له وصفا. قال المؤلف ـ رحمه الله تعالى:] تسقط الأجداد بالأب [ فالأجداد يسقطون بالأب. فإذا مات عن أبيه وجده فلا شيء للجد. قال المؤلف ـ رحمه الله تعالى:] والأبعد بالأقرب [ فيسقط جد الجد بالجد. إذن: كل أصل وارث ذكر فإنه يُسقط من فوقه من جنسه. فالأب يسقط أب الأب وهكذا. قال المؤلف ـ رحمه الله تعالى:] والجدات بالأم [ فإذا اجتمع في مسألة: أم وأم أم فلاشيء لأم الأم. فإذن: كل أصل وارث أنثى يسقط من فوقه من جنسه. فكل وارث من الأصول يسقط من فوقه من جنسه. قال المؤلف ـ رحمه الله تعالى:] وولد الابن بالابن [ ولد الابن: المراد به ابن الابن وبنت الابن. فإنهما يسقطان بالابن. فإذا وجد الابن ووجد فرع وارث دونه فإن الابن يسقطه. وعليه: فكل فرع وارث ذكر يسقط من تحته. مثال: مات عن ابنه وابن ابنه: (فلاشيء لابن الابن لوجود الابن. مثال آخر: مات عن ابنه وبنت ابنه: (فإن الابن يحجب بنت الابن. وأما الإناث من الفرع الوارث فلا يحجبن من تحتهنّ إلا إن استكملت الثلثين وإلا فعلى التفصيل المتقدم في تكملة الثلثين. قال المؤلف ـ رحمه الله تعالى:] وولد الأبوين بابن وابن بن وأب [ ولد الأبوين: المراد بهم الإخوة الأشقاء سواء كانوا ذكورا أو إناثا. فالإخوة الأشقاء يُحجبون بالابن وابن الابن وبالأب. إذن: هم يحجبون بكل فرع وارث. وكذا بالأب. مثال: مات عن أخت شقيقة وابن: (فلاترث الشقيقة شيئا. مثال آخر: مات عن أخ شقيق وابن ابن.: (فلا شيء للأخ الشقيق.

قال المؤلف ـ رحمه الله تعالى:] وولد الأب بهم وبالأخ لأبوين [ ولد الأب: هو الأخ لأب أو الأخت لأب. فإنهم يُحجبون بالفرع الوارث الذكر وبالأب وبالإخوة الأشقّاء. قال المؤلف ـ رحمه الله تعالى:] وولد الأم بالولد وبولد الابن وبالأب وأبيه [ ولد الأم: هو الأخ أو الأخت لأم. لأن كلمة الولد يدخل فيها الذكر والأنثى. فالإخوة لأم يُحجبون بمن يلي: 1ـ الولد: أي الذكر والأنثى فيحجبون بالبنت وبالابن. مثال: مات عن بنت وأخ لأم فلا شيء للأخ لأم. إذن كل فرع وارث فإنه يحجب الإخوة لأم. وأما الإخوة لأب أو الأشقاء فالذي يحجبهم هو الفرع الوارث الذكر. 2 ـ ولد الابن: أي ابن الابن وبنت الابن. فهم يُحجبون بكل فرع وارث. 3 ـ الأب. 4 ـ وأبيه. أي أب الأب. ولم يقل في الإخوة الأشقاء أنهم يحجبون بأب الأب لأن الجد لا يحجب الإخوة الأشقاء أو لأب على مذهب الحنابلة. وأما الإخوة لأم فإنه يحجبهم. قال المؤلف ـ رحمه الله تعالى:] ويسقط كل ابن أخ وعم [ أي يسقط بالجد كل ابن أخ وعم. فابن الأخ الشقيق وابن الأخ لأب: يسقطان بالجد. وهذا ما تقدم ذكره متناقض مما يدل على ضعف قوله. فأب أب الأب الواسطة بينه وبين الميت اثنان وابن الأخ الشقيق الواسطة بينه وبين الميت اثنان وهم الأخ الشقيق والأب فالواسطة متساوية. والجد والأخ الشقيق الواسطة واحدة وهي الأب. قالوا: الواسطة هنا منعت، وهناك مع التماثل لم تمنع. وهذا تناقض كما تقدم تقريره. كذلك العم يحجب بالجد فإذا وجد في مسألة جد وعم فإن العم لايرث شيئا. ـ باب: العصبات ـ العصبة في اللغة: مأخوذة من الشد والتقوية. والعصبة في الأصل هم الأقارب من الأب كالأخ الشقيق والأخ لأب والعم والجد لأب. لأنهم يشدون ويقوون قريبهم. والتعصيب هو الإرث بغير تقدير. فالمعصب هو الذي يرث بغير تقدير. أحوال العصبات: والعصبة لهم ثلاثة أحوال.

الحال الأولى: أن يرثوا المال كله. وذلك حيث لم يكن هناك ذو فرض. مثال: مات عن أخيه الشقيق. فللأخ الشقيق المال كله. قال تعالى: [وهو يرثها إن لم يكن لها ولد] يعني يرث المال كله. الحال الثانية: أن يأخذوا ما أبقت الفروض. وذلك حيث كان هناك ذو فرض ولم تستوف الفروض التركة. لقول النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ: “ ألحقوا الفرائض بأهلها فما بقي فلأولى رجل ذكر “ متفق عليه. الحال الثالثة: ألا يرثوا شيئا. وذلك حيث كان هناك ذو فرض واستوفت الفروض التركة فإنه يسقط ولا يرث شيئا. مثال: مات عن ابنتين وجد وجدة وأخ شقيق: (فللبنتين الثلثان. وللجد السدس. وللجدة السدس. والأخ الشقيق يسقط ولا يرث شيئا. أنواع العصبات: واعلم أن العصبة على ثلاثة أنواع: عصبة بالنفس وبالغير ومع الغير. النوع الأول: أما العصبة مع الغير: فقد تقدمت وهنّ الأخوات الشقيقات والأخوات لأب مع إناث الفرع. مثال: مات عن بنت وأخت شقيقة: (فللبنت النصف وللشقيقة الباقي. مثال آخر: مات عن بنتين وأخت لأب: (فللبنتين الثلثان، والأخت لأب لها الباقي. فالعصبة مع الغير إناث. وتكون الأخت الشقيقة كالأخ الشقيق. مثال: مات عن بنتين وأخت شقيقة وأخ لأب: (فللبنتين الثلثان. والأخت الشقيقة تأخذ الباقي. ولا شيء للأخ لأب وذلك لأن الأخت الشقيقة عصبة فكما لو كان الأخ الشقيق موجودا. النوع الثاني: العصبة بالغير: فهنّ الأخوات الشقيقات والأخوات لأب والبنات وبنات الابن مع ذكر مماثل في الدرجة والوصف. فإذا كان في المسألة أخت شقيقة وأخ شقيق فللذكر مثل حظ الأنثيين. وإذا كان في المسألة أخت لأب وأخ لأب فللذكر مثل حظ الأنثيين. وإذا كان في المسألة بنت وابن فللذكر مثل حظ الأنثيين. وإذا كان في المسألة بنت ابن وابن ابن فللذكر مثل حظ الأنثيين.

وإذا كان في المسألة بنت ابن وابن ابن ابن فهذا لايماثلها في الدرجة ورغم ذلك فإنه يعصبها وهذه المسألة مستثناة وقد تقدم ذكر هذا حيث لم تستكمل البنات الثلثين. قال تعالى: [يوصيكم الله في أولادكم للذكر مثل حظ الأنثيين] وقوله: [في أولادكم] عام في أولاد الصلب وفي أولاد الابن. وقال سبحانه وتعالى في الأخوات: [وإن كانوا إخوة رجالا ونساء فللذكر مثل حظ الأنثيين] هذه في العصبة بالغير. النوع الثالث: العصبة بالنفس. وهم كل وارث في الأصول كالأب والجد وفي الفروع كالابن وابن الابن وفي الحواشي كالأخ والعم ـ سوى الإخوة لأم ـ مع المعتِق والمعتقة وعصبتهم المتعصبون بأنفسهم. جهات العصبة: 1 ـ البنوّة. 2 ـ الأبوّة. 3 ـ الأخوّة. 4 ـ العمومة. 5 ـ الولاء. وهي مقدمة بعضها على بعض بحسب هذا الترتيب (البنوّة (الأبوّة (الأخوّة (العمومة (الولاء) قال بعضهم: بنوة أبوة أخوة ـ عمومة وذو الولا التتمة. وعلى المذهب هناك درجة سبق ذكرها وهي الجدودة وأخوة. فتكون الجهات على المذهب: بنوّة ثم أبوّة ثم جدودة ثم إخوة ثم بنو إخوة ثم عمومة ثم ولاء. فإذا اجتمع في الإرث معصبان من جهتين مختلفتين فتقدم الجهة المتقدمة. مثال: مات عن زوجته وأبيه وعمه الشقيق: (فللزوجة الربع. وللأب الباقي. ولاشيء للعم. لأن جهة الأبوة مقدمة على جهة العمومة. فإذا كانا في جهة واحدة فيتقدم الأقرب. مثال: مات عن عم شقيق وابن عم شقيق: (فنقدم العم الشقيق على ابن العم الشقيق. مثال آخر: مات عن أخ لأب وابن أخ شقيق: (فإنه يقدم الأخ لأب على ابن الأخ الشقيق لأنه أقرب إلى الميت لأن بينهما واسطة بينما بين الميت وابن الأخ الشقيق واسطتان. فإن كانا في القرب سواء فنقدم الأقوى.

والأقوى من أدلى بجهتين. فإذا اجتمع أخ شقيق وأخ لأب فيقدم الأخ الشقيق على الأخ لأب. وإذا اجتمع عم شقيق وعم لأب فنقدم العم الشقيق لأنه أقوى وهكذا. قال بعضهم: فبالجهة التقديم ثم بقربة ـ وبعدهما التقديم بالقوة اجعلا. مسألة: إذا ماتت عن زوج وأم وإخوة لأم وإخوة أشقاء. فالزوج له النصف والأم لها السدس والإخوة لأم لهم الثلث. والإخوة الأشقاء لا يبقى لهم شيء. القول الأول: هذا هو مذهب الحنابلة والحنفية. لحديث الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ: “ ألحقوا الفرائض بأهلها فما بقي فلأولى رجل ذكر “فقد أعطينا أصحاب الفروض فروضهم ولم يبق للعصبة شيء. لكن روى الحاكم في مستدركه بسند ضعيف أنه قيل لعمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ اجعل أبانا حمارا ـ يعني لاتعتبره شيئا ـ فهم يجتمعون بالأم فلماذا فرقنا بين الإخوة الأشقاء الذين أدلوا بجهة الأم وجهة الأب وبين الإخوة لأم الذين أدلوا بجهة الأم، فلنحذف الأب وحينئذ يكونون كأولئك فنشركهم. لكن إسنادها ضعيف. وفي رواية اجعل أباهم حمارا أو اجعلهم حجرا في اليم. فمن ثم سميت هذه المسألة بـ الحمارية وبالحجرية واليمّيّة. القول الثاني: قول المالكية والشافعية. بل نشركهم ونجعل أباهم حجرا في اليم فلا نعتبر أباهم شيئا. وحينئذ نشركهم فنقول: بقي الثلث فنجعلهم يشتركون فيه. يعني نقسمه أسهما ونعطي كل واحدا منهم سهما. هذا هو مذهبهم، وجعلوا أباهم ـ كما تقدم ـ حجرا في اليم. المناقشة: ولكن ينتقض عليهم بأن يقال لهم: قسموا لنا هذه المسألة: أخ لأم ومائة أخ شقيق مع الأم والزوج: (فإن الزوج يأخذ النصف. وتأخذ الأم السدس ويأخذ الأخ للأم السدس. والباقي للإخوة الأشقاء. هكذا تتفق المذاهب الأربعة. نعطي الإخوة المائة الباقي السدس فهل شركوهم وأعطوهم ما أعطوهم في المسألة السابقة؟

إذن تنتقض عليهم. فالواجب عليهم أن يشركوهم في هذه المسألة كما أن الواجب علينا جميعا أن نعمل بظاهر النص الوارد، ويكفي هؤلاء أنهم عصبة يرثون في مسائل كثيرة حيث لايرث الأخ لأم. قال المؤلف ـ رحمه الله تعالى:] باب العصبات: وهم كل من لو انفرد لأخذ المال بجهة واحدة [ ما الجهة الواحدة؟ هي جهة التعصيب، احترازا ممن يأخذها بجهتين. مثال: لو ماتت عن زوجها فقط. فإنه يأخذ المال كله فرضا وردّا. فقد أخذه بجهتين. قال المؤلف ـ رحمه الله تعالى:] ومع ذي فرض يأخذ مابقي [ هذه الحال الثانية. قال المؤلف ـ رحمه الله تعالى:] فأقربهم ابن فابنه وإن نزل [ هذه جهة البنوة. قال المؤلف ـ رحمه الله تعالى:] ثم الأب [ هذه جهة الأبوة. قال المؤلف ـ رحمه الله تعالى:] ثم الجد وإن علا مع عدم أخ لأبوين أو لأب [ أما إذا كان الإخوة لأب أو الأبوين موجودين فإنهما يشتركون كما تقدم. قال المؤلف ـ رحمه الله تعالى:] ثم هما [ أي الإخوة لأبوين والإخوة لأب. قال المؤلف ـ رحمه الله تعالى:] ثم بنوهما أبدا، ثم عم لأبوين ثم عم لأب ثم بنوهما كذلك ثم أعمام أبيه لأبوين ثم لأب ثم بنوهم كذلك ثم أعمام جده ثم بنوهم كذلك [ ولكن القاعدة المتقدمة تريح من حفظ هذه التفاصيل. وقال المؤلف ـ رحمه الله تعالى:] لا يرث بنو أب أعلى مع بني أب أقرب وإن نزلوا [ وهذا صحيح لأنه أقرب. قال المؤلف ـ رحمه الله تعالى:] فأخ لأب أولى من عم وابنه وابن أخ لأبوين [ فالأخ لأب أولى من ابن الأخ الشقيق. قال المؤلف ـ رحمه الله تعالى:] وهو أو ابن أخ لأب أولى من ابن ابن أخ لأبوين [ لأنه أقرب. قال المؤلف ـ رحمه الله تعالى:] ومع الاستواء يقدم من لأبوين [ هذه مرتبة القوة مع الاستواء في الدرجة قربا فإنه يقدم مَن لأبوين. قال المؤلف ـ رحمه الله تعالى:] فإن عُدم عصبة النسب ورث المعتِق ثم عصبته [ إذن: عصبة النسب ثم عصبة الولاء.

ـ فصل ـ قال المؤلف ـ رحمه الله تعالى:] يرث الابن وابنه والأخ لأبوين ولأب مع أخته مثليهما [ الابن مع البنت يأخذ مثليها. ابن الابن مع بنت الابن يأخذ مثليها. الأخ الشقيق مع الأخت الشقيقة يأخذ مثليها. والأخ لأب مع الأخت لأب يأخذ مثليها. هذه هي العصبة بالغير. قال المؤلف ـ رحمه الله تعالى:] وكل عصبة غيرهم لا ترث أخته معه شيئا [ العم الشقيق هل ترث معه أخته شيئا؟ الجواب:لا. لأنها من ذوي الأرحام. قال المؤلف ـ رحمه الله تعالى:] وابنا عم أحدهما أخ لأم أو زوج له فرضه والباقي لهما [ ماتت امرأة عن ابني عمها أحدهما زوجها أو أخوها لأمها. هنا مسألتان: الأولى: إذا قلنا: أحدهما زوجها (فله النصف، والباقي لهما. الثانية: إذا قلنا: أحدهما أخ لأم (فله السدس، والباقي لهما. قال المؤلف ـ رحمه الله تعالى:] ويبدأ بذوي الفروض، وما بقي للعصبة، ويسقطون في الحمارية [ والحمارية هي: زوج وأم وإخوة لأم وإخوة أشقاء. وتسمى عند القائلين بالتشريك بالمشرّكة أو المشرِّكة لثبوت التشريك فيها. التأصيل هو: تحصيل أقل عدد بحث تخرج سهام المسألة بلا كسر. والأصول هي: (2, 3 , 4 , 5 , 6 , 8 , 12 , 24) مثال: …مات عن زوج وأم وابن. 12 3 4/1 زوج 2 6/1 ابن أم 7 الباقي ابن العول: لغة الزيادة. اصطلاحا: أن تزيد سهام المسألة عن أصلها زيادة يترتب عليها نقص أنصبة الورثة. ـ والأصول التي تعول هي: 6، 12، 24. ـ فالستة (6) تعول إلى: (7) و (8) و (9) و (10) . مثال: (6) ((7) توفي عن زوج وأختين شقيقتين. 7/6 3 2/1 زوج 4 3/2 شقيقتان مثال آخر: (6) ((8) مات عن زوج وأم وأخت شقيقة. فأصل المسألة من (6) للزوج النصف (2) وللأم الثلث (2) وللأخت الشقيقة النصف (3) وتعول المسألة إلى (8) مثال آخر: (6) ((9) ماتت عن زوج وأخت شقيقة وأخت لأب وأخت لأم.

فأصل المسألة من (6) : للزوج النصف (3) وللأخت الشقيقة النصف (3) وللأخت لأب السدس تكملة الثلثين (1) وللأخت لأم السدس (1) . فتعول المسألة إلى (9) . مثال آخر: (6) ((10) ماتت عن زوج وأم وأختين لأم وأختين شقيقتين. فأصل المسألة من (6) : للزوج النصف (3) وللأم السدس (1) وللأختين لأم الثلث (2) وللأختين الشقيقتين الثلثان (4) فتعول المسألة إلى (10) . ـ وأصل (12) يعول إلى: (13) و (15) و (17) . مثال: (12) ((13) . مات عن زوجة وأختين شقيقتين وأم. فأصل المسألة من (12) : للزوجة الربع (3) وللأختين الشقيقتين الثلثان (8) وللأم السدس (2) . فتعول المسألة إلى (13) . مثال آخر: (12) ((15) إذا ماتت عن بنتين وزوج وأم وأب. فأصل المسألة من (12) : للبنتين الثلثان (8) ، وللزوج الربع (3) ، وللأم السدس (2) ، وللأب السدس (2) . فتعول المسألة إلى (15) مثال آخر: (12) ((17) . مات عن ثلاثة زوجات وجدتين وأربع أخوات لأم وثماني أخوات شقيقات أو لأب. فأصل المسألة من (12) : فللزوجات الأربع (3) ، وللجدتين السدس (2) ، وللأخوات لأم الثلث (4) وللأخوات الشقيقات أو لأب الثلثان (8) . فتعول المسألة إلى (17) . ـ والأصل أربع وعشرون (24) يعول إلى (27) سبعة وعشرين مرة واحدة. مثال: (24) ((27) : توفي عن زوجة وأب وأم وبنتان 24 3 8/1 زوجة 4 6/1 أب 4 6/1 أم 16 3/2 بنتان ـ مسألة الردّ ـ مثال: مات عن أم وأخت شقيقة. 6/5 2/2 2/1 أم 3/2 2/1 شقيقة بقي واحد وهذه تسمى مسألة الرد. المذاهب: ... ... القول الأول: ذهب الحنابلة والأحناف إلى القول بالرد. بمعنى: أن يُرجع ما بقي من التركة إلى أهل الفروض بنسبة فروضهم فحينئذ يصبح أصل المسألة بعد الرد (5) . فيكون (2) من (5) أكثر من الثلث (3) من (5) أكثر من النصف.

أدلة القول الأول: 1 ـ قول النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ: “ من ترك مالا فلورثته “ متفق عليه.فهذا يدل على أن الإرث يكون للورثة. 2 ـ قول سعد بن أبي وقاص ـ رضي الله عنه ـ:” ولا يرثني إلا ابنة لي “ متفق عليه. فدل على أنه ترث ماله كله. 3 ـ وقول الله عزوجل: [وأولو الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله] . القول الثاني: وذهب الشافعية والمالكية إلى المنع من الردّ. الأدلة: ـ بأن الله تبارك وتعالى قد أعطى أصحاب الفروض فروضهم. فهذا له النصف مثلا، وفي الردّ يكون له أكثر من النصف. المناقشة: والجواب عن دليل المانعين: أن هذا بسبب الإرث، وهذا بسبب آخر وهو: أنه قد بقي من الإرث ما احتجنا فيه إلى الردّ. الراجح: والقول الأول هو الراجح في هذه المسألة. مسألة: بنت وزوجة وأخ لأم. 8 4 2/1 بنت 1 8/1 زوجة لا يرث أخ لأم فأصبحت المسألة من (5) . فالبنت تأخذ 5/4 التركة، والزوجة تأخذ 5/1 التركة. مسألة: مات عن زوج وأخوين لأم. 6/5 3/3 2/1 زوج 2/2 3/1 أخوان لأم هنا في هذه المسألة والتي قبلها أدخلنا الزوج في الردّ. ـ والذين يثبتون مسألة الردّ لا يثبتون هذا وهم الذين تقدم ذكرهم وهم الحنابلة والأحناف. ويقولون: الزوج لايردّ له، وإنما يردّ إلى بيت المال. مثال: رجل مات عن زوجته فقط. فاالزوجة تأخذ الربع والباقي لبيت مال المسلمين. دليل الذين منعوا الرد للزوج: قالوا: قال الله عزوجل: [وأولو الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله] والزوج والزوجة ليسا من أولى الأرحام. المناقشة: أن هذه الآية وإن دلت على ثبوت الرد لأولى الأرحام فإنها لم تمنع من ثبوته لغيرهم، فكونهم أولى لايمنع أن كون كذلك من ثبت له النكاح أن يكون كذلك أولى لامانع من هذا. الترجيح: فالصحيح هو الردحتى للزوج وهو قول الشيخ ابن سعدي وهو مروي عن عثمان خلافا للمشهور عند الحنابلة. إذن:

الحنابلة في هذه المسألة (زوج وأخوين لأم) يردّ عندهم الباقي إلى الأخوين لأم، لأنهما من أولي الأرحام. ـ باب أصول المسائل ـ تقدم تعريف تأصيل المسألة أنه: تحصيل أقل عدد تخرج منه سهام الورقة بلا كسر. قال المؤلف ـ رحمه الله تعالى:] الفروض ستة: نصف، وربع، وثمن، وثلثان، وثلث، وسدس [. تقدم هذا في موضع سابق، وهناك فرض سابع ثبت بالاجتهاد وهو ثلث الباقي. قال المؤلف ـ رحمه الله تعالى:] والأصول سبعة: فنصفان أو نصف وما بقي من اثنين [ مسألة فيها نصفان أو فيها نصف ومابقي. مثال: زوج وأخ شقيق: (النصف للزوج وللأخ الشقيق ما بقي. فتكون من (2) . قال المؤلف ـ رحمه الله تعالى:] وثلثان أو ثلث ومابقي أو هما من ثلاثة. وربع أو ثمن وما بقي أو مع النصف من أربعة، ومن ثمانية [ واضح هذا على الطريقة المتقدمة. قال المؤلف ـ رحمه الله تعالى:] فهذه أربعة لا تعول [. وهي (2) و (3) و (4) و (8) . قال المؤلف ـ رحمه الله تعالى:] والنصف مع الثلثين أو الثلث أو السدس أو هو ما بقي من ستة، وتعول إلى عشرة شفعا ووترا [ يعني أن (6) تعول إلى (10) شفعا ووترا يعني سبعا وثمانية وتسعة وعشرة. فشفعا (8) و (10) ووترا (7) و (9) . قال المؤلف ـ رحمه الله تعالى:] والربع مع الثلثين أو الثلث أو السدس من اثني عشر وتعول إلى سبعة عشر وترا [ يعني (13) و (15) و (17) . قال المؤلف ـ رحمه الله تعالى:] والثمن مع سدس أو ثلثين من أربعة وعشرين، وتعول إلى سبعة وعشرين [ تعول إلى عدد واحد وهو (27) . قال المؤلف ـ رحمه الله تعالى:] وإن بقي بعد الفروض شيء ولا عصبة رُدّ على كل فرض بقدر غير الزوجين [ وغير الزوجين هذا في المذهب. وتقدم ما اختاره الشيخ عبد الرحمن بن سعدي وهو مروي عن عثمان ـ رضي الله عنه ـ وهو أن الزوجين داخلان في الردّ. ـ التصحيح ـ

تعريفه: وهو تحصيل أقل عدد ينقسم على الورثة بلا كسر. والنسب الأربع هي: التماثل والتداخل والتوافق والتباين. ـ فالتماثل: عبارة عن مساواة عدد لآخر في القيمة. كاثنين واثنين، وستة وستة. والحكم فيه: هو الاكتفاء بأحد العددين. ـ والتداخل: عبارة عن عددين أكبر وأصغر والأكبر ينقسم على الأصغر بلا كسر كثمانية وأربعة واثنين. والحكم فيه: أن يكتفى بالأكبر. ـ التباين: عبارة عن عددين لايوجد بينهما اتفاق في أي جزء من الأجزاء كالثلاثة مع الأربعة. والحكم فيه: أنه يضرب كامل أحدهم في كامل الآخر. طريقة التصحيح: الانكسار إما أن يكون على فريق واحد وإما أن يكون على فريقين فأكثر. فإذا كان الانكسار على فريق واحد فطريق العمل: أن تنظر بين رؤوس الفريق وسهامه من المسألة، فلا يخلو من حالتين: إما تباين أو توافق. فإن باينت سهامه رؤوسه صارت رؤوسه هي جزء السهم فنضرب في أصل المسألة، أو في عولها إن كانت عائلة. فما بلغ فمنه تصح المسألة، فمن له شيء من المسألة أخذه مضروبا في جزء السهم فإن كان واحدا أخذه وإن كان فريقا فاقسمه عليهم. وإن وافقت رؤوسه سهامه رُدت الرؤوس إلى وفقها، فيكون الوفق هو جزء السهم تضربه في أصل المسألة أو في عولها إن كانت عائلة فما بلغ فمنه تصح المسألة فمن له شيء أخذه مضروبا في جزء السهم. مثال: (المباينة) هلكت عن زوج وخمس بنين. فالمسألة من أربعة: للزوج الربع (1) وللأبناء الباقي (3) . والثلاثة لا تنقسم على البنين فإن رؤوسهم خمسة وسهامهم ثلاثة، فيكون عدد الرؤوس هو جزء السهم، فنضربه في أصل المسألة (4) = (5 × 4) = (20) فتصبح من عشرين: للزوج (1) مضروبا في (5) = (5) ، وللأبناء (3 × 5) = (15) لكل ابن ثلاثة أسهم. 4×5= 20 1×5 = 5 4/1 زوج 3× 5 =15 الباقي 5 أبناء مثال: (الموافقة) هلك عن أربع أخوات شقائق وعم.

فالمسألة من ثلاثة: للشقيقات الثلثان (2) ، غير أن (2) لا تنقسم عليهم ـ أي بحيث لا يكون الناتج كسرا. فننظر بين رؤوس الفريق وهي أربعة وسهامه من المسألة وهي اثنان فنجد أن بينهما توافقا. فكلاهما يقبل القسمة على اثنين. فيكون وفق الأربعة في هذه المسألة هو اثنان. فنضرب أصل المسألة في جزء السهم وهو اثنان فتصح من ستة: للشقائق اثنان في اثنين = 4 لكل واحدة سهم، وللعم الباقي وهو واحد مضروب في اثنين = 2 فيكون له اثنان. 3 × 2 = 6 (2 الباقي عم (4 لكل واحدة سهم 3/2 أربع شقيقات ـ أما إن كان الانكسار على فريقين فلنا نظران: ـ النظر الأول: للننظر بين الرؤوس والسهام. فإما أن تتباين أو توافق. فإن باينت أثبتنا عدد الرؤوس. وغن وافقت أثبتنا وفقها أي ونعد الرؤوس. ـ النظر الثاني: ننظر بين المثبتات من الرؤوس وعولها إن كانت عائلة مما بلغ فمنه تصيح المسألة. وعند القسم من له شيء أخذه مضروبا في جزء السهم فإن كان واحدا أخذه وإن كان فريقا قسم عليهم. مثال: ماتت عن زوج وخمسة إخوة لأم وثلاث جدات. فالمسألة من (6) : للزوج النصف (3) ، وللإخوة لأم الثلث (2) وللجدات السدس (1) . غير أن (2) لاتنقسم على ثلاثة فسهام الإخوة لأم لاينقسم على رؤوسهم. فننظر بين رؤوس الفريق وهي خمسة وبين سهامه وهي (2) فنجد أن بينهما تباينا فنثبت كامل الرؤوس وهو (5) . وكذلك فسهم الجدات واحد ورؤوسهنّ ثلاثة. لاينقسم الواحد على ثلاثة. ونظرنا بينهما فوجدنا بينهما تباينا فنثبت كامل الرؤوس. ثم ننظر بين المثبتات من الرؤوس وهي (5) و (3) فنجد أن بينهما تباينا فنضرب أحدهما بالآخر فما خرج فهو جزء السهم (5 × 3 = 15) ، فنضربه في أصل المسألة (15 × 6 = 90) . وعند القسم من كان له شيء أخذه مضروبا بجزء السهم. فالزوج يأخذ: (3 × 15 = 45) الأخوات لأم يأخذن: (2 × 15 = 30)

والجدات يأخذن: (1 × 15 = 15) . فمصحح المسألة هو (90) 6 × 15 = 90 (45 2/1 زوج (30 لكل واحدة 6 3/1 5 إخوة لأم (15 لكل واحدة 3 6/1 3 جدات ـ المناسخات ـ تعريفها لغة: هي من النسخ وهو التغيير والنقل والإزلة. واصطلاحا: أن يموت شخص وقبل قسمة تركته يموت من ورثته واحد فأكثر. حالات المناسخات: ... وهي ثلاث: ـ الحالة الأولى: أن يكون ورثة الميت الثاني هم بقية ورثة الميت الأول ويرثونه كما يرثون الأول. طريقة العمل: فحينئذ تقسم التركة كما لو لم يوجد هذا الميت الثاني. مثال: هلك عن أربعة أبناء، وقبل قسمة التركة مات أحدهم. وورثته هم بقية ورثة الميت الأول. فحينئذ تكون المسألة من ثلاثة: لكل واحد منهم سهم. ـ الحالة الثانية: أن يكون ورثة كل ميت لا يرثون غيره. طريقة العمل: أـ نعمل للميت الأول مسألة ونصححها إن احتاجت إلى تصحيح ونعرف ما بيد كل وارث. ب ـ نعمل لكل ميت من الأموات الآخرين مسألة ونقسمها على ورثته. ج ـ ثم ننظر بين مسألة كل ميت من هؤلاء الأموات المتأخرين وسهامه من مسألة الميت الأول فلا يخلو: إما أن تنقسم سهامه على مسألته. أو توافقها أو تباينها. فما انقسم منها صح مما صحت منه مسألة الميت الأول، وما وافق أثبتنا وفق المسألة، وما باين أثبتنا كل مسألته. وبهذا يكون قد انتهى النظر بين السهام والمسائل. ء ـ ثم ننظر بين المثبتتات من مسائل الأموات بالنسب الأربع وحاصل النظر يكون كجزء سهم يضرب في مسألة الميت الأول وحاصل الضرب هو الجامعة للمسائل. هـ ـ وعند التوزيع؛ من له شيء من مسألة الميت الأول أخذه مضروبا فيما هو كجزء السهم. فإن كان حيا أخذه وإن كان ميتا قسمناه على مسألته. وحاصل القسمة نضعه فوق مسألته ويكون كجزء السهم لها يضرب به سهام كل وارث منها وحاصل الضرب هو نصيبه من الجامعة. مثال: الجامعة 48 4/3 3/4 2/6 4 × 12 × ت 1 ابن × ت 1 ابن ×

ت 1 ابن 12 1 ابن 6 1 ابن 6 1 ابن 4 1 ابن 4 1 ابن 4 1 ابن 3 1 ابن 3 1 ابن 3 1 ابن 3 1 ابن الحالة الثالثة: من أحوال المناسخات. أن يكون ورثة الميت الثاني هم بقية ورثة الميت الأول، لكن اختلف إرثهم، أو ورث معهم غيرهم. ـ طريقة العمل فيها: أن تصحح مسألة الميت الأول، ثم تصحح مسألة الميت الثاني، ثم تنظر بين سهام الميت الثاني من المسألة الأولى وتصحح مسألة وحينئذ لا تخلو من ثلاث صور: الصورة الأولى: أن تنقسم السهام على مسألته: وحينئذٍ تصح الفريضتان مما صحت منه الأولى، ونضعها في جامعة تسمى جامعة المناسخة، وناتج قسمة السهم على المسألة نضعه فوقها ثم نضرب في ما بيد كل وارث منها ويضم إلى ماله من المسألة الأولى إن كان، ويوضع الحاصل له أمامه تحت الجامعة ومن له شيء من الأولى فقط أخذه كما هو ووضعناه له أمامه تحت الجامعة. مثال: هلك عن زوجة وأم وابن، وقبل قسمة التركة ماتت أمه عن زوج ومن يرثها من هؤلاء. فما نصيب كل وارث؟ 24 4/1 24 3 3 زوجة ت 4 أم 17+ 3 = 20 3 ابن ابن 17 ابن 1 1 زوج الصورة الثانية: أن يكون بين السهام والمسألة توافقا. طريقة العمل: وكيفية العمل في ذلك هو أن تضع وفق السهام فوق المسألة الثانية، وتضع وفق المسألة الثانية فوق المسألة الأولى وتضربه فيها وتجعل الخارج جامعة المناسخة. ثم تضرب ما بيد كل وراث من المسألة الأولى ـ إن كان ـ فيما فوقها أي في وفق المسألة الثانية. وتضرب ما بيد كل وارث من المسألة الثانية فيما فوقها أي في وفق السهام، وتضم النواتج لبعضها وتضعها أمامه تحت الجامعة. ومن ورث في مسألة واحدة ضربت سهامه فيما فوق مسألته. والناتج يوضع له أمامه تحت الجامعة كذلك. مثال: هلك عن زوجة وبنت منها، وشقيقة. وقبل قسمة التركة توفيت البنت عن زوج وابن ومن يرثها من الأولى. فما نصيب كل وراث؟ 24 12/1 8/3 3 + 2 = 5 2 أم 1 زوجة ت 4

بنت الزوجة 9 3 شقيقة 3 3 زوج 7 7 ابن الصورة الثالثة: أن يكون بين الساهم والمسألة تباينا. طريقة العمل: أن تضع كل السهام فوق المسألة الثانية وتضع كل الثانية فوق الأولى وتضربها فيها، فما حصل فهو الجامعة. ثم من بيده شيء من الأولى أخذه مضروبا فيما فوقها أي في كامل الثانية. ومن له شيء من الثانية أخذه مضروبا فيما فوقها في كامل السهام. وتضع الناتج تحت الجامعة. مثال: هلكت عن زوج، وابن وبنت منه، ثم ماتت البنت قبل قسمة التركة وتركت زوجا وابنا ومن يرثها من الأولى. فما نصيب كل وراث؟ 48 12/1 4/12 12 + 2 = 14 2 أب 1 زوج 24 2 ابن ت 1 بنت 3 3 زوج 7 7 ابن ـ توريث ذوي الأرحام ـ قال المؤلف ـ رحمه الله تعالى:] يرثون بالتنزيل [ أي أن يُنزّل ذو الرحم منزلة من أدلى به. فبنت البنت تنزل منزلة البنت لأنها قد أدلت بالبنت. أب الأم ينزل منزلة الأم في الإرث لأنه أدلى بها.والخالة تنزل منزلة الأم. وبنت الأخ الشقيق تنزل منزلة الأخ الشقيق وهكذا. وقد روى البيهقي بإسناد لابأس به أن عليا وابن مسعود أنزلا بنت البنت منزلة البنت، وبنت الأخ منزلة الأخ، وبنت الأخت منزلة الأخت، والعمة منزلة الأب، والخالة منزلة الأم. قال المؤلف ـ رحمه الله تعالى:] الذكر والأنثى سواء [ في هذه المسألة قولان: القول الأول: هو ماذكره المؤلف. فلا فرق بين ذكرهم وأنثاهم. مثال: مات عن بنت بنته وابن بنته: (يرثون المال بالسوية للذكر مثل حظ الأنثى. التعليل: وذلك لأن ميراث ذوي الأرحام ثابت بالرحم فألحق بالإخوة لأم. فالإخوة لأم يرثون بالرحم ولافرق بين ذكرهم وأنثاهم بدلالة القرآن. وهنا كذلك فإن ذوي الأرحام يرثون بالرحم. القول الثاني: أن للذكر مثل حظ الأنثيين. وهو عن الإمام أحمد وقد ذهب إليه الحنفية. الدليل: قياسا على من أدلو بهم. الترجيح: والأول أظهر وأقيس.

قال المؤلف ـ رحمه الله تعالى:] فولد البنات [ أي ابن البنت وبنت البنت. قال المؤلف ـ رحمه الله تعالى:] وولد بنات البنين [ أي ابن بنت الابن وبنت بنت الابن. قال المؤلف ـ رحمه الله تعالى:] وولد الأخوات [ أي ابن الأخت وبنت الأخت. قال المؤلف ـ رحمه الله تعالى:] كأمهاتهم [ فكل ابن بنت بمنزلة البنت، وبنت بنت الابن بمنزلة بنت الابن، وبنت الأخت بمنزلة الأخت. قال المؤلف ـ رحمه الله تعالى:] وبنات الإخوة والأعمام لأبوين أو لأب وبنات بنيهم وولد الإخوة لأم كآبائهم [ فبنات الإخوة بمنزلة الإخوة.وبنات الأعمام بمنزلة الأعمام. وبنات أبناء العم كأبناء العم، وبنات أبناء الأخ الشقيق كأبناء الأخ الشقيق، وولد الإخوة لأم كالإخوة لأم. قال المؤلف ـ رحمه الله تعالى:] والأخوات والخالات وأبو الأم كالأم [ هؤلاء ينزلون منزلة الأم لأنهم أدلوا بها. قال المؤلف ـ رحمه الله تعالى:] والعمات والعم لأم كالأب [ لأنهم أدلوا به. قال المؤلف ـ رحمه الله تعالى:] وكل جدة أدلت بأب بين أمين هي إحداهما كأم أب الأم [ فهي من ذوات الأرحام وهي تدلي بالأم فلها إرث الأم. قال المؤلف ـ رحمه الله تعالى:] أو بأب أعلى من الجد كأم أبي الجد [ هذا على القول في المذهب وأن أم أب الجد لايرث، والراجح كما تقدم أنها وارثة. وعلى المشهور في المذهب أنها لاترث فتكون من ذوي الأرحام فتنزل منزلة الجد. قال المؤلف ـ رحمه الله تعالى:] وأب أم أب وأب أم أم وأخواهما وأختاهما [ أي أخ أب أم الأب، وأخ أب أم الأم، وكذلك أختاهما فهما بمنزلتهم. قال المؤلف ـ رحمه الله تعالى:] بمنزلتهم، فيجعل حق كل وارث لمن أدلى به [ هذه طريقة توريثهم. مثال: هلك عن بنت بنت وبنت أخت شقيقة وخالة. 6 3 بنت بنت بنت 2 أخت ش بنت أخت ش 1 أم خالة مثال: هلك عن عمة وخال. 3 2 (أب عمة 1 (أم خال

قال المؤلف ـ رحمه الله تعالى:] فإن أدلى جماعة بوارث واستوت منزلتهم منه بلاسبق كأولاده فنصيبه لهم [ إذا أدلى جماعة بوارث كأن يدلي أولاد الأخت بها. مثال: توفي عن ثلاثة أبناء أخت شقيقة: (يقسم النصف بينهم بالسوية. لأن هؤلاء الثلاثة أدلوا بالأخت، والأخت لها النصف، فحينئذ نصيبها لهم، فهذا النصف يأخذه أبناؤها الثلاثة. قال المؤلف ـ رحمه الله تعالى:] فابن وبنت لأخت مع بنت لأخت أخرى لهذه حق أمها [ مثاله: توفي عن ابن وبنت لأخت وبنت لأخت أخرى: (يقسم الإرث بينها وبين ابنتها بالسوية، والثلث الذي للأخت الأخرى تأخذه ابنتها. قال المؤلف ـ رحمه الله تعالى:] وإن اختلفت منازلهم منه جعلتهم معه كميت اقتسموا إرثه * فإن خلّف ثلاث خالات متفرقات، وثلاث عمات متفرقات، فالثلث للخالات أخماسا، والثلثان للعمات أخماسا وتصح من خمسة عشر [ إذا اختلف منازلهم من المدلى به ـ الذي هو الواسطة بين ذوي الأرحام وبين الميت المورِّث ـ فإننا نجعلهم منه كميت اقتسموا إرثه. مثاله: مات عن خالته الشقيقة وخالته لأب وخالته لأم وعمته الشقيقة وعمته لأب وعمته لأم: (فالثلث للخالات لأن الخالة تنزل منزلة الأم والأم لها الثلث. والثلثان للعمات، لأن العمة تنزل منزلة الأب والأب له هنا الثلثان. فالمسألة إذن من ثلاثة واحد من ثلاثة للأم (للخالات. والباقي للأب (للعمات. فنصيب الأم نقسمه بين الخالات. فالخالة لأم قرابتها للأم أنها أخت أم والخالة الشقيقة أنها أخت شقيقة والخالة لأب أنها أخت لأب. فنقول: كأن هذه الأم قد ماتت عن ثلاث أخوات شقيقة ولأب ولأم. فالمسألة من ستة لكن رّدت إلى خمسة، فالأخت الشقيقة لها ثلاثة من خمسة والأخت لأب لها واحد من خمسة والأخت لأم لها واحد من خمسة. وكذلك نصنع مع العمات. فنقول: كأن الأب قد مات عن ثلاثة أخوات شقيقة ولأم ولأب فالمسألة من خمسة.

فأصبح أصل المسألة الأولى من خمسة عشر، الثلث هو خمسة للخالات، والثلثان هو عشرة للعمات. فالعمة الشقيقة تأخذ ستة من عشرة والعمة تأخذ اثنين من عشرة والعمة لأم تأخذ اثنين من عشرة. قال المؤلف ـ رحمه الله تعالى:] وفي ثلاثة أخوال متفرقين لذي الأم السدس والباقي لذي الأبوين [ مثاله: مات عن خال شقيق وخال لأب وخال لأم. معنى خال شقيق أي: أخ لأم هذا أو من أبوين، الخال لأب: أخ لها من أب. والخال لأم: أخ لها من الأم. فإذا مات عن ثلاث أخوال متفرقين، فللخال لأم السدس وللشقيق الباقي. فكأن هذا المدلى به وهو الأم هنا كأنه قد مات وترك أخاه الشقيق وأخاه لأب وأخاه لأم، فالأخ لأم له السدس، والباقي للأخ الشقيق لأن الشقيق يحجب الأخ لأب. قال المؤلف ـ رحمه الله تعالى:] فإن كان معهم أخو أم أسقطهم [ في المسألة السابقة وهي ما إذا مات عن ثلاثة أخوال متفريق إن كان معهم أبو أم، فكأنّ هذه المرأة ماتت عن أبيها وأخوتها الأشقاء ولأب ولأنم فلايرث هؤلاء شيئا منها مع وجود الأب لأنه يحجب الإخوة. قال المؤلف ـ رحمه الله تعالى:] وفي ثلاث بنات عمومة متفرقين المال للتي للأبوين [ إذا مات عن بنت عم شقيق وبنت عم لأب وبنت عم لأم فالمال لبنت العم الشقيق، لأنه كأنه مات عن عمه الشقيق وعمه لأب وعمه لأم فحينئذٍ العم الشقيق يأخذ المال تعصيبا فكأن هذا لابنته. قال المؤلف ـ رحمه الله تعالى:] وإن أدلى جماعة بجماعة قسمت المال بين المدلى بهم فما صار لكل واحد أخذه المدلى به وإن سقط بعضهم ببعض عملت به [. مثاله: أن يتوفى عن بنت بنت، وبنت أخ شقيق، وبنت أخ لأب. فالبنات هنا جماعة أدلين بجماعة وهم البنت والأخ الشقيق والأخ لأب. فيقسم المال بين المدلي بهم فكأن المسألة بنت وأخ شقيق وأخ لأب فما صارلكل واحد أخذه المدلي به.

وإذا سقط بعضهم ببعض عملت به، فإذا كان هناك حجب فإنك تعمل كما في هذا المثال فإن الأخ لأب محجوب بالأخ الشقيق فإن كان يدلي من جهتين فإنه يرث من الجهتين كلتيهما. مثال: توفي عن ابن بنت بت وابن ابن بنت. فيستحق الإرث من جهتين فيستحق الثلثين. فلو أن رجلا له ابنتان إحداهما جاءت بابن والأخرى أتت ببنت فتزوجا فأنجبا ابنا فالابن قد أدلى ببنتين البنت الأولى أم أبيه والأخرى أم أمه فيكون له ثلثان. قال المؤلف ـ رحمه الله تعالى:] والجهات: أبوة، وأمومة، وبنوّة [ الجهات في هذا الباب ثلاث: أبوة وأمومة وبنوة. لأن ذوي الرحم لايخلو اتصالهم: إما أن يكون من جهة الأب أو من جهة الأم أو من جهة الولد. فالأعمام مثلا من جهة الأب والجد قد يكون من جهة الأب وقد يكون من جهة الأم، والخال من جهة الأم وابن الأخت الشقيقة أو لأب من جهة الأب، وابن الأخت لأم من جهة الأم، وبنت البنت من جهة الولد. وقوله] بنوة [من باب التغليب للابن وإلا فماللبنت كذلك. فإذا كانوا من جهة واحدة وأحدهما أقرب فالأقرب يسقط الأبعد. مثاله: مات عن بنت بنت بنت وبنت بنت ابن. (فبنت بنت الابن تسقط الأخرى لأن بنت الابن وارثة وبنت البنت ليست وارثة بل هي ذات رحم فكانت هي البعدى، والأخرى هي القربى فتسقط القربى البعدى. (فالعبرة في القرب والبعد ليس إلى المورث ولكن إلى الورثة على فرض حياتهم) وأما إن كانت من جهات مختلفة فلا يسقط القريب البعيد. باب ـ ميراث الحمل والخنثى المشكل ـ الحمل: هو مايكون في بطن الآدمية. والخنثى المشكل: ما لم تتضح ذكورته ولا أنوثته. قال المؤلف ـ رحمه الله تعالى:] من خلّف ورثة فيهم حمل فطلبوا القسمة وقف للحمل الأكثر من إرث ذكرين أو أنثيين [

فإذا مات رجل عن ورثة فيهم حمل كأن يموت وزوجته حامل فإن طلب الورثة القسمة فيوقف للحمل الأكثر من إرث ذكرين أو أنثيين، وأما إذا لم يطلبوا القسمة فينتظر حتى تضع الحامل حملها وتقسم التركة عند الإطلاع عليه أهو ذكر أم أنثى توأم أم ليس بتوأم. قال المؤلف ـ رحمه الله تعالى:] فإذا ولد أخذ حقه ومابقي لمستحقه [ إذن ندّخر له الأحظ من إرث ذكرين أو أنثيين فنحتمل أن الحمل ابنان أو ابنتان فندخر له ذلك فإذا وضعته فكان الأمر كما توقعنا أعطيناه هذا الإرث وهو حقه وإن كان أكثر من حقه فإن الباقي يرجع إلى قسم مستحقه. قال المؤلف ـ رحمه الله تعالى:] ومن لا يحجبه يأخذ إرثه كالجدة [ فإن كان من الورثة من لايتأثر أيا كان هذا الوارث سواء كان ذكرا أم أنثى أو ذكرين أو أنثيين فإنه يعطى حقه كاملا كالجدة مثلا. قال المؤلف ـ رحمه الله تعالى:] ومن ينقصه شيئا اليقين [ فإذا كان هذا الوارث يأخذ خمس التركة إذ كانا ذكرين ويأخذ سدسها إن كان ذكرا فاليقين له السدس وهو الأصل فيعطى الأقل. قال المؤلف ـ رحمه الله تعالى:] ومن سقط به لم يعط شيئا [ إذا كان الوارث إرثه على احتمال بحيث إنه لو خرج الحمل ذكرا فلا إرث له وإن خرج أنثى فلا إرث له فلا يعطى شيئا لاحتمال كونه أنثى. قال المؤلف ـ رحمه الله تعالى:] ويرث ويورث إن استهل صارخا [ لقوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ: “ إذا استهل المولود ورث “ رواه أبو داود وهو حديث حسن. قوله “ استهل “ أي رفع صوته بالصياح. قال المؤلف ـ رحمه الله تعالى:] أو عطس أو بكى أو رضع أو تنفس وطال زمن التنفس أو وجد دليل حياته [ فأي دليل من أدلة الحياة كالحركة الكثيرة به دل على الحياة المستقرة. قال المؤلف ـ رحمه الله تعالى:] غير حركة واختلاج [.

أي غير حركة قصيرة لا تدل على الحياة أو اختلاج وهو أنه ينهضم لحمه لخروجه من مكان ضيق فإذا تحرك لحمه بسبب تضامه عند خروجه من المكان الضيق فهذا الاختلاج لا يحكم له بالحياة المستقرة معه. هذا أحد الشرطين في إرث الحمل وهو أن يخرج حيا حياة مستقرة فإذا مات في بطنها فلا إرث. وعليه فلا يرثه ورثته. والشرط الثاني أن يتحقق من وجوده ولونطفة حين موت مورثه، فإن كانت المرأة فراشا بغير المورث فإن أتت به بعد موت المورث بأقل من ستة أشهر فنحكم حينئذ له لأن أقل الحمل ستة أشهر ولا يمكن أن تحمل بعده وتأتي به لأقل من ستة أشهر وأما إن كانت ليست فراشا لغيره أي لم تتزوج بعد موت المورث. مثاله: إذا أتت به ولو بعد أربع سنين فإذ كان أكثر فلا يحكم له به. قالوا: لأن أكثر الحمل أربع سنوات ودليل ذلك الواقع. وقيل:أكثره سنتان. وقيل: أكثره خمس سنوات. الترجيح في أكثر الحمل: والراجح ماذهب إليه أبو عبيد القاسم بن سلام أنه لا تحديد له، وكونه يوجد أربع سنوات لا يمنع أن يوجد خمس أو ست أو نحو ذلك. فمن أتت بعد موت المورث ولو بعد سنوات طويلة فإنه ينسب له إن لم تكن فراشا. قال المؤلف ـ رحمه الله تعالى:] وإن ظهر بعضه فاستهل ثم مات وخرج لم يرث [ إذا خرج بعض الجنين واستهل صارخا ولم يخرج باقيه بعد ثم مات فإنه لايرث لأنه لم يخرج كاملا ولم تستقر حياته مع خروجه خروجا تاما هذا هو المشهور في مذهب أحمد والشافعي. وعن أحمد أنه يرث. والمشهور في المذهب هو الأول. قال المؤلف ـ رحمه الله تعالى:] وإن جهل المستهل من التوأمين واختلف إرثهما يعين بقرعة [ إذا ولدت توأمين أحدهما ميت والآخر حي، ذكر وأنثى، والآخر الذي خرج حيا استهل ثم مات ولايدرى أهو الذكر أم الأنثى فحينئذ نحكم بالقرعة لأنه مرجح لأحدهما على الآخر. قال المؤلف ـ رحمه الله تعالى:] والخنثى المشكل [ تعريفه: من لم تتضح ذكورته ولا أنوثته.

وهناك قسم وهو الخنثى غير المشكل وهو من كان له آلة ذكر وآلة أنثى وعلم أهو ذكر أم أنثى إما ببوله من أحد الآلتين أو عند بلوغه بالحيض أو بظهور الثديين أو خروج المني أو اللحية فحينئذ يعرف أنه ذكر أو أنثى. فإذا طالب الورثة بالقسمة قبل أن يتضح أذكر هو أم أنثى فما الحكم؟ يحتمل أن يكون ذكرا ويحتمل أن يكون أنثى. فنضع مسألتين؛ مسألة على أنه ذكر ومسألة على أنه أنثى. ويعطى كل الورثة وهو من بينهم يعطيهم الأضر أي الأنقص وبحبس الباقي فإن ثبت ذكرا أعطي الباقي وإلا أرجع إلى مستحقيه كما تقدم في المسألة السابقة. أما إذا كان الخنثى مشكلا أي بلغ ولم يتبين أذكر هو أم أنثى وهذا لا شك أنه في غاية الندرة وذلك لأن الله سبحانه وتعالى خلق الإنسان ذكر أو أنثى وليس هناك قسمة أخرى ولابد وأن يتضح الحال. فحينئذ إن كان لايرث إلا على أنه ذكر فيعطى نصف ميراث الذكر، وإن كان لا يرث إلا على أنه أنثى فيعطى نصف ميراث الأنثى، وإن كان يرث ذكرا وأنثى فإنه يعطى نصف إرث الذكر مع نصف إرث الأنثى. باب_ ميراث المفقود المفقود: من جهل حاله فلا يدرى أحي هو أم ميت. وقد يكون المفقود وارثا وقد يكون مورثا. قال المؤلف ـ رحمه الله تعالى:] من خفي خبره بأسر أو سفر غالبه السلامة كتجارة انتُظر به تمام تسعين سنة منذ ولد [ فإذا كان سفره الغالب فيه السلام كأن يسافر لتجارة فإنه ينتظر به تمام تسعين سنة منذ ولد. فإذا فقد وعمره سبعون سنة انتظر به عشرون وهكذا. التعليل: قالوا: لأنه في الغالب لايصل الحي إلى هذا العمر وهو تسعون. فإن فقد وهو ابن تسعين قالوا: يرجع إلى الحاكم فيحدد مدة قال المؤلف ـ رحمه الله تعالى:] وإن كان غالبه الهلاك كمن غرق في مركب فسلم قوم دون قوم أو فقد من بين أهله أو في مفازة مهلكة انتظر به تمام أربع سنين منذ فقد [

فإن كان سفره الغالب فيه الهلاك كأن يكون في مركب فيغرق هذا المركب وينجو قوم ويهلك آخرون ولا يدري هل هو ناج أم هالك، أو يفقد في مفازة مهلكة فإنه ينتظر به تمام أربع سنين منذ فقد هذا هو المشهور في المذهب في المسألتين. القول الآخر: والصحيح عند الشافعية وهو رواية عن الإمام أحمد أن مرجع هذا إلى الحاكم فيحدد الحاكم مدة يظن ظنا غالبا بعدها أنه في عداد الهلكى. الترجيح: وهذا الآخر هو القول الراجح. وهذا يختلف باختلاف الأزمنة. قال المؤلف ـ رحمه الله تعالى:] ثم يقسم ماله فيهما [ أي يقسم في المسألتين كلتيهما: ما إذا كان سفره الغالب فيه السلامة أو كان الغالب فيه الهلاك. فإذا مضت المدة المحددة فإنه يحكم بموته فيرثه وارثه حينئذ، أما من مات قبل انتهاء المدة فلا يرث.أي من مات بعد فقده وقبل الحكم بموته فلا يرث وذلك لأنا لم نتحقق من وفاته إلا حينئذ وهذا باتفاق العلماء. قال المؤلف ـ رحمه الله تعالى:] فإن مات مورثه في مدة التربص أخذ كل وارث إذن اليقين ووقف ما بقي [ إذا كان المفقود وارثا كأن يموت أب وابن مفقود وكان موت الأب في مدة التربص فحينئذ يأخذ كل وارث اليقين فيجعل له مسألتان مسألة على تقدير حياته وأخرى على مماته ثم يعطى كل وارث اليقين من إرثه فإن كان هذا الوارث إرثه لا يختلف فإنه يأخذه، وإن كان يختلف فإنه يأخذ الأقل، وإن كان في أحد التقديرين يرث وفي الآخر لا يرث فلا شيء ثم يوقف الباقي قال المؤلف ـ رحمه الله تعالى:] فإن قدم أخذ نصيبه [ فإذا جاء هذا المفقود فإنه يأخذ نصيبه من الإرث. قال المؤلف ـ رحمه الله تعالى:] وإن لم يأت فحكمه حكم ماله [ فإذا لم يأت فحكم هذا المال حكم ماله الآخر. ولا يحكم عليه بالموت إلا بعد انتهاء المدة. مثال:

هذا الابن المفقود له زوجة ونحن قسمنا ميراث الأب وادخرنا لهذا الابن نصيبه ثم مضت المدة ولم يأت فحكمنا عليه بالموت فيكون وارثا من أبيه لأنا لم نتحقق وفاته قبل وفاة والده فلم نحكم عليه بالموت إلا بعد انتهاء المدة فيكون لهذا المال حكم باقي ماله يُقضى به دينه ويرثه ورثته. قال المؤلف ـ رحمه الله تعالى:] ولباقي الورثة أن يصطلحوا على ما زاد عن حق المفقود فيقتسموه [ إذا بقي شيء زائد عن حق المفقود كأن تتبقى ثلاثة سهام فإذا اصطلح عليها بقية الورثة فهذا جائز لأن هذا حقهم فكان لهم أن يصطلحوا عليه. وطريقة العمل في طريقة مسألة المفقود: أن نعمل له مسألتين واحدة باعتبار حياته والأخرى باعتبار مماته ثم ننظر بين مصحح المسألتين بالنسب الأربع فما خرج من النظر فهو الجامعة نقسمها على كل مسألة ونضع ناتج القسمة كجزء سهم على المقسوم عليها ثم نضرب الذي بيد كل وارث من كل مسألة فيما فوق مسألته، أي في جزء سهمها، نعرف من ذلك الأخير له فنضعه أمامه تحت الجامعة ونوقف الباقي بعد ذلك للمفقود. مثاله: هالك عن أم وأخت شقيقة وأخ لأب وشقيق مفقود. 18 6/3 6×3=18/1 3 1 (3 أم 3 3 5 5×3=15 شقيقة × 10 شقيق مفقود 2 2 × أخ لأب 10موقوف موت حياة (حال المفقود) مثال آخر: هلك عن زوج وأخوين لأم وأخت شقيقة وأخ شقيق مفقود وأخ لأب. 72 6/8/9 6×3=18/4 27 3 (9 زوج 18 2 (6 أخوين لأم 4 3 1 (3 أخت ش. × 2 أخ ش. مفقود × أخ لأب (23) موقوف موت حياة (حال المفقود) ولباقي الورثة أن يصطلحوا على القدر الزائد عن حق المفقود. باب ـ ميراث أهل الملل ـ الملل: جمع ملة وهي الدين والنحلة. قال المؤلف ـ رحمه الله تعالى:] لا يرث المسلم الكافر ولا الكافر المسلم إلا بالولاء [ هذه العبارة فيها مسألتان: المسألة الأولى: أن المسلم لا يرث الكافر والكافر لا يرث المسلم. الدليل:

ويدل عليه ما ثبت في الصحيحين أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال: “ لا يرث المسلم الكافر ولا الكافر المسلم “ فإذا مات عن ابن يهودي ومسلم ونحو ذلك فإن لايرث والده. المسألة الثانية: قوله] إلا بالولاء [ هذا هو المشهور من مذهب الحنابلة وهو أن المسلم يرث عتيقه الكافر. مثال: لو أن رجلا مسلما له غلام نصراني فأعتقه فمات هذا الغلام بعد ذلك وله مال فإن سيده يرث بالولاء مع اختلاف الدين. الدليل: ما روى الدارقطني أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال: “ لا يرث المسلم النصراني إلا أن يكون عبده أو أمته “ القول الثاني: والقول الثاني في المسألة وهو رواية عن الإمام أحمد أن المسلم لا يرث الكافر بالولاء لعموم الحديث المتقدم “ لايرث المسلم الكافر ولا المسلم الكافر “ فالحديث عام ويدخل فيه الولاء. الترجيح: والقول الثاني هو الراجح في هذه المسألة وهو أن المسلم لا يرث الكافر بالولاء. وأما الحديث الذي استدل به الحنابلة في المشهور عندهم فهو حديث ضعيف. قال المؤلف ـ رحمه الله تعالى:] ويتوارث الحربي والذمي والمستأمن [ النصراني المستأمن يرث من قريبه النصراني الحربي وذلك لاتفاق الدين، ولا يؤثر كونه ذميا أو حربيا أو مستأمنا فمادام الدين متفقا فالتوارث ثابت قال المؤلف ـ رحمه الله تعالى:] وأهل الذمة يرث بعضهم بعضا مع اتفاق أديانهم لا مع اختلافها وهم ملل شتى [ أهل الذمة من اليهود والنصارى يرث بعضهم بعضا مع اتفاق دينهم فاليهودي يرث اليهودي والنصراني يرث النصراني لامع اختلاف الأديان فلايرث اليهودي النصراني ولا النصراني اليهودي وهم ملل شتى أي أديان مختلفة، فلايرث اليهودي من النصراني. الدليل: ما ثبت في سنن أبي داود بإسناد حسن أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال:” لا توارث بين ملتين شتى “ القول الثاني: والجمهور على خلاف هذا القول. دليل الجمهور: لحديث “ لايرث المسلم الكافر ولا الكافر المسلم “

قالوا: فدل أن المسلم يرث المسلم والكافر يرث الكافر وإن اختلفت أديانهم. الترجيح: والقول الأول هو الراجح لأن حديثه خاص دليل الجمهور عام. قال المؤلف ـ رحمه الله تعالى:] والمرتد لا يرث أحدا [ فتارك الصلاة مثلا هو مرتد فلا يرث أحدا فلا يرث من والده المسلم ولايرث من والده الكافر. الدليل: وذلك لأنه غير مقر على ماهو عليه. لذا فإنه يقتل لحديث من دينه:” من بدّل دينه فاقتلوه “ قال المؤلف ـ رحمه الله تعالى:] وإن مات على ردته فماله فيء [ إذا مات المرتد على ردته، كأن يموت وهو لايصلي أو نحو ذلك، فإن ماله يكون فيئا لبيت مال المسلمين فلا يرثه أقاربه للحديث المتقدم “ لايرث المسلم الكافر ولا الكافر المسلم“ وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى: (وهو رواية عن الإمام أحمد، بل يرثه أقاربه من المسلمين) الترجيح: وهذا القول مرجوح لما تقدم من قوله “ لايرث المسلم الكافر ولا الكافر المسلم “ والمرتد كافر. قال المؤلف ـ رحمه الله تعالى:] ويرث المجوس بقرابتين [ مثال: نكح مجوسي ابنته فولدت له ولدا ـ والمجوس يجيزون ذلك ـ فماتت هذه البنت: (فيرث منها هذا الابن بقرابتين: الأولى على أنها أمه. والثانية على أنها أخته لأنها ابنة أبيه. فيأخذ الثلث ويأخذ النصف مع توفر شروط ذلك. قال المؤلف ـ رحمه الله تعالى:] إن أسلموا أو تحاكموا إلينا قبل إسلامهم [ قال تعالى: [وأن احكم بينهم بما أنزل ولا تتبع أهواءهم] قال المؤلف ـ رحمه الله تعالى:] وكذا حكم المسلم يطأ ذات رحم محرّم منه بشبهة [ فكذلك المسلم امرأة من محارمه بشبهة فنتج ولد تكون هذه المرأة أما له وأخت ـ أو نحو ذلك ـ فإنه يرث بالقرابتين. قال المؤلف ـ رحمه الله تعالى:] ولا إرث بنكاح ذات رحم محرّم [ في المسألتين السابقتين إرث بالقرابة. أما هنا فهو إرث بالنكاح.

فلو تزوج رجل امرأة هي ابنته فهل ترث منه بالزوجية أم ترث منه على أنها ابنة له فقط. الجواب: أنها ترث على أنها ابنة له فقط. فلا ترث على أنها زوجة. لأن هذا النكاح غير مقرّ عليه. فترث على أنها بنت فقط. قال المؤلف ـ رحمه الله تعالى:] ولا بعقد لا يُقرّ عليه لو أسلم [ مثال: مات مجوسي عن امرأة نكحها بعد أن طلقها ثلاثا فهل نورثها منه أم لا؟ الجواب: لا. لأنا لانقر هذا النكاح لقوله تعالى: [وأن احكم بينهم بما أنزل الله] والحكم الذي أنزله الله يمنع من ذلك. فالعقد الذي لا يقر عليه لو أسلم لا يثبت به التوارث. ـ باب: ميراث المطلقة ـ قال المؤلف ـ رحمه الله تعالى:] من أبان زوجته في صحته أو مرض غير المخوف ومات به أو المخوف ولم يمت به لم يتوارثا [ من طلق زوجته في صحته طلاقا بائنا أو طلقها في مرضه غير المخوف ومات به أو المخوف ولم يمت به لم يتوارثا قولا واحدا. الدليل: لأن هذه المطلقة ليست زوجة له، وليس متهما في هذه الأحوال بقصد حرمانها من الإرث. فعليه لاترث وإن كانت في عدتها. لأن البائن ليست بزوجة. وروى الشافعي عن ابن الزبير أنه قال: (لا ترث المبتوتة) وهذا باتفاق أهل العلم. قال المؤلف ـ رحمه الله تعالى:] بل في طلاق رجعي لم تنقض عدتها [ إذا طلق امرأته طلاقا رجعيا ومات في أثناء عدتها فإنها ترث لأنها زوجة. أما إذا مات وقد انقضت عدتها فإنها لاترث لأنها ليست بزوجة. قال المؤلف ـ رحمه الله تعالى:] أو أبانها في مرض موته المخوف متهما بقصد حرمانها [ إذا طلقها طلاقا بائنا في مرض موته المخوف وهو متهم بقصد حرمانها من الإرث فهي لم تسأله الطلاق بل هو ابتدءها بالطلاق وليس من علة تقتضي طلاقها فحينئذ ترث منه معاقبة له بنقيض قصده. ولذا ثبت في البيهقي أن عبد الرحمن بن عوف ـ رضي الله عنه ـ طلق امرأته ألبتة، فروثها منها عثمان ـ رضي الله عنه ـ بعد انقضاء عدتها. وإسناده صحيح.

لكن لو سألته الطلاق فإنه حينئذ تزول التهمة فلا ترث. لكن إن أضر بها حتى سألته فإن يكون متهما. قال المؤلف ـ رحمه الله تعالى:] أو علق إبانتها في صحته على مرضه [ أي قال: (أنت طلاقا بائنا إن مرضت مرضا مخوفا أو مرضت مرض الموت) قال ذلك وهو في صحته. قال المؤلف ـ رحمه الله تعالى:] أو على فعل له ففعله في مرضه [ إذا علق إبانتها على فعل له كأن يقول: (إن دخلت هذه الدار فأنت طالق) قال ذلك في صحته. فلما مرض مرضه المخوف دخلت هذه الدار التي علق طلاقها على دخولها. وقد قال المؤلف] على فعل له [ولم يقل على فعل لها، لأنه حينئذ لا يكون متهما كأن يقول: (إذا ذهبت إلى دار فلان فأنت طالق) فإن فعلت فإنه لايكون متهما بقصد رحمانها. لكن إن كان الأمر لابد لها منه ولا يمكنها أن تمتنع منه كالسوق فحينئذ يقع ما تقدم. قال المؤلف ـ رحمه الله تعالى:] ونحوه [ كأن يطأ ابنتها أي ابنتها من غيره فحينئذ تحرم عليه قال المؤلف ـ رحمه الله تعالى:] لم يرثها وترثه [ فهو لايرثها لأنه قد فصل عقد نكاحها فقد فارقها، وأما هي فترثه وذلك للتهمة فهو متهم بقصد حرمانها. والمقصود: أنه متى ما طلقها في موضع هو متهم بقصد حرمانها فإنها ترث وهو لايرثها. قال المؤلف ـ رحمه الله تعالى:] وترثه في العدة وبعدها [ فإذا طلقها طلاقا بائنا في مرضه المخوف على وجه التهمة فمات وهي قد انقضت عدتها فإنها ترث منه كما تقدم في أثر عثمان ـ رضي الله عنه ـ السابق. قال المؤلف ـ رحمه الله تعالى:] ما لم تتزوج [ فإذا تزوجت فإنها لاترث منه هذا هو مذهب الحنابلة. قالوا: لأنه لايمكن أن نورثها من زوجين. لكن: هذا تعليل ضعيف،فإن المرأة قد ترث من زوجين. كما لو مات عنها زوجها فورثت منه ثم تزوجت آخر فمات فورثت منه. فليس الزوجان هنا في عقد واحد وإنما تمنع أن ترث من زوجين لأنه لا يمكن أن يكون لها زوجان. القول الثاني:

وذهب المالكية: بل ترث منه وإن تزوجت لأنه حق لها قصد حرمانها منه فلم يسقط بزواجها. الترجيح: وهذا القول هو الراجح. قال المؤلف ـ رحمه الله تعالى:] أو ترتدّ [ فإذا ارتدت فإنها لاترث وقد تقدم الكلام على إرث المرتد في مسألة سابقة. ولكن إن كان ارتدادها بعد موته ثم رجعت إلى الإسلام فالذي يتبين أنها ترث منه لأنها لما مات كانت مستحقة للإرث لكن لو مات وهي مرتدة فلا ترث وإن أسلمت بعد ذلك لأن المرتد لايرث أصلا كما تقدم في مسألة سابقة. وقد تقدم اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى أن ورثة المرتد يرثونه. وحجته في ذلك: أن هو المعروف عن الصحابة. ولم أقف على آثار عن الصحابة تدل على ذلك وأنهم كانوا يورثون قرابة المرتد المسلمين. أما إن ثبت عن الصحابة آثار في هذه المسألة فإنه يقال بها. فإن الآثار حجة حيث لم تعارض. أما إذا لم يثبت أثر بسند صحيح فقد تقدم القول الراجح في هذه المسألة لعموم قوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ: “ لا يرث المسلم الكافر ولا الكافر المسلم” باب ـ الإقرار بمشارك في الميراث ـ قال المؤلف ـ رحمه الله تعالى:] إذا اقرّ كل الورثة ولو أنه واحد بوارث للميت وصدّق أو كان صغيرا أو مجنونا والمقربة مجهول النسب ثبت نسبه وإرثه [ إذا أقر الورثة كلهم وهم مكلفون بأن هذا وارث معهم وأنه ابن لمورثهم أو أخ أو نحو وذلك وصدق هذا المقر به ولم ينكر فإن النسب يثبت ويتفرع على هذا ثبوت الإرث لأن الورثة يقومون مقام مورثهم وهنا قد أثبتوا نسبه فيتفرع على هذا ثبوت إرثه. كذلك إذا كان المقر به صغيرا أو مجنونا وهو مجهول النسب فيثبت النسب لمصلحته ويتفرع على هذا ثبوت الإرث. قال المؤلف ـ رحمه الله تعالى:] وإن أقر أحد ابنيه بأخ مثله فله ثلث ما بيده [

إذا أقر بعض الورثة ولم يقر الباقون ولم يكن هناك بينة تدل على ثبوت النسب فالنسب حينئذ لايثبت لأن هؤلاء الورثة الذين يقومون مقام مورثهم لم يتفقوا على ذلك بل بعضهم أقر به والآخرلم يقر.لكنه يرث بعض الإرث. مثال: مات وله ابنان: (فلكل واحد منهما النصف. فأقر أحدهما بأخ له فأصبحوا ثلاثة بإقراره، فيعطى الابن ثلث نصيب الابن المقر به. قال المؤلف ـ رحمه الله تعالى:] وإن أقرّ بأخت فلها خمسه [ مثال: مات عن ابنين فأقر أحدهما بأخت لو ثبتت لثبت لها النسب لكانت المسألة من عشرة. لهذا أربعة من عشرة وللثاني أربعة من عشرة وللنبت اثنان من عشرة. فنعطى المنكر أربعة من عشرة والمقِر به أربعة من عشرة ونعطي المقَر به واحد من عشرة وهو خمس ما يستحقه الابن. باب ـ ميراث القاتل والمبَعّض والولاء ـ قال المؤلف ـ رحمه الله تعالى:] من انفرد بقتل مورثه أوشارك فيه مباشرة أو سببا بلا حق لم يرثه قود أو دية أو كفارة والمكلف وغير سواء. [ فالقاتل سواء كان قتل عمد أو قتل خطأ وسواء كان مكلفا أو غير مكلف سواء كان مباشرا أو متسببا لا يرث من مقتوله لقوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ – فيما رواه أبو داود ومالك في موطئه والحديث حسن “ليس للقاتل شيء “ والحديث عام في قاتل العمد وقاتل الخطأ. وقاتل العمد منعه من الإرث ظاهر وأما قاتل الخطأ فلأن التوريث معه ذريعة إلى سفك الدماء. قال المؤلف ـ رحمه الله تعالى:] إن قتل بحق قودا [ أي قصاصا كأن يقتل رجل ابنه فيختار القصاص أو أن يكون هو الذي يباشر القصاص. قال المؤلف ـ رحمه الله تعالى:] أو حدا [ كالزاني فإنه يقتل بالجم حدا. قال المؤلف ـ رحمه الله تعالى:] أو كفرا [ كالمسلم يقتل عبده أو أمته النصرانية على القول بالتوريث وهو المذهب. وأما إذا كان القتل كفرا سوى المسألة المتقدمة المختلف فيها فإن له حكم المرتد وقد تقدم الكلام في ميراث المرتد.

قال المؤلف ـ رحمه الله تعالى:] أو ببغي [ كمن يبغي على الإمام العادل. قال المؤلف ـ رحمه الله تعالى:] أو صيالة [ أي صال عليه فقتله. قال المؤلف ـ رحمه الله تعالى:] أو حرابة أو شهادة وارثه [ أي شهد على مورثه بما يقتضي قتله كأن يشهد عليه أنه زنا فيقتل. قال المؤلف ـ رحمه الله تعالى:] أو قتل العادل الباغي وعكسه ورثه [ يرث في هذه المسائل كلها لأنه قتل بحق فهو فعل مأذون له فيه فلم يمنع معه من الإرث. ولأن عدم التوريث معه ذريعة لترك الكثير من الأحكام الواجبة من إقامة الحدود ومن الجهاد في سبيل الله في قتل البغاة أو إدلاء المسلم بشهادة الحق. قال المؤلف ـ رحمه الله تعالى:] فلا يرث الرقيق ولا يورث [ فهو إجماعا لايرث لأنه لا يملك فماله لسيده فإذا ورث فقد أعطينا الأجنبي المال. ولا يورث لأنه لا مال له بل لسيده. قال المؤلف ـ رحمه الله تعالى:] ويرث مَن بعضه حرّ ويورث ويحجب بقدر ما فيه من الحرية [ المبعّض: وهو من كان بعضه حرا وبعضه عبدا. فإنه يرثه وذلك لأنه يملك بجزئه الحرّ فلما كان ممكنا تمليكه لم يمنع من الإرث. قال المؤلف ـ رحمه الله تعالى:] ومن أعتق عبدا فله عليه والولاء [ فمن أعتق عبدا فله عليه الولاء وله أيضا على أولاده وأولاد أولاده الولاء من بعده. الدليل: لقوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ: “ إنما الولاء لمن أعتق “ متفق عليه. قال المؤلف ـ رحمه الله تعالى:] وإن اختلف دينهما [ هذا على القول الراجح المتقدم وهو المذهب وأن الإرث بالولاء يثبت مع اختلاف الدين والصحيح خلافه. قال المؤلف ـ رحمه الله تعالى:] ولا يرث النساء بالولاء [ فالنساء لا يرثن بالولاء. وإنما الذي يرث بالولاء هو المعتِق وعصبته المتعصبون بأنفسهم. والنساء لسن من العصبة بالنفس. قال المؤلف ـ رحمه الله تعالى:] إلا من أعتقن أو أعتقه من أعتقن [

فالمرأة لا ترث بالولاء إلا من أعتقت أو من أعتق من أعتقت، وهي ترث بالولاء عتيقها. ومن أعتق عتيقها أي أعتقت عبدا ثم ملك عبدا فأعتقه فإنها ترثه. الدليل: ودليل هذه المسألة ما روى البيهقي بإسناد لابأس به أن علي بن أبي طلب وعبد الله بن مسعود وزيد بن ثابت ـ رضي الله عنهم ـ كانوا يجعلون الولاء للكُبْر من العصبة ـ أي للأكبر ـ ولا يورثون النساء من الولاء إلا من أعتقن أو من أعتق من أعتقن. فالمرأة ترث عتيقها وترث عتيقه. فأما إذا أعتق أبوها أو أخوها عبدا فليس لها من الولاء شيء، لكن إذا أعتقت فإن الولاء لها. وفي الحديث: “ واشترطي لهم الولاء. فإنما الولاء لمن أعتق “ فظاهره أن الولاء لعاتقه كذلك إذا أعتقت وأصبح هذا العبد حرا بسبب إعتاقها ثم اشترى هذا عبدا فأعتقه فلها الولاء لأنها هي الأصل في هذه النعمة التي صارت لهذا المعتق الجديد. تم بحمد الله

كتاب العتق والنكاح

الدرس السابع عشر بعد الثلاثمائة كتاب العتق العتق لغةً: الخلوص وفي الشرع هو: تحرير الرقبة وتخليصها من الرق. وقد دل على العتق الكتاب والسنة وإجماع الأمة. أما الكتاب فكقوله تعالى: {فتحرير رقبة مؤمنة} وكقوله: {فك رقبة} . وأما السنة ما في الصحيحين أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (من أعتق رقبة مؤمنة أعتق الله بكل عضو منه عضواً من النار حتى فرجه بفرجه) . وفي رواية (استنقذ الله) فدل على أن هذا المحرر المعتق مستحق للعقوبة فيستنقذ الله عز وجل أعضاءه المستحقة للعقوبة بهذا المعتَق. وقد أجمع أهل العلم على ثبوته ومشروعيته. قال المؤلف: [وهو من أفضل القرب] . للحديث المتقدم، وقد جعله الله كفارة للقتل وكفارة للجماع في نهار رمضان وكفارة للأيمان، فدل على فضيلته وأنه من أفضل القرب. وأفضل الرقاب أغلاها ثمناً وأنفسها عند أهلها، ففي الصحيحين أن النبي - صلى الله عليه وسلم -: سُئل أي الرقاب أفضل؟ فقال: (أغلاها ثمناً وأنفسها عند أهلها) . وعتق الذكر في الأصل أفضل من عتق الأنثى، يدل عليه ما ثبت في الترمذي والحديث صحيح أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (وأيما امرئٍ مسلم أعتق امرأتين مسلمتين كانتا فكاكه من النار) وقد تقدم أن الفكاك من النار يحصل بعتق رقبة مؤمنة فدل على أن عتق الذكر أفضل من عتق الأنثى، فإنه إذا اعتق رقبة واحدة مساوية له في الذكورية أو الأنوثية كانت فكاكه من النار. والذكر إن أعتق أنثيين كانتا فكاكه من النار. قال: [ويستحب عتق من له كسب، وعكسه بعكسه] أي إنما يستحب عتق من له كسب، فهو قادر على التكسب والعمل وأما إن كان بخلاف ذلك فلا يستحب عتقه. وإن كان غير قادر على التكسب والعمل فلا يستحب عتقه لما في ذلك من تضييعه، فإن في عتقه إسقاطاً للنفقة الواجبة على سيده له فكان في ذلك تضييعٌ له وقد يكون عرضةً للسؤال وان يكون كلاً على الناس.

وكذلك لا يستحب عتق من يكون عتقه سبباً لفساده من زنا أو قطع طريق أو يخشى لحوقه بدار الحرب ونحو ذلك. وهنا مسائل في العتق لم يذكرها المؤلف: المسألة الأولى: صريح العتق وكنايته:- فصريح العتق أن يقول: أنت عتيق أو أنت معتق أو أنت حر أو قد أعتقتك أو قد جعلتك حراً أو نحو ذلك. فهذه ألفاظ صريحة في العتق قد دل العرف على ذلك لأن هذه الألفاظ إذا خوطب بها العبد من سيده فإنها لا تحتمل إلا إعتاقه، فحينئذٍ لا تشترط النية بل يكفي مجرد اللفظ. وأما كنايته: فنحو قوله (لا سبيل لي عليك) إذهب حيث شئت، أو نحو ذلك من الألفاظ فهي ألفاظ تحتمل العتق وتحتمل غيره وإن كانت في العتق أظهر. المسألة الثانية: أن من ملك ذا رحم محرم عتق عليه. الرحم المحرم: هو ما لو قدر أحدهما ذكراً، والآخر أنثى لحرم نكاحه بالنسب، كأن يملك عمه أو خاله أو أبنه أو أباه فإنه لو قدر أن أحدهما ذكراً والأخر أنثى فإن النكاح محرم بالنسب لأن نكاح الخالة ونكاح العمة محرم ونكاح البنت محرم والمراد أن يكون محرماً بالنسب لا بالمصاهرة ولا بالرضاع، لكن إذا ملك ابن عمه، فلو قدّر أن أحدهما ذكر والأخر أنثى لم يحرم نكاحه بالنسب، وذلك لأن نكاح بنت العم نكاح صحيح، ولو ملك أمه من الرضاع أو ملك زوج أمه أو زوجة أبيه أو أم زوجته فإنه لا يعتق عليه لأنهم ليسوا من ذوي الرحم، ودليل ذلك ما روى الخمسة والحديث صحيح – أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (من ملك ذا رحم مَحْرَمٍ فهو حرٌ) ، وهو مذهب جماهير العلماء. المسألة الثالثة: أن من اعتق نصيباً له في عبد، وكان موسراً فإنه يلزمه أن يعتق بقيته فيعطي شريكه قيمة نصيبه ويعتق عليه العبد. فمثلاً: زيد وعمرو شريكان في عبد لكل واحد منهما نصفه فأعتق زيد نصيبه وكان موسراً فإنه يقُوم عليه العبد ويعطي عمراً قيمة نصيبه ويعتق عليه العبد ويُلزم زيد بذلك، هذا إن كان موسراً.

وأما إن كان معسراً فهو لا يملك قيمة المتبقي فإن العبد يكون مبعضاً، فيكون نصفه حراً ونصفه عبداً، هذا هو المشهور في مذهب الإمام أحمد وغيره. وعن الإمام أحمد وهو اختيار شيخ الإسلام أن العبد يكون مكاتباً غير مشقوق عليه، هذا إن كان له قدرة على العمل والتكسب، فيعمل ويتكسب ويعطي سيده ما بقي من ثمنه. هذا هو القول الراجح في هذه المسألة. ودليل هذه المسألة ما ثبت في الصحيحين من حديث ابن عمر أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (من أعتق شِركاً له في عبد، فكان له مال يبلغ ثمن العبد، قُوِمَ قيمة عدلٍ [أي قيمة عادلة] لا وكس فيها ولا شطط فأعطى شركاءه حصصهم وعتق عليه العبد، وإلا فقد عتق منه ما عتق) [أي يكون مبعضاً] . لكن إن كان قادراً على المكاتبة، فقد ثبت في الصحيحين من حديث أبي هريرة (وإلا قوّم عليه واستُسعي غير مشقوق عليه) . والذين لم يقولوا بالكتابة لا يصححون هذه اللفظة ويرون أن هذه اللفظة مدرجة وأنه قد تفرد بها سعيد ابن أبي عروبة عن قتادة، والصحيح أنه لم يتفرد بها بل قد تابعه عليها جماعة من حفاظ الحديث، وهو من أثبت الناس في قتادة وقد رووا هذا الحديث عن قتادة. وقد صحح هذا اللفظ الشيخان البخاري ومسلم في كتابيهما. المسألة الرابعة: إذا أََعتق بعض عبده، سواء كان البعض معيناً أو مشاعاً، كأن يقول: (أعتقت يديك أو وجهك) أو مشاعاً كأن يقول: (أعتقت نصفك أو ثلثك) أو ربعك، فإن العتق يسري على الباقي فيكون كله عتيقاً بإتفاق أهل العلم. لأن هذا أولى من المسألة المتقدمة. فهو إذا كان مشاركاً سرى العتق إلى بقية العبد، فأولى من ذلك إن لم يكن مشاركاً. قال: [ويصح تعليق العتق بموتٍ وهو التدبير] إذا قال لعبده: أنت حر بعد موتي، فالعبد هنا هو المدبَّر. وسمي مدبراً لأنه قد أعتق بعد الحياة أي في الموت، فإن الموت دبرالحياة. فالمدبر: هو من يعتق بعد الموت. والتدبير: هو العتق بعد الموت.

وهو كالوصية فللسيد أن يبيعه وقد دبره وله أن يهبه، وله أن يوقفه كالوصية، فكما أن الوصية له أن يرجع فيها وله أن يهبه أو يوقفها فكذلك في المدبر، وفي الصحيحين: " أن رجلاً من الأنصار أعتق غلاماً له عن دبر ولم يكن له مال غيره، فبلغ ذلك النبي - صلى الله عليه وسلم - فباعه بثمانمائة درهم ". فالمقصود أنه يجوز بيع المدبر كالوصية. الدرس الثامن عشر بعد الثلاثمائة باب الكتابة قال رحمه الله: [وهي بيع عبده نفسه بمال مؤجل في ذمته] أي: أن يشتري العبد نفسه من سيده بمال مؤجل. قال تعالى: {فكاتبوهم إن علمتم فيهم خيراً} فالكتابة هي: أن يبيع السيد عبده لنفسه على ثمن مؤجل على أنجم أو أقساط شهرية أو سنوية أو نحو ذلك. وهو مشتق من الكتب وهو الجمع، وذلك لأنه يجمع على أنجم أي على أقساط. وقيل: إنما سمي كتابه لما يقع بين السيد وعبده عند العقد من الكتابة. قال الحنابلة: لا يصح إلا أن يكون العوض في الكتاب مؤجلاً على نجمين فأكثر فلو كان إلى سنة فيعطيه المال كله لم يصح، فلا يصح إلا أن يكون على نجمين أي على قسطين، هذا هو المشهور في المذهب. والقول الثاني في المسألة وهو اختيار طائفة من أصحاب الإمام أحمد، وقال صاحب الفائق: وهو ظاهر كلام الإمام رحمه الله، وهو القول الراجح في هذه المسألة: أنه يصح على نجمٍ واحدٍ، فلو اشترى نفسه على نجم واحد فإن ذلك جائز، وهو القول الراجح، إذ لا مانع من ذلك، وليس مع من يمنع دليل يدل على دعواه. قال: [وتسن] فالكتابة سنة وهو مذهب جمهور العلماء واستدلوا بقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: (لا يحل مال امرئ مسلم إلا بطيب نفس منه) . قالوا: فالعبد مال امرئ مسلم فلم يخرج عن ملكيته إلا بطيب نفس منه، وعليه فحملوا الأمر في الآية المتقدمة على الاستحباب (فكاتبوهم) أي على وجه الاستحباب.

وعن الإمام أحمد رواية وهي مذهب الظاهرية وهو قول طائفة من التابعين واختاره ابن جرير الطبري: أن الكتابة واجبة وعليه فيجبر السيد عليها بقيمة العبد، فيقوم العبد قيمة عدل ويجبر السيد على الكتابة. واستدلوا بالآية الكريمة: {فكاتبوهم إن علمتم فيهم خيراً} ، قالوا وظاهر الأمر الوجوب. وأما قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: (لا يحل مال امرئ مسلم إلا بطيب نفس منه) فقالوا: الكتابة على سبيل المعاوضة، فهو يجبر على بيع عبده ويأخذ عوض ذلك، قالوا: وليست أولى من سراية العتق، فإن العتق تقدم أنه يسري فيجبر السيد على خروج ملكيته عنه بالكلية وهو إنما أعتق بعضه كأن يعتق ثلثه مثلاً فإنه يعتق كله، فإذا سرى العتق إلى البقية بلا عوض فأولى من ذلك بعوض. والشارع متشوف إلى العتق وتحرير النفوس وتخليصها من العبودية. وعليه فالراجح هو القول الثاني. وقياس هذا كما قال شيخ الإسلام: إذا قال قائل للسيد، أعتق عبدك وعلي ثمنه، فيجب عليه أن يعتقه كالمكاتبة. قال: [مع أمانة العبد وكسبه] فهي إنما تسن – وعلى القول الراجح إنما تجب - مع أمانة العبد وكسبه، لقوله تعالى: {فكاتبوهم إن علمتم فيهم خيراً} ، وظاهره أنه إن لم يعلم فيهم خيراً أي إن علم فيهم شراً وفساداً فإن الكتابة لا تشرع، وهذا كالعتق كما تقدم، فإذا كان في الكتابة تضييع للعبد واحتياج في الناس أو إفساد في الأرض فإن الكتابة لا تشرع، فقد شرط الله ما تقدم {إن علمتم فيهم خيراً} ، فإذا ثبتت المكاتبة، فإن المكاتب أي العبد يملك كسب نفسه ونفعها، وله أن يتصرف فيما يصلح ماله من بيع وإجارة ونحو ذلك لأن هذا هو مقتضى عقد الكتابة.

فإن الكتابة إنما عقدت ليتحصل من خلالها على عتق نفسه، ولا يمكن ذلك إلا أن يمكَّن من كسب نفسه ونفعها وأن يتصرف في ماله بما فيه مصلحة، وأما ما ليس فيه مصلحة فليس له أن يتصرف فيه إلا بإذن سيده، كما ثبت في سنن أبي داود بإسناد حسن أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (المكاتب عبد ما بقي عليه من مكاتبته درهم) ، فهو قن وعبد فليس له أن يتصرف إلا بما ينفع في عتقه، أما أن يتصرف بما لا مصلحة فيه بأن يبذر ماله أو أن يدخل في تجارة يخش من الدخول فيها فلا بد من إذن السيد لأن ما بيده مال لسيده في الأصل وإنما أذن له بأن يعمل ليتمكن من عتق نفسه، فكان المأذون له هو ما يكون فيه مصلحة للمال. قال: [ويجوز بيع المكاتب] فلو أن رجلاً كاتب عبده على عشرة آلاف ريال في كل شهر ألف ريال، فبعد أن أخذ منه قسطاً أو قسطين أو ثلاثة أراد بيعه فيجوز البيع لأنه رقيق له وعبد له، وفي الصحيحين أن بريرة قالت لعائشة إني كاتبت أهلي على تسع أواقٍ في كل عام أوقية فأعينيني …. الحديث …. وفيه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (إشتريها واشترطي لهم الولاء فإنما الولاء لمن أعتق) ، والشاهد قوله إشتريها وهي مكاتبة، فدل على أن المكاتب يجوز بيعه ولكن: قال: [ومشتريه يقوم مقام مكاتبه] فالمشتري يقوم مقام المكاتب فإذا بقي سبعة أقساط فإن المكاتب يسددها له فلا يستأنف الأقساط من جديد بل يسدد ما بقي منها، وليس له أن يبطل الكتابة على الراجح، بل تبقى الكتابة ويدفع له المكاتب ما تبقى من الأنجم. قال: [فإن أدى عتق] إذا أدى المكاتب ما عليه من المال فإنه يعتق قال: [وولاؤه له] يقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: (اشتريها واشترطي لهم الولاء فإنما الولاء لمن أعتق) ، وعليه فيكون الولاء للمشتري. قال: [وإن عجز عاد قناً]

أي عاد قناً للمشتري، فإذا عجز عن الكتابة فإنه يعود قناً أي عبداً، هذا كما لو كان لسيده الأول فإنه إذا عجز عن دفع الأنجم والأقساط فإنه يعود عبداً، لأن المسلمين على شروطهم وهو إنما باعه على أن يدفع له هذه الأنجم، فإن لم يدفعها فإنه يعود قناً (عبداً) له، والمشهور في مذهب الإمام أحمد وهو مذهب جمهور الفقهاء: أن المكاتب إذا عجز عن نجمٍ واحد أي عن قسطٍ واحد فإن للسيد الفسخ، بمعنى إذا حضر وقت القسط ولم يدفع فإن للسيد الفسخ قال الحنابلة، وينظر ثلاثة أيام. قالوا: لأنه لم يف بالشرط، فهو قد باعه على أنه يعطيه في كل شهر - أو في كل سنة - أن يعطيه المسمى الفلاني، فإذا لم يفِ بذلك فإنه يكون قد خالف الشرط فلبائعه – أي لسيده – أن يفسخ عقد الكتابة، وعن الإمام أحمد: أنه لا يعجز حتى يقول قد عجزت - أي حتى يظهر عجزه ويبين، فكونه يعجز عن قسط واحد أو قسطين ولم يظهر بعد عجزه فإنه من الممكن أن يقضي ما عليه، فإنه لا يعجز أي لا يحكم بعجزه فيعود قناً. وهذا هو القول الراجح في هذه المسألة، لقوله - صلى الله عليه وسلم -: (وإلا قوم عليه واستسعي غير مشقوقٍ عليه) ، وفي كونه إن عجز عن قسط واحد حق للأخر الفسخ، هذا فيه مشقة ظاهرة عليه، ومعلوم أن تخلف المدين عن القسط والقسطين والثلاثة يقع فيه عادة فكذلك في المكاتبة. فالراجح أنه لا يعجز حتى يظهر عجزه ويبين. مسألة: قال تعالى: {وآتوهم من مال الله الذي آتاكم} أي آتوا المكاتبين من مال الله الذي آتاكم. قال الحنابلة والشافعية: في هذه الآية دليل على وجوب إيتاء المكاتب مكاتبه – أي السيد عبده – شيئاً من المال يعينه على كتابته، واختلفوا في قدره. فقال الحنابلة: الواجب ربع المكاتبة أي أن يعطيه الربع أو يتنازل عن الربع، واستدلوا بما روى البيهقي من حديث علي بن أبي طالب: "أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قرأ هذه الآية: {وآتوهم من مال الله الذي آتاكم} ثم قال ربع المكاتبة ".

والصحيح وقفه على علي ابن أبي طالب، فلا يصح رفعه. وقال الشافعية: بل يعطيه أي شئ {وآتوهم من مال الله الذي آتاكم} أي بعض مال الله الذي آتاكم وهذا يصدق على القليل والكثير فأي شئ أعطاه إياه فإن ذلك يجزئ. وقول علي المتقدم مخالف لما يروي البيهقي بسند صحيح " أن ابن عمر كاتب عبداً له على خمسة وثلاثين ألف درهم، فلما كان أخر مكاتبته وضع عنه خمسة آلاف "، وهي سُبْع مُكاتبته، فهذا الفعل من ابن عمر مخالف لقول علي. فالأرجح ما ذهب إليه الشافعية. ولكن لا ينبغي أن يقال: بأنه يصدق على الشيء القليل التافه المستحقر، فالذي ينبغي الاعتماد عليه أنه يجب عليه أن يعطيه ما ينفعه في مكاتبته كأن يعطيه السبع أو الثمن أو الربع أو أن يضع عنه نجماً أو نجمين ونحو ذلك. وأما أن يضع عنه شيئاً تافهاً مستحقراً فلا، وذلك لأن مثله لا ينفع في المكاتبة. وقال المالكية والأحناف: بل يستحب ذلك وحملوا الآية على الاستحباب. والأظهر ما ذهب إليه أهل القول الأول لظاهر الآية الكريمة. الدرس التاسع عشر بعد الثلاثمائة باب أحكام أمهات الأولاد قال: [إذا أَولد حر أمته أو أمةً له ولغيره أو أمةً لولده خُلِّق ولده حراً] أو أمة له ولغيره – أي مشترك فيها خلق حراً – أي خلق أثناء ملكه للأمة، فنشأ الحمل والأمة ملك له ليست بملك غيره، هذا هو مذهب الحنابلة، ولا دليل عليه. ولذا ذهب المالكية: إلى أن من أولد أمته فإن هذه الأمة أم ولد له سواء نشأ الولد حراً أو مملوكاً، كأن يتزوج أمةً ثم يشتريها من سيدها وقد حملت منه فإنها تكون أم ولد له، وذلك لثبوت المعنى فيها، فهي أم ولدٍ له فقد أولدت له وكون هذا الولد نشأ في حال يكون فيه مملوكاً لاحراً هذا ليس بمؤثر، فالمعنى المؤثر في هذه المسأله كون هذه الأمة قد أولدت له. إذن قوله – خلق ولده حراً – هذا القيد ضعيف، والصحيح أنها تكون أم ولد سواء كان الولد مخلوقاً حراً أم لم يكن كذلك. …قال: [حياً ولد أو ميتاً]

سواء ولد حياً أو ولد ميتاً، وفي البيهقي بإسنادٍ صحيح أن عمر رضي الله عنه قال: (أم الولد حرة وإن كان الولد سِقْطاً) . قال: [قد تبين فيه خلق الإنسان لا مضغة أو جسم بلا تخطيط] فإذا أسقطته وقد تبين فيه خلق الإنسان فإنها تكون أم ولد له. قال: [صارت أم ولدٍ له تعتق بموته من كل ماله] فإنها تعتق من كل ماله لا من ثلثه، وهذا لا خلاف فيه بين أهل العلم، فقد اتفق أهل العلم على القول به، وفي موطأ مالك بإسنادٍ صحيح: أن عمر رضي الله عنه نهى عن بيع أمهات الأولاد، قال: " لا تباع ولا تورث ولا توهب، يستمتع بها ما بدا له فإذا مات فهي حرة." …وتعتق من ماله كله لا من ثلثه، وعليه لو استغرقت المال كله فإنها تعتق بمعنى – إذا مات ولا مال له سواها فإنها تعتق عليه لأنها أم ولد فتعتق بموته. قال: [وأحكام أم الولد أحكام الأمة من وطءٍ وخدمة وإجارة ونحوها] …فأحكام أم الولد أحكام الأمة، فله أن يطأها وله أن يؤجرها ونحو ذلك من إعارة وغيرها، لقول عمر في الأثر المتقدم: (يستمتع بها ما بدا له) ، فهي أمة كسائر الإماء، والفرق بينها وبين سائر إمائه أنها تعتق بموته فإذا مات فهي حرة. قال: [لا في نقل الملك في رقبتها] …هذا فارق آخر بين أم الولد وبين سائر الإماء، فأم الولد ليس له أن يتصرف فيها بما ينقل ملكيتها عنه بوقفٍ أو هبة أو بيع أو نحو ذلك. قال: [ولا بما يراد له] …أو لا بما يراد لنقل رقبتها كالرهن ونحوه كالوصية. قال: [كوقف وبيع ورهن] …فالوقف والبيع مثال لقوله لا في نقل الملك في رقبتها، والرهن مثال لقوله ولا بما يراد له. …إذن بيع أم الولد بيع باطل لا يصح، وهذا هو مذهب جماهير العلماء واستدلوا بأثر عمر المتقدم، ويقاس عليه ما تقدم من الوقف والهبة والرهن والوصية ونحو ذلك فكلها لا تجوز كالبيع.

…وقال الظاهرية وهو مذهب طائفة من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - كعلي بن أبي طالب وابن عباس والزبير وهو اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه ابن القيم: أن بيع أمهات الأولاد جائز، وأثر علي بن أبي طالب ثابت في مصنف عبد الرزاق بإسنادٍ صحيح أنه قال: "اجتمع رأيي ورأي عمر - وهذا يدل على أن المسألة رأي عمر في أمهات الأولاد ألا يبعن -، ثم رأيت أن يبعن"، ثم قال له عبيدة: " رأيك في الجماعة أحب إلىّ من رأيك في الفرقة ". وهذا يدل على ما تقدم وأن المسألة رأيٌ من عمر، وأما أثر ابن عباس فهو ثابت في سنن سعيد بن منصور بإسنادٍ صحيح عنه، وهو كما تقدم اختيار شيخ الإسلام وتلميذه ابن القيم، واستدلوا بما روى النسائي وابن ماجة وابن حبان وهذا لفظه والإسناد صحيح عن جابر قال: (كنا نبيع سرارينا أمهات الأولاد والنبي - صلى الله عليه وسلم - حي لا يرى بذلك بأساً) وهذا القول هو القول الأرجح في هذه المسألة مع أن الأحوط ما ذهب إليه جمهور العلماء، فالأصح ما ذهب إليه علي ومن وافقه من الصحابة من أن أمهات الأولاد يجوز بيعهن، وعليه فيجوز كذلك سوى البيع من الأحكام المتقدمة لأنها مبنية على البيع متفرعة عنه. الدرس العشرون بعد الثلاثمائة كتاب النكاح وأصله الضم يقال تناكحت الأشجار أي انضم بعضها إلى بعض. النكاح في اللغة: الوطء والعقد فهو مشترك وقيل متواطئ وهو حقيقة فيهما، والقرآن الكريم لم يرد النكاح فيه إلا بمعنى العقد سوى قوله تعالى: {فلا تحل له حتى تنكح زوجاً غيره} أي حتى يطأها كما ثبت في السنة الصحيحة. قال: [وهو سنة]

…فالنكاح سنة، لمن له شهوة ولا يخاف على نفسه العنت أي الزنا، فهو سنة في مذهب جماهير العلماء، وقال الظاهرية وهو رواية عن الإمام أحمد اختارها طائفة من أصحابه كأبي بكر عبد العزيز وأبي حفص البرمكي وابن أبي موسى من أصحاب الإمام أحمد: أن النكاح لمن له شهوة وعنده قدرة مالية على ذلك فإنه واجب في حقه، واستدلوا بما ثبت في الصحيحين أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج فإنه أغض للبصر وأحصن للفرج، ومن لم يستطع فعليه بالصوم فإنه له وجاء) ، والشاهد قوله – فليتزوج – والأمر للوجوب، وهذا القول هو الأظهر لموافقته لظاهر قوله - صلى الله عليه وسلم - - فليتزوج – والجمهور حملوا الأمر الوارد في الحديث على الاستحباب، والأظهر أنه للوجوب. …وأما إذا كان غير قادر على النكاح بماله فلا يجب عليه النكاح بل يستحب، لمفهوم قوله - صلى الله عليه وسلم - - يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة – والباءة هي مؤنة النكاح من مهر وغيره، فقد أوجب الزواج على من استطاع الباءة، فدل على أن الفقير لا يجب عليه، لكن يستحب له، وقد قال تعالى: {إن يكونوا فقراء يغنيهم الله من فضله} هذا إن كان له شهوة، وأما من لا شهوة له كالعنين الذي لا يأتي النساء، أو الكبير الهرم فلا يجب النكاح ولا يستحب في حقهم، وذلك لزوال المعنى المقتضي للإيجاب والإستحباب فيكون مباحاً في حقه لكن من غير أن يترتب على هذا ضرر على المرأة، فإن طلبت الطلاق ونحوه فسيأتي الكلام عليه في بابه، ولكن هنا حيث لا ضرر على المرأة بذلك، فإن فيه مصلحة له بقيام هذه المرأة بشأنه وهي أيضاً لها مصلحة بإنفاق هذا الزوج عليها، إذن من لا شهوة له وعنده قدرة مالية فإن النكاح يباح وقد يستحب حيث كان في ذلك مصلحة ظاهرة للمرأة كأن تكون المرأة محتاجة. قال: [وفعله مع الشهوة أفضل من نوافل العبادات]

…ففعل النكاح مع الشهوة أفضل من الاشتغال بنوافل العبادات من صيام وصلاة ونحو ذلك، ذلك لما فيه من المصالح الكثيرة من تحصيل النسل وتكثير الأُمة وتحصين الفرج وغض البصر له ولزوجه، ولما فيه من القيام بشأن المرأة والإنفاق عليها وهذه المصالح تربو على نوافل العبادات. قال: [ويجب على من يخاف الزنا بتركه] …إذا كان يخاف الزنا بتركه فيجب عليه النكاح اتفاقاً وذلك لأن إعفاف نفسه وصيانتها من المحرم واجب _ وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب – في الإقناع: ولا يكتفى في الوجوب بمرة واحدة بل يكون في مجموع العمر خشية الوقوع في المحظور. قال: [ويسن نكاح واحدةٍ دينةٍ أجنبيةٍ. بكرٍ ولودٍ بلا أم]

هذا ذكر لصفات المرأة المنكوحة التي يسن أن تكون عليها، أما دليل كونها واحدة، فقوله تعالى: {فإن خفتم ألا تعدلوا فواحدة أو ما ملكت أيمانكم ذلك أدنى ألا تعولوا} ، أي أن الإكتفاء بالواحدة أقرب من ألا تعولوا من النساء فتميلوا إلى إحداهن وتجوروا بين نسائكم وهذا فعل محرم، فكان في نكاحه الواحدة دفعاً لتعرضه في الوقوع في المحرم، وقال بعض الحنابلة، وهو القول الثاني في المسألة: بل يستحب ذلك لفعل النبي - صلى الله عليه وسلم -، ولقوله تعالى: {فانكحوا ما طاب لكم من النساء مثنى وثلاث ورباع} ،أما استدلالهم بفعل النبي - صلى الله عليه وسلم - فظاهر، أما استدلالهم بالآية الكريمة ففيه نظر، وذلك لأن هذه الآية مسبوقة بقوله سبحانه: {فإن خفتم ألا تقسطوا في اليتامى فانكحوا ما طاب لكم من النساء مثنى وثلاث} ، ومعنى الآية كما فسرته أم المؤمنين عائشة في الصحيحين بما معناه: إن خفتم ألا تقسطوا في اليتامى اللآتي تحت أيديكم فتبخسوهن مهورهن فانكحوا ما طاب لكم من النساء سواهن – أي فالباب مفتوح لكم، هذا في الرجل تكون عنده اليتيمة كابنة عمه وتكون تحت ولايته فيرغبها لمالها ولجمالها فينكحها بمهرٍ أقل من مهر مثيلاتها أو ينكحها بلا مهر وهذا فيه ظلم لها، ولكن فعل النبي - صلى الله عليه وسلم -، وما يترتب على ذلك من المصالح من تكثير النسل وتمام العفة، ونحو ذلك يدل على استحبابه ما لم يترتب على ذلك مفسدة أعظم، فإذا ترتب على ذلك مفسدة أعظم فلا، فالأصح وهو القول الثاني في هذه المسألة وقد قال به بعض الحنابلة: أنه يستحب له أن يتزوج أكثر من واحدة ما لم يترتب على ذلك مفسدة أعظم لفعل النبي - صلى الله عليه وسلم -. وأما دليل كونها دينة: هو ما ثبت في الصحيحين من حديث أبي هريرة قال: قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: (تنكح المرأة لأربع لمالها ولحسبها ولجمالها ولدينها فاظفر بذات الدين تربت يداك) .

ويستحب أيضاً أن تكون جميلة، ولذا استحب الشرع أن ينظر إليها ولأنها أعف لنفسه وأحصن لفرجه وأتم لمودته. وأن تكون أجنبية أي لا تكون من بنات عمه، وذلك لأنها أنجب ولداً يقال – الغرائب أنجب وبنات العم أصبر – فالغرائب أنجب أي يتوفر في الابن صفات زائدة على صفات أهله بما يكون في صفات أخواله التي تنتقل إلى الولد. وأن تكون بكراً لقوله - صلى الله عليه وسلم - لجابر لما تزوج ثيباً – هلا بكراً تلاعبها وتلاعبك – إلا أن تكون المصلحة من نكاح الثيب أرجح. وأن تكون ولوداً لقوله - صلى الله عليه وسلم -: (تزوجوا الولود الودود فإني مكاثر بكم الأمم يوم القيامة) رواه أبو داود والنسائي، قاله لرجل قال له: إني أصبت امرأة ذات حسب ومال أو قال جمال لكنها لا تلد فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: (لا) ثم أتاه مرة أخرى فنهاه، ثم أتاه ثالثةً منها، ثم قال: (تزوجوا الولود الودود …. الحديث) هو من حديث معقل بن يسار، ونحوه في مسند الإمام أحمد وصحيح ابن حبان من حديث أنس بن مالك. ويعرف كونها ولوداً بالنظر في نسائها أي إلى أمها وأخواتها وبنات عمها ونحو ذلك. حسيبة: كما في الإقناع طيبة الأصل. روى أحمد والنسائي أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قيل له أي النساء خير فقال: (التي تسره إذا نظر وتطيعه إذا أمر ولا تخالفه في نفسها ومالها بما يكره) وهو صحيح. وأن تكون بلا أم: قالوا لأنها ربما أفسدتها أمها أي قد تثير بعض المشاكل بين الزوجين وتأمر المرأة بالمطالبة بشيء كثير قد يكون حقاً لها وقد رضيت بتركه أو يكون لاحق لها. ولكن هذا فيه نظر ظاهر، فإن هذا ليس على إطلاقه فربما كانت الأم معينةً للزوج على ابنتها مصلحة لها قائمة بشؤونها، ولو قيل – ويستحب أن تكون لها أم عاقلة صالحة لكان أولى من أن يقال بلا أم. قال: [وله نظر ما يظهر غالباً مراراً] فللخاطب أن ينظر إلى ما يظهر غالباً ممن يريد خطبتها، فيباح له أن ينظر إلى ما يدعوا إلى نكاحها.

ودليل هذا: ما ثبت في صحيح مسلم أن رجلاً قال يا رسول الله أصبت امرأةً فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: (أنظرت إليها) فقال لا فقال: (اذهب فانظر إليها) . وفي الترمذي بإسناد صحيح: (انظر إليها فإنه أحرى أن يؤدم بينكما) أي أن تدوم المودة بينكما، رواه أحمد والنسائي وبن ماجة، وفي سنن أبي داود بإسناد صحيح أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (إذا خَطب أحدكم امرأة فلينظر منها إلى ما يدعوه إلى نكاحها) ، فهذه الأحاديث تدل على أن له أن ينظر إلى ما يدعوه إلى نكاحها، والحنابلة صرحوا بالجواز كما ذكر المؤلف هنا وهو مصرح به في غير ما كتاب من كتب الحنابلة وهو الصحيح من مذهب الحنابلة. واختار ابن عقيل وصوب ذلك صاحب الإنصاف وحكي إجماعاً: استحباب ذلك، وهو ظاهر الأحاديث المتقدمة كقوله: – اذهب فانظر إليها -، فالراجح أنه يستحب له أن ينظر منها إلى ما يظهر منها غالباً من الوجه واليدين والرقبة والشعر والقدمين ونحو ذلك مما يدعوه إلى نكاحها، وينظر إليها بإذن وليها أو بغيره، بعلمه أو بغير علمه وكذلك هي بإذنها أو بغير إذنها، بعلمها أو بغير علمها وذلك لإطلاق الحديث. فلو نظر إليها على غفلة منها أو من وليها فإن ذلك جائز لكن لا يجوز له أن يفعل ذلك حتى يغلب على ظنه إجابتهم إلى نكاحها وإلا فلا يجوز له ذلك. إذن: ما يظهر منها غالباً هو الذي ينظر إليه الخاطب.

وقال الظاهريه وهو رواية عن الإمام أحمد: بل ينظر إلى كل شئ منها سوى العورة المغلظة - أي القبل والدبر -، لكن هذا فيه نظر ظاهر لأنه قد يدعوه إلى الزنا المحرم، وقال داود ينظر إليها متجردة وهي رواية عن أحمد، لكن النظر إلى الساق ونحو ذلك يقوى القول بجوازه وهو قول لبعض الحنابلة، وفي مصنف عبد الرزاق ومسند سعيد بن منصور: " أن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب لما خطب أم كلثوم بنت علي بن أبي طالب كشف عن ساقها "، فلا بأس، وأما سوى ذلك مما لا تطلع عليه النساء غالباً، فلا يظهر القول بجوازه. [مراراً] أي يكرر النظر حتى يحصل مقصوده، وقد صعّد النبي - صلى الله عليه وسلم - البصر وصوّبه (1) . قال: [بلا خلوة] فلا يجوز أن يخلو بها، وذلك لأنها أجنبية عنه والخلوة بالأجنبية محرمة، وهذا أيضاً ذريعة إلى الوقوع بما حرمه الله عز وجل فلا يجوز له أن يخلو بها. الدرس الحادي والعشرون بعد الثلاثمائة قال رحمه الله: [ويحرم التصريح بخطبة المعتدة من وفاة والمبانة دون التعريض] وهو مالا يحتمل غير النكاح، إذا توفي رجل عن زوجته أو طلقها ثلاثاً كانت بائناً، فلا يحل لأحد أن يصرح بخطبتها كأن يقول لها رجل (أريد أن أتزوجك) وكذا المختلعة والبائن بفسخ ونحوه، وأما التعريض كأَن يقول: (إني في مثلك لراغب) فإنه جائز قال تعالى {ولا جناح عليكم فيما عرضتم به من خطبة النساء أو أكننتم في أنفسكم} فلا جناح في التعريض، أما التصريح فإنه محرم. قال: [ويباحان لمن أبانها دون الثلاث]

_ (1) وذلك في حديث الواهبة نفسها وهو متفق عليه، وهو مذكور في الدرس الذي يلي هذا الدرس.

يباحان – أي التعريض والتصريح – لمن أبانها دون الثلاث كالمختلعة والبائن بفسخ ونحو ذلك، فالمبانة دون الثلاث يجوز لمن أبانها أن يخطبها تصريحاً وتعريضاً لأنه هو صاحب العدة، فلو أن امرأة طلبت الخلع من زوجها فرضي بذلك، فإذا تم الخلع فإنه يأتيها كغيره من الخطاب، ولكن الخطاب لا يجوز لهم أن يخطبوها حتى تنتهي من عدتها، وأما من اختلعت منه فله أن يخطبها قبل أن تنتهي من عدتها تصريحاً أو تعريضاً، وأما غيره فلا يحل له إلا التعريض، أما البائن بثلاث فإنها لا تحل له حتى تنكح زوجاً غيره وسيأتي ذكر هذا إن شاء الله. قوله: [كرجعية] الرجعية زوجة، فكما أن الرجل يراجع زوجته في عدتها وهو بعلها، فكذلك في البائن دون الثلاث كالرجعية. قال: [ويحرمان منها على غير زوجها] أي يحرم التصريح والتعريض من الرجعية على غير زوجها، فالمطلقة طلاقاً رجعياً لا يحل لأحد أن يخطبها تعريضاً ولا تصريحاً، وكذلك لا يحل لها أن تقبل هذه الخطبة لا تعريضاً ولا تصريحاً لأنها زوجة. قال: [والتعريض: إني في مثلك لراغب، وتجيبه: ما يرغب عنك ونحوهما] أي نحو هذه الألفاظ التي هي من باب التعريض. قال: [فإن أجاب ولي مجبَرَة أو أجابت غير المجبَرَة لمسلم حرم على غيره خطبتها] قوله لمسلم أي لو كان ذمياً فإنه يجوز، ولا يحل لمسلم أن، يخطب على خطبة أخيه، فإذا خطب مسلم امرأةً فأجابت ورضيت وهي غير مجبرة أي من النساء اللاتي لا يجبرن، أو أجاب وليها وهي ممن يجبر على النكاح، فلا يحل لأحد أن يخطبها بعد ذلك، لما ثبت في الصحيحين أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (لا يخطب أحدكم على خطبة أخيه حتى يترك الخاطب قبله أو يأذن له) . وهذا الحكم لأن خلافه يورث العداوة والبغضاء، فإنه لا يأمن أن يرد الأول وهو كفؤٌ لها لفضيلة في الثاني فيورث ذلك عداوة في قلب الأول.

كذلك إذا سكنت إليه أو ركنت إليه أو سكن إليه ولي المجبرة وركن إليه، وما بقي إلا أن يتلفظ بالقبول فقد ظهرت علامات الرضا فلا يحل أيضاً للحديث المتقدم. وأما إذا لم تسكن إليه المرأة غير المجبرة أو ولي المجبرة ولم يظهر ما يدل على الرضا فيجوز أن يخطب المسلم على خطبة أخيه، يدل على هذا ما ثبت في الصحيحين أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال لفاطمة بنت قيس: (إذا أحللت فأخبريني) فلما حللت ذكرت للنبي - صلى الله عليه وسلم - أن أبا جهم ومعاوية قد خطباني فقال: (أما أبو جهم فلا يضع العصا عن عاتقه – أي يضرب النساء – وأما معاوية فصعلوك لا مال له – أي فقير – انكحي أسامة بن زيد) ، فهنا قد خطب النبي - صلى الله عليه وسلم - لأسامة على خطبة أبي جهم ومعاوية وذلك لأنه لم يظهر سكون ولا ركون فيجوز حينئذٍ. قال: [وإن رُدَّ أو أَذن ….. جاز] إذا رُدّ الخاطب الأول أو أذن للخاطب الثاني أن يخطب جاز ذلك، وقد قال - صلى الله عليه وسلم -: (إلا أن يترك الخاطب قبله أو يأذن له) . قال: [أو جهل الحال جاز] إذا خطب زيد فلانة، ثم لم يظهر ما يدل على الرضا، ولا ما يدل على الرد وجهل الحال، أي جهل غيره ممن يريد أن يخطب هذه المرأة وجهل هل رضوا بهذا النكاح أم لا، فيجوز له أن يتقدم لخطبتها، هذا هو أحد الوجهين في مذهب الإمام أحمد، والوجه الثاني وهو اختيار الشيخ عبد الرحمن بن سعدي: أنه لا يجوز وهذا هو الراجح لظاهر الحديث المتقدم (لا يخطب أحدكم على خطبة أخيه) ، وهنا الخطبة ثابتة ولا يستثنى إلا حيث ظهر عدم الرضا أو عدم السكون والركون إليه، وهنا لم يظهر شيء من ذلك فيدخل في الحديث المتقدم. قال: [ويسن العقد يوم الجمعة] لما روى أبو يعلى عن ابن عباس من قوله: (يوم الجمعة يوم تزويج وباءة) ، لكن الحديث فيه يحي بن العلاء وهو متروك الحديث فعليه الحديث لا يحتج به. قال: [مساءً]

لقوله - صلى الله عليه وسلم -: (أمسوا بالإملاك فإنه أعظم للبركة) والحديث رواه أبو حفص العكبري كما ذكر الحنابلة. وقال الألباني في إرواء الغليل – لم أقف على إسناده -، وعليه فلا يقال باستحبابه يوم الجمعة ولا بتخصيصه في مسائها لعدم ثبوت الحديث. قال: [بخطبة ابن مسعود] وهي ثابتة في مسند أحمد والسنن الأربعة وحسن هذا الحديث الترمدي وغيره والحديث صحيح، وفيه أن ابن مسعود قال كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يعلمنا الخطبة في الحاجة: (إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا – وفي ابن ماجة (ومن سيئات أعمالنا) – من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له وأشهد ألا إله إلا الله وأشهد أن محمداً عبده ورسوله) ثم يقرأ ثلاث آيات. وفي النسائي الآية الأولى في آل عمران {ياأيها الذين أمنوا اتقوا الله حق تقاته …} الآية. والآية الثانية في سورة النساء {يا أيها الناس اتقوا ربكم ….} الآية. والثالثة في سورة الأحزاب {يا أيها الذين أمنوا اتقوا الله وقولوا قولاً سديداً. ... } الآية. فهذه هي خطبة الحاجة، وفي البيهقي أن شعبة قال لأبي إسحاق السبيعي - هذه الخطبة في النكاح وفي غيره - فقال: - في كل شيء -، فخطبة الحاجة تقال عند النكاح وعند غيره، ولكن لا تجب لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يقلها في حديث الواهبة نفسها، عندما قال - صلى الله عليه وسلم -: (اذهب فقد ملكتكها بما معك من القرآن) ، وليس فيه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - تَشهّد وهي مستحبة عند جماهير العلماء. فصل قال: [وأركانه الزوجان الخاليان من الموانع] فأركان النكاح ثلاثة: الركن الأول: أن يكون الزوجان خاليين من الموانع، كأن تكون المرأة معتدة فهذا في المرأة مانع يمنع من صحة النكاح. قال: [والإيجاب] وهذا الركن الثاني: وهو الإيجاب وهو قول ولي المرأة أو من يقوم مقامه. قال: [والقبول]

هذا هو الركن الثالث: وهو القبول وهو قول الزوج أو من يقوم مقامه، مثال ذلك إذا قال الولي: زوجتك ابنتي – فهذا هو الإيجاب – فقال الزوج: قبلت – فهذا هو القبول -، ولو هازلاً لحديث: (ثلاث جدهن جد وهزلهن جد النكاح والطلاق والرجعة) رواه أبوداود والترمذي وحسنه. قال: [ولا يصح ممن يحسن العربية بغير لفظ زوجت أو أنكحت] لا يصح من العربي، ولا ممن يحسن العربية من غير العرب أن يقولوا بغير لفظ – زوجت أو أنكحت -، فإذا قال: ملكتك ابنتي أو وهبتك أو جوزتك ابنتي أو نحو ذلك، فالنكاح لا يصح، فلا يصح إلا بلفظ أنكحت أو زوجت، قالوا لأنه هو الوارد في القرآن، قال تعالى: {زوجناكها} وقال: {ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم من النساء إلا ما قد سلف} هذا هو المشهور في مذهب الإمام أحمد. والقول الثاني في المسألة: وهو مذهب الجمهور وهو اختيار شيخ الإسلام: أنه يصح بكل لفظ دل على النكاح، وهو القول الراجح. قال شيخ الإسلام: وينعقد – أي النكاح – بما عده الناس نكاحاً بأي لغة ولفظ وفعل كان. آهـ سواء كان باللغة العربية أو باللغة الأعجمية، وسواء دل عليه الفعل أو دل عليه القول، لأن المقصود هو الدلالة على الرضا وهذا يحصل بكل قول أو فعل يدل على ذلك، وهذا في كل عقد كما تقدم في غير ما مسألة، وقد قال - صلى الله عليه وسلم - في حديث الواهبة نفسها: (اذهب فقد ملكتكها بما معك من القرآن) ، فعلى ذلك يصح النكاح بكل قول أو فعل دل عليه، فلو تكلم من يحسن العربية بغير لفظ العربية وهو قادر على أن يتكلم العربية فإن النكاح يصح، أو تكلم من يحسن الفصحى بالعامية فإن النكاح صحيح. قال: [وقبلت هذا النكاح أو تزوجتها أو تزوجت أو قبلت] هذه ألفاظ القبول قال: [ومن جهلهما لم يلزمه تعلمهما وكفاه معناهما الخاص بكل لسانٍ]

على المذهب أنه يجب على من يحسن العربية من الأعاجم أن يتلفظ بالألفاظ العربية بالنكاح، فإن كان لا يحسن العربية بل هو جاهل فيها، فهل يلزمه التعلم، قال المؤلف:– لا يلزمه التعلم –، لأن هذه الألفاظ مما لا يتعبد بلفظه، وهذا مما يدل على ضعف هذا القول، إذ لو كان ذلك واجباً لأوجبنا عليه التعلم، والصحيح ما تقدم من أن النكاح يصح بكل قول أو فعل دل عليه. قال: [فإن تقدم القبول لم يصح] مثاله إذا قال الخاطب:– زوجني فلانة، فيقول الولي:– زوجتكها -، فلا يصح النكاح، وذلك لتقدم القبول على الإيجاب، قالوا: ولا يكون قبولاً وقد تقدم على الإيجاب، وهذا هو المشهور في المذهب، وأن القبول لا يصح قبل الإيجاب، وهذا من مفردات الحنابلة، وقال جمهور العلماء، بل يصح ذلك، وهذا هو القول الراجح وذلك لظهور الرضا من الطرفين بالألفاظ الدالة على ذلك، فيحصل بذلك المقصود، فإن المقصود حاصل بهذه الألفاظ تقدم القبول أو تأخره، ولأن الرجل في قصة الواهبة نفسها قال للنبي - صلى الله عليه وسلم - - إن لم يكن لك بها حاجة فزوجنيها - ... الحديث وفيه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال له: (اذهب فقد ملكتكها بما معك من القرآن) ، فهذا إيجاب، وقد تقدم عليه القبول وهو قوله – فزوجنيها -. قال: [وإن تأخر عن الإيجاب صح ما داما في المجلس ولم يتشاغلا بما يقطعه] إذا تأخر القبول عن الإيجاب، كأن يقول الولي:– زوجتك ابنتي فلانة -، فسكت الخاطب عن القبول فتأخر القبول عن الإيجاب فإن ذلك يصح ماداما في المجلس، ولم يتشاغلا بما يقطعه كأن يتشاغلا ببيع وغيره من الأمور الخارجية، لكن لو تشاغلا بما لا يقطعه كأن يقول له:– زوجتك ابنتي – فيقول: أي بناتك فيقول:– البنت الكبرى – فيقول: كم قدر المهر؟ فيقول:– كذا – فيقول: رضيت بهذا ولا يقطعه، لكن لو تشاغلا بأمر أجنبي عن موضوع النكاح ثم قال بعد ذلك: رضيت فحينئذٍ لا يصح. قال: [وإن تفرقا قبله بطل]

مثاله: إذا قال الولي:– زوجتك ابنتي – ثم تفرقا من المجلس والخاطب لم يقل:– رضيت – ثم بعد ذلك اتصل بالهاتف أو غيره فقال:- قد رضيت -، فلا يصح لأنهما تفرقا عن المجلس، وعن الإمام أحمد أنه لا يبطل، وأنه لو تشاغلا عنه بما يقطعه أو تفرقا قبله فإنه لا يبطل، ويدل على ذلك قصة الواهبة نفسها، ففي الصحيحين عن سهل بن سعد الساعدي قال: جاءت امرأة إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقالت: يا رسول الله جئت أهب لك نفسي فنظر إليها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فصعد النظر فيها وصوبه، ثم طأطأ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رأسه، فلما رأت المرأة أنه لم يقض فيها شيئاً جلست، فقام رجل من الصحابة فقال: يا رسول الله – إن لم تكن لك بها حاجة فزوجنيها – فقال: (فهل عندك من شيء) فقال:– لا والله يارسول الله – فقال: (اذهب إلى أهلك فانظر هل تجد شيئاً) ، فذهب ثم رجع فقال:– لا والله ما وجدت شيئاً – فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (انظر ولو خاتماً من حديد) ، فذهب ثم رجع فقال:– لا والله يا رسول الله ولا خاتماً من حديد – ولكن هذا إزاري – قال سهل: ما له رداءٌ فلها نصفه فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (ما تصنع بإزارك إن لبسته لم يكن عليها منه شيء، وإن لبسته لم يكن عليك منه شيء) فجلس الرجل حتى إذا طال مجلسه قام فرآه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مولياً فأمر به فدعي فلما جاء قال: (ماذا معك من القرآن) قال:– معي سورة كذا وسورة كذا – عددها فقال: (تقرأهن عن ظهر قلبك) قال:– نعم – قال: (اذهب فقد ملكتكها بما معك من القرآن) ، فهنا قد وقع فاصل طويل عرفاً وتفرقاً في المجلس ومع ذلك لم يأمره بإعادة القبول، هذا القول هو القول الراجح مالم يكن تشاغله أو تفرقه عن المجلس دالاً على عدم رضاه. الدرس الثاني والعشرون بعد الثلاثمائة فصل قال: [وله شروط] فهذا الفصل في شرط من شروط النكاح، فللنكاح شروط لا يصح إلا مع توفرها.

قال: [أحدهما: تعيين الزوجين] فيشترط أن يُعيَّن الزوجان – الذكر والأنثى – بما يتميز به كل واحد منهما كالبيع، فكما أنه يشترط في المبيع عدم الالتباس بأن، يتميز المبيع عن غيره فكذلك في النكاح. قال: [فإن أشار الولي إلى الزوجة أو سماها أو وصفها بما تتميز به…..صح] إذا أشار الولي إلى الزوجة فقال: زوجتك هذه فقال:– زوجتك هذه – أو سماها فقال:– زوجتك فاطمة – أو وصفها بما تتميز به كأن يقول:– زوجتك ابنتي الكبرى أو الصغرى أو نحو ذلك. قال: [أو قال: زوجتك بنتي الكبرى أو الصغرى أو نحو ذلك] إذا قال – زوجتك ابنتي، وليس له إلا هي فإن الزواج يصح لعدم الالتباس، أما إذا لم يعينها تعيناً يزيل الالتباس كأن يقول: زوجتك ابنتي وله غيرها، فإن النكاح لا يصح للالتباس المتقدم. مسألة: إن عيناها في الباطن ولم يعيناها في العقد فإذا عين الولي والزوج المرأة أو المعقود عليها في الباطن، وأما في الألفاظ فلم يقع منهم تعيين – أي حال العقد – فهل يصح أم لا؟ وجهان عند الحنابلة: الوجه الأول: الصحة. الوجه الثاني: البطلان. والراجح هو صحة النكاح لعدم الالتباس، لأن اتفاقهما في الباطن يزيل الالتباس. فصل قال: [الشرط الثاني: رضاهما] أي رضا الزوجين، فيشترط الإذن، لقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: (لا تنكح الأيِّم حتى تستأمر ولا تنكح البكر حتى تستأذن) ، وقياساً على البيع فإنه يشترط فيه الرضا فكذلك في النكاح. قال: [إلا البالغ المعتوه والمجنونة والصغير والبكر ولو مكلفة، لا الثيب فإن الأب ووصيه في النكاح يزوجانهم بغير إذنهم] المعتوه: درجة لا تصل إلى الجنون.

فالبالغ المعتوه يجوز للأب أو وصيه أن ينكحه بلا إذنه، لعدم اعتبار إذنه، فإن إذنه لا فائدة منه فهو غير معتبر، وكذلك البنت المجنونة يجوز لأبيها أو لوصيه – وهو من يقوم مقام الأب بعد موته – أن ينكحاها، وكذلك يجوز للحاكم أن ينكح المعتوه أو المجنونة أو الصغير، عند الحاجة إلى النكاح، بل يجوز على الراجح لسائر الأولياء ذلك. إذن الأصل أن الصبي العاقل لا يزوجه إلا الأب أو الوصي، وكذلك البالغ المعتوه والمجنون أو المجنونة ونحو ذلك، لكن كما هو المشهور في مذهب الحنابلة يجوز للحاكم أي عند فقد الأب والوصي، يجوز للحاكم أي القاضي أن يزوجهم عند الحاجة أي عند الحاجة للوطء أو للخدمة أو نحو ذلك، كأن يكون الصبي العاقل غير البالغ يحتاج إلى الخدمة كأن يكون معوقاً فيزوجه الحاكم، وهو مختص بالحاكم، والذي يترجح أنه عام في الحاكم وفي سائر الأولياء عند الحاجة لمصلحة موليه، والصغير يجوز لأبيه أن ينكحه بلا إذنه، والصغير هو العاقل غير البالغ، هذا لا خلاف فيه بين أهل العلم. قوله: [والبكر ولو مكلفة] البكر لها ثلاث أحوال: الحالة الأولى: أن تكون البكر مكلفة أي بالغة عاقلة، فجمهور العلماء على أن للأب ووصيه من بعده أن ينكحها بلا إذنها أي أن يجبرها على النكاح. هذا هو مذهب الحنابلة والمالكية والشافعية، واستدلوا بما روى مسلم في صحيحه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (الثيب أحق بنفسها من وليها والبكر تستأمر وإذنها سكوتها) قالوا فقوله - صلى الله عليه وسلم - (الثيب أحق بنفسها من وليها) مفهومه أن غير الثيب ليست بأحق بنفسها من وليها، وعليه فإن وليها أحق بها من نفسها فله أن يجبرها.

وذهب الأحناف وهو رواية عن الإمام أحمد واختارها طائفة كثيرة من أصحابه، واختار هذا القول شيخ الإسلام وتلميذه ابن القيم والشيخ محمد بن إبراهيم والشيخ عبد الرحمن السعدي رحمهم الله جميعاً، قالوا: لا يجوز له أن يجبرها بل يشترط إذنها، واستدلوا بقول النبي - صلى الله عليه وسلم - في الحديث المتقدم: (البكر تستأمر) أي يطلب أمرها في النكاح وبقوله - صلى الله عليه وسلم -: (لا تنكح الأيم حتى تستأمر ولا تنكح البكر حتى تستأذن) قيل فكيف إذنها قال (أن تسكت) . فهذان الحديثان يدلان على وجوب استئذانها، وعليه فلا يجوز له أن يجبرها. قالوا: وأما ما استدللتم به فغايته أن يكون مفهوماً، والمنطوق مقدم على المفهوم. فإن قيل: لم قال النبي - صلى الله عليه وسلم -:- الثيب أحق بنفسها –؟ فالجواب: لأنها تصرح بلفظها، فإن الثيب تصرح بلفظها فتقول: قبلت أو رضيت، بخلاف البكر فإنها لا تصرح بلفظها حياءً. وهذا هو القول الراجح الحالة الثانية: أن تكون البكر دون تسع سنين، فقد أجمع أهل العلم على أن البكر دون التسع، يجوز للأب ووصيه من بعده – أن يجبرها على النكاح – هذا بإجماع العلماء حكاه ابن المنذر وغيره. الحالة الثالثة: البكر بنت تسع سنين، فجمهور العلماء على أن لأبيها أن يجبرها ومنهم الأحناف كما تقدم فإن الجمهور يقولون: البكر تجبر ولو كانت بالغة، فأولى من ذلك بنت تسع.

وعن الإمام أحمد وهو اختيار شيخ الإسلام واختاره أبو بكر من الحنابلة، وقال بعض الحنابلة:– هو المنصوص عن الإمام أحمد –: أنه ليس للأب أن يجبرها وأن لها إذناً معتبراً وذلك لأن إمكان الحيض منها كثير، ولأنها تتطلع إلى النكاح أكثر من دونها، ولأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (البكر تستأذن) هو عام في كل بكر فلا يخصص منه إلا مادل الإجماع على تخصيصه وهي ما دون تسع، وهذا هو القول الراجح في هذه المسألة، فعليه البكر تستأذن إلا أن تكون دون تسع فلأبيها ولوصيه من بعده أن يجبراها على النكاح بإجماع أهل العلم. أما الثيب فلا يجوز للأب ولا لوصيه ولا غيرهما أن يجبروها على النكاح، والمراد بالثيب التي قد تم لها تسع سنين، فقوله:– لا الثيب – أي الثيب التي تم لها تسع سنين، وظاهر ذلك أنها إن كانت دون تسع وهي ثيب أن له أن يجبرها وهو الصحيح في مذهب الحنابلة، وهذا القول ظاهر إذ لا فرق بين البكر والثيب إلا في أمر واحد وهو كيفية بيان الرضا، فالثيب تصرح بلفظها، والبكر يمنعها الحياء من ذلك فتصمت، وقال بعض الحنابلة، وعبر عنه صاحب الإنصاف بقوله، وقيل أنه ليس للأب أن يجبر الثيب دون تسع، وفيه نظر لما تقدم، إذ لا فرق بينهما إلا فيما تقدم من حيث أن الثيب تبين رضاها بصريح قولها، وأما البكر فإنها تصمت ويكون صماتها دليلاً على رضاها. قال: [كالسيد مع إمائه] فالسيد ينكح إماءه البالغات وغير البالغات بغير رضاهن لأنه يملك منافع بضعهن، فإنهن ملك له وهذا ظاهر. قال: [وعبده الصغير] فيجوز له أن يجبر عبده الصغير على النكاح، لأن هذا - رأى السيد - أولى من الأب، وأما العبد الكبير البالغ فلا يجوز له إجباره، لأنه يملك الطلاق وإذا كان يملك الطلاق فلا يملك إجباره على النكاح كالحر. قال [ولا يزوج باقي الأولياء صغيرة دون تسع سنين]

حتى الجد في الصحيح من قولي العلماء - وهو مذهب الحنابلة - وقالت الشافعية: بل الجد له أن يجبر البكر على النكاح لأن ولايته بسبب الولادة فأشبه الأب وحكاه صاحب الإنصاف اختياراً لشيخ الإسلام وهو روايه عن الإمام أحمد والصحيح ما ذهب إليه الحنابلة من أن الجد ليس له أن يجبر البكر _دون تسع سنين _ على النكاح وليس له _ على المذهب _ أن يجبرها بعد تسع وذلك لقوله - صلى الله عليه وسلم - فيما رواه أبو داود والنسائي (ليس للولي مع الثيب أمر واليتيمة تستأمر) ، واليتيمة: هي من ليس لها أب ولأن شفقة الجد ليست كشفقة الأب فالصحيح أن سائر الأولياء كالأخ والعم وكذالك الجد ليس لهم أن يجبروا البكر وإن كانت محلاً للإجبار كالبكر دون تسع. قال [ولا صغيرة ولا كبيرة عاقلة ولا بنت تسع سنين إلا بإذنها] لما تقدم إلا مع الحاجة - على الراجح - وعند الحنابلة أن ذلك للحاكم خاصة والراجح أنه لسائر الأولياء وعندما يحتاج موليه إلى النكاح للوطء أو للخدمة فإنه ينكحه لما في ذلك من مصلحته. قال [وهو صمات البكر] هذا هو الإذن فإذا قيل لها: خطبك فلان أترضين به؟ فسكتت، فهذا هو رضاها وقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم - (وإذنها سكوتها) . قال [ونطق الثيب] فالثيب تبيّن وتعرب عن نفسها _ كما تقدم في الحديث السابق تستأمر أي تأمر فيطلب أمرها – والثيب في المذهب هي الموطوءة من قبل في حل أو في حرمة وعليه فالمزني بها مكرهة أو غير مكرهة تدخل في هذا الحكم هذا هو المشهور في مذهب الحنابلة.

وقالت المالكية والأحناف: الموطوءة فجوراً ليست بثيب، وهذا هو الراجح واختاره ابن القيم، ويرجحه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (لاتنكح الأيم) فتفسر الثيب بالأيم، والموطوءة بالزنا ليست بأيم سواء كانت مكرهه أو غير مكرهه بل الأيم من فارقها زوجها بطلاقٍ أو فسخ أو موت وهذه الأيم قد باشرت النكاح سابقاً، وحينئذٍ فلمباشرتها السابقة يزيل هذا الحياء الذي يمنعها من التصريح به حيث خُطِبَت مرةً أخرى، ومن وطئت بالزنا ليس أمرها كذلك. فالراجح ما ذهب إليه المالكية والأحناف: أن الموطوءة بالزنا سواءً كانت مكرهة أو غير مكرهة ليست بثيب بل هي في حكم الأبكار في هذه المسألة. فالذي يتبين من الأدلة الشرعية أن الثيب هي الأيم، والأيم من فارقها زوجها بطلاق أو فسخ أو موت وإن لم يطئها، فلو عقد عليها فمات عنها قبل أن يطئها فهي في حكم الثيب، فلا يكفي صماتها بل لابدَّ أن تعرب عن نفسها فتتلفظ بما يدل على رضاها. الدرس الثالث والعشرون بعد الثلاثمائة فصل قال: [الثالث: الولي] هذا هو الشرط الثالث من شروط النكاح وهو الولي فلا يصح النكاح إلا بولي لما روى الخمسة وصححه أحمد وابن المديني والبخاري والذهبي وغيرهم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (لا نكاح إلا بولي) ، أي لا نكاح صحيح إلا بولي، ولما روى أحمد والترمذي وابن ماجة والحديث من حديث عائشة رضي الله عنها أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (أيما امرأة نكحت بغير إذن وليها فنكاحها باطل، فإذا دخل بها فلها المهر بما استحل من فرجها، فإن اشتجروا فالسلطان ولي من لا ولي له) ، هذا هو مذهب عامة أهل العلم.

وقال الأحناف وهو مذهب أبي حنيفة: بل يصح النكاح بلا ولي واستدلوا بقوله تعالى: {فلا تعضلوهن أن ينكحن أزواجهن} ، فأضاف النكاح إليهن فدل على أنه من فعلهن، وهذا القول ضعيف جداً وقد قال تعالى: {فلا تعضلوهن} فأضاف العضل إلى أوليائهن فدل على أن لهم تصرفاً في انكاحهن ثم إن السنة تبين القرآن وقد دلت السنة على شرطية الولاية في النكاح. فالصواب في هذه المسألة ما ذهب إليه عامة العلماء من شرطية الولاية في النكاح، وكما يدل عليه الأثر فإن النظر يدل عليه فإن المرأة قاصرة النظر فقد تخدع ويغرر بها بما يكون فيه استحلال لفرجها وأسر لنفسها فلا شك أن هذا مقام مهم جداً فكان الاحتياط للمرأة بأن لا تنكح إلا بولي، وذلك لقصور نظرها فقد تخدع وتغتر فيستباح فرجها وتكون أسيرة تحت من نكحها بغير ولي فاحتيط لها بأن لا يصح نكاحها إلا بولي، وهنا تخريج في مذهب الإمام أحمد رحمه الله أنه يجوز لها أن تنكح إن أذن لها وليها بالنكاح لظاهر قوله عليه الصلاة والسلام: (أيما امرأة نكحت بغير إذن وليها) ، فدل على أنه إن أذن لها فنكاحها صحيح، وهذا التخريج كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله – هذا تخريج غلط – آهـ، وذلك لدلالة السنة الصحيحة في أنه لا نكاح إلا بولي، وحينئذ فيكون قوله (بغير إذن وليها) مما يجري مجرى الغالب فيكون المراد إلا بإذن وليها مع ولايته، ولما فيه من تبذل المرأة المخالف لصيانتها فإن انكاحها لنفسها تبذل لها، والشرع يأتي بصيانتها لا تبذلها ولذا فالصحيح أنه لابد من ولي وأن إذن الولي لا يكفي حتى يكون هو المتولي للعقد. قال: [وشروطه: التكليف] فيشترط التكليف لأن غير المكلف يحتاج لمن ينظر له وهو غير البالغ، وغير العاقل يحتاج لمن ينظر له فلا ينظر لغيره، فلابد أن يكون مكلفاً أي عاقلاً بالغاً. قال: [والذكورية]

فلا تصح ولاية المرأة وإن كانت أُمّاً لقول النبي - صلى الله عليه وسلم - الذي رواه ابن ماجة وغيره وهو حديث حسن: (لا تنكح المرأة المرأة ولا تنكح المرأة نفسها) ، فالشرط الثاني هو أن يكون الولي ذكراً فالأنثى لا ولاية لها. قال: [والحرية] فيشترط أن يكون الولي حراً لأن العبد لا ولاية له على نفسه فأولى من ذلك أن تكون لا ولاية له على غيره، فإنه لا ينكح إلا بإذن سيده فأولى من ذلك أن لا ينكح غيره. قال: [والرشد] فيشترط أن، يكون الولي راشداً في العقد، قال شيخ الإسلام ابن تيمية: - الرشد في كل مقام بحسبه - آهـ، فالرشد في البيع شيء والرشد في النكاح شيء آخر وهكذا، فالرشد في النكاح: أن يكون عارفاً بالكفء وعارفاً بمصالح النكاح وإن كان غير رشيد في بيعه وشرائه ولكنه رشيد في النكاح، ولا شك أن اشتراط الرشيد في النكاح أولى من اشتراطه في البيع، فإن استحلال الفرج وما يترتب على النكاح من آثارٍ أولى من خروج شيء من ملكيته من الأشياء المالية. قال: [واتفاق الدين] الشرط الخامس: اتفاق الدين فيشتَرط أن يكون الولي وموليته متفقي في الدين إما مسلمين أو نصرانيين أو يهوديين ونحو ذلك فلا بد أن يتفقا في الدين كالإرث لأن اختلاف الدين يمنع من التوارث فكذلك يمنع من الولاية، لأن القربة سبب ولاية ويترتب عليها الإرث فاختلاف الدين أزال أثرها في التوارث فكذلك يزيل أثرها في النكاح فهو من باب القياس على التوارث، فليس لمن لا يصلي – وهو تارك للصلاة – ولاية على بناته اللاتي يصلين وذلك لاختلاف الدين، وكذا ليس لليهودي ولاية على النصرانية وهكذا. قال: [سوى ما يذكر]

كالسلطان فإنه لا يشترط أن يكون السلطان يوافق دين المرأة التي سيتولى انكاحها التي هي من رعيته، فإذا كان من رعيته امرأة ذمية فله أن ينكحها وهذا حيث ليس لها ولي ينكحها فإن وليها الأعظم وهو السلطان ينكحها أو القاضي الذي يتوب عن السلطان في ذلك ولو اختلف الدين، وكذا السيد ينكح أمته الكافرة. قال: [والعدالة] الشرط السادس: أن يكون الولي عدلاً، قالوا: ولو ظاهراً. آهـ، وهو مستور الحال فيكون في ظاهره عدلاً فلا يظهر عليه فسق باقتراف شيء ظاهر من المعاصي مع عدم ظهور التوبة، فالفاسق في الظاهر لا ولاية له وأما الذي فسقه باطن ليس بظاهر وهو مستور الحال فهو يُسر بالمعاصي ولكنه في الظاهر مستور الحال فإن ولايته صحيحة، هذا هو المشهور في مذهب الإمام أحمد وهو مذهب الشافعية. قالوا: لأنها ولاية نظر فلم يستبد بها الفاسق، فيشترط أن يكون الولي عدلاً، فإذا كان الأب فاسقاً فإنه لا ولاية له وتنتقل إلى من بعده وهكذا حتى لو وصلت إلى السلطان. وعن الإمام أحمد وهو أحد قولي الشافعي وهو مذهب الأحناف والمالكية: أن العدالة ليست بشرط في الولي في النكاح بل تصح ولاية الفاسق وهذا هو الراجح لعمومات الأدلة وعليه عمل الناس في كل عصر، وفي كل مصر من عهد السلف الصالح والعمل على هذا، ولذا قال الشيخ عبد الرحمن السعدي رحمه الله، والأدلة ترده أي القول الأول وعمل السلف يرده. آهـ وهذا اختيار شيخ الإسلام وتلميذه ابن القيم واختاره الموفق ابن قدامة من الحنابلة واختاره الشيخ محمد بن إبراهيم، والفسق في الغالب لا يؤثر في مثل هذه المسائل لما له من الشفقة على موليته، ولأنه ليس له أن يعضلها وإن عضلها فإن ولايته تبطل وكذا لو أراد إجبارها على نكاح غير الكفء فكذلك كما سيأتي تقريره وعليه فولاية الفاسق صحيحة. قال: [فلا تزوج امرأة نفسها ولا غيرها] كما تقدم في قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: (لا تنكح المرأة المرأة ولا تنكح المرأة نفسها) .

قال: [ويقدم أبو المرأة في إنكاحها] الأب هو المقدم في باب الولاية لأنه أشد شفقة وأكمل نظراً من غيره فيقدم الأب حتى على الأبناء. وعن الإمام أحمد أن الأبناء يقومون على الأب وهو مذهب الإمام مالك قالوا: لأنهم أقرب عصبة من الأب، والصحيح الأول لأن نظر الأب أكمل وشفقته أشد وهو مذهب جمهور العلماء. قال: [ثم وصيه فيه] أي ثم يقوم الوصي بعد الأب أي بعد موت الأب، فإذا أوصى الأب أن تكون ولاية بناته لفلان الأجنبي عنهم أو لأحد أولاده دون غيره أو لأحد أخواله مع وجود أبنائه ونحو ذلك فإن الولاية تكون للوصي، كالتوكيل في الحياة، فكما أن الأب لو وكل رجلاً في نكاح بناته فيصح اتفاقاً فكذلك في الوصية بعد الموت، ولأنه أقوى نظراً من غيره وغالباً لا يجعل الوصية إلا ممن يرى أن إنكاحه أصلح من إنكاح غيره. قال: [ثم جدها للأب وإن علا] ثم بعد الوصي الجد للأب، أما الجد للأم فلا لأنه ليس من العصبة بل هو من ذوي الأرحام كما تقدم في باب الفرائض. وعن الإمام احمد وهو مذهب المالكية: أن الإبن يقدم على الجد، والذي يترجح أن الجد يقدم على الإبن أيضاً لأنه أكمل نظراً ولما له من الإيلاد المشابه للأب فيه، وقد يقال في مثل هذه المسألة أنها ترجع إلى إجتهاد الحاكم أي القاضي لتعيين الأصلح منهما أي من الجد أو الإبن، وقد يقال هذا أيضاً في مسألة الإبن والأب لأنهم عللوا ذلك بقولهم أكمل نظراً وأشد شفقة، وقد يتبين للحاكم أن الإبن أشد شفقة وأكمل نظراً فتكون الولاية له، إلا أن هذا النظر في مسألة الجد أولى من الأب لأن الولاية ثابتة في الأصل للأب فلا ينتقل عنها إلا بدليل فتقديم الأب على الإبن أولى من تقديم الجد على الإبن. قال [ثم إبنها ثم بنوه وإن نزلوا ثم أخوها لأبوين ثم لأب ثم بنوهما كذلك ثم عمها لأبوين ثم لأب ثم بنوهما كذلك] ترتيب العصبات كما تقدم في الفرائض. قال [ثم أقرب عصبةٍ نسباً كالإرث]

أي ثم عم الأب ثم عم الجد وهكذا كما تقدم في الفرائض. قال [ثم المولى المنعّم] بالعتق تكون الولاية له إن لم يكن هناك عصبة فمولاها المنعم عليها بالعتق يتولى إنكاحها. قال: [ثم أقرب عصبته نسباً] أي ثم ينتقل إلى أقرب عصبة هذا المعتق نسباً. قال: [ثم ولاء] يعني المولى فالمعتق إن كان له معتق فتكون الولاية للمعتق إلا على ثبوت الولاية كما تقدم في كتاب الفرائض. قال: [ثم السلطان] ثم السلطان -وهو الإمام الأعظم ونائبه وهو القاضي لا الوالي كما نص أحمد - لقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: (فإن اشتجروا - أي الولي وموليته – فالسلطان ولي من لا مولى له) ، وقال الشيخ محمد بن إبراهيم رحمه الله: في النساء اللاتي يسلمن في بلاد كافرة وأولياؤهن كفار قال يتولى ذلك رئيس المركز الإسلامي. آهـ وهذا لما له من الولاية حيث لا سلطان، فإن تقدر وجود السلطان أو المركز الإسلامي فإنها توكل عدلاً ينكحها وقد روى البخاري معلقاً (أن عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه قال لأم حكيم بنت قارظ: أتفوضين أمركِ إلي قالت (نعم) ، قال: تزوجتك) . فهنا فوضت أمرها إليه فإذا انعدم السلطان فلها أن تفوض أمرها إلى عدل، ولكن يشكل على هذا أن السلطان موجود فقد يكون هذا برضا السلطان فإن السلطان إذا رضي أو أذن بذلك أو فوضت إلى غير هذا الأمر فإن ذلك جائز فللقاضي أن يولي عدلاً يقوم بالإنكاح. قال: [فإن عضل الأقرب]

كأن يعضلها الأب مثلاً فمنعها من نكاح الكفء فيكون هذا فسق فيه وهنا يوجب هذا نقل الولاية عنه لأنه فعل أمراً محرماً يختص بالولاية فتبين أنه ليس بأهل للولاية، فإذا أعضل الأب أو الولي الذي بعده وهكذا فإن الولاية تنتقل إلى من بعده، قال شيخ الإسلام: وإذ1 امتنع الخطاب من الخطبة لشدته فإن الولاية تنتقل عنه. آهـ، فتنتقل عنه ولما فيه من الإضرار بالمرأة وقد قال تعالى: {فلا تعضلوهن أن ينكحن أزواجهن إذا تراضوا بينهم بالمعروف} ، فإذا عضل الأقرب فتنتقل إلى الولي الأبعد وهكذا حتى تصل إلى السلطان. قال: [أولم يكن أهلاً] كأن يكون غير بالغ فتنتقل إلى الأبعد البالغ فلو كان أخوها غير بالغ ولها ابن أخ بالغ فالولاية لأبن أخيها البالغ وهكذا لعدم أهلية الولاية. قال: [أو غاب غيبة منقطعة لا تقطع إلا بكلفة ومشقة زوج الأبعد] فإذا غاب الولي غيبة منقطعة لا تقطع عرفاً إلا بكلفة ومشقة فحينئذٍ تنتقل الولاية إلى الأبعد فهو قد سافر سفراً ولا يأتي إلى هذه البلد ليقوم بولاية هذه المرأة إلا بكلفة ومشقة ومرجع هذا إلى العرف فحينئذٍ تنتقل الولاية إلى الأبعد لما في بقاء الولاية له من الإضرار بالمرأة فإذا كان في العرف يشق انتظاره لأن سفره سفر بعيد في العرف يشق معه أن يأتي لولاية المرأة أو أن يوكل فحينئذٍ تنتقل إلى الأبعد. قال: [وإن زوج الأبعد أو أجنبي من غير عذر لم يصح]

إذا زوج الأبعد كالأخ مع وجود الأب أو الأجنبي يزوج مع وجود الغريب من غير عذر وتقدمت بعض الأعذار ومن ذلك العضل ومن ذلك أن يكون غائباً غيبة منقطعة لا تقطع إلا بكلفة ومشقة، أو أن يجهل وجود الأقرب كأن يكون لها أبناء عم أباعد لا يدرى بهم فيزوجها السلطان مثلاً ولا يدرى بوجودهم إلا بعد ثبوت النكاح فحينئذٍ هذا عذر في تصحيح النكاح فيصح النكاح حينئذٍ، أما إذا زوجها الأبعد أو الأجنبي من غير عذر فلا يصح النكاح، وعن الإمام أحمد أنه موقوف على إجازة الولي كالبيع، وفيه نظر للفارق بيين النكاح والبيع بدليل أن المرأة لا يحل لها أن تنكح نفسها بإذن وليها فكذلك إذا أنكحها غيره وإن كان الولي قد أذن بذلك، فإذا استوى الوليان كأن يكون لها اخوة هم أولياؤها فأي أحد منهم أنكح صح إنكاحه لأن كلهم أولياء لها، وكذا لو كان لها أبناء عم درجتهم واحدة وهكذا. فإن أذنت لواحدٍ تعين ولم يصح نكاح غيره، والمستحب أن يقوم الأفضل ثم الأسن، فإن تشاحنوا في ذلك أقرع بينهم. فإن زوجها وليان هذا زوج وهذا زوج فالزوج الأول وهو الصحيح لما روى الخمسة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (أيما امرأة أنكحها وليان فهي للأول منها) ، فإن جهل السابق أو علم فنسي فالمشهور في مذهب الإمام أحمد أن النكاحين يفسخان جميعاً، ولهما نصف المهر يقترعان عليه. وعن الإمام أحمد رحمه الله أنه يقرع بينهما وهذا أظهر ممن خرجت قرعته فهو زوجها ولكن يجدد العقد للوطء وهذا هو الأصح لأن القرعة تفعل حيث استوت الحقوق فلا مرجح لأحدهما على الآخر فإنه يقرع بينهما فإذا أقرع بينهما فمن خرجت قرعته فهو زوجها ويجدد العقد للوطء. الدرس الرابع والعشرون بعد الثلاثمائة فصل قال: [الرابع: الشهادة] أي الشرط الرابع من شروط النكاح الشهادة. قال: [فلا يصح إلا بشاهدين عدلين ذكرين مكلفين سميعين ناطقين]

فالشهادة شرط في صحة النكاح عند جمهور العلماء واستدلوا بما روى البيهقي وغيره من حديث الحسن عن عمران بن الحصين رضي الله عنه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (لا نكاح إلا بولي وشاهدين) ، والحديث إسناده ضعيف جداً فإن فيه عبد الله بن محِّرز وهو متروك الحديث ولكنه صحيح إلى الحسن مرسلاً، فالصواب فيه الإرسال وأما الوصل فإسناده ضعيف جداً. وفي الدارقطني وغيره عن ابن عباس رضي الله عنهما مرفوعاً: (لا نكاح إلا بولي وشاهدي عدلٍ) ، ولكن سنده ضعيف مرفوعاً، ولكنه صحيح موقوفاً على ابن عباس رضي الله عنه وقد صحح وقفه الترمذي والبيهقي وغيرهما، والعمل على هذا عند أهل العلم من اصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - ومن بعدهم من التابعين كما قال ذلك الترمذي رحمه الله فهذا الحديث المرسل يشهد له عمل الصحابة رضي الله عنهم ويشهد له أيضاً الأثر الموقوف عن ابن عباس رضي الله عنهما ولا يعلم له مخالف، وهذا هو مذهب جمهور العلماء. وقال المالكية وهو مذهب ابن المنذر واختاره شيخ الإسلام ابن تيمية وهو رواية عن الإمام أحمد – أن الإشهاد لا يشترط وإنما يشترط إعلان النكاح – واستدلوا بما ثبت في المسند بإسنادٍ صحيح من حديث عبد الله بن الزبير أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (أعلنوا النكاح) والأمر للوجوب وثبت عند الخمسة إلا أبا داود بإسنادٍ جيد أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (فصل ما بين الحلال والحرام – أي النكاح والسفاح – الصوت والدف في النكاح) ، ومن حديث عائشة رضي الله عنها نحو حديث ابن الزبير (أعلنوا النكاح) وفيه: (واضربوا عليه بالغربال) ، وهو الدف ولكن إسناده ضعيف.

فإذاً: مذهب مالك أن الشرط هو إعلان النكاح، وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: لا أصل للإشهاد في الكتاب والسنة. آهـ، والذي يتبين مما تقدم أن الحديث مرسل والعمل عليه عند أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - فمن بعدهم ويعضده الأثر الموقوف عن ابن عباس رضي الله عنهما، فالذي يتبين هو شرطية الإشهاد، كما أن الراجح أيضاً هو وجوب إعلان النكاح كما هو مذهب مالك والجمهور على الاستحباب، والصحيح وجوب إعلانه وقد يقال – إن النكاح إذا أعلن فإنه يكتفي بإعلانه عن الإشهاد، فإن إعلانه يقوم مقام الإشهاد بل أعظم وقد يستدل على هذا بما روى أنس بن مالك رضي الله عنهما كما في الصحيحين أن النبي - صلى الله عليه وسلم - (اشترى جارية على سبعة أرؤس فقال الناس – ما ندري أتزوجها النبي - صلى الله عليه وسلم - أم جعلها أم ولد له، فلما ركب حجبها فعلم الناس أنه قد تزوجها) ، وليس في الحديث إشهاد.

وأجاب عنه الموفق رحمه الله، بأن هذا من خصائص النبي - صلى الله عليه وسلم -، كما أن من خصائصه: عدم الولي فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - نكح غير واحدة من نسائه بلا ولي فهو من خصائصه فكذلك في الشهادة، ومع ذلك فإن القول باشتراط إعلان النكاح فيه قوة لأن إعلان النكاح يقوم مقام الإشهاد، ولا شك أن الإحتياط هو أن يشهد على النكاح، وأن يعلن عليه. ولا يشترط في المذاهب الأربعة - إلا وجهاً ضعيفاً للشافعي وأحمد كما قال ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله - لا يشترط الإشهاد على إذن المرأة فالإشهاد المتقدم إنما هو الإشهاد على تزويج الولي، بل لو قال الولي: أذنت لي، فإن قوله يقبل ولكن إن أنكرت بعد ذلك أن تكون أذنت لوليها فالقول قولها بيمينها. ولذا: فينبغي كما قال شيخ الإسلام وغيره الإشهاد على إذن المرأة ليكون النكاح متفقاً على صحته، وليؤمن فسخه عند جحودها، فعلى ذلك يستحب الإشهاد على إذنها ولكن لا يشترط لعدم الدليل عليه. فإذن: يشترط الإشهاد ويشترط على الراجح إعلان النكاح ويضرب عليه بالدف، فظاهر كلام الإمام أحمد رحمه الله وكلام أصحابه أن ذلك على التسوية للرجال والنساء وأن الرجال يضربون بالدف كالنساء، وقال الموفق رحمه الله تعالى: هو مخصوص بالنساء. آهـ

وقوله أظهر لأن هذا غير معروف في عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - _أي أن يضرب الرجال بالدف في النكاح بل المعروف هو ضرب النساء على بالدف، فدل على أن المراد بالأحاديث المتقدمة هو ضرب النساء عليه بالدف إذ لو كان المراد ضرب الرجال عليه أيضاً لفعل ذلك في عهد النبي - صلى الله عليه وسلم -، ولكن إن سمع الرجال للدف مع كون الفتنة مأمونة كأن تكون الجواري هن اللآتي يضربن بالدف فإن ذلك جائز، ويدل عليه ما رواه الحاكم بسند صحيح عن عامر بن سعد قال: (دخلت على قرظة بن كعب وأبي مسعود الأنصاري في عرس وإذا جوار يضربن بالدف فقلت – أنتم أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - وأهل بدر يفعل هذا عندكم – فقالا: إن شئت فأقم معنا وإن شئت فاذهب فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - رخص لنا باللهو في العرس) ، فدل على جواز السماع مع أمن الفتنة. فالأظهر هو ما قاله الموفق رحمه الله وأن الضرب بالدف إنما هو للنساء خلافاً لما يفيده ظاهر نصوص الإمام أحمد وظاهر كلام أصحابه لأن هذا غير معروف في عهد النبي - صلى الله عليه وسلم -. ويشترط في الشاهدين العدالة ولو ظاهراً كما تقدم في الولي، وكذا أن يكونا ذكرين فلا تصح شهادة الأنثى ولا تصح شهادة رجل وامرأة ففي مصنف ابن أبي شيبة عن الزهري قال: مضت السنة أن شهادة المرأة لا تجوز في الحدود ولا في النكاح ولا في الطلاق. آهـ، ولأن هذا الأمر يطلع عليه الرجال وليس بمالي فلم يحتج معه إلى شهادة النساء وسيأتي في الكلام على شهادة المرأة في باب الشهادة إن شاء الله، وأن يكون مكلفين وكذا سميعين فلوا كانا أصمين فلا يصح لأنه لا يمكنه أن يشهد لأنه لم يسمع، وكذا أن يكونا غير أخرسين فإن كانا أخرسين فلا تصح شهادتهما لأنهما لا يمكنهما الأداء، وقال الشافعية في وجه بل يصح أن يكونا أخرسين وهذا هو الراجح لأنه يمكنه أن يؤدي الشهادة بالإشارة.

قال: [وليست الكفاءة وهي دينٌ ومنصب، وهو النسب والحرية شرطاً في صحته] الكفاءة ليست بشرط في صحة النكاح ودليل ذلك أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كما في الصحيحين (لما عتقت بريرة خيرها من زوجها وكان عبداً) ، فهذا التخيير من النبي - صلى الله عليه وسلم - يدل على أن ذلك ليس شرطاً في صحة النكاح وإنما هو شرط في لزومه أي في أن لا يثبت فيه الخيار فلا فسخ، فإذا تزوج الرجل امرأة ليس بكفء لها فالنكاح صحيح ولكن يثبت الخيار للمرأة ولوليها الفسخ كما خير النبي - صلى الله عليه وسلم - بريرة لما أعتقها والعبد ليس بكفء للحرة وبريرة حرة وزوجها عبد فليس كفأً لها فلم يبطل النبي - صلى الله عليه وسلم - النكاح وإنما جعل لها الخيار. فعليه ليست الكفاءة شرطاً في صحة النكاح بل هي شرط في لزومه بمعنى أن الكفاءة إن لم تثبت فالخيار ثابت واتفق أهل العلم أن الدين من الكفاءة، فالمرأة الصالحة لا تزوج الرجل الفاسق لأنه ليس بكفءٍ لها، فإذا زوجت امرأة صالحة بفاسق فلها الفسخ بالشرط الآتي ذكره، كما أن الفاجر ليس بكفء للعفيفة فإذا زوجت فلها الفسخ أو لأحد أوليائها مالم يدل دليل على الرضا منها بقولها أو فعلها أو من الولي بقوله فلا فسخ. والثاني: النسب. فالعربي كفء للعربية ولكن الأعجمي ليس بكفء للمرأة العربية. فمثلاً: رجل ليس بقبلي تزوج امرأة قبلية لا يكون كفأً لها عند جمهور العلماء من الحنابلة والشافعية والأحناف، فإذا لم تعلم أنه غير قبلي فلها ولوليها الفسخ بل لأي أحد من الأولياء ذلك ولو بعد حين في أي زمن كان فله أن يفسخ العقد. فمثلاً: امرأة تزوجها غير قبلي وهي قبلية ورضي الأولياء الحاضرون فولد بعد عشرات السنين ابن عم لها فقال: أن لا أرضى بذلك فحينئذٍ يفسخ النكاح كما سيأتي تقريره فالنسب من الكفاءة وفي البزار بسند جيد، قال سلمان الفارسي رضي الله عنه: (أنتم قد فضلكم الله علينا معشر العرب بألاننكح نساءكم ولانؤمكم) .

قال المالكية وهو مذهب البخاري واختاره ابن القيم وابن سعدي أن الكفاءة ليس منها النسب بل لو تزوج غير القبلي قبلية وهو رجل صالح فهو كفء لها: لقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: (إذا أتاكم من ترضون خلقه ودينه فأنكحوه إلا تفعلوه تكن فتنة في الأرض وفساد كبير) رواه الترمذي والحديث حسن، وقد ثبت أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال لفاطمة بنت قيس وهي عربية قال لها: (أنكحي أسامة بن زيد) وهو مولى، وفي البخاري (أن أبا حذيفة بن عتبة بن ربيعة تبنىَ سالماً وزوجه ابنة أخية هند بنت عتبة بن ربيعة وهو مولى لإمرأة من الأنصار) فسالم مولى وزوجه قرشية، وهذا الأرجح في هذه المسألة وأن مسألة النسب ليست من الكفاءة. ثالثاً: الصنعة. فصاحب الصنعة الدنيئة كالحجام والكساح ونحوهم لا يزوجون بنات أصحاب الصناعات الرفيعة فان تزوجها فلها الفسخ أو لأحد أوليائها الفسخ وهذا هو المشهور في المذهب. ومذهب مالك: أن هذا ليس من الكفاءة فقد روى أبو داود بسند جيد (أن أبا هند حجم النبي - صلى الله عليه وسلم - من اليافوخ وهو مولى فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: يا بني بياضة – وهم عرب - أنكحوا أبا هند وأنكحوا إليه) ، وهو القول الراجح في هذه المسألة. رابعاً: اليسار. فإذا تزوج قرشي نسيب في قومه امرأة ذات يسار وهو فقير معسر فإن لها ولأحد أوليائها الفسخ حتى ولو قام بنفقتها الواجبة ولكنه ما دام لا ينفق عليها النفقة المناسبة لها فليس بكفء لها، فيشترط في لزوم النكاح أن يكون الزوج ذا يسار إذا كانت المرأة ذات يسار، وعن الإمام أحمد وهو الراجح أن ذلك ليس بشرط ولكن إن أعسر في النفقة الواجبة فسيأتي الكلام عليه في مسألة قادمة إن شاء الله.

خامساً: الحرية. فالعبد ليس بكفء للحرة وهو ظاهر في قول النبي - صلى الله عليه وسلم - في الحديث المتقدم الذي فيه إثبات الخيار لبريرة لما عتقت فدل على أن العبد المملوك ليس بكفء للحرة ولو كانت سابقاً مملوكة ولكنها أعتقت فأصبحت حرة فليس العبد المملوك كفأً لها. قال: [فلو زوج الأب عفيفة بفاجر ... .، فلمن لم يرض من المرأة أو الأولياء الفسخ] هذا هو المذهب وأنه يصح تزويج العفيفة لمن عرف بالزنا، وعن الإمام أحمد رحمه الله وهو اختيار الشيخ عبد الرحمن السعدي، المنع من ذلك وهو الصحيح الذي يدل عليه كتاب الله عز وجل حيث قال تعالى: {الزاني لا ينكح إلا زانية أو مشركة والزانية لا ينكحها إلا زانٍ أو مشرك وحرم ذلك على المؤمنين} ، فمن عرف بالزنا فلا ينكح العفيفة والنكاح باطل كما أن العفيف لا ينكح الزانية كذلك لنص الآية المتقدمة. قال: [أو عربية بعجمي، فلمن لم يرض من المرأة أو الأولياء الفسخ] أي تزوجت امرأة قبلية برجل ليس بقبلي فلها الخيار، وقد أجمع أهل السنة والجماعة على أن جنس العرب أفضل من جنس العجم، ولكن هنا هل النسب من الكفاءة أم لا، كما لو تزوج بلال رضي الله عنه أو سلمان الفارسي رضي الله عنه تزوج بامرأة قرشية أو تميمية فللزوجة أو لأي أحد من الأولياء أن يفسخ النكاح، فلو رضيت المرأة والأب بهذا الرجل الصالح الذي ليس بعربي فاعترض بعض الاخوة فله الفسخ، ولو لم يكن موجوداً أثناء الزواج بل ولد بعده، هذا هو المشهور في مذهب الإمام أحمد. وقال الشافعية والمالكية: بل إذا زوج الأقرب فليس للأبعد أن يفسخ فإذا زوج الأب ورضي فليس للأخوة أن يفسخوا، ذلك لأن رضاهم غير معتبر مع وجود الأقرب فالولاية للأقرب وهو الراجح وهذا على القول بأن النسب من الكفاءة. ولكن هنا لو أن رجلاً زوج ابنته رجلاً غير صالح فاعترف بعض الاخوة على ذلك فهل يقبل هذا الاعتراض ويفسخ العقد أم لا؟

في المذهب نعم يفسخ، ومذهب المالكية والشافعية وهو الراجح: أنه ليس له حق الفسخ وذلك لأن الراضي هو الولي الأقرب والولي الأبعد ليس بمعتبر مع رضا الولي الأقرب، أما إذا كانوا في درجة واحدة كالاخوة مثلاً فجمهور العلماء على أن لكل واحدٍ منهم الفسخ، وأن رضا كل واحدٍ منهم معتبر ولأن الولاية حق مشترك لهم جميعاً. وقال الأحناف: بل إذا رضي بعضهم ولم يرض الآخرون فالعبرة بمن رضى لا بمن سخط وذلك لأنه حق لا يتجزأ كالقصاص!، والقياس على القصاص فيه نظر لأن القصاص لا يمكن تجزؤه لأنه لا يمكن إقامة القصاص على بعضه ولا ينطبق على البعض الآخر وأما هنا فيمكن الفسخ ومع ذلك فما ذهب إليه الأحناف فيه قوة، لأن هذا ولي قد زوج، وقد تقدم أن الحق لمن تقدم، فالمرأة التي لها وليان فينكحاها فإن الحق للمتقدم وهنا كذلك فإذا زوجها أحدهم من ليس بكفء فليس للأخر الفسخ وذلك لأن الحق أصبح له لتقدمه. الدرس الخامس والعشرون بعد الثلاثمائة باب المحرمات في النكاح المحرمات ضربان: الضرب الأول: محرمات على الأبد، فلا تحل له أبداً. الضرب الثاني: محرمة إلى أمد أي إلى غاية، فمتى ما زال المانع فإنها تحل له. وقد شرع المؤلف في هذا الباب بذكر المحرمات على الأبد: فقال: [تحرم أبداً الأم وكل جدة وإن علت] لقوله تعالى: {حرمت عليكم أمهاتكم} ، فتحرم الأم والجدة من الأم والجدة من الأب وإن علت، فكل أنثى لها إليك ولادة فهي أم لا تحل. قال: [والبنت وبنت الإبن وبنتاهما من حلال وحرام وإن سفلت]

البنت محرمة لقوله تعالى (وبناتكم) وهكذا بنت البنت وإن نزلت وبنت الإبن وإن نزلت والبنت هي كل أُنثى لك إليها ولادة فالبنت تحرم سواءً كانت من نكاح حلال أو من نكاح شبهة أو من الزنا المحرم فالبنت من النكاح الصحيح محرمة والبنت من النكاح الشبهة محرمة وهذا بإجماع أهل العلم وكذلك المنفية باللعان فإذا نفى من زوجته ما في بطنها أو إبنة لها فإنها لا تحل له لإحتمال أن تكون من مائه، والإحتياط في الفروج واجب. وأما التي هي من السفاح المحرم فالمشهور في مذهب الإمام أحمد: أنها تحرم عليه. وقالت الشافعية: بل تحل له واستدلوا بأنها لا تنتسب إليه ولا ترث منه فهي أجنبية عنه. والراجح هو القول الأول وذلك لأنها خلقت من مائه ولأنها بعض منه وهذا لا يترتب على حل ولا حرمه فهي بنت له فتدخل في عموم قوله (وبناتكم) وإنما لم تنسب إليه لأن السبب في كونها منه ليس سبباً شرعياً وإلا فهي بنته ومما يدل على أنها محرمة عليه قوله - صلى الله عليه وسلم - في امرأة هلال بن اُمية لما لاعنها زوجها قال (انظروه فإن جاءت به على كذا وكذا _ ووصفه - صلى الله عليه وسلم - _ فهو لشريك بن السمحاء وهو الزاني فقد قال (فهو لشريك) أي هو ابن له وهو وإن لم ينتسب له وإن لم يرث منه لكنه ابنٌ له وكذلك البنت. قال: [وكل أخت وبنتها وبنت بنتها] وكل أخت سواء كانت من أبوين وهي الأخت الشقيقة أو من أبٍ وهي الأخت لأب، أو كانت من أم وهي الأخت لأم فكلهن محرمات لقوله تعالى: {وأخواتكم} ، وكذلك بنت الأخت وبنت بنت الأخت وإن نزلت لقوله تعالى: {وبنات الأخت} . قال: [وبنت كل أخٍ وبنتها وبنت ابنه وبنتها وإن سفلت] لقوله تعالى: {وبنات الأخ} ، بنت الأخ وبنت بنت الأخ وبنت ابن الأخ كلهن محرمات. قال: [وكل عمة وخالة وإن علتا]

فالعمة الشقيقة والعمة لأب والعمة لأم، وعمة الأم وعمة الأب وعمة الجد كلهن محرمات، وهكذا الخالات، لقوله تعالى: {وعماتكم وخالاتكم} والجمع في الجمل المتقدمة في هذه الآية جمع مضاف والجمع المضاف يفيد العموم، وعليه فلا تحل له ممن يجمعه النسب وإياها إلا بنات العم وإن نزلت وبنات العمة وإن نزلن، وبنات الخالة وإن نزلت وبنات الخال وإن نزلت، والمراد بالنسب القرابة بخلاف الصهر وقد قال تعالى: {يا أيها النبي إنا أحللنا لك أزواجك اللآتي آتيت أجورهن وما ملكت يمينك مما أفاء الله عليك وبنات عمك وبنات عماتك وبنات خالك وبنات خالاتك} . قال: [والملاعنة على الملاعن] فالملاعنة تحرم على الملاعن على الأبد، ولذا قال النبي - صلى الله عليه وسلم - للملاعن (لا سبيل لك عليها) فتحرم عليها. قال: [ويحرم بالرضا ما يحرم بالنسب] تقدم ذكر المحرمات بالنسب وهن سبع، وهؤلاء المحرمات بالنسب يحرم ما يقابلهن من الرضاع، فأم الرضاع محرمة وبنت الرضاع محرمة وهكذا لما ثبت في الصحيحين عن ابن عباس أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال (يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب) . قال: [إلا أم أخته وأخت ابنه]

هذا استثناء، فأم الأخت من الرضاع لا تحرم، فإذا كان لك أخت ولها أم من الرضاع، فهذه المرأة لم ترضعك وإنما أرضعت أختك فإن هذه المرأة لا تحرم عليك وكذلك أخت ابنه من الرضاع فإذا كان له ابن ولإبنه أخت من الرضاع فللأب أن ينكح هذه المرأة وهذا الاستثناء الذي ذكره المؤلف فيه نظر من حيث الاستثناء لا من حيث الحكم أما من حيث الحكم فهو ظاهر وأما من حيث الاستثناء ففيه نظر، ولذا ذكر الزركشي وغيره أن جمهور الأصحاب من الحنابلة لم يستثنوه وذلك لأن المستثنى منه هن المحرمات بالنسب والمستثنى هنا من التحريم بالمصاهرة، فإن أم الأخت محرمه لأنها زوجة الأب فيقابلها من الرضاع أم الأخت من الرضاع وكذلك أخت ابنه فإن أخت الابن هي مقابلة للربيبة والربيبة تحريمها من باب التحريم بالمصاهرة وليس من باب التحريم بالنسب ولذا فإن الاستثناء هنا ليس بصحيح. وهل يحرم من الرضاع ما يحرم من المصاهرة؟ الجمهور أن ذلك ثابت وأنه يحرم من الرضاع ما يحرم من المصاهرة. وقوّى شيخ الإسلام خلاف هذا وهو القول الراجح وقواه ابن قيّم الجوزية لعدم الدليل على ذلك ولأن الله يقول (وأحل لكم ما وراء ذلكم) ونكتفي هنا بذكر ترجيح هذا القول ويأتي الاستدلال عليه في كتاب الرضاع بإذن الله. قال [ويحرم بالعقد زوجة أبيه وكل جد] بمجرد العقد تحرم زوجة الأب وزوجة الجد سواءً كان جداً من أم أومن أب وإن علوا لقوله تعالى (ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم من النساء إلا ما قد سلف) فزوجة الأب محرمة وكذلك زوجة الجد والأب من له عليك ولادة. قال [وزوجة ابنه وإن نزل]

فزوجة الابن محرمة وإن نزل الابن فزوجة الابن من الصلب وزوجة ابن الابن وابن البنت كلهم من المحرمات ولذا قال النبي - صلى الله عليه وسلم - في الحسن (إن ابني هذا سيد) وهو ابن بنته فكل ذكر لك عليه ولادة فهو ابن لك فحليلته محرمة عليك لقوله تعالى (وحلائل أبنائكم الذين من أصلابكم) فزوجة الابن محرمة بمجرد العقد –أي محرمة على الأب وإن علا الأب. قال: [دون بناتهن وأمهاتهن] فزوجة الابن محرمة لكن بنتها ليست محرمة على الأب، وأمها ليست محرمة – أي على الأب – فله أن يتزوج أم زوجة ابنه، أو ابنة زوجة ابنه لقوله تعالى: {وأحل لكم ما وراء ذلكم} ، فليست مما حرمه الله عز وجل. قال: [وتحرم أم زوجته وجداتها بالعقد] هذه المحرمة الثالثة من المحرمات بالصهر وهي أم الزوجة وكذلك جداتها فإنهن يحرمن بمجرد العقد وذلك لقوله تعالى: {وأمهات نسائكم} . قال: [وبنتها وبنات أولادها بالدخول] هذه المحرمة الرابعة بالصهر، وهي بنت الزوجة وبنات أولادها إذا دخل بها وهي الربيبة وهي لا تحرم إلا بالدخول، وقد اختلف أهل العلم في المراد بالدخول: فقال الحنابلة الدخول هو الوطء، وهو قول ابن عباس في تفسير قوله تعالى: {وربائبكم الآتي في حجوركم من نسائكم اللآتي دخلتم بهن} ، قال في الدخول: هو الجماع. وعن الإمام أحمد أن الدخول هو الخلوة، فإذا خلا بها فقد دخل بها، وهذا الدخول في العرف، فإن الدخول في العرف هو الخلوة، يقال دخل بالمراة أي بنى بها وإن لم يطأها. وهو مذهب أكثر الفقهاء أن الدخول هو أن يمسها بشهوة على اختلاف بينهم في تفصيل ذلك.

وأرجحها أن المراد به الوطء وهو تفسير ابن عباس ولا أعلم له مخالفاً، وقد رواه عنه ابن جرير في تفسيره واختاره، وحكي الإجماع على أن الدخول هنا لا يراد به الخلوة وهذا الإجماع يصرفنا عن تفسير الدخول بالخلوة ولكن تقدم ما روي عن الإمام أحمد في هذا الباب، ولكن مع ذلك يرجحه من جهة أخرى تفسير ابن عباس، والوطء ثابت في الوطء بالقبل بلا ريب. وهل يثبت بوطئها في الدبر أم لا؟ المشهور في المذهب أنه يثبت بوطئها بالدبر قياساً على وطئها بالقبل وقال بعض الحنابلة لا يثبت الدخول بذلك حتى يطأها بالقبل وذلك لأن الله إنما حرّم بالمباح فهو الدخول المباح وهو وطؤها في قبلها، ووطؤها في دبرها محرم والمحرم مباين أعظم المباينة للنكاح وهذا هو الراجح قال [فإن بانت الزوجة أو ماتت بعد الخلوة أبِحن] إذا بانت الزوجة أي إذا طلقها بعد الخلوة وقبل الدخول فإن ابنتها حلال له للآية المتقدمة (فإن لم تكونوا دخلتم بهن فلا جناح عليكم) وهو لم يطأها وكذلك إذا خلا بها ثم ماتت قبل أن يدخل بها فإن ابنتها تحل له وذلك للآية المتقدمة لأنه لم يدخل بها وكونها قد ماتت فإن موتها ليس في حكم الدخول بها. إذن: المحرمات بالمصاهرة أربع كلهن يحرمن بمجرد العقد إلا الربيبة أي بنت الزوجة فإنها لا تحرم إلا بالوطء. واختلف أهل العلم في قوله تعالى (وربائبكم اللاتي في حجوركم) هل هذا القيد له مفهوم أو لامفهوم له؟ فقالت: الظاهرية وهو قول علي بن أبي طالب كما في مصنف عبد الرزاق وقال الحافظ إبن كثير (إسناده ثابت قوي) وقال (هو غريب جداً) أي على علي بن أبي طالب وهو أن هذا القيد معتبر فعلى ذلك لا تحرم عليه إلا إذا كانت في حجره. وقد قال ابن كثير حدثنا شيخنا الذهبي أنه سأل الإمام تقي الدين ابن تيميه عن هذا الأثر فاستشكله وتوقف في ذلك.

القول الثاني وهو قول عامه أهل العلم: أن القيد هنا لا مفهوم له وإنما هو يجري مجرى الغالب وذلك لأن الغالب أن بنت الزوجة تكون في حجره ويدل على ذلك أن كونها في حجره ليس بمؤثر شرعاً فإن الرجل لو ربى بنتاً كأن يربي بنت عمه أو بنت خاله فإنها لا تحرم عليه. فدل هذا على قوة ما ذهب إليه جماهير أهل العلم من أن هذا القيد لا مفهوم له، وأما الأثر فضعفه ابن المنذر والطحاوي. وكذلك ما كان من نكاح شبهة، فإذا وطئ رجل امرأة في نكاح شبهة ولها بنت فإنها تحرم عليه، وهذا بالإجماع، وهل تحرم عليه بنت من زنى بها؟ قال الحنابلة: تحرم عليه قياساً على النكاح. القول الثاني في المسألة، وهو المشهور في مذهب الشافعية والمالكية أنها لا تحرم عليه واختاره شيخ الإسلام والشيخ عبد الرحمن بن سعدي وهو القول الراجح، إذ لا يصح –كما قال الشيخ عبد الرحمن – قياس السفاح بالنكاح بوجه من الوجوه، وأيضاً فإن الله عز وجل إنما حرم أم الزوجة وبنت الزوجة وزوجة الأب وزوجة الابن والمزني بها ليست بزوجة فلا تثبت لها هنا الأحكام، فإذا زنا الأب بامرأة فإنها لا تكون زوجة له فتحرم على إبنه , ومن غرائب العلم أن المشهور في مذهب الحنابلة أن اللواط تنتشر به الحرمة , وأن الرجل إذا فعل بآخر حرمت عليه أم المفعول به وابنة المفعول به وهكذا، وهذا من غرائب العلم وهو من القياس الباطل البعيد، وهذا من مفردات المذهب، وخالف في هذه المسألة أبو الخطاب من الحنابلة والموفق ابن قدامه. الدرس السادس والعشرين بعد الثلاثمائة فصل قال: [وتحرم إلى أمدٍ معتدته وأخت زوجته وبنتاهما وعمتاهما وخالتاهما]

هذا الفصل في المحرمات إلى أمد، أما حرمة الجمع بين الأختين فقوله تعالى – في سياق ذكر المحرمات – (وأن تجمعوا بين الأختين إلا ما قد سلف) وأما الدليل على النهي عن الجمع بين المرأة وعمتها والمرأة وخالتها فهو ما ثبت في الصحيحين أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال (لا يجمع بين المرأة وعمتها ولا بين المرأة وخالتها) وقوله (لا يجمع) خبر بمعنى الأمر كقوله تعالى (والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء) فيحرم الجمع بين الأختين وبين المرأة وعمتها وبين المرأة وخالتها ومن باب أولى حرمة الجمع بين المرأة وابنتها، والقاعدة في المذهب: " المنع من الجمع بين كل أنثيين بينهما نسب أو رضاع بحيث لو كانت إحداهما ذكرا لما جاز له أن ينكح الأخرى "، هذا هو الضابط في المشهور من المذهب، وعليه فلا يجوز الجمع بين المرأة وعمة أبيها والمرأة وخالة أبيها، وكذلك لا يجوز الجمع بين الأختين من الرضاع ولا بين المرأة وعمتها من الرضاعة وهكذا.

وأختار شيخ الإسلام الجمع بين الأنثيين إن كان بينهما رضاع لا نسب، فله أن يجمع بين المرأة وعمتها من الرضاعة وبين المرأة وخالتها من الرضاعة وبين الأختين من الرضاعة وذلك لأن الجمع بين الأنثيين اللتين بينهما رضاع ليس تحريمه بمنصوص عليه وليس بمعنى المنصوص عليه، فليس بمنصوص عليه ولا يقاس على المنصوص عليه للفارق في المعنى، أما كونه ليس بمنصوص عليه، فلأن الأم إذا أطلقت والأخت إذا أطلقت والعمة إذا أطلقت والخالة إذا أطلقت لا تدخل فيها أم الرضاع ولا أخت الرضاع ولا عمة الرضاع ولا خالة الرضاع بدليل أن الله قال: في كتابه الكريم {حرمت عليم أمهاتكم} ، ثم قال: {وأمهاتكم اللاتي أرضعنكم} ، وقال: {وأخواتكم} ، ثم قال: {وأخواتكم من الرضاعة} ولو كان قوله: {حرمت عليكم أمهاتكم} يدخل فيه أم الرضاع لما ذكر تحريم الأمهات من الرضاع بعد ذلك، وكذلك في الأخت فلو كان قوله: {وأخواتكم} تدخل فيه الأخوات من الرضاعة لما بين تحريمها في قوله: {وأخواتكم من الرضاعة} ، فعليه قوله: {وأن تجمعوا بن الأختين} وفي حديث (لا يجمع بين المرأة وعمتها) لا يدخل في هذه الألفاظ العمة من الرضاع ولا الخالة من الرضاع ولا الأخت من الرضاع.

وأما كونه لا يقاس على المنصوص عليه، فلأن العلة من تحريم الجمع بين الأختين وبين المرأة وعمتها وبين المرأة وخالتها ما يفضي إليه الجمع من قطيعة الرحم التي أمر الله بصلتها والشارع إذ نهى عن شئ فإنه يسد الذرائع الموصلة إليه ومن ذلك ما يقع من العداوة من الجمع بين الأختين وبين المرأة وعمتها – مما يفضي كثيراً أو غالباً إلى قطيعة الرحم، وليس بين الأختين من الرضاعة ولا بين المرأة وعمتها من الرضاعة ليس بينهما رحم. فالصحيح ما اختاره شيخ الإسلام. وهل يجوز الجمع بين الأختين، وبين المرأة وعمتها، وبين المرأة وخالتها إن كنّ إماءً في الوطء أم لا؟ أي هل يجوز أن يكون تحت ملكه أمتان يطؤهما وهما أختان أو إحداهما عمة للأخرى أو خالة للأخرى أم لا يجوز ذلك؟ أما الجمع بينهما في الملك فلا خلاف بين أهل العلم في جوازه وذلك لأن الرجل قد يمتلك الأمة للخدمة ونحوها، وأما الجمع بينهما في الوطء فمذهب الأربعة وأكثر الصحابة أن ذلك محرم وهو اختيار شيخ الإسلام، والقول الثاني: وهو: مذهب الظاهرية على جواز ذلك وهو رواية عن الإمام احمد فإنه قال: لا أقول بتحريمه لكني أنهى عنه، أي لا أقول هو حرام لكني أحث على اجتنابه واستدلوا بقوله تعالى: {أو ما ملكت أيمانكم} ، والقول الأول ارجح وذلك لأن قوله تعالى: {أو ما ملكت أيمانكم} ، إنما إتاحة جنس المملوكات وليس فيه بيان ما يحرم منهن وما يحل، والجمع بينهن في الوطء يورث ما تقدم ذكره بين الحرائر فإنه يفضي إلى قطعيه الرحم التي أمر الله بصلتها. قال [فإن طُلقَت وفرغت العدة أبحن]

إذا طلق المرأة وفرغت من عدتها فله أن ينكح أختها وله أن ينكح عمتها وله أن ينكح خالتها وذلك لأن التحريم إلى أمدٍ وليس بتحريم على الأبد. فقد زال المانع وهو الجمع وهنا لا جمع، فإذا طلق المرأة وقضت عدتها أو ماتت ثم نكح أختها أو عمتها أو خالتها فذلك جائز لزوال المانع. وقد اتفق عامة أهل العلم على جواز الجمع بين المرأة وربيبتها فالعلاقة بينهما ليست علاقة نسب وليست بعلاقة رضاع وإنما علاقة مصاهرة. فله أن يجمع بين المرأة وبين ربيبتها أي المرأة وبنت زوجها، ويدل على ذلك قوله تعالى: {وأحل لكم ما وراء ذلكم} . قال: [وإن تزوجها في عقدٍ أو عقدين معاً بطلا] إذا تزوجهما في عقدٍ، بأن قال له الولي: (زوجتك ابنتي هاتين) ، أو قال له: (زوجتك أختي هاتين) ، فهذا العقد باطل لأنه منهي عنه، ولأنه لا مزية لإحداهما على الأخرى، وحينئذٍ فالنكاح باطل في حق الاثنتين، وكذلك لو كانا في عقدين معاً كأن يقول الأب قد زوجتك بنتي، ويقول الأخ قد زوجتك أختي، فإحداهما عمة للأخرى، فالعقدان وقعا معاً، فإن العقدين يبطلان لأنه لا مزية لإحداهما على الأخرى. فإن لم يدرِ أيهما الأسبق: فإنه يجب عليه أن يفارق الاثنتين وذلك لأنه لا يدري أيهما نكاحها باطل فوجب عليه أن يفارق الاثنتين، لكن في باطن الأمر إحداهما نكاحها صحيح لأن إحداهما قد سبق نكاحها الأخرى لكنه يجهل أيهما السابق فحينئذٍ يكون الحكم كما تقدم وجوب فراق الجميع ثم يعقد عقداً جديداً على أيهما شاء، لكن في الباطن إحداهما نكاحها صحيح ولذا فيجب نصف الصداق لإحداهما، فيصطلحان على نصف الصداق، فإن أبيا الاصطلاح فحينئذٍ تكون بينهما القرعة، فمن خرجت لها القرعة فلها نصف المهر، فإن استباح فرج احداهما فلها مهر مثيلاتها بما استحل من فرجها، فإن كانت هي التي خرجت القرعة لها فيدخل نصف الصداق بالمهر كله. قال: [فإن تأخر أحدهما]

إذا تأخر عقد أحدهما بطل المتأخر، فإذا عقد على فلانة ثم على أختها، فإن الأخرى نكاحها باطل، لأن الجمع المحرم المبطل للنكاح قد حصل بعقدها. قال: [أو وقع في عدة الأخرى وهي بائنٌ أو رجعيةٌ بطل] إذا طلق المرأة ونكح أختها أو عمتها أو خالتها في عدتها فما الحكم؟ لا يخلوا هذا من حالتين: أن تكون العدة عدة الرجعيات، بمعنى تكون المرأة طلاقها رجعياً، فبإتفاق أهل العلم يبطل النكاح وذلك لأن الرجعية زوجه. أن تكون العدة عدة البائنات أي كانت المرأة مطلقة طلاقاً بائناً كأن يطلق امرأته ثلاثاً، بأن يطلقها ثم يراجعها ثم يطلقها ثم يراجعها ثم يطلقها الثالثة فحينئذٍ تكون في بينونة فطلاقها طلاق بائن، فقد اختلف أهل العلم في ذلك أي في هل يجوز أن ينكح امرأة وقد طلق أختها أو عمتها أو خالتها وهي في عدة البينونة على قولين: القول الأول: وهو المشهور في مذهب الإمام أحمد ومذهب أبي حنيفة، ما ذكره المؤلف هنا وأن النكاح باطل. وذهب الشافعية والمالكية إلى أن النكاح صحيح، وهو القول الراجح في هذه المسألة، وذلك لأنه لا سبيل له إليها ولأن العلة المتقدم ذكرها قد زالت فإن مثل هذا لا يورث عداوة ولا يفضي إلى قطيعة رحم فإن هذه المرأة قد آيست من رجوعها ولأنها ليست بزوجته فالمطلقة طلاقاً بائناً ليست بزوجته فإذا نكح عليها عمتها أو خالتها فإنه لم يجمع بين المرأتين في عصمته. قال: [وتحرم المعتدة] لا يحل نكاح المعتدة لقوله تعالى: {ولا تعزموا عقدة النكاح حتى يبلغ الكتاب أجله} . قال: [والمستبرأة من غيره] فالمستبرأة لا يجوز نكاحها لقوله - صلى الله عليه وسلم -: (لا توطأ حامل حتى تضع ولا غير ذات حملٍ حتى تستبرأ بحيضة) ، والمستبرأة هي التي يطلب براءة رحمها – أي يراد إثبات أن رحمها بريء لا حمل فيه. قال: [والزانية حتى تتوب وتنقضي عدتها]

الزانية لا يحل نكاحها في المشهور من المذهب خلافاً لمذهب الجمهور، والحجة مع ما ذهب إليه الحنابلة لقوله تعالى: {الزانية لا ينكحها إلا زانٍ أو مشرك وحرم ذلك على المؤمنين} ، وفي المسند وأبي داود والترمذي والنسائي بإسنادٍ صحيح أن مرثد بن أبي مرثد سأل النبي - صلى الله عليه وسلم - في نكاح عناق وكانت امرأة تسافح في مكة فسكت النبي - صلى الله عليه وسلم - فنزلت {الزانية لا ينكحها إلا زانٍ أو مشرك} ، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - (لا تنكحها) ، فنكاح الزانية لا يجوز حتى تتوب وتعرف توبتها في المشهور من المذهب بأن تراود فتمتنع، وأنكر هذا الموفق رحمه الله، والحق مع من أنكر هذا، وذلك لأن مراودتها منكر عظيم، ولذا قال الشيخ عبد الرحمن السعدي: فإن المراودة أعظم المنكرات وأقرب الوسائل لوقوع الفاحشة، واختار هذا الشيخ محمد بن إبراهيم واستظهره صاحب الفروع فالصحيح أنها لا تراود، ولكن توبتها تعرف بأن يظهر من أحوالها ما يدل على صدق توبتها من مكثها في بيتها وبعدها عن وسائل الفاحشة واستخبار النساء العليمات بحالها، وكذلك إنكاح الزاني باطل حتى يتوب لقوله تعالى: {والزاني لا ينكح إلا زانية أو مشركة} كما هو اختيار الشيخ عبد الرحمن السعدي. فلا يجوز نكاح الزانية حتى تتوب وتنقضي عدتها، وانقضاء عدتها إن كانت حاملاً بأن تضع حملها، وإن لم تحمل من الزنا فبأن تستبرأ بحيضة، ولا يحل للزاني إن تاب أن ينكحها في عدتها وإن كان ما يخشى من الحمل منه، وإن كان الإستبراء من مائه وذلك لأن الماءين مختلفان طيباً وخبثاً وكذلك الوطئان يختلفان حلاً وحرمة. قال: [ومطلقة ثلاثاً حتى يطأها زوجٌ غيره] لقوله تعالى: {فإن طلقها فلا تحل له من بعد حتى تنكح زوجاً غيره} ، أي حتى يطأها. قال: [والمُحرمة حتى تحل]

لما ثبت في مسلم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (لا ينكح المحرم ولا يُنكح) والنهي يقتضي الفساد، فإذا نُكحت المحرمة فالنكاح باطل. الدرس السابع والعشرون بعد الثلاثمائة قال رحمه الله: [ولا ينكح كافر مسلمة] سواءً كان هذا الكافر كتابياً أو وثنياً لقوله تعالى: {ولا تنكحوا المشركين حتى يؤمنوا} . قال: [ولا مسلم ولو عبداً كافرة إلا حرة كتابية] فلا يحل لمسلم ولو كان عبداً مملوكاً ان ينكح الكافرة لقوله تعالى: {ولا تنكحوا المشركات حتى يؤمن} ، إلا الحرائر الكتابيات العفيفات فيحل نكاحهن لقوله تعالى: {والمحصنات من الذين أتوا الكتاب من قبلكم إذا آتيتموهن أجورهن} ، وفي المذهب أن تركه أولى، أي ترك نكاح الكتابيات، واختار شيخ الإسلام كراهية ذلك وهو نص الإمام احمد وهو مذهب أكثر أهل العلم كما ذكر شيخ الإسلام، وقيده المؤلف هنا بالحرة، وذلك لأن الأمة الكتابية لا يحل نكاحها وإنما توطأ بملك اليمين وأما نكاحها فلا يحل لقوله تعالى: {ومن لم يستطع منكم طولاً أن ينكح المحصنات المؤمنات فمما ملكت أيمانكم من فتياتكم المؤمنات} ، ولأن الأمة الكتابية إن نكحت جمع بين إرقاق الولد وبين كونه مع كافرة وهي الأمة الكتابية. قال: [لا ينكح حر مسلم أمة مسلمة] فليس للمسلم أن ينكح الأمة المسلمة، فهذا أمر لا يجوز إلا بشرطين ذكرهما المؤلف: قال: [إلا أن يخاف عنت العزوبة لحاجة المتعة أو الخدمة ويعجز عن طول حرةٍ أو ثمن أمة] فالشرط الأول: أن يخاف عنت العزوبة. والثاني: أن يعجز عن طول حرة أي عن مهرها سواء كانت الحرة كتابية أو مسلمة وأن يعجز عن شراء أمة لنفسه ودليل هذين الشرطين قوله تعالى: {ومن لم يستطع منكم طولاً أن ينكح المحصنات فمن ما ملكت أيمانكم من فتياتكم المؤمنات ….. ذلك لمن خشي العنت منكم وأن تصبروا خير لكم}

فإن نكح مع عدم توفر هذين الشرطين فالنكاح باطل وإنما حرم لما في ذلك من إرقاق الولد، فإن الولد يكون رقيقاً لسيد الأمة لأنه ينكح الأمة وهي في ملك سيدها فيكون ولده ملكاً لهذا السيد. قال: [ولا ينكح عبد سيدته] وذلك لما فيه من التنافي الكبير بين كونه مملوكاً وبعلها وبين كونها سيدته وموطوءته، وفي هذا تنافي كبير كما قرر هذا ابن القيم رحمه الله، وهذا فيه قبح ظاهر في الفطرة والعقل، فتنزهت الشريعة عن إباحته، ولذا حكى ابن المنذر تحريم ذلك عن أهل العلم إجماعاً وهو قول عمر كما في سنن البيهقي. قال: [ولا سيدٌ أمته] وهذا لا خلاف فيه بين أهل العلم كما قال الموفق والعلة أن ملك اليمين أقوى من عقد النكاح فلا يحتاج إلى عقد النكاح مع ثبوت ملكه لها. قال: [وللحر نكاح أمة أبيه] لأن أمة الأب ليست بملك له وليس ثمت شبهة ملك، فهي مملوكة لأجنبي وهذا بالشرطين المتقدم ذكرهما. قال: [دون أمة ابنه] وذلك لأن أمة الابن فيها شبهة ملك، فإن الولد وماله لأبيه، فهنا شبهة ملك، وملك اليمين أقوى من عقد النكاح، وقال أبو حنيفة:- بل يجوز ذلك لأنها ليست مملوكةٍ له – والذي يتبين أن هذه المسألة راجعة إلى مسألة تقدم ذكرها وهي أنه إذا توفرت الشروط في جواز ملكية الأب لمال ولده فلا يجوز له أن ينكحها لأنه يمكنه أن يملكها وأما إذا كانت الشروط غير متوفرة كأن يكون الولد محتاجاً، فحينئذٍ ليس له أن يمتلكها وبالتالي له أن يعقد النكاح عليها. قال: [وليس للحرة نكاح عبد ولدها] فلا يجوز للحرة أن تتزوج عبد ولدها، لأن شبهة الملك ثابتة ولكن هذا فيه نظر لأن شبهة الملك إنما تثبت للأب دون الأم كما تقدم تقريره في باب سابق، ولذا قال بعض الحنابلة بجواز هذا النكاح وهو القول الأظهر. قال: [وإن اشترى أحد الزوجين أو ولده الحر أو مكاتبه الزوج الأخر أو بعضه انفسخ نكاحهما]

إذا نكح أمةً لغيره ثم اشتراها بعد ذلك فإن النكاح ينفسخ وذلك للعلة المتقدمة وهي أن ملك اليمين أقوى من عقد النكاح ومثل ذلك إذا اشتراها ولده الحر فإذا نكح أمة ثم اشتراها ولده الحر فإن النكاح ينفسخ، وكذلك لو اشتراها مكاتبه، وذلك لأن المكاتب ما يشتريه يكون ملكاً لسيده فهو قن ما بقي عليه درهم. قال: [ومن حرم وطؤها بعقد حرم بملك يمين إلا أمة كتابية] فالقاعدة أن كل من حرم وطؤها بعقد فإنه يحرم وطؤها بملك يمين، فهذه قاعدة مطردة في المذهب، ويستثنى من ذلك الأمة الكتابية فإنها لا يحل وطؤها بعقد ويحل بملك يمين، وسبب المنع من النكاح هو عدم الجمع بين إرقاق الولد وبين كونه تحت كافرة، ومن أمثلة هذه القاعدة المجوسية مثلاً لا يحل له أن ينكحها لقوله تعالى: {ولا تنكحوا المشركات} ، ولم يستثن الله إلا المحصنات من الذين أتوا الكتاب، وكذلك عابدة الوثن والملحدة لا يحل نكاحهن، فإذا كان لا يحل نكاحهن فكذلك لا يحل وطؤهن بملك يمين، فإذا وقعت المجوسية أوالوثنية سبياً فلا يحل وطؤها بملك اليمين هذا هو مذهب جماهير أهل العلم حتى حكي إجماعاً والذي رأيته من أدلتهم: القياس على الوطء في النكاح قالوا فكما لا يحل الوطء في النكاح فلا يحل الوطء في ملك اليمين.

واختار شيخ الإسلام وهو مذهب سعيد بن المسيب وعطاء بن أبي رباح وطاووس بن كيسان وعمرو بن دينار أن ذلك جائز واستدلوا بعمومات وخصوصات، أما العمومات فقوله تعالى: {أو ما ملكت أيمانكم} ، وهو عام في الكافرة الكتابية والكافرة الوثنية وأما الخصوصات: فمنها ما تقدم أبي أبو داود وغيره وهو حديث صحيح أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال في سبايا أوطاس – وهن من عبدة الأوثان – قال: (لا توطأ حامل حتى تضع، ولا غير ذات حمل حتى تحيض حيضة) ، فأجاز النبي - صلى الله عليه وسلم - للصحابة وطأهن بملك اليمين. ثانيا: أن أكثر السبي في عهد النبوة كان من الكفار الوثنين لا يحرمونهن، ولم ينقل عن النبي - صلى الله عليه وسلم - تحريم ذلك، وتأخير البيان عن وقت الحاجة لا يجوز، فكان من سبيهم سبي هوازن وسبي بني حنيفة وغيرهم، ثالثاً: أن الصحابة لما قاتلوا الفرس كان قتالهم مع الفرس كما هو معلوم بعد وفاة النبي - صلى الله عليه وسلم -، والفرس مجوس فكانت من أعظم الدول وأكثرها عدداً وقد وقعت تحت أيدي المسلمين فوقع السبي تحت أيدي الصحابة فلم ينقل أنهم كانوا يحرمونهن. وحكاية الإجماع مع مخالفة مثل سعيد بن المسيب وعطاء بن أبي رباح وطاووس وعمرو بن دينار وهم أئمة بل بعضهم أعظم قدراً في الإسلام وجلالة من الأئمة الأربعة وحكاية الإجماع مع مخالفة هؤلاء لا شك أنه باطل وهذا هو القول الراجح وهو اختيار شيخ الإسلام. قال: [ومن جمع بين محللة ومحرمة في عقد صح فيمن تحل] كأن يجمع بين نكاح بنتي عم وكانت إحداهما معتدة والأخرى غير معتدة وقد جمع بينهما في عقد واحد فإنه يصح في غير المعتدة ويبطل في المعتدة وهذا ظاهر لأن غير المعتدة محل للنكاح فلا موجب لبطلان نكاحها. قال: [ولا يصح نكاح خنثى مشكل قبل تبين أمره] لأنه يحتمل أن يكون ذكراً فلا يحل نكاحه لعدم تحقق جواز النكاح.

مسألة: إذا أيسر الرجل وقد نكح أمة فاستطاع أن ينكح حرة أو نكح حرة فهل يبطل نكاح الأمة أو لا؟ الجواب: يبطل نكاح الأمة لزوال الحاجة الداعية إليه وهذا أحد القولين في المذهب، والمذهب أن النكاح يستدام ولكن الراجح أن النكاح يبطل وذلك لزوال الحاجة الداعية لذلك. الدرس الثامن والعشرون بعد الثلاثمائة باب الشروط والعيوب في النكاح وهذا فصل في ذكر الشروط في النكاح وقد تقدم البحث في شروط النكاح، وهنا الكلام على الشروط في النكاح، والمراد بالشروط فيه، الشروط التي يشترطها أحد الزوجين على الآخر وله في ذلك غرض صحيح أي مصلحة، والمعتبر من الشروط ما كان في صلب العقد هذا هو المشهور في المذهب، وعليه فالشرط الذي يكون قبل العقد ليس بمعتبر، واختار شيخ الإسلام وهو ظاهر المذهب – كما قال رحمه الله، وهو منصوص كلام الإمام أحمد وهو ظاهر كلام متقدمي أصحابه وهو قول محققي المتأخرين منهم " أن الشرط قبل العقد معتبر ولازم، وهو القول الراجح لعموم الأدلة، فإن عموم الأدلة الدالة على وجوب الوفاء بالعقد كقوله تعالى: {اوفوا بالعقود} ، تتناول ما قبل العقد كما تتناول ما يكون في صلبه، وتقدم نظير هذه المسألة في كتاب البيوع، ولذا فإن هذه قاعدة في كل العقود وأن الشروط معتبرة فيها سواء كانت في صلب العقد أو كانت قبله، والشروط في النكاح منها ما هو شرط صحيح لازم ومنها ما هو شرط فاسد، والشرط الفاسد نوعان: الأول: شرط فاسد باطل مبطل للنكاح. الثاني: شرط فاسد غير مبطل للنكاح. والمذهب لا يجب الوفاء بالشرط وإنما يسن ولها الفسخ واختار شيخ الإسلام الوجوب وهو أصح. وقد شرع المؤلف هنا في ذكر أمثلة للشروط الصحيحة فقال: [إذا شرطت طلاق ضرتها أو أن لا يتسرى أو أن لا يتزوج عليها يخرجها من دارها أو بلدها أو شرطت نقداً معيناً أو زيادةً في مهرها صح]

فهذه شروط صحيحة، قال الحنابلة الشرط في الشروط ألا تخالف مقتضى العقد. وتقدم كلام شيخ الإسلام هذا وأن الراجح أن الشروط صحيحة ما لم تخالف الشرع، وأن الأصل في الشروط الجواز ما لم تخالف الشرع فتحل ما حرم الله أو تحرم ما أحل الله، تقدم الكلام على هذه القاعدة في كتاب البيوع. وهنا كذلك فالشرط الصحيح في النكاح ما لا يخالف كتاب الله عز وجل، ودليل ثبوت هذه الشروط ولزومها ما ثبت في الصحيحين من حديث عقبة بن عامر أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (إن أحق الشروط أن يوفى به ما استحللتم به الفروج) ، فدل هذا على أن الشروط في النكاح آكد من الشروط في غيره من العقود. فإن قيل أليس في هذا تحريم ما أحل الله حيث اشترطت ألا يتزوج عليها وألا يتسرى ونحو ذلك؟ فالجواب: أنه ليس فيه تحريم ما أحله الله بل غايته ثبوت حق الفسخ لها بمعنى إن لم يوف بهذه الشروط فلها حق الفسخ ولذا قال المؤلف: [فإن خالفه فلها الفسخ]

فإن خالف الشرط فلها حق الفسخ، وحق الخيار في الفسخ ثابت لها على التراضي ما لم يدل دليل على رضاها بالزوج بعد مخالفته للشرط، فإن دل دليل قولي كأن تقول رضيت بذلك أو فعلي بأن تمكنه من نفسها بأن يطأها مع علمها بمخالفته للشرط فحينئذٍ لا حق لها في الفسخ لرضاها به، ويقبل قولها بيمينها إذا نفت علمها بمخالفته للشرط، فإذا نفت العلم فقالت: أنا مكنته من نفسي وأنا لا أعلم بمخالفته للشرط فيقبل قولها لأن هذا مختص بها وهو أمر خفي، هذا هو القسم الأول من الشرط في النكاح وهو شرط صحيح لازم وهو ما لا يخالف شرع الله، لكن لو شرط عليها ألا تنكح بعده أو شرطت عليه ألا ينكح بعدها فهذا شرط باطل ولا مصلحة لأحدهما فيه لأنه يكون بعد الفراق أو بعد الموت، واختار شيخ الإسلام أن المرأة إذا شرطت على زوجها شرطاً وقالت أنا أحق بنفسي إن خالفت ويكون الطلاق بيدها، فهذا شرط صحيح ولها أن تطلق نفسها لأن هذا يكون من باب التوكيل وسيأتي الكلام على توكيل الزوجة في الطلاق. وهل يجب الوفاء بالشرط إذا كان بعد العقد؟ إذا قال بعد العقد لكي عليّ ألا أنكح فإن نكحت فلكي حق الفسخ، فهل يعتبر هذا الشرط أم لا؟ المشهور في المذهب أنه لا يلزم وذلك لفوات محله فإن محله في صلب العقد. وقال ابن رجب يتوجه صحة الشرط، وما قاله قوي لوجوب الوفاء بالعقود ووجوب الوفاء بالعهود فهذا عهد فيجب عليه الوفاء به، فالأظهر وجوب الوفاء به لأن الله أمر بالوفاء بالعهد، وهذا عهد فيجب عليه أن يوفي به. قال: [وإذا زوجه وليته على أن يزوجه الآخر وليته ففعلا ولا مهر بطل النكاحان]

إذا زوجه وليته بشرط أن يزوجه الآخر وليته فجعلوا بضع هذه مهراً لهذه وبضع الأخرى مهراً للأخرى فهذا لا يجوز وهو نكاح الشغار الذي نهى عنه النبي - صلى الله عليه وسلم -، ففي الصحيحين من حديث ابن عمر أن النبي - صلى الله عليه وسلم - " نهى عن نكاح الشغار "، ونحوه في مسلم من حديث أبي هريرة فإذا زوج أحداهما وليته الأخر مشارطة بلا مهر فالنكاح باطل وهو نكاح الشغار الذي نهى عنه النبي - صلى الله عليه وسلم -، والنهي يقتضي الفساد والشغار في الأصل هو الخلو، وسمي نكاح الشغار بهذا الاسم لخلوه من الصداق. قال: [فإن سمي لهما مهر صح] إذا سمي للمرأتين مهر صح والمراد بالمهر هنا المهر المستقل الذي لا يكون قليلاً ولا حيلة، هذا هو المشهور في المذهب وقال بعض الحنابلة يشترط أن يكون مهر المثل وهذا ظاهر درءً للحيلة، فإذا سمى كل واحدٍ منهما لمنكوحته مهراً فالنكاح صحيح في المشهور من مذهب أحمد والشافعي.

قال نافع كما في الصحيحين وهو راوي حديث ابن عمر: " والشغار أن يزوج الرجل ابنته على أن يزوجه الأخر ابنته ولا صداق بينهما "، فهذا تفسير من نافع ولا يصح رفعه إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - وليس أيضاً من قول ابن عمر ولكنه تعريف صحيح للشغار، ولأنهما إذا سميا مهر المثل فلا محذور في مثل هذا النكاح إلا ما يكون من مسألة الرضا فيمن من يشترط رضاها، وقال الخرقي في مختصره: " لا يصح وإن كان بينهما صداق وهو رواية عن الإمام أحمد " ويستدل لهذا القول بما روى أبو داود في سننه وهو من حديث محمد بن اسحاق لكنه صرح بالتحديث: أن العباس بن عبد الله بن العباس أنكح عبد الرحمن بن الحكم ابنته، وانكحه عبد الرحمن بن الحكم ابنته وكانا جعلا صداقاً، فكتب معاوية إلى مروان بن الحكم – وكان واليه بالمدينة – بأن يفرق بينهما وقال في كتابه " لهذا الشغار الذي نهى النبي - صلى الله عليه وسلم - عنه"، فهذا الحديث قد يستدل به على أن هاذين الرجلين قد سميا صداقاً، وقد سماه معاوية رضي الله عنه شغاراً، وفسر صاحب عون المعبود قوله " وكانا جعلا صداقاً " بأن المفعول الأول لجعل محذوف والتقدير " وكانا جعلا إنكاح كل واحدٍ منهما الأخر ابنته صداقاً "، وهذا هو الظاهر في تفسير الحديث لأن الكلام الأول ليس فيه ذكر المشارطة وإنما فيه أن هذا أنكح ابنته هذا، وهذا أنكح ابنته هذا، وليس فيه ذكر المشارطة وإنما المشارطة مذكورة في قوله " وكانا جعلا صداقاً "، ويدل عليه ما تقدم من أن مثل هذا مع ثبوت رضا من يشترط رضاها وثبوت مهر مثلها لا محذور فيه مطلقاً، فالقول الراجح هو جواز ذلك، وهو اختيار شيخ الإسلام. قال: [أو تزوجها بشرط أنه متى حللها للأول طلقها] هذا هو نكاح التحليل وهو من كبائر الذنوب فقد قال - صلى الله عليه وسلم - فيما رواه أحمد والنسائي والترمذي وصححه وهو كما قال من حديث ابن مسعود (لعن الله المحلل والمحلل له) .

المحلِّل: هو الزوج الثاني في الظاهر. المحلَّل له: فهو الزوج الأول. وهو نكاح باطل، لأن النهي يقتضي البطلان قال [أو نواه بلا شرط] إذا نوى التحليل من غير شرط، فلم يشرط أو يُشترط عليه أنه متى ما نكحها ووطأها أنها تطلق عليه، فهذا محرم والنكاح باطل لقوله - صلى الله عليه وسلم - (إ نما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى) ، ولما ثبت في مستدرك الحاكم بإسناد صحيح أن رجلاً سأل ابن عمر عن رجل طلق امرأته ثلاثاً فتزوجها أخ له من غير مؤامرة " أي من غير تواطؤ " ليحلها له فهل تحل له فقال (لا إلا نكاح رغبة، لقد كنّا نعد هذا على عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - سفاحاً) . قال [أو قال: زوجتك إذا جاء رأس الشهر أو إن رضيت أمها] هذا من باب الشروط المستقبلة، والشرط ثلاثة أنواع: شرط حاضر: كأن يقول " زوجتكها إن شئت " فيقول الآخر " شئت " والمذهب أن هذا الشرط صحيح شرط ماضي: كأن يقول " زوجتكها إن كانت بنتي" وهي بنته في المضي وهو شرط صحيح في المذهب. شرط مستقبل: كأن يقول " زوجتكها إن جاء زيد أو إن رضيت أمها، فهذا شرط باطل في المذهب، قالوا لأن وقف النكاح على شرط لا يصح، وهذا فيه وقف للنكاح على شرط. واختار شيخ الإسلام وهو رواية عن الإمام أحمد وقوّى هذا القول ابن رجب واختاره صاحب الفائق من الحنابلة وهو القول الراجح في هذه المسألة أن هذه الشروط صحيحة، ولا دليل على المنع من وقف النكاح على شرط ولا محذور في مثل هذا، والأصل في الشروط الصحة ولا دليل يدل على بطلان هذا الشرط. قال [أو إذا جاء غد فطلقها أو وقّته بمدّة بطل الكل]

هذا هو نكاح المتعة، وهو النكاح مع تحديد أجل له، وهو ممنوع منه شرعاً، ففي الصحيحين عن علي بن أبي طالب قال (نهى النبي - صلى الله عليه وسلم - عن نكاح المتعة عام خيبر) وفي صحيح مسلم عن سلمة بن الأكوع قال: (رخص النبي - صلى الله عليه وسلم - في نكاح المتعة عام أوطاس ثلاثة أيام ثم نهى عنه) وعام خيبر قبل عام أوطاس، وعليه فيكون نكاح المتعة قد نهى عنه أولاً ثم أبيح ثلاثة أيام ثم نهى عنه، وليس له نظير في هذا، وفي صحيح مسلم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال - من حديث الربيع بن سبرة (إني كنت قد أذنت لكم في الاستمتاع بالنساء وإن الله قد حرّم ذلك إلى يوم القيامة فمن كان عنده شئ منهن فليخل سبيلها ولا تأخذوا مما آتيتموهن شيئاً) ، فعلى ذلك نكاح المتعة محرم وهو النكاح إلى أجل أي ينفق هو ووليها على أن ينكحها شهراً أو أسبوعاً بأجرة مسماه هذا محرم باتفاق أهل العلم. وهل يحل ما يسمى بالنكاح بنية الطلاق؟ وهو أن ينكحها بنية طلاقها المشهور في مذهب الإمام أحمد وهو قول الأوزاعي تحريم ذلك وبطلانه. وذهب جمهور أهل العلم إلى الجواز.

وقال شيخ الإسلام: وهو مكروه، ثم قال في موضع آخر:" والكراهية تتردد بين كراهية التحريم وكراهية التنزيه " وليعلم أن النكاح بنية أنها إن أعجبته ورغب فيها وإلا طلقها هذا بابه باب آخر، فقد اتفق أهل العلم على إباحته فهو موجب النكاح والآخر ينافيه لقصده والفارق بينه وبين المسألة السابقة ظاهر التوقيت فإنه هنا ينوي الاستدامة إلا ألا يرغب فيها، وهذه نية أكثر من ينكح النساء، وأما المسألة السابقة فإنه ينوي طلاقها وهو عازم عليه فهو لا ينوي استدامتها وإن كان قد لا يطلقها، وهذا – كما قال شيخ الإسلام – مكروه، والكراهية تتردد بين كراهية التنزيه وكراهية التحريم، والجمهور على الجواز قياساً على ما إذا نوى أنها إن وافقته وإلا طلقها، ولكن هذا قياس مع الفارق كما تقدم، والذي يقوى عندي ما ذهب إليه أهل القول الأول، وذلك لأن الأصل الأبضاع التحريم. فلا تحل إلا بنكاح شرعي صحيح تتوفر فيه شروط النكاح كما يتوفر فيه معنى النكاح، وهذا لا يتوفر فيه معنى النكاح فإن النكاح يقصد للمودة والسكنى كما دل على ذلك كتاب الله وسنة نبيه - صلى الله عليه وسلم - وأما هذا فإنها كالمستأجرة، قالوا: وأيضاً قياساً على نية التحليل، فإذا نوى التحليل فإن ذلك محرم وهو نكاح باطل وإنما الأعمال بالنيات وكذلك هنا وهذا قياس صحيح وإن كان بينهما فارق في الشدة فإن النكاح بنية التحليل أشد من النكاح بنية الطلاق، وذلك لأن النكاح بنية التحليل نكاح لمن لا يريدها لنفسه، فهو لا يريدها لشئ إلا بان يحللها لغيره، وأما الآخر فله نية في الاستمتاع بها. ومع ذلك فإن القياس لا ينتفي لأن هذا الفارق غير مؤثر وإنما هو فارق في الشدة، وعلى ذلك الأقوى ما ذهب إليه الحنابلة. مسألة: إذا تزوجت المرأة بنية التحليل؟ أي تزوجت لكي يطلقها هذا الزوج ثم ترجع إلى زوجها، فهل هذه النية تبطل النكاح أم لا؟

1) القول الأول: أن النكاح صحيح وهو المذهب، وذلك لأن المرأة لا يفوض إليها الطلاق، فليس الأمر بيدها بخلاف الزوج فإن الأمر بيده ولذا لعن النبي - صلى الله عليه وسلم - المحلِّل والمحلِّل له، ولم يذكر المرأة لأنه ليس بيدها شئ، وهناك قول في المذهب: أن النكاح صحيح في الظاهر باطل في الباطن وعليه فإنه تسعى ولو بالمخالفة لمفارقته لأنه باطل في الباطن، لأن المرأة أحد طرفي العقد، والذي يتبين هو القول الأول لأنها ليس بيدها. الدرس التاسع والعشرون بعد الثلاثمائة فصل هذا الفصل في النوع الثاني من القسم الثاني من الشروط الفاسدة فقد تقدم أن الشروط الفاسدة نوعان: 1) شروط فاسدة تبطل النكاح. 2) وشروط فاسدة لا تبطل النكاح فالنكاح يصح والشرط يفسد. قال: [وإن شرط أن لا مهر لها] فإذا شرط ألا مهر لها فإن النكاح يصح والشرط يفسد وعليه، فيجب لها مهر المثل، واختار شيخ الإسلام وهو مذهب مالك، وقال شيخ الإسلام وهو مذهب أكثر السلف أن النكاح يفسد، فالعقد يفسد، وذلك لأن العقد الذي لا مهر فيه عقد فاسد كنكاح الشغار، فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - قد أبطل نكاح الشغار لأنه لا صداق فيه، ولم يصححه النبي - صلى الله عليه وسلم - وأوجب مهر المثل، وهذا القول الراجح وأن النكاح لا يصح إلا بمهرٍ. قال: [أو لا نفقة أو أن يقسم لها أقل من ضرتها أو أكثر]

ونحو ذلك من الشروط فإن النكاح يصح والشرط يفسد أما كون النكاح يصح فلأن الشرط يرجع إلى معنى زائد لا يضر الجهل به، ولا يشترط في العقد ذكر النفقة إثباتاً ولا عدلاً، وكذلك القسم بين الزوجات لا يشترط إثباتاً ولا عدلاً، فلم يرجع هذا الشرط الفاسد إلى العقد وإنما رجع إلى معنى زائد فكان النكاح صحيحاً، وأما كون الشرط فاسداً فلأنه يخالف مقتضى العقد فعليه تجب لها النفقة وتجب لها القسمة الشرعية. واختار شيخ الإسلام أن هذه الشروط صحيحة معتبرة وهذا كالشروط التي تقدم أنها تصح من المرأة، فإن هذا ليس فيه مخالفة لشرع الله تعالى بل فيه أنها إن شاءت قبلت هذا الشرط وإلا فإنه لا ينكحها، وعلى ذلك هذه الشروط صحيحة والنكاح صحيح، لأنها لا تخالف الشرع، والأصل في الشروط الوفاء. قال: [أو شرط فيه خياراً] إذا شرط فيه خياراً فلا يصح، كأن يقول – زوجتك ولي الخيار ثلاثة أيام – أو نحو ذلك، فلا يصح في المشهور من المذهب، وذلك لأن مقتضى عقد النكاح التنجيز والخيار يخالف التنجيز فيكون مخالفاً لمقتضى العقد، وفي المسألة ثلاثة أقوال – كما قال ذلك شيخ الإسلام – وهي روايات عن الإمام أحمد: القول الأول: وهو ما ذكره المؤلف هنا، وهو أن الخيار فاسد والنكاح صحيح، وذلك لأن هذا الشرط يخالف مقتضى العقد، وهو معنى زائد على العقد فلم يبطل به العقد. القول الثاني: أن النكاح يبطل. القول الثالث: أن النكاح يصح والخيار يثبت، واختاره شيخ الإسلام، وذلك للقاعدة المتقدمة وهي أن الأصل في الشروط الوفاء، وله غرض صحيح في الخيار، فإن الخيار لا يشترطه إلا من له في ذلك غرض صحيح وهو شرط فيه مصلحة. وأرجح هذه الأقوال أن النكاح يصح وأن الخيار يثبت وهذا أيضاً لا يخالف الشرع فليس فيه تحليل ما حرم الله ولا تحريم ما أحل الله، ومثل هذا قوله: [أو إن جاء بالمهر في وقت كذا وإلا فلا نكاح بينهما]

أي إن جاء بالمهر المقدم في وقت كذا وإلا فلا نكاح بينهما فهذا شرط صحيح - على الراجح – لما تقدم لأن الشروط يوفى بها، ولا يخالف هذا شرع الله وكونه يخالف مقتضى مطلق العقد فلا يعني أن يكون مخالفاً لشرع الله، وأما المذهب فإنهم يرون بطلان هذا الشرط. قال: [بطل الشرط وصح النكاح] ففي المسائل المتقدمة كلها يبطل الشرط على المذهب ويصح النكاح فيبطل الشرط لمخالفته لمقتضى العقد ويصح النكاح لأنه يرجع إلى معنى زائد عن العقد. قال: [وإن شرطها مسلمة فبانت كتابية، أو شرطها بكراً أو جميلة أو نسيبة أو نفي عيب لا ينفسخ به النكاح فبانت بخلافه فله الفسخ] أو نفي عيب لا ينفسخ به النكاح، هناك من العيوب ما ينفسخ به النكاح وسيأتي الكلام عليه، وهناك من العيوب ما لا ينفسخ بها النكاح، فإذا شرط أن تكون جميلة أو نسيبة أو نفي عيب لا ينفسخ به النكاح فبانت بخلافه فله الفسخ، وذلك لأن هذا الشرط له فيه غرض صحيح، وقد شرطه فوجب له الوفاء حيث شرط، وهنا خولف شرطه وعليه فله الفسخ، فإن كان لم يدخل بهذه المرأة فلا مهر عليه وإن كان بعد دخوله بالمرأة فلها المهر بما استحل من فرجها، ويرجع على من غره بها سواءً كان الولي أو غيره قال [وإن عتقت تحت حر فلا خيار لها بل تحت عبد] إذا عتقت الأمة فلا تخلوا من حالتين: الحالة الأولى: أن تعتق تحت عبد فتكون حرةٌ ويكون – لو أمضينا هذا الزواج – زوجها عبداً فهنا لها الخيار بإجماع أهل العلم بدليل ما ثبت في الصحيحين أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما عتقت بريرة خيرها بين بقائها عند زوجها وبين فسخ النكاح وكان زوجها عبداً – كما ثبت هذا في صحيح مسلم من حديث عروة عن عائشة، ومن حديث القاسم عن عائشة في سنن النسائي.

وأما ما رواه النسائي من حديث الأسود عن عائشة أنه كان حراً فالرجح أنه عبدٌ لأن عروة والقاسم أقرب إلى أم المؤمنين عائشة من الأسود بن يزيد فروايتهما ترجح على رواية الأسود لأنهما أقرب ولأنهما أكثر وأيضاً لما ثبت في البخاري عن ابن عباس قال: " كان زوج بريرة عبداً أسود لبني المغيرة يقال له مغيث. الحالة الثانية: أن تعتق تحت حر فقد اختلف أهل العلم في هل يثبت لها الخيار أم لا؟ المذهب وهو مذهب الجمهور أنه لا يثبت لها الخيار، ولذا قال المؤلف – وإن أعتقت تحت حر فلا خيار لها – وذلك لأن المكافأة ثابتة بعد حريتها. والقول الثاني في المسألة وهو مذهب الأحناف وهو اختيار شيخ الإسلام وتلميذه ابن القيم أن لها الخيار، وهذا الخلاف يرجع إلى مسالك أهل العلم في كون النبي - صلى الله عليه وسلم - خير بريرة من زوجها مغيث، هل كان هذا لفقدان المكافأة بينهما بعد ثبوتها فأصبحت ذات كمال تحت ذي نقص، هذا هو المشهور في مذهب الحنابلة وهو مذهب الجمهور، وأن النبي - صلى الله عليه وسلم - إنما خيرها بهذا المعنى. المسلك الثاني: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - إنما خير بريرة لأنها لما عتقت ملكت رقبة نفسها وملكت بضعها ومنافع بضعها وكانت قد زوجت من سيدها بلا رضا منها لأنها مملوكة لها، وحينئذٍ فلا فرق بين أن تكون تحت حر أو عبد، وذلك لأن المعنى ثابت في هاذين النكاحين، وهذا المسلك هو الأرجح وذلك لضعف المسلك الأول من وجهين – كما قرر هذا ابن القيم في زاد المعاد – أما الوجه الأول: فلأن شروط النكاح لا تشترط استدامتها. من ذلك: أن الزانية لا يحل نكاحها فإن زنت في عصمة الرجل فإن النكاح لا يبطل عند عامة أهل العلم، ومن ذلك أن رضا المرأة غير المجبرة شرط في صحة النكاح ابتداءً، وليس شرطاً في أثناء النكاح فلو كرهته ولم ترض به بعد النكاح فإن النكاح لا ينفسخ بذلك، فإن ثبت هذا في الشرط فكذلك في المكافأة.

الوجه الثاني: وهو نظير هذه المسألة تماماً أن زوال المكافأة لا يبطل النكاح بفسق الزوج في المذهب وفي مذهب جمهور أهل العلم بل لعل ذلك إجماعاً، ومثل ذلك فقدان المكافأة في الحرية فإن من المكافأة الدين، فلا تزوج الصالحة بفاسق، فإذا فسق الزوج وفجر فإن هذه المكافأة قد فقدت وقد زالت ومع ذلك فإن النكاح لا يبطل بل يكون صحيحاً وحينئذٍ فيقع في هذا المذهب على هذا التعليل تناقض، فإذا عللنا بالمسلك الذي ذكره فإنه يقع هذا التناقض، فإنه يلزمنا أن نقول بالفسخ عند فسق الزوج ويلزمنا أن نقول بالفسخ عند عدم رضا المرأة بالنكاح ويلزمنا إذا زنت المرأة أن نقول ببطلان النكاح لأن هذا شرط في صحته ابتداءً فكان شرطاً في استدامته انتهاءً، فعلى ذلك الراجح ما اختاره شيخ الإسلام وهو مذهب الأحناف وهو أن المسلك هو أن هذه المرأة قد ملكت نفسها وكانت قد أجبرت على بضعها وقهرت عليه بملك اليمين فلما عتقت ملكت نفسها وملكت بضعها. فصل هذا فصل في ذكر عيوب النكاح، والعيوب تثبت فيها خيار الفسخ كالبيع تماماً وهذا الفسخ لا يكون كالطلاق بل يكون فسخاً بلا طلاق بلا خلاف بين أهل العلم فلا ينقص به عدد الطلاق، فلوا تزوجها بعد ذلك لم تحسب عليه تطليقه. قال: [ومن وجدت زوجها مجبوباً] أي مقطوع الذكر. قال: [أو بقي له ما لا يطأ به فلها الفسخ] فمن وجدت زوجها مجبوباً أو بقي له ما لا يطأ به فإنها يثبت لها الفسخ. قال: [وإن ثبتت عنّته] العنّة: هو ألا يكون قادراً على الجماع بأن لا ينتشر ذكره عند الجماع. قال: [بإقراره أو بينة على إقراره] فإذا ثبت ذلك بإقراره بأن يقر على نفسه بذلك وكذا إذا نكل عن اليمين، أو بينة على إقراره أي يشهد شهود على أنه أقر أو بنكوله عن اليمين. قال: [أجل سنة منذ تحاكمه]

والعلة من تأجيله سنة قالوا لأن السنة ذات فصول أربعة فإذا كان هذا سبب تغيير في الطبيعة فإنه يتغير بتغير الفصول الأربعة وهذا التعليل مقتضاه أن تكون السنة شمسية، لكن أهل العلم يقولون: إنها سنة هلالية وهذا هو مقتضى إطلاقهم وذلك لقوله تعالى: {يسألونك عن الأهلة قل هي مواقيت للناس والحج} ، فأحكام الشرع ترجع إلى السنة القمرية لا الشمسية ثم إن الفارق بين السنة الشمسية والهلالية أيام يسيرة. قال: [فإن وطء فيها وإلا فلها الفسخ] أي للمرأة الفسخ لثبوت العيب فيه، ودليل تأجيل العنين سنة ما ثبت في مصنف ابن أبي شيبة بإسنادٍ صحيح عن ابن مسعود قال: (يؤجل العنين سنة فإن جامع وإلا فرق بينهما) ، ورواه سعيد بن منصور عن عمر بن الخطاب وقال الحافظ رجاله ثقات، ولا يعلم لهما مخالف. قال: [وإن اعترفت أنه وطئها فليس بعنين] أي ولو مرة واحدة لأن بالوطء ولو مرة واحدة يستقر المهر وتثبت العدة فثبتت الحقوق الزوجية بذلك فإذا وطئها ولو مرة فلا فسخ للعيب لأن العيب حينئذٍ يكون طارئاً ولها أن تخلع نفسها منه كما سيأتي في باب الخلع، والمذهب أنه يكفي إيلاج الحشفة وهو الراجح، واختار القاضي اشتراط إيلاجه جميعه. قال: [ولو قالت في وقت رضيت به عنينا سقط خيارها أبداً]

إذا قالت في وقتٍ ما رضيت به عنيناً فإن خيارها يسقط وذلك كما لو نكحته وهي تعلم أنه عنين، فإنه لا خيار لها بعد ذلك لأنها دخلت على بصيره فكذلك إذا رضيت، والمشهور في المذهب أنه ليس للزوجة الفسخ من زوجها إن ثبت عقمه أو كان يطؤها ولا ينزل، وقال الحسن البصري " بل إن كان عقيماً فلها الخيار"، وهذا – فيما يظهر لي – أظهر، ودخل في قول ابن القيم كل عيب ينفر الزوج الآخر ولا يحصل به مقصود النكاح من المودة والسكن فإنه ثبت معه الخيار، وهذا أظهر وهو اختيار شيخ الإسلام، ولأن للمرأة حقاً في الولد، وكذلك عدم إنزاله هذا يضعف كمال الوطء فلا تحصل به المرأة شهوتها وعليه فيثبت لها الخيار فيه. فصل قال: [والرتق] وهو انسداد فرج المرأة. قال: [والقرن] لحم يكون في فرجها يمنع من وطئها. قال: [والعفل] رطوبة ورغوة تكون في فرجها. قال: [والفتق] أن يكون سبيلاها سبيلاً واحداً، فالعيوب المتقدمة في الفصل السابق مختصة بالرجل، وهذه مختصة بالأنثى. قال: [واستطلاق بول ونجوٍ] هذا مشترك بينهما. قال: [والقروح السيالة في فرج] وهذا في المرأة. قال: [وباسور وناصور] هذا مشترك بينهما. قال: [وخصاء وسل ووجاء] هذا في الرجل. قال: [وكون أحدهما خنثى واضحاً] هذا مشترك بينهما. قال [وجنون ولو ساعة وبرص وجذام] الجذام: تناثر اللحم، وهذه عيوب مشتركة بينهما. قال [يثبت لكل واحد منهما الفسخ]

هذه العيوب في المشهور من المذهب، وقاعدة ابن القيم – كما تقدم – أعم من ذلك وهي أصح لكن ليست على إطلاقها بل يستثنى من ذلك ما إذا كان يمكنه الإطلاع على عيبها ومع ذلك فرّط بعدم السؤال وعدم الرؤية مع تمكنه من ذلك وعدم استخبار أهلها، فإذا كان منه تفريط فلا يثبت لها الخيار لأنه هو الذي فرّط. وأما إن كان العيب لا يحصل بسؤاله كأن يكون عيباً داخلياً في المرأة في فرج ونحوه فإنه يثبت له الخيار، ودليل ثبوت الفسخ هو القياس على البيع، بل هذا الحكم أولى في النكاح منه في البيع، وذلك لأن شروط النكاح أوثق وكذلك حق الفسخ منه أولى، وخيار الفسخ على التراضي ما لم يدل دليل على الرضا، وفي المسألة السابقة وهي ما إذا عتقت الأمة تحت عبد، فإن لها حق الفسخ على التراضي- كما تقدم – فإن فعلت ما يدل على الرضا كأن تمكنه من وطئها جاهلةً بحق الفسخ أو جاهلةً بالعتق، ومثله ما يكون في هذا الباب من جهل المرأة بحق الفسخ، فالمشهور في مذهب الحنابلة أن المرأة إذا مكنت زوجها من نفسها وكان لها حق الفسخ وهي جاهلة فإن حق الفسخ يسقط، واستدلوا بما روى أبو داود في سننه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما عتقت بريرة خيرها وقال: (إن كان قد قربك فلا خيار لك) . والقول الثاني: وهو مذهب الشافعية وقول إسحاق وهو رواية عن الإمام أحمد واختاره الشيخ عبد الرحمن بن سعدي أن الخيار يثبت لها، وذلك كسائر الحقوق التي لا تسقط إلا بما يدل على الرضا، وهي جاهلة معذورة، وسائر الحقوق لا تسقط إلا بما يدل على الرضا وهذا هو الراجح، وأما حديث أبي داود فإسناده ضعيف، لكن إن مكنته من نفسها مع علمها ومعرفتها بحق الفسخ فالنكاح ثابت ماضٍ وليس لها حق الفسخ بعد ذلك، ففي موطأ مالك بإسناد صحيح أن ابن عمر قال " إن الأمة إذا مسّها فلا خيار لها "، وذلك إذا مسّها بعد علمها بحق الفسخ ثم مكنت نفسها منه فليس لها الفسخ بعد ذلك لأن هذا دليل رضاها.

الدرس الثلاثون بعد الثلاثمائة هنا مراجعة في مسألتين تقدم البحث فيهما في الدرسين السابقين أما المسألة الأولى: فهي عند شرط المرأة طلاق ضرّتها، فقد تقدم أن المشهور في المذهب صحة هذا الشرط، والراجح هو قول الموفق واختيار ابن القيم أن ذلك لا يصح وذكر الموفق أنه لم ير هذا القول لغير أبي الخطاب من الحنابلة فالراجح أن هذا الشرط لا يصح لأنه يخالف شرع الله في قوله - صلى الله عليه وسلم -: (لا تسأل المرأة طلاق أختها لتستفرغ صحفتها ولتنكح فإن مالها ما قدر لها) متفق عليه، وكل شرط يخالف كتاب الله فهو باطل، وذكر ابن القيم الفرق بين اشتراط طلاق الضرة وبين أن تشترط على زوجها ألا ينكح عليها أو ألا يتسرى، وأن الفرق بينهما أن اشتراط طلاق الضرة فيه ضرر على الضرة ففيه كسر لقلبها وخراب لبيتها ولا شك أن مثل هذا ضرر ظاهر. أما المسألة الثانية: فهي أن الحنابلة يخصون العيوب بالعيوب التي تقدم ذكرها –على خلاف في بعضها – واختار ابن القيم أن كل عيب ينفر الآخر ولا يحصل به مقصود النكاح من المودة والرحمة فإن الفسخ يثبت به، وحكاه قولاً لبعض الشافعية وحكاه قولاً للزهري ولشريح القاضي واستدل – رحمه الله – بأن ثبوت الفسخ هنا أولى من ثبوته في البيع فإن شروط النكاح أوثق وكذلك الفسخ فيه أولى، قال ولأن الإطلاق يحمل على الأصل وهو السلامة من العيوب، وهو قد أطلق فلم ينفي العيوب فإنه إذا نفى عيباً لا ينفسخ النكاح به، فإن الفسخ ثبت حيث ثبت هذا العيب لكن هنا حيث لم يشترط نفيه فالأصل السلامة من العيوب وإطلاقه يحمل على ذلك والمشروط عرفاً كالمشروط لفظاً، فإن العرف يقضي بذلك فإنه إنما خطب السليمة من العيوب، قال ولأن ذلك أقبح التدليس والفحش أي إذا سكتوا عن ذكر عيوبها، قال في الإنصاف في هذا القول وما هو ببعيد. آهـ

واختاره الشيخ عبد الرحمن السعدي. وهذا القول هو الراجح لقوة أدلته، لكن كان يشكل – كما تقدم ذكره في الدرس السابق – أنه قد فرط في عدم السؤال أو السعي إلى النظر إليها والجواب عن هذا الإشكال هو وإن كان مفرطاً في ذلك فإن هذا التفريط فيه ليس كسكوتهم عن العيب الذي يعتبر كما تقدم من أقبح الغش والخداع، ويدل عليه ما ثبت في مصنف عبد الرزاق وموطأ مالك بإسناد صحيح من حديث سعيد بن المسيب عن عمر وسماعه ثابت منه كما قال ذلك الإمام أحمد ولو فرض أنه لم يسمع منه فإن أحاديثه التي يرفعها مرسله إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - مقبولة عند أهل العلم فأولى من ذلك ما يرسله عن الصحابة رضي الله عنهم أن عمر قال " أيما رجلٍ تزوج امرأةً فوجد بها جنوناً أو برصاً أو جذاماً فمسها فلها صداقها كاملاً وذلك لزوجها غرم على وليها "، وثبت في البيهقي بإسنادٍ صحيح أنه قال " إذا تزوجها عمياء أو برصاء فدخل بها فلها الصداق ويرجع إلى من غره "، والعمى ليس مذكوراً في جملة العيوب التي تقدم ذكرها وورد عنه رضي الله عنه العقم كما في مصنف عبد الرزاق ورجاله ثقات، وهنا قد ذكر العمى وهو ليس من العيوب التي تقدم ذكرها عند الفقهاء ومعلوم أن الخاطب أو العاقد يمكنه أن يسأل عن ذلك فلا شك أنه قد وقع منه تفريط ومع ذلك فإن الفسخ ثابت له لثبوت هذا العيب فعلى ذلك إذا تزوجها وبها خرس أو عمى أو قطع في اليدين أو الرجلين فالصحيح وهو اختيار ابن القيم – خلافاً للمشهور في المذهب بل خلافاً للمذاهب الأربعة – ثبوت الفسخ. قال: [ولو حدث بعد العقد]

لو حدث بعد العقد فإن الفسخ يثبت، فالعيب يحكم معه بوجوب الفسخ وإن كان طارئاً بعد العقد، وذلك قياساً على الإجارة بجامع أن كليهما عقد على منفعة ولأنه إذا ثبت مقارناً فيثبت طارئاً، وخيار العيب ثابت لدفع الضرر فإذا ثبت مقارناً فيثبت طارئاً فعليه إذا ثبت في الرجل عيب بعد العقد فللمرأة الفسخ أو ثبت في المرأة عيب بعد العقد فله الفسخ ولا مهر لها لثبوت العيب، أما إن دخل بها فسيأتي الكلام عليه. قال: [أو كان بالأخر عيب مثله] وذلك لوجود سببه فلو كان في الأخر عيب أخر فكذلك لوجود سببه، فإذا وجد سبب الفسخ وجد الفسخ وسببه ثبوت العيب في أحد الزوجين فلو ثبت في الأخر عيب أخر أو عيب مثله فإن الحكم كذلك لا يتغير لوجود سببه ولأن الإنسان يرضى بعيب نفسه ولا يرضى بعيب غيره كما هو متقرر في الفطر. قال: [ومن رضي بالعيب أو وجدت منه دلالته مع علمه فلا خيار له] إذا رضي هذا الزوج الناكح للمرأة المعيبة بعيبها بقوله أو ظهر منه ما يدل على الرضا كأن يطأها وهو عالم بعيبها فلا خيار له بلا خلاف بين أهل العلم وكذلك المرأة إذا رضيت بعيب زوجها بقولها أو فعلها فإنه لا خيار لها وظاهره ولو كان مستحق الفسخ جاهلاً بحق الفسخ وهذا هو المشهور في المذهب وأن الخيار يسقط وإن كان مستحقه جاهلاً والراجح أن الجهل يعذر به لأنه حق كسائر الحقوق لا يسقط إلا بما يدل على الرضا والرضا المعتبر: إنما يكون حيث علم أن له حق الفسخ أما إن سكت وهو لا يعلم أن له حق الفسخ أو سكتت وهي لا تعلم أن لها حق الفسخ فلا. وقد تقدم أن هذا هو رواية عن الإمام أحمد وهو مذهب الشافعي. قال: [ولا يتم فسخ أحدهما إلا بحاكم]

فلا يصح الفسخ إلا بحاكم، فلو فسخ مستحق الفسخ لم يثبت فسخه إلا بحكم حاكم هذا هو المشهور في المذهب قالوا لأن المسألة مجتهد فيها بخلاف المسائل المتفق عليها كالمعتقة تحت العبد فإنها تفسخ نفسها منه بلا حكم حاكم، وقال شيخ الإسلام: بل الفاسخ هو، والحاكم يأذن بالفسخ أو يحكم به، فالفسخ يثبت تارةً برضاهما وتارةً بحكم الحاكم وعليه فالفسخ يثبت بمجرده من مستحقه، فإن أمضاه الأخر وإلا أمضاه الحاكم وهذا القول هو الراجح لأن الفسخ حقٌ له فثبت بفسخه والحاكم إنما يمضي، ولا فرق – حيث ثبت له الفسخ – بين ما إذا كانت المسألة مجمع عليها وبين ما إذا كانت مختلفاً فيها فهو مستحق للفسخ في المسألتين كلتيهما وهذه قاعدة لشيخ الإسلام في جميع الفسوخ، وأن جميع الفسوخ لا تقف على حكم الحاكم بل لصاحب الحق – في الفسخ – أن يفسخ وإن لم يترافعا إلى الحاكم فإن أمضى الأخر وإلا فإنها يترافعان إلى الحاكم ليمضي الفسخ. قال: [فإن كان قبل الدخول فلا مهر] فإذا ثبت الفسخ قبل الدخول بها فلا مهر، وذلك لأن الفسخ إما أن يكون من المرأة وإما أن يكون من الرجل، فإن كان من المرأة فإنه من قِبَلِها فلم تستحق شيئاً، وإن كان من الرجل فإنه إنما فسخ للعيب فلا تستحق شيئاً، فإذا ثبت الفسخ قبل الدخول فلا مهر للمرأة سواء كان العيب ثابتاً في الرجل أو المرأة وسواء كان الفاسخ الرجل أو المرأة. قال: [وبعده فلها المسمى]

أما إذا كان الفسخ بعد الدخول يثبت لها المسمى في العقد سواء كان أقل من مهر المثل أو أكثر من مهر المثل، هذا هو المشهور في مذهب الإمام أحمد، ومذهب الشافعية وهو رواية عن الإمام أحمد، أن لها مهر المثل، قالوا: لأنه فسخ يرجع إلى العقد والفسخ الذي يرجع إلى العقد يكون فيه مهر المثل كعامة الفسوخ التي ترجع إلى بطلان النكاح، والراجح ما ذهب إليه أهل القول الأول وذلك لأن المهر يستقر بالدخول، فإذا دخل بالمرأة فقد استقر المهر وقد سمي لها مهراً، وأما ما قاله الشافعية من أنه فسخ يرجع إلى العقد فكان فيه مهر المثل. فالجواب: أنه إنما يرجع إلى العقد في العقود الفاسدة، وهذا لو كان فاسدا لم يمض ولم نثبت فيه خياراً بل لأبطلناه، ويدل على هذا ما تقدم من الآثار عن عمر فإنه قال: " فلها صداقها كاملاً "، وقال في الأثر الآخر: " فلها الصداق "، أي الصداق المسمى كما تدل عليه الرواية الأخرى، فالراجح أن لها المهر المسمى، ويرجع بهذا المهر الذي قد سماه لنا، ويرجع إلى من غرّه. والغار: هو من علم بالعيب وكتمه سواء كان الولي أو الوكيل أو المرأة فيرجع إلى من غره. وعليه فيرجع إلى الولي، وقد تقدم أثر عمر " وذلك لزوجها غرم على وليها " فيرجع على الولي، فإن أنكر الولي بيمينه أنه لا يعلم هذا العيب وكان هذا العيب ممكن أن يخفى عليه ويمكن أن يصدق ككثير من العيوب التي تكون باطنة، أو أن يكون ولياً بعيداً كأن يزوجها ابن عمٍ فيخفى عليه عيب ظاهر فيها، يطلع عليه أهل بيتها، فإن ثبت أنه لا يعلم باليمين فإنه يرجع إلى المرأة، لأنها هي التي غرته من نفسها، لأن الولي ثبت أنه لا يعلم بيمينه فحينئذٍ يرجع إلى المرأة إن كانت المرأة عاقلة وعالمة، أما إذا لم تكن عاقلة فإنه لا يرجع وكذلك إن كانت غير عالمه. فإن قيل: هل يتصور أن تكون المرأة ليست بعالمه؟

فالجواب: إن هناك من العيوب ما يكون خفياً عن المرأة نفسها، كأن يكون هناك بقعة من البرص في موضع لا يطلع عليه في العادة، وكأن يكون في ظهرها فإنها تصدق بقولها، وحينئذٍ فإذا ثبتت براءة الوكيل، والوكيل لم يطلع على شيء من ذلك فحينئذٍ لا يرجع على أحد وذلك لأن المهر قد استقر بالدخول وليست ثمت مغرر يرجع إليه، والرجوع إلى المغرر ثابت عن عمر كما في الأثر السابق وورد في البيهقي عن علي " أنه لا يرجع بل يثبت لها المهر بما استحل من فرجها "، لكن الأثر من رواية الشعبي عن علي، وراية الشعبي عن علي منقطعة، وعليه فالأثر ضعيف ولا يعلم لعمر مخالف صحيح، إذن يرجع إلى المغرر – وهو الولي المباشر بعقد النكاح –، فإن نفى ذلك الولي وأمكن تصديقه وحلف على ذلك فإن هذا الزوج يرجع إلى المرأة، فإذا كانت المرأة جاهلة به وأمكن تصديقها فإنه لا يرجع إلى أحد، ولها المهر بما استحل من فرجها، وليست ثمت مغرر يرجع إليه. قال: [والصغيرة والمجنونة والأمة لا تزوج واحدة منهن بمعيب] فليس لولي هؤلاء أن يزوجهن بمعيب وذلك لأن ولايته ولاية نظر موجب أن ينظر ما فيه حظ ومصلحه لهن، وعليه فالنكاح باطل إن كان معيباً. ولا خلاف بين أهل العلم أنه إذا أنكح الكبيرة البكر، إن زوجها معيباً فلا يصح بلا خلاف بين أهل العلم، وذلك لأن ولايته ولاية نظر موجب عليه أن ينظر ما فيه مصلحة وحظ لهن، فإذا زوجها غير عالم بالعيب فعليه الفسخ. قال [فإن رضيت الكبيرة مجبوباً أو عنيناً لم تمنع] إذا قالت: رضيت بهذا الزوج وإن كان مجبوباً وإن كان عنيناً فإنها لم تمنع لأن حق الوطء لها فإذا أسقطته فإنه يسقط بإسقاطها، وقال الموفق وهو قول في المذهب: بل له أن يمنعها وذلك لأن رضاها غير موثوق بدوامه، والضرر ثابت دائم ولا شك أن الضرر الثابت الدائم لا شك انه أرجح من هذا القبول غير الموثوق بدوامه واستمراره، ولأن الولي يمنعها من نكاح الكفؤ فكذلك هنا.

قال [بل من مجنون ومجذوم وأبرص] أي تمنع من الرضا بهؤلاء وذلك لما فيه من الضرر عليها والضرر على أوليائها، ولأنه يخشى أن يلحق ولدها مثل هذا فإنها تمنع منه لما فيه من الضرر، وتقدم أن الصحيح أنها تمنع من كل هؤلاء المعيبين لأنه إنما جعل ولياً لها لينظر ما فيه مصلحة وحظ وعليها فيه ضرر، وإن أسقطت حقها فإن هذا الإسقاط لا يوثق بدوامه. قال [ومتى علمت أو حدث به لم يجبرها وليها على الفسخ] إذا حدث للرجل عيب بعد العقد أو علمت المرأة بالعيب بعد دخوله بها فليس لوليها أن يجبرها على الفسخ، وذلك لأن ولايته ثابتة في ابتداء النكاح لا في دوامه، فالولي إنما دلت الأدلة على ولايته في ثبوت النكاح ابتداءً وأما في دوامه فلا، فإنه ليس له حق في ذلك وعليه فلا يجبرها. مسألة: إن ادعى الجهل بالخيار ومثله يجهله كما من لا يخالط الفقهاء فالأظهر ثبوت الفسخ. مسألة أخرى: إن فسخ لظنه عيباً، فبان غير عيب كبياضٍ ظنه برصاً بطل الفسخ. باب نكاح الكفار الدرس الحادي والثلاثون بعد الثلاثمائة. قال [حكمه كنكاح المسلمين] حكم نكاح الكفار كنكاح المسلمين في الصحة وفي وقوع الطلاق وفي القسمة وفي النفقة فيما يحل وما يحرم لقوله تعالى: {فإن جاءوك فاحكم بينهم أو أعرض عنهم} ، وقوله أيضاً {فاحكم بينهم بما أنزل الله} ، فيحكم بينهم بشرع الله وهو ما يحكم به للمسلمين. قال: [ويقرون على فاسده] يقرون على فاسد النكاح كنكاح الخامسة أو نكاح المجوسي البنت أو الأخت يقرون عليه بشرطين قال [إذا اعتقدوا صحته في شرعهم] هذا هو الشرط الأول وهو أن يعتقدوا أنه صحيح في شرعهم كنكاح الخامسة، فإن لم يعتقدوا جوازه في شرعهم كالزنا فإنهم لا يقرون عليه. قال: [ولم يرتفعوا إلينا]

هذا هو الشرط الثاني: أي لم يرفعوا إلينا هذه المسألة، أما إذا رفعوا إلينا هذه القضية فيجب علينا أن نحكم بما أنزل الله فنفسد هذا النكاح للآيات المتقدمة ويدل على هذه المسألة – أي إقرارهم على أنكحتهم التي لم يرفعوها إلينا ولا يعتقدون فسادها في شرعهم - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - اخذ من مجوس هجر الجزية، ولم ينقل أن النبي - صلى الله عليه وسلم - تعرض لهم لا في أنكحتهم ولا في سائر أحكامهم، ومعلوم أنهم يستبيحون نكاح المحارم. وكذلك في نصارى نجران، ولو كان التعرض لهم وإفساد أنكحتهم وغيرها مما لم يترافعوا إلينا فيها – لو كان لنقل ذلك عن النبي - صلى الله عليه وسلم - نقلاً بيناً. قال [فإن أتونا قبل عقده عقدناه على حكمنا] إذا أتونا قبل عقد النكاح أي ترافعوا إلى القاضي المسلم ليعقد لهم نكاحاً فحينئذٍ نعقد لهم على حكمنا من إشتراط الولي وإشتراط شاهدي عدل منا وركنية الإيجاب والقبول وغير ذلك من الأحكام المترتبة على العقود لقوله تعالى: {فاحكم بينهم بما أنزل الله} . قال [وإن أتونا بعده أو أسلم الزوجان] أي أتونا بعد العقد أو أسلم الزوجان وكانا قبل ذلك يهوديين أو نصرانيين أو رفعوا إلينا الحكم في مسألة من مسائل أنكحتهم وكان ذلك بعد العقد، فحينئذٍ لا نستفصل منهم هل توفرت شروط النكاح أم لا، وهذا بإجماع أهل العلم أي لا يسألون عن كيفية نكاحهم هل توفرت فيه شروطه أم لا، وقد أسلم خلق كثير في عهد النبي - صلى الله عليه وسلم -، وأسلمت معهم نساؤهم ولم يسألهم النبي - صلى الله عليه وسلم - عن كيفية أنكحتهم بل أقرهم عليها. قال [والمرأة تباح إذن أقرا]

هذا شرط لابد منه أن تباح المرأة إذاً، أي حين الترافع أو-- الإسلام، أي حين ترافعوا إلينا في نكاح قد عقد سابقاً أو أسلم الزوجان فلا بدّ أن تكون المرأة المعقود عليها مباحة حينئذٍ، مثال ذلك أن يكون قد نكحها في عدة وهي الآن قد انتهت عدتها، أو في نكاح الأختين، فكان قد نكح أختاً على أخت، وكان حين الترافع أو حين الإسلام قد ماتت الأخت الأولى، فالأخت الثانية مباحة حينئذٍ وإن كانت محرمة آنذاك لما كانت مضمومة إلى أختها، وكذا مطلقته ثلاثاً لأنه طلاق من عاقل بالغ في نكاح صحيح، وعليه إذا أسلم رجل فامرأته عنده على ما بقي من الطلاق إن كان قد طلّق مرتين أو ثلاثاً، فحينئذٍ لا نحكم ببطلان النكاح ولا بفساده بل نحكم بينهم بما أنزل الله ونمضي هذا النكاح. قال [وإن كانت ممن لا يجوز ابتداء نكاحها فرّق بينهما] …إذا كانت حين الترافع لا يجوز ابتداء نكاحها فحينئذٍ يفرق بينهما، كأن يترافعوا إلينا في زوجين والزوجة ذات محرم من زوجها وكأن يترافع المجوسي وتكون تحته اخته أو يترافع النصراني وتكون المنكوحة خامسة فلا يجوز ابتداء النكاح عليها، وحينئذٍ فلا يحكم لهم بصحة النكاح بل يحكم ببطلانه. قال: [وإن وطىء حربي حربية فأسلما وقد اعتقداه نكاحاً أقرا، وإلا فسخ] إذا وطء حربي حربية ثم أسلما فإن اعتقدا هذا الوطء الخالي من الولي ونحوه، إذا اعتقداه نكاحاً فإنهما يقران عليه، وإن لم يعتقدانه نكاحاً بل اعتقداه سفاحاً فلا يقران عليه لأنهم يقرون على ما اعتقدوا صحته. قال: [ومتى كان المهر صحيحاً أخذته] إذا كانت القضية أو الخصومة التي حصل الترافع فيها في المهر، فمتى كان المهر صحيحاً كأن يكون دراهم أو دنانير أخذته هذه المرأة لأنه واجب لها بالعقد وهذا هو حكم الله تعالى. قال: [وإن كان فاسداً وقبضته استقر]

فإذا كان فاسداً كأن يكون مهرها خمراً أو خنزيراً أو غير ذلك من المحرمات فهذا مهر فاسد، فإن كانت قد قبضته فإنه يستقر المهر، وذلك لأن هذه المسألة قد وقعت قبل الترافع وهي صحيحة عندهم فهي مما يعتقدون صحته في شرعهم وقد حصل القبض بحكم الشرك لا بحكم الإسلام. قال: [وإن لم تقبضه ولم يسمِّ فرض لها مهر المثل] إذا لم تقبض هذا المهر الفاسد أو كان المهر لم يسم لها في العقد فرض لها مهر المثل، لأن المهر فاسد، أو لم يسمِّ لها مهراً فحينئذٍ تعطى مهر المثل. فصل قال: [وإن أسلم الزوجان معاً … فعلى نكاحهما] إن أسلم الزوجان معاً أي دفعة واحدة في زمن واحد بلحظة واحدة فهما على نكاحهما، كأن يسلم زوجان كافران في لحظة واحدة دفعة واحة فهما على نكاحهما لعدم اختلاف الدين، وهذا لا خلاف فيه بين أهل العلم، وذكر صاحب المغني: إحتمالاً أنه يصح ولو كان في المجلس ولو لم يكن دفعة واحدة وصوبه صاحب الإنصاف واختاره ابن القيم وهو الراجح، وذلك لعسر الإسلام دفعة واحدة بل لا يكاد يقع، كما ذكر ابن القيم أن المعروف في إسلام الصحابة في إسلام الزوج والزوجة أنه لا يكون دفعة واحدة، وهذا ظاهر. قال: [أو زوج كتابية فعلى نكاحهما] كأن يكون رجل يهودي زوجته يهودية فأسلم اليهودي فلا يبطل نكاحه لليهودية، وذلك لأن نكاح المسلم للكتابية جائز ابتداءً فاستدامته أولى. قال: [فإن أسلمت هي] أي أسلمت الزوجة الكتابية. قال: [أو أحد الزوجين غير الكتابيين قبل الدخول بطل] فإذا أسلمت كتابية تحت كتابي أوغيره أو أسلم أحد الزوجين غير الكتابيين قبل الدخول بطل لقوله تعالى: {ولا تمسكوا بعصم الكوافر} ، هذا إن كان الزوج هو المسلم ولم تكن الزوجة كتابية، وإن كانت المرأة هي التي أسلمت فلقوله تعالى: {لا ترجعوهن إلى الكفار لا هن حل لهم ولا هم يحلون لهن} وهذا مذهب جماهير أهل العلم. قال: [فإن سبقته فلا مهر]

فإذا كانت المرأة هي السابقة للإسلام، ولم يدخل بها بعد فلا مهر لها، فمن المعلوم أن الرجل إذا طلق امرأته قبل الدخول فلها نصف المهر أو فسخ فلها نصف المهر، وهنا الفرقة بالإسلام قد جاءت من قبل المرأة، والقاعدة أن الفسخ إن كان من قبل المرأة فلا مهر. قال: [وإن سبقها فلها نصفه] فإذا سبقها هو بالإسلام فأسلم فلها نصفه لأن الفرقة هنا جاءت من قبله وهذا هو المشهور في المذهب، وعن الإمام أحمد وصوبه صاحب الإنصاف: أنه ليس لها مهر، وهذا فيما يظهر لي أظهر، وذلك لأن الفرقة لم تجيء من قبله بل الشرع فرق بينهما والأدلة إنما دلت على وجوب نصف الصداق حيث كان الفسخ منه أو الطلاق وهنا قد جاء التفريق من الشرع بينهما فلا يجب لها نصف المهر. قال: [فإن أسلم أحدهما بعد الدخول وقف الأمر على إنقضاء العدة فإن أسلم الآخر فيها دام النكاح وإلا بان فسخه منذ أسلم الأول] إذا أسلم أحد الزوجين بعد الدخول وقف الأمر على انقضاء العدة وإن أسلم الآخر بالعدة دام النكاح، وإلا بان فسخه منذ أسلم الأول، فإذا انقضت عدتها ولم يسلم فلا نقول استأنفي عدة جديدة بل عدتها هي عدتها السابقة فلا تستأنف عدة جديدة، واستدل الجمهور- القائلون بأن المرأة إذا انقضت عدتها فلا تحل لزوجها الكافر إلا بعقد جديد - استدلوا بما روى الترمذي وغيره عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده: " أن النبي - صلى الله عليه وسلم - رد ابنته - أي زينب – على أبي العاص بنكاح جديد "، قالوا هذا لأن العدة انقضت وهذا الحديث فيه الحجاج بن أرطأة وهو ضعيف الحديث.

القول الثاني في المسألة وهو رواية عن الإمام أحمد وهو قول ابن المنذر واختيار شيخ الإسلام وتلميذه ابن القيم: أن النكاح يدوم ما لم تنكح فما دامت هذه المرأة لم تنكح وأسلم قبل أن تنكح فإن النكاح ثابت فإذا نكحت انفسخ النكاح، قال شيخ الإسلام: ولا فرق ما بين قبل الدخول وبعده، أي ولو كان إسلام أحدهما قبل الدخول فكذلك، إذا أسلم زوجها قبل أن تنكح فإن النكاح يدوم وما ذهب إليه شيخ الإسلام هو الراجح، أما المسألة الأولى وهي ما بعد الدخول فلما ثبت عند الخمسة من حديث ابن عباس: " أن النبي - صلى الله عليه وسلم - رد ابنته زينب على أبي العاص بن الربيع بالنكاح الأول "، وهو من حديث داود بن الحصين عن عكرمة، وحديث داود بن الحصين عن عكرمة ضعيف، لكن للحديث شاهدان مرسلان عند سعيد بن منصور ولذا صححه الإمام أحمد وغيره. ويدل عليه ما ثبت في صحيح البخاري – كما أنه يدل على أنه لا فرق بين ما قبل الدخول وبعده ما لم تنكح المرأة - عن ابن عباس قال: " كانت المرأة إذا هاجرت من أهل الحرب لم تخطب حتى تحيض ثم تطهر فيحل لها النكاح فإن هاجر زوجها قبل أن تنكح ردت إليه "، وهذا عام في من دخل بها ومن لم يدخل بها، وأيضاً في هذه الأحاديث لا تطرق لذكر العدة ولم يثبت أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يسأل النساء المهاجرات هل انقضت عدتهن أم لا. وفي حديث أبي العاص في سنن الترمذي قال: " وكان ذلك بعد ست سنين "، أي بعد انقضاء عدتها بزمن طويل، والصحيح في هذه المسألة ما اختاره شيخ الإسلام وهو قول ابن المنذر ورواية عن الإمام أحمد، وأن المرأة إذا دخل بها ثم أسلمت أو أسلم زوجها فإن الزواج باقٍ بينهما ما لم تنكح، فإن نكحت فقد فسخت بنكاحها النكاح الأول، ورجح شيخ الإسلام أنه لا فرق بين من دخل بها ومن لم يدخل بها، وعمومات الأدلة تدل على هذا وفيه – كما ذكر شيخ الإسلام – مصلحة محضة، فإن فيه ترغيباً لمن لم يسلم منهما في الإسلام.

قال: [وإن كفرا أو أحدهما بعد الدخول وقف الأمر على انقضاء العدة، وقَبله بطل] فإذا كفرا أو أحدهما فإن كان ذلك قبل الدخول فالنكاح باطل وإن كان بعد الدخول وقف ذلك على انقضاء العدة فإن انقضت العدة بطل، وقَبله يدوم ويثبت فلا فرق بين ما إذا أسلم أحد الزوجين أو ارتد أحد الزوجين لاختلاف الدين، وتقدم كلام شيخ الإسلام في عدم التفريق ما بين قبل الدخول وما بعده. مسألة: فإن أسلم الرجل وقد نكح أكثر من أربع فإنه يخير بينهن، كذلك إذا كان قد جمع بين أختين فإنه يخير بينهن لا فرق بين الأولى ولا الأخرى فله أن يختار الأخيرة وله أن يختار من نسوته الأخريات ويدل على هذا ما ثبت في مسند أحمد والترمذي " أن غيلان بن سلمة الثقفي أسلم وله عشر نسوة قد أسلمت معه، فأمره النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يتخير منهن أربعاً " والحديث أعله الإمام أحمد والبخاري بالإرسال، وهو مرسل كما قالا، ولكن له شاهدان يحسن بهما الحديث، شاهد عند البيهقي من حديث عروة الثقفي، وشاهد أخر عند أبي داود من حديث قيس بن الحارث، وبه قال جمهور أهل العلم خلافاً لأبي حنيفة. وقد روى أبو داود وغيره عن الضحاك بن فيروز الديلمي عن أبيه أنه قال - صلى الله عليه وسلم - " إني قد أسلمت وتحتي أختان فقال - صلى الله عليه وسلم - طلق أيتهما شئت " والحديث حسن، وهذا يرجع إلى المسألة المتقدمة وهي أن ما يعتقدون صحته من أنكحتهم قبل الإسلام فإنها تكون صحيحة، فحينئذٍ لا فرق بين النكاح الذي عندنا باطل والنكاح الذي هو عندنا صحيح لأن النكاحين قد وقعا قبل الإسلام ولذا فلا مزية لأحدهما على الأخر، فأرجعا التخيير إليه لأن ذلك أمر راجع إلى رغبته وإلى من يسكن إليها، وهذا هو مذهب جمهور العلماء ويدل عليه الأثر ويدل عليه النظر. وهل يحل أن يطأ من اختارها في عدة من فارقها في مسألة الأختين، وكذلك هل له أن يطأ الرابعة والخامسة في عدتها أم لا يحل له ذلك؟

المشهور في المذهب أنه ليس له أن يطأ الأخت وكذلك في مسألة العدد ليس له أن يطأ حتى تنتهي عدة الأخرى. وذهب المالكية والشافعية إلى أن له أن ينكح التي أبقاها في عدة التي فارقها من الأختين، وكذلك في جميع العُدد، وتقدم ذكر دليل المسألة السابقة وهو دليل لهذه المسألة فإنه قد فارقها وليست زوجة له فليست برجعية فحينئذٍ لا يكون قد جمع بين أختين، ولا يكون جمع في وقته أربعاً، وأيضاً يستدل عليه لخصوص المسألة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يبين هذا لغيلان بن سلمة ولا لفيروز الديلمي، وتأخير البيان عن وقت الحاجة لا يجوز، وهذا هو اختيار شيخ الإسلام وقال " نظرت في كلام عامة أصحابنا فرأيتهم قد ذكروا أنه يمسك أربعاً ولم يشترط في جواز الوطء الخروج من العدة لا في جمع العدد ولا في جمع الرحم"، فعامة أصحاب الإمام أحمد ظاهر كلامهم عدم ذكر هذا الشرط ولو كان هذا شرطاً عندهم لذكروه للإحتياج إلى ذكره، وإنما ذكره الموفق رحمه الله، فالراجح ما اختاره شيخ الإسلام وهو مذهب الشافعية والمالكية. الدرس الثاني والثلاثون بعد الثلاثمائة باب الصداق الصداق: عوض يسمى في عقد النكاح أو بعده، أي يسمى في عقد النكاح، أو يسمى بعده وهذا في النكاح الذي لم يسم فيه مهر، والصداق مشروع بالإجماع قال تعالى: {وأتوا النساء صدقاتهن نحلة} وقال: {وآتوهن أجورهن} ، والأحاديث في ذلك كثيرة يأتي ذكر شيء منها. قال: [يسن تخفيفه] أي تخفيف المهر لقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: (خير الصداق أيسره) رواه أبو داود بإسنادٍ صحيح. قال: [وتسميته في العقد]

فيسن تسميته في العقد لقول النبي - صلى الله عليه وسلم - لخاطب الواهبة نفسها (التمس ولو خاتماً من حديد) ، ولا يشترط ذلك، فلو نكحها ولم يسمِّ لها مهراً فالنكاح صحيح، أي مع ثبوت المهر لكنه لم يسمِّ لها أي لم يفرض ويحدد قدره، لكنه نكاح على مهر، وكذا قال تعالى: {لا جناح عليكم إن طلقتم النساء ما لم تمسوهن أو تفرضوا لهن فريضة} ، ولا طلاق إلا بعد عقد فعلى ذلك تسمية الصداق في العقد مستحبة قطعاً للنزاع ولفعل النبي - صلى الله عليه وسلم - ولأمره كذلك كما في قوله: (التمس ولو خاتماً من حديث) . قال: [من أربعمائة درهم إلى خمسمائة] لما ثبت في سنن أبي داود والترمدي والنسائي بإسنادٍ صحيح عن عمر قال " ألا لا تغالوا في صُدُق النساء فإنها لو كانت مكرمة في الدنيا أو تقوى عند الله عز وجل لكان أولاكم بها النبي - صلى الله عليه وسلم - ما اصدق النبي - صلى الله عليه وسلم - امرأة من نسائه ولا أصدقت امرأة من بناته إلا ثنتي عشرة أوقية "، أي تزيد على أربع مائة درهم بشيء يسير، وقالت عائشة رضي الله عنها كما في صحيح مسلم: " كان صداق النبي لأزواجه ثنتي عشرة أوقية ونشَّا قالت: أتدري ما النش؟ فقال الراوي (لا) فقالت: نصف أوقية فتلك خمس مائة درهم فهذا صداق النبي - صلى الله عليه وسلم - لأزواجه "، فالمستحب في صدق النساء أن تكون يسيرة، وأما ما روي من إنكار المرأة على عمر لما نهى عن المغالاة، فاستدلت عليه بالآية {أو آتيتم إحداهن قنطاراً} فإنه لا يصح فقد رواه البيهقي بإسنادٍ منقطع، فالمستحب من أربعمائة إلى خمسمائة فإن زاد فلا بأس فقد روى أبو داود بإسنادٍ صحيح، أن أم حبيبة مات عنها زوجها عبد الله بن جحش في الحبشة فزوجها النجاشي النبي - صلى الله عليه وسلم - وأمهرها عنه أربعة آلاف درهم وبعثها مع شرحبيل بن جسنة. قال: [وكل ما صح ثمناً أو أجرة صح مهراً وإن قل] كل ما صح ثمناً لمبيع من عين أو دين أو منفعة.

من عين: كدرهم ودينار. أو دين: سواء كان مؤجلاً أو حاضراً. أو منفعة: كأن يقول " على أن أعمل لكم سنة " فهذا جائز. فسواء كان عيناً أو ديناً أو منفعة معلومة قياساً على البيع والإجارة بجامع أن كليهما عوض، قال تعالى: {إني أريد أن أنكحك إحدى ابنتي هاتين على أن تأجرني ثماني حجج} ، فهذا من باب الإنكاح بالمنفعة، فكل ما صح ثمناً لمبيع أو أجرة، ـ وتقدمت شروط الثمن وشروط الأجرة ـ فإنه يصح مهراً ولو قل أي ولو كان درهماً ولو كان ديناراً ولو كان خاتماً من حديد ولذا قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: (التمس ولو خاتماً من حديد) ، وثبت في الصحيحين أن عبد الرحمن بن عوف قال للنبي - صلى الله عليه وسلم -: " إني تزوجت امرأة على وزن نواة من ذهب فقال: (بارك الله عليك، أولم ولو بشاة) "، فإن قل فذلك جائز. إذن لا حد لأقله فما يصدق عليه أنه ثمن أو أجرة فإنه يصح مهراً، وقال المالكية والأحناف: بل لا يصح إلا مما تقطع به اليد بجامع استباحة العضو "، فهذا قياس يخالف النص فلا اعتبار به، وقد تقدم قوله التمس ولو خاتماً من حديد، وعلى ذلك أقل المهر عند المالكية ربع دينار، وعند الأحناف عشرة دراهم، وقد روى الدارقطني بإسنادٍ ضعيف جداً: (ألا مهر أقل من عشرة دراهم) ، فالراجح ما ذهب إليه الشافعي والحنابلة من أنه لا أقل للمهر كما أنه لا حد لأكثره، ولذا قال تعالى: {أو آتيتم إحداهن قنطاراً} ، والقنطار الشيء الكثير الوافر من الذهب، وهذه الآية لا يستدل بها على استحباب المغالاة، وإنما فيها الإخبار والإخبار لا يدل على الجواز فضلاً عن استحباب ذلك، إذن لا حد لأقله ولا حد لأكثره. قال: [وإن أصدقها تعليم قرآنٍ لم يصح] فلا يصح أن يكون صداقها تعليمها القرآن وهذه المسألة تقدم ذكرها، وهي هل يجوز أخذ الأجرة على تعليم القرآن؟

فالأحناف والحنابلة يمنعون من ذلك، وهنا كذلك يمنعون من ذلك مهراً، والشافعية والمالكية يجيزون أخذ الأجرة على القرآن، ويجيزون هنا أيضاً أن يكون عوضاً عن الزواج، ويستدلون بقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: (ملكتكها بما معك من القرآن) ، وتقدم أن الراجح في المسألة السابقة جواز أخذ الأجرة على تعليم القرآن للمحتاج، فهذا كذلك، والرجل الذي قال له النبي - صلى الله عليه وسلم -: (ملكتكها بما معك من القرآن) ، كان محتاجاً ولذا أمره النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يلتمس ولو خاتماً من حديد ولم يجد ذلك، فدل على أن ذلك مخصوص بالمحتاج. قال: [بل فقه وأدب وشعر مباح معلوم] فهذا جائز لأن أخذ الأجرة عليه جائز، فيجوز أن يكون صداقاً، وهكذا سائر العلوم الدينية والدنيوية. قال: [وإن أصدقها طلاق ضرتها لم يصح ولها مهر مثلها] إذا قال صداقك أن أطلق ضرتك، فلا يصح ذلك لأن هذا محرم في الشرع في قوله - صلى الله عليه وسلم -: (لا تسأل المرأة طلاق أختها) ، أو هي قالت له: عوضي في النكاح طلاق ضرتي، فهذا محرم، وعليه فلا يصح هذا مهراً لنهي النبي - صلى الله عليه وسلم -، وفي المسند بإسنادٍ ضعيف: (لا تنكح المرأة بطلاق اختها) ويشهد له ما تقدم في الصحيحين، وحينئذٍ فلها مهر مثلها في مذهب جمهور أهل العلم وذلك لفساد التسمية، وقال بن عقيل من الحنابلة: أن لها قدر مهر الضرة، قال شيخ الإسلام كما في الإختيارات وهذا أجود، وقال أيضاً رحمه الله " ولو قيل ببطلان النكاح لم يبعد " وهذا هو الراجح، قياساً على نكاح الشغار بجامع أن كليهما لا بدل له، فهناك قد أنكح ابنته وجعل بضعها صداقاً لابنة الآخر وهذا المهر لابد له، وهنا كذلك المهر لابدل له هذا أولاً، ولأنه كالشرط وتقدم أن مثل هذا الشرط يُبطل النكاح. قال: [ومتى بطل المسمى وجب مهر المثل]

إذا بطل المسمى في العقد لجهالته أو لعدم ماليته أو لكونه مغصوباً فيجب مهر المثل، مثال ما كان فاسداً لجهالته كأن يصدقها عبداً أن يصفه يعينه، ومثال ما كان فاسداً لعدم ماليته: أن يصدقها شيئاً محرماً كخمر ونحو ذلك كما تقدم مما يقع في نكاح النصارى …. وغيرهم، فهذا المهر فاسد فيجب لها مهر المثل وعنه يجب مثله خلاً، ومثال ما كان فاسداً لكونه مغصوباً: كأن يقول لك هذه الدار، وتكون هذه الدار مغصوبة، فحينئذٍ لها مهر المثل -واختار شيخ الإسلام فيما إذا كان فساده لكونه مغصوباً، أنها يكون لها مثل المغصوب أو قيمته، وهذا ظاهر، وذلك لأنها قد رضيت بهذا المغصوب وهذا يماثله أو يساويه في القيمة، بخلاف مهر المثل فقد لا تكون راضية به وهو أيضاً قد لا يكون راضياً به. وهو القول الراجح. وإذا كان غير مالي فكما ذكر الحنابلة: فيجب لها مهر المثل لأن هذه الأشياء لا قيمة لها ولا يمكن أن تحول، فحينئذٍ يجب مهر المثل وذلك لأن فساد العوض يقتضي رد المعوض فإذا فسد الثمن في البيع فهذا يقتضي رد المبيع، وهنا قد تعذر رد المعوض لأن النكاح صحيح فوجبت قيمته أي قيمة النكاح وقيمة مهر المثل، هذا هو مذهب جماهير العلماء، وأما إذا كان مجهولاً، فالمذهب أن الجهل إن كان يسيراً فإن الثابت هو هذا المهر الذي قد حدد وعين لأن جهالته يسيرة. مثال ذلك: لو قال: لك أرض من الأراضي التي أملكها أولك دار من الدور التي أملكها، ولم يعين لها الدار فإنه يمكن التعين بالقرعة، فهنا الجهل يسير لأنه يمكن تعينه بالقرعة، هذا هو أصح الوجهين في مذهب الإمام أحمد وإن كان الجهل غير يسير، فهنا خلاف في المذهب: فالمشهور في المذهب أنه يجب مهر المثل مطلقاً.

واختار القاضي من الحنابلة أن المسألة فيها تفصيل: فقال " إذا كان هذا الشيء المجهول لا تزيد جهالته على جهالة مهر المثل فإنه يصح، مثال ذلك إذا قال " صداقك دارٌ، فيمكن أن نحدد هذه الدار بأن نجعلها الدار الوسط أو اللائقة بمثلها عرفاً ونحو ذلك، فهنا الجهالة أيسر من جهالة مهر المثل أما إذا كانت جهالته أكثر من جهالة مهر المثل فإن هذا المهر يفسد ويثبت مهر المثل. مثال ذلك: أن يقول صداقك ما يحصل لي من تجارتي هذه السنة أو ما يحصل من مزرعتي هذه السنة، من ربح ونحوه فهذا جهالته أشد من جهالة مهر المثل فلا يصح، أو قال لك دور أو حنطة أو نحو ذلك فهذا لا يمكن تحديده فجهالته تزيد على مهر المثل، وهذا هو القول الأرجح، وذلك لأنه أقرب للرضى من الطرفين كليهما، وعليه فما اختاره القاضي هو الراجح. فيقال إذا كان المهر مجهولاً وجهالته لا تزيد على جهالة مهر المثل فإن هذا المهر يصح وتزال جهالته بأن يوضع الوسط، فأما إن كان يزيد كأن يقول: لك قمح أو غير ذلك مما لا يمكن تحديده، وجهالته أعسر من جهالة مهر المثل فإن هذا المهر يفسد ويجب حينئذ مهر المثل. فصل قال: [إن أصدقها ألفاً إن كان أبوها حياً وألفين إن كان ميتاً] فيجب مهر المثل لفساد التسمية، فهنا التسمية فاسدة في المشهور في المذهب، وذلك لانه لا يعلم أبوها حي أو ميت، ولانه لا غرض له في موت أبيها.

وعن الإمام أحمد: أن المهر يثبت على ما شرط، وذلك لأن ألفاً معلومة، لأنه قال: " إن كان أبوها ميتاً فلها ألفان " فلها ألف حيث كان أبوها حياً أو ميتاً، وحينئذ فألف معلومه وإنما الألف الأخرى هي التي فيها الجهالة، وهي موقوفة على شرط فإن ثبت هذا الشرط كانت زيادة في صداقها وهذا لا محذور فيه، والجهالة هنا تؤول إلى العلم، فليس المهر كله مجهولاً؛ بل ألفٌ معلومة وألفٌ هي التي فيها الجهالة، ثم إنها قد علقت بشرط إن وجد هذا الشرط فهي لها فيكون ذلك زيادة في مهرها، وهذا القول هو الأصح فليس في مثل هذا محذور، وكونه له غرض أو ليس له فيه غرض هذا لا يؤثر فلا يترتب على ذلك فساد التسمية. قال: [وعلى إن كانت لي زوجة بألفين أو لم تكن بألف يصح بالمسمى] إذا قال: إن كانت لي زوجة فمهرك ألفان، وإن لم تكن فمهرك ألف، قال هنا: صح، والفرق بين المسألتين أن المسألة الأولى لا غرض له فيها وهنا للمرأة في ذلك غرض ومصلحة، وعلى ترجيح القول المتقدم في المسألة السابقة فلا تشكل هذه المسألة. قال: [وإذا أجل الصداق أو بعضه صح] إذا أجل الصداق فقال: لك عشرة آلاف إلى سنة أو قال: لكِ خمسة آلاف حالة وخمسة آلاف مؤجلة إلى سنة، فإن هذا التأجيل يصح كثمن المبيع بجامع أن كليهما- أي المهر وثمن المبيع - عوض في معاوضة صحيحة سواء كان هذا التأجيل للمهر كله أو لبعضه. قال: [فإن عَيَّن أجلاً] كأن يقول لك كذا إلى سنة أو سنتين أو خمس سنوات فإنه يتعين، فيجب عليه أن يعطيها هذا المهر إذا حل الأجل المعين. قال: [وإلا فمحله الفرقة]

إذا لم يعين له أجلاً فمحله الفرقة، سواء كانت الفرقة عن بينونة أو كانت بموت، هذا هو المشهور في المذهب، وقال الشافعية: إذا لم يعين أجلاً فيكون لها مهر المثل لعدم بيان المحل الذي يجب فيه إعطاء هذه المرأة مهرها المؤجل فتفسد التسمية، وقال الأحناف: بل يبطل التأجيل وتجب حالة، وهي ثلاث روايات عن الإمام أحمد، والراجح ما ذهب إليه الحنابلة وهو اختيار شيخ الإسلام وذلك لأن العرف يقضي بذلك، فإن العرف- فيما إذا كان المهر مؤجلاً - أنه يجب بالطلاق البائن، فإذا أبانها أعطاها مهرها المؤجل، أو بالموت فإذا ماتت فإنه يكون من إرثها، وعليه فإذا طلقها طلاقاً رجعياً ولم تنقض عدتها فلا يجب أن يعطيها هذا المهر، أي لا يحل بالطلاق الرجعي، وإنما يحل بالطلاق البائن أو غيره من الفسوخ كالخلع وغير ذلك، وهذا هو الذي يقضي به العرف. قال: [وإن أصدقها مالاً مغصوباً أو خنزيراً ونحوه وجب مهر المثل] هذه المسألة تقدمت في الدرس السابق، وتقدم اختيار شيخ الإسلام في المال المغصوب، وتقدم ترجيح ما ذهب إليه الحنابلة في الخنزير ونحوه مما ليس بماليٍ. قال: [وإن وجدت المباح معيباً خيرت بين أرشِه وقيمته] إذا أصدقها شيئاً من العبيد أو شيئاً من الحيوان أو غير ذلك من الأموال فوجدته معيباً فتخير المرأة بين الأرش والقيمة إن كان مقوماً وإلا فالمثل، فلها أن ترد هذا المعيب وتأخذ قيمته إن كان مقوماً أو مثله إن كان مثلياً، والخيار الآخر أن تأخذ الأرش فيقوم هذا الشيء معيباً ويقوم صحيحاً، والفارق بينهما هو الأرش، وفرق بين البيع – وقد تقدم ألا أرش فيه -، وبين النكاح هنا، فإن البيع يمكنه أن يرجع السلعة، وأما هنا فإنه قد تعذر رد المعوض لأننا نصحح النكاح وقد استباح بضعها. قال: [وإن تزوجها على ألف لها وألف لأبيها صحت التسمية] إذا قال الأب في النكاح مهرها ألف لي وألف لها، فهذا صحيح لقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: (أنت ومالك لأبيك) .

قال: [فلو طلق قبل الدخول وبعد القبض رجع بالألف ولا شيء على الأب لهما] إذا طلق المرأة قبل الدخول وكان قد أعطاها ألفاً لها وألفاً لأبيها، وبالطلاق لا يكون للمرأة إلا نصف المهر فحينئذٍ لا يجب على الزوج إلا ألف، وحينئذٍ فيرجع بالألف إلى الزوجة وأما الأب فقد أخذ ما أخذ لقوله - صلى الله عليه وسلم -: (أنت ومالك لأبيك) ، ويشترط في الأب أن يكون ممن يصح تملكه كما في الإنصاف، وعليه ما إذا كان المال للأب جميعه كأن يقول: " أزوجك ابنتي على أن يكون لي مائة ألف " ثم طلق المرأة قبل الدخول وبعد قبض المائة ألف. فالمذهب أن الزوج يرجع إلى الزوجة ولا يرجع إلى الأب، أما في المسألة الأولى فهذا فيه قوة، وأما هنا فإن المرأة أصبحت غارمة، والذي يترجح كما قال الشيخ عبد الرحمن بن سعدي: والصحيح - وهو الوجه الثاني في المذهب - أنه يرجع إلى من قبضه، أي سواء كان القابض هو الولي أو المرأة، وهذا هو الراجح، وأن الزوج إذا أقبض الأب المهر وكان الأب قد اشترطه لنفسه أو اشترط النصف لنفسه فإنه يرجع إلى الأب لأنه هو القابض، وإن كانت الزوجة التي قبضت فإنه يرجع إليها، هذا هو الأظهر وهو وجه في المذهب وهو اختيار الشيخ عبد الرحمن بن سعدي، أما لو طلقها قبل القبض كأن يقول مهرها ألف درهم ثم طلق قبل أن تقبض فحينئذٍ يدفع النصف وهو خمسمائة درهم وحينئذٍ للأب أن يأخذها كلها أو ما شاء منها بالشروط التي تقدم ذكرها عند قوله - صلى الله عليه وسلم -: (أنت ومالك لأبيك) . قال: [ولو شرط ذلك لغير الأب فكل المسمى لها]

إذا قال: أتزوج أختك على أن يكون لك كذا وكذا ولها كذا وكذا، فالمسمى كله للمرأة، وذلك لأنه عوض على بضعها والشرط باطل هنا، فإذا شرط الأخ أو الجد أو غيرهم سوى الأب مالاً، فإن هذا المال يدخل في مهر موليته وليس له منه شيء لأن ذلك عوض على بضعها فهو مستحق لها دون غيرها، وعليه فهذا الشرط شرط باطل ويكون المسمى كله للمرأة فإذا قال: علي عشرة آلاف لك وعشرة آلاف لها، فيكون مهرها عشرين ألفاً، لأن هذا المال المذكور المسمى كله عوض لبضعها فكانت هي المستحق له، وأما الأب فله حكم آخر لقوله - صلى الله عليه وسلم -: (أنت ومالك لأبيك) وقول الله تعالى في شرع من قبلنا: {إني أريد أن أنكحك إحدى ابنتي هاتين على أن تأجرني ثماني حجج} ، فمهرها هنا منفعة للأب. قال: [ومن زوج بنته ولو ثيباً بدون مهر مثلها صح] إذا كان مهر مثيلاتها عشرة آلاف درهم، فزوجها بخمسة آلاف درهم. فيصح هذا، وذلك لقوله - صلى الله عليه وسلم -: (أنت ومالك لأبيك) ، ولأنه إذا جاز أن يشرط المهر لنفسه كله فأولى من ذلك أنه يجوز له أن يزوجها بدون مهر مثلها، ولو قيل بتقييد ذلك بألا يكون في ذلك إضرار بها فإن في ذلك قوة، كما تقدم في شروط جواز أخذ الوالد من مال ولده، فإن كان يضر بها فلا يتبين هذا، لأن الأب إنما يجوز له أن يأخذ من مال ولده بالمعروف حيث لا ضرر، وأما إن كان هناك ضرر فلا. قال: [وإن زوجها به وليٌ غيره بإذنها صح] إذا زوجها جدها أو أخوها بعشرة آلاف درهم ومهر مثيلاتها عشرون ألفاً وكان ذلك بإذنها ورضاها فلا بأس لأنها قد أسقطت حقها بنفسها. قال: [وإن لم تأذن فمهر المثل] فإن زوج الأخ الأخت بخمسين ألفاً ومهر مثيلاتها مائة ألف ولم تأذن فيجب على الزوج مهر المثل على المذهب، لأنه عوض بضعها ولم تأذن بإسقاطه.

واختار شيخ الإسلام وهو نص الإمام أحمد وصوبه صاحب الإنصاف: "أنه يجب على الولي ولا يلزم الزوج"، وهو أظهر، لأن هذا الولي كالوكيل في البيع، فكما أن الوكيل يضمن إن باع بثمن أنقص من ثمن المثل فكذلك الولي في النكاح، فعلى ذلك الولي هو الذي يجب عليه أن يكمل لها مهرها إلا أن ترضى. قال: [إن زوج ابنه الصغير بمهر المثل أو أكثر صح في ذمة الزوج] إذا كان له ابن صغير ولهذا الابن مال فزوجه بمهر المثل وبأكثر من مهر المثل فإنه يصح لأن الأب أعلم بمصلحته فقد يكون في زيادة المهر مصلحة له، ويجب في ذمة الابن، إلا أن يعين المهر، كأن يقول: " زوجت ابني ابنتك والمهر هذا الدار "، فهنا المهر معين وعليه فلا يكون في الذمة، بل يكون المهر عين هذا المال. قال: [وإن كان معسراً لم يضمنه الأب] إذا كان هذا الابن معسراً لا مال له، لم يضمنه الأب، لأنه نائب عنه فلا يلزمه ما لم يلتزمه. وعن الإمام أحمد أنه يجب عليه للعرف، وهذا حيث كان الفرق يدل على ذلك، وعن الإمام أحمد أنه يجب على الأب أصالةً وهذا يرجع إلى مسألة يأتي البحث فيها، وهي (هل انكاح الابن من النفقة الواجبة أم لا) . …الدرس الرابع والثلاثون بعد الثلاثمائة فصل قال: [وتملك المرأة صداقها بالعقد] تملك المرأة مهرها بالعقد، قياساً على البيع، فكما أن ثمن المبيع وهو عوض السلعة يملك بالعقد، فكذلك المهر وهو عوض بضعها يملك بالعقد وعنه لا تملك إلا نصفه. قال: [ولها نماء المعين قبل القبض] فلها نماء المهر المعين لا المبهم. المعين: كأن يقول: " لك نخل هذا البستان صداقاً " فهذا الصداق معين. فقبل القبض لها نماؤه المعين، فإذا نمت هذه النخلات وأثمرت وأنتجت نخلاً فإن هذا النماء من الثمر وغيره يكون لها. قال: [وضده بضده]

أي ضد المعين وهو المبهم بضده في الحكم، فالمبهم نماؤه لا تملكه المرأة، والمبهم كأن يقول: " لك عشر نخلات من نخلي "، فليس لها النماء لأنه لم يعين والضمان كذلك، فهناك عليها الضمان ولذا كان النماء لها وهنا الضمان على الزوج ولذا فالنماء له، وهذه المسائل كمسائل البيع في القبض، وقد تقدم ذكر مسائل القبض في البيع وهنا كذلك. قال: [وإن تلف فمن ضمانها إلا أن يمنعها زوجها قبضه فيضمنه] إذا تلف المهر فإنه يكون من ضمانها إلا أن يمنعها زوجها من القبض فإذا تلف فإن الضمان يكون عليه لأنه قد منعها أن تقبضه فأشبه الغاصب، هذا فيما يشترط فيه القبض، وأما ما لا يشترط فيه القبض فلا فرق ما بين قبل القبض وبعده. قال: [ولها التصرف فيه وعليها زكاته] فلها التصرف في صداقها لأنه ملك لها، كما أن عليها زكاته وذلك لأنه مالها فهو مال فيدخل في عموم قوله تعالى: {خذ من أموالهم صدقة} ، وهو مال لها فوجبت الزكاة عليها، فيجب عليها أن تزكي المعين، ويجب أن تزكي المبهم من تعيينه، فإذا قال: " لك عشر نخلات، وهي هذه النخلات "، فتزكي عليها إذا أثمرت، وإذا قال: " لك كذا وكذا من الدراهم "، فإن عليها أن تزكيها إذا مضى عليها الحول، وأما إن قال: " لك أربعون شاة من شياهي " ولم يعين لها، فهذا من المبهم فلا تزكيه حتى يعينه لها. قال: [وإن طلق قبل الدخول أو الخلوة فله نصفه حكماً]

أي قهراً كالإرث، فليس راجعاً إلى إرادته واختياره فهو ماله، فإذا طلق الرجل امرأته قبل الدخول بها وقد سمى لها صداقاً، فلها نصفه وله النصف قال تعالى: {وإن طلقتموهن من قبل أن تمسوهن وقد فرضتم لهن فريضة فنصف ما فرضتم إلا أن يعفون أو يعفو الذي بيده عقدة النكاح وإن تعفوا أقرب للتقوى} ، فله هو أن يعفو ولها هي أن تعفو فلكلٍ منهما العفو عن صاحبه، فللزوجة أن تعفو فتقول: " أنا لا أريد شيئاً منها " فلكل واحدٍ منهما له أن يعفو بشرط أن يكون جائزَ التصرف؛ لأن من ليس كذلك لا يصح تصرفه، ودليل جواز العفو وأن لكل منهما العفو قوله تعالى: {إلا أن يعفون أو يعفو الذي بيده عقدة النكاح} وليس للولي أن يعفو عن مولاه ذكراً كان المولى أو أنثى، فليس لولي الزوج أن يعفو وليس لولي الزوجة أن يعفو وذلك لأن المهر مال للمرأة فلم يملك غيرها هبته ولا إسقاطه – هذا في ولي الزوجة -، وولي الزوج كذلك، فهو مال له وقد دخل في ملكه كالإرث فليس لأحدٍ أن يتصرف بهبته ولا إسقاطه، ولأنه لا مصلحة له في ذلك، فليس لولي المحجور عليه أن يسقط النصف الذي وجب لمولاه؛ وذلك لأنه لا مصلحة له في هذا الإسقاط بل هو ضرر محض، وولي الزوجة لا يملك إسقاط هذا المهر المستحق لها لأنه مال لها فليس لأحد أن يتصرف فيه، هذا إن كانت رشيدة، وكذلك إن كانت غير رشيدة لأن الولي لا يجوز له أن يتصرف بما ليست فيه مصلحة، وقد اختلف أهل العلم في قوله تعالى: {إلا أن يعفون أو يعفو الذي بيده عقدة النكاح} ، هل الذي بيده عقدة النكاح هو الزوج أو الولي؟ 1- فمن قال هو الزوج قال بالقول الذي تقدم ذكره وهو مذهب الجمهور ومنهم الحنابلة.

2- ومن قال هو الولي - وهو مذهب المالكية – فإنه يجيز للولي أن يسقط نصف مهر المرأة، فمذهب المالكية أن للولي سواء كان أخاً أو عماً أو ابن عم أو غيره له أن يسقط ما استحقته المرأة بطلاقها قبل الدخول، ويفسرون هذه الآية بالولي، فهو الذي بيده عقدة النكاح وذلك لأن الزوج لا يملك عقدة النكاح بعد طلاقها. والقول الأول - وهو مذهب الجمهور- أرجح وأن المراد بذلك الزوج وانه هو الذي بيده عقدة النكاح، وأن المراد بالنكاح هو النكاح الأول الذي وجب له المهر وهو قول علي بن أبي طالب، وقد روي مرفوعاً إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - ولا يصح، وفي الدارقطني أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (ولي العقد الزوج) ، والحديث لا يصح مرفوعاً فإن إسناده ضعيف، لكنه صحيح موقوفاً على علي بن أبي طالب، كما روى ذلك ابن أبي شيبة بإسناد صحيح ورجح هذا القول ابن جرير في تفسيره، ويرجح هذا القول ما تقدم من التعليل المذكور وهو أن المهر مال للمرأة فلم يملك غيرها إسقاطه فإن في ذلك --عليها وتعدٍ على مالها، ولأنه قال بعد ذلك {وإن تعفو أقرب للتقوى} وليس هذا أقرب للتقوى، فليس حرمان المرأة من نصف مهرها الثابت لها بالطلاق قبل الدخول ليس هو بأقرب للتقوى، بل الأقرب للتقوى أن تعطى حقها وألا تحرمه إلا برضا منها وإسقاط. قال: [دون نمائه المنفصل] إذا أصدقها أربعين شاة مثلاً - فإنها تملك ذلك بالعقد – ثم أنتجت هذه الشياه، وقبل الدخول طلقها، فإن النتاج يكون للمرأة ويرجع بعشرين شاة، كذلك إذا أصدقها عشرين نخلة مثلاً ثم طلقها قبل الدخول؛ فالثمر لها وله نصف هذه النخلات وذلك لأنه نماء ملكها، ونماء الملك لمالك. قال: [وفي المتصل له نصف قيمته دون نمائه]

أما النماء المتصل كسمن في عبد أو غير ذلك، أو كبر في نخل أو غير ذلك فله نصف قيمته بدون نمائه، فيقوم هذا الشيء الذي قد نما نموا متصلاً - يقوم في يوم الصداق - ويعطي نصف القيمة، وأما النماء المتصل فإنه نماء في ملكها فهو لها، وإن قالت: " أنا ارضى أن أعطيه النصف بنمائه " وكانت رشيدة فذلك جائز. قال: [وإن اختلف الزوجان أو ورثهما في قدر الصداق أو عينه أو فيما يستقر به فقوله] إذا اختلف الزوجان أو ورثهما أو ولياهما إذا اختلفوا في قدر الصداق فقالت المرأة: قد أمهرني عشرة آلف، وقال: بل امهرتها خمسة آلاف فالقول قول الزوج لأنه منكر، فإنه ينكر هذه الخمسة آلاف الزائدة، والمنكر القول قوله مع يمينه والأصل براءة ذمته، وهذا حيث لم تكن هناك بينة، كذلك إذا اختلفوا في عينه كأن يقول: " أصدقتها هذه الدار " وقالت: " بل أصدقني هذه الدار الأخرى "، فالقول قول الزوج لأنه منكر والأصل براءة الذمة، وكذلك إذا اختلفوا فيما يستقر به المهر كأن يقول: " أنا لم أدخل بها " فتقول: " بل دخل بي " فهنا القول قوله لأنه منكر والأصل براءة الذمة، وهذا كله حيث أنه لم يعارض هذا الأصل ما هو أقوى منه، فلو جرت العادة بما يدل على عدم صدقه فإن القول قولها، فإذا جرت العادة أن المهر أربعين ألفاً فقالت أصدقني أربعين ألفاً وهي من النساء اللاتي يرغب بمثلهن وقال بل أصدقتها عشرة آلاف فالقول قولها لأن العادة جارية بما قالت ولأن هذا أقوى من الأصل. إذن الأصل أن القول قول الزوج لأنه منكر والأصل براءة ذمته، ولكن لو جرت العادة بما قالت المرأة أو دلت القرائن على قولها فالقول قولها بيمينها. قال: [وفي قبضه فقولها] إذا اختلفوا في قبضه فالقول قولها لأن الأصل عدم القبض، ومن كان الأصل معه فالقول قوله، ولأنها منكرةً. مسألة: إذا أصدقها صداقين، صداقاً في السر وصداقاً في العلن،

فالمذهب الأخذ بالزائد مطلقاً، وصورة هذه المسألة: اتفق ولي المرأة - برضا المرأة - والزوج على أن يكون مهر المرأة عشرة آلاف، لكنْ لما كان العلن قالوا: نريد أن نجامل الناس فنقول أربعين، وكذلك العكس، كأن يقول: أنا لا أزوجك ابنتي إلا بمائة ألف، والناس يزوجون بعشرين ألفاً فيقول الآخر: قبلت ويتفقان على ذلك ويعقدان العقد في السر على ذلك، وأما في العلن فيكتبان ويتفقان على أنه عشرين ألفاً، فالمذهب على أنه يؤخذ بالزائد مطلقاً سواء كان الزائد هو السر أو العلن، أما إن كان الزائد هو صداق السر فذلك لأنه قد وجب به فقد تعاقدا بالنكاح على ذلك، وكان هذا هو الصداق الذي وقع عليه عقد النكاح فوجب به، وإن كان الزائد في العلن؛ كأن يتفقا على عشرة آلاف في السر وعلى أربعين في العلن، فيجب الزائد وهو أربعون ألفاً، وذلك لأنه قد بدله لها فلزمه ذلك وإن كان العقد هو ما يكون في السر، هذا هو المشهور في المذهب للتعليل المتقدم. والمشهور في المذهب أنه يستحب الوفاء لأنهما قد اتفقا وتشارطا على شيء يخالف هذا الزائد أو على الزائد وظاهر الأمر على أن ما في العقد أقل من الزائد، فيستحب لمن كان عليه الزائد أن يوفي، فيستحب للمرأة إذا كان العقد في السر على عشرة آلاف، وفي العلن على أربعين ألفاً، فيستحب لها أن ترد عليه ثلاثين ألفاً ولا تأخذ إلا العشرة آلاف، ويستحب للزوج إذا كان العقد في الباطن على أربعين ألفاً والعقد في الظاهر على عشرة آلاف فيستحب له ألا يعتمد على العشرة آلاف التي في الظاهر بل يدفع لها حقها الذي قد اتفقا عليه في الباطن، هذا على الاستحباب.

والصحيح وجوب ذلك، وهو القول الثاني في المذهب، وصوبه صاحب الإنصاف وهو القول الراجح، وذلك لأن المسلمين على شروطهم، ولوجوب الوفاء بالعقود والعهود وهذا من العهد فولي الزوجة قد تعهد له والزوجة كذلك، وكذلك الزوج فإن المرأة لم تبح له بضعها إلا على المهر الذي هو الزائد وإنما اتفقا في المهر على شيء في الظاهر أقل من الزائد لعلة أخرى. مسألة: إذا أهدى الزوج إلى زوجته قبل العقد أو بعده هدايا فلا يدخل ذلك في المهر لأنه ليس مما يتفق عليه وإن كانت قبل العقد ولم يوفوا له بالنكاح، أو كانت الهدايا بعد العقد وحصلت فرقة اختيارية مسقطة للمهر كله كالفسخ بالعيب ونحوه فإن الهدايا ترجع إليه وذلك لأن هذه الهداية هدية مشروطة ببقاء عقد النكاح، ودلالة الحال تدل على ذلك فهو لم يهدي إلا لهذا السبب وهو ابقاء عقد النكاح وحيث ولم ينكحوه أو حصلت فرقة اختيارية مسقطة للمهر فإنه حينئذٍ لم يتم مراده ولا مقصوده وحينئذٍ يرجع له حقه لأن العقد قد زال وحينئذٍ يترتب على ذلك عدم السبب الذي قد أهد له، وهذا هو المشهور في المذهب. الدرس الخامس والثلاثون بعد الثلاثمائة فصل قال [يصح تفويض البُضع، بأن يزوج الرجل ابنته المجبرة، أو تأذن المرأة لوليها أن يزوجها بلا مهر] …التفويض في اللغة: الإهمال، فكأن المهر أهمل لما لم يسمّ وهو نوعان: تفويض بضع، وتفويض مهر.

فأما النوع الأول: فهو أن يزوج الرجل ابنته المجبرة بلا مهر، أو تأذن امرأة لوليها أن يزوجها بلا مهر، فيكون المهر منفياً، فهذا يصح كما قال المؤلف، فيكون لها مهر نسائها هذا هو مذهب جمهور الفقهاء واستدلوا: بقوله تعالى: لا جناح عليكم إن طلقتم النساء ما لم تمسوهن أو تفرضوا لهن فريضة قالوا: ولما ثبت عند الخمسة بإسناد صحيح: أن ابن مسعود سئل عن رجل تزوج امرأة ولم يفرض لها صداقاً ولم يدخل بها حتى مات فقال رضي الله عنه: (لها مثل صداق نسائها لاوَكسْ ولاشطط - أي لا نقص ولا ظلم -، وعليها العدة ولها الميراث) ، فقام معقل بن سنان الأشجعي فقال: " قضى النبي - صلى الله عليه وسلم - بروع بنت واشق -إمرأة منا- بمثل ما قضيت به "، والحديث مرفوع إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -. قالوا: فهذا يدل على صحة تفويض البضع، والقول الثاني في المسألة، وهو قول في مذهب أحمد واختاره شيخ الإسلام واختاره من المتأخرين الشيخ عبد الرحمن بن سعدي أنه لا يصح النكاح إلا بمهر، والمهر إما أن يكون مسمى فيجب المسمى كأن يقول:" نكحت موليتك على عشرة آلاف "، وإما أن يكون مسكوتاً عنه فيجب مهر المثل، فهوا مسكوت عنه فليس بمنفي بل قد نكحها على مهر لكنه لم يفرض لها فيكون لها مهر مثيلاتها، وأما أن يكون منفياً فلا، وهو مخالف لكتاب الله تعالى ولسنة نبيه - صلى الله عليه وسلم -، ومن الأدلة على ذلك قوله تعالى: {وامرأة مؤمنة إن وهبت نفسها للنبي إن أراد النبي أن يستنكحها خالصة لك من دون المؤمنين قد علمنا ما فرضنا عليهم في أزواجهم} ، أي – ما فرضنا من المهور-، وأيضاً قوله تعالى: {أن تبتغوا بأموالكم محصنين غير مسافحين} ، ولذا النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يبح الواهبة نفسها لخاطبها مع فقره الشديد حتى قال له: (التمس ولو خاتماً من حديد) ولم ينكحه بلا مهر حتى أنكحه بما معه من القرآن، وهذا القول هو القول الراجح.

وأما الأدلة المتقدمة فإنه ليس فيها أن المهر منفي، وإنما المهر مسكوت عنه، فالمهر لم يفرض -أي لم يسم- وليس في ذلك أنه منفي، وعلى ذلك فتفويض البضع باطل فالنكاح باطل، ولذا أبطل النبي - صلى الله عليه وسلم - نكاح الشغار لعدم المهر- أي المهر منفي فيه -. قال: [وتفويض المهر بأن يزوجها على ما يشاء أحدهما، أو أجنبي] هذا هو النوع الثاني من التفويض وهو تفويض المهر كأن يقول " أتزوجك على ما شئت من المهر " أي على ما شئتِ من المهر أو تقول هي: " أرضى بنكاحك على أن يكون لي من المهر ما شئتُ "، أو يفوضاه إلى أجنبي عنهما كأن يقول: " على ما شاء فلان "، فهذا هو تفويض المهر فهنا قد فوض المهر وأهمل ولم يسمي فالنكاح صحيح ويجب مهر المثل. والفرق بين هذه المسألة والمسألة السابقة أن هذه المسألة المهر ثابت وهي لا ترضى إلا به، فهي إنما نكحته على مهر لكن هذا المهر مجهول، فلما كان مجهولاً كان فاسداً وعليه فيجب لها مهر المثل، وأما المسألة السابقة فلا مهر بل هو منفي. قال: [ولها مهر المثل بالعقد ويفرضه الحاكم بقدره] فالحاكم - أي القاضي-، هو الذي يقدر مهرها بالنظر إلى نسائها ثم قال بعد ذلك: ولها مهر نسائها فيقدر الحاكم مهر المثل بالنظر إلى مهر نسائها والمشهور في المذهب أن مهر نسائها هو مهر قريباتها من أبيها وأمها، كالأم والعمة والخالة والأخت ونحو ذلك، ويقدر المهر لها على حسب ما يكون لقريبتها المساوية لها جمالاً ومالاً وسناً وعقلاً وبكارةً وثيوبةً وأدباً، وقال مالك: بل يقدر لها المهر باعتبار ما فيها من الصفات بقطع النظر عن نسائها، بمعنى ينظر ما فيها من الصفات من نسب وجمال ونحو ذلك فيقدر لها المهر بحسب ما فيها من الصفات.

وعن الإمام أحمد وهو مذهب الشافعي واختاره الموفق: أنه يقدر لها المهر بالنظر إلى نسائها من جهة أبيها لا من جهة أمها مع النظر إلى الصفات التي تقدم ذكرها بمعنى ينظر من جهة الأب كالأخت والعمة وعمة الأب وبنت الأخ، ثم ينظر من يساويها جمالاً ومالاً وأدبها وعقلها وبكارتها أو ثيوبتها ونحو ذلك، ثم يقدر لها المهر بحسب ذلك، وهذا القول هو أرجح هذه الأقوال. أما ما ذهب إليه الإمام مالك ففيه ضعف، وذلك لأن ما ذكره من الشروط من جمال ونحوه في المرأة معتبر في القولين الآخرين لكنهم قيدوه بنسائها ولا شك أن نساءها – حسنهن واحد، ولا شك أن حسب المرأة له أثر في المهر ولذا قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: (تنكح المرأة لأربع لحسبها …..) ، ورجحنا القول الثالث على القول الأول: ذلك لأن الحسب إنما هو معتبر من جهة الأبوة لا من جهة، الأمومة لأن أمها قد لا تكون من حسبها فقد تكون أعلى من عصبتها نسباً وقد تكون دونهن نسباً، فجهة الأمومة لا أثر لها هنا لأن الحسب إنما يكون من جهة العصبة لا من جهة الأم، فأرجح الأقوال ما ذهب إليه الشافعية وهو رواية عن الإمام أحمد واختاره الموفق أنه يجب أن يكون لها مهر نسائها من عصبتها - أي من قرابتها من جهة الأب - مع اعتبار الصفات الثابتة في المرأة من مال وجمال وأدب وعقل وبكارة أو ثيوبة ونحو ذلك، ويدل على اعتبار كونها من نسائها ما تقدم من قول ابن مسعود: " لها مثل صداق نسائها " وقول معقل بن سنان: " قضى بذلك النبي - صلى الله عليه وسلم - ". قال: [وإن تراضيا قبله جاز] فإذا تراضيا الزوجان على شيء من المهر قبل أن يقدره الحاكم، فذلك لهما وذلك لأنه حق لهما فلا يعدوهما. قال: [ويصح إبراؤها من مهر المثل قبل فرضه]

فإذا أبرأته المرأة من المهر قبل أن يفرضه الحاكم وذلك كأن تقولَ: " قد أبرأته منه" فحينئذٍ يسقط عنه، لأنها هي صاحبة الحق فذلك حقها وقد أبرأت زوجها منه، وقد صح النكاح لأن المهر ليس بمنفي، لكن لو كان المهر منفياً – ويدخل هذا في عموم عبارة المؤلف وهو المذهب أيضاً – لو كان منفياً فكذلك، لكن الصحيح كما تقدم أن المنفي باطل من أصله، ولو قبضت المهر ثم وهبته إياه وكانت جائزة التصرف فيجوز بلا خلاف. قال: [ومن مات منهما قبل الإصابة والفرض ورثه الآخر ولها مهر نسائها] فمن مات من الزوجين قبل الإصابة - أي قبل الجماع وقيل الخلوة وقيل الفرض أي قبل أن يفرض لها صداقاً- فإنه يرثه الآخر للحديث المتقدم: (فعليها العدة ولها الميراث) ، وكان لم يسم لها صداقاً وقد مات قبل أن يدخل بها. قال: [وإن طلقها قبل الدخول فلها المتعة بقدر يسر زوجها وعسره] إذا طلق المفوضة – بفتح الواو – أو المفوضة – بكسر الواو – وكذلك من لم يسمي لها مهراً، فإذا طلقها زوجها قبل الدخول فلها المتعة. المفوضة: قد نفي مهرها حيث كان التفويض في بضعها وحيث لم يكن في بضعها بل بمهرها فالمهر مجهول، وكذلك إذا لم يسمِّ لها مهراً، فإذا طلقها زوجها قبل الدخول فلها المتعة بقدر يسر زوجها وعسره لقوله تعالى: {لا جناح عليكم إن طلقتم النساء ما لم تمسوهن وتفرضوا لهن فريضة ومتعوهن على الموسع قدره وعلى المقتر قدره متاعاً بالمعروف حقاً على المحسنين} ، وفي قوله (حقاً) ما يدل على فرضيته، وفي قوله (متاعاً بالمعروف) ما يدل على أن هذا المتاع يرجع فيه إلى العرف من خادم أو سكن أو ثياب أو نحو ذلك مما تعارف الناس على أنه متاع للمطلقة، فإنه يجزئه أن يعطيه إياها. واختار شيخ الإسلام وهو رواية عن الإمام أحمد: أن المطلقة بعد الدخول كذلك لها المتعة، خلافاً لمذهب جمهور العلماء لقوله تعالى: {وللمطلقات متاع بالمعروف حقاً على المتقين} وما ذهب إليه ظاهر فالآية تدل عليه.

قال: [ويستقر مهر المثل بالدخول] يستقر مهر المثل وكذلك المهر المسمى بالدخول والخلوة أيضاً، أما بالوطء فهو ظاهر قوله تعالى: {وإن طلقتموهن من قبل أن تمسوهن} ، فدل على أنه إن طلقها بعد المسيس فيجب المهر كاملاً، وأنه لا ينصف، هذا هو مفهوم المخالفة لهذ الآية فيجب للمرأة المهر كاملاً إذا مسها، وكذلك الخلوة في مذهب جمهور العلماء، فإذا خلا الرجل بالمرأة فيجب لها المهر وإن لم يمسها، وذلك لما روى سعيد بن منصور في سننه عن زُرارة بن أبي أوفى قال: " قضاءُ الخلفاء الراشدين: إذا أغلق باباً أو أرخى ستراً فقد وجب الصداق والعدة "، وزُرارة لم يدرك الخلفاء الراشدين، لكنه ثابت السند الصحيح في سنن البيهقي عن عمر بن الخطاب وعن علي بن أبي طالب ولا يعلم لهما مخالف فكان إجماعاً. والقول الثاني وهو مذهب الشافعية وهو رواية عن الإمام أحمد قالوا: " لا يثبت لها المهر كاملاً إن خلا بها ما لم يمسها لظاهر الآية المتقدمة. والراجح ما ذهب إليه أصحاب القول الأول لما تقدم، فهو قول عمر وعلي ولا يعلم لهما مخالف. قال: [وإن طلقها بعده فلا متعة] بالعقد وهو الوطء فقد فعلت ما يجب عليها، لكنه لم يطب وكان ذلك من جهته لا من جهتها ولأن التسليم المستحق وجد من جهتها فكان بوطئها. وهل يجب المهر كاملاً بغير خلوة ولا وطء، وإنما بما دون الوطء كأن يستمتع بها في غير وطء بلا خلوة كمس يد أو قبلة أو نحو ذلك؟ قولان في المذهب: القول الأول: وهو قول في المذهب وجوب المهر بذلك كالوطء، لأنه استمتاع فأشبه الوطء.

والقول الثاني: وهو اختيار الموفق وهو قول أكثر الفقهاء: أن المهر لا يثبت كاملاً بذلك، وهو الراجح لأن ظاهر الآية إنما دل على أن المهر يثبت بالمسيس أي بالوطء، وذلت أثار الصحابة على أنه يثبت بالخلوة، وليست القبلة ونحوها في حكم المسيس ولا في حكم الخلوة، والذي يتبين والله أعلم أن الخلوة لا تثبت بها هذا الحكم إلا إذا كانت بحيث يمكنه أن يطأها معها، أما إذا كانت خلوة يسيرة لا يتمكن من وطئها فلا يتبين أنه يجب المهر بمثل هذه الخلوة، وذلك لأن ظاهر الآية أنه لا يجب إلا مع المسيس، وإنما وجب مع الخلوة لأن الخلوة مظنة المسيس، ولأن الخلوة تمكين من المرأة لنفسها، وليس هذا في أي خلوة، وإنما يثبت بالوطء في القبل على الصحيح، وأما الوطء في الدبر فلا يثبت فيه هذا الحكم، لأنه ليس هذا المسيس المشروع. قال: [وإن افترقا في الفاسد قبل الدخول والخلوة فلا مهر] …إذا نكحها نكاحاً فاسداً كأن ينكحها بلا ولي ثم فارقها قبل أن يدخل بها، فلا مهر، وذلك لأن هذا نكاح فاسد فكان وجوده كعدمه، فالنكاح الفاسد وهو نكاح شبهة عقد، فإذا طلقها قبل الدخول فلا مهر لها، لأنه فاسد فكان وجوده كعدمه، ولقوله - صلى الله عليه وسلم -: (أيما امرأة نكحت بغير إذن وليها فنكاحها باطل، ولها المهر بما استحل من فرجها) ، وظاهره أنه لا مهر لها إن لم يستحل فرجها. قال: [وبعد أحدهما يجب المسمى]

فبعد الدخول أو الخلوة يجب المسمى، وإن لم يكن قد سمى المهر فيجب مهر المثل، أما إن مسها فهذا ظاهر لقول النبي - صلى الله عليه وسلم - في الحديث المتقدم: (ولها المهر بما استحل من فرجها) ، وأصرح منه ما ورد في رواية ابن حبان: (ولها ما أعطاها بما أصابها) ، أي لها ما أعطاها من المهر بما أصابها، وأما إن كانت مجرد خلوة ولم يطأها فلا يتبين أنه يجب عليه المهر، وذلك لأنه نكاح فاسد فكان وجوده كعدمه والنبي - صلى الله عليه وسلم - إنما أوجب المهر حيث أصابها وهنا لم يصبها، وهذا القول هو الراجح، وهو اختيار الموفق ابن قدامة ورواية عن الإمام أحمد. وأولى من ذلك النكاح الباطل كنكاح الخامسة، والنكاح الباطل عند الفقهاء هو: ما أجمع على بطلانه كنكاح الخامسة، وأما النكاح الفاسد فهو: ما اختلف فيه كالنكاح بلا ولي، ففي النكاح الباطل إن طلقها قبل الدخول فلا شيء لها لأنه نكاح باطل فوجوده كعدمه، وإن كان بعد الخول، فالمذهب وهو الصحيح في هذه المسألة: أن لها المهر إن استحل فرجها للحديث المتقدم: (ولها ما أعطاها بما أصابها) ، ولا فرق فيما حرمه الشارع بين ما أجمع عليه أو لم يجمع عليه، لكن إن كانت عالمة بأن النكاح باطل أو فاسد فلا شيء لها لأنها زانية مطاوعة فلا شيء لها. قال: [ويجب مهر المثل لمن وطئت بشبهة] إذا وطئت بشبهة كأن يظنها زوجته فيطأها، فيجب مهر المثل، قال الموفق: بلا خلاف أعلمه. قال: [أو زناً كرهاً]

فإذا أكرهها على الزنا فيجب لها المهر بما استحل من فرجها، هذا هو مذهب الجمهور للحديث المتقدم: (ولها المهر بما استحل من فرجها) ، وقال الأحناف وهو رواية عن الإمام أحمد، وهو اختيار شيخ الإسلام: أنه لا مهر لها ولا عوض لها وإن كانت مكرهة وذلك لأن هذا العوض خبيث وهو سحت فهو مقابل حرام فكان سحتاً محرماً ولم يكن حلالاً مباحاً ولا يقاس هذا بهذا، ولا يلحق ما أباحه الله بما حرمه الله، وهذا هو الراجح وهو اختيار الشيخ عبد الرحمن بن سعدي. قال: [ولا يجب معه أرش بكارة] هذا على القول بوجوب مهر المثل، فهل يجب أرش البكارة؟ قال: لا يجب أرش البكارة، وذلك لأن مهر المثل يدخل فيه أرش البكارة، فإنها قدرت على أنها بكر، وقدر مهرها على أنها بكر، فنظر إلى بكارتها أثناء تقدير مهرها، وعلى القول الراجح المتقدم وهو أنه لا مهر لها فحينئذٍ يحتاج أن يجعل لبكارتها مهرا، ً وذلك لأنه قد أتلف عليها شيئاً مما ينتفع به، فكان عليه أرش ذلك، ويعرف أرش البكارة بأن ينظر إلى مهرها وهي بكر وينظر إلى مهرها وهي ثيب، والفارق بينهما هو أرش بكارتها. قال: [وللمرأة منع نفسها حتى تقبض صداقها الحال] فإذا تزوج الرجل امرأة على أن يصدقها عشرة آلاف حالةً، ثم قال: أريد أن أبني بالمرأة ولم يعطها صداقها فللمرأة أن تمتنع ولوليها أن يمنع من ذلك، وذلك لأن العوض وهو المهر لم يقبض فكان لهم المنع من تسليم المعوض، فلهم المنع من تسليم المعوض وهو البضع حتى يستلموا عوضه، وهذا بإجماع أهل العلم وهذا ظاهر، ولأنه قد يتعذر استيفاء العوض فيتعذر عليها إرجاع المعوض، وظاهر قوله: "حالاً" أنه لو كان مؤجلاً فليس لها أن تمنع ولذا قال: [فإن كان مؤجلاٍ ….. فليس لها منعها] فإذا كان المهر مؤجلاً كأن يقول: " أتزوجها على عشرة آلاف إلى سنة،" ثم أراد أن يبني بها فليس لها أن تمنعه من نفسها، وذلك لأنها قد رضيت بتأخير صداقها وهو متضمن رضاها بتسليم نفسها قبل قبض صداقها.

قال: [أو حل قبل التسليم] إذا قال: المهر أدفعه لكم بعد شهر فرضوا بذلك فمر الشهر ولم يسلم الصداق، فيجب عليها أن تمكنه من نفسها وألا تمنع نفسها منه، وقالوا: وذلك لأنها قد وجب عليها واستقر وجوب تسليم بضعها قبل القبض فلم يكن لها أن تمتنع. والقول الثاني في المذهب: أنه لا يجب عليها ذلك، وهذا فيما يظهر لي أظهر للعلة المتقدمة وهي منع تسليم المعوض قبل أخذ عوضه، ولأنه قد يتعذر استيفاء العوض فيفوت عليها منعه بضعها. قال: [أو سلمت نفسها تبرعاً فليس لها منعها] إذا اتفقوا على صداق حال، فسلمت نفسها له تبرعاً فليس لها أن تمنع نفسها بعد ذلك، وذلك لأن المهر قد استقر بهذا التسليم فلم يكن لها المنع، ولأنها قد رضيت فسلمت نفسها عن رضى فاستقر العوض بذلك. والقول الثاني في المسألة، وهو مذهب أبي حنيفة النعمان ورواية عن الإمام أحمد واختيار الشيخ عبد الرحمن بن سعدي: أن لها أن تمنع نفسها وقد تبرعت له، وذلك لأن رضاها ليس مطلق بل هو مقيد بشرط وهو أن يعطيها صداقها، وأن يقبضها إياه، فقد مكنته من نفسها بهذا الشرط فليس رضاها رضا مطلقاً بل هو مقيد بهذا الشرط وهو أن يسلمها صداقها وحينئذٍ فلها أن تمنع نفسها، وهذا هو القول الراجح. قال: [فإن أعسر بالمهر الحال، فلها الفسخ ولو بعد الدخول] إذا أعسر بالمهر الحال قبل الدخول فلها الفسخ، وذلك لتعذر الوصول إلى العوض قبل تسليم المعوض، ولو كان بعد الدخول، فإذا دخل بها ولم يسلم مهرها الحال فلها أن تفسخ حيث أعسر، وذلك لأن لها حينئذٍ منع نفسها على الصحيح فكان لها الفسخ، ولأنها إنما مكنت نفسها لأخذ حقها وصداقها وحيث أعسر بذلك فلها الحق بالفسخ، لكن الفسخ لابد أن يكون بحكم حاكم في المشهور في المذهب ولذا قال المؤلف: [ولا يفسخه إلا حاكم] وتقدم كلام شيخ الإسلام في هذه المسألة وأن الفسوخ تصح بغير حكم حاكم، وأن الحاكم إنما يأذن بذلك. الدرس السادس والثلاثون بعد الثلاثمائة

باب وليمة العرس الوليمة: هي طعام العرس خاصة، فلا تطلق الوليمة في اللغة إلا على طعام العرس خاصة. قال: [تسن] فالوليمة سنة لقول النبي - صلى الله عليه وسلم - لعبد الرحمن بن عوف كما في الصحيحين: (أولم ولو بشاة) ، ولما ثبت في الصحيحين من حديث أنس قال: ما أولم النبي - صلى الله عليه وسلم - على أحد من نسائه ما أولم عليها – يعني زينب بنت جحش – أولم بشاة، ولا خلاف بين أهل العلم في مشروعية الوليمة. وإنما اختلفوا هل هي سنة مستحبة – كما ذكر المؤلف – أم هي واجبة؟ فالجمهور على أنها سنة، وقال بعض أهل العلم بوجوبها وهو مذهب الظاهرية وقول في مذهب الشافعي وحكاه ابن عقيل عن الإمام أحمد، وهو الراجح لظاهر الحديث: (أولم ولو بشاة) ، ولما ثبت في المسند بإسناد حسن أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال لعلي لما تزوج فاطمة: (لا بد للعرس من وليمة) ، والمذهب أنها تسن بالعقد، فوقتها المستحب في المشهور من المذهب العقد، وقال شيخ الإسلام: تسن بالدخول، وقال صاحب الإنصاف: " الأولى أن يقال إن وقت الاستحباب موسع من عقد النكاح إلى انتهاء أيام العرس "، وما ذكره أظهر، ومرجع ذلك إلى العرف، فإذا كان عرف الناس أن الوليمة تكون بعد العقد فتسن كذلك وإن كان عرفهم بالبناء بالمرأة والدخول بها فتستحب كذلك. قال: [بشاةٍ فأقل]

لا حد لأكثر الوليمة – بإجماع أهل العلم – فلو أولم بخمس شياه أو عشر فذلك كله جائز ما لم يكن ذلك إسرافاً أو مخيله، والمستحب أن تكون بشاة فأقل، لقوله - صلى الله عليه وسلم -: (أولم ولو بشاة) ، ولما تقدم أنه أولم لزينب بنت جحش بشاة، لكن ظاهر قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: (أولم لو بشاة) ، كما ذكر ذلك بعض الحنابلة أن الأولى أن تكون أكثر من شاة وذلك لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - جعل كونها وليمة قليلاً، فقال (أولم ولو بشاة) أي أولم ولو بشيء قليل كالشاة، فدل هذا على أن الأولى أن تكون الوليمة بأكثر من شاة، ولو أولم بأقل من شاة فذلك جائز، ففي الصحيحين أن النبي - صلى الله عليه وسلم - (أولم على صفية بالأقط والتمر والسمن) ، وفي البخاري أن النبي - صلى الله عليه وسلم - (أولم على بعض نسائه بمدين من شعير) ، لكن الأولى له أن يولم بشاة فأكثر. قال: [وتجب في أول مرة إجابة مسلمٍ] تجب إجابة مسلم في أول مرة أي في وليمة اليوم الأول من أيام العرس، لما ثبت في الصحيحين عن أبي هريرة قال: (شر الطعام وليمة العرس يدعى لها الأغنياء ويترك الفقراء ومن لم يجب فقد عصى الله ورسوله) . وذكر بعض فقهاء الحنابلة كابن عقيل والشيخ عبد القادر الجيلاني استثناءً فيه قوة وهو: أنه يكره لأهل العلم والفضل الإسراع في إجابة الدعوة والتهاون لما فيه من البذلة والدناءة والشره، قالوا: لا سيما القاضي لأنه ربما كان فيه ذريعة إلى التهاون به وعدم المبالاة، وهكذا أهل العلم والفضل، ودرء المفسدة أولى من جلب المصلحة، فإنما تجب وليمة العرس في اليوم الأول، وأما اليوم الثاني فإجابتها سنة.

وأما في اليوم الثالث فتكره، وذلك لما روى الترمذي أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (طعام الوليمة في اليوم الأول حق، وطعام اليوم الثاني سنة، وطعام اليوم الثالث سمعة ومن سمع سمع الله به) والحديث ضعفه الترمذي فقد رواه واستغربه فهو من حديث زياد بن عبد الله وعطاء بن السائب، وزياد بن عبد الله ضعيف الحديث، وعطاء بن السائب مختلط، وقد روى عنه زياد بن عبد الله بعد اختلاطه، وعلى ذلك الحديث ضعيف فيه علتان: ضعف زياد بن عبد الله. اختلاط عطاء بن السائب، وقد روى عنه عبد الله بن زياد بعد اختلاطه. وبهذا الحديث احتج الحنابلة والشافعية على كراهية إجابة الدعوة في اليوم الثالث، وقال المالكية: لمن كان له سعة أن يولم سبعة أيام، لما روى ابن أبي شيبة بإسناد صحيح أن حفصة بنت سيرين قالت: " تزوج أبي فدعا الصحابة سبعة أيام " قال البخاري: " ولم يوقت النبي - صلى الله عليه وسلم - يوماً ولا يومين " وثبت في مسند أبي يعلى بسندٍ حسن: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما تزوج صفية " جعل عتقها صداقها وجعل الوليمة ثلاثة أيام "، والذي يتبين أن مرجع هذا إلى العرف، لكن لا يتبين وجوب إجابة الوليمة في أيامها كلها بل لو أجاب في اليوم الأول فإن ذلك يجزئ لما في ذلك من الحرج من إجابة الوليمة في أيامها كلها، ولأن تطيب خاطر الداعي يحصل في اليوم الأول، فالذي يتبين أنه يجب في اليوم الأول وأما سائر الأيام فيسن ولا يجب. قال: [يحرم هجره إليها إن عينه] فيجب إن عينه بالدعوة، وأما إذا كانت الدعوة عامة فسيأتي الكلام عليها، وبشرط أن يكون هذا المسلم ممن يحرم هجره، وأما إذا كان ممن يجب هجره فإن من الهجر عدم إجابة دعوته. قال: [ولم يكن ثم منكر] وسيأتي كلام المؤلف على هذا. قال: [فإن دعاه الجَفلي] الجَفَلى: هي الدعوة العامة كأن يقول: " يا أيها الناس احضروا ". قال: [أو في اليوم الثالث أو دعاه ذمي كُرهت الإجابة]

تقدم أن الدعوة في اليوم الثالث لا تصح كراهيتها وكذلك دعوة الجفلى، فلا يثبت دليل يدل على كراهيتها، والقول الثاني في المذهب: أنها مباحة وهذا هو الراجح فلا دليل على كراهيتها، بل لو قيل باستحباب الإجابة لعمومات الأدلة لكان فيه قوة، ولا يقال بالوجوب. إذا دعاه ذمي فتكره الإجابة قالوا: لأنه مطالب بإذلاله. وهذا التعليل ضعيف ولا يقوى على الكراهية والراجح إباحة إجابة دعوته، وهو القول الثاني في المسألة، ويدل عليه ما ثبت في غير ما حديث عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: أنه كان يجيب دعوة اليهود، فالراجح أن دعوة الذمي لا تكره إجابتها. قال: [ومن صومه واجب دعا وانصرف] فمن كان صومه واجباً فإنه يدعو لصاحب الوليمة وينصرف، وذلك لما ثبت في مسلم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (إذا دعي أحدكم فليجب فإن كان صائماً فليصل وإن كان مفطراً فليطعم) ، ولا يحل له أن يفطر لما تقدم في كتاب الصيام من أن الصوم الواجب لا يجوز الفطر فيه كصوم رمضان أو صوم النذر. قال: [والمتنفل يفطر إن جبر] أي إن جبر خاطر الداعي، فإذا كان في ذلك جبراً لخاطر الداعي فإنه يرجح الفطر، لما ثبت في البيهقي بإسنادٍ حسن عن أبي سعيد الخدري قال: " صنعت للنبي - صلى الله عليه وسلم - طعاماً فجاءوا أصحابه، فلما وضع الطعام قال رجل إني صائم فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: (دعاكم أخوكم وتكلف لكم – ثم قال له: – أفطر وصم يوماً مكانه إن شئت) "، ولا تجب إجابة الدعوة في غير العرس كالوكيرة والنقيعة وغير ذلك وإنما يستحب. والوكيرة: هي دعوة البناء أي بناء البيت. والنقيعة: هي الطعام للغائب.

وظاهر الأحاديث المتقدمة وجوب إجابتها، لكن يدل على عدم الوجوب ما روى مسلم: " أن فارسياً كان طيب المرق فصنع للنبي - صلى الله عليه وسلم - طعاماً ثم جاء يدعوه فقال له النبي - صلى الله عليه وسلم -: (وهذه) أي عائشة فقال: " لا " فقال للنبي - صلى الله عليه وسلم -: (لا) ثم جاءه يدعوه فقال له النبي - صلى الله عليه وسلم -: (وهذه) قال: " لا " فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: (لا) ثم جاءه يدعوه فقال له النبي - صلى الله عليه وسلم -: (وهذه) فقال: " نعم " فقاما يتدافعان إلى منزله".، ولا يترك النبي - صلى الله عليه وسلم - الواجب لمثل هذا العذر، فهذا عذر لا يقوى على ترك الواجب، وهذا هو مذهب جمهور أهل العلم وأن إجابة غير وليمة العرس ليس بواجب بل مستحب. قال: [ولا يجب الأكل] إذا حضر الوليمة فإنه لا يجب عليه الأكل، وذلك لما ثبت في مسلم من حديث جابر أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (إذا دعي أحدكم إلى طعام فليجب ثم إن شاء فليطعم وإن شاء فليترك) ، فلا يجب الأكل إنما يستحب لما تقدم في حديث أبي سعيد عند البيهقي فقد أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - الرجل بالفطر. قال: [وإباحته متوقفة على صريح إذن أو قرينة] فلا يحل له أن يطعم إلا بإذن لفطر، أو إذن عرفي فالإذن اللفظي كأن يقول كلوا، والإذن العرفي بأن يدعى إلى الطعام سابقاً ثم تقدم بين يديه، وإلا فلا يحل له، وذلك لأنه مال غيره فلا يحل إلا بإذنه، ولا يحل مال امرئٍ مسلم إلا بطيب نفس منه، ولا يملكه بذلك فلوا أنه إذا وضع له الطعام تصدق به أو أخذه فلا يحل له ذلك، وذلك لأنه إنما أباحه له ليطعمه ولم يُمّلِكهُ إياه، فعليه يهلك في ملكية الداعي أي يفنى الطعام في ملكية الداعي فليس له أن يتصدق به إلا إذا أذن له بذلك صاحب الدعوة. قال: [وإن علم أن ثم منكراً يقدر على تغييره حضر وغيّره وإلا أبى]

إذا علم أن ثم منكراً يقدر على تغييره فإنه يحضر وجوباً، أولاً؛ لوجوب إجابة وليمة العرس، وثانياً؛ لإزالة المنكر. فإن كان فيه منكر لا يقدر على إزالته كأن يكون فيه سماع محرم كالغناء أو يكون أشياء مرئية محرمة كخلطة النساء فلا يحل ذلك، وفي الترمذي أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يجلس من مأدُبةٍ يدار فيها الخمر) ، وهو ثابت في المسند والحديث صحيح، وفي سنن البيهقي بإسنادٍ صحيح: أن أبا مسعود الأنصاري صنع له طعام فدعي إليه فقال: " أفي البيت صور " فقيل له: " نعم " فأبى أن يدخل حتى نزعت الصور ثم دخل. قال: [وإن حضر ثم علم به أزاله] فالمسألة الأولى قبل الحضور وهنا بعد الحضور، فلما حضر وأجاب الدعوة علم أن ثم منكراً فيجب عليه أن يزيله. قال: [فإن دام لعجزه انصرف] فإن دام المنكر لعجزه فهو غير قادر على إزالته، وإن كان أنكر بلسانه أو أنكر بقلبه لكنه لم يقدر على إزالة المنكر فإنه ينصرف، لئلا يكون مقراً للمنكر أولاً، ولئلا يكون هذا طريقاً لرؤيته للمنكر أو لسماعه له فلا يجوز أن يجلس وثمَّ منكر فإن قدر على إزالته جلس، وإلا فإنه يجب عليه أن ينصرف. قال: [وإن علم به ولم يره ولم يسمعه خُيِّر]

إذا علم أن ثم منكراً لكنه لا يراه ولا يسمعه، كأن يكون في مجلس وفي مجلس آخر منكرات سوى المجلس الذي هو فيه، فإنه يُخير بين الجلوس وبين الإنصراف فإن شاء انصرف لوجود هذا المنكر الذي علم به، وإن شاء جلس، ولم يذكر المؤلف موقفه من هذا المنكر، وظاهر كلامه أنه لا يجب عليه إنكاره، والصحيح أنه يجب عليه الإنكار لقوله - صلى الله عليه وسلم -: (من رأى منكم منكراً …) ، وهنا العلم يقوم مقام الرؤية فقد علم بالمنكر وتحقق منه فيجب عليه أن ينكره، وأما ما ذكر المؤلف من كونه بالخيار بين الجلوس والانصراف فهو ظاهر، وذلك لأنه لا يعد مقراً للمنكر ولا يتطرق المنكر -إن كان مسموعاً- إلى سمعه، -وإن كان مرئياً -إلى بصره لكونه في موضع آخر. قال: [وكره النِّثارُ والتقاطُه] النثار: هو أن يطرح طعام أو نحوه أي يرفع الطعام ثم يرمي في الهواء حتى يتساقط فهذا يكره فعله ويكره التقاطه، لما في ذلك من امتهان الطعام، ولما فيه من الدناءة. قال: [ومن أخذه أو وقع في حجره فله] من أخذه أو وقع في حجره فإنه يكون له، وذلك لأنه حازه بذلك وقد جعله مالكه لمن حازه. قال: [ويسن إعلان النكاح] تقدم الكلام على هذا ودليله. قال: [والدف فيه للنساء] وتقدم الكلام على هذه المسألة، وتقدم أن هذا هو اختيار الموفق، وظاهر كلام أصحاب الإمام أحمد التسوية بين الرجال والنساء. الدرس السابع والثلاثون بعد الثلاثمائة باب عشرة النساء العشرة: في اللغة الاجتماع. وفي الاصطلاح: ما يكون بين الزوجين من ألفةٍ وحسن صحبة. قال تعالى: {وعاشروهن بالمعروف} وقال {ولهن مثل الذي عليهن بالمعروف} . قال: [يلزم الزوجين العشرة بالمعروف] للآيتين المتقدمتين. قال: [ويحرم مطل كل واحدٍ بما يلزمه للآخر والتكره لبذله]

المطل هو: دفع الحق، فيحرم مطل كل واحدٍ منهما بما يلزمه للآخر، والتكره لبذله من نفقة أو خدمة أو وطء أو غير ذلك لقوله تعالى: {وعاشروهن بالمعروف} ولقوله: {ولهن مثل الذي عليهن بالمعروف} ، ولا شك أن مطل الحق والتكره في بذله ليس من المعاشرة بالمعروف. قال: [وإذا تم العقد لزم تسليم الحرة التي يوطأ مثلها في بيت الزوج إن طلبه] قياساً على البيع وهذا من باب تسليم المعوض، فيمكن الزوج منافع بضعها والاستمتاع بها، كما يمكن المشتري من السلعة التي قد وقع عليها، وذلك إن طلب لأنه حقه، فلا يجب تسليم الحرة إلا بطلبه لأنه حقه. قال: [ولم تشترط دارها أو بلدها] فإن اشترطت أن يكون التسليم في دارها أو بلدها فإنها لا تسلم إليه في بيته، بل تسلم إليه في دارها وفي بلدها، وذلك للأدلة المتقدمة في وجوب الوفاء بالشرط، فهذا شرط يجب الوفاء به. قال: [وإذا استمهل أحدهما أمهل العادة وجوباً] إذا طلب الزوج تسليم الزوجة فاستُمهل فيجب عليه أن يجيبهم إلى ذلك بما جرت العادة بمثله من يوم أو يومين أو ثلاثة أو غير ذلك مما جرت العادة بمثله، يدل على هذا قوله - صلى الله عليه وسلم -: (لا تطرقوا النساء ليلاً، حتى تمتشط الشعثة وتستحد المغيبة) ، أي التي غاب زوجها، فهنا النبي - صلى الله عليه وسلم - أمر بإمهال المرأة حتى تمتشط إن كانت شعثة وحتى تستحد - وهذا مع ثبوت المصاحبة - فإنها قد صاحبها فأولى من ذلك من لم يصاحبها، أي إذا ثبت هذا الإمهال للزوجة التي قد سبق صحبتها فأولى من ذلك المرأة التي لم يسبق صحبتها فإن حاجتها إلى الاستعداد له والتهيؤ أقوى. قال: [لا لعمل جهازٍ] جهاز بفتح الجيم، ويصح بكسرها وهو: ما تجهز به المرأة إلى بيت الزوج، فإذا استمهلوا للجهاز فلا يجب عليه القبول، وذلك لعدم الضرورة، فليس من باب تهيئة المرأة واستعدادها لزوجها بل هو أمر خارج عن ذلك، وموجِب العقد من التقابض مردود إلى العرف.

قال: [ويجب تسليم الأمة ليلاً فقط] لأن الأمة مملوكة لسيدها الذي قد زوجها، فزمن الاستمتاع بها من الزوج بالليل، ولسيدها أن يستخدمها بالنهار فهو زمن الاستخدام، فزمن خدمتها لسيدها بالنهار فلا يجب عليهم أن يسلموها له إن طلبها نهاراً، وأما في الليل فهو زمن الاستمتاع بها. قال: [ويباشرها ما لم يُضر] يباشر المرأة ما لم يضر بها لحديث: (لا ضرر ولا ضرار) قال: [أو يشغلها عن فرض واجب] كصلاة واجبة أو صيام واجب، قال تعالى: {نسائكم حرث لكم فأتوا حرثكم أنى شئتم} ، فيستمتع بها في قبلها من دبرها، وفي قبلها من قبلها، ويستمتع بها بما دون ذلك وليس لها أن تمنعه. قال: [وله السفر بالحرة] دون الأمة؛ لأن الأمة لا بد من أن يأذن لها السيد، فهي ملك للسيد وله الخدمة منها وأما الحرة فله أن يسافر بها بشرط الأمن عليها أي ألا يعرضها في سفره لخطر. قال: [ما لم تشترط ضده] فإذا شرطت ألا يسافر بها عن بلدها فلها ذلك لأن المسلمين على شروطهم. قال: [ويحرم وطؤها في الحيض] لقوله تعالى: {ويسألونك عن المحيض قل هو أذى فاعتزلوا النساء في المحيض ولا تقربوهن حتى يطهرن} ، وهذا بإجماع العلماء. قال: [والدبر]

فجماعها في الدبر محرم، وهذا باتفاق السلف واتفاق أهل العلم، والأحاديث في النهي عن ذلك كثيرة، فعند الخمسة بإسناد صحيح أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (من أتى حائضاً أو امرأة في دبرها فقد كفر بما أنزل على محمد) ، وروى الترمذي والحديث حسن أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (لا تأتوا النساء في أعجازهن فإن الله لا يستحيي من الحق) ، وفي المسند بإسناد حسن أن النبي - صلى الله عليه وسلم -قال: (هي اللوطية الصغرى) ، فجماع المرأة في دبرها أي إيلاجاً من دبرها محرم وهو من كبائر الذنوب، ولا يصح حكاية جواز هذا عن أحدٍ من السلف، ومن حكى ذلك عن بعض السلف فقد غلط في ذلك، ومنشأ الغلط عدم التفريق بين لفظة (من) و (في) فللرجل أن يأتي امرأته في قبلها من دبرها، أي من خلفها وأما أن يأتيها في دبرها فإن هذا محرم، وقد أخطأ من فهم عن بعض أهل العلم من السلف إباحة ذلك، ولو تطاوع الزوجان على ذلك فرق بينهما وقياسه الوطء في الحيض. والعزل مكروه وجائز، أي جائز ليس محرم لكنه مكروه ودليل عدم تحريمه ما ثبت في الصحيحين عن جابر قال: (كنا نعزل والقرآن ينزل ولو كان شيئاً ينهى عنه لنهى عنه القرآن) ، وفي مسلم (فبلغ ذلك النبي - صلى الله عليه وسلم - فلم ينه عنه) ، وكراهيته لقوله - صلى الله عليه وسلم -: (ذلك الوأد الخفي) ، ويشترط استئذان الزوجة في العزل لأن لها حقاً في الولد، ولأن في ذلك كمال استمتاعها، وقد أجمع على هذا أهل العلم، وفي المسند بإسناد ضعيف - فيه ابن لهيعة - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (لا يعزل عن الحرة) ، أي إلا بإذنها، والحديث ضعيف لكن أجمع أهل العلم عليه، فإن كانت أمة فقولان: القول الأول: وهو المشهور في المذهب أنه لا يجوز أيضاً لحق السيد في الولد، ولأنها زوجة فأشبهت الحرة.

القول الثاني: وهو مذهب الشافعية وهو احتمال في المذهب: أنه يجوز، وذلك لما فيه من الضرر عليه باسترقاق ولده لأن أولاده يكونون رقيقاً لسيد أمهم. وهذا القول أظهر، فإن فيه استرقاقاً للولد وهو ضرر بالغ لا يعدل له هذا الحق الذي يضيع على السيد أو على الأمة بتحصيل الولد، فالراجح أنه يجوز له أن يعزل بلا إذن الأمة. قال: [وله إجبارها على غسل حيض ونجاسة] واجتناب المحرمات، وهذا لما فيه من المنكر فيجب عليه أن ينكر وهذا واجب عليها، وهو راعٍ ومسؤول عن رعيته. قال: [وأخذ ما تعافه النفس من شعرٍ وغيره] من ظفر ونحو ذلك لما فيه من كمال الاستمتاع. قال: [ولا تجبر الذمية على غسل الجنابة] وهذا أحد القولين في المذهب، والقول الثاني: أنها تجبر، والصحيح أنها لا تجبر لأن هذا لا يضر بالوطء. مسألة: هل تجبر المرأة على خدمة زوجها أم لا؟ قولان لأهل العلم: فاتفقت المذاهب الأربعة على أنها لا تجبر، قالوا: لأن العقد مقتضاه الوطء والاستمتاع بها، وأما أن تكون خادمة له فليس هذا من مقتضى العقد.

وقال بعض أهل العلم، وهو مذهب طائفة من السلف والخلف، وهو اختيار شيخ الإسلام وتلميذه ابن القيم: أن ذلك واجب عليها بالمعروف، فيجب على مثلها أي قوةً في بدنها وشرفاً في نسبها ومالها، ما يجب لمثله، وهذا هو الراجح لقوله تعالى: {ولهن مثل الذي عليهن بالمعروف} ، فعليهن واجبات قد أوجبها العرف والعادة فما جرت العادة به فهو واجب، وهذا كان عرف نساء الصحابة كما في قصة فاطمة في الصحيح، وكما في قصة أسماء في مسند الإمام أحمد وغيره، وهذا القول الراجح حيث جرت العادة بذلك، فإن لم تجر العادة فلا يجب، فيلزمها ما يجب على مثلها لمثله، فإن كانت سيدة وهو وضيع فليس كما لو كانت هي وضيعة وهو سيد، وإذا كانت شريفة في قومها فليست كما لو كانت وضيعة، ويجب على صاحبة البلد الحاضرة ما لا يجب على من تعيش في البادية، فهذه أمور تختلف - وكما قرر شيخ الإسلام - بإختلاف الأعراف واختلاف العادات وباختلاف النساء. فصل قال: [ويلزمه أن يبيت عند الحرة ليلة من أربع]

يجب عليه أن يبيت عند الزوجة الحرة ليلة من أربع ليالٍ هذا هو المشهور في المذهب، واستدلوا بما روى أبوبكر بن أبي شيبة وغيره – والأثر صحيح – في قصة المرأة التي ذكرت عند عمر تعبُّدَ زوجها فلم يفطن لمرادها وظن أنها تثني عليه خيراً، ففطن لذلك كعب بن سور- رحمه الله - وبين ذلك لعمر، فأمره عمر أن يقضي فيها، فقضى أن يكون لها ليلة من أربع ليالٍ، وذلك كما لو كانت رابعة له، قالوا قد اشتهر هذا الأثر ولا يعلم لعمر مخالف، وقال الجمهور: بل لا يجب لأن القسم لحقه، فإذا لم يبت عندها فقد أسقط حقه، وهذا ضعيف لأن للمرأة حقاً في ذلك، وليس صحيحاً أن القسم لحقه فحسب بل هو لحقيهما ولذا قال النبي - صلى الله عليه وسلم - لعبد الله وقد وعظه: (ولزوجك عليك حق) متفق عليه، واختار شيخ الإسلام أنه يكون بحسب الحاجة كالوطء وما ورد في قصة كعب تقدير شخص لا يراعى، كما لو فرض النفقة وكونه يجب حال الاجتماع ولا يلزم أن يجب حال الانفراد وهو أصح. قال: [وينفرد إذا أراد في الباقي] فإذا أراد في الليالي الباقية أن ينفرد فذلك جائز له. قال: [ويلزمه الوطء إن قدر كل ثلث سنة مرة] فيلزمه الوطء كل أربعة أشهر مرة وذلك لقوله تعالى: {للذين يؤلون من نسائهم تربص أربعة أشهر، فإن فاؤوا فإن الله غفور رحيم، وإن عزموا الطلاق فإن الله سميع عليم} ، واختار شيخ الإسلام: أنه يجب عليه الوطء بقدر كفايتها ما لم يضر هذا ببدنه أو معاشه وهذا اختيار الشيخ عبد الرحمن السعدي، وهذا هو الراجح لأن هذا هو المعروف {وعاشروهن بالمعروف} وأما الآية فليس فيها أنه يجوز له هذا التأخر وإن كان مضراً بها، بل فيه أنه إذا حلف هذا اليمين فإنه يتربص هذه الأشهر. قال: [وإن سافر فوق نصفها، وطلبت قدومه وقدر لزمه]

…أي فوق نصف السنة أي فوق الستة أشهر، وكان السفر غير واجب، فليس سفر حجٍ واجب ولا غزو واجب ولم يكن مما يحتاج إليه في معاشه، فإذا طلبت قدومه وقدر لزمه ذلك، وذلك لما روى البيهقي أن عمر رضي الله عنه: " وقت للغزاة ستة أشهر " في قصة سماعه أبيات الشعر التي ذكرتها المرأة، فاستشار حفصة فيما تصبر المرأة عن زوجها فذكرت له أنها تصبر خمسة أشهر أو ستة أشهر، فوقت للغزاة ستة أشهر، قالوا فإذا طلبت قدومه وقدر لزمه. قال: [فإن أبى أحدهما فُرق بينهما بطلبها] فإذا أبى الزوج الوطء في المسألة الأولى، وأبى القدوم من السفر في المسألة الثانية، فإنه يفرق بينهما بطلبها أي لها حق الفسخ، وقال أكثر أهل العلم، وهو رواية عن الإمام أحمد، وهو ظاهر كلام الأصحاب كما قال ذلك الموفق: " أنه لا يفرق بينهما"، والصحيح في مثل هذه المسألة ما قرره شيخ الإسلام وهو: أن المرأة إذا حصل عليها الضرر بترك الوطء فإن ذلك مقتضٍ للفسخ بكل حالٍ، سواء كان مع عجز الزوج أو قدرته سواء مع عذره أو مع عدم العذر، وذلك حق الفسخ لدفع الضرر، فإذا لم يطئها أو كان في سفره تركٌ للوطء، فلها الفسخ سواء كان الزوج معذوراً أو لم يكن معذوراً، عاجزاً عن الوطء أو لم يكن عاجزاً عنه. قال: [وتسن التسمية عند الوطء وقول الوارد] لما ثبت في الصحيحين أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (لو أن أحدكم إذا أراد أن يأتي أهله قال: بسم الله، اللهم جنبنا الشيطان، وجنب الشيطان ما رزقتنا، فإنه إن يقدر بينهما ولد لم يضره الشيطان أبداً) قال: [ويكره كثرة الكلام] أي يكره له كثرة الكلام عند الجماع، قالوا لما ورد أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (لا تكثروا الكلام عند المجامعة فإن منه الخرس والفأفأة) ، لكن الحديث لا يصح وعليه فيجوز ذلك. قال: [والنزع قبل فراغها]

أي يكره النزع من الجماع قبل أن تفرغ المرأة من حاجتها، وفي أبي يعلى بإسناد ضعيف أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (إذا جامع الرجل امرأته فقضى حاجته قبل أن تقضي حاجتها فلا ينزع حتى تقضيِ حاجتها) ، والحديث إسناده ضعيف، لكنه مستحب لتحصيل المرأة على كمال استمتاعها. قال: [والوطء بمرأى أحدٍ والتحدث به] فيكره الوطء بمرأى أحدٍ، والتحدث بالجماع، لكن الكراهية غير كافية بل هو محرم بل هو من كبائر الذنوب لقوله - صلى الله عليه وسلم - في مسلم: (إن من شر الناس منزلة عند الله يوم القيامة الرجل يفضي إلى المرأة وتفضي إليه ثم ينشر سرها) ، وأعظم من ذلك أن يجامع بحيث يُرى، وهذا القول الثاني في المذهب وهو الراجح وأن ذلك محرم. قال: [ويحرم جمع الزوجتين في مسكن واحد بغير رضاهما] لما في ذلك من الضرر بسبب ما يكون بين النساء من الغيرة، فبسبب ذلك لا يجوز له أن يجمع بينهما إلا بالرضا وليس هذا من المعروف، والواجب المعاشرة بالمعروف. قال: [وله منعها من الخروج من منزله] اتفاقاً، وفي مسند أحمد وصحيح ابن حبان بإسنادٍ صحيح: " أن معاذ بن جبل سجد للنبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: (ما هذا يا معاذ) فقال: أتيت الشام فوجدتهم يسجدون لأساقفتهم وبطارقتهم فوقع في نفسي أني إذا أتيت أن أفعل ذلك لك، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: (فلا تفعل، ولو كنت آمراً أحداً أن يسجد لأحد لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها، والذي نفس محمدٍ بيده لا تؤدي المرأة حق ربها حتى تؤدي حق زوجها ولو سألها على قتب لم تمنعه) "، فهذا فيه وجوب طاعة الزوج، ولذا اتفق أهل العلم على أنها لا تخرج إلا بإذنه، وأن له أن يمنعها من الخروج وهذا حيث لا ضرر، أما إذا تضررت بذلك فليس له أن يمنعها لحديث: (لا ضرر ولا ضرار) . قال: [ويستحب إذنه أن تمرض محرمها]

يستحب له أن يأذن في أن تمرض المرأة محرمها كعمها أو خالها، وكذلك تعوده، وقالوا: لما فيه من صلة الرحم، ولأن المنع قد يحملها على مخالفة أمره، وقال ابن عقيل من الحنابلة: يجب عليه أن يأذن لها لأجل العيادة، أي عيادة والديها أو أحد من محارمها / والذي يترجح أن هذا راجع إلى العرف والطاعة بالمعروف، فإن كان من العرف كزيارة والديها أو زيارة بعض أقاربها ونحو ذلك فإنه ليس من المعروف أن يمنعها وإنما الطاعة بالمعروف، ولذا فالمذهب؛ أنه له أن يمنعها من زيارة والديها وليس له أن يمنعها من زيارتهم لها، والصحيح؛ أنه ليس له أن يمنع من ذلك إذا كانت الزيارة بالمعروف أي بما جرى العرف به مما ليس فيه إسراف بالزيارة، لما يثبت معه الصلة وينتفي العقوق، ولا تضيع المرأة معه بيتها ولا حق زوجها. قال: [وتشهد جنازته] قال: [وله منعها من إجارة نفسها] لما فيه من تفويت حقه، فليس لها أن تؤجر نفسها إلا بإذنه، ومن ذلك الأعمال التي تقوم بها المرأة خارج بيتها فيشترط فيها إذن الزوج أو أن تشترط المرأة ذلك في العقد وإلا فله أن يمنعها. قال: [ومن إرضاع ولها من غيره] له أن يمنعها أن ترضع ولدها من غيره، لأنه يفوت عليه كمال الإستمتاع بها وهو حق له. قال: [إلا لضرورته] فإذا خشي على الولد الهلاك فليس له أن يمنع، وأما لو كان ولدها منه فليس له أن يمنعها من إرضاعه لأن هذا حق لها، فالمرأة إذا كانت بها عصمة زوجها فمن حقوقها إرضاع ولدها، بخلاف ما إذا كانت مفارقة له. الدرس الثامن والثلاثون بعد الثلاثمائة فصل قال: [وعليه أن يساوي بين زوجاته في القسم لا في الوطء]

هذا فصل في القسم بين النساء، فيجب عليه أن يساوي بين زوجاته في القسم لقوله تعالى: {وعاشروهن بالمعروف} ، ولقول النبي - صلى الله عليه وسلم - فيما روى الخمسة بإسنادٍ صحيح: (من كانت له امرأتان فمال إلى إحداهما جاء يوم القيامة وشقه مائل) فهذا يدل على أنه من كبائر الذنوب، واتفق أهل العلم على أن القسم لا يجب في الحب والجماع لقوله تعالى: {ولن تستطيعوا أن تعدلوا بين النساء ولو حرصتم} ، وروى البيهقي عن ابن عباس وعبيدة السلماني في قوله تعالى: {ولن تستطيعوا أن تعدلوا بين النساء ولو حرصتم} ، قالا: في الحب والجماع. وفي الصحيحين أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قيل له: من أحب الناس إليك؟ فقال: (عائشة) ومن الرجال؟ قال: (أبوها) ، فالعدل في الحب والوطء غير واجب، نعم يجب عليه أن يطأ امرأته بالمعروف، لكن لا يجب عليه العدل بين النساء في الوطء، كما أنه لا يجب عليه العدل بينهم في الحب. هل يجب عليه أن يعدل بينهم في النفقة والسكن والكسوة؟ قال الحنابلة: لا يجب ذلك، قياساً على الوطء لما فيه من الحرج، واختار شيخ الإسلام ابن تيمية، واختاره من المتأخرين الشيخ محمد عبد الوهاب وعبد الرحمن بن سعدي: أن ذلك واجب لأنه عدل مقدور عليه، ففارق بين الحب والوطء فإنه عدل غير مقدور عليه لأن الوطء تبع للرغبة والرغبة قلبية والحب إلى القلب فليس بوسع المكلف أن يعدل بين النساء في ذلك. وأما النفقة والسكن والكسوة فإن العدل مقدور عليه، وهو داخل في المعاشرة بالمعروف، فليس من المعاشرة بالمعروف أن ينفق عليها دون ما ينفقه على بقية زوجاته ولا أن يكسوها دونهن وهو قادر على العدل، نعم قد يقال بما ذهب إليه الحنابلة في النفقات الطارئة التي تحتاج إليها إحداهن فيتوجه القول بعدم وجوب العدل، لما في ذلك من المشقة والحرج، فإذا احتاجت إحداهن إلى شيء لا تحتاج إليه غيرها فلا يقال بوجوب العدل حينئذٍ بل يعطى صاحبة الحاجة لأنها مميزة لحاجتها.

قال: [وعماده الليل لمن معاشه النهار] عماد القسم عند النساء الليل، لأنه وقت السكن قال تعالى: {هو الذي جعل لكم الليل لتسكنوا فيه} ، والنهار تبع له، هذا لمن معاشه أي عمله بالنهار وأما من كان عمله بالليل كبعض الجند أو غيرهم فقال المؤلف هنا: [والعكس بالعكس] لأنه هو وقت سكنه. مسألة: الدخول على الضرة في ليلة ضرتها ليلاً لا يجوز إلا عند الضرورة وفي النهار يجوز عند الحاجة، كمرض يصيبها فتحتاج إليه، وأما في النهار فيجوز أن يدخل على الضرة عند الحاجة كأن يكون قادماً من سفر أو تكون مريضة فيعودها. فإذا دخل عند الضرة ليلاً فهل يجب أن يقضي لمن كانت ليلتها؟ إن كان دخوله لضرورة فلا كما تقدم، وإن كان لغير ضرورة فعليه أن يقضي إن كان مكثه كثيراً عرفاً، أما إذا كان يسيراً عرفاً فإنه لا يقضي لأنه لا فائدة من القضاء، فإن جامعها فأصح الوجهين في مذهب الإمام أحمد أنه لا يقضي ما دام الوقت يسيراً عرفاً، وذلك لأن الوطء لا يجب القسم فيه ولا يجب العدل فيه وحينئذٍ فلا يتغير الحكم. قال: [ويقسم لحائضٍ ونفساء ومريضةٍ ومعيبةٍ ومجنونةٍ مأمونةٍ وغيرها] لأنهن زوجات فيدخلن في العموم، ولأن القسم يراد به السكن، وذكر الشيخ حسين ابن الشيخ محمد بن عبد الوهاب أن العرف عندهم أي في نجد في زمنه أن النفساء لا تطلب القسم، فيما يظهر هكذا عندنا وإن هذا العرف يأخذ في بلاد نجد من ذلك الوقت، وعليه فلا يقسم للنفساء لأن المعاشرة تجب بالمعروف، وهنا العرف قد دل على أن القسم لا يجب للنفساء، وهذا هو الأظهر خلافاً للمشهور في المذهب لأن العرف جاء بذلك. قال: [وسافرت بلا إذنه أو بإذنه في حاجتها أو أبت السفر معه أو المبيت عنده في فراشه فلا قسم لها ولا نفقة] هنا مسائل لا تجب فيها للمرأة النفقة والقسم: المسألة الأولى: إن سافرت بلا إذنه. المسألة الثانية: إن أبت السفر معه. المسألة الثالثة: إن أبت المبيت عنده.

فهنا لا يجب لهن القسم ولا النفقة وذلك لأنهن ناشزات والناشزة لا قسم لها ولا نفقة فهي عاصية لزوجها والعاصية لا تجب لها النفقة ولا القسم. المسألة الرابعة: وهي فيما إذا سافرت بإذنه في حاجة، فالمذهب كما ذكر المؤلف أنه لا قسم لها ولا نفقة، وذلك كأن تسافر المرأة للعلاج أو لزيارة الأقارب وأذن لها الزوج فلا يجب لها القسم ولا النفقة، أما القسم فظاهر وذلك لأنها مسافرة وهو مقيم، ولا يقضي لها لأن العذر جاء من جهتها، ثم إنه إذا سافر هو فلا يجب أن يقضي فأولى من ذلك ألا يقضي لها إذا سافرت. وأما النفقة فالقول الثاني في المسألة وهو اختيار ابن عقيل من الحنابلة وذكره الموفق احتمالاً: أن النفقة واجبة وهذا هو الظاهر، لأن النفقة ثابتة لها فلا تسقط إلا بدليل يدل على إسقاطها، وهنا لا دليل يدل على ذلك، وليست بناشزة فتسقط النفقة عليها بل إنها قد استأذنته فأذن لها، إلا أن يكون قد شرط عليها ألا ينفق عليها وأما إن لم يشرط ذلك فإن النفقة واجبة. قال: [ومن وهبت قسمها لضرتها بإذنه أوله فجعله لأخرى جاز] إذا وهبت قسمها لضرتها بإذنه أي بإذن الزوج، فيشترط أن يأذن الزوج بذلك لأنه حق له فاشترط إذنه، أو وهبت قسمها له، كأن يكون له ثلاث نسوة فقالت إحداهن: لك ليلتي فجعله لأخرى من نسائه جاز، لما ثبت في الصحيحين: " أن سودة بنت زمعة وهبت لعائشة يومها فكان النبي - صلى الله عليه وسلم - يقسم لعائشة يومها ويوم سودة "، فالهبة جائزة لأن هذا حق للمرأة وحق للرجل، فقد رضى الرجل بإسقاط حقه، والمرأة الواهبة رضيت بهبته وإسقاط حقها، وحينئذٍ فإن وهبته لفلانة جاز ذلك بإذنه وإن وهبته له فإنه يهبه لمن يشاء من نسائه. وهل للمرأة أخذ العوض على الهبة؟ المذهب أنه لا يجوز، واختار شيخ الإسلام وذكر أنه المذهب: أن ذلك جائز، وهو الراجح، لأنه أخذ عوض على حق فأشبه سائر الحقوق، فإذا أخذت عوضاً من زوجها أو من الموهوب لها فذلك جائز لأنه حق لها.

قال: [فإن رجعت قسم لها مستقبلاً] إذا رجعت بعد ذلك فإنه يقسم لها في المستقبل لأنها هبة لم تنقض فالليالي السابقة قد قبضت فلا يقضى لها وأما الليالي المقبلة فإنها لم تقبض فلها الرجوع. قال: [ولا قسم لإمائه وأمهات أولاده بل يطأُ من شاء متى شاء] فلا قسم لهن، وذلك لقوله تعالى: {فإن خفتم ألا تعدلوا فواحدة أو ما ملكت أيمانكم} ، فدل على أن ملك اليمين لا يجب لهن العدل، أي إن خفتم ألا تعدلوا بين النساء فأنكحوا واحدة أو ما ملكت أيمانكم. قال: [وإن تزوج بكراً أقام عندها سبعاً ثم دار وثيباً ثلاثة] إذا تزوج بكراً على زوجة سابقة فإنه يمكث عندها سبعاً ثم يقسم بين نساءه بعد ذلك، وإن كانت ثيباً فإنه يمكث عندها ثلاث ليالٍ وما يتبعهن من النهار، ثم بعد ذلك يقسم بينهن، لما ثبت في الصحيحين عن أنس قال: " من السنة إذا تزوج الرجل البكر على الثيب أقام عندها سبعاً ثم قسم، وإذا تزوج الثيب أقام عندها ثلاثاً ثم قسم ". قال: [وإن أحبت سبعاً فعل وقضى مثلهن للبواقي] ودليل ذلك ما ثبت في مسلم عن أم سلمة: " أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما تزوجها أقام عندها ثلاثاً ثم قال: (إنه ليس بك على أهلك – أي على نفسه - صلى الله عليه وسلم - - هوانٌ إن شئتِ سبّعت لك وإن سبّعت لك سبّعت لنسائي) ". هل له أن يسافر بإحدى نسائه؟ الجواب: أنه ليس له ذلك إلا برضا الباقيات، فإن لم ترض الباقيات فإنه يسهم بينهن، أي يضع بينهن القرعة، يدل على ذلك ما ثبت في الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها قالت: " كان النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا أراد سفراً أقرع بين نسائه فأيتهن خرج سهمها خرج بها "، وظاهر الحديث وهو مذهب الجمهور: أنه لا يقضي للباقيات فإن عائشة لم تذكر قضاءً. فإن سافر بإحداهن بلا قرعة ولا رضا فهل يجب القضاء أم لا؟

قولان لأهل العلم: أظهرهما وهو مذهب الحنابلة والشافعية؛ وجوب القضاء وذلك لأنه قد سافر بها بلا حقٍ وميزها عن بقية النساء بلا حق فكان لهن القضاء. قال الموفق: وعليه فينبغي أن لا يلزم قضاء المدة، وإنما يقضي منها ما أقام منها معها أما زمان المسير فلم يحصل به المشقة. فصل قال: [النشوز معصيتها إياه فيما يجب عليها] النشوز: من النَشْزِ، بتسكين السين وفتحها؛ وهو المكان المرتفع. وسمي خروج المرأة عن طاعة زوجها نشوزاً لأن هذا تكبر منها وتعالٍ على أمر زوجها، كما أن الرجل إذا خرج عما يجب عليه من العدل وغير ذلك من واجبات المرأة التي أمره الله بها وجفا المرأة وأبغضها فإن ذلك نشوزا منه، فالنشوز يكون من الزوجين، أما الزوجة فلقوله تعالى: {واللآتي تخافون نشوزهن فعظوهن} ، وأما الزوج فقوله تعالى: {وإن امرأة خافت من بعلها نشوزاً أو إعراضاً} . قال: [فإذا ظهر منها أماراته بأن لا تجيبه إلى الإستمتاع أو تجيبه متبرمةً أو متكرهةً وعظها] متبرمةً: أي متثاقلةً. فإذا ظهرت من المرأة أمارات النشوز فإنه يعظها أي يذكرها بما يجب له من الحق، وما عليها من الإثم في مخالفة ذلك، وقد تقدم قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: (والذي نفس محمدٍ بيده لا تؤدي المرأة حق ربها حتى تؤدي حق زوجها) ، والدليل على أنه يعظها قوله تعالى: {وللآتي تخافون نشوزهن فعظوهن} . قال: [فإن أصرت هجرها في المضجع ما شاء] قال تعالى: {واهجروهن في المضاجع} ، فيهجرها في المضجع فلا يجامعها ويهجرها في المضجع ما شاء من الأيام والليالي. قال: [وفي الكلام ثلاثة أيامٍ]

ففي الكلام ليس له أن يهجرها أكثر من ثلاثة أيام لقول النبي - صلى الله عليه وسلم - في الصحيحين: (لا يحل لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاث) ، ولم أرَ من الحنابلة أو ممن ذكر هذه المسألة، من تعرض لذكر خلاف في هذه المسألة، وفيما ذكر نظر، وذلك لأن الهجر لمعصية، والهجر لمعصية لا يقدر بثلاثة أيامٍ، بل تهجر بما يكون فيه مصلحة، فلا يقدر هذا بثلاثة أيام. قال: [فإن أصرت ضربها غير مبرح] أي ضرباً غير شديد، قال تعالى: {واضربوهن} ، وفي صحيح مسلم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (ولكم عليهن أن لا يوطئن فرشكن أحداً تكرهونه - أي أحدٍ من النساء أو الرجال الذين تكرهونهم وليس المقصود بذلك الفاحشة - فإن فعلت فاضربوهن ضرباً غير مبرح) ، فيعظها ثم يهجرها ثم يضربها، هذه على الترتيب والآية لا تفيد ترتيباً فإن الله عطف بين هذه الثلاث بالواو وهي لا تفيد الترتيب، لكن اتفق أهل العلم على الترتيب، قال ابن الوزير: " اتفق أهل العلم على أن له ضربها إذا نشزت بعد أن يعظها ويهجرها في المضجع "، والمعنى يدل على ذلك فإنه من البدء بالأسهل فالأسهل. فإن حصلت المشاقة بينهما ولم يستطيعا أن يتفقا فلم تستقم المرأة لزوجها أو لم يستقم الزوج لزوجته وتمادى الشر بينهما، فإن الحاكم يبعث حكمين من أهلهما، حكماً من أهل المرأة وحكماً من أهل الرجل كما قال تعالى: {فإن خفتم شقاق بينهما فابعثوا حكماً من أهله وحكماً من أهلها إن يريدا إصلاحاً يوفق الله بينهما} ، وهنا ثلاث مسائل: المسألة الأولى: هل يشترط أن يكون الحكم من أهلها ومن أهله؟ المشهور في المذهب أن ذلك لا يشترط. واختار شيخ الإسلام اشتراط ذلك وهو ظاهر الآية الكريمة، والمعنى يدل على ذلك فإن الحكم من أهلها يطلع على باطن الأمر ويعرف من أحوالهما ما يهتدى به إلى الإصلاح بينهما ومعرفة هل الأنسب أن يفرق بينهما أم أن يجمع بينهما، فالأرجح أن هذا شرط.

المسألة الثانية: هل هما حَكَمان أم وكيلان؟ هل حكمان أي يحكمان بما شاءا مما رأيا فيه مصلحة من تفريق أو جمع أم هما وكيلان عن الزوجين فليس لهما أن يفرقا إلا بإذن من الزوجين؟ المشهور في المذهب أنهما وكيلان، فالحكم الأول وكيل عن المرأة، والحكم الثاني وكيل عن الرجل، وليس لهما أن يفرقا بينهما سواء كان بعوض أو بغير عوض إلا بإذن الزوجين. وذهب المالكية إلى أنهما حكمان، وهو رواية عن الإمام أحمد وهو اختيار شيخ الإسلام، وهو القول الراجح وهو ظاهر الآية الكريمة، فإن الله سماه حكماً، ولم يسمه وكيلاً، ثم إن الله أمر الإمام بذلك فقال: (فابعثوا - أيها الحكام - حكماً من أهله وحكماً من أهلها) ، والتوكيل لا يحتاج إلى أمر من الإمام بل هو ابتداءً منهما. المسألة الثالثة: أنه يشترط في الحكمين العدالة والإسلام والذكورية. هل يشترط في الحكمين الحرية والفقه أم لا؟ المشهور في المذهب: أنه يشترط أن يكونا حريين، والقول الثاني في المسألة: لا يشترط، وهو الراجح لإطلاق الآية الكريمة، ولا مانع من أن يكون الرقيق حكماً، وأما اشتراط الفقه وعدمه، فهو ينبني على المسألة المتقدمة وهي هل هي وكالة أم حكم، فإن كانت حكماً فيشترط فيه أن يكون فقيهاً أي فقيهاً في مثل هذه المسائل، وإن قلنا هي وكالة فلا يشترط أن يكون فقيهاً، والأول هو الظاهر بناءً على المسألة المتقدمة وأنهما حكمان، فعليه يشترط أن يكونا، مسلمين، مكلفين، عدلين، ذكريين، ولا يشترط أن يكونا حريين، ويشترط أن يكونا فقيهين في هذه المسائل. مسألة: هل يجوز أن يكون الهجر في خارج البيت؟

ثبت في المسند وسنن أبي داود والنسائي وغيرهم من حديث معاوية بن حيده أن النبي - صلى الله عليه وسلم - سئل فقيل له: ما حق زوجة أحدنا عليه فقال: (أن تطعمها إذا أكلت، وتكسوها إذا اكتسيت، ولا تضرب الوجه، ولا تقبح، ولا تهجر إلا في البيت) والحديث حسن، فهذا فيه ألا يهجر إلا في البيت والله قيده في القرآن بقوله: {واهجروهن في المضاجع} ، وثبت في البخاري أن النبي - صلى الله عليه وسلم -: آلى من نسائه شهراً فأقام في مشربه – أي غرفه – تسعة وعشرين يوماً فقيل له: آليت شهرا، ً فقال: (الشهر تسع وعشرون) ، فهنا النبي - صلى الله عليه وسلم - هجرهن في غير البيوت، وبوب عليه البخاري، والجمع بينهما أنه ينظر إلى الأصلح، فإن كان الأصلح هجرها في البيت هجرها فيه وهو الأولى، وإن كان الأصلح هجرها في خارج البيت هجرها في خارجه. الدرس التاسع والثلاثون بعد الثلاثمائة باب الخلع الخلع لغةً: مصدر خلع، وخلع المرأة خلعاً. وذلك أن المرأة لباس للرجل، والرجل لباس المرأة كما قال تعالى: {هن لباس لكم وأنتم لباس لهن} ، فإذا افتدت المرأة نفسها من زوجها على عوض تبذله له فهذا خلع لأنها قد خلعت زوجها وزوجها لباس لها. وإصطلاحاً: فراق الرجل امرأته على عوض تبذله له، والأصل فيه قوله تعالى: {فإن خفتم ألا يقيما حدود الله فلا جناح عليهما فيما افتدت به} ، لا جناح على المرأة في فراق الرجل، ولا جناح على الرجل في فراقها على هذا العوض. قال: [من صح تبرعه من زوجةٍ وأجنبي صح بذله لعوضه] من صح تبرعه وهو الحر الرشيد غير المحجور عليه لحظ نفسه، فإنه يصح بذله لعوض الخلع، سواء كان الباذل للعوض الزوجة أو أجنبي كولي المرأة أو غيره، فلا يصح بذل العوض إلا لمن يصح تبرعه لأن العوض تبرع فلا يصح إلا ممن يصح تبرعه، أما المحجور عليه لحظ غيره، فإن بذله للعوض صحيح، وذلك لأن ذمته سالمة ويصح له أن يتصرف فيها. فالقاعدة: أن من صح تبرعه صح بذله للعوض.

وعليه فإذا كانت الزوجة لا يصح تبرعها كأن تكون أمةً أو صبية صغيرة أو سفيهة فلا يصح بذلها للعوض لأن تصرفها غير صحيح، وكذلك إذا كان الأجنبي الباذل للعوض الذي يريد خلع هذه المرأة من زوجها إذا كان صبياً أو سفيهاً أونحوذلك فلا تصح مخالعته لأن بذله للعوض لا يصح. قال: [فإذا كرهت خُلق زوجها أو خَلقه] فإذا كرهت خلقه بأن كان سيء الخلق – أي سيء الصورة الباطنة -، أو كرهت خَلق زوجها كأن يكون سيء الصورة. قال: [أو نقص دينه] كأن يكون لا يقيم الجماعة، والجماعة واجبة، أو لفعل غير ذلك من المعاصي التي يثبت الفسق معها على الزوج، أو كرهت كبره أو ضعفه أو نحو ذلك. قال: [أو خافت إثماً بترك حقه أبيح الخلع] فيباح للمرأة أن تخالع إن كرهت من زوجها خلقاً أو خلقاً أو كرهت كبره أو ضعفه أو نقص دينه أو خشيت ألا تقيم حدود الله معه، أي كرهت كفران العشير، وفي البخاري: أن امرأة ثابت بن قيس قالت للنبي - صلى الله عليه وسلم -:" ما أنقم من ثابت خلقاً ولا ديناً ولكن أكره الكفر في الإسلام – أي أكره الكفر الأصغر وهو كفران العشير – فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: (أتردين عليه حديقته؟ – أي وكانت مهراً لها – قالت: نعم فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: (اقبل الحديقة وطلقها تطليقة) ، وليس للزوج في المشهور من المذهب الإجابة أي حيث كان ما تقدم بأن كرهت خَلقه أو خُلقه أو غير ذلك، والقول الثاني في المسألة وهو أحد قولي شيخ الإسلام ابن تيمية وجوب ذلك، فيجب عليه أن يقبل العوض الذي دفعته ا لمرأة ويطلقها، وهذا القول أظهر لقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: (اقبل الحديقة وطلقها تطليقة) ، وهذا الأمر للوجوب ولما فيه من إزالة الضرر عن المرأة مع ثبوت حق الرجل وعدم ضياع حقه، وهذا هو الذي يترجح، وعليه فالقاضي يلزمه بذلك. قال: [وإلا كره ووقع]

أي وإلا يكن الأمر كما تقدم فإن ذلك مكروه، فإن كانت الحال مستقيمة بين الزوجين، فليس بينهما ما يخشى معه عدم القيام بالحقوق الزوجية فحينئذٍ يكره الخلع، ويقع الخلع، هذا هو مذهب جمهور العلماء، والقول الثاني في المسألة، وهو اختيار الموفق ابن قدامة: أن الخلع هنا محرم وهو قول ابن المنذر وداوود الظاهري ودليل ذلك، ما روى أحمد وأبو داوود وغيرهما، والحديث صحيح أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (أيما امرأة سألت زوجها الطلاق من غير ما بأس، فحرام عليها رائحة الجنة) ، فهذا يدل على أن سؤال المرأة الطلاق من زوجها من كبائر الذنوب، وفي الترمذي وغيره، والحديث صحيح: (المختلعات هن المنافقات) ، فعلى ذلك الراجح هو التحريم، ووقوع الخلع فيه خلاف فالقول الثاني في ذلك وهو رواية عن الإمام أحمد ومذهب الظاهرية وقول ابن النذر: أن الخلع باطل وأن الثمن مردود، وهو الراجح وذلك لأن الخلع محرم ومنهي عنه والنهي يقتضي الفساد. قال: [فإن عضلها ظلماً للافتداء ولم يكن لزناها أو نشوزها أو تركها فرضاً ففعلت ….لم يصح الخلع]

إذا عضل الزوج امرأته ظلماً أي ضربها أو ضيق عليها أو منعها شيئاً من الحقوق الزوجية، كأن يمتنع من وطئها أو المبيت عندها أو نحو ذلك، إذا فعل ذلك ظلماً لتفتدي منه، ولم يكن لزناها أو نشوزها أو تركها فرضها كأن تترك الصوم أو غيره من الفرائض، ففعلت أي اختلعت منه فدفعت له عوضاً وخلعها، فلا يصح الخلع لقوله تعالى: {ولا تعضلوهن لتذهبوا ببعض ما أتيتموهن إلا أي يأتين بفاحشة مبينة} ، والنهي يقتضي التحريم والبطلان، وعليه فالعوض مردود لأنه قد أخذه بغير حق، أما إذا كان منها زناً أو نشوز أو ترك شيء من الفرائض فعضلها لتفتدي منه، فإن الخلع يصح وذلك لأنه أخذ العوض هنا بحق وقد قال تعالى: {إلا أي يأتين بفاحشة مبينة} ، وكذا النشوز وترك الفرض فإن له أن يعضلها على ذلك لتفتدي منه وظاهر كلام المؤلف أنه إن عضلها لتفتدي منه فافتدت فإن الخلع يصح، لأنه قيده هنا بالإفتداء فلو أن رجلاً عضل امرأته ظلماً بغير حق ولم يكن ينوي أن تفتدي منه لكنها افتدت منه، فالخلع يصح، وله أخذ العوض في المشهور من المذهب، واختار شيخ الإسلام أنه لا يحل أيضاً، وعليه فالخلع باطل وهذا هو الراجح، وذلك لأنه أخذٌ للمال بوسيلة الظلم فإنه وإن لم ينوِ لكنه كان ظالماً لها، وبسبب هذا الظلم توصل إلى هذا المال. قال: [أو خالعت الصغيرة والمجنونة والسفيهة أو الأمة بغير إذن سيدها لم يصح الخلع]

فالأمة إذا أذن لها السيد بالخلع فالخلع صحيح، لأن الرقيق إنما يمنع من التصرف بغير إذن السيد، قالوا: وأما الصغيرة والسفيهة فليس لهما المخالعة ولو أذن الولي، وأما المجنونة فهو ظاهر لأنه لا عقل لها فلا اعتبار بإذن الولي لها، واختار الشيخ عبد الرحمن ابن سعدي وهو الراجح؛ أن الصغيرة والسفيهة إذا أذن لهما الولي بالخلع، فالخلع صحيح كسائر المعاملات، فلا فرق بين الخلع وبين غيره من المعاملات، وهذا هو الراجح، وما يخشى من سوء تصرفها فمدفوع بإذن الولي، وليس للولي أن يأذن إلا حين كان في ذلك مصلحة لها. مسألة: هل للأب أن يخلع ابنته الصغيرة بمالها أم ليس له ذلك؟ المشهور في المذهب أنه ليس له ذلك، فمثلاً؛ دفع لها هذا الرجل داراً مهراً لها ثم تبين للولي أن في هذا الرجل سوء خلق أو غير ذلك – فهل للأب أن يخلع البنت بما لها بأن يقول: خذ هذه الدار التي أمهرتها إياها واخلع ابنتي – ليس له ذلك في المشهور من المذهب. والقول الثاني في المسألة وهو قول طائفة من الحنابلة ومال إليه الموفق واختاره الشيخ عبد الرحمن بن سعدي: أن ذلك جائز، وذلك لابد له أن يتملك من مال البلد ما شاء، وأولى من ذلك أن يكون له الحق في خلعها من زوجها لما في ذلك من دفع الضرر عنها، وهذا هو الراجح، لكن ليس له ذلك إلا أن يكون فيه مصلحة للبنت. قال: [ووقع الطلاق رجعياً إن كان بلفظ الطلاق أو نيته] هذه المسألة فيما إذا خلع، وكان العوض محرماً أي مردوداً، كأن تخالع الصغيرة أو السفيهة أو الأمة بغير إذن سيدها ونحو ذلك فالخلع لا يصح، كما تقدم لكن هل يقع الطلاق أم لا؟ في المسألة تفصيل: فإن كان الخلع بلفظ الخلع أو نية الخلع فالطلاق لا يقع لأن الخلع قد بطل ولا طلاق، فليس هنا لفظ طلاق ولا نية طلاق.

الحالة الثانية؛ أن يتلفظ بالطلاق أو ينويه كأن تقول: " خذ هذا المال عوضاً "، فيقول: " قد طلقتك " أو " قد خالعتك " أو " فارقتك " وينوي الطلاق، فحينئذٍ يصح الطلاق ويكون طلاقاً رجعياً أي إن لم يتم عدده، لكن لو كان قد تم عدده كأن يكون قد طلقها طلقتين سابقتين ثم خالعها بنية الطلاق أو تلفظٍ بالطلاق فحينئذٍ يكون الطلاق بائناً، هذا هو المشهور في المذهب، وهم هنا قد نظروا إلى اللفظ أو النية، فإذا تلفظ بالطلاق ونواه فإنه يقع وإن كان العوض موجوداً. القول الثاني في المسألة، وهو رواية عن الإمام أحمد واختاره الشيخ عبد الرحمن بن سعدي، وهو القول الصحيح في هذه المسألة: أن الطلاق لا يقع واختاره طائفة من أصحاب الإمام أحمد وذلك لأنه إنما فسخ للعوض، فإذا لم يحصل العوض لم يحصل المعوّض، فالمعوض هو الفراق، والعوض هنا هو هذا المال الذي قد دفعه إليه، والعبرة بالمقاصد والمعاني لا بالألفاظ ولا بالمباني، وهنا هو طلاق على عوض فهو خلع، والطلاق الذي يكون فيه ما ذكره الحنابلة إنما هو الطلاق الذي لا يكون على عوض، أما هنا فهو طلاق على عوض فهو خلع سواءً كان بلفظ الطلاق أو كان بغير لفظه، وسواء كان بنية الطلاق أو بغير نيته، فليس بطلاق لأنه بمعنى الخلع، فالراجح أن العوض إذا كان مردوداً إلى المرأة فالمعوض مردود إليه فلا يقع الطلاق وإن نواه أو تلفظ به. الدرس الأربعون بعد الثلاثمائة فصل قال: [والخلع بلفظ صريح الطلاق] بأن يقول للمختلعة: طلقتك، فهذا صريح الطلاق. قال: [أو كناياته وقصده] أي كناية الطلاق وقصده، بأي لفظ من الألفاظ، كأن يقول للمختلعة: " أبَنْتُكِ " وينوي الطلاق. قال: [طلاق بائن]

فهو طلاق بائن، أما كونه طلاقاً فلاعتبار اللفظ، أو الكناية مع النية فقد تلفظ به أو نواه مع كنايته فكان طلاقاً، وأما كونه بائناً لا رجعياً، لما كانت مالكة لنفسها، لأن له حق المراجعة، هذا هو المشهور في المذهب وهو مذهب جمهور العلماء، وعن الإمام أحمد وهو اختيار شيخ الإسلام وتلميذه ابن القيم: أنه فسخ ولو كان بلفظ الطلاق أو كنايته مع قصده وذلك لأن العبرة بالمعاني لا بالمباني، فالعبرة ليست بالألفاظ وإنما بالمعاني، فهنا قد قال: " طلقتك " لكنه ليس هو الطلاق المطلق بل هو طلاق مقيد حيث فيه العوض، فهو فداء وليس بطلاق، فلا عبرة بلفظه ولا بنيته مع كنايته، يدل على هذا أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال لزوج المختلعة: (وطلقها تطليقه) ، ومع ذلك فقد جعل عدتها حيضة، ولو كان طلاقاً لجعل عدتها ثلاث حيض، لأن عدة المطلقة ثلاث قروء بنص القرآن وإجماع أهل العلم، فدل على أنه فسخ وليس بطلاق بائن وإن كان بلفظ الطلاق، فالراجح هو القول الثاني وهو أنه فسخ وليس بطلاق، وثمرة الخلاف:- أنا إذا قلنا: إنه طلاق بائن، فإنها تحسب عليه ثلاث طلقات إن خالعها ثلاثاً فلا يحل له أن ينكحها حتى تنكح زوجاً غيره وإن قلنا هو فسخ: فإذا خالعها ثم نكحها بعد ذلك فلا يحسب عليه طلقة بل لو خلعها عدة مرات فله أن ينكحها من غير تقييد ذلك بنكاح زوج آخر، وهذه الثمرة ثابتة في المسألة الأخرى وهي.. قال: [وإن وقع بلفظ الخلع أو الفسخ أو الفداء ولم ينوه طلاقاً كان فسخاً، لا ينقص عدد الطلاق]

إذا وقع بلفظ الخلع كأن يقول: " خالعتك "، أو بلفظ الفسخ كأن يقول: " فسختك "، أو الفداء بأن يقول: " فاديتك "، ولم ينوه طلاقاً فإنه يكون فسخاً، هذا هو المشهور في المذهب وهو أحد قولي الشافعي، وأما الجمهور فقالوا: هو طلاق بائن أيضاً، ويستدلون بما تقدم ذكره في المسألة الأولى، وهو قول ضعيف كما تقدم، والراجح أنه فسخ، لما تقدم في قصة المختلعة وأن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمرها أن تعتد بحيضة وهذا يدل على أنه ليس بطلاق بائن، إذ لو كان طلاقاً بائناً لأمرها أن تعتد بثلاثة قروء، ويدل عليه أيضاً أن الله عز وجل قال: {الطلاق مرتان فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان …..إلى أن قال …. فإن خفتم ألا يقيما حدود الله فلا جناح عليهما فيما افتدت به …. إلى أن قال … فإن طلقها فلا تحل له من بعد حتى تنكح زوجاً غيره} ، فذكر طلقتين أولاً، ثم ذكر الخلع، ثم ذكر طلقة، فلو كان الخلع طلاقاً لكانت الطلقة التي ذكرها في {فإن طلقها} رابعة لا ثالثة وهذا ممتنع باتفاق أهل العلم، فدل على أنه فداء وليس بطلاق، ويدل عليه أيضاً أن الله ذكره بلفظ الفداء فقال: {فيما افتدت به} ، فعلى ذلك الراجح ما ذهب إليه الحنابلة في هذه المسألة فإذا قال: فسختك أو فاديتك أو نحو ذلك من ألفاظ الخلع فإنه فسخ وليس بطلاق، وعليه فكل طلاق بعوض سواء كان بلفظ الخلع أو بلفظ الطلاق، وسواء كان بنية الخلع أو بنية الطلاق فهو فسخ وليس بطلاق بائن في الراجح من المسألتين المتقدمتين، وهوا اختيار شيخ الإسلام وتلميذه ابن القيم، وفي قوله: " لا ينقص عدد الطلاق "، فإذا طلقها مرتين مثلاً ثم اختلعت منه فيحل له أن ينكحها بعد ذلك قبل أن تنكح زوجاً آخر، فلا تجب عليه طلقة بل هو فسخ. قال: [ولا يقع بمعتدةٍ من خلع طلاقٌ] إذا طلبت منه امرأته الخلع، فخالعها، فإذا طلقها بعد ذلك فإن هذا الطلاق لا يقع وذلك لأنه لا يملك بضعها فهي أجنبية عنه. قال: [ولو واجهها به]

هذا إشارة إلى خلاف أبي حنيفة في هذه المسألة وهو: أنه إذا واجهها بالطلاق الصريح المعين فإنها تحسب طلقة وهو قول ضعيف ولا دليل عليه، والطلاق الصريح بأن يقول: " أنت طالق "، فقوله: " طالق " طلاق صريح وليس بكناية، وهو معين لقوله " أنت "، بخلاف ما لو كان مرسلاً كأن يقول: " كل نسائي طوالق " فلا تطلق عليه المختلعة، هذا مذهب أبي حنيفة ولا دليل عليه، فالراجح أنه لا فرق بين ما إذا واجهها بالطلاق الصريح أو لم يواجهها بل كله لا يقع. قال: [ولا يصح شرط الرجعة فيه] إذا شرط الرجعة في الخلع، فلا يصح الشرط، كأن يقول " نعم أقبل هذا الفداء بشرط أن يكون لي حق الرجعة " فهنا لا يصح الشرط، وذلك لمخالفة مقتضى عقد الخلع، فإن مقتضاه البينونة الصغرى، هذا هو المشهور في مذهب الإمام أحمد. وعن الإمام أحمد وهو مذهب الشافعية؛ أن هذا الشرط يصح فيكون الخلع رجعياً لكن العوض مردود، فالعوض يرد والشرط يصح، والراجح هو القول الأول وذلك لأن هذا الشرط يخالف الشرع، فإن الشرع إنما أذن في الخلع حيث كانت البينونة، بخلاف الطلاق فإنه في الأصل يكون طلاقاً رجعياً، وهنا ليس طلاقاً وإنما فيه عوض، والأصل أن الزوج إنما يملك الطلاق ولا يملك الفسخ وهو إنما ملك الفسخ هنا بالعوض المدفوع، فإذا أثبتنا له حق الرجعة فإن ذلك يخالف الشرع. قال: [وإن خالعها بغير عوض أو بمحرم لم يصح]

إذا خالعها بغير عوض كأن يقول: فسختك أو خالعتك بلا عوض أي مجاناً فهذا الخلع باطل، وذلك لأن الفسخ الوارد في الشرع إنما هو فسخ بعوض، فالزوج إنما يملك في الأصل الطلاق، وإنما أذن له بالفسخ حيث كان العوض، وهنا لا عوض فلا حق له بالفسخ، وليس هذا هو الخلع الوارد في الشرع وعليه فيكون هذا الخلع باطلاً، إذا خالعها بمحرم يعلمه الزوج كأن يخالعها على خمر وهو يعلم أنه خمر، أو خالعها على مغصوب وهو يعلم أنه مغصوب، أو على حرٍ وهو يعلم أنه حرٍ، فهنا الخلع باطل، وذلك لأن الخمر لا قيمة له فهو محرم والمحرم لا قيمة له، فكما لو كان بلا عوض، وكذلك لو خالعها على مغصوب أو على حرٍ وهو يعلم ذلك، وذلك لأنه رضي بشيء لا قيمة له، والشيء الذي لا قيمة له ليس بشيء، فكما لو كان بلا عوض، هذا إذا كان يعلم التحريم، وأما إذا كان يجهله كأن يخالعها على خمر ظنه خلاً أو على حرٍ ظنه عبداً أو على مغصوب ظنه مملوكاً فيثبت له البدل لأنه إنما خالع على عوضٍ له بدل فكان الواجب البدل، فإذا خالعها على دار فثبت أن هذه الدار مستحقة للغير فهي مغصوبة فإن العوض دار بقيمتها، كذلك إذا كان على حرٍ ظنه عبداً، فيكون على عبدٍ بقيمته وهكذا. قال: [ويقع الطلاق رجعياً إن كان بلفظ الطلاق أو نيته] وهذا كالمسألة التي تقدم البحث فيها في الدرس السابق. قال: [وما صح مهراً صح الخلع به] فهل ما صح مهراً يصح الخلع به، وقد تقدم ما صح مهراً؟ دليل هذه المسألة عموم قوله تعالى: {فإن خفتم ألا يقيما حدود الله فلا جناح عليها فيما افتدت به} ، أي في الذي افتدت به، ولفظة " ما " من ألفاظ العموم فكل ما صح مهراً فإنه يصح الخلع به، كنفعٍ أو دين أو عين أو نحو ذلك. قال: [ويكره بأكثر مما أعطاها] فإذا كان قد أمهرها عشرة آلاف درهم فيُكره أن يكون الخلع عشرين ألفاً، والمسألة فيها ثلاثة أقوال:

القول الأول: الجواز بلا كراهة، وهو مذهب الجمهور لعموم قوله تعالى: {فإن خفتم ألا يقيما حدود الله فلا جناح عليها فيما افتدت به} ، وقالوا: هذا يعم القليل والكثير. والقول الثاني في المسألة: وهو مذهب الحنابلة وهو ما ذكر المؤلف هنا وهو أن ذلك مكروه فهو جائز مع الكراهة، واستدلوا بما روى ابن ماجة بإسنادٍ صحيح وجود إسناده ابن كثير في قصة المختلعة في حديث ابن عباس وفيه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمرها أن ترد إليه الحديقة " ولا يزداد " أي لا يزيد عليها، وله شاهد مرسل عند البيهقي عن عطاء. والقول الثالث في المسألة: وهو رواية عن الإمام أحمد وهو اختيار أبي بكر من الحنابلة، وهو قول طائفة من التابعين كسعيد بن المسيب وعطاء بن أبي رباح وطاووس والزهري أن ذلك محرم مردود. ويستدلون بالحديث المتقدم وهو قوله: " ولا تزداد "، والنهي يقتضي التحريم والفساد، وهذا القول فيه قوة فيخصص به عموم الآية المتقدمة ويجاب عن الآية المتقدمة بأنها مسبوقة بقوله تعالى: {ولا يحل لكم أن تأخذوا مما آتيتموهن شيئاً … إلى أن قال.. فإن خفتم ألا يقيما حدود الله فلا جناح عليها فيما افتدت به} ، أي من ذلك المذكور المتقدم الذي لا يحل لكم، فلا يحل أن تأخذوا من مهور النساء الذي دفعتموه لهن، لا يحل لكم ذلك إلا أن تخافوا ألا يقيما حدود الله فلا جناح عليكم في ذلك، إذن قوله تعالى: {فلا جناح عليها فيما افتدت به} ، أي من ذلك المذكور وهو المهر الذي لا يحل لكم أن تأخذوا منه شيئاً، وهذا القول في قوة. قال: [وإن خالعت حاملٌ بنفقة عدتها صح]

الحامل لها النفقة إذا طُلقت، فإذا طلبت من زوجها الخلع على أنه لا نفقة لها فقالت: " أخلعني ولا نفقة لي عليك "، فيصح ذلك خلعاً وذلك لأن النفقة مستحقة بسبب موجود وهو الحمل، وهي في حكم المالكة له، ومثل ذلك لو أبرأته من دين لها في ذمته أو من نفقة ماضية واجبة في ذمته، فأبرأته من هذه النفقة الواجبة في ذمته على أن يطلقها، ولو خالعته على إرضاع ولده فكذلك، فإن النفقة واجبة لها عليه مقابل إرضاع الولد حولين كاملين فإذا قالت ارضع الولد وتطلقني – أي على الإرضاع مجاناً بلا أجرة – فإن هذا يصح المخالعة عليه. قال: [ويصح بالمجهول] يصح الخلع بالشيء المجهول، كأن يقول: " أخلعتك على ما في يدك من الدراهم " وهو يجهل عددها، أو على ما في بيتك من المتاع أو نحو ذلك، وذلك لأن الخلع إسقاط حق، وإسقاط الحق فيه مسامحة ظاهرة فجاز كالوصية وغيرها كما سبق ومثل المؤلف على ذلك بمسائل فقال: [فإن خالعته على حمل شجرتها] كأن يكون لها نخل وتقول: " أخلعني ولك حمل نخلي "، وحمل النخل مجهول. قال: [أو أمتها] أي أو على حمل أمتها. قال: [أو ما في يدها أو بيتها من دراهم أو متاعٍ، أو على عبدٍ صح] أي عبدٍ غير موصوف فإن ذلك يصح لأن الخلع إسقاط حق، وإسقاط الحق فيه مسامحة ظاهرة، فما يحصل من الحمل من الشجرة له، وله ما يحصل من حمل الأمة، وله ما في يدها وله ما في بيتها وله المتاع المذكور. قال: [وله مع عدم الحمل والمتاع والعبد أقل مسماه] إذا خالعها على حمل الشجرة أو الأمة ثم لم تحمل، أو خالعها على ما في بيتها من المتاع فلم يوجد شيء، أو خالعها على عبدٍ فلم يوجد لها عبد، فإن له أقل مسماه، أي ما يصدق عليه أنه عبد، وما يصدق عليه أنه حمل وهكذا، وذلك لأن الاسم يصدق عليه. قال: [ومع عدم الدراهم ثلاثة] فإذا خالعها على ما في يدها من الدراهم، فلم يكن معها شيء فيكون العوض ثلاثة دراهم لأنها أقل الجمع. الدرس الحادي والأربعون بعد الثلاثمائة فصل

قال: [وإذا قال متى أو إذا أو إن أعطيتني ألفاً فأنتِ طالقٌ طلقت بعطيته وإن تراخى] إذا قال الزوج لزوجته: إن أعطيتيني ألفاً فأنت طالق، أو قال الزوج لأجنبي: إن أعطيتني ألفاً فزوجتي طالق، طلقت بعطيته، وذلك لحصول المعلق عليه، فهو قد ربط الخلع والطلاق بصفة وقعت هذه الصفة، قوله " وإن تراخى " أي وإن كان هذا الإعطاء على سبيل التراخي، فلو أنها لم تعطه إلا بعد شهر أو نحو ذلك فإن هذه العطية تثبت مع الطلاق، وذلك لحصول المعلق عليه، هذا هو المشهور في مذهب الإمام أحمد، وفصل الشافعية في هذه المسألة فقالوا: إن أتى بلفظ متى ونحوه فإن الحكم المتقدم يثبت ولو مع التراخي وذلك لأن هذا اللفظ يدخل فيه ما لو تراخى، فإذا قال: " متى ما أعطيتني ألفاً فأنت طالق "، فأعطته بعد شهر فإن هذا الإعطاء داخل في لفظه المتقدم، أما إذا قال: "إذا أو إن أعطيتني ألفاً فأنت طالق"، فإنه لا يكون إلا على الفور، فإن أعطته على التراخي فإن المشروط وهو الطلاق لا يحصل وذلك لأن هذا الباب هنا باب فداء ومعاوضة، والمعاوضة إنما يكون قبولها على الفور، فإذا قال: " بعتك هذا الشيء بألفٍ " فيقول: " قبلت "، فإذا تراخى فإن هذه المعاوضة لا تثبت، فهنا معاوضة، والأصح ما ذهب إليه الشافعية. قال: [وإن قالت؛ اخلعني على ألفٍ أو بألفٍ أو ولك ألفٌ ففعل بانت واستحقها] إذا قالت أخلعني على ألفٍ أو بألفٍ ففعل فوراً – حتى في المذهب – ونحن نستدل عليه بالدليل المتقدم وهو أنه من باب المعاوضة، والمعاوضة إنما تقبل على الفور ولا يتراخى فيها، فإذا فعل فقال: " خالعت " ولم يقل: " خالعتكِ على ألفٍ " فلم يأت بالمال الذي هو عوض عن هذا الخلع فإن الخلع يصح ويستحق المال الذي قد ذكرته في سؤالها، وذلك لأن السؤال كالمعاد في الجواب، فالسؤال كأنه معاد في الجواب، بمعنى لما قالت له: " اخلعني ولك ألف "، كأنه قال: " خالعتك على هذا الألف ".

قال: [وطلقني واحدة بألفٍ فطلقها ثلاثاً استحقها] إذا قالت له: " طلقني واحدة ولك ألف " فقال: " أنت طالق ثلاثاً "، فإنه يستحق الألف لأنه فعل ما استدعته وزيادة. قال: [وعكسه بعكسه] إذا قالت له " طلقني ثلاثاً " فقال؛ " أنت طالق " فطلقها واحدة فلا يحصل له العوض المذكور وذلك لأنه لم يجبها إلى الشيء الذي قد بذلت العوض له، وهذا كله مبني على ما تقدم في المذهب من أن الخلع بلفظ الطلاق طلاق، والصحيح أن الخلع بلفظ الطلاق فسخ فلا فرق بين قوله: " أنت طالق " و " أنت طالق ثلاثاً ". قال: [إلا في واحدةٍ بقيت] إذا قالت: " طلقني ثلاثاً ولك ألف، فقال: " أنت طالق -" وكان قد طلقها طلقتين سابقتين - فهنا يأخذ العوض وذلك لحصول البينونة بهذه الطلقة، فالحاصل من قوله: " أنت طالق ثلاثاً " هو نفسه الحاصل من قوله: " أنت طالق " حيث كان قد طلقها طلقتين سابقتين، وهذا أيضاً مبنيٌ على المسألة التي تقدم أنها مرجوحة. قال: [وليس للأب خلعُ زوجةِ ابنه الصغير ولا طلاقها] فليس للأب أن يخلع زوجة ابنه الصغير وليس له أيضاً أن يخلع زوجة ابنه المجنون، هذا في المشهور من المذهب وهو مذهب الجمهور، واستدلوا بما روى ابن ماجة والحديث حسن أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (إنما الطلاق لمن أخذ بالساق) ، أي إنما الطلاق للزوج، والقول الثاني في المسألة وهو رواية عن الإمام أحمد: أن له الخلع والطلاق.

واختار الشيخ عبد الرحمن بن سعدي: أن له الخلع، وذلك لأن الأب له أن يمتلك من مال ولده ما شاء، وقد أجازته الشريعة كما تقدم، فأولى من ذلك أن يقبل الفداء من المرأة أي من زوجة ولده الصغير حيث ساءت العشرة بينهما، وهذا القول ظاهر، فهذا القول هو القول الأرجح، والحديث المتقدم إنما هو في الطلاق، كما أن الحديث عام، والذي يظهر أيضاً، استثناء الأب في مسألة الطلاق عن ابنه الصغير بشرط أن يكون للابن حظ ومصلحة في هذا الطلاق، فقد يتضرر الابن في هذا النكاح وتلحقه النفقة ولا فائدة له به فحينئذٍ لأبيه أن يطلق، حيث كان في ذلك مصلحة. قال: [ولا خلع ابنته بشئ من مالها] تقدم البحث في هذا وترجيح خلافه. قال: [ولا يسقط الخلع غيره من الحقوق] هذه مسألة ظاهرة جداً، فإن الخلع لا يسقط غيره من الحقوق، إذا كان للمرأة حقوق على زوجها كأن تكون لها نفقات ماضية في ذمة الزوج، ولها – مثلاً – مهر مؤخر ونحو ذلك، فخالعته على عشرة آلاف فقبل هذه العشرة آلاف، فثبوت الخلع لا يسقط ما في ذمته من الديون التي عليه لزوجته من نفقة أو مهر أو نحو ذلك، هذا ظاهر جداً، إذ لا دليل على إسقاطه، لكن لو شرطه في الخلع فقال: " بشرط ألا يكون في ذمتي لكِ شيء " فذلك يبرئ ذمته، أما إذا خالعته على شيء من المال ولم تتعرض على ما في ذمته من الديون لها، فإن هذه الديون يبقى ثابتة لها. قال: [وإن علق طلاقها بصفة ثم أبانها فوجدت، ثم نكحها فوجدت بعده طلقت كعتقٍ وإلا فلا]

هذه مسألة تحتاج إلى إيضاح، قوله: " وإن علق طلاقها بصفة "؛ قال لزوجته: " إن دخلتِ هذه الدار فأنتِ طالق "، وسيأتي كلام شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في مثل هذه المسألة أي في مسألة التعليق، قوله: " ثم أبانها "؛ بخلع أو بطلاقٍ بثلاث أو بدون الثلاث ثم نكحها بعد ذلك، قوله: " ثم نكحها "؛ سواء شرطنا عليه أن يكون ذلك بعد زوج آخر أو لم يكن ذلك، قوله: " فوجدت "؛ أثناء البينونة دخلت هذه الدار أثناء البينونة، إذاً قال لها: " إذا دخلتِ هذه الدار فأنت طالق، ثم ثبت الخلع بينهما أو الطلاق البائن أو طلاق دون الثلاث ثبتت معه البينونة يعني إنتهت العدة ولم يراجعها، وفعلت في أثناء البينونة هذه الصفة فدخلت في هذه الدار، ثم نكحها بعد ذلك فوجدت بعد، أي دخلت هذه الدار مرة أخرى وهي في عصمته. قوله: " طلقت كعتقٍ "؛ أي كمسألة العتق فالعتق أيضاً إذا قال للعبد: " إن فعلت كذا فأنت حر " ثم باعه ففعل هذا الشيء وهو مملوك لغيره، ثم اشتراه مرة أخرى ففعله مرة أخرى فإنه يعتق، قوله: " وإلا فلا "؛ أي وإن لم توجد هذه الصفة بعده فلا، إذا لم تدخل هذه الدار وهي في عصمته فإن الطلاق لا يثبت لعدم حصول المعلق عليه، هذا هو المشهور في مذهب الإمام أحمد، وذهب الجمهور، وهو القول الثاني في مذهب الإمام احمد إلى أنه: لا يحصل الطلاق بفعل هذا الشيء. فإذا دخلت الدار بعد أن تزوجها فلا تكون طالقاً بهذا الدخول، وذلك لأن الشرط وهو دخول الدار قد حصل في وقت لا يمكن الطلاق معه وهو وقت البينونة، فحينئذٍ فلا يقع الطلاق في المرة الثانية لأنه لما حصل في المرة الأول كان ذلك في وقت لا يمكن إيقاع الطلاق معه وذلك لأن الزوجة بائن، فهي أجنبية عنه والأجنبية لا يقع عليها الطلاق وكذلك العبد غير مملوك له، وغير المملوك لا يحصل له عتق لأنه ليس بمملوك.

وهنا حالة أخرى وهي فيما إذا لم تفعل هذا الشيء في البينونة، يعني قال لامرأته: إن دخلتِ هذه الدار فأنت طالق ثم خالعها لم تفعله في البينونة، لكنها فعلته بعد النكاح الثاني، فالجمهور على أن اليمين تعود، فإذا فعلته في النكاح الثاني فإن الطلاق يقع، وعن الإمام أحمد وهو قول في مذهب الإمام الشافعي واختاره المزني من الشافعية وأبو إسحاق: أن اليمين لا تعود وهذا فيما يظهر لي أظهر، وذلك لأنه إنما أوقعها في النكاح الأول وهذا نكاح جديد وقد بطل النكاح الأول بالبينونة المتقدم ذكرها. وهنا مسألة إذا كان الخلع حيلة لفعل المحلوف عليه أو لئلا يحنث فيقع الطلاق، مثال ذلك: إن قال لمرأته: " إن دخل شهر رمضان فأنت طالق " فقرب الشهر، فأراد أن يحتال على عدم طلاقها فأوقع بينهما خلعاً حتى خرج شهر رمضان فحينئذٍ هذه الحيلة لا تنفعهما شيئاً، وذلك لأن الحيل لا تحل ما حرم الله عز وجل والخلع باطل، وذلك لأن الخلع أذن فيه الشارع للفرقة ولقطع النكاح وهنا بخلاف ذلك، فإن المراد منه إبقاء النكاح فهو حيلة لإبقائه والشارع إنما أذن فيه مع أن النكاح في الأصل لازم وليس للزوج أن يفسخه إلا بالطلاق، أباح الشارع الفسخ للفرقة ولقطع النكاح، هذا هو المشهور في مذهب الإمام أحمد وهو ما قرره شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى وغيره.

كتاب الطلاق

الدرس الثاني والأربعون بعد الثلاثمائة كتاب الطلاق الطلاق لغةً: التخلية وفي الاصطلاح: حل قيد النكاح أو بعضه. و" حل قيد النكاح ": أي كله بأن يطلق المرأة الطلاق البائن، " أو بعضه ": بأن يطلقها الطلاق الذي تثبت معه الرجعة. قال: [يباح للحاجة] فإذا كان الطلاق لحاجة فهو مباح وهذا بإجماع أهل العلم، وهذا كأن يكون في المرأة سوء خلق أو نحو ذلك. قال: [ويكره لعدمها] فيكره الطلاق لعدم الحاجة، فإذا كانت الحالة مستقيمة بين الزوجين فإن الطلاق حينئذٍ مكروه، وهذا هو المشهور من المذهب، قالوا: لما روى أو داود في سننه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (أبغض الحلال إلى الله الطلاق) (1) ، والحديث ورد موصولاً ومرسلاً، والإرسال هو الصواب فيه كما رجح هذا أبو حاتم والدارقطني والبيهقي وغيرهم، قالوا: ولأن الطلاق فيه إزالة النكاح المشتمل على المصالح المندوب إليها من تحصين الفرج ومن النسل، وفي البزار بإسنادٍ ضعيف أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (لا يطلق الرجل إلا من ريبة فإن الله لا يحب الذواقين ولا الذواقات) (2) . وعن الإمام أحمد وهو مذهب أبي حنيفة: أن الطلاق محرم؛ وذلك لما فيه من إعدام المصلحة الحاصلة للزوجين، فكان كإتلاف المال وإتلاف المال بلا حاجة محرم وفي هذا القول قوة والله أعلم. قال: [ويستحب للضرر]

_ (1) أخرجه أبو داود في كتاب الطلاق، باب في كراهية الطلاق برقم [2178] .

يستحب الطلاق للضرر الواقع على المرأة بسبب الشقاق الحاصل بينها وبين زوجها، وذلك لما فيه من دفع الضرر الواقع على المرأة بسبب سوء العشرة، وتقدم أن العشرة إذا ساءت بين الزوجين بحيث لم يمكن التلاؤم بينهما فإنه يُبعثُ حكمان، حكم من أهله وحكم من أهلها، وأصح قولي العلماء أنهما حكمان يقضيان بما يريانه وقد تقدم البحث في هذا، قالوا: ويستحب الطلاق إن كانت المرأة تاركةً لبعض الحقوق الواجبةِ عليها من صلاة أو صيام أو نحو ذلك ويريدون بالصلاة بحيث لا تكفر، كأن تكون تترك شيئاً من الصلوات بحيث لا تكفر بها. قالوا: ويستحب الطلاق إن كانت المرأة غير عفيفة. وعن الإمام أحمد وجوب ذلك، فإذا كانت تاركة لبعض الواجبات أو كانت غير عفيفة، فيجب طلاقها، وهذا هو القول الراجح، وهذا حيث لم يمكنه تقويمها، وذلك لما في إبقائها معه مما يخشى من سريان ذلك إلى دينه بالنقص، أي إن كانت فاسقة، فإن كانت غير عفيفة، فيخشى على فراشه منها، وأن يدخل إلى نسبه ما ليس منه. والقول بوجوب الطلاق ظاهر جداً لقوة التعليل المتقدم فإن هذه المرأة يخشى أن تفسد على زوجها فراشه وأن تنسب إليه ما ليس منه، وهذا اختيار شيخ الإسلام وابن سعدي. وغير الصالحة إن لم يمكن تقويمها فالقول بوجوب الطلاق أضعف، وإن كان فيه شيء من القوة، والذي يتبين في غير الصالحة هو التفصيل بأن يقال: إن كان الرجل يأمن على نفسه ويعلم من نفسه أي بالظن الغالب أنه أقوى بأن تؤثر المرأة عليه بنقص دينه فلا يقال بوجوب الطلاق وإنما يقال باستحبابه كما هو المشهور في المذهب، وأما إن كان لا يأمن على نفسه الضعف ونقص الدين فيقوى الوجوب لأن إبقائها معه، والحالة كما تقدم ذريعة مفسدة، والشريعة قد أتت بسد الذرائع. قال: [ويجب للإيلاء]

هذا هو الحكم الرابع للطلاق، فيجب للإيلاء؛ وهو أن يحلف الرجل ألا يطأ امرأته أكثر من أربعة أشهر، ويأتي الكلام عليه في بابه إن شاء الله، فإذا قضت الأربع أشهر ولم يفئ فيطأ المرأة، فإنه يجب عليه الطلاق. وهل يجب على الزوج أن يطلق امرأته بأمر والديه أم لا يجب؟ المشهور في مذهب الإمام أحمد: أنه لا يجب. وعن الإمام أحمد: وجوب ذلك في حق الأب إن كان عدلاً وأمر ولده أن يطلق امرأته، فإنه يجب عليه أن يطلقها، ودليل ذلك؛ ما روى الترمذي وأبو داود وابن ماجه وهو ثابت في مسند الإمام أحمد بإسنادٍ صحيح عن ابن عمر قال: كان لي امرأة أحبها، وكان عمر يكرهها فقال طلقها فأبيت فذكر ذلك للنبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: (طلقها) (1) ، وهذا القول هو الأظهر حيث كان الأب عدلاً، فعمر رضي الله عنه لا يشك في تحريه للعدل وعدم اتباعه للهوى، فالذي يتبين أن الأب إذا أمر ولده أن يطلق امرأته وكان الأب عدلاً معروفاً برعاية الأصلح فإن الولد يجب عليه أن يطلق امرأته، وأما الأم؛ فقد سئل شيخ الإسلام عن أمٍ تأمر ولدها أن يطلق امرأته فقال: " لا يحل له أن يطلقها بل عليه أن يبرها، وليس تطليقه امرأته من برها ".آهـ وليست الأم كالأب في معرفة المصالح. قال: [ويحرم للبدعة] أي يحرم الطلاق البدعي اتفاقاً، كطلاق الحائض ويأتي الكلام عليه إن شاء الله، وعليه فالطلاق له أحكام خمسة فيباح ويكره ويستحب ويجب ويحرم. قال: [ويصح من زوج مكلف] بلا خلاف بين أهل العلم، فالزوج العاقل البالغ يصح طلاقه بلا خلاف بل قد أجمع أهل العلم على هذا، والشريعة دالة عليه. قال: [ومميزٍ يعقله]

_ (1) أخرجه الإمام أحمد

المميز الذي يعقل الطلاق، طلاقه يقع في المشهور من المذهب، والمراد بكونه يعقل الطلاق: أن يعلم أن هذا الطلاق يترتب عليه فراق المرأة وأنها لا تحل له، واستدلوا بقوله - صلى الله عليه وسلم - في الحديث الذي رواه ابن ماجه وغيره وهو حديث حسن: (إنما الطلاق لمن أخذ بالساق) (1) ، وبقول علي الذي رواه ابن أبي شيبة بإسنادٍ صحيح أنه قال: " اكتموا الصبيان الطلاق " (2) ، ومفهومه يدل على أن الطلاق من الصبيان يقع، ولأنه طلاق وقع من عاقل في محله. وذهب الجمهور وهو رواية عن الإمام أحمد: إلى أنه لا يقع واستدلوا بقوله - صلى الله عليه وسلم -: (رُفع القلم عن ثلاثة – وذكر منهم – الصبي حتى يبلغ) (3) . والذي يتبين ترجيحه هو القول الأول. وأما الجواب عن دليل القول الثاني: فإن المراد بالرفع رفع الإثم، أي لا إثم عليهم، وهذه المسألة متعلقة بحق آدمي وهي المرأة التي وقع عليها الطلاق، بخلاف ما يتعلق بحقوق الله. أما إذا كان الصبي لا يعقل الطلاق، فلا يعلم ما يترتب عليه من أحكام، من فراقه للمرأة وتحريمها عليه، فلا خلاف بين أهل العلم في أنه لا يقع.

_ (3) ذكره البخاري معلقاً موقوفاً على علي رضي الله عنه في كتاب الطلاق، باب الطلاق في الإغلاق..، وأخرجه أبو داود في كتاب الحدود، باب في المجنون يسرق (3822) بلفظ آخر، وبرقم (3824) (3825) ، وبقية الخمسة. انترنت / موقع الإسلام / بواسطة ردادي، وللسبكي مؤلف عن حديث رفع القلم، اسمه " إبراز الحكم من حديث رفع القلم " كما في موقع الوراق.

وجماهير أهل العلم على أن السفيه غير الراشد إن طلق وقع، وذلك لأنه إنما حجر عليه في ماله، وكونه يحجر عليه في ماله لا يمنع من تصرفه في غيره، وعلى ذلك يصح توكيل الصبي في الطلاق وكذلك السفيه، وذلك لأن من صح تصرفه في الشيء صح توكيله فيه كما تقدم في باب الوكالة، فتوكيل الصبي أباه أو أخاه، وهو يعقل الطلاق، توكيل صحيح لصحة تصرفه، [ومن صح تصرفه] في شيء صح توكيله فيه. قال: [ومن زال عقله معذوراً لم يقع طلاقه] من زال عقله بجنون أو إغماء أو ببنج لتداوٍ أو نحو ذلك فإن طلاقه لا يقع، وكذا طلاق الموسوس فيه وكذا طلاق النائم وهذا باتفاق المسلمين، وذلك لأن الأقوال إنما تعتبر في الشرع ممن يعقلها ويقصدها وهؤلاء لا يعقلون ما يتلفظون به ولا يقصدونه وفي البخاري معلقاً عن علي قال: " كل طلاق جائز إلا طلاق المعتوه " (1) . إذن: إن زال عقله معذوراً كأن يُجن أو يغمى عليه أو أن يشرب دواءً أو أن يشرب مسكراً غير عالم بتحريمه أو هو عالم بتحريمه لكنه مكره ونحو ذلك، فهؤلاء باتفاق أهل العلم لا يقع طلاقهم. قال: [وعكسه الآثم]

_ (1) ذكره البخاري في كتاب الطلاق، تحت باب الطلاق في الإغلاق والكره، قبل رقم (5269) .

فالآثم في إزالة عقله وهو من شرب المسكر طوعاً فطلاقه يقع، وهذا هو مذهب جمهور أهل العلم، واستدلوا؛ بما روى الترمذي بإسنادٍ ضعيف جداً أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (كل الطلاق جائز إلا طلاق المعتوه) (1) ، والحديث إسناده ضعيف جداً، وإنما يصح عن علي كما تقدم، واستدلوا؛ بالنظر فقالوا: إن هذا الرجل فرط في إزالة عقله فرتبت عليه الأحكام المترتبة على ألفاظه عقوبة له، وهذا أيضاً ضعيف، وذلك لأن الشارع قد عاقبه بالحد وليس ثمت دليل يدل على عقوبته بما ذكروه.

_ (1) أخرجه الترمذي في كتاب الطلاق واللعان، باب ما جاء في طلاق المعتوه (1191) قال: " حدثنا محمد بن عبد الأعلى الصنعاني أنبأنا مروان بن معاوية الفزاري عن عطاء بن عجلان عن عكرمة بن خالد المخزومي عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (كل طلاق جائز إلا طلاق المعتوه المغلوب على عقله) ، قال الألباني: " ضعيف جداً والصحيح موقوف ".

وذهب بعض أهل العلم وهو رواية عن الإمام أحمد وهو أحد قولي الشافعي واختاره شيخ الإسلام وتلميذه ابن القيم وهو مذهب طائفة من التابعين: أنه لا يقع الطلاق، وهو قول عثمان وابن عباس ولا يعلم لهما مخالف كما قال ذلك ابن المنذر، وقول علي المتقدم كلام عام، ورُويَ عن بعض الصحابة ما يخالف قول عثمان وابن عباس ولكن لا يصح، وأثر عثمان رواه البخاري معلقاً ووصله ابن أبي شيبة (1) أنه قال: " ليس لسكرانٍ ولا لمجنونٍ طلاق "، وقال ابن عباس: " طلاق السكران والمستكره ليس بجائز " (2) ، أي ليس بماضٍ، رواه البخاري معلقاً، قالوا: والشريعة دلت عليه، فالشريعة دلت على أن الأقوال التي يتلفظ بها السكران غير مؤاخذ عليها ومن ذلك أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كما في صحيح مسلم؛ أمر أن يستنكه ماعزاً، وقد أقر على نفسه بالزنا ولا فائدة من هذا إلا أن يرد إقراره، ففيه أن إقراره وهو قول من أقواله لا يقبل حين كان شارباً للخمر، ومن ذلك أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال كما في سنن أبي داود: (لا طلاق ولا عَتَاق في إغلاق) (3)

_ (1) ذكره البخاري في كتاب الطلاق، باب الطلاق في الإغلاق والكره بلفظ: " وقال عثمان: ليس لمجنون ولا لسكران طلاق ". (2) ذكره البخاري معلقاً في باب الطلاق في الإغلاق.. . (3) أخرجه أبو داود في كتاب الطلاق، باب في الطلاق على غلط (2193) قال: " حدثنا عبيد الله بن سعد الزهري أن يعقوب بن إبراهيم حدثهم قال: حدثنا أبي عن ابن إسحاق عن ثور بن يزيد الحمصي عن محمد بن عبيد بن أبي صالح الذي كان يسكن إيليا قال: خرجت مع عدي بن عدي الكندي حتى قدمنا مكة، فبعثني إلى صفية بنت شيبة وكان قد حفظت عن عائشة قالت: سمعت عائشة تقول: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: (لا طلاق ولا عتاق في غلاق) كذا في سنن أبي داود [2 / 643] قال في الحاشية: " وأخرجه ابن ماجه في الطلاق باب طلاق المكره حديث 2046، والمحفوظ فيه: " لا طلاق ولا عتاق في إغلاق ".

، ومن شرب الخمر فقد انغلق عليه قصده فلا يدري ما يقول ومنه الغضبان كما سيأتي، وهذا القول هو الراجح لقوة أدلته، فعلى ذلك من شرب الخمر طوعاً وأغماه الخمر فطلق امرأته فإن هذا الطلاق لا يقع، والشرع إنما يعتبر الأقوال حيث كان المتلفظ بها في حالة عقل وقصد وأما حيث لا يعقل ما يقول ولا يقصده فإن الشارع لا يرتب على قوله شيئاً ولا يعتبر قوله. الدرس الثالث والأربعون بعد الثلاثمائة قال المؤلف رحمه الله: [ومن أكره عليه ظلماً بإيلام له أو لولده، أو أخذ مال يضره، أوهدده بأحدها قادرٌ يظن إيقاعه به فطلق تبعاً لقوله لم يقع] هذه المسألة في حكم طلاق المكره، وجمهور أهل العلم على أن طلاق المكره لا يقع، ودليل ذلك قوله تعالى: {إلا من أكره وقلبه مطمئنٌ بالإيمان} (1) ، فإذا كان الكفر لا يقع بالتلفظ به للإكراه مع أن الصدر منشرح بالإيمان، فأولى من ذلك الطلاق فإذا أكره فطلق بقوله ولم يقصد ذلك بقلبه فليس قلبه منشرحاً بالطلاق فإنه لا يقع، وقوله - صلى الله عليه وسلم -: (لا طلاق ولا عتاق في إغلاق) رواه أبو داود، والإغلاق هو انسداد باب العلم والقصد والمكره قد انسد باب قصده فهو غير قاصد للطلاق ولا مريدٍ له، ويدل عليه أيضاً: ما روى ابن ماجه والحديث حسن لغيره أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (إن الله تعالى وضع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه) (2)

_ (1) سورة النحل (106) . (2) قال صاحب الأربعين النووية: " حديث حسن رواه ابن ماجه والبيهقي وغيرهما ". وأخرجه ابن ماجه في كتاب الطلاق (2043) قال رحمه الله: " حدثنا إبراهيم بن محمد بن يوسف الفريابي حدثنا أيوب بن سويد حدثنا أبو بكر الهُذلي عن شهر بن حوشب عن أبي ذر الغفاري قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (إن الله تجاوز عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه) ". وأخرج البيهقي في السنن الكبرى (7 / 356) في باب ما جاء في طلاق المكره فقال رحمه الله: أخبرنا أبو ذر بن أبي الحسين بن أبي القاسم المذكر وأبو عبد الله إسحاق بن محمد بن يوسف السوسي في آخرين قالوا: نا أبو العباس محمد بن يعقوب نا الربيع بن سفيان نا بشر بن بكر نا الأوزاعي عن عطاء عن عبيد بن عمير عن ابن عباس رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (إن الله تجاوز لي عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه) جود إسناده بشر بن بكر وهو من الثقات، ورواه الوليد بن مسلم عن الأوزاعي فلم يذكر في إسناده عبيد بن عمير. أخبرناه أبو سعد الماليني أنا أبو أحمد بن عدي الحافظ نا عمر بن سنان والحسن سفيان وغيرهما قالوا: نا محمد بن المصفى نا الوليد بن مسلم، فذكره، وقال: عن عطاء عن ابن عباس رضي الله عنهما. وأخبرنا أبو الحسين بن الفضل القطان قال: أنا عبد الله بن جعفر نا يعقوب بن سفيان نا محمد بن المصفى نا الوليد نا ابن لهيعة عن موسى بن ورد أنه قال: سمعت عقبة بن عامر رضي الله عنه يقول: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (وضع الله عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه) ".

، والمكره إنما تلفظ بالطلاق لا لقصده وإنما لدفع الأذى الحاصل عليه، وقد قال ابن عباس كما في البخاري: " الطلاق عن وَطَر " (1) ، أي قصدٍ، وهو قول عمر وعلي وابن عمر وابن عباس وابن الزبير كما روى ذلك ابن حزم في المحلى. وقول المؤلف " ظلماً " يخرج ما لو أكره عليه بحق فإن الطلاق يقع، كإكراه الحاكم المولي بالطلاق إن أبى الفيئة. قوله: " بإيلام له ": أي بضرب أو سجن طويل أو خنق أو غير ذلك، وأما إن كان ضرباً يسيراً فإن الإكراه معه لا يعذر به؛ وذلك لأنه لا يحتاج معه إلى الطلاق، هذا إن كان ممن لا يبالي به، وأما إن كان من ذوي المروءة الذين يؤذيهم ذلك أذىً عظيماً ويلحقهم ذلك إشهاراً وحطة عند الناس فإنهم يعذرون بذلك. قوله: " أو لولده ": فإذا كان الإيلام بالسجن أو الضرب الشديد لولد فكذلك، فيتوجه - كما قال ابن رجب - أن يكون كذلك في كل من يُلحق مشقة عظيمة في أذاه، من ولدٍ أو والدٍ أو زوجٍ أو صديقٍ، وذلك لحصول الإكراه، فيدخل ذلك في عمومات الأدلة. قوله: " أو أخذ مال يضره ": أي ضرراً كثيراً. قوله: " أو هدده بأحدها: " أي بأحد المذكورات، فإذا هدده بأن يؤلمه إيلاماً شديداً أو يأخذ من ماله ما يضر به ضرراً كثيراً، أو بأن يؤلم ولده أو والده أو زوجته أو صديقه، فإذا هدد بذلك فإن طلاقه لا يقع، ففي الكلام السابق حيث يقع المذكور وهنا لم يقع المذكور وإنما هدد به. قوله: " من قادر ": من سلطان أو متغلب كلص ونحوه.

_ (1) ذكره البخاري في كتاب الطلاق، باب الطلاق في الإغلاق والكره بلفظ: " وقال ابن عباس: الطلاق عن وطر، والعَتَاق ما أريد به وجه الله ".

قوله: " يظن إيقاعه به ": قالوا يظن ظناً غالباً أي يظن ظناً غالباً أن هذا السلطان أو هذا الذي السلطان ظهره، أو هذا اللص يمكنه أن يوقعه بهذا الوعيد أو التهديد إيقاعاً غالباً، فإذا علم أنه يفعل ما هدده به، أو غلب على ظنه ذلك فإنه يحصل بذلك الإكراه، وقال شيخ الإسلام: " بل يكون إكراهاً مع استواء الطرفين، أي بمجرد كونه يخشى ذلك فإن الإكراه ثابت ولو لم يكن الظن غالباً، وهو كما قال فإن ذلك إكراهٌ، فإذا هدده من يخشى منه ويخشى أن يوقع ما هدده به فإنه يكون مكرهاً وإن لم يغلب على ظنه أنه يوقع ما توعده به، قوله: " فطلق تبعاً لقوله لم يقع ": وذلك للأدلة المتقدمة، وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: " من سحر ليطلق كان إكراهاً "، قال صاحب الإنصاف: " بل هو من أعظم الإكراهات " لأنه لم يقصد الطلاق وإنما أكره عليه بالسحر، فإذا أثبت أهل الخبرة أن هذا الرجل مسحورٌ، وأن طلاقه كان بسحرٍ فإن الطلاق لا يقع. قال: [ويقع الطلاق في نكاح مختلف فيه]

كنكاحٍ بلا وليٍ، فالنكاح المختلف فيه يقع الطلاق فيه، فيكون طلاقاً بائناً إن كان الزوج يعتقد فساده، وإن كان يعتقد صحته كالحنفي الذي يقول به، فإن الطلاق يكون رجعياً، أما الحالة الثانية وهي فيما إذا كان يعتقد صحته فهذا ظاهر، وأما إذا كان يعتقد فساده فليس بظاهرٍ فالأظهر أنه لا طلاق له، وإن من نكح نكاحاً فاسداً فطلق وهو يعتقد فساده، فإنه لا طلاق له بل يفرق بينهما، وهو رواية عن الإمام أحمد وهو قول أبي الخطاب من الحنابلة لأنه كالنكاحِ الباطل، واختاره شيخ الإسلام، فهو يعتقد أنه نكاح فاسد والطلاق فرع عن النكاح الصحيح، وهو لا يعتقد صحته وإنما يعتقد فساده وعليه فإنه يفرق بينهما ولا يكون طلاقاً، وقد أجمع أهل العلم على أن الطلاق في النكاح الباطل لا يقع، كمن نكح امرأة معتدة ثم طلقها، فلا يكون هذا طلاقاً بل يفرق بينهمـ[ـا] ، فإذا خرجت من عدتها فنكحها فلا تحسب عليه تلك الطلقة، كذلك إذا نكح امرأة بلا وليٍ وهو يعتقد فساد هذا، ثم نكحها بعد ذلك بولي، فلا يحسب عليه طلقة لأنه ليس بنكاحٍ صحيح بل هو فاسد عنده، والطلاق فرع عن النكاح الصحيح. قال: [ومن الغضبان] أي يقع الطلاق من الغضبان، فطلاق الغضبان طلاق واقع ما لم يغمَ عليه، أي ما لم يزل عقله به، والطلاق في حالة الغضب له ثلاث صور، صورتان لا نزاع فيهما وصورة فيها النزاع: الصورة الأولى: أن يطلق في مبادئ الغضب بحيث أن له تصوراً صحيحاً، فطلاقه واقع بلا إشكالٍ، بل أكثر الطلاق من هذا القبيل، وهذا لا خلاف فيه بين أهل العلم. الصورة الثانية: أن يطلق وهو غضبان غضباً قد زال عقله معه بحيث أصبح لا يدري ما يقول، فأصبح كالمجنون أو المعتوه فهذا طلاقه لا يقع، بلا نزاعٍ بين أهل العلم.

الصورة الثالثة: وهي التي اختلف فيهـ[ـا] أهل العلم وهي أن يطلق وهو في الغضب المتوسط، أي الذي قد تعدى مبادئ الغضب ولم يصل إلى منتهاه، فالغضب ثابت والعقل لم يَزُل، فقد اختلف فيه أهل العلم: 1.فالمشهور عند الحنابلة وغيرهم وقوع الطلاق. 2. واختار شيخ الإسلام وتلميذه ابن القيم؛ عدم وقوع الطلاق. وصفة الغضب المتوسط: أن يكون الغضب قد استحكم في الغاضب وأصبح غير كامل القصد، بل أصبح الغضب يتصرف فيه فيسكته وينطقه كما قال تعالى: {فلما سكت عن موسى الغصب} (1) ، فقصده ضعيف، بل هو غير كامل وتصوره غير تامٍ، بحيث أنه يقدم على الشيء ثم يندم عليه، والراجح هو اختيار شيخ الإسلام وتلميذه ابن القيم، وذلك لقوله - صلى الله عليه وسلم - فيما رواه أبو داود وغيره: (لا طلاق ولا عتاق في إغلاق) (2) ، والإغلاق؛ هو انسداد باب العلم والقصد، ويدخل فيه السكران والمكره والمجنون والمعتوه وأيضاً الغضبان بل قد فسر الإمام أحمد والشافعي وأبو داود قول النبي - صلى الله عليه وسلم - (في إغلاق) فسروه بالغضب، وفسره أبو عبيدة بالإكراه، والصحيح شموله لهما ولغيرهما مما تقدم، وهذا الرجل الغضبان الذي قد طلق، والغضب يسكته وينطقه وقد استحكم به وانتشر وهو غير تام القصد، هذا قد انغلق عليه تمام قصده فلم يقع طلاقه، وقد قال ابن عباس رضي الله عنه: " الطلاق عن وَطَر " (3) ، وهذا ليس عن وَطر فليس عن قصدٍ تام، وقد نصر ابن القيم هذا القول بأدلة كثيرة من الكتاب والسنة، والنظر، في كتابه " إغاثة اللهفان في حكم طلاق الغضبان ". قال: [ووكيله كهو]

_ (1) في سورة الأعراف {ولما سكت عن موسى الغضبُ..} الآية رقم (154) . (2) تقدم. (3) ذكره البخاري معلقاً كما تقدم.

وكيل الزوج كهو، فللزوج أن يوكل في الطلاق، وذلك للقاعدة السابقة: " أن من صح تصرفه في الشيء صح توكيله فيه "، فللزوج أن يوكل غيره سواء كان هذا الوكيل مكلفاً أو مميزاً يعقله، فإذا وكل فإن الموكل يطلق عنه؛ وذلك لأن الطلاق إزالة ملك كالعتق، فكما يجوز التوكيل في العتق فيجوز التوكيل في الطلاق لأنه إزالة ملك. قال: [ويطلق واحدة] أي الوكيل، فليس له أن يطلق أكثر من واحدة، وذلك لأن الأمر المطلق يتناول ما يصدق عليه الاسم، ثم إن الطلاق ثلاثاً بلفظٍ واحدٍ محرمٌ، فليس له فعله. قال: [ومتى شاء] ولو كان بعد شهرٍ أو شهرين أو سنة، وذلك لأن التوكيل فيه إطلاق، فقد أطلق هذا الموكِّل توكيله فقال: " وكلتك أن تطلق امرأتي "، ولم يوقت له وقتاً، فكان هذا التوكيل غير مؤقت، فلو طلق بعد سنة أو سنتين فإن الطلاق يقع ما لم يرجع عن التوكيل، فإذا قال: رجعت عن توكيلك فذلك جائزٌ، فللزوج الرجوع في التوكيل كسائر الوكالات، وقد تقدم في باب الوكالة. فإن طلق الوكيل وادعى الزوج أنه قد رجع في هذه الوكالة فما الحكم؟ المشهور في المذهب: أنه يقبل قول الزوج. وعن الإمام أحمد: أنه لا يقبل قوله إلا ببينة تدل على أنه قد رجع قبل إيقاع الطلاق، واختار هذا شيخ الإسلام وهو القول الراجح كسائر الوكالات، ففي سائر الوكالات لا يقبل ادعاؤه الرجوع بعد فعل الوكيل الوكالة إلا ببينة، وهنا كذلك. قال: [إلا أن يعين له وقتاً] فإذا قال له: " وكلتك أن تطلق امرأتي اليوم " فطلق غداً فلا يقع الطلاق؛ لأن هذه الوكالة قد جعل لها وقتاً. قال: [وعدداً] فإذا قال له: " وكلتك أن تطلق طلقتين "، فليس له أن يزيد على ذلك. قال: [وامرأته كوكيله في طلاق نفسها] إذا وكل امرأته بالطلاق فقال: " فوضت إليكِ أمر نفسك "، فكذلك لأنه يجوز له أن يتصرف في الطلاق فجاز له أن يوكل به. فائدة:

ذكر شيخ الإسلام أن طلاق الفضولي كبيعه، أي موقوف على الإجازة، فإذا جاء أجنبي فقال لزوجة فلان: " أنت طالق من زوجك " فأجاز الزوج فأمضى، [فـ]ـذلك كبيع الفضولي. الدرس الرابع والأربعون بعد الثلاثمائة فصل هذا الفصل في الطلاق سنيّه وبدعيّه قال: [إذا طلقها مرة في طهر لم يجامع فيه، وتركها حتى تنقضي عدتها فهو سنّةٌ] إذا طلقها مرة فقال: " أنت طالق " في طهر لم يجامعها فيه بمعنى حاضت المرأة فطهرت وتطهرت فطلقها ولم يجامعها، هذا هو طلاق السنة بالإجماع، قال تعالى: {فطلقوهن لعدتهن} (1) ، وفي الصحيحين أن ابن عمر طلق امرأته وهي حائض في عهد النبي - صلى الله عليه وسلم -، فسأل عمر النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: (مره فليراجعها ثم ليمسكها حتى تطهر ثم تحيض ثم تطهر ثم إن شاء فليمسك بعد، وإن شاء فليطلق قبل أن يمس فتلك العدة التي أمر الله أن تطلق لها النساء) (2) ، وثبت في النسائي بإسنادٍ صحيح عن ابن مسعود قال: " طلاق السنة أن يطلقها طاهراً من غير جماع " (3) ، لكن يستثنى من ذلك ما دل عليه حديث ابن عمر وهو مستثنى عند فقهاء الحنابلة، وهو ما إذا طلقها وهي حائض فإنه يؤمر بمراجعتها، فإذا طهرت من حيضها فلا يطلقها بل ينتظر حتى تحيض ثم تطهر وبعد ذلك يطلقها إن شاء كما دل على ذلك

_ (1) سورة الطلاق. (2) أخرجه البخاري في بداية كتاب الطلاق، باب قول الله تعالى: {يا أيها النبي إذا طلقتم النساء} (5251) ، وأخرجه مسلم برقم (1471) . (3) أخرجه النسائي في كتاب الطلاق، باب طلاق السنة (3395) قال: " أخبرنا عمرو بن علي قال حدثنا يحيى عن سفيان عن أبي إسحاق عن أبي الأحوص عن عبد الله قال: " طلاق السنة أن يطلقها طاهراً في غير جماع "، وأخرجه برقم (3394) بلفظ: " أنه قال: طلاق السنة تطليقة وهي طاهر في غير جماع، فإذا حاضت وطهرت طلقها أخرى، فإذا حاضت وطهرت طلقها أخرى ثم تعتد بعد ذلك بحيضة "

حديث ابن عمر. قال: [فتحرم الثلاث إذاً] أي إذ هي طاهر لم تجامع فيه، فإذا طلقها ثلاثاً بكلمة واحدة أو بكلمات في مجلسٍ واحد أو في مجالس، ولم يكن هذا الطلاق المكرر بعد رجعة ولا بعد عقد فهذا محرم، وذلك كأن يقول: " أنت طالق ثلاثاً " أو يقول: " أنت طالق، أنت طالق، أنت طالق "، سواء كان ذلك في مجلس واحد كما في المثالين السابقين، أو كان بأكثر من مجلس، بأن قال لها في مجلس يوم السبت: " أنت طالق " ولم يراجعها فلما جاء يوم الأحد قال لها " أنت طالق " أي طلقة ثانية فلما جاء يوم الاثنين قال: " أنت طالق " أي ثالثة وليس الثانية بعد رجعة ولا عقد، وكذلك الثالثة فهذا كله محرم.

ودليل ذلك ما روى النسائي والحديث صحيح من حديث محمود بن لبيد أن النبي - صلى الله عليه وسلم - " أخبر عن رجلٍ طلق امرأته بثلاث تطليقات جميعاً " فقام النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو غضبان فقال: (أيُلعب بكتاب الله وأنا بين أظهركم) (1) ، واللعب بكتاب الله محرم، ولأن الطلاق الوارد في الشرع إنما أن يطلقها ثم يراجعها ثم يطلقها ثم يراجعها ثم يطلقها، ولذا قال تعالى: {فطلقوهن لعدتهن} وقال سبحانه وتعالى: {لا تدري لعل الله يحدث بعد ذلك أمراً (2) } ، أي الرجعة وهذا الطلاق – أي طلاق الثلاث – ليس بعده رجعة فكان محرماً، وهذا مذهب جمهور العلماء.

_ (1) أخرجه النسائي في كتاب الطلاق، باب الثلاث المجموعة وما فيه من التغليظ (3401) قال: " أخبرنا سليمان بن داود عن ابن وهب قال أخبرني مخرمة عن أبيه قال: سمعت محمود بن لبيد قال أخبر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن رجل طلق امرأته ثلاث تطليقات جميعاً فقام غضباناً ثم قال: (أيلعب بكتاب الله وأنا بين أظهركم) حتى قام رجل وقال: يا رسول الله ألا أقتله ". وسليمان هو: ابن داود بن حماد المهري أبو الربيع المصري ابن أخي رشدين ثقة كما في التقريب. وابن وهب: هو عبد الله بن وهب بن مسلم القرشي أبو محمد المصري الفقيه، ثقة حافظ عابد كما في التقريب. ومخرمة: هو ابن بكير بن عبد الله بن الأشج أبو المسور المدني، صدوق، وروايته عن أبيه وجادة من كتابه، قاله أحمد وابن معين وغيرهما كما في التقريب، وقال ابن المديني: سمع من أبيه قليلاً ". وأبوه هو: بكير بن عبد الله الأشج مولى بني مخزوم أبو عبد الله أبو أبو يوسف المدني نزيل مصر ثقة من الخامسة كما في التقريب، وانظر تهذيب الكمال [4 / 242] . فعلى ذلك الإسناد حسن. (2) سورة الطلاق.

وقال الشافعية وهو رواية عن الإمام أحمد: هو جائز واستدلوا بحديث عويمر العجلاني في قصة الملاعنة وفيه أنه قال: " كذبت عليها أن أمسكتها هي طالق ثلاثاً " (1) ، واستدلوا بما ثبت في الصحيحين عن أم رفاعة قالت للنبي - صلى الله عليه وسلم -:أن أبا رفاعة بت طلاقي " (2) ، قالوا؛ فهذا يدل على جوازه لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم ينكره. والقول الأول هو الراجح. والجواب عما استدل به الشافعية: أما الدليل الأول: فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم ينكر على عويمر لأن هذا اللفظ لا فائدة منه ولا قيمة له وذلك لأن الملاعنة يثبت معها البينونة الكبرى، فيفرق بين المتلاعنين تفرقاً لا اجتماع بعده، وأما حديث أم رفاعة (3) ففي رواية مسلم أنها قالت " طلقني آخر ثلاث تطليقات "، فدل على أنه لم يقل: " هي طالق ثلاثاً "، فالصحيح أن الطلاق ثلاثاً محرم. واختلف أهل العلم هل يقع ثلاثاً أم لا؟ على قولين:

_ (1) أخرجه البخاري في كتاب الطلاق، باب اللعان ومن طلق بعد اللعان (5308) ولفظه فيه: " قال عويمر: كذبت عليها يا رسول الله إن أمسكتها، فطلقها ثلاثاً قبل أن يأمره رسول الله - صلى الله عليه وسلم - "، وأخرجه مسلم (1492) . (2) أخرجه البخاري في كتاب الطلاق، باب من أجاز طلاق الثلاث (5260) ولفظه: " أن عائشة أخبرته: أن امرأة رفاعة القرظي جاءت إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -.. إن رفاعة طلقني فبت طلاقي وإني نكحت.. " وأخرجه مسلم (1433) . (3) كذا في المذكرة – الأصل -، ولعل الصواب: امرأة رفاعة.

القول الأول، وهو مذهب جماهير العلماء وهو قول الفقهاء الأربعة وعليه فتوى أئمة الدعوة النجدية: أن هذا الطلاق واقع ثلاثاً، واستدلوا بفعل عمر، وفي مسلم عن ابن عباس قال: " كان الطلاق على عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - وأبي بكر وسنتين من عهد عمر طلاق الثلاث واحدة فقال عمر – إن الناس قد استعجلوا في أمر كانت لهم فيه أناة، فلو أمضيناه عليهم - فأمضاه عليهم " (1) ، قالوا: لأنه قد طلق ثلاثاً فقد تلفظ بالطلاق ثلاثاً فأوقعناه عليه كذلك. القول الثاني، وهو قول طاووس وعكرمة من التابعين وهو مذهب أهل الظاهر واختاره شيخ الإسلام وتلميذه ابن القيم وهو قول طائفة من أصحاب أحمد وطائفة من أصحاب مالك وطائفة من أصحاب أبي حنيفة، قالوا: الطلاق لا يقع ثلاثاً بل واحدة ". واستدلوا بالحديث المتقدم، قالوا: كان طلاق الثلاث على عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - وأبي بكر وسنتين من عهد عمر طلاق الثلاث واحدة فهذا هو فعل النبي - صلى الله عليه وسلم - وفعل أبي بكر وفعل عمر في بعض خلافته. واستدلوا: بما روى أحمد في مسنده وصححه وجوّد إسناده شيخ الإسلام: أن أبا ركانة طلق امرأته في مجلس واحدٍ ثلاثاً فحزن عليها فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: " إنها واحدة " (2) . واستدلوا: بأن الشارع قد نهى عنه والنهي يقتضي الفساد، هذا هو القول الراجح.

_ (1) أخرجه مسلم في كتاب الطلاق، باب طلاق الثلاث (1472) . (2) رواه أحمد في المسند (2387) ، ورواه أبو داود (2196) في كتاب الطلاق، باب نسخ المراجعة بعد التطليقات الثلاث بلفظ آخر وفيه: " فجعلها النبي - صلى الله عليه وسلم - واحدة ".

وأجابوا عما استدل به أهل القول الأول: أن فعل عمر رضي الله عنه اجتهاد منه وكل يؤخذ من قوله ويرد، والعذر له في مخالفة النبي - صلى الله عليه وسلم - وأبي بكر: هو أنه قد جعل هذا من باب التعزير وهو سائغ للإمام، كما عزر في جلد شارب الخمر ثمانين وكان يجلد في عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - أربعين، وذلك أن الناس لما أكثروا من شرب الخمر وأظهروا ذلك عُزِروا بجعل الحد ثمانين، كذلك هنا فإن الناس لما استهانوا بهذا الأمر المحرم وأكثروا منه عزرهم بذلك وأمضاه عليهم. إذن الطلاق الذي يقع هو الذي يكون بعد الرجعة؛ كأن يطلق امرأته ثم يراجعها ثم يطلقها، فهذه طلقة معتبرة. أو طلقها فلما انقضت عدتها راجعها أي تزوجها بعقد جديد ثم طلقها فهذه الطلقة معتبرة أيضاً. [واختار الشيخ عبد العزيز رحمه الله؛ عدم الوقوع إذا كان بكلمة واحدةٍ نحو أنت طالق ثلاثاً أو مطلقة بالثلاث أو هي طالق بالثلاث. وأما إذا كرره على وجهٍ يغاير فإنه يقع نحو أنت طالق وطالق وطالق أو أنت طالق ثم طالق ثم طالق أو أنت طالق أنت طالق أنت طالق، إلا إذا أراد بالثاني والثالث التأكيد أو إفهام المرأة فله نيته.

أما لو قال أنت طالق طالق طالق فهي واحدة لأنه من باب التأكيد وفي الحديث - أبي ركانة - عند أبي داود: " والله ما أردت بها إلا واحدة فردها عليه " وهذا القول أصح.] (1)

_ (1) ما بين القوسين غير موجود في الأصل، وإنما قاله الشيخ في شرحه لأخصر المختصرات، قال حفظه الله تعالى: " والصواب في هذه المسألة: ما اختاره الشيخ عبد العزيز بن باز رحمه الله، وأن قول القائل في مجلس واحد: أنتِ طالق ثلاثا، هذا لا يقع إلا واحدة، وأما إن قال: أنتِ طالق وطالق وطالق، أو قال: أنتِ طالق ثم طالق ثم طالق – هذا بالعطف –، أو قال معيداً للجملة: أنت طالق، أنت طالق، أنت طالق، أو قال: أنتِ مطلقة، أنتِ مطلقة، أنتِ مطلقة – فأعاد الجملة -، فهنا يقع ثلاثا، إلا أن يقصد إفهامها أو التأكيد. إذاً: إن قال أنت طالق ثلاثا، بكلمة واحدة، فحينئذ الطلاق لا يقع إلا واحدة. قال: وهذا هو ظاهر الأحاديث، في حديث مسلم: " كان الطلاق على عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - وأبي بكر طلاق الثلاث واحدة " قال: طلاق الثلاث، بأن يقول: أنتِ طالق ثلاثا، أو: أنتِ طالق بالثلاث، وأيضا حديث رُكانة المتقدم، فإن فيه: أنه طلق امرأته ثلاثا في مجلس واحد "، وعند أبي داود من وجه أحسن منه – كما قال الحافظ ابن حجر رحمه الله -: أنه قال: والله يا رسول الله، ما أردتُ إلا واحدة، فردّها إليه "، فدل على: أنه، إما أنه قال: أنت طالق ثلاثا، أو قال: أنت طالق وطالق وطالق، وأراد بالاثنتين إفهامها، أو التأكيد، ولذا قال: " والله ما أردت إلا واحدة "، فيُدَيَّن فيما بينه وبين ربه – يعني إذا قال الرجل: أنت طالق ثم طالق ثم طالق، فنقول: ما الذي أردت من قولك " ثم طالق ثم طالق "؟ إن قال: أردت التأكيد، أو أردت إفهامها، فنقول: هي واحدة. وإن قال: لا، أنا أردت البتة – أردتُ أن أبُتَّ طلاقها -، فنقول: هي طالق ثلاثا. وكذلك إذا قال: أنتِ طالق وطالق وطالق، فإن قال: أريد إفهامها، أو: أريد التأكيد، فنقول: لا تقع إلا واحدة. وهذا القول هو القول الراجح في هذه المسألة. وأما إن قال: أنتِ طالق، طالق، طالق، هنا لم يأت بالعطف، لم يقل: " و "، ولم يقل: " ثم "، ولم يكرر الجملة بإعادة المبتدأ، وإنما قال: أنتِ طالق، طالق، طالق، فهذا ظاهره أنه طلاق واحد، كما هو أصح القولين، وهو اختيار كثير من أهل العلم ممن يوقع الطلاق الثلاث ثلاثا، لكن يقول: أنتِ طالق، طالق، طالق، هذا ظاهره التأكيد، لأنه من المعروف أن الكلمة إذا أُعيدت بلا عاطف، فهي ظاهرة في التأكيد، إلا أن يكون في نيته إيقاع الطلاق ثلاثا. إذاً: إذا كرر، فقال: أنت طالق، طالق، طالق، فنقول: هذه طلقة واحدة، إلا أن يكون قد نوى في التكرار خلاف الظاهر، فإذا نوى خلاف الظاهر، فإنما الأعمال بالنيات. هذا القول هو القول الراجح في هذه المسألة، وعلى ذلك: فالذي يستثنى من الطلاق الثلاث قوله " أنتِ طالق ثلاثا " أو " بالثلاث " أو " مطلقة بالثلاث " بكلمة واحدة، أو قوله " أنتِ طالق، طالق، طالق " أو قوله " أنتِ طالق ثم طالق ثم طالق " أو " أنتِ طالق وطالق وطالق "، وينوي إفهامهما أو التأكيد. ".

قال: [وإن طلق من دخل بها في حيض، أو طهرٍ وطئ فيه فبدعة يقع] هذا أيضاً طلاق بدعي، إذن النوع الأول من الطلاق البدعي الطلاق ثلاثاً، والنوع الثاني هو الطلاق في الحيض، والنوع الثالث أن يطلقها في طهر وطئها فيه، ويدل على ذلك حديث ابن عمر المتفق عليه وقد تقدم. وطلاق الحائض يقع، وهو مذهب جماهير العلماء، وأن الطلاق في الحيض يقع، وكذلك في طهر جامعها فيه، فهو طلاق بدعة ومحرم لكنه يقع. والقول الثاني في المسألة وهو اختيار شيخ الإسلام وتلميذه ابن القيم وهو مذهب أهل الظاهر: أن الطلاق لا يقع، واستدلوا بما روى أبو داود في سننه من حديث أبي الزبير عن ابن عمر سماعاً قال: " ولم يرها شيئاً " (1) أي لم ير تلك التطليقة التي طلقها ابن عمر في الحديث المتقدم – وكان قد طلقها وهي حائض – لم يرها شيئاً. وقالوا: لأن طلاق الحائض أو في طهر جامعها فيه طلاق محرم منهي عنه والنهي يقتضي الفساد. وأما جمهور العلماء، فاستدلوا بقوله - صلى الله عليه وسلم -: (مره فليراجعها) (2) ، قالوا: والرجعة إنما تكون بعد الطلاق.

_ (1) أخرجه أبو داود في كتاب الطلاق، باب في طلاق السنة (2185) ولفظه: " قال عبد الله: فردها عليّ ولم يرها شيئاً ". (2) متفق عليه.

وهذا الاستدلال فيه نظر؛ وذلك أن الرجعة تسمى رجعة حيث كانت بعد الطلاق في عرف الفقهاء، وأما في عرف الشرع فلا يتعين هذا، والدليل قول الله تعالى: {فلا جناح عليهما أن يتراجعا إن ظنا أن يقيما حدود الله} (1) ، وهذا التراجع بعد أن تنكح زوجاً غيره وهو ليس مسبوق بطلاق بل هو عقد جديد، لكن الاستدلال القائم هو ما ثبت في البخاري عن ابن عمر أنه قال: " وحسبت علي بتطليقة " (2) ، وفي مسند الطيالسي أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (وهي واحدة) ، وفي الدارقطني بإسنادٍ صحيح أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (ليحتسب تلك التطليقة التي طلقها أول مرة) ، وقد بوب البخاري على حديث ابن عمر باباً فقال: " باب إذا طُلقت الحائض تعتد بذلك الطلاق "، وهذا القول الراجح وذلك لقوة أدلته، فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - حسبها تطليقة. والجواب عن أدلة أهل القول الثاني: فالجواب عن رواية أبي الزبير عن ابن عمر: " ولم يرها شيئاً "، فالجواب عليها من وجهين: أنها منكرة، قال الخطابي: " قال أهل الحديث لم يروِ أبو الزبير حديثاً أنكر من هذا "، وقال ابن عبد البر في رواية أبي الزبير هذه قال: " هو منكر لم يقله غير أبي الزبير " أي هذا القول منكر، قال أبو داود: والأحاديث كلها تخالف ما قال أبو الزبير، وفي الصحيحين أن ابن عمر قيل له: أفاحتسبت بتلك التطليقة، قال: " فمه! ، مالي لا أعتد بها أرأيت إن عجزت أو استحمقت " (3) .

_ (1) سورة البقرة. (2) أخرجه البخاري في كتاب الطلاق، باب إذا طلقت الحائض.. (5253) ولفظه: " قال: حسبت علي بتطليقة ". (3) أخرجه البخاري في باب إذا طلقت الحائض تعتد بذلك الطلاق (5252) ، وأخرجه مسلم (1471) .

الوجه الثاني وهو أولى من تغليط الراوي كما قال ابن حجر أن قوله: " لم يرها شيئاً " أي لم يرها شيئاً صواباً مستقيماً بل هي شيء خاطئ وإن كان يعتد به ويحسب ولذا أمره النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يراجعها، ولا شك أن حمل قول الراوي على موافقة غيره من الرواة أولى من جعله مخالفاً، فيحكم عليه بالشذوذ أو الإنكار. وأما أن النهي يقتضي الفساد، فهذا يخالف النص الوارد عن النبي - صلى الله عليه وسلم - فلا يعبأ به، ثم يقال إن الطلاق إزالة عصمة فيها حق آدمي فكيفما أوقعه وقع، لأنه ليس من العبادات بل فيه إزالة عصمة فيها حق آدمي فكيفما أوقعه وقع سواءً كان آثماً أو مأجوراً وهذا مذهب عامة أهل العلم. واختلف أهل العلم في العلة من المنع من طلاق الحائض: 1.فذهب أكثر الحنابلة إلى أن العلة هي تطويل مدة العدة، لأنه إذا طلقها في الحيض، فإنه لا تحتسب هذه التطليقة، بل تنتظر حتى تطهر ثم تحيض، فيكون في ذلك تطويلاً لعدتها. 2.وقال أبو الخطاب من الحنابلة: العلة أنه في زمن رغبةٍ عنها والشارع متشوف إلى إبقاء النكاح، والمرأة في زمن النكاح (1) يكون زوجها في رغبة عنها فربما طلقها. والذي يظهر أن العلة هي اجتماع هاتين العلتين، فالعلة هي تطويل العدة ولما فيه من طلاقها في زمن يرغب عنها به، بدليل أن الشارع نهى عن طلاق المرأة في الطهر الذي قد جومعت فيه مع أنه ليس فيه تطويل لعدتها لكن لرغبته عنها بعد قضاء وطره منها. واختلفوا هل هذا لحق الله أو لحق المرأة؟ فإذا قلنا إنه لحق المرأة فإذا سألته المرأة الطلاق فطلقها في الحيض فليس بمحرم لأنها قد أسقطت حقها، أو سألته الطلاق في طهر قد جامعها فيه فأجابها إلى ذلك أو استأذنها في ذلك فإنه لا إثم، وجهان في المذهب.

_ (1) كذا في الأصل، ولعل الصواب: الحيض.

والأرجح أنه لحق الله تعالى، وهو ظاهر الكتاب والسنة ولذا النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يستفصل من ابن عمر هل أذنت بذلك وأسقطت حقها أم لا. قال: [ويسن رجعتها] الرجعة سنة، فإذا طلقها وهي حائض أو في طهر جومعت فيه فيستحب له أن يراجعها، لحديث ابن عمر المتقدم فإنه قال: (مره فليراجعها) ، وهذا هو مذهب جمهور العلماء. والقول الثاني في المسألة وهو مذهب المالكية ورواية عن الإمام أحمد: أنه تجب مراجعتها إذا طلقها وهي حائض، وهو أحد الوجهين في المذهب في الطاهر التي جومعت، وهذا القول هو الراجح لظاهر حديث ابن عمر المتقدم: (مره فليراجعها) ، وظاهر الأمر الوجوب. قال: [ولا سنة ولا بدعة لصغيرة وآيسة وغير مدخولٍ بها ومن بان حملها] لا سنة ولا بدعة لا في عدد ولا في زمن لصغيرة، فالصغيرة لا تحيض فإذا طلقها في أي حال كان فلا بدعة وذلك لأن عدتها الأشهر وليس عدتها الأقراء، وعليه فليس في طلاقها ما يكون بدعة، كذلك الآيسة التي لا تحيض لأنها لا تعتد بالأقراء كذلك غير المدخول بها لأنها لا عدة لها، فإذا عقد على امرأة ولم يدخل بها فيجوز له أن يطلقها وهي حائض فهذا الطلاق ليس بدعي لأنها لا عدة لها، وكذلك المرأة إذا بان حملها بمعنى ظهر فيها الحمل فطلقها وهي حامل فليس فيه ما يسمى بالطلاق البدعي وذلك لأن عدتها وضع حملها فلا يعتد بالأقراء، هذا هو المشهور في مذهب الإمام أحمد. وهنا مسألتان: ما يتعلق بالزمن وما يتعلق بالعدة: أما ما يتعلق بالزمن فهو مُسَلَّم وذلك لما تقدم من التعليل السابق، وذلك لأن منهن من لا عدة لها ومنهن من عدتها في غير الحيض، وعليه فليس ثمت طلاق بدعي من جهة الزمن. أما ما يتعلق بالعدد – وهي المسألة الثانية – فما ذكره المؤلف هو المشهور في المذهب.

- وعن الإمام أحمد وهو اختيار الموفق: أنه من حيث العدد فيه البدعة، وهذا ظاهر جداً، فإذا طلق الصغيرة ثلاثاً فإن هذا الطلاق محرم لنهي الشارع عنه، وليس له تعلق بالحيض، وهي إنما افترقت عن النساء اللاتي لا يحضن بأنها لا تحيض وهذا متعلقه الزمن وأما العدة فلا متعلق له هنا، وعليه فطلاق الآيسة ثلاثاً - أو طلاق الصغيرة أو غير المدخول بها أو من بان حملها - ثلاثاً طلاق بدعي محرم. الدرس الخامس والأربعون بعد الثلاثمائة قال المؤلف رحمه الله: [وصريحه] أي صريح الطلاق. اعلم أن عامة أهل العلم على أن من لم يتلفظ بالطلاق وقد نواه بأنه لا يقع، ويدل عليه ما ثبت في الصحيحين أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (إن الله تجاوز لي عن أمتي ما حدثت به أنفسها ما لم تعمل أو تتكلم) (1) ، وكذا لو نواه وأشار بإشارة تدل عليه فإنه لا يقع الطلاق. وأما لو كان أخرساً وأشار إشارةً مُفْهِمةً فإن الطلاق يقع بذلك بلا خلاف، وذلك لأن الأخرس إشارته تقوم مقام نطقه. كذلك إن كتب الطلاق في ورقةٍ قاصداً الكتابة فإن الطلاق يقع بذلك، وذلك لأن الكتابة حروف تُفهم الطلاقَ فأشبهت النطق، أما لو كتبه على هواء أو على شيء من ثوبه ونحو ذلك ولم يكن ذلك بالقلم فإن ذلك لغو لا يقع معه الطلاق. قال: [وصريحه لفظ الطلاق وما تصرف منه غير أمرٍ ومضارعٍ، ومطلِّقةٌ اسم فاعل] صريح الطلاق لفظ الطلاق، ومتى قلنا إن هذا اللفظ صريح فلا تشترط النية، بل يقع الطلاق بمجرد التلفظ بهذا اللفظ.

_ (1) أخرجه البخاري في كتاب الطلاق، باب الطلاق في الإغلاق والكره (5269) عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (إن الله تجاوز عن أمتي ما حدثت به أنفسها ما لم تعمل أو تتكلم " قال قتادة: إذا طلق في نفسه فليس بشيء "، وأخرجه مسلم (127) .

وأما الكناية فإن الطلاق لا يقع معها إلا إذا كان ثمة نية أو قرينة، فإذا تلفظ بلفظ من كناية الطلاق وقال: أنا لم أنو فإن الطلاق لا يقع إلا إذا كان مقام النية قرينة، كأن يتلفظ بها في غضب أو نحو ذلك. وأما الألفاظ التي ليست بصريحة في الطلاق ولا كناية فإن الطلاق لا يقع وإن نواه كأن يقول " أقعدي " أو " كلي " أو نحو ذلك وينوي الطلاق فلا يقع الطلاق، وذلك لأن هذا اللفظ ليس بصريح فيه ولا بكناية فكما لو نوى بلا لفظ. إذن الألفاظ ثلاثة أنواع: لفظ هو صريح في الطلاق، فيقع الطلاق به ولو لم ينوِ. لفظ هو كناية في الطلاق فيقع الطلاق معه عند النية أو القرينة. ألفاظ ليست بصريحة ولا بكناية، كقوله: " اقعدي " وينوي الطلاق فهنا لا طلاق وإن نواه كما لو نوى ولم يتلفظ. وصريح الطلاق لفظ الطلاق وما تصرف منه كقوله: " أنت طالق " أو " عليك الطلاق " أو قال " قد طلقتك " أو " أنت مطلَّقة " ونحو ذلك. " غير أمر ": كقوله " اطلقي ". " أو مضارع ": كقوله " تطلقين ". " ومطلّقة اسم فاعل ":، فهذه ليست من صريح الطلاق. إذن صريحه لفظ الطلاق وما تصرف منه سوى الأمر والمضارع واسم الفاعل هذا هو المشهور في المذهب. وذهب الشافعية وهو قول لبعض أصحاب الإمام أحمد: أن صريحه ثلاثة ألفاظ " الطلاق " و " السراح " و " الفراق "، فإذا قال لها: " قد سرحتك أو قد فارقتك "، فهو من صريح الطلاق، قالوا: لأن السراح والفراق قد وردا في الشرع على الطلاق، قال تعالى: {فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان} (1) وقال: {وإن يتفرقا يغن الله كلاً من سعته} (2) .

_ (1) سورة البقرة 229 (2) النساء 130.

وأجاب أهل القول الأول عن هذا الاستدلال، قالوا: نحن لا ننازع في أن السراح والفراق يطلقان على الطلاق ولكن ننازع في أنهما صريحان منه بأن يكونا من ألفاظ الطلاق التي لا يفهم منها إلا الطلاق إلا باحتمال بعيد، قالوا: وهذان اللفظان يطلقان على الطلاق ويطلقان على غيره فكان من كنايات الطلاق. وقال بعض أهل العلم وهو القول الراجح في هذه المسألة وهو اختيار شيخ الإسلام وتلميذه ابن القيم، واختاره من المتأخرين الشيخ عبد الرحمن بن سعدي، قالوا: مرجع هذا إلى العرف، فليس صريح الطلاق ولا كنايته محصوراً بألفاظ محدده بل كل لفظ لا يحتمل إلا الطلاق فهو صريح في الطلاق، وكل لفظ يحتمل الطلاق ويحتمل غيره فهو كناية فيه، والأعراف في هذا تختلف اختلافاً بيِّناً فقد يكون اللفظ عند قوم من صريح الطلاق، ويكون عند آخرين من كنايته وهذا القول الراجح في هذه المسألة. قال: [فيقع به وإن لم ينوه] فإذا قال رجل لامرأته: " أنت طالق " وادعى أنه لم ينوِ ذلك فلا يقبل منه ذلك بل تكون المرأة طالقاً؛ وذلك لأن هذا صريح لفظه فلا عبرة بنيته، وإنما يعامل بما يقتضيه ظاهر لفظه. قال: [جادٌ أو هازلٌ]

أي وإن كان هازلاً فإن الطلاق يقع، وهو مذهب عامة أهل العلم، ودليلهم ما روى الأربعة إلا النسائي أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (ثلاثة جدهن جد وهزلهن جد، النكاح، والطلاق، والرجعة) (1) ، وله شاهد مرسل عن الحسن عند أبن أبي شيبة، وشاهد موقوف عند ابن أبي شيبة عن أبي الدرداء، وعليه العمل عند أهل العلم كما قال ذلك الترمذي وحكى القول به إجماعاً ابن المنذر. قال: [فإن نوى بطالقٍ من وثاق أو في نكاحٍ سابق منه أو من غيره أو أراد طاهراً فغلط لم يقبل حكماً] لما قال طالق قال: إنما نويت أنها طالق من وثاق أي من قيد أو في نكاح سابق منه أو من غيره أي قال لها: طالق في طلاق طلقها إياه من سنة أو هي طالق من زوجها الأول الذي قد طلقها قبله، أو قال: أردت أن أقول لها أنت طاهر فقلت لها أنت طالق لم يقبل حكماً في المشهور من المذهب. وعن الإمام أحمد: أنه يقبل حكماً. والأظهر أنه لا يقبل حكماً، وذلك لأنه يعامل بما يقتضيه لفظه هذا في الحكم. لكن هل يقبل فيما بينه وبين ربه؟ الجواب: نعم فيُديَّن بنيته فيما بينه وبين ربه أي يجعل نيته ديناً بينه وبين ربه فإذا كان يعلم من نفسه الصدق فإن الطلاق لا يقع في الباطن. إذاً: هل يقع الطلاق في الظاهر؟

_ (1) أخرجه أبو داود في كتاب الطلاق، باب في الطلاق على الهزل (2194) قال: " حدثني القعنبي حدثنا عبد العزيز يعني ابن محمد عن عبد الرحمن بن حبيب عن عطاء بن أبي رباح عن ابن ماهك عن أبي هريرة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: (ثلاث جدهن جد وهزلهن جد: النكاح والطلاق والرجعة) . وأخرجه ابن ماجه في الطلاق باب من طلق أو نكح أو راجع لاعباً 2039، والترمذي في الطلاق باب في الجد والهزل في الطلاق 1184، سنن أبي داود [2 / 644] .

الجواب: نعم يقع، فإذا ترافعا إلى القاضي فإن القاضي يحكم بالطلاق، لأن القاضي يحكم بما ظهر، وقد ظهر للقاضي فيه الطلاق فقد تلفظ بما يقتضي الطلاق، لكن في الباطن أي إن لم يترافعا إلى القاضي فهل يوقع على نفسه الطلاق أم لا؟ إن كان يعلم من نفسه الصدق وأنه لم ينو الطلاق بل قد غلط ونحو ذلك فإن الطلاق لا يقع، هذا كله حيث لا قرينة، أما إن كان هناك قرينة تدل على أنه قد نوى الطلاق فإن الطلاق يقع قولاً واحداً. فمثلاً: رجل غضب على امرأته ثم قال: أنت طالق، وقال أنا أردت أن أقول: هي طاهر، فهذا لا يقبل منه؛ وذلك لأن القرينة تكذب دعواه، أو قال هي طالق مني قبل ذلك أو طالق من زوج آخر ولم تطلق منه البتة ولم تطلق من زوج آخر قبله البتة، فحينئذٍ يقع بذلك طلاقاً حتى فيما بينه وبين ربه ولا خلاف في ذلك. فالخلاف المتقدم هل يقبل قوله في الحكم أم لا؟ هذا كله حيث لا قرينة تدل على أنه قد نوى الطلاق. قال: [ولو سُئل أطلقت امرأتك فقال: نعم، وقع] فلو أن رجلاً سُئل فقيل له: أطلقت امرأتك فقال: نعم، فإن الطلاق يقع، وذلك لما تقدم من أن المذكور في السؤال كالمعاد في الجواب، فكما لو قال: نعم طلقتها. إذن صريح الطلاق يكون أولاً: بلفظ الطلاق في المشهور من المذهب. وثانياً: بالجواب الصريح باللفظ. وثالثاً: ولم يذكره المؤلف، إذا عمل عملاً وقال للمرأة هو طلاقك، كأن يخرج امرأته إلى أهلها ويقول هذا طلاقك، فهل يقع الطلاق بهذا أم لا؟ المشهور في المذهب أن الطلاق يقع ويكون صريحاً فيه، قالوا: والتقدير كأنه يقول: أوقعت عليك الطلاق، وهذا الفعل – وهو الإخراج من المنزل – من أجله. القول الثاني في المسألة، وهو مذهب أكثر الفقهاء: أن هذا العمل منه ليس صريحاً في الطلاق ولا كناية وعليه فلا يقع.

القول الثالث في المسألة، وهو اختيار الموفق ابن قدامة: أنه من كنايات الطلاق، وهذا القول أظهر، والذي يدل على هذا أن هذا الفعل منه يحتمل الطلاق وليس صريحاً بدلالة احتياجنا إلى التقدير المتقدم فلو كان صريحاً لما احتجنا إلى التقدير المتقدم. رابعاً: في المذهب، إذا أشركها مع من صرح بطلاقها، إذا قال لامرأته الثانية وقد طلق الأولى: " قد شاركتك في طلاق أختك "، أي في طلاق زوجتي الأولى، فهذا من الطلاق الصريح. خامساً: كل لغة من اللغات يتلفظ بها الشخص وهو يفهم المعنى، فإذا تلفظ الفارسي بكلمة في الفارسية هي صريحة في الطلاق فإن الطلاق يقع مع ذلك، وأما إذا تلفظ بلفظ من ألفاظ الطلاق بلغة ما وهو لا يفهم المعنى من هذا اللفظ فإن الطلاق لا يقع وذلك لأنه غير مختار للطلاق، فهو غير مختار للفظ وغير مريد له فأشبه المكره. قال: [أو ألك امرأةٌ فقال: لا، وأراد الكذب فلا] فلو سُئل ألكَ امرأةٌ فقال: لا، وأراد الكذب فلا يقع الطلاق وذلك لأن هذا القول منه كناية والكناية تحتاج إلى نية. فصل هذا الفصل في كنايات الطلاق، وله كنايتان: كناية ظاهرة: وهي الألفاظ التي يفهم منها البينونة. كناية خفية: هي الألفاظ التي لا يفهم منها البينونة. قال: [وكنايته الظاهرة نحو أنت خليةٌ، وبريةٌ، وبائنٌ، وبتةٌ، وبتلةٌ، وأنت حرةٌ وأنت الحرجُ] بتلةٌ: البتلة مقطوعة الوصل أي مقطوعة الوصل مني، قوله: " أنت حرج " أي أنت الإثم والحرام، بمعنى أنت حرام علي، أو قال: " لا سبيل لي عليك " أو " حبلك على غاربك " أو " تقنعي مني " أو " غطي شعرك " أو نحو ذلك. قال: [والخفية نحو اخرجي، واذهبي، وذوقي، وتجرَّعي، واعتدي، واستبرئي، واعتزلي، ولست لي بامرأةٍ، والحقي بأهلك، وما أشبهه]

تجرعي: أي تجرعي مرارة الطلاق والفراق والطلاق، وقد تقدم اختيار شيخ الإسلام وتلميذه ابن القيم: أن مرجع ذلك إلى العرف في الصريح والكناية. قال: [ولا يقع بكناية ولو ظاهرة طلاق إلا بنية مقارنة للفظ] فالكناية لا يقع معها الطلاق إلا بالنية أو دلالة الحال، لا فرق في هذا الحكم بين الكناية الظاهرة والكناية الخفية. وقول المؤلف: " ولو ظاهرة ": إشارة إلى خلاف وهو خلاف الإمام مالك ورواية عن الإمام أحمد: أن الكناية الظاهرة يقع معها الطلاق بلا نية، قالوا: لأن الكنايات الظاهرة تستعمل في الطلاق في العرف. والراجح هو قول الجمهور وذلك لأن هذه الألفاظ تحتمل الطلاق وتحتمل غيره فلم يتعين الطلاق إلا بنية أو قرينة. قال: [إلا حال خصومة أو غضب أو جواب سؤالها] الكناية الظاهرة والخفية لا يقع معها الطلاق إلا بنية، فإن كانت هناك دلالة الحال تدل على النية، وقد نفى هو النية كأن يكون ذلك حال خصومة أو غضب. فمثلاً: رجل قال لامرأته في حال خصومة أو غضب " أنت بائن ولا سبيل لي عليك " ونحو ذلك. أو كان جواب سؤالها، كأن تقول له: طلقني، فقال: " أنت حرة " أو قال " أنت بتة " فهنا يقع الطلاق وإن قال: " أنا لم أنو "، فذلك لدلالة الحال بأن هذه الألفاظ يظن معها في الأصل الطلاق فلما وجدت دلالة الحال كان الظن قوياً غالباً. قال: [فلو لم يرده أو أراد غيره في هذه الأحوال لم يقبل حكماً] فإن لم يرده أو أراد غيره في الأحوال المتقدمة لم يقبل هذا في الحكم، لأن الحكم إنما ينظر فيه للظاهر، وهذه الألفاظ التي تلفظ بها مع قرائن الأحوال تدل في الظاهر على الطلاق، لكن لو كان في الباطن لا يريد ذلك ولم يترافعا للقاضي فإنه يدين بنيته فيما بينه وبين ربه. قال: [ويقع مع النية بالظاهرة ثلاثٌ] فلوا أن رجلاً قال لامرأته: " أنت بائن " ونوى الطلاق فإنه يقع ثلاثاً في المذهب، وذلك لأن هذا اللفظ يقتضي البينونة.

قال: [وإن نوى واحدة] أي وإن قال أنا أنوي واحدة، وذلك لأن لفظه يخالف نيته، والعبرة بالألفاظ الظاهرة في الحكم. قال: [وبالخفية ما نواه] فالخفية لا تدل على عدد، فإذا كان قد نوى الطلاق أو كان في حال خصومة أو غضبٍ، فأوقعنا عليه الطلاق فإنها تكون واحدة، وذلك لأن لفظه لا يدل إلا على واحدة. وهذه المسألة مبنية على المذهب. والراجح ما تقدم وأن طلاق الثلاث واحدة كما تقدم من اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى. الدرس السادس والأربعون بعد الثلاثمائة فصل قال: [وإذا قال: أنتِ علي حرام أو كظهر أمي فهو ظهار] إذا قال الرجل لامرأته: "أنت علي حرام" فإنه يكون ظهاراً ولو نوى به الطلاق، لكن إن قال " أنت علي حرام " أعني به الطلاق فإنها تطلق به ثلاثاً، وإن قال: أعني به طلاقاً، فواحدة. لأن قوله الطلاق فيه " أل " التي تفيد الاستغراق فاستغرق ذلك الطلاق كله والطلاق كله ثلاث طلقات، وأما لو قال أعني به طلاقاً، فإن هذا اللفظ وهو قوله " طلاقاً " ليس فيه ما يفيد الاستغراق فيكون طلاقاً رجعياً. وهذا الحكم – أي كونه ظهاراً –؛ لأن هذا اللفظ صريح في التحريم فكان ظهاراً كما لو قال: " أنت علي كظهر أمي "، بل أولى؛ وذلك لأن قوله " أنت عليّ كظهر أمي " إنما تحرم عليه زوجه باللزوم أي بالنظر إلى تحريم الأم. وأما قوله لزوجته " أنت على حرام " فقد صرح بتحريمها ولا شك أن هذا منكر من القول وزور، وذلك لأنه ليس له التحليل والتحريم، بل ذلك إلى الله عز وجل. - وعن الإمام أحمد في قوله " أنت علي حرام أعني به الطلاق " أنه ظهارٌ أيضاً، وذلك لأن هذا اللفظ صريح في الظهار فلا ينتظر منه بيان مراده بقوله " أعني به الطلاق " وهو اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية. وأما المذهب فإنه إذا قال: " أنت على حرام أعني به الطلاق "، فإنه يكون طلاقاً وذلك لأن التحريم نوعان: 1. تحريم طلاق 2. وتحريم ظهار

وحيث قال " أعني به الطلاق " فإنه يصرف إليه لأنه هو قائل ذلك فصرف إلى مراده الذي بيَّنه. والصحيح هو ما اختاره شيخ الإسلام وهو وراية عن الإمام أحمد، وذلك لأن هذا اللفظ صريح في الظهار، فليس فيه احتمال فلا عبرة بتفسيره، كما [لو] قال لامرأته: " أنت علي كظهر أمي أعني به الطلاق " فلا عبرة بقوله بل يقع ظهاراً لأن قوله: " أنت علي كظهر أمي " صريح في الظهار. وفي المسألة أي مسألة قول الرجل لزوجته " أنت علي حرام " أقوال كثيرة ذكرها ابن القيم في كتابه زاد المعاد، وأوصلها إلى ثلاثة عشر مذهباً، وما ذكرناه هو مذهب الحنابلة وهو أحد المذاهب فيها. واختار شيخ الإسلام وهو أحد المذاهب المتقدمة وهو القول الراجح في هذه المسألة: أن في المسألة تفصيلاً: فإن قال لامرأته أنت على حرام وأوقعه منجَّزاً أو معلقاً تعليقاً مقصوداً سواء نوى به الطلاق أو لم ينوه، وصله أم لم يصله بقوله " أعني به الطلاق "، فإذا قال: "يا فلانة أنت علي حرام " فهنا قد أوقعه منجزاً، أو أوقعه معلقاً مقصوداً أي يقصد به التحريم، كأن يقول لامرأته: " إن وصل شهر رمضان فأنت علي حرام "، فهنا قد علقه تعليقاً مقصوداً فإنه يكون ظهاراً. وأما إن كان حلفاً لا يقصد به الإيقاع كأن يقول: " إن فعلت الشيء الفلاني فامرأتي عليّ حرام "، أو قال لامرأته: " أنت علي حرام إن فعلت كذا وكذا " ويقصد من ذلك حثها على الترك وأن تمتنع عن الفعل فهو لا يقصد إيقاع التحريم وإنما يقصد المنع والحث فهي يمين يكفرها.

وهذا جارٍ على قاعدته رحمه الله التي خالف فيها أحمد وغيره وهي أنه يفرق بين الإيقاع والحلف، وقد ثبت في الصحيحين وهذا لفظ مسلم عن ابن عباس قال: (إذا حرّم الرجل امرأته فإنما هي يمين يكفرها) (1) وفي النسائي أنه قال لمن حرم امرأته: " أعتق رقبة " (2) ، ويحمل هذان الأثران اللذان ظاهرهما التعارض على التفصيل المتقدم الذي ذكره شيخ الإسلام، فقوله لمن حرم امرأته " أعتق رقبة "، لأنه أوقع التحريم أو علقه تعليقاً مقصوداً، وأما كونها يمين تكفر، فذلك لأنه لم يرد إيقاع الطلاق وإنما أراد الحث أو المنع وذلك يكون من قبيل الحلف لا من قبيل الإيقاع. قال: [أو كظهر أمي فهو ظهارٌ، ولو نوى به الطلاق] إذا قال لامرأته: " أنت علي كظهر أمي " فهو ظهار نوى به الطلاق أم لم ينوه اتفاقاً فإذا قال الرجل لامرأته: " أنت علي كظهر أمي " وهو ينوي به الطلاق فعامة أهل العلم على أنه ظهار وليس بطلاق وعلى ذلك أنزل الله القرآن، فإن العرب كانوا يرون أن قول الرجل لامرأته: " أنت علي كظهر أمي " طلاقٌ فخالفهم الله عز وجل في ذلك ولم يعتبر نيتهم وحكم بأن ذلك ظهار ويأتي بيان ذلك في باب الظهار. قال: [وكذلك ما أحل الله علي حرام]

_ (1) أخرجه البخاري في كتاب الطلاق، باب {لم تحرم ما أحل الله لك} (5266) بلفظ: " إذا حرّم امرأته ليس بشيء، وأخرجه مسلم في كتاب الطلاق، باب وجوب الكفارة على من حرم امرأته ولم ينو الطلاق (1473) . (2) لم أجده في فهرس بيت الأفكار. هو في النسائي في كتاب الطلاق، باب تأويل قوله عزوجل {يا أيها النبي لم تحرم..} (3366) بلفظ: " عن ابن عباس قال: أتاه رجل فقال: إني جعلت.. قال: كذبت ليست عليك ... عليك أغلظ الكفارة: عتق رقبة ". انترنت / موقع الإسلام بواسطة ردادي.

فإذا قال ما أحل الله علي حرام فهي كمسألة قول " أنت علي حرام " فالمعنى واحد لكن اللفظ مختلف، فإن قوله: " ما أحل الله علي حرام " يدخل في ذلك تحريم امرأته. قال: [وإن قال: ما أحل الله علي حرام أعني به الطلاق طلقت ثلاثاً، وإن قال: أعني به طلاقاً فواحدة] فإذا قال: ما أحل الله علي حرام أعني به الطلاق، فإنها تطلق ثلاثاً، لأن لفظة " أل " تفيد الاستغراق فحينئذٍ يوقع عليه الطلاق مستغرقاً وهو طلاق الثلاث وهذا مبني على القول بطلاق الثلاث وقد تقدم أنه قول مرجوح وإذا قال: أعني به طلاقاً فواحدة، لأنه ليس فيه ما يدل على الاستغراق كما تقدم بيانه. قال: [وإذا قال: كالميتة والدم ولحم الخنزير وقع ما نواه من طلاقٍ، وظهار ويمين، وإن لم ينوِ شيئاً فظهار] إذا قال لامرأته: " أنت علي كالميتة " أو " كالدم " أو " كالخنزير "، فإنه يقع عليه ما نواه، فإن كان نوى طلاقاً يقع طلاقاً وإن كان نوى ظهاراً وقع ظهاراً وإن كان نوى يميناً وقعت يميناً وإن لم ينوِ شيئاً كان ظهاراً. وعند الشافعية أنه كقوله: " أنت علي حرام " وهذا هو الراجح، وعليه فما تقدم ترجيحه في المسألة السابقة يقال هنا، فحينئذٍ يكون ظهاراً إن كان يريد إيقاعه وإلا فإنها يمين يكفرها. قال: [وإن قال حلفت بالطلاق وكذب لزمه حكماً] إن قال لامرأته: " أنا قد حلفت بالطلاق " ثم بعد ذلك كذّب نفسه، فهل يقع الطلاق أم لا؟ الجواب: نوقعه حكماً؛ وذلك لأن الحكم يتعامل مع المكلفين في الظاهر، وأما في الباطن – أي إن لم يترافعا إلى القاضي وهكذا يكون في الإفتاء – فإنه يديَّن فيما بينه وبين ربه، فإن كان كاذباً فإن المرأة قد وقع عليها الطلاق، وإن كان صادقاً فإن المرأة لا يقع عليها الطلاق، أما إذا رفعت المسألة إلى القاضي، فإنه يحكم بوقوع الطلاق ولا يقبل رجوعه، وذلك لأنه إقرار يتعلق به حق مكلف وهي الزوجة فلم يقبل رجوعه.

قال: [وإن قال أمرك بيدك ملكتْ ثلاثاً، ولو نوى واحدةً] إذا قال لامرأته " أمرك بيدك "، كأن تسأله الطلاق أو أن يشك في رغبتها به ولا يرغب أن تبقى معه إلا أن تكون تحبه فيقول لها " أمرك بيدك " فحينئذٍ تملك المرأة ثلاث تطليقات لأن هذا اللفظ من الكنايات الظاهرة، وتقدم أن الكنايات الظاهرة يقع بها الطلاق ثلاثاً فتملك المرأة ثلاثاً ولو نوى واحدة وذلك لأن هذا هو مقتضى لفظه. قال: [ويتراخى] فإذا قال لها: " أمرك بيدك " وطلقت نفسها بعد شهرٍ أو شهرين أو بعد سنة، فإن هذا التطليق صحيح، وذلك لأن هذا اللفظ مطلق منه، فيه توكيل المرأة بطلاق نفسها فأشبه توكيل الأجنبي وتقدم الكلام في توكيل الأجنبي. وذهب جمهور أهل العلم إلى أنه إن قال لها: " أمرك بيدك "، فإنها تملك الطلاق في المجلس، قالوا: لأن الطلاق بيد الزوج وإنما استثني هنا حيث كان ذلك في المجلس. والراجح مذهب الحنابلة، وذلك لأن هذا توكيل فأشبه توكيل الأجنبي. ولكن له الرجوع، ولذا قال:- [ما لم يطأ أو يطلق أو يفسخ] إذا وطئ المرأة بعد قوله: " أمرك بيدك " أو طلقها أو فسخ هذه الوكالة فقال: " قد رجعت " كل هذا قبل أن تطلق نفسها منه، فإن هذا يعتبر رجوعاً منه والرجوع في الوكالة جائز وهذه وكالة. وقال المالكية والأحناف: ليس له حق الرجوع، وذلك لأن هذا تمليك منه، فقد ملكها أمر نفسها، وهذا ضعيف وذلك لأن الطلاق لا يُملَّك بل هو توكيل، فالطلاق ملك الزوج لا يملكه غيره أبداً وهذا إنما هو من باب التوكيل، فله أن يرجع، وكل قول كقوله: " فسخت الوكالة " أو فعلٍ كالوطء، يدل على الرجوع فإن الرجوع يثبت معه. قال: [ويختص اختاري نفسك بواحدة]

أو قال لامرأته: " اختاري نفسك " إن شئت أن تختاري نفسك أو تختاري والديك، فهنا يختص هذا بواحدة، فإذا أوقعته المرأة فقالت: " اخترت نفسي " أو قالت " اخترت والدي " فإنها حينئذٍ تكون طلقة واحدة، قالوا: لأنه تفويض معين، فصدق على أقل المسمى. وقال المالكية وهو رواية عن الإمام أحمد: بل يكون ثلاثاً؛ وذلك لأن هذا اللفظ فيه إزالة سلطانه عنها، وإزالة سلطة الرجل على المرأة لا تكون إلا بالثلاث، وهذا القول أقوى – من حيث النظر– من الأول، لكن هذا كله مبني على إيقاع الطلاق ثلاثاً، وقد تقدم أن هذا قول مرجوح كما هو اختيار شيخ الإسلام. قال: [وبالمجلس المتصل] في المسألة السابقة وهي فيما إذا قال لها: " أمرك بيدك " فإن ذلك يكون على التراخي، وأما هنا فإنه يكون على الفورية ويكون بالمجلس المتصل، أي الذي لم يقطع، أما إذا كان في مجلس ثم حدث قطع للكلام، فإنه لا يقع، فإذا قال لها: "اختاري نفسك " ثم تشاغلا بشيء سواه ثم قالت: " اخترت نفسي " فإن هذا الاختيار لا عبرة له. إذن: يجب أن يكون على الفور في المجلس الواحد وأن يكون متصلاً، أما لو فصل بقاطع في العرف، فإنه لا يعتد بقولها وذلك لأن هذا من باب الخيار، فهو هنا خيار تمليك، فأشبه الإيجاب والقبول المتقدم، وقد تقدم أن الزوج إذا قال قبلت وكان ذلك في المجلس المنفصل فإنه لا عبرة بهذا القبول فكذلك هنا، فالمقصود أن هذا خيار تمليك وخيار التمليك يكون على الفور. قال: [ما لم يزدها فيهما] فإذا قال للمرأة: " اختاري نفسك واحدة شئتِ أو اثنتين أو ثلاثاً " فهنا لو قالت: اخترت نفسي وأن يكون هذا ثلاثاً فإن هذا يعتد به، وذلك لأن هذا حقه وقد رضي بذلك، وأتى بلفظه ما يدل على جواز هذا منها.

كذلك إن قال: " ولك الخيار ما شئت " فلا نقيده بالمجلس المتصل لأن تقييدنا له بالمجلس المتصل مراعاة لحقه باعتبار لفظه، وأما هنا فقد أسقطه بلفظه فقد قال: " ولك الخيار ما شئتِ "، وقد قال - صلى الله عليه وسلم - لعائشة كما في الصحيحين: (إني ذاكر لك أمراً فلا عليك ألا تعجلي حتى تستأمري أبويك) (1) ، وذلك لما خير النبي - صلى الله عليه وسلم - نساءه فاخترنه واخترن الدار الآخرة. وتخيير الرجل لامرأته بمجرده ليس بطلاق، فإذا قال الرجل لامرأته: " اختاري نفسك " فإن هذا اللفظ بمجرده ليس بطلاق. وإنما يكون طلاقاً إذا قالت المرأة: " اخترت نفسي" وقالت ذلك في المجلس المتصل، ويدل عليه ما ثبت في مسلم قالت: خيرنا النبي - صلى الله عليه وسلم - ولم نعده طلاقاً " (2) . إذن: مراده بقوله " ما لم يزدها " أي ما لم يزد المرأة – في المسألتين السابقتين، بأن يقوله " واحدة أو اثنتين أو ثلاثاً "، وبأن يقول " لك الخيار ما شئت ". قال: [فإن ردَّت أو وطئ أو طلق أو فسخ بطل خيارها] إذا ردت فقالت: " اخترت زوجي " فقد أسقطت خيار نفسها، أو وطئ هذه المرأة أو طلقها أو فسخ هذا الخيار، بطل اختيارها في الكل، وذلك لأنه قد جاء منه ما يدل على الفسخ قولاً لقوله: " قد فسختِ " ولقوله: " أنت طالق " أو فعلاً بالوطء. الدرس السابع والأربعون بعد الثلاثمائة باب ما يختلف به عدد الطلاق من حرية أو عبودية أو غير ذلك من الأسباب التي يختلف بها عدد الطلاق. قال: [يملك من كله حر أو بعضه ثلاثاً]

_ (1) أخرجه البخاري في كتاب المظالم، باب الغرفة والعُليّة المشرفة في السطوح وغيرها (2468) في حديث طويل، ومسلم (1479) . (2) أخرجه مسلم في كتاب الطلاق، باب بيان أن تخيير امرأته لا يكون طلاقاً إلا بالنية (1477) .

فإذا كان الزوج كله حراً أو كان مبعضاً أي بعضه حر وبعضه عبد فإنه يملك ثلاث تطليقات باتفاق أهل العلم سواءً كانت الزوجة حرةً أو أمة، أما دليل من كان كله حراً فهو ظاهر في كتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - وقد أجمع أهل العلم عليه، وأما المبعض: فلأننا لو قلنا بأنه يكون بالنظر إلى حريته وعبوديته لبعضنا الطلاق كأن يكون له ثلاثة أرباع نصاب الطلاق ونحو ذلك، والطلاق لا يتبعض، لذلك ثبت له ثلاث تطليقات. قال: [والعبد اثنتين] اتفاقاً، فقد اتفق أهل العلم على أن للعبد تطليقتين، وفي أبي داود والترمذي أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (طلاق العبد – أي البائن – تطليقتان) (1) والحديث إسناده ضعيف، لكن العمل عليه عند أهل العلم، وقد روي ذلك عن طائفةٍ من الصحابة ولا يعلم لهم مخالف. قال: [حرةً كانت زوجتاهما أو أمة]

_ (1) أخرج أبو داود في كتاب الطلاق، باب في سنة طلاق العبد (2189) عن عائشة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: " طلاق الأمة تطليقتان وقرؤها حيضتان "، وأخرجه الترمذي بنفس لفظ أبي داود في كتاب الطلاق، باب ما جاء أن طلاق الأمة تطليقتان (1182) ، وقال: " حديث عائشة حديث غريب لا نعرفه مرفوعاً إلا من حديث مظاهر بن أسلم، ومظاهر لا نعرف له في العلم غير هذا الحديث، والعمل على هذا عند أهل العلم من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - وغيرهم، وهو قول سفيان الثوري والشافعي وأحمد وإسحاق ".

فإذا كانت تحت العبد حرة فإن تطليقه البائن تطليقتان، وكذلك إذا كانت الأمة تحت الحر فإن تطليقه ثلاث تطليقات، فالمعتبر في الطلاق هو النظر إلى الزوج لا إلى الزوجة هذا هو مذهب جمهور العلماء خلافاً لأبي حنيفة، ودليل هذا قول النبي - صلى الله عليه وسلم - الذي رواه ابن ماجه وغيره: (إنما الطلاق لمن أخذ بالساق) (1) ، فالطلاق حق للزوج فكان النظر إليه فيه. قال: [فإذا قال أنت الطلاق] إذا قال الرجل لامرأته " أنت الطلاق ". قال: [أو طالقٌ] إذا قال لامرأته " أنت طالق ". قال: [أو عليّ] أي قال " علي الطلاق " وحنث. قال: [أو يلزمني] إذا قال يلزمني الطلاق إن فعلت كذا ثم فعل. قال: [وقع ثلاثاً بنيتها] أي بنيته الثلاث، فالضمير في قوله بنيتها أي بنية الثلاث فإذا قال لامرأته ما تقدم وكان قد نوى الطلاق ثلاثاً فإنه يقع ثلاثاً، وذلك لأن هذه الألفاظ المتقدم ذكرها تحتمل الثلاث والواحدة وهي في الطلقة الواحدة أظهر أي من جهة اللفظ، لكنه لما نوى أن تكون ثلاثاً تعيَّن ذلك، لأنه نوى ما يحتمله لفظه. قال: [وإلا فواحدة] فإذا لم ينوِ أن تكون ثلاثاً فإنها تكون واحدة، فإذا قال لامرأته: " أنت طالق " ولم ينو شيئاً فإنها تطلق واحدة؛ وذلك لأن الواحدة أقل ما تصدق عليه هذه الألفاظ، فأقل ما يصدق عليه الاسم المتقدم هو الواحدة.

_ (1) أخرجه ابن ماجه في كتاب الطلاق، باب طلاق العبد (2081) بلفظ: عن ابن عباس قال: أتى النبي - صلى الله عليه وسلم - رجل فقال: يا رسول الله إن سيدي زوجني وهو يريد أن ... فقال: يا أيها الناس ما بال أحدكم يزوج عبده أمته ثم يريد أن يفرق بينهما إنما الطلاق لمن أخذ بالساق ".

وهذه المسألة وما بعدها من المسائل تتفرع على القول بطلاق الثلاث البائن بلفظة واحدة، أو في مجلس واحد أو في مجالس متعددة بلا رجعة، وقد تقدم أنه قول مرجوح والراجح أن طلاق الثلاث طلقة واحدة كما هو اختيار شيخ الإسلام وتقدم ذكر دليله. قال: [ويقع بلفظ كل الطلاق أو أكثره أو عدد الحصى أو الريح أو نحو ذلك ثلاثٌ ولو نوى واحدة] إذا قال لامرأته: " أنت طالق كل الطلاق أو أكثر الطلاق أو منتهاه أو غايته أو عدد الحصى أو الريح أو أنت طالق مائة طلقة أو ألف طلقة " أو نحو ذلك فإنه يقع الطلاق ثلاثاً ولو نوى واحدة، فلا عبرة بنيته؛ وذلك لأن صريح لفظه يخالف نيته، فصريح لفظه الطلاق المتعدد الذي يحصل معه البينونة، فهنا ما نواه لا يحتمله اللفظ فإذا قال لها: " أنت طالق أكثر الطلاق " ونوى أن تكون واحدة فإن نيته لا يحتملها لفظه كما أنه لو قال: " أنت طالق واحدة " ونوى أن يكون ثلاثاً فإن هذا الطلاق لا يكون إلا واحدة، وذلك لأن هذه النية لا يحتملها اللفظ، فإن قال لزوجته " أنت طالق عُظم الطلاق " أو " أنت طالق أقبح الطلاق " أو " أنت طالق كالجبل " أو " أعظم الطلاق " فإن لم ينوِ ثلاثاً فإنها تكون واحدة، وذلك لأن هذه الألفاظ لا ترجع إلى العدد وإنما ترجع إلى كيفية الطلاق، فترجع إلى الطلاق نفسه كيفاً لا عدداً فإن نوى ثلاثاً فإنها تقع ثلاثاً لأن اللفظ يحتمل ذلك لكن إن لم ينوِ شيئاً أو نوى أن تكون واحدة فإنها تقع واحدة لأن لفظه ليس فيه تصريح بالعدد بخلاف قوله: " أنت طالق أكثر الطلاق " أو " منتهاه " فهو يعود إلى العدد. قال: [وإن طلق عضواً أو جزءاً مشاعاً أو معيناً أو مبهماً] إذا طلق عضواً: كأن يطلق يداً أو رجلاً أو كبداً. أو جزئاً مشاعاً: كالنصف والربع فيقول: " نصفك طالق ". أو معيناً: أي جزئاً معيناً كأن يقول: " النصف الفوقاني فيك طالق. أو مبهماً: كأن يقول: " جزئك طالق ".

فالحكم أنها تطلق طلقة؛ وذلك لأن هذه المرأة لا تتبعض بالحل والحرمة، وفيها ما يقتضي التحريم وما يقتضي الإباحة فغُلِّب جانب الحرمة. قال: [أو قال نصف طلقة أو جزء من طلقة طلقتْ] إذا قال لها: " أنت طالق نصف طلقة أو جزء طلقة " أي سواء أبهم كقوله: " جزء طلقة " أو حدد كقوله: " جزءاً من طلقة " فإنها تطلق، وذلك لأن الطلاق لا يتبعض فإذا طلق النصف أو الربع فإنها تقع عليه طلقة واحدة. قال: [وعكسه الروح] فإذا قال لها: " روحك طالق " فإنها لا تطلق، هذا هو أحد القولين في المذهب وهو أحد قولي العلماء قالوا: لأن الروح ليست بعضو وليست شيئاً يُستمتع به. والقول الثاني في المسألة وهو قول في مذهب الإمام أحمد، بل هو المذهب كما قال ذلك صاحب الإنصاف واختار هذا القول الشيخ عبد الرحمن بن سعدي: أنه إذا طلق الروح فإنها تطلق عليه؛ وذلك لأنه لا حياة للمرء بلا روح، فإن قوام البدن الروح، فعليه يقع الطلاق، ولا شك أن هذا أولى من تطليق يدها أو رجلها ونحو ذلك، فالراجح وهو المذهب – خلافاً لما ذكره المؤلف هنا – أن طلاق الروح يقع فتطلق به المرأة، لأنه لا حياة للبدن بلا روح. قال: [والسن والشعر والظفر ونحوه] إذا قال: " شعرك طالق " أو " أو سنك طالق " أو " ظفرك طالق " ونحوه كالسمع والبصر، فإنها لا تطلق عليه. قالوا: لأن هذه الأشياء تنفصل عن الإنسان مع سلامته من غير عطب، فإن الشخص قد يحلق شعره ويقلم أظفاره ويقلع سنه ولا يتضرر شيء من بدنه. والقول الثاني في المسألة وهو قول الشافعية والمالكية: أن الطلاق يقع، لأن المذكور وهو الظفر والشعر والسن ونحوها مما استباحه الناس بالنكاح فيقع الطلاق بتطليقه.

والأول أولى؛ وذلك لأن الأصل بقاء عصمة النكاح وما ذكره أهل القول الأول من الاستدلال فيه قوة فإن هذه الأشياء المذكورة تنفصل مع السلامة، بخلاف الإصبع فإنها لا تنفصل إلا مع عطب فإنها تجرح البدن ويتأذى البدن بذلك وكذلك اليد والرجل أو نحو ذلك. قال: [وإذا قال لمدخول بها: أنت طالق وكرره وقع العدد، إلا أن ينوي تأكيداً يصح أو إفهامها (1) ] إذا قال لامرأته التي قد دخل بها: " أنت طالق، أنت طالق، أنت طالق " وقع العدد، فإذا قال لها: " أنت طالق، أنت طالق " فإنه يقع الطلاق اثنتين وإذا قال: " أنت طالق، أنت طالق، أنت طالق " فإنها تقع ثلاثاً، إلا أن ينوي تأكيداً، فإذا كانت نيته تأكيد الطلاق أو إفهامها أو إفهام السامع فإنه تقبل نيته حكماً، وتقبل أيضاً في الباطن ويُديَّن بذلك فيما بينه وبين ربه بما ادعاه نيته؛ وذلك لأنه أعلم بلفظه وهذا اللفظ يحتمل التأكيد أو الإفهام ويحتمل التعدد فلما ثبت هذان الاحتمالان قبلت نيته. لكن لابد أن يكون ينوي تأكيداً يصح، بأن يكون اللفظ يحتمل ذلك، فإذا قال لها: " أنت طالق، أنت طالق، أنت طالق " وقال نويت التأكيد فإنه يقبل معه؛ لأن هذه الجمل قد اتصلت، لكن إذا قال لها اليوم: " أنت طالق " وقال لها غداً: " أنت طالق " وقال أريد التأكيد، فإن هذا لا يقبل منه لأن هذا لا يكون منه تأكيداً. إذن: إنما يقبل منه حيث أمكن التأكيد أو أمكن الإفهام أما إذا كان لا يمكن مع لفظه التأكيد والإفهام فإنه لا يقبل منه. قال: [وإن كرره ببل أو بثم أو بالفاء أو قال بعدها، أو قبلها أو معها طلقةٌ وقع اثنتان]

_ (1) كذا في الأصل، وفي النسخة التي بين يدي: " إفهاماً "

إذا قال لها: " أنت طالق بل طالق " أو: " أنت طالق ثم طالق " أو: " أنت طالق فطالق " أو: " أنت طالق وطالق " أو قال: " أنت طالق بعدها طلقة " أو: " أنت طالق قبلها طلقة " أو: " أنت طالق معها طلقة " فإنه تقع طلقتان، وذلك لأن مثل هذه الألفاظ ظاهرة في التغاير. فالثلاث الأول حروف عطف، وحروف العطف الأصل فيها المغايرة، فعليه ظاهر لفظه أنت طالق طلاقاً آخر. كذلك إذا قال لها: " أنت طالق بعدها طلقة " أو: " أنت طالق قبلها طلقة " أو: " أنت طالق طلقة معها طلقة " ونحو ذلك، فإنه لا يقبل ادعاؤه التأكيد ولا ادعاؤه الإفهام، لأن التأكيد والإفهام هنا احتمال بعيد، لكن لو كان في الباطن أراد التأكيد فإنه يديَّن بذلك فيما بينه وبين ربه، وأما في الحكم الظاهر فإن القاضي يحكم عليه بما يقتضيه لفظه. قال: [وإن لم يدخل بها بانت بالأولى ولم يلزمه ما بعدها] إذا كانت المرأة غير مدخول بها وقال لها: " [أنت] طالق ثم طالق " أو نحو ذلك، فإنها تبين بالأولى وحينئذٍ فتكون عليها طلقة واحدة؛ لأن غير المدخول بها تبين بطلقة واحدة فقوله لها: " أنت طالق " فبهذه اللفظة الأولى تبين منه، فإذا كرر بعدها طلقتين مثلاً فإن هاتين الطلقتين الأخريين قد وقعتا في حال البينونة، وطلاق البائن لا يمضي. فعلى ذلك له أن يتزوجها من غير اشتراط أن تنكح زوجاً غيره، فيعقد عليها عقداً جديداً وهذه المسألة كلها ترجع إلى القول المرجوح المتقدم من أن طلاق الثلاث يقع. والراجح أنه لا يقع إلا واحدة، وأنه لا طلاق إلا بعد رجعة صحيحة. إذن: على قول الجمهور إذا قال لامرأة غير مدخول بها: " أنت طالق ثلاثاً " فإنه تبين منه ولا تحل له حتى تنكح زوجاً غيره، أما إذا قال: " أنت طالق ثم طالق ثم طالق " فإنها تبين بالأولى والطلقة الثانية والثالثة لا تحسب عليه لأنهما صادفتا امرأة بائناً هذا هو المشهور في مذهب الجمهور. قال: [والمعلَّق كالمنجَزِ في هذا]

المعلق كقوله: " إذا وصلت الدار فأنت طالق طالق "، كالمنجز أي كقوله: " أنت طالق أنت طالق أنت طالق ". فلو أن رجلاً قال لامرأة غير مدخول بها: " إذا دخلت الدار فأنت طالق ثم طالق ثم طالق " فإنها تبين منه بالأولى إذا دخلت الدار، ولا يقع عليها الثاني ولا الثالث لأنها أصبحت بائناً بالأولى. الدرس الثامن والأربعون بعد الثلاثمائة فصل هذا الفصل في الاستثناء في الطلاق وأحكامه قال: [ويصح منه استثناء النصف فأقل من عدد الطلاق والمطلقات] يصح من الزوج أن يستثني النصف فأقل من عدد الطلاق ومن عدد المطلقات، هذه المسألة ترجع إلى ما هو مرجح في علم الأصول وهو مذهب الحنابلة من صحة استثناء النصف فأقل، أما استثناء الكل أو الأكثر فإنه لا يصح فإذا قال: لزيد عليَّ مئة ريال إلا مئة " فهذا استثناء كل ولا يصح، فيكون قد أقر بمئة ولا يصح استثناؤه. ولو قال: " لزيدٍ عليّ مئة إلا تسعين " فلا يصح الاستثناء ويكون قد أقر بالمئة أما إذا استثنى النصف فأقل كأن يقول: " له علي مئة إلا خمسين" أو: " له علي مئة إلا أربعين" فإن الاستثناء يصح. فعلى ذلك إذا طلق امرأته ثلاثاً واستثنى الكل فقال: " أنت طالق ثلاثاً إلا ثلاثاً " أو الأكثر فقال: " أنت طالق ثلاثاً إلا اثنتين " فإن الاستثناء لا يصح وتكون طالقاً ثلاثاً، أما إذا استثنى النصف فأقل كأن يقول: " أنت طالق اثنتين إلا واحدة " أو " أنت طالق ثلاثاً إلا واحدة " فإن الاستثناء يصح ولذا قال المؤلف: [فإذا قال: أنت طالقٌ طلقتين إلا واحدة، وقعت واحدة، وإن قال: ثلاثاً إلا واحدة فطلقتان] كذلك في المطلقات، فلو قال: " نسائي الأربع طوالق إلا واحدة، فيصح الاستثناء ولو قال: "نسائي الأربع طوالق إلا اثنتين"، فيصح الاستثناء. قال: [وإن استثنى بقلبه من عدد المطلقات صح دون عدد الطلقات]

فإذا استثنى بقلبه من عدد المطلقات صح ذلك، كأن يقول: " نسائي طوالق " وله ثلاث، واستثنى بقلبه فلانة فإن هذا الاستثناء يصح في الحكم، وأما في الباطن أي في النية فلا إشكال فيه أنه يصح أي في التديين بأن يديّن في ذلك فيما بينه وبين ربه فلا إشكال أنه يصح، وأما في الحكم فكذا وهو المذهب، وذلك لأن اللفظ العام قد يراد به الخصوص وحينئذٍ فهذه النية تصرف اللفظ إلى بعض أفراده. والقول الثاني وهو رواية عن الإمام أحمد وهو مذهب الشافعية: أن الطلاق يقع كما تلفظ به ولا عبرة بنيته، وهذا هو القول الراجح، وذلك لأن الحكم إنما يعتبر بالظاهر، والظاهر من لفظه أن نساءه كلهن طوالق، فيحكم عليه بما اقتضاه ظاهر لفظه، وأما نيته فهي بينه وبين ربه، فإن لم يكن هناك ترافع أمام القاضي فإنه إن علم من نفسه الصدق فإنه يبقي امرأته وأما إن علم من نفسه الكذب فإنها لا تحل له إن كان الطلاق بائناً وإلا فإنه يحسبها طلقة، وأما في الطلقات فلا لا ديناً ولا حكماً، فلا يديَّن بذلك ولا يحكم به؛ أي بالاستثناء، فإذا قال رجل لامرأته: " أنت طالق ثلاثاً " ونوى في قلبه إلا واحدة فلا يعتبر بهذا الاستثناء المنوي غير المتلفظ به في الحكم وذلك للتعليل المتقدم في المسألة السابقة، وكذلك لا يديَّن بنيته فلا يقال: " إن كنت صادقاً فيما نويته فهي امرأتك " لا يقال ذلك، وذلك لأن العدد نص فيما يتناوله؛ أي ليس هناك ثم احتمال، فإن قال: " أنت طالق ثلاثاً " فليس هناك أي احتمال آخر ممكن بخلاف ما إذا قال " نسائي طوالق " فإنه يحتمل أن يريد البعض لكن أما قوله: " أنت طالق ثلاثاً " فليس هناك أي احتمال آخر فلا يحتمل إلا أنها طالق ثلاثاً فهو نص فيما يتناوله فلم ترفعه النية فالنية إنما تصرف اللفظ المحتمل إلى أحد محتملاته وأما ما لا يحتمله اللفظ فلا، وإلا لجاز العمل بالنية المجردة في النكاح والطلاق ونحو ذلك.

وهذه المسألة متفرعة على قول جمهور أهل العلم من إيقاع طلاق الثلاث ثلاثاً وإلا فالراجح أن طلاق الثلاث واحدة. ومثل ذلك إذا قال: " نسائي الأربع طوالق " أو قال: " ثلاثتكن طوالق " ونوى إلا واحدة فلا عبرة بنيته لأن قوله: " نسائي الأربع " وقوله: " ثلاثتكن " هذا عدد والعدد نص فيما يتناوله وعليه فالنية لا تصرفه لعدم وجود الاحتمال الذي يوافق هذه النية كما تقدم تقريره. قال: [وإذا قال: أربعكن إلا فلانة طوالقٌ صح الاستثناء] وذلك لأن هذه المرأة قد خرجت باستثناء صحيح. قال: [ولا يصح استثناء لم يتصل عادة] يشترط في الاستثناء أن يتصل في العادة، يتصل لفظاً أو حكماً، اتصاله لفظاً: بأن يتبع المستثنى، المستثنى منه، فإن قال: " نسائي طوالق إلا فاطمة " فقوله: " إلا فاطمة " فاطمة هي المستثنى وقوله " نسائي طوالق " المستثنى منه، فهنا قد تبع المستثنى المستثنى منه تبعه لفظاً فالاستثناء صحيح. وأما اتصاله حكماً: فهو لم يتبعه لفظاً لكنه تبعه حكماً، وذلك فيما إذا كان هناك فاصل بين المستثنى والمستثنى منه، وكان الفاصل لا يقطع في العادة، كأن يقول: " نسائي طوالق " ثم يعطس أو يسعل ثم يقول: " إلا فلانة " فلا تطلق عليه وذلك لأن الاستثناء متصل في العادة لكنه ليس متصل لفظاً بل هو متصل حكماً، مثل ذلك لو سكت سكوتاً (1) قال: [فلو انفصل وأمكن الكلام دونه بطل] فإذا قال: " نسائي طوالق " ثم تكلم بكلام أجنبي أو سكت سكوتاً طويلاً يقطع في العرف ثم قال: " إلا فلانة " فإن الطلاق يقع على كل نسائه ولا يصح استثناؤه، وذلك لوجود الانقطاع، فهذا الطلاق الذي تلفظ به لا يمكن رفعه بمثل هذا أي بالاستثناء المنقطع.

_ (1) بياض في الأصل.

أما الاستثناء المتصل فإنه يجعل اللفظ جملة واحدة، أي يجعل المستثنى منه والمستثنى جملة واحدة لا يقع الكلام إلا بتمامها وإلا للزم لوازم باطلة، ففي قولنا: " لا إله إلا الله " فلو قال المكلف: " لا إله " وسكت لكان نافياً للألوهية على الإطلاق، فالنافي للألوهية ملحد كافر، ولكنه قال: " إلا الله " هذه الجملة المستثناة متصلة، فالجملتان من المستثنى والمستثنى منه أصبحتا جملة واحدة لا يفهم الكلام ولا يترتب عليه أحكامه إلا بمجموعهما. إذن: الاستثناء المتصل صحيح، أما الاستثناء المنفصل قد ثبت فيه قاطع في العرف سواءً كان بسكوتٍ طويل أو بكلام أجنبي قاطع فإن الطلاق يقع على ما تلفظ به أولاً ولا يصح هذا الاستثناء. قال: [وشرطه النية قبل كمالِ ما استثنى منه] هذا الحكم في الاستثناء وفي الشرط، فلو قال رجل: " نسائي طوالق " ثم استدرك وقال: " إلا فلانة " فهو عندما قال: " نسائي طوالق " لا ينوي استثناء هذه المرأة المستثناة بل نواه بعد إتمامه اللفظ، فالاستثناء لا يصح ويقع الطلاق على كل المستثنى منه فيشترط أن ينوي الاستثناء أثناء تلفظه بلفظ الطلاق، وكذلك الشرط، فلو أن رجلاً قال لامرأته: " أنت طالق" فاستدرك فقال: " إن دخلت الدار " فالشرط هنا لا يصح لأنه لم ينوه أثناء اللفظ قالوا: لأن الشرط والاستثناء يصرفان اللفظ عن مقتضاه فوجب أن يقترنا به لفظاً ونية هذا هو المشهور في مذهب أحمد والشافعي. وذهب المالكية وهو اختيار شيخ الإسلام وتلميذه ابن القيم، وذكر شيخ الإسلام: " أنه هو ما يدل عليه كلام الإمام أحمد، وأن عليه كلام متقدِمي أصحاب الإمام أحمد "، واختاره من المتأخرين الشيخ عبد الرحمن بن سعدي: أن الاستثناء يصح وإن لم يستثن مع المستثنى منه.

ويلحق به – فيما يظهر لي – الشرط، [ولكن هذا فيما يقصد به اليمين لا الإيقاع بناءً على ما سبق من قول شيخ الإسلام في التفريق بينهما.] (1) واستدلوا بأدلة من الكتاب والسنة، فمن ذلك قوله تعالى {ولاتقولن لشيءٍ إني فاعل ذلك غداً إلا أن يشاء الله} (2) ، فجمهور المفسرين أن هذا فيمن نسي الاستثناء. والقول الثاني عند المفسرين أنه يعم من نسي الاستثناء ومن لم ينسه، قال ابن القيم: " وهو الصواب ". وعلى كلا التفسيرين فإن المسألة المتنازع فيها داخلة في هذه الآية "، فالرجل إذا قال: " سأفعل غداً " وقد نسي أن يستثني ثم قال " إن شاء الله " فهذا الاستثناء نافع مع أنه لم ينوه مع لفظه، فكذلك في هذه المسألة المتنازع فيها، ومن ذلك ما ثبت في الصحيحين، أن سليمان عليه السلام قال: " لأطوفن الليلة على سبعين تحمل كل امرأة فارساً يجاهد في سبيل الله " فقال له الملك: " إن شاء الله " فلم يقل، قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: (فلم تحمل شيئاً - أي من نسائه – إلا واحداً قد بقي أحد شقيه، ولو قال إن شاء الله لجاهدوا في سبيل الله) (3) ، فهذا الحديث دل على أن قوله: " إن شاء الله " بعد الكلام نافع ومؤثر، ومن ذلك قوله - صلى الله عليه وسلم - في المتفق عليه لما نهى عن قطع شوك مكة وحشيشها قال له العباس " إلا الإذخر " فقال: (إلا الإذخر) (4) ، ولم يكن قد نوى الاستثناء وهذا هو القول الراجح لقوة أدلته. الدرس التاسع والأربعون بعد الثلاثمائة باب الطلاق في الماضي والمستقبل قال: [إذا قال: أنت طالق أمس أو قبل أن أنكحك، ولم ينو وقوعه في الحال لم يقع]

_ (1) ما بين القوسين غير موجود في الأصل. (2) سورة الكهف.

إذا قال الزوج لامرأته: " أنت طالق أمس " أو: " قبل الأمس " أو نحو ذلك فإن الطلاق لا يقع، وكذلك إذا قال: " أنت طالق قبل أن أنكحك " فالطلاق لا يقع، وذلك لأن فيه رفعاً لاستباحة النكاح في المضي، وذلك ليس للمكلف، فالمكلف إنما له رفع الاستباحة في الحال أو في المستقبل، وأما رفع إباحة الفرج وغيره مما يباح في النكاح في المضي فليس له ذلك. قوله: " ولم ينو وقوعه في الحال لم يقع " هذا قيد في عدم الوقوع، لكن لو نوى الوقوع في الحال فإن الطلاق يقع، فإذا قال: أنت طالق أمس " وهو ينوي الوقوع في الحال أي أن الطلاق واقع عليها في الحال استناداً إلى وقوعه في المضي فإنه يقع، والقول الثاني في المسألة:أنه لا يقع، وهو أظهر؛ وذلك لأن النية لا يحتملها لفظه، فهو ينوي وقوع الطلاق في الحال، ولفظه في المضي، فكما لو كانت النية مجردة، والنية المجردة لا يقع معها الطلاق. قال: [وإن أراد بطلاق سبق منه أو من زيد وأمكن قُبل] الذي لا يقع - فيما تقدم – هو إنشاء الطلاق، لكن لو كان مخبراً، فقال لها: " أنت طالق أمس " من باب الإخبار وليس من باب الإنشاء، فإذا قال: " أنت طالق أمس " وقال أريد بذلك طلاقاً سابقاً مني أو طلاقاً سابقاً من غيري، وأمكن هذا، وذلك بأن يكون صادقاً في قوله فقد طلقها هو قبل، أو طلقها زوج آخر قبله، فإنه يقبل لأن لفظه يحتمله، وأما إذا لم يكن ذلك، وذلك بأن لا يكون طلقها قبل ذلك ولا يكون لها زوج قبله فإن الطلاق يقع، وذلك لأنه حينئذٍ يكون قد أخبر عن قول له فيكون في ذلك إقرار يتعلق به حق غيره وهو المرأة وحينئذٍ لا يقبل إنكاره كما تقدم في المسألة السابقة، لكنه يديّن بنيته التي يدعيها فيما بينه وبين ربه. قال: [فإن مات أو جُنّ أو خرس قبل بيان مراده لم تطلق]

إذا قال لها: " أنت طالق أمس " ثم جن أو مات أو خرس قبل بيان مراده فإنها لا تطلق إعمالاً للمتبادر من لفظه، فإن المتبادر من لفظه أنه إنشاء، والإنشاء للطلاق في المضي لا يقع معه الطلاق، وأيضاً عصمة النكاح ثابتة فلا تزال بالشك. فإذا قال: " أنت طالق أمس " من باب الإخبار وادعى أنه ينوي بذلك طلاقاً سابقاً وقد كان طلقها طلاقاً سابقاً، لكنه قال لها ذلك في حالة غضب أو عند سؤالها الطلاق فإنه لا يقبل قوله وذلك لوجود قرينة الحال التي تكذب قوله. قال: [وإن قال: طالق ثلاثا قبل قدوم زيدٍ بشهر] إذا قال لها: " أنت طالق ثلاثاً قبل قدوم زيدٍ بشهر " ولا يدري متى يقدم زيد، فيحتمل أن يقدم بعد شهر من اليوم ويحتمل أن يكون بعد شهر من الغد، ويحتمل أن يكون بعد شهر من بعد الغد، ويحتمل أن يكون بعد شهر من بعد أسبوع، ويحتمل أن يكون بعد شهرين، وحينئذٍ تبقى المرأة معلقة ولا يحل له أن يطأها؛ وذلك لأنه في كل يوم يحتمل أن يكون هو اليوم الذي يكون قدوم زيدٍ بعده بشهر، وعليه فلا يحل له أن يطأها وتجب لها النفقة لأنها محبوسة لأجله. قال: [فقدم قبل مضيه لم تطلق] فإذا قال:" أنت طالق قبل قدوم زيدٍ بشهر " فقدم زيد بعد أسبوع، فإن المرأة لا تطلق، وذلك كما لو قال:" أنت طالق أمس " لأن طلاقه يكون في المضي، لأن زيداً قدم بعد أسبوع فحينئذٍ يكون الطلاق قد وقع في المضي، لأن قبل قدوم زيد بشهر مضياً. قال: [وبعد شهرٍ وجزءٍ تطلق فيه يقع] أي إذا جاء بعد شهر وجزء أي لحظة يقع فيها قول " أنت طالق " فإذا جاء بعد شهر وجزء فإنه يقع الطلاق عليها وذلك لوجود الصفة المذكورة. قال: [فإن خالعها بعد اليمين بيومٍ، وقدم بعد شهرٍ ويومين صح الخلع، وبطل الطلاق]

إذا قال: " أنت طالق قبل قدوم زيدٍ بشهر " وبعد يوم خالعها، ثم قدم زيد بعد شهر ويومين، فتبين لنا أن المرأة كانت في عصمته حين المخالعة، فعلى ذلك الخلع صحيح لثبوت الزوجية ويبطل الطلاق لأنه صادف امرأة بائناً في الخلع. قال: [وعكسها بعد شهر وساعة] أي لحظة يقع بمثلها الطلاق، فإذا قال لها: " أنت طالق قبل قدوم زيدٍ بشهر " ثم خالعها وبعد شهر وساعة قدم زيد، فالمخالعة هنا صادفت بينونة، وعليه فالطلاق صحيح والخلع باطل، والخلع إنما يصح حيث لم يكن حيلة، أما إذا كان حيلة فإنه لا يصح كما تقدم. قال: [وإن قال: طالقٌ قبل موتي طلقت في الحال] إذا قال لزوجته: " أنت طالق قبل موتي " فإنها تطلق في الحال، وذلك لأنه ما من وقت إلا وهو قبل موته، أما لو قال: " قبيل موتي " فإن هذا الجزء يفيد التصغير فيكون في الجزء الذي يليه الموت أي في آخر لحظات عمره. قال: [وعكسه معه أو بعده] فلوا قال لامرأته: " أنت طالق مع موتي أو بعد موتي " فإن الطلاق لا يقع وذلك لأن البينونة تحصل بالموت فإذا مات الزوج بانت منه امرأته، لذا تعتد وتنكح زوجاً آخر بعده، وعلى ذلك فإن هذا الشرط يصادفها بائناً والبائن لا يقع عليها الطلاق. فصل قال: [وأنت طالقٌ إن طرتِ أو صعدت السماء أو قلبتِ الحجر ذهباً ونحوه من المستحيل لم تطلق] إذا قال لامرأته: " أنت طالق إن طرت إلى السماء أو صعدت السماء أو قلبت الحجر ذهباً " ونحوه من المستحيل فإنها لا تطلق وذلك لأن هذه الصفة لا توجد، فهذه الصفة التي علق الطلاق عليها لا توجد، والطلاق إنما يقع حيث وجدت هذه الصفة والصفة هذه لا توجد لأنها من المستحيلات. قال: [وتطلق في عكسه فوراً]

إذا قال " أنت طالق لأصعدن (1) السماء " فقد علق الطلاق على عدم فعل المستحيل، وعدم فعله للمستحيل معلوم في الحال، وحينئذٍ يعلم تحقق الأمر الذي علق الطلاق عليه، فيعلم تحققه في الحال فيقع الطلاق فوراً. قال: [وهو النفي في المستحيل مثل لأقتلن الميت أو لأصعدن السماء ونحوهما] فهذه أمور مستحيلة، فالميت لا يمكن قتله، وكذلك لأصعدن السماء ونحوهما، ففي مثل هذه المسائل يقع الطلاق في الحال لأنه علق طلاقه على عدم فعله للمستحيل وعدم فعله للمستحيل معلوم في الحال. قال: [وأنت طالق اليوم إن جاء غدٌ لغو] إذا قال رجل لامرأته " أنت طالق اليوم إن جاء غدٌ " فإن ذلك يكون لغواً، قالوا: لأن مقتضى لفظه إيقاع الطلاق في هذا اليوم حيث جاء الغد فيه، ومعلوم أن مجيء الغد في اليوم أمر لا يمكن، وعليه فإن هذا يكون من باب اللغو. والقول الثاني في المسألة وهو قول القاضي من الحنابلة وهو اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية: أن الطلاق يقع، وأنه كما لو قال: أنت طالق قبل موتي بشهر. وعليه فإن الطلاق يقع في الحال لأن مجيء الضد معلوم قطعاً فالراجح أنه يكون طلاقاً اليوم؛ وذلك لأن مجيء الغد أمر معلوم. قال: [وإذا قال: أنت طالق في هذا الشهر أو اليوم طلقت في الحال] إذا قال الرجل لامرأته " أنت طالق في هذا الشهر " أو " هذا اليوم " أو " في هذه السنة " فإن الطلاق يقع في الحال، وذلك لأنه جعل اليوم وجعل الشهر وجعل السنة ظرفاً لطلاقه وهذا يحصل في كل جزء من أجزاء اليوم وفي كل جزء من أجزاء الشهر وفي كل جزء من أجزاء السنة. قال: [وإن قال: في غدٍ أو السبت أو رمضان طلقت في أوله] إذا قال " أنت طالق في السبت أو في غدٍ أو في رمضان " فإنها تطلق في أوله، وذلك لأنه جعل رمضان ظرفاً لطلاقه فكل جزء من رمضان يصح أن يكون ظرفاً لهذا الطلاق وهذا هو ظاهر لفظه.

_ (1) كذا في الأصل، ولعل المراد: إن لم أصعد السماء.

قال: [وإن قال: أردتُ آخر الكل دُين وقبل] فإذا قال " أنا لم أرد أوله وإنما أردت آخره " قُبل منه في الحكم ودُيِّن بنيته فيما بينه وبين ربه، وذلك لأن نيته يحتملها لفظه، وذلك لأن وسط الشهر وآخره منه. وعليه فلا تطليق عليه إلا في آخر الشهر، لكن إذا قال " أنت طالق غداً " أو " يوم السبت " ولم يقل " في " فهنا قد جعل الطلاق في غدٍ كله فلا بد وأن يشمل اليوم كله الطلاق، وعليه فلا يحكم عليه بالظاهر في نيته، لأن نيته تخالف ظاهر لفظه ولا يحتملها اللفظ، فإذا قال " أنت طالق غداً أو يوم السبت " وقال أردت آخر النهار، فإن ذلك لا يقبل منه وذلك لأن مقتضى لفظه وقوع الطلاق عليها في اليوم كله وأنها في كل جزء من أجزاء ذلك اليوم طالق وعليه فنيته تخالف ظاهر لفظه، وعلى ذلك فلا يقبل قوله في الحكم. والمشهور في المذهب: أنه لا يُديّن به فيما بينه وبين ربه. والذي يترجح وهو قول في المذهب: أنه يدين فيما بينه وبين ربه بنيته؛ وذلك لأن اللفظ يحتمل ذلك من باب المجاز، أي أنت طالق بعض غدٍ أو بعض يوم السبت. قال: [وأنت طالق إلى شهرٍ طلقت عند انقضائه] إذا قال لها " أنت طالق إلى شهر " أو " إلى سنة " فإن المرأة تطلق عليه عند انقضاء الشهر وعند انقضاء السنة، وذلك لأنه جعل للطلاق غاية وهي قوله " إلى شهر" والطلاق لا غاية لآخره كما هو معلوم فتعين أن تكون الغاية لأوله، فعلى ذلك قوله " إلى شهر " أي ابتداءً للطلاق بعد مضي الشهر، وكذلك إذا قال " أنت طالق سنة ". قال: [إلا أن ينوي في الحال فيقع] فإذا نوى ذلك في الحال فإن الطلاق يقع. قال: [وطالقٌ إلى سنةٍ تطلق باثني عشر شهراً] إذا قال " أنت طالق إلى سنة " فإن المرأة تطلق عليه بمضي اثني عشر شهراً. قال: [فإن عرفها باللام طلقت بانسلاخ ذي الحجة]

فإذا قال " أنت الطلاق إذا قضت السنة " أو قال " إذا مضى الشهر "، فإذا مضى الشهر الذي هو فيه أو مضت السنة التي هو فيها وإن كان في آخرها فإنها تطلق عليه، فلو أن رجلاً قال لامرأته وهو في العاشر من ذي الحجة " أنت طالق إذا مضى الشهر " فهنا " ألا " هي " أل " العهدية الحضورية. وعليه فتطلق المرأة، إذا مضى هذا الشهر الذي هم فيه. كذلك إذا قال في شهر ذي القعدة: " أنت طالق إذا مضت السنة " فتطلق عليه إذا مضت السنة التي هو فيها وذلك بانسلاخ شهر ذي الحجة، [وإن قال أردت اثني عشر شهراً قُبِلَ حكماً. فائدة: إذا قيل له قد زنت امرأتك فقال: " هي طالق "، ثم تبين أنها لم تكن زنت، فقال أبي عقيل: لا تطلق وجعل السبب كالشرط اللفظي وهو قول عطاء.] (1) الدرس الخمسون بعد الثلاثمئة باب تعليق الطلاق بالشروط أي بالشروط اللغوية كقوله لزوجته " إن دخلت الدار فأنت طالق " والشرط هنا ينقسم إلى قسمين: شرط محض: وهو الذي يقصد المشترط فيه إيقاع الطلاق مع حصوله - أي مع حصول هذا الشرط -، فإذا قال لزوجته " إن جاء رمضان فأنت طالق " أو قال " إن دخلت الدار فأنت طالق " فهده شروط محضة يقصد فيها إيقاع الطلاق متى حصل الشرط، وفي البخاري معلقاً: أن ابن عمر سأله نافع عن رجل قال لامرأته " أنت طالق البتة إن دخلت الدار " فقال: إن دخلت الدار فهي بائن " (2) .

_ (1) ما بين القوسين غير موجود في الأصل. (2) ذكره البخاري في باب الطلاق في الإغلاق والكره بلفظ: وقال نافع: طلق رجل امرأته البتة إن خرجت، فقال ابن عمر: إن خرجت فقد بُتَّتْ منه، وإن لم تخرج فليس بشيء ".

الشرط الذي لا يقصد معه إيقاع الطلاق وإنما يقصد معه الحض أو المنع لنفسه أو لامرأته أو لغيرهما، كأن يقول لامرأته " إن خرجت من الدار بغير إذني فأنت طالق " وهو لا يقصد إيقاع الطلاق بل يقصد منعها من الخروج، أو يقول الآخر " إن لم تدخل في داري فامرأتي طالق " أو يقول " إن لم أفعل كذا فامرأتي طالق " ونحو ذلك مما يقصد معه الحض أو المنع وهو ما يسمى بالحلف بالطلاق، فليس المقصود بالحلف بالطلاق أن يقول " والطلاق " بل المقصود أن تكون الجملة التي فيها تعليق الطلاق - أن تكون فيها - معنى اليمين، فإذا قال للرجل " إن لم تدخل الدار فامرأتي طالق " كأنه قال " والله لأطلقن امرأتي إن لم تدخل الدار ". فجمهور أهل العلم: أنه يقع الطلاق فيها إذا وقع الشرط وذلك لحصول الشرط الذي علق الطلاق به. وذهب أهل الظاهر وهو قول طائفة من السلف والخلف وهو اختيار شيخ الإسلام وتلميذه ابن القيم الجوزية (1) واختاره الشيخ محمد بن عبد الوهاب: أن الطلاق لا يقع وأنها يمين ويكفرها، واستدلوا بما يأتي: أن هذه الألفاظ أيمان باتفاق أهل اللغة، وعليه عرف الفقهاء كما ذكر شيخ الإسلام، وعليه فيدخل في عموم قوله تعالى: {قد فرض الله عليكم تحلة أيمانكم} (2) وفي قوله - صلى الله عليه وسلم -: (إني إن شاء الله لا أحلف على يمين فأرى غيرها خيراً منها إلا أتيت الذي هو خير وكفرت عن يميني) (3) . أن العبرة بالنيات والمقاصد لا بالألفاظ، فالأحكام لا تترتب على الألفاظ إلا إذا كان المتكلم قاصداً المعنى وقاصداً موجب كلامه وهنا ليس الأمر كذلك فهو لا يقصد الطلاق وإنما يقصد الحث والمنع.

_ (1) كذا في الأصل، ولعل الصواب: ابن قيم الجوزية.

ويستدل على هذا بالقصة التي رواها البيهقي وغيره عن أبي رافع؛ أن مولاته قالت له " أنا يوماً يهودية ويوماً نصرانية وعبيدي كلهم أحرار ومالي كله في سبيل الله وأمشي على قدمي إلى بيت الله إن لم تطلق امرأتك " فسأل ابن عمر وابن عباس وعائشة وحفصة وأم سلمة فكلهم قال " تكفر عن يمينها "، فإذا كان هذا في العتق وفي النفقة وفي الصدقة المستحبة التي يتشوق الشارع إليها إذا كان هذا في ذلك فأولى أن يكون في الطلاق الذي يبغضه الشارع، وهذا هو القول الراجح لقوة أدلته. قال: [لا يصح إلا من زوج] لا يصح الطلاق المعلَّق إلا من زوج، فلو قال " إن تزوجت فلانة فهي طالق " ونحو ذلك فلا تطلق عليه عند جماهير أهل العلم، لقول النبي - صلى الله عليه وسلم - فيما رواه الترمذي وغيره والحديث حسن: (لا نذر لابن آدم فيما لا يملك ولا عتق له فيما لا يملك ولا طلاق له فيما لا يملك) (1) وهي أجنبية عنه، وقال تعالى {يا أيها الذين آمنوا إذا نكحتم المؤمنات ثم طلقتموهن} (2) ، فرتب الطلاق على النكاح فلا طلاق قبل نكاح. قال: [فإذا علقه بشرطٍ لم تطلق قبله] هو ظاهر، فإذا قال " إن خرجت الدار فأنت طالق "، لم تطلق قبله لعدم حصول الشرط الذي قد علق الطلاق به. قال: [ولو قال: عجلته] إذا قال لامرأته " أنت طالق إن جاء شهر رمضان " ثم قال " عجلته " أي عجلت الطلاق المعلق، فهنا لا ينفعه هذا فلا يمكنه أن يعجله بل يقع في الوقت الذي قد شرطه فيه، قالوا: لأنه ليس له من سبيل إلى ذلك فهو معلق بزمن مستقبل فلم يكن إليه من سبيل لا بتقديم ولا بتأخير. وعليه فإذا أراد أن يطلقها طلاقاً آخر فإنه يطلقها حينئذٍ فإن كانت في عصمته في رمضان طلقت طلاقاً آخر هذا هو مذهب جمهور أهل العلم وهذا هو مذهب جمهور أصحاب الإمام أحمد.

قال شيخ الإسلام: وفي ذكر جمهور الأصحاب نظر وذلك أنه يملك تعجيل الدين ولا فرق بين حقوق الله تعالى وحقوق العباد في الجملة سواء في شرع أو شرط "، وفيما قاله رحمه الله قوة والله أعلم. قال: [وإن قال سبق لساني بالشرط (ولم أرده وقع في الحال) (1) ] إذا قال " إن دخلت الدار فأنت طالق " ثم قال " سبق لساني بالشرط، إذن هو يريد أن يوقعه منجزاً، فإنه يقع في الحال؛ لأنه أقر على نفسه بما هو أغلظ بلا تهمة. قال: [وإن قال: أنت طالق وقال: أردت إن قمتِ لم يقبل حكماً] إذا قال " أنت طالق " ثم قال " أردت إن قمت " فإن هذا لا يقبل في الحكم لأن هذا خلاف الظاهر، فقوله " أنت طالق " هذا يدل على أنه أراد الطلاق المنجَّز. وكونه يقول " أردت إن قمت " هذا يجعله طلاقاً معلقاً وهذا خلاف الظاهر المتقدم والحكم إنما يتعلق بظاهر الألفاظ، وأما في الباطن فإنه يدين بنيته فيما بينه وبين ربه. قال: [وأدوات الشرط إن وإذا ومتى وأي ومن وكلما، وهي وحدها للتكرار] فالأدوات المتقدمة لا تفيد التكرار سوى " كلما ". قال: [وكلها ومهما بلا لم أو نية فورٍ أو قرينة للتراخي] الأدوات المتقدمة وكذلك مهما إذا لم تقترن بها " لم " ولم تقترن بها نية الفورية أو قرينة الفورية فإنها تفيد التراخي. قال: [ومع لم للفورية] فإذا اقترنت بهذه الأدوات " لم " فإنها تفيد الفورية إلا بقرينة تدل على التراخي، كأن يقول " إذا لم تفعلي كذا فأنت طالق " أو " متى لم تفعلي كذا " أو " أي وقت لم تفعلي كذا " أو: " كلما لم تفعلي كذا فأنت طالق " فهي تفيد الفورية. قال: [إلا إن مع عدم نية فورٍ أو قرينةٍ] وإن اقترنت بها " لم " فإنها لا تفيد الفورية، لكن هذا مع عدم نية الفور أو القرينة. قال: [فإذا قال: إن قمت أو إذا أو متى أو أي وقتٍ أو من قامت، أو كلما قمت فأنت طالقٌ فمتى وجد طلقت]

_ (1) ما بين القوسين ليس في الأصل.

فمتى وجد القيام فإنها تطلق في أي يوم وفي أي ساعة. قال: [وإن تكرر الشرط لم يتكرر الحنث إلا في كلما] إذا قال " إن قمتِ فأنت طالق " فقامت فإنها تطلق، فإن قامت مرة أخرى فإنها لا تطلق فإن هذه الأدوات لا تفيد التكرار بخلاف " كلما "، فإذا قال " كلما قمت فأنت طالق " فإذا قامت فإنها تطلق فإذا راجعها ثم قامت مرة أخرى فإنها تطلق لأن كلما تفيد التكرار. قال: [وإن لم أطلقك فأنت طالق ولم ينو وقتاً ولم تقم قرينة بفور (ولم يطلقها) (1) طلقت في آخر حياة أولهما موتاً] إذا قال لامرأته " إن لم أطلقك فأنت طالق " ولم ينو الفور ولم تقم قرينة على الفورية ولم يطلقها، فإنها تطلق في آخر حياة أولهما موتاً، لأن هذه الأداة للتراخي، فكل وقت يمكنه ألا يطلقها فيه، لكن تضايق الأمر بموت أحدهما، فإذا مات أحدهما علمنا الحنث. قال: [ومتى لم أو إذا لم أو أي وقتٍ لم أطلقك فأنت طالق ومضى زمن يمكن إيقاعه فيه ولم يفعل (طلقت) (2) ] إذا قال لامرأته " متى لم أطلقك فأنت طالق " أو إذا لم أطلقك فأنت طالق " أو " أي وقت لم أطلقك فأنت طالق " فهذه الأدوات تفيد الفورية لاقتران " لم " بها فإذا قال ما تقدم ومضى وقت يمكن إيقاع الطلاق فيه ولم يفعل طلقت. قال: [وكلما لم أطلقك فأنت طالق ومضى ما يمكن إيقاع ثلاث مرتبة فيه طلقت المدخول بها ثلاثاً وتبين غيرها بالأولى] فإذا قال " كلما لم أطلقك فأنت طالق " ومضى زمن يمكن إيقاع ثلاث طلقات مرتبة فيه فإنها تبين به المدخول بها لأنه يكون بذلك قد وقع عليها الطلاق ثلاثاً، وأما غير المدخول بها فإنها تبين بطلقة ويكون طلاقاً بائناً بطلقة.

_ (1) هذا الزيادة ليست في الأصل، وإنما في النسخة التي بين يدي. (2) ليست في الأصل.

قال: [وإن قمت فقعدتِ، أو ثم قعدت أو (إن) (1) قعدت إذا قمت أو إن قعدت إن قمت فأنت طالق لم تطلق حتى تقوم ثم تقعد] إذا علق طلاقه على شرطين مرتبين فلا يقع الطلاق إلا بهذين الشرطين مرتبين، فإذا قال لها " إن قمت فقعدت فأنت طالق " فإذا قامت فقعدت فإنها تطلق، وإذا قال لها " إن قمت ثم قعدتِ فأنت طالق " فإنها تطلق إذا قامت ثم قعدت " لأنه قد شرط شرطين مرتبين فلا تطلق إلا بقعود مسبق بقيام. وإذا قال لها " إن قعدت إذا قمت " فإنها تطلق إذا قعدت بعد قيام. وإذا قال لها: " إن قعدت وإن قمت " بمعنى إن قمت فقعدتِ كأنه قال " إن حصل منك قعود بعد قيام فأنت طالق " فهذا الأسلوب يجعل المتأخر متقدماً والمتقدم متأخراً. قال: [وبالواو تطلق بوجودهما، ولو غير مرتبين] إذا قال " إن قعدت وقمت فأنت طالق " فلا يشترط الترتيب بل يكتفي بالجمع، لأن الواو لا تفيد الترتيب، فإذا قال لها " إن خرجت من الدار وذهبت إلى السوق فأنت طالق " فخرجت من الدار لكنها لم تذهب إلى السوق، فلا يقع الطلاق حتى يجتمع المتعاطفان بالواو. قال: [وبأو بوجود أحدهما] إذا قال " إن خرجت من الدار إلى السوق أو إلى أهلك فأنت طالق " فخرجت من الدار إلى أهلها أو خرجت من الدار إلى السوق فإنها تطلق بأحدهما لأن " أو " تفيد ذلك، وما تقدم ذكره حيث كان المتلفظ به من أهل اللغة العربية وأما العامة فإنه يحكم عليهم بما تقتضيه ألفاظهم عرفاً. الدرس الحادي والخمسون بعد الثلاثمائة فصل هذا الفصل في الطلاق المعلق بشرط، فهي تبع للمسألة السابقة، وقد تقدم اختيار شيخ الإسلام من أن الشرط الذي بمعنى اليمين أن فيه الكفارة وأنه لا يقع الطلاق به. قال: [إن (2) قال: إن حضت فأنت طالقٌ طلقت بأول حيضٍ متيقن]

_ (1) هذه الزيادة في الأصل دون النسخة التي بين يدي. (2) كذا في الأصل، وفي نسخة بين يدي " إذا ".

وذلك لوجود الصفة المشروطة، أما إذا كان حيضاً مشكوكاً فلا، لأن الأصل بقاء عصمة النكاح فهو المتيقن، فالنكاح هو المتيقن فلا يزول بالشك. قال: [وإن (1) حضت حيضة تطلق بأول الطهر من حيضةٍ كاملة] إذا قال لها " إن حضت حيضة فأنت طالق " فهنا علق الطلاق بحيضة كاملة فإذا حاضت مرة واحدة فإنها تطلق وهذا إنما يكون بأول الطهر، فأول طهرها يتم لها حيضة كاملة، فإن قال لها وهي حائض " إن حضت حيضة كاملة فأنت طالق " فإنها لا تطلق حتى تطهر من حيضها الذي هي فيه، فإذا طهرت منه فحاضت حيضة كاملة فإنها تطلق بأول الطهر. قال: [وفي (2) إذا حِضتِ نصف حيضةٍ تطلق في نصف عادتها] إذا قال لها " إن حضت نصف حيضة فأنت طالق " فإنها تطلق في نصف عادتها، فإذا كانت عادتها ستة أيام فإذا تم اليوم الثالث فإنها تطلق، وعليه فلا يُعلم نصف العادة حتى يمضي الحيض كله وذلك لأن العادة قد تطول وقد تقصر. والمشهور في مذهب الإمام أحمد: أن المرأة يقبل قولها في الحيض فإذا قالت " إني قد حضت حيضة " فإن قولها يقبل. وقال بعض الحنابلة: لا يقبل إلا بيمين لاحتمال كذبها.

_ (1) كذا في الأصل، وفي نسخة بين يدي " إذا ". (2) كذا في النسخة التي بين يدي، وأما في الأصل - المذكرة –: " وفيما ".

وعن الإمام أحمد وهو قول أبي بكر من الحنابلة وصوبه صاحب الإنصاف وهو أرجح الأقوال الثلاثة: أنها تعطى خرقة فتضعها في فرجها - فتعطيها بعض النساء الثقات قطعة أو نحوها فتضعها في فرجها –؛ وذلك لأنه لا يمكن أن يعلم الحيض من غير جهتها فلم يقبل فيه القول المجرد، فالقول المجرد إنما يقبل حيث لا يمكن أن يعلم إلا من جهة الشخص وأما إذا كان يمكن العلم به من غير جهته فإنه لا يقبل قولها وهنا يمكن أن يعلم الحيض الذي ادعته وأنكره الرجل، يمكن أن يعلم من غير جهتها، بخلاف ما لو قال لها: " إن كنت تبغضيني فأنت طالق "، فقالت المرأة: " إني أبغضك " فإنه يقع الطلاق، فهو أمر قلبي ولا يطلع عليه غيرها فإن قولها يصدق لأنه لا يعلم إلا من جهتها. فصل قال: [إذا علقه بالحمل فولدت لأقل من ستة أشهر طلقت منذ حلف] إذا قال: " إن كنت حاملاً فأنت طالق " فولدت لأقل من ستة أشهر سواء كان الزوج يطأ أو لا يطأ فحينئذٍ يعلم أنها حاملاً لأنها لما ولدت لأقل من ستة أشهر قطعناً أنها حامل حين حلفه، سواء كان يطأها أو لا يطأها وعليه فإنها تطلق. وإذا ولدت لأقل من أربع سنين وهو لا يطأها فنقطع أنها حامل وهذا هو أكثر مدة الحمل في المذهب وعليه فتطلق، وقد تقدم أن المدة القصوى للحمل غير محددة كما في كتاب الفرائض فحيث أتت به وهي فراشاً لزوجها وهو لا (1) يطؤها ولو كان بعد أكثر من أربع سنين فهو ابنٌ له، وعليه فتكون حاملاً عند قولها ذلك وإن أتت به لأكثر من أربعة سنين. قال: [وإن قال: إن لم تكوني حاملاً فأنت طالق] إذا قال " إن لم تكوني حاملاً الآن فأنت طالق " وهي عكس المسألة السابقة. قال: [حرم وطؤها قبل استبرائها بحيضة في البائن]

_ (1) كذا في الأصل.

فهذا الحكم للمسألتين كلتيهما فإنه يحرم عليه الوطء حتى يستبرئها بحيضة، أي حتى تثبت براءة الرحم من الحمل بحيضة واحدة، فإذا حاضت فإنه يعلم أنها ليست بحامل في المسألة الأولى فلا تكون طالقاً، وفي المسألة الثانية يعلم أنها ليست بحامل فتكون طالقاً لكن هذا في البائن فهي التي يحرم وطئها، لكن لو كان طلاقاً رجعياً فله أن يطأ لأن الرجل لا يمنع من وطء امرأته في الطلاق الرجعي. قال: [وهي عكس الأولى في الأحكام] وهذا ظاهر، فالحالة الأولى إثبات، والمسألة الثانية نفي. فعكس الأحكام المتقدمة في المسألة الأولى يثبت عكسها في المسألة الثانية فحيث قلنا المسألة الأولى يقع الطلاق فنقول في المسألة الثانية لا يقع الطلاق. قال: [وإن علق طلقة إن كانت حاملاً بذكر وطلقتين بأنثى فولدتهما طلقت ثلاثاً] إذا قال لامرأته " إن كنت حاملاً بذكر فأنت طالق طلقةً، وإن كنت حاملاً بأنثى فأنت طالق طلقتين " فولدتهما طلقت ثلاثاً لوجود الصيغتين اللتين وقع عليهما الطلقات (1) . ويأتي ما في هذه المسألة من النظر في آخر هذا الدرس. قال: [وإن كان مكانه: إن كان حملُك أو ما في بطنك لم تطلق بهما] إذا قال لها مكان قوله إن كنت حاملاً قال " إن كان حملك " أو قال " إن كان ما في بطنك " فإنها لا تطلق إن ولدتهما؛ وذلك لأن قوله هنا " حملك " وقوله " ما في بطنك" ظاهره الحصر بأن يكون ذكراً أو أنثى وهو هنا لم يسم ذكراً ولا أنثى، وعليه فلا يقع الطلاق. فصل قال: [إذا علق طلقةً على الولادة بذكر وطلقتين على الولادة بأنثى فولدت ذكراً ثم أنثى حياً أو ميتاً، طلقت بالأول وبانت بالثاني ولم تطلق به]

_ (1) في الأصل: الطلاقات.

في المسألة المتقدمة فيها تعليق الطلاق على الحمل، وأما هنا فهو تعليق له على الولادة، فإذا قال لامرأته " إن ولدت ذكراً فأنت طالق طلقة وإن ولدت أنثى فأنت طالق طلقتين " فولدت ذكراً ثم ولدت أنثى حياً كان المولود أو ميتاً ما دام أنه قد تبين في خلق الإنسان، طلقت الأول منهما سواء كان ذكراً أو أنثى، فإن كان ذكراً فإنها تطلق طلقة، وإن كان أنثى فإنها تطلق طلقتين، فإذا ولدت ذكراً فإنها تكون قد طلقت طلقةً، فلما أتت بالثاني فإنها لا تطلق بالثاني لكنها تبين به، لأنها بالثاني تكون قد وضعت حملها والمرأة إذا وضعت حملها فقد خرجت من عدتها وإذا خرجت من عدتها فهي بائن منه. قال: [وإن أشكل كيفية وضعهما فواحدة] فإذا أشكل كيفية وضعهما فلا يدري آلذكر سابقٌ أم الأنثى فواحدة، وذلك لأن الأصل بقاء النكاح والطلقة الثانية مشكوك فيها. فصل قال: [إذا علقه على الطلاق، ثم علقه على القيام، أو علقه على القيام، ثم على وقوع الطلاق فقامت طلقت طلقتين (فيهما) (1) ] إذا قال لامرأته " إن طلقتك فأنت طالق " ثم قال لها " إن قمت فأنت طالق " فقامت طلقت طلقتين، الطلقة الأولى بقيامها والطلقة الثانية بطلاقها، فهو قال " إذا طلقتك فأنت طالق ". وقوله " أو علقه على القيام، ثم على وقوع الطلاق " إذا قال لها إن قمت فأنت طالق " ثم قال " إن وقع عليك الطلاق فأنت طالق " فقامت فإنه يقع لها الطلاق المعلق الأول، وبوقوعه عليها يقع الطلاق الثاني. قال: [وإن علقه على قيامها ثم على طلاقه لها فقامت فواحدة] هذه بعكس المسألة الأولى، فإذا علقها على قيامها ثم على طلاقها. والفرق بين المسألة الثالثة والمسألة الأولى: أن المسألة الثالثة هي عكس الأولى.

_ (1) كذا في نسخة التي بين يدي دون الأصل.

والفرق بين المسألة الثالثة والمسألة الثانية: أن المسألة الثانية فيها وقوع الطلاق فإنه قال في المسألة الثانية " ثم علقه على وقوع الطلاق "، أما في المسألة الثالثة فإنه قال " ثم علقه على طلاقها ". وفرق بين قوله " إن طلقت فأنت طالق " وبين قوله " إن وقع عليك الطلاق فأنت طالق ". والمسألة الثالثة هي إذا قال لامرأته " إن قمتِ فأنت طالق " ثم قال بعد ذلك " إن طلقتك فأنت طالق " فإذا قامت فلا يقع عليها إلا طلاقاً واحداً، لأن قوله " إن طلقتك فأنت طالق " يقع الطلاق ليس منه إنما بالشرط الذي قد وقع فهو طلاق معلق، بخلاف ما إذا علقه على وقوع الطلاق فإنه متى ما قلنا بوقوع الطلاق فحينئذٍ يحصل الشرط. قال: [وإن قال: كلما طلقتك أو كلما وقع عليك طلاقي فأنت طالقٌ فوجدا طلقت في الأولى طلقتين وفي الثانية ثلاثاً] إذا قال " كلما طلقتك فأنت طالق " ثم قال لها " أنت طالق " فحينئذٍ يقع الطلقة الأولى وهي قوله " أنت طالق " ويقع الطلاق المعلق، ففي هذه المسألة يكون عليها طلقتان. لكن لو قال " كلما وقع عليك طلاقي فأنت طالق " ثم قال " أنت طالق " فقوله " أنت طالق " هي الطلقة الأولى وهي طلقة منجزة، ثم على قوله " أنت طالق "، وقد قال " كلما وقع عليك الطلاق فأنت طالق " يكون قد وقع طلاقٌ آخر بقوله " كلما " وطلاق ثالث لأن " كلما " تفيد التكرار وقد قال " كلما وقع عليك طلاقي " ولم يقل " كلما طلقتك " وبينهما فرق. مسألة: وهي تسمى بالسُريجية؛ نسبة إلى ابن سريج الشافعي، وهي فيما إذا قال الرجل لامرأته " إن وقع عليكِ طلاقي فأنت طالق قبله ثلاثاً ".

قال ابن سريج الشافعي - وهو قول محدث في الإسلام، كما قال شيخ الإسلام - قال: " لا يقع شيء "، لأن قوله " أنت طالق " مسبوق بثلاث وعليه فهو طلاق منفي وليس بشيء لأنه طلقة رابعة والطلقة الرابعة ليست بشيء، وما دام أنها ليست بشيء فكذلك ما قبلها، وهو قوله " فأنت طالق قبله ثلاثاً " أي كذلك المعلق عليه ليس بشيء، فما دام منفي فلا يمكن أن نثبت ما يترتب عليه، هذا هو قول ابن سريج وهو كما تقدم قول محدث في الإسلام. وقال الحنابلة: يقع الطلاق ثلاثاً. فقوله " أنت طالق " يقع طلقة، وقد قال " إن وقع عليك طلاقي فأنت طالق قبله ثلاثاً " فنختار من هذه الثلاث اثنتين فتكون طالقاً ثلاث. واختار شيخ الإسلام ابن تيمية وهو قول ابن عقيل من الحنابلة: أنها لا تطلق إلا واحدة في قوله أنت طالق "، وأما قوله " فأنت طالق قبله ثلاثاً " فعلى القول بصحة طلاق الثلاث، وقد تقدم أن شيخ الإسلام لا يختار هذا القول، وعليه فما نذكره هو دليل ابن عقيل فعلى القول بصحة طلاق الثلاث يكون من الطلاق الماضي والطلاق في المضي لا يقع، فالراجح أنه تقع عليها طلقة واحدة. وعند قول المؤلف " إذا علق طلقة على الولادة بذكر وطلقتين بأنثى ": إن ولدتهما فإنها تطلق ثلاثاً كما تقدم تقريره وكذلك في الحمل. وهذا فيه نظر، فإن مراده في الغالب الحمل الواحد والولادة الواحدة، إذ الأصل أن يكون حملاً واحداً وأن تكون الولادة ولادة واحدة، وعليه فيقع على ما نواه، وهو رواية عن الإمام واختار هذا شيخ الإسلام.

فإذا قال الرجل لامرأته " إن كنت حاملاً بذكر فأنت طالق طلقةً، وإن كنت حاملاً بأنثى فأنت طالق طلقتين " فتبين أنها حامل بذكر وأنثى جميعاً فإن هذا ليس مراده بل مراده حيث كان الحمل منفردأ أي منفرداً بالذكورية أو منفرداً بالأنثوية (1) والأمر لم يكن كذلك وهو حمل كلامه على الأصل ونوّعه هنا بالذكورية والأنوثية وعلَّق على هذا التنويع لأن الأصل هو هذا التنويع، وهذا القول هو الراجح في هذه المسألة. الدرس الثاني والخمسون بعد الثلاثمائة فصل قال: [إذا قال: إذا حلفتُ بطلاقك فأنت طالقٌ، ثم قال: أنت طالق إن قمت طلقت في الحال] تقدم معنى الحلف بالطلاق، وإن معناه أن يعلَّق الطلاق على شيء يريد بذلك الحض أو المنع أو تصديق خبر أو نفيه فهو لا يقصد الطلاق نفسه بل يقصد الحض أو المنع فإذا قال " إذا حلفت بطلاقك فأنت طالق " ثم قال " أنت طالق إن قمت "، فقوله هنا " أنت طالق إن قمت " هذا حلفٌ بالطلاق فتطلق في الحال وذلك لوجود الصفة. قال: [لا إن علقه بطلوع الشمس ونحوه لأنه شرطٌ لا حلف] إذا قال لها " إذا حلفت بطلاقك فأنت طالق "، ثم قال بعد ذلك " إن طلعت الشمس فأنت طالق " فلا تطلق عليه في الحال وذلك لأن قوله " إن طلعت الشمس فأنت طالق " ليس حلفاً بل هو شرط محض إذ المكلف لا يقصد بمثله الحض أو المنع وهذا ظاهر، وقد تقدم الفرق بين الحلف والشرط وأن عرف الفقهاء على ذلك كما تقدم نقله عن شيخ الإسلام. قال: [وإن حلفتُ بطلاقك فأنت طالقٌ، أو إن كلمتك فأنت طالقٌ وأعاده مرةً أخرى طلقت مرة]

_ (1) كذا في الأصل.

إذا قال لامرأته " إن حلفت بطلاقك فأنت طالق " ثم قال " إن حلفت بطلاقك فأنت طالق " فإنها تطلق بالجملة الثانية طلقةً واحدة وذلك لوجود الصفة وهي الحلف بالطلاق، وإذا قال لها " إن كلمتك فأنت طالق " ثم قال لها " إن كلمتك فأنت طالق " فإنها تطلق بالجملة الثانية طلقة واحدة، وذلك لأن قوله " إن كلمتك فأنت طالق " كلام وقد علق طلاقها بكلام، وهذا كلام فيقع الطلاق به. قال: [ومرتين فثنتان وثلاثاً فثلاثٌ] إذا قال لها " إن حلفت بالطلاق فأنت طالق " ثم قال " وإن حلفت بالطلاق فأنت طالق " طلقت واحدة، ثم قال " إن حلفت بالطلاق فأنت طالق " طلقت ثانية، ثم قال " إن حلفت بالطلاق فأنت طالق " طلقت ثالثة، لوجود الصفة المعلق عليها الطلاق في كل مرة. هذا ما لم يقصد إفهامها أو التأكيد، أما إذا قصد إفهامها والتأكيد فإنه لا يقع إلا في الأولى، فإذا قال لها " إن كلمتك فأنت طالق " ثم قال لها " إن كلمتك فأنت طالق " طلقت واحدة، فإن قال لها ذلك مرة أخرى وقصد إفهامها أو التأكيد فإنها لا يقع عليه طلقة أخرى لأنه لا يقصد الطلاق وإنما يقصد إفهامها قوله أو يقصد التأكيد. فصل قال: [إذا قال: إن كلمتك فأنت طالق فتحققي أو قال: تنحي أو اسكتي طلقت] فتتحققي: أي تبيني قولي وانتبهي له. إذا قال لزوجته " إن كلمتك فأنت طالق فتحققي أو اسكتي أو تنحي " فإنها تطلق عليه لأنه قال لها " إن كلمتك فأنت طالق " ثم قال لها " فتحققي " أو " اسكتي " وهذا كلام فالصفة قد وجدت وعليه فالطلاق واقع.

وظاهر كلام المؤلف أن ذلك مطلقاً سواء أراد إفهامها أو أراد الابتداء بالكلام وهذا فيه نظر ظاهر، ولذا اختار ابن القيم التفصيل في هذه المسألة، فإذا قال " إن كلمتك فأنت طالق " ثم قال " اسكتي " وأراد بذلك منعها من الكلام ولم يرد بذلك ابتداء كلام يقع به الطلاق، فإن الطلاق لا يقع، وأما إن كان يريد ابتداء كلام يقع به الطلاق فإن الطلاق يقع، والراجح هو ما ذكره ابن القيم؛ لأن هذا هو مقصود الحالف، فمقصود الحالف أن يتكلم بكلام في مجلس آخر وأما أن يقصد أن ذلك يدخل بمجرد الكلام ولو كان يريد به التأكيد أو الإفهام أو نحو ذلك فلا. قال: [وإن بدأتك بالكلام فأنت طالق، فقالت: إن بدأتك به فعبدي حر، انحلت يمينه] إذا قال لزوجته " إن بدأتك بكلام فأنت طالق " فقالت له امرأته: " إن بدأتك بالكلام فعبدي حر " فإن يمينه تنحل فلا حنث عليه؛ وذلك لأنها بدأته بالكلام، فإذا تكلم معها بعد ذلك فإنه لا يكون مبتدءاً الكلام. قال: [ما لم ينو عدم البداءةِ في مجلس آخر] فإذا كان لا يريد ما يقع بينه وبينها من نقاش وجدال أو نحو ذلك في ذلك المجلس بل يريد ما يكون بعد ذلك، فإن كان هذا مراده ومقصوده فإنه يحنث إن بدأها بالكلام وإن قالت هي له ما قالت، لأنه ينوي مجلساً آخر ووقتاً آخر.

والقول الثاني في المسألة وهو احتمالٌ للموفق ابن قدامة، وقال صاحب الإنصاف في هذا القول " وهو قوي جداً " وهو كما قال، هذا القول مبني على أنه يريد بذلك وقتاً آخر،وعليه فلا يحنث إلا أن يبدأها بالكلام في وقت آخر لأن هذا هو مراده، فالرجل إذا قال لامرأته: " إن بدأتك بالكلام فأنت طالق " فإنه لا يريد ما يقع من الكلام في المجلس الذي وقع فيه الحلف بل يريد وقتاً آخر، وعليه فإذا بدأها في وقت آخر بالكلام فإن الطلاق يقع، ولا عبرة بإجابتها إياه في المجلس الذي وقع فيه الحلف؛ لأن الحالف بمثل هذا إنما يريد وقتاً آخر، هذا هو الجاري في العرف وهذا هو الغالب في إرادة المتكلمين. فصل قال: [إذا قال: إن خرجت بغير إذني أو إلا بإذني أو حتى آذن لك، أو إن خرجت إلى غير الحمام بغير إذني فأنت طالق] هنا قد علق الطلاق بالخروج من البيت بلا إذن، فالوصف الذي علق عليه الطلاق هو الخروج بلا إذن إلا ما استثنى، كأن يقول لها " إن خرجت من الدار إلا لأهلك فأنت طالق " أو قال لها " إن خرجت من الدار فأنت طالق " وأطلق ولم يستثن. قال: [فخرجت مرة بإذنه ثم خرجت بغير إذنه] أي قالت له مرة " استأذنك بالخروج إلى السوق مثلاً " فقال لها " قد أذنت لك" فخرجت إلى السوق ثم خرجت بغير إذنه خروجاً آخر فإن الطلاق يقع لوجود الصفة. قال: [أو أذن لها ولم تعلم] أي أخبر أباها أو أمها أو أحد أبنائها أنه أذن لها لكن هذا الإذن لم ينقل إليها فخرجت عاصيةً له فإن الطلاق يقع؛ وذلك لوجود الصفة وهي الخروج بلا إذن، والأذن إنما يكون إذناً حيث أعلم به المأذون له فلا إذن إلا بإعلام، فالإذن في اللغة هو الإعلام ومنه سمي الأذان أذاناً لما فيه من الإعلام، فكونها تخرج بإذن لم تخبر به لأنه لا يكون إذناً حتى تعلم به (1) ، والوجه الثاني في المذهب لا تطلق والأول هو الراجح. قال: [أو خرجت تريد الحمام وغيره]

_ (1) كذا العبارة في الأصل.

فإذا قال لها " إن خرجت بلا إذن فأنت طالق إلا إلى أهلك "، فخرجت إلى أهلها وإلى غيرهم، فإنها تطلق وذلك لوجود الصفة. قال: [أو عدلت منه إلى غيره] ففي المثال السابق: إن خرجت إلى أهلها لكنها عدلت عن أهلها إلى غيرهم فإن الطلاق يقع؛ لأنه خروج غير مأذون به فوجدت الصفة التي علق الطلاق عليها. إذن: إذا جمعت بين مأذون به وغير مأذون به فإنها تطلق؛ لوجود خروج غير مأذون به. قال: [طلقت في الكل] وذلك لوجود الصفة التي علق الطلاق عليها. قال: [لا إن أذن لها (1) فيه كلما شاءت] إذا قال الرجل لامرأته: " إن خرجت يوماً من الدهر بلا إذني فأنت طالق " فما هو المخرج من ذلك؟ المخرج أن يقول لها: " أذنت لك في الخروج كلما شئت ". قال: [أو قال: إلا بإذن زيدٍ فمات زيدٌ ثم خرجت] إذا قال لها: " لا تخرجي إلا بإذن والدك وإن خرجت بغير إذنه فأنت طالق " فمات والدها فخرجت فلا طلاق، وذلك لأن الميت لا إذن له، ولأن هذا معلوم من حلفه، فإنه إنما أراد حيث كان له إذنٌ وأما الميت فلا إذن له، فكونه يستثنى خروجها بعد موت من شرط إذنه هذا معلوم من حلفه. الدرس الثالث والخمسون بعد الثلاثمائة فصل قال: [إذا علقه بمشيئتها بإن أو غيرها من الحروف لم تطلق حتى تشاء ولو تراخى] إذا قال لها: " أنت طالق إن شئت أو إذا شئت أو متى شئت " فإنها لا تطلق حتى تشاء أي حتى تشاء بلسانها فتقول: " شئت ذلك:، أما مشيئة القلب فلا عبرة بها؛ وذلك لأن ما في القلب لا يعلق به حكم حتى يُعبَّر عنه باللسان.

_ (1) كذا في الأصل، وفي نسخة عندي: " لا إن أذن فيه " دون: لها.

" ولو تراخى " فلو قالت بعد يوم أو شهر أو سنة قالت: " شئت " فإنها تطلق عليه، فمتى قالت: " شئت " فإنها تطلق عليه ولو كان ذلك مع التراخي كسائر التعاليق، فكما أنه إذا قال لها: " إذا دخلت الدار فأنت طالق "، فدخلت الدار بعد شهر أو شهرين، فكذلك إذا قال لها: " أنت طالق إن شئت " فإنها تطلق متى قالت: " شئت "، ولو كان ذلك بعد سنة أو سنتين. وليس له الرجوع كسائر التعاليق، فكما أنه إذا قال لها: " إن دخلت الدار فأنت طالق " فليس له الرجوع، فكذلك: " أنت طالق إن شئت ". وقال الشافعية: بل هو على الفور، وذلك لأنه تمليك للطلاق فأشبه ما لو قال لها: "اختاري " وقد تقدم أنه إذا قال لها: " اختاري " فإن الخيار يثبت لها في المجلس، والراجح هو القول الأول. والجواب عن القول الثاني، أن الفرق بين هذه المسألة وبين قوله: " اختاري " ظاهر، فإن قوله: " أنت طالق إن شئت " من باب الشروط، وقوله: " اختاري " من باب الخيار، والخيار على الفور، [ولا يصح رجوعه كبقية التعاليق، وعنه يصح كاختاري.] (1) قال: [فإن قالت: قد شئتُ إن شئتَ فشاء لم تطلق] إذا قالت له: " شئتُ إن شئتَ " فهنا شرطت مشيئته وشرط المشيئة ليس بمشيئة فلا تكون طالقاً، فهي لم تقل: " شئت " لكنها علقت مشيئتها بمشيئته فهذا شرط وليس بمشيئة وعليه فلا طلاق. قال: [وإن قال: إن شئتِ وشاء أبوكِ أو (2) زيد لم يقع حتى يشاءآ معاً، (وإن شاء أحدهما فلا) (3) ] إذا قال لها: " أنت طالق إن شئت وشاء زيد " فشاءت ولم يشأ زيد فلا طلاق لعدم وجود الصفة وهي مشيئتهما جميعاً، أو قال لها: " إن شئتِ وشاء أبوكِ " لم تطلق حتى يشاءا معاً ولو تراخى أحدهما فالمشيئة ثابتة. قال: [وأنت طالق أو عبدي حرٌ إن شاء الله وقعا]

_ (1) ما بين القوسين ليس في الأصل - المذكرة -. (2) في الأصل: أو شئتِ وشاء زيد. (3) الزيادة هذه ليست في الأصل.

إذا قال لامرأته: " أنت طالق إن شاء الله " أو قال: " عبدي حر إن شاء الله " فإن زوجته تطلق وعبده يعتق؛ قالوا: لأنه قد علقه على ما لا سبيل إلى علمه وهي مشيئة الله فأشبه تعليقه على المستحيل. وعن الإمام أحمد وهو مذهب أبي حنيفة والشافعي: أن الطلاق لا يقع، قالوا: لأنه علقه على صفةٍ لا يعلم وجودها، فهو لا يعلم هل شاء الله عز وجل الطلاق أم لم يشأه. وفصَّل شيخ الإسلام تفصيلاً حسناً في هذه المسألة فقال: إن كان تعليقاً فلا يقع، وإن كان تحقيقاً أو تأكيداً فإنه يقع، فإذا قال ذلك تعليقاً أي علقه على مشيئة الله المستقلة فلا تطلق عليه؛ لأن الله لا يشاؤه في الواقع وقوعاً حتى يتكلم به هذا المكلف، فلا يقال إن الله شاء الطلاق لفلانة من فلان إلا أن يكون قد وقع وحدث، وعليه فإذا قال لها "أنت طالق إن شاء الله " فلا تطلق حتى يقول لها بعد ذلك: " أنت طالق "، وأما إن كان تحقيقاً أو تأكيداً بمعنى قال: " إن شاء الله" يحقق قوله أي قد وقع قوله وشاءه الله عز وجل فهذا هو التحقيق، أو تأكيداً كأن يقول: " إن شاء الله " مؤكداً للطلاق مثبتاً له. وهذا تفصيل جيد في المسألة. أما لو قال: " أنت طالق إلاّ أن يشاء الله " فإنها تطلق؛ وذلك لأن قوله: " أنت طالق إن شاء الله " جملة فيها إثبات الطلاق ووقوعه، وفيها تعليق رفعه على مشيئة الله، فقوله: " إلا أن يشاء الله " تعليق لرفع الطلاق على مشيئة الله، ومشيئة الله ليست بمعلومة. قال: [وإن دخلت الدار فأنت طالق إن شاء الله طلقت إن دخلت]

إذا قال لها: " إن دخلت الدار فأنت طالق إن شاء الله " فإنها تطلق بذلك، وهذا تفريعٌ على المسألة السابقة، ما لم ينو الاستثناء للفعل وهو دخولها فإنها لا تطلق؛ وذلك لأنها إن دخلت فيُعلم أن الله عز وجل قد شاءه، ويكون هذا التعليق كالتعليق على اليمين، كما قال - صلى الله عليه وسلم -: (من حلف على يمين فقال إن شاء الله لم يحنث) (1) رواه الترمذي والنسائي وغيرهما وهو حديث صحيح. فإذن إن قال لها: " إن دخلت الدار فأنت طالق إن شاء الله " إن كانت المشيئة للفعل المحلوف عليه فلا تطلق إن دخلت، لأن دخولها بمشيئة الله المعلق عليها، وكل يمين علقت بمشيئة فلا حنث فيها للحديث المتقدم بخلاف ما إذا كان التعليق للطلاق. قال: [وأنت طالق لرضا زيدٍ أو لمشيئته طلقت في الحال]

_ (1) أخرجه الترمذي في كتاب الأيمان والنذور باب ما جاء في الاستثناء في اليمين (1531) عن ابن عمر أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: (من حلف على يمين فقال إن شاء الله فلا حنث عليه، وبلفظ (1532) عن أبي هريرة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: (من حلف فقال إن شاء الله لم يحنث) ، وأخرجه النسائي في كتاب الأيمان والنذور، باب الاستثناء (3828) عن ابن عمر بلفظ: (من حلف فقال إن شاء الله فقد استثنى) ، وبلفظ (3830) : " من حلف على يمين فقال إن شاء الله فهو بالخيار إن شاء أمضى وإن شاء ترك "، وبرقم (3855) عن أبي هريرة، وبلفظ (3856) : " لو قال إن شاء الله لم يحنث وكان دركاً لحاجته " أي سليمان عليه السلام. وهو في البخاري في كتاب النكاح، باب قول الرجل لأطوفن الليلة على نسائي (5242) بلفظ: عن أبي هريرة قال: قال سليمان.. قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: (لو قال: إن شاء الله لم يحنث وكان أرجى لحاجته "، وهو في مسلم برقم (1654) في باب الاستثناء من كتاب الأيمان.

لأن معنى كلامه " أنت طالق لكون زيد رضي ذلك " و " أنت طالق لكون زيد يشاء ذلك " فإنها تطلق في الحال كما تقدم، لأن معنى كلامه " وقد أوقعت عليك الطلاق لأن أمك تشاء ذلك أو لأن أباك يشاء ذلك. قال: [فإن قال: أردت الشرط، قُبل حكماً] أي أردت " أنت طالق إن رضي زيد " أو " أنت طالق إن شاء زيدٌ " فإنه يقبل في الحكم الظاهر، لأن لفظه يحتمل. وعن الإمام أحمد وهو أحد الوجهين عند الشافعية: أنه لا يقبل في الحكم، وهو الأرجح؛ لأنه يخالف ظاهر قوله، فإذا قال: " أنت طالق لرضا أبيك " فإنها تطلق لأن ظاهر لفظه " أنت طالق لكون أبيك يرضى ذلك " فإذا ادعى أنه أراد الشرط فإن هذا الادعاء يخالفه الظاهر، والادعاء الذي يخالفه الظاهر لا يقبل في الحكم، وأما كونه يُديَّن فيما بينه وبين ربه فهذا ظاهر. قال: [وأنت طالقٌ إن رأيت الهلال، فإن نوى (1) رؤيتها لم تطلق حتى تراه، وإلا (2) طلقت بعد الغروب برؤية غيرها] إذا قال لها: " إن رأيت الهلال فأنت طالق " فنقول ما الذي تنويه؟ فإن قال: " نويت أنها طالق إن رأته بعينها " فحينئذٍ لا تطلق إلا إذا عاينته ببصرها، وهنا لفظه يحتمل ذلك، وإن قال: " لم أرد معاينتها بل أريد رؤية الهلال فتطلق بغروب الشمس حيث رأى الهلالَ غيرُها، كما أنها تطلق بتمام الشهر ثلاثين؛ وذلك لأن تمام الشهر ثلاثين في حكم رؤية الهلال شرعاً. فصل قال: [وإن حلف لا يدخل داراً أو لا يخرج منها فأدخل أو أخرج بعض جسده أو دخل طاق الباب أو لا يلبس ثوباً من غزلها فلبس ثوباً فيه منه أولا يشرب ماء هذا الإناء (فشرب بعضه) (3) لم يحنث] طاق الباب: هو العَطْف الذي يكون للباب.

_ (1) كذا في نسخةٍ بين يدي، وفي الأصل: فإن رؤي رؤيتها. (2) كذا في نسخة بين يدي، وفي الأصل: أو طلقت. (3) الزيادة هذه ليست في الأصل.

فلا يحنث في هذه المسائل كلها؛ وذلك لأن فعل البعض ليس كفعل الكل، والحلف إنما هو عن الامتناع عن فعل الكل وليس فعل البعض كفعل الكل، ولذا كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يخرج رأسه وهو معتكف لعائشة فترجله ولم يكن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يخرج من معتكفه وليس هذا في حكم الخروج من المعتكف. لكن لو قال: " أنت طالق إن شربت ماء هذا النهر " فقطعاً لا يريد كله ولا يمكن أن تصرف اليمين إلى ذلك، فإذا شرب بعضه فإنه يحنث؛ لأنه يمتنع إرادة الكل فتصرف يمينه على إرادة البعض. ومبنى الأيمان على نية الحالف، فلو أنه قال: " أنت طالق إن شربت ماء هذا الإناء " وهو ينوي بعضه، فشرب البعض فإنه يحنث فإن الأيمان مبناها على النية، فالأحكام المتقدمة إنما ينظر فيها باعتبار الألفاظ أما لو نوى خلاف ظاهر لفظه فإن الأيمان مبناها على النية. قال: [وإن فعل المحلوف عليه ناسياً أو جاهلاً حنث في طلاق وعتاقٍ فقط سوى سائر الأيمان] إذا قال: " إن فعلتُ كذا فامرأتي طالق " أو قال: " إن فعلتِ كذا فأنت طالق " ففعل هو أو فعلت هي نسياناً، أو كان ذلك عن جهل كأن تكون هي لم تعلم باليمين ففعلت ما فعلت، وإذا قال لامرأته: " إن خرجت من الدار فأنت طالق " فنسيت فخرجت، أو قال لأحدٍ من الناس: " إن خرجت امرأتي من الدار فهي طالق " فخرجت من غير أن تعلم بيمينه، أو كان ذلك تقليداً لمفتٍ سواء كان حياً أو ميتاً، فهل يثبت الحنث؟ قال الحنابلة: يثبت الحنث؛ وذلك لأن (1) يمين الطلاق ويمين العتاق فيها حق آدمي ولا فرق فيها بين تعمد ولا خطأ ولا نسيان، [ويعذر عندهم المكره والنائم والمغمى عليه] (2) .

_ (1) في الأصل: لأن في يمين. (2) هذه الزيادة ليست في الأصل.

وقال الشافعية وهو اختيار شيخ الإسلام وتلميذه ابن القيم وممن اختاره من المتأخرين الشيخ عبد الرحمن بن سعدي: أن الأيمان كلها باقية ولا حنث فيها مع الجهل والنسيان، [وكذا لو عقدها يظن صدقَ نفسه فبان خلاف ذلك أو لقصد الإكرام، قال شيخ الإسلام: "من حلف بالطلاق كاذباً يعلم كذب نفسه لم تطلق " أي لا يلزمه كفارة.] (1) واستدلوا بقوله تعالى {وليس عليكم جناح فيما أخطأتم به ولكن ما تعمدت قلوبكم} (2) ، وبقوله تعالى {ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا} (3) ، وبقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: (رفع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه) (4) . قالوا: وهذه أدلة عامة ليس فيها استثناء. قالوا: ويمين الطلاق ويمين العتاق المُغلَّب فيها حق الآدمي بل المرأة قد يكون أشد شيءٍ عليها ذلك، وهو فراق زوجها. قالوا: ولأن حقيقة الحنث هو مخالفة اليمين، والمخالفة إنما تكون مع التعمد، وأما مع عدم التعمد، وعدم القصد فإنه ليس ثمت مخالفة، ولأن مقصود الحالف عدم مخالفته، وإذا خولف أو خالف هو نسياناً أو خطأً فإن مقصوده لا ينتقض، فإذا قال لامرأته: " إن خرجت من الدار فذهبتِ إلى السوق فأنت طالق " وهو يريد ألا تخالفه وألا تعصيه فإنها إذا فعلت ذلك نسياناً أو خطأً فإنها لا تعد عاصية ولا مخالفة؛ لأن العصيان إنما يكون مع التعمد. وهذا هو الراجح في هذه المسألة. أما إذا فعل ما حلف عليه مكرهاً: - فقال الحنابلة: لا يحنث؛ وذلك لأن المكره لا يضاف إليه الفعل، فإذا قال لامرأته: " إن خرجت من الدار فأنت طالق " فأخرجت كرهاً فإنها لا تطلق؛ وذلك لأن المكره لا يضاف إليه الفعل.

_ (1) الزيادة ليست في الأصل. (2) سورة الأحزاب. (3) سورة البقرة. (4) تقدم.

وكذلك النائم والمغمى عليه؛ لأن عقليهما قد غطيا بعذر، فإذا فعلت ذلك نائمةً أو مغمى عليها فإن الحنث لا يقع كما هو المشهور في المذهب، [وكذا لو عقدها يظن صدق نفسه أو للإكرام أو كاذباً فلا طلاق ولا كفارة.] (1) قال: [وإن فعل بعضه لم يحنث إلا أن ينويه] إذا قال: " إن دخلتُ الدارَ فزوجتي طالق " فدخل بعض بدنه إلى الدار، أو قال: " إن شربت ماء هذا الإناء فامرأتي طالق " فشرب بعضه فإنها لا تطلق؛ لأن فعل البعض ليس فعلاً للكل إلا أن ينويه، فإذا نوى منع نفسه من هذا الشيء كلية حتى القليل منه، فإن الأيمان مبناها على النية وإنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى، فإن قال: " إن شربت هذا الماء الذي في الإناء فامرأتي طالق " وهو ينوي وقوع الطلاق ولو شرب بعضه، فإن شرب بعضه فإن زوجته تطلق عليه. قال: [وإن حلف ليفعلنه لم يبرأ إلا بفعله كله] وذلك لأن فعل البعض ليس فعلاً للكل وقد حلف أن يفعله كله، فلا يبرأ حتى يفعله كله. الدرس الرابع والخمسون بعد الثلاثمائة باب التأويل في الحلف ومن التأويل في الحلف التأويل في حلف الطلاق. قال: [ومعناه أن يريد بلفظه ما يخالف ظاهره] هذا هو معنى التأويل في الحلف، هو أن يريد بلفظه ما يخالف ظاهره، فظاهر لفظه له معنى وهو يريد معناً آخر يحتمله اللفظ، كما لو قال: " نسائي طوالق " وهو لا يريد زوجاته بل يريد نساءه من عماته أو خالاته أو غيرهن. والتأويل في الحلف جائزٌ إن كان دفعاً لظلمٍ، ففي سنن أبي داود بإسنادٍ صحيح عن سويد بن حنظلة قال: " خرجنا نريد النبي - صلى الله عليه وسلم - ومعنا وائل بن حجر فأخذه عدوٌ له فتحرج القوم أن يحلفوا فحلفت أنه أخي فأخبرت بذلك النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: (صدقت، المسلم أخو المسلم) (2) ، فظاهر قوله: " أخي" أنها أخوة النسب وهو يريد أخوّة الدين وقد فعله لدفع الظلم.

_ (1) هذه الزيادة ليست في الأصل.

قال: [فإذا حلف وتأوَّل يمينه نفعه] فلو أن رجلاً أكره على طلاق نسائه فقال: " نسائي طوالق " وهو لا يريد بنسائه زوجاته وإنما يريد بناته فهنا لا يقع الطلاق، فينفعه ذلك. قال: [إلا أن يكون ظالماً] فيُستثنى من ذلك أن يكون الحالف ظالماً فلو أن رجلاً قال له القاضي: " احلف " فقال: " نسائي طوالق إن كان هذا الشيء ليس لي "، وهو كاذب، فهنا هو ظالمٌ وتأول في الحلف، فهنا يكون عليه الحنث ولا ينفعه هذا التأويل؛ لما ثبت في صحيح مسلم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (اليمين على نية المستحلف) (1) ، ولأننا إذا أجزنا ذلك فإنه يكون ذريعة إلى جحد الحق وإبطاله ودمغه، ولا شك أن ما كان ذريعة إلى ذلك، فهو محرم؛ لأن الذرائع لها حكم الأحكام التي تكون ذريعةً إليها. وظاهر كلام المؤلف أنه إذا لم يكن ظالماً ولا مظلوماً فإن ذلك جائزٌ، فإنه لم يستثن إلا أن يكون ظالماً، وعليه فالأحوال ثلاثة: أن يتأول يمينه وهو ظالم فلا ينفعه هذا كما تقدم. أن يتأول يمينه وهو مظلوم فينفعه ذلك. ألا يكون ظالماً ولا مظلوماً فينفعه ذلك أيضاً في المشهور من المذهب. والقول الثاني في المسألة وهو ظاهر كلام الإمام أحمد كما ذكر ذلك شيخ الإسلام: المنع من ذلك، وأن ذلك لا ينفعه، وهو الراجح؛ لعموم قوله - صلى الله عليه وسلم -: (اليمين على نية المستحلف) وهذا عام لا يستثنى منه إلا أن يكون الحالف مظلوماً. قال: [فإن حلَّفه ظالمٌ ما لزيدٍ عندك شيء وله عنده وديعةٌ بمكانٍ، فنوى غيره] فلو أن ظالماً أراد أخذ مال زيدٍ فقال: " ما لزيدٍ عندك (2) شيء "، وله وديعة عنده فحقيقة الأمر أن له وديعة عنده فقال " ما لزيدٍ عندي شيء " ونوى غير المكان الذي هما فيه، أي ما لزيدٍ عندي في البيت وله عنده في الدكان. قال: [أو بما الذي]

_ (2) كذا في الأصل.

أي نوى أن " ما " بمعنى " الذي "، " ما لزيدٍ عندي شيءٌ " أي الذي لزيدٍ عندي شيءٌ، وهذا يصح. قال: [أو حلف ما زيدٌ هاهنا ونوى غير مكانه] قيل له: " هل زيد في البيت " فقال: " ما زيدٌ هاهنا " ونوى مكاناً آخر بأن يشير بيده إلى موضع آخر فيقول: " ما زيد هاهنا "، وهذا تأويل سائغ. قال: [أو حلف على امرأته لا سرقت مني شيئاً فخانته في وديعةٍ ولم ينوها لم يحنث في الكل] فإذا قال لامرأته: " إن سرقت مني شيئاً فأنت طالق " فخانته المرأة في وديعة عنده ولم ينوِ دخول الخيانة في قوله، لم يحنث؛ وذلك لأن الخيانة ليست بسرقة؛ لأن السرقة إنما تكون من حِرْزٍ وهذه ليست كذلك، أي في حق المودع عنده. لكن لو نوى بقوله " إن سرقت مني شيئاً فأنت طالقٌ " نوى دخول الخيانة أو كان سبب تهييجها للحلف هو ذلك، أي خشي أن تخونه فحلف على ذلك، فإنه حينئذٍ يحنث في يمينه، لأن هذا السبب الواقع منه قرينة لإرادته دخول الخيانة. باب الشك في الطلاق قال: [من شك في طلاقٍ أو شرطه لم يلزمه] شك لا يدري هل طلق امرأته أم لا، أو شك في شرطه أي هل وقع الشرط أم لم يقع، إذا قال لامرأته: " إن دخلت الدار فأنت طالق " ثم شك لا يدري أدخلت المرأة الدار أم لم تدخلها، لم يلزمه؛ لأن هذا شك، والشك لا يزول به اليقين، فاليقين بقاء عصمة النكاح فلم يزل بهذا الشك الطارئ عليه. وقال الموفق رحمه الله: " الأولى له إيقاع الطلاق تورعاً " ا. هـ، وفيما ذكره نظر، قال ابن القيم: " الأولى إبقاء عصمة النكاح، ويكره أو يحرم العمل بالشك فإن الطلاق بغيض إلى الرحمن حبيب إلى الشيطان " ا. هـ فمثل هذا لا يقال أن التورع إيقاعه، فالصحيح ما ذكره ابن القيم، [فإن قال كلمة فشك هل هي طلاق أم ظهار لم يلزمه شيء قالوا والأحوط كفارة الظهار ليبرأ بيقين.] (1) قال: [وإن شك في عدده فطلقةٌ]

_ (1) هذه الزيادة ليست في الأصل.

إذا شك لا يدري أطلَّق امرأته طلقتين أم طلقة، فاليقين أنها طلقة، والطلقة الثانية مشكوك فيها، واليقين لا يزول بالشك. قال: [وتباح له] أي تباح له هذه المرأة لما تقدم من أن الأصل بقاء عصمة النكاح، وهذا الطلاق مشكوك فيه. قال: [فإذا قال لامرأتيه: إحداكما طالقٌ طلقت المنوية] إذا قال لامرأتيه: إحداكما طالق ونوى فلانة منهما [مبهماً] (1) ، فإن المنوية تطلق عليه؛ لأنه قد عيَّنها بنيته، فلفظه مبهمٌ لكن نيته معينة. قال: [وإلا من قرعت] وإلا: أي إن لم ينوِ إحداهما فإنه يوضع بينهما القرعة، والقرعة طريقٌ شرعي لإخراج المجهول، فالحق لواحدة منهما غير معينة فوجبت بالقرعة، أي وجب حقها بالقرعة، فيضع بينهما القرعة فمن خرجت عليها القرعة فهي الطالقة بتلك اللفظة التي تلفظ بها. وقال الشافعية والأحناف: بل يتخير أيتهما شاء، قالوا: لأنه له ابتداءً إيقاع الطلاق وتعيينه، وهنا قد أوقعه ولم يعينه فبقي له حق التعيين استيفاءً لملكه. والأرجح هو القول الأول؛ وذلك لأنه حق لإحداهما من غير تعيين فوجب بالقرعة كالسفر ببعض النساء، وتقدم لأنه ليس له أن يسافر بإحدى نسائه إلا بقرعة. فأما ما ذكروه فهو ضعيف؛ وذلك لأنه يملك الطلاق قبل إيقاعه وأما بعد أن أوقعه فإنه ليس له فيه أي ملك، وكان له حق التعيين مع الإيقاع وأما وقد أوقعه ولم يعيِّن فقد خرج عنه حق التعيين. قال: [كمن طلق إحداهما بائناً ونسيها] رجل طلق إحدى امرأتيه طلاقاً ثلاثاً بائناً لكنه نسيها ولا بينة، فالحكم أنه توضع بينهما القرعة في الحل وفي الإرث، أي في حلِّها له وفي كونها ترث منه، أما الإرث فهذا ظاهر للتعليل المتقدم فهو حق لواحد غير معين ولا سبيل لنا إلى تعيبن صاحب الحق فحينئذٍ سلكنا هذا الطريق الشرعي وهو القرعة.

_ (1) ليست في الأصل.

وأما في الحِل فاختار الموفق وهو رواية عن الإمام أحمد وهو مذهب أكثر أهل العلم كما حكى ذلك الموفق: " أن القرعة هنا لا طريق لها؛ ذلك لأن الزوجة هنا قد اشتبهت عليه، فكما لو اشتبهت زوجته بأجنبية فإنه لا يحل له أن يطأ، وهنا كذلك فقد اشتبهت عليه إحدى المرأتين هذه محرمة عليه بالبينونة وهذه حلال له، ولأن القرعة لا تحل المرأة المطلقة، ومعلوم أن القرعة قد تقع على المرأة المطلقة المنسية، وهذه القرعة لا تحل المرأة التي قد وقع عليها الطلاق ولا ترفع الطلاق عنها. فإن قيل فما الفرق بينها وبين المسألة المتقدمة؟ فالجواب: أن المسألة المتقدمة الطلاق لم يقع على واحدة بعينها بل الطلاق مبهم فاحتجنا إلى تعينه بالقرعة، وأما في هذه المسألة فإن الطلاق واقع على واحدة بعينها، فإن إحداهما طالق بعينها ولكنها مجهولة، وهذا فرق ظاهر بين المسألتين، فالراجح ما ذكره الموفق وهو مذهب أكثر أهل العلم. قال: [وإن تبيَّن أن المطلقة غير التي قرعت ردت إليه ما لم تتزوج أو تكن القرعة بحاكم] هذا تفريع على القول المرجوح، فإذا وقعت القرعة فخرجت على فلانة وتبين للزوج، أي تذكر أن المطلقة غير التي قرعت، وهذا أي التذكر أمر لا يعلم إلا من جهته فيقبل فيه قوله، فإذا تذكر أنها غير التي قرعت فإنها ترد إليه. ما لم تتزوج: فإذا تزوجت فلا ترد إليه؛ وذلك لأن قوله المجرد عن البينة لا يسقط حق غيره فالمرأة هنا قد تزوجت فأصبحت في عصمة غيره فقوله المجرد لا يسقط حق الغير. أو تكن القرعة بحاكم، فإذا كانت القرعة من طريق الحاكم فيكون هذا قضاءً وحكماً والحكم لا يرفع بقوله المجرد. إذن: إذا تزوجت المرأة أو كانت القرعة بحاكم فإنها لا ترد إليه، وأما إذا لم تتزوج ولم يثبت حكم القرعة بحاكم فإنها ترد إليه؛ لأنه شيءٌ لا يعلم إلا من جهته فقبل فيه قوله.

قال: [وإن قال: إن كان هذا الطائر غراباً ففلانة طالق، وإن كان حماماً ففلانة طالق وجُهل لم تطلقا] لاحتمال أن يكون هذا الطائر ليس بغراب ولا حمام والطلاق لا يقع بالشك. قال: [وإن قال لزوجته وأجنبية اسمها هندٌ إحداكما (أو هندٌ طالقٌ) (1) طلقت امرأته] إذا قال لزوجته وامرأة أجنبية عنه اسمها هند إحداكما طالق طلقت امرأته؛ وذلك لأنه لا يملك طلاق الأخرى. قال: " أو هند طالق طلقت امرأته ": فإذا قال لامرأته واسمها هند، وامرأة أجنبية [عنه] (2) اسمها هند فقال: " هندٌ طالق " فيقع الطلاق على امرأته؛ وذلك لأن الأخرى ليست بزوجةٍ له، والطلاق لا يقع عليها فهو لا يملك طلاقها. قال: [وإن قال: أردت الأجنبية لم يقبل حكماً إلا بقرينة] إذا قال: " أردت الأجنبية " لم يقبل حكماً؛ لأنه يخالف الظاهر، ولكنه يديَّن بنيته فيما بينه وبين ربه، ولا يقبل في الحكم إلا بقرينة، كأن يقول ذلك دفعاً للظلم كأن تكون له زوجة اسمها هند، وأخت اسمها هند فقيل له طلق زوجتك فقال: " هند طالق " وهو لا يقصد طلاق زوجته بل يقصد بذلك أخته، فلما كانت هذه القرينة موجودة فلا يقع الطلاق حكماً. قال: [وإن قال لمن ظنها زوجته: أنت طالق طلقت الزوجة (وكذا عكسها) (3) ] إذا قال لامرأة يظنها زوجته وهي ليست بزوجةٍ له قال: " أنت طالق " فإنها تطلق الزوجة، اعتباراً بالقصد، فقصده زوجته [وهو كما لو قال: " امرأتي طالق " ففي المذهب قوة.] (4) والقول الثاني في المذهب وهو الصحيح من المذهب وهو مذهب الشافعية: أن الطلاق لا يقع اعتباراً بالخطاب؛ لأن الطلاق إنما يقع حيث خوطبت به المرأة أو كان بلفظ ظاهر إرادتها. (5)

_ (1) ليست في الأصل. (2) ليست في الأصل. (3) ليست في الأصل. (4) هذه الزيادة ليست في الأصل. (5) هنا في الأصل عبارة: " وهذا القول فيما يظهر لي أظهر "

فالاعتبار هنا بالخطاب لا بالقصد، والنية المجردة عن اللفظ لا يقع معها الطلاق، [والأول أظهر.] (1) قال: [وكذا عكسها] فعكس هذه المسألة يقع الطلاق فيها على امرأته، فإذا قال لمن ظنها أجنبية وهي زوجته قال لها: " أنت طالق " يظنها أجنبية عنه فكانت امرأته، فكذلك يقع عليها الطلاق؛ وذلك لأنه واجه امرأته بصريح الطلاق. والقول الثاني في المسألة وهو اختيار شيخ الإسلام: أنه لا يقع، وهذا القول الأرجح، وذلك لأن الأعمال بالنيات، فاللفظ قطعاً لا يريد به طلاق امرأته، بل يريد به محادثة ومخاطبة الأجنبية، وعليه فلا يقع الطلاق، لكننا نحكم بالظاهر إلا مع قرينة، ويُدين بنيته فيما بينه وبين ربه. الدرس الخامس والخمسون بعد الثلاثمائة باب الرجعة الرجعة: هي إعادة مطلقة غير بائن إلى ما كانت عليه بغير عقد. وقد أجمع أهل العلم على أن الرجل الحر إذا طلق امرأته دون الثلاث، والعبد دون اثنتين فلهما الرجعة في العدة، ولا يشترط – إجماعاً – في الرجعة قبول المرأة ولا الولي ولا صداق في ذلك، فهو استدامة للنكاح. قال: [من طلق بلا عوضٍ زوجةً مدخولاً أو مخلواً بها دون ماله من العدد فله رجعتها في عدتها] من طلق بلا عوض: تقدم حكم الطلاق بعوض وهو الخلع -، فمن طلق امرأة مدخولاً بها أو في حكم المدخول بها وهي المخلو بها دون ماله من العدد فله رجعتها ما دامت في العدة أما غير المدخول بها فإنها تبين منه بطلقة ولا عدة لها كما تقدم تقريره. قال: [ولو كرهت] فله رجعتها ولو كرهت لقوله تعالى: {وبعولتهن أحق بردهن في ذلك} (2) ، وقد سماه الله تعالى بعلاً أي زوجاً وهو زوج لها وهو أحق برجعتها. وظاهر الآية أن ذلك ليس إلى الولي ولا إلى المرأة وتقدم الإجماع عليه.

_ (1) هذه العبارة ليست في الأصل. (2) سورة البقرة.

وظاهر كلام المؤلف الإطلاق فيمن يريد الإصلاح وفيمن لا يريده، فكل من أراد الرجعة فله المراجعة كما هو إطلاق المؤلف وهو إطلاق غيره من الفقهاء. واختار شيخ الإسلام: أنه لا يُمكن من ذلك إلا أن يريد بذلك الإصلاح والإمساك بالمعروف، وعليه فإذا راجعها بغير هذه الإرادة فطلقها فلا يقع الطلاق حينئذٍ؛ وذلك لأنه طلاق بعد رجعة غير صحيحة. وقوله هو الذي يدل عليه ظاهر القرآن، قال تعالى: {وبعولتهن أحق بردهن في ذلك إن أرادوا إصلاحاً} ، فشرط الله تعالى بهذا الحكم إرادة الإصلاح. قال: [بلفظ راجعت امرأتي ونحوه] فألفاظ المراجعة: راجعت امرأتي ونحوه من الألفاظ كأن يقول: " رددتها " أو "أمسكتها " وغير ذلك من الألفاظ التي هي صريحة في الرجعة. قال: [لا نكحتها ونحوه] فإذا قال في الرجعة: " نكحتها أو تزوجتها ونحوه " فلا يحصل به الرجعة، وذلك لأن هذا اللفظ يكون كناية، قالوا: والرجعة استباحة بُضع مقصود، فلم تصح فيه الكناية كالنكاح. والقول الثاني في المسألة، وهو وجه عند الحنابلة وممن قال به ابن حامد: أن الرجعة تحصل به مع النية. وهذا أظهر؛ وذلك لأنه يدل عليها، فهذا اللفظ يدل على الرجعة وقد نوى قائله الرجعة، والعبرة بالمعاني لا بالمباني وبالقصود لا بالألفاظ. وفرق بين النكاح والرجعة؛ فإن النكاح ابتداء وأما الرجعة فهي إعادة لهذه المرأة في الزوجية، فالمعقود عليها في النكاح أجنبية، وأما المتلفظ لها في الرجعة فهي زوجه كما تقدم في قوله تعالى {وبعولتهن} . قال: [ويسن الإشهاد] ويسن له أن يشهد على الرجعة. قالوا: لأن الرجعة لا تفتقر إلى قبول من المرأة ولا من الولي وما كان كذلك لم تفتقر إلى الإشهاد، وهو قول جمهور العلماء. والقول الثاني في المسألة وهو رواية عن الإمام أحمد: أن الإشهاد شرط في صحة الرجعة فلا تصح الرجعة إلا بالإشهاد، وهو القول القديم للشافعي.

والذي يترجح أن الإشهاد واجب وليس بشرط ويدل على هذا قوله تعالى: {وأشهدوا ذوي عدل منكم} ، وظاهر الأمر الوجوب، ويدل على وجوبها وأنها تصح مع عدم الإشهاد، ماثبت في سنن أبي داود بإسنادٍ صحيح أن عمران بن الحصين سئل عن الرجل يُطلِّق ولا يشهد ويراجع ولا يشهد فقال: " طلقت لغير سنة وأرجعت لغير سنة، أشهد على طلاقها وأشهد على رجعتها ولا تعد " (1) ، فالذي يترجح هو وجوب الإشهاد لكن ليس بشرط في صحتها بل تصح الرجعة ولو لم يشهد، وإنما قلنا بوجوبه لقوله تعالى: {وأشهدوا ذوي عدلٍ منكم} (2) ، ولقول عمران بن الحصين: " وأرجعت لغير سنة "، ولأن عدم الإشهاد ذريعة إلى كتمان الطلاق فقد يطلق الرجل امرأته المرة الأولى ثم يطلقها المرة الثانية ولا يشهد، ثم يطلقها الثالثة، فيكتم الطلقتين الأوليين فيسول له الشيطان إبقاءها عنده بخلاف ما إذا أشهد على الطلقة الأولى والطلقة الثانية فإن الأمر يكون بيِّناً. قال: [وهي زوجة، لها وعليها حكم الزوجات ولكن لا قسم لها] هذا هو حكم الزوجة المطلقة الطلاق غير البائن في عدتها، فحكمها حكم الزوجات فلها ما لهن من النفقة والسكن وعليها ما على الزوجات بالمعروف، ومن ذلك أنها لا تخرج من بيتها ولكن لا قسم لها قال تعالى: {واتقوا الله [ربكم] لا تخرجوهن من بيوتهن ولا يخرجن إلا أن يأتين بفاحشة مبينة} (3) . والمشهور في المذهب: أنه يحل له أن يطأها وأنها تتزين له وتتشرف له وله أن يطأها ويخلو بها وغير ذلك من الأحكام. وقال الشافعية: بل هي محرمة عليه؛ وذلك لأن هذه الطلقة ثبت معها التحريم فهي طلقة وقعت فثبت معها التحريم.

_ (2) سورة الطلاق 2 (3) سورة الطلاق 1

والذي يقوى عندي – والله أعلم – أن الوطء ينهى عنه، وأما تشرفها له وتزينها له والخلوة بها والسفر بها فهو جائز، وأما الوطء فإنه يمنع منه؛ وذلك لأن في المنع منه سبباً لإرجاعها؛ وذلك لأنه إذا علم أنه لا يمكن من وطئها إلا بأن يراجعها فإن المنع من الوطء يكون ذريعةً إلى إرجاعها والإرجاع محبوب إلى الله تعالى، ولأن هذه الطلقة كما ذكروا ثبت بها التحريم وإنما كان له حق الرجوع، وأما الخلوة بها ونحو ذلك فإنها تستثنى بدليل أن الله تعالى نهاهن من الخروج من بيوتهن ومعلوم أن بقاءها في بيتها يكون فيه خلوة، وغير الخلوة مما تقدم ذكره في السفر بها ونحوه له حكم الخلوة. قال: [وتحصل الرجعة أيضاً بوطئها] وتقدم أن الحنابلة يجيزون الوطء فإذا وطئها فإن الرجعة تحصل بها سواء نوى به الرجعة أم لم ينوِ به الرجعة، إذن: بالوطء المجرد تثبت الرجعة. وعن الإمام أحمد وهو مذهب المالكية وهو اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية: أن الرجعة لا تحصل بالوطء إلا بالنية؛ وذلك لأن الوطء ليس صريحاً في إرادة إرجاعها فاشترط فيه النية، وهذا القول هو الأظهر، وعليه فإذا وطء الرجل امرأته ولم ينو بذلك الرجعة فلا يكون هذا الوطء رجعة بل لا يكون رجعة حتى ينويه. وأما ما دون الوطء فظاهر كلام المؤلف وهو المذهب: أن الرجعة لا تحصل به فإذا استمتع بها بما دون الوطء كأن يقبلها أو يباشرها فإن الرجعة لا تحصل به في المذهب. وقال الأحناف: بل تحصل به؛ وذلك لأن الاستمتاع بالمرأة لا يحل إلا بالزوجية، وقولهم أظهر لكن بشرط النية كما تقدم، فإذا باشرها أو قبلها أو نحو ذلك وهو ينوي الرجعة فإن الرجعة تحصل بذلك. قال: [ولا تصح معلقةً بشرط]

اتفاقاً، فلا يصح أن يراجع امرأته ويعلق هذا بشرط، كالنكاح، فليس له أن يقول: راجعتك إن كان كذا، بل لابد وأن يكون منجزاً كالنكاح، بخلاف الطلاق الذي هو فراق للمرأة، وأما الرجعة ففيها استدامة لنكاحها فأشبه ابتداء النكاح في هذا الحكم. قال: [فإذا طهرت من الحيضة الثالثة ولم تغتسل فله رجعتها] عدة المطلقة ثلاثة قروء أي حيضات، فإذا حاضت الحيضة الأولى ثم الثانية ثم الثالثة ثم انقطع عنها الدم فبانقطاع الدم يتم لها ثلاثة قروء، فله أن يراجعها قبل أن تغتسل، فإذا انقطع الدم فجلست ساعة أو ساعتين أو يوم أو يومين أو شهراً أو سنة ولم تغتسل فله أن يراجعها وهو ظاهر المذهب وأن له أن يراجعها وإن فرطت في الاغتسال مدة طويلة، قالوا: لأنه قول عمر وعلي وابن مسعود كما في مصنف عبد الرزاق، قالوا: ولا يعلم لهم مخالف. ورجَّح الموفق أن ذلك بحيث يلزمها الغسل، فلو طهرت بعد طلوع الفجر فإنها لا تلزم بالغسل حينئذٍ وإنما تلزم به إذا خشي فوات وقت الظهر، فإذا راجعها في هذه الساعات فالرجعة صحيحة، لكن لو أخرت الاغتسال حتى خشي خروج الوقت فإن الرجعة لا تصح وتكون قد خرجت من عدتها، وهذا القول أظهر - على ترجيح هذا القول -. والقول الثاني في المسألة وهو قول الجمهور وهو رواية عن الإمام أحمد واختاره الشيخ عبد الرحمن السعدي: أنها بانقطاع الدم في القرء الثالث تكون قد خرجت من عدتها، قالوا: وهذا ظاهر قوله تعالى: {وبعولتهن أحق بردهن في ذلك} (1) ، فإن قوله (في ذلك) الإشارة هنا تعود إلى العدة المذكورة، وهي ثلاثة قروء، فجعل العدة ظرفاً لأحقية الزوج بالرجعة، ومفهوم هذه الآية أن هذه القروء إذا مضت ولم يراجعها فإنه ليس له أن يراجعها.

وقالوا: ولأن سائر الأحكام كذلك، فما هو الدليل على استثناء هذه المسألة، وإلحاق الشيء بنظيره أولى، ولذا فالحنابلة يقولون بالتوارث (1) فيما إذا طلق امرأته فاستمرت في عدتها ثلاثة قروء فانقطع الدم في القرء الثالث ومات بعد انقطاعه وهي لم تغتسل، فإنه لا توارث بينهما في المذهب، ولا شك أن إلحاق النظير بنظيره أولى، وكذلك اللعان إذا انقطع الدم عنها في القرء الثالث فقذفها بعد انقطاعه وقبل غسلها، فلا نقول بإيقاعه بل يكون قذفاً لأنها تكون أجنبية عنه حينئذٍ. وهذا القول هو الأرجح من جهة الدليل. لكن يشكل عليه ما ذكره الحنابلة من أن هؤلاء الصحابة لا يعلم لهم مخالف. فإن صحَّ ذكر الخلاف في أن بعض الصحابة، كعائشة وابن عمر وزيد بن ثابت كما في الموطأ: أنهم كانوا يرون أن الأقراء هي الأطهار، إن صح أن يكون هذا مخالفة منهم لمن تقدم ذكرهم، فيدفع هذا القول بقولهم. وإلا فقد يقال إن الصحابة القائلين بأن الأقراء هي الحيضات كلهم قد قالوا: إن انقطع عنها الدم ولم تغتسل فله الرجعة والله أعلم. لكن من حيث الدليل ما ذهب إليه الجمهور أقوى، وممن اختاره من المتأخرين الشيخ عبد الرحمن بن سعدي. والله أعلم. قال: [وإن فرغت عدتها قبل رجعتها بانت وحرمت قبل عقد جديد] فإذا فرغت العدة قبل رجعتها فإنها تبين منه وتحرم عليه إلا بعقد جديد يشترط فيه الولي والصداق وغير ذلك، وهذا هو مفهوم قوله تعالى: {وبعولتهن أحق بردهن في ذلك} (2) ، فظاهره أنهم ليسوا بأحق بردهن بعد ذلك أي بعد العدة، وهذا باتفاق العلماء. قال: [ومن طلَّق دون ما يملك ثم راجع أو تزوج لم يملك أكثر مما بقي وطئها زوجٌ غيره أو لا]

_ (1) في الأصل: بالتواتر.

فإذا طلق رجل امرأته دون ما يملك من عدد الطلاق كأن يطلقها الحر طلقة أو طلقتين فمضت العدة ولم يراجعها ثم تزوجت بزوج آخر أو لم تتزوج زوجاً آخر ثم عقد عليها زوجها الأول عقداً جديداً فلا يبطل الطلاق بل يبقى عليه طلقة حيث طلقها طلقتين، ويبقى طلقتان حيث طلقها طلقة. أما حيث لم تتزوج زوجاً آخر فهذا باتفاق أهل العلم لا نزاع بينهم في ذلك، فإذا طلق الرجل امرأته فانتهت عدتها ثم عقد عليها عقداً جديداً فتحسب عليه تلك الطلقة بلا نزاعٍ بين العلماء، والطلاق ثابت وواقع ولا دليل على رفعه. وأما إذا عقبه عليها زوجٌ آخر فهل يحسب عليه طلاقه الأول أم لا؟ قولان لأهل العلم: القول الأول، وهو مذهب جمهور العلماء: أنه (1) يحسب عليه الطلاق الأول، وهو قول أكابر الصحابة كما قال ذلك الإمام أحمد، وممن قال به؛ عمر بن الخطاب كما في مصنف عبد الرزاق بإسنادٍ صحيح (2) ، قالوا: والزوج الآخر ليس شرطاً في إحلالها للزوج الأول فلم يكن مؤثراً في إذهاب الطلاق السابق، فكان هذا النكاح الثاني وجوده كعدمه لا يغير من حكم الطلاق شيئاً. القول الثاني، وهو مذهب الأحناف: (3) أنه لا يحسب عليه الطلاق السابق وهو قول طائفةٍ من الصحابة وممن روي عنه هذا القول: ابن مسعود وابن عمر وابن عباس كما في مصنف عبد الرزاق، قالوا: لأن هذا الحكم أولى من البينونة الكبرى، فإذا طلق الرجل امرأته ثلاثاً ثم نكحها زوجٌ آخر فإنه ينكحها بعده الأول بلا طلاق سابق إجماعاً، أي لا يحسب عليه الطلاق السابق، فإذا ثبت هذا في البينونة الكبرى فالبينونة الصغرى أولى – والبينونة الصغرى لا يشترط فيها نكاح زوجٍ آخر –.

_ (1) في الأصل: أن الحكم أنها يحسب عليه الطلاق الأول. (3) في الأصل: " وقال الأحناف، وهو قول طائفة من الصحابة وممن روي عنه هذا القول ابن مسعود وابن عمر وابن عباس كما في مصنف عبد الرزاق، قالوا: إنه لا يحسب.. "

وفي القولين قوة، لكن القول الأول فيما يظهر لي أرجح، لأنه قول أكابر الصحابة، ولأن ثمت فرقاً بين الطلاق الثلاث الذي تحصل به البينونة الكبرى وبين الطلاق الذي دونه الذي تحصل (1) به البينونة الصغرى حيث نكحت زوجاً آخر؛ وذلك أنها إذا نكحت زوجاً آخر فلا يمكن أن نمكنها من نكاح هذا الزوج ونحسب عليها طلاقاً؛ لأنا إذا حسبنا الطلاق، فالطلاق ثلاث، وعليه فلا يمكن نكاحها، فأبطلنا الطلاق السابق كله واستأنفوا نكاحاً جديداً. وأما في المسألة الأخرى فإن النكاح إنما تحسب فيه طلقة، وعليه فإنه يمكن إكمال الزواج وإتمامه بينهما؛ لأنا لا نحسب عليهما إلا طلقة أو طلقتين، والمسألة فيها تجاذب كما ذكر ابن القيم، إلا أن الأولى فيما يظهر لي ما ذهب إليه الجمهور، والله أعلم. الدرس السادس والخمسون بعد الثلاثمائة فصل قال: [وإن ادعت انقضاء عدتها في زمن يمكن انقضاؤها فيه أو بوضع الحمل الممكن وأنكره فقولها] فإذا ادعت المطلقة طلاقاً غير بائن؛ أن عدتها قد انقضت في زمن يمكن انقضاء العدة فيه، أو ادعت أنها وضعت حملاً ممكناً وأنكر ذلك الزوج – فالقول قولها؛ لأن هذا الأمر لا يعلم إلا من جهتها فكان القول قولها ولذا قال تعالى: {ولا يحل لهن أن يكتمن ما خلق الله في أرحامهن} (2) ، وذلك لأنهن مؤتمنات على ذلك. قال: [وإن ادعته الحرة بالحيض في أقل من تسعة وعشرين يوماً ولحظة لم تسمع دعواها] اللحظة هنا لتحقيق انقضاء الدم، فالحرة عدتها ثلاث حيض، وأما الأمة فعدتها حيضتان، فإذا ادعت انقضاء العدة في تسعة وعشرين يوماً فهذا ممكن، وأما أقل من تسعة وعشرين يوماً فهذا لا يقبل، وذلك لما تقدم من أن أقل الطهر ثلاثة عشر يوماً وأن أقل الحيض يومٌ (3) .

_ (1) في الأصل: " الذي بينه البينونة الصغرى.. " (3) في الأصل: يوماً.

فإذا حاضت يوماً ثم طهرت ثلاثة عشر يوماً - فهذه أربعة عشر يوماً – ثم حاضت يوماً – فهذه خمسة عشر يوماً – ثم طهرت ثلاثة عشر يوماً – فهذه ثمانية وعشرون يوماً – ثم حاضت يوماً – فهذه تسعة وعشرون يوماً – ثم في لحظه تحقق انقطاع الدم فحينئذٍ تكون بذلك قد انقضت عدتها. فإن ادعته في أقل من تسعة وعشرين يوماً فإن هذا غير ممكن، وهذا ينبني على ما تقدم من أقل الحيض وأقل الطهر وتقدم ترجيح شيخ الإسلام؛ وأنه ليس لأقل الحيض شيءٌ محدد، خلافاً لما ذهب إليه الحنابلة. فإن ادعته في هذه المدة فهل يقبل قولها بلا بينة أم لا؟ [القول الأول وهو] (1) المشهور في المذهب أنه: لا يقبل قولها إلا ببينة؛ وذلك لندور ذلك فإنه يندر أن تحيض امرأة في تسعة وعشرين يوماً ثلاث حيض وعليه فلا بد أن تشهد لها نساؤها العدول. والقول الثاني في المسألة وهو رواية عن الإمام أحمد: أنه يقبل قولها؛ لأنه ممكن وهي مؤتمنة على نفسها. وهذا فيما يظهر لي أظهر؛ فهي مؤتمنة على نفسها فالقول قولها لا فرق بين أن يكون هذا الشيء نادراً أو غير نادر. قال: [وإن بدأته فقالت: انقضت عدتي فقال: كنتُ راجعتك] فإذا قالت المرأة لزوجها: " انقضت عدتي " فقال: " كنت راجعتك " فالقول قولها إلا أن يكون له بينة، فإن (2) أتى ببينةٍ تشهد على أنه راجعها قبل انقضاء عدتها فلا شك أن البينة يحكم بها. لكن إن لم يكن له بينة، فالقول قولها؛ وذلك لأن الظاهر حصول البينونة، والأصل عدم الرجعة، فالأصل عدم ما يدعيه هو، أي الأصل هو البينونة، فهو يدعي خلاف الأصل فيطالب بالبينة، فإن أتى بها وإلا فالقول قولها. قال: [أو بدأها به، فأنكرته فقولها]

_ (1) ليست في الأصل. (2) في الأصل: فإذا.

إذا بدأها هو بذلك فقال: " كنت راجعتك " فقالت: " قد انقضت عدتي قبل أن تراجعني " فالقول قولها؛ لأن الأصل هنا حصول البينونة، وما يذكره من الرجعة خلاف الأصل ولا فرق بين أن يكون قد ابتدأها هو أو ابتدأته هي وما ذكره المؤلف هو قول في المذهب. وأما المشهور في المذهب فهو خلاف ما ذكره المؤلف: فقد فرقوا بين ما إذا بدأها، وبين ما إذا بدأته، فقالوا: إذا ابتدأته فالقول قولها، وأما إذا بدأها هو فالقول قوله. وسرّ الفرق عندهم: أنه إذا بدأها هو فإن ذلك يكون قبل الحكم بانقضاء عدتها، لأننا حكمنا بانقضاء عدتها بقولها: انقضت عدتي، وأما [إن] ابتدأته هي فبقولها هذا يكون الحكم بانقضاء العدة، فيكون قوله وهو ادعاء الرجعة بعد الحكم بانقضاء العدة. لكن الراجح ما تقدم، وهذا التفريق ليس بمؤثر لأن الأصل معها، فالأصل هو حصول البينونة وعدم الرجعة في المسألتين كلتيهما. مسألة: المشهور في المذهب وهو ظاهر إطلاق المؤلف هنا: أن المرأة إذا ادعت ما ادعته من انقضاء العدة فإنها لا تطالب باليمين، فالقول قولها بلا يمين، وذلك لأن الرجعة لا يصح بذلها، فالمال يصح بذله فلو أن رجلاً قيل له: "احلف " فقال " لا أحلف " يترتب على ذلك أن هذا المال المدعى عليه يُبذل، فيكون قد بذل هذا المال، والبذل للمال يصح، لكن البذل للفرج لا يصح، فإن امتناعها من الحلف يترتب عليه (1) بذل لفرجها وهذا ممنوع كالحدود، فكما أن الحدود لا يستحلف فيها فكذلك في مثل هذه المسائل، وذلك لأن الرجعة لا يصح بذلها، وذلك لأنه بذل لفرج فلابد وأن يكون بحق.

_ (1) في الأصل: فإن في امتناعها من الحلف يترتب على ذلك بذل فرجها.. "

والقول الثاني في المسألة وهو مذهب الشافعية وهو قول في المذهب: أنها تطالب باليمين، فلا يقبل قولها إلا باليمين، وذلك لعموم قوله - صلى الله عليه وسلم -: (البينة على المدعي واليمين على من أنكر) (1)

_ (1) قال في الأربعين النووية عن حديث " لو يعطى الناس بدعواهم لادعى رجال أموال قوم ودماءهم، لكن البينة على المدعي واليمين على من أنكر ": "حديث حسن رواه البيهقي وغيره هكذا وبعضه في الصحيحين ". أخرجه البيهقي في السنن الكبرى (10 / 252) في أول كتاب الدعوى والبينات قال: " أخبرنا أبو عبد الله الحافظ وأبو سعيد بن أبي عمرو قالا ثنا أبو العباس محمد بن يعقوب ثنا يحيى بن أبي طالب أنبأ عبد الوهاب بن عطاء أنبأ ابن جريج عن عبد الله بن أبي مليكة عن ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (لو يعطى الناس بدعواهم لادعى ناس دماء قوم وأموالهم، ولكن اليمين على المدعى عليه) . وأخبرنا أبو عبد الله الحافظ أخبرني أبو عمرو بن أبي جعفر ثنا عبد الله بن محمد بن يوسف ثنا أبو طاهر ثنا ابن وهب أخبرني ابن جريج، فذكره بإسناده نحوه، رواه مسلم في الصحيح عن أبي الطاهر عن ابن وهب. أخبرنا أبو عمر ومحمد بن عبد الله الأديب أنبأ أبو بكر الإسماعيلي أخبرني عمران بن موسى ثنا نصر بن علي الجهضمي ثنا عبد الله بن داود أنبأ بن جريج عن ابن أبي مليكة: أن امرأتين كانت تخرزان في بيت، فخرجت إحداهما وقد انفذ بأشفافي كفها، فرفعت إلى ابن عباس، فقال ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: (لو يعطى الناس بدعواهم لذهب دماء قوم وأموالهم) ذكروها بالله واقرؤوا عليها {إن الذين يشترون بعهد الله وأيمانهم ثمناً قليلاً} فذكروها فاعترفت، وقال ابن عباس قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: (اليمين على المدعى عليه) رواه البخاري في الصحيح عن نصر بن علي، على هذا رواية الجماعة عن ابن جريج. وأخبرنا أبو عمرو الأديب أنبأ أبو بكر الإسماعيلي أخبرني الحسن بن سفيان ثنا صفوان بن صالح ثنا الوليد هو ابن مسلم ثنا ابن جريج عن ابن أبي مليكة قا ل: رفع إلي امرأة تزعم أن صاحبتها وجأتها بأشفا حتى ظهر من كفها، فسألتُ ابن عباس فقال: إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: (لو يعطى الناس بدعواهم لادعى رجال دماء رجال وأموالهم، ولكن البينة على الطالب واليمين على المطلوب) . أخبرنا أبو الحسن على بن أحمد بن عبدان أنبأ أحمد بن عبيد الصفار ثنا جعفر بن محمد الفريابي ثنا الحسن بن سهل ثنا عبد الله بن إدريس ثنا ابن جريج وعثمان بن الأسود عن ابن أبي مليكة قال: كنت قاضياً لابن الزبير على الطائف، فذكر قصة المرأتين قال: فكتبتُ إلى ابن عباس، فكتب ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: (لو يعطى الناس بدعواهم لادعى رجال أموال قوم ودماءهم، ولكن البينة على المدعي، واليمين على من أنكر) وذكر الحديث ".

، وهذا القول أرجح لعموم الحديث. وأما كونها يترتب على تركها للحلف بذلها لفرجها وهذا لا يصح. فالجواب: أنه لا يحل لها أن تمتنع من الحلف فإن في امتناعها من الحلف بذلاً لفرجها منها، وبذلها للفرج محرم، والحلف وسيلة إليه فيكون ترك الحلف محرماً عليها، بخلاف ترك الحلف في الأموال فقد يترك الرجل اليمين ويفدي نفسه بماله منها. وهل يثبت حق الزوج بالنكول أم لا؟ إذا ادعت انقضاء عدتها فقيل لها: احلفي فامتنعت، هذا هو النكول، فهل يقضى للزوج بالرجعة إذا نكلت أم لا؟ قولان لأهل العلم: القول الأول: أنه لا يحكم بالنكول هنا، وذلك للعلة المتقدمة وهي أن الرجعة فيها بذل للفرج ولا يصح بذله فلم يبذل بالنكول وهو المشهور في المذهب. القول الثاني، وهو مذهب الشافعية وذكره الموفق احتمالاً وهو الراجح: أنه يقضى بالنكول لكن يستحلف الزوج، فإذا نكلت عن الحلف فحينئذٍ يظهر صدق الزوج ويكون جانبه أقوى من جانبها وعليه فيستحلف لأن من قوي جانبه فالقول قوله بيمينه، فهي في الأصل صاحبة الجنب القوي لما نكلت ضعف جانبها وقوى جانب الزوج وحينئذٍ يستحلف فإن حلف قضي له بالرجعة. فصل قال: [إذا استوفى ما يملك من الطلاق حرمت عليه حتى يطأها زوجٌ] إذا استوفى الزوج ما يملك من عدد الطلاق وهو ثلاث تطليقات للحر، وتطليقتان للعبد، فإنها تحرم عليه زوجته حتى يطأها زوج آخر، لقوله تعالى: {فإن طلقها فلا تحل له من بعد حتى تنكح زوجاً غيره} (1) . قال: [في قبل ولو مراهقاً]

_ (1) سورة البقرة.

أي أن يكون ذلك وطأً في قُبُل ولو كان الواطئ مراهقاً لحصول الوطء منه، ودليل اشتراط الوطء: ما ثبت في الصحيحين أن امرأة رفاعة القرظي جاءت إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقالت: " كنت عند رفاعة فطلقني فبتَّ طلاقي فتزوجت بعده عبد الرحمن بن الزبير وإنما معه مثل هُدبة الثوب "، فقال: (تريدين أن ترجعي إلى رفاعة، لا حتى تذوقي عُسيلته ويذوق عسيلتك) (1) ، أي حتى يذوق منك حلاوة الجماع وتذوقي منه حلاوته، وذلك بالوطء. قال: [ويكفي تغييبُ الحشَفَة] وذلك لأن أحكام الوطء تترتب على تغييب الحشفة ولذا قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: (إذا التقى الختانان فقد وجب الغسل) (2) . قال: [أو قدرِها مع جبٍ] أي المجبوب يكون بقدرها لأنها بمنزلة الحشفة من غيره. قال: [في فرجها مع انتشارٍ] أي في فرج المرأة مع انتشار للذكر؛ لأنه مع عدم الانتشار لا يكون قد ذاق عسيلتها. قال: [وإن لم ينزل] وذلك لأن ذوق العسيلة يحصل بدونه. قال: [ولا تحل بوطء دبرٍ] وذلك لأن الدبر ليس محلاً للوطء الشرعي فلا تترتب عليه الأحكام الشرعية. قال: [وشبهةٍ] رجل طلق امرأته ثلاثاً فوطئها رجل يظنها زوجته، فلا تحل للأول؛ وذلك لأن هذا ليس بنكاح. قال: [وملك يمين] إذا طلق امرأته ثلاثاً وهي أمة فوطئها سيدها فلا تحل للأول؛ وذلك لأن وطء السيد ليس بنكاح، وقد قال تعالى: {حتى تنكح زوجاً غيره} . قال: [ونكاحٍ فاسد] كالنكاح بلا ولي – عند من لا يقول به –؛ وذلك لأن إطلاق النكاح يقتضي النكاح الصحيح {حتى تنكح} ، أي حتى تنكح نكاحاً صحيحاً. قال: [ولا في حيضٍ ونفاس وإحرام وصيام فرض]

_ (1) أخرجه البخاري في كتاب الطلاق، باب من أجاز طلاق الثلاث (5260) ، ومسلم (1433) .

فإذا عقد عليها الزوج الثاني ووطئها وهي حائض أو نفساء أو في إحرامٍ منه أو منها أو صيام فرض سواءً كان الصائم هو أو هي أو هما جميعاً، فإن هذا الوطء لا تتحلل به للزوج الأول، وذلك لأنه محرم لحق الله تعالى فلم يحصل به الوطء الذي يترتب عليه التحليل هذا هو المشهور في المذهب. وذهب الأحناف والشافعية وهو اختيار الموفق: إلى أن هذا الوطء يحصل به التحليل للزوج الأول، وهذا هو الأرجح؛ وذلك لأنه ظاهر القرآن وظاهر السنة فإنه إذا وطئها فقد نكحها، فظاهر قوله تعالى: {حتى تنكح زوجاً غيره} حاصل بذلك، وكذلك قوله - صلى الله عليه وسلم -: (لا حتى تذوقي عسيلته ويذوق عسيلتك) حاصل بذلك. قال: [ومن ادعت مطلقته المحرمة وقد غابت نكاح من أحلها وانقضاء عدتها منه فله نكاحها إن صدَّقها وأمكن] إذا طلق رجل امرأته طلاقاً بائناً ثم غابت عنه أو غاب عنها فادعت أنها قد تزوجت بعده زوجاً آخر وادعت أن عدتها قد انقضت فله نكاحها إن صدقها، وأمكن ذلك، بمعنى أن يكون الوقت متسعاً لأنها مؤتمنة على نفسها. الدرس السابع والخمسون بعد الثلاثمائة كتاب الإيلاء الإيلاء: هو الحلف، من آلى يولي إذا حلف، والأليَّة هي اليمين. وعرّف المؤلف الإيلاء بقوله: [وهو حلف زوجٍ بالله تعالى أو صفته على ترك وطء زوجته في قبلها أكثر من أربعة أشهر] والأصل في الإيلاء قوله تعالى: {للذين يؤلون من نسائهم تربص أربعة أشهر فإن فاؤوا فإن الله غفور رحيم، وإن عزموا الطلاق فإن الله سميع عليم} (1) .

_ (1) سورة البقرة.

قوله " هو حلف زوجٍ بالله تعالى أو صفته " ظاهر قول المؤلف أنه لو حلف بنذرٍ أو حلف بطلاقٍ أو حلف بعتقٍ فليس بإيلاء وهذا هو المشهور في المذهب، قالوا: لأن حقيقة اليمين أن تكون بالله، فلو قال: " علي صوم الدهر إن وطئتك " فهذا حلف بنذر، أو قال: " علي الطلاق إن وطئتك " فهذا حلف بالطلاق أو قال: " إن وطئتك فعبيدي أحرار " فهذا حلف بالعتق. والقول الثاني في المسألة وهو مذهب الجمهور ورواية عن الإمام أحمد: أنه إيلاء؛ وذلك لأنها يمين في الامتناع عن وطء المرأة فكان إيلاءً. والصحيح ما ذهب إليه الجمهور، وذلك لأن الحلف بالنذر أو بالطلاق أو بالعتق يمين، سواء قلنا هي يمين حقيقية أو يمين مجازية، فإنها تدخل في قوله تعالى: {للذين يؤلون من نسائهم تربص أربعة أشهر} . [قوله:] " على ترك وطء زوجته "؛ سواء كانت الزوجة مسلمة أو ذمية لعموم قوله تعالى: {للذين يؤلون من نسائهم} ، وأما لو كانت سُرّيته – أي أمته – فليس بإيلاءٍ لأنها لا تدخل في نسائه فلا تدخل في الآية. " أكثر من أربعة أشهر ": أما إذا كانت المدة أربعة أشهر فأقل فليس بإيلاء، فلو قال لامرأته: " والله لا وطئتك أربعة أشهر أو ثلاثة أشهر " فليس بمولٍ لظاهر الآية، فإن الله تعالى قال: {تربص أربعة أشهر} ، وفي الصحيحين – وهذا لفظ البخاري- أن النبي - صلى الله عليه وسلم - آلى من نسائه شهراً (1) . الإيلاء الممنوع – وهو محرم لما فيه من ترك الوطء الواجب – إنما يكون في مدة أكثر من أربعة أشهر، وإذا كان يضر بها الشهر والشهران فإنه لا يحل له، ولكن ليس له حكم الإيلاء؛ لظاهر الآية. قال: [ويصح من كافر] يصح الإيلاء من كافر لعموم الآية {للذين يؤلون من نسائهم} ، وهذا يعم الكافر والمسلم، أي إذا ترافع إلينا وتقاضى إلينا فإنه يحكم عليه كما يحكم على المسلم في الإيلاء. قال: [وقنٍّ]

أي عبد، لعموم قوله تعالى: {للذين يؤلون من نسائهم تربص أربعة أشهر} ، فالآية عامة في العبد والحر، فلو آلى الرقيق أن لا يطأ زوجته فهذا إيلاء لعموم الآية. قال: [ومميزٍ] فإذا كان الزوج صبياً مميزاً لم يبلغ بعد فآلى من زوجته فكذلك هو إيلاء لعموم الآية، ولأن طلاقه يصح فصح إيلاؤه. والقول الثاني في المسألة وهو اختيار الموفق: أن حلف الصبي ليس بإيلاء لأنه غير مكلف. والراجح هو القول الأول، وذلك لتعلق ذلك بحق الآدمي – وهي الزوجة-، لكن لا كفارة عليه لأن الكفارة حقٌ لله تعالى وهو ليس بمكلف، لكنه يُتربص به أربعة أشهر فإن فاء وإلا أُمر بالطلاق لعموم الآية، [فهو في حكم الإيلاء كما سيأتي.] (1) قال: [وغضبان وسكران] هنا كالطلاق، وقد تقدم التفصيل في مسألة الغضبان، وتقدم أن طلاق السكران لا يقع، فكذلك إيلاؤه، فهاتان المسألتان مبنيتان على طلاق الغضبان وطلاق السكران. قال: [ومريضٍ مرجو برؤه] فإذا آلى المريض الذي يرجى برؤه فهو إيلاء لعموم الآية، أما إذا كان غير مرجو الشفاء من هذا المرض، كأن يكون به شلل أو أن يكون مجبوباً أو غير ذلك فلا إيلاء له؛ وذلك لأن الامتناع عن الوطء ليس سببه في الحقيقة اليمين إنما سببه العجز عن الوطء فكانت اليمين لغواً؛ لأنه حلف على شيء مستحيل فقد حلف على ترك ما يستحيل عليه فعله. قال: [وممن لم يدخل بها] لعموم الآية، فالآية في المدخول بها من النساء وغير المدخول بها. قال: [لا من مجنون ومغمى عليه] لأنهما لا قول لهما، وكذلك النائم، وهي يمين فلم تصح ممن لا قول له، ولذا فالصبي غير المميز لا إيلاء له لأن قوله لا ينعقد. قال: [وعاجزٍ عن وطء لجبٍ أو شلل] لأن الامتناع عن الوطء سببه العجز لا اليمين. قال: [فإذا قال: والله لا وطئتك أبداً] إلى أن قال: [فمول]

_ (1) هذه الزيادة ليست في الأصل.

إذا قال الرجل لامرأته: " والله لا وطئتك أبداً " فهو مولٍ؛ لأنه قطعاً أكثر من أربعة أشهر، كذلك إن قال: " والله لا وطئتك " لأن الأصل في اليمين التأبيد، أو قال لها: " والله لا وطئتك مدة " ولم يعين هذه المدة بلفظه لكنه عينها في قلبه بأكثر من أربعة أشهر كأن ينوي سنة وتقدم أن الأيمان مبناها على النيات، فهنا لفظه يحتمل أقل من أربعة أشهر ويحتمل أربعة أشهر ويحتمل أكثر من أربعة أشهر فانصرفت اليمين إلى أكثر من أربعة أشهر لنيته. قال: [أو عين مدة تزيد على أربعة أشهر] فإذا قال: " والله لا وطئتك سنة " فهو مولٍ. قال: [أو حتى ينزل عيسى أو يخرج الدجال] فكذلك لأن ذلك ونحوه يغلب على الظن أنه لا يكون إلا بعد أربعة أشهر. قال: [أو حتى تشربي الخمر أو تسقطي دينك أو تهبي مالك ونحوه فمولٍ] في كل هذه الألفاظ يكون مولياً. قال: [فإذا مضى أربعة أشهر من يمينه ولو قناً] لا نقول إن القن يتربص به شهران لعموم الآية، فالآية عامة في العبد والحر وأنه يتربص بهم أربعة أشهر. قال: [فإن وطئ ولو بتغييب حشفةٍ (1) ] تقدم أن الأحكام تترتب بتغيب الحشفة. قال: [فقد فاء وإلا أمر بالطلاق] فإذا مضت أربعة أشهر من يمينه فإن وطء المرأة بتغييب الحشفة في قبلها فإنه يكون قد فاء، وعليه كفارة اليمين، وهذه المدة يتربصها حيث لا عذر من جهة المرأة أي بأن يكون متمكناً من وطئها هذه المدة، أما إذا كان في المرأة عذر سوى الحيض فإنه تستأنف هذه المدة بعد زوال هذا العذر. وإذا كانت المرأة ناشزاً أو كانت المرأة نفساء، في أصح الوجهين، أو كانت المرأة محرمة أو غير ذلك من الأعذار التي تكون من جهتها، هذه تقتضي استئناف المدة. إذا نشزت المرأة أثناء مدة التربص فإنه يتربص به أربعة أشهر أخرى؛ وذلك لأن هذا التربص لهذه المدة حيث أمكنه الوطء وهنا لم يمكنه الوطء لأمر من جهتها.

_ (1) في الأصل: الحشفة.

وأما إذا كان لأمر من جهته هو، كأن يحبس أو غير ذلك، فإنه يتربص به أربعة أشهر بما فيها هذه المدة التي له فيها عذر، وذلك لأن المانع من جهته هو وليس من جهة المرأة، وهذا حق آدمي فلم يقبل فيه هذا العذر. وأما الحيض فلا، وذلك لأن الحيض لا يخلو منه شهر، فلو جعلناه عذراً تستأنف بعد زواله مدة التربص لأدى ذلك إلى عدم وطئها أبداً. قال: " فإذا مضى أربعة أشهر من يمينه " ولا يفتقر هذا إلى حكم حاكم، وذلك لأن الله نص عليه فإذا حلف ألا يطأها قبل شهر وترافعا اليوم إلى القاضي فلا يتربص أربعة أشهر ابتداءً من اليوم بل ابتداءً من اليمين، فلا يُتوقف في مدة التربص على حكم الحاكم وإنما يبتدأ بها – أي عدة التربص – من يمينه، وذلك لأن هذه المدة منصوص عليها فلم يفتقر ذلك إلى حكم حاكم. قال: " فإن وطئ ولو بتغييب حشفة ": ولو كانت المرأة حائضاً أو نفساء أو كانت محرمة أو كانت صائمة فرضاً، فإن هذا وطء صحيح. إذا وطئها وهي محرمة، فإنه بذلك لا يكون مولياً، بل يكون قد أفاء، وذلك لأنه وطء، فتنحل به يمينه، أي يكون حانثاً. إذا حلف ألا يطأها أربعة أشهر وبعد شهرين وطئها وهي حائض أو وطئها وهي محرمة أو وهي صائمة، فبذلك يزول عنه حكم الإيلاء، ويكون حانثاً في يمينه وعليه كفارة يمين. وكذلك إن وطئها ناسياً أو جاهلاً، فإنه يزول بذلك الإيلاء ويسقط حكمه؛ لثبوت الوطء. حلف ألا يطأها سنة، فوطئها ناسياً بعد شهر، يزول بذلك ويسقط حكم الإيلاء؛ وذلك لزوال الضرر عنها، فإن الضرر بالامتناع عن الوطء زال بذلك. لكن هل يحنث أو لا يحنث؟ أصح الروايتين عن الإمام أحمد: أنه لا يحنث، وذلك لما تقدم، وأن من فعل ما حلف ألا يفعله ناسياً أو جاهلاً أو مكرهاً، فإنه لا يحنث. قال: [وإلا أُمر الطلاق]

مضت الأربعة أشهر، فأبى أن يفيء، يعني أبى أن يطأ المرأة، فإنه يؤمر بالطلاق، يقول له الحاكم: " طلِّق "، لقوله تعالى: {فإن فاؤوا فإن الله غفور رحيم، وإن عزموا الطلاق، فإن الله سميع عليم} . ولا تطلق عليه بمضي الأربعة أشهر، فلا يقع عليه الطلاق حتى يطلق. ففي صحيح البخاري عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: " إذا مضت أربعة أشهر يوقف المُولي، ولا يقع الطلاق حتى يطلِّق " (1) . يوقف المولي: يقال له: إما أن تفيء، وإما أن تطلق، ولا يقع عليه الطلاق حتى يطلق، رواه البخاري في صحيحه وقال: ويذكر عن عثمان وأبي الدرداء وعائشة واثني عشر من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - " ا. هـ. وروى كثيراً من هذه الآثار البيهقي في سننه، ولا يُعلم لهؤلاء مخالف، فكان ذلك إجماعاً، خلافاً لأبي حنيفة، فإنه يرى وقوع الطلاق بمجرد مضي المدة المذكورة. لكن الصحيح ما تقدم، فإن الله قال: {فإن عزموا الطلاق} ، ولما تقدم من أثر ابن عمر وأثر من تقدم ذكره، ولا يعلم لهم مخالف. قال: [فإن أبى طلق حاكمٌ عليه] إن أبى الطلاق فإنه يطلق القاضي عليه، وذلك لأن الطلاق هنا بحق والطلاق مما تكون فيه النيابة، كما تقدم في الوكالة بالطلاق. قال: [واحدةٌ أو ثلاثاً أو فسخ] يعني للقاضي أن يطلق واحدة وله أن يطلق ثلاثاً وله أن يفسخ. وعن الإمام أحمد وهو مذهب الشافعي: أنه ليس له إلا أن يطلِّق واحدة، كما أنه ليس له أن يأخذ من المدين سوى ما عليه من الحق، فكذلك لا يطلق إلا واحدة، والطلاق الثلاث تقدم أنه محرم. وذكر القاضي من الحنابلة: أن المنصوص عن الإمام أحمد أن الطلاق يكون بائناً، وفيه – فيما يظهر لي – قوة، وذلك لأنه طلاق من قبل الحاكم فأشبه هذا الفراق الذي يكون في اللعان فإنه طلاق بائن.

لكن لا يكون أبدياً للفرق بينهما، فهذا يتهم امرأته بالزنا – أي الملاعن – وهذا ليس الأمر كذلك فلا يكون أبدياً ولكن يكون بائناً، ولأن المقصود منه إزالة الضرر عن المرأة، وإذا أجزنا له الرجعة فإننا نعيد الضرر إليها. فالذي يترجح أن الطلاق يكون بائناً، فتكون طلقة واحدة لكن الطلاق يكون بائناً وليس له الرجعة، فإذا انقضت عدة المرأة أو قبل أن تنقضي عدتها فهو خاطب من الخطاب، فإن رضيت ورضي وليها وإلا فلا حق له في نكاحها. قال: [وإن وطئ في الدبر أو دون الفرج فما فاء] إن وطء في الدبر أو دون الفرج أي باشرها دون الفرج فما فاء، وذلك لأن الإيلاء امتناع عن الوطء في الفرج كما تقدم، وعليه فلا تكون الفيئة أي الرجوع في وطء سواه أو المباشرة دونه، لأن هذا لا يكون رجوعاً ولا فيئة بل الفيئة والرجوع أن يطأها في فرجها، فإذا أتاها من دبرها أو باشرها دون الفرج فإنه مولٍ ولا يخرج عن حكم الإيلاء بهذا الوطء لأنه ليس بفيئة. قال: [وإن ادَّعى بقاء المدة] إن ادعى أن المدة لا زالت باقية ولا بينة للمرأة فالقول قوله، لأنه هو المتلفظ وهو أعلم بقوله من غيره، ولأن الأصل معه وهو بقاء المدة. إذن: إذا اختلفا هو يقول: " لم تنقض المدة " وهي تقول: " بل انقضت " ولا بينة مع المرأة فالقول قوله لأن الأصل معه. قال: [أو أنه وطئها وهي ثيب صدِّق مع يمينه] يعني ادعى أنه وطئها قال: " بل وطئتها "، وهي تقول: " لم يطأني " وهي ثيب صُدق، لأن هذا الأمر لا يعلم إلا من جهته، والحكم والأمر بالطلاق يتعلق به هو فكان القول قوله، لكن مع يمينه، لأن البينة على المدعي واليمين على من أنكر، فهو منكر لعدم الوطء، وهي تدعي عدم الوطء، فكان القول قوله وعليه اليمين. قال: [وإن كانت بكراً أو ادعت البكارة وشهد بذلك امرأةٌ عدل صُدِّقت]

إن كانت بكراً وهو يقول أنه قد وطئها، أو ادعت البكارة وشهد بذلك امرأة عدل صُدقت، لقيام ما يدل على كذبه، فإذا ثبت أنها بكر بالبينة فحينئذٍ يحكم بقولها، لأن ثبوت كونها بكراً يدل على كذبه في دعوى الوطء. قال: [وإن ترك وطأها إضراراً بها بلا يمين ولا عذر فكمُولٍ] إذا امتنع من الوطء أكثر من أربعة أشهر إضراراً بها بلا يمين فهو مولٍ، وذلك لأن هذا الامتناع بمعنى اليمين، فالذي يحصل من اليمين قد حصل بهذا الامتناع، ولأن حكم الإيلاء إنما شرع لدفع الضرر عنها الحاصل بامتناعه عن الوطء أكثر من أربعة أشهر، فإذا امتنع بلا يمين فكذلك، فعليه: إذا امتنع الرجل من وطء امرأته أكثر من أربعة أشهر فلها أن تطالب بالفيئة أو أن يطلق، وذلك لحصول الضرر هنا الحاصل باليمين. وكذلك إذا لم يكفِّر كفارة الظهار فمضت أربعة أشهر ولم يكفر كفارة الظهار، ولا يحل له أن يطأها حتى يكفر – لا يحل للمظاهر أن يطأ امرأته حتى يكفر بنص القرآن – فإذا تأخر عن الكفارة هذه المدة فكذلك، لما في ذلك من الضرر عليها، وهذا أيضاً امتناع عن الوطء فهذا فيه إضرارٌ بها فيؤمر بالكفارة، يعني يقال له: " كفر وإلا طلق ". الدرس الثامن والخمسون بعد الثلاثمائة كتاب الظهار الظهار: مشتق من الظهر وهو ما يركب، فالمرأة هي مركوب زوجها فسميت ظهراً. ويتضح معنى الظهار في الفقه بما يأتي من كلام المؤلف، وأصله قول الرجل لامرأته: " أنتِ علي كظهر أمي "، قال تعالى: {الذين يظاهرون منكم من نسائهم ما هن أمهاتهم إن أمهاتهم إلا اللآئي ولدنهم وإنهم ليقولون منكراً من القول وزوراً} (1) . قال: [وهو محرم]

_ (1) سورة المجادلة.

فالظهار محرمٌ إجماعاً للآية المتقدمة {وإنهم ليقولون منكراً من القول وزوراً} ، فهو باعتبار الإنشاء منكر؛ لأنه انشأ بتحريم المرأة بهذا اللفظ ولا شك أن هذا التحريم منه منكر، فقد حرم ما هو مباح، وهو خبرٌ كاذب، لأنه أخبر أن امرأته كأمه في الوطء ولا شك أن هذا خبر كاذب. قال: [فمن شبَّه زوجته أو بعضها ببعض أو بكل من تحرم عليه أبداً] فمن شبَّه زوجته بجملتها أو بعضها ببعض أو بكل من تحرم عليه، فإذا قال: " أنت علي حرام كأمي " فقد شبه جملة امرأته بجملة أمه، أو ببعض أمه في قوله: " أنت علي كظهر أمي "، وإذا قال: " أنت علي كأمي " فقد شبه جملة امرأته بجملة أمه، وإذا قال: " فرجك علي حرام كأمي " فقد شبّه بعض امرأته بجملة أمه، وإذا قال: " فرجك علي حرام كفرج أمي " فقد شبه بعض امرأته ببعض أمه. قال: [بنسبٍ أو رضاع] أو مصاهرة. فإذا شبه امرأته بمن تحرم عليه على الأبد بنسب أو سببٍ مباح. بنسب: كأمه، أو بسبب مباح كالرضاع، كأن يقول: " أنت علي حرام كأختي من الرضاع " أو بسبب مباح آخر كالمصاهرة فقال " أنت علي حرام كأمك ". وظاهر كلام المؤلف: أنه إن شبهها بمن تحرم عليه لا على التأبيد كأخت زوجته أو عمتها أو خالتها، فإن ذلك ليس بظهار، وهو رواية عن الإمام أحمد وهو مذهب الشافعي؛ وذلك لأنه ليس بمنصوص عليه وليس بمعنى المنصوص عليه، فليس تشبيهاً بالأم، وليس تشبيهاً بمن تكون كالأم، وذلك لأن الأم تحرم على التأبيد، وهنا هذه المرأة وهي أخت زوجته ونحوها لا تحرم على التأبيد، فإذا طلق امرأته أو بانت فيحل له أن ينكحها، وقالوا: هو كما لو قال لامرأته: " أنت علي كزوجتي الحائض أو كزوجتي المُحرِمة ".

والقول الثاني في المسألة وهو المشهور في المذهب، وهو مذهب الإمام مالك: أن هذا ظهار، وهذا هو الراجح، وذلك لأنه تحريم، وكونه على التأبيد أو على غيره بأن يكون إلى أمد هذا غير مؤثر، فقد شبه امرأته بمن تحرم عليه، فأخت زوجته تحرم عليه، فكما لو قال: " أنت علي حرام " وتقدم أن الراجح أنه إذا قال لامرأته: " أنت علي حرام " أنه ظهار فكذلك هنا، وقياس ذلك على امرأته الحائض أو المُحرِمة قياس مع الفارق، والفارق من وجهين: أن امرأته الحائض يحل له أن يستمتع بها دون الفرج وامرأته المُحرِمة يحل له أن ينظر إليها. أنه إذا وطئ امرأته الحائض أو المحرمة فعليه الإثم ولا حد، وأما وطء أخت الزوجة فإن فيه حداً فهو زنا. قال: [من ظهر أو بطن أو عضو آخر لا ينفصل] هنا في بيان البعض، من ظهر أو بطن أو عضو آخر كاليد أو الفخذ، لا ينفصل أي لابد أن يكون العضو لا ينفصل، أما إذا كان ينفصل كالشعر ونحوه فلا، لما تقدم في كتاب الطلاق. قال: [بقوله لها: أنت علي أو معي أو مني كظهر أمي أو كيد أختي أو وجه حماتي ونحوه] فإذا قال لها: " أنت علي كظهر أمي " أو: " أنت معي كظهر أمي " أو: " أنت مني كظهر أمي " ونحو ذلك من الألفاظ التي تدل على الظهار. فإن قال لها: أنت كأمي، أو: أنت مثل أمي، أو: أنت مثل أختي. فإن كان ثمت قرينة تدل على إرادة الظهار كأن تكون هناك خصومة أو أن يكون قال ذلك في غضب فهو ظهار، وأما إن لم تكن هناك قرينة فيُدين بنيته ويقبل ذلك حكماً؛ لأن ذلك يحتمل أن يكون في الكرامة أي أني أكرمك كما أكرم أمي، فإن هذا اللفظ يقع. [قوله:] " أو وجه حماتي " الحماة مراده أم الزوجة (1) .

_ (1) في الأصل: أخت الزوجة.

وعن الإمام أحمد أن التشبيه الذي يترتب عليه الظهار هو تشبيه جملة امرأته، بأن يقول: " أنت عليَّ " أما إذا شبه بعضها فإن ذلك ليس بظهار، فلو قال: " يدك علي أو فخذك علي كظهر أمي " فإن ذلك ليس بظهار وذلك لأنه ليس بمنصوص عليه. وذهب جمهور العلماء إلى ما تقدم ذكره وهو الراجح، فسواء شبه جملة امرأته أو بعضها بمن تحرم عليه فهو ظهار؛ وذلك لأن المرأة لا تتبعض عليه حلاً وحرمة. قال: [أو أنت علي حرامٌ كالميتة والدم فهو مظاهر] تقدم هذا في درس سابق وأنه ظهار. قال: [وإن قالته لزوجها فليس بظهار وعليها كفارته] إذا قالت الزوجة لزوجها: " أنت علي كظهر أبي " فليس بظهار؛ لأن الله قد خصه بالذكور فقال: {الذين يظاهرون منكم من نسائهم} وهذا هو مذهب جماهير العلماء، فإذا قالته المرأة فليس بظهار لكن هل عليها الكفارة أم لا؟ المشهور في المذهب: أن عليها كفارة ظهار كما قال المؤلف قياساً على الزوج. والقول الثاني في المسألة وهو مذهب الجمهور: أنه ليس عليها كفارة الظهار وليس عليها كفارة يمين، وهو رواية عن الإمام أحمد، قالوا: لأنه ليس بظهار فيترتب على ذلك ألا كفارة فيه، فالله عز وجل أوجب الكفارة فيما سماه ظهاراً ونحن لا نسمي هذا ظهاراً فلا تجب فيه كفارة الظهار، وهو كما لو قال لأمته: " أنت علي كظهر أمي " فإن ذلك ليس بظهار عند أهل القولين، فكذلك من باب أولى هذه المسألة فإذا كان قول الرجل لأمته: " أنت علي كظهر أمي " ليس بظهار فأولى من ذلك ألا يكون قول المرأة لزوجها ظهاراً.

والقول الثالث في المسألة وهو رواية عن الإمام أحمد وهو قول عطاء بن أبي رباح: " أن فيه كفارة اليمين "، وذلك لأنه تحريم لشيء على سبيل الظهار فأشبه تحريم الطعام ونحوه، وقد قال تعالى: {قد فرض الله لكم تحلة أيمانكم} بعد قوله {يا أيها النبي لم تحرم ما أحل الله لك} (1) ، وهذا القول الراجح في هذه المسألة، وهو الأقيس على مذهب الإمام أحمد والأشبه بأصوله كما قال ذلك الموفق رحمه الله. قال: [ويصح من كل زوجة] يصح الظهار من كل زوجة، أي يصح على كل زوجة، سواء كانت الزوجة حرةً أم أمة، مسلمة أو ذمية لأنها زوجة له، فإذا تزوج أمةً فظاهر منها أو تزوج حرةً فظاهر منها فإن الظهار يقع لعموم قوله تعالى: {الذين يظاهرون منكم من نسائهم} . مسألة: القاعدة هي: أن كل من يصح طلاقه يصح ظهاره. فلا يصح ظهار الطفل غير المميز ولا ظهار المكره ولا المجنون ولا المغمى عليه ولا النائم، وذلك لأنه لا حكم لقولهم في المسألتين، أي في مسألة الطلاق ومسألة الظهار. هل يصح ظهار السكران؟ ينبني على الخلاف المتقدم في الطلاق، وتقدم أن طلاقه – على الراجح – أنه لا يقع، فكذلك ظهاره. هل يصح ظهار (2) الصبي؟ تقدم أن في المسألة قولين، وهذه المسألة تنبني على الخلاف المتقدم، وقد تقدم أن طلاق الصبي يصح. لكن الذي يترجح لي – في هذا الباب – وهو اختيار الموفق أن ظهار الصبي المميز لا يصح وإن كان طلاقه يقع كما تقدم؛ وذلك لأن الظهار يمين مكفَّرة، ويمين الصبي لا تنعقد، ولأن الظهار منكر من القول وزور، وقد أوجب الله هذه الكفارة لأن الظهار منكر من القول وزور، والصبي مرفوع عنه القلم فهو غير مكلف فليس هذا منه منكراً من القول وزوراً.

_ (1) سورة التحريم. (2) في الأصل: طلاق.

وعليه فالذي يترجح أن ظهار الصبي لا يصح، وكذلك إيلاؤه كما تقدم، فالكفارة لا تجب عليه، وقد رجحتُ لكم في الدرس السابق أن إيلاء الصبي يصح، هذا من باب إيقافه بعد أربعة أشهر دفعاً للضرر عن المرأة، وأما من حيث الكفارة فلا، فإنه لا كفارة عليه، وعليه؛ فالذي يتبين أنه لا يسمى إيلاء لكنه يكون في حكم الإيلاء وذلك دفعاً للضرر عن المرأة. الدرس التاسع والخمسون بعد الثلاثمائة فصل قوله: [ويصح الظهار معجلاً] وتقدمت أمثلته كأن يقول: " أنت علي كظهر أمي ". قوله: [ومعلقاً بشرط] كأن يقول: " إن دخلت الدار فأنت علي كظهر أمي " أو: " إن قمت فأنت علي كظهر أمي " فهذا معلق بشرط وهو ظهار صحيح، فيصح تعليق الظهار بالشروط قياساً على الطلاق بجامع أن كليهما تحريم للزوجة. قوله: [فإذا وجد صار مظاهراً] فإذا وجِد الشرط صار مظاهراً. قال: [ومطلقاً] أي يصح الظهار مطلقاً أي غير مؤقت، فإذا قال لامرأته: " أنت علي كظهر أمي " فهنا ظهار منجز مطلق. قال: [ومؤقتاً] فيصح الظهار مؤقتاً كأن يقول لها: " أنت علي كظهر أمي في هذه السنة " أو " أنت علي كظهر أمي في هذا الشهر، أو: أنت علي كظهر أمي في هذا اليوم " وهكذا، ويدل على صحة تأقيته دليلان؛ دليل من الأثر ودليل من النظر. أما الدليل الأثري؛ فهو ما رواه الترمذي وغيره في قصة سلمة بن صخر وفيه أنه ظاهر من امرأته حتى ينسلخ شهر رمضان فأصاب فيه فأخبر النبي - صلى الله عليه وسلم - بذلك فأمره بالكفارة " (1) . وأما الدليل النظري؛ فهو أن الظهار يمين يمتنع بها المتلفظ من وطء امرأته فأشبه الإيلاء، والإيلاء يصح تأقيته كأن يقول: " والله لا وطئتك هذا الشهر ". إذن: قياساً على الإيلاء بجامع أن كليهما يمين تمنع من الوطء. قال: [فإن وطئ فيه كفَّر] لأنه يكون قد حنث في يمينه. قال: [وإن فرغ الوقت زال الظهار]

فإذا فرغ الوقت الذي حدده فإن الظهار يزول، فإذا قال لامرأته: " أنت علي كظهر أمي في شهر رمضان " فمضى شهر رمضان ولم يطأها، فيزول الظهار وليس عليه كفارة. لأنه حينئذ لا يكون قد حنث، فالتحريم مؤقت في شهر رمضان، وقد مضى هذا الشهر فزال بمضيه الظهار. قال: [ويحرم قبل أن يكفِّر وطء ودواعيه ممن ظاهر منها] يحرم على المظاهر أن يطأ المرأة التي قد ظاهر منها، فإذا قال لامرأته: " أنت علي كظهر أمي " فلا يحل له أن يطأها حتى يكفر وهذا بالإجماع. ودليله قوله تعالى: {والذين يظاهرون من نسائهم ثم يعودون لما قالوا فتحرير رقبة من قبل أن يتماسا} . وكذلك دواعي الوطء من قبلة أو مسٍ أو نحو ذلك فلا تحل له حتى يكفر، في أصح قولي العلماء وهو المشهور في المذهب وهو أحد قولي الشافعي. والقول الثاني في المسألة وهو القول الثاني في مذهب الشافعي وأحمد: أن ذلك يحل له لقوله تعالى {من قبل أن يتماسا} وهو كناية عن الوطء. والراجح هو القول الأول، ويدل عليه الأثر والنظر. أما الأثر؛ فهو ما روى الترمذي وأبو داود ورواه الإمام احمد والحديث حسن من حديث ابن عباس أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال للمظاهر: (فلا تقربها حتى تفعل ما أمرك الله به) (1) ، ويدخل في ذلك النهي عن فعل ذرائع الوطء من قبلة أو مباشرة أو مس أو نحو ذلك. أما دليل النظر: فهو أن لفظ المظاهر يقتضي ذلك فإنه قال لامرأته: " أنت علي كظهر أمي " وهذا يقتضي المنع من الدواعي لأن الدواعي محرمة عليه تجاه أمه، وقد شبه امرأته بأمه، ولأن القبلة والمس ونحوهما من ذرائع الوطء، والشرع إذا حرم الشيء حرم ذرائعه الموصلة إليه. قال: [ولا تثبت الكفارة في الذمة إلا بالوطئ]

_ (1) أخرجه الترمذي في كتاب الطلاق واللعان، باب ماجاء في المظاهر يواقع قبل أن يكفر (1120) ، انترنت / موقع الإسلام / بواسطة ردادي. ولم أجده بهذا اللفظ في أبي داود وأحمد.

لا تثبت الكفارة في ذمة المظاهر إلا بالوطء، فلو عزم على الوطء فنقول له: يجب عليك أن تكفر ولا يحل لك أن تطأ حتى تكفِّر إذ شرط الحل الكفارة. لكن لا تتعلق في ذمته حتى يطأ، فلو قُدِّر أنه مات وقد عزم على أن يعود ولم يطأ بعد فإنها لا تجب في ماله، أو ماتت المرأة قبل أن يطأها فإنها لا تجب عليه. قال: [وهو العود] فالعود هو الوطء في أصح أقوال العلماء، ففي العود المذكور في قوله تعالى: {ثم يعودون لما قالوا} ، فيه لأهل العلم ثلاثة أقوال: القول الأول وهو قول أهل الظاهر: أن المراد بذلك أن يعود للمظاهرة لفظاً، فيظاهر منها مرةً أخرى، أي بأن يقول لها مرة أخرى: " أنت علي كظهر أمي "، فإذا قال الرجل لامرأته: " أنت علي كظهر أمي " فلا كفارة، فإذا كرر فقال: " أنت علي كظهر أمي " فحينئذٍ تجب عليه الكفارة وهذا القول ضعيف تبطله السنة؛ فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - كما في الصحيحين أوجب على أوس بن الصامت الكفارة (1) ولم يعد في لفظه، ولحديث سلمة بن صخر المتقدم فإنه أصاب من امرأته فأوجب النبي - صلى الله عليه وسلم - الكفارة ولم يشترط أن يعود في لفظه، وهذا القول لم يسبق إليه الظاهرية أحد من السلف الصالح من الصحابة والتابعين. القول الثاني وهو مذهب الشافعية: أن العود هو أن يمسكها بعد أن ظاهر منها زمناً يمكنه أن يطلقها فيها بمعنى لحظة يمكن أن يطلق فيها، فلو قال: "أنت علي كظهر أمي " ثم سكت فعليه الكفارة لكن لو قال: " أنت كظهر أمي " ثم قال مباشرة: " أنت طالق " فحينئذٍ لا كفارة عليه، أما إذا أمسكها بعد تلفظه بالظهار زمناً يمكنه أن يطلقها فيه فإن عليه الكفارة، قالوا: لأن مقتضى الظهار البينونة،فإمساكها هو العود، وهذا القول ضعيف من وجهين: الوجه الأول: أنا لا نسلِّم أن الظهار يقتضي البينونة لكنا نقول إنه يقتضي التحريم.

الوجه الثاني: أن الله عز وجل قال: {ثم يعودون لما قالوا} ولفظة (ثم) تفيد التراخي، وهذا الإمساك الذي تقدم ذكره عن الشافعية ليس بمتراخٍ. والقول الثالث في المسألة وهو قول جمهور العلماء: أن العود هو الوطء كما ذكر المؤلف هنا، وهو أصح الأقوال، أي ثم يعودون لما قالوا من تحريم المرأة فيستبيحونه أي فيستبيحون ما حرموه بوطء المرأة. وعليه فقوله تعالى: {ثم يعودون لما قالوا فتحرير رقبة} معناه؛ ثم يعزمون على العود، فإذا عزموا على العود فتجب عليهم الكفارة من قبل العود، وقد نصر هذا القول، وذكر الأدلة وذكر الأقوال وبسط الكلام فيه الحافظ ابن القيم في زاد المعاد. قال: [ويلزم إخراجها قبله عند العزم عليه] لقوله تعالى: {من قبل أن يتماسا} ، فهو شرطٌ في حلها. قال: [وتلزمه كفارة واحدة بتكريره قبل التكفير من واحدةٍ] أي من واحدةٍ من نسائه، فإذا قال لامرأته: " أنت علي كظهر أمي " قال ذلك في يوم السبت مثلاً ولم يكفر، ثم قال في يوم الاثنين: " أنت علي كظهر أمي " ولم يكفر، ثم قال في يوم الثلاثاء " أنت علي كظهر أمي " ولم يكفر فلا تجب عليه إلا كفارة واحدة، كاليمين، فإن الظهار نوع من الأيمان. والرجل إذا قال: " والله لا دخلت دار فلان" ثم كرر ذلك قبل أن يكفر فإنها يمين واحدة، وهنا كذلك. أما إذا قال لامرأته: " أنت علي كظهر أمي " ثم كفر، ثم قال لها: " أنت علي كظهر أمي " فإنه يجب أن يكفر عن ظهاره الثاني وذلك كاليمين. قوله: " من واحدةٍ " أما لو كان من عدة نساء، فإنه يقول لامرأته: " أنت علي كظهر أمي " ثم يقول للثانية كذلك، فإن الأعيان قد تعددت فعليه لكل واحدة كفارة. قال: [ولظهاره من نسائه بكلمة واحدة]

إذا قال لنسائه: " أنتن علي كظهر أمي " فلا يجب عليه إلا كفارة واحدة كاليمين، فهو كما لو قال: " والله لا أكلت هذا اليوم ولا شربت ولا وطئت ولا خرجت " ففعل هذه الأشياء كلها، فلا تجب عليه إلا كفارة واحدة؛ لأنها يمين واحدة، وكذلك إذا قال لنسائه: " أنتن علي كظهر أمي " فهو ظهار واحد، أما لو قال لكل واحدة منهن: " أنت علي كظهر أمي " فالحكم يختلف ولذا قال المؤلف: [وإن ظاهر منهن (بكلمات) (1) فكفارات] فإذا قال للأولى: " أنت علي كظهر أمي " وقال للثانية كذلك وقال للثالثة كذلك، فيجب أن يكفر كل ظهار كالأيمان، لأن الظهار حينئذٍ أيمان متعددة في أعيان متعددة فوجب لكل يمين كفارتها. الدرس الستون بعد الثلاثمائة فصل قال: [كفارته عتق رقبة فإن لم يجد فصيام شهرين متتابعين فإن لم يستطع أطعم ستين مسكيناً] للآية الكريمة، وذلك واجب على الترتيب اتفاقاً، فيجب عليه أن يعتق رقبة، فإن لم يجد فصيام شهرين متتابعين، فإن لم يستطع أطعم ستين مسكيناً، كما رتبت الآية الكريمة وكما ثبت في حديث أوس بن الصامت وفي حديث سلمة بن صخر. ثم فصَّل في الرقبة وهي الأصل في الكفارة. فقال: [ولا تلزم الرقبة إلا لمن ملكها أو أمكنه ذلك بثمن مثلها] فلا تلزم الرقبة إلا لمن ملكها، أو أمكنه أن يملكها بثمن مثلها أو بثمن زائد لكن لا يُجحف بماله، فإذا كان ثمن مثلها عشرة آلاف، فأمكنه أن يشتريها بعشرة آلاف أو بأكثر من عشرة آلاف لكن ذلك لا يجحف بماله فيجب عليه أن يشتريها فيعتقها. قال: [فاضلاً عن كفايته دائماً] أي فاضلاً عن كفايته سنته تلك، كما فسَّر ذلك بعض الشراح. قال: [وكفاية من يمونه، وعما يحتاجه من مسكن وخادمٍ ومركب وعرض بذلة] البذلة: الثوب الخَلِق. قال: [وثياب تجملٍ، ومالٍ يقوم كسبه بمؤنته] كأن يكون له دكان أو له آلة يعمل عليها ويحصل منها نفقته ونفقة من يمون.

_ (1) ليست في الأصل.

قال: [وكتب علم ووفاء دين] فلا تجب إلا أن تكون فاضلة عن حاجته، وذلك لأن ما استغرقته حاجة الإنسان فهو كالمعدوم، فهذه الأشياء المذكورة هو محتاج إليها، وما استغرقته حاجة الإنسان هو كالمعدوم، أي كما لو لم يجده، فكما لو لم يكن عنده كتب وكما لو لم يكن عنده خادم وكما لو لم يكن عنده آلة ونحو ذلك. فما استغرقته حاجة الإنسان فهو كالمعدوم؛ وذلك لأن ما تستغرقه حاجة الإنسان من الحرج أن يُكلف ببيعه والاستغناء عنه ومعلوم أن الحرج مرفوع في الشريعة الإسلامية، {ما جعل عليكم في الدين من حرج} (1) . مسألة: اعلم أن القاعدة في المذهب؛ أن المعتبر في الكفارات كلها وقت الوجوب. ووقت الوجوب في كفارة الظهار هو العَوْد أي الوطء، فإذا وطئ فهذا هو وقت وجوب كفارة الظهار عليه، فلو كان موسراً قادراً على أن يعتق رقبة عند وطئه ثم أعسر فتتعلق الرقبة في ذمته فليس له أن ينتقل إلى الصيام ولا إلى الإطعام بعد الصيام. والعكس بالعكس، فلو أنه كان عند الوطء معسراً، والواجب على المعسر هو الصيام؛ لأنه غير قادر على الإعتاق، فإذا أيسر فلا يجب عليه أن يعتق رقبة؛ لأنا ننظر إلى حاله أثناء الإيجاب، فالواجب عليه هو الصيام، لكن إن شاء أن يعتق رقبة فله ذلك لأنها هي الأصل، هذا هو المشهور في مذهب الإمام أحمد في الكفارات كلها، وهكذا في كفارة اليمين وغيرها. واليمين وقت وجوبها الحنث، فلو أن رجلاً حلف ألا يفعل كذا ففعله وكان موسراً فعليه الإطعام أو الكسوة أو تحرير الرقبة، لكنه أعسر بعد ذلك فنقول له: لا يجزئك أن تصوم بل عليك أن تعتق أو تطعم متى تيسر لك الأمر. والقول الثاني في المسألة وهو رواية عن الإمام أحمد حكاها عنه ابن عقيل: أن المعتبر في الكفارات هو الأداء، وعليه فمتى أراد أن يؤدي نقول: انظر إلى حالك هل أنت موسر أو معسر.

_ (1) سورة الحج، الآية الأخيرة.

وهذا فيما يظهر لي أقوى، وهو ظاهر الآية الكريمة: {فتحرير رقبة من قبل أن يتماسا} ، فإن لم يجد في حال كان في عسر أو يسر فإنه يصوم شهرين متتابعين فإن لم يستطع في أي حال كان، فإنه يطعم ستين مسكيناً. قال: [ولا يجزئ في الكفارات كلها إلا رقبة مؤمنة] فلا يجزئ في الكفارات كلها إلا رقبة مؤمنة، وهذا هو مذهب الجمهور، خلافاً لأبي حنيفة. فلا يجزئ في الكفارات إلا أن تكون الرقبة مؤمنة، وذلك لقوله تعالى في كفارة القتل: {فتحرير رقبة مؤمنة} (1) ، والقاعدة هي تقييد المطلق بالمقيد إذا اتحد الحكم، ولقول النبي - صلى الله عليه وسلم - فيما ثبت في صحيح مسلم: (أعتقها فإنها مؤمنة) (2) . وأما أبو حنيفة فاستدل بالإطلاق في الآية الكريمة في الظهار: {فتحرير رقبة من قبل أن يتماسا} ولم يشترط أن تكون الرقبة مؤمنة، لكن كما تقدم يُقيد المطلق على المقيد؛ لأن الحكم متحد وإن كان السبب مختلفاً. قال: [سليمة من عيب يضر بالعمل ضرراً بيناً] فيشترط أن تكون الرقبة سليمة من العيوب التي تمنع العمل أو تضر به ضرراً بيناً وهذا باتفاق العلماء، وذلك لأن المقصود من العتق تمليك العبد منافعه وتمليكه من التصرف بنفسه، فاشترط فيمن يعتق أن يكون ممن يتمكن من العمل، أما إذا كان لا يتمكن من العمل أو يتمكن منه بضعفٍ شديد فإنه لا يصح عتقه. قال: [كالعمى والشلل ليدٍ أو رجلٍ أو قطعهما أو أقطع الإصبع الوسطى أو السبابة أو الإبهام أو الأنملة من الإبهام أو أقطع الخنصر والبنصر من يد واحدة]

_ (1) سورة النساء. (2) أخرجه مسلم في كتاب المساجد، باب تحريم الكلام في الصلاة ونسخ ما كان من إباحته (537) ، وبعد حديث (2227) .

كل هذه المسائل في قول المؤلف تضر بالعمل ضرراً بيّناً، وحيث أن الحكم يدور مع علته وجوداً وعدماً فإن بعض ما ذكره المؤلف قد لا يضر بالعمل ضرراً بيناً لا سيما مع اختلاف الزمان، فقد يكون الأعمى في زمن ما، عماه يضر به ضرراً بيناً، بينما يكون في زمان آخر يمكنه أن يعمل كما يكون هذا في زمننا، فالمقصود أنه حيث تثبت العلة في هذا المعيب وهو أن يكون عيبه قد أضر به ضرراً بيناً بعمله فإنه لا يصح إعتاقه ولا يجزئ. وأما إن كان هذا العيب لا يضر به ضرراً بيناً ويمكنه الاستفادة من منافع نفسه فإن عتقه صحيح. إذن: ما ذكره المؤلف من الأمثلة ليس بمسلم في كل زمن، ولذا ورد عن الإمام أحمد في مقطوع الإصبع؛ أنه يجزئ إعتاقه لقدرته على العمل. قال: [ولا يجزئ مريض ميؤوس منه ونحوه] للعلة المتقدمة. قال: [ولا أم ولد] فلا يجزئه تحرير أم الولد؛ وذلك لوجود سبب آخر يقتضي تحريرها وهو كونها قد ولدت من سيدها فإنها تعتق بموته، وعليه فإعتاقه هو (1) ليس هو السبب المستقل في إعتاقها. قال: [ويجزئ المدَّبر] فالمدبَّر يجزئ إعتاقه وذلك؛ لأن المدبر يصح بيعه كما تقدم وعليه فيصح عتقه فكذلك هنا في باب الكفارات. قال: [وولد زنا والأحمق والمرهون والجاني والأمة الحامل ولو استثنى حملها] فلو حرر أمةً وهي حامل فإن ذلك يجزئ، وأيضاً لو حرر ولد الزنا أو الأحمق أو المرهون أو الجاني فإن ذلك يجزئ؛ وذلك لأن هؤلاء داخلون في عموم الآية، وما فيهم من العيب لا يضر بعملهم فلا مانع من إجزاء إعتاقهم. فصل قال: [يجب التتابع في الصوم]

_ (1) كذا في الأصل، والأولى حذفه.

وهو أن يصوم شهرين متتابعين، لقوله تعالى: {فمن لم يجد فصيام شهرين متتابعين} (1) ، فإن نوى في أثناء الشهرين صياماً آخر كنذر أو تطوع أو قضاء صوم رمضان فإنه يكون بذلك قد أبطل تتابع صومه وعليه فلا يجزئه هذا الصوم بل لابد أن يستأنف الصيام من جديد لأن الله أوجب التتابع. قال: [فإن تخلله رمضان] كأن يصوم شهر شعبان ثم صام رمضان ثم أفطر يوم العيد ثم صام ثلاثين يوماً، فصيامه مجزئ؛ وذلك لأن المتخلل له هو رمضان وهذا باتفاق العلماء، وصوم رمضان ليس بقاطع؛ وذلك لأن صيام تلك الأيام متعين – أي صيام أيام رمضان – وعليه فيكون معذوراً بصومها الذي قطع في الظاهر عليه صيام الشهرين المتتابعين، وعليه فلا ينقطع التتابع بل يصح للعذر، بخلاف النذر وقضاء الصوم فإنه لا يتعين عليها (2) صومها في ذلك اليوم الذي صامه فيه أثناء الشهرين. قال: [أو فطرٌ يجب كعيدٍ وأيام تشريق وحيضٌ وجنون ومرضٌ مخوفٌ ونحوه] فإذا تخلل صيامه أيام عيد أو أيام تشريق أو حيض للمرأة أو نفاس للمرأة أيضاً أو جنون أو مرض مخوف ونحو ذلك فإن التتابع لا ينقطع لهذا الفطر، وذلك لأن هذا عذر لا صنع للمكلف فيه، وهذا باتفاق أهل العلم. قال: [أو أفطر ناسياً أو مكرهاً أو لعذرٍ يبيح الفطر لم ينقطع] فإذا أفطر ناسياً أو مكرهاً أو جاهلاً أولعذرٍ يبيح الفطر من سفرٍ أو مرضٍ لا يكون مخوفاً ويجوز معه الفطر في نهار رمضان فإن التتابع لا ينقطع، في المشهور من المذهب. والقول الثاني في المسألة وهو مذهب المالكية والأحناف: أن التتابع ينقطع فيجب عليه الاستئناف فيبدأ من جديد واستدلوا؛ بأن هذا العذر الواقع إنما هو باختياره، والنسيان والإكراه والجهل وإن كان عذراً في المكلف لكنه قاطعٌ للتتابع.

_ (2) كذا في الأصل، ولعل الصواب: عليه.

والقول الأول هو الراجح في هذه المسألة قياساً على صيام رمضان، فإذا كان صوم رمضان وهو فرض من فرائض الإسلام ومبنى من مبانيه العظام، إذا كان يجوز فيه مع هذه الأعذار المتقدمة الفطر فصيام الكفارات أولى في ذلك. قال: [ويجزئ التكفير بما يجزئ في فطرةٍ فقط] الفطرة: هي صدقة الفطرِ. فيجزئ التكفير بما يجزئ في صدقة الفطر من تمرٍ أو أقطٍ أو قمح أي بر أو شعير، مما تقدم في صدقة الفطر مما ورد في الصحيحين من حديث ابن عمر (1) ، فلا يجزئ إذن: أن يكفر بالأرز ولا بغيره من قوت البلد، هذا هو المشهور في مذهب الإمام أحمد ولا دليل عليه. والراجح – في هذه المسألة – ما اختاره شيخ الإسلام وتلميذه ابن القيم وهو: أن أي طعام يعد في العرف طعاماً فإنه يجزئ التكفير به، وذلك لإطلاق الآية الكريمة {فإطعام ستين مسكيناً} ، فالله لم يحدد ولم يقدر لنا الإطعام فرجع ذلك إلى العرف، فالأرز عندنا طعام من أوسط ما نطعم أهلنا، وكذلك بعض الأُدم فإنها من الطعام في العرف. قال: [ولا يجزئ من البر أقل من مدٍ ولا من غيره أقل من مدين] لا يجزئ من البر - وهو القمح - إلا ربع الصاع، ولا يجزئ من التمر ونحوه كالشعير إلا نصف الصاع. قال: [لكل واحدٍ ممن يجوز دفع الزكاة إليهم] إذن: يصح أن تدفع الطعام إلى المؤلفة قلوبهم، ويصح أن تدفع إلى الغارمين وغير ذلك من الأصناف الثمانية المذكورة في سورة التوبة، وهذا قول ضعيف. والراجح وهو اختيار ابن القيم: أن دفعها لا يجزئ إلا للمساكين وهو ظاهر القرآن، فإن الله قال: {فإطعام ستين مسكيناً} ، والآية المتقدمة: {إنما الصدقات للفقراء …..} (2) إنما هي في زكاة المال. قال: [وإن غدَّى المساكين أو عشاهم لم يجزئه] فلو وضع للمساكين قمحاً وهذا القمح خمسة عشر صاعاً لكنه مطبوخ فذلك لا يجزئه في المشهور من المذهب، وذلك لاشتراط التمليك فيشترط أن يُملكهم هذا الطعام.

_ (2) سورة التوبة.

والقول الثاني في المسألة وهو رواية عن الإمام أحمد وهو مذهب مالك وأبي حنيفة واختيار شيخ الإسلام وتلميذه ابن القيم: أن ذلك يجزئ؛ وذلك لإطلاق الآية الكريمة: {فإطعام ستين مسكيناً} وقد تقدم في سنن الدارقطني، أن أنس بن مالك: " كان يصنع الثريد فيطعمه المساكين كفارةً لفطره في نهار رمضان " (1) ، وهذا هو القول الراجح وهو ظاهر القرآن. قال: [وتجب النية في التكفير من صومٍ وغيره] وهذا ظاهر لأن الأعمال بالنيات، فلو أعتق رقبة ولم ينو أنها كفارة لظهار، أو صام ولم ينو أنه كفارة لظهار فإن ذلك لا يجزئ لأن الأعمال بالنيات. مسألة: ولا يجزئه إلا أن يطعم ستين مسكيناً لظاهر الآية الكريمة وهو مذهب الجمهور، خلافاً لأبي حنيفة فلو أعطى واحداً طعام ستين مسكيناً فإن ذلك يجزئ في مذهب أبي حنيفة، والجمهور على خلافه. والراجح مذهب الجمهور؛ لظاهر الآية الكريمة، فقد قال تعالى: {فإطعام ستين مسكيناً} فقد نص الله على العدد فلا يجزئه أن يدفع خمسة عشر صاعاً من البر لمسكين واحد. قال: [وإن أصاب المظاهر منها ليلاً أو نهاراً انقطع التتابع] إذا جامع المظاهر امرأته التي ظاهرها ولو ليلاً فإن التتابع ينقطع، فعليه أن يستأنف صيام الشهرين من جديد. هذا هو القول الأول في المسألة وهو مذهب جمهور العلماء؛ وذلك لأن الله عز وجل أوجب صيام شهرين متتابعين قبل التماس فإذا مسها في ليلة فإنه لم يصم الشهرين المتتابعين كما أمره الله تعالى. والقول الثاني في المسألة وهو مذهب الشافعية: أنه إن جامعها ليلاً فإن ذلك لا يضر بتتابعه لكنه يأثم، وذلك لأنه صام الشهرين المتتابعين، وما فعله لا يضر بتتابعه فقد فعل ما أمره الله من الصيام فقد صام شهرين متتابعين. والقولان فيهما قوة، والذي يقوى لي - والله أعلم - هو القول الثاني، وذلك لأن القول الأول منتقَض بمسألتين:

المسألة الأولى: أن من جامع امرأته فإنه يجب عليه أن يكفر بعد ذلك كما تقدم في قصة أوس بن الصامت وفي قصة سلمة بن صخر، فإنهما قد وطئا قبل أن يكفرا، ومع ذلك فقد أمرهما النبي - صلى الله عليه وسلم - بالكفارة. والمسألة الثانية: أنهم قالوا: إذا جامع امرأته أثناء إطعامه فإنه يأثم لكن الإطعام يصح، فلو أنه أطعم في يوم عشرة مساكين ثم جامع امرأته قبل أن يتم إطعام ستين مسكيناً، فإن الإطعام عندهم مجزئ، فيكون آثماً لكونه مس امرأته قبل أن يطعم ستين مسكيناً، وهذا ينقض قولهم المتقدم، فالأرجح فيما يظهر لي مذهب الشافعية والله أعلم. وأعلم أن الإطعام كالصيام، فليس له أن يمس امرأته قبل أن يطعم، والله عز وجل لم يذكر ذلك في الإطعام في كفارة الظهار؛ لما في ذكره من الإطالة ويكتفي بإلحاق النظير بنظيره، ولأنهما متماثلان فكلاهما كفارة، بل اشتراط ذلك في الإطعام أولى؛ وذلك لأن الإطعام في الغالب زمنه يسير فقد يكفّر بالإطعام في ساعة واحدة بخلاف الصيام فإنه يكون في شهريين متتابعين. قال: [وإن أصاب غيرها ليلاً لم ينقطع] فإذا أصاب غيرها من نسائه ليلاً فإن التتابع لا ينقطع، وهذا ظاهر لأن غيرها لم تحرم عليه بالظهار، فليس له أن يطأ هذه المرأة التي ظاهرها، أما لو وطئ غيرها من نسائه فلا حرج عليه في ذلك. الدرس الحادي والستون بعد الثلاثمائة كتاب اللعان اللعان: مشتق من اللعن لقوله تعالى: {والخامسة أن لعنة الله عليه إن كان من الكاذبين} (1) .

_ (1) سورة النور.

وأما تعريفه: فهو أن يقذف الرجل امرأته بالفاحشة فيشهد على نفسه بذلك أربع شهادات بالله إنه لمن الصادقين ثم الخامسة أن لعنة الله عليه إن كان من الكاذبين، ويدرأ عنها العذاب أن تشهد أربع شهادات بالله إنه لمن الكاذبين والخامسة أن غضب الله عليها إن كان من الصادقين، والغضب أقبح من اللعنة، وكان الغضب هنا، لأن الغضب لمن يعلم الحق ويترك القول به، والذي يغلب على الظاهر أن الرجل صادقٌ في قوله، إذ يبعد في الغالب أن الرجل يرمي امرأته على رؤوس الأشهاد بالفاحشة ويلعن نفسه بالخامسة إلا وهو صادقٌ في دعواه، وأن المرأة قد اضطرته إلى ذلك. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [يشترط في صحته أن يكون بين زوجين] لقوله تعالى: {والذين يرمون أزواجهم} (1) ، فلو قذف أجنبية عنه فإما أن يأتي بأربعة شهود فتُحدَّ المرأة وإما أن يجلد ثمانين جلدة، وهو حد القذف. فحكم اللعان مختص بالزوج فقد يرى الرجل من امرأته ما يكره، وليس ثمت من يشهد له، وقد رأى ذلك بعينه أو تيقن حصول ذلك فيحتاج إلى نفي الولد منه وحينئذٍ فيُلاعن امرأته فيشهد على نفسه أربع شهادات إنه لمن الصادقين. واختُلف هل هي أيمان أم شهادات: القول الأول وهو مذهب الجمهور: أنها أيمان مؤكدة بالشهادة. القول الثاني وهو مذهب أبي حنيفة: أنها شهادات. وينبني على هذا الخلاف من يصح لعانه، فإن قلنا: إن اللعان شهادات فلا يصح إلا ممن تصح شهادته، فالفاسق لا تصح شهادته وعليه فلا يصح لعانه وكذلك الكافر والعبد، وإن قلنا: إن اللعان أيمان فإنه يصح ممن تصح يمينه فيصح من العبد ويصح من الكافر ويصح من الفاسق؛ لأن أيمانهم منعقدة صحيحة. استدل أهل القول الثاني القائلين بأنها شهادات، بلفظ الشهادة في قوله تعالى: {ولم يكن لهم شهداء إلا أنفسهم} ، فدل على أنهم شهداء فما يحصل منهم فهو شهادة.

واستدل أهل القول الأول، بقوله تعالى: {فشهادة أحدهم أربع شهادات بالله} فقوله (بالله) من ألفاظ القسم، قالوا: والشهادة تأتي في القرآن وفي لغة العرب بمعنى اليمين، ومنه قوله تعالى: {فيقسمان بالله لشهادتنا أحق من شهادتهما وما اعتدينا} (1) ، أي ليميننا، ولقوله تعالى: {إذا جاءك المنافقون قالوا نشهد إنك لرسول الله والله يعلم إنك لرسوله} (2) ، ثم قال بعد ذلك {اتخذوا أيمانهم جنة} ، فقولهم (نشهد) يمين. ومن شعر العرب قول بعضهم: ((فأشهد بالله أني أحبها)) . فقوله (أشهد) ؛ أي يمين، وهو من الشعر المحتج به، وقد أورده ابن القيم في زاد المعاد، وهذا القول هو القول الراجح. وأما قوله تعالى {ولم يكن لهم شهداء إلا أنفسهم} فهذا من باب الاستثناء المنقطع، أي لم يكن لهم شهداء لكن أنفسهم. ويدل على القول الراجح حديث لكنه ضعيف أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (لولا الأيمان لكان لي ولها شأن) (3) رواه أبو داود وعلى القول الراجح فمن صحت يمينه صح لعانه، وعليه فالفاسق يصح لعانه وكذلك الكافر والعبد. وأما غير البالغ فلا يصح لعانه؛ لأن يمينه لا تصح، فلو قذف الصبي امرأته بالزنا فلا لعان؛ وذلك لأن يمينه لا تصح. ويدل على صحة قول الجمهور عموم قوله تعالى: {والذين يرمون أزواجهم} ، فهو عامٌ في الحر والعبد وفي المسلم والكافر وفي العدل والفاسق، ولأن ذلك موضع ضرورة فيحتاج إليه الكافر ويحتاج إليه العبد ويحتاج إليه الفاسق، فهو موضع حاجة، لأنه يحتاج إلى اللعان لينفي الولد عنه. قال: [ومن عرف العربية لم يصح لعانه بغيرها وإن جهلها فبلغته] من عرف العربية فيشترط في صحة لعانه، أن يكون بها، لكن إن جهلها فبلغته كما تقدم في النكاح.

_ (1) سورة المائدة 107. (2) سورة المنافقون 1. (3) أخرجه أبوداود في كتاب الطلاق، باب في اللعان (2256) .

والقول الثاني في المسألة وهو أحد الوجهين في مذهب الشافعي: أن اللعان يصح بغير اللغة العربية مع القدرة عليها، وهذا هو القول الراجح في هذه المسألة، وذلك لأن اللعان يمين، واليمين تصح بغير اللغة العربية مع القدرة عليها، واللعان نوع من الأيمان، فلو حلف بالله عز وجل في لغته فإنها يمين فكذلك اللعان. قال: [فإذا قذف امرأته بالزنا فله إسقاط الحد باللعان] إذا قذف امرأته بالفاحشة في قبل أو دبر، فله إسقاط الحد باللعان، إذن: إن قذف امرأته بالزنا فعليه حد القذف، لكن يدرأ عنه الحد أن يلاعن، ولذا قال - صلى الله عليه وسلم - كما في البخاري: (البينة وإلا حدٌ في ظهرك) (1) . قال: [فيقول قبلها أربع مرات أشهد بالله لقد زنت زوجتي هذه ويشير إليها، ومع غيبتها يسميها وينسبها] أي ينسبها بما تتميز به فيذكر اسمها ويذكر ما يحتاج إليه من نسبها لتتميز عن بقية نسائه. قال: [وفي الخامسة: وأن لعنة الله عليه إن كان من الكاذبين] فيقول هذه الخامسة: وأن لعنة الله عليه إن كان من الكاذبين، فيقول: أشهد بالله لقد زنت زوجتي هذه، أو نحوها من الألفاظ التي يرميها بها في الزنا، فلو قال: " أشهد بالله أن ما في بطنها ليس مني "، فهذا كافٍ في رميها بالزنا. قال: [ثم تقول هي أربع مرات: أشهد بالله لقد كذب فيما رماني به من الزنا] ونحو ذلك من الألفاظ التي تبرئ بها نفسها. قال: [ثم تقول في الخامسة: وأن غضب الله عليها إن كان من الصادقين] ويستحب أن يحضر ذلك جماعة من الناس، ففي البخاري عن سهل بن سعدٍ قال: (فتلاعنا وأنا مع الناس عند النبي - صلى الله عليه وسلم -) (2) .

_ (1) سيأتي. (2) أخرجه البخاري في كتاب الطلاق، باب اللعان ومن طلق بعد اللعان (5308) .

ويستحب أن يكون ذلك في المسجد كما في البخاري من حديث سهل بن سعد: " أن ذلك كان في المسجد " (1) . ويستحب أن يتلاعنا قياماً؛ وذلك لأنه أردع في حقهما. ويستحب للحاكم أن يعظهما وأن يذكرهما، وأن يأمر رجلاً يضع يده على فيِّ الرجل في الخامسة، ويقول له: " إنها موجبة "، ففي صحيح مسلم أن النبي - صلى الله عليه وسلم -: (ذكر الملاعن ووعظه وأخبره أن عذاب الدنيا أهون من عذاب الآخرة وحد القذف أهون من عذاب الله في الآخرة، ثم دعا المرأة فوعظها كذلك) (2) ، وفي سنن أبي داود والنسائي بإسنادٍ صحيح أن النبي - صلى الله عليه وسلم -: (أمر رجلاً أن يضع يده عند الخامسة على فيه، ويقول: " إنها موجبة ") (3) ، أي موجبة للعنة الله تعالى. قال: [فإن بدأت باللعان قبله ... إلى أن قال: لم يصح] إذا بدأت المرأة باللعان قبل الرجل فلا يصح اللعان في مذهب جمهور العلماء، خلافاً لأبي حنيفة، وذلك لأن الله عز وجل قد شرع بذكر لعانه قبل ذكر لعانها، والحكمة من أن لعان الرجل قبل لعان المرأة من وجهين: الوجه الأول: أن الرجل قاذفٌ مدعي فبُدئ به أولاً، لأنه هو القاذف لها وهو الذي رماها بهذه الفاحشة العظيمة. والوجه الثاني: أن الرجل جانبه أقوى، فالغالب أنه صادقٌ في دعواه، إذ يبعد أن يرمي امرأته بالزنا في هذا المشهد بين الناس إلا وهو صادق في دعواه. قال: [أو أنقص أحدهما شيئاً من الألفاظ الخمسة … إلى أن قال: لم يصح]

_ (1) أخرجه البخاري في كتاب الطلاق، باب التلاعن في المسجد (5309) . (2) أخرجه مسلم في كتاب اللعان، (1493) . (3) أخرجه أبو داود في باب في اللعان من كتاب الطلاق (2255) ، وأخرجه النسائي في الطلاق، باب الأمر بوضع اليد في المتلاعنين عند الخامسة (6 / 175) ، سنن أبي داود [2 / 688] .

لأنه خلاف ما أمر الله عز وجل به، فلا يصح إلا أن يأتي كل واحدٍ منهما بالألفاظ الخمسة، فلو قال: " أشهد بالله إنها زانية، وأشهد بالله إنها زانية، أشهد بالله إنها زانية – ثم قال: " وأن لعنة الله علي إن كنت من الكاذبين "، لم يصح لعانه، أو قال: " أشهد بالله إنها زانية، أربعاً "، ثم سكت ولم يقل: " وأن لعنة الله علي إن كنت من الكاذبين، فإن لعانه لا يصح حتى يأتي باللعان كما أمره الله عز وجل، وكذلك المرأة. قال: [أولم يحضرهما حاكمٌ أو نائبه … إلى أن قال: لم يصح] لأنها دعوى فيها يمين، فاشترط فيها حضور الحاكم أو نائبه كسائر الدعاوى، فلو كانت بين يدي من ليس بحاكم أو كان ذلك في بيتها فلا تثبت الأحكام التي تقدم ذكرها، فهو لعان غير صحيح. قال: [أو أبدل لفظة أشهد بأقسم أو أحلف] فلو قال: " أقسم بالله " أو قال: " أحلف بالله إنها زانية " لم يصح حتى يقول: " أشهد بالله "، وذلك لأن قوله: " أقسم بالله " يمين غير مؤكدة بالشهادة، بينما قوله " أشهد بالله " يمين مؤكدة بالشهادة، فإذا قال: " أقسم بالله " أو " أحلف بالله " فهو خلاف ما أمره الله تعالى به فلا يصح حتى يقول: " أشهد بالله " أو " أشهد والله " المقصود أنه يجمع بين اليمين والشهادة. قال: [أو لفظة اللعنة بالإبعاد، أو الغضب بالسخط لم يصح] إذا أبدل لفظة اللعنة بالإبعاد فقال في الخامسة: " وأن إبعاد الله تعالى لي من رحمته إن كنت من الكاذبين "، أو أبدلت المرأة لفظ الغضب بالسخط فقالت في الخامسة: " وأن سخط الله علي إن كان من الصادقين "، فلا يصح.

والقول الثاني في المسألة وهو أحد القولين في مذهب الإمام أحمد: أن ذلك يصح؛ لأنه وإن لم يكن منصوصاً عليه لكنه بمعنى المنصوص والعبرة بالمعاني لا بالمباني، فقوله: " أبعدني الله من رحمته " بمعنى قوله: " لعنني الله تعالى "، وكذلك المرأة قولها: " وأن سخط الله علي " هو كقولها: " وأن غضب الله علي "، هذا هو القول الراجح. والله أعلم الدرس الثاني والستون بعد الثلاثمائة فصل قال رحمه الله: [وإن قذف زوجته الصغيرة أو المجنونة بالزنا عُزر ولا لعان] إذا قذف امرأته الصغيرة التي لا يوطأ مثلها فإنه يعزر ولا لعان، وذلك لأن اللعان يمين فلا يصح إلا من مكلف، وهذه الصغيرة ليست بمكلفة فلم يصح لعانها، فلا يلاعن الزوج وإنما يُعزر، وكذلك المجنونة لأنها غير مكلفة. أما إن قذف امرأته الصغيرة التي يوطأ مثلها – وهي في المشهور من المذهب بنت تسع سنين – فإن اللعان يثبت لكن لا يصح حتى تبلغ، وعليه فيتربص لها حتى تبلغ، فإن طالبت بحق القذف على زوجها الذي قذفها فحينئذٍ للزوج أن يلاعن ليدرأ الحد عن نفسه، وتلاعن هي أيضاً لأنها أصبحت مكلفةً. قال: [ومن شرطه قذفها بالزنا لفظاً، كزنيتِ أو يا زانية أو رأيتك تزنين في قبل أو دبر] فشرطه أن يرميها بالزنا، قال تعالى: {والذين يرمون أزواجهم} أي بالزنا، وقال المؤلف: " في قبل أو دبر "، أما إن كان في قبل فظاهر. وأما إذا كان في دبر فهذا هو مذهب جمهور الفقهاء من الحنابلة وغيرهم، وهذا القول متفرع عن ثبوت حد القذف في رمي المرأة بالزنا في دبر.

وقال الأحناف: بل إن كان في دبر فلا لعان، وهذا متفرع عن قولهم من أن المرأة إذا قذفها زوجها بالزنا من دبر فإن الحد أي حد القذف لا يقام، وإنما فيه التعزير، فاللعان لا يثبت عندهم، وذلك لأن اللعان إنما يشرع لدفع الحد وهنا لا حد، فإذا قذف امرأته في دبرها فلا حد، وعليه فلا لعان، وفيما ذهب إليه الأحناف قوة، ويأتي تحقيقه إن شاء الله في الكلام على القذف. وأما إن قذفها بمباشرة دون الفرج كأن يقول: " قد بوشرت "، أو قد باشرك فلان، أو قد خلا بك فلان أو قد قبلك أو نحو ذلك فلا لعان وذلك لأنه لا حد – أي لا حد قذف -، واللعان متفرع عن الحد، فاللعان إنما يشرع لدرء حد القذف عن الزوج وهنا لا حد في ذلك وعليه فلا لعان. قال: [فإن قال: وطئت بشبهةٍ أو مكرهةً أو نائمة أو قال: لم تزن ولكن ليس هذا الولد مني فشهدت امرأة ثقة أنه ولد على فراشه لحقه نسبه ولا لعان] فإذا قال لامرأته: وطئت بشبهة أو مكرهةً أو نائمة أو لم تزنِ ولكن هذا الولد ليس مني، ثم شهدت امرأة أنه ولد على فراشه لحقه نسبه ولا لعان. أما كونه لا لعان، فلأن الحد لا يثبت بمثل ذلك، فإذا قال الرجل لامرأته: " وطئتِ بشبهة أو إكراه أو نحو ذلك " فإنه لا حد في ذلك، ويأتي تقريره إن شاء الله في الكلام على حد القذف. لكن هل ينفى الولد أم لا؟ هنا قال: إن شهدت امرأة ثقة بأنه ولد على فراشه لحقه نسبه، وذلك لقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: (الولد للفراش وللعاهر الحجر) (1) متفق عليه فإذا أثبتت البينة – وتكفي شهادة امرأة واحدة – أنه قد ولد في فراشه فإنه يثبت بذلك لحوق النسب. قال: [ومن شرطه أن تكذبه الزوجة] فمن شرط اللعان أن تكذبه الزوجة، وأما إن صدقته في دعواه فأقرت أنها قد زنت فلا لعان أو ثبتت بالبينة وهي أربعة شهود أنها قد زنت فلا لعان، فاللعان إنما يشرع حيث تنكر المرأة، ولذا فإنها تلاعن بعده.

_ (1) سيأتي صْ 136.

قال: [وإذا تم اللعان سقط عنه الحد والتعزير] فإذا تم اللعان سقط عنه الحد فيما يثبت فيه الحد، والتعزير فيما يثبت فيه التعزير، ويثبت التعزير إن كانت ذميةً أو أمةً أو نحو ذلك. ودليل هذه المسألة قوله - صلى الله عليه وسلم -: (البينة وإلا حدٌ في ظهرك) (1) . قال: [وتثبت الفرقة بينهما بتحريم مؤبد] فإذا تم اللعان فإن الفرقة تثبت بينهما بتحريم مؤبد فلا تحل له أبداً، ففي الصحيحين أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (لا سبيل لك عليها) (2) ، وفي مسلم أن النبي - صلى الله عليه وسلم -: (بدأ بالرجل فشهد أربع شهادات ثم ثنى بالمرأة ثم فرق بينهما) (3) ، وفي سنن أبي داود من قول سهل بن سعد: (مضت السنة أن المتلاعنين يفرق بينهما ولا يجتمعان أبداً) (4) . ولا يتوقف ذلك – أي التفريق – على حكم حاكم بل يثبت من غير حكم حاكم؛ وذلك لثبوته بنص الشارع. ويثبت هذا الحكم وإن كذب نفسه بعد ذلك، فإذا لاعنها بحضرة الحاكم وكان اللعان صحيحاً قد توفرت فيه الشروط ثم كذَّب نفسه بعد ذلك فإنها لا تحل له، لكن يحد أو يعزر ويلحقه الولد في نسبه، لأنه أقر بما يدل على كذبه في يمينه، وإنما درء عنه الحد ليمينه وقد كذبها بقوله، وحينئذٍ فيبقى عليه الحد – أي حد القذف – ويلحقه النسب.

_ (1) أخرجه البخاري في كتاب الشهادات، باب إذا ادعى أو قذف (2671) بلفظ: (البينة أو حد في ظهرك) . (2) أخرجه البخاري في كتاب الطلاق، باب قول الإمام للمتلاعنين: إن أحدكما كاذب فهل منكما تائب (5312) ، (5311) ، وأخرجه مسلم (1493) . (3) أخرجه مسلم في كتاب اللعان (1493) . (4) أخرجه أبو داود في كتاب الطلاق، باب في اللعان (2250) .

واعلم أن اللعان إن كان مجرداً عن نفي الولد فلا ينفى الولد بل يلحق الزوجَ ولده، وذلك لأن اللعان إنما فيه رميها بالزنا، ورميها بالزنا لا يوجب نفي الولد، لكن إن نفاه صراحةً أو تضمنا فإنه ينتفي عنه، فإن قال: " أشهد بالله أنها زانية وأن ما في رحمها ليس مني "، فإنه ينفى عنه؛ لأنه قد نفاه في لعانه وهنا صراحة. وأما تضمناً فبأن يقول مثلاً: " أشهد بالله إنها قد زنت في طهر لم أجامعها فيه "، فيُعلم أنها قد حملت من غير زوجها بقذفه. وأما إذا لم ينفه في اللعان فإنه لا ينتفي. فإن قيل: فما هو الجواب عما روى أبو داود في سننه أن النبي - صلى الله عليه وسلم -: (قضى في اللعان ألا يُدعى الولد لأبيه) (1) ، فالجواب: أن هذا من حديث سهل بن سعد، وفي البخاري أن الرجل قد أنكر حملها. مسألة: هل يشترط لنفي الولد أن ينفيه بلعان عند الوضع أم يكفي نفيه عند الحمل؟ قال الحنابلة في المشهور عندهم: يشترط أن ينفيه عند الوضع، قالوا: لأنه – وهو حمل – غير مستيقنٍ منه، فقد يكون – ريحاً - أو شيئاً آخر واللعان لا يتعلق بشرط، وهنا لا بد أن يعلق النفي على كونه موجوداً فيقول: " إن كان الولد موجوداً فليس مني "، واللعان لا يتعلق بشرط. والقول الثاني، وهو قول المالكية والشافعية وهو قول في مذهب الإمام أحمد: أن نفي الولد يثبت وإن نفاه وهي حامل لم تضع بعد. وهذا هو القول الراجح وهو الذي يدل عليه حديث سهل بن سعد المتقدم ففيه أنها كانت حاملاً فأنكر حملها، ولم يصح أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمره باللعان لنفي الولد عند الوضع، ولا أنه فعل ذلك عند النبي - صلى الله عليه وسلم -. أما قولهم أنه ليس بمستيقن:

فالجواب عنه: أنه مظنون وهنا أمارات تدل عليه، والشارع يعلق الأحكام بمثل ذلك، بدليل اختلاف نفقة الحامل عن الحائل، والتوقف عن القصاص في الحامل، والفطر في رمضان للحامل وغير ذلك، مع أنه مظنون وليس بمستيقن. مسألة: وجماهير أهل العلم على أنه إن أقرَّ به أو ظهر منه ما يدل على الرضا فليس له أن ينفيه بعد ذلك. ومثال ظهور ما يدل على الرضا؛ كأن يُدعى له فيؤمن، أو يُهنأ به فيسكت ويرضى بذلك ونحو ذلك، فليس له أن ينفيه بعد ذلك. كما أنه إذا أمكنه أن ينفيه ولم ينفه، فليس له أن ينفيه بعد ذلك؛ وذلك لأنه خيار لدفع الضرر فكان على الفور، فإذا تراخى ولم ينف مع إمكان النفي فليس له أن ينفي بعد ذلك. لكن لو ادعى عدم علمه بذلك وأمكن جهله بذلك، فإن قوله يقبل وله أن ينفيه. استدراك: وعند قول المؤلف: [ولكن ليس هذا الولد مني فشهدت امرأة أنه ولد على فراشه لحقه نسبه ولا لعان] فإذا شهدت البينة - ويكفي في ذلك امرأة ثقة – أنه ولد على فراشه فهو ولده ولا لعان. فإن لم تشهد البينة فهل يشرع اللعان لنفي الولد أم لا؟ في هذه المسألة لا لعان بقذف المرأة بالزنا، فهو لم يقذفها بما يوجب عليه حد القذف، لكن هل له أن يقول: " أشهد بالله أن هذا الولد ليس مني " يقول ذلك أربعاً أم لا؟ قال أكثر الحنابلة: له أن يلاعن لنفي الولد، وعليه فيلاعن هو وحده لنفي الولد. والمشهور في المذهب: أنه ليس له أن يلاعن؛ وذلك لأن اللعان إنما شرع بعد القذف، قال تعالى: {والذين يرمون أزواجهم} ، وهنا لا قذف، فاللعان إنما شرع لدرء حد القذف عن الزوج وهذا حيث كانت المرأة مرمية بالزنا، وهنا ليست مرمية بالزنا وعليه فلا لعان، وهذا أظهر. فالشرع إنما شرع اللعان حيث كان مسبوقاً بقذف وهنا لا قذف وعليه فيلحقه الولد وليس له أن ينفيه، وكما قال - صلى الله عليه وسلم -: (الولد للفراش) (1) . مسألة:

_ (1) سيأتي صْ 136.

إذا نكلت المرأة عن اللعان فهل يقضى بنكولها؟ بمعنى: لاعن الرجل امرأته لكن المرأة نكلت عن اللعان فهل يقضى بنكولها فيفرق بينهما وينفى الولد إن نفاه وتحد المرأة أم يخلى سبيلها أم تسجن حتى تقر بالزنا أو تلاعن؟ ثلاثة أقوال لأهل العلم: القول الأول، وهو المشهور في المذهب: أن سبيلها يخلى، وهو قول ضعيفٌ جداً. القول الثاني: أنها تسجن حتى تقر بالزنا أو تلاعن. القول الثالث وهو مذهب المالكية والشافعية وهو اختيار شيخ الإسلام وهو القول الراجح في المسألة: أنها إن نكلت فإنها تُحد، وهذا هو ظاهر قوله تعالى: {ويدرأ عنها العذاب أن تشهد أربع شهادات بالله إنه لمن الكاذبين} (1) ، فحد القذف ثابت في حق الرجل حتى يلاعن، فإذا لاعن الرجل فنكلت المرأة فعليها الحد، ويدرأ عنها العذاب أن تلاعن. وقال الحنابلة: الحد لا يثبت بلعان الزوج فقط بدليل مطالبة المرأة بالملاعنة بعده، ولا يثبت بالنكول فقط لأن الحدود تدرأ بالشبهات، والنكول فيه شبهة. الجواب عن هذا: أن يقال إنها لا تحد بهذا بمفرده ولا بهذا بمفرده؛ بل تحد بمجموعهما، فإنها تحد بيمين الزوج أولاً وبنكولها ثانياً، فإذا اجتمعا فإن الحد يثبت عليها باجتماعهما جميعاً، والشيئان قد يحكم باجتماعهما ما لا يحكم به بانفرادهما، وأما بالنكول فقط أو اليمين فقط فلا يقضى عليها بالحد. الدرس الثالث والستون بعد الثلاثمائة فصل هذا الفصل فيمن يَلْحق نسبه. قال رحمه الله: [من ولدت زوجته من أمكن كونه (2) منه لحقه] فمن ولدت زوجته ولداً أمكن أن يكون هذا الولد - ذكراً كان أو أنثى - منه لحقه ذلك؛ لقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: (الولد للفراش) (3) ، ثم بين المؤلف هذا الإمكان المذكور بقوله: [بأن تلده بعد نصف سنة منذ أمكن وطؤه أو دون أربع سنين منذ أبانها]

_ (1) سورة النور. (2) في الأصل: من أمكن أنه منه.. " (3) سيأتي.

أي أن تلده بعد ستة أشهر لأن أقل الحمل ستة أشهر لقوله تعالى: {وحمله وفصاله ثلاثون شهراً} (1) ، وقد ذكر تعالى في آية آخرى أن فصاله أربعٌ وعشرون شهراً؛ أي سنتان وهو قوله: {والوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين} (2) ، فبقي للحمل ستة أشهر، وهو قول علي بن أبي طالب وغيره من الصحابة ولا يعلم لهم مخالف. أو دون أربع سنين: لأن أكثر الحمل أربع سنين في المذهب (3) ، قالوا: لوقوع ذلك فقد وقع من بعض النساء – وهي ثقة وامرأة صدقٍ – أنها قد ولدت لأربع سنين. والقول الثاني في المذهب وهو اختيار ابن سعدي: أنه لا يتقيد بأربع سنين، بل قد يكون أكثر من ذلك، وقال: " لأنه الموافق للواقع " وهو كما قال. فالمسألة مسألة وقوع، فإذا وقع الحمل لأربع سنين فلا مانع أن يقع أكثر من ذلك، وقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم - (الولد للفراش..) قوله: " منذ أمكن وطؤه " أي أن تلد بعد نصف سنة منذ أمكن وطؤه. فإذا عقد على المرأة وأمكن وطؤه (4) ثم ولدت بعد نصف سنة فإن الولد يلحق به. فإذا عقد على امرأة وهو وهي في بلد واحد ولم يدخل بها، فهنا يمكن الوطء لكننا لم نتحقق من الوطء لعدم الدخول، فهنا يلحق به. لكن لو تحققنا وعلمنا عدم إمكان الوطء، كأن يكون هو في بلد وهي في بلد آخر بعيد ويُعلم أنه لا يخفى مسيره من تلك البلدة إلى هذه البلدة، فحينئذٍ قد تحققنا أنه لم يطأها فلا يلحق به، هذا هو تحرير مذهب الحنابلة في هذه المسألة. إذن: يعلقون الإلحاق بإمكان الوطء، لكن لو تحققنا أنه لم يطأها فإنه لا يلحق به، ولذا فلو كان مجبوب الذكر والأنثيين فإنه لا يلحق به، وذلك لأننا نقطع أن مثله لا يولد له.

_ (1) سورة الأحقاف 15. (2) سورة البقرة. (3) في الأصل: لأن أكثر الحمل في المذهب أربع سنين. (4) في الأصل: الوطء.

واختار شيخ الإسلام وهو رواية عن الإمام أحمد واختاره طائفة من متأخري أصحابه ومنهم والد شيخ الإسلام، واختاره ابن القيم: أن إمكان الوطء غير كافٍ في الإلحاق، بل حتى يعلم الوطء وذلك بالدخول، فإذا بنى بالمرأة ودخل بها فولدت منه لستة أشهرٍ أو دون أربع سنين – على المذهب – منذ أبانها فحينئذٍ يلحق به. إذن: لا تكون المرأة فراشاً حتى يتحقق الوطء، وذلك بالبناء بها، وهذا هو القول الراجح، فإن مجرد العقد مع إمكان الوطء لا تعدُّ فيه المرأة فراشاً لا في اللغة ولا في العرف، فلا يقال: " إن المرأة فراشٌ للرجل " وهو لم يبنِ بها، لا في لغة العرب ولا في عرف الناس، وهذا ظاهر. قال: [وهو ممن يولد لمثله كابن عشر] هذا قيد آخر، وهو أن يكون ابن عشر سنين، أي من تم له عشر سنين وشرع في السنة الحادية عشرة قالوا: لقوله النبي - صلى الله عليه وسلم -: (مروا أولادكم بالصلاة لسبع واضربوهم عليها لعشر وفرقوا بينهم في المضاجع) (1) ، فأمر النبي - صلى الله عليه وسلم - بالتفريق بينهم في المضاجع، فدل على أن مثلهم يطأ، فعليه يلحق بهم النسب.

_ (1) أخرجه أبو داود في كتاب الصلاة، باب متى يؤمر الغلام بالصلاة (495) قال: " حدثنا مؤمل بن هشام يعني اليشكري حدثنا إسماعيل عن سوار أبي حمزة قال أبو داود: وهو سوار بن داود أبو حمزة المزني الصيرفي عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (مروا أولادكم بالصلاة وهم أبناء سبع سنين واضربوهم عليها وهم أبناء عشر سنين، وفرقوا بينهم في المضاجع) .

والقول الثاني في المسألة، وهو قول في مذهب الإمام أحمد وهو قول طائفةٍ من كبار الصحابة كأبي بكر، و [هو قول] (1) أبي الخطاب وابن عقيل: أنه لا يلحق به حتى يبلغ، أي ينزل فإذا ثبت إنزاله، أي ثبت احتلامه فإنه يلحق به، وهذا ظاهر جداً، وذلك لأن الولد يكون من الماء، ومن لم يبلغ فلا ماء له فكيف يكون منه الولد، وكيف يلحق به. وأما قوله - صلى الله عليه وسلم -: (وفرقوا بينهم في المضاجع) ، فهذا لأن ابن عشر مظنة البلوغ ومظنة المراهقة، فلذا يمنع من المبيت عند البنت لأنه مظنة الوطء. والقول الثاني هو الراجح، فلا يلحق به الولد حتى يبلغ. قوله: [ولا يحكم ببلوغه إن شك فيه] فعلى المذهب - عندما يلحق به الولد – فهل تثبت الأحكام الأخرى فيه فيكون في حكم المكلفين؟ الجواب: لا تثبت الأحكام الأخرى [– كالزنا والقتل –] (2) مع الشك فلا تلحق به الأحكام الأخرى حتى يثبت بلوغه، واليقين لا يزول بالشك. قال: [ومن اعترف بوطء امرأته (3) في الفرج أو دونه فولدت لنصف سنة فأزيد لَحِقَهُ ولدها إلا أن يدعي الاستبراء ويحلف عليه] اعلم أن المشهور في المذهب وهو قول الجمهور وهو الراجح: أن الأمة لا تكون فراشاً إلا بالوطء، ودليله: دليل المسألة التي تقدم ذكرها. إذاً: الحنابلة فرقوا بين الحرة والأمة، فقالوا: إن الأمة لا تكون فراشاً إلا بالوطء، أما بمجرد إمكان الوطء فلا، وأما الزوجة فإنها تكون فراشاً بمجرد إمكان الوطء، ففرقوا بين الزوجة والسُرِّيَّة.

_ (1) هذه الزيادة ليست في الأصل. (2) ليست في الأصل. (3) كذا هنا في المطبوع، والصواب: أمته، كما في الأصل وفي النسخة التي بين يدي.

وهنا: اعترف رجل أنه قد وطئ أمته في الفرج فولدت لنصف سنة فأزيد فإنه يلحقه ولدها، لقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: (الولد للفراش) ، إلا أن يدعي الاستبراء، أي يدعي أنه قد استبرأها بحيضة فيقول مثلاً: " أنا قد وطئت هذه الأمة لكني استبرأتها بحيضة فقد حاضت بعد وطئي بها، ثم بعد ذلك حملت، وعليه: فلا يكون الحمل منه، لأنه قد استبرأها بحيضة. فيقبل قوله؛ وذلك لأن هذا أمرٌ خفي، لا يعلم إلا منه فيقبل قوله فيه، لكن يحلف على ذلك لحق الولد، فإن هذه اليمين تمنع الولد من نسبه إلى هذا الرجل، فهذه اليمين قد تعلق بها حق الآدمي. وكذلك لو اعترف أنه وطئ أمته دون الفرج ثم ولدت لنصف سنة فأزيد فكذلك أي يلحق الولد به، وذلك لأنه لا مانع من أن يلج ماؤه فرجها، وهو واقع، ثم هي (1) فراشٌ له وقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: (الولد للفراش) . قال: [وإن قال وطئتها دون الفرج أو فيه ولم أنزل أو عزلت لحقه] إذا قال: " أنا قد وطئتها في الفرج ولم أنزل "، أو قال: " عزلت "، فإنه يلحقه أيضاً. أو قال: " وطئتها دون الفرج ولم أنزل، أو قال: عزلت " فإنه يلحقه أيضاً، وعن الإمام أحمد: أن قوله يقبل ولا يلحقه النسب. والقول الذي يترجح لي في هذه المسألة: هو التفصيل، فيقال: إن اعترف أنه وطئها في فرجها ثم ادعى أنه لم ينزل أو أنه قد عزل فإن الولد يلحقه.

_ (1) في الأصل: وهي فراش.

ويدل عليه ما ثبت في مسلم: أن رجلاً قال للنبي - صلى الله عليه وسلم -: يا رسول الله إن عندي جارية وأنا أعزل عنها فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: (إن ذلك لا يمنع مما أراد الله شيئاً) (1) ، ويدل عليه ما ثبت عند الشافعي بإسنادٍ صحيح أن عمر قال: " ما بال رجال يطؤون ولائدهم ثم يعزلون، لا تأتيني أمة اعترف سيدها أنه يطؤها إلا ألحقت به ولدها فاعزلوا بعد ذلك أو اتركوا ". وأما إن كان قد اعترف [أنه] (2) قد وطئها دون فرجها وقال: إنه لم ينزل، أو قد عزل، فالذي يترجح أنه لا يلحق به، وأن قوله يقبل بيمينه؛ وذلك للفرق بين المسألتين؛ فهنا لم يطأها، والولادة إنما تكون بالوطء. وكونه قد عزل عنها أو لم ينزل عندما باشرها فيما (3) دون الفرج؛ هذا يمنع من أن يتسرب شيءٌ منه إلى فرجها بخلاف ما لو أنزل فإنه لا يمنع من تسرب شيءٍ إلى فرجها. فلا ينسب الولد إليه، لأنه لا ولد إلا بجماع، وهنا لا جماع وكذلك لا مظنة، لأنه لو كان قد باشرها دون الفرج فأنزل فـ[ـإنه] لا مانع من أن يكون تسرب شيءٌ إلى فرجها فيكون ذلك مظنة، وأما هنا فليس الأمر كذلك، والله أعلم. قال: [وإن أعتقها أو باعها بعد اعترافه بوطئها فأتت بولد لدون نصف سنة لحقه والبيع باطل] إذا أعتق أمةً أو باعها بعد اعترافه بوطئها فأتت بولدٍ لدون نصف سنة فحينئذٍ نعلم أنه منه، لأنه لو كان نصف سنة فأكثر لاحتُمل أن يكون من هذا المشتري الجديد، لكن هنا لدون نصف سنة فحينئذٍ نعلم أنه منه فنلحق الولد به (4) ، والبيع يكون باطلاً، لأنها تكون أم ولدٍ له، وقد تقدم أن المشهور في المذهب وهو مذهب الجمهور: أن أم الولد لا يحل بيعها. وهنا مسائل:

_ (1) أخرجه مسلم في كتاب النكاح، باب حكم العزل (1437) أو (1439) . (2) ليست في الأصل. (3) في الأصل: بما. (4) في الأصل: فنلحقه الولد.

المسألة الأولى: أن الشبه غير معتبر مع الفراش، فإذا ثبت الفراش فإن الولد يلحق بصاحب الفراش وإن ثبت الشبه لمدّعٍ غيره، ففي الصحيحين عن عائشة قالت: اختصم سعد بن أبي وقاص وعبد بن زمعة في غلامٍ، فقال سعد بن أبي وقاص: هو ابن أخي عتبة عهد إليّ أنه ابنه وانظر إلى شبهه، وقال عبد بن زمعة: هو أخي ولد على فراش أبي من وليدته، فنظر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فوجد به شبهاً بيِّناً بعتبة – إذاً هنا تعارض الشبه والفراش، فالشبه لعتبة والفراش لزمعة – فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: (هو لك يا عبد بن زمعة، الولد للفراش وللعاهر الحجر) ، ثم قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: (احتجبي منه يا سودة بنت زمعة) (1) ، وسودة هي زوج النبي - صلى الله عليه وسلم - أمرها أن تحتجب منه احتياطاً لوجود الشبه. المسألة الثانية: أنه إذا لم يثبت فراش فادعى رجل أن هذا ابنٌ له – أي من الزنا – فهل يلحق به أم لا؟ قولان لأهل العلم: القول الأول وهو مذهب الجمهور: أنه لا ينسب إليه. القول الثاني، وهو قول إسحاق وطائفة من التابعين وهو اختيار شيخ الإسلام: أنه ينسب إليه حيث لم يعارض الفراش أي ليس ثمة فراش معارض، قالوا: لأن هذا - أي المُلحق به – أحد الزانيين ونحن نلحقه بأمه، فإذا ثبت أن هذه المرأة قد زنت وأن هذا ولد لها من الزنا فإنه يلحق بها ويرثها وترثه ويتصل بقرابتها كاتصال ولدها وهي أحد الأبوين الزانيين، فكذلك الآخر إذا ادعاه وليس ثمة معارض وهو الفراش.

_ (1) أخرجه البخاري في كتاب البيوع، باب شراء المملوك من الحربي وهبته وعتقه (2218) ، وفي كتاب المغازي، باب من شهد الفتح (4303) ، وفي كتاب الفرائض، باب من ادعى أخاً وابن أخ (6765) ، وأخرجه مسلم (1457) .

فهذا الذي ادعاه أبوه من الزنا، وقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم - في حكايته لقصة جريج أنه قال للولد: من أبوك، فقال: الراعي " (1) ، والراعي أبوه من الزنا. وقال الجمهور: بل لا يلحق به، واستدلوا بما روى أبو داود في سننه أن النبي - صلى الله عليه وسلم -: " قضى أن كل مُسْتَلْحق يُسْتلْحَق بعد أبيه الذي يُدعى له، إن كان من أمة يملكها يوم أصابها فادعاه ورثته فإنه يلحق به، ثم إن ألحق به وكان هناك ميراثٌ قد قسم فليس له منه شيء، وما أدرك مما لم يقسم فله منه نصيبه ".

_ (1) صحيح البخاري، كتاب المظالم والغصب، باب إذا هدم حائطاً.. (2302) . انترنت.

فإذا استلحق مستلحق ولداً بعد أبيه فإن هذا الولد إن كان من أمة يملكها هذا الأب يوم أصابها ثم ادعى الورثة أن ولد هذه الأمة التي كانت ملكاً لأبيهم أنه أخٌ لهم فحينئذٍ يلحق به، وحينئذٍ فما قسم من الميراث فليس له منه شيء، وما لم يقسم بعد فله منه نصيبه – إلا أن ينكره أبوه، ولا يلحق به إن أنكره الذي يدعى له – فإن كان أبوه الذي ينسب له الابن وهو مالك الأمة إن كان قد أنكره وهو حيٌ فإنه لا ينسب إليه بعد ذلك؛ لأن الورثة يقومون مقامه، فنحن إنما قبلنا استلحاقهم لأنهم يقومون مقامه، وهنا قد أنكر هو فلا يمكن بعد ذلك أن يثبتوا هم ما أنكره هو – وإن كان من أمة لا يملكها أو حرة قد عاهر بها فإنه لا يلحق به ولا يرثه – وهذا هو الشاهد – وإن كان قد ادعاه الذي يُدعى له – أي وإن كان هذا الأب يدعي في حياته أن هذا ولد له – وإنما هو ولد زنيةٍ من أمة كان أو حرة " (1) والحديث إسناده جيد. وفيه أنه لو كان هذا المُدعى من أمةٍ لا يملكها من يُدعى أنه أبٌ، أو من حرة قد زنا بها فإنه لا يلحق به ولا يرث منه ولا يرثه.

_ (1) أخرجه أبو داود في كتاب الطلاق، باب في ادعاء ولد الزنا (2265) قال: " حدثنا شيبان بن فرّوخ، حدثنا محمد بن راشد ح، وحدثنا الحسن بن علي، حدثنا يزيد بن هارون، أخبرنا محمد بن راشد - وهو أشبع - عن سليمان بن موسى عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال: إن النبي - صلى الله عليه وسلم - قضى أن كل مُسْتَلحَقٍ استُلحق بعد أبيه الذي يدعى له ادعاه ورثته فقضى أن كل من كان من أمة يملكها يوم أصابها فقد لحق بمن استلحقه، وليس له مما قسم قبله من الميراث شيء، وما أدرك من ميراث لم يقسم فله نصيبه، ولا يلحق إذا كان أبوه الذي يدعى له أنكره، وإن كان من أمة لم يملكها أو من حرة عاهر بها، فإنه لا يلحق به ولا يرث، وإن كان الذي يدعى له هو ادعاه فهو ولد زنْيَة من حرة كان أو أمة ".

وهذا هو القول الراجح؛ لثبوت هذا الحديث، وقال ابن القيم: " إن ثبت هذا الحديث وجب القول بموجبه والمصير إليه، وإلا فالقول كما قال إسحاق ومن وافقه "، والحديث إسناده جيد. والذي يَسْتلحقُ هو الأب أو من يقوم مقامه وهم ورثته، ويشترط أن يتفقوا على ذلك، فإن خالف بعضهم فإنه لا يلحق لأنهم يقومون كلهم مقامه. المسألة الثالثة: أن من وطئ امرأةً في شبهة - أي وطئ امرأة يظنها زوجته- فحملت من هذا الوطء فإنه يلحق به، وذلك لأنه وطءٌ يعتقد الواطئ حله؛ فأشبه الوطء بعقدٍ فاسد كالنكاح بلا ولي، فإن الرجل إذا نكح امرأةً بلا ولي وهو يعتقد حل ذلك فإن الولد ينسب إليه بلا خلاف، فكذلك إذا وطئها بنكاح شبهة لأنه يعتقد حل هذا الوطء. المسألة الرابعة: القاعدة عند أهل العلم: " أن الولد يلحق بأبيه " لقوله تعالى: {ادعوهم لآبائهم} (1) ، إلا المنفي باللعان فإنه ينسب لأمه كما تقدم. وينسب لأمه في الحرية والرق فإذا كانت أمه حرة فهو حر وإن كان أبوه رقيقاً، وإن كانت أمه رقيقةً فهو رقيق وإن كان أبوه حراً. وأما في الدين فإنه يلحق بأخيرِهِما، فإن كان أحد الأبوين مسلماً والآخر كتابياً فإنه يلحق بالمسلم منهما سواءً كان أباً أو أماً، وإن كان أحدهما نصرانياً ولآخر وثنياً فإنه يلحق بالنصراني سواءً كان أباً أو أماً. تم بحمد الله تعالى شرح كتاب الطلاق والإيلاء والظهار واللعان من زاد المستقنع، شرحه فضيلة الشيخ / حمد بن عبد الله الحمد، حفظه الله تعالى ونفع به.

_ (1) سورة الأحزاب.

كتاب الطلاق باب ما يختلف به عدد الطلاق

بسم الله الرحمن الرحيم وبه نستعين وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم باب ما يختلف به عدد الطلاق من حرية أو عبودية أو غير ذلك من الأسباب التي يختلف بها عدد الطلاق. قوله: [يملك من كله حر أو بعضه ثلاثاً] فإذا كان الزوج كله حراً أو كان مبعضاً أي بعضه حر وبعضه عبد فإنه يملك ثلاث تطليقات بإتفاق أهل العلم سواءً كانت الزوجة حرةً أو أمة، أما دليل من كان كله حراً فهو ظاهر في كتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - وقد أجمع أهل العلم عليه، وأما المبعض: فلأننا لو قلنا بأنه يكون بالنظر إلى حريته وعبوديته لبعضنا الطلاق بأن يكون له ثلاثة أرباع نصاب الطلاق والطلاق لا يتبعض لذلك ثبت له ثلاث تطليقات. قوله: [والعبد اثنتين] اتفاقاً، فقد اتفق أهل العلم على أن للعبد تطليقتين، وفي أبي داود والترمذي أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (طلاق العبد – أي البائن – تطليقتان) والحديث إسناده ضعيف، لكن العمل عليه عند أهل العلم، وقد روي ذلك عن طائفةٍ من الصحابة ولا يعلم لهم مخالف. قوله: [حرةً كانت زوجتاهما أو أمة] فإذا كانت تحت العبد حرة فإن تطليقه البائن تطليقتان، وكذلك إذا كانت الأمة تحت الحر فإن تطليقه ثلاث تطليقات، فالمعتبر في الطلاق هو النظر إلى الزوج لا إلى الزوجة هذا هو مذهب جمهور العلماء خلافاً لأبي حنيفة، ودليل هذا قول النبي - صلى الله عليه وسلم - الذي رواه ابن ماجة وغيره: (إنما الطلاق لمن أخذ بالساق) ، فالطلاق حق للزوج فكان النظر إليه فيه. قوله: [فإذا قال أنت الطلاق] إذا قال الرجل لامرأته " أنت الطلاق ". قوله: [أو طالقٌ] إذا قال لامرأته " أنت طالق ". قوله: [أو علي] أي قال " علي الطلاق " وحنث. قوله: [أو يلزمني] إذا قال يلزمني الطلاق إن فعلت كذا ثم فعل. قوله: [وقع ثلاثاً بنيتها]

أي بنيته الثلاث، فالضمير في قوله بنيتها أي بنية الثلاث فإذا قال لامرأته ما تقدم وكان قد نوى الطلاق ثلاثاً فإنه يقع ثلاثاً، وذلك لأن هذه الألفاظ المتقدم ذكرها تحتمل الثلاث والواحدة وهي في الطلقة الواحدة أظهر أي من جهة العرف لا من جهة اللغة لأن الللام تفيد الاستغراق لغةً فيكون ثلاثاً في اللغة؛ لكن في عرف العامة هي واحدة، لكنه لما نوى أن تكون ثلاثاً فعين ذلك، لأنه نوى ما يحتمله لفظه. قوله: [وإلا فواحدة] فإذا لم ينوِ أن تكون ثلاثاً فإنها تكون واحدة، فإذا قال لامرأته: " أنت طالق " ولم ينو شيئاً فإنها تطلق واحدة وذلك لأن الواحدة أقل ما يصدق عليه هذه الألفاظ، فأقل ما يصدق عليه الاسم المتقدم هو الواحدة، وهذه المسألة وما بعدها من المسائل تتفرع على القول بطلاق الثلاث البائن بلفظة واحدة، أو في مجلس واحد أو في مجالس متعددة بلا رجعه، وقد تقدم أنه قول مرجوح والراجح أن طلاق الثلاث بكلمة واحدة طلقة واحدة. قوله: [ويقع بلفظ كل الطلاق أو أكثره أو عدد الحصى أو الريح أو نحو ذلك ثلاثٌ ولو نوى واحدة]

إذا قال لامرأته: " أنت طالق كل الطلاق أو أكثر الطلاق أو منتهاه أو غايته أو عدد الحصى أو الريح أو أنت طالق مائة طلقة أو ألف طلقة " أو نحو ذلك فإنه يقع الطلاق ثلاثاً ولو نوى واحدة، فلا عبرة بنيته وذلك لأن صريح لفظه يخالف نيته، فصريح لفظه الطلاق المتعدد الذي يحصل معه البينونة، فهنا ما نواه لا يحتمله اللفظ فإذا قال لها: " أنت طالق أكثر الطلاق " ونوى أن تكون واحدة فإن نيته لا يحتملها لفظه كما أنه لو قال: " أنت طالق واحدة " ونوى أن يكون ثلاثاً فإن هذا الطلاق لا يكون إلا واحدة، وذلك لأن هذه النية لا يحتملها اللفظ، فإن قال لزوجته " أنت طالق عُظم الطلاق " أو " أنت طالق أقبح الطلاق " أو " أنت طالق كالجبل " أو " عُظم الطلاق " فإن لم ينوِ ثلاثاً فإنها تكون واحدة، وذلك لأن هذه الألفاظ لا ترجع إلى العدد وإنما ترجع إلى كيفية الطلاق، فترجع إلى الطلاق نفسه كيفاً لا عدداً فإن نوى ثلاثاً فإنها تقع ثلاثاً لأن اللفظ يحتمل ذلك لكن إن لم ينوِ شيئاً أو نوى أن تكون واحدة فإنها تقع واحدة لأن لفظه ليس فيه تصريح بالعدد بخلاف قوله: " أنت طالق أكثر الطلاق " أو " منتهاه " فهو يعود إلى العدد. قوله: [وإن طلق عضواً أو جزءاً مشاعاً أو معيناً أو مبهماً] إذا طلق عضواً كأن يطلق يداً أو رجلاً أو كبداً أو جزئاً مشاعاً كالنصف والربع فيقول: " نصفك طالق"، أو معيناً أي جزئاً معيناً كأن يقول: " النصف الفوقاني منك طالق" أو مبهماً كأن يقول: " جزئك طالق "، فالحكم أنها تطلق طلقة وذلك لأن المرأة لا تتبعض بالحل والحرمة، وفيها ما يقتضي التحريم وما يقتضي الإباحة فغلب جانب الحرمة. قوله: [أو قال نصف طلقة أو جزء من طلقة طلقت]

إذا قال لها: " أنت طالق نصف طلقة أو جزء طلقة " أي سواء أبهم كقوله: " جزء طلقة " أو حدد كقوله: " جزءاً من طلقة " فإنها تطلق، وذلك لأن الطلاق لا يتبعض فإذا طلق النصف أو الربع فإنها تقع عليه طلقة واحدة. قوله: [وعكسه الروح] فإذا قال لها: " روحك طالق " فإنها لا تطلق، هذا هو أحد القولين في المذهب قالوا: لأن الروح ليست بعضو وليست شيئاً يتمتع به وهو المذهب عند المتأخرين. والقول الثاني في المسألة وهو قول في مذهب الإمام أحمد، وقال صاحب الإنصاف هو المذهب واختاره الشيخ عبد الرحمن بن سعدي؛ أنه إذا طلق الروح فإنها تطلق عليه وذلك لأنه لا حياة للمرء بلا روح، فإن قوام البدن الروح، فعليه يقع الطلاق، ولا شك أن هذا أولى من تطليق يدها أو رجلها ونحو ذلك، فالراجح أن طلاق الروح يقع فتطلق به المرأة، لأنه لا حياة لليد بدون روح. قوله: [والسن والشعر والظفر ونحوه] إذا قال: " شعرك طالق " أو " أو سنك طالق " أو " ظفرك طالق " ونحوه كالسمع والبصر، فإنها لا تطلق عليه، قالوا: لأن هذه الأشياء تنفصل عن الإنسان مع سلامته من غير عطب، فإن الشخص قد يحلق شعره ويقلم أظفاره ويقلع سنه ولا يتضرر شيء منه. والقول الثاني في المسألة وهو قول الشافعية والمالكية؛ أن الطلاق يقع، لأن المذكور وهو الظفر والشعر والسن ونحوها مما استباحه الناس بالنكاح فيقع الطلاق بتطليقه، والأول أولى وذلك لأن الأصل بقاء عصمة النكاح وما ذكره أهل القول الأول من الاستدلال فيه قوة فإن هذه الأشياء المذكورة تنفصل مع السلامة، بخلاف الإصبع مثلاً فإنها لا تنفصل إلا مع عطب فإنها تجرح البدن ويتأذى البدن بذلك وكذلك اليد والرجل أو نحو ذلك. قوله: [وإذا قال لمدخول بها: أنت طالق وكرره وقع العدد، إلا أن ينوي تأكيداً يصح أو إفهاماً]

إذا قال لامرأته التي قد دخل بها: " أنت طالق، أنت طالق، أنت طالق " وقع العدد، فإذا قال لها: " أنت طالق، أنت طالق " فإنه يقع الطلاق اثنتين وإذا قال: " أنت طالق، أنت طالق، أنت طالق " فإنها تقع ثلاثاً، إلا أن ينوي تأكيداً، فإذا كانت بنيته تأكيد الطلاق أو إفهامها أو إفهام السامع فإنه تقبل نيته حكماً، وتقبل أيضاً في الباطن ويدين بذلك فيما بينه وبين ربه بما ادعاه بنيته، وذلك لأنه أعلم بلفظه وهذا اللفظ يحتمل التأكيد والإفهام ويحتمل التعدد فلما ثبت هذان الاحتمالان قبلت نيته، لكن لابد أن يكون ينوي تأكيداً يصح، وأن يكون اللفظ يحتمل ذلك، فإذا قال لها: " أنت طالق، أنت طالق، أنت طالق " وقال نويت التأكيد فإنه يقبل معه لأن هذه الجمل قد اتصلت، لكن إذا قال لها اليوم: " أنت طالق " وقال لها غداً: " أنت طالق " وقال أريد التأكيد، فإن هذا لا يقبل منه لأن هذا لا يكون منه تأكيداً، فالتأكيد متصل بالكلام كسائر التوابع والإفهام نوع منه. إذن: إنما يقبل منه حيث أمكن التأكيد أو أمكن الإفهام أما إذا كان لا يمكن مع لفظه التأكيد والإفهام فإنه لا يقبل منه. قوله: [وإن كرره ببل أو بثم أو بالفاء أو قال بعدها، أو قبلها أو معها طلقةٌ وقع اثنتان]

إذا قال لها: " أنت طالق بل طالق " أو: " أنت طالق ثم طالق " أو: " أنت طالق فطالق " أو: " أنت طالق وطالق " أو قال: " أنت طالق بعدها طلقة " أو: " أنت طالق قبلها طلقة " أو: " أنت طالق معها طلقة " وقعت طلقتان، وذلك لأن مثل هذه الألفاظ ظاهرة في التغاير، فالثلاث الأول حروف عطف، وحروف العطف الأصل فيها المغايرة، فعليه ظاهر لفظه أنت طالق طلاقاً آخر، كذلك إذا قال لها: " أنت طالق بعدها طلقة " أو: " أنت طالق قبلها طلقة " أو: " أنت طالق طلقة معها طلقة " ونحو ذلك، فإنه لا يقبل ادعاؤه التأكيد ولا ادعاؤه الإفهام، لأن التأكيد والإفهام هنا احتمال بعيد، لكن لو كان في الباطن أراد التأكيد فإنه يدين بذلك فيما بينه وبين ربه، وأما في الحكم الظاهر فإن القاضي يحكم عليه بما يقتضيه لفظه. قوله: [وإن لم يدخل بها بانت بالأولى ولم يلزمه ما بعدها] إذا كانت المرأة غير مدخول بها وقال لها: " أنت طالق ثم طالق " أو نحو ذلك، فإنها تبين بالأولى وحينئذٍ تكون عليها طلقة واحدة لأن غير المدخول بها تبين بطلقة واحدة فقوله لها: " أنت طالق " فبهذه اللفظة الأولى تبين منه، فإذا كرر بعدها طلقتين مثلاً فإن هاتين الطلقتين الأخريين قد وقعتا في حالة البينونة، وطلاق البائن لا يمضي، فعلى ذلك له أن يتزوجها من غير اشتراط أن تنكح زوجاً غيره، فيعقد عليها عقداً جديداً. قوله: [والمعلق كالمنجَزِ في هذا] المعلق كقوله: " إذا دخلت الدار فأنت طالق طالق "، فالمنجز أي كقوله: " أنت طالق أنت طالق أنت طالق "، فلو أن رجلاً قال لامرأة غير مدخول بها: " إذا دخلت الدار فأنت طالق ثم طالق ثم طالق " فإنها تبين منه بالأولى إذا دخلت الدار، ولا يقع عليها الثاني ولا الثالث لأنها أصبحت بائناً بالأولى. فصل هذا الفصل في الاستثناء في الطلاق وأحكامه قوله: [ويصح منه استثناء النصف فأقل من عدد الطلاق والمطلقات]

يصح من الزوج أن يستثني النصف فأقل من عدد الطلاق ومن عدد المطلقات، هذه المسألة ترجع إلى ما هو مرجح في علم الأصول وهو مذهب الحنابلة من صحة استثناء النصف فأقل، أما استثناء الكل أو الأكثر فإنه لا يصح فإذا قال لزيد " علي مائة ريال إلا مائة " فهذا استثناء كل ولا يصح، فيكون قد أقر بمائة ولا يصح استثناؤه، ولو قال لزيدٍ: "على مائة إلا تسعين" فلا يصح الاستثناء ويكون قد أقر بالمائة أما إذا استثنى النصف فأقل كأن يقول: " له علي مائة إلا خمسين" أو: " له علي مائة إلا أربعين" فإن الاستثناء يصح، فعلى ذلك إذا طلق امرأته ثلاثاً واستثنى الكل فقال: " أنت طالق ثلاثاً إلا ثلاثاً " أو الأكثر فقال: " أنت طالق ثلاثاً إلا اثنتين " فإن الاستثناء لا يصح وتكون طالقاً ثلاثاً، أما إذا استثنى النصف فأقل كأن يقول: " أنت طالق اثنتين إلا واحدة " أو " أنت طالق ثلاثاً إلا واحدة " فإن الاستثناء يصح ولذا قال المؤلف: [فإذا قال: أنت طالقٌ طلقتين إلا واحدة، وقعت واحدة، وإن قال: ثلاثاً إلا واحدة فطلقتان] كذلك في المطلقات، فلو قال: " نسائي الأربع طوالق إلا واحدة، فيصح الاستثناء ولو قال: "نسائي الأربع طوالق إلا اثنتين"، فيصح الاستثناء. قوله: [وإن استثنى بقلبه من عدد المطلقات صح دون عدد الطلقات] فإذا استثنى بقلبه من عدد المطلقات صح ذلك، كأن يقول: " نسائي طوالق وله ثلاث " واستثنى بقلبه فلانه فإن هذا الاستثناء يصح في الحكم، وأما في الباطن أي في النية فلا إشكال فيه أنه يصح أي بأن يدين في ذلك فيما بينه وبين ربه، وأما في الحكم فكذا لك في المذهب، وذلك لأن اللفظ العام قد يراد به الخصوص وحينئذٍ فهذه النية تصرف اللفظ إلى بعض أفراده.

والقول الثاني وهو رواية عن الإمام أحمد وهو مذهب الشافعية أن الطلاق يقع كما تلفظ به ولا عبرة بنيته، وهذا هو القول الراجح، وذلك لأن الحكم إنما يعتبر بالظاهر، والظاهر من لفظه أن نساءه كلهن طوالق، فيحكم عليه بما اقتضاه ظاهر لفظه، وأما نيته فهي بينه وبين ربه، فإن لم يكن هناك ترافع أمام القاضي فإنه إن علم من نفسه الصدق فإنه يبقي امرأته وأما إن علم من نفسه الكذب فإنها لا تحل له إن كان الطلاق بائناً وإلا فإنه يحسبها طلقة، وأما في الطلقات فلا لا ديناً ولا حكماً، فلا يدين بذلك ولا يحكم به؛ أي بالاستثناء، فإذا قال رجل لامرأته: " أنت طالق ثلاثاً " ونوى في قلبه إلا واحدة فلا يعتبر بهذا الاستثناء المنوي غير المتلفظ به في الحكم وذلك للتعليل المتقدم في المسألة السابقة، وكذلك لا يدين بنيته فلا يقال: " إن كنت صادقاً فيما نويته فهي امرأتك " لا يقال ذلك، وذلك لأن العدد نص فيما يتناوله؛ أي ليس هناك احتمال، فإن قال: " أنت طالق ثلاثاً " فليس هناك أي احتمال أخر ممكن بخلاف ما إذا قال " نسائي طوالق " فإنه يحتمل أن يريد البعض فالنية إنما تصرف اللفظ المحتمل إلى أحد محتملاته وأما ما لا يحتمله اللفظ فلا، وإلا لجاز العمل بالنية المجردة في النكاح والطلاق ونحو ذلك، وهذه المسألة متفرعة على قول جمهور أهل العلم من إيقاع طلاق الثلاث ثلاثاً وإلا فالراجح أن طلاق الثلاث واحدة، ومثل ذلك إذا قال: " نسائي الأربع طوالق " أو قال: " ثلاثتكن طوالق " ونوى إلا واحدة فلا عبرة بنيته لأن قوله: " نسائي الأربع " وقوله: " ثلاثتكن " هذا عدد والعدد نص فيما يتناوله وعليه فالنية لا تصرفه كما تقدم تقريره. قوله: [وإذا قال: أربعكن إلا فلانة طوالقٌ صح الاستثناء] وذلك لأن هذه المرأة قد خرجت باستثناء صحيح. قوله: [ولا يصح استثناء لم يتصل عادة]

يشترط في الاستثناء أن يتصل في العادة، يتصل لفظاً أو حكماً، اتصاله لفظاً: بأن يتبع المستثنى المستثنى منه، فإن قال: " نسائي طوالق إلا فاطمة " فقوله: " إلا فاطمة " فاطمة هي المستثنى وقوله " نسائي طوالق " المستثنى منه، فهنا قد تبع المستثنى المستثنى منه تبعه لفظاً فالاستثناء صحيح. وأما اتصاله حكماً: فهو لم يتبعه لفظاً لكنه تبعه حكماً، وذلك فيما إذا كان هناك فاصل بين المستثنى والمستثنى منه، وكان الفاصل لا يقطع في العادة، كأن يقول: " نسائي طوالق " ثم يعطس أو يسعل ثم يقول: " إلا فلانة " فلا تطلق عليه وذلك لأن الاستثناء متصل في العادة لكنه ليس متصل لفظاً بل هو متصل حكماً. قوله: [فلو انفصل وأمكن الكلام دونه بطل] فإذا قال: " نسائي طوالق " ثم تكلم بكلام أجنبي أو سكت سكوتاً طويلاً يقطع في العرف ثم قال: " إلا فلانة " فإن الطلاق يقع على كل نسائه ولا يصح استثناؤه، وذلك لوجود الانقطاع، فهذا الطلاق الذي تلفظ به لا يمكن رفعه بمثل هذا الاستثناء المنقطع أما الاستثناء المتصل فإنه يجعل اللفظ جملة واحدة، أي يجعل المستثنى منه والمستثنى جملة واحدة لا يقع الكلام إلا بتمامها. قوله: [وشرطه النية قبل كمالِ ما استثنى منه] هذا الحكم في الاستثناء وفي الشرط، فلو قال رجل: " نسائي طوالق " ثم استدرك وقال: " إلا فلانة " فهو عندما قال: " نسائي طوالق " لا ينوي استثناء هذه المرأة المستثناة بل نواه بعد إتمامه اللفظ، فالاستثناء لا يصح ويقع الطلاق على كل المستثنى، وكذلك الشرط، فلو أن رجلاً قال لامرأته: " أنت طالق" ثم استدرك فقال: " إن دخلت الدار " فالشرط هنا لا يصح لأنه لم ينوه أثناء اللفظ قالوا: لأن الشرط والاستثناء يصرفان اللفظ عن مقتضاه فوجب أن يقترنا به لفظاً ونية في المنجز والمعلق فتدخل فيه يمين.

وختار شيخ الإسلام وتلميذه ابن القيم، وذكر شيخ الإسلام: " أنه هو ما يدل عليه كلام الإمام أحمد، وأن عليه كلام متقدِمي أصحاب الإمام أحمد "، واختاره من المتأخرين الشيخ عبد الرحمن بن سعدي: أن الاستثناء يصح وإن لم ينوِ المستثنى منه فيما يقصد به اليمين لا الإيقاع. واستدلوا بأدلة من الكتاب والسنة، فمن ذلك قوله تعالى {ولاتقولن لشيءٍ إني فاعل ذلك غداً إلا أن يشاء الله} ، فجمهور المفسرين أن هذا فيمن نسي الاستثناء. والقول الثاني عند المفسرين أنه يعم من نسي الاستثناء ومن لم ينسه قال ابن القيم: وهو الصواب: " وعلى كلا التفسيرين فإن المسألة المتنازع فيها داخلة في هذه الآية "، فالرجل إذا قال: " سأفعل غداً " وقد نسي أن يستثني ثم قال " إن شاء الله " فهذا الإستثناء نافع مع أنه لم ينوه مع لفظه، فكذلك في هذه المسألة المتنازع فيها، ومن ذلك ما ثبت في الصحيحين، أن سليمان عليه السلام قال: " لأطوف الليلة على سبعين تحمل كل امرأة فارساً يجاهد في سبيل الله " فقال له الملك: " إن شاء الله " فلم يقل، قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: (فلم تحمل شيئاً - أي من نسائه – إلا واحداً قد بقي أحد شقيه، ولوا قال إن شاء الله لجاهدوا في سبيل الله) ، فهذا الحديث دل على أن قوله: " إن شاء الله " بعد الكلام نافع ومؤثر، ومن ذلك قوله - صلى الله عليه وسلم - في المتفق عليه لما نهى عن قطع شوك مكة وحشيشها قال له العباس " إلا الإذخر " فقال: (إلا الإذخر) ، ولم يكن قد نوى الاستثناء وهذا هو القول الراجح لقوة أدلته. والله أعلم وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين

كتاب الطلاق، باب الطلاق في الماضي والمستقبل

بسم الله الرحمن الرحيم وبه نستعين وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم باب الطلاق في الماضي والمستقبل قوله: [إذا قال: أنت طالق أمس أو قبل أن أنكحك، ولم ينو وقوعه في الحال لم يقع] إذا قال الزوج لامرأته: " أنت طالق أمس " أو نحو ذلك فإن الطلاق لا يقع، وكذلك إذا قال: " أنت طالق قبل أن أنكحك " فالطلاق لا يقع، وذلك لأن فيه رفعاً لاستباحة النكاح في المضي، وذلك ليس للمكلف، فالمكلف إنما له رفع الاستباحة في الحال أو في المستقبل، وأما رفع إباحة الفرج وغيره مما يباح في النكاح في المضي فليس له ذلك.، قوله:" ولم ينو وقوعه في الحال لم يقع " هذا قيد في عدم الوقوع لكن لو نوى الوقوع في الحال فإن الطلاق يقع، فإذا قال: أنت طالق أمس " وهو ينوي الوقوع في الحال أي أن الطلاق واقع عليها في الحال استناداً إلى وقوعه في المضي فإنه يقع، والقول الثاني في المسألة:أنه لا يقع وهو أظهر وذلك لأن النية لا يحتملها لفظه، فهو ينوي وقوع الطلاق في الحال، ولفظه في المضي، فكما لو كانت النية مجردة، والنية المجردة لا يقع معها الطلاق. قوله: [وإن أراد بطلاق سبق منه أو من زيد وأمكن قُبل] الذي لا يقع - فيما تقدم – هو إنشاء الطلاق، لكن لو كان مخبراً، فقال لها: " أنت طالق أمس " من باب الإخبار وليس من باب الإنشاء، فإذا قال: " أنت طالق أمس " وقال أريد بذلك طلاقاً سابقاً مني أو طلاقاً سابقاً من غيري، وأمكن هذا، وذلك بأن يكون صادقاً في قوله فقد طلقها هو قبل، أو طلقها زوج آخر قبله، فإنه يقبل لأن لفظه يحتمله، وأما إذا لم يكن ذلك، وذلك بأن لا يكون طلقها قبل ذلك ولا يكون لها زوج قبله فإن الطلاق يقع، وذلك لأنه حينئذٍ يكون قد أخبر عن قول له فيكون في ذلك إقرار يتعلق به حق غيره وهو المرأة وحينئذٍ لا يقبل في الحكم، لكنه يديّن بنيته التي يدعيها فيما بينه وبين ربه.

قوله: [فإن مات أو جُنّ أو خرس قبل بيان مراده لم تطلق] إذا قال لها: " أنت طالق أمس " ثم جن أو مات أو خرس قبل بيان مراده فإنها لا تطلق إعمالاً للمتبادر من لفظه أنه إنشاء، والإنشاء للطلاق في المضي لا يقع منه الطلاق، وأيضاً عصمة النكاح ثابتة فلا تزال بالشك، فإذا قال: " أنت طالق أمس " من باب الإخبار وادعى أنه ينوي بذلك طلاقاً سابقاً وقد كان طلقها طلاقاً سابقاً، لكنه قال لها ذلك في حالة غضب أو عند سؤالها الطلاق فإنه لا يقبل قوله وذلك لوجود قرينة الحال التي تكذب قوله. قوله: [وإن قال: طالق قبل قدوم زيدٍ بشهر] إذا قال لها: " أنت طالق ثلاثاً قبل قدوم زيدٍ بشهر " ولا يدري متى يقدم زيد، فيحتمل أن يقدم بعد شهر من اليوم ويحتمل أن يكون بعد شهر من الغد، ويحتمل أن يكون بعد شهرين، وعليه تبقى المرأة معلقة ولا يحل له أن يطأها وذلك لأنه في كل يوم يحتمل أن يكون هو اليوم الذي يكون قدوم زيدٍ بعده بشهر، وعليه فلا يحل له أن يطأها إن كان الطلاق يبينها وتجب لها النفقة لأنها محبوسة لأجله. قوله: [فقدم قبل مضيه لم تطلق] فإذا قال:" أنت طالق قبل قدوم زيدٍ بشهر " فقدم زيد بعد أسبوع، فإن المرأة لا تطلق، وذلك كما لو قال:" أنت طالق أمس " لأن طلاقه يكون في المضي، لأن زيداً قدم بعد أسبوع فحينئذٍ يكون الطلاق قد وقع في المضي، لأن قبل قدوم زيد بشهر مضياً. قوله: [وبعد شهرٍ وجزءٍ تطلق فيه يقع] أي إذا جاء بعد شهر وجزء أي لحظة يقع فيها قول " أنت طالق " فإذا جاء بعد شهر وجزء فإنه يقع الطلاق عليها وذلك لوجود الصفة المذكورة. قوله: [فإن خالعها بعد اليمين بيومٍ، وقدم بعد شهرٍ ويومين صح الخلع، وبطل الطلاق]

إذا قال: " أنت طالق قبل قدوم زيدٍ بشهر " وبعد يوم خالعها، ثم قدم زيد بعد شهر ويومين، فتبين لنا أن المرأة كانت في عصمته حين المخالعة، فعلى ذلك الخلع صحيح لثبوت الزوجية ويبطل الطلاق لأنه صادف امرأة بائناً في الخلع. قوله: [وعكسها بعد شهر وساعة] أي لحظة يقع بمثلها الطلاق، فإذا قال لها: " أنت طالق قبل قدوم زيدٍ بشهر " ثم خالعها وبعد شهر وساعة قدم زيد، فالمخالعة هنا صادفت بينونة، وعليه فالطلاق صحيح والخلع باطل، والخلع إنما يصح حيث لم يكن حيلة، أما إذا كان حيلة فإنه لا يصح كما تقدم. قوله: [وإن قال: طالقٌ قبل موتي طلقت في الحال] إذا قال لزوجته: " أنت طالق قبل موتي " فإنها تطلق في الحال، وذلك لأنه ما من وقت إلا وهو قبل موته، أما لو قال: " قبيل موتي " فإن هذا الجزء يفيد التصغير فيكون في الجزء الذي يليه الموت أي في آخر لحظات عمره. قوله: [وعكسه معه أو بعده] فلوا قال لامرأته: " أنت طالق مع موتي أو بعد موتي " فإن الطلاق لا يقع وذلك لأن البينونة تحصل بالموت فإذا مات الزوج بانت منه امرأته، لذا تعتد وتنكح زوجاً آخر بعده، وعلى ذلك فإن هذا الشرط يصادفها بائناً والبائن لا يقع عليها الطلاق. فصل قوله: [وأنت طالقٌ إن طرتِ أو صعدت السماء أو قلبتِ الحجر ذهباً ونحوه من المستحيل لم تطلق] إذا قال لامرأته: " أنت طالق إن طرت إلى السماء أو صعدت السماء أو قلبت الحجر ذهباً " ونحوه من المستحيل فإنها لا تطلق وذلك لأن هذه الصفة لا توجد، فهذه الصفة التي علق الطلاق عليها لا توجد، والطلاق إنما يقع حيث وجدت هذه الصفة والصفة هذه لا توجد لأنها من المستحيلات. قوله: [وتطلق في عكسه فوراً] إذا قال " أنت طالق إن لم تستطيعي أن تصعدي السماء " فقد علق الطلاق على عدم فعل المستحيل، وعدم فعله معلوم في الحال، فيعلم تحققه في الحال فيقع الطلاق فوراً.

قوله: [وهو النفي في المستحيل مثل لأقتلن الميت أو لأصعدن السماء ونحوهما] فهذه أمور مستحيلة، فالميت لا يمكن قتله، وكذلك لأصعدن السماء ونحوهما، ففي مثل هذه المسائل يقع الطلاق في الحال لأنه علق طلاقه على عدم فعله للمستحيل وعدم فعله للمستحيل معلوم في الحال كما لو قال أنت طالق لأقتلن الميت أو إن لم أقتل الميت. قوله: [وأنت طالق اليوم إن جاء غدٌ لغو] إذا قال رجل لامرأته " أنت طالق اليوم إن جاء غدٌ " فإن ذلك يكون لغواً، قالوا: لأن مقتضى لفظه إيقاع الطلاق في هذا اليوم حيث جاء الغد فيه، ومعلوم أن مجيء الغد في اليوم أمر لا يمكن، وعليه فإن هذا يكون من باب اللغو. والقول الثاني في المسألة وهو قول القاضي من الحنابلة أن الطلاق يقع في الحال لأن مجيء الغد معلوم قطعاً فالراجح أنه يكون طلاقاً اليوم وذلك لأن مجيء الغد أمر معلوم. قوله: [وإذا قال: أنت طالق في هذا الشهر أو اليوم طلقت في الحال] إذا قال الرجل لامرأته " أنت طالق في هذا الشهر " أو " هذا اليوم " أو " في هذه السنة " فإن الطلاق يقع في الحال، وذلك لأنه جعل اليوم وجعل الشهر وجعل السنة ظرفاً لطلاقه وهذا يحصل في كل جزء من أجزاء اليوم وفي كل جزء من أجزاء الشهر وفي كل جزء من أجزاء السنة. قوله: [وإن قال: في غدٍ أو السبت أو رمضان طلقت في أوله] إذا قال " أنت طالق في السبت أو في غدٍ أو في رمضان " فإنها تطلق في أوله، وذلك لأن جعل رمضان ظرفاً لطلاقه فكل جزء من رمضان يصح أن يكون ظرفاً لهذا الطلاق وهذا هو ظاهر لفظه. قوله: [وإن قال: أردتُ آخر الكل دُين وقبل]

فإذا قال " أنا لم أرد أوله وإنما أردت آخره " قُبل منه في الحكم ودين بنيته فيما بينه وبين ربه، وذلك لأن نيته يحتملها لفظه، وذلك لأن وسط الشهر وآخره منه وعليه فلا تطليق عليه إلا في آخر الشهر، لكن إذا قال " أنت طالق غداً " أو " يوم السبت " ولم يقل " في " فهنا قد جعل الطلاق في غدٍ كله فلا بد وأن يشمل اليوم كله الطلاق، وعليه فلا يحكم عليه بالظاهر في نيته، لأن نيته تخالف ظاهر لفظه ولا يحتملها اللفظ، فإذا قال " أنت طالق غداً أو يوم السبت " وقال أردت آخر النهار، فإن ذلك لا يقبل منه وذلك لأن مقتضى لفظه وقوع الطلاق عليها في اليوم كله وأنها في كل جزء من أجزاء ذلك اليوم طالق وعليه فنيته تخالف ظاهر لفظه، وعلى ذلك فلا يقبل قوله في الحكم، والمشهور في المذهب؛ أنه لا يُدّن به فيما بينه وبين ربه، والذي يترجح وهو قول في المذهب أنه يدين فيما بينه وبين ربه بنيته وذلك لأن اللفظ يحتمل ذلك من باب المجاز، أي أنت طالق بعض غدٍ أو بعض يوم السبت. قوله: [وأنت طالق إلى شهرٍ طلقت عند انقضائه] إذا قال لها " أنت طالق إلى شهر " أو " إلى سنة " فإن المرأة تطلق عليه عند انقضاء الشهر وعند انقضاء السنة، وذلك لأنه جعل للطلاق غاية وهي قوله " إلى شهر" والطلاق لا غاية لآخره كما هو معلوم فتعين أن تكون الغاية لأوله، فعلى ذلك قوله " إلى شهر " أي ابتداءً للطلاق بعد مضي الشهر، وكذلك إذا قال " أنت طالق سنة ". قوله: [إلا أن ينوي في الحال فيقع] فإذا نوى ذلك في الحال فإن الطلاق يقع. قوله: [وطالقٌ إلى سنةٍ تطلق باثني عشر شهراً] إذا قال " أنت طالق إلى سنة " فإن المرأة تطلق عليه بمضي اثني عشر شهراً. قوله: [فإن عرفها باللام طلقت بانسلاخ ذي الحجة]

فإذا قال " أنت الطلاق إذا قضت السنة " أو قال " إذا مضى الشهر "، فإذا مضى الشهر الذي هو فيه أو مضت السنة التي هو فيها وإن كان في آخرها فإنها تطلق عليه، فلو أن رجلاً قال لامرأته وهو في العاشر من ذي الحجة " أنت طالقة إذا مضى الشهر " فهنا " أل " هي " أل " العهدية الحضورية وعليه فتطلق المرأة، إذا مضى هذا الشهر الذي هم فيه، كذلك إذا قال في شهر ذي القعدة " أنت طالق إذا مضت السنة " فتطلق عليه إذا مضت السنة التي هو فيها وذلك بانسلاخ شهر ذي الحجة، وإن قال أردت اثني عشر شهراً قُبِلَ حكماً. فائدة: إذا قيل له قد زنت امرأتك فقال: " هي طالق "، ثم تبين أنها لم تكن زنت، فقال أبي عقيل: لا تطلق وجعل السبب كالشرط اللفظي وهو قول عطاء وهو الظاهر كأنه قال إن زنت فهي طالق. والله أعلم وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين

كتاب الطلاق باب تعليق الطلاق بالشروط

بسم الله الرحمن الرحيم وبه نستعين وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم باب تعليق الطلاق بالشروط أي بالشروط اللغوية كقوله لزوجته " إن دخلت الدار فأنت طالق " والشرط هنا ينقسم إلى قسمين: شرط محض: وهو الذي يقصد المشترط فيه إيقاع الطلاق مع حصوله - أي مع حصول هذا الشرط -، فإذا قال لزوجته " إن جاء رمضان فأنت طالق " أو قال " إن دخلت الدار فأنت طالق " فهده شروط محضة يقصد بها إيقاع الطلاق متى حصل الشرط، وفي البخاري معلقاً: أن ابن عمر سأله نافع عن رجل قال لامرأته " أنت طالق البته إن دخلت الدار " فقال: إن دخلت الدار فهي بائن. الشرط الذي لا يقصد معه إيقاع الطلاق وإنما يقصد معه الحض أو المنع لنفسه أو لامرأته أو لغيرهما، كأن يقول لامرأته " إن خرجت من الدار بغير إذني فأنت طالق " وهو لا يقصد إيقاع الطلاق بل يقصد منعها من الخروج، أو يقول الآخر " إن لم تدخل في داري فامرأتي طالق " أو يقول " إن لم أفعل كذا فامرأتي طالق " ونحو ذلك مما يقصد معه الحض أو المنع وهو ما يسمى بالحلف بالطلاق، فليس المقصود بالحلف بالطلاق أن يقول " والطلاق " بل المقصود أن تكون الجملة التي فيها تعليق الطلاق بمعنى اليمين، فإذا قال للرجل " إن لم تدخل الدار فامرأتي طالق " كأنه قال " والله لأطلقن امرأتي إن لم تدخل الدار ". فجمهور أهل العلم أنه يقع الطلاق فيها إذا وقع الشرط وذلك لحصول الشرط الذي علق الطلاق به. وذهب أهل الظاهر وهو قول طائفة من السلف والخلف وهو اختيار شيخ الإسلام وتلميذه ابن القيم الجوزية واختاره الشيخ محمد بن عبد الوهاب أن الطلاق لا يقع وأنها يمين ويكفرها، واستدلوا بما يأتي:

أن هذه الألفاظ أيمان باتفاق أهل اللغة، وعليه عرف الفقهاء كما ذكر شيخ الإسلام، وعليه فيدخل في عموم قوله تعالى: {قد فرض الله لكم تحلة أيمانكم} وفي قوله - صلى الله عليه وسلم -: (إني إن شاء الله لا أحلف على يمين فأرى غيرها خيراً منها إلا أتيت الذي هو خير وكفرت عن يميني) . أن العبرة بالنيات والمقاصد لا بالألفاظ، فالأحكام لا تترتب على الألفاظ إلا إذا كان المتكلم قاصداً المعنى وهنا ليس الأمر كذلك فهو لا يقصد الطلاق وإنما يقصد الحث والمنع. ويستدل على هذا بالقصة التي رواها البيهقي وغيره عن أبي رافع؛ أن مولاته قالت له " أنا يوماً يهودية ويوماً نصرانية وعبيدي كلهم أحرار ومالي كله في سبيل الله وأمشي على قدمي إلى بيت الله إن لم تطلق امرأتك " فسأل ابن عمر وابن عباس وعائشة وحفصة وأم سلمة فكلهم قال " تكفر عن يمينها "، فإذا كان هذا في في العتق وفي النفقة وفي الصدقة المستحبة التي يتشوف الشارع إليها إذا كان هذا في ذكره فأولى أن يكون في الطلاق الذي يبغضه الشارع، وهذا هو القول الراجح لقوة أدلته. ... قوله: [لا يصح إلا من زوج] ... لا يصح الطلاق المعلق إلا من زوج، فلو قال " إن تزوجت فلانة فهي طالق " فلا تطلق عليه عند جماهير أهل العلم، لقول النبي - صلى الله عليه وسلم - فيما رواه الترمذي وغيره والحديث حسن: (لا نذر لابن آدم فيما لا يملك ولا عتق له فيما لا يملك ولا طلاق له فيما لا يملك) وهي أجنبية عنه، وقال تعالى {يا أيها الذين أمنوا إذا نكحتم المؤمنات ثم طلقتموهن} ، فرتب الطلاق على النكاح فلا طلاق قبل نكاح. قوله: [فإذا علقه بشرطٍ لم تطلق قبله] هذا ظاهر، فإذا قال " إن خرجت الدار فأنت طالق "، لم تطلق قبله لعدم حصول الشرط الذي قد علق الطلاق به. قوله: [ولو قال: عجلته]

إذا قال لامرأته " أنت طالق إن جاء شهر رمضان " ثم قال " عجلته " أي عجلت الطلاق المعلق، فهنا لا ينفعه هذا فلا يمكنه أن يعجله بل يقع في الوقت الذي قد شرطه فيه، قالوا؛ لأنه ليس له من سبيل إلى ذلك فهو معلق بزمن مستقبل فلم يكن إليه من سبيل لا بتصريح ولا بتأخير، وعليه فإذا أراد أن يطلقها طلاقاً آخر فإنه يطلقها حينئذٍ فإن كانت في عصمته في رمضان طلقت طلاقاً آخر هذا هو مذهب جمهور أهل العلم وهذا هو مذهب جمهور أصحاب الإمام أحمد، قال شيخ الإسلام " وفي ذكر جمهور الأصحاب نظر وذلك أنه يملك تعجيل الدين ولا فرق بين حقوق الله تعالى وحقوق العباد في الجملة سواء في شرع أو شرط "، وفيما قاله رحمه الله قوة والله أعلم. قوله: [وإن قال سبق لساني بالشرط ولم أرده وقع في الحال] إذا قال " إن دخلت الدار فأنت طالق " ثم قال " سبق لساني بالشرط، إذن هو يريد أن يوقعه فإنه يقع في الحال لأنه أقره على نفسه بما هوأغلظ. قوله: [وإن قال: أنت طالق وقال: أردت إن قمتِ لم يقبل حكماً] إذا قال " أنت طالق " ثم قال " أردت إن قمت " فإن هذا لا يقبل في الحكم لأن هذا خلاف الظاهر، فقوله " أنت طالق " هذا يدل على أنه أراد الطلاق المنجز وكونه يقول " أردت إن قمت " هذا يجعله طلاقاً معلقاً وهذا خلاف الظاهر المتقدم والحكم إنما يتعلق بظاهر الألفاظ، وأما في الباطن فإنه يدين بنيته فيما بينه وبين ربه. قوله: [وأدوات الشرط إن وإذا ومتى وأي ومن وكلما، وهي وحدها للتكرار] فالأدوات المتقدمة لا تفيد التكرار سوى " كلما ". قوله: [وكلها ومهما بلا لم أو نية فورٍ أو قرينته للتراخي] الأدوات المتقدمة وكذلك مهما إذا لم تقترن بها " لم " ولم تقترن بها نية الفورية أو قرينة الفورية فإنها تفيد التراخي. قوله: [ومع لم للفور]

فإذا اقترنت بهذه الأدوات " لم " فإنها تفيد الفورية إلا بقرينة تدل على التراخي، كأن يقول " إذا لم تفعلي كذا فأنت طالق " أو " متى لم تفعلي كذا " أو " أي وقت لم تفعلي كذا " أو " كلما لم تفعلي كذا فأنت طالق " فهي تفيد الفورية. قوله: [إلا إن مع عدم نية فورٍ أو قرينةٍ] "إن" إذا اقترنت بها " لم " فإنها لا تفيد الفورية، مع عدم نية الفور أو القرينة. قوله: [فإذا قال: إن قمت أو إذا أو متى أو أي وقتٍ أو من قامت، أو كلما قمت فأنت طالقٌ فمتى وجد طلقت] فمتى وجد القيام فإنها تطلق في أي يوم وفي أي ساعة. قوله: [وإن تكرر الشرط لم يتكرر الحنث إلا في كلما] إذا قال " إن قمتِ فأنت طالق " فقامت فإنها تطلق، فإن قامت مرة أخرى فإنها لا تطلق فإن هذه الأدوات لا تفيد التكرار بخلاف " كلما "، فإذا قال " كلما قمت فأنت طالق " فإذا قامت فإنها تطلق فإذا راجعها ثم قامت مرة أخرى فإنها تطلق لأن كلما تفيد التكرار، وقال شيخ الإسلام لاتطلق إلا واحدة وهو الراجح كما تقدم. قوله: [وإن لم أطلقك فأنت طالق ولم ينو وقتاً ولم تقم قرينة بفور ولم يطلقها طلقت في آخر حياة أولهما موتاً] إذا قال لامرأته " إن لم أطلقك فأنت طالق " ولم ينو الفور ولم تقم قرينة على الفورية ولم يطلقها، فإنها تطلق في آخر حياة أولهما موتاً، لأن هذه الأداة للتراخي، فإذا مات أحدهما علمنا الحنث. قوله: [ومتى لم أو إذا لم أو أي وقتٍ لم أطلقك فأنت طالق ومضى زمن يمكن إيقاعه فيه ولم يفعل طلقت] إذا قال لامرأته " متى لم أطلقك فأنت طالق " أو إذا لم أطلقك فأنت طالق " أو " أي وقت لم أطلقك فأنت طالق " فهذه الأدوات تفيد الفورية لاقتران " لم " بها فإذا قال ما تقدم ومضى وقت يمكن إيقاع الطلاق فيه ولم يفعل طلقت. قوله: [وكلما لم أطلقك فأنت طالق ومضى ما يمكن إيقاع ثلاث مرتبة فيه طلقت المدخول بها ثلاثاً وتبين غيرها بالأولى]

فإذا قال " كلما لم أطلقك فأنت طالق " ومضى زمن يمكن إيقاع ثلاث طلقات مرتبة فيه فإنها تبين به المدخول بها لأنه يكون بذلك قد وقع عليها الطلاق ثلاثاً، وأما غير المدخول بها فإنها تبين بطلقة ويكون طلاقاً بائناً بطلقة. قوله: [وإن قمت فقعدتِ، أو ثم قعدت أو إن قعدت إذا قمت أو إن قعدت إن قمت فأنت طالق لم تطلق حتى تقوم ثم تقعد] إذا علق طلاقه على شرطين مرتبين فلا يقع الطلاق إلا بهذين الشرطين مرتبين، فإذا قال لها " إن قمت فقعدت فأنت طالق " فإذا قامت فقعدت فإنها تطلق، وإذا قال لها " إن قمت ثم قعدتِ فأنت طالق " فإنها تطلق إذا قامت ثم قعدت " لأنه قد شرط شرطين مرتبين فلا تطلق إلا بقعود مسبوق بقيام. قوله: [وبالواو تطلق بوجودها، ولو غير مرتبين] إذا قال " إن قعدت وقمت فأنت طالق " فلا يشترط الترتيب بل يكتفي بالجمع، لأن الواو لا تفيد الترتيب، فإذا قال لها " إن خرجت من الدار وذهبت إلى السوق فأنت طالق " فخرجت من الدار لكنها لم تذهب إلى السوق، فلا يقع الطلاق حتى يجتمع المتعاطفان بالواو. قوله: [وبأو بوجود أحدهما] إذا قال إن خرجت من الدار إلى السوق أو إلى أهلك فأنت طالق " فخرجت من الدار إلى أهلها أو خرجت من الدار إلى السوق فإنها تطلق بأحدهما لأن " أو " تفيد ذلك، وما تقدم ذكره حيث كان بدلالة اللغة وأما العامة فإنه يحكم عليهم بما تقتضيه ألفاظهم عرفاً. فصل قوله: [إذا قال: إن حضت فأنت طالقٌ طلقت بأول حيضٍ متيقن] وذلك لوجود الصفة المشروطة، أما إذا كان حيضاً مشكوكاً فيه فلا، لأن الأصل بقاء عصمة النكاح، فالنكاح هو المتيقن فلا يزول بالشك. قوله: [وإذا حضت حيضة تطلق بأول الطهر من حيضةٍ كاملة]

إذا قال لها " إن حضت حيضة فأنت طالق " فهنا علق الطلاق بحيضة كاملة فإذا حاضت مرة واحدة فإنها تطلق وهذا إنما يكون بأول الطهر، فأول طهرها يتم لها حيضة كاملة، فإن قال لها وهي حائض " إن حضت حيضة كاملة فأنت طالق " فإنها لا تطلق حتى تطهر من حيضها التي هي فيه، فإذا طهرت منه فحاضت حيضة كاملة فإنها تطلق بأول الطهر. قوله: [وفي إذا حِضتِ نصف حيضةٍ تطلق في نصف عادتها] إذا قال لها " إن حضت نصف حيضة فأنت طالق " فإنها تطلق في نصف عادتها، فإذا كانت عادتها ستة أيام فإذا تم اليوم الثالث فإنها تطلق، وعليه فلا يُعلم نصف العادة حتى يمضي الحيض كله وذلك لأن العادة قد تطول وقد تقصر. والمشهور في مذهب الإمام أحمد أن المرأة يقبل قولها في الحيض فإذا قالت " إني قد حضت حيضة" فإن قولها يقبل، وقال بعض الحنابلة لا يقبل إلا بيمين لإحتمال كذبها، وعن الإمام أحمد وهو قول أبي بكر من الحنابلة وصوبه صاحب الإنصاف وهو أرجح الأقوال الثلاثة " أنها تعطى خرقة فتضعها في فرجها، فتعطيها بعض النساء الثقات قطنة أو نحوها فتضعها في فرجها " وذلك لأنه يمكن أن يعلم الحيض من غير جهتها فلم يقبل فيه القول المجرد، فالقول المجرد إنما يقبل حيث لا يمكن أن يعلم إلا من جهة الشخص وأما إذا كان يمكن العلم به من غير جهته فإنه لا يقبل قوله وهنا يمكن أن يعلم الحيض الذي ادعته وأنكره الرجل، يمكن أن يعلم من غير جهتها، بخلاف ما لو قال لها " إن كنت تبغضيني فأنت طالق " فقالت المرأة " إني أبغضك " فإنه يقع الطلاق لأنه أمر قلبي ولا يطلع عليه غيرها فإن قولها يصدق لأنه لا يعلم إلا من جهتها. فصل قوله: [إذا علقه بالحمل فولدت لأقل من ستة أشهر طلقت منذ حلف]

إذا قال " إن كنت حاملاً فأنت طالق " فولدت لأقل من ستة أشهر سواء كان الزوج يطأ أو لا يطأ فحينئذٍ يعلم أنها حامل لأنها لما ولدت لأقل من ستة أشهر علمنا قطعاً أنها حامل حين حلفه، سواء كان يطأها أو لا يطأها وعليه فإنها تطلق، وإذا ولدت لأقل من أربع سنين وهو لا يطأها فنقطع أنها حامل وهذا هو أكثر مدة الحمل في المذهب وعليه فتطلق، وقد تقدم أن المدة القصوى للحمل غير محددة كما في كتاب الفرائض فإذا أتت به وهي فراشٌ لزوجها ولا يطأها ولو كان بعد أكثر من أربع سنين فهو ابنٌ له، وعليه فتكون حاملاً عند قوله المتقدم وإن أتت به لأكثر من أربعة سنين. فإن وطيء بعد الحلف وولدت لستة أشهر فأكثر من أول وطئه لم تطلق لإمكان أن يكون الحمل من الوطء بعد الحلف والأصل بقاء عصمة النكاح. قوله: [وإن قال: إن لم تكوني حاملاً فأنت طالق] إذا قال " إن لم تكوني حاملاً الآن فأنت طالق " وهي عكس المسألة السابقة. قوله: [حرم وطئها قبل استبرائها بحيضة في البائن] فهذا الحكم للمسألتين كلتيهما فإنه يحرم عليه الوطء حتى يستبريئها بحيضة، أي حتى تثبت براءة الرحم من الحمل بحيضة واحدة فإذا حاضت فإنه يعلم أنها ليست بحامل في المسألة الأولى فلا تكون طالقاً، وعنه وهو ظاهر كلام المؤلف أنه لا يحرم في المسألة الأولى وطؤها عقيب اليمين ما لم يظهر بها حمل وفي المسألة الثانية يعلم أنها ليست بحامل فتكون طالقاً لكن هذا في البائن فهي التي يحرم وطئها،ن لكن لو كان طلاقاً رجعياً فله أن يطأ لأن الرجل لا يمنع من وطء امرأته في الطلاق الرجعي. قوله: [وهي عكس الأولى في الأحكام] وهذا ظاهر فالحالة الأولى إثبات والمسألة الثانية نفي فعكس الأحكام المتقدمة في المسألة الأولى يثبت عكسها في المسألة الثانية فماذا قلنا في المسألة الأولى يقع الطلاق فنقول في المسألة الثانية لا يقع الطلاق.

قوله: [وإن علق طلقة إن كانت حاملاً بذكر وطلقتين بأنثى فولدتهما طلقت ثلاثاً] إذا قال لامرأته " إن كنت حاملاً بذكر فأنت طالق طلقةً، وإن كنت حاملاً بأنثى فأنت طالق طلقتين " فولدتهما طلقت ثلاثاً لوجود الصيغتين اللتين وقع عليهما الطلقات ويأتي ما في هذه المسألة من النظر في آخر هذا الدرس. قوله: [وإن كان مكانه إن كان حملُك أو ما في بطنك لم تطلق بهما] إذا قال لها مكان قوله إن كنت حاملاً قال " إن كان حملك " أو قال " إن كان ما في بطنك " فإنها لا تطلق إن ولدتهما وذلك لأن قوله هنا " حملك " وقوله " ما في بطنك" ظاهره الحصر بأن يكون ذكراً أو أنثى وهو هنا بعضه ذكرٌ وبعضه أنثى، وعليه فلا يقع الطلاق. فصل قوله: [إذا علق طلقة على الولادة بذكر وطلقتين على الولادة بأنثى فولدت ذكراً ثم أنثى حياً أو ميتاً، طلقت بالأول وبانت بالثاني ولم تطلق به] في المسألة المتقدمة منها تعليق الطلاق على الحمل وأما هنا فهو تعليق له على الولادة، فإذا قال لامرأته " إن ولدت ذكراً فأنت طالق طلقة وإن ولدت أنثى فأنت طالق طلقتين " فولدت ذكراً ثم ولدت أنثى حياً كان المولود أو ميتاً طلقت بالأول منها سواءً كان ذكراً أو أنثى، فإن كان ذكراً فإنها تطلق طلقة وإن كان أنثى فإنها تطلق طلقتين فإذا ولدت ذكراً فإنها تكون قد طلقت طلقةً، فلما أتت بالثاني فإنها لا تطلق بالثاني لكنها تبين به، لأنها بالثاني تكون قد وضعت حملها والمرأة إذا وضعت حملها فقد خرجت من عدتها وإذا خرجت من عدتها فهي بائن منه. قوله: [وإن أشكل كيفية وضعهما فواحدة] فإذا أشكل كيفية وضعهما فلا يدري آلذكر سابقٌ أم الأنثى فواحدة، وذلك لأن الأصل بقاء النكاح والطلقة الثانية مشكوك فيها وعليه فتبين بواحدة. فصل قوله: [إذا علقه على الطلاق، ثم علقه على القيام، أو علقه على القيام، ثم على وقوع الطلاق فقامت طلقت طلقتين فيهما]

إذا قال لامرأته " إن طلقتك فأنت طالق " ثم قال لها " إن قمت فأنت طالق " فقامت طلقت طلقتين، الطلقة الأولى بقيامها والطلقة الثانية بطلاقها. وقوله " أو علقه على القيام، ثم على وقوع الطلاق "؛ إذا قال لها إن قمت فأنت طالق " ثم قال " إن وقع عليك الطلاق فأنت طالق " فقامت فإنه يقع لها الطلاق المعلق الأول، وبوقوعه عليها يقع الطلاق الثاني. قوله: [وإن علقه على قيامها ثم على طلاقه لها فقامت فواحدة] هذه بعكس المسألة الأولى، فإذا علقه على قيامها ثم على طلاقها، فالفرق بين المسألة الثالثة والمسألة الأولى؛ أن المسألة الثالثة هي عكس الأولى، والفرق بين المسألة الثالثة والمسألة الثانية أن المسألة الثانية فيها وقوع الطلاق فإنه قال في المسألة الثانية " ثم علقه على وقوع الطلاق "، أما في المسألة الثالثة فإنه قال " ثم علقه على طلاقها "، وفرق بين قوله " إن طلقت فأنت طالق " وبين قوله " إن وقع عليك الطلاق فأنت طالق " والمسألة الثالثة هي إذا قال لامرأته " إن قمتِ فأنت طالق " ثم قال بعد ذلك " إن طلقتك فأنت طالق " فإذا قامت فلا يقع عليها إلا طلاق واحداً، لأن قوله " إن طلقتك فأنت طالق " يقع الطلاق ليس منه إنما بالشرط الذي قد وقع فهو طلاق معلق بخلاف ما إذا علقه على وقوع الطلاق فإنه متى ما قلنا بوقوع الطلاق فحينئذٍ يحصل الشرط. قوله: [وإن قال: كلما طلقتك أو كلما وقع عليك طلاقي فأنت طالق فوجدا طلقت في الأولى طلقتين وفي الثانية ثلاثاً] إذا قال " كلما طلقتك فأنت طالق " ثم قال لها " أنت طالق " فحينئذٍ يقع الطلقة الأولى وهي قوله " أنت طالق " ويقع الطلاق المعلق فيكون عليها طلقتان لكن لو قال " كلما وقع عليك طلاقي فأنت طالق" فالثانية طلقة واقعة عليها فتقع بها ثالثة. مسألة:

وهي تسمى بالسرجية؛ نسبة إلى ابن سُريج الشافعي، وهي فيما إذا قال الرجل لامرأته " إن وقع عليكِ طلاقي فأنت طالق قبله ثلاثاً " قال ابن سريج الشافعي " وهو قول محدث في الإسلام " كما قال شيخ الإسلام " قال لا يقع شيء "، لأن قوله " أنت طالق " مسبوق بثلاث وعليه فهو طلاق منفي وليس بشيء لأنه طلقة رابعة والطلقة الرابعة ليست بشيء، وما دام أنها ليست بشيء فكذلك ما قبلها، وهو قوله " فأنت طالق قبله ثلاثاً " أي كذلك الذي علقت عليه ليس بشيء فما دام منفياً فلا يمكن أن يثبت ما يترتب عليه، هذا هو قول ابن سريج وهو كما تقدم قول محدث في الإسلام.

وقال الحنابلة؛ يقع الطلاق ثلاثاً، فقوله " أنت طالق " يقع طلقة، وقد قال " إن وقع عليك طلاقي فأنت طالق قبله ثلاثاً " فنختار من هذه الثلاث اثنتين فتكون طالقاً ثلاث، واختار شيخ الإسلام ابن تيمية وهو قول ابن عقيل من الحنابلة " أنها لا تطلق إلا واحدة في قوله أنت طالق "، وأما قوله " فأنت طالق قبله ثلاثاً " فعلى القول بصحة طلاق الثلاث بكلمة واحدة، وقد تقدم أن شيخ الإسلام لا يختار هذا القول وعليه فما نذكره هو دليل ابن عقيل فعلى القول بصحة طلاق الثلاث يكون من الطلاق الماضي والطلاق في المضي لا يقع، فالراجح أنه تقع عليها طلقة واحدة، وفي قول المؤلف " إذا علق طلقة على الولادة بذكر وطلقتين بأنثى "، إن ولدتهما فإنها تطلق ثلاثاً كما تقدم تقريره وكذلك في الحمل، وهذا فيه نظر، فإن مراده في الغالب الحمل الواحد والولادة الواحدة، إذ الأصل أن يكون حملاً واحداً وأن تكون الولادة ولادة واحدة، وعليه فيقع على ما نواه، وهو رواية عن الإمام واختاره شيخ الإسلام، فإذا قال الرجل لامرأته " إن كنت حاملاً بذكر فأنت طالق طلقةً، وإن كنت حاملاً بأنثى فأنت طالق طلقتين " فتبين أنها حامل بذكر وأنثى جميعاً فإن هذا ليس مراده بل مراده حيث كان الحمل منفردأ أي منفرداً بالذكورية أو منفرداً بالأنثوية والأمر لم يكن كذلك وهو حمل كلامه على الأصل ونّوعه هنا بالذكورية والأنثوية وعلق على هذا التنويع لأن الأصل هو هذا التنويع، وهذا القول هو الراجح في هذه المسألة. فصل قوله: [إذا قال: إذا حلفتُ بطلاقك فأنت طالقٌ، ثم قال: أنت طالق إن قمت طلقت في الحال] تقدم معنى الحلف بالطلاق عند الفقهاء وأن معناه تعليق الطلاق بشيء للحض والمنع فإذا قال " إذا حلفت بطلاقك فأنت طالق " قم قال " أنت طالق إن قمت "، فقوله هنا " أنت طالق إن قمت " هذا حلفٌ بالطلاق فتطلق في الحال وذلك لوجود الصفة.

قوله: [لا إن علقه بطلوع الشمس ونحوه لأنه شرطٌ لا حلف] إذا قال لها " إذا حلفت بطلاقك فأنت طالق "، ثم قال بعد ذلك " إن طلعت الشمس فأنت طالق " فلا تطلق عليه في الحال وذلك لأن قوله " إن طلعت الشمس فأنت طالق " ليس حلفاً بل هو شرط محض لأن المكلف لا يقصد بمثله الحض أو المنع وهذا ظاهر، وقد تقدم الفرق بين الحلف والشرط وأن عرف الفقهاء على ذلك كما تقدم نقله عن شيخ الإسلام. قوله: [وإن حلفتُ بطلاقك فأنت طالقٌ، أو إن كلمتك فأنت طالقٌ وأعاده مرةً أخرى طلقت مرة] إذا قال لامرأته " إن حلفت بطلاقك فأنت طالق " ثم قال " إن حلفت بطلاقك فأنت طالق " فإنها تطلق بالجملة الثانية طلقةً واحدة وذلك لوجود الصفة وهي الحلف بالطلاق، وإذا قال لها " إن كلمتك فأنت طالق " ثم قال لها " إن كلمتك فأنت طالق " فإنها تطلق بالجملة الثانية طلقة واحدة، وذلك لأن قوله " إن كلمتك فأنت طالق " كلام وقد علق طلاقها بكلام وهذا كلام فيقع الطلاق به. قوله: [ومرتين فثنتان وثلاثاً فثلاثٌ] إذا قال لها " إن حلفت بالطلاق فأنت طالق " ثم قال " وإن حلفت بالطلاق فأنت طالق " طلقت واحدة، ثم قال " إن حلفت بالطلاق فأنت طالق " طلقت ثانية، ثم قال " إن حلفت بالطلاق فأنت طالق " طلقت ثالثة، لوجود الصفة المعلق عليها الطلاق في كل مرة، هذا ما لم يقصد إفهامها أو التأكيد، أما إذا قصد إفهامها أو التأكيد فإنه لا يقع إلا في الأولى، فإذا قال لها " إن كلمتك فأنت طالق " ثم قال لها " إن كلمتك فأنت طالق " طلقت واحدة، فإن قال لها ذلك مرة أخرى وقصد إفهامها أو التأكيد فإنها لا يقع عليه طلقة أخرى لأنه لا يقصد الطلاق وإنما يقصد إفهامها قوله أو يقصد التأكيد. فصل قوله: [إذا قال: إن كلمتك فأنت طالق فتحققي أو قال: تنحي أو اسكتي طلقت] فتتحققي؛ أي تحققي قولي وأنتهي له.

إذا قال لزوجته " إن كلمتك فأنت طالق فتحققي أو اسكتي أو تنحي " فإنها تطلق لأنه قال لها " إن كلمتك فأنت طالق " ثم قال لها " فتحققي " أو " اسكتي " وهذا كلام فالصفة قد وجدت وعليه فالطلاق واقع، وظاهر كلام المؤلف أن ذلك مطلقاً سواء أراد إفهامها أو أراد الابتداء بالكلام وهذا فيه نظر ظاهر، ولذا اختار ابن القيم التفصيل في هذه المسألة، فإذا قال " إن كلمتك فأنت طالق " ثم قال " اسكتي " وأراد بذلك منعها من الكلام ولم يرد بذلك ابتداء كلام يقع به الطلاق، فإن الطلاق لا يقع، وأما إن كان يريد ابتداء كلام يقع به الطلاق فإن الطلاق يقع والراجح هو ما ذكره ابن القيم لأن هذا هو مقصود الحالف فمقصود الحالف أن يتكلم بكلام في مجلس آخر وأما أن يقصد أن ذلك يدخل بمجرد الكلام ولو كان يريد به التأكيد أو الإفهام أو نحو ذلك وهو احتمال في المغني وصوبه صاحب الأنصاف. قوله: [وإن بدأتك بالكلام فأنت طالق، فقالت: إن بدأتك به فعبدي حر، انحلت يمينه] إذا قال لزوجته " إن بدأتك بكلام فأنت طالق " فقالت له امرأته " إن بدأتك بالكلام فعبدي حر " فإن يمينه تنحل فلا حنث عليه وذلك لأنها بدأته بالكلام، فإذا تكلم معها فلا يكون مبتدءاً الكلام. قوله: [ما لم ينو عدم البداءةِ في مجلس آخر] فإذا كان لا يريد ما يقع بينه وبينها من نقاش وجدال أو نحو ذلك في ذلك المجلس بل يريد ما يكون بعد ذلك، فإن كان هذا مرداه ومقصوده فإنه يحنث إن بدأها بالكلام وإن قالت له ما تقدم، لأنه ينوي مجلساً آخر ووقتاً آخر.

والقول الثاني في المسألة وهو احتمالٌ للموفق ابن قدامة، وقال صاحب الإنصاف في هذا القول " وهو قوي جداً " وهو كما قال، هذا القول مبني على أنه يريد بذلك وقتاً آخر وعليه فلا يحنث إلا أن يبدأها بالكلام في وقت آخر لأن هذا هو مراده، فالرجل إذا قال لامرأته " إن بدأتك بالكلام فأنت طالق " فإنه لا يريد ما يقع من الكلام في المجلس الذي وقع فيه الحلف بل يريد وقتاً آخر، وعليه فإذا بدأها في وقت آخر بالكلام فإن الطلاق يقع، ولا عبرة بإجابتها إياه في المجلس الذي وقع فيه الحلف لأن الحالف بمثل هذا إنما يريد وقتاً آخر، هذا هو الجاري في العرف وهذا هو الغالب في إرادة المتكلمين. فصل قوله: [إذا قال: إن خرجت بغير إذني أو إلا بإذني أو حتى آذن لك، أو إن خرجت إلى غير الحمام بغير أذني فأنت طالق] هنا قد علق الطلاق بالخروج من البيت بلا إذن، فالوصف الذي علق عليه الطلاق هو الخروج بلا إذن إلا ما استثنى، كأن يقول لها " إن خرجت من الدار إلا لأهلك فأنت طالق. قوله: [فخرجت مرة بإذنه ثم خرجت بغير إذنه] أي قالت له مرة " استأذنك بالخروج إلى السوق مثلاً " فقال لها " قد أذنت لك" فخرجت إلى السوق ثم خرجت بغير إذنه خروجاً آخر فإن الطلاق يقع لوجود الصفة. قوله: [أو أذن لها ولم تعلم] أي أخبر أباها أو أمها أو أحد أبنائها أنه أذن لها لكن هذا الإذن لم ينقل إليها فخرجت عاصيةً له فإن الطلاق يقع وذلك لوجود الصفة وهي الخروج بلا إذن، والأذن إنما يكون إذناً حيث أعلم به المأذون له فلا إذن إلا بإعلام، فالإذن في اللغة هو الإعلام ومنه سمي الأذن إذناً لما فيه من الإعلام، والوجه الثاني في المذهب لا تطلق والأول هو الراجح. قوله: [أو خرجت تريد الحمام وغيره] فإذا قال لها " إن خرجت بلا إذن فأنت طالق إلا إلى أهلك "، فخرجت إلى أهلها وإلى غيرهم، فإنها تطلق وذلك لوجود الصفة. قوله: [وعدلت منه إلى غيره]

ففي المثال السابق، أنها خرجت إلى أهلها لكنها عدلت عن أهلها إلى غيرهم فإن الطلاق يقع لأنه خروج غير مأذون به فوجدت الصفة التي علق الطلاق عليها. إذن؛ إذا جمعت بين مأذون به وغير مأذون به فإنها تطلق. قوله: [طلقت في الكل] وذلك لوجود الصفة التي علق الطلاق عليها. قوله: [لا إن أذن فيه كلما شاءت] إذا قال الرجل لامرأته: " إن خرجت يوماً من الدهر بلا إذني فأنت طالق " فما هو المخرج من ذلك؟ المخرج أن يقول لها: " أذنت لك في الخروج كلما شئت ". قوله: [أو قال: إلا بإذن زيدٍ فمات زيدٌ ثم خرجت] إذا قال لها: " لا تخرجي إلا بإذن والدك وإن خرجت بغير إذنه فأنت طالق " فمات والدها فخرجت فلا طلاق، وذلك لأن الميت لا إذن له، ولأن هذا معلوم من حلفه فإنه إنما أراد حيث كان له إذنٌ وأما الميت فلا إذن له. فصل قوله: [إذا علقه بمشيئتها بإن أو غيرها من الحروف لم تطلق حتى تشاء ولو تراخى] إذا قال لها: " أنت طالق إن شئت أو إذا شئت أو متى شئت " فإنها لا تطلق حتى تشاء أي حتى تشاء بلسانها فتقول شئت ذلك، أما مشيئة القلب فلا عبرة بها وذلك لأن ما في القلب لا يعلق به حكم حتى يعبر عنه باللسان. " ولو تراخى " فلو قالت بعد يوم أو شهر أو سنة قالت: " شئت " فإنها تطلق عليه، فمتى قالت شئت فإنها تطلق عليه ولو كان ذلك مع التراخي كسائر التعاليق، فكما أنه إذا قال لها: " إذا دخلت الدار فأنت طالق " فليس له الرجوع فكذلك: " أنت طالق إن شئت ". وقال الشافعية: بل هو على الفور، وذلك لأنه تمليك للطلاق فأشبه ما لو قال لها: "اختاري " وقد تقدم أنه إذا قال لها: " اختاري " فإن الخيار يثبت لها في المجلس، والراجح هو القول الأول.

والجواب عن الثاني، أن الفرق بين هذه المسألة وبين قوله: " اختاري " ظاهر، فإن قوله: " أنت طالق إن شئت " من باب الشروط، وقوله: " اختاري " من باب الخيار، والخيار على الفور، ولا يصح رجوعه كبقية التعاليق وعنه يصح كاختاري. قوله: [فإن قالت: قد شئتُ إن شئتَ فشاء لم تطلق] إذا قالت له: " شئت إن شئتَ " فهنا شرطت مشيئته وشرط المشيئة ليس بمشيئة فلا تكون طالقاً، فهي لم تقل: " شئت " لكنها علقت مشيئتها بمشيئته فهذا شرط وليس بمشيئة وعليه فلا طلاق. قوله: [وإن قال: إن شئتِ وشاء أبوكِ أو زيدٍ لم يقع حتى يشاءآ معاً، وإن شاء أحدهما فلا] إذا قال لها: " أنت طالق إن شئت أو شاء زيد " فشاءت ولم يشأ زيد فلا طلاق لعدم وجود الصفة وهي مشيئتهما جميعاً، أو قال لها: " إن شئتِ وشاء أبوكِ " لم تطلق حتى يشاءا معاً ولو تراخى أحدهما فالمشيئة ثابتة. قوله: [وأنت طالق أو عبدي حرٌ إن شاء الله وقعا] إذا قال لامرأته: " أنت طالق إن شاء الله " أو قال: " عبدي حر إن شاء الله " فإن زوجته تطلق وعبده يعتق، قالوا:؛ لأنه قد علقه إلى ما لا سبيل إلى علمه وهي مشيئة الله فأشبه تعليقه على المستحيل. وعن الإمام أحمد وهو مذهب أبي حنيفة والشافعي: أن الطلاق لا يقع، قالوا: لأنه علقه على صفةٍ لا يعلم وجودها، فهو لا يعلم هل شاء الله عز وجل الطلاق أم لم يشأه.

وفصل شيخ الإسلام تفصيلاً حسناً في هذه المسألة فقال: إن كان تعليقاً فلا يقع، وإن كان تحقيقاً أو تأكيداً فإنه يقع، فإذا قال ذلك تعليقاً أي علقه على مشيئة الله المستقبلة فلا تطلق عليه لأن الله لا يشاؤه في الواقع وقوعاً حتى يتكلم به هذا المكلف، فلا يقال إن الله شاء الطلاق لفلانة من فلان إلا أن يكون قد وقع وحدث، وعليه فإذا قال لها "أنت طالق إن شاء الله " فلا تطلق حتى يقول لها بعد ذلك: " أنت طالق "، وأما إن كان تحقيقاً أو تأكيداً بمعنى قال: " إن شاء الله" يحقق قوله أي قد وقع قوله وشاءه الله عز وجل فهذا هو التحقيق، أو تأكيداً كأن يقول: " إن شاء الله " مؤكداً للطلاق مثبتاً له وهذا تفصيل جيد في المسألة. أما لو قال: " أنت طالق إلاّ أن يشاء الله " فإنها تطلق وذلك لأن قوله: " أنت طالق إن شاء الله " جملة فيها إثبات الطلاق ووقوعه، وفيها تعليق رفعه على مشيئة الله فقوله: " إلا أن يشاء الله " تعليق لرفع الطلاق على مشيئة الله ومشيئة الله ليست بمعلومة. قوله: [وإن دخلت الدار فأنت طالق إن شاء الله طلقت إن دخلت] إذا قال لها: " إن دخلت الدار فأنت طالق إن شاء الله " فإنها تطلق بذلك، وهذا تفريعٌ عن المسألة السابقة، ما لم ينو الاستثناء للفعل وهو دخولها فإنها لا تطلق وذلك لأنها إن دخلت فيعلم أن الله عز وجل قد شاءه ويكون هذا التعليق كالتعليق على اليمين، كما قال - صلى الله عليه وسلم -: (من حلف على يمين فقال إن شاء الله لم يحنث) رواه الترمذي والنسائي وغيرهما وهو حديث صحيح، فإذن إن قال لها: " إن دخلت الدار فأنت طالق إن شاء الله " إن كانت المشيئة للفعل المحلوف عليه فلا تطلق إن دخلت، لأن دخولها بمشيئة الله المعلق عليها، وكل يمين علقت بمشيئة فلا حنث فيها للحديث المتقدم بخلاف ما إذا كان التعليق للطلاق. قوله: [وأنت طالق لرضا زيدٍ أو لمشيئته طلقت في الحال]

لأن معنى كلامه " أنت طالق لكون زيد رضى ذلك " و " أنت طالق لكون زيد يشاء ذلك " فإنها تطلق في الحال كما تقدم، ومعنى كلامه " وقد اوقعت عليك الطلاق لأن أمك تشاء ذلك أو لأن أباك يشاء ذلك. قوله: [فإن قال: أردت الشرط، قُبل حكماً] أي أردت " أنت طالق إن رضي زيد " أو " أنت طالق إن شاء زيدٌ " فإنه يقبل في الحكم الظاهر، لأن لفظه يحتمل. وعن الإمام أحمد وهو أحد الوجهين عند الشافعية: أنه لا يقبل في الحكم، وهو الأرجح لأنه يخالف ظاهر قوله فإذا قال: " أنت طالق لرضا أبيك " فإنها تطلق لأن ظاهر لفظه " أنت طالق لكون أبيك يرضى ذلك " فإذا ادعى أنه أراد الشرط فإن هذا الإدعاء يخالفه الظاهر، والإدعاء الذي يخالفه الظاهر لا يقبل في الحكم وأما كونه يدين فيما بينه وبين ربه فهذا ظاهر. قوله: [وأنت طالقٌ إن رأيت الهلال، فإن نوى رؤيتها لم تطلق حتى تراه، وإلا طلقت بعد الغروب برؤية غيرها] إذا قال لها: " إن رأيت الهلال فأنت طالق " فتقول ما الذي تنويه؟ فإن قال: " نويت أنها طالق إن رأته بعينها " فحينئذٍ لا تطلق إلا إذا عاينته ببصرها، وهنا لفظه يحتمل ذلك، وإن قال: " لم أرد معاينتها بل أريد رؤية الهلال فتطلق بغروب الشمس حيث رأى الهلال غيرها، كما أنها تطلق بتمام الشهر ثلاثين وذلك لأن تمام الشهر ثلاثين في حكم رؤية الهلال شرعاً. فصل قوله: [وإن حلف لا يدخل داراً أو لا يخرج منها فأدخل أو أخرج بعض جسده أو دخل طاق الباب أو لا يلبس ثوباً من غزلها فلبس ثوباً فيه منه أولا يشرب ماء هذا الإناء فشرب بعضه لم يحنث] طاق الباب؛ هو أي ما عطف من الابنية أي جانباه للباب.

فلا يحنث في هذه المسائل كلها وذلك لأن فعل البعض ليس كفعل الكل، والحلف إنما هو عن الامتناع عن فعل الكل وليس فعل البعض كفعل الكل، ولذا كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يخرج رأسه وهو معتكف لعائشة فترجله ولم يكن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يخرج من معتكفه وليس هذا في حكم الخروج من المعتكف، لكن لو قال: " أنت طالق إن شربت ماء هذا النهر " فقطعاً لا يريد كله ولا يمكن أن تصرف اليمين إلى ذلك، فإذا شرب بعضه فإنه يحنث لأنه يمتنع إرادة الكل فتصرف يمينه على إرادة البعض، ومبنى الأيمان على نية الحالف، فلو أنه قال: " أنت طالق إن شربت ماء هذا الإناء " وهو ينوي بعضه، فشرب البعض فإنه يحنث فإن الأيمان مبناها على النية، فالأحكام المتقدمة إنما ينظر فيها باعتبار الألفاظ أما لو نوى خلاف ظاهر لفظه فإن الأيمان مبناها على النية. قوله: [وإن فعل المحلوف عليه ناسياً أو جاهلاً حِنث في طلاق وعتاقٍ فقط] إذا قال: " إن فعلتُ كذا فامرأتي طالق " أو قال: " إن فعلتِ كذا فأنت طالق " ففعل هو أو فعلت هي نسياناً، أو كان ذلك عن جهل كأن تكون هي لم تعلم باليمين ففعلت ما فعلت، وإذا قال لامرأته: " إن خرجت من الدار فأنت طالق " فنسيت فخرجت، أو قال لأحدٍ من الناس: " إن خرجت امرأتي من الدار فهي طالق " فخرجت من غير أن تعلم بيمينه. قال الحنابلة: يثبت الحنث وذلك لأن يمين الطلاق ويمين العتاق فيها حق آدمي ولا فرق فيها بين تعمد ولا خطأ ولا نسيان، ويعذر عندهم المكره والنائم والمغمى عليه.

وقال الشافعية وهو اختيار شيخ الإسلام وتلميذه ابن القيم وممن اختاره من المتأخرين الشيخ عبد الرحمن بن سعدي: أن الأيمان كلها لا حنث فيها مع الجهل والنسيان، وكذا لو عقدها يظن صدقَ نفسه فبان خلاف ذلك أو لقصد الإكرام، قال شيخ الإسلام: "من حلف بالطلاق كاذباً يعلم كذب نفسه لم تطلق "، وكذا من فعله متأولاً تقليداً لمن أفتاه أو فعل محلوفاً معتقداً زوال النكاح ونحو ذلك. واستدلوا بقوله تعالى {وليس عليكم جناح فيما أخطأتم به ولكن ما تعمدت قلوبكم} ، وبقوله تعالى {ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا} ، وبقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: (رفع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه) . قالوا: وهذه أدلة عامة ليس فيها استثناء. وقالوا: ولأن حقيقة الحنث هو مخالفة اليمين، والمخالفة إنما تكون مع التعمد، وأما مع عدم التعمد، وعدم القصد فإنه ليس ثمت مخالفة، ولأن مقصود الحالف عدم المخالفة وإذا خولف أو خالف هو نسياناً أو خطأً فإن مقصوده لا ينتقض، فإذا قال لامرأته: " إن خرجت من الدار فذهبتِ إلى السوق فأنت طالق " وهو يريد ألا تخالفه وألا تعصيه فإنها إذا فعلت ذلك نسياناً أو خطأً فإنها لا تعد عاصية ولا مخالفة لأن العصيان إنما يكون مع التعمد وهذا هو الراجح في هذه المسألة، أما إذا فعل ما حلف عليه مكرهاً فقال الحنابلة: لا يحنث وذلك لأن المكره لا يضاف إليه الفعل، فإذا قال لامرأته: " إن خرجت من الدار فأنت طالق " فأخرجت كرهاً فإنها لا تطلق وذلك لأن المكره لا يضاف إليه الفعل وكذلك النائم والمغمى عليه لزوال العقل بعذر، فإذا فعلت ذلك نائمةً أو مغمى عليها فإن الحنث لا يقع كما هو المشهور في المذهب، وكذا لو عقدها يظن صدق نفسه أو للإكرام أو كاذباً فلا طلاق ولا كفارة. قوله: [وإن فعل بعضه لم يحنث إلا أن ينويه]

إذا قال: " إن دخلتُ الدارَ فزوجتي طالق " فدخل بعض بدنه إلى الدار، أو قال: " إن شربت ماء هذا الإناء فامرأتي طالق " فشرب بعضه فإنها لا تطلق لأن فعل البعض ليس فعلاً للكل إلا أن ينويه، فإذا نوى منع نفسه من هذا الشيء كلية حتى القليل منه، فإن الأيمان مبناها على النية وإنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى، فإن قال: " إن شربت هذا الماء الذي في الإناء فامرأتي طالق " وهو ينوي وقوع الطلاق ولو شرب بعضه، فإن شرب بعضه فإن زوجته تطلق عليه. قوله: [وإن حلف ليفعلنه لم يبرأ إلا بفعله كله] وذلك لأن فعل البعض ليس فعلاً للكل وقد حلف أن يفعله كله، فلا يبرأ حتى يفعله كله. والله أعلم وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين

كتاب العدد، والرضاع، والنفقات

الدرس الرابع والستون بعد الثلاثمائة كتاب العِدد العِدد: جمع عِدَّة وهي ما تتربصه المرأة عند النكاح بسبب طلاق أو فسخ أو وفاة. وسمي عِدة لأنه مقدر، بالأقراء أو يقدر بالأشهر أو يقدر بوضع الحمل. قال: [تلزم العدة كل امرأة فارقت زوجاً] فالعدة تلزم كل امرأة ’ سواء كانت المرأة مسلمة أو ذمية، حرة أو أمة، صغيرة يوطأُ قبلها أو كبيرة. قال: [خلا لها مطاوعة] فالعدة تثبت بالخلوة، وهو قضاء الخلفاء الراشدين، وتقدم أن في سنده عن الخلفاء انقطاعاً، لكنه ثابت عن عمر وعلي بن أبي طالب، تقدم تقريره في كتاب الصداق، فإذا خلا بها فإن العدة تثبت وإن لم يطأ، فالخلوة مظنة الوطء والمظنات تعتبر في الشرع وإن لم تثبت الحقائق، فالعدة تثبت بالخلوة وإن لم يحصل وطء خلافاً للشافعي وقد تقدم البحث في هذه المسألة في درس سابق. قوله: " مطاوعة "؛ فيشترط ألا تكون مكرهةً على هذه الخلوة فإن كانت مكرهةً على هذه الخلوة فلا عدة. واختار شيخ ابن سعدي أن العدة تثبت وإن كانت مكرهةً وذلك لثبوت الخلوة، وهو ظاهر قضاء الخلفاء، ولأن اشتمال الخلوة للوطء مع الإكراه احتمال قوي، قد يكون أقوى إذا كانت مطاوعةً، ولأن الفقهاء قد قرروا ثبوت الخلوة ولو كان تمت مانع حسي كأن يكون الرجل مجبوباً أو تكون المرأة رتقاء، فإذا ثبت هذا فأولى من ذلك إذا كانت المرأة مكرهةً. فالراجح أن المرأة إذا كانت مكرهةً على الخلوة فإن العدة تثبت. قال: [مع علمه بها] أما لو لم يعلم بها كأن تكون في زاوية من الدار لم يطلع عليها، أو أن يكون غير بصير فلم يرها، فلا خلوة وذلك لعدم تحقق المظنة وهي الخلوة. قال: [وقدرته على وطئها ولو مع ما يمنعه منهما أو من أحدهما حساً]

فلو كان معه ما يمنعه منها كأن يكون مجبوباً أو تكون المرأة رتقاء، بأن يكون فيهما جميعاً ما يمنع من الوطء، فإن الخلوة تثبت، وعلى ذلك فتثبت العدة، وعليه فقوله: " وقدرته على وطئها "؛ فيه إشكال، ولم أره في بعض كتب الحنابلة. قال: [أو شرعاً] كأن تكون المرأة وهي صائمة فرض أو محرمة أو حائض فإن هذا المانع الشرعي لا يمنع من ثبوت العدة، وذلك لثبوت الخلوة، فقد خلا بها وإن كان لا يمكنه الوطء أو منها ما يمنعه من الوطء سواء كان ذلك حسياً أو شرعياً فالخلوة ثابتة، والحكم هنا متعلق بالمظنة لا تحقيقه الوطء، ولأنه قد استحل منها ما لا يستحله ممن تحرم عليه، فقد خلا بها ولا شك أن هذه الخلوة استلال لهذه المرأة. قال: [أو وطئها] فإذا خلا بها ولم يطأها فإن العدة تثبت، وإذا وطئها فإن العدة تثبت من باب أولى. قال: [أو مات عنها] فإذا مات عنها ولم يدخل بها فإنها تعتد، وقد تقدم ذكر ذليل هذا وهو ما ثبت عن ابن مسعود في قضائه في امرأة مات عنها زوجها ولم يدخل بها ولم يفرض لها صداقاً فقضى أن عليها العدة ولها الميراث لا وكس ولا شطط، فقام معقل بن سنان الأشجعي فقال: " قضى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في --- بنت واشق – امرأةٍ منا – قِبْلَ ما قضيت " وإسناده صحيح، فقضية المتوفى عنها لها حكم آخر فلا يشترط الدخول فإذا عقد على امرأة ولم يدخل بها فمات فإنها تعتد. قال: [حتى في نكاحٍ فاسدٍ فيه خلاف] فلو أن رجلاً نكح امرأة بلا ولي وهو يعتقد صحته، كالحنفي؛ فإن هذا النكاح الفاسد المختلف فيه تترتب عليه العدة وذلك لأن فاعله يعتقد حله، فهو باعتقاده نكاح صحيح فيلحق بالصحيح في أحكامه. قال: [وإن كان باطلاً وفاقاً لم تعتد للوفاة]

فإذا كان النكاح باطلاً اتفاقاً كنكاح الخامسة مثلاً أو نكاح المرأة في عدتها فهذا نكاح باطل باتفاق أهل العلم فهذا النكاح وجوده كعدمه لأنه باطل ولا يمكن مع بطلانه أن تترتب عليه الأحكام الشرعية، وعليه فإن العدة لا تثبت معه، فإذا نكح امرأ’ خامسة فإنه يؤمر بطلاقها ولا تعتد منه لكن لابد وأن تُستبرأ بحيضة ليُعلم برأة رحمها. قال: [ومن فارقها حياً قبل وطء وخلوة أو بعدهما أو بعد أحدهما وهو ممن لا يولد لمثله، ... .. فلا عدة] إذا فارقها في حال الحياة قبل الوطء والخلوة، أو بعدها أو بعد أحدهما أي بعد الخلوة وقبل الوطء، أو بعد الوطء قبل الخلوة وهو ممن لا يولد لمثله أو كانت المرأة لا يوطأ مثلها فلا عدة، والذي لا يولد لمثله هو الصغير وهو في المذهب من كان دون عشر سنين، والمرأة التي لا يوطأ مثلها وهي في المذهب من كانت دون تسع سنين، وتقدم أن هذا لا حد له بل متى كانت لا يوطأ مثلها وإن كانت بنت اثني عشرة سنة فلها هذا الحكم، وكذلك الرجل وإن كان ابن اثني عشرة سنة، إذن: إذا كان لا يولد لمثله أو كانت المرأة لا يوطأ مثلها فلا عدة، قالوا: للعلم ببرأة الرحم، هذا إذا كان الزوج حياً، أما إذا توفى الرجل عن امرأته التي لا يوطأ مثلها، وهو لا يولد لمثله فإنها تعتبر عدة الوفاة، قالوا: لعموم الآية: {والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجاً يتربص بأنفسهن أربعة أشهر وعشراً} ، أما إذا فارقها في الحياة فلا عدة، هذا هو المشهور في المذهب، وعندي في هذا القول نظر.

والذي يترجح – والله أعلم – هو ثبوت العدة وذلك لأمر الحكمة من العدة ليس ببراءة الرحم فحسب، بل لها حكم آخر، فمن ذلك حق الزوج الأول، ومن ذلك حق الله تعالى في العدة، فليس الحكمة من العدة هو العلم ببراءة الرحم فحسب، بدليل أنهم يقولون – وهو مذهب جماهير العلماء – أن المرأة إذا طلقها زوجها ثلاثاً فإنها تعتد بثلاث حيض مع أنها بحيضة واحدة يعلم براءة رحمها، ومن ذلك أيضاً؛ تشريف هذا العقد وهو عقد النكاح، فإن من تشريفه – إلا ما ورد استثناءه – أن تبقى المرأة إذا طلقها الرجل بعد ثبوت العقد وتقويته بالخلوة أن تبقى متربصة معتدة، ومن حكمه؛ تطويل المدة لعل الزوج يرجع إلى امرأته وهذا في الرجعية، ولا شك أن أكثر هذه العلل ثابتة في المرأة التي لا يوطأ مثلها أو في طلاق الرجل الذي لا يولد بمثله لصغره. قال: [أو تحملت بماء الزوج] إذا عقد على امرأة، فأخذت من مائه في خرقة واستدخلته في فرجها قد تحملت بماء الزوج وهو لم يدخل بها فقال: فلا عدة، لقوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا إذا نكحتم المؤمنات ثم طلقتموهن من قبل أن تمسوهن فمالكم عليهن من عدة تعتدونها} ، وهنا لم يمسها ولم يخلو بها، فهذا الإستدخال ليس بوطء وليس بخلوة. والقول الثاني في المسألة وهو مذهب الشافعية: أن العلدة تثبت هنا وذلك لانشغال رحمها بمائه. والذي يترجح أن العدة لا تثبت وذلك لظاهر الآية المتقدمة لكن لابد أن تستبرئ بحيضة وذلك لانشغال رحمها بماء زوجها. قال: [أو قبلها أو لمسها بلا خلوة فلا عدة] فإذا قبلها أو لمسها فلا خلوة فلا عدة، وذلك لظاهر الآية المتقدمة: {إذا نكحتم المؤمنات ثم طلقتموهن قبل أن تمسوهن فمالكم من عدة تعتدونها} . فصل قال: [والمعتدات ست: الحامل] هذا الفصل في بيان أنواع المعتدات، وقد بدأ بالحامل. قال: [وعدتها من موت وغيره إلى وضع كل الحمل بما تصير به أمةٌ أم ولدٍ]

فذات الحمل عدتها من موت وغيره أن تضع حملها، قال تعالى {وأولات الأحمال أجلهن أن يضعن حملهن} ، قوله؛ " قوله وضع كل الحمل " فلو كانت حاملاً بولدين، فوضعت الأول ثم وضعت الثاني بعد أسبوع، فإن الحمل كله قد وضع بوضع الثاني، وعليه فإنها تبقى معتدة حتى تضع الثاني وهذا هو ظاهر قوله تعالى: {وأولات الأحمال أجلهن أن يضعن حملهن} ، قوله؛ " بما يصير به أمةٌ أم ولدٍ " إن قيل: ما هو الولد الذي إن وضعته تنتهي بذلك عدتها، لو وضعت نطفة لم يمض لها إلا ثلاثون يوماً أو وضعت علقة لم يمض لها إلا ستون يوماً، أو وضعت مضغة ليس منها شيء من صورة الآدمي، أو وضعت مضغة على صورة الآدمي أو حتى ينفخ فيه من الروح، قال؛ " بما تصير به أم ولدٍ " يعني الذي تصير به الأمة أم ولد لسيدها فتعتق عليه بعد وفاته هو نفسه الذي تنتهي به المرأة من عدتها، هو ما تبين به الآدمي بأن يظهر فيه شيء من خلق الآدمي كرأسه أو رجله أو غير ذلك من صورة الآدمي، وهذا إنما يكون في المرحلة الثالثة والطور الثالث، وهو حالة كونه مضغة، فإذا كان مضغة، وهي المرحلة الأولى أو كان علقة وهي المرحلة الثانية، فإنه لا يمكن أن يتبين فيه خلق الإنسان، فإذا دخل في الطور الثالث وهو المضغة، وذلك يكون بعد ثمانين يوماً، فإنه يمكن أن يتبين خلق الإنسان في أوله أو في وسطه أو في آخره، فإذن؛ إذا وضعت ما يتبين به شيء من صورة الإنسان فإن هذا الساقط منها ينتهي به عدتها، وهذا بإجماع العلماء، أما إن كان نطفة أو علقة، فجاهير العلماء على أنه لا تنتهي به العدة.

وقال الحسن البصري: " بل تنتهي به العدة "، فإذا وضعت ما يسمى حملاً فإن العدة تنتهي به، وفيه قوة – فيما يظهر – وهو ظاهر القرآن {وأولات الأحمال أجلهن أن يضعن حملهن} ، فإذا وضعت ما يسمى حملاً سواء تبين به خلق الآدمي أم لم يتبين، فإنه حمل، تترتب عليه الأحكام الشرعية، وإن كان بعد أربعين يوماً مع أن الأحوط ما ذهب إليه الجمهور، وهي مسألة تترتب عليها حل البضع، فلاشك أن الاحتياط للأبضاع هو الأولى. قال: [فإن لم يلحقه لصغره أو لكونه ممسوحاً أو ولدت لدون ستة أشهر منذ نكاحها ونحوه، وعاش لم تنقض به] إذا مات عنها وهي حامل لكن هذا الحمل لا يلحقه ولا ينسب إليه، ولم يلحقه الحمل لصغره، أي لكونه لا يولد لمثله، أو لكونه ممسوحاً أي مجبوب الذكر والأنثيين، أو ولدت بدون ستة أشهر منذ نكاحها، وعاش أو لأكثر من أربع سنين منذ أبانها، إذاً هذا الحمل تبين أنه ليس منه، فهل تنتهي عدتها بوضعه أم لا؟ قال جمهور العلماء: لا تنتهي به العدة، وذلك لأنه حمل منفي عنه بيقين، فأشبه ما لو حملت بعد وفاته، فإذا حملت بعد وفاته فلا شك أن هذا الحمل غير معتبر في العدة، فكذلك هنا. وقال الأحناف وهو رواية عن الإمام أحمد: بل عدتها حين تضع هذا الحمل، وذلك لعموم الآية {وأولات الأحمال أجلهن أن يضعن حملهن} . والأولى ما ذهب إليه الجمهور في هذه المسألة، وذلك لأن هذا الحمل منفي عنه بيقين، كما لو حملته بعد فراقه لو مات أو فسخ، ثم أن الآية إنما تحمل على الأصل والغالب، فإن الأصل أن يكون الحمل منه هو، وأما هذا فهو شيء نادر أو خلاف الظاهر، فالذي يترجح ما ذهب إليه الجمهور وعليه فلو أن امرأة مات عنها زوجها وقد نكحها قبل شهرين فوضعت حملاً بعد ثلاثة أشهر وقد عاش متيقن من ذلك أن هذا الحمل إنما يكون بستة أشهر فأكثر، فثبت لنا أنه ليس منه، فحينئذٍ لا تنتهي بذلك عدتها لأن هذا الحمل ليس منه.

والمذهب أنها تستأنف عدة جديدة بعد وضع الحمل، فإذا وضعت الحمل نقول لها الآن إبدائي فاحسبي أربعة أشهر وعشراً، قالوا: لأنهما عدتان، عدة من الزوج وعدة من صاحب هذا الحمل غير الشرعي فهما عدتان، فلم تعتد أصلاً. والأرجح وهو قول في المسألة؛ أنها تحسب من موت زوجها أربعة أشهر وعشراً، ويعلم براءة رحمها منه بوضع الحمل، فالمقصود من عدة الثاني العلم ببراءة الرحم وبوضع الحمل يتبين لنا براءة رحمها، إذاً الصحيح أنها تحسب من وفاة زوجها فإذا تم لها أربعة أشهر وعشراً فقد انتهت عدتها من زوجها، فإذا كان منها حمل فلا يحل لها أن تنكح حتى تضع هذا الحمل، وذلك لأنها بوضع الحمل تستبرئ رحمها من هذا الواطئُ الوطءَ غيرَ الشرعي. قال: [وأكثر مدة الحمل أربع سنين وأقلها ستة أشهر وغالبها تسعة أشهر] تقدم الكلام على هذا ولا شك أن غالب الحمل تسعة أشهر وهذا معلوم من الواقع. قال: [ويباح إلقاء النطفة قبل أربعين يوماً بدواء مباح] هذا في حكم إلقاء النطفة وهو ما يسمى بالإجهاظ أو الإنزال، فيباح إلقاء النطفة قبل أربعين يوماً بدواء مباح، هذا المشهور في المذهب – وهذا الشرط إذن الزوج لما له من الحق في ذلك، إذاً الأحوال في المذهب ثلاثة: الحالة الأولى: حالة النطفة فيباح إلقاء هذه النطفة بدواءٍ مباح. الحالة الثانية: ما بعد النطفة وقبل نفخ الروح، أي في حال العلقة والمضغة، فيحرم على المذهب الإجهاظ الإختياري حينئذٍ. الحالة الثالثة: إذا نفخ فيها الروح وذلك يكون بعد أربعة أشهر فيحرم الإجهاظ حينئذٍ، وهذا بإجماع أهل العلم. أما الحالتان الأوليتان ففيهما خلاف. والقول الثاني في المسألة أي الحالة الأولى والثانية؛ أن إلقاء النطفة والعلقة والمضغة؛ كل ذلك جائز، فإلقاء الجنين قبل قذف الروح فيه جائز، وهذا هو مذهب الأحناف ابن عقيل من الحنابلة.

والقول الثالث في المسألة وهو قول الظاهرية، وأكثر المالكية وهو قول بعض الحنابلة وبعض الشافعية وبعض الأحناف: أي إلقائه فمحرم مطلقاً وإن كان نطفة؛ وهذا القول هو أرجح هذه الأقوال وذلك لقول النبي - صلى الله عليه وسلم - في الحديث المتفق عليه: (يجمع خلق أحدكم في بطن أمه أربعين يوماً نطفة ….) ، والذي يتبين أنه في حال النطفة، أي في حال جمع الخلق، فيتبين أنه في حال تهئ للخلق الجديد، وعليه فهو محرم فإلقاءه محرم والتعدي عليه جناية. واستدل الحنابلة على أنه اسكان نطفة، فيجوز إلقاءه، لما روى أحمد في مسنده أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال في حديث ابن مسعود: (أن النطفة تكون في الرحم أربعين يوماً لا تتغير) ، قالوا: فإذا كانت لا تتغير فإنها ليست بعد في طور التخلق وعليه فلا حرمة لها، فيجوز إلقاءها، لكن الحديث إسناده ضعيف وهو يعارض حديث ابن مسعود المتفق عليه المتقدم وفيه أنها تتخلق. فالصحيح أنه يحرم الإجهاض مطلقاً، هذا حيث كان الإجهاض اختيارياً، وأما إذا كان إطرارياً فهذا: إن كان قبل نفخ الروح فاضطرت إلى اسقاطه لأنه يلحقها الضرر بإبقائه فإنه يجوز الإسقاط حينئذٍ، وذلك من باب تقديم الوقوع في المفسدة الصغرى درءاً للمفسدة الكبرى، فلا شك أن رفع الضرر عن هذه المرأة أولى من تخلق هذا الجنين الذي بعدُ لم ينفخ فيه الروح. وأما إذا كان بعد نفخ الروح فإن الأمر يكون أعظم والتشدد فيه أكثر، وعليه فإذا كان في إبقائه إتلاف للأم وتعريض لحياتها للخطر فيجوز الإسقاط في الأظهر وذلك لوجهين: أن الأم هي الأصل والأبن فرع عنها، ولا شك أن إبقاء الأصل أولى من إبقاء الفرع. أن الأم حياتها حياة متحققة وأما هذا الجنين فحياته حياة مظنونة غير متحققة، ومن ثمَّ فرق الشارع بين دية الجنين ودية المولود، فالجنين ديته غرة، وأما المولود فديته دية غيره كما سيأتي.

وهنا إيراد على المسألة التي تقدم ترجيحها وهي أنه لا يجوز الإسقاط قبل نفخ الروح مطلقاً. إن قيل لما أجزنا العزل؟ فالجواب: أن بين العزل والإسقاط فرقاً، فإن الإسقاط يكون فيه إزالة ما هو موجود حاصل، فإن هذه النطفة قد حصلت في الرحم، واجتمع ماء الرجل بماء المرأة في رحمها، بخلاف العزل فإنه بموجود ولا حاصل، وفرق ظاهر بين ما هو موجود وحاصل وما ليس كذلك. الدرس الخامس والستون بعد الثلاثمائة فصل قال رحمه الله: [الثانية: المتوفي عنها زوجها بلا حملٍ قبل الدخول وبعده] هذا هو القسم الثاني من المعتدات، المتوفي عنها زوجها قبل الدخول أو بعده لحديث معقل بن سنان الأشجعي الذي تقدم ذكره في الدرس السابق ودرسٍ قبله. قوله: " بلا حمل منه "؛ فإن الحامل إذا وضعت حملها وقد توفى عنها زوجها، فإنها تنقضي عدتها بوضعها للحمل، ولو كان ذلك بعد ليالٍ يسيرة، ففي البخاري عن المسور بن مخرمة: " أن سبيعة الأسلمية نُفست بعد وفاة زوجها بليالٍ،فأتت النبي - صلى الله عليه وسلم -؛ فاستأذنته أن تُنكح فأذن لها " رواه البخاري، وأصله في الصحيحين. أما إذا كانت حائلاً غير حاملٍ وتوفى عنها زوجها فإن عدتها، أن تتربص أربعة أشهرٍ وعشراً، لقوله تعالى: {والذين يتوفون منكم ويدرون أزواجاً يتربصن بأنفسهن أربعة أشهرٍ وعشراً} ، ولا فرق كما تقدم أن تكون مدخولاً بها أو غير مدخول بها، بخلاف المطلقة فإن المطلقة غير المدخول بها لا عدة لها. قال: [للحرة أربعة أشهرٍ وعشراً] فالحرة تتربص أربعة أشهر وعشراً، أي وعشرة أيام، فهنا أتت العدد لتبين مسألة اتفقت عليها المذاهب الأربعة، وهي أن العدة؛ لا تنتهي بعد مضي أربعة أشهرٍ إلا مع مضي عشرة أيام بلياليهن، فإذا غابت الشمس من اليوم العاشر فإن العدة تنقضي عند جمهور العلماء.

وقال الأوزاعي: " بل تنقضي بمضي أربعة أشهرٍ وعشر ليالٍ "، وهذا متضمن لمرور تسعة أيام، وعليه؛ فإذا كان الفجر الصادق من اليوم العاشر، فإن العدة تنقضي. واستدل الأوزاعي: بتذكير العدد في قوله تعالى {والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجاً يتربصن بأنفسهن أربعة أشهرٍ وعشراً} ، فهنا ذكّر العدد، وتذكير العدد يدل على أن المعدود مؤنث، وعليه فإذا مضت أربعة أشهرٍ وعشر ليالٍ فإن العدة تنقضي. وأجاب الجمهور: بأن مثل هذا ورد في لغة العرب، فيؤنثون العدد ويريدون بذلك دخول أيامها معها، ومن ذلك قوله تعالى عن نبيه زكريا عليه السلام {ثلاث ليالٍ سويا} ، وقد قال في آية أخرى {ثلاثة أيام إلا رمزاً} ، فذكره لليال في الآية الأولى، دخلت فيها الأيام بدليل الآية الأخرى، لكن ما ذهب إليه الأوزاعي فيه قوة لأن هذا – أي ما أجاب به الجمهور - من باب المجاز، وإلا فالأصل أن المراد بذلك، الليالي دون أيامها، ففي ما ذهب إليه قوة، لكن الأحوط ما ذهب إليه الجمهور، لا سيما في هذه المسألة التي يترتب عليها تحليل الابضاع. قال: [وللأمة نصفها] فالأمة عدتها نصف عدة الحرة، أي شهران وخمس ليالٍ بأيامهن قياساً على عدة الأمة المطلقة، فقد اتفق الصحابة؛ على أن عدة الأمة المطلقة حيضتان، على نصف عدة الحرة، وإنما لم تكن عدة الأمة حيضة ونصف، لأن الحيض لا يتبعض، قالوا: فكذلك في عدة الوفاة، تكون على نصف عدة الحرة، وهذا باتفاق أهل العلم. قال: [فإن مات زوج رجعية في عدة طلاقٍ سقطت وابتدأت عدة وفاة منذ مات] رجلٌ طلق امرأته طلاقاً رجعياً - والمطلقة الرجعية زوجه – فحاضت حيضتين، ثم مات زوجها، فهل يبقى لها شهران وعشرة أيامٍ، أم أنها تستأنف عدة الوفاة من جديد؟

قال المؤلف هنا: " ابتدأت عدة وفاة "؛ فتستأنف عدة الوفاة من جديد، منذ مات ولا تحسب الشهرين، ذلك لأنها زوجه، وقد قال تعالى: {الذين يتوفون منكم ويذرون أزواجاً يتربصن بأنفسهن أربعة أشهرٍ وعشراً} ، وقوله؛ سقطت، أي سقطت الأيام التي مضت من عدة طلاقها. قال: [وإن مات في عدة من أبانها في الصحة لم تنتقل] فلوا أن رجلاً طلق امرأته ثلاثاً، فهي بائنٌ منه، ثم مات وقد مضى من العدة شهران، فإنها تستأنف من جديد، بل تكمل عدة الطلاق، ولا تعتد عدة الوفاة، لذا قال المؤلف: " لم تنتقل "؛ أي لم تنتقل من عدة الطلاق إلى عدة الوفاة بل تبقى على عدة الطلاق، ذلك لأنها ليست زوجة، والآية المتقدمة في الزوجة،وفي قوله: " في الصحة "؛ إحتراز من هذه المسألة التي ذكرها بعد ذلك، وهي قوله: [وتعتد من أبانها في مرض موته الأطول من عدة وفاة وطلاقٍ] إذا طلق امرأته طلاقاً بائناً في مرضه في مرضه المخوف فإنها، ترث منه فإذا مضى على عدتها شهران ثم مات الزوج فإنها تعتد الأطول من عدة وفاة وطلاق، فتنظر أطول الأجلين فتعتد به، أما ثبوت عدة الطلاق لها؛ فلأنها بائنٌ فهي ليست بزوجة، وأما ثبوت عدة الوفاة فلأنها وارثة، وحينئذٍ نكون قد أوجبنا عليها الأطول من العدتين، وذلك لأن الأقل يندرج في الأكثر هذا هو المشهور في مذهب الإمام أحمد وذهب المالكية والشافعية إلى أنها تعتد بعدة الطلاق فحسب، لأنها ليست بزوجة فهي بائن منه فلا تدخل في قوله تعالى {والذين يتوفون ويدرون أزواجاً} ، وعليه فلا تعتد عدة الوفاة، وإنما ورثناها لأنه أراد حرمانها ومنعها حقها، فأعطيناها حقها الثابت لها، وهذا هو القول الراجح في هذه المسألة. إذاً إذا أبان امرأته في مرضه المخوف حكمنا لها بالإرث، فالمذهب أنها تعتد بأطول الأجلين من عدة الطلاق وعدة الوفاة.

والقول الثاني في المسألة: أنها تعتد عدة الطلاق، وذلك لأنها ليست بزوجة فلا تدخل في الآية المتقدمة. قال: [ما لم تكن أمة] هذا استثناء على المذهب، فإذا كانت الزوجة أمة وأبانها في مرضه المخوف، فإنها تعتد عدة الطلاق فحسب، لأن الأمة لا ترث. قال: [أو ذمية] لأن الذمية لا ترث منه لاختلاف الدين. قال: [أو جاءت البينونة منها] كأن تسأله الطلاق، فإذا سألته الطلاق فطلقها طلاقاً بائناً، فإنه لا إرث لها لأن منعها من الإرث جاء من جهتها. قال: [فطلاق لا غير] أي فعدة طلاق لا غير، فإذا كانت لا ترث فإنهم لا يقولون بأنها تعتد أطول الأجلين، لأنهم إنما أمروها؛ أن تعتد عدة الوفاة لأنها ورثت، وأما في هذه المسائل فإنها لا ترث وعليه فإنها لا تعتد عدة الوفاة. قال: [وإن طلق بعض نسائه مبهمةً أو معينتاً ثم أنسيها ثم مات قبل قرعة، أعتد كل منهن سوى الحامل الأطول منهما] إذا طلق بعض نسائه مبهمةً، أو عين لكنه نسي المعينة، ثم مات قبل أن يقرع بين النساء لإخراج المطلقة، فكل واحدة من نسائه تعتد الأطول من الأجلين فتعتد عدة المطلقة لأنها قد تكون هي المخرجة بالقرعة، فتكون هي المطلقة وتعتد عدة الوفاة لأنها ربما لا تكون هي المخرجة بالقرعة، وعليه فيكون نكاحها نافد، وعليه فيكون قد توفى عنها وهي زوجٌ فيجب عليها أن تعتد عدة الوفاة، قال " سوى حامل "؛ فالحامل واضح استثنائها، لأن الحامل عدتها واحدة، سواء كانت مطلقة أو متوفى عنها، فإن عدتها أن تضع حملها فلا فرق بين أن تخرج القرعة عليها أو لا تخرج. قال: [الثالثة؛ الحائل ذات الأقراء] الحائل هي ضد الحامل. قال: [وهي الحيض] فالأقراء هي الحيض في أصح قولي العلماء، فقد اختلف أهل العلم في المراد بالقرء في قوله تعالى {والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء} ، والقروء جمع قرء، هل القرء هو الحيض أم أنه هو الطهر؟

اختلف أهل العلم على قولين، ولفظة القرء من الألفاظ المشتركة، فتر في اللغة ويراد بها الطهر، وتر في اللغة ويراد بها الحيض، ومن ثم اختلف أهل العلم فيالمراد بالقرء في هذه الآية: القول الأول: وهو مذهب الأحناف والحنابلة؛ إلى أن القرء هو الحيض. القول الثاني: وهو مذهب المالكية والشافعية؛ إلى أن القرء هو الطهر. فإذا قلنا هو الحيض فطلقها في طهرٍ فإنها تنتظر حتى تحيض ثلاثة حيض، فإذا حاضت الحيضة الأولى ثم طهرت ثم حاضت الحيضة الثانية ثم طهرت ثم حاضت الحيضة الثالثة ثم طهرت، ثم يأتي الخلاف المتقدم في قضية خروجها من العدة، هل ينتظر حتى تغتسل من الحيض أم بمجرد انقطاع الدم. وإن قلنا هو الطهر؛ فإذا طلقها وهي طاهر فحينئذٍ يحسب طهراً، فحاضت ثم طهرت، هذا هو الطهر الثاني، فحاضت ثم طهرت فهذا هو الطهر الثالث، فإذا دخلت الحيضة الثالثة بعد طلاقها فإنها تنقضي لذلك عدتها. أستدل أهل القول الثاني: بقوله تعالى {فطلقوهن لعدتهن} ، قالوا: ومعنى هذه الآية فطلقوهن وقت عدتهن، ووقت الطلاق هو الطهر، وعليه؛ فالعدة هي في الطهر. واستدلوا بقوله تعالى {والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء} ، قالوا: قال ثلاثة، فالعدد هنا مؤنث، والعدد إذا أنث فهذا يدل على أن العدد مذكر، والمذكر من المعنيين هو الطهر، فالحيض مؤنثة والطهر مذكر. أما أدلة أهل القول الأول فهي: ما روى ابن ماجة بإسناد صحيح أن بريرة أمرها النبي - صلى الله عليه وسلم - أن تعتد ثلاثة حيض، وهو من حديث عائشة وإسناده صحيح. واستدلوا: بقول النبي - صلى الله عليه وسلم - الثابت في سنن أبي داود وغيره: (اترك الصلاة أيام أقرائك) ، قالوا: فالشارع قد أطلق الإقراء على الحيض، فإذاً المعروف عن الشارع أن القرء هو الحيض. قالوا: ولأن من حكم العدة الإستبراء، والإستبراء إنما يحصل بالحيض.

واستدلوا أيضاً بقوله تعالى: {والآئي يئسن من المحيض من نسائكم فعدتهن ثلاثة أشهرٍ والآئي لم يحضن} ، فهنا قد جعل الأشهر مقابل المحيض، فالحيض ثلاثة والأشهر ثلاثة. وأجابوا عن أدلة أهل القول الثاني: أن استدلالهم بقوله تعالى {فطلقوهن لعدتهن} ، وان المعنى؛ طلقوهن وقت عدتهن " وهو الطهر ". وأجابوا عن هذا الإستدلال: أن الطلاق هو سبب العدة فإذا كان ذلك كذلك، فإنه لا يمكن أن يكون الطلاق في أثناء العدة، بل لا بد أن يكون سابقاً لها. وعليه؛ فالمراد " اجعلوا الطلاق سابقاً للعدة "، فتستقبل المرأة العدة وهي مطلقة، وحينئذٍ يكون الطلاق في الطهر، فتستقبل الحيض بعد ذلك. وأما استدلالهم بقوله تعالى: {ثلاثة قروء} ؛ وأنه لما أنث دل على أن المعدود مذكر. أجابوا عن هذا الإستدلال: بأنه أنت باعتبار اللفظ المذكور وهو قوله " قروء "، والقرء لفظ مذكر، فأنث الله عز وجل باعتبار اللفظ لا باعتبار المعنى، وهو ظاهر معروف في لغة العرب. قالوا: ويستدل بهذه الآية عليكم فإن الله قال: {ثلاثة قروء} ، وقد فسرتموه أنتم بالأطهار، وأنتم إذا طلقها في طهرٍ فإنكم تحسبون هذا الطهر الذي طلقها في أثنائه ثم تضيفون إليه طهرين بعده – وهو أي الطهر الأول –، إنما هو بعض طهرٍ وليس طهراً كاملاً، فلو طلقها قبل حيضها بيومٍ واحد، وبعد مضي أيامٍ كثُّر من طهرها، فإنكم تحسبونه طهراً، وهو بعض طهر والله قال {ثلاثة قروء} وهذا نص في أن القروء ثلاثة، والنص لا يقبل المجاز، وعليه فلا بد أن تكون القروء ثلاثة فإذا كانت قرآن وبعض قرء فلا يدخل هذا في الآية، وأما قوله تعالى {الحج أشهر معلومات} فلفظة أشهر أسم جمع فيه المجاز، قلنا أن تقول شهران وعشرة أيام، وهو مذهب الجمهور مع أن الراجح ما ذهب إليه المالكية، وأن الأشهر لابد وأن تكون ثلاثة.

وما ذهب إليه الحنابلة والأحناف، وهو قول أكثر الصحابة، بل هو قول أكابر الصحابة، كما قال ذلك الإمام أحمد وهو قول أكثر أئمة الحديث. وأما القول الثاني؛ فهو قول عائشة وزيد بن ثابت والعبرة في رواية عائشة لا برأيها فقد تقدم أنها روت أن بريرة اعتدت ثلاثة حيض، ولعل هذا الرأي منها هو الذي جعل بعض أهل العلم يعلوا هذا الحديث فقد ذكر الحافظ في البلوغ، أن الحديث معلولٌ، ولم أقف على علله، أو على من علله، فلعل التعليل لمخالفة عائشة، لكن العبرة بالرواية لا بالرأي، فعلى كلٍ فلو لم يثبت هذا الحديث بل كان معلولاً حقاً ففي الأدلة التي ذكروها، ما يدل على قوة قولهم، فالصحيح أن الأقراء هي الحيض. قال: [المفارقة في الحياة] طلاقٌ أوفسخ أو خلع، فالمختلعة تعتد ثلاث حيض والمطلقة تعتد ثلاث حيض، وهكذا من فسخت، واختار شيخ الإسلام وهو رواية عن الإمام احمد، وهو قول اسحاق واختاره تلميذه ابن القيم: أن المختلعة تعتد بحيضة، وهو القول الراجح في هذه المسألة، ويدل عليه ما ثبت في سنن النسائي بإسنادٍ صحيح أن النبي - صلى الله عليه وسلم - جعل عدة المختلعة حيضة. قال: [فعدتها إن كانت حرة أو مبعضة ثلاثة قروء كاملة] فعدتها إذا كانت حرة أو مبعضة ثلاثة قروء لقوله تعالى: {والمطلقات يتربصن بأنفسن ثلاثة قروء} ، والمبعضة؛ هي التي بعضها حرٌ وبعضها رقٌ، وإنما تعتد ثلاثة حيض لأن الحيضة الثالثة لا تتبعض عليها، فاعتدت حيضة كاملة فكانت كالحرة. قال: [وإلا قرآن] فإذا كانت أمة فإنها تعتد قرئين وبذلك أفتى الصحابة كعمر وابن مسعود كما في مصنف عبد الرزاق وكابن عمر كما في سنن الدارقطني،والأسانيد إليهم صحيحة ولا يعلم لهم مخالف وقد اتفق أهل العلم على القول بهذا. قال: [الرابعة: من فارقها حياً ولم تحض لصغرٍ أو إياس فتعتد حرة ثلاثة أشهرٍ وأمة شهرين]

فالرابعة هي من فارقها حياً ولم تحض، لأنه إذا فارقها ميتاً فإنها تعتد عدة المتوفى عنها زوجها، لكن هنا قد فارقها وهو حي ولم تحض لصغر وإياس لقوله تعالى {والآئى يئسن من المحيض من نسائكم إن إرتبتم فعدتهن ثلاثة أشهر والآئى لم يحضن} ، فاليائسة من المحيض، والتي لم تحض لصغرها تعتد ثلاثة أشهر للآية المتقدمة وهذا بإجماع أهل العلم. واختلف أهل العلم في سن اليأس: فالمشهور في المذهب؛ أن سن اليأس خمسون سنة فإذا بلغت المرأة خمسين سنة فإنها تعتد بالأشهر. وعن الإمام أحمد؛ أن سن اليأس ستون. وقال بعض أهل العلم؛ أنه اثنان وستون، وقيل غير ذلك. واختار شيخ الإسلام أنه لا حد لأكثر سن الحيض، فقد تحيض المرأة وهي بنت سنتين، وقد ينقطع عنها الدم وهي بنت أربعين. وهذا هو القول الراجح في هذه المسألة إذ لا دليل يصار إليه في أكثر سن الحيض، وعليه فمرجع ذلك إلى حيضها، فإذا انقطع عنها الحيض وانقطع رجاؤها فيه فإنها حينئذٍ تكون آيسة منه وعليه فتعتد بثلاثة أشهر. فالحرة تعتد ثلاثة أشهر، وتعتد الأمة شهران، لأن عدتها حيضتان، والحيضة تقابل الشهر، وعليه فتعتد شهرين، وهو رواية عن الإمام وقول في مذهب الشافعي. والمسألة فيها ثلاثة أقوال هي روايات عن الإمام أحمد وأقوال في مذهب الإمام الشافعي: القول الأول: هو ما ذكره المؤلف. القول الثاني: أنها تعتد شهراً ونصف، وذلك لأن الأصل أن الأمة عدتها حيضة ونصف، لكن لم تُنَصِّف الحيضة لأن الحيضة لا تتبعض، أما الشهر فإنه يتبعض. القول الثالث: وهو مذهب مالك وهو - كما تقدم – رواية عن الإمام أحمد وهو قول في مذهب الشافعي؛ أن الأمة تعتد ثلاثة أشهر كالحرة. وذلك لأن هذه المدة تتربصها المرأة ليعلم براءة رحمها، وهو في الغالب لا يعلم إلا بعد مرور ثلاثة أشهر ولا فرق في هذا بين الأمة والحرة.

فالأمة التي تحيض بمجرد ما تحيض حيضة فإنه يعلم براءة رحمها وإنما زويا --- عليها حيضة نظراً لحيض الحرة، وأما هنا فإن براءة الرحم لا تعلم بشهر ونصف فاحتجنا إلى ثلاثة أشهر، وهذا هو أقوى المذاهب وأحوطها والله أعلم. قال: [ومبعضة بالحساب ويجبر الكسر] فالمبعضة إذا كان بعضها حر وثلاثة أرباعها رق، فإنها تعتد شهرين وثمانية أيام، ويجبر الكسر، فربع الشهر سبعة أيام وكسر، فيجبر الكسر فتكون ثمانية أيام، وإن لم يكن هناك كسر كأن يكون نصفها حر، فإنها تتربص شهرين ونصف. وأما على القول الراجح الذي تقدم فلا تحتاج إلى ذلك. الدرس السادس والستون بعد الثلاثمائة قال المؤلف رحمه الله: [من ارتفع حيضها ولم تدر سببه] الخامسة – أي من المعتدات – من ارتفع حيضها ولم تدر سببه، فهي غير آيسة لكن قد ارتفع الحيض وهي لا تدري ما السبب وهذا قد يقع لبنت عشرين سنة مثلاً. قال: [فعدتها سنة، تسعة أشهر للحمل وثلاثة للعدة] فعدتها تسعة أشهر للحمل لأن غالب مدة الحمل تسعة أشهر وثلاثة للعدة وهذا هو قضاء أمير المؤمنين عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - كما روى ذلك البيهقي وغيره، قال ابن المنذر: " وهو قضاء عمر بين المهاجرين والأنصار ولم ينكره منكر "، وهو مذهب المالكية، وهو اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية. وقال الأحناف والشافعية: بل تتربص حتى يرجع إليها الحيض، أو تيئس منه على الخلاف المتقدم في سن اليأس. وهذا القول هو قول ابن مسعود – وإن كان ليس على هذا الإطلاق –، ولا شك أن هذا القول لا يوافق يسر الشريعة، ولا يشبه أصولها وذلك لأن فيه ضرراً عظيماً بالمرأة فقد تكون بنت خمس عشر سنة ويقال لها؛ انتظري حتى تبلغي سن اليأس أو حتى يأتيك الحيض. قال: [وتنقص الأمة شهراً]

وهذا بناءً على القول بأن عدة من لم تحض لصغر أو يأس من الإماء بأن عدتها شهران فحينئذ ينقص من السنة شهر، وعلى القول الذي تقدم وأن عدة الأمة ثلاثة أشهر فحينئذ تكون عدتها هنا سنة إذ لا فرق بين الأمة والحرة في الاعتداد بالأشهر، وإنما الفرق بالاعتداد بالحيض. قال: [وعدة من بلغت ولم تحض – إلى أن قال – ثلاثة أشهر] لقوله تعالى: {والائي يئسن من المحيض من نسائكم إن ارتبتم فعدتهن ثلاثة أشهر والائي لم يحضن} ، أي فكذلك. قال: [والمستحاضة الناسية، والمستحاضة المبتدأة ثلاثة أشهر] إذا كانت مستحاضة ناسية أيقد نسيت هل تحيض في كل شهر أو في كل شهرين، فعدتها ثلاثة أشهر أو كانت مستحاضة مبتدأة – أي لم يسبق لها حيض – فأول ما نزل معها الحيض تتابع عليها فكانت مستحاضة فعدتها ثلاثة أشهر وذلك لأن غالب النساء يحضن في كل شهر فتلحق بغالب النساء،أما إذا كانت المسحاضة لها عادة سابقة أولها تمييز مالها لعمل بعادتها السابقة أو بتمييزها. قال: [والأمة شهران] تقدم النظر في هذا، وأن الراجح أن الأمة عدتها ثلاثة أشهر. قال: [وإن عملت ما رفعه من مرض أو رضاع أو غيرهما فلا تزال في عدةٍ حتى يعود الحيض فتعتد به أو تبلغ سن الإياس فتعتد عدته] إذا ارتفع عليها الحيض وهي تعلم سبب ارتفاعه عنها كأن يكون بها مرض أو تكون رضاع فإنها لا تزال في عدة حتى تحيض أو تبلغ الإياس.

والقول الثاني في المسألة – وممن إختاره من المتأخرين الشيخ عبد الرحمن السعدي – أنها إذا كان يغلب على ظنها أن العادة ترجع إليها كأن يكون سببه ارتفاع العادة هو الرضاع وتعلم أنها إذا توقفت عن الرضاع أو قضت الرضاع فإن العادة ترجع إليها فإنها حينئذٍ تنتظر حتى تحيض ثلاث حيض، وأما إن غلب على ظنها أن العادة لا ترجع إليها كأن يصاب بمرض لا يرجى برؤه ويغلب على ظنها أن العادة لا يرجع إليها فإنها تعتد سنة تسعة أشهر للحمل وثلاثة أشهر للعدة وهذا القول هو الراجح وهو الموافق لأصول الشرع. قال: [السادسة: امرأة المفقود تتربص ما تقدم في ميراثه ثم تعتد للوفاة] إن كان الغالب على سفره السلامة فإنها تتربص تسعون سنة من ولادته ثم تعتد للوفاة، وإن كان الغالب على سفره الهلال فإنها تتربص أربع سنين منذ فقد ثم تعتد عدة الوفاة وهو قضاء عمر كما في البيهقي وتقدم النظر في هذا وأن المدة ترجع إلى الحاكم وأنها تختلف باختلاف الأزمان، فإذا قرر القاضي أنها تتربص مثلاً سنة، فإنها بعد انقضاء السنة تعتد للوفاة. قال: [وأمة كحرة فالتربص] فلا فرق بين الأمة والحرة في التربص وهذا ظاهر إذ ليس هناك ما يدعي إلى التفريق بين الأمة وبين الحرة في مسألة التربص لأنها متعلقة بالزوج ونوع غيبته. قال: [وفي العدة نصف عدة الحرة] كما تقدم في الدرس السابق، فعدة الأمة شهران وخمسة أيام. قال: [ولا تفتقر إلى حكم حاكم بضرب المدة وعدة الوفاة] فإذا مضى أربع سنين فيما ظاهره عدم السلامة ثم مضى أربعة أشهر وعشر فلها أن تتزوج بعد ذلك ولا تحتاج بعد ذلك ولا تحتاج إلى حكم حاكم. قال: [وإن تزوجت فقدم قبل وطءِ الثاني فهي للأول] إذا تزوجت هذه المرأة ثم قدم الأول قبل أن يطأها الثاني فإنها تكون للأول لأن نكاحه على ما هو عليه وبقدومه يبطل نكاح الثاني، ولا مانع من الرد، وعليه فإذا قدم وقد عقد عليها ولم توطأ فإنها حينئذٍ تكون للأول.

قال: [وبعده له أخذها زوجةً بالعقد الأول. ولو لم يطلق الثاني، ولا يطأ قبل فراغ عدة الثاني] أما إذا أتى زوجها الأول، وقد عقد عليها ودخل بها فله خياران: الخيار الأول: أن يأخذها زوجة له بالعقد الأول فلا يحتاج إلى عقد جديد لأن نكاحه على ما هو عليه ولم يطلق الثاني، لأن نكاحه على ما هو عليه، لكنه لا يطأ حتى تفرغ من عدتها من الثاني لأن نكاح الثاني نكاح صحيح، فليس له يطأها حتى تفرغ من عدة الثاني. قال: [وله تركها معه من غير تجديد عقد] هذا هو الخير الثاني: وهو أن يتركها مع الثاني من غير تجديد عقد وذلك لأن نكاحه صحيح لكنا رجحنا الأول لأن نكاحه هو الأسبق. قال: [ويأخذ قدر الصداق الذي أعطاها من الثاني ويرجع الثاني عليها بما أخذه منه] فإذا اختار أن يتركها مع زوجها الثاني، فله أن يأخذ الصداق الذي أصدقها إما قبل ذلك يأخذه من الثاني ويرجع الثاني على المرأة بما أخذه الأول منه، ففي سنن البيهقي بإسناد صحيح أن عمر قال في امرأة المفقود (إن جاء زوجها وقد تزوجت فإنه يخير بين إمرته وصداقها، فإن اختار صداقها كان على زوجها الآخر،وإن اختار امرأته اعتدت – أي من الثاني –حتى تحل ثم ترجع إلى زوجها الأول ولها مهرها من الزوج الآخر بما استحل من فرجها) ، وفي البيهقي عن عمر وعلي: أنهما قد جعلا له صداق الأول، وما ذكره المؤلف ينبني على هذا الأثر، لكن قول المؤلف:" ويرجع الثاني عليها بما أخذه منه " فيه نظر وعلل الحنابلة في المشهور عندهم هذا القول بأن هذا الصداق قد لزمه بسبب وطئه إياها، فكان كما لو حصل فيها تغرير له.

والقول الثاني في المسألة وأستظهره صاحب المغني أنه لا يرجع إليها بما أخذه منه الأول، وهو ظاهر أثر عمر بن الخطاب فإنه قال: "فإن اختار صداقها كان على زوجها الآخر " وليس فيه أنه يرجع إلى امرأته بالصداق، والمرأة لم تغره، وكونه بسبب وطئها فلاشك أن ذلك تعليل ضعيف جداً بل هو الذي قد وطئ وهو الذي قد أتلف المعوض على الناكح الأول، فقد أتلف على الناكح الأول معوضه فكان عليه هو المعوض. إذاً: الصحيح القول الثاني في المسألة وهو رواية عن الإمام أحمد وأنه لا يرجع إلى المرأة، وأيضاً أثر عمر المتقدم ليس فيه تجديد عقد وليس فيه اشتراط طلاق الأول وهذا هو الموافق لما ذكره المؤلف هنا. والقول الثاني في المسألة: اشتراط أن يطِّلق الأول وأن يجَّدد للثاني العقد، وهذا ضعيف والأثر يدل على خلافه، ونكاحهما جميعاً صحيح لكن رجحنا الأول لأنه هو الأسبق. وهكذا كل فراق بين الزوجين لموجب تبين انتقاؤه، كأن يفرق بينه وبين امرأته لدعوى رضاع بينهما فتنكح زوجاً آخر، ثم يتبين ألا رضاع، فالمسألة كذلك. فصل قال: [ومن مات زوجها الغائب، أو طلقها اعتدت منذ الفرقة وإن لم تحد] فمن مات زوجها وهو غائب، أو طلقها وهو غائب اعتدت منذ الفرقة، فلوا أن امرأة توفي زوجها ولم تعلم بذلك إلا بعد سنة أو طلقها زوجها ولم تخبر إلا بعد مضي عليها ثلاث حيض فحينئذ تكون قد خرجت من العدة وإن لم تخبر وهذا مذهب جمهور العلماء، وذلك لأن النية غير مشترطة وغير معتبر في العدة بدليل ثبوت العدة على الصغيرة والمجنونة. قال: [وعدة موطوءة بشبهة أو زنا أو بعقد فاسد كمطلقة] فلو أن رجلاً وطئ امرأة بشبهة سواء كانت نكاح أو اشتبهت عليه امرأته بالأجنبية فوطئ الأجنبية يظنها امرأته، أو زنا بامرأة، أو وطئ امرأة بعقد فاسد كأن ينكح امرأة ولي وهو يعتقد أنه لا يصح النكاح إلا بولي، فعدتهن كمطلقة فإنهن يتربصن ثلاث حيض وهذا هو مذهب جمهور العلماء.

وعن الإمام أحمد وهو اختيار شيخ الإسلام رحمه الله: أنها حيضة، فالمرأة المزني بها والمرأة الموطوءة بشبهة والمرأة المنكوحة بعقد فاسد تعتد بحيضة، وهذا هو القول الراجح وذلك لأن المقصود من عدتها استبراء رحمها، فليس ثمة حكمة من عدتها إلا استبراء رحمها، واستبراء الرحم يحصل بحيضة بدليل استبراء الأمة بحيضة، وكذلك استبراء المختلعة بحيضة، وهن – أي المزني بها – الموطوءة بشبهة أو بعقد فاسد لا يدخلن في عمومات النصوص، فإن عمومات النصوص إنما وردت في الزوجة وهي ليست بزوجة، فإن قوله تعالى: {والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء} ، فهو خاص بالزوجة، والمذكورات لسن بمطلقات لأن الطلاق فرع النكاح وهذه ليست بمنكوحة. قال: [وإن وطئت معتدةٌ بشبهةٍ أو نكاحٍ فاسد فرق بينهما، وأتمت عدة الأول] اذا وطئت معتدة بشبهة – أي بشبهة نكاح – أو وطئت بنكاح فاسد كأن تنكح بعد انقطاع الدم من الحيضة الثالثة وقبل أن تغتسل فهذا نكاح فاسد – فالحكم انه يفرق بينهما لأنه عقد فاسد وجودة كعدمة، فوجب أن يفرق بينهما. (أو أتمت عدة الأول) فيجب عليها أن تتم عدة الأول. قال [ولا يحتسب منها مقامها عند الثاني] فلا يحتسب من العدة مقامها عند الثاني، فمثلاً: مضت حيضة من عدتها ثم تزوجت بشبهة نكاح ثم حاضت حيضة ثانية بعد أن وطئها هذا الناكح ثم فرقنا بينهما، فلا تحتسب لها هذه الحيضة التي حضتها عند هذا الناكح الثاني، بل نقول حضت حيضة واحدة، فوجب عليك أن تتربصي حتى تحيضي حيضتين فيتم لك ثلاث حيض وهو قول عمر رضي الله عنه كما في البيهقي. اولاً: الوطء يقطع العدة وهذا ظاهر لأن رحمها قد أنشغل بماء غير من هي معندة له. ومن حكم العدة استبراء الرحم وهنا حيث كان موطوءة من غيره بقي رحمها مشغولاً بغير مائه فلم يعتد بهذه المدة. قال: [ثم إعتدت للثاني] فإذا انتهت من عدة الأول فإنها تعتد للثاني، وعلى القول الراجح المتقدم عدتها فتعتد منه بحيضة.

قال: [وتحل له بعقد بعد انقضاء العدتين] أي تحل للثاني بعقد جديد بعد انقضاء العدتين، لأن العقد الأول عقد باطل، وظاهر كلام المؤلف أنه ليس له أن ينكحها في عدتها () في عدة الثاني. فإذا اعتدت للثاني، فليس للثاني أن ينكحها في اثنا عدتها منه، فظاهر كلام المؤلف أن العقد لا يصح، والراجح صحته وهو مذهب الشافعية وهو اختيار الموفق من الحنابلة، وذلك لأن العدة له هو. ولا يصان ماؤه الأول من مائه الثاني قال: [وإن تزوجت في لم تنقطع حتى يدخل بها] اذا عقد هذا الناكح الثاني على هذه المعتده ولم يطأها فإن عدتها لزوجها الأول لا تنقطع بذلك لعدم الوطء فإن العلة كما تقدم انشغال رحمها بماء جديد وهنا الأمر ليس كذلك لعدم الوطء. قال: [فإذا فارقها بنت على عدتها من الأول ثم استأنفت العدة من الثاني] فإذا فارقها الثاني فإنها تبني على عدتها من الأول ثم تستأنف العدة من الثاني – هذا حيث وطئها الثاني، أما إن لم يطأها الثاني فإنها لا تعتد إلا بعد المس. فهذه الجملة راجعة إلى المسألة ما قبل الأخيرة. قال: [وإن أتت بولد من أحدهما انقضت عدتها به] إذا أتت بولد من أحد الناكحين فإن عدتها تنقضي به – أي انقضت عدتها من هذا الناكح الذي قد نشأ من مائه هذا الحمل، وهذا هو الظاهر. قال: [ثم اعتدت للآخر] فإذا وضعت الحل، فإنها تكون قد انقضت عدتها من الناكح الذي نشأ هذا الحمل من مائه، وثم تعتد للآخر ولا يقال إن العدتين تتداخلان لأنهما حقان لزوجين.

لكن على القول الراجح الذي تقدم ذكره. وأن المقصود هو الاستبراء من الثاني، فإنها إذا وضعت الحمل فإنه يعلم استبراء رخمها من الثاني، لكن تبقى عدة الأول، وعليه فإذا كان الحمل من الحمل، فبوضعه تنتهي من العدتين جميعاً، فلو أن امرأة وهي حامل وطئها آخر بنكاح باطل فإنها إذا وضعت حملها تنتهي من العدتين جميعاً، لأن عدو الأول تنتهي بوضع الحمل منه، وعدة الثاني تنتهي بوضع الحمل، لأن الحمل إذا وضع يعلم براءة الرحم. قال: [ومن وطئ بعدته البائن بشبهه استأنفت العدة بوطئه، ودخلت فيها بقية الأول] رجل طلق امرأته ثلاثاً فكانت في الطلاق بائياً منه، ثم وطئها – وهذا وطء محرم فهو وطء من أجنبي، فإنها تستأنف العدة من جديد بوطئه كأنه زوج آخر، ودخلت بقية الأول فهنا العدتان تتداخلان لأنهما لرجل واحد. فمثلاً طلقها طلاقاً بائناً فحاضت حيضة واحدة ثم وطئها، فنقول لها احسبي ثلاث حيض مرة أخرى وما بقي من الحيض من العدة الأولى فإنها تدخل في العدة الثانية لأنهما من زوج واحد. وعلى القول الراجح وهو أن الوطء الذي يكون بشبهة أو بزنا أو بعقد فاسد يكفي الاستبراء، فإنها إذا أتت عليها حيضة فإن رحمها تعلم براءته. فلو أن رجلاً وطئ مطلقته البائن بعد انقطاع دمها من الحيضة الثالثة وقبل أن تغتسل، فإنها تعتد بحيضة على القول الراجح. قال: [وإن نكح من] إذا نكح مطلقته البائن في عدتها ثم طلقها قبل الدخول بها فإنها تبني على العدة الأولى، لأن النكاح الثاني لم يحصل فيه مسيس. فهذا النكاح باطل ولكن لا عدة فيه، وذلك لانه فراق قبل المسيس. وذلك أن تقول هو عقد فاسد فكان وجوده كعدمه. والمذهب أن الرجل إذا طلق امرأته الرجعية فإنها تبني على عدتها، وأما إن راجعها مطلقها فإنها تستأنف العدة من جديد.

ورجل طلق امرأته طلقه واحدة فحاضت حيضتين ثم طلقها ثانية، وقد تقدم الخلاف في صحة هذا الخلاف والمذهب أنه صحيح. فهنا يقولون بنى على عدتها فيبقى لها حيضة، ولكن لو راجعها بعد هاتين الحيضتين ثم طلقها فإنها تستأنف عدة جديدة وهذا ظاهر وذلك لأن الرجعة تذهب اثر الطلاق وتعود المرأة إلى نكاحها الأول. فصل قال: [يلزم الإحداء مدة العدة كل متوفى عنها زوجها في نكاح صحيح ولو ذمية أو أمة أو غير مكلفة] . فالإحداء يلزم مدة العدة كل متوفى عنها زوجها في نكاح صحيح ولو كانت الزوجة ذمية أو أمةً أو صغيرة وذلك لعموم الأدلة – فالأدلة عامة في كل زوجة – وإنها يلزمها الإحداء سواء كانت مسلمة أو ذمية، صغيرة أو كبيرة حرةً كانت أو أمةً. ففي الصحيحين إن النبي صلى الله - صلى الله عليه وسلم - قال: (لا تُحد امرأة على ميت فوق ثلاث إلا على زوج أربعة أشهر وعشرا، ولا تلبس ثوباً مصبوغاً إلا ثوب عَصب، ولا تكتحل ولا تمس طيباً إلا إذا طهرت نبذة من قسط أو أظفار) . والعَصْب: هو نوع من الأصباغ مهيجاً للنظر إلى المرأة. والنبذة: هي القطعة من الشيء. والقُسط والأظفار: نوعان من الطيب. وقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم - لفُريعه بنت مالك: (امكثي في بيتك حتى يبلغ الكتاب أجله) رواه الخمسة بإسناد صحيح فالإحداد على الزوج واجب مدة العدة. والإحداد: هو اجتناب المرأة ما يدعو إلى جماعها ويرغب في النظر إليها. قال: [ويباح الباين من حي] ولا يجب ولا يسن، فيباح للبائن من حي أن تُحدًّ عليه لكن ذلك ليس بسنة. قال: [ولا يجب على رجعية وموطوءة بشبهة أو زنا أو نكاح فاسد أو باطل] . فالنكاح الفاسد: النكاح بلاولي عند من يرى أن ذلك منهي عنه. قال: [أو ملك يمين] فالآمة المملوكة لا يجب عليها الاحداد.

فالرجعية والموطوءة بشبهة أو نكاح فاسد أو باطل أو ملك يمينن لا تجب عليها الاحداد، لأن الله عز وجل إنما أوجب الاحداد على المرأة المتوفى عنها. والرجعية زوجة لم يتوفى عنها، وممن ذكر سواها فإنهن لسن بزوجات له فلم يجب عليهن الاحداد ولم يشرع. قال: [والإحداد اجتناب ما يدعو إلى جماعها ويرغب في النظر إليها من الزينة] أي من الزينة في البدن والثياب. الزينة في البدن كالكحل مثلاً أو الحمرة أو الخضاب في الشعر ونحو ذلك. وأما الزينة في الثياب فكأن تلبس ثوباً مصبوغاً كأن يكون أحمر أو أصفر فيه فيرغب النظر إليها. قال: [والطيب والتحسين] فالتحسين: هو تجميل الوجه ونحوه. فالطيب والتحسين تمنع منهما المرأة المُحادة وقد تقدم قول النبي - صلى الله عليه وسلم - (ولا تمس طيباً) ، ولكن يستثنى ما ورد في الحديث فإنها إذا طهرت تأخذ نبدة من قسط أو أظفار لتصفية فرجها لتزيل الرائحة الكريهة الناتجة عن الحيض. قال: [وما صُبغ للزينة] كأن يكون الثوب أحمر أو أصفر أو أخضر أو نحو ذلك. أما إذا كان مصبوغاً لغير الزينة وهو ما يصبغ ليتحمل الوسخ والدنس فلا بأس أن تلبيسه كالأسود ونحوه إن كان ليس للزينة بل هو من ثياب المهنه. قال: [وحلي] فليس لها أن تلبس الحلي، وفي سنن ابي داود بإسناد صحيح عن أم سلمة قالت: قال رسول - صلى الله عليه وسلم - (المتوفى عنها زوجها لا تلبس المعصفر من الثياب ولا المُمَشقه " هي الثيلب التي قد صبغت بالطين الأحمر" ولا تلبس الحلي ولا تكتحل ولا تمتشط) فليس لها أن تلبس من الحلي شيئاً، لا سواراً ولا خاتماً ولا غير ذلك. قال: [وكحلٍ أسود]

فليس لها أن تكتحل لحديث أم سلمة المتقدم وفيه (ولا تكتحل) ولحديث أم عطية ان النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (لا تحد امرأة على ميت فوق ثلاث إلا على زوج أربعة أشهر وعشرا) الحديث وفيه ولا تكتحل وفي ابي داود والنسائي ايضاً (ولا تختضب) وفي النسائي ولا تمتشط. وفي الصحيحين (ولا تكتحل) . فالمحادة تنهى عن الكحل. فإن احتاجت إلى الكحل للتداوي فلها أن تضعه في الليل وتنزعه في النهار، ففي سنن أبي داود بإسناد لا بأس به أن أم سلمة قالت (وضعت في عيني صبراً لما توفى أبو سلمة فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - إنه يَشبُّ الوجه " أي يزيد في لون الوجه " فلا تجعليه إلا بالليل وانزعيه في النهار ولا تمتشطي بالطيب والحناء فإنه خضاب قال: قلت بأي شئ أمتشط فقال بالسدر) ، فلها أن تمتشط بالسدر ونحوه مما لا يكون له رائحة طيبة، وهذا باتفاق أهل العلم. قال: [لا توتيا ونحوها] (لا توتيا) ؛ لا أعرف هذا، ولعله من الكحل المعروف عندهم قديماً، وكذلك ذكروا في الشرح كحل العنزروت، وهذه الأنواع ليست مما يكون فيه الجمال أي لا يعطي العين جمالاً ونضيره وحسياً، وهكذا إذا كان من الكحل شئ يتصف بهذا الوصف وهذا لا شك غير الأسود أي ليس فيه نضرة ولا جمال ولا حسن فلا بأس للمرأة أن تضعه، وأما الكحل الأسود فلا. قال: [ولا نقاب] أي لا تمنع من لبس النقاب وكذلك البُرقع، وهذا ينبني على أن النقاب والبرقع، وعندهم وليس من لباس الجمال والزينة، والذي يظهر أنه عندنا من لباس الجمال والزينة، وأن المرأة تلبسه تجملاً وتزيناً، وعليه فيمتنع من ذلك. والخزفي من الحنابلة منع المرأة في إحدادها أن تنتفي وهذا هو القول الراجح. فالمرأة - لاسيما النساء عندنا اللاتي تلبسه تجملاً وتزيناً وهو الجمال في حقهن وزينة – فإنها تمنع منه، بخلاف المرأة التي هو من عادتها كنساء البادية ونحوهن فليس من لباس الجمال من حقهن فلا يمنعن منه.

قال: [وأبيض ولو كان حسناً] فإذا لبست ثوباً أبيض ولو كان حسناً فلا يأس بذلك، قالوا: لأن طبيعته الحسن فليس الحسن طارئاً عليه وهذا فيه نظر ظاهر. والقول الثاني في المسألة وهو قول في المذهب وهو اختيار الشيخ عبد الرحمن بن سعدي أن المرأة تمنع منه. وهو القول الصحيح في المسألة وذلك لأن الحكم يدور مع علته وجوداً وعدماً، فلا فرق بين أن يكون مصبوغاً بالبياض الذي يعطي هذا الثوب حسناً ونضرة أو أن يكون البياض أصلياً فيه. فصل قال: [وتجب عدة الوفاة في المنزل حيث وجبت] فتجب عدة الوفاة في المنزل حيث وجبت العدة، فإذا كانت في منزل من منازل زوجها وهي في ذلك المنزل فيجب عليها أن تعتد في ذلك المنزل، ففي السنن ومسند أحمد بإسنادٍ صحيح عن فريعة بنت مالك؛ (أن زوجها خرج في طلب –أعبد له فقتلوه، قالت: قسألت النبي - صلى الله عليه وسلم - أن أرجع إلى أهلي فإن زوجي لم يترك لي مسكناً يملكه ولا نفقة فقال لها - صلى الله عليه وسلم -: نعم، فلما كانت في الحجرة ناداها النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال لها: امكثي في بيتك حتى يبلغ الكتاب أجله، قالت: فاعتددت أربعة أشهر وعشراً، ثم قضى بذلك عثمان رضي الله عنه) . وهذا الحديث فيه أنه يجب على المرأة أن تعتد في بيت زوجها الذي توفي وهي فيه سواء كان هذا البيت ملكاً له أو مستأجراً أو إعارة، فيجب عليها أن تمكث فيه. مسألة: إذا كان البيت مستأجراً أو كان مملوكاً فهل يخرج ذلك من تركة الرجل فإن كان مملوكاً فإن الورثة يلزمون بإبقاء المرأة فيه ولا يحل لهم أن يخرجوها منه، وإذا كان مستأجراً فيؤخذ من تركته ما يدفع لصاحب الدار لتبقى فيه، أم ليس كذلك؟ قولان لأهل العلم: القول الأول: هو مذهب الجمهور، قالوا: لا يجب على الورثة أن يدعوها لتمكث فيه، ويشرع لهم ذلك لأنه من باب الإحسان. وإذا كان البيت مستأجراً فلا يخرج من تركته شيئاً لتسكن فيه.

القول الثاني: وهو مذهب المالكية، وهو رواية عن الإمام أحمد وقول في نذهب الشافعي: ان لها حقاً في ذلك، فإذا له مال فإنه يؤخذ من تركته ما يستأجر له به هذا البيت الذي توفي زوجها وهي فيه، وإن كان له ورثة فإن الورثة يلزمون بترك زوجة أبيهم حتى تحد في البيت، وهذا هو القول الراجح في المسألة. وذلك لقول الله تعالى: {والذين يتوفون منكم ويدرون أزوجاً وصيةً لأزواجهم متاعاً إلى الحول غير إخراج} . فنهى الله الأولياء أن يخرجوهن، والآية إنما نسخت المدة فيها، وأما النهي عن الإخراج فلم ينسخ، وهذا دليل من الأثر. وأما من النظر، فلأن هذه المرأة معتدة لحق زوجها فوجب لها في تركته ذلك. وعلى القول الأول - وهو قول الجمهور – هل يلزمها أن تستأجر هي من مالها أم لا يلزمها ذلك؟ فلو توفي عنها زوجها وهي في دار فهل يلزمها أن تستأجر هذه الدار أربعة أشهر وعشراً سواء كان المستأجر منه الورثة أو غيرهم أم لا يلزمها ذلك. المشهور في المذهب: أن ذلك لا يلزمها وأن الواجب عليها هو السكن لا تحصيل المسكن. والقول الثاني في المسألة وهو مذهب أبي حنيفة وهو قول في المذهب: أن ذلك يلزمها. …وذلك لأن ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب. …فالأرجح وهو المشهور في المذهب أن ذلك لا يلزمها، وذلك لأن الله إنما أوجب عليها السكن، وأمر الأولياء أن يحصلوا لها المسكن فقال سبحانه: {غير إخراج} . …هذا القول هو الأصح من هذين القولين، وإلا فالراجح من أصلي القولين ما تقدم وهو مذهب المالكية وأنه لا يجوز للأولياء أن يخرجوهن، وليس لهن أن يخرجن إذا كان البيت مستأجراً، فإنه يؤخذ من التركة ما يدفع به الإيجاز ثم تسكن فيه هذه المرأة مدة العدة. قال: [فإن تحولت خوفاً] . أي تحولت من هذا البيت خوفاً من هدم أو لص أو غير ذلك. قال: [أو قهراً] . أي تخرج بظلم كأن يخرجها الأولياء حيث قلنا إنه ليس للأولياء أن يخرجوها. قال: [أو بحق] . كأن تؤذي فتخرج بحق.

قال: [انتقلت حيث شاءت] . فمتى ما كان لها عذر في ترك هذه الدار فإنها تنتقل حيث شاءت قرب الموضع من الدار أم لم يقرب. وذلك لأن الواجب عليها قد سقط بالعذر وليس هناك مكان معين آخر، فكان لها أن تعتد في أي موضع شاءت. قال: [ولها الخروج لحاجتها نهاراً لا ليلاً] . اتفق العلماء على أن المرأة المحادة ليس لها أن تخرج ليلاً إلا لضرورة وذلك لأن الخروج في الليل مظنة الفساد. وأما النهار فلها أن تخرج قال المؤلف هنا: " لحاجتها " قالوا: كأن تشتري أو تبيع، ولو كان هناك من يقوم بمصالحها لأن هذه حاجة وليست ضرورة. ودليل ذلك ما روى ابن أبي شيبة في مصنفه: "أن ابن عمر رخّص للمتوفي عنها أن تخرج إلى أهلها في بياض النهار" في مصنف ابن أبي شيبة أيضاً: أن النساء شكين إلى بن مسعود الوحشة فأجاز لهن أن يجتمعن في بيت إحداهن إلى الليل، فإذا كان الليل ذهبن كل واحدة منهن إلى بيتها". وهذا باتفاق العلماء. لكن في ذكر الحاجة نظر ظاهر، كما قرر هذا الزركشي من الحنابلة فإنه من المعلوم والمتقرر أن المرأة تمنع من الخروج من بيتها إلا لحاجة لقوله تعالى: ((وقرن في بيوتكن)) ، عادة فلا حاجة إلى هذا الاشتراط، وليس هذا الاشتراط مذكوراً من كلام الإمام أحمد، بل أجاز ذلك في النهار مطلقاً وهذا يترجح لي ولم أر دليلاً يدل على منع المرأة من أن تخرج من بيتها وهي محادة نهاراً. والحنابلة كما تقدم يجيزون خروجها للحاجة كأن تشتري أو تبيع أو أن تجد وحشة فتحتاج إلى الخروج. والذي يترجح أن لها الخروج مطلقاً لكن إن كان لغير حاجة فإن ذلك يكره وهو قول في مذهب الإمام أحمد وهو رواية عن الإمام أحمد بل ذكر الزركشي أن هذا الشرط لا حاجة إليه لأن المرأة يكره لها أن تخرج بلا حاجة سواء كانت في حداد أو غيره. قال: [وإن تركت الإحداد أثمت، وتمت عدتها بمضي زمانها] . إذا تركت المرأة الإحداد في عدتها فلم تحد، فإنها تأثم لتركها الواجب.

لكن عدتها تتم، بمضي زمانها إذ ليس من شروط العدة الإحداد، فالعدة تصح بلا احداد، وذلك لأنه كما تقدم لا يشترط للعدة النية فأولى من ذلك ألا يشتراط فيها الإحداد. " باب الإستبراء" الاستبراء: مشتق من البراءة، وهو عند الحنابلة تربص يقصد منه العلم ببراءة رحم ملك اليمين. فخصوه بملك اليمين. والراجح ما تقدم وأن الاستبراء يكون لنكاح الشبهة ويكون للزنا وللمختلعة وغيره مما تقدم ذكره. وأما الحنابلة فخصوه بملك اليمين فإذا اشترى أمةً وهي توطأ فلا يحل له أن يسقي ماءه زرع غيره، فلا بد وأن يستبرئ المرأة بحيضة أو أن تضع حملها. قال: [من ملك أمة يوطأ مثلها من صغيرٍ وذكر وضدهما حرم عليه وطؤها ومقدماته قبل استبرائها] . من ملك أمةً يوطأ مثلها من صغير، ليس هنا المالك الجديد هو الصغير بل المالك القديم هو الصغير. فإذا اشترى رجل أمةً مملوكة لصغيرة أو ذكر أو صدهما بأن تكون لكبير أو امرأة فإذا اشترى أمة من امرأة عجوزٍ حرم عليه وطؤها حتى يستبرئها وهذا قول ضعيف. ولذا عن الإمام أحمد وهو اختيار شيخ الإسلام، أنها إذا كانت مملوكة لمن لا يطأ كالطفل، والمرأة فإنه لا يجب عليه الاستبراء وذلك للعلم ببراءة الرحم. قال: [ومقدماته] فليس له الوطء ولا مقدماته، كأن يباشرها أو يقبلها أو نحو ذلك وهذا خلاف الراجح. فعن الإمام أحمد وهو اختيار ابن القيم أن له أن يباشرها وله أن يستمتع بها دون الوطء وذلك لأن النهي عن الوطء فقط، فلا دليل على المنع من مباشرتها والاستمتاع بها دون وطئها. وكذلك العلة لا تثبت فالعلة هي ألا يسقي ماءه غيره وحيث استمتع بها دون الفرج فالعلة ليست ثابتة والحكم يدور مع علته وجوداً وعدماً. قال: [واستبراء الحامل بوضعها، ومن تحيض بحيضة] . لما ثبت في مسند أحمد وسنن أبي داود بإسناد صحيح أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (لا توطأ حامل حتى تضع،، ولا غير ذات حمل حتى تحيض حيضة) .

فإذا كانت حاملاً فلا يحل وطئوها حتى تضع سواء كانت عند من يطأ أو عند من لا يطأ كصغير وأنثى، لأن الحمل قد ثبت فيها وقد يكون من زنا أو شبهة أو غير ذلك. وإذا كانت غير ذات حمل فحتى تحيض حيضة إن كانت عند من يطأ. قال: [والآيسة والصغيرة بمضي شهر] . وذلك لأن الاستبراء بحيضة، والشهر يقابل الحيضة وعن الإمام أحمد وهو القول الثاني في المسألة، وذكر الموفق أنه المشهور في المذهب، أنها تستبرأ بثلاثة أشهر وهذا هو الظاهر وكما تقدم بقليل مسألة سابقة وأن العلم ببراءة الرحم لا يكفي فيه الشهر ولا الشهران بل يحتاج إلى ثلاثة أشهر، فهنا لا يكفي في الاستبراء بشهر بل لابد من ثلاثة أشهر لأن التربص ثلاثة أشهر يعلم به براءة الرحم. وهنا مسألتان: 1) المسألة الأولى: أن الرجعية في حكم المحادة في مسألة المكث في البيت. قال تعالى: ((واتقوا الله لا تخرجوهن من بيوتهن ولا يخرجن إلا أن يأتين بفاحشة مبينة)) . فالرجعية كالمتوفي عنها في وجوب المكث في البيت. 2) المسألة الثانية: وأما البائن فليست كذلك، لأن البائن ليست بزوجة لكن إن أحب زوجها تحصناً لفراشه أن تمكث في بيته حيث لا محذور في ذلك، أي حيث كان مأموناً وكان الموضع مأموناً منه ومن غيره، فإنها تلزم بذلك وذلك لرفع الضرر (ويراجع قول آخر) . والمذهب أنه لا يلزم بالنفقة. واختار شيخ الإسلام أن له ذلك بشرط أن يلتزم بالنفقة وهذا الأظهر وذلك لأنها محبوسة لأجله ولحقه. إذن للزوج الذي قد طلق امرأته طلاقاً بائناً أن يمنعها من أن تخرج إلى أهلها أو إلى بيت آخر وأن يأمرها أن تمكث في البيت لكن ذلك بشرطين: 1) ألا يكون هناك محذور في ذلك. 2) أن ينفق عليها في الأصح. " كتاب الرضاع " الرضاع: بفتح الراء وكسرها. وهو في اللغة: مصّ الثدي. وفي اصطلاح فقهاء الحنابلة: هو مصُّ من دون الحولين لبناً ثاب عن حمل أو شربه أو نحوه، هذا تعريفه في اصطلاح فقهاء الحنابلة ويأتي ما فيه من النظر.

وقد دل الكتاب والسنة والإجماع على ثبوت الرضاع. قال تعالى: ((وأمهاتكم اللاتي أرضعنكم وأخواتكم من الرضاعة)) وقال - صلى الله عليه وسلم - من حديث عائشة: (يحرم من الرضاعة ما يحرم من الولادة) متفق عليه. وفي الصحيحين من حديث ابن عباس: (يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب) وقد أجمع أهل العلم على ثبوت الرضاع في الجملة. قال: [يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب] . لما تقدم من حديث ابن عباس وحديث عائشة وما تقدم من الكتاب والإجماع. قال: [والمحرم خمس رضعات] . فالمحرم خمس رضعاتٍ في المشهور في مذهب أحمد ومذهب الشافعي. ودليل ذلك ما ثبت في صحيح مسلم عن عائشة قالت: " كان فيما أنزل من القرآن عشر رضعات معلومات يحرمن ثم نسخن بخمس معلومات فتوفي النبي - صلى الله عليه وسلم - وهن فيما يتلى من القرآن". أي أن بعض الناس لم يطلّع على النسخ فبقي يتلو هذه الآيات ولا يعلم أنها منسوخة. وعليه فالآية الناسخة والمنسوخة كلاهما، يتفقان في النسخ اللفظي، والآية الثانية التي فيها التحريم بخمس رضعات لم ينسخ حكمها وأما الآية الأولى التي فيها أن التحريم بعشر رضعات فقد نسخ لفظها وحكمها. وذهب المالكية والأحناف إلى أن مجرد الرضاع يحرم، فلو امتص شيئاً قليلاً من اللبن فإن الرضاع يثبت من غير أن ينظر إلى عدد واستدلوا: بالإطلاق في قوله تعالى: ((وأمهاتكم اللاتي أرضعنكم)) فالآية مطلقة فبمجرد الرضاع يثبت الحكم. واستدلوا: بحديث عقبة بن الحارث وأنه تزوج أم يحي بنت إهاب، فأتته امرأة فقالت: إني أرضعت عقبة والتي تزوج، فأتي النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال له ذلك، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: (كيف وقد قيل) ففارقها عقبة فنكحت رجلاً غيره) رواه البخاري. فقد أثبت النبي - صلى الله عليه وسلم - هذا الحكم بمجرد ثبوت الرضاع وأجاب أهل القول الأول عن هذه الأدلة: بأنها مطلقة وأن السنة قد قيدتها وبينت أن الرضاع المحرم هو خمس رضعات.

وذهب أهل الظاهر وهو رواية عن الإمام أحمد: أن الرضاع المحرم هو ثلاث رضعات. أدلتهم هي: ما ثبت في مسلم من حديث عائشة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (لا تحرم المصة والمصتان) ومن حديث أم الفضل: " لا يحرم الإملاجة أو الإملاجتان" وهذه من الأدلة التي يرد بها على أهل القول الثاني. وأما الجواب عن استدلالهم أي أهل الظاهر، فأن يقال: ما ذكرتموه مفهوم، فإن قوله: " لا تحرم المصة والمصتان" فمفهومه أن الثلاث تحرم، وكذلك "لا تحرم الإملاجة والإملاجتان" فإن مفهومه أن الثلاث تحرم. لكن عندنا منطوق وهو حديث عائشة وأن الرضاع المحرم هو خمس رضعات معلومات. والمنطوق مقدم على المفهوم، كما هو مقرر في أصول الفقه إذن الصحيح ما ذهب إليه الحنابلة والشافعية من أن الرضاع المحرم هو خمس رضعات معلومات. واختلف أهل العلم فيما يسمى رضعة: فالمشهور في المذهب أنه إذا مص الثدي فتركه باختياره أو بغير اختياره فإنها تحسب رضعة. فلو أنه امتص الثدي ثم انتقل إلى الثدي الآخر، أو قطعه لتنفس أو لعطاس، ونحو ذلك فإنها تحسب رضعة أخرى. والقول الثاني في المسألة: وهو مذهب الشافعية وهو وجه في مذهب الإمام أحمد واختاره الشيخ عبد الرحمن السعدي أن الرضعة المحرمة هي الرضعة الكاملة التي يترك معها مص الثدي باختياره. وأما إذا تركه بغير اختياره كأن ينتقل من ثدي إلى ثدي آخر أو أن يتركه لتنفس أو نحو ذلك فإن مجموع ذلك يسمى رضعة واحدة فرجوعه إلى الثدي بين التنفس أو العطاس لا يعتبر رضعة ثانية بل كلاهما رضعة واحدة. وهذا هو القول الراجح وهو الذي يدل عليه العرف فإن الرجل لا يعد قد أكل أكلتين أو ثلاثاً إذا كان قطع أكله لتنفس أو لانتقال إلى طعام آخر أو لشرب ماء أو عطاس أو نحو ذلك بل لائق في العرف إلا أكلاً أكلةً واحدة. قال: [في الحولين] . فالرضاع المحرم إنما يكون في الحولين.

قالوا: لقوله تعالى: ((والوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين لمن أراد أن يتم الرضاعة)) . ولما روى الدارقطني أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (لا رضاع إلا في الحولين) وهذا هو مذهب الجمهور. واختار شيخ الإسلام وهو قول بعض السلف أن الرضاع المحرم ما يكون قبل الفطام سواء كان ذلك في الحولين أو بعدهما فلو أنه فطم بعد سنة من ولادته ثم رضع فإن هذا الرضاع ليس بمعتبر عند شيخ الإسلام. ولو أنه تأخر فطامه إلى ما بعد الحولين فرضع بعد الحولين فإن الرضاع معتبر إذن العبرة بالفطام سواء كان هذا في الحولين أو بعدهما وهذا هو القول الراجح، ويدل عليه أدلة منها:- ما ثبت في الصحيحين أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (انظرن إخوتكن فإنما الرضاعة من المجاعة) أي حيث كان اللبن يسد جوعته وينشر عظمه وينبت لحمه. ويدل عليه أيضاً وهو أصرح دلالة، ما ثبت في سنن الترمذي بإسناد صحيح وصححه الترمذي وغيره، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (لا يحرم من الرضاع إلا ما فتق الأمعاء في الثدي وكان قبل الفطام) . والشاهد قوله: (وكان قبل الفطام) . وقوله: (في الثدي) أي في زمن الرضاع، وفي صحيح مسلم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (إن إبراهيم رضي الله عنه مات في الثدي فجعل الله له مرضعاً في الجنة) . والجواب عما استدل به أهل القول الأول:- أن قوله: (يرضعن أولادهن حولين كاملين) هذا بناءً على الغالب، فالغالب في الرضاع أن يكون في الحولين. وأما حديث: (لا رضاع إلا في الحولين) فالصواب وقفه على ابن عباس رضي الله عنه كما رجح ذلك الدارقطني وابن عدي. فالصحيح ما اختاره شيخ الإسلام. وذهب أهل الظاهر إلى أن رضاع الكبير مؤثر، فلو رضع ابن عشر أو ابن ثلاثين فإن الرضاع مؤثر. وهو قول أم المؤمنين عائشة.

ودليله: ما رواه مسلم في صحيحه، أن إبنة سهل زوج أبي حذيفة سألت النبي - صلى الله عليه وسلم - فذكرت له أن سالماً مولى أبي حذيفة قد بلغ مبلغ الرجال وعقل ما عقلوا، وأنها ترى أن في نفس أبي حذيفة من ذلك شيئاً) وفي رواية: أنه ذو لحية " فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - ارضعيه تحرمي عليه". قالوا: فهذا يدل على أن رضاع الكبير مطلقاً مؤثر. وهو قول أم المؤمنين عائشة وأبى ذلك سائر أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - كما في صحيح مسلم، وقلن: ما نرى إلا أنها رخصة أرخصها النبي - صلى الله عليه وسلم - لسالم خاصة) . وما أجابته نساء النبي - صلى الله عليه وسلم - هو جواب الجمهور، فقالوا: هذا الحديث خاص بسالم. إذن هي عندهم: خصوصية عين. واختار شيخ الإسلام وتلميذه ابن القيم أن الخصوصية خصوصية وصف لا عين. وهو القول الراجح في المسألة إذ الأصل عدم الخصوصية ولو أن امرأة أخذت لقيطاً فربته عندها فبلغ مبلغ الرجال واعتاد على الدخول عليها وشق عليه أن يستغني عنهم فلها أن ترضعه وإن كان ابن عشرين سنة كما هو اختيار شيخ الإسلام وهو القول الراجح. قال: [والسعوط والوجور] . السُعوط: أن ينقط الحليب في الأنف. والوجور: هو أن يصب الحليب في فيه أي في الطفل فيثبت الحكم. وكذلك لو جُِبن عند الجمهور. وفي أصح قولي العلماء وهو مذهب الشافعية ووجه عند الحنابلة قالوا: ولو حقن في دبره، فكل ذلك يثبت به التحريم وذلك لأن هذا الفعل من سعوط أو وجور أو حقنة أو تجبين يحصل به ما يحصل بالرضاع من الفائدة، والحكم يدور مع علته وجوداً وعدماً. قال: [ولبن الميتة] . كذلك لبن الميتة يثبت به التحريم كما هو مذهب الجمهور خلافاً للشافعي وذلك لأنه رضاع. فلو أنه رضع أربع رضعات وهي حيه، ثم رضع منها الخامسة وهي ميتة فغن هذا الرضاع مؤثر لأنه يسمى رضاع ولأنه يحصل بهذا اللبن من الميتة ما يحصل من لبن الحية. وهذا القول هو الراجح وهو مذهب جمهور العلماء.

قال: [والموطوءة بشبهة أو بعقد فاسد] . فإذا وطئت المرأة بشبهة كأن يطأ الرجل امرأة يظنها زوجته فينتج عن هذا الوطء حمل وثاب من هذا الحمل لبن، فإذا رضع طفل من هذا اللبن، فإن هذه الموطوءة بشبهة تكون أماً له، والواطء يكون أباً له. كذلك الموطوءة بعقد فاسد، وذلك لأنه لبن ويحصل منه ما يحصل من لبن الموطوءة بنكاح صحيح. ولأن النسب يثبت فيثبت الرضاع فإن الرضاع يتفرع عن النسب. قال: [أو باطل] . فالموطوءة بعقد باطل كمن نكح امرأة في عدتها فحملت فثاب عن هذا الحمل لبن، فرضع منه الطفل فالحكم يثبت لأنه قد رضع من هذه المرأة وهي ذات لبن ويحصل من لبنها ما يحصل من لبن غيرها. قال: [أو زنا محرم] . فلو زنى بامرأة فحملت فثاب عن هذا الحمل لبن فكذلك. يثبت حكم الرضاع. لكن في المسألتين الأخيرتين لا يكون الزاني ولا الناكح نكاحاً باطلاً لا يكون أباً له من الرضاع عن الثيب فكما أن النسب لا يثبت فكذلك الرضاع. قال: [وعكسه البهيمة] . اتفاقاً: فلبن البهيمة لا يثبت به التحريم باتفاق أهل العلم. قال: [وغير حبلى ولا موطوءة] . إذا رضع من امرأة بكر لم توطأ، أو رضع من امرأة موطوءة وهي غير حبلى إذن فيها لبن لكنه لم يثب من حمل، فإنه لا يثبت به التحريم هذا هو المشهور في المذهب. وذهب الجمهور وهو راوية عن الإمام أحمد أنه مؤثر للتحريم قالوا: لأنه رضاع فيدخل في قوله تعالى: ((وأمهاتكم اللاتي أرضعنكم)) . وأما الحنابلة: فقالوا: ليس بلبن بل هو رطوبة متولدة فلا يكون قد امتص لبناً بل امتص رطوبة متولدة، فلا ينبت لحماً ولا ينشز عظماً ومرجع هذه المسألة إلى أهل الخبرة. وإن كان من حيث النظر، ما ذهب إليه الحنابلة هو الراجح في هذه المسألة فلا يثبت أن اللبن الذي يكون في المرأة غير الحامل لا يثبت أن فيه فائدة فينشز عظماً أو ينبت لحماً.

لكن إن قرر أصحاب الخبرة من الأطباء أن اللبن الذي يكون في غير الحامل أن فيه النفع الذي يكون في لبن الحامل فيكون له نفس الحكم أي يكون مؤثراً للتحريم لأن الحكم يدور مع علة وجوداً وعدماً فالذي يترجح الآن هو ما ذهب إليه الحنابلة. قال المؤلف رحمه الله: [فمتى أرضعت امرأة طفلاً صار ولدها في النكاح والنظر والخلوة والمحرمية] . فمتى أرضعت امرأة طفلاً بالشروط المتقدمة صار ولدها في النكاح أي في تحريم النكاح قال تعالى: ((وأمهاتكم اللاتي أرضعنكم وأخواتكم من الرضاع)) . ويصير ولدها أيضاً في إباحة النظر والخلوة والمحرمية لأنها فرع عن تحريم النكاح بسبب مباح. ويدل عليه ما ثبت في الصحيحين عن عائشة أن أفلح أخا أبي القعيس جاء يستأذن عليها بعد الحجاب قالت: فأبيت أن آذن له فلما جاء رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أخبرته بالذي صنعته فأمرني أن آذن له علي وقال: " إنه عمك". فهذا يدل على إباحة الخلوة ونحوها من النظر. إذن: يحرم النكاح ويباح له الخلوة، والنظر والمحرمية. ولا يترتب على الرضاع شيء من الأحكام التي تترتب على النسب من إرث أو نفقة أو ولاية أو غير ذلك بل لا يترتب عليه لا النكاح وما يتفرع عنه من جواز النظر والخلوة وثبوت المحرمية. قال: [وولت من نسب لبنها إليه بحمل أو طء] . أي وصار المرتضع ولد من نسب لبنها إليه. وفي مسلم من حديث عائشة المتقدم، أنها قالت يا رسول الله إنما أرضعتني المرأة ولم يرضعني الرجل فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - تربت يمينك: " فقد أنكر عليها النبي - صلى الله عليه وسلم - ذلك فاللبن للرجل، وعليه فثبت له الأبوة من الرضاع، ولذا قال المؤلف هنا: " وولد من نسب لبنها إليه بحمل أو وطء" أي صار المرتضع ولد من نسب لبنها إليه بحمل أو وطء. مسألة:

إذا كان له امرأتان فأرضعت إحداهما الطفل رضعتين، وأرضعت الأخرى الطفل ثلاثا، فمجموع إرضاعهما خمس رضعات، هنا: لا إشكال في أن الأمومة لا تثبت لأن كل واحدة منهما لم يرضع هذا الطفل خمس رضعات معلومات، لكن هل يثبت الأبوة من الرضاع أم لا؟. القول الأول: أن الأبوة لا تثبت. قالوا: لأنه رضاع لم يثبت الأمومة فلم يثبت الأبوة. القول الثاني: أن الأبوة تثبت وهو القول الراجح. وذلك لأن الأبوة إنما تثبت له لأن الطفل قد رضع من لبنه، فاللبن الذي في امرأته ليس له، وقد ثبت أن هذا الطفل راضع من لبنه خمس رضعات معلومات وليست الأبوة فرعاً عن الأمومة كما هو ظاهر القول الأول، بل الأبوة أصل منفرد، فليس ثبوت أبوته لثبوت أمومة المرأة وإنما لكون هذا الطفل قد رضع من لبنه. أما لو كان الرضاع من بناته، كأن يكون له خمس بنات مثلاً فترضع كل واحدة منهن الطفل رضعة واحدة، فإن الأمومة لا تثبت كما تقدم. وهل تثبت للأب الجدودة من الرضاع أم لا؟ هنا لا تثبت وذلك لأن اللبن ليس له، وثبوت الجدودة له من الرضاع متفرعة عن ثبوت الأمومة لبناته فالفرعية هنا متحققة بخلاف الفرعية في المسألة الأولى. مسألة: وهي المسألة المتقدمة. لو أن امرأة أرضعت طفلاً رضعتين من لبن زوجها ثم طلقها ثم تزوجت آخر فأرضعت هذا الطفل ثلاث رضعات من لبن الزوج الآخر هنا الأبوة لا تثبت وذلك لأن الزوجين كليهما لم يرتضع هذا الطفل من لبن أحدهما خمس رضعات معلومات. وأما المرأة فقد رضع منها خمس رضعات، فتكون المرضعة أماً له، وأما الزوجان فليس أحد منهما أباً له. مسألة: إذا طلق الرجل امرأته وفيها لبن فتزوجهاآخر، فرضع الطفل من لبنها بعد الزواج الجديد فهل يكون ابناً من الرضاع للأول أو الثاني؟ في هذه المسألة تفصيل فللمسألة أربعة أحوال. الحال الأولى: ألا يزيد اللبن ولا تلد المرأة حملت أو لم تحمل أو يزيد ولا تحمل.

فلو أن رجلاً طلق امرأته وفيها لبن فتزوجت آخر ولم يزد اللبن على ما هو عليه بسبب النكاح الجديد سواء حملت أم لم تحمل ما لم تلد منه. أو زاد اللبن بعد الزواج الثاني لكنها لم تحمل. فهنا يكون ابناً من الرضاع للأول لأن اللبن على ما هو عليه. الحال الثانية: أن يزيد اللبن بسبب الحمل من الثاني. فهنا يكون ابناً لهما جميعاً لأن اللبن مشترك بينهما. الحالة الثالثة: أن تلد من الثاني، ويأتي اللبن بعد الولاد فهنا وقد اتفق العلماء على أن اللبن يكون للثاني، وأن الولادة فاصلة. الحال الرابعة: ألا تلد من الثاني لكنها قد حملت منه، واللبن قد انقطع قبل الحمل ثم نشأ بعد الحمل. بمعنى تزوجت الثاني فانقطع اللبن من الأول، ثم حملت من الثاني فنشأ لبن جيد. فهنا في المسألة قولان لأهل العلم هما وجهان في المذهب. القول الأول: أنه يكون لهما معاً، وأن الحمل يكون قد أعاد اللبن. القول الثاني: أنه يكون للثاني منهما دون الأول. وهذا هو الراجح وصوبه صاحب الإنصاف. وذلك لأن انقطاعه ظاهر في زوال حكمه، كما أن نشوءه بسبب الحمل ظاهر في أنه للثاني. قال: [ومحارمه محارمه] . أي وصار محارم الأب من الرضاع محارم المرتضع فالأب من الرضاع له محارم وهم آباؤه وأمهاته وأجداده وجداته وأعمامه وعماته وأخواله وخالته وأبناؤه وبناته وإخوانه وأخواته، فهؤلاء كلهم يكونون محارم للمرتضع. فإذا كان الأب من الرضاع له بنت، فإنها تكون أختاً لهذا المرتضع. وإذا كان لهذا الأب من الرضاع أخ فإنه يكون عماً للمرتضع وهكذا. قال: [ومحارمها محارمه] . محارم المرضعة محارم للمرتضع فأم المرضعة تكون جدته وأختها تكون خالته، وأخوها يكون خال وابنها يكون أخاه وهكذا. قال: [دون أبويه وأصولهما وفروعهما] .

فلا يتأثر بالتحريم إلا المرتضع وفروعه، أما أبواه وأصولهما وفروعهما وهم الحواشي فلا يتأثرون بالتحريم فلا يتأثر بالتحريم إلا المرتضع وفروعه أبناؤه وبناته فابن المرتضع تكون المرضعة جدة له من الرضاع، ويكون صاحب اللبن جداً له من الرضاع. وأما إخوان المرتضع وأخواته، وأعمامه وعماته وآباؤه وأمهاته فلا دخل لهم بهذا الرضاع. وهذا باجماع العلماء. قال: [فتباح المرضعة لأبي المرتضع] . فأبو المرتضع هو من الأصول، فيجوز له أن يتزوج المرضعة التي أرضعت ابنه. قال: [وأخيه من النسب] . فيجوز لأخي المرتضع من النسب أن يتزوج أم المرتضع وابنتها أو خالتها أو عمتها. وذلك لأن التحريم لم يتعلق به ولم يتصل به. قال: [وأمه وأخته من النسب لأبيه وأخيه من الرضاع] . فيجوز أن يتزوج أبوه من الرضاع أمه من النسب ونحوه أن يتزوج أخوه من الرضاع أخته من النسب وهكذا. فما ذكره المؤلف هنا من باب التمثيل. مسألة: هل يحرم من الرضاع ما يحرم من المصاهرة أم لا؟ بمعنى: هل تحرم عليكم أم زوجتك من الرضاع أي لك زوجة ولها أم من الرضاع فهل تحرم عليك؟ وهل تحرم عليك زوجة أبيك من الرضاع وهل تحرم عليك زوجة ابنك من الرضاع وهل تحرم عليك ابنة زوجك من الرضاع؟ جماهير أهل العلم على أنه يحرم من الرضاع ما يحرم من المصاهرة وحكى ذلك إجماعاً. وتوقف في ذلك شيخ الإسلام فيه وقال: " إن كان أحد قد قال بعدم التحريم فهو أقوى". ونصر ذلك تلميذه ابن القيم أي القول بأنه لا يحرم من الرضاع ما يحرم من المصاهرة. وهذا القول هو الراجح في هذه المسألة، وأن التحريم من الرضاع لا يتعدى إلى المصاهرة، وذلك لقوله تعالى: ((وأحل لكم ما وراء ذلكم)) ولم يرد دليل أنه يحرم من الرضاع ما يحرم من المصاهرة. والنبي - صلى الله عليه وسلم - إنما قال: " يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب" وفرق بين النسب وبين المصاهرة، وقد قال تعالى: ((وهو الذي خلق من الماء بشراً فجعله نسباً وصهراً)) .

ومما يدل على هذا أن الله قال في كتابه الكريم: ((وأمهات نسائكم وربائبكم اللاتي من نسائكم)) وقوله: ((وحلائل أبنائكم الذين من أصلابكم)) وهذا الإطلاق لا يدخل فيه زوجة الابن من الرضاع ولا أم الزوجة من الرضاع ولا بنت الزوجة من الرضاع يدل على ذلك أن النية قال قبل ذلك: ((وأمهاتكم اللاتي أرضعنكم وأخواتكم من الرضاعة)) فلم يكتف بقوله، (حرمت عليكم أمهاتكم) عن قوله: ((وأمهاتكم اللاتي أرضعنكم)) . ولم يكتف بقوله: ((وأخواتكم)) عن قوله: ((وأخواتكم اللاتي أرضعنكم)) . فدل على أن الأخت إذا أطلقت فلا تدخل فيها الأخت للرضاع وكذلك أمهات النساء إذا أطلقن فلا يدخل فيهن أمهات النساء من الرضاع، هذا هو القول الراجح في هذه المسألة وقد نصر هذا القول ابن القيم، ونفى أن يكون فيه إجماع، وهو من الإجماع الظني، وغاية ما فيه عدم معرفة الخلاف. مسألة: اللبن المشوب بالماء هل يثبت به التحريم أم لا؟ الجواب: إن كان اللبن ظاهراً ويحصل به ما يحصل باللبن غير المشوب من كونه ينشز العظم وينبت اللحم فإنه يثبت به، فإذا شربه كانت رضعة. مسالة: كره الإمام أحمد رحمه الله أن تسترضع الفاجرة والكافرة والحمقاء. وقد ورد عن عمر وعمر بن عبد العزيز أنهما قالا: " اللبن يشبه" كما في سنن البيهقي. قال المؤلف رحمه الله: " كان يقال الرضاع يُغير الطباع". فلما يخشى من تأثر الرضيع بالمرضعة فإنها يكره أن تسترضع الحمقاء أو المشركة أو الفاجرة. وفي أبي داود والحديث مرسل أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى أن نسترضع الحمقاء. مسألة: المشهور في مذهب الإمام أحمد: أن الرضاع يثبت بشهادة امرأة ثقة. فإذا شهدت امرأة ثقة بالرضاع فإنه يثبت هذا هو المشهور في المذهب وهو مذهب أهل الظاهر. وقال الأحناف: لا يثبت إلا بشهادة رجل وامرأتين وقال الشافعية: لا يثبت إلا بشهادة أربع نسوة. وقال المالكية: لا يثبت إلا بشهادة امرأتين.

وأصح هذه الأقوال القول الأول وهو مذهب أهل الظاهر ودليله ما تقدم في قصة عقبة بن الحارث وهي ثابتة في البخاري، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (كيف وقد زعمت أنها أرضعتكما) . قال الشعبي: " كان القضاة أي من السلف يفرقون بين الرجل والمرأة بشهادة المرأة الواحدة في الرضاع" ا. هـ. فهو مذهب جمهور السلف. والحاجة داعية لذلك فإن الرضاع الغالب فيه ألا تشهد فيه إلا المرأة الواحدة أو المرأتان. قال: [ومن حرمت عليه ابنتها فأرضعت طفلة حرمتها عليه وفسخت نكاحها منه إن كانت زوجته] . انظر شرح هذه العبارة في آخر هذا الدرس. قال: [وكل امرأة أفسدت نكاح نفسها برضاع قبل الدخول لا مهر لها] . هذه المسألة في إفساد المرأة نكاح نفسها، وهذه المسألة وإن كانت نادرة لكن وقوعها ممكن. وصورة هذه المسألة: أن يكون للرجل امرأتان، امرأة كبرى وامرأة صغرى، والمرأة الصغرى لا تزال في الحولين فترضع زوجته الكبرى زوجته الصغرى، فحينئذ تكون الصغرى ابنةً له من الرضاع، والكبرى تكون أم زوجته من الرضاع فتحرم عليه المرآتان جميعاً، "تراجع لأن الأولى عقد بها". وأما الثانية فلأنها أم زوجته من الرضاع، فهذا على قول الجمهور. فإذا أفسدت المرأة نكاح نفسها وكان ذلك قبل الدخول فلا مهر لها وذلك لأن الفرقة قد أتت من جهتها. قال: [وكذا إن كانت طفلة فدبت فرضعت من نائمة] . كذلك إن كانت له زوجة وهي طفلة فدبت هذه الطفلة فرضعت من نائمة كأمه أو أخته فإنها تحرم عليه لأنها تكون أخته أو ابنة أخته من الرضاع، فتحرم عليه. فهذه لا مهر لها لأن الفرقة من قبلها. قال: [وبعد الدخول مهرها بحاله] . أما إذا كان هذا الإفساد بعد الدخول فإن المهر لها بحاله وذلك لأن المهر يستقر بالدخول. إذن: إذا أفسدت نكاحها بنفسها وكان ذلك قبل الدخول فلا مهر لها، وأما بعد الدخول فلها المهر هذا هو مذهب الجمهور أهل العلم.

والقول الثاني في المسألة: وهو اختيار شيخ الإسلام رحمه الله أن خروج البضع عليه متقوم فهي قد أخرجت بفعلها من ملكية هذا الرجل والبضع متقوم، وعليه فتقوم المرأة بكراً وتقوم ثيباً والفارق بينهما يكون للزوج ولا شك أن هذا هو العدل وهذا هو الأصح. فعلى ذلك تقوم بكراً وثيباً فيقال: مهرها وهي بكر مائة ألف، ومهرها وهي ثيب خمسون ألفاً فالفارق بينهما خمسون ألفاً، فهذه الخمسون ألفاً تلزم المرأة تدفعها للرجل لأنها أخرجت بضعها من زوجها بغير حق. تراجع ولعله للزوجة. قال: [وإن أفسده غيرها فلها على الزوج نصف المسمى قبله وجميعه بعده] . فالمسألة المتقدمة حيث كان المفسد هو المرأة نفسها. وأما هنا فالمفسد هو غيرها. فإذا أفسده غيرها فلها على الزوج نصف المسمى قبل الدخول وجميعه بعده لأن الفرقة لم تأت من قبلها ولا فعل لها في فسخ النكاح فيثبت لها الحق من المهر فإن كانت لم يدخل بها فلها نصف المهر المسمى وإن كانت قد دخل بها فلها المهر كاملاً. قال: [ويرجع به الزوج على المفسد] . فالزوج يعطي المهر، إما نصفه حيث كان لم يدخل بها وإما جميعه حيث دخل بها، ويرجع على المفسد فالمفسد الذي حصلت هذه الفرقة بسببه وهي المرضعة يرجع الزوج عليها بذلك وذلك لأن الإفساد جاء من قبلها أي من قبل هذه المرضعة. قال: [ومن قال لزوجته أنت أختي لرضاع بطل النكاح فإذا كان هذا قبل الدخول وصدقته فلا مهر لها] . فمثلاً عقد على المرأة ولم يدخل بها ثم قال: " أنت أختي من الرضاع" وصدقته المرأة فلا مهر لها، وذلك لأنهما قد اتفقا على بطلان هذا النكاح، والنكاح الباطل لا مهر فيه. قال: [وإن أكذبته فلها نصفه] . إذا قالت له: " أنت كاذب" فلها نصف المهر، أي قبل الدخول، وذلك لأن هذا القول منه فيه إسقاط حقها فلم يلزمها قبوله بلا بينة. أما إذا كانت هناك بينة فيلزمها قبوله وهذا ظاهر لكن الكلام هنا حيث لا بينة. قال: [ويجب كله بعده] .

سواء صدقته أو أكذبته، فإذا كان ذلك أي قوله لها: " أنت أختي من الرضاع" بعد الدخول فلها المهر كاملاً سواء صدقته أو أكذبته. وذلك لاستقرار المهر بالدخول. لكن إن مكنته من نفسها فاستحل فرجها وهي تعلم أنها أخته من الرضاع وطاوعته ومكنت نفسها له فهي زانية والزانية لا مهر لها. إذن: هنا حيث كانت جاهلة أو مكرهة فلها المهر بما استحل من فرجها. قال: [وإن قالت هي ذلك وأكذبها فهي زوجته حكماً] . إذا قالت المرأة لزوجها: "أنت أخي من الرضاع" فأكذبها فهي زوجته حكماً أي في الظاهر. وذلك لأن قولها بإسقاط حقه لا يلزمه قبوله فهو قول منها في فسخ النكاح والنكاح حق له، وهذا القول يترتب عليه إسقاط حقه فيسح النكاح، فلم يلزمه القبول فحينئذ تكون زوجته في الحكم الظاهر. وأما في الباطن فإما أن تكون صادقة في نفس الأمر وإما أن تكون كاذبة. فإن كانت صادقة فالنكاح باطل ويجب عليها أن تفتدي نفسها منه وألا تمكنه من نفسها. وأما إن كانت كاذبة في قولها فالنكاح صحيح في الظاهر وفي الباطن. قال: [وإذا شك في الرضاع أو كماله أو شكت المرضعة ولا بينة فلا تحريم] . إذا شك في الرضاع ولا بينة فلا يدري هل ثبت هذا الرضاع أم لم يثبت؟ أو شك في كماله ولا بينة لا يدري هل أرضعته خمساً أم أربعاً أو لا يدري هل أرضعته قبل الفطام أو بعده، وعلى القول المرجوح لا يدري هل أرضعته في الحولين أو بعدهما. أو شكت المرضعة في ثبوته أو كماله ولا بينة فإنه لا تحريم في الكل. وذلك لأن الأصل عدم الرضاع، والأصل هو الحل قال تعالى: ((وأحل لكم ما وراء ذلكم)) واليقين لا يزول بالشك. أما شرح قول المؤلف: [ومن حرمت عليه ابنتها فأرضعت طفلة حرمتها عليه، وفسخت نكاحها منه إن كانت زوجته] . من حرمت عليه ابنتها كالأم والأخت وبنت الأخت وبنت الأخ ونحوهما فأرضعت طفلة فإنها تحرمها عليه وتفسخ نكاحها منه إن كان قد تزوجها.

فمثلاً: الأخت ابنتها من النسب محرمة على أختها فإذا أرضعت طفلة فإنها تحرمها على أخيها. " كتاب النفقات" النفقات: جمع نفقة وهي في اللغة: الدراهم ونحوها. وأما في اصطلاح الفقهاء فهي: إعطاء من يمونه ما يكفيه قوتاً ومسكناً وكسوة وما يتبع ذلك. قال: [يلزم الزوج نفقة زوجته] . إجماعاً قال تعالى: ((لينفق ذو سعة من سعته ومن قدر عليه رزقه فلينفق مما آتاه الله)) . وقال تعالى: ((اسكنوهن من حيث سكنتم من وجدكم)) . وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كما في الصحيحين من حديث هند بنت عتبة: (خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف) . وقال - صلى الله عليه وسلم -: (ولهن عليكم رزقهن وكسوتهن بالمعروف) رواه مسلم. وفي أبي داود والنسائي وابن ماجه بإسناد جيد أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما سئل عن حق الزوجة على زوجها، قال: (أن تطعمها إذا طعمت وتكسوها إذا أكتسيت) الحديث. فقد دل كتاب الله وسنة نبيه وإجماع العلماء على وجوب النفقة على الزوجة سواء كانت الزوجة موسرة أم معسرة. قال: [قوتاً وكسوة وسكناها بما يصلح لمثلها] . قوتاً: من أدم أو لحم أو غير ذلك. وكسوة وسكنى بما يصلح لمثلها في العرف لقوله - صلى الله عليه وسلم -: (خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف) وفي الحديث الآخر: (ولهن عليكم رزقهن وكسوتهن بالمعروف) . قال: [ويعتبر الحاكم ذلك بحالهما عند التنازع] . فإذا تنازع الزوجان في النفقة فإن الحاكم أي القاضي يعتبر ذلك بحالهما جميعاً أي بحال الزوج وحال الزوجة فالاعتبار بحاليهما جميعاً، وبيان ذلك:- قال: [فيفرض للموسرة تحت الموسر قدر كفايتها] . وكذلك في الصورة الثانية والثالثة يفرض قدر كفايتها، فالكفاية واجبة في المسائل كلها لقوله - صلى الله عليه وسلم - لهند: " خذي ما يكفيك". وقال الشافعي: تأخذ مدين من قمح إن كانت تحت موسر ومداً إن كانت تحت معسر ومداً ونصف إن كانت تحت متوسط. وهذا القول ضعيف ولا دليل عليه.

والجمهور على أنها تأخذ الكفاية سواء كانت تحت موسر أو معسر أو متوسط. لكن الطعام يختلف باختلاف الإعسار واليسار وأما الكفاية فإنها تأخذها. قال: [من أرفع خبز البلد أدمه، ولحماً عادة الموسرين بمحلهما] . فمرجع ذلك إلى العادة، وهذا الكلام من المؤلف إيضاح لما جرت العادة به عندهم. قال: [وما يلبس مثلها من حرير وغيره، وللنوم فراش ولحاف وإزار ومخدة، وللجلوس حصير جيد وزلي] . الزلي: نوع من الحصر. وهذا كله لما جرت العادة عندهم به. وأما نحن فيختلف الأمر عندنا فالأرز واللحم أرفع القوت وما يتبع ذلك من فواكه وخضروات ونحوها وغرف النوم وما يتبعها والمساكن أيضاً. فالمقصود: أن لها أرفع المساكن وأرفع المطاعم وأرفع الفرش وأرفع الألبسة. قال: [وللفقيرة تحت الفقير من أدنى خبز البلد وأدم يلائمه وما يلبس مثلها وما يجلس عليه] . وما قوله [يلائمه] أي يلائم الحال. قال [وللمتوسطة مع المتوسط، والغنية مع الفقير وعكسهما ما بين ذلك عرفاً] . فإذا كانت متوسطة مع متوسط، أو هي غنية وزوجها فقير، أو هي فقيرة وزوجها غني فحينئذ يكون الوسط لأن الاعتبار بحال الزوجين معاً. هذا هو المشهور في مذهب الإمام أحمد. وقال المالكية والأحناف، بل الاعتبار بحال الزوجة فإذا كانت الزوجةغنية فيجب على زوجها أن يكسوها وأن يطعمها وأن يسكنها ما يكون للأغنياء وإن كان هو فقيراً او متوسطاً. وإن كانت فقيرة فينفق عليها نفقة الفقراء ولو كان غنياً. قالوا: لحديث: (خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف) . وقال الشافعية وهو قول في مذهب الإمام أحمد: إن الواجب أن ينظر إلى حال الزوج فإن كان الزوج موسراً فنفقة موسر، وإن كان معسراً فنفقة معسر، وإن كان متوسطاً فنفقة متوسط. واستدلوا: بقوله تعالى: ((لينفق ذو سعة من سعته ومن قدر عليه رزقه فلينفق مما آتاه الله)) .

وهذا القول هو القول الراجح وهو ظاهر القرآن وأما حديث هند بنت عتبة، فهي قضية عين، وأبو سفيان رضي الله عنه كان من الأغنياء. قال: [وعليه مؤنة نظافة زوجته] . فما يكون من ماء يحتاج إليه للنظافة أو سدر وغيره من أدوات التنظيف وأجره الماشطة والمشط ونحو ذلك مما تحتاج إليه في التنظيف فإنه يجب على الزوج وذلك لجريان العادة به. وعللوا هذا أيضاً بتعليل فيما يظهر لي أنه ضعيف فقالوا: إنها كالدار المستأجرة، فكما أن المستأجر يجب عليه أن ينظف داره فكذلك يجب عليه أن يقوم بمؤنة تنظيف زوجته وهذا فيما يظهر لي تعليل ضعيف. قال: [دون خادمها] . فالخادم الذي يكون للزوجة لا يجب على الزوج أن ينفق عليه للتنظيف وذلك لأن التنظيف غير مراد فيه. وقيل: بل يلزم، والأظهر: أن هذه المسألة راجعة إلى العرف فإن حكم العرف بذلك وجب وإلا فلا. ويجب على الزوج إن كانت المرأة من جرت العادة والعرف بأن يخدم مثلها فيجب عليه الخادم، كأن تكون من ذوي الأقدار العالية أو أن تكون مريضة، تحتاج إلى من يخدمها وهذا لقوله تعالى: ((وعاشروهن بالمعروف)) ولا شك أن هذا من المعروف. فإذا كانت من يخدم مثلها بأن تكون من ذوي الأقدار أو أن تكون مريضة فيجب عليه أن يخدمها. فإن قالت المرأة: أنا أخدم نفسي وأعطني الأجرة، فهل يجب عليه ذلك؟ الجواب: لا يجب عليه ذلك، وذلك لأن الأجرة عليه فكان الخادم له دية، ولأن إخدامها يوفر هذه المرأة لحقوق زوجها وأيضاً فيه إعلاء لقدرها وفيه توفير لها لزوجها لتقوم بحقوقه. ولا يجب عليه أن يملكها الخادم بل يجب عليه أن يأتي بمن يخدمها وإن لم يكن ذلك على سبيل التمليك. وفي قوله: [وعليه مؤنة نظافة زوجته] .

ظاهره أنه ليس عليه مؤنة تزيينها فليس عليه أن يعطيها مالاً للكحل أو لتزيين الوجه أو للبس الحلي أو للطيب ونحو ذلك مما تتزين به المرأة وهذا هو المذهب وذلك لأن حق الاستمتاع بالمرأة له فلا يجب عليه ما يدعو إلى الاستمتاع بها والتزيين يدعوه إلى الاستمتاع بها. وهناك وجه في المذهب، إن ذلك واجب عليه. والذي يترجح أن هذه المسألة راجعة إلى العرف وكون ذلك يراد للاستمتاع ليس ذلك مختصاً بالاستمتاع بل المرأة أيضاً نحتاج إلى التزين وإن كان هذا ليس للزوج فإنها تحتاج للتزيين والتجمل عند بنات جنسها. قال: [لا دواء وأجرة طبيب] . لا يجب عليه أن يعطيها مالاً لطبيب استأجرته، ولا أن يدفع لها مالاً لتشتري به الدواء. قالوا: لأن ذلك من الحاجيات غير المعتادة، وإنما يكون لعارض وعلله بعضهم بتعليل ضعيف وهو أن يقال: إن المرأة كالدار المستأجرة فإذا فسد شيء من الدار المستأجرة كأن يسقط شيء من أطرافها فلا يجب عليه أن يصلح ذلك. ولا شك أن هذا تعليل ضعيف، فكيف تقاس المرأة بالدار المستأجرة وقد أمر الله بمعاشرتها بالمعروف. والقول الثاني في المسألة وهو قول في المذهب: وجوب ذلك على الزوج، وهو ظاهر. لأن ذلك من المعاشرة بالمعروف وقد قال تعالى: ((وعاشروهن بالمعروف)) فليس من المعاشرة بالمعروف أن تمرض المرأة فلا يأتي لها بطبيب ولا يدفع له أجره. وقد قال تعالى: ((ولهن مثل الذي عليهن بالمعروف)) . فالصحيح وجوب ذلك عليه. قال رحمه الله: " فصل " [ونفقة المطلقة الرجعية وكسوتها وسكناها كالزوجة] . فالمطلقة الرجعية لها النفقة ولها السكنى كالزوجة قال تعالى: ((لا تخرجوهن من بيوتهن ولا يخرجن إلا أن يأتين بفاحشة مبينة)) . ولأن الرجعية زوجة، وفي النسائي قال النبي - صلى الله عليه وسلم - من حديث فاطمة بنت قيس: (إنما السكنى والنفقة لمن تملك الرجعة) . قال: [ولا قسم لها] . كما تقدم في الكلام على القسم بين النساء في كتاب عشرتهن.

قال: [والبائن بفسخ أو طلاق لها ذلك إن كانت حاملاً] . البائن بفسخ كالمختلعة أو البائن بطلاق وهي من بُت طلاقها لها النفقة إن كانت حاملاً. لقوله تعالى: ((وإن كن أولات حمل فأنفقوا عليهن حتى يضعن حملهن)) . وفي مسند أحمد وسنن أبي داود في حديث فاطمة بنت قيس أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (لك النفقة إن كنت حاملاً) – وظاهر كلام المؤلف – وهو المذهب- أنه لا نفقة لها ولا سكنى إن لم تكن حاملاً، وهو الذي دل عليه حديث فاطمة بنت قيس ففي صحيح مسلم قالت طلقني زوجي ثلاًثاً فلم يجعل لي النبي - صلى الله عليه وسلم - سكنى ولا نفقة) وقد قال تعالى: ((لا تخرجوهن من بيوتهن ولا يخرجن)) وقال: ((لا تدري لعل الله يحدث بعد ذلك أمراً)) وهذا يدل على أن قوله: ((لا تخرجوهن من بيوتهن)) في الآية إنما هي في المطلقة الرجعية بدليل قوله: ((لا تدري لعل الله يحدث بعد ذلك أمراً)) أي رجعة، والمطلقة البائن لا يمكن أن يحدث أمر فقد بت طلاقها. قال: [والنفقة للحمل لا لها من أجله] . هذه النفقة التي تجب للمطلقة البائن الحامل، هي للحمل فقط لا لها من أجله، هذا هو المشهور في المذهب. قالوا: لأن النفقة تجب لوجوده أي الحمل، ولا تجب بعدمه، فدل ذلك على أن النفقة للحمل. وعليه: لو أنه لم ينفق عليها للحمل ومضى الزمن ولم تنفق هي بنية الرجعة ولم تستدن هي لتنفق على نفسها بنية الرجعة فإن النفقة تسقط لأن النفقة للحمل، والحمل ولد فحينئذ تكون من باب النفقة على الأقارب وليست من باب النفقة على الزوجات، والنفقة على الأقارب تسقط بمضى الزمان، فلو أن رجلاً لم ينفق على ابنه فإنا لا نأمره بأن ننفق عليه فيما مضى من الزمان إلا أن يكون قد أتفق عليه بنية الرجوع وعن الإمام أحمد رحمه الله: أن النفقة لها من أجله أي للحامل من أجل الحمل.

قالوا: بدليل أنها تجب عند اليسار والإعسار والنفقة على الأقارب لا تجب عند العسر بخلاف الزوجة فإنها تجب الإنفاق عليها في حال الإعسار واليسار. واختار شيخ الإسلام رحمه الله الجمع بين القولين، فقال: النفقة للحمل ولها، وهو الصحيح لأن العلتين المتقدمتين قويتان. وعليه فالراجح أنها للحمل ولها. والمعنى يدل على ذلك أما كونها للحمل فهو ظاهر لأن الحمل ولدله فالإنفاق على الحامل ينتفع به ولده. بل بقاء ولده موقوف على النفقة على الحامل. وأما كونه لها فلأنها تتكلف حمله وتلحقها المشقة في ذلك فكان لها أيضاً. إذن الصحيح، أنها له بدليل أن النفقة تسقط بعدمه وتجب بوجوده. وهو لها بدليل وجوب النفقة في الإعسار واليسار وعليه فتجب للناشز وعليه أيضاً لا تسقط بمضي الزمان لأنها لها ونفقة المرأة لا تسقط بمضي الزمان. قال: [ومن حبست ولو ظلماً أو نشزت أو تطوعت بلا إذنه بصوم أو حج أو أحرمت بنذر حج أو صوم أو صامت عن كفارة أو قضاء رمضان مع سعة الوقت، أو سافرت لحاجتها ولو بإذنه سقطت النفقة] . فالنفقة تسقط في هذه المسائل. أما المسائل الأولى، فلأن النفقة في مقابل تمكينها نفسها لزوجها وهنا لم تمكن نفسها له. وأما المسألة الأخيرة، وهي قوله (أو سافرت لحاجتها ولو بإذنه) فلأنها منعت نفسها منه بسبب من غير جهته. هذا هو المشهور في المذهب في هذه المسائل كلها. والقول الثاني في المسألة: وهو اختيار الشيخ السعدي وهو الصحيح في هذه المسألة، أن نفقة الزوجة لا تسقط إلا حيث نشزت أو عصت. وأما ما سوى ذلك فإنها لا تسقط وذلك لأن الأصل هو وجوب النفقة على الزوجة ولا دليل على إسقاطها ولا نسلم أن النفقة تجب في مقابل تمكينها نفسها له بدليل أن النفقة تجب للمريضة التي لا يستطيع زوجها أن يطئها وتجب للنساء، فليس هذا في مقابل تمكينها نفسها له بل تجب النفقة بالزوجية. وقول المؤلف: [أو صامت عن كفارة أو قضاء رمضان مع سعة الوقت] .

بخلاف ما لو كان الوقت غير متسع كأن تصوم القضاء من رمضان في آخر شعبان، فهنا لا تسقط نفقتها على المذهب وذلك عليها شرعاً. وقد تقدم أن الراجح عدم سقوطها مطلقاً إلا إذا نشزت أو عصت. قال: [ولا نفقة ولا سكنى لمتوفي عنها] . تقدم البحث في هذه المسألة وأن الراجح وجوب السكنى دون النفقة. قال: [ولها أخذ نفقة كل يوم من أوله] . للمرأة أن تأخذ نفقة كل يوم من أوله، فمثلاً: ما يكفيها من الأرز ومن الخبز ومن الأدم ونحو ذلك فإنها تأخذه من أول النهار وذلك لأنه أول وقت الحاجة. وهذا القول فيه نظر ظاهر وذلك لأن العادة لم تجر بمثل هذا بل يرجع في هذا إلى العرف والعادة. قال: [لا قيمتها] . فلا يجب عليه أن يعطيها القيمة، فلو قالت له: ((آخذها دراهم)) فإن ذلك لا يجب عليه. ولا أصل لتقويم الطعام بالدراهم لا في كتاب الله ولا في سنة رسول الله ولا في أقوال الصحابة ولا التابعين ولا أتباعهم ولا نص عليه أحد من أئمة الإسلام)) كما قرر هذا ابن القيم. قال: [ولا عليها أخذها] . فلو قال الرجل: أنا أعطيك الدراهم، فقدر لها مائة ريال في كل يوم، فلا يلزمها قبول ذلك. وهذا ظاهر وذلك لأن الواجب لها ما جرت العادة به، والعادة جارية بالطعام لا بقيمته. ولأنها تحتاج من يشتري لها بهذه الدراهم الطعام. قال: [فإن اتفقا عليه أو على تأخيرها أو تعجيلها مدة طويلة أو قليلة جاز] . إذا اتفقا على القيمة، أو اتفقا على تأخيرها بأن تأخذها في آخر السنة، أو اتفقا على تعجيلها بأن تأخذها في أول السنة، سواء كان هذا التعجيل أو التأخير مدة طويلة أو قليلة جاز ذلك. وذلك لأن الحق لهما فلا يعدوهما. قال: [ولها الكسوة كل عام مرة في أوله] . فالكسوة تجب في أول كل عام. وقيل في أول الصيف كسوة الصيف، وفي أول الشتاء كسوة الشتاء. والصحيح وهو قول في المذهب: أن ذلك يجب بقدر الحاجة وتبعاً للعرف.

"يقدر الحاجة"، بمعنى أنها لو لم تبل كسوتها فلا يجب عليه أن يعطيها في العام الجديد كسوة أخرى، ولو بليت كسوتها فيجب عليه أن يعطيها كسوة جديدة ولو كان ذلك قبل نهاية العام. فالصحيح أنها تجب بقدر الحاجة وهي تتبع العرف، وهو اختيار الشيخ السعدي، وذلك لقوله تعالى: ((وعاشروهن بالمعروف)) فمرجع هذه المسائل على العرف. قال: [وإذا غاب ولم ينفق لزمته نفقة ما مضى] . رجل غاب سنة عن امرأته فلم ينفق عليها فيجب أن يعطيها نفقة ما مضى وهي نفقة سنة أو نفقة سنتين أو نفقة ثلاث سنين. وهذا ظاهر وذلك لأن النفقة تجب لها مع الإعسار واليسار فلم تسقط بمضى الزمان، فهي حق لها كالأجرة، تجب مع الإعسار واليسار فلم يسقط ذلك بمضى الزمان. قال: [وإن انفقت في غيبته من ماله فبان ميتاً غرّمها الوارث ما أنفقته بعد موته] . امرأة غاب زوجها فأنفقت في غيبته من ماله فبان ميتاً فإن الوارث يغرمها ما انفقته بعد موته وذلك لتبين عدم استحقاقها لأنها بموت زوجها لا نفقة لها. وعليه فللوارث أن يغرفها ما مضى. وتقدم أن الصحيح أن المتوفي عنها زوجها لها السكنى والنفقة وعليه فالنفقة مدة اعتدادها في بيت زوجها واجبة في تركته. [يراجع هذا الترجيح بناء على ماسبق] . مسألة: لو أن رجلاً انفق على مطلقته البائن يظنها حاملاً فبانت حائلاً أي ليست بحامل، فله أن يرجع في النفقة وذلك لتبين عدم استحقاقها. والعكس فلو أنه لم ينفق عليها يظنها حائلاً فبانت حاملاً فإنها ترجع إليه بالنفقة وذلك لتبين استحقاقها. قال رحمه الله: [فصل: ومن تسلم زوجته أو بذلت نفسها ومثلها يوطأ وجبت نفقتها] . ذكر المؤلف شرطين لوجوب النفقة على الزوجة:- الشرط الأول: التسليم، والمراد به التسيلم التام وذلك بأن تبذل المرأة نفسها لزوجها. فإن امتنعت من ذلك أو امتنع وليها أو تساكتاً بعد العقد أي الزوجان فلم تبذل ولم يطلب فلا نفقة وهذا الشرط لا خلاف فيه بين أهل العلم.

الشرط الثاني: أن تكون هذه المرأة ممن يوطأ مثلها أي من حيث السن، وهذا شرط عند جمهور أهل العلم وهي في المشهور في المذهب، بنت تسع سنين. والصحيح ما تقدم: وأن السن غير مؤثر هنا بل متى كانت المرأة يمكن وطؤها سواء كانت بنت ثمان سنين أو بنت تسع أو بنت عشر أو بنت أثنى عشرة سنة وهذا يختلف باختلاف النساء واختلاف الطبائع. فالصحيح أن هذا لا ارتباط له بالسن وهو قول في المذهب فلو بذلت نفسها أو بذلها أولياؤها وهي صغيرة لا يوطء مثلها فلا نفقة، هذا هو مذهب الجمهور وذلك لأن لها حالاً أخرى يمكنه أن يستمتع بها استمتاعاً كاملاً والحال الأخرى حيث كانت كبيرة. بخلاف ما لو كانت رتقاء أو عريضة أو نفساء أو حائض فإنه يجب عليه أن ينفق عليها عند جمهور العلماء. والقول الثاني في المسألة وهو قول الثوري وقول في مذهب أحمد أن المرأة إذا ثبت التسليم التام ببذلها نفسها أو ببذل الأولياء لها فإن النفقة تجب وإن كانت لا يوطء مثلها. وهذا هو القول الراجح في المسألة. وذلك لأن الأصل وجوب النفقة على الزوجة ولا تسقط لها. وتعذر الوطء لعجزها لا لمعصيتها ونشوزها. والمراد بالتام في قولنا التسليم التام، أن يكون التسيلم غير مقيد بقيد لم يشترط في العقد. فلو قالت المرأة لا أسلم نفسي لزوجي إلا في بيتي أو في بيت أبي أو في بلدي ونحو ذلك ولم يشترطا في العقد على ذلك فإن النفقة تسقط لأن التسليم ليس تسليماً تاماً. أما إذا كان التسليم تاماً أو كأن مقيداً لكنها قد اشترطت ذلك في العقد فحينئذ تجب النفقة ومثال ذلك مالو قيدته بشيء يشهد العرق به فإن النفقة تجب لها. قال: [ولو مع صغر زوج وجبه ومرضه وعنته] . وهذا ظاهر، لأن عدم الوطء من جهته وليس من جهتها وأما هي فقد سلمت المعوض له. قال: [ولها منع نفسها حتى تقبض صداقها الحال] . فللمرأة أن تمنع نفسها من زوجها بألا تمكنه من وطئها حتى تقبض صداقها الحال.

فالتسليم المتقدم: أن تسلم نفسها له في داره وأما المقصود هنا بمنع نفسها، أن تمنع نفسها من أن يطئها. وكذلك لها أن تمتنع من التسليم التام الذي يترتب عليه الوطء، لها ذلك حتى تقبض صداقها الحال. فلها أن تمنع نفسها حتى تقبض صداقها الحال وذلك لئلا تفوت عليها منفعة بضعها، فإنه إذا جامعها فقد فاتت عليها منفعة البضع بحيث لا يمكنها استدراك ذلك. وأما الصداق المؤخر المؤجل، فليس لها أن تمنع نفسها من زوجها حتى تأخذه وذلك لأن رضاها بتأجيله متضمن لرضاها بالوطء قبل تسلمه. قال: [فإن سلمت نفسها طوعاً ثم أرادت المنع لم تملكه] . فإذا سلمت امرأة نفسها طوعاً لا كرهاً فليس لها بعد ذلك أن تمتنع عن زوجها، قالوا: لأن هذا التسليم منها قد استقر به العوض وهو المهر برضا المسلم فلم تمكن من استعادة المعوض بعد ذلك كالمبيع. فإذا سلم صاحب السلعة، سلمها المشتري ولم يقبض الثمن بعد فإنه لا يمكن بعد التسليم من أخذ السلعة مرة أخرى فكذلك هنا فهذه المرأة قد سلمت نفسها لزوجها فأستقر بذلك المهر وكان ذلك برضا منها فلم تمكن بعد ذلك من الامتناع كالمبيع هذا مذهب الجمهور وهو أحد الوجهين في المذهب، وهو المشهور في المذهب. والقول الثاني في المسألة: وهو قول أبي حنيفة والوجه الثاني في المذهب أن المرأة لها أن تمنع زوجها من وطئها بعد لك. قالوا: لأن التسليم يوجبه عقد النكاح فلا فرق بين التسليم الأول والتسليم الثاني، فكما جاز لها أن تمتنع من التسليم الأول فلها أن تمتنع من التسليم الثاني. ويفارق هذا المبيع: بأن التسليم مستمر أي باستمرار وطئها. بخلاف المبيع أي السلعة فإنها حيث استلمت أصبحت ملكاً للمشتري في المرة الأولى. وأما هنا: فالانتفاع ببعضها مستمر فكان امتناعها بعد ذلك لحفظ حقها جائزاً لها. ولأنها إنما مكنت نفسها بناءً على أنه سيعطيها صداقها وقد منعها صداقها فكان لها أن تعود إلى الامتناع وهذا القول أظهر لقوة تعليله.

ولها حيث منعت نفسها بحق، لها النفقة فلو أن امرأة قالت: (لا أسلم نفسي لك حتى تعطيني صداقي الحال فلم يعطها فيجب عليه أن ينفق عليها في زمن الامتناع لأنه بحق والأصل وجوب النفقة على الزوجة وهنا المرأة لم تعص ولم تنشز وإنما امتنعت من الوطء لحفظ حقها وأخذ صداقها فكان هذا الامتناع بحق. قال: [وإذا أعسر الزوج بنفقة القوت أو الكسوة أو ببعضها أوالمسكن فلها فسخ النكاح] . إذا أعسر زوج المرأة بنفقة القوت أو بنفقة الكسوة أو ببعض ذلك أو كان ينفق عليها يوماً ويعجز في اليوم الآخر، أو عجز عن للمسكن فلها فسخ النكاح وإن كانت عالمة بإعساره قبل العقد. إذن للمرأة أن تفسخ النكاح بسبب عسر الزوج سواء كان هذا العسر طارئاً على الزوج أو كان معسراً أي بأن تكون عالمة بإعساره قبل الزواج، هذا هو مذهب الجمهور. واستدلوا بقوله تعالى: ((فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان)) وبقوله: ((ولا تمسكوهن ضراراً لتعتدوا)) . واستدلوا: بما روى الدارقطني عن سعيد بن المسيب أنه قال في الرجل لا يجد ما ينفق على امرأته قال: (يفارقها) فقيل له (سنة) فقال (سنة) وهذا مرسل صحيح. وقال الأحناف وهو اختيار ابن القيم واختاره من متأخري الحنابلة الشيخ عبد الرحمن بن سعدي، أن المرأة ليس لها أن تفسخ النكاح حيث اعسر الزوج. ومن باب أولى إذا كان معسراً في الأصل ثم نكحته وهي تعلم بإعساره ورضيت بذلك. واستدلوا: بأن الفقر كان كثيراً في عصر الصحابة رضي الله عنهم بل كان العسر أضعاف اليسر بل أضعاف مضاعفة ولم يمكن النبي - صلى الله عليه وسلم - امرأة قط من الفسخ بسبب عسر زوجها. قالوا: والعسر واليسر مطيتان يمتطيهما أكثر الناس فالناس يتقلبون بين عسر ويسر، فلو مكنت المرأة من الفسخ لحصل فساد كبير. قالوا: وقد قال تعالى: ((ومن قدر عليه رزقه فلينفق مما آتاه الله لا يكلف الله نفساً إلا ما آتاها)) . وهذا القول الراجح في المسألة.

إلا أن يكون ثمت ضرر على المرأة بأن تكون المرأة فقيرة غير قادرة على التكسب. أما إذا كانت المرأة غنية أو قادرة على التكسب من غير أن يترتب على ذلك أذىً لها فإنه ليس لها أن تفسخ وأما إذا كان هناك ضرر عليها بأن كانت فقيرة غير قادرة على التكسب فإنها لها الفسخ فقد قال - صلى الله عليه وسلم -: (لا ضرر ولا ضرار) وقد قال تعالى: ((ولا تمسكوهن ضراراً لتعتدوا)) . وأما أثر سعيد بن المسيب فليس فيه الفسخ مطلقاً فيحمل هذا على ثبوت الضرر. على أن الصحيح كما قرر ابن القيم، أنه موقوف على أبي هريرة حيث قال كما في البخاري: (والمرأة تقول اطعمني أو طلقني) ومثل هذا عن أبي هريرة ليس فيه أن لها حق الفسخ لكن فيه الخبر من أن المرأة تطالب بالطلاف أو الإنفاق. فالصحيح مذهب الأحناف وهو اختيار ابن القيم من أن المرأة لا تمكن من الفسخ حيث أعسر زوجها إلا أن يترتب على ذلك ضرر عليها فيدفع الضرر عنها بحق الفسخ لها. وأما إذا كانت غنية أو قادرة على التكسب فليس لها الفسخ وعليه فليس للزوج أن يمنعها من التكسب بل تمكن من ذلك. وظاهر كلام الفقهاء، أنها إن اختارت البقاء وصبرت على عسر زوجها فليس له أن يمنعها من التكسب مطلقاً ولو كانت غنية وذلك لأنها محبوسة عليه بشرط أن ينفق عليها لكن هذا القول فيه نظر، فلا يتبين أن المرأة تمكن من التكسب بلا إذن وليها ولو كانت غنية بل إذا كانت فقيرة فنعم، وأما إن كانت غنية فلا تمكن من ذلك إلا بإذن الزوج وذلك لوجوب طاعة الزوج وهذا الوجوب لا مسقط له، فحق الزوج على زوجته أن تطيعه وحيث كانت غنية فلا مسقط لهذا الحق. والمشهور في مذهب أحمد: أنها تمكن من الفسخ على الفور وعند الشافعية أنها تمكن من الفسخ على التراخي وضربوا لذلك ثلاثة أيام. وعند المالكية ضربوا لذلك شهراً. والصحيح أنها لا تمكن من الفسخ مطلقاً بل تلزم بالبقاء إلا أن يكون ثمت ضرر، فإن كان ثمت ضرر فإن ذلك على الفور ليدفع عنها الضرر.

قال: [فإن غاب ولم يدع لها نفقة وتعذر أخذها من ماله واستدانتها عليه فلها الفسخ بإذن الحاكم] . فإذا غاب الزوج ولم يدع لزوجته نفقة، وتعذر عليها أخذها من ماله، بأن يكون له محل أودار لها إبجاب أو نحو ذلك. وتعذر أن ستدين على زوجها فلها الفسخ بإذن الحاكم. وهذا بناءاً على المسألة المتقدمة فلها الفسخ أيضاً للإعسار لأن النفقة قد تعذرت. وقوله: " بإذن الحاكم" وذلك لأن هذه المسألة من المسائل المتنازع فيها فاشترط فيها إذن القاضي ليثبت الإعسار ثم يفسخ. والجمهور على أنه فسخ وليس بطلاق في المسألتين كلتيهما. فإذا فرق بين المرأة وزوجها لإعساره أو كونه غائباً ولم يترك لها نفقة فإن هذه الفرقة فسخ وليست بطلاق فلا تحسب تطليقة. وعليه فلا يرجع إليها إلا بعقد جديد، فمثلاً فسخت اليوم ثم تيسرت حاله فإنه لا يرجع إليها إلا بعقد جديد ولا تحسب عليه تطليقة. وهنا مسائل:- المسألة الأولى: أن المرأة إذا كان زوجها موسراً فلها إن ماطل، أن تأخذ نفقتها ونفقة خادمها ونفقة أولادها بالمعروف من غير إذنه ولا علمه. لقوله - صلى الله عليه وسلم -??لهند: (خذي?ما يكفيك وولدك بالمعروف) متفق عليه. وهكذا كل سبب ظاهر لا يحتاج إلى إثبات فكذلك كحق الضيف وغير ذلك من الحقوق الظاهرة، وحق القريب كأن يأخذ الابن من مال والده حيث كان الأب لا ينفق عليه وهكذا. وأما إذا كان السبب غير ظاهر بل يحتاج إلى إثبات كالدين فليس له أن يأخذ ذلك لقوله - صلى الله عليه وسلم -???أدّ الأمانة إلى من ائتمنك ولا تخن من خانك) . إذن الأخذ من مال الغير حيث كان له فيه حق:-

لا يخلو هذا الحق إما أن يكون ظاهراً أو خفياً فإذا كان حقك ظاهراً فلك أن تأخذ وإن لم يعلمه وإن كان خفياً فليس لك أن تأخذ إلا بإذنه وعلمه، فلو أن رجلاً أخذ منك ديناً ثم وضع عندك أمانة وكان قد كتم دينك أو ماطل فيه، فليس لك أن تأخذ من ماله الذي أئتمنك عليه، ليس لك أن تأخذ حقك منه وذلك لأن السبب خفي وليس بظاهر. وهكذا ما يعتقده بعض الناس من حقه في بيت المال، فيأخذ على سبيل الخفية وهذا لا يجوز. فعلى التسليم بثبوت حقه في ذلك - ولا يسلم - لو سلم لذلك فإن هذا وجه خفي فحينئذ يكون محرماً فقد قال - صلى الله عليه وسلم -???أد الأمانة إلى من أئتمنك ولا تخن من خانك) . فلا بد أن يكون السبب ظاهراً لا خفياً كما قرر هذا شيخ الإسلام ابن تيمية وغيره وهذه المسألة تسمى بمسألة الظفر أي الظفر بالحق. ?المسألة الثانية: ??????إذا مضى زمن لم ينفق فيه الرجل على امرأته فهل تسقط النفقة أم لا تسقط؟ الجواب: جمهور العلماء على أنها لا تسقط وهو الصحيح الذي يدل عليه أثر عمر بن الخطاب ففي البيهقي أن عمر كتب إلى أمراء الأجناد في رجال غابوا عن نسائم أن يأخذوهم بأن ينفقوا أو يطلقوا، فإن طلقوا بعثوا بنفقة ما حبسوا) إذن نفقة الزوجة لا تسقط بمضى الزمان. ??المسألة الثالثة: ??إذا اختلف الزوج وزوجته في النفقة فأنكرت المرأة النفقة ولا بينة لأحد منهما. فالمشهور في المذهب أن القول قول الزوجة لأن الأصل معها إذ الأصل عدم النفقة. والقول الثاني: وهو مذهب مالك واختيار شيخ الإسلام وتلميذه ابن القيم، أن القول قول الزوج إذا شهد له العرف وهو القول الراجح وذلك لأن الأصل الذي ذكره الحنابلة معارض بالظاهر، فالظاهر حين شكت الزوجة أن زوجها لا ينفق عليها فما تطعمه وأجرة، مسكنها وغير ذلك من الزوج، فحينئذ تعارض عندنا ظاهر الحال والأصل، وظاهر الحال أقوى من الأصل، هذا إذا شهد بذلك العرف.

وأما إذا لم يشهد بذلك العرف كأن لا يكون العرف على ذلك فنقول بالأصل وهو ما تقدم. " باب نفقة الأقارب" ?????قال: [تجب أو تتمتها لأبويه وإن علوا، ولولده وإن سفل حتى ذوي الأرحام منهم] . ?أجمع أهل العلم على وجوب النفقة على الوالدين ووجوب النفقة على الولد. قال تعالى: ((وبالوالدين إحساناً)) . قال - صلى الله عليه وسلم -????أفضل ما يأكل الرجل من كسبه، وإن ولده من كسبه) . وفي الصحيحين أن النبي - صلى الله عليه وسلم -?قال لهند بنت عتبة: (خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف) . إلا أن مالكاً لم يوجبها إلا أن يكون الوالد والداً على المباشرة وكذلك الولد، وأما مع الواسطة كالجد أو الجدة أو ابن الابن أو بنت الابن ونحوهم فإن الإمام مالك لم يوجب ذلك. والصحيح ما ذهب إليه الجمهور لظاهر الأدلة: (وبالوالدين إحساناً) فالجد والد والجدة والدة، ??خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف) . فإبن الابن ولد، وبنت الابن بنت وهكذا. ?وقد قال - صلى الله عليه وسلم -????إن ابني هذا سيدُ) قال أبو بكر وكما في صحيح البخاري: "الجد والد" إذن النفقة واجبة على الوالدين وإن علو وعلى الأولاد وإن نزلوا حتى ذوي الأرحام منهم. فمثلاً: أم أب الأم هذه من ذوي الأرحام، وهي تجب لها النفقة وبنت البنت من ذوي الأرحام كما تقدم في كتاب الفرائض فتجب لهم النفقة وإن كانوا من ذوي الأرحام أي ليسوا من ذوي الفرض ولا التعصيب. فلا يشترط في النفقة على الأصول، (وهم الوالدان وإن علوا) ولا الفروع (وهم الأولاد وإن نزلوا) لا?يشترط الإرث فسواء كانوا وارثين أم لم يكونوا كذلك فإن النفقة واجبة عليهم لعمومات الأدلة الشرعية وقد تقدم بعضها. قال: [حجبه معسر أو لا] . ????سواء حجبه معسر أو لا، وذلك لأن الإرث ليس بشرط.

فمثلاً: إذا كان له جد أو أب وأبوه معسر فتجب عليه النفقة وإن كان ليس بوارث، فالوارث هنا هو الأب، فإن ابن الابن لا إرث له مع الابن، فهنا يجب عليه أن ينفق على جده وإن كان الأب موجوداً وهو الوارث وذلك لأن الإرث ليس بشرط. أو لم يحجبه: كأن يكون له جدً أب أب ويكون أبوه ميتاً وذلك لما تقدم لأن الإرث ليس بشرط. فالمقصود: أنه سواء كان محجوباً بمعسر أم لم يكن كذلك فالنفقة واجبة. فالقاعدة: أن النفقة على الأصول والفروع واجبة سواء كانوا وارثين أم لم يكونوا كذلك. قال: [ولكل من يرثه بفرض أو تعصيب لا برحم سوى عمودي نسبه] . ??عمود: النسب هما الأصول والفروع. فالنفقة واجبة لكل من يرثه بفرض أو تعصيب لا برحم سوى عمودي النسب. فقد تقدم الكلام على عمودي النسب. وهنا الكلام فيما سوى عمودي النسب من الحواشي والولاء هنا يقول: تجب لكل من يرثه بفرض أو تعصيب لا برحم فالقاعدة في الحواشي: أن النفقة واجبة بشرط الإرث، فإن كنت ترثه لو مات فيجب عليك أن تنفق عليه، وإلا فلا. ???فمثلاً: له أخ وهذا الأخ له أبناء، فهنا لا يرث أخاه لوجود أبنائه فلا يجب عليه أن ينفق وأما إذا كان له أخ هو يرثه فإن النفقة واجبة له، إذن القاعدة في الحواشي أن النفقة واجبة بشرط الإرث أي بأن يكون المنفق يرث المنفق عليه. قال: [سواء ورثه الآخر كأخ أولاً كعمة وعتيق] . ????أي سواء كان الآخر وهو المنفق عليه يرث كأن يكون المنفق عليه أخاً. أو كان لا يرث كأن يكون عمه أو عتيقاً. فالشرط في وجوب النفقة هو أن يكون المنفق وارثاً للمنفق عليه، ولا ننظر هل يرث المنفق عليه، المنفق أم لا، بل سواء ورثه أم لم يرثه. هذا هو المشهور في مذهب الإمام أحمد. وقال الأحناف: وهو اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه ابن القيم، تجب النفقة للحواشي مطلقاً سواء كان المنفق وارثاً أم لم يكن وارثاً.

إذن الحنابلة لا يوجبون النفقة على الحواشي إلا إذا كان المنفق وارثاً فلا يوجبوها للخال ولا للأخ إذا كان له أبناء وهكذا. ويستدلوا بقوله تعالى: ((وعلى الوارث مثل ذلك)) . وأما الأحناف واختيار شيخ الإسلام وتلميذه ابن القيم فقالوا بوجوبها للخال وغيره من ذوي الأرحام. واستدلوا بعمومات الأدلة الدالة على وجوب النفقة على الأقارب قال تعالى: ((وبالوالدين إحساناً وبذي القربى)) وقال تعالى: ((وآت ذا القربى حقه)) . ?وقال - صلى الله عليه وسلم -?كما في الصحيحين لما قيل له: (من أحق الناس بصحابتي؟ قال: "أمك" قيل ثم من؟ قال: " أمك" قيل ثم من؟ قال: " أمك" قيل ثم من؟ قال: " أبوك ثم أدناك فأدناك". وفي الترمذي وأبي داود نحوه وفيه (ثم الأقرب فالأقرب) فهذه أدلة عامة بوجوب النفقة على الأقارب سواء كانوا وارثين أم لم يكونوا وارثين وهذا هو القول الراجح في المسألة. وأما قوله تعالى: ((وعلى الوارث مثل ذلك)) فهذا فيه أن الإرث سبب يقتضي النفقة وليس فيه أن الرحم لا يقتضي ذلك. وعليه فهناك سببان للنفقة: الإرث وقد دل عليه قوله تعالى: ((وعلى الوارث مثل ذلك)) . وهناك سبب آخر وهو الرحم دلت عليه الأدلة الشرعية. قال: [بمعروف] .???لقوله تعالى: ((وعلى المولود له رزقهن وكسوتهن بالمعروف)) فتجب النفقة بالمعروف. قال: [مع فقر من تجب له وعجزه عن تكسب] . ????هذا شرط لابد منه. فلا بد أن يكون المنفق عليه، فقيراً عاجزاً عن التكسب أما لو كان غنياً أو قادراً على التكسب أي يمكنه أن يصنع صنعة ونحو ذلك فلا تجب النفقة له لكن لو كان العمل الذي يعمله الأب لا يليق بالمسلم أن يترك أباه يعمله بأن يكون عملاً ممتهناً فيكد والده وهو غني قادر على التكسب فلا شك أن هذا من القطيعة وأنه من العقوق وأن ذلك لا يجوز. إذن: لابد أن يكون فقيراً ليس بيده مال حاصل ولا متحصل بصناعة أو غيره.

لكن مثل الوالد والوالدة لو قدرا على التكسب بمهنة ممتهنة عند الناس وهو قادر على أن ينفق عليهما وهما من ذوي الشرف أو دون ذلك فليس مناسباً لهما العمل به، فليس له أن يتركهما يعملان هذا العمل وذلك لأن هذا من عقوق الوالدين. قال: [إذا فضل عن قوت نفسه وزوجته ورقيقه يومه وليلته وكسوة وسكنى من حاصل أو متحصل] . هذا هو الشرط الثاني: وهو غنى المنفق، لا بد أن يكون المنفق غنياً وذلك بأن يكون له مال يفضل عن قوت نفسه وقون زوجته ورقيقه يومه وليلته إذن قال - صلى الله عليه وسلم -????كفى بالمرء إثماً أن يضيع من يقوت) . من حاصل: أي من مالٍ بيده. أو متحصل: كصنعة ونحوها. قال: [لا من رأس مال وثمن ملك وآلة صنعة] . فلا نأمره أن ينفق على قريبه من رأس ماله، كأن يكون له تجارة ومعاشه قائم على هذه التجارة فلا يأمره أن يأخذ من رأس المال لينفق على أقاربه. كذلك لا نأمره أن يبيع شيئاً من ملكه حيث يتضرر بذلك ولا أن يبيع آلة الصنعة، لقول النبي - صلى الله عليه وسلم -????لا ضرر ولا ضرار) . إذن: يشترط أن يكون المنفق غنياً وذلك بأن يكون حق المال الذي أوجبنا أن ينفقه على قريبه أن يكون فاضلاً عن قوته وقوت ولده وقوت زوجته وقوت رقيقه وأن يكون من مال حاصل أو متحصل فلا يكون من رأس ماله ولا من ثمن ملكه ولا من ثمن صنعته لحصول الضرر عليه بذلك. ومقتضى تعليلهم أنه لو لم يكن يتضرر بذلك كأن يكون له رأس مال، ورأس?المال فائض عن القدر المناسب كأن تكون هذه التجارة يكفيها عشرة آلاف وقد وضع فيها عشرين ألفا حينئذ يأخذ من رأس المال لأنه لا يتضرر. قال: [ومن له وارث غير أب فنفقته عليهم على قدر إرثهم] . الحنابلة: يشترطون في الحواشي أن يكون المنفق وارثاً للمنفق عليه. فالأب له حكم آخر، وأما من له وارث غير أب فإنه ينفق عليه على قدر إرثه. فالأب: ينفق وحده على أولاده لقوله - صلى الله عليه وسلم -?لهند: (خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف) .

فالأب يستقل بالنفقة فإنها واجبة عليه. وأما سوى الأب فإنه ينفق بقدر إرثه، وقد ضرب المؤلف لذلك مثالاً. ?فقال: [فعلى الأم الثلث، والثلثان على الجد] . فلو كان هناك فقير وله أم وجد، فإن ثلث نفقته تجب على الأم، والثلثان الآخران يجبان على الجد لأن إرثهم منه كذلك. قال: [وعلى الجدة السدس والباقي على الأخ] . ????فلو كان هناك فقير وله جدة وأخ، فإن سدس النفقة تجب على الجدة والباقي تجب على الأخ وذلك لأن إرثهم منه كذلك. وهنا مسألتان: المسألة الأولى: أن ما ذكره المؤلف هو المشهور في المذهب وأن الواجب أن تكون النفقة بقدر الإرث. والقول الثاني في المسألة وهو اختيار ابن القيم: أن النفقة مختصة بالعصبة. فالأم لا تنفق والجدة لا تنفق وهكذا، فالنفقة مختصة بالعصبة أي حيث كان هناك عصبة. في المسألة الأولى إذا كان هناك فقير وله أم وجد فإن النفقة لا تجب إلا على الجد، وهذا هو مذهب الشافعي ورواه أحمد وهو القول الراجح في هذه المسألة وذلك لأن الشارع لم يوجب النفقة على الأم بل أوجبها على الأب في قوله: (خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف) ، وهذا يدل على أن النفقة تختص بالعصبة وأما من ليسوا بعصبة فإن النفقة لا تجب عليهم. المسألة الثانية: أن المذهب أنه إن كان الباقون غير قادرين على النفقة فلا يجب عليه أن ينفق إلا بقدر إرثه. مثال هذا: لو كان هناك فقير وله أم وجد، فذكر المؤلف أنه يجب على الأم ثلث النفقة وعلى الجد الباقي. فإذا كان الجد معسراً لا مال له، والأم غنية، فلا يجب على الأم إلا الثلث، هذا هو المشهور في المذهب. وعن الإمام أحمد: أنه يجب على الكل، بمعنى إذا قسمنا النفقة على من يرثه من ذوي رحمه، فوجدنا أن بعضهم قادر وبعضهم غير قادر فإنا نوجب النفقة كلها على القادرين وهذا هو الصحيح وذلك لأن الأدلة العامة تدل على وجوب المواساة إنما تكون بالتمام، وأما أن يكون بالبعض فلا بل لابد أن يعطيه ما يكفيه.

قال: [والأب ينفرد بنفقة ولده] . دون أمه وهو قول الجمهور واختيار ابن القيم لقوله تعالى: ((وعلى المولود له رزقهن وكسوتهن بالمعروف)) ، ولقوله - صلى الله عليه وسلم -: (خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف) . قال: [ومن له ابن فقير وأخ موسر فلا نفقة له عليهما] . ????لو أن رجلاً له ابن فقير وأخ موسر، فلا نفقة له عليهما وذلك لأن الابن فقير فاختل فيه شرط وهو غنى المنفق وأما الأخ الموسر فلا تجب عليه النفقة في المشهور من المذهب، لأنه لا يرث فهو محجوب بالابن الفقير وقد تقدم أن الصحيح وجوب النفقة عليه من قبل الأخ. قال: [ومن أمه فقيرة وجدته موسرة فنفقته على الجدة] . ?فمن كانت أمه فقيرة وجدته موسرة، فإن نفقته تجب على الجدة مع أنها لا ترث مع الأم، وذلك لأن عمودي النسب لا يشترط فيهم الإرث، والجدة من عمودي النسب. قال: [ومن عليه نفقة زيد فعليه نفقة زوجته] . ??فإذا أوجبنا النفقة على الأب على ولده فكذلك ينفق على زوجته وذلك لأن هذا من تمام حاجته. وكذلك يجب عليه أن ينكحه إن كان قادراً على ذلك لأنه من تمام حاجته، وهذا هو المشهور في المذهب. قال: [كطئر لحولين] . ????الطئر: هي المرضعة. أي يجب الإنفاق على المرضعة لحولين: لقوله تعالى: ((والوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين لمن أراد أن يتم الرضاعة وعلى المولود له رزقهن وكسوتهن بالمعروف???إلى أن قال سبحانه: ((وعلى الوارث مثل ذلك)) . فإذا أرضعت امرأة ولده فإنه ينفق عليها. قال: [ولا نفقة مع اختلاف دين إلا بالولاء] . ?????هذا شرط ثالث في وجوب النفقة وهو اتفاق الدين فلا يجب عليه أن ينفق على أبيه الكافر ولا على ولده الكافر ولا أخيه الكافر. فيشترط اتفاق الدين في وجوب النفقة، إلا في الولاء وذلك لثبوت الإرث مع الولاء، فإذا كان عتيقه كافراً فإنه يجب عليه أن ينفق عليه، هذا هو المشهور في المذهب.

وقال الأحناف: وهو رواية عن الإمام أحمد بل تجب النفقة مع شرط اتفاق الدين إلا في عمودي النسب. فالأب ينفق?عليه وإن كان كافراً، والولد ينفق عليه وإن كان كافرا، وأما الأخ فلا ينفق عليه إلا أن يكون مسلماً. وقيل وهو قول في المذهب: بل لا يشترط مطلقاً اتفاق الدين وهذا هو القول الراجح وهو الذي تدل عليه عمومات الأدلة. وقد قال تعالى في عمودي النسب: ((وإن جاهداك على أن تشرك بي ما ليس لك به علم فلا تطعمهما وصاحبتهما في الدنيا معروفاً)) ، وهكذا قوله: ((وبالوالدين إحساناً)) وقوله ((وآت ذا القربى حقه)) فالأدلة عامة في الكافر والمسلم فيجب عليه أن ينفق على عمودي نسبه وعلى الحواشي وإن كانوا كفاراً. نعم: إذا كان من المحاربين للإسلام فإنه لا ينفق عليه وذلك لأن الحربي المقصود إتلاف نفسه لا إبقاؤه، والنفقة تحفظ نفسه فحينئذ الاتفاق عليه يخالف مقصود الشارع. قال: [وعلى الأب أن يسترضع لولده] . أي يجب على الأب أن يسترضع لولده لقوله تعالى: ((وإن تعاسرتم فسترضع له أخرى)) أي إن حصل التعاسر بين الأب وأم الطفل الرضيع، فسترضع له أخرى أي استرضعوا له أخرى. قال: [ويؤدي الأجرة] . لقوله تعالى: ((وعلى المولود له رزقهن وكسوتهن بالمعروف)) إلى أن قال: (وعلى الوارث مثل ذلك)) . فيجب على الأب أن يطلب مرضعة لولده ويدفع الأجرة لها. قال: [ولا يمنع أمه ارضاعه] . سواء كانت تحته أو بائناً منه فلا يحل له أن يمنعها من إرضاعه لقوله تعالى: (والوالدات يرضعن أولادهن)) ولأنها أشفق عليه فهي أحق به من غيرها. قال: [ولا يلزمها إلا لضرورة كخوف تلفه] . فلا يلزم الأم أن ترضع ولدها فليس ذلك واجباً عليها إلا أن يخاف تلفه، بمعنى أن يأبى قبول ثدي غير أمه فحينئذ يتحتم أن يرضع من أمه فيجب عليها أن ترضعه سواء كانت بائناً أو تحته، هذا هو مذهب جمهور العلماء.

والمسألة على الصحيح فيها تفصيل وهو أن يقال وأما إن كانت بائناً أي قد فسخت أو خلعت ثلاثاً فلا يجب باتفاق العلماء ويدل عليه قوله تعالى: ((وإن تعاسرتم فسترضع له أخرى)) أي أن حصل التعاسر بين أب الطفل وأمه فحينئذ سترضع له مرضعة أخرى. وأما إن كانت زوجة فكذلك عند الجمهور أي أنها لا تلزم بذلك فليس واجباً عليها. واختار شيخ الإسلام وهو قول ابن أبي ليلى من الفقهاء أن ذلك واجب عليها. واستدل بقوله تعالى: ((والوالدات يرضعن أولادهن)) وهذا خبر بمعنى الأمر. ولأن هذا هو العرف والصحيح ما ذكره شيخ الإسلام وأن الأم يجب عليها أن ترضع ولدها والجمهور على أن أم الطفل، وهي زوجة وأنها إن أرضعت فلها أن تطالب بالأجرة، وهذا هو قول ضعيف. وقد اختار شيخ الإسلام مع وجوبه على الأم عدم ثبوت الأجرة لقوله تعالى: ((وعلى المولود له رزقهن وكسوتهن بالمعروف وهي لها الرزق والكسوة بمقتضى الزوجية. قال: [ولها طلب أجرة المثل، ولو أرضعه غيرها مجاناً] . قال تعالى: ((فإن أرضعن لكم فأتوهن أجورهن)) وقال تعالى: ((فإن تعاسرتم فسترضع له أخرى)) . فإذا كانت أم الطفل بائناً منها فلا يجب عليها أن ترضعه إلا أن تخاف تلفه. وإن أرضعته فلها أن تطالب بأجرة المثل، ليست أجرة زائدة عن المثل، ولو كان هناك متبرع كأن تكون أم الزوج أو أخته تقول: أنا أرضع الطفل فلحق الأم في الرضاع تقدمها على هذه المتبرعة ولها الأجرة لما تقدم من قوله تعالى: ((فإذا أرضعن لكم فآتوهن أجورهن)) . قال: [بائناً كانت أو تحته] . تقدم الكلام عليه. قال: [وإن تزوجت آخر فله منعها من إرضاع ولد الأول] . فللزوج الثاني أن يمنع المرأة أن ترضع ولدها من الزوج الأول. وذلك لأن هذا أي الإرضاع يفوت استمتاعه بها. قال: [ما لم يضطر إليها] . فإذا اضطر الولد إليها كأن يأبى إلا ثديها فحينئذ يجب عليها أن ترضعه وليس لزوجها الثاني منعها من ذلك.

أو أن تكون شرطت ذلك في العقد كأن تقول وهي يعقد عليها على الزوج الثاني اشترط الإرضاع لولدي فالمسلمون على شروطهم. إذن: إذا أضطر الطفل إلى ذلك أو شرطت ذلك في العقد وإلا فإنه له أن يمنعها من إرضاع ولدها من الزوج الأول وذلك لتفويت تمام استمتاعه بها. هذا الفصل في النفقة على المملوك: قال: [وعليه نفقة رقيقه طعاماً وكسوة وسكنى] . على السيد نفقة رفيقه طعاماً وكسوة وسكنى بالمعروف ففي صحيح مسلم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (للملوك طعامه وكسوته ولا يكلف من العمل إلا ما يطيق) . والواجب أن تكون النفقة بالمعروف أي ما يليق بالمملوك وما تعارف الناس أنه نفقة للملوك. والمستحب أن يطعمه من جنس طعامه وأن يكسوه من جنس كسوته وأن يسكنه من جنس سكناه. ففي الصحيحين أن النبي - صلى الله عليه وسلم -?قال: (إخوانكم خولكم) - أي خدمكم - جعلهم الله تحت أيديكم، فأطعموهم مما تأكلون وألبسوهم مما تلبسون، ولا تكلفوهم ما يغلبهم فإن كلفتموهم فأعينوهم) . قال: [وألا يكلفه مشقاً كبيراً] . ????لقول النبي - صلى الله عليه وسلم -????ولا يكلفه من العمل إلا ما يطيق) لقوله: (ولا تكلفوهم ما يغلبهم فإن كلفتموهم فأعينوهم) . ???فلا يحل له أن يكلفه مشقاً كبيراً أي ما يكون فيه مشقة ظاهرة عليه. وله أن يؤدبه بالضرب غير المبرح إذا أذنب، وكذلك يجتنب الوجه قياساً على ضرب الزوجة والولد. وفي صحيح مسلم أن أبا مسعود ضرب غلاماً له فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -????اعلم أبا مسعود أن الله أقدر عليك منك على هذا الغلام) . فلا يحل ضربه إلا أن يذنب فيضرب ضرباً غير مبرح، أو يوبخه ويجتنب الوجه لنهي النبي - صلى الله عليه وسلم -?كما في صحيح مسلم وغيره عن ضرب الوجه. ?قال: [وإن اتفق السيد ورقيقه على المخارجة جاز] . والمخارجة: هي ما يجعله السيد على رقيقه كل يوم أو كل شهر أو كل سنة.

كأن يقول له: " اعمل واحضر لي في كل يوم عشرة دراهم، أو اعمل واحضر لي في كل شهر مائة درهم، أو اعمل واحضر لي في كل سنة ألف درهم وهكذا". وهي جائزة لما ثبت في الصحيحين أن النبي - صلى الله عليه وسلم -?حجمه أبو طيبة فأمر له النبي - صلى الله عليه وسلم -?بصاعين من طعام وكلم له أهله فوضعوا فيه من خراجه) . فهذا إقرار من النبي - صلى الله عليه وسلم -?على المخارجة فهذا يدل على جوازها. لكن لا تحل المخارجة حيث خشي عليه كأن يخارج المرأة التي لا صنعة لها فيؤدي إلى زناها أو يخارج الصبي فيؤدي ذلك إلى سرقته. ففي?موطأ مالك أن عثمان رضي الله عنه قال: (لا تكلفوا الأمة غير ذات الصنعة الكسب فإنكم متى كلفتموها كسبت بفرجها، ولا تكلفوا الصبي الكسب فإنه إن لم يجد سرق) . وظاهر كلام المؤلف - ولا نزاع في هذا كما ذكر صاحب الإنصاف ولم أر فيه خلافاً بين أهل العلم من غير الحنابلة- أن المخارجة لا تصح إلا حيث اتفقا على ذلك أي لابد من رضا الطرفين وهما السيد والعبد المملوك، وذلك لأن المخارجة عقد معاوضه فاشترط فيه الرضا كالكتابة، فكما أن العبد لا يلزم بالمكاتبة فكذلك لا يلزم الرقيق بالمخارجة لأنه عقد معاوضة. وله ما فضل، وإلا لما كان هناك فائدة من التقدير فإذا قال له: " اعمل واحضر لي في كل يوم عشرة دارهم" فمعنى ذلك أن ما فضل فهو للعبد وإلا فلا فائدة من التقدير. ويشترط في المخارجة أن يفضل للعبد ما ينفقه به على نفسه. كأن يقول له: " اخارجك على عشرة دراهم" وهذا العبد لا يكسب في اليوم إلا عشرة دراهم. قال: [ويريحه وقت القائلة والنوم والصلاة وجوباً] . فيريحه في وقت القائلة، والنوم في الليل، والصلاة المفروضة وذلك لدفع الضرر عنه، وقد قال- صلى الله عليه وسلم -????لا ضرر ولا ضرار) . قال: [ويركبه في السفر عٌقبةً] . ???????عقبة) أي نوبةً. ففي السفر يركبه عقبه أي تارة يمشي وتارة يركب وذلك لئلا يشق عليه ولئلا يكلفه ما لا يطيقه.

أي يركبهم تارة ويمشيهم تارة. قال: [وإن طلب نكاحاً زوجة أو باعه] . ????لقوله تعالى: ((وأنكحوا الأيامى منكم والصالحين من عبادكم وإمائكم)) . قال: [وإن طلبته أمة وطئها أو زوّجها أو باعها] . ????فإذا طلبت أمته النكاح فإنه يطؤها " أي السيد" ليدفع عنها ضرر شهوتها أو يزوجها أو يبيعها. ??فصل النفقة على البهيمة" قال: [وعليه علف بهائمه وسقيها وما يصلحها] . فيجب عليه علف بهائمه وسقيها وما يصلحها. لما ثبت في الصحيحين أن النبي - صلى الله عليه وسلم -?قال: (عذبت امرأة في هرة حبستها حتى ماتت فلا هي أطعمتها ولا هي أسكنتها تأكل من خشاش الأرض) . قوله " ما يصلحها" أي من دواء، ونحو ذلك. قال: [وألا يحملها ما تعجز عنه] . ????لما في ذلك من الضرر عليها. قال: [ولا يجلب من لبنها ما لغير ولدها] . لقوله - صلى الله عليه وسلم -????لا ضرر ولا ضرار) . ولا يلعنها لما ثبت في صحيح مسلم: أن النبي - صلى الله عليه وسلم -?كان في سفر فلعنت امرأة ناقة فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -????خذوا ما عليها وربوها فإنها ملعونة) . ويظهر لي أن هذا من باب التعزيز المالي. كذلك لا يحل له أن يسم بهيمة مع الوجه، أما في غير الوجه فلا بأس بذلك عند الحاجة إلى ذلك كأن يسمها ليميزها عن غيرها من البهائم أو أن يكون الفخذ من القبيلة أو العشيرة أن يكون لهم وسماً خاصاً لهم لكن لا يكون ذلك في الوجه بأن يكون على العتيق أو على صفحة الظهر ونحو ذلك. ويدل على ذلك ما ثبت في مسلم أن النبي - صلى الله عليه وسلم -????لعن من وسم الوجه وضربه ونهى عن ذلك) . قال: [فإن عجز عن نفقتها?أجبر على بيعها أو إجارتها أو ذبحها إن أكلت] . ???فإذا عجز عن نفقة دوابه وكانت مما يؤكل فإنه يخير بين ثلاث. إما أن يبيعها، وإما أن يؤجرها وإما أن يذبحها، وأما إن كانت مما لا يؤكل فإنه يخير بين: أن يبيعها أو يؤجرها.

فإن أبى ذلك فعل الحاكم الأصلح أي فعل القاضي ما هو الأصلح من بيع أو إجارة أو ذبح، وذلك لأن إبقاءها مع ترك الإنفاق عليها ظلم، والظلم تجب إزالته. مسألة: ???الصحيح أن الخصي أي خصي البهيمة لا بأس به وذلك لما فيه من تطييب اللحم ففيه مصلحة ومنفعة للآدمي. ??باب الحضانة" ???الحضانة: الحضن وهو: الصدر والعضدان وما بينهما. وأما اصطلاحاً: فهي حفظ صغير ونحوه عما يضره وتربيته بما يصلحه. قال رحمه الله: [تجب لحفظ صغير ومعتوه ومجنون] . ???فهي واجبة باتفاق أهل العلم، وذلك لأن في الحضانة إنجاءه من الهلكة فإن في عدم ذلك ضياعة وهلاكه، وهي واجبة لحفظ صغير ونحوه من معتوه ومجنون. قال: [والأحق بها أم] . ????فالأحق بالحضانة الأم، لقوله - صلى الله عليه وسلم -?فيما رواه أحمد وأبو داود بإسناد حسن أنه قال لأم: (أنت أحق به ما لم تنكحي) ، فالأم أحق بحضانته ما لم تنكح وسيأتي الكلام على ما إذا نكحت الأم. قال: [ثم أمهاتها القربى فالقربى] . الأم أحق من أم أم الأم. قال: [ثم أب ثم أمهاته كذلك ثم جد ثم أمهاته كذلك ثم أخت لأبوين ثم لأم ثم لأب] . فالأخت مقدمة في المذهب على الأخت لأب. قال: [ثم خالة لأبوين ثم لأم ثم لأب، ثم عمات كذلك] . أي عمه لأبوين ثم عمة لأم ثم عمة لأب. قال: [ثم حالات أمه ثم خالات أبيه ثم عمات أبيه ثم بنات إخوانه وأخواته ثم بنات أعمامه وعماته ثم بنات أعمام أبيه وبنات عمات أبيه ثم لباقي العصبة الأقرب فالأقرب] . ??فبعد ذلك يكون لباقي العصبة الأقرب فالأقرب، فالأخوة مقدمة على العمومة. قال: [فإن كانت أنثى فمن محارمها] . ????فإذا كانت المحضونة أنثى فيشترط أن يكون الحاضن من محارمها. فإذا كانت أنثى قد تم بها سبع سنين فيشترط أن يكون الحاضن من محارمها سوى ابن عمها، فإن لم يكن من محارمها فإنه يدفعها إلى امرأة ثقة تقوم بشأنها أو يدفعها إلى نسائه، لكن لا يكون هو الحاضن المباشر لها ما لم يكن محرماً لها.

قال: [ثم لذوي أرحامه] . ????ثم بعد ذلك لذوي أرحام الأب وذوي أرحام للأم، للرحم التي ثبت معها الإرث. قال: [ثم لحاكم] . ?????لعموم ولايته، هذا كله هو المشهور في مذهب الإمام أحمد، وفيه أنهم يقدمون جهة الأمومة على جهة الأبوة، ولذا فإنهم يقدمون الخالة لأم على الخالة لأب، ويقدمون العمة لأم على العمة لأب، ويقدمون أم الأم على أم الأب، وهكذا. ?واستدلوا: بأن النبي - صلى الله عليه وسلم -?قال: (أنت أحق به ما لم تنكحي) فمقدم الأم على الأب، فدل على أن جهة الأمومة مقدمة على جهة الأبوة. وعن الإمام أحمد وهو اختيار شيخ الإسلام وتلميذه ابن القيم، أن جهة الأبوة مقدمة على جهة الأمومة. وعليه فالأخت لأب تقدم على الأخت لأم، والعمة تقدم على الخالة، وأم الأب تقدم على أم الأم وهكذا. وهذا هو القول الراجح في هذه المسألة، وذلك لأن قاعدة الشرع تقديم جهة الأبوة على جهة الأمومة في مسائل الإرث ومسائل النكاح?وغيرها ولا يعهد عن الشرع تقديم جهة الأمومة على جهة الأبوة ألبتة، كما قرر هذا ابن القيم. ولأن جهة الأبوة في الغالب أحرص على حفظ الطفل، لأن العار الذي يلحقه يلحق جهة أبوته لا جهة أمومتة، فالبنت مثلاً لو لحقها شيء في عرضها فإن الذي يتأثر بذلك إنما هم أقاربها?من جهة أبيها لا أقاربها من جهة أمها، ولا شك أن هذا يؤوي إلى حرص عظيم على الشرف وعلى غير ذلك. وأما الاستدلال بقوله - صلى الله عليه وسلم -????أنت أحق به ما لم تنكحي) فقد قدم الأم على الأب. فيجاب عنه أن يقال: نعم الأم تقدم على الأب، والعمة تقدم على العم، كذلك الخالة تقدم على الخال وبنت العم تقدم على ابن العم وهكذا، لا لأن جهة الأمومة مقدمة على جهة الأبوة ولكن لأن الأنثى مقدمة على الذكر، فإذا كانت جهة القرب واحدة والدرجة واحدة فإن الأنثى مقدمة على الذكر.

ففي الحديث الجهة واحدة وهي جهة الأبوة، وقد قدمت الأم على الأرب لمعنى الأنوثة فإن المرأة أقوم بمقاصد الحضانة وأشفق على الطفل وأصبر عليه، فلذا قدمت الأنثى. ويحصل على القول الأول اضطراب كثير وتناقض ظاهر كما قرر هذا ابن القيم رحمه الله تقريراً طويلاً في زاد المعاد فقد أفاض بذكر الاضطراب في مذاهب أهل العلم الذين يقدمون جهة الأمومة على جهة الأبوة. ونحتاج إلى الجواب عن قوله - صلى الله عليه وسلم -????الخالة بمنزلة الأم) والحديث ثابت في الصحيحين حيث تنازع في ابنة حمزة ثلاثة، على بن أبي طالب، وزيد بن حارثة، وجعفر بن أبي طالب علي بن أبي طالب: ابن عمها، وجعفر بن أبي طالب ابن عمها، وزيد بن حارثة أخو حمزة من الرضاعة. وكان تحت علي فاطمة بنت ابن عم بنت حمزة، وكانت تحت جعفر بن أبي طالب أسماء بنت عميس وكانت خالة بنت حمزة، فقضى النبي - صلى الله عليه وسلم -?لجعفر بن أبي طالب وقال: " الخالة بمنزلة الأم". والجواب عن هذا: " أن هذه القضية ليس فيها منازعة عمه، فالمسألة قضية عين. وقوله - صلى الله عليه وسلم -????الخالة?بمنزلة الأم) ليس على ظاهره، بدليل أن الأب مقدم على الخالة، وبدليل أن أم الأم مقدمة على الخالة بالاتفاق ولو كانت الخالة بمنزلة الأم مطلقاً لما قدمت أم الأم عليها ولما قدم الأب عليها، فدل على أن الخالة بمنزلة الأم في هذه القضية أي القضية المتقدم ذكرها. فالصحيح ما تقدم وهو اختيار شيخ الإسلام من أن جهة الأبوة مقدمة على جهة الأمومة. قال: [وإن امتنع من الحضانة أو كان غير أهل انتقلت إلى من بعده] . إذا امتنع من له الحضانة، وله أن يمتنع لأن الحضانة حق له وليست حقاً عليه في أصح قولي العلماء، فحينئذ تنتقل الحضانة إلى من بعده.

وقد اختلف أهل العلم في الحضانة هل هي حق له أي للحاضن وعليه فله أن يتنازل عنها، وله أخذ الأجرة على خدمة الطفل إن كان له أب، كالأم تأخذ أجرة على حضانة ابنتها إن كانت مطلقة، أم هي حق عليه. والصحيح أنها حق له وليست حقاً عليه، بدليل قوله - صلى الله عليه وسلم -????أنت أحق به ما لم تنكحي) . ???والقولان هما قول في مذهب أحمد ومالك والراجح وهو اختيار ابن القيم وهو المشهور في المذهب أنها حق للحاضن وليست حقاً عليه، ولذا فله أن يتنازل لكن ليس معنى ذلك أن يستمر التنازل من شخص إلى آخر حتى يضيع الطفل، بل المراد، أن له أن يتنازل إلى من بعده حيث كان هناك من يقوم بالطفل، ولم يترتب على هذا التنازل تضييع واهلاك له. ??فإذا امتنع عن الحضانة أو كان غير أهل للحضانة كأن يكون فاسقاً أو كافراً أو رقيقاً فإنها تنتقل إلى من بعده، لأن من بعده أحق بها ممن يليه وهكذا. قال: [ولا حضانة لمن فيه رق] . ????فالحضانة لا تكون لمن فيه رق، فليس له حق في الحضانة في مذهب جمهور العلماء. وقال المالكية وهو اختيار ابن القيم وابن سعدي: إن له حقاً في الحضانة. قالوا: إذ لا دليل يدل على إسقاط حقه عنها. ولأنه أشفق من غيره فالأم إذا كانت رقيقة هي أشفق من الأب وإن كانت رقيقة. والأرجح في هذه المسألة هو قول الجمهور من أنه لا حضانه لمن فيه رق. وذلك لأن النبي - صلى الله عليه وسلم -?قال للمرأة: (أنت أحق به ما لم تنكحي) فأسقط حقها بالنكاح وذلك لحق الزوج فإن المرأة تشتغل بحق زوجها فكانت أحق به ما لم تنكح، وكذلك الرقيق مشغول بحق سيده ولا شك أن شغله بحق سيده أعظم من شغل المرأة بحق زوجها. قال: [ولا لفاسق] . فالفاسق وإن كان أباً فلا حق له في الحضانة. وذلك: لأنه لا يوثق بحضانته ولأن في حضانته ذريعة فساد الطفل وتربيته على مساوئ الأخلاق، فلم يكن للفاسق حق في الحضانة، هذا هو مذهب جماهير أهل العلم.

واختار ابن القيم وهو اختيار ابن سعدي من متأخري الحنابلة، أن الفاسق له حق في الحضانة وقد قيدوا هذا في كلامهم بالوالد وهذا هو الذي يقتضيه تعليلهم. قالوا: وهو عليه العمل المستمر في الأعصار والأمصار وأن الحضانة تكون للوالد أباً كان أو أماً وإن كان فاسقاً. ولأن الناس في عهد النبي - صلى الله عليه وسلم -?لم يكونوا يخلون من الفسق ومع ذلك فلم يثبت أن النبي - صلى الله عليه وسلم -?نزع الحضانة عن أحمد ممن ثبت فيه فسق، ولو كان هذا ثابتاً لنقل نقلاً بيناً ولأن الوالد وإن كان فساقاً أعظم شفقة على ولده من غيره. والذي يترجح لي من هذه المسألة والله أعلم، أن مرجع ذلك إلى نظر القاضي، إذا رأى القاضي أن هذا الفاسق وإن كان أباً رأى أن حضانته مؤثرة على الابن، وأن هناك من يقوم بالحضانة سواء كأن تكون له عمة أو يكون جد، أو أم أم أو أم أب، فحينئذ يأخذ الحق من الأب إلى غيره حيث رأى ذلك. وأما إن رأى أن المصلحة في إبقائه، وأن الأب مع فسقه فإنه يصونه عن مساوئ الأخلاق ويقوم بتربيته مع فسقه أو أن يكون في نقل الحضانة عن الأب إفساد له وتضييع له فحينئذ تكون المصلحة في إبقائه مع والده والله أعلم. قال: [ولا لكافر على مسلم] . فالكافر لا حضانة له على مسلم، لقوله تعالى: ((ولن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلاً)) . ولإن الكافر أبعد من استحقاق الفاسق، فالجمهور منعوا استحقاق الفاسق للحضانة فهذا أولى ولأن الفتنة بالأب الكافر أو الأم الكافرة عظيمة جداً فإن في ذلك فتنته عن دينه، وقد قال - صلى الله عليه وسلم -????فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه) . ولا شك أن هذا القول ظاهر. فعلى ذلك الكافر لا حضانة له، لا سيما بعد تمييزه أي حيث صار الطفل مميزاً وأصبح متعلم يتلقى ويتعلم ويربى وإلا فإن المنع ظاهر مطلقاً. قال رحمه الله: [ولا لمزوجة بأجنبي من محضون من حين عقد] .

لا حضانة للأم أو غيرها إن كانت متزوجة بأجنبي من المحضون. ومفهومه أن الأم وغيرها لا يسقط حقها في الحضانة إن تزوجت بقريب من الطفل المحضون، ويدل عليه ما تقدم من قوله - صلى الله عليه وسلم -????الخالة بمنزلة الأم) . ولأن القريب له حق في الحضانة وله شفقة للقرابة تحمله على رعاية الطفل. قال صاحب الفروع: ويتوجه إن كان الزوج ذا رحم وما هو ببعيد. ا. هـ. أي ليس هذا القول ببعيد وهو كما قال. فإذا تزوجت المرأة بذي رحم من المحضون كأن يتزوج المرأة، من ابن خالة زوجها أو ابن خالته ونحو هؤلاء من ذوي الأرحام فكذلك لا يسقط حقها من الحضانة وذلك لما تقدم لأن الرحم تحمله على رعاية هذا الطفل. وله حق في الحضانة كما تقدم، كما أن لهم شفقة تحملهم على رعاية الطفل. أما إذا تزوجت بأجنبي ليس بذي قرابة كما هو المشهور في المذهب وليس بذي رحم كما وجه صاحب الفروع فإن حقها في الحضانة يسقط. ويدل عليه قوله - صلى الله عليه وسلم -????أنت أحق به ما لم تنكحي) . وظاهر اطلاق المؤلف في قوله???ولا لزوجة بأجنبي) أنها إذا تزوجت بأجنبي فلا حق لها في الحضانة مطلقاً ولو رضي الزوج بأن تكون حاضنة لابنها. واختار ابن القيم واختاره أيضاً ابن سعدي: أن الأم أحق إذا رضي الزوج وهكذا كل من لها حق في الحضانة فهي أحق حيث كان الأمر كذلك أي إذا رضي الزوج. وذلك لأن حقها إنما سقط لحق الزوج فإذا رضي الزوج بإسقاط حقه في حضانة هذه المرأة فلا وجه لاسقاط حقها، وهذا هو القول الراجح. ?قال الشيخ عبد الرحمن بن سعدي: " وهو قياس المذهب في جميع الحقوق". قوله: [من حين العقد] . ?????فإذا تزوجت المرأة فإن حقها بالحضانة يسقط من حين العقد، فبمجرد ما يعقد عليها، فلا حق لها في الحضانة وهو ظاهر قول النبي - صلى الله عليه وسلم -????أنت أحق به ما لم تنكحي) وهذا هو مذهب الجمهور واختيار ابن القيم. وقال المالكية: بل يكون ذلك بالدخول فلا يسقط حقها إلا بالدخول.

وذلك لأن شغلها بزوجها إنما يكون حينئذ أي إذا دخل بها. ?والراجح هو الأول وهو مذهب الجمهور لظاهر قول النبي - صلى الله عليه وسلم -????أنتِ أحق به ما لم تنكحي) . ولأن العقد مظنة الإنشغال بأن تنشغل بالاستعداد لزوجها. ?قال: [فإن زال المانع رجع إلى حقه] . فإذا زال المانع رجع كل إلى حقه. فالفاسق إذا تاب رجع إلى حقه في الحضانة، والكافر إذا أسلم رجع إلى حقه في الحضانة’ والمرأة المزوجة بأجنبي إذا طلقت ولو كان الطلاق رجعياً رجع حقها في الحضانة، والعبد إذا اعتق رجع حقه في الحضانة. وذلك لوجود السبب وزوال المانع. قال: [وإن أراد أحد أبويه سفراً طويلاً إلى بلد بعيد ليسكنه وهو وطريقه آمنان فحضانته لأبيه] . ???إذا أراد أحد أبويه لغير اضطرار سفراً طويلاً وهو السفر الذي تقصر فيه الصلاة، إلى بلد بعيد ليسكنه فليس السفر لحاجة بل ليسكنه وهذا البلد وطريقه آمنان فإنه حضانته تكون لأبيه، فإذا أراد الأب أن يسافر، ولم يقصد الضرار لكن لو قصد الضرار بالمرأة كأن يكون الحق لها فيريد أن يسافر ليأخذ حقها فحينئذ يعاقب بنقيض قصده ولا يمكن من أخذ الأحق من صاحبه بهذه الحيلة فإذا كان الحق للأم وأراد الأب أن يسافر سفراً طويلاً وهذا السفر يقصد منه سكنى البلد التي يسافر إليها، وتلك البلدة آمنة وطريقها آمن فحضانته لأبيه. كذلك?لو أرادت الأم أن تسافر إلى بلد لتسكنه وهذه البلدة آمنة وطريقها في السفر آمن فحضانته لأبيه. وذلك لأن الأب في بلد آخر وحينئذ فتكون الحضانة له. قالوا: لأن الأب هو الذي يؤدب ولده وهو الذي يحفظ نسبه فكان أولى بالحضانة، هذا هو القول الأول وهو المشهور في المذهب? والقول الثاني: وهو رواية عن الإمام أحمد: أن الحق للأم، وهو القول الراجح في المسألة.

لقوله - صلى الله عليه وسلم -????أنتِ أحق به ما لم تنكحي) والحديث فيه إطلاق فهي أحق به مطلقاً ما لم تنكح سواء سافرت إلى بلد آخر أم لم تسافر، سافر الأب أم لم يسافر فالحديث مطلق إلا أن تقتضي مصلحة الطفل ذلك مثلاً: أراد أن يطلق امرأته، وهي من بلد فيها فسق وفجور، فأرادت أن تسافر إلى بلدها وهذا يضر بالطفل، وقد يضيع نسبه فحينئذ لا تمكن من السفر. وتكون الحضانة للأب وذلك لمصلحة الطفل. إذن: الحق للأم ما لم تقتض المصلحة أن يكون الحق للأب. قال: [وإن بعد السفر لحاجة أو قرب لها أو للسكنى فلأمه] . إذا بعد السفر وكان للحاجة لا للسكنى أو كان السفر قريباً، أي سفر لا تقصر فيه الصلاة، وكان ذلك لحاجة كأن يسافر لتجارة أو أن تسافر الأم لعلاج ونحو ذلك فحينئذ تكون الحضانة للأم كما قال المؤلف هنا وهو قول في المذهب. والمشهور في المذهب: أنها تكون للمقيم منهما وذلك لما في السفر من الأضرار بالطفل. والراجح: أنها للأم وذلك لإطلاق قول النبي - صلى الله عليه وسلم -????أنتِ أحق به ما لم تنكحي) . فإذا سافر سفراً قريباً أي لا تقصر فيه الصلاة للسكنى، فإن الحق يكون للأم لقوله - صلى الله عليه وسلم -????أنتِ أحق به ما لم تنكحي) . فإذا سافر سفراً قريباً أي لا تقصر فيه الصلاة للسكنى، فإن الحق يكون للأم لقوله - صلى الله عليه وسلم -????أنتِ أحق به ما لم تنكحي) وهو المشهور في المذهب. قال: [وإذا بلغ الغلام سبع سنين عاقلاً خير من أبويه، فكان مع من أختار منهما] . إذا بلغ الغلام سبع سنين أي تم له سبع سنين فشرع في الثامنة فإنه يخير بين أمه وأبيه فكان مع من اختار منهما لما ثبت عند الخمسة وصححه الترمذي وهو كما قال أن امرأة قالت يا رسول الله إن زوجي يريد أن يذهب بابني وقد نفعني وسقاني من بئر أبي عنبه، فجاء زوجها، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -???يا غلام هذا أبوك وهذه أمك فخذ بيد أيهما شئت فأخذ بيد أمه فانطلقت به) .

هذا الحديث فيه أن الغلام إذا تم له سبع فإنه يخير بين والديه، والطفل لا يسمى غلاماً إلا بعيد التمييز إذا تم له سبع سنين والغلام يقال للذكر فإن اختار أباه كان عند أبيه ليلاً ونهاراً، لكن لا يمنعه من زيارة أمه لما في ذلك من العقوق. وإن اختار أمه فإنه يكون عندها ليلاً ويكون عند أبيه نهاراً ليعلمه ويؤدبه. وله أن يغير اختياره، فيختار أباه، بعد أن اختار أمه ويختار أمه بعد ذلك وهكذا وذلك لأن الاختيار هنا للتشهي لأنه قال: " فخذ بيد أبيهما شئت ". قال: [ولا يقر بيد من لا يصونه ويصلحه] . فلا يقر المحصنون بيد من لا يصونه ولا يصلحه ولو كان أباه وذلك لفوات مقصود الحضانة، فإن مقصود الحضانة رعاية الطفل وتأديبه والقيام بمصالحه ودفع المضار عنه، وإذا كان هذا لا يصونه ولا يصلحه فقد فات مقصود الحضانة. ولذا فإن ما تقدم من الترجيح لأحد الأبوين حيث كانت مصلحة الطفل ثابتة في حضانته عنده، أما إذا كان معطلاً للحضانة ولا يقوم بها وقد يكون يؤذي الطفل أو يفوت عليه بعض المصالح أو تكون عنده امرأة زوجة فتضر بنات ضرتها وتؤديهن ولا تقوم بما يصحلهن فإنها تنقل الحضانة إلى الأم فيكون المرجوح راجحاً. قال: [وأبو الأنثى أحق بها بعد السبع] . ?????فالتخيير المتقدم إنما هو في الغلام. وأما الأنثى فالأب أحق بها بعد السبع، فإذا تم للأنثى سبع سنين وشرعت في الثامنة فلا تخير وإنما تكون عند أبيها وذلك لأن الأب أحفظ لها وأغير عليها هذا هو المشهور في المذهب. ?والقول الثاني في المسألة وهو مذهب الجمهور وهو اختيار ابن القيم: أنها تكون عند الأم، وهذا هو الراجح. لقول النبي - صلى الله عليه وسلم -????أنتِ أحق به ما لم تنكحي) . والحديث فيه إطلاق وفيه عموم ولا يستثنى فيه إلا ما تقدم في الغلام، وأما الأنثى فهي?داخلة في قوله: (أنتِ أحق به ما لم تنكحي) . ولأن الأم أعلم بما يصلح ابنتها وأقوم بتربيتها وتعليمها ما تحتاج إليه من شؤون النساء.

فالأرجح أنها تكون عند الأم وهذا كما تقدم ما لم تكن الأم معطلة للقيام بالحضانة. أو تفوت عليها مصالح ونحو ذلك فحينئذ يرجح الأب. والأنثى لا تخير لوجهين:- الوجه الأول: ضعف الرغبة في البنت، بخلاف الغلام فإن الرغبة فيه قوية. فالبنت إذا اختارت أمها فإن هذا يقلل رغبة أبيها بها ويزهده بها، وكذلك إذا اختارت أباها فإن هذا يزهد أمها بها، بخلاف الغلام. الوجه الثاني: أن في تخييرها منافاة لكونها?تقر في بيتها، فإنها تختار من شائت وهذا يجعلها تنتقل من بيت أبيها إلى بيت أمها وهكذا. قال: [ويكون الذكر بعد رشده حيث شاء] . فالذكر بعد أن يبلغ ويرشد يكون حيث شاء، فإن شاء عند أمه وإن شاء عند أبيه، وذلك لأنه لا حضانة عليه. فهو الذي يقوم بشأن نفسه. قال: [والأنثى عند أبيها حتى يتسلمها زوجها] . ????فالأنثى تبقى عند أبيها حتى يتسلمها زوجها، وهذا على القول المتقدم، من أن الأنثى أبوها أحق بها. والصحيح أن الأنثى أمها أحق بها بعد السبع وعليه فتكون عند أمها حتى تتزوج.

كتاب الجنايات، والديات

(كتاب الجنايات) الجنايات: جمع جناية، والجناية في اللغة: هي التعدي على مالٍ أو عرضٍ أو بدن. فالسرقة جناية لأنها تعدٍ على المال، والزنا جناية لأنه تعدٍ على العرض، والقتل جناية لأنه تعدٍ على البدن. وأما في الاصطلاح: فهي التعدي على البدن خاصة بما يوجب القود "أي القصاص" أوالدية. - وقتل النفس من أكبر الكبائر، قال تعالى: ((وما كان لمؤمن أن يقتل مؤمناً إلى خطئاً،، إلى أن قال سبحانه- ومن يقتل مؤمناً متعمداً فجزاؤه جهنم خالداً فيها)) الآية. وذلك من كبائر الذنوب وليس كفراً أكبر بإجماع أهل العلم، قال تعالى: ((إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء)) . ويدل عليه من السنة إقامة الحد على القاتل كما أنه دليل من الكتاب والإجماع، ولا تقام الحدود إلا على المسلمين. وأيضاً يدل عليه حديث من قتل مائة نفسٍ، وهو حديث متفق عليه وهو حديث مشهور. ويدل عليه ما ثبت في الصحيحين أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (بايعوني على ألا تشركوا بالله شيئاً ولا تسرقوا ولا تزنوا ولا تقتلوا أولادكم ولا تأتوا ببهتانٍ تفترونه بين أيديكم وأرجلكم ولا تعصوا في معروفٍ فمن وفّى فأجره على الله، ومن أصاب من ذلك شيئاً فعوقب في الدنيا فهو كفارة له، ومن أصاب من ذلك شيئاً وستر الله عليه فهو إلى الله إن شاء عذبه وإن شاء غفر له) . إذن: لا يكفر وتوبته تقبل بإجماع أهل العلم، خلافاً للخوارج في التكفير، وخلافاً للمعتزلة في أن توبته لا تقبل، ولا يصح هذا القول لا عن ابن عباس ولا عن غيره من الصحابة. * والقتل تتعلق به ثلاثة حقوق: 1) الحق الأول: حق الله تعالى في الاعتداء على حدوده فإن القتل من أعظم الاعتداء على حدوده سبحانه. 2) وحق للمقتول حيث أزهقت نفسه.

3) وحق لأوليائه، حيث أُفقدوا وليّهم، فإذا تاب إلى الله عز وجل سقط حق الله تعالى، وسقط حق الآدمي المقتول وعوّضه الله أجراً وثواباً في الآخرة، وأما حق الأولياء، فإنه ثابت في الدنيا فيخيرون بين الدية أو القصاص أو العفو. قال رحمه الله: [وهي عمد يختص القود به بشرط القصد، وشبه عمد وخطأ] . والقتل ثلاثة أنواع: 1) النوع الأول: عمدُّ. 2) النوع الثاني: شبه عمدٍ. 3) النوع الثالث: خطأ. وأضاف بعض أهل العلم، كالموفق في المقنع وهو قول أبي الخطاب من الحنابلة – قسماً رابعاً: وهو ما جرى مجرى الخطأ، كالنائم ينقلب على إنسان فيقتله أو من يقتل بالسبب كأن يحفر بئراً فيسقط بها إنسان فيموت، وهذا هو القسم الرابع ولا مشاحة في الاصطلاح إذ الحكم لا ينقسم إلى أربعة أقسام، بل ينقسم إلى ثلاثة أقسام اتفاقاً، فلا نزاع بين العلماء في أن النوع الثالث وهو الخطأ والنوع الرابع على القول بصحة التقسيم أن الحكم فيهما واحد، فالخطأ وما يجري مجرى الخطأ حكمهما واحد. أما العمد والخطأ فقد اتفق أهل العلم على القول بهما ونازع الإمام مالك في شبه العمد، والسنة حجة عليه، فقد ثبت في الصحيحين عن أبى هريرة قال: اقتتلت امرأتان من هذيل فضربت إحداهما الأخرى بحجر فقتلتها، وما في بطنها فقضى النبي - صلى الله عليه وسلم - أن دية الجنين غرة عبد أو وليدة، وقضى أن دية المرأة على عاقلتها، وهذا هو الشاهد، فإن هذا القتل ليس بخطأ، ومع ذلك فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - قد قضى بأن دية المرأة على العاقلة، وقتل العمد الديةُ على القاتل نفسه اتفاقاً لا على العاقلة، فكان قسماً ثالثاً لأنه ليس بخطأ ولا عمد. ويدل عليه أيضاً، ما ثبت عند الخمسة إلا الترمذي أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (ألا إن دية الخطأ شبه العمد، ما كان بالعصا والسوط مائة من الإبل منها أربعون في بطونها أولادها) .

والشاهد قوله "ألاّ إن دية الخطأ شبه العمد" قوله بعد ذلك "منها أربعون في بطونها أولادها" وهي الدية المغلظة، والدية المغلّظة تكون لشبه العمد، وأما الخطأ فديته، مخففة كما سيأتي. إذن: الصحيح ما ذهب إليه الجمهور، وأن القسم الثالث لأقسام القتل هو شبه العمد بدلالة السنة النبوية. قال: [فالعمد: أن يقصد من يعلمه آدمياً معصوماً فيقتله بما يغلب على الظن موته به] . فهو أن يقصد من يعلمه آدمياً، فليس بصيد ولا شاخصٍ، ولا غير ذلك "معصوم الدم" فليس من المحاربين للإسلام بل هو معصوم الدم. " فيقتله بما يغلب على الظن موته" إذن قصد هذا الآدمي معصوم الدم، وقتله بما يغلب على الظن موته به. كأن يرميه بسهم أو يضربه بسيفٍ ونحو ذلك مما يغلب على الظن أنه يقتله به. وضرب على ذلك أمثلةً فقال: [مثل: إن يجرحه بماله مرو] . مَوْر: أي له نفوذُ في البدن. [أو يضربه بحجرٍ كبير ونحوه] . لا بحجر صفير، لأن الحجر الصفر، لا يقتل غالباً، لكن لو كرر الضرب، أو كان المضروب مريضاً أو كبيراً أو صغيراً بحيث أن الحجر الصغير يقتله فكذلك. قال: [أو يلقي عليه حائطاً أو يلقيه من شاهق، أو في نارٍ أو في ماء يغرقه ولا يمكنه التخلص منهما] . أي لا يمكنه التخلص من النار والماء، لكن لو أمكنه التخلص ولم يفعل، كأن يكون ثمن يحسن السباحة ويقول: "ها أنت قد ألقيتني ولن أنجي نفسي وتكون بذلك قد قتلتني فيغرق" فإن يكون ذلك فدمه هدراً. قال: [أو يخنقه] . أي بحبلٍ ونحوه. قال: [أو يحبسه ويمنعه الطعام والشراب فيموت من ذلك في مدة يموت فيها غالباً] . أي يموت في ذلك الحبس أو المنع من الطعام في مدة يموت فيها غالباً. لكن لو مات بعد ساعة أو نصف ساعة أو نحو ذلك فإنه يعلم أنه لم يمت بسبب هذا الحبس. قال: [أو يقتله بسحرٍ أو بسَمٍّ] . وقوله "أو بسُمًّ" تصح بتثليث السين، أي بأن يطعمه السم. كذلك لو ألقاهُ في موضع فيه أسد أو حيَّة، فيقتله الأسد أو تنهشه الحية.

قال: [أو شهدت عليه بينة بما يوجب قتله ثم رجعوا وقالوا عمدنا قتله، ونحو ذلك] . فإذ شهدت عليه بيّنة بما يوجب قتله، كأن يشهد عليه اثنان أنه قد قتل، أو يشهد عليه أربعة أنه قد زنا وكان محصناً، أو يشهد عليه اثنان أنه سخر من الدين واستهزأ به، ثم رجعوا وقالوا: عمدنا قتله ونحو ذلك فحينئذ يكونون هم الذين قتلوه فيقام عليهم الحد، وذلك لأنهم قد قصدوا قتله بما يقتله غالباً وهي البينة. فإذا كان الولي، أي ولي المقتول عالماً بذلك، كأن يشهدوا على رجل أنه قد قتل زيداً من الناس، وهم كاذبون في ذلك، وولي زيدٍ يعلم كذب هؤلاء الشهود ومع ذلك فقد اختار القصاص على الدية، فإنه هو الذي يقام عليه الحد وذلك لأنه هو الذي باشر قتله. وإن كان الحاكم، أي القاضي يعلم كذب الشهود، فحكمه حكم البينة " أي حكم الشهود" إن كان الولي عالماً بذلك قتل الولي، فإن لم يكن عالماً فإن الحكم يثبت على القاضي وعلى البينة لأنهم هم الذي قتلوه. والدية عليهم على عددهم، فإن كانت البينة اثنين، فالدية أثلاثاً على القاضي الثلث، وعلى الشاهدين الثلثان وهكذا. قال: [وشبه العمد: أن يقصد جناية لا تقتل غالباً] . فيشترك هو والعمد: بأنه قد قصد الجناية، لكن في العمد بشيء يقتل غالباً، وأما في شبه العمد فإنه بشيء لا يقتل غالباً. قال: [ولم يجرحه بها] . هذا قول في المذهب، وفيه نظر كما سيأتي، ثم ضرب أمثلة، لقتل شبه العمد. فقال: [كمن ضربه في غير مقتل بسوط أو عصا صغيرة، أو لكزه ونحوه] . كأن يغرز فيه إبرة ونحو ذلك، فهذا قتل شبه عمد، فالجناية مقصودة لكن الذي تمّ به القتل لا يقتل غالباً، كالعصا، والحجرة الصغيرة والإبرة ونحو ذلك. وقيّده المؤلف هنا بقول "ولم يجرحه بها" وعليه فلو جرحه بها ولو كانت إبرة فخرج الدم ولو كان يسيراً، فإنه يكون قتل عمدٍ.

وهذا فيه نظر ظاهر، والراجح أنه وإن جرحه فهو قتل شبه عمد ما دام أن ذلك لا يقتل غالباً، وهو اختيار الشيخ عبد الرحمن بن سعدي، ولا دليل على إخراج هذه الصورة ما دام الضابط فيها وهو أن الجناية لا تقتل غالباً. لكن لو كررّ الضرب بالعصا، فمجموع هذا التكرار يجعل هذا الضرب مما يقتل غالباً، ولو غرز إبرة في قلبه، فإنه يقتل غالباً، أو كان طفلاً صغيراً، فضرب بحجر ونحوه فكذلك، وقتل شبه العمد لا قود فيه، فالقود باتفاق أهل العلم مختص بالعمد، أما قتل الخطأ وشبه العمد فلا قصاص فيه باتفاق أهل العلم. والدية في قتل العمد على القاتل نفسه، وأما في شبه العمد والخطأ فهي على العاقلة. والدية في شبه العمد مغلّظة، وفي الخطأ مخففة. قال: [والخطأ أن يفعل ماله فعله مثل أن يرمي صيداً أو غرضاً أو شخصاً غير معصوم الدم فيصيب آدمياً لم يقصده] . أن يفعل ماله فعله كأن يرمي صيداً، يصيب آدمياً أو يريد أن يتعلم الرمي أو يتمرس عليه فيرمي عرضاً شاخصاً فيصيب آدمياً فيقتله أو يرمي بسهمه على كافر محارب فيصيب السهم على بعض المسلمين. والخطأ إما أن يكون في القصد وإما أن يكون في الفعل، فالخطأ في القصد، أن يقصد القتل لكنه يخطئ في ذلك، فهو يقصد آدمياً غير معصوم فيصيب آدمياً معصوماً. وأما الخطأ في الفعل: فهو أن يقصد رمي شاخص أو رمي صيد فيتخطى، فيصيب آدمياً. فإذا رمى فأخطأ في فعله أو أخطأ في قصده فأصاب آدمياً فقتله فهذا هو قتل الخطأ، لا قصاص فيه، وفيه الدية المخففة. قال: [وعمد الصبي والمجنون] . فعمد الصبي والمجنون خطأ، باتفاق أهل العلم فإذا قتل الصبي متعمداً، وكذلك المجنون فهو في حكم الخطأ، وذلك لأنهما لا قصد لهما، فأشبه هذا المكلف المخطئ، فكما أن المكلف المخطئ قتله قتل خطأ لأنه لا قصد له فكذلك المجنون والصبي إذا قتلا فقتلهما قتل خطأ ففيه الدية والكفارة، فالدية تكون في مال العاقلة وأما الكفارة فهي في مالهما ولا قود ولا قصاص.

والفرق بين قتل الخطأ وبين العمد وشبه العمد هو أن قتل الخطأ لا تقصد فيه الجناية. وأما العمد وشبه العمد فالجناية مقصودة. والفرق بينهما أي بين العمد وشبه العمد أن العمد تقصد الجناية بما يقتل غالباً، وأما شبه العمد فيما لا يقتل غالباً. قال: [تقتل الجماعة بالواحد] . لما ثبت في البخاري: أن عمر بن الخطاب، قتل سبعة من أهل صنعاء قتلوا رجلاً واحداً، وقال لو تمالئ عليه أهل صنعاء لقتلتهم به، ولا يعلم لعمر مخالف، وهو قول مشتهر فكان إجماعاً، وفي ذلك سد لذريعة سفك الدم الحرام، فإنه لا يعجز الجماعة عن قتل الشخص الواحد فيدفعون عن أنفسهم الحد بذلك حيث لم نقل بقتل الجماعة بالواحد. وهذا الحكم حيث كان فعلُ كل واحدٍ منهم يوجب القصاص لو أنفرد. كأن يجتمعوا على ضربه بسيوف، كل واحدٍ منهم لو انفردت ضربته لقتلت. أو أن يجتمعوا على ضربه بالحجر الكبير بحيث أن ضربة كل واحدٍ منهم لو انفردت لأوجبت القصاص. وأما إذا اجتمعوا على ضربه بما لا يقتل غالباً كأن يجتمعوا على ضربه بحجارة صغيرة فمات من ذلك فإن ذلك لا يوجب القصاص ما لم يتمالؤا على ذلك، كأن يضربه هذا بعصا وهذا بحجرة صغيرة وهكذا وهم قد تمالؤا على مثله فإن هذا يوجب القود، وذلك سداً لذريعة درء القصاص، أي لئلا يتطرق من هذا إلى الهروب من القصاص بإجماع طائفة من الناس على قتل رجلٍ بما لا يقتل غالباً. قال: [وإن سقط القود أدوا دية واحدة] . إذا اجتمع سبعة على قتل رجلٍ واحدٍ وكان فعل كل واحدٍ منهم يوجب القصاص بمفرده، فإن هؤلاء السبعة يقتلون، فإن اختار الولي الدية، فإنها تجب دية واحدة عل الجميع، وذلك لأن النفس واحدة والقتل واحد فلم يجب إلا ديةً واحدة. قال: [من أكره مكلفاً على قتل مكافئة فقتله فالقتل أو الدية عليهما] .

إذا أكره مكلفُ على قتل مكافئه، " أي مكافَئه في الدين والحرية، والرق، وسيأتي الكلام على المكافئة" فقال: إن لم تقتل بكراً فإني قاتلك أو ساجنك أو متلف مالك، فالقتل أو الدية عليهما جميعاً أي على المكرِه والمكَره. أما المكرِه: فلأنه تسبب بما يقتل غالباً، حيث أكره هذا المكلف القادر على القتل، أكرهه على القتل. وأما المكرَه: فلأنه مباشر للقتل على غيره في إبقاء نفسه، هذا هو المشهور في مذهب أحمد وغيره وفبه قوه لئلا يتذرع من يريد القتل بقتله عن طريق بعض الناس الذين لا قيمه للحياة الدنيا عندهم. وعن الإمام أحمدُ: أن الذي يقتل هو المكرَه دون المكرِه وهذا أظهر. وذلك لأنه اجتمع مباشر ومتسبب والمرجّح هو المباشر فالمكرَه مباشر للقتل، والمكرِه متسبب فيه فمرجح جانب المباشر كما تقدم في بعض المسائل كما لو شهدت البينة بما يقتضي القتل وكان الولي عالماً بكذب البينة فإن الولي هو الذي يقتل لأنه هو الذي باشر الاختيار وهؤلاء قد تسببوا بالشهادة الكاذبة. فكذلك هنا فقد اجتمع عندنا مباشر ومتسبب فيكون القتل على المباشر. وأما المكرِه فإنه يعزر تعزيراً بليغاً بما يراه السلطان، فإنه يُعزر بالسجن الطويل أو الجلد ونحو ذلك مما يراه السلطان. قال: [وإن أمر بالقتل غير مكلف أو مكلفاً يجهل تحريمه أو أمر به السلطان ظلماً من لا يعرف ظلمه فيه فقتل فالقود أو الدية على الآمر] . إذا أمر بالقتل فكلف غير مكلف، كأن يأمر زيداً لمكلفٍ صبياً، أو مجنوناً بالقتل فإنه يقتل الآمر. وذلك لأن هذا الصبي والمجنون غير المكلفين هما كالآلة هنا، ولا يجب عليهما القصاص لكونهما معذوران إذ هما غير مكلفين لا قصد لهما فهما كالآلة أي كالسكين وكالسيف بيده.

فإذن: يقتل الآمر وذلك لأن المباشر هنا لا يقتل لأنه لا يمكن أن يوجب عليه القصاص مع كونه معذوراً، وذلك لما تقدم من أن عمد الصبي والمجنون خطأ والصبي والمجنون لا قصد لهما، وعليه فلا يمكن إيجاب القصاص عليهما فموجب على المتسبب. ومثل ذلك لو أمر مكلفاً، يجهل تحريم القتل كأن يكون حديث عهد بإسلام، فالقود أو الدية على الآمر وذلك لأن هذا جاهل بالشرع وعليه فهو مخطئ لأن الجهل خطأ وحينئذ فهو معذور فلا يمكن إيجاب القصاص عليه فموجب على الآمر. ومثل ذلك: لو أمر السلطان رجلاً أن يقتل رجلاً من الناس وهذا القاتل المباشر لا يدري أن السلطان ظالم لهذا المقتول فحينئذ يكون الحد على السلطان لأن المباشر للقتل معذور لا يمكن إيجاب القصاص عليه فموجب على المتسبب. والسلطان تجب طاعته فيما لا يعلم أنه معصية، وهذا قد أطاع السلطان في أمرٍ لا يعلم أنه معصيةً ما لم يأمر بالظلم. أما لو كان غير معذور، كأن يأمره السلطان بقتل زيدٍ من الناس وهو يعلم أن السلطان ظالمُ له، مع قتله فإن القصاص على القاتل لأنه هو المباشر. قال: [وإن قتل المأمور المكلف عالماً بتحريم القتل فالضمان عليه دون الآمر] . إذا أمر زيد عمراً بالقتل، وعمرو مكلف عالم بتحريم القتل ومع ذلك قتل، فإن الضمان يكون على عمرو، وذلك لاجتماع مباشر ومتسبب، فالمأمور هو المباشر الآمر هو المتسبب وهنا المأمور ليس بمعذور وذلك لأنه مكلف عالم بالتحريم فكان القصاص عليه هو. قال: [وإن اشترك فيه اثنان لا يجب القود على أحدهما منفرداً لابوة أو غيرها فالقود على الشريك] . اشترك في قتل رجلٍ اثنان أحدهما أب للمقتول والآخر ليس بأبٍ له. أو اشترك في قتل كافر اثنان، أحدهما كافر مثله والآخر مسلم. أو اشترك في قتل رقيقٍ أحدهما حر والآخر رقيق مثله.

ففي هذه المسائل لا يجب القصاص على الأب في المسألة الأولى، ولا على المسلم في المسألة الثانية ولا على الحر في المسألة الثالثة، لأن الأب لا يقتل بولده، والمسلم لا يقتل بالكافر، والحر لا يقتل بالعبد، فحينئذ يكون القود على الشريك للأب في المسألة الأولى. وعلى الشريك للمسلم في المسألة الثانية، وعلى الشريك للحر في المسألة الثالثة، وذلك لأن فعله يوجب القصاص فهو قتل عمدٍ وإنه يوجب القصاص عليه لا مسقط له وإنما أسقط عن الأب في المسألة الأولى وعن المسلم في المسألة الثانية وعن الحرفي المسألة الثالثة لمعنى يوجب الإسقاط، وفي هذه المسائل الثلاث يتمحض القتل عدواناً وأما إذا كان الطرف الآخر ليس بمعتدي أي ليس قتله بقتل عمدٍ عدوان. كأن يشترك مخطئ ومتعمد أو يشترك في قتل رجل من الناس سبُع، وقاتل كأن يضربه بالسيف ويكون معه سبع يشترك معه في القتل أو أن يكون قاتلاً لنفسه مع هذا المعتدي، كأن يجرحه جرحاً قاتلاً ثم يشرب السم فيقتل نفسه أي يستعجل موت نفسه. كذلك لو اشترك في قتله ولي قصاصٍ وعامد، فولي القصاص له حق في القتل. كذلك لو اشترك في قتله مكلف وغير مكلف ففي هذه المسائل كلها في المشهور في المذهب، أنه لا قصاص، وذلك لأن العدوان غير متمحّص لأن أحدهما قتله ليس بقتل عدوان. بخلاف المسائل المتقدمة فإن كلا الطرفين قتله قتل عدوان. القول الثاني في المسألة: وهو رواية عن الإمام أحمد، واختار هذا القول الشيخ عبد الرحمن بن سعدي وهو القول الراجح في المسألة، أن القتل هنا ثابت على الطرف الذي اعتدى، وذلك لأن المؤاخذة على فعله هو، وفعله هو قتل عدوان يوجب القصاص ولا مسقط له. فبالنظر إلى فعله هو بغضّ النظر عن فعل الآخر هل يؤاخذ فيه الآخر أم لا وتجب نصف الدية مع شريك السبع. قال: [فإن عدل إلى طلب المال لزمه نصف الدية] .

إذا عدل الولي إلى طلب المال فإنه يلزمه نصف الدية أي لزم من لزمه القود في المسألة الأولى لزمه الآن نصف الدية. فإذا اشترك الأب وغيره في القتل، فيجب على الآخر القصاص فإن عفا الولي عن القصاص فلا تجب عليه إلا نصف الدية وذلك لأنه شارك في الإتلاف، وهذا الإتلاف يوجب مالاً فكان عليه بقدر ذلك وهو قد شارك بقدر النصف فكان الواجب عليه نصف الدية. " باب: شروط القصاص" وهذه الشروط إذا فقد منها شرط سقط حد القصاص. قال: [وهي أربعهَ] . استقراءً. قال: [أحدها عصمة المقتول] . أي أن يكون المقتول المجني عليه معصوم الدم غير مهدره والعلة ظاهرة، فإن القصاص إنما شرع لحفظ الدم المعصوم وأما الدم المهدر فلا. قال: [فلو قتل مسلم أو ذميُّ حربياً، أو مرتداً لم يضمنه بقصاص ولا دية] . فإذا قتل مسلم أو ذميُّ حربياً أو مرتداً عن الإسلام فإنه لا قصاص ولا دية، وكذلك لو قتل مسلم زانياً محصناً فإنه لا يقتل به لأن دمه هدر. كذلك تارك الصلاة وغيره ممن دمه مهدر ليس بدمٍ معصوم ولو كان ذلك قبل ثبوته عند الحاكم، ما دام أن البينة موجودة على زناه، وهو محصن فقتله مسلم أو ذمي فإنه لا يقتل به. ورجل مثلاً تارك للصلاة والبينة تدل على أنه تارك للصلاة، فكذلك، أو رجل ارتدَّ عن الإسلام فسب الله ورسوله فكذلك فإن من قتلهم لا يقتل هذا إذا كان قبل التوبة. وأما بعد التوبة فلا، فمن زنا وهو محصن فتاب فقتله قاتل بعد ذلك فإنه يقتل به لأن دمه يعصم بالتوبة كما قال تعالى: ((إلا الذين تابوا من قبل أن تقدروا عليهم)) . أما قبل التوبة فإنه لا يُقتل به، لكن هذا القاتل آثم لأنه قد افتات على السلطان في حقه ولذا فإن الإمام يعزره، وله أن يعزر تعزيراً بليغاً حفظاً لحقه في ذلك، فإن الحدود إنما يقيمها السلطان.

وعليه: فإن هذا الحكم حيث كان للإمام حق في القتل، فالإمام ليس له حق أن يقتل من زنا وهو محصن حتى تثبت البينة ذلك، وليس للإمام حق أن يقتل من ترك الصلاة، حتى تثبت بالبينة فكذلك هذا القاتل إذا قتل بعد ثبوت البينة لكنها لم تثبت بعدُ عند القاضي فإنه لا يقتل به ولا دية في ذلك لأن له حقاً، لكن ذلك اعتداء على الإمام في حقه وافتيات عليه فللإمام أن يعزر في ذلك. قال: [الثاني التكليف] . هذا هو الشرط الثاني: التكليف أي أن يكون القاتل بالغاً عاقلاً. قال: [فلا قصاص على صغير] . لأنه غير بالغ. قال: [ولا مجنونُ] . ولا معتوه لأنهما غير عاقلين، وذلك لأنه لا قصد لهما أو قصدهما ليس بقصد صحيح معتبر ولذا تقدم أن عمد الصبي والمجنون خطأً باتفاق العلماء. وعليه فإذا قتل الصبي أو المجنون فأنه لا يقتل بذلك لكن الدية تكون على عاقلته. قال: [الثالث: المكافأة بأن يساويه في الدين والحرية والرق] . هذا هو الشرط الثالث وهو المكافأة. قال: [فلا يقتل مسلم بكافر ولا حر بعبد] . فلا يقتل المسلم بالكافر ولو كان الكافر ذمياً ذا ذمة أو معاهداً ذا عهد أو مستأمناً ذا أمن. وذلك لما ثبت في البخاري مرفوعاً في صحيفة علي رضي الله عنه "لا يقتل مسلم بكافر". وذهب الأحناف: إلى أن المسلم يقتل بالذمي، واستدلوا: بما روى الدارقطني أن النبي- صلى الله عليه وسلم -: (أقاد مسلم بذمي أو قال: أنا أحق من وفّى بذمته) . لكن الحديث مرسل ضعيف. وعليه فالراجح ما ذهب إليه الجمهور من أن المسلم لا يقتل بالكافر. وقال شيخ الإسلام بذلك لكنه قال: إلا أن يقتله غيلة أي خديعة، بأن يكون القتل على سبيل الخديعة وهو مذهب مالك. فقد ذهب مالك إلى أن قتل الغيلة فيه القصاص مطلقاً فلا خيار للولي بين الدية والقصاص، كما أنه لا فرق بين مسلم وذمي في ذلك وهذا هو اختيار شيخ الإسلام وتلميذه ابن القيم.

واستدلوا: بأثر عمر المتقدم لما قال: "لو تمالئ عليه أهل صنعاء لقتلتهم به" فقال "لقتلتهم به" فأضاف القتل إليه، وكان قتل غرة، (تراجع القصة ويزاد الدليل) . وأما الجمهور فقالوا: بأنه يخير الولي بين الدية والقصاص. واستدلوا بعمومات الأدلة، في قوله تعالى: ((فقد جعلنا لوليه سلطاناً)) . في الحديث المتفق عليه: (فوليه بين خيرتين) وهما القصاص والدية. والصحيح ما ذهب إليه أهل القول الأول، لأن دليلهم خاص وأما دليل أهل القول الثاني فإنه عام. فالصحيح ما اختاره شيخ الإسلام وتلميذه ابن القيم: من أن قتل الغيلة يقتل الإمام من غير أن يرجع إلى الولي الخيرة، وأنه لا فرق بين مسلم وذمي لأنه من باب الحرابة، وقد قال تعالى: ((إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فساداً أن يقتلوا)) . فإذا قتلوا سواء كان قتلهم لمسلمين أو ذميين، فإن جزاءهم القتل، وسيأتي الكلام عليه في حد الحرابة إن شاء الله. قال: [ولا حر بعبد] فلا يقتل الحر بالعبد. قالوا: لما روى أحمد في مسنده: "أن السنة ألاّ يقتل الحر بالعبد". ولقوله تعالى: ((الحر بالحر والعبد بالعبد)) ، وهذا هو مذهب الجمهور. والقول الثاني في المسألة: وهو مذهب الأحناف واختيار شيخ الإسلام أن الحر يقتل بالعبد. استدلوا: بقوله تعالى: ((وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس)) ، وهذه آية عامة يدخل فيها قتل الحر بالعبد واستدلوا: أيضاً بقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: (المؤمنون يتكافئوا دماؤهم) . رواه أحمد وأبو داود والنسائي فهذا عبدُ مؤمن وهذا حرُ مؤمن والمؤمنون تتكافئوا دماؤهم. والراجح هو القول الثاني: لقوة أدلته، وأما الجواب عن أدلة أهل القول الأول. أما قوله تعالى: ((الحر بالحر والعبد بالعبد)) .

فهذه الآية نزلت كما قال غير واحد من السلف، في طائفة من الناس قالوا ويقتل الحر من غيرنا بالعبد منا، ويُقتل الذكر من غيرنا بالأنثى منا، قالوا ذلك من باب الكبرُ لقوتهم عدداً وعدة، فأنزل الله قوله: ((الحر بالحر والعبد بالعبد والأنثى بالأنثى)) ، وقد أجمع أهل العلم على أن الذكر يقتل بالأنثى في النسائي أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (يُقتل الذكر بالأنثى) . وأما ما رواه أحمد من أن السنة ألا يقتل الحر بالعبد فالحديث إسناده ضعيف جداً فيه جابر الجُعفي وهو ضعيف الحديث. ومما يدل على ما ذهب إليه الأحناف وهو القول الراجح: ما روى أحمد والترمذي وابن ماجه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (من قتل عبده قتلناه، ومن جدعه جدعناه) . وبهذا الحديث قال داود الظاهري، فإنه قال ويقتل السيد بعبده خلافاً للأحناف فإنهم يقولون يقتل الحر بالعبد لكن لا يقولون أن السيد يقتل بعبده. ولذا قال المؤلف هنا "والرق" فالمالك لا يُقتل بمملوكه. فإذا قتل المكاتب رقيقه فإنه لا يقتل به مع أن المكاتب عبد لكن لا يقتل بعبده لأنه مالك له. والصحيح ما ذهب إليه داود في هذه المسألة وأن السيد يقتل بمملوكه لقوله - صلى الله عليه وسلم -: (من قتل عبده قتلناه ومن جدعه جدعناه) والحديث من حديث الحسن البصري عن سمرة والصواب أن الحسن ليس بمدلس، وأن سماعه من سمرة ثابت كما وضح ذلك غير واحدٍ من الحفاظ كعلي بن المديني، والحديث حسنه الترمذي وهو كما قال "تراجع". قال: [وعكسه يقتل] . وهذا ظاهر، فالكافر يقتل بالمسلم، فإذا قتل الذمي مسلماً فإنه يُقتل وهذا بالاتفاق. والعبد يُقتل بالحر وهذا بالاتفاق، ولذلك العبد يقتل بسيده وهذا باتفاق أهل العلم. قال: [ويقتل الذكر بالأنثى والأنثى بالذكر] . اتفاقاً، لقوله تعالى: ((وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس)) .

ولقوله - صلى الله عليه وسلم -: (المؤمنون تتكافؤا دماؤهم) ، والأُنثى مؤمنة، وللحديث المتقدم الذي رواه النسائي أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (يُقتل الذكر بالأنثى) . قال: [والرابع: عدم الولادة، فلا يقتل أحد الأبوين وإن علا بالولد وإن سفل] . وعنه يقتل أبو الأم بولد بنته وحكاه الزركشي، هذا هو الشرط الرابع وهو عدم الولادة. فالأم والأب لا يقتلان بالولد وإن سفل الولد المقتول كأن يقتل الجد ابن ابنه، أو ابن بنته، أو بنت بنته وهكذا. ودليل ذلك: ما رواه ابن الجارود من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (لا يقاد الوالد بالولد) ، والحديث اسناده جيّد وصححه البيهقي. ورواه الترمذي من حديث عمر بن الخطاب لكنه مضطرب، وهو قول جمهور العلماء. والعلة في ذلك ظاهرة: فإن الوالد هو سبب وجود الولد فإنه قد خرج من صلبه أو خرج من رحمها وإن علا هذا الرحم وإن علا هذا الصلب، فلما كان الأمر كذلك فلا يمكن ولا يصح ولا يستقيم أن يكون سبباً لإعدامه وهو سبب لوجوده. أما العكس فإنه يقتل به اتفاقاً، ولذا قال المؤلف: [ويقتل الولد بكلٍ منهما] . فإذا قتل الولد أباه أو أمه وإن عليا فإنه يقتل بهما وهو ظاهر لا إشكال فيه. " باب استيفاء القصاص " استيفاء القصاص: هو فعل مجني عليه أو وليه بجانٍ مثل فعله أو شبهه. فإذا قطع الجاني الطرف كأن يقطع اليد، فقطعٍ المجني عليه يده أو قطع وليه يده أو قتله فقتله أو أحرق رجلاً فقتل بالسيف. فقوله "أو شبهه": إن كان المثل لا يجوز كأن يحرقه بالنار مثلاً، فالإحراق بالنار محرم وعليه فإنه يقتل بالسيف. قال رحمه الله: [يشترط له ثلاثة شروط أحدها كون مستحقه مكلفاً فإن كان صبياً أو مجنوناً لم يستوفٍ وحُبس الجاني إلى البلوغ أو الإفاقة] . فالشرط الأول من شروط استيفاء القصاص: أن يكون مستحقه مكلفاً أي بالغاً عاقلاً.

فإن كان غير مكلف بأن يكون صبياً أو مجنوناً فإنه لا يستوفي وذلك لأن استيفاء القصاص ولاية، قال تعالى: ((وقد جعلنا لوليه سلطاناً فلا يسرف في القتل)) ، والصبي والمجنون لا ولاية لهما. والمذهب أن الأب وكذا الوصي والحاكم لا يقومون مقام الصبي والمجنون بالاستيفاء، ولذا قال (وحبس الجاني إلى البلوغ أو الإفاقه) أي المجنون. قالوا: لأن المقصود هو التشفي "أي إزالة الغيظ الذي يكون في القلب" وهذا لا يكون بفعل الغير. وعن الإمام أحمد وهو اختيار الشيخ عبد الرحمن بن سعدي، أن لوليهما العفو إلى الدية وكذا الوصي والحاكم. وذلك: لأنه يقوم مقامه في تصرفاته كلها فكذلك هنا ولأن ترك ذلك يترتب عليه فوات الحق أو تفويته فقد يموت الجاني قبل أن يقتل وقد يهرب أو يحصل ما يمنع من إقامة الحد عليه بفعل ظالم ونحو ذلك، فلئلا يفوت الحق فإنا نقيم الولي مقامه، وهذا هو القول الراجح. والمصلحة هنا وهي مصلحة عدم تفويت الحق وفواته أرجح من مصلحة التشفي، ولا شك أنه يحصل له تشفي عندما يختار وليه القتل، ويحصل له انتفاع بالدية إذا اختار الدية والولي يختار ما فيه مصلحة. وقوله: " يحبس الجاني " فلا يقبل في مثل هذه المسألة كفالة إذ الفائدة من الكفالة هي أن يستوفي الحق من الكفيل إذا لم يحضر المكفول، وهنا لا يمكن أن يستوفي الحق من الكفيل لأن ذلك ظلم، بل ويحبس حتى يبلغ الصبي وحتى يفيق المجنون وهذا على المذهب. والصحيح ما تقدم من أن الولي يقوم مقام الصبي أو المجنون. قال: [الثاني: اتفاق الأولياء المشتركين فيه على استيفائه وليس لبعضهم أن ينفرد به] . لأنه حق مشترك لجماعة فلم يكن لأحدهم أن يستقل به. والشرط الثاني: اتفاق الأولياء على القصاص. قال: [وإن كان من بقي غائباً.. انتظر القدوم] .

وهذا ظاهر، فإذا كان بعضهم غائباً فإنه ينتظر قدومه لأنه حق له فلم يتعجل حقه عنه، وهذا لا خلاف فيه بين أهل العلم، (وحكيت رواية عن أحمد أن لهم القصاص فيه قوة) . قال: [أو صغيراً أو مجنوناً انتظر القدوم والبلوغ والعقل] . فإذا كان بعض الأولياء صغيراً أو مجنوناً فإنه ينتظر ويحبس الجاني حتى يفيق المجنون، وحتى يبلغ الصبي فليس لبعض الأولياء أن يستقل بالقصاص وذلك لأنهم جماعة فلم يكن لأحدهم أن يستقل بالحق. فينتظر حتى يبلغ الصبي ويعقل المجنون ثم ينظر ماذا يختارون جميعاً القصاص أم الدية، فإن اختاروا القصاص واتفقوا على ذلك وإلا فتجب الدية. وقال المالكية والأحناف، بل هو للمكلفين دون غيرهم وذلك لأن استيفاء القصاص ولاية والولاية ليست للصبي والمجنون، والأولياء البالغون العقلاء هم المخاطبون عند القتل بالاختيار فلم يكن لغير المكلف حق في ذلك. وهذا هو القول الراجح، ويترتب على خلافه فوات أو تفويت للحق. مسألة: اعلم أن الذين لهم حق في استيفاء القصاص هم الورثة يدل على ذلك: قوله - صلى الله عليه وسلم -: (من قُتل له قتيل فأهله بين خيرتين) رواه أبو داود والنسائي وأصله في الصحيحين فقوله "أهله" أي ورثته. ويدل عليه أيضاً، ما ثبت في مصنف عبد الرزاق، أن عمر أتى برجل قد قتل قتيلاً، وورثته يريدون قتله فقالت زوجته " أي زوجة القتيل" وكانت أختاً للقاتل: قد عفوت عن حقي، فقال عمر: "الله أكبر قد عتق القتيل" والأثر إسناده صحيح، ولا يعلم له مخالف. واختار شيخ الإسلام أن الحق للعصبة الذكور لأن العار يلحقهم هم. والصحيح هو الأول وذلك للأثر الثابت عن عمر ولا يعلم له مخالف، ولأنه حق للمرأة كسائر حقوقه فكان لورثته وهذا هو مذهب الجمهور. مسألة: إذا قتل بعض الورثة الجاني قبل أن يتفق الورثة على القصاص، فإنه يعزر على ذلك لا فتياته على حق غيره. وهل يقتل أم لا؟ قولان لأهل العلم:

القول الأول: وهو المشهور في مذهب أحمد: أنه لا يقتل وذلك لأن هذه النفس التي قتلها يستحق بعضها. والقول الثاني: وهو مذهب بعض الشافعية: أنه يقتل وذلك لأنه قد قتل نفساً معصومة، فإن هذا القاتل معصوم الدم حتى يختار الورثة القصاص. والراجح هو القول الأول، وذلك لأن دمه لم تثبت عصمته، بل بالقتل دمه هدر ما لم يختر الورثة الدية ويعفو عن القصاص، لأن الأصل هو القصاص، والأصل هو قتل النفس بالنفس. ويدل على هذا القول أن الحدود تدرأ بالشبهات أما إذا قتله بعد اختيار الورثة وبعضهم الدية فإنه يقتل به لأن نفسه أصبحت معصومة باختيارهم الدية أو باختيار بعضهم الدية. فإن قتل هذا الولي بعد اختيار الورثة الدية أو بعد اختيارهم القصاص لكنه سبقهم فقلته، أي قتل الجاني فحق بقية الورثة هل يثبت في تركه الجاني المقتول الذي قد قُتل بيد هذا الولي المفتات، أم أنه يكون في مال الولي الذي قد تعدى فقتل؟ قولان لأهل العلم. أظهرهما أنه يكون في مال الولي وذلك لأن الجاني قد أقتص منه وكان الواجب عليه إما القصاص وإما الدية، وقد اقتص منه فلا حق عليه، وعليه فتجب في مال القاتل الذي هو الولي. قال: [الثالث: أن يؤمن في الاستيفاء، أن يتعدى الجاني] . هذا هو الشرط الثالث من شروط الاستيفاء، وهو أن يؤمن في الاستيفاء أن يتعدى الجاني إلى غيره، لقوله تعالى: ((فلا يسرف في القتل)) . قال: [فإذا وجب على حامل أو حائل فحملت لم تقتل حتى تضع الولد وتسقيه اللبأ] . فإذا وجب القصاص على حامل أو على حائل ثم حملت قبل الاستيفاء فإنه لا يستوفى منها حتى تضع الولد وتسقيه اللبأ وهو أول اللبن، قالوا: والغالب أنه لا يعيش إلا به، فهذا لدفع الضرر عن الطفل، وقد قال - صلى الله عليه وسلم -????لا ضرر ولا ضرار) . قال: [ثم إن وجد من يرضعه] . ??فرضي بأن?يلتقم ثدي غير أمه. قال: [وإلا تركت حتى تفطمه] . ??دفعاً للضرر عن الغير.

قال: [ولا يقتص منها الطرف حتى تضع والحد في ذلك كالقصاص] . لما تقدم من دفع الضرر عن الغير. فصل: قال: [ولا يستوفى قصاص إلا بحضرة سلطان أو نائبه] . ??فلا يستوفى القصاص إلا بحضرة سلطان أو نائبه وذلك لكي يؤمن الحيف، ولأن ذلك يحتاج إلى اجتهاد فلم يكن ذلك إلا بحضرة سلطان أو نائبه. فإنه يخاف الحيف والظلم كأن يقتص بآلة غير ماضية أو أن يتعدى إلى طرف آخر أو غير ذلك. وظاهره مطلقاً في النفس وغيرها، وهو المذهب، واختاره شيخ الإسلام وهو احتمال وذكره الموفق أن النفس يجوز الاستيفاء فيها بلا حضرة السلطان واستدل بما ثبت في مسلم: أن رجلاً أتى النبي- صلى الله عليه وسلم -?برجلٍ يقوده بنسعة ثم قال: إن هذا قد قتل أخي، ثم قال النبي- صلى الله عليه وسلم -???اذهب فاقتله) . والذي يرجح هو القول الأول: وأما الحديث فيقال فيه حيث أمن الحيف وذلك لأن قتل النفس قد يكون فيه حيفٌ ولذلك لا بد من حضرة سلطان أو نائبه. ???لكن إن علم السلطان أن مثل هذا عنده وازعُ يمنعه من الحيف فأذن له أن يقبض بلا حضرة السلطان ولا نائبه فلا بأس بذلك. قال: [وآلة ماضية] . ???لا كالة: " فلا بد أن تكون الآلة ماضية أي تقتل من غير أن يكون في ذلك أذى للمقتول " لقوله - صلى الله عليه وسلم -?في صحيح مسلم ?إذا قتلتم فأحسنوا القتلة وإذا ذبحتم فأحسنوا الذبحة وليحدّ أحدكم شفرته وليرح ذبيحته) . وإن كان الولي قادراً على استيفاء القصاص بنفسه أي أن يقتل بالسيف هو بنفسه فإن السلطان أو نائبه يمكنه من ذلك. وإلا فإنه يأمره أن?يوكل غيره من القادرين على استيفاء القصاص، والمشروع أن ينصب الإمام من يقوم بذلك، ويكون له رزق من بيت مال المسلمين لأن هذا من المصالح العامة. أما إذا لم يكن هناك أحد فإن الولي يوكل من يقوم عنه بالاستيفاء وإن شاء أن يقوم به هو فإن الإمام أو نائبه يمكنه من ذلك.

قال: [ولا يستوفي القصاص في النفس إلا بضرب العنق بسيف ولو كان الجاني قتله بغيره] . ???هذا هو المشهور في المذهب وأنه لا يستوفي القصاص في النفس إلا بضرب العنق بالسيف ولو كان الجاني قتله بغيره كأن يرض رأسه أو أن يقطع أعضاءه قطعة قطعة حتى يموت أو أن يفعل به?غير ذلك. واستدلوا: بحديث (لا قود إلا بالسيف) لكن الحديث منكر. وعن الإمام أحمد: وهو اختيار شيخ الإسلام وتلميذه ابن القيم أنه يمكن من القتل بمثل ما قتل به وليه، فالجاني يُقتل بمثل ما قتل إلا ما استثنى من الإحراق بالنار ونحوه فإن الشريعة نهت عن ذلك. فلو قتله?بإلقائه من شاهق فإنه يقتل بأن يُلقى من شاق ولو قتله بقطع أعضائه قطعة قطعة فكذلك ونحوه لك. وهذا القول الراجح، قال شيخ الإسلام: "وهو أشبه بالكتاب والسنة والعدل" أما العدل فظاهر. وأما الكتاب فقوله تعالى: ??وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به ولئن صبرتم لهو خيرُ للصابرين)) . وأما السنة فبما ثبت في الصحيحين: أن جارية وجد رأسها قد رُض بين حجرين فأومأت برأسها فأخذ اليهودي فأقر‍ّ، فأمرّ النبي- صلى الله عليه وسلم -?أن يرضّ رأسه بين حجرين) . فالراجح: أنه يقتل بمثل ما قتل إلا ما استثنى في الأدلة وهو التعذيب بالنار فإن ذلك لا يحل، ومثل?ذلك لو قتله بفعل أمر محرم فيه، كزنا بامرأة أو لواط أو غير ذلك مما هو محرم فإنه لا يفعل به ذلك لأنه محرم في الشريعة الإسلامية. ??باب العفو عن القصاص" قال: [يجب بالعمد القود أو الدية فيخير الولي بينمها] . ???? فيتخير الولي في قتل العمد بين القصاص أو الدية، لما ثبت في الصحيحين أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (من قتل له قتيل فهو بخير النظرين إما أن يُعطى وإما أن يقاد) أي إما أن يعطى الدية أو يقاد له القتيل. قال: [وعفوه مجاناً أفضل] . لقوله تعالى: ((وأن تعفوا أقرب للتقوى)) .

وثبت عند الخمسة إلا الترمذي أن النبي - صلى الله عليه وسلم -: (ما أتى بشيء من القصاص إلا أمر فيه بالعفو) والحديث اسناده صحيح من حديث أنس بن مالك. قال: [فإن اختار القود أو عفا عن الدية فقط فله أخذها] . إذا اختار الولي القصاص فله أخذ الدية، فمثلاً قال أنا أختار القصاص ثم قال: أريد أن أتنازل عن القصاص إلى الدية، فله ذلك- وهذا ظاهر. وكذلك إذا عفا عن الدية فقط، فقال: عفوت عن الدية فقط، فلفظه هذا ليس فيه أنه قد عفا عن القصاص وحينئذ إذا رضي بالدية وقد عفا عنها فله أخذها. وذلك لأنه انتقال من الأعلى إلى الأدنى وهو الانتقال من القصاص إلى الدية. قال: [والصلح على أكثر منها] . فإذا كانت الدية مثلاً مائة ألف فقال الولي: أنا لا أقبل إلا مائتي ألف أو ثلاثمائة ألف أو مليون وإلا فإني أختار القصاص فرضي بذلك القاتل، فللولي ذلك، وذلك لأن الحق لا يعدوهما، فإذا تراضيا على شيء من ذلك كان لهما. قال: [وإن اختارها أو عفا مطلقاً أو هلك الجاني فليس له غيرها] . إذا اختار الدية فليس له بعد ذلك أن يقتصّ وذلك لأنه اختار الدية. وكذلك إذا عفا مطلقاً فقال: (عفوت) ، وإذا أطلق العفو فإنه ينصرف إلى المطلوب الأعظم، وهو العفو عن القصاص لأنه هو المطلوب الأعظم. كذلك إذا هلك الجاني قبل أن يقتص فيه فليس للولي إلا الدية، لأن القود لا يمكن استيفاؤه وقد هلك الجاني فحينئذ ليس له إلا الدية فلا ينتقل هذا إلى أخ وابن أو غيره فإنه لا تزر وازرة وزر أخرى بل يقال هلك الجاني فإن الدية تنتقل في تركته. فإن لم يكن له تركة فلا شيء للولي كسائر الديون التي يفوت محلها فإنها تفوت بفوات محلها. قال: [وإذا قطع إصبعاً عمداً فعفا عنها ثم سرت إلى الكف أو النفس وكان العفو على غير شيء فهدر، وإن كان العفو على مالٍ فله تمام الدية] .

رجل قطعت إصبعه عمداً ففي ذلك عُشر الدية، فعفا عن ذلك ثم سرت الجناية حتى أتلفت الأصابع كلها أو قتلت هذا الشخص كأن ينزف الدم حتى هلك، فهذه السراية هدر لا شيء فيها. وذلك لأنه قد عفا عن الجناية وسرابتها كذلك لأن سرايتها فرع عنها هذا قول في المذهب. والمشهور في مذهب الإمام أحمد وهو مذهب الشافعي: أن له أن يأخذ تمام الدية أي ما بقي منها وهو تسعة أعشارها في المثال المتقدم، وذلك: لأنه إنما عفا عن الجناية ولا سراية فيها، وأما مع السراية فإنه لم يثبت عفوه عنها، فلا يسقط من ذلك إلا ما عفا عنه، وهو إنما عفا عن دية إصبع، وهذا هو القول الراجح. أما إذا كان العفو على مالٍ فله تمام الدية، وهذا ظاهر فإذا قال: أريد الدية ولا أريد القود، فإنه يأخذ عشر الدية ثم سرت الجناية فإنه يُعطى الباقي وذلك لأن السراية نتجت عن فعل الجاني فكان عليه ديتها أي دية السراية. قال: [وإن وكّل من يقتص ثم عفا فاقتص وكيله ولم يعلم فلا شيء عليهما] . رجل قال: اخترت القصاص، ثم وكّل زيداً من الناس أن يقتص عنه ثم بعد ذلك قال: قد عفوت، فقتل الوكيل ولم يعلم بعفو موكله فلا شيء عليهما. أما الولي فلأنه محسن بالعفو وما على المحسنين من سبيل وأما الوكيل فلأنه لم يفّرط. قال: [وإن وجب لرقيق قود أو تعزير قذف فطلبه وإسقاطه إليه] . فإذا وجب لرقيق قصاص أو تعزير قذف فطلب هذا أو إسقاطه إليه وليس لسيده لأن المقصود من ذلك هو التشفي وهو مختص به. قال: [فإن مات فلسيده] . فإذا مات العبد فلسيده ذلك، وذلك لأن السيد أحق بعبده من غيره لأنه ملكه. "باب ما يوجب القصاص فيما دون النفس" قال: [من أقيد بأحد في النفس أقيد به في الطرف والجراح] . فمن أقيد بأحدٍ في النفس لتوفر الشروط، فكذلك في الطرف والجراح. قال: [ومن لا فلا] .

فمن لم يُقد بأحد في النفس فإنه لا يقاد به في الطرف والجراح فالمسلم لا يقاد بالكافر، والحر على مذهب الجمهور لا يقاد بالعبد فكذلك إذا قطع المسلم يد كافر فإنه لا تقطع يده، وكذلك إذا جرح مسلم كافراً فإنه لا قود. قال: [ولا يجب إلا بما يوجب القود في النفس] . فلا يجب إلا بما يوجب القود في النفس وهو العمد فلو قطع يد إنسان خطأً أو جرحه خطأً فلا قود. إذن مسائل الجراح ومسائل الأطراف مبنية على مسائل النفس. قال تعالى: ((وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس والعين بالعين والأنف بالأنف والأذن بالأذن والسن بالسن والجروح قصاص)) . قال: [وهو نوعان] . أحدهما في الطرف، والثاني: في الجراح. قال: [أحدهما: في الطرف فتؤخذ العين والأنف والأذن والسن والجفن] . الجَفن: هو غطاء العين الأعلى أو الأسفل. قال: [والشفة واليد والرجل والإصبع والكف والمرفق والذكر والخصية والإلية والشغر كل واحدٍ من ذلك بمثله] . فاليد باليد، والعين بالعين، والأنف بالأنف وهكذا. قال: [وللقصاص في الطرف شروط، الأول: الأمن من الحيف بأن يكون القطع من مفصل أو له حد ينتهي إليه كما رن الأنف وهو مالان منه] . هذا هو الشرط الأول: وهو الأمن من الحيف وذلك بأن يكون القطع من مفصل كأن يقطع يده من الرسغ ورجله من الكعب أو الركبة. فإنه يثبت به القود وذلك لأمن من الحيف ومثل ذلك: إذا كان له حد ينتهي إليه، كما رن الأنف فإن له حداً ينتهي إليه وهو القصبة. أما مثلاً: الجائفة وهو الجرح يكون في البطن ونحوه فلا حد ينتهي إليه فلا قود فيه. فإذا كان القطع ليس من مفصل كأن يقطع يد إنسان من منتصف الذراع أو منتصف الساق، فظاهر كلام المؤلف ألا قود مطلقاً وهو مذهب الجمهور وذلك لأن القطع ليس من مفصل. القول الثاني في المسألة: وهو قول في مذهب الإمام أحمد ثبوت القصاص من المفصل الذي دونه. فإذا قطع من منتصف الذراع فله أن يقتص من مفصل الكف.

وذلك لأنه اقتصر بما دونه فلم يكن منه حيف ولا ظلم فهو اقتصر على بعض حقه فلم يكن ظالماً، وهذا هو الراجح في المسألة وهو مذهب الشافعية. وهل له أرش على الزائد أم لا؟ قولان في مذهب الإمام أحمد: أصحهما ثبوت الأرش له وذلك لتعذر الاستيفاء فإذا تعذر الاستيفاء وجب الأرش، إذن الصحيح أنه إذا كان القطع من غير مفصل فله القود من المفصل الذي دونه، وله في أصح القولين الأرش أي الارش الذي يكون مقابلاً لهذا القطع من طرفه. قال: [الثاني: المماثلة في الاسم والموضع: فلا تؤخذ يمين بيسار ولا خنصر ببنصر ولا أصلي بزائدٍ ولا عكسه] . الشرط الثاني: المماثلة في الاسم والموضع. فلا تؤخذ يدُ برجل، ولا رجل بيد، ولا أنف بعين وهكذا، كذلك لا تؤخذ يمين بيسار، ولا خنصر ببنصر، ولا أصلي بزائد، فلو قطع إصبعاً زائدة، فإنه لا تقطع من الجاني اصبع أصلية وذلك لعدم المماثلة. قال: [ولو تراضيا لم يجز] . فإذا قال الجاني: أنا أرضى أن تؤخذ يدي اليمنى بيده اليسرى لم يجز ذلك. وذلك لأن الدماء لا تستباح بالإباحة والبذل، ولأنه لا يجوز له أن يتصرف في بدنه بما لم يأذن له به الله عز وجل. قال: [الثالث: استواؤهما في الصحة والكمال، فلا تؤخذ صحيحة بشلاء] . الشرط الثالث: استواؤهما في الصحة والكمال، فلو أن رجلاً قطع يد رجلٍ شلاء فإنه لا تقطع يده السليمة بالشلاء وذلك لعدم الاستواء. قال: [ولا كاملة الأصابع بناقصة] . إذا قطع يد رجلٍ أصابعها ناقصة، وأصابع يده، أي الجاني كاملة فلا تقطع يده الكاملة الأصابع بيد الآخر ناقصة الأصابع وذلك لعدم استوائهما في الكمال. قال: [ولا عين صحيحة بقائمة] . العين القائمة: هي العين التي يكون بياضها وسوادها صافيين لكنها لا تبصر، أي من رآها يظن أن صاحبها يبصر وهو لا يبصر. فلو ضرب عين القائمة فأتلفها، فلا تؤخذ عينه الصحيحة. قال: [ويؤخذ عكسه ولا أرش] .

فيؤخذ اليد الشلاء باليد الصحيحة فلو أن رجلاً قطع يد آخر اليمنى وكانت صحيحة، ويده اليمنى شلاء فتقطع ولا أرش، لإستوائهما في الخلقة إنما النقص في الصفة هذا هو المشهور في المذهب. والقول الثاني في المذهب: ثبوت الأرش وهو الصحيح وذلك لعدم استوائهما، فإن الصفة إذا نقصت فهذا عيب ونقص، فكونها شلاء هذا عيب فلا يساوي اليد الصحيحة. "فصل" [النوع الثاني: الجراح فيقتص في كل جرحٍ ينتهي إلى عظم كالموضحة] . قال تعالى: ((والجروح قصاص)) . فيقتص في كل جرح ينتهي إلى عظم كالموضحة، والموضحة: هي الشجة تكون في الرأس أو الوجه أو اليد تنتهي إلى العظم فتوضحه لكنها لا تهشمه فإذا هشمته فإنها تسمى الهاشمة. قال: [وجرح العضد والساق والفخذ والقدم] . فالجرح في العضد والساق والفخذ والقدم يثبت فيها القود لأنها تنتهي إلى عظم، فيؤمن حينئذ الحيف. قال: [ولا يقتص في غير ذلك من الشجاج والجراح غير كسر سن] . غير الموضحة وجرح العضد والساق والفخذ والقدم فإنه لا يقتص فيه وذلك لعدم أمن الحيف، إلا السن فإنها تثبت القصاص فيها لأنها يمكن أن تبرد. قال: [إلا أن يكون أعظم من الموضحة كالهاشمة والمنقلة والمأمومة فله أن يقتص موضحة وله أرش الزائد] . إذا كان الجرح أعظم من الموضحة كالهاشمة والمنقلة والمأمومة. الهاشمة: وهي التي تهشم العظم. والمنقلة: وهي التي تضرب العظم حتى تنقله من مكانه. والمأمومة: وهي التي تصل إلى جلد الدماغ. فإذا كانت أعظم من الموضحة فله أن يقتص موضحه وله أرش الزائد. فلو أن رجلاً خرج في رأسه هاشمة، والهاشمة ديتها عشر من الإبل، والموضحة ديتها خمس من الإبل فالهاشمة لا يمكن ثبوت القصاص فيها لعدم أمن الحيف، فإن العظم إذا هشم قد يهشم أكثر من هشم الأول. لكن له أن يقتص موضحة فيشج رأسه حتى يصل العظم، وله إرش الزائد وهو الفرق بين دية الموضحة ودية الهاشمة. قال: [وإذا قطع جماعة طرفاً، أو جرحوا جرحاً يوجب القود فعليهم القود] .

كمسألة: قتل الجماعة بالواحد. فإذا قطع جماعة طرفاً أو جرحاً يوجب القود فعليهم جميعاً القود بالشرط المتقدم في قتل الجماعة. وقد ثبت في صحيح البخاري: أن رجلين شهدا عند علي بن أبي طالب، أن رجلاً قد سرق فقطع يده، ثم جاءاه وقالا: هو السارق وأخطأنا بالأول: فردّ رضي الله عنه شهادتهما على الثاني وغرّمهما دية الأول وقال: لو علمت أنكما تعمدتما لقطعتكما) . فإذا اجتمع جماعة على قطع أو جرح فالقود عليهم جميعاً كأن يضعوا حدية على مفصل ثم يجتمعون عليها حتى يقطعوا اليد أو الرجل، أو يتواطؤا على ذلك كما تقدم تقريره على قتل الجماعة بالواحد. قال: [وسراية الجناية مضمونة في النفس فما دونها] . إذا سرت الجناية فإنها مضمونة. فلو قطع رجل إصبع آخر ثم سرت الجناية إلى الإصبع الأخرى فالقود للأصبعين. أو قطع إصبعه فسرت الجناية لليد كلها كأن تنزف اليد حتى شُلت فيكون القود في اليد كلها. وذلك لأن السراية من أثر الجناية فكانت مضمونة كالجناية. قال: [وسراية القود مهدورة] . رجل قطع يد آخر فقطعت يده فلما قطعت يده سرت الجناية إلى نفسه حتى مات بسبب قطع يده فلا ضمان وذلك لأنه لا تعدى. هذا حيث لم يكن هناك إسراف. لكن لو كان ذلك من برد شديد أو حر شديد أو كان مريضاً لا يتحمل قطع اليد فقطعت يده، فحينئذ السراية مضمونة. وكذلك لو قطعه بآلة كالة أو مسمومة فحينئذ يكون الضمان لوجود التعدي. أما إذا لم يكن هناك تعدٍ فلا ضمان لأن ما ترتب على الفعل المأذون فيه فليس بمضمون. قال: [ولا يقتص من عضو وجرح قبل برئه كما لا تطلب له دية] . فلو أن رجلاً قطعت كفه، ومازال الجرح فإنه لا قصاص ولا دية حتى يبرأ الجرح وذلك لاحتمال السراية فإنه يحتمل أن تسري الجناية إلى عضو آخر. فإن تعجل واقتص من الجاني فسرت الجناية بعد ذلك فلا شيء في ذلك وهي هدر، وذلك لأنه قد استعجل حقه ومن استعجل الشيء قبل أوانه عوقب بحرمانه.

وإذا قلعت له سن أو أزيلت له منفعة ونحو ذلك فإنه لا يستعجل لا بالقصاص ولا بالدية حتى ينظر وقتاً يمكن أن تعود فيه فالسن إذا كانت مما يرجى عودها أو المنفعة إذا كانت مما يرجى عودها فلا قصاص ولا دية ويضرب الخبير يمكن أن تعود فيها هذه المنفعة أو تعود فيها هذه السن وحينئذ لا دية ولا قصاص وإنما فيه تعزير. مسألة: اختار شيخ الإسلام وابن القيم وهو رواية عن الإمام أحمد وهو قول ابن المنذر وهو قول جماعة من أهل الحديث خلافاً لجمهور العلماء ثبوت القصاص في اللطمة والعصا والمال ونحو ذلك فإذا أتلف ماله فله أن يقتص بإتلاف المال وإذا هرب بالعصا فله أن يحرق سيارته المماثلة لها وذلك لحصول التشفي وهو مقصود. وقال الجمهور: ليس له ذلك، لعدم المماثلة في الغالب فقد تكون العصا أشد من العصا، وقد تكون اللطمة أشد من اللطمة ونحو ذلك. والصحيح ما ذهب إليه شيخ الإسلام ومن وافقه في هذه المسألة وذلك لقوله تعالى: ((وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به ولئن صبرتم لهو خيرُ للصابرين)) . وقوله: ((فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم)) . وروى البخاري في صحيحه: "أن عمر رضي الله عنه أقاد من الدّر وأن علياً أقاد من ثلاثة أسواط". وهذا هو القول الراجح، لقوة أدلته، وأما الجواب عما استدل به الجمهور: من أن المماثلة لا تثبت غالباً. فالجواب: أن العدل مطلوب بحسب الإمكان ثم إن الجمهور يوجبون التعزير وهو أبعد مماثلة، فكوننا عندما يضرب رجل رجلاً سوطاً نسجنه يوماً فإن سجن يوم أبعد مماثلة من ضربه بعصا. أما إذا ضرب بعصا وإن كنا نحتمل احتمالاً كبير أن يختلف قدر الضربة لكنهما متقاربان. فإن قيل: إن في إتلاف المال إفساداً. فالجواب: أن إفساد المال ليس بأعظم من إفساد الأطراف ومن الجراح ومن قتل النفس، فإن الرجل تقطع يده إذا قطع يد الآخر ويده أعظم من ماله. وهذا كله لمصلحة التشفي وإزالة الغيظ من المجني عليه.

فإذا اتلف ماله فله أن يتلف ماله المماثل به، وله أن يأخذ قيمة ماله، فهو مخير بين الأمرين. " كتاب الديات" الديات: جمع دية وهي المال المؤدي إلى المجني عليه أو أوليائه بسبب الجناية. "المؤدي إلى المجني عليه" هذا إذا كانت الجناية فيما دون النفس كأن يقطع له طرف، فدية هذا الطرف تدفع إلى هذا المجني عليه. " أو أوليائه" إذا كانت الجناية في النفس، فإذا قُتل فديته إلى أوليائه. قال رحمه الله: [كل من أتلف إنساناً] . أي معصوماً. قال: [بمباشرة أو سبب لزمته الدية] . بمباشرة كأن يضربه بالسيف فيقتله. أو سبب: كأن يلقيه إلى سبع فيأكله، فكل من أتلف إنساناً معصوماً بمباشرة أو سبب لزمته دية. لقوله تعالى: ((وإن كان من قوم بينكم وبينهم ميثاق فدية مسلمة إلى أهله)) . قال: [فإن كانت عمداً محضاً ففي مال الجاني حالة] . فإذا كانت الجناية عمداً سواء كانت في النفس أو فيما دون النفس فالدية في مال الجاني بالإجماع، لقوله تعالى: ((ولا تزر وازرة وزر أخرى)) . ولما ثبت في سنن أبي داود والترمذي وابن ماجه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (لا يجني جان إلا على نفسه لا يجني والد على ولده ولا مولود على والده) . والأصل في ضمان المتلفات أنها تجب على المتلف نفسه. قال: [وشبه العمد والخطأ على عاقتله] . فجناية شبه العمد الدية فيها تكون على العاقلة عند جمهور العلماء، ودليل ما تقدم ما ثبت في الصحيحن أن امرأتين من هذيل ضربت إحداهما الأخرى بحجر فقتلتها وما في بطنها فقضى النبي - صلى الله عليه وسلم - بدية المرأة على العاقلة) . وهو قتل شبه عمدٍ، وقد أوجب النبي - صلى الله عليه وسلم - الدية على العاقلة، ودية جناية الخطأ على العاقلة وهو من باب أولى، فالشرع قد دل على أن دية شبه العمد تجب على العاقلة من باب التخفيف على القاتل مع كونه قد جنى لكن جنايته لم يكن مقصوداً منها القتل.

فإذا ثبت هذا في شبه العمد فأولى من ذلك أن يثبت في الخطأ وهذا بإجماع العلماء كما حكى ذلك ابن المنذر. وقد قال المؤلف قبل ذلك في جناية العمد: [حالةً] ففي جناية العمد تجب الدية في مال الجاني حالة غير مؤجلة، فليس للقاضي أن يؤجلها، وذلك لأن هذا هو الأصل في المتلفات، وإن ضمانها يجب حالاً، ولا دليل يدل على جواز تأجيله. وأما دية جناية شبه العمد والخطأ، فإنها تؤجل على ثلاث سنين، وقد استدل أهل العلم على هذا بأثرين، الأثر الأول: عن عمر والأثر الثاني عن علي رضي الله عنهما، رواهما البيهقي في سننه. قالوا: ولا يعلم لهما مخالف. وهذا لو صح الأثران، لكن الأثرين في إسنادهما ضعف فحديث عمر إسناده ضعيف، وحديث على إسناده منقطع. لكن الاختلاف بين أهل العلم، ذلك فقد اتفق العلماء على التأجيل في جناية شبه العمد والخطأ، والنظر يدل على ذلك، وذلك لأن دية شبه العمد ودية الخطأ مخففة لكونها تجب على العاقلة ولا يجب على الجاني فناسب التخفيف. وهذا التأجيل حيث لم ير الإمام أو القاضي المصلحة في الحلول، أما لو رأى الإمام أن المصلحة في كونها حالةً فله ذلك كما قرر ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية، كأن يكون المجني عليه أو أولياؤه فقراء وأولياء الجاني أغنياء يحتاجون إلى التأجيل، فإنه يجعلها حالةً بناءً على الأصل. وهذا الحكم ثابت في دية الكتابي كما هو ثابت في دية المسلم لأن دية الكتابي تجب في قتل النفس فاشبهت دية المسلم التي تجب في قتل النفس فهما نظيران، وهذا أصح الوجهين في مذهب الإمام أحمد "أي ثبوت ذلك في دية الكتابي". إذن: دية الخطأ وشبه العمد تجب مؤجلة على ثلاث سنين ويكون ذلك في آخر الحول.

وتكون بداية الحول من حين الوجوب، فإذا كان قتل نفس فوقت الوجوب الموت فإذا مات في أول شهر محرم فإنها تجب في نهاية هذا الحول وهو نهاية شهر ذي الحجة لأنه بذلك يتم الحول فيجب الثلث، فإذا أتى نفس الوقت من السنة الثانية وجب الثلث الثاني ثم كذلك في الثلث الأخير. وأما إذا كان فيما دون النفس، فإذا كان الجرح قد أندمل بلا سراية فوقت الوجوب من حين القطع وإذا أندمل بعد السراية فوقت الوجوب من حين الاندمال، فإذا قطع إصبعه فسرت الجناية إلى بقية الأصابع ثم اندمل الجرح فوقت وجوب الدية من حين الاندمال. قال: [وإن غصب حراً صغيراً فنهشته حية أو أصابته صاعقة إلى أن قال:.. وجبت الدية فيهما] . إذا غصب حراً ولم يقل عبداً، وذلك لأن العبد مال والمال لا تجب له الدية وإنما تجب القيمة. فإذا غصب حراً صغيراً فحبسه فنهشته حية فمات أو أصابته صاعقة في الموضع الذي حبس فيه فمات فتجب الدية على الغاصب. وهكذا في كل ما يتعلق بالمحل الذي حُبس فيه، كأن يقع السقف أو يصاب بوباء، أو نحو ذلك فتجب عليه الدية، وذلك لأنه هو المتسبب في قتله. [أو مات بمرض] . إذا حبس حراً صغيراً في غرفة أو دار أو في موضع ما فأصيب بمرض لا دخل للغاصب به من حيث الحبس فمات فيه، فإن الغاصب تجب عليه الدية. قالوا: لأن يده يد غاصبة فقد تلف هذا الحر الصغير في يده، ويده يدُ غاصبة، وهذا قول في المذهب والمشهور في المذهب خلاف هذا وأنه ليس فيه الدية وهو الراجح. وذلك لأن هذا الحر الصغير ليس بمال وعليه فلا يدخل تحت اليد، فكونه يتلف تحت هذه اليد الغاصبة لا يعني شيئاً ما دام أن هذه اليد لم تعتد عليه وذلك لأنه ليس بمال. قال: [أو غل حراً مكلفاً وقيّده فمات بالصاعقة أو الحية وجبت الدية فيهما] .

إذا غلَّ حراً مكلفاً في عنقه وفي يده، وقيّده برجليه فمات بالصاعقة أو الحية وجبت الدية، وكذلك لو قيّده في رجليه من غير أن يغُله لأنه إذا قيده في رجليه فإنه لا يستطيع الهرب من الصاعقة أو الحية بخلاف ما إذا غّله في عنقه أو يده فإنه يتمكن من الهروب من الموضع الذي أصابته الصاعقة فيه أو نهشته الحية فيه وكان ذلك بسبب هذا الحابس. فإذا غله في يده في دار تحتاج إلى أن يفتح الباب فإن الحكم كذلك، بخلاف ما لو كان في فضاء وغلت يده فإنه يمكنه الهروب. فتجب عليه الدية لأنه هو المتسبب في قتله والمتسبب تجب عليه الدية كما تقدم. " فصل" قال رحمه الله: [وإذا أدب الرجل ولده، أو سلطان رعيته أو معلم صبية ولم يسرف لم يضمن ما تلف به] . إذا أدب رجل ولده، أو سلطان رعيته، أو معلم كمعلم القرآن صبيه ولم يسرف، لا في العدد ولا في الشدة ولم يكن هذا المؤدّب ليس محلاً للتأديب كمن لا يعقل كالصبي غير المميز أو غير العاقل، فإنه لا يضمن ما تلف به حتى لو مات المؤدّب. وذلك لأن هذا الفعل مأذون فيه شرعاً، وما ترتب على المأذون فيه فليس بمضمون كالحد، فكما أن الحاكم لو ضرب الزاني مائة سوط فمات بذلك فلا ضمان لأنه فعل مأذون فيه شرعاً فكذلك هنا. قال: [ولو كان التأديب لحامل فأسقطت جنيناً ضمنه المؤدب] . فإذا كان التأديب لحامل فأسقطت جنيناً فإنه يضمنه المؤدّب لأنه هلك بسببه، فالإذن وارد في المرأة وأما الصبي فإن هذا التلف قد حصل بسبب المؤدب ولم يؤذن له في ذلك، وإن لم يكن هذا من فعله بل كان خطئاً لأن الخطأ من أنواع الجناية كما تقدم فلا إثم عليه لكن فيه الضمان. قال: [وإن طلب السلطان امرأة لكشف حق الله تعالى أو استدعى عليها رجل بالشرط في دعوى له فأسقطت ضمنه السلطان والمستعدي] .

إذا طلب السلطان امرأة لكشف حق الله تعالى كحدّ أي تكون متهمة بالزنا ونحوه أو تعزير أو غيره كحقِ آدمي فأسقطت ضمنه السلطان أو استعدى عليها رجل بالشرط في دعوى له ولو كان ذلك عن طريق القاضي فأسقطت ضمنه المستعدي. وذلك لأن الهلاك بسبب فعلهما، وفي مصنف عبد الرزاق: أن امرأة كان يدخل عليها رجل فأرسل إليها عمر ففزعت فأسقطت فاستشار الصحابة فمنهم من قال لا شي عليك، وقال علي أما الإثم فنعم وأما الضمان فعليك فقضى بذلك عمر، وإسناده ضعيف ولم أر خلافاً بين أهل العلم في هذه المسألة. قال: [ولو ماتت فزعاً لم يضمنا] . فإذا طلب السلطان امرأة أو استعدى عليها رجل بالشرط في دعوى له فماتت فزعاً لم يضمنا، وهذا القول رواية عن الإمام أحمد وقول في المذهب وهو مذهب الشافعية وممن اختاره الشيخ عبد الرحمن بن سعيد. القول الثاني وهو المشهور في المذهب أن عليهما الضمان. قالوا: لأن الهلاك بسببهما، أي بسبب السلطان في المسألة الأولى وبسبب المستعدي في المسألة الثانية. وحجة أهل القول الأول في أنه لا ضمان عليهما، أنه فعل مأذون فيه شرعاً، فالقاضي قد فعل ما هو مأذون فيه شرعاً من طلب المرأة لكشف حق الله تعالى. والمستعدي مأذون له في ذلك شرعاً، إن قد فعل ما هو مأذون له فيه وما ترتب على المأذون فهو ليس بمضمون وهذا هو القول الراجح في هذه المسألة. وعليه: لو لم يكن مأذوناً له في ذلك بل كان متعدياً فحينئذ عليه الضمان. فلو طلبها السلطان على وجه التعدي فلم يتحر ولم يتثبت بل تعجّل في طلبها وفرّط في التثبت في ذلك فعليه الضمان والمستعدي إذا كان ظالماً لها فليس عليها حق له، فإن الضمان يثبت وذلك لأن هذا الفعل ليس بمأذون فيه. قال: [ومن أمر شخصاً مكلفاً أن ينزل بئراً، أو يصعد شجرة فهلك به لم يضمنه ولو أن الآمر سلطان] . إذا أمر شخصاً مكلفاً أن ينزل بئراً أو يصعد شجرة فهلك هذا المكلف فإنه لا يضمنه.

وذلك: لأنه لم يكرهه فلم يكن سبباً في إهلاكه، ولو كان الآمر سلطاناً لأنه لم يكرهه ولم يحصل منه تعدٍ. قال: [كما لو استأجره سلطان أو غيره] . فإذا استأجر سلطان أو غيره لحفر بئرٍ، أو صعد شجرة فهلك فإنه لا يضمن، فكذلك إذا أمره بالاستئجار على غير وجه الإكراه، ففي كلا المسألتين لا يضمن لأنه لم يتعّد. وفي قوله: " ومن أمر شخصاً مكلفا" يدل على أنه لو كان المأمور غير مكلفٍ فإن عليه الضمان. والذي يتبيّن أن هذا ليس على الإطلاق بل متى ما كان على وجه التعدي. فلو أمره أن ينزل بئراً، ولم يكن هذا الصبي ممن يحسن ذلك فإنه حينئذ يكون عليه الضمان لتعديه. وأما لو أمره بما يحسنه بأن يرسله في حاجة أو نحو ذلك فيحصل له هلاك ولا يكون في ذلك شيء من التعدي فالذي يرجح ألاّ ضمان عليه. " باب مقادير ديات النفس ". قال رحمه الله: [دية الحر المسلم مائة بعير أو ألف مثقال ذهباً أو اثنا عشر ألف درهم فضه أو مائتا بقرة أو ألفا شاه] . وفي الحُلّة روايتان: الرواية الأولى: وهي المشهور: أنها ليست من أصول الدية. الرواية الثانية: أنها من أصول الدية، وفي ذلك مائتا حُلةً. هذه هي أصول الدية في المشهور من المذهب وهي خمس، الأصل الأول، الإبل، والثاني: الذهب، والثالث: الفضة، والرابع: البقر، والخامس: الغنم. قال: [فهذه أصول الدية فأيها أحضر من تلزمه لزم الولي قبوله] . فإذا أعطاه مائتي بقرة فإنه يجب عليه أن يقبل، أو أعطاه ألفي شاه، فيجب عليه أن يقبل وهكذا. واستدلوا: بما روى أهل السنن عن ابن عباس: "أن رجلاً قتل فقضى النبي - صلى الله عليه وسلم -?أن ديته اثنا عشر ألفاً"?هذا في الفضة. وفي الذهب: بما روى النسائي وغيره أن النبي - صلى الله عليه وسلم -?قال: (وعلى أهل الذهب ألف دينار) من حديث عمرو بن حزم.

واستدلوا: على أن البقر والشياه أصل بما روى أبو داود من حديث جابر أن النبي - صلى الله عليه وسلم -?قضى في الإبل مائة من الإبل وفي البقر مائتين من البقر، وفي الشياة ألفي شاه وفي الحلل مائتي حٌلة. هذه أدلة هذه الأصول. والقول الثاني في المسألة: وهو مذهب الشافعية والمالكية وراية عن أحمد، وعليه أئمة الدعوة، واختاره الشيخ عبد الرحمن بن سعدي، أن الإبل هي الأصل وأن غيرها بدل عنها، فعلى ذلك، تقوم الإبل في كل عصر، فننظر كم تساوي من البقر وكم تساوي من الشياه وكم تساوي من الذهب وكم تساوي من الفضة فتعطى كذلك. ودليل هذا القول: ما ثبت في سنن أبي?داود بإسناد جيد عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده: "كانت قيمة الدية على عهد النبي - صلى الله عليه وسلم -?ثمانمائة دينار أو ثمانية آلاف درهم، وكانت دية أهل الكتاب على النصف من دية المسلمين، حتى كان استخلاف عمر بن الخطاب فقام فقال: ألا إن الإبل قد غلت ففرضها في الذهب ألف دينار وفي?الورق اثنا عشر ألفاً وفي البقر مائتي بقرة وفي الشياه ألفي شاة وفي الحلل مائتي حلة ولم يزد في دية أهل الكتاب" وهذا ما يدل على أن الإبل هي الأصل، ووجه الدلالة، أن عمر فعله بمحضر من الصحابة، ويدل على هذا أيضاً: أن الدية في الإبل تتغلظ ولا يكون هذا في غير الإبل فدلّ على أنها هي الأصل، كما أنها أي الإبل: هي دية الأطراف ونحوها كما سيأتي تقريره، وهذا القول هو الراجح. وأما الأدلة التي استدل بها أهل القول الأول فهي أدلة ضعيفة. فحديث ابن عباس، الصواب أنه مرسل. وحديث عمرو بن حزم: كذلك. وحديث جابر: فيه عنعنة محمد بن إسحاق. والصحيح أن الإبل هي الأصل، وعليه العمل في المحاكم عندنا وهو الذي عمل به أئمة الدعوة النجدية وعليه: فقوله: " فأيها أحضر من تلزمه لزم الولي قبوله" هذا ينبني على هذا القول أي قول الحنابلة وتقدم أنه قول مرجوح. وعلى الراجح: لا يلزمه القبول.

وهل يشترط أن تكون الإبل من جنس إبله، أي إبل الغارم الذي وجبت عليه الدية، أم لا يشترط ذلك؟ قولان لأهل العلم هما وجهان في مذهب الإمام أحمد. والراجح أن ذلك لا يجب لإطلاقات النصوص، كقوله- صلى الله عليه وسلم -?وفي النفس المؤمنة مائة من الإبل" رواه النسائي وهو حديث حسن، وغير ذلك من الأحاديث التي سيأتي ذكرها. فإن قيل: إنها تقاس على الزكاة، فكما أن الزكاة يجب عليه أن يخرجها من ماله فكذلك في الدية؟ والجواب: أن بينهما فارقاً، فإن الزكاة تجب من باب المواساة وأما الدية فإنها تجب من باب الجبر فهي تجبر هذا المتلف من نفسٍ أو طرف أو جرح. قال: [ففي قتل العمد وشبه، خمس وعشرون بنت مخاض، وخمس وعشرون بنت لبون، وخمس وعشرون حقه، وخمس وعشرون جذعة] ?هذه هي دية العمد وشبه العمد وهي دية مغلظة، تجب أرباعات هذا هو المشهور في المذهب. واستدلوا: بحديث ذكروه عن السائب بن يزيد، أن النبي - صلى الله عليه وسلم -?قال: (الدية أرباعاً ثم ذكره) . ?والحديث ليس مشهوراً في شيء من كتب السنة، فيما رأيت، وذكره السيوطي في جمع الجوامع وضعّفه. والقول الثاني في المسألة: وهو مذهب الشافعية، أنها تجب ثلاثون حقه، وثلاثون جذعة وأربعون خلقه في بطونها أولادها. وهذا هو القول الراجح، لما روى أبو داود، والترمذي والحديث حسن أن النبي- صلى الله عليه وسلم -?قال: (الدية ثلاثون حقه وثلاثون جذعة وأربعون خلفة في بطونها أولادها" ويدل عليه ما تقدم في حديث سابق: "ألا إن دية مثل الخطأ شبه العمد مائة من الإبل أربعون منها في بطونها أولادها". وتغلظّ الدية، في أربعة مواضع: 1) في الحرم. 2) أو في الأشهر الحرم. 3) أو كانت من محرم في المشهور من المذهب. 4) وقال بعض الحنابلة: إذا قتل ذا محرم فإنها تُغلّظ ودليل ذلك: ما ثبت في مصنف ابن أبي شيبه بإسناد صحيح أن عثمان قضى في امرأة قتلت في الحرم بديةٍ وثلث الدية" ولا يعلم لعثمان مخالف في هذه المسألة.

قال: [وفي الخطأ تجب أخماساً: ثمانون من الأربعة المذكورة، وعشرون من بني مخاض] . ???فدية الخطأ تجب أخماساً ثمانون من الأربعة، أي عشرون من بني مخاض، وعشرون بنت لبون وعشرون حقه وعشرون جذعة وعشرون من بنت مخاض، وهي دية مخففة. هذا هو المشهور في المذهب. واستدلوا بما ورد عن ابن مسعود مرفوعاً أن في دية الخطأ ما ورد هنا وأنها تجب أخماساً، رواه الدارقطني. وقال الشافعية: تجب أخماساً ثمانون من الأربعة المتقدمة وعشرون من بنت لبون. واستدلوا: ببعض روايات ابن مسعود، وهي عند أهل السنن. لكن الحديث ضعيف بروايتيه. والصواب أنه من قول ابن مسعود كما في مصنف ابن أبي شيبه بإسناد صحيح. وورد في سنن أبي داود من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن النبي- صلى الله عليه وسلم -?قضى أن من قتل خطأً فديته ثلاثون بنت مخاض وثلاثون بنت لبون وثلاثون حقه وعشرة من بني لبون، والحديث إسناده جيد، وبه قال طاووس من التابعين. وقول ابن مسعود المتقدم، مخالف بقول عثمان وزيد بن ثابت كما في سنن أبي داود، أنهما قالا: إن دية الخطأ عشرون بنت مخاض، وعشرون بني لبون وثلاثون من بنات لبون وثلاثون حقه. والأقوى ما ذهب إليه طاووس لقوة الحديث، إلا أن يقال: ما قاله ابن القيم في تهذيب السنن من أن هذه الآثار تدل على أن النبي- صلى الله عليه وسلم -?لم يقدر قدراً محدوداً وفي هذا قوة مع ما فيه من معارضة الأثر عن الصحابة لقول النبي- صلى الله عليه وسلم -? لكن يمكن أن يحمل قول النبي- صلى الله عليه وسلم -?على عدم الإلزام بالتحديد وأنه من التحديد. ويعمل حينئذ بإطلاق قوله - صلى الله عليه وسلم -?في النفس المؤمنة مائة من الإبل. إذن: أقوى هذه الأقوال ما ذهب إليه طاووس وفيما ذكره ابن القيم قوة وهو أن يقال يجب عليه مائة من الإبل والأمر في ذلك واسع، وهذا يناسب ما في دية قتل الخطأ من التخفيف. قال: [ولا تعتبر القيمة في ذلك بل السلامة] .

فلا تعتبر القيمة فيما تقدم ذكره بل السلامة. فقد تقدم أن قيمة الإبل في المذهب اثنا عشر ألف درهم قيمة البعير الواحد مائة وعشرون درهماً. فهل نقول: الواجب أن نشتري البعير بمائة وعشرين درهماً وإن كان البعير يفقد شيئاً من شروط السلامة أم لا بدّ وأن تتوفر فيه شروط السلامة سواء كان مساوياً هذا القدر أم كان أكثر منه؟ الجواب: هو الثاني وأنه لا تعتبر القيمة في ذلك بل السلامة خلافاً لأبي الخطاب من الحنابلة. فقوله: أي أبي الخطاب، ضعيف لأنه يخالف إطلاقات النصوص فظاهر إطلاقات النصوص أن الواجب أن الإبل السلامة وعليه فإنه لابد وأن تكون الدية مائة من الإبل تتوفر فيه شروط السلامة وإن كانت قيمة البعير أكثر من مائة وعشرين درهماً. قال رحمه الله تعالى: [ودية الكتابي نصف دية المسلم] . الكتابي: هو اليهودي والنصراني والمقصود بديته هنا أي إن كان معاهد أو مستأمناً أو ذمياً. فدية الكتابي نصف دية المسلم. دليل ذلك: ما ثبت في سنن أبي داود أن النبي- صلى الله عليه وسلم -??عقل أهل الذمة نصف عقل المسلمين?، والعقل: الدية والحديث حسن. ??وذهب الأحناف إلى أن دية الكتابي كدية المسلم. واستدلوا: بقوله تعالى: ((وإن كان من قوم بينكم وبينهم ميثاق فدية مسلمة إلى أهله)) . ???وبما صح عن عمر كما في مصنف عبد الرزاق: "أنه قضى على رجل مسلم قتل يهودياً من أهل الشام بألف دينار". والصحيح ما ذهب إليه أهل القول الأول للحديث المتقدم وأما قول عمر فهو قول صاحب لا يخالف به ما ثبت عن النبي- صلى الله عليه وسلم -?هذا لو كان صريحاً في المخالفة، مع أن الذي يظهر أن عمر إنما قضى بذلك من باب تغليظ الدية كما هو المشهور في مذهب أحمد خلافاً للجمهور وأن دية الكتابي تغلظ فتكون كدية المسلم إذا كان القتل عمداً، وفي ذلك أثر عن عثمان: أنه قضى على رجل مسلم قتل ذمياً عمداً بمثل دية المسلم وهو أثر صحيح.

فدل هذا على أن الدية تغلظ عن النصف إلى الكل وذلك حيث كان القتل عمداً. وعلى ذلك فإذا قتل المسلم ذمياً خطأً فعليه نصف الدية وقد تقدم أن دية المسلم اثنا عشر ألف وعليه فدية الكتابي ستة آلاف درهم. قال: [ودية المجوسي والوثني ثمانمائة درهم] . ???المجوسي هو الذي لا كتاب له. والوثني عابد الأوثان. ديتهما ثمانمائة درهم. وقد تقدم أن مائتي درهم تساوي ستاً وخمسين ريالاً سعودياً فنتيجة ذلك أن يكون دية المجوسي والوثني مائتان وأربع وعشرون ريالاً سعودياً. والريال السعودي يساوي نحو ثمانية أريل، فعلى ذلك تكون ديته نحو ألفين أو ثلاثة آلاف ريال. وهذا حقه، لأنه لا يؤمن بالله ولا باليوم الآخر وليس من أهل الكتاب. هذا هو قضاء عمر وعلي وابن مسعود ولا يعلم لعمر من الصحابة مخالف. قال: [ونساؤهم على النصف] . ????نساء أهل الذمة على النصف منهم، فديتهم ثلاثة آلاف درهم. ونساء المجوس ونحوهم فديتهن أربعمائة درهم. ولا يظهر أنها تقوم بالإبل، لأنا لو قومناها بالإبل فإنها تساوي نحو سبع من الإبل، والسبع من الإبل تختلف قيمتها بالدراهم من زمن إلى زمن. لكن الأثر فيه تقويم بالدراهم ولا يظهر تقويمها بالإبل أو غيرها. قال: [كالمسلمين] . ???فقاس رحمه الله نساء أهل الذمة ونساء المجوس في كونهن على النصف من ذكورهم، قاس ذلك على نساء المسلمين فنساء المسلمين على النصف من ذكورهم. ودليل ذلك: ما روى النسائي عن عمرو بن حزم أن النبي- صلى الله عليه وسلم -?قال: "عقل المرأة مثل عقل الرجل حتى يبلغ الثلث من ديتها". وله شاهد مرسل عن سعيد بن المسيب كما في موطأ مالك وله شاهد موقوف صحيح عن عمر بن الخطاب كما في مصنف ابن أبي شيبه. وشاهد عن علي وابن مسعود، كما في سنن البيهقي فدية المرأة المسلمة على النصف من دية الرجل. أما دية الأطراف والجراح بالنسبة للمرأة فكما تقدم في الأثر السابق، ديتها كدية المسلم حتى تبلغ الثلث من ديتها.

فالإصبع في الرجل ديتها عشرة من الإبل، فهي أقل من ثلث الدية فالمرأة ديتها?كذلك. واليد فيها خمسون من الإبل أي نصف دية، فالمرأة على النصف من ذلك فعينها خمس وعشرون من الإبل. قال: [ودية قن قيمته] . ????القن هو الرقيق سواء كان ذكراً أو أنثى. فديته قيمته مهما بلغت، فلو كان يساوي مائتين من الإبل فديته كذلك ولو كان يساوي عشرة من الإبل فديته كذلك. وذلك لأن الرقيق مال متقوم. قال: [وفي جراحه ما نقصه بعد البرء] . ???فإذا جرحه إنسان فإنه يقوم بعد البرء، فمثلاً كان يساوي قبل الجرح مائة ألف، ثم بعد الجرح أصبح لا يساوي إلا ثمانين ألفاً، فقد نقص منه عشرون ألفاً، فأرش الجناية عليه عشرون ألفاً?هذا القول هو القول الراجح في المسألة وهو قول في المذهب واختاره شيخ الإسلام ابن تيمية، وممن اختاره الموفق ابن قدامة. ??والمشهور في المذهب أن الواجب بقسطه من القيمة فإذا قطعت يد الرقيق، فإن دية اليد من الحر نصف الدية فكذلك في العبد، فقيمته تساوي عشرة آلاف ريال فقطعت يده، فنصف العشرة آلاف هو خمسة آلاف هي دية اليد. وهذا قول مرجوح، وذلك لأن القول الأول قد ألحق ما دون النفس بالنفس، فكما أن النفس ديتها القيمة فكذلك ما دونها لأن السبيل واحدة فهو مال. وأما القول الثاني: فلم أرَ له دليلاً يمكن أن يستدل به. قال: [ويجب في الجنين ذكراً كان أو أنثى عشر دية أمه غرةٍ] . ??يجب في الجنين ذكراً كان أو أنثى عشر دية أمه غرة. والغُرة: العبد أو الأمة سمي بذلك لأنه من أنفس المال. وفي الصحيحين في قصة المرأتين اللتين اقتتلتا ومنه أن النبي- صلى الله عليه وسلم -??قضى أن دية جنينها غرة عبدُ أو أمة" فدية?الجنين عبد أو أمة. وهنا المؤلف قال: "عشر دية أمه" وقد تقدم أن دية المسلمة خمسون من الإبل، فعشرها خمس من الإبل إذن قيمة هذا العبد أو الأمة خمس من الإبل.

فعليه أن يشتري عبداً أو أمة تساوي خمساً من الإبل وهذا القول لا خلاف بين العلماء فيه فهو اتفاق بين العلماء وذكره الموفق عن علي وزيد بن ثابت ولا يعلم لهما مخالف ولم أره بإسناد صحيح فإنه لم يعزه. وكذلك الشيخ الألباني في إرواء الغليل: لم يقف على هذين الأثرين. ولا خلاف بين العلماء في هذه المسألة لكن لم أرَ نصاً عن النبي- صلى الله عليه وسلم -?يدل على ذلك. وإذا كانت الأم كتابية فديتها خمس وعشرون من الإبل فجب في جنينها عبد أو أمة يساويين بعيرين ونصف وهكذا. قال: [وعشر قيمتها إن كان مملوكاً وتقدر الحرة أمة] . ????إذا كان الجنين مملوكا فإن ديته عشر قيمتها إن كانت مملوكة. فإذا كان الجنين مملوكاً فديته عشر قيمة أمه إن كانت أمةً، أما إذا كانت أمه حرةً فإنها تقوم كما لو كانت أمةً. فإذا كانت تساوي مثلاً مائة ألف، فدية الجنين عشرة آلاف قياساً على المسألة السابقة. وخرّج المجد من الحنابلة قولاً آخر في هذه المسألة فقال: بل ما نقص من قيمة الأم بعد إسقاطه هو الدية. فمثلاً: الأم وهي حامل تساوي مائة ألف، فلما أسقطته أصبحت لا تساوي إلا ثمانين ألفاً، فالدية عشرون ألفاً وهذا أقيس. وذلك إلحاقاً بالبهيمة بجامع أن كليهما مال يباع ويشترى والرجل إذا ضرب بهيمة فأسقطت ما في بطنها فإن هذه الجناية يلزمه بها الفارق ما بين قيمة هذه البهيمة وهي حامل وقيمتها وقد أسقطت. وأما قياسهم على المسألة السابقة: فهو قياس مع الفارق لأن هناك الجنين حر وهنا مملوك، وفارق بين الحر والمملوك، فالحر لا يقوم فليس بمال وأما المملوك فهو مال يباع ويشترى. إذن: الراجح ما خرّجه المجد ابن تيمية في هذه المسألة وهو أن يقال: إذا سقط الجنين المملوك فإننا ننظر إلى قيمة أمّه إن كان أمةّ، أو بقدرها إن كانت حرةً ثم الفارق هو أرش الجناية، أي دية الجنين المملوك.

قال: [وإن جنى الرقيق خطأً أو عمداً، لا قود فيه، أو فيه القود واختير فيه المال أو أتلف مالاً بغير إذن سيده يعلق ذلك برقبته فيخير سيده بين الدية بأرش جنايته أو يسلمه إلى ولي الجناية فيملكه، أو يبيعه ويدفع ثمنه] . إذا جنى رقيق خطأً أو عمداً لا قود فيه كالجائفة أو عمداً فيه قود واختار المجني عليه وأولياؤه المال. أو أتلف العبد مالاً بغير إذن سيده، فالحكم من ذلك يتعلق برقبته، ولم نقل تعلق بذمته لأنه لا ذمة له فهو مال لا يملك. فيخير سيده بين: أن يفديه بأرش جنايته، فالجناية مثلاً كلفت عشرة آلاف فإن شاء دفعها أي السيد. أو يسلمه إلى ولي الجناية، فيعطيه ولي الجناية إن شاء أن يمتلكه وإن شاء أن يبيعه. أو يبيعه السيد ويدفع ثمنه، فإن كانت الجناية تساوي عشرة آلاف والعبد يساوي عشرة آلاف فإنه يدفع المال كله لولي الجناية. وإن كانت الجناية تساوي خمسة آلاف، والرقيق يساوي ألفاً فإنه يدفع له القيمة وهي ألف. وذلك لأنه متعلق بالرقبة فلا دخل للسيد بما زاد عن ذلك. وفي قوله: [أو تلف مالاً بغير إذن سيده] . أما إذا أتلف مالاً بإذن سيده أو أمر فإن الضمان لا يكون عليه بل على سيده، وذلك: لأنه كسوطه وعصاه، ولأنه كما لو استدان عليه. " باب ديات الأعضاء ومنافعها " الأعضاء: مثل العين، ومنافعها كالبصر وكذلك اللسان والذوق. أما الأذن فليس السمع فيها بل في الدماغ، وكذلك الشم فهو ليس في الأنف بل في الدماغ هذا ما عرفه الفقهاء. ولذا فإن في الأذن الدية وفي السمع الدية، فلو أنه جنى على أذنه وسمعه ففيه ديتان. قال: [من أتلف ما في الإنسان منه شيء واحد كالأنف واللسان والذكر ففيه دية النفس] . فمن أتلف ما في الإنسان منه شيء واحد كالأنف ونحوه ففيه دية النفس.

قال: [وما فيه منه شيئان كالعينين، والأذنين والشفتين واللحيين وثديي المرأة، وثندؤتي الرجل واليدين والرجلين والإليتين والأنثيين واسكتي المرأة ففيهما الدية وفي أحدهما نصفها] . فمن أتلف ما في الإنسان منه شيئان ففيهما الدية كاملة، وفي أحدهما نصفها. ففي اليد نصف الدية، وفي كلتيهما كلها، وهكذا. قال: [وفي المنخرين ثلثا الدية، وفي الحاجز بينهما ثلثها] . فما كان في الجسم منه ثلاث، ففي أحدها الثلث فالأنف يتكون من منخر "على وزن مسجد" ومنخرُ آخر، والحاجز الذي بينهما، ففي كل جزء الثلث. قال: [وفي الأجفان الأربعة الدية، وفي كل جفن ربعها] . فما في البدن منه أربعة، ففي كل شيء من هذه الأشياء الأربعة ربع الدية، وفي الكل الدية كاملة. كالأجفان، والجفن هو غطاء العين. هذا هو مذهب جماهير العلماء، والآثار تدل على ذلك ففي مسند الإمام أحمد وسنن النسائي أن النبي - صلى الله عليه وسلم -?قال: (في الأنف إذا أوعي جدعه الدية وفي العينين الدية وفي اللسان الدية وفي الشفتين الدية وفي الصلب الدية) ?والحديث من حديث عمرو بن حزم وهو مرسل، لكن عليه العمل وله شواهد. وفي البيهقي عن سعيد بن المسيب مرسلاً بإسناد صحيح إلى سعيد قال: (قضت السنة في العقل أن في الصلب الدية) وهو النكاح. ??قال: [وفي أصابع اليدين الدية كأصابع الرجلين وفي كل إصبع عشر الدية] . ???فما كان في البدن منه عشر، ففي كل واحد منه عشر الدية، فأصابع اليدين عشر، ففيها الدية كاملة، وفي كل إصبع عشر الدية، لا فرق بين الخنصر والإبهام. ففي مسند أبي داود ومسند أحمد أن النبي - صلى الله عليه وسلم -?قال: (الأصابع سواء والأسنان سواء الضرس والثنية سواء) . ?قال: [في كل أنملة ثلث عشر الدية والإبهام مفصلان ففي كل مفصل نصف عشر الدية] .

فالإصبع فيها ثلاث أنامل، ففي كل أنملة ثلث عشر الدية، والإبهام فيه مفصلان، فإذا قطعه من مفصل ففيه نصف عشر الدية، فإذا كان مسلماً ففيه خمس من الإبل. ?فإذا زاد على الإصبع ففيه حكومة أي هذا الزائد حكومة والمراد بالحكومة، أن يقوم عبداً صحيحاً وعبداً فيه نقص والفارق بينهما هو الحكومة. قال: [كدية السن] . ???فدية السن خمس من الإبل لا فرق بين ضرس ولا ثنية، وفي حديث عمرو بن حزم أن السن خمس من الإبل. ??وكذلك الظفر، كما صح عن ابن عباس في مصنف ابن أبي شيبه فالظفر فيه خمس من الإبل. هذا إذا لم يرجع الظفر، أما إذا رجع فليس فيه شيء إلا أن يكون فيه شيء من التشويه فيكون فيه حكومة كما تقدم. إذن: ما يزيد على هذه الأعضاء ففيه حكومة، فاليد إذا قطعت من الرسغ ففيها نصف الدية فإن زاد قطعت مثلاً من نصف الساعد أو من العضد ففي هذا الزائد حكومة. الرجل إلى الكعب، فإذا زاد على الكعب ففيه حكومة كما تقدم. "فصل" قال: [في كل حاسة دية كاملة وهي السمع والبصر والشم والذوق] . فإذا ضربه مع رأسه فأذهب سمعه أو بصره فإنه تجب دية كاملة. وكذا إذا اذهب شمّه أو ذوقه. قال: [وكذا في الكلام والعقل ومنفعة المشي والأكل والنكاح وعدم استمساك البول والغائط] . فكلها فيها دية كاملة. فإن جمعها ففي كل واحدة دية، ففي مصنف ابن أبي شيبة بإسناد صحيح، أن رجلاً ضرب رجلاً فمذهب سمعه وبصره وعقله ونكاحه فقضى عمر عليه بأربع ديات، وهو حي فهذه أربع ديات، للسمع دية وللبصر دية وللعقل دية وللنكاح دية. قال: [وفي كل واحد من الشعور الأربعة الدية، وهي شعر الرأس واللحية، والحاجبين وأهداب العينين] . ففي كل واحد من الشعور الدية. فإذا اعتدى عليه فاذهب شعر رأسه والمراد حيث لم يرجع شعره، وكذلك إذا حلق لحية غيره ولم ترجع كأن يعطيه دواءً فيذهب اللحية فلا ترجع فحينئذ ففيه دية كاملة.

وكذلك في الحاجبين: في كل حاجب نصف الدية وكذلك أهداب العينين، في كل هدب ربعها، وفي العينين أربعة أهداب. إذن هذه الشعور فيها الدية كما ذكره المؤلف هنا وهو المشهور في المذهب. وعند ابن المنذر وضعفه أن زيد بن ثابت قال: " في الشعر الدية". والقول الثاني في المسألة: هو مذهب الشافعية والمالكية، أنه ليس فيه دية وهو القول الراجح أما الأثر فضعيف. وأما الدليل على هذا القول: فهو أن الأصل في مال المسلم العصمة ولا نص ولا إجماع ولا قياس يدل على ما ذكره الحنابلة. وعليه: فلو اعتدى على لحيته أو شعر رأسه ففيه حكومة وليس فيه دية. ولا شك أنها لا تصل إلى المنافع التي تقدم ذكرها. فإنها أي هذه الشعور - جمال – وليست بمنفعة تشبه منفعة السمع والبصر، فلا يقال إنها تقاس على السمع والبصر قال: [فإن عاد فنبت سقط موجبه] . فإذا عاد الشعر فنبت سقط موجبه وهي الدية المذكورة فإن كان أخذ شيئاً من الدية فإنه يعيده. وعليه: فإنه إذا كان يرجى عود هذا الشعر أو هذا السن، فإنه لا يعطى الدية. قال: [وفي عين الأعور الدية كاملة] . لأنه قد أذهب عليه حاسة البصر. قال: [وإن قلع الأعور عين الصحيح المماثلة لعينه الصحيحة عمداً فعليه دية كاملة ولا قصاص] . إذا قلع الأعور عين الصحيح المماثلة لعينه عمداً. وقال (المماثلة) لأنه لا قصاص إلا مع المماثلة فعليه دية كاملة ولا قصاص. أما كونه لا قصاص فظاهر وذلك لأنا إذا اقتصصنا منه أذهبنا بصره كله وحينئذ فيكون في استيعاب القصاص أكبر اعتداء، فالقصاص يفضي إلى استيفاء حاسة البصر وعليه دية كاملة، تغليظاً للدية لأنه متعمد، ومع التعمد تغلّظ الدية وهو قول عمر وعثمان كما في مصنف عبد الرزاق بإسناد صحيح عنهما. فإذا أذهب الأعور عيني الصحيح كلتيهما فما الحكم؟ الجواب: أنه يقتص منه لأنه لا جور حينئذ لأنه أذهب حاسة البصر عند الآخر. وهل عليه دية مع القصاص؟

الجواب: ذمته نصف الدية مقابل العين الأخرى لأنه فقع عليه عينين اثنتين، وعليه فعليه مع القصاص نصف دية وأما إذا لم يقتص فعليه دية كاملة. مسألة: إذا أذهب بعض حاسة البصر أو بعض حاسة السمع أو نحو ذلك فما الحكم؟ له حالتان: الحالة الأولى: أن يمكن تقدير ما ذهب كأن يعلم أنه بقي له من حاسة البصر النصف. ففي ذلك نصف الدية كالأصابع فيما تقدم حيث قلنا إنه إذا قطع أنملة ففيه ثلث عشر الدية. الحالة الثانية: ألا يمكن التقدير. ففيه حكومة: أي يقوم قبل هذه الجناية ويقوم بعدها والفارق هو الإرش. قال: [وفي قطع يد الأقطع نصف الدية كغيره] . رجل قطع يد الأقطع هل فيه دية كاملة أم لا؟ قال هنا: فيه نصف الدية وتقدم أن الأعور فيه الدية كاملة. فمثلاً: رجل ليس له إلا يد واحدة وهي اليمنى أو اليسرى أو ليس له إلا رجل واحدة وهي اليمنى أو رجل واحدة وهي اليسرى فقطعها متعمد أو مخطئ ففي ذلك نصف الدية. قالوا: لأن هذا العضو لا يقوم مقام اليد اليمنى، واليد اليمنى لا تقوم مقام اليد اليسرى. بخلاف العين فإنها تقوم مقام العين الأخرى فهو يبصر فيها كما لو كانت له عينان، هذا هو الفارق بينهما وهذا القول قد يكون فيه شيء من النظر على إطلاقه. ولذا فعن الإمام أحمد: أن فيه الدية لا سيما أقطع اليد وكذلك أقطع الرجل مع النظر الطبي فإنه يمكنه المشي حيث يوضع له شيء يتكئ عليه فيمشي، فحينئذ تقوم هذه مقام الرجل. وهذا القول أظهر، فإن هذه اليد وإن كانت لا تغني غناء كاملاً عن الأخرى لذلك الرجل لكنها تقوم له بالمشي بمساعدة الأخرى له. واليد ظاهر قيامها مقام الأخرى بالأكل والشرب والأخذ والإعطاء ونحو ذلك. ولذا فالذي يرجح ما ذهب إليه الإمام أحمد في رواية عنه أن اليد إذا قطعت من الأقطع، والرجل إذا قطعت من الأقطع فإن الدية كاملة تجب.

[كغيره] : أي كغيره من الأعضاء أو كغير الأقطع ممن له تلف في العضو الذي في الجسم منه عضوان فهو كغيره كما لو قطعت أحد أذنيه فكذلك. مسألة: أنه ورد في مسند أحمد وسنن أبي داود وهذا لفظ أحمد أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (وإذا جدعت أرنبته وهي طرف الأنف فنصف العقل خمسون من الإبل) . والحديث من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده، ولم أقف على قائل بهذا إلا ما نقله الخطابي عن ابن المنذر وأنه حكى هذا القول في الاختلاف ولم يعزه إلى قائل. وذكر الحديث ابن القيم في قضاء النبي - صلى الله عليه وسلم - ولم يتكلم بشيء فظاهر الحديث أن في أرنبة الأنف نصف الدية وفي ذلك قوة من حيث النظر وذلك لأن الدية في الأنف لأنه جمال الأنف وفي الأرنبة أعظم جمال الوجه فلا يبعد أن يقال هذا مع صحة الحديث الوارد. المسألة الثانية: اليد الشلاء إذا قطعت فإن فيها حكومة، كما هو مذهب جمهور العلماء وهو أحد الروايتين عن الإمام أحمد. والرواية الثانية: أن في اليد الشلاء أو في السن السوداء وفي العين القائمة السادة محلها، أن في ذلك كله ثلث ديتها فاليد الشلاء فيها ثلث دية اليد الصحيحة، وهذا هو القول الراجح، ودليله: ما ثبت في سنن أبي داود وبإسناد حسن من حديث عمر بن شعيب عن أبيه عن جده، (أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قضى في العين القائمة السادة مكانها بثلث ديتها وفي اليد الشلاء إذا قطعت بثلث ديتها وفي السنن السوداء إذا قلعت بثلث ديتها) . "باب الشجاج وكسر العظام" الشجة: الجرح في الرأس والوجه خاصة. فعلى ذلك الجرح في بقية اليدين لا يسمى شجةً. [وهي عشرة] . فالجروح التي تكون في الرأس والوجه عشر. [الحارصة: التي تخر من الجلد أي تشقه قليلاً ولا تدميه] . فهي تشق الجلد قليلاً لكن لا يخرج مع ذلك دم، وهذه فيها حكومة وليس فيها دية مقدرة عن الشرع. [ثم البازلة وهي الدامية] .

البازلة فهي دامية أي تخرج الدم وهو دم يسير لذا قال الدامية، فهي تخرج دماً يسيراً ويقال دامعة تمثيلاً بالدمع لأن الدمع يسير فكذلك هذا الدم دم يسير وليس المراد من ذلك أنها تدمع صاحبها، أي تبكيه. [ثم الباضعة: وهي التي تبضع اللحم] . أي تشق اللحم. [ثم المتلاحمة: وهي الغائصة في اللحم] . أي تدخل وتخترق اللحم. [ثم السمحاق وهي ما بينها وبين العظم قشرة رقيقة] فهي لم تصل إلى العظم بعد، لكنه كادت فليس بين هذا الجرح وبين هذا العظم إلا شيء يسير. [فهذه الخمس لا مقدر فيها بل حكومة] . فهذه الخمس لا مقدر فيها شرعا فإنه لم يثبت ذلك عن الشارع بل فيها حكومة، وسيأتي الكلام عن الحكومة. [وفي الموضحة: وهي ما توضح العظم وتبرزه] . الموضحة: هي ما توضح، كذا قال: والصواب ما توضح العظمة كما قال الشارح. إذن هي جرحت وبرز العظم ولو كان البارز شيئاً بعيداً كالإبرة. [خمسة أبعره] . فالموضحة فيها خمسة أبعره. ودليل ذلك ما ثبت في حديث عمرو بن حزم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (دية الموضحة خمس من الإبل) . وتقدم الكلام على حديث عمرو بن حزم. [ثم الهاشمة: وهي التي توضح العظم وتهشمه وفيها عشرة أبعرة] . قضى بذلك زيد بن ثابت كما في مصنف عبد الرزاق فالهاشمة تبرز العظم وتهشمه. فإذا هشمته ولم توضحه فهذه فيها حكومة. [ثم المنقّلة "بتشديد القاف مع الكسر" وهي ما توضح العظم وتهشمه وتنقل عظامها، وفيها خمسة عشر من الإبل] . ودليل ذلك ما ثبت في حديث عمرو بن حزم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (وفي المنقّلة خمسة عشر من الإبل) . [وفي كل واحدة من المأمومة] . المأمومة: هي التي تصل إلى أم الدماغ وليس بينها وبين أم الدماغ إلا جلده رقيقة وهي التي تحيط بالدماغ. [والدامغة] . فالدامغة تخترق هذه الجلدة الرقيقة التي تحيط بالدماغ. [ثلث الدية] . ففي المأمومة والدامغة ثلث الدية.

ودليل ذلك حديث عمرو بن حزم وفيه، (وفي المأمومة ثلث الدية) . والدامغة لم يذكرها النبي - صلى الله عليه وسلم - لكن ذلك من باب قياس الأولى فإذا ثبت هذا في المأمومة ففي الدامغة من باب أولى لأنها أشد. وقيل بل فيها أي الدامغة: ثلث الدية مع حكومة، وهذا أظهر لأنها زائدة بسبب خرق هذا الجلد الرقيق. [وفي الجائفة ثلث الدية، وهي التي تصل إلى باطن الجوف] . فالجائفة هي التي تصل إلى الجوف، من البطن أو الظهر أو الحلق أو من غير ذلك، فهذه فيها ثلث الدية: ودليل ذلك حديث عمرو بن حزم وفيه (وفي الجائفة ثلث الدية) . فإن دخلت من موضع وخرجت من موضع آخر كالسهم يدخل من جهة ويخرج من جهة أخرى فجائفتان. كما أنه إذا جرحه من الرأس ثم امتد هذا الجرح حتى وصل إلى الوجه ففيه موضحتان لأنهما عضوان فالرأس عضو والوجه عضو. قال: [وفي الضِلَع وكل واحدة من الترقوتين بعير] . الضلع: وهو ما نسميه بالضلْع وقد حكى بتسكين اللام والمشهور هو الفتح (الضلَع) . والترقوة: هو العظم المستدير الذي يكون عند الحلق ففي كل واحد من الترقوتين وكل ضلع بعير كما صح ذلك عن عمر كما في موطأ مالك أنه قال في كل بعير وترقوة بعير. قال: [وفي كسر الذراع وهو الساعد الجامع لعظمي الزند والعضد، والفخذ والساق إذا جبر ذلك مستقيماً بعيران] . فإذا كسر الذراع فجبر مستقيماً ففيه بعيران. وإذا كسر الفخذ فجبر مستقيماً ففيه بعيران. وإذا كسر الزند فجبر مستقيماً ففيه بعيران وكذلك في الساق. وقد ورد عن عمر عن ابن أبي شيبه: أن في الزند بعيرين. أما إذا جبر غير مستقيم ففيه مع البعيرين حكومة لأنه حصل عدم استقامة ففي ذلك تشويه وفي ذلك ضرر ولذا فإنا نوجب حكومة مع البعيرين.

وهنا فرق بين السن والشعر، وبين ما ذكره المؤلف هنا من كسر الذراع، والضلع ومن الجائفة ونحو ذلك، فإن من كسر عضده ثم عاد سليماً، أو أجيف ثم شفي ونحو ذلك فإن الدية ثابتة بخلاف الشعر والسن لأن السن والشعر تتجدد وهي منفصلة لذا فإنا لا نوجب دية بخلاف ما يكون من الجراح كالجائفة وبخلاف ما يكون من كسر العظام أو نحو ذلك. أما الشعر والسن إذا عاد فإنه يسقط موجبه أما الذراع والجائفة ونحوهما فإنه إذا أعاد لا يسقط موجبه. قال: [وما عدا ذلك من الجراح وكسر العظام ففيه حكومة] . ما سوى ما ذكره المؤلف هنا في الجروح وكسر العظام ففيه حكومة لعدم التقدير الشرعي. قال: [والحكومة: أن يقوم المجني عليه كأنه عبد لا جناية به ثم يقوم وهي به قد برأت فما نقص عن القيمة فله مثل نسبته من الدية] . فمثلاً قومناه عبداً لا جناية به فأصبح يساوي مائة ألف ثم قومناه عبداً فيه جناية قد برأت فأصبح يساوي بما بين ألفاً. فالفارق عشرون ألفاً، ونسبه العشرين ألفاً إلى المائة الخمس. وعليه فالواجب خمس الدية، فإذا كان مسلماً فعشرون من الإبل وإن كان كتابياً فعشر من الإبل. والفائدة من النظر في النسبة هو التفريق بين الناس في الدية لأنه إذا لم تنظر إلى النسبة فالفارق عشرون ألفاً فتجب للمسلم وللمرأة وللكتابي، فلا يفرق بين هؤلاء ومن هنا فلا بد من النظر إلى النسبة. مسألة: إذا لم ينقص منه شيء بعد الجناية، كأن تقطع اصبعه الزائدة فما الحكم؟ أو كانت هذه الجناية زادته حسناً فما الحكم أيضاً؟ الجواب: لا شيء في ذلك لكن فيه تعزير. فإن كان أثناء جريان الدم قد نقص لكن بعد انقطاعه لم ينقص من قيمته شيء فهل نعلق الحكم بجريان الدم؟ المشهور في المذهب نعم. واختار الموفق أنه لا يعلق به ذلك لأن ذلك لا يثبت فهو نقص ليس بثابت. وهذا هو الراجح في هذه المسألة. وعليه فلا شيء في ذلك بل فيه التعزير.

قال: [كأن كان قيمته عبداً سليماً ستين، وقيمته بالجناية خمسين ففيه سدس الدية] . لأن العشرة نسبتها إلى الستين السدس. قال: [إلا أن تكون الحكومة في محل له مقدر فلا يبلغ بها المقدر] فمثلاً في الخارصة هذه ليست فيها تقدير شرعي فلو قومناه وبه خارصة قد برأت فأصبح يساوي ثمانين وبلا خارصة يساوي مائة، فالفارق بينهما بنسبة الخمس وخمس الدية عشرون من الإبل، إذن زادت كثيراً على الموضحة لأن الموضحة خمس من الإبل. فلا يمكن أن يبلغ بها المقدر، لأن الشارع أثبت هذا في المقدر وهو أعلى فلا يمكن أن يثبت هذا في الأدنى فإنه أدنى منه. كما سيأتي في باب التعزيز، فلا يمكن أن نعزر من لم يزن بأكثر من مائة جلدة، فكذلك هنا. تقدم الكلام على ديات الشجاج وتقدم ما ذكره الحنابلة من أن في الشجاج الخمس التي دون الموضحة أن فيها حكومة. وهذا هو مذهب أكثر الفقهاء وقال الشافعية، وممن قرره من الفقهاء المتأخرين من الحنابلة الشيخ سعد بن حمد بن عتيق، وهو نحو قول القاضي من الحنابلة. قالوا: ينظر إلى نسبة هذه الشجة إلى الموضحة إن أمكن ذلك. فإنه في كثير من الأحوال لا يمكن ذلك لأنا نحتاج إلى أن يكون في الرجل نفسه موضحه في الغالب حتى نقدر نسبة هذه الشجة إلى موضحته. فإن كانت نسبة هذه الشجة إلى الموضحة الثلث ففي ذلك ثلث دية الموضحة. أما القاضي فقال: يحكم بالأكثر منهما، فينظر هل الأكثر الحكومة أو ما ذكره الشافعية هنا ثم نحكم بالأكثر منهما. وعن الإمام أحمد رواية وهي: أن الواجب في البازلة بعيراً والواجب في الباضعة بعيران، وفي المتلاحمة ثلاثة أبعرة، وفي السمحاق أربعة أبعرة، فقد قدرت هذه الأربعة ولم تقدر الشجة الأولى وهي الخارصة. وهذا أصح الأقوال لأن فيه أثراً ثابتاً عن زيد بن ثابت رواه البيهقي وهو أثر صحيح عنه. وقد أشار إلى ضعفه البيهقي ب"محمد بن راشد المكحولي" وهو ثقة، فتضعيف البيهقي لا وجه له.

هذا هو أصح الأقوال وأنا نقدرها بالتقدير الثابت عن زيد بن ثابت. وأما الخارصة: فإننا نحكم بالعدل، فإن أمكنت النسبة وكانت أعدل من الحكومة فإنا نحكم بها وإلا فإنا نحكم بالحكومة. والمقصود هو العدل في هذه الأبواب إلا أن يرد أثر فيحكم بالأثر. (باب العاقلة وما تحمله) العاقل: من العقل وهي الدية، وسميت الدية عقلاً لأن الإبل تعقل أي يوضع الحبل في رجلها فتربط فلما كانت الدية في الأصل هي الإبل سميت الدية عقلاً. قال: [عاقلة الإنسان: عصبته كلهم] . فهم عصابته الذكور كلهم وهذا بالإجماع، أما ذوو الأرحام فليسوا من العاقلة وهذا باتفاق أهل العلم. ووجه شيخ الإسلام أن ذوي الأرحام يكونون من العاقلة إن عدمت العصبة وفيه قوة. وهذا كما ذكر رحمه الله بناءً على القول بوجوب النفقة عليهم وتقدم تقرير وجوب النفقة عليهم. قال: [من النسب والولاء قريبهم وبعيدهم] . قريبهم: كالأخ. وبعيدهم: كابن ابن ابن العم. وكذلك الحاضر منهم والغائب، وخالف مالك في الغائب لأن التحمل بالنصرة ولأن فيه مشقة. قال: [حتى عمودي نسبه] . أي الآباء والأبناء، فهم من العاقلة. وهذا هو مذهب المالكية والأحناف والمشهور في مذهب الحنابلة واستدلوا بعمومات الأدلة. فمن ذلك ما ثبت عند الخمسة إلا الترمذي من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده: أن النبي - صلى الله عليه وسلم -?قضى بدية المرأة على عصبة القاتلة من كانوا، ولا يرثون منها شيئاً إلا ما فضل عن ورثتها) . والشاهد قوله "على عصبة القاتلة" وهذا عام وغير ذلك من الأحاديث التي فيها ذكر العصبة، والآباء والأبناء من العصبة. وقال الشافعية وهو رواية عن الإمام أحمد، أن الآباء والأبناء ليسوا من العاقلة. واستدلوا: بما روي في أبي داود أن النبي - صلى الله عليه وسلم -????بّرأ زوجها وولدها??أي من العقل. وللحديث المتقدم أن النبي - صلى الله عليه وسلم -??قال????ولا يرثون منه شيئاً إلا ما فضل?عن ورثتها?

والحديث الذي رواه أبو داود ?أن النبي - صلى الله عليه وسلم -?برّأ زوجها وولدها??فيه مجالد بن سعيد وهو ضعيف. وحديث عمرو بن شعيب ليس صريحاً في ذلك، فقد أوجبها على العصبة، ثم العصبة في الغالب ليسوا ممن يرث فبين النبي - صلى الله عليه وسلم -?أن هذا العقل منهم لا يقتضي إرثهم إلا ما دل الدليل الشرعي على توريثه. ???والمعنى يدل على هذا: إذ لا يناسب أن توجب على الأباعد ولا تجب على الأب والإبن. ويحتمل أن يجاب عن هذا فيقال: إنا إذا أوجبناها على الأب والابن فقد يتحملها القاتل نفسه، والمقصود منه المواساة فإذا أوجبنا على الأب فإن ذلك يشق على الابن القاتل فلم يكتمل في ذلك معنى المواساة. وإذا أوجبناها على الابن فإن مال الابن مالُ لأبيه، وقد قال - صلى الله عليه وسلم -??أنت ومالك لأبيك?? والقولان متجاذبان وقال بعض أهل العلم، وهو قول في المذهب، تجب على الجاني نفسه، فالجاني نفسه يكون له من ذلك نصيب واختاره الشيخ عبد الرحمن بن?سعدي، وظاهر الحديث عدم وجوب ذلك لأن النبي - صلى الله عليه وسلم -?أوجب ذلك على العصبة، وظاهره أنه لا يجب على القاتل شيء وقال الشيخ السعدي: أنه لا يناسب أن يوجب ذلك على العصبة ولا يجب ذلك على الجاني. وهذا وإن كان فيه قسوة من حيث النظر لكن ظاهر الحديث يخالفه. فالأظهر أنها تجب على العصبة، وأما وجوبها على الآباء والأبناء، فذلك موضع تردد والأصل في المال العصمة. ولذا: فيقوى ما ذهب إليه الشافعية، فإن الأصل في المال العاصمة فقد أوجبه النبي - صلى الله عليه وسلم -?على العصبة وورد ما يقوي عدم وجوبه على الآباء والأبناء. وحيث كان الأصل مع هذا القول ففيه قوة لأن الأصل عصمة مال الابن وعصمة مال الأب إلا أن يأتي دليل يدل على وجوب إخراج شيء من ماله، وليس عندنا دليل ظاهر في ذلك فعلى هذا يقوى ما ذهب إليه الشافعية وهو رواية عن الإمام أحمد. قال: [ولا عقل على رقيق] .

فالرقيق لا عقل عليه، وذلك لأن الرقيق لا يملك فلم يكن من أهل المواساة. قال: [وغير مكلف] . ????سواء كان مجنوناً أو صبياً، فلا يجب العقل في مالهما وذلك لأنهما ليسا من أهل النصرة وهذا هو مذهب جماهير العلماء. قال: [ولا فقير] . ???لأن الفقير ليس من أهل المواساة فلم تجب عليه. قال: [ولا أنثى] . ????لأنها ليست بعصبة، وقد أوجبها النبي - صلى الله عليه وسلم -?على العصبة ولأنها ليست من أهل النصرة. قال: [ولا مخالف لدين الجاني] . ???فإذا كان الجاني مسلماً وكان من عصبته من هو يهودي أو نصراني أو العكس فلا عقل عليه وذلك لأنه ليس من أهل النصرة. فإذا كانت العاقلة معدومة أو كانوا فقراء فيجب العقل في بيت المال لما ثبت في الصحيحين في قصة قتيل خيبر: أن النبي - صلى الله عليه وسلم -?فداه بمائةٍ من إبل الصدقة) . فإن لم يقم بيت المال بذلك فلم يتحمله. سقطت في المشهور في المذهب فلا يجب لأولياء المقتول شيء وكذلك المجني عليه لا يجب عليه شيء فتسقط. قالوا: لأنها واجبة على العاقلة، فالشارع أوجبها على العاقلة وقد عجزوا فسقطت فلا تجب على القاتل. والقول الثاني وهو مذهب الشافعية وهو وجه ذكره بعض الحنابلة وهو اختيار شيخ الإسلام: أنها تجب. قالوا: لأن الأصل أن الضمان يجب عليه لأنه هو الجاني ولأن الدية قيمة متلفه وأوجبت على العاقلة تخفيضاً ومواساة، وحيث لم تكن هناك عاقلة أو عجزت العاقلة فإنا نرجع إلى الأصل فنوجبهاً على الجاني. وقد قال تعالى: ???فدية مسلمة إلى أهله)) ?فأوجب الله الدية لهم فلا بد أن تصل إليهم سواء من طريق العاقلة أو من بيت المال أو من القاتل نفسه. وهذا هو القول الراجح، لأن هذا قيمة متلفه والأصل في الضمان أن يكون في مال الجاني، فأوجب تخفيفاً على العاقلة فحيث لا عاقلة نعود إلى الأصل فنوجبه على الجاني.

فإذا كان الجاني كافراً فإنها تجب عليه نفسه، إن لم تكن له عاقلة في المشهور من المذهب وهو ظاهر على القول الذي تقدم ترجيحه ولا تجب في بيت المال لأن بيت المال لا يعقل عن الكفار فهو بيت مختص بالمسلمين. والعاقلة يوجبها الحاكم ولا يشق على العصبة، فينظر إلى ما يستطيعون فيوجبها على العصبة من غير أن يشق عليهم، لأنها إنما وجبت على جهة المواساة فلم يناسب أن يجحف. والمشهور في المذهب: أنها تجب على الأقرب فالأقرب، فإذا كان له اخوة وأعمام، فإنا نوجب الدية على أخوته ونقسمها على ثلاث سنين كما تقدم، على حسب ما يناسبهم بحيث لا نشق عليهم، ولا نوجبها على عمومته. ??قالوا: قياساً على الإرث وولاية النكاح. وقال الأحناف: بل تجب على جميع العصبة الأقارب والأباعد ولو أمكن أن يتحملها أقاربه. قالوا: لظاهر الحديث فإن النبي - صلى الله عليه وسلم -?أوجبها على عصبة القاتل فظاهر هذا أنها تجب على جميعهم. وهذا هو القول الراجح لظاهر الحديث. وأما الجواب عما ذكره الحنابلة، فإننا نقول ثمت فارق بين أولياء النكاح والإرث وبين العاقلة. والفرق أن العاقلة من المناسب أن يتحمل ذلك الجميع لأن في ذلك مصلحة لأن في ذلك تخفيفاً. وأما ولاية النكاح فإنه لا يناسب فيها أن يكون العصبة كلهم أولياء لأن في ذلك ضرراً في المرأة. وفي الإرث كذلك: لأن حينئذ يكون النفع من المال قليلاً فإذا أكثرنا الورثة كان النفع قليلاً حتى أنه لا يكاد يستفيد منه الورثة. قال: [ولا تحمل العاقلة عمداً محضاً] . ????إذا قتل عمداً، أو قطع طرفاً عمداً، أو جرح عمداً، فلا تجب على العاقلة من ذلك شيء. يدل على هذا ما روى البيهقي بإسناد صحيح عن ابن عباس قال: (لا تحمل العاقلة عمداً ولا صلحاً ولا اعترافاً?ولا ما جنى المملوك) . وقوله: "ولا ما جنى المملوك" أي ما جني على المملوك كما فسره الأصمعي وابن أبي ليلى وأبو عبيد ولم أر مخالفاً لهذا التفسير.

والنظر يدل على هذا لأنا إنما أوجبناه على العاقلة في الخطأ وشبه العمد، تخفيفاً والمتعمد لا يناسب التخفيف عليه. قال:???ولا عبداً] . ????إذا قتل عبداً أو جنى على عبد فإنا لا نوجب على العاقلة شيء وذلك للأثر المتقدم. ووجهه من حيث النظر أن العبد مالُ فيجري مجرى المال، فلو تعمد الرجل فقتل بهائم أو غير متعمد فكما لو جنى على شيء من الأموال الأخرى، وعلى ذلك فالعاقلة لا يتحمل?شيئاً بذلك فكذلك إذا جنى على العبد مخطئاً أو شبه عمد. قال: [ولا صلحاً] إذا ادعى على رجل أنه قتل رجلاً، وهو ينكر ذلك فقيل له، احلف، فقال: أنا لا أحلف ولكن اطلبوا ما شئتم من المال فقالوا: تريد كذا من المال، واطلبوا منه قدر الدية. فهذا لا تتحمله العاقلة: وذلك لأنه وجب من قبل نفسه وكان يمكنه أن يدفع ذلك عن نفسه باليمين. قال: [ولا اعترافاً لم تصدقه به] . ???فإذا ذهب رجل إلى القاضي واعترف أنه قتل رجلاً خطأً فتجب عليه الدية لكن العاقلة لا تتحمل ذلك إذا كانت لم تصدقه به. لما تقدم من أثر ابن عباس. ولأنه يمكن أن?يتواطأ على ذلك هو وأولياء المقتول يوجبون ذلك على العاقلة. لكن: إن صدقته العاقلة بهذا الإقرار فيجب عليهم ذلك. قال: [ولا ما دون ثلث الدية التامة] . ??الدية التامة هي دية الذكر المسلم وهي مائة من الإبل فإذا وجب عليه الدية أقل من ثلث الدية التامة فإن العاقلة لا تتحمل ذلك. فإذا وجبت دية الموضحة أو دية المنقلة فإنها لا يتحملها العاقلة. أما إذا وجبت عليه دية لممون فإن العاقلة يتحملها إن كانت دية مسلم ذكر. لكن لو كانت المأمومة من كتابي أو امرأة ولو كانت مسلمة فإنها لا تتحملها العاقلة وذلك لأنها أقل من ثلث الدية?التامة. واستدلوا: بأثر ونظر. أما الأثر: مما ذكروه عن عمر أنه قضى بذلك.

قال الشيخ الألباني في إرواء الغليل: لم أقف عليه وكذلك قال المعلقان على كتاب المغني ينظر في كتاب التكميل للشيخ صالح ولم يعزُ هذا الأثر من ذكره من الحنابلة. وأما النظر: فقالوا: الأصل أن?المال يجب على الجاني وهذا هو قيمة متلفه، فإذا كان ثلث الدية التامة فاكثر فإنه يجب على العاقلة لأن الثلث كثير يُجحف به فقد قال- صلى الله عليه وسلم -??الثلث والثلث كثير) . وأما إذا كان دون الثلث، فإنا نوجبه عليه هو واستثنوا من ذلك مسألة يورد دليلها عليهم وهذه المسألة: هي دية الجنين إذا مات مع أمه أو بعدها والجناية واحدة. ??واستدلوا: بالحديث المتفق عليه فإن النبي- صلى الله عليه وسلم -?قد أوجب دية الجنين وهي عزة عبد أو أمة أوجبها على العاقلة وهي أقل من الثلث. فقالوا: كان تبعاً لأمه لأن الجناية واحدة، هذا إذا كان معها أو بعدها. وأما إذا كان قبلها فإنها تجب على الجاني نفسه. والقول الثاني في المسألة: وهو مذهب الشافعية أن العاقلة تتحمل دية الخطأ وشبه العمد سواء كانت الثلث فأكثر أو كانت أقل من الثلث. قالوا: لأن ما تحمل الكثير فإنه يتحمل القليل. وهو فيما يظهر لي أقوى. وذلك للحديث المتفق عليه أن النبي- صلى الله عليه وسلم -?أوجب دية الجنين على العاقلة، وهي أقل من الثلث. وما ذكر الحنابلة ليس بمؤثر فإنه يمكن أن تفصل، فتجعل دية الجنين عليها ودية المقتولة الأم على العاقلة. فالأظهر أن الدية يتحملها العاقلة مطلقاً سواء كان ثلث فأكثر وكانت أقل من الثلث هذا هو الصحيح وهو مذهب الشافعية. "فصل" ????هذا الفصل في كفارة قتل الخطأ وشبه العمد قال تعالى: ((وما كان لمؤمن أن يقتل مؤمناً إلا خطأً ومن قتل مؤمناً خطأً فتحرير رقبة مؤمنة ودية مسلمة إلى أهله إلى أن قال??فإن لم يجد فصيام شهرين متتابعين)) . قال رحمه الله: [ومن قتل نفساً محرمةً خطأً مباشرة?أو تسبباً بغير حق فعليه الكفارة] .

من قتل نفساً معصومة ذكراً كانت أو أنثى، حراً أو عبداً صغيراً أو كبيراً ولو جنينا مسلماً أو ذمياً أو مستأمناً فيجب في ذلك الكفارة. ?قال تعالى: ((وإن كان من قوم بينكم وبينهم ميثاق فدية مسلمة إلى أهله وتحرير رقبة مؤمنة)) ? سواء كان متسبباً أو مباشراً، وسواء كان منفرداً بالجناية أو مشاركاً فتجب عليه الكفارة. وظاهره: ولو نفسه، وهو المشهور في المذهب لعموم قوله تعالى: ???ومن قتل مؤمناً خطأً فتحرير رقبة مؤمنة????فيدخل في هذا العموم قاتل نفسه. وقال الأحناف وهو رواية عن الإمام أحمد وقول الموفق واختاره الشيخ السعدي: أن قاتل نفسه ليس عليه كفارة أي لا يخرج من ماله وهذا هو القول الراجح. ويدل عليه ما ثبت في الصحيحين، أن عامر بن الأكوع رجع عليه سبعة فقتل نفسه، فلم يوجب النبي- صلى الله عليه وسلم -?الكفارة في ماله) . وأما الآية: فسياقها فيمن قتل غيره بدليل قوله تعالى (فدية مسلمة إلى أهله) . والكفارة: تحرير رقبة فإن لم يجد رقبة فصيام شهرين متتابعين للآية المتقدمة. وتقدم الكلام في باب الظهار، تقدم الكلام على تحرير الرقبة وصيام الشهرين المتتابعين. فإن لم يستطع أن يصوم شهرين متتابعين. فالمشهور في المذهب أنها تسقط. والقول الثاني في المسألة: وهو رواية عن الإمام أحمد أنها لا تسقط. وينبني هذا الفرع على مسألة أصولية وهي هل يصح القياس في باب الكفارات أم لا؟ وأصح قولي العلماء صحة القياس فيها لأنها معقولة المعنى. وعليه: فتقاس كفارة القتل على كفارة الظهار وكفارة المجامع في نهار رمضان. والصحيح أنها لا تسقط بل إن لم يستطع أن يصوم شهرين متتابعين فإنه يطعم ستين مسكيناً. " باب القسامة " ???القسامة: من أقسم يقسم قسماً وقسامةً، فالقسامة اسم للقسم هذا لغةً: والقسم معروف وهو الحلف. وأما في الاصطلاح فعرفها المؤلف بقوله: ??وهي أيمان مكررة في دعوى قتل معصوم] . ??سواء كان المعصوم مسلماً أو كافراً.

والأصل في القسامة ما ثبت في الصحيحين عن سهل بن أبي حثمة عن رجال من كبراء قومه، أن عبد الله بن سهل، ومحيصة بن مسعود خرجا إلى خيبر من جهد أصابهم، فأتى محيصة فأخبر أن عبد الله بن سهل قد قتل وطرح في?عين فأتى يهود فقال: أنتم والله قتلتموه، قالوا: والله ما قتلناه، فأقبل هو وأخوه حويصة وعبد الرحمن بن سهل، فذهب محيصة ليتكلم فقال رسو الله- صلى الله عليه وسلم -???إما أن يدوا صاحبكم وإما أن يأذنوا بحرب) ?فكتب إليهم في ذلك فكتبوا: إنا والله ما قتلناه، فقال لحويصة ومحيصة وعبد الرحمن بن سهل " أتحلفون وتستحقون دم صاحبكم" قالوا: لا قال فيحلف لكم يهود" قالوا: ليسوا مسلمين، فوداه رسول الله- صلى الله عليه وسلم -??من عنده، فبعث إليهم مائة ناقة) . وفي صحيح مسلم: أن النبي- صلى الله عليه وسلم -??أقرّ القسامة على ما كانت عليه في الجاهلية) . وقوله في دعوى قتل معصوم: سواء كان القتل له أثر كأن يكون ملطخاً بالدم أم لم يكن له أثر وذلك لأنه يحتمل أن يقتل خنقاً أو نحو ذلك. ولأن النبي- صلى الله عليه وسلم -?لم يستفصل الأنصار لما أدعوا على اليهود لم يستفصل أوجدوه ملطخاً بالدماء أم لا، فدل على أنه لا يشترط أن يكون هناك أثر للقتل وهو مذهب جمهور العلماء. قال: [ومن شرطها اللوث وهي العداوة، الظاهرة كالقبائل التي يطلب بعضها بعضاً بالثأر] . ?????فمن شرطها العداوة الظاهرة وليست الباطنة كالأحقاد ونحوها التي تكون بين الأسر أو بين الطوائف أو الأشخاص. بل من شرطها العداوة الظاهرة كالقبائل التي يطلب بعضها بعضاً بالثأر. هذا هو المشهور في مذهب الحنابلة. ??وقال الشافعية: بل متى ما ترجحت صحة الدعوى أي هناك قرائن تدل على صحة الدعوى فهي لوث فثبت به القسامة واختار هذا شيخ الإسلام وتلميذه ابن القيم وهو رواية عن الإمام أحمد. بمعنى يكفي في إثبات القسامة ترجح صحة الدعوى وإن لم تكن العداوة ظاهرة.

كأن يتفرق جماعة عن قتيل أي ازدحموا فأنفض هذا الازدحام وهناك قتيل. فإن أدعى أولياء المقتول على أحدٍ ممن حضر فإن هذه قرينة تقوي صحة دعواه. أو كان عند المقتول رجل معه سيف أو سلاح ونحو ذلك فهذه قرينة تقوي. أو شهد نساء أو صبيان، وشهادة النساء والصبيان لا تقبل هنا لكنها تكون قرينة قوية، لا سيما إذا تبين أنهم لن يتواطؤا على ذلك، فحينئذ يكون لوثاً تثبت به القسامة ولا نقول يثبت معه القتل لأنها ليست بينة. وهذا القول هو الراجح وإن هذا الحكم ليس خاصاً بما ذكره الحنابلة بل يثبت بكل ما ترجحت معه صحة الدعوى. وعلى هذين القولين ينبني فرع: وهو أن يقال، هل تثبت القسامة في الخطأ وشبه العمد كما تثبت في العمد أم لا؟ فعلى قول الحنابلة: لا تثبت إلا في العمد لأنهم اشترطوا العداوة الظاهرة، والعداوة الظاهرة ينتج منها قتل عمدٍ لا قتل شبه عمد أو خطأ. ولذا فإن المشهور في مذهب أحمد أن القسامة لا تثبت في شبه العمد والخطأ. وعلى قول الشافعية تثبت في الخطأ وشبه العمد لأنه متى ترجحت القرينة التي تقوي أنه قد قتل فإن القسامة تثبت سواء كان قتل عمد أو خطأ أو شبه عمد. وتقدم ترجيح قول الشافعية وهذا الفرع ينبني عليه فهو الراجح. والقسامة باتفاق العلماء مختصة بالنفس، أما ما دون النفس من الأطراف والجراح فلا قسامة فيها. قال: [فمن أدعى عليه القتل من غير لوث حلف يميناً واحدة وبرئ] . رجل أدعى عليه أنه قد قتل فلاناً، فقال للمدعين وهل عندكم لوث قالوا: لا أو أدعوا ما ليس بلوث. فحينئذ: يحلف يميناً واحدة ولا?شيء عليه. هذا إذا كانت الدعوى توجب مالاً وذلك لأنه إذا نكل فقال لا أحلف فنوجب عليه الدية. مثاله: لو أدعى على رجل قتل ذمي فإذا نكل فلا يثبت عليه قود لأن قتل الذمي لا قود فيه فنقول له احلف فإن حلف برئ، وإن لم يحلف فإنه تجب عليه الدية. أما إذا كان يترتب عليه?قود:

فالمشهور في المذهب أنه لا يحلف، كأن يدعي عليه أنه قتل إنساناً مسلماً فلا نحلفه، وذلك لأنه إذا نكل عن اليمين فإنا لا نثبت القود بذلك لأن الحدود تدرأ بالشبهات إذن لا فائدة من تحليفه. والقول الثاني في المسألة: وهو قول في المذهب، واختاره عبد الرحمن بن سعدي، أنه يحلف لعموم قوله- صلى الله عليه وسلم -???واليمين على المدعى عليه) يعني من أنكر وهذا منكر فتجب عليه اليمين? والفائدة من هذه اليمين، أنه إذا نكل فهي تعتبر لوثا، فلا يقام عليه الحد بنكوله لكنه لوث فتثبت بها القسامة. فحينئذ: اجتمعت دعوى المدعي، ونكول المدعى?عليه فكانت?هذه قرينة قوية على صحة الدعوى. وهذا هو القول الراجح في المسألة. مسألة: ???ويشترط في القسامة اتفاق أولياء المقتول فإن أثبت بعضهم الدعوى وأنكرها البعض الآخر فلا قسامة لأنا لو أثبتنا القسامة فيترتب عليها القود ولا يمكن القود مع اختلافهم لأن القصاص لا يتجزأ. أما لو أثبته بعضهم ولم يثبته البعض الآخر لكنهم لم ينكروا بل قالوا لا ندري فهل تثبت القسامة أم لا؟ قولان لأهل العلم. القول الأول: أنها لا تثبت لعدم اتفاقهم وهذا هو مذهب مالك ووجه في المذهب الحنبلي. القول الثاني: أنها تثبت وهو مذهب الشافعية ووجه في مذهب الحنابلة. والقول الراجح هو القول الثاني: وذلك لأن النبي- صلى الله عليه وسلم -?لم يشترط ذلك في حديث عبد الله بن سهل المتقدم، واكتفى بقوله عليه الصلاة والسلام ??يقسم خمسون منكم على رجل واحد منهم فتأخذونه برمته) . فلم يشترط النبي- صلى الله عليه وسلم -?أن تجمع على ذلك الأولياء. مسألة: ????القسامة لا تصح?إلا على معين سواء كان فرداً أو جماعة لقول النبي- صلى الله عليه وسلم -?على رجل منهم. فإن كانت على غير معين كأن تكون على رجل مبهم أو على رجلين من غير تعيين أو كانت على أهل بلدٍ لا يمكن حصرهم فإن القسامة لا تثبت.

والمشهور في المذهب أنه يشترط أن يكون واحداً وأن القسامة لا تكون على أكثر من واحد. وعن الإمام أحمد: أنها تثبت على الجماعة كما تثبت على الواحد هو الراجح في هذه المسألة. لأن القسامة بينة تثبت بها الحد على النفس، فتثبت بها الحد على أكثر من نفس. فإن كانت على جماعة وقلنا بثبوت القسامة فهل يثبت القود على الجماعة فيقتلون أم لا يثبت إلا الدية؟ قولان لأهل العلم: الجمهور قالوا: بالدية، قالوا: لأن القسامة بينة ضعيفة فلم يثبت بها القود على أكثر من نفس. مذهب الشافعية: أن القود يثبت بها على أكثر من نفس وهو القول الراجح في هذه المسألة. ???لأنها بينة قوية بدليل قتل النفس بها، وحيث يثبت بها قتل نفس فلا مانع أن يثبت بها قتل أكثر من نفس. قال: [ويبدأ بإيمان الرجال من ورثة الدم] . فيبدأ بالمدعي، وهم ورثة الدم فيحلفون أي الرجال، خمسين يميناً. وأما النساء فلا دخل لهن في القسامة وكذلك الصبيان وهذا باتفاق العلماء. أما الصبيان فقولهم ليس بحجة. وأما?النساء فلقوله- صلى الله عليه وسلم -????يحلف خمسون منكم) ?أي خمسون رجلاً. وورثة الدم كالأخ والعم وان العم والابن والزوج. قال: [فيحلفون خمسين يميناً] . ????تقسم بينهم على إرثهم من الميت، فتوضع مسألة للميت ثم تقسم هذه الأيمان بحسب إرثهم، فإذا كان له خمسة من الأبناء فعلى كل ابن عشرة أيمان. والزوج إن لم يكن لها أولاد عليه قدر النصف من هذه الأيمان. قالوا: ويجبر الكسر. هذا هو المشهور في مذهب الإمام أحمد. واستدلوا: بقوله - صلى الله عليه وسلم -????أتحلفون وتستحقون دم صاحبكم?? قالوا: والمستحق هم الورثة. والقول الثاني في المسألة: وهو مذهب مالك وفيه تفصيل ورواية عن أحمد أن الذي يحلف هم العصبة، الأقرب فالأقرب، ولابد أن يحلف خمسون رجلاً كل رجل يميناً واحداً. فيبدأ بتوزيعه على أبنائه، ثم على إخوانه وبني إخوانه ثم أعمامه وهكذا، كما تقدم في ترتيب العصبة في الإرث.

ويستدل على هذا القول: بما ثبت في الصحيحين في هذا الحديث أن النبي- صلى الله عليه وسلم -?قال: ?يقسم خمسون منكم على رجل منهم فتأخذونه برمته) . وقال - صلى الله عليه وسلم -????فتبرؤكم يهود بأيمان خمسين منهم?? وهذا هو القول الراجح وهو ظاهر الحديث، وبه يتم الاحتياط التام للدم. وأما قوله - صلى الله عليه وسلم -????اتحلفون وتستحقون دم صاحبكم) ?فإن استحقاق الدم ليس مختصاً بالورثة. نعم الورثة يستحقون إرثه لكن عصبته يستحقون ذلك لما في قلوبهم من الغيظ ولما يحتاجونه من التشفي من قتل موليهم. ثم الحديث المتقدم نص ذلك. وأما ما ورد في بعض الروايات من أنهم يقسمون خمسين يميناً فإن الخمسين يميناً تدخل في أقسام خمسين رجلاً ولا يدخل قسم خمسين رجلاً في خمسين يميناً. ولا يقسم إلا من علم نسبه منه، أي علم أنه يتصل نسبه فعلاً عند فلان من أجداده. وأما إذا كان لا يعلم اتصال نسبه كما يقع هذا في القبائل والتي لها عشائر كبيرة، فإنهم لا يعلمون متى يجتمعون في النسب كما لو كان قرشياً من قريش في هذا الوقت فإنهم لا يعلمون متى يكون اجتماع النسب القريب، فإنه لا يحلف ويدل على هذا أن الناس كلهم من أب واحد فيهم اتصال في النسب ومع ذلك لا أحد يقول إن أي رجل يقسم فلا بد أن يكون النسب معلوماً اتصاله كما قرر هذا الموفق ابن قدامة. قال: [فإن نكل الورثة أو كانوا نساءً حلف المدعى عليه خمسين يميناً وبرئ] . ???فإذا نكل الورثة عن الحلف أو كانوا نساءً فإن المدعى عليه يحلف خمسين يميناً ويبرأ. لقوله- صلى الله عليه وسلم -?لما قال لهم: ??أتحلفون وتستحقون دم صاحبكم??قالوا: لا فقال النبي- صلى الله عليه وسلم -???فيبرؤكم يهود بأيمان خمسين منهم) . فإن لم يرض الورثة بحلفه إما لفسقه أو لكفره أو نحو ذلك فتثبت ديته في بيت المال. فإن نكلوا أي المدعى عليهم، عن الحلف فإنه تثبت الدية ولا يثبت القود لأن القود لا يثبت في النكول وإنما يثبت الدية.

كتاب الديات إلى باب العاقلة وما تحمله

كتاب الديات الديات: جمع دية. والدية: هي المال المُؤدَّى إلى المجني عليه أو أوليائه بسبب الجناية. متى يؤدي إلى المجني عليه؟ إذا كان فيما دون النفس، في قطع طرف، كأن تقطع يده، أو يُجرح وكان في ذلك الدية، فإنها تؤدى إلى المجني عليه. وأما إذا كان في النفس، فإنها تؤدى إلى أوليائه. قوله: [كل من أتلف إنسان بمباشرة أو بسبب، لزمته ديته] " بمباشرة "، هذا واضح، كأن يأخذ السيف ويضرب عنقه. " أو سبب " كأن يطلق عليه سبُعاً مثلا، فيقتله، فيكون هو الذي تسبّب. فإما أن يكون بمباشرة أو بتسبُّب، فليس هو الذي باشر، بل باشر غيره، كحيوان مفترس. قال " إنسانا " فيدخل في ذلك الذمي والمستأمن، يعني إنسانا معصوما، ولذا قال تعالى: {وإن كان من قوم بينكم وبينهم ميثاق فدية مسلَّمة إلى أهل} ، إذاً الدية حتى في النفوس المعصومة التي ليست بمسلمة، كالذمي والمستأمن، فإن فيه الدية، كما سيأتي إن شاء الله. قوله: [فإن كانت عمداً محضا ففي مال الجاني] إن كان الجناية عمدا محضا، سواء كانت في النفس أو في الجراح أو في الأطراف، فليست خطأ وليست شبه عمد، بل هي عمد محض. قال " ففي مال الجاني " فالدية تكون في مال الجاني، فإذا لم يختر القود – القصاص - فتكون الدية في مال الجاني إجماعا، لقوله تعالى: {ولا تزر وازرة وزر أخرى} ، فلا نوجبها على العاقلة، وهم العصبة، وإنما نوجبها على الجاني نفسه، وفي أبي داود والترمذي وابن ماجه أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: (لا يجني جانٍ إلا على نفسه، لا يجني والد على ولده، ولا مولود على والده) ، إذاً الجناية تكون على الجاني، وهذا هو الأصل في ضمان المتلفات، فالأصل في ضمان المتلفات أنه يكون على الجاني المُتلِف نفسه، ولا يتحمّله غيره. قوله: [حالَّة]

نقول له: الآن تدفع الدية، فتكون حالة، ليس فيها تأجيل، وهذا هو الأصل في ضمان المتلفَات، فالأصل في ضمان المتلفات الحلول لا التأجيل. إذاً جناية العمد المحض، تكون في مال الجاني، سوى ما تقدم من الصبي والمجنون، فإن عمد الصبي والمجنون خطأ، فهنا إن كانت الجناية عمدا محضا، فإنها في مال الجاني وتكون حالة. قوله: [وشبه العمد والخطأ على عاقلته] ويأتي إن شاء الله باب في العاقِلَة. فهنا لا تجب الدية على القاتل خطأ ولا شبه عمد، ولا على من قطع طرفا خطأ أو شبه عمد، ولا على من جرح خطأ أو شبه عمد، إنما تجب على العاقلة، وتقدم ما يدل على هذا وهو حديث الهُذَيْلية التي ضربت امرأة في بطنها فقتلتها وما في بطنها، فقضى النبي صلى الله عليه وآله وسلم على العاقلة " وهو حديث متفق عليه، فهذا في شبه العمد، والخطأ أولى. إذاً جناية شبه العمد أو الخطأ تكون على العاقلة، لكنها تكون مؤجّلة على ثلاث سنين باتفاق العلماء، وفي ذلك أثران عن عمر وعلي رضي الله عنهما في البيهقي، وإسناداهما في البيهقي ضعيفان، لكن لا خلاف بين أهل العلم في ذلك، والنظر يدل عليه، لأنها وجبت على العاقلة لا على الجاني من باب التخفيف والمواساة، فكان المناسب فيها هو التأجيل، فتؤجّل على ذلك على ثلاث سنين. ومتى يكون أول قِسْط؟ يكون أول قسط في النفس حين الموت، فاليوم الذي مات فيه يدفعون ثلث الدية، فلو أصيب فعاش يوما أو يومين ثم مات، فلا يكون الحساب من زمن الجناية، وإنما من حين الموت؛ لأن الدية استقرت بموته، ثم إذا جاء نفس الوقت من السنة القادمة، فيدفع القسط الثاني، ثم القسط الثالث في مثله من السنة الثالثة.

وأما في الأطراف والجراح، فإن كان الجرح أو الطرف قد سرى ثم اندمل، فمن حين اندماله، فنبدأ من حين توقفت فيه سراية هذا الجرح أو سراية هذا الطرف. وأما إذا لم تسر الجناية، فتكون من حين القطع. إذاً دية الخطأ وشبه العمد على العاقلة. * فإن تعذّر أن يكون ذلك على العاقلة، كأن لا يطبَّق هذا في بعض البلدان، أو لا تكون له عاقلة، فعلى من يكون؟ مذهب الجمهور: أنه يكون على بيت المال. واختار شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: أنه يكون على الجاني نفسه، فنرجع الدية على الجاني نفسه، لأنها إنما وجبت على عاقلته من باب التخفيف والمواساة له، وإلا فإن الأصل أن ضمان المتلفات على المتلِف نفسه. وهذا القول هو الأرجح، كما أنه أقوى في حفظ الحق وعدم ضياعه، فنقول: إن كانت له عاقلة فعلى عاقلته، فإن لم تكن له عاقلة، فعليه هو، لأن الأصل في ضمان المتلفات أن تكون على الجاني أو المتلِف نفسه. قلنا إنها تؤجل ثلاث سنين، لكن إن كانت المصلحة في دفعها حالّة، فإنها تدفع حالة ولا تؤجل، فإذا رأى القاضي أو السلطان أنها تدفع حالة، فلتدفع حالة، كما لو كان يخشى من فوات الحق وهروب من عليه الدية، أو كان من عليهم الدية، وهم العاقلة أغنياء، وأولياء هذا المقتول فقراء. واختار هذا شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى، وقد نص على ذلك الإمام أحمد. قوله: [وإن غصب حُراًّ صغيرا، فنهشته حية أو أصابته صاعقة … وجبت الدية] رجل غصب حرا صغيرا ابن عشر سنين، ثم وضعه في حجرة، وإن كان الحجرة مفتوحة الأبواب، لكن المقصود أن يد هذا الغاصب عليه، فنهشته حية أو أصابته صاعقة أو حصل له وباء في ذلك الموضع، فتلف، فعليه الدية؛ لأنه متسبِّب، فكل ما له ارتباط بالمحل الذي وضعه فيه، حتى لو أخذه إلى داره وأصيبت هذه الدار بصاعقة أو أتاها سبع أو نحو ذلك، فتلف هذا المُغتصَب، فإن عليه الضمان، لأنه هو المتسبب.

قوله: [أو مات بمرض] إذا مات بمرض، هكذا قُدِّر عليه، لا ارتباط له بالمَحلِّ. اغتصبه – يعني سرقه -، ثم إن هذا الصبي أو الصبية أتاه مرض، هذا المرض لا ارتباط له بالمحل الذي وضع فيه، فهنا قالوا أيضا: عليه الضمان. وهذا أحد القولين في المذهب. وأما المشهور في المذهب فهو: أنه لا ضمان عليه. أهل القول الأول قالوا: إن يده يد غصب، واليد الغاصبة تضمن مطلقا، فلو اغتصب مالا كدراهم أو دنانير، ثم إنها تلفت، ولم يكن هذا التلف بتعد منه ولا تفريط، فهل يضمن؟ نعم، يضمن، فعلى اليد ما أخذته حتى تؤديه. أو: رجل سرق سيارة، ثم إن هذه السيارة أُحرقت أو أتتها صاعقة أو أي شيء من ذلك، فإنه يضمن، لأن على اليد ما أخذته حتى تؤديه، وهذا يده يد غصب، ويد غصب ضامنة مطلقا. وأما القول الثاني، فقالوا: إنه لم يباشر قتله، ولم يتسبب في قتله، لأن القتل لم له ارتباط بالمحل الذي هو فيه، وأما كون يده يد غصب، فإن هذا إنما في الأموال، وأما هذا فهو حر، وليس بمال. وهذا هو القول الأرجح. فالأرجح وهو المذهب: أنه لا ضمان؛ وذلك لأن يد الغاصب إنما تضمن الأموال، وهذا حر وليس بمال، ولذا قيَّد في المسألة " وإن غصب حرا "، وذلك لأنه لو غصب عبداً، فإنه أولا لا دية، بل فيه القيمة، ثم يثبت الضمان مطلقا بكل الأحوال، لأن العبد مال. قوله: [أو غلَّ حُراًّ مكلفا وقيّده، فمات بالصاعقة أو الحية، وجبت الدية فيهما] هناك لم يشترط في الصبي أن يُقيَّد، وأما هنا فإنه اشترط ذلك في المكلف، لأن الصبي اليد عليه وإن لم يكن مقيدًا، فاليد على الصبي وإن لم يكن مقيّداً، لأنه لا يكاد يتمكن من الفرار والهرب، وإن لم يكن مقيّداً، كما أن حرصه على مصلحة نفسه، ليست كالمكلف. " غلّه ": بحبل في عنقه ويديه. " وقيّده ": في رجليه.

وقال في الفروع: " أو قيّده "، وهذا أصح، لأنه لو قيده، فكذلك، والمقصود أنه يمنعه من الهرب والمدافعة عن النفس، فلم يتمكن لا من الهرب، ولا من المدافعة عن نفسه، فهذا حرٌّ مكلف قد قيد بحيث لا يتمكن من الهرب ولا يتمكن من الدفاع عن نفسه، فمات بالصاعقة، لأنه مقيد لا يتمكن من الخروج من هذا الموضع الذي وضع فيه، أو دخلت عليه حية وهو لا يتمكن من إنقاذ نفسه، وجبت الدية، لكن لو كانت الأبواب مفتوحة ويمكنه الفرار، فليس كالصبي، لكن لو كان يعلم أنه لو خرج من هذه الغرفة فهناك أسوار، فلا فائدة، فهذا كما لو قُيِّد، لكن الحية يتمكن من الفرار منها، أما الصاعقة، فإنه إذا وضع في غرفة ولو كانت مفتوحة، فكما لو أُغلقت، مادام أنه يعلم أن وراء هذه الغرفة أسوار لا يتمكن من الخروج منها. إذاً المقصود أنه متى ما كان متسبِّباً، قد حبسه في هذا الموضع، بحيث لا يتمكن من إنقاذ نفسه، فإن الضمان يكون عليه. وهنا مسألة: هل في ضربة السوط واللطمة وإحراق المال، قصاص أم فيه الضمان؟ - قال جمهور العلماء: لا قصاص فيه، فلو لطم رجل آخر، فهل نقول للآخر: الطمه، أو ضربه بسوط، فهل نقول: اضربه بسوط، أو أحرق سيارته، فهل نقول: لك أن تحرق سيارته؟ قالوا: لا؛ لأن الغالب عدم المماثلة، فقد تكون لطمة أشد من لطمة، وسوط أشد من سوط، فلما كان الغالب عدم المماثلة لم يقولوا بالقصاص. - وقال شيخ الإسلام وتلميذه ابن القيم، وهو رواية عن أحمد، وهو مذهب طائفة من أهل الحديث، وهو قول ابن المنذر، قالوا: بل في ذلك القصاص، فله أن يقتص. رجل اعتدى على آخر فلطمه، فالقاضي يخيِّره بين أن يلطمه، وبين غير ذلك مما يكون فيه ضمان، كما يكون هذا في المال. وأما الجمهور فإنهم يقولون هنا بالتعزير.

إذاً قال شيخ الإسلام وتلميذه ابن القيم بالقصاص، واستدلوا بقوله تعالى: {وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به} وبقوله: {فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم} ، وبما روى البخاري أن عمر رضي الله عنه أقاد من الدِّرَّة وهي العصا - التي يضرب بها -، وأقاد عليٌّ رضي الله عنه من ثلاثة أسواط، وهذا هو القول الراجح. فإن قيل: إن الغالب عدم المماثلة كما تقدم؟ فنقول: إن العدل واجب بقدر الإمكان، ونقول لهم: أيهما أقرب، آلتعزير أم القصاص؟ فلو أن رجلا لطم، فالتعزير إما أن يكون بسوط أو سوطين أو يسجن يوما، هذا هو التعزير، فأيهما أقرب، هل الأقرب التعزير أم الأقرب اللطم إن لطم أو الضرب بعصا إن ضرب؟ الجواب: الأقرب الثاني؛ لأن التعزير سيكون بالسجن، وبين السجن وبين اللطمة من الفرق ما هو أعظم من الفرق ما بين لطمة أشد ولطمة أضعف. فإن قالوا في مسألة المال: إن في ذلك إتلافا في المال، فهذا رجلٌ يقول: إن زيدا أحرق سيارتي، وثبت عليه ذلك، ويقول: أريد أن أحرق سيارته التي تساوي هذه القيمة، أو قتل بعيره فقال: أريد أن أقتل بعيره كما قتل بعيري، قالوا: فهذا فيه إتلاف للمال؟ فنقول: أيهما أعظم إتلاف المال أم إتلاف الطرف؟ إتلاف الطرف، كاليد، أعظم من إتلاف المال، ولذا فإن هذا القول هو القول الراجح في هذه المسألة، وعلى ذلك نقول بالقصاص كما هو اختيار شيخ الإسلام وتلميذه ابن القيم وطائفة من أهل العلم. والله أعلم. انتهى الدرس الأول من كتاب الديات في ليلة الأربعاء الثامن عشر من رجب لعام 1420 للهجرة فصل قوله [وإذا أدَّب الرجل ولده أو سلطانٌ رعيته أو معلم صبيّه، ولم يسرف لم يضمن ما تلف به]

لأن ما ترتب على المأذون فليس بمضمون، فإذا لم يكن في التأديب إسراف، يعني زيادة في الضرب أو نحو ذلك، بل كان في موضعه، وكان المحِل قابلا للتأديب، فإن كان صبيا غير مميز، فإنه ليس بقابل للتأديب، يعني ليس محلا للتأديب. قوله: [ولو كان التأديب لحامل، فأسقطت جنينا، ضمنه المؤدِّب] كأن يؤدب زوجه الحامل فتسقط، ففيه الضمان، أو تُعزر امرأة حامل، فتسقط جنينها، فيكون في ذلك الضمان؛ لأن هذا ليس بمأذون فيه، فالإذن متوجه إلى تأديب المرأة، وأما الذي في بطنها، فإنه لا يتوجه إليه التأديب، فلما سقط هذا الجنين، فإنا نُضمِّن المتسبب، وهو هذا المؤدب. إذاً إذا أدّب امرأة فأسقطت جنينها، فنقول: فيه الضمان؛ لأنه متسبب، وليس في الجهة – وهي المرأة – التي قد أُذن في تأديبها. قوله: [وإن طلب السلطان امرأة لكشف حق الله] كحد من حدود الله، كحد الزنا، أو حق آدمي. قوله: [أو استعدى عليها رجل - أي طلبها لدعوى - بالشُّرَط في دعوى له، فأسقطت ضمنه السلطان والمستعدي] ضمنه السلطان في المسألة الأولى، والمستعدي في المسألة الثانية. فإذا استعدى رجل على امرأة بالشرط، يعني ذهب إلى الشرطة وقدّم دعوى على امرأة، فدُعيت من قبل الشرط، فأسقطت جنينها، أو أن السلطان أرسل إليها لكشف حق الله أو حق آدمي، فأسقطت، فإن السلطان يضمن. إذاً الضمان للجنين وذلك للتسبب، لأن الجهة قد اختلفت، فإن الذي يطالب بالحق هي المرأة، وقد تعدى الأمر إلى الجنين، وعلى ذلك: فنضمِّن هذا المتسبب، ويكون قتل خطأ. وهذا لا خلاف فيه بين أهل العلم. قوله: [ولو ماتت فزعا لم يضمنا] يعني لم يضمن السلطان في المسألة الأولى، ولم يضمن المستعدي في المسألة الثانية. وهذا قول في المذهب، واختاره الشيخ عبد الرحمن بن سعدي رحمه الله؛ لأن هذا الطلب مأذون فيه، وما ترتب على المأذون فليس بمضمون.

وأما المذهب فإن في ذلك الضمان، فيضمن السلطان في المسألة الأولى، ويضمن المستعدي في المسألة الثانية؛ قالوا: لأنهما متسببان. والراجح الأول، وهو قول في المذهب خلافا للمشهور في المذهب، وهو الذي اختاره المؤلف هنا، وهو مذهب الشافعية، واختاره أيضا الشيخ عبد الرحمن بن سعدي؛ وذلك للقاعدة المتقدمة أن ما ترتب على المأذون فليس بمضمون. لكن على ذلك لو كان هناك تعد من السلطان أو المستعدي، فإن في ذلك الضمان، فلو أن السلطان أرسل إليها قبل أن يتحرى ويتثبت، فأسقطت، فهنا يضمن السلطان , وكذلك المستعدي إذا أرسل إليها ظلما، فماتت فزعا، فإنه يضمن؛ وذلك لأن ذلك غير مأذون فيه، فطلبها من غير تحر أو ظلما هذا غير مأذون فيه. قوله: [ومن أمر شخصا مكلفا أن ينزل بئرا أو يصعد شجرة، فهلك به - أي بهذا بالصعود أو النزول - لم يضمنه] لأنه لم يكرهه، لكن لو أكرهه، فقد تقدم الكلام عليه في المسألة السابقة. قوله: [ولو أن الآمر سلطان] لأنه لم يكرهه، لكن لو عُلم من السلطان الظلم، وأنه لو لم يطعه لقتله أو نحو ذلك، فإن هذا يكون له حكم الإكراه. قوله: [وكما لو استأجره سلطانٌ أو غيره] فلو استأجر عاملا ليحفر له بئرا أو ينزل إلى البئر ليصلحها أو يصعد إلى الشجرة ليجني ثمرها، فسقط فمات، فإنه لا ضمان؛ لأنه لم يحصل منه تعد، ولأنه لم يكرهه، فهو مجرد مستأجر وقد فعل هذا الأمر باختياره. وقيّده بأن يكون " مكلفا "؛ لأنه لو لم يكن مكلفا، فأمره بذلك فتلف، فإن عليه الضمان؛ وذلك لأنه لا يؤذن له بمثل ذلك، فلا يؤذن له أن يأمر من ليس بمكلف بمثل ذلك، فيكون فيه تعد حيث لم يكن مكلفا. باب مقادير ديات النفس قوله: [دية الحر المسلم مئة بعير، وألف مثقال ذهبا – ألف دينار – أو اثنا عشر ألف درهم فضة أو مئتا بقرة أو ألفا شاة]

هذه هي أصول الدية في المشهور في المذهب: مئة من الإبل أو ألف دينار أو اثنا عشر ألف درهم أو مئتان من البقر أو ألفان من الشاة. وفي الحُلَل قولان: المشهور في المذهب: أنها ليست من أصول الدية. والقول الثاني خلافا للمشهور فيه: أن الحلل من أصول الدية، فيجب مئتا حُلَّة، والحلل من برود اليمن، يجتمع في الحلة إزار ورداء. إذاً الأصول في باب الدية في المذهب خمسة: الأصل الأول: الإبل. والأصل الثاني: الذهب. والأصل الثالث: الورِق، يعني الدراهم من فضة. والأصل الرابع: البقر. والأصل الخامس: الشياه. هذا هو المشهور في المذهب، واستدلوا بما روى أبو داود في سننه من حديث جابر أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قضى في الإبل مئة من الأبل، وفي البقر مئتين من البقر، وفي الشاء ألفي شاة، وفي الحلل مئتي حُلّة " وهذا عمدة من ذهب من أهل العلم بأن الحلل داخلة في أصول الديات. وأما الورِق فقد روى أهل السنن عن ابن عباس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قضى في رجل قُتل باثني عشر ألف درهم ". وأما الذهب، ففي النسائي من حديث عمرو بن حزم أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: (وفي الذهب ألف مثقال) . والقول الثاني في المسألة وهو مذهب المالكية والشافعية، وهو رواية عن الإمام أحمد، وهو قول أئمة الدعوة: أن الأصل الإبل، وأما ما سواه، فإنها قيمة الإبل. إذاً ننظر إلى قيمة الإبل في كل زمن، وهذا يختلف باختلاف الأزمان، فقد تكون قيمة مئة من الإبل، ثلاثمئة أو أربعمئة بقرة، أو تكون ثمانية آلاف درهم، وقد تكون عشرة آلاف درهم، وهكذا. وهذا هو القول الراجح. والأدلة التي استدل بها الحنابلة، فهي أدلة فيها ضعف، أما حديث عمرو بن حزم فهو مرسل، وأما حديث ابن عباس فإن في إسناده ضعفا، وأما حديث جابر رضي الله عنه، فإن إسناده فيه عنعنة محمد بن إسحاق.

وأما أهل القول الثاني، فاستدلوا بما ثبت في سنن أبي داود بإسناد جيد من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال: كانت قيمة الإبل على عهد النبي صلى الله عليه وآله وسلم ثمانمئة دينار أو ثمانية آلاف درهم " فالقيمة تختلف هنا عما تقدم تقريره، قال: " وكانت دية أهل الكتاب على النصف من دية المسلمين، فلما كان استخلاف عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: " ألا إن الإبل قد غلت "، فقوَّمها باثني عشر ألف درهم، أو ألف دينار أو مئتين من البقر أو ألفي شاة أو مائتين من الحلل " إذاً هذا الأثر الصحيح دال على أنها كانت في عصر النبي صلى الله عليه وآله وسلم على خلاف ما تقدم ذكره، ثم لما كان عهد أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه قال " ألا إن الإبل قد غلتْ " ففرضها في الذهب ألفا دينار، وفي الورِق اثني عشر ألف درهم، وفي البقر مئتين من البقر، وفي الشاء ألفي شاة، وفي الحلل مئتي حلة. إذاً هذا الأثر دال على الأصل هو الإبل فقط، ويدل عليه كما سيأتي إن شاء الله أن التغليظ في الدية – في العمد وشبه العمد - خاص بالإبل، ولأنها في الأطراف وفي الجراح تُقوَّم أيضا بالإبل، فدل على أن الأصل هو الإبل فقط، وأما غيرها فإن هذا يختلف باختلاف الأزمان، فتقوم بقيمتها، سواء كانت دراهم أو غيرها، على اختلاف الأزمان. وهذا هو الراجح، وعليه عمل وقضاء أئمة الدعوة النجدية رحمهم الله. قوله: [هذه أصول الدية، فأيها أحضر من تلزمه، لزم الولي قبوله] وهذا على القول بأن الأصول خمسة، وإن قلنا أن الأصل هو الإبل، فلا يلزم القبول إلا أن تكون هي القيمة، فإذا قوَّمناها، فإنه يلزمه أن يأخذ القيمة. قوله: [فتغلّظ في قتل العمد وشبهه خمس وعشرون بنت مخاض، وخمس وعشرون بنت لبون، وخمس وعشرون حِقَّة، وخمس وعشرون جَذَعة]

إذاً تجب أرباعا مغلَّظة في دية العمد وشبه العمد. هذا هو المشهور في مذهب الإمام أحمد، واستدلوا بحديث عزوه إلى السائب بن يزيد: أنها تجب أرباعا " وهذا الحديث لم أقف عليه في شيء من كتب السنة، وقد ذكره السيوطي في جمع الجوامع، وضعّفه. فهذا الحديث لا يصح عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، لكن ثبت عند النسائي أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال، وهو حديث حسن: (في النفس المؤمنة مئة من الإبل) ، لكن هذا التفصيل الذي ذكره الحنابلة رحمهم الله تعالى ينبني على هذا الحديث الذي لا يصح عن النبي عليه الصلاة والسلام. وذهب الشافعية: إلى أن الواجب ثلاثون حقة، وثلاثون جذعة، وأربعون خلِفة في بطونها أولادها، واستدلوا بما رواه أبو داود والترمذي، والحديث حسن أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: (الدية ثلاثون حقة، وثلاثون جذعة، وأربعون خلفة في بطونها أولادها) . وهو الراجح في هذه المسألة، وقد تقدم حديث آخر في أن دية الخطأ شبه العمد مئة من الإبل أربعون منها في بطونها أولادها. إذاً هذه هي دية العمد وشبه العمد، وهي دية مغلظة، ولذا كما تقدم أن التغليظ إنما يكون في الإبل. قوله: [وفي الخطأ تجب أخماسا ثمانون من الأربعة المذكورة] الأربعة المذكورة: بنات مخاض، وبنات لبون، والحقاق، والجذعات، فيجب عليه عشرون بنت مخاض، وعشرون بنت لبون، وعشرون جذعة، وعشرون حقة. قوله: [وعشرون من بني مخاض] إذاً تجب أخماسا، واستدلوا بحديث رواه الدارقطني من حديث ابن مسعود رضي الله عنه مرفوعا، لكن الصواب وقفه.

وذهب بعض أهل العلم، وهو قول طاووس من التابعين: إلى أن الواجب ثلاثون بنت مخاض، وثلاثون بنت لبون، وثلاثون جذعة، وعشرة من بني لبون. وقد ورد فيه حديث عند أبي داود بإسناد جيد من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قضى في دية الخطأن ثلاثين بنت مخاض، وثلاثين بنت لبون، وثلاثين حقة، وعشرة من بني لبون "، لكن ورد عند أبي داود من قول عثمان وزيد بن ثابت رضي الله عنهما أن الواجب عشرون بنت مخاض، وثلاثون بنت لبون، وثلاثون حقة، وعشرون من بني لبون. واختار ابن القيم رحمه الله تعالى لمّا اختلفت الآثار هنا، أن ذلك كله مجزئ، وأنه لم يثبت عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم حد محدود أي حد واجب، ولذا فإن الصحابة رضي الله عنهم قضوا بخلاف ما تقدم في حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده. وعلى ذلك فإن فُرضت عليه أخماسا، كما في المذهب، فلا بأس، وإن فرضت عليه كما في حديث أبي داود، فلا بأس، وإن فُرِضت عليه كما ورد عن عثمان وزيد بن ثابت رضي الله عنهما، فلا بأس بذلك. وقد قال عليه الصلاة والسلام كما تقدم في سنن النسائي، والحديث حسن: (في النفس المؤمنة مئة من الإبل) ، وهذا يدل على أن التحديد المتقدم ليس بواجب. قوله: [ولا تُعتبر القيمة في ذلك] تقدم أن الدية تجب في الدراهم، وتكون القيمة اثني عشر ألف درهم، وعلى ذلك يكون قيمة البعير مئة وعشرون درهما. فلو أنه أخرج أبعرة وكان قيمة كل بعير مئة من الدراهم، فهل يجزئ؟ قال " لا تعتبر القيمة في ذلك "، فلو كان البعير قيمته مئة أو ثمانون، فمادام أن شروط السلامة متوفرة فيه، فلا بأس. إذاً إذا أخرجنا الإبل، فلا يشترط أن نخرج إبلا قيمتها تساوي اثني عشر ألف درهم.

فإذا حدَّدنا الدية في هذا الزمن مثلا مئة وخمسون ألف درهم، فإذا أتى بمئة من الإبل، قيمتها لا تساوي إلا مئة ألف من الدراهم، لكنها سليمة، فهل يجزئه ذلك؟ يجزئه ذلك. إذاً لا نعتبر القيمة، وإنما نعتبر السلامة، ولذا قال " ولا تعتبر القيمة في ذلك " وإنما تعتبر السلامة. قوله: [ودية الكتابي نصف دية المسلم] لما ثبت في داود أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: (عَقْلُ أهل الكتاب على نصف عقل المسلمين) والعقل يعني الدية. هذا هو مذهب جمهور العلماء خلافا للأحناف. وأما الأحناف فذهبوا إلى أن الواجب دية المسلم، واستدلوا بقوله تعالى: {فدية مسلمة إلى أهله} . لكن الحديث حجة عليهم، وأما الدية في الآية فهي مطلقة، فتختلف باختلاف الدين. وأما ما رواه عبد الرزاق في مصنفه بإسناد صحيح عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قضى على مسلم قتل يهوديا من أهل الشام – وهو ذمي -، بمئة من الإبل " فإن هذا حيث كان القتل عمدا، فتغلّظ الدية، ويدل عليه ما رواه البيهقي والدارقطني بإسناد صحيح أن عثمان رضي الله عنه قضى على مسلم قتل ذميا عمدا، بمثل دية المسلم "؛ لأنه لما يكن هناك قود بذلك، فإن الدية تُغلّظ، وأما إذا كان قتل خطأ، فإن الواجب نصف الدية. هذا هو الصواب. قوله: [ودية المجوسي والوثني ثمانمئة درهم] المجوسي الذي لا كتاب له، وهو من عبدة النار، والوثني، ديتهما ثمانمئة درهم. كم تساوي ثمانمئة درهم الآن؟ إذا كان في كل مئة درهم فيها سبعون مثقالا من الفضة، فعلى ذلك في ثمانمئة درهم خمسمئة وستون , والمثقال أربع جرام وربع، والجرام من الفضة يساوي في البيع تقريبا درهما، فيكون قريبا من ألفي درهم. وقد قضى بذلك عمر بن الخطاب رضي الله عنه، كما في سنن الدارقطني، وهو أثر صحيح، ولا يُعلم له مخالف.

إذاً أولئك أهل كتاب، وأما المجوس والوثنيون، فإنهم لا كتاب لهم، فالواجب في ديتهم ثمانمئة درهم إسلامي، وليس الدرهم الموجود الآن. وعليه فننظر إلى قيمته، فقد تساوي هذه الثمانمئة درهم، ألفي درهم أو ثلاثة آلاف درهم. قوله: [ونساؤهم على النصف، كالمسلمين] الآن دية المرأة المسلمة على النصف من دية الرجل الذكر المسلم، وهذا بإجماع أهل العلم، وقد حكى هذا الإجماع ابن عبد البر وابن المنذر. وقد دلت عليه آثار كثيرة عن أصحاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم ورضي الله عنهم، ففي البيهقي عن عمر علي وابن مسعود ما يدل على ذلك. وكذلك دية المرأة الكتابية على النصف من دية الكتابي، ودية المجوسية على النصف من دية المجوسي، فيكون فيها أربعمئة درهم، وهذا أكثر من قيمتها. وقد اختلف أهل العلم في دية المسلمة في باب الجراح والأطراف، ما الذي يجب فيها؟ على قولين: القول الأول، وهو مذهب الحنابلة والمالكية، قالوا: إن الواجب في دية الأطراف والجراح أن تساوي الرجال حتى تبلغ ثلث الدية، فإذا تجاوزت ثلث الدية، فيكون الواجب النصف. فالأصبع فيها عشر من الإبل، وهي أقل من الثلث، فإذا قطعت أصبع المرأة، فإن الواجب فيها عشر من الإبل، لأنها لم تتجاوز الثلث.

الرجل إذا قُطعت يده، ففيها خمسون من الإبل، فهي أكثر من الثلث، فالمرأة فيها خمس وعشرون من الإبل. واستدلوا بما روى النسائي أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: (عقْل المرأة المسلمة مثل عقل الرجل ما لم تبلغ الثلث من ديتها) . لكن الحديث من حديث إسماعيل من عياش عن الحجازيين، وروايته عن الحجازيين ضعيفة، لكن له ما يعضده في موطأ مالك بإسناد صحيح أن سعيد من مسيب رحمه الله قال: " في الأصبع عشر من الإبل، وفي الأصبعين عشرون من الإبل، وفي الثلاث ثلاثون من الإبل، وفي الأربع عشرون "، فقال له ربيعة بن أبي عبد الرحمن رحمه الله تعالى: لما اشتد جرحها وعظُمت مصيبتها، قلَّت ديتها " قال: " أعراقيٌّ أنت؟ فقال رحمه الله تعالى: " بل إمّا عالِمٌ متثبتٌ أو جاهل سائل " فقال: " هي السنة يا ابن أخي ". ويحتمل في هذا الأثر السنة المنسوبة إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم، ويحتمل السنة المنسوبة إلى عامة الصحابة، والاحتمال الثاني أقرب، وقد صح عن عمر رضي الله عنه كما في مصنف ابن أبي شيبة أنه قال في السن والموضحة: " أن دية المرأة تساوي دية الرجل، وما فوق، فإن دية المرأة على النصف من ذلك ". فالذي يترجح هذا الأثر منسوب إلى بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فهي سنة بعض الصحابة، كعمر رضي الله عنه. والقول الثاني، وهو مذهب المالكية والشافعية الأحناف، وهو رواية عن أحمد، قالوا: بل يجب النصف مطلقا، ففي الأصبع خمس من الإبل، وفي الأصبعين عشر من الإبل، وفي الثلاث خمسة عشر بعيرا. وهذا القول هو القول الأرجح، وهو قول علي وابن مسعود كما في البيهقي، والإسناد إليهما صحيح. والله أعلم. انتهى الدرس الثاني في ليلة الأربعاء الثاني من شهر شعبان لعام 1420 للهجرة. قوله: [ودية قن قيمته]

لأن الرقيق مال، وعلى ذلك: فديته قيمته، فإذا قتل عبداً، فإن دية العبد قيمته، فننظر كم يساوي هذا الرقيق، وتكون هي الدية. قوله: [وجراحه ما نقَصَه بعد البرء] في الجراح والأطرف، نقوّمه بعد برئه، وكذلك إذا اندمل الموضع الذي كان فيه قطع الطرف، فنقوّم هذا العبد، كما كان يساوي قبل قطع الطرف وقبل الجرح، وكم يساوي بعد؟ فإذا قالوا: إنه كان يساوي مئة ألف، والآن لا يساوي إلا ثمانين ألفا، فالذي يجب فيه عشرون ألفا. ما ذكره المؤلف هو قول في المذهب، وهو اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، وأما المشهور في المذهب، فإن الواجب هو القسط من القيمة، فإذا قطع يده – واليد فيها نصف الدية -، فنقول: كم يساوي هذا الرقيق، قالوا: يساوي مئة ألف، فنقول: الواجب خمسون ألفا. والراجح هو الأول؛ إلحاقا لما دون النفس بالنفس، لأن القول الأول قاعدته مطردة، فالقيمة في النفس وفيما دون النفس، وأما القول الثاني فإنه فرّق بين ما دون النفس وما بين النفس، فما دون النفس أوجب فيها نصف الدية، ثم بعد ذلك رجع إلى القيمة. قوله: [ويجب في الجنين – أي الحر – ذكراً كان أو أنثى] فلا فرق في الجنين بين الذكر والأنثى، والجنين هنا حيث تخلّق، فظهرت فيه خِلْقةُ الإنسان، وهذا يكون بعد الثمانين، فينظر، فقد تكون المضغة مخلقة، وقد تكون غير مخلقة، فينظر بعد الثمانين إن حصل تخلُّق يعني يَبِينُ فيه خلْق الإنسان، فهذا هو الجنين، وأما إذا لم يَبِن فيه خلق الإنسان، فهي قطعة لحم لا دية فيها. إذاً الجنين إذا سقط ميتا وقد تخلق أي ظهر فيه خلق الإنسان – ويرجع في ذلك إلى أهل الخبرة -. لكن لو سقط حيا حياة مستقرة في ستة أشهر – كأن يصرخ - ثم مات، فإن فيه الدية كاملة؛ لأنه ثبتت حياته. وأما الكلام هنا حيث سقط ميتا، وقد تبين فيه خلق الإنسان. قوله: [عُشْر دية أمِّه غُرَّة]

الغُرَّة: هي عُشْر دية الأم، باتفاق العلماء، فإن كانت الأم مسلمة، فالغرة خمسٌ من الإبل، لأن ديتها خمسون من الإبل، وعلى ذلك فدية الجنين - الغرة - خمس من الإبل. وحكاه الموفق عن عليّ وزيد، قال: " ولا يعلم لهم مخالف ". وتقدم حديث المرأتين الهُذليتين اللتين اقتتلتا، وفيه أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قضى بدية الجنين غرة، عبدٌ أو أمَة، يعني بقيمة الغرة عبدٌ أو أمة، يعني إما عبد أو أمة بقيمة الغرة، والغرة خمس من الإبل، فتجب عبد أو أمة بقيمة خمس من الإبل، أو تجب خمس من الإبل. فإن تيسر وكان هناك إماء أو عبيد، وإلا كما في عصرنا، فهناك خمس من الإبل، كما أن ظاهر كلام أهل العلم أن الواجب هو خمس من الإبل مطلقا. فإن كانت كتابية، فالواجب عبدٌ أو أمَة بقيمة بعيريْن ونصف؛ لأن دية الكتابية خمس وعشرون. قوله: [غرة] أي عبد أو أمة، قيمة هذا العبد أو الأمة خمس من الإبل، لكن في عصرنا حيث لا إماء ولا عبيد، فإن الواجب خمس من الإبل، وأما في عصرهم، فإن الواجب عبد أو أمة بقيمة ذلك إن تيسر، وإلا فالواجب خمس من الإبل. قوله: [وعُشْر قيمتها إن كان مملوكا، وتقدَّر الحرة – يعني الحامل برقيق - أمَة] إن كان هذا الجنين عبدا لا حرا، فالواجب عشر قيمة الأم، فإذا كانت تساوي الأم مئة ألف، فالواجب عشرة آلاف، فإن كانت أمه حرة، فإنا نقوِّمها كما لو كانت عبدة، ونوجب عُشْر القيمة. قوله: [وإن جنى رقيق خطأ أو عمدا لا قود فيه] كالجائفة، فليس فيها القصاص، لأنه لا يؤمن الحيف، وإنما فيها الدية. قوله: [أو فيه قود – كما لو قطع يده من المفصل – واختير فيه المال أو أتلف مالا بغير إذن سيده، تعلَّق ذلك برقبته]

وعلى ذلك نقول للسيد: أنت بالخيار، إما أن تسلِّم هذا العبد للأولياء الجناية، فإن شاؤوا باعوه، وإن شاؤوا ملكوه، وإن شئت فلتفده. فإذا قالوا: إن الجناية تساوي مثلا عشرة آلاف، لكن هذا الرقيق لا يساوي إلا خمسة آلاف، فيقول: خذوه، إن شئتم ملكتموه، وإن شئتم بعتموه، فلا يكلَّف السيد ما زاد على ذلك. وإن كان يساوي عشرة آلاف والجناية خمسة آلاف، فيقول: خذوا هذه الخمسة آلاف ويفدي رقيقه. إذاً يكون السيد بالخيار، إن شاء ملَّكَهم رقبته، وإن شاء فداه. قوله: [فيخير سيده بين أن يفديه بأرش جنايته أو يسلمه إلى ولي الجناية فيملكه أو يبيعه ويدفع ثمنه] باب ديات الأعضاء ومنافعها العضو: كالعين. والمنفعة: كالبصر والشم والذوق. وليعلم أنه إن جنى على عضو فأشلَّه، فكما لو قطعه، فلو ضرب اليد مثلا فأشلها، فكما لو قطعها ففي ذلك الدية، باستثناء عضوين، وهما: الأنف والأذن؛ أما الأذن فلأن السمع في الدماغ، وأما الأنف فلأن الشم أيضا في الدماغ، ولأن الجمال باقٍ. فإذا ضرب الأنف أو الأذن فأشلهما، فلا دية، ولكن في ذلك حكومة، وسيأتي الكلام على الحكومة إن شاء الله. إن قطع عضوا مشلولا، فما الحكم؟ فيه الحكومة، وليس فيه الدية، باستثناء الأذن والأنف؛ فإن فيهما دية، بعكس المسألة السابقة، لأن المقصود بقاؤهما، فإذا زالا، فكما لو زالت اليد، لأن الشم والسمع في الدماغ، فإذا اعتدى عليهما بالقطع فإن المنفعة تفوت، سواء كانا مشلولين أو غير مشلولين. قوله: [من أتلف ما في الإنسان منه شيء واحد] ففيه الدية، وإذا أتلف ما فيه شيئان، ففي كل منها نصف الدية، وفي الجميع الدية كاملة، وإذا أتلف ما فيه ثلاثة أشياء، ففي الجميع الدية كاملة، وفي كل واحد منها ثلث الدية، فإذا كان في أربعة أشياء ففي كل واحد ربع الدية، فإذا كان في عشرة أشياء كالأصابع، ففي كل واحد عُشْر الدية.

قوله: [كالأنف واللسان والذَّكَر ففيه دية النفس] وقد روى أحمد في مسنده والنسائي من حديث عمرو بن حزم أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال – والحديث عليه العمل وإن كان مرسلا وله شواهد -: (في الأنف إذا أوعب – يعني قطع كله – الدية، وفي العنين الدية، وفي اللسان الدية، وفي الشفتين الدية، وفي الذكر الدية، وفي البيضتين الدية، وفي الصُّلْب الدية) ، والصلب: هو العظم الذي يمتد من أعلى الظهر إلى أسفله، وهذا العظم إذا اعتُدي عليه، فإنه تفوت منفعة المشي، وقد تفوت أيضا منفعة الجماع أي النكاح، وإذا جُبر، فإنه يحدودب ظهره. فهذا العظم فيه الدية إذا لم ينجبر، فإذا انجبر لكن احدودب، ففيه حكومة، فإن فاتت منفعة المشي أو منفعة الجماع، ففيه دية واحدة، فإن فاتت المنفعتان جميعا، ففيه ديتان. قوله: [وما فيه منه شيئان كالعينين] فالواجب دية كاملة، فإن فُقِئت عين واحدة، فإن فيها نصف الدية. قوله: [والأذنين والشفتين واللَّحيين] اللحيان: هما العظمان اللذان ينبت عليهما شعر اللحية. قوله: [وثديي المرأة] فإذا قطع ثدي المرأة ففيهما الدية، وإذا قطعت الحَلَمة، فكما لو قطع الثدي؛ لأن المنفعة فيها. والكلام الذي أقرره هو في المذهب. قوله: [وكثنْدُؤَتَيْ الرجل] اللذان في مقام ثديي المرأة، ففهم الدية، وفي أحدهما نصف الدية. ويصح أن تضم الثاء مع الهمز، ويصح بلا همز (ثندوتي) . وقال الجمهور: بل فيها حكومة، وهذا أصح؛ لأنه ليس فيهما ما في ثديي المرأة من المنفعة، بل غاية ما فيهما أنهما يجمِّلان البدن. قوله: [واليدين والرجلين والإليتين والأنثيين – يعني البيضتين – وإسكتي المرأة] إسْكِتَيْ المرأة: يعني حافة الفرج، ويصح أيضا أن تكون الهمزة أعلى (أسْكتي) ، وهما حافتا الفرج، وبهما يكون الجماع.

قوله: [وفي إحداهما نصفها. وفي المنخِريْن ثلثا الدية، وفي الحاجز بينهما ثلثها] وهذا واضح، فالأنف تتكون من منخِرين وحاجز، فإذا قُطع المنخرين ففي ذلك ثلثا الدية، وفي الحاجز الثلث، وإذا قطع منخِرا واحدا ففيه ثلث الدية. قوله: [وفي الأجفان الأربعة الدية، وفي كل جفن رُبْعُها] وهو معروف، فالجفَن هو القطعة من الجلد التي تغطي العين. قوله: [وفي أصابع اليدين الدية كأصابع الرجلين] ففي سنن الترمذي وصححه، وهو كما قال، أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: (دية أصابع اليدين والرجلين عشرة من الإبل لكل أصبع) ، إذاً كل أصبع فيها عشرة من الإبل، ولا فرق بين الخنصر والإبهام، ولذا روى أحمد وأبو داود أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: (الأصابع سواء، والأسنان سواء، الثنية والضرس سواء) ، فالأصابع سواء، والأسنان سواء. قوله: [وفي كل أصبع عُشْر الدية، وفي كل أنملة ثلث عُشْرِ الدية] كل أصبع فيها ثلاثة أنامل، إلا الإبهام ففيها أُنملتان، وعلى ذلك: الأنملة في الإبهام فيها نصف العشر، ولذا قال: [والإبهام مفصلان، وفي كل مفصل نصف عشر الدية] إذاً الآن الأصبع فيها عَشر من الإبل، وفي كل مفصل سوى الإبهام ثلث العُشر، وأما الإبهام ففيها مفصلان، ففيها نصف العُشر. قوله: [كدية السن] السن فيها خمس من الإبل، كما روى ذلك النسائي من حديث عمرو بن حزم، وهو مرسل، ورواه ابن ماجه من حديث ابن عباس، والحديث صحيح، وعلى ذلك: فالسن فيها خمس من الإبل. فلو كسر أسنانه كلها، فإننا نضرب خمسا في ست وثلاثين، فيكون المجموع مئة وثمانون بعيرا. وهذا كما تقدم ما لم تَعُد السن، لكن إن عادت، فإنه ليس فيها الدية.

وفي الظفر خمس من الإبل، وقد روى ابن أبي شيبة عن عباس رضي الله عنه بإسناد صحيح أنه قال: " في الظفر خمس من الإبل "، فإذا قطع الظفر فلم يعد، أو عاد لكنه أسود، فالواجب فيه خمس من الإبل. فصل في دية المنافع قوله: [وفي كل حاسة دية كاملة] لو أذهب عليه حاستين، ففيه ديتان، ولو أذهب عليه أربع حواس ففيه أربع ديات؛ ولذا روى ابن أبي شيبة بإسناد صحيح أن رجلا ضرب رجلا، فأذهب سمعه وبصره وعقله ونكاحه، فقضى عمر رضي الله عنه بأربع ديات ". فتجب في كل حاسة دية كاملة، كالسمع والبصر والذوق، فالذوق فيه دية كاملة، ومعلوم أن الذوق يكون لخمسة أشياء، للملوحة والعذوبة، والحلاوة والمرارة، وللحموضة. فلو أنه أذهب عليه حاسته في الحموضة فقط، ويمكن هذا طبيا، فالواجب عليه خُمْس الدية. والنطق منفعة، ففيه الدية، كما أن اللسان فيها الدية. فإذا أذهب نطقه، فإن في ذلك الدية. واللسان فيه ثمانية عشر حرفا، لأن أربعة حروف شفهية، وستة حروف حلقية، والباقي يكون في اللسان، فلو أذهب عليه نُطْقَ حرفٍ واحدٍ، فالواجب جزء من ثماني عَشرة جزءاً. كذلك لو أذهب عليه شيئا من البصر، وقال الأطباء: إنه قد أذهب عليه نصف البصر، أو نصف السمع، فالواجب نصف الدية. قوله: [وهي السمع والبصر والشم والذوق] ولم يذكر حاسة اللمس. وقال المالكية: إن حاسة اللمس كذلك. القياس يقتضي ما ذهبوا إليه، وقد ذكرها أيضا بعض الحنابلة. وفقْد حاسة اللمس: أن يكون لا يحس بالأشياء من حيث الحرارة والبرودة والخشونة ونحو ذلك، فإذا أذهب حاسة اللمس عنده، فإن فيها الدية. قوله: [وكذا في الكلام والعقل – يعني جُنَّ – ومنفعة المشي والأكل] وتذهب منفعة الأكل بألا يشتهي الطعام، أو يصبح يأكل لكن معدته لا تهضم الطعام، أو أصبح لا يأكل أبدا، أو لا يرغب في الطعام فليس له في الطعام أي شهوة، فإنه حينئذ تجب فيه الدية.

قوله: [والنكاح] إما أن ينقطع الماء، أو يكون عنِّيناً، وقد تقدم، أو أن يكون لا ينجب فيصبح عقيما، فإن فيه الدية كاملة. قوله: [وعدم استمساك البول أو الغائط] إذاً هذا الضرر ترتب على المسلك البولي، ففيه الدية. قوله: [وفي كل واحدة من الشعور الأربع الدية، وهي شعر الرأس واللحية والحاجبين وأهداب العنين] فلو أتى إلى رجل وهو نائم ووضع عليه دواء، فأصبح لا تخرج لحيته، أو قد يقع هذا من الطبيب خطأ، فما الحكم؟ فيها الدية، وكذلك شعر الرأس فيه الدية، وشعر الحاجب فيه دية، وأهداب العينين في كل هدبٍ رُبْع الدية. هذا هو مذهب الحنابلة، واستدلوا بما روى عبد الرزاق في مصنفه عن علي وزيد أنهما قالا: " في الشعر الدية "، قالوا: وأما الشارب ففيه حكومة. وقال الجمهور: بل في الشعر كله حكومة، وليس فيه دية؛ قالوا: لأن هذه الشعور منفعتها الجمال فقط، وعلى ذلك فلا تبلغ مبلغ العين أو الأذن، ونحو ذلك. وهذا القول أصح، وأما ما روي عن علي وزيد، فإن الأثرين ضعيفان. قوله: [فإن عاد فنبت سقط موجَبه] الموجَب بفتح الجيم: يعني الدية. إن عاد فنبت، فيسقط الموجَب يعني الدية؛ لأن الدية قد وجبت به. قوله: [وفي عين الأعور الدية كاملة] رجل أعور فُقِئت عينه، فالواجب الدية كاملة؛ لذهاب حاسة البصر. قوله: [وإن قلع الأعور عين الصحيح المماثلة لعينه الصحيحة عمدا، فعليه دية كاملة ولا قصاص]

هذا رجل أعور فقأ عينَ صحيحٍ مماثلة لعينه الصحيحة - لأنها إن لم تكن مماثلة لعينة، فلا قصاص – فهنا الأصل أن فيه القصاص، لكن لو اقتصصنا منه لترتب على ذلك حيف، لأن الآخر بصره باق، وأما هو فبصره يذهب، وعلى ذلك: فلا قصاص، لكن الواجب الدية كاملة تغليظا؛ لأن من سقطت عنه العقوبة لمانع، ضوعفت عليه الدية أو الغُر. وبهذا قضى عمر وعثمان رضي الله عنهما كما في مصنف ابن أبي شيبة بإسنادين صحيحيْن، وهذا كما تقدم فيما إذا قتل المسلم ذميا، فالواجب إذا كان عمدا الدية كاملة؛ لأنا لمّا أسقطنا عنه العقوبة لمانع وهو إسلامه وكفر الآخر، فإنا حينئذ نوجب عليه الدية مغلظة، فكذلك هنا. قوله: [وقَطْعِ يد الأقطع نصف الدية كغيره] رجل أقطع اليد أو الرجل، فقُطعت، فالواجب نصف الدية؛ قالوا: لأن اليد اليمنى لا تقوم مقام اليد اليسرى، واليد اليسرى لا تقوم مقام اليد اليمنى، والرِّجل اليمنى لا تقوم مقام الرجل اليسرى، وكذلك العكس، بخلاف العين، فإن العين اليسرى تقوم مقام العين اليمنى. هذا هو المشهور في المذهب. وعن الإمام أحمد: أن الدية تجب كاملة؛ لأن اليد – اليمنى أو اليسرى – الباقية، تقوم مقام الأخرى، فإذا قطعت يده اليمنى، فإنه يأكل بيده اليسرى ويعطي ويأخذ بيده اليسرى إلى غير ذلك، وإذا بقيت إحدى رجليه، فإنه يتكأ ويمشي عليها، بينما إذا لم يبق له رجل، فإنه لا يستطيع المشي. إذاً الأقوى أن نقول: في ذلك الدية كاملة. والله أعلم. انتهى الدرس الثالث في ليلة الأربعاء التاسع من شعبان لعام 1420 للهجرة. تقدم أن جمهور العلماء ذهبوا إلى أن اليد الشلاء إذا قطعت ففيها حكومة.

والقول الثاني في المسألة، وهو رواية عن الإمام أحمد: أن فيها ثلث ديتها، واستدلوا بما ثبت في مسند أحمد وسنن أبي داود أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: (قضى في العين السوداء السَّادّة مكانها بثلث ديتها) أي ثلث نصف الدية (وفي اليد الشلاء إذا قطعت بثلث ديتها، وفي السن السوداء إذا قُلعت بثلث ديتها) . وهذا القول هو الأظهر؛ لهذا الحديث الحسن. باب الشجاج وكسر العظام قوله: [الشجة: الجرح في الرأس والوجه خاصة، وهي عشرٌ: الحارِصَة، وهي التي تحرص الجلد أي تشقه قليلا ولا تدميه] فالحارصة: هي التي تشق الجلد ولا يخرج دم. قوله: [ثم البازلة الدامية الدامعة: وهي التي يسيل منها الدم] فهذه تسمى البازلة والدامية والدامعة، وهي تشق الجلد، ثم يسيل شيء من الدم يسير كالدمع، ولذا تسمى بالدامعة. قوله: [ثم يليها الباضعة: وهي التي تبضع اللحم] تبضع اللحم: أي تشقه، فالباضعة أشد من البازلة، فإن البازلة تشق الجلد – وإن كانت تدميه - ولا تشق اللحم، وأما الباضعة فإنها تشق اللحم. قوله [ثم يليها المتلاحمة: وهي الغائصة في اللحم] تلك تشق اللحم، وأما هذه فهي تغوص في اللحم. قوله: [ثم يليها السِّمْحاق: وهي التي ما بينها وبين العظم قشرة رقيقة] يعني ما بقي إلى العظم إلا قشرة رقيقة. قوله: [فهذه خمس لا مُقدَّر فيها بل حكومة] فهذه فيها حكومة. والقول الثاني في المسألة، وهو رواية عن أحمد: أن الأربع دون الحارصة، فيها مقدَّر، وأما الحارصة ففيها الحكومة. أما البازلة ففيها بعير، والباضعة فيها بعيران، والمتلاحمة فيها ثلاثة أبعرة، والسمحاق فيها أربعة أبعرة وصح بذلك الأثر عن زيد بن ثابت رضي الله عنه كما سنن البيهقي بإسناد صحيح. وهذا هو القول الراجح؛ لأنه لا يعلم له مخالف. قوله: [وفي الموضحة: وهي التي توضح اللحم وتبرزه، خمسة أبعرة]

" توضح اللحم " كذا ذكر المؤلف رحمه الله، والصواب: ما توضح العظم، كما ذكر الشارح، وكما تقدم تقريره في درس سابق. فهي توضح العظم، فتجرح اللحم حتى يتضح العظم، وتزول الجلدة الرقيقة التي تكون على العظم، ففيها خمسة أبعرة، كما ورد هذا في حديث عمرو بن حزم في سنن النسائي وغيره. قوله [ثم الهاشمة، وهي التي تُوضح العظم وتهشمه وفيها عشرة أبعرة] قد ورد ذلك في مصنف عبد الرزاق عن زيد بن ثابت رضي الله عنه، ولا يعلم له مخالف. قوله: [ثم يليها المُنَقِّلة] هي التي تنقل العظم من موضعه، فلا تكتفي هذه الجناية بتهشيم العظم، بل ينتقل العظم من موضعه. وفيها كما ذكر المؤلف خمسة عشر بعيرا. قوله: [وهي ما توضح العظم وتهشمه وتنقل عظامها وفيها خمس عشرة من الإبل] وقد ورد هذا في النسائي من حديث عمرو بن حزم، وعلى ذلك يجب في المنقلة خمسة عشر بعيرا. قوله: [وفي كل واحدة من المأمومة] وهي التي تصل إلى جلدة الدماغ، يعني أم الدماغ، ففيها ثلث الدية، كما ورد هذا في حديث عمرو بن حزم في سنن النسائي. قوله: [والدامغة ثلث الدية] الدامغة: تخرق الدماغ، فتلك تصل إلى أم الدماغ، وأما هذه فهي تخرق الدماغ، فتسمى بالدامغة، ففيها أيضا ثلث الدية. وقيل: فيها ثلث الدية وحكومة. وهذا أصح؛ لأن فيها قدر زائد على المأمومة، فالمأمومة تصل إلى الدماغ، وأما هذه فهي تخرق الدماغ، فكان فيها حكومة زيادة على الدية. قوله: [وفي الجائفة ثلث الدية] كما ورد هذا في حديث عمرو بن حزم في سنن النسائي وغيره، والجائفة: هي الجرح الذي يصل إلى الجوف، سواء كان في الظهر أو البطن أو في موضع آخر. فإذا دخل من موضع وخرج من موضع آخر فجائفتان، وعلى ذلك فيجب ثلثا الدية. قوله: [وهي التي تصل إلى باطن الجوف. وفي الضِّلَع]

الضلع: معروف، واحد الأضلاع، ويضبط (ضِلَع) هذا هو المشهور، وضُبط بتسكين اللام (ضِلْع) ويصح لكنه على غير شهرة. قوله: [وكل واحدة من الترقوتين بعير] الترقوة معروفة: وهي العظم المستدير عند الرقبة، فيجب في الضلع إذا كسر، والترقوة إذا كسرت، في كل واحد منهما بعير. لكن هذا بقيد وهو ما إذا جُبر مستقيما، وأما إذا لم يجبر مستقيما ففيه حكومة. فإذا جُبر مستقيما ففي كل ضِلَع بعير، وفي كل ترقوة بعير، وقد صح بذلك الأثر عن عمر بن الخطاب، كما في موطأ الإمام مالك قال: " في كل ضلع بعير، وفي كل ترقوة بعير ". قوله: [وفي كسر الذراع، وهو الساعد الجامع لعظمي الزند والعضد. والفخذ والساق إذا جبر ذلك مستقيما بعيران] إذا كُسر الذراع، فجبر مستقيما ففيه بعيران. لكن لو جبر غير مستقيم ففيه حكومة، وكذلك الفخذ والساق. هذا هو المشهور في المذهب. وقال الجمهور، واختاره الموفق: أن الواجب حكومة، فالعظم إذا كسر، سواء جُبر مستقيما أم جبر غير مستقيم ففيه حكومة. وهذا أصح؛ لأنه لم يرد ما يدل على أن هناك ما هو مقدر في ذلك، وعلى ذلك فنوجب حكومة. قوله: [وما عدا ذلك من الجراح وكسر العظام ففيه حكومة] كالجراح تكون في اليد أو الرِّجل، هذه كلها فيها حكومة. قوله: [والحكومة أن يُقوَّم المجني عليه كأنه عبدٌ لا جناية به، ثم يقوّم وهي به قد برئت، فما نقص من القيمة فله مثل نسبته من الدية]

إذا أوجبنا الحكومة، فالحكومة أن نقومه عبدا، وكان في السابق رق، وكانوا يعرفون القيمة، فيقوّم كأنه رقيق، فكم يساوي وهو رقيق – عبد – لا جنابة به، وكم يساوي وبه جناية؟ فإذا قالوا: يساوي وهو خال من هذه الجناية مئة ألف، ويساوي وفيه الجناية ثمانين ألفا، فالفارق بينهما عشرون ألفا، ونسبتها إلى قيمته الخُمُس، فعلى ذلك: نوجب خُمس الدية، فلا نوجب عشرين ألفا؛ لأنه قد يكون كتابيا أو وثنيا، وبهذا الطريقة نوجب القسط من ديته. وإذا كان يساوي مئة ألف لا جناية به، وبالجناية يساوي ستين ألفا، والفرق أربعون ألفا، ونسبتها إلى المئة الخُمُسان، وعلى ذلك فالواجب خُمُسا ديته، وهذا يختلف من امرأة إلى رجل، فالمرأة ديتها خمسون من الإبل، فيجب عشرون بعيرا، وأما الرجل فيجب أربعون بعيرا. هذه هي الحكومة , وعلى ذلك في مثل هذا الزمن إنما يعتمد القضاة على ما قد قيّده القضاة قبلهم ممن كان يوجد عندهم الرق، فيكون هناك تقديرات، فينظرون إلى تقديراتهم، ثم يحكمون بالعدل قدر الإمكان. وقال الشافعية، واختاره طائفة من متأخري الحنابلة كالشيخ العلامة سعد بن محمد بن عتيق رحمه الله تعالى، قالوا: إنا ننظر إلى النسبة من أقرب جناية لهذه الجناية فيها قدْر محدد. فالموضحة فيها خمس من الإبل، يعني نصف العُشر، فإذا كانت الجناية نسبتها إلى الموضحة الثلث، كأن يحصل جرح في بدنه، فيقول الأطباء وأهل الخبرة: إن هذه الجناية نسبتها إلى الموضحة الثلث، فعلى ذلك: نوجب ثلث نصف العُشر. وهذا أرجح؛ لأن العدل واجب بحسب الإمكان. قوله [كأنْ – قدّرنا – قيمته عبدا سلميا ستون، وقيمته بالجناية خمسون، ففيه سُدس ديته] كما تقدم في المثال السابق. قوله: [إلا أن تكون الحكومة في محل له مقدَّر، فلا يبلغ بها المقَدَّر]

لو كان الجرح دون الجائفة، والجائفة فيها ثلث الدية، فلما قوّمناه عبدا بجناية، وعبدا بلا جناية، ونظرنا إلى النسبة، وجدنا أن الفارق أكثر من ثلث الدية، فهل نوجب أكثر من ثلث الدية، مع أن الجائفة التي دونه فيها ثلث دية؟ الجواب: لا. إذاً لا نبلغ الحد المقدر، لأن الجرح دونه. وهذا يدل على ما في هذا القول من ضعف، ولذا تقدم أن الراجح أننا ننظر إلى النسبة، فإن كان الموضع فيه حد مقدر، فإنا ننظر نسبة هذا الجرح إلى الحد المقدّر. إذاً قال الحنابلة رحمهم الله: إذا كان هناك حدّ مقدّر، فوجدنا أن النسبة تزيد على هذه الحد المقدر، فإنا لا نوجب هذه النسبة؛ لئلا نتجاوز هذا الحد المقدّر، فالجرح أقل من هذا الجرح، وفيه تقدير شرعي، فلا نوجب أكثر من هذا الذي حدده الشارع. باب العاقلة وما تحمل قوله [عاقلة الإنسان عصبته كلهم من النسب] فالعاقلة إذاً العصبة، وهي مشتقة من العقل، والعقْل – كما تقدم -: الدية، وسمي عقلا؛ لأن الإبل التي نؤديها إلى صاحبها تُعقل. قوله: [والولاء قريبهم وبعيدهم، حاضرهم وغائبهم، حتى عمودي نسبه] هؤلاء هم العصبة، فالعصبة: هم من لهم به صلة من جهة النسب أو من جهة الولاء. وأما ذوو الأرحام، كالخال، فإنهم ليسوا من العصبة؛ لأنهم لا يرثون، كما تقدم في الفرائض. واختار شيخ الإسلام رحمه الله تعالى: أن ذوي الأرحام يدخلون في العاقلة، يعني يعقلون، إن عدم أقرباؤه، فإن لم يكن له أقرباء ذوو نسب، فإن الدية تجب على ذوي أرحامه، كالإرث وكالنفقة، وتقدم أن النفقة على الراجح واجبة على ذوي الأرحام المحتاجين. وعلى ذلك فالراجح ما اختاره شيخ الإسلام بن تيمية رحمه الله، فنقول: إن عدمت عاقلته – يعني عصبته من النسب -، فإنا حينئذ نوجب الدية على ذوي رحمه، كما نوجب عليه أن ينفق عليهم بشرطه، كما تقدم في باب النفقات.

قال " حتى عمودي نسبه "، يدخل في العاقلة عمودا النسب، يعني الأصول والفروع، وهم الآباء والأبناء؛ لما ثبت عند الخمسة إلا الترمذي أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قضى بدية المرأة على عصبة القاتلة مَنْ كانوا، ولا يرثون منها شيئا إلا ما فضل عن ورثتها " فهذا الحديث يدل على أن عمودي النسب يدخلون في العاقلة؛ لقوله " على عصبة القاتلة "، والآباء والأبناء من العصبة. وأما ما رواه أبو داود أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم برّأ زوجها وولدها، فالحديث ضعيف. والمشهور في المذهب: أن الدية تجب على العاقلة الأقرب فالأقرب، فأولاً نوجبها على الآباء، ثم على الأبناء ثم على الأخوة، وهكذا. والراجح ما ذهب إليه الأحناف: وأنها تجب على الجميع – الأقارب والأباعد –؛ لعموم الحديث المتقدم " قضى بدية المرأة على عصبة القاتلة " والأباعد عصبة، فإذا قتل رجل من العشيرة الفلانية، فإنا نوجب الدية على جميع العشيرة، فنقول: كم عدد الذكور البالغين الأغنياء في هذه العشيرة؟ قالوا: عددهم مئة، والدية قدرها مئة ألف، إذاً يجب على كل ذكر بالغ غني ألف. وأما الحنابلة فيوجبونها على الأقرب فالأقرب، ولا شك أن هذا أشق على العاقلة، قالوا: قياسا على النكاح، فولاية النكاح تكون للأقرب فالأقرب. والجواب: أن هناك فرق بين العاقلة هنا، وبين الولاية في النكاح، وذلك لأن الولاية في النكاح إذا كانت في الجميع فإن في ذلك ضرر على المرأة، وأما هنا فإنه حيث كانت العصبة كلها عاقلة – في ذلك – نفع وتخفيف وتيسير. وهذا هو القول الراجح. قوله: [ولا عقْل على رقيق] الرقيق على عقل عليه، فلا تجب إلا على الحر؛ لأن الرقيق لا مال له، فإن ماله لسيده. قوله: [ولا غير مكلف]

غير المكلف حتى لو كان له مال، كالمجنون أو الصبي، فإنه لا عقل عليه؛ لأنه ليس من أهل النصرة، والعصبة هنا إنما أوجبنا عليها العقل للنصرة التي تكون بين من يجمعهم النسب أو من بينهم ولاء، وهذا الصبي أو المجنون ليس من أهل النصرة. قوله [وفقير] كذلك الفقير لا يجب عليه؛ لأن الفقير يحتاج إلى المواساة، فكيف يواسي غيره، مع كونه محتاجا إلى المواساة؟ قوله: [ولا أنثى] لأن الأنثى ليست عصبة، فليست من أهل النصرة. قوله [ولا مخالف لدين الجاني] فلا نوجب على المخالفين لدينه، فإذا كان مسلما وله أخ ليس بمسلم، فلا نوجب على هذا الأخ الذي تحت سلطان المسلمين شيئا من العقل – الدية –؛ لأنه ليس من أهل النصرة، والولاية منتفية بين المسلمين وغيرهم. قوله: [ولا تحمل العاقلة عمدا محضا] فلو قتل أو قطع الطرف أو جرح عمدا، فإن العاقلة لا تتحمل ذلك، لكن إن كان خطأ أو شبه عمد، فإن العاقلة تتحمله كما تقدم، ولذا قال ابن عباس رضي الله عنه – كما في سنن البيهقي بإسناد صحيح -: " لا تحمل العاقلة عمدا ولا اعترافا ولا صلحا ولا ما جَنى المملوك " يعني ما جَنى على المملوك كما قال أبو عبيد والأصمعي وغيرهما. فالعاقلة لا تتحمل عمدا ولا صلحا ولا اعترافا ولا جناية على مملوك. فهنا لا تتحمل العاقلة عمدا محضا، بل الذي يتحمل ذلك هو الجاني نفسه. قوله: [ولا عبدا] لو جنى على عبد، فالعبد هنا كما تقدم في دروس سابقة يقاس على المال، فكما لو أن رجلا أحرق سيارة أو بيتا، فإنه هو الذي يتحمل، فكذلك إذا اعتدى على عبد، فلا تتحمل عاقلته، وإنما هو الذي يتحمل، حتى لو كان خطأ؛ للأثر المتقدم " ولا ما جنى المملوك " يعني وما جنى على المملوك. قوله: [ولا صلحا] أي صلحا عن إنكار.

رجل قيل له: إنك قد قتلت فلانا، قال: لم أقتله، قيل له: إذاً سنذهب إلى المحكمة ونرفع، قال: أنا لم أقتله، ولكن اطلبوا من المال ما شئتم لأني لا أريد أن يُذهب بي إلى المحاكم، قالوا: نريد مئة ألف ديته. فهل تتحمل العاقلة؟ الجواب: لا تتحمل العاقلة؛ لأن هذا صلح، وما دام أنه لم يثبت عليه شيء، فالواجب عليه أن يتحمل هو، لأنه هو الذي أراد أن يفدي نفسه عن اليمين أو الذهاب إلى المحاكم أو نحو ذلك، فعلى ذلك: هو الذي يتحمل ولا تتحمل العاقلة. قوله: [ولا اعترافا لم تصدقه به] لو أن رجلا قال: أقر أن قتلت فلانا خطأ، والعاقلة لم تُصدِّقه، فهل تتحمل العاقلة؟ الجواب: لا تتحمل، بل يتحمل هو؛ إذ لو فُتح الباب لأقر كذبا وتوصل إلى أخذ المال من العاقلة واقتسامه مع أولياء المقتول. وعلى ذلك فإنها لا تتحمل الاعتراف، لأن الأمر ليس بثابت عليه ببينة. لكن إن صدّقوا وقالوا: نعم، فلان نعرفه بالصدق، وهو صادق فيما اعترف به، فهل يلزمهم؟ يلزمهم. قوله: [ولا ما دون ثلث الدية التامة] ما دون ثلث الدية التامة لا تتحمله العاقلة. وما هي الدية التامة؟ هي دية المسلم الذكر، وهي مئة من الإبل. فمثلا: الموضحة فيها خمسة أبعرة، فهل تتحملها العاقلة؟ لا تتحملها. وكذلك الهاشمة أو المنقلة، فهذه كلها دون الثلث. مثلا: في قطع اليد من المرأة خمس وعشرون من الإبل، وهذه أقل من الثلث التام، لأن الثلث التام أكثر من ثلاثين بعيرا، وكذلك لو أن المرأة فُقئت عينها، فإن في ذلك خمس وعشرون من الإبل، وهذه دون الثلث من الدية التامة. استثنوا من ذلك دية الجنين، فالجنين إذا ضُربت أمه فأسقطت هذا الجنين، ففيه خمس من الإبل، قالوا: وتجب على العاقلة، وتركوا القاعدة للحديث المتقدم في قصة الهُذليتين لما اقتتلتا، وفيه أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قضى بالدية على العاقلة.

والقول الثاني في المسألة، وهو ما ذهب إليه الشافعية، قالوا: إن العاقلة تتحمل ما كان أكثر من الثلث وما كان أقل من الثلث، ولو كان بعيرا، ما دام أن الجناية خطأ أو شبه عمد. وهذا القول أصح؛ ويدل عليه حديث الهذليتين، فإن دية الجنين خمس من الإبل، ومع ذلك فإن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أوجبه على العاقلة. وإنما استدل أهل القول الأول بأن الأصل في الجناية أن تكون من ضمان الجاني، لكن الثلث كثير، كما قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم (الثلث والثلث كثير) ، فالثلث يُجحف بماله، فقالوا: ما كان ثلثا فأكثر فإنا نوجبه على العاقلة، وما كان دون الثلث فنوجبه على الجاني نفسه. لكن الأصح هو القول الثاني؛ لما تقدم في قصة الهذليتين، فإن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أوجب الدية على العاقلة وهو خمس من الإبل، ولذا احتاج أهل القول إلى استثنائه، وقالوا: لأن الجنين تبع لأمه. لكن هذا لا يقوى على الاستثناء، فكونه تبع لأمه، هذا لا يقوى على الاستثناء، لأن الأم لها ديتها المستقلة، والجنين له ديته المستقلة. والله أعلم. انتهى الدرس الرابع في ليلة الأربعاء السادس عشر من شعبان لعام 1420 للهجرة.

كتاب الحدود

" كتاب الحدود " الحد لغة: المنع وشرعاً: عقوبة مقدرة شرعاً في معصية، كحد الزنا لغير المحصن، مائة جلدة. فهذه العقوبة وهي مائة جلدة، عقوبة مقدرة من الشارع فليست راجعة إلى اجتهاد الحاكم. ويجب على الحاكم إقامة حد الله تعالى، ولا يحل له أن يتركه لشريف ولا لشفاعة إذا بلغ الحاكم. فإذا بلغ الحاكم الحد فيجب عليه أن يقيمه والشفاعة حينئذ محرمة. ففي الصحيحين: أن أسامة بن زيد شفع في مخزومية سرقت أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - بقطع يدها، فشفع أسامة بن زيد فقال له النبي - صلى الله عليه وسلم - مستنكراً: (أتشفع في حدٍ من حدود الله) . وفي الخمسة بإسناد صحيح في قصة سرقة رداء صفوان، وفيه أن صفوان شفع لسارق ردائه عند النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال له: هلا كان ذلك قبل أن تأتيني) . وفي سنن أبي داود بإسناد صحيح أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (من حالت شفاعته دون حد من حدود الله فهو مضاد لله تعالى في أمره) . وفي أبي داود بإسناد حسن أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (تعافوا الحدود فيما بينكم، فما بلغني من حد فقد وجب) . فالشفاعة محرمة إذا بلغت المعصية الحاكم، وأما قبل أن تصل إلى الحاكم فلا بأس بالشفاعة، ولذا قال - صلى الله عليه وسلم -: (هلا كان ذلك قبل أن تأتيني) . قال: [لا يجب الحد إلا على بالغ عاقل] . فالحد لا يجب إلا على عاقل بالغ أي مكلف، وهذا بإتفاق العلماء لقوله - صلى الله عليه وسلم -: (رفع القلم عن ثلاثة، وذكر منهم والصبي حتى يبلغ والمجنون حتى يفيق) . وقال - صلى الله عليه وسلم - كما في الصحيحين قال لماعز بن مالك: (أبك جنون) . فالمجنون والصبي لا يقام عليهما الحد. والمجنون لا يعزر، ولكن الصبي يُعزر بما يراه الحاكم بما يكون فيه ردعاً له عن التعدي. قال: [ملتزم] . فلا بد أن يكون من يقام عليه الحد ملتزماً، أي ملتزم بالشريعة الإسلامية وهو المسلم والذمي.

وأما المستأمن والحربي فإن الحد لا يقام عليهم لأنهم لا يلتزمون بأحكام المسلمين. قال: [عالم بالتحريم] . لقوله تعالى: ((ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا)) . وقال في الحديث - صلى الله عليه وسلم - عن الله تعالى (قد فعلتُ) رواه مسلم فلابد أن يكون عالماً بالتحريم. أما إن كان جاهلاً بالتحريم فلا يقام عليه الحد، وذلك حيث أمكن قبول دعواه كما لو كان ناشئاً في جهة من الجهات لا تنشر فيها أحكام الإسلام، كما يقع في بعض الأزمان في البوادي. وإن كان في زمننا هذا، في هذه البلاد غير مقبول، لكن في بعض البلاد الأخرى يقبل هذا في بعض البوادي أو النواحي البعيدة عن سماع القرآن والأحاديث. أو كان حديث عهد بإسلام. أما الذي يعيش في بلاد المسلمين، فإنه لا يقبل منه ادعاء الجهل لأن الجهل بهذا الحكم غير مقبول لأن ذلك من المعلوم من الدين بالضرورة. وكذلك إذا جهل الحال، فهو يعلم أن هذا محرم في الشريعة، لكنه يجهل أن هذه العين محرمة عليه. كأن يعلم أن الزنا محرم لكنه يجهل أن هذه المرأة محرمة عليه كما تقدم في غير ما مسألة في كتاب النكاح. أو كذلك في السرقة: أخذ من مال يظن أنه ماله، والمال في جرز وقد توفرت فيه الشروط التي تقطع اليد بتوفرها فإن اليد لا تقطع لأنه يجهل أن هذه العين محرمة. إذن: لابد من العلم بالتحريم، ولابد من العلم بأن هذه العين محرمة عليه فإن علم التحريم لكنه جهل العقوبة، فإن ذلك ليس بعذر له ولا يقبل منه. وذلك: لأنه قد انتهك حرمة من حرمات الله، والحكم معلق بذلك. قال: [فيقيمه الإمام أو نائبه] . لقوله - صلى الله عليه وسلم -: (واغدُ يا أنيسُ إلى امرأة هذا، فإن اعترفت فارجمها) متفق عليه. فلا يقيمها إلا الإمام أو نائبه وذلك، لأن إقامة غير الإمام أو نائبه فيها مفاسد، فإنه يترتب عليها سفكاً للدماء باسم إقامة الحد، وقطعاً للأطراف باسم ذلك ولاشك أن في ذلك مفاسد كبيرة.

كما إن إثبات الحد يحتاج إلى اجتهاد، وأيضاً في تطبيقه يخشى الحيف. والمراد بالإمام هنا، الإمام الأعظم. " أو من ينيبه عندنا هنا الأمراء في البلاد، وكذلك وزارة الداخلية، فإنها تعتبر هي القائمة بهذا الباب". وقال شيخ الإسلام بهذا القول لكنه ذكر أنه إذا كانت قرينة كتطلب الإمام لأحدٍ ليقتله فإنه يجوز قتله. فمثلاً: إذا ثبت عند القاضي أن هذا حده القتل ورفعت القضية للإمام وصدق على ذلك، لكن هذا الرجل فرّ من حكم الله، فهنا القرينة طاهرة، في إرادة الإمام تطبيق حد الله تعالى عليه فحينئذ يجوز لمن رآه أن يقتله، وفي هذا القول قوة والله أعلم. مسألة: ويجوز للسيد أن يقيم الحد على عبده. لقوله - صلى الله عليه وسلم -: (إذا زنت أمة أحدكم فثبت زناها فليجلدها الحد ولا يثرب عليها، ثم إن زنت فليجلدها ولا يثرب عليها، ثم إن زنت الثالثة فثبت زناها فليبعها ولو بحبل من شعر) متفق عليه. في صحيح مسلم عن علي بن أبي طالب: أنه قال في خطبته: " يا أيها الناس أقيموا على أرقائكم الحدود، فإن أمة للنبي - صلى الله عليه وسلم - زنت فأمرني أن أجلدها فإذا هي حديثة عهد بنفاس فخشيت إن جلدتها أن أقتلها فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - أحسنت". رواه أبو داود في سننه مرفوعاً، والصواب وقفه. وبه استدل جمهور العلماء على أن السيد يقيم الحد على عبده لكنه عندهم غير القطع، فلو سرق فإنه لا يقطع يده وإنما يكون هذا بما دون القطع، كالجلد ونحوه. وذهب الشافعية وهو وجه في مذهب أحمد إلى أنه يقيمه عليه وإن كان قطعاً. وهو ظاهر أثر علي بن أبي طالب المتقدم، وهو صريح فعل ابن عمر كما في مصنف عبد الرزاق أن عبداً سرق فقطع يده. فالصحيح أن السيد يقيم على عبده سائر الحدود ولو كان في ذلك قطع الطرف. وهل له أن يقيم الحد بمجرد علمه أم لابد وأن يثبت البينة؟

فإذا رأى السيد عبده وهو يزني أو يسرق فهل له أن يقيم عليه الحد أم ليس له ذلك حتى تقوم عنده البينة أو يقر هذا العبد. قولان لأهل العلم، هما قولان في مذهب أحمد:- القول الأول: وهو مذهب مالك، أنه لا يقيم عليه الحد بعلمه كالحاكم، بل لابّد من البينة أو الإقرار. القول الثاني: وأنه يقيمه بمجرد علمه، وهذا هو الأظهر وأما القياس على الحاكم، فهو قياس مع الفارق. والفارق بين الحاكم والسيد أن الحاكم إنما منع من إقامة الحد بعلمه فراراً من تهمة الحاكم. وأما السيد فهو حريص على حفظ ماله والعبد مال له، فهو حريص عليه وعلى حفظه وألا يتطرق إليه ما ينقص ماليته، وهذا فرق ظاهر بينهما. قال: [في غير مسجد] . لما روى الترمذي والحاكم والحديث حسن أن النبي - صلى الله عليه وسلم -????نهى أن تقام الحدود في المساجد) . قال: [ويضرب الرجل في الحد قائماً] . وذلك ليعم الضرب بدنه، ولئلا يخص ذلك موضعاً منه فيضّر به. وفي ذلك أثر عن علي بن أبي طالب في ضرب الرجل قائماً والمرأة جالسة رواه البيهقي بإسناد ضعيف. قال: [بسوط لا جديد ولا خلق] . فيضرب بسوط لا جديد ولا خلق. ليس بالجديد فيجرحه، ولا بالخلق فلا يؤثر به ولا يؤلمه فيكون وسطاً. قال: [ولا يمد ولا يربط ولا يجرد بل يكون عليه قميص أو قميصان] . ولا يمد: أي لا يمد على الأرض. ولا يربط: أي لا يقيد. ولا يجرد من ثيابه وفي ذلك أثر عن ابن مسعود رواه البيهقي بإسناد ضعيف أنه قال: " ليس في ديننا مد ولا قيد ولا تجريد" لكن الأثر ضعيف، والمعنى صحيح ويدل عليه ما في الأحاديث من إقامة الحد من النبي - صلى الله عليه وسلم -?فإنه لم يجرد ولم يمد ولم يقيد، لكن القيد إن دعت الحاجة إليه فإنه يُفعل ولا بأس بذلك. ويكون عليه قميص أو قميصان مما جرت العادة بلبسه مما يجعله يشعر بألم الضرب، وأما إذا كانت عليه ثياب كثيرة بحيث لا يبالي بالضرب فلا. قال: [ولا يبالغ بضربه بحيث يشق الجلد] .

حتى قالوا: لا يرفع الضارب يده حتى يظهر بياض إبطه، لأن هذا ضرب شديد يؤلم ألماً شديداً فربما شق الجلد أو آذاه آذىً شديداً. وليس المقصود هو الإتلاف وإنما المقصود هو التأديب والزجر. قال: [ويفرق الضرب على بدنه] . لئلا يضرّ به. مسألة: فإن كان من يُراد إقامة الحد عليه مريضاً، فله حالان: الحالة الأولى: ألا يرجى زوال مرضه، فإنه يقام عليه الحد إقامة لا تضر به. كأن يضرب بالنعال أو يضرب بطرف الثوب، أو بشماريخ العثكال أو نحو ذلك. ويدل على ذلك: ما رواه أحمد وأبو داود والنسائي وغيرهما: أن رويجلاً: أي ضعيف الزحولة "خبُثَ بأمة فأمر النبي - صلى الله عليه وسلم -?بإقامة الحد عليه" فقيل هو ضعيف فقال خذوا عثكالاً فيه مائة شمراخ فاضربوه ضربة واحدة. والعثكال: هو مجمع الشماريخ في النخل. وقد قال تعالى: ((فاتقوا الله ما استطعتم)) ومن ذلك إقامة الحد ومن الحديث: (إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم) . الحالة الثانية: أن يرجى زوال مرضه. فالمشهور في المذهب: أنه كذلك فلا يؤخر عليه الحد بل يضرب وهو مريض على حالة لا يثبت معها الضر. وقال الجمهور وهو احتمال في المذهب: أنه يتراخى حتى تزول مدة العلة وحتى يزول هذا العارض. وهذا هو القول الراجح في هذه المسألة، ويدل عليه ما تقدم في أُر علي بن أبي طالب: فإنه لما أمره النبي - صلى الله عليه وسلم -?أن يقيم الحد على الأمة وجدها حديثة عهد بنفاس فأخر إقامة الحد عنها فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -????أحسنت) . وفي صحيح مسلم أن النبي - صلى الله عليه وسلم -?قال للزانية: (اذهبي فأرضعيه حتى تفطميه) ، وهذا يدل على تأخير إقامة الحد للعارض. وبه يحصل مقصود الحد من الزجر والردع، أما ما استدل به الحنابلة من الحديث المتقدم فإن الرجل لا يرجى زوال مرضه بخلاف ما هو واقع في هذه المسألة. مسألة: إن كان الرجل في أرض العدو في الغزو، فهل يقام عليه الحد في أرض العدو أم لا؟

قولان لأهل العلم:- أصحهما وهو المشهور في المذهب، وهو من مفردات مذهب الإمام أحمد ألا يقام عليه الحد. وعليه دلت السنة وآثار الصحابة، فالسنة: أن النبي - صلى الله عليه وسلم -?قال: ((لا تقطع الأيدي في الغزو (وفي لفظ) ?في السفر)) المراد في سفر الغزو وذلك لئلا يترتب على إقامة الحد ما هو أعظم ضرراً كأن يلحق بالعدو فراراً يعني تأخذه العزة بالإثم. وأيضاً ليكون أنكى في قتال العدو فإن إقامة الحد يضعفه. وأما آثار الصحابة فهو قول عمر وأبي الدرداء وحذيفة ولا يعلم لهم مخالف. فإذا رجع أقيم عليه الحد، للأدلة في ذلك، (والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما) وهذا سارق وإنما أخر للمعنى المتقدم. واختار ابن القيم أنه إن ظهرت منه التوبة النصوح أو ظهرت منه حسنات كنكاية عظيمة في العدو فإنه يعفى ويدل على ذلك: ما كان من سعد بن أبي وقاص مع أبي محجن وهي قصة صحيحة رواها عبد الرزاق في مصنفه وابن أبي سعد وسعيد بن منصور، وغيرهم، وقد صحح إسنادها الحافظ ابن حجر والقصة أنه شرب الخمر وكان له بعد ذلك نكاية بالعدو فحلف سعد بن أبي وقاص ألا يجلده البتة لما كان له من النكاية بالعدو. فهذا أثر صاحب لا يعلم له في هذه المسألة مخالف أي مع هذه القيود المتقدمة. قال: [ويتقي الرأس والوجه والفرج والمقاتل] . وهذا ظاهر لأن المقصود هو التأديب وليس هو الإتلاف. قال: [والمرأة كالرجل فيه إلا أنها تضرب جالسة] . فتضرب جالسة لان ذلك أستر لها، وتقدم أثر علي وأن إسناده ضعيف لكن المعنى يدل على ذلك. قال: [وتشد عليها ثيابها] . فهذا أستر لها. قال: [وأشد الجلد جلد الزنا ثم القذف ثم الشرب ثم التعزير] . فأشد الجلد جلد الزنا، فهو أشد من جلد القاذف وجلد القاذف أشد من جلد الشارب وجلد الشارب أشد من الجلد في التعزير. قالوا لقوله تعالى في الزنا: ((ولا تأخذكم بهما رأفة في دين الله)) فلما ذكر ذلك بخصوص الزنا دل على أن الجلد فيه أشد.

والقذف ثمانون جلدة وهو أشد من شرب الخمر " وهو مشكل على المذهب لكن على الراجح هو أن الحد أربعون وما زاد فهو تعزير واختاره شيخ الإسلام، لا إشكال في ذلك. قال: [ولو مات في حد فالحق قتله] . فإذا جلد الحاكم زانياً غير محصن فإن جلده فمات بذلك مائة لا شيء عليه. وذلك لأن فعله مأذون فيه بالشرع وما كان مأذوناً فهو غير مضمون. لكن لو تعدى ولو زيادة جلدة واحدة أو ضربه ضرباً يحصل فيه أذى شديد فتجب ديته. قال: [ولا يحفر للمرجوم في الزنا] . سواء كان ذكراً أو أنثى. قالوا: لأن النبي - صلى الله عليه وسلم -?لم يحفر لماعز ولا لليهوديين اللذين زنيا. وقال بعض الحنابلة بل يحفر للمرأة سواء كان زناها ثابتاً ببينة أو بإقرار. واستدلوا بما ثبت في مسلم أن النبي - صلى الله عليه وسلم -????أمر بها فحفر لها إلى?صدرها) . وذلك أستر لها. والذي يترجح هو هذا القول، لكنا لا نقول بوجوبه لأن النبي - صلى الله عليه وسلم -?حدّ ولم يفعله كما في قصة اليهوديين. مسألة: ???وهي هل يقام الحد من قتل أو قطع على من فعل ذلك في الحل ثم لجأ إلى حرم الله (أي الحرم المكي) ؟ أما من فعل المعصية في الحرم كأن?يسرق أو يقتل فإنه يقام عليه الحد بلا خلاف. لكن الخلاف فيمن سرق أو قتل ثم لجأ إلى الحرم المكي؟ فهل يقام عليه الحد أم لا؟ قولان لأهل العلم: القول الأول: وهو المشهور في مذهب أحمد وهذا اختيار ابن القيم أنه لا يقام عليه الحد في الحرم لكن: يضيق عليه فلا يؤاكل ولا يشارب ولا يؤوى ولا يبايع ولا يشارى بمعنى: إن استأجر لم يؤجر وإن طلب ماءً لا يسقى ولا يجالس ويناشد الله عز وجل أن يخرج من الحرم إلى الحل ليقام عليه حد الله تعالى. القول الثاني: وهو مذهب المالكية والشافعية أنه يقام عليه الحد. واستدلوا: بعمومات النصوص التي تدل على إقامة الحد، كقوله تعالى: ((والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما)) .

وقوله: ((الزانية والزاني فاجلدوا كل واحدٍ منهما مائة جلدة)) . وغير ذلك من الآيات العامة فإنها عامة في الحل والحرم. وأما أهل القول الأول: فاستدلوا بقوله تعالى: ((ومن دخله كان آمناً)) . وبما ثبت في الصحيحين أن النبي - صلى الله عليه وسلم -?قال: (فمن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يسفك فيه دماً) . والصحيح ما ذهب إليه أهل القول الأول: ويدل عليه أثران عن الصحابة ولا نعلم لهم مخالف فيكون في ذلك تخصيص للعموم كما يقوي تخصيص العموم ما تقدم من قوله تعالى: ((?ومن دخله كان آمنا)) وقوله - صلى الله عليه وسلم -????فمن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يسفك فيه دماً) . والأثران: الأول: عند ابن جرير وهو أثر حسن عن ابن عمر قال: " لو رأيت قاتل عمر في الحرم ما ندهته" أي ما زجرته. والثاني: رواه ابن جرير عن ابن عباس أنه قال: " من قتل أو سرق في الحل ثم دخل الحرم فلا يجالس ولا يكلم ولا يؤوى ويناشد أن يخرج فإذا خرج أقيم عليه الحد". وهذان الأثران لا يعلم لهما عن الصحابة مخالف. بل قال ابن القيم: إن هذا القول هو قول جمهور التابعين وإنه لا يحفظ عن صحابي ولا عن تابعي خلاف هذا القول. فإن قيل: قد قتل النبي - صلى الله عليه وسلم -?كما في الصحيحين قتل ابن خطل وهو متعلق بأستار الكعبة؟ الجواب: "أن النبي - صلى الله عليه وسلم -?قال ?كما في صحيح مسلم وغيره ?وإنما أُحلت لي ساعة من نهار"، فمكة قد أحلت للنبي - صلى الله عليه وسلم -?ساعة من نهار ومن ذلك أنه قتل فيها ابن خطل. فإن قيل: فما الفرق بين من فعل ذلك في الحرم ومن فعله في الحل ثم لجأ إلى الحرم؟ ??والجواب: أن الفرق بينهما ظاهر ويمكن أن يكون من وجهين. الوجه الأول: أن يقال: إن من فعل ذلك في الحل ثم لجأ إلى الحرم هارباً مستعيذاً فهو معظم للحرم. وأما من فعل ذلك في الحرم فهو مستهين به.

الوجه الثاني: أن في عدم إقامة الحد في?أهل الحرم فوضى وفساداً كبيراً ولا شك أن مثل هذا الفساد العظيم يجب درؤه. " باب حد الزنا" الزنا: فيه لغتان: المد "الزنا"، والقصر "الزنا"، وهو فعل الفاحشة في قبل أو دبر. ويدخل في ذلك اللواط وإتيان البهيمة، ويأتي الكلام على هذا وما فيه من النظر من إدخاله?في حكم الزنا. قال: [إذا زنى المحصن رجم حتى يموت] . ????فإذا زنى المحصن -ويأتي تعريفه - رجم حتى يموت لما ثبت في الصحيحين أن النبي - صلى الله عليه وسلم -?قال: (واغدُ يا أنيس إلى امرأة هذا فإن اعترفت فارجمها) . وفي صحيح مسلم أن النبي - صلى الله عليه وسلم -?قال: (خذوا عني خذوا عني قد جعل الله لهن سبيلا، البكر بالبكر جلد مائة ونفي سنة، والثيب بالثيب جلد مائة والرجم) . وثبت في الصحيحين: أن عمر بن الخطاب خطب فقال: ((إن الله قد بعث محمداً - صلى الله عليه وسلم -?بالحق وأنزل عليه الكتاب، فكان فيما أنزل عليه آية الرجم، فقرأناها ووعيناها وعقلناها فرجم رسول الله - صلى الله عليه وسلم -?ورجمنا بعده، وأخشى إن طال بالناس زمان أن يقول قائل: ما نجد الرجم في كتاب الله، فيضلوا بترك فريضة أنزلها الله، وأن الرجم في كتاب الله حق على من زنى إذا أحصن من الرجال والنساء إذا قامت البينة أو كان الجبل أو الاعتراف) ، والحبل هو الحمل فهذا الأثر المتفق عليه الذي نطق به عمر على منبر النبي - صلى الله عليه وسلم -?بالمدينة لا يعلم أن أحداً أنكر عليه ذلك. وفيه أن الرجم دلت عليه آية من كتاب الله لكنها نسخ لفظها وأما حكمها فهو باق. وحكم الرجم ثابت بإجماع العلماء، ولا يعلم أن أحداً من العلماء خالف في ذلك، إلا أهل البدع كالخوارج. والمستحب في الرجم أن يصفوا صفاً، كصف الصلاة أي لا يحيطون بالمرجوم بل يكونون كصف الصلاة لئلا يصيب بعضهم بعضاً. ??فإذا كان الزنا ثابتاً بالاعتراف أو الحبل فأول من يرجم الإمام أو نائبه ثم الناس.

وأما إذا ثبت بالشهود فأول من يرجم هم الشهود أنفسهم ثم الناس، صح بذلك الأثر عن علي بن أبي طالب كما في مصنف ابن أبي شيبه. ولم يذكر المؤلف هنا الجلد مع الرجم وهذا هو مذهب الجمهور وأن الزاني المحصن يرجم ولا يجلد. والقول الثاني في المسألة: وهو مذهب أهل الظاهر ورواية عن أحمد. أنه يجمع له بين الجلد والرجم. أما أهل القول الأول: فاستدلوا:?بأن النبي - صلى الله عليه وسلم -?رجم اليهوديين كما في الصحيحين ورجم ماعزاً، كما الصحيحين أيضاً، ورجم الجهنية كما مسلم، وقال - صلى الله عليه وسلم -????واغد يا أنيس إلى امرأة هذا فإن اعترفت فرجمها) ، فهذه الأحاديث كلها ليس فيها الجلد. وقد صح عن عمر بن الخطاب، كما في مصنف ابن أبي شيبه أنه رجم رجلاً ولم يجلده. ?وأما أهل القول الثاني: فاستدلوا: بحديث عبادة المتقدم وفيه: "الثيب بالثيب جلد مائة والرجم". وصحّ هذا من فعل علي بن أبي طالب كما في مسند أحمد، أنه جلد شراحة الهمدانية يوم الخميس ورجمها يوم الجمعة وقال: "جلدتها بكتاب الله ورجمتها بسنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -?? والصحيح هو القول الأول: لأن ذلك هو آخر الأمر من رسول الله - صلى الله عليه وسلم -? لأن حديث عبادة "خذوا عني خذوا عني) الحديث، ظاهر في أنه أول حديث للنبي - صلى الله عليه وسلم -?بعد الحكم السابق، فقد قال تعالى: ((واللاتي يأتين الفاحشة من نسائكم فاستشهدوا عليهن أربعة منكم.. إلى قوله: أو?يجعل الله لهن سبيلاً)) ، فهذا هو أول حديث عن النبي - صلى الله عليه وسلم -?بعد فسخ الحكم الأول، ثم إن النبي - صلى الله عليه وسلم -?لم يجلد. وهذا يدل عليه النظر أيضاً، فإن القتل يأتي على ما دونه من ذلك ثم إن ترك عقوبة خطأ أولى من فعلها خطأً، فكوننا نترك عقابه على وجه الخطأ فنكون معذورين في ذلك، أولى من أن نقيم عليه هذه العقوبة ونكون مخطئين في ذلك.

قال: [والمحصن: من وطئ امرأته المسلمة أو الذمية في نكاح صحيح وهما بالغان عاقلان حران] . هذا هو المحصن. "من وطئ" أي في قُبُل، وأما إذا كان في دبر أو مباشرةً فلا يقام عليه الرجم. لقوله - صلى الله عليه وسلم -????الثيب بالثيب) ولا يثوبه إلا بعد وطئ في فرج وهذا باتفاق العلماء. ?امرأته" لا سريّته، فإذا وطئ أمته فهذا ليس بمصحن وهذا باتفاق العلماء. والفارق ظاهر بين الزوجة والسريّة من حيث الإحصان. "المسلمة أو الذمية": سواء كانت امرأته مسلمة أو ذمية وقد أقام النبي - صلى الله عليه وسلم -?حد الرجم على اليهوديين. ??وفي نكاح صحيح": تقدم تعريف النكاح الصحيح. فإذا كان نكاحاً باطلاً، "كنكاح المعتدة" أو فاسداً كنكاح بلا ولي لمن يعتقد فساده فإنه لا يثبت به الإحصان وهما بالغان عاقلان حران فهذه شروط الإحصان. الشرط الأول: أن يطأها في قُبُلها. الشرط الثاني: أن تكون امرأة له. الشرط الثالث: أن يكون النكاح صحيحاً. الشرط الرابع: أن يكونا بالغين. الشرط الخامس: أن يكونا عاقلين. الشرط السادس: أن يكونا حرين. الشرط السابع: ذكره بقوله: ??فإن اختلّ شرط منها في أحدهما فلا إحصان لواحد منهما] . فهذا هو الشرط السابع وهو أن يكون الزوجان كذلك، فإذا كانت امرأته صبية أو غير عاقلة، أو أمةً فلا يقام عليه الحد وإن كان هو حراً، هذا هو مذهب جمهور العلماء. وقال الشافعي في أحد قوليه: بل النظر إليه هو، فإن كان هو حراً بالغاً عاقلاً فإن الحد يقام عليه. والأولى أصح وذلك لأن الإجماع قائم على أن من?كانت تحته سرّية فإن الحد لا يقام عليه وذلك لعدم كمال الوطء فكذلك إذا كانت صبية أو مجنونة، فكذلك لعدم كمال الوطء. قال: [وإن زنى الحر غير المحصن جلد مائة جلدة وغرب عاماً ولو امرأة] . فإذا زنى الحر غير المحصن فإنه يجلد مائة جلدة، لقوله تعالى: ((الزانية والزاني فاجلدوا كل واحدٍ منهما مائة جلدة)) .

وفي مسلم من حديث عبادة وفيه: (والبكر بالبكر خلد مائة ونفي سنة) . وقال في الصحيحين في قصة العسيف: "على ابنك جلد مائة وتغريب عام" وفيه أن النبي - صلى الله عليه وسلم -?قال: " لأقضين بينكما بكتاب الله" ومع ذلك فإنه لم يقض بالجلد في الثيب?بل قضى بالرجم وهذا راجع إلى المسألة السابقة وهي هل يجمع مع الرجم الجلد" إذن يجلد مائة ويغرب عاماً. وفي الترمذي عن ابن عمر، أن النبي - صلى الله عليه وسلم -????جلد وغرّب وأن أبا بكر جلد وغرّب وأن عمر جلد وغرّب) والحديث صحيح كما في الترمذي. فيغرب عاماً أي سنة هجرية، لأن الحساب في الإسلام يكون بالسنة الهلالية لقوله تعالى: ((يسألونك عن الأهلة قل هي مواقيت للناس)) . ويغرب عاماً عن بلده مسافة قصر، وذلك لأن ما دون مسافة القصر في حكم الحضر. والغريب إن زنى يغرب إلى بلد أخرى سوى بلده التي أتى منها لمعنى العقوبة. "ولو امرأة": فالمرأة تغرب لعموم الحديث فإن النبي - صلى الله عليه وسلم -?قال: (البكر بالبكر جلد مائة ونفي سنة) وهذا عام في الذكر والأنثى. لكن المرأة في المشهور في المذهب، يجب أن يكون معها محرم لها قالوا: وعليها أجرته، فإن تعذرت عليها الأجرة فمن بيت المال. وذكر الموفق احتمالاً أنه ليس عليها الأجرة كما أنه ليس عليها أجرة الجالد وغير ذلك، لأن هذه إقامة حد والواجب عليها أن تستسلم لحكم الله تعالى في إقامة الحد عليها وليس عليها أجرة ذلك، وهذا أظهر وأنه لا يجب عليها أن تدفع أجرة لمحرمها. فإن تعذر المحرم، إما لأنه لا محرم لها أو لأن المحرم اعتذر عن ذلك. فإنها تغرب في المذهب ولو وحدها، وهذا ضعيف. ولذا: فإن القول الثاني في المسألة: وهو اختيار الموفق وابن القيم أنها لا تغرب إلا بمحرم وذلك لما يترتب على ذلك من الفتنة وتعرضها للفساد فكونها تغرب هذا يسهل عليها العودة إلى الفاحشة. فإن قيل بالحبس حينئذ مع الأمن ففيه قوة والله أعلم (وينظر) .

قال: [والرقيق خمسين جلدة] . ????لقوله تعالى: ((فإن أتين بفاحشة فعليهن نصف ما على المحصنات من العذاب)) . وهذا في الإماء ويقاس عليهن العبيد. ولا رم على الرقيق، وذلك لأن الرجم لا يتنصّف فلا يقام حد الرجم على غير الحر بل يقام عليهم الجلد فيجلد خمسين جلدة سواء كان عبداً أو أمةً. قال: [ولا يغربّ] . ???لما في ذلك من الإضرار بالسيد، فلا تغريب في العبد ولا الإماء، لما في ذلك من الضرر بالسيد فإن في ذلك تفويتاً لمصلحة السيد فيه. قال رحمه الله: [وحد لوطي كزان] . ??اللوطي: هو من أتى?رجلاً في دبره أو امرأةً أجنبيةً عنه في دبرها. فحد اللوطي كحد الزاني، فإن كان محصناً رجم حتى يموت، وإن كان غير محصن فإنه يجلد مائة جلدة. هذا هو المشهور في مذهب أحمد. واستدلوا: بما روى البيهقي أن النبي - صلى الله عليه وسلم -?قال: (إذا أتى الرجل الرجل فهما زانيان، وإذا أتت المرأة المرأة فهما زانيتان) . لكن الحديث ضعيف فهو من حديث بشر بن المفضّل البجلي وهو مجهول. والقول الثاني في المسألة وهو مذهب المالكية والشافعية وروايته عن الإمام أحمد. أن من فعل مثل فعل قوم لوط فإنه يقتل مطلقاً لا ينظر هل محصن أم ليس بمحصن. واستدلوا بالسنة والإجماع. أما السنة: فما روى الخمسة أن النبي - صلى الله عليه وسلم -?قال من حديث ابن عباس: (من وجدتموه يعمل عمل قوم لوط فاقتلوا الفاعل والمفعول به ومن وقع على بهيمة فاقتلوه واقتلوا البهيمة) . والحديث في شقه الأول حديث صحيح، وله شواهد وأما الإجماع: فقالوا: هو إجماع الصحابة رضي الله?عنهم، فقد أجمع الصحابة على ذلك لكنهم اختلفوا في كيفية القتل فمنهم من قال: يحرق، ومنهم من قال: يرجم ومنهم من قال: يقتل بالسيف. وقد حكى الإجماع شيخ الإسلام ابن تيمية وغيره ورواه الآجري في تحريم اللواط، وغيره. وهذا هو القول الراجح في المسألة، واختاره شيخ الإسلام وتلميذه ابن القيم.

فالصحيح أنه يقتل مطلقاً وهل يحرف أم يرجم أم يقتل بالسيف؟ أقوى هذه الأقوال الثلاثة، فيما يظهر لي أنه يرجم. وقد صح ذلك عن ابن عباس، أنه قال في البكر يوجد على اللوطية قال: يرجم. وتشهد له قوله سبحانه: ((وأمطرنا عليهم حجارة من سجيل)) سورة الحجر. على أنه يقوى أن يقال: إن ذلك راجع إلى اجتهاد الإمام فيفعل ما يرى أنه أردع سواء قتلاً بالسيف أو رجماً أو إحراقاً وإن كان أقواها، فيما يظهر هو قول ابن عباس ويشهد له القرآن. مسألة: ???من أتى بهيمة فما حكمه؟ جمهور العلماء على أنه يعزر ولا يقتل. وقال القاضي من الحنابلة: أن حده كحد اللوطي والصحيح هو الأول. وأما الحديث المتقدم في شقه الثاني فهو حديث منكر كما قال ذلك الإمام أحمد وقال ذلك أبو داود والترمذي والطحاوي وغيرهم. وقد قال البخاري في حديث عمرو بن أبي عمرو عن عكرمة وهذا منه، قال: "له مناكير عنه" وسبب الإنكار أنه ثبت عند أبي داود بإسناد جيد أنه سئل عن ذلك فقال "لا حد عليه". قال: [ولا يجب الحد إلا بثلاثة شروط] . أحدها: تغييب حشفته الأصلية كلها. فهي ما يبرز بعد الختان من الحشفة. الأصلية: فليست من خنثى مشكل. ??في قبل أو دبر أصليين من آدمي حي حراماً محضاً] . ???لا شبهة فيه. وكذلك أن يكون ذلك في حية لا في ميته، في المشهور في المذهب. قالوا: لأن الميتة لا تشتهي وتتغير منها الطباع فلا يحتاج إلى الزجر عنها بحد الزنا. فمن أتى ميتته في فرجها فإنه لا يجلد ولا يرجم بل فيه التعزير. والقول الثاني في المسألة: وهو قول في المذهب وهو مذهب الأوزاعي أنه يرجم إن كان محصناً، وإن لم يكن محصناً فإنه يجلد وذلك لأنه فرج آدمية. ?وكونه لا يشتهي أو تنفر الطباع منه هذا ليس مؤثر بدليل أن اللوطي يقتل وإن كان ذلك مما تنفر عنه الطباع السليمة فهو شذوذ ولا شك، ومع ذلك فإنه أقبح?من الزنا وعقوبته أشد. ?فما ذهب إليه الحنابلة في أحد القولين وهو قول الأوزاعي أقوى والله أعلم.

قال: [الثاني: انتفاء الشبهة، فلا يحد بوطء أمة له فيها شرك] . ???فلو أن رجلاً يشترك وآخر في أمةً فليس لأحدهما أن يطأها لكن إن وطئها فلا يقام عليه الحد لوجود الشبهة. قال: [أو لولده] . ???فإذا وطئ أمةً لولده فإنه لا يقام عليه الحد لوجود شبهة الملك لقول النبي - صلى الله عليه وسلم -???أنت ومالك لأبيك) . ولم يقل "لوالده" لأنه لا شبهة حينئذ، ولم يقل، لزوجته لأنه لا شبهة حينئذ. والذي يدل على انتفاء الحد بالشبهة إجماع أهل العلم، فقد أجمع أهل العلم على أن الحدود تدرأ بالشبهات كما حكى ذلك ابن المنذر وأما ما روى الترمذي أن النبي - صلى الله عليه وسلم -?قال: (إدرؤا الجلد والقتل من المسلمين بالشبهات) فالحديث ضعيف جداً فيه يزيد بن زيادة الدمشقي وهو متروك الحديث. وعن علي في البيهقي بإسناد ضعيف: " ادرؤا الحدود بالشبهات" لكن صح ذلك عن ابن مسعود أنه قال: " ادرؤا الجلد والقتل من المسلمين ما استطعتم " رواه البيهقي بإسناد صحيح وقد أجمع أهل العلم على هذا. لكن الاحتمالات البعيدة جداً غير معتبرة، بل المعتبر أن يكون هناك احتمال قوي يقوي أن يكون شبهة فيمنع الحد الثابت. قال: [أو وطئ امرأة ظنها زوجته] . ???فقد ينادي الأعمى امرأته فتأتيه أخرى فيطؤها وتكون الأخرى متعمدة، وحينئذ يقام عليها الحد وأما هو فلا يقام عليه الحد لأنه ظنها زوجته فهو لا يظنها أجنبية وحينئذ لا يكون فاعلاً أمراً حراماً قال: [أو سريته] . إذا وطئ امرأة يظنها سريته، وليست كذلك فلا يقام عليه الحد. قال: [أو في نكاح باطل اعتقد صحته] . ??كأن يطئ معتدةً فهذا نكاح باطل باتفاق العلماء لكنه اعتقد صحته أي جاهلاً، وأمكن الجهل، فإنه لا يقام عليه الحد لوجود الشبهة. أما إذا كان لا يعتقد صحته فإنه يقام عليه الحد لعدم الشبهة. قال: [أو نكاح ... مختلف فيه] . ???النكاح المختلف فيه: كالنكاح بلا ولي.

فإذا نكح امرأة بلا ولي فهل يقام عليه الحد؟ فالمشهور في المذهب أنه لا يقام عليه الحد وإن اعتقد بطلانه وذلك لوجود الشبهة، لذلك أطلق هنا وقيد في المسألة السابقة (أو نكاح باطل اعتقد صحته) وعن الإمام أحمد: أنه يقام عليه الحد وهو الصحيح، وذلك لأنه لا شبهة له في ذلك. وهذا نكاح باطل في الحقيقة، وكونه يكون مختلفاً منه هذا ليس بمؤثر في حقيقة الأمر، فحقيقته أنه نكاح باطل وإنما سمي فاسداً لاختلاف أهل العلم فيه. إذن: من نكح نكاحاً فاسداً، وهو يعلم فساده، فالصحيح أنه يحد وهو رواية عن الإمام أحمد. قال: [أو ملك مختلف فيه] . ???بيع الفضولي مختلف فيه، فإذا اشترى له أمةً على بيع الفضولي فنكحها فإنه لا يقام عليه الحد ولو كان ذلك قيل الإجازة وذلك لأن بيع الفضولي مختلف فيه، فلا يقام عليه الحد للشبهة. وهذه كالمسألة السابقة. فإن كان يعتقد بطلان هذا البيع وإنه لا يصح فالصحيح أنه يقام عليه الحد لأنه لا شبهة له. قال: [أو أكرهت المرأة على الزنا] . ???فإذا أكرهت المرأة على الزنا فلا يقام عليها الحد باتفاق العلماء لقوله - صلى الله عليه وسلم -????إن الله تجاوز لي عن أمتي الخطأ?والنسيان وما استكرهوا عليه) . ?وقال هنا: " المرأة" وليخرج من ذلك الرجل، فإن الرجل لو أكره على الزنا فإنه يقام عليه الحد في المذهب. قالوا: لأنه لا يمكن أن ينتشر ذكره وهو مكره، بل لا يمكن أن ينتشر إلا أنه مختار. لكن هذا ضعيف، لأنه قد يكون مكرهاً، ومع ذلك ينتشر ذكره إما لقوة شهوة، أو غير ذلك ولا دخل لهذا بهذا. لذا فالصحيح، وهو مذهب الشافعية، أن الرجل إذا أكره على الزنا فلا يقام علي الحد وهو اختيار الشيخ عبد الرحمن السعدي. مسألة: إذا زنى بذات محرم، كأن يزني بأمه أو بأخته أو غيرهما من محارمه فما الحكم؟ الجمهور: على أنه يرجم إن كان محصناً، ويجلد إن لم يكن محصناً أي كغيره. واستدلوا: بالعمومات.

والقول الثاني في المسألة: وهو رواية عن الإمام أحمد وهو اختيار شيخ الإسلام وتلميذه ابن القيم أنه يقتل مطلقاً. واستدلوا: بما ثبت في سنن الترمذي والنسائي عن البراء بن عازب قال: "لقيني عمي ومعه راية فسألته فقال: بعثني رسول الله - صلى الله عليه وسلم -?إلى رجلٍ نكح امرأة أبيه فأمرني أن أضرب عنقه وآخذ ماله". وله شاهد من حديث معاوية بن قرة في سنن ابن ماجه والحديثان صحيحان. وعلى ذلك فالراجح هو القول الثاني. ولا شك أن الفارق ظاهر بين الزنا بغير ذات المحرم وبذات المحرم، فإن ذات المحرم تعافها النفوس ولا يشتهيها الطباع فهي أشبه ما تكون بوطء الدبر الذي تقدم أن الراجح قتل فاعله. ثم إن الواجب عليه صانة ذات محرمه وحفظها وهذا قد قام بخلاف ذلك. قال رحمه الله: [الثالث: ثبوت الزنا] . ??هذا هو الشرط الثالث?من شروط إقامة حد الزنا. قال: [ولا يثبت إلا بأحد أمرين:- أحدهما: أن يقر به أربع مرات في مجلس أو مجالس] أي يقر بالزنا فيقول: "زنيت" فيقول ذلك أربع مرات سواء كان ذلك في مجلس واحد للقاضي، أو بقول هذا في مجالس بمعنى يقولها مرة في اليوم الأول ومرة في اليوم الثاني ثم في اليوم الثالث ثم في اليوم الرابع. فلابد لإقامة الحد عليه من أن يقر على نفسه أربع مرات. هذا هو المشهور في مذهب الإمام أحمد. واستدلوا بما ثبت في الصحيحين في قصة ماعز، من حديث أبي هريرة وفيه، فلما شهد على نفسه أربع شهادات دعاه النبي - صلى الله عليه وسلم -?فقال: "أبك جنون؟ " قال: لا، قال: فهل أحصنت؟، قال: نعم، قال: اذهبوا به فارجموه" فقد توقف في الحد حتى تمت هذه الشهادات الأربع. وقال المالكية والشافعية: بل بمجرد إقراره ولو مرةً واحدة يقام عليه الحد. واستدلوا: بما ثبت في الصحيحين من قول النبي - صلى الله عليه وسلم -????واغدُ يا أنسُ إلى امرأة هذا فإن اعترفت فارجمها) . قالوا: فأطلق النبي - صلى الله عليه وسلم -? الراجح هو القول الأول.

والجواب عما استدل به أهل القول الثاني: أن يقال: هذا الحديث مطلق، والحديث الأول مقيد. قال: [ويصرح بذكر حقيقة الوطء] . ??فيصرح بذكر حقيقة الجماع، بأن يصرح أنه قد وطئ المرأة وأدخل ذكره في فرجها صراحة. ولذا قال النبي - صلى الله عليه وسلم -?لماعز في صحيح البخاري: (لعلك قبّلت وغمزت، ونظرت) فقال لا حتى ذكر له النبي - صلى الله عليه وسلم -?الجماع لا يكنى) قال: [ولا ينزع عن إقراره حتى يتم عليه الحد] . ??فإذا قال: رجعت قبل أن يقام عليه الحد فإنه يقبل رجوعه أوقال ذلك أثناء إقامة الحد فإنه يقبل رجوعه ما لم يتم عليه الحد، أي ما لم يرجم فيموت. دليل ذلك. ما ثبت في سنن أبي داود وغيره في قصة ماعز وأنه جزع لما وجد مسّ الحجارة فهرب فقتلوه فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -????هلا تركتموه لعله أن يتوب فيتوب الله عليه) . وهذا إنما هو في الإقرار أي عندما يقر على نفسه وأما?إذا ثبت الزنا عليه بالبينة فإنه لا يقبل رجوعه. قال: [الثاني: أن يشهد عليه في مجلس واحدٍ بزنا واحد يصفونه أربعة ممن تقبل شهادتهم فيه، سواء أتوا الحاكم جملةً أو متفرقين] . ?هذا هو الطريق الثاني لثبوت الزنا. أن يشهد عليه في مجلس واحد بزنا واحد يصفونه أربعة:?بمعنى أنهم يخبروا أنهم رأوا الذكر في الفرج كالمرود في المكحلة وكالرشا في البئر أي صريح الجماع. ??ممن تقبل شهادتهم فيه) : وهم الرجال الأحرار البالغون ما لم يكن بينهم مانع، فمن ذلك العمي والزوجية. أما العمى فظاهر أنه مانع لأن ذلك يحتاج إلى البصر. وأما الزوجية فلأن الزوج إذا شهد على امرأته بذلك وكان من جملة الشهود فهذا إقرار منه بعداوته لها قالوا: فلا تقبل شهادته. ?ويدل على ذلك: ما ثبت في صحيح مسلم: أن سعد بن عبادة قال: "يا رسول الله إن وجدت على امرأتي رجلاً أمهله حتى آتي بأربعة شهداء". فلم يقل: " أأمهله حتى آتي بثلاثة شهداء" فهو ليس بشاهد ولا يصح أن يكون شاهداً.

إذن: الزوج لا تقبل شهادته على امرأته بذلك. وكذلك: إذا كان في شهادتهم ما يدل على كذبهم فإن شهادتهم لا تقبل. وكان في شهادتهم ما يدل على أنه ليس بزنا واحد بل زنا متعددة. كأن يشهد اثنان على أنه زنا بهذه المرأة في مكانه ويشهد الآخران أنه زنا بها بمكان آخر. أو يشهد اثنان أنه في الصباح قد زنا بها، ويشهد الآخران أنه زنا بها في المساء فهنا الزنا مختلف. (في مجلس واحد) : فلابد أن يكون المجلس واحداً أي مجلس الحاكم بمعنى: أتى الشهداء فقالوا: إن فلاناً قد وطئ فلانة ويصفوا ذلك في مجلس القاضي وهم أربعة وتوفرت فيهم الشروط حينئذ تقبل شهادتهم. أما لو كانوا في أكثر من مجلس كأن يأتي اثنان في مجلس في الضحى ويأتي اثنان في مجلسه في المساء. أو يأتي ثلاثة في مجلسه اليوم ويأتي واحد في مجلسه من الغد فلا تقبل شهادتهم ويحدون حد القذف. ودليل ذلك: "ما ثبت في البيهقي: أن عمر حدّ أبا بكرة ونافعاً وشبل من معبد لما شهدوا على المغيرة بالزنا". ولم يتربص بهم حتى يأتوا بشاهد رابع، هذا من الأثر. وأما من النظر فهو أن أهل العلم قد أجمعوا على أن الثلاثة إذا شهدوا فحدوا حد القذف ثم أتى شاهد رابع بعد ذلك فلا تقبل شهادته. فكذلك إذا شهد ثلاثة ثم شهد آخر في مجلس آخر وإن لم يُحد هؤلاء فالحكم واحد. وقال الشافعية: بل لا يشترط أن يكون في مجلس واحد واستدلوا: بقوله تعالى: ((فإذا لم يأتوا بأربعة شهداء)) . قالوا: وهذا مطلق سواء كان في مجلس أو مجلسين أو أكثر والجواب عن الاستدلال بهذه الآية: أن يقال وهذه الآية مطلقة وقيدها فعل عمر رضي الله عنه. والصحابي قوله يقيّد إطلاق النصوص كما هو مرجّح في علم الأصول. ثم يقال: ما هو مدى الانتظار؟ هل ننتظر إبداً فحينئذ يفوت علينا إقامة حد القذف وإذا كان له أمد، فما هو الأمد؟، وأصح ما يكون الأمد هو المجلس نفسه. ولا شك أن الشارع قد اعتبر المجلس كما اعتبره في خيار البيع.

فالصحيح أن لابّد أن تكون شهادتهم في مجلس واحد. والمراد بالمجلس الواحد أي مجلس القاضي، سواء كان إتيانهم جملة أو متفرقين. فمثلاً: القاضي يجلس من الساعة الثامنة إلى الساعة الثانية عشر فأتى بعضهم في أول النهار وبعضهم في آخر المجلس أي قبل الساعة الثانية عشرة، فالمجلس واحد ولذا قال: ??سواء أتوا الحاكم جملة أو متفرقين) ? قال: [وإذا حملت امرأة لا زوج لها ولا سيد لم تحد بمجرد ذلك] . ??إذا حملت امرأة ولا زوج لها ولا سيد يطؤها فإنها لا تحد بمجرد ذلك. قالوا: لإحتمال للشبهة فيحتمل أنها مكرهه أو أنها وطئت وهي نائمة أو نحو ذلك، والحدود تدرأ بالشبهات. والقول الثاني في المسألة: وهو رواية عن الإمام أحمد واختيار شيخ الإسلام وتلميذه ابن القيم: أن الحد يقام. واستدلوا: بما تقدم من قول عمر، الذي قاله في محضر من الصحابة ومنه: "أو كان الحبل أو الاعتراف" والَحبَل هو الحمل. فهذا قول صاحب قاله بمحضر من الصحابة ولا يعلم له مخالف. ثم إن هذه الإمارة وهي ظهور الحمل فيها أظهر من كونه يأتي بأربعة شهداء فيشهدون عليها بالزنا. وهذا القول هو الراجح. فأما قولهم: إن ذلك شبهة. فإنه لا ينظر إلى الاحتمالات البعيدة وإلا لم يقم حد والأصل هنا عدم ذلك. لكن: لو ادعت أنها قد أكرهت وكانت القرينة ظاهرة في ذلك، كأن تكون مصابة بحراجات ونحو ذلك بما يدل على أنها قد اغتصبت ثم يكون فيها حمل وتدعي أنها قد اغتصبت بدليل هذه الجراحات فحينئذ يقبل قولها أو أقامت بينه على ذلك. مسألة: ???إذا شهد أربعة على امرأة بالزنا وتوفرت الشروط فيهم لكن شهدت القابلات من النساء الثقات أن المرأة بكر، فما الحكم؟ الجواب: أن المرأة لا تحد، لأن بكارتها التي تثبت بهذه البينة تمنع من الزنا. ولا يقام?حد القذف على الشهود لأن الشروط متوفرة فيهم ولا يجزم بكذبهم. " باب حد القذف "

القذف: هو الرمي بما يوجب الحد من زنا أو لواط أما لو رماه بما لا يوجب الحد كأن يرميه بقبلة امرأة أو مباشرتها أو نحو ذلك فليس قذفاً ولا يوجب حد القذف بل يوجب التعزير. قال: [إذا قذف المكلف] . تقدم اشتراط التكليف في مسائل الحدود فلو قذف الصبي أو المجنون فلا يحد كذلك لابد أن يكون مختاراً، أما لو كان مكرهاً على القذف فلا يحد أيضاً. قال: [محصناً] . ?فإذا قذف المكلف، ولو كان ذلك بإشارة تدل على القذف كما يقع من أخرس أو نحوه. (محصناً) :- ولو كان هذا المحصن مجبوباً أو كانت المرأة رتقاء فالحكم واحد. فإن قيل: كيف يقع ذلك وهي رتقاء أو وهو مجبوب؟ فالجواب: نعم، الزنا غير صحيح، لكن ما يدري الناس أن المرأة رتقاء أو أن الرجل محبوب، وحينئذ يلحقه العار بذلك. قال: [جلد ثمانين جلدة، إن كان حراً] . لقول تعالى: ((والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء فاجلدوهم ثمانين جلدة)) . قال: [وإن كان عبداً أربعين] . ????ودليلة ما روى ابن أبي شيبه وعبد الرزاق في مصنعيهما عن عبد الله ابن عامر بن ربيعة قال: " لقد أدركت أبا بكر وعمر وعثمان رضي الله عنهم ومن بعدهم وكانوا لا يجلدون المملوك للقذف إلا أربعين". قال: [والمعتق بعضه بحسابه] . ???فإذا بعضه حر وبعضه عبد، فإنه يجلد بحسابه، فإذا كان مثلاً نصفة حراً نصفة عبداً، فإنه يجلد ستين جلدة. قال: [وقذف غير المحصن يوجب التعزير] . ????فقد كان يقذف ذمياً أو مستأمناً بالزنا، أو أن يقذف مجنوناً أو غير ذلك، فإنه يجب التعزير لأنها منقصة. قال: [وهو حق للمقذوف] . ????هذا هو مذهب الجمهور قالوا: هو حق للمقذوف، ولذا يسقط بعقوه، ولا يستوف بدون طلبه. لذا قال بعد ذلك في آخر الباب: " ويسقط حد القذف بالعفو ولا يستوفي بدون الطلب". فهذا مرتب على أنه حق للآدمي وهو المقذوف.

* واستدلوا: بالقياس على الجناية على النفس، قالوا: هو أي القذف - جناية على العرض فأشبه الجناية على النفس. * والجناية على النفس حق للآدمي يسقط بالعفو ولا يستوفى بدون الطلب وهنا كذلك فالقذف جناية على الآدمي في عرضه. وقال الأحناف وهو رواية عن الإمام أحمد هو حق لله تعالى وهذا هو القول الراجح وهو ظاهر القرآن والسنة. * ودليل ذلك: أن الله تعالى قال: ((والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء فاجلدوهم ثمانين جلدة)) . ولم يشترط الله تعالى رضا المقذوف ولا?طلبه. ????وأما السنة فما روى أحمد والأربعة والحديث حسن عن عائشة قالت: ((لما نزل عذري صعد النبي - صلى الله عليه وسلم -?على المنبر فذكر ذلك وتلا القرآن، فلما نزل أمر رجلين وامرأة فضربوا الحد)) . وليس فيه أن النبي - صلى الله عليه وسلم -?أوقف الحد على طلب عائشة ولا على رضاها. وأما من النظر، فهو أن يقال ويصح أن يكون رداً على دليل أهل القول الأول، وهو أن يقال: إن الحد ثمانين جلدة وهو غير مماثل للجاني، فإن الجناية اعتداء باللسان على العرض وأما الحد فإنه جلد أي اعتداء على البدن بالضرب فلم يكن هناك مماثلة ففارق هذا عقوبة القاتل، فإن القاتل يقتل حيث قتل، والقاطع يقطع حيث قطع، والجارح يجرح حيث جرح، وأما هنا فإنه قد اعتدى على العرض وضرب ثمانين جلدة، فلم يكن هناك مماثلة بين الحد، وهي الجلد هنا، وبين الجناية بخلاف الجناية على النفس. وهذا يصح أن يكون رداً على القياس المتقدم، فيقال هذا قياس مع الفارق. لأن الجناية على النفس عقوبتها أن يقتل النفس، وإن كان قطعاً أن يقطع الطرف، وإن كان جرحاً أن يجرح البدن. وأما هنا فلا مماثلة، فإنه اعتدى بلسانه على عرض أخيه فضرب ثمانين جلدة. فالصحيح ما ذهب إليه أهل القول الثاني:

وعليه: فلا يحتاج إلى طلب من المقذوف ولا يكون العفو إلا قبل?أن يرفع ذلك إلى الحاكم، فللمقذوف ألا يرفع ذلك إلى الحاكم، وأما إذا وصل الأمر إلى الحاكم فإنه يقام عليه الحد ولا ينظر إلى عفو المقذوف. قال: [والمحصن هنا: الحر] . ????وعليه فلو قذف عبداً فلا يقام عليه الحد، لكن يعزر كما تقدم في قول المؤلف: (وقذف غير المحصن يوجب التعزير) . وقد قال تعالى: ((والذين يرمون المحصنات)) والمحصنات هن الحرائر المسلمات. ولا شك أن العبد ليس كالحر، وقد فرق الله بينهما بالشرع كما في غير ما آية من كتاب الله الكريم، فليس هذا كهذا. وإنما يستوون في أحكام الآخرة في الثواب والجزاء، وفي التكاليف الشرعية. وهذا أي اشتراط الحرية في الإحصان كذلك ما سيذكره المؤلف من شروط المحصن هو مذهب عامة أهل العلم. [المسلم] . ????فلو قذف ذمياً فلا يقام عليه الحد، لكن يعزر. قال: [العاقل] . ????فلو قذف مجنوناً فلا يقام عليه الحد لكن يعزر. قال: [العفيف] . ????أي في الظاهر، الذي ليس مشهوراً بالفجور "أي بالزنا" وإن كان قد يقع منه الزنا في الباطن لكنه لا يعرف بالزنا، أما إذا كان الفجور ظاهراً فيه فلا. قال [الملتزم] . هذه العبارة مشكله وليست في الأصل: وهو المقنع وإنما ذكرها المؤلف تبعاً لبعض الحنابلة. وهي مشكلة لأن الملتزم يدخل فيها المسلم والذمي أما المسلم فالإشكال، أنه قد ذكر قبل ذلك من قوله (المسلم) وأما الذمي فإن ذكرها ينافي قوله (المسلم) لأن ظاهر قوله مسلم أن غير المسلم ليس كذلك. ولذا فهذه العبارة ليست بصحيحة. قال: [الذي يجامع مثله] . ????وفي المذهب أن الذي يجامع مثله ابن عشر أي من الذكور والتي يجامع مثلها بنت تسع أي من الإناث. ?وتقدم أن الراجح أن الذي يجامع مثله ليس له سن محددة وعليه فلو قذف من لا يجامع مثله من حيث السن فإنه لا يُحد. ولا يلحقه عارٌ بذلك لأن الكذب معلوم فلم يحتج إلى حدٍ يعلم به الكذب.

قال: [ولا يشترط بلوغه] . ??لأن الصبي إذا قذف بالزنا، وهو يجامع مثله لكنه صبي، أو قذفت البنت بالزنا وهي ممن يجامع مثلها وهي صبية لم تبلغ فإنهما يحلقهما العار إذا كبرا فيحتاج إلى الحد ليعلم كذب القاذف. وهذا هو مذهب الحنابلة ومذهب مالك. وقال الشافعية وهو رواية عن الإمام أحمد: يشترط أن يكون بالغاً. قالوا: لأن البلوغ هو أحد شرطي التكليف، فكما أنا نشترط أن يكون عاقلاً فكذلك نشترط أن يكون بالغاً. والصحيح هو الأول. والفرق ظاهر بين غير العاقل وبين العاقل غير البالغ، ويمكن أن يكون ذلك من وجهين. الوجه الأول: أن غير البالغ يؤول أمره إلى التكليف، وأما غير العاقل فإن أمره لا يؤول إلى التكليف، فلا يلحقه العار في المستقبل. ??بخلاف غير البالغ فإن العار يلحقه في المستقبل. الوجه الثاني: المجنون عذره عند الناس أكبر لأنه لا عقل له. وأما غير البالغ كالمراهق مثلاً فإن العذر فيه ضعيف. قال: [وصريح القذف: يا زاني يا لوطي ونحوه] . ??هذا صريح القذف، فمتى ما قال: يا زاني أو يا لوطي ونحوه فإنه يقام عليه الحد، ولو قال أنا لا أقصد الزنا الصريح بل أردت زنا العينين، كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم -????العين تزني وزناها النظر) فلا يقبل منه ذلك لأن هذا صريح في القذف. قال: [وكنانية:.. ونحوه وإن فسره بغير القذف قبل] . ??كناية القذف إن فسرت بغير القذف قبل مع اليمين، فلو أن رجلاً قال لامرأة: " يا خبيثة " فلما قيل له، إنك قذفتها بالزنا، قال: إنما أريد أنها خبيثة الأعمال، فيقال "احلف على ذلك" فإن حلف على أن ذلك مراده فإنه لا يحد. أو قال لامرأة: "نكّست رأس زوجك" ثم أدعى أنه أراد أنها لا تعتني بثيابه فيخرج وسخ الثياب فيقبل منه ذلك لكن يحلف على ذلك. وظاهر كلام المؤلف أنه وإن كانت قرائن الأحوال تدل على أنه يريد بذلك الزنا أو اللواط. لكن هذا الظاهر فيه ضعف.

والصحيح هو ما اختاره ابن القيم وابن عقيل من الحنابلة وهو مذهب المالكية. ??إن التعريض ونحوه، إذا كانت قرائن الأحوال تدل عليه فهو كالصريح. وذلك لأن عدم القول بذلك يفتح باب رمي المسلمين في أعراضهم ولا تقام عليهم الحدود بذلك، فيترك قول يا زاني ويقول مثلاً يا خبيثة، والناس لا يفهمون من قوله يا خبيثة في كلامه إلا الزنا وحينئذ يفر من إقامة الحد عليه. ولا شك أن الواجب سدُّ هذه الذريعة. ولذا أروى عبد الرزاق وغيره "أن عمر ضرب في التعريض". فإذا كانت هناك قرائن الأحوال تدل على أنه يريد بذلك الرمي بالزنا فلا ينظر إلى قوله هذا هو القول الراجح في هذه المسألة. ?وقوله: "أو جعلت له قروناً" أي أنك جعلتيه كالثور أي جعلتيه ديوثاً. قال: [وإن قذف أهل بلد أو جماعة لا يتصور منهم الزنا عادة عزّر] . ??فلو أن رجلاً أتى إلى جماعة كثيرة لا حصر لهم قرماهم بالزنا ولا يتصور أن يقع منهم ذلك فلا يقام عليه الحد لأن العار لا يلحقهم لأن كذبه معلوم ولكنه يعزر لأنها معصية، أما لو كانت الجماعة يتصور منهم ذلك، كأن يأتي إلى عشرة ويقول: "أنتم زناة" فيقام عليه الحد لأن الزنا يتصور في حقهم ويلحقهم العار في ذلك. وأصح قولي العلماء، وهو مذهب الجمهور، أنه لا يقام عليه إلا حد واحد أي فعليه حد واحد بظاهر الآية ولأنه إذا أقيم عليه حد واحد فإن المقصود يحصل بذلك لأنه يعلم كذبه ويندفع بذلك عنهم ما تقدم ذكره من العار. قال: [ويسقط حد القذف بالعفو، ولا يستوفى بدون الطلب] . ??تقدم الكلام على هذا في أول الدرس عند قوله: (وهو حق للمقذوف) . مسألة: ????قال تعالى: ((والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء فاجلدوهم ثمانين جلدة ولا تقبلوا لهم شهادةً أبداً وأولئك هم الفاسقون إلا الذين تابوا)) الآية. فهل الاستثناء في قوله تعالى: ((إلا الذين تابوا)) يرجع إلى الجمل المتقدمة كلها أم إلى الجملة الأخيرة؟

أما الجلد فلا يرجع إليه الاستثناء بإجماع العلماء، فإذا تاب وقد قذف فإن ذلك لا يسقط عنه الحد بإجماع العلماء. وأما إذا تاب من ذلك فإن الفسق يزول عنه باتفاقهم فلا يكون فاسقاً. لكن: هل تقبل شهادته أم لا؟ قولان لأهل العلم:- فالجمهور أنها تقبل للاستثناء. والأحناف قالوا: لا تقبل والاستثناء يرجع إلى أقرب مذكور. وهذه ترجع إلى مسألة أصولية وهي: هل الاستثناء يرجع إلى أقرب مذكور أم إلى ما ذُكر قبله؟ والصحيح أنه يرجع إلى ما ذكر قبله كله. وعليه فإن الاستثناء يرجع إلى ما تقدم كله. وعلى ذلك فيرجع إلى الجلد لكن الإجماع يدل على عدم ذلك ويرجع إلى قبول الشهادة ويرجع إلى الفسق. أما الجلد فالإجماع على خلاف ذلك. وأما الشهادة فالصحيح أنها تقبل فيه بعد ذلك ومما يدل على ذلك أن الشهادة تقبل من العدل وهذا قد زال عنه اسم الفسق باتفاق العلماء. " باب حد المسكر " ????السُكر: لذةً ونشوة يغيب معها العقل فلا يدري ما يقول كما قال تعالى: ???لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى حتى تعلموا ما تقولون)) . والسكر محرم بالكتاب والسنة وإجماع أهل العلم. وهو من كبائر الذنوب. الخمر: كما قال عمر: "ما خامر العقل" أي ما سترة وغطاه. قال المؤلف رحمه الله: [كل شراب أسكر كثيره فقليله حرام] . ?فكل شراب من عنب أو تمر أو عسل أو حنطة أو شعير أو غير ذلك مما يصنع خمراً فيسكر كثيره فإن قليله حرام. فإذا صنع من العنب ما لو شرب الكثير منه فإنه يسكره فالقليل غير المسكر حرام. وإذا صنع من الشعير شراباً يسكر كثيرة فإن قليلة حرام وإن لم يكن مسكراً، وهكذا في سائر أنواع الأشربة. لما ثبت عند الخمسة أن النبي - صلى الله عليه وسلم -?قال: (ما أسكر كثيرة فقليلة حرام) . بإسناد صحيح. وعند أبي داود أن النبي - صلى الله عليه وسلم -?قال: (ما أسكر منه مقدار الغرف فملئ الكف منه حرام) . وقال - صلى الله عليه وسلم -????كل مسكر خمر وكل مسكر حرام) رواه مسلم.

وفي الصحيحين أن عمر بن الخطاب قال: (نزل تحريم الخمر وهي من خمسة من العنب والتمر والعسل والحنطة والشعير) . وفي مسلم عن أنس بن مالك قال: "نزل تحريم الخمر وما بالمدينة شراب إلا من تمر". وقد أجمع أهل العلم على أن القليل من العنب محرم إذا أسكر الكثير منه، فإذا شرب ما خُمّر من العنب وكان ملئ الكف ولم يسكره فإنه يحرم بإجماع أهل العلم. وإنما اختلفوا في غير العنب:- فقال أهل الكوفة ليس بحرام، فلو شرب قليلاً من المصنوع من التمر فإنه لا يحرم عليه ذلك هذا ما لم يكن هذا القليل مسكراً، ولو كان لو?زاد لسكر. قال الإمام أحمد: " ولا يصح في الرخصة في المسكر حديث". وقال ابن المنذر: " وجاء أهل الكوفة بأحاديث معلولة ذكرناها وعللها". فالأحاديث التي استدل بها أهل الكوفة كأبي حنيفة لا تصح عن النبي - صلى الله عليه وسلم -? وقال جماهير أهل العلم بتحريم ذلك: واستدلوا بالأحاديث المتقدمة وهي أحاديث صحاح، وقد قال الإمام أحمد: "ثبتت من عشرين وجهاً" أي عن النبي - صلى الله عليه وسلم -? ??فجماهير العلماء على أن كل مسكر حرام قليله وكثيره، فلو شرب قليلاً لا يسكر فذلك محرم. وتحريمه ظاهر بالأدلة المتقدمة، وذلك لسد الذريعة فإنه شرب القليل غير المسكر ذريعة إلى شرب الكثير المسكر. ولأن الشرع إذا حرم الشيء حرم أبعاضه. والصحيح مذهب جماهير العلماء من النصوص الشرعية تدل عليه وهو أن كل مسكر حارم سواء كان من عنبٍ أو غيره، وأنه حيث كان الكثير مسكراً فالقليل محرم. لكن لوضع من الشعير شراباً لا يسكر كثيرة، ليس بحرام فالمقصود هنا حيث كان الكثير مسكراً. والمشهور عند أهل العلم القائلين بتحريم القليل مما أسكر كثيرة أن من شرب القليل فإنه يُحد ولو كان ممن يعتقد الحل، ولا يشفع له كونه يعتقد الحل. قالوا: والفرق بينه وبين النكاح بلا ولي وجهين. الوجه الأول: لأن شرب القليل منه ذريعة إلى شرب الكثير منه، وهو محرم بالإجماع.

بخلاف مسألة النكاح بلا ولي فليست كذلك. الوجه الثاني: لأن الخلاف فيه ضعيف جداً، فالأدلة متظاهرة على تحريم ذلك، فأشبه هذا من قدامه ابن مظعون فقد صحّ في البيهقي أن عمر أقام عليه الحد وكان متأولاً يعتقد حلها، ويستدل بقوله تعالى: ((ليس على الذين آمنوا وعملوا الصالحات جناح فيما طعموا إذا ما اتقوا وآمنوا)) . وقال أبو ثور، وهو من المجتهدين: لا يقام عليه الحد حتى يعتقد التحريم كما لو نكح بلا ولي. والعمل على الأول وهو أظهر. فعلى ذلك يقام عليه الحد وإن كان يعتقد الحل. وهذا يفتح الباب في مسألة شرب الخمر بدعوى اعتقاد أنها حلال ويظهر هذا. قوله: "اسكر كثيره" ليس المقصود الكثير جداً وإنما المقصود الكثير عادة في الشرب. قال: [وهو خمر من أي شيء كان] . ???لقوله - صلى الله عليه وسلم -????كل مسكر خمر) رواه مسلم هذا عمن نص النبي - صلى الله عليه وسلم -? قال: [ولا يباح شربه للذة] . ???لأن هذا هو الإسكار. قال: [ولا لتداوٍ] . لما ثبت عند ابن حبان، والحديث حسن أن النبي - صلى الله عليه وسلم -?قال: (إن الله لم يجعل شعاءكم فيما حرم عليكم) . وله شاهد موقوف عن ابن مسعود في مصنف ابن أبي شيبه وفي صحيح مسلم أن النبي - صلى الله عليه وسلم -?قال في الخمر: (إنها ليست بداوءٍ لكنها داء) . وهل يقال إن التداوي ضرورة؟ الجواب: لا يقال ذلك وذلك لأن الدواء لا يقطع مع بزوال المرض فقد يشفى المريض وقد لا يشفى. والضرورة نحو أكل الميتة يقطع بزوال العلة، فالجائع إذا أكل من الميتة زالت علته وهي الجوع قطعاً، وأما المريض إذا شرب الخمر وقيل له إنها علاج?فقد يشفى وقد لا يشفى كيف وقد أخبر النبي - صلى الله عليه وسلم -?أنها ليست بدواء وإنما هي داء، وكما قال عثمان: إنها أم الخبائث فلا يمكن أن تكون دواء. قال: [ولا عطش ولا غيره] . ???فلا يجوز شربها للعطش قالوا: لأنها تُلهب الباطن فتزيد في حرارته، وعليه فلا يستفيد منها زوال العطش.

وهذا القول ينبني على صحة التعليل فإن صح التعليل فهو كما قالوا، وأما من اعتقد أنها تزيل العطش فأصيب بالعطش فلا بأس له أن يشرب ولأنه موضع ضرورة. قال: [إلا لدفع لقمة غصّ بها ولم يحضره غيره] . ??لأنها ضرورة. أما إذا حضره غير الخمر من ماءٍ ونحوه فلا يجوز له دفع اللقمة بالخمر لأنها تكون حاجة ولا يجوز أن يشربها للحاجة. قال: [وإذا شربه المسلم مختاراً عالماً أن كثيره مسكر فعليه الحد] . ?فإذا شربه المسلم وكان عالماً أن كثيره مسكر، وإن كان يعتقد حله كما تقدم فعليه الحد. لكن لو لم يعلم أن كثيره مسكر فلا يقام عليه الحد لجهله بالحال ولو جهل التحريم، حيث أمكن الجهل، فإنه لا يقام عليه الحد ولابد أن يكون مختاراً لا مكرهاً، فالمكره لا حد عليه. قال: [ثمانون جلدة مع الحرية وأربعون مع الرق] . ???فحد شارب الخمر ثمانون جلدة للحر، وأربعون للرقيق. هذا هو مذهب الجمهور، وأن حد الخمر ثمانون جلدة واستدلوا بما ثبت في الصحيحين من حديث أنس أن النبي - صلى الله عليه وسلم -?أتى برجل قد شرب الخمر فجلده بجريدتين نحو أربعين ثم فعله أبو بكر، فلما كان عمر استشار الصحابة فقال عبد الرحمن بن عوف: " أخف الحدود ثمانون جلدة فأمر به". فهم قد أخذوا بفعل عمر وكان ذلك بمحضر من الصحابة. وعن الإمام أحمد وهو أحد القولين في مذهب الشافعي: أنه يجلد أربعين جلدة. واستدلوا: بفعل النبي - صلى الله عليه وسلم -?في الحديث المتقدم، وفعل أبي بكر ونحوه في مسلم من حديث علي قال: "جلد النبي - صلى الله عليه وسلم -?أربعين وجلد أبو بكر أربعين وجلد عمر ثمانين وكل سنة وهذا أحب إلي " أي فعل عمر.

ولا يخالف قول النبي - صلى الله عليه وسلم -?بقول أحدٍ أياً كان هذا الأحد ولو كان عمر، كيف وأبو بكر قد جلد كما جلد النبي - صلى الله عليه وسلم -?وهذا هو القول الراجح في هذه المسألة وأن حد الخمر أربعون وهو اختيار شيخ الإسلام وتلميذه ابن القيم والجواب عن فعل عمر: أن عمر فعل هذا من باب التعزير، حيث أنهمك الناس في شرب الخمر فرأى عمر أن يعزرهم بذلك واستشار أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم -?وهذا هو القول الراجح في هذه المسألة، وأن حد الخمر أربعون وأن للحاكم أن يزيد فيعزر بثمانين جلدة كما أن له أن يعزر بغير ذلك إن رأى المصلحة في ذلك كأن يعزر بسجنٍ ونحوه. وعامة أهل العلم على أن عقوبة حد الخمر حديةّ وليست بتعزيرية، كما تقدم أن النبي - صلى الله عليه وسلم -?جلد أربعين إلا خلافاً ضعيفاً في هذه المسألة. مسألة: ?????هل يقتل شارب الخمر في الرابعة أم لا؟ ورد عن النبي - صلى الله عليه وسلم -?كما في عند الخمسة والحديث صحيح أن النبي - صلى الله عليه وسلم -?قال في شارب الخمر: (إذا شرب فاجلدوه ثم إذا شرب فاجلدوه ثم إذا شرب فاجلدوه ثم إذا شرب الرابعة فاضربوا عنقه) . واختلفت مسالك أهل العلم فيه: المسلك الأول: أنه منسوخ، وهذا هو مذهب عامة أهل العلم. وفي أبي داود عن قبيصة بن ذؤيب رضي الله عنه "وله رؤية للنبي - صلى الله عليه وسلم -??فحديثه من مرسل صغار الصحابة الذين لم يسمعوا من النبي - صلى الله عليه وسلم -?فيه الحديث المتقدم ثم قال: ثم أتى النبي - صلى الله عليه وسلم -?برجل قد شرب الخمر فجلد، ثم أتى به فجلده ثم أتى به فجلده ثم أتى به فجلده، قال: ورقع القتل وكانت رخصة" المسلك الثاني: أنه محكم وليس بمنسوخ، هذا هو مذهب أهل الظاهر، وعليه فيقتل شارب الخمر في الرابعة. المسلك الثالث: أنه محكم لكن ليس بحد، وإنما هو تعزير يرجع إلى الإمام بحسب المصلحة.

وهذا هو اختيار شيخ الإسلام وتلميذه ابن القيم وهو قول الحسن البصري. وهذا القول فيما يظهر هو أصحها. أما كونه ليس بحد فكما ثبت في الصحيحين أن النبي - صلى الله عليه وسلم -?أتى برجل قد شرب الخمر?فقال رجل لعنه الله ما أكثر ما يؤتى به. الحديث. فهنا النبي - صلى الله عليه وسلم -?لم يقتله مع أن الصحابي قال: "ما أكثر ما يؤتى به" وهذه صيغة تدل على كثرة ما يؤتى به لأنه شرب الخمر هذا هو ظاهر هذا الحديث وكذلك حديث قبيصة بن ذؤيب المتقدم. وأما النسخ المذكور في الحديث المتقدم فالذي يتبين أن الراوي إنما حكم بالنسخ بناءً على فعل النبي - صلى الله عليه وسلم -?فإنه ذكر ذلك عمدة له فإنه قال: (ثم أتي النبي - صلى الله عليه وسلم -?برجل قد شرب الخمر ثم جلده ثم أتي به فجلده ثم أتي به فجلده ثم أتي به فجلده قال: فرفع القتل. فالظاهر أنه قد بنى ذلك على الفعل، وكون النبي - صلى الله عليه وسلم -?لا يفعل ذلك لا يدل على النسخ، لأنه تعزير وليس بحد فمتى رأى الإمام أن من المصلحة القتل فله ذلك. ولا شك أن هذه المسألة لا يفتى بها الإمام إلا حيث كان مراعياًِ للمصالح لما في ذلك من سفك الدماء. والمقصود أن التعزير بالقتل كما في هذا الحديث. مسألة: ??اعلم أن حد الخمر يثبت بالبينة أو بالاعتراف. فإذا شهد عليه شاهدان أنه شرب الخمر فإنه يقام عليه الحد ويثبت أيضاً بالاعتراف فإذا أقر على نفسه أنه شرب الخمر فإنه يقام عليه الحد. وهذان الطريقان في إثبات حد الخمر لا خلاف بين أهل العلم في ثبوت الحد فيهما. وإنما اختلفوا فيما إذا ظهرت?منه رائحة الخمر أو رؤي يتقيأ الخمر فهل يقام عليه الحد أم لا؟ قولان لأهل العلم: الجمهور قالوا: لا يقام عليه الحد، لأن الحدود تدرأ بالشبهات فقد يكون شربها يظنها ليست خمراً أو غير ذلك.

القول الثاني: وهو رواية عن الإمام أحمد وهو مذهب مالك واختيار ابن القيم أنه يقام عليه الحد، وهو قول عمر كما في مصنف ابن أبي شيبة. وقول عثمان كما في صحيح مسلم فإنه قال: " ما تقيأها إلا أنه قد شربها" وهو قول ابن مسعود فإنه جلد رجلاً وجدت منه رائحة الخمر. فهذه آثار صحاح عن أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم -?ولا يعلم لهم مخالف كما قال ذلك ابن القيم. فالذي تبين أنه يقام عليه الحد بذلك لا سيما مع القرائن. مثال القرائن: أن يكون الرجل مشهوراً بالفسق متهماً بذلك، أو يكون الرجل مشتبهاً فيه. أو أن يشهد عليه شاهد أنه شرب الخمر وتوجد معه رائحة فهذه قرائن قوية على أنه قد شربها. وأما كون الحدود تدرأ بالشبهات فإنه لا ينظر إلى الاحتمالات الضعيفة وإلا فإن البينة قد تكون كاذبة والمقر على نفسه قد يكون كاذباً. لكن لو أدعى أنه لم يظنها خمراً وأشهد على ذلك، فحينئذ يقال بقبول دعواه لوجود الشبهة. " باب التعزير " ??التعزير لغة: المنع، وله معانٍ أخر، لكن الذي له ارتباط بهذا?الباب هو هذا المعنى. وفي الاصطلاح: قال المؤلف: ??هو التأديب] . ?وأصح من ذلك أن يقال: هو التأديب في كل معصية لا حد فيها ولا كفارة. ولذا قال المؤلف بعد ذلك: ??وهو واجب في كل معصية لا حد فيها ولا كفارة] . فالتعزير: التأديب في كل معصية لا حد فيها ولا كفارة. "في كل معصية": سواء كانت بترك واجب كترك صلاة الجماعة مثلاً. أو بفعل محرم من المحرمات كحلق اللحية أو شرب التدخين. "لا حد فيها": لابدّ من هذا القيد، لأن ما فيها حد، لا تعزير فيها بل يجب أن يقام حد الله تعالى كالزنا. ??ولا كفارة": وهذا قيد آخر، فإذا كان فيها كفارة فلا تعزير كالظهار أو الجماع في نهار رمضان فهذه معاصي فيها كفارة وعليه فلا تعزير في ذلك، وهذا هو مذهب جماهير العلماء. وقول المؤلف: [وهو واجب] .

هذا هو المشهور في المذهب وأن التعزير واجب على الحاكم، فيجب على الحاكم أن يعزر من فعل معصية من المعاصي. وعن الإمام أحمد: أنه مندوب. قال: الشافعية وهو قول لبعض الحنابلة: بل إنما يجب إن كان فيه مصلحة أو كان لا ينزجر عن المعصية إلا به، وإلا فإن رأى الإمام العفو جاز ذلك. وهذا هو أصح الأقوال وأن التعزير يرجع إلى نظر الإمام فإن كان فيه مصلحة فيجب عليه أن يقيمه أو كان لا ينزجر إلا به فيجب عليه أن يقيمه، وإلا فإنه يجوز له العفو. ويدل على ذلك: ما ثبت في الصحيحين أن النبي - صلى الله عليه وسلم -?أتاه رجل وأخبره أنه أتى امرأة إلا أنه لم يجامعها فقال له النبي - صلى الله عليه وسلم -?????إن الحسنات يذهبن السيئات" ولم يقم عليه تعزيراً. وهذا ظاهر في كثير من المعاصي?التي كانت تفعل في عهد النبي - صلى الله عليه وسلم -?ولم يصح عنه تعزير فيها. فالصحيح أن مرجع ذلك إلى الإمام وهو من سياسة الناس بالشرع وهو من السياسة المحمودة التي هي قائمة على العدل ولا تخالف الشرع. فإن لم يكن هناك مصلحة فإنه له أن يعفو بل قد يترجح العفو حيث كانت هناك مصلحة، وقد قال - صلى الله عليه وسلم -????أقيلوا ذوي الهيئات عثراتهم إلا الحدود) . فقد يترجح ألا يقام عليه التعزير. قال: [كاستمتاع لا حد فيه، وسرقة لا قطع فيها وجناية لا قود فيها] . ??هذه أمثلة على التعزير. "كاستمتاع لا حد فيه": كأن يباشرها دون الفرج. " وسرقة لا قطع فيها": كأن يكون السارق صبياً مميزاً فإنه يعزر أو أن تكون من غير حرز أو أن تكون دون النصاب. ??وجناية لا قود فيها": كضربه في الوجه أو وكزٍ أو نحو ذلك وتقدم أن شيخ الإسلام يرى القصاص في هذا. قال: [واتيان المرأة المرأة] . ?وهو ما يسمى بالسحاق وتقدم. قال: [والقذف بغير الزنا ونحوه] . ???فالقذف بغير الزنا يوجب التعزير ونحوه ذلك ومن ذلك الاستمناء لغير حاجة لذا قال بعد ذلك?? ??ومن استمنى بيده بغير حاجة عزر] .

فالاستمناء محرم عند عامة أهل العلم لقوله تعالى: ???والذين هم لفروجهم حافظون إلا على?أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم فإنهم غير ملومين)) ?فلم يستثن الله سبحانه إلا الأزواج أو ما ملكت الأيمان، وما سوى ذلك فهو محرم إلا لضرورة كأن يخشى الزنا على نفسه. فمن استمنى بغير حاجة عزر. قال: [ولا يزاد في التعزير على عشر جلدات] . ??هذا هو المشهور في مذهب أحمد وأنه لا يزاد في التعزير على عشر جلدات. واستدلوا: بما ثبت في الصحيحين أن النبي - صلى الله عليه وسلم -?قال: (لا يجلد فوق عشرة أسواط إلا في حدٍ من حدود الله) . قالوا: فهذا يدل على أنه لا يجلد فوق عشرة أسواط في التعزيرات إلا أن يكون في حدٍ من الحدود. القول الثاني: وهو رواية عن الإمام أحمد وهو مذهب الشافعية والأحناف: أنه له أن يزيد على عشرة أسواط لكن لا يصل إلى الحد. وعلى القول بهذا فإن أصح ما قيل: إن كان حرا فإنه لا يصل إلى أربعين سوطاً وهو حد شرب الخمر، وإنما يجلد دونها ولو بسوط واحد. وإن كان عبداً فلا يجلد عشرين بل دونها ولو بسوط واحد واستدلوا: بحديث ضعيف رواه البيهقي أن النبي - صلى الله عليه وسلم -?قال????من حدّ في غير حد فهو من المعتدين??أي من جلد فأوصل حداً في غير حدٍ من الحدود فإنه من المعتدين. لكن الحديث لا يصح عن النبي - صلى الله عليه وسلم -?موصولاً بل هو مرسل ضعيف. قالوا: ولأن هذه المعاصي أضعف من المعاصي التي فيها الحدود، وقد جعل الله هذه الحدود لتلك المعاصي وهذه معاصي دونها فلم يبلغ بهذه المعاصي التي لم يجعل الله فيها حداً ولم يبلغ بها الحد لأنها لا تماثلها فهي دونها. القول الثالث: وهو رواية عن الإمام أحمد أنه له أن يعزر ما شاء مما يرى فيه مصلحة. إلا أن تكون المعصية من جنس ما فيه حد فلا يبلغ بها الحد فإذا كانت المعصية ليست من جنس ما فيه حد كحلق اللحية وغيرها فله أن يعزر بما شاء.

وأما إن كانت من جنس ما فيه حد فليس له أن يبلغ الحد، كأن يباشر رجل امرأة من غير جماع فلا يجلد مائة سوط وذلك لأن هذه المعصية دون الزنا والله قد جعل في الزنا مائة سو فلا يمكن أن يجلد من فعل معصية دون ذلك مائه سوط ولا شك أن هذا ينافي العدل المأمور به فقد جعلنا ما ليس بمثل مثلاً، فإن إتيان المرأة من غير جماع ليس مماثلاً قطعاً لإتيانها في فرجها. القول الرابع: وهو مذهب مالك: أن ذلك راجع إلى رأي الإمام مطلقاً أي لا فرق بين ما كانت المعصية من جنس معصية فيها حد أو لم تكن كذلك. وعليه فله أن يجلد من باشر امرأة ولم يطأها له أن يجلدها أكثر من مائة سوط أو أكثر. وأحسن هذه الأقوال: كما قال ابن القيم: القول الثالث، وإليه ميل شيخ الإسلام ابن تيمية، كما حكى ذلك صاحب الإنصاف. فإن قيل: فما?هو الجواب عن قوله - صلى الله عليه وسلم -????لا يجلد فوق عشرة أسواط إلا في حد من حدود الله) ? فالجواب: أن المراد بالحد هنا حق الله تعالى: بدليل قوله تعالى: ???تلك حدود الله فلا تقربوها)) ?هذا هو لسان الشرع كما قال ذلك ابن القيم، فالحد يطلق في الشرع على العقوبة المقدرة لحديث: (لا تقام الحدود في المساجد) . لكن الغالب ي لسان الشرع أنه يطلق على حق الله تعالى. فيكون معنى الحديث: لا يجلد فوق عشرة أسواط إلا في معصية من المعاصي. مسألة: ????تقدم ذكر أكثر التعزير، فما هو أقله؟ الجواب: لا حد لأقله عند عامة أهل العلم فله أن يجلد سوطاً أو أن ينفي أو أن يسجن يوماً أو أن يوبخ. مسألة: ????هل يصح التعزير بالقتل؟ الجواب: نعم يصح ذلك كما تقدم في شارب الخمر وفيه: (فإذا شرب الرابعة فاضربوا عنقه) . ومذهب مالك وهو وجه في مذهب أحمد واختاره ابن القيم أنه يجوز للإمام أن يقتل الداعية إلى البدعة، وهذا من باب التعزير بالقتل حيث لم تندفع مفسدته إلا بذلك. مسألة:

أصح قولي العلماء وهو اختيار شيخ الإسلام وتلميذه ابن القيم أنه يجوز التعزير بالمال إتلافاً وأخذاً. خلافاً للمشهور عند جمهور أهل العلم. وهو أي القول الراجح، جار على أصول الإمام أحمد كما ذكر ذلك شيخ الإسلام وتلميذه ابن القيم. فيجوز التعزير بالمال إتلافاً، بأن يتلف المال ومن ذلك تحريق متاع الغال، كما تقدم في الصحيح. ومن ذلك أن النبي - صلى الله عليه وسلم -?كما في الترمذي أمر أن يهراق الخمر وأن تكسر دنانه. وحرّق عمر بيت شارب خمرٍ كما في مصنف عبد الرزاق. ومن ذلك تحريق الثوبين المعصفرين كما في صحيح مسلم ويجوز التعزير بالمال أخذاً:- ومن ذلك أن النبي - صلى الله عليه وسلم -?أمر بأخذ سلب من قطع شجر حرم المدينة وهو حديث ثابت في صحيح مسلم. وثبت أن النبي - صلى الله عليه وسلم -?قال: "فيمن منع الزكاة: "ومن منعها فإن أخذوها وشطر ماله عزمةً من عزمات ربنا" رواه أحمد وأبو داود والنسائي وغيرهم، وهو حديث حسن كما تقدم وإذا أخذ المال فإنه يصرف في مصالح المسلمين. وهذا الأمر راجع إلى الإمام فله أن يتلف وله أن يأخذ على حسب ما يرى من المصلحة. وجواب الجمهور على أن التعزير بالمال ليس بثابت. أنهم قالوا: هذه الأحاديث أي التي استدل بها من يرى ذلك منسوخة. لكن كما قال ابن القيم، " لا دليل على النسخ لا بنص ولا بإجماع" بل هذه آثار الصحابة، كما في أثر عمر وغيره، وهي تدل على ما تقدم من إثبات التعزير بالمال. وإذا ثبت التعزير بالقتل فأولى من ذلك التعزير بالمال وهي من السياسة التي يقتضيها العدل ولا تنافي الشرع بل قد دل عليها الشرع كما تقدم. استدراك. في مسألة التعزير فوق عشرة أسواط. فقد دلت آثار الصحابة على جواز التعزير فوق عشرة أسواط من ذلك، ما روى الطحاوي بإسناد صحيح أن علي بن أبي طالب، جلد رجلاً شرب الخمر في رمضان جلده الحد وعزره بعشرين سوطاً. وثبت كما تقدم أن عمر جلد شارب الخمر ثمانين وإن أربعين منها تعزير.

" باب القطع في السرقة " قال رحمه الله: [إذا أخذ الملتزم] . ?مسلماً كان أو ذمياً، وعليه فيخرج المستأمن وهو أحد القولين في المذهب، وأحد قولي العلماء في المسألة. والقول الثاني: أن المستأمن إن سرق قطع والذي يترجح من هذين القولين: أن المستأمن لا يقطع وذلك لأن حد السرقة حد لله تعالى فأشبه حد الزنا، وقد تقدم أن حد الزنا لا يقام على المستأمنين فكذلك هنا. ولا خلاف بين أهل العلم أن هذا الحكم ثابت في سرقة المسلم من ذمي أو سرقته من المستأمن، فلو سرق مسلم من ذمي أو من مستأمن قطع، وذلك لحرمة المال، فإن مال الذمي محترم ومال المستأمن محترم كمال المسلم. قال: [نصاباً من حرز مثله] يأتي الكلام عليها. قال: [من مال معصوم] . ??مال المسلم معصوم، ومال الذمي معصوم، ومال المستأمن معصوم وأما مال الحربي فليس بمعصوم، وليس دمه بمعصوم أيضاً. قال: [لا شبهة له فيه] . ????يأتي الكلام على هذا الشرط أيضاً. قال: [على وجه الاختفاء قًطعٍَ] . ???فلا بد أن تكون السرقة على وجه الاختفاء ومن ثم سمي استماع الجن استراقاً للسمع لأنه على وجه الاختفاء، قال تعالى: ((والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما جزاءاً بما كسبا)) . وقال - صلى الله عليه وسلم -?كما في الصحيحين: ??تقطع اليد في ربع دينار فصاعداً) . قال: [فلا قطع على منتهب] . ???المنتهب: هو الذي يأخذ المال على وجه الغلبة والقهر، كما يقع في الغارات التي بين البوادي مثلاً. قال: [ولا مختلس] . ???المختلس: هو الذي يأخذ المال على حين غرة وغفلة من صاحبه. قال: [ولا غاصب] . الغاصب: معروف. قال: [ولا خائن في وديعة] . ???فإذا أودع رجلاً ماله فجحده المودع، فإذا أقام البينة على الجحد فإن الجاحد لا يقطع يده. وهذه المسائل اتفق عليها أهل العلم. يدل عليها ما رواه الخمسة وصححه الترمذي وهو كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم -????ليس على خائن ولا منتهب ولا مختلس قطع) .

والعمل عليه عند أهل العلم. فإن قيل: لم فرّق الشارع وبين السارق بين المختلس والمنتهب والخائن؟ فالجواب: أن الفرق بينهما هو أن السرقة قد وقعت على مال احتاط عليه صاحبه وحفظه في حرزه، فلا يمكن حفظ المال إلا بمثل هذه العقوبة العظيمة. بخلاف المنتهب والمختلس والغاصب فإنه ليس على جهة الاختفاء فالناس يمكنهم أن يأخذوا على يد هذا المنتهب ويد هذا المختلس ويد هذا الغاصب. وفي بعضها ما يكون فيه تفريط من صاحب المال كما يقع في الاختلاس وكما يقع في الوديعة. فإن الجناية في الوديعة تقع حيث فرط في وضعها عند الأهل فإذا وضعها عند من ليس بأهل كان في الغالب، الجحد وحينئذ يكون مفرطاً في ذلك. قال: [أو عارية أو غيرها] . ???أي لا قطع على خائن عارية، أو غيرها من الأمانات وما ذكره المؤلف هنا من أن خائن العارية لا يقطع تبعاً لصاحب المقنع هو أحد الروايتين عن الإمام أحمد وهو مذهب جمهور العلماء. ??قالوا: لأنها ليست بسرقة والأدلة إنما وردت في السرقة وهي من خيانة الوديعة والنبي - صلى الله عليه وسلم -?لم يقطع خائن الوديعة. والقول الثاني في المسألة: وهو المشهور في مذهب الإمام أحمد وهو قول اسحاق وهو مذهب أهل الظاهر، أن القطع يثبت في جحد العارية. ?واستدلوا: بما ثبت في صحيح مسلم من حديث عائشة، " أن امرأة كانت تستعير المتاع فتجحده فأمر النبي - صلى الله عليه وسلم -?بقطع يدها" والحديث أصله في الصحيحين. وأعل بتفرد معمر عن الزهري، وهذا لا يصح فإنه قد تابعه على هذا الحديث أيوب بن موسى وتابعه عليه شعيب بن إسحاق فلا تصح تفرد معمر بهذا الحديث. وهو ثابت من حديث ابن عمر في سنن أبي داود والنسائي، ومن حديث سعيد بن المسيب مرسلاً في سنن النسائي فالحديث صحيح، وكما قال الإمام أحمد: "لا شي يدفعه". وأجيب عن هذا الحديث، بأن هذا وصفُ للمرأة، وليس أنها قطعت بذلك، فمن وصفها أنها كانت تستعير المتاع فتجحده، لا أن القطع كان نسيه ذلك.

ولاشك أن هذا ضعيف جداً لأنه يخالف ظاهر الحديث فإن ظاهر قول عائشة المتقدم أن هذه المرأة كانت تستعير المتاع فتجحده وبسبب ذلك قطع النبي - صلى الله عليه وسلم -?يدها. ولو قبل مثل هذا التعليل لردت أحكام كثيرة يترتب على أوصاف ذكرت في الأحاديث أو في الآيات القرآنية وما سلم من ذلك إلا الشيء القليل من الأحكام أي لذهبت كثير من الأحكام الشرعية التي تنبني على أوصاف ذكرت في الأحاديث. ولذا فالراجح ما ذهب إليه أهل القول الثاني واختاره ابن القيم وهو قطع يد جاحد العارية. فإن قيل، فما الفارق بين العارية وبين الخيانة في الوديعة؟ فالجواب أن الفرق بينهما أن الخيانة في الوديعة إنما نتجت في الغالب عن تفريط من المودِع فإن هذا الجحد ناتج عن وضعها عند من ليس بأهل فيكون المودِع عنده نوع تفريط. وأما العارية?فإنه قد فعل ما أمر به من الإعارة فقد أحسن إلى الناس وفعل ما أمر الله به. ثم إن عدم القطع في هذا ذريعة إلى امتناع الناس عن العارية وحينئذ تفوت هذه المصلحة مع أن الحاجة داعية إليها. قال: [ويقطع الطرار الذي يبط الجيب أو غيره ويأخذ منه] . ??الطرار هو النشال الذي يبط الجيب أو غيره ويأخذ منه أي على وجه الخُفية وعليه فتقطع يده لأن أخذه على وجه الخفية وكان ذلك من حرزه. قال: [ويشترط أن يكون المسروق مالاً محترماً] . ???هذا هو الشرط الأول في القطع، أن يكون المال المسروق محترماً أي له حرمة. وما ليس له حرمة لا مالية له كالصورة وآلات اللهو فهذه لا حرمة لها وعليه فلا مالية لها، وعليه فلا تساوي لا ربع دينار ولا أقل من ذلك فلا قيمة لها وإن كانت عند أصحابها لها قيمة لكن هذه القيمة غير معتبرة شرعاً. قال: [فلا قطع في سرقة آلة لهو ولا محرم كالخمر] . ???ولا تصاوير ولا غير ذلك?لأنها أشياء لا قيمة لها فهي غير محترمة ولا مال فيها. قال: [ويشترط أن يكون نصاباً وهو ثلاثة دراهم أو ربع دينار] .

هذا هو الشرط الثاني: أن يكو نصاباً. والنصاب: هو ربع دينار كما في قول النبي - صلى الله عليه وسلم -????لا تقطع اليد إلا في ربع دينار فصاعداً) . وفي لفظ أحمد: " اقطعوا اليد في ربع دينار ولا تقطعوا فيما هو أدنى من ذلك". وأما أنه يقطع بثلاثة دراهم، فلما ثبت في الصحيحين أن النبي - صلى الله عليه وسلم -???قطع في مجَنّ قيمته ثلاثة?دراهم) ،?أما ما روى أحمد أن النبي - صلى الله عليه وسلم -?قال: ??لا تقطع اليد إلا في عشرة دراهم) . فالحديث فيه الحجاج بن أرطأه وهو ضعيف مدلس وقد استدل به الأحناف. وهنا: كلام المؤلف يدل على أن ربع الدينار والثلاثة دراهم أن كليهما أصل. فلو سرق مالاً لا يساوي ربع دينار لكنه يساوي ثلاثة دراهم، فإن يده تقطع. هذا هو القول الأول وهو رواية عن الإمام أحمد. والقول الثاني في المسألة: وهو الرواية?الأخرى عن أحمد وهو مذهب الشافعي: أنها لا تقطع إلا فيما يبلغ ربع دينار فالأصل هو ربع الدينار، وأما ثلاثة دراهم فليست بأصل وإنما المجن الذي قطع النبي - صلى الله عليه وسلم -??فيه كان يساوي ثلاثة دراهم وكان يساوي ربع دينار، فكان ربع الدينار يساوي في عهد النبي - صلى الله عليه وسلم -?ثلاثة دراهم. وهذا هو القول الراجح في المسألة، وهو ظاهر قوله - صلى الله عليه وسلم -????لا تقطع اليد إلا في ربع دينار) . وقوله - صلى الله عليه وسلم -????اقطعوا اليد في ربع دينار ولا تقطعوها في أدنى من ذلك) . فهذا الحديث نص في أن اليد لا تقطع فيما هو أدنى من ذلك. قال: [أو عرض قيمته كأحدهما] . ???إذا كان عرضاً بسيف أو ثوب أو شاة أو غير ذلك وقيمة هذا السبب وقيمة هذه الشاة وقيمته هذا الثوب تساوي ربع دينار، على الراجح. وعلى المذهب تساوي ربع دينار وثلاثة دراهم، فإذا سرقه أحد فإنه يقطع به. قال: [وإذا نقصت قيمة المسروق،..لم يسقط القطع] .

فإذا سرق عرضاً يساوي ربع دينار، ثم نقضت قيمته بعد ذلك عن ربع دينار، فإنه لا يسقط القطع فالعبرة بالقيمة وقت الإخراج لأنه هو وقت السرقة والقطع وجب بسبب السرقة. قال: [أو ملكها السارق لم يسقط القطع] . ?????إذا قال المسروق منه وقد وهبتها له أو قال السارق اشتري هذا منك وأسلم من القطع، فإنه لا يسقط?القطع. ويدل عليه: ما ثبت عند الخمسة إلا الترمذي في قصة صفوان بن أميه لما سرق منه وفيه أنه أتى النبي - صلى الله عليه وسلم -??لما أمر بقطع السارق فقال: يا رسول الله لم أرد هذا، وردائي له صدقة، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -????هلا كان هذا قبل أن تأتيني به) . ?فقد أمر النبي - صلى الله عليه وسلم -?بقطعه وإن كان قد وهبه إياه بعد ثبوت الحد. أما قبل رفعه إلى الحاكم فإنه يسقط عنه ذلك لقوله - صلى الله عليه وسلم -????تعافوا الحدود فيما بينكم فما بلغني من حدٍ فقد وجب) . قال: [وتعتبر قيمتها وقت اخراجها من الحرز] . ???تقدم الدليل على هذا. قال: [فلو ذبح فيه كبشاً أو شق فيه ثوباً فنقصت قيمته عن نصاب ثم أخرجه.. لم يقطع] . فلو كان الكبش في الحرز يساوي ربع دينار فذبحه وقطعه لحماً ثم أخرجه من حرزه فإنه لا يقطع لأنه لم يخرجه نصاباً. أو أخذ الثوب الذي يساوي ربع دينار فقطعه في حرزه ثم أخرجه فهذه القطع لا يساوي إلا درهماً وكانت قبل ذلك لا تساوي دراهم كثيرة، فإنه لا يقطع لأنه لم يخرج في الحرز نصاباً. قال: [أو تلف فيه المال لم يقطع] . ??إذا دخل على مالٍ في حرزه فأتلفه، كأن يدخل على الشاة في حرزها فيقبلها فإنه لا يقطع لأنه لم يسرق فإنه لم يخرج المال من حرزه. أما هذه فظاهره. وأما الأوليان فلا يخلوان من نظر. ولا?شك أنها حيلة لا سيما في الشاة فإنه قطعها لحماً إلا أن يقال: النظر إلى ماليتها وهي لا تساوي ربع دينار حينئذ. ولم أر في هذه المسألة خلافاً فالله أعلم. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وأن يخرجه من الحرز] .

هذا هو الشرط الثالث من شروط الحد في السرقة وهو أن يخرجه من الحرز. ??والحرز هو الحفظ أي أن يخرجه مما حفظ منه. وهذا شرط عند عامة العلماء، ودليل ذلك ما ثبت في سنن أبي داود والنسائي، والحديث إسناده جيد ??أن النبي - صلى الله عليه وسلم -?سئل عن التمر المغلف الحديث ومنه أن النبي - صلى الله عليه وسلم -?قال: (فإن خرج بشيء منه بعد أن يؤيه الجرين) وهو الموضع?الذي يحفظ فيه التمر، فبلغ ذلك ثمن المجنّ ففيه القطع. فدلّ هذا على اشتراط الحرز. قال: [فإن سرقه من غير حرز فلا قطع] . ??وذلك لاختلال هذا الشرط، وهو الحرز كأن يجد الباب مفتوحاً فيأخذ من الدار، وتجد الخزينة في الدار مفتوحة والباب مفتوح فيأخذ من الخزينة فلا?قطع وذلك لعدم الحرز. قال: [وحرز المال: ما العادة حفظه فيه] . ???فالشرع لم يحدد حداً في الحرز، وعليه فيرجع فيه إلى العادة فما كان في العادة حرزاً فهو حرز يقطع معه. قال: [ويختلف باختلاف الأموال والبلدان وعدل السلطان وجوره وقوته وضعفه] . ??يختلف الحرز باختلاف الأموال فليس حرز الذهب كحرز الماشية. ويختلف باختلاف البلدان فليست البلدان التي يكون فيها الشرع مطبقاً ويكون فيها الأمن ظاهراً بخلاف البلدان التي يضعف فيها تطبيق الشرع، ويضعف فيها قيام الحاكم بما يجب عليه في أمن الناس من إزالة خوفهم. فالبلد الواحدة تختلف مواضعها فليس الحرز في المدن الكبار كالحرز في المدن الصغار، وليس هو في المدن الصغار كالقرى والهجر وهكذا. ??كذلك يختلف باختلاف عدل السلطان وجوره وقوته وضعفه فإذا كان السلطان عادلاً فإن الناس يخافون من إقامة الحدود الشرعية ويعلمون أن الشفاعة لا تنفع فيرتدعون عن السرقة، وحينئذ يكون الحرز يثبت بأدنى ما يكون بخلاف ما لو كان السلطان جائراً فإنا نحتاج إلى حرز أعظم. كذلك يختلف باختلاف قوة السلطان وضعفه، فإذا كان السلطان قوياً صارماً حازماً بخلاف ما لو كان متساهلاً.

ثم ضرب للحرز أمثلة فقال: ??فحرز الأموال والجواهر والقماش في الدور والدكاكين والعمران وراء الأبواب والأغلاق الوثيقة] . ?الأغلاق هي الأقفال. فهذا هو حرز الجواهر والقماش والأموال ونحوها في العادة فحرزها أن تكون في الدور المبنية ويقفل عليها. فلو وضع إنسان ذهباً في دار غير مقفلة فإن هذا الذهب ليس بمحرز لأنه لم يوضع فيما يحفظ فيه في العادة. قال: [وحرز البقل وقدور الباقلاء ونحوهما وراء الشرائح إذا كان في السوق حارس] . ???الشرائح: ما يوضع من القضب بعضه إلى بعض ويربط بالحبال فإذا وضعت أمثال هذه وراء الشرائح فهذا هو حرزها، إن كان في السوق حارس. ونحو ذلك ما يوضع في الأسواق، فإن بعض المحلات تضع من الغطاء على الأواني ونحوها فهذا هو حرزها حيث وجد بعض الشرط أي الحراس. قال: [وحرز الخشب والحطب الحظائر] . ??الحظائر معروفة وهي التي تضع من خشب، فهذه الحظائر توضع فيها الخشب والحطب وهذا هو حرزها، لجريان العادة بذلك. قال: [وحرز المواشي الصير] . ??الصير: هي حظائر الغنم ونحوها. فإذا وضع غنمه في حظيرة فهذا هو حرزها. فلو وضع عند باب داره حظيرة خشب ووضع فيها أغنامه فسرق منها شيء يبلغ نصاباً فإن فيه القطع لأن هذا هو حرزها في العادة. ?قال: [وحرزها في المرعى بالراعي ونظره إليها غالباً] . ???فإذا كانت في المرعى فهذا هو حرزها بشرط أن يكون الراعي ينظر إليها في الغالب وإن كان يغيب عنها لحظات فهذا لا يؤثر أما إذا كانت غالباً تغيب عن نظره فإنها ليست في حرز. فالقاعدة إذن أن المال إذا وضع فيما يحفظ فيه في العادة وهذا ليس له ضابط محدد بل يختلف باختلاف الأموال والبلدان وباختلاف عدل السلطان وجوره وقوته أو ضعفه فإذا ثبت أنه حرز في العادة فإنه يقطع به. وعليه فقد يكون في هذه البلد حرز وهو في بلدٍ أخرى ليس بحرز. قال: [وأن تنتفي الشبهة] . ??هذا هو الشرط الرابع.

وقد تقدم أن هذا شرط في الحدود، وأن أهل العلم قد أجمعوا على ذلك. وتقدم أنه لا يؤخذ بأدنى شبهة وبأدنى احتمال، بل لابد أن تكون الشبهة ظاهرة لتقوى على درء الحد. قال: [فلا قطع بالسرقة من مال أبيه وإن علا] . ??فإذا سرق من مال أبيه أو جده أو جد جده فلا قطع، وإن علا. قال: [ولا من مال ولده وإن سفل والأب والأم في هذا سواء] . ????فلا يقطع إن أخذ من مال ولده أو لد ولده وإن نزل. فلا قطع بالأخذ من مال الوالد ولا في مال الولد لولده. والشبهة هنا وجوب النفقة، فقد تجب النفقة على الوالد. وقد تجب النفقة على الولد لوالده، كما تقدم. وقال بعض أهل العلم: وهو رواية عن الإمام أحمد: بل الشبهة في خصوص أخذ الوالد من مال الولد. وأما أخذ الولد من مال الوالد فلا شبهة فيه والشبهة إنما هي في أخذ الوالد من مال ولده وهي شبهة الملك فالأب كما قال - صلى الله عليه وسلم -????أنت ومالك لأبيك) . والوالد لا يمكن أن يقطع بسبب مال ولده كما تقدم من أن الوالد لا يقتل بولده فأولى من ذلك ألا يقطع. أما لو ظهر في الولد فقر وحاجة فحينئذ يقوى القول بالشبهة وذلك لوجوب النفقة مع فقر الولد. أما وهو غني فيبعد حينئذ أن يقال بالشبهة. إذن: أخذ الوالد من مال الولد ولا إشكال في أنه لا قطع فيه لحديث: " أنت ومالك لأبيك". وأما سرقة سوى الأب من الوالدين من الولد، فكذلك لا إشكال في أنه لا قطع لأنه لا يمكن أن يكون الولد سبباً في القطع والوالد سبباً في الوجود، وأما أخذ الولد من مال الوالد فيقوي عدم القطع، حيث كان الولد فقيراً، لهذه الشبهة وهي وجوب النفقة عليه. ??وأما وهو غني فيقوى قول من قال بإقامة الحد والله أعلم. قال: [ويقطع الأخ وكل قريب بسرقة من مال قريبه] . ???لعدم الشبهة، إلا أن يكون فقيراً والآخر ممن ركب عليه الإنفاق حيث ترجح هذا، فحينئذ يقوى القول بأنها شبهة فلا قطع.

قال: [ولا يقطع أحد الزوجين بسرقته من مال الآخر ولو كان محرزاً عنه] . لما روى مالك في موطئه: " أن رجلاً أتى بخادم له إلى عمر فقال: إن غلامي هذ قد سرق مرآة لزوجتي قيمتها ستون درهماً فقال عمر: أرسله فلا قطع خادمكم سرق متاعكم". قالوا: فإذا كان عبد الزوج إذا سرق من الزوجة لا يقطع فأولى من ذلك الزوج نفسه. والشبهة في ذلك قوية لأن العادة أن كل واحدٍ من الزوجين ينبسط في مال الآخر. وقال مالك: بل يقطع للآية: ((السارق والسارقة فاقطعوا أيديهما)) والذي يظهر عدم القطع للشبهة وهي انبساط كل واحد في مال الآخر في العادة. وعليه فكذلك بعض الأخوة أيضاً إذا كانوا في دار واحدة، فالعادة فيما يظهر جارية بانبساط كل واحدٍ منهما في مال الآخر. قال: [وإذا سرق عبد من مال سيده] . فلا قطع، قال ابن مسعود: كما روى البيهقي بإسناد صحيح "مالك سرق بعضه بعضاً فلا يقطع". قال: [أو سيد من مال مكاتبه] . المكاتب: كما تقدم يملك فإذا سرق السيد من مال مكاتبه فإنه لا يقطع وذلك لشبهه الملك لأنه قد يعود قنا. قال: [أو حر مسلم من بيت المال] . وفيه أثر عن عمر لكن اسناده ضعيف وهو في البيهقي الشبهة هنا هي ماله في بيت المال من حق. وقال مالك بل يقطع لظاهر الآية الكريمة. والذي يتبين أنه يختلف فإذا كان السلطان يعطي الناس حقوقهم فلا ينبغي أن يقال، إنها شبهة. أما إذا كان يظلم الناس ولا يعطيهم حقوقهم فيقوي حينئذ أن يقال كالشبهة. إذن: المشهور في المذهب: أن المسلم الحر إذا أخذ من بيت المال فإنه لا يقطع والشبهة هنا: أن لكل مسلم حقاً في بيت المال. والقول الثاني: أنه يقطع. والذي يترجح هو القول الأول إلا أن يكون السلطان يعطي الناس حقوقهم فيضعف هذا القول، والله أعلم. وقد قال المؤلف: " أو حر مسلم" أما إذا كان عبداً فإنه يقطع لأنه لا حق له في بيت المال وعليه فلا شبهة له. قال: [أو من غنيمة لم تخمس] .

الغنيمة إذا لم تخمس فلبيت المال منها خمس الخمس وعليه فإذا سرق أحد فكما لو سرق من بيت المال فلا قطع. قال: [أو فقير من غلة وقف على الفقراء] . للشبهة فإن له حقا في ذلك. قال: [أو شخص من مال له فيه شركة له] . فإذا أخذ أحد الشريكين من المال المشترك فيه فلا قطع للشبهة وهي هنا شبهة الملك. قال: [أو لأحد ممن لا يقطع بالسرقة منه لم يقطع] . فإذا كان لوالده نصيب من هذه الشركة، لأنه لو أخذ من مال والده فإنه لا يقطع كما تقدم في المذهب. فكذلك إذا كان لوالده شرك في هذا المال. إذن: لا يقطع إذا أخذ من مال له فيه شرك أو أخذ من مال شركه لمن لا يقطع بالسرقة منه. وهنا: مسألتان:- مسألة ظاهرة الشبهة فيها فلا يقام فيها الحد، ومسألة أخرى الشبهة فيها ضعيفة جداً. أما المسألة الأولى: فهي السرقة في عام المجاعة، فإذا أصيب الناس بسنة أي بجدب وقحط فسرق بعضهم لما يجد من الحاجة فلا قطع عليه. وذلك لما روى عبد الرزاق في مصنفه: أن عمر قال: " لا قطع في عام سنة" أي في عام مجاعة. والشبهة في ذلك أن هذا السارق لا يكاد يخلو من ضرورة يجب معها على المسروق منه أن يبذل له مجاناً ما يضطر إليه وذلك لأن إحياء النفوس واجب مع القدرة. فهذا الذي قد سرق عام المجاعة والمسروق منه قادر وعليه فيبذله لهذا الذي قد سرق واجب حيث قدر على ذلك فهذه شبهة قوية، وهذا هو المشهور في مذهب أحمد وهو قول عمر ولا يعلم له مخالف. وأما المسألة التي في غاية الضعف بل في غاية الغرابة أن يقال باحتمال صدق دعوى السارق، وهو المشهور في المذهب إذا سرق رجل مالاً ثم قال: هو ملكي قد أودعته إياه أي المسروق منه أو رهنته إياه، أو قد أذن لي فأخذه فحينئذ نقول للمسروق منه: احلف على أن هذا الشي لك لأن جانبه أقوى فإن حلف فلا حق حينئذ للسارق لكن يده لا تقطع لاحتمال صدقه. وحينئذ لا يعجز سارق عن مثل هذه الدعوى فيدعي أن المسروق ملكه.

وقد أبطل هذا ابن القيم غاية الإبطال وبيّن أن هذا من الحيل التي تبطل الشرع من أصله، فلا يعجز سارق أن يدعي مثل هذا وحينئذ فلا قطع. وهذا مما تنزه عنه الشريعة الإسلامية فلا شك أن هذا من الحيل الباطلة وهذه حيلة يستطيع أن يفعلها كل سارق. قال رحمه الله تعالى: [ولا يقطع إلا بشهادة عدلين] . ذكرين حرين اتفاقاً. فقد اتفق العلماء على أنه لا يقطع إلا بشهادة عدلين ذكرين حرين وهي البينة فثبتت بها السرقة ويترتب عليها الحد باتفاق أهل العلم ولو كان ذمياً. فلو شهد ذميان على ذمي بالسرقة فإن الحد لا يقام عليه فالبينة هي شهادة شاهدين عدلين مسلمين ذكرين حرين. قال: [وإقرار مرتين] . هذا هو الطريق الثاني لثبوت السرقة التي يترتب عليه إقامة الحد وهو أن يقر بالسرقة على نفسه مرتين، فيقول: قد سرقت ثم يقول قد سرقت. ويدل عليه ما رواه أبو داود والنسائي من حديث أبي المنذر مولى أبي ذر عن أبي أمية المخزومي قال: أُتي النبي - صلى الله عليه وسلم - بلص قد اعترف اعترافاً ولم يوجد معه متاع فقال له النبي - صلى الله عليه وسلم -????ما إذا لك سرقت) فقال: بلى فأعادها مرتين أو ثلاثاً- واليقين مرتين ??فأمر به فقطع ثم جيء به فقال له النبي - صلى الله عليه وسلم - استغفر الله وتب إليه فقال: استغفر الله وأتوب إليه، قال - صلى الله عليه وسلم -: " اللهم تب عليه ثلاثا ". هذا الحديث فيه أبو المنذر مولى أبي ذر وهو مجهول لكن الحديث ليس بمنكر، وجهالة التابعي ليست بالجهالة القوية، مع وجود شاهد له، وهو ما ثبت في مصنف عبد الرزاق وسنن البيهقي بإسناد صحيح عن علي، أن رجلاً قال له: إني سرقت فردّة، فقال: إني سرقت فقال علي: شهدت على نفسك مرتين، فأمر به فقطع. ولا يعلم لعلي مخالف، فعلى ذلك الحديث المتقدم حديث حسن وليس بمنكر ويشهد له فعل علي ويشهد له العباس على مسألة الزنا، فالزنا بينته أربع شهادات والإقرار لابد أن يكون أربعاً.

فكذلك السرقة لابد أن يقرّ على نفسه مرتين، هذا هو المشهور في مذهب أحمد، خلافاً للجمهور. فالجمهور قالوا: يكتفي باقرار مرة لأنه اعتراف والاعتراف يثبت بمجرد الإقرار ولو مرة واحدة. والحجة مع أهل القول الأول لما تقدم. فالصحيح أنه لا يقام عليه الحد إلا إذا شهد على نفسه مرتين. إذن: لابد أن يقر على نفسه مرتين ويصف سرقة توجب الحد، فيبين الحرز ويبين قدر ما سرق، فيعلم لو توفر الشروط وكذلك في البينة فلابد وأن يشهد كل شاهد بما يوجب الحد فيصف السرقة وأنه قد سرق من حرز وأن المسروق كذا. إذن: يثبت حد السرقة بالبينة والاعتراف. لكن هل يثبت بطريق ثالث أم لا؟ والمذهب أنه لا طريق ثالث، بل لا يقام الحد إلا بأحدهما. واختار ابن القيم وقال: " وهو أصح القولين" أن هناك طريقاً ثالثاً وهو: أن العين المسروقة عند السارق مع التهمة فإذا كان ممن يتهم بالسرقة ووجدت عنده العين المسروقة فيرى ابن القيم إقامة الحد عليه. وهذا ظاهر كما تقدم في إقامة الحد على من تقيأ الخمر أو وجدت منه رائحته وإقامة حد الزنا بالحبل. فالبينة والاعتراف خبران يحتملان الصدق والكذب، وغلبه الظن صدقهما. وأما إذا وجدت عنده العين المسروقة فهذا نص صريح في السرقة لا يحتمل إلا السرقة كما قال ابن القيم. لكن: فيما يظهر لو ادعي شبهة كان يدعي أنها عارية عنه فالذي يظهر أن هذا يدرأ عنه الحد، فإن الحدود تدرأ بالشبهات. قال: [ولا ينزع عن إقراره حتى يقطع] . فلو قال: رجعت قبيل القطع فإنه لا يقطع، وذلك كما تقدم في باب الزنا. وظاهر كلام المؤلف ولو كان اقراره تدل عليه القرائن كأن يصف السرقة وأن يكون المسروق عنده، وأن يكون المسروق منه قد فقد هذا الشيء – فلو دلت القرائن على السرقة فله الرجوع هذا هو ظاهر كلام الحنابلة.

والذي يتبين لي أن هذا الظاهر صحيح وذلك لأنه حيث اعترف فإنه تائب، وتوبته قبل أن يقدر عليه وقد قال تعالى: ((إلا الذين تابوا من قبل أن تقدروا عليهم فاعلموا أن الله غفور رحيم)) . فهذا قد أتى تائباً ولم تقم عليه بينة تدل على سرقاته فحينئذ إن اعترف أقيم عليه الحد، فإن رجع عن اعترافه قبل ذلك منه، والله أعلم. قال: [وأن يطالب المسروق منه بماله] . إذا ثبتت السرقة عند الحاكم ولم تثبت مطالبة بهذا المال فلا يقيم عليه الحد. إذا أتى المسروق منه إلى الحاكم فقال: سرق مالي فعُثر على السارق فهنا يقطع ولا اشكال. لكن إن لم يطالب المسروق منه أو كان غائباً، فهل يقام عليه الحد في الصورة الأولى، وفي الصورة الثانية هل ننتظر حتى يحضر فننظر هل يطالب أم لا؟ قولان لأهل العلم:- القول الأول: ما ذكره المؤلف هنا، وهو مذهب الجمهور قالوا لا يقيم عليه الحد إلا بمطالبة المسروق منه. واستدلوا بحديث صفوان لما سرق رداؤه وهو متوسد عليه في المسجد فذهب بالسارق إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فأمر به أن يقطع فشفع له صفوان فقال له النبي - صلى الله عليه وسلم -: (هلا كان هذا قبل أن تأتيني) . قالوا: فيدل على أنه لا يقام إلا بالمطالبة. والقول الثاني: وهو مذهب مالك واختيار شيخ الإسلام ابن تيمية: أن الحد يقام ولو لم يطالب المسروق منه وذلك لأن الحد حق لله تعالى فيقام على السارق وإن لم يطالبه المسروق منه، فما دام وصل إلى الحاكم فإن الحد يقام عليه. واستدل: بعموم الآية: "والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما". ولم يشترط الله سبحانه طلب المسروق منه ولا رضاه في إقامة الحد. وأما الحديث الذي استدلوا به، فإن الحديث قضية عين، فليس فيه أنه لو بلغ ذلك النبي - صلى الله عليه وسلم - ورفع ذلك أنه لا يقيم عليه الحد. وقد أقام الحد - صلى الله عليه وسلم - كما في حديث أبي أمية وتقدم أنه حديث حسن وأقامه علي وليس في ذلك طلب من المسروق منه.

والقول الثاني هو الصحيح وأن الحد يقام مطلقاً لأنه حق لله تعالى وعليه فلا يشترط أن يطالب بإقامة الحد. قال: [وإذا وجب القطع قطعت يده اليمنى] . إجماعاً قال تعالى: ((والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما)) . وقد أجمع أهل العلم على أن اليد التي تقطع هي اليد اليمنى. قال: [من مفصل الكف وحسمت] . فتقطع يده من مفصل الكف، وحسمت والحسم بأن يقطع الدم بالزيت المغلي لئلا يتزق فيموت وهذا أي الحسم واجب حفاظاً على نفسه. فإن سرق بعد ذلك قطعت رجله اليسرى من مفصل الكعب وأبقى له عقب يطؤ به اتفاقاً وهو قول علي كما في مصنف ابن أبي شيبة. فإن سرق ثالثة: فالحنابلة قالوا: ويحبس حتى الموت، أو يتوب، أي يعزر بالحبس وهو قول علي كما في مصنف ابن أبي شيبة بإسناد حسن. وقال الجمهور وهو رواية عن أحمد: بل تقطع يده اليسرى فإن سرق الرابعة قطعت رجله اليمنى. واستدلوا: بأثر عن أبي بكر وعمر في رجل سرق وهو مقطوع اليد والرجل فأمر أبو بكر أن يقطع رجله فنهى عن ذلك عمر وأشار بقطع يده، والأثر حسن. والأشبه هو قول علي، وقد تعارضت أقوال الصحابة فالأشبه هو قول علي. وذلك لأن الله تعالى أمر بقطع اليد واتفق أهل العلم على قطع الرجل اليسرى بعد ذلك، وليس عندنا نص يدل على القطع فالله عز وجل إنما أمر بقطع اليد فحسب، وظاهره ألا يقطع سوى اليد وحين كان كذلك فإنا لا نقول بالقطع فيما سوى ذلك إلا فيما اتفق عليه أهل العلم، واتفقوا على قطع الرجل اليسرى، قال علي في أثره، "إن قطعت لا ينبغي أن يقطع رجله ويده فيبقى لا قائمة له". فإذا قطعت يداه فلا يمكنه أن يستطيب ولا أن يأكل ولا يشرب وإذا قطعت رجلاه جميعاً فلا يمكنه المشي فمعنى ذلك إتلاف جنس العضو. فالذي يترجح هو ما ذهب إليه علي لا سيما في أنه قال ذلك لعمر والظاهر أن عمر أقره على ذلك والله أعلم. فإن سرق بعد ذلك وقلنا بالقطع فهل يقتل أولاً؟

قال أبو مصعب المالكي وهو قياس قول شيخ الإسلام أنه يقتل وفي ذلك أثر رواه النسائي أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أتى برجل قد سرق فقال: اقتلوه، فقيل: إنه قد سرق فقال: اقطعوه ثم أتى الثانية فقال كذلك ثم أتي به الثالثة فقال كذلك ثم أتي به الرابعة فقال كذلك، ثم أتي به الخامسة فقال: "اقتلوه" لكن الحديث أنكره النسائي وأعله بمصعب بن ثابت في سننه وقال لا أرى أن في هذا الباب حديثًا صحيحاً. فالذي يتبين أن هذا الحديث منكر إذ كيف يقول النبي - صلى الله عليه وسلم - في أول مرة اقتلوه والواجب قطعه. فالذي يترجح أن هذا الحدبث منكر لكن من باب التعزير فإنه يثبت بالقتل كما قال شيخ الإسلام في شارب الخمر فمرجع ذلك إلى الإمام من حيث التعزير أما في الحكم في الأصل فلا قتل. قال: [ومن سرق شيئاً من حرز ثمراً كان أو كثراً أو غيرهما أضعفت عليه القيمة ولا قطع] . الكثر: هو الجمّار الذي يكون في النخل. المشهور في المذهب أن من سرق تمراً أو كثراً أو شاة من غير حرز فلا قطع لعدم الحرز، قالوا: لكن يجب عليه غرامة مثلية فالشاه شاتان، والتمر إذا كان صاعاً فصاعان، وإذا أخذ من الكثر القيمة الفلانية فعليه ضعفها. واستدلوا: بما ثبت في سنن النسائي باسناد جيد أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال في التمر المعلق: (من أصاب بقية من ذي صاحب حاجة غير متخذ خبنةً - وهي طرف الثوب - فليس عليه شيء ومن خرج بشيء منه فعليه الغرامة والعقوبة) . وفي رواية: " فعليه غرامة مثلية". ونحوه في أبي داود وابن ماجه في الشاة. قالوا: وأما سوى ذلك فليس فيه غرامة مثلية بل ضمان مثله لأن هذا هو الأصل، فالأصل هو ضمان المثل ولا يستثنى إلا ما دل عليه الحديث وهو التمر ونحوه والشاة.

وقال شيخ الإسلام واختاره ابن سعدي وهو القول الثاني في المذهب وهو ظاهر كلام المؤلف في قوله "أو غيرهما" وهو أن هذا الحكم ليس بمختص بالشاة والتمر، بل كل ما أخذ من غير حرز ففيه غرامة مثلية. للقياس الصحيح، وللقاعدة وهي أن ما اسقطت عقوبته لمانع فإن الضمان يضاعف. وعلى ذلك فليس مختصاً بالتمر والشاة بل هو عام في كل ما سرق من غير حرز فلما اسقطت العقوبة ضاعفنا الغرم. " باب حد قطاع الطريق" قطاع الطريق: وهم الذين يخيفون السبل بالقتل وأخذ المال. والأصل في هذا الباب قوله تعالى: ((إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فساداً أن يقتلوا أو يصلبوا أو تقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف أو ينفوا من الأرض ذلك لهم خزي في الدنيا ولهم في الآخرة عذاب عظيم)) . قال رحمه الله: [وهم الذين يعرضون للناس بالسلاح] . كالسيف والنبل ونحو ذلك. ومثله أيضاً عند جماهير العلماء العصا والحجر، ونحو ذلك مما يتلف الأطراف ويجرح الأبدان وفيه معنى المحاربة والإفساد في الأرض. قال: [في الصحراء أو البنيان] . فسواء كان هذا في الصحراء أو كان في البنيان أي في المدن والقوى، وهو مذهب جماهير العلماء واختيار شيخ الإسلام ابن تيمية. لعموم الآية: ((إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فساداً)) فالآية عامة في البنيان وفي الصحراء. وقال بعض أهل العلم كما هو قول بعض الحنابلة وهو مذهب أبي حنيفة: بل في الصحراء فقط، وأما في البنيان فليسوا من المحاربين. قالوا: لوجود الغوث في البنيان، أي من استغاث فيها أغيث بخلاف الصحراء. والصحيح هو الأول لظاهر الآية الكريمة فهي عامة في البنيان والصحراء. ثم إن البنيان أعظم وذلك لأن البنيان محل الأمن والطمأنينة فلا شك أن من جعل الخوف فيها، أشد وأقبح ممن جعل ذلك في الصحراء لأن البنيان موضع الأمن والطمأنينة. قال: [فيغصبونهم المال مجاهرة لا سرقة] . فإذا كانت سرقة فكما تقدم.

لكن هنا يأخذون المال مجاهرة، يرفعون عليهم العصي والسلاح فيأخذون أموالهم. قال: [فمن منهم قتل مكافئاً أو غيره كالولد والعبد والذمي وأخذ المال قتل ثم صلب حتى يشتهر] . فمن فيهم قتل مكافئاً أو غيره، كالوالد يقتل ولده كالحر يقتل العبد، وكالمسلم يقتل الذمي، وأخذ المال فإنهم يقتل ويصلب. فلو أن الأب قتل ولده في الحرابة فإنه يقتل به أو قتل مسلم ذمياً كأن يخيف بعض المسلمين السُبل فيقتلون ذمياً فإن يقتلون به. أو حراً أخاف الطريق فقتل عبداً وتقدم أن المشهور في المذهب أن الحر لا يقتل بالعبد، وأما هنا فإنه يقتل. وذلك لحق الله تعالى، فهناك في باب القصاص هو لحق الآدمي، وأما هنا فهو لحق الله تعالى، فهو حد من الحدود فالفرق بين هذا الباب وباب القصاص:- أن باب القصاص حق للآدمي وعليه فلا يقتل الوالد بولده ولا يقتل في المشهور السيد بالعبد ولا يقتل المسلم بالذمي. وأما هنا فهو حق لله تعالى. ولذا فإن الله لم يرجع قتلهم إلى أولياء المقتول فهو حد فقال: ((إنما جزاء الذين يحاربون الله.. أن يقتلوا)) ولم يجعل ذلك إلى أوليائهم بخلاف آية القصاص فقد أرجع الله ذلك إلى أولياء المقتول وأن أولياء المقتول بالخيرة بين القتل والدية والعفو. وقوله: "فمن منهم" قد يفهم من ذلك خلاف المذهب فقد يفهم أنه لو قتل واحد منهم يقتل وأما البقية فإنهم لا يقتلون. والمشهور في المذهب خلاف ذلك فالمشهور في المذهب أن قطاع الطريق إذا قتل واحد منهم فحكمهم جميعاً القتل وإذا أخذ المال واحد منهم فحكمهم جميعاً القطع وإذا أخذ واحد منهم المال وقتل فحكمهم جميعاً القتل والصلب هذا هو مذهب الحنابلة. وقال الشافعية: بل إنما يقتل القاتل ويقطع الآخذ. والصحيح هو القول الأول وذلك لأن المحاربة مبناها على المنعة والمناصرة، فهو لولا هؤلاء لم يخف السبيل ولم يقتل ولم يأخذ المال. فمن منهم قتل وأخذ المال أي جمع بين معصيتين، القتل وأخذ المال، فإنه يتقل ويصلب.

وهذا هو مذهب جمهور العلماء. قال تعالى: ((إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فساداً أن يقتلوا أو يصلبوا أو تقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف أو ينفوا من الأرض)) . وقد اختلف أهل العلم في لفظة هل هي للتنويع أم هي للتخبير؟ أي هل هذه العقوبات تختلف باختلاف الجنايات فكل عقوبة لجناية، فالقتل والصلب لجناية والقتل لجناية وقطع الأيدي والأرجل لجناية والنفي لجناية. أم أنها للتخيير، فالإمام مخير بين هذه العقوبات فإن شاء قتل وصلب وإن شاء قتل، وإن شاء قطع الأيدي والأرجل من خلاف وإن شاء نفى من الأرض. 1) فمذهب المالكية إلى أنها للتخيير فقالوا: مرجع ذلك إلى الإمام فإن رأى أن يقتلوا ويصلبوا فعل ذلك، وإن رأى أن تقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف فعل ذلك، وإن رأى أن ينفوا من الأرض فعل ذلك. 2) وقال الجمهور: بل هي عقوبات مختلفة لجنايات مختلفة فإن قتل وأخذ المال فعقوبته الجمع بين القتل والصلب وإن قتل فقط ولم يأخذ المال فعقوبته القتل فقط وإن أخذ المال ولم يقتل فعقوبته أن تقطع يده اليمنى ورجله اليسرى. وإن أخاف السبيل ولم يأخذ مالاً فإنه ينفى من الأرض هذا هو القول الراجح ويدل عليه الأثر والنظر. أما الأثر: فما ثبت عن ابن عباس من غير ما وجه فهو أثر حسن فقد رواه ابن جرير الطبري والبيهقي وعبد الرزاق وغيرهم أنه قال: " إن قتلوا وأخذوا المال قتلوا وصلبوا، وإن قتلوا، ولم يأخذوا المال قتلوا ولم يصلبوا، وإن أخذوا مالاً ولم يقتلوا قطعت أيديهم وأرجلهم من خلاف وإن أخافوا السبيل ولم يأخذوا مالاً نفوا من الأرض" فهذا أثر ابن عباس في تفسير هذه الآية. أما النظر: فإن مقتضى العدل اختلاف العقوبات باختلاف الجنايات. وإرجاع ذلك إلى الحاكم قد يترتب عليه تضييع وعبث فلا شك من إرجاع ذلك إلى الشرع كونها مسألة منضبطة من الشارع أولى من إرجاعها إلى الحاكم لئلا يدخل فيها شئ من العبث وهذا هو القول الراجح في هذه المسألة.

فمن قتل وأخذ المال فإنه يقتل ويصلب حتى يشتهر إذن ليس هناك مدة محددة لصلبه. والصلب معروف: وهو أن يوضع الخشب كالصليب ثم يوضع الرجل كالصليب قد ربطت كل يد بخشبه، فيصلب حتى يشتهر أمره بين الناس وينزجرون عن معصيته وليس محدداً بثلاثة أيام كما ذكر الشافعية بل مرجع ذلك إلى اشتهاره، فمتى ما اشتهر وحصلت المصلحة المقصودة من صلبه فإنه يزال عنه الصلب. وهذا هو القول الراجح لعدم الدليل على التحديد ولأن المصلحة قد تكون في أكثر من ثلاثة أيام. وكلام المؤلف هنا وهو المذهب فيه أنه يقتل ثم يصلب وذلك لقوله - صلى الله عليه وسلم -: (إذا قتلتم فأحسنوا القتلة وصلبه قبل قتله) ليس من إحسان القتلة، وعليه فيقتل أولاً ويصلب ثانياً إحساناً لقتلته. والقول الثاني في المسألة: وهو مذهب المالكية أنه يصلب ثم يقتل أي يكون صلبه وهو حي. وهذا هو القول الراجح لقوله تعالى: ((إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فساداً أن يقتلوا أو يصلبوا)) فجعل التصليب جزاءاً لهم فدل على أن ذلك عقوبة لهم فليس المقصود فيه مجرد انزجار الناس وردعهم بل المقصود أيضاً ايلامه وعقوبته على معصيته بذلك. وقد ذكره في الإنصاف بلفظة "قيل" أي قال بعض الحنابلة يعني قولاً ضعيفاً قاله بعض الحنابلة فليس مخرجاً في المذهب. قال: [وإن قتل ولم يأخذ المال قتل حتماً ولم يصلب] . إذا قتل بعضهم ولم يأخذ المال فعقوبته القتل بلا صلب لما نقلده في أثر ابن عباس. قال: [وإن جنوا بما يوجب قوداً في الطرف تحتم استيفاؤه] . إذا جنى هؤلاء القطاع أو بعضهم بما يوجب قوداً أي قصاصاً كأن يقطعوا اليد من المفصل فإنه يتحتم استيفاؤه. لكن لو جنوا بما لا يوجب القصاص كأن يقطعوا اليد من غير مفصل فهذا لا يوجب القصاص وعليه فلا يقطع طرفه للعلة المتقدمة في باب القصاص.

إذن: هنا إذا جنوا بما يوجب قوداً فإنه يتحتم استيفاؤه فليس مرجع ذلك إلى المجني عليه فيقال له: إن شئت أن يقطع طرفه وإن شئت أن تأخذ الدية، بل يتحتم استيفاؤه هذا هو أحد القولين في المسألة وهو ما ذكره المؤلف قياس على القتل. والقول الثاني: وهو المذهب، " فالمذهب على خلاف ما ذكره المؤلف هنا" أنه لا يتحتم استيفاؤه. وذلك لأن الله إنما ذكر القتل وهو حيث قتلوا، وقطع الطرف ليس بمنصوص عليه وكذلك الجرح، فالله إنما نص على النفس وأما ما دون النفس من الجراح والأطراف فإن الله لم ينص عليها فكانت كسائر الجنايات والأظهر القول الأول وهو ما ذكره المؤلف، قياساً على القتل، فكما أنه يتحتم قتل النفس فأولى من ذلك أن يتحتم قطع الطرف وأن يتحتم الاستيفاء في الجرح وكونه لم ينص عليه لا يمنع القياس فإنه في معنى المنصوص عليه. قال: [وإن أخذ كل واحدٍ من المال قدر ما يقطع بأخذه السارق ولم يقتلوا قطع من كل واحدٍ يده اليمنى ورجله اليسرى في مقام واحد وحسمتا ثم خلى] . فإذا أكل واحد منهم من المال قدر ما يقطع بأخذه السارق، وهو ربع دينار فصاعداً ولم يقتلوا قطع من كل واحد يده اليمنى ورجله اليسرى. وعليه فلو أخذوا من المال أقل من ربع دينار فلا يقام عليهم هذا الحد. قالوا: قياساً على السرقة. وقال المالكية: بل لو أخذ أقل من النصاب فإنه يحد وهذا هو القول الراجح للإطلاق في الآية وفي الأُمر المتقدم وما قياس الحنابلة ففيه نظر، وذلك لأنه قياس مع الفارق والفارق بين حد السرقة وحد الحرابة، أن حد الحرابة أعظم فإن فيه قطعاً لليد اليمنى والرجل اليسرى، وأما حد السرقة فهو أخف، فكان قياساً مع الفارق فلا يصح أن يقاس الأعظم بالأخف. وتقطع يد كل واحد اليمنى ورجله اليسرى في مقام واحد لظاهر الآية، فظاهرها أن ذلك يكون في مقام واحد ولأن في عدم جعلهما في مقام واحد، بأن تقطع يده اليمنى اليوم ورجله اليسرى غداً في ذلك تعذيباً له.

وتقطع اليد اليمنى من مفصل الكف، وتقطع الرجل اليسرى مع الكعب مع إبقاء العقب اليمنى عليه، أي كالقطع في السرقة. [وحسمتا] بالزيت المغلي. [ثم خلي] سبيله لأنه قد استوفى منه فلا يسجن إذ لا دليل على ذلك. قال: [فإن لم يصيبوا نفسًا ولا مالاً يبلغ نصاب السرقة نفوا بأن يشردوا فلا يتركون يأوون إلى بلد] . إذا أخافوا السبيل، ولم يأخذوا مالاً وعلى المذهب لو أخذوا مالاً دون النصاب فكذلك نفوا بأن يشردوا فلا يتركون يأوون إلى بلاد، بمعنى ينفون متفرقين في الصحاري ولا يقرون في بلد حتى يتوبوا. وهذا هو أحد أقوال أهل العلم في المسألة، وأنهم لا يقرون في بلد حتى يتوبوا، فمثلاً ثبت للحاكم، أنهم ذهبوا إلى الرياض فإنه بأمر بإخراجهم منها، وإذا نزل في القصيم فإنه يأمر بإخراجه منها وهكذا حتى تظهر توبته. قالوا: لقوله تعالى: ((أو ينفوا من الأرض)) قالوا: فظاهره حتى ينفوا من الأرض كلها فلا يقرون في أرض. وقال الأحناف بل يحبسون، وهذا في الحقيقة في معنى النفي من الأرض لأن السجين ليس في الدنيا فكما لو نفي من الأرض، لكن ظاهر الآية يخالف ذلك. وقال مالك: ينفى من البلد الذي قطع فيه الطريق إلى بلد آخر ويسجن، وهذا فيما يظهر أصحها. وأما كونه ينفى من الأرض فلظاهر الآية وعلى ذلك فقوله (ينفوا من الأرض) أي الأرض المعهودة وهذا حيث لم نقل بالسجن لكن لو قلنا بالسجن وهو الراجح فيكون المعنى ينفوا من الأرض كلها فإذا أخرجوا من بلد إلى آخر فقد حصل النفي، وإذا سجنوا فقد فعلنا ما نستطيع لأن الله أمر بنفيهم من الأرض وعندما نحشرهم في موضع واحد نكون قد فعلنا ما نستطيع فلم يقروا في أرض إلا الأرض التي لا يمكن أن يخرجوا منها إلا بالموت وهذا أظهر الأقوال وهو اختيار ابن جرير.

وأما كونه يسجن: فلأنه إذا سجن فقد اخرج من الأرض كلها كما تقدم إلا الأرض التي هو فيها حيث لا سبيل لنا إلى إخراجه منها فقد فعلنا ما نستطيع وهذا تفسير ابن جرير لهذه الآية. وأما ما ذهب إليه الحنابلة: فقد تترتب عليه بعض المفاسد كخروجهم إلى أرض الكفار فيكونون محاربين للإسلام. أو أن يكون الأمن أضعف مما ينبغي فيعودون إلى قوتهم مرة أخرى. مسألة: ما حكم أخذ الإتاوة وهي الضريبة التي كانت تؤخذ مقابل المرور بمنطقة معينة؟ الأظهر أن يقال: فيه تفصيل:- فإذا كانت الأرض لهم فتكون حينئذ شبهة فتكون كالجمارك التي تؤخذ الآن، فليسوا من قطاع الطريق وإن كان هذا لا يحل لكنها تكون من باب المكوس ولا تكون من باب أخذ المال على سبيل قطع الطريق لأنهم يقولون نحن لا نخيف بل نحفظ لهم وأما إذا كانت الأرض ليست لهم فإنه لا يتبين أنها شبهة وحينئذ يكونون قطاع طريق. وشيخ الإسلام ابن تيمية يقولون: هؤلاء مكاساً ولا يعتبرون قطاع طريق قال: لأنهم لا يقصدون قطع الطريق بفعلهم فأطلق رحمه الله ولم يفرق بين ما إذا كانت البلدة لهم أو لم تكن لهم. لكن فيما يظهر التفصيل المتقدم فيه قوة. مسألة: هل يجوز لنا أن نخدر اليد عند القطع أم لا؟ الأظهر: أنه يجوز ذلك في حد السرقة لأن المقصود من قطع اليد لا إيلام السارق قال تعالى: ((فاقطعوا أيديهما)) . وكذلك هنا لان المقصود هو القطع. لكن إذا قطع طرف رجل آخر فلا يجوز لنا أن نخدر يده عند القطع وذلك للمثلية لأنه إذا بنج فإنه لا يشعر بالألم كما شعر به المجني عليه، فإذن: في باب القصاص لا يجوز ذلك، وفي باب القطع يجوز ذلك. قال رحمه الله: [ومن تاب منهم قبل أن يقدر عليه سقط عنه ما كان لله من نفي وقطع وصلب وتحتمِ قتلٍ] . ومن تاب منهم يعني قطاع الطريق قبل أن يقدر عليه سقط عنه ما كان لله من نفي وقطع وصلب وتحتم قتل وهذه أحكام قاطع الطريق كما تقدم. وأما إن تاب من بعد القدرة عليه فإن حد الحرابة يقام عليه.

قال: [وأخذ بما للآدميين] . وذلك لأن حقوق الآدميين محفوظة لأن مبناها على المشاحة. قال: [من نفس وطرف ومال إلا أن يعفى له عنها] . فإن قتل أحد منهم نفساً فإنه يقتل إلا أن يفعوا الأولياء أو يقبلوا الدية. وإن أخذوا مالاً ففيه الضمان. وإن قطعوا طرفاً فإن الطرف يقطع إلا أن يعفى له عنها. إذن: من تاب منهم قبل القدرة عليه فإن حق الله يسقط وأما حق الآدميين فمبنية على المشاحة. وهل هذا الحكم خاص في حد الحرابة أم هو عام في سائر الحدود؟ قولان لأهل العلم:- القول الأول: وهو مذهب الجمهور قالوا: هو خاص في حد الحرابة، وهو مذهب المالكية والأحناف وأحد القولين في مذهب الشافعي وهو رواية عن أحمد. فلو أن رجلاً زنا ثم تاب قبل أن يقدر عليه ثم ثبت عليه الحكم فإن الحد يقام عليه. ولو أن رجلاً سرق ثم تاب قبل أن يبلغ ذلك الحاكم، ثم بلغه ذلك بعد توبته فإنه يقام عليه الحد. واستدلوا: بعمومات الأدلة: (الزانية والزاني فاجلدوا كل واحدٍ منهما مائة جلدة) . (السارق والسارقة فاقطعوا أيدهما) قالوا: وهذه العمومات تدل على أن هذا الحد لا يسقط بالتوبة. قالوا: ولأن النبي - صلى الله عليه وسلم - رجم ماعزاً والغامدية، وكانا تائبين. والقول الثاني: وهو مذهب الحنابلة في المشهور عندهم، وهو المعتمد في مذهب الشافعية واختيار شيخ الإسلام وتلميذه ابن القيم أن الحد لا يقام عليه كحد الحرابة. ومما استدلوا به. القياس على حد الحرابة. واستدلوا: بما ثبت في الصحيحين أن رجلاً قال يا رسول الله إني أصبت حداً فأقمه علي فقال: أصليت معنا، قال: نعم، فقال: قد غفر الله لك. ولقوله - صلى الله عليه وسلم - فيما رواه ابن ماجه وهو حديث حسن: (التائب من الذنب كمن لا ذنب له) فدل على أنه مساوٍ لمن لا ذنب له، ويدخل في ذلك عدم إقامة الحد عليه. قالوا: وأما ما استدل به أهل القول الأول: فهي عمومات مخصوصة بالأدلة التي ذكرناها. وأما استدلالهم برجم ماعز والغامدية.

فالجواب عنه: أنهما كانا طالبين لذلك مريدين له، ومن ثم أقامه النبي - صلى الله عليه وسلم - عليهما، فإن الحد مطهر والتوبة مطهرة وهما اختارا الحد، ويدل على هذا أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال في ماعز لما فر: "هلا تركتموه يتوب فيتوب الله عليه" فدل على أنه لا يتعين إقامة الحد، وإنما أقامه النبي - صلى الله عليه وسلم - لاختيارهما ذلك. وعليه فإذا اختار صاحب المعصية إقامة الحد، فإن الحاكم يقيم عليه الحد. والراجح ما ذهب إليه الحنابلة وهو اختيار شيخ الإسلام وتلميذه ابن القيم وأن الحدود عامة تسقط بالتوبة. وأصح القولين وهما أحد الوجهين في مذهب أحمد، أنه لابد أن يظهر منه ما يدل على صدق التوبة من صلاح العمل. ويدل على هذا قوله تعالى: (فمن تاب من بعد ظلمه وأصلح فإن الله يتوب عليه) فقال سبحانه: "وأصلح" فدل على أن التوبة لابد أن يظهر ما يدل عليها فليس مجرد اقلاعه كافياً أو ندمه لأن هذا أي الندم لا يعلم فهو أمر قلبي، بل لابد أن يظهر عليه من صلاح العمل وظهور الاستقامة ما يدل على توبته. قال: [ومن صال على نفسه أو حرمته أو ماله آدمي أو نهبه فله الدفع عن ذلك] . فمن صال على نفسه أو حرمته أي حريمه أو ماله آدمي أو نهبه فله الدفع عن ذلك. ففي الصحيحين أن النبي عليه الصلاة والسلام قال: (من قتل دون ماله فهو شهيد) . وقال: كما في الترمذي وصححه وهو كما قال: (من قتل دون أهله فهو شهيد، ومن قتل دون دينه فهو شهيد، ومن قتل دون دمه فهو شهيد) . وثبت في مسلم أن رجلاً قال لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - أرأيت إن أراد رجل مالي ليأخذه، قال، فلا تعطه، قال: فإن قاتلني، قال قاتله، قال: فإن قتلني قال: فأنت شهيد قال: فإن قتلته قال، فهو في النار) . فهذا يدل على أن القاتل يدفع. وهنا ذكر المؤلف أن له الدفع، وقال بعد ذلك: [ويلزمه الدفع عن نفسه وحرمته دون ماله] .

إذن هنا قوله: "له" ليس المراد منه أنه لا يجب، بل المراد أنه مأذون له في ذلك لكن هل يجب أم لا؟ إن كان القاتل قد صال على نفسه أو على أهله فإنه يجب عليه الدفع في أصح الروايتين عن الإمام أحمد. ويدل على وجود ذلك: وجوب حفظ العرض والنفس وقوله تعالى: ((ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة)) فما دام أنه قادر على الدفاع عن نفسه فيجب عليه ذلك لأنه إن لم يدفع عن نفسه فقد ألقى بنفسه في التهلكة. ويجب أيضاً حفظ العرض. وأما المال: فلا يجب وذلك لأنه يجوز له أن يبذل المال فلم يجب عليه أن يدفع عنه الصائل. ولكن هل يجب عليه حفظ ماله من الضياع والتلف أم لا؟ قولان لأهل العلم:- المشهور في المذهب أنه لا يجب. والقول الثاني في المذهب أنه يجب. والصحيح هو الوجوب وهو اختيار الشيخ عبد الرحمن السعدي، دليل ذلك، أن النبي - صلى الله عليه وسلم -: (نهى عن إضاعة المال) وعليه فلا يجوز له أن يتلف ماله ولا أن يضيعه. لكن إن صال عليه آخر فيجوز له أن يتركه مرجحاً لمصلحة حفظ النفس ولأنه يجوز له أن يبذله، وهنا قد بذله في وجه يجوز وهو حفظ النفس. وهل يجب عليه أن يدفع عن مال أخيه وعن حرمة أخيه وعن نفس أخيه أم لا؟ فلو أن رجلاً أتاه لص أو صائل فهل يجب علي الآخر أن يدفع عنه أم لا؟. قولان: القول الأول: وهو ظاهر كلام الموفق، أنه لا يجب. القول الثاني: وهو ظاهر اختيار شيخ الإسلام أنه يجب وهو الراجح. وذلك لقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: (انصر أخاك ظالماً أو مظلوماً) إلا أنه يشكل على هذا وهو صريح كلام شيخ الإسلام أنه يجب أن يدافع عن مال أخيه مع أنه لا يجب عليه أن يدافع عن مال نفسه. لكن إذا رجحت السلامة فإنه يقوى الوجوب كما هو نص كلام شيخ الإسلام فقد نص على مسألة المال وغيرها أولى ولذا ذكرت أنه ظاهر كلام شيخ الإسلام ابن تيمية. فالصحيح أنه يجب عليه أن يدافع عن مال أخيه إذا ترجحت السلامة وعن نفسه وأهله.

قال: [بأسهل ما يغلب على ظنه دفعه به] . فإذا كان يكفي بالتهديد فإنه يفعل، فإن لم يكف فبالعصا، فإن لم يكف فبالحديد، فإن لم يكف فبما هو أعلى منه إلى أن يصل ذلك إلى القتل. لكن إن كان ينزجر بالتهديد ولكنه اعتدى عليه بالحديد أو قتله فحينئذ قد فعل مالا يحل له وعليه الضمان. إذن يجب التدرج بالأسهل. لكن لو قال: أنا لو هددته وعلم بموضعي خشيت على نفسي وأنا أعلم أنه لا يمكنني أن أنفك منه إلا بضربه فحينئذ يجوز له ذلك. قال: [فإن لم يندفع إلا بالقتل فله ذلك ولا ضمان عليه] . لأنه فعل مأذون شرعاً. لما ثبت في البخاري: أن رجلاً عض يد رجل، فنزع يده فخرجت ثناياه فاختصموا إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: (يعض أحدكم أخاه كما يعض الفحل فلا دية) . فهنا لم يوجب له دية ثناياه، وهذا يدل كما قال ابن القيم أن من تخلص من يد ظالم، فأتلف نفس الظالم أو شيئاً من أطرافه أو ماله فذلك هدر. لكن لو قتله ويمكن أن يندفع بدون ذلك فإن عليه الضمان. وكذلك: لو أصاب يديه، وحينئذ لا يستطيع أن يدافع عن نفسه فأتى إلي رجليه، فإن عليه دية الأرجل، لأن هذا الفعل ليس بمأذون فيه. فإذا اعتدى رجل عليه أو على أهله فقتله فهذا حلال حتماً بينه وبين الله، لكن الذي يحكم به القاضي هو الظاهر فيقتل القاتل إلا أن تقر بذلك أولياء المقتول فإنه لا يقتل وهذا هو كلام الحنابلة. لكن شيخ الإسلام استثنى ما إذا كانت القرينة الظاهرة تدل على صدقه، كأن يكون رجل معروف بالبر، ودخل في بيته رجل معروف بالفجور فقال شيخ الإسلام تقبل يمين القاتل فيحلف أنه دخل بيته وأراد الاعتداء على عرضه فقتله ولم يتمكن من دفعه إلا بالقتل فحينئذ يقبل قال: لا سيما إذا كان معروفاً بالتعرض له قبل ذلك. وما اختاره شيخ الإسلام هو الظاهر، ولا يمكن قيام مصالح الناس إلا بهذا.

ولأنه في الغالب في مثل هذه المسائل لا توجد البينة أي الشهود ومعلوم أن البينة ما أبان الحق، فإذا كان هذا الرجل معروفاً بالصلاح والآخر معروف بالاعتداء والفجور فوجدناه في بيته قتيلاً وادعى أولياء المقتول أنه قتله فاعترف بذلك وأخبر بما تقدم ذكره وحلف على ذلك فإن الحق ظاهر معه. إذن: الأصل أنه لابد من بينة أو أن يقر أولياء المقتول لكن إن كانت القرينة ظاهرة في صدق القاتل فإنا نكتفي بيمينه. قال: [فإن قتل فهو شهيد] . كما تقدم قال: [ويلزمه الدفع عن نفسه وحرمته دون ماله] . تقدم أيضاً. قال: [ومن دخل منزل رجل متلصصًا فحكمه كذلك] . فمن دخل منزل رجل متلصصاً أي ليسرق ونحو ذلك فحكمه كذلك وقد يكون البيت ليس فيه شيء فلا يكون سارقاً ولا يريد القتل ولا يريد العرض فحينئذ حكمه كذلك والعلة أنه معتد في دخوله البيت. فإن نظر من نافذة أو من شق في الباب فحذفه بعصا، ففقع عينه، فلا ضمان. لقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: (لو أن إمرءاً اطلع عليك بغير إذن ففقأت عينه فلا جناح عليك) متفق عليه وظاهره ولو لم يكن في البيت نساء لكن لو كان متساهلاً قد فتح بابه فنظر إليه رجل من الباب فلا يكون الحكم كذلك فلي له أن يفقأ عينيه لأنه مفرط. مسألة: لو تصنت وتسمع من شق ونحوه بغير إذن فهل يشق أذنه أم لا؟ قولان:- المشهور في المذهب: أنه ينذره قبل ذلك. وقال بعض الحنابلة: بل يشق أذنه وهذا أظهر للحديث المتقدم في فقيء العين. المسألة الأولى: تقدم في الدرس السابق أن من نظر في شق ففقئت عينه أنه لا ضمان ولادية. وهل هذا من باب عقوبة المعتدي أو من باب دفع الصائل؟ هو من باب عقوبة المعتدي كما قرره شيخ الإسلام وليس من دقع الصائل. ولذا لا يجب تحذيره وهو ظاهر حديث النبي - صلى الله عليه وسلم -.

ومن ذلك: ما اختاره شيخ الإسلام أن من وجد مع امرأته رجلاً فقتله فيما بينه وبين الله، فلا شيء عليه لا فرق بين أن يكون المقتول الزاني محصناً أو غير محصن معروفاً بالفجور أم ليس معروفاً به. قال: أي شيخ الإسلام: " وعليه يدل كلام الأصحاب وفتاوى الصحابة رضي الله عنهم". ومن ذلك أثران: الأول: ما رواه سعيد بن منصور: بينما عمر يتغذى إذ أقبل رجل معه سيف ملطخ بالدم وخلفه قوم يجرون فجلس عند عمر، فأتى أولئك فقالوا: يا أمير لمؤمنين إن هذا قد قتل صاحبنا، فقال: ما تقول فقال: ضربت بين فخذي امرأتي فإن كان بين ذلك أحد فقد قتلته فقال: مما تقولون؟ قالوا: لقد ضرب بالسيف وسط الرجل وفخذي المرأة- "وهذا اقرار منهم بما فعل - فأخذ عمر السيف فهزه ودفعه له وقال: إن عادوا فعُد" وهو أثر صحيح مشهور وليس فيه تفريق بين المحصن وغيره. الثاني: ما ثبت عن علي كما في مصنف عبد الرزاق، لما سئل عن رجل قتل رجلاً وجده مع امرأته فقال: إن لم يأت بأربعة شهداء فإنه يؤخذ برمته". وظاهره أنه إذا أتى بأربعة شهداء فإنه لا يؤخذ برمته وليس فيه تفريق بين المحصن وغيره. وهذا فيما بينه وبين الله، وأما في حكم القاضي فإنه يحكم بالظاهر. ولذا أقر النبي - صلى الله عليه وسلم - الرجل على قوله: يا رسول الله إذا وجد الرجل مع امرأته رجلاً فقتله قتلتموه، فأقره النبي - صلى الله عليه وسلم - على قوله، كما في الصحيحين.

ومما يدل على جواز ذلك فيما بينه وبين ربه أن سعد بن معاذ سأل النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: يا رسول الله إن وجدت مع امرأتي رجلاً أمهله حتى أتي بأربعة شهداء؟ فقال: نعم، وهذا جواب في الحكم بالظاهر، فقال سعد والذي بعثك بالحق لأعاجله بالسيف، فقال - صلى الله عليه وسلم -: (اسمعوا إلى ما يقول سيدكم إنه لغيور وإني لغيور والله أغير منا) فهنا النبي - صلى الله عليه وسلم - لم ينهه ولم يأذن له، لأنه لو أذن له بذلك في سؤاله الأول لكان هو حكم الشرع ظاهراً وباطناً لكنه أقره ولم ينهه. المسألة الثانية: إذا اجتمعت حدود فلا يخلو هذا من ثلاثة أحوال:- الحال الأولى: أن تكون كلها حدود لحق آدمي، ويدخل في هذه المسائل ما لو لم تكن حدوداً كالقتل وقطع الطرفين ونحو ذلك. فإذا كانت حقوقاً للآدميين فيجب استيفاؤها كلها فلو أن رجلاً قتل شخصاً وقطع طرف آخر، فيجب قطع طرفه ثم يقتل. وإذا قلنا إن حق القذف حق للآدمي كما هو المذهب فإذا قذف فإنه أيضاً يجلد. وهذا باتفاق العلماء لأن حقوق الآدميين مبناها على المشاحة. الحالة الثانية: أن تكون الحدود كلها لله تعالى، كأن يجتمع عليه حد حرابة وحد سرقة ونحو ذلك، فلا تخلو هذه الحال من حالتين:- 1) ألا يكون فيها قتل فحينئذ يجب استيفاؤها كلها اتفاقاً. كأن يكون قد سرق وعليه حد حرابة لكنها لا تصل إلى القتل وإنما النفي مثلاً فإنه يستوفي هذا وهذا باتفاق العلماء. 2) أن يكون فيها قتل، فقولان:- القول الأول: وهو مذهب الجمهور: إن القتل يحيط بكل شيء وفيه أثر عن ابن مسعود عند ابن أبي شيبه لكن إسناده ضعيف. وقالوا: لأن المقصود هو الإنزجار. والقول الثاني في المسألة: وهو مذهب الشافعي يجب استيفاؤها كلها وذلك لأنها عقوبات فقطع يده لسرقته وقتله في الحرابة لحرابته فيجب أن نستوفي هذا وأن نستوفي هذا. وهذا أظهر والله أعلم. الحالة الثالثة: أن تكون الحدود بعضها لله تعالى وبعضها للآدميين.

فحدود الآدميين يجب استيفاؤها، وكما تقدم لفظة حدودهنا فيها تجوز فيدخل فيها القصاص وهو ليس من الحدود. وأما حدود الله تعالى فيرجع إلى الخلاف المتقدم فالشافعي يقول، يجب استيفاؤها كلها. والجمهور يقولون: إن كان فيها قتل فإنا نكتفي به والراجح ما تقدم. " باب قتال أهل البغي" البغي: من بغا يبغي إذا اعتدى والأصل في هذا الباب قوله تعالى: ((وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما فإن بغت إحداهما على الأخرى فقاتلوا التي تبغي حتى تفيء إلى أمر الله فإن فاءت فأصلحوا بينهما بالعدل وأقسطوا إن الله يحب المقسطين)) . وما يتفرع في هذا الباب من مسائل، فأصله قتال علي رضي الله عنه لمن خالفه من الصحابة وغيرهم في صفين والجمل، وقد قال - صلى الله عليه وسلم - كما في صحيح مسلم وغيره: "يقتل عمراً الفئة الباغية". وفي مستدرك الحاكم بإسناد صحيح عن أبي أمامه قال: " شهدت صفين فكانوا لا يجيزون جريحاً أي لا يجهزون عليه، ولا يطلبون دماً أي إذا فر من القتال فإن دمه لا يطلب ولا يسلبون قتيلاً) . وليس هذا أي قتال أهل البغي - ليس من جنس قتال الخوارج، فإن قتال الخوارج ولا شك، أوجب وقد أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - بقتالهم في قوله: (فاقتلوهم أينما وجدتموهم فإن في قتلهم أجراً عند الله عز وجل) . وهؤلاء أي البغاة مأولون تأويلاً سائغاً وإن كان منهم من يكون غاصباً. وأما الخوارج فليس لهم تأويل سائغ. ولذا اختلف أهل العلم، هل قتال الخوارج كقتال البغاة أم لا؟ قولان لأهل العلم:- المشهور في مذهب أحمد، أن قتال الخوارج كقتال البغاة فلا يجاز جريحهم ولا يطلب دم فارهم ولا يسلب قثيلهم. والقول الثاني في المذهب وصححه الموفق والشارح وصوبه صاحب الإنصاف: أنه ليس لهم هذا الحكم، بل يجهر على جريحهم ويسلب قتيلهم ويتبع فارهم ويطلب دمة.

والمسألة مسألة توقف وإن كان القول الثاني فيما يظهر أقرب لقول النبي - صلى الله عليه وسلم - في الحديث المتقدم: (فاقتلوهم أينما وجدتموهم فإن في قتلهم أجراً عند الله عز وجل) . والله أعلم. إذن في الخوارج خلاف في مذهب أحمد وغيره، وبعض أهل العلم يرجع هذه المسألة إلى الحكم بتكفيرهم هل يكفرون أم لا لكن الذي عليه نصوص أحمد وهو المشهور عنه أنهم لا يكفرون وهو قول علي وهو أعظم من قاتل الخوارج فإنه لما سئل كما نقل هذا شيخ الإسلام وغيره لما سئل أكفارهم فقال: " من الكفر فمروا" وهناك رواية عن الإمام أحمد في التكفير. لكن الذي يظهر أن هذه المسألة لا تنبني على مسألة تكفيرهم وإنما ينبني على أن الخوارج يستبيحون دماء المسلمين وأموالهم وتكفيرهم بالمعاصي، وأما البغاة فليسوا كذلك، ولذا فقد فرف بينهم بعض أهل العلم كما تقدم. قال رحمه الله: [إذا خرج قوم لهم شوكة ومنعة] . شوكة: من قوة وسلاح. ومنعة: أي بعضهم يمنع بعضاً، فهم جماعة كثيرة يمنع بعضها بعضاً ولهم سلاح يقاتلون به. قال: [على الإمام] . أي الأعظم. قال: [بتأويل سائغ] . قال شيخ الإسلام: التأويل السائغ هو التأويل الجائز من جنس تأويل الفقهاء في موارد الاجتهاد، وليس من جنس تأويل الخوارج. [فهم بغاة] . فهؤلاء هم البغاة. فإن اختل شرط من هذه الشروط فهم قطاع طريق، فإن كان ليس لهم شوكة ومنعة أو لم يخرجوا على الإمام وإنما خرجوا على أمير بلد وهم يقولون نرى السمع والطاعة للإمام، أو خرجوا على الشرط ونحو ذلك فهم قطاع طريق وليسوا ببغاة. قال: [وعليه أن يراسلهم فيسألهم ما ينقمون منه] . فيسألهم ما الذي ينقمون عليه، وما الذي أجاز لهم الخروج عليه بالسيف. قال: [فإن ذكروا مظلمة أزالها] . فإذا ذكروا ظلماً حصل لبعض الناس، أو ظلماً عاماً فإنه يجب عليه أن يزيله. وإزالة الظلم واجبة في الأصل، لكن هنا يتأكد وجوبها لدرء المفسدة وحقن دماء المسلمين. قال: [وإن ادعوا شبهة كشفها] .

إذا قالوا: خرجنا لأنك قد أوجبت علينا ما ليس بواجب أو حرمت علينا ما ليس بحرام فما هو دليلك على ذلك وما هي حجتك فحينئذ يبين لهم بالحجة والبرهان ما يزيل لهم شبهتهم ويكشفها أي بما يرسل لهم من أهل العلم لقوله تعالى: ((وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما)) وهذا من الإصلاح. قال: [فإن فاءوا وإلا قاتلهم] . لقوله تعالى: ((وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما فإن بغت إحداهما على الأخرى فقاتلوا التي تبغي)) . وقوله (فقاتلوا) يدل على أنه يجب على الرعية أن يقاتلوا لقوله تعالى: ((فقاتلوا التي تبغي)) لكن هذا ليس على إطلاقه كما تدل عليه النصوص وآثار الصحابة رضوان الله عليهم في قتال صفين والجمل. فإن أكثر الأكابر من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يشتركوا في القتال مع أن علياً هو أمير المؤمنين بالبيعة، وشارك بعض أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - كعمار بن يسار وغيره. وإنما لم يشارك منهم من لم يشارك لأنه رأى أن في القتال مفسدة راجحة فحينئذ يكون قتال فتنة وقد قال - صلى الله عليه وسلم -: (تكون فتن، فكن عبد الله المقتول ولا تكن القاتل) رواه أحمد وغيره. وقال - صلى الله عليه وسلم - كما في سنن أبي داود: (فكن كخير ابني آدم) وهم أي الذين لم يشاركوا مع علي، قد تعارض لديهم وجوب طاعة الإمام، ونص النبي - صلى الله عليه وسلم - في النهي عن قتال الفتنة. ووجوب طاعة الإمام نص عام، وهذا نص خاص فترجح النص الخاص وهو النهي عن القتال في الفتنة. ولذا كما ذكر شيخ الإسلام، لم يكن علي يستدل بنص في قتاله لمعاوية رضي الله عنهم ومن معهم، وإنما ذكر أنه رأي قد رآه، وكان أحياناً يثني على من لم يشارك. وقتال البغاة كما تقدم لا يجهز فيه على جريحهم، ولا يطلب فارهم، ولا يسلب قتيلهم.

فدماؤهم معصومة وأموالهم معصومة وإنما هو من جنس دفع الصائل فالجريح قد إندفعت صولته، والفار قد أندفعت صولته، والأثر المتقدم أي أثر أبي أمامة يدل على ذلك. أيضاً لا يجوز أن يقاتلهم بما فيه إهلاك عام كالإحراق وكالمنجنيق أو نحو ذلك وذلك لأن قتالهم من باب دفع الصائل فيدفع بالأسهل. لكن لو كان مضطراً محتاجاً إلى الدفع بالأصعب بأن كان لا يمكنه دفع صولتهم إلا بالأهلاك العام فإن ذلك يجوز. فإذا وضعت الحرب أوزارها فلا ضمان من الطرفين أي لا هؤلاء يضمنون الدماء التي سفكوها، والأموال التي أتلفوها ولا الآخرون كذلك. أما أهل العدل، الذين هم الإمام ومن معه، فإن هذا ظاهر لأنه قتال مأذون لهم فيه، فليس عليهم ضمان. وأما الطائفة الأخرى وهي طائفة البغي، فلا يضمنون لأنهم متأولون. ولذا فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - كما في الصحيحين لم يضمن أسامة دم الرجل الذي قتله بعد أن قال لا إله إلا الله لأنه قتله متأولاً. فلو أن أحدهم فر فتبعه بعض أهل العدل فقتله فإنه يضمن وذلك لأنه بغير حق، وهو فعل ليس بمأذون فيه لكن هل يثبت القصاص أم لا؟ وجهان في مذهب أحمد وغيره، أصحهما أن القصاص لا يثبت للشبهة. فإن فر إلى فئة أخرى ليتقوى فهل يجوز قتله أم لا؟ قولان لأهل العلم:- فالمشهور في المذهب: أنه لا يقتل أيضاً أي لا يتبع فيقتل. والقول الثاني في المسألة: وهو مذهب أبي حنيفة، ومذهب كثير من الشافعية أنه يقتل، وهذا أظهر لأنه فر للقتال والحرب فهو ليس فاراً من القتال بل فارُ له. قال: [وإن اقتتلت طائفتان لعصبية أو رياسة فهما ظالمتان] . عصبية ما تقع بين القبائل فتتعصب هذه ويتعصب تلك من غير أن تكون إحداهما تطلب الرياسة من الأخرى. "أو رياسة"وكل واحدة منهما تريد الرياسة على الأخرى فالطائفتان جميعاً ظالمتان، فكل واحدة من الطائفتين ليست بطائفة عدلٍ وليس من البغاة المتأولين. قال: [وتضمن كل واحدة، ما أتلفت على الأخرى] .

من الأموال والأنفس. فإذا انتهت الحرب ننظر ما أتلفت هذه على الأخرى من الأموال والأنفس، ولنفرض أنهم قدروها بمائة ألف وينظر ما أتلفت هي على الأخرى من الأموال، والأنفس فقدرناها بخمسين ألف، فالفارق بينهما وهو خمسين ألف يدفع إلى الطائفة التي الإتلاف منها أكثر في الأموال والأنفس. "باب حكم المرتد" المرتد لغة: هو الراجع. أما في الاصطلاح: فعرفه المؤلف بقوله: [وهو الذي يكفر بعد إسلامه] . فالمرتد هو الذي يكفر بعد اسلامه. الردة تكون طوعاً لا كرهاً كما قال تعالى: ((إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان)) . والإكراه يختلف باختلاف المكره عليه، كما قرر هذا شيخ الإسلام فليس الإكراه المعتبر على كلمة الكفر كالإكراه المعتبر على الهبة. فالمرأة قد تخاف أن يطلقها زوجها فتهبه مالها فهذا إكراه معتبر في الهبة، وليس هذا معتبراً في الكفر فلو كفرت خوفاً من طلاق زوجها فإنها تكفر وليست بمكرهة حينئذ أي لا يقبل منها هذا الإكراه. قال الإمام أحمد: " الإكراه أي هنا بالتعذيب والضرب" فإذا أكره منطق بكلمة الكفر فكفر بعد إسلامه بهذا لا يكون كافراً بذلك بل هو معذور عند الله عز وجل". وليس من العذر الخوف ولا الرجاء فإن الله لم يستثن إلا الإكراه، وكما ذكر الله عز وجل في موالاة الكفار وكفر بها ثم قال: (فترى الذي في قلوبهم مرض يسارعون فيهم يقولون: نخشى أن تصيبنا دائرة) . فهم كانوا خائفين أن تكون الدائرة للكفار عليهم، فلم يعذرهم الله عز وجل بذلك. والردة قد تكون بالاعتقاد، وقد يكون بالنطق، وقد يكون بالفعل وقد يكون بالشك. فمثاله في الاعتقاد اعتقاد قدم العالم فمن اعتقد أن العالم قديم فهو كافر.

أو جحد ربوبية الله واعتقد ألا رب فهذا كفر بالاعتقاد ومثاله في النطق كمن استهزأ بدين الله عز وجل ولو كان هازلاً أو سب الله أو سب رسوله أو سب الإسلام ولو كان هازلاً فإنه يكفر بالإجماع وإن لم يعتقد ذلك في قلبه، أي ولو أدعى أنه لم يعتقد ذلك في قلبه. ودليل هذا أن الله عز وجل قال في كتابه الكريم عن الذين أكفرهم الله بالاستهزاء: ((ولئن سألتهم ليقولن إنما كنا نخوض ونلعب)) أي لم نكن معتقدين هذا في قلوبنا وإنما كان هذا بمجرد اللسان من باب الخوض واللعب فقال الله عز وجل: ((لا تعتذروا قد كفرتم بعد إيمانكم)) . ومن أمثلة النطق أن يتلفظ بما فيه تنقص لله عز وجل كقول اليهود: " يد الله مغلولة". ومثال الكفر بالفعل، عبادة غير الله عز وجل، من أتخذه وسائط يعبدهم من دون الله عز وجل ويتوكل عليهم، فهو كافر بالإجماع، وكذلك أن يطأ المصحف. ومثال الكفر بالشك، أن يشك في كفر اليهود والنصارى، فمن شك في كفر اليهود والنصارى فهو كافر، أو شك في البعث، أو غير ذلك من الشك فيما يجب الجزم به فإن ذلك من الكفر بالله عز وجل. قال: [فمن أشرك بالله أو جحد ربوبيته] . أي قال: الله ليس برب أو ليس لهذا الكون خالق. قال: [أو وحدانيته] . أي أنكر أن يكون الله عز وجل، متفرداً بالعبادة، بل يجوز أن يعبد معه غيره. قال: [أو صفة من صفاته، أو اتخذ لله صاحبة أو ولداً أو جحد بعض كتبه أو رسله أو سب الله أو رسوله فقد كفر] . وهنا المؤلف لم يستثن الجاهل بخلاف المسائل الأخرى بعد ذلك، فإنه قال: (ومن جحد تحريم الزنا إلى أن قال: بجهل عرف ذلك) . فالمسائل الظاهرة المعلومة من الدين، هذه يكفر قائلها أو فاعلها، يكفر بالله عز وجل إن أقيمت عليه حجة الله على العباد. والمراد بالكفر هنا أحكام الكفر وهي ما يترتب على الكفر من الوعيد، وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: (وأن حكم الوعيد على الكفر لا يترتب على الشخص المعين حتى تقوم عليه حجة الله التي بعث بها رسله) .

فأحكام الوعيد من القتل في الدنيا، واستباحة المال والسبي، ومن أحكام الآخرة وهي التخليد في نار جهنم هذه أحكام الوعيد المترتبة على الكفر فهذه لا تترتب على العبد حتى تقوم عليه حجة الله عز وجل على عباده التي بعث بها رسوله - صلى الله عليه وسلم - قال تعالى: ((وما كنا معذبين حتى نبعث رسولاً)) . فالله لا يعذب في الآخرة ولا يأذن بالعذاب في الدنيا بالقتل والسبي واستباحة المال، حتى تقوم حجة الله تعالى على العباد. وهذه اللفظة المتقدمة من كلام شيخ الإسلام تدل على أن عامة كلامه في هذا الباب يريد به أحكام الوعيد وأن أحكام الوعيد على الكفر لا تترتب على الشخص المعين حتى تقوم عليه حجة الله على العباد. وهنا مسألتان: المسألة الأولى: أن حجة الله على العباد، كما قال شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب رحمه الله قائمة بالقرآن فمن بلغه فقد بلغته حجة الله عز وجل قال تعالى: ((لينذركم به ومن بلغ)) وقال: ((لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل)) . المسألة الثانية: أنه لا يشترط في إقامة الحجة هنا فهمها، ففهم الحجة نوع وشيء، وإقامتها نوع وشيء آخر كما بين هذا الإمام محمد وغيره يتبين هذا، أن الله سبحانه وتعالى قد كفر من دعاهم النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى الإسلام، مع أنه أخبر أنه قد جعل على قلوبهم أكنة أن يفقهوه، فقال تعالى: ((أم تحسب أن أكثرهم يسمعون أو يعقلون إن هم إلا كالأنعام بل هم أضل سبيلاً)) . فكونهم لا يفهمون حجة الله عز وجل هذا لا يعذرهم عند الله عز وجل بل متى ما قامت عليهم الحجة بحيث يفقهونها ويفهمونها لكنهم لم يفهموها ولم يفقهوها فإن الحجة قائمة عليهم بذلك. نعم لو أبلغ أعجمي القرآن لم تقم عليه بذلك حجة الله عز وجل أما من كان يعرف لغة العرب ويفهم القرآن لكنه لم يفهم حجة الله عز وجل بسبب ما ران على قلبه ذلك ليس بعذر عند الله عز وجل.

ويدل عليه كلام أهل العلم عامة فإنهم إنما يذكرون التعريف ويذكرون بيان الحجة، ولا يذكرون فهمها بل بمجرد ما تبين له الحجة ويعرف فإنه يقتل كما قرر أهل العلم في مسائل كثيرة من هذا الباب وأنهم يعرفون بالحق فإن رجعوا وإلا اقتلوا ولا يشترطون أن يعرف الحق ثم يعاند. كما وقع لقدامة بن مظعون رضي الله عنه، ومن معه ممن أباح الخمر واستدل بقوله تعالى: ((ليس على الذين آمنوا وعملوا الصالحات جناح فيما طعموا إذا ما اتقوا وآمنوا وعملوا الصالحات)) ، فكانت هذه الآية شبهة لهم فاتفق الصحابة كعمر وعلي بن أبي طالب أنهم يعرفون بالحق فإن تابوا وإلا قتلوا، فلم يكفروهم ابتداءً لأجل هذه الشبهة. وأما الحكم على الشخص بالكفر الذي لا تترتب عليه أحكام الوعيد، فهذا شيء آخر. بمعنى: كون الرجل يحكم عليه بالكفر الذي لا يترتب عليه أحكام الوعيد في الدنيا والآخرة من قتل وسبي واستباحة مال وتخليد في نار جهنم فهذا شيء آخر وفي بعض أجوبة أئمة الدعوة النجدية كإجابة الشيخ عبد الله وحسين ابني الشيخ محمد بن عبد الوهاب فيمن عرف بفعل الشرك ومات على ذلك. فقال: إنه إذا كان الأمر كذلك أي عرف بفعل الشرك بالله تعالى: فإن الظاهر منه أنه قد مات على الكفر، وعليه فلا يستغفر له ولا يضحى عنه. أما في حقيقة الأمر فإن كانت قد قامت عليه حجة الله على عباده فهو كافر في الظاهر والباطن. وأما إن لم تقم عليه حجة الله على عباده فأمره إلى الله تعالى، فهنا في هذه الفتوى بينوا أن هناك كفراً في الظاهر وأن هناك كفراً في الظاهر والباطن. أما الكفر الذي يكون كفراً في الظاهر والباطن فهو الذي تترتب عليه أحكام الوعيد في الدنيا والآخرة فهو من قامت عليه حجة الله على عباده فهذا يستباح ماله ودمه ويخلد في نار جهنم.

وأما من لم تقم عليه حجة الله على عباده فهو في الظاهر، أي في أحكام الدنيا يسمى كافراً ومشركاً فلا تحل ذبيحته ولا يحل نكاح نسائه ولا يستغفر له ولا يضحى عنه ولا غير ذلك مما يترتب على المسلمين فليس بمسلم. قال ابن القيم: والإسلام هو توحيد الله تعالى وحده لا شريك له، والإيمان بالله وبالرسول واتباعه فيما جاء به، فمن كان على ذلك فهو المسلم، ومن لم يكن على ذلك فليس بسلم إما أن يكون كافراً معانداً وإما أن يكون كافراً جاهلاً) أ. هـ. فمن ناقض التوحيد وناقض أصل الرسالة فليس بمسلم إما أن يكون كافراً جاهلاً ومن هنا فإن الإسلام ألحق غير المكلفين بآبائهم فإن الأطفال في الدنيا وهكذا المجانين لهم أحكام آبائهم كما صح هذا في البخاري وغيره وقد تقدم فالمقصود من هذا أن هؤلاء الذين لم تقم عليهم حجة الله على عباده وليسوا على دين الإسلام وإن أدعوا أنهم عليه فهم كفار في الظاهر، لا تحل ذبائحهم ولا تحل نساؤهم ولا يستغفر لهم ونحو ذلك من الأحكام في الدنيا. لكن لا يعذبون لا في الدنيا بالقتل والسبي واستباحة المال، ولا في الآخر في نار جهنم حتى تقام عليهم حجة الله على عباده.

وأما المسائل الخفية، وهي التي قد يخفى دليلها على بعض الناس، التي ليس فيها مناقضة للتوحيد ولا مناقضة للإيمان بالرسول - صلى الله عليه وسلم - كما قال الشيخ عبد الله أبا بطين في تفسير كلام شيخ الإسلام فهذه المسائل الخفية كإنكار بعض الصفات: الذي يميل إليه شيخ الإسلام وتلميذه ابن القيم وهو ظاهر اختيار شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب، أن هذه المسائل لا يكفر المخالف فيها، حتى يفهم حجة الله عز وجل فلا يكفي أن تقام عليه الحجة، بل لابد وأن يفهم حجة الله عز وجل على عباده ويعلم أنه ليس بمعاند هذا هو ظاهر كلام شيخ الإسلام كما فسره الشيخ عبد الله أبا بطين، ويدل عليه شيخ الإسلام كان يقول للجهمية: " أنا لو وافقتكم لكنت كافراً، لأني أعلم أن قولكم كفر، وأنتم عندي لستم بكفار لأنكم جهال" أ. هـ. مع أنه رحمه الله قد أقام عليهم حجة الله عز وجل وجادلهم وناظرهم في شرع الله ودينه، وقع ذلك لم يكفرهم. فهؤلاء ليسوا بكفار حتى يفهموا حجة الله عز وجل، فإذا علم أن لهم شبهة أو أن الحق لم يثبت عندهم، فإنهم لا يكفرون بذلك. قال الشيخ عبد الله أبا بطين: والمشهور في المذهب خلاف هذا والمسألة فيها روايتان عن الإمام أحمد. فهذه المسألة من المسائل التي فيها خلاف. ولذا فإن عبارة شيخ الإسلام هي: " ولو كانت من المسائل الخفية فقد يقال إنهم لا يكفرون حتى تقام عليه حجة الله التي يكفر من خالفها، ولكنهم يصدر منهم ذلك في مسائل ظاهرة يعلم العامة والخاصة من المسلمين، واليهود والنصارى والمشركون أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قد أتى بها وكفرّ من خالفها" أ. هـ. أي هؤلاء الذين قد صدرت منهم هذه الأخطاء لم تكن في مسائل خفية وإنما كانت في مسائل ظاهرة يعلم العامة والخاصة من المسلمين، بل يعلم اليهود والنصارى والمشركون أن النبي - صلى الله عليه وسلم - بعث بها وكفّر من خالفها. وضرب أي شيخ الإسلام لذلك أمثلة.

منها الشرك بالله عز وجل وعدم إيجاب الصلوات الخمس وعدم تحريم الفواحش من الزنا ونحوه، فهذه من المسائل الظاهرة التي يُعلم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - بُعث بها. قال: [ومن جحد تحريم الزنا أو شيئاً من المحرمات الظاهرة المجمع عليها بجهل عُرف ذلك] . فمن جحد تحريم الزنا أو شيئاً من المحرمات الظاهرة المجمع عليها أو شيئاً من الفرائض الظاهرة المجمع عليها كالصلاة بجهل لكن لا يقبل عند أهل العلم مجرد ادعاء الجهل، بل لابد أن يكون مثله يجهل ذلك، ولذا قال بعد ذلك: [وإن كان مثله لا يجهله كفر] . فإذا كان أحد في البلاد الإسلامية التي يظهر فيها العلم وأدعى أنه لا يعلم أن الزنا حرام أو أن الصلاة فرض فإن ذلك لا يقبل منه. وأما إن كان مثله يجهل ذلك كمن نشأ في بادية بعيدة أو كان حديث عهدٍ بالإسلام، فإن ذلك يقبل منه بمعنى، إن كانت حاله تصدق ذلك. وعليه فالجهل عذره في ثلاث مسائل:- المسألة الأولى: أن يكون مدعي الجهل ناشئاً في بادية. المسألة الثانية: أن يكون حديث عهد بإسلام. المسألة الثالثة: أن تكون من المسائل الخفية. على أن المسألتين الأوليين ليست هي في كل المسائل. مسألة: لا يكفر من حكى كفراً سمعه وهو لا يعتقده، قال صاحب الفروع ولعلة إجماع أي حيث لم يعتقد ذلك. ويدل على ذلك ما ثبت في الصحيحين وهو حديث مشهور في الرجل الذي قال: لما وجد راحلته، " اللهم أنت عبدي وأنا ربك" أخطأ من شدة الفرح، فقد قال الكفر وهو لا يريده ولا يعتقده فكذلك من يحكي الكفر وهو لا يعتقده. كذلك إذا كان سبق لسان أو غير ذلك فإنه لا يكفر بذلك كشدة فرح أو غير ذلك.

وهل يكون من ذلك ما ورد في الحديث، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (قال رجل لم يعمل حسنة قط لأهله إذا هو مات فحرقوه ثم اذروا نصفه في البر ونصفه في البحر فو الله لئن قدر الله عليه ليعذبنه عذاباً لا يعذبه أحداً من العالمين، فلما مات فعلوا ما أمرهم به، فأمر الله عز وجل البحر فجمع ما فيه وأمر البر فجمع ما فيه ثم قال له: لم قلت ما قلت؟ فقال: من خشيتك وأنت أعلم فغفر له) والكفر الذي وقع فيه الشك في عموم قدرة الله عز وجل وظاهر الحديث أن الذي حمله على ذلك شدة الخوف. لكن شيخ الإسلام وكثيراً من أهل العلم يحملون هذا على أنه لم تبلغه الدعوة، فأنكر صفة من الصفات ولم تبلغه الدعوة. ويكون هذا دليلاً على المسألة المتقدمة. ومن ذلك ما ثبت في الصحيحين أن عائشة قالت للنبي - صلى الله عليه وسلم -: " مهما يكتم الناس يعلمه الله؟ فقال: نعم) فهذا شك في عموم علمه سبحانه ولم تكفر بذلك لأن هذه من المسائل التي قد تخفى فلا يكفر إلا من قامت عليه حجة الله عز وجل وفهمها. ولذا فإن شيخ الإسلام يقول وغيره من أهل العلم: " من أخطأ في مسألة سواء كانت في المسائل النظرية أو المسائل العملية، (لا نفرق بين الأصول والفروع فالتفريق بينهما قول محدث يقوله المعتزلة) فإنه يعذر بالجهل، لأنه قد لا يبلغه الحق الذي يحبى القول به، أو يبلغه لكنه لا يثبت عنده أو تقوم عنده بعض الشبهات، وهذا فيمن آمن بالله ورسوله، فمن آمن بالله ورسوله ثم أخطأ في مسألة من المسائل ولو كانت في باب الصفات أو غير ذلك فهذا هو حكمه. ويدل عليه أن الله عز وجل قد رحم هذه الأمة بالعذر بالجهل فقال سبحانه: ((ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا)) والخطأ هو الجهل، وفي مسلم قال الله تعالى: ((قد فعلتُ)) وكما تقدم من الأدلة السابقة. قال أي شيخ الإسلام وعليه صحابة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وجماهير علماء الأمة.

وذكر رحمه الله أن الناس قد اضطربوا في مسألة تكفير أهل الأهواء فعن الإمام أحمد روايتان، وكذلك عن الإمام مالك، وعن الإمام الشافعي قولان، ثم ذكر ما تقدم تقريره في أهل الأهواء كمن يقع له بعض الغلط في باب القدر وفي باب الإرجاء وفي إنكار بعض الصفات ونحو ذلك وهو من المؤمنين بالله ورسوله لكن وقع له بعض الخطأ، إما أن الحق لم يبلغه، أو بلغه لكنه لم يثبت عنده أو قامت عنده بعض الشبهات. مسألة:- من نطق بكلمة الكفر ولم يعلم معناها فإنه لا يكفر بذلك. مسألة: لو قال: هو يهودي أو نصراني، فإنه يكفر بذلك. أما إذا قال: " هو يهودي إن لم يفعل كذا" فسيأتي في باب الأيمان إن شاء الله. مسألة: من قذف النبي - صلى الله عليه وسلم - أو قذف أمه أي أم النبي - صلى الله عليه وسلم - فهو كافر. مسألة: قال شيخ الإسلام: " من اعتقد أن الكنائس بيوت الله وأن الله يُعبد فيها وأن ما يفعل اليهود والنصارى عبادة لله وطاعةً له ولرسوله، أو أنه يحب ذلك أو يرضاه فهو كافر، أو إيمانهم على فتح الكنائس وإقامة دينهم واعتقد أن ذلك قربة أو طاعة فهو كافر لتضمنه اعتقاد صحة دينهم. لكن لو فتح لهم الباب فقط، فقد لا يكفر لأنه لا يتضمن اعتقاد صحة دينهم. قال شيخ الإسلام: ومن اعتقد أن زيارة أهل الذمة في كنائسهم قربة إلى الله فهو مرتد، وإن جهل أن ذلك محرم عٌرف ذلك فإن أصر صار مرتداً لتضمنه تكذيب قول الله تعالى: ((إن الدين عند الله الإسلام)) . مسألة: من قذف عائشة فقد كفر لأنه مكذب للقرآن، أما غيره من أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - فمن قذفهن ففيه قولان أصحهما، أنه يكفر لأنه قدح بالنبي - صلى الله عليه وسلم -. مسألة: قال شيخ الإسلام: " من سب الصحابة أو سب أحداً منهم واقترن بسبه دعوى أن علياً إله أو نبي، أو أن جبريل غلط فلا شك في كفر هذا بل لا شك في كفر من توقف في تكفيره"ا. هـ. وذلك لأنه مخالف لنص الكتاب والسنة وإجماع الأمة. مسألة:

من أنكر أن يكون أبو بكر الصديق صاحب رسول الله فقد كفر لأنه تكذيب للقرآن في قوله تعالى: ((إذ يقول لصاحبه لا تحزن إن الله معنا)) والقاعدة أن من نفى صحبة صحابي فترتب على ذلك تكذيب للقرآن أو لما تواتر عند المسلمين وأجمعوا عليه وهو معلوم عندهم ظاهر كصحبة أبي بكر وعمر وعثمان وعلي وبقية العشرة ممن صحبته كذلك فإنه يكون كافراً. مسألة: من حرم شيئاً مجمعاً على حله كالماء كفر، وكذلك من أباح شيئاً محرماً مجمعاً على تحريمه.. قال: [فصل: " فمن ارتد عن الإسلام وهو مكلف رجل أو امرأة دعي إليه ثلاثة أيام وضيق عليه فإن لم يسلم قتل بالسيف] . "وهو مكلف": والمكلف هو البالغ العاقل فالصبي غير المميز ومن ذهب عقله بدواء، أو النائم لا خلاف في ذلك، أنه إذا أتى ما يكفر بمثله لا يكفر هو به وذلك لأنه إذا فعل ما يقتضي التكفير فإنه لا يحكم عليه. ظاهره أن الصبي المميز كذلك، أي لا يحكم عليه بالردة، فمثلاً لو قال أو فعل ما يكفر به فإنه لا يكفر في ظاهر كلام المؤلف وهو رواية عن الإمام أحمد واستظهره صاحب الفروع والموفق وهو مذهب الشافعي. والقول الثاني: وهو المذهب أنه يكفر بذلك وهو مذهب الجمهور قالوا: الصبي المميز يصح إسلامه فكذلك ردته ويدل عليه صحة العبادات منه فإنه لو صلى وصام أي الصبي المميز فإن ذلك يصح منه ولا تصح إلا من مسلم، فدل على أن الصبي المميز يصح إسلامه فإذا ثبت صحة إسلامه فردته كذلك وأما أهل القول الأول، وهو ظاهر كلام المؤلف كما تقدم فاستدلوا بالأدلة التي تدل على أن الصبي المميز مرفوع عنه القلم، كقوله - صلى الله عليه وسلم -: (رفع القلم عن ثلاثة وفيه والصبي حتى يبلغ) .

وهذا هو القول الراجح في هذه المسألة لقوة دليله، وأما الجواب عما استدل به أهل القول الثاني، فهو أن هذا قياس مع الفارق، فإن إسلامه مصلحة محضة له، وأما ردته وكفره فهو مفسدة محضة، فما كان فيه مصلحة محضة له قُبل وهو الإسلام، وما كان فيه مفسدة محضة رُد وهو الكفر بالله عز وجل، إذن أصح القولين أن من ارتد وهو صبي مميز فإنه لا يحكم بردته خلافاً للمشهور في المذهب، وعلى المذهب لا يقتل حتى يبلغ فيستتاب فإن تاب وإلا قتل. [مختار] فإن كان مكرهاً فلا يحكم عليه بالردة، لقوله تعالى: ((إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان)) . [رجل أو امرأة] لعموم قوله - صلى الله عليه وسلم - من حديث ابن عباس: (من بدل دينه فاقتلوه) رواه البخاري. والحديث عام في الذكر والأنثى. [دعي إليه] أي إلى الإسلام [ثلاثة أيام وضيق عليه فإن لم يسلم قُتل بالسيف] . المذهب أنه يجب أن يستتاب ثلاثة أيام ويحبس فإن تاب وإلا قتل وهو مذهب الجمهور استدلوا: بما رواه مالك في موطئة أن عمر قال في رجل كفر بعد إسلامه: " لولا حبستموه ثلاثة أيام واطعمتموه كل يوم رغيفاً واستتبتموه فإن تاب أو راجع وإلا قتلتموه" ثم قال: " اللهم إني لم أحضر ولم أرض إذ بلغني". وفي الدارقطني: "أن امرأة يقال لها أم مروان ارتدت فأمر النبي - صلى الله عليه وسلم - أن تستتاب فإن تابت وإلا قتلت". والأثر الأول: ضعيف لانقطاعه وجهالة بعض رواته، والحديث الذي رواه الدارقطني فيه معمر السعدني وهو ضعيف الحديث. وعن الإمام أحمد وهو أحد قولي الشافعي: أنه لا يستتاب وجوباً وإنما يستتاب استحباباً وهو مذهب أهل الظاهر. واستدلوا: بقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: (من يدل دينه فاقتلوه) . قالوا: والفاء تفيد التعقيب فدل على أن القتل يكون عقيب ارتداده عن دينه وليس فيه ذكر الإستتابة بل ظاهره ترك الإستتابة.

وفي الصحيحين أن معاذ بن جبل قال في رجل أسلم ثم تهود: لا أجلس حتى يقتل، قضاء الله ورسوله فأمر به فقتل". وأما ما في أبي داود من أنه كان قد استتيب قبل ذلك فهذا من فعل أبي موسى الأشعري وليس في الأثر أن معاذا استفصل عن ذلك أي لم يقل هل استتبتموه أم لا؟ هذا من الأثر: وأما من النظر: فيدل على ذلك أن الكافر المحارب للإسلام إذا بلغته الشريعة الإسلامية فقامت عليه حجة الله على عباده فإنه لا تجب استتابته عند إرادة قتله. وهذا هو القول الراجح وأن استتابته لا تجب لكن إذا كان لم تبلغه الحجة فحينئذ لابد أن يعرف وذلك لقوله تعالى: ((وما كنا معذبين حتى نبعث رسولاً)) وأحكام الوعيد على الكفر في الدنيا والآخرة لا تثبت إلا بعد إقامة الحجة قال تعالى: ((وما كنا معذبين حتى نبعث رسولاً)) . لكن إذا علمنا أن الحجة قد قامت عليه فهل يجب علينا أن نكررها عليها استتابة له أم لا؟ هنا الخلاف. [فإن لم يسلم قتل بالسيف] لقول النبي - صلى الله عليه وسلم - (إذا قتلتم فأحسنوا القتلة) والقتلة بالسيف قتلة حسنة. قال: [ولا تقبل توبة من سب الله أورسوله] . ليس كلام المؤلف هنا في التوبة في الباطن، فإنها تقبل توبته إذا كان صادقاً، تقبل فيما بينه وبين الله عز وجل، فلا إشكال في أن كل من تاب من ذنب فإن الله يقبل توبته. لكن إذا أتينا برجل قد سب الله أو رسوله لنقتله فقال: تبت فهل تقبل توبته؟. الجواب: لا تقبل توبته. فقد تقدم أن المشهور في المذهب أن من ارتد فإنه يستتاب ثلاثاً فإن تاب، وإلا قتل لكن استثنى المؤلف مسائل. فهنا: من سب الله أو رسوله، فهذا لا تقبل توبته، أي في الظاهر وهذا لعظيم اعتدائه. ويتوجه عندي أن يقال: إن هذا يدل على نفاقه وزندقته وسيأتي الكلام على الزنديق أو المنافق. قال: [ولا من تكررت ردته بل يقتل بكل حال] .

أي أسلم ثم كفر، ثم أسلم ثم كفر، فقد تكررت ردته، فإذا أتى به إلى القاضي ليقتل فقال: أسلمت فهل يقبل منه ذلك أم لا؟ قال المؤلف هنا: لا يقبل، لقوله تعالى: ((إن الذين آمنوا ثم كفروا ثم آمنوا ثم كفروا ثم ازدادوا كفراً لم يكن الله ليغفر لهم ولا ليهديهم سبيلاً)) . ومثل ذلك أيضاً، الساحر، لقول عمر: " اقتلوا كل ساحر وساحرة" رواه البخاري. هذا كلام فيه إطلاق فلم يستثن من تاب ومثل هذا أيضاً الزنديق وهو ما يسمى عند السلف، المنافق وهو من يظهر الإيمان ويبطن الكفر، فإذا ثبت لنا ذلك كأن يشهد عليه من تقبل شهادته أنه قد قال كلمة تدل على نفاقه وأنه ليس بمسلم فكذلك لا تقبل توبته في الظاهر أي عند الحاكم. هذا هو المشهور في المذهب في هذه المسألة وهو مذهب مالك. وعن الإمام أحمد وهو مذهب الشافعي: أن توبته تقبل لعموم الأدلة التي تدل على قبول التوبة. والصحيح هو القول الأول: وذلك لأن المنافق أو الزنديق الذي ظهر منه الإسلام وبطن منه الكفر إذا استدللنا على كفره فأراد أن يظهر الإسلام فإننا لا نستفيد من إظهاره للإسلام لأنه كاذب علينا في الأول فلم يكن مظهراً الكفر فإذا أظهر الإسلام كان إظهاره للإسلام مقبولاً حينئذ لأنه استبدل ظاهره، لكن هنا ظاهره الإسلام في السابق وباطنه الكفر فعرفنا زندقيتة فلا نأمن إذا ادعى الإسلام مرة أخرى أن يكون منافقاً والشرع يقصد حفظ الأديان، وإن كان صادقاً في توبته فالله يقبل توبته فيما بينه وبينه عز وجل، فهذا هو القول الراجح. وهو اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية في مسألة شاتم الرسول وألف في ذلك مؤلفاً مشهوراً. واختار ابن القيم هذا القول لكن قيّده بتقييد صحيح وهو ألا تقبل توبته إذا كانت بعد القدرة عليه، وأما إذا كانت قبل القدرة عليه، فإنها تقبل. فلو أن رجلاً كان ساحراً فتاب إلى الله عز وجل قبل أن يقدر عليه السلطان فإن توبته تقبل لأن ما يخشى مأمون حينئذ.

فلو أتينا به فوقفناه عند السيف فإنه يخشى أن يكون كاذباً في دعواه فإذا أظهر أنه ترك السحر فهذا أمر ليس بجديد منه فقد كان يظهره قبل ذلك فإذا أظهره الآن فلا نأمن أن يكون مبطناً للسحر وفي ذلك ضرر عظيم على الأبدان والنفوس. أما إذا تاب قبل أن يقدر عليه فإن هذا يقبل لأن ما يخشى قد أمن. إذا: الصحيح أن هؤلاء لا تقبل توبتهم في الظاهر بل يقتلون في كل حال، هذا حيث كانت هذه التوبة فيهم بعد القدرة عليهم، وأما قبل القدرة عليهم، فإن التوبة تقبل في الظاهر كما تقبل في الباطن. ومثل هذا في المشهور في المذهب المبتدع الداعية إلى بدعته. واختار شيخ الإسلام أنه تقبل توبته، وهو أصح لأن الله قد قبل توبة أئمة الكفر فأولى من ذلك أئمة البدعة. ولأن الفارق ظاهر بينه وبين من تقدم، فإنه كان يظهر البدعة ويدعو إليها في الظاهر، فإذا تاب فقد تاب من أمر ظاهر ليس من أمر باطن لا يُدرى أصادق فيه أم كاذب. بخلاف أولئك فقد تابوا من أمر باطن فالساحر عند ما يقول تركت السحر، والزنديق عندما يقول اترك الزندقة هذا لا يدري أصدق في الباطن أم لا، بخلاف هذا فإن توبته تدل على أنه قد ترك ما هو عليه. مسألة: أصح القولين لأهل العلم، أن السكران لا قول له، أي لا يعتد بقوله حتى في كفره. خلافاً للمشهور في المذهب وتقدم الاستدلال على هذا في كتاب الطلاق. قال: [وتوبة المرتد وكل كافر اسلامه بأن يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله] . توبة المرتد وتوبة الكافر تثبت بأن يقول: " أشهد ألا إله إلا الله وأشهد أن محمداً رسول الله". أو أن يقول: " لا إله إلا الله محمد رسول الله". ودليل هذا ما ثبت في الصحيحين أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: " أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا ألا إله إلا الله وأني رسول الله ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها وحسابهم على الله عز وجل".

وقال في الفروع: " ويتوجه احتمال قبول شهادته بالوحدانية أي بأن يقول: " أشهد ألا إله إلا الله" أو يقول: " لا إله إلا الله فإنه يقبل منه. ودليل ذلك حديث أسامة بن زيد في الصحيحين فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنكر عليه قتل من قال: " لا إله الله". وليس فيه أنه قال: " وأن محمداً رسول الله". وهذا ظاهر جداً حيث استلزم ذلك الإيمان بالرسالة فإن النبي عليه الصلاة والسلام كان يدعوهم إلى " لا إله إلا الله فإذا أقروا بذلك فهذا دليل على إقرارهم بالرسالة. بخلاف اليهود، مثلاً فإنهم إنما كانوا إذا قالوا: " لا إله إلا الله" فإن هذا لا يستلزم إيمانهم بالرسالة، فإنهم إنما كانوا يجحدوا نبوة النبي - صلى الله عليه وسلم - ولم يكونوا يجحدوا ألوهية الله عز وجل ووحدانيته. إذن: الصحيح أنه لابد أن يقول: أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله". كما يدل عليه الحديث المتقدم. لكن لو كان قوله: " لا إله إلا الله" أو قوله: " محمد رسول الله" يستلزم الشق الآمر ويدل عليه فحينئذ يقبل منه ذلك لأن الألفاظ إنما يقصد منها المعاني، فإذا دل لفظه على المعنى الآخر الذي يريد اثباته فإن ذلك يكفي. قال: [ومن كان كفر بجحد فرض ونحوه] . كأن يكون قد كفر بجحد النبوات أو بححد فريضة من فرائض الإسلام كأن ينكر وجوب الصلاة أو أحل محرماً من المحرمات الظاهرة المجمع عليها كأن يحل الزنا أو حرم حلالاً مجمعاً على حله كأن يحرم الماء. قال: [فتوبته مع الشهادتين اقراره بالمجحود به] . فتوبته أن يقول: " أشهد ألا إله إلا الله وأشهد أن محمداً رسول الله" ويقر بالمجحود به. فالشهادتان كان يقر بهما سابقاً وهنا قد أنكر شيئاً آخر فلا يكفي أن يقر بالشهادتين بل لابد أن يقر بما نفاه وجحده فيقول: " وأن الصلاة فرض أو وأن الزنا حرام" ونحو ذلك فلا يقبل منه ذلك إلا بهذا لأنه إنما كفر به. والقول الثاني: في المسألة: أن الشهادتين لا تجب عليه.

وفي ذلك قوة، لأنه لم ينف ذلك بل هو مقر بهما، وهو على اقراره بهما. فالأظهر، أنه لو أنكر الصلاة فيكفي في توبته أن يقول رجعت إلى الإسلام فأقول الصلاة فرض وهكذا. مع أن الإقرار بالشهادتين أحوط، وفيه قوة أيضاً من حيث إنه يقال: إن جحده للصلاة ترتب عليه إبطال شهادته، فأصبحت الشهادتان باطلتين لأنه جحد ما يكفر به وهذا يبطل الشهادتين. قال: [أو قوله: " أنا برئ من كل دين يخالف الإسلام"] . أو قال: " أنا مسلم، أو " أنا مؤمن" فيكفي هذا في دخوله في الإسلام. وقال الموفق: ويحتمل- وذكر تفصيلاً قوياً - وهو أن يقال إن كان هذا في إسلام الكافر الأصلي فيكفي أن يقول أسلمت ومن جحد وحدانية الله فيكفي أن يقول "أسلمت". وأما من جحد نبوة النبي - صلى الله عليه وسلم - أو نحو ذلك: فإنه لا يكفي أن يقول "أسلمت" وذلك لأنه قد يعتقد أن هذا الجحد هو الإسلام فمثلاً بعض اليهود الذين ليسوا على عناد يعتقدون أن الإسلام جحد نبوة النبي - صلى الله عليه وسلم - لأن دين النبوة قبل أن يبعث النبي - صلى الله عليه وسلم - هو الإسلام، فإذا قال اليهودي: " أسلمت" فقد يكون مراده على دين اليهود، فلا بد أن يقول " أقر بنبوة النبي - صلى الله عليه وسلم -". ومما يدل على أن قول " أسلمت" أو "آمنت" يكفي عند الشهادتين، ما ثبت في صحيح مسلم عن المقداد بن عمرو أنه قال للنبي - صلى الله عليه وسلم - يا رسول الله أرأيت إن جاء أحد الكفار يقاتلني، فضرب إحدى يدي بالسيف فقطعها ثم لاذ مني بشجرة فلما أردت أن أقتله قال: أسلمت أفأقتله يا رسول الله؟، فقال - صلى الله عليه وسلم - "لا". فدل هذا على أنه إذا قال: "أسلمت" أو "آمنت" فإن ذلك يكفي لكن بالتفصيل الذي ذكره الموفق أي حيث كان قوله أسلمت يستلزم الإسلام الذي بعث به النبي - صلى الله عليه وسلم -.

والمقصود من ذلك كله، أن العبرة بالمعاني لا بالألفاظ، فإذا كان لفظ أسلمت، يدل على معنى الشهادتين فإنه يكفي عنهما وإذا قال قوله: " آمنت بالله ورسوله، يكفي عن الشهادتين وهو كذلك فهو كاف. مسألة: إذا فعل الكافر ما لا يفعله إلا المسلم فهل يحكم بإسلامه؟ كأن يصلي مثلاً. الظاهر: نعم وذلك للمعنى المتقدم فإن المقصود هو ثبوت الإسلام. [وثبوت الإسلام يكون بالتلفظ أو بالفعل الذي يدل عليه إلا أن يأبى أن يقول: " لا إله إلا الله محمد رسول الله" فهذا شيء آخر] . مسألة: إذا كان رجل من المسلمين يقول: " لا إله إلا الله محمد رسول الله" وهو لا يدري ما معنى ذلك فحياته كلها على الشرك يذبح للقبور وينذر لها ويعبدها من دون الله عز وجل، فهل هو مسلم أم لا؟ تقدم أنه ليس بمسلم، لكن هل هو كافر أصلي أو كافر مرتد؟ والذي يترتب على هذا أن المرتد لا تحل ذبيحته وإن انتقل إلى اليهودية أو النصرانية ولا يقر على دينه بل يقتل وإذا كانت امرأة فارتدت إلى اليهودية أو النصرانية فلا يجوز نكاحها كسائر الكتابيات بل يجب قتلها. فهنا هل نقول هو كافر أصلي أم مرتد؟ أما الشيخ الصنعاني فإنه يقول هو كافر أصلي. يقول: لأنه لا يدري ما معنى " لا إله إلا الله"، والشيء لا يصح إلا بتوفر شروطه، ومن شروط " لا إله إلا الله" العلم وفي الصحيح من مات وهو يعلم أنه لا إله إلا الله دخل الجنة، فهذا لا يعلم معناها ولا يدري ما المراد بها، وربما لو قيل له إن معناها أن تترك هذه العبادات لم يقرّ بها. والمشهور عند أئمة الدعوة النجدية أنه كافر مرتد، فإن الشيخ عبد اللطيف أو الشيخ عبد الرحمن لما ذكر قول الصنعاني قال: " وشيخنا لا يوافقه" يعني الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله تعالى والمسألة فيها تجاذب، وإن كانت النفس تميل إلى قول الصنعاني من باب ما تقدم.

ومن باب آخر أن آباءهم كذلك أي على هذا الأمر من الشرك بالله فهذا فيه قوة، وعبارة الشيخ عبد الرحمن لا تدل على أن خلاف الصنعاني خلاف شاذ. وظاهر كلام الشيخ حمد بن معمر موافقة الصنعاني على ذلك والله أعلم.

كتاب الأطعمة للحمد

كتاب الأطعمة الأطعمة:- جمع طعام وهو ما يؤكل أو يشرب قال تعالى {قل لا أجد فيما أوحى الى محرما على طاعم يطعمه الا أن يكون ميته} {والميته مما يؤكل} {أو دماً مسفوحاً} وهو مما يشرب وقد سماه الله طعاماً 0 وقال تعالى في قصة ملك بني اسرائيل {ومن لم يطعمه فإنه منى} فسمى الشراب طعاماً فالطعام يطلق على ما يؤكل أو يشرب 00 قال] والأصل فيها الحل [. فالأصل في الاطعمه الحل 0 لقوله تعالى {هو الذي خلق لكم ما في الأرض جميعا} ولقوله {قل لا أجد فيما أوحى الى محرماً على طاعم يطعمه الا أن يكون ميته} لانه بهذه الآيه يدل على انه ما سوى ذلك حلال وعلى أن مالم ينص الله على تحريمه فهو حلال 0 وأوسع مذاهب العلماء في باب الاطعمه هو مذهب الامام مالك رحمه الله وأصول مسائل الاطعمه هي:- المسألة الاولى:- أن جمهور العلماء يحرمون كل ذي ناب من السباع كالذئب ويحرمون كل ذي مخلب من الطير كالصقر والنسر، ويدل على ذلك ما ثبت في صحيح مسلم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - (نهى عن كل ذي ناب من السباع وذي مخلب من الطير) وكل ذي ناب يفترس وينهش به ويعدو به فهو محرم وكل ذي مخلب من الطير يفترس به ويعدو فهو محرم أيضاً 0 وقال مالك بل هو حلال لقوله تعالى {قل لا أجد فيما أوحى الى محرماً على طاعم يطعمه الا أن يكون ميته أو دماً مسفوحاً} 0 والصحيح مذهب الجمهور وذلك لأن الآيه مكية وليس فيها إلا إلاخبار عما هو حرام حينئذ – أى في مكه – ثم دلت الأدلة الشرعية بعد ذلك على تحريم انواع كثيرة. المسألة الثانيه:- أن ما نهى الشارع عن قتله فهو حرام أيضاً كالنحل والهدهد ونحو ذلك 0 ففي مسند أحمد وسنن داود أن النبي - صلى الله عليه وسلم -نهى عن قتل اربع من الدواب (النملة، والنحلة، والهدهد، والصرد) والصرد هو نوع من أنواع الطير 0

ونهى الشارع عن قتلها يدل على تحريم أكلها وذلك لأنه إذا أبحنا أكلها فهو ذريعه الى قتلها والشريعه تأتي بسد الذرائع 000 وهذا أيضا خلافا لمذهب مالك 0 المسأله الثالثه:- -…أن كل ما أمر الشارع بقتله كالحيه والعقرب فهو محرم الأكل ففي الصحيحين أن النبي صلى - صلى الله عليه وسلم - قال (خمس يقتلن في الحل والحرم:- الحيه والغراب الأبقع (وهو الذي فيه بعض بياض في رأسه أو في بقية بدنه) والحدأة وهي نوع من سباع الطير والفأره والكلب العقور)) 000 -…فهنا هذه الخمس قد أمر الشارع بقتلها، وقتلها أتلاف لها وهذا يدل على تحريمها إذ لو كانت حلالا لأمر الشارع بذبحها فلما أمر بقتلها وإتلافها وقد نهى عن اضاعة المال دل على أنها محرمه – هذا هو مذهب الجمهور – خلافا لمذهب مالك 0 المسألة الرابعة:- أن ما يأكل الجيف محرم عند الجمهور – لخبث مطعمه ولأن النبي صلى الله عليه وسلم حرم الغراب الأبقع، والغراب الأبقع إنما يأكل الجيف وليس من السباع، وقد تقدم أن هذا يدل على تحريم أكله فقياس على ذلك كل ما يأكل الجيف وذلك لخبث مطعمه، فإن خبث مطعمه يترتب عليه خبث لحمه، ومذهب مالك خلاف هذا 00 المسألة الخامسه:- أن مذهب الجمهور أن ما استخبثه العرب ذوو اليسار من سكان الحاضرة في المدن والقرى أنه محرم – وهذا مذهب أحمد في المشهور وأستدلوا بقوله تعالى:- {ويحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث} فالمخاطب بهذه الآيه هم العرب يدل هذا على أن كل خبيث عند العرب أى من ذوي اليسار من أهل المدن والقرى فإن ذلك محرم 0 ومذهب مالك أنه ليس حرام وهو اختيار شيخ الاسلام ابن تيميه قال (وهو قول أحمد وقدماء اصحابه))

وهذا هو الراجح في هذه المسأله ويدل عليه أن النبي صلي الله عليه وسلم قال في العنب ((إني لم أجده في أرض قومي فأجدني أعافه) فدل على أن كراهيه بعض قريش لبعض الطعام لا يحرمه والنبي صلى الله عليه وسلم قد كره هذا الطعام فلم يحرمه 0 ولأن هذا لا يوافق أصول الشرع – فلا يمكن أن يحرم الشرع شيئا على العجم وهم يستطيبونه لكون العرب يستخبثونه هذا لا يمكن 0 وعليه فمعنى الآيه {يحل لهم الطيبات} أى كل طيب مما أحله الله عز وجل فهو طيب 0 ((ويحرم عليهم كل خبيث مما حرمه الله عز وجل فهو خبيث)) ويقاس عليه كل خبيث بذاته وكل طيب بذاته أى من غير أعتبار الى من أستطاب ذلك أو أستخبثه 0 فكل خبيث بذاته مما فيه ضرر على الأبدان أو العقول أو الأخلاق فإنه محرم 0 فكل ما فيه ضرر على الأبدان كالسم أو العقول كالخمر أو الاخلاق كلحم السبع فإنه مضر بالأخلاق يثير بالآكل له قوة سبعية ومن هنا حرمه الشارع 0 هذه أصول مسائل الأطعمه ومن هنا يتبين أن مذهب مالك هو أوسعها 0 ومن ثم فإنه يبيح الحية والعقرب والحشرات وغيرها وكون بعض الناس يستخبثها هذا لا يدل على تحريمها – هذا هو مذهب مالك 0 ولم أر شيخ الإسلام – على أنه وافق مالك في مسألة الخبث والطيب لم أر أنه نص على إباحة الحشرات 0 فالمقصود أنه متى ما ثبت في الشىء ضرر على الأبدان أو الأخلاق أو العقول فإنه محرم 0 قال] فيباح كل طاهر لا مضرة فيه من حب وثمر وغيرهما [فكل طاهر لا مضرة فيه فهو مباح 0 قال:] ولا يحل نجس كالميتة والدم [. وكل نجس ومتنجس فإنه لا يحل وذلك لخبثه وقد قال تعالى (حرمت عليكم الميتة والدم) وقال سبحانه (قل لا أجد فيما أوحى الى محرماً على طاعم يطعمه الا أن يكون ميتة أو دماً مسفوحاً أو لحم خنزير فإنه رجس) قال:] ولا ما فيه مضرة كالسم ونحوه [لقوله تعالى {ولا تلقوا بأيديكم الى التهلكة} قال:] وحيوانات البر مباحة الا الحمر إلا نسية [.

لما ثبت في الصحيحين من حديث جابر أن النبي - صلى الله عليه وسلم - (نهى يوم خيبر عن لحوم الحمر الاهلية وأذن في لحوم الخيل) قال:] وما له ناب يفترس به غير الضبع [. أستثنى – الضبع لأنه قد ورد في الأدلة – ما يدل على جوازه وقد روى الخمسة وصححه البخاري أن أبن أبي عمار قال لجابر ((الضبع (يصح بتسكين الباء وضمها) أصيد هي قال جابر (نعم فقال له قاله رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال جابر (نعم) وهذا أثر صحيح 0 فإن قيل: فما الفارق بين الضبع وبين غيرها من السباع؟ فالجواب: أن الضبع ليس فيها القوة السبعيه التي في غيرها من السباع بل هي لا تفترس في الغالب والله أعلم 0، ثم ذكر أمثله كثيره تحتاج الى تحقيق المناط أى متى ما ثبت لنا أن فيه ناباً من السباع فهو محرم (كالأسد والنمر والذئب والفيل والفهد والكلب والخنزير) وابن آوى وأبن عرس؟ والسنور والنمس والقرد والدب) ثم قال بعد ذلك:- ] وماله مخلب من الطير يصيد به [0 ثم ذكر أمثله تحتاج الى تحقيق مناطها (كالعقاب والبازي والصقر والشاهين والباشق والحدأة والبومه) ثم قال:-] وما يأكل الجيف كالنسر [. ثم ذكر أمثله كذلك تحتاج الى تحقيق المناط] والرخم واللقلق والعقعق والغراب الأبقع والغذاف وهو أسود صغير أغبر، والغراب الأسود الكبيرة [وذكره عدة أنواع من الغربان مما يدل على أن هناك من الغربان ما هو مباح 0 وقال] وما يستخبث [أى عند العرب ذوي اليسار:- قالوا أما خلاف العرب فلا عبرة يهم لأنهم قد يستطيبون بعض ما يستخبث 0 قال:-] كالقنفذ والنيص والفأرة [0 فالقنفذ مستخبث عند العرب ولكن هل فيه ضرر؟ 0 يرجع في ذلك الى الطب لأن الصحيح أنه لابد أن يكون خبيثاً بنفسه وذاته 0 والفأرة ظاهرة للحديث المتقدم 0

قال] والحيه [، قالوا: لأنها خبيثه ولأن الشارع أمر بقتلها أما كونها خبيثه، فهذا يحتاج الى تحقيق واما كون الشارع أمر بقتلها فهذا ظاهر 0 قال] والحشرات كلها [لما تقدم قال:-] والوطواط [هو ما يسمى بالخفاش 0 قال:-] وما تولد من مأكول وغيره كالبغل [فما تتولد من حيوانين أحدهما مأكول والأخر ليس بمأكول فإنه يحرم تغليباً لجانب التحريم 0 كالبغل فإنه متولد من الحمار والخيل 0 مسألة:- حمر الوحش أذا أستأنست فهل تحرم؟ الجواب:- لا، نظرا لأصلها، فأصلها حلال، وهي خلقه أخرى تختلف عن خلقة الحمار الأهلي لوعاش في البر فإنها لا يتغير طعامه وكذلك الحمر الوحشيه طعامها هو طعامها في البر 0 مسألة:- الحديث الذي قتل الخمس الدواب ظاهره الوجوب لأنه خبر 0 بمعنى الأمر يدل على الوجوب، هذا من ناحيه 0 ومن جهة أخرى:- أنه قد وصفها بالفسق فدل على أن فيها استطالة واعتداء وإزالة ذلك واجب 0 مسألة كل ما حرم قتله فإنه يجوز – أى قتله – حيث كان منه أذى دفعاً لمفسدته ولأنه حينئذ يكون كالصائل 0 قال رحمة الله تعالى:-] وما عدا ذلك حلال [هذا هو الأصل، فما لم يدل دليل على تحريمه من المطعومات والمشروبات فإنه حلال مباح 0 قال:-] كالخيل [0 وهو مذهب الجمهور لما ثبت في الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم أذن في الخيل وقال المالكية:- بل تحرم استدلوا بقوله تعالى {والخيل والبغال والحمير لتركبوها وزينه} قالوا فلم يذكر الله تعالى أكلها وإنما ذكر أنها زينه وأنها مركب 0 واستدلوا:- بما روى أبو داوود أن النبي صلى الله عليه وسلم (نهى عن لحوم الحمر والخيل والبغال) والصحيح ما ذهب اليه أهل القول الأول:- أما الأيه الكريمة فإنه ليس فيها أن الأكل حرام فالله عز وجل لم يذكر إلا أنها زينة وركوب.

لأنها مع غير المطعومات فإنها ذكرت مع الحمر والبغال وهي محرمه – فلم ينص على اباحة أكل الخيل لأنها مذكورة مع ما لا يحل أكله 0 هذا هو الوجه الأول 0 والوجه الثاني:- أن الله سبحانه وتعالى لم ينص على أنها من المطعومات لأنها ليست لذلك في الغالب فالغالب أن الناس لا يطعمونها وأنما يركبونها ويتزينون بها 0 وأما فالحديث الذي رواه ابو داوود فهو ضعيف لا يصح ضعفه أحمد والبخاري والدارقطني وغيرهم 0 قال] وبهيمة الأنعام [0 من البقر والغنم والابل قال تعالى {أحلت لكم بهيمة الأنعام الا ما يتلي عليكم} 0 قال] والدجاج [0 وقد ثبت في الصحيحين من حديث أبى موسى أن النبي - صلى الله عليه وسلم - (أكل الدجاج) والأصل يدل على ذلك 0 قال] والوحشي من الحمر والبقر [0 فيباح الوحشي من الحمر، لما ثبت في الصحيحين من حديث أبي قتادة في قصة صيده الحمار الوحشي، وفيه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال (كلوا ما بقي من لحمه) وكذلك يباح البقر الوحشي، وهو ليس من بهيمة الأنعام 0 قال] والظباء والنعامة والأرنب وسائر الوحش [كالزرافة وغيرها، وذلك للاصل، فالأصل في المعطومات الحل 0 قال:] ويباح حيوان البحر كله [0 يدل على ذلك قوله تعالى {أحل لكم صيد البحر وطعامه} 0 ويدل عليه ما روي الخمسه أن النبي - صلى الله عليه وسلم -قال في البحر] هو الطهور ماؤه الحل ميتته [وقوله (ميتته) مفرد مضاف يفيد العموم – فدل على أن صيد البحر حلال كله 0 لكن أستثنى المؤلف فقال] الا الضفدع والتمساح والحية [0 فالضفدع هي من صيد البحر لكنها تعيش في البر فهي تعيش في البر والبحر 0 ودليل تحريم الضفدع أن النبي صلى الله عليه وسلم سأله طبيب عن قتل الضفدع لتوضع في الدواء (فنهى النبي صلى الله عليه وسلم عن قتلها) رواه أحمد وأبو داوود والنسائي وهو حديث صحيح 0

والتمساح لأن له ناباً يفترس به وهذا كما تقدم – يحتاج الى تحقيق المناط، أى نقول كل ما له ناب يعدو به فهو محرم ثم نحتاج الى أن ننظر الى الأمثله التي يذكرونها فإن كان فيها ذلك فهي محرمة 0 والحيه أى حية البحر وذلك لأمر النبي صلى الله عليه وسلم بقتلها، قالوا ولأنها مستخبثه 0 ولم يستثن الشافعية التمساح والحية 0 والصحيح ما ذكره الحنابلة حيث تحقق ما ورد في الحديث من أن في التمساح الناب الذي يفترس به 0 والحيه قد أمر النبي صلى الله عليه وسلم بقتلها لكن هذا حيث كانت حية البحر تلدغ وتؤذي لان الشارع أمر بقتل الحيه في البر لأذيتها ولأن فيها العدو والإعتداء فمن أكلها فإنه يكتسب شيئا من طباعها، فإن كانت الحية التي في البحر ليست كذلك فإنه لا باس بأكلها 0 قال:-] ومن أضطر الى محرم غير السم حل له منه ما يسد رمقه [0 هذه المسأله في الإضطرار، فمن اضطر الى محرم كالميتة مثلا غير السم، لأن السم قاتل وقد قال تعالى {ولا تلقوا بأيديكم الى التهلكة} فإذا أضطر الى محرم غير باع ولا عاد فلا إثم عليه وقوله {غير باغ} أى غير طالب لذلك راغب فيه (ولا عاد) أى غير آكل منها مالا يحل له – أى متجاوز بها ما يسد به رمقه 0 ويحل له منها ما يسد رمقه ويحفظ قوته أى ما يدفع به ضرورته لقوله تعالى {غير باغ ولا عاد} أى غير متجاوز ما يسد رمقه. وظاهر المذهب:- مطلقاً 0 وعن الإمام أحمد:- أنه يستثنى ما لو دام خوفه، فلوا أن رجلا في مغازة من الأرض، يغلب على ظنه أنه لا يجد من يؤويه فله أن يأكل من الميته حتى يشبع، وذلك لان غلبة الظن دوام خوفه – وهذا ظاهر – وهو حينئذ لا يكون متجاوزا ولا معتدياً 0 إذن الصحيح أن هذا ليس على أطلاقه بل اذا كان يدوم خوفه فإن له أن يأكل من الميته حتى يشبع وذلك لأن شبعه يدفع عنه الضرورة في بقية وقته 0 مسألة:-

قال شيخ الإسلام:- ((ويجب على المضطر أكل الميتة في ظاهر مذهب الأئمة الأربعة وغيرهم)) مسألة:- ولا يجوز للمضطر أن يقتل معصوما فيأكله – إجماعا ولو كان ذمياً 0 فلو أن رجلا قتل ذمياً مضطرا الى ذلك فهذا لا يحل بإجماع العلماء وذلك لانه لا يحل له أن يبقي نفسه في إهلاك غيره 0 فإن وجد معصوماً ميتاً فهل له أن يأكله؟ 0 المشهور في المذهب:- أنه ليس له أن يأكله 0 والقول الثاني:- واختاره الموفق وهو مذهب الشافعية أنه يحل له وهو الصحيح 0 وذلك لان حرمة الحي اعظم من حرمة الميت 0 وهل للمضطر أن يأخذ من بعض بدنه ما يأكله كأن يأخذ من فخذه أو من عضده فيأكله؟ 1- المشهور في المذهب أنه ليس له ذلك 0 2- والقول الثاني في المذهب أن له ذلك وهو الراجح لانها مفسده صغري في درء مفسده كبرى 0 فإن لم يكن معصوماً كالحربي أو قاتل النفس للمضطر أن يقتله فيأكله 0 قال:-] ومن أضطر الى نفع مال الغير مع بقاء عينه لدفع برد أو أستسقاء ماء ونحوه وجب بذله له مجاناً [ رجل أضطر الى نفع عين من مال غيره كأن يضطر الى ثوب لدفع برد أو أستسقاء ماء كأن يضطر الى دلو وحبل ليأخذ به الماء من البئر ما لمالك لذلك يجب عليه أن يبذل له الثوب أو الدلو والحبل مجاناً وذلك لان ذلك هو الماعون الذي نهى الشارع عن منعه فقال سبحانه (الذين هم يراؤن ويمنعون الماعون) فذلك واجب فإن اضطر الى عين كأن يضطر الى طعام ليأكله أو الى ماء ليشربه 0 فظاهر كلام المؤلف وهو المذهب أنه لا يجب بذله له مجاناً لكن يجب بذله بالقيمه 0 فمثلا رجل أدرك رجلا في الصحراء وهو في غاية الجوع ومعه طعام كثير، فقال أبيعك هذا الطعام بقيمته، فيجب عليه أن يبذله بقيمته ولا يزيد على ذلك هذا هو المشهور في المذهب وهو أنه يجب أن يبذله بقيمته 0 فإن أبي وقال:- لا ابذله لك ولو دفعت مال الدنيا؟ فحينئذ له أن يأخذه منه قهراً وإن قاتله على ذلك لانه حينئذ كالصائل على النفوس 0

واختار شيخ الاسلام وتلميذه ابن القيم:- أنه يجب بذل هذه العين مجاناً وذلك لأن أحياء النفوس وإنقاذها من الملكة واجب والواجب لا يحل أخذ العوض عليه 0 وهذا هو الراجح 0 قال:] ومن مر بثمر بستان في شجره أو متساقط عنه ولا حائط عليه ولا ناظر فله الأكل منه مجاناً من غير حمل [0 من مر بثمر بستان في شجره أو متساقط عنه أى ليس بمجموع لان ما كان مجموعا فهو في حرز 0 ولا حائط عليه وقد نص عليه أحمد، ولا ناظر أى حارس 0 فله الأكل مجاناً من غير حمل 0 فلو أن رجلا مر ببستان لا حائط له ولا حارس عليه فله أن يأكل منه مجاناً من غير أن يحمل. ومثل ذلك:- في أصح الروايتين عن الإمام أحمد إذا وجد شاة لا راعي معها فله أن يشرب من لبنها من غير أن يحمل 0 ومثل ذلك إذا وجد زرعا فله أن يأكل منه من غير أن يحمل سواءاً كان محتاجاً الى ذلك أو غير محتاج هذا هو القول الاول في المسألة وهو مذهب الحنابلة 0 2- وقال الجمهور، بل لا يحل له إلا أن يكون محتاجاً وعليه الضمان حينئذ وهو رواية عن الامام أحمد 0 وأستدلوا بعمومات الأدلة كقوله صلى الله عليه وسلم (إن دماءكم وأموالكم عليكم حرام) قالوا وهذا ما مال مسلم فلا يحل الا بإذنه 0 وإستدلوا:- بما ثبت في الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم قال (لا يحلب احدكم من شاة أخيه بغير إذنه) والقول الأول هو الراجح وهو المذهب وإحدى الروايتين عن الإمام أحمد والدليل عليه ما روى أبو داوود والترمذي وهو حديث صحيح قال فيه الترمذي (حديث حسن صحيح) وهو من حديث الحسن عن سمرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا أتى أحدكم على ماشية فإن كان فيها صاحبها فليستأذن، فإن أذن له فليحتلب وليشرب فإن لم يكن فيها – أى صاحبها – فليصوت ثلاثاً (ينادي الراعي) فإن أجابه والا فليحتلب وليشرب ولا يحمل) وفي البيهقي نحوه من حديث أبى سعيد الخدري وفيه ذكر الحائط قال أبن القيم:-

وقد ورد هذا عن طائفا من الصحابة – كما في سنن البيهقي منهم عمر بن الخطاب والاثر عنه صحيح ولا يعلم له مخالف فهذا القول هو الراجح في المسأله: وأنه أذا كان الشجر لا حائط له ولا حارس وكذلك في الماشيه والزرع فإن له أن يشرب أو يأكل من غير أن يحمل كما نص على ذلك النبي صلى الله عليه وسلم وعليه عمل الصحابه وهو المشهور في المذهب 0 إلا أن الزرع واللبن فيه عن الإمام أحمد روايتان وأكثر أصحاب الإمام أحمد على أن ذلك - أي اللبن والزرع ليس كذلك والصحيح ما تقدم وأنه ثابت في الثمر والزرع والماشية حيث لا حائط وحارس، وحيث كان الغنم لا حارس معها 0 قال:-] وتجب ضيافة المسلم المجتاز به في القرى يوماً وليله [0 تجب ضيافة المسلم لا الذمي ((المجتاز به في القرى)) لا في المدن لأن المدن فيها أسواق فيمكنه أن يشترى الطعام فيطعمه (يوما وليلة) فالضيافة واجبة يوم وليلة 0 إذن الضيافة واجبة يدل على ذلك قوله صلى الله عليه وسلم ((من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفة جائزته)) قالوا: وما جائزته قال ((يوم وليلة، الضيافه ثلاثة أيام فما كان وراء ذلك فهو صدقه)) والصحيح انها ليست خاصة بالمسلم بل حتى في الذمي 0 وقدمه ابن رجب وهو أحد الروايتين عن الامام أحمد ويدل عليه عموم الحديث ((فليكرم ضيفه)) وهذا عام في المسلم وغيره أى حتى الذمي يجب له هذا الحق 0 وقوله (يوما وليله) للحديث المتقدم 0 والقول الثاني في المسألة وهو قول طائفة من أصحاب الامام احمد كأبي أبو بكر وأبن ابي موسى:- إن ذلك واجب ثلاثة أيام لقوله صلى الله عليه وسلم (الضيافه ثلاثة أيام) وهو أظهر 0 والحديث يدل على ذلك لان النبي صلى الله عليه وسلم قال (الضيافه ثلاثة أيام فما كان وراء ذلك فهو صدقه) فدل على أن الثلاثة أيام واجبة 0

وأما قوله صلى الله عليه وسلم ((فليكرم ضيفه جائزته)) فهذا آكد أى اليوم والليلة آكد وفيها بر واحسان لان الحائزة تدل على البر والإحسان به 0 فيكون في اليوم الأول منه مزيد بر وإحسان وحفاوة وأما بعد ذلك فيطعم من سائر الطعام 0 ومرجع ذلك – كما قال شيخ الإسلام – الى العرف والعادة 0 فإن أبى فلم يضيفه فهل يجوز له أن يأخذ من ماله بغير إذنه بلا مفسدة؟ وهل له أن يطالب بذلك عند القاضي؟ قال الحنابله بذلك وهو صريح قوله صلى الله عليه وسلم كما في الصحيحين: (فإن نزلتم بقوم فأمروا لكم بما ينبغي فأقبلوا وإن لم يفعلوا فخذوا منهم حق الضيف الذي ينبغي له)) وظاهره على وجه القوة حيث لم تترتب مفسدة باب الذكاة الذكاة: الذبح: ذكى الشاه تذكية: أي ذبحها والذكيه: هي الذبيحه وتعريفها – اصطلاحاً – في المشهور من المذهب:ذبح او نحر المأكول البري المباح بقطع حلقومة ومريئه او عقر ممتنع – هذا هو تعريفها وسيأتى الكلام على هذا. قال رحمه الله:] لا يباح شىء من الحيوان المقدور عليه بغير ذكاة [ لقوله تعالى: {حرمت عليكم الميته} فاذا كان الحيوان مقدوراً على تذكيته فلا يحل الا بالذكاة وهذا بإجماع العلماء. قال:] الا الجراد والسمك وكل ما لا يعيش الا في الماء [ أما الجراد فلقول ابن عمر:" أحلت لنا ميتتان ودمان، فأما الميتتان فالجراد والحوت " ولا يعلم له مخالف. واما السمك – فلحديث "والحل ميتته " "وكل ما لا يعيش الا في الماء " لقوله صلى الله عليه وسلم " والحل ميتته "

لكن: ان كان يعيش في البر والبحر.فظاهر كلام المؤلف ان الذكاة شرط فيه لانه لم يستثن الا ما لا يعيش الا في الماء. وتقدم ان هذا هو القول الراجح وانه اصبح قولى العلماء – تقدم الكلام عليه في درس سابق وعليه فما يكون من الحيوانات يعيش في البر والبحر كالسلحفاه ونحوها، فانها تشترط فيها التذكية ان كان فيها دم واما ان لم يكن فيها دم فلا يشترط ذلك. قال:] ويشترط للذكاة اربعة شروط: أهليه المذكي: بأن يكون عاقلاً مسلماً أو كتابياً [ هذا هو الشرط الأول: وهو أهليه المذكي بان يكون عاقلاً: لاشتراط قصد التذكيه،ولأن التسميه شرط في صحة التذكيه – كما سيأتي – ولا يصح ذلك الا من عاقل، سواء كان مميزاً او بالغاً. واما اذا كان غير عاقل كالمجنون او السكران او الطفل غير المميز فان تذكيته لا تصح باتفاق العلماء. إلا ان الشافعيه أجازوا تذكيه الطفل غير المييز قالوا: لأنه له نوع قصد. والجواب: أن هذا النوع لا يكفى بل يشترط ان يكون القصد تاماً (مسلماً او كتابياً) : اما المسلم فظاهر. واما الكتابي: فلقوله تعالى: {وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم} قال ابن عباس – كما في البخارى -: " طعامهم ذبائحهم " أي ذبائح اهل الكتاب وهم اليهود والنصاري. وهذا باتفاق العلماء. -وظاهر الادله الشرعيه انه لا يشترط ان يكون هذا الكتابي من أبوين كتابيين، قال شيخ الإسلام:" وهو الثابت عن الصحابه بلا نزاع بينهم وعليه نصوص الامام احمد وهو مذهب اكثر الفقهاء " أ. هـ واما المشهور في مذهب الحنابله: انه يشترط ان يكون أبواه كتابيين وهذا القول لا دليل عليه، بل اطلاقات النصوص تدل على خلافه. والثابت عن الصحابه خلافه: وهو اختيار شيخ الإسلام. مسألة: هل يباح ما أهلوا به لغير الله – كأن يذبحوا على اسم المسيح هل يباح هذا أم لا؟ قولان لأهل العلم: القول الأول: وهو مذهب مالك وهو رواية عن احمد انه مباح

لعموم قوله (وطعام الذين اتوا الكتاب حل لكم) فيدل هذا على ان عموم طعامهم مباح لنا وكذلك ما اهلوا به لغير الله. قال الجمهور: بل لا يحل ذلك، للايات الداله على المنع منه كقوله (وما أهل به لغير الله) وكقوله: (ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه وانه لفسق) قالوا: واذا ثبت ذلك في المسلم فأولى من ذلك الكتابي بمعنى: اذا كان المسلم لا تحل ذبيحته التى أهل بها لغير الله فأولى من ذلك في الكتابي. وان كان هذا الاستدلال مشكلا من حيث انه لا يكون مسلماً وقد ذبح لغير الله عز وجل، لكن المقصود انه اذا كان هذا شرطاً في صحة ذبيحه من هو مسلم في الاصل – فأولى من ذلك ان يشترط في الكتابي فغايه ذبيحته أهل الكتاب ان تكون مثل ذبيحه المسلمين لا ان تكون أرفع منها. وقالوا: ان الاهلال لغير الله والذبح على غير اسمه ليس من دين اليهود والنصاري وانما هو من الشرك الذي دخل في دينهم. -ولا شك ان الراجح في هذه المسأله ما ذهب اليه جمهور العلماء وذلك لما تقدم من الادله القويه على هذا …. مسألة:- هل يباح ما ذبحه أهل الكتاب مما هو محرم عليهم كلاً او بعضاً؟ فمثال: ما هو محرم كلاً: الإبل فانها محرمة على اليهود. ومثال ما هو محرم بعضا: الشحم فانه محرم عليهم بنص كتاب الله تعالى قال تعالى: {وعلى الذين هادوا حرمنا كل ذي ظفر ومن البقر والغنم حرمنا عليهم شحومهما} فاذا ذبح يهودي أو نصراني بعيراً، او ذبح غنماً او بقراً وفي ذلك شحم فهل يحل لنا اكل البعير في الصوره الاولى، وأكل الشحم في الصوره الثانيه ام لا؟ قولان لأهل والعلم: القول الاول: وهو مذهب مالك انه لا يحل لقوله تعالى: (وطعام الذين اتوا الكتاب حل لكم) قال: وهذا ليس من طعامهم. والقول الثاني في المسأله: وهو مذهب الجمهور: ان ذلك حلال.

قالوا: لأن الادله الشرعية قد دلت على صحة تذكيته وانه اهل لأن يذكي، وانما حرمت الابل والشحم عليهم خاصة، فعلى ذلك التذكيه فيهم صحيحه، فاذا ذكوا الابل فان تذكيتهم صحيحه وهي انما هي محرمه عليهم دوننا – وهذا هو القول الأرجح في هذه المسأله. قال:] ولو مراهقاً [ وهو من قارب البلوغ قال:] أو امرأة [ ويدل على ذلك ما ثبت في البخارى: ان امراه ذبحت شاة بحجر فسئل النبى صلى الله عليه وسلم عن ذلك فأمر بأكلها " أي كان الحجر حاداً قد انهر الدم. والشاهد هنا: ان النبى - صلى الله عليه وسلم - قد أقر بأكلها مع ان المذكيه لها امرأه. قال:] أو اقلف او أعمى [أو جنباً او حائضاً. أو فاسقا. ما دام انه مسلم او كتابي فان ذبحه يصح. والنصراني أقلف أي غير مختون ومع ذلك تصح ذبيحته، فهذا دليل على صحة تذكيه الأقلف قال:] ولا تباح ذكاة سكران ومجنون [. لانه يشترط ان يكون عاقلاً، وليس المجنون ولا السكران كذلك. قال:] ووثني ومجوسي ومرتد [ الوثنى لا تحل ذبيحته اجماعاً وكذلك المجوسي باتفاق العلماء الا ما ذكر عن أبي ثور فانه أباح تذكيته بناءً على انه من اهل الكتاب والصحيح ان المجوس ليسوا من أهل الكتاب كما تقدم تقريره في درس سابق، وانما أجرى النبى - صلى الله عليه وسلم - الجزيه عليهم كسائر الكفار، لان الصحيح ان الجزيه ليست مختصه بأهل الكتاب كما تقدم تقريره في كتاب الجهاد. (ومرتد) : وقد تقدم التنبيه على هذا وان المرتد لا تحل ذبيحته – حتى لو ارتد الى اليهوديه او النصرانيه. قال:] الثاني: الالة فتباح الذكاة بكل محدد [ لقوله - صلى الله عليه وسلم - (ما انهر الدم وذكر اسم الله عليه فكل ليس السنّ والظفر، اما السن فعظم، واما الظفر فمدى الحبشه) متفق عليه. فكل ما انهر الدم فان التذكيه به صحيحه مجزئه. قال:] ولو مغصوبا [ في اصح الوجهين في مذهب الإمام احمد، وهو اصح القولين لاهل العلم.

وذلك: لان المغصوب إذا ذبح به، فالنهي عنه ليس عائداً الى الذات وانما الى أمر آخر. - صلى الله عليه وسلم - لم يقل لا تذبحوا بالشىء المغصوب ولو قال ذلك لكانت الذبيحه محرمه. فهنا التحريم لأمر خارج. والقاعده: ان التحريم اذا كان لأمر خارج فان الفعل يجزئ وعليه فالتذكية صحيحه لكنه آثم. قال:] من حديد وحجر وقصب وغيره [ وكل ما انهر الدم فالتذكيه به جائزه. قال: (الا السن) قالوا: الا السن خاصه، للحديث المتقدم: (ليس السن والظفر) . وقال الشافعيه وهو روايه عن الامام احمد واختيار شيخ الإسلام وتلميذه ابن القيم: بل السن وسائر العظام. وهو الراجح. لقوله - صلى الله عليه وسلم - ((اما السن فعظم)) فهنا علل - صلى الله عليه وسلم - المنع فكل عظم لا يحل ان يذكي به. وعليه فالتذكيه ايضاً لا تصح لان النهي لذاته. قال:] والظفر [ لحديث:) ليس السن والظفر – واما الظفر فمدى الحبشة (– ومدى جمع مديه وهي السكين أي كان الحبشة يطيلون أظافرهم فإذا أرادوا ان يذكوا ذكوا بالظفر فنهى النبى صلى الله عليه وسلم عن ذلك. -والمشهور في المذهب: ان الظفر – مطلقاً – لا تحل التذكيه به سواء كان متصلاً ام منفصلاً، من انسان او من حيوان. -وقال الأحناف: لا يجزئ الا إن كان متصلاً. وهذا – فيما يظهر لى – اظهر لظاهر تعليل النبى - صلى الله عليه وسلم -فإنه قال:" ما انهر الدم " ويدخل في ذلك الظفر، فان الظفر ينهر الدم – واستثنى من ذلك الظفر وعلل ذلك بانها مدى الحبشة فدل على انه ما كان على صفه فعلهم فانه لا يحل. وقد يكون المنع من ذلك لما فيه من التشبه بهم، ولما فيه من التشبه بالطيور ومن التشبه بالطيور ذات المخالب والسباع لذلك حرم. اذن الراجح ما ذهب اليه الأحناف في هذه المسألة فالراجح انه انما يحرم حيث كان ظفر الانسان خاصه وكان متصلاً به والله اعلم. قال:] الثالث: قطع الحلقوم والمرىء [

الحلقوم هو مجرى النفس والمرى هو مجرى الطعام والشراب. 1-والمشهور في مذهب احمد والشافعي ان الذبيحه لا تحل حتى يقطع الحلقوم والمرىء قالوا: لان بهما غياب الحياة في الحيوان فإذا قطع اجزأ ذلك. 2-وعن الإمام احمد انه لا يجزئ حتى يقطع الحلقوم والمريء والودجين " وهما الوريدان اللذان يحيطان بالمريء والحلقوم وهما مجرى الدم فيتبين لنا أنهما أهم واولى بالقطع لكونهما مجرى الدم. قال - صلى الله عليه وسلم - (ما انهر الدم) وقال الأحناف: حتى يقطع ثلاثا من اربع، فإذا قطع احد الودجين والحلقوم والمريء أجزأ، واذا قطع الودجين وقطع الحلقوم أو المرىء فان ذلك يجزى. وقال بعض الحنابله كما قال – صاحب الكافى – " يجزئ قطع الودجين " اذن في المسأله خلاف كثير بين اهل العلم والنبى - صلى الله عليه وسلم - قد قال:" ما انهر الدم " يدل هذا على ان ما ثبت فيه انهار الدم فانه يجزئ. وعلى ذلك فالذي يرجح ما ذكره بعض الحنابله من انه اذا ُقطع الودجان فان ذلك يجزئ. ذلك لان قطع الودجين ينهر الدم. واما قطع الحلقوم فالذي يرجح وجوبه وانه ليس شرطاً في الإجزاء – لكنه يجب لما فيه من أراحة البهيمة،وذلك لان بقاء نفسها مع قطع ودجها فيه إيذاء كبير وقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم بإحسان الذبحة فقال: (فإذا ذبحتم فاحسنوا الذبحه) . قال:] فان ابان الرأس بالذبح لم يحرم المذبوح [ هذا ظاهر جداً فلو اخذ السيف فقطع رأسها مره واحده ففصله عن جسمها فحينئذ يكون قد قطع الودجين والحلقوم والمريء فلا إشكال في انه يجزئ. قال:] وذكاة ما عجز عنه من الصيد والنعم المتوحشه، والواقعه في بئر ونحوها نحره في أي موضع كان من بدنه [. (والنعم المتوحشه) كالإبل والبقر والغنم التى تتوحش

فما عجز عنه من الصيد والنعم المتوحشه او الواقعه في بئر ونحوها بان يجرحه في أي موضع كان من بدنه ويدل عليه: ما في الصحيحين: قال ندّ بعير فاهوى اليه رجل بسهم فحبسه فقال النبى - صلى الله عليه وسلم -: (ان لهذه البهائم أو ابد كأوابد الوحش فما ندّ منكم فاصنعوا به هكذا) فاذا فرّ البعير وعجز عن امساكه لتذكيته او البقر او غير ذلك من الحيوانات او سقط شئ منها في بئر فما امكن لنا ان نذكيه الا ان نرميه بسهم ونحوه فإن حينئذ يجوز ذلك. إذن: الواجب علينا في البقر والأغنام والإبل من بهيمه الأنعام الواجب التذكيه لكن هذا مع القدره على ذلك اما مع العجز عن التذكيه كأن يفر البعير او يسقط في بئر او نحو ذلك فانه يرمى بسهم من أي موضع كان في بدنه للحديث. قال] إلا ان يكون رأسه في الماء ونحوه فلا يباح [ ولانه لا يدري هل السهم قتله أم الماء لذا قال - صلى الله عليه وسلم - كما في الصحيحين: (فإذا وجدت غريقاً في الماء فلا تأكله فإنك لا تدري الماء قتله أم سهمك) فما لم نتحقق من تذكيته فانه لا يحل، كان يكون على راس نهر فرمى بسهم فوقع في الماء فإننا لا ندرى الماء قتله او السهم فتغليباً لجانب الحظر يحرم. لكن لو تحققنا ان السهم هو الذي قتله كأن يكون الماء قليلاً ونحو ذلك فانه يجوز أكله. مسألة: اذا ذبحت البهيمه وفي بطنها جنين، فذكاتها ذكاة لجنينها. لما ثبت في مسند أحمد – والحديث صحيح – ان النبى - صلى الله عليه وسلم - قال " ذكاة الجنين ذكاة أمه " لكن ان خرج وفيه حياه مستقره فحينئذ تجب تذكيته. أما لو خرج ميتاً او خرج يتحرك حركة المذبوح فانه يحل للحديث المتقدم. -وظاهر كلام الحنابله، بل نصوا على ذلك – سواء أشعر ام لم يشعر أي سواء نبت الشعر عليه ام لا؟ وقال المالكيه، هذا الحكم حيث أشعر وهذا هو الصحيح لاثر موقوف صحيح على ابن عمر رواه مالك في موطئه ولا يعلم لابن عمر مخالف.

والقاعده عند الحنابله – ان قول الصحابي يخصص العموم – فعلى ذلك يجب ان يخصص الحديث بهذا الأثر الصحيح الثابت عند ابن عمر الذي لا يعلم له مخالف. اذن: هذا الحكم حيث أشعر اما إذا لم يشعر فانه لا يحل كما هو مذهب المالكيه وهو قول ابن عمر – كما تقدم. مسأله: من أدرك مترديه أو ما أكل السبع منه – فذكاها – فهل تحل ام لا؟ نص الله عز وجل على حلها بقوله (وما أكل السبع الا ما ذكيتم) فإذا أدركنا شاة مع سبع فذكيناها أو تردت شاه فأدركناها فذكيناها فإنها تحل بنص القرآن لكن اختلف اهل العلم متى تحل بالتذكيه. فقال الحنابله والشافعيه: إنما تحل حيث كانت فيها حياة مستقرة هي ما دون حركات المذبوح. فلو أدركناها وهي حية حياة مستقرة فإنها تحل بالتذكية. والقول الثاني: وهو مذهب الاحناف: إنها تحل متى ما وجد فيها شىء من الحياة وان كانت تتحرك كحركه المذبوح واختار هذا القول شيخ الاسلام: حيث خرج منها الدم الأحمر الذي يخرج من المذكاة في العادة. وهذا هو القول الصحيح في المسأله. فاذا أدركها مع السبع أو تردت فلما ذبحها خرج الدم الاحمر الذي يخرج من المذكاة في العادة فانها تكون حلالاً ويستدل على هذا: بما ثبت في البخارى عن كعب بن مالك ان جارية له كانت ترعى غنما بسلع فاصيبت شاة منها قال: "فأدركتها فذبحتها، فسئل - صلى الله عليه وسلم -عن ذلك فقال: كلوها ". وهنا النبى - صلى الله عليه وسلم - لم يستفصل هل ادركتها وفيها حياه مستقره ام ان فيها بعض حياة، وترك الاستفصال في مقام الاحتمال ينزل منزله العموم في المقال. قال:] الرابع: ان يقول عند الذبح بسم الله لا يجزيه غيرها [ هذا هو الشرط الرابع. ودليله: ما ثبت في الصحيحين ان النبى - صلى الله عليه وسلم - قال: (ما انهر الدم وذكر اسم الله عليه فكل " فقوله (وذكر اسم الله) في سياق الشرط فكانت من الشروط – فدل على ان التسميه شرط.

وهو مذهب جمهور العلماء. وقال الشافعيه: وهو روايه عن الإمام أحمد: بل هي سنة واستدلوا: بما ثبت في الصحيحين عن عائشه: ان ناساً قالوا يا رسول الله: ان قوماً يأتوننا باللحم لا ندرى أذكروا اسم الله عليه ام لا فقال صلى الله عليه وسلم (سموا عليه انتم وكلوا) . قالوا: ولو كانت التسميه شرطاً لما اكتفى النبى - صلى الله عليه وسلم - بقوله (سموا عليه انتم وكلوا) بل لاشترط ان يتحقق من وجود التسميه أي لقال: لا تأكلوا حتى يثبت لكم انهم ذكروا اسم الله عليه " وهذا الاستدلال ضعيف. بل الحديث يدل على شرطية التسمية فان هذا السؤال إنما يدل على ان المتقرر عندهم هو فرضيه التسمية – لكنهم سألوا النبى صلى الله عليه وسلم عن ناس من المسلمين وهم لا يدرون –أي المأتى اليهم – لا يدرون اذكروا اسم الله عليه ام لا؟ والأصل في ذبيحه المسلم الحل وانه يذكر اسم الله عليها. ولذا أرشدهم النبى صلى الله عليه وسلم الى ما هو مشروع في حقهم وهو قوله (سموا عليه انتم وكلوا) فهذا هو المشروع في حقهم والمتعلق بفعلهم واما التسميه عند الذبح فهي متعلقه بفعل الذابح. إذن: الصحيح ما ذهب اليه الجمهور من ان التسميه شرط (لا يجزئ غيرها) : فلو قال باسم الرحمن او باسم الخلاق او غير ذلك فانه لا يجزىء لقوله صلى الله عليه وسلم (اذكروا اسم الله عليها) واسم الله اذا اطلق فانما ينصرف الى قول "باسم الله " وهو الثابت عن النبى صلى الله عليه وسلم – كما في صحيح مسلم لما ضحى انه قال: (بسم الله والله اكبر) . اذن لا يجزئ الا ان يقول باسم الله لكن قالوا: لو قال بغير اللغة العربية ما يرادف باسم الله فانه يجزئه ولو مع القدره. ومع القدره فيه اشكال والذي يتبين عدم الاجزاء واما مع عدم القدره فلا يكلف الله نفساً الا وسعها. قال:] فان تركها سهوا أبيحت لا عمداً [.

هذا هو المشهور في المذهب لان التسميه اذا تركت سهوا فان الذبيحه تحل واما اذا تركت عمداً فانها لا تحل قالوا واما اذا تركها جهلاً فانها لا تحل. فالمشهور في المذهب: انها شرط لكنها تسقط بالسهو ولا تسقط بالجهل. قالوا: كالصوم فان من اكل ناسيا عندهم فانه لا يفطر ومن اكل جاهلاً فانه يفطر – هذا هو القول الاول في المسأله وهو المشهور في مذهب احمد وكذلك هو المشهور في مذهب مالك وابى حنيفه. 2- والقول الثاني في المسألة: إنها سنه وهو مذهب الشافعي وروايه عن الأمام احمد وتقدم ذكر دليلهم والجواب عنه. 3-والقول الثالث: وهو مذهب اهل الظاهر وروايه عن الأمام احمد واختيار شيخ الإسلام: إنها لا تسقط أي التسميه لا بسهو ولا بجهل. واستدل: بعمومات الادله كحديث (ما انهر الدم وذكر اسم الله عليه فكل) ولقوله تعالى {لا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه وانه لفسق} قالوا: فهذه أدلة عامه تدل على انها لا تسقط لا بسهو ولا بجهل. قالوا: واما قوله – صلى الله عليه وسلم: (رفع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه) " فهذا في رفع الإثم والمؤاخذه كما ان الرجل اذا صلى بلا وضوء فلا اثم عليه لكن صلاته لا تصح فكذلك اذا ذبح ولم يسم الله فلا إثم لكن دبيحته لا تجزئ. -والذي يترجح من هذه الأقوال ما ذهب اليه الحنابله وذلك لامور: منها ان هذا هو الناس عن ابن عباس – فقد ثبت عنه انه قال: "ان نسى فلا بأس " روى ذلك البخارى معلقا وبوب عليه، مما يدل على اختياره لهذا القول ووصل هذا الاثر الدارقطنى واسناده صحيح، ولا يعلم له مخالف / وقول الصحابي يخصص العموم كما تقدم تقريره. ان الطبرى – وهو ممن اختار هذا القول – قد حكى الاجماع عليه. وقال – فيمن لا يسقط بالنسيان – وهو قول بعيد لشذوذه وخروجه عما عليه الجماعه " وحكى الاجماع على هذا القول ولم يذكر خلافا في المسأله.

ثم ان قوله تعالى {ولا تاكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه وانه لفسق} يدل على ان المراد بما لم يذكر اسم الله عليه، مما اهل به لغير الله او كان ميته. بدليل قوله تعالى: {وانه لفسق} ومعلوم ان كون المسلم نسي التسميه هذا ليس بفسق والقرآن يفسر بعضه بعضا، فقد قال تعالى هنا {وانه لفسق} وقال في ايه اخرى: {او فسقاً اهل لغير الله به} فالذي يرجح هو ما ذهب إليه الحنابله -والحنابله عمدتهم في التفريق بين الجاهل والناسي – ليس حديث (رفع عن امتى الخطأ والنسيان) لان هذا الحديث يدخل فيه الجهل. انما عمدتهم: حديث ضعيف رواه الدارقطنى: ان النبى - صلى الله عليه وسلم - قال (المسلم يكفيه اسمه فان نسى فلم يسم فلسم ويأكل) لكن الحديث إسناده فيه ضعيف. لكن هذا ثابت عن ابن عباس ولا نعلم له مخالف – كما تقدم – فعمدتهم تعريفهم هذا الحديث وهو ضعيف. قال:] ويكره ان يذبح بآلة كالة [ أي غير حاده، قد استعملت مراراً وتكراراً حتى صارت لا تنهر الدم انهاراً تاماً وتؤذى البهيمه. ويدل عليه قوله - صلى الله عليه وسلم -: (إن الله كتب الإحسان على كل شئ فإذا قتلتم فاحسنوا القتله وإذا ذبحتم فاحسنوا الذبحه وليحد أحدكم شفرته وليرح ذبيحته) وظاهر الحديث الوجوب وهو قول بعض الحنابله – وهو ظاهر اختيار شيخ الإسلام. لقوله: (ان الله كتب) والكتب يدل على الوجوب. ولقوله (وليحد،وليرح) هذا أمر وظاهر الأمر الوجوب. قال:] وان يحدها والحيوان يبصره [ فيكره ان تحد السكين ونحوها – والحيوان يبصره لما فيه من الاذيه للحيوان. وفي مسند أحمد بإسناد ضعيف ان النبى - صلى الله عليه وسلم - (أمر ان تحد الشفار وان يوارى عن البهائم) قال:] وان يوجهه الى غير القبله [ يكره ان يوجه البهيمه الى غير القبله. ولا دليل على الكراهيه، بل ولا هناك نص ظاهر يدل على استحباب ذلك.

واستدلوا: بما يروى البيهقى ان النبى صلى الله عليه وسلم في حديث جابر " وجهها " أي الى القبله " وقال وجهت وجهى:" الحديث " لكن الحديث اسناده ضعيف. قالوا: وتقاس على الاذان، قالوا لانه يتعبد لله بها فالمقصود ان غايه الامر ان يكون ذلك مستحباً وأما ان يقال ان ترك ذلك يكره فلا يظهر هذا. قال:] وأن يكسر عنقه او يسلخه قبل ان يبرد [ فلوا ان رجلاً كسر عنقها وبها حياة أو سلخها وفيها حياة. هذا لا يحل. وقوله (قبل ان يبرد) أي قبل ان يموت وقد قال هنا (يكره) . وهذا الحكم ضعيف بالنسبه الى هذا الفعل، والذي يستحقه هذا الفعل هو التحريم وهو قول القاضى من الحنابله ويدل عليه حديث (ان الله كتب الاحسان) (وليرح ذبيحته) . فالراجح ان هذا الفعل محرم، وهو قول القاضى من الحنابله وظاهر اختيار شيخ الإسلام. والحمدالله رب العالمين باب الصيد دلّ على اباحة الصيد: الكتاب والسنة واجماع العلماء. أما الكتاب: فقوله تعالى: {واذا حللتم فاصطادوا} وأما السنه: فيها حديث عدي بن حاتم وهو ثابت في الصحيحين وسيأتى ذكر بعض الفاظه. وأما الإجماع فقد أجمع أهل العلم على ذلك أي على اباحة الصيد. والصيد هو: اقتناص المأكول الحلال المتوحش طبعاً غير المقدور عليه. فقولنا: " المتوحش طبعاً " يخرج من ذلك ما توحش على غير طبع كالإبل والبقر إذا ندّت، ولها حكم الصيد كما تقدم ذكره في قوله - صلى الله عليه وسلم -" الا ان لهذه البهائم أوابد كاوابد الوحش فما ندّ منها فاصنعوا به هكذا ". "غير المقدور عليه " يخرج من ذلك المتوحش طبعاً المتأهل وان كان في الاصل متوحشاً. كأن تؤخذ بعض صغار الغزلان او غيرها ثم توضع في البيوت فتربى فهي في الأصل متوحشه، لكنها في هذه الحاله ليست كذلك بل هي متأهله، فلا يحل صيدها وانما لا بدّ ان تذكى لأنها مقدور عليها. قال:] لا يحل الصيد المقتول في الاصطياد الا باربعه شروط:-

احدها: ان يكون الصائد من أهل الذكاه [. هذا هو الشرط الأول: وهو ان يكون الصائد من اهل الذكاة، لان الاصطياد يقوم مقام الذكاه. ولذا قال - صلى الله عليه وسلم -– كما في الصحيحين (فإن اخذ الكلب ذكاة) . وعليه فلا بد وان يكون الصائد من أهل الذكاة، فلو صاد غير المميز او صاد المميز الكافر او المييز غير العاقل فان الصيد لا يحل الا ان يكون الكافر كتابياً. اذن: لا بدّ ان يكون الصائد عاقلاً مسلماً او كتابياً كما تقدم ذكره. قال: (الثاني: الآلة وهي نوعان: محدد يشترط فيه ما يشترط في اله الذبح) فالشرط الثاني: الآلة وهي نوعان:- النوع الأول: محدّد فيشترط فيه ما يشترط في آله الذبح فلا تحل ان يكون سناً ولا ظفراً لان الاصطياد يقوم مقام الذكاة " وفي صحيح البخارى ان عدي بن حاتم سأل النبى - صلى الله عليه وسلم - عن صيد المعراض فقال - صلى الله عليه وسلم - (إذا أصبت بحّده فكل واذا أصبت بعرضه فانه وقيذ فلا تأكل) والمعراض: يشبه الرمح فلا بد ان يكون محدداً ينهر الدم كأن يضرب بسهم او ان يضرب بالرصاص او غير ذلك مما يكون حاداً واما اذا لم يكن حادا فانه لا يحل للحديث المتقدم. قال:] وأن يجرح [ فلا بد ان يكون جارحاً ويدل عليه ما تقدم من حديث عدي وفيه " (اذا اصبت بحده فقتل فكل) أما لو ضرب بسهم لكن هذا السهم لم يجرحه فإنه حينئذ يكون وقيذاً. قال:] فإن قتله بثقله لم يبح [ اذا قتله بثقله فانه لا يباح فلو رميت برمح فقتل طائراً لكنه قتله بثقله فإنه لا يحل لانه لم يجرح. اذن: لا بد ان تكون الآلة ذات حد وأن تجرح. قال:] وما ليس بمحدد كالبندق [ المراد بالبندق: الحصى وهو كحصى الخذف، فإذا ضربه به فانه لا يصح لانه يكون وقيذا. واما البندق الذي هو الرصاص فلا إشكال في حله بل هو ابلغ من السهم لانه يجرح وينفذ أشد من نفوذ السهم. قال:] العصا والشبكه [.

فلو وضع شبكه فصادت، لكنه وجد الصيد ميتا فيها ولم يدركه فذبحه فلا يحل. قال:] والفخ لا يحل ما قتل به [. فلو وضع فخا فصاد صيداً، فوجد الصيد ميتاً فيه فإنه لا يحل. لكن لو أدركه في الشبكه او الفخ فذبحه فانه يحل لقوله تعالى {إلا ما ذكيتم} وهذه المسألة يرجع فيها الى المسألة السابقه. والمشهور في المذهب انه اذا كان فيه حياة مستقره الذبح يصح. والراجح انه بمجرد ما يخرج منه ما يخرج من المذكى في العادة فانه يجزئ. قال:] النوع الثاني: الجارحه [ لقوله تعالى: {وما علمتم من الجوارح} وهي نوعان: النوع الاول: الجارح من السباع كالكلب والفهد. النوع الثاني: الجارح من الطير كالصقر ونحوه. -ولا تحل الا ان يكون معلماً لقوله تعالى: {وما علمتم من الجوارح مكلبين} أي مؤدبين -فان كانت طيراً فتعليمها بشيئين: أنها اذا أرسلت استرسلت أي إذا أشار إليها بالصيد انطلقت اليه. وأنها إذا زجرها انزجرت أي إذا قال لها قفى فإنها تقف أي بعبارته التى تفهمها منه. فمتى ما كانت الطير هكذا فإنها تكون معلمه، فإن صادت فان صيدها يحل. واما إذا كانت كلباً فيشترط فيها مع الشرطين المذكورين في الطير – شرطاً ثالثا وهو آلا تأكل فان أكلت فإنها ليست بمعلمه. لقوله تعالى {فكلوا مما أمسكن عليكم} ففى تأديبها ثلاثه شروط: أنها إذا أرسلت استرسلت. وإذا زجرت انزجرت. ألا تأكل مما أمسكت. -والمشهور في المذهب ان ذلك – أي عدم الأكل يعرف بمرة واحده فإذا أرسلها مرة واحدة فلم تأكل فإنها تكون معلمه. والقول الثاني في المذهب ان ذلك يعرف بثلاث مرات

فإذا أرسلها ثلاث مرات فلم تأكل فإنها تكون معلمه والقول الثالث في المسألة:- وهو مذهب الشافعية وقول في مذهب أحمد أنه لا يكون معلماً الا أن يكون ذلك من طبيعته ويكون ذلك بثلاث مرات أو خمس أو عشر يرجع في ذلك الى أهل الخبرة، وهذا هو الصحيح إذ لا دليل على التحديد وكونه لا يأكل في المره الأولى أو لا يأكل حيث أرسل ثلاثا هذا لا يدل على أنه أصبح معلماً، بل حتى يكون من طبيعته أنه اذا أرسل الى الصيد لم يأكل منه 0 وأما الفهد – فالمذهب انه يشترط فيه ما يشترط في الكلب 0 وقال شيخ الإسلام ابن تيميه:- بل يرجع فيه إلى أهل الخبره، فإن كان من تعليمه الا يأكل فيكون كالكلب 0 وإن كان من تعليمه أن يأكل، فلا مانع أن يأكل كالطير فحينئذ يرجع الى أهل الخبرة بذلك 0 فقد تقدم أن الطير يكون معلماً إذا أسترسل إذا أرسل وأنزجز أذا زٌجر - وإن أكل مما يصيد 0 وأما الكلب فيشترط ألا يأكل 0 وأما الفهد فالمذهب كذلك – وأختار شيخ الاسلام أنه يرجع في ذلك الى أهل الخبرة فقد يكون عندهم يكتفى باسترساله أذا أرسل وانزجاره أذا زجر ولو أكل وهذا هو الراجح وأن مرجع ذلك الى أهل الخبره وهكذا في غير الفهد مما يصيد ننظر فيه الى أهل الخبره فإن قيل: لم فرقنا بين الطير وبين الكلب؟ 0 فالجواب:- أن الطير لا يضرب فيشق حينئذ تعليمه على ألا يأكل بخلاف الكلب ونحوه قال:-] الثالث:- إرسال الآلة قاصداً [.0 أي قاصداً الصيد فلو أرسل الآلة ولم يقصد فيها الصيد فإن الصيد لا يحل فلو أن رجلا رأى شاخصاً في بيته فظنه لصاً – فرماه فإذا هو وحش مما يحل صيده فلا يحل وذلك لأنه لم يقصد صيده ومعلوم أن القصد شرط في التذكية فكذلك في الصيد ومن ثم أشترطنا أن يكون الصائد عاقلاً 0 فإن أرسل سهماً يقصد طائراً ليصيده فصاد طائرا أخر أو أرسل سهمه ليصيد طائرا فصاده وصاد معه غيره فهل يحل ذلك أم لا؟ هذه مسألة 0

المسألة الثانية رجل أخذ السكين ليذبح شاة وقال بسم الله ثم ذبح غيرها فما الحكم؟ أما المسألة الأولى:- وهو فيما إذا أراد صيدا فأصاب آخر فإنه يحل له ذلك:- قال صاحب الانصاف ((بلا نزاع أعمله)) وكذلك أذا أصابه وأصاب معه غيره وذلك لأنه قصد الصيد فأجزاه ذلك 0 وأما في مسألة الشاه فلا يجزئ لاشتراط التمسة عليها لقوله صلى الله عليه وسلم (ما أنهر الدم وذكر أسم الله عليه فكل) فلابد أن تكون التسمية على خصوص المذكاة وأما الصيد فلا يشترط أن تكون التمسية على خصوصه 0 فهنا فرق في باب التسمية بين الصيد وبين الذبيحه 0 فالذبيحة:- يشترط أن تكون التمسيه لخصوصها فلو سمى على شاة وذبح غيرها لم يجزئ ذلك لحديث (ما أنهر الدم) الحديث 0 وأما اذا قال:- بسم الله وأرسل كلبه أو طائره أو رمى بسهمه فإنه يحل الصيد وإن صاد غيره وذلك لقوله صلى الله عليه وسلم (أذا أرسلت كلابك المعلمه وذكرت اسم الله فكل مما أمسكن عليك)) ولم يقل ((وذكرت اسم الله عليه)) وهو عام 0 وكذلك في السهم فقد قال صلى الله عليو سلم – كما مسند أحمد وسنن أبي داوود والترمذي – وابن ماجه والحديث صحيح من حديث أبي ثعلبه الخشني قال صلى الله عليه وسلم (كل ما رد عليك قوسك) وهذا هو الذي تقتضيه السعه في هذا الباب، فإن الصائد قد يقصد شيئاً فيصيد شيئاً أخر لأن الصيد غير مقدور عليه فليس تحت يده بخلاف المذكى فإنه تحت يده فلا يشق عليه أن تكون التسمية على خصوص العين المذبوحة 0 ومسألة:- إذا قال (باسم الله) وأخذ سهماً ثم غير هذا السهم بسهم أخر ثم رمى به 0 قال الحنابلة:- لا يجزئ، فلو أن رجلا جهز البندقية وفيها شئ من الرصاص، فلما أراد أن يرمي بها كأنه غير ذلك لأمر معين ثم وضع رصاصه أخرى ثم رمى بها فإنه لا يجزئ.

ولو وضع الشاه على الارض ثم أخذ سكيناً فسمى بالله فوجد السكين كاله فرماها ثم أخذ سكيناً أخرى فذبح بها فإنه يجزئ في المذهب في هذه الصورة، وفي الصورة الأولى لا يجزئ 0 ولا يظهر أن هناك فارقاً معتبراً، لذا إختار الشيخ عبد الرحمن السعدي إستواء الصورتين لأن المقصود هو التذكيه فلا فرق بين الصورتين 0 وكأنهم – أى الحنابله – لمحوا أن التسمية على الآلة كما أن النبي صلى الله عليه وسلم جعل التسميه على الآله مجزئه وإن لم تكن بخصوص الصيد، لكن لا يظهر أن هذا فرق مؤثر 0 قال:-] فإن استرسل الكلب أو غيره بنفسه لم يبح [0 إذا أسترسل الكلب أو غيره كالصقر بنفسه كأن يرى شيئا من الصيد فإنطلق اليه ليصيده فإنه لا يباح 0 ويدل عليه قوله صلى الله عليه وسلم (أذا أرسلت كلبك ((وهذا شرط)) وذكرت أسم الله فكل) قال:-] الا أن يزجره فيزيد في طلبه فيحل [. فلو رأى الصائد أن الطير قد أنطلق الى شىء مما يصاد فلما رآه أنطلق زجره فأنزجر وزاد في عدوه كأنه يحل وذلك فإنه لما زاد في عدوه دل على أنه إنما صاد لصاحبه ولأنه اجتمع فعل ادمي وفعل بهيمه وأذا وجد فعل الآدمي مع فعل البهيمه فإنه هو المعتبر، وعليه فيلغى فعل البهيمه 0 وظ\هر كلام المؤلف أنه لو زجره فلم يزد في عدوه تبين أنه ليس للأدمي أثر وعليه فلا يحل – وهو كما ذكر – وذلك لأن الكلب لم يسترسل بإرسال صاحبه وإنما أسترسل بنفسه والشرط أن يرسله صاحبه للحديت المتقدم 0 مسألة فإن أرسل الصائد كلبه فأكل فهل يحل أكله أم لا، وهذا خاص في الكلب والفهد على قول؟ الجواب لا يحل كما ثبت في الصحيحين من حديث عدي بن حاتم ومنه ((إذ1 أرسلت كلابك المعلمه وذكرت اسم الله فكل مما أسكن عليك الا أن يأكل الكلب فلا تأكل فإني أخاف أن يكون إنما امسك على نفسه)) والله عز وجل يقول {فكلوا مما أمسكن عليكم} فإذا أكل منها فهذا يدل على أنه إنما أمسك على نفسه فلا يحل ذلك 0

فإن قيل:- فما الجواب عما روى أبو داود أن النبي صلى الله عليه وسلم قال (إذا أرسلت الكلب وذكرت اسم الله فكل وإن أكل) فالجواب أنه من حديث عمرو الأودي وهو مقارب الحديث كما قال ذلك الإمام أحمد لكن هنا خالف هذا الحديث المتفق عليه وكان حديثه منكراَ فعلى ذلك الحديث منكر لا يصح 0 قال] : الراجح التمسيه عند إرسال السهم أو الجارحه [. أو قبيله بزمن يسير غرفاً لقوله صلى الله عليه وسلم (إذا رميت سهما فأذكر اسم الله) ، وقال صلى الله عليه وسلم (إذا أرسلت كلابك المعلمه وذكرت اسم الله) قال] : فإن تركها عمدا أو سهوا لم يبح [0 اذن في الصيد ان تركها سهواً فانه لا يباح، فقد فرقوا بين التسميه على الصيد وبين التسميه على الذبيحه. قالوا: الفرق بينهما،1- التسميه على الذبيحه يسامح فيها لان الذبح وقع في محله فقد قطع الحلقوه والمرىء فكان الذبح في محله. واما الصيد فليس في محله فانه قد يضربها في بطنها او ظهرها فتموت بذلك فليس الذبح في محله فلم يتسامح فيه. -وعن الامام أحمد وهو قول الأحناف والمالكيه:- أن السهو كذلك هنا معفى عنه كما يعفى في الذبيحه. قال الشيخ عبد الرحمن السعدي:" والصواب التسوية بين النسيان والجهل في ترك التسميه على الذبائح والصيد لعدم الفارق بينهما ولان الشارع قد سوى بينهما بعدم المؤاخذه " والصحيح هو هذا القول لعدم الفارق بين الذبيحه والصيد في هذا الباب بل الصيد أولى لأن الصيد يتسامح فيه. ولذا انه اذا سمى على الآله او على الكلب – فصاد ولو كان الصيد شئاً آخر غير الذي أرسل اليه فانه يجزئ. وكذلك لا يد فى الذبيحه ان يكون ذلك بقطع الودجين كما تقدم (انظر الدرس السابق) واما هنا فاالأمر يتسامح فيه، فدل على ان الصيد يتسامح فيه وأيضا في الغالب يكون النسيان، فانه قد يتبع الصيد فيغفل عن التسميه، ومن تتبع الصيد غفل.

ولأنه قد يخرج عليه فجأة، بخلاف الذبيحه فان ذلك لا يكون فيها فكان الصيد أولى بالتسامح. وأما ما ذكروه فليس بمؤثر لأن الشارع جعل الإصابه بحد السهم او بناب او مخلب الجارح – جعله في مقام الذبح تماماً. قال] :ويسن ان يقول معها الله اكبر كالذكاة [ فيستحب في الذكاة والصيد ان يقول مع بسم الله: الله اكبر. أما في الذكاة، فلما ثبت في صحيح مسلم ان النبى صلى الله عليه وسلم قال – على أضحيته: " بسم الله والله اكبر ". قالوا: والصيد يقاس على ذلك. -واما الصلاة على النبى صلى الله عليه وسلم حينئذ فلا تشرع وذلك لعدم ثبوت ذلك عن النبى صلى الله عليه وسلم. والحمد الله رب العالمين ثم سالت شيخنا بعد الدرس: عن استحباب الحنابله قول " الله اكبر " عند الصيد مع التسميه فقال – حفظه الله – هذا محل توقف وذلك لأن القياس في باب العبادات محل نظر بل الاصل انه لا يقاس في باب العبادات. ثم سئل: عن رجل رمى صيداً فأصابه فوقع على حجر فمات فما الحكم؟ الجواب: اذا كان يعلم انه قد مات بسبب رميته فانه يحل. وكذلك اذا وقع في الماء فوجوه غريقا. اما اذا كان لا يدرى هل مات بسبب رميه او بسبب الحجر في الصورة الأولى، والماء في الصورة الثانيه، فلا يحل للحديث المتفق عليه: (واذا وجدته غريقا في الماء فلا تأكل فإنك لا تدرى الماء قتله او سهمك) .

كتاب القضاء، المقدمة إلى باب حكم كتاب القاضي إلى القاضي

كتاب القضاء القضاء في اللغة: الفصل والحكم وفي الاصطلاح الفقهي:تبيين الحكم الشرعي والإلزام به وفصل الخصومات. "تبيين الحكم الشرعي "،وبهذا يتفق القاضي مع المفتى في تبين الحكم الشرعي، وإن كان المفتى أوسع دائرة منه في تبيين الحكم الشرعي وذلك لان القاضي إنما يبين الحكم الشرعي في المسائل المتنازع فيها. وأما المفتى فانه يبينها في المسائل المتنازع فيها وفي غيرها. وفي قولنا: والإلزام به " يفترق بهذ القيد المفتي عن القاضي فإن المفتي لا يلزم بالحكم الشرعي وأما القاضي فإنه يلزم به". قال:] وهو فرض كفاية [ فالقضاء فرض كفاية، لأن الناس لا يستقيم أمرهم إلا به. -وهل متعين على أحد ان يتولى القضاء؟ لا يتعين ذلك إلا ألا يكون هناك من يقوم به سواه، فان لم يكن في الإقليم أو في المنطقة أو في البلدة من يقوم بالقضاء وقد توفرت فيه شروطه، سوى هذا العالم فواجب عليه أن يقوم به فهو فرض عين عليه. إذن: القضاء في الأصل فرض كفاية لكن قد يتعين فإن كان غير متعين عليه فهل يسن أن يتولى القضاء ام لا؟ قولان لاهل العلم هما روايتان عن الامام أحمد: القول الأول: أنه لا يتعين. واستدلوا: بما روى الاربعة أن النبى صلي الله عليه وسلم قال (من ولى القضاء فقد ذبح بغير سكين) والحديث حسنه الترمذي وهو كما قال واستدلوا:بما روى الخمسة – أن النبى صلى الله عليه وسلم قال:"القضاة ثلاثه: اثنان في النار وواحد في الجنه: رجل عرف الحق فقضى به فهو في الجنة، ورجل عرف الحق فلم يقض به جاز في الحكم فهو في النار، ورجل لم يعرف الحق فقضى للناس على جهل فهو في النار". واستدلوا بحديث ضعيف في مسند أحمد أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "سيأتي على القاضي العادل ساعة يود انه لم يقض بين الناس في تمرة " والقول الثاني: أنه سنة.

يدل على ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم: كان يتولى القضاء، وأن خلفاءه الراشدين كانوا يتولونه , وكذلك كان خيار الناس وفضلاؤهم في القرون المفضله كانوا يتولون القضاء وهذا هو القول الراجح في المسألة وأنه مستحب وأما الدليلان اللذان استدل بهما أهل القول الأول فليس فيهما أنه ليس سنة، وإنما فيهما ما يحيط القاضي من المخاوف في قضائه فانه يخشى عليه الرغبة أو الرهبة او المجاملة أو المحاباة.. وأما أن يكون من تأهل للقضاء لا يستحب له ذلك مع أمنه على نفسه من هذه المخاوف فلا إذن: أرجح القولين أنه سنه. قال شيخ الإسلام:"" والواجب في ولاية القضاء اتخاذها ديناً وقربة فإنها من أفضل القربات وإنما فسد حال الأكثر بطلب الرئاسة والمال فيها "" هـ فهو إذن من افضل القربات لما فيه من فصل النزاع بين الناس وإقامه العدل بينهم. قال:] يلزم الإمام ان ينصب في كل إقليم قاضيا [ ففرض قيام الإمام أن ينصب في كل إقليم من الأقاليم الاسلامية قاضيا يقضى بين الناس. قال:] ويختار أفضل من يجده علماً وورعاً [ يختار الإمام أفضل من يجده علماً وورعاً، لأنه – أي الإمام ناظر للمسلمين – والواجب على الناظر ان يختار الأصلح. قال:] ويأمره بتقوى – وان يتحرى العدل ويجتهد في إقامته [ قال شيخ الإسلام " من عمل بما يمكنه لم يلزمه ما يعجز عنه " إذا تحرى العدل واجتهد في الوصول إليه فإنه معذور عند الله فيما عجز عنه. ولذا قال صلى الله عليه وسلم – في الصحيحين -: إذا اجتهد الحاكم فأصاب فله أجران وإذا اجتهد فأخطأ فله اجر " وقال صلى الله عليه وسلم: " إنما أقضي بنحو ما أسمع " قال:] فيقول: وليتك الحكم، أو قلدتك ونحوه [ فيقول – أي الإمام الأعظم ومن ينوب عنه كما يكون هذا في رئيس القضاة ونحوه- فيقول لمن يريد أن يوليه القضاء: وليتك الحكم او قلدتك ونحوه من الألفاظ التى تدل على تولية القضاء فكل قول يدل عليه فإانه يعمل به.

قال:] ويكاتبه في البعد [. فإذا كان بعيداً فإنه يكاتبه بذلك أي يكتب إليه ورقة فيها توليته القضاء، وهذا كالوكالة فكما تجوز بالكتابة فكذلك القضاء. -ثم شرع المؤلف في بيان ما يستفاد من ولاية القضاء أي الأعمال التى يقوم بها القاضي ز وما يذكره المؤلف مبنى على ما جرت به العادة عندهم قال:] وتفيد ولاية الحكم العامة الفصل بين الخصوم، واخذ الحق لبعضهم من بعض، والنظر في أقوال غير الراشدين [. أي النظر في أقوال السفهاء والصبيان. قال:] والحجر على من يستوجبه لسفه او فلس [ فمن استوجب الحجر عليه لفلس أو سفه فإنه يتولى ذلك القاضى قال:] والنظر في وقوف عمله ليعمل بشرطها [ أي النظر في أوقاف الإقليم الذي هو فيه. قال:] وتنفيذ الوصايا، وتزويج من لا ولى لها [ كما تقدم في الحديث: " فان اشجروا فالسلطان ولى من لا ولى له " قال:] وإقامة الحدود وإقامة الجمعة والعيد، والنظر في مصالح عمله بكف الاذى عن الطرقات وأفنيتها [ والغناء ما يسع امام الدار. قال:] ونحوه [ من أخد الخراج وجني الزكاة. -هكذا يستفاد من الولاية في عصر المؤلف – وليس لذلك حد شرعي كما قال ذلك شيخ الاسلام بل مرجع ذلك إلى الألفاظ والعرف. ونحن في عرفنا لا يتسع كل ما ذكره المؤلف – للقضاة بل منه ما يكون لهم ومنه ما لا يكون لهم. إذن: يستفاد من ولاية القضاء عندهم – ما ذكره المؤلف هنا إلا أن يستثنى شيء من ذلك، كأن ينصب عامل لجنى الزكاة أو أن ينصب رجل لإقامة العيد والجمعة؟ ومرجع ما يستفاد من الولاية الى الألفاظ والعرف. قال:] ويجوز ان يولى عموم النظر في عموم العمل، ويولى خاصاً فيهما أو في أحدهما [. الحاله الاولى: ان يولى المولي "وهو الإمام الأعظم أو من ينوب عنه "يولى عموم النظر في عموم العمل " أي أن يوليه عموم النظر في المسائل المتنازع فيها وما يتصل فيها من المسائل التى تقدم ذكرها، في عموم العمل.

فيقول: قد وليتك سائر الأحكام في سائر البلدان وهذه أعلاها. الحال الثاني: "ان يوليه خاصاً فيهما، أي يوليه نظراً خاصاً في عمل خاص "أي اقليم خاص " فيقول – مثلاً -: أنت ولى أمر النكاح في الاقليم الفلاني فهنا ولايه النكاح نظر خاص، والإقليم الفلاني عمل خاص. الحال الثالث: ان يكون النظر عاماً والإقليم خاصاً كان يقول له: "وليتك سائر الأحكام في الاقليم الفلاني وهذا هو الكثير، فقوله سائر الأحكام: عموم في النظر. وقوله " في الاقليم الفلاني " خصوص في العمل. الحال الرابع: ان يكون النظر خاصاً والعمل عاماً كان يقول: وليتك أمور الأسلحة في سائر البلدان. إذن المراد بقوله: عموم النظر " أي عموم النظر في الأحكام والمراد بالعمل هنا أي الأقاليم. قال] ويشترط في القاضي عشر صفات [ هنا شرع في الشروط التى تشترط في القاضي قال] كونه بالغاً عاقلاً [ أي مكلفاً لأن غير المكلف تحت ولاية غيره فلا يصح أن يكون والياً. وهذا بالاتفاق. قال] ذكراً [ لان الانثى لا تصح ان تتولى ولاية في الإسلام، لقول النبى صلي الله عليه وسلم:"لا يفلح قوم ولوا أمرهم امرأة " راوه البخارى. وقال أبو حنيفه: يجوز ذلك في باب الأموال ونحوها أي دون الحدود لصحة شهادتها. وهذا نظر يخالف النص فلا عبرة به. فالصحيح ان المرأه لا تصح ان تتولى القضاء لا في الأموال ولا في الحدود. قال:] حرا ً [ قالوا: لأن العبد مشغول بخدمة سيده -واختار ابن عقيل وابو الخطاب من الحنابلة: انه يصح وهذا اظهر لأن ما ذكروه لا يقوى على المنع. قال (مسلماً عدلاً) "عدلا" لقوله تعالى "ولا ينال عهدي الظالمين " وهذا بالاتفاق. فالعداله شرط في القاضى. وعند العدم – أي عندما يعدم العدل. فكما قال شيخ الإسلام ابن تميمه: يولى الأنفع من الفاسقين واقلهما شراً. فيولى الأمثل فالأمثل وذكر ان ذلك ظاهر كلام احمد وغيره.

فالشروط تعتبر حسب الامكان،فإن لم يوجد عدل فإنه يولى من الفساق أعدلهم وأنفعهم. "مسلماً" وهذا شرط ظاهر جداً، ولا خلاف فيه بين اهل العلم. قال] سميعاً [ لأنه إن لم يكن سميعاً فإنه لا يسمع كلام المتخاصمين. قال:] بصيراً [ لأن الأعمى لا يعرف المدعى من المدعى عليه قال] متكلماً [ لأن الأخرس لا ينطق بالحكم، ولأن إشارته قد لا تعلم. -والراجح في هذه الشروط الثلاثة إنها شروط كمال وليست شروط صحة. أما السميع والبصير فقال صاحب الإنصاف:"وقيل لا يشترطان. واما الأخرس فهو قول في مذهب الشافعي – أن الأخرس يجوز كونه قاضياً. -وهذا ظاهر وذلك لان غير السميع يمكن أن تكتب له القضيه فيقضى فيها. وغير البصير يمكن أن ينصب ثقات عنده يبينون له الناس فيعرفونه بالمدعي من المدعى عليه. والأخرس الذي لا يتكلم يمكنه أن يكتب، أو يكون عنده من يعرف إشارته. قال] مجتهداً [ وحكى ابن جزم الاجماع على ذلك. وذهب أبو حنيفه: إلى انه لا يشترط. فإما ان يقال: إن ابا حنيفه خالف الاجماع، وإما أن يقال إن ابن حزم ذكر الاجماع على سبيل الخطأ مع وجود المخالف. ويقوى أن يكون الاجماع هو الثابت وان يكون خلاف أبي حنيفة بعد الإجماع.. وذلك لظهور الأدلة على اشتراط ذلك قال تعالى:"وأن احكم بينهم بما أنزل الله "وقال صلى الله عليه وسلم:"إذا اجتهد الحاكم فأصاب فله أجران وإذا اجتهد فأخطأ فله أجر" وقال صلى الله عليه وسلم في ذكر القاضي الذي هو أحمد ثلاثة قضاة – قال: "ورجل عرف الحق فقضى به" فيشترط أن يكون مجتهداً. -واما أبو حنيفة فلم يشترط ذلك وقال: لأن المقصود من ذلك فصل النزاع، وهذا قول باطل لأنه ليس المقصود فصل النزاع فحسب بل المقصود فصل النزاع بالحق بالكتاب والسنة. قال:] ولو في مذهبة [. وهذه إشارة إلى خلاف. فيشترط أن يكون مجتهداً ولو في المذهب ن بأن يحكم بالمقدم من المذهب قالوا: ولو اعتقد أن الحق خلافه ".

وهذا كما قال الشيخ السعدي:" هذا في غاية الضعف وهو مبني على قول ضعيف جداً وهو وجوب الإلتزام بمذهب من المذاهب الأربعة، والأخذ بالمقدم عند أئمة المذاهب.قال: وهذا قول لم يدل عليه كتاب ولا سنة ولا إجماع بل الأدلة تدل على بطلانه ". وهذا ما يقرره شيخ الإسلام. والأدلة المتقدمة تدل على بطلانه. -فإن ألزم السلطان بالقضاء في مذهب من المذاهب فما الحكم؟ قال شيخ الإسلام " فهذا شرط باطل لأنه يخالف كتاب الله عز وجل " 10.هـ وأما توليته للقضاء فتكون صحيحة. -ولكن إن اشترط السلطان ذلك فهل يتولى من هو أهل للاجتهاد ام لا؟ قال شيخ الإسلام: "لكن إن لم يمكنه إلا أن يقضى به "أي لإلزام السلطان فإنه ينبغى له ان يقضى بذلك المذهب وذلك تقديماً الأدنى المفسدتين، وخروجاً من أعلاهما. فإذا تولى وهو من أهل الاجتهاد والعدالة والدين كان ذلك دفعاً أن يتولى القضاء من ليس من ذلك. قال] وإذا حكمّ اثنان بينهما رجلاً يصلح للقضاء نفذ حكمه في المال والحدود واللعان وغيرها [. في مذهب أكثر الفقهاء فإذا حكم اثنان بينهما رجلاً، وهذا الرجل يصلح للقضاء فإنه ينفذ حكمه سواء كان رضاهما قبل معرفته بالحكم أو بعد معرفتهما له. وأيضا يلزم قاضى البلد بهذا الحكم - هذا هو مذهب أكثر الفقهاء. وذلك لأنهما تعاقدا على الرضا بحكمه وهو من أهل القضاء وقد قال تعالى "يا أيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود ". وفي سنن أبي داوود – في قصه ابى شريح – انه كان يكنى ابا الحكم فسأله النبى صلى الله فقال:" ان قومي إذا اختلفوا في شئ أتوني فحكمت بينهم فرضى كلا الطرفين فقال النبى صلى الله عليه وسلم "ما احسن هذا " اذن قد تراضا فلزمهما ذلك /لان الله عز وجل يقول (يا ايها الذين آمنوا أوفوا بالعقود) فقد تعاقدا على الرضا فلزمهما ذلك وهو حكم مبنى على شرع فكان على القاضي ان يلزم به.

وهو في المشهور في المذهب: في المال والحدود واللعان وغيرها لكنه لا ينفذ لان التنفيذ الى الامام، واذا نفذ كان في ذلك افتيات على السلطان. -وقال القاضي من الحنابله: بل هو في المال خاصه والصحيح ما ذهب اليه الحنابله وذلك لان العلة ثابته في الحدود واللعان كما هي ثابته في المال فقد تعاقدا على الرضا وهو من أهل القضاء فوجب عليهما ان يلتزما بحكم فهو مخبر عن الله عز وجل وعن دينه. (باب: آداب القاضي) يعنى: أخلاقه فآداب القاضي هي أخلاقه قال المؤلف رحمه الله:] ينبغى [ لفظة ينبغى عند الفقهاء بمعنى يستحب. قال] ان يكون قوياً – من غير عنف [ لئلا يطمع فيه الظالم قال:] لينا من غير ضعف [ لئلا يهابه صاحب الحق. فإذا اجتمع فيه هذا الوصف لم يهبه صاحب الحق فيدلى بحجته ويوضح بينته،ولا يطمع فيه الظالم بل يهاب ان يتكلم بين يديه بغير حق. قال:] حليما [ لئلا يغضب على خصم فيحكم بغير الحق. قال:] ذا أناه [ أي ذا تؤدة وعدم تسرع – فليس متسرعاً مستعجلاً في قضائه بل هو ذو تؤدة. قال:] وفطنه [ أي صاحب فطنه لئلا يرى المحق مبطلاً، والمبطل محقاً بسبب عدم الفطنه، ولئلا يخدع ويحتال عليه. قال:] وليكن مجلسه في وسط البلد فسيحاً [ ليكن مجلسه في وسط البلد ليمضى اليه كل اهل البلد على التساوي. وان كان في قرى يكون في وسطها أي في القريه المتوسطه "فسيحاً" لان ذلك اشرح لصدره، وله اثر في حسن نظره وحسن تصوره. قال:] ومعدل بين الخصمين [ هنا: ويجب ان يعدل – كما قال الشراح. قال:] في لحظه ولفظه ومجلسه ودخولهما [. فيجب عليه أن يعدل بين الخصمين في لحظه: أي في نظره / فينظر اليهما نظرة واحدة لا يحسن النظر الى أحدهما ويسئ النظر الى الآخر، بل ينظر إليهما نظراً واحداً. "وفي لفظه: أي في إجابته السلام وفي السؤال ونحو ذلك، فيكون عادلاً في الفاظه التى يوجهها أو يجيب الخصوم بها.

"ومجلسه " فيكونان في مجلس متساو فلا يضع الشريف في مجلس وغير الشريف في مجلس دونه. ولا يقدم أحدهما إلى المجلس الأدنى اليه، ويجعل الآخر في المجلس الأبعد منه، بل يكونان على درجة واحدة في المجلس. "ودخولهما " بأن يدخلا مرة واحدة، أو أن يقدم أحدهما الآخر بالدخول. أما أن يقدم القاضى أحدهما بالدخول فلا. إذن: العدل بينهما في هذه الأمور الأربع: في لحظه ولفظه وفي مجلسه وفي دخولهما. قالوا: ويستثنى من ذلك، ما إذا كان أحدهما مسلماً والآخر كافراً، فإن المسلم يقدم في المجلس. وقيل:- كما في الانصاف – بل يجب عليه أن يجعلهما في درجة واحدة في مجلسهما وغير ذلك. والعلة في هذه المسائل الأربع: أنه إذا لم يعدل في هذه الأمور الأربع كان ذلك سبباً لانكسار قلب الآخر وضعفه عن القيام بحجته. وهذه العلة يشترك فيها الناس لا فرق بين ما إذا كان الخصوم مسلمين او كان بعضهم مسلماً وبعضهم كافراً فالمعنى واحد، فإنه إيجاب إيصال الحق الى صاحبه يستوى فيه المسلم والكافر والله اعلم قال:] وينبغى ان يحضر مجلسه فقهاء المذاهب، ويشاورهم فيما يشكل عليه [. فينبغى ان يجمع فقهاء المذاهب الذين في بلده فيكون في المجلس فقيه حنفى وفقيه مالكي وفقيه شافعي وفقيه ظاهرى، فإذا أشكل عليه شئ عرض ذلك عليهم واستشارهم – هذا هو المشهور في المذاهب. -وفي ذلك نظر، وذلك لما يترتب على ذلك من إفشاء السر، فانه قد تكون بعض القضايا فيها سر للناس فحضور هؤلاء،لا شك أنه يؤدى إلى إفشاء الأسرار. وثانيا: قد يضعف صاحب الحق من الإدلاء بحجته، فتصبح وكأنها خطبة، فعندما يقف بين يدي فقهاء من المذاهب الاربعة هذا يجعله في هيبة عظيمة، فقد لا يظهر حجته. والعلة التى يذكرونها هي أنه قد يشكل عليه بعض الشىء فيستشيرهم. وهذا يمكنه أن يفعله بأن يؤخر الحكم في القضيه حتى يراجع كتب أهل العلم، وحتى يستشير أهل العلم المعاصرين.

اذن: الراحج خلاف المذهب. قال:] ويحرم القضاء وهو غضبان كثيراً [. والغضب الكثير: هو الغضب الذي يشغل الفكر، ويؤدى في الغالب الى عدم تصور المسألة، وعدم تطبيقها على الأدلة الشرعية. أما إذا كان الغضب يسيراً فلا يمنع من القضاء. ومن ثم فإن النبى صلى الله عليه وسلم قضى على الأنصاري – كما في الصحيح وقد قال: إن كان ابن عمتك "فقضى النبى صلى الله عليه وسلم. وأما الغضب الكثير الذي يشغل الفكر فانه يحرم معه القضاء لقول النبى صلى الله عليه وسلم: (لا يحكم احد بين اثنين وهو غضبان) متفق عليه. قال:] أو حاقن أو حاقب أو في شدة جوع أو عطش أو هم أو ملل أو كسل أو نعاس أو برد مؤلم أو حر مزعج [. فكل هذه الامور قياسها على المسألة التى ورد النص فيها ظاهر، لأنها تشغل الفكر. قال:] وان خالف فأصاب الحق نفذ [. فإذا خالف القاضي ذلك فقضى وهو غضبان أو قضى وهو في عطش أو جوع أو ملل أو نحو ذلك فما الحكم؟ إذا أصاب الحق فإن حكمه ينفذ وذلك لأن الشارع إنما منع من قضائه وهو غضبان خوفاً من أن لا يصب الحق وهنا قد أصاب الحق فما خشى فواته قد حصل وعليه فلا داعي للقول بالبطلان. وأما إذا لم يصب الحق فإنه لا ينفذ حكمه لأن الشارع قد نهى عن القضاء حينئذ وحصل ما يخشى منه من عدم إصابة الحق فوجب عليه أن يعيد النظر في القضية. قال:] ويحرم قبول رشوة [ للعن النبى صلى الله عليه وسلم الراشى والمرتشى. وتقدم الكلام على الرشوة. قال:] وكذا هدية [ فلا يحل للقاضي أن يقبل الهدية، لما ثبت في مسند احمد بإسناد صحيح ان النبى صلى الله عليه وسلم قال:" هدايا العمال غلوك " والغلول محرم. قال:] إلا ممن كان يهاديه قبل ولايته ان لم تكن له حكومه [ فيستثنى من عدم جواز قبول الهديه – فإذا كان يهاديه قبل ولايته، ثم أهدى اليه بعد الولايه، فإنه يقبل الهديه لعدم التهمه إذا لم تكن له حكومة عند القاضي.

أما إذا كانت له حكومه عند القاضي، فإن القاضي لا يقبل هذه الهدية وإن كان في الاصل يقبل هداياه. اذن: لا يحل له أن يقبل الهدية إلا أن تكون ممن يهاديه قبل ولايته بشرط ألا تكون له حكومة. -والذي يظهر: أنه إذا كان لا يهاديه قبل ولايته لكن مثله ممن يهادي، وقد طرأ ذلك فالذي ينبغى القول به قبول الهدية. فلو أنه اتخذ صديقا وكانت الصداقه طارئة أي بعد ولاية القضاء فلا يتبين أن هناك مانعاً من قبول القاضي لهديته إلا أن تكون له حكومة أو كان له – مثلا – ابن عم وكان قبل ولايته للقضاء صغير السن ثم كبر سنه ثم اهدي اليه هديه فلا ينبغى القول بالمنع حينئذ، لعدم التهمه. فظاهر قول المؤلف أنه لا يقبل إلا ممن كان يهاديه قبل الولاية. والذي يظهر: أن من كان مثله فكذلك وإن لم يكن قد اهدي له قبل ذلك لكن طرأ السبب الذي يهدي به كأن تطرأ صداقه أو تطرأ قرابة. كأن يصاهر مثلاً بعد تولية القضاء فيهدي اليه صهره فلا يظهر أنه يمنع من ذلك لأن السبب لم يكن موجوداً قبل ذلك. وهل للقاضي ان يبيع ويشترى؟ المشهور في المذهب: ان له ذلك لكنه يكره، ألا أن يضع وكيلاً لا يعرف به، أي لا يعرف ان هذا وكيل القاضي. والصحيح: انه لا باس ببيعه وشرائه ولا دليل على الكراهية لكن ليس له ان يقبل المحاباه بمعنى: اذا بيع له الشىء بأقل من سعره المعتاد او اشترى منه الشىء بأكثر من سعره المعتاد فلا يحل له ان يقبل هذه المحاباه وذلك لانها كالهدية. إلا إذا كانت – هذه المحاباه – ممن كان يهاديه قبل ولايته القضاء – ولم يكن في ذلك تهمه. قال:] ويستحب آلا يحكم إلا بحضرة الشهود [ فيستحب الا يحكم القاضي الا بحضرة الشهود أي الشهود الذين ثبت الحكم بشهادتهم. فإذا شهد اثنان على أن فلاناً قتل فلاناً عمداً فانه لا يقضي بالقتل إلا بحضرة الشهود – استحبابا – وذلك لأنه قد يفوته بعض الشىء في شهادتهم فينبهه هؤلاء الشهود على ما قد فاته.

وكذلك: قد يتراجع بعضهم عن الشهادة حيث كانت شهادة زور، فإذا رأى أن الحكم يثبت وأن القاضي يصدع الآن بالحكم فإنه قد يتراجع عن هذه الشهادة وهذا من باب الاستحباب لان شهادتهم قد أدوها قبل ذلك وضبطت عند القاضى. قال:] ولا ينفذ حكمه لنفسه [ بلا نزاع قال:] ولا لمن لا تقبل شهادته له [ كذلك لا ينفذ حكمه فيمن لا تقبل شهادته له كأبيه او أخيه. قالوا: قياسا على الشهادة لأن الحكم يتضمن الشهادة، فإن القاضي يقول " أشهد أن الحكم في المسألة كذا " فلما كان الحكم متضمناً للشهاده لم ينفذ حكمه في نفسه ولا فيمن تقبل شهادته له ولا فيمن لا تقبل شهادته عليه كالعدو، وإن كان حكمه ظاهر القبول حيث حكم لعدوه وذلك لزوال التهمة، لكن لو حكم عليه فإنه لا يقبل. إذن: لا ينفذ حكمه لنفسه بلا نزاع. ولا ينفذ حكمه فيمن لا تقبل شهادته له – وهو مذهب الجمهور. وعن الامام احمد وهو قول ابى بكر عبد العزيز من الحنابلة: أن حكمه يقبل، فإذا قضى في مسألة بين أبيه وبين أجنبيي، فقضى لابيه على الخصم فإن الحكم ينفذ ويقبل. وفي هذا القول قوة، لأن الأصل في القاضي البعد عن التهمة. وكونه شاهداً ليس ككونه قاضاً، فان كونه قاضاً هو بمنزلة النائب عن الامام الذي يقرر شرع الله ويلزم به الناس فهو في محل ينبغى ألا يتهم فيه وإن حكم لأبيه وإن حكم لأخيه بل وإن حكم لنفسه، لكن الحكم للنفس لا شك انه أبعد من الحكم للغير. ومع ذلك فالاحوط الا يقضى لنفسه ولا يقضى لمن لا تقبل شهادته له. لكن لو رضى الخصم، فقال: أنا أرضى بقضائك وان كنت أنت خصمى " او وإن كان أبوك خصمي، لعلمي انك لا تقضى إلا بالحق فحينئذ لا إشكال في صحه القضاء ونفوذه – وذلك لأن الحق له فأسقطه. اذن المشهور عند الفقهاء آن حكم القاضي لنفسه لا ينفذ وأن حكمه لمن لا تقبل شهادته له كذلك لا ينفذ. أما حكمه على نفسه او على من لا تقبل شهادته له فهذا ظاهر القبول.

لكن هل يتصور ذلك ام أنا نمنع من أصل إقامة القضيه على ذلك، ونقول – ما دام أن الخصم هو القاضي او من لا تقبل شهادتهم له – فمن الأصل لا يكون القضاء. -والذي يتوجه في مثل هذه المسائل صحة حكم القاضى لانه في منصب ينبغى ألا يكون متهماً فيه. قال:] ومن ادعى على غير برزة لم تحضر [ البرزة هي المرأة التى تبرز لقضاء حوائجها. وغير البرزة – هي المرأة المخدرة التى لا تخرج لقضاء حوائجها. فإذا ادعى على غير برزة لم تحضر للعذر، ولأن حياءها يمنعها من القيام بالحجة. قال:] وأمرت بالتوكيل [. فتؤمر بأن توكل لحفظ حق الخصم، لانه قد يكون الحق مع المدعى، فلا بد وأن توكل. قال:] وان لزمها يمين أرسل من يحلفها [ فإذا لزمها يمين فإنه لا يمكن للوكيل أن يحلف عنها لأن اليمين لا نيابه فيها، وحينئذ فيرسل القاضى من يحلفها. قال:] وكذا المريض [ أي المصاب بمرض يشق عليه معه الحضور عند القاضى. وحينئذ فان القاضي يأمره بالتوكيل، وإن احتاج الى اليمين فإن القاضي يرسل إليه من يأخذ يمينه وهو في الموضع الذي يتمرض فيه. مسألة. إذا عزل القاضى فهل ينعزل قبل علمه أم لا؟ بمعنى: إذا قضى وحكم في مسائل قبل ان يعلم بالعزل فهل ينفذ هذه الاحكام ام لا؟ قولان في المسألة: أصحهما وهو اختيار شيخ الإسلام ابن تيميه أنه لا ينعزل قبل العلم وذلك لأن ولايته حق لله تعالى وحقوق الله تعالى لا يثبت الفسخ فيها إلا بعد العلم أي بعد علم المكلف. -بل هل ينعزل القاضى بالعزل؟ وهل ينعزل بموت المولّى؟ قولان لأهل العلم: -والصحيح في مذهب أحمد: أنه لا ينعزل وهذا مبنى على: هل القاضى نائب عن الإمام او نائب عن المسلمين. فإذا قلنا: هو نائب عن الإمام فانه ينعزل بعزل الإمام، وإذا مات الإمام انعزل أيضا. وإذا قلنا: هو نائب عن المسلمين أي قائم بحق الله تعالى فإنه لا ينعزل بعزله ولو عزله الإمام – وهذا هو المشهور في المذهب

-وعلى القول بأنه ينعزل، هل ينعزل قبل العلم أو لا؟ قولان: أصحهما أنه لا ينعزل قبل العلم كما تقدم واختار هذا شيخ الإسلام، ويختار أيضاً انه لا ينعزل وذلك لأن الولاية حق الله تعالى. وهذا فيما يظهر أقوى. والله اعلم والحمد لله رب العالمين باب: طريق الحكم وصفته أي كيف يقضى القاضى بين الناس، فهذا الفصل في صفة القضاء. قال رحمه الله:] إذا حضر اليه خصمان قال: أيكما المدعي [ ويجوز غير ذلك من الألفاظ فليس هذا لفظا تعبدياً، وانما يقول هذا اللفظ او ما يدل عليه. -وليس له ان يقول: يا فلان ما تقول؟ وذلك لانه يخصص أحدهما بالسؤال وليس من العدل قال:] فإن سكت حتى يبدأ جاز [ فإذا سكت القاضى ولم يقل: "أيكما المدعى " بل سكت حتى يبدأ المدعي جاز ذلك. قال:] فمن سبق بالدعوى قدمه [ فمن سبق بالدعوى من الخصمين قدمه، فإذا كان كل واحد فيهما مدع على الآخر فسبق أحدهما بالدعوى فانه يقدمه وذلك لسبقه فهو قد سبق فكان أولى من الآخر. وإن لم يتكلم أحدهما – وكل منهما مدع – فإنه يقرع بينهما. إذن: إذا كان أحدهما مدع والآخر مدعى عليه، فإن القاضي يقول: أيكما المدعي فيتكلم حينئذ المدعي أو يسكت القاضي حتى يتكلم المدعي. وأما إن كان كل واحد فيهما مدع فانه يقرع بينهما فإن سبق أحدهما بالكلام قبل الآخر فإنه يسمع لدعواه لسبقه. -وظاهر كلام المؤلف أن كل دعوى تسمع، ولو كان المدعى عليه من أهل المروءة والشرف وذلك حفظاً للحقوق ودفعاً للظلم. فلو أن رجلاً من فقراء الناس ادعى على رجل من أشراف الناس دعوى فإن دعواه تسمع ويطالب القاضي بهذا الشريف فيحضر وان شاء وكل، وذلك حفظاً للحقوق ودفعاً للظلم، اذ من الممكن أن يكون الأمر صدقاً. -فإن قيل: قد يكون في ذلك أذى لأصحاب الشرف فلا يستطيع أحد ان يؤذيهم بذلك إلا آذاهم

فالجواب: أن هذا وإن كان ضرراً متوقعاً لكن حفظ حقوق الناس ودفع الظلم عنهم اعظم من ذلك فترجح هذه المصلحه ويمكنه – أي صاحب الشرف – ان يوكل من يخاصم عنه. إلا ان تكون الدعوى ظاهرة الكذب، كأن يأتى إنسان مشهور بالفقر ويقول: قد اقترض منى هذا الغنى- " وهو صاحب مال كثير - كذا من المال مما يبعد في العادة ان يقترض مثله فهنا قد يقال – لا سيما اذا ظهر فيه الكذب – قد يقال إنه لا تسمع الدعوى – حينئذ – لكن مع ذلك القول بالعموم فيه قوة، من باب ترجيح حفظ حقوق الناس. قال:] فإذا أقر له حكم له عليه [ إذا قال المدعى: ادعى على هذا أنه اقترض منى عشرة آلاف ريال، فقال المدعى عليه: أقر بذلك واعترف فإنه يحكم عليه بذلك وهذا ظاهر جداً. قال:] وإذا أنكر [ أي قال: ليس عندي لفلان شيء أو فلان لا يستحق على شيئاً. قال:] قال للمدعى: إن كان لك بينة فأحضرها إن شئت [ فيقول للمدعي: إن كان لك بينة فأحضرها إن شئت – ولا يجب عليه إحضار البينة بل يحضرها إن شاء. البينه: سيأتي الكلام عليها. قال:] فإن احضرها سمعها وحكم بها [ فإذا أحضر المدعي البينه فان القاضي يسمعها، ولا يعنت الشهود بالأسئلة، وذلك لأن تعنيت الشهود بالاسئلة ذريعة إلى كتمان الشهادة وعدم القيام بها إلا إذا ارتاب بالشهود فله أن يسأل ما يظهر به الحق من الباطل. فإذا قال: يشهد فلان وفلان، واتى بهم أنى أقرضت فلاناً عشرة آلاف ريال، فحينئذ يحكم بها. قال:] ولا يحكم بعلمه [ فلا يحكم القاضى بعلمه –لا في حقوق الله ولا في حقوق الآدميين وهذا هو مذهب الجمهور، لقول النبي صلىالله عليه وسلم: " وإنما أقضي على نحو ما اسمع متفق عليه ". ولم يقل على نحو ما اعلم " فلو أن القاضي رأى رجلاً يسرق أو يقتل أو رأى فلاناً وهو يقرض فلاناً، فليس له أن يحكم بذلك أي بعلمه، للحديث المتقدم.

ولأن هذا ذريعة إلى اتهام القاضي، فيقال قد قضى بالجور ولم يقض ببينة. ولأن هذا ذريعة إلى باب شر عظيم، فقد يسلك هذا قضاة الجور فيحكمون بعلمهم. والقول الثاني: وهو قول في مذهب الشافعي ورواية عن أحمد: أنه يحكم بعلمه، قالوا: لأن علمه بالشهود مقبول أي علمه بثقه الشهود أو تجريحهم مقبول – فكذلك هنا. وهذا قياس مع الفارق، وذلك لأن حكمه بعلمه، حكم على وجه المباشرة، وأما حكمه بثقة الشهود أو تجريحهم فليس حكماً على المباشرة وإنما حكم بالشهود لكنه يعدل الشهود فليس هذا كهذا، فالأول حكم على المباشرة أي يحكم بعلمه مباشرة، وأما هنا فهو بواسطة الشهود وهو يعلم أن هؤلاء الشهود ثقات فقضى بقبول شهادتهم. (3) وقال أبو حنيفه: يقضى بعلمه في حقوق الآدميين دون حقوق الله،لأن حقوق الله عز وجل مبنية على المسامحة وأما حقوق الآدميين فمبنية على المشاحة. -والصحيح هو القول الأول لقوله صلى الله عليه وسلم: (إنما أقضي على نحو ما اسمع) لكن هنا ثلاث مسائل تستثنى، فيجوز للقاضى أن يحكم فيها بعلمه: المسألة الأولى: وقد تقدمت وهي أن حكمه بعلمه بتوثيق الشهود أو تجريحهم مقبول. فإذا آتاه الشاهدان فقال:لا أقبل شهادتكما لعلمي بجرحكما فانه يقبل. إن قبل الشهود ولم يطلب من يزكيهم لعلمه بهم ومعرفته لهم فإن هذا مقبول اتفاقاً. المسألة الثانية: في أصح القولين وهو المشهور في المذهب:- أنه يحكم بعلمه فيما يكون في مجلس القضاء. فمثلاً: ادعى زيد على عمرو في مجلس القضاء – عشرة آلاف ريال، فقال عمرو: اقر بذلك ولا أنكره، ثم بعد ذلك أنكر عمرو، فإن القاضي يحكم بالإقرار بناءً على إقرار الرجل في مجلسه، ولا تحتاج إلى شهود ليشهدوا على الإقرار. المسألة الثالثة: إذا كان الأمر مستفيضاً مشهوراً عند الناس يعلمه الخاص والعام فإن للقاضى – أن يحكم بعلمه – وذلك لزوال ما يخشى من الإتهام.

فإذا كان الناس – مثلا – يعلمون أن هذا الموضع تبع للمسجد يعلمه كل أهل السوق، وربما عامة أهل البلد يعلمون ذلك، فادعى شخص أنه له، فإن القاضي يحكم أن الأرض للمسجد بناءً على ما اشتهر واستفاض عند الناس وحينئذ لا يكون محلاً للاتهام فإن قيل:إذا رأى القاضي رجلاً يقتل، فماذا يفعل؟ الجواب: يشهد عند قاضى آخر أنه قتل. وكذلك إذا علم أن فلاناً قد أقرض فلاناً،فإنه يشهد عند قاضى آخر بذلك. قال:] وإن قال المدعى:مالى بينة [ ونحو ذلك من الألفاظ، كأن يقول: لا أعلم لى بينة أو كانت لى بينة فنسيتها ونحو ذلك. قال:] أعلمه الحاكم أن له اليمين على خصمه على صفة جوابه [ فإذا ادعى رجل أن له على فلان عشرة آلاف – فقلنا هل لك بينه فقال: مالى بينة، فيقول له القاضي: لك اليمين على خصمك، لقول النبي صلى الله عليه وسلم للحضرمي:"ألك بينة فقال النبى صلى الله عليه وسلم:- فلك يمينه – فقال يا رسول الله إنه رجل فاجر لا يتورع عن شئ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "ليس لك إلا ذلك ". وتكون اليمين على صفة جوابه، فإذا قال المدعي قد أقرضت هذا الرجل عشرة آلاف فقال المدعى عليه: ما عندي له شئ، فيكون يمينه بأن يقول:" والله ما عندي له شئ ". فلا يلزمه القاضي أن يقول – مثلاً –:" والله ما أقرضنى شيئاً " بل يلزمه بالحلف على اللفظ الذي تلفظ به حال الإنكار لانه قد يكون أقرضه سابقاً ثم رده عليه. اذن تكون يمينه على صفة جواب المدعى عليه. فلو قال: أقرضته عشره آلاف – فقال: ما أقرضني إلا خمسه آلاف فتكون يمينه: والله ما أقرضني إلا خمسه آلاف " قال:] فان سأل إحلافه أحلفه وخلى سبيله [ فإذا سأل المدعي احلاف المدعى عليه وقال: أريد يمينه فإن القاضي يحلفه ويخلى سبيله. فيقول له القاضي: احلف،فيقول والله ما عندي له شئ. فإن القاضي يخلى سبيله، وبذلك تنتهى القضية. قال:] ولا يعتد بيمينه قبل مسألة المدعى [

إذا قال المدعي: إني أقرضت فلاناً عشرة آلاف، فقال المدعى عليه منكراً -: " والله ما أقرضني "فإن هذه اليمين لا تلغى بل لا يعتد بيمينه قبل مسألة المدعي وذلك لأن اليمين حق له – أي حق للمدعي – فلا تستوفى الا بطلبه. -لكن هل المراد طلبه اللفظي ام طلبه العرفي؟ ظاهر كلام المؤلف: ان المراد بذلك طلبه اللفظي لكن كذلك طلبه العرفي فإذا كانت العادة ان القاضي هو الذي يسال، وأن هذا ما أتى إلا ليثبت حقه فحينئذ: بمجرد ما يقول: ادعى على فلان بكذا، فيقول المدعى عليه: أنكر ذلك فيقول له القاضى: احلف فيحلف، فإن هذه اليمين يعتد بها لجريان عادة القضاة بذلك. قال:] وان نكل [ فالقضيه مثلاً في قرض عشره آلاف فإذا قال المدعي: قد أقرضته عشره آلاف، فقال المدعى عليه: لا لم يقرضنى شيئاً، فيقول القاضى للمدعي: هل لك بينه. فإذا قال، لا، فانه يقول للآخر: احلف،أو يقول للمدعي: نحلف صاحبك فان قال: حلفوه، فيقول له احلف، فان حلف فذاك وتبرأ ذمته وإن قال: لا احلف فيكون حيئنذ قد نكل. قال:] قضى عليه [ فإذا نكل فانه يقضى عليه، وذلك لقول النبي صلى الله عليه وسلم :"البينه على المدعي واليمين على من أنكر " فحصر – عليه الصلاة والسلام – البينه على المدعي، وحصر اليمين على من أنكر. وقد حكم بالنكول عثمان على ابن عمر كما في موطأ مالك باسناد صحيح. ويدل عليه الحديث المتقدم: "ليس لك يمينه " ففيه أنه ليس له إلا اليمين، لكن إن نكل فكما تقدم في اثر عثمان. (1) إذن: اذا نكل المدعى عليه فإنه يقضى عليه، ولا ترد اليمين الى المدعي وهذا هو المشهور في المذهب. (2) وقال بعض أهل العلم وهو قول في مذهب أحمد: بل ترد اليمين الى المدعي. واستدلوا: بحديث رواه الدارقطني: أن النبي صلى الله عليه وسلم:"رد اليمين على صاحب الحق " لكن الحديث إسناده ضعيف.

(3) واختار شيخ الإسلام: التفصيل في هذه المسألة فقال: إذا كان العلم في هذه القضيه في جانب المدعي وحده فإن اليمين ترد عليه وأما إذا لم يكن كذلك فلا ترد اليه اليمين. مثال ذلك، قال رجل لورثة ميت: قد اقترض منى والدكم عشره آلاف – وهو ميت – فهذه العشرة آلاف مستحقه في التركه، فقلنا للورثه احلفوا على عدم علمكم فقالوا لا نحلف على هذا فامتنعوا من ذلك تورعاً وإلا فيجوز لهم ذلك فما الحكم؟ قال شيخ الإسلام: ترد اليمين على المدعي، فإن حلف استحق ما ادعاه. وقال الشيخ عبد الرحمن بن سعدي: ترد اليمين على المدعي متى ما رأى القاضي ذلك خصوصاً إذا كان المدعي منفرداً بالعلم وهذا قول قوى. حفاظاً على الحق، لانه في كثير من الأحوال المدعى عليه لا يحلف حينئذ فيترتب على ذلك أضاعه الحق، فإذا حلفنا المدعي كان في ذلك حفظا للحقوق. إذن: أصبحت الأقوال أربعة: القول الأول: وهو المشهور في المذهب: إنها لا ترد الى المدعي مطلقا. القول الثاني: وهو قول في المذهب: أنها ترد مطلقاً الى المدعي. القول الثالث: انها ترد اذا رأى القاضي ذلك. القول الرابع: انها ترد اذا كان المدعي منفرداً بالعلم. -والذي يظهر – ولا يتبين أن شيخ الاسلام يخالف هذا – ان متى ما كانت هناك قرائن عند القاضي تقوى أن يحلف المدعي فإن له ذلك. فأحيانا يأتي للقاضى رجل معروف بالصدق، وهناك شخص يدعي عليه أنه اقترض منه عشره آلاف، فيقول القاضي للمدعى عليه أتقر بذلك فيقول: لا بل أنكره، فيقول القاضى: احلف، فيقول لا احلف، لعله اقترض منى ولكنى نسيت، فأنا لا احب أن احلف، فإن شئت أن تقبل إنكاري وإلا فليأخذ من مالىما شاء – وعلم القاضي صدقه فانه يحلف المدعي. قال:] فيقول: إن حلفت وإلا قضيت عليك [. فإذا نكل فإنه يقضي عليه مباشرة فيقول: إما أن تحلف وإما أن نقضى عليك من غير حبس.

خلافاً لما ذهب اليه بعض أهل العلم من الحبس ولا دليل عليه. قال:] فإن لم يحلف قضى عليه [. فان لم يحلف – أي المدعى عليه – قضى عليه. قال:] فان حلف المنكر ثم أحضر المدعي بينة حكم بها ولم تكن اليمين مزيلة للحق [. لما ادعى زيد على عمرو أنه اقرضه عشرة آلاف، فقال القاضي: هل تقر بذلك يا عمرو قال: لا ليس عندي له شئ، فقال له: احلف على ذلك فحلف فإنه بذلك تنتهى القضية على هذا. ثم من الغد أحضر المدعي بينه فكيف نعمل؟ فقد كنا حكمنا بالأمس أن ذمة المدعى عليه بريئة وقد حلف على ذلك لكن المدعى الآن احضر بينة فإنه يحكم بها. وظاهر كلام المؤلف سواء كان المدعي قال: لا علم لي بالبينه أو قال " كانت لى بينه فنسيتها " فقلنا للآخر احلف فحلف فحينئذ انتهت القضية، فإذا أتانا من الغد ومعه شاهدان فإننا نقبل لأن إيتانه بالشهود في هذا اليوم لا يناقض قوله بالأمس وهذا هو المشهور في المذهب. والصورة الثانية: أن يكون المدعي قد قال: " ليس لي بينة " ثم من الغد أو بعد زمن يأتي بالشهود، فإن إتيانه بالشهود اليوم يناقض قوله " ليس لى بينه " فحينئذ لا تقبل. هذا هو المشهور في المذهب: فإنها – أي البينة – إنما تقبل منه حيث كان قوله لا يناقضها كأن يقول: " لا أعلم لى بينة أو كأن لى بينه فنسيتها " ونحو ذلك. اما إذا قال: " ليس لي بينة " ونحو ذلك فلا تقبل منه البينة بعد ذلك. لكن قول المؤلف هنا على خلاف هذا فظاهر العموم أي سواء كان قوله: " لا اعلم لى بينة او كانت لى بينه فنسيتها " وكان قوله "ليس لي بينه " فإنه تقبل منه البينة لأنه قال قبل ذلك:" ان قال المدعي: مالى بينه " إلى أن قال إن حلف المنكر ثم احضر المدعي بينته حكم بها ". فظاهر كلام المؤلف خلاف المشهور في المذهب وهو أحد القولين في المسأله وهو قول في المذهب وهو القول الراجح في المسألة.

لان قوله بالامس:" لا بينة لي " هذا بناءً على ما يعتقد به لكنه قد تذكر بعد ذلك أو أتاه بعض الشهود فأخبروه فالصحيح انه يحكم له بالبينة سواء كان قال:" لا اعلم لي بينة " أو قال:" ما لى بينة ". أما إذا قال " لا أعلم لي بينة" فهذا هو المشهور في المذهب. واما إذا قال:" لا بينة لى " فالمشهور في المذهب خلاف ذلك لكن الصحيح خلاف المذهب. وذلك لأن اليمين ليست مزيلة للحق لأن اليمين إنما ترفع النزاع لكنها لا تزيل الحق. فصل قال رحمه الله:] ولا تصح الدعوى الا محررة معلومه المدعى به إلا ما نصححه مجهولاً كالوصيه [. لا تصح الدعوى ولا ينظر اليها القاضي ولا يلتفت إليها إلا أن تكون محررة، أي موضحة مبينه. فإذا ادعى أن له على فلان طعاما فإنه يقول: لى عليه مائه صاع من الأرز الجيد، فيذكر الجنس ويذكر النوع ويذكر الوصف ويذكر القدر. فان لم تكن موضحة كأن يقول: ادعى عليه طعاماً فإنها لا تسمع حتى يحررها وحتى يبينها ويوضحها، وذلك لأن القاضي لا يمكنه أن يلزم المدعى عليه بالمدعى به وهو مجهول. فلا بد وأن تكون محررة موضحة– إلا ما استثنى مما نصححه مجهولاً كالوصية. فلو أن رجلاً أوصى لزيد بشيء فتقدم ان هذا الشيء المجهول تصح الوصية به، وعليه فيسمع القاضى الدعوى به، فلو قال رجل: ادعي على ورثة فلان أن مورثهم قد اوصى لي بشيء، فإن الدعوى تسمع لأن القاضي يحكم بشيء ويكون له في الوصية أي شئ ولو كان شيئاً يسيراً. قال:] وعبد من عبيده مهراً ونحوه [. فلو أمهرها عبداً من عبيده فقد تقدم أنه يصح. فكذلك إذا ادعت المرأة على زوجها فقالت،قد أمهرني عبداً من عبيده فحينئذ يسمع القاضى هذه الدعوى وذلك لأن هذه الجهالة لا تضر، فإذا أقر الزوج بذلك فيقضي القاضي بأن لها عبدا من عبيده.

(ونحوه) أي سواء كان مهراً او غيره مما يصح فيه هذه الجهالة كالخلع كأن تخالعه على عبد من عبيدها او ارض من أراضيها فإن الخلع يصح على مثل هذا ويمكن فإن الدعوى يسمع وينظر اليها. إذن: هذه المسألة في الدعوى التى تسمع من القاضي، لا بد أن تكون محررة معلومة المدعى به وذلك لأن القاضي يلزم بذلك ولا يمكن أن يلزمه بشيء مجهول. والقول الثاني في المسألة: أن الدعوى تسمع، والقاضى يستفصل – وهذا أظهر لأنه إذا استفصل فإنه حينئذ – لا يلزم بمجهول. ويدل على ذلك: حديث الحضرمي والكندي في صحيح مسلم وفيه أن الحضرمي قال: يا رسول الله: " إنه قد أخذ منى أرضا كانت لأبي: فقال الكندي: هي بيدي وأنا ازرعها " فهنا قد قال: قد أخذ منى أرضاً كانت لأبي، ومع ذلك فإن النبى صلي الله عليه وسلم قد سمع هذه الدعوى. فالأظهر أن الدعوى تسمع لكن يستفصل إلا إذا علم القاضى أنها ليست محررة عنده، كأن يكون عند القاضي من يستفصل في الدعاوي قبل عرضها على القاضى ويكون القاضي قد علم أن هذا المدعي ليس له شيى محرر فانه حينئذ لا يمكنه ان يقضي إلا أن يقال: إنه إذا اقر بها المدعى عليه فإنها تستفصل منه أي من المدعى عليه، فإذا كانت معلومة عند المدعى او المدعي عليه فلا وجه لعدم سماعها. -كذلك لا تسمع الدعوى – (1) في المشهور من المذهب – إن كانت على دين مؤجل لاثباته. فإذا جاء رجل فقال:أريد أن أثبت على فلان ديناً لي عليه موجلاً الى سنة – ولم يحل الدين – فإن الدعوى لا تسمع لإثباته حتى يحل. (2) والقول الثاني في المذهب: أن الدعوى تسمع لاثباته وهذا هو الصحيح. وذلك لأنه يخشى موت الشهود أو نسيانهم فيحتاج أن يثبت الدين الذي له وإن كان الدين موجلاً فهو لا يطالب باعطائه قبل حلوله لكنه يطالب باثباته واثبات الدين حق له. إذن: الصحيح أنها تسمع ما دامت لاثبات مؤجل.

قال:] وإن ادعى عقد نكاح أو بيع أو غيرهما فلا بد من ذكر شروطه [. فاذا قال – مثلاً – ادعى ان فلانة زوجة لي – وشروط النكاح متوفرة الشرط الأول كذا والشرط الثاني كذا والشرط الثالث كذا فإن كانت المرأة ممن يشترط رضاها فإنه يذكر ذلك. فلو قال: ادعى آن فلانة زوجة لي ولم يذكر الشروط فإن هذه الدعوى لا تقبل ولا تسمع حتى يذكر الشروط. والقول الثاني في المسألة وهو مذهب مالك وأبى حنيفة: أن الدعوى تسمع، ولا يشترط فيها ذكر شروط النكاح، وذلك لأن النكاح نوع – ملك – فكما لو ادعى عبداً فكذلك هنا. والأظهر في الاستدلال أن يقال: الأصل صحة النكاح فلا يحتاج الى ذكر شروطه. وأما المشهور في المذهب من أن ذكر الشروط لا بد منه، فتعليلهم أن الشروط في النكاح مختلف فيها، فقد لا يكون هذا النكاح صحيحاً عند القاضى. -والصحيح أن ذكر الشروط عند القاضى لا يشترط لأن الأصل في الانكحة الصحة. -وإذا قال: ادعى أن فلاناً قد باع عليّ أرضه، وهؤلاء هم الشهود، فيقال له: اذكر شروط البيع وذلك للعلة المتقدمة. -والقول الثاني في المذهب أن ذلك ليس بشرط وذلك لأن الاصل صحة البيع، وهذا هو الصحيح وأنه ليس لا بد من ذكر شروط البيع ولا غيره من العقود كالإجارة ونحوها وعلى ذلك فالصحيح في هذه المسائل كلها أن ذكر الشروط لا يحتاج اليه. -ويقوى – بناءاً على التعليل المتقدم من أن الأصل في العقود الصحه – يقوى أن القاضى إذا ارتاب في أن هذا البيع لا يصح فإنه يسأل كما تقدم في مسأله الشهود. قال:] وان ادعت امرأة نكاح رجل لطلب نفقة أو مهر أو نحوهما سمعت دعواها [. فإذا ادعت المرأه أن فلانا زوج لها، فسئلت لماذا ادعت ذلك؟ فقالت: أريد النفقة أو أريد مهرى أو نحوهما. كأن تقول: أريد السكنى فهل تسمع دعواها؟ قال المؤلف:" سمعت دعواها " لان لها حقاً

فهذه الدعوى إذا سمعت وثبتت، بينت لها ما يترتب على النكاح من الحقوق التى تسألها من نفقة أو سكنى أو مهر. قال:] فإن لم تدع سوى النكاح ولم تقبل [. فإذا قالت: أنا لا أدعي إلا النكاح، فلا أدعي النكاح من اجل نفقة أو من أجل مهر أو من أجل سكنى، لكنى أدعي النكاح المجرد لم تقبل دعواها قالوا: لأن الحق في النكاح للزوج فلم تسمع دعواها في حق غيرها. -والقول الثاني في المذهب: إن دعواها تسمع وهذا الصحيح وذلك لأن ثبوت هذه الدعوى سبب لحقوق لها ثم إن المرأة لها حق في النكاح ويترتب على هذه الدعوى حقوق لها من قسم ونفقة وسكنى ونحو ذلك وإن لم تذكرها في الدعوى لكن هذه حقوق لها ثبتت بالنكاح. ثم إن المرأة قد تدعى هذا النكاح وهي لا تريد نفقة ولا سكنى ولا مهراً لكن تريد أن تثبت هذا النكاح ثم تطالب بالطلاق لتحل نفسها للأزواج فلا تكون معلقة بهذا النكاح الذي تعتقده. قال: "] وإن ادعى الإرث ذكر سببه [. فإذا ادعى الإرث فقال: أنا وارث من فلان، فلا بد من ذكر سببه لأن اسباب الإرث تختلف، ويختلف الإرث بها. لأن الإرث لا يثبت إلا بسببه من نكاح أو نسب أو ولاء. وأما سائر الدعاوي فلا تحتاج الى ذكر سبب لكثره الأسباب فإذا قال: لي على فلان ألف ريال فلا يشترط عليه أن يذكر سبب ذلك. فلا نقول: هل هي قرض أم بيع أم غير ذلك. بل تسمع دعواه. وان لم يذكر السبب. قال:] وتعتبر عدالة البينة ظاهراً وباطناً [. فالشهود يشترط أن يكونوا عدولاً في الظاهر وفي الباطن. في الظاهر: بمعنى ألا تظهر عليهم ريبة فيكون الصلاح فيهم هو الظاهر. "في الباطن": هي أن يعلم من حاله – في باطن أمره – أنه عدل، فإن الإنسان قد يكون في ظاهره حسن لكنه في باطنه سيئ،يعلم ذلك من له خبره بحاله.

ويدل على ذلك: ما ثبت في البيهقي بإسناد صحيح:" أن رجلاً شهد عند عمر رضى الله عنه، فقال له عمر:"إني لست أعرفك، ولا يضرك أني لا أعرفك فأتني بمن يعرفك " فقال رجل: أنا أعرفه يا أمير المؤمنين " فقال له: بأى شئ تعرفه فقال: بالعدالة، فقال هو جارك الأدنى الذي تعرف ليله ونهاره ومدخله ومخرجه؟ "فقال لا. فقال: عاملك بالدرهم والدينار اللذين يستدل بهما على الورع؟ قال: لا. فقال: فصاحبك في السفر الذي يستدل به على مكارم الاخلاق؟ قال لا. فقال: لست تعرفه، ثم قال للرجل: ائتني بمن يعرفك)) . فهذه هي العدالة الباطنة، يعلمها الجار الأدنى، ويعلمها الصاحب ويعلمها الذي يعامل الناس ببيعهم وشرائهم وغير ذلك من معاملاتهم بهذا نعرف العدالة الباطنة، وليس المراد شق القلوب فإن ذلك لا يعلمه إلا الله عز وجل. -والقول الثاني في المسألة وهو رواية عن أحمد وهو مذهب أبي حنيفة أنه يكتفى بالعدالة الظاهرة، لأن الأصل في المسلمين العدالة. -والصحيح هو الأول، للأثر المتقدم، ولأن الأصل في المسلمين ليس العدالة – كما قرر هذا شيخ الإسلام وتلميذه ابن القيم. لقوله تعالى ((وحملها الإنسان انه كان ظلوماً جهولاً)) فالإنسان مركب على الظلم والجهل، فليس صحيحاً أن الأصل في المسلمين العدالة. فالصحيح هو القول الأول. ويدل عليه قوله تعالى ((واشهدوا ذوي عدل منكم)) فلم يقل: واشهدوا اثنين منكم " يدل على أنه لا يكتفى بالإسلام بل لا بد أن يكون من أهل العدالة. -واختار شيخ الإسلام ابن تيميه: انه يكتفى بما يرضاه الناس، بمعنى: أن يكون الرجل أميناً ليس معروفاً بالكذب فمن رضيه الناس فإن شهادته تصح، لقوله تعالى ((ممن ترضون من الشهداء)) .

وقال: الآية المتقدمه ((واشهدوا ذوى عدل منكم)) هي في التحمل، فالإنسان لا يحمّل الشهادة إلا ذوي العدالة لأن من لم يكن كذلك يخشى ألا يحمل العدالة،لكن إن حملها وأداها فإنها تقبل منه لأن الله قال ((واشهدوا ذوي عدل منكم)) فالشهادة تحمل ذوى العدالة لكن إذا أداها من ليس بعدك لكنه مرضى عند الناس فإن الشهادة تقبل. -وهذا القول هو الذي لا يسع الناس إلا العمل به، وذلك لأن الناس تقل فيهم العدالة جدا – أي العدالة الظاهرة والباطنة فهذا يسب الناس وهذا يغتابهم وهذا يتكلم بالنميمة وغير ذلك فيقل في الناس العداله فلا يسع الناس إلا ما ذكره شيخ الإسلام فمن كان مرضيا عند الناس يعلم أنه يحمل الشهادة وأنه يصدق فيها وإن كان ممن يقترف بعض الكبائر ويصر على بعض الصغائر فإنه متى علم أنه يؤدى الشهادة أداء صحيحا وأنه مرضي فإن شهادته تقبل. وهذا موضع ضرورة ولا يسع الناس إلا هذا. قال:] ومن جهلت عدالته سأل عنه [. فإذا جهلت العدالة، فلا يدري القاضى هل هذان الشاهدان عدلان أم لا فإنه يسال أهل الخبرة الباطنة بهم. قال:] وإن علم عدالته عمل بها [. فاذا علم القاضي أن هذا عدل فإنه يعمل بذلك اتفاقا، كما تقدم في مسألة سابقة في الدرس السابق. قال:] وإن جرح الخصم الشهود كلف البينة به [. فإذا قال الخصم: هؤلاء الشهود ليسوا بعدول لا تصح شهادتهم. فالحكم أن يكلف البينة به. فيقال له: أحضر من يشهد على هذا أي من يشهد على أنهما ليسا بعدلين وأنهما فاسقان ويشترط في هذا الجرح ان يكون مفسراً. فلو أتى بشاهدين فشهدا على أن هذين الشاهدين فاسقان فلا يقبل ذلك حتى يبينا سبب الفسق، فيقولان مثلا: يشربان الخمر، وغير ذلك مما يجرح. وذلك لأن الناس يختلفون اختلافاً كبيراً في أسباب الجرح فقد يجرح الجارح بما ليس بجرح، وقد يفسق بما لا يفسق بمثله.

ولا تقبل شهادته هو " أي شهاده الخصم " فلا تقبل شهادته على فسق الشهود لأنه متهم بذلك. إذن: إذا جرح الخصم الشهود كلف البينه بذلك، فيأتي بشاهدين يقولان: إن هذين الشاهدين فاسقان، وسبب فسقهما كذا وكذا.. أو يستدل بالإستفاضة فيقول: هذا مستفيض عند الناس، فهم يعرفون أن هذين فاسقان، فإذا ثبتت هذه الإستفاضة فإن الشهود يكونون مجروحين. قال:] وأنظر له ثلاثاً إن طلبه [. فإذا طلب الخصم الإنظار، فقال: أنظروني حتى أثبت انهم ليسوا بعدول فإنه ينظر ثلاثه أيام فإن طلب أكثر من ثلاثه ايام فإنه لا ينظر إلا أن يرضى بذلك خصمه، فاذا رضى خصمه بذلك فإنه ينظر لأن الحق للخصم. قال:] وللمدعي ملازمته [. فإذا قال المدعي: انا أريد أن ألازم هذا الخصم " أي المدعى عليه " لئلا يهرب بحق، لأن الحق قد ثبت له، فله ذلك. قال:] فان لم يأت ببينة حكم عليه [. فإذا لم يأت ببينة على جرحهم فإن القاضى يحكم عليه عملاً بالبينة. قال:] وان جهل حال البينة طلب من المدعي تزكيتهم [. فإذا قال القاضي للمدعي: أنا لا أعرف عدالة هؤلاء الشهود الذين أتيت بهم، فحينئذ يطلب من المدعي تزكيتهم فيقول – أي القاضي- للمدعي: ائت بمن يزكيهم. قال:] ويكفى فيها عدلان يشهدان بعدالته [. فيكفى في التزكيه لكل شاهد، عدلان يشهدان بعدالته هذا هو المشهور في المذهب. وقال شيخ الإسلام وهو رواية عن الإمام أحمد: بل يكفي مزك واحد وهو الراجح. وذلك لأن التزكية خبر لا يفتقر الى شهادة، فلم يشترط فيه أكثر من واحد كالرواية. ولأنه خبر ديني فقبل فيه خبر الواحد فالصحيح أنه يكفي في التزكية عدل واحد: فإذا أتى عدل واحد فقال: أزكي هذين الشاهدين جميعاً فأنا اعرفهما فإن قوله يقبل وتثبت بذلك عدالتهم. فإن قال: لا أعلم فيهما إلا خيراً فهل يقبل ذلك؟ قولان: أظهرهما – وهو المشهور في المذهب – أنه لا يقبل.

وذلك لأن الفاسق الذي هو فاسق في الباطن لا يعلم منه في الظاهر إلا خيراً فالجاهل بالفاسق لا يعلم منه إلا خيراً. فلا بد أن يتلفظ بما يدل على عدالتهما الظاهره والباطنة. قال:] ولا يقبل في الترجمة والتزكية والجرح [. الترجمة: أن يكون أحد المدعيين أو كلاهما غير عربيين فالقاضي حينئذ يحتاج لمن يترجم، فلا يكفي واحد بل لا بد من عدلين اثنين يترجمان للقاضي، فلا يكفي آن يكون عدلا واحداً وكذلك في التزكية كما تقدم. والجرح: فإذا ادعى الخصم جرح الشهود فلا يكفى أن يأتي بعدل واحد يثبت جرحهم بل لا بد أن يأتى باثنين عدلين يشهدان على ذلك. قال:] والتعريف [. التعريف كأن يحتاج إليه قبل ظهور البطاقات الشخصية فعندما يدعى رجل على رجل، فان القاضى سيكتب ادعى: فلان ابن فلان على فلان ابن فلان بكذا وكذا، فلا بد أن يعرف القاضى بالمدعي وأن يعرف بالمدعى عليه. وأن يعرف بالمدعى به وهو ما وقعت فيه الخصومة، فلا بد أن يكون التعريف من عدلين. فيعرف المدعي عدلان – ويعرف المدعى عليه عدلان ويعرف المدعي به عدلان. قال:] والرساله [ فإذا أرسل القاضي الى آخ رسالة، فلا بد أن يقول عدلان إن هذه هي رسالة القاضي اليك. قال:] إلا قول عدلين [ فلا يقبل في هذه المسائل إلا قول عدلين. -واختار شيخ الاسلام انه يكفي في هذه المسائل كلها قول عدل وهو الصحيح – كما تقدم – لآن هذا خبر لا يفتقر إلى شهادة فقبل فيه خبر الواحد العدل كالرواية. قال:] ويحكم على الغائب إذا ثبت عليه الحق [ اذا دعى زيد على عمرو مالا، فقلنا أين عمرو، فقيل: عمرو غائب فى سفر تقصر فيه الصلاة. كأن يدعى رجل في حايل على رجل في الرياض. فإن القاضى يحكم على الغائب إذا ثبت عليه الحق. فيقول القاضى للمدعي: أحضر بينتك،فإذا أحضرها فإنه يقضي عليه.

قالوا: لما ثبت في الصحيحين: أن هند بنت عتبة ادعت على زوجها أبي سفيان أنه لا يعطيها وولدها ما يكفيهما بالمعروف، فقال لها النبي صلىالله وعليه وسلم: (خذى من ماله ما يكفيك وولدك بالمعروف) قالوا: فقد قضى عليه الصلاه والسلام وهو غائب. وهذا الاستلال فيه نظر من وجهين: الوجه الأول / أن أبا سفيان لم يكن غائباً عن مكة بل كان فى مكة اثناء هذا القضاء، وهم لا يقولون بالقضاء على الغائب في البلد. الوجه الثاني: أن هذا من باب الفتوى وليس من باب القضاء بدليل أن النبى صلى الله عليه وسلم لم يسألها البينة. ولذا فذهب بعض أهل العلم وهو رواية عن الأمام أحمد وهو مذهب أبي حنيفة إلى أن الغائب لا يقضى عليه حتى يحضر. استدلوا: بما ثبت عند أحمد وأبي داوود والنسائي والترمذي وحسنه – وهو كما قال – أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لعلى: ((اذا تقاضى اليك رجلان فلا تقض للأول حتى تسمع كلام الآخر فسوف تدرى كيف تقضى)) وهذا سواء كان الخصم في المجلس كما هو ظاهر هذا الحديث ام لم يكن كذلك لان العلة واحدة وهي أن يسمع من الثاني كما سمع من الأول، والقاضى إذا حكم على الغائب فإنه لم يسمع من هذا الغائب وهذا هو القول الراجح في هذه المسألة. إلا أن تكون هناك ضرورة، وتكون هناك قرائن قوية عند القاضي تقوي له إن المدعي محق فحينئذ له أن يقضى لأن الموضع موضع ضرورة فله بينة والقرائن تدل على صدق قوله. إذن: المشهور في المذهب: أن القاضى يحكم على الغائب اذا ثبت عليه الحق. لكن هل يحلف المدعي أم لا؟ ادعى زيد انه اشترى من عمرو داراً ومعه بينة على ذلك فقيل له: اين خصمك فقال: في الرياض فاذا قضى القاضي بالبينة على الخصم، فهل يسأل المدعي اليمين ام لا؟ أي هل يحلفّ زيداً أو لا؟ قولان لاهل العلم:-

القول الأول: وهو المشهور في المذهب: أنه لا يحلفه لأن البينة على المدعي وهذا هو المدعي فعليه البينة وليس في ذلك ذكر اليمين. والقول الثاني في المذهب وهو مذهب الشافعية: انه يحلفه وذلك احتياطاً لحق الغائب وذلك لأنه يحتمل أن يكون قد طرأ بعد البينة ما يجعل الحق للغائب، كأن يبيعه هذه الدار في أول السنة ثم يشتريها منه في آخر السنه، فالذى في البلدة يحضر شهوداً يشهدون أنه قد باعه هذه الدار وهم صادقون في شهادتهم وقد باعها إياه، لكنه بعد ذلك باعها إلى من اشتراها منه. آو أن يكون قد اقرضه ثم أرجع اليه ماله والشهود هؤلاء قد شهدوا على القرض الأول وللغائب شهود يشهدون على انه أعاد المال فاحتياطاً لحق الغائب فإن القاضى يحلفه. ثم هل يطالب القاضي بكفيل للمدعي، لانه قد يكون الحق مع الغائب، فإذا رجع وأتى القاضي وقال: هذه بينتي التى تدل على أن الحق لى، وثبت للقاضى أن له الحق، فقد يكون المال قد ضاع، فهل نضع كفيلاً او رهناً او نحو ذلك؟ قولان لاهل العلم المشهور في المذهب أنه لا يوضع الكفيل. والقول الثاني: قال صاحب الأنصاف: " وما هو ببيعيد " انه يوضع الكفيل – هذا هو الأظهر احتياطاً لحق الغائب. -هذا كله على القول بجواز القضاء على الغائب وهو المشهور في المذهب. وأيضا على القول الذي ترجح من أن له أن يقضى إذا كانت هناك قرينة فكذلك يحتاط لحق الغائب باليمين وبالكفيل. قال:] وإن ادعى على حاضر في البلد غائب عن مجلس الحكم وأتى ببينة لم تسمع الدعوى ولا البينة [. إذا قال:أدعي على عمرو وهذه بينتى، قيل له: أين عمرو، قال: عمرو في البلد فهنا لا يسمع القاضي الدعوى ولا يحكم له ببينته حتى يحضر الخصم في مجلس القاضى. وهذا لا خلاف فيه بين أهل العلم:-

لكن إن كان مختفياً أو امتنع من الإتيان لمجلس القاضي فإنه يحكم عليه. فإنه إن كان مختفياً فهو كالمسافر، ثم إن اختفاءه قرينة قوية على أنه لا حق له. وإذا امتنع من حضور مجلس القاضي فالقاضي يحكم للعذر. إذن: إذا كان في البلد فلا بد من إحضاره مجلس القاضي، ولا يحكم القاضي بالبينة حتى يحضر الخصم الى المجلس. لكن إن امتنع من الحضور أو اختفى فان له حينئذ أن يحكم. استدراك: اذا ادعت الزوجة أن هذا زوج لها وأنكر ذلك وأتت ببينة تدل على أنه زوج لها، فهل يمكن منها في الظاهر؟ قولان لأهل العلم وهما قولان في المذهب:- (1) القول الأول: انه يمكن منها في الظاهر لأن الحاكم قد حكم بأنها زوجة له، وعليه فيمكن منها في الظاهر. القول الثاني: انه لا يمكن منها في الظاهر، وذلك لأنه ينكر أن تكون زوجة له، فهو لا يقر بهذه الزوجية. وهذا هو الصحيح، لأنه مقر على نفسه أنه لا حق له في هذه المرأة فيعامل بإقراره في حقه. واما المرأه فيثبت لها ما يترتب على ذلك حتى يفارقها. -وأما على القول بأنه يمكن منها في الظاهر فهل تحل له في الباطن أم لا؟ قولان لأهل العلم القول الأول الجواب: فيه تفصيل: فإن اعتقد أنها بائنة منه وأنها ليست بزوجة له فهنا لا تحل له في الباطن لأن حكم القاضى لا يحل حراماً. وأما إن اعتقد أنها زوجه له فإنها تحل له في الباطن. الدرس الثامن عشر بعد الأربعمئة (يوم الجمعة: 23 / 4 / 1417) باب كتاب القاضي إلى القاضي (1) قال رحمه الله:] يقبل كتاب القاضي الى القاضي [. إجماعاً: لأن الحاجة تدعو إليه فإذا كتب القاضي الى قاض آخر في قضية لينفذها القاضي الآخر أو في قضية ليحكم فيها الآخر.

_ (1) روجع وطبق على الأصل، أي باب كتاب القاضي إلى القاضي.

فيأتي المدعي والمدعى عليه الى القاضي ويدلي المدعي ببينته، ويتم لقاضي القضية ثم يحكم فيها ثم يكتب إلى قاض آخر في بلد أخرى أو في البلد نفسها – يكتب اليه بحكمه، فيقول: حكمت على فلان بأن لفلان عليه مئة ألف فنفِّذ هذا القضاء. أو ادعى فلان على فلان أنه قد قذفه وأتى ببينة تدل على ذلك،فحكمتُ بجلده ثمانين جلده فنفِّذ ذلك. أو أن يكتب القضية ولا يحكم فيها فيكتب: شهد عندي فلان وفلان على أن فلانا قد أقرض فلاناً كذا، أو يقول: ثبت عندي أن فلاناً قد أقرض فلاناً كذا ويكتب البينة. ففى الصورة الأولى: أرسل اليه بالحكم لينفذه. وأما في الصورة الثانية: فانه لم يحكم سواء عبر بقوله: " شهد عندي فلان وفلان "، أو بقوله:" ثبت عندي أن لفلان على فلان " ولا يقال: إن قوله: " ثبت عندي " حكمٌ؛ للفرق بين الحكم والثبوت، فإن الحكم فيه أمر ونهي يقتضي الإلزام، وأما الثبوت فليس كذلك. ومثل هذه المسألة يحتاج إليها، فقد يكون القاضي في هذا البلد ضعيفا لا يستطيع أن ينفذ الحكم فيكتب بالقضية لتنفذ من قاضي أقوى منه. أو أن يكون المدعى عليه له بالقاضي صلة قوية، فيخشى إن نفذ الحكم أو حكم أن يترتب على ذلك قطيعة رحم فيرسل بالقضية إلى قاضٍ آخر للمصلحة. فالحاجة تدعو الى كتاب القاضي الى القاضي ومن ثم فقد أجمع أهل العلم على صحة كتاب القاضي الى القاضي. قال:] في كل حق حتى القذف لا في حدود الله كحد الزنا ونحوه [ فالقضايا التى تقبل فيها كتابة القاضي إلى القاضي: هي كل حق - أي من حقوق الآدمي – حتى القذف. فكل ما كان من حقوق الآدميين فإن القاضي له أن يكتب بالقضية إلى القاضي الآخر وهذا بالاتفاق. واستثنى المؤلف حدود الله كحد الزنا ونحوه، فلا تقبل فيها كتابة القاضي إلى القاضي، فلا يحل أن يكتب القاضي: قد شهد عندي أربعة شهود على أن فلانا قد زنا.

قالوا: لأنها من حدود الله وحدود الله ينبغي فيها الستر؛ ولأن الحدود تدرأ بالشبهات،وكتابة القاضي إلى القاضي فيها شبهة، هذا هو المشهور في المذهب. وهذا القول ضعيف. - ولذا فقد اختار شيخ الإسلام وهو مذهب الشافعية والمالكية وحكي رواية عن الإمام أحمد: أن كتابة القاضي في الحدود مقبولة. وذلك لأنه لا فرق بين المسألتين. وما ذكروه فهو ضعيف أما قولهم: إن حدود الله يجب فيها الستر. فالجواب: أنه قد فضح نفسه بإتيانه ما حرمه الله عليه. ولأنه قد يكون في الإظهار مصلحة، وقد قال تعالى: {وليشهد عذابهما طائفة من المؤمنين} ثم إن مصلحة كتابه القاضي إلى القاضي أعظم من هذه المصلحة. وأما قولهم: إن الحدود تدرأ بالشبهات؟ فالجواب: أن هذه شبهة ضعيفة، أشبه ما تكون بشبهة كذب الشهود، فإن الشهود يحتمل فيهم الكذب، ومع ذلك فإذا شهد شاهدان أن فلانا قد قتل فلانا عمداً فإن القتل يثبت مع أن الكذب محتمل. فليس كل شبهة ينظر إليها، بل لا بد أن تكون الشبهة قوية يدرأ بها الحد – كما تقدم في كتاب الحدود. إذن: الصحيح أن حدود الله كذلك أي يقبل فيها كتاب القاضي إلى القاضي. قال:] ويقبل فيما حكم به لينفذه [. هذه الصورة الأولى: وهي أن يكتب القاضي إلى قاضٍ آخر بالحكم كأن يكتب له: " قد حكمت على فلان بأن يجلد مئة جلدة لأنه قد ثبت عليه الزنا " فهنا يقبل هذا الكتاب ويجب على القاضي أن ينفذه، وذلك لأن حكم القاضي لازم فيجب تنفيذه. قال:] وإن كان في بلد واحد [ كأن يكتب قاضٍ في المحكمة إلى قاضٍ آخر في المحكمة نفسها أو في محكمة أخرى في البلد، أو أن يكتب بعض القضاة إلى رئيس القضاة لينفذ ونحو ذلك – ولو كانا في بلد واحد؛ لوجوب تنفيذ حكم القاضي. قال:] ولا يقبل فيما ثبت عنده ليحكم به إلا أن يكون بينهما مسافة قصر [ هذه الصورة الثانية: وهي أن يكتب إلى قاضٍ آخر فيما ثبت عنده ليحكم به.

فلا يقبل هذا الكتاب إلا أن يكون بينهما مسافة قصر، وأما إن كانا في بلد واحدة فلا يقبل هذا الكتاب هذا هو المشهور في المذهب. ولم أرَ دليلاً يصار إليه في هذه المسألة. -والقول الثاني في المسألة، وهو اختيار شيخ الإسلام: أنه يقبل، وهو أظهر لأن الحاجة داعيه إليه. فقد ثبتت عنده القضية ولا يحكم بها لمصلحة من المصالح أو لدفع مفسدة من المفاسد فيرسل بالقضية إلى قاضٍ آخر ليحكم فيها فلا مانع من صحة هذا الكتاب وقبوله. فالذي يترجح: أن الكتاب إلى قاضٍ آخر ليحكم يقبل سواء كان بينهما مسافة قصر أم لم يكن بينهما مسافة قصر. قال:] ويجوز أن يكتب إلى قاضٍ معين، وإلى كل من يصل إليه كتابه من قضاة المسلمين [. اتفاقاً فيجوز أن يكتب إلى قاضٍ معين كأن يقول:" من القاضي إلى القاضي فلان " فهنا قد كتب إلى قاضٍ معين. ويجوز أن يكتب إلى كل من يصل إليه كتابه من قضاة المسلمين. كأن يكتب:" إلى كل من يصله كتابي هذا من قضاة المسلمين " فهو جائز، فيجوز على التعيين، ويجوز على التعميم. قال:] ولا يقبل إلا أن يُشهد به القاضي، الكاتبُ شاهدين فيقرأه عليهما ثم يقول: اشهدا أن هذا كتابي إلى فلان ابن فلان ثم يدفعه إليهما [. فإذا كتب القاضي القضية سواء كان فيها حكم أم لم يكن فيها حكم فإنه يأتي بشاهدين ويقرأ عليهما الكتاب. ويقول: "هذا كتابي فادفعاه إلى القاضي فلان " فلا يقبل إلا أن يشهد عليه القاضى شاهدين عدلين ويقرأه عليهما ثم يقول: اشهدا أن هذا كتابي إلى فلان ابن فلان ثم يدفعه إليهما – هذه هو المشهور في المذهب. - والقول الثاني في المسألة، وهو مذهب مالك ورواية عن الإمام أحمد: أنه لا يشترط أن يقرأ عليهما الكتاب بل يكفى أن يقول: هذا كتابي إلى القاضي فلان، فادفعاه إليه.

قالوا: لأنهما يشهدان أن هذا كتاب القاضي إليه، وهذا كاف فإن المقصود هو الشهادة على أن هذا الكتاب هو كتاب القاضي الأول إلى القاضي الثاني وإن لم يقرأ عليهما مع ما في القراءة من ظهور شىء من الأسرار ونحو ذلك، وهذا القول أصح. 3- والقول الثالث، وهو رواية عن الإمام أحمد واختيار ابن القيم: أنه يصح ولو لم يشهد عليه ما دام أن المكتوب عليه عرف أن هذا هو كتاب القاضي الأول إليه. فإذا أتاه من حائل أو من الرياض كتاباً من القاضي فلان وهذا هو خطه وعليه ختمه فإنه يقبل ذلك، وذلك لأن المقصود هو العلم أو غلبة الظن أن هذا هو كتاب القاضي إليه وقد حصل ذلك. قال ابن القيم: " وهذا هو عمل الخلفاء والقضاة والأمراء والعمال من عهد النبى صلى الله عليه وسلم إلى الآن "ا. هـ أي أنهم يعتمدون على كتب بعضهم لبعض. وهذا هو الراجح في هذه المسألة. وهذه القضية لا يحتاج إليها في عصرنا هذا، لأنه قد وجدت طرق أخرى لإرسال الرسائل. باب القسمه القسمة: هي جعل الشيء أقساماً والقسم: هو النصيب قال:] لا تجوز قسمة الأملاك التى لا تنقسم إلا بضرر أو رد عوض إلا برضاء الشركاء [. إذا كان بين شريكين مال كأرض ونحو. فلا يجوز قسمتها إن كانت لا تنقسم إلا بضرر أو رد عوض، فلا يجوز قسمتها إلا برضا الشركاء. وما هو الضرر؟ فيه روايتان عن الأمام أحمد (1) الرواية الأولى: وهي المشهورة عند المتأخرين: أن الضرر هو نقصان القيمة بعد القسم في كل نصيب أو في نصيب أحدهما. والرواية الثانية: وهو القياس على قول الموفق وهو قول الخرقى: أن الضرر هو ألا يمكن الإنتفاع فيها بعد القسم.

-صورة هذا: إذا كان الاثنان يشتركان في أرض مساحتها مائتان متر، لاحدهما الخمس، وأربعه أخماسها للآخر، فإذا قسماها فإن نصيب صاحب الخمس يكون أربعين مترا والأرض ليست في موقع تجارى فهذه الأربعين مترا لا يمكن الانتفاع بها بعد ذلك فحينئذ: لا تجوز القسمة إلا برضا الشريكين وذلك لوجود الضرر وهو أنه لا يتمكن من الانتفاع بها بعد ذلك. ومثال نقصان القيمة: إذا كانت الأرض تساوي مائة ألف، ومساحتها خمسمائه متراً، ولأحدهما الخمسمائة والآخر له ثلاثة أخماس، فإذا قسمناها صار للأول مائتا متر، وللآخر ثلاثمائه متر. وقد كانت الأرض بكاملها تساوى مائه ألف، ونصيب صاحب الخمسين منها أربعون الفاً والآخر نصيبه ستون الفاً وبعد القسم أصبحت المائتا متر لا تساوي إلا ثلاثين الفاً. فقد تضرر بذلك لنقصان القيمة. وهذا – فيما يظهر – أقوى وذلك لثبوت الضرر لأن هذا نوع ضرر. إذن: لا تجوز قسمة الأملاك التى لا تنقسم إلا بضرر والضرر في المشهور – هو أن تنقص قيمة قسم أحدهما بعد القسمة. (أو رد عوض) : أي لا يمكننا أن نقسم حتى نقول لأحدهما: أعط الآخر خمسة آلاف أو عشره آلاف لتكون القسمة عادلة فلا يلزم أحدهما بالقسمة بلا رضا، بل لا بد من الرضا. وهذا هو النوع الأول من القسمة وهو: قسمه التراضى. فمتى ما كان في القسمة ضرر أو رد عوض فلا تجوز القسمة إلا بالرضا. وتكون القسمة هنا من البيع، لأنه لما ثبت رد العوض كان ذلك بيعاً – هذا هو المشهور في المذهب، وعليه فيشترط فيها الرضا وفيها خيار المجلس لأنها بيع. قال:] كالدور الصغار [. فمثلاً: يملكان شقة فيها ثلاث غرف ولها حمام واحد ومطبخ واحد فلا تمكن القسمة من غير ضرر ورد عوض. قال:] والحمام والطاحون الصغيرين [. (الحمام) : فإذا كان لكل منهما غرفة والحمام مشترك بينهما فأردنا قسمته فإذا هو متر في نصف متر فلا يمكن أن يقسم من غير ضرر، فإنه لا يجوز إلا بالرضا.

" الرحى (والطاحون) هو ما يسمى عندنا في السابق بـ " وله دار خاصة به، فإذا كانت هذه الدار صغيرة والرحى كذلك فلا تمكن القسمة إلا برضا الشريكين، لأنه إما أن يكون هناك ضرر أو رد عوض. قال:] والأرض التى لا تتعدل بأجزاء ولا قيمة، كبناء أو بئر في بعضها [. كأن تكون الأرض مساحتها خمسمائة متر وفيها شئ من الحجارة من الجبال الثابتة أو فيها بعض البناء أو فيها بئر، ولا يمكن ان تتعدد بالأجزاء وكان لكل واحد منهما النصف، فلو أعطينا كل واحد مائتين وخمسين متراً لكن في قسم أحدهما بئر والآخر ليس في قسمته بئر، وفي قسمة أحدهما جبل والآخر ليس فيه ذلك، فليست قسمة عادلة فلا يمكننا أن نعدل بينهما بالأجزاء. -وهل يمكننا أن نعدل بينهما بالقسمة؟ بأن نقول لأحدهما خذ مائتى متر ليس فيها جبل، ونقول للآخر خذ ثلاثمائة متر فيها هذه القطعة من الجبل، ووجدنا أن المائتين متر هنا تساوي الثلاثمائه متر هناك فهذه قسمة عادلة. لكن إذا لم يمكننا القسمة لا بالأجزاء ولا بالقسمة فلا تكون القسمة مقبولة بغير الرضا، بل لا بد من رضاهما. قال:] فهذه القسمة في حكم البيع ولا يجبر من امتنع من قسمتها [. لأنها في حكم البيع ويشترط في البيع التراضي ولقوله صلى الله عليه وسلم - حيث كان ضرراً -: " لا ضرر ولا ضرار " فإن قال أحدهما: ما دامت الأرض لا يمكننا أن نقسهما بيننا، ولا يرضى أحدنا بالنصيب الأقل، فأطلب أن تباع الأرض وآخذ نصيبي من القسمة، فهل يلزم الآخر بذلك أم لا؟ الجواب: أن الآخر يلزم بذلك، لدفع ضرر الشراكة فإن أبى أن يبيع فإن الحاكم يجبره. قال:] وأما مالا ضرر ولا رد عوض في قسمته [. هذه قسمة الإجبار – فلا يشترط الرضا فيها لأنه لا ضرر ولا رد عوض في قسمته. قال:] كالقرية والبستان [. فلو كانت هناك قرية بين اثنين فاقتسماها فهذا صحيح قال:] والدار الكبيرة [.

كأن تكون الدار فيها عشرة غرف وفيها مجلسان وفيها مطبخان وحمامان، فقسمت بينهما فهذا صحيح. والدار الكبيرة: أي التى يمكن أن تقسم قسمة عادلة. قال:] والأرض [. كأن تكون لهما أرض مساحتها ألف متر، فيأخذ كل واحد خمسمائة متر. فهذا جائز. قال:] والدكاكين الواسعة [. كأن يكون لهما في السوق دكان مساحته عشرة أمتار في خمسة أمتار، فيقول: خمسة في خمسة لي، وخمسة في خمسة لك ونضع بينهما جداراً فهذا جائز ويكون في هذا القسمة إجبار. قال:] والمكيل والموزون من جنس واحد كالأدهان والألبان ونحوها [. كالأرز ونحو ذلك، فهذه مكيلة أو موزونة، تمكن قسمتها قسمة عادلة ولا ضرر ولا رد عوض. قال:] إذا طلب الشريك قسمتها أجبر الآخر عليها [. . أي على القسمة لأنه لا ضرر ولا رد عوض وهي مشتركة بينهما. قال:] وهذه القسمة إفراز لا بيع [. فهذه القسمه ليست بيعاً وإنما هي إفراز، أي تمييز حق كل ذي حق بينهما، ففيها تمييز حق كل واحد منهما عن الآخر، وعليه فلا يشترط فيها الرضا – كما تقدم – ولذا كانت إجباراً، وإذا قسمت بينهما فلا يثبت خيار لأنها ليست بيعاً وإنما هي إفراز. قال:] ويجوز للشركاء في قسمة الإجبار - أن يتقاسموا بأنفسهم أو بقاسم ينصبونه او يسألوا الحاكم نصبه [. لان الحق لهم، ويشترط أن يكون القاسم عالماً بالقسمة ليوصل الحقوق إلى أهلها. قال:] وأجرته على قدر الأملاك [ فأجرة هذا القاسم تكون على الشركاء بقدر أملاكهم، لأنها مؤنة ملك فكانت بقدره، كما لو كان هناك عبد مشترك بينهما فنفقته بقدر الأملاك. لكن إن كان بينهما شرط، كأن يقول صاحب القسمة الأكبر لصاحب القسمة الأقل أشترط أن تكون الأجرة بينى وبينك بالسوية، فرضي بذلك، فالذي يظهر صحة الشرط لأن المؤمنين على شروطهم – وهو قول في المذهب قال صاحب الكافى:" وهو على ما شرطاه "

إذن: إذا كان بينهما شرط فهو على ما شرطاه، وإن لم يكن هناك شرط فيكون بقدر الأملاك. قال:] فإذا اقتسموا أو اقترعوا لزمت القسمة [ فإذا اقتسموا بأنفسهم – في قسمة الإجبار – أو بقاسم ينصبونه أو يسألوا الحاكم نصبه – فإذا اقتسموا على ذلك لزمت القسمة، وذلك لان القسمة قسمة إجبار ورضاهما لم يكن معتبراً في الأصل فكذلك لم يعتبر في الأثناء. -إذا كانا قد نصبا حاكماً عالماً بالقسمة فكما لو حكما بينهما قاضياً فيلزمهما كذلك. إذا كانا قد قسما بينهما القسمة من غير قاسم: فإذا كانا تراضيا على ذلك فكذلك أي تلزم القسمة لأنهما قد تراضيا على ذلك. وأما إذا لم يتراضيا فلا، لأنه يقول أحدهما:القسمة جائزة أو نحو ذلك فلا يلزمه الرضا. قال:] وكيف اقترعوا جاز [ بأي كيفية اقترعوا جاز ذلك سواء كان بالحصى أو بالرقاع وغير ذلك من طرق القرعة فإذا لم يرض كل واحد فيهما بهذا النصيب فوضعوا القرعة بينهما فخرجت لأحدهما فيلزم الآخر الرضى بأي طريقه من طرق القرعة. -لا شك أنه ليس المراد أن يكون أحدهما غانماً أو غارماً بل المقصود أنهما اجتهداً في التسوية، ومن أجل أنهما قد يختلفان في اختيار النصيب وضعت القرعة بينهما. أما إذا كان أحدهما غانماً والآخر غارماً فلا يجوز ذلك. والحمدالله رب العالمين باب: الدعاوى والبينات الدعاوى: بفتح الواو وكسرها جمع دعوى وهي في اللغه: الطلب قال تعالى: ولهم فيها ما يدعون " وأما في الإصطلاح: فهي إضافة الإنسان إلى نفسه استحقاق شئ في يد غيره او ذمته. كان يقول: مثلاً: هذه الدار لي والدار بيد رجل آخر فهي دعوى , او يقول: في ذمته لي عشرة آلاف، فهي دعوى. -أما البينات فهي جمع بينه وهي ما اظهر الحق وأبانه كالشاهد: فالشاهد يظهر الحق ويبينه. قال رحمه الله:] المدعي: من إذا سكت ترك والمدعى عليه من إذا سكت لم يترك [ يعنى مع المطالبة.

فإذا ادعى زيد على عمرو أن في ذمته له عشرة آلاف، ثم سكت زيد عن الدعوى فإنه يترك لأن الحق له. واما المدعى عليه وهو عمرو في هذا المثال، فإذا سكت فانه لا يترك. وقيل غير ذلك وتعريفهما ظاهر: فالمدعي: هو الطالب، والمدعى عليه هو المطالب وفيه تعريفات أخرى. قال: [ولا تصح الدعوى والإنكار الا من جائز التصرف] جائز التصرف: هو الحر المكلف الرشيد، وقد تقدم ذلك في كتاب البيع. فاذا ادعى ابن سبع سنين او ادعى السفيه غير الرشيد او ادعى العبد – فلا تسمع دعواه أي في المال. وكذلك إنكاره لا يسمع، فإذا ادعى عليه – أي على غير جائز التصرف – فأنكر فكما لو لم ينكر، فلا يسمع إنكاره في المال، وغير جائز التصرف لا قول له في المال، والدعوى والإنكار قول في المال. قال: [وإذا تداعيا عيناً بيد أحدهما فهي له مع يمينه] إذا كان عمرو عنده أرض يزرعها فادعى زيد أن هذه الارض له، فنقول: هي لمن بيده وهو عمرو، مع يمينه. ولو أن رجلاً راكب راحلة فادعى رجل أن هذه الراحلة له، فهي لراكب الراحلة مع يمينه. ودليله: ما ثبت في الصحيحين أن النبى صلى الله عليه وسلم قال: (لو يعطى الناس بدعواهم لادعّى ناس دماء رجال وأموالهم ولكن اليمين على المدعى عليه) يعنى المطالَب. وفي البيهقى: " البينه على المدعي واليمين على من أنكر " وفيه ضعف واجمع أهل العلم على ذلك أي على أن البينّة على المدعي واليمين على من أنكر. قال: [إلا أن تكون له بينه فلا يُحلّف] فإذا قال المدعى: هذه بينتى وأحضر من يشهد له، فإنه يحكم بها ولا يحلف أي المدعي. وإنما حكمنا بها في المسألة السابقة لمن هي بيده لشاهد الحال، فإن الحال يشهد أنها له: لكن لو كان الحال يشهد أنها ليست له، فحينئذ نحكم لمن يشهد له الحال.

فمثال ذلك: إذا وجدنا رجلاً معه عمامة بيده وآخر قد حسر رأسه في الشارع فتحاكما إلينا، وأحدهما على رأسه عمامة وفي يده عمامة، والآخر حاسر الرأس، وكلاهما معروف أنه لا يخرج على هذه الصفه، فإننا نحكم بالعمامة لمن كان حاسر الرأس، وإن كانت العمامة ليست بيده لشاهد الحال ونقول له – أي لحاسر الرأس – احلف أنها لك. والأصل أن من في يده المدعى به أنه لهٍ الا أن يعارض ذلك قرينة ظاهرة , وذلك لأن اليمين من جانب أقوى المدعيين، ففى المثال المتقدم / من ليس المدعى به "وهي العمامه " في يده جانبه أقوى فعليه اليمين. ومثال آخر:- لو أن رجلاً طلق امرأة، وادعى شيئاً مما يختص بالنساء ادعى أنه له فإنه يحكم به للمرأة مع يمينها. والعكس بالعكس، فلو كانت الدعوى سّيارة فادعت المرأة إنها لها –وطبعاً يوجد الآن في هذا الوقت الإستمارات التى يكتب فيها اسم مالك السيارة-، لكن لنفرض أن هذا ليس بموجود – فإننا نحكم بها للرجل مع يمينه إلا أن تأتى المرأة ببينة. قال: [وإن أقام كل واحد منهما بينة أنها له] كأن تكون هناك أرض يزرعها زيد، فادعي عمرو أنها له وأحضر بينّة، وأحضر زيد بينة أيضاً، فتعارض عندنا البينات فلمن نحكم؟ قال: [قضى للخارج ببينته ولغت بينة الداخل] ففى المثال المتقدم نحكم بها لعمرو لأنه هو الخارج، ولغت بينة زيد وهو الداخل. فإذن: يقضى بها للخارج وهو المدعي الذي ليس المدعى به في يده، وأما الداخل فهو من كان المدعى به في يده، فإن بينته تلغى. قالوا: لان البينة في جنب المدعي، فالبينة على المدعي واليمين على من أنكر، فالبينة إنما تسمع من المدعي، وعلى ذلك فوجودها من المدعى عليه – كعدمها. قالوا: ولأن معه – أي مع الخارج – زيادة علم لأنه ناقل عن الأصل فالخارج هو الناقل عن الأصل – لأن الأصل إنها لمن هي بيده.

وقال الجمهور وهو اختيار الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله، واختاره الشيخ محمد بن إبراهيم: أنه يقضى فيها للداخل. قالوا: لشاهد الحال، فإن شاهد الحال يدل على أنها للداخل، والبينات تعارضتا فتساقطتا، فكما لو لم يكن لهما بينة وعليه فيحكم لمن هي بيده. قالوا: وأما كون البينة في جنب المدعي في الأدلة الشرعية فلأن الأصل ألا يكون في القضايا إلا بينّة واحدة،ولقوة جانب المدعى عليه اكتفينا بيمينه ولم نقبل من الآخر دعواه فيحكم بها إلا ببينة، فاشترطنا عليه البينة وحففنا مع الآخر فقبلنا منه اليمين، فجانبه أقوى، واما المدعي فلما كان جانبه أضعف اشترطنا البينّه. قالوا: وأما ما ذكرتموه من أن في دعوى المدعي زيادة علم فهذا معارض بالأصل، فإن الأصل أنها لمن هى في يده، وهذا أقوى من هذا النقل. إذن: الصحيح أن البينتين إذا تعارضتا وكان المدعى به تحت يد أحد الطرفين فإنا نحكم له مع يمينه؟ كما هو مذهب الجمهور. فإذا كان المدعىّ به تحت يديهما جميعاً: كأن يأتي اثنان إلى قاضى براحلة كل واحد منهما قد أخذ بزمام الراحلة فهنا لا ترجيح. فلو كان أحدهما أقوى كأن يكون أحدهما راكبا للراجله والآخر أخذ بزمامها فإنا نرجح الراكب لان يده أقوى. أما هنا فان كليهما اخذ بزمام الراجله، فاليدان مشتركتان لا مزية لأحداهما على الأخرى فما الحكم؟ الجواب: إن كان لا بينة لأحدهما فإننا نحلفهما جميعاً. ونجعلها بينهما نصفين. وإن كان لكل واحد فيهما بينة فكذلك أي نقول: احلفا وتناصفا. والقول الثاني في المسألة: إننا لا نحلفهما – أي حيث أدلى كل واحد منهما ببينة – لأن بينة كل واحد منهما تثبت النصف فلا نحتاج إلى اليمين. وهو قول الأكثر. -وعن الإمام أحمد في المسالتين كلتيهما – أي حيث لم يأتيا ببينة – أو أتى كل واحد منهما ببينة– أننا نقرع بينهما فمن خرجت القرعة له فإنه يحلف فيكون جانبه أقوى.

فعلى هذا القول: نقوى جانب أحدهما بالقرعة. فهذا له بينة وهذا له بينه قد تعارضتا فتساقطتا. وهذا الدابة تحت يده وهذا الدابة تحت يده فليس أحدهما مرجحاً على الآخر، وكذلك إذا كانت الدابة ليست عند أحد منهما بل هي عند شخص آخر فكذلك – إذن جانب كل واحد منهما يساوي جانب الآخر فحينئذ يقرع بينهما فمن خرجت القرعة له كان جانبه أقوى فحينئذ نقول له احلف وهذا القول هو الراجح في هذه المسألة. ويدل عليه ما ثبت في سنن أبي داوود – والحديث صحيح: أن رجلين تداعيا عيناّ وليس لأحدهما بينة فأمرهما النبى صلى الله عليه وسلم " أن يستهما على اليمين أحبّا أو كَرها ". فهذان الرجلان اختصما في عين وليس لأحدهما بينة كما أن العين ليست تحت يد أحدهما بدليل قصه الحضرمي والكندي فإن النبي صلى الله عليه وسلم " جعل البينة على الحضرمي لما كانت الأرض بيد الكندي يزرعها أما هنا فليس المدعى به تحت يد أحدهما، فلما كان الآخر كذلك رُجّحَ جانب من خرجت القرعة له. وفي سنن البيهقى ومراسيل أبي داوود بإسناد صحيح عن سعيد بن المسيب: أن رجلين اختصما إلى النبى صلى الله عليه وسلم في شىء فجاء كل واحد منهما بشهود على عدة الآخر فأمر النبي صلى الله عليه وسلم أن يقترعا وقال: "إن الله يقضي بينكما " وله شاهد مرسل عن سليمان بن يسار ومراسيل سعيد بن المسيب صحيحه عند أهل العلم ففي هذا الحديث انه قد جاء كل واحد منهما بشهود عدول بعدد شهود الآخر فقضى النبي صلى الله عليه وسلم بالقرعة وقال: " والله يقضى بينكما " وهو استهام على اليمين كما في الحديث الأول. فليس فيه إلا تقوية جانب أحدهما.

-إذن الصحيح ما ذهب إليه الإمام أحمد في رواية عنه وأنهما إن كانت العين تحت يديهما وليس لأحد منهما بينة أو لكل واحد منهما بينة أو كان الأمر كذلك لكن العين بقيت تحت يد أحد منهم فأنا – حينئذ – نقرع بينهما ومن خرجت له القرعه نقول له: احلف فإن حلف فانه يأخذ العين. -إذن: عندنا حالات: الحالة الأولى: إذا ادعى رجل على آخر أن هذه العين التى تحت يده له ولا بينة له فإنا نحكم بالعين لمن هي في يده ونقول له: احلف كما في حديث الحضرمي والكندي وهو ثابت في صحيح مسلم. الحالة الثانية: أن تكون العين ليست تحت يد أحد منهما أو تحت يديهما جميعاً، ولا بينة لأحدهما على الآخر أو لكل واحد منهما بينه فحينئذ نقرع بينهما ومن خرجت القرعه له فإنه يحلف – هذا في اصح أقوال أهل العلم. -وفي تعارض البينتين مسألتان: (1) المسألة الأولى: هل يرجح بين البينتين أو لا؟ فإذا كانت إحدى البينتين شهودها أكثر أو أشهر فهل يرجح أم لا؟ أ - مذهب الجهور: أنا لا نرجح إحداهما على الأخرى، لأن كل منهما بينة فهي حجة. فلو جاء أحدهما بمائه شاهد، وجاء الآخر بشاهدين فإن البينتين متعارضتان لا ترجح إحداهما على الأخرى. وكذلك لو أتى أحدهما بشهود مشهورين بالعدالة وأتى الآخر بشهود عدول لكنهم ليسوا على درجة الشهود الأول فإنا لا نرجح. ب- والقول الثاني: وهو مذهب مالك وهو قول مخرّج في مذهب أحمد: أنا نحكم بالبينة التى هي أرجح. وهذا أظهر كأدلة الشرع، فان أدلة الشرع كل دليل بمفرده حجة لكن لما تعارضت الأدلة وأمكننا الترجيح فإننا نرجح، فكذلك البينات هنا. ولأن من معه بينة أقوى فان جانبه أقوى، واليمن في جانب أقوى المدعيين. إذن: الراجح أن البينات إذا تعارضت فإنه يقدم الأرجح.

ولا شك أن هذا القول قوي حيث كان الرجحان ظاهراً أما أن يدخل في ذلك شئ من التلاعب بالترجيح الخفي فليس هذا هو المراد لكن المراد ان يكون الترجيح ظاهراً بيناً حتى لا يتهّم القاضي. ويقوىَّ هذا القول ما تقدم في حديث سعيد بن المسيب فإن فيه ((وجاء كل واحد منهما بشهود عدول على عدّة الآخر)) : أي على عدد شهود الآخر. المسألة الثانية: المشهور في المذهب: أن البينة المتقدمة مقدمة على البينة المتأخرة. فإذا كان لأحدهما شاهدان يشهدان أن الأرض لفلان قبل سنتين وهذا له شاهدان يشهدان أن الأرض لفلان قبل سنة قالوا: نقدم البينة المتقدمة. قالوا: لأن البينة المتقدمة تثبت الملك في زمن لا تعارضها فيه البينة المتأخرة. ب- والقول الثاني في المسألة وهو أحد القولين في مذهب الشافعي وهو ظاهر كلام الحرقى من الحنابلة أن البينتين متساويتان. قالوا: لأن البينة المتاخرة تثبت مِلْكاً حادثاً. ولذا لو قالت البينة الحادثة إنه يملكه منذ سنة بهبة من زيد فإن البينة الأولى تطرح لأنه لا تعارض. لكن الكلام: إذا قالت البينة المتأخرة نحن لا نقول إنه قد وهبه أو نحو ذلك لكن تثبت أنه مِلْك له قبل سنه فهذه البينة تثبت ملكاً حادثاً، والبينة المتقدمة تثبت ملكاً قديماً، ولا شك أن إثبات الملك الحادث أقوى من إثبات الملك القديم. قالوا:وهذا دليل يقتضى ترجيحها فلا أقل من أن يقتضي التساوي. يعنى: أن هذه العلة تعارض تلك العلة. فهذه تدفع هذه وحينئذ يكونا متساويين. -ولم أر قائلاً يقول بتقديم البينة الحادثة. إذن: الصحيح أنهما على التساوي – كما هو أحد القولين في مذهب الشافعي وهو ظاهر قول الحرقي من الحنالبة. والحمدالله رب العالمين كتاب الشهادات الشهادات: جمع شهادة. والشهادة هي: الإخبار بما علمه بلفظ أشهد. هذا هو المشهور في المذهب.

فلو قال:" سمعت فلاناً يقر بكذا " أو " رأيت فلاناً وهو يشرب الخمر ونحو ذلك، فإن شهادته لا تقبل، بل لا تقبل حتى يقول:" أشهد على فلان أنه قد شرب الخمر "أو" اشهد على فلان أنه قد اقترض من فلان " ونحو ذلك فالمشهور فى المذهب أن الشهادة لا تصح إلا بلفظ: أشهد أو شهدت. -واختار شيخ الإسلام وهو مذهب المالكية والأحناف: أنها تصح الشهادة بكل لفظ يدل على الشهادة. فلو قال: " سمعت أو "رأيت " فإن شهادته تصح. وليس في كتاب الله ولا في سنة رسول الله ولا في إجماع العلماء ولا في القياس الصحيح ولا في أقوال الصحابة ما يدل على ما ذهب اليه الحنابلة – كما قرر ذلك شيخ الإسلام فالصحيح أن الشهادة تصح بكل لفظ يدل عليها. لكن لو قال: أعلم أن فلاناً قد أقرض فلاناً " و " أعلم أن فلاناً يشرب الخمر " فإنها ليست بشهادة ولا تقبل، وذلك لأن العلم قد يحصل بإخبار الثقه، فقد يكون أخبره ثقة بأن فلاناً قد شرب الخمر وهو يثق بقوله، فصدقه وأخبر بما علم فقال: " أعلم أن فلانا قد فعل كذا " فإذا قال مثل هذا اللفظ فإنه لا يقبل في الشهادة حتى يصرح بالسماع أو الرؤية. قال رحمه الله: [تحملّ الشهادات في غير حق الله تعالى فرض كفاية] فتحمل الشهادة في غير حق الله – فرض كفاية لقوله تعالى: (ولا يأب الشهداء إذا ما دُعوا) أي إذا ما دعوا للتحمل أو الأداء فإذا دعوا لتحمل الشهادة أو أدائها فلا يجوز لهم أن يأبوا للآية المتقدمة. ولأن حقوق الناس إنما تثبت وتحفظ بالشهادة، فالشهادة طريقة لحفظ وثبوت حقوق الناس فكانت فرض كفاية فإذا قام بها البعض سقط الإثم عن الباقين. -وقال المؤلف هنا: (في غير حق الله تعالى) أي في حقوق الآدمين وأما حق الله تعالى فلا يجب فيه تحمل الشهادة ولا أداؤها، لأن حقوق الله عز وجل مبناها على المسامحة،ولأن المشروع فيها الستر.

فإذا دَعى لتحمل الشهادة في رؤية رجل يشرب الخمر، أو يكون قد رآه يشرب الخمر فَيدعي عند القاضى لأدائها. أو يدعى للنظر لرجل يزني بامرأة فيتحمل الشهادة أو يَدعى لأدائها عند الحاكم فإن ذلك لا يجب بل هو مباح بل لا يستحب لأن الستر هو المشروع. قال صاحب الفروع: يتوجه عدم الستر لمن عرف بالشر والفساد " وصوّبه صاحب الإنصاف وهو كما قال. فإذا كان الرجل معروفاً بالشر والفساد فأمكن أن تتحمل الشهادة أو أن يَؤدى بما يزجره عما هو عليه وبما يزيل عن المسلمين شره وفساده فإنها تتحمل حينئذ للمصلحة العامة،فالستر عليه مصلحة خاصة، ودرء الفساد عن الامة مصلحة عامة، والمصلحه العامة راجحة على المصلحة الخاصة. فإذا كان ترك الشهادة يترتب عليه ضرر على الآدميين، فالذي يظهر هو وجوب أداء الشهادة وإن كانت في حقوق الله تعالى فلو شهد ثلاثة على أن فلاناً قد زناً، وهناك رابع قد رأى لكنه لم يشهد بعْدَ عند الحاكم فإذا أتاه هؤلاء الثلاثة وقد قذفوا ذلك الرجل بالزنا وهم يحتاجون إلى شهادة هذا الرجل ليدفعوا عن أنفسهم معرة الفسق وكذلك ليدفعوا عن أنفسهم الجلد، فالذي يتبين أنه يجب أداء الشهادة لما في ذلك من دفع الضرر عن الآدمي. قال: [وإن لم يوجد إلا من يكفى تعين عليه] . فإذا لم يوجد إلا اثنان يشهدان على أمر من الأمور فإن الشهادة تتعين عليهما حيث كان الحق لا يحفظ إلا باثنين. وهكذا سائر فروض الكفاية، فإنها تتعين حيث لم يوجد إلا من يقوم بالحق. فإذا كان ليس في البلد إلا مجتهد واحد فإنه يتعين عليه القضاء. كذلك إذا لم يمكن حمل الشهادة إلا من هذين الشخصين فإن الشهادة تتعين عليهما كسائر فروض الكفاية. مسألة: هل يجوز أخذ الأجرة على الشهادة؟ المشهور في المذهب: أنه لا يجوز أخذ الأجرة عليها لأنها فرض كفاية، فإذا قام بها فقد قام بفرض.

والقول الثاني: أنه يجوز أخذ الأجرة عليها، واختاره شيخ الإسلام وهو مبني على مسألة سابقة في جواز أخذ الأجرة على القرب فاختار شيخ الإسلام هنا وهناك جوازها عند الحاجة. والأولى في مثل هذه المسائل التى تتعلق بحقوق الناس – الأولى سدّ هذا الباب لما يترتب على أخذ المال من الفساد فقد يشهد بالزور ليأخذ بالمال. فالصحيح في هذه المسألة أنه لا يجوز أخذ الأجرة لئلا يفتح هذا الباب على الناس فيشهد الرجل بالزور ليأخذ المال. قال: [وأداؤها فرض عين على من تحمّلها] لقوله تعالى: ((ولا تكتموا الشهادة ومن يكتمها فإنه آثم قلبه)) فأداؤها فرض عين على من تحملها. قال: [متى دَعي إليه وقدر بلا ضرر في بدنه أو عرضه أو ماله أو أهله وكذا في التحمل] فلا يجب تحمل الشهادة ولا أداؤها إلا أن يقدر على ذلك بلا ضرر لقوله تعالى: ((ولا يضار كاتب ولا شهيد) ولقوله صلىالله عليه وسلم: (لا ضرر ولا ضرار) رواه أحمد. أما إذا كان يترتب على ذلك ضرر في عرضه او ماله آو أهله فلا يجب. قال: [ولا يحل كتمانها] لقوله تعالى: (ولا تكتموا الشهادة ومن يكتهما فإنه آثم قلبه) مسألة: هل له أن يؤدي الشهادة قبل أن يسألها؟ الجواب: نعم له ذلك لقوله صلى الله عليه وسلم: (ألا أنبئكم بخير الشهداء الذي يأتي بالشهادة قبل أن يسألها) رواه مسلم. وذلك لأن المشهود له قد يخفى عليه أن فلاناً شاهد له فحينئذ يبادر بالشهادة حيث يظنّ أن المشهود له يخفى عليه أن هذا شاهد له. كذلك قد لا يخفى عليه بل يعلم أنه شاهد لكنه – أي المشهود له – يحتاح إلى هذه الشهادة، والشهادة أمانة، فكما أن الأمانة يبادر لها عند الحاجة فكذلك الشهادة. والطلب الحالي والعرفي كالطلب اللفظي، فهذا المشهود له – وإن لم يأت إلى الشاهد ويسألة أن يشهد له لكن حاله تسأل.

وأما قوله صلى الله عليه وسلم:" يشهدون ولا يستشهدون " فهذا حيث كانوا متساهلين في الشهادة يتسارعون إليها من غير تثبيت بل ربما يشهدون وهم يعلمون أنهم كاذبون فهذا في محل الذم. قال: [ولا أن يشهد إلا بما يعلم] لقوله تعالى: ""إلا من شهد بالحق وهم يعلمون " وفي مسترك الحاكم بإسناد ضعيف " أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لرجل ترى الشمس قال نعم " قال:" على مثلها فاشهد أو دع ". لكن الحديث إسناده ضعيف قال: [برؤية أو سماع] لا بخبر ثقة. " برؤيته " كأن يرى فلاناً يزني أو يشرب الخمر ونحو ذلك. "أو سماع" كأن يسمعه وهو يطلق إمرأته أو أن يسمعه وهو يبيع أو ينكح أو نحو ذلك. قال: [أو استفاضةٍ] الاستفاضة: أن يشتهر الخبر عند الناس فيتناقلونه. قال: [فيما يتعذر علمه بدونها] فالاستفاضة تقبل فيما يتعذر علمه غالبا بدونها، أي بدون الاستفاضة – فلا يمكننا أن نثبت هذا الحق في الغالب إلا بالاستفاضة فلا يمكن إثباته بالسماع أو الرؤية. قال: [كنسبٍ] فالواحد منا الآن يعرف أن فلان ابن فلان من العائلة الفلانية وأنه ابن فلان،يعرف ذلك من طريق الاستفاضة. فهو لم ير الولادة ولم يكن شاهداً عليها لكن يعرف هذا باشتهاره عند الناس. فإذا قيل له: هل تشهد أن فلان بن فلان؟ فإنه يشهد بناءً على الاستفاضة. قال: [وموت] فمثلاً: مرّت الجنازة فقيل لك هذه جنازة فلان بن فلان، وأصبحت عائلته تعّزى واشتهر هذا عند الناس، فإذا دعيت لتشهد على وفاته للإرث ونحوه، فإنك تشهد بناءً على الاستفاضة. قال: [ومْلكٍ مطلق] الملك المطلق: هو غير المقيّد بشراء ولا هبة ونحو ذلك – فهل تشهد أن هذا البيت لفلان وأنه ملكه؟ فانك تقول: نعم أشهد لأنى أرى أنه مالك له وهذا مشهور مستفيض عند الناس.

لكن لا تشهد بالاستفاضه أنه قد اشتراه من فلان أو وهبه له فلان وذلك لأن هذا لا يكتفى فيه بالاستفاضه لأن الشهاده ممكنة بالرؤية أو السماع. قال: [ونكاح ووقف ونحوها] كالخلع والولاية والعزّل ونحوها، فإن هذه الأمور لا يمكن في الغالب إثباتها إلا بطريق الاستفاضة. إذن: أصبح عندنا ثلاث طرق للشهادة:- (1) الطريق الاول: السماع (2) والطريق الثاني: الرؤيه وهما الأصل. (3) والطريق الثالث: الاستفاضة حيث تعّذر في الغالب السماع والرؤية. -وهل يشترط أن يكون قد تلقى هذا الأمر المستفيض ممن يثبت العلم بهم أم يكفي أن يخبره أحد من الناس أن هذا أمر مستفيض؟ مثال ذلك: إذا أتاك رجل فقال: أريد أن أشهد أنا وأنت عند القاضي على أن هذا الرجل ابن لفلان، فقلت هل هذا مستفيض عند الناس؟ فقال نعم، فهل تشهد أو لا تشهد حتى يستفيض هذا عندك؟ المشهور في المذهب: أنه لا يشهد حتى يأتيه عن عدد كثير يثبت العلم بهم. واختار شيخ الإسلام وهو اختيار المجد ابن تيميه " جدّ شيخ الإسلام " أنه يكفي في ذلك الثقة الواحد الذي تسكن اليه النفس. وقال القاضي بن الحنابلة: يكفي عدلان. -وأظهرها الأول / وذلك لأن الشهادة إنما تُبنى على الاستفاضة وهنا لم يستفض عنده ذلك. بل أخبره الثقة به وهذا أشبه بمسألة السماع والرؤية. فإذا أخبره الثقة بأنه قد سمع فالثقه يشهد وأما هو فلا يشهد وقد علم بخبر الثقه، فكذلك هنا، فهناك لا نقبل أن يكون هناك واسطة في السماع والرؤية، وهنا كذلك لا نقبل أن يكون هناك واسطة في الاستفاضة. قال: [ومن شهد بنكاح او غيره من العقود فلا بد من ذكر شروطه] إذا شهد بنكاح أو غيره من العقود فلا بدّ أن يذكر شروطه وهذه المسألة تبنى على مسألة سابقة. فالقاعدة عندهم: " أن ما صحت به الدعوى تصح به الشهادة " ولا تصح الدعوى من غير ذكر شروط النكاح أو شروط البيع أو غيره من العقود في المذهب.

فكذلك هنا في الشهادة / فإذا قال: " أشهد أن فلاناً قد نكح فلانة: فنقول له هل توفرت الشروط، فان قال نعم فنقول له: ما هي هذه الشروط فيذكرها لنا، لأنه قد يشهد على نكاح فاسد ويظنه صحيحا. --والصحيح هنا كالصحيح هناك، فالراجح أن ذكر الشروط في الشهادة ليس بشرط وذلك لأن الأصل هو الصحة. ولذا فإن النبى صلى الله عليه وسلم لما قيل له: أن قوماً يأتوننا باللحم ولا ندري أذكروا اسم الله عليه أم لا؟ فقال صلى الله عليه وسلم (سموا أنتم وكلوا) فهنا لم يشترط النبى صلى الله عليه وسلم أن يثبت عندهم تحقق الشرط وهو التسميه بناء على الأصل، لأن الاصل أن المسلم إذا ذكى فإنه يذكر اسم الله على ذبيحته فكذلك الأصل في نكاح المسلمين الصحة. قال: [وإن شهد برضاع] فإذا شهد برضاع فلا بد وأن يصفه، فتقول المرأة:" أشهد أن فلانة قد أرضعت فلاناً خمس رضعات معلومات من ثديها أو تذكر أن الحليب وضع في إناء فشربه خمس مرات، فلا بد وأن تصفه بما يقضتى التحريم وذلك للإختلاف في الشروط. -والصحيح ما تقدم وهو أنه لا يشترط ذلك، إلا أن يرتاب القاضي في الشاهد هل يعلم الرضاع المحّرم أم لا؟ فإنه يسأله – أما إذا لم يرتبْ فإنه لا يسأله بناءً على الأصل. ولذا فإن النبى صلى الله عليه وسلم: لما قالت المرأة: " قد أرضعتكما " قال النبى صلى الله عليه وسلم للرجل:" كيف وقد قيل " فلم يأمره أن يستوصف منها كيفيه الرضاع وعدده بناء على الأصل. قال: [أو سرقه أو شرب أو قذف فإنه يصفه] فإذا شهد بسرقة فلا بد وأن يصف هذه السرقة بما يقتضى الحد. وتقدم الكلام على هذا في حد السرقة. وكذلك الشرب فلا بدّ عند الشهادة أن يصفه بما يقضتى الحد وكذلك إذا أراد أن يشهد أن أنساناً قذف. فان قيل: لم اشترطنا الوصف في هذه المسائل، ولم نشترطه في عقد النكاح وسائر العقود وفي الرضاع؟ فالجواب:

أن هذه حدود والحدود تدرأ بالشبهات فلا بدّ من الوصف وأما المسألة السابقة فإننا نبني على الأصل. قال: [ويصف الزنا بذكر الزمان والمكان والمزنيّ بها] فإذا شهد أن فلانا قد زنا بفلانة، فنقول له: في أي ساعة؟ قال: في أول النهار / في أي مكان؟ قال في المكان الفلاني؟ فنقول: أذكر لنا المرأة فيقول هي فلانة أو يصفها وصفاً بيّنا فلا بدّ من هذه الأمور. فإن قال: بعض الشهود في أول النهار، وقال الأخر في آخره وقال بعضهم في الغرفة الفلانية في الدور الأسفل وقال الآخر في الدور الأعلى فحينئذ ترد شهادتهم لأن هذا الإضطراب يدل على كذبهم. إذن: لا بد أن نسألهم بما يقتضي صدق شهادتهم وبما يقتضي إقامة الحّد. لكن هل يشترط ذكر المزني بها؟ ذكر المؤلف هنا أن ذلك شرط وهو المشهور في المذهب. والقول الثاني في المذهب: أن ذلك ليس بشرط -وهو الصحيح لأن الحد معلق بثبوت الفاحشة، فإذا ثبت لنا أنه قد زنا فإن الحكم يترتب على ذلك؟ إلا إذا كان هناك شبهة، كأن يشتبه في أنها امرأته، أو من لا يقام عليه الحد بها كأن تكون أمة لابنه ويجوز ذلك، فإذا اشتبه في ذلك فلا بدّ من الإستفصال لأن الحدود تدرأ بالشبهات. قال: [ويذكر ما يعتبر للحكم ويختلف به في الكل] ففي كل القضايا لا بدّ للشاهد أن يذكر ما يعتبر به الحكم وما يختلف به الحكم. وذلك لأن الحكم مرتب على الشهادة. والحمدالله رب العالمين

كتاب الشهادات

كتاب الشهادات الشهادات: جمع شهادة. والشهادة هي: الإخبار بما علمه بلفظ أشهد. هذا هو المشهور في المذهب. فلو قال:" سمعت فلاناً يقر بكذا " أو " رأيت فلاناً وهو يشرب الخمر ونحو ذلك، فإن شهادته لا تقبل، بل لا تقبل حتى يقول:" أشهد على فلان أنه قد شرب الخمر "أو" اشهد على فلان أنه قد اقترض من فلان " ونحو ذلك فالمشهور فى المذهب أن الشهادة لا تصح إلا بلفظ: أشهد أو شهدت. -واختار شيخ الإسلام وهو مذهب المالكية والأحناف: أنها تصح الشهادة بكل لفظ يدل على الشهادة. فلو قال: " سمعت أو "رأيت " فإن شهادته تصح. وليس في كتاب الله ولا في سنة رسول الله ولا في إجماع العلماء ولا في القياس الصحيح ولا في أقوال الصحابة ما يدل على ما ذهب اليه الحنابلة – كما قرر ذلك شيخ الإسلام فالصحيح أن الشهادة تصح بكل لفظ يدل عليها. لكن لو قال: أعلم أن فلاناً قد أقرض فلاناً " و " أعلم أن فلاناً يشرب الخمر " فإنها ليست بشهادة ولا تقبل، وذلك لأن العلم قد يحصل بإخبار الثقه، فقد يكون أخبره ثقة بأن فلاناً قد شرب الخمر وهو يثق بقوله، فصدقه وأخبر بما علم فقال: " أعلم أن فلانا قد فعل كذا " فإذا قال مثل هذا اللفظ فإنه لا يقبل في الشهادة حتى يصرح بالسماع أو الرؤية. قال رحمه الله: [تحملّ الشهادات في غير حق الله تعالى فرض كفاية] فتحمل الشهادة في غير حق الله – فرض كفاية لقوله تعالى: (ولا يأب الشهداء إذا ما دُعوا) أي إذا ما دعوا للتحمل أو الأداء فإذا دعوا لتحمل الشهادة أو أدائها فلا يجوز لهم أن يأبوا للآية المتقدمة. ولأن حقوق الناس إنما تثبت وتحفظ بالشهادة، فالشهادة طريقة لحفظ وثبوت حقوق الناس فكانت فرض كفاية فإذا قام بها البعض سقط الإثم عن الباقين.

-وقال المؤلف هنا: (في غير حق الله تعالى) أي في حقوق الآدمين وأما حق الله تعالى فلا يجب فيه تحمل الشهادة ولا أداؤها، لأن حقوق الله عز وجل مبناها على المسامحة،ولأن المشروع فيها الستر. فإذا دَعى لتحمل الشهادة في رؤية رجل يشرب الخمر، أو يكون قد رآه يشرب الخمر فَيدعي عند القاضى لأدائها. أو يدعى للنظر لرجل يزني بامرأة فيتحمل الشهادة أو يَدعى لأدائها عند الحاكم فإن ذلك لا يجب بل هو مباح بل لا يستحب لأن الستر هو المشروع. قال صاحب الفروع: يتوجه عدم الستر لمن عرف بالشر والفساد " وصوّبه صاحب الإنصاف وهو كما قال. فإذا كان الرجل معروفاً بالشر والفساد فأمكن أن تتحمل الشهادة أو أن يَؤدى بما يزجره عما هو عليه وبما يزيل عن المسلمين شره وفساده فإنها تتحمل حينئذ للمصلحة العامة،فالستر عليه مصلحة خاصة، ودرء الفساد عن الامة مصلحة عامة، والمصلحه العامة راجحة على المصلحة الخاصة. فإذا كان ترك الشهادة يترتب عليه ضرر على الآدميين، فالذي يظهر هو وجوب أداء الشهادة وإن كانت في حقوق الله تعالى فلو شهد ثلاثة على أن فلاناً قد زناً، وهناك رابع قد رأى لكنه لم يشهد بعْدَ عند الحاكم فإذا أتاه هؤلاء الثلاثة وقد قذفوا ذلك الرجل بالزنا وهم يحتاجون إلى شهادة هذا الرجل ليدفعوا عن أنفسهم معرة الفسق وكذلك ليدفعوا عن أنفسهم الجلد، فالذي يتبين أنه يجب أداء الشهادة لما في ذلك من دفع الضرر عن الآدمي. قال: [وإن لم يوجد إلا من يكفى تعين عليه] . فإذا لم يوجد إلا اثنان يشهدان على أمر من الأمور فإن الشهادة تتعين عليهما حيث كان الحق لا يحفظ إلا باثنين. وهكذا سائر فروض الكفاية، فإنها تتعين حيث لم يوجد إلا من يقوم بالحق. فإذا كان ليس في البلد إلا مجتهد واحد فإنه يتعين عليه القضاء. كذلك إذا لم يمكن حمل الشهادة إلا من هذين الشخصين فإن الشهادة تتعين عليهما كسائر فروض الكفاية. مسألة:

هل يجوز أخذ الأجرة على الشهادة؟ المشهور في المذهب: أنه لا يجوز أخذ الأجرة عليها لأنها فرض كفاية، فإذا قام بها فقد قام بفرض. والقول الثاني: أنه يجوز أخذ الأجرة عليها، واختاره شيخ الإسلام وهو مبني على مسألة سابقة في جواز أخذ الأجرة على القرب فاختار شيخ الإسلام هنا وهناك جوازها عند الحاجة. والأولى في مثل هذه المسائل التى تتعلق بحقوق الناس – الأولى سدّ هذا الباب لما يترتب على أخذ المال من الفساد فقد يشهد بالزور ليأخذ بالمال. فالصحيح في هذه المسألة أنه لا يجوز أخذ الأجرة لئلا يفتح هذا الباب على الناس فيشهد الرجل بالزور ليأخذ المال. قال: [وأداؤها فرض عين على من تحمّلها] لقوله تعالى: ((ولا تكتموا الشهادة ومن يكتمها فإنه آثم قلبه)) فأداؤها فرض عين على من تحملها. قال: [متى دَعي إليه وقدر بلا ضرر في بدنه أو عرضه أو ماله أو أهله وكذا في التحمل] فلا يجب تحمل الشهادة ولا أداؤها إلا أن يقدر على ذلك بلا ضرر لقوله تعالى: ((ولا يضار كاتب ولا شهيد) ولقوله صلىالله عليه وسلم: (لا ضرر ولا ضرار) رواه أحمد. أما إذا كان يترتب على ذلك ضرر في عرضه او ماله آو أهله فلا يجب. قال: [ولا يحل كتمانها] لقوله تعالى: (ولا تكتموا الشهادة ومن يكتهما فإنه آثم قلبه) مسألة: هل له أن يؤدي الشهادة قبل أن يسألها؟ الجواب: نعم له ذلك لقوله صلى الله عليه وسلم: (ألا أنبئكم بخير الشهداء الذي يأتي بالشهادة قبل أن يسألها) رواه مسلم. وذلك لأن المشهود له قد يخفى عليه أن فلاناً شاهد له فحينئذ يبادر بالشهادة حيث يظنّ أن المشهود له يخفى عليه أن هذا شاهد له. كذلك قد لا يخفى عليه بل يعلم أنه شاهد لكنه – أي المشهود له – يحتاح إلى هذه الشهادة، والشهادة أمانة، فكما أن الأمانة يبادر لها عند الحاجة فكذلك الشهادة.

والطلب الحالي والعرفي كالطلب اللفظي، فهذا المشهود له – وإن لم يأت إلى الشاهد ويسألة أن يشهد له لكن حاله تسأل. وأما قوله صلى الله عليه وسلم:" يشهدون ولا يستشهدون " فهذا حيث كانوا متساهلين في الشهادة يتسارعون إليها من غير تثبيت بل ربما يشهدون وهم يعلمون أنهم كاذبون فهذا في محل الذم. قال: [ولا أن يشهد إلا بما يعلم] لقوله تعالى: ""إلا من شهد بالحق وهم يعلمون " وفي مسترك الحاكم بإسناد ضعيف " أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لرجل ترى الشمس قال نعم " قال:" على مثلها فاشهد أو دع ". لكن الحديث إسناده ضعيف قال: [برؤية أو سماع] لا بخبر ثقة. " برؤيته " كأن يرى فلاناً يزني أو يشرب الخمر ونحو ذلك. "أو سماع" كأن يسمعه وهو يطلق إمرأته أو أن يسمعه وهو يبيع أو ينكح أو نحو ذلك. قال: [أو استفاضةٍ] الاستفاضة: أن يشتهر الخبر عند الناس فيتناقلونه. قال: [فيما يتعذر علمه بدونها] فالاستفاضة تقبل فيما يتعذر علمه غالبا بدونها، أي بدون الاستفاضة – فلا يمكننا أن نثبت هذا الحق في الغالب إلا بالاستفاضة فلا يمكن إثباته بالسماع أو الرؤية. قال: [كنسبٍ] فالواحد منا الآن يعرف أن فلان ابن فلان من العائلة الفلانية وأنه ابن فلان،يعرف ذلك من طريق الاستفاضة. فهو لم ير الولادة ولم يكن شاهداً عليها لكن يعرف هذا باشتهاره عند الناس. فإذا قيل له: هل تشهد أن فلان بن فلان؟ فإنه يشهد بناءً على الاستفاضة. قال: [وموت] فمثلاً: مرّت الجنازة فقيل لك هذه جنازة فلان بن فلان، وأصبحت عائلته تعّزى واشتهر هذا عند الناس، فإذا دعيت لتشهد على وفاته للإرث ونحوه، فإنك تشهد بناءً على الاستفاضة. قال: [ومْلكٍ مطلق] الملك المطلق: هو غير المقيّد بشراء ولا هبة ونحو ذلك – فهل تشهد أن هذا البيت لفلان وأنه ملكه؟ فانك تقول: نعم أشهد لأنى أرى أنه مالك له وهذا مشهور مستفيض عند الناس.

لكن لا تشهد بالاستفاضه أنه قد اشتراه من فلان أو وهبه له فلان وذلك لأن هذا لا يكتفى فيه بالاستفاضه لأن الشهاده ممكنة بالرؤية أو السماع. قال: [ونكاح ووقف ونحوها] كالخلع والولاية والعزّل ونحوها، فإن هذه الأمور لا يمكن في الغالب إثباتها إلا بطريق الاستفاضة. إذن: أصبح عندنا ثلاث طرق للشهادة:- (1) الطريق الاول: السماع (2) والطريق الثاني: الرؤيه وهما الأصل. (3) والطريق الثالث: الاستفاضة حيث تعّذر في الغالب السماع والرؤية. -وهل يشترط أن يكون قد تلقى هذا الأمر المستفيض ممن يثبت العلم بهم أم يكفي أن يخبره أحد من الناس أن هذا أمر مستفيض؟ مثال ذلك: إذا أتاك رجل فقال: أريد أن أشهد أنا وأنت عند القاضي على أن هذا الرجل ابن لفلان، فقلت هل هذا مستفيض عند الناس؟ فقال نعم، فهل تشهد أو لا تشهد حتى يستفيض هذا عندك؟ المشهور في المذهب: أنه لا يشهد حتى يأتيه عن عدد كثير يثبت العلم بهم. واختار شيخ الإسلام وهو اختيار المجد ابن تيميه " جدّ شيخ الإسلام " أنه يكفي في ذلك الثقة الواحد الذي تسكن اليه النفس. وقال القاضي بن الحنابلة: يكفي عدلان. -وأظهرها الأول / وذلك لأن الشهادة إنما تُبنى على الاستفاضة وهنا لم يستفض عنده ذلك. بل أخبره الثقة به وهذا أشبه بمسألة السماع والرؤية. فإذا أخبره الثقة بأنه قد سمع فالثقه يشهد وأما هو فلا يشهد وقد علم بخبر الثقه، فكذلك هنا، فهناك لا نقبل أن يكون هناك واسطة في السماع والرؤية، وهنا كذلك لا نقبل أن يكون هناك واسطة في الاستفاضة. قال: [ومن شهد بنكاح او غيره من العقود فلا بد من ذكر شروطه] إذا شهد بنكاح أو غيره من العقود فلا بدّ أن يذكر شروطه وهذه المسألة تبنى على مسألة سابقة. فالقاعدة عندهم: " أن ما صحت به الدعوى تصح به الشهادة " ولا تصح الدعوى من غير ذكر شروط النكاح أو شروط البيع أو غيره من العقود في المذهب.

فكذلك هنا في الشهادة / فإذا قال: " أشهد أن فلاناً قد نكح فلانة: فنقول له هل توفرت الشروط، فان قال نعم فنقول له: ما هي هذه الشروط فيذكرها لنا، لأنه قد يشهد على نكاح فاسد ويظنه صحيحا. --والصحيح هنا كالصحيح هناك، فالراجح أن ذكر الشروط في الشهادة ليس بشرط وذلك لأن الأصل هو الصحة. ولذا فإن النبى صلى الله عليه وسلم لما قيل له: أن قوماً يأتوننا باللحم ولا ندري أذكروا اسم الله عليه أم لا؟ فقال صلى الله عليه وسلم (سموا أنتم وكلوا) فهنا لم يشترط النبى صلى الله عليه وسلم أن يثبت عندهم تحقق الشرط وهو التسميه بناء على الأصل، لأن الاصل أن المسلم إذا ذكى فإنه يذكر اسم الله على ذبيحته فكذلك الأصل في نكاح المسلمين الصحة. قال: [وإن شهد برضاع] فإذا شهد برضاع فلا بد وأن يصفه، فتقول المرأة:" أشهد أن فلانة قد أرضعت فلاناً خمس رضعات معلومات من ثديها أو تذكر أن الحليب وضع في إناء فشربه خمس مرات، فلا بد وأن تصفه بما يقضتى التحريم وذلك للإختلاف في الشروط. -والصحيح ما تقدم وهو أنه لا يشترط ذلك، إلا أن يرتاب القاضي في الشاهد هل يعلم الرضاع المحّرم أم لا؟ فإنه يسأله – أما إذا لم يرتبْ فإنه لا يسأله بناءً على الأصل. ولذا فإن النبى صلى الله عليه وسلم: لما قالت المرأة: " قد أرضعتكما " قال النبى صلى الله عليه وسلم للرجل:" كيف وقد قيل " فلم يأمره أن يستوصف منها كيفيه الرضاع وعدده بناء على الأصل. قال: [أو سرقه أو شرب أو قذف فإنه يصفه] فإذا شهد بسرقة فلا بد وأن يصف هذه السرقة بما يقتضى الحد. وتقدم الكلام على هذا في حد السرقة. وكذلك الشرب فلا بدّ عند الشهادة أن يصفه بما يقضتى الحد وكذلك إذا أراد أن يشهد أن أنساناً قذف. فان قيل: لم اشترطنا الوصف في هذه المسائل، ولم نشترطه في عقد النكاح وسائر العقود وفي الرضاع؟ فالجواب:

أن هذه حدود والحدود تدرأ بالشبهات فلا بدّ من الوصف وأما المسألة السابقة فإننا نبني على الأصل. قال: [ويصف الزنا بذكر الزمان والمكان والمزنيّ بها] فإذا شهد أن فلانا قد زنا بفلانة، فنقول له: في أي ساعة؟ قال: في أول النهار / في أي مكان؟ قال في المكان الفلاني؟ فنقول: أذكر لنا المرأة فيقول هي فلانة أو يصفها وصفاً بيّنا فلا بدّ من هذه الأمور. فإن قال: بعض الشهود في أول النهار، وقال الأخر في آخره وقال بعضهم في الغرفة الفلانية في الدور الأسفل وقال الآخر في الدور الأعلى فحينئذ ترد شهادتهم لأن هذا الإضطراب يدل على كذبهم. إذن: لا بد أن نسألهم بما يقتضي صدق شهادتهم وبما يقتضي إقامة الحّد. لكن هل يشترط ذكر المزني بها؟ ذكر المؤلف هنا أن ذلك شرط وهو المشهور في المذهب. والقول الثاني في المذهب: أن ذلك ليس بشرط -وهو الصحيح لأن الحد معلق بثبوت الفاحشة، فإذا ثبت لنا أنه قد زنا فإن الحكم يترتب على ذلك؟ إلا إذا كان هناك شبهة، كأن يشتبه في أنها امرأته، أو من لا يقام عليه الحد بها كأن تكون أمة لابنه ويجوز ذلك، فإذا اشتبه في ذلك فلا بدّ من الإستفصال لأن الحدود تدرأ بالشبهات. قال: [ويذكر ما يعتبر للحكم ويختلف به في الكل] ففي كل القضايا لا بدّ للشاهد أن يذكر ما يعتبر به الحكم وما يختلف به الحكم. وذلك لأن الحكم مرتب على الشهادة. والحمدالله رب العالمين

كتاب الشهادات، من شروط من تقبل شهادته إلى آخره، وكتاب الإقرار

فصل قال رحمه الله: [شروط من تقبل شهادته ستة] هذا الفصل في شروط من تقبل شهادته. قال: [الأول: (البلوغ) فلا تقبل شهادة الصبيان] فالبلوغ شرط في قبول الشهادة. فالصبى المميز لا تقبل شهادته لقوله تعالى (ولا تكتموا الشهادة ومن يكتمها فإنه آثم قلبه) الصبي لا يأثم لأن قلم التكليف مرفوع عنه. -فالصبي المميز لا تقبل شهادته وهذا في الأداء وأما في التحمل فتحمله صحيح. -وظاهر كلام المؤلف – وهو المذهب – أن هذا على إطلاقه حتى في شهادة بعضهم على بعض في الجراح إذا شهدوا قبل التفرق. وعن الإمام أحمد وهو مذهب مالك واختيار ابن القيم: أن شهادة بعضهم على بعض تقبل في الجراح إذا شهدوا بذلك قبل التفرق. وهو قول ابن الزبير – صح عنه ذلك، كما قال ذلك ابن حزم ويدل عليه: احتياط الشرع على حفظ الدماء. ولأن هذه الجراح التى تكون بينهم – لا يطلع عليها في الغالب إلا الصبيان، فأشبهت المسائل التى تُقبل الشهادة على خلاف الأصل لكون الشاهد لا يطلع عليها إلا هُو في الغالب كشهادة المرأة في الرضاع ونحوه، فإنها لا يطلع عليها إلا النساء في الغالب وكذلك الشهادة بالاستفاضة. إذن شهادة بعضهم على بعض في الجراح مقبولة بشرط أن يشهدوا قبل التفرق. أما إذا شهدوا بعد التفرق فإن شهادتهم لا تقبل وذلك لاحتمال التلقين، فيحتمل أن يلقنوا من أوليائهم. (3) وقيل: تقبل شهادتهم مطلقاً. -والذي يترجح قبول شهادتهم مطلقاً في المسائل التى لا يطلع عليها في الغالب إلا الصبيان سواء كانت في الجراح أو في غيرها. قال: [الثاني: العقل] وهذا شرط بالإنفاق، فالمجنون والمعتوه لا تقبل شهادتهما وكذلك الصبي غير المميز وهو الطفل. قال: [فلا تقبل شهادة مجنون] المجنون: هو من لا عقل له مطلقاً. قال: [ولا معتوه] وهو من له عقل لكنه لا يميز به التمييز التام. قال: (وتقبل ممن يخنق أحياناً في حال إفاقته)

فتقبل الشهادة ممن يحنق أحياناً أي يجن إذا شهد في حال إفاقته وذلك لأنه شهد في حال العقل فهي شهادة من عاقل. قال: [الثالث: الكلام] هذا هو الشرط الثالث. قال: [فلا تقبل شهادة الأخرس ولو فهمت إشارته إلا إذا أداها بخطه] فلا تقبل شهادة الأخرس ولو فهمت إشارته –هذا هو المشهور في مذهب أحمد. والقول الثاني: في المسألة: وهو مذهب الشافعية: إنها تقبل حيث أفادة العلم. -وهذا هو الصحيح لأن إشارة الأخرس تقوم مقام نطقه: فإذا علمنا ما يريد وفهمناه فإن ذلك كالنطق. وأما قولهم إنها لا تفيد اليقين. فالجواب: أن هذا خلاف الظاهر بل تفيد اليقين حيث فهمت، فإنها إذا فهمت تفيد اليقين كا يفيده اللفظ. (إلا إذا أداها بخطه) فإذا كتب الأخرس شهادته بخط يده، فإنها تقبل وذلك لأن دلالة اللفظ كدلالة الخط. وقد قال النبى صلى الله عليه وسلم:" ما حق امرىء مسلم عنده شىء يوصى به يبيت ليلتين إلا ووصيته مكتوبة عند رأسه " فالخط مقبول في الشرع وهنا إذا كتب الأخرس شهادته بيده فإنها تقبل حتى في المشهور من المذهب. إذن: المشهور في المذهب أن شهادة الأخرس لا تقبل إلا أن يؤديها بخطه. والصحيح أنها تقبل مطلقاً حتى لو أشار وعلمت إشارته. أما إذا لم تعلم إشارته فإن شهادته لا تقبل قولاً واحداً فإذا لم يدرى ما يريد فإن شهادته لا تقبل. قال: [الرابع: الإسلام] لقوله تعالى: (وأشهدوا ذوي عدل منكم) فيشترط في الشهود أن يكونوا مسلمين. وهنا مسالتان: المسألة الأولى:- أن المشهور في المذهب – وهو من مفردات المذهب – أن شهادة اثنين من أهل الكتاب على الوصية في السفر عند الضرورة جائزة. لقوله تعالى: (يا آيها الذين أمنوا شهادة بينكم إذا حضر أحدكم الموت حين الوصية اثنان ذوا عدل منكم أو آخران من غيركم إن أنتم صربتم في الأرض) فهذه الآية نص في جواز ذلك.

فإذا أراد أن يوصي ولم يجد شاهدين مسلمين فإنه يشهد اثنين من أهل الكتاب إذا كان في سفر. -وعن الإمام أحمد: أنه لا يشترط أن يكونا من أهل الكتاب فلو كانا من غير أهل الكتاب كأن يكونا مجوسيين أو وثنيين فكذلك وهو اختيار شيخ الإسلام وهو ظاهر الآية فإن الله عز وجل قال: (أو آخران من غيركم) وهو عام من أهل الكتاب وغيرهم. -فالصحيح أن الشهادة تقبل عند الضرورة سواء كانت من أهل الكتاب أم من غيرهم. -واختار شيخ الاسلام – أيضاً -: أن هذه الشهادة تصح ولو في غير سفر للضرورة، لانها موضع ضرورة فإذا جازت في السفر جازت في الحضر وهذا هو الراجح. المسألة الثانية: أن مذهب الجمهور – منهم الحنابلة – أن شهادة الكفار بعضهم على بعض لا تقبل. فإذا شهد يهودي على يهودي أو شهد يهودي ليهودي أو شهد نصراني على نصراني أو لنصراني، أو شهد يهودي على نصراني أو شهد نصراني على يهودي وهكذا، فان الشهادة لا تقبل. (ب) وذهب الأحناف إلى أنها تقبل، هو رواية عن الإمام أحمد واختيار شيخ الاسلام ابن تيمية. -هذا هو أصح القولين، وذلك لأن الآيات الواردة في اشتراط العدالة إنما هي في المؤمنين خاصه قال تعالى ((يا آيها النبى إذا طلقتم النساء – الى أن قال سبحانه -أشهدوا ذوي عدل منكم)) وقال سبحانه (يا آيها الذين آمنوا اذا تداينتم بدين /إلى ان قال - سبحانه – ((واستشهدوا شهيدين من رجالكم فإن لم يكونا رجلين فرجل وامرأتان ممن ترضون من الشهداء)) . فالآيات في اشتراط العدالة إنما خوطب بها المؤمنون. ولأن المقصود من العدالة انتفاء التهمة وعليه الظن بالصدق فلم تشترط العدالة إلا لهذا. ولأن الحقوق إنما تحفظ بذلك، فإن الغالب في حقوقهم أنهم يثبتونها بشهود منهم فاذا لم نقبل شهادة بعضهم على بعض فإن ذلك يترتب عليه ضياع الحقوق. فالراجح قبول شهادة بعضهم على بعض. -وهل يشترط اتحاد الملة أم لا؟

قولان لأهل العلم، هما قولان في المذهب:- القول الأول: أنه لا يشترط اتحاد الملة فعلى ذلك تقبل شهادة اليهودي على النصراني والعكس، وهو مذهب أبي حنيفة. والقول الثاني: أنها تشترط، وهو قول إسحاق وأبي عبيد. -والصحيح هو الثاني – للتهمة في اختلاف الدين. ولأنه إنما يحتاج إلى شهادة بعضهم في بعض – في الغالب – عند اتفاق دينهم فالغالب أنهم إنما يحفظون حقوقهم بشهداء من ملتهم. فأرجح القولين أنه يعتبر اتحاد الملّة. قال: [الخامس: الحفظ] فلا تقبل شهادة من عرف بكثرة السهو والخطأ،لأنه لا يوثق بقوله. قال: [السادس: العدالة] قال الشيخ محمد بن ابراهيم – رحمه الله -: " العدالة بحسب الإمكان وهكذا سائر شروط الشهداء " إنما تعتبر بحسب الإمكان. وهذا ما يدل عليه كلام شيخ الاسلام، وأن العداله تختلف باختلاف الأزمنة والأمكنة. فالعدل فينا ليس كالعدل في القرون المفضلة. "فشارب التنباك " أي الدخان " لا تقبل شهادته كما قال الشيخ محمد بن إبراهيم لكن اذا كان في بلد الدخانُ فيها فاشٍ فإن شهادته تقبل وذلك لأنهم ممن ترضى شهادتهم،لأن الدخان فيهم فاش وعلى ذلك فإنه يقع حتى ممن هو معروف بالصدق والأمانة. قال ابن القيم: وتقبل شهادة الفاسق الأمثل فالأمثل عند الضرورة. قال: وعليه العمل وإنما ينكره أكثر الفقهاء بألسنتهم. فالعمل على هذا لأن الناس لا يسعهم إلا هذا. قال: [ويعتبر لها شيئان: الصلاح في الدين وهو أداء الفرائض بسننها الراتبة] الصلاح في الدين وهو أداء الفرائض بسننها الراتبة فمن لم يؤد السنن الراتبة فليس بعدل ولا تقبل شهادته في أحد القولين في المذهب. -والصحيح من المذهب أنها تقبل. أما دليل ما ذكره المؤلف فهو أن من ترك السنن الراتبة فإنه لا يسلم – كما قالوا- من ترك فرض.

لكن هذا ضعيف بدليل قول النبى صلى الله عليه وسلم – في الرجل الذي قال: لا أزيد على هذا – أي على الفرائض - ولا أنقص منه فقال صلى الله عليه وسلم: " أفلح والله إن صدق " فالصحيح من المذهب أن أداء السنن الراتبة لا يشترط في العدل. قال: [واجتناب المحارم] ويبين ذلك بقوله: (بأن لا يأتي كبيرة ولا يدمن على صغيرة) لأن إصراره على الصغيرة يدل على استهانته بما حرم الله عز وجل. وهذا يجعله مظنة الكذب ولا يوثق بقوله. والكبيرة – كما عرفها شيخ الاسلام – ما ترتب عليه حد في الدنيا أو وعيد في الاخرة أو ترتب عليه لعْن أو غضب أو نفْي إيمان. قال: [فلا تقبل شهادة الفاسق] فشهادة الفاسق لا تقبل لأنه ليس بعدل. سواء كان فاسقاً في عمله أو فاسقاً في اعتقاده. فالفاسق في عمله: كمن يزني أو يشرب الخمر فلا تقبل شهادته. والفاسق في اعتقاده: هو من لم يكفر من أهل البدع، فإنه فاسق باعتقاده فلا تقبل شهاده أهل الأهواء (1) في المشهور في المذهب. (2) وذهب الشافعي وهو مذهب أبي حنيفة واختيار ابن القيم: إلى قبول شهادة المتحفظين من أهل الهواء. وهذا ظاهر، لأنهم قد اعتقدوا ما اعتقدوه من البدع على اعتقاد أن هذا هو دين الله عز وجل، فهو كمن فعل أمراً محرماً يعتقد إباحته فإن هذا لا ينقض عدالته،فشارب النبيذ ممن يعتقد إباحته لا يفسق ولا تنتقض بذلك عدالته، فلذلك من له اعتقاد يخالف اعتقاد أهل السنة والجماعة فإن شهادته لا ترد لأنه متحفظ في دينه، يعتقد أن هذا هو دين الله ويتعبد لله عز وجل بهذه البدعة. فتقبل شهادتة. نعم: قد ترد شهادته زجراً له حيث لم نضطر إلى قبولها وأما إذا كنا نحتاج إلى شهادته فالصحيح قبولها، فإذا كانت الحقوق تثبت بشيء فالصحيح هو قبولها وذلك لأنه ما دام أنه يعتقد أن هذا هو الحق وأن هذا هو دين الله – فالتهمة بعيدة عنه والغالب صدقه فهو معروف بالصدق والأمانة

قال: [الثاني: استعمال المرؤة وهو فعل ما يجمله ويزينه واجتناب ما يدنسه ويشينه] "فعل ما يجمله ويزينه " من محاسن العادات كالسخاء والشجاعة ونحو ذلك. "واجتناب ما يدنسه ويشينه به ذكروا لذلك أمثله منها أن يطعم في الشارع فإذا أخرج إناء الطعام من بيته فأكل فإن ذلك يدنسه ويشينه وهذا في البلاد التى تعيب ذلك، وأما البلاد التى لا تعيب ذلك فإن ذلك لا يدنسه ولا يشينه. قالوا: ومن ذلك مضغ العلك. ومن ذلك الطفيلي الذي يأتى إلى الدعوة من غير أن يُدعى لها، ومن ذلك الذي يسخر من الناس ويحكي أفعالهم وهكذا، فهذه أفعال تشين وتنقص مروءته فلا تقبل شهادته لأنه مظنة الكذب. فاستعمال المروءة: هو فعل ما يجملّه ويزينه واجتناب ما يدنسه ويشينه " وهذا ليس مرجعه – في الغالب – إلى الشرع وإنما مرجعه الى العادة. فكون الرجل يخرج وهو حاسر الرأس فليس معيباً في كثير من البلاد الاسلامية الآن لكن في هذه البلاد فقد كان معيباً، وأما الآن فليس معيباً بتلك الدرجة ... بينما كانوا في زمن قديم يستعيبون أن يخرج الرجل بلا مشُلح. قال: [ومتى زالت الموانع: فبلغ الصبي وعقل المجنون وأسلم الكافر وتاب الفاسق قبلت شهادتهم] . لأن هؤلاء إنما اشترط فيهم ما اشترط في الأداء لا في التحمل فإذا كان رجل فاسق وعنده شهادة فإننا لا نقلبها منه فإذا تاب الى الله فإن شهادته تقبل وإن كان قد تحملها في فسقه. ولو أن غير البالغ تحمل شهادة فإننا لا نقلبها منه، فإذا أداها بعد بلوغه فإننا نقبلها منه. ولوا أن رجلاّ يحمل الشهادة وهو كافر فلا تقبل منه لكن إذا أسلم فإنها تقبل منه تلك الشهادة. وأما العقل فشرط في الأداء والتحمل وكذلك الحفظ فإنه شرط في الأداء والتحمل. وأما الكلام فإنه شرط في الأداء لا في التحمل فإن الأخرس يتحمل الشهادة لكن هل يؤديها؟ فيه الخلاف المتقدم والصحيح أن شهادته تقبل أيضاً.

إذن: إذا زالت الموانع فبلغ الصبي وأسلم الكافر وتاب الفاسق وعقل المجنون قبلت شهادتهم وذلك لزوال المانع الموجب لرد الشهادة. والحمد لله رب العالمين

فإذا شهد لأبيه أو لأمه لم تقبل شهادته وإن كان عدلاً وإذا شهد لجد أو لجدته فكذلك. وإذا شهد لابنه او ابنته فكذلك واذا شهد لابنة ابنته او لأبن ابنه،فكذلك وهكذا. فمتى شهد الاصل لفرع وإن نزل هذا الفرع لم تقبل شهادته، ومتى شهد الفرع لأصل وإن علا هذا الأصل فان شهادته لا تقبل. قالوا: للتهمه لقوة القرابة وهذا هو أحد أقوال أهل العلم في هذه المسألة: فالقول الأول: وهو مذهب الجمهور: أن شهادة الأصول للفروع وشهادة الفروع للأصول لا تقبل. القول الثاني: وهو مذهب أهل الظاهر وهو قول شريح لقاضي، والمزني وابن المنذر وأبي بكر بن حزم أنها تقبل. قالوا ولعمومات الأدلة (وأشهدوا ذوى عدل منكم) (واستشهدوا شهيدين من رجالكم) والوالد عدل والولد عدل من رجالنا. وهذا القول قد ورد عن عمر ففي مصنف عبد الرزاق أن عمر رضى الله عنه قال: " تجوز شهادة الوالد لولده والولد لوالده، والأخ لأخيه " (3) والقول الثالث: أن شهادة هؤلاء تقبل مع انتفاء التهمة وترد للتهمة: إذن جعلوا المناط للرد هو التهمة بأن كان هناك تهما فإنها لا تقبل، وإن لم يكن فانها تقبل وهذا القول رواية عن الإمام أحمد واختيار ابن القيم وهو أظهر هذه الأقوال وهو ظاهر اختيار الشيخ عبد الرحمن بن سعدي وذلك لأن العدل مقبول الشهادة كما دلت عليه الأدله الشرعية فهو عدل والعدل مقبول الشهادة. وقد ورد أثر عن عمر يدل على الرد بالتهمة، وهو ما ثبت في سنن البيهقى بإسناد صحيح: أن عمر قال: (المسلمون عدول بعضهم على بعض إلا مجلوداً بجلد او مجّرباً بشهادة زور أو ظنيناً) أى مُتهماً (في قرابة أو ولاء) فقد قال:" أو ظنيناً" أي متهماً – فلما كان متهماً ردت هذه الشهادة. وأثر عمر يدل على الرد بالتهمة ولا يدل على الرد بالقرابة لأنه لم يقل " ولا قريباً" وإنما قال "ولا ظنيناً" في قرابة أو ولاء"

وهم -أي الجمهور – لا يقولون بهذا الأثر على عمومه، فإن هذا الأثر يدل على أن كل قريب ترد شهادته على قريبه. -حيث استدل به على طريقتهم – وليس فيه تخصيص الولد والوالد بل هو عام في الولد والوالد وسائر الأقارب. فأظهر هذه الأقوال: عدم قبول الشهادة عند التهمة والقبول عند انتفائها. وعلى ذلك فينظر الحاكم في كل قضيه بعينها، فإذا ظهرت له التهمة، فإنه لا يقبل، وإن لم تظهر له التهمة فإنه يقبل. فإذا كان الشاهد ممن هو مبّرز في العدالة يبعد في العادة أن يشهد لولده شهادة زور أو أن يشهد لوالده شهادة زور، فالتهمة منفية عنه فتقبل شهادتة. إما إذا كان ليس مبّرزاً في العدالة، فله عدالة ظاهر – لكن العدالة الباطنة غير معلومة منه / فيقوى حينئذ الرد في التهمة. -وقد اتفق أهل العلم على قبول شهادة الأخ لأخيه، وشهادة الأخ لعمه وشهادة الرجل لابن عمه وسائر الأقارب فهم إنما خصّوا المنع بمن بينهم قرابة إيلاد وأما من بينهم قرابة أخرى فإنها لا تقضي المنع عند جمهور العلماء. -وتقدم الكلام على أثر عمر وأنه لو استدل به على المنع لاقتضى المنع من قبول شهادة كل قريب، لكن المنع إنما هو للتهمة فحيث وجدت التهمة منعت الشهادة ولم تقبل. وهكذا أيضاً شهادة الصديق لصديقه فهى مقبولة. واستثنى الإمام مالك: شهادة الصديق لصديقه حيث كانت الصداقة مؤكدة " أي بالغة " وهو اختيار ابن عقيل. وهذا الضابط الذي ذكروه – في الحقيقة – قد يكون أقوى في التهمة مما يكون بين الوالد وولده، فان الرجل قد يحابي صديقه أكثر مما يحابي ولده، بل قد يحابي صديقه أكثر مما يحابي ولده والده وهذا ظاهر حيث كانت الصداقة مؤكدة. وعليه: فالصداقة المؤكدة تدخل في المسألة السابقة فإذا كانت التهمة موجودة لم تقبل هذه الشهادة. وأما إذا لم تكن التهمة موجوده كأن يكون الشاهد مبرّزاً في العادلة فان شهادتة تقبل.

-وعن الإمام مالك: أن شهادة الأخ لأخيه لا تقبل حيث كان منقطعاً على صلته – أي لا واصل له إلا أخوه – فهو يسكن عنده ويطعمه ويبرّه. وهذه أيضاً تدخل في المسألة السابقة. -الصحيح في هذه المسألة ما هو صحيح في المسألة السابقة من القبول عند عدم التهمة والرد عند وجودها. وقد قال صلىالله عليه وسلم – كما في مسند أحمد وسند أبي داود:" لا يجوز شهادة خائن ولا خائنة ولا ذي غمر " أي حقد " على أخيه ولا القانع لأهل البيت " -والقانع وهو المنقطع لأهل البيت يبرونه ويصلونه، وعليه فكذلك حتى لو كان أجنبياً لكن " أهل البيت يقومون بصلته فهو منقطع إليهم فحينئذ الحكم كذلك كأن يكون له معتق يصلونه ويبرونه فهو منقطع إليهم لا واصل له سواهم فالمحاباة – احتمالها قوي جداً فعلى ذلك لا بد أن ينظر في شهادته. قال: [ولا شهادة أحد الزوجين لصاحبه] فإذا شهد الرجل لامرأته ـ أو شهدت المرأة لزوجها فترد الشهادة، قالوا لقوة الوصلة بينهما. وحيث عللنا بالتعليل المتقدم وهو احتمال التهمة،فالتهمة إنما: ظاهرة بين الزوجين. ولكن – كما تقدم – إنما ترد مع التهمة وأما إذا كانت التهمة منتفية أو ضعيفة فإننا نقبل الشهادة بناءً على الأصل، فالأصل هو قبول شهادة العدل وقبول شهادة ذات العدالة. فالمشهور في المذهب وهو قول الجمهور أن شهاده أحد الزوجين لصاحبه لا تقبل قالوا: لقوة الوصلة. -وعن الأمام أحمد وهو مذهب الشافعية إنها تقبل مطلقاً لعموم الأدلة. -والصحيح التفصيل في ذلك كما تقدم في المسألة السابقة. -وشهادة أحد الزوجين لصاحبه تردّ – كما هو المشهور في المذهب – ولو كان ذلك بعد الطلاق. وكذلك إذا كان إثناء الطلاق فإنها ترد فان كانت رجعية فظاهر لأنها زوجة وإن كانت بائناً فإنها كانت زوجة وبينهما قوة واصلة فكذلك، ولو كان الطلاق قبل الدخول. والصحيح في هذه المسألة ما تقدم، وأناّ ننظر إلى التهمة.

لكن: إذا كانت المرأة مطلقة طلاقاً بائناً قد انتهت مدة عدتها به فإن التهمه بعيدة فإنها أجنبيه عنه فالتهمة ضعيفة. قال: [وتقبل عليهم] لقوله تعالى: (يا ايها الذين آمنوا كونوا قوامين بالقسط شهداء لله ولو على أنفسكم أو الوالدين والأقربين) . فشهادة الرجل على ولده، وشهادته على والده وشهادة المرأة على زوجها وشهادة الزوج على امرأته، شهادة مقبولة بنص الآية، ولا مانع من قبولها ولا دليل يدل على المنع. قال: [ولا من يجر إلى نفسه نفعاً] فلا تقبل شهادة من يجر إلى نفسه نفعاً. فإذا كان الشاهد يجر إلى نفسه نفعاً بهذه الشهادة فإنها لا تقبل. مثال ذلك:إذا شهد الورثة أن مورثهم مات بالجرح قبل اندماله، فالذي يترتب على ذلك أن تكون لهم الدية لانهم هم الورثه فلا تقبل شهادتهم في ذلك لأنهم يجرون الى أنفسهم نفعاً. ومثال آخر: شهادة الشريك لشريكه في مال الشركة، فإذا باع أحد الشريكين شيئاً من مال الشركة فلا يصح أن يكون الشريك الآخر شاهداً على ذلك، أي حيث وقع خلاف أو نزاع أو خصومة، وذلك لأن الشهادة تجر له نفعاً فهو كالشاهد لنفسه والشاهد لنفسه لا تقبل شهادته اتفاقاً. قال: [أو يدفع عنهم ضرراً] فإذا كانت الشهادة تدفع ضرراً عن الشاهد فإنها لا تقبل منه فإذا شهد الشهود أن فلانا قتل فلاناً خطأً فيرتب على ذلك ثبوت الدية، والدّية على العاقلة، فإذا شهدت العاقلة أن هؤلاء الشهود مجروحون فلا تقبل شهادتهم، فلو قال أحد العاقلة: هذا يشرب الخمر وقال الآخر: نعم هو كذلك، وقالوا في الثاني: هو يزني وقال الآخر نعم هو كذلك ... فلا تقبل شهاده العاقلة على جرح هؤلاء الشهود وذلك لأن في ذلك دفع ضرر عنهم لأن ثبوت هذه الشهادة يترتب عليها الدية والدية عليهم فإذا شهدوا على جرح الشهود ترتب على ذلك دفع الضرر عنهم. إذن: لا تقبل شهادة من يدفع عن نفسه ضرراً، لأنه شاهد لنفسه والتهمة في ذلك ظاهرة.

قال: [ولا عدو على عدوه] للحديث المتقدم: (ولا ذي غمر على أخيه) والغمر هو الحقد فإذا شهد العدو على عدوه فلا تقبل شهادته. ومثلّ لذلك المؤلف بقوله: [كمن شهد على من قذفه] قذف زيد عمراً بزنا أو لواط، فلما قذفه – وهذا لا شك أنه يثير بينهما عداوة – قال: أشهد أن لفلان عليه كذا وكذا فلا تقبل هذه الشهاده للعداوة. قال: [أو قطع الطريق عليه] فإذا شهد أن فلاناً قد قطع الطريق عليه، فلا تقبل شهادته بذلك لأن ذكره أن فلاناً قد قطع الطريق عليه هذا إقرار منه بالعداوة فلم تقبل شهادته. وكذلك إذا رمى الزوج إمرائه بالزنا وشهد عليها بذلك فلا تقبل شهادته وذلك لأن شهادته عليها بالزنا تصريح منه بعداوته وبغضائه لها وحينئذ فلا تقبل شهادته. إذن: لا تقبل شهادة العدو على عدوه – وهذا حيث كانت عداوة دنيوية. وأما اذا كانت دينية فلا ترد – بل تقبل، كما لو شهد مسلم على كافر أو شهد سني على مبتدع فان الشهادة تقبل وذلك لأن دينه يمنعه من شهادة الزور وهو لا يبغضه لشخصه ولنفسه وإنما يبغضه لدينه فدينه الذي حمله على بغضائه لهذا المبتدع وعلى بغضه لهذا الكافر يمنعه من أن يشهد عليه بالكذب. قال: [ومن سره مساءة شخص أو غمّه فرحُه فهو عدوه] هذا هو العدو. فإذا سمع أن هذا الشخص أصيب بمصيبه سر في ذلك وإذا سمع انه قد أصيب بخير ونعمة: فإن ذلك يحزنه ويسئه فهذا هو العدو. فضابط العدو: من يسره أن يساء هذا الشخص أو يغمه أن يفرح. فإن قيل: ألا يقضى ذلك: رد شهادته مطلقاً لأن هذا هو الحاسد؟ فالجواب: أنه ليس كذلك مع كل أحد وإنما مع هذا الشخص المعين للعداوه التى بينهما. أما لو كان يسيئه أن يسّر أي شخص ويغمه أن يفرح أي شخص فهذا لا شك أنه حاسد فإذا ظهر فيه ذلك فليس بعدل. . -لكن إذا شهد العدو لعدوه فهل تقبل؟ الجواب: نعم لعدم التهمة ولا مانع من قبولها -فإن قيل: ألا تحتمل أن يكون شهد له لدفع ضررة؟

فالجواب: إنه يحتمل ذلك لكنه احتمال ضعيف وبعيد فلا ترد به شهادة المسلم العدل. والحمد لله رب العالمين الدرس: الثالث والعشرون بعد الأربعمائة 423 فصل -هذا الفصل في عدد الشهود وهم البينة. وعدد الشهود يختلف باختلاف المشهود به كما سيتبين من خلال هذا الدرس. قال: [ولا يقبل في الزنا والإقرار به إلا أربعة] لا يقبل في الزنا إلا أربعة، فإذا شهد أربعة على شخص بالزنا، فإن الزاني يحد، كما تقدم في حد الزنا قال تعالى (حتى يأتوا بأربعة شهداء فإذا لم يأتوا بالشهداء فأولئك عند الله هم الكاذبون) . فبينة الزنا أربعة شهود وتقدم بيان هذا في حد الزنا (والإقرار به) : فإذا شهد أربعة أن فلاناً قد أقرً على نفسه بالزنا فإنه يحد بذلك. فلو أن رجلاً في مجلس أقرّ على نفسه أنه قد زنا بالزنا الصريح فتلفظ بما يدل على أنه قد زنا فشهد عليه أربعة بهذا الإقرار فإنه يحد وذلك لأنه إثبات للزنا فلم يثبت إلا بأربعة كشهود الفعل فنقيس شهود الإقرار على شهود الفعل فكما أن شهود الفعل يشترط فيه أن يكونوا أربعة فكذلك شهود الإقرار بجامع أن كليهما إثبات للزنا. والقول الثاني في المسألة: وهو رواية عن أحمد انه يكتفى بالإقرار بشهادة اثنين كسائر الإقرارات فسائر الإقرارات يكتفى فيها بشهادة اثنين فكذلك في الإقرار بالزنا. -والأول أظهر، لما تقدم فتعليله أقوى لأنه إثبات للزنا فأشترط فيه أن يكون الشهود أربعة كفعل الزنا. إذن: لا يقبل في الزنا ولا في الإقرار به إلا أربعة. وكذلك ما يوجب حد الزنا كاللواط فانه يشترط فيه أيضاً شهود الزنا لأنه يوجب حد الزنا في المشهور من المذهب. وتقدم أن الراجح: أن حده أعظم وأنه لا فرق بين المحصن وغيره، وعليه فيشترط فيه أربعة من باب أولى. وإذا قلنا في إتياك البهيمة أنه يوجب حد الزنا فيشترط فيه أربعة، وتقدم أن الصحيح أن حكمه ليس كذلك. قال: [ويكفي على من أتى بهيمة رجلان]

وذلك لأنه هذا الفعل لا يوجب حد الزنا وإنما يوجب التعزير فاكتفى فيه بشهادة رجلين. قال: [ويقبل في بقية الحدود والقصاص] سائر الحدود كالقذف والسرقة، وكذلك القصاص أي القود. قال: (وما ليس بعقوبة ولا مال ولا يقصد به المال ويطلع عليه الرجال غالباً كنكاح …..إلى أن قال: يقبل فيه رجلان) . فالحدود كالسرقة وغيرها من الحدود تقبل فيها رجلان اتفاقاً. وكذلك القصاص، فإذا شهد اثنان أن زيداً قتل عمراً عمداً فهذا يوجب القصاص بالشروط التى تقدم ذكرها وعليه فيشترط فيه شاهدان ذكران. -وما ليس بعقوبة ولا مال ولا يقصد به المال ويطلع عليه الرجال غالباً يشترط فيه رجلان، وضرب المؤلف لذلك أمثلة. (كنكاح) : فيشرط في النكاح أن يشهد عليه رجلان وكذلك في الطلاق وكذلك في الرجعة والخلع والنسب والولاء وكذلك في الإيصاء إليه يعني بغير المال. فإذا ادعى رجل إلى ورثة فلان: أن فلاناً قد أوصى إليه بانكاح بناته،أو قال: أوصاني أبوكم أن أقوم برعاية القُصّار فيشترط في ذلك أن يكون الشهود رجلين. إذن: عندنا ثلاثة أشياء يشترط فيها شاهدان: الأول: الحدود سوى الزنا. الثاني: القصاص. الثالث: ما ليس بعقوبة ولا مال ولا يقصد منه المال ويطلع عليه الرجال غالباً. قال تعالى (واشهدوا ذوى عدل منكم) -وهل يكفى شهادة رجل أو امرأتين أو الشاهد واليمين في هذه المسائل أم لا؟ الجواب فيه تفصيل: أما الحدود والقصاص فالراجح أن شهادة النساء لا تصح فيها هذا هو مذهب عامة أهل العلم. ويدل عليه قوله تعالى: (حتى يأتوا بأربعة شهداء) فاشترط الله عز وجل في تثبوت الزنا الذكورية فيقاس عليها سائر الحدود ويلحق بها القصاص لأن القصاص مما يحتاط فيه لأن فيه إزهاقاً للنفس أو اتلافاً للطرف أو جرحاً للبدن فكان مما يحتاط به. -وذهب بعض السلف وهو اختيار الشيخ عبد الرحمن بن سعدي إلى أن شهادة النساء تجزئ فيه.

واستدل – رحمه الله – بالأثر والنظر. -أما الأثر فهو قوله صلى الله عليه وسلم – في الصحيح – " أليس شهادة المرأتين كشهادة الرجل " وهذا عام. -وأما النظر فإن مبنى الشهادة على الحفظ والضبط والصدق وهذه الصفات ثابته في النساء كما هي ثابتة في الرجال، وما يكون في النساء من نقص يجبر بمضاعفة العدد. وهذا الاستدلال وإن كان قوياً. فالأظهر ما ذهب اليه أهل القول الأول وذلك لما تقدم في اشتراط الله عز وجل الذكورية في حد الزنا ويلحق به غيره ويلحق به القصاص احتياطاً للدماء. وعليه العمل عند عامة أهل العلم. -وأما ما ليس بعقوبة ولا مال ولا يقصد به المال كالنكاح وحده: فالصحيح فيه: وهو رواية عن الإمام احمد: قبول شهادة رجل وامرأتين. فإذا شهد رجل وامرأتان على نكاح أو طلاق أو رجعة او خلع أو نسب أو ولاء أو إيصاء بغير مال فإن ذلك يجزئ. وذلك لما تقدم من قول النبى صلى الله عليه وسلم: (أليس شهادة المرأتين كشهادة الرجل) . وليست هذه الشهادة بمعنى الحدود والقصاص، ليس ثمت إجماع يخالف. -وهل يقبل فيها الشاهد واليمين أم لا؟ فإذا ادعى رجل أنه قد راجع زوجته قبل انتهاء عدتها وأتى بشاهد يشهد على ذلك – وحلف بعد الشاهد فهل تثبت له الرجعه أم لا؟ -المشهور في المذهب: إنها لا تثبت له الرجعة حتى يأتى بشاهدين. -وفي القول الثاني في المسألة: وهو رواية عن أحمد واختيار شيخ الإسلام: أن الشاهد ويمين المدعي يقبل في هذه المسائل أي المسائل التى يطلع عليها الرجال غالباً وليس بعقوبة ولا مال ولا يقصد بها المال. وقد ثبت في صحيح مسلم أن النبى صلى الله عليه وسلم قضى بيمين وشاهد. وليس في الحديث ما يدل على أنه في المال. -هذا هو الراجح. قال: [ويقبل في المال وما يقصد به كالبيع والأجل والخيار فيه أو نحوه رجلان أو رجل وامرأتان أو رجل ويمين المدعي] .

(يقبل في المال) : إذا ادعى زيد أن له في ذمة عمرو عشرة آلاف ريال، فنقول: إن أتيت بشاهدين ثبت الحق لك وإن أتيت برجل وامرأتين ثبت الحق لك، وإن أتيت بشاهد مع يمينك ثبت الحق لك. قال تعالى: (واستشهدوا شهدين من رجالكم فان لم يكونا رجلين فرجل وامرأتان ممّن ترضون من الشهداء) وهذه الآية في مسألة مالية وهي المداينة: (يا أيها الذين آمنوا اذا تداينتم بدين إلى أجل مسمى) . (وما يقصد به كالبيع) : فإذا ادعى فلان أن فلاناً قد باعه داره فأتى برجلين يشهدان قُبل ذلك او أتى برجل وامرأتين قُبل ذلك، أو أتى بشاهد مع يمينه.. (والأجل) : إذا ادعى زيد أن عمراً قد باعه هذه الدار بمائة ألف مؤجلة الى سنة فأقرّ عمرو بالبيع ولم يقرّ بالأجل. فنقول له: احضر البينة، وبينتك رجلان أو رجل وامرأتان أو شاهد مع يمينك. - (الخيار فيه) : كأن يقول: أنا اشترطت لى الخيار ثلاثه أيام. فيقول: احضر البينه ويكفي في ذلك شاهدك ويمينك أو شاهد ذكر وامرأتان. (ونحوه) : كالقرض والرهن والغصب والعتق، وعامة المسائل المالية. ودليل ثبوت الحقوق المالية بالشاهد واليمين ما ثبت في صحيح مسلم من حديث ابن عباس: أن النبى صلى الله عليه وسلم قضى بيمين وشاهد. وهو من حديث أبي هريرة في سنن ابي داود والترمذي. وهل يقبل فيه – أي في المسائل المالية – شهادة امرأتين مع اليمين؟ أم لا؟ إذا ادعى رجل أن فلاناً قد باعه داره فقلنا له: أحضر البينة، فقال: بينتي امرأتان مع يمينى، فهل يقبل ذلك؟ قولان لأهل العلم: المشهور في المذهب: أن ذلك لا يقبل. واختار شيخ الإسلام وهو مذهب مالك وأحد الوجهين في المذهب قبول ذلك. وهو الراجح لقوله صلى الله عليه وسلم:" أليس شهادة المرأتين كشهادة الرجل ". ولأن شهادة المرأتين قرينة قوية تجعل الظاهر مع المدعي واليمين في جنب أقوى المتداعيين.

قال شيخ الإسلام: "ولو قيل: بقبول المرأة مع اليمين لتوجّه ". وفيه قوة، لأن شهادة المرأة تجعل الظاهر مع المدعي فحينئذ تكون قرينة قوية، فإذا حلف معها كان القول قوله. إذن: وجّه شيخ الإسلام قبول شهادة المرأة الواحدة مع اليمين قال: كخبر الديانة، فكما أن المرأة يقبل خبرها في الدين فكذلك هنا. وأما قوله تعالى ((واستشهدوا شهيدين من رجالكم فان لم يكونا رجلين فرجل وامرأتان ممن ترضون من الشهداء)) يقول هذا في التحمل فيحتاط في التحمل واما في الاداء فليس كذلك. -والمشهور – وحكي إجماعاً – عدم قبول شهادة أربع نسوة فإذا شهدت أربع نسوه بأن فلاناً قد باع فلاناً داره فان شهادتهن لا تقبل. -ولو قيل بقبول شهادتهن لكان قوياً لما تقدم من أن شهادة المرأة تعدل نصف شهادة الرجل، والله اعلم. -وهل تقبل اليمين قبل الشاهد؟ الجواب: لا تقبل اليمين إلا بعد الشهادة، وذلك لأن اليمين إنما صارت في جنبه بعد الشاهد، فإذا شهد الشاهد كانت اليمين له أي للمدعي. قال: [وما لا يطلع عليه الرجال كعيوب النساء تحت الثياب والبكارة والثيوبة والحيض والولادة والرضاع والاستهلال ونحوه يقبل فيه شهادة إمراة عدل] (كعيوب النساء) : كبرص ونحوه. (والاستهلال) : أن يخرج المولود صارخاً فتثبت له الإرث ونحوه من الأحكام. (ونحوه) : كالجراحة تكون في مجمع النساء كعرس أو حمام أو نحو ذلك فإنه يقبل في ذلك شهادة إمرأة عدل. -فإذا شهدت امرأة أن في فلانة برصاً في جلدها أو شهدت أنها بكراً وأنها ثيب أو شهدت أنها حائض أو شهدت بولادة أو رضاع أو استهلال فإن شهادتها تقبل في هذه المسائل لأن هذه المسائل مما لا يطلع عليها الرجال في الغالب، فقد يطلع عليها الرجال لكن اطلاعهم عليها نادر، فقبلت فيها شهادة النساء.

وقد تقدم حديث المرأة التى قالت – وهي أمة سوداء – أنى قد أرضعت عقبة والتي تزوج فقال النبي صلى الله عليه وسلم " كيف وقد قيل " فقبل النبي صلى الله عليه وسام شهادتها وهي إمرأة واحدة وهكذا في عامة ما ذكره المؤلف من المسائل. إذن: ما لا يطلع عليه الرجال في الغالب تقبل فيه شهادة المرأة الواحدة. -وقال المالكية: بل لا يقبل فيه إلا شهادة امرأتين. وقال الشافعية: بل لا يقبل فيه إلا شهادة أربع نسوة والأظهر هو القول الأول لشهادة المرضعة على الرضاع وقد قبل النبى صلى الله عليه وسلم شهادتها. ولأن الحاجة تدعو إلى ذلك فإن الغالب في مثل هذه المسائل ألاّ تشهد فيها إلا المرأة الواحدة فيتعسر في الغالب شهادة أكثر من امرأة. إلا ما تقع من جراحات بين النساء , فالذي يقوي – أنه لا يقبل فيه شهادة المرأة الواحدة، لأن الشهادة فيها بأكثر من امرأة لا تتعسّر. ولأن جراحات الرجال لا تثبت بالرجل الواحد فأولى من ذلك ألا تثبت جراحات النساء بالمرأة الواحدة فالأظهر أنه لا يقبل فيها – أي الجراحات التى تكون في مجتمع النساء – لا يقبل فيها إلا شهادة أربع نسوة كما هو مذهب الشافعي في عامة مسائل هذا الباب. وإذا كان يوجب المال فإذا شهدت امرأتين أو امرأة واحدة مع اليمين اكتفينا بذلك لأننا لا نقبل في الجراحات التى يوجب المال إلا شهادة رجل وامرأتين أو شاهد واليمين فإذا كان هذا في حق الرجال فأولى من ذلك النساء لأن شهادة النساء دون شهادة الرجال. فالأظهر أنا لا نقبل إلا شهادة أربع نسوة. لكن ظاهر كلام الفقهاء أن القود لا يثبت بذلك وإنما هو في المسائل المالية اذ لا مدخل لشهادة النساء في الحدود والقصاص. فالذي يوجب قوداً الأظهر عدم قبول شهادتها. قال: [والرجل فيه كالمرأة]

بل أولى. فإذا شهد رجل برضاع فقال: أشهد أن فلاناً قد رضع من فلانة فهو أولى من المرأة لأن شهادته أعلى من شهادة المرأة، فإذا قبلنا شهادة المرأه فأولى من ذلك شهادة الرجل. -وظاهر كلام المؤلف أن هذه الشهادة لا تفتقر إلى يمين وهو نص الإمام أحمد وهو ظاهر الحديث المتقدم في قضيه شهادة المرضعة فإن النبى صلى الله عليه وسلم لم يستحلفها. إذن: إذا شهدت المرأة على أمر لا يطلع عليه في الغالب إلا النساء فان شهادتها تقبل بلا يمين. لكن إذا ارتاب القاضى فله أن يحلفها، لقوله تعالى (فيقسمان بالله إن ارتبتم لا نشترى به ثمناّ) الآية. قال: [ومن أتى برجل وامرأتين أو شاهد ويمين فيما يوجب القود لم يثبت به قود ولا مال) . تقدم أن القود يشترط فيه شهادة رجلين فإذا أتى مدع برجل وامرأتين أو أتى بشاهد ويمين فيما يوجب القود. كأن يدعى رجل أن فلاناً قد قتل وليّه عمداً وأحضر رجلاً وامرأتين أو اأحضر رجلاً وقال: أنا أحلف على ذلك. فلا يثبت به قود ولا مال. فلا يثبت القود لأنه يشترط في القصاص شهادة رجلين فلم تكتمل البينة. ولا يثبت المال، فلو قال: أنا أحضرت لكم رجلاً وامرأتين فاقضوا لي بالدية فلا يحكم له بذلك وذلك لأن المال فرع وبدل عن القود، وإذا لم يثبت المبدل لم يثبت البدل، فلم يثبت القود بهذه الشهادة، والمال بدل عنه فكذلك لا يثبت. لكن لو أتى برجل وامرأتين أو بشاهد مع يمينه يشهدون أن فلاناً قد قتل وليه خطئاً فإن المال يثبت هنا لأن هذه المسألة مالية والمسائل المالية تثبت بشهادة رجل وامرأتين أو شاهد مع اليمين. قال: [وإذا أتى بذلك في سرقة ثبت المال دون القطع] . إذا ادعى رجل على آخر أنه قد سرق منه عشرة آلاف ريال ثم أتى برجل وامرأتين يشهدون على ذلك. فلا يثبت حد السرقة لان حد السرقة يشترط فيه شهادة رجلين. لكن ثبت له المال الذي ادعاه.

والفارق بين هذه المسألة والتى قبلها هو: أن ثبوت السرقة يترتب عليه شيئان: القطع وهو الحد والشىء الثاني: الضمان. فليس المال فرعاً عن القطع كالمسألة الأولى. فإذا لم تستكمل بينة الحد واستكملت بينة المال ثبت المال. وكذلك في الشاهد واليمين. فإذا ادعى أن فلاناً قد سرق منه عشرة آلاف وقال: بينتى هذا الشاهد ثم أدلى الشاهد بشهادته ثم حلف هو أي المدعي – فإنا نضمن المدعى عليه المال الذي أدعّى عليه،لأنها أصبحت مسألة مالية لا تثبت السرقة وبالتالى لا نقطع يده لأن بينة الحد لم تستكمل. قال: [وإن أتى بذلك في خلع ثبت له العوض وتثبت البينونة بمجرد دعواه] . إذا ادعى رجل أنه خالع امرأته على عشرة آلاف ريال وهو يريد هذه العشرة آلاف منها، واحضر رجلاً وامرأتين بينة على ذلك. فلا يثبت الخلع بذلك –في المشهور من المذهب – لأنه ليس بمال ولا يقصد به المال فلم تثبت إلا بشهادة رجلين – هذا في المشهور من المذهب وتقدم الراجح. إذن لا يثبت الخلع بهذه البينه لكنه يثبت عليه الخلع بإقراره ولذا قال: وتثبت البينونة بمجرد دعواه، ويثبت له العوض لأنه مال والمال تقبل فيه هذه البينة. فإذا ادعت المرأة الخلع، فقالت: قد خالعنى زوجي على عشرة آلاف وأتت بشاهد ذكر وامرأتين. فلا يثبت الخلع لأنه لا يثبت إلا برجلين في المشهور من المذهب، وبالتالى لا يلزمها العوض لأن العوض مرتب على صحة الخلع. والصحيح – كما تقدم – أن الخلع يثبت بشهادة رجل وامرأتين. والحمدلله رب العالمين

إذا شهد زيد أن لعمرو على بكر ألف ريال – مثلاً – فقال: زيد وهو الشاهد الأصل، قال لسعد احفظ عنى إني شاهد لعمر على بكر بألف ريال، أو اشهد على شهادتى أن هذا البيت وقف، أو اشهد على شهادتي أن هذا قد قذف فلاناً ونحو ذلك. إذن: عندنا شاهدان: شاهد أصل وهو الذي قد سمع أو رأى، وشاهد فرع وهو الذي لم يسمع ولم ير لكنه حملّ شهادة غيره واستحفظ. كأن يحتضر رجل فيقول لبعض أولاده: اشهد عليّ إني شاهد لفلان بكذا على فلان ونحو ذلك. -وهي – أي الشهادة على الشهادة – جائزة بالاجماع، والحاجة تدعو إليها، كما يكون في الوقوف. وأيضاً قد يتأخر عرض القضية على الحاكم فيحتاج إلى شهادة الفرع فيحتاج إليها في حفظ الحقوق. قال رحمه الله: [ولا تقبل الشهادة على الشهادة إلا في حق يقبل فيه كتاب القاضي إلى القاضي] . فهذه المسألة متفرعة عن مسألة سابقة وهي كتابة القاضي الى القاضي. وقد تقدم أن المشهور في المذهب أن كتابة القاضي الى القاضي لا تصح إلا في حقوق الآدميين – ولا تصح في الحدود. وتقدم أن الراجح خلافة. وهنا كذلك فهذه المسألة كتلك المسألة، فالمشهور في المذهب إنها لا تصح إلا في حقوق الآدميين ولا تصح في الحدود. -والمشهور في مذهب الشافعي صحة الشهادة على الشهادة في الحدود. فالصحيح / أن الشهادة على الشهادة لا يشترط فيها أن تكون في حقوق الآدميين بل تصح في حقوق الآدميين وغيرها فلو شهد فرع عن أصل في حد الزنا أو في حد قذف أو في حد سرقه ونحو ذلك فإن هذه الشهادة صحيحة. فمثلاً: أراد اثنان أن يذهبا إلى القاضي ليشهدوا على فلان أنه سرق، فاحتضر أحدهما فالقى بالشهادة الى آخر لم ير ولم يسمع فهي شهادة فرع فتقبل. قال: [ولا يحكم بها إلا أن تتعذر شهادة الأصل، بموت أو مرض …او غيبة مسافة قصر]

فإذا أمكننا أن نحكم بشهادة الأصل فلا يجوز أن نحكم بشهادة الفرع. وذلك لأن شهادة الأصل هي الأصل، وشهادة الفرع بدل عنها. ولأن في شهادة الفرع تطويلاً، فإنا نحتاج إلى أن ننظر في عدالة شهود الأصل وننظر في عدالة شهود الفرع. ولأن احتمال الخطأ يكون أكبر. إذن: لا يجوز أن نحكم بشهادة الفرع إلا أن تتعذر شهادة الأصل بموت أو مرض أو غيبة مسافة قصر أو كخوف من سلطان. إذن لا يجوز لنا إلا عند الحاجة – فهي كالماء والتراب، فلا يجوز التيمم بالتراب إلا عند عدم الماء أو الضرر باستعماله – وهذا هو مذهب جمهور العلماء كما تقدم تعليله. -وهل يكفى أن يشهد فرع عن الأصلين؟ الجواب: لا يكفي ذلك. فإذا كان زيد وعمرو يشهدان على قضية تحتاج إلى شاهدين – فحَفَظ عنهما هذه الشهادة بكر، فلا تقبل شهادة الفرع. وهذه هي الصورة الأولى. -الصورة الثانية: أن يشهد لكل أصل فرع. فإذا حفظ زيد وعمر شهادة فهما شاهدا أصل فحفظ شهادة زيد بكر وحفظ شهادة عمرو سعد، فإنها تقبل – في المشهور في المذهب -. قالوا: لأنه نقل للشهادة فقبل فيها خبر الواحد كخبر الديانة. -وقال الجمهور: بل لا يقبل وذلك لأنها شهادة في إثبات حق كالإقرار فاشترط فيها شاهدان وعليه فلا بد أن يكون لكل أصل فرعان فيجتمع في القضية أربعة شهود. أو أن يكون الفرعان قد حفظوا الشهادة عن هذا وعن هذا. -والقول الأول أظهر لأن تعليله أقوى، فهي نقل للشهادة وليست إثبات حق وذلك لأنها لا يثبت الحق عليه فإن هذا الشاهد بشهادة الفرع لا يثبت على شاهد الأصل حق وإنما هي نقل لشهادته. فالأظهر هو قبول ذلك كما هو المشهور في المذهب وهو قول إسحاق، قال الإمام أحمد:" لم يزل الناس على هذا " فعليه عمل السلف، ونحوه عن إسحاق. -الصورة الثالثة: أن يشهد عن كل أصل فرعان.

ففي المثال المتقدم: يقول بكر اشهد على زيد وعمرو أنهما قد شهدا بكذا ويقول سعد: اشهد على زيد وعمرو أنهما قد شهدا بكذا وهي مقبولة. اذن: الخلاف فيما إذا كان لكل أصل فرع واحد والصحيح القبول لكن لا ينفرد في القضية فلا بد في القضية أن يكون شهود الأصل كشهود الفرع فإن كانت القضية مما لا يقبل فيها إلا شهادة رجلين فلا بد وأن يكون الفرع كذلك / وإذا كانت مما يقبل فيها شهادة رجل وامرأتين فيكون الفرع كذلك، والنساء لهن مدخل في الباب – على الصحيح وهو المشهور في المذهب. قال: [ولا يجوز لشاهد الفرع أن يشهد إلا أن يسترعيه شاهد الأصل] اذا كنت في مجلس فسمعت زيدًا يقول: " أشهد أن هذا البيت وقف " فليس لك أن تشهد على شهادته – كما ذكر المؤلف – حتى يسترعيك أي حتى يستحفظك، فإذا قال: اشهدوا عليّ إذا شهد على فلان، فحينئذ تصح شهادتك. إذن: يشترط أن يسترعي شاهد الأصل. قالوا: لأنه يحتمل أن تكون شهادته على العلم فيحتمل بأنه لما شهد لم يشهد على ما سمع ورأى بل شهد على العلم. أي: يعلم أن هذا البيت وقف فقال: اشهد أن هذا البيت وقف فهو إنما يشهد بعلمه، ومعلوم أن الشهادة بالعلم لا تصح. -والقول الثاني في المسألة وهو رواية عن الإمام أحمد: أن شهادة الفرع تصح وإن لم يسترعه شاهد الأصل. قالوا ولأن الأصل في الشهادة أن تكون بما يسمع وبما يرى أما كونه يشهد بعلمه هذا خلاف الأصل. فإن قيل: قد يكون شهد على أمر ماض؟ فالجواب: أن هذا – أيضاً – خلاف الأصل- والأصل بقاء ما كان على ما كان. فالراجح من هذه المسألة، صحة الشهادة لا سيما أن الشهادة في هذا الباب إنما شرعت للحاجه اليها. قالوا: [فيقول: اشهد على شهادتى بكذا] فيقول شاهد الأصل لشاهد الفرع: اشهد على شهادتي بكذا فيكون بذلك قد استرعاه أي قد استحفظه الشهادة. قال: [أو يسمعه يقر بها عند الحاكم]

فإذا سمع شاهد الفرع شاهد الأصل يقر بالشهادة عند الحاكم فإنه يحفظها عنه ويجوز له أن يشهد عنه بذلك لأنه يزول الإحتمال المتقدم. فإذا كان في مجلس الحاكم فأتى بشاهدين لكن القاضي لم يحكم بالقضية لأمر ما أو لم تستوف البينة، فشهد الرجل أن فلاناً قد شهد عند الحاكم بكذا، كأن يكون قد مات هذا الشاهد الذي شهد في مجلس الحاكم وكان هناك من يجلس عند القاضي فشهد أن فلاناً قد شهد فحينئذ تقبل لزوال الإحتمال المذكور. قال: [أو يعزوها إلى سبب من قرض او بيع ونحوه] . فعزوها إلى سبب يقويها، وحينئذ يضعف ذلك الإحتمال. فاذا قال: أشهد أن فلانا قد شهد أن لفلان على فلان كذا وكذا قيمة داره التى باعها إياه أو قال: أشهد أن فلانا شهد لفلانة على فلان كذا وكذا مهراً لها. إذن: المشهور في المذهب: أنه يشترط أن يسترعيه الشهادة إلا أن يشهد في مجلس القاضي أو أن يشهد على شئ ويذكر سببه فحينئذ لا يشترط أن يسترعيه الشهادة. قال: [وإذا رجع شهود المال بعد الحكم لم ينقض – يلزمهم الضمان دون من زكاهم] . إذا رجع شهود المال بعد الحكم لم ينقض ولو قبل الإستيفاء هنا ثلاثة أحوال. (1) الحالة الأولى: أن يرجع شهود المال قبل الحكم. كأن يشهد زيد وعمروّ أن لبكر على سعد عشرة آلاف ريال وأثناء جلوسهم مع القاضي وقبل أن يُبتّ بالحكم رجعوا عن الشهادة. فالحكم: أن القاضي لا يحكم وذلك لأن الشرط في الحكم قد زال فشرط الحكم الشهادة وقد زالت قبل الحكم. (2) الحالة الثانية: أن يرجعا بعد الحكم وقبل الإستيفاء. أي لما حكم القاضي وبتّ في القضية قالوا رجعنا، وكان ذلك قبل الإستيفاء أي قبل أن يعطى المدعى عليه المدعي هذا المال المدعى به. فالحكم: أن الحكم لا ينقض. (3) الحالة الثالثة: أن يرجعا بعد الحكم وبعد الإستيفاء. فالحكم: أن الحكم لا ينقض.

إذن: بعد الحكم سواء كان بعد الاستيفاء أو قبله فإن الحكم لا ينقض وذلك لأن الحكم قد ثبت بتوفر شروطه. ولئلا يكون حكم القاضى العوبة بأيدي الشهود. وقد يكون رجوعهم لرغبةٍ او رهيةٍ، لرغبة بمال كأن يعطوا رشوة أو رهبةٍ كان يهددوا ليرجعوا. -ويلزم هولاء الشهود الضمان دون من زكاهم، فنقول للمدعى عليه أعط المدعي حقه الذي قد ثبت وارجع بحقك إلى الشهود وذلك لأن الشهود هم الذين قد اخرجوا منه ماله بغير حق فكان الضمان عليهم. (دون من زكاهم) فإذا رجعوا فإن الحق ثبت عليهم دون من زكاهم لأن من زكاهم إنما بنى على ظاهر أمرهم من العدالة وهم قد رجعوا فيكونون هم الذين قد باشروا ذلك فأخرجوا الحق عن صاحبه. لكن إذا بان أن هؤلاء الشهود فسّاق أي لم يرجعوا لكن بان فسقهم وكان فسقهم ظاهراً فحينئذ: يرجع على المزكي. ولا يقال: إنه يرجع إليهم هم أي الشهود، لأنهم لا يزالون يثبتون الحق ولا يزالون يقولون نحن شهود على كذا، لكن شهادتهم لا تقبل، والذي غررّ الحاكم بهم هم هؤلاء المزكون. وفي قوله: (شهود المال) قيد يخرج القصاص والقود، فإذا كان الشهود قد شهدوا في القصاص، فإذا رجع الشهود بعد الحكم وقبل الإستيفاء، فإن القصاص لا يستوفى. فإذا شهد فلان وفلان أن زيداً قتل عمراً عمداً فحكمنا على زيدٍ بالقود واختار ذلك الأولياء، وقبل أن يسُتوفى رجع الشهود، فحينئذ لا تنفذ القود، وذلك احتياطياً للدماء والأطراف. وكذلك في الحدود، لأن الحدود تدرأ بالشبهات ولا شك أن رجوع الشهود شبهة كبيرة. لكن هل تثبت الدية؟ الجواب: نعم تثبت الدية، فرجوع الشهود بعد الحكم لا ينقض حكم القاضي، لكن احتطنا للدماء فلم ننفذ القود لكننا نثبت الدية، فشهادتهم تثبت الدية وبرجوعهم لا نقيم القصاص احتياطاً للدماء. قال: [وان حكم بشاهد ويمين ثم رجع الشاهد غرم المال كله] إذا حكم القاضي بشاهد ويمين:

كأن يدعى زيد على عمرو أن له عليه عشرة آلاف وليس عنده إلا شاهد فيقول: يحلف على ذلك فقال: نعم فشهد الشاهد وحلف هو، ثم رجع الشاهد، فإنه يرجع إلى الشاهد بالمال كله، وذلك لأن الشاهد هو حجة الدعوى وأما اليمين فهي قول الخصم. فعليه: اذا رجع هذا الشاهد فإنا نضمنه المال كله. ******** "باب اليمين في الدعاوي" قال: [لا يستحلف في العبادات] إذا ادعى رجل أنه قد أخرج زكاة ماله أو أنه أوفى بنذره أو أنه يصلى في بيته، فإنه لا يستحلف على ذلك، لأن العبادات حقوق الله وهي مبنية على المسامحة. وقال الشافعية: بل يستحلف لأنها دعوى. والصحيح هو الأول. لأن اليمين إنما شرعت في حقوق الآدميين في قول النبى صلى الله عليه وسلم " لو يعطى الناس بدعواهم لادعى ناس دماء رجال وأموالهم ولكن اليمين على المدعى عليه ". فاليمين إنما شرعت في حقوق الآدميين ولا تقاس عليها حقوق الله للفارق، فإن حقوق الله مبنية على المسامحة. إذن: إذا قال عند صاحبي الحسبة: إني أصلى في بيتى فإن ذلك يقبل منه بلا يمين. قال: [ولا في حدود الله تعالى] لأن حدود الله تعالى حق مبنى على المسامحة، ولأن المشروع هو الستر، وإذا كان يُلقّن عدم الاقرار فأولى من ذلك ألا يستحلف وهذا باتفاق العلماء. قال: [ويستحلف المنكر في كل حق لآدمي] . فيستحلف المنكر في كل حق لآدمي إذا كان الحق مالاً أو يقصد به المال فإذا ادعى زيد أنه اقرض عمراً ألف ريال فأنكر ذلك عمرو فنقول له: احلف وكذلك إذا ادعى زيد أن عمراً قد باعه داره فأنكر ذلك عمرو فنقول له: احلف ونحو ذلك. قال: (إلا النكاح والطلاق والرجعة والإيلاء وأصل الرق والولاء والإستيلاد والنسب والقود والقذف) " اصل الرق " إذا ادعى فلان أن اللقيط الذي عنده في البيت رقيق له فهنا قد ادعى اأصل الرق. " والاستيلاد " أي استيلاد الأمة.

فهذه الامور التى ذكرها المؤلف مستثناه لأنها ليست بمال ولا يقصد بها المال فلا يستحلف فيها المنكر. فإذا ادعت امرأه أن زوجها قد طلقها فنقول: احضري البينة، فإذا قالت لا بينة عندي، فإننا لا نحلف الرجل. وإذا ادعى رجل أنه قد راجع امرأته فأنكرت المرأه ذلك فنقول للرجل: احضر البينة، فإن قال ليس عندى بينة فلا نطلب منها اليمين. كذلك في الإيلاء: إذا ادعت المرأة أن زوجها قد أتى منها أي حلف ألا يطأها فأنكر ذلك فلا نقول له احلف وهكذا عامة المسائل التى ذكرها المؤلف هنا. -والقول الثاني في المسألة وهو مذهب الشافعية: أن الاستحلاف ثابت في هذه المسائل من حقوق الآدميين وأن حقوق الآدميين كلها يستحلف فيها سواء كانت في الأموال او في غير الأموال. -وهذا هو القول الراجح في المسألة، ويدل عليه قول النبي صلى الله عليه وسلم: " لو يعطى الناس بدعواهم لادعى ناس دماء رجال وأموالهم ولكن اليمين على المدعى عليه " يدل على أن اليمين تثبت حتى في الدماء أي حتى في القود. فلو قال رجل: ادعى أن فلانا قد قتل وليي عمداً، فنقول: احضر البينة فقال: لا بينه لي، فنقول للمدعى عليه احلف اأنك لم تقتل وليه عمداً. -وهل يقضى بالنكول؟ تقدم انه في المسألة قولان: وتقدم اختيار شيخ الاسلام في هذه المسألة وأنه يقضى بالنكول إلا أن يكون المدعي يختص بالعلم فإن اليمين ترجع إليه. إذن: في النكاح والطلاق والرجعة وفي عامة المسائل التى هي من حقوق الآدميين تثبت اليمين. وأما في حقوق الله عز وجل فلا. قال: [واليمين المشروعة هي اليمين بالله] تقدم ذكر هذا. قال: (ولا تغلظّ إلا فيما له خطر)

فلا تغلظ اليمين إلا فيما له خطر كالجناية التى لا ترتب عليها قود، لأن الجناية التي يترتب عليها قود ليس فيها في المذهب – استحلاف، لكن الجناية التي تثبت فيها مال كأن يدعى زيد أن عمراً قد قتل وليه خطئاً فإن المدعى عليه يستحلف حتى في المذهب – لأنها في الأموال وهذه المسألة لا خطر فللإمام أن يغلظ في اليمين. أو كان ذلك في طلاق، كأن تدعى المرأة أن زوجها قد طلقها ثلاثاً وهو ينكر ذلك، وقلنا بالإستحلاف فانها تغلظ حينئذ وذلك لأن الأمر فيه خطورة. وكذلك في العتق فإذا ادعى العبد أن سيده قد أعتقه فالأمر فيه خطر فحينئذ تغلظ اليمين. -والتغليظ في اليمين مشروع – كما قال شيخ الاسلام – حيث رأى الإمام مصلحة في ذلك. بل قد مال شيخ الاسلام إلى وجوبه حيث كان فيه مصلحة والأمر كذلك لأنه وسيلة الى إيصال الحق إلى صاحبه. -والتغليظ قد يكون بالقول كأن يقول له: قل " والله الذي لا الله إلا هو عالم الغيب والشهادة أنه ليس لفلان عليّ كذا " ويدل عليه قوله صلى الله عليه وسلم – في صحيح مسلم – لعالم من علماء اليهود " أنشدك بالله الذي أنزل التوراة على موسى هل تجدون الحد في كتابكم " -وقد يكون التغليظ بالزمان وذلك بعد صلاه العصر قال تعالى (تحبسونهما من بعد الصلاه فيقسمان بالله) وهي صلاة العصر بإجماع المفسرين. وقد يكون التغليظ في المكان: كالمنبر في الجامع. لما روى مالك في موطئه وأبو داود وابن ماجه وغيرهم: ان النبى صلى الله عليه وسلم قال: (من حلف على منبري يميناً آثمة فليتبوأ مقع من النار) قال الفقهاء: ويقاس عليه غير منبره: والله أعلم لكن لا بأس بذلك من باب التغليظ. قالوا: وكذلك بين الباب والركن عند الكعبة فهذا تغليظ في المكان. إذن: له أن يغلظ بالزمان وله أن يغلظ بالمكان وله أن يغلظ باللفظ. -فإذا نكل فما الحكم؟

أي قيل له:" والله الذي لا اله الا هو عالم الغيب والشهادة أنه ليس لفلان على حق " فقال أنا لا احلف إلا أن اقول:" والله " أو قيل له: احلف بعد صلاه العصر أو إحلف على المنبر. فقال: لا أحلف، إن شئتم مني: " والله " وإلا فلا أحلف، فما الحكم؟ قالوا: يقبل منه ذلك ولا يحكم بنكوله لأنه ليس عليه إلا اليمين وقد قام بما عليه وهي اليمين. ومال شيخ الاسلام إلى أنه يحكم بنكوله لأنه لا فائدة من التغليظ إلا هنا، فالمقصود زجره وردعه عن الإنكار بحيث إنه إذا أنكر فحلف بهذه اليمين انزجر وارتدع ونكل فثبت الحق لصاحبه وهذا هو الراجح. ------------------------------------------------------الدرس الخامس والعشرون بعد الأربعمائة – والأخير 425 كتاب الإقرار الإقرار: هو الإعتراف بالحق. وهو أقوى البينات، ذلك لأن العاقل لا يكذب على نفسه بما يضّرها فلا يمكن أن يعترف أن لفلان عليه عشره آلاف درهم وهو كاذب على نفسه. -والفقهاء.منهم من يضعه في آخر كتاب الفقه تفاؤلاً بالإقرار بالشهادتين عند الموت. ومنهم من يضع العتقَ في آخر كتاب الفقه تفاؤلاً بالعتق من النار. قال رحمه الله [يصح من مكلف] . فاذا كان الإقرار من غير مكلف كالصبي والمجنون، فإنه لا يصح. فإذا أقر صبي أن عليه عشرة آلاف فإن إقراره لا يصح، وكذلك إقرار المجنون أو المغمي عليه أو النائم. لقوله صلى الله عليه وسلم: " رفع القلم عن ثلاثة – ذكر منهم – الصبي والمجنون والنائم ". لكن هل للصبي أن يقرّ بما يصح تصرفة فيه، مما يأذن له فيه وليه؟ فالولى يأذن للصبي أن يتصرف ببعض الشيء الذي لا يضر بماله، فإذا أذن له أن يتصرف بشيء من البيع والشراء، فهل له أن يقر به. الجواب: نعم، لأنه لما صح تصرفه فيه صحّ إقراره معه. مسألة:

إذا أقر الصبي ابن عشر أو الجارية بنت تسع بالاحتلام – وهذه هي السن التى يمكن فيها الاحتلام في مذهب أحمد كما تقدم – فما الحكم. الجواب: إنهما إذا ادعياه فإنه يقبل منهما فاقرارهما بالإحتلام مقبول. وذلك لأن الإحتلام لا يعلم إلا من جهتهما. فكان القول قولهما. -لكن لو ادعى السن، فقال قد بلغت خمس عشرة سنة فلا تقبل إلا ببينة وذلك لأن بلوغ السن الخامسة عشرة ظاهر معلوم يعلم من غير صاحبه فاحتيج إلى بينة. قال: [مختار] أي ليس بمكره، لقوله تعالى: (إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان) ولقول النبي صلى الله عليه وسلم:" إن الله رفع عن أمتى الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه " فالإكراه مرفوع. فإذا أكره على الإقرار بالمال فأقر به مكرهاً فهذا الإقرار لا يصح. قال: [غير محجور عليه] أي غير محجور عليه لسفه وذلك لأن تصرفه في المال لا يصح وعليه فلا يصح إقراره. وأما المحجور عليه لفلس فقد تقدم ان إقراره يصح في الذمة ولا يصح في المال الذي قد حجر عليه فيه. قال: [ولا يصح من مكره] هذا تفريع على قوله: مختار " فلا يصح من مكره". فلو أن رجلاً ضُربَ حتى أقر أنه قد طلق إمراته أو حتى أقر أن لفلان في ذمته عشرة آلاف فلا يصح إقراره لأنه مكره. -فإذا أقرّ وادعى الإكراه ما الحكم؟ رجل أقر أن لفلان عليه عشرة آلاف وشهد شاهدان على هذا الإقرار ثم ادعى أنه قد أُكره على هذا الإقرار فما الحكم؟ الجواب: لا يقبل منه ذلك إلا ببينة تدل على الإكراه. وكذلك إذا كان هناك ما يدل على الإكراه كأن يكون أقر في حبس أو في قيد أو أثناء ضرب فإن هذه يدل على الإكراه. وعليه: فإذا ضُرب المتهم حتى اعترف فهل يصح إقراره؟ الجواب: لا يصح إقراره لأنه مكره. لكن هل هذا على إطلاقه؟ في المسألة قولان لأهل العلم – كما حكى ذلك شيخ الإسلام –:

القول الأول: أن ذلك على إطلاقه وهو قول بعض أصحاب أحمد والشافعي، فإذا ضرب الرجل فاعترف فإنه لا بد وأن يصدق اعترافه مرة أخرى أي لا بد وأن يقر مرة أخرى عند القاضي فإذا أقر بعد ذلك فإن الإقرار يصح. والقول الثاني في المسألة: وهو الذي عليه القضاء هنا أن ذلك ليس على إطلاقه، بل إذا أقرّ وكان هناك ما يصدق إقراره أثناء الضرب فإن ذلك يصدق. مثال ذلك: رجل لما أتى به فضرب على السرقة، قال: اعترف أني قد سرقت القيمة الفلانية، من المكان الفلاني وذهبت وأخذت الشيء الفلاني وكسرت الباب ووصف السرقة وصفاً ظاهراً، والمال المفقود هو ما ذكره والباب المكسور هو المذكور فحينئذ نعلم أنه قد سرق ولا نحتاج حينئذ إلى إقراره، هذا هو أصح قول العلماء في هذه المسألة. قال: (وإن أكره على وزن مال فباع ملكه صح) أي صح البيع، رجل قيل له: ادفع عشرة آلاف ريال وإلا قتلناك، وليس عنده إلا هذه الدار أو عنده غيرها، فباع هذه الدار ودفع هذه العشرة آلاف، فان البيع يكون صحيحا، وذلك لأنه لم يكره على هذا البيع، وهذه المسألة استطراد من المؤلف. قال: (ومن أقر في مرضه بشيء فكإقراره به في صحته) رجل في مرضه قال: أُقرّ أن لفلان عليّ عشرة آلافً فإن هذا الإقرار يصح، كما أقرّ في صحته لعدم التهّمه واستثنى المؤلف فقال: [إلا في إقراره بالمال لوارث] . فإذا أقر بالمال لوارث فلا يقبل فلو كان له ابنان فقال في مرضه أقر أن لابنى فلاناً عشرة آلاف في ذمتي فلا يصح هذا الإقرار للتهمه. لكن إذا أقام بينة أو أجاز بقية الورثة فإن هذا الإقرار يصح. قال: [وإن أقر لامرأته بالصداق فلها مهر المثل بالزوجية لا بإقراره] رجل عنده زوجتان فأقر لكليهما أو لأحدهما بالصداق فقال: أقر أن لفلانه عليّ الصداق أو أن هناك مهر مؤخر لفلانه فلها مهر المثل بالزوجية لا بإقراره، لأن إقراره لوارث لا يصح والزوجة وارثة.

فكونها زوجة له يدل على أن لها صداقاً عنده، وإقراره هذا إخبار منه بأنه لم يوفها صداقها. قال: [ولو أقر أنه كان أبانها في صحته لم يسقط إرثها] . إذا قال في مرضه (أنا قد أبنتها " أي طلقتها " طلاقا بائناً في صحتى) فنقول: هل عندك بينة؟ فإن قال لا، فنقول: إقرارك هذا لا يسقط إرثها لأنك متهم بحرمانها. -كما تقدم في كتاب الفرائض. قال: [وإن أقر لوارث فصار عند الموت أجنبياً لم يلزم إقراره لأنه باطل، وإن أقرّ لغير وارث أو أعطاه صح وإن صار عند الموت وارثاّ] . فالإقرار المعتبر في صحته حال المقرَّ له حال الإقرار. فإن كان المقر له ليس بوارث فإنه يصح هذا الإقرار وإن صار وارثاً بعد ذلك. وأما إذا كان إثناء الإقرار وارثاً فإن الإقرار له لا يصح وإن كان ليس بوارث بعد ذلك. فمثلاُ: رجل له زوجة حامل وله ابن عم، فإن العم وارث فلا يصح الإقرار له، لكنه أقرّ له ثم ولد له ابن من زوجته، فلا يرث ابن العم، ولا نرجع الى الإقرار المتقدم فنصححه لأن العبرة بحاله عند الإقرار، وحاله عند الإقرار أنه وارث وإن كان ليس بوارث بعد ذلك. وكذلك العكس: رجل قال لفلانة عليّ كذا، ثم لم يمت حتى تزوجها فإن هذا الإقرار يثبت لأن حالها عند الإقرار أنها ليست بوارثه. إذن: إذا أقرّ لوارث فصار عند الموت أجنبياً لم يلزم إقراره لا أنه باطل لأنه موقوف على إجازة الورثة فلو أجاز ذلك الورثة صح هذا الإقرار. قال: [وإن أقرت المرأة على نفسها بنكاح ولم يدعه اثنان قبل] . رجل قال لامرأة: " انك زوجة لى: فقالت "أقر بذلك" فهذا الإقرار صحيح لأن النكاح حق فصح إقرارها فيه كالمال. لكن هنا شرط ألا يدعيّه اثنان. فإذا أتى اثنان إلى قاضي وكل منهما يدعي أن فلانة زوجة له فأقرت لأحدهما فظاهر كلام المؤلف أنه لا يقبل هذا الإقرار. -والقول الثاني – وهو الصحيح في المذهب – أن إقرارها لأحدهما صحيح وهو ظاهر.

لأنها قد أقرت لأحدهما بحق عليها وليس هناك ما يمنع فليس مع الآخر بينة تمنع , لكن إن كان مع كل واحد فيهما بينة؟ كأن يدعى اثنان على فلانة أنها زوجة وكل يقول هي زوجتى وأقام كل واحد فيها بينة. فالحكم: أننا نحكم بالبينة الأسبق. فإن لم نعلم أيهما أسبق وادعى ولي المرأة أن بينة أحدهما هي الأسبق قُبلَ قولْهَ بيمينه. فإن قال ولىّ المرأة: لا أعلم أيهما أسبق، فحينئذ تفسخ نكاح الإثنين كما إذا زوجها وليان ولم يعلم أيهما الأسبق. وهل نحكم لمن هي تحت يده. الجواب: لا نحكم بها لمن هي تحت يده لأن الُحرَ لا يحكم عليه باليد. (الحر: الفرج) قال: [وإن أقرّ وليّها المجبر بالنكاح أو الذي أذنت له صحّ] . اذا أقرّ الولى المجبر بالنكاح فهل يصح ويكون كإقرار المرأة؟ الجواب: نعم لأن الولى المجبر – وهو الأب في المذهب – يملك إنشاء عقد النكاح فيملك إقراره. -وكذلك الولى غير المجبر إن أذنت له المرأة لأن المرأة إذا أذنت له ملك أنشاء عقد النكاح عليها وإذا ملك عقد النكاح ملك الإقرار به. إذن: الإقرار بالنكاح يصح بإقرار المرأة ويصح بإقرار وليها المجبر وبإقرار وليها غير المجبر إذا أذنت له بالإقرار. قال: [وإن أقر بنسب صغير أو مجنون مجهول النسب أنه ابنه ثبت نسبه] إذا أقر بنسب صغير فقال – مثلاّ – هذا الطفل أبن لي أو أخ لى، وقيده بالصغير لأنه إن كان كبيراً بالغا فلا بد وأن يصدق هذا الإقرار. كذلك لا بد أن يكون الصغير ومثل ذلك المجنون – لا بد أن يكونا مجهولى النسب لأنه إن كان معلوم النسب فلا يصح ادعاء نسب آخر له. فإذا ادعي على هذا الصغير أو المجنون مجهول النسب أنه ابنه أو أخوه أو ابن أخيه فإن نسبه يثبت منه. والشارع متشوف إلى إثبات النسب، وهذا المقرّ يقر بحق عليه فقبل إقراره. لكن كان المقرّ له بالغاً فأنكر ذلك فان الإقرار صحته قاصر، فلا يصح الإقرار على الغير، بل يصح على النفس.

فلو أن رجلاً اقرّ على نفسه وعلى شريكه فيلزمه ذلك ولا يلزم شريكه قال: [فإن كان ميتاً ورثه] فإذا كان هذا المقرّ له ميتاً ورثه المقر، لأن الإرث يترتب على النسب وقد ثبت النسب فيترتب على ذلك الإرث. -وصوّب صاحب الإنصاف: أنه لا يرثه للتهمة. فلو أن هذا مجهول النسب لا يعرف نسبه له أموال كثيرة طائلة فلما فاق جاء رجل فقال هو ابني أو أخي فهل يقبل هذا الإقرار؟. -كلام المؤلف يدل على أنه يقبل لأنه أثبت نسبه إليه ومن ثم يثبت إرثه. -والقول الثاني: انه لا يرثه للتهمة وهذا أظهر لكن ليس على إطلاقه، فلو أن التهمة انتفت وكان الإرث عنده لا يستحق عنده إثبات النسب بل هو صادق في دعواه النسب لكن الإرث يرتب على ذلك فلا يمنع. إذا كان الرجل غائباً وكان الإرث ليس بالكثير فادعى صاحب هذا المال أخ له فدعواه ممكنة والتهمة ضعيفة، فالمقصود أن الحكم يدور وجوداً وعدما مع التهمة فإذا كانت التهمة ظاهرة لم نقبل وإلا قبلنا. ومثل ذلك الإقرار لوارث، فإذا انتفت التهمة فكذلك. فلوا أن رجلاً له بنت وابن عم، فلو أنه أقرّ لابن عمه بشىء من المال لم يكن متهماً بخلاف ما لو أقر لابنته وهذا هو مذهب مالك في المسألة السابقة. قال:] وإذا ادعى على شخص بشيء فصدقه صحّ] أي صح إقراراً هذه المسألة بينّ فيها المؤلف أن الإقرار يصح بكل لفظ يدل عليه. فإذا قال له:" لي عليك عشرة آلاف " فقال صدقت " فيكون ذلك إقراراً أو قال:" أليس لي عليك عشرة آلاف " فقال بلى " أو كان من العامة فقال نعم، فإن ذلك يعتبر إقراراً. *************** فصل قال: [إذا وصل بإقراره ما يسقطه مثل أن يقول: له على ألف لا يلزمني ونحوه لزمه الألف] إذا وصل بإقراره ما يسقطه، بمعنى أقرّ لكنه وصل بإقراره ما يسقط الإقرار وينفيه. فمثلاً: قيل له: أليس لفلان عليك ألف، فقال: له على ألف لا تلزمني.

أو قال: له عليّ ألف هي ثمن خمر، ومعلوم أن ثمن الخمر باطل. أو قال: له على ألف هي حلوان كاهن ونحو ذلك فما الحكم؟ قال هنا: لزمه الألف، لأنه أقرّ بما يثبت الحق ثم ناقض نفسه فنفاه، وعليه فلا تقبل هذه الوصلة من الكلام إلا ببينة، فإذا قال: له عليّ ألف لا تلزمنى " فيقال له: أقم البينة على أن هذه الألف لا تلزمك وإلا فهي لازمة. قال: [وإن قال: كان له على فقضيته فقوله مع يمينه] إذا قال: كان له على الف ريال لكنى قضيته، فما الحكم؟ قوله الثاني المتصل بقوله الأول لا يناقض القول الأول فحينئذ لما كان هذا هو اقراره فإنا نصدقه في قوله لأنا لم نعلم ثبوت الحق إلا بإقراره فكان مؤتمنا على قوله فحينئذ يصدق قوله ويكون عليه اليمين، فنقول احلف أنك قد قضيته. -وقال أبو الخطاب من الحنابلة: بل يكون مثبتا مقراً، ومدعياً فهو مقر بان عليه الفاً، ومدع انه قد قضى فتقول عليك البينه. والراجح هو الأول لما تقدم فإن تعليله أقوى فإن هذا الرجل لم يثبت الحق إلا بإقراره مؤتمناً على قوله فلم تلزمه أكثر من إقراره لأنا إذا قلنا له هات بينة لزمه أكثر من إقراره. إذن: الصحيح ما ذهب اليه الحنابلة في المشهور عندهم كما قرره المؤلف هنا. قال: [ما لم تكن بينة أو يعترف بسبب الحق] . إذا كانت هناك بينة تدل على الحق فلا يقبل قوله (إني قضيته) وذلك لوجود البينة. وكذلك إذا كان اعترف بسبب الحق فقال:" له على عشرة آلاف ثمن مبيع لكني دفعتها له، فنقول له لما ذكرت سبب الحق، فحينئذ لا بد من بينة لأنه ذكر سبب الحق يوجب الحق فيكون كالبينة فعلى ذلك لا يقبل قوله:" فقضيته " إلا ببينة وقول آخر. قال: [وإن قال: له علىّ مائة ثم سكت سكوتاً يمكنه الكلام فيه ثم قال، زيوفاً أو مؤجله لزمه مائة جيدة حالهّ] قال: لفلان على مائه ثم سكت ثم قال: زيوفاً أي دراهم رديئة وهذا من أنواع الدراهم عندهم في السابق.

أو قال: " مؤجله " فانه يلزمه مائة جيدة حالة وذلك لأن هذا هو مقتضى اطلاقه، فإن قال:" له على مائه " فمقتضى هذا الإطلاق إنها حالة وإنها جيدة وأما الرابع الذي ذكره وهو قوله:" زيوفاً أو مؤجلة " فهو رافع منفصل فلم يغير من الحكم شيئاً. قال: [وان أقر بدين مؤجل فأنكر المقرّ له الأجل فقول المقر مع يمينه] هذه كالمسألة المتقدمة قال رجل: لفلان علىّ مائه ألف ريال إلى سنة – فقال المقر له قد اثبتّ على نفسك الحق لكنها ليست إلى سنة بل هي حالة الآن فاحضر البينة التى تدل على أنها مؤجلة. فنقول له: هذا المقر مؤتمن على قوله قد أقر بنفسه فلم يلزمه أكثر من اقراره وعليه فالقول قوله مع يمنيه. قال: [وإن اقر أنه وهب أو رهن أو قبض أو أقر بقبض ثمن أو غيره ثم أنكر القبض ولم يجحد الإقرار وسأل إحلاف خصمه فله ذلك] . معلوم أن من وهب انساناً شيئاً فإنه لا يلزم إلا بالإقباض كما تقدم في مشهور مذهب أحمد. فلو أن رجلاً أقر على نفسه أنه قد وهب زيداً داره وأقبضه إياها أو قال وهبته عشرة آلاف وأقبضه إياها ثم لما أتى الى القاضى، قال نعم أنا قد وهبته لكني لم أقبضه. فنقول له: إنك قد أقررت فيقول: إني إنما أقررت لجريان العادة بذلك، فإن الكثيرين في مسألة الهبة ان يقر بالإقباض الواهب لتنقطع علاقته بها وإن كان لم يقبض حقيقة فلجريان هذه العادة نقول: حلفوا خصمى، فإن حلف أني قد اقبضته فهي له، فهل نحلفه؟ الجواب: نعم نحلفه لجريان العادة بمثل هذا أي بالاقرار بالهبة مع عدم الإقباض. إذن: العادة تصدقه في دعواه وحينئذ نحلف خصمه. فان حلف أنه اقبضه أخذ الهبة. وان لم يحلف فحينئذ نرجع اليمين الى الأول لأنه منكر للإقباض. كذلك في ثمن المبيع والرهن.وثمن المبيع هذه تقع كثيراً.

فالآن كتابة العدل لا تكتب الدار أو الأرض حتى يثبت لهم أن الثمن قد قبض، فيتبايع اثنان على أرض – مثلا- بثمن قدره عشرة آلاف ريال، وقالوا: نريد أن نقرها باسم المشترى عند كتابه العدل، فلما ذهبوا إلى كاتب العدل قال: صاحب الدار: أقر أنى أخذت الثمن كاملاً. فلما كان بعد زمن أنكر المشترى أن تكون هذه الأشياء مجرد أشياء رسمية وقال: أنا قد أعطيتك حقك وأنت قد أقررت بذلك عند كاتب العدل،فذهبا إلى القاضي، فهل يستحلف القاضى الخصم على أنه قد أقبضه الثمن فيقول للمشترى إحلف أنك قد أعطيته الثمن؟ الجواب: نعم نستحلفه، فإن حلف وإلا رجعت الثمن على المدعي الذي هو المقر. إذن: العادة جارية بمثل هذا أي بأن يقر بالقبض أو الإقباض لمصلحته، فالعادة جارية بهذا قديماً وحديثاً. ولذا فان هذا الإقرار لا يحكم عليه به حتى يحلف الخصم. قال: [وإن باع شيئا أو وهبه او أعقبه ثم أقر أن ذلك كان لغيره لم يقبل قوله] . رجل قال: من يشترى هذه السيارة، فقال: رجل آخر، أنا اشتريها فاشتراها بعشرة آلاف، فلما أخذ البائع العشرة آلاف قال: هذه ليست سيارتي وإنما سيارة زيد من الناس فما الحكم؟ الجواب: أنه لا يقبل قوله لأن إقراره في حق غيره والإقرار حجه قاصرة. قال: [ولم ينفسخ البيع] لأنه قد توفرت شروطه، والإقرار هنا لا يقبل وعليه فالبيع صحيح. قال: (ولا غيره) كالعتق – فلو أن رجلاً اعتق عبداً، ثم قال: (هذا العبد ليس ملكاً لي) أو وهب داراً وقال: هي ليست ملكاً لي / فهل يبطل العقد وهل تبطل الهبة؟ الجواب: لا يبطل العتق ولا الهبة كالبيع. قال: [ولزمته غرامته] للمقرّ له. فنقول: أنت تقول أن السيارة لزيد فاذهب إلى زيد فأعطه حقه وهو قيمة هذه السيارة لكن إن أحضر بينة أنها ليست له، فهل ينفسخ البيع بذلك؟ الجواب: نعم ينفسخ البيع بذلك ولذا قال: [وإن قال: لم يكن ملكي ثم ملكته بعد وأقام بينة قبلت]

للبينة. قال: [إلا أن يكون قد أقر أنه ملكه أو أنه قد قبض ثمن ملكه لم يقبل منه] رجل قال: من يشترى سيارتى هذه؟ أو من يشترى داري هذه؟ ثم اشتراها رجل، ثم أقام البائع بينة بأن هذه السيارة أو الدار ليست له فهل تقبل هذه البينة أم لا؟ الجواب: لا تقبل لأنه مكذب لها لأنه قال:" من يشترى سيارتي هذه ". ومثل ذلك: لو باع سيارة ثم قال قد قبضت ثمن ملكها ثم بعد ذلك أقام بينة أنها ليست له، فإنها لا تقبل منه البينة لانه مكذب لها. فصل هذا الفصل في الإقرار المجمل. والإقرار المجمل هو الإقرار غير المفسر وهو الذي يحتمل معنيين فأكثر على استواء. قال: [إذا قال له: عليّ شًئأ أو كذا قيل له: فسره] اذا أقره عند القاضى ان لزيد عليه شئ او كذا وكذا فما الحكم؟. فإنه يطالب بتفسيره. إذن: يقبل إقراره المجمل لكن لا يمكن القاضي أن يحكم بذلك فلا يتأتى الإلزام لأنه مجهول. فيقال له: فسره – لأنه إقرار منه فلم يعلم تفسيره إلا من جهته قال: [فان أبى حبس حتى يفسره] لحق الآدمي قال: [فإذا فسره بحق شفعة أو بأقل مال قبل] كأن يقول له علي ريال واحد أو بحق شفعه فإن ذلك يقبل. قال: (وإن فسره بميتة أو خمر أو قشر جوزه لم يقبل) أو قال له على حبة شعير أو حبة حنطة أو شطر تمر فلا يقبل لأن هذا لم تجر العادة بالإقرار به. -لكن قد يكون بعضه يجرى العادة به في بعض الأزمان كالتمرة يمكن أن يقرّ بها في وقت مجاعة لكن في غير مجاعه لا يمكن الإقرار بها. إذن: لا بد أن يفسره بما تجرى العادة بالاقرار به. أما لو قال: حقه علي رد السلام عليه أو تشميته إن عطس ونحو ذلك أو تشييع جنازته إن مات فلا يقبل منه ذلك لأن هذا لم تجر العادة بالإقرار به. قال: [ويقبل بكلب مباح نفعه] لأنه واجب رده فهو حق، والكلب المباح ككلب صيد أو كلب ماشيه أو نحو ذلك. قال: [أو حد قذف]

-قال: حقه عليّ أن أجلد ثمانين سوطا لأني قد قذفته، فيفعل ذلك، لالأنه حق وهو مما يقّر به في العادة. قال: [وإن قال: له عليّ ألف رجع في تفسير جنسه اليه] فإذا قال ولزيد علي ألف،فيقال من ماذا؟ ألف دراهم أو ألف دنانير أو ألف من الثياب أو من القمص فيرجع بالتفسير أليه. قال: [فإن فسره بجنس واحد] كأن يقول: له عليّ ألف درهم قبل ذلك لأنه لا يعلم إلا من جهته فقبل قوله. قال: [أو بأجناس قبل منه] كأن يقول: له عليّ خمسمائة درهماً وخمسمائة ديناراّ فيقبل ذلك. قال: [وإن قال: له عليّ ما بين درهم وعشرة لزمه ثمانية] لأن الذي بين الدرهم والعشرة ثمانية دراهم. قال: [وإن قال: ما بين درهم إلى عشرة أو من درهم إلى عشرة لزمه تسعة] والرواية الثانية، أن تلزمه عشرة لأن الغاية تدخل في المغيّا لأن العشرة من جنس الدراهم وهذا أظهر. قال: [وان قال: له عليّ درهم أو دينار لزمه أحدهما] إذا قال: له عليّ إما درهم أو دينار فيلزمه أحدهما فنقول لا بد من التعيين لأن القول قوله. -وهنا المؤلف قد أجرى هذه الإقرارات على اللغة والصحيح أجراؤها على العرف كما قرره الشيخ عبد الرحمن بن سعدي رحمه الله. فألفاظ الناس تجرى على أعرافهم وعاداتهم. فنحن في عرفنا إذا قال: له على ألف فإنه يريد ألف ريال. وإذا قال له علىّ ما بين عشرة آلاف الى مائة ألف فهو لا يريد تسعين الفاً، وإنما يريد إما عشرة أو عشرين أو أربعين أو خمسين أو نحو ذلك، هذا في عرف الناس. قال: [وإن قال: له عليّ تمر في جراب أو سكين في قراب أو فص خاتم ونحوه فهو مقر بالأول] لأن هذا هو مقتضى لفظه. إذا قال: لزيد عليّ سكين في قراب " وهو ما تدخل فيه السكين " فإنه يلزمه السكين فقط. -وكذلك إذا قال: له عليّ فص في خاتم فإنه يلزمه الفص لا الخاتم. وكذلك إذا قال: له عليّ تمر في جراب فإنه يلزمه التمر لأن هذا مقتضى لفظه.

لكن لو قال: له عليّ سيف في قراب " فيلزمه القراب لأن السيف في العادة لا يخرج من قرابه إلا عندما يراد للضرب. أما السكين فإنها توضع في أكثر الأحوال بلا قراب لذلك لو قال: له عليّ خاتم فيه فص فإنه يلزمه الخاتم والفص لأن هذا هو مقتضى لفظه. والله سبحانه وتعلى اعلم والحمد لله رب العالمين وصلى الله على سيدنا محمد وعلى اله وصحبه أجمعين وبهذا نختم شرح الكتاب والحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى اله وصحبه أجمعين

§1/1